مَوْضُوع فَقَالَ لى أَبُو تُرَاب دُونك دُونك فَجَلَست وأكلت وَقلت لَهُ ليش مَا تَأْكُل أَنْت قَالَ يَأْكُل من اشتهاه
أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن حَمَّاد العسقلانى وَإِبْرَاهِيم بن حمد بن كَامِل المقدسى سَمَاعا قَالَا أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن منينا وَابْن سكينَة إجَازَة قَالَا أخبرنَا مُحَمَّد ابْن عبد الباقى الأنصارى القاضى أخبرنَا الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ أخبرنى عبيد الله ابْن أَحْمد الصيرفى حَدثنَا أَبُو الْفضل الزهرى حَدَّثَنى أَبُو الطّيب أَحْمد بن جَعْفَر الْحذاء قَالَ سَمِعت أَبَا على الْحُسَيْن بن خيران الْفَقِيه قَالَ مر أَبُو تُرَاب النخشبى بمزين فَقَالَ لَهُ تحلق رأسى لله عز وَجل فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَبينا هُوَ يحلق رَأسه مر بِهِ أَمِير من أهل بَلَده فَسَأَلَ حَاشِيَته فَقَالَ لَهُم أَلَيْسَ هَذَا أَبَا تُرَاب فَقَالُوا نعم فَقَالَ أيش مَعكُمْ من الدَّنَانِير فَقَالَ لَهُ رجل من خاصته معى خريطة فِيهَا ألف دِينَار فَقَالَ إِذا قَامَ فأعطه إِيَّاهَا وَاعْتذر إِلَيْهِ وَقل لَهُ لم يكن مَعنا غير هَذِه فجَاء الْغُلَام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن الْأَمِير يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَقَالَ لَك مَا حضر مَعنا غير هَذِه فَقَالَ لَهُ ادفعها إِلَى المزين فَقَالَ المزين أيش أعمل بهَا فَقَالَ خُذْهَا فَقَالَ وَالله وَلَو أَنَّهَا ألفا دِينَار مَا أَخَذتهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو تُرَاب مر إِلَيْهِ فَقل لَهُ إِن المزين مَا أَخذهَا فَخذهَا أَنْت فاصرفها فى مهماتك
قلت سقنا هَذِه الْحِكَايَة بالسند لما فِيهَا من جليل الْفَوَائِد فَمِنْهَا حَال هَذَا المزين وَعدم أَخذه الْعِوَض على عمل عمله لله تَعَالَى فَأرى الله أَبَا تُرَاب خلقا من خلقه مزينا بِهَذِهِ الصّفة
وَمِنْهَا رد أَبى تُرَاب هَذَا الذَّهَب على هَذَا الْوَجْه فَإِن أَبَا تُرَاب إِن كَانَ عرف أَن هَذَا المزين لَا يَأْخُذهَا فَلَعَلَّهُ دَفعهَا إِلَيْهِ ليردها فيراه غُلَام ذَلِك الْأَمِير وَيعرف ويحكى لأستاذه أَن مزين أَبى تُرَاب لَا يرضى أَن يَأْخُذ ألف دِينَار على هَذَا الْعَمَل الْيَسِير فَمَا الظَّن بأبى تُرَاب وإعراضه عَن الدُّنْيَا وَإِن كَانَ أَبُو تُرَاب لم يعرف حَال المزين وَذَلِكَ بعيد عندنَا فَيكون رد المزين لَهَا تعريفا من الله لأبى تُرَاب بِمِقْدَار هَذَا المزين وتربية أَيْضا(2/309)
لهَذَا الْأَمِير وسلوكا لأحسن طَرِيق فى رد ذهبه عَلَيْهِ وَأَنه أحْوج من أَبى تُرَاب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يبْذل مثله لمزين ومزين أَبى تُرَاب لَا يرضى بمثليه وَلَا بأمثاله
توفى أَبُو تُرَاب بالبادية قيل نهشته السبَاع وَقد قدمنَا أَن يحيى بن معَاذ تولى غسله فَلَعَلَّهُ اطلع على مَكَانَهُ
وَكَانَت وَفَاة أَبى تُرَاب سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ قَالَ أَبُو عمرَان الإصطخرى رَأَيْته فى الْبَادِيَة قَائِما مَيتا لَا يمسِكهُ شىء
وَمن الْفَوَائِد عَن أَبى تُرَاب رَحمَه الله تَعَالَى
سُئِلَ أَبُو تُرَاب عَن صفة الْعَارِف فَقَالَ الذى لَا يكدره شىء ويصفو بِهِ كل شىء
وَقَالَ أَبُو تُرَاب الْفَقِير قوته مَا وجد ولباسه مَا ستر ومسكنه حَيْثُ نزل
وَقَالَ إِن الله ينْطق الْعلمَاء فى كل زمَان بِمَا يشاكل أَعمال أهل ذَلِك الزَّمَان
وَقَالَ من شغل مَشْغُولًا بِاللَّه عَن الله أدْركهُ المقت من سَاعَته
وَقَالَ شَرط التَّوَكُّل طرح الْبدن فى الْعُبُودِيَّة وَتعلق الْقلب بالربوبية والطمأنينة إِلَى الْكِفَايَة فَإِن أعْطى شكر وَإِن منع صَبر وَلَيْسَ ينَال الرِّضَا من للدنيا فى قلبه مِقْدَار
وَقَالَ صَحِبت مائَة شيخ مَا نفعنى مثل شدّ رَأس الجراب يعْنى القناعة والتقلل من الدُّنْيَا
وَقَالَ إِذا رَأَيْت الصوفى سَافر بِلَا ركوة فَاعْلَم أَنه عزم على ترك الصَّلَاة(2/310)
حِكَايَة تشْتَمل على تَحْقِيق التجلى
قَالَ القاضى نَاصِر الدّين بن الْمُنِير المالكى فى كِتَابه المقتفى وفى الْحِكَايَة الْمُدَوَّنَة فى كتب أهل الطَّرِيق أَن أَبَا تُرَاب النخشبى كَانَ لَهُ تلميذ وَكَانَ الشَّيْخ يرفق بِهِ ويتفرس فِيهِ الْخَيْر وَكَانَ أَبُو تُرَاب كثيرا مَا يذكر أَبَا يزِيد البسطامى فَقَالَ لَهُ الْفَتى يَوْمًا لقد أكثرت من ذكر أَبى يزِيد من يتجلى لَهُ الْحق فى كل يَوْم مَرَّات مَاذَا يصنع بأبى يزِيد فَقَالَ لَهُ أَبُو تُرَاب وَيحك يَا فَتى لَو رَأَيْت أَبَا يزِيد لرأيت مرأى عَظِيما فَلم يزل يشوقه إِلَى لِقَائِه حَتَّى عزم على ذَلِك فى صُحْبَة الشَّيْخ أَبى تُرَاب فارتحلا إِلَى أَبى يزِيد فَقيل لَهما إِنَّه فى الغيضة وَكَانَت لَهُ غيضة يأوى إِلَيْهَا مَعَ السبَاع فقصدا الغيضة وجلسا على ربوة على ممر أَبى يزِيد فَلَمَّا خرج أَبُو يزِيد من الغيضة قَالَ أَبُو تُرَاب للفتى هَذَا أَبُو يزِيد فعندما وَقع بصر الْفَتى على أَبى يزِيد خر مَيتا فَحدث أَبُو تُرَاب أَبَا يزِيد بِقِصَّتِهِ وَعجب من ثُبُوته لتجلى الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعدم تماسكه لرؤية أَبى يزِيد فَقَالَ أَبُو يزِيد لأبى تُرَاب كَانَ هَذَا الْفَتى صَادِقا وَكَانَ الْحق يتجلى لَهُ على قدر مَا عِنْده فَلَمَّا رآنى تجلى لَهُ الْحق على قدرى فَلم يطق
قَالَ الْفَقِيه نَاصِر الدّين واصطلاح أهل الطَّرِيق مَعْرُوف وَحَاصِله رُتْبَة من الْمعرفَة جلية وَحَالَة من الْيَقَظَة والحضرة سَرِيَّة سنية وَالْإِيمَان يزِيد وَينْقص على الصَّحِيح وَلَا تظنهم يعنون بالتجلى رُؤْيَة الْبَصَر الَّتِى قيل فِيهَا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على خصوصيته لن ترانى والتى قيل فِيهَا على الْعُمُوم {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} فَإِذا فهمت أَن مُرَادهم الذى أثبتوه غير الْمَعْنى الذى حصل النَّاس مِنْهُ على النَّاس فى الدُّنْيَا ووعد بِهِ الْخَواص فى الْأُخْرَى فَلَا ضير بعد ذَلِك عَلَيْك وَلَا طَرِيق لسبق الظَّن إِلَيْك وَالله يتَوَلَّى السرائر(2/311)
قلت وَكَلَام ابْن الْمُنِير هَذَا فى تَفْسِير التجلى يقرب من قَول شيخ الْإِسْلَام وسلطان الْعلمَاء أَبى مُحَمَّد بن عبد السَّلَام رَحمَه الله فى كتاب الْقَوَاعِد إِن التجلى والمشاهدة عبارَة عَن الْعلم والعرفان
وَاعْلَم أَن الْقَوْم لَا يقتصرون فى تَفْسِير التجلى على الْعلم وَلَا يعنون بِهِ إِيَّاه ثمَّ لَا يفصحون بِمَا يعنون إفصاحا وَإِنَّمَا يلوحون تَلْوِيحًا ثمَّ يصرحون بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا يُوجب سوء الظَّن تَصْرِيحًا وَقد ذكر سيد الطَّائِفَة أَبُو الْقَاسِم القشيرى رَحمَه الله فى الرسَالَة بَاب السّتْر والتجلى ثمَّ بَاب الْمُشَاهدَة وَلم يفصح بتفسير التجلى كَأَنَّهُ خشى على فهم من لَيْسَ من أهل الطَّرِيق وَعرف أَن السالك يفهمهُ فَلم يحْتَج إِلَى كشفه لَهُ
وَحَاصِل مَا يَقُوله متأخرو الْقَوْم أَن التجلى ضَرْبَان
ضرب للعوام وَهُوَ أَن يكْشف صُورَة كَمَا جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فى صُورَة دحْيَة وكما فى الحَدِيث (رَأَيْت ربى فى صُورَة شَاب) قَالُوا وَهَذَا تجلى الصّفة ويضربون لذَلِك الْمرْآة مثلا فَيَقُولُونَ أَنْت تنظر وَجهك فى الْمرْآة وَلَيْسَت الْمرْآة محلا لوجهك وَلَا وَجهك حَالا فِيهَا وَإِنَّمَا هُنَاكَ مثالها تَعَالَى الله عَن أَن يكون لَهُ مِثَال وَإِنَّمَا يذكرُونَ هَذَا تَقْرِيبًا للأفهام
وَحَدِيث فى صُورَة شَاب أَمْرَد مَوْضُوع مَكْذُوب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَضرب للخواص وَهُوَ تجلى الذَّات نَفسهَا ويذكرون هُنَا لتقريب الْفَهم الشَّمْس قَالُوا فَإنَّك ترى ضوء النَّهَار فتحكم بِوُجُود الشَّمْس وحضورها برؤيتك الضَّوْء
قَالُوا وَهَذَا تقريب أَيْضا وَإِلَّا فنور البارى لَو سَطَعَ لأحرق الْوُجُود بأسره إِلَّا من ثبته الله
وَقد يعتضدون بِحَدِيث أَبى ذَر رضى الله عَنهُ سَأَلت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل رَأَيْت رَبك قَالَ نور أَنى أرَاهُ وفى لفظ قَالَ رَأَيْت نورا(2/312)
أخرجه مُسلم والترمذى وَلكنه حَدِيث مؤول بِاتِّفَاق الْمُسلمين
هَذَا حَاصِل كَلَام الْقَوْم وَأَنا معترف بالقصور عَن فهمه وضيق الْمحل عَن بسط الْعبارَة فِيهِ
وَقد جالست فى هَذِه الْمَسْأَلَة الشَّيْخ الإِمَام الصَّالح الْعَارِف قطب الدّين بركَة الْمُسلمين مُحَمَّد بن اسفهبدا الأردبيلى أعَاد الله من بركته وَقلت لَهُ أتقولون بِأَن الذى يرَاهُ الْعَارِف فى الدُّنْيَا هُوَ الذى وعده الله فى الْآخِرَة
قَالَ نعم
قلت فَبِمَ تتَمَيَّز رُؤْيَة يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ بالبصر فَإِن الرُّؤْيَة فى الدُّنْيَا فى هذَيْن الضربين إِنَّمَا هى بالبصيرة دون الْبَصَر
قلت فقد اخْتلف فى جَوَاز رُؤْيَة الله تَعَالَى فى الدُّنْيَا
قَالَ الْحق الْجَوَاز
قلت فَلَا فَارق حِينَئِذٍ وَتجوز الرُّؤْيَة بالبصر فى الدُّنْيَا
قَالَ الْفَارِق أَنه فى الْآخِرَة مَعْلُوم الْوُقُوع للْمُؤْمِنين كلهم وفى الدُّنْيَا لم يثبت وُقُوعه إِلَّا للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفى بعض ذوى المقامات الْعلية
هَكَذَا قَالَ
وَمِمَّا قلت لَهُ وَقد ضرب الْمرْآة مثلا قد يُقَال إِن هَذَا نوع من الْحُلُول والحلول كفر
قَالَ لَا فَإِن الْحُلُول مَعْنَاهُ أَن الذَّات تحل فى ذَات أُخْرَى والمرآة لَا تحل الصُّورَة فِيهَا
هَذَا كَلَامه
قلت لَهُ فَمَا الْمُشَاهدَة عَن التجلى(2/313)
قَالَ الْمُشَاهدَة دوَام تجلى الذَّات والتجلى قد يكون مَعَه مُشَاهدَة وَهُوَ مَا إِذا دَامَ وَقد لَا يكون انْتهى
وَأَقُول إِذا تَبرأ الْقَوْم من تَفْسِير التجلى بِمَا لَا يُمكن وَلَا يجوز وصف الرب تَعَالَى بِهِ فَلَا لوم عَلَيْهِم بعد ذَلِك غير أَنهم مصرحون بِأَنَّهُ غير الْعلم والعرفان
حِكَايَة ثَانِيَة يبْحَث فِيهَا عَن الكرامات
قَالَ أَبُو على الروذبارى سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس الرقى يَقُول كُنَّا مَعَ أَبى تُرَاب النخشبى فى طَرِيق مَكَّة فَعدل عَن الطَّرِيق إِلَى نَاحيَة فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه أَنا عطشان فَضرب بِرجلِهِ فَإِذا عين من مَاء زلال فَقَالَ الْفَتى أحب أَن أشربه فى قدح فَضرب بِيَدِهِ الأَرْض فَنَاوَلَهُ قدحا من زجاج أَبيض كأحسن مَا رَأَيْت فَشرب وسقانى وَمَا زَالَ الْقدح مَعنا إِلَى مَكَّة
فَقَالَ لى أَبُو تُرَاب يَوْمًا مَا يَقُول أَصْحَابك فى هَذِه الْأُمُور الَّتِى يكرم الله بهَا عباده فَقلت مَا رَأَيْت أحدا إِلَّا وَهُوَ مُؤمن بهَا فَقَالَ من لايؤمن بهَا فَلَقَد كفر إِنَّمَا سَأَلتك من طَرِيق الْأَحْوَال فَقلت مَا أعرف لَهُم قولا فِيهِ فَقَالَ بلَى قد زعم أَصْحَابك أَنَّهَا خدع من الْحق وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك إِنَّمَا الخدع فى حَال السّكُون إِلَيْهَا فَأَما من لم يقترح ذَلِك فَتلك مرتبَة الربانيين
قلت قد اشْتَمَل كَلَام أَبى تُرَاب هَذَا على فصلين مهمين
أَحدهمَا أَن الكرامات والمكاشفات لسيت خدعا إِلَّا لمن يقف عِنْدهَا ويجعلها شوقه ومقصوده وَلَا شكّ فى هَذَا وَقد بَالغ قوم فى تعظيمها بِحَيْثُ سلبوا بهَا الْمَوَاهِب وَبَالغ آخَرُونَ فى امتهانها بِحَيْثُ لم يعدوها شَيْئا وَالْحق مَا ذكره تُرَاب أَبُو أَيُّوب من أَن السّكُون إِلَيْهَا نقص فَمن الْوَاضِح الجلى الذى لَا يُنكره عَارِف أَن الْعَارِف لَا يقف عِنْدهَا وَإِنَّمَا مَطْلُوبه وَرَاءَهَا وهى تقع فى طَرِيقه وَلَيْسَ للْوَاقِع فِي الطَّرِيق من الطَّرِيق(2/314)
صفة وَمن وقف عِنْدهَا سقط فى مهاوى الهلكات وَمن كَانَت هى مَطْلُوبه فَهُوَ مغرور وَيبعد وُصُوله إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يصل إِلَيْهَا من لَا يَرَاهَا فَافْهَم مَا يلقى إِلَيْك
فَإِن قلت فلأى معنى يظهرها مظهروها وهى على مَا تزْعم أَشْيَاء لَا يلقون إِلَيْهَا بَالا
قلت ظُهُورهَا يَقع على أنحاء رُبمَا لم يكن بِاخْتِيَار صَاحبهَا وَهُوَ كثير بل صَار بعض الْأَئِمَّة كَمَا نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فى الشَّامِل إِلَى أَن الكرامات لَا تكون أبدا إِلَّا على هَذَا الْوَجْه فعلى هَذَا الْوَجْه لَا سُؤال وَلَكِن هَذَا مَذْهَب ضَعِيف غير مرضى عِنْد المحصلين وَلَا سُؤال عَلَيْهِ وَرُبمَا كَانَ هُوَ الْمظهر بهَا وَإِنَّمَا يكون ذَلِك لفائدة دينية من تربية أَو بِشَارَة أَو نذارة أَو غير ذَلِك حَيْثُ يُؤذن فِيهِ وَلَا يجوز إظهارها حَيْثُ لَا فَائِدَة فَذَلِك عِنْد الْقَوْم غير جَائِز لَهُ
والفصل الثانى أَن الكرامات حق وَقَول أَبى تُرَاب من لَا يُؤمن بهَا فقد كفر بَالغ فى الْحَط من منكريها وَقد تؤول لَفْظَة الْكفْر فى كَلَامه وَتحمل على أَنه لم يعن الْكفْر الْمخْرج من الْملَّة وَلكنه كفر دون كفر
وإنى لأعجب أَشد الْعجب من منكرها وأخشى عَلَيْهِ مقت الله ويزداد تعجبى عِنْد نِسْبَة إنكارها إِلَى الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق الإسفراينى وَهُوَ من أساطين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة على أَن نِسْبَة إنكارها إِلَيْهِ على الْإِطْلَاق كذب عَلَيْهِ والذى ذكره الرجل فى مصنفاته أَن الكرامات لَا تبلغ مبلغ خرق الْعَادة
قَالَ وكل مَا جَازَ تَقْدِيره معْجزَة لنبى لَا يجوز ظُهُور مثله كَرَامَة لولى
قَالَ وَإِنَّمَا بَالغ الكرامات إِجَابَة دَعْوَة أَو موافاة مَاء فى بادية فى غير موقع الْمِيَاه أَو مضاهى ذَلِك مِمَّا ينحط عَن خرق الْعَادة ثمَّ مَعَ هَذَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره من أَئِمَّتنَا هَذَا الْمَذْهَب مَتْرُوك
قلت وَلَيْسَ بَالغا فى البشاعة مبلغ مَذْهَب المنكرين للكرامات مُطلقًا بل هُوَ مَذْهَب مفصل بَين كَرَامَة وكرامة رأى أَن ذَلِك التَّفْصِيل هُوَ الْمُمَيز لَهَا من المعجزات(2/315)
وَقد قَالَ الْأُسْتَاذ الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم القشيرى فى الرسَالَة إِن كثيرا من المقدورات يعلم الْيَوْم قطعا أَنه لَا يجوز أَن يظْهر كَرَامَة للأولياء لضَرُورَة أَو شبه ضَرُورَة يعلم ذَلِك فَمِنْهَا حُصُول إِنْسَان لَا من أبوين وقلب جماد بَهِيمَة أَو حَيَوَانا وأمثال هَذَا يكثر انْتهى
وَهُوَ حق لَا ريب فِيهِ وَبِه يَتَّضِح أَن قَول من قَالَ مَا جَازَ أَن يكون معْجزَة لنبى جَازَ أَن يكون كَرَامَة لولى لَيْسَ على عُمُومه وَأَن قَول من قَالَ لَا فَارق بَين المعجزة والكرامة إِلَّا التحدى لَيْسَ على وَجهه ولعلنا نبحث عَن هَذَا فى آخر الْفَصْل وسبيلنا حَيْثُ انتهينا إِلَى هَذَا الْفَصْل أَن نستقصى شبه المنكرين للكرامات ونستأصل شأفتهم بتقرير الرَّد عَلَيْهِم ثمَّ نذْكر الْبَرَاهِين الدَّالَّة على الْإِثْبَات ونختمها بتتمات
شُبْهَة للقدرية فى منع الكرامات وَذكر فَسَادهَا
قَالُوا تَجْوِيز الْكَرَامَة يفضى إِلَى السفسطة لِأَنَّهُ يقتضى تَجْوِيز انقلاب الْجَبَل ذَهَبا إبريزا أَو الْبَحْر دَمًا عبيطا وانقلاب أَوَان يَتْرُكهَا الْإِنْسَان فى بَيته أَئِمَّة فضلاء مدققين
وَالْجَوَاب عَن هَذِه الشُّبْهَة من وُجُوه
أَحدهَا أَنا لَا نسلم بُلُوغ الْكَرَامَة إِلَى هَذَا الْمبلغ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام القشيرى
والثانى وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَام أَئِمَّتنَا أَنا نجوز بُلُوغهَا هَذَا الْمبلغ وَلَكِن لَا يقتضى ذَلِك سفسطة لِأَن مَا ذكرْتُمْ بِعَيْنِه وَارِد عَلَيْكُم فى زمَان النُّبُوَّة فَإِنَّهُ يجوز ظُهُور المعجزة بذلك وَلَا يُؤدى إِلَى سفسطة
وَالثَّالِث أَن التجويزات الْعَقْلِيَّة لَا تقدح فى الْعُلُوم العادية وَجَوَاز تغيرها بِسَبَب الْكَرَامَة تَجْوِيز عقلى فَلَا يقْدَح فِيهَا(2/316)
شُبْهَة ثَانِيَة لَهُم وتبيين الِانْفِصَال عَنْهَا
قَالُوا لَو جَازَت الْكَرَامَة لاشتبهت بالمعجزة فَلَا تبقى للمعجزة دلَالَة على ثُبُوت النُّبُوَّة
وَالْجَوَاب منع الِاشْتِبَاه وَهَذَا لِأَن المعجزة مقرونة بِدَعْوَى النُّبُوَّة وَلَا كَذَلِك الْكَرَامَة بل الْكَرَامَة مقرونة بالانقياد للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديقه وَالسير على طَرِيقه
وَقَوْلهمْ إِنَّمَا دلّت المعجزة على تَصْدِيق النبى من حَيْثُ انخراق الْعَادة فَكَذَلِك الْكَرَامَة كَلَام سَاقِط فَإِن مُجَرّد خرق الْعَادة لَيْسَ الْمُقْتَضى للنبوة وَلَو دلّ خرق الْعَادة على النُّبُوَّة بِمُجَرَّدِهِ لوَجَبَ أَن تدل أَشْرَاط السَّاعَة وَمَا سَيظْهر مِنْهَا على ثُبُوت نبوة إِذْ العوائد تنخرق بهَا وَمن أعظم الْبَدَائِع فطْرَة السَّمَوَات والنشأة الأولى ثمَّ لم تقتض بَدَائِع الْفطْرَة فى نشأة الْخلق ثُبُوت نبى فاستبان أَن مُجَرّد خرق الْعَادة لَا يدل إِذْ لَو دلّ لاطرد بل لابد مَعَه من التحدى فَلَا اشْتِبَاه للكرامة بالمعجزة وَأَيْضًا فالمعجزة يجب على صَاحبهَا الإشهار بِخِلَاف الْكَرَامَة فَإِن مبناها على الْإخْفَاء وَلَا تظهر إِلَّا على الندرة وَالْخُصُوص لَا على الْكَثْرَة والعموم وَأَيْضًا فالمعجزة تجوز أَن تقع بِجَمِيعِ خوارق الْعَادَات والكرامات تخْتَص بِبَعْضِهَا كَمَا بَيناهُ من كَلَام القشيرى وَهُوَ الصَّحِيح ولسنا نجوز ولدا إِلَّا من أبوين وَلَا نَحْو ذَلِك كَمَا سنستقصى القَوْل فِيهِ
شُبْهَة ثَالِثَة لَهُم وَوجه الِانْفِصَال عَنْهَا
قَالُوا لَو ظَهرت لولى كَرَامَة لجَاز الحكم لَهُ بِمُجَرَّد دَعْوَاهُ أَنه يملك حَبَّة من الْحِنْطَة أَو فلسًا وَاحِدًا من الْفُلُوس من غير بَيِّنَة لظُهُور دَرَجَته عِنْد الله تَعَالَى الْمَانِعَة من كذبه لَا سِيمَا فى هَذَا النزر الْيَسِير لكنه بَاطِل لإِجْمَاع الْمُسلمين الْمُؤَيد بقول رَسُول رب الْعَالمين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ الْبَيِّنَة على الْمُدعى وَالْيَمِين على من أنكر(2/317)
وَالْجَوَاب أَن الْكَرَامَة لَا توجب عصمَة الولى وَلَا صدقه فى كل الْأُمُور وَقد سُئِلَ شيخ الطَّرِيقَة ومقتدى الْحَقِيقَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله أيزنى الولى فَقَالَ {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وهب أَن الظَّن حَاصِل بصدقه فِيمَا ادَّعَاهُ إِلَّا أَن الشَّارِع جعل لثُبُوت الدَّعْوَى طَرِيقا مَخْصُوصًا ورابطا مَعْرُوفا لَا يجوز تعديه وَلَا الْعُدُول عَنهُ أَلا ترى أَن كثيرا من الظنون لَا يجوز الحكم بهَا لخروجها عَن الضوابط الشَّرْعِيَّة
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وكشف عوارها
قَالُوا لَو جَازَ ظُهُور خوارق الْعَادَات على أيدى الصَّالِحين لجَاز سرا كَمَا يجوز جَهرا وَلَو جَازَ سرا لما أمكننا أَن نستدل على نبوة الْأَنْبِيَاء بظهورها على أَيْديهم فَثَبت أَن ظُهُورهَا على الصَّالِحين سرا مُمْتَنع وَإِذا لم يجز ظُهُورهَا عَلَيْهِم سرا فَأولى أَن لَا تجوز جَهرا لِأَن كل من جوز ظُهُورهَا عَلَيْهِم لم يشْتَرط أَن تظهر عَلَانيَة بل من أصُول مُعظم جماعتكم أَن الْأَوْلِيَاء لَا يظهرون الكرامات وَلَا يدعونَ بهَا وَإِنَّمَا تظهر سرا وَرَاء ستور ويتخصص بالاطلاع عَلَيْهَا آحَاد النَّاس فَثَبت أَنَّهَا لَو جَازَت لجازت سرا إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ وَلِأَنَّهُ أولى بِالْجَوَازِ من الْعَلَانِيَة لَكِن جَوَازهَا سرا يفضى إِلَى أَن لَا يسْتَدلّ بهَا على النُّبُوَّة لِأَنَّهُ يجوز ظُهُورهَا مُتَوَالِيَة على اسْتِمْرَار وَإِن كَانَ ذَلِك مخفيا مستترا وَتَكون مَوْجُودَة مستمرة بِحَيْثُ تلتحق بِحكم الْمُعْتَاد فَإِذا ظهر نبى وتحدى بمعجزة جَازَ أَن تكون هى بعض مَا اعتاده أَوْلِيَاء عصره من الكرامات وَلَا يتَحَقَّق فى هَذَا النبى خرق العوائد فَكيف السَّبِيل إِلَى تَصْدِيقه هَذَا حَاصِل شبهتهم هَذِه ثمَّ حرروا عَنْهَا عبارَة فَقَالُوا إِذا تكَرر مَا يخرق العوائد على الْأَوْلِيَاء أفْضى ذَلِك إِلَى التحاق خوارق الْعَادَات فى حُقُوقهم بالمعتادات وَصَارَت(2/318)
عاداتهم خلاف الْعَادَات فَلَو ظهر نبى فى زمنهم كَانَت عوائدهم فى انخراق العوائد فى أَحْوَالهم تصدهم عَن تَصْحِيح النّظر فى المعجزة
ثمَّ أخرجُوا الشُّبْهَة على وَجه آخر فَقَالُوا لَو جَازَ إظهارها على صَالح لجَاز إظهارها على صَالح آخر إِكْرَاما لَهُ وَهَكَذَا إِلَى عدد كثير إِذْ لَيْسَ اخْتِصَاص عدد مِنْهُم بذلك أولى من عدد آخر وَحِينَئِذٍ يصير عَادَة فَلَا يبْقى ظُهُورهَا دَلِيلا على النُّبُوَّة ويطوى بِسَاط النُّبُوَّة رَأْسا
وَجَمِيع مَا ذَكرُوهُ فى هَذِه الشُّبْهَة تمويه لَا حَاصِل تَحْتَهُ وَقَعْقَعَة لَا طائل فِيهَا ولأئمتنا فى ردهَا وَجْهَان
فَمن أَئِمَّتنَا من منع توالى الكرامات واستمرارها حَتَّى تصير فى حكم العوائد وخلص بِهَذَا الْمَنْع عَن إلزامهم بل امْتنع بعض الْمُحَقِّقين من تصور توالى المعجزات على الرُّسُل المتعاقبين إِذْ كَانَ يُؤدى إِلَى أَن تصير المعجزات مُعْتَادَة فَهَذِهِ طَريقَة فى الرَّد على هَذِه الشُّبْهَة حاصلها أَنا إِنَّمَا نجوز ظُهُور الكرامات على وَجه لَا يصير عَادَة فاستبان أَنه خَاص بشبهتهم هَذِه وَأَنَّهَا لم تقدح فى أصل الكرامات وَإِنَّمَا تَضَمَّنت منع كرورها والتحاقها بالمعتاد
وَمن أَئِمَّتنَا وهم الْمُعظم من جوز توالى الكرامات على وَجه الاختفاء بِحَيْثُ لَا تظهر وَلَا تشيع وَلَا تلتحق بالمعتاد لِئَلَّا تخرج الْكَرَامَة عَن كَونهَا كَرَامَة عِنْد عَامَّة الْخلق ثمَّ قَالُوا الْكَرَامَة وَإِن توالت على الولى حَتَّى ألفها واعتادها فَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن طَرِيق الرشاد وَوجه السداد فى النّظر إِذا لاحت المعجزة إِن وَافقه التَّوْفِيق وَإِن تعداه التَّوْفِيق سلب الطَّرِيق وَلم يكن بولى على التَّحْقِيق والمعجزة تتَمَيَّز عَمَّن تَكَرَّرت عَلَيْهِ الْكَرَامَة بالإظهار والإشاعة والتحدى وَدَعوى النُّبُوَّة فَإِذا تميزت الْكَرَامَة عَن المعجزة لم ينسد بَاب الطَّرِيق إِلَى معرفَة النبى(2/319)
وَمن تَمام الْكَلَام فى ذَلِك أَن أهل الْقبْلَة متفقون على أَن الكرامات لَا تظهر على الفسقة الفجرة وَإِنَّمَا تظهر على المتمسكين بِطَاعَة الله عز وَجل
وَبِهَذَا لَاحَ أَن الطَّرِيق إِلَى معرفَة الْأَنْبِيَاء لَا ينسد فَإِن الولى بِتَوْفِيق الله تَعَالَى ينقاد للنبى إِذا ظَهرت المعجزة على يَدَيْهِ وَيَقُول معاشر النَّاس هَذَا نبى الله فأطيعوه
وَيكون أول منقاد لَهُ وَمُؤمن بِهِ
والقاضى أَبُو بكر وَإِن شَبَّبَ بِمَنْع هَذَا الْإِجْمَاع وَقَالَ لَو جوز مجوز ظُهُور بعض خوارق الْعَادَات على بعض الفسقة استدراجا لَكَانَ مذهبا كَمَا أَنه لَا يبعد ظُهُورهَا على الرهبان المتبتلين وَأَصْحَاب الصوامع على كفرهم فَهَذَا كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيهِ نظر ولسنا نثبت لراهب كَرَامَة وَلَا كيد وَلَا كَرَامَة وَمحل اسْتِيفَاء القَوْل على ذَلِك لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان
وَالْحَاصِل أَن مَا يظْهر على يَد الرهبان لَيْسَ من الكرامات وَأما توقف القاضى فى الفسقة والفجرة فَأَنا مَعَه لَكِن لَا على الْإِطْلَاق بل أفصل فَأَقُول لَو ذهب ذَاهِب إِلَى تَجْوِيز ظُهُور الْكَرَامَة على يَد الْفَاسِق إنقاذا لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ ثمَّ يَتُوب بعْدهَا وَيثبت لَا محَالة وينتقل إِلَى الْهدى بعد الضَّلَالَة لَكَانَ مذهبا وَيقرب مِنْهُ قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف الَّتِى سنحكيها فقد كَانُوا عَبدة أصنام ثمَّ حصل لَهُم مَا حصل إرشادا وتبصرة ثمَّ مَا ذكره الْخُصُوم من حَدِيث اشْتِبَاه النبى بِغَيْرِهِ إِذا وَافَقت المعجزة الْكَرَامَة قد تبين الِانْفِصَال عَنهُ
وَأَنا أَقُول معَاذ الله أَن يتحدى نبى بكرامة تَكَرَّرت على يَد ولى بل لَا بُد أَن يأتى النبى بِمَا لَا يوقعه الله على يَد الولى وَإِن جَازَ وُقُوعه فَلَيْسَ كل جَائِز فى قضايا الْعُقُول وَاقعا وَلما كَانَت مرتبَة النبى أعلا وَأَرْفَع من مرتبَة الولى كَانَ الولى مَمْنُوعًا مِمَّا يأتى بِهِ النبى على وَجه الإعجاز والتحدى أدبا مَعَ النبى
ثمَّ أَقُول حَدِيث الِاشْتِبَاه والانسداد على بُطْلَانه إِنَّمَا يَقع الْبَحْث فِيهِ حَيْثُ لم تختم النُّبُوَّة(2/320)
أما مَعَ مجئ خَاتم النَّبِيين الذى ثبتَتْ نبوته بأوضح الْبَرَاهِين وإخباره بِأَنَّهُ لَا نبى بعده فقد أمنا الِاشْتِبَاه فَلَو صَحَّ مَا ذكر من الِاشْتِبَاه والانسداد لَكَانَ فى حكم الْأَوْلِيَاء من الْأُمَم السالفة لَا فى حكم الْأَوْلِيَاء من هَذِه الْأمة لأمنهم من أَنه لَا نبى بعد نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا لَو صَحَّ وَلنْ يَصح أبدا
شُبْهَة خَامِسَة لَهُم وَتَقْرِير بُطْلَانهَا
قَالُوا لَو كَانَ للكرامات أصل لَكَانَ أولى النَّاس بهَا أهل الصَّدْر الأول وهم صفوة الْإِسْلَام وقادة الْأَنَام والمفضلون على الخليقة بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلم يُؤثر عَنْهُم أَمر مستقصى
وَهَذَا الذى ذَكرُوهُ تعلل بالأمانى وَهُوَ قَول مرذول مَرْدُود فَلَو حاول مستقص استقصاء كرامات الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لأجهد نَفسه وَلم يصل إِلَى عشر الْعشْر وَلَا بَأْس هُنَا بِذكر يسير من كرامات الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَالْكَلَام على السِّرّ فى ظُهُورهَا وإظهارها على وَجه الِاخْتِصَار ليستفاد بكلامنا على مَا نورده من الْقَلِيل مَا يستعان بِهِ على مَا نغفله من الْكثير
فَنَقُول اعْلَم أَولا أَن كل كَرَامَة ظَهرت على يَد صحابى أَو ولى أَو تظهر إِلَى يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين فَإِنَّهَا معْجزَة للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن صَاحبهَا إِنَّمَا نالها بالاقتداء بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ معترف لَهُ بِأَنَّهُ مقدم خَلِيقَة الله وصفوتهم وَسيد الْبشر الذى من بحره تستخرج الدُّرَر وَمن غيثه يسْتَنْزل الْمَطَر وَهَذَا الْمَعْنى يصلح أَن يكون سَببا إجماعيا عَاما فى الْإِظْهَار لَا سِيمَا فى عصر الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَإِن(2/321)
الْكفَّار إِذا رَأَوْا مَا يظْهر على يديهم من الخوارق آمنُوا بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلمُوا أَنهم على الْحق فَرُبمَا كَانَ هَذَا سَببا فى الْإِظْهَار إِذا علمت ذَلِك
فَمن الكرامات على يَد أَبى بكر الصّديق رضى الله عَنهُ
مَا صَحَّ من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَن أَبَا بكر الصّديق رضى الله عَنهُ كَانَ نحلهَا جاد عشْرين وسْقا فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ وَالله يَا بنية مَا من النَّاس أحد أحب إِلَى غنى بعدى مِنْك وَلَا أعز عَليّ فقرا بعدِي مِنْك وإنى كنت نحلتك جاد عشْرين وسْقا فَلَو كنت جددته وخزنته كَانَ لَك وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال وَارِث وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك فَاقْتَسمُوهُ على كتاب الله
قَالَت عَائِشَة يَا أَبَت وَالله لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته إِنَّمَا هى أَسمَاء فَمن الْأُخْرَى فَقَالَ أَبُو بكر ذُو بطن بنت أَرَاهَا جَارِيَة فَكَانَ ذَلِك
قلت فِيهِ كرامتان لأبى بكر
إِحْدَاهمَا إخْبَاره بِأَنَّهُ يَمُوت فى ذَلِك الْمَرَض حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال وَارِث
وَالثَّانيَِة إخْبَاره بمولود يُولد لَهُ وَهُوَ جَارِيَة
والسر فى إِظْهَار ذَلِك استطابة قلب عَائِشَة رضى الله عَنْهَا فى استرجاع مَا وهبه لَهَا وَلم تقبضه وإعلامها بِمِقْدَار مَا يَخُصهَا لتَكون على ثِقَة مِنْهُ فَأَخْبرهَا بِأَنَّهُ مَال وَارِث وَأَن مَعهَا أَخَوَيْنِ وأختين لهَذَا وَيدل على أَنه قصد استطابة قَلبهَا مَا مهده أَولا من أَنه لَا أحد أحب إِلَيْهِ غنى بعده مِنْهَا وَقَوله إِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك أى لَيْسَ ثمَّ غَرِيب وَلَا ذُو قرَابَة نائية وفى هَذَا من الترفق مَا لَيْسَ يخفى فرضى الله عَنهُ وأرضاه(2/322)
وَمِنْهَا مَا فى البخارى من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبى بكر وَقَول النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى أهل الصّفة مرّة (من كَانَ عِنْده طَعَام اثْنَيْنِ فليذهب بثالث وَمن كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فليذهب بخامس) الحَدِيث
وَفِيه أَن أَبَا بكر انْطلق بِثَلَاثَة وغادرهم فى بَيته وتعشى عِنْد النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولبث حَتَّى صلى الْعشَاء مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء بعد مَا مضى من اللَّيْل مَا شَاءَ الله فَقَالَت لَهُ امْرَأَته مَا حَبسك عَن أضيافك قَالَ أَو مَا عشيتهم قَالَت أَبَوا حَتَّى تجىء ثمَّ قَالَ كلوا فَقَالَ قَائِلهمْ وَايْم الله مَا كُنَّا نَأْخُذ من لقْمَة إِلَّا رَبًّا من أَسْفَلهَا أَكثر مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَت أَكثر مِمَّا كَانَت قبل فَنظر أَبُو بكر فَإِذا شىء أَو أَكثر فَقَالَ لامْرَأَته يَا أُخْت بنى فراس مَا هَذَا قَالَت لَا وقرة عينى لهى الْآن أَكثر مِمَّا كَانَت قبل بِثَلَاث مَرَّات فاكل مِنْهَا أَبُو بكر ... الحَدِيث
فَنَقُول السِّرّ فِيهِ وَالْعلم عِنْد الله إِن كَانَ أَبُو بكر قصد تَكْثِير الطَّعَام احْتِيَاجه إِلَى إشباع الأضياف الَّذين أمره النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهم وَإِن لم يكن قصد ذَلِك بل كثره الله ببركته فهى كَرَامَة أظهرها الله على يَدَيْهِ من غير قصد مِنْهُ فَلَا يبْحَث عَنْهَا
وَمِنْهَا على يَد أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر الْفَارُوق رضى الله عَنهُ
الذى قَالَ فِيهِ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ نَاس محدثون فَإِن يَك فى أمتى أحد فَإِنَّهُ عمر)
قصَّة سَارِيَة بن زنيم الخلجى
كَانَ عمر قد أَمر سَارِيَة على جَيش من جيوش الْمُسلمين وجهزه إِلَى بِلَاد فَارس فَاشْتَدَّ على عسكره الْحَال على بَاب نهاوند وَهُوَ يحاصرها وَكَثُرت جموع الْأَعْدَاء وَكَاد(2/323)
الْمُسلمُونَ ينهزمون وَعمر رضى الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فَصَعدَ الْمِنْبَر وخطب ثمَّ اسْتَغَاثَ فى أثْنَاء خطبَته بأعلا صَوته يَا سَارِيَة الْجَبَل يَا سَارِيَة الْجَبَل من استرعى الذِّئْب الْغنم فقد ظلم فَأَسْمع الله عز وَجل سَارِيَة وجيوشه أَجْمَعِينَ وهم على بَاب نهاوند صَوت عمر فلجأوا إِلَى الْجَبَل وَقَالُوا هَذَا صَوت أَمِير الْمُؤمنِينَ فنجوا وانتصروا
هَذَا ملخصها وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله يزِيد فِيهَا أَن عليا رضى الله عَنهُ كَانَ حَاضرا فَقيل لَهُ مَا هَذَا الذى يَقُوله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَيْنَ سَارِيَة منا الْآن فَقَالَ كرم الله وَجهه دَعوه فَمَا دخل فى أَمر إِلَّا وَخرج مِنْهُ ثمَّ تبين الْحَال بِالآخِرَة
قلت عمر رضى الله عَنهُ لم يقْصد إِظْهَار هَذِه الْكَرَامَة وَإِنَّمَا كشف لَهُ وَرَأى الْقَوْم عيَانًا وَكَانَ كمن هُوَ بَين أظهرهم أَو طويت الأَرْض وَصَارَ بَين أظهرهم حَقِيقَة وَغَابَ عَن مَجْلِسه بِالْمَدِينَةِ واشتغلت حواسه بِمَا دهم الْمُسلمين بنهاوند فخاطب أَمِيرهمْ خطاب من هُوَ مَعَه إِذْ هُوَ حَقِيقَة أَو كمن هُوَ مَعَه
وَاعْلَم أَن مَا يجربه الله على لِسَان أوليائه من هَذِه الْأُمُور يحْتَمل أَن يعرفوا بهَا وَيحْتَمل أَن لَا يعرفوا بهَا وهى كَرَامَة على كلا الْحَالين
وَمِنْهَا قصَّة الزلزلة
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحمَه الله فى كتاب الشَّامِل إِن الأَرْض زلزلت فى زمن عمر رضى الله عَنهُ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَالْأَرْض ترجف وترتج ثمَّ ضربهَا بِالدرةِ وَقَالَ أقرى ألم أعدل عَلَيْك فاستقرت من وَقتهَا
قلت كَانَ عمر رضى الله عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ على الْحَقِيقَة فى الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَخَلِيفَة الله فى أرضه وفى ساكنى أرضه فَهُوَ يُعَزّر الأَرْض ويؤدبها بِمَا يصدر مِنْهَا كَمَا يُعَزّر ساكنيها على خطيئاتهم
فَإِن قلت أيجب على الأَرْض تَعْزِير وهى غير مكلفة
قلت هَذَا الْآن جهل وقصور على ظواهر الْفِقْه اعْلَم أَن أَمر الله وقضاءه متصرف فى(2/324)
جَمِيع مخلوقاته ثمَّ مِنْهُ ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر مَا يبْحَث عَنهُ الْفُقَهَاء من أَحْكَام الْمُكَلّفين وَالْبَاطِن مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَقد يطلع عَلَيْهِ بعض أصفيائه وَمِنْهُم الْفَارُوق سقى الله عَهده فَإِذا ارتجت الأَرْض بَين يدى من اسْتَوَى عِنْده الظَّاهِر وَالْبَاطِن عزرها كَمَا إِذا زل الْمَرْء بَين يدى الْحَاكِم وَانْظُر خطابه لَهَا وَقَوله (ألم أعدل عَلَيْك) وَالْمعْنَى وَالله أعلم أَنَّهَا إِذا وَقع عَلَيْهَا جور الْوُلَاة جديرة بِأَن ترتج غير ملومة على التزلزل بِمَا على ظهرهَا وَأما إِذا لم يكن جور بل كَانَ الحكم بِالْقِسْطِ قَائِما فَفِيمَ الارتجاج وعَلى م القلق وَلم يَأْتِ الْوَقْت الْمَعْلُوم فَمَا لَهَا أَن ترتج إِلَّا فى وَقْتَيْنِ أَحدهمَا الْوَقْت الْمَعْلُوم الْمشَار إِلَيْهِ فى قَوْله تَعَالَى {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} فَإِن ذَلِك إِلَيْهَا وَذَلِكَ إِذا قَالَ الْإِنْسَان مَالهَا حدثت هى بأخبارها وَذكرت أَن الله أوحى لَهَا على مَا قَالَ تَعَالَى {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا وأخرجت الأَرْض أثقالها وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا بِأَن رَبك أوحى لَهَا} والثانى وَقت وُقُوع الْجور عَلَيْهَا من الْوُلَاة فَإِنَّهَا تعذر إِذْ ذَاك فَإِن قلت من أَيْن لَك هَذَا
قلت من قَول عمر الذى أَشَرنَا إِلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا {تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا} لِأَنَّهُ دلّت على الأَرْض تكَاد تَنْشَق بِالْفُجُورِ الْوَاقِع عَلَيْهَا فلولا يمْسِكهَا الله لَكَانَ
وَاعْلَم أَن هَذَا الذى خضناه بَحر لَا سَاحل لَهُ والرأى أَن نمسك عنان الْكَلَام والموفق يُؤمن بِمَا نُرِيد والشقى يجهل وَلَا يجدى فِيهِ الْبَيَان وَلَا يُفِيد وَمِنْهُم شقى وَمِنْهُم سعيد
وَيقرب من قصَّة الزلزلة(2/325)
قصَّة النّيل
وَذَلِكَ أَن النّيل كَانَ فى الْجَاهِلِيَّة لَا يجرى حَتَّى تلقى فِيهِ جَارِيَة عذراء فى كل عَام فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَجَاء وَقت جَرَيَان النّيل فَلم يجر أَتَى أهل مصر عَمْرو بن الْعَاصِ فأخبروه أَن لنيلهم سنة وَهُوَ أَنه لَا يجرى حَتَّى تلقى فِيهِ جَارِيَة بكر بَين أَبَوَيْهَا وَيجْعَل عَلَيْهَا من الحلى وَالثيَاب أفضل مَا يكون فَقَالَ لَهُم عَمْرو بن الْعَاصِ إِن هَذَا لَا يكون وَإِن الْإِسْلَام يهدم مَا قبله فأقاموا ثَلَاثَة أشهر لَا يجرى قَلِيلا وَلَا كثيرا حَتَّى هموا بالجلاء فَكتب عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى عمر بن الْخطاب بذلك فَكتب إِلَيْهِ عمر قد أصبت إِن الْإِسْلَام يهدم مَا قبله وَقد بعثت إِلَيْك بطاقة فَأَلْقِهَا فى النّيل فَفتح عَمْرو البطاقة قبل إلقائها فَإِذا فِيهَا من عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى نيل مصر أما بعد فَإِن كنت تجرى من قبلك فَلَا تجر وَإِن كَانَ الله الْوَاحِد القهار هُوَ الذى يجريك فنسأل الله الْوَاحِد القهار أَن يجريك فَألْقى عَمْرو البطاقة فى النّيل قبل يَوْم الصَّلِيب وَقد تهَيَّأ أهل مصر للجلاء وَالْخُرُوج مِنْهَا فَأَصْبحُوا وَقد أجراه الله سِتَّة عشر ذِرَاعا فى لَيْلَة
فَانْظُر إِلَى عمر كَيفَ يُخَاطب المَاء ويكاتبه ويكلم الأَرْض ويؤدبها وَإِذا قَالَ لَك الْمَغْرُور أَيْن أصل ذَلِك فى السّنة قل أَيهَا المتعثر فى أذيال الجهالات أيطالب الْفَارُوق بِأَصْل وَإِن شِئْت أصلا فهاك أصولا لَا أصلا وَاحِدًا أَلَيْسَ قد حن الْجذع إِلَى الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى ضمه إِلَيْهِ أَلَيْسَ شكى إِلَيْهِ الْبَعِير مَا بِهِ أَلَيْسَ فى قصَّة الظبية حجَّة وَالْأُصُول فى هَذَا النَّوْع لَا تَنْحَصِر وَسَنذكر مَالك أَن تضمه إِلَى هَذَا فى تَرْجَمَة الإِمَام فَخر الدّين فى مَسْأَلَة تَسْبِيح الجمادات حَيْثُ نرد عَلَيْهِ ثمَّ إِنْكَاره لذَلِك
وَمِنْهَا قصَّة النَّار الْخَارِجَة من الْجَبَل
كَانَت تخرج من كَهْف فى جبل فتحرق مَا أَصَابَت فَخرجت فى زمن عمر فَأمر أَبَا مُوسَى الأشعرى أَو تميما الدارى أَن يدخلهَا الْكَهْف فَجعل يحبسها بردائه حَتَّى أدخلها الْكَهْف فَلم تخرج بعد
قلت وَلَعَلَّه قصد بذلك منع أذاها(2/326)
وَمِنْهَا أَنه عرض جَيْشًا يَبْعَثهُ إِلَى الشَّام فعرضت لَهُ طَائِفَة فَأَعْرض عَنْهُم ثمَّ عرضت عَلَيْهِ ثَانِيًا فَأَعْرض عَنْهُم ثمَّ عرضت ثَالِثا فَأَعْرض فَتبين بِالآخِرَة أَنه كَانَ فيهم قَاتل عُثْمَان وَقَاتل على
وَمِنْهَا على يَد عُثْمَان ذى النورين رضى الله عَنهُ
دخل إِلَيْهِ رجل كَانَ قد لقى امْرَأَة فى الطَّرِيق فتأملها فَقَالَ لَهُ عُثْمَان رضى الله عَنهُ يدْخل أحدكُم وفى عَيْنَيْهِ أثر الزِّنَا فَقَالَ الرجل أوحى بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا وَلكنهَا فراسة
قلت إِنَّمَا أظهر عُثْمَان هَذَا تأديبا لهَذَا الرجل وزجرا لَهُ عَن سوء صَنِيعه
وَاعْلَم أَن الْمَرْء إِذا صفا قلبه صَار ينظر بِنور الله فَلَا يَقع بَصَره على كدر أَوْصَاف إِلَّا عرفه ثمَّ تخْتَلف المقامات فَمنهمْ من يعرف أَن هُنَاكَ كدرا وَلَا يدرى مَا أَصله وَمِنْهُم من يكون أعلا من هَذَا الْمقَام فيدرى أَصله كَمَا اتّفق لعُثْمَان رضى الله عَنهُ فَإِن تَأمل الرجل للْمَرْأَة أورثه كدرا فَأَبْصَرَهُ عُثْمَان وَفهم سَببه
وَهنا دقيقة وَهُوَ أَن كل مَعْصِيّة لَهَا كدر وتورث نُكْتَة سَوْدَاء فى الْقلب بِقَدرِهَا فَتكون رينا على مَا قَالَ تَعَالَى {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إِلَى أَن يستحكم وَالْعِيَاذ بِاللَّه فيظلم الْقلب وتغلق أَبْوَاب النُّور فيطبع عَلَيْهِ فَلَا يبْقى سَبِيل إِلَى تَوْبَته على مَا قَالَ تَعَالَى {وطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ} وَقد أوضحنا هَذَا فى كتاب رفع الحوبة بِوَضْع التَّوْبَة فى بَاب أَن المطبوع لَا تَوْبَة لَهُ
إِذا عرفت هَذَا فالصغيرة من المعاصى تورث كدرا صَغِيرا بِقَدرِهَا قريب المحو بالاستغفار وَغَيره من المكفرات وَلَا يُدْرِكهُ إِلَّا ذُو بصر حاد كعثمان رضى الله عَنهُ حَيْثُ أدْرك هَذَا الكدر الْيَسِير فَإِن تَأمل الْمَرْأَة من أيسر الذُّنُوب وأدركه عُثْمَان وَعرف أَصله وَهَذَا(2/327)
مقَام عَال يخضع لَهُ كثير من المقامات وَإِذا انْضَمَّ إِلَى الصَّغِيرَة صَغِيرَة أُخْرَى ازْدَادَ الكدر وَإِذا تكاثرت الذُّنُوب بِحَيْثُ وصلت وَالْعِيَاذ بِاللَّه إِلَى مَا وصفناه من ظلام الْقُلُوب صَار بِحَيْثُ يُشَاهِدهُ كل ذى بصر فَمن رأى متضمخا بالمعاصى قد أظلم قلبه وَلم يتفرس فِيهِ ذَلِك فَليعلم أَنه إِنَّمَا لم يبصره لما عِنْده أَيْضا من الْعَمى الْمَانِع للإبصار وَإِلَّا فَلَو كَانَ بَصيرًا لَأبْصر هَذَا الظلام الداجى فبقدر بَصَره يبصر فَافْهَم مَا نتحفك بِهِ
وَمِنْهَا على يَد على المرتضى أَمِير الْمُؤمنِينَ رضى الله عَنهُ
روى أَن عليا وولديه الْحسن وَالْحُسَيْن رضى الله عَنْهُم سمعُوا قَائِلا يَقُول فى جَوف اللَّيْل
(يَا من يُجيب دَعَا الْمُضْطَر فى الظُّلم ... يَا كاشف الضّر والبلوى مَعَ السقم)
(قد نَام وفدك حول الْبَيْت وانتبهوا ... وَعين جودك يَا قيوم لم تنم)
(هَب لى بجودك فضل الْعَفو عَن زللى ... يَا من إِلَيْهِ رَجَاء الْخلق فى الْحرم)
(إِن كَانَ عفوك لَا يرجوه ذُو خطأ ... فَمن يجود على العاصين بِالنعَم)
فَقَالَ على رضى الله عَنهُ لوَلَده اطلب لى هَذَا الْقَائِل فَأَتَاهُ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأقبل يجر شقَّه حَتَّى وقف بَين يَدَيْهِ فَقَالَ قد سَمِعت خطابك فَمَا قصتك فَقَالَ إنى كنت رجلا مَشْغُولًا بالطرب والعصيان وَكَانَ والدى يعظنى وَيَقُول إِن لله سطوات ونقمات وَمَا هى من الظَّالِمين بِبَعِيد فَلَمَّا ألح فى الموعظة ضَربته فَحلف ليدعون على ويأتى مَكَّة مستغيثا إِلَى الله فَفعل ودعا فَلم يتم دعاؤه حَتَّى جف شقى الْأَيْمن فندمت على مَا كَانَ منى وداريته وأرضيته إِلَى أَن ضمن لى أَنه يَدْعُو لى حَيْثُ دَعَا على فَقدمت إِلَيْهِ نَاقَة فأركبته فنفرت النَّاقة ورمت بِهِ بَين صخرتين فَمَاتَ هُنَاكَ فَقَالَ لَهُ على رضى الله عَنهُ رضى الله عَنْك إِن كَانَ أَبوك رضى عَنْك فَقَالَ الله كَذَلِك فَقَامَ على كرم الله وَجهه وَصلى رَكْعَات ودعا بدعوات أسرها إِلَى الله عز وَجل ثمَّ قَالَ يَا مبارك(2/328)
قُم فَقَامَ وَمَشى وَعَاد إِلَى الصِّحَّة كَمَا كَانَ ثمَّ قَالَ لَوْلَا أَنَّك حَلَفت أَن أَبَاك رضى عَنْك مَا دَعَوْت لَك
قلت أما الدُّعَاء فَلَا إِشْكَال فِيهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِظْهَار كَرَامَة وَلَكنَّا نبحث فى هَذَا الْأَمر فى موضِعين أَحدهمَا فِيمَا نَحن بصدده من السِّرّ فى إِظْهَاره كرم الله وَجهه الْكَرَامَة فى قَوْله قُم
فَنَقُول لَعَلَّه لما دَعَا أذن لَهُ أَن يَقُول ذَلِك أَو رأى أَن قِيَامه مَوْقُوف بِإِذن الله تَعَالَى على هَذَا الْمقَال فَلم يكن من ذكره بُد
والثانى كَونه صلى رَكْعَات وَلم يقْتَصر على رَكْعَتَيْنِ
فَنَقُول ينبغى للداعى أَن يبْدَأ بِعَمَل صَالح يتنور بِهِ قلبه ليعقبه الدُّعَاء وَلذَلِك كَانَ الدُّعَاء عقيب المكتوبات أقرب إِلَى الإجابات وَمن أفضل الْأَعْمَال الصَّلَاة وَقد جَاءَ فى أَحَادِيث كَثِيرَة الْأَمر بتقديمها على الدُّعَاء عِنْد الْحَاجَات وَأَقل الصَّلَاة رَكْعَتَانِ فَإِن حصل نور بهَا وأشرقت علائم الْقبُول فَالْأولى الدُّعَاء عقيبها وَإِلَّا فَليصل الْمَرْء إِلَى أَن تلوح أَمَارَات الْقبُول فَيعرض إِذْ ذَاك عَن الصَّلَاة ويفتتح الدُّعَاء فَإِنَّهُ أقرب إِلَى الْإِجَابَة وللكلام فى هَذَا الْمقَام سبح طَوِيل لسنا لَهُ الْآن
وَمِنْهَا على يَد الْعَبَّاس عَم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فى استسقائه عَام الرَّمَادَة وَذَلِكَ أَن الأَرْض أجدبت فى زمَان عمر رضى الله عَنهُ وَكَانَت الرّيح تذرى تُرَابا كالرماد لشدَّة الجدب فَسمى عَام الرَّمَادَة لذَلِك وَقيل إِنَّمَا سمى بذلك لِكَثْرَة من هلك فِيهِ والرمد الْهَلَاك فَخرج عمر بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب رضى الله عَنْهُمَا يستسقى فَأخذ بضبعيه وأشخصه قَائِما ثمَّ أشخص إِلَى السَّمَاء وَقَالَ اللَّهُمَّ(2/329)
إِنَّا نتقرب إِلَيْك بعم نبيك وقفية آبَائِهِ وَكبر رِجَاله فَإنَّك تَقول وقولك الْحق {وَأما الْجِدَار فَكَانَ لغلامين يتيمين فِي الْمَدِينَة وَكَانَ تَحْتَهُ كنز لَهما وَكَانَ أَبوهُمَا صَالحا} فحفظتهما لصلاح أَبِيهِمَا فاحفظ اللَّهُمَّ نبيك فى عَمه فقد دلونا بِهِ إِلَيْك مستشفعين ومستغفرين ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} إِلَى قَوْله {أَنهَارًا} وَالْعَبَّاس قد طَال عمر وَعَيناهُ تَنْضَحَانِ وسبابته تجول على صَدره وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ أَنْت الراعى لَا تهمل الضَّالة وَلَا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصَّغِير ورق الْكَبِير وَارْتَفَعت الشكوى وَأَنت تعلم السِّرّ وأخفى اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك قبل أَن يقنطوا فيهلكوا فَإِنَّهُ لَا ييأس من روحك إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك فقد تقرب إِلَى الْقَوْم لمكانى من نبيك عَلَيْهِ السَّلَام فَنَشَأَتْ طريرة من سَحَاب وَقَالَ النَّاس ترَوْنَ(2/330)
ترَوْنَ ثمَّ تلامت واستتمت ومشت فِيهَا ريح ثمَّ هدت وَدرت فَمَا برح الْقَوْم حَتَّى اعتلقوا الْحذاء وقلصوا المآزر وخاضوا المَاء إِلَى الركب ولاذ النَّاس بِالْعَبَّاسِ يمسحون أردانه وَيَقُولُونَ هَنِيئًا لَك ساقى الْحَرَمَيْنِ فأمرع الله الْحباب وأخصب الْبِلَاد ورحم الْعباد
قلت فَهَذِهِ دَعْوَة مستجابة ببركة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِيهَا قصد إِلَى إِظْهَار كَرَامَة بل استسقاء عِنْد احْتِيَاج الْخلق
وهى مثل مَا ظهر على يَد سعد بن أَبى وَقاص رضى الله عَنهُ
وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَوْم الْقَادِسِيَّة متألما من دمل لم يسْتَطع الرّكُوب لأَجله فَجَلَسَ فى قصر يشرف على النَّاس فَقَالَ فى ذَلِك بعض الشُّعَرَاء مقَالا بلغه رضى الله عَنهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنَا لِسَانه وَيَده فخرس لِسَانه وشلت يَده وَكَانَ سعد رضى الله عَنهُ مجاب الدعْوَة لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لَهُ بذلك فَقَالَ (اللَّهُمَّ سدد سَهْمه وأجب دَعوته) فَكَانَ لَا يَدْعُو بشئ إِلَّا أجَاب الله عز وَجل دعاءه فِيهِ وَكَانَ الصَّحَابَة يعْرفُونَ ذَلِك مِنْهُ وَلما عَزله عمر رضى الله عَنهُ من الْكُوفَة بشكوى أَهلهَا وَكَانَ عمر رضى الله عَنهُ قد قَالَ لَا يشكو إِلَى أهل مَوضِع عاملهم إِلَّا عزلته وَذَلِكَ وَالله أعلم لمعنيين
أَحدهمَا لِأَنَّهُ رأى أَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم كلهم عدُول والاستبدال مُمكن والثانى أَنه لم يكن للأولين رَغْبَة فى الْولَايَة وَإِنَّمَا كَانُوا يفعلونها امتثالا لأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ وانقيادا لطاعة الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجاء ثَوَاب الله فى إِقَامَة الْحق فَإِذا عزل أحدهم كَانَ الْعَزْل أحب إِلَيْهِ من الْولَايَة فَلَا يؤلم ذَلِك قلبه فَلذَلِك كَانَ عمر رضى الله عَنهُ وَالله أعلم يخْتَار عزل المشكو على الْإِطْلَاق بِمُجَرَّد الشكوى وَإِن كَانَ عِنْده(2/331)
عدلا ورعا منزها عَمَّا قيل فِيهِ لِأَنَّهُ يجمع بعزله بَين إِدْخَال السرُور على قلبه بالإقالة وعَلى الشاكين بِقطع النزاع وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا يغْفل الْبَحْث عَن أَحْوَال الراعى والرعية حَتَّى يطلع على صدق الشاكى من غَيره فَلَمَّا عزل سَعْدا وَولى مَكَانَهُ عمار بن يَاسر رضى الله عَنْهُمَا بعث مَعَ سعد من يسْأَل عَنهُ أهل الْكُوفَة فَلم يدع مَسْجِدا حَتَّى سَأَلَ عَنهُ فيثنون خيرا حَتَّى دخل مَسْجِدا لبنى عبس فَقَامَ رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ أُسَامَة بن قَتَادَة ويكنى أَبَا سعدة فَقَالَ أما إِذْ نَشَدتنَا فَإِن سَعْدا كَانَ لَا يسير بالسرية وَلَا يقسم بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يعدل فى الْقَضِيَّة فَقَالَ سعد أما وَالله لأدعون بِثَلَاث اللَّهُمَّ إِن كَانَ عَبدك هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاء وَسُمْعَة فأطل عمره وأطل فقره وَعرضه للفتن قَالَ عبد الْملك بن عُمَيْر من رُوَاة الحَدِيث فَأَنا رَأَيْته قد سقط حاجباه على عَيْنَيْهِ من الْكبر وَإنَّهُ ليتعرض للجوارى فى الطَّرِيق يغمزهن وَكَانَ بعد إِذا سُئِلَ يَقُول شيخ كَبِير مفتون أصابتنى دَعْوَة سعد
وَأَرَادَ عمر رضى الله عَنهُ أَن يرد سَعْدا بعد ذَلِك إِلَى الْكُوفَة فَامْتنعَ
وَأَقْبل سعد يَوْمًا بِرَجُل يسب عليا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر رضى الله عَنْهُم فَنَهَاهُ فَكَأَنَّمَا زَاده إغراء فَقَالَ لَهُ وَيلك مَا تُرِيدُ إِلَى أَقوام خير مِنْك لتنتهين أَو لأدعون عَلَيْك فَقَالَ هاه فَكَأَنَّمَا تخوفنى يعْنى نَبيا من الْأَنْبِيَاء فَدخل سعد دَارا فَتَوَضَّأ وَدخل مَسْجِدا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَ عَبدك هَذَا يسب أَقْوَامًا قد سبقت لَهُم مِنْك الْحسنى حَتَّى أسخطك بسبه إيَّاهُم فأرنى فِيهِ الْيَوْم آيَة تكون آيَة للْمُؤْمِنين فَخرجت بُخْتِيَّة من دَار قوم وَأَقْبَلت لَا يصد صدرها شئ حَتَّى انْتَهَت إِلَيْهِ وتفرق النَّاس فَجَعَلته بَين قَوَائِمهَا ووطئته حَتَّى طفئ
وَمِنْهَا على يَد ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا
حَيْثُ قَالَ للأسد الذى منع النَّاس الطَّرِيق تَنَح فبصبص بِذَنبِهِ وَذهب(2/332)
وعَلى يَد الْعَلَاء بن الحضرمى رضى الله عَنهُ
وَقد بَعثه النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى غزَاة بِجَيْش فحال بَينهم وَبَين الْموضع الْبَحْر فَدَعَا الله وَمَشوا على المَاء
وَمَا جَاءَ أَنه كَانَ بَين يدى
سلمَان وأبى الدَّرْدَاء
رضى الله عَنْهُمَا قَصْعَة فسبحت حَتَّى سمعا التَّسْبِيح
وَمَا اشْتهر أَن
عمرَان بن حُصَيْن
رضى الله عَنهُ كَانَ يسمع تَسْبِيح الْمَلَائِكَة حَتَّى اكتوى فانحبس ذَلِك عَنهُ ثمَّ أَعَادَهُ الله عَلَيْهِ
وَمَا اشْتهر من قصَّة
خَالِد بن الْوَلِيد رضى الله عَنهُ
وهى أَنه شرب السم وَلم يضرّهُ
فَإِن قلت مَا بَال الكرامات فى زمن الصَّحَابَة وَإِن كثرت فى نَفسهَا قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يرْوى من الكرامات الكائنة بعدهمْ على يَد الْأَوْلِيَاء
فَالْجَوَاب أَولا مَا أجَاب بِهِ الإِمَام الْجَلِيل أَحْمد ابْن حَنْبَل رضى الله عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ أُولَئِكَ كَانَ إِيمَانهم قَوِيا فَمَا احتاجوا إِلَى زِيَادَة يقوى بهَا إِيمَانهم وَغَيرهم ضَعِيف الْإِيمَان فى عصره فاحتيج إِلَى تقويته بِإِظْهَار الْكَرَامَة
وَنَظِيره قَول الشَّيْخ السهروردى رَحمَه الله حَيْثُ قَالَ وخرق الْعَادة إِنَّمَا يكاشف بِهِ لموْضِع ضعف يَقِين المكاشف رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْعباد ثَوابًا معجلا
وَفَوق هَؤُلَاءِ قوم ارْتَفَعت الْحجب عَن قُلُوبهم فَمَا احتاجوا إِلَى ذَلِك(2/333)
وَثَانِيا أَن يُقَال مَا يظْهر على يدهم رُبمَا اسْتغنى عَنهُ اكْتِفَاء بعظيم مقدارهم ورؤيتهم طلعة الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولزومهم طَرِيق الاسْتقَامَة الذى هُوَ أعظم الْكَرَامَة مَعَ مَا فتح على يديهم من الدُّنْيَا وَلَا اشرأبوا لَهَا وَلَا جنحوا نَحْوهَا وَلَا استزلت وَاحِدًا فرضى الله عَنْهُم كَانَت الدُّنْيَا فى أَيْديهم أَضْعَاف مَا هى فى أيدى أهل دُنْيَانَا وَكَانَ إعراضهم عَنْهَا أَشد إِعْرَاض وَهَذَا من أعظم الكرامات وَلم يكن شوقهم إِلَّا إعلاء كلمة الله تَعَالَى وَالدُّعَاء إِلَى جنابه جلّ وَعلا
فَإِن قلت هَب أَنكُمْ دفعتم شبه المنكرين للكرامات فَمَا دليلكم أَنْتُم على إِثْبَاتهَا فَإِن القَوْل فى الدّين نفيا وإثباتا مُحْتَاج إِلَى الدَّلِيل
قلت إِذا انْدفع مَا اسْتدلَّ بِهِ الْخُصُوم على الْمَنْع وَبَطلَت الاستحالة لم يبْق بعْدهَا إِلَّا الْجَوَاز إِذْ لَا وَاسِطَة بَين الْمَنْع والاستحالة ثمَّ فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْوَاقِعَات على يَد الصَّحَابَة مقنع لمن لَهُ أدنى بَصِيرَة ثمَّ إِن أَبيت إِلَّا دَلِيلا خَاصّا ليَكُون أقطع للشغب وأنفى للشبه
فَنَقُول الدَّلِيل على ثُبُوت الكرامات وُجُوه
أَحدهَا وَهُوَ أوحدها مَا شاع وذاع بِحَيْثُ لَا يُنكره إِلَّا جَاهِل معاند من أَنْوَاع الكرامات للْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ الجارى مجْرى شجاعة على وسخاء حَاتِم بل إِنْكَار الكرامات أعظم مباهتة فَإِنَّهُ أشهر وَأظْهر وَلَا يعاند فِيهِ إِلَّا من طمس قلبه وَالْعِيَاذ بِاللَّه
والثانى قصَّة مَرْيَم من جِهَة حبلها من غير ذكر وَحُصُول الرطب الطرى من الْجذع الْيَابِس وَحُصُول الرزق عِنْدهَا فى غَيره أَوَانه وَمن غير حُضُور أَسبَابه على مَا أخبر الله تَعَالَى بقوله {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله} وهى لم تكن نبية لَا عندنَا وَلَا عِنْد الْخُصُوم
أما عندنَا فلأدلة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة} وَمِنْهَا الْإِجْمَاع على مَا نقل بَعضهم(2/334)
وَأما عِنْد الْخصم فَلِأَنَّهُ يشْتَرط أَن يكون النبى ذكرا وَنحن لَا نخالفه فى ذَلِك بل نشترط الذُّكُورَة فى الْإِمَامَة وَالْقَضَاء فضلا عَن النُّبُوَّة هَكَذَا ذكر بعض أَئِمَّتنَا فَقَالَ القاضى لم يقم عندى من أَدِلَّة السّمع فى أَمر مَرْيَم وَجه قَاطع فى نفى نبوتها أَو إِثْبَاتهَا
فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن تكون معْجزَة لزكريا أَو يكون إرهاصا لولدها عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام
قلت لِأَن المعجزة تجب أَن تكون بمشهد من الرَّسُول وَالْقَوْم حَتَّى يُقيم الدّلَالَة عَلَيْهِم وَمَا حكيناه من كراماتها نَحْو قَول جِبْرِيل لَهَا {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا} لم يكن بِحُضُور أحد بِدَلِيل قَوْله {فإمَّا تَرين من الْبشر أحدا فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} وَأَيْضًا فالمعجزة تكون بالتماس الرَّسُول وزَكَرِيا مَا كَانَ يعلم بِحُصُول ذَلِك لقَوْله {أَنى لَك هَذَا}
وَأَيْضًا فَهَذِهِ الخوارق إِنَّمَا ذكرت لتعظيم شَأْن مَرْيَم فَيمْتَنع وُقُوعهَا كَرَامَة لغَيْرهَا
وَلَا يجوز أَن تكون إرهاصا لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الإرهاص أَن يخْتَص الرَّسُول قبل رسَالَته بالكرامات فَأَما مَا يحصل بِهِ كَرَامَة الْغَيْر لأجل أَنه سيجىء بعد ذَلِك فَذَلِك هُوَ الْكَرَامَة الَّتِى يدعيها وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك لجَاز فى كل معْجزَة ظَهرت على يَد مدعى الرسَالَة أَن تكون إرهاصا لنبى آخر يجىء بعد ذَلِك وتجويز هَذَا يُؤدى إِلَى سد بَاب الِاسْتِدْلَال بالمعجزة على النُّبُوَّة
وَقَرِيب من قصَّة مَرْيَم قصَّة أم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ من إلهام الله تَعَالَى إِيَّاهَا حَتَّى طابت نَفسهَا بإلقاء وَلَدهَا فى اليم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا خصت بِهِ أفترى ذَلِك سدى
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إِلَى أَنَّهَا كَانَت نبية صَاحِبَة معْجزَة(2/335)
وَالثَّالِث التَّمَسُّك بِقصَّة أَصْحَاب الْكَهْف فَإِن لبثهم ثَلَاث مائَة سِنِين وأزيد نياما أَحيَاء من غير آفَة مَعَ بَقَاء الْقُوَّة العادية بِلَا غذَاء وَلَا شراب من جملَة الخوارق وَلم يَكُونُوا أَنْبيَاء فَلم تكن معْجزَة فَتعين كَونهَا كَرَامَة
وَادّعى إِمَام الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاق الْمُسلمين على أَنهم لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وَإِنَّمَا كَانُوا على دين ملك فى زمانهم يعبد الْأَوْثَان فَأَرَادَ الله أَن يهْدِيهم فشرح صُدُورهمْ لِلْإِسْلَامِ وَلم يكن ذَلِك عَن دَعْوَة دَاع دعاهم وَلَكنهُمْ لما وقفُوا تَفَكَّرُوا وتدبروا ونظروا فاستبان لَهُم ضلال صَاحبهمْ وَرَأَوا أَن يُؤمنُوا بفاطر السَّمَوَات وَالْأَرضين ومبدع الْخَلَائق أَجْمَعِينَ
وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك معْجزَة لنبى آخر
أما أَولا فلأنهم أخفوه حَيْثُ قَالُوا {وَلَا يشعرن بكم أحدا} والمعجزة لَا يُمكن إِخْفَاؤُهَا
وَأما ثَانِيًا فَلِأَن المعجزة يجب الْعلم بهَا وبقاءهم هَذِه الْمدَّة لَا يُمكن علم الْخلق بِهِ لِأَن الْخلق لم يشاهدوه فَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بإخبارهم لَو صَحَّ أَنهم يعلمُونَ ذَلِك وإخبارهم بذلك إِنَّمَا يُفِيد إِذا ثَبت صدقهم بِدَلِيل آخر وَهُوَ غير حَاصِل وَأما إِثْبَات صدقهم بِهَذَا الْأَمر فدور مُمْتَنع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت هَذَا الْأَمر إِذا ثَبت صدقهم فَلَو توقف صدقهم عَلَيْهِ لدار
وَأما ثَالِثا فَإِنَّهُ لَيْسَ لذَلِك النبى ذكر وَلَا دَلِيل يدل عَلَيْهِ فإثبات المعجزة لَهُ لَا فَائِدَة فِيهِ لِأَن فَائِدَة المعجزة التَّصْدِيق وتصديق وَاحِد غير معِين محَال
الرَّابِع التَّمَسُّك بقصص شَتَّى مثل قصَّة آصف بن برخيا مَعَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فى حمل عرش بلقيس إِلَيْهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْهِ طرفه على قَول أَكثر الْمُفَسّرين بِأَنَّهُ المُرَاد بالذى عِنْده علم من الْكتاب وَمَا قدمْنَاهُ عَن الصَّحَابَة وَمَا تَوَاتر عَمَّن بعدهمْ من الصَّالِحين وَخرج عَن حد الْحصْر وَلَو أَرَادَ الْمَرْء استيعابه لما كفته أوساق أحمال وَلَا أوقار جمال ومازال النَّاس فى الْأَعْصَار السَّابِقَة وهم بِحَمْد الله إِلَى الْآن فى الْأَزْمَان اللاحقة وَلَكنَّا نستدل بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فقد كَانُوا من قبل مَا نبغ النابغون وَنَشَأ الزائغون يتفاوضون(2/336)
فى كرامات الصَّالِحين وينقلون مَا جرى من ذَلِك لعباد بنى إِسْرَائِيل فَمن بعدهمْ وَكَانَت الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم من أَكثر النَّاس خوضا فى ذَلِك
الْخَامِس مَا أعطَاهُ الله تَعَالَى لعلماء هَذِه الْأمة وأوليائها من الْعُلُوم حَتَّى صنفوا كتبا كَثِيرَة لَا يُمكن غَيرهم نسخهَا فى مُدَّة عمر مصنفها مَعَ التَّوْفِيق لدقائق تخرج عَن حد الْحصْر واستنباطات تطرب ذوى النهى واستخراجات لمعان شَتَّى من الْكتاب وَالسّنة تطبق طبق الأَرْض وَتَحْقِيق للحق وَإِبْطَال للباطل وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ من المجاهدات والرياضات وَالدَّعْوَى إِلَى الْحق وَالصَّبْر على أَنْوَاع الْأَذَى وعزوف أنفسهم عَن لذات الدُّنْيَا مَعَ نِهَايَة عُقُولهمْ وذكائهم وفطنتهم وَمَا حبب إِلَيْهِم من الدأب فى الْعُلُوم وكد النَّفس فى تَحْصِيلهَا بِحَيْثُ إِذا تَأمل المتأمل مَا أَعْطَاهُم الله مِنْهُ عرف أَنه أعظم من إِعْطَائِهِ بعض عبيده كسرة خبز فى أَرض مُنْقَطِعَة وشربة مَاء فى مفازة وَنَحْوهمَا مِمَّا يعد كَرَامَة
فَإِن قلت قد أَكثرْتُم القَوْل فى الكرامات وَمَا أفصحتم بالمختار عنْدكُمْ من الْأَقْوَال المنقولات
قلت هَذَا مقَام معضل خطر والاحتجار على مواهب الله لأوليائه عَظِيم عسر والاتساع فِي التجويز آيل إِلَى فتح بَاب على المعجزات مسدود
وَالَّذِي يتَرَجَّح عِنْدِي القَوْل بتجويز الكرامات على الْإِطْلَاق إِذا لم تخرق عَادَة وبتجويز بعض خوارق العوائد دون بعض فَلَا أمنع كثيرا من الخوارق وَأَمْنَع كثيرا ولي فِي ذَلِك قدوة وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي رَحمَه الله تَعَالَى
فَإِن قلت عرفني مَا تَمنعهُ ومالا تَمنعهُ ليتبين مذهبك
قلت أمنع ولدا من غير أبوين وقلب جماد بَهِيمَة وَنَحْو ذَلِك وسيتضح لَك ذَلِك عِنْد ذكر الْأَنْوَاع الَّتِي أبديها على الْأَثر إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما جُمْهُور أَئِمَّتنَا فعمموا التجويز وأطلقوا القَوْل إطلاقا وَأخذ بعض الْمُتَأَخِّرين يعدد(2/337)
أَنْوَاع الْوَاقِعَات من الكرامات فَجَعلهَا عشرَة وَهِي أَكثر من ذَلِك وَأَنا أذكر مَا عِنْدِي فِيهَا
النَّوْع الأول إحْيَاء الْمَوْتَى وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِقصَّة أبي عبيد البسري فقد صَحَّ أَنه غزا وَمَعَهُ دَابَّة فَمَاتَتْ فَسَأَلَ الله أَن يُحْيِيهَا حَتَّى يرجع إِلَى بسر فَقَامَتْ الدَّابَّة تنفض أذنيها فَلَمَّا فرغ من الْغَزْوَة وَوصل إِلَى بسر أَمر خادمه أَن يَأْخُذ السرج عَن الدَّابَّة فَلَمَّا أَخذه سَقَطت ميتَة
والحكايات فى هَذَا الْبَاب كَثِيرَة وَمن أواخرها أَن مفرجا الدمامينى وَكَانَ من أَوْلِيَاء الله من أهل الصَّعِيد ذكر أَنه أحضرت عِنْده فراخ مشوية فَقَالَ لَهَا طيرى فطارت أَحيَاء بِإِذن الله تَعَالَى
وَأَن الشَّيْخ الأهدل كَانَت لَهُ هرة ضربهَا خادمه فَمَاتَتْ فَرمى بهَا فى خرابة فَسَأَلَ عَنْهَا الشَّيْخ بعد لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث فَقَالَ الْخَادِم لَا أدرى فَقَالَ الشَّيْخ أما تدرى ثمَّ ناداها فَجَاءَت إِلَيْهِ تجرى
وحكاية الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلانى رضى الله عَنهُ وَوَضعه يَده على عِظَام دجَاجَة كَانَ قد أكلهَا وَقَوله لَهَا قومى بِإِذن الله الذى يحيى الْعِظَام وهى رَمِيم فَقَامَتْ دجَاجَة سوية حِكَايَة مَشْهُورَة
وَذكروا أَن الشَّيْخ أَبَا يُوسُف الدهمانى مَاتَ لَهُ صَاحب فجزع عَلَيْهِ أَهله فَلَمَّا رأى الشَّيْخ شدَّة جزعهم جَاءَ إِلَى الْمَيِّت وَقَالَ لَهُ قُم بِإِذن الله فَقَامَ وعاش بعد ذَلِك زَمنا طَويلا
وحكاية زين الدّين الفارقى الشافعى مدرس الشامية شهيرة وَقد سَمعتهَا من لفظ وَلَده ولى الله الشَّيْخ فتح الدّين يحيى فَحكى لنا مَا سنحكيه فى تَرْجَمَة وَالِده مِمَّا حَاصله أَنه وَقع فى دَاره طِفْل صَغِير من سطح فَمَاتَ فدعى الله فأحياه(2/338)
وَلَا سَبِيل إِلَى استقصاء مَا يحْكى من هَذَا النَّوْع لكثرته وَأَنا أومن بِهِ غير أَنى أَقُول
لم يثبت عندى أَن وليا حيى لَهُ ميت مَاتَ من أزمان كَثِيرَة بَعْدَمَا صَار عظما رميما ثمَّ عَاشَ بعد مَا حيى لَهُ زَمَانا كثيرا هَذَا الْقدر لم يبلغنَا وَلَا أعتقده وَقع لأحد من الْأَوْلِيَاء وَلَا شكّ فى وُقُوع مثله للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام مثل هَذَا يكون معْجزَة وَلَا تنتهى إِلَيْهِ الْكَرَامَة فَيجوز أَن يجىء نبى قبل اختتام النُّبُوَّة بإحياء أُمَم انْقَضتْ قبله بدهور ثمَّ إِذا عاشوا استمروا فى قيد الْحَيَاة أزمانا وَلَا أعتقد الْآن أَن وليا يحيى لنا الشافعى وَأَبا حنيفَة حَيَاة يبقيان مَعهَا زَمَانا طَويلا كَمَا عمرا قبل الْوَفَاة بل وَلَا زَمَانا قَصِيرا يخالطان فِيهِ الْأَحْيَاء كَمَا خالطاهما قبل الْوَفَاة
النَّوْع الثانى كَلَام الْمَوْتَى وَهُوَ أَكثر من النَّوْع قبله وروى مثله عَن أَبى سعيد الخراز رضى الله عَنهُ ثمَّ عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر رضى الله عَنهُ وَعَن جمَاعَة من آخِرهم بعض مَشَايِخ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله وَلست أُسَمِّيهِ
النَّوْع الثَّالِث انفلاق الْبَحْر وجفافه والمشى على المَاء وكل ذَلِك كثير وَقد اتّفق مثله لشيخ الْإِسْلَام وَسيد الْمُتَأَخِّرين تقى الدّين بن دَقِيق العَبْد
الرَّابِع انقلاب الْأَعْيَان كَمَا حكى أَن الشَّيْخ عِيسَى الهتار الْيُمْنَى أرسل إِلَيْهِ شخص مستهزئا بِهِ إناءين ممتلئين خمرًا فصب أَحدهمَا فى الآخر وَقَالَ بِسم الله كلوا فَأَكَلُوا فَإِذا هُوَ سمن لم ير مثل لَونه وريحه وَقد أَكْثرُوا فى ذكر نَظِير هَذِه الْحِكَايَة
الْخَامِس انزواء الأَرْض لَهُم بِحَيْثُ حكوا أَن بعض الْأَوْلِيَاء كَانَ فى جَامع طرسوس فاشتاق إِلَى زِيَارَة الْحرم فَأدْخل رَأسه فى جبته ثمَّ أخرجه وَهُوَ فى الْحرم
وَالْقدر الْمُشْتَرك من الحكايات فى هَذَا النَّوْع بَالغ مبلغ التَّوَاتُر وَلَا يُنكره إِلَّا مباهت
السَّادِس كَلَام الجمادات والحيوانات وَلَا شكّ فِيهِ وفى كثرته وَمِنْه مَا حكى أَن إِبْرَاهِيم بن أدهم جلس فى طَرِيق بَيت الْمُقَدّس تَحت شَجَرَة رمان فَقَالَت لَهُ يَا أَبَا إِسْحَاق أكرمنى بِأَن تَأْكُل منى شَيْئا قَالَت ذَلِك ثَلَاثًا وَكَانَت شَجَرَة قَصِيرَة(2/339)
ورمانها حامضا فَأكل مِنْهَا رمانة فطالت وحلا رمانها وحملت فى الْعَام مرَّتَيْنِ وَسميت رمانة العابدين
وَقَالَ الشبلى عقدت أَنى لَا آكل إِلَّا من حَلَال فَكنت أدور فى البرارى فَرَأَيْت شَجَرَة تين فمددت يدى لآكل مِنْهَا فنادتنى الشَّجَرَة احفظ عَلَيْك عقدك وَلَا تَأْكُل منى فإنى ليهودى فكففت يدى
السَّابِع إِبْرَاء العليل كَمَا روى عَن السرى فى حِكَايَة الرجل الذى لقِيه بِبَعْض الْجبَال يبرىء الزمنى والعميان والمرضى
وكما حكى عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه قَالَ لصبى مقْعد مفلوج أعمى مجذوم قُم بِإِذن الله فَقَامَ لَا عاهة بِهِ
االثامن طَاعَة الْحَيَوَانَات لَهُم كَمَا فى حِكَايَة الْأسد مَعَ أَبى سعيد بن أَبى الْخَيْر الميهنى وَقَبله إِبْرَاهِيم الْخَواص بل وَطَاعَة الجمادات كَمَا فى حِكَايَة سُلْطَان الْعلمَاء شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام وَقَوله فى وَاقعَة الفرنج يَا ريح خُذِيهِمْ فَأَخَذتهم
التَّاسِع طى الزَّمَان
الْعَاشِر نشر الزَّمَان وفى تَقْرِير هذَيْن الْقسمَيْنِ عسر على الأفهام وتسليمه لأَهله أولى بذى الْإِيمَان والحكايات فيهمَا كَثِيرَة
الحادى عشر استجابة الدُّعَاء وَهُوَ كثير جدا وشاهدناه من جمَاعَة
الثانى عشر إمْسَاك اللِّسَان عَن الْكَلَام وانطلاقه
الثَّالِث عشر جذب بعض الْقُلُوب فى مجْلِس كَانَت فِيهِ فى غَايَة النفرة
الرَّابِع عشر الْإِخْبَار بِبَعْض المغيبات والكشف وَهُوَ دَرَجَات تخرج عَن حد الْحصْر(2/340)
الْخَامِس عشر الصَّبْر على عدم الطَّعَام وَالشرَاب الْمدَّة الطَّوِيلَة
السَّادِس عشر مقَام التصريف فقد حكى عَن جمَاعَة مِنْهُ الشئ الْكثير
وَذكر أَن بَعضهم كَانَ يَبِيع الْمَطَر وَكَانَ من الْمُتَأَخِّرين الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشاطر يَبِيع الأشغال بِالدَّرَاهِمِ وَكَثُرت الحكايات عَنهُ فى هَذَا الْبَاب بِحَيْثُ لم يبْق للذهن مساع فى إنكارها
السَّابِع عشر الْقُدْرَة على تنَاول الْكثير من الْغذَاء
الثَّامِن عشر الْحِفْظ عَن أكل الْحَرَام كَمَا حكى عَن الْحَارِث المحاسبى أَنه كَانَ يرْتَفع إِلَى أَنفه زفورة من المأكل الْحَرَام فَلَا يَأْكُلهُ وَقيل كَانَ يَتَحَرَّك لَهُ عرق وَحكى نَظِيره عَن الشَّيْخ أَبى الْعَبَّاس المرسى وَقيل إِن بعض النَّاس امتحنه وأحضر لَهُ مأكلا حَرَامًا فبمجرد مَا وَضعه بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن كَانَ المحاسبى يَتَحَرَّك مِنْهُ عرق فَأَنا يَتَحَرَّك منى عِنْد حُضُور الْحَرَام سَبْعُونَ عرقا ونهض من سَاعَته وَانْصَرف
التَّاسِع عشر رُؤْيَة الْمَكَان الْبعيد من وَرَاء الْحجب كَمَا قيل إِن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشيرازى كَانَ يُشَاهد الْكَعْبَة وَهُوَ بِبَغْدَاد
الْعشْرُونَ الهيبة الَّتِى لبَعْضهِم بِحَيْثُ مَاتَ من شَاهده بِمُجَرَّد رُؤْيَته كصاحب أَبى يزِيد البسطامى الذى قدمنَا حكايته أَو بِحَيْثُ أفحم بَين يَدَيْهِ أَو اعْترف بِمَا لَعَلَّه كتمه عَنهُ أَو غير ذَلِك وَهُوَ كثير
الحادى وَالْعشْرُونَ كِفَايَة الله إيَّاهُم شَرّ من يُرِيد بهم سوءا وانقلابه خيرا كَمَا اتّفق للشافعى رضى الله عَنهُ مَعَ هَارُون الرشيد رَحمَه الله
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ التطور بأطوار مُخْتَلفَة وَهَذَا الذى تسميه الصُّوفِيَّة بعالم الْمثل ويثبتون عَالما متوسطا بَين عالمى الْأَجْسَام والأرواح سموهُ عَالم الْمِثَال وَقَالُوا هُوَ ألطف(2/341)
من عَالم الْأَجْسَام وأكثف من عَالم الْأَرْوَاح وبنوا عَلَيْهِ تجسد الْأَرْوَاح وظهورها فى صور مُخْتَلفَة من عَالم الْمِثَال واستأنسوا لَهُ بقوله تَعَالَى {فتمثل لَهَا بشرا سويا} وَمِنْه مَا حكى عَن قضيب البان الموصلى وَكَانَ من الأبدال أَنه اتهمه بعض من لم يره يصلى بترك الصَّلَاة وشدد النكير عَلَيْهِ فتمثل لَهُ على الْفَوْر فى صور مُخْتَلفَة وَقَالَ فى أى هَذِه الصُّور رأيتنى مَا أصلى وَلَهُم من هَذَا النَّوْع حكايات كَثِيرَة
وَمِمَّا // اتّفق // لبَعض الْمُتَأَخِّرين أَنه وجد فَقِيرا شَيخا كَبِيرا يتَوَضَّأ بِالْقَاهِرَةِ فى الْمدرسَة الشرفية من غير تَرْتِيب فَقَالَ لَهُ يَا شيخ تتوضأ بِلَا تَرْتِيب فَقَالَ لَهُ مَا تَوَضَّأت إِلَّا مُرَتبا وَلَكِن أَنْت مَا تبصر لَو أَبْصرت لأبصرت هَكَذَا وَأخذ بِيَدِهِ وَأرَاهُ الْكَعْبَة ثمَّ مر بِهِ إِلَى مَكَّة فَوجدَ نَفسه فى مَكَّة وَأقَام بهَا سِنِين فى حِكَايَة يطول شرحها
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ إطلاع الله إيَّاهُم على ذخائر الأَرْض كَمَا قدمْنَاهُ فى حِكَايَة أَبى تُرَاب لما ضرب بِرجلِهِ الأَرْض فَإِذا عين مَاء زلال
وَعَن بَعضهم أَنه عَطش أَيْضا فى طَرِيق الْحَج فَلم يجد مَاء عِنْد أحد فَوجدَ فَقِيرا قد ركز عكازه فى مَوضِع وَالْمَاء يَنْبع من تَحت عكازه فَمَلَأ قربته وَدلّ الحجيج عَلَيْهِ فَجَاءُوا فملأوا أوانيهم من ذَلِك المَاء
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ مَا سهل لكثير من الْعلمَاء من التصانيف فى الزَّمن الْيَسِير بِحَيْثُ وزع زمَان تصنيفهم على زمَان اشتغالهم بِالْعلمِ إِلَى أَن مَاتُوا فَوجدَ لَا يفى بِهِ نسخا فضلا عَن التصنيف وَهَذَا قسم من نشر الزَّمَان الذى قدمْنَاهُ فقد اتّفق النقلَة على أَن عمر الشافعى رَحمَه الله لَا يفى بِعشر مَا أبرزه من التصانيف مَعَ مَا يثبت عَنهُ من تِلَاوَة الْقُرْآن كل يَوْم ختمة بالتدبر وفى رَمَضَان كل يَوْم ختمتين كَذَلِك واشتغاله بالدرس(2/342)
والفتاوى وَالذكر والفكر والأمراض الَّتِى كَانَت تعتوره بِحَيْثُ لم يخل رضى الله عَنهُ من عِلّة أَو علتين أَو أَكثر وَرُبمَا اجْتمع فِيهِ ثَلَاثُونَ مَرضا
وَكَذَلِكَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو المعالى الجوينى رَحمَه الله حسب عمره وَمَا صنفه مَعَ مَا كَانَ يلقيه على الطّلبَة وَيذكر بِهِ فى مجَالِس التَّذْكِير فَوجدَ لَا يفى بِهِ
وَقَرَأَ بَعضهم ثمانى ختمات فى الْيَوْم الْوَاحِد وأمثال هَذَا كثير
وَهَذَا الإِمَام الربانى الشَّيْخ محيى الدّين النووى رَحمَه الله وزع عمره على تصانيفه فَوجدَ أَنه لَو كَانَ ينسخها فَقَط لما كفاها ذَلِك الْعُمر فضلا عَن كَونه يصنفها فضلا عَمَّا كَانَ يضمه إِلَيْهَا من أَنْوَاع الْعِبَادَات وَغَيرهَا
وَهَذَا الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله إِذا حسب مَا كتبه من التصانيف مَعَ مَا كَانَ يواظبه من الْعِبَادَات ويمليه من الْفَوَائِد ويذكره فى الدُّرُوس من الْعُلُوم ويكتبه على الْفَتَاوَى ويتلوه من الْقُرْآن ويشتغل بِهِ من المحاكمات عرف أَن عمره قطعا لَا يفى بِثلث ذَلِك فسبحان من يُبَارك لَهُم ويطوى لَهُم وينشر
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ عدم تَأْثِير السمومات وأنواع الْمُتْلفَات فيهم كَمَا اتّفق ذَلِك للشَّيْخ الذى قَالَ لَهُ بعض الْمُلُوك إِمَّا أَن تظهر لى آيَة وَإِلَّا قتلت الْفُقَرَاء وَكَانَ بِقُرْبِهِ بعر جمال فَقَالَ انْظُر فَإِذا هى ذهب وَعِنْده كوز لَيْسَ فِيهِ مَاء فَأَخذه وَرمى بِهِ فى الْهَوَاء فَأَخذه ورده ممتلئا مَاء وَهُوَ منكس لم يخرج مِنْهُ قَطْرَة فَقَالَ الْملك هَذَا سحر وأوقد نَارا عَظِيمَة ثمَّ أَمرهم بِالسَّمَاعِ فَلَمَّا دَار فيهم الوجد دخل الشَّيْخ والفقراء فى النَّار ثمَّ خرج فخطف ابْنا صَغِيرا للْملك فَدخل بِهِ وَغَابَ سَاعَة بِحَيْثُ كَاد الْملك يَحْتَرِق على وَلَده ثمَّ خرج بِهِ وفى إِحْدَى يدى الصبى تفاحة وفى الْأُخْرَى رمانة فَقَالَ لَهُ أَبوهُ أَيْن كنت قَالَ فى بُسْتَان فَقَالَ جلساء الْملك هَذَا صَنْعَة لَا حَقِيقَة لَهُ فَقَالَ لَهُ الْملك إِن شربت هَذَا الْقدح من السم صدقتك فشربه وتمزقت ثِيَابه عَلَيْهِ ثمَّ ألقوا عَلَيْهِ غَيرهَا فتمزقت ثمَّ هَكَذَا(2/343)
مرَارًا إِلَى أَن ثبتَتْ عَلَيْهِ الثِّيَاب وَانْقطع عَنهُ عرق كَانَ أَصَابَهُ وَلم يُؤثر فِيهِ السم ضَرَرا
وأظن أَنْوَاع كراماتهم تربو على الْمِائَة وَفِيمَا أوردته دلَالَة على مَا أهملته ومقنع وبلاغ لمن زَالَت عَنهُ غفلته وَمَا من نوع من هَذِه الْأَنْوَاع إِلَّا وَقد كثرت فِيهِ الأقاصيص وَالرِّوَايَات وشاعت فِيهِ الْأَخْبَار والحكايات وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَلَا بعد بَيَان الْهدى إِلَّا الْمحَال وَلَيْسَ للموفق غير التَّسْلِيم وسؤال ربه أَن يلْحقهُ بهؤلاء الصَّالِحين فَإِنَّهُم على صِرَاط مُسْتَقِيم وَلَو حاولنا حصر مَا جراياتهم لضيقنا الأنفاس وضيعنا القرطاس
69 - الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن قَاسم بن مُحَمَّد بن سيار مولى الْوَلِيد بن عبد الْملك أَبُو مُحَمَّد الأندلسى القرطبى
أحد أَعْلَام الْأمة
أَخذ الْفِقْه عَن المزنى وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الشافعى وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الحزامى والْحَارث بن مِسْكين وروى عَنْهُم
روى عَنهُ أَحْمد بن خَالِد الْجبَاب وَمُحَمّد بن عمر بن لبَابَة وَابْنه مُحَمَّد بن قَاسم وَسَعِيد بن عُثْمَان الأعناقى وَغَيرهم(2/344)
وصنف كتاب الْإِيضَاح فى الرَّد على المقلدين مَعَ ميله إِلَى مَذْهَب الشافعى
قَالَ أَحْمد بن خَالِد مَا رَأَيْت مثل قَاسم فى الْفِقْه مِمَّن دخل الأندلس من أهل الرحل وَله مُصَنف جليل فى خبر الْوَاحِد
توفى سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَقيل سنة سبع وَسبعين
70 - مُوسَى بن إِسْحَاق بن مُوسَى الأنصارى القاضى أَبُو بكر الخطمى
نِسْبَة إِلَى بطن من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ خطمة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة ثمَّ طاء مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ مِيم بن جشم بِضَم الْجِيم ثمَّ شين مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ مِيم
ولد سنة عشر وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَ قَاضِيا مهيبا فصيحا مصمما قيل لم ير مُتَبَسِّمًا قطّ وَهُوَ الذى قَالَت لَهُ امْرَأَة أَيهَا القاضى لَا يحل لَك أَن تحكم بَين النَّاس لِأَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا يقْضى القاضى بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان وَأَنت عمرك غَضْبَان فَتَبَسَّمَ وَسَيَرِدُ نَظِير الْحِكَايَة فى تَرْجَمَة القاضى أَبى بكر الشامى فى الطَّبَقَة الرَّابِعَة
سمع أَبَاهُ
71 - بِضَم الْكَاف وَفتح النُّون وَإِسْكَان آخر الْحُرُوف آخِره زاى مُعْجمَة
كَانَ خَادِمًا للمنتصر بِاللَّه بن المتَوَكل(2/345)
لما مَاتَ مَوْلَاهُ خرج إِلَى مصر
وَسمع من حَرْمَلَة وَالربيع بن سُلَيْمَان والزعفرانى
وروى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم الطبرانى وَغَيره
وَكَانَ يقرئ الْفِقْه بِجَامِع دمشق على مَذْهَب الشافعى بعد أَن أَقَامَ بِمصْر مُدَّة يذب عَن مذْهبه ويناظر المالكيين حَتَّى سعوا بِهِ إِلَى أَحْمد بن طولون وَقَالُوا إِنَّه جاسوس قدم من بَغْدَاد فحبسه فَلم يزل فى الْحَبْس إِلَى مضى سبع سِنِين وَمَات ابْن طولون فَأخْرج وَمضى إِلَى الأسكندرية وَأقَام بهَا سبع سِنِين يُعِيد كل صَلَاة صلاهَا فى الْحَبْس لِأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا فى مَكَان قذر ثمَّ ورد الشَّام
72 - نوح بن مَنْصُور بن مرداس أَبُو مُسلم السلمى
سمع الْحسن بن عَرَفَة وَالْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح الزعفرانى وَغَيرهمَا
ورحل إِلَى مصر وَكتب بهَا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَالربيع بن سُلَيْمَان ثمَّ استوطن بِالآخِرَة شيراز إِلَى حِين وَفَاته
وروى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم الطبرانى وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَيَّان الملقب أَبَا الشَّيْخ وَغَيرهمَا
وَكتب كتب الشافعى عَن يُونُس وَالربيع بِمصْر وَمَات بشيراز سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ(2/346)
73 - أَبُو الْفضل البتانى
وبتان بِضَم الْبَاء المنقوطة بِوَاحِدَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق المخففة وفى آخرهَا النُّون من قرى طريثيث من نواحى نيسابور
قَالَ ابْن مَاكُولَا أحد الزهاد والفضلاء من أَصْحَاب الشافعى يحدث عَن على ابْن إِبْرَاهِيم البتانى من أَصْحَاب عبد الله بن الْمُبَارك
روى عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن البتانى
قلت وَتبع ابْن السمعانى ابْن مَاكُولَا فَلم يزدْ فى تَرْجَمَة الرجل على مَا ذكره ثمَّ تبعهما شَيخنَا الذهبى فَذكره فى كتاب المشتبه مُخْتَصرا وَالرجل فى هَذِه الطَّبَقَة آخر الطَّبَقَة الثَّانِيَة(2/347)
الطَّبَقَة الثَّالِثَة
74 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن الْعَبَّاس أَبُو بكر الإسماعيلى
إِمَام أهل جرجان والمرجوع إِلَيْهِ فى الْفِقْه والْحَدِيث وَصَاحب التصانيف ولد سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ
وَسمع من الزَّاهِد مُحَمَّد بن عُثْمَان المقابرى الجرجانى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَسمع قبل ذَلِك
وَسمع إِبْرَاهِيم بن زُهَيْر الحلوانى وَحَمْزَة بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْكَاتِب وَأحمد بن مُحَمَّد ابْن مَسْرُوق وَمُحَمّد بن يحيى بن سُلَيْمَان المروزى وَيحيى بن مُحَمَّد الحنائى وَعبد الله ابْن نَاجِية والفريابى ويوسف بن يَعْقُوب القاضى وَمُحَمّد بن عبد الله الحضرمى وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله المخرمى وَمُحَمّد بن عُثْمَان بن أَبى شيبَة وَمُحَمّد بن الْحسن بن سَمَّاعَة وَأَبا خَليفَة المجمحى وبهلول بن إِسْحَاق التنوخى وعبدان وَأَبا يعلى وخلقا سواهُم بِبَغْدَاد والكوفة وَالْبَصْرَة والأنبار والأهواز والموصل
روى عَنهُ الْحَاكِم وَأَبُو بكر البرقانى وَحَمْزَة السهمى وَأَبُو حَازِم العبدوى وَأَبُو بكر مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجرجرائى الْحَافِظ وَخلق سواهُم
قَالَ حَمْزَة سمعته يَقُول لما ورد نعى مُحَمَّد بن أَيُّوب الرازى دخلت الدَّار وبكيت وصرخت ومزقت على نفسى الْقَمِيص وَوضعت التُّرَاب على رأسى فاجمتع على أهلى وَمن فى منزلى وَقَالُوا مَا أَصَابَك قلت نعى مُحَمَّد بن أَيُّوب الرازى منعتمونى الارتحال إِلَيْهِ فَسَلُوا قلبى وأذنوا لى فى الْخُرُوج عِنْد ذَلِك وأصحبونى خالى إِلَى نسا إِلَى الْحسن بن سُفْيَان فَكَانَ ذَلِك أول رحلتى فى الحَدِيث وَرجعت(3/7)
قَالَ شَيخنَا الذهبى كَانَ ذَلِك سنة أَربع وَتِسْعين فَإِن فِيهَا توفى مُحَمَّد بن أَيُّوب
قَالَ ثمَّ خرجت إِلَى بَغْدَاد سنة سِتّ وَتِسْعين وصحبنى بعض أقربائى
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق جمع يعْنى الإسماعيلى بَين الْفِقْه والْحَدِيث ورياسة الدّين وَالدُّنْيَا
وَقَالَ الدارقطنى كنت عزمت غير مرّة أَن أرحل إِلَى أَبى بكر الإسماعيلى فَلم أرزق
وَقَالَ الْحسن بن على الْحَافِظ كَانَ الْوَاجِب للإسماعيلى أَن يصنف لنَفسِهِ سننا ويختار على حسب اجْتِهَاده فَإِنَّهُ كَانَ يقدر عَلَيْهِ لِكَثْرَة مَا كَانَ كتب ولغزارة علمه وفهمه وجلالته وَمَا كَانَ ينبغى أَن يتبع كتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَإِنَّهُ كَانَ أجل من أَن يتبع غَيره أَو كَمَا قَالَ
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم كَانَ أَبُو بكر وَاحِد عصره وَشَيخ الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وأجلهم فى الرياسة والمروءة والسخاء وَلَا خلاف بَين عقلاء الْفَرِيقَيْنِ من أهل الْعلم فِيهِ
وَقَالَ غَيره لَهُ التصانيف الْكَثِيرَة مِنْهَا الْمُسْتَخْرج على الصَّحِيح والمعجم وَله مُسْند كَبِير فى نَحْو مائَة مُجَلد
قَالَ حَمْزَة توفى فى غرَّة صفر سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة
قَول الراوى من السّنة كَذَا
ذكر النووى فى خطْبَة شرح الْمُهَذّب أَن الصَّحِيح الْمَشْهُور أَن قَول الصحابى من السّنة كَذَا فى حكم الْمَرْفُوع وَأَنه مَذْهَب الجماهير وَأَن أَبَا بكر الإسماعيلى قَالَ لَهُ حكم الْمَوْقُوف على الصحابى
قلت الْأَكْثَر كَمَا قَالَ النووى على أَنه حجَّة وَقد أغرب المازرى فى شرح ...(3/8)
75 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن نومردا أَبُو بكر
من أهل جرجان وَكَانَ أحد أصدقاء أَبى بكر الإسماعيلى
ذكره حَمْزَة بن يُوسُف السهمى فى تَارِيخ جرجان وَقَالَ تفقه على ابْن سُرَيج
قَالَ وَسمعت أَبى يُوسُف بن إِبْرَاهِيم يَقُول إِنَّه مَاتَ فَجْأَة سنة تسع وَعشْرين وثلاثمائة وَكَانَ قد خرج من الْحمام فَوَقع عَلَيْهِ حَائِط فَمَاتَ
76 - أَحْمد بن إِسْحَاق بن أَيُّوب بن يزِيد بن عبد الرَّحْمَن بن نوح النيسابورى الإِمَام الْجَلِيل أَبُو بكر بن إِسْحَاق الصبغى
أحد الْأَئِمَّة الجامعين بَين الْفِقْه والْحَدِيث
رأى يحيى الذهلى وَأَبا حَاتِم الرازى
وَسمع الْفضل بن مُحَمَّد الشعرانى وَإِسْمَاعِيل بن قُتَيْبَة وَيَعْقُوب بن يُوسُف القزوينى وَمُحَمّد بن أَيُّوب
وببغداد الْحَارِث بن أَبى أُسَامَة وَإِسْمَاعِيل القاضى
وبالبصرة هِشَام بن على
وبمكة على بن عبد الْعَزِيز
وَاخْتلف إِلَى مُحَمَّد بن نصر وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا(3/9)
روى عَنهُ أَبُو على الْحَافِظ وَأَبُو بكر الإسماعيلى وَأَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم الجرجانى وَخلق
ولد سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَ قد اشْتغل فى صباه بِعلم الفروسية فَلم يسمع إِلَى سنة ثَمَانِينَ
قَالَ الْحَاكِم أَقَامَ يعْنى بنيسابور سبعا وَخمسين سنة لم يُؤْخَذ عَلَيْهِ فى فَتَاوِيهِ مَسْأَلَة وهم فِيهَا
قَالَ وَسمعت مُحَمَّد بن حمدون يَقُول صَحِبت أَبَا بكر بن إِسْحَاق سِنِين فَمَا رَأَيْته قطّ ترك قيام اللَّيْل فى سفر وَلَا حضر
قَالَ وسمعته يعْنى الصبغى يَقُول وَهُوَ يُخَاطب فَقِيها فَقَالَ حدثونا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب فَقَالَ دَعْنَا من حَدثنَا إِلَى مَتى حَدثنَا وَأخْبرنَا فَقَالَ مَا هَذَا لست أَشمّ من كلامك رَائِحَة الْإِيمَان وَلَا يحل لَك أَن تدخل دارى ثمَّ هجره حَتَّى مَاتَ
قَالَ وسمعته غير مرّة إِذا أنْشد بَيْتا يُفْسِدهُ ويغيره يقْصد ذَلِك وَكَانَ يضْرب الْمثل بعقله ورأيه ورأيته غير مرّة إِذا أذن الْمُؤَذّن يَدْعُو بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة ثمَّ يبكى وَرُبمَا كَانَ يضْرب بِرَأْسِهِ الْحَائِط حَتَّى خشيت يَوْمًا أَن تدمى رَأسه وَمَا رَأَيْت فِي مَشَايِخنَا أحسن صَلَاة مِنْهُ وَكَانَ لَا يدع أحدا يغتاب فى مَجْلِسه قَالَ وَله الْكتب المطولة
قَالَ وسمعته يَقُول رَأَيْت فى منامى كأنى فى دَار وَأَنا أَظن أَن أَبَا بكر الصّديق رضى الله عَنهُ فِيهَا فَدخلت وفى الدَّار بُسْتَان أردْت دُخُوله فاستقبلنى أَبُو بكر الصّديق رضى الله عَنهُ فعانقنى وَقبل وَجْهي ودعا لى وَهَذَا عِنْد ابتدائى فى تصنيف كتاب الْفَضَائِل
قَالَ وسمعته يَقُول لما فرغت من تصنيف كتاب الْفَضَائِل رَأَيْت فى الْمَنَام كأنى خَارج من منزل شخص ذكره واستقبلنى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان أَو على رضى الله عَنْهُم أَحدهمَا فإنى شَككت وَلم أَشك فى أَنهم كَانُوا(3/10)
أَرْبَعَة فتقدمت فَسلمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرد على السَّلَام ثمَّ تقدم إِلَى أَبُو بكر رضى الله عَنهُ فَقبل بَين عينى وَقَالَ جَزَاك الله عَن نبيه خيرا وعنا خيرا
قَالَ أَبُو بكر فأخرجت خاتمى هَذَا من أصبعى وَجَعَلته فى أصْبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نَزَعته فَجَعَلته فى أصْبع أَبى بكر ثمَّ إِلَى آخر الْأَرْبَعَة ثمَّ قلت يَا رَسُول الله قد عظمت بركَة هَذَا الْخَاتم إِذْ دخل أصابعكم ثمَّ انْتَبَهت
قَالَ الْحَاكِم وَقد كَانَ الشَّيْخ أوصى أَن يدْفن ذَلِك الْخَاتم مَعَه
قلت وَهَذَا مِنْهُ فِيهِ اسْتِحْسَان لما يفعل من دفن الْمَرْء مَعَه مَا يتبرك بِهِ أَو دَفنه فِيمَا يتبرك بِهِ وسيأتى إِن شَاءَ الله تَعَالَى نَظِير هَذِه فى تَرْجَمَة عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم ضمن حِكَايَة عَنهُ وَيشْهد لَهُ قَول ...
وَذكر الْحَاكِم أَن أَبَا على بن أَبى هُرَيْرَة كتب إِلَى نيسابور ليكتب لَهُ فَضَائِل الْأَرْبَعَة وَكتاب الْأَحْكَام اللَّذَان للصبغى
قَالَ فَكتب وَحمل إِلَى مَدِينَة السَّلَام فَأكْثر الثَّنَاء عَلَيْهِ
قَالَ الْحَاكِم ومصنفاته يعْنى الصبغى فى الْفِقْه من أدل الدَّلِيل على علمه ومصنفاته فى الْكَلَام لم يسْبقهُ إِلَى مثلهَا أحد من مَشَايِخ أهل الحَدِيث
توفى الصبغى فى شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
كَانَ يرى أَن الْمَأْمُوم إِذا لم يقْرَأ الْفَاتِحَة وَأدْركَ الإِمَام وَهُوَ رَاكِع لَا يكون مدْركا للركعة وَهُوَ اخْتِيَار ابْن خُزَيْمَة وَابْن أَبى هُرَيْرَة وأبى رَحمَه الله
وَيذْهب إِلَى أَن تُرَاب الولوغ يجوز أَن يكون نجسا وَهُوَ وَجه غَرِيب حَكَاهُ الرافعى(3/11)
قَالَ العبادى وَذكر أَنه ركب يَوْمًا فَأصَاب ذِرَاعَيْهِ طين من وَحل كلب فَأمر جَارِيَته بِغسْلِهِ وتعفيره فَقَالَت الْجَارِيَة أما فى الطين تُرَاب فَقَالَ أَحْسَنت أَنْت أفقه منى
قَالَ الْحَاكِم سمعته وَسُئِلَ عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن رجلَيْنِ صليا مَعَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهما (أعيدا وضوءكما) قَالَا لم يَا رَسُول الله قَالَ (اغْتَبْتُمَا فلَانا) قَالَ يجوز أَن يكون أَمرهمَا بِالْوضُوءِ ليَكُون كَفَّارَة لمعصيتهما وتطهيرا لذنوبهما لِأَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَن الْوضُوء يحط الْخَطَايَا
قَالَ وسمعته وَسُئِلَ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من غسل مَيتا فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ قَالَ إِن صَحَّ هَذَا الْخَبَر فَمَعْنَاه أَن يتَوَضَّأ قبل حمله شَفَقَة أَن تفوته الصَّلَاة بعد الْحمل كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من رَاح إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل) أى قبل الرواح
77 - أَحْمد بن بشر بن عَامر العامرى
وَعكس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ بن عَامر بن بشر
هُوَ القاضى أَبُو حَامِد المروروذى أحد رفعاء الْمَذْهَب وعظمائه
ذكره أَبُو حَفْص عمر بن على المطوعى فى كِتَابه الْمُسَمّى بِالْمذهبِ فى ذكر شُيُوخ الْمَذْهَب فَقَالَ صدر من صُدُور الْفِقْه كَبِير وبحر من بحار الْعلم غزير وَهُوَ من أَصْحَاب أَبى إِسْحَاق وَمن أَعْيَان تلامذته أَبُو إِسْحَاق المهرانى وَأَبُو الْفَيَّاض البصرى وَكتابه الموسوم بالجامع أمدح لَهُ من كل لِسَان نَاطِق لإحاطته بالأصول وَالْفُرُوع(3/12)
وإتيانه على النُّصُوص وَالْوُجُوه فَهُوَ لِأَصْحَابِنَا عُمْدَة من الْعمد ومرجع فى المشكلات وَالْعقد انْتهى
وَعَن القاضى أَبى حَامِد أَخذ فُقَهَاء الْبَصْرَة وَشرح مُخْتَصر المزنى وصنف فى الْأُصُول
وَمن أخصائه وتلامذته أَبُو حَيَّان التوحيدى وفى كِتَابه البصائر أعنى أَبَا حَيَّان يَقُول كَانَ القاضى أَبُو حَامِد شَدِيد الازورار عَن الْكَلَام وَالْفِقْه فى أَهله قَالَ وَإِنَّمَا أولع بِذكر مَا يَقُوله هَذَا الرجل لِأَنَّهُ أنبل من رَأَيْته فى عمرى وَكَانَ بحرا يتدفق حفظا للسير وقياما بالأخبار واستنباطا للمعانى وثباتا على الجدل وصبرا فى الْخِصَام
وَقَالَ فى مَكَان آخر كَانَ أَبُو حَامِد كثير الْعلم غزير الْحِفْظ قيمًا بالسير وَكَانَ يزْعم أَن السّير بَحر الْفتيا وخزانة الْقَضَاء وعَلى قدر اطلَاع الْفَقِيه عَلَيْهَا يكون استنباطه
وَقَالَ فى مَكَان آخر كَانَ أَبُو حَامِد إِذا رأى تراجع الْمُتَكَلِّمين فى مسائلهم وثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدلهم ينشد
(ومهمه دَلِيله مطوح ... يدأب فِيهِ الْقَوْم حَتَّى يطلحوا)
(ثمَّ يظلون كَأَن لم يبرحوا ... كَأَنَّمَا أَمْسوا بِحَيْثُ أَصْبحُوا)
وَمَات القاضى أَبُو حَامِد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة
فَوَائِد ومسائل عَن القاضى أَبى حَامِد
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(3/13)
78 - أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد أَبُو نصر الْفَقِيه
مَاتَ لَيْلَة الْجُمُعَة ثانى عشر جُمَادَى الأولى سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
ذكره ابْن باطيش
79 - أَحْمد بن حَمْزَة بن على الْحسن السلمى
80 - أَحْمد بن الْخضر بن أَحْمد الأنمارى
بِفَتْح الْألف وَسُكُون النُّون وَفتح الْمِيم وفى آخرهَا الرَّاء نِسْبَة إِلَى بَلْدَة يُقَال لَهَا أَنْمَار
هُوَ أَبُو الْحسن إِمَام كَبِير من أهل نيسابور
سمع أَبَا عبد الله البوشنجي وَغَيره
روى عَنهُ الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد وَأَبُو على الْحَافِظ وَغَيرهمَا
توفى سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
81 - أَحْمد بن شُعَيْب بن على بن سِنَان بن بَحر الإِمَام الْجَلِيل أَبُو عبد الرَّحْمَن النسائى
أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا فِي الحَدِيث وَالْمَشْهُور اسْمه وَكتابه
ولد سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ(3/14)
وَسمع قُتَيْبَة بن سعيد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَهِشَام بن عمار وَعِيسَى بن حَمَّاد وَالْحُسَيْن بن مَنْصُور السلمى النيسابورى وَعَمْرو بن زُرَارَة وَمُحَمّد بن النَّضر المروزى وسُويد بن نصر وَأَبا كريب وَمُحَمّد بن رَافع وعَلى بن حجر وَأَبا بريد الجرمى وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى وخلقا سواهُم بخراسان وَالْعراق وَالشَّام ومصر والحجاز والجزيرة
روى عَنهُ أَبُو بشر الدولابى وَأَبُو على الْحُسَيْن النيسابورى وَحَمْزَة بن مُحَمَّد الكنانى وَأَبُو بكر أَحْمد بن السّني وَمُحَمّد بن عبد الله بن حيوية وَأَبُو الْقَاسِم الطبرانى وَخلق سواهُم
رَحل إِلَى قُتَيْبَة وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة وَقَالَ أَقمت عِنْده سنة وشهرين
وَسكن مصر وَكَانَ يسكن بزقاق الْقَنَادِيل وَكَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَكَانَ كثير الْجِمَاع وَله أَربع زَوْجَات يقسم لَهُنَّ وَلَا يَخْلُو مَعَ ذَلِك عَن السرارى
وَدخل دمشق فَسئلَ عَن مُعَاوِيَة رضى الله عَنهُ ففضل عَلَيْهِ عليا كرم الله وَجهه فَأخْرج من الْمَسْجِد وَحمل إِلَى الرملة
وَأنكر عَلَيْهِ بَعضهم تصنيفه كتاب الخصائص لعلى رضى الله عَنهُ وَقيل لَهُ كَيفَ تركت تصنيف فَضَائِل الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ دخلت إِلَى دمشق والمنحرف بهَا عَن على كثير فصنفت كتاب الخصائص رَجَاء أَن يهْدِيهم الله ثمَّ صنف بعد ذَلِك فَضَائِل الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم
قَالَ أَبُو على النيسابورى حَافظ خُرَاسَان فى زَمَانه حَدثنَا الإِمَام فى الحَدِيث بِلَا مدافعة أَبُو عبد الرَّحْمَن النسائى
وَقَالَ مَنْصُور الْفَقِيه وَأَبُو جَعْفَر الطحاوى رحمهمَا الله النسائى إِمَام من أَئِمَّة الْمُسلمين
وَقَالَ الدارقطنى أَبُو عبد الرَّحْمَن مقدم على كل من يذكر بِهَذَا الْعلم من أهل عصره(3/15)
وَقَالَ ابْن طَاهِر المقدسى سَأَلت سعد بن على الزنجانى عَن رجل فوثقه فَقلت قد ضعفه النسائى فَقَالَ يَا بنى إِن لأبى عبد الرَّحْمَن شرطا فى الرِّجَال أَشد من شَرط البخارى وَمُسلم
وَقَالَ مُحَمَّد بن المظفر الْحَافِظ سَمِعت مَشَايِخنَا بِمصْر يصفونَ اجْتِهَاد النسائى فى الْعِبَادَة بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنه خرج إِلَى الْفِدَاء مَعَ أَمِير مصر فوصف من شهامته وإقامته السّنَن المأثورة فى فدَاء الْمُسلمين واحترازه عَن مجَالِس السُّلْطَان الذى خرج مَعَه والانبساط فى المأكل وَأَنه لم يزل ذَلِك دأبه إِلَى أَن اسْتشْهد بِدِمَشْق من جِهَة الْخَوَارِج
وَقَالَ الدارقطنى كَانَ ابْن الْحداد أَبُو بكر كثير الحَدِيث وَلم يحدث عَن غير النسائى وَقَالَ رضيت بِهِ حجَّة فِيمَا بينى وَبَين الله
قلت سَمِعت شَيخنَا أَبَا عبد الله الذهبى الْحَافِظ وَسَأَلته أَيهمَا أحفظ مُسلم بن الْحجَّاج صَاحب الصَّحِيح أَو النسائى فَقَالَ النسائى ثمَّ ذكرت ذَلِك للشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد تغمده الله برحمته فَوَافَقَ عَلَيْهِ
وَقد اخْتلفُوا فى مَكَان موت النسائى فَالصَّحِيح أَنه أخرج من دمشق لما ذكر فَضَائِل على قيل مَا زَالُوا يدافعون فى خصيتية حَتَّى أخرج من الْمَسْجِد ثمَّ حمل إِلَى الرملة فتوفى بهَا
قَالَ أَبُو سعيد بن يُونُس توفى بفلسطين يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث عشرَة خلت من صفر سنة ثَلَاث وثلاثمائة
وَقيل حمل إِلَى مَكَّة فَدفن بهَا بَين الصَّفَا والمروة(3/16)
82 - أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْحُسَيْن الطرائفى مَاتَ لَيْلَة الْجُمُعَة من شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَكَانَ ابْن ثَمَان وَسبعين سنة كَذَا أورد هَذِه التَّرْجَمَة ابْن باطيش
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو سعد فى كتاب الْأَنْسَاب أَبُو النَّصْر أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن الطرائفى الْفَقِيه من أهل نيسابور سمع الحَدِيث ثمَّ تفقه على كبر السن رأى أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِسْحَاق الثقفى ثمَّ سمع الحَدِيث بعده من مثل أَبى على مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وطبقته
وَتوفى فى شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة انْتهى كَلَام أَبى سعد وَلَعَلَّهُمَا وَاحِد وَالصَّوَاب مَعَ أَبى سعد
83 - أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن بشر بن مُغفل بن حسان ابْن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُغفل الشَّيْخ الْجَلِيل أَبُو مُحَمَّد المزنى المغفلى الهروى الملقب بالباز الْأَبْيَض
قَالَ الْحَاكِم كَانَ إِمَام أهل الْعلم وَالْوُجُوه وأولياء السُّلْطَان بخراسان فى عصره بِلَا مدافعة سمع بهراة ونيسابور ومروالروذ وجرجان ونسا وبغداد وَالْبَصْرَة وَمَكَّة ومصر والأهواز
وَحج بِالنَّاسِ وخطب بِمَكَّة(3/17)
وَقَالَ أَبُو النَّصْر عبد الرَّحْمَن بن عبد الْجَبَّار الفامى فِي تَارِيخ هراة كَانَ إِمَام عصره بِلَا مدافعة فى أَنْوَاع الْعُلُوم مَعَ رُتْبَة الوزارة وعلو الْقدر عِنْد السُّلْطَان
وَقَالَ أَبُو سعد بن السمعانى إِنَّه الذى يُقَال لَهُ الشَّيْخ الْجَلِيل ببخارى
قلت سمع على بن مُحَمَّد الجكانى وَأحمد بن نجدة بن الْعُرْيَان وَإِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب وَعمْرَان بن مُوسَى بن مجاشع وَالْحسن بن سُفْيَان ويوسف القاضى وَأَبا خَليفَة ومطينا وعبدان وخلقا
روى عَنهُ أَبُو الْعَبَّاس بن عقدَة وَهُوَ من شُيُوخه وَأَبُو بكر الصبغى والقفال الشاشى ومشايخ عصره بخراسان
وَمن الروَاة عَنهُ الْحَاكِم وَأَبُو عبد الله الحازمى
وَذكر الْحَاكِم من عَظمَة الشَّيْخ الْجَلِيل أَبى مُحَمَّد المزنى أَنه كَانَ فَوق الوزراء وَأَنَّهُمْ كَانُوا يصدرون عَن رَأْيه
وَقَالَ أَبُو كَامِل البصرى سَمِعت عبد الصَّمد بن نصر العاصمى يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الأودنى يَقُول احْتَاجَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن على الْقفال الشاشى إِلَى سَماع حَدِيث وَاحِد من حَدِيث المزنى فَأَرَادَ أَن يقْرَأ عَلَيْهِ فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِلَى يَوْم الْمجْلس يَا أَبَا بكر فَقَالَ الْقفال أيد الله الشَّيْخ الْجَلِيل إنى مَعَ الْقَافِلَة وهى تخرج الْيَوْم فَإِن أذن لى بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ قَالَ قد قلت إِلَى يَوْم الْمجْلس فَلم يقدر لَهُ وَلم يقرئه وَلم يَدعه يسمع مِنْهُ ذَلِك الحَدِيث الذى فِيهِ حَاجَة الْقفال(3/18)
وَمن شعر الشَّيْخ الْجَلِيل
(نزلنَا مكرهين بهَا فَلَمَّا ... ألفناها خرجنَا مكرهينا)
(وَمَا حب الديار بِنَا وَلَكِن ... أَمر الْعَيْش فرقة من هوينا)
قيل كَانَ الشَّيْخ الْجَلِيل قَتِيل حب الوطن أمْلى مَجْلِسا فى هَذَا الْمَعْنى وَمرض عقبه وَتوفى بعد جُمُعَة فى سَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَخمسين وثلاثمائة
قَالَ الْحَاكِم وَرَأَيْت الْوَزير أَبَا على البلعمى وَقد حمل فى تابوته وأحضر إِلَى بَاب السُّلْطَان يعْنى ببخارى للصَّلَاة عَلَيْهِ ثمَّ حمل تابوته إِلَى هراة فَدفن بهَا فَسمِعت ابْنه بشرا يَقُول آخر كلمة تكلم بهَا أَن قبض على لحيته وَرفع يَده الْيُمْنَى إِلَى السَّمَاء وَقَالَ ارْحَمْ شيبَة شيخ جَاءَك بتوفيقك على الْفطْرَة
قَالَ الْحَاكِم وَسمعت أَبَا الْفضل السليمانى وَكَانَ صَالحا يَقُول رَأَيْت أَبَا مُحَمَّد المزنى فى الْمَنَام بعد وَفَاته بليلتين وَهُوَ يتبختر فى مشيته وَيَقُول بِصَوْت عَال {وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى}
84 - أَحْمد بن على بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفرج بن لال أَبُو بكر الهمذانى
ولد سنة سبع أَو ثَمَان وثلاثمائة
روى عَن أَبِيه وَالقَاسِم بن أَبى صَالح وَإِسْمَاعِيل الصفار وَعبد الباقى بن قَانِع وأبى سعيد بن الأعرابى وَخلق
روى عَنهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد الأبهرى وَحميد بن الْمَأْمُون وَأَبُو مَسْعُود أَحْمد بن مُحَمَّد(3/19)
البجلى وَخلق كثير من أهل همذان وَمن الواردين
وَكَانَ إِمَامًا ثِقَة عَالما
قَالَ شيرويه كَانَ ثِقَة أوحد زَمَانه مفتى الْبَلَد يعْنى همذان يحسن هَذَا الشَّأْن يعْنى الحَدِيث وَله مصنفات فى عُلُوم الحَدِيث غير أَنه كَانَ مَشْهُورا بالفقه وَرَأَيْت لَهُ كتاب السّنَن ومعجم الصَّحَابَة مَا رَأَيْت شَيْئا أحسن مِنْهُ
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق حكى لى سبطه أَبُو سعد أَنه أَخذ الْفِقْه عَن أَبى إِسْحَاق وأبى على بن أَبى هُرَيْرَة وَكَانَ ورعا متعبدا أَخذ عَنهُ الْفِقْه فُقَهَاء همذان
قلت اضْطربَ فى وَفَاته فَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَقيل سادس عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَقيل سنة تسع وَتِسْعين وَقيل وَكَانَ يَقُول اللَّهُمَّ لَا تحينى إِلَى سنة أَرْبَعمِائَة فَمَاتَ قبلهَا
قيل وَالدُّعَاء عِنْد قَبره مستجاب(3/20)
85 - أَحْمد بن على بن طَاهِر الجوبقى بِفَتْح الْجِيم ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ بَاء مَفْتُوحَة ثمَّ قَاف نِسْبَة إِلَى الجوبق مَوضِع بنسف أَبُو نصر الأديب الشَّاعِر من أهل نسف
رَحل إِلَى الْعرَاق بعد سنة عشْرين وثلاثمائة واستكثر من شُيُوخ الْعرَاق وخراسان
ودرس الْفِقْه على أَبى إِسْحَاق المروزى وعلق عَنهُ شرح مُخْتَصر المزنى
ثمَّ رَجَعَ إِلَى نسف وَأقَام بهَا سنتَيْن ثمَّ أعَاد الرحلة ثمَّ خرج حَاجا فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَحج وَمَات بالبادية منصرفا من الْحَج سنة أَرْبَعِينَ وثلاثمائة
86 - أَحْمد بن عمر بن سُرَيج القاضى أَبُو الْعَبَّاس البغدادى
الباز الْأَشْهب والأسد الضارى على خصوم الْمَذْهَب شيخ الْمَذْهَب وحامل لوائه والبدر الْمشرق فى سمائه والغيث المغدق بروائه لَيْسَ من الْأَصْحَاب إِلَّا من هُوَ حائم على معينه هائم من جَوْهَر بحره بثمينه انْتَهَت إِلَيْهِ الرحلة فَضربت الْإِبِل نَحوه آباطها وعلقت بِهِ العزائم مناطها وأتته أَفْوَاج الطّلبَة لَا تعرف إِلَّا نمارق البيد بساطها
تفقه على أَبى الْقَاسِم الأنماطى
وَسمع الْحسن بن مُحَمَّد الزعفرانى وعباس بن مُحَمَّد الدورى وَأَبا دَاوُد السجستانى وعَلى بن إشكاب وَغَيرهم(3/21)
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم الطبرانى الْحَافِظ وَأَبُو الْوَلِيد حسان بن مُحَمَّد الْفَقِيه وَأَبُو أَحْمد الغطريفى وَغَيرهم
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ يُقَال لَهُ الباز الْأَشْهب وَولى الْقَضَاء بشيراز
قَالَ وَكَانَ يفضل على جَمِيع أَصْحَاب الشافعى رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِم حَتَّى على المزنى
قلت أَحسب أَن ولَايَته الْقَضَاء كَانَت فى مبادى شَأْنه وَأما بِالآخِرَة فقد سمر على بَابه ليلى قَضَاء الْقُضَاة فَامْتنعَ كَمَا سنحكى ذَلِك فى فصل الْفَوَائِد عَنهُ
وَمن كَلَام الشَّيْخ أَبى حَامِد الإسفراينى نَحن نجرى مَعَ أَبى الْعَبَّاس فى ظواهر الْفِقْه دون دقائقه
وَقَالَ أَبُو عَاصِم العبادى ابْن سُرَيج شيخ الْأَصْحَاب وَمَالك الْمعَانى وَصَاحب الْأُصُول وَالْفُرُوع والحساب
وَقَالَ أَبُو حَفْص المطوعى ابْن سُرَيج سيد طبقته بإطباق الْفُقَهَاء وأجمعهم للمحاسن باجتماع الْعلمَاء ثمَّ هُوَ الصَّدْر الْكَبِير والشافعى الصَّغِير وَالْإِمَام الْمُطلق والسباق الذى لَا يلْحق وَأول من فتح بَاب النّظر وَعلم النَّاس طَرِيق الجدل
وَقَالَ الإِمَام الضياء الْخَطِيب وَالِد الإِمَام فَخر الدّين فى كِتَابه غَايَة المرام إِن أَبَا الْعَبَّاس كَانَ أبرع أَصْحَاب الشافعى فى علم الْكَلَام كَمَا هُوَ أبرعهم فى الْفِقْه
وَقَالَ أَبُو على بن خيران سَمِعت ابْن سُرَيج يَقُول رَأَيْت كَأَنَّمَا مُطِرْنَا كبريتا أَحْمَر فملأت أكمامى وحجرى فَعبر لى أَن أرزق علما عَزِيزًا كعزة الكبريت الْأَحْمَر(3/22)
وَعَن ابْن سُرَيج يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالشافعى وَقد تعلق بالمزنى يَقُول رب هَذَا قد أفسد علومى فَأَقُول أَنا مهلا بأبى إِبْرَاهِيم فإنى لم أزل فى إصْلَاح مَا أفْسدهُ
وروى الْخَطِيب أَن أَبَا الْعَبَّاس قَالَ فى علته الَّتِى مَاتَ فِيهَا أريت البارحة فى الْمَنَام كَأَن قَائِلا يَقُول لى هَذَا رَبك تَعَالَى يخاطبك قَالَ فَسمِعت الْخطاب ب {مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} فَقلت بِالْإِيمَان والتصديق قَالَ فَقيل ب {مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} قَالَ فَوَقع فى قلبى أَنه يُرَاد منى زِيَادَة فى الْجَواب فَقلت بِالْإِيمَان والتصديق غير أَنا أصبْنَا من هَذِه الذُّنُوب فَقَالَ أما إنى سَأَغْفِرُ لَك
وفى رِوَايَة رَوَاهَا التنوخى عَن بعض أَصْحَاب ابْن سُرَيج قَالَ لنا ابْن سُرَيج يَوْمًا أَحسب أَن الْمنية قد قربت فَقُلْنَا وَكَيف قَالَ رَأَيْت البارحة كَأَن الْقِيَامَة قَامَت وَالنَّاس قد حشروا وَكَأن مناديا يُنَادى بِمَ أجبتم الْمُرْسلين فَقلت بِالْإِيمَان والتصديق فَقَالَ مَا سئلتم عَن الْأَقْوَال بل سئلتم عَن الْأَعْمَال فَقلت أما الْكَبَائِر فقد اجتنبناها وَأما الصَّغَائِر فعولنا فِيهَا على عَفْو الله وَرَحمته فَقُلْنَا لَهُ مَا فى هَذَا مَا يقتضى سرعَة الْمَوْت فَقَالَ أما سَمِعْتُمْ قَوْله {اقْترب للنَّاس حسابهم} قَالَ فَمَاتَ بعد ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا
وَمِمَّنْ سمع هَذَا الْمَنَام من ابْن سُرَيج أَبُو بكر الفارسى صَاحب عُيُون الْمسَائِل وَرَوَاهُ عَنهُ
ولأبى الْعَبَّاس مصنفات كَثِيرَة يُقَال إِنَّهَا بلغت أَرْبَعمِائَة مُصَنف وَلم نقف إِلَّا على الْيَسِير مِنْهَا وقفت لَهُ على كتاب فى الرَّد على ابْن دَاوُد فى الْقيَاس وَآخر فى الرَّد عَلَيْهِ فى مسَائِل اعْترض بهَا الشافعى وَهُوَ حافل نَفِيس وَأما كتاب الْخِصَال الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فقليل الجدوى وعندى أَنه لِابْنِهِ أَبى حَفْص عمر بن أَبى الْعَبَّاس
وَقد نَاظر أَبُو الْعَبَّاس الإِمَام دَاوُد الظاهرى وَأما ابْنه مُحَمَّد بن دَاوُد فلأبى الْعَبَّاس(3/23)
مَعَه المناظرات الْمَشْهُورَة والمجالس المروية وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس يستظهر عَلَيْهِ
وَحكى أَن ابْن دَاوُد قَالَ لَهُ يَوْمًا أبلعنى ريقى فَقَالَ أبلعتك دجلة
وَأَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا أمهلنى سَاعَة فَقَالَ أمهلتك من السَّاعَة إِلَى قيام السَّاعَة
وَمَات مُحَمَّد بن دَاوُد قبله فيحكى أَن أَبَا الْعَبَّاس نحى مخادة ومساوره وَجلسَ للتعزية عِنْد مَوته وَقَالَ مَا آسى إِلَّا على تُرَاب أكل لِسَان مُحَمَّد بن دَاوُد
قلت كَذَا لفظ الْحِكَايَة وَلَعَلَّه من المقلوب وَالْمعْنَى إِلَّا على لِسَان مُحَمَّد بن دَاوُد كَيفَ أكله التُّرَاب وَقد جوزت النُّحَاة رفع الْمَفْعُول بِهِ وَنصب الْفَاعِل عِنْد أَمن اللّبْس وأنشدوا عَلَيْهِ
(مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نَجْرَان أَو بلغت سوآتهم هجر)
رفع الْمَفْعُول وَهُوَ هجر لِأَنَّهَا المبلوغة وَنصب الْفَاعِل وَهُوَ السوآت لِأَنَّهَا الْبَالِغَة لأمن اللّبْس
وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر أَيْضا
(إِن سِرَاجًا لكريم مفخره ... تحلى بِهِ الْعين إِذا مَا تجهره)
أى تحلى الْعين بِهِ(3/24)
قَالُوا وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى {مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة} وَقَول الْعَرَب خرق الثَّوْب المسمار
وَيحْتَمل أَن تكون على فى الْحِكَايَة حرف تَعْلِيل وَالْمعْنَى بِسَبَب تُرَاب أكل لِسَان ابْن دَاوُد على حد قَول الشَّاعِر
(علام تَقول الرمْح أثقل عاتقى ... إِذا أَنا لم أطعن إِذا الْخَيل كرت)
وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} أى لهدايته إيَّاكُمْ
قَالَ بَعضهم اجْتمع ابْن سُرَيج وَمُحَمّد بن دَاوُد فاحتج ابْن دَاوُد على أَن أم الْوَلَد تبَاع قَالَ أجمعنا أَنَّهَا كَانَت أمة تبَاع فَمن ادّعى أَن هَذَا الحكم يَزُول بولادتها فَعَلَيهِ الدَّلِيل
فَقَالَ لَهُ ابْن سُرَيج وأجمعنا على أَنَّهَا لما كَانَت حَامِلا لَا تبَاع فَمن ادّعى أَنَّهَا تبَاع إِذا انْفَصل الْحمل فَعَلَيهِ الدَّلِيل فبهت أَبُو بكر
قَالَ أَبُو الْوَلِيد النيسابورى الْفَقِيه سَمِعت ابْن سُرَيج يَقُول قل مَا رَأَيْت من المتفقهة من اشْتغل بالْكلَام فأفلح يفوتهُ الْفِقْه وَلَا يصل إِلَى معرفَة الْكَلَام
وَقدمنَا فى خطْبَة هَذَا الْكتاب الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة عَن ابْن سُرَيج وَأَن شَيخنَا قَامَ فى مَجْلِسه وَقَالَ أبشر أَيهَا القاضى. . الْحِكَايَة وفيهَا أَن ذَلِك كَانَ سنة ثَلَاث وثلاثمائة
وَاعْلَم أَن وَفَاة ابْن سُرَيج كَانَت سنة سِتّ وثلاثمائة بِإِجْمَاع وَهُوَ عَالم ذَلِك الْقرن فِيمَا قَالَه جمَاعَة وَقد تقدم فى الْخطْبَة اسْتِيعَاب القَوْل فى ذَلِك(3/25)
وَكَانَ شَيخنَا الذهبى يَقُول الذى أعتقده فى حَدِيث يبْعَث الله من يجدد أَن من للْجمع لَا للمفرد
وَيَقُول مثلا على رَأس الثلاثمائة ابْن سُرَيج فى الْفِقْه والأشعرى فى أصُول الدّين والنسائى فى الحَدِيث وعَلى الستمائة مثلا الْحَافِظ عبد الْغنى فى الحَدِيث وَالْإِمَام فَخر الدّين فى الْكَلَام وَنَحْو هَذَا
قَالَ الْخَطِيب بلغ سنّ ابْن سُرَيج فِيمَا بلغنى سبعا وَخمسين سنة وَسِتَّة أشهر
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا الْمُسلم بن مُحَمَّد ابْن عَلان القيسى إجَازَة أخبرنَا زيد بن الْحسن أَبُو الْيمن الكندى أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز أخبرنَا الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ أخبرنَا على بن المحسن التنوخى أخبرنَا أَبى حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن البخترى القاضى الداوودى حَدَّثَنى أَبُو الْحسن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُغلس الداوودى قَالَ كَانَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن دَاوُد وَأَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج إِذا حضرا مجْلِس القاضى أَبى عمر يعْنى مُحَمَّد بن يُوسُف لم يجر بَين اثْنَيْنِ فِيمَا يتفاوضانه أحسن مِمَّا يجرى بَينهمَا وَكَانَ ابْن سُرَيج كثيرا مَا يتَقَدَّم أَبَا بكر فى الْحُضُور فى الْمجْلس فتقدمه أَبُو بكر يَوْمًا فَسَأَلَهُ حدث من الشافعيين عَن الْعود الْمُوجب لِلْكَفَّارَةِ فى الظِّهَار مَا هُوَ فَقَالَ إِنَّه إِعَادَة القَوْل ثَانِيًا وَهُوَ مذْهبه وَمذهب دَاوُد فطالبه بِالدَّلِيلِ فشرع فِيهِ وَدخل ابْن سُرَيج فاستشرحهم مَا جرى فشرحوه فَقَالَ ابْن سُرَيج لِابْنِ دَاوُد أَولا يَا أَبَا بكر أعزّك الله هَذَا قَول من من الْمُسلمين تقدمكم فِيهِ فاستشاط أَبُو بكر من ذَلِك وَقَالَ أتقدر أَن من اعتقدت أَن قَوْلهم إِجْمَاع فى هَذِه الْمَسْأَلَة إِجْمَاع عندى أحسن أَحْوَالهم أَن أعدهم خلافًا وهيهات أَن يَكُونُوا كَذَلِك فَغَضب ابْن سُرَيج وَقَالَ أَنْت يَا أَبَا بكر بِكِتَاب الزهرة(3/26)
أمهر مِنْك فى هَذِه الطَّرِيقَة فَقَالَ أَبُو بكر وبكتاب الزهرة تعيرنى وَالله مَا تحسن تستتم قِرَاءَته قِرَاءَة من يفهم وَإنَّهُ لمن أحد المناقب إِذْ كنت أَقُول فِيهِ
(أكرر فى روض المحاسن مقلتى ... وَأَمْنَع نفسى أَن تنَال محرما)
(وينطق سرى عَن مترجم خاطرى ... فلولا اختلاسى رده لتكلما)
(رَأَيْت الْهوى دَعْوَى من النَّاس كلهم ... فَمَا إِن أرى حبا صَحِيحا مُسلما)
فَقَالَ لَهُ ابْن سُرَيج أَو على تَفْخَر بِهَذَا القَوْل وَأَنا الذى أَقُول
(ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمْنَعهُ لذيذ سناته)
(ضنا بِحسن حَدِيثه وعتابه ... وأكرر اللحظات فى وجناته)
(حَتَّى إِذا مَا الصُّبْح لَاحَ عموده ... ولى بِخَاتم ربه وبراته)
فَقَالَ ابْن دَاوُد لأبى عمر أيد الله القاضى قد أقرّ بالمبيت على الْحَال الَّتِى ذكرهَا وَادّعى الْبَرَاءَة مِمَّا يُوجِبهُ فَعَلَيهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة
فَقَالَ ابْن سُرَيج من مذهبى أَن الْمقر إِذا أقرّ إِقْرَارا وناطه بِصفة كَانَ إِقْرَاره موكولا إِلَى صفته
فَقَالَ ابْن دَاوُد للشافعى فى هَذِه الْمَسْأَلَة قَولَانِ
فَقَالَ ابْن سُرَيج فَهَذَا القَوْل الذى قلته اختيارى السَّاعَة
أخبرنَا جدى القاضى أَبُو مُحَمَّد عبد الكافى بن على بن تَمام السبكى تغمده الله برحمته بِقِرَاءَة أَبى رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَأَنا حَاضر أسمع أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن يُوسُف ابْن خطيب المزة سَمَاعا عَلَيْهِ أخبرنَا عمر بن طبرزد حضورا فى الْخَامِسَة أخبرنَا أَبُو الْمَوَاهِب أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن مُلُوك الْوراق والقاضى أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الباقى بن مُحَمَّد الأنصارى قَالَا أخبرنَا القاضى الْجَلِيل أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر الطبرى الشافعى حَدثنَا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن أَحْمد بن الغطريف الغطريفى بجرجان سنة إِحْدَى(3/27)
وَسبعين وثلاثمائة حَدثنَا الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن سُرَيج حَدثنَا أَبُو يحيى الضَّرِير مُحَمَّد بن سعيد الْعَطَّار حَدثنَا عُبَيْدَة بن حميد حَدثنَا الْأَعْمَش عَن حبيب بن أَبى ثَابت عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا عَن على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ قَالَ كنت رجلا مذاء وَكنت أَكثر الِاغْتِسَال فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (يَكْفِيك مِنْهُ الْوضُوء)
ذكر نخب وفوائد عَن أَبى الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ
قَالَ شَيخنَا أَبُو حَيَّان رَحمَه الله فى الارتشاف ركب أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج مَا دخلت عَلَيْهِ لَو تركيبا غير عربى فَقَالَ
(وَلَو كلما كلب عوى ملت نَحوه ... أجاوبه إِن الْكلاب كثير)
(وَلَكِن مبالاتى بِمن صَاح أَو عوى ... قَلِيل فإنى بالكلاب بَصِير)
انْتهى
وَلم يبين وَجه خُرُوج أَبى الْعَبَّاس عَن اللِّسَان فى هَذَا فَإِن أَرَادَ تسليطه حرف لَو على الْجُمْلَة الإسمية فَهُوَ مَذْهَب كثير من النُّحَاة مِنْهُم الشَّيْخ جمال الدّين بن مَالك جوزوا أَن يَليهَا اسْم وَيكون مَعْمُول فعل مُضْمر مُفَسّر بِظَاهِر بعد الِاسْم
قَالَ فى التسهيل وَإِن وَليهَا اسْم فَهُوَ مَعْمُول فعل مُضْمر مُفَسّر بِظَاهِر بعد الِاسْم وَرُبمَا وَليهَا اسمان مرفوعان انْتهى
وَمِثَال مَا إِذا وَليهَا اسْم مَا روى فى الْمثل مثل قَوْلهم لَو ذَات سوار لطمتنى وَقَول عمر رضى الله عَنهُ لَو غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة وَقَالَ الشَّاعِر
(أخلاى لَو غير الْحمام أَصَابَكُم ... عتبت وَلَكِن مَا على الدَّهْر معتب)(3/28)
وَقَالَ آخر
(لَو غَيْركُمْ علق الزبير بحبله ... أدنى الْجوَار إِلَى بنى الْعَوام)
وَقَالَ آخر
(فَلَو غير أخوالى أَرَادوا نقيصتى ... جعلت لَهُم فَوق العرانين ميسما)
فالأسماء الَّتِى وليت لَو فى هَذَا كُله معمولة لفعل مُضْمر يفسره مَا بعده كَأَنَّهُ قَالَ وَلَو لطمتنى ذَات سوار لطمتنى وَكَذَا نقُول فى قَول ابْن سُرَيج وَلَو كلما كلب الْمَعْنى وَلَو كَانَ كلما كلب عوى وَيدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {قل لَو أَنْتُم تَمْلِكُونَ خَزَائِن رَحْمَة رَبِّي إِذا لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق}
وَلَا يلْزم من رد أَبى حَيَّان لهَذَا الْمَذْهَب ودعواه أَنه غير مَذْهَب الْبَصرِيين أَن يكون مردودا فى نَفسه
وَإِن أَرَادَ حذف الْجَواب إِذْ التَّقْدِير وَلَو كَانَ كلما عوى كلب ملت نَحوه كى أجاوبه لسئمت أَو تعبت أَو نَحْو ذَلِك لِأَن الْكلاب كثير فقد نَص هُوَ وَغَيره على جَوَاز حذف جَوَاب لَو لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على النَّار} وشواهده كَثِيرَة
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد النيسابورى يَقُول سَأَلت ابْن سُرَيج مَا معنى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قل هُوَ الله أحد تعدل ثلث الْقُرْآن فَقَالَ إِن الْقُرْآن أنزل ثلثا مِنْهُ أَحْكَام وَثلثا مِنْهُ وعد ووعيد وَثلثا أَسمَاء وصفات وَقد جمع فِي {قل هُوَ الله أحد} الْأَسْمَاء وَالصِّفَات(3/29)
قَالَ القاضى أَبُو على البندنيجى فى الذَّخِيرَة حكى عَن أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج أَنه كَانَ يُوصل المَاء إِلَى أُذُنَيْهِ تسع مَرَّات يغسلهما ثَلَاثًا مَعَ الْوَجْه وَيمْسَح عَلَيْهِمَا ثَلَاثًا مَعَ الرَّأْس ويفردهما بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا
قلت وَقد اسْتحْسنَ النووى فى الرَّوْضَة صنع ابْن سُرَيج هَذَا وَغلط من غلطه فِيهِ
وَنَظِيره مَا حَكَاهُ القاضى الْحُسَيْن فى تَعْلِيقه فى بَاب صَلَاة الْمُسَافِر عَنهُ ضمن فرع حسن
قَالَ القاضى رَحمَه الله بعد تعديد مسَائِل يسْتَحبّ فِيهَا الْخُرُوج من الْخلاف مَا نَصه فى الفصد والحجامة يسْتَحبّ لَهُ أَن يتَوَضَّأ إِذا صَار وضوءه خلقا بِأَن أدّى بِهِ فرضا أَو نَافِلَة فَأَما إِذا لم يؤد بِهِ شَيْئا فَلَا يسْتَحبّ لِأَن تَجْدِيد الْوضُوء مَكْرُوه قبل أَن يُؤدى بِالْأولِ صَلَاة مَا لِأَنَّهُ يُؤدى إِلَى الزِّيَادَة على الْأَرْبَع
ويحكى عَن ابْن سُرَيج أَنه كَانَ بعد مَا افتصد مس ذكره ثمَّ تَوَضَّأ وَهَذَا لَيْسَ بقوى لِأَنَّهُ لَا فرق عندنَا بَين مَا لَو أحدث أَو مس ذكره انْتهى
وَمَا ذكره من عدم اسْتِحْبَاب التَّجْدِيد إِذا لم يؤد بِهِ صَلَاة لِأَن الغسلة تصير رَابِعَة حكم ظَاهر وتعليل حسن
وَنَظِيره قَول الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد فى الفروق مَا نَصه إِذا تَوَضَّأ فَغسل وَجهه مرّة وَيَديه مرّة وَمسح رَأسه مرّة وَغسل رجلَيْهِ مرّة ثمَّ عَاد فَغسل وَجهه ثَانِيَة وَيَديه ثَانِيَة إِلَى آخرهَا ثمَّ فعل ذَلِك مرّة ثَالِثَة لم تجز انْتهى
وسنعيد للفرع ذكرا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فى تَرْجَمَة الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد
قَالَ أَبُو حَفْص المطوعى كَانَ على بن عِيسَى الْوَزير منحرفا عَن أَبى الْعَبَّاس لفضل ترفعه وتقاعده عَن زيارته منصبا بالميل إِلَى أَبى عمر المالكى القاضى لمواظبته على خدمته وَلذَلِك كَانَ مَا قَلّدهُ من الْقَضَاء وَكَانَت فى أَبى عمر نخوة على أكفائه من فُقَهَاء بَغْدَاد لعلو مرتبته فَحمل ذَلِك جمَاعَة من الْفُقَهَاء على تتبع فَتَاوِيهِ حَتَّى ظفروا لَهُ بفتوى(3/30)
خَالف فِيهَا الْجَمَاعَة وخرق الْإِجْمَاع وانهى ذَلِك إِلَى الْخَلِيفَة والوزير فعقدوا مَجْلِسا لذَلِك وَكَانَ خُذ أَبى عمر فِيهِ الأضرع وفيمن حضر أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فَلم يزدْ على السُّكُوت فَقَالَ لَهُ الْوَزير فى ذَلِك فَقَالَ مَا أكاد أَقُول فيهم وَقد ادعوا عَلَيْهِ خرق بِالْإِجْمَاع وأعياه الِانْفِصَال عَمَّا اعْترضُوا بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ إِن مَا أفتى بِهِ قَول عدَّة من الْعلمَاء وأعجب مَا فى الْبَاب انه قَول صَاحبه مَالك وَهُوَ مسطور فى كِتَابه الفلانى فَأمر الْوَزير بإحضار ذَلِك الْكتاب فَكَانَ الْأَمر على مَا قَالَه فأعجب بِهِ غَايَة الْإِعْجَاب وتعجب من حفظه لخلاف مذْهبه وغفلة أَبى عمر عَن مَذْهَب صَاحبه وَصَارَ هَذَا من أوكد أَسبَاب الصداقة بَينه وَبَين الْوَزير وَمَا زَالَت عناية الْوَزير بِهِ حَتَّى رشحه للْقَضَاء فَامْتنعَ أَشد الِامْتِنَاع فَقَالَ إِن امتثلت مَا مثلته لَك وَإِلَّا أجبرتك عَلَيْهِ قَالَ افْعَل مَا بدا لَك فَأمر الْوَزير حَتَّى سمر عَلَيْهِ بَابه وعاتبه النَّاس على ذَلِك فَقَالَ أردْت أَن يتسامع النَّاس أَن رجلا من أَصْحَاب الشافعى عومل على تقلد الْقَضَاء بِهَذِهِ الْمُعَامَلَة وَهُوَ مصر على إبائه زهدا فى الدُّنْيَا
قلت كَانَ هَذَا فى آخر حَال ابْن سُرَيج وَكَانَ المسؤول عَلَيْهِ قَضَاء بَغْدَاد وَأما فى أول أمره فقد قدمنَا عَن الشَّيْخ أَبى إِسْحَاق أَنه ولى الْقَضَاء بِمَدِينَة شيراز
وَمن شعر أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فى مُخْتَصر المزنى
(لصيق فؤادى مُنْذُ عشْرين حجَّة ... وصيقل ذهنى والمفرج عَن همى)
(عَزِيز على مثلى إِعَارَة مثله ... لما فِيهِ من علم لطيف وَمن نظم)
(جموع لأصناف الْعُلُوم بأسرها ... فأخلق بِهِ أَن لَا يُفَارِقهُ كمى)
قَالَ القاضى أَبُو عَاصِم استدرك أَبُو الْعَبَّاس على مُحَمَّد بن الْحسن مَسْأَلَة(3/31)
فى الْحساب وَهِي إِذا خلف ابْنَيْنِ وَأوصى لرجل بِمثل نصيب أحد ابنيه إِلَّا ثلث جَمِيع المَال فَإِن مُحَمَّدًا قَالَ الْمَسْأَلَة محَال لِأَنَّهُ اسْتثْنى ثلث المَال فَسقط
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَسْأَلَة من تِسْعَة لأحد ابنيه أَرْبَعَة والثانى مثله وَوَاحِد للْمُوصى لَهُ وَهُوَ نصيب أحد ابنيه إِلَّا ثلث جَمِيع المَال لِأَن ثلث جَمِيع المَال إِذا ضم إِلَى نصيب الْمُوصى لَهُ صَار أَرْبَعَة
قلت وَهَذَا حسن بَالغ وسواه غلط وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ أَبُو الْعَبَّاس ذَلِك فِيمَا نحسب من كَلَام الشافعى رضى الله عَنهُ فى مَسْأَلَة إِن كَانَ فى كمى دَرَاهِم أَكثر من ثَلَاثَة وفى كمة أَرْبَعَة وهى الْمَسْأَلَة الَّتِى ذَكرنَاهَا فى تَرْجَمَة البوشنجى أَبى عبد الله فقد سلك أَبُو الْعَبَّاس فى هَذِه الْمَسْأَلَة مَا سلكه الشافعى فى تِلْكَ كَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ فى تَرْجَمَة البوشنجى وَوَجهه أَن أَبَا الْعَبَّاس جعل إِلَّا ثلث جَمِيع المَال قيدا فى مثل النَّصِيب يعْنى مثل النَّصِيب خَارِجا مِنْهُ ثلث الأَصْل كَمَا جعل الشافعى دَرَاهِم قيدا فى الزَّائِد على الثَّلَاثَة
وَأما قَول أَبى الْعَبَّاس إِن الْمَسْأَلَة تصح من تِسْعَة فَظَاهر وَقد يُقَال هُوَ اسْتثِْنَاء مُسْتَغْرق وَكَأَنَّهُ اسْتثْنى ثلثا من ثلث فَتَصِح من ثَلَاثَة لكل وَاحِد سهم
قَالَ ابْن الْقَاص فى كتاب أدب الْقَضَاء سَمِعت أَحْمد بن عمر بن سُرَيج ينْزع الحكم بِشَاهِد وَيَمِين من كتاب الله عز وَجل من قَوْله تَعَالَى {أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه} وسأحكى معانى مَا انتزع بِهِ وَإِن لم أجد أَلْفَاظه(3/32)
قَالَ رَحمَه الله لما قَالَ تَعَالَى {فَإِن عثر} يعْنى تبين {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} يعْنى بذلك الْوَصِيّين {فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان} الْآيَة فيحلفان بِاللَّه يعْنى وارثى الْمَيِّت اللَّذين كَانَ الوصيان حلفا أَن مافى أَيْدِيهِمَا من الْوَصِيَّة غير مَا زَاد عَلَيْهِمَا
قَالَ ابْن سُرَيج فالبيان الذى عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا بِهِ لَا يَخْلُو من أحد أَرْبَعَة معَان إِمَّا أَن يكون إِقْرَارا مِنْهُمَا بعد إنكارهما أَو يكون شاهدى عدل أَو شَاهدا وَامْرَأَتَيْنِ أَو شَاهدا وَاحِدًا وَقد أجمعنا على أَن الْإِقْرَار بعد الْإِنْكَار لَا يُوجب يَمِينا على الطالبين وَكَذَلِكَ لَو قَامَ شَاهِدَانِ أَو شَاهد وَامْرَأَتَانِ فَلم يبْق إِلَّا شَاهد وَاحِد وَكَذَلِكَ استحلاف الطالبين
قَالَ ابْن الْقَاص وَقد رويت الْقِصَّة الَّتِى نزلت فِيهَا هَذِه الْآيَة بِنَحْوِ مَا فَسرهَا ابْن سُرَيج
ثمَّ روى ابْن الْقَاص بِإِسْنَادِهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن تَمِيم الدارى فى هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} الْآيَة قَالَ برىء النَّاس مِنْهَا غيرى وَغير عدى ابْن بداء وَكَانَا نَصْرَانِيين يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّام قبل الْإِسْلَام فَأتيَا الشَّام لِتِجَارَتِهِمَا وَقدم عَلَيْهِمَا مولى لبنى سهم يُقَال لَهُ بديل بن أَبى مَرْيَم بِالتِّجَارَة وَمَعَهُ جَام من فضَّة يُرِيد بِهِ الْملك وَهُوَ عَظِيم تِجَارَته فَمَرض فأوصى إِلَيْهِمَا وَأَمرهمَا أَن يبلغَا مَا ترك أَهله
قَالَ تَمِيم فَلَمَّا مَاتَ أَخذنَا الْجَام فَبِعْنَاهُ بِأَلف دِرْهَم ثمَّ اقتسمناها أَنا وعدى بن بداء فَمَا جِئْنَا إِلَى أَهله دفعنَا إِلَيْهِم مَا كَانَ مَعنا وَفقدُوا الْجَام فسألوا عَنهُ فَقُلْنَا مَا ترك غير هَذَا(3/33)
قَالَ تَمِيم فَلَمَّا أسلمت بعد قدوم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة تَأَثَّمت من ذَلِك فَأتيت أَهله فَأَخْبَرتهمْ الْخَبَر وَأديت إِلَيْهِم خَمْسمِائَة دِرْهَم وَأَخْبَرتهمْ أَن عِنْد صاحبى مثلهَا فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَأتوا بِهِ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَة فَلم يَجدوا فَأَمرهمْ أَن يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يعظم على أهل دينه فَحلف فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} إِلَى قَوْله {أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} فَقَامَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَرجل آخر مِنْهُم فَحَلفا فنزعت الْخَمْسمِائَةِ من عدى بن بداء
وَهَذَا الحَدِيث هَكَذَا أخرجه الترمذى وَقَالَ غَرِيب وَقَالَ لَيْسَ إِسْنَاده بِصَحِيح
وَأخرج البخارى وَأَبُو دَاوُد والترمذى أَيْضا أصل الحَدِيث من غير ذكر الْقِصَّة بِتَمَامِهَا
وَفِيه إِشْكَال لِأَن أهل الْحَرْب إِذا أتلف بَعضهم على بعض مَالا لم يلْزمه ضَمَانه وَإِن أسلم وَقَضِيَّة هَذَا أَلا يلْزم تميما وَلَا عديا شىء وَبِتَقْدِير اللُّزُوم فاللازم قيمَة الْجَام بَالِغَة مَا بلغت لَا الثّمن الَّذِي بيع بِهِ
وَقد يُجَاب عَن الأول بِأَنَّهُ إِنَّمَا ضمن لِأَنَّهُ مَقْبُوض بِعقد لِأَنَّهُ كَانَ فى يدهما إِمَّا بالوديعة أَو بِالْوَصِيَّةِ وَكِلَاهُمَا عقد وَأهل الْحَرْب لَا يسْقط عَنْهُم بِالْإِسْلَامِ قرض اقترضوه وَلَا مُعَاملَة تعاملوا بهَا بِخِلَاف مَحْض الْإِتْلَاف
وَعَن الثانى بِأَن الْجَام لَعَلَّ قِيمَته ألف كَمَا بيع
وَقد يعْتَرض على أصل اسْتِدْلَال ابْن سُرَيج بِأَن الْيَمين فى الْآيَة لَيست مَعَ شَاهد وَاحِد كَمَا هُوَ مَحل النزاع بل مَعَ شَاهِدين(3/34)
وَيُجَاب بِأَن معنى {لَشَهَادَتنَا} كَشَهَادَة شاهدنا وَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِد نعم الْمُدعى اثْنَان
تَسْمِيَة الْحَاكِم الشُّهُود
كَانَ ابْن سُرَيج يذهب كَمَا حَكَاهُ الماوردى فى الحاوى فى بَاب مَا على القاضى فى الْخُصُوم وَالشُّهُود إِلَى رَأْي أهل الْكُوفَة أَن الأولى للْحَاكِم إِذا ثَبت الْحق أَلا يُسمى فى سجله الشُّهُود بل يَقُول ثَبت عندى بِشَهَادَة من رَأَيْت قبُول قَوْلهمَا احْتِيَاطًا للمحكوم لَهُ فَإِنَّهُ مَتى سماهما فتح بَاب الطعْن والقدح عَلَيْهِ
وَالْمَعْرُوف عَن الشَّافِعِيَّة قاطبة عَكسه احْتِيَاطًا للمحكوم عَلَيْهِ وَأَنه يَقُول ثَبت عندى بِشَهَادَة فلَان وَفُلَان
وَالْمَسْأَلَة على علو شَأْنهَا غير مُصَرح بهَا فى شرح الرافعى وَلَا كتب الْمُتَأَخِّرين وَالْخلاف فِيهَا فِي الْأَوْلَوِيَّة وأى الْأَمريْنِ فعل كَانَ سائغا
كَذَا ذكر الماوردى فى بَاب مَا على القاضى فى الْخُصُوم وَالشُّهُود وَلَكِن رَأَيْت الدبيلى صرح فى كتاب أدب الْقَضَاء بِأَن الْخلاف فى الْوُجُوب وَهَذِه عِبَارَته اخْتلف أَصْحَابنَا هَل يجب ذكر أسامى الشُّهُود أم لَا على وَجْهَيْن مِنْهُم من قَالَ يجب أَن يذكر وَهُوَ أولى لطلب الْمَشْهُود عَلَيْهِ جرحهم وَذكرهمْ خير لَهُ وَمِنْهُم من قَالَ إِذا قَالَ الْحَاكِم شهد عندى جمَاعَة عدُول أرضاهم وعرفتهم أَو قَالَ سَأَلت عَن عدالتهم فَرَجَعت الْمَسْأَلَة إِلَى تزكيتهم وعدالتهم فَقبلت شَهَادَتهم جَازَ وَإِن لم يذكر أسامى الشُّهُود انْتهى
وَصرح الرويانى فى الْبَحْر بِالْوَجْهَيْنِ أَيْضا وَأَنه لَا يجوز إِبْهَام الْحجَّة على أَحدهمَا
وَإِلَى وَجه الْمَنْع أَشَارَ إِلَيْهِ الرافعى بقوله وفى فحوى كَلَام الْأَصْحَاب إِشَارَة إِلَى وَجه مَانع من إِبْهَام الْحجَّة ذكره عِنْد الْكَلَام فى الْقَضَاء بِالْعلمِ(3/35)
وَقد تعانى الشروطيون الْمُتَأَخّرُونَ أَن يجمعوا بَين الْأَمريْنِ فَيَقُولُونَ بِشَهَادَة فلَان وَفُلَان وَبِمَا يثبت بِمثلِهِ الْحُقُوق الشَّرْعِيَّة وَبعد اعْتِبَار مَا يجب اعْتِبَاره شرعا وَهُوَ عندى غير حسن فَإِنَّهُ إِن لم يكن للْحَاكِم مُسْتَند إِلَّا مَا صرح بِهِ وَهُوَ الْغَالِب فَذكر هَذِه الزِّيَادَة يُوهم أَن هُنَاكَ شَيْئا آخر ويسد الْبَاب على من لَعَلَّه محق فَهُوَ كذب وظلم وَإِن كَانَ لَهُ مُسْتَند آخر طواه فَلَا هُوَ الذى أبداه تتميما لرعاية الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَلَا الذى طوى غَيره مَعَه تتميما لرعاية الْمَحْكُوم لَهُ ففى هَذَا خُرُوج عَن سَبِيل الْفَرِيقَيْنِ
وَالْأولَى عندنَا مُخَالفَة ابْن سُرَيج والجريان على قَول عُلَمَائِنَا فى التَّصْرِيح بالمستند إِلَّا إِن كَانَ يخَاف مجادلة من يُجَادِل بِالْبَاطِلِ فَإِن استبان للقاضى وَجه الصَّوَاب فى وَاقعَة بطرِيق الْقطع أَو الظَّن الْغَالِب وخشى إِن هُوَ صرح بالمستند أَن يُجَادِل بِالْبَاطِلِ وَيبْطل الْحق فَالْأولى كتمان الْمُسْتَند وَإِلَّا فَالصَّوَاب ذكره فَإِنَّهُ أدفَع للتُّهمَةِ وأنفى للريبة وأصون للدّين
والرافعى اقْتصر على قَوْله وَيجوز أَن لَا يتَعَرَّض لأصل الشَّهَادَة فَيكْتب حكمت بِكَذَا لحجة أوجبت الحكم لِأَنَّهُ قد يحكم بِشَاهِد وَيَمِين وَقد يحكم بِعِلْمِهِ إِذا جَوَّزنَا الْقَضَاء بِالْعلمِ وَهَذِه حِيلَة يدْفع بهَا القاضى قدح أَصْحَاب الرأى إِذا حكم بِشَاهِد وَيَمِين وفى فحوى كَلَام الْأَصْحَاب وَجه مَانع من إِبْهَام الْحجَّة انْتهى
وَهَذَا الْوَجْه الْمَانِع قد يرجح ذكر الْحجَّة لِئَلَّا ينْقض عَلَيْهِ قَضَاهُ إِذا لم يذكرهَا إِن كَانَ فى النَّاس من ينْقض قَضَاهُ من يبهم الْحجَّة فليحترز الْحَاكِم فى ذَلِك وَالضَّابِط أَن إبداء الْحجَّة أولى إِلَّا أَن يخَاف فَوَات حق فليحتط الْحَاكِم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح وسنعيد فِي تَرْجَمَة الماوردى ذكر الْمَسْأَلَة وَطَرِيق الشَّافِعِيَّة وتقديمهم الدَّاخِل على الْخَارِج وتبقيتهم الْأُمُور على مَا هى عَلَيْهِ حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه كل ذَلِك(3/36)
يقتضى توقفهم فى الْأَحْكَام ومراعاتهم جَانب من يحكم عَلَيْهِ وَطَرِيق من يقدم بَينه الْخَارِج بِالْعَكْسِ(3/37)
فرع مستغرب ضمن فرع عَن أَبى الْعَبَّاس
نقل الرافعى فى الْبَاب الثانى من كتاب اللَّقِيط عَن ابْن سُرَيج فِيمَن أقرّ بِالرّقِّ لزيد فكذبه فَأقر لعَمْرو تَخْرِيج الْقبُول كَمَا لَو أقرّ بِمَال لزيد فكذبه فَأقر بِهِ لعَمْرو والمقيس مُشكل ومستدرك على أَبى الْعَبَّاس فَإِن الْمَنْصُوص خِلَافه
وَقد قَالَ الرافعى قبل هَذَا بِقَلِيل مَا نَصه الْحَالة الرَّابِعَة أَن يقر على نَفسه بِالرّقِّ وَهُوَ عَاقل بَالغ فَينْظر إِن كذبه الْمقر لَهُ لم يثبت الرّقّ وَلَو عَاد بعد ذَلِك فَصدقهُ لم يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لما كذبه ثبتَتْ حُرِّيَّته بِالْأَصْلِ فَلَا يعود رَقِيقا وَلم يحك فِيهِ خلافًا فَإِن كَانَ ابْن سُرَيج يُوَافق عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْهُ تنَاقض
لَكِن حكى الرافعى بعد ذَلِك قبل الْفَرْع وَجْهَيْن فَقَالَ وَلَو ادّعى إِنْسَان رقة فَأنكرهُ ثمَّ أقرّ لَهُ فَفِي قبُوله وَجْهَان وَأما الْمَقِيس عَلَيْهِ وَهُوَ غرضنا بِالذكر فأغرب وَلم يذكروه فى مظنته فى بَاب الْإِقْرَار فى مَسْأَلَة مَا إِذا أقرّ لمنكر فَرُبمَا وَقع ذكره فى بَاب اللَّقِيط اسْتِطْرَادًا كَمَا ترى
فرع اخْتلف فِيهِ على أَبى الْعَبَّاس
إِذا بلغ الصبى فى أثْنَاء الصَّلَاة فالمحكى فى الرافعى وَأكْثر الْكتب عَن ابْن سُرَيج أَنه يسْتَحبّ الْإِتْمَام وَتجب الْإِعَادَة عكس الصَّحِيح من الْمَذْهَب وَلَكِن ذكر صَاحب الْبَيَان أَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد رَحمَه الله قَالَ رَأَيْت فى كتاب الِانْتِصَار لأبى الْعَبَّاس وجوب الْإِتْمَام واستحباب الْإِعَادَة وَحكى عَن أَبى الْعَبَّاس عَكسه
الْمَشْهُور عَن مَالك رَحمَه الله أَن من علق الطَّلَاق بِمَا يتَحَقَّق وجوده وَقع فى الْحَال احتجاجا بِأَنَّهُ إِذا أجل صَار ناكحا إِلَى مُدَّة وَهُوَ بَاطِل كالمتعة
قَالَ ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب فى شرح الْمِفْتَاح لِابْنِ الْقَاص إِن أَبَا الْعَبَّاس(3/38)
ابْن سُرَيج قَالَ بِمثل قَوْله فِيمَا إِذا قَالَ إِن طلعت الشَّمْس فَأَنت طَالِق وَلَيْسَ الْمَشْهُور عَنهُ بل الْمَشْهُور عَنهُ فى قَوْله إِن لم أطلقك الْيَوْم فَأَنت طَالِق الْيَوْم ينافى ذَلِك
87 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن أَسْبَاط مولى جَعْفَر بن أَبى طَالب الدينورى الْحَافِظ
هُوَ أَبُو بكر ابْن السنى صَاحب النسائى
سمع مِنْهُ وَمن عمر بن أَبى غيلَان البغدادى وأبى خَليفَة وزكرياء الساجى وأبى عرُوبَة وطبقتهم بِمصْر وَالْعراق وَالشَّام والجزيرة
روى عَنهُ أَبُو على أَحْمد بن عبد الله الأصبهانى وَمُحَمّد بن على العلوى وعَلى بن عمر الأسداباذى وَأحمد بن الْحُسَيْن الكسار
وصنف فى القناعة وفى عمل يَوْم وَلَيْلَة وَاخْتصرَ سنَن النسائى
وَكَانَ رجلا صَالحا فَقِيها شافعيا عَاشَ بضعا وَثَمَانِينَ سنة
قَالَ القاضى أَبُو زرْعَة روح بن مُحَمَّد سبط ابْن السنى سَمِعت عمى على بن أَحْمد بن مُحَمَّد يَقُول كَانَ أَبى رَحمَه الله يكْتب الحَدِيث فَوضع الْقَلَم فى أنبوبة المحبرة وَرفع يَدَيْهِ يَدْعُو الله تَعَالَى فَمَاتَ وَذَلِكَ فى آخر سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة(3/39)
88 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن نعيم الْفَقِيه أَبُو حَامِد الطوسى الإسماعيلى
الْفَقِيه الْمُحدث الزَّاهِد
سمع بخراسان أَبَا عبد الله البوشنجى وطبقته
وبالجبال مُحَمَّد بن أَيُّوب وطبقته
وبالعراق أَبَا خَليفَة وطبقته
وبالكوفة أَبَا جَعْفَر الحضرمى وطبقته
روى عَنهُ الْحَاكِم وَغَيره
وَكَانَ من تلامذة ابْن سُرَيج قَالَ فِيهِ الْحَاكِم إِنَّه صَاحب أَبَا الْعَبَّاس ابْن سُرَيج وَإنَّهُ مفتى النَّاحِيَة وزاهدها
قَالَ وَكَانَ يرد نيسابور قَدِيما وَيحدث بهَا
قَالَ وَأما أَنا فَكتبت عَنهُ بالطابران
توفى سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة(3/40)
89 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَاتِم الْفَقِيه أَبُو حَاتِم الْحَاتِمِي ... ... ... ... ... ... ... ... . .
90 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن الإِمَام الْحَافِظ أَبُو حَامِد بن الشرقى تلميذ مُسلم
كَانَ قريع زَمَانه وحافظ وقته وَفِيه يَقُول إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر بن خُزَيْمَة حَيَاة أَبى حَامِد تحجز بَين النَّاس وَالْكذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/41)
قلت وَلَا عِبْرَة بِكَلَام من تكلم فِيهِ وَكَانَ سُكُوته أولى بِهِ
قَالَ السلمى سَأَلت الدارقطنى عَن أَبى حَامِد فَقَالَ ثِقَة مَأْمُون إِمَام قلت مِمَّن تكلم فِيهِ ابْن عقدَة قَالَ سُبْحَانَ الله ترى يُؤثر فِيهِ مثل كَلَامه وَلَو كَانَ بدل ابْن عقدَة يحيى بن معِين قلت وَأَبُو على قَالَ وَمن أَبُو على حَتَّى يسمع كَلَامه فِيهِ وَقَالَ الْخَطِيب أَبُو حَامِد ثَبت حَافظ متقن
قلت ولد سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَسمع مُحَمَّد بن يحيى وَأحمد بن يُوسُف وَأحمد بن الْأَزْهَر وَأحمد بن حَفْص بن عبد الله وَأَبا حَاتِم وَمُحَمّد بن إِسْحَاق الصاغانى وَعبد الله بن أَبى مَسَرَّة وخلقا
روى عَنهُ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُحَمَّد الباغندى وَأَبُو الْعَبَّاس ابْن عقدَة وَأَبُو أَحْمد الْعَسَّال وَأَبُو أَحْمد بن عدى وَأَبُو على الْحَافِظ وزاهر بن أَحْمد وَالْحسن بن أَحْمد المخلدى وَأَبُو بكر الجوزقى وَغَيرهم
وصنف الصَّحِيح وَحج مَرَّات
توفى فى شهر رَمَضَان سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة
91 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْأُسْتَاذ أَبُو الْعَبَّاس النسوى الزَّاهِد الصوفى شيخ الْحرم وَصَاحب تَارِيخ الصُّوفِيَّة
صحب الْأُسْتَاذ أَبَا عبد الله بن خَفِيف وَكَانَ عَارِفًا بِمذهب الشافعى
وَسمع ابْن عدى وَأحمد بن عَطاء الروذبارى وَأَبا بكر الربعى وَطَائِفَة بِالشَّام وَالْعراق والعجم(3/42)
روى عَنهُ أَبُو نصر بن الخباز وَأَبُو على الأهوازى وَأَبُو يعلى إِسْحَاق الصابونى وَطَائِفَة
قَالَ الْخَطِيب كَانَ ثِقَة
مَاتَ بَين مصر وَمَكَّة سنة سِتّ وَتِسْعين وثلاثمائة
92 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد بن إِسْمَاعِيل الْحَافِظ أَبُو سعيد بن أَبى بكر ابْن الشَّيْخ الزَّاهِد أَبى عُثْمَان الحيرى النيسابورى
سمع أَبَا عَمْرو الْخفاف وَعبد الله بن شيرويه وَالْحسن بن سُفْيَان وخلقا
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَغَيره
وصنف التَّفْسِير الْكَبِير وَالصَّحِيح الْمخْرج على صَحِيح مُسلم والأبواب وَغير ذَلِك
وَدخل بَغْدَاد فى خلق كثير
وَقَالَ وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس بهَا وَكَانَ من محبته للْحَدِيث يكْتب بِخَطِّهِ وَيسمع إِلَى أَن اسْتشْهد بطرسوس فى سنة ثَلَاث وَخمسين وثلاثمائة وَله خمس وَسِتُّونَ سنة
93 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الطّيب الصعلوكى الحنفى نسبا الشافعى مذهبا عَم الْأُسْتَاذ أَبى سهل
كَانَ مقدما فى معرفَة الْفِقْه واللغة وَكَانَ مُحدثا أدْرك الْأَسَانِيد الْعَالِيَة وصنف فى الحَدِيث(3/43)
سمع يحيى بن الذهلى وَعبد الله بن أَحْمد وَمُحَمّد بن عبد الْوَهَّاب العبدى وعَلى بن الْجُنَيْد وَمُحَمّد بن أَيُّوب وَجَمَاعَة ببلاده وببغداد والرى
روى عَنهُ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل والحافظ أَبُو عبد الله بن الأخرم
قَالَ الْحَاكِم وَسمعت مِنْهُ حَدِيثا فى المذاكرة
قَالَ وَقد كَانَ أمسك عَن الرِّوَايَة بعد أَن عمر فَكُنَّا نرَاهُ حسرة
قلت عمر بِضَم الْعين وَتَشْديد الْمِيم ثمَّ الرَّاء طعن فى السن إِنَّمَا ضبطته لوُقُوعه بِخَط الْحفاظ مُصحفا فَإِنَّهُ كتب عمى مَوضِع عمر وَأرَاهُ تصحيفا
توفى أَبُو الطّيب فى رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة بنيسابور
94 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن سهل الْفَقِيه أَبُو الْحُسَيْن الطبسى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(3/44)
95 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن شَارك الْفَقِيه أَبُو حَامِد الهروى الشاركى عَالم هراة وإمامها ومحدثها وأديبها وفقيهها ومفسرها
سمع مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السامى وَالْحسن بن سُفْيَان النسوى وَأَبا يعلى الموصلى وَجَمَاعَة
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم وَأَبُو إِبْرَاهِيم النصراباذى وَغَيرهمَا
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم مفتى هراة فى عصره وَكَانَ من الأدباء الْمَذْكُورين
قَالَ وَكَانَ حسن الحَدِيث
قَالَ وَورد نيسابور سنة ثَلَاث وَخمسين وثلاثمائة على أَن يخرج إِلَى الْحَج وَكَانَ أَبُو عبد الله بن أَبى ذهل الرئيس بنيسابور فَمَنعه عَن الْخُرُوج وَقَالَ للسُّلْطَان إِن خرج هَذَا الشَّيْخ من هراة ظَهرت غيبته على السُّلْطَان والرعية فَأَقَامَ بنيسابور مُدَّة ثمَّ انْصَرف إِلَى هراة فتوفى بهَا
قلت وللحافظ أَبى حَامِد الشاركى كتاب الْمخْرج على صَحِيح مُسلم لم أَقف عَلَيْهِ(3/45)
قَالَ الْحَاكِم توفى سنة خمس وَخمسين وثلاثمائة
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو النَّصْر الفامى فى مَوضِع وَقَالَ فى آخر توفى سنة ثَمَان وَخمسين وَهَذَا فِيمَا أَحسب وهم وَالصَّوَاب سنة خمس وَخمسين
96 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن زِيَاد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
97 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس بن حَاتِم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/46)
98 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن يحيى الْقصرى أَبُو بكر السيبى أحد الْأَئِمَّة
تفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى وَنشر الْفِقْه بِبَلَدِهِ قصر ابْن هُبَيْرَة
وَتوفى فى رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلاثمائة وَله سِتّ وَسَبْعُونَ سنة(3/47)
99 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مَنْصُور بن شهريار الشَّيْخ أَبُو على الروذبارى
أحد أَئِمَّة الصُّوفِيَّة
وَاخْتلف فى اسْمه وَالأَصَح مَا ذَكرْنَاهُ وإياه أورد الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى والأستاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح
وَقيل الْحسن بن همام
وَقَالَ الْخَطِيب وَابْن السمعانى مُحَمَّد بن أَحْمد
وروذبار بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو والذال الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وفى آخرهَا الرَّاء
كَانَ هَذَا الشَّيْخ بغدادى الأَصْل من أَبنَاء الوزراء والرؤساء والكتبة يتَّصل نسبه بكسرى أنوشروان
صحب فى التصوف الشَّيْخ الْجُنَيْد وفى الْفِقْه ابْن سُرَيج وفى النَّحْو ثعلبا وفى الحَدِيث إِبْرَاهِيم الحربى وَكَانَ يفتخر بمشايخه هَؤُلَاءِ
أَقَامَ بِمصْر وَصَارَ شيخها
وَكَانَ فَقِيها مُحدثا روى عَن مَسْعُود الرملى وَغَيره
روى عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن شَاذان الرازى وَغَيره
قَالَ أَبُو على الْكَاتِب مَا رَأَيْت أحدا أجمع لعلم الشَّرِيعَة والحقيقة من الروذبارى
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى أظرف الْمَشَايِخ وأعلمهم بالطريقة
توفى سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة(3/48)
وَمن كَلَامه وفوائده
قَالَ فى حد الصوفى إِنَّه من لبس الصُّوف على الصَّفَا وسلك طَرِيق الْمُصْطَفى وَأطْعم الْهوى ذوق الجفا وَكَانَت الدُّنْيَا مِنْهُ على الْقَفَا
وَقَالَ أَنْفَع الْيَقِين مَا عظم الْحق فى عَيْنك وَصغر مَا دونه عنْدك وَأثبت الرَّجَاء وَالْخَوْف فى قَلْبك
وَسُئِلَ عَمَّن يسمع الملاهى وزعمها حَلَالا لَهُ وَقَالَ لأنى وصلت إِلَى دَرَجَة لَا يُؤثر فى اخْتِلَاف الْأَحْوَال
فَقَالَ نعم قد وصل لعمرى وَلَكِن إِلَى سقر
قلت وَقد توصل من حكى هَذِه الْحِكَايَة إِلَى دَعْوَى أَنه كَانَ لَا يرى السماع وَالْأَظْهَر عندى فى معنى قَوْله أَنه أنكر من هَذَا الْقَائِل إِظْهَاره الْوُصُول إِلَى هَذِه الدرجَة فَإِن الْوَاصِل إِلَى هَذِه الدرجَة لَا يتظاهر بذلك إِلَّا عَن إِذن وَلَيْسَ مُرَاد الروذبارى تَحْرِيم السماع وَلَا إِنْكَار أَن بعض النَّاس لَا يُؤثر فِيهِ اخْتِلَاف الْأَحْوَال وَكَيف يكون ذَلِك وَمن كَلَام الروذبارى أَيْضا السماع مكاشفة الْأَسْرَار إِلَى مُشَاهدَة المحبوب أسْندهُ عَنهُ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم فى الرسَالَة
وَعَن الروذبارى جزت بقصر فَرَأَيْت شَابًّا حسن الْوَجْه مطروحا وَحَوله نَاس فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا إِنَّه جَازَ بِهَذَا الْقصر وَجَارِيَة تغنى
(كَبرت همة عبد ... طمعت فى أَن تراكا)
(أَو مَا حسب لعينى ... أَن ترى من قد رآكا)
أسْندهُ القشيرى أَيْضا عَنهُ(3/49)
وَعَن فَاطِمَة أُخْت أَبى على الرُّوذَبَارِي قَالَت لما قرب أجل أخى أَبى على وَكَانَ رَأسه فى حجرى فتح عَيْنَيْهِ وَقَالَ هَذِه أَبْوَاب السَّمَاء فتحت وَهَذِه الْجنان قد زينت وَهَذَا قَائِل يَقُول لى يَا أَبَا على قد بلغناك الرُّتْبَة القصوى وَإِن لم تردها ثمَّ أنْشد يَقُول
(وحقك لَا نظرت إِلَى سواكا ... بِعَين مَوَدَّة حَتَّى أراكا)
(أَرَاك معذبى بفتور لحظ ... وبالخد المورد من جناكا)
ثمَّ قَالَ يَا فَاطِمَة الأول ظَاهر والثانى فِيهِ إِشْكَال
كَذَا أورد الْحِكَايَة القشيرى وَغَيره
وَمَا أحسن إشكاله الثانى وَلَيْسَ هُوَ عِنْد التَّحْقِيق بمشكل وَلكنه وَالله أعلم استقصر عقول النِّسَاء عَن دركه وخشى عَلَيْهِنَّ غائلة أَن يفهمن أَن الْأَمر على ظَاهره
وَعَن الروذبارى رَأَيْت فى الْبَادِيَة حَدثا فَلَمَّا رآنى قَالَ أما يَكْفِيك أَنه شغفنى بحبه حَتَّى علنى ثمَّ رَأَيْته يجود بِرُوحِهِ فَقلت لَهُ قل لَا إِلَه إِلَّا الله فَأَنْشَأَ يَقُول
(أيا من لَيْسَ لى عنة ... وَإِن عذبنى بُد)
(وَيَا من نَالَ من قلبى ... منالا مَا لَهُ حد)
وَعنهُ قدم علينا فَقير فَمَاتَ فدفنته وكشفت عَن وَجهه لأضعه فى التُّرَاب ليرحم الله غربته فَفتح عَيْنَيْهِ وَقَالَ يَا أَبَا على أتذللنى بَين يدى من دللنى فَقلت لَهُ يَا سيدى أحياة بعد موت فَقَالَ بل أَنا حى وكل محب لله حى لأنصرنك غَدا بجاهى يَا روذبارى
وَعنهُ من الاغترار أَن تسئ فَيحسن إِلَيْك فَتتْرك الْإِنَابَة توهما أَنَّك تسَامح فى الهفوات وَترى أَن ذَلِك من بسط الْحق لَك(3/50)
وَعنهُ المريد الذى لَا يُرِيد لنَفسِهِ إِلَّا مَا أَرَادَ الله لَهُ وَالْمرَاد لَا يُرِيد من الكونين شَيْئا غَيره
وَقَالَ الصول على من دُونك ضعف وعَلى من فَوْقك قحة
وَقَالَ التَّوْبَة الِاعْتِرَاف والندم والإقلاع
وَأنْشد لنَفسِهِ
(روحى إِلَيْك بكلها قد أَجمعت ... لَو أَن فِيك هلاكها مَا أقلعت)
(تبكى إِلَيْك بكلها عَن كلهَا ... حَتَّى يُقَال من الْبكاء تقطعت)
(فَانْظُر إِلَيْهَا نظرة فلطالما ... متعتها من نعْمَة فتمتعت)
وَقَالَ كَيفَ تشهده الْأَشْيَاء وَبِه فنيت ذواتها عَن ذواتها أم كَيفَ غَابَتْ الْأَشْيَاء عَنهُ وَبِه ظَهرت بصفاته فسبحان من لَا يشهده شئ وَلَا يغيب عَنهُ شئ
وَقَالَ أظهر الْحق الأسامى وأبداها لِلْخلقِ ليسكن بهَا شوق المحبين إِلَيْهِ وتأنس قُلُوب العارفين لَهُ
وَأنْشد لنَفسِهِ
(إِن الْحَقِيقَة غير مَا تتوهم ... فَانْظُر لنَفسك أى حَال تعزم)
(أتكون فى الْقَوْم الَّذين تَأَخَّرُوا ... عَن حَقهم أَو فى الَّذين تقدمُوا)
(لَا تخدعن فَتلوم نَفسك حِين لَا ... يجدى عَلَيْك تأسف وتلوم)
وَمن شعر الروذبارى
(لَو كل جارحة منى لَهَا لُغَة ... تثنى عَلَيْك بِمَا أوليت من حسن)
(لَكَانَ مازان شكرى إِذا أشْرب بِهِ ... إِلَيْك أجمل فى الْإِحْسَان والمنن)(3/51)
وَمِنْه
(وَلَو مضى الْكل منى لم يكن عجبا ... وَإِنَّمَا عجبى للْبَعْض كَيفَ بقى)
(أدْرك بَقِيَّة فِيك قد تلفت ... قبل الْفِرَاق فَهَذَا آخر الرمق)
قَالَ أَبُو على التفكر على أَرْبَعَة أوجه فكرة فى آيَات الله وعلامتها تولد الْمحبَّة وفكرة فى وعد الله بثوابه وعلامتها تولد الرَّغْبَة وفكرة فى وعيده تَعَالَى بِالْعَذَابِ وعلامتها تولد الرهبة وفكرة فى جفَاء النَّفس مَعَ إِحْسَان الله وعلامتها تولد الْحيَاء من الله
وَأنْشد
(فَإِن شِئْتُم وَصلى فَذَاك أريده ... وَإِن شِئْتُم هجرى فَذَلِك أوثر)
(أَلَسْت أرى أَهلا بِحَال يسركم ... بذلك أزهو مَا حييت وأفخر)
وَمن شعره أَيْضا
(بك كتمان وجده بك عَنهُ ... لَك مِنْهُ وعنك مَالك مِنْهُ)
(من إِذا لَاحَ مشرقى ... هام وجدا عَلَيْك إِن لم تكنه)
(وَإِذا قَالَ لَا أَقُول ببين ... بَان عَنهُ فَبَان إِن لم تبنه)
(يَا فَتى الْحبّ بل فَتى الْحق سرى ... عَنْك مستودع لديك فصنه)
وَقَالَ مَا ادّعى أحد قطّ إِلَّا لخلوة عَن الْحَقَائِق وَلَو تحقق فى شئ لنطقت عَنهُ الْحَقِيقَة وأغنته عَن الدَّعْوَى(3/52)
وَقَالَ كَانَ عندنَا بِبَغْدَاد عشرَة فتيَان مَعَهم عشرَة أَحْدَاث مَعَ كل وَاحِد وَاحِد وَكَانُوا مُجْتَمعين فى مَوضِع فوجهوا وَاحِدًا من الْأَحْدَاث ليَأْخُذ لَهُم حَاجَة فَأَبْطَأَ عَلَيْهِم وغضبوا من تَأْخِيره ثمَّ أقبل وَهُوَ يضْحك وَبِيَدِهِ بطيخة يقلبها ويشمها فَقَالُوا لَهُ احْتبست عَنَّا ثمَّ جئتنا تضحك
فَقَالَ جِئتُكُمْ بفائدة رَأَيْت بشر بن الْحَارِث وضع يَده على هَذِه البطيخة فَلم أزل وَاقِفًا حَتَّى اشْتَرَيْتهَا بِعشْرين درهما أتبرك بِموضع يَده عَلَيْهَا
فَأخذ كل وَاحِد مِنْهُم البطيخة وَجعل يقبلهَا ويضعها على عَيْنَيْهِ فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم بشر كَانَ مَعنا صَاحب عصبية أيش بلغ بِهِ هَذَا كُله حَتَّى تَفعلُوا بِهِ هَذَا
قَالُوا تقوى الله وَالْعَمَل الصَّالح
فَقَالَ أَنا أشهد الله وأشهدكم أَنى تائب إِلَى الله من كل شئ لَا يرضاه منى وَأَنا على حَالَة بشر وطريقته
فَقَالُوا كلهم مثل ذَلِك فتابوا بأجمعهم وَخَرجُوا إِلَى طرسوس وغزوا واستشهدوا كلهم فى مَوضِع وَاحِد
وَأنْشد أَبُو على لنَفسِهِ
(فلاذوا بِهِ من بعد كل نِهَايَة ... لياذ مقرّ بالخضوع مَعَ الْحَد)
(بعجز وتقصير عَن الْوَاجِب الذى ... بِهِ عرفوه للودود من الود)
(وَكَانَ لَهُم بالعز فى غَايَة المنى ... شكُورًا لما أولاه من رتب الْحَمد)
(وَمن بأسرار الذَّخَائِر بَينه ... وَبينهمْ عَن مُضْمر الكتم للجهد)
وروى أَن أَبَا على اتخذ مرّة أحمالا من السكر الْأَبْيَض ودعا بِجَمَاعَة من الحلاوانيين حَتَّى عمِلُوا من السكر جدارا عَلَيْهِ شرافات ومحاريب على أعمدة ونقشوها كلهَا من سكر ثمَّ دَعَا الصُّوفِيَّة حَتَّى هدموها وكسروها وانتهبوها(3/53)
وَمن كَلَامه المشاهدات للقلوب والمكاشفات للأسرار والمعاينات للبصائر والمرايات للأبصار
100 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَبدة التَّمِيمِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
101 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر أَبُو بشر الهروى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(3/54)
102 - أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو الْعَبَّاس الديبلى الْخياط الزَّاهِد
سكن مصر
قَالَ ابْن الصّلاح ذكره أَبُو الْعَبَّاس النسوى فى كِتَابه وَذكر أَنه كَانَ فَقِيها جيد الْمعرفَة بالفقه على مَذْهَب الشافعى
وَكَانَ قوته وَكَسبه من خياطته كَانَ يخيط قَمِيصًا فى جُمُعَة بدرهم ودانقين طَعَامه وَكسوته من ذَلِك غلاء ورخصا مَا ارتفق من أحد بِمصْر بِشَربَة مَاء
وَكَانَ رجلا صَالحا من أَرْبَاب الْأَحْوَال والمكاشفات لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال سنية
حضر أَبُو الْعَبَّاس النسوى وَأَبُو سعد المالينى وَفَاته فذكرا الْعجب من حُضُوره وتلاوته إِلَى أَن خرجت روحه(3/55)
مَاتَ فى سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة
وَقد ظن بعض النَّاس أَنه الدبيلى صَاحب أدب الْقَضَاء وَلَيْسَ كَذَلِك ذَاك على ابْن أَحْمد وَهَذَا أَحْمد بن مُحَمَّد
وَلَيْسَ فى كتاب الْأَنْسَاب لِابْنِ السمعانى وَاحِدَة من هَاتين النسبتين
103 - أَحْمد بن مَسْعُود بن عَمْرو بن إِدْرِيس بن عِكْرِمَة أَبُو بكر الزنبرى بِفَتْح الزاى ثمَّ النُّون ثمَّ الْبَاء بِنُقْطَة من تحتهَا نِسْبَة إِلَى الْجد
ذكره ابْن مَاكُولَا وَابْن السمعانى وَقَالا إِنَّه سمع الرّبيع بن سُلَيْمَان وبحر بن نصر وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم
روى عَنهُ أَبُو بكر بن المقرى وَأَبُو حَفْص ابْن شاهين وَأَبُو سعيد ابْن يُونُس وَأَبُو الْقَاسِم الطبرانى وَغَيرهم
مَاتَ فى شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلاثمائة(3/56)
وَتقدم مُحَمَّد بن بشر الزنبرى فى الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَهَذَانِ وَإِن اخْتلفَا من طبقَة وَاحِدَة غير أَن سنة وَفَاة ذَاك لم تتحرر فأوردناه مَعَ أَصْحَاب الإِمَام الْأَعْظَم
104 - أَحْمد بن مَنْصُور بن عِيسَى ... ... ... ... ... ...
105 - أَحْمد بن مُوسَى بن الْعَبَّاس بن مُجَاهِد المقرىء أَبُو بكر
شيخ الْقُرَّاء فى وقته ومصنف السَّبْعَة
ولد سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
سمع الرمادى وسعدان بن نصر وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمى وَأَبا بكر الصغانى وَجَمَاعَة
قَرَأَ الْقُرْآن على قنبل وأبى الزَّعْرَاء بن عَبدُوس وَغَيرهمَا(3/57)
روى عَنهُ الحَدِيث أَبُو حَفْص بن شاهين وَأَبُو بكر بن شَاذان والدارقطنى وَخلق
وَكَانَ ثِقَة مَأْمُونا قَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآن خلائق
قَالَ عبد الْوَاحِد بن أَبى هَاشم سَأَلَ رجل ابْن مُجَاهِد لم لَا تخْتَار لنَفسك حرفا يحمل عَنْك قَالَ نَحن إِلَى أَن نعمل أَنْفُسنَا فى حفظ مَا مضى عَلَيْهِ أَئِمَّتنَا أحْوج منا إِلَى اخْتِيَار حرف يقْرَأ بِهِ من بَعدنَا
وَقَالَ ثَعْلَب مَا بقى فى عصرنا أعلم بِكِتَاب الله من ابْن مُجَاهِد
وَعَن عبيد الله الزهرى قَالَ انتبه أبي فَقَالَ رَأَيْت يَا بنى كَأَن من يَقُول مَاتَ مقوم وحى الله فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذا بِابْن مُجَاهِد قد مَاتَ
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الدانى فاق ابْن مُجَاهِد فى عصره سَائِر نظاره من أهل صناعته مَعَ اتساع علمه وبراعة فهمه وَصدق لهجته وَظُهُور نُسكه
توفى سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة
وَمن كَلَامه وفوائده
قَالَ من قَرَأَ لأبى عَمْرو وتمذهب للشافعى واتجر فى الْبَز وروى شعر ابْن المعتز فقد كمل ظرفه
قيل إِن ابْن مُجَاهِد قَالَ للشَّيْخ أَبى بكر الشبلى رضى الله عَنهُ أَيْن فِي الْعلم إِفْسَاد مَا ينْتَفع بِهِ
قَالَ لَهُ فَأَيْنَ قَوْله {فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} وَلَكِن أَيْن مَعَك يَا مقرىء فى الْقُرْآن الْمُحب لَا يعذب حَبِيبه
فَسكت قَالَ الشبلى قَوْله تَعَالَى {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه}(3/58)
106 - أَحْمد بن أَبى أَحْمد الطبرى الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص
إِمَام عصره وَصَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة التَّلْخِيص والمفتاح وأدب القاضى والمواقيت وَغَيرهَا فى الْفِقْه
وَله مُصَنف فى أصُول الْفِقْه وَالْكَلَام على حَدِيث يَا أَبَا عُمَيْر رَوَاهُ عَنهُ تِلْمِيذه القاضى أَبُو على الزجاجى
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا أَخذ الْفِقْه عَن أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج
وَحدث عَن أَبى خَليفَة وَمُحَمّد بن عبد الله المطين الحضرمى وَمُحَمّد بن عُثْمَان بن أَبى شيبَة ويوسف بن يَعْقُوب القاضى وَعبد الله بن نَاجِية وَغَيره
وَحَدِيثه مَوْجُود فى أدب الْقَضَاء وَغَيره من تصانيفه
أَقَامَ بطبرستان وَأخذ عَنهُ علماؤها وأظن أَبَا على الزجاجى أَخذ عَنهُ هُنَاكَ ثمَّ انْتقل بِالآخِرَة إِلَى طرسوس ليقيم على الرِّبَاط
وَالْمَشْهُور أَنه ابْن الْقَاص وَجعله أَبُو سعد بن السمعانى نَفسه الْقَاص
قَالَ وَإِنَّمَا سمى بذلك لدُخُوله ديار الديلم ووعظه بهَا وتذكيره فَسمى الْقَاص لِأَنَّهُ كَانَ يقص
قَالَ وَكَانَ من أخشع النَّاس قلبا إِذا قصّ فَمن ذَلِك مَا يحْكى أَنه كَانَ يقص على النَّاس بطرسوس فَأَدْرَكته روعة مِمَّا كَانَ يصف من جلال الله وعظمته وملكوته من خشيَة مَا كَانَ يذكر من بأسه وسطوته فَخر مغشيا عَلَيْهِ وَمَات(3/59)
وَحكى تِلْمِيذه القاضى أَبُو على الزجاجى أَن رجلا حمل ثورا من طَرِيق قَرْيَة إِلَى قَرْيَة أُخْرَى لإِنْسَان آخر فتعرض لَهُ بعض اللُّصُوص وخوفه بِالْقَتْلِ إِن لم يُسلمهُ إِلَيْهِ فَأعْطَاهُ الثور خوفًا مِنْهُ على روحه لبَقَاء مهجته فَاخْتلف عُلَمَاء الْوَقْت فى تغريم قيمَة الثور من حمله فَأوجب أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص الغرامة على حامله لِأَنَّهُ افتدى نَفسه بِمَال غَيره وَهَذَا مَا صححوه فى الْوَدِيعَة وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الحناطى لَا غَرَامَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أكره على ذَلِك فاتفق أَن أَبَا على الزجاجى الحاكى رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْمَنَام وَسَأَلَهُ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ الصَّوَاب مَا قَالَ أستاذك ابْن أَبى أَحْمد ففرح القاضى أَبُو على الزجاجى لموافقة أستاذه الصَّوَاب
قلت أَبُو جَعْفَر الحناطى هُوَ وَالِد أَبى الْحُسَيْن الحناطى الْمَشْهُور وَيُقَال إِنَّه قَرَأَ على ابْن الْقَاص وسنترجمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى آخر هَذِه الطَّبَقَة عِنْد ذكر المعروفين بكناهم
مَاتَ ابْن الْقَاص بطرسوس سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَمن الغرائب عَنهُ
قَالَ ابْن الْقَاص فى أدب الْقَضَاء فِيمَا إِذا رَجَعَ شَاهدا الأَصْل الْمَشْهُود على شَهَادَتهمَا وَقَالا مَا أشهدنا شُهُود الْفَرْع أَو سكتا وَلم يَقُولَا شَيْئا إِنَّه لَا ضَمَان عَلَيْهِمَا وَلَا على شُهُود الْفَرْع وَقَالَ قلته تخريجا
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا فى بَاب مَا لَا يجب فِيهِ الْيَمين إِن الشافعى قَالَ لَو ادّعى على رجل أَنه ارْتَدَّ وَهُوَ مُنكر لم أكشف عَن الْحَال وَقلت لَهُ اشْهَدْ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَنه برىء من كل دين خَالف الْإِسْلَام انْتهى
وَهُوَ نَص حسن يُؤْخَذ مِنْهُ مَا تعم بِهِ الْبلوى فِيمَن يدعى عَلَيْهِ بالْكفْر وَهُوَ يُنكر فَلَا يتَوَقَّف الحكم بِإِسْلَامِهِ على تَقْرِيره بِهِ وَبِذَلِك أفتى الْوَالِد رَحمَه الله وصنف فِيهِ(3/60)
مصنفا رد بِهِ على الشَّيْخ تقى الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد فى دَعْوَاهُ خِلَافه وَلم يكن الْوَالِد وقف على هَذَا النَّص فَلَمَّا وقفت أَنا عَلَيْهِ أريته لَهُ فأعجبه
وَقَالَ ابْن الْقَاص فِي الْمِفْتَاح فى زَكَاة التِّجَارَة إِنَّهَا تجب فى الْمَوْرُوث والموهوب
وَلَا يعرف من قَالَ بِهِ فى الْمَوْرُوث مُطلقًا وَلَا فى الْمَوْهُوب إِلَّا إِذا كَانَ شَرط الثَّوَاب أَو كَانَ مُطلقًا وَقُلْنَا الْمُطلقَة تقتضى الثَّوَاب وَقد تَكَلَّمت على كَلَامه من أجوبة سُؤَالَات وَردت على من حلب أرسلها الشَّيْخ شهَاب الدّين الأذرعى تتَعَلَّق بكتابى التوشيح وَغَيره وَذكرت قَول الْأُسْتَاذ أَبى مَنْصُور فِي خطْبَة شرح الْمِفْتَاح إِن هَذَا لَا يُوَافق الْمَذْهَب
تَحْلِيف الْمَقْذُوف
فى الرافعى والرَّوْضَة حِكَايَة قَوْلَيْنِ فى أَنه هَل للقاذف تَحْلِيف الْمَقْذُوف أَنه لم يزن وَأَن الْمُوَافق بِجَوَاب الْأَكْثَرين أَن لَهُ ذَلِك وَلم يفصحا بكيفية الْحلف على القَوْل بِهِ بل قَوْلهمَا إِنَّه لم يزن قد يشيرإلى الِاكْتِفَاء بِهَذِهِ الْعبارَة فى الْحلف وَلَا يكْتَفى بذلك فى الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ وَقع اسْتِطْرَادًا غير مَقْصُود وَلم يكن مقصودهما إِلَّا أصل ثُبُوت الْحلف لَا تَعْرِيف صيغته وَالْمَسْأَلَة مسطورة
قَالَ ابْن الْقَاص يحلف بِاللَّه أَنه عفيف
وَقَالَ أَبُو زيد المروزى يحلف بِاللَّه أَنه لَيْسَ بزان
قلت وَوجه قَول أبي زيد وَلَعَلَّه المستقر فى نفس الرافعى وَلذَلِك عبر بِاللَّفْظِ الذى حكيناه أَنه صُورَة جَوَابه فَإِن الْمَقْذُوف إِنَّمَا يَقُول فى جَوَاب أَنْت زَان لست(3/61)
بزان أَو نَحوه وَقد لَا يكون زَانيا وَلَا عفيفا أَلا ترى أَن من وطئ محرما مَمْلُوكَة لَهُ لَيْسَ بعفيف على الْمَذْهَب وَمن ثمَّ لَا يحد قَاذفه وَمَا هُوَ بزان للشُّبْهَة وَبِهَذَا يتَوَجَّه كَلَام ابْن الْقَاص فَإِنَّهُ يَقُول إِنَّمَا يثبت الْحَد بِوُجُود الْعِفَّة لَا بِانْتِفَاء الزِّنَا فليحلف على الْعِفَّة
وَالْخلاف بَين ابْن الْقَاص وأبى زيد حَكَاهُ شُرَيْح فى أدب الْقَضَاء وَغَيره وَمن الْعجب أَن الْقفال ذكر فى أَوَائِل أدب الْقَضَاء من شرح التَّلْخِيص كَلَام أَبى زيد مُقْتَصرا عَلَيْهِ وَلم يذكر كَلَام ابْن الْقَاص
فرع هَل يكفى فى الشَّهَادَة على الشَّهَادَة مُطلق الاسترعاء أَو لابد من استرعاء الشَّاهِد بِخُصُوصِهِ
هَذِه الْمَسْأَلَة من مخرجات أَبى الْعَبَّاس بن الْقَاص ذكر فى كتاب أدب الْقَضَاء فى بَاب ذكر الشَّهَادَة على الشَّهَادَة أَن الشافعى وَأَبا حنيفَة اخْتلفَا فِيهَا
فَقَالَ الشافعى يجوز لَهما أَن يشهدَا على شَهَادَة من سمعاه يسترعى شَاهدا وَإِن لم يسترعهما قَالَ قلته تخريجا
وَبِهَذَا جزم الرافعى فَقَالَ وَإِذا حصل الاسترعاء لم يخْتَص التَّحَمُّل بِمن استرعاه بل لزيد التَّحَمُّل وَالْأَدَاء باسترعاء عَمْرو خلافًا لأبى حنيفَة وَلم يزدْ على هَذَا الْقدر مَعَ أَن الْمَسْأَلَة كَبِيرَة خلافية وَقد بسطها الإِمَام فى النِّهَايَة فَجزم بِمَا جزم بِهِ الرافعى وَبَين وَجهه فَقَالَ
ثمَّ أجمع أَصْحَابنَا على أَن الاسترعاء فى عينه لَيْسَ شرطا بل إِذا جرى لفظ الشَّهَادَة من شَاهد الأَصْل على وَجه لَا يحْتَمل إِلَّا الشَّهَادَة فَيصير السَّامع فرعا لَهُ وَإِن لم يصدر من جِهَته أمرا وَأذن فى تحمل الشَّهَادَة إِلَى أَن قَالَ وَلَو أشهد شَاهد الأَصْل زيدا على(3/62)
شَهَادَته وَكَانَ عَمْرو بالحضرة فلعمرو أَن يتَحَمَّل الشَّهَادَة كَمَا لزيد المسترعى فَإِنَّهُ لما استرعى زيدا فقد تبين تَجْرِيد الْقَصْد فى الشَّهَادَة وَهُوَ الْمَطْلُوب فيتحملها عَنهُ وَإِن لم يتَعَلَّق الاسترعاء بِهِ فَإِن الشَّهَادَة على الشَّهَادَة لَيست استنابة من شَاهد الأَصْل وَلَا توكيلا وَإِنَّمَا الْغَرَض مِنْهُ حُصُول الشَّهَادَة فى حَقّهَا مَقْصُودَة مُجَرّدَة مرفاة عَن احْتِمَال الْكَلَام الذى قد يجريه الْإِنْسَان من غير ثَبت انْتهى
وَأَقُول اقْتصر صَاحب الْبَيَان على عزو ذَلِك إِلَى ابْن الْقَاص والمسعودى وَلَكِن جزم بِهِ أَيْضا القاضى أَبُو سعد فى الإشراف وَكَلَام طوائف من أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيّين وَغَيرهم كَالصَّرِيحِ فى اشْتِرَاط استرعاء الشَّاهِد بِخُصُوصِهِ وعَلى ذَلِك تدل عبارَة صَاحب التَّنْبِيه وَصرح القاضى شُرَيْح فى أدب الْقَضَاء بِالْخِلَافِ فِيهِ
المحمدون من أهل هَذِه الطَّبَقَة
107 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف أَبُو الْحسن الْكَاتِب
من أجل فقهائنا
قَالَ ابْن باطيش ولد سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ بالحسنية
108 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأَزْهَر بن طَلْحَة الهروى أَبُو مَنْصُور الأزهرى الهروى
اللغوى صَاحب تَهْذِيب اللُّغَة
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ(3/63)
وَسمع بهراة من الْحُسَيْن بن إِدْرِيس وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن السامى وَطَائِفَة
ثمَّ رَحل إِلَى بَغْدَاد فَسمع أَبَا الْقَاسِم البغوى وَأَبا بكر بن دَاوُد وَإِبْرَاهِيم بن عَرَفَة نفطويه وَابْن السراج وَأَبا الْفضل المنذرى وَعبد الله بن عُرْوَة وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو يَعْقُوب القراب وَأَبُو ذَر عبد بن أَحْمد وَأَبُو عُثْمَان سعيد القرشى وَالْحُسَيْن الباشانى وعَلى بن أَحْمد بن خمرويه وَغَيرهم
وَكَانَ إِمَامًا فى اللُّغَة بَصيرًا بالفقه عَارِفًا بِالْمذهبِ عالى الْإِسْنَاد ثخين الْوَرع كثير الْعِبَادَة والمراقبة شَدِيد الِانْتِصَار لألفاظ الشافعى متحريا فى دينه أدْرك ابْن دُرَيْد وَامْتنع أَن يَأْخُذ عَنهُ اللُّغَة
وَقد حمل اللُّغَة عَن الأزهرى جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبيد الهروى صَاحب الغريبين
وَمن مصنفات الأزهرى التَّهْذِيب عشرَة مجلدات وَكتاب التَّقْرِيب فى التَّفْسِير وَكتاب تَفْسِير أَلْفَاظ المزنى وَكتاب علل الْقرَاءَات وَكتاب الرّوح وَمَا ورد فِيهَا من الْكتاب وَالسّنة وَكتاب تَفْسِير الْأَسْمَاء الْحسنى وَتَفْسِير إصْلَاح الْمنطق وَتَفْسِير السَّبع الطول وَتَفْسِير ديوَان أَبى تَمام
وَأسر مرّة أسرته القرامطة فَحكى عَن نَفسه أَنه وَقع فى أسر عرب نشأوا فى الْبَادِيَة يتتبعون مساقط الْغَيْث أَيَّام النجع ويرجعون إِلَى أعداد الْمِيَاه فى محاضرهم زمن القيظ ويتكلمون بطبائعهم البدوية وَلَا يكَاد يُوجد فى منطقهم لحن أَو خطأ فَاحش(3/64)
قَالَ فَبَقيت فى أسرهم دهرا طَويلا واستفدت مِنْهُم ألفاظا جمة ثمَّ توفى فى شهر ربيع الآخر سنة سبعين وثلاثمائة(3/65)
وَمن الرِّوَايَة والفوائد عَن أَبى مَنْصُور
وَأخْبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا أَبُو على الْخلال أخبرنَا عبد الله بن عمر(3/66)
ح وَكتب إِلَى أَحْمد بن أَبى طَالب عَن ابْن عمر أخبرنَا عبد الأول بن عِيسَى(3/67)
أخبرنَا أَبُو إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد أخبرنَا على بن أَحْمد بن خميرويه حَدثنَا مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن الْأَزْهَر إملاء حَدثنَا عبيد الله بن عُرْوَة حَدثنَا مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن على بن الْحُسَيْن عَن مَرْوَان بن الحكم قَالَ شهِدت عُثْمَان وعليا فَنهى عُثْمَان عَن الْمُتْعَة وَأَن يجمع بَينهمَا فَلَمَّا رأى ذَلِك على أهل بهما فَقَالَ لبيْك بِحجَّة وَعمرَة فَقَالَ عُثْمَان ترانى أنهى النَّاس وَأَنت تَفْعَلهُ فَقَالَ لم أكن لأدع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل أحد من النَّاس
قَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ // إِسْنَاده صَحِيح //
قَالَ وَهُوَ شئ غَرِيب إِذْ فِيهِ رِوَايَة على بن الْحُسَيْن عَن مَرْوَان وَفِيه تصويب مَرْوَان اجْتِهَاد على رضى الله عَنهُ على اجْتِهَاد عُثْمَان رضى الله عَنهُ مَعَ كَون مَرْوَان عثمانيا
قيل وجد على أصل كتاب التَّهْذِيب بِخَط الأزهرى
(وَإِن عناء أَن تعلم جَاهِلا ... ويحسب جهلا أَنه مِنْك أعلم)
(مَتى يبلغ الْبُنيان يَوْمًا تَمَامه ... إِذا كنت تبنيه وَآخر يهدم)
(فَكيف بِنَاء خَلفه ألف هَادِم ... وَألف وَألف ثمَّ ألف وَأعظم)(3/68)
109 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان بن على بن عبد الله بن سِنَان أَبُو عَمْرو ابْن الزَّاهِد أَبى جَعْفَر الحيرى النيسابورى
الزَّاهِد الْمُقْرِئ الْفَقِيه الْمُحدث النحوى
أدْرك أَبَا عُثْمَان الحيرى وَسمع مِنْهُ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
سمع أَبَا بكر مُحَمَّد بن زَنْجوَيْه بن الْهَيْثَم وَأَبا عَمْرو أَحْمد بن نصر وجعفر بن أَحْمد الْحَافِظ
ورحل فَسمع من الْحسن بن سُفْيَان سنة تسع وَتِسْعين مُسْنده ومسند شَيْخه أَبى بكر بن أَبى شيبَة وَسمع من أَبى يعلى الموصلى مُسْنده وَمن عَبْدَانِ الأهوازى وزكرياء الساجى وَمُحَمّد بن جرير الطبرى وأبى الْعَبَّاس بن السراج وَابْن خُزَيْمَة وَخلق
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَأَبُو نعيم الْحَافِظ وَأَبُو سعيد مُحَمَّد بن على النقاش وَأَبُو الْعَلَاء صاعد بن مُحَمَّد الهروى وَأَبُو حَفْص بن مسرور وَعبد الغافر بن مُحَمَّد الفارسى وَأَبُو سعد الكنجروذى وَأَبُو عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد البحيرى وَأَبُو سعد وَآخَرُونَ
وَكَانَ الْمَسْجِد فرَاشه نيفا وَثَلَاثِينَ سنة ثمَّ لما عمى وَضعف نقل إِلَى بعض أَقَاربه بِالْحيرَةِ من نيسابور وَصَحب الزهاد(3/69)
قَالَ الْحَاكِم ولد لَهُ بنت وَهُوَ ابْن تسعين سنة وَتوفى وَزَوجته حُبْلَى فبلغنى أَنَّهَا قَالَت لَهُ عِنْد وَفَاته قد قربت ولادتى فَقَالَ سلميه إِلَى الله فقد جَاءُوا ببراءتى من السَّمَاء وَتشهد وَمَات فى الْوَقْت رَحمَه الله
توفى فى الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم الْحَافِظ
وَقع لنا حَدِيثه بعلو
110 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن الرّبيع بن سُلَيْمَان بن أَبى مَرْيَم أَبُو رَجَاء الأسوانى أحد فقهائنا
ذكره أَبُو سعيد بن يُونُس وَقَالَ كتب عَن على بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ فَقِيها على مَذْهَب الشافعى أديبا فصيح اللِّسَان وَله نظم وَمن نظمة قصيدة ذكر فِيهَا أَخْبَار الْعَالم وقصص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَكتاب مُخْتَصر المزنى والطب والفلسفة وَغير ذَلِك
سُئِلَ قبل مَوته كم بلغت قصيدتك قَالَ ثَلَاثِينَ ألفا وَمِائَة ألف بَيت وبقى على أَشْيَاء تحْتَاج إِلَى زِيَادَة
توفى فى ذى الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
قلت وقفت لَهُ على كتاب جمل الْأُصُول الدَّالَّة على الْفُرُوع فى الْفِقْه فى مجلدين لطيفين وقف دَار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق ويعنى بالأصول نُصُوص الشافعى فِيمَا أَحسب ذكر أَنه اخْتَصَرَهُ من كتب الشَّافِعِي وَقد أَجَاد فِيهِ تَلْخِيص النُّصُوص وَرُبمَا اعْترض أَو نظر كَقَوْلِه فى بَاب الْوَصِيَّة مِنْهُ وَإِن أوصى لَهُ بجمل أَو بعير لم يُعْط نَاقَة وَفِيه نظر انْتهى(3/70)
فَإِن أَرَادَ التنظير بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعِير فقد قَالَه الْأَصْحَاب واستشكلوا النَّص على أَن الْبَعِير لَا يتَنَاوَل النَّاقة وصححوا أَنه يتَنَاوَلهُ وَإِن أَرَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجمل أَيْضا كَمَا هُوَ ظَاهر إِطْلَاقه فَغَرِيب فالمعروف عِنْد الْأَصْحَاب مَا هُوَ الْمَنْصُوص من أَن الْجمل لَا يتَنَاوَل النَّاقة وَبِالْعَكْسِ
وَقَالَ فى هَذَا الْبَاب أَيْضا وَإِن أوصى بِثُلثِهِ للغازى فى سَبِيل الله أَو للْمَسَاكِين فهم الَّذين من الْبَلَد الَّذِي فِيهِ مَاله انْتهى
وَهَذَا وَجه وَالصَّحِيح جَوَاز النَّقْل وَالصرْف إِلَى من فى بلد أُخْرَى وَقد نبهنا قَوْله الْبَلَد الذى فِيهِ مَاله على أَنه لَو كَانَ فى بلد وَمَاله فى آخر كَانَت الْعبْرَة عِنْد من لَا يرى النَّقْل بِبَلَد مَاله لَا بَلَده وهى مَسْأَلَة
111 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الفاشانى
من قَرْيَة فاشان إِحْدَى قرى مرو بفاء مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة ثمَّ ألف ثمَّ نون
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْجَلِيل شيخ الْإِسْلَام أَبُو زيد المروزى الْمُنْقَطع القرين فَلَيْسَ من يساجله والمنقطع القرين يتْركهُ مصفرا أنامله والمنقطع إِلَى رب الْعَالمين فَلَا يعامر سواهُ وَلَا يعامله فَرد الْأمة فى عصره وَوَاحِد الزَّمَان بِاتِّفَاق أهل مصره وَغير مصره أَبُو زيد فى الْعلم وَعَمْرو وَبكر وخَالِد وَشَيخ كل صادر من المريدين ووارد أحد الْأَفْرَاد علما وورعا وَوَاحِد الْآحَاد إفرادا وجمعا
مولده سنة إِحْدَى وثلاثمائة
حدث عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الفربرى وَعمر بن علك المروزى وَمُحَمّد بن عبد الله السعدى وأبى الْعَبَّاس الدغولى وَأحمد بن مُحَمَّد المنكدرى وَغَيرهم(3/71)
روى عَنهُ الْهَيْثَم بن أَحْمد الصّباغ وَعبد الْوَاحِد بن مشماس وَعبد الْوَهَّاب الميدانى وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى وَغَيرهم من النيسابوريين
وَأَبُو الْحسن الدارقطنى كَذَا قَالَ الذهبى مَعَ تقدمه وَلم يتَقَدَّم لَا مولدا وَلَا وَفَاة نعم هُوَ أَكثر الروَاة عَنهُ وَأَبُو بكر البرقانى وَمُحَمّد بن أَحْمد المحاملى وَغَيرهم من البغداديين
والفقيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْأصيلِيّ وَآخَرُونَ
وَكَانَ مِمَّن أجمع النَّاس على زهده وورعه وَكَثْرَة علمه وجلالته فى الْعلم وَالدّين قَالَ الْحَاكِم كَانَ أحد أَئِمَّة الْمُسلمين وَمن أحفظ النَّاس لمَذْهَب الشافعى وَأَحْسَنهمْ نظرا وأزهدهم فى الدُّنْيَا سَمِعت أَبَا بكر الْبَزَّار يَقُول عادلت الْفَقِيه أَبَا زيد من نيسابور إِلَى مَكَّة فَمَا أعلم أَن الْمَلَائِكَة كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد أَئِمَّة الْمُسلمين حَافِظًا لمَذْهَب الشافعى حسن النّظر مَشْهُورا بالزهد والورع
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب حسن النّظر مَشْهُورا بالزهد وَحدث بالجامع الصَّحِيح للبخارى
قَالَ الْحَاكِم وهى من أجل الرِّوَايَات لجلالة أَبى زيد
وَقَالَ الْخَطِيب أَبُو زيد أجل من روى ذَلِك الْكتاب
قلت وَعَجِبت من إغفال الْحَاكِم سَماع صَحِيح البخارى مِنْهُ إِن كَانَ أغفله ثمَّ عجبت من إغفال النَّاس أَخذه عَن الْحَاكِم إِن كَانَ لم يغفله
وَقد جاور أَبُو زيد بِمَكَّة على علو السن مُدَّة حَتَّى كَاد يعرفهُ ركن الْحطيم ويألفه مقَام إِبْرَاهِيم ويشكر سَعْيه الصَّفَا وَيذكر محامده إخْوَان الصَّفَا ينشر الْعلم ويشيعه(3/72)
ويطوى اللَّيْل وَلَا يضيعه حَتَّى تضوع مِنْهُ مسكا بطن نعْمَان وترفع بحلوله قدرا مَا هُنَالك من الْأَركان
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد الْفَقِيه يَقُول سَمِعت أَبَا زيد المروزى يَقُول لما عزمت على الرُّجُوع إِلَى خُرَاسَان من مَكَّة تقسم قلبى بذلك وَكنت أَقُول مَتى يمكننى هَذَا والمسافة بعيدَة وَالْمَشَقَّة لَا أحتملها وَقد طعنت فى السن فَرَأَيْت فى الْمَنَام كَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد فى صحن الْمَسْجِد الْحَرَام وَعَن يَمِينه شَاب فَقلت يَا رَسُول الله قد عزمت على الرُّجُوع إِلَى خُرَاسَان والمسافة بعيدَة فَالْتَفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الشَّاب وَقَالَ (يَا روح الله آصحبه إِلَى وَطنه)
وَقَالَ أَبُو زيد فَأريت أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَانْصَرَفت إِلَى مرو وَلم أحس بشئ من مشقة السّفر هَذَا أَو نَحوه فإنى لم أراجع الْمَكْتُوب عندى من لفظ أَبى الْحسن انْتهى كَلَام الْحَاكِم
وَفِيه كَمَا أرى أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد وَحَكَاهُ كَذَلِك عَن الْحَاكِم الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فى كتاب تَبْيِين كذب المفترى وَابْن الصّلاح فى الطَّبَقَات وَأَبُو الْحسن تقدم فى الأحمدين وَتَقَدَّمت عَنهُ هَذِه الْحِكَايَة وَتقدم قَول الْحَاكِم أخبرنى الثِّقَة أَنه أَحْمد بن مُحَمَّد فَلَا تتوهمن أَنه اثْنَان وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِد فى اسْمه اخْتِلَاف وَذكر الْحَاكِم تَرْجَمته فى موضِعين فليضبط ذَلِك(3/73)
وَمِمَّا يذكر من ورع الشَّيْخ أَبى زيد قَالَ القاضى الْحُسَيْن فى التعليقة قَالَ الشَّيْخ الْقفال سَأَلت الشَّيْخ أَبَا زيد لم جوز الشافعى صَلَاة النَّفْل فى السّفر رَاكِبًا وماشيا غير مُسْتَقْبل
فَقَالَ إِن للنَّاس أورادا كَثِيرَة وَرُبمَا يحْتَاج الْمَرْء إِلَى الْخُرُوج إِلَى السّفر فى معاشه ومكاسبه فَلَو قُلْنَا إِنَّه لَا تجوز لَهُ النَّافِلَة فى السّفر لَأَدَّى ذَلِك إِلَى أَن يشْتَغل بالأوراد وَيَنْقَطِع عَن معايشه
وَقَالَ أَيْضا سَأَلت أَبَا عبد الله الخضرى عَن هَذَا فَقَالَ رُبمَا كَانَ للْإنْسَان أوراد كَثِيرَة وَخرج إِلَى السّفر فى بعض حَوَائِجه لأمر معاشه فَلَو قُلْنَا لَا تجوز لَهُ النَّافِلَة فى السّفر لَأَدَّى ذَلِك إِلَى تَركه الأوراد واشتغاله بمعاشه
قَالَ الْقفال انْظُرُوا إِلَى فضل مَا بَينهمَا فَإِن أَبَا زيد كَانَ رجلا زاهدا فَقدم أَمر الدّين على الدُّنْيَا فى الْجَواب وَكَانَ الخضرى مَشْغُولًا بالدنيا وَصلَاته كَصَلَاة الْفُقَهَاء فَقدم أَمر الدُّنْيَا
قلت ثمَّ مَا كَانَ ورع الشَّيْخ أَبى زيد بِحَيْثُ يُخرجهُ إِلَى الْحَد الذى ينتهى إِلَيْهِ أهل الوسوسة من عوام المتورعين الَّذين إِذا أعْطوا يَسِيرا من الدّيانَة مَعَ الْجَهْل تنطعوا فى الجزئيات يدل على ذَلِك أَن أَصْحَابنَا يَقُولُونَ فِيمَا إِذا تنجس الْخُف بخرزه بِشعر الْخِنْزِير ثمَّ غسل سبعا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ أَنه يطهر ظَاهره دون بَاطِنه وَهُوَ مَوضِع الدروز
وَقَالَ الرافعى فى أَوَاخِر بَاب الْأَطْعِمَة وَيُقَال إِن الشَّيْخ أَبَا زيد كَانَ يصلى مَعَ الْخُف النَّوَافِل دون الْفَرَائِض فَرَاجعه الْقفال فِيهِ فَقَالَ إِن الْأَمر إِذا ضَاقَ اتَّسع(3/74)
قَالَ الرافعى أَشَارَ بِهِ إِلَى كَثْرَة النَّوَافِل
قَالَ النووى بل الظَّاهِر أَنه أَشَارَ إِلَى أَن هَذَا الْقدر مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى ويتعذر أَو يشق الِاحْتِرَاز مِنْهُ فعفى عَنهُ مُطلقًا وَإِنَّمَا كَانَ لَا يصلى فِيهِ الْفَرِيضَة احْتِيَاطًا لَهَا وَإِلَّا فَمُقْتَضى قَوْله الْعَفو فيهمَا وَلَا فرق بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فى اجْتِنَاب النَّجَاسَة وَيدل على صِحَة مَا تأولته أَن الْقفال قَالَ سَأَلت أَبَا زيد عَن جَوَاز الصَّلَاة فى الْخُف يخرز بِشعر الْخِنْزِير فَقَالَ الْأَمر إِذا ضَاقَ اتَّسع
قَالَ الْقفال مُرَاده أَن بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى الخرز بِهِ فللضرورة جَوَّزنَا ذَلِك
قلت لم يَتَّضِح لى مُخَالفَة كَلَام النووى للرافعى بل قَول الرافعى إِن أَبَا زيد أَشَارَ بِهِ إِلَى كَثْرَة النَّوَافِل مَعْنَاهُ مَا ذكره النووى من أَن كثرتها اقْتَضَت أَلا يحْتَاط لَهَا كَمَا يحْتَاط للفريضة من أجل الْمَشَقَّة
وَذكر ابْن الرّفْعَة فى بَاب مسح الْخُف أَن أَبَا زيد فى كَلَامه هَذَا مُتبع للشافعى
قَالَ فَإِن الخطابى حَكَاهُ عَنهُ عِنْد الْكَلَام فى الذُّبَاب يَقع فى المَاء الْقَلِيل أَن مبْنى الشَّرِيعَة على أَن الْأَمر إِذا ضَاقَ اتَّسع
قَالَ ابْن الرّفْعَة على أَنه يُمكن أَن يُعلل ذَلِك بِأَن الدَّاخِل من مَوَاضِع الخرز قد انسد بالخيط فَصَارَ فى حكم الْبُطُون والنجاسة فى الْبَاطِن لَا تمنع الصِّحَّة بِدَلِيل أَن ظَاهر نَص الشافعى صِحَة الصَّلَاة فى جلد الْميتَة المدبوغ وَإِن قُلْنَا الدّباغ لَا يطهر بَاطِنه وَنَصه على أَنه لَو سقى سَيْفه شَيْئا نجسا طهر بإفاضة المَاء على ظَاهره ولأجله وَالله أعلم قَالَ بعض أَصْحَابنَا إِذا حمل قَارُورَة فِيهَا نَجَاسَة بعد تصميم رَأسهَا فى صلَاته تصح انْتهى
قلت وَحَاصِله محاولة أَنه مَعْفُو عَنهُ وَأَنه صَار بَاطِنا لَا يعْطى حكم النَّجَاسَة
وَقد يُقَال لَو كَانَ كَذَلِك لصلى فِيهِ الْفَرْض وَالنَّفْل جَمِيعًا
وَيُجَاب بِأَن القَوْل بِأَنَّهُ لَا تمْتَنع الصِّحَّة لَيْسَ قَطْعِيا بل هُوَ مظنون فاحتيط فِيهِ للْفَرض مَا لم يحتط للنفل(3/75)
توفى الشَّيْخ أَبُو زيد بمرو فى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة
ذكر نخب وفوائد ومسائل عَن الشَّيْخ أَبى زيد
نقل الشَّيْخ أَبُو على قبيل كتاب الصَّلَاة من شرح الْفُرُوع أَن بعض أَصْحَابنَا قَالَ إِن الطّواف وَإِن كَانَ نفلا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ ثمَّ ذكر مَا حَاصله أَن الشَّيْخ أَبَا زيد مُوَافق على ذَلِك وَهَذَا غَرِيب
ذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ فى آخر النِّهَايَة فى الْفُرُوع المنثورة أَن الحليمى كتب إِلَى الشَّيْخ أَبى زيد يستفتيه فِيمَن اشْترى جَارِيَة فَأَتَت بِولد فَادّعى أَنَّهَا وَلدته بعد الشِّرَاء وَقَالَ البَائِع بل قبله
فَأَجَابَهُ أَبُو زيد بِأَن القَوْل قَول البَائِع لِأَن الأَصْل ثُبُوت ملكه فى الْحمل وَالْأَصْل عدم البيع فى وَقت الْولادَة
قَالَ الإِمَام هَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو على وَلم يزدْ عَلَيْهِ
قَالَ وَكَذَا حَكَاهُ الإِمَام وَلم يزدْ عَلَيْهِ وَلم أر من تكلم عَلَيْهِ وَفِيه نظر
وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يكون الْحمل مَوْجُودا عِنْد البَائِع ثمَّ يُوجد الْوَلَد عِنْد الْمُشْتَرى ويشك أَكَانَت وِلَادَته قبل البيع أَو بعده والذى ينبغى أَن يُقَال إِنَّه إِن كَانَ فى يَد الْمُشْتَرى فَهُوَ لَهُ وَلَا يرفع يَده بِمُجَرَّد وجود الْحمل فى يَد البَائِع وَيشْهد لهَذَا قَول الْأَصْحَاب فى بَاب الْكِتَابَة فِيمَن زوج أمته من عَبده ثمَّ كَاتب العَبْد ثمَّ بَاعَ مِنْهُ زَوجته وَأَتَتْ بِولد فَقَالَ السَّيِّد ولدت قبل الْكِتَابَة فَهُوَ لى وَقَالَ الْمكَاتب بل بعد الْكِتَابَة وَالشِّرَاء وَقد يُكَاتب على أَن الْمكَاتب يصدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ يدعى ملك الْوَلَد وَيَده مقرة عَلَيْهِ وَالْيَد تدل على الْملك(3/76)
فَائِدَة أُخْرَى
نقل صَاحب الْبَيَان فى بَاب سترالعورة فى فَاقِد الستْرَة إِذا صلى عُريَانا أَن الشَّيْخ أَبَا زيد قَالَ إِن كَانَ فى الْحَضَر ففى الْإِعَادَة قَولَانِ وَإِن كَانَ فى السّفر لم تلْزمهُ الْإِعَادَة قولا وَاحِدًا
وَقَالَ سَائِر أَصْحَابنَا لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة قولا وَاحِدًا فى سفر وَلَا فى حضر لِأَن العرى عذر عَام وَرُبمَا اتَّصل ودام وَقد يعْدم ذَلِك فى الْحَضَر كَمَا يعدمه فى السّفر فَلَو ألزمناه الْإِعَادَة لشق ذَلِك هَذَا كَلَام الْبَيَان
وَالْقَوْل بالتفرقة فى لُزُوم الْإِعَادَة بَين الْحَضَر وَالسّفر شهير حَكَاهُ أَيْضا ابْن يُونُس فى شرح التَّنْبِيه وَلم يذكرهُ الرافعى وَإِنَّمَا أطلق فى آخر بَاب التَّيَمُّم حِكَايَة وَجْهَيْن أظهرهمَا عدم لُزُوم الْإِعَادَة وَالْمَسْأَلَة عِنْده تبعا للْإِمَام والغزالى فى بَاب التَّيَمُّم فى فصل الْقَضَاء وَعند صَاحب الْمُهَذّب وَأَتْبَاعه فى ستر الْعَوْرَة وَلَعَلَّه أنسب ثمَّ اخْتِلَاف الِاصْطِلَاح فى وَضعهَا رُبمَا طرق بعض التَّقْصِير فى شرحها لمن يقْتَصر نظره على أحد المكانين
112 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحُسَيْن الملطى الْفَقِيه الْمُقْرِئ
حدث عَن عدى بن عبد الباقى وخيثمة بن سُلَيْمَان وَأحمد بن مَسْعُود الْوزان وَجَمَاعَة
روى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن رَجَاء وَعمر بن أَحْمد الواسطى وَغَيرهمَا
وَأخذ الْقِرَاءَة عرضا عَن أَبى بكر بن مُجَاهِد وأبى بكر بن الأنبارى وَجَمَاعَة
وَله قصيدة فى نعت الْقِرَاءَة أَولهَا
(أَقُول لأهل الْكتب وَالْفضل وَالْحجر ... مقَال مُرِيد للثَّواب وللأجر)(3/77)
مَاتَ سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا عبد الْحَافِظ بن بدارن أخبرنَا أَحْمد ابْن طَاوُوس أخبرنَا حَمْزَة بن أَحْمد السلمى أخبرنَا نصر بن إِبْرَاهِيم الْفَقِيه أخبرنَا عمر بن أَحْمد الْخَطِيب أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن الملطى حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس الإِمَام بحلب حَدثنَا سهل بن صَالح الأنطاكى حَدثنَا عَبدة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهِنْد (خذى من مَاله مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ) وَكَانَت قَالَت لَهُ يَا رَسُول الله إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح وَإنَّهُ لَا يعطينى مَا يكفينى ويكفى بنى فآخذ من مَاله وَهُوَ لَا يعلم فَهَل على مِنْهُ شئ
113 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن على بن شاهويه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/78)
114 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الإِمَام الْجَلِيل أَبُو بكر بن الْحداد المصرى
صَاحب الْفُرُوع وساحب ذيل الْفضل الذى هُوَ على الرؤوس مَحْمُول وعَلى الْعُيُون مَوْضُوع ذُو الفكرة المستقيمة والفطرة السليمة فكره فى محتجبات الْمعَانى سَارِيَة وفى سَمَاء المعالى سامية وقريحه عَجِيبَة الْحَال مَا أَدْرَاك مَاهِيَّة نَار حامية إِمَام لَا يدْرك مَحَله وجواد لَا يجاريه إِلَّا ظله سَارَتْ مولداته فى المغارب والمشارق وطرق فكره الأسماع وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق وناطق قَالَ فَكَانَ لَهُ من القَوْل بسيطه ووجيزه ومصرى صَحَّ على نقد الأذهان إبريزه ووضح حليه فعوذ من شَرّ الوسواس الخناس واصطفت الْأَئِمَّة مَعَه فَقَالَ لِسَان الْحق مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ
(يقف التَّوَهُّم عَنهُ حِدة ذهنه ... فَقضى على غيب الْأُمُور تَيَقنا)
(أمضى إِرَادَته فَسَوف لَهُ قد ... واستقرب الْأَقْصَى فتم لَهُ هُنَا)
ولد يَوْم موت المزنى
وَأخذ الْفِقْه عَن أَبى سعيد مُحَمَّد بن عقيل الفريابى وَبشر بن نصر غُلَام عرق وَمَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الضَّرِير
وجالس أَبَا إِسْحَاق المروزى لما ورد مصر
وَدخل بَغْدَاد سنة عشر وثلاثمائة فَاجْتمع بجرير وَأخذ عَنهُ وَاجْتمعَ أَيْضا بالصيرفى وبالإصطخرى وَلم يتهيأ لَهُ الِاجْتِمَاع بأبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فَكَانَ يتأسف وَيَقُول وددت أَنى رَأَيْت ابْن سُرَيج وأنى أحم فى كل لَيْلَة إِلَى أَن أَمُوت(3/79)
وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن مُحَمَّد بن ولاد
وَسمع الحَدِيث من جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن عقيل الفريابى الْفَقِيه وَأَبُو يزِيد القراطيسى وَعمر بن مِقْلَاص والنسائى وَغَيرهم وَلكنه لم يحدث عَن غير النسائى
قَالَ الدارقطنى كَانَ ابْن الْحداد كثير الحَدِيث وَلم يحدث عَن غير أَبى عبد الرَّحْمَن النسائى وَقَالَ جعلته حجَّة فِيمَا بينى وَبَين الله تَعَالَى
وَكَانَ كثير التَّعَبُّد يخْتم كل يَوْم وَلَيْلَة ويصوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيخْتم يَوْم الْجُمُعَة ختمة أُخْرَى فى رَكْعَتَيْنِ فى الْجَامِع قبل الصَّلَاة سوى الَّتِى يختمها كل يَوْم
وَكَانَ عَارِفًا بِالْحَدِيثِ والأسماء والكنى والنحو واللغة وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَأَيَّام النَّاس وسير الْجَاهِلِيَّة حَافظ لشئ كثير من الشّعْر
وَكَانَ حسن الثِّيَاب رفيعها حسن المركوب
وَولى الْقَضَاء بِمصْر نِيَابَة لِابْنِ هروان الرملى وَلغيره أَيْضا
وَكَانَ نَسِيج وَحده فى حفظ الْقُرْآن إِمَام عصره فى الْفِقْه بحرا وَاسِعًا فى اللُّغَة تجمل بِهِ وجوده يجلس فى خلْوَة للشغل بِالْعلمِ فيغشى حلقته الجم الْغَفِير الَّذين يفوتون الْحصْر وَله كلمة نَافِذَة عِنْد الْمُلُوك وجاه رفيع
وَأما غوصه على الْمعَانى الدقيقة وَحسن استخراجه للفروع المولدة فقد أجمع النَّاس على أَنه فَرد فى ذَلِك وَلم يلْحقهُ أحد فِيهِ
وَله كتاب الباهر فى الْفِقْه قيل إِنَّه فى مائَة جُزْء وَكتاب أدب الْقَضَاء فى أَرْبَعِينَ جُزْءا وَكتاب جَامع الْفِقْه وَكتاب الْفُرُوع المولدات الْمُخْتَصر الْمَشْهُور الذى شَرحه عُظَمَاء الْأَصْحَاب مِنْهُم الْقفال وَالشَّيْخ أَبُو على السنجى والقاضى أَبُو الطّيب الطبرى والقاضى الْحُسَيْن المروزى وَغَيرهم
قَالَ الرافعى فى كتاب الْعدَد من الشَّرْح وَنقل القاضى الرويانى فى جمع الْجَوَامِع أَن الإِمَام أَبَا بكر بن الْحداد كَانَ فقيد الخصية الْيُمْنَى وَكَانَ لَا ينزل وَكَانَت لحيته طَوِيلَة(3/80)
وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت الدارقطنى يَقُول سَمِعت أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد الْمعدل النسوى الْمعدل بِمصْر يَقُول سَمِعت أَبَا بكر بن الْحداد وَذكره بِالْفَضْلِ وَالدّين وَالِاجْتِهَاد يَقُول أحدث نفسى بِمَا رَوَاهُ الرّبيع عَن الشافعى أَنه كَانَ يخْتم فى رَمَضَان سِتِّينَ ختمة سوى مَا كَانَ يقْرَأ فى الصَّلَاة فَأكْثر مَا قدرت عَلَيْهِ تسعا وَخمسين ختمة وأتيت فى غير رَمَضَان بِثَلَاثِينَ ختمة
قلت وفى ابْن الْحداد يَقُول بَعضهم
(الشافعى تفقها والأصمعى ... م تفننا والتابعون تزهدا)
وَقَالَ ابْن زولاق فى شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة سلم مُحَمَّد بن طغج الإخشيد قَضَاء مصر إِلَى أَبى بكر بن الْحداد وَكَانَ أَيْضا ينظر فى الْمَظَالِم ويوقع فِيهَا فَنظر فى الحكم خلَافَة عَن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أبي زرْعَة مُحَمَّد بن عُثْمَان الدمشقى وَهُوَ لَا ينظر وَكَانَ يجلس فى الْجَامِع وفى دَاره وَرُبمَا جلس فى دَار ابْن أَبى زرْعَة وَوَقع فى الْأَحْكَام وَكَاتب خلفاء النواحي
وَكَانَ فَقِيها متعبدا يحسن علوما كَثِيرَة مِنْهَا علم الْقُرْآن وَقَول الشافعى وَعلم الحَدِيث والأسماء والكنى وسير الْجَاهِلِيَّة وَالشعر وَالنّسب ويحفظ شعرًا كثيرا ويجيد الشّعْر
وَيخْتم كل يَوْم وَلَيْلَة فى صَلَاة ويصوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيخْتم يَوْم الْجُمُعَة ختمة أُخْرَى فى رَكْعَتَيْنِ فى الْجَامِع قبل صَلَاة الْجُمُعَة سوى الَّتِى يختمها كل يَوْم
حسن الثِّيَاب رفيعها حسن المركوب فصيحا غير مطعون عَلَيْهِ فى لفظ وَلَا فضل ثِقَة فى الْيَد والفرج وَاللِّسَان مجموعا على صيانته وطهارته
كَانَ من محَاسِن مصر حاذقا بِعلم الْقَضَاء أَخذ ذَلِك عَن أَبى عبيد القاضى
إِلَى أَن قَالَ وكل من وقف على مَا ذَكرْنَاهُ يَقُول صدقت(3/81)
ثمَّ قَالَ وَكَانَ من محبته للْحَدِيث لَا يدع المذاكرة وَكَانَ يَنْقَطِع إِلَيْهِ أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد ابْن سعد الباوردى الْحَافِظ فَأكْثر عَنهُ من مصنفاته فذاكره يَوْمًا بِأَحَادِيث فاستحسنها أَبُو بكر وَقَالَ اُكْتُبْهَا لى فكتبها لَهُ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا مَنْصُور اجْلِسْ فى الصّفة فَفعل فَقَامَ أَبُو بكر وَجلسَ بَين يَدَيْهِ وسمعها مِنْهُ وَقَالَ هَكَذَا يُؤْخَذ الْعلم فَاسْتحْسن النَّاس ذَلِك مِنْهُ
وَكَانَت أَلْفَاظه تتبع وَأَحْكَامه تجمع ورميت لَهُ رقْعَة فِيهَا
(قولا لحدادنا الْفَقِيه ... والعالم الماهر الْوَجِيه)
(وليت حكما بِغَيْر عقد ... وَغير عهد نظرت فِيهِ)
(ثمَّ أبحت الْفروج لما ... وَقعت فِيهَا على البديه)
فى أَبْيَات يعْنى أَن مَادَّة ولَايَته من الإخشيد لَا من الْخَلِيفَة
وَقد أجَاب عَن هَذِه الأبيات جمَاعَة
ثمَّ قَالَ وَلم يزل ابْن الْحداد يخلف ابْن أَبى زرْعَة فى الْقَضَاء إِلَى آخر أَيَّامه وَكَانَ ابْن أَبى زرْعَة يتأدب مَعَه ويعظمه وَلَا يُخَالِفهُ فى شىء
قلت وماأحسن قَول ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب فى حق ابْن الْحداد بعد مَا نَصره فى فَرعه الْمَشْهُور بِأَنَّهُ وهم فِيهِ وَهُوَ مَا إِذا أوصى بِعَبْد لِرجلَيْنِ يعْتق على أَحدهمَا الْقَصْد دفع نِسْبَة هَذَا الإِمَام الْجَلِيل عَن الْغَلَط إِلَى أَن قَالَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الإِمَام فى حق الحليمى إِمَام غواص لَا يدْرك كنه علمه الغواصون والبلدية عِلّة جَامِعَة للنصرة فَإِنَّهُ مصرى انْتهى
وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْل الرافعى فى كتاب الطَّلَاق إِن ابْن الْحداد فَوق مَا قَالَ إِلَّا أَن الْعجب أَخذ بِرجلِهِ فزل(3/82)
حج ابْن الْحداد وَمرض فَلَمَّا وصل إِلَى الْجب توفى عِنْد الْبِئْر والجميزة يَوْم الثُّلَاثَاء لأَرْبَع بَقينَ من الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَقيل سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَهُوَ يَوْم دُخُول الْحَاج إِلَى مصر وعاش تسعا وَسبعين سنة وشهورا ثَمَانِينَ سنة إِلَّا قَلِيلا وَصلى عَلَيْهِ يَوْم الْأَرْبَعَاء وَدفن بسفح المقطم عِنْد قبر والدته وَحضر أَبُو الْقَاسِم الإخشيد وَأَبُو الْمسك كافور والأعيان جنَازَته
وَمن الْفَوَائِد وَالْملح والمسائل عَن أَبى بكر
كَادَت الْمُلَاعنَة بَين زَوْجَيْنِ تقع فى زَمَانه وَذَلِكَ أَنه تقدم إِلَيْهِ رجل أنماطى فَجحد بِنْتا من مولاة لَهُ كَانَ قد أعْتقهَا وَتَزَوجهَا فشرع أَبُو بكر فى اللّعان وتهيا لَهُ وعزم على المضى إِلَى الْجَامِع الْعَتِيق بِمصْر بعد الْعَصْر وَأَن يجلس على الْمِنْبَر وَيُقِيم الرجل وَالْمَرْأَة
وَعين وَاحِدًا من جُلَسَائِهِ لِأَن يضْرب على فَم الرجل بعد فَرَاغه من الشَّهَادَة الرَّابِعَة ويخوفه من قَول الْخَامِسَة وَيَقُول إِنَّهَا مُوجبَة
وَعين امْرَأَة تضرب على فَم الْمَرْأَة أَيْضا عِنْد فراغها من الشَّهَادَة الرَّابِعَة وَتقول لَهَا مثل مَا قيل للرجل
وتبادر النَّاس وازدحموا على الِاجْتِمَاع وَحَضَرت الشُّهُود فحسده أَبُو الذّكر المالكى الذى كَانَ حَاكما بِمصْر قبله على شرف هَذَا الْمجْلس وترفق بِالرجلِ حَتَّى اعْترف بالبنت وَسَأَلَ الزَّوْجَة إعفاءه من الْحَد
فَمَا علم أَبُو بكر بِفِعْلِهِ وَأَبُو بكر من أذكى الْخلق قريحة أَمر بِأَن تحمل الْبِنْت على كتف أَبِيهَا وَأَن يُطَاف بِهِ فى الْبَلَد وينادى عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي جحد ابْنَته فَاعْرِفُوهُ
وَهَذَا التَّعْزِير على هَذَا الْوَجْه من ذكائه وَقد عمله فى مُقَابلَة مَا عمل عَلَيْهِ فى المكيدة(3/83)
ولأبى بكر فى هَذَا أُسْوَة بمعلمه الْقَضَاء وَهُوَ أَبُو عبيد بن حربوية فَإِنَّهُ كَانَ يرى أَن الطِّفْل إِذا أسلمت أمه دون أَبِيه لَا يتبعهَا فِي الْإِسْلَام وَإِنَّمَا يتبع الْأَب وَهُوَ رأى شَيْخه أَبى ثَوْر فَأسْلمت امْرَأَة ذِمِّيَّة وَلها ولد طِفْل وَلم يسلم الْأَب وَمَات فَدس على أَبى عبيد من يسْأَله الحكم بِبَقَاء كفر الطِّفْل تبعا لِأَبِيهِ فتفطن إِلَى أَنه إِن فعل ذَلِك قَامَت عَلَيْهِ الغوغاء ونصحه أَبُو بكر ابْن الْحداد نَفسه وَقَالَ لَهُ لَا تعْمل بِهَذَا وَإِيَّاك وَالْخُرُوج فِيهِ عَن مَذْهَب الشافعى فَإنَّك إِن فعلت ذَلِك نالك الْأَذَى من الْخَاصَّة والعامة وَعلم أَنه إِن لم يفعل خرج عَن معتقده
فَلَمَّا جلس أَبُو عبيد فى الْجَامِع اجْتمع الْخلق بِهَذَا السَّبَب الْمبيت عَلَيْهِ بلَيْل وَقَامَ رجل على سَبِيل الاحتساب وَقَالَ أيد الله القاضى هَذِه الْمَرْأَة أسلمت وَلها هَذَا الطِّفْل فَيكون مُسلما أَو على دين أَبِيه فَقَالَ أَيْن أَبوهُ وَقد كَانَ علم أَنه مَاتَ فَقَالُوا مَاتَ فَقَالَ شَاهِدين يَشْهَدَانِ أَنه مَاتَ نَصْرَانِيّا وَإِلَّا فالطفل مُسلم
فَكثر الدُّعَاء لَهُ والضجيج من الْعَامَّة وَستر علمه بفهمه
ذكر أَبُو عَاصِم العبادى أَن ابْن الْحداد ذكر فى فروعه أَن الذمى إِذا زنا وَهُوَ مُحصن ثمَّ نقض الْعَهْد وَلحق بدار الْحَرْب ثمَّ اسْترق أَنه يرْجم
قلت وَلم أجد هَذَا فى شىء من نسخ الْفُرُوع الَّتِى وقفت عَلَيْهَا بل وجدته فى شرحها للشَّيْخ أَبى على السنجى وَعبارَته ينبغى أَن يرْجم والواقف عَلَيْهِ لَا يكَاد يشك فى أَنه من كَلَام أَبى على لَا من كَلَام ابْن الْحداد
قَالَ ابْن الْحداد فى فروعه وَلَو أَن وَصِيّا على يَتِيم ولى الحكم فَشهد عَدْلَانِ بِمَال لأبى الطِّفْل على رجل وَهُوَ مُنكر لم يكن لَهُ أَن يحكم حَتَّى يصير إِلَى الإِمَام أَو الْأَمِير فيدعى على الْمَشْهُود عَلَيْهِ
هَذَا لَفظه وَعلله شارحوه بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون خصما ومدعيا للصبى وَهُوَ الْحَاكِم(3/84)
وَمن كَانَ خصما فى حُكُومَة لم يجز أَن يكون حَاكما فِيهَا كَمَا لَا يجوز أَن يحكم على غَيره لنَفسِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَو شهد للصبى الذى هُوَ قيمه بِمَال لم يقبل وَمن لايجوز شَهَادَته لشخص لم يجز حكمه لَهُ
قَالَ الْقفال فى شرح الْفُرُوع وَاخْتلف أَصْحَابنَا فى هَذِه الْمَسْأَلَة فَمنهمْ من وَافقه وَمِنْهُم من خَالفه لِأَن القاضى يلى أَمر الْأَيْتَام كلهم وَإِن يكن وَصِيّا من قبل فَلَا تُهْمَة هَذَا ملخص كَلَامه فى شَرحه
والرافعى صحّح أَن لَهُ الحكم وَعَزاهُ إِلَى الْقفال وَتبع فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبَا على فَإِنَّهُ ذكر فى شرح الْفُرُوع أَنه سَمعه من الْقفال
وَاعْلَم أَن مَا صَححهُ الرافعى غير بَين وَلَا جُمْهُور أَئِمَّتنَا عَلَيْهِ بل الْبَين الذى يظْهر تَرْجِيحه قَول ابْن الْحداد وَقد ذكر ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب أَنه الصَّوَاب
قَالَ وَالْفرق بَينه وَبَين غَيره من الْأَيْتَام أَن ولَايَة القاضى إِذا لم يكن وَصِيّا تَنْقَطِع عَن المَال الذى حكم بِهِ بِانْقِطَاع ولَايَته وَلَا كَذَلِك الوصى إِذا تولى الْقَضَاء فَإِن مَا حكم فِيهِ للْيَتِيم الَّذِي تَحت وَصيته يبْقى ولَايَته بعد الْعَزْل فَقَوِيت التُّهْمَة فى حَقه وضعفت فى حق غَيره
قلت وَهَذَا فرق صَحِيح وَلَا شكّ أَن الْحَاكِم الوصى يتَصَرَّف للْيَتِيم الذى هُوَ قيمه ويجتمع فى تصرفه وصفان بَينهمَا عُمُوم وخصوص كَونه حَاكما وَكَونه وَصِيّا وَحِينَئِذٍ فينبغى أَن يكون التَّصَرُّف بِكَوْنِهِ وَصِيّا وَهُوَ وصف لَا يحكم بِهِ فَلَا سَبِيل إِلَى حكمه إِذْ لَو حكم لَكَانَ بِكَوْنِهِ حَاكما وَلَو حكم بِكَوْنِهِ حَاكما لاحتاج إِلَى مُدع وَلَا مدعى إِلَّا الوصى وَهُوَ هُوَ فَلَو كَانَ حَاكما لم يكن حَاكما وَهُوَ خلف آيل إِلَى دور وَهَذَا سر دَقِيق أوضحته فى كتاب الْأَشْبَاه والنظائر فى قَاعِدَة منع التَّعْلِيل بعلتين
وبقى فى هَذَا الْفَرْع تَنْبِيه على عقدَة فى الْفَرْع لم أر من تكلم عَلَيْهَا لَا مِمَّن شرح الْفُرُوع وَلَا من غَيرهم وَذَلِكَ أَن ابْن الْحداد فرض الْفَرْع فى وصّى ولى الْقَضَاء(3/85)
فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ فاقتضت عِبَارَته تَقْيِيد الْمَسْأَلَة بطرآن ولَايَة الْقَضَاء على كَونه وَصِيّا بِأَن يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ وَتَبعهُ على التَّقْدِير من تقدم وَتَأَخر آخِرهم الرافعى والنووى وَابْن الرّفْعَة
فَأَما الْقَيْد الأول وَهُوَ طرآن الْقَضَاء على الْوِصَايَة فقد يُقَال إِنَّه لَا فرق بَينه وَبَين عَكسه وَهَذَا هُوَ مُنْتَهى فهم أَكثر من بحث مَعَه فى الْمَسْأَلَة
والذى ظهر لى أَن القاضى إِذا أسندت إِلَيْهِ وَصِيَّة فَإِن كَانَ مسندها أَبَا أَو جدا فَالْأَمْر كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن عَلَيْهِ ولَايَة وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد بعدهمَا فيقارن تجددهما بِالْوَصِيَّةِ تجددهما بفقدهما أَو نَحوه لكَونه حَاكما فَينْظر هُنَا فى أَنه هَل يتَصَرَّف بالوصفين عِنْد من تعلل بعلتين أَو إِنَّمَا يتَصَرَّف بالوصفين عِنْد من تعلل بعلتين أَو إِنَّمَا يتَصَرَّف بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الذى ينصره فى الْأُصُول
وَإِن كَانَ مسندها وَصِيّا جعل لَهُ الْإِسْنَاد فَيحْتَمل أَن يكون كَذَلِك وَيحْتَمل أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ بذلك شئ لِأَن ولَايَته من قبل هَذَا الْإِسْنَاد فَإِن لَهُ مَعَ الأوصياء ولَايَة
وَهَذَا الإحتمال هُوَ الذى يتَرَجَّح عندى لَكِن يظْهر على سِيَاقه أَن لَا يَصح قبُوله لهَذَا الْإِسْنَاد مَا دَامَ قَاضِيا وَلم أجسر على الحكم بِهِ فَإِن تمّ ظهر بِهِ السِّرّ فى تَقْيِيد ابْن الْحداد
وَأما الْقَيْد الثانى وَهُوَ قَوْله فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ فقد يُقَال أَيْضا لَا فَائِدَة لَهُ بل لَا فرق بَين أَن يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ أَو يحكم هُوَ بِعِلْمِهِ وَقد يُقَال لَا يحكم هُنَا بِعِلْمِهِ جزما لشدَّة التُّهْمَة وَمَا أظنهم يسمحون بذلك وَلَا يستثنونه من الْقَضَاء بِالْعلمِ بل من يجوز لَهُ الحكم فِيمَا يظْهر لَا يفرق بَين أَن يقْضى بِالْعلمِ أَو بِالْبَيِّنَةِ كَسَائِر الْأَيْتَام وَسَائِر الْأَقْضِيَة
نعم عبارَة ابْن الْحداد يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ وَقد اختصرها الرافعى فَقَالَ هَل لَهُ(3/86)
أَن يسمع الْبَيِّنَة وَيحكم وَلَو اقْتصر على قَوْله هَل لَهُ أَن يحكم لأفاد أَنه هَل يسمع الْبَيِّنَة لِأَن من جوز سَماع الْبَيِّنَة جوز الحكم
وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى أَن قَول ابْن الْحداد فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ لَيْسَ على ظَاهره إِذْ لَا يَقُول أحد إنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عِنْده على وَجه التأدية ثمَّ لَا يحكم وَإِنَّمَا المُرَاد بِشَهَادَتِهِمَا عِنْده اختيارهما إِيَّاه فَقَوْل الرافعى هَل لَهُ أَن يسمع الْبَيِّنَة من هَذَا الْوَجْه خير من قَول ابْن الْحداد فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ لإنهائها أَنه يسمع الْبَيِّنَة وَلَا يحكم لَكِن قَول ابْن الْحداد شَاهِدَانِ خير من إِطْلَاق الرافعى الْبَيِّنَة لِأَنَّهَا قد توهم أَن للشَّاهِد وَالْيَمِين هُنَا مدخلًا وَلَا يُمكن لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَكَانَ الْحَالِف هُوَ وَلَا سَبِيل إِلَى أَنه يحلف وَيحكم لِأَن الْحَالِف غير الْحَاكِم وَلِأَن الولى لَا يحلف
وللرافعى أَن يَقُول إِنَّمَا عنيت بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَة وهى شَاهِدَانِ
وَأما قَول ابْن الْحداد حَتَّى يصير إِلَى الإِمَام أَو الْأَمِير فقد يُقَال من الذى يعنيه بالأمير فَإِن الْأَمِير قد يُطلق وَيُرَاد بِهِ أُمَرَاء الْعَسْكَر الَّذين لَا حكم لَهُم وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فى مَسْأَلَة ابْن الْقطَّان وَابْن كج فِيمَا إِذا دعى الشَّاهِد إِلَى أَمِير أَو وَزِير هَل لَهُ تأدية الشَّهَادَة عِنْده أَولا لِأَن تأدية الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ للحكام فأطلقا الْأَمِير على من لَيْسَ بحاكم
وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْحَاكِم كَقَوْلِنَا أَمِير الْبَلَد
وَالْأَظْهَر أَنه أَرَادَ الثانى فَإِن الأول لَا حكم لَهُ وَالْمرَاد أَمِير من قبل الإِمَام الْأَعْظَم جعل لَهُ الحكم وَكَذَلِكَ عبر الشَّيْخ أَبُو على عَن هَذَا الْغَرَض بقوله ينبغى للْحَاكِم أَن يأتى إِلَى الإِمَام الْأَعْظَم أَو الْأَمِير الذى ولاه الْقَضَاء أَو إِلَى حَاكم آخر انْتهى
وَهَذَا على مصطلح بِلَادهمْ فى أَن أُمَرَاء الْبَلَد يولون الْقُضَاة وَقصد فى هَذَا التَّوَقُّف فى أَنه هَل يدعى هَذَا الْحَاكِم الذى هُوَ وصّى عِنْد خَلِيفَته على الحكم أَولا لكَونه خَليفَة(3/87)
وَفِيه خلاف صرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو على وَغَيره فى هَذِه الصُّورَة وَصرح بِهِ الرافعى وَغَيره فِيمَا إِذا امْتنع حكم الْحَاكِم لنَفسِهِ أَولا يُعَارضهُ هَل لَهُ أَن يتحاكم إِلَى خَلِيفَته
فرع ادّعى فِيهِ تنَاقض ابْن الْحداد
وَأَنا جَامع أَطْرَافه لتبددها فى كَلَام الرافعى رَحمَه الله وَمُلَخَّص القَوْل فِيهِ بِحَسب مَا اجْتمع لى
إِذا وَقعت الْفرْقَة قبل الدُّخُول بَين الزَّوْجَيْنِ لَا بِسَبَب من وَاحِد مِنْهُمَا فَهَل تجْعَل كَأَنَّهَا وَاقعَة بِسَبَب الزَّوْجَة فَيسْقط الْمهْر بِالْكُلِّيَّةِ أَو كَأَنَّهَا وَاقعَة بِسَبَب من جِهَة الزَّوْج فيشطره
هَذَا أصل يَقع خلافيا بَين ابْن الْحداد والقفال رحمهمَا الله ابْن الْحداد يَقُول بِالْأولِ أبدا والقفال يَقُول بالثانى وَلَعَلَّه الرَّاجِح عِنْد الرافعى تأصيلا وتفريعا أما تَفْرِيعا فَلَمَّا ستراه عِنْد ذكر الصُّور وَأما تأصيلا فلإطلاقه فى بَاب تشطير الصَدَاق أَن مَوْضِعه كل فرقة لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة لَكِن يشبه أَن يكون مُرَاده هُنَا بِالْعَام الْخَاص أى بِكُل سَبَب من جِهَة الزَّوْج بِدَلِيل أَنه قابله بقوله فَأَما إِذا كَانَ الْفِرَاق مِنْهَا أَو بِسَبَب فِيهَا وَيكون قد سكت عَمَّا إِذا لم يكن من وَاحِد مِنْهُمَا وَفِيه صور
مِنْهَا إِذا تزوج جَارِيَة مورثة كجارية أَبِيه أَو أَخِيه أَو عَمه أَو غَيرهم فَمَاتَ السَّيِّد وَزوجهَا وَارِث إِمَّا كل التَّرِكَة أَو بَعْضهَا انْفَسَخ النِّكَاح لِأَن النِّكَاح وَالْملك لَا يَجْتَمِعَانِ
وَأما الْمهْر إِذا كَانَ الْمَوْت قبل الدُّخُول فَقَالَ ابْن الْحداد يسْقط وَهَذَا بِنَاء على أَصله لِأَن الْفَسْخ لم يكن من قبل الزَّوْج وَإِنَّمَا دخلت فى ملكه بِالْمِيرَاثِ أحب أَو كره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو على واشهدا على قَول الْمَرْأَة مشترى الزَّوْج من سَيّده قبل الدُّخُول(3/88)
سقط لِأَنَّهُ لم يكن للزَّوْج فِيهِ صنع وَلذَلِك لَو وجدت بِالزَّوْجِ عَيْبا قبل الدُّخُول واختارت الْفَسْخ سقط الْمهْر كَذَلِك مثله فى مَسْأَلَتنَا
وَقَالَ الْقفال وَمن شرح الْفُرُوع لَهُ نقلت هَذِه الطَّرِيقَة يسلكها صَاحب الْكتاب يعْنى ابْن الْحداد فى مسَائِل كَثِيرَة فَتَقول الْفُرُوع إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم يكن الزَّوْج لانفساخه متسببا فَلَا مهر عَلَيْهِ وَهَذَا عندى غلط بل الْوَاجِب أَن يُقَال إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم تكن الْمَرْأَة سَببا فى الْفَسْخ فلهَا الْمهْر انْتهى وَاسْتدلَّ بِمَا سَنذكرُهُ
وَهَذِه مقَالَة الْقفال المروزى صرح بهَا كَمَا ترَاهُ فى هَذِه الْمَسْأَلَة وفى نظائرها ونقلها عَنهُ فى هَذِه الْمَسْأَلَة القاضى أَبُو الطّيب الطبرى فى شرح الْفُرُوع كَمَا سنحكى كَلَامه وَمَعَ ذَلِك لم ينقلها عَنهُ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو على فى هَذِه الصُّورَة بل قَالَ وَرَأَيْت بعض أَصْحَابنَا يَقُول لَا يسْقط كل الْمهْر فَمن الْعجب أَنه يخفى عَنهُ مَذْهَب شَيْخه مَعَ نَقله عَنهُ نَظِيره فى نَظَائِر الْمَسْأَلَة فَلَقَد قضيت من هَذَا الْعجب وَكَاد يُوجب لى توقفا فى الْعزو إِلَى الْقفال ولكنى رَأَيْته قد أفْصح بِهِ فى شرح الْفُرُوع إفصاحا وَنَقله القاضى أَبُو الطّيب عَنهُ صَرِيحًا وَنقل الشَّيْخ أَبُو على عَنهُ كَمَا سترى فى نَظَائِره مثله فَاسْتَتَمَّ لى قَضَاء الْعجب
ثمَّ الْأَرْجَح من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ عِنْد الرافعى قَول الْقفال كَمَا ذكره فى كتاب النِّكَاح فى بَاب نِكَاح الْأمة وَالْعَبْد قبل فصل الدّور الحكمى وَهُوَ أَيْضا لم يفصح بِذكر الْقفال وَلَكِن حكى الْوَجْهَيْنِ وَعزا الأول لِابْنِ الْحداد وَرجح الثانى وعَلى هَذَا الرَّاجِح يكون النّصْف تَرِكَة تقضى مِنْهُ الدُّيُون وتنفذ الْوَصَايَا فَإِن لم يكن سقط إِن كَانَ النِّكَاح جَائِزا لِأَنَّهُ لَا يثبت لَهُ على نَفسه وَإِلَّا سقط نصِيبه وَللْآخر نصِيبه
وَسَنذكر تَوْجِيه هَذَا الْوَجْه من كَلَام الْقفال ونتكلم عَلَيْهِ(3/89)
وَمِنْهَا إِذا تزوج ذمى ذِمِّيَّة صَغِيرَة من أَبِيهَا ثمَّ أسلم أحد أَبَوَيْهَا قبل الدُّخُول وتبعته فى الْإِسْلَام فانفسخ النِّكَاح
قَالَ ابْن الْحداد يسْقط الْمهْر لِأَن سَبَب فَسَاد النِّكَاح لم يُوجد من الزَّوْج
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو على قَالَ بعض أَصْحَابنَا لَهَا نصف الْمهْر لِأَن الْفَسْخ وَإِن لم يكن من الزَّوْج فَلَيْسَ مِنْهَا أَيْضا وَإِذا لم يكن لَهَا صنع فى الْفِرَاق لم يسْقط كل الْمهْر
قلت وَقَائِل ذَلِك هُوَ شَيْخه الْقفال فَمن الْعجب كَونه لم يُصَرح باسمه وَكَذَلِكَ حكى الإِمَام الْمقَالة عَن بعض الْأَصْحَاب قبيل بَاب الصَدَاق وَلم يُصَرح باسم الْقفال أَيْضا فَمن أعجب الْعجب تَصْرِيح الْقفال بمقالة فى كَلَامه أطنب فِيهَا فى شرح الْفُرُوع ثمَّ لَا يحكيها عَنهُ الحاكون للقليل وَالْكثير فى كَلَامه الحريصون على الْبعيد والقريب من أنفاسه العارفون بغالب حركاته فى الْفِقْه وسكناته
وَهَذِه عِبَارَته فى شرح الْفُرُوع إِذا تزوج نصرانى صَغِيرَة ابْنة كتابيين فَأسلم أحد الْأَبَوَيْنِ انْفَسَخ نِكَاحهَا لِأَنَّهَا غير مَدْخُول بهَا وَحكم لَهَا بِالْإِسْلَامِ لإسلام أحد الْأَبَوَيْنِ
ثمَّ قَالَ صَاحب الْكتاب لَا مهر لَهَا على الزَّوْج لِأَن الزَّوْج لم يكن سَببا فى الْفَسْخ
وَهَذَا غلط وَهُوَ لَا يزَال يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة بل يجب أَن يُقَال إِذا لم يحصل الْفَسْخ من جِهَة الْمَرْأَة فلهَا الْمهْر سَوَاء جَاءَ الْفَسْخ من جِهَة الزَّوْج أَو من جِهَة غَيره انْتهى
ثمَّ ذكر دَلِيله على ذَلِك وسنذكره
وَلم يحك القاضى أَبُو الطّيب فى شرح الْفُرُوع عَن الْقفال هُنَا شَيْئا وَإِنَّمَا عزا هَذِه الْمقَالة إِلَى بعض أَصْحَابنَا كَمَا فعل الشَّيْخ أَبُو على وَالْإِمَام رحمهمَا الله تَعَالَى
والقاضى أَبُو الطّيب فى أوسع الْعذر فَإِنَّهُ أكبر من أَن يحْكى مقالات الْقفال وحكايته فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث عَنهُ مِمَّا يستغرب وَإِنَّمَا الْعجب إغفال الشَّيْخ أَبى على وَالْإِمَام ذكر الْقفال الذى قَالَه فى كِتَابه وَحَكَاهُ عَنهُ قاضى الْعرَاق فيالله الْعجب عراقى يحْكى مقَالَة خراسانى لَا يحكيها أَصْحَابه عَنهُ مَعَ ثُبُوتهَا عَلَيْهِ وَهَذَا عندى من عقد المنقولات(3/90)
وَهَذِه الْمَسْأَلَة لم يُصَرح بهَا الرافعى فى كِتَابه وَإِنَّمَا جرم فى بَاب الْمُتْعَة فى ذِمِّيَّة صَغِيرَة تَحت ذمى أسلم أحد أَبَوَيْهَا فانفسخ النِّكَاح أَنه لَا مُتْعَة كَمَا لَو أسلمت بِنَفسِهَا وَهَذَا يُوَافق مَا رَجحه فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث وَيسْتَمر على منوال وَاحِد فى وفَاق الْقفال
وَمِنْهَا إِذا أسلم على أم وبنتها وَلم يدْخل بِوَاحِدَة مِنْهُمَا تعيّنت الْبِنْت واندفعت الْأُم على الصَّحِيح بِنَاء على صِحَة أنكحتهم
وفى قَول يتَخَيَّر
ثمَّ قَالَ ابْن الْحداد إِن خيرناه فللمفارقة نصف الْمهْر لِأَنَّهُ دفع نِكَاحهَا بإمساك الْأُخْرَى وَإِن قُلْنَا تتَعَيَّن الْبِنْت فَلَا مهر للْأُم لاندفاع نِكَاحهَا بِغَيْر اخْتِيَاره
وَقَالَ الْقفال فى شرح الْفُرُوع مَا نَصه وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو زيد وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله الخضري وأصحابنا هَذَا خطأ على أصل الشَّافِعِي
وَيَنْبَغِي أَن يكون الْجَواب على عكس مَا قَالَه فى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عندى فَإِذا قُلْنَا لَهُ الْخِيَار فَاخْتَارَ احداهما فَلَا مهر للثَّانِيَة وَإِن قُلْنَا لَا خِيَار ويمسك الْبِنْت وَيُفَارق الْأُم فلهَا الْمهْر
وَالْحَال فى تَقْرِير هَذَا وَنَقله عَنهُ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو على فِي شرح الْفُرُوع سَمَاعا فَقَالَ وَسمعت شيخى رضى الله عَنهُ يَقُول الْجَواب على عكس مَا ذكره صَاحب الْكتاب واندفع فى ذكر كَلَام الْقفال وَلم يذكر أَبَا زيد وَلَا الخضرى فَعرفت من ذَلِك أَنه لم ينظر شرح شَيْخه على الْفُرُوع وَإِنَّمَا كَانُوا يتكلون على حفظهم وَمَا يسمعونه من أَفْوَاه مشايخهم رضى الله عَنْهُم
وَكَأن الرافعى اقْتصر على النّظر فى شرح الشَّيْخ أَبى على فَإِنَّهُ نقل الْمَسْأَلَة عَن الْقفال وَغَيره وَأَشَارَ بقوله وَغَيره إِلَى تَرْجِيحه وَلَو وقف على شرح الْقفال لأفصح(3/91)
بِذكر أَبى زيد والخضرى وَقد نازعهم القاضى أَبُو الطّيب الطبرى وَرجح قَول ابْن الْحداد وَأطَال وأطاب
والنزاع فى هَذَا الْفَرْع عَائِد إِلَى الأَصْل الْمُتَقَدّم وَرُبمَا زَاد أَن المنازع يدعى أَن إِسْلَامه سَبَب لاندفاع نِكَاح الْأُم فالفرقة من جِهَته ولعلنا نتكلم على ذَلِك فِيمَا بعد
وَمِنْهَا ردتهما مَعًا لم يذكر الرافعى هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا اسْتِطْرَادًا فى بَاب نِكَاح المشركات أَشَارَ إِلَى الْوَجْهَيْنِ فِيهَا وفيهَا ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا إِضَافَة الْفرْقَة إِلَى الزَّوْج فيتشطر
والثانى إِضَافَة الْفرْقَة إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أَتَت بِالْجِنَايَةِ الَّتِى لَو انْفَرَدت سقط حَقّهَا فَإِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ جِنَايَة الْغَيْر لَا يُؤثر فى ذَلِك كَمَا لَو قَالَ اقْطَعْ يدى فَقطع وهما مشهوران
قَالَ الرويانى وَالْأول أظهر
وَالثَّالِث حَكَاهُ الماوردى وَتَبعهُ الرويانى لَهَا ربع الْمهْر لاشْتِرَاكهمَا فى الْفَسْخ فَسقط من النّصْف نصفه لِأَنَّهُ فى مُقَابلَة ردة الزَّوْجَة وبقى نصفه لِأَنَّهُ فى مُقَابلَة ردة الزَّوْج
وَالْمَسْأَلَة شهيرة ذكرهَا الْأَصْحَاب فى بَاب ارتداد الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ بَاب عقدَة الشافعى رضى الله عَنهُ فى كتاب النِّكَاح قبل بَاب طَلَاق الْمُشرك وَبعد نِكَاح المشركات والرافعى تبعا للغزالى لم يذكر هَذَا الْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ فَمن ثمَّ لم يستوعب مسَائِله
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا ارتدادهما مَعًا فى الْمُتْعَة وَصحح أَنه لَا مُتْعَة
وَاعْلَم أَن الْوَجْهَيْنِ جاريان فى التشطير مشهوران فِيهِ وَإِن لم يذكرهما الرافعى إِلَّا اسْتِطْرَادًا
وَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي بَاب نِكَاح المشركات إِذا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا قبل الدُّخُول ففى تشطير الْمهْر إِحَالَة على ردته أَو سُقُوط كُله إِحَالَة على ردتها وَجْهَان مشهوران وَرُبمَا يعزى الثانى مِنْهُمَا لِابْنِ الْحداد(3/92)
قلت وَهُوَ جَار على أَصله وَإِذا تَأَمَّلت مَا ذكرته علمت أَن الْفرْقَة قد تكون من جِهَته وَقد تكون من جِهَتهَا وَقد تكون من جهتهما وَقد تكون لَا من جِهَة وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعَة أَحْوَال لم يذكر الرافعى فى بَاب التشطير إِلَّا الْأَوَّلين فَقَط
فَإِن قلت قد قَالَ فى بَاب التشطير مَوضِع التشطير كل فرقة تحصل لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة وَهَذَا يَشْمَل مَا إِذا كَانَت لَا بِسَبَب مِنْهُمَا ثمَّ مثل لَهُ بِمَا إِذا أرضعت أم الزَّوْجَة الزَّوْج وَهُوَ صَغِير إِلَى آخر مَا ذكره
قلت مَسْأَلَة الرَّضَاع سنتكلم عَلَيْهَا وقولى لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة إِنَّمَا نعنى بِهِ إِذا كَانَت من جِهَة الزَّوْج بِدَلِيل قَوْله بعده أما إِذا كَانَ الْفِرَاق مِنْهَا أَو بِسَبَب فِيهَا
وَبِالْجُمْلَةِ لَا تَصْرِيح من الرافعى فى بَاب التشطير بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا فى بَاب الْمُتْعَة وفى بَاب نِكَاح العَبْد وَالْأمة وَلَو جمع شَمل النَّظَائِر فى فصل وَاحِد كَانَ أولى بل لم يُصَرح بمسألتين عظيمتين بَين الْأَصْحَاب ردتهما مَعًا هَل تشطر وَإِن كَانَ ذكر أَنَّهَا هَل تسْقط الْمُتْعَة وَإِسْلَام أَبى الزَّوْجَة الصَّغِيرَة إِذا انْفَسَخ نِكَاحهَا هَل يشطر وَإِن كَانَ ذكر أَنه هَل يمتع
إِذا عرفت هَذَا كُله فقد تبين لَك أَن ابْن الْحداد يَجْعَل الْفرْقَة لَا من وَاحِد مِنْهُمَا مسقطة مُلْحقَة بِمَا إِذا كَانَت من جِهَتهَا والقفال يُخَالِفهُ ويجعلها مشطرة مُلْحقَة بِمَا إِذا كَانَت مِنْهُ
ثمَّ يَقُول ابْن الْحداد وَمن صور الْقَاعِدَة أَن يَرث الزَّوْج بعض زَوجته وَهَذَا تَصْوِير لَا يُخَالف فِيهِ وَإِن أسلم على أم وبنتها وَإِن سلم فتتبعه الزَّوْجَة وَهَذَانِ يُنَازع فيهمَا تصويرا كَمَا يُنَازع فيهمَا حكما فَيُقَال لم يكن إِسْلَامه على أم وبنتها وَإِن(3/93)
قُلْنَا يديم نِكَاح الْبِنْت وتندفع الْأُم فهى فرقة كائنة من جِهَته لِأَنَّهُ رُبمَا صَار بِإِسْلَامِهِ وإسلامه تبعا لِأَنَّهَا فرقة كائنة من جِهَتهَا
وَنحن نلخص القَوْل فى المقامين أما الْمقَام الأول وَهُوَ دَعْوَى ابْن الْحداد أَن الْفرْقَة لَا من وَاحِد مِنْهُمَا مُلْحقَة بالواقعة مِنْهَا فَيسْقط فَلم يحْتَج عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ من أَن الْفَسْخ لم يكن من قبله بل هُوَ قهرى أحب أَو كره
وللقفال أَن يَقُول لَهُ لم قلت إِنَّه إِذا لم يكن من قبله لَا يلْحق بِمَا يكون من قبله فَلَيْسَ قَوْلك لَا يشطر لكَونه لَيْسَ من قبله مَا يبعد من قَوْلنَا يشطر لكَونه لَيْسَ من قبلهَا بل التشطير معتضد بِالْأَصْلِ فَإِن الأَصْل بعد تَسْمِيَة الصَدَاق وُجُوبه فَلَا يسْقط إِلَّا النّصْف للفرقة قبل الدُّخُول وَيبقى النّصْف الآخر بِالْأَصْلِ مَا لم يتَحَقَّق زَوَاله بتحقق كَونه من جِهَتهَا
وَاسْتشْهدَ الْقفال لعدم سُقُوط النّصْف بِمَسْأَلَة الرَّضَاع وَغَيرهَا فَقَالَ فى شرح الْفُرُوع مُشِيرا إِلَى قَول ابْن الْحداد هَذَا عندى غلط بل الْوَاجِب أَن يُقَال إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم تكن الْمَرْأَة سَببا فى الْفَسْخ فلهَا الْمهْر أَلا ترى أَن الرجل إِذا تزوج امْرَأَة وَتزَوج أَبوهُ أمهَا فغلط الابْن فوطئ امْرَأَة الْأَب وهى أم امْرَأَة الابْن انْفَسَخ نِكَاح امْرَأَة الابْن بِوَطْء أمهَا بِشُبْهَة وَوَجَب لَهَا الْمهْر لِأَنَّهَا لم تكن سَببا للْفَسْخ
وَكَذَلِكَ لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ أحداهما كَبِيرَة وَالْأُخْرَى صَغِيرَة فأرضعت الْكَبِيرَة الصَّغِيرَة انْفَسَخ نِكَاح الصَّغِيرَة وَوَجَب لَهَا على الزَّوْج نصف الْمهْر وَلَيْسَ الزَّوْج هَا هُنَا سَببا للْفَسْخ إِلَّا أَن الْفَسْخ لما لم يكن بِسَبَب من الْمَرْأَة وَجب لَهَا الْمهْر
فَكَذَلِك فى مَسْأَلَة الْكتاب إِذا تزوج جَارِيَة أَبِيه فَمَاتَ أَبوهُ وملكها انْفَسَخ النِّكَاح وَعَلِيهِ الْمهْر لِأَن الْمَرْأَة لم تكن سَببا للْفَسْخ إِلَّا أَن مَسْأَلَة الرَّضَاع تبَاين هَذِه(3/94)
الْمَسْأَلَة من وَجه وَهُوَ أَن فى هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا غرم الْمهْر فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع على الْكَبِيرَة بِمَا غرم
وَالْفرق بَينهمَا أَن موت الْإِنْسَان لَا يكون بِاخْتِيَارِهِ وَلَا ينتمى إِلَى جِنَايَة فَلذَلِك لَا يغرم الْمهْر وَأما الْكَبِيرَة إِذا أرضعت الصَّغِيرَة فَإِنَّهَا تنتمى إِلَى جِنَايَة فَلذَلِك يغرم الْمهْر حَتَّى إِنَّهَا لَو أرضعت من غير أَن تنْسب فى الْإِرْضَاع إِلَى جِنَايَة سقط عَنْهَا الْغرم أَيْضا مثل أَن ترى الصَّغِيرَة ملقاة فى مَوضِع لَو لم ترضعها خيف عَلَيْهَا التّلف وَلم يكن بقربها من يتعهدها فأرضعتها انْفَسَخ النِّكَاح وَلَا غرم عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تنْسب إِلَى جِنَايَة فى إرضاعها إِيَّاهَا فَصَارَ ذَلِك كَمَا لَو دبت الصَّغِيرَة إِلَى ثدى الْكَبِيرَة فارتضعت وهى نَائِمَة انْفَسَخ النِّكَاح وَلَا غرم عَلَيْهَا وعَلى الزَّوْج الْمهْر وَإِنَّمَا لم يجب الْمهْر فى هَذِه الْمَسْأَلَة لوُجُود فعل من الْكَبِيرَة وَسبب من الصَّغِيرَة فَيجب الْمهْر إِذا مَاتَ الْأَب فَملك جَارِيَته الْمَنْكُوحَة إِذا لم يحصل مِنْهَا سَبَب فى الْفَسْخ انْتهى كَلَام الْقفال
ثمَّ أعَاد نظره بعد وَرَقَات فى مَسْأَلَة مَا إِذا أسلم أَبُو الصَّغِيرَة وَعزا مَا ذكره من أَنه لَا يجب الْغرم على كَبِيرَة أرضعت صَغِيرَة وَقت الضَّرُورَة إِلَى أَصْحَابنَا فَقَالَ قَالَ أَصْحَابنَا وَذكر الْمَسْأَلَة وهى مَسْأَلَة حَسَنَة غَرِيبَة لَا أعتقدها مسلمة وَقد عرفت مَا ذكره وَحَاصِله الاستشهاد على مَا ادَّعَاهُ بِمَسْأَلَة الرَّضَاع
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى هَذَا الذى قَالَ أَبُو بكر الْقفال وَاضح وَمن قَالَ بقول صَاحب الْكتاب فَإِنَّهُ يَقُول إِذا كَانَ الْفَسْخ بِالشَّرْعِ سقط حَقّهَا أَلا ترى إِذا تزَوجهَا وَكَانَ النِّكَاح فَاسِدا بِالشَّرْعِ وَجب أَن يفرق بَينهمَا وَلَا حق لَهَا إِذا كَانَ قبل الدُّخُول بهَا لِأَن التَّحْرِيم وَالْفَسْخ بِالشَّرْعِ فَكَذَلِك هَا هُنَا
فَإِن قيل إِذا كَانَ النِّكَاح فَاسِدا فَإِن الْمهْر لم يجب
قيل لَهُ إِنَّمَا لم يجب لِأَن التَّحْرِيم وَالْفَسْخ بِالشَّرْعِ وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود هَا هُنَا
وَيُخَالف هَذَا مَا ذكره من وَطْء الْأَب وإرضاع الْكَبِيرَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ من جِهَة(3/95)
الشَّرْع وَإِنَّمَا هُوَ بِفعل آدمى يتَعَلَّق بِهِ الضَّمَان وَلِهَذَا نقُول إِن الزَّوْج يرجع على الْأَب بِنصْف الْمهْر وَكَذَلِكَ يرجع على الْمُرضعَة فَسقط مَا قَالَه انْتهى كَلَام القاضى أَبى الطّيب ثمَّ أعَاد مثله فِيمَا بعد
وَأَقُول لَا حَاجَة إِلَى استشهاده بِالنِّكَاحِ الْفَاسِد وَفِيمَا ذكره من الْفرق كِفَايَة فلابن الْحداد أَن يَقُول إِنَّمَا أَقُول بالسقوط فى مُوجب شطر يقر قراره على الزَّوْج أما مَاله مرد وَمَا الزَّوْج فِيهِ إِلَّا طَرِيق فَلَا أمْنَعهُ وَهَذَا فرق وَاضح وَيكون عِنْده هَكَذَا الْفرْقَة الْوَارِدَة لأمر مِنْهُمَا إِذا آلت إِلَى تغريم الزَّوْج شطرا لَا يرفع بِهِ لَا يُوجب عَلَيْهِ شَيْئا بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن إِلَّا طَرِيقا فَحسب فَهَذَا ملخص الْكَلَام على أصل الْقَاعِدَة وهى مصورة تصويرا وَاضحا فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث
أما إِسْلَام الْأَب فتتبعه الزَّوْجَة أَو إِسْلَام الْكَافِر على أم وبنتها فَمن قَالَ كل فرقة لَا ترد من جِهَة الْمَرْأَة تشطر سَوَاء أوردت من جِهَة الزَّوْج أم لم تنْسب إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا وَهُوَ الْقفال وَقَبله أَبُو زيد والخضرى وَبعده الرافعى فِيمَا يظْهر وَمن تبعه فَيَقُول بالتشطير لَا محَالة وَأما من قَالَ بقول ابْن الْحداد إِن كل فرقة لَا ترد من جِهَة الرجل تسْقط سَوَاء أوردت من جِهَة الْمَرْأَة أم لم تنْسب لوَاحِد مِنْهُمَا فقد نقُول فى هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ إِنَّهَا فرقة لَا من جِهَة وَاحِد مِنْهُمَا وَيحكم بالسقوط وَبِذَلِك صرح ابْن الْحداد وَقد نقف وندعى أَنَّهَا فرقة من جِهَتهَا فَمن ثمَّ يُقَال لِابْنِ الْحداد اذْهَبْ إِنَّا نسلم مَا تدعيه من الأَصْل لَكِن لَا نسلم أَن الْفرْقَة فى هَاتين الصُّورَتَيْنِ لَا من وَاحِد مِنْهُمَا بل هى مِنْهَا(3/96)
وَاعْلَم أَن مَسْأَلَة إِسْلَام الرجل على أم وابنتها قد أفْصح الْقفال فِيهَا بتغليط ابْن الْحداد وَزعم أَنه عكس التَّفْرِيع فَإِنَّهُ قَالَ إِن قُلْنَا باستمرار نِكَاح الْبِنْت كَمَا هُوَ الصَّحِيح سقط نِكَاح الْأُم بِنَاء على أَصله أَنَّهَا فرقة وَردت بِالشَّرْعِ قهرية فَلَا تشطر وَإِن قُلْنَا يتَخَيَّر فالمفارقة مَنْسُوب إِلَيْهِ اخْتِيَار فراقها فَقَالَ الْقفال ومتابعوه بل الْأَمر بِالْعَكْسِ بل الْجَواب على عكس مَا ذكره إِن قُلْنَا بِصِحَّة أنكحتهم فقد أفسدنا نِكَاح الْأُم بِكُل حَال للْعقد على الْبِنْت وَحِينَئِذٍ ففسخ النِّكَاح إِنَّمَا وَقع بِإِسْلَامِهِ وإسلامها جَمِيعًا وَالْفَسْخ إِذا وَقع قبل الدُّخُول بِسَبَب يشْتَرك فِيهِ الزَّوْجَانِ يجب الْمهْر كَمَا لَو تخالعا فَلَا يسْقط الْمهْر بل يتشطر وَتجب الْمُتْعَة
وَأما على القَوْل الذى يَقُول يمسك أَيَّتهمَا شَاءَ فَإِذا أمسك إِحْدَاهمَا جعل الثَّانِيَة كَأَن لم ينْكِحهَا قطّ فَلَا مهر وَلَا مُتْعَة وَيجوز لِابْنِهِ أَن يتَزَوَّج بهَا وَيكون بِمَنْزِلَة من لم يعْقد عَلَيْهَا هَذَا حَاصِل مَا ذكره
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى منتصرا لِابْنِ الْحداد وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ على الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا جعل الِاخْتِيَار إِلَيْهِ والوصلة والفرقة إِلَى إِرَادَته فَمن اخْتَارَهَا من أَكثر من أَربع وَمن الْمَرْأَة وعمتها أَو خَالَتهَا فنكاحها صَحِيح وَمن فَارقهَا مِنْهُنَّ وَقُلْنَا إِنَّهَا بِمَنْزِلَة من لم يعْقد عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يصير بِهَذِهِ الْمنزلَة بِاخْتِيَارِهِ وَقد كَانَ يُمكنهُ أَن يُقيم على نِكَاحهَا بِاخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا فَأوجب عَلَيْهِ نصف الْمهْر بذلك وأجرى مجْرى الْمُطلق لهَذِهِ الْعلَّة وَيُفَارق الْمَنْكُوحَة نِكَاحا فَاسِدا فى الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يجب أَن يفرق بَينهمَا وَلَا اخْتِيَار لَهُ فِيهَا فَبَان الْفرق بَينهمَا
هَذَا كَلَام القاضى أَبى الطّيب وَهُوَ مُحْتَمل جيد يحْتَمل أَن يُقَال عدم إِمْسَاكه الْوَاحِدَة مَعَ قدرته وَلَكِن الشَّارِع لَهُ من إِِمْسَاكهَا بِمَنْزِلَة طَلاقهَا وَيحْتَمل أَلا يُقَال بِهِ(3/97)
وَمَا أَظن ابْن الرّفْعَة وقف على كَلَام القاضى أَبى الطّيب هَذَا فَإِنَّهُ ذكر نَحوه بحثا لنَفسِهِ وَلَو وقف عَلَيْهِ لاستظهر بِهِ فَإِن ابْن الرّفْعَة قَالَ فى بَاب نِكَاح المشركات فِيمَا إِذا أسلم على أُخْتَيْنِ وطلق كل وَاحِدَة ثَلَاثًا وَقد نقل عَن ابْن الْحداد التَّخْيِير بَينهمَا مَعَ كَونه يمِيل فى أنكحة الْكفَّار إِلَى الْوَقْف وَأَن مُقْتَضَاهُ أَلا يجب مهر وَقد حكى عَنهُ الرافعى إِيجَاب الْمهْر وَأَن قَول الْوَقْف يُنَاسِبه أَلا يجب مهر
قَالَ ابْن الرّفْعَة قد يكون مَأْخَذ ابْن الْحداد فى إِيجَاب الْمهْر للمندفعة وَإِن بَان فَسَاد النِّكَاح فِيهِ كَونه عينهَا للفراق مَعَ صلاحيتها للبقاء بِاخْتِيَارِهِ الْأُخْرَى مَعَ أَنه لَا تَرْجِيح وَمثل ذَلِك وَإِن كَانَ جَائِزا فيناط بِهِ الْإِيجَاب على رأى بعض الْأَصْحَاب فِيمَا إِذا أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض وَقد بقى من الْوَقْت مَا يَتَّسِع لَهَا أَو لِلظهْرِ فَقَط أَو بقى مِنْهُ مَا يدْرك بِهِ الْعَصْر وَهُوَ رَكْعَة فَإنَّا نلزمه الظّهْر وَالْعصر بِإِدْرَاك أَربع رَكْعَات على رأى صَاحب الإفصاح وبإدراك رَكْعَة فَقَط على رأى غَيره وَهُوَ الذى قيل إِنَّه الْمُصَحح فى الْمَذْهَب وكل ذَلِك مَعَ قَوْلنَا إِنَّه لَو أدْرك دون ذَلِك لَا يكون بِهِ مدْركا لوَاحِدَة من الصَّلَاتَيْنِ وَإِذا تَأَمَّلت ذَلِك وجدت إِلْزَامه للصلاتين بِمَا يلْزمه بِهِ إِحْدَاهمَا إِنَّمَا هُوَ لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تقبل أَن توقع فى ذَلِك الْوَقْت على الْبَدَل لَا مَعَ الْمَعِيَّة فَكَذَا فِيمَا نَحن فِيهِ جَازَ أَن يتَعَلَّق الْإِيجَاب بالقبولية على الْبَدَل وَإِن لم يُمكن الْجمع وَيصِح هَذَا المأخذ إِن كَانَ يَقُول بِأَنَّهُ إِذا أسلم على أَكثر من أَربع وأسلمن مَعَه أَنه يجب للمندفعات بِاخْتِيَارِهِ لغيرهن الشّطْر فَإِن لم يقل بِهِ فَلَا تَمام وَالظَّاهِر أَنه يَقُول بِهِ انْتهى
وَمَا ذكره من أَنه قد يكون مَأْخَذ ابْن الْحداد قد عرفت أَن القاضى أَبَا الطّيب قَالَه وللبحث فِيهِ مجَال قد يُقَال تعْيين الْفِرَاق فِيمَن لَهُ أَن يعين فِيهَا الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الطَّلَاق وَقد يُقَال بل إِذا جعل لَهُ ذَلِك فقد جعل لَهُ أَن يعين فِيهَا انْتِفَاء للزوجية بِالْكُلِّيَّةِ فَمن أَيْن الْمهْر فَلْيتَأَمَّل فى ذَلِك فإنى لم أشبعه بحثا(3/98)
115 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن مت أَبُو بكر الإشتيخنى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
116 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى الْفَقِيه أَبُو نصر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/99)
117 - مُحَمَّد بن أَحْمد المروزى الإِمَام الْكَبِير أَبُو عبد الله الخضرى نِسْبَة إِلَى الْخضر رجل من جدوده
إِمَام مرو وشيخها وحبرها ومقدم الْأَصْحَاب بهَا وَهُوَ ختن أَبى على الشنوى حدث عَن القاضى أَبى عبد الله الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل المحاملى وَغَيره
وَعقد مجْلِس الْإِمْلَاء والتدريس
وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم الْأُسْتَاذ أَبُو على الدقاق والفقيه حَكِيم بن مُحَمَّد الذيمونى
وَكَأَنَّهُ كَانَ صَاحب مَال وثروة يدل عَلَيْهِ مَا حكيناه عَن القاضى عَن الْقفال فى تَرْجَمَة أَبى زيد
وَكَانَ فِيمَا أَحسب من أَقْرَان الشَّيْخ أَبى زيد وَمَا أرى الْقفال إِلَّا من المتفقهة عَلَيْهِ وطالما قَالَ الْقفال سَأَلت أَبَا زيد وَسَأَلت الخضرى
وَقَالَ القاضى فى التعليقة فى مَسْأَلَة هَل يُقَلّد الْمُرَاهق فى الْقبْلَة قَالَ الْقفال سَأَلت أَبَا زيد عَن ذَلِك فَقَالَ نَص الشافعى على أَنه يجوز تَقْلِيد الْمُرَاهق ثمَّ سَأَلت أَبَا عبد الله الخضرى عَن ذَلِك فَقَالَ لَا يجوز نصا فَأَخْبَرته بقول أَبى زيد فَقَالَ أَنا لَا أَتَّهِمهُ فى ذَلِك وَيحْتَمل أَن الشافعى أَرَادَ بذلك النَّص إِذا دله على الْمِحْرَاب فَإِنَّهُ يجوز وبالنص الثانى أَن يُخبرهُ بِجِهَة الْقبْلَة أَو يَقُول رَأَيْت القطب من هَذَا الْجَانِب فَإِنَّهُ يَأْخُذ بقوله وَيصلى إِلَى تِلْكَ الْجِهَة وَلَيْسَ هَذَا بتقليد لَهُ لِأَنَّهُ لما أخبرهُ وَلَا يُخبرهُ إِلَّا(3/100)
عَن تحر واجتهاد صَار هَذَا كالعالم أم عاميا فى مَسْأَلَة وَاحِدَة فَإِن أفتاه بِنَصّ من كتاب الله أَو سنة يجوز لَهُ أَن يُفْتى غَيره وَإِن أفتاه بِالِاجْتِهَادِ لَا يجوز بذلك الِاجْتِهَاد
قلت الصَّحِيح أَنه لَا يجوز تَقْلِيد الصبى وَهُوَ النَّص الذى حَكَاهُ الخضرى وَالْفرع مَشْهُور
وَفِيمَا نقل من خطّ الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد الجوينى عَن شَيْخه الْقفال إِذا تزوج امْرَأَة على ظن أَنَّهَا حرَّة فَإِذا هى أمة فَالنِّكَاح صَحِيح وَولده مِنْهَا رَقِيق وَإِن كَانَ يَطَؤُهَا على توهم الْحُرِّيَّة إِذْ التَّوَهُّم حَدِيث النَّفس فَلَا يُغير حكما
قيل للشَّيْخ يعْنى الْقفال لَو أَن رجلا وطئ أمة بِالشُّبْهَةِ يتَوَهَّم أَنَّهَا امْرَأَته فَقَالَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الخضرى يَقُول إِن كَانَت امْرَأَته حرَّة فولده من هَذِه الْأمة حر وَعَلِيهِ الْقيمَة وَإِن كَانَت امْرَأَته أمة فولده من الْمَوْطُوءَة بِالشُّبْهَةِ مَمْلُوك على حسب الْقَصْد وَالنِّيَّة
قَالَ الرويانى فى الْبَحْر فى كتاب النِّكَاح وَهَذَا حسن ذكره فى بَاب الزِّنَا لَا يحرم الْحَلَال
قلت وَقد أَشَارَ الْأَصْحَاب إِلَى هَذَا فى بَاب عتق أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالُوا إِذا استولد أمة الْغَيْر بِشُبْهَة ثمَّ ملكهَا فَينْظر إِن وَطئهَا على ظن أَنَّهَا زَوجته الْمَمْلُوكَة فَالْوَلَد رَقِيق وَلَا يثبت الِاسْتِيلَاء أَو أَنَّهَا زَوجته الْحرَّة أَو أمته فَالْوَلَد حر وفى ثُبُوت الِاسْتِيلَاد قَولَانِ(3/101)
118 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الإِمَام أَبُو بكر النيسابورى
نزيل مَكَّة أحد أَعْلَام هَذِه الْأمة وأحبارها
كَانَ إِمَامًا مُجْتَهدا حَافِظًا ورعا
سَمِعت الحَدِيث من مُحَمَّد بن مَيْمُون وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل الصَّائِغ وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو بكر ابْن الْمُقْرِئ وَمُحَمّد بن يحيى بن عمار الدمياطى شيخ الطلمنكى وَالْحسن بن على بن شعْبَان وَأَخُوهُ الْحُسَيْن وَآخَرُونَ
وَله التصانيف المفيدة السائرة كتاب الْأَوْسَط وَكتاب الإشراف فى اخْتِلَاف الْعلمَاء وَكتاب الْإِجْمَاع وَالتَّفْسِير وَكتاب السّنَن وَالْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف
قَالَ شَيخنَا الذهبى كَانَ على نِهَايَة من معرفَة الحَدِيث وَالِاخْتِلَاف وَكَانَ مُجْتَهدا لَا يُقَلّد أحدا
قلت المحمدون الْأَرْبَعَة مُحَمَّد بن نصر وَمُحَمّد بن جرير وَابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر من أَصْحَابنَا وَقد بلغُوا دَرَجَة الِاجْتِهَاد الْمُطلق وَلم يخرجهم ذَلِك عَن كَونهم من أَصْحَاب الشافعى المخرجين على أُصُوله المتمذهبين بمذهبه لوفاق اجتهادهم اجْتِهَاده بل قد ادّعى من هُوَ بعد من أَصْحَابنَا الخلص كالشيخ أَبى على وَغَيره أَنهم وَافق رَأْيهمْ رأى الإِمَام الْأَعْظَم فتبعوه ونسبوا إِلَيْهِ لَا أَنهم مقلدون فَمَا ظَنك بهؤلاء الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُم وَإِن خَرجُوا عَن رأى الإِمَام الْأَعْظَم فى كثير من الْمسَائِل فَلم يخرجُوا فى الْأَغْلَب(3/102)
فاعرف ذَلِك وَاعْلَم أَنهم فى أحزاب الشَّافِعِيَّة معدودون وعَلى أُصُوله فى الْأَغْلَب مخرجون وبطريقه متهذبون وبمذهبه متمذهبون
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى توفى ابْن الْمُنْذر سنة تسع أَو عشر وثلاثمائة
قَالَ شَيخنَا الذهبى وَهَذَا لَيْسَ بشئ لِأَن مُحَمَّد بن يحيى بن عمار لقِيه سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة
وَمن الْمسَائِل والغرائب عَن ابْن الْمُنْذر
ذهب إِلَى أَن الْمُسَافِر يقصر الصَّلَاة فى مسيرَة يَوْم تَامّ كَمَا قَالَ الأوزاعى
وَاعْلَم أَن عِبَارَات الشافعى رضى الله عَنهُ فى حد السّفر مضطربة وَقَالَ الْأَصْحَاب على طبقاتهم الشَّيْخ أَبُو حَامِد والماوردى وَالْإِمَام وَغَيرهم المُرَاد بهَا شئ وَاحِد لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فى ذَلِك وَأَن السّفر الطَّوِيل مرحلتان فَصَاعِدا وَمَا قَالَه ابْن الْمُنْذر خَارج عَن الْمَذْهَب
وَقيد كَون إِذن الْبكر فى النِّكَاح صماتها بِمَا إِذا علمت قبل أَن تستؤذن أَن إِذْنهَا صماتها وَهَذَا حسن
وَقَالَ إِن الزانى الْمُحصن يجلد ثمَّ يرْجم
وَأَنه لَا تجب الْكَفَّارَة فى قتل الْعمد
وَأَن الْخلْع لَا يَصح إِلَّا فى حَالَة الشقاق
وَنقل فى الإشراف عَن الشافعى أَنه قَالَ فِيمَن سَافر لمسافة الْقصر ثمَّ رَجَعَ إِلَى دَاره لحَاجَة قبل أَن ينتهى إِلَى مَسَافَة الْقصر إِن الأحب لَهُ أَن يتم وَإِن جَازَ الْقصر
وَهَذَا غَرِيب وَالْمَعْرُوف فى الْمَذْهَب إِطْلَاق القَوْل بِأَن الْقصر أفضل وَكَأن الشافعى(3/103)
رضى الله عَنهُ اسْتثْنى هَذِه الصُّورَة لِلْخُرُوجِ من خلاف الْعلمَاء فقد قَالَ سُفْيَان الثورى وَغَيره فِيمَن رَجَعَ لحَاجَة عَلَيْهِ أَن يتم
قَالَ أَبُو بكر فى كتاب الإشراف مَا نَصه ذكر الإِمَام يخص نَفسه بِالدُّعَاءِ دون الْقَوْم ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول إِذا كبر فى الصَّلَاة قبل الْقِرَاءَة (اللَّهُمَّ باعد بينى وَبَين خطيئتى كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب اللَّهُمَّ نقنى من خطاياى كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس اللَّهُمَّ اغسلنى من خطاياى بالثلج وَالْمَاء وَالْبرد) قَالَ أَبُو بكر وَبِهَذَا نقُول
وَقد روينَا عَن مُجَاهِد وَطَاوُس أَنَّهُمَا قَالَا لَا ينبغى للْإِمَام أَن يخص نَفسه بشئ من الدَّعْوَات دون الْقَوْم وَكره ذَلِك النووى والأوزاعى وَقَالَ الشافعى لَا أحب ذَلِك انْتهى
وَإِنَّمَا نقلته بِحُرُوفِهِ لِأَن بعض النَّاس نقل عَنهُ أَنه نقل فى هَذَا الْفَصْل عَن الشافعى أَنه لَا يحب تَخْصِيص الإِمَام نَفسه بِالدُّعَاءِ بل يأتى بِصِيغَة الْجمع فى نَحْو اللَّهُمَّ باعد بينى وَبَين خطيئتى الحَدِيث وَهَذَا لَا يَقُوله أحد بل الْأَدْعِيَة المأثورة يُؤْتى بهَا كَمَا وَردت فَإِذا كَانَت صِيغَة إِفْرَاد لم يسْتَحبّ للْإِمَام أَن يأتى بِصِيغَة الْجمع وَلَا ينبغى لَهُ ذَلِك وَإِنَّمَا الْخَيْر كل الْخَيْر فى الْإِتْيَان بِلَفْظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام أَلا يخص نَفسه بِالدُّعَاءِ فَهُوَ أثر ذكره أَصْحَابنَا لَكِن مَعْنَاهُ فى غير الْأَدْعِيَة المأثورة وَذَلِكَ بِأَن يستفتح لنَفسِهِ دُعَاء فيفرد نَفسه بِالذكر وَأَبُو بكر إِنَّمَا صدر بِالْحَدِيثِ اسْتِشْهَادًا لما يَقُوله من جَوَاز التَّخْصِيص فَقَالَ قد خصص النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه بِهَذِهِ الْكَلِمَات الَّتِى ذكرهَا فى مَوضِع لَا تَأْمِين فِيهِ للمأمومين وَلَيْسَ مُرَاده أَن من ذكره يُخَالف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى ذَلِك معَاذ الله وَإِنَّمَا حَاصِل كَلَامه أَن التَّخْصِيص جَائِز فى غير الْمَأْثُور بِدَلِيل مَا وَقع فى الْمَأْثُور وَأَن كره التَّخْصِيص أَن يُجيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا خصص نَفسه حَيْثُ يسر بِالدُّعَاءِ وَلَا تَأْمِين للْقَوْم فِيهِ(3/104)
نقل ابْن الْمُنْذر خلافًا بَين الْأمة فى جَوَاز إطْعَام فُقَرَاء أهل الذِّمَّة من الْأُضْحِية قَالَ رخص فِيهِ الْحسن وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَقَالَ مَالك غَيره أحب إِلَيْنَا وَكره مَالك أَيْضا إِعْطَاء النصرانى جلد الْأُضْحِية أَو شَيْئا من لَحمهَا وَكَرِهَهُ أَيْضا اللَّيْث فَإِن طبخ لَحمهَا فَلَا بَأْس بِأَكْل الذِّمِّيّ مَعَ الْمُسلمين مِنْهُ
هَذَا كَلَام ابْن الْمُنْذر وَنَقله عَنهُ النووى فى شرح الْمُهَذّب وَقَالَ لم أر لِأَصْحَابِنَا كلَاما فِيهِ
قَالَ وَمُقْتَضى الْمَذْهَب جَوَاز إطعامهم من أضْحِية التَّطَوُّع دون الْوَاجِبَة
قلت نقل ابْن الرّفْعَة فى الْكِفَايَة أَن الشافعى قَالَ لَا يطعم مِنْهَا يعْنى الْأُضْحِية أحدا على غير دين الْإِسْلَام وَأَنه ذكره فى البويطى
قَول الْمَرِيض لفُلَان قبلى حق فصدقوه
قَالَ ابْن الْمُنْذر فى كتاب السّنَن وَالْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف وَهُوَ كتاب مَبْسُوط حافل فى أَوَاخِر بَاب الْإِقْرَار مِنْهُ مَا نَصه وَإِن قَالَ لفُلَان قبلى حق فصدقوه فَإِن صدقه الْوَرَثَة بِمَا قَالَ فَإِن النُّعْمَان قَالَ أصدق الطَّالِب بِمَا بَينه وَبَين الثُّلُث أستحسن ذَلِك فَإِن أقرّ بدين مُسَمّى مَعَ ذَلِك كَانَ الدّين الْمُسَمّى أولى بِمَالِه كُله وَلَو لم يقر بدين مُسَمّى وَأوصى بِوَصِيَّة كَانَت أولى بِالثُّلثِ من ذَلِك الْإِقْرَار أَيْضا فى قَوْله وَإِذا قَالَ الْمَرِيض فى مَرضه الذى مَاتَ فِيهِ لفُلَان على حق فصدقوه فِيمَا ادّعى فَادّعى مَالا يكون أَكثر من الثُّلُث فَإِنَّهُ لَا يصدق وَله أَن يحلف الْوَرَثَة على علمهمْ فَإِن نكلوا عَن الْيَمين قضيت لَهُ بذلك وَلَو حلفوا قضيت لَهُ بِالثُّلثِ هَذَا قَول أَبى حنيفَة وأبى يُوسُف وَمُحَمّد
قَالَ أَبُو بكر والذى نقُول بِهِ فى هَذَا أَن الْمُدعى يصدق فِيمَا ادّعى إِذا أقرّ الْمَرِيض بتصديقه وَذَلِكَ أَن الرجل إِذا ادّعى عَلَيْهِ قَالَ وَقَالَ الْمَرِيض صدق يُؤْخَذ بِهِ فَكَذَلِك إِذا قَالَ صدقوه أَو هُوَ صَادِق فِيمَا ادّعى كَانَ هَذَا إِقْرَارا مِنْهُ قد عقده انْتهى لَفظه(3/105)
قلت وَهُوَ فرع تعم بِهِ الْبلوى وَالنَّقْل فِيهِ عَزِيز يَقُول الْمَرْء فى مرض مَوته مهما ادّعى بِهِ فلَان فصدقوه أَو فَهُوَ صَادِق أَو لَهُ على شئ لَا أتحقق قدره فمهما عين فَهُوَ صَدُوق أَو يَقُول الْمَرْء كل من ادّعى على بعد موتى فَأَعْطوهُ مَا يَدعِيهِ وَلَا تطالبوه بِالْحجَّةِ والذى تحرر لى بعد النّظر فى هَذَا الْأَلْفَاظ أَنه تَارَة يعين الْمَرْء بشخصه كَمَا فى الصُّور الأول وَتارَة يعمم كَمَا فى الصُّورَة الْأَخِيرَة وَلَا يخفى أَن كَونه إِقْرَارا فى الصُّور الأول أولى من الْأَخِيرَة فَإِن عين فَتَارَة يَقُول مهما ادّعى بِهِ فَهُوَ صَادِق أَو فَهُوَ صَحِيح أَو حق وَتارَة يَقُول مهما ادّعى بِهِ فصدقوه وَتارَة يَقُول مهما ادّعى بِهِ فَأَعْطوهُ وَكَونه إِقْرَارا فى الأول أولى من الثَّانِيَة وفى الثَّانِيَة أولى من الثَّالِثَة والذى يظْهر فى الثَّالِثَة أَنه وَصِيَّة كَمَا فى الصُّورَة الْأَخِيرَة
وَقد صرح بالصورة الْأَخِيرَة صَاحب الْبَحْر فَقَالَ فى بَاب الْوَصَايَا مَا نَصه إِذا قَالَ كل من ادّعى على بعد موتى فَأَعْطوهُ مَا يَدعِيهِ وَلَا تطالبوه بِالْحجَّةِ فَادّعى اثْنَان بعد مَوته حقين مختلفى الْمِقْدَار وَلَا حجَّة لوَاحِد مِنْهُمَا كَانَ ذَلِك كَالْوَصِيَّةِ تعْتَبر من الثُّلُث وَإِذا ضَاقَ عَن الْوَفَاء قسم بَينهمَا على قدر حقيهما الذى يدعيانه كالوصايا سَوَاء انْتهى
وَأما إِذا قَالَ إِذا ادّعى فلَان أَو كل مَا يدعى بِهِ فَلَا يشك أَنه أولى بِالصِّحَّةِ من التَّعْمِيم فى قَوْله كل من ادّعى
ثمَّ قد يَقُول فَأَعْطوهُ وَقد يَقُول فصدقوه وَقد يَقُول فَهُوَ صَادِق فَإِن قَالَ فَأَعْطوهُ فَيظْهر أَنه وَصِيَّة وَإِن قَالَ فصدقوه فقد رَأَيْت قَول ابْن الْمُنْذر أَنه إِقْرَار وَظَاهر كَلَامه أَنه يصدق فى كل مَا يَدعِيهِ وَإِن زَاد على الثُّلُث وعَلى مَا يُعينهُ الْوَارِث حَتَّى لَو ادّعى جَمِيع المَال يصدق
وَهَذَا احْتِمَال رأى أَبى على الثقفى من أَصْحَابنَا نَقله عَنهُ القاضى أَبُو سعد فى(3/106)
كتاب الإشراف وَتَبعهُ القاضى شُرَيْح فى أدب الْقَضَاء فَقَالَ مَا نَصه إِذا قَالَ مَا يَدعِيهِ فلَان فصدقوه قَالَ الثقفى يحْتَمل أَن يصدق فى الْجَمِيع وَقَالَ الزجاجى هُوَ إِقْرَار مَجْهُول يُعينهُ الْوَارِث قَالَ أَبُو عَاصِم العبادى هَذَا أشبه بِالْحَقِّ انْتهى
وَإِن قَالَ فَهُوَ صَادِق فقد رَأَيْت قَول ابْن الْمُنْذر أَيْضا وَلَا يشك أَنَّهَا أولى بِالْإِقْرَارِ من قَوْله فصدقوه
فَإِن قلت هَل للمسألة شبه بِمَا إِذا قَالَ إِن شهد على فلَان بِكَذَا أَو شَاهِدَانِ بِكَذَا فَإِنَّهُمَا صادقان فَإِن الْأَصْحَاب ذكرُوا فى بَاب الْإِقْرَار أَنه إِقْرَار وَإِن لم يشهدَا على أظهر الْقَوْلَيْنِ وَإِن قَالَ إِن شَهدا صدقهما فَلَيْسَ بِإِقْرَار قطعا
قلت هى مُفَارقَة لَهَا من جِهَة أَنه عين هُنَا الْمَشْهُود بِهِ كَمَا عين الشَّاهِد فَقَالَ إِن شهد بِكَذَا وَفِيمَا نَحن فِيهِ لم يعين الْمَشْهُود عَلَيْهِ بل عممه أَو جَهله فَمن ثمَّ لم يلْزم من جعله مقرا فى هَذِه جعله مقرا فى تِلْكَ وَمن ثمَّ يكون مقرا فى هَذِه فى الْحَال وَلَا يتَوَقَّف على شَهَادَة فلَان وفى مَسْأَلَتنَا لابد من الدَّعْوَى ليتَحَقَّق مَا قَالَه
وَقد وَقع فى المحاكمات رجل قَالَ جَمِيع مَا يدعى بِهِ فلَان فى تركتى حق أَو نَحْو ذَلِك وَأقر لمُعين بشئ فَادّعى فلَان بِجَمِيعِ مَا وجد وَمُقْتَضى التَّصْحِيح أَن يتحاصص هُوَ والمعين الْمقر لَهُ بِمعين كبينتين تزاحمتا وَلَكِن لم أجسر على الحكم بذلك وَوجدت النَّفس تميل إِلَى تَقْدِيم الْمعِين بِجَمِيعِ مَا عين لَهُ وَلم أقدم على الحكم بذلك أَيْضا(3/107)
وَقَول أَبى حنيفَة الذى نَقله عَنهُ ابْن الْمُنْذر إِن الْمُسَمّى أولى يشْهد لذَلِك وَهُوَ نَظِير قَوْله إِن الْإِقْرَار بِالدّينِ فى الصِّحَّة يقدم على الْإِقْرَار بِهِ فى الْمَرَض وَهُوَ قَول عندنَا اتّفق الْأَصْحَاب على خِلَافه
119 - مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مهْرَان بن عبد الله أَبُو الْعَبَّاس السراج الثقفى مَوْلَاهُم النيسابورى الْحَافِظ
مُحدث خُرَاسَان ومسندها
سمع قُتَيْبَة وَإِبْرَاهِيم بن يُوسُف البلخى وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبا كريب وَمُحَمّد ابْن بكار وَدَاوُد بن رشيد وخلقا سواهُم
روى عَنهُ البخارى وَمُسلم وَأَبُو حَاتِم الرازى وَأَبُو بكر بن أَبى الدُّنْيَا وهم من شُيُوخه وَأَبُو الْعَبَّاس بن عقدَة وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَأَبُو إِسْحَاق المزكى وَأَبُو حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد بن بَالَوَيْهِ وَالْحسن بن أَحْمد المخلدى وَأَبُو سهل الصعلوكى وَأَبُو بكر بن مهْرَان المقرى وخلائق آخِرهم أَبُو الْحُسَيْن الْخفاف
وَكَانَ شَيخا مُسْندًا صَالحا سعيدا كثير المَال وَهُوَ الذى قَرَأَ عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اثنتى عشرَة ألف ختمة وضحى عَنهُ اثنتى عشرَة ألف أضْحِية وَكَانَ يركب حِمَاره وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر)
وَفِيه يَقُول الْأُسْتَاذ أَبُو سهل الصعلوكى السراج كالسراج
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل أَيْضا حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِسْحَاق الأوحد فى فنه الْأَكْمَل فى وَزنه(3/108)
وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن نجيد رَأَيْت السراج ركب حِمَاره وعباس المستملى بَين يَدَيْهِ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر يَقُول يَا عَبَّاس غير كَذَا اكسر كَذَا
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّاء العنبرى سَمِعت أَبَا عَمْرو الْخفاف يَقُول للسراج لَو دخلت على الْأَمِير ونصحته
قَالَ فجَاء وَعِنْده أَبُو عَمْرو فَقَالَ هَذَا شَيخنَا وأكبرنا وَقد حضر لينْتَفع الْأَمِير بِكَلَامِهِ
فَقَالَ السراج أَيهَا الْأَمِير إِن الْإِقَامَة كَانَت فُرَادَى وهى كَذَا بالحرمين وَأما فى جامعنا فَصَارَت مثنى مثنى وَإِن الدّين خرج من الْحَرَمَيْنِ فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بِالْإِفْرَادِ
قَالَ فَخَجِلَ الْأَمِير وَأَبُو عَمْرو وَالْجَمَاعَة إِذْ كَانُوا قصدوه فى أَمر الْبَلَد فَلَمَّا خرج عاتبوه فَقَالَ استحييت من الله أَن أسأَل أَمر الدُّنْيَا وأدع أَمر الدّين
توفى السراج فى ربيع الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة وَله سبع وَتسْعُونَ سنة
120 - مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة بن الْمُغيرَة بن صَالح بن بكر إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر السلمى النيسابورى
الْمُجْتَهد الْمُطلق الْبَحْر العجاج والحبر الذى لَا يخاير فى الحجى وَلَا يناظر فى الْحجَّاج جمع أشتات الْعُلُوم وارتفع مِقْدَاره فتقاصرت عَنهُ طوالع النُّجُوم وَأقَام بِمَدِينَة نيسابور إمامها حَيْثُ الضراغم مزدحمة وفردها الذى رفع الْعلم بَين الْأَفْرَاد علمه والوفود تفد على ربعه لَا يتجنبه مِنْهُم إِلَّا الأشقى والفتاوى تحمل عَنهُ برا وبحرا وتشق الأَرْض شقا وعلومه تسير فتهدى فى كل سَوْدَاء مدلهمة وتمضى علما تأتم الهداة بِهِ وَكَيف لَا وَهُوَ إِمَام الْأَئِمَّة(3/109)
(كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... كرما وَيبْعَث للغريب سحائبا)
مولده فى صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
سمع من خلق مِنْهُم إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَمُحَمّد بن حميد الرازى وَلم يحدث عَنْهُمَا لكَونه سمع مِنْهُمَا فى الصغر وَلَكِن حدث عَن مَحْمُود بن غيلَان وَمُحَمّد بن أبان المستملى وَإِسْحَاق بن مُوسَى الخطمى وَعتبَة بن عبد الله اليحمدي وعَلى بن حجر وأبى قدامَة السرخسى وَأحمد بن منيع وَبشر بن معَاذ وَأبي كريب وَعبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن أسلم الزَّاهِد والزعفرانى وَنصر ابْن على الجهضمى وعَلى بن خشرم وَغَيرهم
وَكَانَ سَمَاعه بنيسابور فى صغره وفى رحلته بالرى وبغداد وَالْبَصْرَة والكوفة وَالشَّام والجزيرة ومصر وواسط
روى عَنهُ خلق من الْكِبَار مِنْهُم البخارى وَمُسلم خَارج الصَّحِيح وَمُحَمّد ابْن عبد الله بن عبد الحكم شَيْخه وَأَبُو عَمْرو أَحْمد بن الْمُبَارك المستملى وَإِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب وَهَؤُلَاء أكبر مِنْهُ وَيحيى بن مُحَمَّد بن صاعد وَأَبُو على النيسابورى وَإِسْحَاق بن سعد النسوى وَأَبُو عَمْرو بن حمدَان وَأَبُو حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد بن بَالَوَيْهِ وَأَبُو بكر أَحْمد بن مهْرَان الْمُقْرِئ وَمُحَمّد بن أَحْمد بن على بن نصير الْمعدل وحفيده مُحَمَّد بن الْفضل بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وخلائق
وَمن الْأَخْبَار عَن حَاله
قيل لِابْنِ خُزَيْمَة يَوْمًا من أَيْن أُوتيت الْعلم فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ) وإنى لما شربت مَاء زَمْزَم سَأَلت الله علما نَافِعًا(3/110)
وَقيل لَهُ يَوْمًا لَو قطعت لنَفسك ثيابًا تتجمل بهَا فَقَالَ مَا أذكر نفسى قطّ ولى أَكثر من قميصين
قَالَ أَبُو أَحْمد الدارمى وَكَانَ لَهُ قَمِيص يلْبسهُ وقميص عِنْد الْخياط فَإِذا نزع الذى يلْبسهُ ووهبه غدوا إِلَى الْخياط وجاؤا بالقميص الآخر
وَقيل لَهُ يَوْمًا لَو حلقت شعرك فى الْحمام فَقَالَ لم يثبت عندى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل حَماما قطّ وَلَا حلق شعره إِنَّمَا تَأْخُذ شعرى جَارِيَة لى بالمقراض
وَقَالَ أَبُو أَحْمد الدارمى سَمِعت ابْن خُزَيْمَة يَقُول مَا حللت سراويلى على حرَام قطّ
وَقَالَ أَبُو بكر بن بَالَوَيْهِ سَمِعت ابْن خُزَيْمَة يَقُول كنت عِنْد الْأَمِير إِسْمَاعِيل بن أَحْمد فَحدث عَن أَبِيه بِحَدِيث وهم فى إِسْنَاده فرددته عَلَيْهِ فَلَمَّا خرجت من عِنْده قَالَ أَبُو ذَر القاضى قد كُنَّا نَعْرِف أَن هَذَا الحَدِيث خطأ مُنْذُ عشْرين سنة فَلم يقدر وَاحِد منا أَن يردهُ عَلَيْهِ فَقلت لَهُ لَا يحل لى أَن أسمع حَدِيثا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ خطأ أَو تَحْرِيف فَلَا أرد
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا عَمْرو بن إِسْمَاعِيل يَقُول كنت فى مجْلِس ابْن خُزَيْمَة فاستمدنى مُدَّة فناولته بيسارى إِذْ كَانَت يمينى قد اسودت من الْكِتَابَة فَلم يَأْخُذ الْقَلَم وَأمْسك فَقَالَ لى بعض أَصْحَابه لَو ناولت الشَّيْخ بيمينك فَأخذت الْقَلَم بيمينى فناولته فَأخذ منى
وَقَالَ أَبُو أَحْمد الدارمى سَمِعت ابْن خُزَيْمَة يحْكى عَن على بن خشرم عَن إِسْحَاق أَنه قَالَ أحفظ سبعين ألف حَدِيث(3/111)
قَالَ أَبُو أَحْمد الدارمى فَقلت لَهُ كم يحفظ الشَّيْخ فضربنى على رأسى وَقَالَ مَا أَكثر فضولك ثمَّ قَالَ يابنى مَا كتبت سُودًا فى بَيَاض إِلَّا وَأَنا أعرفهُ
مَاتَ ابْن خُزَيْمَة سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة
وفى مرثيته قَالَ بعض أهل الْعلم
(ياابن إِسْحَاق قد مضيت حميدا ... فسقى قبرك السَّحَاب الهتون)
(مَا توليت لَا بل الْعلم ولى ... مَا دفناك بل هُوَ المدفون)
وَمن أَرَادَ الْإِحَاطَة بترجمته فَعَلَيهِ بهَا فى تَارِيخ نيسابور للْحَاكِم أَبى عبد الله رَحمَه الله
وَمن ثَنَاء الْأَئِمَّة عَلَيْهِ
قَالَ الْقفال الشاشى سَمِعت أَبَا بكر الصيرفى يَقُول سَمِعت ابْن سُرَيج يَقُول ابْن خُزَيْمَة يخرج النكت من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمنقاش
وَقَالَ الرّبيع بن سُلَيْمَان استفدنا من ابْن خُزَيْمَة أَكثر مِمَّا اسْتَفَادَ منا
وَقَالَ الْحَاكِم سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البكرى يَقُول سَمِعت ابْن خُزَيْمَة يَقُول حضرت مجْلِس المزنى يَوْمًا وَسَأَلَهُ سَائل من الْعِرَاقِيّين عَن شبه الْعمد فَقَالَ السَّائِل إِن الله عز وَجل وصف الْقَتْل فى كِتَابه صنفين عمدا وَخطأ فَلم قُلْتُمْ إِنَّه على ثَلَاثَة أَصْنَاف وزدتم شبه الْعمد فَذكر الحَدِيث فَقَالَ لَهُ أتحتج بعلى بن زيد بن جدعَان فَسكت المزنى
فَقلت لمناظره قد روى هَذَا الْخَبَر غير على بن زيد(3/112)
فَقَالَ وَمن رَوَاهُ غير على
قلت أَيُّوب السختيانى وخَالِد الْحذاء
قَالَ لى فَمن عقبَة بن أَوْس
قلت عقبَة بن أَوْس رجل من أهل الْبَصْرَة قد رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا مُحَمَّد بن سِيرِين مَعَ جلالته
فَقَالَ للمزنى أَنْت تناظر أَو هَذَا
فَقَالَ إِذا جَاءَ الحَدِيث فَهُوَ يناظر لِأَنَّهُ أعلم بِالْحَدِيثِ منى ثمَّ أَتكَلّم أَنا انْتهى قلت الشافعى رضى الله عَنهُ لم يقْتَصر على رِوَايَة الحَدِيث من طَرِيق ابْن جدعَان بل رَوَاهُ أَيْضا عَن عبد الْوَهَّاب الثقفى عَن خَالِد الْحذاء عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن عقبَة ابْن أَوْس عَن رجل من أَصْحَاب النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الحَدِيث
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ هشيم وَبشر بن الْمفضل وَيزِيد بن زُرَيْع عَن خَالِد الْحذاء
أخرجه النسائى من طريقهم إِلَّا أَن يزِيد قَالَ فِيهِ يَعْقُوب بن أَوْس وَيَعْقُوب وَعقبَة وَاحِد
ثمَّ حَدِيث الشافعى عَن على بن زيد أخرجه هَكَذَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن على بن زيد بن جدعَان عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن عبد الله بن عمر رضى الله عَنْهُمَا أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أَلا إِن فى قَتِيل عمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ والعصا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فى بطونها أَوْلَادهَا)
وَهَكَذَا // رَوَاهُ النسائى وَابْن مَاجَه من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة //(3/113)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق عبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد عَن على بن زيد كَذَلِك وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن على بن زيد عَن الْقَاسِم
قَالَ عبد الرَّزَّاق كَانَ مرّة يَقُول الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَمرَّة ابْن ربيعَة
وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن على بن زيد بن جدعَان عَن يَعْقُوب السدوسى عَن عبد الله بن عَمْرو بِهِ لم يذكر الْقَاسِم بن ربيعَة هَكَذَا ذكره ابْن أَبى حَاتِم فى كتاب الْعِلَل من طَرِيق يزِيد بن هَارُون وَأسد بن مُوسَى عَن حَمَّاد بن سَلمَة
وَذكره أَيْضا هُوَ والدارقطنى من طَرِيق مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة فَقَالَ فِيهِ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
قَالَ ابْن أَبى حَاتِم قلت لأبى من يَعْقُوب السدوسى قَالَ هُوَ يَعْقُوب بن أَوْس وَيُقَال عقبَة بن أَوْس
وَأما حَدِيث أَيُّوب السختيانى فَأخْرجهُ النسائى وَابْن مَاجَه من طَرِيق شُعْبَة عَنهُ عَن الْقَاسِم بن ربيعَة الغطفانى عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
وَأما حَدِيث خَالِد الْحذاء عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن عقبَة بن أَوْس فقد عرفناك طَرِيق الشافعى فِيهِ والنسائى(3/114)
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد والنسائى وَابْن مَاجَه من طَرِيق حَمَّاد بن زيد
وَأَبُو دَاوُد أَيْضا من طَرِيق وهيب بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن خَالِد الْحذاء عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن عقبَة بن أَوْس عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
وَرَوَاهُ النسائى أَيْضا من حَدِيث خَالِد عَن الْقَاسِم عَن عقبَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره مُرْسلا
وَمن طَرِيق حميد الطَّوِيل عَن الْقَاسِم بن ربيعَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره مُرْسلا أَيْضا
فَالْحَاصِل فى الحَدِيث الِاخْتِلَاف فى أَنه هَل هُوَ من مُسْند عبد الله بن عمر أَو ابْن عَمْرو وَذَلِكَ لَا يضر لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول وَلَا يبعد أَن يكون الحَدِيث عَنْهُمَا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ ميل الْحَافِظ المنذرى وَأَن ابْن جدعَان مِمَّن سَمعه إِلَى غير ذَلِك مِمَّا رَأَيْت
وبسببه قضى ابْن عبد الْبر باضطراب الحَدِيث وَحكم بِأَن عقبَة بن أَوْس مَجْهُول وَلَعَلَّ عرق العصبية للمالكية لحقه وَإِلَّا فَلَيْسَ عقبَة بِمَجْهُول بل مَعْرُوف روى عَنهُ ابْن سِيرِين كَمَا ذكر ابْن خُزَيْمَة(3/115)
وروى عَنهُ أَيْضا الْقَاسِم بن ربيعَة وَابْن جدعَان وَقَالَ فِيهِ أَحْمد بن عبد الله العجلى بصرى تابعى ثِقَة وَلم يتَكَلَّم فِيهِ أحد بِجرح
وَالقَاسِم بن ربيعَة مَشْهُور روى عَنهُ جمَاعَة ووثقة ابْن المدينى وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا وَكَانَ من الْعلمَاء الْمَذْكُورين للْقَضَاء
وَغلط ابْن جدعَان فى اسْم أَبِيه مرّة أَو مرَارًا لَا يضر والإرسال لَا ينافى الْإِسْنَاد
وَالْعَمَل على أَن الحَدِيث مُسْند صَحِيح لَا قَادِح فِيهِ وَله شَاهد أخرجه البيهقى من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم عَن ابْن جريح عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَشبه الْعمد مُغَلّظَة وَلَا يقتل صَاحبه وَذَلِكَ أَن ينزو الشَّيْطَان بَين الْقَبِيلَة فَيكون بَينهم رميا بِالْحِجَارَةِ فى عميا فى غير ضغينة وَلَا حمل سلَاح) وَهُوَ من رِوَايَة أَبى حَاتِم الرازى عَن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن إِسْمَاعِيل ابْن عبيد الله المخزومى وَقد ذكره ابْن حبَان فى كِتَابه الثِّقَات وباقى رُوَاته من شُيُوخ الصَّحِيحَيْنِ(3/116)
والرميا بِكَسْر الرَّاء وَالْمِيم المشددتين وَتَشْديد الْيَاء أَيْضا وَكَذَلِكَ العميا على وزن الهجيرا والخصيصا وهى مصَادر للْمُبَالَغَة فى الرمى والعمى أى يعمى أَمر الْقَتِيل
عدنا إِلَى شَأْن إِمَام الْأَئِمَّة
قَالَ الْحَاكِم وَسمعت الْحُسَيْن بن الْحسن يَقُول سَمِعت عمى أَبَا زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى التميمى يَقُول استلقينا الْأَمِير أَبَا إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد لما ورد نيسابور مَعَ ابْن خُزَيْمَة ومعنا أَبُو بكر بن إِسْحَاق وَقد تقدمنا أَبُو عَمْرو الْخفاف وَمَعَهُ جمَاعَة من مَشَايِخ الْبَلَد فيهم أَبُو بكر الجارودى فوصلنا إِلَيْهِ وَأَبُو عَمْرو عَن يَمِينه والجارودى عَن يسَاره والأمير يتَوَهَّم أَن الجارودى هُوَ ابْن خُزَيْمَة لِأَنَّهُ لم يكن قبل ذَلِك عرفهم بأعيانهم فَلَمَّا تقدمنا إِلَيْهِ سلم ابْن خُزَيْمَة عَلَيْهِ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ الِالْتِفَات إِلَى مثله وَكَانَ أَبُو عَمْرو يسَاره وَهُوَ يحدثه إِذْ سَأَلَهُ عَن الْفرق بَين الفىء وَالْغنيمَة فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرو هَذِه من مسَائِل شَيخنَا أَبى بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق
فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِير مِمَّا كَانَ فِيهِ من الْغَفْلَة وَأمر الْحَاجِب أَن يقدمهُ إِلَيْهِ واستقبله وعانقه وَاعْتذر إِلَيْهِ من التَّقْصِير فى أول اللِّقَاء ثمَّ سَأَلَهُ ماالفرق بَين الفىء وَالْغنيمَة فَقَالَ قَالَ الله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ثمَّ جعل يَقُول حَدثنَا وَأخْبرنَا ثمَّ قَالَ قَالَ الله عز وَجل {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وَأخذ يَقُول حَدثنَا وَأخْبرنَا(3/117)
قَالَ عمى وعددنا مائَة ونيفا وَسبعين حَدِيثا سردها من حفظه فى الفىء وَالْغنيمَة
وَقَالَ مُحَمَّد بن حبَان التميمى مَا رَأَيْت على وَجه الأَرْض من يحسن صناعَة السّنَن ويحفظ ألفاظها الصِّحَاح وزياداتها حَتَّى كَأَن السّنَن كلهَا بَين عَيْنَيْهِ إِلَّا مُحَمَّد بن إِسْحَاق فَقَط
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن سهل الطوسى سَمِعت الرّبيع بن سُلَيْمَان وَقَالَ لنا هَل تعرفُون ابْن خُزَيْمَة قُلْنَا نعم قَالَ استفدنا مِنْهُ أَكثر مِمَّا اسْتَفَادَ منا
وَقَالَ دعْلج سَمِعت أَبَا عبد الله البوشنجى يَقُول وَأَشَارَ إِلَى أَبى بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق كيس وَأَنا لَا أَقُول هَذَا لأبى ثَوْر نَقله الْحَاكِم فى تَرْجَمَة البوشنجى
وَقَالَ أَبُو على الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْحَافِظ لم أر مثل مُحَمَّد بن إِسْحَاق
قَالَ وَكَانَ ابْن خُزَيْمَة يحفظ الفقهيات من حَدِيثه كَمَا يحفظ القارىء السُّورَة
وَقَالَ الدارقطنى كَانَ ابْن خُزَيْمَة إِمَامًا ثبتا مَعْدُوم النظير
وَحكى أَبُو بشر الْقطَّان قَالَ رأى جَار لِابْنِ خُزَيْمَة من أهل الْعلم كَأَن لوحا عَلَيْهِ صُورَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَابْن خُزَيْمَة يصقله فَقَالَ الْمعبر هَذَا رجل يحيى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ الْحَاكِم فى عُلُوم الحَدِيث فَضَائِل ابْن خُزَيْمَة مَجْمُوعَة عندى فى أوراق كَثِيرَة ومصنفاته تزيد على مائَة وَأَرْبَعين كتابا سوى الْمسَائِل والمسائل المصنفة أَكثر من مائَة جُزْء وَله فقه حَدِيث بَرِيرَة فى ثَلَاثَة أَجزَاء
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم وَسُئِلَ عَن ابْن خُزَيْمَة فَقَالَ وَيحكم هُوَ يسْأَل عَنَّا وَلَا نسْأَل عَنهُ هُوَ إِمَام يقْتَدى بِهِ(3/118)
قَالَ مُحَمَّد بن الْفضل كَانَ جدي أَبُو بكر لَا يدّخر شَيْئا جهده بل يُنْفِقهُ على أهل الْعلم وَلَا يعرف صنجة الْوَزْن وَلَا يُمَيّز بَين الْعشْرَة وَالْعِشْرين
وَقيل إِن ابْن خُزَيْمَة عمل دَعْوَة عَظِيمَة ببستان جمع فِيهَا الْفُقَرَاء والأغنياء وَنقل كل مَا فى الْبَلَد من الْأكل والشوا والحلوا
قَالَ الْحَاكِم وَكَانَ يَوْمًا مشهودا بِكَثْرَة الْخلق لَا يتهيأ مثله إِلَّا لسلطان كَبِير
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَن إِمَام الْأَئِمَّة
ذهب إِلَى أَن رفع الْيَدَيْنِ ركن من أَرْكَان الصَّلَاة نَقله الْحَاكِم فى تَرْجَمَة مُحَمَّد ابْن على العلوى أبي جَعْفَر الزَّاهِد عَن أَبى على مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن نصروية المقرىء عَنهُ
وَقَالَ إِن الْجَمَاعَة شَرط فى صِحَة الصَّلَاة نَقله الإِمَام وَغَيره
وَإِن من صلى خلف الصَّفّ وَحده يُعِيد نَقله الدارمى فى الاستذكار وَغَيره
قَالَ أَبُو عَاصِم قَالَ ابْن خُزَيْمَة فى معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله خلق آدم على صورته) فِيهِ سَبَب وَهُوَ أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يضْرب وَجه رجل فَقَالَ (لَا تضرب على وَجهه فَإِن الله تَعَالَى خلق آدم على صورته) قلت دَعْوَى أَن الضَّمِير فى صورته عَائِد على رجل مَضْرُوب قَالَه غير ابْن خُزَيْمَة أَيْضا وَلكنه من ابْن خُزَيْمَة شَاهد // صَحِيح // لما لَا يرتاب فِيهِ من أَن الرجل
برىء عَمَّا ينْسبهُ إِلَيْهِ المشبهة وتفتريه عَلَيْهِ الملحدة وَبَرَاءَة الرجل مِنْهُم ظَاهِرَة فى كتبه وَكَلَامه وَلَكِن الْقَوْم يخبطون عشواء ويمارون سفها
وَمِمَّنْ ذكر من أَصْحَابنَا أَن الضَّمِير فى صورته عَائِد على رجل أَبُو على بن أَبى هُرَيْرَة فى تَعْلِيقه فى بَاب التَّعْزِير(3/119)
121 - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن بَحر أَبُو عبد الله الفارسى البغدادى
مولده سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
روى عَن أَبى زرْعَة الدمشقى وَعُثْمَان بن خرزاذ وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرى وَبكر بن سهل الدمياطى وَغَيرهم
روى عَنهُ الدارقطنى فَأكْثر وَإِبْرَاهِيم بن خرشيد قَوْله وَأَبُو عمر بن مهدى مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
122 - مُحَمَّد بن جرير بن يزِيد بن كثير بن غَالب الإِمَام الْجَلِيل الْمُجْتَهد الْمُطلق أَبُو جَعْفَر الطبرى
من أهل آمل طبرستان أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا علما ودينا
ومولده سنة أَربع أَو خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
طوف الأقاليم فى طلب الْعلم(3/120)
وَسمع من مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أَبى الشَّوَارِب وَإِسْحَاق بن أَبى إِسْرَائِيل وَإِسْمَاعِيل ابْن مُوسَى الفزارى وأبى كريب وهناد بن السرى والوليد بن شُجَاع وَأحمد بن منيع وَمُحَمّد بن حميد الرازى وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَخلق سواهُم
روى عَنهُ أَبُو شُعَيْب الحرانى وَهُوَ أكبر مِنْهُ سنا وسندا ومخلد الباقرحى والطبرانى وَعبد الْغفار الحضينى وَأَبُو عَمْرو بن حمدَان وَأحمد بن كَامِل وَطَائِفَة سواهُم
وَقَرَأَ الْقُرْآن على سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الطلحى صَاحب خَلاد
وَمن تصانيفه كتاب التَّفْسِير وَكتاب التَّارِيخ وَكتاب الْقرَاءَات وَالْعدَد والتنزيل وَكتاب اخْتِلَاف الْعلمَاء وتاريخ الرِّجَال من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَكتاب أَحْكَام شرائع الْإِسْلَام أَلفه على مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَكتاب الْخَفِيف وَهُوَ مُخْتَصر فى الْفِقْه وَكتاب التبصير فى أصُول الدّين
وابتدأ تصنيف كتاب تَهْذِيب الْآثَار وَهُوَ من عجائب كتبه ابْتَدَأَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو بكر الصّديق رضى الله عَنهُ كَمَا صَحَّ عِنْده بِسَنَدِهِ وَتكلم على ل حَدِيث مِنْهُ بعلله وطرقه وَمَا فِيهِ من الْفِقْه وَالسّنَن وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وحججهم وَمَا فِيهِ من الْمعَانى والغريب فتم مِنْهُ مُسْند الْعشْرَة وَأهل الْبَيْت وَالْموالى وَمن مُسْند ابْن عَبَّاس قِطْعَة كَثِيرَة وَمَات قبل تَمَامه(3/121)
وابتدأ بِكِتَاب الْبَسِيط فَخرج مِنْهُ كتاب الطَّهَارَة فى نَحْو ألف وَخَمْسمِائة ورقة وَخرج مِنْهُ أَكثر كتاب الصَّلَاة وَخرج مِنْهُ آدَاب الْحُكَّام وَكتاب المحاضر والسجلات وَغير ذَلِك
قَالَ الْخَطِيب كَانَ ابْن جرير أحد الْأَئِمَّة يحكم بقوله وَيرجع إِلَى رَأْيه لمعرفته وفضله جمع من الْعُلُوم مَا لم يُشَارِكهُ فِيهِ أحد من أهل عصره فَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله بَصيرًا بالمعانى فَقِيها فى أَحْكَام الْقُرْآن عَالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عَارِفًا بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من الْمُخَالفين فى الْأَحْكَام ومسائل الْحَلَال وَالْحرَام عَارِفًا بأيام النَّاس وأخبارهم وَله الْكتاب الْمَشْهُور فى تَارِيخ الْأُمَم والملوك وَكتاب فى التَّفْسِير لم يصنف أحد مثله وَكتاب سَمَّاهُ تَهْذِيب الْآثَار لم أر سواهُ فى مَعْنَاهُ إِلَّا أَنه لم يتمه وَله فى أصُول الْفِقْه وفروعه كتب كَثِيرَة
قَالَ وَسمعت على بن عبد الله عبد الْغفار اللغوى الْمَعْرُوف بالسمسمانى يحْكى أَن مُحَمَّد بن جرير مكث أَرْبَعِينَ سنة يكْتب فى كل يَوْم مِنْهَا أَرْبَعِينَ ورقة(3/122)
قَالَ وبلغنى عَن الشَّيْخ أَبى حَامِد الإسفراينى أَنه قَالَ لَو سَافر رجل إِلَى الصين حَتَّى يحصل لَهُ كتاب تَفْسِير مُحَمَّد بن جرير لم يكن ذَلِك كثيرا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ انْتهى
وَذكر أَبُو مُحَمَّد الفرغانى فى صلَة التَّارِيخ أَن قوما من تلامذة مُحَمَّد بن جرير حسبوا لأبى جَعْفَر مُنْذُ بلغ الْحلم إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ قسموا على تِلْكَ الْمدَّة أوراق مصنفاته فَصَارَ لكل يَوْم أَربع عشرَة ورقة
قلت وَهَذَا لَا ينافى كَلَام السمسمانى لِأَنَّهُ مُنْذُ بلغ لابد أَن يكون مَضَت لَهُ سنُون فى الطّلب لَا يصنف فِيهَا
وَذكر أَن أَبَا الْعَبَّاس ابْن سُرَيج كَانَ يَقُول مُحَمَّد بن جرير الطبرى فَقِيه الْعَالم
وَذكر أَن مُحَمَّد بن جرير قَالَ أظهرت فقه الشافعى وأفتيت بِهِ بِبَغْدَاد عشر سِنِين وتلقنه منى ابْن بشار الْأَحول أستاذ أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج
وروى أَن أَبَا جَعْفَر قَالَ لأَصْحَابه أتنشطون لتفسير الْقُرْآن قَالُوا كم يكون قدره فَقَالَ ثَلَاثُونَ ألف ورقة فَقَالُوا هَذَا مِمَّا تفنى الْأَعْمَار قبل تَمَامه
فَاخْتَصَرَهُ فى نَحْو ثَلَاثَة آلَاف ورقة
ثمَّ قَالَ هَل تنشطون لتاريخ الْعَالم من آدم إِلَى وقتنا هَذَا قَالُوا كم قدره فَذكر نَحوا مِمَّا ذكره فى التَّفْسِير فأجوبوه بِمثل ذَلِك فَقَالَ إِنَّا لله مَاتَت الهمم فَاخْتَصَرَهُ فى نَحْو مَا اختصر التَّفْسِير(3/123)
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا بكر بن بَالَوَيْهِ يَقُول قَالَ لى ابْن خُزَيْمَة بلغنى أَنَّك كتبت التَّفْسِير عَن ابْن جرير قلت نعم إملاء قَالَ كُله قلت نعم قَالَ فى كم سنة قلت من سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ إِلَى سنة تسعين قَالَ فاستعاره منى ابْن خُزَيْمَة ثمَّ رده بعد سِنِين ثمَّ قَالَ نظرت فِيهِ من أَوله إِلَى آخِره وَمَا أعلم على أَدِيم الأَرْض أعلم من مُحَمَّد بن جرير وَلَقَد ظلمته الْحَنَابِلَة
وَقَالَ أَبُو على الطومارى كنت أحمل الْقنْدِيل فى شهر رَمَضَان بَين يدى أَبى بكر بن مُجَاهِد لصَلَاة التَّرَاوِيح فَخرج لَيْلَة من ليالى الْعشْر الْأَوَاخِر من دَاره واجتاز على مَسْجده فَلم يدْخلهُ وَأَنا مَعَه وَسَار حَتَّى انْتهى فَوقف على بَاب مَسْجِد مُحَمَّد بن جرير وَابْن جرير يقْرَأ سُورَة الرَّحْمَن فاستمع قِرَاءَته طَويلا ثمَّ انْصَرف فَقلت لَهُ يَا أستاذ تركت النَّاس ينتظرونك وَجئْت تستمع قِرَاءَة هَذَا فَقَالَ يَا أَبَا على دع هَذَا عَنْك مَا ظَنَنْت أَن الله خلق بشرا يحسن أَن يقْرَأ هَذِه الْقِرَاءَة
وَذكر أَن المكتفى الْخَلِيفَة قَالَ لِلْحسنِ بن الْعَبَّاس أُرِيد أَن أوقف وَقفا تَجْتَمِع أقاويل الْعلمَاء على صِحَّته وَيسلم من الْخلاف قَالَ فأحضر ابْن جرير فأملى عَلَيْهِم كتابا لذَلِك فأخرجت لَهُ جَائِزَة سنية فَأبى أَن يقبلهَا فَقيل لَهُ لابد من جَائِزَة أَو قَضَاء حَاجَة فَقَالَ نعم الْحَاجة أسأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يتَقَدَّم إِلَى الشَّرْط أَن يمنعوا السُّؤَال من دُخُول الْمَقْصُورَة يَوْم الْجُمُعَة فَتقدم بذلك وَعظم فى نُفُوسهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الفرغانى صَاحب ابْن جرير أرسل الْعَبَّاس بن الْحسن الْوَزير إِلَى ابْن جرير قد أَحْبَبْت أَن أنظر فى الْفِقْه وَسَأَلَهُ أَن يعْمل لَهُ مُخْتَصرا فَعمل لَهُ كتاب الْخَفِيف وأنفذه فَوجه إِلَيْهِ ألف دِينَار فَلم يقبلهَا فَقيل لَهُ تصدق بهَا فَلم يفعل
وَقَالَ حسينك بن على النيسابورى أول مَا سألنى ابْن خُزَيْمَة قَالَ كتبت عَن(3/124)
مُحَمَّد بن جرير قلت لَا قَالَ وَلم قلت لِأَنَّهُ كَانَ لَا يظْهر وَكَانَت الْحَنَابِلَة تمنع من الدُّخُول عَلَيْهِ فَقَالَ بئس مَا فعلت ليتك لم تكْتب عَن كل من كتبت عَنْهُم وَسمعت مِنْهُ
قلت لم يكن عدم ظُهُوره ناشئا من أَنه منع وَلَا كَانَت للحنابلة شَوْكَة تقتضى ذَلِك وَكَانَ مِقْدَار ابْن جرير أرفع من أَن يقدروا على مَنعه وَإِنَّمَا ابْن جرير نَفسه كَانَ قد جمع نَفسه عَن مثل الأراذل المتعرضين إِلَى عرضه فَلم يكن يَأْذَن فى الِاجْتِمَاع بِهِ إِلَّا لمن يختاره وَيعرف أَنه على السّنة وَكَانَ الْوَارِد من الْبِلَاد مثل حسينك وَغَيره لَا يدرى حَقِيقَة حَاله فَرُبمَا أصغى إِلَى كَلَام من يتَكَلَّم فِيهِ لجهله بأَمْره فَامْتنعَ عَن الِاجْتِمَاع بِهِ
وَمِمَّا يدلك على أَنه لم يمْنَع قَول ابْن خُزَيْمَة لحسينك ليتك سَمِعت مِنْهُ فَإِن فِيهِ دلَالَة أَن سَمَاعه مِنْهُ كَانَ مُمكنا وَلَو كَانَ مَمْنُوعًا لم يقل لَهُ ذَلِك وَهَذَا أوضح من أَن ننبه عَلَيْهِ وَأمر الْحَنَابِلَة فى ذَلِك الْعَصْر كَانَ أقل من ذَلِك
قَالَ الفرغانى كَانَ مُحَمَّد بن جرير مِمَّن لَا تَأْخُذهُ فى الله لومة لائم مَعَ عَظِيم مَا يلْحقهُ من الْأَذَى والشناعات من جَاهِل وحاسد وملحد فَأَما أهل الْعلم وَالدّين فَغير منكرين علمه وزهده فى الدُّنْيَا ورفضه لَهَا وقناعته بِمَا كَانَ يرد عَلَيْهِ من حِصَّة خلفهَا لَهُ أَبوهُ بطبرستان يسيرَة وَلما تقلد الخاقانى الوزارة وَجه إِلَيْهِ بِمَال كثير فَأبى أَن يقبله فَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فَامْتنعَ فَعَاتَبَهُ أَصْحَابه وَقَالُوا لَهُ لَك فى هَذَا ثَوَاب وتحيى سنة قد درست وطمعوا فى أَن يقبل ولَايَة الْمَظَالِم فانتهرهم وَقَالَ قد كنت أَظن أَنى لَو رغبت فى ذَلِك لنهيتمونى عَنهُ
وَقَالَ الفرغانى رَحل ابْن جرير من مَدِينَة آمل لما ترعرع وسمح لَهُ أَبوهُ بِالسَّفرِ وَكَانَ طول حَيَاته ينفذ إِلَيْهِ بالشئ بعد الشئ إِلَى الْبلدَانِ فَسَمعته يَقُول أَبْطَأت عَنى نَفَقَة والدى واضطررت إِلَى أَن فتقت كمى الْقَمِيص فبعتهما(3/125)
وَقَالَ ابْن كَامِل توفى عَشِيَّة الْأَحَد ليومين بقيا من شَوَّال سنة عشر وثلاثمائة وَدفن فى دَاره برحبة يَعْقُوب وَلم يُغير شَيْبه وَكَانَ السوَاد فى رَأسه ولحيته كثيرا وَكَانَ أسمر إِلَى الأدمة أعين نحيف الْجِسْم مديد الْقَامَة فصيحا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من لَا يُحْصِيه إِلَى الله تَعَالَى وَصلى على قَبره عدَّة شهور لَيْلًا وَنَهَارًا ورثاه خلق كثير من أهل الدّين وَالْأَدب
من ذَلِك قَول أَبى سعيد بن الأعرابى
(حدث مفظع وخطب جليل ... دق عَن مثله اصطبار الصبور)
(قَامَ ناعى الْعُلُوم أجمع لما ... قَامَ ناعى مُحَمَّد بن جرير)
وَقَول ابْن دُرَيْد
(إِن الْمنية لم تتْلف بِهِ رجلا ... بل أتلفت علما للدّين مَنْصُوبًا)
(كَانَ الزَّمَان بِهِ تصفو مشاربه ... والآن أصبح بالتكدير مقطوبا)
(كلا وأيامه الغر الَّتِى جعلت ... للْعلم نورا وللتقوى محاريبا)
عَجِيبَة تَتَضَمَّن مَسْأَلَة
إِذا ادّعى المقضى عَلَيْهِ أَن القاضى حكم عَلَيْهِ بِشَهَادَة فاسقين قَالَ ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب فى بَاب الشَّهَادَة على الشَّهَادَة يجب على شَاهد الْفَرْع تَسْمِيَة شُهُود الأَصْل خلافًا لمُحَمد بن جرير الطبرى الذى أفهم كَلَام صَاحب الإشراف عِنْد الْكَلَام فى دَعْوَى المقضى عَلَيْهِ أَن القاضى قضى عَلَيْهِ بِشَهَادَة فاسقين أَنه من أَصْحَابنَا انْتهى
وَهَذَا كَلَام عَجِيب يُوهم أَن ابْن جرير هَذَا غير ابْن جرير الإِمَام الْمَشْهُور صَاحب التَّرْجَمَة فَإِن فى هَذَا اللَّفْظ تجهيلا عَظِيما للمسمى بِهَذَا الِاسْم وَابْن جرير إِمَام شهير(3/126)
لَا يخفى حَاله على ابْن الرّفْعَة وَلَا من دونه وَإِنَّمَا قصد ابْن الرّفْعَة بِهَذَا الْكَلَام الْإِشَارَة إِلَى أَنه وَإِن كَانَ مُجْتَهدا مُطلقًا مَعْدُود من أَصْحَابنَا بِشَهَادَة صَاحب الإشراف فليلتحق قَوْله بِهَذَا بِالْمذهبِ ويعد وَجها فِيهِ وَهَذَا أَيْضا غير لَائِق بعلو قدر ابْن الرّفْعَة فَابْن جرير مَعْدُود من أَصْحَابنَا لَا يمترى أحد فى ذَلِك وَلَو عد عَاد ذكر ابْن الرّفْعَة لَهُ ولأقواله من أَصْحَابنَا لأكْثر الْمَعْدُود فَلَا طائل تَحت كَلَامه هَذَا بل هُوَ كَلَام موهم كَانَ السُّكُوت عَنهُ أجمل بقائله وَمَا حمله عَلَيْهِ إِلَّا كَثْرَة استحضاره لما بعد وَمَا قرب وَحَيْثُ ذكره فى المظنة فَاسْتَحْضرهُ من غير المظنة وَلَو أَنه قَالَ الذى اقْتضى كَلَام صَاحب الإشراف مُوَافقَة غَيره من أَصْحَابنَا لَهُ على مقَالَته فى عدم سَماع الدَّعْوَى على القاضى بِأَنَّهُ حكم بِشَهَادَة فاسقين لَكَانَ أحسن فَإِن مُوَافقَة غير ابْن جرير من أَصْحَابنَا لَهُ تؤكد عد قَوْله من الْمَذْهَب بِخِلَاف مَا إِذا لم يُوجد لَهُ مُوَافق فَإِن النّظر إِذْ ذَاك قد يتَوَقَّف فِي إِلْحَاق أَقْوَاله بِالْمذهبِ لِأَن المحمدين الْأَرْبَعَة ابْن جرير وَابْن خُزَيْمَة وَابْن نصر وَابْن الْمُنْذر وَإِن كَانُوا من أَصْحَابنَا فَرُبمَا ذَهَبُوا باجتهادهم الْمُطلق إِلَى مَذَاهِب خَارِجَة عَن الْمَذْهَب فَلَا نعد تِلْكَ الْمذَاهب من مَذْهَبنَا بل سَبِيلهَا سَبِيل من خَالف إِمَامه فى شئ من الْمُتَأَخِّرين أَو الْمُتَقَدِّمين
وَإِنَّمَا قلت إِن صَاحب الإشراف ذكر مُوَافقَة غير ابْن جرير لَهُ على عدم الدَّعْوَى بِأَنَّهُ حكم بِشَهَادَة فاسقين لِأَن عبارَة الإشراف
فصل
إِذا ادّعى المقضى عَلَيْهِ أَن القاضى قضى عَلَيْهِ بِشَهَادَة فاسقين
قَالَ مُحَمَّد بن جرير وَغَيره من أَصْحَابنَا لَا ينبغى أَن يفوق سهم هَذِه الدَّعْوَى نَحْو القاضى لِأَن فِيهِ تشنيعا عَلَيْهِ وَهُوَ مستغن عَن هَذَا التشنيع عَلَيْهِ بِأَن يُقيم الْبَيِّنَة على فسق الشُّهُود وَيُفَارق إِذا ادّعى على القاضى أَنه أَخذ مِنْهُ الرِّشْوَة وفسرها وهى مَال(3/127)
مبذول ليصير الْحق بَاطِلا وَالْبَاطِل حَقًا لِأَنَّهُ أَمر خفى لَا يُمكنهُ إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ دون الادعاء على القاضى فَلَمَّا لم يكن مستغنيا عَن الادعاء عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الادعاء ليصون القاضى مَاء وَجهه فَيرد المَال عَلَيْهِ
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا دَعْوَى الطعْن على الشُّهُود مسموعة على القَاضِي لِأَنَّهُ رُبمَا يتَعَذَّر عَلَيْهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة على فسق الشُّهُود انْتهى
وَحكى بعده الْوَجْهَيْنِ الْمَشْهُورين فى تَحْلِيفه إِذا أنكر
فَإِن قلت الْوَجْهَانِ فى الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِشَهَادَة فاسقين مشهوران
قلت كلا إِنَّمَا الْمَشْهُور الْوَجْهَانِ فى إِحْضَاره إِذا ادّعى عَلَيْهِ هَكَذَا أما أصل الدَّعْوَى فَقَالَ الرافعى إِنَّهُم متفقون على سماعهَا على الْجُمْلَة وَأنكر على الغزالى جعله الْوَجْهَيْنِ فى أصل الدَّعْوَى وَكَلَام ابْن جرير هَذَا صَرِيح فى أَن الدَّعْوَى لَا تسمع فَفِيهِ تأييد عَظِيم للغزالى لَا سِيمَا مَعَ اعتضاده بموافقة بعض الْأَصْحَاب بل غالبهم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ القاضى أَبُو سعد فَإِن فى قَوْله قَالَ ابْن جرير وَغَيره من أَصْحَابنَا مَعَ قَوْله فى مُقَابِله وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا مَا يعْطى أَن الجادة على قَول ابْن جرير على خلاف دَعْوَى الرافعى الِاتِّفَاق نعم مَحل ذَلِك فصل الدَّعْوَى على القاضى الْمَعْزُول من كتاب الْأَقْضِيَة لَا بَاب الشَّهَادَة على الشَّهَادَة وَقَول ابْن جرير لَا يشْتَرط تَسْمِيَة شُهُود الأَصْل هُوَ الْمُخْتَص بِبَاب الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَكَانَ طَرِيق ابْن الرّفْعَة إِن لم يجد لَهُ من خلص الْأَصْحَاب مُتَابعًا أَن يَقُول وَلَا متابع لَهُ لكنه من أَصْحَابنَا(3/128)
123 - مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أَحْمد بن عِيسَى أَبُو عبد الله ابْن بنت عبد الله ابْن أَبى القاضى
من عُلَمَاء خوارزم من بَيت الْعلم والزهد
قَالَ صَاحب الكافى كَانَ رجلا حَلِيمًا وقورا فَاضلا رَحل فى طلب الْعلم إِلَى الْعرَاق
وتفقه على أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فِيمَا أَظن
وَسمع الحَدِيث بهَا من مُحَمَّد بن جرير الطبرى
تكلم يَوْمًا فى مَسْأَلَة مَعَ سعيد بن أَبى القاضى فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله لم يَأن لَك بعد قَالَ فَدخلت الْمنزل فأقمت فِيهِ سِتَّة أشهر حَتَّى استظهرت كتاب المزنى ثمَّ تَكَلَّمت فَقَالَ لى سعيد إيها الْآن
توفى فى ربيع الآخر سنة ثَمَان عشرَة وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قيل لَهُ الرجل السعيد فى دُنْيَاهُ يتَمَنَّى الْوَلَد وَلَا يتمناه فى الْجنَّة فَقَالَ تمنى النَّاس أَوْلَادًا فى الدُّنْيَا لحبهم فِيهَا حَتَّى إِذا انقرضوا يبْقى لَهُم نعيمهم بِبَقَاء الْوَلَد وَقد أمنُوا الانقراض فى الْجنَّة(3/129)
وَوَقع سُؤال فى زَمَانه عَن بيع التُّرَاب على الأَرْض المسبلة فَأفْتى عَامَّة الْفُقَهَاء بِالْمَنْعِ وَرفعت الْفتيا إِلَيْهِ فَقَالَ مَا زَاد فِيهَا بعد الْوَقْف يجوز بَيْعه فَانْتَهوا لذَلِك ووافقوه
ذكر ذَلِك صَاحب الكافى فِي تَارِيخ خوارزم
124 - مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن خازم الخازمى بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة والزاى الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر
من أهل جرجان تفقه على أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج وروى عَنهُ وَعَن أَبى بكر عبد الله ابْن أَبى بكر ابْن خَيْثَمَة
روى عَنهُ على بن أَحْمد بن مُوسَى الجرجانى وَغَيره
ويحكى أَن أَبَا الْعَبَّاس ابْن سُرَيج قَالَ مَا عبر جسر النهروان أفقه من أَبى جَعْفَر ابْن خازم
وَقد اختصر الذهبى فى تَرْجَمته جدا
توفى سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة(3/130)
125 - مُحَمَّد بن حبَان بن أَحْمد بن حبَان بن معَاذ بن معبد أَبُو حَاتِم بن حبَان البستى التميمى
الْحَافِظ الْجَلِيل الإِمَام
صَاحب التصانيف الْأَنْوَاع والتقاسيم وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل والثقات وَغير ذَلِك
سمع الْحُسَيْن بن إِدْرِيس الهروى وَأَبا خَليفَة والنسائى وَعمْرَان بن مُوسَى وَأَبا يعلى وَالْحسن بن سُفْيَان وَابْن خُزَيْمَة والسراج وخلائق لَا يُحصونَ كَثْرَة بخراسان وَالْعراق والحجاز وَالشَّام ومصر والجزيرة وَغَيرهَا من الأقاليم
قَالَ فى كِتَابه التقاسيم والأنواع لَعَلَّنَا كتبنَا عَن ألف شيخ مَا بَين الشاش والإسكندرية
روى عَنهُ الْحَاكِم وَمَنْصُور بن عبد الله الخالدى وَأَبُو معَاذ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن رزق السختيانى وَأَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد بن هَارُون الزوزنى وَمُحَمّد بن أَحْمد بن مَنْصُور النوقانى وَغَيرهم
قَالَ أَبُو سعد الإدريسى كَانَ على قَضَاء سَمَرْقَنْد زَمَانا وَكَانَ من فُقَهَاء الدّين(3/131)
وحفاظ الْآثَار عَالما بالطب والنجوم وفنون الْعلم ألف الْمسند الصَّحِيح والتاريخ والضعفاء وَفقه النَّاس بسمرقند
وَقَالَ الْحَاكِم كَانَ من أوعية الْعلم فى الْفِقْه واللغة والْحَدِيث والوعظ وَمن عقلاء الرِّجَال
ثمَّ ذكر أَنه قدم نيسابور مرَّتَيْنِ ثمَّ ولى قَضَاء نسا ثمَّ قدم نيسابور ثَالِثَة وَبنى فِيهَا خانكاه وقرئت عَلَيْهِ جملَة من مصنفاته ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه سَمَرْقَنْد وَكَانَت الرحلة إِلَيْهِ لسَمَاع مصنفاته
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ ثِقَة نبيلا فهما
وَقَالَ ابْن السمعانى كَانَ أَبُو حَاتِم إِمَام عصره رَحل فِيمَا بَين الشاش والإسكندرية
توفى لَيْلَة الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وثلاثمائة رَحمَه الله
ذكر مَا رمى بِهِ أَبُو حَاتِم وتبيين الْحَال فِيهِ
قدمنَا فى الطَّبَقَة الثَّانِيَة فى تَرْجَمَة أَحْمد بن صَالح المصرى أَن مِمَّا ينبغى أَن ينظر فِيهِ ويتفقد وَقت الْجرْح وَالتَّعْدِيل حَال العقائد فَإِنَّهُ بَاب مُهِمّ وَقع بِسَبَبِهِ كَلَام بعض الْأَئِمَّة فى بعض لمُخَالفَة العقيدة إِذا تذكرت ذَلِك فَاعْلَم أَن أَبَا إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الهروى الذى تسميه المجسمة شيخ الْإِسْلَام قَالَ سَأَلت يحيى بن عمار عَن ابْن حبَان قلت رَأَيْته قَالَ وَكَيف لم أره وَنحن أخرجناه من سجستان كَانَ لَهُ علم كثير وَلم يكن لَهُ كَبِير دين قدم علينا فَأنْكر الْحَد لله فأخرجناه من سجستان انْتهى
قلت انْظُر مَا أَجْهَل هَذَا الْجَارِح وليت شعرى من الْمَجْرُوح مُثبت الْحَد لله أَو نافيه(3/132)
وَقد رَأَيْت لِلْحَافِظِ صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدى العلائى رَحمَه الله على هَذَا كلَاما جيدا أَحْبَبْت نَقله بعبارته قَالَ رَحمَه الله وَمن خطه نقلت يَا لله الْعجب من أَحَق بِالْإِخْرَاجِ والتبديع وَقلة الدّين
وَهَذِه نخب وفوائد عَن الإِمَام أَبى حَاتِم
ذكر فى صَحِيحه حَدِيث أنس فى الْوِصَال وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إنى لست كأحدكم إنى أطْعم وأسقى)
ثمَّ قَالَ فى هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن الْأَخْبَار الَّتِى فِيهَا ذكر وضع النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحجر على بَطْنه كلهَا أباطيل وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا الحجز لَا الْحجر والحجز هُوَ طرف الْإِزَار إِذْ الله عز وَجل كَانَ يطعم رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويسقيه إِذا وَاصل فَكيف يتْركهُ جائعا مَعَ عدم الْوِصَال حَتَّى احْتَاجَ إِلَى شدّ الْحجر على بَطْنه وَمَا يغنى الْحجر عَن الْجُوع
قلت فى هَذَا نظر وَقد أخرج ابْن حبَان قبل هَذَا بأوراق يسيرَة حَدِيث ابْن عَبَّاس خرج أَبُو بكر بالهاجرة ... الحَدِيث وَفِيه قَول النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (والذى نفسى بِيَدِهِ مَا أخرجنى إِلَّا الْجُوع)
وفى الْجُوع أَحَادِيث كَثِيرَة والجوع لَا يقتضى نقصا بل فِيهِ رفْعَة لدرجاته الْعليا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْجمع بَين ذَلِك وَقَضِيَّة الْوِصَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ أَحْوَال بِحَسب مَا يختاره الله تَعَالَى لَهُ ويرتضيه فَتَارَة الْجُوع وَتارَة التقوية على الصَّوْم وكل حَال بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فى وَقتهَا أكمل وَأولى هَكَذَا كَانَ خطر لى والذى أَنا عَلَيْهِ الْآن أَنى لَا أدرى من حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْجُوع شَيْئا والذى أعتقده أَنه كَانَ جوعا اختياريا لَا اضطراريا وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقدر على طرده عَن نَفسه إِمَّا بِأَن تَنْصَرِف عَنهُ شَهْوَة الطَّعَام وَالشرَاب مَعَ بَقَاء الْقُوَّة بِإِذن الله وَإِمَّا بتغذية الله الْمُغنيَة لَهُ عَن الطَّعَام وَالشرَاب وَإِمَّا بتناول الْغذَاء فقد كَانَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَادِرًا على ذَلِك(3/133)
وسماعى مَرَّات كثيرات من الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله وَهُوَ معتقدى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن فَقِيرا قطّ وَلَا كَانَت حَالَته حَالَة الْفُقَرَاء بل كَانَ أغْنى النَّاس بِاللَّه وَكَانَ الله تَعَالَى قد كَفاهُ أَمر دُنْيَاهُ فى نَفسه وَعِيَاله ومعاشه
وأحفظ أَن الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله أَقَامَ من مَجْلِسه من قَالَ كَانَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقِيرا قيَاما صعبا وَكَاد يَسْطُو بِهِ وَمَا نجاه مِنْهُ إِلَّا أَنه استتابه واستسلمه
وَكَانَ رَحمَه الله يَقُول فى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ أحينى مِسْكينا) إِن المُرَاد بِهِ استكانة الْقلب لَا المسكنة الَّتِى هى أَن يجد مَا لَا يَقع موقعا من كِفَايَته وَذكر ذَلِك فى بَاب الْوَصِيَّة من شرح الْمِنْهَاج وسمعته مِنْهُ كَذَا كَذَا مَرَّات لَا أحصى لَهَا عددا
وَكَانَ رَحمَه الله يشدد النكير على من يعْتَقد ذَلِك وَالْحق مَعَه رضى الله عَنهُ فَإِن من جَاءَت إِلَيْهِ مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض وَكَانَ قَادِرًا على تنَاول مَا فِيهَا كل لَحْظَة كَيفَ يُوصف بِالْعدمِ وَنحن لَو وجدنَا من مَعَه مَال جزيل فى صندوق من جَوَانِب بَيته لَو سمناه بسمة الْغناء المفرط مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ قد يسرق أَو تغتاله غوائل الزَّمَان فَيُصْبِح فَقِيرا فَكيف لَا يُسمى من خَزَائِن الأَرْض بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أقرب من الصندوق إِلَى صَاحب الْبَيْت وهى فى يَده بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّر بل هُوَ آمن عَلَيْهَا بِخِلَاف صَاحب الصندوق فَمَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقِيرا من المَال قطّ وَلَا مِسْكينا نعم كَانَ أعظم النَّاس جوارا إِلَى ربه وخضوعا لَهُ وأشدهم فى أظهار الافتقار إِلَيْهِ والتمسكن بَين يَدَيْهِ
ذكر أَبُو حَاتِم حَدِيث قَوَائِم الْمِنْبَر رواتب فى الْجنَّة وَبَوَّبَ عَلَيْهِ برجاء نوال الْجنان بِالطَّاعَةِ عِنْد مِنْبَر الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَحَدِيث مَا بَين بيتى ومنبرى رَوْضَة من رياض الْجنَّة وَبَوَّبَ عَلَيْهِ رَجَاء نوال الْمَرْء بِالطَّاعَةِ رَوْضَة من رياض الْجنَّة إِذا أَتَى بهَا بَين الْقَبْر والمنبر(3/134)
ثمَّ قَالَ حَاصله أَن الْخطاب فى هذَيْن الْخَبَرَيْنِ من بَاب إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب وَالْمعْنَى أَن الْمُسلم يُرْجَى لَهُ الْجنَّة بتقربه عِنْد هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ
قَالَ وَهُوَ كَحَدِيث منبرى على حوضى لرجاء الْمَرْء نوال الشّرْب من الْحَوْض بِطَاعَتِهِ فى ذَلِك الْموضع وكحديث عَائِد الْمَرِيض فى مخرفة الْجنَّة وَحَدِيث الْجنَّة تَحت ظلال السيوف ونظائره كَثِيرَة
أَشَارَ أَبُو حَاتِم إِلَى أَن حج الْمَرْء بامرأته لتقضى فَرِيضَة حَجهَا إِذا لم يكن لَهَا محرم غَيره أفضل من جِهَاد التَّطَوُّع وَذكر حَدِيث اكتتبت فى غزَاة كَذَا وَخرجت امرأتى حَاجَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اذْهَبْ فحج بامرأتك)
وَأَشَارَ إِلَى أَنه يسْتَحبّ للملبى عِنْد التَّلْبِيَة إِدْخَال الأصبعين فى الْأُذُنَيْنِ لحَدِيث كَأَنَّمَا أنظر إِلَى مُوسَى وَاضِعا أصبعيه فى أُذُنَيْهِ لَهُ جوَار إِلَى الله بِالتَّلْبِيَةِ
126 - مُحَمَّد بن حسان بن مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو مَنْصُور الْفَقِيه القرشى ابْن الْأُسْتَاذ أَبى الْوَلِيد النيسابورى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من أفقه أَصْحَاب أَبِيه الْأُسْتَاذ أَبى الْوَلِيد وَكَانَ يَصُوم صَوْم دَاوُد قَرِيبا من ثَلَاثِينَ سنة وَسمع الحَدِيث الْكثير وصنف كتابا فى الرَّد على كتاب الرياضة
سمع أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَأَبا الْعَبَّاس الماسرجسى والمؤمل بن الْحسن وَغَيرهم
وَاسْتشْهدَ وَذَاكَ أَنه كَانَ منصرفا من عيد الْأَضْحَى فرفسته دَابَّة فَوَقع فى بِئْر(3/135)
وَحمل إِلَى منزله وغشى عَلَيْهِ ثمَّ توفى غَدَاة يَوْم الْأَحَد آخر أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سبع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَدفن بِجنب أَبِيه
كتب عَنهُ الْحَاكِم فى التَّارِيخ
127 - مُحَمَّد بن الْحسن بن إِبْرَاهِيم الشَّيْخ الإِمَام أَبُو عبد الله الختن الفارسى ثمَّ الإستراباذى
أحد أَئِمَّة الْأَصْحَاب وَعرف بالختن لِأَنَّهُ كَانَ ختن الإِمَام أَبى بكر الإسماعيلى
مولده سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة
قَالَ الْحَاكِم أحد أَئِمَّة الشافعيين فى عصره وَكَانَ مقدما فى الْأَدَب ومعانى الْقُرْآن والقراءات وَمن الْعلمَاء المبرزين فى النّظر والجدل
سمع أَبَا نعيم عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عدى وأقرانه فى بَلَده وَورد نيسابور سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَأَقَامَ عندنَا إِلَى آخر سنة تسع
وَسمع أَكثر كتب مَشَايِخنَا ثمَّ دخل أَصْبَهَان فَسمع مُسْند أبي دَاوُد من عبد الله بن جَعْفَر وَسمع من سَائِر الْمَشَايِخ بهَا
وَدخل الْعرَاق بعد الْأَرْبَعين وَأكْثر
وَكَانَ كثير السماع والرحلة
قدم نيسابور سنة تسع وَسِتِّينَ وأقم مُدَّة وانتفع النَّاس بِعُلُومِهِ وَحدث وَحضر مجْلِس الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبى سهل قلت وَأكْثر الرِّوَايَة عَن الْأَصَم وَعبد الله بن فَارس وأبى بكر الشافعى وأبى الْقَاسِم الطبرانى ودعلج وَغَيرهم
وَله شرح مَشْهُور على تَلْخِيص ابْن الْقَاص(3/136)
وَذكر الْحَاكِم أَنه جرت بَينه وَبَين الْأُسْتَاذ أَبى سهل مناظرة فَأَغْلَظ لَهُ الْأُسْتَاذ القَوْل فَخرج أَبُو عبد الله مستوحشا فَكتب إِلَيْهِ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل
(أعيذ الْفَقِيه الْحر من سطوة السخط ... مصونا عَن الأنظار يجلبها الْغَلَط)
(تضايق حَتَّى لَا يسوغ لَفْظَة ... وَيَعْتِبُ من لفظ يفور على اللَّغط)
(أحاكمه فِيهِ إِلَيْهِ محكما ... وأسأله عفوا لنادرة السقط)
(وَمهما غَدا وَجه الصَّوَاب حفاظه ... فَإِن سداد الرأى يلْزمه النمط)
(ونشرى لمطوى خلاف إمامنا ... وطيى لمنشوروفاء بِمَا شَرط)
(شددت على باغى الْفساد وَلم أدع ... عَلَيْهِ من الْحبّ الْيَسِير لمن لقط)
(على رمد جَاءَ القريض مرمدا ... ورائقه بِالْبرِّ قد يحمل السفط)
قَالَ الْحَاكِم فأنشدنى أَبُو عبد الله جَوَابه عَنْهَا
(جفَاء جرى جَهرا لَدَى النَّاس وانبسط ... وَعذر أَتَى سرا فأكد مَا فرط)
(مَتى طَالب الشَّيْخ الْفَقِيه بِحقِّهِ ... وضيع حَقًا لى عَلَيْهِ فقد قسط)
(سبيلى إِذا ضايقته فى الْعُلُوم أَن ... يضايقنى فِيهَا وَلَا يركب الشطط)
(وعدت أناديه الَّتِى خصنى بهَا ... فَلَا حاسب أحصى وَلَا كَاتب ضبط)
(فَمن أجلهَا فى دَاره إِذْ حضرتها ... سَطَا واعتدى فى القَوْل وَالْفِعْل واحتلط)
(فأى ملام يلْحق الْحر بعْدهَا ... إِذا هُوَ من جِيرَانه أبدا قنط)
(هجرت اقتراض الشّعْر لما انْقَضى الصِّبَا ... وَلما رَأَيْت الشيب فى عارضى وَخط)
(ولولاه لَا نثالت قواف محلهَا ... صُدُور ذوى الْآدَاب لَا فارغ السفط)(3/137)
وَقَالَ حَمْزَة الجرجانى كَانَ أَبُو عبد الله الختن من الْفُقَهَاء الْمَذْكُورين فى عصره درس سِنِين كَثِيرَة وَتخرج بِهِ عدَّة من الْفُقَهَاء وَكَانَ لَهُ ورع وَله أَرْبَعَة أَوْلَاد أَبُو بشر الْفضل وَأَبُو النَّضر عبيد الله وَأَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو الْحسن عبد الْوَاسِع وَكَانَ لَهُ إملاء من سنة سبع وَسبعين إِلَى أَن توفى بجرجان يَوْم عيد الْأَضْحَى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن خمس وَسبعين سنة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
128 - مُحَمَّد بن الْحسن بن دُرَيْد بن عتاهية الإِمَام أَبُو بكر الأزدى البصرى
نزيل بَغْدَاد
مولده سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
وتنقل فى جزائر الْبَحْر وَفَارِس فى طلب اللُّغَة وَالْأَدب وَكَانَ أَبوهُ من رُؤَسَاء زَمَانه وَأما هُوَ فَكَانَ رَأْسا فى الْعَرَبيَّة وأشعار الْعَرَب(3/138)
حدث عَن أَبى حَاتِم السجستانى وأبى الْفضل الْعَبَّاس الرياشى وَابْن أخى الأصمعى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو سعيد السيرافى وَأَبُو بكر بن شَاذان وَأَبُو الْفرج صَاحب الأغانى وَأَبُو الْعَبَّاس إِسْمَاعِيل بن ميكال وَغَيرهم
قَالَ أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق مَا رَأَيْت أحفظ من ابْن دُرَيْد وَمَا رَأَيْته قرئَ عَلَيْهِ ديوَان قطّ إِلَّا وَهُوَ يسابق إِلَى رِوَايَته لحفظه لَهُ
وَعَن أَبى بكر الأسدى قَالَ كَانَ يُقَال ابْن دُرَيْد أعلم الشُّعَرَاء وأشعر الْعلمَاء
وَلابْن دُرَيْد قصيدة طنانة مدح بهَا الشافعى رضى الله عَنهُ أَولهَا
(بملتفتيه للمشيب مطالع ... ذوائد عَن ورد التصابى روادع)
(تصرفنه طوع الْعَنَان وَرُبمَا ... دَعَاهُ الصِّبَا فاقتاده وَهُوَ طائع)
(وَمن لم يزعه لبه وحياؤه ... فَلَيْسَ لَهُ من شيب فوديه وازع)
وَمِنْهَا
(لرَأى ابْن إِدْرِيس ابْن عَم مُحَمَّد ... ضِيَاء إِذا مَا أظلم الْخطب صادع)
(إِذا المعضلات المشكلات تشابهت ... سما مِنْهُ نور فى دجاهن سَاطِع)
(أَبى الله إِلَّا رَفعه وعلوه ... وَلَيْسَ لما يعليه ذُو الْعَرْش وَاضع)
وَمِنْهَا
(سَلام على قبر تضمن جِسْمه ... وجادت عَلَيْهِ المدجنات الهوامع)
(لقد غيبت أَكْفَانه شخص ماجد ... جليل إِذا الْتفت عَلَيْهِ المجامع)
وَأما قصيدته الدريدية فقد سَارَتْ بهَا الركْبَان مدح بهَا عبد الله بن مُحَمَّد بن ميكال وَابْنه أَبَا الْعَبَّاس إِسْمَاعِيل وأخاه
قَالَ الْحَاكِم فى تَرْجَمَة أَبى الْعَبَّاس إِسْمَاعِيل سَمِعت أَبَا مَنْصُور الْفَقِيه يَقُول كنت بِالْيمن سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَبينا أَنا ذَات يَوْم أَسِير بِمَدِينَة عدن إِذْ رَأَيْت مؤدبا يعلم(3/139)
مُسْتَأْجرًا لَهُ مَقْصُورَة ابْن دُرَيْد وَقد بلغ ذكر الميكالية فَقَالَ لى يَا خراسانى أَبُو الْعَبَّاس هَذَا لَهُ عنْدكُمْ عقب فَقلت هُوَ بِنَفسِهِ حى فتعجب من هَذَا أَشد الْعجب وَقَالَ أَنا أعلم هَذِه القصيدة مُنْذُ كَذَا سنة
الإقواء فى الشّعْر
قَالَ أَبُو سعيد السيرافى حضرت مجْلِس أَبى بكر بن دُرَيْد وَلم يكن يعرفنى قبل ذَلِك فَجَلَست فَأَنْشد أحد الْحَاضِرين بَيْتَيْنِ يعزيان لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام
(تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمن عَلَيْهَا ... فوجة الأَرْض مغبر قَبِيح)
(تغير كل ذى حسن وَطيب ... وَقل بشاشة الْوَجْه الْمليح)
فَقَالَ ابْن دُرَيْد هَذَا الشّعْر قد قيل قَدِيما وَجَاء فِيهِ الإقواء
قَالَ فَقلت إِن لَهُ وَجها يُخرجهُ عَن الإقواء نصب بشاشة وَحذف التَّنْوِين مِنْهَا لالتقاء الساكنين فَيكون بِهَذَا التَّقْدِير نكرَة منتصبة على التَّمْيِيز ثمَّ رفع الْوَجْه بِإِسْنَاد قل إِلَيْهِ فَيصير اللَّفْظ وَقل بشاشة الْوَجْه الْمليح
قَالَ فرفعنى حَتَّى أقعدنى بجانبه
قلت وَحَاصِله إِنْكَار الْجَرّ وَدَعوى نصب بشاشة على التَّمْيِيز وَأَن التَّنْوِين حذف مِنْهُ للضَّرُورَة وَأَن الْوَجْه مَرْفُوع بالفاعلية والمليح على الصّفة وَهَذَا جيد لَكِن فِيهِ دعاوى كَثِيرَة وَإِذا كَانَ الإقواء وَاقعا فى كَلَامهم وَالرِّوَايَة بِالْجَرِّ فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكْلِيف وَقد جَاءَ فى كَلَامهم
(لَا مرْحَبًا بغد وَلَا أَهلا بِهِ ... إِذْ كَانَ ترحال الْأَحِبَّة فى غَد)(3/140)
(زعم البوارح أَن رحلتنا غَدا ... وبذاك خبرنَا الْغُرَاب الْأسود)
وَقَالَ عبد الله بن مُسلم بن جُنْدُب الهذلى من شعراء الإسلاميين
(تَعَالَوْا أعينونى على اللَّيْل إِنَّه ... على كل عين لَا تنام طَوِيل)
(وَلَا تخذلونى فى الْبكاء فإننى ... لكم عِنْد طول الْجهد غير خذول)
ثمَّ قَالَ فِيهَا
(فويلى وعولى فَرجوا بعض كربتى ... وَإِلَّا فإنى ميت بِقَلِيل)
(فَإِن كَانَ هَذَا الشوق لابد لَازِما ... وَلَيْسَ لكم فِيهِ الْغَدَاة حويل)
قَوْله حويل أى مَا أحتال فِيهِ
وَقَالَ آخر
(أحب أَبَا مَرْوَان من أجل تمره ... وَأعلم أَن الْيمن بِالْمَرْءِ أوفق)
(وَوَاللَّه لَوْلَا تمره مَا حببته ... وَلَو كَانَ أدنى من سعيد ومشرق)
وَأنْشد الْأَصْحَاب مِنْهُم ابْن الصّباغ فى الشَّامِل وَقد ذكرُوا مَا شاع عَن عبد الله ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا من تَجْوِيز نِكَاح الْمُتْعَة أَن شَاعِرًا فى عصره قَالَ
(قَالَت وَقد طفت سبعا حول كعبتها ... يَا صَاح هَل لَك فى فَتْوَى ابْن عَبَّاس)
(تَقول هَل لَك فى بَيْضَاء بهكنة ... تكون مثواك حَتَّى يصدر النَّاس)(3/141)
غير أَنى رَأَيْت أَبَا الْعَلَاء المعرى فى رسَالَته الَّتِى سَمَّاهَا رِسَالَة الغفران قد أنكر على ابْن دُرَيْد إنشاد هَذَا الشّعْر على وَجه الإقواء وَذكر أَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة
(وغودر فى الثرى الْوَجْه الْمليح ... )
قَالَ أَبُو الْعَلَاء وَالْوَجْه الذى قَالَه أَبُو سعيد فى تَخْرِيجه شَرّ من الإقواء عشر مَرَّات وَأطَال فى هَذَا
وَحكى أَبُو مُحَمَّد بن جَعْفَر البلخى فى كِتَابه أَن أَبَا مُحَمَّد يحيى بن الْمُبَارك اليزيدى النحوى سَأَلَ الكسائى عَن قَول الشَّاعِر
(مَا رَأينَا خربا نقر عَنهُ الْبيض صقر ... )
(لَا يكون العير مهْرا ... لَا يكون الْمهْر مهر)
فَقَالَ الكسائى يجب أَن يكون الْمهْر مَنْصُوبًا على أَنه خبر كَانَ وفى الْبَيْت على هَذَا التَّقْدِير إقواء
وَقَالَ اليزيدى بل الشّعْر صَوَاب لِأَن الْكَلَام قد تمّ عِنْد قَوْله لَا يكون الثَّانِيَة وهى مُؤَكدَة للأولى ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ الْمهْر مهر ثمَّ ضرب بقلنسوته الأَرْض وَقَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد
وَكَانَ بِحَضْرَة الْخَلِيفَة فَقَالَ يحيى البرمكى أتكتنى بِحَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله إِن خطأ الكسائى مَعَ حسن أدبه لأحسن من صوابك مَعَ سوء أدبك
فَقَالَ اليزيدى إِن حلاوة الظفر أذهبت عَنى التحفظ
وَمِمَّا ينْسب لِابْنِ دُرَيْد من الشّعْر
(فَنعم فَتى الجلى ومستنبط الندى ... وملجأ مكروب ومفزع لاهث)
(غياث بن عَمْرو بن الحليت بن جَابر بن ... زيد بن مَنْصُور بن حَارِث)(3/142)
129 - مُحَمَّد بن الْحسن بن سُلَيْمَان أَبُو جَعْفَر الزوزنى البحاث أحد الْفُقَهَاء المبرزين قُضَاة الْمُسلمين
تولى الْقَضَاء بنواحى خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر
وَسَماهُ الْحَاكِم فى تَارِيخ نيسابور مُحَمَّد بن على بن عبد الله وَالصَّوَاب مَا أوردناه
وَلم يزدْ شَيخنَا الذهبى على أَن قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن أَبُو جَعْفَر الْفَقِيه الشافعى لَهُ تَرْجَمَة طَوِيلَة عِنْد ابْن الصّلاح انْتهى
وَهَذَا القاضى كَانَ من أساطين الْعلم وَكَانَ من أَقْرَان الأودنى وَكَانَ يكون بَينهمَا من المنافرة فى المناظرة مَا يكون بَين الأقران
وَذكر أَن مصنفاته فى التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وأنواع الْأَدَب تربو على الْمِائَة
وَقدم أَبُو جَعْفَر البحاث على الصاحب بن عباد فارتضى تصرفه فى الْعلم وتفننه فى أَنْوَاع الْفضل وَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء على شَرط انتحال مذْهبه يعْنى الاعتزال فَامْتنعَ وَقَالَ لَا أبيع الدّين بالدنيا فتمثل لَهُ الصاحب بقول الْقَائِل
(فَلَا تجعلنى للْقَضَاء فريسة ... فَإِن قُضَاة الْعَالمين لصوص)
(مجَالِسهمْ فِينَا مجَالِس شرطة ... وأيديهم دون الشصوص شصوص)
فَأَجَازَهُ البحاث بديهة بقوله
(سوى عصبَة مِنْهُم تخص بعفة ... وَللَّه فى حكم الْعُمُوم خُصُوص)
(خصوصهم زَان الْبِلَاد وَإِنَّمَا ... يزين خَوَاتِيم الْمُلُوك فصوص)(3/143)
والقاضى أَبُو جَعْفَر هَذَا هُوَ جد القاضى أَبى جَعْفَر مُحَمَّد بن إِسْحَاق البحاثى الأديب شيخ الباخرزى صَاحب دمية الْقصر وَكِلَاهُمَا أديب
وَكَانَ القاضى أَبُو جَعْفَر الْكَبِير صَاحب هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ علو مرتبته فى الْعلم يحب منصب الْقَضَاء
وَمن شعره قصيدة قَالَهَا فى الشَّيْخ العميد أَبى على مُحَمَّد بن عِيسَى يخْطب قَضَاء مَدِينَة فرغانة ويصف الرّبيع
(اكتست الأَرْض وهى عُرْيَانَة ... من نشر نور الرّبيع ألوانه)
(واتزرت بالنبات وانتشرت ... حِين سَقَاهَا السَّحَاب ألبانه)
(فالروض يختال فى ملابسه ... مرتديا ورده وَرَيْحَانَة)
(تضاحكت بعد طول عبستها ... ضحك عَجُوز تعود بهتانه)
(كم سَائل لح فى مسائلتى ... عَن حالتى قلت وهى وسنانه)
(قلب كسير فَمن يجْبرهُ ... قَالَ نرى من يحب جِيرَانه)
(سوى الْوَزير الذى يلوذ بِهِ ... يخْدم برد الْغَدَاة إيوانه)
(قلت مَتى قَالَ قد أَتَى فَدَنَا ... مفتتح الْعَام كَانَ إبانه)
(فَقلت مَاذَا الذى تؤمله ... فَقَالَ أبشر قَضَاء فرغانه)
وَمن شعره قَالَ الباخرزى وَهُوَ أبلغ مَا سَمِعت مِنْهُ
(إِن الخزائن للملوك ذخائر ... وَلَك الْمَوَدَّة فى الْقُلُوب ذخائر)
(أَنْت الزَّمَان فَإِن رضيت فخصبه ... وَإِذا غضِبت فجدبة المتعاسر)
(فَإِذا رضيت فَكل شئ نَافِع ... وَإِذا غضِبت فَكل شئ ضائر)(3/144)
وشعره كثير وَكَذَلِكَ شعر حفيده أَبى جَعْفَر
قَالَ الْحَاكِم توفى ببخارى سنة سبعين وثلاثمائة
أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الدمشقى قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع عَن يُوسُف بن مُحَمَّد بن المهتار عَن الْعَلامَة أَبى عَمْرو ابْن الصّلاح قَالَ أنبئت عَن أَبى سعد ابْن السمعانى قلت وَأذن لى أَبُو عبد الله الْحَافِظ فى طَائِفَة عَن أَبى الْفضل بن عَسَاكِر عَن أَبى المظفر السمعانى عَن أَبِيه ...
130 - مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن زِيَاد بن هَارُون بن جَعْفَر بن سَنَد أَبُو بكر النقاش الموصلى ثمَّ البغدادى
الإِمَام فى الْقرَاءَات وَالتَّفْسِير وَكثير من الْعُلُوم
ولد سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
وعنى بالقراءات من صغره فَقَرَأَ على جمَاعَة
وَطَاف فى الْأَمْصَار وجال فى الْبِلَاد
وَحدث عَن أَبى مُسلم الكجى وَإِسْحَاق بن سِنِين الختلى وَمُحَمّد بن على الصَّائِغ وَالْحسن بن سُفْيَان وَغَيرهم(3/145)
روى عَنهُ ابْن مُجَاهِد وَهُوَ من شُيُوخه وجعفر الخلدى وَابْن شاهين وَأَبُو أَحْمد الفرضى وَأَبُو على ابْن شَاذان وَغَيرهم
وَمن تصانيفه كتاب شِفَاء الصُّدُور فى التَّفْسِير وَفِيه مَوْضُوعَات كَثِيرَة
وثقة أَبُو عَمْرو الدانى وَقَبله وزكاه وَضَعفه قوم مَعَ الِاتِّفَاق على جلالته فى الْعلم
ولنذكر أَحَادِيث مِمَّا كَانَت سَبَب الْكَلَام فِيهِ
فَمِنْهَا أَنه قَالَ حَدثنَا أَبُو غَالب ابْن بنت مُعَاوِيَة بن عَمْرو واسْمه على بن أَحْمد حَدثنَا جدى مُعَاوِيَة عَن زَائِدَة عَن لَيْث عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله لَا يقبل دُعَاء حبيب على حَبِيبه)
قَالَ الدارقطنى أنْكرت هَذَا على النقاش وَقلت لَهُ إِن أَبَا غَالب لَيْسَ بِابْن بنت مُعَاوِيَة وَإِنَّمَا أَخُوهُ لِأَبِيهِ مُحَمَّد هُوَ ابْن بنت مُعَاوِيَة وَمُعَاوِيَة وزائدة ثقتان وَهَذَا حَدِيث مَوْضُوع فَرجع عَنهُ
قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب لَا أعرف وجة قَول الدارقطنى فى أَبى غَالب أَنه لَيْسَ بِابْن بنت مُعَاوِيَة لِأَن أَبَا غَالب يذكر أَن مُعَاوِيَة جده وَقد رَوَاهُ أَبُو على الكوكبى عَن أَبى غَالب عَن جده مُعَاوِيَة بن عَمْرو فَذكره
قلت فَلَيْسَ فِيهِ مَا يقتضى جرحا فى أَبى بكر النقاش وَللَّه الْحَمد
وَمِنْهَا قَالَ النقاش حَدثنَا يحيى بن مُحَمَّد المدينى حَدثنَا إِدْرِيس بن عِيسَى الْقطَّان عَن شيخ لَهُ ثِقَة عَن الثورى عَن قَابُوس بن أَبى ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس(3/146)
131 - مُحَمَّد بن الْحسن الطبرى أَبُو جَعْفَر الْفَقِيه
قَالَ حَمْزَة السهمى إِنَّه كَانَ فَقِيها يُفْتى على مَذْهَب الشافعى وَإنَّهُ توفى سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة
132 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم بن عَاصِم بن عبد الله الآبرى أَبُو الْحُسَيْن السجستانى
مُصَنف كتاب مَنَاقِب الشافعى
وآبر من قرى سجستان وَكتابه هَذَا المناقب من أحسن مَا صنف فى هَذَا النَّوْع وَأَكْثَره أبوابا فَإِنَّهُ رتبه على خَمْسَة وَسبعين بَابا فَلَا أَكثر أبوابا مِنْهُ إِلَّا كتاب القراب فَإِن أَبْوَاب تنيف على الْمِائَة
وللآبرى فى طلب الحَدِيث رحْلَة وَاسِعَة
سمع أَبَا الْعَبَّاس السراج وَابْن خُزَيْمَة وَأَبا عروية الحرانى وزكرياء بن أَحْمد البلخى ومكحولا الْبَيْرُوتِي وَآخَرين
روى عَنهُ على بن بشرى وَيحيى بن عمار السجستانيان وَغَيرهمَا
وَمن عَجِيب مَا رَأَيْت فى كِتَابه مَنَاقِب الشافعى أَنه عد بشرا المريسى فى أَصْحَاب(3/147)
الشافعى وَلَيْسَ بشر من أَصْحَاب الشافعى بل من أعدائه لِأَنَّهُ لم يتبعهُ على رَأْيه بل خَالف وعاند وَقد قَالَ هُوَ أعنى الآبرى فى هَذَا الْكتاب إِنَّه من أهل الْإِلْحَاد
وروى فِي كِتَابه أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا سُئِلَ عَن سَبَب تَسْمِيَة قُرَيْش قُريْشًا فَقَالَ قُرَيْش حوت فى الْبَحْر يغلب الْحيتَان ويقهرهم وَهُوَ أكبر دَوَاب الْبَحْر ويصطاد الْحيتَان وَسَائِر دَوَاب الْبَحْر فيأكلها فَلذَلِك سميت قُرَيْش قُريْشًا لِأَنَّهَا أغلب النَّاس وأشجعهم
قلت وَيُقَال إِن فى الْبَحْر شَيْئا يُقَال لَهُ القرش يفترس الآدمى وَقد تَكَلَّمت على حل أكله فى كتابى التوشيح فَلَعَلَّ اسْمه قُرَيْش وَهُوَ هَذَا وَإِنَّمَا غَلطت الْعَامَّة فَقَالَت لَهُ القرش
وفى هَذِه المناقب أَيْضا أَن حَرْمَلَة قَالَ سَمِعت الشافعى رضى الله عَنهُ يَقُول من زعم من أهل الْعَدَالَة أَنه يرى الْجِنّ أبطلنا شَهَادَته لقَوْله تَعَالَى {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} إِلَّا أَن يكون الزاعم نَبيا
توفى الآبرى فى شهر رَجَب سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة
133 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن دَاوُد بن على بن الْحُسَيْن بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم ابْن الْحسن بن زيد بن الْحسن بن على بن أَبى طَالب السَّيِّد أَبُو الْحسن بن أَبى عبد الله الْحسنى النَّقِيب
جد النُّقَبَاء بنيسابور رضى الله عَنهُ وَعَن أسلافه
كَذَا سَاق نسبه الْحَاكِم وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ شيخ الشّرف فى عصره ذُو الهمة الْعَالِيَة وَالْعِبَادَة الظَّاهِرَة والسجايا الطاهرة(3/148)
قَالَ وَكَانَ يسْأَل التحديث فيأبى ثمَّ أجَاب آخرا وَعقد لَهُ الْحَاكِم مجْلِس الْإِمْلَاء وانتقى عَلَيْهِ ألف حَدِيث فَحدث
قَالَ وَكَانَ يعد فى مجالسه ألف محبرة
توفى رَحمَه الله فَجْأَة
134 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عبد الله أَبُو بكر الأجرى الْفَقِيه الْمُحدث صَاحب المصنفات مِنْهَا الْأَرْبَعُونَ فى الحَدِيث وَقعت لنا بِإِسْنَاد عَال
سمع أَبَا مُسلم الكجى وَأَبا شُعَيْب الحرانى وجعفر بن مُحَمَّد الفريابى وَأحمد بن يحيى الحلوانى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو الْحسن الحمامى وَأَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان والحافظ أَبُو نعيم الأصبهانى وَغَيرهم
وَكَانَ مُقيما بِمَكَّة شرفها الله وَبهَا توفى بالمحرم سنة سِتِّينَ وثلاثمائة
قَالَ ابْن خلكان أخبرنى بعض أهل الْعلم أَنه لما دخل مَكَّة أَعْجَبته فَقَالَ اللَّهُمَّ ارزقنى الْإِقَامَة بهَا سنة فَسمع هاتفا يَقُول بل ثَلَاثِينَ سنة فَعَاشَ بعد ذَلِك ثَلَاثِينَ سنة
135 - مُحَمَّد بن خَفِيف بن إسفكشاد الشيرازى الشَّيْخ أَبُو عبد الله بن خَفِيف
شيخ الْمَشَايِخ وَذُو الْقدَم الراسخ فى الْعلم وَالدّين كَانَ سيدا جَلِيلًا وإماما حفيلا(3/149)
يستمطر الْغَيْث بدعائه ويؤوب الْمصر بِكَلَامِهِ من أعلم الْمَشَايِخ بعلوم الظَّاهِر وَمِمَّنْ اتَّفقُوا على عَظِيم تمسكه بِالْكتاب وَالسّنة
وَكَانَت لَهُ أسفار وبدايات وأحوال عاليات ورياضات لقى من النساك شُيُوخًا وَمن السلاك طوائف رسخ قدمهم فى الطَّرِيق رسوخا وَصَحب من أَرْبَاب الْأَحْوَال أحبارا وأخيارا وَشرب من منهل الطَّرِيق كاسات كبارًا وسافر مشرقا ومغربا وصابر النَّفس حَتَّى انقادت لَهُ فَأصْبح مبْنى الثَّنَاء عَلَيْهَا معربا صَبر على الطَّاعَة لَا يعصيه فِيهِ قلبه واستمرار على المراقبة شهيده عَلَيْهِ ربه وجنب لَا يدرى الْقَرار وَنَفس لَا تعرف المأوى إِلَّا الْبَيْدَاء وَلَا الْمسكن إِلَّا القفار
كَانَ ابْن خَفِيف من أَوْلَاد الْأُمَرَاء فتزهد حَتَّى قَالَ كنت أذهب وَأجْمع الْخرق من الْمَزَابِل وأغسله وَأصْلح مِنْهُ مَا ألبسهُ
حدث عَن حَمَّاد بن مدرك والنعمان بن أَحْمد الواسطى وَمُحَمّد بن جَعْفَر التمار وَالْحُسَيْن المحاملى وَجَمَاعَة
وَصَحب رويما والجريرى وطاهر المقدسى وَأَبا الْعَبَّاس بن عَطاء
ولقى الْحُسَيْن بن مَنْصُور
وروى عَنهُ أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن جَعْفَر الخزاعى وَالْحُسَيْن بن حَفْص الأندلسى وَمُحَمّد بن عبد الله بن باكويه والقاضى أَبُو بكر بن الباقلانى شيخ الأشعرية وَطَائِفَة رَحل ابْن خَفِيف إِلَى الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى وَأخذ عَنهُ وَهُوَ من أَعْيَان تلامذته(3/150)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم كَانَ شيخ الْوَقْت حَالا وعلما
قَالَ وَهُوَ الْخَفِيف الظريف لَهُ الْفُصُول فى الْأُصُول والتحقق والتثبت فى الْوُصُول
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس النسوي بلغ مَا لم يبلغهُ أحد من الْخلق فى الْعلم والجاه عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَصَارَ أوحد زَمَانه مَقْصُودا من الْآفَاق مُفِيدا فى كل نوع من الْعُلُوم مُبَارَكًا على من يَقْصِدهُ رَفِيقًا بمريديه يبلغ كَلَامه مُرَاده وصنف من الْكتب مَا لم يصنفه أحد وَعمر حَتَّى عَم نَفعه
وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ كنت فى ابتدائي بقيت أَرْبَعِينَ شهرا أفطر كل لَيْلَة بكف باقلا فمضيت يَوْمًا وافتصدت فَخرج من عرقى شَبيه مَاء اللَّحْم وغشى على فتحير الفصاد وَقَالَ مَا رَأَيْت جسدا بِلَا دم إِلَّا هَذَا
وروى عَنهُ أَنه قَالَ مَا سَمِعت شَيْئا من سنَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا استعملته حَتَّى الصَّلَاة على أَطْرَاف الْأَصَابِع وَأَنه ضعف فى آخر عمره عَن الْقيام فى النَّوَافِل فَجعل بدل كل رَكْعَة من أوراده رَكْعَتَيْنِ قَاعِدا للْخَبَر (صَلَاة الْقَاعِد على النّصْف من صَلَاة الْقَائِم)
وَقَالَ مرّة مَا وَجَبت على زَكَاة الْفطر أَرْبَعِينَ سنة مَعَ مالى من الْقبُول الْعَظِيم بَين الْخَاص وَالْعَام
وَعنهُ رُبمَا كنت أَقرَأ فى ابْتِدَاء عمرى الْقُرْآن كُله فى رَكْعَة وَاحِدَة وَرُبمَا كنت أصلى من الْغَدَاة إِلَى الْعَصْر ألف رَكْعَة
وَعنهُ وَسُئِلَ عَن فَقير يجوع ثَلَاثَة أَيَّام فَيخرج وَيسْأل بعد ذَلِك مِقْدَار كِفَايَته أيش يُقَال لَهُ فَقَالَ يُقَال لَهُ مكد ثمَّ قَالَ كلوا واسكتوا فَلَو دخل فَقير فى هَذَا الْبَاب لفضحكم
وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يخرج إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة يفرق كل مَا عِنْده من ذهب وَفِضة وَغير ذَلِك(3/151)
وَيخرج فى كل سنة جَمِيع مَا عِنْده وَيخرج من الثِّيَاب حَتَّى لَا يبْقى عِنْده مَا يخرج بِهِ إِلَى النَّاس
وَقَالَ بعض أَصْحَابه أمرنى ابْن خَفِيف أَن أقدم كل لَيْلَة إِلَيْهِ عشر حبات زبيب لإفطاره قَالَ فَأَشْفَقت عَلَيْهِ لَيْلَة فجعلتها خمس عشرَة حَبَّة فَنظر إِلَى وَقَالَ من أَمرك بِهَذَا وَأكل مِنْهَا عشر حبات وَترك الباقى
وَقَالَ ابْن خَفِيف سَمِعت أَبَا بكر الكتانى يَقُول سرت أَنا وَأَبُو الْعَبَّاس ابْن المهتدى وَأَبُو سعيد الخراز فى بعض السنين وضللنا عَن الطَّرِيق والتقينا بحيرة فَبينا نَحن كَذَلِك إِذا بشاب قد أقبل وفى يَده محبرة وعَلى عُنُقه مخلاة فِيهَا كتب فَقُلْنَا لَهُ يَا فَتى كَيفَ الطَّرِيق فَقَالَ لنا الطَّرِيق طَرِيقَانِ فَمَا أَنْتُم عَلَيْهِ فطريق الْعَامَّة وَمَا أَنا عَلَيْهِ فطريق الْخَاصَّة وَوضع رجله فى الْبَحْر وعبره
وَحكى عَن ابْن خَفِيف قَالَ دخلت بَغْدَاد قَاصِدا لِلْحَجِّ وفى رأسى نخوة الصُّوفِيَّة وَلم آكل أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلم أَدخل على الْجُنَيْد وَخرجت وَلم أشْرب وَكنت على طهارتى فَرَأَيْت ظَبْيًا فى الْبَريَّة على رَأس بِئْر وَهُوَ يشرب وَكنت عطشان فَلَمَّا دَنَوْت من الْبِئْر ولى الظبى وَإِذا المَاء فى أَسْفَل الْبِئْر فمشيت وَقلت يَا سيدى مالى عنْدك مَحل هَذَا الظبى فَسمِعت من خلفى يَقُول جربناك فَلم تصبر ارْجع فَخذ المَاء إِن الظبى جَاءَ بِلَا ركوة وَلَا حَبل وَأَنت جِئْت مَعَ الركوة وَالْحَبل فَرَجَعت فَإِذا الْبِئْر ملآن فملأت ركوتى وَكنت أشْرب مِنْهَا وأتطهر إِلَى الْمَدِينَة وَلم ينْفد المَاء فَلَمَّا رجعت من الْحَج دخلت الْجَامِع فَلَمَّا وَقع بصر الْجُنَيْد على قَالَ لَو صبرت لنبع المَاء من تَحت قدمك لَو صبرت سَاعَة
قلت قَوْله نخوة الصُّوفِيَّة يعْنى شدَّة المجاهدة والذى يَقع لى فى هَذِه الْحِكَايَة أَنَّهَا منبهة(3/152)
لَهُ من الله على الْأَخْذ فى طَرِيق التَّوَكُّل وَطرح الْأَسْبَاب وَهَذَا يَقع كثيرا لأرباب العنايات من الله تَعَالَى فى أثْنَاء المجاهدات يقيض الله تَعَالَى لَهُم منبها من صَوت يسمع أَو إِشَارَة تحس أَو أنحاء ذَلِك يدلهم على مُرَاد الله تَعَالَى مِنْهُم أَو غير ذَلِك عناية بهم فقيض الله تَعَالَى هَذَا الظبى منبها لَهُ ثمَّ أكده بِكَلَام الْجُنَيْد لَهُ آخرا عِنْد عوده من الْحَج
وَكَذَلِكَ أَقُول فى الْحِكَايَة قبلهَا إِن ذَاك الشَّاب قد يكون قدره الله تَعَالَى ذَلِك الْوَقْت اعتناء بِابْن خَفِيف ورفيقيه لِئَلَّا تعظم أنفسهم عَلَيْهِ فَأحب الله تَعَالَى أَن يعرفهُمْ أَن فى عباده شَابًّا وصل إِلَى مَا لم يصلوا إِلَيْهِ وَهُوَ رَآهُمْ على طَرِيق الْعَامَّة وَهَذَا من الْعِنَايَة بهم
وَكَذَا أَقُول فى الْحِكَايَة الَّتِى قدمتها فى تَرْجَمَة الْجُنَيْد فى شَأْنه مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِى أنشدته
(لَوْلَا التقى لم ترنى ... أَهجر طيب الوسن)
وَحكى أَن أَبَا عبد الله بن خَفِيف نَاظر بعض البراهمة فَقَالَ لَهُ البرهمى إِن كَانَ دينك حَقًا فتعال أَصْبِر أَنا وَأَنت عَن الطَّعَام أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَأَجَابَهُ ابْن خَفِيف فعجز البرهمى عَن إِكْمَال الْمدَّة الْمَذْكُورَة وأكملها ابْن خَفِيف وَهُوَ طيب مسرور
وَأَن برهميا آخر ناظره ثمَّ دَعَاهُ إِلَى الْمكْث مَعَه تَحت المَاء مُدَّة فَمَاتَ البرهمى قبل انْتِهَاء الْمدَّة وصبر الشَّيْخ إِلَى أَن انْتَهَت وَخرج سالما لم يظْهر عَلَيْهِ تغير
وَعَن ابْن خَفِيف خرجت من مصر أُرِيد الرملة للقاء أَبى على الروذبارى فَقَالَ لى عِيسَى بن يُوسُف المصرى المغربى الزَّاهِد إِن شَابًّا وكهلا قد اجْتمعَا على حَال المراقبة فَلَو نظرت إِلَيْهِمَا لَعَلَّك تستفيد مِنْهُمَا فَدخلت إِلَى صور وَأَنا جَائِع عطشان وفى وسطى خرقَة وَلَيْسَ على كتفى شئ فَدخلت الْمَسْجِد فَإِذا اثْنَان مُسْتَقْبلا الْقبْلَة(3/153)
عَلَيْهِمَا فَمَا أجابانى فَسلمت ثَانِيًا وثالثا فَلم أسمع الْجَواب فَقلت ناشدتكما الله إِلَّا رددتما على السَّلَام فَرفع الشَّاب رَأسه من مرقعته فَنظر إِلَى ورد السَّلَام وَقَالَ لى يَا ابْن خَفِيف الدُّنْيَا قَلِيل وَمَا بقى من الْقَلِيل إِلَّا الْقَلِيل فَخذ من الْقَلِيل الْكثير يَا ابْن خَفِيف مَا أقل شغلك حَتَّى تفرغت إِلَى لقائنا فَأخذ كليتى فَنظر إِلَى وطأطأ رَأسه فى الْمَكَان فَبَقيت عِنْده حَتَّى صلينَا الظّهْر وَالْعصر فَذهب جوعى وعطشى ونصبى فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعَصْر قلت لَهُ عظنى فَقَالَ يَا ابْن خَفِيف نَحن أَصْحَاب المصائب لَيْسَ لنا لِسَان لعظة
فَبَقيت عِنْدهمَا ثَلَاثَة أَيَّام لَا آكل وَلَا أشْرب وَلَا أَنَام وَلَا رأيتهما أكلا وَلَا شربا وَلَا نَامَا فَلَمَّا كَانَ فى الْيَوْم الثَّالِث قلت فى سرى أحلفهما أَن يعظانى لعلى أنتفع بعظتهما فَرفع الشَّاب رَأسه فَقَالَ لى يَا ابْن خَفِيف عَلَيْك بِصُحْبَة من تذكرك الله تَعَالَى رُؤْيَته وَتَقَع هيبته على قَلْبك فيعظك بِلِسَان قَوْله وَالسَّلَام قُم عَنَّا
وَعَن ابْن خَفِيف قدم علينا بعض أَصْحَابنَا فاعتل بعلة الْبَطن فَكنت أخدمه وآخذ مِنْهُ الطست طول اللَّيْل فغفوت مرّة فَقَالَ لى نمت لعنك الله
فَقيل لَهُ كَيفَ وجدت نَفسك عِنْد قَوْله لعنك الله قَالَ كَقَوْلِه رَحِمك الله
وَعَن ابْن خَفِيف أَنه كَانَ بِهِ وجع الخاصرة فَكَانَ إِذا أَخذه أقعده عَن الْحَرَكَة فَكَانَ إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة يحمل على الظّهْر إِلَى الْمَسْجِد فَقيل لَهُ لَو خففت عَن نَفسك قَالَ إِذا سَمِعْتُمْ حى على الصَّلَاة وَلم ترونى فى الصَّفّ فاطلبونى فى الْمَقَابِر
وَعَن ابْن خَفِيف تهت فى الْبَادِيَة فَمَا رجعت حَتَّى سقط لى ثَمَانِيَة أَسْنَان وانتثر شعرى ثمَّ وَقعت إِلَى فيد وأقمت بهَا حَتَّى تماثلت وصححت ثمَّ زرت الْقُدس فَنمت إِلَى جَانب دكان صباغ وَبَات معى فى الْمَسْجِد رجل بِهِ قيام فَكَانَ يدْخل وَيخرج إِلَى الصَّباح(3/154)
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا صَاح النَّاس وَقَالَ نقب دكان الصّباغ وسرقت فجرونى وضربونى وَقَالُوا تكلم فاعتقدت التَّسْلِيم فَكَانُوا يغتاظون من سكوتى فحملونى إِلَى دكان الصّباغ وَكَانَ أثر رجل اللص فى الرماد فَقَالُوا ضع رجلك فِيهِ فَوضعت فَكَانَ على قدر رجلى فَزَادَهُم غيظا
وَجَاء الْأَمِير وَنصب الْقدر وفيهَا الزَّيْت يغلى وأحضرت السكين وَمن يقطع الْيَد فَرَجَعت إِلَى نفسى فَإِذا هى سَاكِنة فَقلت إِن أَرَادوا قطع يدى سَأَلتهمْ أَن يعفوا يمينى لأكتب بهَا
فبقى الْأَمِير يهددنى ويصول فَنَظَرت إِلَيْهِ فعرفته وَكَانَ مَمْلُوكا لوالدى فكلمنى بِالْعَرَبِيَّةِ وكلمته بِالْفَارِسِيَّةِ فَنظر إِلَى وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن وَكنت أكنى بهَا فى صباى
فَضَحكت فعرفنى فَأخذ يلطم رَأسه وَوَجهه واشتغل النَّاس بِهِ وَإِذا بضجة عَظِيمَة وَأَن اللص قد مسك
ثمَّ أَخذ الْأَمِير يُبَالغ فى الِاعْتِذَار وجهدنى أَن أقبل شَيْئا فأبيت وهربت
توفى ابْن خَفِيف لَيْلَة ثَالِث رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة وازدحم الْخلق على جنَازَته وَكَانَ أمرا عَظِيما وَصلى عَلَيْهِ نَحوا من مائَة مرّة
وَقيل إِنَّه عَاشَ مائَة سنة وَأَرْبع سِنِين
وَقيل مائَة إِلَّا خمس سِنِين وَلَعَلَّه الْأَصَح
وَمن كَلِمَاته والفوائد والمحاسن عَنهُ
قَالَ التَّقْوَى مجانبة مَا يبعدك من الله
وَقَالَ التَّوَكُّل الِاكْتِفَاء بضمانه وَإِسْقَاط التُّهْمَة عَن قَضَائِهِ
وَقَالَ لَيْسَ شئ أضرّ بالمريد من مُسَامَحَة النَّفس فى ركُوب الرُّخص وَقبُول التأويلات(3/155)
وَقَالَ الْيَقِين تحقق الْأَسْرَار بِأَحْكَام المغيبات
وَقَالَ الْمُشَاهدَة اطلَاع الْقلب بصفاء الْيَقِين إِلَى مَا أخبر الْحق عَن الْغَيْب
وَقَالَ السكر غليان الْقلب عِنْد معارضات ذكر المحبوب
وَقَالَ الزّهْد الْبرم بالدنيا وَوُجُود الرَّاحَة فى الْخُرُوج مِنْهَا
وَقَالَ الْقرب طى المسافات بلطيف المداناة
وَقَالَ مرّة أُخْرَى وَسُئِلَ عَن الْقرب قربك مِنْهُ بملازمة الموافقات وقربه مِنْك بدوام التَّوْفِيق
وَقَالَ الوصلة من اتَّصل بمحبوبه عَن كل شئ وَغَابَ عَن كل شئ سواهُ
وَقَالَ الدنف من احْتَرَقَ فى الأشجان وَمنع من بَث الشكوى
وَقَالَ الانبساط الاحتشام عِنْد السُّؤَال
وَدخل عَلَيْهِ فَقير فَشكى إِلَيْهِ أَن بِهِ وَسْوَسَة فَقَالَ عهدى بالصوفية يسخرون من الشَّيْطَان فَالْآن الشَّيْطَان يسخر بهم
وَقيل لَهُ مَتى يَصح للْعَبد الْعُبُودِيَّة فَقَالَ إِذا طرح كُله على مَوْلَاهُ وصبر مَعَه على بلواه
وَسُئِلَ عَن إقبال الْحق على العَبْد فَقَالَ علامته إدبار الدُّنْيَا عَن العَبْد
وَسُئِلَ عَن الذّكر فَقَالَ الْمَذْكُور وَاحِد وَالذكر مُخْتَلف وَمحل قُلُوب الذَّاكِرِينَ مُتَفَاوِتَة وأصل الذّكر إِجَابَة الْحق من حَيْثُ اللوازم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أطَاع الله فقد ذكر الله وَإِن قلت صلَاته وصيامه وتلاوته) ثمَّ يَنْقَسِم الذّكر قسمَيْنِ ظَاهرا وَبَاطنا فَالظَّاهِر التهليل والتحميد والتمجيد وتلاوة الْقُرْآن وَالْبَاطِن تَنْبِيه الْقُلُوب على(3/156)
شَرَائِط التيقظ على معرفَة الله وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَنشر إحسانه وإمضاء تَدْبيره ونفاذ تَقْدِيره على جَمِيع خلقه ثمَّ يَقع تَرْتِيب الأذكارعلى مقادير الذَّاكِرِينَ فَيكون ذكر الْخَائِفِينَ على مِقْدَار قوارع الْوَعيد وَذكر الراجين على مَا استبان لَهُم من موعده وَذكر المخبتين على قدر تصفح النعماء وَذكر المراقبين على قدر الْعلم باطلاع الله تَعَالَى إِلَيْهِم وَذكر المتوكلين على مَا انْكَشَفَ لَهُم من كِفَايَة الكافى لَهُم وَذَلِكَ مِمَّا يطول ذكره وَيكثر شَرحه فَذكر الله تَعَالَى مُنْفَرد وَهُوَ ذكر الْمَذْكُور بانفراد أحديته عَن كل مَذْكُور سواهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربه (من ذكرنى فى نَفسه ذكرته فى نفسى) وَالْأَصْل إِفْرَاد النُّطْق بألوهيته لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفضل الذّكر لاإله إِلَّا الله)
وَعَن ابْن خَفِيف الْغنى الشاكر هُوَ الْفَقِير الصابر
وَعنهُ التصوف تصفية الْقلب عَن مُوَافقَة البشرية ومفارقة الطبيعة وإخماد صِفَات البشرية ومجانبه الدَّعَاوَى النفسانية ومنازلة الصِّفَات الروحانية والتعلق بعلوم الْحَقِيقَة وَاسْتِعْمَال مَا هُوَ أولى على السرمدية والنصح لجَمِيع الْأمة وَالْوَفَاء لله تَعَالَى على الْحَقِيقَة وَاتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى جَمِيع الشَّرِيعَة
قَالَ أَبُو نصر عبد الله بن على الطوسي السراج فى كتاب اللمع لَهُ فى التصوف عَن الشبلى أَنه سُئِلَ عَن معنى قَوْله تَعَالَى {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} قد علمت مَوضِع مَكْرهمْ فَمَا مَوضِع مكر الله فَقَالَ تَركهم على ماهم فِيهِ وَلَو شَاءَ أَن يُغير لغير
قَالَ فَشهد الشبلى فى السَّائِل أَنه لم يغنه جَوَابه فَقَالَ أما سَمِعت بفلانة الطبرانية فى ذَلِك الْجَانِب تغنى وَتقول
(ويقبح من سواك الْفِعْل عندى ... وتفعله فَيحسن مِنْك ذاكا)(3/157)
قَالَ السراج وَصَاحب الْمَسْأَلَة وَالسُّؤَال أَبُو عبد الله ابْن خَفِيف
وَعَن ابْن خَفِيف سَأَلنَا يَوْمًا القاضى أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج بشيراز وَكُنَّا نحضر مَجْلِسه لدرس الْفِقْه فَقَالَ لنا محبَّة الله فرض أَو غير فرض
قُلْنَا فرض
قَالَ وَمَا الدّلَالَة على ذَلِك
فَمَا فِينَا من أَتَى بشئ فَقبل فرجعنا إِلَيْهِ وسألناه الدَّلِيل فَقَالَ قَوْله تَعَالَى {قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم} إِلَى قَوْله {أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره}
قَالَ فتوعدهم الله عز وَجل على تَفْضِيل محبتهم لغيره على محبته ومحبة رَسُوله والوعيد لَا يَقع إِلَّا على فرض
قلت وَمثل هَذَا الدَّلِيل فى الدّلَالَة على محبَّة النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من نَفسه وَأَهله وَمَاله وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ)
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا قَالَ حَدثنَا أَبُو المعالى الأبرقوهى أخبرنَا عمر بن كرم بِبَغْدَاد أخبرنَا أَبُو الْوَقْت السجزى حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد الثقفى أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن باكويه أخبرنَا مُحَمَّد بن خَفِيف الضبى إملاء قَالَ قرئَ على حَمَّاد بن مدرك وَأَنا أسمع أخبرنَا عَمْرو بن مَرْزُوق حَدثنَا شُعْبَة عَن أَبى عمرَان الجونى عَن عبد الله بن الصَّامِت عَن أَبى ذَر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا صنعت قدرا فَأكْثر مرقها وَانْظُر أهل بَيت من جيرانك فأصبهم بِمَعْرُوف)(3/158)
وَهَذَا فصل عَن ابْن خَفِيف يتَضَمَّن رحلته إِلَى الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى رَحمَه الله رضى عَنهُ)
قَالَ الإِمَام الْجَلِيل ضِيَاء الدّين الرازى أَبُو الإِمَام فَخر الدّين رحمهمَا الله فى آخر كِتَابه غَايَة المرام فى علم الْكَلَام حكى عَن الشَّيْخ أَبى عبد الله بن خَفِيف شيخ الشيرازيين وإمامهم فى وقته رَحمَه الله أَنه قَالَ دعانى أرب وَحب أدب ولوع ألب وشوق غلب وَطلب ياله من طلب أَن أحرك نَحْو الْبَصْرَة ركابى فى عنفوان شبابى لِكَثْرَة مَا بلغنى على لِسَان البدوى والحضرى من فَضَائِل شَيخنَا أَبى الْحسن الأشعرى لأستسعد بلقاء ذَلِك الوحيد وأستفيد مِمَّا فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ من ينابيع التَّوْحِيد إِذْ حَاز فى ذَلِك الْفَنّ قصب السباق وَكَانَ مِمَّن يشار إِلَيْهِ بالأصابع فى الْآفَاق وفَاق الْفُضَلَاء من أَبنَاء زَمَانه واشتاق الْعلمَاء إِلَى اسْتِمَاع بَيَانه وَكنت يَوْمئِذٍ لفرط اللهج بِالْعلمِ واقتباسه والطمع فى تقمص لِبَاسه أختلف إِلَى كل من جلّ وَقل وأستسقى الوابل والطل وأتعلل بعسى وَلَعَلَّ فَأخذت إِلَيْهِ أهبة السّير وخفقت إِلَيْهِ خفوق الطير حَتَّى حللت ربوعها وارتبعت ربيعها فَوَجَدتهَا على مَا تصفها الألسن وتلذ الْأَعْين لَطِيفَة الْمَكَان طريفة للسكان ترغب الْغَرِيب فى الاستيطان وتنسيه هوى الأوطان فألقيت بهَا الجران وألفيت أَهلهَا الْجِيرَان فَلَمَّا أنخت بمعناها وتنسيه هوى الأوطان فألقيت بهَا الجران وألفيت أَهلهَا الْجِيرَان فَلَمَّا أنخت بمغناها الخصيب فَأَصَبْت من مرعاها بِنَصِيب كنت أرود فى مسارح لمحاتى ومسابح غدواتى وروحاتى أحدا يشفى أوامى ويرشدنى إِلَى مرامى حَتَّى أدتنى خَاتِمَة المطاف وهدتنى فَاتِحَة الألطاف إِلَى شيخ بهى منظره شهى مخبره تعلوه حمرَة متحبب إِلَى زمرة فلمحته ببصرى وأمعنت فِيهِ نظرى فرحت بِهِ فرحة الحبيب(3/159)
بالحبيب والعليل بالطبيب لما وجدت مِنْهُ ريح المحبوب كَمَا وجد من قَمِيص يُوسُف يَعْقُوب على مَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف) فناجانى فكرى بالإقدام إِلَيْهِ وتقاضانى قلبى بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فاهتززت لذَلِك اهتزاز المحبين إِذا التقيا بعد الْبَين وحييته تَحِيَّة مُحْتَرز عَن القدرى واستخبرته عَن مغنى أَبى الْحسن الأشعرى فَرد على السَّلَام بأوفر الْأَقْسَام وأجزل السِّهَام وأجابنى بِلِسَان ذلق وَوجه طلق كَهَيئَةِ الْمُفِيد مَا الذى مِنْهُ تُرِيدُ فَقلت قد بلغنى ذكرَاهُ تقت أَن أَلْقَاهُ لأحيا بمحياه وَأطيب برياه وأستسعد بلقياه وأستفيد نفائس أنفاسه جداه وجدواه واحر قلباه وواشدة شوقاه عَسى الله أَن يجمعنى وإياه فَلَمَّا رأى الشَّيْخ أَن شغف الْحبّ زادى فى سفرى وعتادى فى حضرى وَملك خلدى واستنفد جلدى وَأَن الشوق قد بلغ المدى واللوع قد جَاوز الحدا قَالَ ابتكر إِلَى مَوضِع قدمى هَاتين غَدا فبذلت القياد وَفَارَقت على الميعاد وَبت أساهر النُّجُوم وأساور الوجوم وَمَا برح الْحبّ سمير ذكرى ونديم فكرى يستعر استعارا ويلتهب بَين ضلوعى نَارا إِلَى أَن نضى اللَّيْل جلبابه وسلب الصُّبْح خضابه فَلَمَّا رَأَيْت اللَّيْلَة قد شابت ذوائبها وذابت شوائبها وذر قرن الغزالة وَثَبت وثبة الغزالة وبرزت أنْشد للشَّيْخ البهى وأتوسم الْوُجُوه بِالنّظرِ الجلى فَأَلْفَيْته فى الْمقَام الْمَوْعُود متنكرا وَاقِفًا لى منتظرا فدلفت إِلَيْهِ لأقضى حق السَّلَام عَلَيْهِ فَلَمَّا رآنى سبقنى بِالسَّلَامِ(3/160)
وحفى للأقدام فَقضيت الذمام وقرنت رد جَوَابه بالاستلام وَقلت حييت بالإكرام وحييت بَين كرام ثمَّ استصحبنى وَسَار فتبعته مُتَابعَة الْعَامَّة أولى الْأَبْصَار حَتَّى انْتهى إِلَى الْمَقْصد وَدخل دَار بعض وُجُوه الْبَلَد وفيهَا قد حضر جمَاعَة للنَّظَر فَلَمَّا رَآهُ الْقيام تسارعوا إِلَى الْقيام واستقبلوه إِلَى الْبَاب وتلقوه بالترحاب وبالغوا بِالسَّلَامِ وَمَا يَلِيق بِهِ من الْإِكْرَام ثمَّ عظموه وَإِلَى الصَّدْر قدموه وَأَحَاطُوا بِهِ إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر ثمَّ أَخذ الْخِصَام يتجاذبون فى المناظرة أَطْرَاف الْكَلَام وَكنت أنظر من بعيد مُتكئا على حد سعيد حَتَّى التقى الْجمع بِالْجمعِ وقرع النبع بالنبع فَبَيْنَمَا هم يرْمونَ فى عمايتهم ويخبطون فى غوايتهم إِذْ دخل الشَّيْخ دُخُول من فَازَ بنهزة الطَّالِب وفرحة الْغَالِب بِلِسَان يفتق الشُّعُور ويفلق الصخور وألفاظ كغمزات الألحاظ والكرى بعد الاستيقاظ أرق من أَدِيم الْهَوَاء وأعذب من زلال المَاء وَمَعَان كَأَنَّهَا فك عان وَبَيَان كعتاب الكعاب وَوصل الأحباب فى أَيَّام تفِيد الصم بَيَانا وتعيد الشيب شبانا تهدى إِلَى الرّوح روح الْوِصَال وتهب على النُّفُوس هبوب الشمَال وَكَانَ إِذا أنشا وشى وَإِذا عبر حبر وَإِذا أوجز أعجز وَإِذا أسهب أذهب فَلم يدع مشكلة إِلَّا أزالها وَلَا معضلة إِلَّا أزاحها وَلَا فَسَادًا إِلَّا أصلحه وَلَا عنادا إِلَّا زحزحه حَتَّى تبين الحى من اللى والرشد من الغى ورفل الْحق فى أذياله واعتدل باعتداله وَأَقْبل عَلَيْهِ الْخَاصَّة والعامة بإقباله فَلَمَّا فرغ من إنْشَاء دلَالَته بعد جولانه فى هيجاء البلاغة عَن بسالته حَار الْحَاضِرُونَ فى جَوَابه وتعجبوا من فصل خطابه وَعَاد الْخُصُوم كَأَنَّهُمْ فرَاش النَّار وخشاش الْأَبْصَار وأوباش الْأَمْصَار عَلَيْهِم الدبرة(3/161)
وعَلى وُجُوههم الغبرة قلت لبَعض الْحَاضِرين من المناظرين من هَذَا الذى آثر اختلاب الْقُلُوب ونظم على هَذَا الأسلوب الذى لم ينسج على منواله وَلم تسمح قريحة بمثاله أجابنى وَقَالَ هُوَ الباز الْأَشْهب والمبارز الأشنب وَالْبَحْر الطامى والطود السامى والغيث الهامى وَاللَّيْث الحامى نَاصِر الْحق وناصح الْخلق قامع الْبِدْعَة ولسان الْحِكْمَة وَإِمَام الْأمة وقوام الْملَّة ذُو الرأى الوضى والرواء المرضى ذُو الْقلب الذكى وَالنّسب الزكى السرى ابْن السرى والنجد الجرى والسند العبقرى أَبُو الْحسن الأشعرى فسرحت طرفى فى ميسمه وأمعنت النّظر فى توسمه مُتَعَجِّبا من تلهب جذوته وتألق جلوته دَعَوْت لَهُ بامتداد الْأَجَل وارتداد الوجل فَبينا أَنا فِيهِ إِذْ شمر للانثناء بعد حِيَازَة الثَّنَاء وشحذ للتحفز غرار عزمته وَخرج يقتاد الْقُلُوب بأزمته فتبعته مقتفيا كخدمه ومنتهجا مواطئ قدمه فَالْتَفت إِلَى وَقَالَ يَا فَتى كَيفَ وجدت أَبَا الْحسن حِين أفتى فهرولت لالتزام قده واستلام يَده وَقلت
(ومسحل مثل حد السَّيْف منصلت ... تزل عَن غربه الْأَلْبَاب والفكر)
(طعنت بِالْحجَّةِ الغراء جيلهم ... ورمح غَيْرك مِنْهُ العى والحصر)
لَا قَامَ ضدك وَلَا قعد جدك ولافض فوك وَلَا لحقك من يقفوك فوالذى سمك السَّمَاء وَعلم آدم الْأَسْمَاء لقد أبديت الْيَد الْبَيْضَاء وسكنت الضوضاء وكشفت الغماء ولحنت الدهماء وَقطعت الأحشاء وقمعت الْبدع والأهواء بِلِسَان عضب(3/162)
وَبَيَان عذب آنس من الرَّوْض الممطور والموشى المنشور وأصفى من در الأمطار وذر الْبحار وجررت ذيل الفخار على هَامة الشعرى وقدما قيل إِن من الْبَيَان لسحرا بيد أَنه قد بقى لى سُؤال لما عرانى من الْإِشْكَال فَقَالَ اذكر سؤالك وَلَا تعرض عَمَّا بدا لَك فَقلت رَأَيْت الْأَمر لم يجر على النظام لِأَنَّك مَا افتتحت فى الْكَلَام ودأب المناظر أَلا يسْأَل غَيْرك وَمثلك حَاضر قَالَ أجل لكنى فى الِابْتِدَاء لَا أذكر الدَّلِيل وَلَا أشتغل بِالتَّعْلِيلِ إِذْ فِيهِ تسبب إِلَى الجاء الْخصم فى ذكر شبهه بطرِيق الِاعْتِرَاض وَمَا أَنا بالتسبب إِلَى الْمعْصِيَة رَاض فأمهله حَتَّى يذكر ضلالته ويفرد شبهته ومقالته فَحِينَئِذٍ نَص على الْجَواب فأرجو بذلك من الله الثَّوَاب
قَالَ الراوى فَلَمَّا رَأَيْت مخبره بعد أَن سَمِعت خَبره تيقنت أَنه قد جَاوز الْخَبَر الْخَبَر وَأَن مقَالَته تبر وَمَا دونه صفر قد بلغ من الدّيانَة أَعلَى النِّهَايَة وأوفى من الْأَمَانَة على كل غَايَة وَأَنه هُوَ الذى أَوْمَأ إِلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة بحيازة هَذِه الْمِنَّة فى نصر الْحق ونصح الْخلق وإعلاء الدّين والذب عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فشاذ لى من الِاعْتِدَاد بأوفر الْأَعْدَاد وأودع بَيَاض الوداد سَواد الْفُؤَاد فتعلقت بأهدابه لخصائص آدابه ونافست فى مصافاته لنفائس صِفَاته وَلَبِثت مَعَه بُرْهَة أستفيد مِنْهُ فى كل يَوْم نزهة وأدرأ عَن نفسى للمعتزلة شُبْهَة ثمَّ ألفيت مَعَ علو دَرَجَته وتفاقم مرتبته كَانَ يقوم بتثقيف أوده من كسب يَده من اتِّخَاذ تِجَارَة للعقاقير معيشة والاكتفاء بهَا عيشة اتقاء الشُّبُهَات وإبقاء على الشَّهَوَات رضَا بالكفاف وإيثارا للعفاف(3/163)
136 - مُحَمَّد دَاوُد بن سُلَيْمَان بن سيار أَبُو بكر بن بَيَان مَاتَ لثلاث بَقينَ من جمادة الْآخِرَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
137 - مُحَمَّد بن سعيد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَبى القاضى الإِمَام الْكَبِير أَبُو أَحْمد
من تلامذة أَبى إِسْحَاق المروزى وأبى بكر الصيرفى وطبقتهما
وَبَيت أَبى القاضى بخوارزم بَيت شهير
وَهُوَ صَاحب كتاب الحاوى وَكتاب الْعمد القديمين فى الْفِقْه وَمِنْه أَخذ الماوردى والفورانى الاسمين
قَالَ صَاحب الكافى أَبُو أَحْمد إِمَام كَبِير أحد مفاخر خوارزم والمشار إِلَيْهِ فى زَمَانه بالتقدم على أقرانه لم يكن أحد من آل القاضى فى عَهده أفضل وَلَا أفقه وَلَا أكْرم مِنْهُ
قَالَ وَآل أَبى القاضى أعز بَيت وأشرفه بخوارزم وَأجْمع لخصال الْخَيْر وَأَطْنَبَ فى وصف الْبَيْت بِعِبَارَة طَوِيلَة
ثمَّ قَالَ وَأَبُو أَحْمد سيدهم أَو مَا هَذَا مَعْنَاهُ
ثمَّ ذكر أَن بَعضهم كَانَ يَقُول يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْكَرِيم بن الْكَرِيم بن الْكَرِيم بن الْكَرِيم وَمُحَمّد بن سعيد بن مُحَمَّد بن عبد الله الْعَالم بن الْعَالم بن الْعَالم بن الْعَالم كلهم عُلَمَاء أتقياء(3/164)
ذكر صَاحب الكافى هَذَا الْمَعْنى لَكِن بِعِبَارَة لم أستحسن حكايتها
ثمَّ قَالَ خرج إِلَى الْعرَاق فتفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى والصيرفى وطبقتهما ثمَّ رَجَعَ إِلَى خوارز وَأَقْبل على التدريس والتذكير والتصنيف فى أَنْوَاع الْعُلُوم
وَأَطْنَبَ فى وَصفه بِالْعلمِ وَالدّين إِلَى أَن قَالَ وَكَانَ عَارِفًا بمذاهب عُلَمَاء السّلف وَالْخلف أصولا وفروعا رَقِيق الْقلب بكاء منكبا فى التَّذْكِير صنف فى الْأُصُول كتاب الْهِدَايَة وَهُوَ كتاب حسن نَافِع كَانَ عُلَمَاء خوارزم يتداولونه وينتفعون بِهِ وصنف فى الْفُرُوع كتاب الحاوى بناه على الْجَامِع الْكَبِير لأبى إِبْرَاهِيم المزنى وَكتاب الرَّد على الْمُخَالفين وكتبا أخر كَثِيرَة
قَالَ أَبُو سعيد الكرابيسى وَكَانَت لَهُ صدقَات يتَصَدَّق بهَا فى السِّرّ حَدَّثَنى بعض أَصْحَابنَا أَنه كَانَ يُعْطِيهِ مَالا وَيَقُول اذْهَبْ إِلَى الوادى وقف على شطه حِين كَانَ يجمد ففرقه على الضُّعَفَاء الَّذِي يحملون الْحَطب على عواتقهم ويسعون فى نَفَقَة عِيَالهمْ
قَالَ ثمَّ خرج إِلَى الْحَج سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة فجاور بِمَكَّة حَتَّى قضى الصَّلَوَات الَّتِى صلاهَا بخوارزم فى الْخفاف وَالْفراء الَّتِى اخْتلف الْعلمَاء فى الصَّلَاة مَعَهُمَا ثمَّ انْصَرف إِلَى بَغْدَاد فَمَال الْخلق إِلَيْهِ واجتمعوا عَلَيْهِ وصنف بهَا كتاب الْعمد وسألوه الْمقَام بهَا فَأبى إِلَّا الرُّجُوع إِلَى وَطنه فَرجع إِلَى خوارزم وَاسْتقر بهَا إِلَى أَن مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة وَدفن يَوْم السبت سنة نَيف وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَأكْثر النَّاس فِيهِ المراثى
قَالَ صَاحب الكافى وَلَا أرى لَهُ رِوَايَة فى الحَدِيث فَلَعَلَّهُ كَانَ فَقِيها صرفا وَلَو كَانَت لَهُ أَحَادِيث لَكَانَ لَهُ ذكر فى تَارِيخ بَغْدَاد وتاريخ سَمَرْقَنْد وَلَا ذكر لَهُ فيهمَا وَفِيه لما مَاتَ يَقُول أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن قطن
(ليبك دَمًا من كَانَ للدّين باكيا ... فَإِن إِمَام النَّاس أصبح ثاويا)
(فَقدنَا بفقدان الْفَقِيه مُحَمَّد ... مَكَارِم غادرن الْعُيُون هواميا)(3/165)
وَمِنْهَا
(تشبه آبَاء كراما كَأَنَّهُمْ ... مصابيح تجلو المظلمات الدواجيا)
(سعيدا وَعبد الله وَالشَّيْخ ذَا النهى ... مُحَمَّدًا الْبر الْعَفِيف المواليا)
(دعائم هَذَا الدّين عاشوا أعزه ... وماتوا كراما لم يحوزوا المساويا)
وهى طَوِيلَة أَتَى صَاحب الكافى على عامتها
قَالَ وَخلف ولدا اسْمه أَبُو بكر عبد الله كَانَ رشيدا فَاضلا بلغ دَرَجَة أسلافه فى الْعلم والورع
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ حضرت مجْلِس أَبى إِسْحَاق المروزى فَسَمعته يَقُول قَالَ لنا القاضى أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج بأى شئ يتَخَرَّج الْمَرْء فى التَّعَلُّم فأعيا أَصْحَابنَا الْجَواب
فَقلت أَنا بتفكره فى الْفَائِدَة الَّتِى تجرى فى الْمجْلس فَقَالَ أصبت بِهَذَا يتَخَرَّج المتعلم
قَالَ أَبُو سعيد الكرابيسى سُئِلَ عَن بيع التُّرَاب من الأَرْض قدر ذِرَاع من الأَرْض عمقا فى عرض وَطول مَعْلُوم لضرب اللَّبن فَقَالَ لَا يجوز لِأَن الأَرْض يخْتَلف ترابها
138 - مُحَمَّد بن سُفْيَان الأسبانيكثى
وأسبانيكث بِضَم الْألف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر النُّون وَسُكُون آخر الْحُرُوف وَفتح الْكَاف وفى آخرهَا الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَسَيَعُودُ إِن شَاءَ الله ذكر هَذِه النِّسْبَة فى تَرْجَمَة سعيد بن حَاتِم
وَهَذَا كنيته أَبُو بكر ولى الْقَضَاء(3/166)
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس المستغفرى كَانَ من أورع الْحُكَّام وأفضلهم وأنزههم
قَالَ وَكَانَ القاضى نسف
قَالَ وَكَانَ قد درس الْفِقْه على أَبى بكر أَحْمد بن الْحسن الفارسى وَكَانَ من جملَة فُقَهَاء الشافعى وَكَانَ قَلِيل الحَدِيث
قَالَ وَسمعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله بن أَبى شُجَاع الأسبانيكثى يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن على بن زَكَرِيَّاء الْفَقِيه الْمُفْتى بالشاش وَكَانَ من أَصْحَاب أَبى بكر الفارسى يَقُول لم يكن أحد من أَصْحَاب أَبى بكر الفارسى أَخذ مِنْهُ فقهه وَكَلَامه وتدقيقه كَمَا أَخذ أَبُو بكر الأسبانيكثى وَلَو أَن إنْسَانا سَمعه يتَكَلَّم من وَرَاء جِدَار مَا شكّ أَنه أَبُو بكر الفارسى
مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَسبعين وثلاثمائة بالسغد
139 - مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن هَارُون بن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم ابْن بشر الحنفى نسبا من بنى حنيفَة العجلى الإِمَام الْأُسْتَاذ الْكَبِير أَبُو سهل الصعلوكى
شيخ عصره وقدوة أهل زَمَانه وَإِمَام وقته فى الْفِقْه والنحو وَالتَّفْسِير واللغة وَالشعر وَالْعرُوض وَالْكَلَام والتصوف وَغير ذَلِك من أَصْنَاف الْعُلُوم
أجمع أهل عصره على أَنه بَحر الْعلم الذى لَا ينزف وَإِن كثرت الدلا وجبل المعارف الَّتِى لَا تمر بهَا الْخُصُوم إِلَّا كَمَا يمر الهوا(3/167)
ولد سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
وَأول سَمَاعه سنة خمس وثلاثمائة
سمع ابْن خُزَيْمَة وَعنهُ حمل الحَدِيث وَأَبا الْعَبَّاس السراج وَأَبا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الماسرجسى وَأَبا قُرَيْش مُحَمَّد بن جُمُعَة وَأحمد بن عمر المحمداباذى وَأَبا مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم وَإِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد وَأَبا بكر ابْن الأنبارى والمحاملى وَغَيرهم
وتفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى وَطلب الْعلم وتبحر فِيهِ قبل خُرُوجه إِلَى الْعرَاق بسنين
قَالَ الْحَاكِم لِأَنَّهُ نَاظر فى مجْلِس أَبى الْفضل البلعمى الْوَزير سنة سبع عشرَة وثلاثمائة وَتقدم فى الْمجْلس إِذْ ذَاك ثمَّ خرج إِلَى الْعرَاق سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَهُوَ إِذْ ذَاك أوحد بَين أَصْحَابه ثمَّ دخل الْبَصْرَة ودرس بهَا سِنِين فَلَمَّا نعى إِلَيْهِ عَمه أَبُو الطّيب وَعلم أَن أهل أَصْبَهَان لَا يخلون عَنهُ فى انْصِرَافه خرج مختفيا مِنْهُم فورد نيسابور فى رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَهُوَ على الرُّجُوع إِلَى الْأَهْل وَالْولد والمستقر من أَصْبَهَان فَلَمَّا ورد جلس لمأتم عَمه ثَلَاثَة أَيَّام فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن إِسْحَاق يحضر كل يَوْم فيقعد مَعَه هَذَا على قلَّة حركته وَكَذَلِكَ كل رَئِيس ومرؤوس وقاض ومفت من الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا انْقَضتْ الْأَيَّام عقدوا لَهُ الْمجْلس غَدَاة كل يَوْم للتدريس وَالْإِلْقَاء ومجلس النّظر عَشِيَّة الْأَرْبَعَاء واستقرت بِهِ الدَّار وَلم يبْق فى الْبَلَد مُوَافق وَلَا مُخَالف إِلَّا وَهُوَ مقرّ لَهُ بِالْفَضْلِ والتقدم وحضره الْمَشَايِخ مرّة بعد أُخْرَى يسألونه أَن ينْقل من خَلفهم وَرَاءه بأصبهان(3/168)
فَأجَاب إِلَى ذَلِك ودرس وَأفْتى وَرَأس أَصْحَابه بنيسابور اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ يسْأَل عَن التحديث فَيمْتَنع أَشد الِامْتِنَاع إِلَى غرَّة رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة سُئِلَ فَأجَاب للإملاء وَقعد للتحديث عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا بكر أَحْمد بن إِسْحَاق عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا بكر أَحْمد بن إِسْحَاق الإِمَام غير مرّة وَهُوَ يعوذ الْأُسْتَاذ أَبَا سهل وينفث على دُعَائِهِ وَيَقُول بَارك الله فِيك لَا أصابتك الْعين هَذَا فى مجَالِس النّظر عَشِيَّة السبت للْكَلَام وَعَشِيَّة الثُّلَاثَاء للفقه
قَالَ وَسمعت أَبَا على الإسفراينى يَقُول سَمِعت أَبَا إِسْحَاق المروزى يَقُول ذهبت الْفَائِدَة من مَجْلِسنَا بعد خُرُوج أَبى سهل النيسابورى
قَالَ وَسمعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن على الْقفال الْفَقِيه ببخارى يَقُول قلت للفقيه أَبى سهل بنيسابور حِين أَرَادَ مناظرتى هَذَا ستر قد أسبله الله على فَلَا تسبق إِلَى كشفه
قَالَ وَسمعت أَبَا مَنْصُور الْفَقِيه يَقُول سُئِلَ أَبُو الْوَلِيد عَن أَبى بكر الْقفال وأبى سهل أَيهمَا أرجح فَقَالَ وَمن يقدر أَن يكون مثل أَبى سهل وَعَن أَبى بكر الصيرفى خرج أَبُو سهل إِلَى خُرَاسَان وَلم ير أهل خُرَاسَان مثله
وَعَن الصاحب أَبى الْقَاسِم بن عباد لَا يرى مثله وَلَا رأى هُوَ مثل نَفسه
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى أَبُو سهل الصعلوكى صَاحب أَبى إِسْحَاق المروزى كَانَ فَقِيها أديبا شَاعِرًا متكلما مُفَسرًا صوفيا كَاتبا وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء نيسابور وَابْنه أَبُو الطّيب
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى سَمِعت أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول وهب الْأُسْتَاذ أَبُو سهل جبته من إِنْسَان فى الشتَاء وَكَانَ يلبس جُبَّة النِّسَاء حِين يخرج إِلَى التدريس إِذْ لم تكن لَهُ جُبَّة أُخْرَى فَقدم الْوَفْد المعروفون من فَارس فيهم فى كل نوع إِمَام من الْفُقَهَاء والمتكلمين والنحويين فَأرْسل إِلَيْهِ صَاحب الْجَيْش وَهُوَ أَبُو الْحسن(3/169)
وَأمره أَن يركب للاستقبال فَلبس دراعة فَوق تِلْكَ الْجُبَّة الَّتِى للنِّسَاء وَركب فَقَالَ صَاحب الْجَيْش إِنَّه يستخف بى إِمَام الْبَلَد يركب فى جُبَّة النسوان ثمَّ إِنَّه ناظرهم أَجْمَعِينَ وَظهر كَلَامه على كَلَام جَمِيعهم فى كل فن
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت أَبَا بكر بن إشكاب يَقُول رَأَيْت الْأُسْتَاذ أَبَا سهل فى الْمَنَام على هَيْئَة حَسَنَة لَا تُوصَف فَقلت يَا أستاذ بِمَ نلْت هَذَا فَقَالَ بِحسن ظنى بربى
وَحكى أَن أَبَا نصر الْوَاعِظ وَكَانَ حنفيا فى زمَان الْأُسْتَاذ أَبى سهل انْتقل إِلَى مَذْهَب الشافعى فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْمَنَام مَعَ أَصْحَابه قَاصِدا لعيادة الْأُسْتَاذ أَبى سهل وَكَانَ مَرِيضا قَالَ فتبعته وَدخلت عَلَيْهِ مَعَه وَقَعَدت بَين يدى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متفكرا فَقلت إِن هَذَا إِمَام أَصْحَاب الحَدِيث وَإِن مَاتَ أخْشَى أَن يَقع الْخلَل فيهم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لى (لَا تفكر فى ذَلِك إِن الله لَا يضيع عِصَابَة أَنا سَيِّدهَا)
قلت صحب الْأُسْتَاذ أَبُو سهل من أَئِمَّة التصوف المرتعش والشبلى وَأَبا على الثقفى وَغَيرهم
وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ مَا مرت بى جُمُعَة وَأَنا بِبَغْدَاد إِلَّا ولى على الشبلى وَقْفَة أَو سُؤال
وَأَنه قَالَ دخل الشبلى على أَبى إِسْحَاق المروزى فرآنى عِنْده فَقَالَ ذَا الْمَجْنُون من أَصْحَابك لَا بل من أَصْحَابنَا
وَقَالَ السلمى سَمِعت أَبَا سهل يَقُول مَا عقدت على شئ قطّ وَمَا كَانَ لى قفل وَلَا مِفْتَاح وَلَا صررت على فضَّة وَلَا ذهب قطّ(3/170)
قَالَ الْحَاكِم توفى الْأُسْتَاذ أَبُو سهل يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر ذى الْقعدَة سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو الطّيب وَدفن فى الْمجْلس الذى كَانَ يدرس فِيهِ
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
أخبرنَا أَحْمد بن على الجزرى بقراءتى وَفَاطِمَة بنت إِبْرَاهِيم بن أَبى عمر قِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَأَنا أسمع قَالَا أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن خَلِيل حضورا أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن ابْن على بن الْمُسلم أخبرنَا أَبُو الْحسن على بن الْحسن بن الْحُسَيْن الموازينى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْفضل أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَبى الفراتى سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول قلت يَوْمًا للأستاذ أَبى سهل فى كَلَام يجرى بَيْننَا فَقَالَ لى أما علمت أَن من قَالَ لأستاذه لم لَا يفلح أبدا
وَبِه قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن يَقُول قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل لى يَوْمًا عقوق الْوَالِدين يمحوها الاسْتِغْفَار وعقوق الأستاذين لَا يمحوها شئ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا إِن لم أكن قرأته عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْفضل أَحْمد ابْن هبة الله بن تَاج الْأُمَنَاء أخبرنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الْحَافِظ أَن زَيْنَب بنت أَبى الْقَاسِم الشعرى أخْبرته
ح قَالَ شَيخنَا وَأخْبرنَا أَبُو الْفضل أَنَّهَا كتبت إِلَيْهِ تخبره أَن إِسْمَاعِيل بن أَبى الْقَاسِم أخْبرهَا أخبرنَا عمر بن أَحْمد بن مَنْصُور قَالَ أنشدنا أَبُو سهل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الحنفى إملاء أنشدنا أَبُو بكر الأنبارى أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى
(لقد هَتَفت فى جنح ليل حمامة ... إِلَى إلفها شوقا وإنى لنائم)
(كذبت وَبَيت الله لَو كنت عَاشِقًا ... لما سبقتنى بالبكاء الحمائم)
وَبِه قَالَ أنشدنا الإِمَام أَبُو سهل لنَفسِهِ
(أَنَام على سَهْو وتبكى الحمائم ... وَلَيْسَ لَهَا جرم وَمنى الجرائم)
(كذبت وَبَيت الله لَو كنت عَاقِلا ... لما سبقتنى بالبكاء الحمائم)(3/171)
وَمن الْفَوَائِد والمسائل عَن الْأُسْتَاذ أَبى سهل
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا سهل وَدفع إِلَيْهِ مَسْأَلَة فقرأها علينا وهى
(تمنيت شهر الصَّوْم لَا لعبادة ... وَلَكِن رَجَاء أَن أرى لَيْلَة الْقدر)
(فأدعو إِلَه النَّاس دَعْوَة عاشق ... عَسى أَن يرِيح العاشقين من الهجر)
فَكتب أَبُو سهل فى الْحَال
(تمنيت مَا لَو نلته فسد الْهوى ... وَحل بِهِ للحين قاصمة الظّهْر)
(فَمَا فى الْهوى طيب وَلَا لَذَّة سوى ... معاناة مَا فِيهِ يقاسى من الهجر)
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى سَمِعت أَبَا بكر بن فورك يَقُول سُئِلَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل عَن جَوَاز رُؤْيَة الله تَعَالَى من طَرِيق الْعقل فَقَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ شوق الْمُؤمنِينَ إِلَى لِقَائِه والشوق إِرَادَة مفرطة والإرادة لَا تعلق بالمحال فَقَالَ السَّائِل وَمن الذى يشتاق إِلَى لِقَائِه فَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل يشتاق إِلَيْهِ كل حر مُؤمن فَأَما من كَانَ مثلك فَلَا يشتاق
روى الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْأُسْتَاذ أَبى سهل بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبى نواس قَالَ مضيت يَوْمًا إِلَى أَزْهَر السمان فَوجدت بِبَابِهِ جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث فَجَلَست مَعَهم أنْتَظر خُرُوجه فَمَكثَ غير بعيد وَخرج ووقف بَين بابى دَاره ثمَّ قَالَ لأَصْحَاب الحَدِيث حَوَائِجكُمْ فَجعلُوا يذكرونها لَهُ ويحدثهم بِمَا يسألونه ثمَّ أقبل على وَقَالَ حَاجَتك يَا حسن فَقلت
(وَلَقَد كُنْتُم رويتم ... عَن سعيد عَن قَتَادَة)
(عَن سعيد بن الْمسيب ... أَن سعد بن عبَادَة)
(قَالَ من مَاتَ محبا ... فَلهُ أجر الشهاده)(3/172)
قَالَ نعم يَا خليع حَدثنَا سعيد بن أَبى عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن سعد ابْن عبَادَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من مَاتَ محبا فى الله فَلهُ أجر الشَّهَادَة)
140 - مُحَمَّد بن شُعَيْب بن إِبْرَاهِيم بن شُعَيْب النيسابورى
الْفِقْه العجلى أَبُو الْحسن البيهقى
أحد الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين بالفصاحة والبراعة وَالْفِقْه والإمامة
قَالَ الْحَاكِم فِيهِ مفتى الشافعيين ومناظرهم ومدرسهم فى عصره وَأحد الْمَذْكُورين فى أقطار الأَرْض بالفصاحة والبراعة
كَانَ اختلافه بنيسابور إِلَى أَبى بكر بن خُزَيْمَة وأقرانه
ثمَّ خرج إِلَى أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج وَلَزِمَه إِلَى أَن تقدم فى الْعلم
سمع بخراسان أَبَا عبد الله البوشنجى وَأَبا بكر الجارودى وَدَاوُد بن الْحُسَيْن وأقرانهم
وبالعراق ابْن جرير وَغَيره
روى عَنهُ الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد وَغَيره
سَمِعت أَبَا سهل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْفَقِيه يَقُول حضرت مجْلِس الْوَزير أَبى الْفضل البلعمى فَلَمَّا فرغ من الْمجْلس دَعَا بأبى الْحسن البيهقى فخيره بَين قَضَاء الرى والشاش فَامْتنعَ إِلَيْهِ أَشد الِامْتِنَاع وتضرع إِلَيْهِ فِي الاستعفاء وَكَانَ آخر كلمة تكلم بهَا أَن قَالَ لَهُ الْوَزير استشر واستخر واقترح وَلَا تخَالف
توفى سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة(3/173)
141 - مُحَمَّد بن صَالح بن هَانِئ أَبُو جَعْفَر الْوراق النيسابورى
سمع الْكثير بنيسابور وَلم يسمع بغَيْرهَا
وَكَانَ صبورا على الْفقر لَا يَأْكُل إِلَّا من كسب يَده
سمع السرى ابْن خُزَيْمَة وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو بكر بن إِسْحَاق وَأَبُو على الْحَافِظ وَغَيرهمَا
مَاتَ فى سلخ ربيع الأول سنة أَرْبَعِينَ وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو عبد الله بن الأخرم الْحَافِظ وَلما دفن وقف على قَبره وترحم عَلَيْهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وَحكى أَنه صَاحبه من سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ إِلَى حِينَئِذٍ فَمَا رَآهُ أَتَى شَيْئا لَا يرضاه الله عز وَجل وَلَا سمع مِنْهُ شَيْئا يسْأَل عَنهُ
142 - مُحَمَّد بن طَالب بن على أَبُو الْحُسَيْن النسفى
الْفَقِيه إِمَام الشَّافِعِيَّة بِتِلْكَ الديار
قَالَ جَعْفَر المستغفرى كَانَ فَقِيها عَارِفًا باخْتلَاف الْعلمَاء نقى الحَدِيث صَحِيحه مَا كتب إِلَّا عَن الثِّقَات
سمع على بن عبد الْعَزِيز بِمَكَّة ومُوسَى بن هَارُون وَطَائِفَة
توفى فى رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة بنسف(3/174)
143 - مُحَمَّد بن طَاهِر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الْوَزير أَبُو نصر الوزيرى
الأديب الْمُذكر الْمُفَسّر
كَانَ كثير الْعُلُوم فصيحا بَالغا فى الذّكر والوعظ
سمع عبد الله بن مُحَمَّد بن الشرقى وَأَبا حَامِد بن بِلَال وَأَبا على الثَّقَفِيّ وأقرانهم
توفى فى شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة
وَكَانَ أَولا حنفى الْمَذْهَب ثمَّ انْتقل إِلَى مَذْهَبنَا
144 - مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عصم بن بِلَال بن عصم أَبُو عبد الله بن أَبى ذهل الضبى الهروى العصمى بِضَم الْعين
رَئِيس هراة
مولده سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
وَسمع مُحَمَّد بن معَاذ المالينى وَأَبا نصر مُحَمَّد بن عبد الله القيسى وحاتم بن مَحْبُوب وَأَبا عَمْرو الحيرى ومؤمل بن الْحسن الماسرجسى وَيحيى بن صاعد وَعبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم وَغَيرهم(3/175)
روى عَنهُ الدارقطنى وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله وَأَبُو يَعْقُوب القراب وَأَبُو بكر البرقانى وَأَبُو الْفَتْح بن أَبى الفوارس وَغَيرهم
قَالَ الْخَطِيب كَانَ ثِقَة نبيلا من ذوى الأقدار الْعَالِيَة
وَقَالَ سَمِعت البرقانى يَقُول كَانَ ملك هراة تَحت أَمر ابْن أَبى ذهل لقدره وأبوته
وَقَالَ الْحَاكِم لقد صحبته سفرا وحضرا فَمَا رَأَيْت أحسن وضُوءًا مِنْهُ وَلَا أحسن صَلَاة وَلَا رَأَيْت فى مَشَايِخنَا أحسن تضرعا وابتهالا فى دعواته مِنْهُ لقد كنت أرَاهُ يرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء فيمدهما مدا كَأَنَّهُ يَأْخُذ شَيْئا من أَعلَى مُصَلَّاهُ وَكَانَ يضْرب لَهُ دَنَانِير وزن الدِّينَار مِنْهَا مِثْقَال وَنصف أَو أَكثر فَيتَصَدَّق بهَا وَيَقُول إنى لأفرح إِذا ناولت فَقِيرا كاغدا فيتوهم أَنه فضَّة فَإِذا فَتحه وَرَأى صفرته فَرح ثمَّ إِذا وَزنه فَزَاد على المثقال فَرح أَيْضا وَكَانَت لَهُ غلَّة كَثِيرَة لَا يدْخل دَاره إِلَّا دون عشرهَا والباقى يفرقه على المستورين وَسَائِر الْمُسْتَحقّين حَتَّى إِن جمَاعَة من أهل الْعلم لم يكن لَهُم قوت إِلَّا من غَلَّته
قَالَ الْحَاكِم وَلَقَد سَأَلت عَن أعشار غلات أَبى عبد الله كم تبلغ فَقيل رُبمَا زَادَت على ألف حمل
وحدثنى أَبُو أَحْمد الْكَاتِب أَن النُّسْخَة الَّتِى كَانَت عِنْده بأسماء من يقوتهم أَبُو عبد الله بهراة تزيد على خَمْسَة آلَاف بَيت
وَقَالَ أَبُو النَّصْر عبد الرَّحْمَن الفامى إِن أَبَا عبد الله صنف صَحِيحا على صَحِيح البخارى وَإنَّهُ تفقه بِبَغْدَاد وَإنَّهُ لم يجْتَمع لرئيس بهراة مَا اجْتمع لَهُ من آلَات السِّيَادَة(3/176)
وَحكى أَن أَبَا جَعْفَر العتبى وَزِير السُّلْطَان ألزم أَبَا عبد الله عَن أَمر السُّلْطَان أَن يتقلد ديوَان الرسائل فَامْتنعَ فَقَالَ لَهُ هَذَا قَضَاء الْقُضَاة بكور خُرَاسَان وَلَا تخرج عَن حد الْعلم وَلَو عرفت الْيَوْم فى مَشَايِخ خُرَاسَان من يدانيك فى شمائلك لأعفيتك فَبكى أَبُو عبد الله وَقَالَ لَهُ إِن أعفانى السُّلْطَان عَن هَذَا الْعَمَل فبفضله على وعَلى أصحابى بهراة وَإِن أكرهنى عَلَيْهِ لبست مرقعة وَخرجت على وجهى حَتَّى لَا يعلم بمكانى أحد فأعفى
وَعَن أَبى عبد الله مَا مست يدى دِينَارا وَلَا درهما مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة هَذَا مَعَ كَثْرَة أَمْوَاله وصدقاته
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا عبد الله بن أَبى ذهل يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الشبلى وَسُئِلَ عَن الرجل يسمع الشئ وَلَا يفهم مَعْنَاهُ فيتواجد عَلَيْهِ لم هَذَا فَأَنْشَأَ الشبلى يَقُول
(رب وَرْقَاء هتوف بالضحى ... ذَات شجو صدحت فى فنن)
(ذكرت إلفا ودهرا سالفا ... فَبَكَتْ حزنا فهاجت حزنى)
(فبكائى رُبمَا أرقها ... وبكاها رُبمَا أرقنى)
(وَلَقَد تَشْكُو فَمَا أفهمها ... وَلَقَد أَشْكُو فَمَا تفهمنى)
(غير أَنى بالجوى أعرفهَا ... وهى أَيْضا بالجوى تعرفنى)
اسْتشْهد ابْن أَبى ذهل فى رستاق خواف من نيسابور بعد مَا خرج من الْحمام لطخ ثَوْبه وَألبسهُ فَمَاتَ لتسْع بَقينَ من صفر سنة ثَمَان وَسبعين وثلاثمائة(3/177)
145 - مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد أَبُو عبد الله الصفار الأصبهانى الْمُحدث الرجل الصَّالح
سمع بِبَلَدِهِ أَحْمد بن عِصَام وَأسيد بن عَاصِم وَأحمد بن رستم وَعبيد الغزال
وبفارس أَحْمد بن مهْرَان بن خَالِد
وببغداد أَحْمد بن عبيد الله النرسى وَمُحَمّد بن الْفرج الْأَزْرَق وَأَبا بكر بن أَبى الدُّنْيَا
وبمكة على بن عبد الْعَزِيز وَجَمَاعَة
وَسمع الْمسند من عبد الله بن أَحْمد وَكتب مصنفات إِسْمَاعِيل القاضى ورحل إِلَى الْحسن بن سُفْيَان وَحصل الْمسند ومصنفات ابْن أَبى شيبَة
روى عَنهُ أَبُو على الْحَافِظ وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم الجرجانى وَمُحَمّد بن مُوسَى الصيرفى وَأَبُو الْحُسَيْن الحجاجى وَأَبُو عبد الله ابْن مندة وَآخَرُونَ
قَالَ الْحَاكِم هُوَ مُحدث عصره كَانَ مجاب الدعْوَة لم يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء كَمَا بلغنَا نيفا وَأَرْبَعين سنة وصنف فى الزهديات وَورد نيسابور قبل الثلاثمائة فسكنها(3/178)
قَالَ الْحَاكِم وَكَانَ وراقه أَبُو الْعَبَّاس المصرى خانه واختزل عُيُون كتبه وَأكْثر من خَمْسمِائَة جُزْء من أُصُوله فَكَانَ أَبُو عبد الله يجامله جاهدا فى استرجاعها مِنْهُ فَلم ينجع فِيهِ شئ وَكَانَ كَبِير الْمحل فى الصَّنْعَة فَذهب علمه بِدُعَاء الشَّيْخ عَلَيْهِ
توفى فى ذى الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَله ثَمَان وَتسْعُونَ سنة
146 - مُحَمَّد بن عبد الله بن حمدون أَبُو سعيد النيسابورى الزَّاهِد الْعَالم أحد الصَّالِحين
سمع من أَبى بكر مُحَمَّد بن حمدون وَمَا أدرى هَل هُوَ عَمه أَو لَا وَمن أَبى حَامِد بن الشرقى وأبى نعيم بن عدى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَحْمد بن مَنْصُور المغربى وَأَبُو عُثْمَان سعيد البحيرى وَغَيرهمَا
وَحدث سِنِين وانتفع بِهِ الْخلق علما ودينا
توفى بنيسابور فى ذى الْحجَّة سنة تسعين وثلاثمائة
147 - مُحَمَّد بن عبد الله بن حمشاد الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الحمشادى
الإِمَام علما ودينا ذُو الدعْوَة المجابة
مولده سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة(3/179)
وتفقه بخراسان على أَبى الْوَلِيد النيسابورى وبالعراق على ابْن أَبى هُرَيْرَة
وَسمع أَبَا حَامِد بن بِلَال وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل الصفار وَأَبا سعيد ابْن الأعرابى وَآخَرين
وَدخل الْحجاز واليمن وَأدْركَ الْأَسَانِيد الْعَالِيَة
وَقَرَأَ علم الْكَلَام على أَبى سهل الخليطى
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم الأديب الزَّاهِد من الْعلمَاء الزهاد الْمُجْتَهدين
قَالَ وَكَانَ من الْمُجْتَهدين فى الْعِبَادَة الزاهدين فى الدُّنْيَا تجنب السلاطين وأولياءهم إِلَى أَن خرج من دَار الدُّنْيَا وَهُوَ ملازم لمسجده ومدرسته قد اقْتصر على أوقاف لسلفه عَلَيْهِ قوت يَوْم بِيَوْم
تخرج بِهِ جمَاعَة من الْعلمَاء الواعظين وَظهر لَهُ من مصنفاته أَكثر من ثَلَاثمِائَة كتاب مُصَنف
قَالَ وَقد ظهر لنا فى غير شئ أَنه كَانَ مجاب الدعْوَة
مرض أَبُو مَنْصُور الْفَقِيه يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر رَجَب وَاشْتَدَّ بِهِ المرضى يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع من ابْتِدَاء مَرضه فبكرت إِلَيْهِ وَقد ثقل لِسَانه وَكَانَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ بِالدُّعَاءِ ثمَّ قَالَ لى بِجهْد جهيد تذكر قصَّة مُحَمَّد بن وَاسع مَعَ قُتَيْبَة بن مُسلم فَقلت تفِيد
فَقَالَ إِن قُتَيْبَة كَانَ يجرى على مُحَمَّد بن وَاسع تِلْكَ الأرزاق وَهُوَ شيخ هرم ضَعِيف فعوتب(3/180)
على ذَلِك فَقَالَ أُصْبُعه فى الدُّعَاء أبلغ فى النَّصْر من رماحكم هَذِه
ثمَّ عدت إِلَيْهِ يَوْم الثُّلَاثَاء فَقَالَ لى بعد جهد جهيد أَيهَا الْحَاكِم غير مُودع فإنى راحل فَكَانَ يقاسى لما احْتضرَ من الْجهد مَا يقاسيه وَأَنا أَقُول لِأَصْحَابِنَا إِنَّه يُؤْخَذ لَيْلَة الْجُمُعَة فتوفى رَحمَه الله وَقت الصُّبْح من يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وغسله أَبُو سعيد الزَّاهِد
قلت أَبُو سعيد هُوَ الْمُتَقَدّم مُحَمَّد بن عبد الله بن حمدون
148 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن بشر
أَبُو عبد الله المزنى الهروى
أَخُو الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد المزنى الإِمَام
سمع أَحْمد بن نجدة وعَلى بن مُحَمَّد بن عِيسَى الحكانى
حدث بالعراق ونيسابور وهراة
مَاتَ بنيسابور فى جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة وَقد قَارب الثَّمَانِينَ(3/181)
149 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن بَصِير بن ورقة البخارى
الشَّيْخ الإِمَام الْجَلِيل أَبُو بكر الأودنى وأودن قَرْيَة من قرى بُخَارى مَضْمُومَة الْهمزَة فِيمَا قَالَ ابْن السمعانى مَفْتُوحَة فِيمَا قَالَ ابْن مَاكُولَا وَمن تبعه
سمع ببخارى أَبَا الْفضل يَعْقُوب بن يُوسُف العاصمى وأقرانه فَمن مشايخه الْهَيْثَم ابْن كُلَيْب الشاشى وَعبد الْمُؤمن بن خلف النسفى وَمُحَمّد بن صابر البخارى
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم حديثين وروى عَنهُ أَيْضا أَبُو عبد الله الحليمى وَمُحَمّد ابْن أَحْمد بن غُنْجَار وجعفر المستغفرى
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم إِمَام الشافعيين بِمَا وَرَاء النَّهر فى عصره بِلَا مدافعة قدم نيسابور سنة خمس وَسِتِّينَ وَحج ثمَّ انْصَرف فَأَقَامَ عندنَا مُدَّة فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَكَانَ من أزهد الْفُقَهَاء وأورعهم وَأَكْثَرهم اجْتِهَادًا فى الْعِبَادَة وأبكاهم على تَقْصِيره وأشدهم تواضعا وإخباتا وإنابة
وَقَالَ الإِمَام فى النِّهَايَة كَانَ الأودنى من دأبه أَن يضن بالفقه على من لَا يسْتَحقّهُ وَلَا يبديه وَإِن كَانَ يظْهر أثر الِانْقِطَاع عَلَيْهِ فى المناظرة(3/182)
وَحكى أَنه كَانَ يذهب إِلَى الْوَجْه الصَّحِيح وَهُوَ أَنه لَا يجوز للعاصى بِسَفَرِهِ أَن يتَنَاوَل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار لما فِيهِ من التَّخْفِيف على العاصى وَهُوَ مُتَمَكن من دفع الْهَلَاك عَن نَفسه بِأَن يَتُوب ثمَّ يَأْكُل
قَالَ الإِمَام فَلَمَّا ألزم الأودنى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة وَأخذ الملزم يَقُول هَذَا سعى فى إهلاك نفس معصومة مصونة فَكَانَ الأودنى يَقُول لمن بِالْقربِ مِنْهُ ت ب ك ل يُرِيد تب كل مَعْنَاهُ أَنه الساعى فى دم نَفسه باستمراره على عصيانه فَإِن أَرَادَ الْميتَة فليتب ثمَّ يَأْكُل
توفى الأودنى ببخارى سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
150 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أَبُو بكر الصبغى
الإِمَام الْفَقِيه الْمُحدث
سمع بخراسان من أَبى عَمْرو الحيرى والمؤمل بن الْحسن ومكى بن عَبْدَانِ وَغَيرهم
وبالرى من ابْن أَبى حَاتِم وَأكْثر عَنهُ
وببغداد من ابْن مخلد والمحاملى وَغَيرهمَا
وَأكْثر بنيسابور عَن أَبى حَامِد بن الشرقى
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فى التَّارِيخ أَرْبَعَة أَحَادِيث وحكاية قدمناها فى تَرْجَمَة ابْن الشافعى
وَقَالَ كَانَ من أَعْيَان فُقَهَاء الشافعيين كثير السماع والْحَدِيث كَانَ حانوته مجمع الْحفاظ والمحدثين فى مربعة الكرمانيين على بَاب خَان مكى وَكُنَّا نَقْرَأ على أَبى عبد الله بن يَعْقُوب على بَاب حانوته(3/183)
قلت كَلَام الْحَاكِم دَال على أَن الشَّيْخ كَانَ يَبِيع الصَّبْغ بِنَفسِهِ أَو يعمله بِنَفسِهِ فى الْحَانُوت على عَادَة الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين الَّذين كَانُوا يتسببون فى المعاش
توفى فى ذى الْحجَّة سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَهُوَ ابْن نَيف وَخمسين سنة
وفى الرافعى فى الْقصاص فى مَسْأَلَة الْمُبَادرَة حكى عَن الماسرجسى أَنه قَالَ سَمِعت أَبَا بكر الصبغى يَقُول كررتها على نفسى ألف مرّة حَتَّى تحققتها
وفى بعض النّسخ مَوضِع الصبغى الصيرفى وَلَعَلَّ الصبغى أشبه وَهُوَ فِيمَا أَحسب هَذَا لَا الإِمَام أَبُو بكر بن إِسْحَاق
151 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّاء بن الْحسن الإِمَام الْحَافِظ أَبُو بكر الجوزقى النيسابورى الشيبانى
وجوزق الَّتِى ينْسب إِلَيْهَا قَرْيَة من قرى نيسابور وبهراة جوزق أُخْرَى ينْسب إِلَيْهَا أَبُو الْفضل إِسْحَاق الهروى الْحَافِظ كِلَاهُمَا بِفَتْح الْجِيم ثمَّ الْوَاو الساكنة ثمَّ الزاى الْمَفْتُوحَة ثمَّ الْقَاف
كَانَ أَبُو بكر أحد أَئِمَّة الْمُسلمين علما ودينا وَكَانَ مُحدث نيسابور وَابْن أُخْت محدثها أَبى إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المزكى
روى عَن أَبى الْعَبَّاس السراج وأبى الْعَبَّاس الْأَصَم وأبى نعيم بن عدى الجرجانى وأبى الْعَبَّاس الدغولى رَحل إِلَيْهِ مَعَ خَاله إِلَى سرخس ومكى بن عَبْدَانِ وأبى حَامِد بن الشرقى وأخيه عبد الله بن الشرقى وأبى سعيد بن الأعرابى وأبى على الصفار وَغَيرهم بنيسابور وسرخس وهمذان والرى وَمَكَّة وبغداد وَغَيرهَا(3/184)
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله والكنجروذى وَسَعِيد بن مُحَمَّد البحيرى وَمُحَمّد بن على الخشاب وَسَعِيد بن أَبى سعيد الْعيار وَأحمد بن مَنْصُور بن خلف المغربى وَآخَرُونَ
وصنف المنسد الصَّحِيح على كتاب مُسلم وَكتاب الْمُتَّفق وَله كتاب آخر فى الْمُتَّفق أبسط من هَذَا الْمَشْهُور فى نَحْو ثَلَاثمِائَة جُزْء يرويهِ أَبُو عُثْمَان الصابونى وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ أنفقت فى الحَدِيث مائَة ألف دِرْهَم مَا كسبت بِهِ درهما
توفى فى شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة
152 - مُحَمَّد بن عبد الله بن أَبى القاضى أَبُو سعيد
قَالَ أَبُو سعيد الكرابيسى كَانَ من أجمل النَّاس وَأَحْسَنهمْ لَهُ البسطة والمكانة وَالْقَبُول عِنْد الْجَمِيع وَكَانَ إِذا خرج إِلَى الْمَسْجِد للقص على النَّاس فَرَآهُ النَّاس لم يتمالكوا عَن الْبكاء
وَقَالَ صَاحب الكافى كَانَ من مشاهير عُلَمَاء منصورة وفضلاتهم وأتقيائهم من أَصْحَاب الحَدِيث
قَالَ الكرابيسى تفقه بخوارزم على أَبِيه وَسمع مِنْهُ الحَدِيث ثمَّ خرج إِلَى الْعرَاق فَسمع سَعْدَان بن يزِيد وَمُحَمّد بن عبيد الله بن المنادى وَعبد الله بن حَمَّاد وَحَمَّاد ابْن المؤمل وَجَمَاعَة
وَتوفى وَلَده سعيد بن مُحَمَّد وَالِد أَبى أَحْمد فى حَيَاته وَكَانَ فَاضلا قد صنف كتاب(3/185)
الْإِرْشَاد وَغَيره أعنى سعيد بن مُحَمَّد فأصيب وَالِده بمصيبتين فى وَلدين هُوَ أَحدهمَا وَالْآخر أَخُوهُ اسْمه أَبُو القاضى قتلته القرامطة فَصَبر والدهما أَبُو سعيد واحتسب
توفى القاضى أَبُو سعيد سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة
153 - مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو بكر الصيرفى
الإِمَام الْجَلِيل الأصولى أحد أَصْحَاب الْوُجُوه المسفرة عَن فَضله والمقالات الدَّالَّة على جلالة قدره وَكَانَ يُقَال إِنَّه أعلم خلق الله تَعَالَى بالأصول بعد الشافعى
تفقه على ابْن سُرَيج
وَسمع الحَدِيث من أَحْمد بن مَنْصُور الرمادى
روى عَنهُ على بن مُحَمَّد الحلبى
وَمن تصانيفه شرح الرسَالَة وَكتاب فى الْإِجْمَاع وَكتاب فى الشُّرُوط
توفى سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَهَذِه مناظرة بَينه وَبَين الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى
حكى الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الجوينى فى شرح الرسَالَة أَن الشَّيْخ أَبَا بكر الصيرفى اجْتمع بالشيخ أَبى الْحسن فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحسن أَنْت تَقول بِوُجُوب شكر الْمُنعم بِنَاء على مَا ذكرت من أَنه يحْتَمل إِرَادَة الشُّكْر فَإِذا لم يشْكر عاقبه عَلَيْهِ وقولك هَذَا مَعَ اعْتِقَاد أَن الله خلق كفر الْكَافِر وأراده متناقض فإمَّا أَن تَقول أفعالنا مخلوقة لنا أَو تَقول شكر الْمُنعم لَا يجب أبدا لمجرده(3/186)
قَالَ وَلم قَالَ مذهبك أَن الله يُرِيد كفر الْكَافِر وإرادته كفره لَا توجب الْكفْر فَهَب أَنه تَعَالَى أَرَادَ منا الشُّكْر فإرادته لَا توجب الشُّكْر كَمَا لَا توجب الْكفْر فإمَّا أَن تنفى إِرَادَة الله تَعَالَى الْكفْر وتمشى على مَذْهَب الْمُعْتَزلَة ويمشى لَك أصلك وَإِمَّا أَن تتْرك هَذَا الْمَذْهَب
فَقَالَ الصيرفى ترك القَوْل بِوُجُوب الشُّكْر أَهْون فاعتقده
ثمَّ كَانَ يكْتب على حواشى كتبه حَيْثُ يصير وجوب شكر الْمُنعم بِمُجَرَّدِهِ مهما قُلْنَا بِوُجُوبِهِ قُلْنَاهُ مَعَ قرينَة الشَّرْع والسمع بِهِ
قلت وفى المناظرة دلَالَة على مَا قَالَ القاضى أَبُو بكر فى كتاب التَّقْرِيب والأستاذ أَبُو إِسْحَاق فى التعليقة من أَن طوائف من الْفُقَهَاء ذهبت إِلَى مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة فى بعض الْمسَائِل غافلين عَن تشعبها عَن أصولهم الْفَاسِدَة كَمَا سنحكيه إِن شَاءَ الله فى تَرْجَمَة الْقفال الْكَبِير فى هَذِه الطَّبَقَة
وَأَقُول جَوَاب الصيرفى أَن يَقُول إِيجَاب الشُّكْر لاحْتِمَال أَنه يُقَال أوجبه لَا أَنه يُقَال أَرَادَهُ وَمثل هَذَا لَا يجِئ فى الْكفْر فَإنَّا على يَقِين بِأَنَّهُ يُقَال مَا أوجبه بل حرمه وَإِن أَرَادَهُ وَلَيْسَ يلْزم من إِرَادَته إِيَّاه إِيجَابه لَهُ فَلَيْسَ فى إِيجَاب شكر الْمُنعم مناقضة لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُرِيد الكائنات بأسرها خَيرهَا وشرها
وَمن الرِّوَايَة عَن أَبى بكر الصيرفى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(3/187)
154 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْفضل البلعمى
بِفَتْح الْبَاء المنقوطة بِوَاحِدَة وَسُكُون اللَّام وَفتح الْعين الْمُهْملَة وفى آخرهَا الْمِيم وَزِير إِسْمَاعِيل بن أَحْمد صَاحب خُرَاسَان استولى جده رَجَاء على بلعم وهى بلد من بِلَاد الرّوم حِين دَخلهَا مسلمة بن عبد الْملك وَأقَام فِيهَا وَكثر نَسْله بهَا فنسبوا إِلَيْهَا وَكَانَ الْوَزير أَبُو الْفضل من أَصْحَاب مُحَمَّد بن نصر المروزى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ كثير السماع من مَشَايِخ عصره بمرو وبخارى ونيسابور وسمرقند وسرخس وَكَانَ قد سمع أَكثر الْكتب من مُحَمَّد بن نصر
قَالَ وَسمعت أَبَا الْوَلِيد حسان بن مُحَمَّد الْفَقِيه غير مرّة يَقُول كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْفضل البلعمى ينتحل مَذْهَب الحَدِيث
قَالَ ابْن الصّلاح إِذا أطْلقُوا هَذَا هُنَاكَ انْصَرف إِلَى مَذْهَب الشافعى
ولأبى الْفضل مصنفات كتاب تلقيح البلاغة وَكتاب المقالات
قَالَ ابْن مَاكُولَا توفى فى صفر سنة تسع وَعشْرين وثلاثمائة(3/188)
155 - مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يحيى المزكى أَبُو الْحسن النيسابورى
سمع أَبَا الْعَبَّاس الْأَصَم وأقرانه وَحدث
توفى فى شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلاثمائة
156 - مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن أَبى هَاشم أَبُو عمر اللغوى الْمَعْرُوف بِغُلَام ثَعْلَب
ولد سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
سمع الحَدِيث من مُوسَى بن سهل الوشاء وَمُحَمّد بن يُونُس الكديمى وَأحمد بن عبيد الله النرسى وَإِبْرَاهِيم بن الْهَيْثَم البلدى وَأحمد بن سعيد الْجمال وَبشر بن مُوسَى الأسدى وَجَمَاعَة
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم وَأَبُو الْحسن بن رزقويه وَأَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان وَأحمد ابْن عبد الله المحاملى وَأَبُو على بن شَاذان وَهُوَ آخر من حدث عَنهُ(3/189)
روى الْخَطِيب أَن ابْن الْمَرْزُبَان قَالَ كَانَ ابْن ماسى من دَار كَعْب ينفذ إِلَى غُلَام ثَعْلَب وقتا بعد وَقت كِفَايَته لما ينْفق على نَفسه فَقطع عَنهُ ذَلِك مُدَّة لعذرثم أنفذ إِلَيْهِ جملَة مَا كَانَ فى رسمه وَكتب إِلَيْهِ رقْعَة يعْتَذر من تَأْخِير ذَلِك فَرده وَأمر من بَين يَدَيْهِ أَن يكْتب على ظهر رقعته أكرمتنا فملكتنا ثمَّ أَعرَضت عَنَّا فأرحتنا
قَالَ الْخَطِيب سَمِعت غير وَاحِد يحْكى أَن الْأَشْرَاف وَالْكتاب وَأهل الْأَدَب كَانُوا يحْضرُون عِنْد أَبى عمر الزَّاهِد ليسمعوا مِنْهُ كتب ثَعْلَب وَغَيرهَا
قَالَ وَكَانَ جَمِيع شُيُوخنَا يوثقونه فِي الحَدِيث
وَقَالَ أَبُو على التنوخى من الروَاة الَّذين لم ير قطّ أحفظ مِنْهُم أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب أمْلى من حفظه ثَلَاثِينَ ألف ورقة فِيمَا بلغنى حَتَّى اتَّهَمُوهُ لسعة حفظه فَكَانَ يسْأَل عَن الشئ الذى يظنّ السَّائِل أَنه قد وَضعه فَيُجِيبهُ عَنهُ ثمَّ يسْأَله غَيره عَنهُ بعد سنة فيجيب بذلك الْجَواب
وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن على بن برهَان لم يتَكَلَّم فى اللُّغَة أحد أحسن من كَلَام أَبى عمر الزَّاهِد
قَالَ وَله كتاب غَرِيب الحَدِيث صنفه على مُسْند أَحْمد
وَنقل أَن صناعَة أَبى عمر كَانَت التطريز وَكَانَ اشْتِغَاله بِالْعلمِ قد مَنعه من التكسب فَلم يزل مضيقا عَلَيْهِ
وَله من التصانيف غَرِيب الحَدِيث وَكتاب الياقوتة وفائت الفصيح والعشرات والشورى وَتَفْسِير أَسمَاء الشُّعَرَاء وَكتاب الْقَبَائِل وَكتاب النَّوَادِر وَكتاب يَوْم وَلَيْلَة وَغير ذَلِك(3/190)
وَفِيه يَقُول أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد اليشكرى
(أَبُو عمر أوفى من الْعلم مرتقى ... يزل مساميه ويردى مطاوله)
(فَلَو أننى أَقْسَمت مَا كنت كَاذِبًا ... بِأَن لم ير الراؤون بحرا يعادله)
(إِذا قلت شارفنا أَوَاخِر علمه ... تفجر حَتَّى قلت هَذَا أَوَائِله)
واتفقت لَهُ غَرِيبَة مَعَ القاضى أَبى عمر وَكَانَ أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب مؤدب ولد القاضى أَبى عمر فأملى ثَلَاثِينَ مَسْأَلَة بشواهدها وأدلتها من كَلَام الْعَرَب وَاسْتشْهدَ فى تضاعيفها ببيتين غريبين جدا فعرضهما القاضى أَبُو عمر على ابْن دُرَيْد وَابْن الأنبارى وَابْن مقسم فَلم يعرفوهما وَلَا عرفُوا غَالب مَا ذكر من الأبيات وَقَالَ ابْن دُرَيْد هَذَا مِمَّا وَضعه أَبُو عمر من عِنْده
فَلَمَّا جَاءَ أَبُو عمر ذكر لَهُ القاضى مَا قَالَ ابْن دُرَيْد فَطلب من القاضى أَن يحضر لَهُ مَا فى دَاره من دواوين الْعَرَب فَلم يزل يَأْتِيهِ بِشَاهِد لما ذكره بعد شَاهد حَتَّى خرج من الثَّلَاثِينَ مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ وَأما البيتان فَإِن ثعلبا أنشدناهما وَأَنت حَاضر فكتبتهما فى دفترك فَطلب القاضى دفتره فَإِذا هما فِيهِ
فَلَمَّا بلغ ذَلِك ابْن دُرَيْد كف لِسَانه عَن أَبى عمر الزَّاهِد حَتَّى مَاتَ
توفى فى ثَالِث عشر ذى الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة بِبَغْدَاد(3/191)
157 - مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْأَحَد الإِمَام الْجَلِيل الْقدْوَة الْأُسْتَاذ أَبُو على الثقفى
الْجَامِع بَين الْعلم وَالتَّقوى والمتمسك من حبال الشَّرِيعَة بِالسَّبَبِ الْأَقْوَى والسالك للطريقة الَّتِى لَا عوج فِيهَا والحاوى للصفات الَّتِى لَيْسَ سوى المصطفين الأخيار تصطفيها
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم الإِمَام المقتدى بِهِ فى الْفِقْه وَالْكَلَام والوعظ والورع وَالْعقل وَالدّين
قَالَ وَطلب الْعلم على كبر السن فَإِن ابتداءه كَانَ التصوف والزهد والورع
وَقَالَ غَيره كَانَ إِمَامًا فى أَكثر عُلُوم الشَّرْع مقدما فى كل فن عطل أَكثر علومه واشتغل بِعلم الصُّوفِيَّة وَتكلم عَلَيْهِم أحسن كَلَام وَبِه ظهر التصوف بنيسابور
سمع بنيسابور من مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وأقرانه
وبالرى من مُوسَى بن نصر وأقرانه
وببغداد من أَحْمد بن حَيَّان بن ملاعب وَمُحَمّد بن الجهم السمرى وأقرانهما
روى عَنهُ أَبُو بكر بن إِسْحَاق وَغَيره من الْأَئِمَّة
وتفقه على مُحَمَّد بن نصر المروزى
ولقى فى التصوف أَبَا جَعْفَر وحمدون الْقصار
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الصفار يَقُول سَمِعت أَبَا بكر ابْن إِسْحَاق(3/192)
يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الشيروانى يَقُول مَا ولد فى الْإِسْلَام بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم أَعقل من أَبى على الثقفى
وَحكى أَن أَبى بكر الشبلى بعث رجلا من أهل الْعلم قَاصِدا إِلَى نيسابور وَأمره أَن يعلق مجلسى أَبى على الثقفى بِالْغَدَاةِ والعشى لسنة كَامِلَة ويحملها إِلَى حَضرته فَحَضَرَ الرجل وَكَانَ يحضر الْمجْلس بِحَيْثُ لَا يعلم بِهِ فى غمار النَّاس ويعلق كَلَامه فى المجلسين إِلَى أَن تمت السّنة فَانْصَرف إِلَى بَغْدَاد وَعرض على الشبلى تِلْكَ الْمجَالِس وَقد أفرد مِنْهَا مجَالِس الغدوات من مجَالِس العشى فتأملها الشبلى فَقَالَ كَلَام هَذَا الرجل بالغدوات فى علم الْحَقَائِق معجز وَكَلَامه بالعشيات ردى فَاسد بعيد عَن تِلْكَ الْعُلُوم وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَخْلُو ليله بسره فيصفو كَلَامه بالغدوات فَقَالَ لَهُ الشبلى هَل رَأَيْت بداره شَيْئا من الْفرش والأوانى الَّتِى يتجمل بهَا أهل الدُّنْيَا فَقَالَ أما الْفرش فَنعم وَكنت أرى طستا دمشقيا فى زَاوِيَة من زَوَايَا الْبَيْت فصاح الشبلى ثمَّ قَالَ فَهَذَا الذى يُغير عَلَيْهِ أَحْوَاله
وروى بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن خُزَيْمَة أَنه استفتى فى مسَائِل فَدَعَا بِدَوَاةٍ ثمَّ قَالَ لأبى على الثقفى أجب فَأخذ أَبُو على الْقَلَم وَجعل يكْتب الْأَجْوِبَة ويضعها بَين يدى ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ ينظر فِيهَا ويتأمل مَسْأَلَة مَسْأَلَة فَلَمَّا فرغ مِنْهَا قَالَ لَهُ يَا أَبَا على مَا يحل لأحد منا بخراسان أَن يُفْتى وَأَنت حى
وروى عَن أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج أَنه قَالَ مَا جَاءَنَا من خُرَاسَان أفقه مِنْهُ
وَعَن أَبى عُثْمَان الحيرى إِنَّه لينفعنى فى نفسى إِذا نظرت إِلَى خشوع هَذَا الْفَتى يعْنى أَبَا على الثقفى رَحمَه الله
قَالَ الْحَاكِم توفى أَبُو على الثقفى لَيْلَة الْجُمُعَة وَدفن يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة وَهُوَ ابْن تسع وَثَمَانِينَ سنة(3/193)
قَالَ وَشهِدت الصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفنه وَلَا أذكر أَنى رَأَيْت بنيسابور بعده مثل ذَلِك الْجمع
قَالَ وسمعته يَقُول فى دُعَائِهِ إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب الْوَهَّاب الْوَهَّاب وَلست أحفظ عَنهُ غَيرهَا
قلت وَمن ذكائه حفظ هَذَا الْقدر فقد كَانَ عمره يَوْم وَفَاة الثقفى سبع سِنِين وَقد أَطَالَ الْحَاكِم فى تَرْجَمَة الْأُسْتَاذ أَبى على وأجاد فِيهَا
وَمن كَلِمَات أَبى على رَحمَه الله
يَا من بَاعَ كل شئ بِلَا شئ وَاشْترى لَا شئ بِكُل شئ
وَقَالَ أُفٍّ من أشغال الدُّنْيَا إِذا هى أَقبلت وأف من حسراتها إِذا هى أَدْبَرت والعاقل من لَا يركن إِلَى شئ إِذا أقبل كَانَ شغلا وَإِذا أدبر كَانَ حسرة
وَقَالَ أَرْبَعَة أَشْيَاء لابد للعاقل من حفظهن الْأَمَانَة والصدق وَالْأَخ الصَّالح والسريرة
وَقَالَ لَو أَن رجلا جمع الْعُلُوم كلهَا وَصَحب طوائف النَّاس لَا يبلغ مبلغ الرِّجَال إِلَّا بالرياضة من شيخ أَو إِمَام أَو مؤدب نَاصح وَمن لم يَأْخُذ أدبه من آمُر لَهُ وناه يرِيه عُيُوب أَعماله ورعونات نَفسه لَا يجوز الِاقْتِدَاء بِهِ فى تَصْحِيح الْمُعَامَلَات
وَقَالَ لَيْسَ شئ أولى بِأَن تمسكه من نَفسك وَلَا شئ أولى بِأَن تغلبه من هَوَاك
وَقَالَ من غَلبه هَوَاهُ توارى عَنهُ عقله
وَقَالَ الْغَفْلَة وسعت على الْخلق الطَّرِيق فى مَعَايشهمْ وأفعالهم والورع واليقظة ضيقا عَلَيْهِم ذَلِك(3/194)
وَقَالَ من صحب الأكابر على غير طَرِيق الْحُرْمَة حرم فوائدهم وبركات نظرهم وَلَا يظْهر عَلَيْهِ من أنوارهم شئ
قَالَ بَعضهم حضرت مجْلِس أَبى على فَتكلم فى الْمحبَّة وأحوال المحبين وَأنْشد فى خلال تِلْكَ الْأَحْوَال
(إِلَى كم يكون الصد فى كل سَاعَة ... وَكم لَا تملين القطيعة والهجرا)
(رويدك إِن الدَّهْر فِيهِ كِفَايَة ... لتفريق ذَات الْبَين فارتقبى الدهرا)
وَمن الْمسَائِل عَنهُ رَحمَه الله
قَالَ أَبُو عَاصِم إِن لأبى على كتابا أجَاب فِيهِ عَن الْجَامِع الصَّغِير لمُحَمد بن الْحسن
وَقَالَ وَفِيه ذكر أَنه إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت إِن كَانَ كَذَا أَو إِن شَاءَ فلَان
قَالَ أَبُو حنيفَة إِن كَانَ لشَيْء مضى وَقع وَإِن كَانَ بشئ مُسْتَقْبل لم يَقع وَبَطل خِيَارهَا
قَالَ الثقفى فِيهِ احْتِمَالَانِ أَحدهمَا أَنه يَقع فى الْحَال إِذا وجد فى الْمجْلس والثانى أَنه يَقع فى الْحَالين إِذا وجد فى الْمجْلس أَو بعده
وَقَالَ أَبُو على الزجاجى لَا يَقع بِحَال
قلت الاحتمالان غَرِيبَانِ وَمَا ذكره الزجاجى هُوَ الْمَذْهَب ووراءه وَجه فى الرافعى عَن الحناطى أَنه يَصح تَعْلِيق الْمَشِيئَة وَيَقَع الطَّلَاق إِذا قَالَ الْمُعَلق(3/195)
بمشيئته شِئْت وَلَكِن لم يتَعَرَّض الْقَائِل لهَذَا الْوَجْه إِلَى أَنه هَل يكون هَذَا دَائِما أَو يخْتَص بِالْمَجْلِسِ وَفقه أَبى حنيفَة دَقِيق
وَنَظِير الْمَسْأَلَة لَو قَالَت الزَّوْجَة طلقنى بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ أَنْت طَالِق على الْألف إِن شِئْت
قَالَ الْأَصْحَاب فى بَاب الْخلْع لَيْسَ بِجَوَاب لما فِيهِ من التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ بل هُوَ كَلَام يتَوَقَّف على مَشِيئَة مستأنفة
قَالَ القاضى الْحُسَيْن فى أول بَاب صفة الصَّلَاة من تعليقته بعد مَا حكى قَول أَبى حنيفَة أَنه لَو نوى فى بَيته أَنه يخرج يصلى فى الْمَسْجِد صَحَّ وَإِن عزبت نِيَّته بعده مَا نَصه سَأَلت أَبَا على الثقفى عَن هَذَا فَقَالَ عندنَا أَنه يجوز ذَلِك إِذا لم يخْطر بِبَالِهِ شئ آخر إِلَى أَن يدْخل فى الصَّلَاة فَلَو كَانَ الْأَمر كَمَا ذكره لم يبْق بَيْننَا وَبَينه فِيهِ خلاف
قلت أَبُو على الثقفى هَذَا رجل حنفى رَآهُ القاضى حُسَيْن أما أَبُو على صاحبنا صَاحب هَذِه التَّرْجَمَة فَلم يُدْرِكهُ أَشْيَاخ القاضى فضلا عَنهُ نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يَقع فِيهِ الْغَلَط
158 - مُحَمَّد بن عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن زرْعَة الثقفى مَوْلَاهُم أَبُو زرْعَة
قاضى دمشق كَانَت دَاره بنواحى بَاب الْبَرِيد
وَولى قَضَاء مصر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلم يل بعده قَضَاء مصر وَلَا قَضَاء الشَّام إِلَّا شافعى الْمَذْهَب غير ابْن خديم قاضى الشَّام فَإِنَّهُ كَانَ أوزاعى الْمَذْهَب ثمَّ لم يزل الْأَمر للشَّافِعِيَّة مصرا وشاما إِلَى أَن ضم الْملك الظَّاهِر بيبرس فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة الْقُضَاة الثَّلَاثَة إِلَى الشَّافِعِيَّة(3/196)
روى عَنهُ الْحسن الحصائرى وَغَيره
وَكَانَ رجلا رَئِيسا يُقَال إِنَّه الذى أَدخل مَذْهَب الشافعى إِلَى دمشق وَإنَّهُ كَانَ يهب لمن يحفظ مُخْتَصر المزنى مائَة دِينَار وَكَانَ قد قَامَ مَعَ أَحْمد بن طولون فى خلع أَبى أَحْمد الْمُوفق ووقف عِنْد الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ أَيهَا النَّاس أشهدكم أَنى خلعت أَبَا أَحْمد كم يخلع الْخَاتم من الْأصْبع فالعنوه
فعل ذَلِك أَبُو زرْعَة بِأَمْر أَحْمد بن طولون وَكَانَت قد جرت وقْعَة بَين ابْن الْمُوفق وَبَين خمارويه بن أَحْمد بن طولون تسمى وقْعَة الطواحين انتصر فِيهَا أَحْمد بن الْمُوفق وَرجع إِلَى دمشق وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة بنواحى الرملة فَقَالَ ابْن الْمُوفق لكَاتبه أَحْمد بن مُحَمَّد الواسطى انْظُر من كَانَ يبغضنا فَأخذ يزِيد بن عبد الصَّمد وَأَبُو زرْعَة الدمشقى والقاضى أَبُو زرْعَة مقيدين فاستحضرهم يَوْمًا فى طَرِيقه إِلَى بَغْدَاد فَقَالَ أَيّكُم الْقَائِل قد نزعت أَبَا أَحْمد فربت ألسنتهم ويئسوا من الْحَيَاة
قَالَ أَبُو زرْعَة الدمشقى أما أَنا فأبلست وَأما يزِيد فخرس وَكَانَ تمتاما وَكَانَ أَبُو زرْعَة مُحَمَّد بن عُثْمَان أحدثنا سنا فَقَالَ أصلح الله الْأَمِير
فَقَالَ الواسطى قف حَتَّى يتَكَلَّم أكبر مِنْك
فَقُلْنَا أصلحك الله هُوَ يتَكَلَّم عَنَّا
فَقَالَ تكلم
فَقَالَ وَالله مَا فِينَا هاشمى صَرِيح وَلَا قرشى صَحِيح وَلَا عربى فصيح وَلَكنَّا قوم ملكنا يعْنى قهرنا ثمَّ روى أَحَادِيث فى السّمع وَالطَّاعَة وَأَحَادِيث فى الْعَفو وَالْإِحْسَان وَكَانَ هُوَ الْمُتَكَلّم بِالْكَلِمَةِ الَّتِى يُطَالب بهَا وَقَالَ إنى أشهدك إيها الْأَمِير أَن نسائى طَوَالِق وعبيدى أَحْرَار ومالى حرَام إِن كَانَ فى هَؤُلَاءِ الْقَوْم أحد قَالَ هَذِه الْكَلِمَة ووراءنا حرم وعيال وَقد تسامع النَّاس بهلاكنا وَقد قدرت وَإِنَّمَا الْعَفو بعد الْقُدْرَة
فَقَالَ للواسطى أطلقهُم أطلقهُم لَا كثر الله أمثالهم(3/197)
قلت وَهَذَا من حسن تصرفه فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِل لَا هم فصدقت يَمِينه
قَالَ ابْن زولاق ولى أَبُو زرْعَة مصر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ يذهب إِلَى قَول الشافعى ويوالى عَلَيْهِ وَكَانَ عفيفا شَدِيد التَّوَقُّف فى إِنْفَاذ الْأَحْكَام وَله مَال كثير وضياع كبار بِالشَّام
قَالَ وَكَانَ يرقى من وجع الضرس وَيدْفَع إِلَى صَاحب الوجع حشيشة تُوضَع عَلَيْهِ فيسكن وَكَانَ يزن عَن الْغُرَمَاء الضعفى وَرُبمَا أَرَادَ الْقَوْم النزهة فَيَأْخُذ الْوَاحِد بيد الآخر ويحضره إِلَيْهِ يُطَالِبهُ فَيقر لَهُ ويبكى فيرحمه القاضى ويزن عَنهُ
قَالَ ابْن الْحداد الْفَقِيه رَحمَه الله سَمِعت مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل يَقُول كنت عِنْد أَبى زرْعَة القاضى فَذكر الْخُلَفَاء فَقلت لَهُ أَيهَا القاضى يجوز أَن يكون السَّفِيه وَكيلا
قَالَ لَا
قلت فولى امْرَأَة
قَالَ لَا
قلت فأمينا
قَالَ لَا
قلت فشاهدا قَالَ لَا
قلت فَيكون خَليفَة
قَالَ يَا أَبَا الْحسن هَذِه من مسَائِل الْخَوَارِج
توفى أَبُو زرْعَة القاضى بِدِمَشْق سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة(3/198)
159 - مُحَمَّد بن على بن أَحْمد أَبُو الْعَبَّاس الأديب الكرجى بِالْجِيم
نزيل نيسابور
أحد الأدباء الْعلمَاء الزهاد
تفقه عِنْد أَبى عبد الله الزبيرى بِالْبَصْرَةِ
ولقى أَبَا مُحَمَّد القتبى وَأخذ عَنهُ
وَكَانَ عَالما بالفرائض أحد المؤذنين بنيسابور مقدما فى التَّأْدِيب
وَمِمَّنْ تأدب عَلَيْهِ أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَذكره فى تَارِيخه وَحكى عَنهُ أورادا نهارية جليلة من صَلَاة وَقِرَاءَة قد كَانَ يعانيها مَعَ شغل التَّأْدِيب وَذكر أَنه اخْتلف إِلَيْهِ أَربع سِنِين فَلَمَّا رَآهُ أفطر إِلَّا فى يومى الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق
وَسمع من أَبى خَليفَة وعبدان الأهوازى وأقرانهما
روى عَنهُ الْحَاكِم وَسمع مِنْهُ مُخْتَصر الزبيرى
توفى فى ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وثلاثمائة(3/199)
160 - مُحَمَّد بن على بن إِسْمَاعِيل الْقفال الْكَبِير الشاشى
الإِمَام الْجَلِيل أحد أَئِمَّة الدَّهْر ذُو الباع الْوَاسِع فى الْعُلُوم وَالْيَد الباسطة وَالْجَلالَة التَّامَّة وَالْعَظَمَة الوافرة
كَانَ إِمَامًا فى التَّفْسِير إِمَامًا فى الحَدِيث إِمَامًا فى الْكَلَام إِمَامًا فى الْأُصُول إِمَامًا فى الْفُرُوع إِمَامًا فى الزّهْد والورع إِمَامًا فى اللُّغَة وَالشعر ذَاكِرًا للعلوم محققا لما يُورِدهُ حسن التَّصَرُّف فِيمَا عِنْده فَردا من أَفْرَاد الزَّمَان
قَالَ فِيهِ أَبُو عَاصِم العبادى هُوَ أفْصح الْأَصْحَاب قَلما وأثبتهم فى دقائق الْعُلُوم قدما وأسرعهم بَيَانا وأثبتهم جنَانًا وَأَعْلَاهُمْ إِسْنَادًا وأرفعهم عمادا
وَقَالَ الحليمى كَانَ شَيخنَا الْقفال أعلم من لَقيته من عُلَمَاء عصره
وَقَالَ فى كِتَابه شعب الْإِيمَان فى الشعبة السَّادِسَة وَالْعِشْرين فى الْجِهَاد إمامنا الذى هُوَ أَعلَى من لَقينَا من عُلَمَاء عصرنا صَاحب الْأُصُول والجدل وحافظ الْفُرُوع والعلل وناصر الدّين بِالسَّيْفِ والقلم والموفى بِالْفَضْلِ فى الْعلم على كل علم أَبُو بكر مُحَمَّد بن على الشاشى
وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله هُوَ الْفَقِيه الأديب إِمَام عصره بِمَا وَرَاء النَّهر للشافعيين وأعلمهم بالأصول وَأَكْثَرهم رحْلَة فى طلب الحَدِيث
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى كَانَ إِمَامًا وَله مصنفات كَثِيرَة لَيْسَ لأحد مثلهَا وَهُوَ أول من صنف الجدل الْحسن من الْفُقَهَاء وَله كتاب فى أصُول الْفِقْه وَله شرح الرسَالَة وَعنهُ انْتَشَر فقه الشافعى بِمَا وَرَاء النَّهر
وَقَالَ ابْن الصّلاح الْقفال الْكَبِير علم من أَعْلَام الْمَذْهَب رفيع وَمجمع عُلُوم هُوَ بهَا عليم وَلها جموع(3/200)
قلت سمع الْقفال من ابْن خُزَيْمَة وَابْن جرير وَعبد الله المدائنى وَمُحَمّد بن مُحَمَّد الباغندى وأبى الْقَاسِم البغوى وَأبي عرُوبَة الحرانى وطبقتهم
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم وَقَالَ ورد نيسابور مرّة على ابْن خُزَيْمَة ثمَّ ثَانِيًا عِنْد مُنْصَرفه من الْعرَاق ثمَّ وردهَا على كبر السن وكتبنا عَنهُ غير مرّة ثمَّ اجْتَمَعنَا ببخارى غير مرّة فَكتبت عَنهُ وَكتب عَنى بِخَط يَده
وروى أَيْضا عَنهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى وَأَبُو عبد الله الحليمى وَابْن مندة وَأَبُو نصر عمر بن قَتَادَة وَغَيرهم
وَذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَنه درس على ابْن سُرَيج
قَالَ ابْن الصّلاح وَالْأَظْهَر عندنَا أَنه لم يُدْرِكهُ
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر بلغنى أَنه كَانَ مائلا عَن الِاعْتِدَال قَائِلا بالاعتزال فى أول مرّة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَذْهَب الأشعرى
قلت وَهَذِه فَائِدَة جليلة انفرجت بهَا كربَة عَظِيمَة وحسيكة فى الصَّدْر جسيمة وَذَلِكَ أَن مَذَاهِب تحكى عَن هَذَا الإِمَام فى الْأُصُول لَا تصح إِلَّا على قَوَاعِد الْمُعْتَزلَة وطالما وَقع الْبَحْث فى ذَلِك حَتَّى توهم أَنه معتزلى واستند المتوهم إِلَى مَا نقل أَن أَبَا الْحسن الصفار قَالَ سَمِعت أَبَا سهل الصعلوكى وَسُئِلَ عَن تَفْسِير الإِمَام أَبى بكر الْقفال فَقَالَ قدسه من وَجه ودنسه من وَجه أى دنسه من جِهَة نصْرَة مَذْهَب الاعتزال(3/201)
قلت وَقد انكشفت الْكُرْبَة بِمَا حَكَاهُ ابْن عَسَاكِر وَتبين لنا بهَا أَن مَا كَانَ من هَذَا الْقَبِيل كَقَوْلِه يجب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ عقلا وبخبر الْوَاحِد عقلا وأنحاء ذَلِك فالذى نرَاهُ أَنه لما ذهب إِلَيْهِ كَانَ على ذَلِك الْمَذْهَب فَلَمَّا رَجَعَ لابد أَن يكون قد رَجَعَ عَنهُ فاضبط هَذَا
وَقد كنت أغتبط بِكَلَام رَأَيْته للقاضى أَبى بكر فى التَّقْرِيب والإرشاد وللأستاذ أَبى إِسْحَاق الإسفراينى فى تَعْلِيقه فى أصُول الْفِقْه فى مَسْأَلَة شكر الْمُنعم وَهُوَ أَنَّهُمَا لما حكيا القَوْل بِالْوُجُوب عقلا عَن بعض فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة من الأشعرية قَالَا اعْلَم أَن هَذِه الطَّائِفَة من أَصْحَابنَا ابْن سُرَيج وَغَيره كَانُوا قد برعوا فى الْفِقْه وَلم يكن لَهُم قدم راسخ فى الْكَلَام وطالعوا على الْكبر كتب الْمُعْتَزلَة فاستحسنوا عباراتهم وَقَوْلهمْ يجب شكر الْمُنعم عقلا فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِك غير عَالمين بِمَا تُؤَدّى إِلَيْهِ هَذِه الْمقَالة من قَبِيح الْمَذْهَب
وَكنت أسمع الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يحْكى مَا أقوله عَن الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق مغتبطا بِهِ فَأَقُول لَهُ يَا سيدى قد قَالَه أَيْضا القاضى أَبُو بكر وَلَكِن ذَلِك إِنَّمَا يُقَال فى حق ابْن سُرَيج وأبى على بن خيران والإصطخرى وَغَيرهم من الْفُقَهَاء الذاهبين إِلَى ذَلِك الَّذين لَيْسَ لَهُم فى الْكَلَام قدم راسخ أما مثل الْقفال الْكَبِير الذى كَانَ أستاذا فى علم الْكَلَام وَقَالَ فِيهِ الْحَاكِم إِنَّه أعلم الشافعيين بِمَا وَرَاء النَّهر بالأصول فَكيف يحسن الِاعْتِذَار عَنهُ بِهَذَا
فَلَمَّا وقفت على مَا حَكَاهُ ابْن عَسَاكِر انشرحت نفسى لَهُ وأوقع الله فِيهَا أَن هَذِه الْأُمُور أَشْيَاء كَانَ يذهب إِلَيْهَا عِنْد ذَهَابه إِلَى مَذْهَب الْقَوْم وَلَا لوم عَلَيْهِ فى ذَلِك بعد الرُّجُوع
وفى شرح الرسَالَة للشَّيْخ أَبى مُحَمَّد الجوينى أَن أَصْحَابنَا اعتذروا عَن الْقفال نَفسه حَيْثُ أوجب شكر الْمُنعم بِأَنَّهُ لم يكن مَنْدُوبًا فى الْكَلَام وأصوله
قلت وَهَذَا عندى غير مَقْبُول لما ذكرت
وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بعد ذَلِك فى هَذَا الْكتاب أَن الْقفال أَخذ علم الْكَلَام عَن الأشعرى وَأَن الأشعرى كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ الْفِقْه كَمَا كَانَ هُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ الْكَلَام وَهَذِه(3/202)
الْحِكَايَة كَمَا تدل على مَعْرفَته بِعلم الْكَلَام وَذَلِكَ لَا شكّ فِيهِ كَذَلِك تدل على أَنه أشعرى وَكَأَنَّهُ لما رَجَعَ عَن الاعتزال وَأخذ فى تلقى علم الْكَلَام عَن الْأَشْعَرِيّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ على كبر السن لعلى رُتْبَة الأشعرى ورسوخ قدمه فى الْكَلَام وَقِرَاءَة الأشعرى الْفِقْه عَلَيْهِ تدل على علو مرتبته أعنى مرتبَة الْقفال وَقت قِرَاءَته على الأشعرى وَأَنه كَانَ بِحَيْثُ يحمل عَنهُ الْعلم
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مَاتَ الْقفال سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
قَالَ ابْن الصّلاح وَهُوَ وهم قطعا
قلت أرخ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَفَاته فى آخر سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة بالشاش وَهُوَ الصَّوَاب
ومولده فِيمَا ذكره ابْن السمعانى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ فَيكون عمره حِين توفى ابْن سُرَيج سبع سِنِين وَيكون قد جَاوز الْعشْرين يَوْم موت الأشعرى بسنوات على الْخلاف فى وَفَاة الأشعرى
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
حَدَّثَنى الْحَافِظ أَبُو سعيد خَلِيل بن كيكلدى العلائى من لَفظه بالقدس الشريف أخبرنَا الْقَاسِم بن المظفر عَن مَحْمُود بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُقدر أخبرنَا أَبُو عَمْرو عبد الْوَهَّاب أخبرنَا أَبى الْحَافِظ مُحَمَّد بن إِسْحَاق حَدثنَا مُحَمَّد بن على الشاشى حَدثنَا ابْن أَبى دَاوُد حَدثنَا إِسْحَاق عَن شَاذان حَدثنَا سعيد عَن الْحسن بن عمَارَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن سعيد بن الْمسيب عَن أنس بن مَالك رضى الله عَنهُ قَالَ سَمِعت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَأَنا رَدِيف أَبى طَلْحَة (لبيْك بِحجَّة وَعمرَة مَعًا)(3/203)
وَمن نظم الْقفال وَقد اختصر شَيخنَا الذهبى وَأكْثر من تَرْجَمَة على قَوْله فِيمَا رَوَاهُ البيهقى عَن عمر بن قَتَادَة أَنه قَالَ أنشدنا أَبُو بكر الْقفال لنَفسِهِ
(أوسع رحلى على من نزل ... وزادى مُبَاح على من أكل)
(نقدم حَاضر مَا عندنَا ... وَإِن لم يكن غير بقل وخل)
(فَأَما الْكَرِيم فيرضى بِهِ ... وَأما الْبَخِيل فَمن لم أبل)
ووقفت لَهُ أَنا على قصيدة طنانة وَكلمَة بديعة شَأْنهَا عَجِيب وَأَنا موردها إِن شَاءَ الله
أخبرنَا يُونُس بن إِبْرَاهِيم بن عبد القوى الدبابيسى إجَازَة قَالَ أخبرنَا أَبُو الْحسن على بن أَبى عبد الله بن المقير كِتَابَة عَن الْحَافِظ أَبى الْفضل ابْن نَاصِر قَالَ كتب إِلَى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَبى نصر بن عبد الله الحميدى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مَنْصُور الشاشى قدم علينا بَغْدَاد وَنحن بهَا قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن بويه الزراد قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا حَاضر أسمع ببنج ده مروالروذ فى مدرسة مرست قَالَ سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن الْحسن الحليمى يَقُول أخبرنى عبد الْملك بن مُحَمَّد الشَّاعِر أَنه كَانَ فِيمَن غزا الرّوم من أهل خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر عَام النفير وَفِيهِمْ يَوْمئِذٍ أَبُو بكر مُحَمَّد بن على ابْن إِسْمَاعِيل الْقفال إِمَام الْمُسلمين فوردت من نقفور عَظِيم الرّوم على الْمُسلمين قصيدة ساءتهم وَشقت عَلَيْهِم لما كَانَ اللعين أجْرى إِلَيْهِم فِيهَا من التثريب والتعيير(3/204)
وضروب الْوَعيد والتهديد وَكَانَ فى ذَلِك الْجمع غير وَاحِد من الأدباء والفصحاء وَالشعرَاء من كور خُرَاسَان وبلاد الشَّام وَمَدَائِن الْعرَاق فَلم يكمل لجوابها من بَينهم إِلَّا الشَّيْخ أَبُو بكر الْقفال وَأخْبر عبد الْملك هَذَا أَنه أسر بعد وُصُول جَوَاب الشَّيْخ إِلَيْهِم فَلَمَّا بلغ قسطنطينية اجْتمع أَحْبَارهم عَلَيْهِ يسألونه عَن الشَّيْخ من هُوَ وَمن أى بلد هُوَ ويتعجبون من قصيدته وَيَقُولُونَ مَا علمنَا أَن فى الْإِسْلَام رجلا مثله وَأَن الْوَارِدَة من نقفور عَلَيْهِ لعائن الله تَعَالَى كَانَت باسم الْفضل الإِمَام الْمُطِيع الله أَمِير الْمُؤمنِينَ رَحمَه الله وهى
(من الْملك الطُّهْر المسيحى رِسَالَة ... إِلَى قَائِم بِالْملكِ من آل هَاشم)
(أما سَمِعت أذناك مَا أَنا صانع ... بلَى فعداك الْعَجز عَن فعل حَازِم)
(فَإِن تَكُ عَمَّا قد تقلدت نَائِما ... فإنى عَمَّا همنى غير نَائِم)
(ثغوركم لم يبْق فِيهَا لوهنكم ... وضعفكم إِلَّا رسوم المعالم)
(فتحنا ثغور الأرمنية كلهَا ... بفتيان صدق كالليوث الضراغم)
(وَنحن جلبنا الْخَيل تعلك لجمها ... ويلعب مِنْهَا بَعْضهَا بالشكائم)
(إِلَى كل ثغر بالجزيرة آهل ... إِلَى جند قنسرينكم والعواصم)
(وملطى مَعَ سميساط من بعد كركر ... وفى الْبَحْر أَصْنَاف الْفتُوح القواصم)(3/205)
(وبالحدث الْبَيْضَاء جالت عساكرى ... وكيسوم بعد الجعفرى المعالم)
(ومرعش أذللنا أعزة أَهلهَا ... فَصَارَت لنا من بَين عبد وخادم)
(وسل بسروج إِذْ خرجنَا بجمعه ... تميد بِهِ تعلو على كل قَائِم)
(وَأهل الرها لاذوا بِنَا وتحزموا ... بمنديل مولى جلّ عَن وصف آدم)
(وصبح رَأس الْعين منا بطارق ... ببيض عدوناها بِضَرْب الجماجم)
(ودارا وميافارقين وأردنا ... صبحناهم بِالْخَيْلِ مثل الضراغم)
(وملنا على طرسوس مَيْلَة غابن ... أذقناهم فِيهَا بحز الحلاقم)
(وإأقريطش مَالَتْ إِلَيْهَا مراكبى ... على ظهر بَحر مُزْبِد متلاطم)
(فحزناهم أسرا وسيقت نِسَاؤُهُم ... ذَوَات الشُّعُور المسبلات الفواحم)(3/206)
(هُنَاكَ فتحنا عين زربة عنْوَة ... بهم فأبدنا كل طاغ وظالم)
(نعم وفتحنا كل حصن ممنع ... فسكانه نهب النسور القشاعم)
(إِلَى حلب حَتَّى استبحنا حريمها ... وَهدم مِنْهَا سورها كل هَادِم)
(وَكم ذَات خدر حرَّة علوِيَّة ... منعمة الْأَطْرَاف غرثى المعاصم)
(سبينَا وسقنا خاضعات حواسرا ... بِغَيْر مُهُور لَا وَلَا حكم حَاكم)
(وَكم من قَتِيل قد تركنَا مجندلا ... يصب دَمًا بَين اللها واللهازم)
(وَكم وقْعَة فى الدَّرْب ذاقت كماتكم ... فسقناكم سوقا كسوق الْبَهَائِم)
(وملنا إِلَى أرتاحكم وحريمها ... بمعجزة تَحت العجاج السوالم)
(فأهوت أعاليها وَبدل رسمها ... من الْأنس وحشا بعد بيض نواعم)
(إِذا صَاح فِيهَا البوم جاوبه الصدى ... وأسعده فى النوح نوح الحمائم)
(وأنطاك لم تبعد على وإننى ... سألحقها يَوْمًا بنزوة حَازِم)
(ومسكن آبائى دمشق وَإنَّهُ ... سيرجع فِيهَا ملكهَا تَحت خاتمى)
(أياقطنى الرملات وَيحكم ارْجعُوا ... إِلَى أَرض صنعاكم وَأَرْض التهائم)(3/207)
(ومصر سأفتحها بسيفى عنْوَة ... وأحرز أَمْوَالًا بهَا فى غنائمى)
(وكافور أغزوه بِمَا يسْتَحقّهُ ... بِمشْط ومقراض ومص المحاجم)
(أَلا شمروا يَا آل حران وَيْلكُمْ ... أتتكم جيوش الرّوم مثل الغمائم)
(فَإِن تهربوا تنجوا كراما أعفة ... من الْملك المغرى بترك المسالم)
(أَلا شمروا يَا آل بَغْدَاد وَيْلكُمْ ... فملككم مستضعف غير دَائِم)
(رَضِيتُمْ بِأَن الديلمى خَليفَة ... فصرتم عبيدا للعبيد الديالم)
(فعودوا إِلَى أَرض الْحجاز أَذِلَّة ... وخلوا بِلَاد الرّوم أهل المكارم)
(سألقى بجيشى نَحْو بَغْدَاد سالما ... إِلَى بَاب طاق ثمَّ كرخ القماقم)
(فَأحرق أَعْلَاهَا وأهدم سورها ... وأسبى ذراريها على رغم راغم)
(وَمِنْهَا إِلَى شيراز والرى فاعلموا ... خُرَاسَان قصدى بالجيوش الصوارم)
(فأسرع مِنْهَا نَحْو مَكَّة سائرا ... أجر جيوشا كالليالي السواجم)
(فأملكها دهرا سليما مُسلما ... وأنصب كرسيا لأَفْضَل عَالم)
(وأغزو يمانا أَو بِلَاد يمامة ... وصنعاءها مَعَ صعدة والتهائم)
(وأتركها قفرا يبابا بلاقعا ... خلاء من الأهلين أَرض المعالم)
(وَأسرى إِلَى الْقُدس الَّتِى شرفت لنا ... عَزِيزًا مكينا ثَابتا للدعائم)
(ملكنا عَلَيْكُم حِين جَار قويكم ... وعاملتم بالمنكرات العظائم)(3/208)
(قضاتكم باعوا جهارا قضاءهم ... كَبيع ابْن يَعْقُوب ببخس دَرَاهِم)
(شيوخكم بالزور طرا تشاهدوا ... وبالبز والبرطيل فى كل عَالم)
(سأفتح أَرض الشرق طرا ومغربا ... وأنشر دين الصلب نشر العمائم)
ثمَّ ذكر ثَلَاثَة أَبْيَات لم أستجز حكايتها
فَأجَاب الشَّيْخ الإِمَام الْقفال الشاشى رَحمَه الله قَائِلا
(أتانى مقَال لامرئ غير عَالم ... بطرق مجارى القَوْل عِنْد التخاصم)
(تخرص ألقابا لَهُ جد كَاذِب ... وَعدد أثارا لَهُ جد واهم)
(وأفرط إرعادا بِمَا لَا يطيقه ... وأدلى ببرهان لَهُ غير لَازم)
(تسمى بطهر وَهُوَ أنجس مُشْرك ... مدنسة أثوابه بالمداسم)
(وَقَالَ مسيحى وَلَيْسَ كذاكم ... أَخُو قسوة لَا يحتذى فعل رَاحِم)
(وَلَيْسَ مسيحيا جهولا مثلثا ... يَقُول لعيسى جلّ عَن وصف آدم)
(وَمَا الْملك الطُّهْر المسيحى غادرا ... وَلَا فَاجِرًا ركَانَة للمظالم)
(تثبت هداك الله إِن كنت طَالبا ... لحق فَلَيْسَ الْخبط فعل المقاسم)
(وَلَا تتكبر بالذى أَنْت لم تنَلْ ... كلابس ثوب الزُّور وسط المقاوم)(3/209)
(تعدد أَيَّامًا أَتَت لوقوعها ... سنُون مَضَت من دَهْرنَا المتقادم)
(سبقت بهَا دهرا وَأَنت تعدها ... لنَفسك لَا ترْضى بشرك المساهم)
(وَمَا قدر أرتاح ودارا فيذكرا ... فخارا إِذا عدت مساعى القماقم)
(وَمَا الْفَخر فى ركض على أهل غرَّة ... وَهل ذَاك إِلَّا من مَخَافَة هازم)
(وَهل نلْت إِلَّا صقع طرسوس بعد أَن ... تسلمتها من أَهلهَا كالمسالم)
(ومصيصة بالغدر قتلت أَهلهَا ... وَذَلِكَ فى الْأَدْيَان إِحْدَى العظائم)
(ترى نَحن لم نوقع بكم وبلادكم ... وقائع يثنى ذكرهَا فى المواسم)
(مئين ثَلَاثًا من سِنِين تَتَابَعَت ... ندوس الذرى من هامكم بالمناسم)
(وَلم تفتح الأقطار شرقا ومغربا ... فتوحا تناهت فى جَمِيع الأقالم)
(أَتَذكر هَذَا أم فُؤَادك هائم ... فَلَيْسَ بناس كل ذَا غير هائم)
(وَمن شَرّ يَوْم للفتى هيمانه ... فيا هائما بل نَائِما شَرّ نَائِم)
(وَلَو كَانَ حَقًا كل مَا قلت لم يكن ... علينا لكم فضل وفخر مَكَارِم)
(فمنكم أَخذنَا كل مَا قد أَخَذْتُم ... وأضعاف أَضْعَاف لَهُ بالصماصم)
(طردناكم قهرا إِلَى أَرض رومكم ... فطرتم من السامات طرد النعائم)
(لجأتم إِلَيْهَا كالقنافذ جثما ... أدلاهم عَن حتفه كل حاطم)
(وَلَوْلَا وَصَايَا للنبى مُحَمَّد ... بكم لم تنالوا أَمن تِلْكَ المجاثم)
(فَأنْتم على خسر وَإِن عَاد بُرْهَة ... إِلَيْكُم حواشيها لغفلة قَائِم)
(وَنحن على فضل بِمَا فى أكفنا ... وفخر عَلَيْكُم بالأصول الجسائم)
(وَنَرْجُو وشيكا أَن يسهل رَبنَا ... لرد خوافى الريش تَحت القوادم)(3/210)
(وعظمت من أَمر النِّسَاء وَعِنْدنَا ... لكم ألف ألف من إِمَاء وخادم)
(وَلَكِن كرمنا إِذْ ظفرنا وَأَنْتُم ... ظفرتم فكنتم قدوة للألائم)
(وَقلت ملكناكم بجور قضاتكم ... وبيعهم أحكامهم بِالدَّرَاهِمِ)
(وفى ذَاك إِقْرَارا بِصِحَّة ديننَا ... وَأَنا ظلمنَا فابتلينا بظالم)
(وعددت بلدانا تُرِيدُ افتتاحها ... وَتلك أَمَان سَاقهَا حلم حالم)
(وَمن رام فتح الشرق والغرب ناشرا ... لدين صَلِيب فَهُوَ أَخبث رائم)
(وَمن دَان للصلبان يبغى بِهِ الْهدى ... فَذَاك حمَار وسمه فى الخراطم)
(وَلَيْسَ وليا للمسيح مثلث ... فيرجوه نقفور لمحو المآثم)
(وَعِيسَى رَسُول الله مَوْلُود مَرْيَم ... غذته كَمَا قد غذيت بالمطاعم)
(وَأما الذى فَوق السَّمَوَات عَرْشه ... فخالق عِيسَى وَهُوَ محيى الرمائم)
(وَمَا يُوسُف النجار بعلا لِمَرْيَم ... كَمَا زَعَمُوا أكذب بِهِ قَول زاعم)
(وإنجيلهم فِيهِ بَيَان لقولنا ... وبشرى بآت بعد للرسل خَاتم)
(وَسَماهُ بارقليط يأتى بكشف مَا ... أَتَاهُم بِهِ من حمله غير كاتم)
(وَكَانَ يُسمى بِابْن دَاوُد فيهم ... بِحَيْثُ إِذا يدعى بِهِ فى التكالم)
(وَهل أمسك المنديل إِلَّا لحَاجَة ... وَهل حَاجَة إِلَّا لعبد وخادم)
(وَإِن كَانَ قد مَاتَ النبى مُحَمَّد ... فأسوة كل الْأَنْبِيَاء الأعاظم)
(وَعِيسَى لَهُ فى الْمَوْت وَقت مُؤَجل ... يَمُوت لَهُ كالرسل من آل آدم)
(فَإِن دفعُوا هَذَا فقد عجلوا لَهُ ... وَفَاة بصلب وارتكاب صيالم)
(صيالم من إكليل شوك وأحبل ... يجر بهَا نَحْو الصَّلِيب ولاطم)
(وَإِن يَك أَوْلَاد لِأَحْمَد جرعوا ... شَدَائِد من أسر وجز جماجم)(3/211)
(فعيسى على مَا تَزْعُمُونَ مجرع ... من الْقَتْل طعما مثل طعم العلاقم)
(وَيحيى وزَكَرِيا وَخلق سواهُمَا ... أكارم عِنْد الله نجل أكارم)
(تولتهم أيدى الطغاة فَلم تنَلْ ... قضاياهم من ذَاك وصمة واصم)
(فَمن مبلغ نقفور عَنى مقالتى ... جَوَابا لما أبداه من نظم ناظم)
(لَئِن كَانَ بعض الْعَرَب طارت قُلُوبهم ... أَو ارْتَدَّ مِنْهُم حشْوَة كَالْبَهَائِمِ)
(لقد أسلمت بالشرق هِنْد وسندها ... وصين وأتراك الرِّجَال الْأَعَاجِم)
(بتدبير مَنْصُور بن نوح وجنده ... وأشياخه أهل النهى والعزائم)
(وَإِن تَكُ بَغْدَاد أُصِيبَت بملكها ... وَصَارَت عبيدا للعبيد الديالم)
(فللحق أنصار وَللَّه صفوة ... يذودون عَنهُ بِالسُّيُوفِ الصوارم)
(فَمن عرب غلب مُلُوك بغالب ... وَمن عجم صيد مُلُوك بهازم)
(فبالدين مِنْهُم قَائِم أى قَائِم ... وللملك مِنْهُم هَاشم أى هَاشم)
(جزى الله سيف الدولة الْخَيْر بَاقِيا ... وأكرمه بالفاضلات الكرائم)
(وألبس مَنْصُور بن نوح سَلامَة ... تدوم لَهُ مَا عَاشَ أدوم دَائِم)
(هما أمنا الْإِسْلَام من كل هاضم ... وصانا بِنَاء الدّين عَن كل هَادِم)
(وَمن مبلغ نقفور عَنى نصيحة ... بتقدمة قُدَّام عض الأباهم)
(أتتك خُرَاسَان تجر خيولها ... مسومة مثل الْجَرَاد السوائم)
(كهول وشبان حماة أحامس ... ميامن فى الهيجاء غير مشائم)
(غزَاة شروا أَرْوَاحهم من إلاههم ... بجناته وَالله أوفى مساوم)
(فَإِن تعرضوا فَالْحق أَبْلَج وَاضح ... معالمه مَشْهُورَة كالمعالم)
(تَعَالَوْا نحاكمكم ليحكم بَيْننَا ... إِلَى السَّيْف أَن السَّيْف أعدل حَاكم)(3/212)
(سيجرى بِنَا وَالله كَاف وَعَاصِم ... لنا خير واف للعباد وَعَاصِم)
(وَنَرْجُو بِفضل الله فتحا معجلا ... ننال بقسطنطين ذَات الْمَحَارِم)
(هُنَاكَ ترى نقفور وَالله قَادر ... يُنَادى عَلَيْهِ قَائِما فى المقاسم)
(ويجرى لنا فى الرّوم طرا وَأَهْلهَا ... وأموالها جمعا سِهَام الْمَغَانِم)
(فيضحك منا سنّ جذلان باسم ... ويقرع مِنْهُ سنّ خزيان نادم)
(وَإِن تسلموا فالسلم فِيهِ سَلامَة ... وأهنا عَيْش للفتى عَيْش سَالم)
وَقَول الْقفال فى جَوَابه إِن نقفور تشبع بِمَا لم يُعْط صَحِيح فَإِنَّهُ افتخر بأخذهم سروج والآخذ لَهَا غَيره من الرّوم وَكَذَلِكَ جَزِيرَة إقريطش إِنَّمَا أَخذهَا ملك الرّوم أرمانوس بن قسطنطين وكل ذَلِك قبل سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة وَإِنَّمَا تملك نقفور اللعين سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة
ونقفور هُوَ الدمستق فتح المصيصة بِالسَّيْفِ ثمَّ سَار إِلَى طرسوس فَطلب أَهلهَا الْأمان ودخلها وَجعل الْجَامِع اصطبلا لدوابه وَصَارَت بِأَيْدِيهِم فِيمَا أَحسب إِلَى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فتحهَا الْأَمِير سيف الدّين بيدمر الخوارزمى حَال نيابته بحلب أحسن الله جزاءه
وَأما سيف الدولة بن حمدَان فقد كَانَت لَهُ الْآثَار الجميلة إِذْ ذَاك وغزا الرّوم فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فى ثَلَاثِينَ ألفا وَفتح حصونا عديدة وَقتل وسبى وغنم ثمَّ أَخذ الرّوم عَلَيْهِ الدَّرْب واستولوا على عسكره قتلا وأسرا وَله مَعَهم حروب يطول شرحها
والمنديل الْمشَار إِلَيْهِ كَانَ من آثَار عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد أهل الرها يتبركون بِهِ فحاصرها إِلَى أَن صالحوه وسلموه إِلَيْهِ(3/213)
وَقد وقفت للفقيه أَبى مُحَمَّد ابْن حزم الظاهرى على جَوَاب عَن هَذِه القصيدة الملعونة أَجَاد فِيهِ وَكَأَنَّهُ لم يبلغهُ جَوَاب الْقفال
فَمن جَوَاب أَبى مُحَمَّد
(من المحتمى بِاللَّه رب العوالم ... وَدين رَسُول الله من آل هَاشم)
(مُحَمَّد الهادى إِلَى الله بالتقى ... وبالرشد وَالْإِسْلَام أفضل قَائِم)
(عَلَيْهِ من الله السَّلَام مرددا ... إِلَى أَن يوافى الْبَعْث كل العوالم)
(إِلَى قَائِل بالإفك جهلا وضلة ... على النقفور المنبرى فى الْأَعَاجِم)
(دَعَوْت إِمَامًا لَيْسَ من أَمر آله ... بكفيه إِلَّا كالرسوم الطواسم)
(دهته الدواهى فى خِلَافَته كَمَا ... دهت قبله الْأَمْلَاك دهم الدواهم)
(وَلَا عجب من نكبة أَو ملمة ... تصيب الْكَرِيم الْحر وَابْن الأكارم)
(وَلَا عجب من نكبة أَو ملمة ... تصيب الْكَرِيم الْحر وَابْن الأكارم)
(وَلَو أَنه فى حَال ماضى جدوده ... لجرعتم مِنْهُ سموم الأراقم)
(عَسى عطفة لله فى أهل دينه ... تجدّد مِنْهُم دارسات المعالم)
(فخرتم بِمَا لَو كَانَ فهم يريكم ... حقائق دين الله أحكم حَاكم)
(إِذن لعرتكم خجلة عِنْد ذكره ... وأخرس مِنْكُم كل قيل مخاصم)
(سلبناكم دهرا ففزتم بكرَة ... من الدَّهْر أَفعَال الضِّعَاف العزائم)
(فطرتم سُرُورًا عِنْد ذَاك ونخوة ... كَفعل المهين النَّاقِص المتعاظم)
(وَمَا ذَاك إِلَّا فى تضاعيف غَفلَة ... عرتنا وَصرف الدَّهْر جم الْمَلَاحِم)
(وَلما تنازعنا الْأُمُور تخاذلا ... ودالت لأهل الْجَهْل دولة ظَالِم)(3/214)
(وَقد شغلت فِينَا الخلائف فتْنَة ... لعبدانهم من تَركهم والديالم)
(بِكفْر أياديهم وَجحد حُقُوقهم ... لمن رَفَعُوهُ من حضيض الْبَهَائِم)
(وثبتم على أطرافنا عِنْد ذَلِكُم ... وثوب لصوص عِنْد غَفلَة نَائِم)
(ألم ننتزع مِنْكُم بأيد وَقُوَّة ... جَمِيع بِلَاد الشَّام ضَرْبَة لَازم)
(ومصر وَأَرْض القيروان بأسرها ... وأندلسا قسرا بِضَرْب الجماجم)
(ألم تنتصف مِنْكُم على ضعف حَالهَا ... صقلية فى بحرها المتلاطم)
(أحلّت بقسطنطينة كل نكبة ... وسامتكم سوء الْعَذَاب الملازم)
(مشَاهد تقديساتكم وبيوتها ... لنا وبأيدينا على رغم راغم)
(أما بَيت لحم وَالْقُمَامَة بعْدهَا ... بأيدى رجال الْمُسلمين الأعاظم)
(وكرسيكم فى أَرض إسكندرية ... وكرسيكم فى الْقُدس فى أورشالم)
(ضممناهم قسرا برغم أنوفكم ... كَمَا ضمت السَّاقَيْن سود الأداهم)
(وكرسى أنطاكية كَانَ بُرْهَة ... ودهرا بِأَيْدِينَا وبذل الملاغم)
(فَلَيْسَ سوى كرسى رومة فِيكُم ... وكرسى قسطنطينة فى المقادم)
(ولابد من عود الْجَمِيع بأسره ... إِلَيْنَا بعزم قاهر متعاظم)
(أَلَيْسَ يزِيد حل وسط دِيَاركُمْ ... على بَاب قسطنطينة بالصوارم)
(ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... بِجَيْش لهام كالليوث الضراغم)
(وأخدمكم بالذل مَسْجِدنَا الذى ... بنى فِيكُم فى عصرنا المتقادم)(3/215)
(إِلَى جنب قصر الْملك فى أَرض ملككم ... أَلا هَذِه حَقًا صريمة صارم)
(وَأدّى لهارون الرشيد مليككم ... إتاوة مغلوب وجزية غَارِم)
(سلبناكم مسرى شهورا بِقُوَّة ... حبانا بهَا الرَّحْمَن أرْحم رَاحِم)
(إِلَى أَرض يَعْقُوب وأرياف دومة ... إِلَى لجة الْبَحْر الْبعيد الْمَحَارِم)
(فَهَل سِرْتُمْ فى أَرْضنَا قطّ جُمُعَة ... أَبى الله ذاكم يَا بقاة الهزائم)
(فَمَا لكم إِلَّا الأمانى وَحدهَا ... بضائع نوكى تِلْكَ أضغاث حالم)
(رويدا يعد نَحْو الْخلَافَة نورها ... ويكشف مغبر الْوُجُوه السواهم)
(وَحِينَئِذٍ تَدْرُونَ كَيفَ فراركم ... إِذا صدمتكم خيل جَيش مصادم)
(على سلف الْعَادَات منا ومنكم ... ليالى أَنْتُم فى عداد الْغَنَائِم)
(سبيتم سَبَايَا لَيْسَ يكثر عدهَا ... وسبيكم فِينَا كقطر الغمائم)
(فَلَو رام خلق عدهَا رام معجزا ... وأنى بتعداد لريش الحمائم)
(بأبناء حمدَان وكافور صلتم ... أراذل أنجاس قصار المعاصم)
(دعى وحجام أَتَوْكُم فتهتم ... وَمَا قدر مصاص دِمَاء المحاجم)
(ليالى قدناكم كَمَا اقتاد جازر ... جمَاعَة أتياس لحز الحلاقم)
(وسقنا على رسل بَنَات ملوككم ... سَبَايَا كَمَا سيقت ظباء الصرائم)
(وَلَكِن سلوا عَنَّا هرقلا وَمن خلا ... لكم من مُلُوك مكرمين قماقم)
(يُخْبِركُمْ عَنَّا المتوج مِنْكُم ... وقيصركم عَن سبينَا كل آيم)
(وَعَما فتحنا من منيع بِلَادكُمْ ... وَعَما أَقَمْنَا فِيكُم من مسالم)
(ودع كل نذل منتم لَا تعده ... إِمَامًا وَلَا من محكمات الدعائم)(3/216)
(فهيهات سامرا وتكريت مِنْكُم ... إِلَى جبل تلكم أمانى هائم)
(مَتى يتمناها الضَّعِيف ودونها ... تطاير هامات وحز الغلاصم)
(وَمن دون بَغْدَاد سيوف حَدِيدَة ... ميسرَة للحرب من آل هَاشم)
(محلّة أهل الزّهْد وَالْخَيْر والتقى ... ومنزلة محتلها كل عَالم)
(دعوا الرملة الغراء عَنْكُم ودونها ... من الْمُسلمين الصَّيْد كل ملازم)
(وَدون دمشق كل جَيش كَأَنَّهُ ... سحائب طير تنتحى بالقوادم)
(وَضرب يلقى الرّوم كل مذلة ... كَمَا ضرب الضراب بيض الدَّرَاهِم)
(وَمن دون أكناف الْحجاز جحافل ... كقطر الغيوث الهاملات السواجم)
(بهَا من بنى عدنان كل سميذع ... وَمن حى قحطان كرام العمائم)
(وَلَو قد لَقِيتُم من قضاعة عصبَة ... لَقِيتُم ضراما فى يبيس الهشائم)
(إِذا صبحوكم ذكروكم بِمَا خلا ... لَهُم مَعكُمْ من مأزق متلاحم)
(زمَان يقودون الصوافن نحوكم ... ليبغوا يسارا مِنْكُم فى الْمَغَانِم)
(سَيَأْتِيكُمْ مِنْهُم قَرِيبا عصائب ... تنسيكم تذكار أَخذ العواصم)
(وَأَمْوَالكُمْ فئ لَهُم ودماؤكم ... بهَا يشتفى حر النُّفُوس الحوائم)
(وأرضكم حَقًا سيقتسمونها ... كَمَا فعلوا دهرا بِعدْل المقاسم)
(وَلَو طرقتكم من خُرَاسَان عصبَة ... وشيراز والرى القلاع القوائم)(3/217)
(لما كَانَ مِنْكُم عِنْد ذَلِك غير مَا ... عهدنا لكم ذل وعض الأباهم)
(فقد طَال مَا زاروكم فى بِلَادكُمْ ... مسيرَة عَام بالخيول الصلادم)
(وَأما سجستان وكرمان والألى ... بكابل حلوا فى ديار البراهم)
(فمغزاهم فى الْهِنْد لَا يعرفونكم ... بِغَيْر أَحَادِيث لذكر التهازم)
(وَفِي فَارس والسوس جمع عرموم ... وَفِي أَصْبَهَان كل أروع عازم)
(فَلَو قد أَتَاكُم جمعهم لغدوتم ... فرائس للآساد مثل الْبَهَائِم)
(وبالبصرة الزهراء والكوفة الَّتِى ... سمت وبأدنى وَاسِط كالكظائم)
(جموع تسامى الرمل جم عديدهم ... فَمَا أحد ينوى لقاهم بسالم)
(وَمن دون بَيت الله مَكَّة والتى ... حباها بمجد للثريا ملازم)
(مَحل جَمِيع الأَرْض مِنْهَا تَيَقنا ... محلّة سفل الْخُف من فص خَاتم)
(دفاع من الرَّحْمَن عَنْهَا بِحَقِّهَا ... فَمَا هُوَ عَمَّا كرّ طرف برائم)
(بهَا دفع الأحبوش عَنْهَا وقبلهم ... بحصباء طير من ذرا الجو حائم)
(وَجمع كموج الْبَحْر مَاض عَرَمْرَم ... حمى سرة الْبَطْحَاء ذَات الْمَحَارِم)
(وَمن دون قبر الْمُصْطَفى وسط طيبَة ... جموع كمسود من اللَّيْل فَاحم)
(يقودهم جَيش الْمَلَائِكَة الْعلَا ... كفاحا ودفعا عَن مصل وصائم)
(فَلَو قد لقيناكم لعدتم رمائما ... بِمن فى أعالى نجدنا والحضارم)
(وباليمن الْمَمْنُوع فتيَان غَارة ... إِذا مَا لقوكم كُنْتُم كالمطاعم)(3/218)
(وفى حلتى أَرض الْيَمَامَة عصبَة ... مغاور أنجاد طوال البراجم)
(سنفنيكم والقرمطيين دولم ... يعود لميمون النقيبة حَازِم)
(خَليفَة حق ينصر الدّين حِكْمَة ... وَلَا يتقى فى الله لومة لائم)
(إِلَى ولد الْعَبَّاس تنمى جدوده ... بفخر عميم أَو لزهر العباشم)
(مُلُوك جرى بالنصر طَائِر سعدهم ... فأهلا بماض مِنْهُم وبقادم)
(محلتهم فى مجْلِس الْقُدس أَو لَدَى ... منَازِل بَغْدَاد مَحل الأكارم)
(وَإِن كَانَ من عليا عدى وتيمها ... وَمن أَسد أهل الصّلاح الحضارم)
(فأهلا وسهلا ثمَّ نعمى ومرحبا ... بهم من خِيَار سالفين أقادم)
(هم نصروا الْإِسْلَام نصرا مؤزرا ... وهم فتحُوا الْبلدَانِ فتح المراغم)
(رويدا فوعد الله بِالصّدقِ وَارِد ... بتجريع أهل الْكفْر طعم العلاقم)
(سنفتح قسطنطينة وذواتها ... ونجعلكم قوت النسور القشاعم)
(ونملك أقْصَى أَرْضكُم وبلادكم ... ونلزمكم ذَلِك الجزى والمغارم)
(ونفتح أَرض الصين والهند عنْوَة ... بِجَيْش بِأَرْض التّرْك والخزر حاطم)
(مواعيد للرحمن فِينَا صَحِيحَة ... وَلَيْسَت كأمثال الْعُقُول السقائم)
(إِلَى أَن يرى الْإِسْلَام قد عَم حكمه ... جَمِيع الْبِلَاد بالجيوش الصوارم)
(أتقرن يَا مخذول دين مثلث ... بعيد عَن الْمَعْقُول بادى المآثم)(3/219)
(تدين لمخلوق يدين عبَادَة ... فيا لَك سحقا لَيْسَ يخفى لكاتم)
(أَنا جيلكم مصنوعة بتكاذب ... كَلَام الألى فِيمَا أَتَوا بالعظائم)
(وعود صَلِيب لَا تزالون سجدا ... لَهُ يَا عقول الهاملات السوائم)
(تدينون تضلالا بصلب إِلَهكُم ... بأيدى يهود أرذلين ألائم)
(إِلَى مِلَّة الْإِسْلَام تَوْحِيد رَبنَا ... فَمَا دين ذى دين لنا بمقاوم)
(وَصدق رسالات الذى جَاءَ بِالْهدى ... مُحَمَّد الآتى بِرَفْع الْمَظَالِم)
(وأذعنت الْأَمْلَاك طَوْعًا لدينِهِ ... ببرهان صدق ظَاهر فى المواسم)
(كَمَا دَان فى صنعاء يَا لَك دولة ... وَأهل عمان حَيْثُ رَهْط الجهاضم)
(وَسَائِر أَمْلَاك اليمانين أَسْلمُوا ... وَمن بلد الْبَحْرين قوم اللهازم)
(أجابوا لدين الله دون مَخَافَة ... وَلَا رَغْبَة تحظى بهَا كف عادم)
(فحلوا عرى التيجان طَوْعًا ورغبة ... لحق يَقِين بالبراهين ناجم)
(وحاباه بالنصر المليك إلاهه ... وصير من عَادَاهُ تَحت المناسم)
(فَقير وحيد لم تعنه عشيرة ... وَلَا دفعُوا عَنهُ شتيمة شاتم)
(وَلَا عِنْده مَال عتيد لناصر ... وَلَا دفع مرهوب وَلَا لمسالم)
(وَلَا وعد الْأَنْصَار دنيا تخصهم ... بلَى كَانَ مَعْصُوما لأعظم عَاصِم)
(فَلم تمتهنه قطّ هوة آسر ... وَلَا مكنت من جِسْمه يَد لاطم)(3/220)
(كَمَا يفترى زورا وإفكا وضلة ... على وَجه عِيسَى مِنْكُم كل آثم)
(على أَنكُمْ قد قُلْتُمْ هُوَ ربكُم ... فيالضلال فى الحماقة جاثم)
(أَبى الله أَن يدعى لَهُ ابْن وَصَاحب ... ستلقى دعاة الْكفْر حَالَة نادم)
(وَلكنه عبد نبى مكرم ... من النَّاس مَخْلُوق وَلَا قَول زاعم)
(أيلطم وَجه الرب تَبًّا لجهلكم ... لقد فقتم فى جهلكم كل ظَالِم)
(وَكم آيَة أبدى النبى مُحَمَّد ... وَكم علم أبداه للشرك حاطم)
(تساوى جَمِيع النَّاس فى نصر حَقه ... فللكل من إعظامه حَال خَادِم)
(فعرب وأحبوش وَترك وبربر ... وَفرس بهم قد فَازَ قدح المساهم)
(وقبط وأنباط وخزر وَدَيْلَم ... وروم رموكم دونه بالقواصم)
(أَبَوا كفر أسلاف لَهُم فتحنفوا ... فآبوا بحظ فى السَّعَادَة جاثم)
(بِهِ دخلُوا فى مِلَّة الْحق كلهم ... ودانوا لأحكام الْإِلَه اللوازم)
(بِهِ صَحَّ تَفْسِير الْمَنَام الذى أَتَى ... بِهِ دانيال قبله ختم خَاتم)
(وَسَنَد وَهِنْد أَسْلمُوا وتدينوا ... بدين الْهدى فى رفض دين الْأَعَاجِم)
(وشق لنا بدر السَّمَوَات آيَة ... وَأَشْبع من صَاع لَهُ كل طاعم)
(وسالت عُيُون المَاء فى وسط كَفه ... فأروى بِهِ جَيْشًا كثير القماقم)
(وَجَاء بِمَا تقضى الْعُقُول بصدقه ... وَلَا كدعاو غير ذَات قَوَائِم)
(عَلَيْهِ سَلام الله مَا ذَر شارق ... تعاقبه ظلماء أسحم عاتم)
(براهينه كَالشَّمْسِ لَا مثل قَوْلكُم ... وتخليطكم فى جَوْهَر وأقانم)
(لنا كل علم من قديم ومحدث ... وَأَنْتُم حمير ذاهبات المحازم)(3/221)
(أتيتم بِشعر بَارِد متخاذل ... ضَعِيف معانى النّظم جم البلاغم)
(فدونكها كالعقد فِيهِ زمرد ... ودر وَيَاقُوت بإحكام حَاكم)
ذكر نخب وفوائد ومسائل وغرائب عَن الْقفال الْكَبِير
... ... ... ... ... ... ... . .
161 - إِسْمَاعِيل بن عبد الْوَاحِد أَبُو هَاشم الربعى المقدسى
ولى قَضَاء مصر نَحوا من شَهْرَيْن فى سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة ثمَّ أَصَابَهُ فالج فتحول إِلَى الرملة وَمَات بهَا سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة
162 - إِسْمَاعِيل بن نجيد بن أَحْمد بن يُوسُف بن خَالِد أَبُو عَمْرو بن نجيد السلمى النيسابورى
الزَّاهِد العابد شيخ الصُّوفِيَّة
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم الشَّيْخ العابد الزَّاهِد شيخ عصره فى التصوف وَالْعِبَادَة والمعاملة وَأسْندَ من بقى بخراسان فى الرِّوَايَة
ورث من آبَائِهِ أَمْوَالًا جزيلة فأنفقها على الْعلمَاء ومشايخ الزّهْد
وَصَحب من أَئِمَّة الْحَقَائِق الشَّيْخ الْجُنَيْد وَأَبا عُثْمَان الحيرى وَغَيرهمَا
وَسمع من إِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجى وأبى مُسلم الْكَجِّي وَعبد الله بن أَحْمد ابْن حَنْبَل وَمُحَمّد بن أَيُّوب الرازى وعَلى بن الْحُسَيْن بن الْجُنَيْد وَغَيرهم(3/222)
روى عَنهُ سبطة أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَأَبُو نصر أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الصفار وَعبد القاهر بن طَاهِر الْفَقِيه وصاعد بن مُحَمَّد القاضى وَطَائِفَة آخِرهم أَبُو حَفْص عمر بن مسرور
وَعَن أَبى عُثْمَان الحيرى أَنه قَالَ وَخرج من عِنْده ابْن نجيد يلومنى النَّاس فى هَذَا الْفَتى وَأَنا لَا أعرف على طَرِيقَته سواهُ
وَعنهُ أَنه قَالَ أَبُو عَمْرو خلفى من بعدى
وَكَانَ يُقَال أَبُو عَمْرو من أوتاد الأَرْض
وَذكر الْحَاكِم أَنه سمع أَبَا سعيد بن أَبى بكر بن أَبى عُثْمَان يذكر أَن جده أَبَا عُثْمَان طلب شَيْئا لبَعض الثغور فَتَأَخر عَنهُ فَضَاقَ صَدره وَبكى على رُءُوس النَّاس فَأَتَاهُ أَبُو عَمْرو ابْن نجيد بعد الْعَتَمَة بكيس فِيهِ ألفا دِرْهَم ففرح بِهِ أَبُو عُثْمَان ودعا لَهُ وَلما جلس فى مَجْلِسه قَالَ يَا أَيهَا النَّاس لقد رَجَوْت لأبى عَمْرو فَإِنَّهُ نَاب عَن الْجَمَاعَة فى ذَلِك الْأَمر وَحمل كَذَا وَكَذَا فجزاه الله عَنى خيرا فَقَامَ أَبُو عَمْرو على رُءُوس الأشهاد وَقَالَ إِنَّمَا حملت ذَلِك من مَال أمى وهى غير راضية فينبغى أَن ترده على لأرده عَلَيْهَا فَأمر أَبُو عُثْمَان بذلك الْكيس فَأخْرج إِلَيْهِ وتفرق النَّاس فَلَمَّا جن اللَّيْل جَاءَ إِلَى أَبى عُثْمَان فى مثل ذَلِك الْوَقْت وَقَالَ يُمكن أَن تجْعَل هَذَا فى مثل ذَلِك الْوَجْه من حَيْثُ لَا يعلم بِهِ غَيرنَا فَبكى أَبُو عُثْمَان وَكَانَ بعد ذَلِك يَقُول أَنا أخْشَى من همة أَبى عَمْرو
توفى ابْن نجيد فى شهر ربيع الأول سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين سنة بنيسابور
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى لجدى طَريقَة ينْفَرد بهَا من صور الْحَال وتلبيسه
قلت كَأَن طَريقَة كَانَ ينحو نَحْو طَريقَة الملامتية الَّذين يكتمون الْأَعْمَال ويظهرون(3/223)
خلَافهَا وَيدل على ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من حكايته فى الألفى دِرْهَم مَعَ أَبى عُثْمَان وَلكنه لَا يوافقهم من كل وَجه بل هُوَ أعلا قدما مِنْهَا فَإِن تِلْكَ الطَّرِيقَة عِنْد الأقوياء ضَعِيفَة يعتمدها من يخْشَى على نَفسه
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن سَمِعت جدى يَقُول لَا يصفو لأحد قدم فى الْعُبُودِيَّة حَتَّى تكون أَفعاله عِنْده كلهَا رِيَاء وأحواله كلهَا عِنْده دعاوى
قلت وَهَذَا من الطّراز الأول
قَالَ وسمعته يَقُول من قدر على إِسْقَاط جاهه عِنْد الْخلق سهل عَلَيْهِ الْإِعْرَاض عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا
163 - بنْدَار بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْمُهلب الشيرازى أَبُو الْحُسَيْن الصوفى
خَادِم الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى
سكن أرجان
قَالَ السلمى كَانَ عَالما بالأصول لَهُ اللِّسَان الْمَشْهُور فى علم الْحَقِيقَة
كَانَ الشبلى يُكرمهُ ويقدمه
وَبَينه وَبَين مُحَمَّد بن خَفِيف مفاوضات فى مسَائِل رد على مُحَمَّد بن خَفِيف فى مَسْأَلَة الإغانة وَغَيرهَا حِين رد ابْن خَفِيف على أقاويل الْمَشَايِخ فصوب بنْدَار أقاويل الْمَشَايِخ(3/224)
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ بنْدَار من أهل الْفضل المتميزين بالمعرفة وَالْعلم وَلم يكْتب لَهُ مُسْندًا غير حَدِيث وَاحِد
مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وثلاثمائة
وَمن كَلَامه
من مَشى فى الظلمَة إِلَى ذى النعم أجلسه على بِسَاط الْكَرم وَمن قطع لِسَانه بشفرة السُّكُوت بنى لَهُ بَيت فى الملكوت وَمن وَاصل أهل الْجَهَالَة ألبس ثوب البطالة وَمن أَكثر ذكر الله شغله عَن ذكر النَّاس وَمن هرب الذُّنُوب هرب بِهِ من النَّار وَمن رجا شَيْئا طلبه
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل إِذْنا خَاصّا أخبرنَا الْمُسلم بن مُحَمَّد بن عَلان كِتَابَة أخبرنَا أَبُو الْيمن أخبرنَا أَبُو مَسْعُود أخبرنَا الْخَطِيب أخبرنَا أَبُو سعد المالينى أخبرنَا أَبُو أَحْمد عبد الله بن عمر البكرى حَدثنَا بنْدَار بن الْحُسَيْن حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد حَدثنَا الْحُسَيْن بن الْحسن عَن عبد الرَّحْمَن بن مهدى حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد مُوسَى بن وردان عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر أحدكُم من يخال)
164 - أَبُو بكر المحمودى
الإِمَام الْجَلِيل أحد الرفعاء من أَصْحَاب الْوُجُوه
ذكره العبادى فى طبقَة أَبى على الثقفى وَأَنا أَحْسبهُ تفقه على أَبى إِسْحَاق(3/225)
المروزى تفقه الْكَبِير على الْأَكْبَر فَمن تلامذة أَبى إِسْحَاق من كَانَ يتلمذ بَين يدى أَبى بكر الا ترى قَول الشَّيْخ أَبى زيد المروزى وَقد قَالَ فى مَرِيض أعتق عبدا لَا مَال لَهُ سواهُ فَمَاتَ قبل السَّيِّد إِنَّه يَمُوت رَقِيقا كُله أجبْت بِهِ فى مجْلِس الشَّيْخ أَبى بكر المحمودى فرضيه وحمدنى عَلَيْهِ ذكر الرافعى أَن هَذَا يُؤثر عَن الشَّيْخ أَبى زيد المروزى
165 - حسان بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن هَارُون بن حسان بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَنْبَسَة بن سعيد بن الْعَاصِ القرشى الأموى الإِمَام الْجَلِيل أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا أَبُو الْوَلِيد النيسابورى
تلميذ أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج
ولد بعد السّبْعين وَمِائَتَيْنِ
وَسمع أَحْمد بن الْحسن الصوفى وَغَيره بِبَغْدَاد
وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجى وَمُحَمّد بن نعيم بنيسابور
وَالْحسن بن سُفْيَان بنسا وَغَيرهم
حدث عَنهُ القاضى أَبُو بكر الحيرى وَالْإِمَام أَبُو طَاهِر بن محمش الزيادى وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله وَأَبُو الْفضل أَحْمد بن مُحَمَّد السلهى الصفار وَغَيرهم
قَالَ الْحَاكِم كَانَ إِمَام أهل الحَدِيث بخراسان وأزهد من رَأَيْت من الْعلمَاء(3/226)
وأعبدهم وَأَكْثَرهم تقشفا ولزوما لمدرسته وبيته وَله كتاب الْمُسْتَخْرج على صَحِيح مُسلم
قَالَ الْحَاكِم أرانا أَبُو الْوَلِيد نقش خَاتمه الله ثِقَة حسان بن مُحَمَّد وَقَالَ أرانا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عدى نقش خَاتمه الله ثِقَة عبد الْملك بن مُحَمَّد وَقَالَ أرانا الرّبيع نقش خَاتمه الله ثِقَة الرّبيع بن سُلَيْمَان وَقَالَ كَانَ نقش خَاتم الشافعى رضى الله عَنهُ الله ثِقَة مُحَمَّد بن إِدْرِيس
قَالَ الْحَاكِم وسمعته فى مَرضه الذى مَاتَ فِيهِ يَقُول قَالَت لى والدتى كنت حَامِلا بك وَكَانَ للْعَبَّاس بن حَمْزَة مجْلِس فاستأذنت أَبَاك أَن أحضر مَجْلِسه فى أَيَّام الْعشْر فَأذن لى فَلَمَّا كَانَ آخر الْمجْلس قَالَ الْعَبَّاس بن حَمْزَة قومُوا فَقَامُوا وَقمت مَعَهم فَأخذ الْعَبَّاس يَدْعُو فَقلت اللَّهُمَّ هَب لى ابْنا عَالما فَرَجَعت إِلَى الْمنزل فَبت تِلْكَ اللَّيْلَة فَرَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَن رجلا أتانى فَقَالَ أبشرى فَإِن الله قد اسْتَجَابَ دعوتك ووهب ولدا ذكرا وَجعله عَالما ويعيش كَمَا عَاشَ أَبوك
قلت وَكَانَ أَبى عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة
قَالَ الْأُسْتَاذ وَهَذِه قد تمت لى اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة
قَالَ الْحَاكِم فَعَاشَ الْأُسْتَاذ بعد الْحِكَايَة أَرْبَعَة أَيَّام(3/227)
قَالَ الْحَاكِم وَدخلت عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْعشَاء من لَيْلَة الْجُمُعَة وَهُوَ قَاعد فَأَشَارَ إِلَى بِيَدِهِ أَن انْصَرف فقد أمسيت فَلم أنصرف إِلَى أَن صليت صَلَاة الْعَتَمَة فى منزله فَقَالَ خرج على من يحمل جنازتى إِلَى الْمِيقَات فَانْصَرَفت فَمَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَة وَقت السحر
قَالَ وَسمعت أَحْمد بن عمر الزَّاهِد يَقُول رَأَيْت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد فى الْمَنَام فَسَأَلته عَن حَاله فَقَالَ قابلت أَو عارضت جَمِيع مَا قلت فَكنت أَخْطَأت فى عشْرين أَو أحد وَعشْرين الشَّك من الرائى
قَالَ وَسمعت أَبَا الْحسن عبد الله بن مُحَمَّد الْفَقِيه يَقُول مَا وَقعت فى ورطة قطّ وَلَا وَقع لى أَمر مُهِمّ فقصدت قبر أَبى الْوَلِيد وتوسلت بِهِ إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا اسْتَجَابَ الله لى
قَالَ وَسمعت أَبَا سعيد الأديب يَقُول سَأَلت أَبَا على الثقفى فى مَرضه الذى مَاتَ فِيهِ من نسْأَل بعْدك فى الْحَلَال وَالْحرَام فَقَالَ أَبُو الْوَلِيد
توفى الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس شهر ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة بنيسابور
وَمن الْفَوَائِد والمسائل عَن أَبى الْوَلِيد رَحمَه الله
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا الْوَلِيد يَقُول وَسَأَلته أَيهَا الْأُسْتَاذ قد صَحَّ عندنَا حَدِيث الثورى عَن أَبى إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينَام وَهُوَ جنب وَلَا يمس مَاء وَكَذَا صَحَّ حَدِيث نَافِع وَعبد الله(3/228)
ابْن عمر أَن عمر رضى الله عَنهُ قَالَ يارسول الله أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب قَالَ نعم إِذا تَوَضَّأ فَقَالَ لى أَبُو الْوَلِيد سَأَلت ابْن سُرَيج عَن الْحَدِيثين فَقَالَ الحكم بهما جَمِيعًا أما حَدِيث عَائِشَة فَإِنَّمَا أَرَادَت أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يمس مَاء للْغسْل وَأما حَدِيث عمر فمفسر فِيهِ ذكر الْوضُوء وَبِه نَأْخُذ
قَالَ الْحَاكِم وَسمعت أَبَا الْوَلِيد يحْتَج فى رفع الْيَدَيْنِ فَقَالَ إِن للصَّلَاة أفعالا كل فعل مِنْهَا أَوله مَنُوط بِذكر فينبغى أَن يكون آخِره كَذَلِك فَإِذا كَانَ الْقيام الذى هُوَ للصَّلَاة وابتداؤه بِذكر مَنُوط بهيئة وهى رفع الْيَدَيْنِ فَكَذَلِك آخر قِيَامه وَالْخُرُوج مِنْهُ لابد أَن يأتى بِذكر والهيئة مقرونة بِهِ وَلَئِن جَازَ أَن يسْقط عَن آخِره جَازَ أَن يسْقط عَن أَوله فَرفع بِلَا ذكر كَمَا ركع بِلَا هَيْئَة رفع(3/229)
166 - الْحسن بن أَحْمد بن يزِيد بن عِيسَى بن الْفضل بن بشار بن عبد الحميد ابْن عبد الله بن هَانِئ بن قبيصَة بن عَمْرو بن عَامر الإِمَام الْجَلِيل أَبُو سعيد الإصطخرى
قَالَ قُم أحد الرفعاء من أَصْحَاب الْوُجُوه
سمع سَعْدَان بن نصر وَأحمد بن مَنْصُور الرمادى وعباس بن مُحَمَّد الدورى وحنبل ابْن إِسْحَاق وَحَفْص بن عَمْرو الربالى وَمُحَمّد بن عبد الله بن نَوْفَل وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن المظفر وَابْن شاهين وَأَبُو الْحسن بن نَوْفَل الجندي والدارقطنى وَغَيرهم
مولده سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
قَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين وَمن شُيُوخ الْفُقَهَاء الشافعيين وَكَانَ ورعا زاهدا متقللا
قَالَ وحدثنى أَبُو الطّيب قَالَ حكى لى عَن الداركى أَنه قَالَ سَمِعت أَبَا إِسْحَاق المروزى يَقُول لما دخلت بَغْدَاد لم يكن بهَا من يسْتَحق أَن أدرس عَلَيْهِ إِلَّا أَبُو سعيد الإصطخرى وَأَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب وَهَذَا يدل على أَن أَبَا على بن خيران لم يكن يُقَاس بهما(3/230)
قَالَ أَبُو إِسْحَاق المروزى سُئِلَ يَوْمًا أَبُو سعيد عَن الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا هَل تجب لَهَا النَّفَقَة فَقَالَ نعم فَقيل لَهُ لَيْسَ هَذَا من مَذْهَب الشافعى
فَلم يصدق فأروه كِتَابه فَلم يرجع وَقَالَ إِن لم يكن مذْهبه فَهُوَ مَذْهَب على وَابْن عَبَّاس
قَالَ أَبُو إِسْحَاق فَحَضَرَ يَوْمًا مجْلِس النّظر مَعَ أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج وتناظرا وَجرى بَينهمَا كَلَام فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس أَنْت سُئِلت عَن مَسْأَلَة فأخطأت فِيهَا وَأَنت رجل كَثْرَة أكل الباقلا قد ذهب بدماغك فَقَالَ أَبُو سعيد فى الْحَال وَأَنت كَثْرَة أكل الْخلّ والمرى قد ذهب بِدينِك
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب وَكَانَ من الْوَرع وَالدّين بمَكَان وَيُقَال كَانَ قَمِيصه وسراويله وطيلسانه من شقة وَاحِدَة وَكَانَت فِيهِ حِدة وَولى حسبَة بَغْدَاد وَكَانَ القاهر الْخَلِيفَة قد استفتاه فى الصابئين فأفتاه بِقَتْلِهِم لِأَنَّهُ تبين لَهُ أَنهم يخالفون الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُمْ يعْبدُونَ الْكَوَاكِب فعزم الْخَلِيفَة على ذَلِك حَتَّى جمعُوا من بَينهم مَالا كثيرا لَهُ قدر فَكف عَنْهُم
قَالَ الطبرى وَحكى عَن الداركى أَنه قَالَ مَا كَانَ أَبُو إِسْحَاق المروزى يُفْتى بِحَضْرَة الإصطخرى إِلَّا بِإِذْنِهِ
وَقَالَ أَبُو حَفْص عمر بن على المطوعى من خَبره يعْنى الإصطخرى أَن المقتدر استقضاه على سجستان فَسَار إِلَيْهَا وَنظر فى مناكحاتهم فَأصَاب معظمها مَبْنِيا على غير اعْتِبَار الولى فأنكرها غَايَة الْإِنْكَار وأبطلها عَن آخرهَا(3/231)
قلت وَمن أخباره فى قَضَائِهِ أَيْضا مَا حَكَاهُ الرافعى فى الْعدَد أَنه أَتَى بسقط لم تظهر فِيهِ الصُّورَة والتخطيط لكل أحد وَلَكِن قَالَت القوابل وَأهل الْخِبْرَة من النِّسَاء إِن فِيهِ صُورَة خُفْيَة وهى بَيِّنَة لنا وَإِن خفيت على غَيرنَا فَلم يحكم بِثُبُوت الِاسْتِيلَاد وَهَذَا خلاف مَذْهَب الشافعى
قَالَ الرافعى فَجَاءَت القوابل فصببن عَلَيْهِ مَاء حارا وغسلنه فظهرت الصُّورَة
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَحكى ابْن دَاوُد فى شَرحه أَن أَبَا على بن خيران عرضت عَلَيْهِ مُضْغَة ألقتها امْرَأَة فَدَعَا بِمَاء حَار وصبه عَلَيْهَا فتبينت مِنْهَا الخطوط فَحكم بِأَنَّهُ وَلَدهَا
قلت قد كَانَ ابْن خيران معاصرا لأبى سعيد وبلديه فَلَعَلَّ أَبَا سعيد لما لم يصغ إِلَى كَلَام القوابل رفعت الْمَسْأَلَة إِلَى ابْن خيران فَلَمَّا تبين الْحَال رَجَعَ أَبُو سعيد هَذَا مُحْتَمل وَتَكون الْوَاقِعَة وَاحِدَة
وَمن أخباره فى حسبته أَنه كَانَ يأتى إِلَى بَاب القاضى فَإِذا لم يجده جَالِسا يفصل القضايا أَمر من يستكشف عَنهُ هَل بِهِ عذر يمنعهُ من الْجُلُوس من أكل أَو شرب أَو حَاجَة الْإِنْسَان وَنَحْو ذَلِك فَإِن لم يجد بِهِ عذرا أمره بِالْجُلُوسِ للْحكم
وَمِنْهَا أَنه أحرق مَكَان الملاهى من أجل مَا يعْمل فِيهِ من الملاهى وَهَذَا مِنْهُ دَلِيل أَنه كَانَ يرى جَوَاز إِفْسَاد مَكَان الْفساد إِذا تعين طَرِيقا
وَقيل كَانُوا يعْملُونَ فِيهِ من الملاهى اللّعب
وفى الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة للماوردى قَالَ وَذكر الإِمَام فى النِّهَايَة عِنْد الْكَلَام فى الْأَجِير الْمُشْتَرك الإصطخرى وَقَالَ إِنَّه كثير الهفوات فى الْقَوَاعِد(3/232)
وَذكر صَاحب الكافى فى تَارِيخ خوارزم فى تَرْجَمَة مُحَمَّد بن أَبى سعيد الفراتى أَنه قَالَ لما انصرفت من بَغْدَاد لقِيت أَبَا سعيد الإصطخرى بهمذان منصرفا من مَدِينَة قُم وَكَانَ قد ولى قضاءها فَحكى لنا أَنه مَاتَ بهَا رجل وَترك بِنْتا وَعَما فَتَحَاكَمُوا إِلَى فى الْمِيرَاث فَقضيت فِيهِ بِحكم الله للْبِنْت النّصْف والباقى للعم فَقَالَ أهل قُم لَا نرضى بِهَذَا الْقَضَاء أعْط الْبِنْت المَال كُله فَقلت لَا يحل هَذَا فى الشَّرِيعَة فَقَالُوا لَا نَتْرُكك هُنَا قَاضِيا
قَالَ فَكَانُوا يتسورون دارى بِاللَّيْلِ ويحولون الأسرة عَن أماكنها وَأَنا لَا أشعر فَإِذا أَصبَحت عجبت من ذَلِك فَقَالَ أوليائى إِنَّهُم يرونك أَنهم إِذا قدرُوا على هَذَا قدرُوا على قَتلك فَخرجت مِنْهَا هَارِبا
قَالَ وَكَانَ مَذْهَبهم مَذْهَب الغرابية المَال كُله للْبِنْت وهم قوم من شرار الروافض يذهبون إِلَى هَذِه الْمقَالة لأجل فَاطِمَة رضى الله عَنْهَا
مَاتَ بِبَغْدَاد فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة وَدفن بِبَاب حَرْب
وَمن الرِّوَايَة عَن أَبى سعيد
أخبرنَا أَبُو سعيد خَلِيل بن كيكلدى الْحَافِظ سَمَاعا فِيمَا أَحسب فَإِن لم يكن فَهُوَ إجَازَة قَالَ أخبرنَا الْقَاسِم بن المظفر بقراءتى عَلَيْهِ عَن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد وَغَيره أخبرنَا عبد الْحق بن يُوسُف أخبرنَا عمى عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد أخبرنَا مُحَمَّد ابْن عبد الْملك أخبرنَا على بن عمر الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو سعيد الإصطخرى الْحسن بن أَحْمد الْفَقِيه حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نَوْفَل حَدثنَا أَبى حَدثنَا يُونُس بن بكير حَدثنَا ابْن إِسْحَاق عَن الْمنْهَال بن الْجراح عَن حبيب بن نجيح عَن عبَادَة بن نسى عَن معَاذ رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره حِين وَجهه إِلَى الْيمن أَلا يَأْخُذ من الْكسر شَيْئا (إِذا كَانَت الْوَرق مائتى دِرْهَم فَخذ مِنْهَا خَمْسَة دَرَاهِم وَلَا تَأْخُذ مِمَّا زَاد شَيْئا حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ درهما فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ درهما فَخذ مِنْهَا درهما)(3/233)
قَالَ الدارقطنى هَذَا حَدِيث // ضَعِيف // والمنهال بن الْجراح هُوَ الْجراح بن الْمنْهَال كَانَ ابْن إِسْحَاق يقلب اسْمه إِذا روى عَنهُ وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث وَعبادَة بن نسى لم يسمع من معَاذ رضى الله عَنهُ شَيْئا
وَمن الْمسَائِل والفوائد والغرائب عَنهُ
قَالَ ينْتَقض الْوضُوء بِمَسّ الْأَمْرَد
وَقَالَ إِذا ولى الْقَضَاء غير مُجْتَهد وَوَافَقَ حكمه الْحق نفذت تِلْكَ الْحُكُومَة نَقله ابْن عَبْدَانِ فى كتاب شَرَائِط الْأَحْكَام
وَقَالَ إِن للْأُم التَّصَرُّف فى مَال الصبى بعد الْجد مُقَدّمَة على الوصى
وَقيل إِنَّمَا الثَّابِت عَنهُ أَنَّهَا تتصرف بعد الوصى حَكَاهُ ابْن يُونُس عَن بعض الْمُتَأَخِّرين
واشتهر قَوْله إِن للحاضر الرَّاكِب ترك الِاسْتِقْبَال فى النَّافِلَة وَأَنه كَانَ يَفْعَله وَهُوَ على حسبَة بَغْدَاد وَاحْتج بِأَن الْمُقِيم يحْتَاج إِلَى التَّرَدُّد فى حَال إِقَامَته كالمسافر(3/234)
قَالَ الرافعى وعَلى هَذَا فالراكب والراجل سَوَاء وَلَك الْفرق بِمَشَقَّة الِاسْتِقْبَال على الرَّاكِب ثمَّ صُورَة الراجل منقولة حكى فِيهَا القاضى الْحُسَيْن وَجْهَيْن تَفْرِيعا على الرَّاكِب
وَنقل النووى فى شرح الْمُهَذّب عَن الإصطخرى التجويز للراكب والماشى
وَالْمَحْفُوظ عَنهُ إِنَّمَا هُوَ فى الرَّاكِب فَقَط(3/235)
قَالَ القاضى شُرَيْح فى أدب الْقَضَاء إِذا شَهدا عِنْد القاضى بِحَق فَكتب بِهِ القاضى إِلَى قَاض آخر وَأشْهد الشَّاهِدين اللَّذين شَهدا على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِالْكتاب قَالَ الإصطخرى لَا يجوز وَقَالَ غَيره يجوز وَقطع بِهِ العبادى لِأَن الْقبُول فعل القاضى فَقبلت عَلَيْهِ شَهَادَته كَمَا تقبل شَهَادَة الْمُرضعَة لِأَنَّهَا شَهَادَة على وُصُول اللَّبن إِلَى جَوف الصبى(3/236)
قَالَ الزيادى وعَلى هَذَا أدْركْت الْقُضَاة من غير نَكِير من الْعلمَاء وَعَلِيهِ تفقهت وفقهت النَّاس ولولاه مَا جَازَت شَهَادَة أَب وَابْن لأجنبى
قلت وَعَلِيهِ الْعَمَل إِلَى الْيَوْم يشْهد الشَّاهِدَانِ عِنْد حَاكم فَيحكم بِشَهَادَتِهِمَا ويشهدهما على حكمه فيؤديان شَهَادَتهمَا على حكمه عِنْد آخر فَينفذ حكمه بِشَهَادَتِهِمَا
وَقد اقْتصر القاضى أَبُو سعد فى كتاب الإشراف على قَول العبادى وَالشَّيْخ أَبى طَاهِر وَمن كِتَابه أَخذ شُرَيْح مَا نَقله عَنْهُمَا وَزَاد شُرَيْح فَقَالَ ولأصحابنا وَجه فى الحكم بِشَهَادَة أَب وَابْن أَنه لَا يجوز
قَالَ شُرَيْح وَإِذا وصل كتاب الحكم وَشهد الشَّاهِدَانِ على الْكتاب فقد قيل يلْزم الْحَاكِم الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَن ينفذ حكمه وَيَقُول قبلت حكمه وكتابته وأوجبت على الْمَحْكُوم مَا أوجبه الْحَاكِم فى الْكتاب
وعَلى هَذَا لَو شهد شَاهِدَانِ عَدْلَانِ فَهَل يحْتَاج أَولا أَن يَقُول قبلت شَهَادَة هَؤُلَاءِ الشُّهُود بِمَا شهدُوا بِهِ ثمَّ يَقُول وحكمت بِكَذَا على فلَان بِجَمِيعِ مَا أوجبته شَهَادَة الشُّهُود أم يَكْفِيهِ إِن ثبتَتْ عِنْده عَدَالَة الشُّهُود ثمَّ يَقُول حكمت بِكَذَا وَلَا يذكر قبل الحكم أَنه قبل شَهَادَة الشُّهُود وَجْهَان(3/237)
وعَلى هَذَا لَو كتب الْحَاكِم إِلَى حَاكم بِأَنَّهُ شهد عندى عَدْلَانِ لرجل سَمَّاهُ على فلَان وَلم يذكر فى الْكتاب أَنه ثَبت عِنْده بِشَهَادَتِهِمَا وَلم يقل قبلت شَهَادَتهمَا وَإِنَّمَا نقل الشَّهَادَة فَقَط فَهَل يجوز للمكتوب إِلَيْهِ أَن يحكم فِيهِ وَجْهَان
هَذَا كُله كَلَام شُرَيْح فى كِتَابه فى أدب الْقَضَاء وَلم أَجِدهُ بجملته فى غَيره وَفِيه غرائب وفوائد
وسيأتى إِن شَاءَ الله فى تَرْجَمَة شُرَيْح قَول الإصطخرى فِيمَن اسْتَأْجر رجلا أَن يحمل لَهُ كتابا إِلَى آخر ويأتى بجوابه فأوصل الْكتاب وَلم يكْتب الْمَكْتُوب إِلَيْهِ الْجَواب أَن للحامل الْأُجْرَة بكمالها لِأَنَّهُ لَا يلْزمه أَكثر مِمَّا عمل والامتناع من غَيره
قَالَ وَكَذَا لَو مَاتَ الرجل فأوصل الْكتاب إِلَى نَائِبه من وَارِث أَو وصّى أجابوه أم لم يُجِيبُوهُ إِلَى آخر كَلَامه
قلت وهى مَسْأَلَة مليحة غير أَن عندنَا وَقْفَة فى كتاب مراسلة يحملهُ أَمِين مُتَبَرّع مُسْتَأْجر فَلَا يجد الْمَكْتُوب إِلَيْهِ إِمَّا لمَوْته أَو لغير ذَلِك فَهَل لَهُ أَن يوصله إِلَى وَارثه أَو وَصِيّه أَو الْحَاكِم أَو أَهله وَنَحْو ذَلِك لقيامهم مقَامه أَو لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَن الْعَادة قد تقضى بِأَن الْكَاتِب لَا يُعجبهُ وقُوف غير الْمَكْتُوب عَلَيْهِ على مَا كتب وَكَذَلِكَ الْمَكْتُوب إِلَيْهِ
والذى يَقع لى فى هَذَا أَنه إِن غلب على ظَنّه أَن فى الْكتاب مَا يكره الْكَاتِب أَو الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وقُوف غَيرهمَا عَلَيْهِ لم يجز لَهُ أَن يَدْفَعهُ إِلَى من ذَكرْنَاهُ وَدفعه حِينَئِذٍ خِيَانَة تسْقط أجرته بكمالها لَو كَانَ مُسْتَأْجرًا
والبلوى تعم بِمثل هَذَا الْفَرْع فليتنبه لَهُ فَلَقَد حضر شخص بِكِتَاب إِلَى آخر وجده غَائِبا فأوصله إِلَى من ظَنّه يقوم مقَامه لكَونه صاحبا لَهُ فأورث ذَلِك الْكتاب فتْنَة خربَتْ بَيت الْكَاتِب والمكتوب إِلَيْهِ فَلَا ينبغى أَن يُوصل كتاب مراسلة إِلَى من يجوز الْعقل كَرَاهِيَة الْكَاتِب أَو الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وقُوف غَيرهمَا عَلَيْهِ بل ينبغى أَن يكون تَحْرِيم ذَلِك مغلظا(3/238)
وَلَقَد كتب عَم والدى القاضى صدر الدّين يحيى وَهُوَ على قَضَاء بلبيس كتابا إِلَى قاضى الْقُضَاة تقى الدّين ابْن بنت الْأَعَز عِنْدَمَا عزل وَولى قاضى الْقُضَاة بدر الدّين ابْن جمَاعَة يسْأَل عَن خاطره وَفَاء بِحقِّهِ عَلَيْهِ فَاشْتَبَهَ الْأَمر على الرَّسُول وأوصل الْكتاب إِلَى ابْن جمَاعَة فَكَانَ ذَلِك سَبَب عزل عَم الْوَالِد فى فتْنَة طَوِيلَة لم يكن منشؤها غير اتِّصَال الْكتاب إِلَى من ظن أَنه لَهُ
وَكتب آخر كتابا إِلَى قاضى الْقُضَاة جلال الدّين فجَاء الرَّسُول فصادفه عزل من مصر وسافر إِلَى الشَّام فأوصل الْكتاب إِلَى قاضى الْقُضَاة إِذْ ذَاك عز الدّين بن جمَاعَة رَحمَه الله فَأوجب عزل الْكَاتِب وسقوطه من عين قاضى الْقُضَاة عز الدّين ونقصان حَظه مِنْهُ إِلَى أَن مَاتَا جَمِيعًا رحمهمَا الله
فَلَا ينبغى أَن يكون الرَّسُول إِلَّا حكيما ثمَّ يوصى مَعَ كَونه حكيما وَالْوَاو فى قَوْلهم أرسل حكيما وَلَا توصه للْحَال فَافْهَم مَا نشِير إِلَيْهِ
مَسْأَلَة صفة تَوْبَة الْقَاذِف
حمل أَبُو سعيد الإصطخرى على ظَاهر نَص الشافعى رضى الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ فى تَوْبَة الْقَاذِف وَالتَّوْبَة إكذابه نَفسه فَفعل فِيهِ نَظِير مَا فعله الظَّاهِرِيَّة فى قَوْله تَعَالَى فى الْمظَاهر {ثمَّ يعودون لما قَالُوا} فَقَالُوا الْعود بِاللِّسَانِ كَذَلِك قَالَ الإصطخرى إِن كَلَام الشافعى على ظَاهره وَإنَّهُ لَا تصح تَوْبَة الْقَاذِف حَتَّى يَقُول وإنى كَاذِب فى قذفى لَهُ بِالزِّنَا
نَقله الْأَصْحَاب على طبقاتهم مِنْهُم صَاحب الحاوى فى كتاب الشَّهَادَات وَذكر(3/239)
أَن أَبَا إِسْحَاق المروزى وَابْن أَبى هُرَيْرَة خالفاه وَقَالا إكذاب نَفسه أَن يَقُول قذفى لَهُ بِالزِّنَا كَانَ بَاطِلا وَلَا يَقُول كنت كَاذِبًا فى قذفى لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فَيصير عَاصِيا بكذبه كَمَا كَانَ عَاصِيا بقذفه
وَقد عبر الرافعى رَحمَه الله عَن هَذَا فى كتاب الشَّهَادَات فى كَلَامه على التَّوْبَة بِأَن قَالَ لابد من التَّوْبَة عَن الْقَذْف بالْقَوْل قَالَ الشافعى فى الْمُخْتَصر وَالتَّوْبَة إكذابه نَفسه فَأخذ الإصطخرى بِظَاهِرِهِ وَشرط أَن يَقُول كذبت فِيمَا قَذَفته وَلَا أَعُود إِلَى مثله وَقَالَ الْجُمْهُور لَا يُكَلف أَن يَقُول كذبت فَرُبمَا كَانَ صَادِقا فَكيف نأمره بِالْكَذِبِ وَلَكِن يَقُول الْقَذْف بَاطِل وإنى نادم على مَا فعلت وَلَا أَعُود إِلَيْهِ أَو يَقُول مَا كنت محقا فى قذفى وَقد تبت مِنْهُ وَمَا أشبه ذَلِك
هَذَا كَلَام الرافعى وَفِيه كلامان
أَحدهمَا أَنه نقل عَن الإصطخرى أَن يشْتَرط أَن يَقُول وَلَا أَعُود إِلَى مثله وَهَذَا لَا يعرف عَنهُ وَلَا هُوَ بمتفق عَلَيْهِ إِنَّمَا الذى قَالَه الإصطخرى اشْتِرَاط قَوْله كذبت وَخَالفهُ الْجُمْهُور ثمَّ هَل يحْتَاج أَن يَقُول فى التَّوْبَة وَلَا أَعُود إِلَى مثله فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا لَا يحْتَاج لِأَن الْعَزْم على ترك مثله يغنى عَنهُ والثانى لابد أَن يَقُول لَا أَعُود إِلَى مثله لِأَن القَوْل فى هَذِه التَّوْبَة مُعْتَبر والعزم لَيْسَ بقول هَكَذَا حكى أَصْحَابنَا مِنْهُم صَاحب الحاوى وَغَيره وَلَعَلَّ الْوَجْهَيْنِ مفرعان على اشْتِرَاط مَا يَقُوله الإصطخرى أَو مطلقان فَيشْتَرط أَن يَقُول وَلَا أَعُود إِلَى مثله وَإِن لم يشْتَرط أَن يَقُول كذبت كل هَذَا مُحْتَمل وَبِالْجُمْلَةِ لَيست مَسْأَلَة الإصطخرى مَسْأَلَة لَا أَعُود إِلَى مثله بل تِلْكَ مَسْأَلَة مُسْتَقلَّة إِمَّا من تفاريع قَوْله وَإِمَّا مُطلقَة وَلَعَلَّه الْأَظْهر
والثانى لَوْلَا شَيْء وَاحِد لَكَانَ مَا ذكره الإصطخرى عِنْدِي راجحا أما وَجه رجحانه فَلِأَنَّهُ ظَاهر النَّص ورده بِأَنَّهُ قد يكون صَادِقا فَكيف يَأْمُرهُ بِالْكَذِبِ(3/240)
جَوَابه أَنه وَلَو كَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ إِلَّا أَن الشَّرْع كذبه فَهُوَ كَاذِب عِنْد الله سَوَاء طابق مَا فى نفس الْأَمر أم لَا
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام غير مرّة يَقُول فى قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} هَذَا كذب شرعى لَا يُطلق فِيهِ عدم مُطَابقَة مَا فى نفس الْأَمر
لَكِن صدنى عَن الْأَخْذ بِظَاهِر النَّص أَن الشافعى رضى الله عَنهُ ذكر فى أَثْنَائِهِ مَا يعرف بِهِ أَنه لَيْسَ مُرَاده لفظ الْكَذِب لِأَنَّهُ رضى الله عَنهُ قَالَ فى الْمُخْتَصر وَالتَّوْبَة إكذابه نَفسه لِأَنَّهُ أذْنب بِأَن نطق بِالْقَذْفِ وَالتَّوْبَة مِنْهُ أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل انْتهى قَالَ الرويانى وفى نُسْخَة أُخْرَى وَالتَّوْبَة أكذابه نَفسه بِأَنَّهُ بِأَن نطق بِالْقَذْفِ
قَالَ وهما متقاربان فى الْمَعْنى
قلت الْمَعْنى على النُّسْخَة الأولى إكذابه نَفسه فَقَط وعَلى الثَّانِيَة إكذابه نَفسه بِأَن نطقت بِالْقَذْفِ فَفِيهَا تأييد لقَوْل أَبى إِسْحَاق كَمَا ستعرفه فَإِنَّهُ يَقُول الْكَذِب فى أَنه قذف لَا فى أَن الْمَقْذُوف زنا وفى هَذِه النُّسْخَة دلَالَة على تَأْوِيل لإِمَام الْحَرَمَيْنِ سنحكيه عَنهُ فلولا قَوْله التَّوْبَة مِنْهُ أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل لرجحت رأى الإصطخرى لَكِن هَذَا اللَّفْظ يقتضى الِاكْتِفَاء بِهَذِهِ الصِّيغَة وَمن ثمَّ أَقُول مَا وَقع فى الرافعى وَالْمُحَرر والمنهاج من أَنه يشْتَرط أَن يَقُول قذفى بَاطِل وَأَنا نادم عَلَيْهِ وَلَا أَعُود إِلَيْهِ انْتهى لست أقبل مِنْهُ إِلَّا قَوْله قذفى بَاطِل أما مَا زَاد عَلَيْهِ فزيادات لَيست فى النَّص وَلَا يدل لَهَا دَلِيل نعم لابد من النَّدَم وعزم أَلا يعود بِكُل تَوْبَة أما التَّلَفُّظ بهما فَمن أَيْن لَا دَلِيل يدل عَلَيْهِ وَلَا نَص يرشد إِلَيْهِ(3/241)
وَقد يَقع فى الذِّهْن أَنه لم يقْصد بهما حقيقتهما بل الْمَقْصُود لفظ يدل على إبِْطَال الْقَذْف وَيجْبر مَا كَانَ من فحشه من غير اخْتِصَاص بِهَذِهِ الصِّيَغ وَلذَلِك قَالَ الرافعى وَمَا أشبه ذَلِك فَلَا يكون ذكر هَذِه الْأَلْفَاظ لتعينها فى نَفسهَا وَلَا للتعبد بصيغها بل الْمَقْصُود لفظ يقوم مقَام لفظ حصل الْأَذَى بِهِ فَكَمَا أَذَى وَقذف بِلِسَانِهِ كَذَلِك يجْبر مَا كَانَ مِنْهُ بِلِسَانِهِ لينوب قَول عَن قَول ثمَّ ضرب الشافعى لذَلِك مثلا قَوْله الْقَذْف بَاطِل وَهُوَ صَحِيح أما إنى نادم فَلفظ غير معِين وَقل من ذكره وَأما لَا أَعُود فَفِيهِ مَا عرفت من الْوَجْهَيْنِ
وَهَذَا مَا حضرنى الْآن من كَلَام الْأَصْحَاب قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد شيخ الْعِرَاقِيّين فى تَعْلِيقه مَا نَصه وَإِن كَانَ قذفا فإمَّا أَن يكون قَاذِفا من طَرِيق السب والشتم أَو كَانَ قَاذِفا من طَرِيق الشَّهَادَة فَإِن كَانَ قَاذِفا من طَرِيق السب والشتم فَإِن الشافعى قَالَ تَوْبَته إكذابه نَفسه وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو سعيد الإصطخرى يَقُول كذبت فِيمَا قلت أَو أبطلت فِيمَا أخْبرت قَالَ لِأَنَّهُ إِذا أكذب نَفسه فِيمَا قَذفهَا بِهِ فقد تَابَ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق وَعَامة أَصْحَابنَا يَقُول فى تَوْبَته الْقَذْف بَاطِل حرَام وَلَا أَعُود إِلَى مثله أبدا لِأَنَّهُ قد استباح هَذَا القَوْل لما قَذفهَا وتوبته أَن يأتى بضد الاستباحة وَهُوَ التَّحْرِيم والإبطال بِأَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فى الْقَذْف بَاطِنا فَإِذا قَالَ كذبت وَهُوَ كَانَ صَادِقا فِيهِ فقد عصى فَإِن قيل مَا الْفرق بَين الْقَاذِف وَالْمُرْتَدّ حَتَّى قُلْتُمْ الْقَاذِف يُطَالب بِأَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل حرَام وَالْمُرْتَدّ لَا يُطَالب بِأَن يَقُول الْكفْر بَاطِل حرَام(3/242)
فَالْجَوَاب عَنهُ أَنه لَا فرق بَينهمَا فى الْمَعْنى وَذَلِكَ أَن الْقَاذِف مَرْدُود الشَّهَادَة لاستباحة الْقَذْف وَلَا يكون من أهل الشَّهَادَة إِلَّا بإتيانه بضده وضده أَن يحرم الْقَذْف وَالْمُرْتَدّ مَرْدُود الشَّهَادَة لكفره وَلَا يعود إِلَى حَال الشَّهَادَة إِلَّا أَن يأتى بضد الْكفْر وضده أَن يأتى بِلَفْظَة الْإِيمَان انْتهى
وَفِيه فَوَائِد
مِنْهَا أَن أَبَا سعيد لَا يعين لفظ الْكَذِب بل يَقُول كذبت أَو أبطلت فِيمَا أخْبرت وهى فَائِدَة لم أجد التَّصْرِيح بهَا فى كَلَام الشَّيْخ أَبى حَامِد
وَمِنْهَا أَن الْكَلَام مَخْصُوص بِقَذْف السب والإيذاء وَهُوَ الصَّوَاب وسنتكلم عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو الْحسن الجورى فى كتاب المرشد وَاخْتلف أَصْحَابنَا فى تَوْبَة الْقَاذِف فَقَالَ بَعضهم هى قَوْله الْقَذْف بَاطِل وَلَا يَقُول إنى كَاذِب لِأَنَّهُ إِذا قَالَ هَذَا فَهُوَ فَاسق بِهِ السَّاعَة لكذبه
وَقَالَ بَعضهم لَا فصل بَين قَوْله الْقَذْف بَاطِل وَبَين قَوْله كذبت وَقد قَالَ الشافعى التَّوْبَة إكذابه نَفسه انْتهى
وَفِيه دلَالَة على أَن أَبَا سعيد إِن كَانَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله وَقَالَ بَعضهم لَا يعين لفظ الْكَذِب بل يُخَيّر بَينه وَبَين الْقَذْف بَاطِل وَغَيره يعين لفظ الْقَذْف بَاطِل وَلَا يُخَيّر لفظ الْكَذِب
وَيخرج من هَذَا إِن خرج على ظَاهره ثَلَاثَة أوجه تعْيين لفظ الْكَذِب وَتَعْيِين عَدمه وتفريع كل مِنْهُمَا
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب فى تعليقته فى كَلَامه على قَول الشافعى وَالتَّوْبَة إكذابه نَفسه مَا نَصه ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَن التَّوْبَة قَوْله الْقَذْف بَاطِل وَاخْتلف(3/243)
أَصْحَابنَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو سعيد الإصطخرى تَوْبَته أَن يكذب نَفسه فَيَقُول كذبت فى هَذَا الْقَذْف لِأَن الشافعى قَالَ إكذابه نَفسه
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق التَّوْبَة أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل فِي جَمِيع الْأَحْوَال كَانَ صَادِقا فِيهِ أَو كَاذِبًا لِأَنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يقذف أحدا وَإِن كَانَ صَادِقا فى قذفه إِيَّاه لِأَن الله عز وَجل نهى عَن ذَلِك على الْإِطْلَاق وَهُوَ الصَّحِيح
وأبى أَصْحَابنَا مَا قَالَه أَبُو سعيد وَقَالُوا هَذَا يُؤدى إِلَى أَن يكلفه الْكَذِب لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ صَادِقا فى الْقَذْف فَإِذا كلفناه أَن يَقُول كذبت فى الْقَذْف كَانَ كَاذِبًا لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ صَادِقا فى قذفه وَإِذا قَالَ الْقَذْف بَاطِل لم يكذب لِأَنَّهُ بَاطِل سَوَاء كَانَ صَادِقا فِيهِ أم كَاذِبًا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقذف أحدا بِحَال انْتهى
وَقَالَ القاضى الْحُسَيْن تَوْبَة الْقَاذِف أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل أَو مَا كَانَ ينبغى لى أَن أقذف أَو لم أكن محقا فِيمَا قلت وَلَا يُكَلف أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت لاحْتِمَال أَن الْمَقْذُوف قد زنا وَأَنه صدق فِيمَا نسبه إِلَيْهِ غير أَن الْمُسلم مَأْمُور بِحِفْظ السّتْر على أَخِيه الْمُسلم فَلهَذَا صَار مؤاخذا بِالْقَذْفِ وَمعنى قَول الشافعى التَّوْبَة إكذابه نَفسه أى يكذب نَفسه فِيمَا أخبر وَيَقُول مَا كنت محقا فى ذَلِك الْخَبَر لِأَنَّهُ يتخيل للسامع من قَوْله أَنه صَادِق فَيقطع ذَلِك التَّوَهُّم بِالتَّوْبَةِ فَلهَذَا سَمَّاهُ إكذابا
وَقَالَ الإصطخرى تَوْبَته أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت لظَاهِر لفظ الشافعى إكذابه نَفسه
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق يَقُول قذفى حرَام بَاطِل
وَقَالَ الْقفال الْقَذْف بَاطِل مَا كَانَ ينبغى لى أَن أقذفه انْتهى(3/244)
فَانْظُر كَيفَ ختم كَلَامه بقوله وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق وَقَالَ الْقفال وَذكر صيغتين عِنْده أَن فى كل مِنْهُمَا كِفَايَة وَلذَلِك خير فى أول كَلَامه بَين كل مِنْهُمَا وَزَاد أَو لم أكن محقا فَدلَّ أَن المُرَاد أحد هَذِه الْأَلْفَاظ أَو مَا يشبهها وَأَنه لَيْسَ الْمَقْصُود وَاحِدًا بِعَيْنِه وَلَا أَظن أَصْحَابنَا يَخْتَلِفُونَ فى ذَلِك وَلَا يعينون لفظ إنى نادم كَمَا أوهته عبارَة الرافعى وَمن يتبعهُ وَلَيْسَ مَوضِع اخْتلَافهمْ إِلَّا شَيْئَانِ أَحدهمَا لفظ الْكَذِب قَالَه أَبُو سعيد وَلَا يصدنى عَنهُ إِلَّا قَول الشافعى وَالتَّوْبَة قَوْله الْقَذْف بَاطِل
والثانى لفظ لَا أَعُود لتصريح الماوردى فِيهِ بحكاية الْوَجْهَيْنِ
أما لفظ إنى نادم فَلَا أعرفهُ وَلَا وَجه لَهُ
وَقَالَ الماوردى رَحمَه الله أما الْقَذْف بِالزِّنَا فَلَا يكون بعد النَّدَم والعزم إِلَّا بالْقَوْل لِأَنَّهُ مَعْصِيّة بالْقَوْل كالردة فَيعْتَبر فى صِحَة تَوْبَته ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا النَّدَم على قذفه والثانى الْعَزْم على ترك مثله وَالثَّالِث إكذاب نَفسه على مَا قَالَه الشافعى فَاخْتلف أَصْحَابنَا فى تَأْوِيله على وَجْهَيْن
أَحدهمَا وَهُوَ قَول أَبى سعيد الإصطخرى أَنه مَحْمُول على ظَاهره وَهُوَ أَن يَقُول وإنى كَاذِب فى قذفى لَهُ بِالزِّنَا وَقد روى عمر أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (تَوْبَة الْقَاذِف إكذابه نَفسه)
وَالْوَجْه الثانى هُوَ قَول أَبى إِسْحَاق المروزى وأبى على بن أَبى هُرَيْرَة أَن إكذاب نَفسه أَن يَقُول قذفى لَهُ بِالزِّنَا كَانَ بَاطِلا وَلَا يَقُول كنت كَاذِبًا فى قذفى لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فَيصير عَاصِيا بكذبه كَمَا كَانَ عَاصِيا بقذفه(3/245)
وَهل يحْتَاج أَن يَقُول فى التَّوْبَة وَلَا أَعُود إِلَى مثله أَولا فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ لِأَن الْعَزْم على ترك مثله يغنى عَنهُ
وَالْوَجْه الثانى لابد أَن يَقُول لَا أَعُود إِلَى مثله لِأَن القَوْل فى هَذِه التَّوْبَة مُعْتَبر والعزم لَيْسَ بقول انْتهى
وَهُوَ كالنص على أَن لفظ النَّدَم لَا يشْتَرط إِنَّمَا الْمُشْتَرط مَعْنَاهُ
وَقَالَ الفورانى فى الْعمد اخْتلف أَصْحَابنَا فى التَّوْبَة مِنْهُم من قَالَ هُوَ أَن يكذب نَفسه فَيَقُول كذبت فِيمَا قلت وَمِنْهُم من قَالَ وَهُوَ الْأَصَح هَذَا لَا يكون تَوْبَة لاحتما صدقه فى الْقَذْف لَكِن التَّوْبَة أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل أى قذف النَّاس بَاطِل وَمَا كَانَ لى أَن أقذف ووَقد رجعت عَمَّا قلت وتبت عَنهُ فَلَا أَعُود إِلَيْهِ
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فى الْمُهَذّب قبل بَاب عدد الشُّهُود فى التَّوْبَة من الْمعْصِيَة مَا نَصه وَإِن كَانَ قذفا فقد قَالَ الشافعى رضى الله عَنهُ التَّوْبَة مِنْهُ إكذابه نَفسه
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو سعيد الإصطخرى هُوَ أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت وَلَا أَعُود إِلَى مثله وَوَجهه مَا روى عَن عمر رضى الله عَنهُ أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (تَوْبَة الْقَاذِف إكذابه نَفسه)
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق أَبُو على ابْن أَبى هُرَيْرَة هُوَ أَن يَقُول قذفى لَهُ كَانَ بَاطِلا وَلَا يَقُول إنى كنت كَاذِبًا لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فَيصير بكذبه عَاصِيا كَمَا كَانَ بقذفه عَاصِيا انْتهى
وَفِيه مُوَافقَة الرافعى على نَقله عَن أَبى سعيد أَنه يَقُول وَلَا أَعُود إِلَى مثله لكنه قصر هَذِه اللَّفْظَة على مقَالَة أَبى سعيد وَلم يذكرهَا على مقَالَة أَبى إِسْحَاق وأبى على(3/246)
وَقَالَ ابْن الصّباغ الْمَذْهَب مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاق وَهُوَ أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل حرَام وَلَا أَعُود إِلَى مَا قلت
وَقَالَ الإصطخرى يَقُول كذبت فِيمَا قلت انْتهى
وَهُوَ فى لَفظه وَلَا أَعُود إِلَى مَا قلت عكس الْمُهَذّب فَإِنَّهُ جعلهَا على قَول أَبى إِسْحَاق فَإِذا أجمع الْمُهَذّب والشامل كَانَ فيهمَا تأييد لنقل الرافعى فَكَأَنَّهُ أَخذ من مجموعها أَنه لابد أَن يَقُول وَلَا أَعُود لِأَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق نقلهَا على قَول أَبى سعيد وَابْن الصّباغ نقلهَا على قَول أَبى إِسْحَاق فَكَانَت على الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وعَلى ذَلِك جرى صَاحب التَّهْذِيب كَمَا ستراه فَاتبعهُ الرافعى
وَقَالَ الإِمَام رضى الله عَنهُ فى النِّهَايَة قَالَ الشافعى رضى الله عَنهُ تَوْبَة الْقَاذِف بإكذابه نَفسه وَهَذَا لفظ فى ظَاهره إِشْكَال وفى بَيَان الْمَذْهَب يحصل الْغَرَض فالذى ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب أَن الْقَاذِف لَا يُكَلف أَن يكذب نَفسه إِذْ رُبمَا يكون صَادِقا فى نسبته الْمَقْذُوف إِلَى الزِّنَا فَلَو كلفناه أَن يكذب نَفسه لَكَانَ ذَلِك تكليفا منا إِيَّاه أَن يكذب وَهَذَا محَال فَالْوَجْه أَن يَقُول أَسَأْت فِيمَا قلت وَمَا كنت محقا وَقد تبت عَن الرُّجُوع إِلَى مثله أبدا وَلَا يُصَرح بتكذيب نَفسه إِلَّا أَن يعلم أَنه كَانَ كَاذِبًا وَهَذَا يبعد علمه وَهَؤُلَاء حملُوا قَول الشافعى على مَا سنصفه فَقَالُوا الْقَاذِف فى الْغَالِب يصف وَيرى من نَفسه أَنه قَالَ حَقًا وَأظْهر مَاله إِظْهَاره فَيرجع مَا ذكره الشافعى من الإكذاب إِلَى هَذَا فَيَقُول قد كنت قلت لى أَن أَقُول مَا قلته وَقد كذبت وأبطلت فِيمَا قدمت
وَقَالَ الإصطخرى لابد أَن يكذب نَفسه وَإِن كَانَ صَادِقا فَإِنَّهُ عز من قَائِل قَالَ {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} فَهَذَا لقب أثْبته الشَّرْع فيكذب الْقَاذِف على هَذَا التَّأْوِيل نَفسه فَإِن الشَّرْع سَمَّاهُ كَاذِبًا(3/247)
وَهَذَا بعيد لَا أصل لَهُ وَهَذِه الْآيَة مَعَ آى أخر وَردت فى قصَّة الْإِفْك وتبرئة عَائِشَة رضى الله عَنْهَا وَكَانَت مبرأة عَمَّا قَذفهَا بِهِ المُنَافِقُونَ انْتهى
وَلَا مزِيد على حسنه فَللَّه دره من خطيب مصقع مناضل عَن الشَّرِيعَة بِقَلْبِه وَلسَانه
وَمن هُنَا وَالله أعلم أَخذ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله مَا كَانَ يَقُوله لنا من أَن الْقَاذِف كَاذِب عِنْد الله لقد لقبه الشَّرْع ووسمه بسيمة الْكَذِب وَإِن كَانَ الْأَمر على مَا وصف من اقتراف الْمَقْذُوف مَعْصِيّة الزِّنَا وفى كَلَام الإِمَام مَا يُؤْخَذ مِنْهُ تَفْصِيل بَين أَن يعلم من نَفسه الصدْق أَولا وسيكون لى عَلَيْهِ كَلَام يدل على ميل منى إِلَيْهِ
وَقَالَ الغزالى رَحمَه الله فى الْوَسِيط أما الْقَاذِف فتوبته فى إكذابه نَفسه كَذَلِك قَالَ الشافعى وَهُوَ مُشكل لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ صَادِقا وَالْمعْنَى بِهِ تَكْذِيبه نَفسه فى قَوْله أَنا محق فى الْإِظْهَار والمجاهرة دون الْحجَّة فيكفى أَن يَقُول تبت وَلَا أَعُود انْتهى وَقد لخصه من كَلَام الإِمَام
وَلقَائِل أَن يَقُول إِذا كَانَ الْمَعْنى بإكذابه نَفسه كذبه فى قَوْله أَنا محق فى الْإِظْهَار والمجاهرة فَلَا مَانع من أَن يَقُول كذبت وَلَا عَابَ فِيهِ أَيْضا وَلم يكلفه يكذب فَلم لَا يَقُول ذَلِك ويجرى على ظَاهر النَّص
وَقَالَ صَاحب التَّهْذِيب قَالَ الشافعى رضى الله عَنهُ التَّوْبَة إكذابه نَفسه فَاخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ فَقَالَ الإصطخرى يَقُول كذبت فِيمَا قلت وَلَا أَعُود إِلَى مثله
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق لَا يَقُول كذبت لِأَنَّهُ رُبمَا يكون صَادِقا بل يَقُول الْقَذْف بَاطِل نَدِمت على مَا قلت رجعت عَنهُ فَلَا أَعُود إِلَيْهِ انْتهى
وَمِنْه أَخذ الرافعى لفظ النَّدَم وَأَن لَا أَعُود مقولة على الْوَجْهَيْنِ وَجه أَبى سعيد وَوجه أَبى إِسْحَاق(3/248)
وَقَالَ صَاحب الْبَحْر قَالَ أَبُو إِسْحَاق لَيْسَ معنى قَول الشافعى أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت بل مَعْنَاهُ أَن يكذب نَفسه فى اسْتِبَاحَة الْقَذْف فَيَقُول الْقَذْف بَاطِل وإنى لَا أَعُود إِلَيْهِ وَأَنا نادم عَلَيْهِ أَو يَقُول قذفى لَهُ بِالزِّنَا كَانَ كَاذِبًا وَلَا يَقُول كنت كَاذِبًا لجَوَاز أَن يكون صَادِقا وَبِه قَالَ ابْن أَبى هُرَيْرَة
فَإِن قيل فقد تقبل تَوْبَة الْمُرْتَد وَإِن لم يقل الْكفْر بَاطِل فَلم شرطتم هَا هُنَا أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل
قُلْنَا لَا يقبل وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يأتى بِمَا يضاد الأول والتوحيد يضاد الْكفْر فَاكْتفى بِهِ وَلَيْسَ مَا يضاد الْقَذْف إِلَّا أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل فَافْتَرقَا
وَقَالَ الإصطخرى وَبِه قَالَ أَحْمد رضى الله عَنهُ تَوْبَة الْقَاذِف أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت وإننى كَاذِب فى قذفى لَهُ بِالزِّنَا وَهَذَا ظَاهر قَول الشافعى رضى الله عَنهُ وَالتَّوْبَة إكذابه نَفسه وَقد روى عَن عمر رضى الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَوْبَة الْقَاذِف إكذابه نَفسه
قَالَ أَصْحَابنَا مَا قَالَه أَبُو إِسْحَاق أصح وَهُوَ الْمَذْهَب انْتهى
وَقَالَ القاضى مجلى فى الذَّخَائِر وَإِن كَانَت الْمعْصِيَة قذفا فقد قَالَ الشافعى التَّوْبَة مِنْهَا إكذابه نَفسه وَاخْتلف أَصْحَابنَا فى ذَلِك فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق وَأَبُو على ابْن أَبى هُرَيْرَة وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب هُوَ أَن يَقُول الْقَذْف بَاطِل حرَام وَلَا أَعُود إِلَى مَا قلت
وَقَالَ أَبُو سعيد الإصطخرى هُوَ أَن يَقُول كذبت فِيمَا قلت وَلَا أَعُود إِلَى مثله وَتعلق بِظَاهِر كَلَام الشافعى رَحمَه الله وَبِه قَالَ أَحْمد لما روى عَن عمر رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ تَوْبَة الْقَاذِف إكذابه نَفسه(3/249)
قَالَ الْأَولونَ وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون صَادِقا فى الْقَذْف فَيصير بكذبه عَاصِيا كَمَا كَانَ بقذفه عَاصِيا
وَقَالَ بَعضهم هُوَ أَن يَقُول مَا كنت محقا فى الْقَذْف وَلَا أَعُود إِلَيْهِ وَكَلَام الشافعى رَحمَه الله مَحْمُول على تَكْذِيب نَفسه فى قَوْله أَنا محق فى إِظْهَاره والمجاهرة بِغَيْر حجَّة انْتهى
وَقَوله الْقَذْف بَاطِل حرَام ذكره لفظ حرَام مَعَ بَاطِل تبع فِيهِ من قدمنَا ذكره إِيَّاهَا وهى لَفْظَة مَحْمُولَة على التَّوَسُّع فى الْعبارَة وَإِلَّا فَكل قذف خرج مخرج الشتم فَهُوَ حرَام وَإِن خرج مخرج الشَّهَادَة وَلم يتم الْعدَد وَقد كَانَ يحسبه تمّ فَلَيْسَ بِحرَام فَمَا للفظة موقع
فَإِن قلت مَا الذى اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْيكُمْ فى صِيغَة تَوْبَة الْقَاذِف أيترجح عنْدك قَول أَبى سعيد أم قَول الْجُمْهُور
قلت إِن كَانَ الْقَاذِف يعلم أَنه كَاذِب فالأرجح عندى قَول أَبى سعيد لِأَن مدَار التَّوْبَة على نَحْو مَا مضى مَا أمكن وتدارك مَا يُمكن تَدَارُكه وَلَا يتدارك ثلبه عرض أَخِيه ونيله مِنْهُ إِلَّا بذلك فَهُوَ نَظِير وَفَاء الدّين ورد الظلامة وَلَا يغنى عَن لفظ الْكَذِب لفظ ممجمج لَيْسَ بِصَرِيح فى مَعْنَاهُ بل من نَالَ من أَخِيه قذفا وَهُوَ يعلم أَنه برِئ فتوبته بِأَن يبين للنَّاس أَنه برِئ وَلَا يبين ذَلِك إِلَّا بتسجيله على نَفسه بِصَرِيح الْكَذِب والبهت وَإِن علم أَنه صَادِق أَو شكّ فَالْمَسْأَلَة مُحْتَملَة يحْتَمل أَن يَكْفِيهِ قذفى بَاطِل كَمَا قَالَه الْجُمْهُور وَيدل لَهُ نَص الشافعى دلَالَة وَاضِحَة على رِوَايَة من روى فى لفظ النَّص بِأَنَّهُ أذْنب بِأَن نطق بِالْقَذْفِ إِلَى آخِره فَكَأَن الشافعى رَحمَه الله فسر إكذابه نَفسه بِهَذَا وَيحْتَمل أَن يشْتَرط لفظ الْكَذِب ليجبر مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا ذَكرُوهُ من أَنه قد يكون صَادِقا قد قدمنَا جَوَابه وَهُوَ أَن الصدْق هُنَا لَيْسَ مُطَابقَة مَا فى نفس الْأَمر بل كل قَاذف(3/250)
إِذا لم يتم الْعدَد فَهُوَ كَاذِب لقب لقبه الرب عز من قَائِل بِهِ ووسمه سمة لَا تزايله إِلَّا بِمَا ذَكرْنَاهُ وَهَذَا فِيمَن أخرج قذفه مخرج الشتم والسب أما من أخرجه مخرج الشَّهَادَة وَلم يتم الْعدَد وَقُلْنَا بِوُجُوب الْحَد عَلَيْهِ فَلَا يظْهر لى أَن يَقُول ذَلِك وَلَا أَن الإصطخرى يُوجب عَلَيْهِ هَذَا القَوْل وَإِنَّمَا يُوجب أَبُو سعيد لفظ التَّكْذِيب على من أخرجه مخرج السب والإيذاء هَذَا مَا يدل عَلَيْهِ نقل الماوردى فى الحاوى صَرِيحًا وَغَيره تَلْوِيحًا وَإِن كَانَ كَلَام الرافعى وَمن تبعه مُطلقًا فَصَارَت الصُّور عندى ثَلَاثًا
قَاذف يعلم كذبه فالراجح قَول أَبى سعيد
وقاذف لَا يعلم كذبه وَلكنه أخرج قذفه مخرج الشتم والإيذاء فَفِيهِ تردد نظر
وقاذف يظنّ أَو يعلم صدق نَفسه وَمَا أخرج قذفه إِلَّا مخرج الشَّهَادَة غير أَنه حد لنُقْصَان الْعدَد فالراجح فِيهِ قَول الْجُمْهُور بل لَا أعتقد فِيهِ خلافًا وَلَا أحفظ عَن الإصطخرى فِيهِ مُخَالفَة بل صَرِيح كَلَام الماوردى يدل على أَنه لَا يُخَالف فِيهِ بل لَو قَالَ هَذَا وَالْحَالة هَذِه كذبت لم تقبل شَهَادَته فى الْحَال أما إِذا قَالَ الْقَذْف بَاطِل فَإِن شَهَادَته تقبل فى الْحَال إِذا كَانَ عدلا لقَوْل عمر رضى الله عَنهُ لأبى بكرَة تب أقبل شهادتك فَكيف نلجئه أَن يَقُول كذبت وهى لَفْظَة توجب الحكم برد شَهَادَته فِيمَا يسْتَأْنف فَإِن قلت من أَيْن لَك أَنه إِذا قَالَ كذبت ترد شَهَادَته فِيمَا يسْتَأْنف وَإِن كَانَ قذفه إِنَّمَا كَانَ على وَجه الشَّهَادَة والذى قَالَه الرافعى وَمن تبعه فى الْعدْل يقذف على صُورَة الشَّهَادَة ثمَّ يَتُوب أَنه لَا يشْتَرط الِاسْتِبْرَاء على الْمَذْهَب وَإِن كَانَ قذف سبّ إو إِيذَاء(3/251)
اشْترط على الْمَذْهَب وَلم يفضلوا فى قذف الشَّهَادَة بَين أَن تكون التَّوْبَة مِنْهُ بِلَفْظ كذبت أَو غَيره قلت هُوَ مُطلق يُقيد بِمَا إِذا لم يكن بِلَفْظ كذبت إِذْ هُوَ حِين يَقُول كذبت معترف بِفِسْقِهِ وإقدامه على شَهَادَة الزُّور فى هَذَا الْأَمر الخطير إِلَّا أَن يعْنى ب كذبت أَنى ملقب من الشَّارِع بلقب الْكَذِب كَمَا قدمْنَاهُ فَإِن هُوَ عَنى ذَلِك فَلَا كَلَام وَإِلَّا فقد اعْترف بِشَهَادَة الزُّور فَهَذَا هُوَ الذى يظْهر ثمَّ هُوَ المسطور بل لم يَجعله الإِمَام مَحل خلاف إِذْ قَالَ فى النِّهَايَة
وَالْوَجْه عندنَا أَن يَقُول إِذا صرح بتكذيب نَفسه فَهَذَا يخرج عَن التفاصيل وترديد الْأَقْوَال وَيقطع فِيهِ بالاستبراء
وَقَالَ صَاحب الْبَحْر فى الْقَاذِف إِذا كَانَ عدلا لَكِن لم يتم الْعدَد إِن أَصْحَابنَا قَالُوا إِن هَذَا إِذا قَالَ الْقَذْف بَاطِل وَأَنا لَا أَعُود قبلت شَهَادَته فى الْحَال إِلَى أَن قَالَ والذى قَالَ لاستبراء حَاله أَرَادَ إِذا لم يطلّ الزَّمَان أَو أَرَادَ إِن أكذب نَفسه فى الْقَذْف إِلَى أَن قَالَ وَإِن لم يكذب نَفسه وَأظْهر الندامة على قَوْله وَكَانَ عدلا من قبل لَا يحْتَاج إِلَى زمن الِاسْتِبْرَاء انْتهى مُلَخصا
وَإِذا تَأَمَّلت مَا سطرته لَك فى هَذِه الْجُمْلَة حصلت مِنْهُ على فَوَائِد
إِحْدَاهَا أَن لفظ كذبت لَا يشْتَرط عِنْد أَبى سعيد إِلَّا فى قذف السب والإيذاء دون الْمخْرج مخرج الشَّهَادَة على مَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام كثير من النقلَة وَكَلَام الماوردى كَالصَّرِيحِ فِيهِ فَلْينْظر الحاوى وَلَيْسَ فى الرافعى شئ من ذَلِك بل قَالَ بعد مَا ذكر خلاف الإصطخرى وَالْجُمْهُور وَلَا فرق فى ذَلِك بَين الْقَذْف على سَبِيل السب والإيذاء وَبَين الْقَذْف على صُورَة الشَّهَادَة إِذا لم يتم عدد الشُّهُود إِن قُلْنَا بِوُجُوب الْحَد على من شهد فَإِن لم يُوجب فَلَا حَاجَة بِالشَّاهِدِ إِلَى التَّوْبَة انْتهى(3/252)
وَهَذَا صَرِيح فِيمَا إِذا لم يتم الْعدَد بِأَنَّهُ على القَوْل بِوُجُوب الْحَد يطرقه خلاف أَبى سعيد فَيُوجب عَلَيْهِ أَن يَقُول كذبت وَهَذَا بعيد بل لَا أَشك فى بُطْلَانه فَإِن الْمُصَرّح بِهِ عَن أَبى سعيد خلاف ذَلِك وَقد قدمنَا كَلَام صَاحب الْبَحْر ثمَّ صرح بعد ذَلِك فَقَالَ فِيمَا إِذا نقص الْعدَد إِن قُلْنَا يحدون يحكم بفسقهم وَتجب التَّوْبَة فَيَقُول قذفى بَاطِل وَلَا يحْتَاج إِلَى النَّدَم وَترك الْعَزْم فِي الْمُسْتَقْبل لِأَنَّهَا شَهَادَة فى حق الله وَلَا يعْتَبر أَن يَقُول إنى كَاذِب وَلَا أَن يَقُول وَلَا أَعُود إِلَى مثله لِأَنَّهُ لم تمّ عدد الشُّهُود لزمَه أَن يشْهد انْتهى
وَهُوَ صَحِيح لَا شكّ فِيهِ
الثانى أَن لفظ حرَام فى قَوْله قذفى بَاطِل لم يَقع إِلَّا فى عبارَة الشَّيْخ أَبى حَامِد والقفال وَمن تبعهما وَمَا أظنها على سَبِيل التَّعْيِين فَلَا يغتر بهَا بل يكفى قذفى بَاطِل
الثَّالِثَة أَن لفظ إنى نادم وَقع فى كَلَام من رَأَيْته وَمَا أرَاهُ على سَبِيل التَّعْيِين وَإِن كَانَت عبارَة الْمُحَرر والمنهاج تغر وتوهم أَن ذَلِك يتَعَيَّن
وَالرَّابِعَة أَن لفظ وَلَا أَعُود وَقع مستطردا فى كَلَام الرافعى يكَاد يكون غير مَقْصُود وهى مَسْأَلَة ذَات وَجْهَيْن صرح بحكايتهما الماوردى فى الحاوى والرويانى فى الْبَحْر
167 - الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد الطبرى أَبُو الْحُسَيْن الجلابى
قدم بَغْدَاد وَكَانَ يحضر مجْلِس الداركى ثمَّ درس فى حَيَاته وَكَانَت لَهُ معرفَة بِالْحَدِيثِ(3/253)
حدث عَن أَبى على الْحسن بن أَحْمد الْفَقِيه وأبى الْحسن بن أَبى عمرَان الجرجانى
قَالَ ابْن النجار وروى عَنهُ عَامر بن مُحَمَّد البسطامى فى مُعْجم شُيُوخه فى الكنى وَلم يسمه
قَالَ ابْن النجار وَقد رَأَيْت لَهُ كتابا سَمَّاهُ الْمدْخل فى الجدل وَرَأَيْت عَلَيْهِ خطه وَقد سمى نَفسه الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد
وَذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فى الطَّبَقَات بكنيته وَلم يزدْ على أَن قَالَ تفقه فى بَلَده وَحضر مجْلِس الداركى ثمَّ درس فى حَيَاته وَمَات قبل الداركى بسبعة عشر يَوْمًا وَكَانَ فَقِيها فَاضلا عَارِفًا بِالْحَدِيثِ
وَكَانَت وَفَاة الداركى فى الثَّالِث عشر من شَوَّال سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة فَتكون وَفَاة الجلابى فى سادس عشرى رَمَضَان
وَقَالَ أَبُو عَاصِم أَبُو الْحُسَيْن بن أَحْمد الجلابى كَانَ فَقِيها جدلا ورعا
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ وَمن الغرائب عَنهُ
حكى القاضى أَبُو الطّيب فى التعليقة أَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد كَانَ يحْكى أَن الجلابى سُئِلَ عَن الْبَالِغين من أهل الْحَرْب إِذا أسرهم الإِمَام فَقَالَ صَارُوا أرقاء بِنَفس الْأسر كالنساء وَالصبيان قَالَ وَهَذَا غلط
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب وَأَنا رَأَيْت الجلابى وَكنت صَبيا
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلَا شكّ أَن هَذَا غلط إِن لم يثبت للْإِمَام تَخْيِير فيهم نعم إِن(3/254)
قَالَ بِثُبُوت الْخِيَار فيهم بعد ذَلِك بَين الْبَقَاء على الرّقّ والمن وَالْفِدَاء وَالْقَتْل فَلَا بعد فِيهِ
168 - الْحسن بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالحداد البصرى القاضى أَبُو مُحَمَّد
وَهُوَ الْمَذْكُور فى كتاب الْأَقْضِيَة من شرح الرافعى
قَالَ فِيهِ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أحد فُقَهَاء أَصْحَابنَا لَا أعلم على من درس وَلَا وَقت وَفَاته
قَالَ وَرَأَيْت لَهُ كتابا فى أدب الْقَضَاء دلّ على فضل كَبِير
قلت وقفت على الْكتاب الْمَذْكُور وَقد حدث فِيهِ عَن من لحق أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَعَن من لحق ابْن سُرَيج ووقفت لَهُ أَيْضا على كتاب فى الشَّهَادَات وَفِيهِمَا فَوَائِد
169 - الْحسن بن حبيب بن عبد الله الْملك الدمشقى الْفَقِيه أَبُو على الحصائرى
إِمَام مَسْجِد بَاب الْجَابِيَة بِدِمَشْق
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ(3/255)
وَحدث بِكِتَاب الإِمَام الشافعى عَن أَصْحَابه
سمع الرّبيع بن سُلَيْمَان وبكار بن قُتَيْبَة القاضى وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد البيروتى وَصَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم وَأَبا أُميَّة الطرسوسى وخلقا
روى عَنهُ عبد الْمُنعم بن غلبون وَابْن جَمِيع وَابْن المقرى وَأَبُو حَفْص ابْن شاهين وَتَمام الرازى وَأَبُو بكر بن أَبى الْحَدِيد وَآخَرُونَ
قَالَ عبد الْعَزِيز الكتانى هُوَ ثِقَة نبيل حَافظ لمَذْهَب الشافعى
مَاتَ فى ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
170 - الْحسن بن الْحُسَيْن الإِمَام الْجَلِيل القاضى أَبُو على بن أَبى هُرَيْرَة
أحد عُظَمَاء الْأَصْحَاب ورفعائهم الْمَشْهُور اسْمه الطَّائِر فى الْآفَاق ذكره
قَالَ فِيهِ الْخَطِيب وَقد ذكره فى تَارِيخ بَغْدَاد الْفَقِيه القاضى كَانَ أحد شُيُوخ الشافعيين وَله مسَائِل فى الْفُرُوع مَحْفُوظَة وأقواله فِيهَا مسطورة
قلت شرح الْمُخْتَصر ووقفت على الشَّرْح الْمَذْكُور
وتفقه على ابْن سُرَيج وأبى إِسْحَاق المروزى
قَالَ أَبُو سعيد الكرابيسى الْحَافِظ سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن أَبى جَعْفَر ناقله إِلَى القاضى الخوارزمى يَقُول تغيب أَبُو الْحسن الأوزاعى عَن القاضى أَبى على(3/256)
ابْن أَبى هُرَيْرَة فى بَغْدَاد أَيَّامًا ثمَّ حَضَره فَقَالَ يَا أَبَا الْحسن أَيْن كنت عَنَّا فَقَالَ كنت أَيهَا القاضى شبه العليل فَقَالَ لَهُ أَبُو على وهبك الله شبة الْعَافِيَة
قَالَ الرافعى إِن ابْن أَبى هُرَيْرَة زعيم عَظِيم للفقهاء وَسَنذكر فى أَيْن قَالَ هَذَا
وَمَات فى شهر رَجَب سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَمن الغرائب والفوائد عَنهُ
قَالَ فِيمَن طلق وَاحِدَة من نِسَائِهِ لَا بِعَينهَا أَو بِعَينهَا ثمَّ نَسِيَهَا طَلَاقا رَجْعِيًا إِن لَهُ وَطْء الْجَمِيع
وَاخْتلف النَّقْل عَنهُ فى أَن الْوَطْء تعْيين أَو لَيْسَ بِتَعْيِين فَيخرج من كَونه لَيْسَ تعيينا أَنه يطَأ كلا مِنْهُمَا وَلَا يكون وَطْء وَاحِدَة مَانِعا من وَطْء الْأُخْرَى وَلَا يُمكنهُ أَن يَقُول الطَّلَاق وَاقع من حِين اللَّفْظ لِأَن من أوقعه من حِين اللَّفْظ جعل الْوَطْء تعيينا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرافعى وَحكى الْخلاف فى ذَلِك بَين أَبى إِسْحَاق وَابْن أَبى هُرَيْرَة فَكَأَن هَذَا اللَّفْظ عِنْد ابْن أَبى هُرَيْرَة لَا يُبَاشر بِهِ الْمحل
وَهَذَا قد يتَّجه فى الطَّلَاق الْمُبْهم أما فِيمَن طلق مُعينَة ثمَّ نَسِيَهَا فَلَا اتجاه لَهُ وَهُوَ آيل إِلَى وَطْء الْمُحرمَة قطعا
ومنزلة هَذَا الْمَذْهَب فى الْبعد منزلَة مُقَابِله الذى حَكَاهُ الحناطى فِيمَن علق الطَّلَاق بالشهر وَذَلِكَ أَن الشاك فى الباقى من الشَّهْر لَا يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق لِأَنَّهُ لَا يَقع إِلَّا بِالْيَقِينِ
وَحكى الحناطى وَجْهَيْن فى حل الْوَطْء فى حَال الشَّك
وَجه التَّحْرِيم أَنه شَاك فى استباحتها فَأشبه مَا إِذا اشتبهت زَوجته بأجنبية
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَهَذَا التَّعْلِيل يقتضى تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ على هَذَا الْوَجْه فِيمَا إِذا شكّ هَل طلق أَو لَا وَلم نر من قَالَ بِهِ(3/257)
إِذا كَانَ رَأس الشاج أَصْغَر استوعبناه وضممنا إِلَيْهِ أرش مَا بقى
وَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة تخريجا فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الماوردى بل نضم إِلَيْهِ أرش الْمُوَضّحَة كَامِلا
قَالَ فى الحاوى فى النهى عَن تلقى الركْبَان وَكَذَلِكَ المدلس قَالَ الشافعى قد عصى الله تَعَالَى وَالْبيع لَازم وَالثمن حَلَال يُرِيد أَن التَّدْلِيس حرَام وَالثمن حَلَال
وَقد كَانَ أَبُو على بن أَبى هُرَيْرَة يَقُول إِن ثمن التَّدْلِيس حرَام لَا ثمن الْمَبِيع أَلا ترى أَن الْمَبِيع إِذا فَاتَ رَجَعَ على البَائِع بِأَرْش عيب التَّدْلِيس فَدلَّ على أَنه أَخذ مِنْهُ بِغَيْر اسْتِحْقَاق انْتهى
وَمَا حَكَاهُ عَن ابْن أَبى هُرَيْرَة غَرِيب وَمَعْنَاهُ أَن الزِّيَادَة بِسَبَب التَّدْلِيس مُحرمَة لَا جملَة الثّمن
وَاعْلَم أَن صَاحب الْبَحْر لم ينْقل فِيهِ هَذَا مَعَ كَثْرَة اسْتِقْصَائِهِ لكَلَام الحاوى
رَأَيْت فى تَعْلِيق ابْن أَبى هُرَيْرَة على الْمُخْتَصر فى الْحُدُود بعد ذكر الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا مَا نَصه أَلا ترى أَن ابْن مَسْعُود قد أنكر المعوذتين وَإِنَّمَا أنكر رسمهما لِأَنَّهُ محَال أَن يظنّ بِابْن مَسْعُود أَن يُنكر أَصلهمَا انْتهى
قلت وَقد عقد القاضى أَبُو بكر فى كِتَابه الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ وَهُوَ الْكتاب الْعَظِيم الذى لَا ينبغى لعالم أَن يَخْلُو عَن تَحْصِيله بَابا كَبِيرا بَين فِيهِ خطأ النَّاقِل لهَذِهِ الْمقَالة عَن عبد الله بن مَسْعُود وَأَن الدَّلِيل الْقَاطِع قَائِم على كذبه على عبد الله وَبَرَاءَة عبد الله مِنْهُمَا
قَالَ ابْن أَبى هُرَيْرَة الْبَحْث مَعَ الْفَاسِق لَا يجوز وَفرق الماوردى فجوزه فى الْمَعْقُول دون الْمَنْقُول
قلت وَكِلَاهُمَا مُسْتَدْرك وَالصَّوَاب الْبَحْث مَعَه وَأما قبُول نَقله فَأمر آخر
لِابْنِ أَبى هُرَيْرَة وَجه أَن بيع عقار الْيَتِيم للغبطة لَا يجوز وَإِنَّمَا يجوز للضَّرُورَة فَقَط رَأَيْته فى تَعْلِيقه وحكيته عَنهُ فى التوشيح بِلَفْظ فَلْينْظر(3/258)
فصل ابْن أَبى هُرَيْرَة فى تَقْدِيم الْعشَاء وتأخيرها فَقَالَ كَمَا نَقله صَاحب الحاوى إِن علم من نَفسه أَنه إِذا آخرهَا لَا يغلبه نوم وَلَا كسل فَالْأَفْضَل التَّأْخِير وَإِلَّا فالتقديم
وَقَالَ الشاشى هَذَا التَّفْصِيل مُتَّجه للمنفرد دون الْجَمَاعَة لاخْتِلَاف أَحْوَالهم
قَالَ الْوَالِد رَحمَه الله وَمَا ذكره ابْن أَبى هُرَيْرَة فى الْحَقِيقَة اخْتِيَار للتأخير لِأَن من خشى أَن النّوم يغلبه لَا يُمكن أَن يُقَال التَّأْخِير لَهُ أفضل
قَالَ ابْن أَبى هُرَيْرَة إِذا أكره الْمصلى على الْحَدث بِأَن عصر بَطْنه حَتَّى خرج بِغَيْر اخْتِيَاره لم تبطل صلَاته
كَذَا نَقله عَنهُ الْوَالِد رَحمَه الله فى شرح الْمِنْهَاج وَهُوَ غَرِيب
قَالَ الْوَالِد كَأَنَّهُ تَفْرِيع على القَوْل بِأَن سبق الْحَدث لَا يبطل الصَّلَاة
قلت أَو أَنه على الْجَدِيد وَهُوَ وَجه صَعب شبه الْوَجْه الذَّاهِب إِلَى أَن من مس ذكره نَاسِيا لَا ينْتَقض وضوؤه وَقد حَكَاهُ الرافعى عَن حِكَايَة الحناطى
نقل الماوردى فى الحاوى أَن ابْن أَبى هُرَيْرَة قَالَ إِنَّه يُبَاح وَلَا يكره عقد الْيَمين على مُبَاح اعْتِبَارا بالمحلوف عَلَيْهِ
وَهَذَا مُخَالف لنَصّ الشافعى حَيْثُ قَالَ وأكره الْأَيْمَان على كل حَال إِلَّا فِيمَا كَانَ طَاعَة
وَوجه ابْن أَبى هُرَيْرَة غَرِيب لم يحكه الرافعى إِنَّمَا حكى الرافعى الْأَوْجه فى الْحَالِف على مُبَاح هَل يسْتَحبّ لَهُ الْحِنْث أَو عَدمه أَو يتَخَيَّر أما نفس عقد الْيَمين فَظَاهر كَلَامه الْجَزْم بِأَنَّهُ مَكْرُوه كَمَا هُوَ ظَاهر النَّص
حكى الدبيلى فى كتاب أدب الْقَضَاء أَن ابْن أَبى هُرَيْرَة قَالَ فِيمَا إِذا أسلم فى دَرَاهِم أَو دَنَانِير وَلم يصفها إِنَّه يجوز وَيحمل على نقد الْبَلَد وَأَن أَبَا إِسْحَاق قَالَ لَا يجوز لِأَن السّلم يحْتَاط فِيهِ وَأَن ابْن سُرَيج قَالَ إِن كَانَ حَالا جَازَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ قد يتَغَيَّر النَّقْد(3/259)
قلت أما مَا حَكَاهُ عَن ابْن سُرَيج فَغَرِيب حسن وَأما الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فقد أَشَارَ إِلَيْهِمَا الإِمَام فى النِّهَايَة فى أَوَائِل بَاب كتاب القاضى إِلَى القاضى
مَسْأَلَة إِيقَاع الْقرعَة على العَبْد الْمُبْهم حَتَّى يعْتق
أنكر على الشَّيْخ ابْن أَبى هُرَيْرَة قَوْله فِيمَا إِذا قَالَ الزَّوْج إِن كَانَ الطَّائِر غرابا فعبدى حر وَإِلَّا فزوجتى طَالِق وَمَات قبل الْبَيَان وَقُلْنَا لَا يعين الْوَارِث بل نقرع فَإِن خرجت على الْمَرْأَة لم تطلق وَالأَصَح لَا يرق العَبْد وعَلى هَذَا ففى وَجه أَن الْقرعَة تُعَاد إِلَى أَن تخرج عَلَيْهِ
قَالَ الرافعى قَالَ الإِمَام وعندى يجب أَن يخرج الْقَائِل بِهِ عَن أحزاب الْفُقَهَاء وَمن قَالَ بِهِ فليقطع بِعِتْق العَبْد وليترك تَضْييع الزَّمَان فى إِخْرَاج الْقرعَة
وَهَذَا قوى قويم لَكِن الحناطى حكى الْوَجْه عَن ابْن أَبى هُرَيْرَة وَهُوَ زعيم عَظِيم للفقهاء لَا يَتَأَتَّى إِخْرَاجه من أحزابهم انْتهى
قلت أما كَونه زعيما عَظِيما فَلَا شكّ فِيهِ وَلَعَلَّ من أجل ذَلِك لم يبح الإِمَام باسمه بل ذكر الْوَجْه مُجَردا غير معزو إِلَى قَائِل وَكَأَنَّهُ جعل الآفة فِيهِ النقلَة عَن أَبى على
وَعبارَة الإِمَام فى النِّهَايَة وفى بعض التصانيف أَن الْقرعَة تُعَاد مرّة أُخْرَى عَن بعض أَصْحَابنَا وعندى أَن صَاحب هَذِه الْمقَالة يجب أَن يخرج من أحزاب الْفُقَهَاء فَإِن الْقرعَة إِذا كَانَت تُعَاد ثَانِيَة فقد تُعَاد ثَالِثَة ثمَّ لَا يزَال الْأَمر كَذَلِك حَتَّى تقع على الْأمة فَإِن الْقرعَة ستخرج عَلَيْهَا وَحقّ صَاحب هَذَا الْمَذْهَب أَن يقطع بِعِتْق الْأمة وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ انْتهى
وَلَا شكّ أَن الإِمَام لَا يُطلق هَذِه الْعبارَة فى حق ابْن أَبى هُرَيْرَة بل إِمَّا أَلا يكون(3/260)
بلغه أَن هَذَا القَوْل قَوْله أَو لَا يكون صدق النقلَة عَنهُ وَيُؤَيّد هَذَا أَنى رَأَيْت أخى الشَّيْخ أَبَا حَامِد أَحْمد أَطَالَ الله بَقَاءَهُ ذكر فى تَكْمِلَة شرح الْمِنْهَاج لفظ ابْن أَبى هُرَيْرَة فى الْمَسْأَلَة من تعليقته الَّتِى علقها عَنهُ الطبرى وَلَيْسَ فِيهِ أَنه قَالَ إِن الْقرعَة تُعَاد بل عِبَارَته فى الْقرعَة وَإِن خرجت على امْرَأَته لم تطلق وَلم يعْتق العَبْد والورع أَلا يَأْخُذ وَارثه وَيجوز لَهُ أَن يتَصَرَّف فى العَبْد انْتهى
وفى قَوْله وَيجوز لَهُ أَن يتَصَرَّف فى العَبْد مَا يُؤذن بِخِلَاف مَا نَقله الحناطى
ثمَّ أَقُول بِتَقْدِير ثُبُوت مَنْقُول الحناطى لَيست هَذِه الْمقَالة بَالِغَة فى النكارة إِلَى هَذَا الْحَد وَلَا يلْزمه أَن يعين العَبْد لِلْعِتْقِ ابْتِدَاء من غير قرعَة لِأَنَّهُ قد يكون من مذْهبه أَن الْقرعَة تحدث أَن الْعتْق فى الْحَال وَلَا يكون منكبة عَنهُ فقد وجدته حكى فى تعليقته فى بَاب الْقرعَة أَوَاخِر كتاب الْعتْق هَذَا الْمَذْهَب عَن مَالك رَحمَه الله لكنه رد على مَالك فى ذَلِك
وَبِتَقْدِير أَلا يكون مذْهبه فَلَا يلْزمه ذَلِك أَيْضا لِأَن لَهُ أَن يَقُول لَو أَعتَقته بِلَا قرعَة لأعتقته بِلَا سَبَب بِخِلَاف مَا إِذا أَعتَقته بِقرْعَة وَإِن كنت متسببا فى خُرُوجهَا عَلَيْهِ فَإنَّا عهدنا الْقرعَة مَنْصُوبَة سَببا فى مثل ذَلِك ولأجله قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ هُنَا لِأَنَّهَا لَو قرعت الْمَرْأَة لم تطلق فَمَا جعلت إِلَّا رَجَاء الْوُقُوع على العَبْد فَيعتق
فَدلَّ أَن الْمَقْصُود بهَا محاولة الْعتْق وَهُوَ شَيْء يتشوف الشَّارِع إِلَيْهِ فَلَا يبعد إِعَادَتهَا حَتَّى تخرج عَلَيْهِ وَيعتق وَيكون عتقه مُسْندًا إِلَى الْقرعَة على الْجُمْلَة وَإِن كَانَ الْمَقْصُود بهَا التحيل عَلَيْهِ(3/261)
وَقد يسْتَأْنس بِهَذَا على الْجُمْلَة بِمَا اتّفق فى أَمر عبد الله وَالِد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد خرج الْقدح عَلَيْهِ فزادوا الْإِبِل عشرا عشرا كلما وَقعت عَلَيْهِ الْقرعَة زادوا وعادوا الْقرعَة حَتَّى انْتَهوا إِلَى الْمِائَة وَوَقعت الْقرعَة على الْإِبِل فَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا توصلا إِلَى نجاة عبد الله
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ فى قصَّة يُونُس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ لما توعده قومه الْعَذَاب انْطلق مغاضبا حَتَّى انْتهى إِلَى قوم فى سفينة فعرفوه فَحَمَلُوهُ فَلَمَّا ركب السَّفِينَة وقفت فَقَالَ مَا لسفينتكم فَقَالُوا لَا ندرى فَقَالَ لكنى أدرى فِيهَا عبد آبق من ربه وَإِنَّهَا وَالله لَا تسير حَتَّى تلقوهُ
قَالُوا أما أَنْت يَا نبى الله لَا نلقيك قَالَ فاقترعوا فَمن قرع فاقترعوا فقرع يُونُس فَأَبَوا أَن يمكنوه من الْوُقُوع فعادوا إِلَى الْقرعَة حَتَّى قرع ثَلَاث مَرَّات
فَهَذَا وَمَا قبله وَإِن كَانَا قبل شرعنا إِلَّا أَنه مِمَّا يسْتَأْنس بِهِ على الْجُمْلَة لمحاولة من تقرعه الْقرعَة
قَول على لعمر رضى الله عَنْهُمَا فى قصَّة الْمُغيرَة فى أَبى بكرَة أَرَاك إِن جلدته رجمت صَاحبك
روى أَن عمر رضى الله عَنهُ قَالَ فى قصَّة الْمُغيرَة لأبى بكره تب أقبل شهادتك فَقَالَ وَالله لَا أَتُوب وَالله زنا فهم عمر بجلده ثَانِيًا فَقَالَ لَهُ على أَرَاك إِن جلدته رجمت صَاحبك فَتَركه وَلم يُخَالِفهُ فى هَذِه الْقِصَّة أحد من الصَّحَابَة وَقد اخْتلف أَصْحَابنَا فى معنى هَذَا الْكَلَام بعد الِاعْتِرَاف بإشكاله على وَجْهَيْن رأيتهما فى تَعْلِيق ابْن أبي هُرَيْرَة احْتِمَالَيْنِ
وَهَذَا كَلَامه فى التعليقة وَكَانَ معنى قَوْله إِن جلدته فارجم صَاحبك أى أَنَّك(3/262)
إِن استحللت جلده من غير اسْتِحْقَاقه إِيَّاه فارجم صَاحبك كَمَا يُقَال من بَاعَ الْخمر فليشقص الْخَنَازِير
وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ إِن كنت أَقمت هَذَا شَاهدا آخر فارجم صَاحبك لتَمام الشَّهَادَة فَإِذا كنت لَا تَجْعَلهُ شَاهدا رَابِعا حَتَّى ترْجم بِهِ صَاحبك فَلَا تَجْعَلهُ قَاذِفا رَابِعا حَتَّى تحده لِأَنَّهُ قد حددتموه انْتهى
وَصرح ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب بنقلهما خلافًا بَين الْأَصْحَاب وَذكر أَن الأول قَول الشَّيْخ أبي حَامِد وَأَن الثَّانِي أصح
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقد قيل أَن الْمُغيرَة كَانَ تزوج بِتِلْكَ الْمَرْأَة فى السِّرّ وَكَانَ عمر لَا يُبِيح نِكَاح السِّرّ وَيُوجب الْحَد على فَاعله وَكَانَ يَقُول للْمُغِيرَة هَذِه امْرَأَتك فينكر فَظَنهُ من شهد عَلَيْهِ زَانيا لأَنهم يعْرفُونَ مِنْهُ أَنه ينكرها قَالَ وَهَذَا طَرِيق يحسن الظَّن بالصحابة قَالَ وَحِينَئِذٍ لَا يكون الشُّهُود كذبُوا وَلَا الْمُغيرَة زنا وَالْحَمْد لله
171 - الْحسن بن سُفْيَان بن عَامر بن عبد الْعَزِيز بن النُّعْمَان الشيبانى الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس النسوى
مُصَنف الْمسند
تفقه على أَبى ثَوْر وحرملة
وَهُوَ الْقَائِل سَمِعت حَرْمَلَة يَقُول سَمِعت الشافعى يَقُول فى رجل فى فَم امْرَأَته(3/263)
تَمْرَة فَقَالَ لَهَا إِن أكلت هَذِه التمرة فَأَنت طَالِق وَإِن طرحتها فَأَنت طَالِق فَأكلت نصفهَا وطرحت نصفهَا لم تطلق
سمع الْحسن بن سُفْيَان من أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الحنظلى وقتيبة وَعبد الرَّحْمَن بن سَلام الجمحى وشيبان بن فروخ وأبى بكر بن أَبى شيبَة وأبى ثَوْر وَسَهل بن عُثْمَان العسكرى وَمُحَمّد بن أَبى بكر المقدمى وَسعد بن يزِيد الْفراء وَيزِيد بن صَالح وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر الإسماعيلى وَابْن حبَان وَأَبُو على الْحَافِظ وَيحيى ابْن مَنْصُور القاضى وَأَبُو عَمْرو بن حمدَان وحفيده إِسْحَاق بن سعيد النسوى وَخلق سواهُم
قَالَ الْحَاكِم كَانَ مُحدث خُرَاسَان فى عصره مقدما فى الثبت وَالْكَثْرَة والفهم وَالْفِقْه وَالْأَدب
وَقَالَ ابْن حبَان كَانَ مِمَّن رَحل وصنف وَحدث على تيقظ مَعَ صِحَة الدّيانَة والصلابة فى السّنة
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد النيسابورى الْفَقِيه كَانَ الْحسن أديبا فَقِيها أَخذ الْأَدَب عَن أَصْحَاب النَّضر بن شُمَيْل وَالْفِقْه عَن أَبى ثَوْر
وَقَالَ الْحَاكِم سَمِعت مُحَمَّد بن دَاوُد بن سُلَيْمَان يَقُول كُنَّا عِنْد الْحسن بن سُفْيَان فَدخل ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو عَمْرو الحيرى وَأَبُو بكر بن على الرازى فى جمَاعَة وهم متوجهون(3/264)
إِلَى فراوة فَقَالَ أَبُو بكر بن على قد كتبت هَذَا الطَّبَق من حَدِيثك قَالَ هَات فَأخذ يقْرَأ فَلَمَّا قَرَأَ أَحَادِيثه أَدخل إِسْنَادًا فى إِسْنَاد فَرده الْحسن ثمَّ بعد سَاعَة فعل ذَلِك فَرده الْحسن فَلَمَّا كَانَ فى الثَّالِثَة قَالَ لَهُ الْحسن مَا هَذَا قد احتملتك مرَّتَيْنِ وَهَذِه الثَّالِثَة وَأَنا ابْن تسعين سنة فَاتق الله فى الْمَشَايِخ فَرُبمَا اتّفق فِيك دَعْوَة فَقَالَ لَهُ ابْن خُزَيْمَة مَه لَا تؤذ الشَّيْخ قَالَ إِنَّمَا أردْت أَن تعلم أَن أَبَا الْعَبَّاس يعرف حَدِيثه
توفى الْحسن بن سُفْيَان بقرية بالوز وَكَانَ مُقيما بهَا وهى على ثَلَاثَة فراسخ من نسا فى شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وثلاثمائة الْحسن بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس أَبُو على الزجاجى
الإِمَام الْكَبِير أحد الْأَئِمَّة تلميذ ابْن الْقَاص والراوى عَنهُ جُزْء حَدِيث أَبى عمر وَشَيخ القاضى أَبى الطّيب
أرَاهُ من أهل هَذِه الطَّبَقَة وسأذكره فى الرَّابِعَة
172 - الْحسن بن مُحَمَّد أَبُو على الطبسى
قَالَ فِيهِ الْحَاكِم الْفَقِيه الأديب الزَّاهِد من أجل مَشَايِخنَا وفقهائنا بخراسان
قَالَ وَكَانَ خَليفَة أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة فى حَيَاته وَبعد وَفَاته(3/265)
كتب بخراسان والعراقين وَسمع سنَن أَبى دَاوُد من ابْن داسة
قَالَ الْحَاكِم وسمعته يَقُول لما مَاتَ ابْن أَبى هُرَيْرَة وسئلت أَن أخلفه بعد وَفَاته رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى النّوم يَقُول يَا أَبَا على بلغنى أَنَّك خلفت أَبَا على ابْن أَبى هُرَيْرَة فأحسنت خِلَافَته فجزاك الله عَنى خيرا
وَذكره العبادى فى الطَّبَقَات وَحكى عَن الْأُسْتَاذ أَبى طَاهِر أَنه قَالَ اجْتمع رأيى وَرَأى أَبى على على أَن كل كَلَام لَا يُوجد نظمه فى غير كتاب الله فَإِن الْجنب لَا يقرأه وَإِن وجد فى غير كتاب الله فَإِن قصد كتاب الله لم يجز وَإِن قصد غَيره جَازَ
قلت والمتأخرون من الْأَصْحَاب لم يذكرُوا هَذَا التَّفْصِيل بل أطْلقُوا أَنه إِذا قَرَأَ شَيْئا لَا على قصد الْقُرْآن أَنه يجوز وَلَا بَأْس بِهَذَا التَّفْصِيل فَإِن مَا لَا يُوجد نظمه إِلَّا فى كتاب الله يبعد أَن يقْصد بِهِ قارئه غير كتاب الله
قَالَ العبادى نقلا عَن أَبى على وَالْجنب لَا يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم بل يَقُول بِسم الله الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ الْحَمد لله على الْإِسْلَام وَنعمته
قَالَ كَذَا روى فى الْخَبَر
قلت وَهَذَا من آثَار ذَلِك التَّفْصِيل كَأَنَّهُ يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لَا يُوجد نظمها إِلَّا فى كتاب الله وَهَذَا بعيد أعنى تَحْرِيم قَول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم على الْجنب إِذا لم يقْصد بهَا الْقُرْآن فَإِنَّهَا قد اشْتهر كَونهَا تذكر وَلَا يقْصد بهَا الْقُرْآن غير أَنَّهَا مِمَّا لَا يُوجد نظمه إِلَّا فى كتاب الله(3/266)
قَالَ الْحَاكِم توفى الْفَقِيه الأوحد فى عصره أَبُو على بطبسين وَحَضَرت معزاه
وَتوفى فى شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلاثمائة
173 - أَبُو الْحسن المحاملى الْكَبِير
من أَقْرَان أَبى سعيد الإصطخرى وأبى على بن أَبى هُرَيْرَة
قَالَ العبادى لَيْسَ هُوَ جد المحاملى الْأَخير بل غَيره
قَالَ وَهُوَ الْقَائِل بِأَن من وجد الزَّاد وَالرَّاحِلَة بخراسان يَوْم عَرَفَة وَمَات يقْضى عَنهُ الْحَج
قلت وَهَذَا غَرِيب وَقد أهمل الغزالى ذكر إِمْكَان السّير فى شَرَائِط وجوب الْحَج فاعترضه الرافعى وَنَصره ابْن الصّلاح بِأَن إِمْكَان السّير لَيْسَ ركنا لوُجُوب الْحَج بل لاستقراره فِي الذِّمَّة وَصوب النووى قَول الرافعى مستدلا بقوله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَالْحق مَعَه وَالْكل متفقون على عدم ثُبُوته فى الذِّمَّة إِذا لم يتَمَكَّن من السّير فمقالة المحاملى غَرِيبَة
ووقفت فى بعض التصانيف الْقَدِيمَة لبَعض من لم أتحقق اسْمه على مَا نَصه سَمِعت ابْن أَبى هُرَيْرَة يَقُول حضرت مجْلِس المحاملى وَقد حَضَره شيخ من أهل أَصْبَهَان نبيل الْهَيْئَة قدم الْمَوْسِم حَاجا فَأَقْبَلت عَلَيْهِ وَسَأَلته عَن مَسْأَلَة فى الطَّهَارَة فضجر(3/267)
وَقَالَ مثلى يسْأَل عَن مسَائِل الطَّهَارَة فَقلت لَا وَالله إِن سَأَلتك إِلَّا عَن الِاسْتِنْجَاء نَفسه فألقيت عَلَيْهِ هَذِه الْمَسْأَلَة فبقى متحيرا
قلت وَأَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة الِاسْتِنْجَاء إِذا أمسك ذكره بيساره
وَذكر الْأَصْحَاب هَذَا المحاملى أَيْضا فى مَسْأَلَة موت الْأَجِير على الْحَج بعد الْأَخْذ فى السّير وَقبل الْإِحْرَام فَإِن الْمَذْهَب الْمَنْصُوص أَنه لَا يسْتَحق شَيْئا وَالْمَنْقُول فى الرافعى عَن الصيرفى والإصطخرى أَنه يسْتَحق شَيْئا من الْأُجْرَة لِأَنَّهُمَا أفتيا سنة حصر القرامطة الحجيج بِالْكُوفَةِ بِأَن الأجراء يسْتَحقُّونَ بِقدر مَا عمِلُوا
وَرَأَيْت فى الْبَحْر للرويانى مَا نَصه حكى الماسرجسى عَن ابْن أَبى هُرَيْرَة أَنه قَالَ لما وَقع من القرامطة مَا وَقع اجْتمعت أَنا والمحاملى والإصطخرى واتفقنا على أَن نفتى بِأَن كل من كَانَ حَاجا عَن الْغَيْر لَا يسْتَحق الْأُجْرَة إِلَّا أَنه يرْضخ لَهُ بشىء هَكَذَا حَكَاهُ القاضى الطبرى وَذكر الشَّيْخ أَبُو حَاتِم أَنهم أفتوا بِأَن لَهُم الْأُجْرَة بِقدر مَا قطع من الْمسَافَة
هَذَا كَلَام الْبَحْر
وَذكره أَيْضا فِيمَا إِذا اخْتلف الْقَابِض والدافع فى الْألف المدفوعة هَل كَانَت قرضا أَو إبضاعا وَأَن المحاملى الْكَبِير ذهب إِلَى أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ
نَقله أَبُو سعد الهروى فى الإشراف وَغَيره(3/268)
174 - الْحُسَيْن بن أَحْمد بن حمدَان بن خالوية أَبُو عبد الله الهمذانى
إِمَام فى اللُّغَة والعربية وَغَيرهمَا من الْعُلُوم الأدبية
قدم بَغْدَاد فَأخذ عَن أَبى بكر بن الأنبارى وأبى بكر بن مُجَاهِد وَقَرَأَ عَلَيْهِ وأبى عمر غُلَام ثَعْلَب ونفطويه وأبى سعيد السيرافى وَقيل إِنَّه أدْرك ابْن دُرَيْد وَأخذ عَنهُ
ثمَّ قدم الشَّام وَصَحب سيف الدولة ابْن حمدَان وأدب بعض أَوْلَاده ونفق سوقه بحلب واشتهر ذكره وقصده الطلاب
أَخذ عَنهُ عبد الْمُنعم بن غلبون وَالْحسن بن سُلَيْمَان وَغَيرهمَا(3/269)
وصنف فى اللُّغَة كتاب لَيْسَ وَكتاب شرح الْمَمْدُود والمقصور وَكتاب أَسمَاء الْأسد بلغ فِيهِ إِلَى خَمْسمِائَة اسْم وَكتاب البديع فى الْقُرْآن وَكتاب الْجمل فى النَّحْو وَكتاب الِاشْتِقَاق وَغير ذَلِك وَكتاب غَرِيب الْقُرْآن
وَله مَعَ أَبى الطّيب المتنبى مناظرات عديدة
وَقد روى مُخْتَصر المزنى عَن أَبى بكر النَّيْسَابُورِي
توفى سنة سبعين وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ ابْن الصّلاح حكى فى كِتَابه إِعْرَاب ثَلَاثِينَ سُورَة مَذْهَب الشافعى فى الْبَسْمَلَة وَكَونهَا آيَة من أول كل سُورَة قَالَ وَالَّذِي صَحَّ عندى وَإِلَيْهِ أذهب مَذْهَب الشافعى
قَالَ وأتى بلطيفة غَرِيبَة فَقَالَ حَدَّثَنى أَبُو سعيد الْحَافِظ وَلَعَلَّه ابْن رُمَيْح النسوى أَحْمد بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر النيسابورى قَالَ سَمِعت الشافعى يَقُول أول الْحَمد {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} وَأول الْبَقَرَة {الم}
وَهَذَا الْوَجْه حسن وَهُوَ أَن الْبَسْمَلَة لما ثبتَتْ أَولا فى سُورَة الْفَاتِحَة فهى من السُّور إِعَادَة لَهَا وتكرير فَلَا تكون من تِلْكَ السُّور ضَرُورَة فَلَا يُقَال هى آيَة من أول كل سُورَة بل هى آيَة فى أول كل سُورَة
175 - الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحسن بن مُوسَى القاضى أَبُو على البيهقى
أوردهُ شَيخنَا الذهبى كَأَنَّهُ تبع للْحَاكِم فِيمَن اسْمه الْحسن
كَانَ فَقِيها أديبا قَاضِيا بنسا
سمع من ابْن خُزَيْمَة وَابْن صاعد وطبقتهما(3/270)
روى عَن الْحَاكِم وَغَيره
مَاتَ ببيهق سنة تسع وَخمسين وثلاثمائة
176 - الْحُسَيْن بن الْحسن بن أَيُّوب أَبُو عبد الله الطوسى الأديب
كَانَ من كبار الْمُحدثين وثقاتهم
رَحل إِلَى أَبى حَاتِم فَأَقَامَ عِنْده مُدَّة وَجَاء بِمَكَّة فَسمع مُسْند أَبى يحيى بن أَبى مَسَرَّة مِنْهُ وَكتب أَبى عبيد من على بن عبد الْعَزِيز
روى عَنهُ أَبُو على الْحَافِظ النيسابورى وَأَبُو إِسْحَاق المزكى وَأَبُو الْحُسَيْن الحجاجى وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَأَبُو على الرُّوذَبَارِي وَآخَرُونَ
مَاتَ بنوقان يَوْم الْأَضْحَى سنة أَرْبَعِينَ وثلاثمائة
177 - الْحُسَيْن بن صَالح بن خيران الشَّيْخ أَبُو على
أحد أَرْكَان الْمَذْهَب كَانَ إِمَامًا زاهدا ورعا تقيا نقيا متقشفا من كبار الْأَئِمَّة بِبَغْدَاد(3/271)
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فَلم يتقلده وَكَانَ بعض وزراء المقتدر وكل بداره وخوطب الْوَزير فى ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا قصدنا ليقال فى زَمَاننَا من وكل بداره ليتقلد الْقَضَاء فَلم يفعل
وَقَالَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبيد العسكرى شاهدت الموكلين بِبَابِهِ وَختم الْبَاب بضعَة عشر يَوْمًا فَقَالَ لى أَبى يابنى انْظُر حَتَّى تحدث إِن عِشْت أَن إنْسَانا فعل بِهِ هَذَا ليلى فَامْتنعَ
وَقَالَ الإِمَام أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الكشفلى أَمر على بن عِيسَى وَزِير المقتدر بِاللَّه صَاحب الْبَلَد أَن يطْلب الشَّيْخ أَبَا على بن خيران حَتَّى يعرض عَلَيْهِ قَضَاء الْقُضَاة فاستتر فَوكل بِبَاب دَاره رِجَاله بضعَة عشر يَوْمًا حَتَّى احْتَاجَ إِلَى المَاء فَلم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا من عِنْد الْجِيرَان فَبلغ الْوَزير ذَلِك فَأمر بِإِزَالَة التَّوْكِيل عَنهُ وَقَالَ فى مَجْلِسه وَالنَّاس حُضُور ماأردنا بالشيخ أَبى على إِلَّا خيرا أردنَا أَن نعلم أَن فى مملكتنا رجلا يعرض عَلَيْهِ قَضَاء الْقُضَاة شرقا وغربا وَهُوَ لَا يقبل
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب ابْن خيران كَانَ يعيب على ابْن سُرَيج فى ولَايَته الْقَضَاء وَيَقُول هَذَا الْأَمر لم يكن فى أَصْحَابنَا إِنَّمَا كَانَ فى أَصْحَاب أَبى حنيفَة
قلت يعْنى بالعراق وَإِلَّا فَلم يكن الْقَضَاء بِمصْر وَالشَّام فى أَصْحَاب أَبى حنيفَة قطّ إِلَّا أَيَّام بكار فى مصر وَإِنَّمَا كَانَ فى مصر الْمَالِكِيَّة وفى الشَّام الأوزاعية إِلَى أَن ظهر مَذْهَب الشافعى فى الإقليمين فَصَارَ فِيهِ وَصَاحب الْبَلَد الْمعِين بِهِ صَاحب الشرطة وَهُوَ الذى يُسمى الْيَوْم فى بِلَادنَا بالوالى وَكَانَ الوالى فى الزَّمَان الماضى اسْما لأمير الْمَدِينَة وَكَانَ الْأَمِير(3/272)
يُسمى الوالى تَارَة وَالْعَامِل أُخْرَى وَأما الْمُسَمّى الْيَوْم بالوالى فَكَانَ يُسمى صَاحب الشرطة أَو صَاحب الْبَلَد أَو صَاحب الْخَبَر يعْنى أَنه يطالع الْأَمِير بأخبار الْمَدِينَة
قَالَ الرافعى فى بَاب الْأَطْعِمَة عَن ابْن خيران أَنه قَالَ أصَاب أكار لنا كلب المَاء فى ضَيْعَة لنا فأكلناه فَإِذا طعمه طعم السّمك
قَالَ شَيخنَا الذهبى لم يبلغنَا على من اشْتغل ابْن خيران وَلَا عَن من أَخذ الْعلم
قَالَ وَأَظنهُ مَاتَ كهلا
قَالَ وَلم يسمع شَيْئا فِيمَا أعلم
قلت لَعَلَّه جَالس فى الْعلم ابْن سُرَيج وَأدْركَ مشايخه
قَالَ أَبُو الْعَلَاء مُحَمَّد بن على الواسطى نقلا عَن الْحُسَيْن ابْن العسكرى توفى ابْن خيران يَوْم الثُّلَاثَاء لثلاث عشرَة بقيت من ذى الْحجَّة سنة عشْرين وثلاثمائة
وَقَالَ الدارقطنى توفى فى حُدُود الْعشْر والثلاثمائة
قَالَ الْخَطِيب وأظن أَبَا الْعَلَاء وهم على ابْن العسكرى وَأَرَادَ أَن يَقُول سنة عشر فَقَالَ سنة عشْرين
وَقَالَ ابْن الصّلاح مَا ذكر من وَفَاته أقرب وإياه ذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
قلت وأظن الْعشْرين فى كتاب الدارقطنى إِلَّا أَن النَّاسِخ أسقط الْيَاء وَالنُّون غَلطا وَلَا مُنَافَاة حِينَئِذٍ بَين التاريخين
قَالَ شَيخنَا الذهبى وَيدل على مانقله أَبُو الْعَلَاء أَن أَبَا بكر بن الْحداد سَافر من مصر إِلَى بَغْدَاد يسْعَى لأبى عبيد بن حربوية القاضى أَن يُعْفَى من قَضَاء مصر فَقَالَ ابْن زولاق إِنَّه دَخلهَا سنة عشر فى شَوَّال وَشَاهد بَاب أَبى على بن خيران مسمورا لامتناعه من الْقَضَاء وَقد اشْتهر قَالَ فَكَانَ النَّاس يأْتونَ بأولادهم الصغار فَيَقُولُونَ لَهُم انْظُرُوا حَتَّى تحدثُوا بِهَذَا(3/273)
قلت وَلَيْسَ فى الْحِكَايَة صَرَاحَة فى تَأَخّر وَفَاته عَن سنة عشر فَلَعَلَّهُ مَاتَ بعد التسمير على بَابه بِقَلِيل وَلَكِن الأثبت كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفَاته سنة عشْرين
وَمن الغرائب عَن أَبى على بن خيران
نقل الدارمى فى بَاب صفة الصَّلَاة من الاستذكار أَن ابْن خيران قَالَ فى عُرَاة لَيْسَ لَهُم إِلَّا ثوب وَاحِد وَإِن صلوا فِيهِ وَاحِدًا بعد وَاحِد خرج الْوَقْت إِنَّهُم يتركون جَمِيعًا وَيصلونَ عُرَاة
قَالَ أَبُو عَاصِم العبادى حكى السريحي أَن ابْن خيران جوز للسَّيِّد أَن يشْهد لمكاتبه وَيدْفَع إِلَيْهِ زَكَاته قلت
178 - الْحُسَيْن بن على بن مُحَمَّد بن يحيى أَبُو أَحْمد التميمى النيسابورى يُقَال لَهُ حسينك
وَهُوَ حُسَيْن مَفْتُوح النُّون بعْدهَا كَاف سَاكِنة وَيعرف أَيْضا بِابْن منينة بِضَم الْمِيم بعْدهَا نون ثمَّ آخر الْحُرُوف ثمَّ نون ثَانِيَة
من بَيت حشمة ورياسة تربى فى حجر الإِمَام أَبى بكر بن خُزَيْمَة وَكَانَ ابْن خُزَيْمَة فى آخر عمره إِذا تخلف عَن مجْلِس السُّلْطَان بعث بأبى أَحْمد نَائِبا عَنهُ وَكَانَ يقدمهُ على أَوْلَاده(3/274)
سمع أَبُو أَحْمد من ابْن خُزَيْمَة وأبى الْعَبَّاس السراج بنيسابور ورحل فَسمع أَيْضا عمر بن إِسْمَاعِيل بن أَبى غيلَان وَعبد الله بن مُحَمَّد البغوى وَأَبا عوَانَة الإسفراينى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو بكر البرقانى وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَعمر بن أَحْمد بن مسرور وَأَبُو سعد مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الكنجروذى وَجَمَاعَة
قَالَ الْخَطِيب كَانَ ثِقَة حجَّة
وَقَالَ الْحَاكِم صحبته سفرا وحضرا نَحوا من ثَلَاثِينَ سنة فَمَا رَأَيْته يتْرك قيام اللَّيْل يقْرَأ فى كل رَكْعَة سبعا وَكَانَت صدقاته دارة سرا وَعَلَانِيَة أخرج مرّة عشرَة أنفس من الْغُزَاة بآلتهم بَدَلا عَن نَفسه ورابط غير مرّة
توفى فى ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله بقراءتى أخبرنَا أَبُو روح إجَازَة أخبرنَا زَاهِر أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أخبرنَا أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن على أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم البغوى حَدثنَا هدبه حَدثنَا حَمَّاد عَن ثَابت عَن أَبى رَافع عَن أَبى هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (كَانَت شَجَرَة تضر بِالطَّرِيقِ فقطعها رجل فنحاها عَن الطَّرِيق فغفر لَهُ) رَوَاهُ مُسلم عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن حَمَّاد بِهِ(3/275)
179 - الْحسن بن على بن يزِيد بن دَاوُد بن يزِيد الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو على النيسابورى
شيخ الْحَاكِم
ولد سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَأول سَمَاعه سنة أَربع وَتِسْعين
فَسمع من إِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب وَعلي بن الْحُسَيْن وَعبد الله بن شيرويه وجعفر ابْن أَحْمد الْحَافِظ
وبهراة الْحُسَيْن بن إِدْرِيس وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن وأقرانهما
قَالَ الْحَاكِم وهراة أول رحلته
وبنسا الْحسن بن سُفْيَان
وبجرجان عمرَان بن مُوسَى
وببغداد عبد الله بن نَاجِية وَالقَاسِم الْمُطَرز
وبالكوفة مُحَمَّد بن جَعْفَر القَتَّات
وبالبصرة أَبَا خَليفَة وزَكَرِيا الساجى
وبواسط جَعْفَر بن أَحْمد بن سِنَان
وبالأهواز عَبْدَانِ
وبأصبهان مُحَمَّد بن نصير
وبالموصل أَبَا يعلى(3/276)
وبمصر أَبَا عبد الرَّحْمَن النسائى
وبغزة الْحسن بن الْفرج راوى الموطا
وبمكة الْمفضل الجندى
وبالشام أَصْحَاب إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء والمعافى بن سُلَيْمَان
روى عَنهُ أَبُو بكر أَحْمد بن إِسْحَاق الصبغى وَأَبُو الْوَلِيد الْفَقِيه وهما أكبر مِنْهُ وَابْن مندة وَالْحَاكِم وَأَبُو طَاهِر بن محمش وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى وَغَيرهم
قَالَ الْحَاكِم هُوَ وَاحِد عصره فى الْحِفْظ والإتقان والورع والرحلة ذكره بالشرق كذكره فى الغرب مقدم فى مذاكرة الْأَئِمَّة وَكَثْرَة التصنيف انْتهى
وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَطِيب قَالَ وَذكره الدارقطنى فَقَالَ إِمَام مهذب
قَالَ الْحَاكِم وَعقد لَهُ مجْلِس الْإِمْلَاء سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة ثمَّ لم يزل يحدث بالمصنفات والشيوخ بَقِيَّة عمره
وَأطَال الْحَاكِم تَرْجَمَة شَيْخه هَذَا وَأَطْنَبَ على عَادَته إِذا ترْجم كَبِيرا استوفى وحشد الْفَوَائِد والغرائب
قَالَ كَانَ أَبُو على يشْتَغل بالصاغة فنصحه بعض الْعلمَاء وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْعلمِ
قَالَ وَكنت أرى أَبَا على معجبا بِأبي يعلى الموصلى وإتقانه
قَالَ كَانَ لَا يخفى عَلَيْهِ من حَدِيثه إِلَّا الْيُسْر(3/277)
قَالَ الْحَاكِم كَانَ أَبُو على باقعة فى الْحِفْظ لَا تطاق مذاكرته وَلَا يفى بمذاكرته أحد من حفاظنا
خرج إِلَى بَغْدَاد سنة عشر نَائِبا وَقد صنف وَجمع فَأَقَامَ بِبَغْدَاد وَمَا بهَا أحد أحفظ مِنْهُ إِلَّا أَن يكون أَبُو بكر الجعابى فإنى سَمِعت أَبَا على يَقُول مارأيت بِبَغْدَاد أحفظ مِنْهُ
قَالَ وَسمعت أَبَا على يَقُول اجْتمعت بِبَغْدَاد مَعَ أَبى أَحْمد الْعَسَّال وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة وأبى طَالب بن نصر وَأبي بكر الجعابى فَقَالُوا أمل علينا من حَدِيث نيسابور مَجْلِسا فامتنعت فمازالوا بى حَتَّى أمليت عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ حَدِيثا مَا أجَاب وَاحِد مِنْهُم فى حَدِيث مِنْهَا إِلَّا ابْن حَمْزَة فى حَدِيث وَاحِد
قَالَ الْحَاكِم كَانَ أَبُو على يَقُول مَا رَأَيْت فى أَصْحَابنَا مثل الجعابى حيرنى حفظه فحكيت ذَلِك لأبى بكر الجعابى فَقَالَ يَقُول أَبُو على هَذَا وَهُوَ أستاذى على الْحَقِيقَة
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن مندة سَمِعت أَبى أَبَا عبد الله يَقُول مَا رَأَيْت فى اخْتِلَاف الحَدِيث والإتقان أحفظ من أَبى على النيسابورى
توفى أَبُو على عَشِيَّة الْخَمِيس الْخَامِس عشر من جُمَادَى الأولى سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
كَانَ أَبُو على يرى أَن كتاب مُسلم أصح من كتاب البخارى
قَالَ ابْن مندة سَمِعت أَبَا على النيسابورى وَمَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ يَقُول مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء أصح من كتاب مُسلم(3/278)
قلت قد شَذَّ أَبُو على بِهَذِهِ الْمقَالة وَإِن وَافقه عَلَيْهَا بعض المغاربة وَمَا بعد كتاب الله أصح من صَحِيح البخارى
قَالَ أَبُو على النيسابورى خرجت إِلَى هراة سنة خمس وَتِسْعين وَحَضَرت أَبَا خَليفَة وَهُوَ يهدد وَكيلا لَهُ يَقُول تعود يالكع فَقَالَ لَا أصلحك الله فَقَالَ بل أَنْت لَا أصلحك الله قُم عَنى
قلت من فصاحة الْعَرَب أَن يَأْتُوا بِالْوَاو هُنَا فَكَانَ الْأَدَب أَن يَقُول لَا وأصلحك الله لِئَلَّا يتَوَهَّم انصباب النفى على أصلحك الله فَيكون قد دَعَا عَلَيْهِ بِعَدَمِ الصّلاح فَإِذا أَتَى بِالْوَاو سلم من ذَلِك
قَالَ القاضى أَبُو بكر الأبهرى سَمِعت أَبَا بكر بن دَاوُد يَقُول لأبى على النيسابورى إِبْرَاهِيم عَن إِبْرَاهِيم عَن إِبْرَاهِيم من هم فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن إِبْرَاهِيم بن عَامر البجلى عَن إِبْرَاهِيم النخعى فَقَالَ أَحْسَنت ياأبا على
قلت وَلَهُم خلف عَن خلف سِتَّة
فِيمَا أخبرنَا بِهِ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر الْحَافِظ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا أَبُو الْفضل أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر عَن أَبى روح عبد الْمعز بن مُحَمَّد الهروى قَالَ أخبرنَا زَاهِر ابْن طَاهِر أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد التميمى المروزى أخبرنَا أَبُو نصر الْحُسَيْن ابْن على بن مُحَمَّد الحفصوى بمرو أخبرنَا الْحَاكِم أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن الْحسن البخارى حَدَّثَنى أَبُو أَحْمد خلف بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن خلف أَمِير سجستان(3/279)
حَدثنَا خلف بن إِسْمَاعِيل الْخيام حَدثنَا خلف بن سُلَيْمَان النسفى حَدثنَا خلف ابْن مُحَمَّد كرْدُوس الواسطى حَدثنَا خلف بن مُوسَى بن خلف عَن أَبِيه عَن جده عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن فى الْجنَّة لغرفا لَيْسَ لَهَا معاليق من فَوْقهَا وَلَا عماد من تحتهَا) قيل يَا رَسُول الله وَكَيف يدخلهَا أَهلهَا قَالَ يدْخلُونَهَا أشباه الطير قيل يَا رَسُول الله لمن هى قَالَ لأهل الأسقام والأوجاع والبلوى
180 - الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الإِمَام الْجَلِيل أَبُو على الطبرى
صَاحب الإفصاح
لَهُ الْوُجُوه الْمَشْهُورَة فى الْمَذْهَب وصنف فى أصُول الْفِقْه وفى الجدل وصنف الْمُحَرر وَهُوَ أول كتاب صنف فى الْخلاف الْمُجَرّد
تفقه على أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة وَسكن بَغْدَاد وَتوفى بهَا سنة خمسين وثلاثمائة
إِذا أذن الْمُرْتَهن للرَّاهِن فى البيع أَو الْعتْق ثمَّ رَجَعَ قبل أَن يَبِيع أَو يعْتق وَلم يعلم الرَّاهِن بِالرُّجُوعِ فَبَاعَ أَو أعتق ففى صِحَّته وَجْهَان مخرجان من تصرف الْوَكِيل قبل الْعلم بعزله(3/280)
كَذَا حَكَاهُ الجماهير مِنْهُم الرافعى والنووى
وَفصل فى الإفصاح فَقَالَ إِن رَجَعَ الْآذِن قبل وُقُوع البيع فَإِن كَانَ يُمكن الْوُقُوف فى مثله على رُجُوعه فعلى وَجْهَيْن وَإِن كَانَ لَا يُمكن فى مثله فعلى قَول وَاحِد أَن بَيْعه صَحِيح وَلَا معنى لرجوعه قِيَاسا على مَا قَالَ الشافعى فى الولى إِذا دفع من وَجب لَهُ حق الْقصاص إِلَى سياف فَرجع فى الْإِذْن قبل الْقَتْل
قَالَ الرويانى وَهَذَا التَّفْصِيل لم يقلهُ غَيره
181 - الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَبى زرْعَة مُحَمَّد بن عُثْمَان الدمشقى
قاضى الديار المصرية والشامية وسليل قاضيها وَهُوَ الذى كَانَ ابْن الْحداد يَنُوب عَنهُ وَكَانَ الْحُسَيْن شَابًّا وَقد ولآه الْخَلِيفَة فولى مُحَمَّد بن طغج الإخشيد ابْن الْحداد خِلَافَته فَكَانَ ابْن الْحداد هُوَ الذى يحكم وَالِاسْم لِابْنِ أَبى زرْعَة ثمَّ ورد الْعَهْد بعد سِتَّة أشهر من خلَافَة ابْن الْحداد لِابْنِ أَبى زرْعَة بِالْقضَاءِ من ابْن أَبى الشَّوَارِب قاضى بَغْدَاد فَركب ابْن أَبى زرْعَة بِالسَّوَادِ إِلَى الْجَامِع وقرىء عَهده على الْمِنْبَر وَله يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سنة
وَكَانَ عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ منفذا ثمَّ أضيف إِلَيْهِ قَضَاء دمشق وحمص والرملة وَغير ذَلِك وَكَانَ حَاجِبه بِسيف ومنطقة
وَلم يزل ابْن الْحداد يخلفه إِلَى آخر أَيَّامه وَكَانَ ابْن أَبى زرْعَة يتأدب مَعَه ثمَّ لما عزل ابْن أَبى الشَّوَارِب من قَضَاء بَغْدَاد وَولى أَبُو نصر يُوسُف بن عمر القاضى بعث الْعَهْد إِلَى ابْن أَبى زرْعَة باستمراره(3/281)
182 - حمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خطاب الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الخطابى البستى
وَيُقَال إِنَّه من سلالة زيد بن الْخطاب بن نفَيْل الْعَدْوى وَلم يثبت ذَلِك كَانَ إِمَامًا فى الْفِقْه والْحَدِيث واللغة
أَخذ الْفِقْه عَن أَبى بكر الْقفال الشاشى وأبى على بن أَبى هُرَيْرَة
وَسمع الحَدِيث من أَبى سعيد بن الأعرابى بِمَكَّة وأبى بكر بن داسة بِالْبَصْرَةِ وَإِسْمَاعِيل الصفار بِبَغْدَاد وأبى الْعَبَّاس الْأَصَم بنيسابور وطبقتهم
روى عَنهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفراينى وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم الْحَافِظ وَأَبُو نصر مُحَمَّد بن أَحْمد بن سُلَيْمَان البلخى الغزنوى وَأَبُو مَسْعُود الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الكرابيسى وَأَبُو عَمْرو مُحَمَّد بن عبد الله الرزجاهى البسطامى وَأَبُو ذَر عبد ابْن أَحْمد الهروى وَأَبُو عبيد الهروى صَاحب الغريبين وَعبد الغافر بن مُحَمَّد الفارسى وَغَيرهم
وَذكره أَبُو مَنْصُور الثعالبى فى كتاب الْيَتِيمَة وَسَماهُ أَحْمد وَهُوَ غلط وَالصَّوَاب حمد(3/282)
وَذكره الإِمَام أَبُو المظفر بن السمعانى فى كتاب القواطع فى أصُول الْفِقْه عِنْد الْكَلَام على الْعلَّة وَالسَّبَب وَالشّرط وَقَالَ قد كَانَ من الْعلم بمَكَان عَظِيم وَهُوَ إِمَام من أَئِمَّة السّنة صَالح للاقتداء بِهِ والإصدار عَنهُ انْتهى
وَمن تصانيفه معالم السّنَن وَهُوَ شرح سنَن أَبى دَاوُد وَله غَرِيب الحَدِيث وشرح الْأَسْمَاء الْحسنى وَكتاب الْعُزْلَة وَكتاب الغنية عَن الْكَلَام وَأَهله وَغير ذَلِك
توفى ببست فى ربيع الآخر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد والغرائب والأشعار عَنهُ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن اليونينى وشهدة العامرية أخبرنَا جَعْفَر الهمدانى
ح وَكتب إِلَى أَحْمد بن أَبى طَالب عَن جَعْفَر وَغَيره عَن مُحَمَّد بن عبد الهادى عَن أَبى طَاهِر السلفى قَالَ جَعْفَر سَمَاعا قَالَ سَمِعت أَبَا المحاسن الرويانى بالرى يَقُول سَمِعت أَبَا نصر البلخى بغزنة يَقُول سَمِعت أَبَا سُلَيْمَان الخطابى يَقُول سَمِعت أَبَا سعيد ابْن الأعرابى وَنحن نسْمع عَلَيْهِ هَذَا الْكتاب يعْنى كتاب السّنَن لأبى دَاوُد وَأَشَارَ إِلَى النُّسْخَة الَّتِى بَين يَدَيْهِ يَقُول لَو أَن رجلا لم يكن عِنْده من الْعلم إِلَّا الْمُصحف الذى فِيهِ كتاب الله ثمَّ هَذَا الْكتاب لم يحْتَج مَعَهُمَا إِلَى شىء من الْعلم بتة
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا عبد الْوَاسِع بن عبد الكافى الأبهرى إجَازَة أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَبى جَعْفَر بن على القرطبى سَمَاعا أخبرنَا(3/283)
الْقَاسِم بن الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد بن أَحْمد الخوارى إجَازَة وَحدثنَا عَنهُ أَبى سَمَاعا
ح قَالَ ابْن المظفر وَأخْبرنَا يُوسُف بن مُحَمَّد المصرى إجَازَة أخبرنَا إِبْرَاهِيم ابْن بَرَكَات الخشوعى سَمَاعا أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر إجَازَة أخبرنَا عبد الْجَبَّار الخوارى أنشدنا الشَّيْخ الإِمَام أَبُو سعيد القشيرى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَبْدَانِ الكرمانى أنشدنا أَبُو الْحسن بن أَبى عمر أنشدنى أَبُو سُلَيْمَان الخطابى لنَفسِهِ
(ارْض للنَّاس جَمِيعًا ... مثل مَا ترْضى لنَفسك)
(إِنَّمَا النَّاس جَمِيعًا ... كلهم أَبنَاء جنسك)
(غير عدل أَن توخى ... وَحْشَة النَّاس بأنسك)
(فَلهم نفس كنفسك ... وَلَهُم حس كحسك)
وَبِه إِلَى أَبى الْحسن بن أَبى عمر وَهُوَ النوقانى قَالَ سَمِعت أَبَا سُلَيْمَان الخطابى يَقُول الْغنى مَا أَغْنَاك لَا مَا عناك
قَالَ وسمعته يَقُول عش وَحدك حَتَّى تزور لحدك احفظ أسرارك وَشد عَلَيْك أزرارك
وَمن شعر الخطابى غير مَا تقدم
(وَمَا غربَة الْإِنْسَان فى شقة النَّوَى ... وَلكنهَا وَالله فى عدم الشكل)
(وإنى غَرِيب بَين بست وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا أسرتى وَبهَا أهلى)(3/284)
وَمِنْه
(فسامح وَلَا تستوف حَقك كُله ... وأبق فَلم يسْتَوْف قطّ كريم)
(وَلَا تغل فى شئ من الْأَمر واقتصد ... كلا طرفى قصد الْأُمُور ذميم)
ذكر الخطابى فى معالم السّنَن الحَدِيث الذى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت وأجازها لغَيرهم وَاقْتصر فِيهِ على قَوْله (القانع السَّائِل والمستطعم وأصل القنوع السُّؤَال وَيُقَال فى القانع إِنَّه الْمُنْقَطع إِلَى الْقَوْم يخدمهم وَيكون فى حوائجهم وَذَلِكَ مثل الْأَجِير وَالْوَكِيل وَنَحْوه)
وَمعنى رد هَذِه الشَّهَادَة التُّهْمَة فى جر النَّفْع إِلَى نَفسه لِأَن القانع لأهل الْبَيْت ينْتَفع بِمَا يصير إِلَيْهِم من نفع إِلَى أَن قَالَ وَمن رد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت بِسَبَب جر الْمَنْفَعَة فَقِيَاس قَوْله أَن يرد شَهَادَة الزَّوْج لزوجته لِأَن مَا بَينهمَا من التُّهْمَة فى جر النَّفْع أَكثر وَإِلَى هَذَا ذهب أَبُو حنيفَة انْتهى
وَقد تبعه جمَاعَة من الْأَصْحَاب مِنْهُم القاضى الْحُسَيْن فَقَالَ فى تعليقته مَا نَصه فرع شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت لَا تقبل وَهُوَ الذى انْقَطع فى مكاسبه والتجأ إِلَى أهل بَيت يؤاكلهم ويرمى عَن قوسهم فَلَا تقبل شَهَادَته لَهُم لما فِيهِ وَلما هُوَ عَلَيْهِ من سُقُوط الْمُرُوءَة
قَالَ القاضى رَحمَه الله وَلَو كَانَت الزَّوْجَة بِهَذِهِ الصّفة أَقُول لَا تقبل شهادتها انْتهى
وَصَاحب الْبَحْر الرويانى اتبع الخطابى فى كَلَامه هَذَا
والْحَدِيث ذكره من أَصْحَابنَا زَكَرِيَّا الساجى والماوردى وَلم يشبعوا عَلَيْهِ كلَاما(3/285)
والرويانى اقْتصر فِيهِ على كَلَام الخطابى وَقَالَ فى شَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ للْآخر الصَّحِيح عندى أَنَّهَا لَا تقبل فَفِيهَا تُهْمَة قَوِيَّة خَاصَّة فى زَمَاننَا قَالَ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الخطابى إِنَّه الْقيَاس على القانع الذى ورد بِهِ النَّص
قلت وَمَسْأَلَة القانع مَعَ وُرُود حَدِيث فِيهَا لم أجد من أشبعها قولا وَقَلِيل من خصها بِالذكر وَلم أرها فى شئ من كتب الرافعى والنووى وَابْن الرّفْعَة من خصها بِالذكر وَلم أرها فى شئ من كتب الرافعى والنووى وَابْن الرّفْعَة بل لَا أحفظها مَقْصُودَة بِالذكر فى غير تعليقة القاضى وَمن بعده مِمَّن سأذكره
والذى أقوله فِيهَا إِن الحَدِيث إِن صَحَّ وَكَانَ مَعْنَاهُ مَا ذكر فَلَا مدفع لَهُ وواجب الرُّجُوع إِلَيْهِ غير أَنه لَا يكَاد يثبت وَلَفظه مُضْطَرب وَمَعْنَاهُ مُخْتَلف فِيهِ
أما توقفنا فى ثُبُوته فَمن قبل أَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن رَاشد وَفِيه كَلَام عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى الدمشقى وَفِيه أَيْضا كَلَام قَالَ البخارى عِنْده مَنَاكِير عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده
وَأما اضْطِرَاب لَفظه فَلفظ أَحْمد لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا ذى غمر على أَخِيه وَلَا شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت والقانع الذى ينْفق عَلَيْهِ أهل الْبَيْت(3/286)
وَلَفظ أَبى دَاوُد رد شَهَادَة الخائن والخائنة وذى الْغمر على أَخِيه ورد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت وأجازها لغَيرهم
وفى لفظ آخر عِنْده لم يذكر القانع بِالْكُلِّيَّةِ
وَرَوَاهُ الدارقطنى من حَدِيث عَائِشَة وَلَفظه وَلَا القانع من أهل الْبَيْت لَهُم
رَوَاهُ من حَدِيث يزِيد بن أَبى زِيَاد وَقَالَ يزِيد بن أَبى زِيَاد هَذَا لَا يحْتَج بِهِ
قلت وَذكر ابْن أَبى حَاتِم فى الْعِلَل أَن أَبَا زرْعَة الرازى قَالَ إِنَّه حَدِيث مُنكر
وَأما الِاخْتِلَاف فى مَعْنَاهُ فَمَا ذكره الخطابى اعْتمد فِيهِ على قَول أَبى عبيد القانع السَّائِل والمستطعم وَقَالَ أَيْضا قد يُقَال إِنَّه الْمُنْقَطع إِلَى الْقَوْم يخدمهم وَيكون فى حوائجهم
قلت وَلَعَلَّ هَذَا أشبه بِمَعْنى الحَدِيث وَقد تقدم فى بعض أَلْفَاظه مَا يُؤَيّدهُ وَمَعَ هَذَا الِاضْطِرَاب يقف الِاحْتِجَاج بِهِ
وَأما شَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ للْآخر وَقِيَاس أَبى سُلَيْمَان لَهَا على القانع فموضع نظر وأوضح مِنْهُ مَا ذكره القاضى من قِيَاس الزَّوْجَة على القانع لَا القانع فَإِن الزَّوْجَة هى الَّتِى تستجر النَّفْع بِمَال زَوجهَا وَمن أجل ذَلِك حكى بعض الْأَصْحَاب قولا إِن شهادتها لَهُ ترد بِخِلَاف شَهَادَته لَهَا غير أَنه ضَعِيف وبعيد الشّبَه من القانع فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَأْخُذ النَّفَقَة عوضا فَلَا يَقع بهَا من التُّهْمَة مَا يَقع للقانع وَلَا يحملهَا على مَا يحملهُ
والرافعى لم يذكر القانع لَا مَقْصُودا وَلَا مستطردا وَحكى فى شَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ للْآخر ثَلَاثَة أَقْوَال أَصَحهَا عِنْده وَعند النووى الْقبُول(3/287)
قَالَ وفى التَّهْذِيب طَريقَة قَاطِعَة بِهِ وَثَالِثهَا قبُول الزَّوْج دون الزَّوْجَة
وَلم يزدْ الرافعى على ذَلِك
وفى الْمَسْأَلَة وَجه رَابِع أَن شهادتها تقبل لَهُ إِن كَانَ مُوسِرًا وَإِن كَانَ مُعسرا فَوَجْهَانِ
وخامس أَنَّهَا ترد فِيمَا إِذا شهِدت بِمَال هُوَ قدر قوتها ذَلِك الْيَوْم وَلَا مَال للزَّوْج غَيره لعود النَّفْع إِلَيْهَا يَقِينا وَتقبل فى غير هَذِه الْحَالة لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق عود النَّفْع إِلَيْهَا
حَكَاهُمَا القاضى شُرَيْح فى كتاب أدب الْقَضَاء وَجزم فِيمَن انْقَطع إِلَى كنف رجل يراعيه وَينْفق عَلَيْهِ أَنه لَا يمْتَنع بذلك قبُول شَهَادَته
قلت وَهَذَا هُوَ القانع بِعَيْنِه وَإِن لم يُصَرح بِلَفْظِهِ فَفِيهِ مُخَالفَة لما جزم بِهِ القاضى من الرَّد وَمَا ذكره من الْقبُول هُوَ الذى لَا تكَاد تَجِد سواهُ فى أذهان النَّاس وَهُوَ الْفِقْه الظَّاهِر إِن لم يثبت الحَدِيث
حكى الخطابى فى معالم السّنَن عَن أَبى ثَوْر أَنه قَالَ الْجَمَاعَة فى الْجُمُعَة كَسَائِر الصَّلَوَات
وَهَذَا رد على دَعْوَى ابْن الرّفْعَة أَنه لَا خلاف فى اشْتِرَاط الْجَمَاعَة الْجُمُعَة بِشَرْط أَن يكون أَبُو ثَوْر لَا يرى وجوب الْجَمَاعَة فى سَائِر الصَّلَوَات وَإِلَّا فَمَتَى رأى ذَلِك لم يكن فِيهِ دَلِيل إِلَّا على أَنه يكفى فِيهَا إِمَام ومأموم فَلم ينف عَنْهَا أصل الْجَمَاعَة
ذهب الخطابى إِلَى أَن أكل الثوم والبصل لَيْسَ عذرا فى ترك الْجُمُعَة
قَالَ النووى فى كَلَام الخطابى إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم الْبَوْل فى الطَّرِيق وَهُوَ الذى ينبغى(3/288)
لحَدِيث اتَّقوا اللعانين وَلما فِيهِ من إِيذَاء الْمُسلمين وَلَكِن الْأَصْحَاب متفقون على أَن كراهيته كَرَاهِيَة تَنْزِيه
كره الخطابى للْمَرْأَة لبس خَاتم الْفضة لِأَنَّهُ من شعار الرِّجَال قَالَ بِخِلَاف خَاتم الذَّهَب
وَمن كَلَام الخطابى فى حَدِيث ابْن عَبَّاس الذى أخرجه أَبُو دَاوُد قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى دِيَة الْمكَاتب يقتل فيودى مَا أدّى من كِتَابَته دِيَة الْحر وَمَا بقى دِيَة الْمَمْلُوك
كَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ النسائى مُرْسلا
قَالَ الخطابى أجمع عَامَّة الْفُقَهَاء أَن الْمكَاتب عبد مَا بقى عَلَيْهِ دِرْهَم فى جِنَايَته وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ
وَلم يذهب إِلَى الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث أحد فِيمَا بلغنَا إِلَّا إِبْرَاهِيم النخعى وروى فى ذَلِك شئ عَن على كرم الله وَجهه وَإِذا صَحَّ الحَدِيث وَجب الْعَمَل بِهِ إِذا لم يكن مَنْسُوخا وَلَا مُعَارضا بِمَا هُوَ أولى مِنْهُ انْتهى
قلت وَقد حكى هَذَا القَوْل عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رضى الله عَنهُ
اسْتحْسنَ ابْن السمعانى أَبُو المظفر فى كتاب القواطع قَول الخطابى لَيْسَ كل سَبَب عِلّة وَلَكِن كل عِلّة سَبَب كَمَا أَنه لَيْسَ كل دَلِيل عِلّة وَلَكِن كل عِلّة دَلِيل وَوَصفه بِمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا من الْمَدْح(3/289)
وَهَذَا الْكَلَام حسن فى بادئ الرأى للتفرقة بَين الْعلَّة وَالسَّبَب إِلَّا أَن فِيهِ تسمحا فَإِن الْعلَّة مَا بِهِ الشئ وَالسَّبَب مَا عِنْده الشئ لَا بِهِ فهما قِسْمَانِ لَيْسَ أَحدهمَا أَعم من الآخر فَلَا يَصح هَذَا الْكَلَام وَهَذَا لَا يقبل من الخطابى وَإِن علا شَأْنه فى الْعُلُوم الَّتِى يدريها غير الْكَلَام فَلَيْسَ هُوَ من صناعته
وَقد تكلمنا عَن السَّبَب وَالْعلَّة كلَاما مَبْسُوطا فى كتاب الْأَشْبَاه والنظائر وفى كتاب منع الْمَوَانِع على لِسَان أَصْحَاب هَذِه الْعُلُوم
قَالَ الخطابى فى كِتَابه تَفْسِير اللُّغَة الَّتِى فى مُخْتَصر المزنى فى بَاب الشُّفْعَة بلغنى عَن إِبْرَاهِيم بن السرى الزّجاج النحوى إِنَّه كَانَ يذهب إِلَى أَن الصَّاد تبدل سينا مَعَ الْحُرُوف كلهَا لقرب مخرجهما فَحَضَرَ يَوْمًا عِنْد على ابْن عِيسَى فتذاكرا هَذِه الْمَسْأَلَة وَاخْتلفَا فِيهَا وَثَبت الزّجاج على مقَالَته فَلم يَأْتِ على ذَلِك إِلَّا قَلِيل من الْمدَّة فَاحْتَاجَ الزّجاج إِلَى كتاب إِلَى بعض الْعمَّال فى الْعِنَايَة فجَاء إِلَى على بن عِيسَى الْوَزير ينتجز الْكتاب فَلَمَّا كتب على بن عِيسَى صدر الْكتاب وانْتهى إِلَى ذكره كتب وَإِبْرَاهِيم بن السرى من أخس إخوانى
فَقَالَ الرجل أَيهَا الْوَزير الله الله فى أمرى فَقَالَ لَهُ على بن عِيسَى إِنَّمَا أردْت أخص وَهَذِه لغتك فَأَنت أبْصر فَإِن رجعت وَإِلَّا أنفذت الْكتاب بِمَا فِيهِ فَقَالَ قد رجعت أَيهَا الْوَزير فَأصْلح الْحَرْف وطوى الْكتاب(3/290)
183 - دعْلج بن أَحْمد بن دعْلج أَبُو مُحَمَّد السجزى
الْفَقِيه الْمعدل
ولد سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ أَو قبلهَا
وَسمع بعد الثَّمَانِينَ من على بن عبد الْعَزِيز بِمَكَّة
وَهِشَام بن على السيرافى وَعبد الْعَزِيز بن مُعَاوِيَة بِالْبَصْرَةِ
وَمُحَمّد بن أَيُّوب وَابْن الْجُنَيْد بالرى
وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجى وقشمرد وَمُحَمّد بن عَمْرو الحرشى وَطَائِفَة بنيسابور
وَعُثْمَان بن سعيد الدارمى وَغَيره بهراة
وَمُحَمّد بن غَالب وَمُحَمّد بن رمح الْبَزَّار وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان الباغندى وخلقا بِبَغْدَاد وَغَيرهَا
روى عَنهُ الدارقطنى وَالْحَاكِم وَابْن رزقويه وَأَبُو على بن شَاذان والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفراينى وَخلق
قَالَ الْحَاكِم أَخذ عَن ابْن خُزَيْمَة المصنفات وَكَانَ يُفْتى بمذهبه وَكَانَ شيخ أهل الحَدِيث لَهُ صدقَات دارة على أهل الحَدِيث بِمَكَّة وَالْعراق وسجستان سمعته يَقُول تقدم إِلَى لَيْلَة بِمَكَّة ثَلَاثَة فَقَالُوا أَخ لَك بخراسان قتل أخانا وَنحن نقتلك بِهِ فَقلت(3/291)
اتَّقوا الله فَإِن خُرَاسَان لَيست بِمَدِينَة وَاحِدَة فَلم أزل أداريهم إِلَى أَن اجْتمع الْخلق وخلوا عَنى فَهَذَا سَبَب انتقالى من مَكَّة إِلَى بَغْدَاد
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت الدارقطنى يَقُول صنفت لدعلج الْمسند الْكَبِير فَكَانَ إِذا شكّ فى حَدِيث ضرب عَلَيْهِ وَلم أر فى مَشَايِخنَا أثبت مِنْهُ
قَالَ الْحَاكِم اشْترى دعْلج بِمَكَّة دَار العباسية بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار قَالَ وَيُقَال لم يكن فى الدُّنْيَا من التُّجَّار أيسر من دعْلج
وَقَالَ الْخَطِيب بلغنى أَنه بعث بالمسند إِلَى ابْن عقدَة لينْظر فِيهِ وَجعل فى الْأَجْزَاء بَين كل ورقتين دِينَارا
وَقَالَ ابْن حيويه أدخلنى دعْلج دَاره وأرانى بَدْرًا من الْأَمْوَال معبأة وَقَالَ لى يَا أَبَا عمر خُذ من هَذَا مَا شِئْت فَشَكَرت لَهُ وَقلت أَنا فى كِفَايَة
وَقَالَ أَبُو ذَر الهروى خلف دعْلج ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار
وَقَالَ أَبُو الْعَلَاء الواسطى كَانَ دعْلج يَقُول لَيْسَ فى الدُّنْيَا مثل دارى لِأَنَّهُ لَيْسَ فى الدُّنْيَا مثل بَغْدَاد وَلَا بِبَغْدَاد مثل القطيعة وَلَا بالقطيعة مثل درب أَبى خلف وَلَا فى الدَّرْب مثل دارى
وَنقل الْخَطِيب أَن رجلا صلى الْجُمُعَة فَرَأى رجلا ناسكا لم يصل فَكَلمهُ فَقَالَ اسْتُرْ على إِن على لدعلج خَمْسَة آلَاف دِرْهَم فَلَمَّا رَأَيْته أحدثت فى ثيابى فَبلغ دعلجا فَطلب الرجل إِلَى منزله وأبرأه مِنْهَا وَوَصله بِخَمْسَة آلَاف لكَونه روعه
وَقَالَ أَحْمد بن الْحُسَيْن الْوَاعِظ فِيمَا روى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ عَنهُ أودع أَبُو عبد الله ابْن أَبى مُوسَى الهاشمى عشرَة آلَاف دِينَار ليتيم فأنفقها فَلَمَّا كبر الصبى أَمر السُّلْطَان بِدفع المَال إِلَيْهِ قَالَ ابْن أَبى مُوسَى فضاقت على الدُّنْيَا فبكرت على بلغتى إِلَى الكرخ فوقفت على بَاب مَسْجِد دعْلج فَصليت خَلفه الْفجْر فَلَمَّا انْفَتَلَ رحب بى ودخلنا دَاره فَقدم هريسة فأكلنا وقرت فَقَالَ أَرَاك منقبضا فَأَخْبَرته فَقَالَ كل فحاجتك(3/292)
مقضية فَلَمَّا فَرغْنَا وزن لى عشرَة آلَاف دِينَار فَقُمْت أطير فَرحا ثمَّ أَعْطَيْت الصبى المَال وَعظم ثَنَاء النَّاس على فاستدعانى أَمِير من أَوْلَاد الْخَلِيفَة فَقَالَ قد رغبت فى معاملتك وتضمينك أملاكى فضمنت مِنْهُ فربحت ربحا مفرطا حَتَّى كسبت فى ثَلَاثَة أَعْوَام ثَلَاثِينَ ألف دِينَار فَحملت إِلَى دعْلج ذهبه فَقَالَ مَا خرجت وَالله الدَّنَانِير عَن يدى ونويت أَن آخذ عوضهَا حل بهَا الصّبيان فَقلت أَيهَا الشَّيْخ أى شئ أصل هَذَا المَال حَتَّى تهب لى مِنْهُ عشرَة آلَاف دِينَار فَقَالَ نشأت وحفظت الْقُرْآن وَطلبت الحَدِيث وتاجرت فوافانى تَاجر فَقَالَ أَنْت دعْلج قلت نعم قَالَ قد رغبت فى تَسْلِيم مالى إِلَيْك مُضَارَبَة وَسلم إِلَى برنامجات بِأَلف ألف دِرْهَم وَقَالَ لى ابْسُطْ يدك فِيهِ وَلَا تعلم موضعا تنفقه إِلَّا حملت مِنْهُ إِلَيْهِ وَلم يزل يتَرَدَّد إِلَى سنة بعد سنة يحمل إِلَى مثل هَذَا وَالْمَال ينمى فَلَمَّا كَانَ فى آخر سنة اجْتَمَعنَا قَالَ لى أَنا كثير الْأَسْفَار فى الْبَحْر فَإِن قضى الله على قَضَاء فَهَذَا المَال كُله لَك على أَن تَتَصَدَّق مِنْهُ وتبنى الْمَسَاجِد قَالَ دعْلج فَأَنا أفعل مثل هَذَا وَقد ثَمَر الله المَال فى يدى فاكتم على مَا عِشْت
توفى دعْلج فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَخمسين وثلاثمائة وَله نَيف وَتسْعُونَ سنة
184 - زَاهِر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى أَبُو على السرخسى
الْفَقِيه الْمُقْرِئ الْمُحدث
إِمَام من الْأَئِمَّة
تفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى ودرس الْأَدَب على أَبى بكر بن الأنبارى(3/293)
وَسمع أَبى لبيد مُحَمَّد بن إِدْرِيس السامى وَأَبا الْقَاسِم البغوى وَيحيى بن صاعد ومؤمل بن الْحسن الماسرجسى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل الصابونى وَأَبُو عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد البحيرى وكريمة الكشميهنية الْمُجَاورَة وَخلق
وَأخذ علم الْكَلَام عَن الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى رضى الله عَنهُ
قَالَ الْحَاكِم فِيهِ الْفَقِيه الْمُحدث شيخ عصره بخراسان سَمِعت مناظرته فى مجْلِس أَبى بكر بن إِسْحَاق الصبغى وَكَانَ قد قَرَأَ الْقُرْآن على أَبى بكر بن مُجَاهِد وَدخلت سرخس أول مَا دَخَلتهَا سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وثلاثمائة ودخلتها بعد ذَلِك سبع مَرَّات مَا من مرّة إِلَّا قصدنى زَائِرًا مَعَ جمَاعَة أَصْحَابه
وَذكر أَنه لم يقدر لَهُ سَمَاعه مِنْهُ من الْأَحَادِيث المسندات شَيْئا
قلت وَشَيخنَا الذهبى عد الْحَاكِم فى الروَاة عَنهُ فَلَعَلَّهُ لروايته عَنهُ من غير الْأَحَادِيث المسندة
قَالَ الْحَاكِم وَكَانَت كتبه ترد على على الدَّوَام أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة
قَالَ وَتوفى يَوْم الثُّلَاثَاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن سِتّ وَتِسْعين سنة(3/294)
185 - الزبير بن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن عَاصِم بن الْمُنْذر بن الزبير ابْن الْعَوام الأسدى الإِمَام الْجَلِيل أَبُو عبد الله الزبيرى
صَاحب الكافى والمسكت وَغَيرهمَا
كَانَ إِمَامًا حَافِظًا للْمَذْهَب عَارِفًا بالأدب خَبِيرا بالأنساب وَكَانَ أعمى وَكَانَ يسكن الْبَصْرَة
وَوَقع فى كَلَام بعض المصنفين أَن اسْمه أَحْمد بن سُلَيْمَان وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ مَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق والخطيب وَابْن السمعانى وَغَيرهم
قَالَ الماوردى فى الحاوى فى آخر بَاب زَكَاة الحلى قَالَ أَبُو عبد الله الزبيرى وَهُوَ شيخ أَصْحَابنَا فى عصره إِذا اتخذ الحلى للإجارة وَجَبت فِيهِ الزَّكَاة قولا وَاحِدًا
قلت وَذَلِكَ من الزبيرى مبْنى على أصل لَهُ وَهُوَ أَن اتِّخَاذ الحلى للإجارة حرَام وَالأَصَح جَوَازه وَعدم الزَّكَاة فِيهِ
وَمُرَاد الماوردى بأصحابنا فِيمَا نظن البصريون لَا جَمِيع الْأَصْحَاب والماوردى بصرى
وَكَانَ الزبير عَارِفًا بالقراءات عرض على روح بن قُرَّة ورويس وَمُحَمّد ابْن يحيى القطعى وَلم يخْتم عَلَيْهِ(3/295)
وَحدث بِالْحَدِيثِ عَن مُحَمَّد بن سِنَان الْقَزاز وَغَيره
وروى عَنهُ أَبُو بكر النقاش وتلا عَلَيْهِ الْقُرْآن وَعمر بن بَشرَان وعَلى بن لُؤْلُؤ وَمُحَمّد بن بخيت
وَمن تصانيف الزبيرى غير الكافى والمسكت كتاب النِّيَّة وَكتاب ستر الْعَوْرَة وَكتاب الْهِدَايَة وَكتاب الاستشارة والاستخارة وَكتاب رياضة المتعلم وَكتاب الْإِمَارَة
مَاتَ سنة سبع عشرَة وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ والغرائب
قَالَ فى المسكت فِيمَن حلف لَا يَأْكُل الْفَاكِهَة يَحْنَث بالموز عندى لَا محَالة قَالَ والزعرور عندى من الْفَاكِهَة
وَقَالَ فِيمَن ادّعى عَلَيْهِ دَرَاهِم فَقَالَ أتزن لم يكن إِقْرَارا وَإِن قَالَ أتزنها كَانَ إِقْرَارا
هَكَذَا فرق أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيُّونَ وعندى أَنَّهُمَا سَوَاء لِأَنَّهُ إِذا قَالَ أتزن فقد يُرِيد أتزن من فلَان فَلَا فرق بَينه وَبَين أَن يَقُول أتزنها إِلَّا أَن يَقُول أتزنها منى فَإِنَّهُ عندى إِقْرَار
قلت هَذَا كَلَامه فى المسكت وَقد حكيته فى كتابى التوشيح وَذكرت أَنه خلاف مَا حَكَاهُ عَنهُ الرافعى وَغَيره إِذْ حكوا عَنهُ أَن أتزنها إِقْرَار وصححوا مُخَالفَته وَقد صرح هُوَ بموافقتهم فَنقل خلاف ذَلِك عَنهُ مُسْتَدْرك فقد أريناك كَلَامه وَنَقله مَا نسب إِلَيْهِ إِلَى أَصْحَابه وَإِلَى الْعِرَاقِيّين وَمرَاده بِأَصْحَابِهِ البصريون من أَصْحَابنَا(3/296)
وَمَسْأَلَة أتزنها منى حَسَنَة وَلم يصرحوا بذكرها وَهَذَا مَكَان مليح
قَالَ الرافعى قَالَ الشافعى رَأَيْت امْرَأَة لم تزل تحيض يَوْمًا وَلَيْلَة وروى مثله عَن عَطاء وَعَن أَبى عبد الله الزبيرى
قلت وفى هَذَا النَّقْل عَن الثَّلَاثَة نظر
والمحكى فى كتاب الْمُهَذّب وَغَيره من كتب الْأَصْحَاب عَن كل من عَطاء والشافعى وأبى عبد الله الزبيرى أَنهم رَأَوْا من تحيض يَوْمًا لَا تزيد عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الأوزاعى رَحمَه الله إِذْ قَالَ كَانَت عندنَا امْرَأَة تحيض بِالْغَدَاةِ وتطهر بالعشى
وَقد عَاد الرافعى بعد ذَلِك فَنقل الرِّوَايَة على الصَّوَاب عَن عَطاء والزبيرى فَقَالَ فى كَلَامه على أَكثر الْحيض عَن عَطاء رَأَيْت من تحيض يَوْمًا وَمن تحيض خَمْسَة عشر وَعَن أَبى عبد الله الزبيرى مثل ذَلِك
وَهَذَا يدْفع نَقله الْمُتَقَدّم وَهُوَ الثَّابِت إِن شَاءَ الله
وقفت للزبيرى على مُصَنف لطيف فى المكاسب وَمَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم حكى فى أَوله قولا لبَعض النَّاس أَن المتكسب حرَام وَهَذِه عِبَارَته اخْتلف النَّاس فى المكاسب فَقَالَ بَعضهم المكاسب كلهَا حَلَال لما يحْتَاج إِلَيْهِ الْإِنْسَان فى نَفسه مِمَّا يقتاته لقُوته وَلما يجمعه من المَال
وَقَالَ آخَرُونَ المكاسب كلهَا مُحرمَة وَلَيْسَ لأحد أَن يكْتَسب وَلَا يضطرب وَإِنَّمَا يَأْخُذ من الدُّنْيَا بلغَة تمسك رمقة وتعل نَفسه فَأَما أَن يكْتَسب فَلَيْسَ ذَلِك لَهُ أَن يفعل وَإِذا فعل كَانَ ذَلِك من ضعف يقينه وَقلة ثقته بربه انْتهى(3/297)
186 - زَكَرِيَّا بن أَحْمد بن يحيى بن مُوسَى خت بن عبد ربه بن سَالم القاضى الْكَبِير قاضى دمشق فى خلَافَة المقتدر بِاللَّه جَعْفَر أَبُو يحيى البلخى
كَذَا سَاق نسبه الْحَافِظ فى تَارِيخ الشَّام ومُوسَى خت وَالِد جده بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة بعْدهَا تَاء مثناه من فَوق مُشَدّدَة
روى عَن يحيى بن أَبى طَالب وأبى إِسْمَاعِيل الترمذى وَبشر بن مُوسَى وأبى الزِّنْبَاع روح بن الْفَرح وأبى حَاتِم الرازى والْحَارث بن أَبى أُسَامَة وَعبد الله 6 7 8 9 10 11 12 13 14 فِيهِ بِحَسب الدَّلِيل وَأما الْعَمَل فالاحتياط فِيهِ مَطْلُوب وَالْخُرُوج من الْخلاف فى ذَلِك(3/298)
سهل بِأَن يُفَوض إِلَى نَائِبه فيزوجه أَو غَيره من الْوُلَاة فَلَمَّا وقفت عَلَيْهَا أريتها للشَّيْخ الإِمَام فَأَعْجَبتهُ لتأييدها لهَذَا الذى كَانَ يذكرهُ رَحمَه الله مَا كَانَ أورعه لقد كَانَ وقافا عِنْد كتاب الله صلبا فى احتياطه وتنقيبه عَن دينه
وَمن غرائب أَبى يحيى أَيْضا
قَوْله لَا يجوز أَن يرتهن الرجل أَبَاهُ وَلَا يستأجره
187 - زَكَرِيَّا بن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن بَحر بن عدى بن عبد الرَّحْمَن البصرى أَبُو يحيى الساجى الْحَافِظ
كَانَ من الثِّقَات الْأَئِمَّة
أَخذ عَن المزنى وَالربيع
وَسمع من عبيد الله بن معَاذ العنبرى وَمُحَمّد بن بشار وهدبة بن خَالِد وأبى الرّبيع الزهرانى وطالوت بن عباد وأبى كَامِل الجحدرى وَغَيرهم
ورحل إِلَى الْكُوفَة والحجاز ومصر
روى عَنهُ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الأشعرى قَالَ شَيخنَا الذهبى وَأخذ عَنهُ مَذْهَب أهل الحَدِيث
قلت سُبْحَانَ الله هُنَا تجْعَل الأشعرى على مَذْهَب أهل الحَدِيث وفى مَكَان آخر لَوْلَا خشيتك سِهَام الأشاعرة لصرحت بِأَنَّهُ جهمى
وَمَا كَانَ أَبُو الْحسن إِلَّا شيخ السّنة وناصر الحَدِيث وقامع الْمُعْتَزلَة والمجسمة وَغَيرهم وَمَا المجسمة إِلَّا أَعدَاء دين الله وَأهل حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/299)
وروى عَنهُ أَيْضا أَبُو أَحْمد بن عدى وَأَبُو بكر الإسماعيلى وَأَبُو عَمْرو بن حمدَان ويوسف الميانجى وَغَيرهم
قَالَ شَيخنَا الذهبى كَانَ من الثِّقَات الْأَئِمَّة لَهُ كتاب جليل فى الْعِلَل يدل على تبحره وإمامته
قلت وَله كتاب اخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَكتاب اخْتِلَاف الحَدِيث وَأَظنهُ الذى سَمَّاهُ الذهبى بالعلل
توفى سنة سبع وثلاثمائة
وَله مُصَنف فى الْفِقْه والخلافيات سَمَّاهُ أصُول الْفِقْه استوعب فِيهِ أَبْوَاب الْفِقْه وَذكر أَنه اخْتَصَرَهُ من كِتَابه الْكَبِير فى الخلافيات وَهُوَ عندى فى مُجَلد ضخم وفى خطبَته يَقُول بعد أَن عدد الْعلمَاء الَّذين ذكر اخْتلَافهمْ وهم الشافعى وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَابْن أَبى ليلى وَعبيد الله بن الْحسن العنبرى وَأَبُو يُوسُف وَزفر وَابْن شبْرمَة وَأحمد وَإِسْحَاق والثورى وَرَبِيعَة وَابْن أَبى الزِّنَاد وَيحيى بن سعيد وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر
قَالَ أَبُو يحيى وَإِنَّمَا بدات فى كتابى بالشافعى وَإِن كَانَ بَعضهم أسن مِنْهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها وتعلموا من قُرَيْش وَلَا تعالموها) وَلم أر أحدا فيهم أتبع لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا آخذ بِهِ من الشافعى
قَالَ وَسمعت بدر بن مُجَاهِد يَقُول سَمِعت أَحْمد بن اللَّيْث يَقُول سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول إنى لأدعو الله للشافعى فى صلاتى مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة يَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لى ولوالدى ولمحمد بن إِدْرِيس الشافعى
قَالَ وَسمعت أَحْمد بن مدرك الرازى يَقُول سَمِعت حَرْمَلَة بن يحيى يَقُول سَمِعت الشافعى يَقُول مَا حَلَفت بِاللَّه صَادِقا وَلَا كَاذِبًا(3/300)
قَالَ وَسمعت الرّبيع يَقُول سَمِعت الشافعى يَقُول وددت أَن هَذَا الْخلق تعلمُوا الْعلم على أَلا ينْسب إِلَى مِنْهُ حرف
وَذكر أَبُو يحيى فى هَذَا الْكتاب مَا يرْوى من قَول الشافعى إِذا اجْتمع خُسُوف وَعِيد وَقَالَ يعْنى الشَّافِعِي بالخسوف الزلزلة
قَالَ وَذكر الخسوف خطأ من الْكَاتِب
قلت تَفْسِيره الخسوف بالزلزلة حسن لَو كَانَ للزلزلة صَلَاة لَكِن لَا صَلَاة لَهَا
188 - سعيد بن مُحَمَّد الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد المطوعى
رَئِيس نسا
كَانَ من أَعْيَان تلامذة الشَّيْخ أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة تفقه عَلَيْهِ بِبَغْدَاد
وَسمع الحَدِيث بخراسان من أَبى حَامِد بن الشرقى وَغَيره
روى عَنهُ الْحَاكِم وَغَيره
توفى سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة
189 - أَبُو سهل بن العفريس الزوزنى
صَاحب جمع الْجَوَامِع فى نُصُوص الشافعى
هُوَ إِمَام أَوَاخِر الطَّبَقَة الثَّالِثَة أَو أَوَائِل الرَّابِعَة لِأَنَّهُ سمع من أَبى الْعَبَّاس الْأَصَم
وَهُوَ رجل زوزنى من جلة أَصْحَابنَا ذكره العبادى
وعندى من أول كتاب جمع الْجَوَامِع إِلَى أثْنَاء بَاب التَّفْلِيس فى مُجَلد ضخم كَانَ ملكا للشَّيْخ تقى الدّين بن الصّلاح وَهُوَ من الْأُصُول الْقَدِيمَة قد كتب مِنْهُ نَاصِر الْعُمْرَى المروزى نُسْخَة وعارضها بِهَذِهِ النُّسْخَة(3/301)
والعفريس فِيمَا كُنَّا نلفظ بِهِ بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا فَاء سَاكِنة ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة لكنى رَأَيْتهَا مضبوطة فى هَذِه النُّسْخَة الَّتِى أَشرت إِلَيْهَا بِفَتْح الْعين وَالْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء بعْدهَا نون سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة وَالله أعلم أى الْأَمريْنِ صَوَاب
وَقد جمع أَبُو سهل فى هَذَا الْكتاب فأوعى استوعب فِيهِ على مَا ذكر الْقَدِيم والمبسوط والأمالى وَرِوَايَة البويطى وحرملة وَابْن أبي الْجَارُود وَرِوَايَة المزنى فى الْجَامِع الْكَبِير والمختصر وَرِوَايَة أَبى ثَوْر ثمَّ إِذا فرغ من بَاب عقد بعده بَابا لما فَرعه ابْن سُرَيج وَغَيره من الْأَصْحَاب فَصَارَ الْكتاب بذلك أصلا من أصُول الْمَذْهَب وَمَا أَظن البيهقى وقف عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لم يذكرهُ فى رسَالَته إِلَى الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد وَمَعَ ذَلِك أستبعد عدم وُقُوفه عَلَيْهِ وَقد وقف عَلَيْهِ أَبُو عَاصِم العبادى وَنقل عَنهُ
190 - شُعَيْب بن على بن شُعَيْب بن عبد الْوَهَّاب بن الْحسن أَبُو نصر
من أهل همذان من قدماء أَصْحَابنَا
ولى الْقَضَاء وروى عَن أَبِيه وَعبد الرَّحْمَن بن حمدَان الحلاب وَالقَاسِم ابْن أَبى صَالح وَإِسْمَاعِيل الصفار وأبى سعيد بن الأعرابى وأبى عَمْرو ابْن السماك وَخلق
روى عَنهُ حمد الزّجاج وَحمد بن سهل وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن بويه الأسداباذى وَغَيرهم
قَالَ شيرويه كَانَ ثِقَة صَدُوقًا مرضيا فى حكمه(3/302)
وَقَالَ صَالح الْحَافِظ رَأَيْت فى الْمَنَام كَأَن الدُّنْيَا كلهَا ظلمَة إِلَّا حَيْثُ كَانَ القاضى شُعَيْب بن على وَاقِفًا فَقلت لَهُ يَا أَبَا نصر النُّور يَا أَبَا نصر النُّور يَا أَبَا نصر النُّور
مَاتَ القاضى شُعَيْب بأسداباذ فى ذى الْقعدَة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلاثمائة وَحمل إِلَى همذان
ذكره العبادى وَقَالَ نقل عَن الْقَاسِم بن الرّبيع عَن الرّبيع عَن الشافعى أَنه قَالَ من حلف باسم الله فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة لِأَن اسْم الله غير مَخْلُوق وَمن حلف بِالْكَعْبَةِ فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مخلوقة
191 - شُعَيْب بن مُحَمَّد بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم العجلى أَبُو صَالح البيهقى
سمع بخراسان أَبَا نعيم عبد الْملك بن عدى وَمُحَمّد بن حمدون وَأَبا حَامِد ابْن الشرقى ومكى بن عَبْدَانِ وبالعراق أَبَا بكر الأنبارى وَأَبا عبد الله المحاملى
وروى الْكثير بنيسابور
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَأَبُو عُثْمَان سعيد البحيرى وَغَيرهمَا
مولده سنة تسع أَو عشر وثلاثمائة بِخَط شَيخنَا الذهبى سنة تسع وفى نسختى من تَارِيخ الْحَاكِم سنة عشر وَتوفى فى صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وثلاثمائة ببيهق(3/303)
192 - طَاهِر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله البغدادى
نزيل نيسابور
قَالَ الْحَاكِم كَانَ أظرف من رَأينَا من الْعِرَاقِيّين وأفتاهم وَأَحْسَنهمْ كِتَابَة وَأَكْثَرهم فَائِدَة
سَمِعت أَبَا عبد الله ابْن أَبى ذهل يَقُول مَا رَأَيْت من البغداديين أَكثر فَائِدَة من أَبى عبد الله
سمع أَبَا حَامِد الحضرمى وَأَبا بكر أَحْمد بن الْقَاسِم الفرائضى وأقرانهما
توفى بنيسابور يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع من شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وروى عَنهُ الْحَاكِم وَهَذَا كَلَامه
قَالَ ابْن الصّلاح وَهُوَ فِيمَا أَحسب أَبُو الْأُسْتَاذ أَبى مَنْصُور البغدادى عبد القاهر بن طَاهِر
قلت مَا أوردناه من نسب هَذَا هُوَ مَا أوردهُ الْحَاكِم وَقد أسقط ابْن الصّلاح اسْم أَبى هَذَا فَقَالَ طَاهِر بن عبد الله وَذكره بعد القاضى فَكتب شَيخنَا المزى يقدم
فَأَما كِتَابَته إِيَّاه بعد القاضى فصواب لِأَن القاضى طَاهِر بن عبد الله وَهَذَا طَاهِر بن مُحَمَّد وَالْعين مُقَدّمَة على الْمِيم والمزى توهمه كَمَا أورد ابْن الصّلاح طَاهِر ابْن عبد الله فَكتب يقدم وَهُوَ صَحِيح لَو كَانَ الْأَمر كَمَا توهمه لِأَن جده إِبْرَاهِيم حِينَئِذٍ وجد القاضى طَاهِر وَالْألف قبل الطَّاء
والذى أرَاهُ أَن ابْن الصّلاح لم يقْصد هَذَا بل أَرَادَ أَن يكْتب طَاهِر بن مُحَمَّد فأسقط اسْم مُحَمَّد نِسْيَانا وَيدل عَلَيْهِ ذكره إِيَّاه بعد القاضى وَالله أعلم(3/304)
193 - الْعَبَّاس بن عبد الله بن أَحْمد بن عِصَام أَبُو الْفضل المزنى البغدادى
روى عَن هِلَال بن الْعَلَاء وعباس الدورى وخلائق
روى عَنهُ أَبُو زرْعَة أَحْمد بن الْحُسَيْن وَجَمَاعَة وَتكلم فِيهِ
وَقَالَ الْخَطِيب لم يكن بِثِقَة
وَقَالَ غَيره قدم همذان سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة
194 - عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْقَاسِم النسائى الْفَقِيه
حدث بِبَغْدَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَكَانَ قد سمع من الْحسن بن سُفْيَان مُسْنده وَبِه ختمت الرِّوَايَة عَن الْحسن وَسمع مُسْند ابْن رَاهَوَيْه من عبد الله بن شيرويه عَنهُ وَسمع بالعراق من مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الباغندى وطبقته
روى عَنهُ أَحْمد بن جَعْفَر الختلى وَأَبُو الْقَاسِم عبد الله بن الثلاج وَالْحَاكِم وَغَيرهم(3/305)
قَالَ الْخَطِيب قَالَ الْحَاكِم توفى فى شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة بنسا
قَالَ شَيخنَا الذهبى عندى فى تَارِيخ الْحَاكِم أَنه سنة أَربع وَثَمَانِينَ
قلت نُسْخَة الذهبى من تَارِيخ الْحَاكِم هى الَّتِى عنيت وهى سقيمة والنسخ من تَارِيخ الْخَطِيب مُعْتَمدَة فالاعتماد عَلَيْهَا أولى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ شيخ الْعَدَالَة وَالْعلم بنسا وعاش نيفا وَتِسْعين سنة
195 - عبد الله بن أَحْمد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بأبى الْقَاسِم البردعى
أنْشد لَهُ الدارقطنى قصيدة من قيله يمدح بهَا الشافعى وَأَصْحَابه أورد مِنْهَا ابْن الصّلاح جملَة
196 - عبد الله بن حَامِد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن على بن رستم بن ماهان أَبُو مُحَمَّد الماهانى الأصبهانى الْوَاعِظ
من أهل نيسابور وَكَانَ وَالِده من أَعْيَان التُّجَّار من الأصبهانيين نزل نيسابور وَأَبُو مُحَمَّد ولد بنيسابور
وتفقه عِنْد أَبى الْحسن البيهقى ثمَّ خرج إِلَى أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة وَتعلم الْكَلَام من أَبى على الثقفى وأعيان الشُّيُوخ(3/306)
وَسمع بنيسابور أَبَا حَامِد بن الشرقى ومكى بن عَبْدَانِ وأقرانهما
روى عَنهُ الْحَاكِم وَغَيره
توفى فى جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة وَأشهر صلى عَلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو بكر بن فورك
197 - عبد الله بن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل أَبُو بكر الضبى المحاملى
ولى قَضَاء ميافارقين ثمَّ قَضَاء حلب وأنطاكية وَكَانَ عفيفا نزها
سمع أَبَاهُ وَأَبا بكر بن زِيَاد النيسابورى وَغَيرهمَا
مَاتَ سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة
198 - عبد الله بن الإِمَام أَبى دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث بن إِسْحَاق ابْن بشير السجستانى الْحَافِظ ابْن الْحَافِظ أحد الأجلاء أَبُو بكر الأزدى
ولد بسجستان سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ(3/307)
وَسمع بِبَغْدَاد ونيسابور والحرمين ومصر وَالشَّام والثغور وَالْعراق
سمع أَحْمد بن صَالح المصرى وَعِيسَى بن حَمَّاد وَأَبا الطَّاهِر بن السَّرْح وَإِسْحَاق الكوسج وَمُحَمّد بن أسلم وعَلى بن خشرم وَسَلَمَة بن شبيب وَمُحَمّد بن يحيى الزمانى وَالْمُسَيب بن وَاضح وَأَبا سعيد الْأَشَج وَغَيرهم
روى عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم وَأَبُو بكر بن مُجَاهِد ودعلج وَمُحَمّد بن المظفر والدارقطنى وَأَبُو عمر بن حيويه وَأَبُو حَفْص بن شاهين وَأَبُو بكر الْوراق وَأَبُو الْحُسَيْن بن سمعون وَأَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَأَبُو طَاهِر المخلص وَعِيسَى بن الْجراح وَمُحَمّد بن زنبور وَأَبُو مُسلم الْكَاتِب وَخلق
وَقَالَ رَأَيْت جَنَازَة إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأول مَا سَمِعت من مُحَمَّد بن أسلم الطوسى فى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَكَانَ بطوس وَكَانَ رجلا صَالحا فسر أَبى لما كتبت عَنهُ وَقَالَ أول مَا كتبت عَن رجل صَالح
وَقَالَ دخلت الْكُوفَة ومعى دِرْهَم وَاحِد فاشتريت بِهِ ثَلَاثِينَ مد باقلا فَكنت آكل مِنْهُ مدا وأكتب عَن الْأَشَج ألف حَدِيث فَكتبت عَنهُ فى الشَّهْر ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث مَا بَين مَقْطُوع ومرسل
وروى الْخَطِيب عَن أَبى الْقَاسِم الأزهرى عَن ابْن شَاذان قَالَ قدم ابْن أَبى دَاوُد(3/308)
سجستان فَسَأَلُوهُ أَن يُحَدِّثهُمْ فَقَالَ مَا معى أصل فَقَالُوا ابْن أَبى دَاوُد وأصول قَالَ فأثارونى فأمليت عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث من حفظى فَلَمَّا قدمت بَغْدَاد قَالَ البغداديون مضى ابْن أَبى دَاوُد إِلَى سجستان وَلعب بِالنَّاسِ ثمَّ فيجوا فيجا اكتروه بِسِتَّة دَنَانِير إِلَى سجستان ليكتب لَهُم النُّسْخَة فَكتبت وجئ بهَا وَعرضت على الْحفاظ فخطأونى فى سِتَّة أَحَادِيث مِنْهَا ثَلَاثَة حدثت بهَا كَمَا حدثت وَثَلَاثَة أَخْطَأت فِيهَا
فى هَذِه الْحِكَايَة أَن الْإِمْلَاء كَانَ بسجستان وَقيل إِن الصَّوَاب أَنه كَانَ بأصبهان وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو على النيسابورى وَغَيره
199 - عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الأموى
هُوَ ابْن الْخَلِيفَة النَّاصِر أَبى الْمطرف صَاحب الأندلس
كَانَ فَقِيها شافعيا أديبا متنسكا شهما سمت نَفسه إِلَى طلب الْخلَافَة فى حَيَاة أَبِيه وَتَابعه قوم وأخفوا أَمرهم وبيتوا على اغتيال وَالِده وأخيه الْمُسْتَنْصر ولى عهد أَبِيه فَبلغ أَبَاهُ الْخَبَر فَمَا لبث أَن سجنه وسجن من اطلع على أمره من متابعيه ثمَّ أخرجه أخرجهم يَوْم عيد الْأَضْحَى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة من الْحَبْس وأحضره وأحضرهم(3/309)
بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لخواصه هَذِه أضحيتى فى هَذَا الْعِيد ثمَّ أضجع لَهُ وَلَده وذبحه بِيَدِهِ وَقَالَ لأتباعه ليذبح كل أضحيته فاقتسموا أَصْحَاب وَلَده عبد الله وذبحوهم عَن آخِرهم
200 - عبد الله بن على بن الْحسن أَبُو مُحَمَّد القاضى القومسى
قَالَ حَمْزَة السهمى كَانَ فَقِيها درس على أَبى إِسْحَاق المروزى وَكَانَ قاضى جرجان روى عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن هَارُون الحضرمى والبغوى وَابْن صاعد وَغَيرهم
توفى لَيْلَة الْأَحَد لست بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو بكر الإسماعيلى وَكَانَ ابْن ثَمَان وَتِسْعين سنة
201 - عبد الله بن مُحَمَّد بن زِيَاد بن وَاصل بن مَيْمُون الإِمَام الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو بكر النيسابورى الْفَقِيه
مولى آل عُثْمَان رضى الله عَنهُ
ولد سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ(3/310)
سمع مُحَمَّد بن يحيى وَأحمد بن يُوسُف وَعبد الله بن هَاشم وَأحمد بن الْأَزْهَر بِبَلَدِهِ وَيُونُس وَالربيع وَأَبا إِبْرَاهِيم المزنى وَأَبا زرْعَة الرازى وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد البيروتى وَالْحسن بن مُحَمَّد الزعفرانى وعَلى بن حَرْب وَمُحَمّد بن عَوْف وَآخَرين
روى عَنهُ ابْن عقدَة وَأَبُو على النيسابورى وَحَمْزَة الكنانى والدارقطنى وَابْن المظفر وَأَبُو إِسْحَاق بن حَمْزَة الأصبهانى وَأَبُو عمر بن حيويه وَأَبُو حَفْص الكتانى وَابْن شاهين والمخلص وَعبيد الله بن أَحْمد الصيدلانى وَإِبْرَاهِيم ابْن خرشيد قَوْله وَآخَرُونَ
قَالَ الْحَاكِم كَانَ إِمَام عصره من الشَّافِعِيَّة بالعراق وَمن أحفظ النَّاس للفقهيات وَاخْتِلَاف الصَّحَابَة
وَقَالَ الدارقطنى مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ وَكَانَ يعرف زيادات الْأَلْفَاظ فى الْمُتُون وَلما قعد للتحديث قَالُوا حدث قَالَ بل سلوا فَسئلَ عَن أَحَادِيث أجَاب فِيهَا وأملاها
وَكَانَ حَدثنَا عَن يُوسُف بن مُسلم عَن حجاج عَن ابْن جريج عَن أَبى الزبير عَن جَابر عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا)(3/311)
ثمَّ قَالَ صَوَابه عَن أَبى الزبير عَن طَاوس مُرْسلا
وَكَانَ يُقَال إِن أَبَا بكر النيسابورى أَقَامَ أَرْبَعِينَ سنة لَا ينَام اللَّيْل ويتقوت كل يَوْم بِخمْس حبات وَيصلى صَلَاة الْغَدَاة على طَهَارَة الْعشَاء الْأَخير
توفى فى رَابِع ربيع الآخر سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
أخبرنَا شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا أَحْمد بن إِسْحَاق أخبرنَا الْفَتْح بن عبد الله أخبرنَا هبة الله بن الْحُسَيْن أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد حَدثنَا عِيسَى ابْن على حَدثنَا أَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد النيسابورى إملاء حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد حَدثنِي الْأَعْمَش عَن أَبى صَالح عَن أَبى هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يمشى الرجل فى نعل وَاحِدَة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ فى حَدِيث أسيد بن ظهير وَقيل أسيد بن حضير عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قضى إِذا وجدت السّرقَة عِنْد الرجل غير الْمُتَّهم فَإِن شَاءَ سَيِّدهَا أَخذهَا بِالثّمن وَإِن شَاءَ اتبع صَاحبهَا مَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهَذَا الحَدِيث إِلَّا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه
قيل لِأَحْمَد ابْن حَنْبَل تذْهب إِلَيْهِ قَالَ لَا قد اخْتلفُوا فِيهِ وأذهب إِلَى حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من وجد مَاله عِنْد رجل فَهُوَ أَحَق بِهِ)(3/312)
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله فى آخر بَاب الْغَصْب حَدِيث أسيد رَوَاهُ النسائى وَأَبُو دَاوُد فى الْمَرَاسِيل وَفِيه أَنه قضى بِهِ أَبُو بكر وَعمر
قلت وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِم الطبرانى فى مُعْجَمه الْكَبِير فَقَالَ حَدثنَا على بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا هَوْذَة بن خَليفَة حَدثنَا ابْن جريج عَن عِكْرِمَة بن خَالِد أَن أسيد بن حضير بن سماك حَدثهُ قَالَ كتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان ابْن الحكم إِذا سرق الرجل فَوجدَ سَرقته فَهُوَ أَحَق بهَا إِذا وجدهَا
فَكتب إِلَى مَرْوَان بذلك وَأَنا عَامله على الْيَمَامَة فَكتبت إِلَى مَرْوَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى أَن السّرقَة إِذا وجدت عِنْد الرجل غير الْمُتَّهم فَإِن شَاءَ سَيِّدهَا أَخذهَا بِالثّمن وَإِن شَاءَ اتبع سارقه ثمَّ قضى بذلك أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
فَبعث مَرْوَان بكتابى إِلَى مُعَاوِيَة فَبعث مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان إِنَّك لست وَلَا أسيد تقضيان على فِيمَا وليت ولكنى أقضى عَلَيْكُمَا فأنفذ مَا أَمرتك بِهِ
فَبعث مَرْوَان بِكِتَاب مُعَاوِيَة إِلَى فَقلت وَالله لَا أقضى بِهِ أبدا
وفى لفظ النسائى أَيْضا أَنه قضى بِهِ أَبُو بكر وَعمر وَهَذَا لفظ النسائى أخبرنى هَارُون بن عبد الله حَدثنَا حَمَّاد بن مسْعدَة عَن ابْن جريج عَن عِكْرِمَة بن خَالِد حَدَّثَنى أسيد بن حضير بن سماك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى أَنه إِذا وجدهَا فى يَد الرجل غير الْمُتَّهم فَإِن شَاءَ أَخذهَا بِمَا اشْتَرَاهَا وَإِن شَاءَ اتبع سارقه وَقضى بذلك أَبُو بكر وَعمر
أخبرنَا عَمْرو بن مَنْصُور حَدثنَا سعيد بن ذويب قَالَ حَدثنَا عبد الرَّزَّاق(3/313)
عَن ابْن جريج وَلَقَد أخبرنى عِكْرِمَة بن خاد أَن أسيد بن حضير الأنصارى ثمَّ أحد بنى حَارِثَة أخبرهُ أَنه كَانَ عَاملا على الْيَمَامَة وَأَن مَرْوَان كتب إِلَيْهِ أَن مُعَاوِيَة كتب إِلَيْهِ أَن أَيّمَا رجل سرق مِنْهُ سَرقَة فَهُوَ أَحَق بهَا حَيْثُ وجدهَا
ثمَّ كتب بذلك مَرْوَان إِلَى فَكتبت إِلَى مَرْوَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِأَنَّهُ إِذا كَانَ الذى ابتاعها من الذى سَرَقهَا غير مُتَّهم يُخَيّر سَيِّدهَا فَإِن شَاءَ أَخذ الذى سرق مِنْهُ بِثمنِهَا وَإِن شَاءَ اتبع سارقها ثمَّ قضى بذلك أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
فَبعث مَرْوَان بكتابى إِلَى مُعَاوِيَة وَكتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان إِنَّك لست أَنْت وَلَا أسيد تقضيان على ولكنى أقضى فِيمَا وليت عَلَيْكُمَا فأنفذ لما أَمرتك بِهِ
فَبعث مَرْوَان بِكِتَاب مُعَاوِيَة فَقلت لَا أقضى بِهِ مَا وليت بِمَا قَالَ مُعَاوِيَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فى الْمَرَاسِيل بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنى
202 - عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الناصح بن شُجَاع أَبُو أَحْمد ابْن الْمُفَسّر الدمشقى
نزيل مصر
سمع أَحْمد بن على بن سعيد المروزى وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن الرواس وَعلي بن غَالب السكسكى وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَعبد الله ابْن مُحَمَّد بن على البلخى الْحَافِظ وجنيد بن خلف السمرقندى لقى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فى الْحَج(3/314)
وانتقى عَلَيْهِ أَبُو الْحسن الدارقطنى
وَحدث عَنهُ الْحفاظ عبد الْغنى وَابْن مندة وَأحمد بن مُحَمَّد بن أَبى الْعَوام وَآخَرُونَ
توفى فى رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة
203 - عبد الله بن مُحَمَّد بن عدى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مبارك الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو أَحْمد الجرجانى
صَاحب كتاب الْكَامِل فى معرفَة الضُّعَفَاء وَأحد الجهابذة الَّذين طافوا الْبِلَاد وهجروا الوساد وواصلوا السهاد وَقَطعُوا الْمُعْتَاد طَالِبين للْعلم لَا يعترى همتهم قُصُور وَلَا يثنى عزمهم عوارض الْأُمُور وَلَا يدع سيرهم فِي ليالى الرحلة مدلهم الديجور
وَكتابه الْكَامِل طابق اسْمه مَعْنَاهُ وَوَافَقَ لَفظه فحواه من عينه انتجع المنتجعون وبشهادته حكم المحكمون وَإِلَى مَا يَقُول رَجَعَ المتقدمون والمتأخرون
وَكَانَ ابْن عبدى يعرف فى بَلْدَة بِابْن الْقطَّان
رَحل إِلَى الشَّام ومصر رحلتين أَولهمَا سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
سمع عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم الرواس وَأَبا عقيل أنس بن السّلم وَأَبا خَليفَة وَالْحسن ابْن سُفْيَان وبهلول بن إِسْحَاق الأنبارى وَأَبا عبد الرَّحْمَن النسائى وَمُحَمّد بن يحيى(3/315)
المروزى وعبدان وَأَبا يعلى وَأَبا عرُوبَة وزَكَرِيا الساجى والباغندى وأمما سواهُم
روى عَنهُ أَبُو الْعَبَّاس ابْن عقدَة وَهُوَ من أشياخه وَأَبُو سعد المالينى وَالْحسن ابْن رامين وَحَمْزَة السهمى وَآخَرُونَ
ولد سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ
وَكتب الحَدِيث بِبَلَدِهِ سنة تسعين
قَالَ حَمْزَة السهمى سَأَلت الدارقطنى أَن يصنف كتابا فى الضُّعَفَاء فَقَالَ أَلَيْسَ عنْدك كتاب ابْن عدى قلت نعم قَالَ فِيهِ كِفَايَة لَا يُزَاد عَلَيْهِ
قلت ذكر ابْن عدى فى الْكَامِل كل من تكلم فِيهِ وَلَو من رجال الصَّحِيح وَذكر فى كل تَرْجَمَة حَدِيثا فَأكْثر من غرائب ذَاك الرجل ومناكيره
وَألف على مُخْتَصر المزنى كتابا سَمَّاهُ الِانْتِصَار لَوَدِدْت لَو وقفت عَلَيْهِ
وَقَالَ حَمْزَة كَانَ حَافِظًا متقنا لم يكن فى زَمَانه مثله تفرد بِأَحَادِيث وهب مِنْهَا لابْنَيْهِ عدى وأبى زرْعَة وتفردا بهَا
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر كَانَ ثِقَة على لحن فِيهِ
وَقَالَ شَيخنَا الذهبى كَانَ لَا يعرف الْعَرَبيَّة مَعَ عجمة فِيهِ وَأما فى الْعِلَل وَالرِّجَال فحافظ لَا يجارى
توفى فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو بكر الإسماعيلى(3/316)
204 - عبد الله بن مُحَمَّد البخارى الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد البافي
نسبه إِلَى باف بِالْبَاء وَالْفَاء الموحدتين قَرْيَة من قرى خوارزم
كَانَ من أفقه أهل زَمَانه مَعَ الْمعرفَة بالنحو وَالْأَدب فصيح اللِّسَان بليغ الْكَلَام حسن المحاضرة حُلْو الْعبارَة حَاضر البديهة يَقُول الشّعْر الْحسن من غير كلفة وَيكْتب الرسائل المطولة بِلَا روية
تفقه على أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة وأبى إِسْحَاق المروزى
أَخذ عَنهُ القاضى أَبُو الطّيب والماوردى وَطَوَائِف
مَاتَ فى الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلاثمائة
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ والفوائد والغرائب والأشعار
أخبرنَا الْمسند تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن أَبى الْيُسْر بِإِسْنَادِهِ إِلَى القاضى أَبى بكر مُحَمَّد بن عبد الباقى الأنصارى حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن على لفظا حَدثنَا القاضى أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن حبيب الشافعى البصرى قَالَ أنشدنا أَبُو مُحَمَّد البافى قَول الشَّاعِر
(دَخَلنَا كارهين لَهَا فَلَمَّا ... ألفناها خرجنَا مكرهينا)(3/317)
فَقَالَ يُوشك أَن يكون هَذَا فى بَغْدَاد وَأنْشد لنَفسِهِ فى معنى ذَلِك الْبَيْت وَضَمنَهُ الْبَيْت
(على بَغْدَاد مَعْدن كل طيب ... ومأوى نزهة المتنزهينا)
(سَلام كلما جرحت بلحظ ... عُيُون المشتهين المشتهينا)
(دَخَلنَا كارهين لَهَا فَلَمَّا ... ألفناها خرجنَا مكرهينا)
(وَمَا حب الديار بِنَا وَلَكِن ... أَمر الْعَيْش فرقة من هوينا)
قلت الثَّالِث مضمن كَمَا رَأَيْت وَالرَّابِع مُشْتَرك من قَول الشَّاعِر
(أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الجدارا)
(وَمَا حب الديار شغفن قلبى ... وَلَكِن حب من سكن الديارا)
وَحكى من حضر مَجْلِسه أَنه جَاءَهُ غُلَام حدث وَبِيَدِهِ رقْعَة دَفعهَا إِلَيْهِ فقرأها مُتَبَسِّمًا وَأجَاب عَنْهَا وَكَانَ فِيهَا
(عاشق خاطر حَتَّى اسْتَلَبَ ... المعشوق قبله)
(أَفْتِنَا لَا زلت تفتى ... هَل يُبِيح الشَّرْع قَتله)
فَأجَاب
(أَيهَا السَّائِل عَمَّا ... لَا يُبِيح الشَّرْع فعله)
(قبْلَة العاشق للمعشوق ... لَا توجب قَتله)
قلت مَا أحسن قَوْله لَا يُبِيح الشَّرْع فعله فَإِنَّهُ نبه بِهِ على تَحْرِيم الْفِعْل خوفًا من أَن يظنّ المستفتى إِبَاحَته بِانْتِفَاء وجوب الْقَتْل
وَمن شعره
(عجبت من معجب بصورته ... وَكَانَ بالْأَمْس نُطْفَة مذرة)(3/318)
(وفى غَد بعد حسن هَيئته ... يصير فى الْقَبْر جيفة قذره)
(وَهُوَ على عجبه ونخوته ... مَا بَين يوميه يحمل الْعذرَة)
قلت وَلَعَلَّه أَخذه مِمَّا أخبرنَا بِهِ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا الشَّيْخَانِ إِسْمَاعِيل بن أَبى عبد الله بن حَمَّاد بن العسقلانى وَإِبْرَاهِيم بن حمد بن كَامِل بن عمر المقدسى قِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَأَنا أسمع قَالَا أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن منينا وَعبد الْوَهَّاب بن على بن على بن سكينَة إِذْنا قَالَا أخبرنَا القاضى أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الباقى بن مُحَمَّد الأنصارى أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن على الْخَطِيب بِبَغْدَاد أخبرنَا على بن المظفر الأصبهانى الْمُقْرِئ حَدثنَا حبيب بن الْحسن حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الشطوى حَدثنَا حُسَيْن بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الصبغى سَمِعت أَبى جَعْفَر بن سُلَيْمَان يَقُول مر وَالِي الْبَصْرَة بِمَالك بن دِينَار يرفل فصاح بِهِ مَالك أقل من مشيتك هَذِه فهم خدمه بِهِ فَقَالَ دَعوه مَا أَرَاك تعرفنى فَقَالَ لَهُ مَالك وَمن أعرف بك منى أما أولك فنطفة مذرة وَأما آخرك فجيفة قذرة ثمَّ أَنْت بَين ذَلِك تحمل الْعذرَة فَنَكس الوالى رَأسه وَمَشى
قَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ فى كتاب لَهُ مُصَنف فى القَوْل فى النُّجُوم أخبرنَا القاضى أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر الطبرى قَالَ قيل لأبى مُحَمَّد البافى إِن منجما لقى رجلا فَقَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت فَقَالَ أَصبَحت أرجوا الله تَعَالَى وأخافه وأصبحت أَنْت ترجو الْمُشْتَرى وَتخَاف زحل فنظمه البافى شعرًا وأنشدناه
(أَصبَحت لَا أَرْجُو وَلَا أخْشَى سوى الْجَبَّار ... فى الدُّنْيَا وَيَوْم الْمَحْشَر)(3/319)
(وأراك تخشى مَا تقدر أَنه ... يأتى بِهِ زحل وترجو الْمُشْتَرى)
(شتان مَا بينى وَبَيْنك فالتزم ... طرق النجَاة وخل طرق الْمُنكر)
قَالَ الْخَطِيب وأخبرنى عبد الْغفار بن عبد الْوَاحِد الأرموى قَالَ أنشدنى أَبُو زرْعَة روح بن مُحَمَّد القاضى قَالَ أنشدنا عبد الله بن مُحَمَّد البافى لنَفسِهِ
(وَكنت إِن بكرت فى حَاجَة ... أطالع التَّقْوِيم والزيجا)
(فَأصْبح الزيج كتصحيفه ... وَأصْبح التَّقْوِيم تعويجا)
205 - عبد الله بن مُحَمَّد القزوينى
الْمَذْكُور فى الرافعى فى أَوَائِل كتاب مُوجبَات الضَّمَان
هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر القزوينى
أَبُو الْقَاسِم القاضى
ولى نِيَابَة الحكم بِدِمَشْق ثمَّ ولى قَضَاء الرملة ثمَّ سكن مصر
وَحدث عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَالربيع بن سُلَيْمَان المرادى وَمُحَمّد بن عَوْف الجمحى وَجَمَاعَة
روى عَنهُ عبد الله بن السقا الْحَافِظ وَأَبُو بكر بن الْمُقْرِئ وَابْن عدى ويوسف الميانجى وَمُحَمّد بن المظفر وَآخَرُونَ
قَالَ ابْن يُونُس كَانَ مَحْمُودًا فِيمَا يتَوَلَّى وَكَانَت لَهُ حَلقَة للإشغال بِمصْر وللرواية وَكَانَ يظْهر عبَادَة وورعا وَكَانَ قد ثقل سَمعه شَدِيدا وَكَانَ يفهم الحَدِيث ويحفظ ويجتمع فى دَاره الْحفاظ ويملى عَلَيْهِم ويجتمع فى مَجْلِسه جمع عَظِيم(3/320)
وَقَالَ ابْن الْمُقْرِئ رَأَيْتهمْ يضعفونه وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاء
قلت وَضَعفه الدارقطنى وَقَالَ كَذَّاب ألف سنَن الشافعى وفيهَا نَحْو مائتى حَدِيث لم يحدث بهَا الشافعى
ونال مِنْهُ أَيْضا ابْن يُونُس وَقَالَ خلط فى آخر عمره وَوضع الْأَحَادِيث على متون فافتضح وأحرقت كتبه فى وَجهه
وَأسْندَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر عَن أَبى سُلَيْمَان بن زبر أَنه توفى سنة خمس عشرَة وثلاثمائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
نَص الشافعى على أَنه إِذا فَاتَ رجلا مَعَ الإِمَام رَكْعَتَانِ من ربَاعِية قضاهما بِأم الْقُرْآن وَسورَة كَمَا فَاتَهُ وَإِن كَانَت مغربا وفاتته مِنْهَا رَكْعَة قَضَاهَا بِأم الْقُرْآن وَسورَة والمزنى حكى هَذَا النَّص فى الْمُخْتَصر وَاعْتَرضهُ بِمَا حَاصله أَن مَا يُدْرِكهُ الْمَأْمُوم مَعَ الإِمَام أول صلَاته وَمَا يَقْضِيه آخرهَا وَالسورَة لَا تقرا فى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَأطَال فى ذَلِك فى الْمُخْتَصر وَقَالَ قد جعلهَا آخِرَة أولى وَهَذَا متناقض
وَقد أجَاب عبد الله القزوينى عَن ذَلِك بِأَن ذَلِك لَيْسَ بتناقض وَلَا يبْنى على القَوْل بِقِرَاءَة السُّورَة فى الرَّكْعَتَيْنِ الآخرتين بل لِأَن السُّورَة لما فَاتَتْهُ فى الْأَوليين أَمر اسْتِحْبَابا بإعادتها فى الآخرتين(3/321)
قَالَ القزوينى وَقد أخبرنَا الرّبيع قَالَ أخبرنَا الشافعى قَالَ وَإِن فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ من الظّهْر وَأدْركَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ صلاهما مَعَ الإِمَام فَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن وَسورَة إِن أمكنه وَإِن لم يُمكنهُ قَرَأَ مَا أمكنه فَإِذا قَامَ قضى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِأم الْقُرْآن وَسورَة فيأتى بِمَا فَاتَهُ كَمَا فَاتَهُ وَلَو اقْتصر على أم الْقُرْآن أَجزَأَهُ وَلَو فَاتَتْهُ رَكْعَة من الْمغرب فصلى رَكْعَتَيْنِ قضى رَكْعَة بِأم الْقُرْآن وَسورَة وَلم يجْهر وَمَا أدْرك مَعَ الإِمَام أول صَلَاة نَفسه لَا يجوز لأحد عندى أَن يَقُول خلاف هَذَا انْتهى
وفى هَذَا النَّص الذى نَقله القزوينى فَائِدَتَانِ إِحْدَاهمَا أَن الشافعى لم يقل ذَلِك بِنَاء على قَول قِرَاءَة السُّورَة فى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بل على كل قَول وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن الْأَصْحَاب لما ذكرُوا اعْتِرَاض المزنى هَذَا أجَاب بَعضهم بِأَن الشافعى قَالَ هَذَا بِنَاء على القَوْل الذَّاهِب إِلَى أَن السُّورَة تقْرَأ فى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا بشئ وَأجَاب الْمُحَقِّقُونَ بِهَذَا الْجَواب الذى قَالَه القزوينى فَقَالُوا ومقدمهم أَبُو إِسْحَاق المروزى كل سنة تفوت الرجل فى صلَاته وَأمكنهُ تلافيها من غير أَن يُوقع خللا بترك سنة فِيهَا فَعَلَيهِ تداركها نَص الشافعى على أَنه لَو ترك التَّعَوُّذ فى الرَّكْعَة الأولى يَقْضِيه فى الثَّانِيَة وَنَصّ فى الْكَبِير على أَن السّنة أَن يقْرَأ سُورَة الْجُمُعَة فى الرَّكْعَة الأولى من صَلَاة الْجُمُعَة فَإِن فَاتَتْهُ قَرَأَهَا فى الثَّانِيَة مَعَ الْمُنَافِقين
قَالَ القاضى الْحُسَيْن وَهَذَا بِخِلَاف مَا لَو ترك الرمل فى الأشواط الثَّلَاثَة لَا يَقْضِيه فى الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ لَا يُمكن قَضَاؤُهُ إِلَّا بترك سنة أُخْرَى وهى المشى فى الْأَرْبَعَة
قلت فَخرج من هَذَا فى أَن القَوْل الذى عَلَيْهِ تفرع عدم اسْتِحْبَاب السُّورَة فى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَا اسْتِحْبَاب عدمهَا وَبِهَذَا يتَوَجَّه أَن من لم يَقْرَأها فى الْأَوليين أَعَادَهَا بِخِلَاف مَا لَو قُلْنَا يسْتَحبّ عدمهَا فى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ يلْزم(3/322)
أَلا يسْتَحبّ قَضَاؤُهَا لِئَلَّا يتعارض شَيْئَانِ كالأشواط وكما أَنه لَا يجْهر لِئَلَّا تتعارض سنة الْإِسْرَار فى الآخرتين مَعَ الْجَهْر فى الْأَوليين
والفائدة الثَّانِيَة أَن الْمَأْمُوم الْمَسْبُوق إِذا أمكنه أَن يقْرَأ السُّورَة فِيمَا أدْركهُ مَعَ الإِمَام قَرَأَهَا وَاقْتصر النووى فى شرح الْمُهَذّب على نقل هَذَا عَن تبصرة الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد وَقد نَقله القزوينى أَيْضا كَمَا رَأَيْت
206 - عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يحيى أَبُو الْحسن بن أَبى إِسْحَاق المزكى
من فُقَهَاء نيسابور
روى عَن أَبى حَامِد بن الشرقى وَمُحَمّد بن عمر بن حَفْص وأبى الْعَبَّاس الْأَصَم وأبى بكر الْقطَّان وأبى حَامِد بن بِلَال وَغَيرهم
روى عَنهُ الْحَاكِم وَعمر بن أَحْمد النيسابورى الجورى وَأحمد بن مَنْصُور المغربى وَمُحَمّد بن طَلْحَة شيخ الْخَطِيب وَغَيرهم
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من الصَّالِحين الْعباد التاركين لما لَا يعْنى قراء الْقُرْآن المكثرين من سَماع الحَدِيث
توفى فى ربيع الأول سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة بنيسابور وَصلى عَلَيْهِ الإِمَام أَبُو الطّيب الصعلوكى(3/323)
207 - عبد الرَّحْمَن بن سلمويه أَبُو بكر الرازى الْفَقِيه
نزيل مصر
روى عَن أَبى شُعَيْب الحرانى وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو مُحَمَّد بن النّحاس
قَالَ ابْن يُونُس كَانَ ثِقَة لَهُ حَلقَة بِجَامِع مصر للْعلم كتب الْكثير عَن أهل بَلَده وَغَيرهم
مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
208 - عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْمُنْذر بن دَاوُد بن مهْرَان أَبُو مُحَمَّد التميمى الحنظلى
الإِمَام ابْن الإِمَام حَافظ الرى وَابْن حافظها
كَانَ بحرا فى الْعلم وَله المصنفات الْمَشْهُورَة رَحل مَعَ أَبِيه صَغِيرا وبنفسه كَبِيرا
وَسمع أَبَاهُ وَابْن وارة وَأَبا زرْعَة وَالْحسن بن عَرَفَة وَأحمد بن سِنَان الْقطَّان وَأَبا سعيد الْأَشَج وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى وخلائق بالحجاز وَالشَّام ومصر وَالْعراق وَالْجِبَال والجزيرة
روى عَنهُ الْحُسَيْن بن على حسينك التميمى وَأَبُو الشَّيْخ وعَلى بن عبد الْعَزِيز(3/324)
ابْن مردك وَأَبُو الْقَاسِم عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسد الْفَقِيه وَأَبُو على حمد بن عبد الله الأصبهانى وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد النصراباذى وعَلى بن مُحَمَّد الْقصار وَآخَرُونَ
قَالَ أَبُو يعلى الخليلى أَخذ علم أَبِيه وأبى زرْعَة وَكَانَ بحرا فى الْعُلُوم وَمَعْرِفَة الرِّجَال صنف فى الْفِقْه وَاخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وعلماء الْأَمْصَار قَالَ وَكَانَ زاهدا يعد من الأبدال
قلت من مصنفاته تَفْسِير فى أَربع مجلدات عامته آثَار مُسندَة وَكتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل الْمَشْهُور فى عدَّة مجلدات وَكتاب الرَّد على الْجَهْمِية وَكتاب الْعِلَل وَكتاب مَنَاقِب الشافعى
قَالَ يحيى بن مندة صنف ابْن أَبى حَاتِم الْمسند فى ألف جُزْء وَكتاب الزّهْد وَكتاب الكنى والفوائد الْكَبِير وفوائد الرازيين وَكتاب تقدمة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَأَشْيَاء
وَقَالَ أَبُو الْحسن على بن إِبْرَاهِيم الرازى الْخَطِيب المجاور بِمَكَّة وَله مُصَنف فى تَرْجَمَة ابْن أَبى حَاتِم سَمِعت على بن الْحسن المصرى وَنحن فى جَنَازَة ابْن أَبى حَاتِم يَقُول قلنسوة عبد الرَّحْمَن من السَّمَاء وَمَا هُوَ بعجب رجل من ثَمَانِينَ سنة على وتيرة وَاحِدَة لم ينحرف عَن الطَّرِيق
قَالَ وَسمعت الْعَبَّاس بن أَحْمد يَقُول بلغنى أَن أَبَا حَاتِم قَالَ وَمن يقوى على عبَادَة عبد الرَّحْمَن لَا أعرف لعبد الرَّحْمَن ذَنبا
وَقَالَ وَسمعت ابْن أَبى حَاتِم يَقُول لم يدعنى أَبى أشتغل فى الحَدِيث حَتَّى قَرَأت الْقُرْآن على الْفضل بن شَاذان الرازى ثمَّ كتبت الحَدِيث(3/325)
قَالَ أَبُو الْحسن وَكَانَ عبد الرَّحْمَن قد كَسَاه الله بهاء ونورا يسر بِهِ من نظر إِلَيْهِ
قَالَ وَسمعت أَبَا عبد الله القزوينى الْوَاعِظ يَقُول إِذا صليت مَعَ عبد الرَّحْمَن فَسلم نَفسك إِلَيْهِ يعْمل بهَا مَا يَشَاء
وَقَالَ عمر بن إِبْرَاهِيم الزَّاهِد الهروى حَدثنَا الْحُسَيْن بن أَحْمد الصفار قَالَ سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم يَقُول وَقع عندنَا الغلاء فأنفذ بعض أصدقائى حبوبا من أَصْبَهَان فَبِعْته بِعشْرين ألف دِرْهَم وسألنى أَن أشترى لَهُ دَارا عندنَا فَإِذا نزل علينا نزل فِيهَا فأنفقتها على الْفُقَرَاء وَكتب إِلَى مَا فعلت قلت اشْتريت لَك بهَا قصرا فى الْجنَّة قَالَ رضيت إِن ضمنت ذَلِك لى فتكتب على نَفسك صكا فَفعلت قَالَ فَأريت فى الْمَنَام قد وَفينَا بِمَا ضمنت وَلَا تعد لمثل هَذَا
وَقَالَ أَبُو الرّبيع مُحَمَّد بن الْفضل البلخى سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن مهرويه الرازى سَمِعت على بن الْحُسَيْن بن الْجُنَيْد سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول إِنَّا لنطعن على أَقوام لَعَلَّهُم قد حطوا رحالهم فى الْجنَّة من مائتى سنة
قَالَ ابْن مهرويه فَدخلت على ابْن أَبى حَاتِم وَهُوَ يقْرَأ على النَّاس كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَحَدَّثته بِهَذَا فَبكى وارتعدت يَدَاهُ حَتَّى سقط الْكتاب وَجعل يستعيدنى الْحِكَايَة ويبكى
مَاتَ ابْن أَبى حَاتِم وَهُوَ فى عشر التسعين فى الْمحرم سنة سبع وَعشْرين وثلاثمائة(3/326)
وَمن الْفَوَائِد عَن ابْن أَبى حَاتِم
روى فى كتاب مَنَاقِب الشافعى عَن الرّبيع أَن الشافعى قَالَ مَا شبعت مُنْذُ سِتّ عشرَة أَو سبع عشرَة سنة إِلَّا شبعة طرحتها
وروى أَن البويطى قَالَ قَالَ الشافعى رضى الله عَنهُ لَا نعلم أحدا أعْطى طَاعَة الله حَتَّى لم يخلطها بمعصيته إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا وَلَا عصى الله فَلم يخلط بِطَاعَتِهِ فَإِذا كَانَ الْأَغْلَب الطَّاعَة فَهُوَ الْعدْل وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب الْمعْصِيَة فَهُوَ الْمَجْرُوح
قلت كَذَا وَقع مُطلقًا فى رِوَايَات عَن الشافعى ومقيدا فى رِوَايَة أُخْرَى بِعَدَمِ اقتراف الْكَبِيرَة فَيكون المُرَاد هُنَا بالمعصية الصَّغِيرَة وَإِلَّا فَصَاحب الْكَبِيرَة الْوَاحِدَة مَجْرُوح وَإِن كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الطَّاعَة هَذَا مَذْهَب الشافعى الذى تطابقت عَلَيْهِ كتب أَصْحَابه لَا أَقُول إِنَّهُم نصوا على ذَلِك نصا بل أطْلقُوا أَن ذَا الْكَبِيرَة مَجْرُوح وَهُوَ أَعم من أَن يغلب عَلَيْهِ الطَّاعَة أَو لَا يغلب نعم يحْكى عَن شيخ الْإِسْلَام وَسيد الْمُتَأَخِّرين تقى الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد أَنه كَانَ يمِيل فى هَذَا الزَّمَان إِلَى نَحْو من هَذَا إِذا حصلت الثِّقَة بقول الشَّاهِد فَرب من لَا يقدم على شَهَادَة الزُّور وَإِن كَانَ متلبسا بكبيرة أُخْرَى
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى وجدت فِيمَا جمعه عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم من مَنَاقِب الشافعى يَقُول يُونُس بن عبد الْأَعْلَى سَمِعت الشافعى يَقُول فى الرجل يكون(3/327)
فى الصَّلَاة فيعطس رجل لَا بَأْس أَن يَقُول لَهُ الْمصلى يَرْحَمك الله قلت لَهُ وَلم قَالَ لِأَنَّهُ دُعَاء وَقد دَعَا النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقوم فى الصَّلَاة ودعا على آخَرين
وَهَذِه رِوَايَة صَحِيحَة فَوَجَبَ أَن يكون أولى مِمَّا قَالَه أَصْحَابنَا يعْنى من أَنه تبطل الصَّلَاة
قلت وَقد وقفت على النَّص فى كتاب ابْن أَبى حَاتِم وقدمناه فى تَرْجَمَة يُونُس
قَالَ صَاحب الْبَحْر وَأَنا رَأَيْت عَن الإِمَام أَبى عبد الله الحناطى حكى عَن البويطى عَن الشافعى هَكَذَا قَالَ وَهَذَا هُوَ // الصَّحِيح // عندى إِذا كَانَ قَصده الدُّعَاء لَا الْخطاب قَالَ وَالْأول أشبه بِالسنةِ انْتهى
قَالَ وَإِذا عطس الْمصلى يحمد الله إِلَّا أَن الخطابى قَالَ مَذْهَب الشافعى أَنه يسْتَحبّ أَن يَقُول ذَلِك فى نَفسه قَالَ صَاحب الْبَحْر وَهَذَا // غَرِيب //
209 - عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن حمدون بن بخار البخارى أَبُو الْفضل
من أهل نيسابور
وَكَانَ من أَعْيَان أَصْحَاب أَبى الْوَلِيد النيسابورى والقدماء مِنْهُم وَعقد لَهُ أَبُو الْوَلِيد التدريس فى حَيَاته
قَالَ أَبُو إِسْحَاق المزكى قلت لأبى الْوَلِيد سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة يخرج مَعنا السّنة جمَاعَة من الْفُقَهَاء من أَصْحَابك وَإِن وَقعت مَسْأَلَة فى الدّين إِلَى من أرجع مِنْهُم فَقَالَ إِلَى أَبى الْفضل بن بخار(3/328)
سمع بنيسابور أَبَا حَامِد وَأَبا مُحَمَّد ابنى الشرقى ومكى بن عَبْدَانِ
وبسرخس أَبَا الْعَبَّاس الدغولى
وببغداد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الصفار
وبمكة أَبَا سعيد بن الأعرابى وَغَيرهم
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَقَالَ اعتل أَبُو الْفضل ابْن بخار قبل مَوته بِسنتَيْنِ عِلّة من الرُّطُوبَة فَعمى وصم وَزَالَ عقله وبقى على ذَلِك قَرِيبا من ثَلَاث سِنِين ثمَّ توفى فى جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
210 - عبد الصَّمد بن عمر بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَبُو الْقَاسِم الدينورى
الْفَقِيه الْوَاعِظ الزَّاهِد
سمع من أبي بكر النجاد وتفقه على أَبى سعيد الإصطخرى
وروى عَنهُ الأزجى والصيمرى
وَكَانَ ثِقَة صَالحا يضْرب بِهِ الْمثل فى مجاهدة النَّفس وَاسْتِعْمَال الصدْق والتقشف وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَكَانَ يدق السعد للعطارين بِالْأُجْرَةِ ويقتات من ذَلِك
وَلما حَضرته الْوَفَاة جعل يَقُول سيدى لهَذِهِ السَّاعَة خبأتك(3/329)
توفى يَوْم الثُّلَاثَاء لسبع بَقينَ من ذى الْحجَّة سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة بِبَغْدَاد
211 - عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز أَبُو الْقَاسِم الداركى
أحد أَئِمَّة الْأَصْحَاب ورفعائهم
والذى ذَكرْنَاهُ من تَسْمِيَة وَالِده بِعَبْد الله هُوَ الصَّوَاب وإياه ذكر الْخَطِيب وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَغَيرهمَا
وَقَالَ الْحَاكِم فى تَارِيخ نيسابور عبد الْعَزِيز بن الْحسن وَهَذَا وهم وعذره أَن هَذَا الشَّيْخ بغدادى إِنَّمَا ورد نيسابور زَائِرًا فَلَيْسَتْ لَهُ بِهِ الْمعرفَة التَّامَّة وَإِنَّمَا الْحسن جده لأمه لَا جده لِأَبِيهِ وَهُوَ الذى كَانَ مُحدث أَصْبَهَان فى وقته وَالْحَاكِم رَحمَه الله قَالَ كَانَ أَبوهُ مُحدث أَصْبَهَان فى وقته
قلت وَأرى أَن الْمُحدث جده لأمه وَلَكِن الْحَاكِم لما سمى أَبَاهُ باسم جده لأمه قَالَ هَذَا وَقد كَانَ الداركى نَفسه مُحدثا أَيْضا وَرُبمَا اجْتهد أَيْضا وَقيل لَهُ فى ذَلِك فَقَالَ نَأْخُذ بِالْحَدِيثِ وَنَدع فلَانا وَفُلَانًا(3/330)
وَقد روى عَن جده لأمه الْحسن بن مُحَمَّد الداركى وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم الأزهرى وَعبد الْعَزِيز الأزجى وَأحمد بن مُحَمَّد العتيقى وَأَبُو الْقَاسِم التنوخى وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَغَيرهم
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من كبار فُقَهَاء الشافعيين درس بنيسابور سِنِين وَله جملَة من الْمُخْتَلفَة تقلد أوقاف أَبى عَمْرو الْخفاف ثمَّ خرج إِلَى بَغْدَاد فَصَارَ الْمجْلس لَهُ
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ فَقِيها محصلا تفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى وانْتهى التدريس إِلَيْهِ بِبَغْدَاد وَعَلِيهِ تفقه الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفراينى بعد موت أَبى الْحُسَيْن بن الْمَرْزُبَان وَأخذ عَنهُ عَامَّة شُيُوخ بَغْدَاد وَغَيرهم من أهل الْآفَاق
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب سَمِعت الشَّيْخ أَبَا حَامِد الإسفراينى يَقُول مَا رَأَيْت أفقه من الداركى
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ ثِقَة انتقى عَلَيْهِ الدارقطنى وَتوفى فى ثَالِث عشر شَوَّال سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة ودارك قَرْيَة من عمل أَصْبَهَان
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(3/331)
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَنهُ
قَالَ الرافعى رَحمَه الله فى بَاب الْمُسَابقَة وَلَو قَالَ كل من سبق فَلهُ دِينَار فَسبق ثَلَاثَة يعْنى وَجَاء الْبَاقُونَ بعدهمْ فَعَن الداركى أَن لكل وَاحِد مِنْهُم دِينَارا
وَسكت الرافعى والنووى على هَذَا بعد الْجَزْم فِيمَا إِذا قَالَ من سبق فَلهُ دِينَار فَسبق ثَلَاثَة مَعًا وصل وَاحِد ثمَّ جَاءَ الْبَاقُونَ أَن الدِّينَار يَنْقَسِم بَين الثَّلَاثَة فَفرق الداركى بَين دُخُول كل على من وعد بِهِ وَالْفرق لائح فى بادى النّظر وَفِيه نظر عِنْد إمعان النّظر
قَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى سَمِعت أَبَا مُحَمَّد البافى يَقُول ذكر لنا الداركى حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِذا أرفت الْحُدُود فَلَا شُفْعَة) فى تدريسه كتاب الشُّفْعَة فَقَالَ إِذا أزفت فَسَأَلت ابْن جنى النحوى عَن هَذِه الْكَلِمَة فَلم يعرفهَا وَلَا وقفت على صِحَّتهَا فَسَأَلت الْمعَافى ابْن زَكَرِيَّا عَن الحَدِيث وَذكرت لَهُ طرقه فَلم أستتم الْمَسْأَلَة حَتَّى قَالَ إِذا أرفت والأرف المعالم يُرِيد إِذا بيّنت الْحُدُود وعينت المعالم وميزت فَلَا شُفْعَة
قلت أرفت بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة ثمَّ الْفَاء أى جعلت لَهَا حُدُود كَمَا ذكر الْمعَافى رَحمَه الله
وَذكر الداركى لَهَا بالزاى كَأَنَّهُ سبق لِسَان أَو لم يحرر لَفظهَا من اللُّغَة وَلَا بدع فقد خفيت على ابْن جنى وَهُوَ إِمَام فى الْأَدَب
ذكر الماوردى فى الحاوى فى بَاب اللّعان أَن أَبَا سعيد الإصطخرى قَالَ اسْتحْلف إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القاضى رجلا فى حق لِرجلَيْنِ يَمِينا وَاحِدَة فأجمع فُقَهَاء زَمَاننَا على أَنه خطأ(3/332)
قَالَ الداركى فسألنا أَبَا إِسْحَاق المروزى عَن ذَلِك فَقَالَ إِن ادّعَيَا ذَلِك الْحق من جِهَة وَاحِدَة مثل أَن يدعيا دَارا أورثاها عَن أَبِيهِمَا حلف لَهما يَمِينا وَاحِدَة وَإِن كَانَ الْحق من جِهَتَيْنِ حلف لكل وَاحِد على الِانْفِرَاد
قَالَ الماوردى وَقَول أَبى إِسْحَاق صَحِيح
قلت ذكر ابْن الرّفْعَة فى كتاب النِّكَاح من الْمطلب هَذِه الْحِكَايَة عِنْد كَلَامه فى الرجلَيْن يدعيان نِكَاح امْرَأَة وَقد بحث فى أَنَّهَا إِذا حَلَفت فى حَال عدم رضاهما تحلف يمينين وفى حَال رضاهما تحلف يَمِينا وَاحِدَة
ذكر كل ذَلِك بحثا وَذكر الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذا وَجب على الشَّخْص يَمِين لجَماعَة فرضوا بِأَن يحلف لَهُم يَمِينا وَاحِدَة وَأَن الْأَصَح أَنه لَا يجوز ثمَّ قَالَ قد يُقَال ذَلِك مَفْرُوض فى حق مُتَعَدد وَأما إِذا كَانَ الْحق وَاحِدًا فَلَا ثمَّ سَاق الْحِكَايَة ثمَّ قَالَ وَهَذَا يفهم أَن ذَلِك جَائِز عِنْد أَبى إِسْحَاق من غير رضاهما(3/333)
212 - عبد الْعَزِيز بن مَالك الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم القزوينى الشافعى
توفى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلاثمائة
213 - عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْحسن بن أَحْمد الْفَقِيه أَبُو الْفضل النضروى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من الْفُقَهَاء الزهاد التاركين لما لَا يعنيهم
درس على أَبى الْوَلِيد على بن أَبى مَنْصُور بن مهْرَان وَلما انْصَرف الْأُسْتَاذ أَبُو سهل(3/334)
من أَصْبَهَان رَأَيْته يدرس عَلَيْهِ كتاب الرسَالَة للشافعى ودرس فى مَسْجده سِنِين وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء
سمع عبد الله الشرقى وَالْحسن بن مَنْصُور وأقرانهما
وَتوفى فى رَجَب سنة سبعين وثلاثمائة انْتهى
وَأسْندَ عَنهُ حَدِيثا حَدثهُ إِيَّاه فى مجْلِس الْأُسْتَاذ أَبى سهل
وَقَوله على أَبى الْوَلِيد على بن أَبى مَنْصُور بن مهْرَان كَذَا هُوَ فى نُسْخَة تَارِيخ نيسابور الَّتِى عندى وَلَعَلَّه على أَبى الْوَلِيد ثمَّ على أَبى مَنْصُور بن مهْرَان وَأَبُو الْوَلِيد هُوَ النيسابورى القرشى الإِمَام الْكَبِير الْمَشْهُور وَأَبُو مَنْصُور بن مهْرَان من أكَابِر أَصْحَاب الْوُجُوه من أَصْحَابنَا وَإِن كَانَ الْأَمر على مَا فى النُّسْخَة فَيكون لأبى مَنْصُور بن مهْرَان ولد اسْمه أَبُو الْوَلِيد على من فقهائنا وَهُوَ غير مَعْرُوف
والذى أرَاهُ أَن النُّسْخَة مغلوطة وَأَن الْأَمر على مَا وصفت وَالنُّسْخَة الَّتِى عندى وقف الخانقاه السميساطية وفيهَا غلط كثير
214 - عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عدى الجرجانى أَبُو نعيم الإستراباذي
أحد أَئِمَّة الْمُسلمين فقها وحديثا وَذُو الرحلة الواسعة
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
وَسمع عمر بن شبة وعَلى بن حَرْب والرمادى وَيزِيد بن عبد الصَّمد وَسليمَان(3/335)
ابْن سيف وَالربيع بن سُلَيْمَان وَأَبا زرْعَة الرازى وَأَبا حَاتِم وعمار بن رَجَاء وَمُحَمّد ابْن عَوْف وَغَيرهم بالعراق ومصر وَالشَّام والجزيرة والحجاز وخراسان
روى عَنهُ ابْن صاعد وَأَبُو على الْحَافِظ وَأَبُو مُحَمَّد المخلدى وَأَبُو إِسْحَاق المزكى وَأَبُو بكر الجوزقى وَخلق
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من أَئِمَّة الْمُسلمين ورد نيسابور وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى بُخَارى فروى عَنهُ الْحفاظ وَسمعت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد حسان بن مُحَمَّد يَقُول لم يكن فى عصرنا من الْفُقَهَاء أحفظ للفقهيات وأقاويل الصَّحَابَة بخراسان من أَبى نعيم الجرجانى وَلَا بالعراق من أَبى بكر بن زِيَاد النيسابورى قَالَ وَسمعت أَبَا على الْحَافِظ يَقُول كَانَ أَبُو نعيم الجرجانى أحد الْأَئِمَّة مَا رَأَيْت بخراسان بعد ابْن خُزَيْمَة مثله أَو أفضل مِنْهُ كَانَ يحفظ الْمَوْقُوفَات والمراسيل كَمَا نَحْفَظ نَحن المسانيد
وَقَالَ أَبُو سعد الإدريسى مَا أعلم نَشأ بإستراباذ مثله فى حفظه وَعلمه
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد الْأَئِمَّة وَمن الْحفاظ لشرائع الدّين مَعَ صدق وورع وتيقظ
وَقَالَ حَمْزَة السهمى كَانَ مقدما فى الْفِقْه والْحَدِيث وَكَانَت الرحلة إِلَيْهِ فى أَيَّامه
توفّي أَبُو نعيم الجرجانى سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة
وَقَالَ الْحَاكِم سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين
وَوَقع لنا حَدِيثه بعلو فِيمَا اخبرتنا بِهِ
زَيْنَب ابْنة أَحْمد بن الْكَمَال عبد الرَّحِيم قِرَاءَة عَلَيْهَا وَأَنا أسمع قَالَت أخبرنَا عبد الْخَالِق بن الأنجب النشتبرى إجَازَة أخبرنَا وجيه بن طَاهِر الشحامى كِتَابَة(3/336)
أخبرنَا يَعْقُوب بن أَحْمد الصيرفى سَمَاعا أخبرنَا الْحسن بن أَحْمد المخلدى إملاء لاثنتى عشرَة خلت من صفر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة أخبرنَا أَبُو نعيم عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عدى الْفَقِيه حَدثنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن عبد الحميد البهرانى حَدثنَا أَبُو عقبَة وساج بن عقبَة حَدثنَا هِقْل بن زِيَاد عَن الأوزاعى عَن الزهرى عَن أَبى سَلمَة عَن أَبى هُرَيْرَة عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن الشَّيْطَان يجرى من ابْن آدم مجْرى الدَّم)
وَبِه إِلَى أَبى نعيم حَدثنَا أَبُو زيد عمر بن شبة البصرى حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثقفى حَدثنَا أَيُّوب عَن أَبى قلَابَة عَن أنس قَالَ أَمر بِلَال رضى الله عَنهُ أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة
وَبِه إِلَى أَبى نعيم حَدثنَا أَحْمد بن عِيسَى اللخمى حَدثنَا عَمْرو بن أَبى سَلمَة حَدثنَا عبد الرَّحِيم بن زيد الْعَمى عَن أَبِيه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (خمس دعوات يُسْتَجَاب لَهُنَّ دَعْوَة الْمَظْلُوم حَتَّى ينتصر ودعوة الْحَاج حَتَّى يصدر ودعوة الْمُجَاهِد حَتَّى يقفل ودعوة الْمَرِيض حَتَّى يبرأ ودعوة الْأَخ لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب)(3/337)
215 - عبد الْمُنعم بن عبيد الله بن غلبون أَبُو الطّيب الحلبى الْمُقْرِئ
نزيل مصر
ولد سنة تسع وثلاثمائة
وَقَرَأَ على أَبى الْحسن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن المستفاض الفريابى وأبى سهل صَالح ابْن إِدْرِيس وَنجم بن بدير وَنصر بن يُوسُف المجاهدى وَإِبْرَاهِيم بن عبد الرَّزَّاق الأنطاكى وخلائق
أَخذ عَنهُ خلائق
مولده فى رَجَب سنة تسع وثلاثمائة
وَمَات بِمصْر فى جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة(3/338)
216 - عبد الْوَاحِد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد القاضى أَبُو الْقَاسِم الصيمرى
نزيل الْبَصْرَة
أحد أَئِمَّة الْمَذْهَب
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب حسن التصانيف
والصيمرى بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا وَفتح الْمِيم وفى آخرهَا الرَّاء أرَاهُ وَالله أعلم مَنْسُوبا إِلَى نهر من أَنهَار الْبَصْرَة يُقَال لَهُ الصيمر عَلَيْهِ عدَّة قرى أما الصيمرة فبلد بَين ديار الْجَبَل وخوزستان فَمَا إخال هَذَا الصيمرى مَنْسُوبا إِلَيْهَا
وبالصيمرى تخرج جمَاعَة مِنْهُم القاضى الماوردى
وَمن تصانيفه الْإِيضَاح فى الْمَذْهَب نَحْو سَبْعَة مجلدات وَله كتاب الْكِفَايَة وَكتاب فى الْقيَاس والعلل وَكتاب صَغِير فى أدب الْمُفْتى والمستفتى وَكتاب فى الشُّرُوط
توفى الصيمرى بعد سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة(3/339)
وَمن الْمسَائِل عَنهُ
ذهب إِلَى أَنه لَا يجوز لمن بعض بدنه نجس مس الْمُصحف(3/340)
وَذهب كَمَا نقل صَاحب الْبَحْر عَنهُ فى بَاب قتل الْمُرْتَد إِلَى أَن من سبّ الصَّحَابَة مُعْتَقدًا مصرا عَلَيْهِ كفر كَمَا لَو سبّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حكى فى الْبَيَان أَن الصيمرى حكى قولا أَن الْحجر المستنجى بِهِ إِذا غسل بشئ من الْمَائِعَات طهر
وَحكى أَيْضا فى الْبَيَان أَن الصيمرى قَالَ عَورَة الصبى قبل سبع سِنِين السوأتان فَقَط قَالَ وتتغلظ بعد التسع قَالَ وَأما بعد الْعشْر فكالبالغ لِإِمْكَان الْبلُوغ(3/341)
وفى شرح الْكِفَايَة للصيمرى إِن ادّعى الرجل الْغناء ليَأْخُذ من وقف الْأَغْنِيَاء لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة وَإِن كَانَ الْوَقْف على الْفُقَرَاء فَادّعى الْفقر قبل من غير بَيِّنَة
وَذكر فى شرح الْكِفَايَة أَنه لَا يَصح بيع الْخَيل لأهل الْحَرْب وَعبارَته لَو بَاعَ سِلَاحا أَو خيلا على أهل الْحَرْب نقضنا البيع إِن قَدرنَا على ذَلِك
217 - عبيد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبيد الله الْوَاعِظ أَبُو أَحْمد الْمُذكر(3/342)
218 - عبيد
مصغر وَغير مُضَاف وَرُبمَا قيل عبيد الله مُضَافا وإياه أورد ابْن باطيش فى الطَّبَقَات هُوَ
عبيد بن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو الْقَاسِم القيسى البغدادى
نزيل قرطبة
وَهُوَ الْمَشْهُور بعبيد الْفَقِيه
أَخذ عَن الإصطخرى وَسمع من أَبى الْقَاسِم البغوى والطحاوى وَابْن صاعد وَغَيرهم
وفى الْقرَاءَات على ابْن مُجَاهِد وَابْن شنبوذ
وَكَانَ صَاحب الأندلس الملقب بالمستنصر يجله ويعظمه كثيرا
توفى بقرطبة فى ذى الْحجَّة سنة سِتِّينَ وثلاثمائة
219 - عتبَة بن عبيد الله بن مُوسَى بن عِيسَى بن عبيد الله الهمذانى القاضى أَبُو السَّائِب
كَانَ أحد الْعلمَاء الْأَئِمَّة وَأول من ولى قَضَاء الْقُضَاة بِبَغْدَاد من الشَّافِعِيَّة
وَكَانَ أَبوهُ تَاجِرًا فاشتغل هُوَ بِالْعلمِ وَغلب عَلَيْهِ فى الِابْتِدَاء التصوف وسافر فلقى(3/343)
الْجُنَيْد وَصَحب الْأَئِمَّة وَكتب الحَدِيث ثمَّ ولى قَضَاء مراغة ثمَّ تقلد قَضَاء أذربيجان كلهَا ثمَّ قَضَاء همذان ثمَّ دخل بَغْدَاد وَعظم جاهه وَولى قَضَاء الْقُضَاة
حدث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم الرازى وَغَيره
وَقد رَآهُ بَعضهم بعد مَوته فى الْمَنَام فَقَالَ مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لى وَأمر بى إِلَى الْجنَّة على مَا كَانَ منى من التَّخْلِيط وَقَالَ آلَيْت أَلا أعذب أَبنَاء الثَّمَانِينَ
توفى سنة خمسين وثلاثمائة
220 - على بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن البوشنجى
الصوفى الزَّاهِد الْوَرع الْعَالم الْمُجَرّد
ورد نيسابور فصحب أَبَا عُثْمَان الحيرى الزَّاهِد مُدَّة ثمَّ خرج فلقى شُيُوخ التصوف بالعراقين وَالشَّام ثمَّ فِي آخر عمره اعتزل النَّاس
سمع الحَدِيث من أَبى جَعْفَر السامى وَالْحُسَيْن بن إِدْرِيس الأنصارى الهرويين وَغَيرهمَا
توفى بنيسابور سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا سعيد بن أَبى بكر بن أَبى عُثْمَان يَقُول ورد أَبُو الْحسن البوشنجى على أَبى عُثْمَان فَسئلَ أَن يقْرَأ فى مَجْلِسه فَقَرَأَ فَبكى أَبُو عُثْمَان حَتَّى غشى عَلَيْهِ(3/344)
وَحمل إِلَى منزله فَكَانَ يُقَال قَتله صَوت البوشنجى ثمَّ إِن أَبَا عُثْمَان توفى فى تِلْكَ الْعلَّة وَقَالَ سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد يَقُول يَوْم توفى أَبُو الْحسن دخلت عَلَيْهِ عَائِدًا فَقلت لَهُ أَلا توصى بشئ فَقَالَ بلَى أكفن فى هَذِه الخريقات وأحمل إِلَى مَقْبرَة من مَقَابِر الْمُسلمين ويتولى الصَّلَاة على رجل من الْمُسلمين
قَالَ وَسمعت أَبَا الْحسن البوشنجى وَدخل على الشَّيْخ أَبى بكر بن إِسْحَاق وَرجل من المتهمين بالإلحاد يقْرَأ عَلَيْهِ فَأخذ أَبُو الْحسن ينظر إِلَيْهِ سَاعَة طَوِيلَة وَلم يكن عرفه فَلَمَّا خرج من عِنْده قَالَ لبَعض أَصْحَابه ذَاك الْقَارئ خشيت عَلَيْهِ أَنه ملحد
وروى عَنهُ الْحَاكِم حَدِيثا وَاحِدًا مُسْندًا ثمَّ قَالَ مَا أرى أَن أَبَا الْحسن حدث بِحَدِيث مُسْند غير هَذَا
221 - على بن أَحْمد بن الْحسن الْفَقِيه أَبُو الْحسن العروضى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ من أَعْيَان فُقَهَاء الشافعيين من أَصْحَاب أَبى الْحسن البيهقى
قَالَ وَكَانَ يدرس بنيسابور سِنِين
قَالَ وَسمع بنيسابور أَبَا عَمْرو الحيرى والمؤمل بن الْحسن وأقرانهما وَكتب الْكثير عَن أَبى الْعَبَّاس الدغولى بسرخس وَاعْتَزل فى آخر عمره ورفض الْمجْلس وَحدث
توفى لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة
روى عَنهُ الْحَاكِم حَدِيثا وَاحِدًا فى تَرْجَمته(3/345)
222 - على بن أَحْمد بن الْمَرْزُبَان بِفَتْح مِيم الْمَرْزُبَان وَضم الزاى بعْدهَا بَاء مُوَحدَة
هُوَ أحد أَرْكَان الْمَذْهَب ورفعائه
الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْحسن من بَغْدَاد
تفقه على أَبى الْحُسَيْن بن الْقطَّان
قَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد الشُّيُوخ الأفاضل درس عَلَيْهِ أَبُو حَامِد الإسفراينى أول قدومه بَغْدَاد
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ فَقِيها ورعا حكى عَنهُ أَنه قَالَ مَا أعلم لأحد على مظْلمَة
قَالَ الشَّيْخ وَقد كَانَ فَقِيها يعلم أَن الْغَيْبَة من الْمَظَالِم
توفى فى رَجَب سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة بعد شَيْخه ابْن الْقطَّان بِسبع سِنِين
وَمن الْفَوَائِد وغرائب الْفُرُوع عَنهُ
قَالَ الدارمى إِذا نوى الْمُتَوَضِّئ إبِْطَال عُضْو مضى لم يبطل وَمَا فى الْحَال يبطل وَمَا يأتى على وَجْهَيْن قَالَه ابْن الْمَرْزُبَان وَقَالَ ابْن الْقطَّان فى جَمِيعه وَجْهَان
قلت وَهَذِه غير مَسْأَلَة قطع الْوضُوء(3/346)
223 - على بن إِسْمَاعِيل بن أَبى بشر واسْمه إِسْحَاق بن سَالم بن إِسْمَاعِيل ابْن عبد الله بن مُوسَى بن بِلَال بن أَبى بردة ابْن صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبى مُوسَى عبد الله بن قيس
شَيخنَا وقدوتنا إِلَى الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو الْحسن الأشعرى البصرى
شيخ طَريقَة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَإِمَام الْمُتَكَلِّمين وناصر سنة سيد الْمُرْسلين والذاب عَن الدّين والساعى فى حفظ عقائد الْمُسلمين سعيا يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين
إِمَام حبر وتقى بر حمى جناب الشَّرْع من الحَدِيث المفترى وَقَامَ فى نَصره مِلَّة الْإِسْلَام فنصرها نصرا مؤزرا
(بهمة فى الثريا إِثْر أخمصها ... وعزمة لَيْسَ من عاداتها السأم)
وَمَا برح يدلج ويسير وينهض بساعد التشمير حَتَّى نقى الصُّدُور من الشّبَه كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس وَوقى بأنوار الْيَقِين من الْوُقُوع فى ورطات مَا الْتبس وَقَالَ فَلم يتْرك مقَالا لقَائِل وأزاح الأباطيل وَالْحق يدْفع ترهات الْبَاطِل
ولد الشَّيْخ سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَ أَولا قد أَخذ عَن أَبى على الجبائى وَتَبعهُ فى الاعتزال
يُقَال أَقَامَ على الاعتزال أَرْبَعِينَ سنة حَتَّى صَار للمعتزلة إِمَامًا فَلَمَّا أَرَادَهُ الله لنصر دينه وَشرح صَدره لاتباع الْحق غَابَ عَن النَّاس فى بَيته خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ خرج إِلَى الْجَامِع وَصعد الْمِنْبَر وَقَالَ معاشر النَّاس إِنَّمَا تغيبت عَنْكُم هَذِه الْمدَّة لأنى نظرت(3/347)
فتكافأت عندى الْأَدِلَّة وَلم يترجع عندى شَيْء على شَيْء فاستهديت الله تَعَالَى فهداني الى اعْتِقَاد مَا أودعته فِي كتبي هَذِه وانخلعت من جَمِيع مَا كنت أعتقده كَمَا انخلعت من ثوبي هَذَا وانخلع من ثوب كَانَ عَلَيْهِ وَرمى بِهِ وَدفع الْكتب الَّتِى ألفها على مَذَاهِب أهل السّنة إِلَى النَّاس
ويحكى من مبدأ رُجُوعه أَنه كَانَ نَائِما فى شهر رَمَضَان فَرَأى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ يَا على انصر الْمذَاهب المروية عَنى فَإِنَّهَا الْحق فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ دخل عَلَيْهِ أَمر عَظِيم وَلم يزل مفكرا مهموما من ذَلِك وَكَانَت هَذِه الرُّؤْيَا فى الْعشْر الأول فَمَا كَانَ الْعشْر الْأَوْسَط رأى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْمَنَام ثَانِيًا فَقَالَ مَا فعلت فِيمَا أَمرتك بِهِ
فَقَالَ يَا رَسُول الله وَمَا عَسى أَن أفعل وَقد خرجت للمذاهب المروية عَنْك محامل صَحِيحَة
فَقَالَ لى انصر الْمذَاهب المروية عَنى فَإِنَّهَا الْحق
فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ شَدِيد الأسف والحزن وَأجْمع على ترك الْكَلَام وَاتِّبَاع الحَدِيث وملازمة تِلَاوَة الْقُرْآن
فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة سبع وَعشْرين وَكَانَ من عَادَته سهر تِلْكَ اللَّيْلَة أَخذه من النعاس مَا لم يَتَمَالَك مَعَه السهر فَنَامَ وَهُوَ يتأسف على ترك الْقيام فِيهَا فَرَأى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَالِثا فَقَالَ لَهُ مَا صنعت فِيمَا أَمرتك بِهِ
فَقَالَ قد تركت الْكَلَام يَا رَسُول الله ولزمت كتاب الله وسنتك
فَقَالَ لَهُ أَنا مَا أَمرتك بترك الْكَلَام إِنَّمَا أَمرتك بنصرة الْمذَاهب المروية عَنى فَإِنَّهَا الْحق(3/348)
قَالَ فَقلت يَا رَسُول الله كَيفَ أدع مذهبا تصورت مسَائِله وَعرفت دلائله مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة لرؤيا
قَالَ فَقَالَ لى لَوْلَا أَنى أعلم أَن الله يمدك بمدد من عِنْده لما قُمْت عَنْك حَتَّى أبين لَك وجوهها فجد فِيهِ فَإِن الله سيمدك بمدد من عِنْده فَاسْتَيْقَظَ وَقَالَ مَا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَأخذ فى نصْرَة الْأَحَادِيث فى الرُّؤْيَة والشفاعة وَالنَّظَر وَغير ذَلِك
وَكَانَ يفتح عَلَيْهِ من المباحث والبراهين بِمَا لم يسمعهُ من شيخ قطّ وَلَا اعْتَرَضَهُ بِهِ خصم وَلَا رَآهُ فى كتاب
قَالَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد العسكرى كَانَ الأشعرى تلميذا للجبائى وَكَانَ صَاحب نظر وَذَا إقدام على الْخُصُوم وَكَانَ الجبائى صَاحب تصنيف وقلم إِلَّا أَنه لم يكن قَوِيا فى المناظرة فَكَانَ إِذا عرضت مناظرة قَالَ للأشعرى نب عَنى
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل الصعلوكى حَضَرنَا مَعَ الشَّيْخ أَبى الْحسن مجْلِس علوى بِالْبَصْرَةِ فناظر الْمُعْتَزلَة خذلهم الله وَكَانُوا يعْنى كثيرا فَأتى على الْكل وَهَزَمَهُمْ كلما انْقَطع وَاحِد تنَاول الآخر حَتَّى انْقَطَعُوا عَن آخِرهم فعدنا فى الْمجْلس الثانى فَمَا عَاد مِنْهُم أحد فَقَالَ بَين يدى العلوى يَا غُلَام اكْتُبْ على الْبَاب فروا
وَقَالَ الإِمَام أَبُو بكر الصيرفى كَانَت الْمُعْتَزلَة قد رفعوا رُءُوسهم حَتَّى أظهر الله الأشعرى فحجزهم فى أقماع السمسم
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عبد الله بن خَفِيف دخلت الْبَصْرَة أَيَّام شبابى لأرى أَبَا الْحسن الأشعرى لما بلغنى خَبره فَرَأَيْت شَيخا بهى المنظر فَقلت أَيْن منزل أَبى الْحسن الأشعرى فَقَالَ وَمَا الذى تُرِيدُ مِنْهُ فَقلت أحب أَن أَلْقَاهُ فَقَالَ ابتكر غَدا إِلَى هَذَا الْموضع قَالَ فابتكرت فَلَمَّا رَأَيْته تَبعته فَدخل دَار بعض وُجُوه الْبَلَد فَلَمَّا أبصروه(3/349)
أكْرمُوا مَحَله وَكَانَ هُنَاكَ جمع من الْعلمَاء ومجلس نظر فأقعدوه فى الصَّدْر ثمَّ سُئِلَ بضعهم مَسْأَلَة فَلَمَّا شرع فى الْجَواب دخل الشَّيْخ فَأخذ يرد عَلَيْهِ ويناظره حَتَّى أَفْحَمَهُ فَقضيت الْعجب من علمه وفصاحته فَقلت لبَعض من كَانَ عندى من هَذَا الشَّيْخ فَقَالَ أَبُو الْحسن الأشعرى
فَلَمَّا قَامُوا تَبعته فَقَالَ لى يَا فَتى كَيفَ رَأَيْت الأشعرى فخدمته وَقلت يَا سيدى كَمَا هُوَ فى مَحَله وَلَكِن لم لَا تسْأَل أَنْت ابْتِدَاء فَقَالَ أَنا لَا أكلم هَؤُلَاءِ ابْتِدَاء وَلَكِن إِذا خَاضُوا فى ذكر مَا لَا يجوز فى دين الله رددنا عَلَيْهِم بِحكم مَا فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا من الرَّد على مخالفى الْحق
وَرويت هَذِه الْحِكَايَة عَن ابْن خَفِيف على وَجه آخر يشْتَرك مَعهَا بعد الدّلَالَة على عَظمَة الشَّيْخ وَمحله فى الْعلم فى أَنه كَانَ لَا يتَكَلَّم فِي علم الْكَلَام إِلَّا حَيْثُ يجب عَلَيْهِ نصرا للدّين ودفعا للمبطلين
وَقد قدمنَا الْحِكَايَة على وَجه كيس من كَلَام وَالِد الإِمَام فَخر الدّين فِيمَا أَحسب أَو من كَلَام ابْن خَفِيف نَفسه فى تَرْجَمَة ابْن خَفِيف
قَالَ عُلَمَاؤُنَا كَانَ الشَّيْخ صَاحب فراسة وَنظر بِنور الله وَكَانَ ابْن خَفِيف كَمَا عرف حَاله من أَرْبَاب الْأَحْوَال وسَادَة الْمَشَايِخ فَلَمَّا أبصره الشَّيْخ وَفهم عَنهُ مَا يُرِيد أحب أَلا يرَاهُ إِلَّا على أكمل أَحْوَاله من الْعلم وَهُوَ وَقت المناظرة فَإِن أول نظر يثبت فى الْقلب ويرسخ فَأَرَادَ الشَّيْخ تربية ابْن خَفِيف فَإِنَّهُ إِذا نظره فى أكمل أَحْوَاله امْتَلَأَ قلبه بعظمته فانقاد لما يَأْتِيهِ من قبله(3/350)
قَالُوا وَكَانَ الشَّيْخ رضى الله عَنهُ سيدا فى التصوف وَاعْتِبَار الْقُلُوب كَمَا هُوَ سيد فى علم الْكَلَام وأصناف الْعُلُوم
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفراينى كنت فى جنب الشَّيْخ أَبى الْحسن الباهلى كقطرة فى جنب الْبَحْر وَسمعت الباهلى يَقُول كنت فى جنب الأشعرى كقطرة فى جنب الْبَحْر
وَقَالَ لِسَان الْأمة القاضى أَبُو بكر أفضل أحوالى أَن أفهم كَلَام أَبى الْحسن
قَالَ أَبُو الْفضل السهلكى حكى لنا الْفَقِيه الثِّقَة أَبُو عمر الرزجاهى قَالَ سَمِعت الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبَا سهل الصعلوكى أَو الشَّيْخ الإِمَام أَبَا بكر الإسماعيلى وَالشَّكّ منى يَقُول أعَاد الله تَعَالَى هَذَا الدّين بعد مَا ذهب يعْنى أَكْثَره بِأَحْمَد ابْن حَنْبَل وأبى الْحسن الأشعرى وأبى نعيم الإستراباذى
وَأما اجْتِهَاد الشَّيْخ فى الْعِبَادَة والتأله فَأمر غَرِيب
ذكر من صَحبه أَنه مكث عشْرين سنة يصلى الصُّبْح بِوضُوء الْعَتَمَة وَكَانَ يَأْكُل من غلَّة قَرْيَة وَقفهَا جده بِلَال بن أَبى بردة بن أَبى مُوسَى الأشعرى على نَسْله
قَالَ وَكَانَت نَفَقَته فى كل سنة سَبْعَة عشر درهما كل شهر دِرْهَم وشىء يسير
وَاعْلَم أَنا لَو أردنَا اسْتِيعَاب مَنَاقِب الشَّيْخ لضاقت بِنَا الأوراق وكلت الأقلام وَمن أَرَادَ معرفَة قدره وَأَن يمتلىء قلبه من حبه فَعَلَيهِ بِكِتَاب تَبْيِين كذب المفترى فِيمَا نسب إِلَى الإِمَام أَبى الْحسن الأشعرى الذى صنفه الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وَهُوَ من أجل الْكتب وَأَعْظَمهَا فَائِدَة وأحسنها
فَيُقَال كل سنى لَا يكون عِنْده كتاب التَّبْيِين لِابْنِ عَسَاكِر فَلَيْسَ من أَمر نَفسه على بَصِيرَة(3/351)
وَيُقَال لَا يكون الْفَقِيه شافعيا على الْحَقِيقَة حَتَّى يحصل كتاب التَّبْيِين لِابْنِ عَسَاكِر وَكَانَ مشيختنا يأمرون الطّلبَة بِالنّظرِ فِيهِ
وَقد زعم بعض النَّاس أَن الشَّيْخ كَانَ مالكى الْمَذْهَب وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح إِنَّمَا كَانَ شافعيا تفقه على أَبى إِسْحَاق المروزى نَص على ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو بكر ابْن فورك فى طَبَقَات الْمُتَكَلِّمين والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفراينى فِيمَا نَقله عَنهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الجوينى فى شرح الرسَالَة
والمالكى هُوَ القاضى أَبُو بكر بن الباقلانى شيخ الأشاعرة
وَالصَّحِيح أَن وَفَاة الشَّيْخ بَين الْعشْرين وَالثَّلَاثِينَ بعد الثلاثمائة وَالْأَقْرَب أَنَّهَا سنة أَربع وَعشْرين وَهُوَ مَا صَححهُ ابْن عَسَاكِر وَذكره أَبُو بكر بن فورك وَيُقَال سنة نَيف وَثَلَاثِينَ
وَأَنت إِذا نظرت تَرْجَمَة هَذَا الشَّيْخ الذى هُوَ شيخ السّنة وَإِمَام الطَّائِفَة فى تَارِيخ شَيخنَا الذهبى وَرَأَيْت كَيفَ مزقها وحار كَيفَ يصنع فى قدره وَلم يُمكنهُ البوح بالغض مِنْهُ خوفًا من سيف أهل الْحق وَلَا الصَّبْر عَن السُّكُوت لما جبلت عَلَيْهِ طويته من بغضه بِحَيْثُ اختصر مَا شَاءَ الله أَن يختصر فى مدحه ثمَّ قَالَ فى آخر التَّرْجَمَة من أَرَادَ أَن يتبحر فى معرفَة الأشعرى فَعَلَيهِ بِكِتَاب تَبْيِين كذب المفترى لأبى الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر اللَّهُمَّ توفنا على السّنة وأدخلنا الْجنَّة وَاجعَل أَنْفُسنَا مطمئنة نحب فِيك أولياءك ونبغض فِيك أعدائك ونستغفر للعصاة من عِبَادك ونعمل بمحكم كتابك ونؤمن بمتشابهه ونصفك بِمَا وصفت بِهِ نَفسك انْتهى
فَعِنْدَ ذَلِك تقتضى الْعجب من هَذَا الذهبى وَتعلم إِلَى مَاذَا يُشِير الْمِسْكِين فويحه ثمَّ ويحه(3/352)
وَأَنا قد قلت غير مرّة إِن الذهبى أستاذى وَبِه تخرجت فى علم الحَدِيث إِلَّا أَن الْحق أَحَق أَن يتبع وَيجب على تَبْيِين الْحق فَأَقُول
أما حوالتك على تَبْيِين كذب المفترى وتقصيرك فى مدح الشَّيْخ فَكيف يسعك ذَلِك مَعَ كونك لم تترجم مجسما يشبه الله بخلقه إِلَّا واستوفيت تَرْجَمته حَتَّى إِن كتابك مُشْتَمل على ذكر جمَاعَة من أصاغر الْمُتَأَخِّرين من الْحَنَابِلَة الَّذين لَا يؤبه إِلَيْهِم قد ترجمت كل وَاحِد مِنْهُم بأوراق عديدة فَهَل عجزت أَن تُعْطى تَرْجَمَة هَذَا الشَّيْخ حَقّهَا وتترجمه كَمَا ترجمت من هُوَ دونه بِأَلف ألف طبقَة فأى غَرَض وَهوى نفس أبلغ من هَذَا وَأقسم بِاللَّه يَمِينا برة مَا بك إِلَّا أَنَّك لَا تحب شياع اسْمه بِالْخَيرِ وَلَا تقدر فى بِلَاد الْمُسلمين على أَن تفصح فِيهِ بِمَا عنْدك من أمره وَمَا تضمره من الغض مِنْهُ فَإنَّك لَو أظهرت ذَلِك لتناولتك سيوف الله وَأما دعاؤك بِمَا دَعَوْت بِهِ فَهَل هَذَا مَكَانَهُ يامسكين وَأما إشارتك بِقَوْلِك ونبغض أعداءك إِلَى أَن الشَّيْخ من أَعدَاء الله وَأَنَّك تبْغضهُ فَسَوف تقف مَعَه بَين يدى الله تَعَالَى يَوْم يأتى وَبَين يَدَيْهِ طوائف الْعلمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَالصَّالِحِينَ من الصُّوفِيَّة والجهابذة الْحفاظ من الْمُحدثين وتأتى أَنْت تتكسع فى ظلم التجسيم الذى تدعى أَنَّك برِئ مِنْهُ وَأَنت من أعظم الدعاة إِلَيْهِ وتزعم أَنَّك تعرف هَذَا الْفَنّ وَأَنت لَا تفهم فِيهِ نقيرا وَلَا قطميرا وليت شعرى من الذى يصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه من شبهه بخلقه أم من قَالَ {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَالْأولَى بى على الْخُصُوص إمْسَاك عنان الْكَلَام فى هَذَا الْمقَام فقد أبلغت ثمَّ أحفظ لشَيْخِنَا حَقه وَأمْسك(3/353)
وَقد عرفناك أَن الأوراق لَا تنهض بترجمة الشَّيْخ وأحلناك على كتاب التَّبْيِين لَا كإحالة الذهبى إِذْ نَحن نحيل إِحَالَة طَالب محرض على الازدياد من عَظمته وَذَاكَ يحِيل إِحَالَة مجهل قد سئم وتبرم بِذكر محامد من لَا يُحِبهُ وَنحن منبهون فى هَذِه التَّرْجَمَة على مهمات لَا نرى إخلاء الْكتاب عَنْهَا لاشتمالها على نصْرَة دين الله وَجمع كلمة الْمُوَحِّدين ونذكرها بعد اسْتِيفَاء مَا يخْتَص بترجمة الشَّيْخ
ذكر شىء من الرِّوَايَة عَن الشَّيْخ وَالدّلَالَة على مَحَله من الحَدِيث وَالْفِقْه
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ غفر الله لَهُ بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا الشَّيْخَانِ محيى الدّين ابْن الحرستانى وتاج الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن أَبى عصرون
ح وَأخْبرنَا شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج المزى إجَازَة قَالَ أخبرنَا تَاج الدّين سَمَاعا قَالَا أجازتنا أم الْمُؤَيد زَيْنَب بنت عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الشعرى قَالَت أجازنا الشَّيْخ أَبُو الْحسن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الفارسى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو إِبْرَاهِيم أسعد بن مَسْعُود العتبى أخبرنَا الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور القاهر بن طَاهِر البغدادى ولى عَنهُ إجَازَة حَدثنَا القاضى أبومحمد ابْن عمر المالكى قاضى أصطخر قدم علينا رَسُولا فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة حَدثنَا الإِمَام أَبُو الْحسن على بن إِسْمَاعِيل الأشعرى بِبَغْدَاد فى مجْلِس أَبى إِسْحَاق المروزى حَدثنَا زَكَرِيَّا بن يحيى الساجى حَدثنَا بنْدَار وَابْن الْمثنى قَالَا حَدثنَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا ابْن أَبى ذيب عَن سعيد المقبرى عَن أَبى هُرَيْرَة أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (السَّبع المثانى فَاتِحَة الْكتاب)(3/354)
وَبِه إِلَى زَكَرِيَّا حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أَبى الشَّوَارِب حَدثنَا خَالِد بن عبد الله الواسطى حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَاتِحَة الْكتاب السَّبع المثانى الَّتِى أعطيتهَا)
وَبِه إِلَى العتبى أخبرنَا الإِمَام أَبُو مَنْصُور البغدادى سَمِعت عبد الله بن مَحْمُود بن طَاهِر الصوفى يَقُول رَأَيْت أَبَا الْحسن الأشعرى فى مَسْجِد الْبَصْرَة وَقد أبهت الْمُعْتَزلَة فى المناظرة فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين قد عرفنَا تبحرك فى علم الْكَلَام وإنى سَائِلك عَن مَسْأَلَة ظَاهِرَة فى الْفِقْه فَقَالَ سل عَمَّا شِئْت فَقَالَ لَهُ مَا تَقول فى الصَّلَاة بِغَيْر فَاتِحَة الْكتاب فَقَالَ حَدثنَا زَكَرِيَّا بن يحيى الساجى حَدثنَا عبد الْجَبَّار حَدثنَا سُفْيَان حَدَّثَنى الزهرى عَن مَحْمُود ابْن الرّبيع عَن عبَادَة بن الصَّامِت عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب)
وَحدثنَا زَكَرِيَّا حَدثنَا بنْدَار حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن جَعْفَر بن مَيْمُون حَدَّثَنى أَبُو عُثْمَان عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ أمرنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادى بِالْمَدِينَةِ أَنه لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب قَالَ فَسكت السَّائِل وَلم يقل شَيْئا
قد رَأَيْت رِوَايَة الشَّيْخ هُنَا عَن زَكَرِيَّا الساجى وروى أَيْضا عَن أَبى خَليفَة الجمحى وَسَهل بن نوح وَمُحَمّد بن يَعْقُوب المقبرى وَعبد الرَّحْمَن بن خلف الضبى الْبَصرِيين وَأكْثر عَنْهُم فى تَفْسِيره وَتَفْسِيره كتاب حافل جَامع قَالَ شَيخنَا الذهبى إِنَّه لما صنفه كَانَ على الاعتزال(3/355)
قلت وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فقد وقفت على الْجُزْء الأول مِنْهُ وَكله رد على الْمُعْتَزلَة وتبيين لفساد تأويلاتهم وَكَثْرَة تحريفهم وفى مُقَدّمَة تَفْسِيره من ذَلِك مَا يقْضى ناظره الْعجب مِنْهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
مناظرة بَين الشَّيْخ أَبى الْحسن وأبى على الجبائى فى الْأَصْلَح وَالتَّعْلِيل
سَأَلَ الشَّيْخ رضى الله عَنهُ أَبَا على فَقَالَ أَيهَا الشَّيْخ مَا قَوْلك فى ثَلَاثَة مُؤمن وَكَافِر وصبى
فَقَالَ الْمُؤمن من أهل الدَّرَجَات وَالْكَافِر من أهل الهلكات والصبى من أهل النجَاة
فَقَالَ الشَّيْخ فَإِن أَرَادَ الصبى أَن يرقى إِلَى أهل الدَّرَجَات هَل يُمكن
قَالَ الجبائى لَا يُقَال لَهُ إِن الْمُؤمن إِنَّمَا نَالَ هَذِه الدرجَة بِالطَّاعَةِ وَلَيْسَ لَك مثلهَا
قَالَ الشَّيْخ فَإِن قَالَ التَّقْصِير لَيْسَ منى فَلَو أحييتنى كنت عملت من الطَّاعَات كعمل الْمُؤمن
قَالَ الجبائى يَقُول لَهُ الله كنت أعلم أَنَّك لَو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وَأمتك قبل أَن تنتهى إِلَى سنّ التَّكْلِيف
قَالَ الشَّيْخ فَلَو قَالَ الْكَافِر يَا رب علمت حَاله كَمَا علمت حالى فَهَلا راعيت مصلحتى مثله
فَانْقَطع الجبائى
قلت هَذِه مناظرة شهيرة وَقد حَكَاهَا شَيخنَا الذهبى وهى دامغة لأصل من يقلده لِأَن الذى يقلده يَقُول إِن الله لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بحكمة باعثة لَهُ على فعله ومصلحة وَاقعَة وَهُوَ من الْمُعْتَزلَة فى هَذِه الْمَسْأَلَة فَلَو يدرى شَيخنَا هَذَا لأضرب عَن ذكر هَذِه المناظرة صفحا(3/356)
وَوَقع فى زمَان شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام استفتاء فى هَذِه الْمَسْأَلَة فَكتب عَلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وَطَائِفَة
وَمن كَلَام الشَّيْخ عز الدّين فى الْجَواب مَا أَجْهَل من يزْعم أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يجوز أَن يخلق شَيْئا إِلَّا أَن يكون فِيهِ جلب نفع أَو دفع ضَرَر تالله لقد تيمموا شاسعا وَلَقَد تحجروا وَاسِعًا
وَمن جَوَاب ابْن الْحَاجِب أى صَلَاح فى خلق مَا هُوَ السَّبَب الْمُؤَدى إِلَى الْكفْر وكأنى أحكى الجوابين إِن شَاءَ الله فى بعض تراجم الطَّبَقَة السَّابِعَة
وَهَذِه مَسْأَلَة مفروغ مِنْهَا فَمن أصلنَا أَنه يُقَال لَا يجب عَلَيْهِ شئ وَلَا يفعل شَيْئا لشئ ابتعثه عَلَيْهِ بل هُوَ مَالك الْملك وَرب الأرباب لَا حجر عَلَيْهِ لَهُ نقل عباده من الْخَيْر إِلَى الشَّرّ وَمن النَّفْع إِلَى الضّر {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون}
وَاعْلَم أَن جَوَاب شَيخنَا أَبى الْحسن مَأْخُوذ من قَول إمامنا الشافعى رضى الله عَنهُ الْقَدَرِيَّة إِذا سلمُوا الْعلم خصموا أى إِذا سلمُوا علم الله بالعواقب
مناظرة بَينهمَا فى أَن أَسمَاء الله هَل هى توقيفية
دخل رجل على الجبائى فَقَالَ هَل يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى عَاقِلا
فَقَالَ الجبائى لَا لِأَن الْعقل مُشْتَقّ من العقال وَهُوَ الْمَانِع وَالْمَنْع فى حق الله محَال فَامْتنعَ الْإِطْلَاق
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن فَقلت لَهُ فعلى قياسك لَا يُسمى الله سُبْحَانَهُ حكيما لِأَن هَذَا الِاسْم مُشْتَقّ من حِكْمَة اللجام وهى الحديدة الْمَانِعَة للدابة عَن الْخُرُوج وَيشْهد لذَلِك قَول حسان بن ثَابت رضى الله عَنهُ(3/357)
(فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حِين تختلط الدِّمَاء)
وَقَول الآخر
(أبنى حنيفَة حكمُوا سفهاءكم ... إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا)
أى نمْنَع بالقوافى من هجانا وامنعوا سفهاءكم
فَإِذا كَانَ اللَّفْظ مشتقا من الْمَنْع وَالْمَنْع على الله محَال لزمك أَن تمنع إِطْلَاق حَكِيم عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
قَالَ فَلم يحر جَوَابا إِلَّا أَنه قَالَ لى فَلم منعت أَنْت أَن يُسمى الله سُبْحَانَهُ عَاقِلا وأجزت أَن يُسمى حكيما
قَالَ فَقلت لَهُ لِأَن طريقى فى مَأْخَذ أَسمَاء الله الْإِذْن الشرعى دون الْقيَاس اللغوى فأطلقت حكيما لِأَن الشَّرْع أطلقهُ ومنعت عَاقِلا لَان الشَّرْع مَنعه وَلَو أطلقهُ الشَّرْع لأطلقته
قلت كَذَا وَقع فى هَذِه المناظرة فى إنشاد الْبَيْت حكمُوا بِالْكَاف وَهُوَ الْمَشْهُور فى رِوَايَته وَكنت أجوز أَن يكون حلموا بِاللَّامِ لمقابلته بالسفهاء ثمَّ رَأَيْت فى كتاب الْكَامِل للمبرد رَحمَه الله تَعَالَى
(أبنى حنيفَة نهنهوا سفهاءكم ... إنى أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا)
(أبنى حنيفَة إننى إِن أهجكم ... أدع الْيَمَامَة لَا توارى أرنبا)
وهما لجرير(3/358)
وَمن الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة عَن الشَّيْخ
قَالَ الإِمَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ فى بَاب اجْتِمَاع الْوُلَاة من النِّهَايَة فى الْمَرْأَة تدعى غيبَة وَليهَا وتطلب من السُّلْطَان أَن يُزَوّجهَا وتلح فى ذَلِك
اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فى ذَلِك فَذهب قدوتنا فى الْأُصُول إِلَى أَنَّهَا تجاب وأقصى مَا يُمكن السُّلْطَان أَن يستمهلها فَإِن أَبَت أجابها
وَذهب القاضى أَبُو بكر بن الباقلانى إِلَى أَن القاضى لَا يجيبها إِن رأى التَّأْخِير رَأيا وَيَقُول لَا تجب على إجابتك مَا لم أحتط انْتهى
وَقد نقل الرافعى الْمَسْأَلَة عَن الإِمَام وَقَالَ فِيهَا وَجْهَان رَوَاهُمَا الإِمَام عَن أهل الْأُصُول
وَأَنت ترى عبارَة الإِمَام لم يفصح بِذكر وَجْهَيْن وَإِنَّمَا حكى اخْتِلَاف الْأُصُولِيِّينَ وَأَرَادَ بقدوتنا فى الْأُصُول الأشعرى
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله الذى ينبغى أَن يُقَال إِن اجْتِهَاد القاضى إِن أَدَّاهُ إِلَى أَن مصلحَة الْمَرْأَة تفوت بِالتَّأْخِيرِ وَجَبت الْمُبَادرَة أَو أَن الْمصلحَة التَّأْخِير تعين وَإِن أشكل الْحَال أَو اسْتَوَى أَو كَانَ فى مهلة النّظر فَهَذَا مَوضِع التَّرَدُّد وينبغى أَلا يُبَادر
ذكر تصانيف الشَّيْخ رضى الله عَنهُ
ذكر أَبُو مُحَمَّد بن حزم أَنَّهَا بلغت خمْسا وَخمسين مصنفا ورد ابْن عَسَاكِر هَذَا القَوْل وَقَالَ قد ترك من عدد مصنفاته أَكثر من النّصْف وَذكر أَبُو بكر بن فورك مسميات تزيد على الضعْف انْتهى
قلت ابْن حزم على مِقْدَار مَا وقف عَلَيْهِ فى بِلَاد الغرب(3/359)
وَقد ذكر ابْن عَسَاكِر بعد ذَلِك عَن أَبى المعالى بن عبد الْملك القاضى أَنه سمع من يَثِق بِهِ يذكر أَنه رأى تراجم مصنفاته تزيد على مِائَتَيْنِ وثلاثمائة مُصَنف
وعد ابْن عَسَاكِر من مصنفاته مِمَّا ذكره الشَّيْخ فِي كِتَابه
الْعمد فى الرُّؤْيَة وَغَيره
الْفُصُول فى الرَّد على الْمُلْحِدِينَ
الموجز
إِمَامَة الصّديق
خلق الْأَعْمَال
الِاسْتِطَاعَة
الصِّفَات
الرُّؤْيَة
الْأَسْمَاء وَالْأَحْكَام
الرَّد على المجسمة
الْإِيضَاح
اللمع الصَّغِير
اللمع الْكَبِير
الشَّرْح وَالتَّفْصِيل(3/360)
الْمُقدمَة
النَّقْض على الجبائى
النَّقْض على البلخى
مقالات الْمُسلمين
مقالات الْمُلْحِدِينَ
الجوابات فى الصِّفَات على الاعتزال
قَالَ ثمَّ نقضناه وأبطلناه
الرَّد على ابْن الراوندى
ذكر دَلِيل استنبطه عُلَمَاؤُنَا من الحَدِيث الصَّحِيح دَال على أَن أَبَا الْحسن وفئته على السّنة وَأَن سبيلهم سَبِيل الْجنَّة
زعم طوائف من أَئِمَّتنَا أَن سيدنَا ومولانا وحبيبنا مُحَمَّد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشر بالشيخ أَبى الْحسن وَأَشَارَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فى حَدِيث الْأَشْعَرِيين حَيْثُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/361)
(الْإِيمَان يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية أَتَاكُم أهل الْيمن هم أرق أَفْئِدَة وألين قلوبا)
أخرجه البخارى وَمُسلم
وفى حَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (يقدم قوم هم أرق أَفْئِدَة مِنْكُم) فَقدم الأشعريون فيهم أَبُو مُوسَى ... الحَدِيث
وفى حَدِيث لما نزلت {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هم قوم هَذَا) وَضرب بِيَدِهِ على ظهر أَبى مُوسَى الأشعرى
وَقد استوعب الْحَافِظ فى كتاب التَّبْيِين الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فى هَذَا الْبَاب وَهَذَا ملخصها
قَالَ عُلَمَاؤُنَا بشر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأبى الْحسن فِيهَا إِشَارَة وتلويحا كَمَا بشر بأبى عبد الله الشافعى رضى الله عَنهُ فى حَدِيث (عَالم قُرَيْش يمْلَأ طباق الأَرْض علما) وَمَالك رضى الله عَنهُ فى حَدِيث يُوشك أَن يضْرب النَّاس آباط الْإِبِل فَلَا يَجدونَ عَالما أعلم من عَالم الْمَدِينَة
وَمِمَّنْ وَافق على هَذَا التَّأْوِيل وَأخذ بِهِ من حفاظ الْمُحدثين وأئمتهم الْحَافِظ الْجَلِيل أَبُو بكر البيهقى فِيمَا أخبرنَا بِهِ يحيى بن فضل الله الْعُمْرَى فى كِتَابه عَن مكى ابْن عَلان أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الدمشقى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْفضل الفراوى أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن بن على البيهقى الْحَافِظ قَالَ(3/362)
أما بعد فَإِن بعض أَئِمَّة الْأَشْعَرِيين رضى الله عَنْهُم ذاكرني بمتن الحَدِيث الذى أنبأناه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق حَدثنَا وهب بن جرير وَأَبُو عَامر العقدى قَالَا حَدثنَا شُعْبَة عَن سماك بن حَرْب عَن عِيَاض الأشعرى قَالَ لما نزلت {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أَوْمَأ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَبى مُوسَى فَقَالَ (هم قوم هَذَا)
قَالَ البيهقى وَذَلِكَ لما وجد من الْفَضِيلَة الجليلة والمرتبة الشَّرِيفَة فى هَذَا الحَدِيث للْإِمَام أَبى الْحسن الأشعرى رضى الله عَنهُ فَهُوَ من قوم أَبى مُوسَى وَأَوْلَاده الَّذين أُوتُوا الْعلم ورزقوا الْفَهم مَخْصُوصًا من بَينهم بتقوية السّنة وقمع الْبِدْعَة بِإِظْهَار الْحجَّة ورد الشُّبْهَة وَالْأَشْبَه أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا جعل قوم أَبى مُوسَى من قوم يُحِبهُمْ الله وَيُحِبُّونَهُ لما علم من صِحَة دينهم وَعرف من قُوَّة يقينهم فَمن نحا فى علم الْأُصُول نحوهم وَتبع فى نفى التَّشْبِيه مَعَ مُلَازمَة الْكتاب وَالسّنة قَوْلهم جعل من جُمْلَتهمْ هَذَا كَلَام البيهقى
وَنحن نقُول وَلَا نقطع على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشبه أَن يكون نبى الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ضرب على ظهر أَبى مُوسَى رضى الله عَنهُ فى الحَدِيث الذى قدمْنَاهُ للْإِشَارَة والبشارة بِمَا يخرج من ذَلِك الظّهْر فى تَاسِع بطن وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن فقد كَانَت للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إشارات لَا يفهمها إِلَّا الموفقون المؤيدون بِنور من الله الراسخون فى الْعلم ذَوُو البصائر المشرقة {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور}(3/363)
وَقد عقد ابْن عَسَاكِر فى كتاب التَّبْيِين بَابا فِيمَا روى عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بشارته بأبى مُوسَى حِين قدومه من الْيمن وإشارته إِلَى مَا يظْهر من علم أَبى الْحسن
وَابْن عَسَاكِر من أخيار هَذِه الْأمة علما ودينا وحفظا لم يجِئ بعد الدارقطنى أحفظ مِنْهُ اتّفق على هَذَا الْمُوَافق والمخالف
وَعَن مُجَاهِد فى قَوْله تَعَالَى {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ قوم من سبأ قَالَ ابْن عَسَاكِر والأشعريون قوم من سبأ
قلت وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحدث فى أصُول الدّين أحدا بِحَدِيث حَدثهُ للأشعريين وَأَنَّهُمْ الَّذين اختصوا بسؤاله عَن ذَلِك وإجابته لَهُم
ففى صَحِيح البخارى وَغَيره عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ إنى لجالس عِنْد النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَاءَهُ قوم من بنى تَمِيم فَقَالَ (اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بنى تَمِيم) فَقَالُوا قد بشرتنا فَأَعْطِنَا يَا رَسُول الله قَالَ فَدخل عَلَيْهِ نَاس من أهل الْيمن فَقَالَ (اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أهل الْيمن إِذْ لم يقبلهَا بَنو تَمِيم) قَالُوا قبلنَا يَا رَسُول الله جِئْنَا لنتفقه فى الدّين ونسألك عَن أول هَذَا الْأَمر مَا كَانَ
كَذَا فى لفظ
وفى لفظ البخارى جئْنَاك نَسْأَلك عَن هَذَا الْأَمر قَالَ كَانَ الله وَلم يكن شئ غَيره
وفى رِوَايَة وَلم يكن شئ قبله وَكَانَ عَرْشه على المَاء ثمَّ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكتب فى الذّكر كل شئ
قَالَ وَأَتَاهُ رجل فَقَالَ يَا عمرَان بن حُصَيْن راحلتك أدْرك نَاقَتك(3/364)
فقد ذهبت فَانْطَلَقت فى طلبَهَا وَإِذا السراب يَنْقَطِع دونهَا وأيم الله لَوَدِدْت أَنَّهَا ذهبت وأنى لم أقِم
وَقد سَاق ابْن عَسَاكِر هَذَا الحَدِيث من طرق عدَّة
ذكر أَتْبَاعه الآخذين عَنهُ والآخذين عَن من أَخذ عَنهُ وهلم جرا
اعْلَم أَن أَبَا الْحسن لم يبدع رَأيا وَلم ينش مذهبا وَإِنَّمَا هُوَ مُقَرر لمذاهب السّلف مناضل عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ صحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالانتساب إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار أَنه عقد على طَرِيق السّلف نطاقا وَتمسك بِهِ وَأقَام الْحجَج والبراهين عَلَيْهِ فَصَارَ المقتدى بِهِ فى ذَلِك السالك سَبيله فى الدَّلَائِل يُسمى أشعريا وَلَقَد قلت مرّة للشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله أَنا أعجب من الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فى عدَّة طوائف من أَتبَاع الشَّيْخ وَلم يذكر إِلَّا نزرا يَسِيرا وعددا قَلِيلا وَلَو وفى الِاسْتِيعَاب حَقه لاستوعب غَالب عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُم برأى أَبى الْحسن يدينون الله تَعَالَى فَقَالَ إِنَّمَا ذكر من اشْتهر بالمناضلة عَن أَبى الْحسن وَإِلَّا فَالْأَمْر على مَا ذكرت من أَن غَالب عُلَمَاء الْمذَاهب مَعَه
وَقد ذكر الشَّيْخ شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام أَن عقيدته اجْتمع عَلَيْهَا الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة وفضلاء الْحَنَابِلَة وَوَافَقَهُ على ذَلِك من أهل عصره شيخ الْمَالِكِيَّة فى زَمَانه أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وَشَيخ الْحَنَفِيَّة جمال الدّين الحصيرى
قلت وسنعقد لهَذَا الْفَصْل فصلا يَخُصُّهُ فِيمَا بعد
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام فِيمَا يحكيه لنا وَلَقَد وقفت لبَعض الْمُعْتَزلَة على كتاب سَمَّاهُ طَبَقَات الْمُعْتَزلَة وافتتح بِذكر عبد الله بن مَسْعُود رضى الله عَنهُ ظنا مِنْهُ أَنه برأه الله مِنْهُم(3/365)
على عقيدتهم قَالَ وَهَذَا نِهَايَة فى التعصب فَإِنَّمَا ينْسب إِلَى الْمَرْء من مَشى على منواله
قلت أَنا للشَّيْخ الإِمَام وَلَو تمّ هَذَا لَهُم لَكَانَ للأشاعرة أَن يعدوا أَبَا بكر وَعمر رضى الله عَنْهُمَا فى جُمْلَتهمْ لأَنهم عَن عقيدتهما وعقيدة غَيرهمَا من الصَّحَابَة فِيمَا يدعونَ يناضلون وَإِيَّاهَا ينْصرُونَ وعَلى حماها يحومون فَتَبَسَّمَ وَقَالَ أَتبَاع الْمَرْء من دَان بمذهبه وَقَالَ بقوله على سَبِيل الْمُتَابَعَة والاقتفاء الذى هُوَ أخص من الْمُوَافقَة فَبين الْمُتَابَعَة والموافقة بون عَظِيم
قلت وَقد بَينا البون فى شرح الْمُخْتَصر فى مَسْأَلَة الناسى
وَنقل الْحَافِظ كَلَام الشَّيْخ أَبى عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمار الكلاعى المآيرقى وَهُوَ من أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة فى هَذَا الْفَصْل فاستوعبه مِنْهُ أهل السّنة من الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة بِلِسَان أَبى الْحسن الأشعرى يَتَكَلَّمُونَ وبحجته يحتجون ثمَّ أَخذ المايرقى يُقرر أَن أَبَا الْحسن كَانَ مالكى الْمَذْهَب فى الْفُرُوع وَحكى أَنه سمع الإِمَام رَافعا الْحمال يَقُول وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك قطعا كَمَا أسلفناه وَقد وَقع لى أَن سَبَب الْوَهم فِيهِ أَن القاضى أَبَا بكر كَانَ يُقَال لَهُ الأشعرى لشدَّة قِيَامه فى نصْرَة مَذْهَب الشَّيْخ وَكَانَ مالكيا على الصَّحِيح الذى صرح بِهِ أَبُو المظفر بن السمعانى فى القواطع وَغَيره من النقلَة الْأَثْبَات خلافًا لمن زَعمه شافعيا وَرَافِع الْحمال قَرَأَ على من قَرَأَ على القاضى فأظن المآيرقى سمع رَافعا يَقُول الأشعرى مالكى فتوهمه يعْنى الشَّيْخ وَإِنَّمَا يعْنى رَافع القاضى أَبَا بكر هَذَا مَا وَقع لى وَلَا أَشك فِيهِ
والمآيرقى رجل مغربى بعيد الديار عَن بِلَاد الْعرَاق مُتَأَخّر عَن زمَان أَصْحَاب الشَّيْخ(3/366)
وَأَصْحَاب أَصْحَابه فيبعد عَلَيْهِ تَحْقِيق حَاله وَقد قدمنَا كَلَام الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد الجوينى عَن الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق وَكفى بِهِ فَإِنَّهُ أعرف من رَافع وَلَا أحد فى عصر الْأُسْتَاذ أخبر مِنْهُ بِحَال الشَّيْخ إِلَّا أَن يكون القاضى ابْن الباقلانى
وَقد ذكر غير وَاحِد من الْأَثْبَات أَن الشَّيْخ كَانَ يَأْخُذ مَذْهَب الشافعى عَن أَبى إِسْحَاق المروزى وَأَبُو إِسْحَاق المروزى يَأْخُذ عَنهُ علم الْكَلَام وَلذَلِك كَانَ يجلس فى حلقته وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا عَقدنَا لَهُ هَذَا الْفَصْل فلنعد إِلَى غرضنا فَنَقُول قَالَ المآيرقى وَلم يكن أَبُو الْحسن أول مُتَكَلم بِلِسَان أهل السّنة إِنَّمَا جرى على سنَن غَيره وعَلى نصْرَة مَذْهَب مَعْرُوف فَزَاد الْمَذْهَب حجَّة وبيانا وَلم يبتدع مقَالَة اخترعها وَلَا مذهبا انْفَرد بِهِ أَلا ترى أَن مَذْهَب أهل الْمَدِينَة نسب إِلَى مَالك وَمن كَانَ على مَذْهَب أهل الْمَدِينَة يُقَال لَهُ مالكى وَمَالك إِنَّمَا جرى على سنَن من كَانَ قبله وَكَانَ كثير الِاتِّبَاع لَهُم إِلَّا أَنه لما زَاد الْمَذْهَب بَيَانا وبسطا عزى إِلَيْهِ كَذَلِك أَبُو الْحسن الأشعرى لَا فرق لَيْسَ لَهُ فى مَذْهَب السّلف أَكثر من بَسطه وَشَرحه وتواليفه فى نصرته
وَأطَال المآيرقى فى ذَلِك ثمَّ عدد خلقا من أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة كَانُوا يناضلون عَن مَذْهَب الأشعرى ويبدعون من خَالفه وَلَا حَاجَة إِلَى شرح ذَلِك فَإِن الْمَالِكِيَّة أخص النَّاس بالأشعرى إِذْ لَا نَحْفَظ مالكيا غير أشعرى ونحفظ من غَيرهم طوائف جنحوا إِمَّا إِلَى اعتزال أَو إِلَى تَشْبِيه وَإِن كَانَ من جنح إِلَى هذَيْن من رعاع الْفرق
ثمَّ ذكر المآيرقى رِسَالَة الشَّيْخ أَبى الْحسن القابسى المالكى الَّتِى يَقُول فِيهَا وَاعْلَمُوا أَن أَبَا الْحسن الأشعرى لم يَأْتِ من علم الْكَلَام إِلَّا مَا أَرَادَ بِهِ إِيضَاح السّنَن والتثبت عَلَيْهَا
إِلَى أَن يَقُول القابسى وَمَا أَبُو الْحسن إِلَّا وَاحِد من جملَة القائمين فى نصْرَة الْحق مَا سمعنَا من أهل الْإِنْصَاف من يُؤَخِّرهُ عَن رُتْبَة ذَلِك وَلَا من يُؤثر عَلَيْهِ فى عصره غَيره وَمن بعده من أهل الْحق سلكوا سَبيله
إِلَى أَن قَالَ لقد مَاتَ الأشعرى يَوْم مَاتَ وَأهل السّنة باكون عَلَيْهِ وَأهل الْبدع مستريحون مِنْهُ(3/367)
وَذكر قَول الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد عبد الله بن أَبى زيد فى جَوَابه لمن لَامة فى حب الأشعرى مَا الأشعرى إِلَّا رجل مَشْهُور بِالرَّدِّ على أهل الْبدع وعَلى الْقَدَرِيَّة الْجَهْمِية متمسك بالسنن
وَأطَال المايرقى وَغَيره من الْمَالِكِيَّة فى تقريظ الشَّيْخ أَبى الْحسن
وَإِذا عرفت ذَلِك فَمن الآخذين عَن الشَّيْخ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل الصعلوكى والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفراينى وَالشَّيْخ أَبُو بكر الْقفال وَالشَّيْخ أَبُو زيد المروزى والأستاذ أَبُو عبد الله بن خَفِيف وزاهر بن أَحْمد السرخسى والحافظ أَبُو بكر الجرجانى الإسماعيلى وَالشَّيْخ أَبُو بكر الأودنى وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الطبرى العراقى وَأَبُو الْحسن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الطبرى الْمَعْرُوف بالدمل وَأَبُو جَعْفَر السلمى النقاش وَأَبُو عبد الله الأصبهانى الشافعى وَأَبُو مُحَمَّد القرشى الزهرى وَأَبُو مَنْصُور بن حمشاد
وَرُبمَا كَانَ فى هَؤُلَاءِ من لم يثبت عندنَا أَنه جَالس الشَّيْخ وَلَكِن كلهم عاصروه وتمذهبوا بمذهبه وقرؤوا كتبه وَأَكْثَرهم جالسه وَأخذ عَنهُ شفاها
وَالشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن بن سمعون الْوَاعِظ وَأَبُو عبد الرَّحْمَن الشروطى الجرجانى
وأخصهم بالشيخ أَرْبَعَة ابْن مُجَاهِد وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن يَعْقُوب بن مُجَاهِد الطائى شيخ القاضى أَبى بكر الباقلانى وَكَانَ مالكى الْمَذْهَب ذكره القَاضِي عِيَاض فى الْمدْرك
وَأَبُو الْحسن الباهلى العَبْد الصَّالح شيخ الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق والأستاذ أَبى بكر ابْن فورك وَشَيخ القاضى أَبى بكر أَيْضا إِلَّا أَن القاضى أَبَا بكر أخص بِابْن مُجَاهِد والأستاذان أخص بالباهلى(3/368)
قَالَ القاضى أَبُو بكر كنت أَنا وَأَبُو إِسْحَاق الإسفراينى وَابْن فورك مَعًا فى درس الشَّيْخ الباهلى وَكَانَ يدرس لنا فى كل جُمُعَة مرّة وَاحِدَة وَكَانَ منا فى حجاب يرخى السّتْر بَيْننَا وَبَينه كى لَا نرَاهُ وَكَانَ من شدَّة اشْتِغَاله بِاللَّه مثل واله أَو مَجْنُون لم يكن يعرف مبلغ درسنا حَتَّى نذكرهُ ذَلِك
وَقَالَ أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن على السهلكى كَانَ الباهلى يسْأَل عَن سَبَب النقاب وإرساله الْحجاب بَينه وَبَين هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كاحتجابه عَن الْكل فَإِنَّهُ كَانَ يحتجب عَن كل وَاحِد فَأجَاب إِنَّهُم يرَوْنَ السوقة وهم أهل الْغَفْلَة فيروني بِالْعينِ الَّتِى يرَوْنَ أُولَئِكَ بهَا
قَالَ وَكَانَت لَهُ أَيْضا جَارِيَة تخدمه فَكَانَ حَالهَا أَيْضا مَعَه كَحال غَيرهَا من الْحجاب وإرخاء السّتْر بَينه وَبَينهَا
وَالثَّالِث بنْدَار خادمه وَقد تقدّمت تَرْجَمته
وَالرَّابِع أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن مهدى الطبرى
وَمن الطَّبَقَة الثَّانِيَة أَبُو سعد الإسماعيلى وَأَخُوهُ أَبُو نصر وَأَبُو الطّيب الصعلوكى وَأَبُو الْحسن بن دَاوُد الْمُقْرِئ الدارانى وَسيف السّنة القاضى أَبُو بكر بن الباقلانى والأستاذ أَبُو إِسْحَاق والأستاذ أَبُو بكر بن فورك والأستاذ أَبُو على الدقاق وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَالشَّيْخ أَبُو سعد الخركوشى والقاضى أَبُو عمر البسطامى وَأَبُو الْقَاسِم البجلى وَأَبُو الْحسن ابْن ماشاذه والشريف أَبُو طَالب المهتدى وَأَبُو معمر بن أَبى سعد(3/369)
الإسماعيلى وَأَبُو حَازِم العبدوى الْحَافِظ الْأَعْرَج وَأَبُو على ابْن شَاذان والحافظ أَبُو نعيم الأصبهانى وَأَبُو حَامِد بن دلوية
وَمن الثَّالِثَة
أَبُو الْحسن السكرى وَأَبُو مَنْصُور الأيوبي النيسابورى والقاضى عبد الْوَهَّاب المالكى وَأَبُو الْحسن النعيمى وَأَبُو طَاهِر بن خراشة والأستاذ أَبُو مَنْصُور البغدادى والحافظ أَبُو ذَر الهروى وَأَبُو بكر ابْن الجرمى الزَّاهِد وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الجوينى وَأَبُو الْقَاسِم ابْن أَبى عُثْمَان الهمذانى البغدادى وَأَبُو جَعْفَر السمنانى الحنفى قاضى الْموصل وَأَبُو حَاتِم القزوينى ورشأ بن نظيف الْمُقْرِئ وَأَبُو مُحَمَّد الأصبهانى بن اللبان وسليم الرازى وَأَبُو عبد الله الخبازى وَأَبُو الْفضل بن عمروس المالكى والأستاذ أَبُو الْقَاسِم عبد الْجَبَّار بن على الإسفراينى والحافظ أَبُو بكر البيهقى(3/370)
وَمن الرَّابِعَة الْخَطِيب البغدادى الْحَافِظ والأستاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى وَأَبُو على بن أَبى حريصة الهمذاني وَأَبُو المظفر الإسفراينى وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَنصر المقدسى وَأَبُو عبد الله الطبرى
وَمن الْخَامِسَة
أَبُو المظفر الخوافى وإلكيا والغزالى وفخر الْإِسْلَام الشاشى وَأَبُو نصر القشيرى وَالشَّيْخ أَبُو سعيد الميهنى والشريف أَبُو عبد الله الديباجى والقاضى أَبُو الْعَبَّاس بن الرطبى وَأَبُو عبد الله الفراوى وَأَبُو سعد بن أَبى صَالح الْمُؤَذّن وَأَبُو الْحسن السلمى وَأَبُو مَنْصُور بن ماشاذه الأصبهانى وَأَبُو الْفتُوح الإسفراينى وَنصر الله المصيصى
فَهَذَا جملَة من ذكر الْحَافِظ فى كتاب التَّبْيِين وَقَالَ لَوْلَا خوفى من الإملال فى الإسهاب لتتبعت ذكر جَمِيع الْأَصْحَاب وكما لَا يمكننى إحصاء نُجُوم السَّمَاء كَذَلِك لَا أتمكن من استقصاء جَمِيع الْعلمَاء مَعَ انتشارهم فى الأقطار والآفاق من الْمغرب وَالشَّام وخراسان وَالْعراق(3/371)
قلت وَلَقَد أهمل على سَعَة حفظه من الْأَعْيَان كثيرا وَترك ذكر أَقوام كَانَ ينبغى حَيْثُ ذكر هَؤُلَاءِ أَن يشمر عَن ساعد الِاجْتِهَاد فى ذكرهم تشميرا لكنه استوعب الأولى أَو كَاد واستغرق فَلم يفته إِلَّا بعض الْآحَاد
وَمن الثَّانِيَة أَبُو الْحسن البليانى المالكى وَأَبُو الْفضل الممسى المالكى الْمَقْتُول ظلما وَأَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُؤمن المكى المالكى تلميذ ابْن مُجَاهِد وَأَبُو بكر الأبهرى وَأَبُو مُحَمَّد بن أَبى زيد وَأَبُو مُحَمَّد بن التبَّان وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الله القلانسى
وَمن الثَّالِثَة من الْمَالِكِيَّة
أَبُو عمرَان الفاسى
وَمن الرَّابِعَة
أَبُو إِسْحَاق التونسى المالكى وَأَبُو الْوَفَاء ابْن عقيل الحنبلى وقاضى الْقُضَاة الدامغانى الحنفى وقاضى الْقُضَاة أَبُو بكر الناصح الحنفى
وَمن الْخَامِسَة
أَبُو الْوَلِيد الباجى وَأَبُو عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ وَأَبُو الْحسن القابسى والحافظ الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر والحافظ أَبُو الْحسن المرادى والحافظ أَبُو سعد بن السمعانى والحافظ أَبُو طَاهِر السلفى وَالْقَاضِي عِيَاض بن مُحَمَّد اليحصبى وَالْإِمَام أَبُو الْفَتْح الشهرستانى
وَمن السَّادِسَة
الإِمَام فَخر الدّين الرازى وَسيف الدّين الآمدى وَشَيخ الْإِسْلَام عز الدّين ابْن عبد السَّلَام وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الْحَاجِب المالكى وَالشَّيْخ جمال الدّين(3/372)
الحصيرى الحنفى وَصَاحب التَّحْصِيل وَالْحَاصِل والخسر وشاهى
وَمن السَّابِعَة
شيخ الْإِسْلَام تقى الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد وَالشَّيْخ عَلَاء الدّين الباجى وَالشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد وَالشَّيْخ صفى الدّين الهندى وَالشَّيْخ صدر الدّين ابْن المرحل وَابْن أَخِيه الشَّيْخ زين الدّين وَالشَّيْخ صدر الدّين سُلَيْمَان بن عبد الحكم المالكى وَالشَّيْخ شمس الدّين الحريرى الْخَطِيب وَالشَّيْخ جمال الدّين الزملكانى والقاضى جمال الدّين ابْن جملَة وَالشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن جميل وقاضى الْقُضَاة شمس الدّين السروجى الحنفى والقاضى شمس الدّين بن الحريرى الحنفى والقاضى عضد الدّين الإيجى الشيرازى
ذكر بَيَان أَن طَريقَة الشَّيْخ هى الَّتِى عَلَيْهَا المعتبرون من عُلَمَاء الْإِسْلَام والمتميزون من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فى معرفَة الْحَلَال وَالْحرَام والقائمون بنصرة دين سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
قد قدمنَا فى تضاعيف الْكَلَام مَا يدل على ذَلِك وحكينا لَك مقَالَة الشَّيْخ ابْن عبد السَّلَام وَمن سبقه إِلَى مثلهَا وتلاه على قَوْلهَا حَيْثُ ذكرُوا أَن الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة وفضلاء الْحَنَابِلَة أشعريون هَذِه عبارَة ابْن عبد السَّلَام شيخ الشَّافِعِيَّة وَابْن الْحَاجِب شيخ الْمَالِكِيَّة والحصيرى شيخ الْحَنَفِيَّة وَمن كَلَام ابْن عَسَاكِر حَافظ هَذِه الْأمة الثِّقَة الثبت هَل من الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة إِلَّا مُوَافق الأشعرى(3/373)
ومنتسب إِلَيْهِ وراض بحميد سَعْيه فى دين الله ومثن بِكَثْرَة الْعلم عَلَيْهِ غير شرذمة قَليلَة تضمر التَّشْبِيه وتعادى كل موحد يعْتَقد التَّنْزِيه أَو تضاهى قَول الْمُعْتَزلَة فى ذمه وتباهى بِإِظْهَار جهرها بقدرة سَعَة علمه وَنحن نحكى لَك هُنَا مقالات أخر لجَماعَة من معتبرى القَوْل من الْفُقَهَاء ثمَّ ننعطف إِلَى مَا نحققه
ذكر استفتاء وَقع فى زمَان الْأُسْتَاذ أَبى الْقَاسِم القشيرى بخراسان عِنْد وُقُوع الْفِتْنَة الَّتِى سنحكيها فِيمَا بعد)
كتب استفتاء فِيمَا يتَعَلَّق بِحَال الشَّيْخ فَكَانَ جَوَاب القشيرى مَا نَصه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اتّفق أَصْحَاب الحَدِيث أَن أَبَا الْحسن على بن إِسْمَاعِيل الأشعرى كَانَ إِمَامًا من أَئِمَّة أَصْحَاب الحَدِيث ومذهبه مَذْهَب أَصْحَاب الحَدِيث تكلم فى أصُول الديانَات على طَريقَة أهل السّنة ورد على الْمُخَالفين من أهل الزيغ والبدعة وَكَانَ على الْمُعْتَزلَة وَالرَّوَافِض والمبتدعين من أهل الْقبْلَة والخارجين من الْملَّة سَيْفا مسلولا وَمن طعن فِيهِ أَو قدح أَو لَعنه أَو سبه فقد بسط لِسَان السوء فى جَمِيع أهل السّنة بذلنا خطوطنا طائعين بذلك فى هَذَا الدرج فى ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَالْأَمر على هَذِه الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة فى هَذَا الذّكر وَكتبه عبد الْكَرِيم بن هوَازن القشيرى
وَكتب تَحْتَهُ الخبازى كَذَلِك يعرفهُ مُحَمَّد بن على الخبازى وَهَذَا خطه
وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الجوينى الْأَمر على هَذِه الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة فِيهِ وَكتبه عبد الله ابْن يُوسُف
وبخط أَبى الْفَتْح الشاشى وعَلى بن أَحْمد الجوينى وناصر الْعُمْرَى وَأحمد بن مُحَمَّد(3/374)
الأيوبى وأخيه على وأبى عُثْمَان الصابونى وَابْنه أَبى نصر بن أَبى عُثْمَان والشريف البكرى وَمُحَمّد بن الْحسن وأبى الْحسن الملقاباذى
وَقد حكى خطوطهم ابْن عَسَاكِر
وَكتب عبد الْجَبَّار الإسفراينى بِالْفَارِسِيَّةِ ابْن أَبُو الْحسن الأشعرى ان امام است كخداوند عز وَجل ابْن ايت درشان وى فرشتاد {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ومصطفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درآن رتت بحدوى إشارات كرد بو مُوسَى أشعرى فَقَالَ (هم قوم هَذَا)
كتبه عبد الْجَبَّار بن على بن مُحَمَّد الإسفراينى بِخَطِّهِ
تَفْسِيره هَذَا أَبُو الْحسن كَانَ إِمَامًا وَلما أنزل الله عز وَجل قَوْله فَسَوف يأتى الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَشَارَ الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَبى مُوسَى فَقَالَ (هم قوم هَذَا)
استفتاء آخر بِبَغْدَاد
مَا قَول السَّادة الْأَئِمَّة الجلة فِي قوم اجْتَمعُوا على لعن فرقة الأشعرى وتكفيرهم مَا الذى يجب عَلَيْهِم فَأجَاب قاضى الْقُضَاة أَبُو عبد الله الدامغانى الحنفى قد ابتدع وارتكب مَا لَا يجوز وعَلى النَّاظر فى الْأُمُور أعز الله أنصاره الْإِنْكَار عَلَيْهِ وتأديبه بِمَا يرتدع بِهِ هُوَ وَأَمْثَاله عَن ارْتِكَاب مثله وَكتب مُحَمَّد بن على الدامغانى
وَبعده كتب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى رَحمَه الله الأشعرية أَعْيَان أهل السّنة ونصار الشَّرِيعَة انتصبوا للرَّدّ على المبتدعة من الْقَدَرِيَّة والرافضة وَغَيرهم فَمن طعن فيهم(3/375)
فقد طعن على أهل السّنة وَإِذا رفع أَمر من يفعل ذَلِك إِلَى النَّاظر فى أَمر الْمُسلمين وَجب عَلَيْهِ تأديبه بِمَا يرتدع بِهِ كل أحد وَكتب إِبْرَاهِيم بن على الفيروزابادى
وَبعده جوابى مثله وَكتب مُحَمَّد بن أَحْمد الشاشى وَهُوَ فَخر الْإِسْلَام أَبُو بكر تلميذ الشَّيْخ أَبى إِسْحَاق
استفتاء آخر فى وَاقعَة أَبى نصر القشيرى بِبَغْدَاد
سنحكى إِن شَاءَ الله هَذَا الاستفتاء والأجوبة عِنْد انتهائنا إِلَى تَرْجَمَة الْأُسْتَاذ أَبى نصر ابْن الْأُسْتَاذ أَبى الْقَاسِم فى الطَّبَقَة الْخَامِسَة
وَإِن من جملَة خطّ الشَّيْخ أَبى إِسْحَاق الشيرازى فِيهِ مَا نَصه وَأَبُو الْحسن الأشعرى إِمَام أهل السّنة وَعَامة أَصْحَاب الشافعى على مذْهبه ومذهبه مَذْهَب أهل الْحق وَكتب إِبْرَاهِيم بن على الفيروزابادى وَكَذَلِكَ تَحت خطّ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة والحنابلة مِنْهُم أَبُو الْخطاب بن الحلوبى وَأَبُو عبد الله القيروانى وأسعد الميهنى وَأَبُو الْوَفَاء بن عقيل الحنبلى وَأَبُو مَنْصُور الرزاز وَأَبُو الْفرج الإسفراينى وَأَبُو الْحسن بن الْخلّ وَأَبُو الْحسن على ابْن الْحُسَيْن الغزنوى الحنفى وَأَبُو الْخَيْر القزوينى وَعمر بن أَحْمد الخطيبى الزنجانى
وبقى هَذَا الاستفتاء هَكَذَا زَمَانا بعد زمَان كلما جَاءَت أمة من الْعلمَاء كتبت بالموافقة أعصرا كَثِيرَة(3/376)
ذكر كَلَام أَبى الْعَبَّاس قاضى الْعَسْكَر الحنفى
كَانَ أَبُو الْعَبَّاس هَذَا رجلا من أَئِمَّة أَصْحَاب الْحَنَفِيَّة وَمن الْمُتَقَدِّمين فى علم الْكَلَام وَكَانَ يعرف بقاضى الْعَسْكَر
وَقد حكى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فى كتاب التَّبْيِين جملَة من كَلَامه فَمِنْهُ قَوْله وَقد وجدت لأبى الْحسن الأشعرى كتبا كَثِيرَة فى هَذَا الْفَنّ يعْنى أصُول الدّين وهى قريب من مائتى كتاب والموجز الْكَبِير يأتى على عَامَّة مَا فى كتبه وَقد صنف الأشعرى كتابا كَبِيرا لتصحيح مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُ كَانَ يعْتَقد مَذْهَبهم ثمَّ بَين الله لَهُ ضلالتهم فَبَان عَمَّا اعتقده من مَذْهَبهم وصنف كتابا ناقضا لما صنف للمعتزلة وَقد أَخذ عَامَّة أَصْحَاب الشافعى بِمَا اسْتَقر عَلَيْهِ مَذْهَب أَبى الْحسن الأشعرى وصنف أَصْحَاب الشافعى كتبا كَثِيرَة على وفْق مَا ذهب إِلَيْهِ الأشعرى إِلَّا أَن بعض أَصْحَابنَا من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خطأ أَبَا الْحسن الأشعرى فى بعض الْمسَائِل مثل قَوْله التكوين والمكون وَاحِد وَنَحْوهَا على مَا نبين فى خلال الْمسَائِل إِن شَاءَ الله فَمن وقف على الْمسَائِل الَّتِى أَخطَأ فِيهَا أَبُو الْحسن وَعرف خطأه فَلَا بَأْس لَهُ بِالنّظرِ فى كتبه وَقد أمسك كتبه كثير من أَصْحَابنَا من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة ونظروا فِيهَا انْتهى
ذكر الْبَحْث عَن تَحْقِيق ذَلِك
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يَقُول مَا تضمنته عقيدة الطحاوى هُوَ مَا يَعْتَقِدهُ الأشعرى لَا يُخَالِفهُ إِلَّا فى ثَلَاث مسَائِل
قلت أَنا أعلم أَن الْمَالِكِيَّة كلهم أشاعرة لَا أستثنى أحدا وَالشَّافِعِيَّة غالبهم أشاعرة(3/377)
لَا أستثنى إِلَّا من لحق مِنْهُم بتجسيم أَو اعتزال مِمَّن لَا يعبأ الله بِهِ وَالْحَنَفِيَّة أَكْثَرهم أشاعرة أعنى يَعْتَقِدُونَ عقد الأشعرى لَا يخرج مِنْهُم إِلَّا من لحق مِنْهُم بالمعتزلة والحنابلة أَكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة لم يخرج مِنْهُم عَن عقيدة الأشعرى إِلَّا من لحق بِأَهْل التجسيم وهم فى هَذِه الْفرْقَة من الْحَنَابِلَة أَكثر من غَيرهم
وَقد تَأَمَّلت عقيدة أَبى جَعْفَر الطحاوى فَوجدت الْأَمر على مَا قَالَ الشَّيْخ الإِمَام وعقيدة الطحاوى زعم أَنَّهَا الذى عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَلَقَد جود فِيهَا ثمَّ تفحصت كتب الْحَنَفِيَّة فَوجدت جَمِيع الْمسَائِل الَّتِى بَيْننَا وَبَين الْحَنَفِيَّة خلاف فِيهَا ثَلَاث عشرَة مَسْأَلَة مِنْهَا معنوى سِتّ مسَائِل والباقى لفظى وَتلك السِّت المعنوية لَا تقتضى مخالفتهم لنا وَلَا مخالفتنا لَهُم فِيهَا تكفيرا وَلَا تبديعا صرح بذلك الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور البغدادى وَغَيره من أَئِمَّتنَا وأئمتهم وَهُوَ غنى عَن التَّصْرِيح لظُهُوره
وَمن كَلَام الْحَافِظ الْأَصْحَاب مَعَ اخْتلَافهمْ فى بعض الْمسَائِل كلهم أَجْمَعُونَ على ترك تَكْفِير بَعضهم بَعْضًا مجمعون بِخِلَاف من عداهم من سَائِر الطوائف وَجَمِيع الْفرق فَإِنَّهُم حِين اخْتلفت بهم مستشنعات الْأَهْوَاء والطرق كفر بَعضهم بَعْضًا وَرَأى تبريه مِمَّن خَالفه فرضا
قلت وَهَذَا حق وَمَا مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَّا مثل مسَائِل كَثِيرَة اخْتلفت الأشاعرة فِيهَا وَكلهمْ عَن حمى أَبى الْحسن يناضلون وبسيفه يُقَاتلُون أفتراهم يبدع بَعضهم بَعْضًا ثمَّ هَذِه الْمسَائِل لم يثبت جَمِيعهَا عَن الشَّيْخ وَلَا عَن أَبى حنيفَة رضى الله عَنْهُمَا كَمَا سأحكى لَك وَلَكِن الْكَلَام بِتَقْدِير الصِّحَّة
ولى قصيدة نونية جمعت فِيهَا هَذِه الْمسَائِل وضممت إِلَيْهَا مسَائِل اخْتلفت الأشاعرة فِيهَا مَعَ تصويب بَعضهم بَعْضًا فى أصل العقيدة ودعواهم أَنهم أَجْمَعِينَ على السّنة وَقد(3/378)
ولع كثير من النَّاس بِحِفْظ هَذِه القصيدة لَا سِيمَا الْحَنَفِيَّة وَشَرحهَا من أصحابى الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة نور الدّين مُحَمَّد بن أَبى الطّيب الشيرازى الشافعى وَهُوَ رجل مُقيم فى بِلَاد كيلان ورد علينا دمشق فى سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة وَأقَام يلازم حلقتى نَحْو عَام وَنصف عَام وَلم أر فِيمَن جَاءَ من الْعَجم فى هَذَا الزَّمَان أفضل مِنْهُ وَلَا أدين
وَأَنا أذكر لَك قصيدتى فى هَذَا الْكتاب لتستفيد مِنْهَا مسَائِل الْخلاف وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ
(الْورْد خدك صِيغ من إِنْسَان ... أم فى الخدود شقائق النُّعْمَان)
(وَالسيف لحظك سل من أجفانه ... فسطا كَمثل مهند وَسنَان)
(تالله مَا خلقت لحاظك بَاطِلا ... وسدى تَعَالَى الله عَن بطلَان)
(وكذاك عقلك لم يركب يَا أخى ... عَبَثا ويودع دَاخل الجثمان)
(لَكِن ليسعد أَو ليشقى مُؤمن ... أَو كَافِر فبنو الورى صنفان)
(لَو شَاءَ رَبك لاهتدى كل وَلم ... يحْتَج إِلَى حد وَلَا برهَان)
(فَانْظُر بعقلك واجتهد فالخير مَا ... تؤتاه عقل رَاجِح الْمِيزَان)
(واطلب نجاتك إِن نَفسك والهوى ... بحران فى الدركات يَلْتَقِيَانِ)
(نَار يَرَاهَا ذُو الْجَهَالَة جنَّة ... ويخوض مِنْهَا فى حميم آن)
(ويظل فِيهَا مثل صَاحب بِدعَة ... يتخيل الجنات فى النيرَان)
مِنْهَا
(كذب ابْن فاعلة يَقُول لجهله ... الله جسم لَيْسَ كالجسمان)(3/379)
(لَو كَانَ جسما كَانَ كالأجسام يَا ... مَجْنُون فاصغ وعد عَن بهتان)
(وَاتبع صِرَاط الْمُصْطَفى فى كل مَا ... يأتى وخل وساوس الشَّيْطَان)
(وَاعْلَم بِأَن الْحق مَا كَانَت عَلَيْهِ ... صحابة الْمَبْعُوث من عدنان)
(من أكمل الدّين القويم وَبَين الْحجَج ... الَّتِى يهدى بهَا الثَّقَلَان)
(قد نزهوا الرَّحْمَن عَن شبه وَقد ... دانوا بِمَا قد جَاءَ فى الْفرْقَان)
(ومضوا على خير وَمَا عقدوا مجَالِس ... فى صِفَات الْخَالِق الديَّان)
(كلا وَلَا ابتدعوا وَلَا قَالُوا الْبَنَّا ... متشابه فى شكله للبانى)
(وَأَتَتْ على أَعْقَابهم عُلَمَاؤُنَا ... غرسوا ثمارا يجتنيها الجانى)
(كالشافعى وَمَالك وكأحمد ... وأبى حنيفَة وَالرِّضَا سُفْيَان)
(وكمثل إِسْحَاق وَدَاوُد وَمن ... يقفو طرائقهم من الْأَعْيَان)
(وأتى أَبُو الْحسن الإِمَام الأشعرى م ... مُبينًا للحق أى بَيَان
(ومناضلا عَمَّا عَلَيْهِ أُولَئِكَ الأسلاف ... بالتحرير والإتقان)
(مَا إِن يُخَالف مَالِكًا والشافعى م ... وَأحمد بن مُحَمَّد الشيبانى)
(لَكِن يُوَافق قَوْلهم ويزيده ... حسنا بتحقيق وَفضل بَيَان)
(يقفو طرائقهم وَيتبع حارثا ... أعنى محاسب نَفسه بوزان)
(فَلَقَد تلقى حسن منهجه عَن الْأَشْيَاخ ... أهل الدّين والعرفان)
(فلذاك تَلقاهُ لأهل الله ينصر ... قَوْلهم بمهند وَسنَان)
(مثل ابْن أدهم والفضيل وَهَكَذَا ... مَعْرُوف الْمَعْرُوف فى الإخوان)
(ذُو النُّون أَيْضا والسرى وَبشر بن ... الْحَارِث الحافى بِلَا فقدان)
(وَكَذَلِكَ الطائى ثمَّ شَقِيق البلخى ... وطيفور كَذَا الدارانى)
(والتسترى وحاتم وَأَبُو تُرَاب ... عَسْكَر فاعدد بِغَيْر توان)(3/380)
(وكذاك مَنْصُور بن عمار كَذَا ... يحيى سليل معَاذ الربانى)
(فَلهُ بهم حسن اعْتِقَاد مثل مَا ... لَهُم بِهِ التأييد يَوْم رهان)
(إِذْ يجمع الخصمان يَوْم جدالهم ... وَلما تحقق يسمع الخصمان)
(لم لَا يُتَابع هَؤُلَاءِ وَشَيْخه الشَّيْخ ... الْجُنَيْد السَّيِّد الصمدانى)
(عَنهُ التصوف قد تلقى فاغتذى ... وَله بِهِ وبعلمه نوران)
(وَرَأى أَبَا عُثْمَان الحيرى والنمورى ... يَا لَهما هما الرّجلَانِ)
(وَرَأى رويما ثمَّ رام طَرِيقه ... وَأَبا الفوارس شاها الكرمانى)
(والمغربى كَذَا ابْن مَسْرُوق كَذَا البسرى ... قوم أَفرس الفرسان)
(وَأَظنهُ لم يلتق الخراز بل ... قيل التقى سمنون فى سمنان)
(وكذاك للجلاء لم ينظر وَلَا أبن ... عطا وَلَا الْخَواص ثمَّ بنان)
(وكذاك ممشاذ مَعَ الدقى مَعَ ... خير وَهَذَا غَالب الحسبان)
(وكذاك أَصْحَاب الطَّرِيقَة بعده ... ضبطوا عقائده بِكُل عنان)
(وتتلمذ الشبلى بَين يَدَيْهِ وَابْن ... خَفِيف والثقفى والكتانى)
(وخلائق كَثُرُوا فَلَا أحصيهم ... وربوا على الْيَاقُوت والمرجان)
(الْكل معتقدون أَن إلهنا ... متوحد فَرد قديم دَان)
(حى عليم قَادر مُتَكَلم ... عَال وَلَا نعنى علو مَكَان)(3/381)
(باقى لَهُ سمع وإبصار يُرِيد ... جَمِيع مَا يجرى من الْإِنْسَان)
(وَالشَّر من تَقْدِيره لكنه ... عَنهُ نهاك بواضح الْبُرْهَان)
(قد أنزل الْقُرْآن وَهُوَ كَلَامه ... لفظت بِهِ للقارئ الشفتان)
(وإلهنا لَا شئ يُشبههُ وَلَيْسَ ... بمشبه شَيْئا من الْحدثَان)
(قد كَانَ مَا مَعَه قَدِيما قطّ من ... شئ وَلم يبرح بِلَا أعوان)
(خلق الْجِهَات مَعَ الزَّمَان مَعَ الْمَكَان ... الْكل مَخْلُوق على الْإِمْكَان)
(مَا إِن تحل بِهِ الْحَوَادِث لَا وَلَا ... كلا وَلَيْسَ يحل فى الجسمان)
(كذب المجسم والحلولى الكفور ... فذان فى الْبطلَان مفتريان)
(والاتحادى الجهول وَمن يقل ... بالاتحاد فَإِنَّهُ نصرانى)
(وَنَبِينَا خير الْخَلَائق أَحْمد ... ذُو الجاه عِنْد الله ذى السُّلْطَان)
(وَله الشَّفَاعَة والوسيلة والفضيلة ... واللواء وكوثر الظمآن)
(فاسأل إلهك بالنبى مُحَمَّد ... متوسلا تظفر بِكُل أَمَان)
(لَا خلق أفضل مِنْهُ لَا بشر وَلَا ... ملك وَلَا كَون من الأكوان)
(مَا الْعَرْش مَا الكرسى مَا هذى السما ... عِنْد النبى الْمُصْطَفى العدنان)
(وَالرسل بعد مُحَمَّد درجاتهم ... ثمَّ الملائك عابدو الرَّحْمَن)
(ثمَّ الصَّحَابَة مثل مَا قد رتبوا ... فَالْأَفْضَل الصّديق ذُو الْعرْفَان)
(ثمَّ الْعَزِيز السَّيِّد الْفَارُوق ثمَّ م ... اذكر محَاسِن ذى التقى عُثْمَان)
(وعَلى ابْن الْعم وَالْبَاقُونَ أهل ... الْفضل وَالْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان)
(والأولياء لَهُم كرامات فَلَا ... تنكر تقع فى مهمه الخذلان)(3/382)
(والمؤمنون يرَوْنَ رَبهم كرؤيتهم ... لبدر لَاحَ نَحْو عيان)
(هَذَا اعْتِقَاد مَشَايِخ الْإِسْلَام وَهُوَ ... الدّين فلتسمع لَهُ الأذنان)
(الأشعرى عَلَيْهِ ينصره وَلَا ... يألوا جزاه الله بِالْإِحْسَانِ)
(وكذاك حَالَته مَعَ النُّعْمَان لم ... ينْقض عَلَيْهِ عقائد الْإِيمَان)
(يَا صَاح إِن عقيدة النُّعْمَان والأشعرى ... حَقِيقَة الإتقان)
(فكلاهما وَالله صَاحب سنة ... بهدى نبى الله مقتديان)
(لاذا يبدع ذَا وَلَا هَذَا وَإِن ... تحسب سواهُ وهمت فى الحسبان)
(من قَالَ إِن أَبَا حنيفَة مبدع ... رَأيا فَذَلِك قَائِل الهذيان)
(أَو ظن أَن الأشعرى مبدع ... فَلَقَد أَسَاءَ وباء بالخسران)
(كل إِمَام مقتد ذُو سنة ... كالسيف مسلولا على الشَّيْطَان)
(وَالْخلف بَينهمَا قَلِيل أمره ... سهل بِلَا بدع وَلَا كفران)
(فِيمَا يقل من الْمسَائِل عده ... ويهون عِنْد تطاعن الأقران)
(وَلَقَد يؤول خلَافهَا إِمَّا إِلَى ... لفظ كالاستثناء فى الْإِيمَان)
الأشعرى يَقُول أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله
(وكمنعه أَن السعيد يضل أَو ... يشقى ونعمة كَافِر خوان)
الأشعرى يَقُول السعيد من كتب فى بطن أمه سعيدا والشقى من كتب فى بطن أمه شقيا لَا يتبدلان(3/383)
وَأَبُو حنيفَة يَقُول قد يكون سعيدا ثمَّ يَنْقَلِب وَالْعِيَاذ بِاللَّه شقيا وَبِالْعَكْسِ
وَقد قَررنَا هَذِه الْمَسْأَلَة فى كتَابنَا فى شرح عقيدة الْأُسْتَاذ أَبى مَنْصُور وَبينا اخْتِلَاف السّلف فِيهَا كاختلاف الْخلف وَأَن الْخلاف لفظى لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَائِدَة
والأشعرى يَقُول لَيْسَ على الْكَافِر نعْمَة وكل مَا يتقلب فِيهِ اسْتِدْرَاج وَأَبُو حنيفَة يَقُول عَلَيْهِ نعْمَة وَوَافَقَهُ من الأشاعرة القاضى أَبُو بكر بن الباقلانى فَهُوَ مَعَ الْحَنَفِيَّة فى هَذِه كالماتريدى مِنْهُم مَعنا فى مَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء
(وَكَذَا الرسَالَة بعد موت إِن تكن ... صحت وَإِلَّا أجمع الشَّيْخَانِ)
(وَقد ادّعى ابْن هوَازن أستاذنا ... فِيهَا افتراء من عَدو شان)
(وَهُوَ الْخَبِير الثبت نقلا والإرادة ... لَيْسَ يلْزمهَا رضَا الرَّحْمَن)
(فالكفر لَا يرضى بِهِ لِعِبَادِهِ ... ويريده أَمْرَانِ مفترقان)
(وَأَبُو حنيفَة قَائِل إِن الْإِرَادَة ... وَالرِّضَا أَمْرَانِ متحدان)
(وَعَلِيهِ أكثرنا وَلَكِن لَا يَصح م ... وَقيل مَكْذُوب على النُّعْمَان)
مَسْأَلَة
إِنْكَار الرسَالَة بعد الْمَوْت معزوة إِلَى الأشعرى وهى من الْكَذِب عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَكرنَاهَا وَفَاء بِمَا اشترطناه من أَنا ننظم كل مَا عزى إِلَيْهِ وَلكنه صرح بِخِلَافِهَا وَكتبه وَكتب أَصْحَابه قد طبقت طبق الأَرْض وَلَيْسَ فِيهَا شئ من ذَلِك بل فِيهَا خِلَافه
وَمن عقائدنا أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَحيَاء فى قُبُورهم فَأَيْنَ الْمَوْت وَقد أنكر الْأُسْتَاذ ابْن هوَازن وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فى كِتَابه شكاية أهل السّنة الذى سنحكيه فى هَذِه التَّرْجَمَة بِتَمَامِهِ هَذِه وَبَين أَنَّهَا مختلقة على الشَّيْخ وَكَذَلِكَ بَين ذَلِك غَيره(3/384)
وصنف البيهقى رَحمَه الله جُزْءا سمعناه فى حَيَاة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فى قُبُورهم واشتذ نَكِير الأشاعرة على من نسب هَذَا القَوْل إِلَى الشَّيْخ وَقَالُوا قد افترى عَلَيْهِ وبهته
وَأما مَسْأَلَة الرِّضَا والإرادة فَاعْلَم أَن الْمَنْقُول عَن أَبى حنيفَة اتحادهما وَعَن الأشعرى افتراقهما
وَقيل إِن أَبَا حنيفَة لم يقل بالاتحاد فيهمَا بل ذَلِك مَكْذُوب عَلَيْهِ فعلى هَذَا انْقَطع النزاع وَإِنَّمَا الْكَلَام بِتَقْدِير صِحَة الِاتِّحَاد عِنْده وَأكْثر الأشاعرة على مَا يعزى إِلَى أَبى حنيفَة من الِافْتِرَاق مِنْهُم إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره آخِرهم الشَّيْخ محيى الدّين النَّوَوِيّ رَحمَه الله قَالَ هما شئ وَاحِد ولكنى أَنا لَا أخْتَار ذَلِك وَالْحق عندى أَنَّهُمَا مفترقان كَمَا هُوَ مَنْصُوص الشَّيْخ أَبى الْحسن
(وكذاك إِيمَان الْمُقَلّد وَهُوَ مِمَّا ... أنكر ابْن هوَازن الربانى)
(وَلَو أَنه مِمَّا يَصح فخلفهم ... فِيهِ للفظ عَاد دون معَان)
ذكرُوا أَن شَيخنَا يَقُول إِن إِيمَان الْمُقَلّد لَا يَصح وَأنكر ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ إِنَّه مَكْذُوب عَلَيْهِ وسنبحث عَن ذَلِك فى ذيل سِيَاق كتاب شكاية أهل السّنة وَالْقَوْل على تَقْدِير الصِّحَّة
(وكذاك كسب الأشعرى وَإنَّهُ ... صَعب وَلَكِن قَامَ بالبرهان)
(من لم يقل بِالْكَسْبِ مَال إِلَى اعتزال ... أَو مقَال الْجَبْر ذى الطغيان)
كسب الأشعرى كَمَا هُوَ مُقَرر فى مَكَانَهُ أَمر يضْطَر إِلَيْهِ من يُنكر خلق الْأَفْعَال وَكَون العَبْد مجبرا وَالْأول اعتزال والثانى جبر فَكل أحد يثبت وَاسِطَة لَكِن يعسر التَّعْبِير عَنْهَا ويمثلونها بِالْفرقِ بَين حَرَكَة المرتعش وَالْمُخْتَار وَقد اضْطربَ الْمُحَقِّقُونَ فى تَحْرِير هَذِه الْوَاسِطَة وَالْحَنَفِيَّة سَموهَا الِاخْتِيَار(3/385)
والذى تحرر لنا أَن الِاخْتِيَار وَالْكَسْب عبارتان عَن معِين وَاحِد وَلَكِن الأشعرى آثر لفظ الْكسْب على لفظ الِاخْتِيَار لكَونه مَنْطُوق الْقُرْآن وَالْقَوْم آثروا لفظ الِاخْتِيَار لما فِيهِ من إِشْعَار قدرَة للْعَبد
وللقاضى أَبى بكر مَذْهَب يزِيد على مَذْهَب الأشعرى فَلَعَلَّهُ رأى الْقَوْم
ولإمام الْحَرَمَيْنِ والغزالى مَذْهَب يزِيد على المذهبين جَمِيعًا ويدنوا كل الدنو من الاعتزال وَلَيْسَ هُوَ هُوَ
ولسنا الْآن لتحرير هَذِه الْمَسْأَلَة الْعَظِيمَة الْخطب وَقد قررناها على وَجه مُخْتَصر فِي شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وعَلى وَجه مَبْسُوط فِيمَا كتبناه من أصُول الديانَات
(أَو للمعانى وَهُوَ سِتّ مسَائِل ... هَانَتْ مداركها بِدُونِ هوان)
(لله تَعْذِيب الْمُطِيع وَلَو جرى ... مَا كَانَ من ظلم وَلَا عدوان)
(متصرف فى ملكه فَلهُ الذى ... يخْتَار لَكِن جاد بِالْإِحْسَانِ)
(فنفى الْعقَاب وَقَالَ سَوف أثيبهم ... فَلهُ بِذَاكَ عَلَيْهِم فضلان)
(هَذَا مقَال الأشعرى إمامنا ... وسواه مأثور عَن النُّعْمَان)
مَا قدمنَا من الْمسَائِل وَمِنْه مَا لم يَصح كَمَا عرفت هُوَ لفظى كُله لَا فَائِدَة للْخلاف فِيهِ
وَمن هُنَا الْمسَائِل المعنوية وهى سِتّ مسَائِل وَقد عرفنَا أَن الشَّيْخ الإِمَام كَانَ يَقُول إِن عقيدة الطحاوى لم تشْتَمل إِلَّا على ثَلَاث وَلَكنَّا نَحن جَمعنَا الثَّلَاث الْأُخَر من كَلَام الْقَوْم
أَولهَا أَن الرب تَعَالَى لَهُ عندنَا أَن يعذب الطائعين ويثيب العاصين كل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل لَا حجر عَلَيْهِ فى ملكه وَلَا داعى لَهُ إِلَى فعله وَعِنْدهم يجب تَعْذِيب العاصى وإثابة الْمُطِيع وَيمْتَنع الْعَكْس(3/386)
(وَوُجُوب معرفَة الْإِلَه الأشعرى ... يَقُول ذَاك بشرعة الديَّان)
(وَالْعقل لَيْسَ بحاكم لَكِن لَهُ الْإِدْرَاك ... لَا حكم على الْحَيَوَان)
(وقضوا بِأَن الْعقل يُوجِبهَا وفى ... كتب الْفُرُوع لصحبنا وَجْهَان)
(وَبِأَن أَوْصَاف الفعال قديمَة ... لَيست بحادثة على الْحدثَان)
(وَبِأَن مَكْتُوب الْمَصَاحِف منزل ... عين الْكَلَام الْمنزل الْقُرْآن)
(وَالْبَعْض أنكر ذَا فَإِن يصدق فقد ... ذهبت من التعداد مَسْأَلَتَانِ)
(هذى وَمَسْأَلَة الْإِرَادَة قبلهَا ... أَمْرَانِ فِيمَا قيل مكذوبان)
(وكما انْتَفَى هَذَانِ عَنْهُم هَكَذَا ... عَنَّا انْتَفَى مِمَّا يُقَال اثْنَان)
(قَالُوا وَلَيْسَ بجائز تَكْلِيف مَا ... لَا يُسْتَطَاع فَتى من الفتيان)
(وَعَلِيهِ من أَصْحَابنَا شيخ العراقى ... وَحجَّة الْإِسْلَام ذُو الإتقان)
(وَرَوَاهُ مُجْتَهد الزَّمَان مُحَمَّد بن ... دَقِيق عيد وَاضح السبلان)
منعُوا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَوَافَقَهُمْ من أَصْحَابنَا الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفراينى شيخ الْعِرَاقِيّين وَحجَّة الْإِسْلَام الغزالى وَشَيخ الْإِسْلَام تقى الدّين مُحَمَّد ابْن على بن دَقِيق الْعِيد القوصى رَحِمهم الله تَعَالَى أَجْمَعِينَ
(قَالُوا وتمتنع الصَّغَائِر من نبى ... للإله وَعِنْدنَا قَولَانِ)
(وَالْمَنْع مروى عَن الْأُسْتَاذ والقاضى ... عِيَاض وَهُوَ ذُو رُجْحَان)
(وَبِه أَقُول وَكَانَ مَذْهَب والدى ... دفعا لرتبتهم عَن النُّقْصَان)
(والأشعرى إمامنا لكننا ... فى ذَا نخالفه بِكُل لِسَان)
(ونقول نَحن على طَرِيقَته وَلَكِن ... صَحبه فى ذَاك طَائِفَتَانِ)
(بل قَالَ بعض الأشعرية إِنَّهُم ... بُرَآء معصومون من نِسْيَان)(3/387)
(وَالْكل معدودون من أَتْبَاعه ... لَا يخرجُون بذا عَن الإذعان)
(وَأَبُو حنيفَة هَكَذَا مَعَ شَيخنَا ... لَا شئ بَينهمَا من النكران)
(متناصران وَذَا اخْتِلَاف هَين ... عَار عَن التبديع والخذلان)
(هَذَا الإِمَام وَقَبله القَاضِي يَقُولَانِ ... البقا لحقيقة الرَّحْمَن)
(وهما كَبِيرا الأشعرية وَهُوَ قَالَ ... بزائد فى الذَّات للإمكان)
(وَالشَّيْخ والأستاذ متفقان فى ... عقد وفى أَشْيَاء مُخْتَلِفَانِ)
(وَكَذَا ابْن فورك الشَّهِيد وَحجَّة الْإِسْلَام ... خصما الْإِفْك والبهتان)
(وَابْن الْخَطِيب وَقَوله إِن الْوُجُود ... يزِيد وَهُوَ الأشعرى الثانى)
(وَالِاخْتِلَاف فى الِاسْم هَل هُوَ والمسمى ... وَاحِد لَا اثْنَان أَو غيران)
(والأشعرية بَينهم خلف إِذا ... عدت مسَائِله على الْإِنْسَان)
(بلغت مئين وَكلهمْ ذُو سنة ... أخذت عَن الْمَبْعُوث من عدنان)
(وَغدا يُنَادى كلنا من جملَة الأتباع ... للأسلاف بِالْإِحْسَانِ)
(والأشعرى إمامنا وَالسّنة الغراء ... سنتنا مدى الْأَزْمَان)
(وكذاك أهل الرَّأْي مَعَ أهل الحَدِيث ... فى الِاعْتِقَاد الْحق متفقان)
(مَا إِن يكفر بَعضهم بَعْضًا وَلَا ... أزرى عَلَيْهِ وسامه بهوان)
(إِلَّا الَّذين تمعزلوا مِنْهُم فهم ... فِيهِ تنحت عَنْهُم الفئتان)
(هَذَا الصَّوَاب فَلَا تَظنن غَيره ... واعقد عَلَيْهِ بخنصر وبنان)
(وَرَأَيْت مِمَّن قَالَه حبر لَهُ ... نبأ عَظِيم سَار فى الْبلدَانِ)
(أعنى أَبَا مَنْصُور الْأُسْتَاذ عبد ... القاهر الْمَشْهُور فى الأكوان)(3/388)
(هَذَا صِرَاط الله فَاتبعهُ تَجِد ... فى الْقلب برد حلاوة الْإِيمَان)
(وتراه يَوْم الْحَشْر أَبيض وَاضحا ... يهدى إِلَيْك رسائل الغفران)
(وَعَلِيهِ كَانَ السَّابِقُونَ عَلَيْهِم ... حلل الثَّنَاء وملبس الرضْوَان)
(والشافعى وَمَالك وَأَبُو حنيفَة ... وَابْن حَنْبَل الْكَبِير الشان)
(درجوا عَلَيْهِ وخلفونا إثرهم ... إِن نتبعهم نَجْتَمِع بجنان)
(أَو نبتدع فلسوف نصلى النَّار مذمومين ... مدحورين بالعصيان)
(وَالْكفْر منفى فلست مكفرا ... ذَا بِدعَة شنعاء فى النيرَان)
(بل كل أهل الْقبْلَة الْإِيمَان يجمعهُمْ ... ويفترقون كالوحدان)
(فأجارنا الرَّحْمَن بالهادى النبى م ... مُحَمَّد من ناره بِأَمَان)
(صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا وضح الضُّحَى ... وبدا بديجور الدجى النسران)
(والآل والصحب الْكِرَام وَمِنْهُم الصّديق ... والفاروق مَعَ عُثْمَان)
(وعَلى ابْن الْعم وَالْبَاقُونَ إِنَّهُم م ... النُّجُوم لمقتد حيران)
شرح حَال الْفِتْنَة الَّتِى وَقعت بِمَدِينَة نيسابور قَاعِدَة بِلَاد خُرَاسَان إِذْ ذَاك فى الْعلم وَكَيف آلت إِلَى خُرُوج إِمَام الْحَرَمَيْنِ والحافظ البيهقى والأستاذ أَبى الْقَاسِم القشيرى من نيسابور ثمَّ كَيفَ كَانَت الدائرة على من رام مَذْهَب الأشعرى بِسوء وَكَيف قصمه الله
كَانَ سُلْطَان الْوَقْت إِذْ ذَاك السُّلْطَان طغرلبك السلجوقى وَكَانَ رجلا حنفيا سنيا خيرا عادلا محببا إِلَى أهل الْعلم من كبار الْمُلُوك وعظمائهم وَهُوَ أول مُلُوك السلجوقية وَكَانَ يَصُوم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَهُوَ الذى أرسل الشريف نَاصِر بن إِسْمَاعِيل(3/389)
رَسُولا إِلَى ملكة الرّوم فاستأذنها بِالصَّلَاةِ فى جَامع الْقُسْطَنْطِينِيَّة جمَاعَة يَوْم الْجُمُعَة فصلى وخطب للْإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله وتمهدت الْبِلَاد لطغرلبك وسمت نَفسه بِحَيْثُ وصل أمره إِلَى أَن سير إِلَى الْخَلِيفَة الْقَائِم يخْطب ابْنَته وَذَلِكَ فى ذَلِك الزَّمَان مقَام مهول فشق ذَلِك على الْخَلِيفَة واستعفى ثمَّ لم يجد بدا من ذَلِك لِعَظَمَة طغرلبك وَكَونه ملكا قاهرا لَا يُطَاق فَزَوجهُ بهَا وَقدم بَغْدَاد فى سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَأرْسل يطْلبهَا وَحمل مائَة ألف دِينَار برسم نقل جهازها فَعمل الْعرس فى صفر بدار المملكة وأجلست على سَرِير ملبس بِالذَّهَب وَدخل السُّلْطَان وَقبل الأَرْض بَين يَديهَا وَلم يكْشف البرقع عَن وَجههَا إِذْ ذَاك وَقدم لَهَا تحفا وخدم وَانْصَرف مَسْرُورا وَكَانَ لهَذَا السُّلْطَان وَزِير سوء وَهُوَ وزيره أَبُو نصر مَنْصُور بن مُحَمَّد الكندرى كَانَ معتزليا رَافِضِيًّا خَبِيث العقيدة لم يبلغنَا أَن أحدا جمع لَهُ من خبث العقيدة مَا اجْتمع لَهُ فَإِنَّهُ على مَا ذكر كَانَ يَقُول بِخلق الْأَفْعَال وَغَيره من قبائح الْقَدَرِيَّة وَسَب الشَّيْخَيْنِ وَسَائِر الصَّحَابَة وَغير ذَلِك من قبائح شَرّ الروافض وتشبيهه الله بخلقه وَغير ذَلِك من قبائح الكرامية والمجسمة وَكَانَ لَهُ مَعَ ذَلِك تعصب عَظِيم وانضم إِلَى كل هَذَا أَن رَئِيس الْبَلَد الْأُسْتَاذ أَبَا سهل بن الْمُوفق الذى سنذكر إِن شَاءَ الله تَرْجَمته فى الطَّبَقَة الرَّابِعَة كَانَ ممدحا جوادا ذَا أَمْوَال جزيلة وصدقات دارة وهبات هائلة رُبمَا وهب الْألف دِينَار لسائل وَكَانَ مرفوقا بالوزارة وداره مُجْتَمع الْعلمَاء ملتقى الْأَئِمَّة من الْفَرِيقَيْنِ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة فى دَاره يتناظرون وعَلى سماطه يتلقمون وَكَانَ عَارِفًا بأصول الدّين على مَذْهَب الأشعرى قَائِما فى ذَلِك مناضلا فى الذب عَنهُ فَعظم ذَلِك على الكندرى بِمَا فى نَفسه من الْمَذْهَب وَمن بغض ابْن الْمُوفق(3/390)
بِخُصُوصِهِ وخشيته مِنْهُ أَن يثب على الوزارة فَحسن للسُّلْطَان لعن المبتدعة على المنابر فَعِنْدَ ذَلِك أَمر السُّلْطَان بِأَن تلعن المبتدعة على المنابر فَاتخذ الكندرى ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى ذكر الأشعرية وَصَارَ يقصدهم بالإهانة والأذى وَالْمَنْع عَن الْوَعْظ والتدريس وعزلهم عَن خطابة الْجَامِع واستعان بطَائفَة من الْمُعْتَزلَة الَّذين زَعَمُوا أَنهم يقلدون مَذْهَب أَبى حنيفَة أشربوا فى قُلُوبهم فضائح الْقَدَرِيَّة وَاتَّخذُوا التمذهب بِالْمذهبِ الحنفى سياجا عَلَيْهِم فحببوا إِلَى السُّلْطَان الإزراء بِمذهب الشافعى عُمُوما وبالأشعرية خُصُوصا
وَهَذِه هى الْفِتْنَة الَّتِى طَار شررها فَمَلَأ الْآفَاق وَطَالَ ضررها فَشَمَلَ خُرَاسَان وَالشَّام والحجاز وَالْعراق وَعظم خطبهَا وبلاؤها وَقَامَ فِي سبّ أهل السّنة خطيبها وسفهاؤها إِذْ أدّى هَذَا الْأَمر إِلَى التَّصْرِيح بلعن أهل السّنة فى الْجمع وتوظيف سبهم على المنابر وَصَارَ لأبى الْحسن كرم الله وَجهه بهَا أُسْوَة لعلى بن أَبى طَالب كرم الله وَجهه فى زمن بعض بنى أُميَّة حَيْثُ استولت النواصب على المناصب واستعلى أُولَئِكَ السُّفَهَاء فى المجامع والمراتب
فَقَامَ أَبُو سهل فى عصبَة الْحق وشمر عَن ساعد الْجد بِحَقِيقَة الصدْق وَتردد إِلَى الْعَسْكَر فى دفع ذَلِك وَمَا أَفَادَ شئ من التَّدْبِير إِذْ كَانَ الْخصم الْحَاكِم وَالسُّلْطَان محجبا إِلَّا بوساطة ذَلِك الْوَزير ثمَّ جَاءَ الْأَمر من قبل السُّلْطَان طغرلبك بِالْقَبْضِ على الرئيس الفراتى والأستاذ أَبى الْقَاسِم القشيرى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وأبى سهل بن الْمُوفق ونفيهم ومنعهم عَن المحافل وَكَانَ أَبُو سهل غَائِبا إِلَى بعض النواحى وَلما قرئَ الْكتاب(3/391)
بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش فَأخذُوا بالأستاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما وحبسا بالقهندر
وَأما إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ أحس بِالْأَمر واختفى وَخرج على طَرِيق كرمان الى الْحجاز وَمن ثمَّ جاور وَسمي إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَبَقِي الْقشيرِي والفراتي معترقين مسجونين أَكثر من شهر فتهيأ أَبُو سهل بن الْمُوفق من نَاحيَة باخرز وَجمع من أعوانه رجَالًا عارفين بِالْحَرْبِ وأتى بَاب الْبَلَد وَطلب إِخْرَاج الفراتى والقشيرى فَمَا أُجِيب بل هدد بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضى مَا تقدم من مرسوم السُّلْطَان فَلم يلْتَفت وعزم على دُخُول الْبَلَد لَيْلًا وإخراجهما مجاهرة وَكَانَ متولى الْبَلَد قد تهَيَّأ للحرب فزحف أَبُو سهل لَيْلًا إِلَى قَرْيَة لَهُ على بَاب الْبَلَد وَدخل مغافصة إِلَى دَاره وَصَاح من مَعَه بالنعرات الْعَالِيَة فَلَمَّا أَصْبحُوا ترددت الرُّسُل والنصحاء فى الصُّلْح وأشاروا على الْأَمِير بِإِطْلَاق الْأُسْتَاذ والرئيس فَأبى وبرز بِرِجَالِهِ وَقصد محلّة أَبى سهل فَقَامَ وَاحِد من أعوان أَبى سهل إِلَّا أَنه بعداد ألف وضرغام إِلَّا أَنه فى زى إِنْسَان واستدعى مِنْهُ كِفَايَة تِلْكَ الثائرة وَأَتَاهُ وَأَصْحَابه وادنوا لَهُم فَالْتَقوا فى السُّوق وَثَبت هَؤُلَاءِ حَتَّى فرغ نشاب أُولَئِكَ وتأنى الْحق حَتَّى انْقَضتْ ترهات الْبَاطِل ثمَّ حمل أَصْحَاب ابْن الْمُوفق على أُولَئِكَ حَملَة رجل وَاحِد فهزموهم بِإِذن الله وجرحوا أَمِير الْبَلَد وهمو بأسره ثمَّ توَسط النَّاس ودخلوا على أَبى سهل فى تسكين الْفِتْنَة وإطفاء الثائرة وَأتوا بالأستاذ والرئيس إِلَى دَاره وَقَالُوا قد حصل الْقَصْد وَأخرج هَذَانِ من الْحَبْس(3/392)
فَلَمَّا انتصر أَبُو سهل وَتمّ لَهُ مَا ابْتغى تشَاور هُوَ وَأَصْحَابه فِيمَا بَينهم وَعَلمُوا أَن مُخَالفَة السُّلْطَان لَهَا تبعة وَأَن الْخُصُوم لَا ينامون فاتفقوا على مهاجرة الْبَلَد إِلَى نَاحيَة أستواء ثمَّ يذهبون إِلَى الْملك وبقى بعض الْأَصْحَاب بالنواحى مفرقين وَذهب أَبُو سهل إِلَى المعسكر وَكَانَ على مَدِينَة الرى وَخرج خَصمه من الْجَانِب الآخر فتوافيا بالرى وانْتهى إِلَى السُّلْطَان مَا جرى وسعى بأصحاب الشافعى وبالإمام أَبى سهل خُصُوصا فَقبض على أَبى سهل وَحبس فى بعض القلاع وَأخذت أَمْوَاله وبيعت ضيَاعه ثمَّ فرج عَنهُ وَخرج وَحج
فَهَذَا مَا كَانَ من الْفِتْنَة وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان مَعَ دينه وخيره مِمَّن لم يمهله الله بعد إِذْنه بالسب وبحبس القشيرى وَلم يمْكث بعد هَذِه الْوَاقِعَة الشنيعة واتفاق هَذِه الفضيحة الفظيعة إِلَّا زَمنا يَسِيرا وَتوفى وتسلطن بعده وَلَده السُّلْطَان الْأَعْظَم عضد الدولة أَبُو شُجَاع ألب أرسلان
وَلم يلبث الكندري إِلَّا يَسِيرا وَقتل شَرّ قتلة وَجعل كل جُزْء من أَعْضَائِهِ فى نَاحيَة وَلذَلِك شرح يطول لسنا لَهُ الْآن
وأسفر صباح الزَّمَان عَن طلعة الْوَزير نظام الْملك فَقَامَ فى نصْرَة الدّين قيَاما مؤزرا وَعَاد الْحق معززا موقرا وَأمر بِإِسْقَاط ذكر السب وتأديب من فعله
ذكر أُمُور اتّفقت فى هَذِه الْفِتْنَة وَكَيف كَانَ حَال عُلَمَاء الْمُسلمين واغتمامهم بهَا
أما أهل خُرَاسَان من نيسابور ونواحيها ومرو وَمَا والاها فَإِنَّهُم أخرجُوا فَمنهمْ من جَاءَ إِلَى الْعرَاق وَمِنْهُم من جَاءَ إِلَى الْحجاز(3/393)
فَمِمَّنْ حج الْحَافِظ أَبُو بكر البيهقى والأستاذ أَبُو الْقَاسِم القشيرى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو المعالى الجوينى وخلائق يُقَال جمعت تِلْكَ السّنة أَرْبَعمِائَة قَاض من قُضَاة الْمُسلمين من الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة هجروا بِلَادهمْ بِسَبَب هَذِه الْوَاقِعَة وتشتت فكرهم يَوْم رُجُوع الْحَاج فَمن عازم على الْمُجَاورَة وَمن محير فى أمره لَا يدرى أَيْن يذهب فاتفقت كلمتهم على أَن الْأُسْتَاذ أَبَا الْقَاسِم يَعْلُو الْمِنْبَر وَيتَكَلَّم عَلَيْهِم قيل فَصَعدَ وشخص فى السَّمَاء زَمَانا وأطرق زَمَانا ثمَّ قبض على لحيته وَقَالَ يَا أهل خُرَاسَان بِلَادكُمْ بِلَادكُمْ إِن الكندرى غريمكم قطع إربا إربا وَفرقت أعضاؤه وَهَا أَنا أشاهده السَّاعَة وَأنْشد
(عميد الْملك ساعدك الليالى ... على مَا شِئْت من دَرك المعالى)
(فَلم يَك مِنْك شئ غير أَمر ... بلعن الْمُسلمين على التوالى)
(فقابلك الْبلَاء بِمَا تلاقى ... فذق مَا تسْتَحقّ من الوبال)
فضبط التَّارِيخ فَكَانَ فى ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه وَتلك السَّاعَة بِعَينهَا قد أَمر السُّلْطَان بِأَن يقطع إربا إربا وَأَن يُوصل إِلَى كل مَكَان مِنْهُ عُضْو يدْفن فِيهِ فَفعل بِهِ ذَلِك
ذكر استفتاء كتب فى ذَلِك وَأرْسل إِلَى الْعرَاق
قد كَانَ الْحَال لَو وفْق الله ولى الْأَمر وَمن يطْلب الْحق غَنِيا عَن ذَلِك إِذْ فى وجود مثل إِمَام الْحَرَمَيْنِ على ظهر الأَرْض غنية عَن استفتاء غَيره من الْفُقَهَاء وَإنَّهُ ليقبح بِأَهْل إقليم فيهم إِمَام الْحَرَمَيْنِ بل بِأَهْل عصر أَن تقع لَهُم نازلة فَلَا يصغون إِلَى فتياه ويكتبون إِلَى النواحى يستفتون كَيفَ وَقد كَانَ مَعَه البيهقى مُحدث زَمَانه(3/394)
والقشيرى سيد وقته وخلائق يطول تعدادهم من عُلَمَاء الْأمة وَبِالْجُمْلَةِ كتبُوا استفتاء وأرسلوه إِلَى بَغْدَاد فَلم يبْق حنفى وَلَا شافعى إِلَّا وَبَالغ فى الْكتاب وعظمت عَلَيْهِ هَذِه الرزية وَقد قدمنَا ذكر بعض فتاويهم وَلَا نطيل بالباقى ففى الْقَلِيل غنية عَن الْكثير
ذكر كتاب البيهقى إِلَى عميد الْملك
قد سَاق ابْن عَسَاكِر جَمِيعه وَنحن نأتى على أَكْثَره
كَانَ البيهقى بِمَدِينَة بيهق فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْخَبَر شقّ عَلَيْهِ وَكَانَ مُحدث زَمَانه وَشَيخ السّنة فى وقته فَكتب إِلَى عميد الْملك مَا أخبرتنا بِهِ أَسمَاء بنت صصرى فى كتابها عَن مكى بن عَلان أَن الْحَافِظ أَبَا الْقَاسِم أنبأه قَالَ أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن حبيب العامرى الْحَافِظ قَالَ أخبرنَا شيخ الْقُضَاة أَبُو على إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْحُسَيْن البيهقى أخبرنَا والدى الإِمَام أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن قَالَ
سَلام الله وَرَحمته وَبَرَكَاته على الشَّيْخ العميد وإنى أَحْمد إِلَيْهِ الله الذى لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ وأصلى على رَسُوله مُحَمَّد وعَلى آله أما بعد فَإِن الله جلّ ثَنَاؤُهُ بفضله وجوده يُؤْتى من يَشَاء من عباده ملك مَا يُرِيد من بِلَاده ثمَّ يهدى من يَشَاء مِنْهُم إِلَى صراطه ويوفقه للسعى فى مرضاته وَيجْعَل لَهُ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ وَزِير صدق يومى إِلَيْهِ بِالْخَيرِ ويحض عَلَيْهِ ومعين حق يُشِير إِلَيْهِ بِالْبرِّ ويعين عَلَيْهِ ليفوز الْأَمِير والوزير مَعًا بِفضل الله فوزا عَظِيما وينالا من نعْمَته حظا جسيما وَكَانَ الْأَمِير أدام الله دولته مِمَّن آتَاهُ الله الْملك وَالْحكمَة وَالشَّيْخ العميد أدام الله سيادته مِمَّن جعل الله لَهُ وَزِير صدق إِن نسى ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ كَمَا أخبر سيدنَا الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كل أَمِير(3/395)
أَرَادَ الله بِهِ خيرا فَعَادَت بجميل نظر الْأَمِير أدام الله أَيَّامه وَحسن رعايته وسياسته بِلَاد خُرَاسَان إِلَى الصّلاح بعد الْفساد وطرقها إِلَى الْأَمْن بعد الْخَوْف حَتَّى انْتَشَر ذكره بالجميل فى الْآفَاق وأشرقت الأَرْض بِنور عدله كل الْإِشْرَاق وَلذَلِك قَالَ سيدنَا الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا روى عَنهُ (السُّلْطَان ظلّ الله وَرمحه فى الأَرْض) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا روى عَنهُ (يَوْم من إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة) وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك
(لَوْلَا الْأَئِمَّة لم تأمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لأقوانا)
زَاده الله تأييدا وتسديدا وَزَاد من يؤازره فى الْخَيْر ويحثه عَلَيْهِ تَوْفِيقًا وتسديدا ثمَّ إِنَّه أعز الله نَصره صرف همته الْعَالِيَة إِلَى نصر دين الله وقمع أَعدَاء الله بعد مَا تقرر للكافة حسن اعْتِقَاده بتقرير خطباء أهل مَمْلَكَته على لعن من اسْتوْجبَ اللَّعْن من أهل الْبدع ببدعته وأيس أهل الزيغ عَن زيغه عَن الْحق وميله عَن الْقَصْد فَألْقوا فى سَمعه مَا فِيهِ مساءة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة كَافَّة ومصيبتهم عَامَّة من الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة الَّذين لَا يذهبون فى التعطيل مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة وَلَا يسلكون فى التَّشْبِيه طرق المجسمة فى مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا ليتسلوا بالأسوة مَعَهم فى هَذِه المساءة عَمَّا يسوؤهم من اللَّعْن والقمع فى هَذِه الدولة المنصورة ثبتها الله وَنحن نرجو عثوره عَن قريب على مَا قصدُوا ووقوفه على مَا أَرَادوا فيستدرك بِتَوْفِيق الله مَا بدر مِنْهُ فِيمَا ألْقى إِلَيْهِ وَيَأْمُر بتعزيز من زور عَلَيْهِ وقبح صُورَة الْأَئِمَّة بَين يَدَيْهِ وَكَأَنَّهُ خفى عَلَيْهِ أدام الله عزه حَال شَيخنَا أَبى الْحسن الأشعرى رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه وَمَا يرجع إِلَيْهِ(3/396)
من شرف الأَصْل وَكبر الْمحل فى الْعلم وَالْفضل وَكَثْرَة الْأَصْحَاب من الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة الَّذين رَغِبُوا فى علم الْأُصُول وأحبوا معرفَة دَلَائِل الْعُقُول وَالشَّيْخ العميد أدام الله توفيقه أولى أوليائه وأحراهم بتعريفه حَاله وإعلامه فَضله لما يرجع إِلَيْهِ من الْهِدَايَة والدراية والشهامة والكفاية مَعَ صِحَة العقيدة وَحسن الطَّرِيقَة
وفضائل الشَّيْخ أَبى الْحسن ومناقبه أَكثر من أَن يُمكن ذكرهَا فى هَذِه الرسَالَة لما فى الإطالة من خشيَة الملالة لكنى أذكر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى من شرفه بآبائه وأجداده وفضله بِعِلْمِهِ وَحسن اعْتِقَاده وَكبر مَحَله بِكَثْرَة أَصْحَابه مَا يحملهُ على الذب عَنهُ وَعَن أَتْبَاعه
ثمَّ أَخذ البيهقى فى ذكر تَرْجَمَة الشَّيْخ وَذكر نسبه ثمَّ قَالَ إِلَى أَن بلغت النّوبَة إِلَى شَيخنَا أَبى الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله فَلم يحدث فى دين الله حَدثا وَلم يَأْتِ فِيهِ ببدعة بل أَخذ أقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من الْأَئِمَّة فى أصُول الدّين فنصرها بِزِيَادَة شرح وتبيين وَأَن مَا قَالُوا وَجَاء بِهِ الشَّرْع فى الْأُصُول صَحِيح فى الْعُقُول بِخِلَاف مَا زعم أهل الْأَهْوَاء من أَن بعضه لَا يَسْتَقِيم فى الآراء فَكَانَ فى بَيَانه وثبوته مَا لم يدل عَلَيْهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة ونصرة أقاويل من مضى من الْأَئِمَّة كأبى حنيفَة وسُفْيَان الثورى من أهل الْكُوفَة والأوزاعى وَغَيره من أهل الشَّام
وَمَالك والشافعى من أهل الْحَرَمَيْنِ وَمن نحا نَحْوهمَا من أهل الْحجاز وَغَيرهَا من سَائِر الْبِلَاد وكأحمد بن حَنْبَل وَغَيره من أهل الحَدِيث وَاللَّيْث بن سعد وَغَيره وأبى عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى وأبى الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج النيسابورى إمامى أهل الْآثَار وحفاظ السّنَن الَّتِى عَلَيْهَا مدَار الشَّرْع إِلَى أَن قَالَ(3/397)
وَصَارَ رَأْسا فى الْعلم من أهل السّنة فى قديم الدَّهْر وَحَدِيثه وَبِذَلِك وعد سيدنَا الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته فِيمَا روى عَنهُ أَبُو هُرَيْرَة أَنه قَالَ (يبْعَث الله لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا دينهَا) ثمَّ سَاق حَدِيث الْأَشْعَرِيين وَإِشَارَة النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَبى مُوسَى وَقد قدمنَا ذَلِك إِلَى أَن قَالَ
وَحين كثرت المبتدعة فى هَذِه الْأمة وَتركُوا ظَاهر الْكتاب وَالسّنة وأنكروا مَا ورد أَنه من صِفَات الله تَعَالَى نَحْو الْحَيَاة وَالْقُدْرَة وَالْعلم والمشيئة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام والبقاء وجحدوا مادلا عَلَيْهِ من الْمِعْرَاج وَعَذَاب الْقَبْر وَالْمِيزَان وَأَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان وَأَن أهل الْإِيمَان يخرجُون من النيرَان وَمَا لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحَوْض والشفاعة وَمَا لأهل الحنة من الرُّؤْيَة وَأَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة كَانُوا محقين فِيمَا قَامُوا بِهِ من الْولَايَة وَزَعَمُوا أَن شَيْئا من ذَلِك لَا يَسْتَقِيم على الْعقل وَلَا يَصح على الرأى أخرج الله من نسل أَبى مُوسَى الأشعرى رضى الله عَنهُ إِمَامًا قَامَ بنصرة دين الله وجاهد بِلِسَانِهِ وَبَيَانه من صد عَن سَبِيل الله وَزَاد فى التَّبْيِين لأهل الْيَقِين أَن مَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سلف هَذِه الْأمة مُسْتَقِيم على الْعُقُول الصَّحِيحَة
إِلَى أَن قَالَ بعد ذكر حَدِيث عمرَان بن الْحصين الذى قدمْنَاهُ فَمن تَأمل هَذِه الْأَحَادِيث وَعرف مَذْهَب شَيخنَا أَبى الْحسن فى علم الْأُصُول وَعرف تبحره فِيهِ أبْصر صنع الله عزت قدرته فى تَقْدِيم هَذَا الأَصْل الشريف لما ذخر لِعِبَادِهِ من هَذَا الْفَرْع المنيف الذى أَحْيَا بِهِ السّنة وأمات بِهِ الْبِدْعَة وَجعله خلف حق لسلف صدق(3/398)
ثمَّ انْدفع فى بَقِيَّة الرسَالَة وختمها بسؤاله العميد فى إطفاء الثائرة وَترك السب وتأديب من يَفْعَله
وَقد سَاق الْحَافِظ الْكتاب بمجموعة كَمَا عرفناك فَإِن أردْت الْوُقُوف عَلَيْهِ كُله فَعَلَيْك بِكِتَاب التَّبْيِين وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ مِنْهُ مقنع وبلاغ
وَقد تضمن هَذَا الْكتاب وقائله من علمت من الْحِفْظ وَالدّين والورع والاطلاع والمعرفة والثقة وَالْأَمَانَة والتثبت أَن الصَّحَابَة وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان من عُلَمَاء الْأمة فقهائها ومحدثيها على عقيدة الأشعرى بل الأشعرى على عقيدتهم قَامَ وناضل عَنْهَا وَحمى حوزتها من أَن تنالها أيدى المبطلين وتحريف الغالين وَقد سمى من الْفُقَهَاء والمحدثين من سَمِعت
ذكر رِسَالَة القشيرى إِلَى الْبِلَاد الْمُسَمَّاة شكاية أهل السّنة بحكاية مَا نالهم من المحنة
وَقد جالت هَذِه الرسَالَة فى الْبِلَاد وانزعجت نفوس أهل الْعلم مِنْهَا وَقَامَ كل مِنْهُم بِحَسب قوته وَدخلت بيهق فَوقف عَلَيْهَا الْحَافِظ البيهقى ولبى دعوتها وَكتب الرسَالَة إِلَى العميد الَّتِى انفصلنا الْآن عَنْهَا ثمَّ دخلت بَغْدَاد فَكتب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى من الشَّافِعِيَّة والقاضى الدامغانى من الْحَنَفِيَّة وَغَيرهمَا من الْفَرِيقَيْنِ مَا أدَّت الْقُدْرَة إِلَيْهِ
وَقد أورد الْحَافِظ بعض هَذِه الرسَالَة فى كِتَابه وَنحن نرى أَن نوردها كلهَا فَإِنَّهُ يخْشَى على مثلهَا الضّيَاع إِذا تَمَادى الزَّمَان فَإِن هَذَا شَأْن المصنفات اللطاف لَا سِيمَا مَا يغِيظ أهل الْبَاطِل فَإِنَّهُم يبادرون إِلَى إِعْمَال الْحِيلَة فى إعدامه(3/399)
لقد كَانَ عِنْد الشَّيْخ الإِمَام نُسْخَة من كتاب تَبْيِين كذب المفترى لَا يحسن الرائى أَن يقْرَأ مِنْهَا حرفا لما هُوَ مَكْتُوب فى حواشيها وَبَين أسطرها من أُمُور لَا تتَعَلَّق بِالْكتاب بِخَط بعض فضلاء الْحَنَابِلَة الَّذين يَلْمِزُونَ بِبَعْض الأشاعرة فَسَأَلت الشَّيْخ الإِمَام فَقَالَ هَذِه النُّسْخَة شريتها من تَرِكَة الْحَافِظ سعد الدّين الحارثى وَكَأَنَّهُم كَانُوا يُرِيدُونَ إعدامها وَلَكِن كتاب التَّبْيِين كثير الْعدَد 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 أهل السّنة بحكاية مَا نالهم من المحنة تخبر عَن بثة مكروب ونفثة مغلوب وَشرح ملم مؤلم(3/400)
وذكرمهم موهم وَبَيَان خطب قَادِح وَشر سانح للقلوب جارح رَفعهَا عبد الْكَرِيم ابْن هوَازن القشيرى رَحمَه الله إِلَى الْعلمَاء الْأَعْلَام لجَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام
أما بعد
فَإِن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أمرا قدره فَمن ذَا الذى أمسك مَا سيره أَو قدم مَا أَخّرهُ أَو عَارض حكمه فَغَيره أَو غَلبه على أَمر فقهره كلا بل هُوَ الله الْوَاحِد القهار الْمَاجِد الْجَبَّار
وَمِمَّا ظهر بِبِلَاد نيسابور من قضايا التَّقْدِير فى مفتتح سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة من الْهِجْرَة مَا دَعَا أهل الدّين إِلَى شقّ صُدُور صبرهم وكشف قناع ضيرهم بل ظلت الْملَّة الحنيفية تَشْكُو غليلها وتبدى عويلها وتنصب عزالى رَحْمَة الله على من يستمع شكوها وتصغى مَلَائِكَة السَّمَاء حَتَّى تندب شجوها
ذَلِك مِمَّا أحدث من لعن إِمَام الدّين وسراج ذوى الْيَقِين محيى السّنة وقامع الْبِدْعَة وناصر الْحق وناصح الْخلق الزكى الرضى أَبى الْحسن الأشعرى قدس الله روحه وَسَقَى بِالرَّحْمَةِ ضريحه وَهُوَ الذى ذب عَن الدّين بأوضح حجج وسلك فى قمع الْمُعْتَزلَة وَسَائِر أَنْوَاع المبتدعة أبين مَنْهَج واستنفد عمره فى النَّضْح عَن الْحق فأورث الْمُسلمين بعد وَفَاته كتبه الشاهدة بِالصّدقِ(3/401)
وَلَقَد سَمِعت الْأُسْتَاذ الشَّهِيد أَبَا على الْحسن بن على الدقاق رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَقُول سَمِعت أَبَا على زَاهِر بن أَحْمد الْفَقِيه رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَقُول مَاتَ أَبُو الْحسن الأشعرى رَحمَه الله وَرَأسه فى حجرى وَكَانَ يَقُول متْنا فى حَال نَزعه من دَاخل حلقه فأدنيت إِلَيْهِ رأسى وأصغيت إِلَى مَا كَانَ يقرع سمعى وَكَانَ يَقُول لعن الله الْمُعْتَزلَة موهوا ومخرقوا
وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو الْحسن الأشعرى رَحمَه الله يتَكَلَّم فى أصُول الدّين على جِهَة الرَّد على أهل الزيغ والبدع تأديا بِمَا أوجب الله سُبْحَانَهُ على الْعلمَاء من النَّضْح عَن الدّين وكشف تمويه الْمُلْحِدِينَ والمبتدعين بِمَا زَالُوا عَن النهج الْمُسْتَقيم
وَلَقَد سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن عبيد الله الشيرازى الصوفى رَحمَه الله يَقُول سَمِعت بعض أَصْحَاب أَبى عبد الله بن خَفِيف الشيرازى رَحْمَة الله عَلَيْهِم يَقُول سَمِعت أَبَا عبد الله بن خَفِيف رَحمَه الله يَقُول دخلت الْبَصْرَة فى أَيَّام شبابى لأرى أَبَا الْحسن الأشعرى رَحْمَة الله عَلَيْهِ لما بلغنى خَبره فَرَأَيْت شَيخا بهى المنظر فَقلت لَهُ أَيْن منزل أَبى الْحسن الأشعرى فَقَالَ وَمَا الذى تُرِيدُ مِنْهُ فَقلت أحب أَن أَلْقَاهُ فَقَالَ ابتكر غَدا إِلَى هَذَا الْموضع قَالَ فابتكرت فَلَمَّا رَأَيْته تَبعته فَدخل دَار بعض وُجُوه الْبَلَد فَلَمَّا أبصروه أكْرمُوا مَحَله وَكَانَ هُنَاكَ جمع من الْعلمَاء ومجلس نظر فأقعدوه فى الصَّدْر فَلَمَّا شرع فى الْكَلَام دخل هَذَا الشَّيْخ فَأخذ يرد عَلَيْهِ ويناظره حَتَّى أَفْحَمَهُ فَقضيت الْعجب من علمه وفصاحته فَقلت لبَعض من كَانَ عندى من هَذَا الشَّيْخ فَقَالَ أَبُو الْحسن الأشعرى فَلَمَّا قَامُوا تَبعته فَالْتَفت إِلَى وَقَالَ يَا فَتى كَيفَ رَأَيْت الأشعرى فخدمته وَقلت يَا سيدى كَمَا هُوَ فى مَحَله(3/402)
وَلَكِن مَسْأَلَة قَالَ قل يَا بنى فَقلت مثلك فى فضلك وعلو منزلتك كَيفَ لم تسال وَيسْأل غَيْرك فَقَالَ أَنا لَا أَتكَلّم مَعَ هَؤُلَاءِ ابْتِدَاء وَلَكِن إِذا خَاضُوا فى ذكر مَا لَا يجوز فى دين الله رددنا عَلَيْهِم بِحكم مَا فرض الله علينا من الرَّد على مخالفى الْحق وعَلى هَذِه الْجُمْلَة سيرة السّلف أَصْحَاب الحَدِيث الْمُتَكَلِّمين مِنْهُم فى الرَّد على الْمُخَالفين وَأهل الشّبَه والزيغ
وَلما من الله الْكَرِيم على أهل الْإِسْلَام ببركات السُّلْطَان الْمُعظم الْمُحكم بِالْقُوَّةِ السماوية فى رِقَاب الْأُمَم الْملك الْأَجَل شاهنشاه يَمِين خَليفَة الله وغياث عباد الله طغرلبك أَبى طَالب مُحَمَّد بن مِيكَائِيل أَطَالَ الله عمره موفقا مَعْصُوما بقاه وأدام بالتسديد نعماه وَقَامَ بإحياء السّنة والمناضلة عَن الْملَّة حَتَّى لم يبْق من أَصْنَاف المبتدعة حزبا إِلَّا سل لاستئصالهم سَيْفا عضبا وأذاقهم ذلا وخسفا وعقب لآثارهم نسفا حرجت صُدُور أهل الزيغ عَن تحمل هَذِه النقم وضاق صدرهم عَن مقاساة هَذَا الْأَلَم ومنوا بلعن أنفسهم على رُءُوس الأشهاد بألسنتهم وَضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ بانفرادهم بالوقوع فى مهواة محنتهم فسولت لَهُم أنفسهم أمرا وظنوا أَنهم بِنَوْع تلبيس وَضرب تَدْلِيس يَجدونَ لعسرهم يسرا فسعوا إِلَى عالى مجْلِس السُّلْطَان الْمُعظم أعز الله نَصره بِنَوْع نميمة ونسبوا الأشعرى إِلَى مَذَاهِب ذميمة وحكوا عَنهُ مقالات لَا يُوجد فى كتبه مِنْهَا حرف وَلم ير فى المقالات المصنفة للمتكلمين الموافقين والمخالفين من وَقت الْأَوَائِل إِلَى زَمَاننَا هَذَا لشئ مِنْهَا حِكَايَة وَلَا وصف(3/403)
بل كل ذَلِك تَصْوِير بتزوير وبهتان بِغَيْر تَقْرِير وَإِن مِمَّا أدْرك النَّاس من كَلَام النُّبُوَّة إِذا لم تستحى فَاصْنَعْ مَا شِئْت
وَلما رفعنَا إِلَى الْمجْلس العالى زَاده الله إشراقا هَذِه الظلامة وكشفنا قناع هَذِه الخطة وَذكرنَا أَن هَذِه المقالات لم تسمع من أَلْسِنَة هَذِه الزمرة وَلم يُوجد شئ فى كتبهمْ من هَذِه الْجُمْلَة وَلَا حكى فى الْكتب المصنفة فى مقالات الْمُتَكَلِّمين حرف من هَذِه الْأَقَاوِيل بل كَانَ الْجَواب إِنَّا إِنَّمَا نوعز بلعن الأشعرى الذى قَالَ هَذِه المقالات على هَذِه الصّفة فَإِن لم يبينوا بهَا وَلم يقل الأشعرى شَيْئا مِنْهَا فَلَا عَلَيْك مَا نقُول وَلَا يلحقكم ضَرَر مِمَّا نصْنَع فَقُلْنَا الأشعرى الذى هُوَ مَا حكيتم وَكَانَ بِمَا ذكرْتُمْ لم يخلقه الله بعد وَمَا مَحل هَذَا إِلَّا مَحل من حكى عَن أَئِمَّة السّلف أَنهم دانوا بالبدع ونسبهم إِلَى الضلال وَالْخَطَأ فَإِذا قيل لَهُ فى ذَلِك يَقُول إِنَّمَا أَقُول لفُلَان الذى قَالَ مَا نسبته إِلَيْهِ ودان بِهَذَا الذى قلت وَمَات عَلَيْهِ الْكيس لَا يرضى مِنْهُ بذلك وَلَا يغضى على ذَلِك
ثمَّ أَخذنَا فى سَبِيل الاستعطاف جَريا فى دفع السَّيئَة بالتى هى أحسن فَلم تسمع لنا حجَّة وَلم تقض لنا حَاجَة وَلَا حِيلَة لنا فى التَّوَسُّط بَيْننَا على من بعده فى مَذْهَب وَاحِد عصره فأغضينا على قذى الِاحْتِمَال واستنمنا إِلَى مَعْهُود الْمُوَافقَة(3/404)
فى أصُول الدّين بَين الْفَرِيقَيْنِ فحضرنا مَجْلِسه وَلم نشك أَنا لَا ننصرف إِلَّا وَشَمل الدّين مُنْتَظم وَشعب الْوِفَاق فى الْأُصُول ملتئم وَأَن كلنا على قمع الْمُعْتَزلَة وقهر المبتدعة يَد وَاحِدَة وَأَن لَيْسَ بَين الْفَرِيقَيْنِ فى الْأُصُول خلاف فَأول مَا سألناه بِأَن قُلْنَا هَل صَحَّ عِنْده عَن الأشعرى هَذِه المقالات الَّتِى تحكى فَقَالَ لَا غير أَنى لَا أستجيز الْخَوْض فى هَذِه الْمسَائِل الكلامية وَأَمْنَع النَّاس عَنْهَا وأنهى وَلَا يجوز اللَّعْن عندى على أهل الْقبْلَة لشئ مِنْهَا وَصرح بِأَنَّهُ لَيْسَ يعلم أَنه قَالَ هَذِه الْمسَائِل الَّتِى تحكى عَنهُ أم لَا ثمَّ قَالَ فى خلال كَلَامه إِن الأشعرى عندى مُبْتَدع وَأَنه فى الْبِدْعَة يزِيد على الْمُعْتَزلَة فحين سمعنَا ذَلِك تحيرنا ونفينا وَسَمعنَا غير مَا ظننا وشاهدنا مَا لَو أخبرنَا بِهِ مَا صدقنا ورأينا بالعيان مَا لَو رَأَيْنَاهُ فى الْمَنَام لقلنا أضغاث أَحْلَام فسبحان الله كَيفَ صرح بِأَنَّهُ لَا يعرف مَذْهَب رجل على الْحَقِيقَة وَصَحَّ عِنْده مقَالَته ثمَّ يبدعه من غير تحقق بمقالته ثمَّ انصرفنا
وَمَا نقموا من الأشعرى إِلَّا أَنه قَالَ بِإِثْبَات الْقدر لله خَيره وشره ونفعه وضره وَإِثْبَات صِفَات الْجلَال لله من قدرته وَعلمه وإرادته وحياته وبقائه وسَمعه وبصره وَكَلَامه وَوَجهه وَيَده وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق وَأَنه تَعَالَى مَوْجُود تجوز رُؤْيَته وَأَن إِرَادَته نَافِذَة فى مراداته وَمَا لَا يخفى من مسَائِل الْأُصُول الَّتِى تخَالف طَرِيقه طَرِيق الْمُعْتَزلَة والمجسمة فِيهَا وَإِذا لم يكن فى مَسْأَلَة لأهل الْقبْلَة غير قَول الْمُعْتَزلَة وَقَول الأشعرى قَول زَائِد فَإِذا بَطل قَول الأشعرى فَهَل يتَعَيَّن بِالصِّحَّةِ أَقْوَال الْمُعْتَزلَة وَإِذا بَطل الْقَوْلَانِ فَهَل هَذَا إِلَّا تَصْرِيح بِأَن الْحق مَعَ غير أهل الْقبْلَة وَإِذا لعن الْمُعْتَزلَة(3/405)
والأشعرى فى مَسْأَلَة لَا يخرج قَول الْأمة عَن قوليهما فَهَل هَذَا إِلَّا لعن جَمِيع أهل الْقبْلَة
معاشر الْمُسلمين الغياث الغياث سعوا فى إبِْطَال الدّين وَرَأَوا هدم قَوَاعِد الْمُسلمين وهيهات هَيْهَات {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره} وَقد وعد الله للحق نَصره وظهوره وللباطل محقه وثبوره إِلَّا أَن كتب الأشعرى فى الْآفَاق مبثوثة ومذاهبه عِنْد أهل السّنة من الْفَرِيقَيْنِ مَعْرُوفَة مَشْهُورَة فَمن وَصفه بالبدعة علم أَنه غير محق فى دَعْوَاهُ وَجَمِيع أهل السّنة خَصمه فِيمَا افتراه
فَأَما مَا حكى عَنهُ وَعَن أَصْحَابه أَنهم يَقُولُونَ إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بنبى فى قَبره وَلَا رَسُول بعد مَوته فبهتان عَظِيم وَكذب مَحْض لم ينْطق مِنْهُم أحد وَلَا سمع فى مجْلِس مناظرة ذَلِك عَنْهُم وَلَا وجد ذَلِك فى كتاب لَهُم وَكَيف يَصح ذَلِك وَعِنْدهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حى فى قَبره قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} فَأخْبر سُبْحَانَهُ بِأَن الشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم والأنبياء أولى بذلك لتقاصر رُتْبَة الشَّهِيد عَن دَرَجَة النُّبُوَّة قَالَ الله تَعَالَى {فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} فرتبة الشُّهَدَاء ثَالِث دَرَجَة النُّبُوَّة
وَلَقَد وَردت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة والْآثَار المروية بِمَا تدل الشَّهَادَة على هَذِه الْجُمْلَة
فَمن ذَلِك مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو سعيد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله الأديب حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن حَاتِم حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن الصَّباح الصاغانى حَدثنَا ابْن جعْشم عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن السَّائِب عَن زَاذَان عَن ابْن مَسْعُود(3/406)
عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن لله تَعَالَى مَلَائِكَة سياحين فى الأَرْض تبلغنى عَن أمتى السَّلَام) وَلَا يبلغ السَّلَام إِلَّا وَيكون حَيا
وَأخْبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَقِيه أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أَحْمد النسوى حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس الْحسن بن سُفْيَان الشيبانى النسوى حَدثنَا هِشَام ابْن خَالِد حَدثنَا الْحسن بن يحيى حَدثنَا سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن يزِيد بن أَبى مَالك عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من نبى يَمُوت فيقيم فى قَبره إِلَّا أَرْبَعِينَ صباحا حَتَّى ترد إِلَيْهِ روحه)
وَأخْبرنَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الثقفى أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن هَارُون بن مُحَمَّد بن هَارُون الْعَطَّار حَدثنَا أَبُو على الْحسن بن على بن عِيسَى المقبرى أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمُقْرِئ حَدثنَا حَيْوَة بن شُرَيْح عَن أَبى صَخْر المدنى عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط عَن أَبى هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (مَا من أحد يسلم على إِلَّا رد الله عز وَجل على روحى حَتَّى أرد عَلَيْهِ السَّلَام)
دلّ الْخَبَر على أَن الْمَيِّت لَا يعلم حَتَّى ترد إِلَيْهِ الرّوح وَدلّ على أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حى فى قَبره
وَأخْبرنَا أَبُو الْحُسَيْن على بن مُحَمَّد بن عبد الله بن بَشرَان بِبَغْدَاد أخبرنَا أَبُو جَعْفَر(3/407)
مُحَمَّد بن عَمْرو البخترى حَدثنَا عِيسَى بن عبد الله الطيالسى حَدثنَا الْعَلَاء ابْن عَمْرو الحنفى حَدثنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن عَن الْأَعْمَش عَن أَبى صَالح عَن أَبى هُرَيْرَة عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من صلى على عِنْد قبرى سمعته وَمن صلى على نَائِيا أبلغته)
وَأخْبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَقِيه أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أَحْمد النسوي أخبرنَا الْحسن بن سُفْيَان حَدثنَا شَيبَان بن فروخ حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة حَدثنَا أَبُو الْمُعْتَمِر وثابت البنانى عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أتيت على مُوسَى لَيْلَة أسرى بى عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر وَهُوَ قَائِم يصلى فى قَبره)
وَأخْبرنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْكَاتِب حَدثنَا أَحْمد بن عبد الصفار حَدثنَا تمْتَام مُحَمَّد بن غَالب حَدثنَا مُوسَى حَدثنَا سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أتيت وَأَنا فى أهلى فَانْطَلقُوا بى إِلَى زَمْزَم وَشرح صدرى ثمَّ غسل بِمَاء زَمْزَم ثمَّ أتيت بطست من ذهب ممتلئة إِيمَانًا وَحكما فحشى بِهِ صدرى) قَالَ أنس وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرينا أَثَره (فعرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ الْملك قَالَ من ذَا قَالَ جِبْرِيل
قَالَ وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم(3/408)
قَالَ فَفتح فَإِذا آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ مرْحَبًا بك من ولد ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَاسْتَفْتَحَ الْملك فَقَالَ من ذَا قَالَ جِبْرِيل
قَالَ وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم قَالَ فَفتح فَإِذا عِيسَى وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَالَا مرْحَبًا بك من أَخ ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ الْملك فَقَالَ من ذَا
قَالَ جِبْرِيل
قَالَ وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم
قَالَ فَفتح فَإِذا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ مرْحَبًا بك من أَخ ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ الْملك فَقَالَ من ذَا
قَالَ جِبْرِيل قَالَ وَمن مَعَك
قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/409)
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم
قَالَ فَفتح فَإِذا أدريس عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ مرْحَبًا بك من أَخ ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالَ من ذَا
قَالَ جِبْرِيل قَالَ وَمن مَعَك
قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَقد بعث
قَالَ نعم قَالَ فَفتح فَإِذا هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ مرْحَبًا بك من أَخ ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ الْملك فَقَالَ من ذَا
قَالَ جِبْرِيل
قَالَ وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم
قَالَ فَفتح فَإِذا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ مرْحَبًا بك من أَخ ومرحبا بك من رَسُول
ثمَّ عرج بى الْملك إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ الْملك قَالَ من ذَا قَالَ جِبْرِيل
قَالَ وَمن مَعَك(3/410)
قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم قَالَ فَفتح فَإِذا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ مرْحَبًا بك من رَسُول الْخَبَر بِطُولِهِ
فَدلَّ هَذَا الْخَبَر على أَنهم عَلَيْهِم السَّلَام أَحيَاء
وَلَقَد روى الْحسن بن قُتَيْبَة المدائنى وعد ذَلِك فى أَفْرَاده عَن الْمُسلم بن سعيد الثقفى عَن الْحجَّاج بن الْأسود عَن ثَابت البنانى عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَنْبِيَاء أَحيَاء فى قُبُورهم يصلونَ)
فَإِذا ثَبت أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حى فالحى لابد من أَن يكون إِمَّا عَالما أَو جَاهِلا وَلَا يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاهِلا قَالَ تَعَالَى فى صفته {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} وَقَالَ {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه}
فَثَبت أَنه مُؤمن ورتبة النُّبُوَّة رُتْبَة الشّرف وعلو الْمنزلَة وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يزْدَاد كل يَوْم شرفا ورتبة إِلَى الْأَبَد فَكيف لَا يكون عَارِفًا وَلَا نَبيا
وَالرَّسُول فعول بِمَعْنى الْمُرْسل وَلَا نَظِير لَهُ فى اللُّغَة والإرسال كَلَام الله وَكَلَامه قديم وَهُوَ قبل أَن خلق كَانَ رَسُولا بإرسال الله وفى حَالَة الْيَوْم وَإِلَى الْأَبَد رَسُول لبَقَاء كَلَامه وَقدم قَوْله واستحالة الْبطلَان على إرْسَاله الذى هُوَ كَلَامه وَلَقَد سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل لَهُ مَتى كنت نَبيا فَقَالَ (وآدَم منجدل فى طينته)
وَأخْبرنَا أَبُو الْحسن على بن أَحْمد الْكَاتِب حَدثنَا أَحْمد بن عبد الصفار حَدثنَا يَعْقُوب بن غيلَان حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهدى حَدثنَا(3/411)
مُعَاوِيَة بن صَالح عَن سعيد بن سُوَيْد عَن عبد الْأَعْلَى بن هِلَال السلمى عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إنى لخاتم النَّبِيين وَإِن آدم منجدل فى طينته)
وَأخْبرنَا أَبُو الْحسن على بن أَحْمد حَدثنَا أَحْمد بن عبد حَدثنَا مُحَمَّد بن غَالب حَدَّثَنى مُحَمَّد بن سِنَان حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن بديل بن ميسرَة وَعَن عبد الله بن شَقِيق عَن ميسرَة الْفجْر قَالَ قلت يَا رَسُول الله مَتى كنت نَبيا قَالَ (وآدَم بَين الرّوح والجسد)
فَإِن قيل فَمن أَيْن وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة إِن لم يكن لَهَا أصل قيل إِن بعض الكرامية مَلأ الله قَبره نَارا وظنى أَن الله قد فعل ألزم بعض أَصْحَابنَا وَقَالَ إِذا كَانَ عنْدكُمْ الْمَيِّت فى حَال مَوته لَا يحس وَلَا يعلم فَيجب أَن يكون النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى قَبره غير مُؤمن لِأَن الْإِيمَان عنْدكُمْ الْمعرفَة والتصديق وَالْمَوْت ينافى ذَلِك فَإِذا لم يكن لَهُ علم وتصديق لَا يكون لَهُ إِيمَان وَمن لَا يكون مُؤمنا لَا يكون نَبيا وَلِأَن عِنْدهم الْإِيمَان الْإِقْرَار الْفَرد وَذَلِكَ قَوْلهم لما قَالَ الله لَهُم {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَزَعَمُوا أَن قَوْلهم {بلَى} بَاقٍ وَالْإِيمَان ذَلِك وفى حَال الْمَوْت عِنْدهم الْمَيِّت يحس وَيعلم وَقَوله {بلَى} بَاقٍ عينه
وَهَذِه الْمذَاهب لَهُم مَعَ ركاكتها وفسادها غير ملزمة لنا مَا ألزمونا لِأَن عندنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حى يحس وَيعلم وَتعرض عَلَيْهِ أَعمال الْأمة ويبلغ الصَّلَاة وَالسَّلَام على مَا بَينا ثمَّ الأشعرى لَا يخْتَص بقوله إِن الْمَيِّت لَا يحس وَلَا يعلم فَإِن أحدا من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين سوى الكرامية لم يقل إِن الْمَيِّت يحس وَيعلم وَغير الكرامية لم يقل أحد إِن الْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار الْمُجَرّد وَهُوَ قَوْلهم {بلَى} وَلم يقل أحد سواهُم إِن ذَلِك الْإِقْرَار الذى هُوَ {بلَى} مَوْجُود وَإِن قَالَ كثير من النَّاس بِبَقَاء بعض(3/412)
الْأَعْرَاض وَجَوَاب الأشعرى كجواب جَمِيع النَّاس عَن هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ ركاكتها وَفَسَاد قواعدها
وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن مَا يلْزمه الْخصم بِدَعْوَاهُ فَيَقُول هَذَا على أصلكم وَمُقْتَضى علتكم يلزمكم فَلَا يجوز أَن ينْسب ذَلِك إِلَى صَاحب الْمَذْهَب فَيُقَال هَذَا مَذْهَب فلَان وَمَا عرُوض هَذَا إِلَّا عرُوض من قَالَ إِن مَذْهَب الحنفى أَن الْوضُوء بِالْخمرِ جَائِز فى السّفر لِأَنَّهُ إِذا جوز التوضى بالنبيذ على وصف يلْزمه أَن يجوز فى الْخمر لاشْتِرَاكهمَا فى الْعلَّة وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسكر فَمثل هَذَا الْإِلْزَام لَا يَصح أَن ينْسب بِهِ الحنفى أَن يَقُول يجوز التوضى فى السّفر بِالْخمرِ عِنْد عدم المَاء
كَذَلِك إِذا قَالُوا إِن مَذْهَب الأشعرى أَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِنَبِي فى قَبره لِأَنَّهُ يلْزمه حِين قَالَ إِن الْمَيِّت لَا يحس وَلَا يعلم أَن يَقُول إِنَّه لَيْسَ بعالم وَلَا نبى وَمن قَالَ هَذَا كَانَ كَاذِبًا وَكَانَ قَوْله بهتانا فَليعلم ذَلِك يزل الْإِيهَام إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما مَا قَالُوهُ إِن مذْهبه أَنه يَقُول إِن الله لَا يجازى المطيعين على إِيمَانهم وطاعاتهم وَلَا يعذب الْكفَّار والعصاة على كفرهم ومعاصيهم فَذَلِك أَيْضا بهتان وَتقول وَكَيف يَصح من قَول أحد يقر بِالْقُرْآنِ وَالله تَعَالَى يَقُول فى مُحكم كِتَابه {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَيَقُول {ذَلِك جزيناهم بِمَا كفرُوا} وَيَقُول {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} وَيَقُول {كَذَلِك نجزي من شكر} وَغير ذَلِك من الْآيَات وَلَيْسَ الْخلاف فى ذَلِك وَإِنَّمَا الْخلاف فى أَن الْمُعْتَزلَة وَمن سلك سبيلهم فى التَّعْدِيل والتجوير زَعَمُوا أَنه يجب على الله تَعَالَى أَن يثيب المطيعين وَيجب عَلَيْهِ أَن يعذب العاصين(3/413)
فطاعة المطيعين عِلّة فى استحقاقهم ثَوَابه وزلات العاصين عِلّة فى استحقاقهم عِقَابه
وَقَالَ أهل السّنة من الأشعرية وَمن جَمِيع من خَالف الْمُعْتَزلَة إِن الله سُبْحَانَهُ لَا يجب عَلَيْهِ شئ وَقَالُوا إِن الْخلق خلقه وَالْملك ملكه وَالْحكم حكمه فَلهُ أَن يتَصَرَّف فى الْعباد بِمَا يَشَاء وَله أَن يُوصل الْأَلَم إِلَى من يَشَاء ويوصل اللَّذَّة إِلَى من يَشَاء وَأَنه يثيب الْمُؤمنِينَ ووعد لَهُم الْجنَّة وَقَوله صدق فَلَا محَالة أَنه يجازيهم ويثيبهم وَلَو لم يعدهم عَن طاعاتهم الثَّوَاب لم يكن يجب للْعَبد عَلَيْهِ شئ فَإِنَّهُ توعد العصاة بالعقوبة على معاصيهم على ذَلِك لِأَن وعيده حق وَلَو لم يعذبهم وَلم يتوعدهم لَكَانَ ذَلِك جَائِزا إِلَّا أَن الله سُبْحَانَهُ قَالَ فى صفة نَفسه {فعال لما يُرِيد} فالمطيعون لَا محَالة لَهُم جَزَاء الطَّاعَات وَلَكِن بِفضل الله عَلَيْهِم لَا باستحقاقهم والعاصون لَا محَالة لَهُم على معاصيهم مَا توعدهم بِهِ من الْعقَاب لَكِن لحكمة لَا باستحقاقهم فالطاعات والمعاصى عَلَامَات للثَّواب وَالْعِقَاب لَا علل وَلَا مُوجبَات وَمن صرح فى مُخَالفَة هَذَا فقد أقرّ بالإعتزال وَالْقدر وَلَقَد أخبر الله سُبْحَانَهُ عَن أهل الْجنَّة أَنهم يَقُولُونَ {الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله}
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا}
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين}
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ}
وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ}
أخبرنَا أَبُو نعيم عبد الْملك بن الْحسن بن مُحَمَّد الإسفراينى أخبرنَا أَبُو عوَانَة يَعْقُوب(3/414)
ابْن إِسْحَاق حَدثنَا سعيد بن مَسْعُود المروزى السلمى أخبرنَا النَّضر عَن شهيل أخبرنَا ابْن عون عَن مُحَمَّد عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَيْسَ أحد مِنْكُم ينجيه عمله) قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ (وَلَا أَنا إِلَّا إِن يتغمدنى الله مِنْهُ برحمة ومغفرة)
أخبرنَا الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك رَحْمَة الله عَلَيْهِ أَن عبد الله ابْن جَعْفَر أخْبرهُم حَدثنَا يُونُس بن حبيب حَدثنَا أَبُو دَاوُد الطيالسى حَدثنَا ابْن أَبى ذِئْب عَن سعيد عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا مِنْكُم أحد ينجيه عمله) قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ (وَلَا أَنا إِلَّا إِن يتغمدنى الله مِنْهُ برحمة)
وَهَذِه الْمَسْأَلَة من شعب مَسْأَلَة الْقدر وَأهل الْحق لَا يَقُولُونَ بِوُجُوب شئ على الله وَيَقُولُونَ لله أَن يحكم على عباده بِمَا يرد وَيخْتَص من يَشَاء بِالرَّحْمَةِ ويخص من يَشَاء بالألم والشدة وَلَو لم يعد أهل الطَّاعَات بالثواب لم يتَوَجَّه لأحد عَلَيْهِ حق وَلَو ابْتَدَأَ الْخلق بِالْعَذَابِ لم يلْحقهُ فِيهِ لوم
وَلَقَد روى ابْن الديلمى رَحمَه الله قَالَ أتيت أَبى بن كَعْب رضى الله عَنهُ فَقلت إِنَّه وَقع فى نفسى شئ من الْقدر فحدثنى بشئ لَعَلَّ الله أَن يذهب من قلبى فَقَالَ لَو أَن الله عز وَجل عذب أهل سماواته وَأهل أرضه عذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم وَلَو رَحِمهم كَانَت رَحمته خيرا لَهُم من أَعْمَالهم وَلَو أنفقت مثل أحد ذَهَبا مَا قبله الله عز وَجل مِنْك حَتَّى تؤمن بِالْقدرِ وَتعلم أَن مَا أخطأك لم يكن ليصيبك وَمَا أَصَابَك لم يكن ليخطئك وَلَو مت على غير هَذَا دخلت النَّار(3/415)
ثمَّ لقِيت عبد الله بن مَسْعُود فَقَالَ مثل ذَلِك
ثمَّ لقِيت حُذَيْفَة بن الْيَمَان فَقَالَ مثل ذَلِك
ثمَّ لقِيت زيد بن ثَابت فحدثنى عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل ذَلِك
وَلَقَد أخبرنَا أَبُو الْحسن على بن أَحْمد الأهوازى أخبرنَا أَحْمد بن عبد الصفار حَدثنَا بشر بن مُوسَى حَدثنَا حجاج حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش الحمصى حَدثنَا عمر بن عبيد الله مولى غفرة عَن رجل من الْأَنْصَار عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يكون قوم يَقُولُونَ لَا قدر أُولَئِكَ مجوس هَذِه الْأمة فَإِن مرضوا فَلَا تعودوهم وَإِن مَاتُوا فَلَا تشهدوهم فَإِنَّهُم شيعَة الدَّجَّال وَحقّ على الله أَن يلحقهم بِهِ)
وَأخْبرنَا على بن أَحْمد أخبرنَا أَحْمد بن عبد حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف بن هِشَام حَدثنَا مُحرز بن عون عَن حسان بن إِبْرَاهِيم الكرمانى عَن نصر عَن قَتَادَة عَن أَبى حسان الْأَعْرَج عَن نَاجِية بن كَعْب عَن عبد الله بن مَسْعُود رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خلق الله يحيى فى بطن أمه مُؤمنا وَخلق الله فِرْعَوْن فى بطن أمه كَافِرًا)
فَالْحَمْد لله الذى أوضح سَبِيل الدّين بحججه وَهدى للحق سالكى نهجه وخذل أهل الْبدع حَتَّى فضحوا أنفسهم بنصرة الْبَاطِل وَظهر لجَمِيع أهل السّنة مَا كَانَ ملتبسا عَلَيْهِم من أَحْوَالهم الخافية
وَأما مَا يَقُولُونَ عَن الأشعرى أَن مذْهبه أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يسمع كَلَام الله عز وَجل فسبحان الله كَيفَ لَا يستحيى من يأتى بِمثل هَذَا الْبُهْتَان الذى يشْهد بتكذيبه كل مُخَالف وموافق إِن حد مَا يجوز أَن يسمع عِنْد الأشعرى هُوَ الْمَوْجُود وَكَلَام الله عِنْده قديم فَكيف يَقُول لَا يجوز أَن يسمع كَلَام الله وَقد قَالَ الله سُبْحَانَهُ(3/416)
{وكلم الله مُوسَى تكليما} ومذهبه أَن الله تَعَالَى أفرد مُوسَى فى وقته بِأَن أسمعهُ كَلَام نَفسه بِغَيْر وَاسِطَة وَلَا على لِسَان رَسُول وَإِنَّمَا لَا يَصح هَذَا على أصُول الْقَدَرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ إِن كَلَام الله مَخْلُوق فى الشَّجَرَة ومُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يسمع كَلَامه وَقَالَ الأشعرى لَو كَانَ كَلَامه سُبْحَانَهُ فى الشَّجَرَة لَكَانَ الْمُتَكَلّم بذلك الْكَلَام الشَّجَرَة فالقدرية قَالُوا إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كلَاما من الشَّجَرَة فلزمهم أَن يَقُولُوا إِنَّه سمع كَلَام الشَّجَرَة لَا كَلَام الله وَهَذَا كَمَا قيل فى الْمثل رمتنى بدائها وانسلت وَمن نسب إِلَى أحد قولا لم يسمعهُ يَقُوله وَلَا أحد حكى أَنه سَمعه يَقُول ذَلِك وَلَا وجد ذَلِك فى كتبه وَلم يقلهُ أحد من أَصْحَابه وَلم يناظر عَلَيْهِ أحد مِمَّن ينتحل مذْهبه وَلَا وجد فى كتب المقالات لموافق وَلَا مُخَالف أَن ذَلِك مذْهبه علم أَنه بهتان وَكذب وَقد قَالَ الله تَعَالَى فى قصَّة الْإِفْك {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} وَهَذِه مضاهية لتِلْك ونعوذ بِاللَّه من رقة الدّين وَقلة الْحيَاء
وَأما مَا قَالُوا إِن مذْهبه أَن الْقُرْآن لم يكن بَين الدفتين وَلَيْسَ الْقُرْآن فى الْمُصحف عِنْده فَهَذَا أَيْضا تشنيع فظيع وتلبيس على الْعَوام
إِن الأشعرى وكل مُسلم غير مُبْتَدع يَقُول إِن الْقُرْآن كَلَام الله وَهُوَ على الْحَقِيقَة مَكْتُوب فى الْمَصَاحِف لَا على الْمجَاز وَمن قَالَ إِن الْقُرْآن لَيْسَ فى الْمَصَاحِف على هَذَا الْإِطْلَاق فَهُوَ مُخطئ بل الْقُرْآن مَكْتُوب فى الْمُصحف على الْحَقِيقَة وَالْقُرْآن كَلَام الله وَهُوَ قديم غير مَخْلُوق وَلم يزل الْقَدِيم سُبْحَانَهُ بِهِ متكلما وَلَا يزَال بِهِ قَائِما وَلَا يجوز الِانْفِصَال على الْقُرْآن عَن ذَات الله وَلَا الْحُلُول فى الْمحَال وَكَون الْكَلَام مَكْتُوبًا على(3/417)
الْحَقِيقَة فى الْكتاب لَا يقتضى حُلُوله فِيهِ وَلَا انْفِصَاله عَن ذَات الْمُتَكَلّم قَالَ الله سُبْحَانَهُ {النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} فالنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْحَقِيقَة مَكْتُوب فى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَكَذَلِكَ الْقُرْآن على الْحَقِيقَة مَكْتُوب فى الْمَصَاحِف مَحْفُوظ فى قُلُوب الْمُؤمنِينَ مقروء متلو على الْحَقِيقَة بألسنة القارئين من الْمُسلمين كَمَا أَن الله تَعَالَى على الْحَقِيقَة لَا على الْمجَاز معبود فى مَسَاجِدنَا مَعْلُوم فى قُلُوبنَا مَذْكُور بألسنتنا وَهَذَا وَاضح بِحَمْد الله وَمن زاغ عَن هَذِه الطَّرِيقَة فَهُوَ قدرى معتزلى يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَأَنه حَال فى الْمُصحف نَظِير مَا قَالُوا إِنَّه لما أسمع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلَامه خلق كَلَامه فى الشَّجَرَة وَهَذَا من فضائح الْمُعْتَزلَة الَّتِى لَا يخفى فَسَادهَا على مُحَصل وَذَلِكَ أَن عِنْد الجبائى الذى هُوَ رَئِيس الْقَدَرِيَّة البصرية أَن الْقُرْآن يحل فى جَمِيع الْمَصَاحِف وَلَا يزْدَاد بِزِيَادَة الْمَصَاحِف وَلَا ينقص بنقصانها وَهُوَ حَال فى حَالَة وَاحِدَة فى ألف ألف مصحف وَإِذا زيد فى الْمَصَاحِف يحصل فِيهَا وَإِذا نقصت الْمَصَاحِف وَبَطلَت لم يبطل الْكَلَام وَلم ينقص وَلَئِن لم يكن هَذَا قولا متناقضا فَاسِدا فَلَا محَال فى الدُّنْيَا
وَأما البغداديون من الْمُعْتَزلَة فعندهم كَلَام الله عز وَجل كَانَ أعراضا حِين خلقه وَالْقُرْآن عِنْدهم كَانَ أعراضا وَلَا يجوز عِنْدهم الْبَقَاء على الْأَعْرَاض فعلى مَذْهَبهم لَيْسَ لله إِلَّا كَلَام مَوْجُود على الْحَقِيقَة وَالْقُرْآن الذى أنزلهُ الله عز وَجل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بباق الْيَوْم وَلَا مَوْجُود وَمن ينتحل مثل هَذِه الْبدع ثمَّ يرْمى خَصمه بِمَا هُوَ برِئ مِنْهُ فَالله سُبْحَانَهُ حسيبه وَجَمِيع أهل التَّحْصِيل شُهَدَاء على بَهته
وَأما مَا قَالُوا إِن الأشعرى يَقُول بتكفير الْعَوام فَهُوَ أَيْضا كذب وزور وَقصد من يتعنت بذلك تحريش الجهلة وَالَّذين لَا تَحْصِيل لَهُم عَلَيْهِ كعادة من لَا تَحْصِيل لَهُ فى تَقوله بِمَا لَا أصل لَهُ وَهَذَا أَيْضا من تلبيسات الكرامية على الْعَوام وَمن لَا تَحْصِيل لَهُ(3/418)
فَإِنَّهُم يَقُولُونَ الْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار الْمُجَرّد وَمن لَا يَقُول الْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار انسد عَلَيْهِ طَرِيق التَّمْيِيز بَين الْمُؤمن وَبَين الْكَافِر لأَنا إِنَّمَا نفرق بَينهمَا بِهَذَا الْإِقْرَار وَغير الكرامية من غير أهل الْقبْلَة لَا يجوز هَذَا السُّؤَال وَجَمِيع أهل الْقبْلَة سوى الكرامية فى الْجَواب عَن هَذَا السُّؤَال متساوون
وَذَلِكَ أَن الْإِيمَان عِنْد أَصْحَاب الحَدِيث جَمِيع الطَّاعَات فَرضهَا ونفلها والانتهاء عَن جَمِيع مَا نهى الله عَنهُ تَحْرِيمًا وتنزيها
وَعند أَبى الْحسن الأشعرى رَحمَه الله الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق وَهَذَا مَذْهَب أَبى حنيفَة رضى الله عَنهُ وَالظَّن بِجَمِيعِ عوام الْمُسلمين أَنهم يصدقون الله تَعَالَى فى إخْبَاره وَأَنَّهُمْ عارفون بِاللَّه مستدلون عَلَيْهِ بآياته فَأَما مَا تنطوى عَلَيْهِ العقائد ويستكن فى الْقُلُوب من الْيَقِين وَالشَّكّ فَالله تَعَالَى أعلم بِهِ وَلَيْسَ لأحد على مَا فى قلب أحد اطلَاع فَنحْن نحكم لجَمِيع عوام الْمُسلمين بِأَنَّهُم مُؤمنُونَ مُسلمُونَ فى الظَّاهِر ونحسن الظَّن بهم ونعتقد أَن لَهُم نظرا واستدلالافى أَفعَال الله وَأَنَّهُمْ يعرفونه سُبْحَانَهُ وَالله أعلم بِمَا فى قُلُوبهم وَلَيْسَ كل مَا يحكم بِهِ على النَّاس بِأَحْكَام الْمُسلمين هُوَ عين الْإِيمَان فَإِن الدَّار إِذا كَانَت دَار إِسْلَام وَوجدنَا شخصا لَيْسَ مَعَه غيار الْكفَّار فَإنَّا نَأْكُل ذَبِيحَته ونصلى خَلفه وَلَو وَجَدْنَاهُ مَيتا لغسلناه ونصلى عَلَيْهِ وندفنه فى مَقَابِر الْمُسلمين ونعقد مَعَه عقد الْمُصَاهَرَة وَإِن لم نسْمع مِنْهُ الْإِقْرَار وَكَونه بزى الْمُسلمين بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِإِيمَان وَبِذَلِك نجرى عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُؤمنِينَ وَكَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ نجرى عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُؤمنِينَ وَإِن كَانَ الْإِيمَان غير الْإِقْرَار(3/419)
فَإِن قيل فقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} {وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} وَإِذا أَتَى بِالْإِقْرَارِ حكمنَا بإيمانه فَعلم أَن الْإِقْرَار هُوَ الْإِيمَان
قيل هَذَا كسؤال الكرامية وَلَا يخْتَص الأشعرى بجوابه فَجَمِيع من لَا يَقُول إِن الْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار الْمُجَرّد مشتركون فى الْجَواب عَن هَذَا
وَجَوَاب الْجُمْهُور أَنا بِإِقْرَارِهِ نحكم فى الظَّاهِر بإيمانه وَالله أعلم بِحَقِيقَة حَاله فى صدقه وَكذبه وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} ثمَّ إِذا قَالَت قد طهرت جَازَ قربانها وَإِن جَاءَ أَن يكون حَالهَا فى المغيب بِخِلَاف مَا قَالَت فَكَذَلِك هَذَا
فَإِن قَالُوا فالأشعري يَقُول إِن الْعَوام إِذا لم يعلمُوا علم الْكَلَام فهم أَصْحَاب التَّقْلِيد فليسوا بمؤمنين
قيل هَذَا أَيْضا تلبيس ونقول إِن الأشعرى لَا يشْتَرط فى صِحَة الْإِيمَان مَا قَالُوا من علم الْكَلَام بل هُوَ وَجَمِيع أهل التَّحْصِيل من أهل الْقبْلَة يَقُولُونَ يجب على الْمُكَلف أَن يعرف الصَّانِع المعبود بدلائله الَّتِى نصبها على توحيده وَاسْتِحْقَاق نعوت الربوبية وَلَيْسَ الْمَقْصُود اسْتِعْمَال أَلْفَاظ الْمُتَكَلِّمين من الْجَوْهَر وَالْعرض وَإِنَّمَا الْمَقْصُود حُصُول النّظر وَالِاسْتِدْلَال الْمُؤَدى إِلَى معرفَة الله عز وَجل وَإِنَّمَا اسْتعْمل المتكلمون هَذِه الْأَلْفَاظ على سَبِيل التَّقْرِيب والتسهيل على المتعلمين وَالسَّلَف الصَّالح وَإِن لم يستعملوا هَذِه الْأَلْفَاظ لم يكن فى معارفهم خلل وَالْخلف الَّذين استعملوا هَذِه الْأَلْفَاظ لم يكن ذَلِك مِنْهُم لطريق الْحق مباينة وَلَا فى الدّين بِدعَة كَمَا أَن الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء عَن زمَان الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ استعملوا أَلْفَاظ الْفُقَهَاء من لفظ الْعلَّة والمعلول وَالْقِيَاس وَغَيره ثمَّ لم يكن استعمالهم بذلك بِدعَة وَلَا خلو السّلف عَن ذَلِك كَانَ لَهُم نقصا وَكَذَلِكَ شَأْن النَّحْوِيين والتصريفيين ونقلة الْأَخْبَار فى أَلْفَاظ تخْتَص كل فرقة مِنْهُم بهَا(3/420)
فَإِن قَالُوا إِن الِاشْتِغَال بِعلم الْكَلَام بِدعَة وَمُخَالفَة لطريق السّلف
قيل لَا يخْتَص بِهَذَا السُّؤَال الأشعرى دون غَيره من متكلمى أهل الْقبْلَة ثمَّ الاسترواح إِلَى مثل هَذَا الْكَلَام صفة الحشوية الَّذين لَا تَحْصِيل لَهُم وَكَيف يظنّ بسلف الْأمة أَنهم لم يسلكوا سَبِيل النّظر وَأَنَّهُمْ رَضوا بالتقليد حاش لله أَن يكون ذَلِك وَصفهم وَلَقَد كَانَ السّلف من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم مستقلين بِمَا عرفُوا من الْحق وسمعوا من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَوْصَاف المعبود وتأملوه من الْأَدِلَّة المنصوبة فى الْقُرْآن وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى مسَائِل التَّوْحِيد وَكَذَلِكَ التابعون وَأَتْبَاع التَّابِعين لقرب عَهدهم من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ظهر أهل الْأَهْوَاء وَكثر أهل الْبدع من الْخَوَارِج والجهمية والمعتزلة والقدرية وأوردوا الشّبَه انتدب أَئِمَّة السّنة لمخالفتهم والانتصار للْمُسلمين بِمَا ينير طريقهم فَلَمَّا أشفقوا على الْقُلُوب أَن تخامرها شبههم شرعوا فى الرَّد عَلَيْهِم وكشف فسقهم وأجابوهم عَن أسئلتهم وتحاموا عَن دين الله بإيضاح الْحجَج وَلما قَالَ الله تَعَالَى {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} تأدبوا بآدابه سُبْحَانَهُ وَلم يَقُولُوا فى مسَائِل التَّوْحِيد إِلَّا بِمَا نبههم الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ فى مُحكم التَّنْزِيل وَالْعجب مِمَّن يَقُول لَيْسَ فى الْقُرْآن علم الْكَلَام والآيات الَّتِى فى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة والآيات الَّتِى فِيهَا علم الْأُصُول يجدهَا توفى على ذَلِك وتربى بِكَثِير وفى الْجُمْلَة لَا يجْحَد علم الْكَلَام إِلَّا أحد رجلَيْنِ جَاهِل ركن(3/421)
إِلَى التَّقْلِيد وشق عَلَيْهِ سلوك أهل التَّحْصِيل وخلا عَن طَرِيق أهل النّظر وَالنَّاس أَعدَاء مَا جهلوا فَلَمَّا انْتهى عَن التحقق بِهَذَا الْعلم نهى النَّاس ليضل غَيره كَمَا ضل أَو رجل يعْتَقد مَذَاهِب فَاسِدَة فينطوى على بدع خُفْيَة يلبس على النَّاس عوار مذْهبه ويعمى عَلَيْهِم فضائح طويته وعقيدته وَيعلم أَن أهل التَّحْصِيل من أهل النّظر هم الَّذين يهتكون السّتْر عَن بدعهم ويظهرون للنَّاس قبح مقالتهم والقلاب لَا يحب من يُمَيّز النُّقُود والخلل فِيمَا فى يَده من النُّقُود الْفَاسِدَة لَا فى الصراف ذى التَّمْيِيز والبصيرة وَقد قَالَ الله تَعَالَى {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ}
وَلما ظهر ابْتِدَاء هَذِه الْفِتْنَة بنيسابور وانتشر فى الْآفَاق خَبره وَعظم على قُلُوب كَافَّة الْمُسلمين من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَثَره وَلم يبعد أَن يخَامر قُلُوب بعض أهل السَّلامَة والوداعة توهم فى بعض هَذِه الْمسَائِل أَن لَعَلَّ أَبَا الْحسن على بن إِسْمَاعِيل الأشعرى رَحمَه الله قَالَ بِبَعْض المقالات فى بعض كتبه وَلَقَد قيل من يسمع يخل أثبتنا هَذِه الْفُصُول فى شرح هَذِه الْحَالة وأوضحنا صُورَة الْأَمر بِذكر هَذِه الْجُمْلَة ليضْرب كل من أهل السّنة إِذا وقف عَلَيْهَا بسهمه فى الِانْتِصَار لدين الله عز وَجل من دُعَاء يخلصه واهتمام يصدقهُ وكل عَن قُلُوبنَا بالاستماع إِلَى شرح هَذِه الْقِصَّة يحلمه بل ثَوَاب من الله سُبْحَانَهُ على التوجع بذلك يستوجبه وَالله غَالب على أمره(3/422)
وَله الْحَمد على مَا يمضيه من أَحْكَامه ويبرمه ويقضيه فى أَفعاله فِيمَا يُؤَخِّرهُ ويقدمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد الْمُصْطَفى وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا
تمت الشكاية
ذكر الرسَالَة الْمُسَمَّاة زجر المفترى على أَبى الْحسن الأشعرى
وَهَذِه الرسَالَة صنفها الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة ضِيَاء الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن عمر بن يُوسُف بن عمر بن عبد الْمُنعم القرطبى وَقد وَقع فى عصره من بعض المبتدعة هجو فى أَبى الْحسن فألفها ردا على الهاجى الْمَذْكُور وَبعث بهَا إِلَى شيخ الْإِسْلَام تقى الدّين أَبى الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد إِمَام أهل السّنة وَقد كَانَت بَينهمَا صداقة ليقف عَلَيْهَا فَوقف عَلَيْهَا وقرظها بِمَا سنحكيه بعد الِانْتِهَاء مِنْهَا
وهى
(أَسِير الْهوى ضلت خطاك عَن الْقَصْد ... فها أَنْت لَا تهدى لخير وَلَا تهدى)
(سللت حساما من لسَانك كَاذِبًا ... على عَالم الْإِسْلَام وَالْعلم الْفَرد)
(تمرست فى أَعْرَاض بَيت مقدس ... رمى الله مِنْك الثغر بِالْحجرِ الصلد)
(ضلالك والغى اللَّذَان تألفا ... هما أورداك الْفُحْش من مورد عد)
(هما أسخنا عين الدّيانَة وَالْهدى بِمَا ... نثرا من ذمّ وَاسِطَة العقد)
(هما أضرما نَارا بهجوك سيدا ... ستصلى بهَا نَارا مسعرة الوقد)
(وَمَا أَنْت والأنساب تقطع وَصلهَا ... وَمَا أَنْت فِيهَا من سعيد وَلَا سعد)
(خطوت إِلَى عرض كريم مطهر ... أرى الله ذَاك الخطو جَامِعَة الْقد)(3/423)
(أيا جَاهِلا لم يدر جهلا بجهله ... أتعلو ثغور القاع فى قنن الْمجد)
(لقد طفئت نَار الْهوى من علومكم ... إِلَى لتقدح نَار هديك من زندى)
(أصخ لصريخ الْحق فَالْحق وَاضح ... فَلم لَا تصخ أصميت سمعا عَن الرَّعْد)
(وطهر عَن الإضلال ثَوْبك إِنَّه ... لأدنس مِمَّا مَسّه وضر الزند)
(فيا قعديا عَن معالى أولى النهى ... وَيَا قَائِما بِالْجَهْلِ ضدان فى ضد)
(أفق من ضلال ظلت تُوضَع نَحوه ... وتسرع إسراع المطهمة الجرد)
(وَصَحَّ رويدا إِن دون إمامنا ... سيوف عُلُوم سلها الله من غمد)
(لأيدى شُيُوخ حنكتهم يَد الْهدى ... وأيدى كهول فى غطارفة مرد)
(يصولون بِالْعلمِ الْمُؤَيد بالتقى ... وَقد لبسوا درع الْهدى مُحكم السرد)
(إِذا برزوا يَوْم الْجِدَال تخالهم ... أسود شرى لَا بل أجل من الْأسد)
(وَإِن نطقوا مدت يَد الله سرهم ... بِمَا سرهم فى الدّين يالك من مد)
(هم أوردونا أبحرا من علومهم ... مفجرة من غير جزر وَلَا مد)
(هم الْقَوْم فاحطط رَحل دينك عِنْدهم ... لتنشد دين الله فى موطن النشد)
(يجيئون إِن جَاءُوا بآيَات رَبهم ... وتأتيهم إِن جِئْت بالآى عَن مرد)
(لشتان مَا بَين الْفَرِيقَيْنِ فى الْهدى ... كشتان مَا بَين اليزيدين فى الرفد)(3/424)
(ضللتم عَن التَّقْوَى وظلل هديها ... علينا بفئ وارف الظل وَالْبرد)
(فَنحْن بهَا فى رَوْضَة من هِدَايَة ... مفتحة الأزهار فائحة الْورْد)
(تميس بهَا أعطافنا ثنى حلَّة ... خلوقية الأردان سابغة الْبرد)
(نشاهده حسنا ونجنيه طيبا ... وَنَشْرَب كأس الْفضل من غير مَا جهد)
(وَرَاءَك عَن هَذَا الْمحل فَإِنَّهُ ... مَحل جلال لست مِنْهُ على حد)
(ودونك فالبس برد جهلك مائسا ... بعطفيك فى الإغواء يَا عَابِد البد)
(فَإِن كنت بالتجسيم دنت فعندنا ... أسنة علم فى مثقفة صلد)
(زعمت بِأَن الله شئ مجسم ... تبين رويدا مَا أُمَامَة من هِنْد)
(فَإِن كَانَ مسلوب انْتِهَاء جعلته ... بقاذورة الأجساد وَالْمَيِّت واللحد)
(وفى الْكَلْب وَالْخِنْزِير والوزغ والهبا ... وفى مثل هَذَا النَّوْع يَا وَاجِب الْقد)
(وفى البق والبرغوث والذر والذى ... أجل وَأدنى مِنْهُ فى الْقد وَالْعد)
(وفى حشرات الأَرْض والترب والحصى ... ضَلَالَة مَا رواكه شيخك النجدى)
(وفى سَائِر الْمَوْجُود يَا أَخبث الورى ... مقَالا تَعَالَى الله يَا نَاقض الْعَهْد)
(وَإِن كَانَ لَا سلب انْتِهَاء جعلته ... أقل من الْمَخْلُوق فى زعمك المردى)(3/425)
(وَقلت إِلَه الْعَرْش فى الْعَرْش كَونه ... وأنى لمحدود بِمن جلّ عَن حد)
(فحددته من حَيْثُ أنْكرت حَده ... ويلزمك التَّخْصِيص فى العمق وَالْقد)
(وَيلْزم أَن الله مَخْلُوق خَالق ... لقد جِئْت فى الْإِسْلَام بالمعضل الأد)
(وَقلت لذات الله وصف تنقل ... وَحَالَة قرب عَاقَبت حَالَة الْبعد)
(وخيلت ذَات الله فى أعين الورى ... لمحسوسة الْأَجْسَام أَخْطَأت عَن عمد)
(وحددت تكييفا وكيفت جَاهِلا ... أقست على حاليك فى الْعَكْس والطرد)
(وَأنْكرت تَشْبِيها وشبهت لَازِما ... وَأثبت ضد الْعقل فى منتفى الضِّدّ)
(حللت عرى الْإِسْلَام من عقدك الذى ... تدين فجَاء الْحل من قبل العقد)
(وزيفت فى نقد اعتقادك فاغتدى ... وَقد جَاءَ زيف الدّين من قبل النَّقْد)
(سللت حسام الغى فى غمدك الْهدى ... فسلك من دين الْهِدَايَة بالغمد)
(بنيت ضلالا إِذْ هددت شَرِيعَة ... فأسست بُنيان الضَّلَالَة بالهد)
(مددت لِسَانا للْإِمَام فقصرت ... يَد الرشد فالتقصير من جَانب الْمَدّ)
(كَذَا عَن طَرِيق الدّين يَا أخفش الْهدى ... وَصرح بِمَا تخفى عَن الدّين من ضد)
(فقد وضحت آثَار غيك فى الورى ... كَمَا وضحت فى سوأة خصيتا قرد)
(بتبيين هَذَا الحبر من نور علمه ... دجى عقلك الهاوى وأقوالك الربد)
(فَرد معانيك الخبيثة علمه ... وغادرها فى الْجَهْل صاغرة الخد)
(وسل حساما من بَيَان فهومه ... فَرد سيوف الغى مفلولة الْحَد)(3/426)
وَأبْدى علوما ميزت فضل فَضله ... كتمييز ذى البردين وَالْفرس الْورْد)
(فَجَاءَت مجئ الصُّبْح وَالصُّبْح وَاضح ... وسارت مسير الشَّمْس وَالشَّمْس فى السعد)
(وفاضت فَفَاضَتْ أنفس من عداته ... وغاضت وَمَا غاضت على كَثْرَة الْورْد)
(وآضت رياض الْعلم مطلولة الثرى ... بسح غمام الْفضل منسكب الْعَهْد)
(وجادت بنشر الدّين فى عَالم الْهدى ... فَجَاءَت بنشر لَا العرار وَلَا الرند)
(من الحكم اللاتى تضوع عرفهَا ... فعد عَن الْورْد المضاعف والند)
(سللن سيوف الْحق فى موطن الْهدى ... فغادرن صرعى الْمُلْحِدِينَ بِلَا لحد)
(وأيدن دين الله فى أفق الْعلَا ... بِلَا منصل عضب وَلَا فرس نهد)
(وشيدن أَعْلَام الْحَقَائِق فى الورى ... فَللَّه مِنْهَا من تجن وَمَا تبدى)
(ومجدن ذَات الله تمجيد عَالم ... بِمَا يسْتَحق الله من صفة الْمجد)
(وكذبن دَعْوَى كل غاو مجسم ... بِمَا رد من قَول لَهُ وَاجِب الرَّد)
(وأمضين حكم النَّقْل وَالْعقل فاحتوى ... كَلَام إِمَام الْحق مجدا على مجد)
(معَان إِذا جَاشَتْ ميادين فَضلهَا ... أخذن بأعناق الْأَنَام إِلَى الرشد)
(وَإِن كنت عدليا يحكم عقله ... برد مُرَاد الله عَن بعض مَا قصد)
(وإمضاء مَا يختاره العَبْد من هوى ... فَحكم إِلَه العَبْد دون هوى العَبْد)
(وتجحد تشفيع الرَّسُول وَأَنه ... يرى الله يَوْم الْحَشْر أُفٍّ لذى الْجحْد)
(وتنفى صِفَات الله جلّ جَلَاله ... وتزعم أَن الآى محدثة الْعَهْد)
(وَتلْزم إِيجَابا على الله فعله ... لأصلح مَا يرضى وَأفضل مَا يجدى)
(فجانب هَاتين الطَّرِيقَيْنِ علمه ... كَمَا جَانب القيسى فى النّسَب الأزدى)
(وَقَالَ بِإِثْبَات الصِّفَات وذاتها ... وسلب صِفَات النَّفس عَن صَمد فَرد)
(فَمن مُوجب يَوْمًا على الله حكمه ... وَمن ذَا الذى يحْتَج إِن هُوَ لم يهد)(3/427)
(وَمن ذَا الذى يقْضى بِغَيْر قَضَائِهِ ... وَمن ذَا الذى عَن قهر عزته يحدى)
(وَهل حَاكم فى الْخَيْر وَالشَّر غَيره ... إِذا شَاءَ أمرا لم ترده يدا رد)
(هُوَ الله لَا أَيْن وَلَا كَيفَ عِنْده ... وَلَا حد يحويه وَلَا حصر ذى حد)
(وَلَا الْقرب فى الْأَدْنَى وَلَا الْبعد والنوى ... يُخَالف حَالا مِنْهُ فى الْقرب والبعد)
(فَمن قبل قبل الْقبل كَانَ وَبعده ... يكون بِلَا حصر لقبل وَلَا بعد)
(تنزه عَن إِثْبَات جسم وسلبه ... صِفَات كَمَال فاقف رسمى أَو حدى)
(تبَارك مَا يَقْضِيه يمضى وَمَا يشا ... يكون بِلَا بَدْء عَلَيْهِ ولابد)
(تقدس مَوْصُوفا وَعز منزها ... وَجل عَن الأغيار منسلب الْفَقْد)
(هُوَ الْوَاجِب الْأَوْصَاف والذات فاطرح ... سواهَا من الْأَقْوَال فهى الَّتِى تردى)
(هُوَ الْحق لَا شئ سواهُ فَمن يزغ ... ضلالا فَإنَّا لَا نزيغ عَن الْقَصْد)
(هُوَ الْفَاعِل الْمُخْتَار لَيْسَ بِمُوجب ... لشئ من الْمَخْلُوق فى أنفس الْفَرد)
(وَلَيْسَ إِلَه الْخلق عِلّة خلقه ... وَلَكِن فعل الله علية الوجد)
(وَلَا نِسْبَة بَين الْعباد وَبَينه ... وَهل عِلّة إِلَّا مُنَاسبَة تجدى)
(هُوَ الْوَاصِل النعاب لطفا بضعفه ... على فَقده من أمه صلَة الوجد)
(هُوَ الْخَالِق الأشباح فى ظلم الحشا ... هُوَ الكافل الطِّفْل الرَّضِيع لَدَى المهد)
(أدر لَهُ من جلدتين لبانه ... ولولاه لم يسق اللبان من الْجلد)
(فهذى فُصُول من أصُول كَثِيرَة ... على قصر النّظم المقصر عَن قصدى)(3/428)
(وَإِلَّا ففى أبحاثه وعلومه ... غوامض أسرار تلوح لذى الرشد)
(أيجحد فضل الأشعرى موحد ... وَمَا زَالَ يهدى من مَعَانِيه مَا يهدى)
(من الْكَلم اللاتى قصمن بحدها ... عرى بَاطِل الْإِلْحَاد كالصارم الهندى)
(فيا جاحدا هَذَا الإِمَام مَحَله ... من الْعلم وَالْإِيمَان وَالْعَمَل المجدى)
(هى الشَّمْس لَا تخفى على عين مُسلم ... سوى مقلة عمياء أَو أعين رمد)
(فوَاللَّه لَوْلَا الأشعرى لقادنا ... ضلالكم الهادى إِلَى أسوإ الْقَصْد)
(جزى الله ذَاك الحبر عَنَّا بفضله ... جَزَاء يرقيه ذرى درج الْخلد)
(وحمدا لربى فَهُوَ مهديه للورى ... وَللَّه أولى بالجميل وبالحمد)
أَيْن حطت مطايا هَذَا الْجَاهِل الغبى والمبطل الغوى والملحد البدعى
(أنخ لى إِلَى مغناه يَا بارق الْهدى ... فقد وقدت بَين الحشا نَار هِجْرَة)
(وصلنى بتعريف مَحل قراره ... لأوصله منى إدامة هجره)
(وأصليه من فكرى بذاكى ذكائه ... أقلبه مِنْهُ على حر جمره)
(وأهديه من داجى الضلال بنير ... ينير لَهُ عندى السرى وَجه فجره)
وَإِلَّا فدله على دلَالَة العصفور على حَبَّة الفخ واهده إِلَى هِدَايَة العادى إِلَى نصل الْجرْح لَا يفهم سِهَام كلامى إِلَيْهِ وأوقد سِهَام كلامى عَلَيْهِ وأفقأ بِالنّظرِ بَاب ناظريه وأفك بالبديهيات ماضغيه وأقفه من ثنايا خطاه على شفا جرف هار وأجنيه من ردايا خطله شَجَرَة خبيثة اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار وأسمه بميسم الصغار وأغره عَن الْأسود بن غفار وأعلمه أَنه فى مَذْهَب أَئِمَّة الْحق ثانى اثنى(3/429)
الْكفَّار إِن لم يكن عين الْكفَّار وأنتصر للثاوى فى جنَّات الله أشرف الِانْتِصَار وأوضح لَهُ أَن لَهُ فى كل زمَان أنصارا من الْأَنْصَار
(إِذا أعملوا أفكارهم نَاب قَوْلهَا ... عَن السَّيْف يَوْم الروع تدمى شفاره)
(وَإِن أظلمت آفَاق خطب بدوا بِهِ ... شموس معَان فاستبان نَهَاره)
وأناقش أَلْفَاظه الَّتِى باعدها من مَعَانِيهَا وأعراضه الَّتِى ثوب بِشَيْطَان الضَّلَالَة داعيها وإشارته الَّتِى نعق فى فِئَة الضَّلَالَة غاويها
(كَمَا صَاح بالمهراس إزب ضَلَالَة ... وَكَانَ لدين الله عَاقِبَة النَّصْر)
(وَمَا برح الْإِيمَان فى كل عصرة ... يكَاد فَهَذَا الْإِرْث فى آخر الْعَصْر)
وَهَا أَنا أناديه من كثب التِّبْيَان بِلِسَان الْبَيَان وأناجيه من وُجُوه الْعلم بمقلة الحسان وأقذى عينه من عَمه قذاها وأغسل فكره من دنس أذاها وَأَرْفَع لَهُ علم إِرَادَة هداها فإمَّا رَجْعَة إِلَى سَبِيل الرشاد عَن غية وَإِمَّا صرعة على مهاد العنا من بغيه
وَاعْلَم أرشدك الله أَن الله وعد مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله وَضمن لَهُ ضَمَان الْحق والصدق فى فرع الْإِيمَان وَأَصله فَتَأمل بِعَين الْإِيمَان وَقَلبه وأصخ إِلَى الْحق إصاخة مسترشد بربه كَيفَ سير الله فى الْعَالم علم هَذَا الْعَالم واستودعه فى الْمَشَارِق والمعارب قُلُوب الْأَعَاجِم والأعارب وَعم بِهِ الْمجَالِس والمدارس وأخرس عَنهُ الباغى المناقب والحاسد المنافس وَجرى بذهنه على الْإِطْلَاق جرى السَّيْل(3/430)
وامتد على الْآفَاق امتداد اللَّيْل وملأ عرض الأَرْض مَا بَين السها وَسُهيْل فَلَا ينْطق ذامه إِلَّا همسا وَلَا يسمع لكَافِر فى الإعلان جرسا
(والستر دون الفاحشات وَمَا ... يلقاك دون الْخَيْر من ستر)
إِنَّمَا يتراضعون بغضه تراضع الفئة الْفَاجِرَة ويتواضعون ذمه تواضع من ذكر الدُّنْيَا ونسى الْآخِرَة لَا يظهرونه إِلَى الإعلان عَن الْأَسْرَار وَلَا تنطق بِهِ شفاههم إِلَّا كأخى السرَار
(ويطوون دَاء الْفضل فى نشر جهلهم ... فأقبح بِذَاكَ الطى فى ذَلِك النشر)
(هم سفهوا آراءنا وإمامنا ... وموعدنا وَالْقَوْم مُجْتَمع الْحَشْر)
ثمَّ انْظُر إِلَى عُلَمَاء الْأمة الَّذين درجوا فى دَرَجَات الإفادة مِنْهُ وتخرجوا بِكَلِمَات الْعلم المنقولة عَنهُ كَيفَ تناقلتهم الْأَعْصَار وتهادتهم الْأَمْصَار وطلعوا فى كل أفق طُلُوع الشَّمْس ونسخوا بمحكمات علومهم كل لبس وقضوا من كشف غوامض الْكتاب وَالسّنة كل حَاجَة فى النَّفس أَئِمَّة تشد إِلَيْهِم الرّحال وتحط وعلماء تدار على أَقْوَالهم معالم الْإِيمَان وتحط كَابْن الباقلانى والإسفراينى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَابْن العربى والغزالى والمادرى وَأَبُو الْوَلِيد والرازى وَغَيرهم مِمَّن اخْتلفت إِلَيْهِ أَعْنَاق الرفاق وملأ بِعِلْمِهِ ظُهُور الظَّوَاهِر وبطون الأوراق وطلع طُلُوع الشَّمْس فى الْآفَاق وتوازر على نَصره السَّيْف والقلم وانتشر عَنهُ الْعلم وانتشر عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ الْعلم بِمَا تأصل(3/431)
من أصُول هَذَا الإِمَام وتفرع من فروعه وتفرق فى أَعْلَام الْأمة من مَجْمُوعَة وأبانه من نجم هدايته الذى مَا أفل من حِين طلوعه وأبداه من دقائق الْعلم الَّتِى دلّت على أَن روح الْقُدس نفث فى روعه
(فأطلعها شمسا أنارت بهديها ... معالم دين الله واسترشد العلما)
(هدت مبصرا فى الدّين وَاضح رشده ... وضل بهَا من كَانَ فى هَذِه أعمى)
إِلَى غير ذَلِك من امتداد باعهم فى الْإِمَامَة وَكَون كل منتسب إِلَى علم يَقع مِنْهُ موقع القلامة
(كل صدر إِذا تصدر يَوْمًا ... شهِدت كل أمة بعلاه)
(وَإِذا مَا ابتدى لفصل جِدَال ... شرف الله من هدى بهداه)
فأرنى إِمَامًا من أَئِمَّة المجسمة لم يجمجم فى أَقْوَاله وَلم يخف إخفاء الْهمزَة مَا بَين حم من ضلاله إِنَّمَا يتواحر بِهِ أنحاء الْيَهُود بأنبائها إِلَى أبنائها ويتهادونه تهادى الفجرة ضَلَالَة إغوائها ويتعاوون بِهِ تعاوى الْكلاب المتجاوبة فى عوائها فأى المذهبين تكفل الله لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى إعلاء كَلمته وأى الْقَوْلَيْنِ أشهر شهرة وأوضح ظهورا فى مِلَّته فاجتن مَا غرسته لَك فى رياض الْعلم ناميا واجتل حسن هديتى إِلَيْك فَإِن كنت مهتديا فقد وجدت هاديا وحذار أَن ترد البضائع مَاؤُهَا عذب وتصدر فى الظهيرة ظاميا وتزيد شمس الدّين وَاضح رشدها(3/432)
فتصد عَنْهَا أخفش متعاميا فَرد مشرع الدّين ليطف من حر نارك وتبصر عين الْيَقِين لتشف من عين عوارك فقد نشرت لَك علم الْعلم لتأتم بآثاره وأوضحت لَك بدر التم لتهتدى بأنواره وَأخذت بحجزتك عَن مهوى الْجَهْل فَلَا تصطلى بناره
(فَإنَّك إِن تفعل فراشة عثة ... أَبَت بعد مس النَّار إِلَّا هلاكها)
(وَقد وضحت شمس الْأَدِلَّة فاستبن ... وَلَا توثقن نفسا بِغَيْر فكاكها)
فَادْخُلْ أَنْت وأشياعك من بَاب سلم التَّسْلِيم وَقُولُوا حطة وتخط بواضح هَذَا التفهيم مدرجة هَذِه الْحِنْطَة وأفق بمداواة هَذَا التَّعْلِيم من مرض هَذِه الخطة وَإِلَّا فَإِن أَعْلَام الْأَئِمَّة منشورة وسيوف الْأَدِلَّة مَشْهُورَة وجيوش عُلَمَاء الْأمة فى المواقف على الْمُلْحِدِينَ منصورة وأعداؤهم مَا بَرحت شبه ضلالتهم بحجج الْحَقَائِق مقهورة {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره}
(فَخذ بيد الْإِيمَان إِن كنت مُؤمنا ... وَخذ بيد الْإِسْلَام إِن كنت مُسلما)(3/433)
(وهاك يدى عهدا عَن الله أَنه ... سيكفيك إِن تابعت رأيى جهنما)
فقد وَالله محضتك النَّصِيحَة مرشدا وَأخذت بِنَفْسِك مغورا فَأخذت بك منجدا
(لأشفيك يَا عَارِيا مُبْطلًا ... بطبى من دائك الممرض)
(وأقضيك عَن عرض هَذَا الإِمَام ... وَإِن كنت للذل لَا تقتضى)
(وأهديك من كَلِمَات الْهدى ... بهادى سنا بارق مومض)
(وأكحلك بالصاب أَو بالجلا ... فَفتح لكحلى أَو غمض)
وَلَو عقلت رشدك وصنت عَن الاغتياب عقدك لحسن بك أَن تتخالف عَن هَذَا المشرع الذميم وتتحلى بِهَذَا العقد النظيم من كَلِمَات الْفَاضِل الْحَكِيم
(لَا تضع من شرِيف قدرا وَإِن كنت ... مشارا إِلَيْك بالتعظيم)
(فالشريف الْعَظِيم ينحط قدرا ... بالتعدى على الشريف الْعَظِيم)
(ولع الْخمر بالعقول رمى الْخمر ... بتنجيسها وبالتحريم)
وَلَا تطرد هَذَا الْقيَاس أيدك الله فى وفيك وَخذ جَوَاب ذَلِك قبل أَن تنطق بِهِ شفتا فِيك فَإِن الله لم يدنك من رتب جلالته وَلَا رقاك إِلَى أقل جُزْء من عالى دَرَجَته
(فَإنَّك لَا تدرى بأية موطن ... وَلَا أى وصف أَنْت فِيهِ من الْخلق)
(سوى أَن قولا مِنْك جَاءَ فدلنا ... على أَن هَذَا القَوْل مَال عَن الْحق)
(وحاد عَن التَّقْوَى وجار على الْهدى ... وجانب فى إعراضه جَانب الصدْق)
(أتهجو إِمَام الْمُسلمين وَقد مضى ... إِلَى الله لَا قدست فى ذَلِك النُّطْق)
(أجدك أَنى فِيك قَالَ فَلَا ترم ... مَكَانك أَو تلقى إِلَى كَمَا ألْقى)
(لتَحكم فِينَا آيَة الْبعد أمرهَا ... فتأفل فى غرب وأطلع فى شَرق)
(وتشرب كأسا من ضلالك بَاغِيا ... فقد أترعت جهلا من المورد الرنق)(3/434)
(عذيرى لَو أَلْقَاك يَوْمًا بنجوة ... ضربتك بِالسَّيْفِ المهند فى الْفرق)
وَاعجَبا لعين عميت عَن نور مَلأ شَرق الأَرْض وغربها وهداية أسبلت على فِئَة الضَّلَالَة غربها وجمعت على الائتمام بِهَذَا الإِمَام عجم الْإِسْلَام وعربها
(فطبق آفَاق الورى فيض فَضله ... وَفَاء عَلَيْهِم بِالْهدى فئ ظله)
(وَقَامَت بحار الْعلم مِنْهُ فَأَصْبَحت ... ووبلك مغمور بقطرة طله)
(إِلَيْك فَهَذَا مورد مَا وردته ... وَرَاءَك حل الْفضل فِيهِ لأَهله)
(فَلَا فرع فى الْإِسْلَام زاك كفرعه ... وَلَا أصل فى الْإِيمَان هاد كَأَصْلِهِ)
(فَمَا انتصرت مِنْهُ مابحث علمه ... على عقله حَتَّى اسْتدلَّ بنقله)
(وَلَا امْتَدَّ إِلَّا من عُلُوم رَسُوله ... وَلَا قَالَ إِلَّا عَن صائح فَضله)
(وَلَا أم إِلَّا معجزات كِتَابه ... إِذا أم بحاث مُجَرّد عقله)
(هُوَ السَّيْف ماضى الشفرتين فخله ... وَإِلَّا فمقتولا أَرَاك بنصله)
هَذِه أيدك الله جالية صدأ الدّين ومقذية عَمه الْعين والعقيدة الآخذة يَمِين الْإِرْشَاد والذخيرة الهادية إِلَى سَبِيل الرشاد أنرت لَك بهَا مسالك سَبِيلك ورميت بشهاب حَقّهَا شَيْطَان تضليلك وجعلتها حجَّة على شبهك ومحجة لدليلك وأجنيتك بهَا روض الْإِيمَان لما حنظلت شجراتك ورويتها نارى الإتقان لما أمرت بمرآتك فاعش إِلَى ضوء نارها وَاقِف محَاسِن آثارها وَضعهَا غرَّة فى جبينك وَاجْعَلْهَا درة فى يَمِينك وأصخ بسمعك إِلَى داعى وَاجِب الْإِجَابَة وأمهد لنَفسك فى مغرس الْإِنَابَة ومقيل الإثابة فَإنَّك خطوت فى بهماء مظْلمَة وسعيت فى دحض مزلة(3/435)
(أَسَأْت وَمن يسئ يَوْمًا يساء ... رويدك فالجزاء بهَا وَرَاء)
(هجوت الأشعرى إِمَام حق ... بفيك الترب فَانْطَلق مَا تشَاء)
(ستعلم أَيّنَا أهْدى سَبِيلا ... إِذا وَقع الْحساب أَو الْجَزَاء)
(وأى المذهبين أصح قولا ... وتنزيها إِذا كشف الغطاء)
(وَتشهد فى الْقِيَامَة أَن ربى ... سيشهد أَنه مِنْكُم برَاء)
(أتزعم أَن رب الْعَرْش فِيهِ ... وتزعم أَن ذَاك لَهُ وعَاء)
(فَإِن ألزمته فِيهِ قرارا ... فَذا زمن وَقد طَال الثواء)
(وَيلْزم أَنه إِن كَانَ فِيهِ ... خلت مِنْهُ البسيطة وَالسَّمَاء)
(وَإِن حركته مِنْهُ تَعَالَى ... فَيلْزمهُ حُدُوث وانتهاء)
(وَيلْزمهُ التنقل فى محَال ... يُعَاقِبهَا خلاء أَو ملاء)
(فَلم تتْرك من التَّشْبِيه شَيْئا ... سوى أَن قيل قد فقد السوَاء)
(فداو الدّين من عَمه ورين ... فَإِن الْعلم وَالتَّقوى دَوَاء)
(فقد صديت فهومكم وصدت ... عَن المثلى وَقد وجد الْجلاء)
(وأمرضها فَسَاد الْعقل مِنْهَا ... مَعَ التَّخْلِيط وَامْتنع الشِّفَاء)
(وَإِن كنت اعتزلت الدّين رَأيا ... تحالفه الشقاوة والغباء)
(وَأثبت الْمَشِيئَة للبرايا ... وَلم تثبت لِرَبِّك مَا يَشَاء)
(وَأنْكرت الْقَضَاء لَهُ انفرادا ... فَقلت لعَبْدِهِ أَيْضا قَضَاء)
(وأوجبت الصّلاح عَلَيْهِ حكما ... يُخَالِفهُ العبيد إِذا أشاءوا)
(فَمن يقْضى عَلَيْهِ إِن عصوه ... أمقهور إلهك أم مسَاء)(3/436)
(وعجزا عَنْهُم أم رفض فرض ... عَلَيْهِ إِن قَوْلكُم هزاء)
(وَإِن تَكُ ملحدا فى الدّين أضحى ... على عينى كِتَابَته غشاء)
(يعاند لَا لِمَعْنى يَقْتَضِيهِ ... سوى أَن جانبته الأتقياء)
(ففى يمنى الشَّرِيعَة سيف حق ... يُؤَيّد نصله أَسد ظماء)
(نطهر ديننَا بدماء قوم ... وَإِن نجست بِهِ تِلْكَ الدِّمَاء)
(فَمَا خفيت وُجُوه الْعلم لَكِن ... هواكم عَم أَو غلب الشَّقَاء)
(وَأَيْضًا غركم شَيْطَان جهل ... ألب بكم وأفئدة هَوَاء)
(ودلالكم غرُورًا فى هواكم ... كَمَا دليت على الرخو الدلاء)
(تَأمل يَا سقيم الْفَهم هَذَا ... فَإِن الْحق لَيْسَ بِهِ خَفَاء)
(وحصرى الحكم إِثْبَاتًا ونفيا ... لمعتل الدَّلِيل بِهِ شِفَاء)
(كأنى بالمجسم يَوْم حشر ... وَقد ضَاقَتْ بِهِ الأَرْض الفضاء)
(فَنَكس رَأسه مِنْهُ حَيَاء ... وَلَكِن فَاتَ فى الدُّنْيَا الْحيَاء)
(سيندم حِين يسْأَله رُجُوعا ... فَيسمع لَا لقد حم الْقَضَاء)
صرف الله قُلُوبنَا عَن غباوة الْخَطَأ وغواية الخطل وبصرنا بهداية الْعَمَل عَن عماية الزلل وَأخذ بِأَيْدِينَا عَن معانقة الأمل إِلَى مراقبة الْأَجَل وأظلنا بِظِل عَرْشه فى الْموقف الجلل وهدانا إِلَى اتِّبَاع خير الرُّسُل وملة أشرف الْملَل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَأَصْحَابه المهتدين بِهِ والهادين إِلَى أشرف السبل وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا
تمت بِحَمْد الله وعونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين(3/437)
ذكر رِسَالَة الشَّيْخ تقى الدّين بن دَقِيق الْعِيد المتضمنة تقريظ هَذِه الرسَالَة
الْمَمْلُوك مُحَمَّد بن على يخْدم الجناب الْكَرِيم العالى المولوى السيدى العالمى العلمى الورعى الأفضلى الأكملى الأبرعى الأورعى المحسنى الضيائى لَا زَالَ بحرا وأنواع المعارف مَأْوَاه بَدْرًا وأوج السَّعَادَة سماؤه قطرا وعزمات المكارم أنواؤه صَدرا مِنْهُ مبدأ الشّرف وَإِلَيْهِ انتهاؤه
(يقوم بنصر الدّين فى كل موطن ... بِهِ راية الْإِسْلَام تعلو وتنصب)
(ويأتى إِلَى روض على دمنة لَهُ ... فتحرقه أنفاسه وَهُوَ معشب)
(فَلَا عدم الْإِسْلَام مثلك ساعيا ... لَهُ رَاعيا مَا الله يرْعَى وَيطْلب)
(إِذا أجمع البدعى فى الغى أمره ... وَأبْصر مَا يمليه فَهُوَ المذبذب)
(وَإِن لَاحَ من تلقائه فى ظلامه ... سنا بارق إطفائه فَهُوَ خلب)
(يُنَادِيه فى تقريبه لضلاله ... مِنْهُ عنقاء مغرب)
(أَبى لى أَن يستهضم الْحق جهرة ... ويخذل أنصار لذاك ومغرب)
(أُولَئِكَ قوم نَص أَن ظُهُورهمْ ... على الْحق مَا داموا النبى المقرب)
خدمَة تقوم بِوَاجِب الْفَرْض ويملأ ثناها ذَات الطول وَالْعرض وَيصدق ودها فَلَا يُرْجَى عَلَيْهِ ثَوَاب وَلَا ينحى بِهِ منحى الْقَرْض وَيثبت عهدها فَإِذا غير النأى المحبين قَالَ هُوَ فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض
(دعاو لَهَا من سالف الود شَاهد ... يصدقهُ مِنْك الضَّمِير وَيقبل)(3/438)
(تدوم على الْأَيَّام والدهر ينقضى ... وتظفر بالبقيا إِذا خَابَ يذبل)
(مَتى تنتهى الأفكار مِنْهُ لغاية ... نظن مداها آخرا وَهُوَ أول)
(ويتلوه من إحسانك الجم شَاهد ... يُزَكِّيه طيب المنتمى ويعدل)
وحسبك بِشَاهِدين مقبولين ومزكى بل حاكمين لَا يخْشَى حكمهمَا نقضا وَلَا حَدِيثهمَا تركا بل علمين شاهدهما من أقبل وَأدبر ونصيرهما من أضْحك وأبكى بل مفردين لَا يقبل إفرادهما تَثْنِيَة وَلَا توحيدهما شركا بل جملتين لَا يحكيهما متكلف وَإِن كَانَت الْجمل قد تحكى وَينْهى وُرُود الْكتاب الْكَرِيم وَالْإِحْسَان العميم وَالْفضل الذى هُوَ عِنْده وَعند الله عَظِيم قرينا للحسناء الَّتِى صادت وصدت الكاس وصدت فى مذهبها فَلم تجر على قَاعِدَة الْقيَاس ونفرت من الْمَمْلُوك وَلَقَد أعد لَهَا الإيناس قبل الإبساس وَعدلت عَن ربعه وَلَو مرت لقَالَ مَا فى وقوفك سَاعَة من باس هجرت والقلوب للهجر تدمى والعيون تتضرج ونشرت ولعهدى بالحسناء تتزين ثمَّ تتبرج وأخفت الْخَالِص من نقدها وَإِنَّمَا يخفى مَا يخَاف أَن يتبهرج ولعلها تصوفت فرجحت عَالم الْغَيْب على عَالم الشُّهُود أَو تفقهت فرأت أَن لَا حرج على الفار إِذا نوى أَن يعود أَو تأدبت فَقَالَ قد يرفض الأَصْل وَيخرج عَن الْمَعْهُود أَو تصرفت فمالت إِلَى الصلف وَمُخَالفَة مَحْبُوب ابْن دَاوُد فَبَاتَ الْمَمْلُوك ليالى بلَيْل المشوق وقلق من بعد مزاره فتعلل بلمح البروق وَكَيف حَال من أجدبت مراعيه(3/439)
وأظلمت مساعيه فَهُوَ ينْتَظر سحبا تريق أَو أنوارا تروق وَلما كَانَ اسْتِقْبَال لَيْلَة عزوبة زفت الْبكر الَّتِى هى من جناب سيدنَا مألوفة وَبَين أهل الْعَصْر غَرِيبَة وأوفت والطفل جانح وَالنَّهَار جامح والغروب لآيَة الْمسَاء شَارِح وإنسان الْعين فى بَحر من العسجد سابح وَحِينَئِذٍ ترك الْمَمْلُوك عَسى وَلَعَلَّ وَرَأى نجم تَعْلِيله قد أفل وَحسن اخْتِيَاره قد اضمحل وَتحقّق أَن الصَّوَاب لمن وفْق غير بعيد وَمن رضى بِاخْتِيَار الله لَهُ فَهُوَ عين السعيد وَقَالَ لنَفسِهِ لَعَلَّ التَّأَخُّر ليجمع الله لَك فى لَيْلَة وَاحِدَة بَين ليلتى عيد فَتلقى راية وَصلهَا بِالْيَمِينِ وَشد يَده عَلَيْهَا لما ظفر بِالْعقدِ الثمين وَرَأى ألفاظها الساحرة تقسم على سلب الْأَلْبَاب فَلَا تمين فَلَو تمثلت أَنا بشئ لقلنا {إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} ولزمها لُزُوم الْخطب للمنابر والمقل للمحاجر والقيظ بِشَهْر ناجر والأعراض لمحالها من الْجَوَاهِر وَلم يقْض وَاجِب الصَّلَاة حَتَّى عرضهَا الْمَمْلُوك واستكملها وَأخذ مَأْخَذ الْعَزْم فَمَا فتر وَلَا لَهَا وَقَالَ لعَينه دُونك فتمتعى بحسناء لن ترى مثلهَا وتعقليه عقل الْأَدَب فَإِن عرض إِشْكَال فمنك وَإِن بهر إِحْسَان فلهَا ثمَّ عزم على أَن يبْنى عَلَيْهَا بِنَاء الأجساد على حليها والرياض على وسميها ووليها والفصحاء من أَبنَاء الْكِرَام على مولى النِّعْمَة ووليها ويجرى فى ذَلِك جواد اللِّسَان ويطمع أَن يَأْخُذ بِطرف من الْإِحْسَان وَحكم أَن لِسَان التَّقْصِير قصير وَمحل سيدنَا من الْفضل كَبِير والخدام فى نشر محاسنه كثير وَنشر سقط الْمَتَاع عين السَّفه وَلَو وقف الْمَمْلُوك عِنْد طوره لما فَاه ببنت شفه(3/440)
وَمن شرع فى أَمر وَلم يكمله فَمَا أنصفه وَالْعجز عَن دَرك الْإِدْرَاك نفس الْإِدْرَاك وَعين الْمعرفَة فَأطَال الله لسيدنا من الْعُمر مداه وأرغم بِهِ أنف المبتدعة فَمَا هم إِلَّا عداهُ وبيض وَجهه بِمَا حبر قلمه وادخر كرامته لما قدمت يَدَاهُ
فصل
وَأما مَا أَشَارَ بِهِ الجناب من رد الْمَمْلُوك على ذَلِك السَّاقِط وَلَو شِئْت لَقلت العافط وَقد كَانَ الْمَمْلُوك عِنْدَمَا رأى هذيانه وَسمع مَا سود من صَحِيفَته وَلسَانه بَادر بتضمين أَبْيَات يسيرَة أسْرع إِلَى مستمليها سيرة ورام أَن يعود عَلَيْهَا بالتنقيح والتهذيب فعجلت بِهِ بادرة الْغيرَة قَالَ
(علمنَا ويك وانكشف الغطاء ... ولاح الْحق لَيْسَ بِهِ خَفَاء)
(وحققنا بأنك غير شكّ ... ضَعِيف الرأى جؤجؤه هَوَاء)
(يرى بتجمع الضدين جهلا ... ويجهل مَا رأى وَالْجهل دَاء)
(وَيثبت مَا نَفَاهُ وَلَيْسَ يدرى ... أأثبت أم نفى فهما سَوَاء)
(فَمَا متكمه لم يبد يَوْمًا ... لَهُ من ضوء بارقة ضِيَاء)
(أَتَت بعد الْمَمَات لَهُ دهور ... فأفناه التمزق والعفاء)(3/441)
(بأعمى مِنْك عَن نظر صَحِيح ... دلائله كَمَا ارْتَفع الضحاء)
(قَلِيل الدّين كَيفَ طعنت فِيمَا ... تناقله الثِّقَات الأتقياء)
(وَأقسم لست تثبت نفى مَا قد ... نفيت وَلَو أطيل لَك النِّسَاء)
(وَطعن الْمَرْء فى الْأَنْسَاب كفر ... كَمَا يرْوى فَهَل غلب الشَّقَاء)
(جعلت الشَّك فِيمَا وَضعه أَن ... تَزُول بِهِ الشكوك والامتراء)
(وطللت الَّذين حموك لما ... تكنفك العدى ودنا العداء)
(فَلَو ردَّتْ إِلَيْك أُمُورهم فى ... مناظرة لجد بك الْبلَاء)
(فقف لخطاك لَا تبلغ مداها ... مقَاما لَا تقوم بِهِ النِّسَاء)
(وخل لملتقى الْأَبْطَال مِنْهُم ... أسودا لَا ينهنهها اللِّقَاء)
(إِذا حَضَرُوا الجلاد أَتَوا بِنَار ... من الأذهان يوقدها الذكاء)
(وأغنوا حَيْثُ لَا تغنى صفاح ... كَمَا أغنوا وَلَا أسل ظماء)
(فكم من ملحد دلوه حَتَّى ... أقرّ بِمَا تَقول الْأَنْبِيَاء)
(وَكم متفلسف قد سفهوه ... فَمَا لقديم فلسفة بَقَاء)
(أَتَوا برواء حكمتهم فَلَمَّا ... أَتَى الْأَشْيَاخ لم تبْق الرواء)
(وَكَانَ الْقَوْم فى حصن منيع ... عَصا ... ... ... ... . . الْهَوَاء)
(فَلَمَّا حاولوه صَار أَرضًا ... سَمَاء الْحصن واستفل الْعَلَاء)
(وَكَيف يكون حَالَة من سواهُم ... إِذا دَان الْخُصُوم الأقوياء)
(وَأما الاعتزال وناصروه ... فَإِن حبال مَا ابتدعوا هباء)(3/442)
(وَكم من رافضى أوردوه ... موارد مَا هَناه بهَا الرواء)
(وَكم من مرجئ أَو خارجى ... تبين أَن قَوْلهمَا هراء)
(وَمثلك قد لقى مِنْهُم مقَاما ... يسود وَجهه ذَاك اللِّقَاء)
(أُولَئِكَ عترتى وَمحل ودى ... وَقد يفضى إِلَى الشّرف اعتزاء)
(رَأَوْا أَن الأساس أهم مِمَّا ... عداهُ فأتقنوه كَيفَ شَاءُوا)
(وأفنوا مُدَّة الْأَعْمَار فِيهِ ... عناء حبذا ذَاك العناء)
(فليتك إِذْ خبرتك لست عندى ... خَلِيلًا من أَمَام وَلَا وَرَاء)
(بعيشك عِنْد نَفسك كَيفَ يبْنى ... بِلَا أصل يقوم بِهِ الْبناء)
(هربت من ابتداع فى اعْتِقَاد ... تدين بِهِ فأوقعك الْقَضَاء)
(لَعَلَّك تكره التَّنْزِيه مِمَّن ... يرَاهُ فَلَيْسَ فِيك لَهُ وَلَاء)
(لَعَلَّك تحسب الرَّحْمَن جسما ... يلازمه التَّغَيُّر والفناء)
(لَعَلَّ الصَّوْت عنْدكُمْ قديم ... مُكَابَرَة تجنبها الْحيَاء)
(وقولا إِن تناقله الأعادى ... لنا سروا بِذَاكَ كَمَا نشَاء)
(نَفينَا فخره عَنَّا وفزتم ... بِهِ فلكم برتبته الهناء)
(هجوت فملت نَحْوك مستفيدا ... وَعند الله فى ذَاك الْجَزَاء)
(فَلَو وافيتنا حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ ... بشيعتنا الْإِقَامَة والثواء)
(وفهت بِمَا نطقت بِهِ لديهم ... أهنت هُنَاكَ إِن حضر الْجلاء)
وأثناء هَذِه البارقة ترادفت الهموم فأظلم اللَّيْل وتكاثفت الأشغال فحطم السَّيْل وَقلت أكتفى للمخذول بِأَن أَقُول بِفِيهِ الْحجر وَله الويل وَلَكِن لما أصبح(3/443)
علم الْهِدَايَة لسيدنا مَنْصُوبًا وأجرى جواد الْبَيَان فى ميدان الْإِحْسَان فَكَانَ بحرا يعبوبا وقدح زناد الْفِكر وَرمى بناره شَيْطَان الْبِدْعَة فأمسى منكوبا فلابد للمملوك أَن يتبع الْأَثر وَيقْضى تِلْكَ الْحُقُوق وينصر أَبَا الرّوح كَمَا ينصر أَبَا الْجَسَد فكلاهما محرم العقوق وَيسْرق وقتا لذَلِك السَّبَب وَإِن كَانَت الْمَوَانِع تقوم والعوائق تعوق ويقطعه عَن أَمْثَاله وأشغاله وَمن الْعَجَائِب أَن يقطع الْمَسْرُوق
224 - على بن الْحسن بن مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه بن سنجان
بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَإِسْكَان النُّون بعْدهَا جِيم ثمَّ ألف ثمَّ نون كَذَا ضَبطه ابْن الصّلاح بِخَطِّهِ السنجانى
القاضى أَبُو الْحسن المروزى
قَالَ الْحَاكِم كَانَ أحد فُقَهَاء الشافعيين
سمع أَبَا الموجه مُحَمَّد بن عَمْرو الفزارى وأقرانه بمرو
وبالعراق يُوسُف بن يَعْقُوب القاضى وأقرانه
روى عَنهُ مَشَايِخنَا الْحِكَايَة بعد الْحِكَايَة وَلم يبلغ التحديث
ورد نيسابور قَاضِيا بهَا سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة(3/444)
سَمِعت أَبَا الْحسن على بن أَحْمد العروضى الْفَقِيه يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن السنجانى قاضينا يَقُول سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس بن سُرَيج يَقُول يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالشافعى وَقد تعلق بالمزنى يَقُول رب هَذَا أفسد علومى فَأَقُول أَنا مهلا بأبى إِبْرَاهِيم فإنى لم أزل فى إصْلَاح مَا أفْسدهُ
سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن يَقُول عرض على بنيسابور فِي حُكُومَة وَاحِدَة ألف دِرْهَم فرددتها وتعجبت من أَمر نيسابور ثمَّ قُمْت فَصليت رَكْعَتَيْنِ وشكرت الله على مَا وفقنى لَهُ
هَذَا كَلَام الْحَاكِم
وَذكره أَبُو حَفْص عمر بن على المطوعى فى كِتَابه الْمَذْهَب فى ذكر شُيُوخ الْمَذْهَب فَقَالَ أَبُو الْحسن على بن الْحسن بن سنجان السنجانى قَاض جليل الْقدر نابه الذّكر من أَصْحَاب أَبى الْعَبَّاس وَمن أحفظهم للأقاويل والتوجيهات وتقلد الْقَضَاء بنيسابور انْتهى
وَمن خطّ ابْن الصّلاح فى الْمُنْتَخب الذى انتخبه من الْمَذْهَب نقلته وَضبط بِخَطِّهِ سنجان بِفَتْح السِّين وَإِسْكَان النُّون بعْدهَا ثمَّ الْجِيم(3/445)
225 - على بن الْحُسَيْن بن حَرْب بن عِيسَى البغدادى القاضى أَبُو عبيد بن حربويه
قاضى مصر وَأحد أَرْكَان الْمَذْهَب وَهُوَ من تلامذة أَبى ثَوْر وَدَاوُد إِمَام الظَّاهِر عَنْهُمَا حمل الْعلم
سمع أَحْمد بن الْمِقْدَام العجلى ويوسف بن مُوسَى وَالْحسن بن عَرَفَة وَزيد ابْن أخزم وَالْحسن بن مُحَمَّد الزعفرانى
روى عَنهُ أَبُو عمر بن حيويه وَأَبُو بكر بن الْمُقْرِئ وَعمر بن شاهين وَجَمَاعَة
قَالَ أَبُو حَفْص المطوعى فى كتاب الْمَذْهَب إِنَّه تخرج بأبى ثَوْر
قَالَ وَكَانَ من خَواص أَصْحَابه وَكَانَ يسْلك مناهجه فى الاختيارات الَّتِى اخْتصَّ بهَا والتخريجات الَّتِى تفرد باستنباطها ذكر ذَلِك فى ذكر أَبى ثَوْر ثمَّ ذكر فى ذكر ابْن حربويه قَالَ هُوَ حَسَنَة أَبى ثَوْر والسالك لسبيله وَكَانَت الْخُلَفَاء ترفع مَجْلِسه انْتهى
وَقَالَ البرقانى ذكرته للدارقطنى فَذكر من جلالته وفضله وَقَالَ حدث عَنهُ النسائى فى الصَّحِيح لم يحصل لى عَنهُ حرف وَقد مَاتَ بعد أَن كتبت بِخمْس سِنِين
وَقَالَ أَبُو سعيد بن يُونُس هُوَ قاضى مصر أَقَامَ بهَا طَويلا وَكَانَ شَيْئا عجيبا مَا رَأينَا مثله لَا قبله وَلَا بعده وَكَانَ يتفقه على مَذْهَب أَبى ثَوْر وعزل عَن الْقَضَاء سنة إِحْدَى عشرَة لِأَنَّهُ كتب يستعفى وَوجه بذلك رَسُولا إِلَى بَغْدَاد وأغلق بَابه وَامْتنع(3/446)
من الحكم فأعفى فَحدث حِين جَاءَ عَزله وأملى مجَالِس وَرجع إِلَى بَغْدَاد وَكَانَ ثِقَة ثبتا
قلت كَانَ رَسُوله إِلَى بَغْدَاد بالاستعفاء أَبُو بكر بن الْحداد وَرجع إِلَيْهِ وَلم يعف لِأَن الْوَزير إِذْ ذَاك أَبى أَن يعفيه فَمَا عَاد ابْن الْحداد إِلَى مصر إِلَّا وَقد ولى وَزِير غير ذَلِك الْوَزير وَهُوَ ابْن الْفُرَات وَكَانَ يكره أَبَا عبيد فَصَرفهُ بعد أَن كَانَ لَهُ فى قَضَاء مصر أَزِيد من ثمانى عشرَة سنة
وَكَانَ مهيبا مصمما مضبوط الْكَلِمَات قليلها وافر الْحُرْمَة لم يره أحد يَأْكُل وَلَا يشرب وَلَا يلبس وَلَا يغسل يَده إِنَّمَا يفعل ذَلِك فى خلْوَة وَهُوَ مُنْفَرد بِنَفسِهِ وَلَا رَآهُ أحد يمتخط وَلَا يبصق وَلَا يحك جِسْمه وَلَا يمسح وَجهه وَكَانَ عَلَيْهِ من الْوَقار والهيبة والحشمة مَا يتذاكره أهل بَلَده
وَقَالَ ابْن زولاق كَانَ عَالما بالاختلاف والمعانى وَالْقِيَاس عَارِفًا بِعلم الْقُرْآن والْحَدِيث فصيحا عَاقِلا عفيفا قوالا بِالْحَقِّ سَمحا منقبضا وَكَانَ رزقه فى الشَّهْر مائَة وَعشْرين دِينَارا وَكَانَ يُورث ذوى الْأَحْكَام وَولى قَضَاء وَاسِط قبل مصر وَكَانَ أَمِير مصر يأتى إِلَى دَاره
قَالَ وَهُوَ آخر قَاض ركب إِلَيْهِ الْأُمَرَاء بِمصْر وَلم يكن شكل أَبى عبيد بهيا فَكَانَ من رَآهُ رُبمَا استزراه حَتَّى يسمع كَلَامه وفصاحة لِسَانه فَيَقَع من قلبه إِذْ ذَاك أعظم موقع وَكَانَ ابْن الْحداد كثير المخالطة لَهُ والتعظيم لَهُ وَله بِهِ خُصُوصِيَّة
قَالَ ابْن الْحداد قدم أَبُو عبيد إِلَى مصر فرأيته فى الطَّرِيق فى جملَة النظارة فَمَا أعجبنى زيه وَلَا منظره ثمَّ دخل شهر رَمَضَان وَكُنَّا عِنْد أَبى الْقَاسِم بشر بن نصر الْفَقِيه غُلَام عرق فَدخل مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الْفَقِيه مهنئا لَهُ بِشَهْر رَمَضَان فَقيل لَهُ من أَيْن(3/447)
أَقبلت فَقَالَ من عِنْد القاضى هنأته بِدُخُول الشَّهْر قَالَ ابْن الْحداد فَقلت لَهُ كَيفَ رَأَيْت القاضى قَالَ رَأَيْت رجلا عَالما بِالْقُرْآنِ وَالْفِقْه والْحَدِيث وَالِاخْتِلَاف ووجوه المناظرات وعالما باللغة والعربية وَأَيَّام النَّاس عَاقِلا ورعا زاهدا مُتَمَكنًا فَقلت لَهُ هَذَا يحيى بن أَكْثَم فَقَالَ الذى عندى قلت لَك
قَالَ ابْن الْحداد ثمَّ دخلت إِلَيْهِ فَوجدت منصورا مقصرا فى وَصفه
توفى فى صفر سنة تسع عشرَة وثلاثمائة بِبَغْدَاد وَصلى عَلَيْهِ أَبُو سعيد الاصطخرى
وَمن الرِّوَايَة والفوائد والغرائب وَالْملح عَنهُ
أخبرنَا الْمسند أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن على الجزرى سَمَاعا عَلَيْهِ أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الهادى إجَازَة عَن أَبى طَاهِر السلفى أخبرنَا القاضى أَبُو عمر مَسْعُود ابْن على بن الْحُسَيْن الملحى بأردبيل أخبرنَا أَبُو على مُحَمَّد بن وشاح بن عبد الله الْكَاتِب بِبَغْدَاد أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن على بن دَاوُد بن الْجراح الْوَزير حَدثهُ أَبُو عبيد على بن الْحُسَيْن بن حَرْب القاضى حَدثنَا زَكَرِيَّا بن يحيى الكوفى حَدَّثَنى عبد الله بن صَالح اليمانى حَدثنِي أَبُو همام القرشى عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا أَبَا هُرَيْرَة علم النَّاس الْقُرْآن وتعلمه فَإنَّك إِن مت وَأَنت كَذَلِك زارت الْمَلَائِكَة قبرك كَمَا يزار الْبَيْت الْعَتِيق وَعلم النَّاس سنتى وَإِن كَرهُوا ذَلِك وَإِن أَحْبَبْت أَن لَا توقف على الصِّرَاط طرفَة عين حَتَّى تدخل الْجنَّة فَلَا تحدث فى دين الله حَدثا بِرَأْيِك)(3/448)
لَيْسَ لطارق بن شهَاب عَن أَبى هُرَيْرَة شئ فى الْكتب السِّتَّة
قيل إِن أَبَا عبيد قَالَ لأبى جَعْفَر الطحاوى وَقد رَآهُ يصمم على مقاله يَا أَبَا جَعْفَر أما علمت أَن من لَا يُخَالف إِمَامه فى شئ عصى قَالَ نعم أَيهَا القاضى وغبى
نقل المطوعى والجورى أَن أَبَا عبيد أوجب الْكَفَّارَة على من حرم مَالا لَهُ من ثوب أَو دَار وَمَا أشبههما وَسوى بَين ذَلِك وَتَحْرِيم الْبضْع من الزَّوْجَة
قَالَ العبادى حكم أَبُو عبيد بِأَن الْوَلَد يلْحق بالخصى إِذا لم يكن مجبوبا فَرفع الخصى الْوَلَد ونادى عَلَيْهِ بِمصْر أَلا إِن القاضى يلْحق أَوْلَاد الزِّنَا بالخدم
قلت وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الْحِكَايَة عَن أَبى عبد الله الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَطِيَّة ابْن سعد العوفى قاضى الشرقية بِبَغْدَاد ثمَّ قاضى عَسْكَر المهدى وَهُوَ مُتَقَدم مَاتَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ
قَالَ الْحَارِث بن أَبى أُسَامَة حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ جَاءَت امْرَأَة إِلَى العوفى فساق الْحِكَايَة ولعلها اتّفقت للقاضيين
وَالظَّاهِر فى الْمَذْهَب أَن المسلول الخصيتين الباقى الذّكر كالفحل فى لُحُوق النّسَب فَمَا حكم أَبُو عبيد إِلَّا بِالْمذهبِ الظَّاهِر وَلَعَلَّ الذى حكم بِهِ أَبُو عبيد والعوفى إِنَّمَا هُوَ فى الْمَمْسُوح وَهُوَ فَاقِد الذّكر والأنثيين جَمِيعًا بِالْكُلِّيَّةِ وَمَعَ ذَلِك هُوَ قَول للشافعى اخْتَارَهُ بعض الْأَصْحَاب وَإِلَّا فَلَو كَانَ فى الخصى الباقى الذّكر لما استغربه أَبُو عَاصِم فليحقق ذَلِك
وَقد أَطَالَ ابْن زولاق فى ذكر أَخْبَار القاضى أَبى عبيد وَالثنَاء على محاسنه وَقَول أهل مصر إِنَّهُم لم يرَوا قبله وَلَا بعده قَاضِيا مثله قَالَ وَكَانَ يذهب إِلَى قَول أَبى ثَوْر ثمَّ صَار يخْتَار فَجَمِيع أَحْكَامه بِمصْر بِاخْتِيَارِهِ وَحكم بِمصْر بِأَحْكَام لَو حكم بهَا غَيره(3/449)
لأنكر عَلَيْهِ فَمَا أنكر عَلَيْهِ أحد لِأَن أَبَا عبيد كَانَ رجلا لَا يطعن عَلَيْهِ فى علم وَلَا تلْحقهُ ظنة فى رشوة وَلَا يَحِيف فى حكم وَكَانَ يُورث ذوى الْأَرْحَام
قَالَ ابْن الْحداد وَمَا كَانَ أَبُو عبيد يُؤمر أحدا بل إِذا ذكر تكين أَمِير مصر يَقُول أَبُو مَنْصُور تكين وَلَا يَقُول الْأَمِير قَالَ وَكَانَ إِذا ركب لَا يلْتَفت وَلَا يتحدث مَعَ أحد وَلَا يصلح رِدَاءَهُ وَركب مرّة إِلَى أَمِير مصر تكين وَهُوَ بالجيزة فى كاينة اتّفقت لَهُ فَقيل لَهُ قد رأى القاضى النّيل فَقَالَ قد سَمِعت خرير المَاء
قلت فَللَّه در قَاض أَقَامَ بِمصْر ثمانى عشرَة سنة لم يبصر النّيل وَكَانَت الكاينة الَّتِى خرج فِيهَا تكين إِلَى الجيزة قد قتل فِيهَا فى الْوَاقِعَة على ماقيل نَحْو من خمسين ألفا أَرَادَ تكين أَن يحْفر لَهُم خَنْدَقًا ويدفنهم فَخرج إِلَيْهِ القاضى وَقَالَ إِنَّك إِن فعلت ذَلِك تلفت الْمَوَارِيث وَلَكِن نَاد فى النَّاس من لَهُ قَتِيل يَأْخُذهُ فَفعل تكين مَا قَالَه
قَالَ ابْن زولاق وَجرى للقاضى فى هَذَا الْخُرُوج إِلَى الجيزة خبر عَجِيب حركه الْبَوْل وَهُوَ رَاجع فَعدل إِلَى بُسْتَان فَنزل وبال واستنجى وَتَوَضَّأ من مَائه ثمَّ انْصَرف ثمَّ سَأَلَ بعد أَيَّام عَن الْبُسْتَان فَقيل لفلانة فَأرْسل إِلَيْهَا يستأذنها على الْحُضُور إِلَيْهَا فارتاعت لذَلِك وَقَالَت أَنا أركب إِلَيْهِ وَكَانَت من أهل الأقدار فَأبى فَركب إِلَيْهَا أَبُو عبيد وَقد فرشت لَهُ الدَّار وحسنتها فَقَالَ لَهَا الْبُسْتَان لَك وَحدك بِلَا شريك فَقَالَت نعم وَأَنا الَّتِى أسقيه من مائى قَالَ فَأَنا نزلت فى أرضه وتوضأت من مَائه فخذى ثمن ذَلِك فَبَكَتْ وَقَالَت أَيهَا القاضى أَنْت فى حل وَلَو علمت أَن القاضى يقبله هَدِيَّة لأهديته إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا عَن طيب نفس تركت وَلم تتركى ذَلِك لأجل القاضى وحرمته فَقَالَت نعم فَانْصَرف(3/450)
وَحكى ابْن زولاق أَشْيَاء من هَذَا الْجِنْس دَالَّة على تصلبه فى الْوَرع وَأَشْيَاء أخر دَالَّة على شدته فى الْحق وَأَشْيَاء أخر دَالَّة على تصميمه ووقاره وهيبته وَأَنه كَانَ ينْهَى أَن يتَلَفَّظ لافظ فى مَجْلِسه بِذكر الطَّعَام أَو النِّسَاء
قَالَ وَمكث فى مصر ثمانى عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر مَا رَآهُ رَاء يَأْكُل وَلَا يشرب
وَذكر أَن تواقيعه جمعت وكتبت لفصاحتها وبلاغتها وَأَنه كَانَ إِذا تكلم بِكَلِمَة طارت فى الْبَلَد إعجابا بهَا
وَمن مليح توقيعاته
رفع إِلَيْهِ أَن امْرَأَة امْتنعت من السّفر مَعَ زَوجهَا فَوَقع إِلَى كَاتبه إِن لم يكن لَهَا مهر عَلَيْهِ بَاقٍ وَلم يكن بَينهمَا شقَاق يدعوهما إِلَى مساوئ الْأَخْلَاق فَلهُ أَن يخرج بهَا إِلَى جَمِيع الْآفَاق
وَكتب إِلَيْهِ خَلِيفَته الْحسن بن صَالح البهنسى إِن جمَاعَة ذمونى عِنْد القاضى فَكتب إِلَيْهِ أَبُو عبيد لَو كَانَ المادحون لَك بِعَدَد الذامين الزارين عَلَيْك لما نقصك ذَلِك عندى فَكيف والمثنون عَلَيْك أَضْعَاف الذامين وَسَأَلْتُك بِاللَّه أَلا يزيدك كتابى إِلَّا تواضعا وَلَا تقَعْقع بِكِتَاب قاضيك على رعيتك فتضعف قُلُوبهم فَإِنَّمَا قربك منى قربك من الْحق وَمَتى بَعدت مِنْهُ بَعدت من قلبى وَالسَّلَام
وَكَانَ أَبُو بكر بن الْحداد كثير الإجلال للقاضى أَبى عبيد بِحَيْثُ لَا يَقُول لَهُ إِلَّا القاضى غيبَة وحضورا فى حَيَاته وَبعد وَفَاته وَإِذا قيل لَهُ من القاضى غضب وَيَقُول إِنَّمَا القاضى أَبُو عبيد(3/451)
وَمن قضايا أَبى عبيد
شكت إِلَيْهِ امْرَأَة كبر آلَة زَوجهَا وَأَنَّهَا لَا تُطِيقهُ فَأمر شَاهدا بالكشف عَن ذَلِك ثمَّ فرق بَينهمَا
كَذَا نقل النقلَة فإمَّا أَن يكون فرق بَينهمَا بِمَعْنى أَن توَسط بَينهمَا واسترضى خاطر الزَّوْج حَتَّى طَلقهَا وَإِمَّا أَن يكون للْمَرْأَة الْفَسْخ بكبر آلَة الزَّوْج وَهَذَا غَرِيب لَا أعرف من قَالَ بِهِ
وَمِمَّا يحْكى فى تصميمه أَن مؤنسا الْخَادِم وَهُوَ أكبر أُمَرَاء المقتدر وَكَانَ فى خدمته سَبْعُونَ أَمِيرا سوى أَصْحَابه وَكَانَ يخْطب لَهُ على جَمِيع المنابر مَعَ الْخَلِيفَة ورد إِلَى مصر فى عَسْكَر كَبِير فَعرض لَهُ ضعف فَأرْسل إِلَى القاضى يطْلب مِنْهُ شُهُودًا يشهدهم عَلَيْهِ أَنه أوصى بوقف قرى كَثِيرَة على سَبِيل الْبر وبعتق سِتّمائَة مَمْلُوك وبأنواع من الْخَيْر فَقَالَ القاضى حَتَّى يثبت عندى أَن مؤنسا حر
هَذَا ومؤنس أكبر أُمَرَاء الْإِسْلَام فصمم القاضى وَقَالَ إِن لم يرد على كتاب المقتدر أَنه أعْتقهُ وَإِلَّا فَلَا أفعل
وَمن ذَلِك أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتدر كتب كتابا إِلَى القاضى فوصل الْكتاب إِلَى مؤنس فاستدعى بعض الْأُمَرَاء ليوصله إِلَى القاضى فهاب القاضى فدعى تكين أَمِير مصر وَحمله أَن يذهب إِلَى القاضى ويوصل الْكتاب إِلَيْهِ فَأتى إِلَى القاضى وأومى بِيَدِهِ إِلَى أَن نَاوَلَهُ الْكتاب فَقَالَ القاضى مَا هَذَا
فَقَالَ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقَالَ أَمن يدك فَقَالَ بلَى
فَقَالَ بل من يَد شَاهِدين عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنه كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ(3/452)
وَذكر أَن شخصا يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم أصبح فى منزله يَوْمًا جنبا لَيْسَ مَعَه شىء يدْخل بِهِ الْحمام قَالَ فَخرجت رَجَاء صديق يدخلنى الْحمام فَإِذا بغريم على بابى يطالبنى بِخَمْسَة دَنَانِير فَحَدَّثته حَدِيثي فَقَالَ مَا نفترق إِلَّا إِلَى القاضى فتوجهنا إِلَى القاضى أَبى عبيد فوجدناه خَارِجا من الْمَسْجِد وَبَين يَدَيْهِ غُلَام أسود خصى فَقَالَ لَهُ خصمى أيد الله القاضى انْظُر فى أمرى فإنى بت على بابك
والقاضى مطرق لَا ينظر إِلَيْنَا حَتَّى دخل دَاره وَلَيْسَ على بَابه حَاجِب وَلَا أحد ثمَّ خرج إِلَيْنَا الْغُلَام وَقَالَ ادخلا فَدَخَلْنَا فوجدناه جَالِسا فى وسط مَجْلِسه فَقَالَ تكلما فسبقت أَنا فصرت الْمُدعى فَقَالَت أيد الله القاضى لى على هَذَا خَمْسَة دَنَانِير
فَقَالَ مصرية
فَقلت نعم
فَقَالَ حَالَة
فَقلت نعم فَقَالَ للخصم مَا تَقول فَضَحِك مُتَعَجِّبا فصاح القاضى صَيْحَة مَلَأت الدَّار وَقَالَ مِم تضحك لَا أضْحك الله سنك وَيحك تضحك فى مجْلِس الله مطلع عَلَيْك فِيهِ وَيحك تضحك وقاضيك بَين الْجنَّة وَالنَّار فأرعب القاضى الرجل وَقَالَ أَنا أدفَع إِلَيْهِ قُم فقمنا فَلَمَّا خرج قَالَ لى امْضِ فَأَنت فى حل فَقلت مَا نفترق إِلَّا بِخَمْسَة دَنَانِير ارْجع بِنَا إِلَى القاضى فأعطانى دِينَارا وَمرض ثَلَاثَة أشهر فَكنت إِذا عدته يَقُول لى صَيْحَة القاضى فى قلبى إِلَى السَّاعَة وأحسبها تقتلنى
وَمن الْمسَائِل عَن القاضى أَبى عبيد
مَسْأَلَة اجْتِنَاب الْحَائِض
حكى الرافعى فى كتاب النِّكَاح عَن أَبى عبيد بن حربويه أَنه تتجنب الْحَائِض فى جَمِيع بدنهَا لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَلم يحك هَذَا فى بَاب الْحيض(3/453)
وَقَالَ النووى إِن قَول أَبى عبيد هَذَا غلط فَاحش مُخَالف للأحاديث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اصنعوا كل شىء إِلَّا النِّكَاح) وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُبَاشر فَوق الْإِزَار قَالَ وَقد خَالف قَائِله إِجْمَاع الْمُسلمين
قَالَ ابْن الرّفْعَة الْإِجْمَاع إِن صَحَّ فالغلط فَاحش وَإِن لم يَصح فَفِيهِ للبحث مجَال لِأَن الشافعى قَالَ فى الْأُم فى الْجُزْء الرَّابِع عشر فى بَاب مَا ينَال من الْحَائِض تحْتَمل الْآيَة فاعتزلوا فروجهن لما وصف من الْأَذَى وتحتمل اعتزال فروجهن وَجَمِيع أبدانهن فروجهن وَبَعض أبدانهن دون بعض وَأظْهر مَعَانِيه اعتزال أبدانهن كلهَا
وَإِذا كَانَ هَذَا ظَاهر الْآيَة فَمَا ذكر من مُبَاشرَة النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للحائض فِيمَا فَوق الْإِزَار يجوز أَن يكون من خَصَائِصه كَيفَ وَسِيَاق الْآيَة يصرفهَا إِلَى الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَالظَّاهِر أَن قَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} من جملَة مَا أَمر أَن يَقُوله لَهُم وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ غير دَاخل بِاللَّفْظِ فيهم وَإِن قَالَ بَعضهم إِنَّه يَشْمَلهُ الْخطاب لكنه من غير اللَّفْظ وَإِذا كَانَ غير دَاخل فيهم فَلَا يكون فعله مُبينًا لَهُ مُقَيّدا أَو مُخَصّصا لما اقْتَضَاهُ ظَاهر الْآيَة فيهم
وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (اصنعوا كل شىء إِلَّا النِّكَاح) فَلَعَلَّ أَبَا عبيد يحمل النِّكَاح على الْمُبَاشرَة بآلته وَهُوَ الذّكر وَلَا يَخُصُّهُ بِمحل بل يجريه فى جَمِيع الْبدن كَمَا هُوَ ظَاهر الْآيَة وَيكون قَائِلا بِإِبَاحَة الْقبْلَة والمعانقة وَنَحْوهمَا وَيحمل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك(3/454)
وعَلى الْجُمْلَة فمذهب أَبى عبيد مَرْجُوح وَنَصّ الشافعى فى الْأُم فى الْجُزْء الرَّابِع عشر فى بَاب إتْيَان الْحَائِض على خِلَافه فَإِنَّهُ قَالَ إِن الْآيَة وَإِن احتملت الْجِمَاع وَغَيره فالجماع أظهر لِأَن الله تَعَالَى أَمر بالاعتزال ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقربوهن} فَأشبه أَن يكون أمرا بَينا وَلِهَذَا نقُول بالاستدلال بِالسنةِ انْتهى كَلَامه فى الْمطلب
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس اللغوى فى جُزْء لَهُ لطيف سَمَّاهُ فتيا فَقِيه الْعَرَب يرويهِ الْخَطِيب البغدادى عَن القاضى أَبى زرْعَة روح بن مُحَمَّد الرَّازِيّ عَن ابْن فَارس قَالَ سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْفَقِيه يَقُول ادّعى رجل مَالا بِحَضْرَة أَبى عبيد بن حربويه فَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ مَاله على حق بِضَم اللَّام فَقَالَ أَبُو عبيد أتعرف الْإِعْرَاب قَالَ نعم قُم قد ألزمتك المَال انْتهى
قَالَ وهى مَسْأَلَة غَرِيبَة وَحكمهَا مُتَّجه(3/455)
226 - على بن الْحُسَيْن بن على المسعودى
صَاحب التواريخ كتاب مروج الذَّهَب فى أَخْبَار الدُّنْيَا وَكتاب ذخائر الْعُلُوم وَكتاب الاستذكار لما مر من الْأَعْصَار وَكتاب التَّارِيخ فى أَخْبَار الْأُمَم وَكتاب أَخْبَار الْخَوَارِج وَكتاب المقالات فى أصُول الديانَات وَكتاب الرسائل وَغير ذَلِك
قيل إِنَّه من ذُرِّيَّة عبد الله بن مَسْعُود رضى الله عَنهُ
أَصله من بَغْدَاد وَأقَام بهَا زَمَانا وبمصر أَكثر
وَكَانَ أخباريا مفتيا عَلامَة صَاحب ملح وغرائب
سمع من نفطويه وَابْن زبر القاضى وَغَيرهمَا
ورحل إِلَى الْبَصْرَة فلقى بهَا أَبَا خَليفَة الجمحى وَلم يعمر على ماذكر
وَقيل إِنَّه كَانَ معتزلى العقيدة
مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين أَو سِتّ وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَهُوَ الذى علق عَن أَبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج رِسَالَة الْبَيَان عَن أصُول الْأَحْكَام وَهَذِه الرسَالَة عندى نَحْو خمس عشرَة ورقة ذكر المسعودى فى أَولهَا أَنه حضر مجْلِس أَبى الْعَبَّاس بِبَغْدَاد فى علته الَّتِى مَاتَ بهَا سنة سِتّ وثلاثمائة وَقد حضر الْمجْلس لعيادة أَبى الْعَبَّاس جمَاعَة من حذاق الشافعيين والمالكيين والكوفيين والداوديين وَغَيرهم من(3/456)
أَصْنَاف الْمُخَالفين فَبَيْنَمَا أَبُو الْعَبَّاس يكلم رجلا من المالكيين إِذْ دخل عَلَيْهِ رجل مَعَه كتاب مختوم فَدفعهُ إِلَى القاضى أَبى الْعَبَّاس فقرأه على الْجَمَاعَة فَإِذا هُوَ من جمَاعَة الْفُقَهَاء المقيمين بِبِلَاد الشاش يعلمونه أَن النَّاس فى ناحيتهم أَرض شاش وفرغانة مُخْتَلفُونَ فى أصُول فُقَهَاء الْأَمْصَار مِمَّن لَهُم الْكتب المصنفة والفتيا ويسألونه رِسَالَة يذكر فِيهَا أصُول الشافعى وَمَالك وسُفْيَان الثورى وأبى حنيفَة وصاحبيه وَدَاوُد بن على الأصبهانى وَأَن يكون ذَلِك بِكَلَام وَاضح يفهمهُ العامى فَكتب القاضى هَذِه الرسَالَة ثمَّ أمْلى فِيمَا ذكر المسعودى عَلَيْهِم بَعْضهَا وَعجز لضَعْفه عَن إملاء الباقى فقرىء عَلَيْهِ والمسعودى يسمع
227 - على بن الْحسن القاضى أَبُو الْحسن الجورى
والجور بِضَم الْجِيم ثمَّ الْوَاو الساكنة ثمَّ الرَّاء بَلْدَة من بِلَاد فَارس
أحد الْأَئِمَّة من أَصْحَاب الْوُجُوه
لقى أَبَا بكر النيسابورى وَحدث عَنهُ وَعَن جمَاعَة
وَمن تصانيفه كتاب المرشد فى شرح مُخْتَصر المزنى أَكثر عَنهُ ابْن الرّفْعَة وَالْوَالِد رحمهمَا الله النَّقْل وَلم يطلع عَلَيْهِ الرافعى وَلَا النووى رحمهمَا الله وَقد أَكثر فِيهِ من ذكر أَبى على بن أَبى هُرَيْرَة وَأَضْرَابه
وَذكر ابْن الصّلاح أَنه وقف على كتاب لَهُ اسْمه الموجز على تَرْتِيب الْمُخْتَصر يشْتَمل على حجاج مَعَ الْخُصُوم اعتراضا وجوابا اخْتَار فِيهِ أَن الزانى والزانية لَا يَصح(3/457)
نِكَاحهمَا إِلَّا لمن هُوَ مثلهمَا وَأَن الزِّنَا لَو طَرَأَ من أَحدهمَا بعد العقد انْفَسَخ النِّكَاح
وَحكى قَوْلَيْنِ فى وجوب نَفَقَة الْكَافِر على الابْن الْمُسلم
قلت الْخلاف مَشْهُور وَالصَّحِيح الْوُجُوب
قلت وَحكى أَيْضا قَوْلَيْنِ فِيمَا إِذا قَالَ أَنْت على حرَام أَحدهمَا تجب الْكَفَّارَة بِنَفس قَوْله أَنْت على حرَام والثانى لَا تجب إِلَّا بِالْوَطْءِ لِأَن بِهِ تقع الْمُخَالفَة كَمَا يَحْنَث فى الْيَمين
وَقَالَ الصَّحِيح عندى جَوَاز عقد الشّركَة على الْعرُوض
وَقَالَ فِيمَا إِذا علق الطَّلَاق على محبتها أَو بغضها فَقَالَت أَنا أحبك أَو أبغضك وكذبها إِنَّه لَا يَقع الطَّلَاق وَجزم بِهِ وَفرق بَينه وَبَين الْحيض بِأَنَّهَا مؤتمنة فِيهِ وَالْحب والبغض لَيْسَ مِمَّا ائتمنت عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَلَو قَالَ قَائِل يقبل قَوْلهَا فى ذَلِك قِيَاسا على الْحيض وَالْحمل لِأَن الْحبّ والبغض مِمَّا لَا يُوصل إِلَى علمه إِلَّا مِنْهَا لَكَانَ مذهبا انْتهى
وَالْقَوْل بِقبُول قَوْلهَا هُوَ الذى جزم بِهِ الرافعى تبعا لأكْثر الْأَصْحَاب(3/458)
228 - على بن عبد الْعَزِيز بن الْحسن بن على بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْحسن الجرجانى
قاضى جرجان ثمَّ قاضى الرى وَالْجَامِع بَين الْفِقْه وَالشعر لَهُ ديوَان مَشْهُور وَكَانَ حسن الْخط فصيح الْعبارَة وَهُوَ مُصَنف كتاب الوساطة بَين المتنبى وخصومه
ورد نيسابور سنة سبع وَثَلَاثِينَ مَعَ أَخِيه فى الصِّبَا وسمعا على الشُّيُوخ
ذكره الشَّيْخَانِ أَبُو إِسْحَاق الشيرازى وَقَالَ كَانَ فَقِيها شَاعِرًا وَأَبُو عَاصِم وَقَالَ صنف كتابا فى الْوكَالَة وَفِيه أَرْبَعَة آلَاف مَسْأَلَة
قَالَ وَحكى عَن المزنى أَن التَّوْكِيل فى الظِّهَار وَالرَّجْعَة لَا يجوز
قلت وَهُوَ وَجه مَشْهُور
وَقد ولى أَبُو الْحسن هَذَا قَضَاء جرجان ثمَّ انْتقل إِلَى الرى وَولى قَضَاء الْقُضَاة بهَا
ذكره أَبُو مَنْصُور الثعالبى فى الْيَتِيمَة فَقَالَ حَسَنَة جرجان وفرد الزَّمَان ونادرة الْفلك وإنسان حدقة الْعلم ودرة تَاج الْأَدَب وَفَارِس عَسْكَر الشّعْر يجمع خطّ ابْن مقلة إِلَى نثر الجاحظ ونظم البحترى وينظم عقد الإتقان وَالْإِحْسَان وَله يَقُول الصاحب
(إِذا نَحن سلمنَا لَك الْعلم كُله ... فدع هَذِه الْأَلْفَاظ ننظم شذورها)
هَذَا بعض كَلَام الثعالبى فى خَبره(3/459)
وَمن شعر أَبى الْحسن السائر فى الْآفَاق مَا أنشدناه الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بقراءتى عَلَيْهِ قَالَ أنشدنا الْحسن بن على بن مُحَمَّد بن الْخلال بقراءتى أنشدنا جَعْفَر بن على الهمذانى سَمَاعا عَلَيْهِ قَالَ أنشدنا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى العثمانى الديباجى الإِمَام قَالَ كتب إِلَى الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عمر بن مُحَمَّد الزمخشرى من مَكَّة وَأَجَازَ لى
ح وَكتب إِلَى أَحْمد بن على الحنبلى وَزَيْنَب بنت الْكَمَال وَفَاطِمَة بنت إِبْرَاهِيم بن أَبى عمر عَن مُحَمَّد بن عبد الهادى عَن الْحَافِظ أَبى طَاهِر السلفى عَن الزمخشرى قَالَ أنشدنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الخوارزمى قَالَ أنشدنا أَبُو سعد المحسن بن مُحَمَّد الجشمى قَالَ أنشدنا الْحَاكِم أَبُو الْفضل إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ أنشدنا القاضى أَبُو الْحسن على بن عبد الْعَزِيز الجرجانى لنَفسِهِ
(يَقُولُونَ لي فِيك انقباض وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رجلا عَن موقف الذل أحجما)
(أرى النَّاس من داناهم هان عِنْدهم ... وَمن أكرمته عزة النَّفس أكرما)
(وَمَا كل برق لَاحَ لى يستفزنى ... وَلَا كل من لاقيت أرضاه منعما)
(وإنى إِذا مَا فاتنى الْأَمر لم أَبَت ... أقلب كفى إثره متندما)
(وَلم أقض حق الْعلم إِن كَانَ كلما ... بدا طمع صيرته لى سلما)
(إِذا قيل هَذَا منهل قلت قد أرى ... وَلَكِن نفس الْحر تحْتَمل الظما)
(وَلم أبتذل فِي خدمَة الْعلم مهجتى ... لأخدم من لاقيت لَكِن لأخدما)
(أأشقى بِهِ غرسا وأجنيه ذلة ... إِذا فاتباع الْجَهْل قد كَانَ أحزما)(3/460)
(وَلَو أَن أهل الْعلم صانوه صانهم ... وَلَو عظموه فى النُّفُوس لعظما)
(وَلَكِن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حَتَّى تجهما)
لله هَذَا الشّعْر مَا أبلغه وأصنعه وَمَا أَعلَى على هام الجوزاء مَوْضِعه وَمَا أنفعه لَو سَمعه من سَمعه وَهَكَذَا فَلْيَكُن وَإِلَّا فَلَا أدب كل فَقِيه ولمثل هَذَا النَّاظِم يحسن النّظم الذى لَا نَظِير لَهُ وَلَا شَبيه وَعند هَذَا ينْطق الْمنصف بعظيم الثَّنَاء على ذهنه الْخَالِص لَا بالتمويه
وَقد نحا نَحوه شيخ الْإِسْلَام سيد الْمُتَأَخِّرين أَبُو الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد فَقَالَ لما كَانَ مُقيما بِمَدِينَة قوص
(يَقُولُونَ لى هلا نهضت إِلَى الْعلَا ... فَمَا لذ عَيْش الصابر المتقنع)
(وهلا شددت العيس حَتَّى تحلها ... بِمصْر إِلَى ظلّ الجناب المرفع)
(فَفِيهَا من الْأَعْيَان من فيض كَفه ... إِذا شَاءَ روى سيله كل بلقع)
(وفيهَا قُضَاة لَيْسَ يخفى عَلَيْهِم ... تعين كَون الْعلم غير مضيع)
(وفيهَا شُيُوخ الدّين وَالْفضل والألى ... يُشِير إِلَيْهِم بالعلا كل أصْبع)
(وفيهَا وفيهَا والمهانة ذلة ... فَقُمْ وَاسع واقصد بَاب رزقك واقرع)
(فَقلت نعم أسعى إِذا شِئْت أَن أرى ... ذليلا مهانا مستخفا بِموضع)
(وأسعى إِذْ مَا لذ لى طول موقفى ... على بَاب مَحْجُوب اللِّقَاء ممنع)
(وأسعى إِذا كَانَ النِّفَاق طريقتى ... أروح وأغدو فِي ثِيَاب التصنع)
(وأسعى إِذا لم يبْق فى بَقِيَّة ... أراعى بهَا حق التقى والتورع)
(فكم بَين أَرْبَاب الصُّدُور مجالسا ... تشب بهَا نَار الغضى بَين أضلعى)(3/461)
(وَكم بَين أَرْبَاب الْعُلُوم وَأَهْلهَا ... إِذا بحثوا فى المشكلات بمجمع)
(مناظرة تحمى النُّفُوس فتنتهى ... وَقد شرعوا فِيهَا إِلَى شَرّ مشرع)
(من السَّفه المزرى بِمنْصب أَهله ... أَو الصمت عَن حق هُنَاكَ مضيع)
(فإمَّا توقى مَسْلَك الدّين والتقى ... وَإِمَّا تلقى غُصَّة المتجرع)
وَمن شعر الجرجانى
(أفدى الذى قَالَ وفى كَفه ... مثل الذى أشْرب من فِيهِ)
(الْورْد قد أينع فى وجنتى ... قلت فمى باللثم يجنيه)
وَلم يزل على قَضَاء الْقُضَاة بالرى إِلَى أَن توفى بهَا فى ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلاثمائة وَحمل تابوته إِلَى جرجان فَدفن بهَا
229 - على بن عمر بن أَحْمد بن مهدى بن مَسْعُود بن النُّعْمَان بن دِينَار بن عبد الله الإِمَام الْجَلِيل أَبُو الْحسن الدارقطنى البغدادى الْحَافِظ
الْمَشْهُور الِاسْم صَاحب المصنفات إِمَام زَمَانه وَسيد أهل عصره وَشَيخ أهل الحَدِيث
مولده فى سنة سِتّ وثلاثمائة
سمع من أَبى الْقَاسِم البغوى وأبى بكر بن أَبى دَاوُد وَابْن صاعد وَمُحَمّد بن هَارُون الحضرمى وعَلى بن عبد الله بن مُبشر الواسطى وأبى عمر مُحَمَّد بن يُوسُف القاضى(3/462)
وَالقَاسِم وَالْحُسَيْن ابنى المحاملى وأبى بكر بن زِيَاد النيسابورى وأبى روق الهزانى وَبدر بن الْهَيْثَم وَأحمد بن إِسْحَاق بن البهلول وَأحمد بن الْقَاسِم الفرائضى وأبى طَالب أَحْمد بن نصر الْحَافِظ وَخلق كثير بِبَغْدَاد والكوفة وَالْبَصْرَة وواسط
ورحل فى الكهولة إِلَى الشَّام ومصر فَسمع القاضى أَبَا الطَّاهِر الذهلى وَهَذِه الطَّبَقَة
روى عَنهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفراينى الْفَقِيه وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم وَعبد الْغنى ابْن سعيد المصرى وَتَمام الرازى وَأَبُو بكر البرقانى وَأَبُو ذَر عبد بن أَحْمد وَأَبُو نعيم الأصبهانى وَأَبُو مُحَمَّد الْخلال وَأَبُو الْقَاسِم التنوخى وَأَبُو طَاهِر بن عبد الرَّحِيم الْكَاتِب والقاضى أَبُو الطّيب الطبرى وَأَبُو الْحسن العتيقى وَحَمْزَة السهمى وَأَبُو الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون وَأَبُو الْحُسَيْن بن المهتدى بِاللَّه وَأَبُو مُحَمَّد الجوهرى وَخلق كثير
قَالَ الْحَاكِم صَار الدارقطنى أوحد عصره فى الْحِفْظ والفهم والورع وإماما فى الْقُرَّاء والنحويين وفى سنة سبع وَسِتِّينَ أَقمت بِبَغْدَاد أَرْبَعَة أشهر وَكثر اجتماعنا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار فصادفته فَوق مَا وصف لى وَسَأَلته عَن الْعِلَل والشيوخ
قَالَ وَأشْهد أَنه لم يخلف على أَدِيم الأَرْض مثله
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ الدارقطنى فريد عصره وقريع دهره ونسيج وَحده وَإِمَام وقته انْتهى إِلَيْهِ علم الْأَثر والمعرفة بعلل الحَدِيث وَأَسْمَاء الرِّجَال مَعَ الصدْق والثقة وَصِحَّة الِاعْتِقَاد والاضطلاع من عُلُوم سوى علم الحَدِيث(3/463)
مِنْهَا الْقرَاءَات فَإِن لَهُ فِيهَا مصنفا مُخْتَصرا جمع الْأُصُول فى أَبْوَاب عقدهَا فى أول الْكتاب وَسمعت من يعتنى بالقراءات يَقُول لم يسْبق أَبُو الْحسن إِلَى طَرِيقَته الَّتِى سلكها فى عقد الْأَبْوَاب الْمُقدمَة فى أول الْقرَاءَات وَصَارَ الْقُرَّاء بعده يسلكون ذَلِك وَمِنْهَا الْمعرفَة بمذاهب الْفُقَهَاء فَإِن كِتَابه السّنَن يدل على ذَلِك وبلغنى أَنه درس فقه الشافعى على أَبى سعيد الإصطخرى وَقيل على غَيره
وَمِنْهَا الْمعرفَة بالأدب وَالشعر فَقيل إِنَّه كَانَ يحفظ دواوين جمَاعَة
قَالَ وحدثنى الأزهرى قَالَ بلغنى أَن الدارقطنى حضر فى حداثته مجْلِس إِسْمَاعِيل الصفار فَجَلَسَ ينْسَخ جُزْءا والصفار يملى فَقَالَ رجل لَا يَصح سماعك وَأَنت تنسخ فَقَالَ الدارقطنى فهمى للإملاء خلاف فهمك تحفظ كم أمْلى الشَّيْخ قَالَ لَا قَالَ أمْلى ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا الحَدِيث الأول عَن فلَان عَن فلَان وَمَتنه كَذَا والْحَدِيث الثانى عَن فلَان عَن فلَان وَمَتنه كَذَا ثمَّ مر فى ذَلِك حَتَّى أَتَى على الْأَحَادِيث فتعجب النَّاس مِنْهُ أَو كَمَا قَالَ
وَقَالَ رَجَاء بن مُحَمَّد الْمعدل قلت للدارقطنى رَأَيْت مثل نَفسك فَقَالَ قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} فألححت عَلَيْهِ فَقَالَ لم أر أحدا جمع مَا جمعت
وَقَالَ أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد قلت للْحَاكِم بن البيع هَل رَأَيْت مثل الدارقطنى فَقَالَ هُوَ لم ير مثل نَفسه فَكيف أَنا
وَقَالَ أَبُو الطّيب القاضى الدَّارَقُطْنِيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ فى الحَدِيث
وَقَالَ الأزهرى كَانَ الدارقطنى ذكيا إِذا ذوكر شَيْئا من الْعلم أى نوع كَانَ وجد عِنْده مِنْهُ نصيب وافر وَلَقَد حَدَّثَنى مُحَمَّد بن طَلْحَة النعالى أَنه حضر مَعَ الدارقطنى دَعْوَة فَجرى ذكر الْأكلَة فَانْدفع الدارقطنى يُورد أخبارهم ونوادرهم حَتَّى قطع أَكثر ليلته بذلك(3/464)
وَقَالَ الأزهرى رَأَيْت الدَّارَقُطْنِيّ أجَاب ابْن أَبى الفوارس عَن عِلّة حَدِيث أَو اسْم ثمَّ قَالَ لَهُ يَا أَبَا الْفَتْح لَيْسَ بَين الشرق والغرب من يعرف هَذَا غيرى
وَقَالَ البرقانى كَانَ الدراقطنى يملى على الْعِلَل من حفظه قَالَ وَأَنا الذى جمعتها وَقرأَهَا النَّاس من نسختى
قَالَ شَيخنَا الذهبى وَهَذَا شىء مدهش فَمن أَرَادَ أَن يعرف قدر ذَلِك فليطالع كتاب الْعِلَل للدراقطنى
وَقَالَ الْخَطِيب حَدَّثَنى العتيقي قَالَ حضرت الدراقطنى وجاءه أَبُو الْحسن البيضاوى بغريب ليسمع مِنْهُ فَامْتنعَ واعتل بِبَعْض الْعِلَل فَقَالَ هَذَا رجل غَرِيب وَسَأَلَهُ أَن يملى عَلَيْهِ أَحَادِيث فأملى عَلَيْهِ أَبُو الْحسن من حفظه مَجْلِسا تزيد أَحَادِيثه على الْعشْرين متون أَحَادِيثه جَمِيعهَا نعم الشىء الْهَدِيَّة أَمَام الْحَاجة فَانْصَرف الرجل ثمَّ جَاءَهُ بعد وَقد أهْدى لَهُ شَيْئا فقربه وأملى عَلَيْهِ من حفظه سَبْعَة عشر حَدِيثا متون جَمِيعهَا (إِذا أَتَاكُم كريم قوم فأكرموه)
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغنى بن سعيد أحسن النَّاس كلَاما على حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة على بن المدينى فى وقته ومُوسَى بن هَارُون فى وقته وعَلى ابْن عمر الدارقطنى فى وقته
وَقَالَ رَجَاء بن مُحَمَّد الْمعدل كُنَّا عِنْد الدارقطنى يَوْمًا والقارىء يقْرَأ عَلَيْهِ وَهُوَ يتَنَفَّل فَمر حَدِيث فِيهِ نسير بن ذعلوق فَقَالَ القارىء بشير فسبح الدارقطنى(3/465)
فَقَالَ بشير فسبح فَقَالَ بسير فَتلا الدارقطنى {ن والقلم}
وَقَالَ حَمْزَة بن مُحَمَّد بن طَاهِر كنت عِنْد الدارقطنى وَهُوَ قَائِم يتَنَفَّل فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَبُو عبد الله ابْن الْكَاتِب عَمْرو بن شُعَيْب فَقَالَ عَمْرو بن سعيد فسبح الدارقطنى فَأَعَادَهُ وَقَالَ ابْن سعيد ووقف فَتلا الدارقطنى {يَا شُعَيْب أصلاتك تأمرك} فَقَالَ ابْن شُعَيْب
قلت وَهَذَا فى الحكايتين مَعَ حسنه فِيهِ من أَبى الْحسن اسْتِعْمَال للمسألة الْمَشْهُورَة فِيمَن أَتَى فى الصَّلَاة بشىء من نظم الْقُرْآن قَاصِدا للْقِرَاءَة وشىء آخر فَإِن صلَاته لَا تبطل على الْأَصَح وَلَو قصد ذَلِك الشىء الآخر وَحده لبطلت
وَقَالَ مُحَمَّد بن طَاهِر المقدسى كَانَ للدارقطنى مَذْهَب فى التَّدْلِيس خفى يَقُول فِيمَا لم يسمعهُ من أَبى الْقَاسِم البغوى قرىء على أَبى الْقَاسِم الْبَغَوِيّ حَدثكُمْ فلَان
توفى الدارقطنى يَوْم الْخَمِيس لثمان خلون من ذى الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
قَالَ أَبُو نصر بن مَاكُولَا رَأَيْت فى الْمَنَام كأنى أسأَل عَن حَال الدارقطنى فى الْآخِرَة فَقيل لى ذَاك يدعى فى الْجنَّة الإِمَام
230 - على بن مُحَمَّد بن مهدى أَبُو الْحسن الطبرى
تلميذ الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى صَحبه بِالْبَصْرَةِ وَأخذ عَنهُ
وَكَانَ من المبرزين فى علم الْكَلَام والقوامين بتحقيقه وَله كتاب تَأْوِيل الْأَحَادِيث(3/466)
المشكلات الواردات فى الصِّفَات وَكَانَ مفتنا فى أَصْنَاف الْعُلُوم
قَالَ أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحسن الأسدى كَانَ شَيخنَا وأستاذنا أَبُو الْحسن على بن مهدى الطبرى الْفَقِيه مصنفا للكتب فى أَنْوَاع الْعُلُوم مفتنا حَافِظًا للفقه وَالْكَلَام والتفاسير والمعانى وَأَيَّام الْعَرَب فصيحا مبارزا فى النّظر مَا شوهد فى أَيَّامه مثله انْتهى
قَوْله ابْن مهدى رُبمَا أوهم أَن مهديا أَبوهُ وَكَذَا وَقع فى طبقاتى الْوُسْطَى وَالصُّغْرَى ثمَّ تحققت أَنه جده وَأَن أَبَاهُ مُحَمَّد
وَقد ذكر العبادى هَذَا الشَّيْخ فى طبقَة الْقفال الشاشى وَقَالَ فِيهِ صَاحب الْأُصُول وَالْعلم الْكثير
وترجمة الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فى كتاب التَّبْيِين وَلم أر من أرخ وَفَاته
أنشدنا يحيى بن فضل الله الْعُمْرَى فى كِتَابه عَن مكي بن عَلان أَن أَبَا الْقَاسِم الْحَافِظ أنبأه قَالَ أخبرنَا نصر الله المصيصى أخبرنَا على بن ابى الْعَلَاء المصيصى أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الفارقى الْمَعْرُوف بِابْن الضراب أخبرنَا أَبُو سعد المالينى أنشدنا أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن مهدى الطبرى لنَفسِهِ
(مَا ضَاعَ من كَانَ لَهُ صَاحب ... يقدر أَن يصلح من شَأْنه)
(فَإِنَّمَا الدُّنْيَا بسكانها ... وَإِنَّمَا الْمَرْء بإخوانه)(3/467)
وَقَالَ وأنشدنى أَبُو الْحسن بن مهدى لنَفسِهِ أَيْضا
(إِن الزَّمَان زمَان سو ... وَجَمِيع هَذَا الْخلق بو)
(ذهب الْكِرَام بأسرهم ... وَبقيت فى لَيْت وَلَو)
(فَإِذا سَأَلت عَن الندى ... فجوابهم عَن ذَاك وو)
231 - على بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن بشر أَبُو الْحسن الأنطاكى المقرىء
كَانَ بَصيرًا بِالْعَرَبِيَّةِ والقراءات والحساب وَله حَظّ من الْفِقْه
دخل بِلَاد الأندلس وَكَانَ عيشه من غزل جَارِيَته
ولد بأنطاكية سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَمَات بقرطبة فى ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة
232 - عَمْرو بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن أَبُو أَحْمد الإستراباذى الْفَقِيه
تفقه بِمصْر على مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الْفَقِيه
وَسمع الحَدِيث من أَبِيه أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن وَمن هميم بن همام وَعمْرَان بن مُوسَى بن مجاشع وأبى خَليفَة وَعبد الله بن نَاجِية وَابْن قُتَيْبَة العسقلانى(3/468)
روى عَنهُ أَبُو سعد عبد الرَّحْمَن الإدريسى
وَله مُصَنف فى الْفِقْه وَشعر كثير
توفى سنة ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة
233 - عمر بن أَحْمد بن عمر بن سُرَيج الشَّيْخ أَبُو حَفْص
ولد أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج
ذكره الْأَصْحَاب فِيمَا إِذا كَانَت النَّجَاسَة الْوَاقِعَة فى المَاء ميتَة لَا نفس لَهَا سَائِلَة فَفِيهَا قَولَانِ مشهوران أصَحهمَا أَنَّهَا لَا تنجس المَاء
قَالَ الْأَصْحَاب تَفْرِيعا على الْأَصَح فَلَو كثر هَذَا الْحَيَوَان الذى لَا نفس لَهُ سَائِلَة فَغير المَاء فَهَل يُنجسهُ فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا أَنه يُنجسهُ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد والبندنيجى والمحاملى فى الْمَجْمُوع وَأَبُو عَاصِم العبادى فى الطَّبَقَات وَصَاحب الْعدة وَغَيرهم هَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَفْص عمر بن أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج عَن أَبِيه(3/469)
234 - عمر بن أَكْثَم بن أَحْمد بن حبَان بن بشر أَبُو بشر الأسدى
قاضى بَغْدَاد فى أَيَّام الْمُطِيع لله
قَالَ الْخَطِيب لم يل الْقَضَاء بِبَغْدَاد من الشَّافِعِيَّة أحد قبله غير أَبى السَّائِب القاضى
وَكَانَ من بَيت قَضَاء ورياسة
توفى فى عشر الثَّمَانِينَ سنة سبع وَخمسين وثلاثمائة
235 - عمر بن عبد الله بن مُوسَى الإِمَام الْكَبِير أَبُو حَفْص ابْن الْوَكِيل الْبَاب شامى
من متقدمى أَصْحَابنَا وَمن أَئِمَّة أَصْحَاب الْوُجُوه
ذكره المطوعى فَقَالَ فَقِيه جليل الرُّتْبَة من نظراء أَبى الْعَبَّاس وَأَصْحَاب الأنماطى وَمِمَّنْ تكلم وَتصرف فِيهَا فَأحْسن مَا شَاءَ ثمَّ هُوَ من كبار الْمُحدثين والرواة وأعيان النقلَة يشْهد لَهُ بِهَذَا كتبة الحَدِيث وَيُقَال إِن المقتدر استقضاه على بعض كور الشَّام فَلذَلِك عرف بِالْبَابِ شامى لطول مقَامه بهَا انْتهى
وَمن خطّ ابْن الصّلاح نقلته(3/470)
وَقَالَ ابْن السمعانى الْبَاب شامى بِالْألف بَين البائين المنقوطتين بِوَاحِدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وفى آخرهَا الْمِيم نِسْبَة إِلَى بَاب الشَّام وهى إِحْدَى الْمحَال الْأَرْبَعَة الْمَشْهُورَة الْقَدِيمَة بالجانب الغربى من بَغْدَاد
قلت وَأرى هَذَا فى نسبته أصح مِمَّا قَالَه المطوعى
236 - عمر بن مُحَمَّد أَبُو غَانِم
ملقى ابْن سُرَيج فِيمَا أَحسب كالمعيد الْآن أَو كالقارىء على الْمدرس أَو المستملى على المملى
وَهُوَ الذى كَانَت بِهِ لثغة يسيرَة وَكَانَ بِابْن سُرَيج مثلهَا فَلَمَّا انْتهى إِلَى مَسْأَلَة إِمَامَة الألثغ استحيى أَن يَقُول لِابْنِ سُرَيج هَل تصح إمامتك فَقَالَ هَل تصح إمامتى فَقَالَ لَهُ ابْن سُرَيج نعم وإمامتى أَيْضا
نقل ذَلِك الرويانى فى الْبَحْر وَغَيره وَنقل فى الْبَحْر أَيْضا فى مَسْأَلَة مَا إِذا رعف الإِمَام الْمُسَافِر فى الصَّلَاة وَخَلفه مسافرون ومقيمون عَن أَبى غَانِم الْمشَار إِلَيْهِ تَأْوِيلا فى تفاريع الْمَسْأَلَة(3/471)
237 - الْفضل بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أَبُو بشر بن أَبى عبد الله الجرجانى
قَالَ فِيهِ أَبُو حَفْص المطوعى فَاضل ملْء ثَوْبه مفضل ملْء كَفه ضَارب فى الإسماعيلية بعروقه
قلت يعْنى بَيت أَبى بكر الإسماعيلى
وَذكره أَبُو عَاصِم العبادى فَقَالَ وَمِنْهُم القاضى أَبُو بشر الإسماعيلى وَهُوَ الحاكى فى الْمَبِيع وَفِيه خِيَار الرُّؤْيَة إِذا مَاتَ أحد الْمُتَعَاقدين أَو جن قبل الرُّؤْيَة أَنه يَنْفَسِخ العقد
238 - الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن على الشاشى صَاحب التَّقْرِيب
الإِمَام الْجَلِيل أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا ولد الإِمَام الْجَلِيل الْقفال الْكَبِير
ذكره العبادى فى الطَّبَقَات وَقَالَ مَشْهُور الْفضل يشْهد بذلك كِتَابه قَالَ وَبِه تخرج فُقَهَاء خُرَاسَان وازدادت طَريقَة أهل الْعرَاق بِهِ حسنا(3/472)
وَقَالَ أَبُو حَفْص عمر بن على المطوعى المنجبون من فُقَهَاء أَصْحَابنَا أَرْبَعَة أَبُو بكر الإسماعيلى حَيْثُ ولد ابْنه أَبَا سعد وَالْإِمَام أَبُو سهل حَيْثُ ولد ابْنه الإِمَام ابْن الإِمَام إِلَى أَن قَالَ وَأَبُو بكر الْقفال حَيْثُ حظى من نَسْله بِالْوَلَدِ النجيب الذى ينْسب إِلَيْهِ كتاب التَّقْرِيب وَأَبُو جَعْفَر الحناطى حَيْثُ رزق مثل الشَّيْخ أَبى عبد الله ولدا رَضِيا نجلا زكيا
وَقَالَ حَمْزَة السهمى فى تَارِيخ جرجان فى تَرْجَمَة الحليمى إِن الحليمى قَالَ علق عَنى الْقَاسِم بن أَبى بكر الْقفال صَاحب التَّقْرِيب أحد عشر جُزْءا من الْفِقْه
قلت وَفِيمَا حكيناه دَلِيل على مَا لاشك فِيهِ من أَن الْقَاسِم هُوَ صَاحب التَّقْرِيب وفى التذنيب لأبى الْقَاسِم الرافعى أَن بعض النَّاس وهم فَتوهم أَن صَاحب التَّقْرِيب وَالِده
قلت وأورث هَذَا الْوَهم الرافعى بعض شكّ من أجل ذَلِك قَالَ وَقد ذكره وَهُوَ الْقَاسِم إِن شَاءَ الله
وَهَذَا الظَّن الذى ظَنّه بعض النَّاس من أَن التَّقْرِيب لِأَبِيهِ مُتَقَدم الزَّمَان فَإِن المطوعى ذكره فى كِتَابه فى تَرْجَمَة الْقفال بل كَلَامه كالمرجح لِأَن التَّقْرِيب للوالد دون الْوَلَد وَذَلِكَ فى تَرْجَمَة الْوَالِد حَيْثُ قَالَ أما التصنيف فَهُوَ يعْنى الْقفال نظام عقده ونظام شَمله يشْهد بذلك كِتَابه المترجم بالتقريب وَإِن كَانَ بعض النَّاس ينْسبهُ إِلَى وَالِده النجيب
انْتهى وَمن خطّ ابْن الصّلاح نقلته لكنه مدافع بقوله الذى حكيناه فى تَرْجَمَة الْقَاسِم هَذَا أَن التَّقْرِيب لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح(3/473)
والتقريب من أجل كتب الْمَذْهَب ذكره الإِمَام أَبُو بكر البيهقى فى رسَالَته إِلَى الشَّيْخ أَبى مُحَمَّد الجوينى بعد مَا حث على حِكَايَة أَلْفَاظ الشافعى وألفاظ المزنى وَقَالَ لم أر أحدا مِنْهُم يعْنى المصنفين فى نُصُوص الشافعى رضى الله عَنهُ فِيمَا حَكَاهُ أوثق من صَاحب التَّقْرِيب وَهُوَ فى النّصْف الأول من كِتَابه أَكثر حِكَايَة لألفاظ الشافعى مِنْهُ فى النّصْف الْأَخير قَالَ وَقد غفل فى النصفين جَمِيعًا مَعَ اجْتِمَاع الْكتب لَهُ أَو أَكْثَرهَا وَذَهَاب بَعْضهَا فى عصرنا عَن حِكَايَة أَلْفَاظ لابد لنا من مَعْرفَتهَا لِئَلَّا نجترئ على تخطئة المزنى فى بعض مَا نخطئه فِيهِ وَهُوَ عَنهُ برِئ ولنتخلص بهَا عَن كثير عَن تخريجات أَصْحَابنَا انْتهى
وَقد كَانَ الْقَاسِم جليل الْمِقْدَار فى حَيَاة أَبِيه يدل على ذَلِك مَا ذكره الْأَصْحَاب فى كتاب الرَّضَاع عَن الحليمى فى فروع الِاخْتِلَاط من قَول الحليمى هَذَا شئ استنبطته أَنا وَكَانَ فى قلبى مِنْهُ شئ فعرضته على الْقفال الشاشى وَابْنه الْقَاسِم فارتضياه فسكنت ثمَّ وجدته لِابْنِ سُرَيج فسكن قلبى إِلَيْهِ كل السّكُون
قلت وقفت على نَحْو الثُّلُث أَو أَكثر من أَوَائِل كتاب التَّقْرِيب(3/474)
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَن صَاحب التَّقْرِيب
ذكر الإِمَام فى النِّهَايَة فى بَاب قتل الْمُرْتَد أَن صَاحب التَّقْرِيب قَالَ فى الْأَسير إِذا أكره على التَّلَفُّظ بالْكفْر وَعَاد إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَأبى إِنَّا نحكم بردته قَالَ فَإِنَّهُ قد انْضَمَّ امْتِنَاعه الْآن إِلَى مَا سبق مِنْهُ من لفظ الْكفْر فَدلَّ أَنه كَانَ مُخْتَارًا قَالَ وَقطع صَاحب التَّقْرِيب بِهَذَا وَهُوَ الذى ذكره الْعِرَاقِيُّونَ قَالَ وَفِيه احْتِمَال عندى ظَاهر فَإِنَّهُ لم يسْبق مِنْهُ اخْتِيَار وَحكم الْإِسْلَام كَانَ مستمرا لَهُ وَالْمُسلم لَا يكفر بِمُجَرَّد الِامْتِنَاع عَن تَجْدِيد الْإِسْلَام انْتهى مُلَخصا
وَتبع الغزالى فى الْوَسِيط إِمَامه فى استشكال هَذَا وَحَكَاهُ الرافعى عَن الإِمَام ساكتا عَلَيْهِ بعد مَا ذكر أَن الْمَنْقُول أَنه إِذا أَبى يحكم بردته كَمَا قَالَ صَاحب التَّقْرِيب والعراقيون
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَالنَّظَر الذى أبداه الإِمَام مندفع بِمَا قَرَّرَهُ صَاحب التَّقْرِيب فَإِنَّهُ قَالَ قد انْضَمَّ امْتِنَاعه الْآن إِلَى مَا سبق مِنْهُ من لفظ الْكفْر فَدلَّ أَنه كَانَ مُخْتَارًا فى ابْتِدَاء اللَّفْظ وَمن أكره على شئ فخطر لَهُ أَن يأتى بِهِ مُخْتَارًا فَلَا حكم للإكراه فَإِذا سبق مِنْهُ اللَّفْظ وَلحق الِامْتِنَاع عَن التَّلَفُّظ بِالْإِسْلَامِ كَانَ ذَلِك آيَة بَيِّنَة فى أَنه كَانَ مُخْتَارًا عِنْد لَفظه وَفَارق الْمُسلم الذى لم يصدر مِنْهُ كلمة الْكفْر حَيْثُ لَا يَجْعَل بالامتناع عَن النُّطْق بِكَلِمَة الْإِسْلَام مُرْتَدا لِأَنَّهُ لم يسْبق مِنْهُ شئ يجوز أَن يكون كفرا يقرره الِامْتِنَاع وَلَا يُقَال لكم خلاف فى الْمُكْره على التَّلَفُّظ بِالطَّلَاق إِذا نَوَاه هَل يَقع بِهِ فينبغى إجراؤه هُنَا لأَنا نقُول من لم يوقعه اعتل بِأَن اللَّفْظ هُوَ الذى يَقع بِهِ الطَّلَاق وَهُوَ مكره عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا نِيَّة مُجَرّدَة وهى لَا يَقع بهَا الطَّلَاق وَلَا كَذَلِك الرِّدَّة لِأَنَّهَا تحصل بِمُجَرَّد النِّيَّة انْتهى(3/475)
قلت وَمَا ذكره عَن التَّقْرِيب إِلَى قَوْله عِنْد لَفظه مَذْكُور فى النِّهَايَة وَقَوله وَفَارق الْمُسلم إِلَى آخِره هَذَا بحث ابْن الرّفْعَة ويلوح فى بادئ النّظر حسنه إِلَّا أَنى تَأَمَّلت بعد مَا استبعدت خَفَاء مثل هَذَا الْفرق على الإِمَام لَا سِيمَا وَكَلَام صَاحب التَّقْرِيب مسطور فى النِّهَايَة فَظهر لى فى جَوَابه مَا أَرْجُو أَنه الْحق فَأَقُول
قَالَ الرافعى أطلق أَكْثَرهم الْعرض يعْنى عرض الْإِسْلَام على الْأَسير إِذا عَاد إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَشرط لَهُ ابْن كج أَلا يؤم الْجَمَاعَات وَلَا يقبل على الطَّاعَات بعد الْعود إِلَيْنَا فَإِن فعل ذَلِك أغنانا عَن الْعرض
قلت وَمِمَّنْ أطلق وَلم يذكر مَا شَرطه ابْن كج الإِمَام والذى أعتقده أَنه إِنَّمَا يَقُول لَيْسَ الِامْتِنَاع عَن التَّجْدِيد دَلِيلا على الْكفْر فى مُمْتَنع يؤم الْجَمَاعَات وَيلْزم الطَّاعَات كَسَائِر الْمُسلمين فَذَاك هُوَ الذى لَا يكون امْتِنَاعه دَالا على الْكفْر لِأَن فى فعله أَفعَال الْمُسلمين دلَالَة بَيِّنَة على أَن تِلْكَ اللَّفْظَة لم تكن عَن اخْتِيَار
أم نقُول ذَلِك فى مُمْتَنع أول رُجُوعه إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام لم يعرف مِنْهُ مُفَارقَة مظان الطَّاعَات أما من عرف مِنْهُ أَن لَا يشْهد جماعات الْمُسلمين وَلَا يؤم مَسَاجِدهمْ فَلَا شكّ أَن امْتِنَاعه دَلِيل كفره وَلَيْسَ كَالْمُسلمِ المستمر فَإِن هَذَا صدر مِنْهُ سَبَب ظَاهر مقترن بِأَفْعَال ظَاهِرَة غير أَنى لَا أعتقد أَن الإِمَام يُخَالف فى هَذَا
فَإِن قلت وملازم الْجَمَاعَات لَا خلاف فِيهِ كَمَا ذكر ابْن كج
قلت هَذَا الذى ذكره ابْن كج قد عرفناك أَن الْأَكْثَرين وَمِنْهُم الإِمَام لم يذكروه فَخرج من هَذَا أَن الْمُمْتَنع عَن التَّجْدِيد مَعَ الإباء عَن مشَاهد الْمُسلمين كَافِر قطعا والممتنع مَعَ شُهُود جماعات الْمُسلمين أَو من غير أَن يظْهر مِنْهُ خلاف ذَلِك هُوَ الذى يَقُول الإِمَام لَا يكون امْتِنَاعه دَلِيل كفره(3/476)
إِذا أقرّ بمجمل وَلم يفسره فَهَل يُوقف من مَاله أقل مُتَمَوّل أَو جَمِيع مَاله قيل فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذا مَاتَ
وَقَالَ الْقَاسِم يحْتَمل أَن يُوقف فى حَال الْحَيَاة أقل الْأَشْيَاء وَبعد الْوَفَاة جَمِيع التَّرِكَة هَذَا لفظ أدب الْقُضَاة لشريح الرويانى
وَقَول الْقَاسِم وَهُوَ صَاحب التَّقْرِيب حسن لِأَن التَّرِكَة مَرْهُونَة بِالدّينِ وَإِن قل عَنْهَا على الْمَذْهَب
قَالَ الْقَاسِم فِيمَا إِذا شهد وَاحِد بِأَلف وَآخر بِأَلفَيْنِ إِن الْمُدعى لَا يَأْخُذ الْألف إِلَّا بِيَمِين
قَالَ العبادى وَهُوَ غَرِيب
قلت لَا شكّ فى غرابته إِن وَقعت الدَّعْوَى بِأَلفَيْنِ واستشهاد كل من الشَّاهِدين بِمَا يعرفهُ أما إِذا وَقعت بِأَلف فَشهد وَاحِد بِأَلفَيْنِ فهى مبادرة وفيهَا خلاف
وللوالد على شبه الْمَسْأَلَة كَلَام ذَكرْنَاهُ بمزيد بسط فى النَّقْل والتفقه فى كتاب ترشيح التوشيح
239 - محَارب بن مُحَمَّد بن محَارب أَبُو الْعَلَاء القاضى
توفى فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَخمسين وثلاثمائة
ذكره ابْن باطيش(3/477)
240 - مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْحسن التميمى
الْفَقِيه الشَّاعِر الضَّرِير المصرى أحد أَئِمَّة الْمَذْهَب
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَخذ الْفِقْه عَن أَصْحَاب الشافعى وَأَصْحَاب أَصْحَابه وَله مصنفات فى الْمَذْهَب مليحة مِنْهَا الْوَاجِب والمستعمل وَالْمُسَافر وَالْهِدَايَة وَغَيرهَا من الْكتب وَله شعر مليح وَهُوَ الْقَائِل
(عَابَ التفقه قوم لَا عقول لَهُم ... وَمَا عَلَيْهِ إِذا عابوه من ضَرَر)
(مَا ضرّ شمس الضُّحَى وَالشَّمْس طالعة ... أَلا يرى ضوءها من لَيْسَ ذَا بصر)
قلت وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله فى تَرْجَمَة الْحَافِظ أَبى على النيسابورى أَنه سَمعه يَقُول سَمِعت مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل بِمصْر ينشد لنَفسِهِ
قلت وَقد أوردهما الخطابى عَنهُ فى كتاب الْعُزْلَة
(قد قلت إِذْ مدحوا الْحَيَاة فَأَكْثرُوا ... للْمَوْت ألف فَضِيلَة لَا تعرف)
(مِنْهَا أَمَان لِقَائِه بلقائه ... وفراق كل مصاحب لَا ينصف)
قَالَ الْحَاكِم قَالَ أَبُو على رَأَيْت منصورا وَقد عمى وَرُبمَا كَانَ يركب حمارا فارها(3/478)
وَقَالَ القضاعى أَصله من رَأس عين وَكَانَ فَقِيها متصرفا فى كل علم شَاعِرًا مجودا لم يكن فى زَمَانه مثله
وَذكر ابْن يُونُس فى تَارِيخ مصر أَنه كَانَ جنديا قبل أَن يعمى
توفى مَنْصُور سنة سِتّ وثلاثمائة
وَمن الحكايات والأشعار والفوائد والغرائب عَنهُ
كَانَت لَهُ قَضِيَّة مَعَ القاضى أَبى عبيد بن حربويه طَالَتْ وعظمت
وَذَلِكَ أَنه كَانَ خَالِيا بِهِ فَجرى ذكر نَفَقَة الْحَامِل الْمُطلقَة ثَلَاثًا فَقَالَ أَبُو عبيد زعم زاعم أَن لَا نَفَقَة لَهَا فَأنْكر مَنْصُور ذَلِك وَقَالَ أقائل هَذَا من أهل الْقبْلَة ثمَّ انْصَرف مَنْصُور وَحدث الطحاوى فَأَعَادَهُ على أَبى عبيد فَأنكرهُ أَبُو عبيد فَقَالَ مَنْصُور أَنا أكذبه قَالَ أَبُو بكر بن الْحداد حضر مَنْصُور فتبينت فى وَجهه النَّدَم على حُضُوره وَلَوْلَا عجلة القاضى بالْكلَام لما تكلم مَنْصُور وَلَكِن قَالَ القاضى مَا أُرِيد أحدا يدل على لَا مَنْصُور وَلَا نصار يحكون عَنَّا مَا لم نقل فَقَالَ مَنْصُور قد علم الله أَنَّك قلت فَقَالَ كذبت فَقَالَ قد علم الله من الْكَاذِب ونهض وَهُوَ أعمى فَمَا جسر أحد من هَيْبَة القاضى أَن يَأْخُذ بِيَدِهِ إِلَّا ابْن الْحداد وَكَانَت بَينه وَبَين ابْن الْحداد مقاطعة فَشكر لَهُ هَذَا الصَّنِيع وَقَالَ لَهُ أحسن الله جَزَاك وشكر فعلك وَأخذ بِيَدِك يَوْم فاقتك إِلَيْهِ
ثمَّ إِن ابْن الْحداد أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى القاضى والاعتذار فَرجع فَلم يُمكنهُ الْحَاجِب من الدُّخُول إِلَيْهِ وَدفع فى ظَهره وَقَالَ لَا سَبِيل لَك إِلَى هَذَا ثمَّ تعصب لمنصور خلق كَثِيرُونَ كَانُوا يعتقدونه وتحامل عَلَيْهِ آخَرُونَ مِنْهُم مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزى وَكَانَ من جلة شُهُود مصر
قَالَ ابْن الْحداد سمع مُحَمَّد بن الرّبيع منصورا يَقُول مقَالَة يحكيها عَن النظام فنسبها إِلَى مَنْصُور وَشهد عَلَيْهِ بهَا عِنْد القاضى فهلع مَنْصُور وبلغه أَن القاضى قَالَ(3/479)
إِن شهد عندى شَاهد آخر مثل مُحَمَّد بن الرّبيع ضربت عنق مَنْصُور فَلَزِمَ مَنْصُور جَامع ابْن طولون يأتى كل يَوْم فَلَا يخرج مِنْهُ إِلَى الْمسَاء مَحْزُونا مغموما وماج النَّاس وَكثر الْكَلَام حَتَّى قَالَ بنان العابد الزَّاهِد يَا قوم مَا فى هَذَا الْبَلَد من يتوسط بَين هَذَا القاضى وَبَين هَذَا الشَّيْخ فَقيل لَهُ فَأَنت فَقَالَ مَا أكمل لهَذَا وَلم يمض على مَنْصُور إِلَّا أَيَّام يسيرَة وَتوفى وعزم القاضى أَبُو عبيد على أَن يصلى عَلَيْهِ فَبَلغهُ أَن خلقا من الْعَسْكَر والجند حملُوا السِّلَاح وتهيأوا لقتل القاضى إِن هُوَ صلى عَلَيْهِ فَتَأَخر عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ
وَقيل كَانَ حول جنَازَته مِائَتَا سيف وآلاف من السكاكين وَأظْهر النَّاس فى الْجِنَازَة سبّ أَبى عبيد وقذفه
وَقيل إِن منصورا أنْشد عِنْد مَوته
(قضيت نحبى فسر قوم ... حمقى بهم غَفلَة ونوم)
(كَأَن يومى على حتم ... وَلَيْسَ للشامتين يَوْم)
فَبلغ ذَلِك القاضى أَبَا عبيد فنكث بِيَدِهِ الأَرْض وَقَالَ
(تَمُوت قبلى وَلَو بِيَوْم ... وَنحن يَوْم النشور توم)
(فقد فرحنا وَقد سررنا ... وَلَيْسَ للشامتين لوم)
وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك
وَقيل إِن أَبَا عبيد نَدم على مَا جرى مِنْهُ وأسف على مَا فَاتَهُ من مَنْصُور وَكَانَ أَبُو بكر بن الْحداد رَحمَه الله يَقُول لَو شِئْت لَقلت إِن دِيَة مَنْصُور على عَاقِلَة القاضى(3/480)
يُرِيد أَن أَبَا عبيد قَاتله خطأ فَإِن منصورا بلغت مِنْهُ نكاية أَبى عبيد حَتَّى جَاءَت على نَفسه
وَمن شعر مَنْصُور فى علته وَإِنَّمَا يعْنى أَبَا عبيد
(يَا شامتا بى لِأَن هَلَكت ... لكل حى مدى وَوقت)
(وللمنايا وَإِن تناءت ... بِالْمَوْتِ يَاذَا الشمات بَغت)
(وَأَنت فى غَفلَة المنايا ... تخَاف مِنْهَا الذى أمنت)
(والكأس ملأى وَعَن قَلِيل ... تشرب مِنْهَا كَمَا شربت)
وَقَالَ
(تغابن الْأَيَّام تَقْدِير ... وَأَخذهَا جد وتشمير)
كتب إِلَى أَحْمد بن أَبى طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحَافِظ أخبرنَا ضِيَاء بن أَحْمد بن أَبى على أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الباقى أخبرنَا القاضى أَبُو المظفر هناد بن إِبْرَاهِيم أنشدنى الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عبد القاهر بن طَاهِر البغدادى بنيسابور قَالَ أنشدنا أَبُو أَحْمد بن عدى الْحَافِظ قَالَ أنشدنى مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الْفَقِيه لنَفسِهِ
(من كَفاهُ من مساعيه ... رغيف يغتذيه)
(وَله بَيت يواريه ... وثوب يكتسيه)
(فعلى م يبْذل الْوَجْه ... لذى كبر وتية)
(وعَلى م يبْذل الْعرض ... لمخلوق سَفِيه)(3/481)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كتاب القَوْل فى النُّجُوم حَدَّثَنى أَبُو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن يُوسُف بن أَحْمد الْقطَّان النيسابورى قَالَ أنشدنا أَبُو على صَالح بن إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن رشدين المصرى قَالَ أنشدنى أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مهَاجر الْكَاتِب قَالَ أنشدنى مَنْصُور الْفَقِيه لنَفسِهِ
(من كَانَ يخْشَى زحلا ... أَو كَانَ يَرْجُو الْمُشْتَرى)
(فإننى مِنْهُ وَإِن ... كَانَ أَبى الْأَدْنَى بَرى)
قَالَ وحدثنى مُحَمَّد بن يُوسُف أنشدنا ابْن رشد بن أَسد بن أَبى مهَاجر أنشدنى مَنْصُور الْفَقِيه لنَفسِهِ
(إِذا كنت تزْعم أَن النُّجُوم ... تضر وَتَنْفَع من تحتهَا)
(فَلَا تنكرن على من يَقُول ... بأنك بِاللَّه أشركتها)
قَالَ الْخَطِيب ولمنصور أَيْضا فِيمَا بلغنى بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد
(لَيْسَ للنجم إِلَى ضرّ م ... وَلَا نفع سَبِيل)
(إِنَّمَا النَّجْم على الْأَوْقَات ... والسمت دَلِيل)
أورد الْحَاكِم فى تَرْجَمَة جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحَارِث أَبى مُحَمَّد المراغى من شعر مَنْصُور
(النَّاس بَحر عميق ... والبعد عَنْهُم سفينة)
(وَقد نَصَحْتُك فَانْظُر ... لنَفسك المسكينة)
قلت وَمن شعره أَيْضا
(لى حِيلَة فِيمَن ينم م ... وَلَيْسَ فى الْكذَّاب حيله)(3/482)
(من كَانَ يخلق مَا يَقُول ... فحيلتى فِيهِ قَلِيله)
وَمِنْه
(الْكَلْب أَعلَى قيمَة ... وَهُوَ النِّهَايَة فى الخساسه)
(مِمَّن يُنَازع فى الرياسة ... قبل أَوْقَات الرياسة)
وَمِنْه وَقد ذكره الخطابى فى كتاب الْعُزْلَة
(لَيْسَ هَذَا زمَان قَوْلك مَا الحكم ... على من يَقُول أَنْت حرَام)
(والحقى بَائِنا بأهلك أَو أَنْت ... عَتيق محرم يَا غُلَام)
(وَمَتى تنْكح المصابة فى العدمة ... عَن شُبْهَة وَكَيف الْكَلَام)
(فى حرَام أصَاب سنّ غزال ... فَتَوَلّى وللغزال بغام)
(إِنَّمَا ذَا زمَان كدح إِلَى الْمَوْت ... وقوت مبلغ وَالسَّلَام)
وَقَالَ وَذكره الخطابى أَيْضا عَنهُ
(لَوْلَا بناتى وسيآتى ... لذبت شوقا إِلَى الْمَمَات)
(لأننى فِي جوَار قوم ... بغضنى قربهم حياتى)
وَقَالَ وَأوردهُ الخطابى أَيْضا
(قد قلت إِذْ مدحوا الْحَيَاة فَأَكْثرُوا ... للْمَوْت ألف فَضِيلَة لَا تعرف)
(مِنْهَا أَمَان لِقَائِه بلقائه ... وفراق كل معاشر لَا ينصف)(3/483)
241 - هَارُون بن مُحَمَّد بن مُوسَى الجوينى الآزاذوارى وآزاذوار بِمد الْألف وَفتح الزاى وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وفى آخرهَا الرَّاء من قرى جُوَيْن من نواحى نيسابور الْفَقِيه الأديب أَبُو مُوسَى
قَالَ الْحَاكِم سمع بنيسابور أَبَا عبد الله البوشنجى وأقرانه وَكتب بالرى وبغداد قبل الْعشْر والثلاثمائة وَكَانَ إِذا ورد الْبَلَد يعْنى نيسابور تهتز مَشَايِخنَا لوروده
ثمَّ روى الْحَاكِم عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا وَلم يزدْ فى تَرْجَمته على ذَلِك
242 - يحيى بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن حسن النيسابورى أَبُو عَمْرو المخلدى
كَانَ فَقِيها إِمَامًا عابدا كثير التِّلَاوَة
حدث عَن مُؤَمل بن الْحسن الماسرجس وابنى الشرقى ومكي بن عَبْدَانِ وأقرانهم
قَالَ الْحَاكِم وَحدث بِكِتَاب التَّارِيخ لأبى بكر بن أَبى خَيْثَمَة عَن ذَاك الشَّيْخ الواسطى عَنهُ قَالَ وَكَانَ من مَشَايِخ أهل البيوتات وَمن الْعباد الْمُجْتَهدين وَمن قراء الْقُرْآن الْعَظِيم وَكَانَ ختن يحيى بن مَنْصُور القاضى على ابْنَته
روى عَنهُ الْحَاكِم وَقَالَ توفى فى شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَسبعين سنة(3/484)
243 - يحيى بن أَحْمد أَبُو زَكَرِيَّا بن أَبى طَاهِر السكرى
أحد أَئِمَّة أَصْحَابنَا
ذكره الْحَاكِم وَقَالَ كَانَ من صالحى أهل الْعلم والمناظرين على مَذْهَب الشافعى
تفقه عِنْد أَبى الْوَلِيد وَبِه تخرج وَكَانَ يدرس نيفا وَثَلَاثِينَ سنة
سمع الإِمَام أَبَا بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصبغى وَأَبا الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب وأقرانهما وَخرج لَهُ الْفَوَائِد وَحدث
توفى فى الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
244 - يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الله بن العنبر بن عَطاء بن صَالح بن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن سُفْيَان السلمى مولى بنى حَرْب أَبُو زَكَرِيَّا العنبرى السلمى
أحد الْأَئِمَّة
سمع أَبَا عبد الله البوشنجى وَإِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب وَالْحُسَيْن بن مُحَمَّد القبانى وَطَائِفَة(3/485)
روى عَنهُ أَبُو على النيسابورى الْحَافِظ وَأَبُو بكر بن عبدش وهما من أقرانه وَأَبُو الْحسن الحجاجى وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله وَغَيرهم
قَالَ الْحَاكِم فِيهِ الْعدْل الأديب الْمُفَسّر الأوحد بَين أقرانه قَالَ وَسمعت أَبَا على الْحَافِظ غير مرّة يَقُول النَّاس يتعجبون من حفظنا لهَذِهِ الْأَسَانِيد وَأَبُو زَكَرِيَّاء العنبرى يحفظ من الْعُلُوم مَا لَو كلفنا حفظ شئ مِنْهَا لعجزنا عَنهُ وَمَا أعلم أَنى رَأَيْت مثله
قَالَ الْحَاكِم اعتزل أَبُو زَكَرِيَّا النَّاس وَقعد عَن حُضُور المحافل بضع عشرَة سنة وَأطَال الْحَاكِم فى تَرْجَمَة العنبرى وَذكر أَنه توفى فى الثانى وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَهُوَ ابْن سِتّ وَسبعين سنة ثمَّ إِنَّه سَمعه يَقُول الشَّفق الْحمرَة لِأَن اشتقاقه من الخجل وَالْخَوْف قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} أى خائفون(3/486)
245 - يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن يزِيد النيسابورى
الْحَافِظ الْكَبِير الْجَلِيل صَاحب الْمسند الصَّحِيح الْمخْرج على كتاب مُسلم أَبُو عوَانَة الإسفراينى النيسابورى
سمع بخراسان وَالْعراق والحجاز واليمن وَالشَّام والثغور والجزيرة وَفَارِس وأصبهان ومصر
وَهُوَ أول من أَدخل مَذْهَب الشافعى إِلَى أسفراين أَخذه عَن المزنى وَالربيع
سمع مُحَمَّد بن يحيى وَمُسلم بن الْحجَّاج وَيُونُس بن على الْأَعْلَى وَعمر بن شبة وعَلى بن حَرْب وعَلى بن إشكاب وسعدان بن نصر وخلقا سواهُم
روى عَنهُ أَحْمد بن على الرازى الْحَافِظ وَأَبُو على النيسابورى وَعبد الله بن عدى والطبرانى وَأَبُو بكر الإسماعيلى وَخلق آخِرهم ابْن أُخْته أَبُو نعيم عبد الْملك بن الْحسن الإسفراينى(3/487)
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عوَانَة من عُلَمَاء الحَدِيث وأثباتهم سَمِعت ابْنه مُحَمَّدًا يَقُول إِنَّه توفى سنة سِتّ عشرَة
قلت وَذكر عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل أَنه توفى سنة ثَلَاث عشرَة وَالصَّحِيح الأول
وعَلى قبر أَبى عوَانَة مشْهد بأسفراين يزار قيل وَهُوَ بداخل الْبَلَد
246 - يَعْقُوب بن مُوسَى أَبُو الْحسن الأردبيلى
سكن بَغْدَاد وَحدث بهَا عَن الْمَشَايِخ
توفى فى شهر ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
247 - يُوسُف بن الْقَاسِم بن يُوسُف بن فَارس بن سوار أَبُو بكر الميانجى
قاضى دمشق ومسند الشَّام فى وقته
مولده قبل التسعين وَمِائَتَيْنِ وَسمع أَبَا خَليفَة وَأَبا الْعَبَّاس السراج وزَكَرِيا الساجى(3/488)
وعبدان الأهوازى وَمُحَمّد بن جرير وَالقَاسِم الْمُطَرز والباغندى وخلائق
روى عَنهُ ابْن أَخِيه صَالح بن أَحْمد وَأحمد بن الْحسن الطيان وَأحمد بن سَلمَة ابْن كَامِل وَعبد الْوَهَّاب الميدانى وَأَبُو سُلَيْمَان بن زبر مَعَ تقدمه وَخلق
وناب فى الْقَضَاء بِدِمَشْق عَن قاضى مصر وَالشَّام أَبى الْحسن على بن النُّعْمَان
توفى فِي شعْبَان سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة آخر الطَّبَقَة الثَّالِثَة(3/489)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الطَّبَقَة الرَّابِعَة فِيمَن توفّي بَين الأربعمائة والخمسمائة(4/3)
248 - أَحْمد بن إِسْحَاق بن جَعْفَر بن أَحْمد بن أبي أَحْمد بن جَعْفَر ابْن مُحَمَّد بن هَارُون أَبُو الْعَبَّاس أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه
وجده جَعْفَر هُوَ المقتدر بن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل بن المعتصم بن الرشيد
مولده فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَأمه تمنى مولاة عبد الْوَاحِد بن المقتدر
بُويِعَ بالخلافة عِنْد الْقَبْض على الطائع فِي حادى عشر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وَكَانَ أَبيض كث اللِّحْيَة طويلها يخضب شَيْبه
وَقد تفقه على أبي بشر أَحْمد بن مُحَمَّد الْهَرَوِيّ الشَّافِعِي
قَالَ الْخَطِيب كَانَ من الدّيانَة وإدامة التَّهَجُّد وَكَثْرَة الصَّدقَات على صفة(4/5)
اشتهرت عَنهُ وصنف كتابا فِي الْأُصُول كَانَ يقْرَأ كل جُمُعَة فِي حَلقَة أَصْحَاب الحَدِيث بِجَامِع الْمهْدي
وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة إِلَى أَن مَاتَ
مُدَّة خِلَافَته إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر
توفّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ حادي عشر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَصلى عَلَيْهِ وَلَده الْخَلِيفَة الْقَائِم والخلق وَرَاءه وَكبر أَرْبعا
وعاش الْقَادِر سبعا وَثَمَانِينَ سنة إِلَّا شهرا وَثَمَانِية أَيَّام
249 - أَحْمد بن الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَفْص بن مُسلم ابْن يزِيد القَاضِي أَبُو بكر بن أبي عَليّ ابْن الشَّيْخ الْمُحدث أبي عَمْرو الْحِيرِي
مولده سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة
تفقه على الْأُسْتَاذ أبي الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي
ودرس الْكَلَام وَالْأُصُول على أَصْحَاب الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
وَسمع أَبَا عَليّ مُحَمَّد بن أَحْمد الميداني وحاجب بن أَحْمد وَأَبا الْعَبَّاس الْأَصَم وَأَبا سهل بن زِيَاد وَأَبا أَحْمد بن عدي وَغَيرهم بنيسابور وَمَكَّة وبغداد والكوفة وجرجان
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم وَهُوَ أكبر مِنْهُ والإمامان أَبُو بكر الْخَطِيب(4/6)
وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو صَالح الْمُؤَذّن وأسعد بن مَسْعُود الْعُتْبِي وخلائق آخِرهم موتا عبد الْغفار بن مُحَمَّد الشيرويى
وَكَانَ كَبِير خُرَاسَان رياسة وسؤددا وثروة وعلما وعلو إِسْنَاد وَمَعْرِفَة بِمذهب الشَّافِعِي
ولى قَضَاء نيسابور
قَالَ عبد الغافر وأصابه وقر فِي آخر عمره
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
250 - أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر أَبُو حَامِد الْفَقِيه الهمذاني أحد أَئِمَّتنَا
روى عَن أَبِيه وَمُحَمّد بن عِيسَى وَأبي نصر أَحْمد بن الْحُسَيْن الكسار وجعفر بن مُحَمَّد الْحُسَيْنِي
قَالَ شيرويه سَمِعت مِنْهُ وَكَانَ أحد مَشَايِخ الْبَلَد ومفتيه
مَاتَ سادس عشرى صفر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة(4/7)
251 - أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن عبد الله بن مُوسَى الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ النَّيْسَابُورِي الخسروجردي
وخسروجرد بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخرهَا الدَّال الْمُهْملَة قَرْيَة من نَاحيَة بيهق
كَانَ الإِمَام الْبَيْهَقِيّ أحد أَئِمَّة الْمُسلمين وَهُدَاة الْمُؤمنِينَ والدعاة إِلَى حَبل الله المتين
فَقِيه جليل حَافظ كَبِير أصولي نحرير زاهد ورع قَانِت لله قَائِم بنصرة الْمَذْهَب أصولا وفروعا جبلا من جبال الْعلم
ولد فِي شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وَسمع الْكثير من أبي الْحسن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْعلوِي وَهُوَ أكبر شيخ لَهُ وَمن أبي طَاهِر الزيَادي وَأبي عبد الله الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أجل أَصْحَاب الْحَاكِم وَمن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَأبي بكر بن فورك وَأبي عَليّ الرُّوذَبَارِي وَأبي زَكَرِيَّا الْمُزَكي وَخلق من أَصْحَاب الْأَصَم
وَحج فَسمع بِبَغْدَاد من هِلَال الحفار وَأبي الْحُسَيْن بن بَشرَان وَجَمَاعَة
وبمكة من أبي عبد الله بن نظيف وَغَيره بخراسان وَالْعراق والحجاز وَالْجِبَال(4/8)
وشيوخه أَكثر من مائَة شيخ وَلم يَقع لَهُ التِّرْمِذِيّ وَلَا النَّسَائِيّ وَلَا ابْن مَاجَه
روى عَنهُ جمَاعَة كَثِيرَة مِنْهُم وَلَده إِسْمَاعِيل وحفيده أَبُو الْحسن عبيد الله بن مُحَمَّد ابْن أبي بكر وَأَبُو عبد الله الفراوي وزاهر بن طَاهِر وَعبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الخواري وَآخَرُونَ
وَأخذ الْفِقْه عَن نَاصِر الْعمريّ
وَقَرَأَ علم الْكَلَام على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ
ثمَّ اشْتغل بالتصنيف بعد أَن صَار أوحد زَمَانه وَفَارِس ميدانه وأحذق الْمُحدثين وأحدهم ذهنا وأسرعهم فهما وأجودهم قريحة وَبَلغت تصانيفه ألف جُزْء وَلم يتهيأ لأحد مثلهَا
أما السّنَن الْكَبِير فَمَا صنف فِي علم الحَدِيث مثله تهذيبا وترتيبا وجودة
وَأما الْمعرفَة معرفَة السّنَن والْآثَار فَلَا يسْتَغْنى عَنهُ فَقِيه شَافِعِيّ وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يَقُول مُرَاده معرفَة الشَّافِعِي بالسنن والْآثَار
وَأما الْمَبْسُوط فِي نُصُوص الشَّافِعِي فَمَا صنف فِي نَوعه مثله
وَأما كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات فَلَا أعرف لَهُ نظيرا
وَأما كتاب الِاعْتِقَاد وَكتاب دَلَائِل النُّبُوَّة وَكتاب شعب الْإِيمَان وَكتاب مَنَاقِب الشَّافِعِي وَكتاب الدَّعْوَات الْكَبِير فأقسم مَا لوَاحِد مِنْهَا نَظِير
وَأما كتاب الخلافيات فَلم يسْبق إِلَى نَوعه وَلم يصنف مثله وَهُوَ طَريقَة مُسْتَقلَّة حَدِيثِيَّةٌ لَا يقدر عَلَيْهَا إِلَّا مبرز فِي الْفِقْه والْحَدِيث قيم بالنصوص(4/9)
وَله أَيْضا كتاب مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد وَكتاب أَحْكَام الْقُرْآن للشَّافِعِيّ وَكتاب الدَّعْوَات الصَّغِير وَكتاب الْبَعْث والنشور وَكتاب الزّهْد الْكَبِير وَكتاب الِاعْتِقَاد وَكتاب الْآدَاب وَكتاب الأسرى وَكتاب السّنَن الصَّغِير وَكتاب الْأَرْبَعين وَكتاب فَضَائِل الْأَوْقَات وَغير ذَلِك
وَكلهَا مصنفات نظاف مليحة التَّرْتِيب والتهذيب كَثِيرَة الْفَائِدَة يشْهد من يَرَاهَا من العارفين بِأَنَّهَا لم تتهيأ لأحد من السَّابِقين
وَفِي كَلَام شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَنه أول من جمع نُصُوص الشَّافِعِي وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ آخر من جمعهَا وَلذَلِك استوعب أَكثر مَا فِي كتب السَّابِقين وَلَا أعرف أحدا بعده جمع النُّصُوص لِأَنَّهُ سد الْبَاب على من بعده
وَكَانَت إِقَامَته ببيهق ثمَّ استدعي إِلَى نيسابور ليقْرَأ عَلَيْهِ كِتَابه الْمعرفَة فَحَضَرَ وقرئت عَلَيْهِ بِحَضْرَة عُلَمَاء نيسابور وثنائهم عَلَيْهَا
قَالَ عبد الغافر كَانَ على سيرة الْعلمَاء قانعا من الدُّنْيَا باليسير متجملا فِي زهده وورعه عَاد إِلَى النَّاحِيَة فِي آخر عمره وَكَانَت وَفَاته بهَا
وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَانَ الْبَيْهَقِيّ وَاحِد زَمَانه وفرد أقرانه وحافظ أَوَانه
قَالَ ودائرته فِي الحَدِيث لَيست كَبِيرَة بل بورك لَهُ فِي مروياته وَحسن تصرفه فِيهَا لحذقه وخبرته بالأبواب وَالرِّجَال
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ مَا من شَافِعِيّ إِلَّا وَللشَّافِعِيّ فِي عُنُقه منَّة إِلَّا الْبَيْهَقِيّ(4/10)
فَإِنَّهُ لَهُ على الشَّافِعِي منَّة لتصانيفه فِي نصرته لمذهبه وأقاويله
وَقَالَ شيخ الْقُضَاة أَبُو عَليّ ولد الْبَيْهَقِيّ حَدثنِي وَالِدي قَالَ حِين ابتدأت بتصنيف هَذَا الْكتاب يَعْنِي معرفَة السّنَن والْآثَار وفرغت من تَهْذِيب أَجزَاء مِنْهُ سَمِعت الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد أَحْمد بن عَليّ يَقُول وَهُوَ من صالحي أَصْحَابِي وَأَكْثَرهم تِلَاوَة وأصدقهم لهجة يَقُول رَأَيْت الشَّافِعِي فِي الْمَنَام وَفِي يَده أَجزَاء من هَذَا الْكتاب وَهُوَ يَقُول قد كتبت الْيَوْم من كتاب الْفَقِيه أَحْمد سَبْعَة أَجزَاء
أَو قَالَ قرأتها
قَالَ وَفِي صباح ذَلِك الْيَوْم رأى فَقِيه آخر من إخْوَانِي يعرف بعمر بن مُحَمَّد فِي مَنَامه الشَّافِعِي قَاعِدا على سَرِير فِي مَسْجِد الْجَامِع بخسروجرد وَهُوَ يَقُول اسْتَفَدْت الْيَوْم من كتاب الْفَقِيه أَحْمد كَذَا وَكَذَا
قَالَ شيخ الْقُضَاة وَحدثنَا وَالِدي قَالَ سَمِعت الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد الْحُسَيْن بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي الْحَافِظ يَقُول سَمِعت الْفَقِيه أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْمروزِي الجنوجردي يَقُول رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن تابوتا علا فِي السَّمَاء يعلوه نور فَقلت مَا هَذَا فَقيل تصانيف الْبَيْهَقِيّ
قيل وَكَانَ الْبَيْهَقِيّ يَصُوم الدَّهْر من قبل أَن يَمُوت بِثَلَاثِينَ سنة
توفّي الْبَيْهَقِيّ رَضِي الله عَنهُ بنيسابور فِي الْعَاشِر من جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة(4/11)
وَحمل إِلَى خسروجرد وَهِي أكبر بِلَاد بيهق فَدفن هُنَاكَ
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَن الْبَيْهَقِيّ مَسْأَلَة صَوْم رَجَب
ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي فَضَائِل الْأَوْقَات فِي الْكَلَام على صَوْم رَجَب بعد مَا ذكر حَدِيث إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن صَوْم رَجَب كُله وَضَعفه ثمَّ قَالَ إِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على التَّنْزِيه لِأَن الشَّافِعِي قَالَ فِي الْقَدِيم وأكره أَن يتَّخذ الرجل صَوْم شهر يكمله من بَين الشُّهُور كَمَا يكمل رَمَضَان قَالَ وَكَذَلِكَ يَوْمًا من بَين الْأَيَّام قَالَ وَإِنَّمَا كرهته أَلا يتأسى جَاهِل فيظن أَن ذَلِك وَاجِب وَإِن فعل فَحسن
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فَبين الشَّافِعِي جِهَة الْكَرَاهِيَة ثمَّ قَالَ وَإِن فعل فَحسن
وَذَلِكَ لِأَن من الْعلم الْعَام فِيمَا بَين الْمُسلمين أَلا يجب بِأَصْل الشَّرْع صَوْم غير صَوْم رَمَضَان فارتفع بذلك معنى الْكَرَاهِيَة
انْتهى كَلَام الْبَيْهَقِيّ
قلت وَهَذِه الزِّيَادَة وَهِي قَول الشَّافِعِي وَإِن فعل فَحسن لم أَجدهَا فِي نُصُوص(4/12)
الشَّافِعِي الْمُسَمّى ب جمع الْجَوَامِع لأبي سهل بن العفريس وَهُوَ كتاب حافل ذكر فِيهِ هَذَا النَّص عَن الْقَدِيم وَلَيْسَ فِيهِ هَذِه الزِّيَادَة وَلَو لم تكن ثَابِتَة عِنْد الْبَيْهَقِيّ لما ذكرهَا وَهُوَ من أعرف النَّاس بالنصوص وأصل النَّص على صَوْم رَجَب بِكَمَالِهِ غَرِيب وَالْمَنْقُول اسْتِحْبَاب صِيَام الْأَشْهر الْحرم وَأَن أفضلهَا الْمحرم
وَذكر النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة من زياداته أَن صَاحب الْبَحْر قَالَ أفضلهَا رَجَب
وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا قَالَ فِي الْبَحْر الْمحرم
وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا النَّص الَّذِي حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي فِيهِ دلَالَة بَيِّنَة على أَن صَوْم رَجَب بِكَمَالِهِ حسن وَإِذا لم يكن النَّهْي عَن تَكْمِيل صَوْمه صَحِيحا بَقِي على أصل الِاسْتِحْبَاب وَفِي ذَلِك تأييد لشيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام حَيْثُ قَالَ من نهى عَن صَوْم رَجَب فَهُوَ جَاهِل بمأخذ أَحْكَام الشَّرْع وَأطَال فِي ذَلِك
قلت وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَة الإِمَام أبي بكر بن السَّمْعَانِيّ وَالِد الْحَافِظ أبي سعد فِي ذَلِك شَيْء وَلَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج على الْبَيْهَقِيّ بِمَا فِي سنَن ابْن ماجة من حَدِيث ابْن عَبَّاس نهى عَن صَوْم رَجَب
فَإِنَّهُ قد قضى بِعَدَمِ صِحَّته(4/13)
لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الْمعرفَة قَالَ الشَّافِعِي وَأحب للْجنب أَلا يقْرَأ الْقُرْآن لحَدِيث لَا يُثبتهُ أهل الحَدِيث
وَقد سكت الْبَيْهَقِيّ على هَذَا النَّص المقتصر على الْمحبَّة وَلم يذكر غَيره وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَقَالَ بِهِ ابْن الْمُنْذر من أَصْحَابنَا
وَالْمَعْرُوف عندنَا الْجَزْم بِالتَّحْرِيمِ وَهَذَا النَّص غَرِيب
والْحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ رُبمَا يَقع فِي الذِّهْن أَنه حَدِيث لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن وَلَكِن لَيْسَ هُوَ إِيَّاه بل إِنَّمَا أَشَارَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى حَدِيث عَليّ كرم الله وَجهه كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَن يكون جنبا
فَإِن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ذكر هَذَا الحَدِيث وَقَالَ إِن يكن أهل الحَدِيث يثبتونه
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَإِنَّمَا توقف الشَّافِعِي فِي ثُبُوته لِأَن مَدَاره على عبد الله بن سَلمَة الْكُوفِي وَكَانَ قد كبر وَأنكر من حَدِيثه وعقله بعض النكرَة وَإِنَّمَا روى هَذَا الحَدِيث بعد أَن كبر قَالَه شُعْبَة
وَقد روى الحَدِيث أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم(4/14)
وَلَفظ أبي دَاوُد إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج من الْخَلَاء فيقرينا الْقُرْآن وَيَأْكُل مَعنا اللَّحْم وَلم يكن يَحْجُبهُ أَو قَالَ يحجزه عَن الْقُرْآن شَيْء لَيْسَ الْجَنَابَة
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقرئنا الْقُرْآن مَا لم يكن جنبا
وَاعْلَم أَن مُعْتَمد الْجُمْهُور على هَذَا الحَدِيث وَفِيه مقَال من جِهَة عبد الله بن سَلمَة فَإِنَّهُ لم يرو إِلَّا من حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَنهُ عَن عَليّ وَقد قيل فِي حَدِيثه تعرف وتنكر لما ذَكرْنَاهُ
وعَلى حَدِيث لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَهُوَ // ضَعِيف //
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف
وَفِي الْبَاب أَحَادِيث أخر ضَعِيفَة وَقد يَنْتَهِي مجموعها إِلَى غلبات الظنون وَهِي كَافِيَة فِي الْمَسْأَلَة فالمختار مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور
وَقدمنَا فِي خطْبَة هَذَا الْكتاب حَدِيثا مُرْسلا عَن عبد الله بن رَوَاحَة وَقَضيته مَعَ زَوجته فِيهِ دلَالَة على التَّحْرِيم(4/15)
مَسْأَلَة بيع الْمكَاتب إِذا رَضِي
ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه أَن الْمكَاتب يجوز بَيْعه إِذا رَضِي ثمَّ روى حَدِيث بَرِيرَة قَالَ قَالَ الشَّافِعِي وَإِذا رَضِي أَهلهَا بِالْبيعِ ورضيت الْمُكَاتبَة بِالْبيعِ فَإِن ذَلِك ترك للكتابة انْتهى
قلت وَهَذَا غَرِيب
252 - أَحْمد بن الْحُسَيْن الفناكي
بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد النُّون
الإِمَام أَبُو الْحُسَيْن الرَّازِيّ
من كبار أَصْحَابنَا
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق ولد بِالريِّ
وتفقه على أبي حَامِد الإسفرايني وَأبي عبد الله الْحَلِيمِيّ وَأبي طَاهِر الزيَادي وَسَهل الصعلوكي
ودرس ببروجرد
وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ ابْن نَيف وَتِسْعين سنة
قلت عمر دهرا ورحل إِلَى بُخَارى إِلَى الْحَلِيمِيّ وَإِلَى غَيره بغَيْرهَا
وَقَالَ ابْن الصّلاح رَأَيْت لَهُ كتاب المناقضات ومضمونه الْحصْر وَالِاسْتِثْنَاء شبه مَوْضُوع تَلْخِيص ابْن الْقَاص(4/16)
قلت وَفِيه يَقُول الفناكي من اشْترى شَيْئا شِرَاء صَحِيحا لزمَه الثّمن إِلَّا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي الْمُضْطَر يَشْتَرِي الطَّعَام بِثمن مَعْلُوم فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الثّمن وَإِنَّمَا تلْزمهُ قِيمَته
ذكره أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْمُضْطَر
قلت وَهَذَا وَجه فِي الْمَسْأَلَة صَححهُ الرَّوْيَانِيّ وَفِي وَجه آخر جعله الرَّافِعِيّ الأقيس وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب أَنه يلْزمه الْمُسَمّى وَفِي ثَالِث يفرق بَين زِيَادَة تشق على الْمُضْطَر وَزِيَادَة لَا تشق
وَمحل الْخلاف إِذا لم يُمكن الْمُضْطَر الْأَخْذ قهرا فَإِن أمكنه وَالْتزم بِالثّمن لزمَه الْمُسَمّى بِلَا خلاف
والْحَدِيث الْمشَار إِلَيْهِ فِي سَنَده مقَال ثمَّ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَان ذكرهمَا الْخطابِيّ
253 - أَحْمد بن سهل
أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي السراج ولد سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة
وروى عَن مُحَمَّد بن مُوسَى الصَّيْرَفِي وَأبي بكر الْحِيرِي وَغَيرهَا
روى عَنهُ أَبُو سعد مُحَمَّد بن أَحْمد الخليلي النوقاني الْحَافِظ وزاهر ووجيه ابْنا الشحامي وَعبد الْخَالِق بن زَاهِر الْمَذْكُور وَجَمَاعَة(4/17)
وَكَانَ يحسن الْكَلَام على فقه الحَدِيث
توفّي لَيْلَة سَابِع عشرى رَمَضَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
254 - احْمَد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِسْحَاق بن مُوسَى بن مهْرَان الإِمَام الْجَلِيل الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ الصُّوفِي الْجَامِع بَين الْفِقْه والتصوف وَالنِّهَايَة فِي الْحِفْظ والضبط
ولد فِي رَجَب سنة سِتّ وثلاثمائة بأصبهان
وَهُوَ سبط الشَّيْخ الزَّاهِد مُحَمَّد بن يُوسُف الْبَنَّا أحد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة
وَأحد الْأَعْلَام الَّذين جمع الله لَهُم بَين الْعُلُوّ فِي الرِّوَايَة وَالنِّهَايَة فِي الدِّرَايَة
رَحل إِلَيْهِ الْحفاظ من الأقطار
واستجاز لَهُ أَبوهُ طَائِفَة من شُيُوخ الْعَصْر تفرد فِي الدُّنْيَا عَنْهُم
أجَاز لَهُ من الشَّام خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان
وَمن بَغْدَاد جَعْفَر الْخُلْدِيِّ(4/18)
وَمن وَاسِط عبد الله بن عمر بن شَوْذَب
وَمن نيسابور الْأَصَم
وَسمع سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة من عبد الله بن جَعْفَر بن أَحْمد بن فَارس وَالْقَاضِي أبي أَحْمد مُحَمَّد بن أَحْمد الْعَسَّال وَأحمد بن معبد السمسار وَأحمد بن مُحَمَّد الْقصار وَأحمد بن بنْدَار الشعار وَعبد الله بن الْحسن بن بنْدَار وَالطَّبَرَانِيّ وَأبي الشَّيْخ والجعابي
ورحل سنة سِتّ وَخمسين وثلاثمائة فَسمع بِبَغْدَاد أَبَا عَليّ بن الصَّواف وَأَبا بكر بن الْهَيْثَم الْأَنْبَارِي وَأَبا بَحر البربهاري وَعِيسَى بن مُحَمَّد الطوماري وَعبد الرَّحْمَن وَالِد المخلص وَابْن خَلاد النصيبي وحبيبا الْقَزاز وَطَائِفَة كَثِيرَة
وَسمع بِمَكَّة أَبَا بكر الْآجُرِيّ وَأحمد بن إِبْرَاهِيم الْكِنْدِيّ
وبالبصرة فاروق بن عبد الْكَرِيم الْخطابِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ بن مُسلم العامري وَجَمَاعَة
وبالكوفة أَبَا بكر عبد الله بن يحيى الطلحي وَجَمَاعَة
وبنيسابور أَبَا أَحْمد الْحَاكِم وحسينك التَّمِيمِي وَأَصْحَاب السراج فَمن بعدهمْ
روى عَنهُ كوشيار بن لياليروز الجيلي وَتُوفِّي قبله ببضع وَثَلَاثِينَ سنة(4/19)
وَأَبُو سعد الْمَالِينِي وَتُوفِّي قبله بثماني عشرَة سنة وَأَبُو بكر بن أبي عَليّ الذكواني وَتُوفِّي قبله بِإِحْدَى عشرَة سنة والحافظ أَبُو بكر الْخَطِيب وَهُوَ من أخص تلامذته وَقد رَحل إِلَيْهِ وَأكْثر عَنهُ وَمَعَ ذَلِك لم يذكرهُ فِي تَارِيخ بَغْدَاد وَلَا يخفى عَلَيْهِ أَنه دَخلهَا وَلَكِن النسْيَان طبيعة الْإِنْسَان وَكَذَلِكَ أغفله الْحَافِظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فَلم يذكرهُ فِي الذيل
وَمِمَّنْ روى عَن أبي نعيم أَيْضا الْحَافِظ أَبُو صَالح الْمُؤَذّن وَالْقَاضِي أَبُو عَليّ الوخشي ومستمليه أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعَطَّار وَسليمَان بن إِبْرَاهِيم الْحَافِظ وَهبة الله بن مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ وَأَبُو الْفضل حمد وَأَبُو عَليّ الْحسن ابْنا أَحْمد الْحداد وَخلق كثير آخِرهم وَفَاة أَبُو طَاهِر عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الدشتج الذَّهَبِيّ
وَقد روى أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ مَعَ تقدمه عَن وَاحِد عَن أبي نعيم فَقَالَ فِي كتاب طَبَقَات الصُّوفِيَّة حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْهَاشِمِي حَدثنَا أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد الله أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن حُبَيْش المقرىء بِبَغْدَاد أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سهل الأدمِيّ وَذكر حَدِيثا(4/20)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن السَّمرقَنْدِي سَمِعت أَبَا بكر الْخَطِيب يَقُول لم أر أحدا أطلق عَلَيْهِ اسْم الْحِفْظ غير رجلَيْنِ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ وَأَبُو حَازِم العبدوي الْأَعْرَج
وَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مرْدَوَيْه كَانَ أَبُو نعيم فِي وقته مرحولا إِلَيْهِ وَلم يكن فِي أفق من الْآفَاق أسْند وَلَا أحفظ مِنْهُ كَانَ حفاظ الدُّنْيَا قد اجْتَمعُوا عِنْده فَكَانَ كل يَوْم نوبَة وَاحِد مِنْهُم يقْرَأ مَا يُريدهُ إِلَى قريب الظّهْر فَإِذا قَامَ إِلَى دَاره رُبمَا كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق جُزْء وَكَانَ لَا يضجر لم يكن لَهُ غذَاء سوى التصنيف أَو التسميع
وَقَالَ حَمْزَة بن الْعَبَّاس الْعلوِي كَانَ أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ بَقِي أَبُو نعيم أَربع عشرَة سنة بِلَا نَظِير لَا يُوجد شرقا وَلَا غربا أَعلَى إِسْنَادًا مِنْهُ وَلَا أحفظ مِنْهُ
وَكَانُوا يَقُولُونَ لما صنف كتاب الْحِلْية حمل إِلَى نيسابور حَال حَيَاته فاشتروه بأربعمائة دِينَار
وَقَالَ ابْن الْمفضل الْحَافِظ قد جمع شَيخنَا السلَفِي أَخْبَار أبي نعيم وَذكر من حَدثهُ عَنهُ وهم نَحْو ثَمَانِينَ رجلا
قَالَ لم يصنف مثل كِتَابه حلية الْأَوْلِيَاء سمعناه على أبي المظفر القاساني عَنهُ سوى فَوت يسير
وَقَالَ ابْن النجار هُوَ تَاج الْمُحدثين وَأحد أَعْلَام الدّين
قلت وَمن كراماته الْمَذْكُورَة أَن السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين لما استولى على أَصْبَهَان ولي عَلَيْهَا واليا من قبله ورحل عَنْهَا فَوَثَبَ أهل أَصْبَهَان وَقتلُوا الْوَالِي فَرجع مَحْمُود إِلَيْهَا(4/21)
وأمنهم حَتَّى اطمأنوا ثمَّ قصدهم يَوْم الْجُمُعَة فِي الْجَامِع فَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وَكَانُوا قبل ذَلِك قد منعُوا أَبَا نعيم الْحَافِظ من الْجُلُوس فِي الْجَامِع فحصلت لَهُ كرامتان السَّلامَة مِمَّا جرى عَلَيْهِم إِذْ لَو كَانَ جَالِسا لقتل وانتقام الله تَعَالَى لَهُ مِنْهُم سَرِيعا
وَمن مصنفاته حلية الْأَوْلِيَاء وَهِي من أحسن الْكتب كَانَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله كثير الثَّنَاء عَلَيْهَا وَيُحب تسميعها
وَله أَيْضا كتاب معرفَة الصَّحَابَة وَكتاب دَلَائِل النُّبُوَّة وَكتاب الْمُسْتَخْرج على البُخَارِيّ وَكتاب الْمُسْتَخْرج على مُسلم وَكتاب تَارِيخ أَصْبَهَان وَكتاب صفة الْجنَّة وَكتاب فَضَائِل الصَّحَابَة وصنف شَيْئا كثيرا من المصنفات الصغار
توفّي فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَله أَربع وَتسْعُونَ سنة رَحْمَة الله عَلَيْهِ
ذكر الْبَحْث عَن وَاقعَة جُزْء مُحَمَّد بن عَاصِم الَّتِي اتخذها من نَالَ من أبي نعيم رَحمَه الله ذَرِيعَة إِلَى ذَلِك
قد حدث أَبُو نعيم بِهَذَا الْجُزْء وَرَوَاهُ عَنهُ الْأَثْبَات وَالرجل ثِقَة ثَبت إِمَام صَادِق وَإِذا قَالَ هَذَا سَمَاعي جَازَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ
وَطعن بعض الْجُهَّال الطاعنين فِي أَئِمَّة الدّين فَقَالُوا إِن الرجل لم يُوجد لَهُ سَماع بِهَذَا الْجُزْء
وَهَذَا الْكَلَام سبة على قَائِله فَإِن عدم وجدانهم لسماعه لَا يُوجب عدم وجوده وإخبار الثِّقَة بِسَمَاع نَفسه كَاف(4/22)
ثمَّ ذكر شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ أَن شَيخنَا الْحَافِظ أَبَا الْحجَّاج الْمزي حَدثهُ أَنه رأى بِخَط الْحَافِظ ضِيَاء الدّين الْمَقْدِسِي أَنه وجد بِخَط الْحَافِظ أبي الْحجَّاج يُوسُف بن خَلِيل أَنه قَالَ رَأَيْت أصل سَماع الْحَافِظ أبي نعيم لجزء مُحَمَّد بن عَاصِم
فَبَطل مَا اعتقدوه رِيبَة
ثمَّ قَالَ الطاعنون ثَانِيًا وَهَذَا الْخَطِيب أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ الحبر الَّذِي تخضع لَهُ الْأَثْبَات وَله الخصوصية الزَّائِدَة بِصُحْبَة أبي نعيم قَالَ فِيمَا كتب إِلَيّ بِهِ أَحْمد بن أبي طَالب من دمشق قَالَ كتب إِلَيّ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن النجار من بَغْدَاد قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عبيد الله الْحَافِظ بأصبهان أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل الصَّيْرَفِي أخبرنَا يحيى بن عبد الْوَهَّاب بن مندة قَالَ سَمِعت أَبَا الْفضل الْمَقْدِسِي يَقُول سَمِعت عبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي يذكر أَنه وجد بِخَط الْخَطِيب سَأَلت مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعَطَّار مستملي أبي نعيم عَن جُزْء مُحَمَّد بن عَاصِم كَيفَ قرأته على أبي نعيم وَكَيف رَأَيْت سَمَاعه فَقَالَ أخرج إِلَيّ كتابا وَقَالَ هَذَا سَمَاعي
فَقَرَأته عَلَيْهِ
قُلْنَا لَيْسَ فِي هَذِه الْحِكَايَة طعن على أبي نعيم بل حاصلها أَن الْخَطِيب لم يجد سَمَاعه بِهَذَا الْجُزْء فَأَرَادَ استفادة ذَلِك من مستمليه فَأخْبرهُ بِأَنَّهُ اعْتمد فِي الْقِرَاءَة على إِخْبَار الشَّيْخ وَذَلِكَ كَاف
ثمَّ قَالَ الطاعنون ثَالِثا وَقد قَالَ الْخَطِيب أَيْضا رَأَيْت لأبي نعيم أَشْيَاء يتساهل فِيهَا مِنْهَا أَنه يَقُول فِي الْإِجَازَة أخبرنَا من غير أَن يبين(4/23)
قلت هَذَا لم يثبت عَن الْخَطِيب وَبِتَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَ بقدح ثمَّ إِطْلَاق أخبرنَا فِي الْإِجَازَة مُخْتَلف فِيهِ فَإِذا رَآهُ هَذَا الْخَبَر الْجَلِيل أَعنِي أَبَا نعيم فَكيف يعد مِنْهُ تساهلا وَلَئِن عد فَلَيْسَ من التساهل المستقبح وَلَو حجرنا على الْعلمَاء أَلا يرووا إِلَّا بِصِيغَة مجمع عَلَيْهَا لضيعنا كثيرا من السّنة
وَقد دفع الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن النجار قَضِيَّة جُزْء مُحَمَّد بن عَاصِم بِأَن الْحفاظ الْأَثْبَات رَوَوْهُ عَن أبي نعيم وحكينا لَك نَحن أَن أصل سَمَاعه وجد فطاحت هَذِه الخيالات وَنحن لَا نَحْفَظ أحدا تكلم فِي أبي نعيم بقادح وَلم يذكر بِغَيْر هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي عزيت إِلَى الْخَطِيب وَقُلْنَا إِنَّهَا لم تثبت عَنهُ وَالْعَمَل على إِمَامَته وجلالته وَأَنه لَا عِبْرَة بهذيان الهاذين وأكاذيب المفترين
على أَنا لَا نَحْفَظ عَن أحد فِيهِ كلَاما صَرِيحًا فِي جرح وَلَو حفظ لَكَانَ سبة على قَائِله وَقد برأَ الله أَبَا نعيم من معرته
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن النجار
فِي إِسْنَاد مَا حُكيَ عَن الْخَطِيب غير وَاحِد مِمَّن يتحامل على أبي نعيم لمُخَالفَته لمذهبه وعقيدته فَلَا يقبل
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ والتساهل الَّذِي أُشير إِلَيْهِ شَيْء كَانَ يَفْعَله فِي الْإِجَازَة نَادرا
قَالَ فَإِنَّهُ كثيرا مَا يَقُول كتب إِلَيّ جَعْفَر الْخُلْدِيِّ كتب إِلَيّ أَبُو الْعَبَّاس الْأَصَم أخبرنَا أَبُو الميمون بن رَاشد فِي كِتَابه
قَالَ وَلَكِن رَأَيْته يَقُول أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر فِيمَا قرىء عَلَيْهِ
قَالَ وَالظَّاهِر أَن هَذَا إجَازَة
قلت إِن كَانَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ يَقُول ذَلِك فِي مَكَان غلب على ظَنّه أَن أَبَا نعيم لم يسمعهُ(4/24)
بِخُصُوصِهِ من عبد الله بن جَعْفَر فَالْأَمْر مُسلم إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أعنى شَيخنَا الحبر الَّذِي لَا يلْحق شأوه فِي الْحِفْظ وَإِلَّا فَأَبُو نعيم قد سمع من عبد الله بن جَعْفَر فَمن أَيْن لنا أَنه يُطلق هَذِه الْعبارَة حَيْثُ لَا يكون سَماع ثمَّ وَإِن أطلق إِذْ ذَاك فغايته تَدْلِيس جَائِز قد اغتفر أَشد مِنْهُ لأعظم من أبي نعيم
ثمَّ قَالَ الطاعنون رَابِعا قَالَ يحيى بن مندة الْحَافِظ سَمِعت أَبَا الْحُسَيْن القَاضِي يَقُول سَمِعت عبد الْعَزِيز النخشبي يَقُول لم يسمع أَبُو نعيم مُسْند الْحَارِث بن أبي أُسَامَة بِتَمَامِهِ فَحدث بِهِ كُله
قُلْنَا قَالَ الْحَافِظ ابْن النجار وهم عبد الْعَزِيز فِي هَذَا فَأَنا رَأَيْت نُسْخَة من الْكتاب عتيقة وَعَلَيْهَا خطّ أبي نعيم يَقُول سمع مني فلَان إِلَى آخر سَمَاعي من هَذَا الْمسند من ابْن خَلاد فَلَعَلَّهُ روى الْبَاقِي بِالْإِجَازَةِ
255 - أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن ثَابت الإِمَام أَبُو نصر الثابتي البُخَارِيّ
تفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد
وروى عَن أبي طَاهِر المخلص وَغَيره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَأَصله من فسا وَله عَن الشَّيْخ أبي حَامِد تعليقة(4/25)
وصنف ودرس بِبَغْدَاد وَتُوفِّي بهَا فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَصلى عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ وَدفن بِبَاب حَرْب إِلَى جَانب أبي حَامِد
قَالَ ابْن الصّلاح رَأَيْت من تصانيف الثابتي كتابا فِي الْفَرَائِض سهل الْعبارَة موسوما بِكِتَاب الْمُهَذّب والمقرب
قلت حدث بِيَسِير عَن زَاهِر السَّرخسِيّ
كتب عَنهُ الْخَطِيب رَحمَه الله
256 - أَحْمد بن عبد الله بن عَليّ بن طَاوس المقرىء أَبُو البركات
ولد سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة بِبَغْدَاد
وَقَرَأَ الْقُرْآن على أبي الْحسن على بن الْحسن الْعَطَّار وعَلى مُحَمَّد بن عَليّ بن فَارس الْخياط
وَسمع عبد الله الْأَزْهَرِي وَأَبا طَالب بن بكير وَأَبا طَالب بن غيلَان والعتيقي وَجَمَاعَة
وَقد دمشق بعد الْخمسين وَأَرْبَعمِائَة فسكنها وَسمع بهَا من أبي الْقَاسِم الحنائي وَجَمَاعَة(4/26)
وصنف فِي الْقرَاءَات وأقرأ النَّاس وَكَانَ إِمَامًا ماهرا
روى عَنهُ الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي وَهُوَ أكبر مِنْهُ وَابْنه هبة الله بن طَاوس والفقيه نصر الله المصِّيصِي وَحَمْزَة بن أَحْمد بن كروس
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
257 - أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن مُوسَى الشِّيرَازِيّ أَبُو مَنْصُور
الشَّافِعِي الْوَاعِظ
تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
قَالَ ابْن النجار وَكَانَ واعظا مليح الْوَعْظ يغسل الْمَوْتَى
سمع أَبَا الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس بن كَامِل السراج وَأَبا مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي وَغَيرهمَا
روى عَنهُ أَبُو الْفضل بن طَاهِر الْحَافِظ وَغَيره
مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَمَات فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَلَا اعْتِبَار بوقيعة أبي الْفضل بن نَاصِر فِيهِ فَإِنَّهُ كثير الوقيعة فِي النَّاس ورحم الله أَبَا سعد إِنَّه لينكر مِنْهُ ذَلِك(4/27)
258 - أَحْمد بن عَليّ بن حَامِد أَبُو حَامِد الْبَيْهَقِيّ
من خسروجرد بليدَة ببيهق
قَالَ ابْن الصّلاح ذكره أَبُو الْحسن الْخَطِيب يَعْنِي عبد الغافر الْفَارِسِي فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الأوحد أَبُو حَامِد الْمدرس المناظر شيخ مَشْهُور ثِقَة
قَالَ ورأيته كَانَ يحضر مجَالِس المناظرة وحظه فِي حفظ الْمَذْهَب أوفر مِنْهُ فِي الْخلاف
وَذكر أَنه سمع من أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعبد القاهر بن طَاهِر وَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي بعد سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَإِن الْحُسَيْن الفوراني سمع مِنْهُ فِي هَذِه السّنة(4/28)
259 - أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت بن أَحْمد بن مهْدي أَبُو بكر الْخَطِيب
الْحَافِظ الْكَبِير أحد أَعْلَام الْحفاظ ومهرة الحَدِيث وَصَاحب التصانيف المنتشرة
ولد يَوْم الْخَمِيس لست بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلاثمائة
وَكَانَ لوالده الْخَطِيب أبي الْحسن عَليّ إِلْمَام بِالْعلمِ وَكَانَ يخْطب بقرية درزيجان إِحْدَى قرى الْعرَاق فحض وَلَده أَبَا بكر على السماع فِي صغره فَسمع وَله إِحْدَى عشرَة سنة
ورحل إِلَى الْبَصْرَة وَهُوَ ابْن عشْرين سنة وَإِلَى نيسابور ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة ثمَّ إِلَى أَصْبَهَان ثمَّ رَحل فِي الكهولة إِلَى الشَّام
سمع أَبَا عمر بن مهْدي الْفَارِسِي وَأَبا الْحسن بن رزقويه وَأَبا سعد الْمَالِينِي وَأَبا الْفَتْح بن أبي الفوارس وهلالا الحفار وَأَبا الْحُسَيْن بن بَشرَان وَغَيرهم بِبَغْدَاد
وَأَبا عمر الْهَاشِمِي رَاوِي السّنَن وَجَمَاعَة بِالْبَصْرَةِ
وَأَبا بكر الْحِيرِي وَأَبا حَازِم العبدوي وَغَيرهمَا بنيسابور
وَأَبا نعيم الْحَافِظ وَغَيره بأصبهان
وَأحمد بن الْحُسَيْن الكسار وَغَيره بالدينور وبالكوفة والري وهمذان والحجاز
وَقدم دمشق سنة خمس وَأَرْبَعين حَاجا فَسمع خلقا كثيرا وَتوجه إِلَى الْحَج ثمَّ قدمهَا سنة إِحْدَى وَخمسين فسكنها وَأخذ يصنف فِي كتبه وَحدث بهَا بتآليفه(4/29)
روى عَنهُ من شُيُوخه أَبُو بكر البرقاني وَأَبُو الْقَاسِم الْأَزْهَرِي وَغَيرهمَا
وَمن أقرانه عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الكتاني وَغَيره وَابْن مَاكُولَا وَعبد الله بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي وَمُحَمّد بن مَرْزُوق الزَّعْفَرَانِي وَأَبُو بكر بن الخاضبة وخلائق يطول سردهم
ثمَّ حدث الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن أَرْبَعَة وَعشْرين شَيخا حدثوه عَن الْخَطِيب مِنْهُم أَبُو مَنْصُور بن زُرَيْق وَالْقَاضِي أَبُو بكر الْأنْصَارِيّ وَأَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَغَيرهم
وَكَانَ من كبار الْفُقَهَاء تفقه على أبي الْحسن بن الْمحَامِلِي وَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وعلق عَنهُ الْخلاف وَأبي نصر بن الصّباغ
وَكَانَ يذهب فِي الْكَلَام إِلَى مَذْهَب أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
وَقَرَأَ صَحِيح البُخَارِيّ بِمَكَّة فِي خَمْسَة أَيَّام على كَرِيمَة المروزية
وَأَرَادَ الرحلة إِلَى ابْن النّحاس إِلَى مصر قَالَ فاستشرت البرقاني هَل أرحل إِلَى ابْن النّحاس إِلَى مصر أَو أخرج إِلَى نيسابور إِلَى أَصْحَاب الْأَصَم فَقَالَ إِنَّك إِن خرجت إِلَى مصر إِنَّمَا تخرج إِلَى رجل وَاحِد إِن فاتك ضَاعَت رحلتك وَإِن خرجت إِلَى نيسابور فَفِيهَا جمَاعَة إِن فاتك وَاحِد أدْركْت من بَقِي
فَخرجت إِلَى نيسابور
ثمَّ أَقَامَ بِبَغْدَاد وَألقى عَصا السّفر إِلَى حِين وَفَاته فَمَا طَاف سورها على نَظِيره يرْوى(4/30)
عَن أفْصح من نطق بالضاد وَلَا أحاطت جوانبها بِمثلِهِ وَإِن طفح مَاء دجلتها وروى كل صَاد عَرفته أَخْبَار شَأْنهَا
وأطلعته على أسرار أبنائها وأوقفته على كل موقف مِنْهَا وبنيان وخاطبته شفاها لَو أَنَّهَا ذَات لِسَان
ومصنفاته تزيد على السِّتين مصنفا
قَالَ ابْن مَاكُولَا كَانَ أَبُو بكر آخر الْأَعْيَان مِمَّن شَاهَدْنَاهُ معرفَة وحفظا وإتقانا وضبطا لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتفننا فِي علله وَأَسَانِيده وعلما بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه
قَالَ وَلم يكن للبغداديين بعد أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ مثله
وَقَالَ المؤتمن السَّاجِي مَا أخرجت بَغْدَاد بعد الدَّارَقُطْنِيّ أحفظ من الْخَطِيب(4/31)
وَقَالَ أَبُو عَليّ البرداني لَعَلَّ الْخَطِيب لم ير مثل نَفسه
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الْخَطِيب يشبه بالدارقطني ونظرائه فِي معرفَة لحَدِيث وَحفظه
وَقَالَ أَبُو الفتيان الرواسِي كَانَ الْخَطِيب إِمَام هَذِه الصَّنْعَة مَا رَأَيْت مثله
وَقَالَ عبد الْعَزِيز الكتاني إِنَّه أَعنِي الْخَطِيب اسْمَع الحَدِيث وَهُوَ ابْن عشر سِنِين
قَالَ وعلق الْفِقْه عَن القَاضِي أبي الطّيب وَعَن أبي نصر بن الصّباغ
قلت وَهُوَ من أَقْرَان ابْن الصّباغ
قَالَ وَكَانَ يذهب إِلَى مَذْهَب أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
قلت وَهُوَ مَذْهَب الْمُحدثين قَدِيما وحديثا إِلَّا من ابتدع فَقَالَ بالتشبيه وَعَزاهُ إِلَى السّنة أَو من لم يدر مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فَرده بِنَاء على ظن فِيهِ ظَنّه وَالْفَرِيقَانِ من أصاغر الْمُحدثين وأبعدهم عَن الفطنة(4/32)
وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ هُنَا عقيب قَول الكتاني إِن الْخَطِيب كَانَ يذهب إِلَى مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ مَا نَصه قلت مَذْهَب الْخَطِيب فِي الصِّفَات أَنَّهَا تمر كَمَا جَاءَت
صرح بذلك فِي تصانيفه
قلت وَهَذَا مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فقد أُتِي الذَّهَبِيّ من عدم مَعْرفَته بِمذهب الشَّيْخ أبي الْحسن كَمَا أُتِي أَقوام آخَرُونَ وللأشعري قَول آخر بالتأويل
وَقَالَ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ كَانَ مهيبا وقورا ثِقَة متحريا حجَّة حسن الْخط كثير الضَّبْط فصيحا ختم بِهِ الْحفاظ
قَالَ وَله سِتَّة وَخَمْسُونَ مصنفا
وَقَالَ ابْن النجار هِيَ نَيف وَسِتُّونَ
قلت وَالْجمع بَين الْكَلَامَيْنِ أَن ابْن السَّمْعَانِيّ أسقط ذكر مَا لم يُوجد مِنْهَا فَإِن بَعْضهَا احْتَرَقَ بعد مَوته قبل أَن يخرج إِلَى النَّاس
وفيهَا يَقُول السلَفِي
(تصانيف ابْن ثَابت الْخَطِيب ... ألذ من الصِّبَا الغض الرطيب)
(يَرَاهَا إِذْ رَوَاهَا من حواها ... رياضا للفتى اليقظ اللبيب)
(وَيَأْخُذ حسن مَا قد ضَاعَ مِنْهَا ... بقلب الْحَافِظ الفطن الأريب)
(فأية رَاحَة ونعيم عَيْش ... يوازي عيشها بل أَي طيب)(4/33)
وَكَانَ للخطيب ثروة ظَاهِرَة وصدقات على طلاب الْعلم دارة يهب الذَّهَب الْكثير للطلبة
قَالَ المؤتمن السَّاجِي تحاملت الْحَنَابِلَة عَلَيْهِ
قلت وابتلى مِنْهُم بِوَضْع أكاذيب عَلَيْهِ لَا يَنْبَغِي شرحها
وَقَالَ غير وَاحِد مِمَّن رافق الْخَطِيب فِي الْحَج إِنَّه كَانَ يخْتم كل يَوْم ختمة إِلَى قريب الغياب قِرَاءَة ترتيل ثمَّ يجْتَمع عَلَيْهِ النَّاس وَهُوَ رَاكب يَقُولُونَ حَدثنَا فيحدثهم
قَالَ أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ سَمِعت مَسْعُود بن مُحَمَّد بن أبي نصر الْخَطِيب يَقُول سَمِعت الْفضل بن عمر النسوي يَقُول كنت فِي جَامع صور عِنْد الْخَطِيب فَدخل عَلَيْهِ بعض العلوية وَفِي كمه دَنَانِير وَقَالَ للخطيب فلَان يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك اصرف هَذَا فِي بعض مهماتك
فَقَالَ الْخَطِيب لَا حَاجَة لي فِيهِ
وقطب وَجهه
فَقَالَ الْعلوِي كَأَنَّك تستقله
ونفض كمه على سجادة الْخَطِيب وَطرح الدَّنَانِير عَلَيْهَا وَقَالَ هَذِه ثَلَاثمِائَة دِينَار
فَقَامَ الْخَطِيب محمرا وَجهه وَأخذ السجادة وصب الدَّنَانِير على الأَرْض وَخرج من الْمَسْجِد(4/34)
قَالَ الْفضل مَا أنسى عز خُرُوج الْخَطِيب وذل ذَلِك الْعلوِي وَهُوَ قَاعد على الأَرْض يلتقط الدَّنَانِير من شقوق الْحَصِير ويجمعها
وَيذكر أَنه لما حج شرب من مَاء زَمْزَم ثَلَاث شربات وَسَأَلَ الله ثَلَاث حاجات الأولى أَن يحدث بتاريخ بَغْدَاد وَالثَّانيَِة أَن يملي بِجَامِع الْمَنْصُور وَالثَّالِثَة أَن يدْفن إِذا مَاتَ عِنْد بشر الحافي فحصلت الثَّلَاثَة
وَحكي أَن بعض الْيَهُود أظهر كتابا وَادّعى أَنه كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن أهل خَيْبَر وَفِيه شَهَادَات الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَذكروا أَن خطّ عَليّ فِيهِ فَعرض على الْخَطِيب فَتَأَمّله وَقَالَ هَذَا مزور لِأَن فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة وَهُوَ أسلم عَام الْفَتْح
وخيبر فتحت قبل ذَلِك وَلم يكن مُسلما فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا حضر مَا جرى وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَمَات فِي بني قُرَيْظَة بِسَهْم أَصَابَهُ فِي أكحله يَوْم الخَنْدَق وَذَلِكَ قبل فتح خَيْبَر بِسنتَيْنِ
وَلما مرض وقف جَمِيع كتبه وَفرق جَمِيع مَاله فِي وُجُوه الْبر وعَلى أهل الْعلم والْحَدِيث وَكَانَ ذَا ثروة وَمَال كثير فَاسْتَأْذن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَائِم بِأَمْر الله فِي تفريقها فَأذن لَهُ
وَسبب اسْتِئْذَانه أَنه لم يكن لَهُ وَارِث إِلَّا بَيت المَال
وَحضر أَبُو بكر الْخَطِيب مرّة درس الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فروى الشَّيْخ حَدِيثا من رِوَايَة بَحر بن كنيز السقاء ثمَّ قَالَ للخطيب مَا تَقول فِيهِ فَقَالَ إِن أَذِنت لي ذكرت حَاله(4/35)
فَاسْتَوَى الشَّيْخ وَقعد مثل التلميذ بَين يَدي الْأُسْتَاذ يسمع كَلَام الْخَطِيب وَشرع الْخَطِيب فِي شرح أَحْوَاله وَبسط الْكَلَام كثيرا إِلَى أَن فرغ
فَقَالَ الشَّيْخ هَذَا دارقطني عهدنا
قَالَ السلَفِي سَأَلت أَبَا عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد البرداني الْحَافِظ بِبَغْدَاد هَل رَأَيْت مثل الْخَطِيب فَقَالَ مَا أَظن أَن الْخَطِيب رأى مثل نَفسه
قَالَ المؤتمن بن أَحْمد السَّاجِي مَا أخرجت بَغْدَاد بعد الدَّارَقُطْنِيّ أحفظ من الْخَطِيب
وَقَالَ أَبُو الْفرج الإسفرايني وأسنده عَنهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي التَّبْيِين قَالَ أَبُو الْقَاسِم مكي بن عبد السَّلَام الْمَقْدِسِي كنت نَائِما فِي منزل الشَّيْخ أبي الْحسن الزَّعْفَرَانِي بِبَغْدَاد فَرَأَيْت فِي الْمَنَام عِنْد السحر كأنا اجْتَمَعنَا عِنْد الْخَطِيب لقِرَاءَة التَّارِيخ فِي منزله على الْعَادة وَكَانَ الْخَطِيب جَالِسا وَعَن يَمِينه الشَّيْخ نصر الْمَقْدِسِي وَعَن يَمِين الْفَقِيه نصر رجل لَا أعرفهُ فَقلت من هَذَا الَّذِي لم تجر عَادَته بالحضور مَعنا فَقيل لي هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ ليسمع التَّارِيخ
فَقلت فِي نَفسِي هَذِه جلالة للشَّيْخ أبي بكر إِذْ حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَجْلِسه وَقلت فِي نَفسِي هَذَا أَيْضا رد لمن يعيب التَّارِيخ وَيذكر أَن فِيهِ تحاملا على أَقوام وشغلني التفكر فِي هَذَا عَن النهوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسؤاله عَن(4/36)
أَشْيَاء كنت قد قلت فِي نَفسِي أسأله عَنْهَا فانتبهت فِي الْحَال وَلم ُأكَلِّمهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
توفّي الْخَطِيب فِي السَّابِع من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بِبَغْدَاد وَدفن بِبَاب حَرْب إِلَى جَانب بشر بن الْحَارِث
وأوقف جَمِيع كتبه على الْمُسلمين وَتصدق بِمَال جزيل وَفعل مَعْرُوفا كثيرا فِي مرض مَوته وَتبع جنَازَته الجم الْغَفِير وَكَانَ لَهُ بهَا جمَاعَة ينادون هَذَا الَّذِي كَانَ يذب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الَّذِي كَانَ يَنْفِي الْكَذِب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الَّذِي كَانَ يحفظ حَدِيث رَسُول الله
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ مِمَّن حمل جنَازَته
وَرَآهُ بعض الصلحاء فِي الْمَنَام وَسَأَلَهُ عَن حَاله
فَقَالَ أَنا فِي روح وَرَيْحَان وجنة نعيم
ورؤي لَهُ منامات كَثِيرَة تدل على مثل هَذَا
وَمن شعره
(الشَّمْس تشبهه والبدر يحكيه ... والدر يضْحك والمرجان من فِيهِ)
(وَمن سرى وظلام اللَّيْل معتكر ... فوجهه عَن ضِيَاء الْبَدْر يُغْنِيه)
فِي أَبْيَات أخر(4/37)
وَمن الْفَوَائِد عَن الْخَطِيب
ذكر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود عَن الصَّادِق المصدوق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن خلق أحدكُم) الحَدِيث أَن من أول الحَدِيث إِلَى قَوْله (شقي أَو سعيد) من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بعده إِلَى آخر الحَدِيث من كَلَام ابْن مَسْعُود وَيُؤَيِّدهُ أَن سَلمَة بن كهيل رَوَاهُ بِطُولِهِ عَن زيد بن وهب ففصل كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَلَام ابْن مَسْعُود
قلت وَلَكِن حاء فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث سهل بن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن العَبْد ليعْمَل فِيمَا يرى النَّاس بِعَمَل أهل الْجنَّة وَإنَّهُ من أهل النَّار وَإنَّهُ ليعْمَل فِيمَا يرى النَّاس بِعَمَل أهل النَّار وَإنَّهُ من أهل الْجنَّة وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بالخواتم)
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي كتاب الْجِهَاد فِي بَاب لَا يَقُول فلَان شَهِيد من حَدِيث سهل بن سعد أَيْضا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن الرجل ليعْمَل عمل أهل الْجنَّة فِيمَا يَبْدُو للنَّاس وَهُوَ من أهل النَّار وَإِن الرجل ليعْمَل عمل أهل النَّار فِيمَا يَبْدُو للنَّاس وَهُوَ من أهل الْجنَّة) انْتهى
وَلم أر من تنبه لَهُ عِنْد ذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود وَإِنَّمَا تنبهوا لرِوَايَة مُسلم(4/38)
وَأَقُول جَائِز أَن يكون ابْن مَسْعُود سمع هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سَمعه سهل بن سعد ثمَّ أدرجه فِي هَذَا الحَدِيث
وَهَذِه الزِّيَادَة وَهِي فِيمَا يَبْدُو للنَّاس أَو فِيمَا يرى النَّاس عَظِيمَة الوقع جليلة الْفَائِدَة عِنْد الأشعرية كَثِيرَة النَّفْع لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي مَسْأَلَة أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله فليفهم الفاهم مَا يُنَبه عَلَيْهِ
260 - أَحْمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن زَكَرِيَّاء الطريثيثي
الْمسند الصُّوفِي أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ وَيُقَال لَهُ ابْن زهراء
تلميذ أبي سعيد بن أبي الْخَيْر الميهني شيخ الصُّوفِيَّة بخراسان
ولد فِي شَوَّال سنة اثنتى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
سمع أَبَاهُ وَأَبا الْقَاسِم اللالكائي الْحَافِظ وَأَبا الْحسن بن مخلد وَأَبا عَليّ بن شَاذان وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَأَبُو الْفضل بن نَاصِر وَأَبُو الْفَتْح بن البطي وَأَبُو طَاهِر السلَفِي وَطَائِفَة آخِرهم موتا أَبُو الْفضل خطيب الْموصل
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ شيخ لَهُ قدم فِي التصوف رأى الْمَشَايِخ وَحَدَّثَهُمْ وَكَانَ حسن التِّلَاوَة صحب أَبَا سعيد النَّيْسَابُورِي(4/39)
قَالَ وَكَانَت سماعاته صَحِيحَة إِلَّا مَا أدخلهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحسن بن مُحَمَّد الْكرْمَانِي فَحدث بِهِ اعْتِمَادًا على قَول أبي الْحسن وَحسن الظَّن بِهِ وَلم يكن يعرف طرائق الْمُحدثين وَادّعى أَنه سمع من أبي الْحسن بن رزقويه وَمَا يَصح سَمَاعه مِنْهُ
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي دخلت على أَحْمد بن زهراء الطريثيثي وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ جُزْء من حَدِيث ابْن رزقويه فَقلت مَتى ولدت فَقَالَ سنة اثنتى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة فَقلت وَابْن رزقوية فِي هَذِه السّنة توفّي وَأخذت الْجُزْء من يَده وَقد سمعُوا فِيهِ فَضربت على التسميع فَقَامَ وَخرج من الْمَسْجِد
قلت وَمن ثمَّ قَالَ ابْن نَاصِر كَانَ كذابا لَا يحْتَج بروايته
وَهَذَا من مبالغات ابْن نَاصِر الَّتِي عهِدت مِنْهُ وَلم يكن الرجل يكذب وَلَيْسَ فِيهِ غير مَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ لما أَدخل عَلَيْهِ وَلَا يُوجب ذَلِك قدحا فِيهِ وَلَا ردا لما صَحَّ من سماعاته وَلِهَذَا كَانَ السلَفِي يَقُول أخبرنَا الطريثيثي من أصل سَمَاعه وَلَو كَانَ كذابا لم يرو عَنهُ فغفر الله لِابْنِ نَاصِر كم يتعصب على الصُّوفِيَّة وعَلى فُقَهَاء الْفَرِيقَيْنِ وَقد صرح السلَفِي فِي مُعْجَمه بِأَن الطريثيثي من الثِّقَات الْأَثْبَات وَأَنه لم يقْرَأ عَلَيْهِ إِلَّا من أصُول سَمَاعه وَأَنَّهَا كَالشَّمْسِ وضوحا وَذكر أَيْضا مَا ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ مِمَّا أَدخل عَلَيْهِ
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة(4/40)
261 - أَحْمد بن عَليّ بن عبد الله بن مَنْصُور
أَبُو بكر الطَّبَرِيّ الْمَعْرُوف بالزجاجي بِضَم الزَّاي
قدم بَغْدَاد وَسمع من أبي طَاهِر المخلص وَأبي الْقَاسِم بن الصيدلاني وَغَيرهمَا
واستوطن الْجَانِب الشَّرْقِي إِلَى آخر عمره
كتب عَنهُ الْخَطِيب وَقَالَ كَانَ ثِقَة دينا يتفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي
قَالَ ابْن الصّلاح وَقَوله يتفقه يطلقهَا هُوَ وَكثير مِمَّن تقدمه من أهل الحَدِيث على من يعْنى بالفقه وَإِن لم يكن فِيهِ مبتدئا وَهِي فِي هَذَا كتطبب
مَاتَ فِي آخر سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
262 - أَحْمد بن عَليّ بن عَمْرو بن أَحْمد بن عنبر
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا نون سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة الْحَافِظ أَبُو الْفضل السُّلَيْمَانِي البُخَارِيّ البيكندي
ولد سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة
وطوف الْبِلَاد ورحل إِلَى الْآفَاق(4/41)
وَكَانَ من الْحِفْظ والإتقان وعلو الْإِسْنَاد وَكَثْرَة التصانيف بمَكَان مكين وَقدر رفيع
سمع مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه بن سهل وَعلي بن إِسْحَاق المادرائي وَمُحَمّد بن يَعْقُوب الْأَصَم ومحمود بن إِسْحَاق الْخُزَاعِيّ وَعبد الله بن جَعْفَر بن فَارس الْأَصْبَهَانِيّ وخلقا
روى عَنهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد المستغفري وَولده أَبُو ذَر مُحَمَّد بن جَعْفَر وَجَمَاعَة من أهل تِلْكَ الديار
قَالَ الْحَاكِم كَانَ يحفظ الحَدِيث ورحل فِيهِ وَكَانَ من الْحفاظ الزهاد
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ لم يكن لَهُ نَظِير فِي زَمَانه إِسْنَادًا وحفظا ودراية بِالْحَدِيثِ وضبطا وإتقانا
وَقَالَ وَقَوْلهمْ فِيهِ السُّلَيْمَانِي نِسْبَة إِلَى جده لأمه أَحْمد بن سُلَيْمَان
وَكَانَ يصنف فِي كل جُمُعَة شَيْئا ويرحل من بيكند إِلَى بُخَارى وَيحدث بِمَا صنف
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة(4/42)
263 - أَحْمد بن عَليّ أَبُو سهل الأبيوردي
أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا علما وَعَملا
ذكره الأديب أَبُو المظفر مُحَمَّد بن أَحْمد الأبيوردي فِي مُخْتَصر لطيف سَمَّاهُ نهزة الْحفاظ ذكر فِيهِ أَنه عزم على أَن يضع تَارِيخا لابيورد ونسا وكوفن وجيران وَغَيرهَا من أُمَّهَات الْقرى بِتِلْكَ النواحي وَأَنه سُئِلَ فِي عمل هَذَا الْمُخْتَصر ليفرد فِيهِ ذكر الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مِمَّن كَانَ فِي الْعلم مفزوعا إِلَيْهِ وَفِي الرِّوَايَة موثوقا بِهِ وَقد طَنَّتْ بِذكرِهِ الْبلدَانِ وغنت بمدحه الركْبَان كفضيل بن عِيَاض وَمَنْصُور بن عمار وَزُهَيْر بن حَرْب وَذكر فِيهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة وَأورد شَيْئا من حَدِيثهمْ
وَقَالَ فِي الشَّيْخ أبي سهل إِذْ ذكره كَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء سَمِعت جمَاعَة من أَصْحَابه يَقُولُونَ كَانَ أَبُو زيد الدبوسي يَقُول لَوْلَا أَبُو سهل الأبيوردي لما تركت للشَّافِعِيَّة بِمَا وَرَاء النَّهر مكشف رَأس
وحَدثني أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الحديثي وَكَانَ من أَصْحَابه المبرزين فِي الْفِقْه أَنه سَمعه يَقُول كنت أتبزز فِي عنفوان شَبَابِي فَبينا أَنا فِي سوق البزازين(4/43)
بمرو رَأَيْت شيخين لَا أَعْرفهُمَا فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه لَو اشْتغل هَذَا بالفقه لَكَانَ إِمَامًا للْمُسلمين
فاشتغلت حَتَّى بلغت فِيهِ مَا ترى
وروى الحَدِيث عَن أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الله الأودني وَأبي عبد الله الْحُسَيْن بن الْحسن الْحَلِيمِيّ وَأبي الْفضل السُّلَيْمَانِي الْحَافِظ وَغَيرهم
هَذَا كَلَام أبي المظفر الأبيوردي ثمَّ سَاق لَهُ حَدِيثا عَن الأودني وحديثا عَن السُّلَيْمَانِي
وَذكر ابْن الصّلاح فِي تَرْجَمَة الأودني أَنا أَبَا سهل قَالَ سمعته يَقُول سَمِعت شُيُوخنَا رَحِمهم الله تَعَالَى يَقُولُونَ دَلِيل طول عمر الرجل اشْتِغَاله بِأَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو سعد رَحمَه الله فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن ثَابت الخجندي إِنَّه تفقه على أبي سهل أَحْمد بن عَليّ الأبيوردي وَيُوَافِقهُ مَا ذكره الذاكرون فِي تَرْجَمَة صَاحب التَّتِمَّة أَنه تفقه ببخارى على أبي سهل أَحْمد بن عَليّ الأبيوردي
قَالَه ابْن النجار وَغَيره
وَاعْلَم أَن الأودني مَاتَ سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَمُحَمّد بن ثَابت الخجندي مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَكَأَن الأبيوردي عمر دهرا طَويلا
وَهَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي لأبي سهل لَا أَرَاك بعد شدَّة الفحص تجدها فِي غير كتَابنَا وَانْظُر كَيفَ جمعناها من أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة وأبرزناها من مُصَنف غَرِيب وَهُوَ نهزة الْحفاظ(4/44)
التلوط بالغلام الْمَمْلُوك
ذكر القَاضِي الْحُسَيْن فِي التعليقة أَنه حُكيَ عَن الشَّيْخ ابْن سهل وَهُوَ الأبيوردي كَمَا هُوَ مُصَرح بِهِ فِي بعض نسخ التعليقة وَصرح بِهِ ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة أَن الْحَد لَا يلْزم من يلوط بِغُلَام مَمْلُوك لَهُ بِخِلَاف مَمْلُوك الْغَيْر
قَالَ القَاضِي وَرُبمَا قاسه على وَطْء أمته الْمَجُوسِيَّة أوأخته من الرَّضَاع وَفِيه قَولَانِ
انْتهى
وَهَذَا الْوَجْه محكي فِي الْبَحْر والذخائر وَغَيرهمَا من كتب الْأَصْحَاب لَكِن غير مُضَاف إِلَى قَائِل معِين وَعلله صَاحب الْبَحْر بِأَن ملكه فِيهِ يصير شُبْهَة فِي سُقُوط الْحَد
وَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ تبعا لأكْثر الْأَصْحَاب أَنه لَا فرق بَين مَمْلُوكه وَغَيره نعم فِي اللواط من أَصله قَول أَن مُوجبه التَّعْزِير
قَالَ الرَّافِعِيّ إِنَّه مخرج من القَوْل بنظيره فِي إتْيَان الْبَهِيمَة
قَالَ وَمِنْهُم من لم يُثبتهُ
قلت وَقد أسقط النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة حِكَايَة هَذَا القَوْل بِالْكُلِّيَّةِ
264 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زَنْجوَيْه أَبُو بكر الزنجاني
وزنجان بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون النُّون وَفتح الْجِيم وَآخِرهَا نون بَلْدَة مَعْرُوفَة
أحد تلامذة القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ
لَهُ رِوَايَة(4/45)
روى عَنهُ مُحَمَّد بن طَاهِر وَأَبُو طَاهِر السلَفِي
قَالَ السلَفِي وَكَانَت الرحلة إِلَيْهِ لفضله وعلو إِسْنَاده سمعته يَقُول إِنِّي أُفْتِي من سنة تسع وَعشْرين
قَالَ وَقيل لي عَنهُ إِنَّه لم يفت خطأ قطّ
قَالَ وَأهل بَلَده يبالغون فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ الْخَواص والعوام ويذكرون ورعه وَقلة طمعه
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ بن الْحسن الْجَزرِي قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي أجازنا السلَفِي أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زَنْجوَيْه الإِمَام بزنجان وَسَأَلته عَن مولده فَقَالَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة أخبرنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن أَحْمد بن شَاذان الْبَزَّار بِبَغْدَاد أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن عبد الصَّمد بن عَليّ بن مكرم الطستي أخبرنَا أَبُو سهل السّري بن سهل بن خربَان الجنديسابوري حَدثنَا عبد الله بن رشيد حَدثنَا أَبُو عُبَيْدَة مجاعَة بن الزبير الْعَتكِي عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة فَلَا يتفلن أَمَامه وَلَا عَن يَمِينه وَلَكِن عَن يسَاره أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربه عز وَجل)(4/46)
265 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن غَالب
أَبُو بكر الْخَوَارِزْمِيّ الْحَافِظ الْكَبِير الْمَعْرُوف بالبرقاني بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا
كَانَ إِمَامًا حَافِظًا ذَا عبَادَة وفضائل جمة
قَالَ الشَّيْخ تفقه فِي حداثته وصنف فِي الْفِقْه ثمَّ اشْتغل بِعلم الحَدِيث فَصَارَ فِيهِ إِمَامًا
سمع من أبي عَليّ بن الصَّواف وَأبي بكر بن مَالك الْقطيعِي وَأبي مُحَمَّد بن ماسي وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي عَمْرو بن حمدَان وَأبي أَحْمد الْحَافِظ وَأبي مَنْصُور الْأَزْهَرِي وخلائق لَا يُحصونَ بِبِلَاد عديدة
قَالَ الْخَطِيب واستوطن بَغْدَاد وَحدث فكتبنا عَنهُ وَكَانَ ثِقَة ورعا متقنا متثبتا فهما لم نر فِي شُيُوخنَا أثبت مِنْهُ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بالفقه لَهُ حَظّ من علم الْعَرَبيَّة كثير الحَدِيث حسن الْفَهم لَهُ والبصيرة فِيهِ وصنف مُسْندًا ضمنه مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الصحيحان
قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأَزْهَرِي البرقاني إِمَام وَإِذا مَاتَ ذهب هَذَا الشَّأْن يَعْنِي الحَدِيث
قَالَه فِي حَيَاته
وَقَالَ مَا رَأَيْت فِي الشُّيُوخ أتقن مِنْهُ(4/47)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْخلال البرقاني نَسِيج وَحده
وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى الْكرْمَانِي الْفَقِيه مَا رَأَيْت فِي أَصْحَاب الحَدِيث أَكثر عبَادَة من البرقاني
ولد فِي آخر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَمَات فِي أول يَوْم من رَجَب سنة خمس وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة بِبَغْدَاد
دخل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عَليّ الصُّورِي قبل وَفَاته بأَرْبعَة أَيَّام فَقَالَ لَهُ هَذَا الْيَوْم السَّادِس وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة وَقد سَأَلت الله أَن يُؤَخر وفاتي حَتَّى يهل رَجَب فقد رُوِيَ أَن لله فِيهِ عُتَقَاء من النَّار عَسى أَن أكون مِنْهُم فاستجيب لَهُ
266 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْحسن الضَّبِّيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْمحَامِلِي
الإِمَام الْجَلِيل من رفعاء أَصْحَاب الشَّيْخ أبي حَامِد وبيته بَيت الْفضل وَالْجَلالَة والفقة وَالرِّوَايَة
وَله التصانيف الْمَشْهُورَة كالمجموع وَالْمقنع واللباب وَغَيرهَا
وَله عَن الشَّيْخ أبي حَامِد تَعْلِيقه منسوبة إِلَيْهِ وصنف فِي الْخلاف
وَقَالَ فِيهِ الْخَطِيب برع فِي الْفِقْه ورزق من الذكاء وَحسن الْفَهم مَا أربى فِيهِ على أقرانه(4/48)
وَكَانَ قد سمع من مُحَمَّد بن المظفر وطبقته
ورحل بِهِ أَبوهُ إِلَى الْكُوفَة فَسمع من أبي الْحسن بن أبي السّري وَغَيره
وَسَأَلته غير مرّة أَن يحدثني بِشَيْء من سماعاته فَكَانَ يعدني بذلك ويرجىء الْأَمر إِلَى أَن مَاتَ وَلم أسمع مِنْهُ إِلَّا خبر مُحَمَّد بن جرير عَن قصَّة الْخُرَاسَانِي الَّذِي ضَاعَ هِمْيَانه بِمَكَّة وَلَا أعلم سمع مِنْهُ أحد غَيْرِي إِلَّا مَا حَدثنِي ابْنه أَبُو الْفضل أَن عَليّ ابْن أَحْمد الْكَاتِب قَرَأَ عَلَيْهِ رِوَايَة الْبَغَوِيّ عَن أَحْمد ابْن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ الْفَوَائِد
مولد سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة
وَقَالَ المرتضى أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن الموسوي دخل عَليّ أَبُو الْحسن بن الْمحَامِلِي مَعَ أبي حَامِد الإسفرايني وَلم أكن أعرفهُ فَقَالَ لي أَبُو حَامِد هَذَا أَبُو الْحسن ابْن الْمحَامِلِي وَهُوَ الْيَوْم أحفظ للفقه مني
وَحكي عَن سليم أَن الْمحَامِلِي لما صنف كتبه الْمقنع والمجرد وَغَيرهمَا من تَعْلِيق أستاذه أبي حَامِد ووقف عَلَيْهَا قَالَ بتر كتبي بتر الله عمره فنفذت فِيهِ دَعْوَة أبي حَامِد وَمَا عَاشَ إِلَّا يَسِيرا وَمَات يَوْم الْأَرْبَعَاء لتسْع بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ الْمحَامِلِي فِي الْمقنع مَا نَصه وَيسْتَحب للْمَرْأَة إِذا اغْتَسَلت من حيض أَو نِفَاس أَن تَأْخُذ قِطْعَة من مسك أَو غَيره من الطّيب فتتبع بِهِ أثر الدَّم وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَهَا الدَّم من بدنهَا
انْتهى(4/49)
وَقد أغرب فِي قَوْله إِنَّهَا تتبع كل مَا أَصَابَهُ الدَّم من الْبدن والْحَدِيث الْمَرْوِيّ فِي ذَلِك أَن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْغسْل من الْحيض فَقَالَ (خذي فرْصَة من مسك فتطهري بهَا فَقَالَت كَيفَ أتطهر بهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبْحَانَ الله تطهري بهَا قَالَت عَائِشَة قتل تتبعي بهَا أثر الدَّم)
قَالَ الْأَصْحَاب أَي أثر الْحيض وَالْمرَاد بِهِ هُنَا الْفرج
قَالَ النَّوَوِيّ وَمَا ذكره الْمحَامِلِي لَا أعرفهُ لغيره بعد الْبَحْث عَنهُ
قلت إِلَّا أَن للمحاملي أَن يَقُول هُوَ ظَاهر اللَّفْظ فِي قَوْلهَا الدَّم وتقييده بالفرج لَا بُد لَهُ عَلَيْهِ من دَلِيل وَالْمعْنَى يساعد الْمحَامِلِي لِأَن الْمَقْصُود دفع الرَّائِحَة الكريهة وَهِي لَا تخْتَص
هَذَا أقْصَى مَا يتحيل بِهِ فِي مساعدة الْمحَامِلِي وَالْحق عِنْد الْإِنْصَاف مَعَ الْأَصْحَاب
وَمِمَّا يُسْتَفَاد هُنَا وَلَا تعلق للمحاملي بِهِ أَن الْمَرْأَة السائلة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقع فِي صَحِيح مُسلم أَنَّهَا بنت شكل بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْكَاف بعدهمَا لَام وَإِنَّمَا هِيَ أَسمَاء بنت يزِيد بن السكن بِالسِّين الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة بعْدهَا كَاف مَفْتُوحَة ثمَّ نون فَوَقع اللَّفْظ فِي مُسلم مُصحفا مَنْسُوبا إِلَى الْجد وَهُوَ على الصَّوَاب فِي الْأَسْمَاء المبهمة للخطيب أبي بكر وَذكر بِإِسْنَادِهِ فِي الْحجَّة على ذَلِك من رِوَايَة يحيى ابْن سعيد عَن إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر عَن صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن أَسمَاء بنت يزِيد سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت الحَدِيث(4/50)
قَالَ الْمحَامِلِي فِي الْمقنع أَيْضا مَا نَصه وَإِن مَاتَت امْرَأَة وَفِي جوفها ولد فَإِن كَانَ يُرْجَى حَيَاة الْوَلَد إِذا أخرج شقّ جوفها وَأخرج وَإِن لم يرج ذَلِك لم يخرج وَترك على جوفها شَيْء حَتَّى يَمُوت ثمَّ تدفن
انْتهى
وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ صَاحب التَّنْبِيه وَغَيره
وَقَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ غلط وَإِن كَانَ قد حَكَاهُ جمَاعَة
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي الفتاوي أَربع مسَائِل من أَرْبَعَة كتب مَشْهُورَة مُعْتَمدَة وددت لَو محيت أَحْكَامهَا الْمَذْكُورَة وَذكر مِنْهَا قَول التَّنْبِيه ترك عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى يَمُوت
وَقَالَ وَهَذَا فِي نِهَايَة الْفساد بل الصَّوَاب تَركه حَتَّى يَمُوت من غير أَن يوضع عَلَيْهِ شَيْء
وَقد بَان لَك أَن صَاحب التَّنْبِيه غير مُنْفَرد بِاخْتِيَار هَذَا بل قد سبقه الْمحَامِلِي وَالْوَجْه مُحَقّق فِي الْمَذْهَب وَسَبقه أَيْضا القَاضِي حُسَيْن فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَاب عدد الْكَفَن وَلَو كَانَ فِي بَطنهَا ولد لَا يشق بَطنهَا عندنَا بل يحمل على وَلَدهَا شَيْء ثقيل حَتَّى يسكن مَا فِيهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفه يشق بَطنهَا
هَذَا كَلَامه لكنه قَالَ قبل بَاب الشَّهِيد فرع إِذا مَاتَت وَفِي بَطنهَا جَنِين هَل يشق بَطنهَا فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا لَا يشق وَالثَّانِي يشق وَعند أبي حنيفَة يشق
قَالَ وَالْأولَى أَنَّهَا إِن كَانَت فِي الطلق وَالْولد يَتَحَرَّك فِي بَطنهَا أَن يشق(4/51)
وَلَا خلاف أَنه مَا دَامَ الْوَلَد فِي بَطنهَا لَا تدفن بل يَتَأَتَّى حَتَّى تسكن الْحَرَكَة ثمَّ تدفن
انْتهى
وَفِيه مُخَالفَة لما تقدم
وَقد صرح النَّوَوِيّ بحكاية وُجُوه ثَلَاثَة أَصَحهَا التّرْك وَالثَّانِي أَن يشق جوفها وَيخرج كَمَا فِي الْحَالة الَّتِي يُرْجَى حَيَاته وَالثَّالِث هَذَا إِلَّا أَنه غلط
وَالشَّيْخ غير مُنْفَرد بِهِ
وَأما قَول بعض المؤولة لكَلَام الشَّيْخ مُرَاده ترك عَلَيْهِ شَيْء من الزَّمَان حَتَّى يَمُوت وَمَعْنَاهُ الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ أَن يتْرك فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء
الْمَنْقُول عَن الْمقنع
وَهُوَ مَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي الْمُهَذّب أَنه لَا يجوز أَن يجلس على قَبره وَهَذِه الْعبارَة ظَاهِرَة فِي التَّحْرِيم
وَعبارَة الشَّافِعِي الْكَرَاهَة فَإِنَّهُ قَالَ أكره أَن يطَأ الْقَبْر وَيجْلس عَلَيْهِ أَو يتكىء عَلَيْهِ إِلَّا أَن لَا يصل إِلَى قبر ميته إِلَّا بِوَطْء قبر غَيره فيسعه ذَلِك
وَكَذَلِكَ أَكثر الْأَصْحَاب وَمِنْهُم الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ
وَالْقَوْل بِالتَّحْرِيمِ هُوَ ظَاهر النَّهْي فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تجلسوا على الْقُبُور) وَفِي حَدِيث آخر (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثَوْبه وبدنه حَتَّى تخلص إِلَيْهِ خير لَهُ من أَن يجلس على قبر)
وَقد أَخذ الشَّافِعِي فِي تَفْسِير الْجُلُوس بِظَاهِر الحَدِيث فَقَالَ الْجُلُوس أَن يطأه وَمِنْهُم من فسر الْجُلُوس بِالْحَدَثِ وَمِنْهُم من فسره بالملازمة(4/52)
ذكر الْمحَامِلِي أَنه لَا يدْخل عبد مُسلم فِي ملك كَافِر ابْتِدَاء إِلَّا فِي سِتّ مسَائِل
قَالَ فِي اللّبَاب فِي بَاب إِزَالَة النَّجَاسَة إِذا أصَاب الأَرْض بَوْل فَإِن كَانَت صلبة صب عَلَيْهَا من المَاء سَبْعَة أَمْثَال الْبَوْل وَإِن كَانَت رخوة يقلعها
هَذِه عِبَارَته وَمَا ذكره من السَّبْعَة وَجه محكي فِي الرَّافِعِيّ وَغَيره وَأما قَوْله فِيمَا إِذا كَانَت الأَرْض رخوة إِنَّه يقلعها وَإنَّهُ لَا يجزىء الصب عَلَيْهَا فَغَرِيب جدا لم أره لغيره
وَذكر فِي اللّبَاب أَنه يسْتَحبّ الْوضُوء من الْغَيْبَة وَعند الْغَضَب وَأَنه يسْتَحبّ الْغسْل للحجامة ولدخول الْحمام والاستحداد وكل هَذَا غَرِيب وَلَكِن ذكره غَيره
وَذكر فِي اللّبَاب فِي بَاب مسح الْخُف المسحات سَبْعَة وعد مِنْهَا مسح الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ إِذا كَانَ أقطعهما فَوق الْمفصل
وَعبارَة التَّنْبِيه فِي ذَلِك الْمس وَهِي تساعد هَذَا إِذْ قَالَ اسْتحبَّ أَن يمس الْموضع مَاء وَلَكِن قَالُوا المُرَاد بالمس الْغسْل وَهَذَا الْمحَامِلِي قد صرح بِالْمَسْحِ
وَذكر فِي بَاب الْحيض من اللّبَاب أَن الْحيض يتَعَلَّق بِهِ عشرُون معنى اثْنَا عشر مِنْهَا محظوراته وَثَمَانِية أَحْكَامه
وعد من الْمَحْظُورَات أَن الْحَائِض لَا تحضر المحتضر
قَالَ وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء
وَهَذَا من أغرب الْغَرِيب وَلَا أعرف مَا دَلِيله(4/53)
وَقد عرف قَول الْمحَامِلِي أَنه لَا يدْخل عبد مُسلم فِي ملك كَافِر ابْتِدَاء إِلَّا فِي سِتّ مسَائِل أحداها الْإِرْث
وَالثَّانيَِة يسترجع بإفلاس المُشْتَرِي
وَالثَّالِثَة يرجع فِي هِبته لوَلَده
وَالرَّابِعَة يرد عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ على الصَّحِيح
وَالْخَامِسَة الْملك الضمني إِذا قَالَ لمُسلم أعتق عَبدك عني فَأعْتقهُ وصححناه وَهُوَ الصَّحِيح
وَالسَّادِسَة إِذا عجز مكَاتبه عَن النُّجُوم فَلهُ تعجيزه
قَالَ النَّوَوِيّ وَفِي عد هَذِه تساهل فَإِن الْمكَاتب لَا يَزُول ملك سَيّده عَنهُ حَتَّى يَقُول عَاد
قَالَ وَترك سابعة وَهِي مَا إِذا اشْترى من يعْتق عَلَيْهِ بَاطِنا كقريبه على الصَّحِيح أَو ظَاهرا كَمَا إِذا أقرّ بحريّة مُسلم فِي يَد غَيره على الرَّاجِح
قَالَ الشَّيْخ صدر الدّين بن المرحل وتركا ثامنة وَهِي إِذا قُلْنَا الْإِقَالَة فسخ فَهَل ينفذ التقابل فِيهِ خلاف الرَّد بِالْعَيْبِ وتوجيه الْجَوَاز مُشكل فَإِن التَّمْلِيك فِيهِ اخْتِيَاري غير مُسْتَند إِلَى سَبَب
قَالَ وَلَعَلَّ الْمحَامِلِي لم يتْرك هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا لكَونه رأى الْإِقَالَة تجْعَل العقد كَأَنَّهُ لم يكن وَلذَلِك لم تثبت بِهِ الشُّفْعَة فَهُوَ كالاستدامة وَيرد عَلَيْهِ الرَّد بِالْعَيْبِ وَأَن(4/54)
الْأَصْحَاب رجحوا أَنه لَو وَكله فِي بيع عبد فَبَاعَهُ ثمَّ وجد بِهِ المُشْتَرِي عَيْبا ورده على الْوَكِيل أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ ثَانِيًا وَلم يجْعَلُوا العقد كَأَنَّهُ لم يكن
وَذكروا أَنه لَو أوصى لَهُ أَن يَبِيع عَبده وَيَشْتَرِي جَارِيَة بِثمنِهِ ويعتقها فَوجدَ المُشْتَرِي بِالْعَبدِ عَيْبا فَرده على الْوَصِيّ أَن الْوَصِيّ يَبِيعهُ ثَانِيًا وَيدْفَع ثمنه للْمُشْتَرِي
وَفرقُوا بَينه وَبَين الْوَكِيل بِأَن الْإِيصَاء تَوْلِيَة وتفويض كلي وَلَا كَذَلِك الْوكَالَة
وَالْفرق الْمَذْكُور وَالْحكم فِي الْوَكِيل يخالفان مَا قَرَّرَهُ الرَّافِعِيّ وَغَيره من أَنه يجوز الرَّد بِالْعَيْبِ فِي العَبْد الْمُسلم على الْكَافِر وَمَا تقدم من أَن الْفَسْخ يَجْعَل العقد كَأَنَّهُ لم يكن ويقوى الْإِشْكَال فِي الْإِقَالَة
قَالَ وتركا تاسعة أَيْضا وَهِي إِذا كَانَ بَين كَافِر وَمُسلم عبد مُشْتَرك فَأعتق الْكَافِر نصِيبه وَهُوَ مُوسر سرى عَلَيْهِ وَعتق سَوَاء قُلْنَا يَقع الْعتْق بِنَفس الْإِعْتَاق أَو بأَدَاء الْقيمَة لِأَنَّهُ مُتَقَوّم عَلَيْهِ شرعا لَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْإِرْثِ
قلت وَتركُوا مسَائِل مِنْهَا إِذا جَازَ لَهُ نِكَاح الْأمة بشرطها وَكَانَت لكَافِر هَل يجوز الصَّحِيح الْجَوَاز وَينْعَقد الْوَلَد مُسلما تبعا لِأَبِيهِ أَو أمه وَينْعَقد على ملك(4/55)
الْكَافِر ثمَّ يُؤمر بِإِزَالَة ملكه عَنهُ بطريقة(4/56)
267 - أَحْمد بن الْفَتْح بن عبد الله أَبُو الْحسن الْموصِلِي
من أَهلهَا يعرف بِابْن فرغان بِفَتْح الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وبالغين الْمُعْجَمَة
تفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد
ذكره الشَّيْخ
وَقَالَ ابْن باطيش إِنَّه مَاتَ بالموصل سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة(4/57)
268 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَبُو إِسْحَاق النَّيْسَابُورِي الثَّعْلَبِيّ
صَاحب التَّفْسِير
كَانَ أوحد زَمَانه فِي علم الْقُرْآن وَله كتاب العرائس فِي قصَص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ يُقَال لَهُ الثَّعْلَبِيّ والثعالبي وَهُوَ لقب لَا نسب
روى عَن أبي طَاهِر مُحَمَّد بن الْفضل بن خُزَيْمَة وَأبي مُحَمَّد المخلدي وَأبي بكر بن هانىء وَأبي بكر بن مهْرَان المقرىء وَجَمَاعَة
وَعنهُ أَخذ أَبُو الْحسن الواحدي
وَقد جَاءَ عَن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي أَنه قَالَ رَأَيْت رب الْعِزَّة فِي الْمَنَام وَهُوَ يخاطبني وأخاطبه فَكَانَ فِي أثْنَاء ذَلِك أَن قَالَ الرب جلّ اسْمه
أقبل الرجل الصَّالح
فَالْتَفت فَإِذا أَحْمد الثَّعْلَبِيّ مقبل
وَمن شعر الثَّعْلَبِيّ
(وَإِنِّي لأدعو الله وَالْأَمر ضيق ... عَليّ فَمَا يَنْفَكّ أَن يتفرجا)
(وَرب فَتى سدت عَلَيْهِ وجوهه ... أصَاب لَهُ فِي دَعْوَة الله مخرجا)
توفّي فِي الْمحرم سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة(4/58)
وَمن الْمسَائِل عَنهُ
ذهب الثَّعْلَبِيّ إِلَى أَن الدَّم الْبَاقِي على اللَّحْم وعظامه غير نجس
قَالَ لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَنهُ
قَالَ وَلِأَن النهى إِنَّمَا ورد عَن الدَّم المسفوح وَهُوَ السَّائِل
269 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن حَفْص بن الْخَلِيل أَبُو سعد الْمَالِينِي
الْمُحدث الْحَافِظ الزَّاهِد الصَّالح طَاوُوس الْفُقَرَاء
سمع بِبِلَاد مَا وَرَاء النَّهر وبلاد خُرَاسَان والري وأصبهان وَالْبَصْرَة والكوفة وبغداد وَالشَّام ومصر
وَلَقي عَامَّة الشُّيُوخ والحفاظ الَّذين عاصرهم
وَحدث عَن مُحَمَّد بن عبد الله السليطي وَأبي أَحْمد بن عدي وَأبي عَمْرو بن نجيد وَأبي الشَّيْخ الْأنْصَارِيّ وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي بكر الْقطيعِي ويوسف الميانجي وخلائق يطول ذكرهم
روى عَنهُ أَبُو حَازِم العبدوي والحافظ عبد الْغَنِيّ وَتَمام الرَّازِيّ وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ(4/59)
وَأَبُو بكر الْخَطِيب وَعبد الرَّحْمَن بن مندة وَأَبُو عبد الله الْقُضَاعِي وَأَبُو الْحسن الخلعي وَالْحُسَيْن بن طَلْحَة النعالي وَآخَرُونَ
قَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد الرحالين فِي طلب الحَدِيث والمكثرين مِنْهُ
قَالَ وَكَانَ ثِقَة متقنا صَالحا
قلت استوطن مصر بِالآخِرَة وَبهَا توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر شَوَّال سنة اثنتى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
وَوهم حَمْزَة السَّهْمِي فَقَالَ فِي تَارِيخ جرجان إِن وَفَاته سنة تسع وَأَرْبَعمِائَة 270 أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن دلويه
أَبُو حَامِد الأستوائي
سمع بنيسابور أَبَا أَحْمد الْحَاكِم وَأَبا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْأنمَاطِي وَمُحَمّد ابْن عبد الله الجوزقي وَنَحْوهم
وَقدم بَغْدَاد فَسمع من الدَّارَقُطْنِيّ وطبقته واستوطنها إِلَى حِين وَفَاته
وَولى الْقَضَاء بعكبرا من قبل القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب
قَالَ الْخَطِيب وَكَانَ ينتحل فِي الْفِقْه مَذْهَب الشَّافِعِي وَفِي الْأُصُول مَذْهَب(4/60)
الْأَشْعَرِيّ وَله حَظّ فِي معرفَة الْأَدَب والعربية وَحدث شَيْئا يَسِيرا وكتبت عَنهُ وَكَانَ صَدُوقًا
ثمَّ قَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ لَا أحقه لكنني أَظُنهُ سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة
وَمَات فِي ثامن عشرى شهر ربيع الأول سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
271 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الأسفرايني
الشَّيْخ أَبُو حَامِد شيخ طَريقَة الْعرَاق حَافظ الْمَذْهَب وإمامه جبل من جبال الْعلم منيع وَحبر من أَحْبَار الْأمة رفيع
ولد سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَقدم بَغْدَاد شَابًّا فتفقه على الشَّيْخَيْنِ ابْن الْمَرْزُبَان والداركي حَتَّى صَار أحد أَئِمَّة وقته
وَحدث عَن عبد الله بن عدي وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَبدك الإسفرايني وَغَيرهم
روى عَنهُ سليم الرَّازِيّ(4/61)
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الدّين وَالدُّنْيَا بِبَغْدَاد وعلق عَنهُ تعاليق فِي شرح الْمُزنِيّ وطبق الأَرْض بالأصحاب وَجمع مَجْلِسه ثَلَاثمِائَة متفقه وَاتفقَ الْمُوَافق والمخالف على تفضيله وتقديمه فِي جودة الْفِقْه وَحسن النّظر ونظافة الْعلم
انْتهى
وَقَالَ الْخَطِيب سَمِعت من يذكر أَنه كَانَ يحضر مَجْلِسه سَبْعمِائة متفقة وَكَانَ النَّاس يَقُولُونَ لَو رَآهُ الشَّافِعِي لفرح بِهِ
وَكَانَ عَظِيم الجاه عِنْد الْمُلُوك مَعَ الدّين الوافر والورع والزهد والاستيعاب للأوقات بالتدريس والمناظرة ومؤاخذة النَّفس على دَقِيق الْكَلَام ومحاسبتها على هفوات اللِّسَان وَإِن بدرت فِي أثْنَاء الْإِحْسَان
قَالَ أَبُو حَيَّان التوحيدي سَمِعت الشَّيْخ أَبَا حَامِد يَقُول لطاهر الْعَبادَانِي لَا تعلق كثيرا مِمَّا تسمع مني فِي مجَالِس الجدل فَإِن الْكَلَام يجْرِي فِيهَا على ختل الْخصم ومغالطته وَدفعه ومغالبته فلسنا نتكلم لوجه الله خَالِصا وَلَو أردنَا ذَلِك لَكَانَ خطونا إِلَى الصمت أسْرع من تطاولنا فِي الْكَلَام وَإِن كُنَّا فِي كثير من هَذَا نبوء بغضب الله تَعَالَى فَإنَّا مَعَ ذَلِك نطمع فِي سَعَة رَحْمَة الله
قلت وَهُوَ طمع قريب فَإِن مَا يَقع فِي المغالطات والمغالبات فِي مجَالِس النّظر يحصل بِهِ من تَعْلِيم إِقَامَة الْحجَّة وَنشر الْعلم وَبعث الهمم على طلبه مَا يعظم فِي نظر أهل الْحق ويقل عِنْده قلَّة الخلوص وتعود بركَة فَائِدَته وانتشارها على عدم الخلوص فَقرب من الْإِخْلَاص إِن شَاءَ الله تَعَالَى(4/62)
وَهَذِه الْحِكَايَة عَن الشَّيْخ أبي حَامِد تدل على أَن مَا كَانَ يكْتب عَنهُ بِإِذْنِهِ فقد أخْلص عَنهُ وَقد كتب عَنهُ من الْعلم مَا لم يكْتب نَظِيره عَن أحد بعده فَللَّه هَذَا الْإِخْلَاص فِي هَذِه الْكَثْرَة فَإِنَّهُ طبق الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ وَمَا كتب عَنهُ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ سَأَلت القَاضِي أَبَا عبد الله الصَّيْمَرِيّ وَكَانَ إِمَام أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي زَمَانه هَل رَأَيْت أنظر من الشَّيْخ أبي حَامِد فَقَالَ مَا رَأَيْت أنظر مِنْهُ وَمن أبي الْحسن الخرزي الداوودي
قَالَ الشَّيْخ وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ إِمَام أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي عصرنا يعظمه ويفضله على كل أحد
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو حَفْص عمر بن عبد الْمُنعم بن القواس أخبرنَا أَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ إجَازَة قَالَ أخبرنَا ابْن عبد السَّلَام أخبرنَا الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الفيروزابادي قَالَ حكى لي رَئِيس الرؤساء شرف الوزراء جمال الورى أَبُو الْقَاسِم على بن الْحُسَيْن عَن أبي الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ أَنه قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد عِنْد أفقه وَأنْظر من الشَّافِعِي
قَالَ رَئِيس الرؤساء فاغتظت مِنْهُ من هَذَا القَوْل(4/63)
وَبِه إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق قَالَ قلت هَذَا القَوْل من أبي الْحُسَيْن حمله عَلَيْهِ اعْتِقَاده فِي الشَّيْخ أبي حَامِد وتعصبه للحنفية على الشَّافِعِي وَمَا مثل الشَّافِعِي وَمثل من بعده إِلَّا كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل نَوْفَل ... وَنزلت بِالْبَيْدَاءِ أبعد منزل)
وَعَن سليم الرَّازِيّ أَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد كَانَ فِي أول أمره يحرس فِي بعض الدروب ويطالع الْعلم فِي زَيْت الحرس وَأَنه أفتى وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة وَأقَام يُفْتِي إِلَى أَن مَاتَ وَلما قربت وَفَاته قَالَ لما تفقهنا متْنا
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد رفيع الجاه فِي الدُّنْيَا وَوَقع من الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أوجب أَن كتب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد اعْلَم أَنَّك لست بِقَادِر على عزلي عَن ولايتي الَّتِي ولانيها الله تَعَالَى وَأَنا أقدر أَن أكتب رقْعَة إِلَى خُرَاسَان بكلمتين أَو ثَلَاث أعزلك عَن خلافتك
وَحكى أَن قَارِئًا قَرَأَ فِي مَجْلِسه {للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا}
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد أما الْعُلُوّ فقد أردنَا وَأما الْفساد فَمَا أردنَا
وَحكى أَنه أرسل إِلَى مصر فَاشْترى أمالي الشَّافِعِي بِمِائَة دِينَار
وَمن شعر أبي الْفرج الدَّارمِيّ صَاحب الاستذكار وَقد عَاده الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي مرضة مَرضهَا(4/64)
(مَرضت فارتحت إِلَى عَائِد ... فعادني الْعَالم فِي وَاحِد)
(ذَاك الإِمَام ابْن أبي طَاهِر ... أَحْمد ذُو الْفضل أَبُو حَامِد)
وَمن شعر الشَّيْخ أبي حَامِد
(لَا يغلون عَلَيْك الْحَمد فِي ثمن ... فَلَيْسَ حمد وَإِن أثمنت بالغالي)
(الْحَمد يبْقى على الْأَيَّام مَا بقيت ... والدهر يذهب بالأحوال وَالْمَال)
وَمن محَاسِن الشَّيْخ أبي حَامِد أَنه اتّفق فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلاثمائة وُقُوع فتْنَة بَين أهل السّنة والشيعة بِبَغْدَاد بِسَبَب إِخْرَاج الشِّيعَة مُصحفا قَالُوا إِنَّه مصحف ابْن مَسْعُود وَهُوَ يُخَالف الْمَصَاحِف كلهَا فثار عَلَيْهِم أهل السّنة وثاروا هم أَيْضا ثمَّ آل الْأَمر إِلَى جمع الْعلمَاء والقضاة فِي مجْلِس فَحَضَرَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وأحضر الْمُصحف الْمشَار إِلَيْهِ فَأَشَارَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْفُقَهَاء بتحريقه فَفعل ذَلِك بِمحضر مِنْهُم فَغضِبت الشِّيعَة وَقصد جمَاعَة من أحداثهم دَار الشَّيْخ أبي حَامِد ليؤذوه فانتقل مِنْهَا ثمَّ سكن الْخَلِيفَة الْفِتْنَة وَعَاد الشَّيْخ أَبُو حَامِد إِلَى دَاره
توفّي الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي شَوَّال سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة وَدفن بداره ثمَّ نقل سنة عشرَة إِلَى الْمقْبرَة
وَعَلِيهِ تَأَول جمَاعَة من الْعلمَاء حَدِيث (يبْعَث الله لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا أَمر دينهَا)(4/65)
وَمن الرِّوَايَة عَن الشَّيْخ أبي حَامِد
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو عبد الله بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا الْحسن بن عَليّ الْخلال ويوسف ابْن أبي نصر الشقاري سَمَاعا قَالَا أخبرنَا الرشيد أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم ابْن الْهَادِي أخبرنَا عبد الله بن صابر السّلمِيّ أخبرنَا الشريف أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْحُسَيْنِي أخبرنَا الشَّيْخ الْفَقِيه الْفَاضِل أَبُو الْفَتْح سليم بن أَيُّوب الرَّازِيّ قِرَاءَة عَلَيْهِ من أصل كِتَابه أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَحْمد بن أبي طَاهِر الإسفرايني حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَبدك الشعراني أخبرنَا الْحسن بن سُفْيَان الشَّيْبَانِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن المتَوَكل الْعَسْقَلَانِي حَدثنَا الْمُعْتَمِر وَشُعَيْب بن إِسْحَاق قَالَا حَدثنَا ابْن عون عَن الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَين ذَلِك أُمُور مشتبهة لَا يعلمهَا كثير من النَّاس فَمن اتَّقى الْحَرَام كَانَ أوقى لدينِهِ وَعرضه وَمن وَقع فِي الشُّبْهَة وَقع فِي الْحَرَام كالراتع يرتع حول الْحمى وَإِن حمى الله فِي الأَرْض مَحَارمه وَمن يرتع حول الْحمى يُوشك أَن يَجْسُر)
قَالَ ابْن المتَوَكل وَزَاد فِيهِ غَيره عَن زَكَرِيَّا عَن الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَلا إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب فَمَا أنكر قَلْبك فَدَعْهُ)(4/66)
تَنْبِيه عَجِيب
وَقع فِي كتاب الْملَل والنحل لأبي الْفَتْح الشهرستاني فِي أَوَائِله أَن فلاسفة الْإِسْلَام الَّذين فسروا كتب الْحِكْمَة من اليونانية إِلَى الْعَرَبيَّة وَأَكْثَرهم على رَأْي أرسطاليس حنين بن إِسْحَاق وَأَبُو الْفرج الْمُفَسّر وَأَبُو سُلَيْمَان السجْزِي وَيحيى النَّحْوِيّ وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنْدِيّ وَأَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن معشر الْمَقْدِسِي وَأَبُو بكر بن ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي وَأَبُو تَمام يُوسُف بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي وَأَبُو زيد أَحْمد بن سهل الْبَلْخِي وَأَبُو محَارب الْحسن بن سهل وَابْن محَارب القمي وَأَبُو حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد الإسفزاري وَأَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عدي والصيمري وَأَبُو نصر الفارابي وَطَلْحَة النَّسَفِيّ وَأَبُو الْحسن العامري والرئيس أَبُو عَليّ بن سينا
انْتهى مُلَخصا
وَأَبُو حَامِد الإسفزاري الْمشَار إِلَيْهِ فيلسوف من بَلْدَة إسفزار بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالفاء وَالزَّاي المكسورتين وَفِي آخرهَا الرَّاء مَدِينَة بَين هراة وسجستان
وَإِنَّمَا نبهت على هَذَا لِأَنَّهُ تصحف على بعض النَّاس مِمَّن تكلم معي وَقَالَ لي كَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد من فلاسفة الْإِسْلَام فَقلت لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا حَامِد شيخ الْعرَاق لَا يدْرِي الفلسفة وَلَا هُوَ من هَذَا الْقَبِيل فأحضر إِلَيّ الْكتاب وَقد تصحف عَلَيْهِ(4/67)
الإسفزاري بالإسفرايني فعرفته ذَلِك ثمَّ أَحْبَبْت التَّنْبِيه على ذَلِك هُنَا لِئَلَّا يَقع فِيهِ غَيره كَمَا وَقع هُوَ
وَمن الْمسَائِل والفوائد والغرائب عَنهُ
وقفت على أَكثر تعليقة الشَّيْخ أبي حَامِد بِخَط سليم الرَّازِيّ وَهِي الْمَوْقُوفَة بخزانة الْمدرسَة الناصرية بِدِمَشْق وَالَّتِي علقها الْبَنْدَنِيجِيّ عَنهُ وَنسخ أخر مِنْهَا وَقد يَقع فِيهَا بعض تفَاوت وعَلى كِتَابه فِي أصُول الْفِقْه وعَلى الْمُخْتَصر الْمُسَمّى بالرونق الْمَنْسُوب إِلَيْهِ وَكَانَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يتَوَقَّف فِي ثُبُوته عَنهُ وسمعته غير مرّة إِذا عزا النَّقْل إِلَيْهِ يَقُول الرونق الْمَنْسُوب إِلَى الشَّيْخ أبي حَامِد وَلَا يجْزم القَوْل بِأَنَّهُ لَهُ وَهَذِه فَوَائِد عَن الشَّيْخ أَبى حَامِد من هَذِه الْكتب أَو من غَيرهَا
قَالَ فِي التعليقة فِي كتاب الْفَرَائِض فِي تَارِيخ نزُول الْمَوَارِيث وَعَن خطّ سليم نقلته إِن غَزْوَة خَيْبَر كَانَت فِي سنة خمس
وَفِي كَلَامه مَا يشْعر أَن ذَلِك من كَلَام الشَّافِعِي وَهَذَا غَرِيب
وَنقل صَاحب الْبَيَان عَن الشَّيْخ أبي حَامِد أَنه قَالَ إِذا بَاعَ كُرْسُف بَغْدَاد وخراسان وَمَا لَا يحمل إِلَّا سنة وَكَانَ جوزه قد انْعَقَد وَقَوي وتشقق حَتَّى بدا مِنْهُ الْقطن لَا يَصح البيع كالطعام فِي سنبله
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى فِي شرح الْمُهَذّب وَهُوَ مَحْمُول على غلط النُّسْخَة(4/68)
وَفِي الرونق هَل تجب الزَّكَاة فِي اللوز والبلوط فِيهِ قَولَانِ وَهَذَا غَرِيب
ذكر صَاحب الْحَاوِي فِي بَاب الْمُطلقَة ثَلَاثًا أَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد ذهب إِلَى أَنه لَا يجب الْغسْل وَلَا يتَعَلَّق أَحْكَام الْوَطْء لمن أَدخل ذكره فِي الْفرج غير منتشر بِيَدِهِ لِأَنَّهُ لَا شَهْوَة إِلَّا مَعَ الانتشار
ذكر الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي بَاب الْوكَالَة من تعليقته
أَنه لَو شهد أَبُو الْمُوكل أَو ابناه أَبُو أَبَوَاهُ وَابْنه على الْمُوكل بِأَنَّهُ وكل لم تقبل
كَذَا نَص عَلَيْهِ فِي أثْنَاء الْبَاب
قَالَ لِأَن شَهَادَة الْأَب لَا تقبل لِابْنِهِ وَشَهَادَة الابْن لَا تقبل لِأَبِيهِ
كَذَا رَأَيْته مَجْزُومًا بِهِ فِي عَامَّة مَا وقفت عَلَيْهِ من النّسخ بالتعليقة وَنَقله عَنهُ صَاحب الْبَيَان وَنَقله ابْن الصّباغ فِي الشَّامِل لكنه لم يُصَرح بِأَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد قَائِله بل غزاه إِلَى بَعضهم ورده وسأحكي لَفْظهمَا
وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت بِدِمَشْق سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة
قَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين بن الفركاح فِي كتاب الشَّهَادَات من تعليقته وَلم أَجدهَا بخصوصها منقولة وَخرج فِيهَا خلافًا من مسَائِل ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَنه وجدهَا فِي الْبَيَان
قلت وَلَفظ ابْن الصّباغ فِيهَا فَإِن شهد للْوَكِيل أَو الْمُوكل أَبَوَاهُ أَو ابناه قَالَ أَصْحَابنَا لَا تثبت وكَالَته لِأَنَّهُ يثبت بذلك التَّصَرُّف على الْمُوكل فَهِيَ شَهَادَة لَهُ وَفِيه نظر لِأَن هَذِه الْوكَالَة تثبت بقول الْمُوكل وَيسْتَحق الْوَكِيل بذلك الْمُطَالبَة بِالْحَقِّ وَمَا يثبت بقوله يثبت بِشَهَادَة الْقَرَابَة عَلَيْهِ كَالْإِقْرَارِ انْتهى(4/69)
وَعبارَة العمراني فِي الْبَيَان وَإِن شهد بِالْوكَالَةِ أَبَوا الْمُوكل أَو ابناه فَذكر الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَنَّهُمَا لَا يقبلان لِأَنَّهُمَا يثبتان بذلك التَّصَرُّف عَن الْمُوكل فَهِيَ شَهَادَة لَهُ
قَالَ ابْن الصّباغ وَفِيه نظر انْتهى
وَحكى بَقِيَّة كَلَام ابْن الصّباغ بنصه
قلت وَقَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين يَنْبَغِي أَن يكون فِي الْمَسْأَلَة خلاف لِأَن الشَّهَادَة فِي الِابْتِدَاء لَيست للْأَب بل لأَجْنَبِيّ وَهُوَ الْوَكِيل لَكِنَّهَا تَتَضَمَّن إِثْبَات فَائِدَة للْأَب فَيكون مَأْخَذ الْخلاف أَن الْعبْرَة بِالِابْتِدَاءِ أَو بالتضمن
وَكَانَ الشَّيْخ برهَان الدّين رَحمَه الله إِذْ ذَاك ابْن سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة فَأخْرج لَهُم قبل أَن يجد مَا فِي الْبَيَان قَول الرَّافِعِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ عَن حِكَايَة قَول القَاضِي أبي سعد فِي عبد فِي يَد زيد ادّعى مُدع أَنه اشْتَرَاهُ من عَمْرو بعد مَا اشْتَرَاهُ عَمْرو بن زيد صَاحب الْيَد وَقَبضه وطالبه بِالتَّسْلِيمِ وَأنكر زيد جَمِيع ذَلِك فَشهد ابناه للْمُدَّعِي بِمَا يَقُوله فَإِن الرَّافِعِيّ قَالَ حكى القَاضِي أَبُو سعد فِيهِ قَوْلَيْنِ أَحدهمَا رد شَهَادَتهمَا لتضمنها إِثْبَات الْملك لأبيهما وأصحهما الْقبُول لِأَن الْمَقْصُود بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَال الْمُدَّعِي وَهُوَ أَجْنَبِي عَنْهُمَا
وَذكر أَيْضا من كَلَام ابْن الصّلاح فِي فَتَاوِيهِ مَا ذكر أَنه يقرب من ذَلِك
قلت وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد لم يذكر فِي التعليقة من قبل نَفسه إِنَّمَا نقلهَا عَن أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج كَذَا يظْهر لمن تَأمل أول كَلَامه وَآخره وَأَبُو الْعَبَّاس لَهُ فروع فِي الشَّهَادَة فِي الْوكَالَة ختم بهَا بَاب الْوكَالَة وخرجها على أصل الشَّافِعِي وقدماء(4/70)
الْعِرَاقِيّين يذكرونها فِي بَاب الْوكَالَة فَرُبمَا وقف عَلَيْهَا بعض المصنفين فَأحب تَأْخِيرهَا إِلَى مظنتها من كتاب الشَّهَادَات فَإِنَّهُ بهَا أنسب ثمَّ لما انْتهى إِلَى كتاب الشَّهَادَات نَسِيَهَا فَمن هُنَا جَاءَ إهمالها وَلذَلِك نَظَائِر كَثِيرَة أَتَى الإهمال فِيهَا من جِهَة التَّبْوِيب
مَسْأَلَة تعقبت على الشَّيْخ أبي حَامِد
اعْلَم أَنه مَا جَاءَ بعد أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج من اشتهرت تصانيفه وَكَثُرت تلامذته واتسعت أَقْوَاله وَبعد عَن القرين فِي زَمَانه كالشيخ أبي حَامِد وَبِهَذَا الْقَيْد خرجت أَئِمَّة هم أجل مِنْهُ وهم بعد ابْن سُرَيج لَكِن لم يتهيأ لَهُم هَذَا الْوَصْف فطالما تعقب الشَّيْخ أَبُو حَامِد كَلَام أبي الْعَبَّاس وَمَا جَاءَ بعد الشَّيْخ أبي حَامِد فِي الْعِرَاقِيّين مثل القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَقد تعقب كثيرا من كَلَام أبي حَامِد
وَمِمَّا تعقبه قَالَ فِي تعليقته فِي بَاب الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين بعد مَا ذكر أَن الْجِنَايَة الْمُوجبَة للْقصَاص لَا تثبت بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين مَا نَصه وَكَذَلِكَ إِذا قطعت يَده من الساعد لم يسمع فِيهِ الشَّاهِد وَالْيَمِين وَغلط أَبُو حَامِد الإسفرايني فِي هَذَا فَقَالَ يسمع فِيهِ الشَّاهِد وَالْيَمِين وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن هَذِه الْجِنَايَة تَتَضَمَّن الْقصاص وَلَا يسمع فِيهِ الشَّاهِد وَالْيَمِين
ثمَّ أَطَالَ فِي الرَّد عَلَيْهِ وَاسْتشْهدَ بِنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَإِن كَانَ الْجراح هاشمة أَو مأمومة لم أقبل مِنْهُ أقل من شَاهِدين وساقها على نَحْو المناظرة بَينه وَبَين الشَّيْخ أبي حَامِد وَلَا يبعد ذَلِك فَإِن القَاضِي أَبَا الطّيب كَانَ يحضر مجْلِس أبي حَامِد وَأَيْضًا فَإِنِّي لم أرها فِي تعليقة الشَّيْخ أبي حَامِد فَدلَّ على أَن ذَلِك كَانَ مجْلِس نظر بَينهمَا وَإِنِّي ألخص المناظرة فَأَقُول(4/71)
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب بعد مَا اسْتشْهد بِالنَّصِّ فِي الهاشمة والمأمومة مَا حَاصله إِذا كَانَ لَا يقبل فِي الهاشمة أقل من شَاهِدين وَإِن كَانَت توجب المَال لِأَن قبلهَا الْمُوَضّحَة وفيهَا الْقصاص فَكَذَلِك قطع الْيَد من الساعد لِأَن قبلهَا الْمفصل
قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْفرق بَين المسئلتين أَن الهشم يتَضَمَّن الْإِيضَاح فَيكون مباشرا للإيضاح الَّذِي ثَبت فِيهِ الْقصاص وواضعا الحديدة فِي مَوضِع ثَبت فِيهِ الْقصاص بِخِلَاف الْقطع من ساعد فَإِنَّهُ وضع الحديدة فِي مَوضِع لَا قصاص فِيهِ
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب فَيجب على هَذَا أَن تَقول إِنَّه لَا يجب الْقصاص بِتِلْكَ الْجِنَايَة من الْمفصل وَقد أجمعنا على وُجُوبه بهَا مِنْهُ وَصَارَ فِي معنى الهشم
قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد لَا أسلم أَن الْقصاص يجب بِهَذِهِ الْجِنَايَة من الْمفصل
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب غلط أَيْضا على الْمَذْهَب لِأَن الشَّافِعِي نَص على أَنه إِذا قطع يَد رجل وَيَد الْمَقْطُوع ذَات ثَلَاث أَصَابِع وَيَد الْقَاطِع كَامِلَة الْأَصَابِع لم تقطع يَده الْكَامِلَة بِيَدِهِ النَّاقِصَة فَإِن رَضِي بِأَن يقْتَصّ مِنْهُ فِي ثَلَاث أَصَابِع اقْتصّ مِنْهُ فِيهَا وَأخذ الْحُكُومَة فِي الْبَاقِي وَهَذَا يدل على بطلَان مَا قَالَه
انْتهى
وَهُوَ مَكَان مُهِمّ قد دارت الْمُنَازعَة فِيهِ بَين هذَيْن الْإِمَامَيْنِ الجليلين وَلم أجد للرافعي وَلَا لِابْنِ الرّفْعَة عَلَيْهِ كلَاما وَأغْرب من ذَلِك أَن ابْن أبي الدَّم قد تكلم عَلَيْهِ فِي شرح الْوَسِيط وَلم يتَعَرَّض لَهُ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب مَعَ تتبعه كَلَام ابْن أبي الدَّم
وَقد قَالَ ابْن أبي الدَّم إِن مَا ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب طَريقَة لَهُ وَإِن الشَّيْخ أَبَا عَليّ قَالَ فِي شَرحه لمختصر الْمُزنِيّ وَلَو ادّعى على رجل أَنه قطع يَده من نصف(4/72)
الذِّرَاع هَل يثبت بِشَاهِد وَيَمِين فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا الْمَنْع لِأَنَّهُ لَو ثَبت لثبت الْقصاص فِي الْكُوع وَالثَّانِي يثبت الْحُكُومَة فِي الذِّرَاع وَلَا يثبت فِي الْكُوع قصاص وَلَا دِيَة
قَالَ فَلَو ادّعى عَلَيْهِ جِنَايَة مُوجبَة لِلْمَالِ إِلَّا أَن فِي ضمنهَا مَا يُوجب الْقود كالهاشمة والموضحة فنص الشَّافِعِي أَنه لَا يثبت إِلَّا بِشَهَادَة شَاهِدين
وَحكى فِيهِ صَاحب التَّقْرِيب قولا آخر أَنه يثبت بِشَاهِد وَيَمِين وَيثبت بِهِ أرش الهاشمة وعَلى هَذَا هَل يثبت الْقصاص فِي الْمُوَضّحَة تبعا فِيهِ وَجْهَان فَالَّذِي قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد قَول لصَاحب الْمَذْهَب فَلَا وَجه لتغليطه
هَذَا ملخص كَلَام ابْن أبي الدَّم
وَمَا حَكَاهُ صَاحب التَّقْرِيب من الْوَجْهَيْنِ فِي إِثْبَات الْقصاص فِي الْمُوَضّحَة وَالْحَالة مَا ذكر مَعْرُوف بالإشكال فَإِنَّهُ كَيفَ تتبع الْمُوَضّحَة الهاشمة فِي وجوب الْقصاص والمتبوع لَا قصاص فِيهِ نعم للْخلاف فِي وجوب أرش الْمُوَضّحَة اتجاه لأَنا وجدنَا مُتَعَلقا لثُبُوت المَال وَالْمَال يستتبع المَال أما أَنه يستتبع الْقصاص فَلَا
وَجَمِيع مَا ذكره ابْن أبي الدَّم عَن صَاحب التَّقْرِيب وَعَن الشَّيْخ أبي عَليّ ذكره الرَّافِعِيّ وَابْن الرّفْعَة كِلَاهُمَا فِي بَاب دَعْوَى الدَّم والقسامة وَلم يتعرضا لكَلَام الشَّيْخَيْنِ أبي حَامِد وَالْقَاضِي أبي الطّيب
تعَارض بَين بينتي الرّقّ وَالْحريَّة
ذكر أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ أَن الشَّيْخ أَبَا حَامِد قَالَ فِي مَجْهُول النّسَب أَقَامَ الْبَيِّنَة أَنه حر وَأقَام الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة أَنه رَقِيق إِن بَيِّنَة الرّقّ أولى لِأَنَّهُ طارىء(4/73)
قَالَ وَقَالَ غَيره إِن بَيِّنَة الْحُرِّيَّة أولى
قلت وَصرح القَاضِي أَبُو سعد فِي الإشراف بِنَقْل القَوْل بِتَقْدِيم الْحُرِّيَّة عَن جَمِيع الْأَصْحَاب غير الشَّيْخ أبي حَامِد
وَصرح الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي فِي كتاب النِّكَاح عِنْد الْكَلَام فِي خِيَار الْمُعتقَة بحكاية وَجْهَيْن أَحدهمَا التَّعَارُض وَالثَّانِي أَن بَيِّنَة الرّقّ أولى
وَالَّذِي حزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الْفُرُوع المنثورة آخر بَاب الدعاوي أَن بَيِّنَة الرّقّ أولى
كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد
وَمَوْضِع الْخلاف تعَارض الرّقّ وحرية الأَصْل أما الرّقّ وَالْعِتْق فَلَا يخفى أَن الْعتْق أولى وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب النِّكَاح والرافعي فِي بَاب الدَّعَاوَى وَغَيرهمَا وَهُوَ وَاضح
272 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ
صَاحب المعاياة والشافي والتحرير وَغير ذَلِك
كَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وَالْأَدب قَاضِيا بِالْبَصْرَةِ ومدرسا بهَا
وَله تصانيف فِي الْأَدَب حَسَنَة مِنْهَا كتاب الأدباء
وَقد سمع الحَدِيث من أبي طَالب بن غيلَان وَأبي الْحسن الْقزْوِينِي وَأبي عبد الله الصُّورِي والقاضيين أبي الطّيب وَالْمَاوَرْدِيّ والخطيب أبي بكر وَأبي بكر بن شَاذان وَغَيرهم(4/74)
روى عَنهُ أَبُو عَليّ بن سكرة الْحَافِظ وَإِسْمَاعِيل بن السَّمرقَنْدِي وَأَبُو طَاهِر أَحْمد ابْن الْحسن الكرجي وَالْحُسَيْن بن عبد الْملك الأديب وَغَيرهم
وتفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ قَاضِي الْبَصْرَة رجل من الرِّجَال دخال فِي الْأُمُور خراج أحد أجلاء الزَّمَان
وَقَالَ ابْن النجار لَهُ النّظم الْمليح صنف كتاب كنايات الأدباء وإشارات البلغاء جمع فِيهِ محَاسِن النّظم والنثر
قلت لم يذكرهُ وَاحِد مِنْهُمَا بالفقه وَقد كَانَ فِيهِ إِمَامًا ماهرا وفارسا مقداما وتصانيفه فِيهِ تنبىء عَن ذَلِك
توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة(4/75)
وَمن الْمسَائِل الغريبة والفوائد العجيبة عَنهُ
قَالَ فِي كتاب المعاياة إِن السابي إِذا وطىء الْجَارِيَة المسبية يكون متملكا لَهَا
وَتَبعهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الفروق على ذَلِك وَهُوَ غَرِيب
وَقَالَ فِي الشافي إِنَّه يجوز للرجل الْخلْوَة بأمته المستبرأة وَإنَّهُ يكره لمن عَلَيْهِ صَوْم رَمَضَان أَن يتَطَوَّع بِصَوْم
وَحكى وَجها أَن ضَمَان نَفَقَة الْيَوْم للزَّوْجَة لَا يَصح وَالْمَشْهُور الصِّحَّة(4/76)
273 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الإِمَام الْكَبِير أَبُو الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ
جد صَاحب الْبَحْر وَهُوَ صَاحب الجرجانيات
روى عَن الْقفال الْمروزِي
أخبرنَا أَحْمد بن عَليّ الْجَزرِي عَن مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي عَن أبي طَاهِر السلَفِي أخبرنَا أَبُو المحاسن الرَّوْيَانِيّ بِالريِّ سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة أخبرنَا جدي(4/77)
أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الرَّوْيَانِيّ بآمل حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد الْفَقِيه حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن يعلى بن مرّة عَن أَبِيه قَالَ خرجت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنزلنا منزلا فَقَالَ (إيت تينك الأشاءتين) يَعْنِي نخلتين (فَقل لَهما إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأمركما أَن تجتمعا) فأتيتهما فَقلت لَهما فَوَثَبت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى صاحبتها فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أتاهما فاستتر بهما فَقضى حَاجته فَقَالَ لي (ائتهما فَقل لَهما ارْجِعَا) فَقلت لَهما فَرَجَعت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى مَكَانهَا
274 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ أَبُو الْحسن الشجاعي النَّيْسَابُورِي
أَمِين مجْلِس الْقَضَاء بنيسابور
كَانَ من فُقَهَاء الْمَذْهَب وَكَانَت لَهُ ثروة ظَاهِرَة وحشمة عالية
مولده سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة
وَحدث عَن أبي بكر الْحِيرِي
روى عَنهُ عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي وَمُحَمّد بن جَامع خياط الصُّوف وَعمر ابْن أَحْمد الصفار وَعبد الْخَالِق بن زَاهِر وَعبد الله بن الفراوي وَهبة الرَّحْمَن الْقشيرِي وَغَيرهم(4/78)
275 - أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن الْحسن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَبُو بكر الفوركي
سبط الإِمَام أبي بكر بن فورك من أهل نيسابور
ورد بَغْدَاد واستوطنها وَكَانَ يعظ بالنظامية
درس الْكَلَام على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ على أبي الْحسن الْقَزاز
وَتزَوج بابنة الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي
سمع أَبَا عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبا الْحُسَيْن عبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي وَأَبا الْحسن بن الْمَرْزُبَان وَغَيرهم
روى عَنهُ عبد الْوَهَّاب بن الْأنمَاطِي وَغَيره
مولده فِي شهر رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة وَمَات سنة ثَمَان وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
276 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أَبُو نصر بن البُخَارِيّ
حمو القَاضِي الصَّيْمَرِيّ
تفقه بِبَغْدَاد على الشَّيْخ أبي حَامِد(4/79)
قَالَ الْخَطِيب ثمَّ ولي قَضَاء الْكُوفَة فَخرج إِلَيْهَا وَأقَام بهَا دهرا طَويلا وَقدم بَغْدَاد وَحدث عَن أبي الْقَاسِم المرجي الْموصِلِي
كتبت عَنهُ وَكَانَ ثِقَة
وبلغنا أَنه مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ لست خلون من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
277 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبيد الله
مُصَغرًا بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أَحْمد بن مُوسَى أَبُو بكر البستي من كبار أَئِمَّة نيسابور وَأولى الرياسة والحشمة
حدث عَن أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ
من كبار فُقَهَاء أَصْحَاب الشَّافِعِي والمدرسين المناظرين بنيسابور
وَكَانَت لَهُ الْمُرُوءَة الظَّاهِرَة والثروة الوافرة
بنى لأهل الْعلم مدرسة على بَاب دَاره ووقف عَلَيْهَا جملَة من مَاله
وَتُوفِّي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة(4/80)
278 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد أَبُو الْعَبَّاس الأبيوردي
أحد أَصْحَاب الشَّيْخ أبي حَامِد
سكن بَغْدَاد وَولي قَضَاء الْجَانِب الشَّرْقِي مِنْهَا
وَكَانَت لَهُ حَلقَة للْفَتْوَى فِي جَامع الْمَنْصُور
قَالَ الْخَطِيب وَذكر لي أَنه سمع بِبِلَاد خُرَاسَان وَلم يكن مَعَه من مسموعاته غير شَيْء يسير كتبه بِالريِّ وهمذان عَن عَليّ بن الْقَاسِم بن شَاذان القَاضِي وجعفر بن عبد الله الفناكي وَصَالح بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي
قَالَ وَكَانَ حسن الِاعْتِقَاد جميل الطَّرِيقَة ثَابت الْقدَم فِي الْعلم فصيح اللِّسَان يَقُول الشّعْر
ولد سنة سبع وَخمسين وثلاثمائة
وَمَات فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة(4/81)
279 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد
ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر الْقرشِي التَّيْمِيّ المروروذي الْمَعْرُوف بالمنكدري
إِمَام فَاضل
تفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد فِي قدمة قدمهَا إِلَى بَغْدَاد
وَسمع من أبي أَحْمد الفرضي وَأبي عمر بن مهْدي
وَسمع بنيسابور من الْحَاكِم أبي عبد الله وَالشَّيْخ أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ
وَحدث بِبَغْدَاد
كتب عَنهُ الْخَطِيب
مولده فِي شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وثلاثمائة
وَمَات بمروالروذ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَبهَا ولد(4/82)
280 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن شُجَاع السَّرخسِيّ
أَبُو حَامِد الشجاعي
تفقه على الشَّيْخ أبي على السنجي ودرس مُدَّة
وَكَانَ إِمَامًا مبرزا كَبِير الْقدر
سمع الحَدِيث من اللَّيْث بن مُحَمَّد اللَّيْثِيّ وَغَيره
روى عَنهُ ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن مَحْمُود السره مرد وَعمر البسطامي الْحَافِظ وَجَمَاعَة من شُيُوخ ابْن السَّمْعَانِيّ وَله مجْلِس من أَمَالِيهِ مَرْوِيّ
توفّي ببلخ سنة ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَسبق أَحْمد بن مُحَمَّد الشجاعي غير هَذَا
281 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن نمير
الشَّيْخ الْجَلِيل أَبُو سعيد الْخَوَارِزْمِيّ الضَّرِير
تفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرايني
قَالَ الْخَطِيب وَكَانَ حَافِظًا متقنا للفقه(4/83)
يُقَال لم يكن فِي عصره من الشُّيُوخ بعد أبي الطّيب الطَّبَرِيّ أفقه مِنْهُ
وَكَانَ يقدم على أبي الْقَاسِم الْكَرْخِي وَأبي نصر الثابتي
وَحدث عَن أبي الْقَاسِم الصيدلاني
كتبت عَنهُ وَكَانَ صَدُوقًا
مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الْعَاشِر من صفر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن الصّلاح ذكر ابْن عقيل فِي الْفُنُون قَالَ قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْفضل الهمذاني شَيخنَا فِي الْفَرَائِض ذاكرت بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة يَعْنِي قَول الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق لَا كنت لي بِمرَّة حَيْثُ كثر الاستفتاء فِيهَا الشَّيْخ أَبَا سعيد الضَّرِير فَقَالَ هِيَ على ثَلَاثَة أَقسَام الأول أَن يَعْنِي لَا كنت لي بِمرَّة لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْك فَيَقَع مَا نَوَاه من الطَّلَاق وَإِن لم ينْو عددا وَقعت وَاحِدَة وَالثَّانِي أَن يَعْنِي لَا كنت لي بِمرَّة أَي لَا استمتعت بك فَيكون مُعَلّقا بِوَطْئِهَا فَإِن وَطئهَا وَقعت طَلْقَة الثَّالِث أَن يُرِيد أَنْت طَالِق لَا استدمت نكاحك فَإِن مضى زمَان يُمكنهُ فِيهِ الْإِبَانَة فَلم يبنها وَقعت طَلْقَة
282 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ
صَاحب الغريبين فِي لُغَة الْقُرْآن ولغة الحَدِيث(4/84)
أَخذ اللُّغَة عَن الْأَزْهَرِي وَغَيره
وروى الحَدِيث عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ياسين وَأبي إِسْحَاق أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُونُس الْبَزَّاز الْحَافِظ
روى عَنهُ أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي وَأَبُو عمر عبد الْوَاحِد ابْن أَحْمد المليحي
توفّي لست خلون من رَجَب سنة إِحْدَى وَأَرْبَعمِائَة
283 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد أَبُو مَنْصُور بن الصّباغ الْبَغْدَادِيّ
ابْن أخي الشَّيْخ أبي نصر وَزوج ابْنَته
إِمَام عَالم جليل الْقدر
وتفقه على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وعَلى عَمه الشَّيْخ أبي نصر
وروى الحَدِيث عَن القَاضِي أبي الطّيب وَالْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي وَأبي يعلى بن الْفراء وَأبي الْحُسَيْن بن النقور وَأبي الْقَاسِم بن الْيُسْرَى وَأبي الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون وأبى على الْحسن بن أَحْمد الْحداد وَغَيرهم(4/85)
روى عَنهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي وَأَبُو المعمر الْأنْصَارِيّ وَأَبُو الْحسن بن الْخلّ الْفَقِيه وَغَيرهم
قَالَ ابْن النجار كَانَ فَقِيها فَاضلا حَافِظًا للْمَذْهَب متدينا يَصُوم الدَّهْر وَيكثر الصَّلَاة
قَالَ وَكَانَ يَنُوب عَن القَاضِي أبي مُحَمَّد بن الدَّامغَانِي فِي الْقَضَاء بِربع الكرخ ثمَّ ولي الْحِسْبَة بالجانب الغربي بِبَغْدَاد
قَالَ وَله مصنفات ومجموعات حَسَنَة
قَالَ وَكَانَ خطه رديئا
توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَدفن من الْغَد فِي مَقْبرَة بَاب حَرْب بِبَغْدَاد
وَمن مسَائِل القَاضِي أبي مَنْصُور
ذكر أَن إِمَامَة الأقلف تكره بعد الْبلُوغ وَلَا تكره قبله
وَقَالَ أَبُو مَنْصُور فِي الْفَتَاوَى الَّتِي جمعهَا من كَلَام عَمه الشَّيْخ أبي نصر وفيهَا كثير من كَلَامه إِذا قَالَ لزوجته أَنْت طَالِق لَا بُد أَن تفعلي كَذَا أَنه لم يجدهَا منصوصة
قَالَ أَبُو مَنْصُور وَرَأَيْت شَيخنَا يَعْنِي أَبَا نصر بن الصّباغ يُفْتِي أَنه يكون على الْفَوْر
قَالَ وَأفْتى غَيره بِأَنَّهُ يكون على التَّرَاخِي
وَقَالَ أَبُو مَنْصُور أَيْضا فِي هَذِه الْفَتَاوَى فِي مَسْأَلَة العمياء هَل لَهما حضَانَة(4/86)
لم أجد هَذِه الْمَسْأَلَة مسطورة وَسَأَلت شَيخنَا يَعْنِي ابْن الصّباغ فَقَالَ إِن كَانَ الطِّفْل صَغِيرا فلهَا الْحَضَانَة لِأَنَّهُ يُمكنهَا حفظه وَإِن كَانَ كَبِيرا فَلَا حضَانَة لَهَا لتعذر الْحِفْظ
قلت وَالْأَمر كَمَا وصف من كَون الْمَسْأَلَة غير مسطورة وَلم يَقع الْبَحْث عَنْهَا إِلَّا فِي زمَان ابْن الصّباغ فَأفْتى بِهَذَا وَأفْتى عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي بِأَنَّهُ لَا حضَانَة لَهَا مُطلقًا وَأرَاهُ الْأَرْجَح
284 - أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ الْقَدِيم الْكَبِير
هَذَا الرجل قد وَقع الْخبط فِي أمره وَجَهل أَكثر الْخلق حَاله وَأول بحثي عَن تَرْجَمته لما كنت أَقرَأ طَبَقَات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق على شَيخنَا الذَّهَبِيّ مَرَرْت بقوله وبخراسان وَفِيمَا وَرَاء النَّهر من أَصْحَابنَا خلق كثير كالأودني وَأبي عبد الله الْحَلِيمِيّ وَأبي يَعْقُوب الأبيوردي وَأبي عَليّ السنجي وَأبي بكر الْفَارِسِي وَأبي بكر الطوسي وَأبي مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وناصر الْمروزِي وَأبي سليم الشَّاشِي وَالْغَزالِيّ وَأبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَغَيرهم مِمَّن لم يحضرني تَارِيخ مَوْتهمْ(4/87)
هَذَا كَلَام الشَّيْخ أبي إِسْحَاق أخبرنَا بِهِ أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ من أصل سَمَاعه وَهُوَ أصل صَحِيح قَالَ أخبرنَا عمر بن عبد الْمُنعم بن القواس أخبرنَا زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ إجَازَة أخبرنَا ابْن عبد السَّلَام أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَذكره
وَقد سَأَلت شَيخنَا الذَّهَبِيّ حَالَة الْقِرَاءَة عَلَيْهِ من هَذَا الْغَزالِيّ فَقَالَ هَذَا زِيَادَة من النَّاسِخ فَإنَّا لَا نَعْرِف غزاليا غير حجَّة الْإِسْلَام وأخيه وَيبعد كل الْبعد أَن يكون ثمَّ آخر لِأَن هَذِه نِسْبَة غَرِيبَة يقل الِاشْتِرَاك فِيهَا
قَالَ وَيبعد أَن يُرِيد حجَّة الْإِسْلَام إِذْ هُوَ مثل تلامذته
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لم يذكر من أقرانه أحدا كإمام الْحَرَمَيْنِ وَابْن الصّباغ وَغَيرهمَا فَكيف يذكر من هُوَ دونهم
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذكره قبل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد شيخ شيخ الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ شيخ وَلَده إِمَام الْحَرَمَيْنِ شيخ الْغَزالِيّ فَكل هَذَا مِمَّا يمهد أَنه لم يرد الْغَزالِيّ
فَقلت لَهُ إِذْ ذَاك وَثمّ دَلِيل آخر قَاطع على أَنه لم يرد أَبَا حَامِد حجَّة الْإِسْلَام
فَقَالَ مَا هُوَ
فَقلت قَوْله لم يحضرني تَارِيخ مَوْتهمْ فَإِن هَذَا دَلِيل مِنْهُ على أَنهم كَانُوا قد مَاتُوا وَلَكِن مَا عرف تَارِيخ مَوْتهمْ وَحجَّة الْإِسْلَام كَانَ مَوْجُودا بعد موت الشَّيْخ
قَالَ صَحِيح
ثمَّ ذكرت ذَلِك لوالدي الشَّيْخ الإِمَام تغمده الله برحمته فَذكر نَحوا مِمَّا ذكره الذَّهَبِيّ
وَتَمَادَى الْأَمر وَأَنا لَا أَقف على نُسْخَة من الطَّبَقَات وأكشف عَن هَذِه الْكَلِمَة إِلَّا وأجدها فأزداد تَعَجبا وفكرة(4/88)
ثمَّ وَقعت لي نُسْخَة عَلَيْهَا خطّ الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَقد كتب عَلَيْهَا بِأَنَّهَا قُرِئت عَلَيْهِ فألفيت هَذِه اللَّفْظَة فِيهَا
ثمَّ وقفت فِي تعليقة الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى صَاحب الْغَزالِيّ فِي الزَّكَاة فِي مَسْأَلَة التّلف بعد التَّمَكُّن أَنه ألزم شَافِعِيّ فَقيل لَهُ أَلَيْسَ لَو تلف النّصاب قبل التَّمَكُّن من الْأَدَاء سَقَطت الزَّكَاة فَكَذَلِك بعد التَّمَكُّن بِخِلَاف مَا لَو أتلف فَإِنَّهَا لَا تسْقط
فَقَالَ مَسْأَلَة الْإِتْلَاف مَمْنُوعَة لَا زَكَاة عَلَيْهِ وَلَا ضَمَان وَأسْندَ هَذَا الْمَنْع إِلَى الْغَزالِيّ الْقَدِيم وَالشَّيْخ أبي عَليّ تَفْرِيعا على أَن الزَّكَاة إِنَّمَا تجب بالتمكن
انْتهى
ثمَّ وقفت فِي كتاب الْأَنْسَاب لِابْنِ السَّمْعَانِيّ فِي تَرْجَمَة الزَّاهِد أبي عَليّ الفارمذي على أَن أَبَا عَليّ الْمَذْكُور تفقه على أبي حَامِد الْغَزالِيّ الْكَبِير فَلَمَّا وقفت على هذَيْن الْأَمريْنِ سر قلبِي وانشرح صَدْرِي وأيقنت أَن فِي أَصْحَابنَا غزاليا آخر فطفقت أبحث عَنهُ فِي التواريخ فَلَا أَجِدهُ مَذْكُورا إِلَى أَن وقفت على مَا انتقاه ابْن الصّلاح من كتاب الْمَذْهَب فِي ذكر شُيُوخ الْمَذْهَب للمطوعي فرأيته أَعنِي المطوعي قد ذكر أَبَا طَاهِر الزيَادي وعظمه
ثمَّ قَالَ وَتخرج بدرسه من لَا يُحْصى كَثْرَة كَأبي يَعْقُوب الأبيوردي صَاحب التصانيف السائرة والكتب الفائقة الساحرة وَذكره
ثمَّ قَالَ وكأبي حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد الْغَزالِيّ الَّذِي أذعن لَهُ فُقَهَاء الْفَرِيقَيْنِ وَأقر(4/89)
بفضله فضلاء المشرقين والمغربين إِذا حاور الْعلمَاء كَانَ الْمُقدم وَإِن نَاظر الْخُصُوم كَانَ الْفَحْل المقرم وَله فِي الخلافيات والجدل ورءوس الْمسَائِل وَالْمذهب تصانيف
انْتهى
فازددت فَرحا وسرورا وحمدت الله حمدا كثيرا
وَقد وَافق هَذَا الشَّيْخ حجَّة الْإِسْلَام فِي النِّسْبَة الغريبة والكنية وَاسم الْأَب ثمَّ بَلغنِي أَنه عَمه فَقيل لي أَخُو أَبِيه وَقيل عَم أَبِيه أَخُو جده ثمَّ حكى لي سيدنَا الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة ولي الله جمال الدّين عُمْدَة الْمُحَقِّقين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الجمالي حَيَّاهُ الله وبياه وأمتع ببقياه أَن قبر هَذَا الْغَزالِيّ الْقَدِيم مَعْرُوف مَشْهُور بمقبرة طوس وَأَنَّهُمْ يسمونه الْغَزالِيّ الْمَاضِي وَأَنه جرب من أمره أَنه من كَانَ بِهِ هم ودعا عِنْد قَبره اسْتُجِيبَ لَهُ
285 - أَحْمد بن مُحَمَّد الشقاني(4/90)
286 - أَحْمد بن مُحَمَّد الطوسي أَبُو حَامِد الراذكاني
وراذكان برَاء مُهْملَة ثمَّ ألف سَاكِنة ثمَّ ذال مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ كَاف ثمَّ ألف ثمَّ نون من قرى طوس
وَهَذَا الراذكاني أحد أَشْيَاخ الْغَزالِيّ فِي الْفِقْه
تفقه عَلَيْهِ قبل رحلته إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ
287 - أَحْمد بن مَنْصُور بن أبي الْفضل
الْفَقِيه أَبُو الْفضل الضبعِي السَّرخسِيّ من أَهلهَا الهوذي
من أقَارِب خَارِجَة بن مُصعب الضبعِي بضاد مُعْجمَة مَضْمُومَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة
قدم بَغْدَاد شَابًّا فتفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرايني
وَسمع بهَا وبخراسان من طَائِفَة
وَكَانَ بارعا مناظرا واعظا كَبِير الْقدر
ذكره أَبُو الْفَتْح العياضي فِي رسَالَته فَقَالَ وَأَبُو الْفضل الهوذي فِي الْفِقْه مَا أثْبته وَفِي مجْلِس النّظر مَا أنظرهُ وعَلى الْمِنْبَر مَا أفصحه(4/91)
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِنَّه حدث فِي مَدِينَة سرخس ب سنَن أبي دَاوُد عَن القَاضِي أبي عمر الْهَاشِمِي وَكَانَت وِلَادَته تَقْرِيبًا فِي سنة سبعين وثلاثمائة
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ أتوهمه بَقِي إِلَى حُدُود الْخمسين وَأَرْبَعمِائَة
288 - مُحَمَّد ابْن الإِمَام أبي بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل أَبُو نصر الْإِسْمَاعِيلِيّ
كَانَ عَالما رَئِيسا رَأس فِي حَيَاة أَبِيه وَكَانَ رَئِيس مَدِينَة جرجان والمشار إِلَيْهِ
ورحل فِي صباه فَسمع أَبَا الْعَبَّاس الْأَصَم ودعلج بن أَحْمد وَأَبا بكر الشَّافِعِي وَأَبا يَعْقُوب الْبُحَيْرِي وَابْن رَحِيم الْكُوفِي وخلقا
روى عَنهُ حَمْزَة السَّهْمِي وَقَالَ فِي تَارِيخه كَانَ لَهُ جاه عَظِيم وَقبُول عِنْد الْخَاص وَالْعَام فِي كثير من الْبلدَانِ وَتحل بكتابه العقد
وَكَانَ يعرف الحَدِيث ويدريه وَأول مَا جلس للإملاء فِي حَيَاة وَالِده أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ فِي مَسْجِد الصفارين إِلَى أَن توفّي وَالِده ثمَّ انْتقل إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي كَانَ وَالِده يملي فِيهِ ويملي كل سبت إِلَى أَن توفّي
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الْأَحَد وَدفن يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو معمر الْإِسْمَاعِيلِيّ
قلت ذكره ابْن عَسَاكِر فِي كتاب التَّبْيِين لكَونه هُوَ وَأهل بَيته من أجلاء الأشعرية(4/92)
وَقَول شَيخنَا الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة الْمَذْكُور وَزعم ابْن عَسَاكِر أَنه كَانَ أشعريا لَا يتَوَهَّم مِنْهُ أَن الْأَمر عِنْده بِخِلَاف ذَلِك فَإِن أشعرية هَذَا الرجل وَأهل بَيته أوضح من أَن تخفى وَلَكِن شَيخنَا على عَادَته فِي الْإِيهَام غضا من الأشاعرة سامحه الله
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي الْعِزّ بطرابلس عَن مَحْمُود بن مندة أخبرنَا أَبُو رشيد أَحْمد بن مُحَمَّد أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن مندة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة أخبرنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْإِسْمَاعِيلِيّ أخبرنَا أَحْمد بن عَمْرو بن الْخَلِيل الآملي حَدثنَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ حَدثنَا عَمْرو بن عون أَنبأَنَا ابْن الْمُبَارك عَن ابْن عجلَان عَن عَامر بن عبد الله عَن عَمْرو بن سليم عَن أبي قَتَادَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس)
289 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن سعيد بن مُوسَى بن أَحْمد بن كَعْب بن زُهَيْر الْعقيلِيّ الكاثي القَاضِي أَبُو عبد الله الكعبي
من عُلَمَاء خوارزم
سمع بهَا من الشريف هبة الله بن الْحُسَيْن العباسي(4/93)
وبمرو من أبي عبد الله الشيرنخشيري
وتفقه بخوارزم على أَبِيه
وبمرو على الشَّيْخ أبي الْقَاسِم الفوراني
قَالَ صَاحب الْكَافِي كَانَ من مشاهير صُدُور خوارزم وفضلائها وفقهائها وبيته بخوارزم بَيت علم وديانة ورياسة وثروة
تولى الْقَضَاء بكاث والخطابة ورياسة الْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَن توفّي لَا يُنَازع فِي شَيْء مِنْهَا
قَالَ وَكَانَ قَاضِيا عدلا ومناظرا فحلا
وَذكر أَن أَبَا عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ الْمَعْرُوف برئيس كركانج خوارزم وَكَانَ من فحول مناظري بُخَارى فِي عَهده كَانَ يَقُول لَو دخلت خوارزم وناظرت القَاضِي الكعبي لقطعته فَلَمَّا دَخلهَا اجْتمعَا وتناظرا فِي مَسْأَلَة نُقْصَان الْولادَة هَل ينجبر بِالْوَلَدِ ظهر كَلَام القَاضِي عَلَيْهِ غَايَة الظُّهُور وخجل رَئِيس كركانج
قَالَ القَاضِي الكعبي سَمِعت الشيرنخشيري ينشد وَيَقُول
(أقبل معاذير من يَأْتِيك معتذرا ... إِن بر عنْدك فِيمَا قَالَ أَو فجرا)
(فقد أطاعك من يَأْتِيك معتذرا ... وَقد أَجلك من يعصيك مستترا)
قَالَ صَاحب الْكَافِي توفّي القَاضِي الكعبي فِي مستهل صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بكاث وَحمل تابوته إِلَى خشراخان وَدفن بهَا فِي مَقْبرَة الْكَعْبِيَّة وَجلسَ ابْنه أَبُو سعيد مَكَانَهُ فِي الْقَضَاء والخطابة ورياسة الْفَرِيقَيْنِ(4/94)
290 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن شَاكر الْقطَّان أَبُو عبد الله الْمصْرِيّ
الَّذِي جمع مَا انْتهى إِلَيْهِ من فَضَائِل الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
روى عَن عبد الله بن جَعْفَر بن الْورْد وَالْحسن بن رَشِيق وَجَمَاعَة
روى عَنهُ القَاضِي أَبُو عبد الله الْقُضَاعِي وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد الحبال وَجَمَاعَة
توفّي فِي الْمحرم سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة
291 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن شاده بن جَعْفَر أَبُو عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ القَاضِي الروذدشتي
القَاضِي بدجيل
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ تفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ رَضِي السِّيرَة فِي الْقَضَاء(4/95)
سمع أَبَا عمر عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن مهْدي الْفَارِسِي وَأَبا الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مخلد الْبَزَّاز
ثمَّ قَالَ روى لنا عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز ويجيى بن عَليّ الطراح
مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
292 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن شُعَيْب
وبخط شَيخنَا الذَّهَبِيّ أبي شُعَيْب بن عبد الله بن الْفضل بن عقبَة أَبُو مَنْصُور الرَّوْيَانِيّ
نزيل بَغْدَاد
سمع ابْن كيسَان النَّحْوِيّ وَسَهل بن أَحْمد الديباجي
روى عَنهُ الْخَطِيب
مَاتَ فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
293 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْعَبَّاس الْفَارِسِي القَاضِي أَبُو بكر الْبَيْضَاوِيّ
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا لَهُ الرُّتْبَة الرفيعة فِي الْفِقْه وَله معرفَة بالأدب صنف فِي كل مِنْهُمَا وَكَانَ يعرف بالشافعي(4/96)
وَاعْلَم أَن الْبَيْضَاوِيّ فِي هَذِه الطَّبَقَة من أَصْحَابنَا ثَلَاثَة هَذَا القَاضِي وختن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد شيخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ سيردان وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي كِتَابه غير شَيْخه
وَأَبُو بكر هَذَا هُوَ مُصَنف التَّبْصِرَة فِي الْفِقْه مُخْتَصر هُوَ عِنْدِي وَله عَلَيْهِ كِتَابَانِ أَحدهمَا الْأَدِلَّة فِي تَعْلِيل مسَائِل التَّبْصِرَة ذكر ابْن الصّلاح أَنه وقف عَلَيْهِ وَالثَّانِي التَّذْكِرَة فِي شرح التَّبْصِرَة وقفت أَنا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مجلدين ذكر فِي خطبَته أَنه لما حصل بفرج سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة سُئِلَ فِيهِ وَقَالَ فِي آخِره صنفت هَذَا الْكتاب بقرح عِنْد رجوعي من بارم وَلم يكن معي كتاب أعْتَمد فِي شَيْء عَلَيْهِ أَو أرجع فِي وَقت إِلَيْهِ وارتفع ذَلِك فِي مُدَّة أَرْبَعَة أشهر مَعَ توفري كل يَوْم على التدريس ومذاكرة الْجَمَاعَة إِلَى نصف النَّهَار وَكفى بِاللَّه ثمَّ الشُّيُوخ الشَّاهِدين تأليفي هَذَا الْكتاب على مَا قلته شَهِيدا وانْتهى الْكتاب فِي الرَّابِع عشر من شَوَّال سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
هَذَا نَص كَلَامه وَهُوَ شرع حسن فِيهِ فَوَائِد
وَله أَيْضا على مَا ذكر ابْن الصّلاح كتاب الْإِرْشَاد فِي شرح كِفَايَة الصَّيْمَرِيّ
وَلم يذكرهُ الْخَطِيب فِي تَارِيخ بَغْدَاد إِمَّا لِأَنَّهُ لم يدخلهَا أَو أَنه لَا رِوَايَة لَهُ أَو لغير ذَلِك وَإِنَّمَا ذكر الْبَيْضَاوِيّ الآخر مُحَمَّد بن عبد الله(4/97)
ذكر نخب وفوائد من مصنفات هَذَا الرجل
أما تَعْلِيل مسَائِل التَّبْصِرَة فَلم أَقف عَلَيْهِ إِلَى الْآن ووقف عَلَيْهِ ابْن الصّلاح وَذكر أَنه ذكر فِيهِ أَن الْحَائِض لَو قَالَت أَنا أتبرع بِقَضَاء مَا فَاتَ من الصَّلَوَات فِي أَيَّام الْحيض قُلْنَا لَا يجوز ذَلِك بل تصلين مَا أَحْبَبْت من النَّوَافِل فَأَما قَضَاء ذَلِك فَلَا
وَاحْتج بِأَن أمْرَأَة ذكرت مثل ذَلِك لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فنهتها وَقَالَت أحرورية أَنْت
قَالَ ابْن الصّلاح وَصحح فِي كتاب الْإِرْشَاد القَوْل بِأَن رب الدَّار أولى بِالْإِمَامَةِ من السُّلْطَان وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
قلت وَسَيَأْتِي فِي الطَّبَقَة السَّادِسَة فِي تَرْجَمَة القَاضِي ابْن شَدَّاد تَفْصِيله بَين الْجُمُعَة والعيد وَغَيرهمَا وَقَوله إِنَّمَا يكون الإِمَام أولى بِالْجمعَةِ والعيد وَكَانَ الْخطابِيّ سبقه إِلَيْهِ
قلت وَلَا موقع لهَذَا التَّفْصِيل فَإِن الْجُمُعَة والعيد لَا يكونَانِ فِي دَار حَتَّى يُقَال السُّلْطَان أولى من رب الدَّار وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا يُقَام فِي الدّور فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة قَول بِأَن رب الدَّار أولى كَمَا صَححهُ هَذَا الْبَيْضَاوِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَسْأَلَة الصِّيغَة فِي الشَّهَادَة على الزِّنَا
قد علم أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ذكر فِي صيغتها أَن الشَّاهِد يَقُول دُخُول المرود فِي المكحلة إِذْ قَالَ فِي مُخْتَصر الْمُزنِيّ فِي بَاب حد الزِّنَا وَلَا يجوز على الزِّنَا واللواط وإتيان الْبَهَائِم إِلَّا أَرْبَعَة يَقُولُونَ رَأينَا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة انْتهى(4/98)
وَكَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم وَالتَّصْرِيح بِهِ أَن يَقُولُوا رَأينَا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة إِلَى أَن قَالَ فَإِذا صَرَّحُوا بذلك فقد وَجب الْحَد
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقد صَار إِلَى ذَلِك الفوراني وَلم يحك فِي إبانته غَيره
وَيُوَافِقهُ قَول القَاضِي الْحُسَيْن وَقد قيل إِن ذَلِك التَّشْبِيه وَاجِب كَأَنَّهُ لما غلظ بِالْعدَدِ غلظ بالتشبيه ليَكُون أبلغ
قَالَ لَكِن الَّذِي ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب أَنه يَكْفِي أَن يَقُول أولج ذكره فِي فرجهَا وَإِن ذكر كالمرود فِي المكحلة والإصبع فِي الْخَاتم والرشاء فِي الْبِئْر كَانَ آكِد وَهَذَا مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ لَا غير وَعَزاهُ إِلَى القَاضِي أبي سعيد
انْتهى كَلَام ابْن الرّفْعَة مُلَخصا
وَأَقُول أما اقْتِصَار الفوراني فِي إبانته على ذكر هَذَا التَّشْبِيه فقد اقْتصر عَلَيْهِ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَالْبَغوِيّ فِي التَّهْذِيب وَالْغَزالِيّ لَكِن من تَأمل كَلَامهم لم يجده نصا فِي تعْيين هَذِه اللَّفْظَة أَعنِي لَفْظَة التَّشْبِيه وَقد تَركهَا أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة فَلم يذكرهَا فِي تعليقته بل اقْتصر على قَوْله وَلَا بُد أَن يَقُولُوا رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بهَا ورأينا ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا
انْتهى
وَكَذَلِكَ فعل الْمحَامِلِي فِي كتاب الْمقنع وَغير وَاحِد لم يذكر أحد مِنْهُم لفظ المرود فِي المكحلة بِالْكُلِّيَّةِ
وَصرح صَاحب الشَّامِل بِأَن أَصْحَابنَا قَالُوا إِذا قَالَ رَأَيْت ذكره فِي فرجهَا كفى والتشبيه تَأْكِيد
انْتهى
وَتَبعهُ صَاحب الْبَحْر فَقَالَ قَالَ أَصْحَابنَا وَلَو قَالَ رَأينَا ذكره غَابَ فِي(4/99)
فرجهَا أجزأهم وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى قَوْلهم مثل المرود فِي المكحلة لِأَنَّهُ صَرِيح فِي هَذَا الْمَعْنى فَإِن ذَكرُوهُ كَانَ تَأْكِيدًا
انْتهى
وَأفَاد قبيل ذَلِك أَن قَول الشَّافِعِي ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا تَحْسِين للعبارة وَالْمرَاد التَّصْرِيح بِمَا يُحَقّق المُرَاد
وَهَذِه عِبَارَته قَالَ الشَّافِعِي ثمَّ يتفهم الْحَاكِم حَتَّى يثبتوا أَنهم رَأَوْا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة وَهَذَا تَحْسِين للعبارة من جِهَة السّلف فَأَما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا قنع إِلَّا بِصَرِيح الْعبارَة
انْتهى فَدلَّ أَن المُرَاد تَحْقِيق الْإِيلَاج خشيَة أَن يظنّ المفاخذة زنا لَا أَنا متعبدون بِلَفْظ المرود والمكحلة على خلاف مَا يتسارع إِلَى الْفَهم من كَلَام الشَّافِعِي
وَمن جرى على ظَاهر نَصه فليحمل كَلَام من أطلق على مَا فسره القَاضِي أَبُو الطّيب وَالْقَاضِي أَبُو سعد وَنَقله ابْن الصّباغ وَالرُّويَانِيّ عَن الْأَصْحَاب من أَن لفظ المرود والمكحلة غير شَرط وَإِنَّمَا المُرَاد الْإِيضَاح دون التقيد بِهِ
وَأما قَول ابْن الرّفْعَة إِن القَاضِي الْحُسَيْن قَالَ وَقد قيل إِن ذَلِك وَاجِب فَكَأَنَّهُ مستخرج فِي الْمَسْأَلَة خلافًا
وَقد كشفت فَوجدت الْخلاف مُصَرحًا بِهِ فِي كَلَام القَاضِي أبي بكر الْبَيْضَاوِيّ
قَالَ فِي بَاب الشَّهَادَة على الزِّنَا من كِتَابه شرح التَّبْصِرَة مَا نَصه قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله كدخول المرود فِي المكحلة فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ ذَلِك على الْوُجُوب وَإِذا لم يَقُولُوا ذَلِك لم تتمّ الشَّهَادَة وَالأَصَح أَنه إِذا قَالُوا نشْهد أَنه زنى بهَا ورأينا الذّكر مِنْهُ قد دخل فِي الْفرج مِنْهَا تمت الشَّهَادَة لِأَن الْبَاقِي تَشْبِيه والتشبيه لَيْسَ من تَمام(4/100)
الشَّهَادَة كَمَا لَو شهدُوا أَن ذَلِك ذبح فلَانا فَلَا يحْتَاج أَن يَقُولُوا كَمَا يذبح القصاب الشَّاة انْتهى
فَخرج فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَان مُصَرح بهما بِنَقْل هَذَا الإِمَام الثبت وأصحهما كَمَا ذكر وَهُوَ الَّذِي عزا إِلَى الْأَصْحَاب عدم الِاحْتِيَاج وَحمل مَا وَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي على الْإِيضَاح لَا التقيد
وَمَا وَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي حَدِيث مَاعِز فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ (أنكتها) قَالَ نعم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا) قَالَ نعم
قَالَ كَمَا يغيب الْميل فِي المكحلة والرشاء فِي الْبِئْر قَالَ نعم
الحَدِيث
وَلَفظ الرشاء فِي الْبِئْر لم يَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي فَدلَّ أَنه لم يفهم مِنْهُ تعين هَذِه الْأَلْفَاظ
نعم أَنا أَقُول يَنْبَغِي أَن يتَعَيَّن لفظ النيك بِصَرِيح النُّون وَالْيَاء وَالْكَاف فَإِنِّي وجدته فِي غَالب الرِّوَايَات
وَفِي لفظ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ أنكتها لَا يكنى
قَالَ نعم الحَدِيث
وَلَا أجد فِي الصراحة مَا هُوَ بَالغ مبلغ لفظ النيك وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس حَيَاء وَأَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها فلولا تعين هَذِه اللَّفْظَة لما نطقت بهَا شفتاه
هَذَا مَا يتَرَجَّح عِنْدِي وَإِن لم أَجِدهُ فِي كَلَام الْأَصْحَاب وَلَكِن كَلَامهم لَا يأباه(4/101)
ولعلهم كنوا عَنهُ بقَوْلهمْ ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا ويرشد إِلَى هَذَا قَول الرَّوْيَانِيّ إِنَّهُم حسنوا الْعبارَة وَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقنع إِلَّا بِصَرِيح الْعبارَة فَمَا لنا أَن نقنع إِلَّا بِمَا قنع بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاعْلَم أَن أَكثر الْأَصْحَاب إِنَّمَا أوردوا تبعا للشَّافِعِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي حد الزِّنَا وَالْغَزالِيّ أوردهَا فِي الشَّهَادَات فَتَبِعَهُ الرَّافِعِيّ وَمن تَابعه
294 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْبَاقِي بن الْحسن بن مُحَمَّد بن طوق أَبُو الْفَضَائِل الربعِي الْموصِلِي
تفقه على الْمَاوَرْدِيّ وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
وَسمع الحَدِيث من أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي وَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَأبي الْقَاسِم التنوخي وَأبي طَالب بن غيلَان وَالْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي وَغَيرهم
روى عَنهُ هبة الله بن عبد الْوَارِث الشِّيرَازِيّ وَأَبُو الفتيان الرواسِي وَإِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل الْحَافِظ وَكثير بن سماليق وَأَبُو نصر الحديثي الشَّاهِد وَآخَرُونَ(4/102)
وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ
مَاتَ فِي مستهل صفر سنة أَربع وَتِسْعين وأبعمائة وَدفن فِي مَقْبرَة الشونيزي
295 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن عبد الله القَاضِي أَبُو الْفضل السَّعْدِيّ الْبَغْدَادِيّ رَاوِي مُعْجم الصَّحَابَة لِلْبَغوِيِّ عَن ابْن بطة العكبري
تفقه على الشَّيْخ أبي حَامِد
وَسمع أَبَا بكر بن شَاذان وَأَبا طَاهِر المخلص وَابْن بطة وَغَيرهم بعدة بِلَاد
وَسكن مصر وروى عَنهُ جمَاعَة
توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
296 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل أَبُو الْحُسَيْن الضَّبِّيّ الْمحَامِلِي
سمع إِسْمَاعِيل الصفار وَعُثْمَان السماك والنجاد(4/103)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ حفظ الْقُرْآن والفرائض ودرس مَذْهَب الشَّافِعِي وَكتب الحَدِيث وَهُوَ عِنْدِي مِمَّن يزْدَاد كل يَوْم خيرا
قَالَ الْخَطِيب مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَمَات فِي رَجَب سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة
297 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عباد الْهَرَوِيّ الإِمَام الْجَلِيل القَاضِي أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ
صَاحب الزِّيَادَات وزيادات الزِّيَادَات والمبسوط وَالْهَادِي وأدب الْقَضَاء الَّذِي شَرحه أَبُو سعد الْهَرَوِيّ فِي كِتَابه الإشراف على غوامض الحكومات وَله أَيْضا طَبَقَات الْفُقَهَاء وَكتاب الرَّد على القَاضِي السَّمْعَانِيّ كَذَا رَأَيْت فِي فصل ابْن باطيش وَغير ذَلِك
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا حَافِظًا للْمَذْهَب بحرا يتدفق بِالْعلمِ وَكَانَ مَعْرُوفا بغموض الْعبارَة وتعويص الْكَلَام ضنة مِنْهُ بِالْعلمِ وحبا لاستعمال الأذهان الثاقبة فِيهِ
مولده سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة
أَخذ الْعلم عَن أَرْبَعَة القَاضِي أبي مَنْصُور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ بهراة وَالْقَاضِي أبي عمر البسطامي والأستاذ أبي طَاهِر الزيَادي وَأبي إِسْحَاق الإسفرايني بنيسابور(4/104)
قَالَ القَاضِي أَبُو سعد الْهَرَوِيّ لقد كَانَ يَعْنِي أَبَا عَاصِم أرفع أَبنَاء عصره فِي غزارة نكت الْفِقْه والإحاطة بغرائبه عمادا وَأَعْلَاهُمْ فِيهِ إِسْنَادًا
قَالَ وتغليق الْكَلَام كَانَ من عَادَته الَّتِي لم يُصَادف على غَيرهَا فِي مُدَّة عمره
قَالَ والمحصلون وَإِن أزروا عَلَيْهِ تغميض الْكَلَام وتحروا الْإِيضَاح عَلَيْهِ لَكِن جيلا من الْعلمَاء الْأَوَّلين عَمدُوا على التغميض وفضلوه على الْإِيضَاح وَكَأَنَّهُم ضنوا بالمعاني الَّتِي هِيَ الأعلاق النفيسة على غير أَهلهَا
ثمَّ قَالَ مَعَ أَن السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى التغليق وَحمله على التغميض أَنه كَانَ من المتلقنين على الإِمَام أبي إِسْحَاق الإسفرايني وَمن تصفح مصنفات أبي إِسْحَاق لَا سِيمَا تجربة الأفهام فِي الْفِقْه ألفاها على شدَّة الغموض والإغلاق
وَاعْلَم أَن الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق أعدى الشَّيْخ أَبَا عَاصِم بدائه وَذهب بِهِ فِي مَذْهَب الْإِيضَاح عَن سوائه
انْتهى كَلَام أبي سعد
روى أَبُو عَاصِم عَن أبي بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سهل القراب وَغَيره
وروى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن أبي صَالح الْمُؤَذّن
مَاتَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ وَهِي عزيزة
أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن قيم الضيائية قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا(4/105)
أسمع بقاسيون أخبرنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي سَمَاعا أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الْوَاحِد بن أبي المطهر الْقَاسِم بن الْفضل الصيدلاني إجَازَة أخبرنَا أَبُو سعد إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ أبي صَالح أَحْمد بن عبد الْملك النَّيْسَابُورِي أخبرنَا الشَّيْخ الإِمَام أَبُو عَاصِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْعَبَّادِيّ الْهَرَوِيّ أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن سهل القراب أخبرنَا أَبُو عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن رزين الباشاني حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا عمَارَة بن الْقَعْقَاع عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله من أَحَق النَّاس مني بِحسن الصُّحْبَة قَالَ أمك
قَالَ ثمَّ من قَالَ أمك
قَالَ ثمَّ من
قَالَ أَبوك
فَكَانُوا يرَوْنَ أَن للْأُم الثُّلثَيْنِ وَللْأَب الثُّلُث
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة عَن جرير عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع عَن أبي زرْعَة بِهِ
وَقَالَ فِي عقبه وَقَالَ عبد الله بن شبْرمَة وَيحيى بن أَيُّوب حَدثنَا أَبُو زرْعَة مثله
رَوَاهُ مُسلم عَن قُتَيْبَة وَزُهَيْر كِلَاهُمَا عَن جرير عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع بِهِ
وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شريك
وَعَن أبي كريب عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن أَبِيه كِلَاهُمَا عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع بِهِ
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة(4/106)
وَبِه قَالَ وَحدثنَا سُفْيَان عَن زَائِدَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن ربعي عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر)
أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن الْحسن بن الصَّباح الْبَزَّار عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زَائِدَة بِهِ
وَعَن أَحْمد بن منيع وَغير وَاحِد كلهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر نَحوه
وَقَالَ الْحسن وَكَانَ سُفْيَان يُدَلس فِي هَذَا فَرُبمَا ذكر زَائِدَة وَرُبمَا لم يذكرهُ وَرُوِيَ بِإِسْنَاد أتم من هَذَا وَهُوَ هَكَذَا سُفْيَان عَن زَائِدَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن هِلَال مولى ربعي عَن ربعي
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع
وَعَن ابْن بشار عَن مُؤَمل كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ بِهِ
وَبِه قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنِي عبد ربه عَن عمْرَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول (بِسم الله تربة أَرْضنَا بريقة بَعْضنَا يشفي سقيمنا بِإِذن رَبنَا)
أخرجه البُخَارِيّ عَن عَليّ بن عبد الله
وَعَن صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي
وَمُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَابْن أبي عمر(4/107)
وَأَبُو دَاوُد عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعُثْمَان بن أبي شيبَة
وَالنَّسَائِيّ عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ
وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
سبعتهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد ربه بن سعيد بِهِ
وَمن الْمسَائِل والغرائب والفوائد عَن أبي عَاصِم
قَالَ فِي الزِّيَادَات تعلم الْقدر الزَّائِد من الْقُرْآن على مَا تصح بِهِ الصَّلَاة أفضل من صَلَاة التَّطَوُّع لِأَن حفظه وَاجِب على الْأمة)
وَقَالَ الْمَرِيض إِذا كَانَت عَلَيْهِ زَكَاة وَلَا مَال لَهُ يعزم على أَن يُؤدى إِن قدر على مَا فرط وَلَا يستقرض لِأَنَّهُ دين وَقَالَ شَاذان بن إِبْرَاهِيم يستقرض لِأَن حق الله تَعَالَى أَحَق
وَقَالَ إِذا أولج قبل الصُّبْح فخشى فَنزع وطلع الصُّبْح فأمنى لم يفْسد صَوْمه وَهُوَ بِمَنْزِلَة الِاحْتِلَام
وَقَالَ الْوَصِيّ إِذا أدّى الْمُوصى بِهِ من مَاله ليرْجع فِي التَّرِكَة جَازَ إِن كَانَ وَارِثا وَإِن لم يكن يعد وَلَا يرجع لِأَن الدّين لَا يثبت فِي ذمَّة الْمَيِّت
وَفِي زيادات الزِّيَادَات على أبي عَاصِم فِيمَن وكل وكيلين بِقبُول نِكَاح امْرَأَة لَهُ وَله أَخَوان فزوج كل أَخ من وَكيل وَوَقع العقدان مَعًا قَالَ بِأَن يفْرض أَنَّهُمَا تكلما بِالْعقدِ والمؤذن يَقُول الله أكبر وَفرغ كل مِنْهُمَا عِنْد بُلُوغه حرف الرَّاء إِن العقد بَاطِل لِأَن الزَّوْج وَإِن كَانَ وَاحِدًا فالإيحاب وَالْقَبُول مُخْتَلِفَانِ لِأَن الْمُوجب لأحد الوكيلين لَو قبله مِنْهُ الثَّانِي لم يَصح فسقطا(4/108)
قلت الْمَسْأَلَة مسطورة فِي الرَّافِعِيّ وَالصَّحِيح فِيهَا الصِّحَّة غير أَنه وَقع فِي الرَّافِعِيّ أَن أَبَا الْحسن الْعَبَّادِيّ حكى عَن القَاضِي وَغَيره الْبطلَان فَرُبمَا توهم من لَا خبْرَة لَهُ أَن القَاضِي هُوَ القَاضِي الْحُسَيْن
وَأغْرب من ذَلِك أَن النَّوَوِيّ أسقط فِي الرَّوْضَة لفظ أبي الْحسن وَاقْتصر على ذكر الْعَبَّادِيّ والعبادي إِذا أطلق لَا يتَبَادَر الذِّهْن مِنْهُ إِلَّا إِلَى أبي عَاصِم نَفسه فَرُبمَا توهم أَيْضا أَن أَبَا عَاصِم نقل ذَلِك عَن القَاضِي الْحُسَيْن وَأَبُو عَاصِم أقدم من القَاضِي الْحُسَيْن ولادَة ووفاة وَإِنَّمَا القَاضِي الْمشَار إِلَيْهِ فِيمَا اعْتقد هُوَ القَاضِي أَبُو عَاصِم نَفسه وَلَده أَبُو الْحسن إِذا أطلق القَاضِي فَإِنَّمَا يَعْنِي أَبَاهُ وَلَعَلَّ ذَلِك خَفِي على الرَّافِعِيّ وَإِلَّا فَكَانَ يحسن أَن يَقُول وَحكى أَبُو الْحسن الْعَبَّادِيّ عَن أَبِيه القَاضِي أبي عَاصِم وَغَيره
فَإِن قلت فقد ذكر الْعَبَّادِيّ القَاضِي الْحُسَيْن فِي كتاب الطَّبَقَات فَغير بدع أَن ينْقل عَنهُ
قلت ذكره لَهُ فِي الطَّبَقَات ذكر الأصاغر للأكابر وَالْقَاضِي الْحُسَيْن نقل عَن الْعَبَّادِيّ فِي غير مَوضِع وَيُمكن أَن يتَّفق الْعَكْس وَهُوَ نقل الْعَبَّادِيّ عَن القَاضِي الْحُسَيْن لَكنا لم نر ذَلِك وَلَا يظْهر فِيمَا ذَكرْنَاهُ وَلَا حَامِل على الْحمل عَلَيْهِ بعد الْبَيَان الَّذِي بَيناهُ
وَعَن القَاضِي أبي عَاصِم فِي عَالم وعامي أسرا وَعند الإِمَام مَا يفْدي أَحدهمَا أَن الْعَاميّ أولى لِأَنَّهُ رُبمَا يفتن عَن دينه والعالم إِذا أكره يتَلَفَّظ وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان
قَالَ بِخِلَاف مَا لَو دخل عَالم وعامي حَماما وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا إِزَار وَاحِد فالعالم أولى بِهِ لِأَن الْعَالم بِعِلْمِهِ يمْتَنع عَن النّظر إِلَى عَورَة الْعَاميّ إِن كشف عَوْرَته
قَالَ أَبُو عَاصِم أَنْشدني أَبُو الْفَتْح البستي الأديب لنَفسِهِ
(رميتك من حكم الْقَضَاء بنظرة ... وَمَا لي عَن حكم الْقَضَاء مناص)
(فَلَمَّا جرحت الخد مِنْك بنظرة ... جرحت فُؤَادِي والجروح قصاص)(4/109)
الْبَحْث عَن ثمَّ هَل هِيَ عِنْد القَاضِي أبي عَاصِم كالواو فِي اقْتِضَاء الْجمع الْمُطلق
ذكر الإِمَام الشَّيْخ الْوَالِد رَحمَه الله فِي كتاب الطوالع المشرقة فِيمَن قَالَ وقفت على أَوْلَادِي ثمَّ أَوْلَاد أَوْلَادِي أَن القَاضِي الْحُسَيْن نقل عَن أبي عَاصِم أَنه لَا يَقُول بالترتيب بل يحملهُ على الْجمع
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام وَكَذَلِكَ نَقله ابْن أبي الدَّم وَقَالَ إِن ثمَّ عِنْده كالواو
ثمَّ توقف الشَّيْخ الإِمَام فِي ثُبُوت ذَلِك عَن أبي عَاصِم مُطلقًا وَذكر أَنه لم يجده فِي كَلَامه وَأَنه إِن صَحَّ فَيحمل على أَن ثمَّ عِنْده كالواو فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِأَن ثمَّ إنْشَاء لَا يتَصَوَّر دُخُول تَرْتِيب فِيهِ كَقَوْلِه بِعْت هَذَا ثمَّ هَذَا لَا يَصح إِرَادَة التَّرْتِيب حَتَّى يُقَال ينْتَقل الْملك قَرِيبا بل يكون كالواو
قَالَ وَأما إِنْكَار أَن ثمَّ للتَّرْتِيب مُطلقًا فيجل أَبُو عَاصِم عَنهُ فَإِن ذَلِك مِمَّا لَا خلاف فِيهِ بَين النُّحَاة والأدباء والأصوليين وَالْفُقَهَاء بل هُوَ من الْمَعْلُوم باللغة بِالضَّرُورَةِ
قَالَ وَقد تكلم الْمُفَسِّرُونَ من زمَان ابْن عَبَّاس إِلَى الْيَوْم فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} فِي الْجمع بَينهَا وَبَين قَوْله {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} وَذكروا أقوالا فِي تَأْوِيل بعد وَلم يذكر أحد مِنْهُم أَن ثمَّ لَيْسَ للتَّرْتِيب فَوَجَبَ حمل كَلَام أبي عَاصِم على مَا قُلْنَاهُ وَلِهَذَا يَقُول كثير من النُّحَاة وَغَيرهم إِنَّهَا للتَّرْتِيب فِي الْخَبَر فيقيدون الْكَلَام تَحَرُّزًا عَن الْإِنْشَاء(4/110)
نعم يدْخل ثمَّ أَيْضا فِي متعلقات الْإِنْشَاء مِمَّا لَيْسَ بِخَبَر كَقَوْلِك اخْتَرْت هَذَا ثمَّ هَذَا وَأطَال الشَّيْخ الإِمَام فِي هَذَا الْفَصْل
قلت وَقد نقل عَن بعض النُّحَاة مِنْهُم الْفراء والأخفش وقطرب إِنْكَار كَونهَا للتَّرْتِيب فَلَا بدع أَن يوافقهم أَبُو عَاصِم غير أَن الْمَنْقُول عَنهُ أَن الْوَاو للتَّرْتِيب وَلَا يُمكن قَائِل هَذَا أَن يُنكر تَرْتِيب ثمَّ فَإِن الْجمع بَين المقالتين لَا يُمكن الذّهاب إِلَيْهِ فَمن ثمَّ توقف الْوَالِد فِي تثبيته عَلَيْهِ وَالْوَالِد أَيْضا لَا يثبت خلاف هَؤُلَاءِ وهم عِنْده محجوجون إِن ثَبت النَّقْل عَنْهُم بِزَمَان ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَمن بعده وَمن ثمَّ صرح بِنَفْي الْخلاف وزعمه مَعْلُوما فِي اللُّغَة بِالضَّرُورَةِ فَلَا تعجب مِنْهُ إِذا حمل كَلَام أبي عَاصِم على مَا حمل إِنَّمَا تعجب من بعض أَصْحَابه مِمَّن يَأْخُذ الْقدر الَّذِي يفهمهُ من كَلَامه فيفرقه فِي كتبه غير معزو إِلَيْهِ كَيفَ ينْقل الْخلاف فِي ثمَّ وَيجْعَل كَونهَا للتَّرْتِيب أمرا مُخْتَلفا فِيهِ خلافًا قَرِيبا ثمَّ ينْقل مقَالَة أبي عَاصِم وَيَقُول إِنَّمَا قَالَهَا فِي هَذِه الصُّورَة خَاصَّة وَذَلِكَ أَنه أَخذ مقَالَة أبي عَاصِم من كَلَام الْوَالِد وَرَأى فِيهِ أَنه لَعَلَّه إِنَّمَا قَالَهَا فِي هَذِه الصُّورَة بِنَاء على اعْتِقَاده وَأَن لَا خلاف فِيهَا فتابعه فِي ذَلِك غافلا عَن نَفسه وإثباتها الْخلاف وَذَلِكَ صنع من لَا يتَأَمَّل مَا يصنع
وإنشاء ذكره الْوَالِد من التَّرْتِيب فِي الْإِنْشَاء فبحث نَفِيس هُوَ المخترع لَهُ وَكَانَ كثيرا مَا يردده ويطيل التفنن فِيهِ ولعلنا نشبع الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مَكَان آخر(4/111)
وأذكره لَيْلَة حَضَرنَا ختمة وَكَانَ من الْحَاضِرين الشَّيْخ عَلَاء الدّين القونوي شيخ الشُّيُوخ وَهُوَ عَلَاء الدّين الْمُتَأَخر الْحَنَفِيّ لَا السَّابِق شَارِح الْحَاوِي فَإِنِّي لم أره فَقَرَأَ القارىء {لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين} فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ الإِمَام مَا معنى هَذَا التَّرْتِيب فِي الْإِنْشَاء فَلم يفهم الرجل مَا يَقُول الشَّيْخ الإِمَام بِالْكُلِّيَّةِ فَأخذ يُوضح لَهُ وَهُوَ لَا يدْرِي على فَضِيلَة كَانَت فِيهِ رَحمَه الله
قَالَ أَبُو عَاصِم فِي الزِّيَادَات إِذا ختم الْقُرْآن فِي الصَّلَاة فِي الرَّكْعَة الأولى فَإِنَّهُ يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة الْفَاتِحَة وشيئا من أول سُورَة الْبَقَرَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (خير النَّاس الْحَال المرتحل) وَفَسرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا لما سُئِلَ عَنهُ انْتهى
وَنَقله النَّوَوِيّ فِي كتاب التِّبْيَان عَن بعض الْأَصْحَاب وَسكت عَنهُ
قَالَ أَبُو عَاصِم فِي أدب الْقَضَاء إِذا حجر القَاضِي على السَّفِيه وَأشْهد عَلَيْهِ لَا يتَصَرَّف إِلَّا فِي الطَّلَاق وَالْإِقْرَار بِالْقصاصِ وَغَيره من مُوجبَات الْحُدُود وَهل يُؤَاجر نَفسه فِيهِ قَولَانِ
قَالَ أَبُو سعد الْهَرَوِيّ ذكره الْإِشْهَاد على سَبِيل الِاحْتِيَاط لَا أَنه ركن فِي صِحَة الْحجر
فسر أَبُو عَاصِم كلمة التنصر بِشَيْء عَارضه فِيهِ القَاضِي أَبُو سعد وَسكت عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ بِأَن ظَاهره غير مُسْتَقِيم وسأذكره فِي تَرْجَمَة أبي سعد آخر هَذِه الطَّبَقَة وأوجه كَلَام أبي عَاصِم(4/112)
298 - مُحَمَّد بن أَحْمد
أَبُو الْقَاسِم الشعري الطوسي
قَالَ عبد الغافر من شُيُوخ الشَّافِعِيَّة المتعصبين فِي الْمَذْهَب
سمع من أبي مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَغَيره
وَخرج إِلَى نسا فَسمِعت أَنه بلغه الْخَبَر بوقعة موحشة للْإِمَام أبي الْقَاسِم بن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي على يَدي عميد خُرَاسَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَوضع من حشمته فَحزن لذَلِك وتقطعت مرارته وَمَات من ليلته فِي رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
299 - مُحَمَّد بن أَحْمد
أَبُو سعيد النسوي
قَالَ ابْن باطيش كَانَ إِمَام وقته بِبَلَد نسا مَشْهُورا بِالْكَرمِ والبذل
300 - مُحَمَّد بن أَحْمد الْمروزِي أَبُو الْفضل التَّمِيمِي
أحد أَئِمَّة مرو ورؤسائها(4/113)
301 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن عبد الله الشنشدانقي الكاثي أَبُو الْحُسَيْن
قَالَ صَاحب الْكَافِي كَانَ من كبار خوارزم فضلا ورتبة وبيته بَيت الْعلم وَالصَّلَاح تفقه بمرو على الفوراني
وَكَانَ فحلا فِي المناظرة فصيح المحاورة لم يكن بكاث فِي عَهده بعد الإِمَام إِسْمَاعِيل الدرغاني أنظر مِنْهُ
ولي قَضَاء كاث بعد سعيد بن مُحَمَّد الكعبي
وَتُوفِّي فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
302 - مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن سُلَيْمَان بن الْحسن بن ذيب أَبُو بكر الْحَافِظ
من أهل جرجرايا من نواحي النهروان
وَهُوَ تلميذ مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد
ورحل وجال فِي الْبِلَاد
سمع بِبَغْدَاد من أَحْمد بن نصر الذارع وطبقته(4/114)
وبجرجان من أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ
وبأصبهان من ابْن المقرىء
وبدمشق من مُحَمَّد بن أَحْمد الْخلال وَعُثْمَان بن عمر الشَّافِعِي
روى عَنهُ عبد الصَّمد بن إِبْرَاهِيم البُخَارِيّ الْحَافِظ وهناد النَّسَفِيّ وَأحمد بن الْفضل النَّاظر قَالَ وَأَبُو حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد بن ماما الْحَافِظ وَآخَرُونَ
سكن بُخَارى آخر عمره
وَكَانَ مَعْرُوفا بالمعرفة وَالْحِفْظ والانتخاب على الْمَشَايِخ
مَاتَ فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
وَقد ذكره الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي التَّارِيخ مَجْهُولا لِأَنَّهُ لم يعرفهُ
303 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَافِظ أَبُو الْفضل الجارودي الْهَرَوِيّ
سمع أَبَا عَليّ حَامِد بن مُحَمَّد الرفاء وَمُحَمّد بن عبد الله السليطي وَأَبا إِسْحَاق القراب وَالِد الْحَافِظ أبي يَعْقُوب وَعبد الله بن الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ الْمروزِي وَسليمَان بن أَحْمد الطَّبَرَانِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ بن حَامِد وَإِسْمَاعِيل بن نجيد السّلمِيّ وَأحمد بن مُحَمَّد بن سلمويه النَّيْسَابُورِي وَعمر بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْأَهْوَازِي الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة كَثِيرَة بنيسابور والري وهمذان وأصبهان وَالْبَصْرَة وبغداد والحجاز
روى عَنهُ أَبُو عَطاء المليحي وَعبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الملقب شيخ(4/115)
الْإِسْلَام وَكَانَ إِذا حدث عَنهُ يَقُول حَدثنَا إِمَام أهل الْمشرق أَبُو الْفضل
وَطَوَائِف هرويون
قَالَ أَبُو النَّصْر الفامي كَانَ عديم النظير فِي الْعُلُوم خُصُوصا فِي علم الْحِفْظ والتحديث وَفِي التقلل من الدُّنْيَا والاكتفاء بالقوت وحيدا فِي الْوَرع وَقد رأى بعض النَّاس فِي نَومه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَوْصَاهُ بزيارة قبر الجارودي
وَقَالَ بَعضهم هُوَ أول من سنّ بهراة تَخْرِيج الْفَوَائِد وَشرح الرِّجَال والتصحيح
وَقَالَ ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي سَمِعت أَبَا إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ يَقُول سَمِعت الجارودي يَقُول رحلت إِلَى الطَّبَرَانِيّ فقربني وأدناني وَكَانَ يتعسر عَليّ فِي الْأَخْذ فَقلت لَهُ أَيهَا الشَّيْخ تتعسر عَليّ وتبذل للآخرين فَقَالَ لِأَنَّك تعرف قدر هَذَا الشَّأْن
توفّي فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
304 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن سعيد أَبُو عبد الله الحلابي الجاساني
قَالَ صَاحب الْكَافِي تفقه بِبَغْدَاد على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ
قَالَ وَله كتاب اسْمه النِّهَايَة فِي شرح الْمَذْهَب وَكتاب فِي الْمُخْتَلف اسْمه المشخص يدلان على كَمَال فَضله فِي الْفِقْه
قَالَ ووفاته قريب من سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة(4/116)
305 - مُحَمَّد بن أَحْمد الصعلوكي كَمَال الدّين أَبُو سهل
فِيمَا علقته من خطّ ابْن الصّلاح من مَجْمُوعه الَّذِي انتخبه فَوَائِد كتبهَا من كتاب الْجمع بَين الطَّرِيقَيْنِ قَالَ وَهُوَ كتاب علقه بَعضهم عَن هَذَا الشَّيْخ
مِنْهَا
قَالَ بعض أَصْحَاب الرَّأْي قَوْله تَعَالَى {واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم} الْآيَة ورد فِي النِّسَاء على الِانْفِرَاد كالمساحقات فحدهن الْحَبْس فِي الْبيُوت وَقَوله تَعَالَى {واللذان يأتيانها مِنْكُم} ورد فِي الرِّجَال على الِانْفِرَاد وَهُوَ اللواط فحده الْإِيذَاء بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ ذكر الرِّجَال مَعَ النِّسَاء وَالشَّيْخ الإِمَام أَبُو سهل الصعلوكي يمِيل إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة وَذكره فِي الدَّرْس وَقَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه أنث اللَّفْظ فِي الْآيَة الأولى وَذكره فِي الثَّانِيَة
وَأجَاب الشَّيْخ الْقفال عَن هَذَا وَقَالَ إِنَّمَا أنث فِي الأولى لِأَنَّهَا وَردت فِي الثّيّب فَتكون أَكثر الْقَصْد هُنَاكَ من الْمَرْأَة وَالْآيَة التالية وَردت فِي الْبكر وَالْبكْر تستحيي فَتكون أَكثر الْقَصْد من الرجل فَلهَذَا غلب التَّذْكِير
كَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق يَقُول الْقيام بفروض الكفايات خير فِي الْأجر وَالثَّوَاب من فروض الْأَعْيَان لِأَن فِي فروض الْأَعْيَان يسْقط عَن نَفسه فَقَط وَفِي الْكِفَايَة يسْقط عَن نَفسه وَغَيره
قلت وَهَذَا قَالَه أَيْضا إِمَام الْحَرَمَيْنِ(4/117)
306 - مُحَمَّد بن أَحْمد الحوفي الإِمَام أَبُو عبد الله الحمدنجي
من تلامذة الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرايني
تفقه عَلَيْهِ بِبَغْدَاد وبيته بَيت كَبِير
قَالَ صَاحب الْكَافِي فِي تَارِيخ خوارزم لبيته نَحْو مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة معمور بالعلماء وَأطَال فِي تَرْجَمته فِي تَارِيخ خوارزم وَقَالَ توفّي بعد سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
307 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله الصانعي أَبُو عبد الله
من أهل خوارزم
رَحل مِنْهَا سنة تسعين وثلاثمائة إِلَى بَغْدَاد فتفقه بهَا على الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرايني وَالشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْبَاقِي
ثمَّ عَاد إِلَى خوارزم فِي سنة اثنتى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وتوطن حشراخوان
قَالَ صَاحب الْكَافِي فَكَانَ هُوَ الْمُفْتِي والخطيب والواعظ والمدرس بهَا زَمَانا(4/118)
308 - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن كثير الإستراباذي أَبُو حَاجِب
من أهل مازندران
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ طَوِيل الباع فِي الْفِقْه وَالنَّظَر وَكَانَ حسن السِّيرَة تقيا ثِقَة صَدُوقًا وَاسع الرِّوَايَة كثير السماع
رَحل وَكتب وَعمر حَتَّى حدث بالكثير
سمع حَمْزَة بن يُوسُف السَّهْمِي وَأَبا الْحسن بن رزقويه وخلقا
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ وأغفله ابْن النجار أَيْضا
309 - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عَمْرو القَاضِي
أَبُو عَليّ ابْن أبي عَمْرو الْعِرَاقِيّ الطوسي
من أَهلهَا
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ ولي الْقَضَاء مُدَّة بالطابران قَصَبَة طوس
ولقب بالعراقي لظرافته وَطول مقَامه بِبَغْدَاد(4/119)
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا مبرزا حسن السِّيرَة مفضلا مكرما مَشْهُورا بخراسان وَالْعراق
تفقه بِبَغْدَاد على أبي حَامِد الإسفرايني
وَسمع الحَدِيث من أبي ظَاهر المخلص وَأبي الْقَاسِم يُوسُف بن كج الدينَوَرِي وَأبي زَكَرِيَّاء عبد الله بن أَحْمد البلاذري الْحَافِظ وَجَمَاعَة
سمع مِنْهُ جمَاعَة من الْعلمَاء مثل أبي مُحَمَّد عبد الله بن يُوسُف الْجِرْجَانِيّ وَأبي الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله بن يُوسُف الْجِرْجَانِيّ وَأبي الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله البسطامي وَأبي الْفضل مُحَمَّد بن أسعد الفاشاني الْمروزِي وَغَيرهم
قَالَ وقرأت فِي كتاب الْفُقَهَاء لأبي مُحَمَّد عبد الله بن يُوسُف القَاضِي الْجِرْجَانِيّ الْحَافِظ فَقَالَ أَبُو عَليّ الْعِرَاقِيّ الطابراني سمعته يَقُول أَقمت بِبَغْدَاد إِحْدَى عشرَة سنة كنت أختلف إِلَى أبي مُحَمَّد البافي ثمَّ اخْتلفت عشر سِنِين إِلَى أبي حَامِد وعلقت عَنهُ جَمِيع الْمُخْتَصر فَلَمَّا رجعت قصدت جرجان فَدخلت على الإِمَام أبي سعد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَحَضَرت مَجْلِسه وناظرت بَين يَدَيْهِ ثمَّ دخلت نيسابور وَحَضَرت مجْلِس الإِمَام أبي الطّيب الصعلوكي وناظرت فِيهِ ثمَّ رجعت إِلَى وطني
توفّي سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَهُوَ مِمَّن أخل ابْن النجار بِذكرِهِ مَعَ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ لَهُ(4/120)
310 - مُحَمَّد بن بكر بن مُحَمَّد أَبُو بكر الطوسي النوقاني
من نوقان بِفَتْح النُّون ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ قَاف يَليهَا ألف ثمَّ نون إِحْدَى مَدَائِن طوس
ذكره الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح فِي كتاب الْإِجَارَة وَكتاب الْجراح وَغير مَوضِع
قَالَ أَبُو صَالح أَحْمد بن عبد الْملك الْمُؤَذّن هُوَ إِمَام أَصْحَاب الشَّافِعِي بنيسابور وفقيههم ومدرسهم وَله الدَّرْس وَالْأَصْحَاب ومجلس النّظر وَله مَعَ ذَلِك الْوَرع والزهد والانقباض عَن النَّاس وَترك طلب الجاه وَالدُّخُول على السلاطين وَمَا لَا يَلِيق بِأَهْل الْعلم من الدُّخُول فِي الْوَصَايَا والأوقاف وَمَا فِي مَعْنَاهُ
وَكَانَ من أحسن النَّاس خلقا وَمن أحْسنهم سيرة وَظَهَرت بركته على أَصْحَابه
وتفقه عِنْد الْأُسْتَاذ أَبى الْحسن الماسرجسى بنيسابور وببغداد عَنهُ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد البافي
وَحكى عَن مُحَمَّد بن مَأْمُون قَالَ كنت مَعَ الشَّيْخ أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ بِبَغْدَاد فَقَالَ لي تعال حَتَّى أريك شَابًّا لَيْسَ فِي جملَة الصُّوفِيَّة وَلَا المتفقهة أحسن طَريقَة وَلَا أَكثر أدبا مِنْهُ فَأخذ بيَدي فَذهب إِلَى حَلقَة البافي وَأرَانِي الشَّيْخ أَبَا بكر الطوسي
تفقه على الطوسي جماعات مِنْهُم الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي
وَتُوفِّي بنوقان سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة(4/121)
311 - مُحَمَّد بن بَيَان بن مُحَمَّد الْآمِدِيّ الكازروني
شيخ الرَّوْيَانِيّ وفخر الْإِسْلَام الشَّاشِي والفقيه نصر بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي
سكن آمد وتفقه بِهِ خلق
وَحدث عَن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن سهل بن خَليفَة الْبَلَدِي وَالْقَاضِي أبي عمر الْهَاشِمِي وَأبي الْفَتْح بن أبي الفوارس وَابْن رزقويه وَغَيرهم
روى عَنهُ الْفَقِيه نصر بن إِبْرَاهِيم بن فَارس الْأَزْدِيّ وَأَبُو غَانِم عبد الرَّزَّاق العدي وَعبد الله بن الْحسن بن النّحاس
مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن نباتة الْمُحدث بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا أخبرنَا الغرافي أخبرنَا الْقطيعِي أخبرنَا ابْن الْخلّ أخبرنَا فَخر الْإِسْلَام أَبُو بكر الشَّاشِي قِرَاءَة علينا من كِتَابه أخبرنَا مُحَمَّد بن بَيَان الكازروني قِرَاءَة عَلَيْهِ فِي جَامع ميافارقين أخبرنَا أَبُو عمر عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن مهْدي الْفَارِسِي قِرَاءَة عَلَيْهِ حَدثنَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل القَاضِي حَدثنَا أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمدنِي حَدثنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من أنْفق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل الله نُودي فِي الْجنَّة(4/122)
يَا عبد الله هَذَا خير فَمن كَانَ من أهل الصَّلَاة دعِي من بَاب الصَّلَاة وَمن كَانَ من أهل الْجِهَاد دعِي من بَاب الْجِهَاد وَمن كَانَ من أهل الصَّدَقَة دعِي من بَاب الصَّدَقَة وَمن كَانَ من أهل الصّيام دعِي من بَاب الريان)
فَقَالَ أَبُو بكر بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله مَا على أحد مِمَّن دعِي من تِلْكَ الْأَبْوَاب من ضَرُورَة فَهَل يدعى أحد من تِلْكَ الْأَبْوَاب كلهَا قَالَ نعم وَأَرْجُو أَن تكون مِنْهُم
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب
وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن معن بن عِيسَى عَن مَالك
وَمُسلم عَن أبي الطَّاهِر وحرملة
كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس
وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَالْحسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد ثَلَاثَتهمْ عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح
وَعَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر خمستهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ
312 - مُحَمَّد بن ثَابت بن الْحسن بن عَليّ أَبُو بكر الخجندي
نزيل أَصْبَهَان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام غزير الْفضل حسن السِّيرَة(4/123)
تفقه فبرع فِي الْفِقْه حَتَّى صَار من جملَة رُؤَسَاء الْأَئِمَّة حشمة ونعمة
وَتخرج بِهِ وبكلامه جمَاعَة من أهل الْعلم وانتشر علمه فِي الْآفَاق
وولاه نظام الْملك مدرسته الَّتِي بناها بأصبهان درس الْفِقْه بهَا مُدَّة
وَكَانَت لَهُ يَد باسطة فِي النّظر وَالْأُصُول
سمع الحَدِيث من أَبِيه أبي مُحَمَّد ثَابت بن الْحسن وَأبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد الإسترابادي وَعبد الصَّمد بن نصر العاصمي وَأبي سهل أَحْمد بن عَليّ الأبيوردي وَكَانَ أستاذه فِي الْفِقْه
روى لنا عَنهُ أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل الطلحي وَأَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْمُنعم بن فاذشاه وَأحمد بن الْفضل الْمُمَيز وَغَيرهم
هَذَا كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ وَذكر لَهُ حَدِيثا وأناشيد مُسندَة
توفّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَعَلِيهِ تفقه أَبُو الْعَبَّاس بن الرطبي وَأَبُو عَليّ الْحسن بن سلمَان الْأَصْفَهَانِي
قلت وَأَظنهُ صَاحب كتاب زواهر الدُّرَر فِي نقض جَوَاهِر النّظر وَهَذَا الْكتاب يرويهِ فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي عَنهُ رَوَاهُ عباد بن سرحان بن مُسلم بن سيد النَّاس من فضلاء الْمغرب دخل بَغْدَاد وَسمع بهَا من رزق الله بن التَّمِيمِي وَغَيره وَقد روى هَذَا الْكتاب عَن الشَّاشِي عَنهُ(4/124)
ذكر ذَلِك ابْن الصّلاح فِي تَرْجَمَة الشَّاشِي
وَقد أخل ابْن النجار فِي الذيل بِذكر الخجندي مَعَ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ لَهُ
وَنقل القَاضِي مجلى فِي ذخائره وَجْهَيْن عَن رَوْضَة المناظر للخجندي وَمَا أرَاهُ إِلَّا هَذَا فِيمَن نذر صَلَاة مُؤَقَّتَة وأخرجها عَن وَقتهَا هَل تقبل وَلَكِن الْمَذْهَب أَنَّهَا لَا تقبل وَهَذَا الْوَجْه المستغرب ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي النكت احْتِمَالا لنَفسِهِ
وَفِي فتاوي ابْن الصّباغ أَن وَاقعَة وَقعت بأصبهان وَهِي حَاكم حكم بِقِيَاس ثمَّ ظهر لَهُ أَنه مَنْصُوص بِنَصّ يُوَافق مَا حكم بِهِ فَأفْتى الخجندي بِأَن الحكم نَافِذ
وَقَالَ ابْن الصّباغ نَافِذ من حِين الحكم
قلت وَقد ثَبت فِي كتاب الْأَشْبَاه والنظائر أَن مَا قَالَه الخجندي أصح
313 - مُحَمَّد بن حَامِد أَبُو عبد الله بن حنار
ذكر أَبُو عَليّ بن الْبناء فِي طَبَقَات الْفُقَهَاء كَمَا نَقله عَنهُ ابْن النجار أَن لَهُ الْقدر العالي فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَالْقُرْآن وَالْأَدب
وَأَنه مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فِي صفر
314 - مُحَمَّد بن حسان بن الْحسن بن مكي أَبُو المحاسن الختام الْوَاعِظ مَاتَ بِالريِّ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة(4/125)
315 - مُحَمَّد بن الْحسن بن الْحُسَيْن أَبُو عبد الله الْمروزِي المهربندقشايي
كَانَ إِمَامًا ورعا عَارِفًا عابدا
وَسمع الْكثير من الْقفال وَمُسلم بن الْحسن الْكَاتِب
ورحل إِلَى هراة فَسمع أَبَا الْفضل عمر بن إِبْرَاهِيم بن أبي سعد وَأحمد بن مُحَمَّد ابْن الْخَلِيل وَغَيرهمَا
توفّي سنة أَربع وَقيل سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
316 - مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ أَبُو جَعْفَر الطوسي
فَقِيه الشِّيعَة ومصنفهم
كَانَ ينتمي إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي
لَهُ تَفْسِير الْقُرْآن وأملى أَحَادِيث وحكايات تشْتَمل على مجلدين
قدم بَغْدَاد وتفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي
وَقَرَأَ الْأُصُول وَالْكَلَام على أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن النُّعْمَان الْمَعْرُوف بالمفيد فَقِيه الإمامية(4/126)
وَحدث عَن هِلَال الحفار
روى عَنهُ ابْنه أَبُو عَليّ الْحسن
وَقد أحرقت كتبه عدَّة نوب بِمحضر من النَّاس
توفّي بِالْكُوفَةِ سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
317 - مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك
الْأُسْتَاذ أَبُو بكر الْأنْصَارِيّ الْأَصْبَهَانِيّ
الإِمَام الْجَلِيل والحبر الَّذِي لَا يجارى فقها وأصولا وكلاما ووعظا ونحوا مَعَ مهابة وجلالة وورع بَالغ
رفض الدُّنْيَا وَرَاء ظَهره وعامل الله فِي سره وجهره وصمم على دينه
(مصمم لَيْسَ تلويه عواذله ... فِي الدّين ثَبت قوي بأسه عسر)
وحوم على الْمنية فِي نصْرَة الْحق لَا يخَاف الْأسد فِي عرينه
(وَلَا يلين لغير الْحق يتبعهُ ... حَتَّى يلين لضرس الماضغ الْحجر)
وشمر عَن سَاق الِاجْتِهَاد
(بهمة فِي الثريا إِثْر أخمصها ... وعزمة لَيْسَ من عاداتها السأم)(4/127)
وَدَمرَ ديار الْأَعْدَاء ذَوي الْفساد
(وَعمر الدّين عزم مِنْهُ معتضد ... بِاللَّه تشرق من أنواره الظُّلم)
وصبر وَالسيف يقطر دَمًا
(وَالصَّبْر أجمل إِلَّا أَنه صَبر ... وَرُبمَا جنت الأعقاب من عسله)
وَبدر بجنان لَا يخادعه حب الْحَيَاة وَلَا تشوقه الحاظ الدمى
(لكنه مغرم بِالْحَقِّ يتبعهُ ... لله فِي الله هَذَا مُنْتَهى أمله)
أَقَامَ أَولا بالعراق إِلَى أَن درس بهَا مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ على أبي الْحسن الْبَاهِلِيّ ثمَّ لما ورد الرّيّ وشت بِهِ المبتدعة وَسعوا عَلَيْهِ
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فتقدمنا إِلَى الْأَمِير نَاصِر الدولة أبي الْحسن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم والتمسنا مِنْهُ المراسلة فِي توجهه إِلَى نيسابور فَبنى لَهُ الدَّار والمدرسة من خانقاه أبي الْحسن البوشنجي وَأَحْيَا الله بِهِ فِي بلدنا أنواعا من الْعُلُوم لما استوطنها وَظَهَرت بركته على جمَاعَة من المتفقهة وتخرجوا بِهِ
سمع عبد الله بن جَعْفَر الْأَصْفَهَانِي وَكثر سَمَاعه بِالْبَصْرَةِ وبغداد وَحدث بنيسابور
هَذَا كَلَام الْحَاكِم وروى عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا
قَالَ عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل سَمِعت أَبَا صَالح الْمُؤَذّن يَقُول كَانَ الْأُسْتَاذ أوحد وقته أَبُو عَليّ الدقاق يعْقد الْمجْلس وَيَدْعُو للحاضرين والغائبين من أَعْيَان الْبَلَد وأئمتهم فَقيل لَهُ يَوْمًا قد نسيت ابْن فورك وَلم تدع لَهُ
فَقَالَ كَيفَ أَدْعُو لَهُ وَكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أَن يشفي علتي وَكَانَ بِهِ وجع الْبَطن تِلْكَ اللَّيْلَة(4/128)
وَلما حضرت الْوَفَاة وَاحِد عصره وَسيد وقته أَبَا عُثْمَان المغربي أوصى بِأَن يُصَلِّي عَلَيْهِ الإِمَام أَبُو بكر بن فورك وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة
وَذكر الإِمَام الشَّهِيد أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن دوناس الفندلاوي الْمَالِكِي المدفون خَارج بَاب الصَّغِير بِدِمَشْق وقبره ظَاهر مَعْرُوف باستجابة الدُّعَاء عِنْده أَنه رُوِيَ أَن الإِمَام أَبَا بكر بن فورك مَا نَام فِي بَيت فِيهِ مصحف قطّ وَإِذا أَرَادَ النّوم انْتقل عَن الْمَكَان الَّذِي فِيهِ إعظاما لكتاب الله عز وَجل
نقلت هَذِه الْحِكَايَة من خطّ شَيخنَا الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس بن المظفر
قَالَ عبد الغافر بلغت تصانيفه فِي أصُول الدّين وأصول الْفِقْه ومعاني الْقُرْآن قَرِيبا من الْمِائَة
وَحكى عَن ابْن فورك أَنه قَالَ كَانَ سَبَب اشتغالي بِعلم الْكَلَام أَنِّي كنت بأصبهان أختلف إِلَى فَقِيه فَسمِعت أَن الْحجر يَمِين الله فِي الأَرْض فَسَأَلت ذَلِك الْفَقِيه عَن مَعْنَاهُ فَلم يجب بِجَوَاب شاف فأرشدت إِلَى فلَان من الْمُتَكَلِّمين فَسَأَلته فَأجَاب بِجَوَاب شاف فَقلت لَا بُد من معرفَة هَذَا الْعلم فاشتغلت بِهِ
وَقد سمع ابْن فورك من عبد الله بن جَعْفَر الْأَصْبَهَانِيّ الْمَذْكُور فِي كَلَام الْحَاكِم جَمِيع مُسْند الطَّيَالِسِيّ
وَسمع أَيْضا من ابْن خرزاذ الْأَهْوَازِي
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ والأستاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو بكر أَحْمد ابْن عَليّ بن خلف(4/129)
ودعي إِلَى مَدِينَة غزنة وَجَرت لَهُ بهَا مناظرات وَلما عَاد مِنْهَا سم فِي الطَّرِيق فَتوفي سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة حميدا شَهِيدا
وَنقل إِلَى نيسابور وَدفن بِالْحيرَةِ وقبره ظَاهر
قَالَ عبد الغافر يستسقى بِهِ ويستجاب الدُّعَاء عِنْده
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي تِلْمِيذه سَمِعت الإِمَام أَبَا بكر بن فورك يَقُول حملت مُقَيّدا إِلَى شيراز لفتنة فِي الدّين فوافيت بَاب الْبَلَد مصبحا وَكنت مهموم الْقلب فَلَمَّا أَسْفر النَّهَار وَقع بَصرِي على محراب فِي مَسْجِد على بَاب الْبَلَد مَكْتُوب عَلَيْهِ {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} وَحصل لي تَعْرِيف من باطني أَنِّي أكفى عَن قريب فَكَانَ كَذَلِك
وَكَانَ شَدِيد الرَّد على أبي عبد الله بن كرام وأذكر أَن سَبَب مَا حصل لَهُ من المحنة من شغب أَصْحَاب ابْن كرام وشيعتهم المجسمة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَالصَّلَاة على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله وصحابته أَجْمَعِينَ
ذكر شرح حَال المحنة الْمشَار إِلَيْهَا
اعْلَم أَنه يعز علينا شرح هَذِه الْأُمُور لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن كتمانها وسترها أولى من إظهارها وكشفها لما فِي ذَلِك من فتح الأذهان لما هِيَ غافلة عَنهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي التفطن لَهُ
وَالثَّانِي مَا يَدْعُو إِلَيْهِ كشفها من تَبْيِين معرة أَقوام وكشف عوارهم وَقد كَانَ الصمت أزين وَلَكِن لما رَأينَا المبتدعة تشمخ بآنافها وتزيد وتنقص على حسب أغراضها وأهوائها تعين لذَلِك ضبط الْحَال وكشفه مَعَ مُرَاعَاة النصفة فَنَقُول(4/130)
كَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو بكر بن فورك كَمَا عرفناك شَدِيدا فِي الله قَائِما فِي نصْرَة الدّين وَمن ذَلِك أَنه فَوق نَحْو المشبهة الكرامية سهاما لَا قبل لَهُم بهَا فتحزبوا عَلَيْهِ ونموا غير مرّة وَهُوَ ينتصر عَلَيْهِم وَآخر الْأَمر أَنهم أنهوا إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين أَن هَذَا الَّذِي يؤلب علينا عنْدك أعظم منا بِدعَة وَكفرا وَذَلِكَ أَنه يعْتَقد أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ نَبيا الْيَوْم وَأَن رسَالَته انْقَطَعت بِمَوْتِهِ فَاسْأَلْهُ عَن ذَلِك
فَعظم على السُّلْطَان هَذَا الْأَمر وَقَالَ إِن صَحَّ هَذَا عَنهُ لأقتلنه وَأمر بِطَلَبِهِ
وَالَّذِي لَاحَ لنا من كَلَام المحررين لما ينقلون الواعين لما يحفظون الَّذين يَتَّقُونَ الله فِيمَا يحكون أَنه لما حضر بَين يَدَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك كذب النَّاقِل وَقَالَ مَا هُوَ مُعْتَقد الأشاعرة على الْإِطْلَاق أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ فِي قَبره رَسُول الله أَبَد الآباد على الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز وَأَنه كَانَ نَبيا وآدَم بَين المَاء والطين وَلم تَبْرَح نبوته بَاقِيَة وَلَا تزَال
وَعند ذَلِك وضح للسُّلْطَان الْأَمر وَأمر بإعزازه وإكرامه ورجوعه إِلَى وَطنه
فَلَمَّا أَيِست الكرامية وَعلمت أَن مَا وشت بِهِ لم يتم وَأَن حيلها ومكايدها قد وهت عدلت إِلَى السَّعْي فِي مَوته والراحة من تَعبه فسلطوا عَلَيْهِ من سمه فَمضى حميدا شَهِيدا
هَذَا خُلَاصَة المحنة
وَالْمَسْأَلَة الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي انْقِطَاع الرسَالَة بعد الْمَوْت مكذوبة قَدِيما على الإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ نَفسه وَقد مضى الْكَلَام عَلَيْهَا فِي تَرْجَمته
إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن أَبَا مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ ذكر فِي النصائح أَن ابْن سبكتكين قتل ابْن فورك بقوله لهَذِهِ الْمَسْأَلَة ثمَّ زعم ابْن حزم أَنَّهَا قَول جَمِيع الأشعرية(4/131)
قلت وَابْن حزم لَا يدْرِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَلَا يفرق بَينهم وَبَين الْجَهْمِية لجهلهم بِمَا يَعْتَقِدُونَ
وَقد حكى ابْن الصّلاح مَا ذكره ابْن حزم ثمَّ قَالَ لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعم بل هُوَ تشنيع على الأشعرية أثارته الكرامية فِيمَا حَكَاهُ الْقشيرِي
قلت وَقد أسلفنا كَلَام الْقشيرِي فِي ذَلِك فِي تَرْجَمَة الْأَشْعَرِيّ
وَذكر شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَلَام ابْن حزم وَحكى أَن السُّلْطَان أَمر بقتل ابْن فورك فشفع إِلَيْهِ وَقيل هُوَ رجل لَهُ سنّ فَأمر بقتْله بالسم فسقي السم
ثمَّ قَالَ وَقد دَعَا ابْن حزم للسُّلْطَان مَحْمُود أَن وفْق لقتل ابْن فورك
وَقَالَ وَفِي الْجُمْلَة ابْن فورك خير من ابْن حزم وَأجل وَأحسن نحلة
وَقَالَ قبل ذَلِك أَعنِي شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَانَ ابْن فورك رجلا صَالحا
ثمَّ قَالَ كَانَ مَعَ دينه صَاحب فلتة وبدعة
انْتهى
قلت أما السُّلْطَان أَمر بقتْله فشفع إِلَيْهِ إِلَى آخر الْحِكَايَة فأكذوبة سمجة ظَاهِرَة الْكَذِب من جِهَات مُتعَدِّدَة مِنْهَا أَن ابْن فورك لَا يعْتَقد مَا نقل عَنهُ بل يكفر قَائِله فَكيف يعْتَرف على نَفسه بِمَا هُوَ كفر وَإِذا لم يعْتَرف فَكيف يَأْمر السُّلْطَان بقتْله وَهَذَا أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي أخص النَّاس بِابْن فورك فَهَل نقل هَذِه الْوَاقِعَة بل ذكر أَن من عزى إِلَى الأشعرية هَذِه الْمَسْأَلَة فقد افترى عَلَيْهِم وَأَنه لَا يَقُول بهَا أحد مِنْهُم
وَمِنْهَا أَنه بِتَقْدِير اعترافه وَأمره بقتْله كَيفَ ترك ذَلِك لسنه وَهل قَالَ مُسلم إِن السن مَانع من الْقَتْل بالْكفْر على وَجه الشُّهْرَة أَو مُطلقًا ثمَّ لَيْت الحاكي ضم إِلَى السن الْعلم وَإِن كَانَ أَيْضا لَا يمْنَع الْقَتْل وَلكنه لبغضه فِيهِ لم يَجْعَل لَهُ خصْلَة يمت بهَا(4/132)
غير أَنه شيخ مسن فيا سُبْحَانَ الله أما كَانَ رجلا عَالما أما كَانَ اسْمه مَلأ بِلَاد خُرَاسَان وَالْعراق أما كَانَ تلامذته قد طبقت طبق الأَرْض فَهَذَا من ابْن حزم مُجَرّد تحامل وحكاية لأكذوبة سمجة كَانَ مِقْدَاره أجل من أَن يحكيها
وَأما قَول شَيخنَا الذَّهَبِيّ إِنَّه مَعَ دينه صَاحب فلتة وبدعة فَكَلَام متهافت فَإِنَّهُ يشْهد بالصلاح وَالدّين لمن يقْضِي عَلَيْهِ بالبدعة ثمَّ لَيْت شعري مَا الَّذِي يَعْنِي بالفلتة إِن كَانَت قِيَامه فِي الْحق كَمَا نعتقد نَحن فِيهِ فَتلك من الدّين وَإِن كَانَت فِي الْبَاطِل فَهِيَ تنَافِي الدّين
وَأما حكمه بِأَن ابْن فورك خير من ابْن حزم فَهَذَا التَّفْضِيل أمره إِلَى الله تَعَالَى ونقول لشَيْخِنَا إِن كنت تعتقد فِيهِ مَا حكيت من انْقِطَاع الرسَالَة فَلَا خير فِيهِ أَلْبَتَّة وَإِلَّا فَلم لَا نبهت على أَن ذَلِك مَكْذُوب عَلَيْهِ لِئَلَّا يغتر بِهِ
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ من حَدِيثه عَن ابْن خرزاذ
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس ابْن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا الشَّيْخَانِ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن المطهر بن أبي عصرون وَأَبُو الْفضل أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر سَمَاعا عَلَيْهِمَا قَالَا أخبرنَا أَبُو روح عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الْهَرَوِيّ إجَازَة أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم زَاهِر بن طَاهِر الشحامي أخبرنَا الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن هوَازن الْقشيرِي أخبرنَا الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن خرزاذ الْأَهْوَازِي بهَا حَدثنَا أَحْمد بن سهل بن أَيُّوب حَدثنَا خَالِد يَعْنِي ابْن يزِيد حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ وَشريك بن عبد الله وسُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن(4/133)
سُلَيْمَان عَن خَيْثَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (لَا ترْضينَ أحدا بسخط الله وَلَا تحمدن أحدا على فضل الله وَلَا تذمن أحدا على مَا لم يؤتك الله فَإِن رزق الله لَا يَسُوقهُ حرص حَرِيص وَلَا يردهُ عَنْك كَرَاهَة كَارِه وَإِن الله بعدله وقسطه جعل الرّوح والفرح فِي الرِّضَا وَالْيَقِين وَجعل الْهم والحزن فِي الشَّك والسخط
وَمن حَدِيثه عَن عبد الله بن جَعْفَر وَبِه إِلَى ابْن فورك
أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر حَدثنَا يُونُس بن حبيب حَدثنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا همام عَن قَتَادَة سمع أنسا يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ)
وَمن كَلَام الْأُسْتَاذ أبي بكر
قَالَ كل مَوضِع ترى فِيهِ اجْتِهَادًا وَلم يكن عَلَيْهِ نور فَاعْلَم أَنه بِدعَة خُفْيَة
قلت وَهَذَا كَلَام بَالغ فِي الْحسن دَال على أَن الْأُسْتَاذ كثير الذَّوْق وَأَصله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْبر مَا اطمأنت إِلَيْهِ النَّفس)
وَمن الْفَوَائِد والمسائل عَنهُ
قيل تناظر هُوَ وَأَبُو عُثْمَان المغربي الَّذِي ذكرنَا أَنه أوصى عِنْد مَوته أَن ابْن فورك يصلى عَلَيْهِ فِي أَن الْوَلِيّ هَل يجوز أَن يعرف أَنه ولي فَكَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو بكر لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ يسلبه الْخَوْف وَيُوجب لَهُ الْأَمْن(4/134)
قيل وَكَانَ أَبُو عُثْمَان يَقُول بِجَوَازِهِ
قلت وَالَّذِي نَقله الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم فِي الرسَالَة أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ بَين الأستاذين أبي بكر بن فورك وَأبي عَليّ الدقاق وَأَن الدقاق قَالَ بِالْجَوَازِ
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم وَهُوَ الَّذِي نؤثره ونختاره ونقول بِهِ
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم وَلَا يجب ذَلِك فِي جَمِيع الْأَوْلِيَاء بل يجوز أَن يعلم بَعضهم وَيكون علمه كَرَامَة زَائِدَة لَهُ وَألا يعلم آخَرُونَ
ثمَّ رد قَول ابْن فورك إِن الْعلم بذلك يسْقط الْخَوْف بِأَن الَّذِي يجدونه من الهيبة والإجلال يزِيد ويربي على كثير من الْخَوْف
قلت وَمَا ذكره أَبُو الْقَاسِم هُوَ الْحق الَّذِي لَا مرية فِيهِ وَالْعلم بِالْولَايَةِ لَا يُنَافِي الْخَوْف بل وَلَا النُّبُوَّة أَلا ترى أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَشد النَّاس خوفًا لرَبهم تَعَالَى وهم يعلمُونَ أَنهم أَنْبيَاء فمقالة ابْن فورك ضَعِيفَة شَاذَّة وَالْوَلِيّ مَا دَامَ إحساسه حَاضرا وَهُوَ غير مصطلم يخَاف الْمَكْر وَذَلِكَ من أعظم الْخَوْف
وَذكر الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم بعد ذَلِك أَنه يجوز أَن يعلم أَنه مَأْمُون الْعَاقِبَة
قلت وَمَعَ ذَلِك لَا يزايله الْخَوْف كَمَا قُلْنَا فِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِنَّهُم يعلمُونَ أَنهم مأمونو العواقب وهم أَشد خوفًا وَالْعشرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ كَذَلِك وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَو أَن رجْلي الْوَاحِدَة دَاخل الْجنَّة وَالْأُخْرَى خَارِجهَا مَا أمنت مكر الله(4/135)
318 - مُحَمَّد بن القَاضِي الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد المروالروذي أَبُو بكر بن القَاضِي الْحُسَيْن
أما وَالِده فَهُوَ الإِمَام الْمَشْهُور بِالذكر
وَأما هُوَ فقد حدث عَن أبي مَسْعُود أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله البَجلِيّ الرَّازِيّ الْحَافِظ وَغَيره
سمع مِنْهُ أَبُو عبد الله الْحميدِي وَأَبُو بكر بن الخاضبة وَغَيرهمَا
ولد سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَلم أعلم لوفاته تَارِيخا
ذكره الشَّيْخ فِي شرح الْمِنْهَاج فِي النِّكَاح فِي شُرُوط الْكِفَايَة
319 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم الروذراوري
الْوَزير أَبُو شُجَاع
ولد سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ وَالِده من أهل روذراور وَصَحب الْأَمِير كرشاسف بن عَلَاء الدولة صَاحب همذان وأصبهان وبلاد الْجَبَل وَكَانَ ينقاد لَهُ
وَصَحب الْأَمِير هرارست(4/136)
أَمِير خوزستان وَالْبَصْرَة وواسط ثمَّ استوحش مِنْهُ وجهز أَمْوَاله إِلَى بَغْدَاد وأخفى نَفسه وَولده وَخرج إِلَى حلب ثمَّ توجه إِلَى همذان
ثمَّ إِن الْقَائِم بِأَمْر الله صرف وزيره ابْن جهير عَن الوزارة وصور فِي نَفسه أَن يستوزره فورد الْخَبَر بوفاته فَقَالَ الْخَلِيفَة عولنا على هَذَا الدارج فِي وزارتنا فحالت الأقدار بَيْننَا وَبَين الإيثار وَقد عرفنَا تميز وَلَده إِلَّا أَن السن لم ينْتَه بِهِ إِلَى هَذَا المنصب فرقاه وَلَا يزَال أَبُو شُجَاع يترقى إِلَى أَن انْتَهَت الْخلَافَة إِلَى المقتدى وتزايد عَظمَة وترقت بِهِ الْحَال فَوق مَا كَانَت
ثمَّ إِن نظام الْملك كَاتب المقتدى فِي إبعاد أبي شُجَاع فَإِنَّهُ كَانَ يكرههُ فَكتب الْخَلِيفَة الْجَواب بِخَطِّهِ وَعرف نظام الْملك منزلَة أبي شُجَاع عِنْده وفضله وَدينه وأكد عَلَيْهِ فِي الْوِصَايَة بِهِ وَترك الِالْتِفَات إِلَى قَول أعدائه وَأمر الْوَزير أَبَا شُجَاع بِالْخرُوجِ إِلَى أَصْبَهَان إِلَى خدمَة نظام الْملك وأصحبه بعض خدمه فَتَلقاهُ نظام الْملك بالبشر وَأَعَادَهُ إِلَى بَغْدَاد مكرما فَعَاد وَخرج إِلَيْهِ عَسْكَر الْخَلِيفَة مستلقين
ثمَّ لما عزل المقتدى بِاللَّه عميد الدولة أَبَا مَنْصُور ابْن جهير من وزارته ولاها ظهير الدّين أَبَا شُجَاع وخلع عَلَيْهِ فِي النّصْف من شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وتوالت السَّعَادَة فِي وزارته وَمَا زَالَ يتَقَدَّم فِي كل يَوْم تقدما لم يكن لغيره وَصَارَ الْأَمر أمره والمقبول من ارْتَضَاهُ والمدفوع من أَبَاهُ وَعظم الْحق وانتشر الْعدْل
وَكَانَ لَا يخرج من بَيته حَتَّى يقْرَأ شَيْئا من الْقُرْآن وَيُصلي
وَكَانَ يُصَلِّي الظّهْر وَيجْلس للمظالم إِلَى وَقت الْعَصْر وحجابه تنادي أَيْن أَصْحَاب الْحَوَائِج(4/137)
قَالَ النقلَة فَلم يطْمع فِي أَيَّامه طامع وَلم يحدث نَفسه بالظلم ظَالِم
وَكَانَ من سعادته أَن قَاضِي الْقُضَاة الشَّامي ذَاك الرجل الْعَالم الصَّالح هُوَ القَاضِي فِي أَيَّامه فانتظم أَمر بَغْدَاد كَمَا يَنْبَغِي
واستدعى يَوْمًا بعض كبار الْأُمَرَاء بالنواحي فَجَاءَهُ فِي خَمْسمِائَة فَارس من الْأُمَرَاء والسلارية فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِن بعض أعوانك أَخذ عِمَامَة رجل
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا إِنَّك تتعمد الغض مني وَالنَّقْص من محلي وَهَذَا مِمَّا يسْأَل عَنهُ من استنبته فِي الشرطة من أَصْحَابِي والمستخدمون على أبوابي
فَقَالَ لَهُ الْوَزير وَإِذا سَأَلَك الله تَعَالَى فِي الْموقف الَّذِي يَسْأَلك فِيهِ عَن اللَّفْظَة واللحظة ومثقال الذّرة يكون هَذَا جوابك
فَخرج ذَلِك الْملك واستبحث عَن الْعِمَامَة حَتَّى عَادَتْ
وأخباره فِي ذَلِك ونظائره مَشْهُورَة كَثِيرَة
ثمَّ لَاحَ لَهُ توفيق إلهي فحاسب نَفسه على زَكَاة مَاله وَعلم أَنه أخل بأدائها فِيمَا تقدم واحتاط بِأَن أخرجهَا عَن وَالِده سِنِين كَثِيرَة
ورأوه عدَّة أَيَّام خَالِيا يكْتب ويحسب فأشفق عَلَيْهِ بعض الأصدقاء وأرجف بِهِ الْأَعْدَاء وَقَالُوا خولط وَلَحِقتهُ السَّوْدَاء
وَأما مَا كَانَ يَفْعَله من صنائع الْبر والتنوع فِي صلَة الْمَعْرُوف فعجيب كثير
وَحكي أَنه استدعى بعض أخصائه فِي يَوْم بَارِد وَعرض عَلَيْهِ رقْعَة من بعض(4/138)
الصَّالِحين يذكر فِيهَا أَن فِي الدَّار الْفُلَانِيَّة امْرَأَة مَعهَا أَرْبَعَة أَطْفَال أَيْتَام وهم عُرَاة جِيَاع
فَقَالَ لَهُ امْضِ الْآن وابتع لَهُم جَمِيع مَا يصلح لَهُم
ثمَّ خلع أثوابه وَقَالَ وَالله لَا لبستها وَلَا أكلت حَتَّى تعود وتخبرني أَنَّك كسوتهم وأشبعتهم
وَبَقِي يرعد بالبرد إِلَى حَيْثُ قضى الْأَمر وَعَاد إِلَيْهِ وَأخْبرهُ
وَقَالَ بعض من كَانَ يتَوَلَّى صدقاته إِنَّه حسب مَا انْصَرف على يَده من صلَاته فَاشْتَمَلَ على مائَة ألف دِينَار وَعشْرين ألف دِينَار
قَالَ وَكنت وَاحِدًا من عشرَة يتولون صدقاته
ثمَّ إِن السُّلْطَان ملكشاه سَأَلَ الْخَلِيفَة فِي عزلة فَعَزله فِي ربيع الأول سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَأَنْشد أَبُو شُجَاع فِي حَال انْصِرَافه
(تولاها وَلَيْسَ لَهُ عَدو ... وفارقها وَلَيْسَ لَهُ صديق)
وَخرج إِلَى الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وأمالت الْعَامَّة عَلَيْهِ تصافحه وَتَدْعُو لَهُ
وَأقَام فِي دَاره مكرما مُحْتَرما وَبنى على بَابهَا مَسْجِدا
وَاسْتمرّ إِلَى أَن أذن لَهُ الْخَلِيفَة فِي الْحَج فِي موسم سنة أَربع وَثَمَانِينَ فَلَمَّا عَاد مَعَ الحجيج فِي سنة خمس تَلقاهُ من أَصْحَاب السُّلْطَان من مَنعه من دُخُول الْعرَاق وَسَار بِهِ إِلَى روذراور فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتوجه مِنْهَا إِلَى الْحَج وَدخل بعد وَفَاة الْمُقْتَدِي وَالسُّلْطَان ملكشاه ونظام الْملك فَأَقَامَ بِمَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأضرب عَن الْعِزّ والجاه والأهل والوطن(4/139)
وَمَات أحد خدام رَوْضَة الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يكنس الْمَسْجِد ويفرش الْحصْر ويشعل المصابيح
وَكتب إِلَى وَلَده أبي مَنْصُور بِأَن يقف عَنهُ مدرسة على أَصْحَاب الشَّافِعِي
وَكَانَ رجلا فَاضلا أديبا لَهُ شعر كثير حسن وَقد كتب إِلَيْهِ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي الصَّقْر الوَاسِطِيّ يلْتَمس شعره لينْظر فِيهِ بقصيدة يَقُول فِيهَا
(يَا ماجدا لَو رمت مدح سواهُ لم ... أقدر على بَيت وَلَا مصراع)
(اُمْنُنْ عَليّ بشعرك الدّرّ الَّذِي ... شعر الرضى لَهُ من الأتباع)
فَأَجَابَهُ
(لَو كنت أرْضى مَا جمعت شتيته ... مَا صنت معرضه عَن الأسماع)
(لَكِن شعري شبه شوهاء اتقت ... عيابها فتسترت بقناع)
توفّي فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَدفن بِالبَقِيعِ عِنْد قبر إِبْرَاهِيم بن سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
320 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن الْقَاسِم بن مَالك القَاضِي أَبُو عمر البسطامي
وبسطام بِفَتْح الْبَاء
قَاضِي نيسابور(4/140)
كَانَ أحد الْأَئِمَّة من أَصْحَابنَا والرفعاء من عُلَمَائهمْ
قدم بَغْدَاد فِي حَيَاة الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرايني وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد يجله ويعظمه
وَكَانَ القَاضِي أَبُو عمر نَظِير أبي الطّيب الصعلوكي حشمة وجاها وعلما فصاهره أَبُو الطّيب وَجَاء من بَينهمَا فضلاء أَئِمَّة
سمع القَاضِي أَبُو عمر الحَدِيث بالعراق والأهواز وأصبهان وسجستان
وأملى وَحدث عَن أبي الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ وَأحمد بن عبد الرَّحْمَن بن الْجَارُود الرقي وَأبي بكر الْقطيعِي وَعلي بن حَمَّاد الْأَهْوَازِي وَأحمد بن مَحْمُود بن خرزاذ القَاضِي وَأبي مُحَمَّد بن ماسي وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم مَعَ تقدمه وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبيد الله الصرام وسُفْيَان وَمُحَمّد ابْنا الْحُسَيْن بن فتحويه ويوسف الهمذاني وَغَيرهم
ذكره الْحَاكِم فِي التَّارِيخ فَقَالَ الْفَقِيه الْمُتَكَلّم البارع الْوَاعِظ
ثمَّ قَالَ وَورد لَهُ الْعَهْد بِقَضَاء نيسابور وقرىء علينا الْعَهْد غَدَاة الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وأجلس فِي مجْلِس الْقَضَاء فِي مَسْجِد رجا فِي تِلْكَ السَّاعَة وَأظْهر أهل الحَدِيث(4/141)
من الْفَرح والاستبشار والنثار مَا يطول شَرحه وكتبنا بِالدُّعَاءِ وَالشُّكْر إِلَى السُّلْطَان أيده الله وَإِلَى أوليائه
وَذكره أَبُو عَليّ الْحسن بن نصر بن كاكا المرندي فَقَالَ كَانَ مُنْفَردا بلطائف السِّيَادَة مُعْتَمدًا لمواقف الْوِفَادَة سفر بَين السُّلْطَان الْمُعظم ومجلس الْخلَافَة أَيَّام الْقَادِر بِاللَّه فأفتن أهل بَغْدَاد بِلِسَانِهِ وإحسانه وبزهم فِي إِيرَاده وإصداره بِصِحَّة إتقانه
ونكت فِي ذَلِك المشهد النَّبَوِيّ والمحفل الإمامي أَشْيَاء أعجب بهَا كفاته وَسلم الْفضل لَهُ فِيهَا حماته وَقَالُوا مثله فَلْيَكُن نَائِبا عَن ذَلِك السُّلْطَان الْمُؤَيد بالتوفيق والنصرة وافدا على مثل هَذِه الحضرة حَتَّى صدر وحقائبه مَمْلُوءَة من أَصْنَاف الْإِكْرَام وسهامه فائزة بأقصى المرام ثمَّ كَانَ شَافِعِيّ الْعلم شريحي الحكم سحباني الْبَيَان سحار اللِّسَان
وَذكر الْخَطِيب أَن أَبَا صَالح الْمُؤَذّن وَأَبا بكر مُحَمَّد بن يحيى بن إِبْرَاهِيم النَّيْسَابُورِي أخبراه أَن القَاضِي أَبَا عمر توفّي بنيسابور سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة
وَقَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي إِنَّه توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة
وَقَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي إِنَّه توفى. سنة ثَمَان واربعمائة وأعقب الْمُوفق والمؤيد وَلدين إمامين(4/142)
وَمن الرِّوَايَة عَنهُ
أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن الْقيم سَمَاعا عَلَيْهِ أَن أَبَا الْحسن بن البُخَارِيّ أخبرهُ عَن عبد الْوَاحِد بن أبي المطهر الصيدلاني أخبرنَا أَبُو سعيد بن أبي صَالح الْحَافِظ الْمُؤَذّن أخبرنَا السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم قدم علينا من هراة سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة أخبرنَا القَاضِي أَبُو عمر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد البسطامي أخبرنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن الْجَارُود الرقي بعسكر مكرم حَدثنَا يزِيد بن سِنَان الْبَصْرِيّ بِمصْر حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان حَدثنَا يحيى بن الْعَلَاء عَن طَلْحَة الْعقيلِيّ عَن الْحسن ابْن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نعم الْمِفْتَاح الْهَدِيَّة أَمَام الْحَاجة)
لم يرو هَذَا الحَدِيث من حَدِيث الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي شَيْء من الْكتب السِّتَّة
321 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُوسَى الْأَزْدِيّ
أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ جدا لِأَنَّهُ سبط أبي عَمْرو إِسْمَاعِيل بن نجيد السّلمِيّ
النَّيْسَابُورِي بَلَدا
كَانَ شيخ الصُّوفِيَّة وعالمهم بخراسان
لَهُ الْيَد الطُّولى فِي التَّصَرُّف وَالْعلم الغزير وَالسير على سنَن السّلف
سمع من أبي الْعَبَّاس الْأَصَم وَأحمد بن عَليّ بن حسنويه المقرىء وَأحمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس وَمُحَمّد بن أَحْمد بن سعيد الرَّازِيّ صَاحب ابْن وارة وَأبي ظهير عبد الله بن فَارس الْعمريّ الْبَلْخِي وَمُحَمّد بن المؤمل الماسرجسي والحافظ أبي عَليّ الْحُسَيْن(4/143)
ابْن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي وَسَعِيد بن الْقَاسِم البردعي وَأحمد بن مُحَمَّد بن رُمَيْح النسوي وجده أبي عَمْرو
روى عَنهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَأَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو سعيد ابْن رامش وَأَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الْمُزَكي وَأَبُو صَالح الْمُؤَذّن وَأَبُو بكر ابْن خلف وعَلى بن أَحْمد الْمَدِينِيّ الْمُؤَذّن وَالقَاسِم بن الْفضل الثَّقَفِيّ وَخلق سواهُم
وَقع لنا الْكثير من حَدِيثه بعلو
وَاخْتلف فِي مولده فَالْمَشْهُور أَنه فِي رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَقيل بل سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة
ذكره الْحَافِظ عبد الغافر فِي السِّيَاق فَقَالَ شيخ الطَّرِيقَة فِي وقته الْمُوفق فِي جَمِيع عُلُوم الْحَقَائِق وَمَعْرِفَة طَرِيق التصوف وَصَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة العجيبة فِي علم الْقَوْم وَقد ورث التصوف عَن أَبِيه وجده وَجمع من الْكتب مَا لم يسْبق إِلَى ترتيبه حَتَّى بلغ فهرست تصانيفه الْمِائَة وَأكْثر
وَحدث أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة إملاء وَقِرَاءَة
وَكتب الحَدِيث بنيسابور ومرو وَالْعراق والحجاز
وانتخب عَلَيْهِ الْحفاظ الْكِبَار
توفّي فِي شعْبَان سنة اثنتى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
وَمن القَوْل فِيهِ لَهُ وَعَلِيهِ
قَالَ الْخَطِيب قَالَ لي مُحَمَّد بن يُوسُف النَّيْسَابُورِي الْقطَّان كَانَ السّلمِيّ غير ثِقَة وَكَانَ يضع للصوفية(4/144)
قَالَ الْخَطِيب قدر أبي عبد الرَّحْمَن عِنْد أهل بَلَده جليل وَكَانَ مَعَ ذَلِك مَحْمُودًا صَاحب حَدِيث
قلت قَول الْخَطِيب فِيهِ هُوَ الصَّحِيح وَأَبُو عبد الرَّحْمَن ثِقَة وَلَا عِبْرَة بِهَذَا الْكَلَام فِيهِ
قَالَ الْخَطِيب وَأخْبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي قَالَ كنت بَين يَدي أبي على الدقاق فَجرى حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَأَنه يقوم فِي السماع مُوَافقَة للْفُقَرَاء فَقَالَ أَبُو عَليّ مثله فِي حَاله لَعَلَّ السّكُون أولى بِهِ امْضِ إِلَيْهِ فستجده قَاعِدا فِي بَيت كتبه وعَلى وَجه الْكتب مجلدة صَغِيرَة مربعة فِيهَا أشعار الْحُسَيْن بن مَنْصُور فهاتها وَلَا تقل لَهُ شَيْئا
قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ فِي بَيت كتبه والمجلدة بِحَيْثُ ذكر أَبُو عَليّ فَلَمَّا قعدت أَخذ فِي الحَدِيث وَقَالَ كَانَ بعض النَّاس يُنكر على وَاحِد من الْعلمَاء حركته فِي السماع فرئى ذَلِك الْإِنْسَان يَوْمًا خَالِيا فِي بَيت وَهُوَ يَدُور كالمتواجد فَسئلَ عَن حَاله فَقَالَ كَانَت مَسْأَلَة مشكلة عَليّ فَتبين لي مَعْنَاهَا فَلم أتمالك من السرُور حَتَّى قُمْت أدور فَقل لَهُ مثل هَذَا يكون حَالهم
فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك مِنْهُمَا تحيرت كَيفَ أفعل بَينهمَا فَقلت لَا وَجه إِلَّا الصدْق فَقلت إِن أَبَا عَليّ وصف هَذِه المجلدة وَقَالَ احملها إِلَيّ من غير أَن يعلم الشَّيْخ وَأَنا أخافك وَلَيْسَ يمكنني مُخَالفَته فأيش تَأمر(4/145)
فَأخْرج أَجزَاء من كَلَام الْحُسَيْن بن مَنْصُور وفيهَا تصنيف لَهُ سَمَّاهُ الصيهور فِي نقض الدهور وَقَالَ احْمِلْ هَذِه إِلَيْهِ
قلت الَّذِي أفهمهُ من هَذِه الْحِكَايَة أَن أَبَا عبد الرَّحْمَن يَقُول جَوَابا لأبي عَليّ عَن قَوْله إِن مثله فِي حَاله لَعَلَّ السّكُون أولى بِهِ مَا حَاصله أَن الْحَرَكَة لم ينشئها السماع وأنى لست بِحَيْثُ يَأْخُذ مني السماع وَلَكِن يعرض لي أَمر لَا مدْخل للسماع فِيهِ فَيحصل مَعَه من السرُور مَا يتعقبه بالحركة من غير تمالك وَلَا اخْتِيَار وَلَيْسَ للسماع هُنَاكَ أثر لِأَن مثله يتَّفق للْإنْسَان وَهُوَ خَال فِي بَيت مُفْرد ثمَّ يُوجد متواجدا لذَلِك فَمثل هَذَا حَالي وَلَيْسَ كَمَا توهم فِي أَن السماع يَأْخُذ مني فَإِن حَالي كَمَا ذكر أَبُو عَليّ أرفع
وَأما إرْسَاله كتاب الصيهور فِي نقض الدهور فَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَة خُفْيَة بَين الشَّيْخَيْنِ لم أفهمها وَلم يكن وَالله أعلم أَبُو عبد الرَّحْمَن وَإِن أَبَاحَ السماع بِحَيْثُ يتأثر بِهِ
وَقد أنكر بِقَلْبِه على أستاذه أبي سهل فِيمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن يَقُول خرجت إِلَى مرو يَعْنِي من نيسابور فِي حَيَاة الْأُسْتَاذ أبي سهل الصعلوكي وَكَانَ لَهُ قبل خروجي أَيَّام الْجُمُعَة بالغدوات مجْلِس دور الْقُرْآن يخْتم بِهِ فَوَجَدته عِنْد رجوعي قد رفع ذَلِك الْمجْلس وَعقد لِابْنِ العقابي(4/146)
فِي ذَلِك الْوَقْت مجْلِس القَوْل فداخلني من ذَلِك شَيْء وَكنت أَقُول فِي نَفسِي قد استبدل مجْلِس الْخَتْم بِمَجْلِس القَوْل فَقَالَ لي يَوْمًا أيش يَقُول النَّاس فِي قلت يَقُولُونَ رفع مجْلِس الْقُرْآن وَوضع مجْلِس القَوْل
فَقَالَ من قَالَ لأستاذه لم لَا يفلح أبدا
وَقَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ كَانَ يَعْنِي السّلمِيّ وافر الْجَلالَة لَهُ أَمْلَاك ورثهَا من أمه وورثتها هِيَ من أَبِيهَا وتصانيفه يُقَال إِنَّهَا ألف جُزْء وَله كتاب سَمَّاهُ حقائق التَّفْسِير ليته لم يصنفه فَإِنَّهُ تَحْرِيف وقرمطة فدونك الْكتاب فسترى الْعجب
انْتهى
قلت لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يصف بالجلالة من يَدعِي فِيهِ التحريف والقرمطة وَكتاب حقائق التَّفْسِير الْمشَار إِلَيْهِ قد كثر الْكَلَام فِيهِ من قبل أَنه اقْتصر فِيهِ على ذكر تأويلات ومحال للصوفية ينبو عَنْهَا ظَاهر اللَّفْظ
322 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن أبي أَيُّوب الْأُسْتَاذ حجَّة الدّين أَبُو مَنْصُور الْمُتَكَلّم
تلميذ ابْن فورك وَخَتنه
وَهُوَ صَاحب كتاب تَلْخِيص الدَّلَائِل
توفّي فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة(4/147)
323 - مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُحَمَّد الدَّاودِيّ
أَبُو بكر شَارِح مُخْتَصر الْمُزنِيّ
وَهُوَ الصيدلاني تلميذ الإِمَام أبي بكر الْقفال الْمروزِي
كَذَا تحققناه بعد أَن كُنَّا شاكين فِيهِ
قَالَ ابْن الرّفْعَة أَكثر النَّقْل عَنهُ فِي الْمطلب وتوهمه غير الصيدلاني
وَقَالَ فِي كَلَامه على دِيَة الْجَنِين ابْن دَاوُد مُتَقَدم على الْقفال الْمروزِي
ونقلت أَنا ذَلِك عَنهُ فِي الطَّبَقَات الْوُسْطَى وَالصُّغْرَى
ثمَّ رَأَيْت فِي الْأَنْسَاب لِابْنِ السَّمْعَانِيّ فِي تَرْجَمَة الدَّاودِيّ مَا نَصه وَأَبُو المظفر سُلَيْمَان بن دَاوُد بن مُحَمَّد بن دَاوُد الصيدلاني الْمَعْرُوف بالداودي نِسْبَة إِلَى جده(4/148)
الْأَعْلَى وَهُوَ نَافِلَة الإِمَام أبي بكر الصيدلاني صَاحب أبي بكر الْقفال انْتهى
ثمَّ وقفت على مجلدين من شَرحه للمزني وَفِي أَوله اسْمه أَبُو بكر مُحَمَّد بن دَاوُد الْمروزِي الْمَعْرُوف بالصيدلاني
ثمَّ وَقع لي فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة ربع الْجِنَايَات من شَرحه وَقد كتبه كَاتبه فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَقَالَ إِنَّه طَريقَة الشَّيْخ أبي بكر الْقفال الْمروزِي الَّتِي حررها الشَّيْخ أَبُو بكر بن دَاوُد الدَّاودِيّ الصيدلاني
فتحققت بِهَذَا أَن الدَّاودِيّ هُوَ الصيدلاني وَهُوَ الَّذِي علق على الْمُزنِيّ شرحا مُسَمّى عِنْد الخراسانيين بطريقة الصيدلاني لِأَنَّهُ علقه على طَريقَة الْقفال الَّتِي كَانَ يسْمعهَا عَنهُ مَعَ زيادات يذكرهَا من قبله وصرت على قطع من ذَلِك وَللَّه الْحَمد
324 - مُحَمَّد بن زُهَيْر بن أخطل
أَبُو بكر النَّسَائِيّ إِمَام نسا وخطيبها(4/149)
325 - مُحَمَّد بن سَلامَة بن جَعْفَر بن عَليّ القَاضِي أَبُو عبد الله الْقُضَاعِي
الْفَقِيه
قَاضِي مصر
مُصَنف كتاب الشهَاب سمع أَبَا مُسلم مُحَمَّد بن أَحْمد الْكَاتِب وَأحمد بن ثرثال وَأَبا الْحسن بن جَهْضَم وَأَبا مُحَمَّد بن النّحاس وَآخَرين
روى عَنهُ الْحميدِي وأبوعبد الْجَلِيل الساوي وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن بَرَكَات السعيدي وَسَهل بن بشر الإسفرايني وَأَبُو عبد الله الرَّازِيّ فِي مشيخته والخطيب وَابْن مَاكُولَا وَآخَرُونَ
قَالَ الْأَمِير ابْن مَاكُولَا كَانَ متفننا فِي عدَّة عُلُوم وَلم أر فِي مصر من يجْرِي مجْرَاه(4/150)
وَقَالَ السلَفِي كَانَ من الثِّقَات الْأَثْبَات شَافِعِيّ الْمَذْهَب والاعتقاد مرضِي الْجُمْلَة
قلت وَقد ذهب إِلَى الرّوم رَسُولا وَمن عَجِيب مَا اتّفق لَهُ أَنه لَقِي شَيخا بِمَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَسمع مِنْهُ بهَا ثمَّ حدث عَنهُ
326 - مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن مُوسَى البسطامي الرزجاهي
ورزجاه بِفَتْح الرَّاء الْمُهْملَة كَذَا ذكر أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَقيل بضَمهَا ثمَّ سُكُون الزَّاي ثمَّ جِيم وَفِي آخرهَا هَاء قَرْيَة من قرى بسطَام
كَانَ فَقِيها أديبا مُحدثا
تفقه على الْأُسْتَاذ أبي سهل الصعلوكي وَسمع أَبَا بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبا أَحْمد بن عدي الجرجانيين وَأَبا أَحْمد الْحَاكِم الْحفاظ وَأَبا أَحْمد الغطريفي وَأَبا عَليّ بن الْمُغيرَة(4/151)
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو عبد الله الثَّقَفِيّ وَأَبُو سعيد بن أبي صَادِق وَأَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد الفقاعي وَآخَرُونَ
مولده سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَكَانَ يجلس لإسماع الحَدِيث وَالْأَدب وَله حَلقَة
وانتقل فِي آخر عمره إِلَى بسطَام وَمَات بهَا فِي ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
327 - مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد
القَاضِي أَبُو عبد الله الْبَيْضَاوِيّ
ولي الْقَضَاء بِربع الكرخ من بَغْدَاد
وَحدث بِيَسِير عَن أبي بكر ابْن مَالك الْقطيعِي وَالْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبيد العسكري
قَالَ الْخَطِيب كتبت عَنهُ وَكَانَ ثِقَة صَدُوقًا دينا سديدا
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق تفقه على الداركي وَحَضَرت مَجْلِسه وعلقت عَنهُ وَكَانَ ورعا حَافِظًا للْمَذْهَب وَالْخلاف موفقا فِي الْفَتَاوَى
انْتهى(4/152)
مَاتَ فَجْأَة فِي لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشر رَجَب سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
وَدفن بمقبرة بَاب حَرْب
قَالَ ابْن الصّلاح أَظُنهُ من بَيْضَاء فَارس
قَالَ ابْن الصّلاح أَيْضا قَرَأت بِخَط القَاضِي أبي مَنْصُور بن الصّباغ فِي كِتَابه كتاب الْإِشْعَار بِمَعْرِِفَة اخْتِلَاف عُلَمَاء الْأَمْصَار وَإِذا رأى فِي ثَوْبه نَجَاسَة ثمَّ خفيت عَلَيْهِ فِيمَا يغلب عَلَيْهِ ظَنِّي أَنِّي سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة أَبَا عبد الله الدَّامغَانِي أَو وجدته فِي كِتَابه أَنه استفتي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي زمَان أبي عبد الله الْبَيْضَاوِيّ وَأَن جمَاعَة فُقَهَاء الْوَقْت أفتوا بِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ غسل جَمِيعه إِلَّا الْبَيْضَاوِيّ فَإِنَّهُ أفتى بِأَنَّهُ يجب غسل مَا رَآهُ فِي الثَّوْب فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ
قَالَ ابْن الصّلاح وَهَذَا فِيهِ غموض وكشفه أَن النَّجَاسَة لم تحقق إِلَّا فِيمَا رأى فالاشتباه لَا يتعداه فَلَا يتعداه الْغسْل إِلَى مَا لم يره وَهَذَا الْخلاف خلاف مَا يُقَال إِذا أصَاب الثَّوْب نَجَاسَة وخفي موضعهَا غسله كُله
قلت هَذَا فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ خلافًا لما أفتوا بِهِ فَإِنَّهُ لَو عرض عَلَيْهِم لقبلوه وَإِنَّمَا الذِّهْن السَّرِيع الْإِدْرَاك يُبَادر إِلَيْهِ فَهُوَ دَلِيل على حسن بديهة الْبَيْضَاوِيّ واتقاد ذهنه
وَمثل هَذَا مَا وَقع فِي عصرنا وَردت عَليّ فتيا صورتهَا رجل وقف على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَابْن ابْنه فَقير فَهَل يدْفع إِلَيْهِ من مَال الْوَقْف وَيكون أَحَق من الْأَجَانِب فَكتبت الْأَفْضَل الدّفع إِلَيْهِ
ووافقني جمَاعَة من الْمُفْتِينَ ثمَّ حضرت وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى وَقد وَردت عَلَيْهِ الْفتيا مشحونة بخطوط الْمُفْتِينَ فَكتب تَحْتهم(4/153)
فِي الْوَقْت الْحَاضِر الْأَجْوِبَة الْمَذْكُورَة صَحِيحَة بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا أَن لَا يكون الْوَقْف فِي مرض الْمَوْت وَيكون ابْن ابْنه وَارِثا فَمَتَى كَانَ كَذَلِك لَا يصرف إِلَيْهِ شَيْء وَالثَّانِي أَن يحصل الصّرْف إِلَى خَمْسَة سواهُ اثْنَيْنِ من الْفُقَرَاء وَثَلَاثَة من الْمَسَاكِين ليحصل حَقِيقَة الْجمع الَّتِي دلّ عَلَيْهَا لفظ الْفُقَرَاء وَلَفظ الْمَسَاكِين فَإِذا اجْتمع هَذَانِ الشرطان كَانَ الْأَفْضَل الصّرْف إِلَيْهِ
328 - مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن الإِمَام أَبُو الْحُسَيْن بن اللبان
الفرضي الْفَقِيه
إِمَام عصره فِي الْفَرَائِض وَقِسْمَة التركات
وَله فِي ذَلِك التصانيف الْمَشْهُورَة
سمع أَبَا الْعَبَّاس الْأَثْرَم وَالْحسن بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْفَسَوِي وَأَبا بكر بن داسة وَغَيرهم
وَحدث بِبَغْدَاد
سمع مِنْهُ القَاضِي أَبُو الطّيب مُحَمَّد بن بكر الطَّبَرِيّ سنَن أبي دَاوُد سَمَاعه من ابْن داسة
عَن أبي دَاوُد
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ ابْن اللبان إِمَامًا فِي الْفِقْه والفرائض صنف فِيهَا كتبا كَثِيرَة لَيْسَ لأحد مثلهَا وَعنهُ أَخذ النَّاس(4/154)
مِمَّن أَخذ عَنهُ أَبُو أَحْمد بن أبي مُسلم الفرضي وَأَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن يحيى الكازروني الَّذِي لم يكن فِي زَمَانه أفرض مِنْهُ وَلَا أَحسب
انْتهى
وَقَالَ الْخَطِيب انْتهى إِلَيْهِ علم الْفَرَائِض
وَرُوِيَ أَنه كَانَ يَقُول لَيْسَ فِي الدُّنْيَا فَرضِي إِلَّا من أَصْحَابِي أَو أَصْحَاب أَصْحَابِي أَو لَا يحسن شَيْئا
329 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه بن نعيم بن الحكم الضَّبِّيّ الطهماني النَّيْسَابُورِي الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْحَاكِم الْمَعْرُوف بِابْن البيع
صَاحب التصانيف فِي عُلُوم الحَدِيث مِنْهَا تَارِيخ نيسابور وَهُوَ عِنْدِي أَعُود التواريخ على الْفُقَهَاء بفائدة وَمن نظره عرف تفنن الرجل فِي الْعُلُوم جَمِيعهَا وَله(4/155)
الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ وعلوم الحَدِيث وَكتاب مزكى الْأَخْبَار وَكتاب الإكليل وَكتاب فَضَائِل الشَّافِعِي وَغير ذَلِك
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا وحافظا حفيلا اتّفق على إِمَامَته وجلالته وَعظم قدره
ولد صَبِيحَة الثَّالِث من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة
وَطلب الْعلم من الصغر باعتناء وَالِده وخاله
فَأول سَمَاعه سنة ثَلَاثِينَ
واستملى على أبي حَاتِم بن حبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ
ورحل من نيسابور إِلَى الْعرَاق سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين بعد موت إِسْمَاعِيل الصفار بأشهر وَحج وجال فِي بِلَاد خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر وَأكْثر
وشيوخه الَّذين سمع مِنْهُم بنيسابور وَحدهَا نَحْو ألف شيخ وَسمع بغَيْرهَا من نَحْو ألف شيخ أَيْضا
روى عَن مُحَمَّد بن عَليّ الْمُذكر وَمُحَمّد بن يَعْقُوب الْأَصَم وَمُحَمّد بن يَعْقُوب بن الأخرم وَمُحَمّد بن عبد الله بن أَحْمد الْأَصْبَهَانِيّ الصفار نزيل نيسابور وَأبي حَامِد بن حسنويه المقرىء وَأبي بكر بن إِسْحَاق الصبغي الْفَقِيه وَأبي النَّصْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن(4/156)
يُوسُف الْفَقِيه وَأبي عَمْرو عُثْمَان بن السماك وَأبي بكر النجار وَأبي عَليّ النَّيْسَابُورِي الْحَافِظ وَبِه تخرج وَأبي الْوَلِيد الْفَقِيه وَعبد الْبَاقِي بن قَانِع الْحَافِظ وَخلق
وَكتب عَن غير وَاحِد أَصْغَر مِنْهُ سنا وسندا
روى عَنهُ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَهُوَ من شُيُوخه وَأَبُو الْفَتْح بن أبي الفوارس وَأَبُو ذَر الْهَرَوِيّ وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ والأستاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو صَالح الْمُؤَذّن وَجَمَاعَة آخِرهم أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن خلف الشِّيرَازِيّ
وانتخب على خلق كثير
وتفقه على أبي عَليّ بن أبي هُرَيْرَة وَأبي سهل الصعلوكي وَأبي الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي
وَصَحب فِي التصوف أَبَا عمر بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْخُلْدِيِّ وَأَبا عُثْمَان المغربي وَجَمَاعَة
ورحل إِلَيْهِ من الْبِلَاد لسعة علمه وَرِوَايَته واتفاق الْعلمَاء على أَنه من أعلم الْأَئِمَّة الَّذين حفظ الله بهم هَذَا الدّين
وَحدث عَنهُ فِي حَيَاته
وَكتب أَبُو عمر الطلمنكي عُلُوم الحَدِيث للْحَاكِم عَن شيخ لَهُ سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة بِسَمَاعِهِ من صَاحب الْحَاكِم عَن الْحَاكِم
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن جَعْفَر الْهَمدَانِي أخبرنَا أَبُو طَاهِر السلَفِي قَالَ سَمِعت إِسْمَاعِيل بن عبد الْجَبَّار القَاضِي بقزوين يَقُول سَمِعت الْخَلِيل بن عبد الله الْحَافِظ يَقُول فَذكر الْحَاكِم أَبَا عبد الله وعظمه وَقَالَ لَهُ رحلتان إِلَى الْعرَاق(4/157)
والحجاز الرحلة الثَّانِيَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وناظر الدَّارَقُطْنِيّ فرضيه وَهُوَ ثِقَة وَاسع الْعلم بلغت تصانيفه قَرِيبا من خَمْسمِائَة جُزْء
وَقَالَ أَبُو حَازِم عمر بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم العبدوي الْحَافِظ إِن الْحَاكِم أَبَا عبد الله قلد قَضَاء نسا سنة تسع وَخمسين فِي أَيَّام السامانية ووزارة الْعُتْبِي فَدخل الْخَلِيل بن أَحْمد السجْزِي القَاضِي على أبي جَعْفَر الْعُتْبِي فَقَالَ هَنأ الله الشَّيْخ فقد جهز إِلَى نسا ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فتهلل وَجهه
قَالَ وقلد بعد ذَلِك قَضَاء جرجان فَامْتنعَ
قَالَ وَسمعت مشيختنا يَقُولُونَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن إِسْحَاق وَأَبُو الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي يرجعان إِلَى أبي عبد الله الْحَاكِم فِي السُّؤَال عَن الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَعلل الحَدِيث وَصَحِيحه وسقيمه
قَالَ وأقمت عِنْد الشَّيْخ أبي عبد الله العصمي قَرِيبا من ثَلَاث سِنِين وَلم أر فِي جملَة مَشَايِخنَا أتقى مِنْهُ وَلَا أَكثر تنقيرا فَكَانَ إِذا أشكل عَلَيْهِ شَيْء أَمرنِي أَن أكتب إِلَى الْحَاكِم أبي عبد الله وَإِذا ورد عَلَيْهِ جَوَابه حكم بِهِ وَقطع بقوله وانتخب على الْمَشَايِخ خمسين سنة
وَحكى القَاضِي أَبُو بكر الْحِيرِي أَن شَيخا من الصَّالِحين حكى أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم قَالَ فَقلت لَهُ يَا رَسُول الله بَلغنِي أَنَّك قلت ولدت فِي زمن الْملك الْعَادِل وَإِنِّي سَأَلت الْحَاكِم أَبَا عبد الله عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ هَذَا كذب وَلم يقلهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (صدق أَبُو عبد الله)
قَالَ أَبُو حَازِم أول من اشْتهر بِحِفْظ الحَدِيث وَعلله بنيسابور بعد الإِمَام مُسلم(4/158)
ابْن الْحجَّاج إِبْرَاهِيم بن أبي طَالب وَكَانَ يُقَابله النَّسَائِيّ وجعفر الْفرْيَابِيّ ثمَّ أَبُو حَامِد بن الشَّرْقِي وَكَانَ يُقَابله أَبُو بكر بن زِيَاد النَّيْسَابُورِي وَأَبُو الْعَبَّاس بن سعد ثمَّ أَبُو عَليّ الْحَافِظ وَكَانَ يُقَابله أَبُو أَحْمد الْعَسَّال وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة ثمَّ الشَّيْخَانِ أَبُو الْحُسَيْن الْحجَّاج وَأَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَكَانَ يقابلهما فِي عصرهما ابْن عدي وَابْن المظفر وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَتفرد الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي عصرنا من غير أَن يُقَابله أحد بالحجاز وَالشَّام والعراقين وَالْجِبَال والري وطبرستان وقومس وخراسان بأسرها وَمَا وَرَاء النَّهر
هَذَا بعض كَلَام أبي حَازِم ذكره فِي حَيَاة الْحَاكِم وَقَالَ فِي آخِره جعلنَا الله لهَذِهِ النِّعْمَة من الشَّاكِرِينَ
وَذكر أَنه سَمعه يَقُول شربت مَاء زَمْزَم وَسَأَلت الله أَن يَرْزُقنِي حسن التصنيف
وَقَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي إِن الْحَاكِم اخْتصَّ بِصُحْبَة إِمَام وقته أبي بكر أَحْمد بن إِسْحَاق الصبغي وَإنَّهُ كَانَ يُرَاجِعهُ فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل والعلل وَأَنه أوصى إِلَيْهِ فِي أُمُور مدرسته دَار السّنة وفوض إِلَيْهِ تَوْلِيَة أوقافه فِي ذَلِك
وَسمعت مَشَايِخنَا يذكرُونَ أَيَّامه ويحكون أَن مقدمي عصره مثل الإِمَام أبي سهل الصعلوكي وَالْإِمَام ابْن فورك وَسَائِر الْأَئِمَّة يقدمونه على أنفسهم ويراعون حق فَضله ويوفون لَهُ الْحُرْمَة الأكيدة بِسَبَب تفرده بحفظه ومعرفته
وَكَانَ إِذا حضر مجْلِس سَماع محتو على مَشَايِخ وصدور يؤنسهم بمحاضرته ويطيب أوقاتهم بحكاياته بِحَيْثُ يظْهر صفاء كَلَامه على الْحَاضِرين فيأنسون بِحُضُورِهِ
قَالَ مُحَمَّد بن طَاهِر الْحَافِظ سَأَلت سَعْدا الزنجاني الْحَافِظ بِمَكَّة قلت لَهُ أَرْبَعَة من الْحفاظ تعاصروا أَيهمْ أحفظ فَقَالَ من(4/159)
قلت الدَّارَقُطْنِيّ بِبَغْدَاد وَعبد الْغَنِيّ بِمصْر وَأَبُو عبد الله بن مندة بأصبهان وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم بنيسابور
فَسكت فألححت عَلَيْهِ فَقَالَ أما الدَّارَقُطْنِيّ فأعلمهم بالعلل وَأما عبد الْغَنِيّ فأعلمهم بالأنساب وَأما ابْن مندة فأكثرهم حَدِيثا مَعَ معرفَة تَامَّة وَأما الْحَاكِم فأحسنهم تصنيفا
وَحكي أَن أَبَا الْفضل الهمذاني الأديب لما ورد نيسابور وتعصبوا لَهُ ولقب بديع الزَّمَان أعجب بِنَفسِهِ إِذْ كَانَ يحفظ الْمِائَة بَيت إِذا أنشدت بَين يَدَيْهِ مرّة وينشدها من آخرهَا إِلَى أَولهَا مَقْلُوبَة فَأنْكر على النَّاس قَوْلهم فلَان الْحَافِظ فِي الحَدِيث ثمَّ قَالَ وَحفظ الحَدِيث مِمَّا يذكر
فَسمع بِهِ الْحَاكِم ابْن البيع فَوجه إِلَيْهِ بِجُزْء وأجله جُمُعَة فِي حفظه فَرد إِلَيْهِ الْجُزْء بعد الْجُمُعَة وَقَالَ من يحفظ هَذَا مُحَمَّد بن فلَان وجعفر بن فلَان عَن فلَان أسامي مُخْتَلفَة وألفاظ متباينة
فَقَالَ لَهُ الْحَاكِم فاعرف نَفسك وَاعْلَم أَن حفظ هَذَا أضيق مِمَّا أَنْت فِيهِ
قلت وَذكر الْحَاكِم فِي تَارِيخه فِي تَرْجَمَة الْحَافِظ أَبى عَليّ النَّيْسَابُورِي قَالَ
تَذَاكرنَا يَوْمًا روى سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن أنس فمررت أَنا فِي التَّرْجَمَة وَكَانَ بِحَضْرَة أبي عَليّ وَجَمَاعَة من الْمَشَايِخ إِلَى أَن ذكرت حَدِيث (لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمن) فَحمل بَعضهم عَليّ فَقَالَ أَبُو عَليّ لَهُ لَا تفعل فَمَا رَأَيْت أَنْت وَلَا نَحن فِي سنه مثله وَأَنا أَقُول إِذا رَأَيْته رَأَيْت ألف رجل من أَصْحَاب الحَدِيث(4/160)
وروى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَن الْحَاكِم أَبَا عبد الله دخل الْحمام واغتسل وَخرج وَقَالَ آه وَقبض روحه وَهُوَ متزر لم يلبس قَمِيصه بعد وَذَلِكَ فِي ثَالِث صفر سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة يَوْم الْأَرْبَعَاء
وَدفن بعد الْعَصْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر الْحِيرِي
وَقَالَ الْحسن بن أَشْعَث الْقرشِي رَأَيْت الْحَاكِم فِي الْمَنَام على فرس فِي هَيْئَة حَسَنَة وَهُوَ يَقُول النجَاة
فَقلت لَهُ أَيهَا الْحَاكِم فِيمَا ذَا
قَالَ فِي كتبة الحَدِيث
قلت كَذَا صَحَّ وَثبتت وَفَاته سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة وَوهم من قَالَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة رَحمَه الله
ذكر الْبَحْث عَمَّا رمي بِهِ الْحَاكِم من التَّشَيُّع وَمَا زَادَت أعداؤه ونقصت أوداؤه رَحمَه الله تَعَالَى والنصفة بَين الفئتين
أول مَا يَنْبَغِي لَك أَيهَا الْمنصف إِذا سَمِعت الطعْن فِي رجل أَن تبحث عَن خلطائه وَالَّذين عَنْهُم أَخذ مَا ينتحل وَعَن مرباه وسبيله ثمَّ تنظر كَلَام أهل بَلَده وعشيريته من معاصريه العارفين بِهِ بعد الْبَحْث عَن الصّديق مِنْهُم لَهُ والعدو الْخَالِي عَن الْميل إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَذَلِكَ قَلِيل فِي المتعاصرين المجتمعين فِي بلد
وَقد رمي هَذَا الإِمَام الْجَلِيل بالتشيع وَقيل إِنَّه يذهب إِلَى تَقْدِيم عَليّ من غير(4/161)
أَن يطعن فِي وَاحِد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَنَظَرْنَا فَإِذا الرجل مُحدث لَا يخْتَلف فِي ذَلِك وَهَذِه العقيدة تبعد على مُحدث فَإِن التَّشَيُّع فيهم نَادِر وَإِن وجد فِي أَفْرَاد قليلين
ثمَّ نَظرنَا مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم الْعلم وَكَانَت لَهُ بهم خُصُوصِيَّة فوجدناهم من كبار أهل السّنة وَمن المتصلبة فِي عقيدة أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ كالشيخ أبي بكر بن إِسْحَاق الصبغي والأستاذ أبي بكر بن فورك والأستاذ أبي سهل الصعلوكي وأمثالهم وَهَؤُلَاء هم الَّذين كَانَ يجالسهم فِي الْبَحْث وَيتَكَلَّم مَعَهم فِي أصُول الديانَات وَمَا يجْرِي مجْراهَا
ثمَّ نَظرنَا تراجم أهل السّنة فِي تَارِيخه فوجدناه يعطيهم حَقهم من الإعظام وَالثنَاء مَعَ مَا ينتحلون وَإِذا شِئْت فَانْظُر تَرْجَمَة أبي سهل الصعلوكي وَأبي بكر بن إِسْحَاق وَغَيرهمَا من كِتَابه وَلَا يظْهر عَلَيْهِ شَيْء من الغمز على عقائدهم وَقد استقريت فَلم أجد مؤرخا ينتحل عقيدة ويخلو كِتَابه عَن الغمز مِمَّن يحيد عَنْهَا سنة الله فِي المؤرخين وعادته فِي النقلَة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بحبله المتين
ثمَّ رَأينَا الْحَافِظ الثبت أَبَا الْقَاسِم بن عَسَاكِر أثْبته فِي عداد الْأَشْعَرِيين الَّذين يبدعون أهل التَّشَيُّع ويبرءون إِلَى الله مِنْهُم فَحصل لنا الريب فِيمَا رمي بِهِ هَذَا الرجل على الْجُمْلَة
ثمَّ نَظرنَا تفاصيله فَوَجَدنَا الطاعنين يذكرُونَ أَن مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي ذكر أَنه سَأَلَ أَبَا إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ عَن الْحَاكِم أبي عبد الله فَقَالَ ثِقَة فِي الحَدِيث رَافِضِي خَبِيث وَأَن ابْن طَاهِر هَذَا قَالَ إِنَّه كَانَ شَدِيد التعصب للشيعة فِي الْبَاطِن وَكَانَ يظْهر التسنن فِي التَّقْدِيم والخلافة وَكَانَ منحرفا غاليا عَن مُعَاوِيَة وَأهل بَيته يتظاهر بِهِ وَلَا يتَعَذَّر مِنْهُ(4/162)
فَسمِعت أَبَا الْفَتْح ابْن سمكويه بهراة يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد المليحي يَقُول سَمِعت أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول دخلت على أبي عبد الله الْحَاكِم وَهُوَ فِي دَاره لَا يُمكنهُ الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد من أَصْحَاب أبي عبد الله بن كرام وَذَلِكَ أَنهم كسروا منبره ومنعوه من الْخُرُوج فَقلت لَهُ لَو خرجت وأمليت فِي فَضَائِل هَذَا الرجل حَدِيثا لاسترحت من هَذِه الْفِتْنَة
فَقَالَ لَا يَجِيء من قلبِي
يَعْنِي مُعَاوِيَة
وَأَنه قَالَ أَيْضا سَمِعت أَبَا مُحَمَّد بن السَّمرقَنْدِي يَقُول بَلغنِي أَن مُسْتَدْرك الْحَاكِم ذكر بَين يَدي الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ نعم يسْتَدرك عَلَيْهِمَا حَدِيث الطير
فَبلغ ذَلِك الْحَاكِم فَأخْرج الحَدِيث من الْكتاب
هَذَا مَا يذكرهُ الطاعنون وَقد استخرت الله كثيرا واستهديته التَّوْفِيق وَقطعت القَوْل بِأَن كَلَام أبي إِسْمَاعِيل وَابْن الطَّاهِر لَا يجوز قبُوله فِي حق هَذَا الإِمَام لما بَينهم من مُخَالفَة العقيدة وَمَا يرميان بِهِ من التجسيم أشهر مِمَّا يرْمى بِهِ الْحَاكِم من الرَّفْض وَلَا يغرنك قَول أبي إِسْمَاعِيل قبل الطعْن فِيهِ إِنَّه ثِقَة فِي الحَدِيث فَمثل هَذَا الثَّنَاء يقدمهُ من يُرِيد الإزراء بالكبار قبل الإزراء عَلَيْهِم ليوهم الْبَرَاءَة من الْغَرَض وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك
وَالْغَالِب على ظَنِّي أَن مَا عزي إِلَى أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ كذب عَلَيْهِ وَلم يبلغنَا أَن الْحَاكِم ينَال من مُعَاوِيَة وَلَا يظنّ ذَلِك فِيهِ وَغَايَة مَا قيل فِيهِ الإفراط فِي وَلَاء عَليّ كرم الله وَجهه ومقام الْحَاكِم عندنَا أجل من ذَلِك
وَأما ابْن كرام فَكَانَ دَاعِيَة إِلَى التجسيم لَا يُنكر أحد ذَلِك ثمَّ إِن هَذِه حِكَايَة لَا يحكيها إِلَّا هَذَا الَّذِي يُخَالف الْحَاكِم فِي المعتقد فَكيف يسع الْمَرْء بَين يَدي الله تَعَالَى(4/163)
أَن يقبل قَوْله فِيهَا أَو يعْتَمد على نَقله ثمَّ أَنى لَهُ اطلَاع على بَاطِن الْحَاكِم حَتَّى يقْضِي بِأَنَّهُ كَانَ يتعصب للشيعة بَاطِنا
وَأما مَا رَوَاهُ الروَاة عَن الدَّارَقُطْنِيّ إِن صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَرْمِي بِهِ الْحَاكِم بل غَايَته أَنه استقبح مِنْهُ ذكر حَدِيث الطير فِي الْمُسْتَدْرك وَلَيْسَ هُوَ بِصَحِيح فَهُوَ يكثر من الْأَحَادِيث الَّتِي أخرجهَا فِي الْمُسْتَدْرك واستدركت عَلَيْهِ
ثمَّ قَول ابْن طَاهِر إِن الْحَاكِم أخرج حَدِيث الطير من الْمُسْتَدْرك فِيهِ وَقْفَة فَإِن حَدِيث الطير مَوْجُود فِي الْمُسْتَدْرك إِلَى الْآن وليته أخرجه مِنْهُ فَإِن إِدْخَاله فِيهِ من الأوهام الَّتِي تستقبح
ثمَّ لَو دلّت كلمة الدَّارَقُطْنِيّ على وضع من الْحَاكِم لم يعْتد بهَا لما ذكر الْخَطِيب فِي تَارِيخه من أَن الْأَزْهَرِي حَدثهُ أَن الْحَاكِم ورد بَغْدَاد قَدِيما فَقَالَ ذكر لي أَن حافظكم يَعْنِي الدَّارَقُطْنِيّ خرج لشيخ وَاحِد خَمْسمِائَة جُزْء فأروني بَعْضهَا فَحمل إِلَيْهِ مِنْهَا
وَذَلِكَ مِمَّا خرجه لأبي إِسْحَاق الطَّبَرِيّ فَنظر فِي أول الْجُزْء الأول حَدِيثا لعطية الْعَوْفِيّ فَقَالَ استفتح بشيخ ضَعِيف ثمَّ رمى الْجُزْء من يَده وَلم ينظر فِي الْبَاقِي
فَهَذِهِ كلمة من الْحَاكِم فِي الدَّارَقُطْنِيّ تقَابل كلمة الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ وَلَيْسَ على وَاحِد مِنْهَا فضاحة غير أَنه يُؤْخَذ مِنْهُمَا أَنه قد يكون بَينهمَا مَا قد يكون بَين الأقران(4/164)
وَقد قدمنَا فِي الطَّبَقَة الأولى فِي تَرْجَمَة أَحْمد بن صَالح أَن كَلَام النظير فِي النظير عِنْد ذَلِك غير مَقْبُول وَلَا يُوجب طَعنا على الْقَائِل وَلَا الْمَقُول فِيهِ وحققنا فِي ذَلِك جملَة صَالِحَة وَذَلِكَ كُله بِتَقْدِير ثُبُوت الْحِكَايَة وَأَن فِيهَا تعريضا من الدَّارَقُطْنِيّ بغمز الْحَاكِم بِسوء العقيدة وَلَا يسلم وَاحِد من الْأَمريْنِ وَإِنَّمَا فِيهَا عندنَا الغمز من كتاب الْمُسْتَدْرك لما فِيهِ مِمَّا يسْتَدرك وَهُوَ غمز صَحِيح
ثمَّ قَالَ ابْن طَاهِر وَسمعت المظفر بن حَمْزَة بجرجان يَقُول سَمِعت أَبَا سعد الْمَالِينِي يَقُول طالعت الْمُسْتَدْرك فَلم أجد فِيهِ حَدِيثا على شَرط الشَّيْخَيْنِ
قلت لَيْسَ فِي هَذَا تعرض للتشيع بِنَفْي وَلَا إِثْبَات ثمَّ هُوَ غير مُسلم
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ بل هُوَ غلو وإِسْرَاف من الْمَالِينِي فَفِي الْمُسْتَدْرك جملَة وافرة على شَرطهمَا وَجُمْلَة كَبِيرَة على شَرط أَحدهمَا
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ لَعَلَّ مَجْمُوع ذَلِك نَحْو نصف الْكتاب
قَالَ وَفِيه نَحْو الرّبع صَحَّ سَنَده وَإِن كَانَ فِيهِ عِلّة
قَالَ وَمَا بَقِي وَهُوَ نَحْو الرّبع فَهُوَ مَنَاكِير وواهيات لَا تصح وَفِي بعض ذَلِك مَوْضُوعَات
ثمَّ ذكر ابْن طَاهِر أَنه رأى بِخَط الْحَاكِم حَدِيث الطير فِي جُزْء ضخم جمعه
وَقَالَ وَقد كتبته للتعجب
قُلْنَا وَغَايَة جمع هَذَا الحَدِيث أَن يدل على أَن الْحَاكِم يحكم بِصِحَّتِهِ وَلَوْلَا ذَلِك لما أودعهُ الْمُسْتَدْرك وَلَا يدل ذَلِك مِنْهُ على تَقْدِيم عَليّ رَضِي الله عَنهُ على شيخ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِذْ لَهُ معَارض أقوى لَا يقدر على دَفعه وَكَيف يظنّ بالحاكم مَعَ سَعَة حفظه تَقْدِيم عَليّ وَمن قدمه على أبي بكر فقد طعن على(4/165)
الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فمعاذ الله أَن يظنّ ذَلِك بالحاكم ثمَّ يَنْبَغِي أَن يتعجب من ابْن طَاهِر فِي كِتَابَته هَذَا الْجُزْء مَعَ اعْتِقَاده بطلَان الحَدِيث وَمَعَ أَن كِتَابَته سَبَب شياع هَذَا الْخَبَر الْبَاطِل واغترار الْجُهَّال بِهِ أَكثر مِمَّا يتعجب من الْحَاكِم مِمَّن يُخرجهُ وَهُوَ يعْتَقد صِحَّته
وَحكى شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَلَام ابْن طَاهِر وذيل عَلَيْهِ أَن للْحَاكِم جُزْءا فِي فَضَائِل فَاطِمَة وَهَذَا لَا يلْزم مِنْهُ رفض وَلَا تشيع وَمن ذَا الَّذِي يُنكر فضائلها رَضِي الله عَنْهَا فَإِن قلت فَهَل يُنكر أَن يكون عِنْد الْحَاكِم شَيْء من التَّشَيُّع قلت الْآن حصحص الْحق وَالْحق أَحَق أَن يتبع وسلوك طَرِيق الْإِنْصَاف أَجْدَر بذوي الْعقل من ركُوب طَرِيق الاعتساف
فَأَقُول لَو انْفَرد مَا حكيته عَن أبي إِسْمَاعِيل وَعَن ابْن طَاهِر لَقطعت بِأَن نِسْبَة التَّشَيُّع إِلَيْهِ كذب عَلَيْهِ وَلَكِنِّي رَأَيْت الْخَطِيب أَبَا بكر رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ فِيمَا أَخْبرنِي بِهِ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمسند إِذْنا خَاصّا والحافظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي إجَازَة قَالَا أخبرنَا مُسلم بن مُحَمَّد بن عَلان قَالَ الأول إجَازَة وَقَالَ الثَّانِي سَمَاعا أخبرنَا أَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز أخبرنَا أَبُو بكر الْخَطِيب قَالَ أَبُو عبد الله بن البيع الْحَاكِم كَانَ ثِقَة أول سَمَاعه فِي سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَكَانَ يمِيل إِلَى التَّشَيُّع فَحَدثني إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأرموي بنيسابور وَكَانَ صَالحا عَالما قَالَ جمع أَبُو عبد الله الْحَاكِم أَحَادِيث وَزعم أَنَّهَا صِحَاح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا حَدِيث الطير وَمن كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فَأنْكر عَلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث ذَلِك وَلم يلتفتوا إِلَى قَوْله
انْتهى(4/166)
قلت والخطيب ثِقَة ضَابِط فتأملت مَعَ مَا فِي النَّفس من الْحَاكِم من تَخْرِيجه حَدِيث الطير فِي الْمُسْتَدْرك وَإِن كَانَ خرج أَشْيَاء غير مَوْضُوعَة لَا تعلق لَهَا بتشيع وَلَا غَيره فأوقع الله فِي نَفسِي أَن الرجل كَانَ عِنْده ميل إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ يزِيد على الْميل الَّذِي يطْلب شرعا وَلَا أَقُول إِنَّه يَنْتَهِي بِهِ إِلَى أَن يضع من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وَلَا إِنَّه يفضل عليا على الشَّيْخَيْنِ بل أستبعد أَن يفضله على عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنِّي رَأَيْته فِي كِتَابه الْأَرْبَعين عقد بَابا لتفضيل أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان واختصهم من بَين الصَّحَابَة وَقدم فِي الْمُسْتَدْرك ذكر عُثْمَان على عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا وروى فِيهِ من حَدِيث أَحْمد بن أخي ابْن وهب حَدثنَا عمي حَدثنَا يحيى بن أَيُّوب حَدثنَا هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت أول حجر حمله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبِنَاء الْمَسْجِد ثمَّ حمل أَبُو بكر ثمَّ حمل عمر حجرا ثمَّ حمل عُثْمَان حجرا فَقلت يَا رَسُول الله أَلا ترى إِلَى هَؤُلَاءِ كَيفَ يسعدونك فَقَالَ (يَا عَائِشَة هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاء من بعدِي)
قَالَ الْحَاكِم على شَرطهمَا وَإِنَّمَا اشْتهر من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة فَلذَلِك هجر
قلت وَقد حكم شَيخنَا الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه تَلْخِيص الْمُسْتَدْرك بِأَن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح لِأَن عَائِشَة لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل بهَا إِذْ ذَاك(4/167)
قَالَ وَأحمد مُنكر الحَدِيث وَإِن كَانَ مُسلم خرج لَهُ فِي الصَّحِيح وَيحيى وَإِن كَانَ ثِقَة فِيهِ ضعف
قلت فَمن يخرج هَذَا الحَدِيث الَّذِي يكَاد يكون نصا فِي خلَافَة الثَّلَاثَة مَعَ مَا فِي إِخْرَاجه من الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ يظنّ بِهِ الرَّفْض
وَخرج أَيْضا فِي فَضَائِل عُثْمَان حَدِيث لينهض كل رجل مِنْكُم إِلَى كفئه فَنَهَضَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عُثْمَان وَقَالَ (أَنْت ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) وَصَححهُ مَعَ أَن فِي سَنَده مقالات
وَأخرج غير ذَلِك من الْأَحَادِيث الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة عُثْمَان مَعَ مَا فِي بَعْضهَا من الِاسْتِدْرَاك عَلَيْهِ وَذكر فَضَائِل طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فقد غلب على الظَّن أَنه لَيْسَ فِيهِ وَللَّه الْحَمد شَيْء مِمَّا يستنكر عَلَيْهِ إفراط فِي ميل لَا يَنْتَهِي إِلَى بِدعَة
وَأَنا أجوز أَن يكون الْخَطِيب إِنَّمَا يَعْنِي بالميل إِلَى ذَلِك وَلذَلِك حكم بِأَن الْحَاكِم ثِقَة وَلَو كَانَ يعْتَقد فِيهِ رفضا لجرحه بِهِ لَا سِيمَا على مَذْهَب من يرى رد رِوَايَة المبتدع مُطلقًا فَكَلَام الْخَطِيب عندنَا يقرب من الصَّوَاب
وَأما قَول من قَالَ إِنَّه رَافِضِي خَبِيث وَمن قَالَ إِنَّه شَدِيد التعصب للشيعة فَلَا يعبأ بهما كَمَا عرفناك
هَذَا مَا ظهر لي وَالله أعلم
وَحكى شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَن الْحَاكِم سُئِلَ عَن حَدِيث الطير فَقَالَ لَا يَصح(4/168)
وَلَو صَحَّ لما كَانَ أحد أفضل من عَليّ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثمَّ قَالَ شَيخنَا وَهَذِه الْحِكَايَة سندها صَحِيح فَمَا باله أخرج حَدِيث الطير فِي الْمُسْتَدْرك
ثمَّ قَالَ فَلَعَلَّهُ تغير رَأْيه
قلت وَكَلَام شَيخنَا حق وإدخاله حَدِيث الطير فِي الْمُسْتَدْرك مُسْتَدْرك وَقد جوزت أَن يكون زيد فِي كِتَابه وَألا يكون هُوَ أخرجه وبحثت عَن نسخ قديمَة من الْمُسْتَدْرك فَلم أجد مَا ينشرح الصَّدْر لعدمه وتذكرت قَول الدَّارَقُطْنِيّ إِنَّه يسْتَدرك حَدِيث الطير فغلب على ظَنِّي أَنه لم يوضع عَلَيْهِ ثمَّ تَأَمَّلت قَول من قَالَ إِنَّه أخرجه من الْكتاب فجوزت أَن يكون خرجه ثمَّ أخرجه من الْكتاب وَبَقِي فِي بعض النّسخ فَإِن ثَبت هَذَا صحت الحكايات وَيكون خرجه فِي الْكتاب قبل أَن يظْهر لَهُ بُطْلَانه ثمَّ أخرجه مِنْهُ لاعْتِقَاده عدم صِحَّته كَمَا فِي هَذِه الْحِكَايَة الَّتِي صحّح الذَّهَبِيّ سندها وَلكنه بَقِي فِي بعض النّسخ إِمَّا لانتشار النّسخ بِالْكتاب أَو لإدخال بعض الطاعنين إِيَّاه فِيهِ فَكل هَذَا جَائِز وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى
وَأما الحكم على حَدِيث الطير بِالْوَضْعِ فَغير جيد وَرَأَيْت لصاحبنا الْحَافِظ صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلائي عَلَيْهِ كلَاما قَالَ فِيهِ بعد مَا ذكر تَخْرِيج التِّرْمِذِيّ(4/169)
لَهُ وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ فِي خَصَائِص عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن الْحق فِي الحَدِيث أَنه رُبمَا يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَة الْحسن أَو يكون ضَعِيفا يحْتَمل ضعفه
قَالَ فَأَما كَونه يَنْتَهِي إِلَى أَنه مَوْضُوع من جَمِيع طرقه فَلَا
قَالَ وَقد خرجه الْحَاكِم من رِوَايَة مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيَاض قَالَ حَدثنَا أبي حَدثنَا يحيى بن حسان عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
قَالَ وَرِجَال هَذَا السَّنَد كلهم ثقاة معروفون سوى أَحْمد بن عِيَاض فَلم أر من ذكره بتوثيق وَلَا جرح
وَيقرب من حَدِيث الطير حَدِيث عَليّ خير الْبشر من أبي فقد كفر
أخرجه الْحَاكِم أَيْضا فَقَالَ حَدثنَا السَّيِّد أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن يحيى العلوى حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الشَّيْبَانِيّ حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد أَبُو عبد الله الْهَاشِمِي قَالَ قلت للْحرّ بن سعيد النَّخعِيّ أحَدثك شريك قَالَ حَدثنِي شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره
وَهُوَ مِمَّا يُنكر على الْحَاكِم إِخْرَاجه
وَقد رَوَاهُ الْخَطِيب أَبُو بكر من وَجه آخر فَقَالَ أخبرنَا الْحسن بن أبي طَالب حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْقطيعِي حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد بن يحيى صَاحب كتاب النّسَب حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا عبد الرَّزَّاق حَدثنَا الثَّوْريّ عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ بِلَفْظِهِ إِلَّا أَن الْخَطِيب تعقبه بقوله هَذَا حَدِيث مُنكر مَا رَوَاهُ سوى الْعلوِي بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَيْسَ بِثَابِت
وَلم يعجب شَيخنَا الذَّهَبِيّ اقْتِصَار الْخَطِيب على هَذِه الْعبارَة وَقَالَ يَنْبَغِي أَن يَأْتِي بأبلغ مِنْهَا مِمَّا يدل على أَن هَذَا حَدِيث جلي الْبطلَان(4/170)
وَأخرج الْحَاكِم أَيْضا حَدِيث مُحَمَّد بن دِينَار من أهل السَّاحِل فِي شَأْن تزوج عَليّ بفاطمة رَضِي الله عَنْهَا أخرجه بِطُولِهِ ساكتا عَلَيْهِ وَهُوَ مَوْضُوع وَلَعَلَّ وَاضعه مُحَمَّد بن دِينَار فَإِنَّهُ الَّذِي يُقَال لَهُ العرقي لَا يعرف
330 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسْعُود بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَسْعُود المَسْعُودِيّ
الإِمَام أَبُو عبد الله الْمروزِي
أحد أَئِمَّة أَصْحَاب الْقفال الْمروزِي
كَانَ إِمَامًا مبرزا زاهدا ورعا حَافِظًا للْمَذْهَب
شرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ
وَسمع الْقَلِيل من أستاذه أبي بكر الْقفال
وَتُوفِّي سنة نَيف وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة بمرو
وَقَالَ ابْن الصّلاح وحكاية من صحب الْقفال من الْأَئِمَّة عَن المَسْعُودِيّ تشعر بجلالة قدره
قلت كَانَ المَسْعُودِيّ إِن لم يكن من أَقْرَان الْقفال كَمَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام الفوراني فِي خطْبَة الْإِبَانَة فَهُوَ من أكبر تلامذته وَالَّذِي يَقع لي أَنه من أَقْرَان الصيدلاني وَفَوق دَرَجَة الفوراني(4/171)
وَسُئِلَ الْقفال وَهُوَ يتَكَلَّم عَن الْعَوام عَن رجل حلف بِطَلَاق زَوجته لَا يَأْكُل الْبيض فَلَقِيَهُ إِنْسَان وَفِي كمه شَيْء فَقَالَ إِن لم آكل مِمَّا فِي كم فلَان فامرأتي طَالِق وَكَانَ الَّذِي فِي كمه الْبيض فَمَا الْحِيلَة فِي أَلا يَقع طَلَاقه
ففكر الْقفال وَلم يحضرهُ الْجَواب فَلَمَّا نزل قَالَ المَسْعُودِيّ يَجْعَل ذَلِك الْبيض فِي القبيطاء يَعْنِي الْحَلَاوَة الناطف ثمَّ يَأْكُلهُ وَلَا يَقع طَلَاقه
قلت وَمِمَّا حَكَاهُ الفوراني عَن المَسْعُودِيّ فِي الْعمد أَن الْمُصَلِّي صَلَاة الْعِيد يَقُول بَين كل تكبيرتين من التَّكْبِيرَات الزَّوَائِد سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك تبَارك اسْمك وَتَعَالَى جدك وَجل ثناؤك وَلَا إِلَه غَيْرك
وَقد نَقله النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن المَسْعُودِيّ
لَكِن فِي نقل الفوراني إِيَّاه عَن المَسْعُودِيّ كَمَا فِي نقل مَسْأَلَة الناطف مِمَّا يشْعر بجلالة المَسْعُودِيّ وَرب قرين لقوم يكَاد يكون لَهُم شَيخا فَهُوَ بَينهم وَبَين الشَّيْخ الْأُسْتَاذ كالمعيد فَكَأَن المَسْعُودِيّ كَانَ معيدا بَين يَدي الْقفال فَكَذَلِك كَانَ صَاحب التَّقْرِيب بَين يَدي وَالِده الْقفال الْكَبِير وَلذَلِك كَانَ تلامذة أَبِيه كالحليمي يرجعُونَ إِلَيْهِ(4/172)
الْبَحْث عَن حَال المَسْعُودِيّ المتكرر ذكره فِي كتاب الْبَيَان
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح كل مَا يُوجد فِي كتاب الْبَيَان للعمراني مَنْسُوبا إِلَى المَسْعُودِيّ فَإِنَّهُ غير صَحِيح النِّسْبَة إِلَيْهِ وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ صَاحب الْإِبَانَة أَبُو الْقَاسِم الفوراني
قَالَ وَذَلِكَ أَن الْإِبَانَة وَقعت فِي الْيمن منسوبة إِلَى المَسْعُودِيّ على جِهَة الْغَلَط لتباعد الديار
قلت وَقَالَ أَبُو عبد الله الطَّبَرِيّ صَاحب الْعدة فِي أَولهَا بعد أَن ذكر مَا ذكره ابْن الصّلاح إِن الْإِبَانَة تنْسب فِي بعض بِلَاد خُرَاسَان إِلَى الصفار وَفِي بَعْضهَا إِلَى الشَّاشِي وَمَا ذكره ابْن الصّلاح من أَن كل مَا يُوجد عَن المَسْعُودِيّ فِي الْبَيَان فَهُوَ عَن الْإِبَانَة مُشكل بمواضع
مِنْهَا أَن صَاحب الْبَيَان نقل فِيهِ أَن المَسْعُودِيّ قَالَ إِذا اشْترى مَالا شُفْعَة فِيهِ أصلا لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بالتبعية كالسيف وَمَا فِيهِ شُفْعَة أَنه لَا تثبت الشُّفْعَة فِي الشّقص لتفرق الصَّفْقَة فِي الشّقص على المُشْتَرِي
وَقد كشفت الْإِبَانَة فَلم أجد ذَلِك فِيهَا ولعلنا نزيد الْكَلَام على هَذَا الْوَجْه بسطة فِي تَرْجَمَة ابْن أبي الدَّم إِذا أنتهينا إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهَا نقل فِي الْبَيَان عَن المَسْعُودِيّ أَنه إِذا ابْتَاعَ بِثمن مُؤَجل فَلهُ أَن يَبِيع وَلَا يخبر بالأجل وَهَذَا يُوَافقهُ قَول سليم فِي الْمُجَرّد إِنَّه يكره لَهُ أَن يَبِيعهُ وَلَا يذكر الْأَجَل(4/173)
وَقد صرح الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر بحكايته وَجها عَن الخراسانيين إِلَّا أَنِّي كشفت الْإِبَانَة للفوراني فَلم أر ذَلِك فِيهَا
وَمِنْهَا قَالَ فِي الْبَيَان قَالَ المَسْعُودِيّ فِي الْأَب هَل يُزَوّج ابْنه الصَّغِير وَجْهَان الْأَصَح لَا لِأَنَّهُ لَا حَاجَة لَهُ إِلَيْهِ
وَهَذَا لم يُوجد فِي الْإِبَانَة
وَقد وَقع فِي الرَّوْضَة أَن الفوراني حكى وَجها وَصَححهُ أَن الْأَب لَا يملك تَزْوِيج الابْن الصَّغِير الْعَاقِل
قَالَ وَهُوَ غلط
قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَلم أر الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْإِبَانَة هُنَا
قلت مَا أَظن النَّوَوِيّ أُتِي إِلَّا من قبل ابْن الصّلاح فَإِنَّهُ لما اسْتَقر فِي نَفسه مَا ذكره من أَن كل مَا ينْسب فِي الْبَيَان إِلَى المَسْعُودِيّ فَهُوَ إِلَى الفوراني وَوجد هَذَا مَنْسُوبا إِلَى المَسْعُودِيّ نسبه إِلَى الفوراني وَهُوَ مَكَان كيس قد ذَكرْنَاهُ مَعَ نَظَائِر لَهُ فِي الْكتاب الَّذِي لقبناه خَادِم الرَّافِعِيّ فِي بَاب وهم على وهم
وَمن الْغَلَط عَن المَسْعُودِيّ
نقل ابْن يُونُس فِي شرح التَّنْبِيه عَن المَسْعُودِيّ أَنه لَا يسمع شَهَادَة الْفَرْع إِلَّا عِنْد موت شُهُود الأَصْل
وَهَذَا تَصْحِيف إِنَّمَا هُوَ الشّعبِيّ أما أَصْحَابنَا فَلم يقل مِنْهُم بذلك قَائِل لَا المَسْعُودِيّ وَلَا غَيره
نبه عَلَيْهِ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب(4/174)
331 - مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عَليّ أَبُو عمر النسوي
أقضى الْقُضَاة
ولد سنة ثَمَان وَسبعين وثلاثمائة
وَكَانَ يعرف بِالْقَاضِي الرئيس
وَذكره كل وَاحِد من عبد الله بن مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة وَأبي سعد السَّمْعَانِيّ فِي الذيل ومحمود الْخَوَارِزْمِيّ فِي تَارِيخ خوارزم
قَالَ الْجِرْجَانِيّ هُوَ قَاضِي الْقُضَاة بخوارزم وفراوة ونسا أَخذ الْفِقْه بِبَلَدِهِ عَن القاضى الْحسن الداماني النسوي
ثمَّ رَحل إِلَى الْعرَاق ومصر وَحصل الْعلم
وولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَائِم بِأَمْر الله الْقَضَاء بالنواحي الْمَذْكُورَة ولقبه بأقضى الْقُضَاة
صنف كتبا فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير حسن السِّيرَة فِي الْقَضَاء مرضِي الطَّرِيقَة
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ هُوَ الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي الرئيس كَانَ من أكَابِر أهل عصره فضلا وحشمة وقبولا عِنْد الْمُلُوك
بعث رَسُولا إِلَى دَار الْخلَافَة بِبَغْدَاد من جِهَة الْأَمِير طغرلبك
وَله آثَار وجدت بخراسان وخوارزم وَولي قضاءها مُدَّة وَبنى بهَا مدرسة
سَافر الْكثير وَسمع بنيسابور الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الإسفرايني الْجِرْجَانِيّ وَأَبا معمر الْإِسْمَاعِيلِيّ(4/175)
وبمصر أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل بن نظيف الْفراء
وبدمشق أَبَا الْحسن بن عَليّ بن مُوسَى السمسار
وبمكة أَبَا ذَر الْهَرَوِيّ
وبنسا أَبَا بكر مُحَمَّد بن زُهَيْر بن أخطل النَّسَائِيّ
وأملى الْمجْلس وَتكلم على الْأَحَادِيث
وروى عَنهُ أَبُو عبد الله الفراوي وَعبد الْمُنعم الْقشيرِي وَغَيرهم
وَقَالَ الْخَوَارِزْمِيّ فاق أهل عصره فضلا وإفضالا وَتقدم على أَبنَاء دهره رُتْبَة وجلالة وحشمة ونعمة وقولا وإقبالا لَهُ الْفضل الوافر فِي فنون الْعُلُوم الدِّينِيَّة وأنواعها الشَّرْعِيَّة وَكَانَ لغويا نحويا مُفَسرًا مدرسا فَقِيها مفتيا مناظرا شَاعِرًا مُحدثا
إِلَى أَن قَالَ وَله الدّين المتين الْوَازِع عَن ارْتِكَاب مَا يشين
إِلَى أَن قَالَ وَكَانَ سلاطين السلجوقية يعتمدونه فِيمَا يعن لَهُم من الْمُهِمَّات
وَذكر أَن السُّلْطَان ملك شاه بن أرسلان استحضره بِإِشَارَة نظام الْملك من خوارزم إِلَى أَصْبَهَان وجهزه إِلَى الْخَلِيفَة ليخطب لَهُ ابْنَته فَلَمَّا مثل بَين يَدي الْخَلِيفَة وضعُوا لَهُ كرسيا جلس عَلَيْهِ والخليفة على السرير فَلَمَّا بلغ من إبلاغ الرسَالَة نزل عَن السرير وَقَالَ هَذِه الرسَالَة وَبقيت النَّصِيحَة
قَالَ قل
قَالَ لَا تخلط بَيْتك الطَّاهِر النَّبَوِيّ بالتركمانية
فَقَالَ الْخَلِيفَة سمعنَا رِسَالَتك وَقَبلنَا نصيحتك
فَرجع عَن حَضْرَة الْخَلِيفَة وَقد بلغ الْوَزير نظام الْملك الْخَبَر قبل وُصُوله إِلَيْهِ فَلَمَّا دخل إِلَى أَصْبَهَان قَالَ لَهُ دعوناك من خوارزم لإِصْلَاح أَمر أفسدته(4/176)
فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الدّين النَّصِيحَة وَأَنا لَا أبيع الدّين بالدنيا وَلم تنتقص حشمته بذلك)
وَمن شعره قَوْله
(من رام عِنْد الْإِلَه منزلَة ... فليطع الله حق طَاعَته)
(وَحقّ طاعاته الْقيام بهَا ... مبالغا فِيهِ وسع طاقته)
وَمِنْه
(اتخذ طَاعَة الْإِلَه سَبِيلا ... تَجِد الْفَوْز بالجنان وتنجو)
(وأترك الْإِثْم وَالْفَوَاحِش طرا ... يؤتك الله مَا تروم وترجو)
قَالَ مَحْمُود الْخَوَارِزْمِيّ وَلم يكن لَهُ كل قَضَاء خوارزم إِنَّمَا كَانَ قَاضِيا بالجانب الشَّرْقِي مِنْهَا
قَالَ وَكَانَ أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود الزَّمَخْشَرِيّ يَحْكِي أَنه كَانَ لَا يذكر أحدا إِلَّا بِخَير وَأَنه ذكر لَهُ فَقِيه كثير المساوىء فَقَالَ لَا تَقولُوا ذَلِك فَإِنَّهُ يتعمم حسنا يَعْنِي لم يجد وَصفا جميلا إِلَّا حسن عمته فَذكره بِهِ
وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَلم يذكرهُ ابْن النجار
332 - مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق الماخواني
الْمَذْكُور فِي أَوَائِل الْبَاب الثَّانِي فِي أَرْكَان الطَّلَاق من شرح الرَّافِعِيّ
من قَرْيَة ماخوان بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون من قرى مرو(4/177)
وَهُوَ الإِمَام الْكَبِير أَبُو الْفضل الْمروزِي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل متبحر فِي مَذْهَب الشَّافِعِي
تفقه على أبي طَاهِر الشنجي
وروى الحَدِيث عَن أبي عَليّ السنجي
روى لنا عَنهُ ابناه عَتيق وَعبد الرَّزَّاق وَعبد الرَّحْمَن بن عَليّ الْعمي الْعدْل وَغَيرهم
توفّي سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
333 - مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن مُحَمَّد أَبُو عبد الرَّحْمَن النيلي أحد أَئِمَّة خُرَاسَان
كَانَ فَقِيها صَالحا زاهدا وَله ديوَان شعر
حدث عَن أبي عَمْرو بن حمدَان وَأبي احْمَد الْحَاكِم وَغَيرهمَا
روى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر وَأحمد بن عبد الْملك الْمُؤَذّن وَغَيرهمَا
وأملى الحَدِيث مُدَّة وَعمر ثَمَانِينَ سنة
مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة(4/178)
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو المظفر بن السَّمْعَانِيّ إجَازَة أخبرنَا الْجُنَيْد بن مُحَمَّد القايني أَنبأَنَا أَبُو الْفضل الطبسي أَنبأَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن النيلي فِيمَا أنْشدهُ لنَفسِهِ
(مَا حَال من أسر الْهوى ألبابه ... مَا حَاله من كسر التصابي بَابه)
(نَادَى الْهوى أسماعه فَأَجَابَهُ ... حَتَّى إِذا مَا جَازَ أغلق بَابه)
(أَهْوى لتمزيق الْفُؤَاد فَلم يجد ... فِي صَدره قلبا فشق ثِيَابه)
334 - مُحَمَّد بن عبد الْملك بن خلف أَبُو خلف الطَّبَرِيّ السّلمِيّ
من أَئِمَّة أَصْحَابنَا
تفقه على الشَّيْخَيْنِ الْقفال وَأبي مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ
وَهُوَ الْقَائِل بِأَنَّهُ تجب الْكَفَّارَة بِكُل مَا يَأْثَم بِهِ الصَّائِم من أكل أَو شرب أَو جماع وَنَحْوهَا
وَكَانَ فَقِيها صوفيا وقفت لَهُ على كتاب سلوة العارفين وَأنس المشتاقين فِي التصوف وَهُوَ كتاب جليل فِي بَابه
أعجبت بِهِ جدا صنفه للرئيس أبي عَليّ حسان(4/179)
ابْن سعيد المنيعي ورتبه على اثْنَيْنِ وَسبعين بَابا أَولهَا فِي معنى التصوف وَآخِرهَا على بَيَان طَبَقَات الصُّوفِيَّة وتراجمهم وَمَا أرَاهُ إِلَّا حاكي رِسَالَة أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَلَعَلَّ خمول هَذَا الْكتاب بِهَذَا السَّبَب وَإِلَّا فَهُوَ حسن جدا وَلم أَقف مِنْهُ قطّ إِلَّا على النُّسْخَة الَّتِي قدمهَا هُوَ للمنيعي نَفسهَا وَهِي خطّ مليح مضبوط وَقفهَا الْملك الْأَشْرَف مُوسَى فِي خزانَة كتبه بدار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق
وَقد خَاضَ أَبُو خلف فِي هَذَا الْكتاب مَعَ الصُّوفِيَّة فِي أَحْوَالهم وَأَبَان عَن معرفَة جَيِّدَة بِهَذِهِ الطَّرِيقَة وتكيف بهَا وَذكر أَنه فرغ من تصنيفه فِي ربيع الآخر سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَذكر ابْن باطيش أَن أَبَا خلف توفّي فِي حُدُود سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن الْفَوَائِد عَن أبي خلف
...
335 - مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن عبيد الله بن أَحْمد بن الْمفضل بن شهريار الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو الْحسن الْأَصْبَهَانِيّ الأردستاني
وأردستان بِفَتْح الْألف وَسُكُون الراء وَفتح الدَّال وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح التَّاء المنقوطة من فَوْقهَا بِاثْنَتَيْنِ وَفِي آخرهَا نون(4/180)
وَقيل بل بِكَسْر الْألف وَالدَّال وَهِي بلد على ثَمَانِيَة عشر فرسخا من أَصْبَهَان
هُوَ مُصَنف كتاب الدَّلَائِل السمعية على الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة فِي ثَلَاث مجلدات جود فِيهَا وَنصب الْخلاف مَعَ أبي حنيفَة وَمَالك وروى فِيهِ عَن عبيد الله بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن جميل من مُسْند أَحْمد بن منيع
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَهُوَ أكبر شيخ لَهُ
وروى أَيْضا عَن الْحسن بن أَحْمد بن عَليّ الْبَغْدَادِيّ وَأحمد بن إِبْرَاهِيم العبقسي الْمَكِّيّ وَأبي عبد الله بن مندة وَالْحسن بن عُثْمَان بن بكران وَأبي عمر بن مهْدي الْفَارِسِي وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله بن خرشيد قولة وَأبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الذَّهَبِيّ صَاحب ابْن الْأَعرَابِي وَمُحَمّد بن أَحْمد بن جشنس وَأحمد بن مُحَمَّد بن الصَّلْت الْمُجبر وَأبي أَحْمد الفرضي وَإِسْمَاعِيل بن الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي بكر بن مرْدَوَيْه وَمُحَمّد بن أَحْمد بن الْفضل صَاحب ابْن أبي حَاتِم وَأبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ الْحَافِظ وَأبي ذَر الطَّبَرِيّ وهما من أَصْغَر شُيُوخه وَخلق
روى عَنهُ أَبُو عَليّ الْحداد وَغَيره
وَقد روى هَذَا الْكتاب عَنهُ الْحَافِظ أَبُو مَسْعُود وَسليمَان بن إِبْرَاهِيم الْأَصْبَهَانِيّ سَمَاعا وَسمع الْكتاب الْمَذْكُور على أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَا شَاذَّة بإجازته من سُلَيْمَان
وَذكر الأردستاني أَنه فرغ من تأليف هَذَا الْكتاب سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة فَتكون وَفَاته بعد ذَلِك(4/181)
وَقد ترْجم الْحَافِظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فِي كتاب الْأَنْسَاب جده عبيد الله بن أَحْمد وَلم يترجمه هُوَ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا يُوسُف بن خَلِيل الْحَافِظ
ح وكتبت إِلَيّ زَيْنَب بنت الْكَمَال عَن ابْن خَلِيل أخبرنَا مَسْعُود الْجمال أخبرنَا أَبُو عَليّ الْحداد أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن عبيد الله بن أَحْمد بن الْفضل بن شهريار الإِمَام أخبرنَا ابْن المقرىء فِي صفر سنة ثَمَانِينَ وثلاثمائة حَدثنَا عَبْدَانِ حَدثنَا زَاهِر بن نوح حَدثنَا أَبُو همام عَن هدبة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ (إِذا صلت الْمَرْأَة خمسها وحصنت فرجهَا وأطاعت بَعْلهَا دخلت من أَي أَبْوَاب الْجنَّة)
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
336 - مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عمر بن الميمون الشَّيْخ الإِمَام الْجَلِيل أَبُو الْفرج الدَّارمِيّ
صَاحب الاستذكار وَقد صنف هَذَا الْكتاب فِي صباه وسنحكي كَلَامه فِيهِ
وَله أَيْضا تصنيف حافل فِي أَحْكَام الْمُتَحَيِّرَة
وَكَانَ بَدَأَ فِي كتاب سَمَّاهُ جَامع الْجَوَامِع ومودع الْبَدَائِع حافل جدا ذكر فِيهِ(4/182)
الدَّلَائِل مبسوطة وَجمع فِيهِ منقولات الْمَذْهَب فَأكْثر وقفت على الْجُزْء الأول وَالثَّانِي مِنْهُ بِخَطِّهِ وهما جزآن لطيفان
ووقفت لَهُ أَيْضا على كتاب فِي الدّور الْحكمِي
كَانَ إِمَامًا كَبِيرا ذكي النظرة
تفقه على أبي الْحسن بن الأردبيلي
قَالَ الْخَطِيب كَانَ أحد الفهماء مَوْصُوفا بالذكاء والفطنة يحسن الْفِقْه والحساب وَيتَكَلَّم فِي دقائق الْمسَائِل وَيَقُول الشّعْر
وانتقل من بَغْدَاد إِلَى الرحبة فسكنها مُدَّة ثمَّ تحول إِلَى دمشق فاستوطنها
روى عَن أبي مُحَمَّد بن ماسي وَأبي بكر الْوراق وَمُحَمّد بن المظفر وَأبي بكر بن شَاذان وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو عَليّ الْأَهْوَازِي وَعبد الْعَزِيز الكتاني وَأَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الحنائي والحافظ أَبُو بكر الْخَطِيب وَغَيرهم
وَذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي الطَّبَقَات وَقَالَ كَانَ فَقِيها حاسبا شَاعِرًا مَا رَأَيْت أفْصح مِنْهُ لهجة
قَالَ لي مَرضت فعادني الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرايني فَقلت
(مَرضت فارتحت إِلَى عَائِد ... فعادني الْعَالم فِي وَاحِد)
(ذَاك الإِمَام ابْن أبي طَاهِر ... أَحْمد ذُو الْفضل أَبُو حَامِد)(4/183)
قلت وَمن شعره مَا رَأَيْته بِخَطِّهِ على كِتَابه الدّور الْحكمِي
(فِي الشَّرْع دوران غير وهم ... دور حِسَاب ودور حكمي)
(وَقد شرحت الْحكمِي مِنْهُ ... فاستمعوه اسْتِمَاع فهم)
(فللفتى الدَّارمِيّ فِيهِ ... صِحَة معنى وَحسن وسم)
ولد الدَّارمِيّ فِي يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة
وَمَات بِدِمَشْق يَوْم الْجُمُعَة أول ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن الغرائب عَنهُ
مِمَّا جمعت من كتاب الاستذكار وَهَذَا الْكتاب عِنْدِي مِنْهُ أصل صَحِيح عَلَيْهِ خطة وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح نَفِيس كثير الْفَوَائِد ذُو نَوَادِر وغرائب لَا تصلح مطالعته إِلَّا لعارف بِالْمذهبِ
قلت غرائب فِي السَّنَد عَنهُ توقفا لما رَأَيْته بِخَط مُصَنفه آخِره على النُّسْخَة الَّتِي عِنْدِي فنقلت من خطّ أبي الْفرج الدَّارمِيّ مَا نَصه جمعت هَذَا الْكتاب فِي صباي من كتب أَصْحَابنَا رَحِمهم الله وَكَانَ أَكثر ذَلِك على مَا ذكرُوا وبدأت بِذكر دَلَائِل ثمَّ اختصرت بِتَرْكِهَا لأجمع الْخلاف بدلائله مُفردا وزدت بعض مَا وجدت من الزلل(4/184)
فَلَمَّا كثرت رَأَيْت كَثْرَة الزلل فِيمَا ذكرُوا فَذكرت من ذَلِك مَا سهله الله وَأَرْجُو أَن يعين على جمع جَمِيع مَا أوتره
وَهَذَا الْكتاب وَإِن كَانَ فِيهِ مَا ذكرته فَهُوَ فِي الْغَايَة فِي الِاخْتِصَار يقف على ذَلِك من قَرَأَهُ وَقَرَأَ غَيره وَمن أحب التَّحْقِيق نظر فِيمَا جمعناه بعده من الغوامض والدقائق والمشكلات
وَكتبه مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عمر بن الميمون الدَّارمِيّ الْبَغْدَادِيّ بِدِمَشْق سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَصلى الله على مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وَآله وَسلم تَسْلِيمًا
انْتهى
وَهَذِه فَوَائِد حضرتني من كتاب الاستذكار
أذكرها على غير تَرْتِيب بِحَسب استحضارها
إِذا أسلم ذمِّي كَانَ زنى فَهَل يحد على وَجْهَيْن
قلت القَوْل بِسُقُوط الْحَد هُوَ مَا نَقله ابْن الْمُنْذر عَن النَّص وَهُوَ من فَوَائِد النَّوَوِيّ وَالْقَوْل بِوُجُوبِهِ لم نَكُنْ نعرفه إِلَّا عَن أبي ثَوْر فَمَا للتصريح بحكايته وَجه
فَائِدَة
إِذا قَالَ للدباغ ادبغه وَلم يكن آجره فَمنهمْ من قلب قَول أبي إِسْحَاق وَقَالَ إِذا ابْتَدَأَ الْمَعْمُول لَهُ فَلَا تلْزمهُ أُجْرَة وَإِذا قَالَ لَهُ الصَّانِع ابْتِدَاء لزمَه(4/185)
وَقَالَ الدَّارمِيّ فِي بَاب الْحَدث من كتاب الاستذكار كل مَا يُوجب الْوضُوء عمده وسهوه سَوَاء(4/186)
وَحكى القيصري عَن قوم أَنه لَا ينْقض سَهْوه لأَنا فرقنا فِي الصَّلَاة دليلنا الظَّوَاهِر وَالْأَخْبَار
هَذِه عبارَة الاستذكار واستفدنا من ذَلِك أَن القيصري مُتَقَدم عَلَيْهِ فِي الْوُجُود وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى ذكر القيصري فِي آخر الْكتاب
وَأما الْقَوْم الْمشَار إِلَيْهِم فَالظَّاهِر أَنهم من غير عُلَمَاء الْمَذْهَب
والرافعي حكى فِي مس الذّكر نَاسِيا وَجْهَيْن عَن الحناطي
إِن نوى غسل الْجُمُعَة فَقَط لم يُجزئهُ عَن الْجَنَابَة وَهل يُجزئهُ عَن الْجُمُعَة على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه لَا يُجزئهُ لِأَن عَلَيْهِ فرضا فَلَا يحْسب لَهُ نفل
إِذا تيممت الْحَائِض وَوَطئهَا فَإِذا دخل وَقت صَلَاة أُخْرَى فَهَل يَطَؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ الأول على وَجْهَيْن
إِن تيممت فرأت المَاء فَفِي وَطئهَا وَجْهَان(4/187)
إِن أذن كَافِر أسلم بِشَهَادَتِهِ وَلَا يجزىء أَذَانه لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِه قبل أَوَانه
قَالَ بعض أَصْحَابنَا إِن العاري يلْزمه قبُول هبة الثَّوْب وَلَا يلْزمه قبُول الْعَارِية عكس الْمَشْهُور
إِن قَرَأَ فِي رُكُوعه جَاهِلا بِالنَّهْي لم تفْسد وَإِن كَانَ عَالما مُعْتَقدًا لإبطالها بطلت وَإِن علم واعتقد أَنَّهَا لَا تبطل فَوَجْهَانِ وَكَذَلِكَ فِي السُّجُود
وَإِذا سلم الإِمَام وَبَقِي الْمَأْمُوم يُطِيل التَّشَهُّد كرهناه وَلم تفْسد صلَاته مَا لم يطلّ
337 - مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو طَاهِر البيع الْمَعْرُوف بِابْن الصّباغ
وَهُوَ أَبُو صَاحب الشَّامِل
سمع أَبَا حَفْص بن شاهين وَعلي بن عبد الْعَزِيز بن مردك وَأَبا الْقَاسِم بن حبابة وَغَيرهم
روى عَنهُ أبي النَّرْسِي والحافظ أَبُو بكر الْخَطِيب وَقَالَ كَانَ ثِقَة فَاضلا درس الْفِقْه على أبي حَامِد الإسفرايني وَكَانَت لَهُ حَلقَة للْفَتْوَى(4/188)
قَالَ وَسَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة
وَمَات فِي يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمسند بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا الْمُسلم بن عَلان كِتَابَة أخبرنَا زيد بن الْحسن أخبرنَا أَبُو مَنْصُور أخبرنَا أَبُو بكر الْخَطِيب أَخْبرنِي أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد حَدثنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن مردك الْبَزَّار البردعي حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم حَدثنَا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم الْمصْرِيّ حَدثنَا يحيى بن حسان التنيسِي حَدثنِي يحيى بن حَمْزَة حَدثنِي يحيى بن الْحَارِث الذمارِي عَن أبي أَسمَاء الرَّحبِي عَن ثَوْبَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (صِيَام رَمَضَان بِعشْرَة أشهر وَصِيَام سِتَّة أَيَّام بشهرين فَذَلِك صِيَام سنة) يَعْنِي شهر رَمَضَان وَسِتَّة أَيَّام بعده
قَالَ الْخَطِيب لَا نَحْفَظ حَدِيثا رُوِيَ عَن يحيى عَن يحيى عَن يحيى غير هَذَا(4/189)
338 - مُحَمَّد بن عَليّ بن حَامِد الإِمَام أَبُو بكر الشَّاشِي
تفقه على أبي بكر السنجي ببلاده
ثمَّ ارتحل إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بغزنة فَحصل لَهُ إقبال زَائِد وَكَانَ من أنظر أهل زَمَانه وَأقَام بغزنة وَولد لَهُ بهَا أَوْلَاد وَظَهَرت تصانيفه
ثمَّ استدعاه نظام الْملك فِي آخر أمره إِلَى هراة فشق ذَلِك على أهل غزنة لما رَأَوْا من علمه وَلَكِن لم يَجدوا بدا من امْتِثَال أَمر الْوَزير فجهزوه مكرما بأولاده وَأَهله إِلَى مَدِينَة هراة فدرس بهَا بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بهَا
ثمَّ قصد نيسابور زَائِرًا
قَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي فَأكْرم أهل نيسابور مقدمه غير أَنه لم يَقع مِنْهُم الْموقع الَّذِي كَانُوا يعتقدونه فِيهِ فَإِن اسْمه كَانَ فَوق علمه
ثمَّ عَاد إِلَى هراة
وَحدث عَن مَنْصُور الكاغذي عَن الْهَيْثَم بن كُلَيْب
مولده بالشاش سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة
وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَوَقع فِي كَلَام عبد الغافر أَنه توفّي فِي سنة خمس وَتِسْعين وَلَيْسَ كَذَلِك(4/190)
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن عمر أَبُو الْحسن بن أبي الصَّقْر
الوَاسِطِيّ الأديب من أَهلهَا
تفقه بِبَغْدَاد عَن أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وعلق عَنهُ تعليقات
وَسمع مِنْهُ وَمن أبي بكر الْخَطِيب وَأبي سعد الْمُتَوَلِي
روى عَنهُ أَبُو غَالب الذهلي وَمُحَمّد بن نَاصِر الْحَافِظ وَأَبُو مَنْصُور بن الجواليقي وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه أديب شَاعِر ظريف مولده فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَأَرْبَعمِائَة
وَمن شعره
(من قَالَ لي جاه ولي حشمة ... ولي قبُول عِنْد مَوْلَانَا)
(وَلم يعد ذَاك بنفع على ... صديقه لَا كَانَ من كَانَا)
وَمن شعره أَيْضا
(من عَارض الله فِي مَشِيئَته ... فَمَا من الدّين عِنْده خبر)(4/191)
(لَا يقدر النَّاس باجتهادهم ... إِلَّا على مَا جرى بِهِ الْقدر)
وَمن شعره
(كل مرء إِذا تفكرت فِيهِ ... وتأملته رَأَيْت ظريفا)
(كنت أَمْشِي على اثْنَتَيْنِ قَوِيا ... صرت أَمْشِي على ثَلَاث ضَعِيفا)
توفّي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بواسط
340 - مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن جَعْفَر أَبُو غَالب بن الصّباغ
تفقه على ابْن عَمه الإِمَام أبي نصر بن الصّباغ
وَسمع الحَدِيث من أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قفرجل وَأبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عمر بن أَحْمد الْبَرْمَكِي
وَحدث باليسير
مَاتَ فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة(4/192)
341 - مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر
أَبُو بكر بن الرَّاعِي
342 - مُحَمَّد بن الْفرج بن مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن الْحسن السّلمِيّ الشَّيْخ أَبُو الْغَنَائِم الفارقي
أحد الْأَئِمَّة الرفعاء من تلامذة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
قدم بَغْدَاد مَعَ أَبِيه سنة نَيف وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فتفقه على الشَّيْخ وبرع فِي الْمَذْهَب(4/193)
وَسمع الحَدِيث من عبد الْعَزِيز الْأَزجيّ وَأبي إِسْحَاق الْبَرْمَكِي وَالْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي وَالْقَاضِي أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي وَغَيرهم
وَعَاد إِلَى ديار بكر ثمَّ قدم بعد حِين ودرس ثمَّ عَاد فسكن جَزِيرَة ابْن عمر وَحدث
روى عَنهُ أَبُو الْفَتْح بن البطي
وَكَانَ فَقِيها زاهدا مَوْصُوفا بِالْعلمِ وَالدّين
توفّي يَوْم الْخَمِيس مستهل شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَوَقع فِي تَرْجَمَة تِلْمِيذه ابْن الْمدْرك من تَارِيخ شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَن أَبَا الْغَنَائِم مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَهُوَ وهم
343 - مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حبيب بن عَبدُوس أَبُو بكر يعرف بالصفار
أحد الْفُقَهَاء الصفارين بنيسابور
تفقه على الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ مكثرا من الحَدِيث
ورد بَغْدَاد حَاجا وَعَاد إِلَى بَلَده وأملى وَحدث وَكَتَبُوا عَنهُ(4/194)
سمع أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْحَافِظ وَأَبا مُحَمَّد عبد الله بن يُوسُف بن مامويه الْأَصْبَهَانِيّ وَأَبا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَأَبا طَاهِر الزيَادي وَأَبا بكر الْحِيرِي وَغَيرهم
روى عَنهُ زَاهِر ووجيه ابْنا طَاهِر الشحامي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل الفراوي وَغَيرهم
وَذكره أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن يُوسُف الْجِرْجَانِيّ الْحَافِظ فِي كتاب الْفُقَهَاء وَذكر أَنه تفقه على الشَّيْخ أبي مُحَمَّد وَأَنه كَانَ خَلِيفَته حِين خرج إِلَى الْحَج
قَالَ وَسمعت الإِمَام أَبَا عَاصِم الْعَبَّادِيّ يَقُول للْقَاضِي أبي الْعَلَاء مَا رَأَيْت بنيسابور أحسن فتيا وأصوب مِنْهُ
توفّي منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
344 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الإِمَام أَبُو سعيد الناصحي النَّيْسَابُورِي أحد أَعْلَام الْأَئِمَّة علما وورعا
تفقه على الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ
وَسمع الحَدِيث من أبي طَاهِر الزيَادي وَعبد الله بن يُوسُف بن مامويه
وَكَانَ زاهدا ورعا
توفّي كهلا سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة(4/195)
345 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد القَاضِي أَبُو الْحسن الْبَيْضَاوِيّ
ختن القَاضِي أبي الطّيب
قَالَ الْخَطِيب كتبت عَنهُ وَكَانَ صَدُوقًا
توفّي فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة عَن سِتّ وَسبعين سنة
346 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله الْهَرَوِيّ القَاضِي أَبُو مَنْصُور الْأَزْدِيّ المهلبي
وَهُوَ من ولد الْمُهلب بن أبي صفرَة فَإِنَّهُ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مقَاتل بن صبيح بن ربيع بن يزِيد بن عبد الْملك بن يزِيد بن الْمُهلب بن أبي صفرَة
كَانَ أحد أَئِمَّة الْأَصْحَاب الجامعين بَين الْفِقْه والْحَدِيث وَمن أجل تلامذة الشَّيْخ أبي زيد الْمروزِي(4/196)
وَكَانَت الرحلة إِلَى هراة فقها وحديثا من أَجله
سمع مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم الشَّيْبَانِيّ ودعلج بن أَحْمد وَالْحسن بن عمرَان الْحَنْظَلِي وَأحمد بن عُثْمَان الأدمِيّ
روى عَنهُ ابْن حمدين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي عَاصِم الْجَوْهَرِي وَأَبُو سعد يحيى بن أبي نصر الْعدْل وَأَبُو إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ وَخلق
وأملي الحَدِيث وَطَالَ عمره مَعَ اتساع الرِّوَايَة
وَهُوَ الَّذِي أرسل إِلَيْهِ السُّلْطَان مَحْمُود بغلة الإسماعيلية ليرْكبَهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَة مَحْمُود
وَقد ذكر أَبُو عَاصِم القَاضِي أَبَا مَنْصُور وَقَالَ كَانَ للْمَذْهَب سدادا وعَلى أهل الْبدع حساما وَخرج من مَجْلِسه عدَّة فُقَهَاء وَكَانَ قَاضِيا بهراة وَحج قَرِيبا من ثَلَاثِينَ حجَّة وَالنَّاس لَهُ تبع
توفّي القَاضِي أَبُو مَنْصُور فِي الْمحرم سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة فَجْأَة(4/197)
347 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن اليمني أَبُو حَامِد
صَاحب كتاب المرشد فِي الْفِقْه فِي سفرين وقفت على الأول مِنْهُمَا وَقد ذكر فِي تَارِيخه أَنه فرغ مِنْهُ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
348 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمش
بِفَتْح الْمِيم بعْدهَا حاء مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ مِيم مَكْسُورَة ثمَّ شين مُعْجمَة بن عَليّ ابْن دَاوُد الْفَقِيه الشَّيْخ أَبُو طَاهِر الزيَادي
إِمَام الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء بنيسابور فِي زَمَانه
وَكَانَ شَيخا أديبا عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ
سلمت إِلَيْهِ الْفُقَهَاء الْفتيا بِمَدِينَة نيسابور والمشيخة وَله يَد طولى فِي معرفَة الشُّرُوط وصنف فِيهِ كتابا وَكَانَ مَعَ ذَلِك فَقِيرا وَبَقِي يملى ثَلَاث سِنِين
ولد سنة سبع عشرَة وثلاثمائة(4/198)
وَسمع الحَدِيث سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة وَبعدهَا
وتفقه سنة ثَمَان وَعشْرين
سمع من أبي حَامِد بن بِلَال وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن الْقطَّان وَعبد الله بن يَعْقُوب الْكرْمَانِي وَالْعَبَّاس بن قوهيار وَمُحَمّد بن الْحسن المحمداباذي وَأبي عُثْمَان عَمْرو ابْن عبد الله الْبَصْرِيّ وَأبي عَليّ الميداني وحاجب بن أَحْمد الطوسي وَعلي بن حمشاد وَأبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْأَصَم وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار
وَأدْركَ أَبَا حَامِد الشَّرْقِي وَلم يسمع مِنْهُ
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الْحَاكِم وَذكره فِي تَارِيخه وَقد مَاتَ قبله والحافظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو صَالح الْمُؤَذّن والأستاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَعبد الْجَبَّار بن بَرزَة وَمُحَمّد بن مُحَمَّد الساماني وَعلي بن أَحْمد الواحدي وَأَبُو سعد بن رامش وَأَبُو بكر بن يحيى الْمُزَكي وَالقَاسِم بن الْفضل الثَّقَفِيّ وَحَدِيثه يَعْلُو فِي الثقفيات وَخلق يطول ذكرهم
وَأخذ الْفِقْه عَن أبي الْوَلِيد وَأبي سهل وَعنهُ أَخذ أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ وَغَيره
وَكَانَ وَالِده من الْعباد الصَّالِحين وَإِنَّمَا عرف بالزيادي فِيمَا يظْهر من كَلَام أبي سعد لِأَن زيادا اسْم لبَعض أجداده وَيُؤَيِّدهُ تَصْرِيح أبي عَاصِم الْعَبَّادِيّ بِأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى بشير بن زِيَاد
وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ تبعا لعبد الغافر الْفَارِسِي إِنَّمَا قيل لَهُ الزيَادي لِأَن سكن ميدان زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن بنيسابور(4/199)
قلت وَيُشبه أَن يكون مَا ذكره أَبُو عَاصِم تَصْرِيحًا وَأَبُو سعد تَلْوِيحًا أصح مِمَّا ذكره عبد الغافر
ذكره أَبُو عَاصِم فِي الطَّبَقَة الْخَامِسَة وَكَانَ من حَقه أَن يذكر فِي الرَّابِعَة وَلكنه قَالَ إِنَّمَا أَخَّرته إِلَى الْخَامِسَة لامتداد عمره
أثنى عَلَيْهِ أَبُو عَاصِم وَقَالَ الْفِقْه مطيته يَقُود بزمامه طَرِيقه لَهُ معبدة وخفيه ظَاهر وغامضه سهل وعسيره يسير ورأيته يناظر وَيَضَع الهناء مَوَاضِع النقب
قَالَ وَأخذ الْعلم عَن أبي الْوَلِيد فَلَمَّا توفّي انْتقل إِلَى أبي سهل
انْتهى
وَذكره عبد الغافر فَقَالَ إِمَام أَصْحَاب الحَدِيث بخراسان وفقيههم ومفتيهم بالِاتِّفَاقِ بِلَا مدافعه
توفّي الْأُسْتَاذ أَبُو طَاهِر فِي شعْبَان سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة
وَحكى ابْن الصّلاح فِي كتاب أدب الْفتيا أَنه وجد بِخَط بعض أَصْحَاب القَاضِي الْحُسَيْن أَنه سمع أَبَا عَاصِم الْعَبَّادِيّ يذكر أَنه كَانَ عِنْد الاستاذ أبي طَاهِر الزيَادي حِين احْتضرَ فَسئلَ عَن ضَمَان الدَّرك وَكَانَ فِي النزع فَقَالَ إِن قبض الثّمن فَيصح وَإِلَّا فَلَا يَصح
قَالَ لِأَنَّهُ بعد قبض الثّمن يكون ضَمَان مَا وَجب
قلت وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب وَلم يرد بحكايته أَنه غَرِيب بل حُضُور ذهن هَذَا الْأُسْتَاذ عِنْد النزع لمسائل الْفِقْه وَلذَلِك قَالَ ابْن الصّلاح إِن هَذِه الْحِكَايَة من أعجب مَا يحْكى(4/200)
فَوَائِد ومسائل عَن أبي طَاهِر
قَالَ أَبُو عَاصِم سَأَلته عَن رجل أَقَامَ بَيِّنَة على شخص ميت أَنَّهَا امْرَأَته وَهَذِه الْأَوْلَاد مِنْهَا وأقامت امْرَأَة بَيِّنَة أَنه زَوجهَا وَأَوْلَاده مِنْهَا وكشف عَنهُ فَإِذا هُوَ خُنْثَى فَقَالَ أفتى أَبُو حنيفَة بِأَن المَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ وَبِه أَخذ الشَّافِعِي بعده
قَالَ أَبُو طَاهِر وَعِنْدِي أَن بَيِّنَة الرجل أولى لِأَن الْولادَة أَمر يَقِين والإلحاق بِالْأَبِ مُجْتَهد فِيهِ
قَالَ القَاضِي الْحُسَيْن فِي التعليقة فِي مَسْأَلَة الْكَفَّارَة فِي الصَّوْم على الْمَرْأَة إِذا جومعت وَكَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو طَاهِر يَقُول لَا يتَصَوَّر الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِأَن فطرها سبق الْجِمَاع لِأَنَّهَا أفطرت بوصول الْوَاصِل إِلَى جوفها فَصَارَ كَمَا لَو ابتلعت حَصَاة فَإِن تغييب بعض الْحَشَفَة يبطل صَومهَا وَلَا يحصل الْجِمَاع إِلَّا بتغييب جَمِيع الْحَشَفَة وَلَو أَدخل الإصبع فِي الْفرج بَطل صَومهَا إِلَّا أَنهم يصورونه بِمَا لَو جومعت مُكْرَهَة فطاوعت فِي أَثْنَائِهِ أَو ناسية فَذكرت فِي خلاله فأصرت على ذَلِك ففطرها يَوْمئِذٍ حصل بِالْجِمَاعِ لَا محَالة
انْتهى(4/201)
349 - مُحَمَّد بن المظفر بن بكران بن عبد الصَّمد بن سُلَيْمَان الْحَمَوِيّ القَاضِي أَبُو بكر الشَّامي
الزَّاهِد الْوَرع أحد الْأَئِمَّة
ولد بحماة سنة أَرْبَعمِائَة
ورحل إِلَى بَغْدَاد فسكنها وتفقه على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ
وَسمع الحَدِيث من عُثْمَان بن دوست وَأبي الْقَاسِم بن بَشرَان وَأبي طَالب بن غيلَان وَأبي الْحسن العتيقي وَآخَرين
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَإِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَافِظ وَهبة الله بن طَاوس المقرىء وَغَيرهم
ووقفت على نُسْخَة قديمَة من كتاب الضُّعَفَاء لأبي جَعْفَر الْعقيلِيّ وفيهَا سَمَاعه للْكتاب كُله على أبي الْحسن العتيقي وَقد حدث بِهِ سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بِبَغْدَاد
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ هُوَ أحد المتقنين لمَذْهَب الشَّافِعِي وَله اطلَاع على أسرار الْفِقْه(4/202)
وَكَانَ ورعا
زاهدا متقنا جرت أَحْكَامه على السداد
ولي قَضَاء الْقُضَاة بِبَغْدَاد بعد موت أبي عبد الله الدَّامغَانِي سنة ثَمَان وَسبعين إِلَى أَن تغير عَلَيْهِ المقتدى بِاللَّه لأمر فَمنع الشُّهُود من حُضُور مَجْلِسه مُدَّة فَكَانَ يَقُول مَا أنعزل حَتَّى يتَحَقَّق على الْفسق
قلت لَعَلَّه كَانَ يرى ذَلِك وَالْمذهب أَنه يَنْعَزِل وَإِن لم يفسق
ثمَّ إِن الْخَلِيفَة خلع عَلَيْهِ واستقام أمره
وَقَالَ أَبُو عَليّ بن سكرة ورع زاهد وَأما الْعلم فَكَانَ يُقَال لَو رفع مَذْهَب الشَّافِعِي أمكنه أَن يمليه من صَدره
وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك الهمذاني كَانَ حَافِظًا لتعليقة القَاضِي أبي الطّيب كَأَنَّهَا بَين عَيْنَيْهِ
قلت وَكَانَ من قُضَاة الْعدْل واتفقت مِنْهُ محَاسِن أَيَّام قَضَائِهِ
وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ على الْخَلِيفَة بولايته عِنْد موت الدَّامغَانِي الْوَزير أَبُو شُجَاع فَامْتنعَ الشَّامي من الْقبُول فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى تقلده وَشرط أَن لَا يَأْخُذ رزقا وَلَا يقبل شَفَاعَة وَلَا يُغير ملبوسه فَأُجِيب إِلَى ذَلِك
قَالَ عبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي لم يكن الشَّامي يتبسم فِي مَجْلِسه قطّ
قَالَ وَلما منعت الشُّهُود من حُضُور مَجْلِسه وَقعد فِي بَيته نقل إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو يُوسُف الْقزْوِينِي المعتزلي مَا عزلك الْخَلِيفَة إِنَّمَا عزلك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/203)
قَالَ وَكَيف ذَلِك
قَالَ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يقْضِي القَاضِي بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان وَأَنت طول عمرك غَضْبَان
وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك الهمذاني كَانَ لَا يقبل من سُلْطَان عَطِيَّة وَلَا من صديق هَدِيَّة وَكَانَ يعاب بالحدة وَسُوء الْخلق
وَقَالَ ابْن النجار مَا استناب أحدا فِي الْقَضَاء وَكَانَ يُسَوِّي بَين الوضيع والشريف فِي الحكم وَيُقِيم جاه الشَّرْع فَكَانَ هَذَا سَبَب انقلاب الأكابر عَنهُ فألصقوا بِهِ مَا كَانَ مِنْهُ بَرِيئًا من أَحَادِيث ملفقة ومعايب مزورة
وَقَالَ الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الله بن الآبنوسي جَاءَ أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى قَاضِي الْقُضَاة الشَّامي فَادّعى شَيْئا وَقَالَ بينتي فلَان والمشطب الفرغاني الْفَقِيه
فَقَالَ لَا أقبل شَهَادَة المشطب لِأَنَّهُ يلبس الْحَرِير(4/204)
فَقَالَ السُّلْطَان ملكشاه ووزيره نظام الْملك يلبسانه
فَقَالَ لَو شَهدا عِنْدِي مَا قبلت شَهَادَتهمَا أَيْضا
قَالَ ابْن الآبنوسي كَانَ لَهُ كيسَان أَحدهمَا يَجْعَل فِيهِ عمَامَته وقميصه والعمامة كتَّان والقميص قطن خشن فَإِذا خرج لبسهما والكيس الآخر فِيهِ فتيت فَإِذا أَرَادَ الْأكل جعل مِنْهُ فِي قَصْعَة وَقَلِيل من المَاء وَأكل مِنْهُ
وَكَانَ لَهُ كِرَاء بَيت فِي الشَّهْر بِدِينَار وَنصف كَانَ مِنْهُ قوته فَلَمَّا ولي الْقَضَاء جَاءَ إِنْسَان فَدفع فِيهِ أَرْبَعَة دَنَانِير فَأبى وَقَالَ لَا أغير سَاكِني وَقد ارتبت بك لم لَا كَانَت هَذِه الزِّيَادَة قبل الْقَضَاء وَكَانَ يشد فِي وَسطه مئزرا ويخلع فِي بَيته ثِيَابه ثمَّ يجلس
وَكَانَ يَقُول مَا دخلت فِي الْقَضَاء حَتَّى وَجب عَليّ
توفّي فِي عَاشر شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَدفن عِنْد أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج(4/205)
350 - مُحَمَّد بن مَنْصُور بن عمر بن عَليّ الْكَرْخِي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْفَقِيه أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ
وَهُوَ ولد الإِمَام أبي الْقَاسِم مَنْصُور بن عمر الْكَرْخِي أحد أَصْحَاب الشَّيْخ أبي حَامِد
ووالد أبي الْبَدْر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْكَرْخِي أحد رُوَاة الحَدِيث
قَالَ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ كَانَ يسكن قطيعة الرّبيع من الكرخ وَكَانَ صَالحا متدينا يرجع إِلَى فضل وَعلم
سمع أَبَا عَليّ بن شَاذان وَأَبا الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْبَزَّاز وَغَيرهمَا
روى لنا عَنهُ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر وَعبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك بن أَحْمد الحافظان
قَالَ وَذكر ابْن نَاصِر الْحَافِظ أَنه مَاتَ لَيْلَة الْجُمُعَة وَحمل من الْغَد إِلَى جَامع الْمَدِينَة فَصلي عَلَيْهِ فِيهِ ثَانِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَدفن فِي مَقْبرَة بَاب حَرْب(4/206)
351 - مُحَمَّد بن هبة الله بن ثَابت أَبُو نصر الْبَنْدَنِيجِيّ
نزيل مَكَّة وَيعرف بفقيه الْحرم
كَانَ من كبار أَصْحَاب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
وَقد سمع الحَدِيث
وَحدث عَنهُ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَافِظ وَغَيره
وَكَانَ يقْرَأ فِي كل أُسْبُوع سِتَّة آلَاف مرّة {قل هُوَ الله أحد} ويعتمر فِي رَمَضَان ثَلَاثِينَ عمْرَة وَهُوَ ضَرِير يُؤْخَذ بِيَدِهِ
توفّي سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد نَيف على الثَّمَانِينَ
قَالَ أَبُو نصر الْبَنْدَنِيجِيّ فِي الْمُعْتَمد لَيْسَ للشَّافِعِيّ نَص فِي غير الْغنم فِي الْعَقِيقَة وَعِنْدِي لَا يجزىء غَيرهَا
352 - مُحَمَّد بن هبة الله بن الْحسن بن مَنْصُور اللالكائي
أَبُو بكر بن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم الطَّبَرِيّ الْبَغْدَادِيّ قَالَ ابْن الصّلاح كثير السماع وَاسع الرِّوَايَة صَدُوق مَأْمُون(4/207)
سمع هلالا الحفار وَأَبا الْحُسَيْن بن بَشرَان وَأَبا الْحُسَيْن بن الْفضل الْقطَّان وَغَيرهم
سمع مِنْهُ أَبُو الْقَاسِم الرميلي الْحَافِظ وَغَيره من الْحفاظ
قلت وَإِسْمَاعِيل بن السَّمرقَنْدِي وَعبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي وَطَائِفَة
قَالَ ابْن الصّلاح وَسُئِلَ عَن مولده فَقَالَ فِي ذِي الْحجَّة سنة تسع وَأَرْبَعمِائَة بِبَغْدَاد بدرب الْمروزِي
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ فَيكون سَمَاعه من الحفار حضورا
قلت لِأَن الحفار مَاتَ سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَقد بَادر من ذكر هَذَا الرجل فِي عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ
قلت قد أوردهُ ابْن الصّلاح فِي الشَّافِعِيَّة
مَاتَ بِبَغْدَاد فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
353 - مُحَمَّد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الإِمَام الْكَبِير أَبُو سهل
ولد جمال الْإِسْلَام أبي مُحَمَّد بن القَاضِي أبي عمر البسطامي ثمَّ النَّيْسَابُورِي وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ أَبُو سهل بن الْمُوفق والموفق لقب وَالِده جمال الْإِسْلَام
ولد سنة ثَلَاث وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ فِيهِ عبد الغافر سلالة الْإِمَامَة وقرة عين أَصْحَاب الحَدِيث انْتَهَت إِلَيْهِ زعامة الشَّافِعِيَّة بعد أَبِيه فأجراها أحسن مجْرى وَوَقعت فِي أَيَّامه محن ووقائع للأصحاب
وَكَانَ يُقيم رسم التدريس(4/208)
وَسمع من مَشَايِخ وقته بخراسان وَالْعراق مثل النصروي وَأبي حسان الْمُزَكي وَأبي حَفْص بن مسرور وَكَانَ بَيتهمْ مجمع الْعلمَاء وملتقى الْأَئِمَّة
توفّي أَبوهُ سنة أَرْبَعِينَ فاحتف بِهِ الْأَصْحَاب وراعوا فِيهِ حق وَالِده وقدموه للرياسة وَقَامَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي تهيئة أَسبَابه واستدعى الْكل إِلَى مُتَابَعَته وَطلب من السُّلْطَان ذَلِك فَأُجِيب وَأرْسل إِلَيْهِ الْخلْع ولقب بلقب أَبِيه جمال الْإِسْلَام وَصَارَ ذَا رَأْي وشجاعة ودهاء وَظهر لَهُ الْقبُول عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى حسده الأكابر وخاصموه فَكَانَ يخصمهم ويتسلط عَلَيْهِم فَبَدَا لَهُ خصوم واستظهروا بالسلطان عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وَصَارَت الأشعرية مقصودين بالإهانة وَالْمَنْع عَن الْوَعْظ والتدريس وعزلوا من خطابة الْجَامِع ونبغ من الْحَنَفِيَّة طَائِفَة أشربوا فِي قُلُوبهم الاعتزال والتشيع فخيلوا إِلَى ولي الْأَمر الإزراء بِمذهب الشَّافِعِي عُمُوما وبالأشعرية خُصُوصا
وَهَذِه هِيَ الْفِتْنَة الَّتِي طَار شررها وَطَالَ ضررها وَعظم خطبهَا وَقَامَ فِي سبّ أهل السّنة خطيبها فَإِن هَذَا الْأَمر أدّى إِلَى التَّصْرِيح بلعن أهل السّنة فِي الْجمع وتوظيف سبهم على المنابر وَصَارَ لأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ بهَا أُسْوَة بعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ واستعلى أُولَئِكَ فِي المجامع فَقَامَ أَبُو سهل فِي نصر السّنة قيَاما مؤزرا(4/209)
وَتردد إِلَى الْعَسْكَر فِي ذَلِك وَلم يفد وَجَاء الْأَمر من قبل السُّلْطَان طغرلبك بِالْقَبْضِ على الرئيس الفراتي والأستاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي سهل بن الْمُوفق ونفيهم ومنعهم عَن المحافل وَكَانَ أَبُو سهل غَائِبا فِي بعض النواحي فَلَمَّا قرىء الْكتاب بنفيهم أغري بهم الغاغة والأوباش وَأخذُوا بالأستاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما وحبسا بالقهندز
وَأما إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ أحس بِالْأَمر فاختفى وَخرج على طَرِيق كرمان إِلَى الْحجاز
وبقيا فِي السجْن معترقين أَكثر من شهر فتهيأ أَبُو سهل من نَاحيَة باخرز وَجمع من أعوانه رجَالًا عارفين بِالْحَرْبِ وأتى بَاب الْبَلَد وَطلب إِخْرَاج الفراتي والقشيري فَمَا أُجِيب بل هدد بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَمَا الْتفت وعزم على دُخُول الْبَلَد لَيْلًا والاشتغال بإخراجهما مجاهرة وَكَانَ مُتَوَلِّي الْبَلَد قد تهَيَّأ للحرب فزحف أَبُو سهل لَيْلًا إِلَى قَرْيَة لَهُ على بَاب الْبَلَد وَدخل الْبَلَد مغافصة إِلَى دَاره وَصَاح من مَعَه بالنعرات الْعَالِيَة وَرفعُوا عقائرهم(4/210)
354 - مُحَمَّد بن يحيى بن سراقَة أَبُو الْحسن العامري الْبَصْرِيّ
الْفَقِيه الفرضي الْمُحدث
صَاحب التصانيف فِي الْفِقْه والفرائض والشهادات وَأَسْمَاء الضُّعَفَاء والمتروكين
أَقَامَ بآمد مُدَّة وَدخل فِي الحَدِيث
وَذكر لَهُ أَبُو الْفَتْح الْموصِلِي بالموصل فانحدر إِلَيْهِ وَسمع مِنْهُ تصانيفه وَأخذ عَن أبي الْفَتْح كِتَابه فِي الضُّعَفَاء ثمَّ نسخه وراجع فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ
وروى عَن ابْن داسة والهجيمي وَابْن عباد
وَدخل فَارس وأصبهان والدينور والأهواز
وَكَانَ حَيا سنة أَرْبَعمِائَة وَأرَاهُ توفّي فِي حُدُود سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة(4/211)
وَمن الغرائب والفوائد عَنهُ
قَالَ فِي كتاب لَهُ سَمَّاهُ الْأَعْدَاد وقف عَلَيْهِ ابْن الصّلاح وَكتب مِنْهُ فَوَائِد وغرائب
مِنْهَا قَوْله الْخطب الْمُعْتَادَة عشر وسماها ثمَّ قَالَ وَكلهَا سنة إِلَّا الْجُمُعَة وخطبة عَرَفَة فهما فرضان يفْعَلَانِ قبل الصَّلَاة وَبعد الزَّوَال
قَالَ ابْن الصّلاح وَذكر هَذَا فِي مَوضِع آخر
قلت ووقفت من تصانيفه على كتاب أدب الشَّاهِد وَمَا يثبت من الْحق على الجاحد وَقد ذكر فِي خطبَته أَنه صنف قبله كتابا فِي أدب الْقُضَاة ذكر فِيهِ أَن الْوَقْف وَالْعِتْق وَالْوَلَاء لَا يجوز الشَّهَادَة عَلَيْهَا بالاستفاضة وَأَن أَبَا سعيد الْإِصْطَخْرِي جوز ذَلِك إِلَّا أَن تكون الشَّهَادَة فِي حُقُوقه وَسِيلَة وَالْولَايَة عَلَيْهِ فَلَا يجوز إِلَّا بالمعاينة وَأَن أَبَا عَليّ بن أبي هُرَيْرَة قَالَ تقبل بالاستفاضة أَنَّهَا مولاة فلَان لَا أَن فلَانا أعْتقهَا وَأَنه وقف فلَان لَا أَن فلَانا أوقفهُ
قَالَ كَمَا يقبل أَنَّهَا زَوْجَة فلَان لَا أَن فلَانا زَوجهَا لِأَنَّهَا شَهَادَة على عقد فَلَا تقبل إِلَّا بالمعاينة
قلت الَّذِي صَححهُ النَّوَوِيّ وَعَلِيهِ الْعَمَل قَول الْإِصْطَخْرِي وَتوقف الْوَالِد رَحمَه الله عَن أَن يرجح فِي الْمَسْأَلَة شَيْئا ذكر ذَلِك فِي كتاب الحلبيات(4/212)
قَالَ وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يتحرر مِنْهُ إِلَّا إِذا دعت الْحَاجة من إحْيَاء وقف مختف أَو انْتِزَاعه من يَد ظَالِم وَنَحْوه وَيضم إِلَيْهِ طَرِيق آخر من يَد وَنَحْوهَا
قلت وَاعْلَم أَن فِيمَا حكيته من كَلَام ابْن سراقَة عَنهُ فَوَائِد إِحْدَاهَا أَنه تضمن أَن شَرَائِط الْوَقْف لَا تثبت بالاستفاضة جزما وَهُوَ مَا أفتى بِهِ النَّوَوِيّ وَفِي كثير من الأذهان أَنه غير مَنْقُول وَهَا هُوَ مَنْقُول فِي كَلَام هَذَا الرجل الْمُتَقَدّم
وَالثَّانيَِة مَا حَكَاهُ عَن ابْن أبي هُرَيْرَة من التَّفْصِيل والمحكي عَنهُ فِي الرَّافِعِيّ وَغَيره إِنَّمَا هُوَ قَول الْإِصْطَخْرِي وَهَذَا وَجه ثَالِث مفصل حسن واستشهاده عَلَيْهِ بِالزَّوْجَةِ أَيْضا حسن فالمعروف أَن الْخلاف فِي الزَّوْجَة كالخلاف فِي الثَّلَاثَة وَفِي الرَّافِعِيّ عَن الْقفال مَا يُؤَيّد هَذَا التَّفْصِيل غير أَن فِيهِ نظرا فَلَا فرق بَين أَن يَقُول أشهد أَن فلَانا وَقفه أَو أَنه وقف فلَان وَلَا يتخيل أَنه فِيمَا إِذا قَالَ إِنَّه وَقفه شهد على العقد نَفسه فَإِن الشَّاهِد بِأَنَّهُ وقف فلَان مثله وكما شهد بِأَنَّهُ وَقفه بِالتَّسَامُعِ شهد أَنه وَقفه لَا فرق
وَالثَّالِثَة أَن التَّصْرِيح باسم الْوَاقِف لَا بُد مِنْهُ وَهُوَ مَا فِي فتاوي الْقفال وَالْبَغوِيّ أَيْضا وَذكره الْوَالِد فِي الحلبيات وَقَالَ إِنَّه قَول الْقَائِلين بِثُبُوت الْوَقْف بالاستفاضة وَالْأَمر كَذَلِك غير أَن عِنْدِي نظرا فِي هَذَا الشَّرْط وَإِن قُلْنَا بِثُبُوتِهِ بالاستفاضة فَلم لَا يثبت كَون هَذِه الأَرْض وَقفا وَإِن لم يعرف واقفها
وَمن فتاوي ابْن الصّلاح أَن الظَّاهِر ثُبُوت الشَّرْط ضمنا تبعا للشَّهَادَة بِأَصْل الْوَقْف لَا اسْتِقْلَالا
قَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين بن الفركاح فِي تَعْلِيقه وَهُوَ أولى مِمَّا قَالَه النَّوَوِيّ
وَفِي الْحَاوِي للماوردي وَالْبَحْر للروياني عبارَة مشكلة فَنَذْكُر مَا فِي لفظ الْحَاوِي(4/213)
قَالَ وَأما الْوَقْف فِي تظاهر الْخَبَر بِهِ إِذا سمع على مُرُور الْأَوْقَات فَلَا يثبت وَقفه بِسَمَاع الْخَبَر الظَّاهِر لِأَنَّهُ عَن لفظ يفْتَقر إِلَى سَمَاعه من عاقده فَلم يجز أَن يعْمل على تظاهر الْخَبَر بِهِ فَأَما ثُبُوته وَقفا مُطلقًا وَالشَّهَادَة أَن هَذَا وقف آل فلَان أوقف على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي ثُبُوته
انْتهى
قَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين وَالظَّاهِر أَنه قصد أَنه لَا يشْهد بالاستفاضة أَن فلَانا قَالَ وقفت هَذَا بِخِلَاف هَذَا وقف
355 - مُحَمَّد بن يُوسُف بن الْفضل الشالنجي
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَاللَّام بَينهمَا ألف وَالنُّون الساكنة وَفِي آخرهَا الْجِيم وَهَذِه النِّسْبَة إِلَى بيع مَا يعْمل من الشّعْر كالمخلاة والمقود وَنَحْوهمَا
أَبُو بكر الْجِرْجَانِيّ القَاضِي
كَانَ من مشاهير أَئِمَّة جرجان عَلَيْهِ بهَا مدَار التدريس والفتيا والإملاء والوعظ
سمع الْكثير من ابْن عدي وَأحمد بن الْحسن بن مَاجَه الْقزْوِينِي ونعيم بن عبد الْملك الْجِرْجَانِيّ وَمُحَمّد بن حمدَان وَغَيرهم
روى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن مسْعدَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره
توفّي بجرجان فِي ثامن ذِي الْحجَّة سنة ثَمَانِي عشرَة وَأَرْبَعمِائَة عَن إِحْدَى وَتِسْعين سنة
356 - مُحَمَّد بن أبي سهل الطوسي
مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة(4/214)
357 - إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الفيروزاباذي بِكَسْر الْفَاء أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
صَاحب التَّنْبِيه والمهذب فِي الْفِقْه والنكت فِي الْخلاف واللمع وَشَرحه والتبصرة فِي أصُول الْفِقْه والملخص والمعونة فِي الجدل وطبقات الْفُقَهَاء ونصح أهل الْعلم وَغير ذَلِك
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ كمسير الشَّمْس ودارت الدُّنْيَا فَمَا جحد فَضلهَا إِلَّا الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بِلَا نحله وحلاوة تصانيف فَكَأَنَّمَا عناها البحتري بقوله
(وَإِذا دجت أقلامه ثمَّ انتحت ... برقتْ مصابيح الدجى فِي كتبه)
(بِاللَّفْظِ يقرب فهمه فِي بعده ... منا وَيبعد نيله فِي قربه)
(حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها فِي قلبه)
(فالروض مُخْتَلف بحمرة نوره ... وَبَيَاض زهرته وخضرة عشبه)
(وَكَأَنَّهَا والسمع مَعْقُود بهَا ... شخص الحبيب بدا لعين محبه)(4/215)
وَقد كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفصاحة والمناظرة وَأقرب شَاهد على ذَلِك قَول سلار الْعقيلِيّ أوحد شعراء عصره
(كفاني إِذا عَن الْحَوَادِث صارم ... ينيلني المأمول بالإثر والأثر)
(يقد ويفرى فِي اللِّقَاء كَأَنَّهُ ... لِسَان أبي إِسْحَاق فِي مجْلِس النّظر)
وَكَانَت الطّلبَة ترحل من الْمشرق وَالْمغْرب إِلَيْهِ والفتاوي تحمل من الْبر وَالْبَحْر إِلَى بَين يَدَيْهِ وَالْفِقْه تتلاطم أمواج بحاره وَلَا يسْتَقرّ إِلَّا لَدَيْهِ ويتعاظم لابس شعاره إِلَّا عَلَيْهِ حَتَّى ذكرُوا أَنه كَانَ يجْرِي مجْرى ابْن سُرَيج فِي تأصيل الْفِقْه وتفريعه ويحاكيه فِي انتشار الطّلبَة فِي الرّبع العامر جَمِيعه
قَالَ حيدر بن مَحْمُود بن حيدر الشِّيرَازِيّ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يَقُول خرجت إِلَى خُرَاسَان فَمَا دخلت بَلْدَة وَلَا قَرْيَة إِلَّا وَكَانَ قاضيها أَو مفتيها أَو خطيبها تلميذي أَو من أَصْحَابِي
وَأما الجدل فَكَانَ ملكه الْآخِذ بزمامه وإمامه إِذا أَتَى كل وَاحِد بإمامه وَبدر سمائه الَّذِي لَا يغتاله النُّقْصَان عِنْد تَمَامه وَأما الْوَرع المتين وسلوك سَبِيل الْمُتَّقِينَ وَالْمَشْي على سنَن السَّادة السالفين فَذَلِك أشهر من أَن يذكرهُ الذاكر وَأكْثر من أَن يحاط لَهُ بِأول وَآخر لن يُنكر تقلب وَجهه فِي الساجدين وَلَا قِيَامه فِي جَوف الدجى وَكَيف والنجوم من جملَة الشَّاهِدين
(يهوى الدياجي إِذا الْمَغْرُور أغفلها ... كَأَن شهب الدياجي أعين نجل)
وَكَانَ يُقَال إِنَّه مستجاب الدعْوَة(4/216)
وَقَالَ أَبُو بكر بن الخاضبة سَمِعت بعض أَصْحَاب أبي إِسْحَاق بِبَغْدَاد يَقُول كَانَ الشَّيْخ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْد فرَاغ كل فصل من الْمُهَذّب
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِنَّه سمع بَعضهم يَقُول دخل أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا مَسْجِدا ليتغدى فنسى دِينَارا ثمَّ ذكر فَرجع فَوَجَدَهُ ففكر ثمَّ قَالَ لَعَلَّه وَقع من غَيْرِي
فَتَركه
هَذَا هُوَ الزّهْد هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا وَهَذَا هُوَ الْوَرع وَليكن الْمَرْء هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا يؤمل من الْجنَّة آمالا وَهَذَا هُوَ خُلَاصَة النَّاس وَهَذَا هُوَ الْحلِيّ وَمَا يظنّ أَنه نَظِيره فَذَاك هُوَ الوسواس فَإِن كَانَ صَالح ترتجى بركاته فَهَذَا وَإِن كَانَ سيد يؤمل فِي الشدائد فحسبك هُوَ ملاذا وَإِن كَانَ تَقِيّ فَهَذَا الْعَمَل الأتقى وَإِن كَانَت مُوالَاة فلمثل هَذِه الشيم الَّتِي لَا يتجنبها إِلَّا الأشقى
ولد الشَّيْخ بفيروزاباذ وَهِي بليدَة بِفَارِس سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَنَشَأ بهَا
ثمَّ دخل شيراز وَقَرَأَ الْفِقْه على أبي عبد الله الْبَيْضَاوِيّ وعَلى ابْن رامين صَاحِبي أبي الْقَاسِم الداركي تلميذ أبي إِسْحَاق الْمروزِي صَاحب ابْن سُرَيج
ثمَّ دخل الْبَصْرَة وَقَرَأَ الْفِقْه بهَا على الخرزي
ثمَّ دخل بَغْدَاد فِي سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَقَرَأَ على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ ولازمه واشتهر بِهِ وَصَارَ أعظم أَصْحَابه ومعيد درسه
وَقَرَأَ الْأُصُول على أبي حَاتِم الْقزْوِينِي(4/217)
وَقَرَأَ الْفِقْه أَيْضا على الزجاجي وَطَائِفَة آخَرين
وَمَا برح يدأب ويجهد حَتَّى صَار أنظر أهل زَمَانه وَفَارِس ميدانه والمقدم على أقرانه وامتدت إِلَيْهِ الْأَعْين وانتشر صيته فِي الْبلدَانِ ورحل إِلَيْهِ فِي كل مَكَان
وَلَقَد كَانَ اشْتِغَاله أول طلبه أمرا عجابا وَعَملا دَائِما يَقُول من شَاهده عجبا لهَذَا الْقلب والكبد كَيفَ مَا ذابا
يُقَال إِنَّه اشْتهى ثريدا بِمَاء الباقلاء قَالَ فَمَا صَحَّ لي أكله لاشتغالي بالدرس وأخذى النّوبَة
وَقَالَ لي كنت أُعِيد كل قِيَاس ألف مرّة فَإِذا فرغت مِنْهُ أخذت قِيَاسا آخر وَهَكَذَا وَكنت أُعِيد كل درس ألف مرّة فَإِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة بَيت يستشهد بِهِ حفظت القصيدة
وَسمع الشَّيْخ الحَدِيث بِبَغْدَاد من أبي بكر البرقاني وَأبي عَليّ بن شَاذان وَأبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ الْخَطِيب وَأَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَبى نصر الْحميدِي وَأَبُو بكر بن الخاضبة وَأَبُو الْحسن بن عبد السَّلَام وَأَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَأَبُو الْبَدْر بن الْكَرْخِي وَغَيرهم
وَكَانَ الشَّيْخ أَولا يدرس فِي مَسْجِد بِبَاب الْمَرَاتِب إِلَى أَن بنى لَهُ الْوَزير نظام الْمَالِك الْمدرسَة على شاطىء دجلة فانتقل إِلَيْهَا ودرس بهَا بعد تمنع شَدِيد فِي يَوْم السبت مستهل ذِي الْحجَّة سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة(4/218)
قَالَ القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ صَاحب المعاياة وَغَيرهَا كَانَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ لَا يملك شَيْئا من الدُّنْيَا فَبلغ بِهِ الْفقر حَتَّى كَانَ لَا يجد قوتا وَلَا ملبسا
قَالَ وَلَقَد كُنَّا نأتيه وَهُوَ سَاكن فِي القطيعة فَيقوم لنا نصف قومة لَيْسَ يعتدل قَائِما من العرى كي لَا يظْهر مِنْهُ شَيْء
وَقيل كَانَ إِذا بَقِي مُدَّة لَا يَأْكُل شَيْئا جَاءَ إِلَى صديق لَهُ باقلاني فَكَانَ يثرد لَهُ رغيفا ويثريه بِمَاء الباقلاء فَرُبمَا أَتَاهُ وَكَانَ قد فرغ من بيع الباقلاء فيقف أَبُو إِسْحَاق وَيَقُول {تِلْكَ إِذا كرة خاسرة}
وَيرجع
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ البروجردي أخرج أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا قرصين من بَيته فَقَالَ لبَعض أَصْحَابه وَكلتك فِي أَن تشتري لي الدبس والراشي بِهَذِهِ القرصة على وَجه هَذِه القرصة الْأُخْرَى
فَمضى الرجل وَشك بِأَيّ القرصين اشْترى فَمَا أكل الشَّيْخ ذَلِك وَقَالَ لَا أَدْرِي اشْترى الَّذِي وكلته أم بِالْأُخْرَى
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ حملت يَوْمًا فتيا إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فرأيته وَهُوَ يمشي فَسلمت عَلَيْهِ فَمضى إِلَى دكان خباز وَأخذ قلمه ودواته مِنْهُ وَكتب الْجَواب فِي الْحَال وَمسح الْقَلَم فِي ثَوْبه وَأَعْطَانِي الْفَتْوَى
وَقد دخل الشَّيْخ خُرَاسَان وَعبر نيسابور وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتدى بِاللَّه تشوش من العميد أبي الْفَتْح بن أبي اللَّيْث فَدَعَا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وشافهه بالشكوى مِنْهُ وَأَن أهل الْبَلَد حصل لَهُم الْأَذَى بِهِ وَأمره بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَسْكَر وَشرح الْحَال بَين يَدي السُّلْطَان وَبَين يدى الْوَزير نظام الْملك فَتوجه الشَّيْخ وَمَعَهُ جمال الدولة عفيف وَهُوَ خَادِم من خدام الْخَلِيفَة(4/219)
قَالَ أَبُو الْحسن الهمذاني وَكَانَ عِنْد وُصُوله إِلَى بِلَاد الْعَجم يخرج أَهلهَا بنسائهم وَأَوْلَادهمْ فيمسحون أَرْكَانه وَيَأْخُذُونَ تُرَاب نَعْلَيْه يستشفون بِهِ وَكَانَ يخرج من كل بلد أَصْحَاب الصَّنَائِع بصنائعهم وينثرونها مَا بَين حلوى وَفَاكِهَة وَثيَاب وفرا وَغير ذَلِك وَهُوَ ينهاهم حَتَّى انْتَهوا إِلَى الأساكفة فَجعلُوا ينثرون المتاعات وَهِي تقع على رُؤُوس النَّاس وَالشَّيْخ يتعجب
وَلما انْتَهوا جعل الشَّيْخ يداعب أَصْحَابه وَيَقُول رَأَيْتُمْ النثار مَا أحْسنه وأيش وصل إِلَيْكُم يَا أَوْلَادِي مِنْهُ قلت وَكَانَ مِمَّن صَحبه فِي هَذِه السفرة من أَصْحَابه فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي وَالْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ صَاحب الْعدة وَابْن بَيَان والميانجي وَأَبُو معَاذ والبندليني وَأَبُو ثَعْلَب الوَاسِطِيّ وَعبد الْملك الشابرخواستي وَأَبُو الْحسن الْآمِدِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الزنجاني وَأَبُو عَليّ الفارقي وَأَبُو الْعَبَّاس بن الرطبي وَغَيرهم
قلت وَخرج إِلَيْهِ صوفيات الْبَلَد وَمَا فِيهِنَّ إِلَّا من مَعهَا سبْحَة وألقين(4/220)
الْجَمِيع إِلَى المحفة وَكَانَ قصدهن أَن يلمسها فَتحصل لَهُنَّ الْبركَة فَجعل يمرها على يَدَيْهِ وَجَسَده ويتبرك بِهن ويقصد فِي حقهن مَا قصدن فِي حَقه وَكَانَ هَذَا الْحَال بساوة من بِلَاد الْعَجم
وَلما بلغ بسطَام قيل للشَّيْخ قد أَتَى فلَان الصُّوفِي فَنَهَضَ الشَّيْخ من مَكَانَهُ وَعدا إِلَيْهِ وَإِذا بِهِ شيخ كَبِير هم وَهُوَ رَاكب بَهِيمَة وَخَلفه خلق من الصُّوفِيَّة بمرقعات جميلَة فَقيل لَهُ قد أَتَاك الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَرمى نَفسه عَن الْبَهِيمَة وَقبل يَده وَقبل الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رجله وَقَالَ لَهُ الصُّوفِي قتلتني يَا سَيِّدي فَمَا يمكنني أَمْشِي مَعَك وَلَكِن تتقدم إِلَى مجلسك وَلما وصل جلس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بَين يَدَيْهِ وَأظْهر كل وَاحِد مِنْهُمَا من تَعْظِيم صَاحبه مَا جَاوز الْحَد ثمَّ أخرج الصُّوفِي خرقتين فِي إِحْدَاهمَا حِنْطَة وَقَالَ هَذِه حِنْطَة نتوارثها عَن أبي يزِيد البسطامي وَفِي الْأُخْرَى ملح فأعجب الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق ذَلِك وودعه وَانْصَرف
قَالَ ابْن الهمذاني وحَدثني الشَّيْخ أَبُو الْفَضَائِل أَن ابْن بَيَان مدرس الْبَصْرَة قَالَ هَذَا الشَّيْخ الصُّوفِي الَّذِي قصد الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يعرف بالسهلكي وَحكى فِي ذَلِك الْمجْلس أَن هَذِه الْبَلدة يَعْنِي بَلْدَة بسطَام لَا تَخْلُو من ولي لله فَكَانُوا يرَوْنَ أَن الْولَايَة انْتَهَت إِلَيْهِ(4/221)
ثمَّ إِن الشَّيْخ دخل نيسابور وتلقاه أَهلهَا على الْعَادة المألوفة مِمَّن وَرَاءَهُمْ من بِلَاد خُرَاسَان وَحمل شيخ الْبَلَد إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ غاشيته وَمَشى بَين يَدَيْهِ كالخديم وَقَالَ أفتخر بِهَذَا
وتناظر هُوَ وإياه فِي مسَائِل انْتهى إِلَيْنَا بَعْضهَا
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق غضنفرا فِي المناظرة لَا يصطلى لَهُ بِنَار
وَقد قيل إِنَّه كَانَ يحفظ مسَائِل الْخلاف كَمَا يحفظ أحدكُم الْفَاتِحَة
وَقيل إِن سَبَب تصنيفه الْمُهَذّب أَنه بلغه أَن ابْن الصّباغ قَالَ إِذا اصْطلحَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة ذهب علم أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ يَعْنِي أَن علمه هُوَ مسَائِل الْخلاف بَينهمَا فَإِذا اتفقَا ارْتَفع فصنف الشَّيْخ حِينَئِذٍ الْمُهَذّب
حكى ذَلِك ابْن سَمُرَة فِي طَبَقَات اليمنيين وَذكر أَن الشَّيْخ صنف الْمُهَذّب مرَارًا فَلَمَّا لم يُوَافق مَقْصُوده رمى بِهِ فِي دجلة وَأجْمع رَأْيه على هَذِه النُّسْخَة الْمجمع عَلَيْهَا
ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى بَغْدَاد وصحبته كتب السُّلْطَان الْأَعْظَم ملكشاه بن السُّلْطَان ألب أرسلان السلجوقي والوزير نظام الْملك
قلت وأظن الشَّيْخ فِي هَذِه السفرة خطب للخليفة بنت السُّلْطَان وَكَانَ السفير فِي ذَلِك وَمَا أرَاهُ إِلَّا فِي هَذِه السفرة فَتزَوج بهَا الْخَلِيفَة وأولدها جعفرا وَكَانَ قَصده بِهَذَا التَّقَرُّب إِلَى خاطر ملكشاه فَلم يزده ذَلِك إِلَّا بعدا وَتغَير عَلَيْهِ خاطر السُّلْطَان ملكشاه بعد زمن قريب وَكَانَ قد جعل وَلَده المستظهر بِاللَّه ولي الْعَهْد فألزمه أَن يعزله وَيجْعَل ابْن بنته جعفرا ولي الْعَهْد وَأَن يسلم بَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان وَيخرج إِلَى الْبَصْرَة فشق ذَلِك على الْخَلِيفَة وَبَالغ فِي استنزال السُّلْطَان ملكشاه عَن هَذَا الرَّأْي فَأبى(4/222)
فاستمهله عشرَة أَيَّام ليتجهز فَقيل أَنه جعل يَصُوم ويطوي وَإِذا أفطر جلس على الرماد وَيَدْعُو على ملكشاه فَلم يفلح ملكشاه بل مَاتَ بعد أَيَّام يسيرَة وَلم يتم لَهُ شَيْء مِمَّا أَرَادَهُ
وَكَانَ هَذَا الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله كَبِير الإجلال للشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق سَببا فِي جعله خَليفَة
قَالَ ابْن سَمُرَة قَالَ القَاضِي طَاهِر بن يحيى قلت هُوَ ابْن صَاحب الْبَيَان وَكَانَ مَعَ الزّهْد المتين والورع الشَّديد طلق الْوَجْه دَائِم الْبشر حسن المجالسة مليح المحاورة يحْكى الحكايات الْحَسَنَة والأشعار المليحة ويحفظ مِنْهَا كثيرا وَرُبمَا أنْشد على البديهة لنَفسِهِ مثل قَوْله مرّة لِخَادِمِهِ فِي الْمدرسَة النظامية أبي طَاهِر بن شَيبَان بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي
(وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو طَاهِر ... جمالنا فِي السِّرّ وَالظَّاهِر)
وَمِنْه قَوْله وَهُوَ ماش فِي الوحل يَوْمًا وَقد أَكثر الإنشاد من الْأَشْعَار فَقَالَ
(إنشادنا الْأَشْعَار فِي الوحل ... هَذَا لعمري غَايَة الْجَهْل)
قَالَ تِلْمِيذه عَليّ بن حسكويه وَكَانَ مَعَه يَا سَيِّدي بل هَذَا لعمري غَايَة الْفضل
وَقَالَ عَليّ بن حسكويه اجْتمع الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق والرئيس أَبُو الْخطاب عَليّ بن عبد الرَّحْمَن فَأتيَا بثلجية فِيهَا مَاء بَارِد فَأَنْشَأَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق قَوْله
(ممنع وَهُوَ فِي الثلاج ... فَكيف لَو كَانَ فِي الزّجاج)
فَأَجَابَهُ الرئيس أَبُو الْخطاب
(مَاء صفا رقة وطيبا ... لَيْسَ بملح وَلَا أجاج)(4/223)
وَحكى أَبُو نصر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد القاهر خطيب الْموصل قَالَ لما جِئْت إِلَى بَغْدَاد قَاصِدا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق رحب بِي وَقَالَ من أَي الْبِلَاد أَنْت فَقلت من الْموصل
فَقَالَ مرْحَبًا بلديى
فَقلت يَا سيدنَا أَنا من الْموصل وَأَنت من فيروزاباذ
فَقَالَ يَا وَلَدي أما جمعتنَا سفينة نوح وَله أدب أعذب من الزلَال مازجته المدام وأزهر من الرَّوْض باكره مَاء الْغَمَام وأبهى من المنثور هَذَا مَعَ أَنه لَا يَتلون وأزهى من صفحات الخدود وَإِن كَانَ آس العذار على جَوَانِب ورده تكون لَو سَمعه ديك الْجِنّ لصاح كَأَنَّهُ مصروع وَلَو تَأمل مقاطيعة ابْن قلاقس لأصبح وَهُوَ ذُو قلب مَقْطُوع
فَمِنْهُ
(سَأَلت النَّاس عَن خل وَفِي ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل)
(تمسك إِن ظَفرت بود حر ... فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل)
وَمِنْه
(إِذا تخلفت عَن صديق ... وَلم يعاتبك فِي التَّخَلُّف)
(فَلَا تعد بعْدهَا إِلَيْهِ ... فَإِنَّمَا وده تكلّف)(4/224)
وَمِنْه فِي غريق
(غريق كَأَن الْمَوْت رق لفقده ... فلَان لَهُ فِي صُورَة المَاء جَانِبه)
(أَبى الله أَن أنساه دهري لِأَنَّهُ ... توفاه فِي المَاء الَّذِي أَنا شَاربه)
وَمِنْه أَيْضا
(لبست ثوب الرجا وَالنَّاس قد رقدوا ... وَقمت أَشْكُو إِلَى مولَايَ مَا أجد)
(وَقلت يَا عدتي فِي كل نائبة ... وَمن عَلَيْهِ لكشف الضّر أعْتَمد)
(أَشْكُو إِلَيْك أمورا أَنْت تعلمهَا ... مَالِي على حملهَا صَبر وَلَا جلد)
(وَقد مددت يَدي بالضر مبتهلا ... إِلَيْك يَا خير من مدت إِلَيْهِ يَد)
(فَلَا تردنها يَا رب خائبة ... فبحر جودك يروي كل من يرد)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه فِي القَوْل فِي النُّجُوم أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الفيروزابادي لنَفسِهِ
(حَكِيم رأى أَن النُّجُوم حَقِيقَة ... وَيذْهب فِي أَحْكَامهَا كل مَذْهَب)
(يخبر عَن أفلاكها وبروجها ... وَمَا عِنْده علم بِمَا فِي المغيب)
وَحكي أَن الشَّيْخ قَالَ كنت نَائِما فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَمَعَهُ صَاحِبَاه أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقلت يَا رَسُول الله بَلغنِي عَنْك أَحَادِيث كَثِيرَة عَن ناقلي الْأَخْبَار فَأُرِيد أَن أسمع مِنْك خَبرا أتشرف بِهِ فِي الدُّنْيَا وأجعله ذخيرة فِي الْآخِرَة(4/225)
فَقَالَ لي يَا شيخ وسماني شَيخا وخاطبني بِهِ وَكَانَ الشَّيْخ يفرح بِهَذَا وَيَقُول سماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيخا
قَالَ الشَّيْخ ثمَّ قَالَ لي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَرَادَ السَّلامَة فليطلبها فِي سَلامَة غَيره
قلت وَمثل هَذِه الْحِكَايَة حِكَايَة شَيْخه القَاضِي أبي الطّيب فِي رُؤْيَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وتسميته إِيَّاه فَقِيها وَكَانَ القَاضِي أَيْضا يفتخر بذلك
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يَقُول من قَرَأَ عَليّ مَسْأَلَة فَهُوَ وَلَدي
وَيَقُول الْعَوام ينسبون بالأولاد والأغنياء بالأموال وَالْعُلَمَاء بِالْعلمِ
وَكَانَ يَقُول الْعلم الَّذِي لَا ينْتَفع بِهِ صَاحبه أَن يكون الرجل عَالما وَلَا يكون عَاملا
وينشد لنَفسِهِ
(علمت مَا حلل الْمولى وَحرمه ... فاعمل بعلمك إِن الْعلم بِالْعَمَلِ)
وَكَانَ يَقُول الْجَاهِل بالعالم يَقْتَدِي فَإِذا كَانَ الْعَالم لَا يعْمل بِعِلْمِهِ فالجاهل مَا يَرْجُو من نَفسه فَالله الله يَا أَوْلَادِي نَعُوذ بِاللَّه من علم يصير حجَّة علينا
وَكَانَ يمشي بعض أَصْحَابه مَعَه فِي طَرِيق فَعرض لَهما كلب فَقَالَ الْفَقِيه لذَلِك الْكَلْب اخْسَأْ وزجره فَنَهَاهُ الشَّيْخ وَقَالَ لم طردته عَن الطَّرِيق أما علمت أَن الطَّرِيق بيني وَبَينه مُشْتَرك
ومنام الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن نصر بن كاكا المؤيدي مَشْهُور وَهُوَ مَا ذكره فَقَالَ رَأَيْت فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة لَيْلَة الْجُمُعَة الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق طول الله عمره فِي مَنَامِي يطير مَعَ أَصْحَابه فِي السَّمَاء الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة فتحيرت فِي نَفسِي وَقلت هَذَا هُوَ الشَّيْخ الإِمَام مَعَ أَصْحَابه يطير وَأَنا مَعَهم استعظاما لتِلْك الْحَال والرؤية فَكنت فِي هَذِه الفكرة إِذْ تلقى الشَّيْخ(4/226)
الإِمَام ملك وَسلم عَلَيْهِ عَن الله تبَارك وَتَعَالَى وَقَالَ لَهُ إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول مَاذَا تدرس لأصحابك فَقَالَ الشَّيْخ أدرس مَا نقل عَن صَاحب الشَّرْع
فَقَالَ لَهُ الْملك فاقرأ عَليّ شَيْئا من ذَلِك لأسمعه
فَقَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ مَسْأَلَة لَا أذكرها
فاستمع لَهُ الْملك وَانْصَرف
وَأخذ الشَّيْخ يطير وَأَصْحَابه مَعَه فَرجع الْملك بعد سَاعَة وَقَالَ للشَّيْخ إِن الله تَعَالَى يَقُول الْحق مَا أَنْت عَلَيْهِ وَأَصْحَابك فَادْخُلْ الْجنَّة مَعَهم
وَكَانَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن حَامِد الشَّاشِي يَقُول الشَّيْخ الشِّيرَازِيّ حجَّة الله على أَئِمَّة الْعَصْر
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي وَقد اجْتمع بالشيخ وَسمع كَلَامه فِي مَسْأَلَة مَا رَأَيْت كَأبي إِسْحَاق لَو رَآهُ الشَّافِعِي لتجمل بِهِ
وَقَالَ الْمُوفق الْحَنَفِيّ إِمَام أَصْحَاب الرَّأْي أَبُو إِسْحَاق إِمَام الْمُؤمنِينَ فِي الْفُقَهَاء
وَكَانَ عميد الدولة بن جهير الْوَزير يَقُول هُوَ وحيد عصره وفريد دهره مستجاب الدعْوَة
وَقَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماهاني إمامان مَا اتّفق لَهما الْحَج الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وقاضي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مَا كَانَ لَهُ استطاعة الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَكِن لَو أَرَادَ الْحَج لحملوه على الأحداق إِلَى مَكَّة والدامغاني لَو أَرَادَ أَن يحجّ على السندس والإستبرق لأمكنه ذَلِك(4/227)
وَكَانَ الشَّيْخ إِذا أَخطَأ بَين يَدَيْهِ المباحث فِي كلمة قَالَ أَي سكتة فاتتك وَرُبمَا تكلم فِي مَسْأَلَة فَسَأَلَهُ السَّائِل سؤالا غير مُتَوَجّه فَيَقُول
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا ... شتان بَين مشرق ومغرب)
قَالَ أَبُو البركات عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك الْأنمَاطِي كَانَ الشَّيْخ يتَوَضَّأ فِي الشط فَنزل المشرعة يَوْمًا وَكَانَ يشك فِي غسل وَجهه ويكرر حَتَّى غسل نوبا عدَّة فوصل إِلَيْهِ بعض الْعَوام وَقَالَ لَهُ يَا شيخ أما تَسْتَحي تغسل وَجهك كَذَا وَكَذَا نوبَة وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من زَاد على الثَّلَاث فقد أسرف) فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
فَمضى وخلاه فَقَالَ لَهُ وَاحِد أيش قلت لذَلِك الشَّيْخ الَّذِي كَانَ يتَوَضَّأ فَقَالَ الرجل ذَاك شيخ موسوس قلت لَهُ كَذَا على كَذَا
فَقَالَ لَهُ يَا رجل أما تعرفه فَقَالَ لَا
قَالَ ذَاك إِمَام الدُّنْيَا وَشَيخ الْمُسلمين ومفتي أَصْحَاب الشَّافِعِي
فَرجع ذَلِك الرجل خجلا إِلَى الشَّيْخ وَقَالَ يَا سَيِّدي تعذرني فَإِنِّي قد أَخْطَأت وَمَا عرفتك
فَقَالَ الشَّيْخ الَّذِي قلت صَحِيح فَإِنَّهُ لَا يجوز الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَالَّذِي أَجَبْتُك بِهِ أَيْضا صَحِيح لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحَافِظ أَن عبد الْوَهَّاب بن عَليّ أنبأه عَن أبي صَالح عبد الصَّمد بن عَليّ الْفَقِيه أَن أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن(4/228)
الخاضبة قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يَقُول لَو عرض هَذَا الْكتاب الَّذِي صنفته وَهُوَ الْمُهَذّب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَالَ هَذَا شريعتي الَّتِي أمرت بهَا أمتِي
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن الشّحْنَة إِذْنا أَن الْحَافِظ أَبَا عبد الله الْبَغْدَادِيّ قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ النَّسَائِيّ بأصبهان يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الرشيد بن مُحَمَّد يَقُول سَمِعت الْحسن بن الْعَبَّاس الرستمي يَقُول سَمِعت الْحسن الطَّبَرِيّ الإِمَام يَقُول سَمِعت صَوتا من الْكَعْبَة أَو من جَوف الْكَعْبَة من أَرَادَ أَن يتَنَبَّه فِي الدّين فَعَلَيهِ بالتنبيه
توفّي فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وغسله أَبُو الْوَفَاء بن عقيل الْحَنْبَلِيّ
وَدفن من الْغَد بمقبرة بَاب حَرْب
وَمن الرِّوَايَات والفوائد عَنهُ
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الْأَشْعَرِيّ الْحَافِظ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا يُوسُف بن مُحَمَّد بن عبد الله بن المهتار سَمَاعا أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمُبَارك بن ماسويه أخبرنَا أَبُو الْخَيْر مَسْعُود بن عَليّ بن صَدَقَة بن مطرز الخباز قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْكَرم(4/229)
خَمِيس بن عَليّ بن أَحْمد الْحَوْزِيِّ إملاء بواسط أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ ابْن يُوسُف شيخ الشافعيين بِبَغْدَاد حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب البرقاني حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان النَّيْسَابُورِي الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجي حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني عَن مُوسَى بن عقبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ كَانَ من دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من زَوَال نِعْمَتك وتحول عافيتك وَمن فَجْأَة نقمتك وَمن جَمِيع سخطك وغضبك)
صَحِيح انْفَرد مُسلم بِإِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحه عَن أبي زرْعَة الرَّازِيّ الْحَافِظ عَن يحيى ابْن عبد الله بن بكير كَمَا أخرجناه وَلَيْسَ لمُسلم عَن أبي زرْعَة فِي صَحِيحه سوى هَذَا الحَدِيث
والبوشنجي وَهُوَ الإِمَام أَبُو عبد الله تقدم فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة
أخبرنَا أَحْمد بن المظفر الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا القَاضِي أَبُو الْفضل سُلَيْمَان بن أَحْمد الْمَقْدِسِي بِقِرَاءَتِي أخبرنَا الْحَافِظ الضياء مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْفضل بن الْقَاسِم أَنبأَنَا الإِمَام أَبُو سعد إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ أبي صَالح أَحْمد بن(4/230)
عبد الْملك النَّيْسَابُورِي نزيل كرمان أخبرنَا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الشِّيرَازِيّ أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب الْحَافِظ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا همام قَالَ سَمِعت إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة يَقُول سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن عبدا أذْنب ذَنبا فَقَالَ أَي رب أذنبت ذَنبا فَاغْفِر لي فَقَالَ الله تَعَالَى علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر ثمَّ قَالَ أَي رب أذنبت ذَنبا فَاغْفِر لي فَقَالَ ربه علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي
حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا عَن أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر أَن أَبَا المظفر ابْن السَّمْعَانِيّ أنبأه قَالَ أخبرنَا أبي الْحَافِظ أَبُو سعد أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن عبد الرَّزَّاق الزَّعْفَرَانِي إجَازَة وأنشدنا عَنهُ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الْإِصْطَخْرِي الْفَقِيه قَالَ أنشدنا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ بِبَغْدَاد وَلم يسم قَائِلا
(صبرت على بعض الْأَذَى خوف كُله ... وألزمت نَفسِي صبرها فاستقرت)
(وجرعتها الْمَكْرُوه حَتَّى تدربت ... وَلَو حَملته جملَة لاشمأزت)
(فيا رب عز جر للنَّفس ذلة ... وَيَا رب نفس بالتذلل عزت)
(وَمَا الْعِزّ إِلَّا خيفة الله وَحده ... وَمن خَافَ مِنْهُ خافه مَا أقلت)
(فيا صدق نَفسِي إِن فِي الصدْق حَاجَتي ... فأرضى بدنياي وَإِن هِيَ قلت)
(وأهجر أَبْوَاب الْمُلُوك فإنني ... أرى الْحِرْص جلابا لكل مذلة)(4/231)
(إِذا مَا مددت الْكَفّ ألتمس الْغنى ... إِلَى غير من قَالَ اسألوني فشلت)
(إِذا طرقتني الحادثات بنكبة ... تذكرت مَا عوقبت مِنْهُ فَقلت)
(وَمَا نكبة إِلَّا وَللَّه منَّة ... إِذا قابلتها أَدْبَرت واضمحلت)
(تبَارك رزاق الْبَريَّة كلهَا ... على مَا أَرَادَ لَا على مَا اسْتحقَّت)
(فكم عَاقل لَا يستبيت وجاهل ... ترقت بِهِ أَحْوَاله وتعلت)
(وَكم من جليل لَا يرام حجابه ... بدار غرور أَدْبَرت وتولت)
(تشوب القذى بالصفو والصفو بالقذى ... وَلَو أَحْسَنت فِي كل حَال لملت)
قلت قَوْله تبَارك رزاق الْبَريَّة الْبَيْتَيْنِ أصدق من قَول أبي الْعَلَاء المعري
(كم عَاقل عَاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جَاهِل تَلقاهُ مرزوقا)
(هَذَا الَّذِي ترك الأوهام حائرة ... وصير الْعَالم النحرير زنديقا)
فقبحه الله مَا أجرأه على الله عزوجل وَقد أحسن الَّذِي قَالَ نقصضا عَلَيْهِ
(كم عَاقل عَاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جَاهِل شعْبَان ريانا)
(هَذَا الَّذِي زَاد أهل الْكفْر لَا سلمُوا ... كفرا وَزَاد أولي الْإِيمَان إِيمَانًا)
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس النابلسي الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا عَن أَحْمد بن هبة الله عَن عبد الرَّحِيم وَعبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن مَنْصُور أَن أَبَاهُ أخبرهُ قَالَ أنشدنا أَبُو المظفر شبيب بن الْحُسَيْن القَاضِي إملاء ببروجرد أنشدنا الإِمَام الْكَبِير أَبُو إِسْحَاق الفيروزابادي أَنْشدني الْمُطَرز الْبَغْدَادِيّ لنَفسِهِ(4/232)
(وَلما وقفنا بالضراب عَشِيَّة ... حيارى لتوديع ورد سَلام)
(وقفنا على رغم الحسود وكلنَا ... نفض عَن الأثواب كل ختام)
(وسوغني عِنْد الْوَدَاع عناقه ... فَلَمَّا رأى وجدي بِهِ وغرامي)
(تلثم مُرْتَابا بِفضل رِدَائه ... فَقلت هِلَال بعد بدر تَمام)
(وقبلته فَوق اللثام فَقَالَ لي ... هِيَ الْخمر إِلَّا أَنَّهَا بفدام)
أخبرنَا أَبُو عبد الله وَأَبُو الْعَبَّاس الحافظان فِي كتابهما عَن أبي الْفضل العساكري أَن عبد الرَّحِيم بن أبي سعد أنبأه أَن وَالِده الْحَافِظ قَالَ لَهُ سَمِعت سيدنَا القَاضِي يَقُول عقب هَذَا ثمَّ قَالَ لي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يَا بني قد رويت عَن هَذَا الرجل فِي النسيب شَيْئا فأودعني مَا يمحو ذَلِك وأنشدني لنَفسِهِ
(يَا عبد كم لَك من ذَنْب ومعصية ... إِن كنت ناسيها فَالله أحصاها)
(يَا عبد لَا بُد من ذَنْب تقوم لَهُ ... ووقفة مِنْك تدمي الْكَفّ ذكرَاهَا)
(إِذا عرضت على نَفسِي تذكرها ... وساء ظَنِّي قلت اسْتغْفر الله)
أخبرنَا أَحْمد بن المظفر الْحَافِظ رَحمَه الله إِذْنا خَاصّا عَن أَحْمد بن هبة الله عَن أبي المظفر السَّمْعَانِيّ أَن وَالِده الْحَافِظ أَبَا سعد أخبرهُ قَالَ أنشدنا شبيب بن(4/233)
الْحُسَيْن قَاض ببروجرد قَالَ أَنْشدني أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأَظنهُ قَالَ هِيَ للمطرز
(وحديثها السحر الْحَلَال لَو أَنه ... لم يجن قتل الْمُسلم المتحرز)
(إِن طَال لم يملل وَإِن هِيَ أوجزت ... ود الْمُحدث أَنَّهَا لم توجز)
(شرف النُّفُوس ونزهة مَا مثلهَا ... للمطمئن وعقلة المستوفز)
ذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي النكت احْتِمَالا لنَفسِهِ فِيمَا إِذا نذر صَلَاة مُؤَقَّتَة وأخرجها عَن وَقتهَا أَنه يقبل وَهُوَ وَجه مُصَرح بحكايته فِي بعض نسخ الذَّخَائِر عَن رَوْضَة المناظر
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مجمعا عَلَيْهِ من أهل عصره علما ودينا رفيع الجاه بِسَبَب ذَلِك محببا إِلَى غَالب الْخلق لَا يقدر أحد أَن يرميه بِسوء لحسن سيرته وشهرتها عِنْد الْخلق
وَزَعَمت الْحَنَابِلَة فِي وَاقعَة ابْن الْقشيرِي أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق أَرَادَ أَن يبطل مَذْهَبهم لما وَقعت الْفِتْنَة بَين الْحَنَابِلَة والأشعرية وَقَامَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي نصر أبي نصر بن الْقشيرِي لنصره لمَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَكَاتب نظام الْملك فِي ذَلِك
وَكَانَ من ذَلِك أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق اشْتَدَّ غَضَبه على الْحَنَابِلَة وعزم على الرحلة من بَغْدَاد لما نَالَ الْأَشْعَرِيّ من سبّ الْحَنَابِلَة إِيَّاه وَمَا نَالَ أَبَا نصر بن الْقشيرِي من أذاهم فَأرْسل الْخَلِيفَة إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق يسكنهُ ويخفف مَا عِنْده(4/234)
ثمَّ كتب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رِسَالَة إِلَى نظام الْملك يشكو الْحَنَابِلَة وَيذكر مَا فَعَلُوهُ من الْفِتَن وَأَن ذَلِك من عاداتهم ويسأله المعونة فَعَاد جَوَاب نظام الْملك إِلَى فَخر الدولة وَله بإنكار مَا وَقع وَالتَّشْدِيد على خصوم ابْن الْقشيرِي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فسكن الْحَال قَلِيلا
ثمَّ أَخذ الشريف أَبُو جَعْفَر بن أبي مُوسَى وَهُوَ شيخ الْحَنَابِلَة إِذْ ذَاك وجماعته يَتَكَلَّمُونَ فِي الشَّيْخ أبي إِسْحَاق ويبلغونه الْأَذَى بألسنتهم فَأمر الْخَلِيفَة بِجَمْعِهِمْ وَالصُّلْح بَينهم بعد مَا ثارت بَينهم فِي ذَلِك فتْنَة هائلة قتل فِيهَا نَحْو من عشْرين قَتِيلا
فَلَمَّا وَقع الصُّلْح وَسكن الْأَمر أَخذ الْحَنَابِلَة يشيعون أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق تَبرأ من مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فَغَضب الشَّيْخ لذَلِك غَضبا لم يصل أحد إِلَى تسكينه وَكَاتب نظام الْملك فَقَالَت الْحَنَابِلَة إِنَّه كتب يسْأَله فِي إبِْطَال مَذْهَبهم وَلم يكن الْأَمر على هَذِه الصُّورَة وَإِنَّمَا كتب يشكو أهل الْفِتَن فَعَاد جَوَاب نظام الْملك فِي سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة إِلَى الشَّيْخ باستجلاب خاطره وتعظيمه وَالْأَمر بالانتقام من الَّذين أثاروا الْفِتْنَة وَبِأَن يسجن الشريف أَبُو جَعْفَر وَكَانَ الْخَلِيفَة قد حَبسه بدار الْخلَافَة عِنْد مَا شكاه الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
قَالُوا وَمن كتاب نظام الْملك إِلَى الشَّيْخ وَأَنه لَا يُمكن تَغْيِير الْمذَاهب وَلَا نقل أَهلهَا عَنْهَا وَالْغَالِب على تِلْكَ النَّاحِيَة مَذْهَب أَحْمد وَمحله مَعْرُوف عِنْد الْأَئِمَّة وَقدره مَعْلُوم فِي السّنة فِي كَلَام طَوِيل سكن بِهِ جأش الشَّيْخ
وَأَنا لَا أعتقد أَن الشَّيْخ أَرَادَ إبِْطَال مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَلَيْسَ الشَّيْخ مِمَّن يُنكر مِقْدَار هَذَا الإِمَام الْجَلِيل الْمجمع على علو مَحَله من الْعلم وَالدّين وَلَا مِقْدَار الْأَئِمَّة من أَصْحَابه أهل السّنة والورع وَإِنَّمَا أنكر على قوم عزوا أنفسهم إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْهُم بَرِيء(4/235)
وأطالوا ألسنتهم فِي سبّ الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
وَهُوَ كَبِير أهل السّنة بعده وعقيدته وعقيدة الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله وَاحِدَة لَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا ارتياب وَبِه صرح الْأَشْعَرِيّ فِي تصانيفه وَكرر غير مَا مرّة أَن عقيدتي هِيَ عقيدة الإِمَام المبجل أَحْمد بن حَنْبَل هَذِه عبارَة الشَّيْخ أبي الْحسن فِي غير مَوضِع من كَلَامه
قَالَ الْفَقِيه أَبُو يعلى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن صَالح العباسي الْمَعْرُوف بِابْن الهبارية فِي كِتَابه فلك الْمَعَالِي وَهُوَ كتاب عمله للوزير أبي نصر سعيد بن المؤمل رُتْبَة على اثنى عشر بَابا على تَرْتِيب البروج وَمن خطّ ابْن الصّلاح نقلت لما توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن جَعْفَر بن مَاكُولَا بِبَغْدَاد أكره الْقَائِم بِأَمْر الله الشَّيْخ الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الفيروزابادي على أَن يتقلد لَهُ النّظر فِي الإحكام والمظالم شرقا وغربا فَامْتنعَ فَوكل بِهِ فَكتب إِلَيْهِ ألم يكفك أَن هَلَكت حَتَّى تهلكني مَعَك
فَبكى الْقَائِم بِأَمْر الله وَقَالَ هَكَذَا فَلْيَكُن الْعلمَاء إِنَّمَا أردنَا أَن يُقَال إِنَّه كَانَ فِي عصرنا من وكل بِهِ وأكره على الْقَضَاء فَامْتنعَ وَقد أعفيناه
قَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر ...(4/236)
مناظرة بَين الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالشَّيْخ أبي عبد الله الدَّامغَانِي
وَكَانَا قد اجْتمعَا فِي عزاء بِبَغْدَاد
سُئِلَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي عَن الذِّمِّيّ إِذا أسلم هَل تسْقط عَنهُ الْجِزْيَة لما مضى فَمنع من ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي فَسئلَ الدَّلِيل فاستدل على ذَلِك بِأَنَّهُ أحد الخراجين فَإِذا وَجب فِي حَال الْكفْر لم يسْقط بِالْإِسْلَامِ أَصله خراج الأَرْض
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الدَّامغَانِي لَا يمْتَنع أَن يكون نَوْعَانِ من الْخراج ثمَّ يشْتَرط فِي أَحدهمَا مَالا يشْتَرط فِي الآخر كَمَا أَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال نَوْعَانِ من الزَّكَاة ثمَّ يشْتَرط فِي أَحدهمَا النّصاب وَلَا يشْتَرط فِي الآخر
وَالسُّؤَال الثَّانِي لَا يمْنَع أَن يكون حقان متعلقان بالْكفْر ثمَّ أَحدهمَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَالْآخر لَا يسْقط أَلا ترى أَن الاسترقاق وَالْقَتْل حقان متعلقان بالْكفْر ثمَّ أَحدهمَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقَتْل وَالْآخر لَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ الاسترقاق
وَالسُّؤَال الثَّالِث الْمَعْنى فِي الأَصْل أَن الْخراج يجب بِسَبَب التَّمَكُّن من الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَيجوز أَن يجب بِمثل هَذَا السَّبَب حق عَلَيْهِ فِي حَال الْإِسْلَام وَهُوَ الْعشْر فَلهَذَا جَازَ أَن يبْقى مَا وَجب عَلَيْهِ مِنْهُ حَال الْكفْر وَلَيْسَ ذَلِك هَا هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب بِمثل نسبته حق فِي حَال الْإِسْلَام فَلهَذَا سقط مَا وَجب فِي حَال الْكفْر
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْفَصْل الأول وَهُوَ اعْتِبَار نِصَاب فِي زَكَاة المَال
دون زَكَاة الْفطر ثَلَاثَة أَشْيَاء(4/237)
أَحدهمَا أَن مَا ذكرت حجَّة لنا لِأَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال لما كَانَ سَبَب إيجابهما الْإِسْلَام وَالْكفْر ينافيهما كَانَ تَأْثِير الْكفْر فِي إسقاطهما مؤثرا وَاحِدًا حَتَّى إِنَّه إِذا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة الْفطر وارتد عِنْدهم سقط عَنهُ ذَلِك كَمَا إِذا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة المَال ثمَّ ارْتَدَّ سَقَطت عَنهُ الزَّكَاة فَكَانَ تَأْثِير الْبَاقِي فِي إسقاطهما على وَجه وَاحِد فَكَذَلِك هَهُنَا لما كَانَ سَبَب الخراجين هُوَ الْكفْر وَالْإِسْلَام ينافيهما فَيجب أَن يكون تَأْثِير الْإِسْلَام فِي إسقاطهما وَاحِدًا وَقد ثَبت أَن أَحدهمَا لَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ فَكَذَلِك الآخر
جَوَاب ثَان أَن الزكاتين افترقتا لِأَن زَكَاة الْفطر فَارَقت سَائِر الزكوات فِي تعلقهَا بِالذِّمةِ ففارقها فِي اعْتِبَار النّصاب وَلَيْسَ كَذَلِك الخراجان فَإِنَّهُمَا سَوَاء فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي وجوبهما ومنافاة الْإِسْلَام لَهما فَلَو سقط أَحدهمَا بِالْإِسْلَامِ سقط الآخر
جَوَاب ثَالِث وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال فَلهَذَا لم يعْتَبر فِيهَا النّصاب وَلَيْسَ كَذَلِك سَائِر الزكوات فَإِنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف المَال وتزداد بِزِيَادَتِهِ فَلهَذَا اعْتبر فِيهَا النّصاب وَأما حَال الخراجين فَإِنَّهُمَا على مَا ذكرت سَوَاء فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِسْلَام
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الْقَتْل والاسترقاق فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْقَتْل والاسترقاق جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعَ اخْتِلَاف الْأَجْنَاس يجوز أَن تخْتَلف الْأَحْكَام فَأَما فِي مَسْأَلَتنَا فالخراجان من جنس وَاحِد يجبان بِسَبَب الْكفْر فَلَا يجوز أَن يخْتَلف حكمهمَا
وَالثَّانِي الاسترقاق إِذا حصل فِي حَال الْكفْر كَانَ مَا بعد الْإِسْلَام اسْتِدَامَة للرق وَبَقَاء عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الْقَتْل فَإِنَّهُ ابْتِدَاء عُقُوبَة فَجَاز أَن يختلفا وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فحال الخراجين وَاحِد من اسْتِيفَاء مَا تقدم وُجُوبه فَإِذا لم يسْقط أَحدهمَا لم يسْقط الآخر(4/238)
وَأما الْفَصْل الثَّالِث وَهُوَ الْمُعَاوضَة فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا إِن قَالَ لَا أسلم أَن بِمثل سَبَب الْخراج يجب على الْمُسلم حق فَإِن الْخراج إِنَّمَا وَجب بِسَبَب التَّمَكُّن من الِانْتِفَاع مَعَ الْكفْر وَالْعشر إِنَّمَا لزم للْأَرْض بِحَق الله وَهُوَ الْإِسْلَام
وَالثَّانِي أَنه إِن كَانَ هُنَاكَ حق يجب بِمثل سَبَب الْخراج فَيحسن أَن يجْرِي عَلَيْهِ الَّذِي فِي حَال الْإِسْلَام فَلهَذَا جَازَ أَن يبْقى مَا تقدم وُجُوبه فِي حَال الْكفْر فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا يجب بِمثل سَبَب الْجِزْيَة حق حَتَّى يجْرِي عَلَيْهِ فِي حَال الْإِسْلَام وَهُوَ زَكَاة الْفطر فَإِن الزَّكَاة وَزَكَاة الْفطر تجب عَن الرَّقَبَة فَيجب أَن الْجِزْيَة تجب عَن الرَّقَبَة وَأَن يبْقى مَا وَجب من ذَلِك فِي حَال الْكفْر فَلَا فرق بَينهمَا
فَقَالَ أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي على فصل الزَّكَاة على الْجَواب الأول وَهُوَ قَالَ فِيهِ إِن ذَلِك حجَّة فَإِنَّهُمَا يستويان فِي اعْتِبَار الْإِسْلَام فِي حَال وَاحِد من الزكاتين فَقَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون الْكفْر يعْتَبر فِي كل وَاحِد من الخراجين ثمَّ يخْتَلف حكمهمَا بعد ذَلِك فِي الِاسْتِيفَاء كَمَا أَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال يستويان فِي أَن المَال مُعْتَبر فِي حَال وَاحِدَة فيهمَا ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي كَيْفيَّة الِاعْتِبَار فَالْمُعْتَبر فِي زَكَاة الْفطر أَن مَعَه مَا يُؤَدِّي فَاضلا عَن كِفَايَته عنْدكُمْ وَالْمُعْتَبر فِي سَائِر الزكوات أَن يكون مَالِكًا لنصاب فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يَسْتَوِي الخراجان فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ثمَّ يخْتَلف حكمهمَا عِنْد الِاسْتِيفَاء فَيعْتَبر الْبَقَاء على الْكفْر فِي أَحدهمَا دون الآخر
وَجَوَاب ثَان أَن الزكاتين إِنَّمَا أثر الْكفْر فيهمَا على وَجه وَاحِد لِأَنَّهُمَا يجبان على(4/239)
سَبِيل الْعِبَادَة فَلَا يجوز استيفاؤهما بعد الْكفْر لِأَن الْكَافِر لَا تثبت فِي حَقه الْعِبَادَات وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن الْجِزْيَة تجب على سَبِيل الصغار لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} وَبعد الْإِسْلَام لم يُوجد الصغار فَلَا يَصح استيفاؤهما وَكَذَلِكَ الْخراج فِي الأَرْض لَا يجب على سَبِيل الصغار وَلِهَذَا يجوز أَن يُوجد باسمه من الْمُسلمين وَهُوَ الَّذِي ضربه عمر رَضِي الله عَنهُ على الأَرْض السوَاد
وَتكلم على الْجَواب الثَّانِي عَن هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالذِّمةِ فَقَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا فِي الذِّمَّة وَالْآخر فِي المَال ثمَّ يستويان فِي النّصاب كَمَا أَن أرش الْجِنَايَة يتَعَلَّق بِعَين الْجَانِي وَزَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالذِّمةِ ثمَّ لَا يعْتَبر النّصاب فِي وَاحِد مِنْهُمَا وَأَيْضًا فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي أَن الزَّكَاة تتَعَلَّق بِالْعينِ أَو الذِّمَّة فَدلَّ على أَنه لَيْسَ الْعلَّة فِيهِ مَا ذكرت
وَتكلم على الْجَواب الثَّالِث فِي هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال فَقَالَ لما جَازَ أَن لَا تزداد بِزِيَادَة المَال ثمَّ لَا يعْتَبر فِيهِ النّصاب ثمَّ هَذَا يبطل بِمَا زَاد على نِصَاب الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم عنْدك فَإِنَّهُ يزْدَاد بِزِيَادَة المَال ثمَّ لَا يعْتَبر فِيهَا النّصاب
وَتكلم على الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الاسترقاق وَالْقَتْل حَيْثُ قَالَ إنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفَانِ وَهَاهُنَا جنس وَاحِد فَقَالَ إنَّهُمَا وَإِن كَانَا جِنْسَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا يجبان بِسَبَب الْكفْر وَكَانَ يجب أَن يكون تَأْثِير الْإِسْلَام فيهمَا وَاحِدًا كَمَا قُلْنَا فِي الخراجين وَالثَّانِي أَن الخراجين وَإِن كَانَا جِنْسا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يجب أَن يستوفيا فِي حَال الْإِسْلَام كالخراج(4/240)
الَّذِي وَضعه عمر رَضِي الله عَنهُ مَعَ الْخراج فهما خراجان ثمَّ يجوز ابْتِدَاء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام فَلَا يجوز ابْتِدَاء الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأجَاب عَن الْجَواب الثَّانِي فِي هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن الاسترقاق اسْتِدَامَة وَالْقَتْل ابْتِدَاء فعل فَقَالَ الْقَتْل والجزية سَوَاء لِأَن الْقَتْل قد تقدم وُجُوبه وَلَكِن بَقِي بعد الْإِسْلَام الِاسْتِيفَاء كَمَا وَجَبت الْجِزْيَة وَتقدم وُجُوبهَا وَبَقِي الِاسْتِيفَاء وَإِن كَانَ الْقَتْل لَا يجوز بعد الْإِسْلَام لِأَنَّهُ ابْتِدَاء مَعَ مَا تقدم وُجُوبه فِي حَال الْكفْر فهما سَوَاء
وَتكلم على الْمُعَاوضَة على الْجَواب الأول أَن الْعشْر لَا يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي يجب بِهِ الْخراج فَقَالَ الْخراج يجب بِإِمْكَان الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَلذَلِك لَا يجب فِيمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ من الأَرْض كالمستغدر وَمَا يبطل مِنْهُ الِانْتِفَاع بِهِ كَمَا يجب الْعشْر بِإِمْكَان الِانْتِفَاع فهما يجبان بِسَبَب وَاحِد فَإِذا جَازَ ابْتِدَاء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام جَازَ الْبَقَاء على الآخر بعد الْإِسْلَام
وَتكلم على الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ زَكَاة الْفطر فَقَالَ الْجِزْيَة لَا تجب بِالْمَعْنَى الَّذِي تجب بِهِ زَكَاة الْفطر لِأَن زَكَاة الْفطر تجب على سَبِيل الْعِبَادَة والجزية تجب على وَجه الصغار فسببهما مُخْتَلف
فَتكلم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْجَواب الأول بِأَن ذَلِك حجَّة لي فَقَالَ أما قَوْلك أَنه يجوز أَن يشْتَرك الحقان فِي اعْتِبَار الْإِسْلَام ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي الْكَيْفِيَّة وَالتَّفْصِيل كَمَا اسْتَوَى زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال فِي اعْتِبَار المَال وَاخْتلفَا فِي كَيْفيَّة الِاعْتِبَار فَهَذَا صَحِيح فِي اعْتِبَار المَال فَأَما فِي اعْتِبَار الدّين فَلَا يجوز أَن يخْتَلف جَازَ الِابْتِدَاء والاستيفاء أَلا ترى أَن زَكَاة الْفطر خَالَفت سَائِر الزكوات فِي التَّفْصِيل فِي اعْتِبَار المَال ثمَّ الْكفْر لما كَانَ(4/241)
مباينا لَهما وَالْإِسْلَام مُعْتَبر فيهمَا لم يخْتَلف اعْتِبَار ذَلِك فيهمَا لَا فِي الِابْتِدَاء وَلَا فِي الِاسْتِيفَاء بل إِذا زَالَ الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ شَرط فِي وجوبهما أثر الْكفْر فِي إِسْقَاط كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمنع من استيفائهما فَكَذَلِك هَاهُنَا لما كَانَ الْإِسْلَام منافيا للخراجين وَالْكفْر شَرط فِي وجوبهما وَجب أَن يكون حَالهمَا وَاحِدًا فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي الِابْتِدَاء والاستيفاء كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال
وَأما الْكَلَام الثَّانِي الَّذِي ذكرت على هَذَا بِأَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال يجبان على سَبِيل الْعِبَادَة فنافاهما الْكفْر وَأَن الْجِزْيَة على سَبِيل الصغار فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ كَمَا تجب الْجِزْيَة على سَبِيل الصغار فخراج الأَرْض كَذَلِك فَإِذا نافى الْإِسْلَام أَحدهمَا وَمنع من الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَال صغَار وَجب أَن ينافى الآخر أَيْضا ووجوبه على سَبِيل الصغار
وَالثَّانِي أَنا لَا نعلم أَن الْجِزْيَة تجب على سَبِيل الصغار بل هِيَ مُعَاوضَة وَلِهَذَا الْمَعْنى تعْتَبر فِيهَا الْمدَّة كَمَا تعْتَبر فِي الْمُعَاوَضَات وَلَو كَانَ ذَلِك صغَارًا لم تعْتَبر فِيهَا الْمدَّة كَمَا تعْتَبر فِي الاسترقاق وَالْقَتْل وَيدل عَلَيْهِ أَنَّهَا تجب فِي مُقَابلَة معوض لَهُم وَهُوَ الحقن والمساكنة فِي دَار الْإِسْلَام وَمَا سلم لَهُم معوضه دلّ على أَنه يجب على سَبِيل الْعِوَض
وَأما قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} فقد قيل فِي التَّفْسِير إِن المُرَاد بِهِ أَنهم ملتزمون لأحكام الْإِسْلَام
وَالثَّالِث أَن الصغار إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْوُجُوب فَأَما فِي الِاسْتِيفَاء فَلَا يعْتَبر أَلا ترى أَنه لَو ضمن عَنهُ مُسلم جَازَ أَن يَسْتَوْفِي عَنهُ وَإِن لم يجب على الْمُسلم فِي ذَلِك صغَار فَدلَّ على بطلَان مَا قَالُوهُ وَأَيْضًا فَإِن الصغار قد يعْتَبر فِي إِيجَاب الشَّيْء وَلَا يعْتَبر فِي(4/242)
اسْتِيفَائه كَمَا أَن الْحُدُود تجب على سَبِيل التنكيل بِالْمَعَاصِي وَلِهَذَا قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} فَذكر النكال عقب ذكر الْحَد كَمَا ذكر الصغار عقيب ذكر النكال فقد رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ) فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأما الْكَلَام عَن الْجَواب الثَّانِي من هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالْعينِ فَصَحِيح وَمَا ذكرت من التَّفْصِيل فَلَا يلْزم لِأَنِّي لم أقل إِن كل حق يتَعَلَّق بِالْعينِ يعْتَبر فِيهِ النّصاب وَإِنَّمَا قلت إِن الزَّكَاة إِذا تعلّقت بِالْعينِ اقْتَضَت النّصاب وَزَكَاة الْفطر تخَالف سَائِر الزكوات فِي تعلقهَا بِالْعينِ فخالفتها فِي اعْتِبَار النّصاب فَلَا يلْزم عَلَيْهِ سَائِر الْحُقُوق
وَأما قَوْلك إِن النّصاب مُعْتَبر فِي سَائِر الزكوات من غير اخْتِلَاف وَفِي تعلق الزَّكَاة بِالْعينِ قَولَانِ فَغير صَحِيح لِأَن القَوْل بِهِ فَاسد وَبِهَذَا يسْتَدلّ على فَسَاده لِأَنَّهُ لَو كَانَ تعلق بِالذِّمةِ لما اعْتبر فِيهِ النّصاب
وَأما الْجَواب الثَّالِث عَن هَذَا الْفَصْل أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال وَسَائِر الزكوات تزداد بِزِيَادَة المَال فَهُوَ صَحِيح وَمَا ذكرت من أَنه لَو كَانَ ذَلِك صَحِيحا لما اعْتبر فِيهِ وجود صَاع فَاضلا عَن الْكِفَايَة فَبَاطِل لِأَنَّهُ يعْتَبر فِيهَا النّصاب وَلَا يزْدَاد بِزِيَادَة المَال
وَأما قَوْلك إِنَّه يبطل هَذَا بِمَا زَاد على نِصَاب الْأَثْمَان وَالْعشر فَلَا يلْزم لِأَنِّي جعلت ذَلِك عِلّة فِي اعْتِبَار النّصاب الثَّانِي إِلَّا لدفع الضَّرَر فِيمَا يدْخل الضَّرَر فِيهِ وَهُوَ تبعيض الْحَيَوَان والمشاركة فِيهِ وَهَذَا لَا يُوجد فِي الْحُبُوب وَلَا فِي الْعين فَسقط اعْتِبَاره
وَأما الْكَلَام فِي الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الاسترقاق فَمَا ذكرته من الْجَواب أَن(4/243)
الاسترقاق وَالْقَتْل جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهَاهُنَا جنس وَاحِد فَصَحِيح وقولك إنَّهُمَا وَإِن كَانَا جِنْسَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا يجبان بِسَبَب الْكفْر وَلَوْلَا الْكفْر لم يجبا فَكَانَ يجب أَن يُؤثر الْإِسْلَام فِي إسقاطهما فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ وجوبهما بِسَبَب وَاحِد إِلَّا أَنَّهُمَا حقان مُخْتَلِفَانِ وَإِذا اخْتلفت الْحُقُوق يجوز أَن تخْتَلف أَحْكَامهَا أَلا ترى أَن الْجُمُعَة وَالْخطْبَة تجبان لِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَنَّهُمَا لما اخْتلفَا فِي الجنسية اخْتلفَا فِي الْأَحْكَام فَكَذَا هُنَا الاسترقاق وَالْقَتْل وَإِن وجبا بِسَبَب الْكفْر إِلَّا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيجوز أَن يخْتَلف حكمهمَا
وَأما قَوْلك إِن هَذَا يبطل بخراج السوَاد وجزية الرّقاب فَإِنَّهُمَا خراجان لم يبتدىء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام وَلَا يبتدىء الآخر فخطأ لِأَنِّي لم أقل إنَّهُمَا جنس وَاحِد سَوَاء بل قلت إنَّهُمَا جنس وَاحِد وسببهما الْكفْر وَإِنَّمَا هُوَ البيع وَالْإِجَارَة على اخْتِلَاف الْمَذْهَب وَهَاهُنَا كل من الخراجين وَجب لحق الْكفْر فَلم يختلفا
وَأما الْجَواب الثَّانِي عَن هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن الاسترقاق اسْتِدَامَة وَالْقَتْل ابْتِدَاء عُقُوبَة فَصَحِيح وقولك إِن الْقَتْل اسْتِيفَاء مَا تقدم فَغير صَحِيح لِأَنِّي قلت إِن الْقَتْل ابْتِدَاء عُقُوبَة والاسترقاق اسْتِدَامَة لِأَنَّهُ قد تقدم فعل الاسترقاق فِي حَال الْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا لِأَنَّهُ كالخراجين اسْتِيفَاء مَا تقدم وَإِن جَازَ أَحدهمَا جَازَ الآخر وَلَيْسَ فِي الْقَتْل مثل هَذَا أَلا ترى أَنه لَيْسَ فِي جنسه مَا يُسَاوِيه فِي الِاسْتِيفَاء بِحَق الْكفْر ثمَّ بعد الْإِسْلَام وَهَاهُنَا من جنسه مَا يسْتَوْفى بعد الْإِسْلَام وَهُوَ خراج الأَرْض فَلَو لم يجز اسْتِيفَاء الْجِزْيَة بعد الْإِسْلَام لوَجَبَ أَن يُقَال لَا يجوز اسْتِيفَاء الْخراج
وَأما الْفَصْل الثَّالِث وَهُوَ الْمُعَاوضَة فَمَا ذكرت من الْمَنْع صَحِيح لِأَن الْخراج يجب بِسَبَب الْكفْر وَيعْتَبر فِيهِ التَّمْكِين من الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَالْعشر يجب بِحَق الْإِسْلَام وَيعْتَبر فِيهِ الْخراج فأحدهما لَا يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي يجب بِهِ الآخر وَيدل على أَنه لَا يَصح اجْتِمَاعهمَا فِي حَال الْكفْر وَلَا فِي حَال الْإِسْلَام لِأَنَّهُ فِي حَال الْكفْر(4/244)
يجب الْخراج وَلَا يجب الْعشْر وَفِي حَال الْإِسْلَام يجب وَلَا يجب الْخراج فَدلَّ على أَنَّهَا متنافيان وَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ من وجوب أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام على بَقَاء الآخر بعد الْإِسْلَام
وَالثَّانِي مَا ذكرت من زَكَاة الْفطر فَهُوَ صَحِيح فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ كَمَا يجب بِسَبَب مَنْفَعَة الأَرْض حق مُبْتَدأ على الْمُسلم فبسبب الرَّقَبَة يجب حق مُبْتَدأ على الْمُسلم وَهُوَ زَكَاة الْفطر وقولك إِن زَكَاة الْفطر على سَبِيل الْعِبَادَة والجزية وَالْخَرَاج على سَبِيل الْكفْر وَالصغَار فَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ بِأَحَدِهِمَا بعد الْإِسْلَام على بَقَاء الآخر كَذَلِك يجوز أَن يسْتَدلّ بِوُجُوب زَكَاة الْفطر حَال الْإِسْلَام على بَقَاء الْجِزْيَة
وَالله أعلم
مناظرة أَيْضا بِبَغْدَاد بَين أبي إِسْحَاق وَأبي عبد الله الدَّامغَانِي رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ الْمَالِكِي رَحمَه الله وَقد شَاهد هَذِه المناظرة وحضرها الْعَادة بِبَغْدَاد أَن من أُصِيب بوفاة أحد مِمَّن يكرم عَلَيْهِ قعد أَيَّامًا فِي مَسْجِد ربضه يجالسه فِيهَا جِيرَانه وإخوانه فَإِذا مَضَت أَيَّام عزوه وعزموا عَلَيْهِ فِي التسلي والعودة إِلَى عَادَته من تصرفه فَتلك الْأَيَّام الَّتِي يقْعد فِيهَا فِي مَسْجده للعزاء مَعَ إخوانه وجيرانه لَا تقطع فِي الْأَغْلَب إِلَّا بِقِرَاءَة الْقُرْآن أَو بمناظرة الْفُقَهَاء فِي الْمسَائِل فَتُوُفِّيَتْ زَوْجَة القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَهُوَ شيخ الْفُقَهَاء ذَلِك الْوَقْت بِبَغْدَاد وَكَبِيرهمْ فاحتفل النَّاس بمجالسته وَلم يكد يبْقى أحد منتم إِلَى علم إِلَّا حضر ذَلِك الْمجْلس وَكَانَ مِمَّن حضر ذَلِك الْمجْلس القَاضِي(4/245)
أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ وَكَانَ زعيم الْحَنَفِيَّة وشيخهم وَهُوَ الَّذِي كَانَ يوازي أَبَا الطّيب فِي الْعلم والشيخوخة والتقدم فَرغب جمَاعَة من الطّلبَة إِلَى القاضيين أَن يتكلما فِي مَسْأَلَة من الْفِقْه يسْمعهَا الْجَمَاعَة مِنْهُمَا وتنقلها عَنْهُمَا وَقُلْنَا لَهما إِن أَكثر من فِي الْمجْلس غَرِيب قصد إِلَى التَّبَرُّك بهما وَالْأَخْذ عَنْهُمَا وَلم يتَّفق لمن ورد مُنْذُ أَعْوَام جمة أَن يسمع تناظرهما إِذْ كَانَا قد تركا ذَلِك مُنْذُ أَعْوَام وفوضا الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى تلاميذهما وَنحن نرغب أَن يتصدقا على الْجمع بكلامهما فِي مَسْأَلَة يتجمل بنقلها وحفظها وروايتها
فَأَما القَاضِي أَبُو الطّيب فأظهر الْإِسْعَاف بالإجابة وَأما القَاضِي أَبُو عبد الله فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ من كَانَ لَهُ تلميذ مثل أبي عبد الله يُرِيد الدَّامغَانِي لَا يخرج إِلَى الْكَلَام وَهَا هُوَ حَاضر من أَرَادَ أَن يكلمهُ فَلْيفْعَل فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب عِنْد ذَلِك وَهَذَا أَبُو إِسْحَاق من تلامذتي يَنُوب عني فَلَمَّا تقرر الْأَمر على ذَلِك انتدب شَاب من أهل كازرون يدعى أَبَا الْوَزير يسْأَل أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الْإِعْسَار بِالنَّفَقَةِ هَل يُوجب الْخِيَار للزَّوْجَة فَأَجَابَهُ الشَّيْخ أَنه يُوجب الْخِيَار وَهُوَ مَذْهَب مَالك خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله إِنَّه لَا يُوجِبهُ لَهَا
فطالبه السَّائِل بِالدَّلِيلِ على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الدَّلِيل على صِحَة مَا ذهبت إِلَيْهِ أَن النِّكَاح نوع ملك يسْتَحق بِهِ الْإِنْفَاق فَوَجَبَ أَن يكون الْإِعْسَار بِالْإِنْفَاقِ يُؤثر فِي إِزَالَته كملك الْيَمين
فاعترضه السَّائِل باعتراضات وَوَقع الِانْفِصَال عَنْهَا
ثمَّ تنَاول الْكَلَام على وَجه النِّيَابَة عَنهُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل النّظر المذنب الشَّيْخ أَبُو عبد الله الدامعاني فَقَالَ هَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يمْنَع أَن يستويا فِي أَن كل وَاحِد(4/246)
مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ النَّفَقَة ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي الْإِزَالَة أَلا ترى أَن البيع وَالنِّكَاح يستويان فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ الْملك ثمَّ فَوَات التَّسْلِيم بِالْهَلَاكِ فِي أَحدهمَا يُوجب بطلَان العقد وَهُوَ البيع لِأَنَّهُ إِذا هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم بَطل البيع وَفِي النِّكَاح لَا يبطل العقد وتنفذ أَحْكَام الزَّوْجِيَّة بعد الْمَوْت فَكَذَلِك فِي الْفَرْع يجب أَن يتساويا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ النَّفَقَة ثمَّ الْعَجز عَن الْإِنْفَاق فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ يُوجب الْإِزَالَة وَفِي الْفَرْع لَا يُمكن نقل الْملك عَنهُ إِلَى الْغَيْر فَوَجَبَ أَلا تجب الْإِزَالَة بالإعسار كَمَا يُقَال فِي أم الْوَلَد
فَأجَاب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق عَن الْفَصْل الأول بفصلين
أَحدهمَا أَنه قَالَ إِن هَذَا الْمَعْنى لَيْسَ بإلزام صَحِيح لِأَنِّي لم أقل إِنَّه إِذا تساوى الْملكَانِ فِي معنى وَجب أَن يتساويا فِي جَمِيع الْأَحْكَام لِأَن الإملاك والعقود تخْتَلف أَحْكَامهَا وموجباتها وَإِنَّمَا جمعت بَينهمَا بِهَذَا الْمَعْنى الَّذِي هُوَ اسْتِحْقَاق النَّفَقَة ثمَّ الْعَجز عَن هَذِه النَّفَقَة الَّتِي لملك الْيَمين يُوجب إِزَالَة الْملك فَوَجَبَ أَن يكون الآخر مثله
وَالثَّانِي أَن النِّكَاح إِنَّمَا خَالف البيع فِيمَا ذكره لِأَن الْمَقْصُود بِهِ الوصلة والمصاهرة إِلَى الْمَوْت فَإِذا مَاتَ أَحدهمَا فقد تمت الوصلة وانْتهى العقد إِلَى منتهاه فَمن الْمحَال أَن يكون مَعَ تَمام العقد نحكم بِإِبْطَال العقد كَمَا نقُول فِي الْإِجَارَة إِذا عقدت إِلَى أمد ثمَّ انْقَضتْ الْمدَّة لم يجز أَن يُقَال إِن الْأَحْكَام قد بطلت بِانْقِضَاء الْمدَّة وتمامها فَكَذَلِك النِّكَاح وَلَيْسَ كَذَلِك البيع فَإِن الْمَقْصُود بِهِ التَّصَرُّف فِي الْمعَانِي الَّتِي تثبت الْملك من الاقتناء وَالتَّصَرُّف والاستخدام فَإِذا هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم فَإِن الْمَعْنى الْمَقْصُود قد فَاتَ فَلهَذَا تبطل وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فالملكان على هَذَا وَاحِد فِي الِاسْتِحْقَاق للنَّفَقَة فَإِذا وَجَبت الْإِزَالَة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ بِالْعَجزِ عَن الْإِنْفَاق وَجب أَن يكون فِي الْموضع الآخر مثله(4/247)
وَأما الْمُعَاوضَة الَّتِي ذكرتها فَلَا تصح لِأَنَّهُ إِن جَازَ أَن يُقَال فِي العَبْد إِنَّه يَزُول ملكه عَنهُ لِأَنَّهُ تمكن إِزَالَة الْملك فِيهِ بِالنَّقْلِ إِلَى غَيره فَفِي الزَّوْجَة أَيْضا يُمكن إِزَالَة الْملك إِلَى غَيره بِالطَّلَاق فَوَجَبَ أَن يزَال وعَلى هَذَا تبطل بِهِ إِذا عجز الزَّوْج عَن الْوَطْء فَإِنَّهُ يثبت لَهَا الْخِيَار فِي مُفَارقَة الزَّوْج وَإِن كَانَ لَا يَصح الْملك فِيهَا أَلا ترى أَنا نفرق بَينهمَا بالعنة فَكَذَلِك هَاهُنَا فَأَما الْكَلَام فِي أم الْوَلَد فَإنَّا لَا نسلمه فَإِن من أَصْحَابنَا من قَالَ إِنَّه يجب إعْتَاقهَا مَتى عجز عَن الْإِنْفَاق فعلى هَذَا لَا نسلمه وَإِن سلمت فَالْمَعْنى فِيهَا أَنه لَا يُمكنهَا أَن تتوصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة بِمثل ذَلِك السَّبَب إِذا أزيل ملكه عَنْهَا وهى هَا هُنَا يُمكنهَا التَّوَصُّل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة بِمثل ذَلِك السَّبَب إِذا أزيل ملكه عَنْهَا وَذَلِكَ بِأَن تتَزَوَّج آخر وَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا ذكرت من العَبْد الْقِنّ
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي على الْفَصْل الأول إِذا كَانَ قد اسْتَويَا فِي مَسْأَلَتنَا فِي اسْتِحْقَاق النَّفَقَة بِالْملكِ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَأوجب ذَلِك التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي إِزَالَة الْملك فيهمَا لزمك أَنه قد اسْتَوَى البيع وَالنِّكَاح فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ الْملك فَوَجَبَ أَن يستويا فِي إِبْطَاله بِفَوَات التَّسْلِيم
وَأما قَوْلك إِن الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ هُوَ الوصلة وَقد حصلت فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الْمَقْصُود فِي النِّكَاح هُوَ الْوَطْء لِأَن الزَّوْج إِنَّمَا يتَزَوَّج للاستمتاع لَا بِقصد الوصلة من غير استمتاع وعَلى أَنه إِن كَانَ الْمَقْصُود فِي النِّكَاح هُوَ الوصلة فَفِي البيع أَيْضا هُوَ الْملك دون الاقتناء والاستخدام بِدَلِيل أَنه إِذا اشْترى أَبَاهُ يحكم بِصِحَّة البيع وَإِن لم يحصل الِاسْتِخْدَام وَلَكِن لما حصل الْملك حكمنَا بِجَوَازِهِ وعَلى أَن فِي مَسْأَلَتنَا أَيْضا النِّكَاح مُخَالف لملك الْيَمين فِي بَاب النَّفَقَة أَلا ترى أَن كل نَفَقَة وَاجِبَة(4/248)
\ @ 249 @ فِي ملك الْيَمين يسْتَحق بهَا الْإِزَالَة وَقد تجب فِي النِّكَاح نفقات وَاجِبَة يحبس عَلَيْهَا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهَا الْإِزَالَة وَهِي النَّفَقَة الْمَاضِيَة وَنَفَقَة الْخَادِم فَدلَّ ذَلِك على الْفرق بَينهمَا
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهِي الْمُعَاوضَة فَهِيَ صَحِيحَة وَقَوله إِن هَاهُنَا أَيْضا يُمكن إِزَالَة الْملك بِالطَّلَاق فَغير صَحِيح لِأَن الطَّلَاق إِزَالَة ملك بِغَيْر عوض وَهَذَا لَا يُوجِبهُ الْعَجز عَن النَّفَقَة كَمَا لَا يجب إِعْتَاق عَبده للعجز عَن النَّفَقَة
وَأما مَا ألزمت من الْوَطْء إِذا عجز عَنهُ الزَّوْج فَلَيْسَ بِصَحِيح فَإِن فِي الْوَطْء لَا يُمكنهَا تَحْصِيله وَأما النَّفَقَة فيمكنها تَحْصِيلهَا بالاستقراض والاستخدام وَغير ذَلِك وتنفق على نَفسهَا
وَأما مَا قلت فِي أم الْوَلَد إِنِّي لَا أسلمه
فَإِنَّهُ لَا خلاف أَنه لَا يجوز إعْتَاقهَا
وقولك إِنَّه لَا يتَوَصَّل إِلَى مثله بِمثل هَذَا السَّبَب وَهَاهُنَا يُمكنهُ التَّوَصُّل غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يُمكنهَا أَن تتوصل حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا وتتزوج زوجا آخر وَرُبمَا كَانَ الزَّوْج الثَّانِي مثل الزَّوْج الأول فِي الْفقر فَتَركهَا عِنْد الأول أولى
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْفَصْل الأول إِنَّمَا جمعت بَين الْملكَيْنِ وَجَعَلته مؤثرا فِي بَاب الْإِزَالَة وَهُوَ اسْتِحْقَاق النَّفَقَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِذا حصل الْعَجز وَوَجَبَت الْإِزَالَة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وَجب فِي الْموضع الآخر مثله وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُسَاوَاة فِي البيع وَالنِّكَاح فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُوجب الْملك لِأَنَّهُمَا وَإِن تَسَاويا فِي الْملك إِلَّا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي التَّسْلِيم أَلا ترى أَن التَّسْلِيم مُسْتَحقّ بعد البيع وَغير مُسْتَحقّ بعد النِّكَاح وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه إِذا بَاعَ عبدا آبقا لم يَصح العقد فَدلَّ على أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي وجوب التَّسْلِيم فَجَاز أَن يختلفا فِي جَوَاز التَّسْلِيم وَفِي مَسْأَلَتنَا اسْتَويَا فِي وجوب النَّفَقَة فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِزَالَة عِنْد الْعَجز عَنْهَا(4/249)
وَأما مَا ذكرت من الْفرق بَين البيع وَالنِّكَاح فِي الْمَقْصُود وَقلت إِن الْمَقْصُود من النِّكَاح هُوَ الوصلة والمصاهرة فَإِذا فرق الْمَوْت بَينهمَا فقد حصل الْمَقْصُود وتمت الوصلة فَلهَذَا قُلْنَا إِنَّه لَا يبطل وَفِي البيع الْمَقْصُود هُوَ التَّصَرُّف والاقتناء فَإِذا هلك التَّسْلِيم فَإِن الْمَقْصُود قد فَاتَ
وقولك إِن الرجل يقْصد بِالنِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاع فَهُوَ صَحِيح إِلَّا أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون لَهُ مَقَاصِد أخر وَلَيْسَ كَذَلِك البيع فَإِن عَامَّة مقاصده قد فَاتَت بِفَوَات التَّسْلِيم فَافْتَرقَا
وَأما مَا ذكرت من أَن البيع الْمَقْصُود مِنْهُ أَيْضا هُوَ الْملك وَقد حصل بِدَلِيل أَنه يجوز لَهُ أَن يَشْتَرِي أَبَاهُ فَيعتق عَلَيْهِ فَهَذَا نَادِر وشاذ فِي بَاب البيع وَالْمَقْصُود من الْبياعَات والأشرية مَا ذكرت فَلَا يجوز إبِْطَال مَا وضع عَلَيْهِ الْبَاب بأشذ وأندر على أَن هُنَاكَ قد حصل الْمَقْصُود لِأَن الْمَقْصُود فِي شِرَاء الْوَالِد أَن يعْتق عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يَجْزِي ولد والدا إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه) وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا إِذا مَاتَ قبل التَّسْلِيم فَإِنَّهُ لَا يحصل الْمَقْصُود فَافْتَرقَا
وَأما قَوْلك فِي ملك النِّكَاح أَيْضا إِنَّه مُخَالف للْملك فِي بَاب النَّفَقَة بِدَلِيل أَن كل نَفَقَة وَاجِبَة فِي ملك الْيَمين يزَال بِالْعَجزِ عَنْهَا الْملك وَلَا يزَال الْملك فِي النِّكَاح بِكُل نَفَقَة وَاجِبَة وَهِي النَّفَقَة الْمَاضِيَة وَنَفَقَة الْخَادِم فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ للبر فِي نَفَقَة الْخَادِم وَالنَّفقَة الْمَاضِيَة الْوَاجِبَة غير أَنه لَا ضَرَر فِي الِامْتِنَاع من ذَلِك فَلم يثبت لَهَا الْخِيَار وَعَلَيْهَا ضَرَر فِي الِامْتِنَاع من نَفَقَة الْحَال فَصَارَت هَذِه النَّفَقَة مثل نَفَقَة العَبْد سَوَاء(4/250)
وَأما الْمُعَارضَة بِمَا ذكرت أَنه لَا يُمكن إِزَالَة الْملك هَاهُنَا بِالطَّلَاق وقولك إِن الطَّلَاق إِزَالَة ملك بِغَيْر الْعتْق وَهُوَ أَن يُبَاع
فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إِزَالَة الْملك فِيهِ بِالْعِتْقِ وَلَيْسَ كَذَلِك فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهُ لَا يُمكن إِزَالَة الْملك فِيهَا بِالْبيعِ وَنقل الْملك فأزيل بِالطَّلَاق وَلِهَذَا قلت فِي أم الْوَلَد إِنَّه لما لم يُمكن إِزَالَة الْملك فِيهَا بِالْبيعِ أزلنا ذَلِك بِالْعِتْقِ على مَذْهَب بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ اخْتِيَار الشَّيْخ أبي يَعْقُوب وَأما مَا التزمت من الْوَطْء إِذا عجز فَهُوَ صَحِيح وَهُوَ فصل فِي الْمَسْأَلَة
قَالَ فَإِن الَّذِي يلْحق الْمَرْأَة فِي ترك النَّفَقَة أعظم من الضَّرَر فِي ترك الْجِمَاع فَإِن الْجِمَاع قد تصبر الْمَرْأَة لفقده وَالنَّفقَة لَا بُد مِنْهَا وَبهَا يقوم الْبدن وَالنَّفس ثمَّ قُلْنَا إِنَّه يثبت الْخِيَار وَإِن كَانَ لَا يُمكن نقل الْملك فِيهَا بعوض فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأما قَوْلكُم فِي الْجِمَاع لَا تتوصل إِلَيْهِ إِلَّا بِإِزَالَة الْملك وَهَاهُنَا تتوصل إِلَيْهِ بِأَن تستقرض فَغير صَحِيح فَإِنَّهُ يلْحقهُ الضَّرَر بالاستقراض وَيطْلب وَيحبس عَلَيْهِ وَإِن ألزمناها ذَلِك يجب أَن نلزمها أَن تكري لنَفسهَا وَفِي ذَلِك مشقة عَظِيمَة وَلَا يجب إلزامها
وَأما مَا ذكرت فِي أم الْوَلَد أَنى لَا أسلمه فَهُوَ صَحِيح وقولك إِنِّي أَقيس عَلَيْهِ إِذا كَانَ لَهَا كسب فَلَا يلْزم لِأَنَّهَا إِذا كَانَ لَهَا كسب فَلَيْسَ هُنَاكَ إعسار بِالنَّفَقَةِ فَإِن كسبها يكون لمولاها ويمكنه أَن ينْفق عَلَيْهَا وَفِي مَسْأَلَتنَا عجز عَن الْإِنْفَاق على مَا ذكرت
وَأما الْفرق الَّذِي ذكرت فَهُوَ صَحِيح وقولك إِنَّه لَا تتوصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة إِلَّا بِانْقِضَاء عدَّة فَتزَوج آخر فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ لَو كَانَ لهَذَا الْمَعْنى لوَجَبَ أَن يفرق(4/251)
فِيهَا قبل الدُّخُول وَبعده وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ قبل الدُّخُول توصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة فِي الْحَال فَسقط مَا قلته وعَلى هَذَا إِن كَانَ لَا يُوجب إِزَالَة الْملك لهَذَا الْمَعْنى فَيجب أَن يكون فِي الْوَطْء لَا يثبت لَهَا الْخِيَار فَإِنَّهَا لَا تتوصل أَيْضا إِلَى تَحْصِيل الْجِمَاع حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا وتتزوج زوجا آخر وَرُبمَا كَانَ الثَّانِي مثل الأول فِي الْعَجز عَن الْجِمَاع وَلما ثَبت أَنه يَزُول الْملك للعجز عَن الْجِمَاع بَطل مَا قُلْتُمْ وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
مناظرة بَين إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَبَين الشَّيْخ أبي إِسْحَاق بنيسابور
فِي اخْتِيَار الْبكر الْبَالِغ بِأَن قَالَ بَاقِيَة على بكارة الأَصْل فَجَاز للْأَب تَزْوِيجهَا بِغَيْر إِذْنهَا
أَصله إِذا كَانَت صَغِيرَة فَقَالَ السَّائِل جعلت صُورَة هَذِه الْمَسْأَلَة عِلّة فِي الأَصْل وَذَلِكَ لَا يجوز
فَقَالَ لَا يَصح لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنى مَا جعلت صُورَة الْمَسْأَلَة عِلّة فِي الأَصْل وَأَن صُورَة الْمَسْأَلَة تَزْوِيج الْبكر الْبَالِغَة من غير إِذن
وعلتي أَنَّهَا بَاقِيَة على بكارة وَلَيْسَ هَذَا صُورَة الْمَسْأَلَة لِأَن هَذِه الْعلَّة غير مَقْصُورَة على الْبكر الْبَالِغَة بل هِيَ عَامَّة فِي كل بكر وَلِهَذَا قست على الصَّغِيرَة
الثَّانِي قَوْلك لَا يجوز أَن تجْعَل صُورَة الْمَسْأَلَة عِلّة دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَمَا الْمَانِع من ذَلِك الثَّالِث أَن الْعِلَل شَرْعِيَّة كَمَا أَن الْأَحْكَام شَرْعِيَّة وَلَا يُنكر فِي الشَّرْع أَن يعلق(4/252)
الشَّارِع الحكم على الصُّورَة مرّة كَمَا يعلق على سَائِر الصِّفَات فَلَا معنى للْمَنْع من ذَلِك فَإِن كَانَ عنْدك أَنه لَا دَلِيل على صِحَّتهَا فطالبني بِالدَّلِيلِ على صِحَّتهَا من جِهَة الشَّرْع
فَقَالَ السَّائِل مَا الدَّلِيل على صِحَّتهَا من الشَّرْع فَقَالَ الدَّلِيل على صِحَة هَذِه الْعلَّة الْخَبَر وَالنَّظَر
أما الْخَبَر فَمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا) وَالْمرَاد بِهِ الثّيّب لِأَنَّهُ قابلها بالبكر فَقَالَ (وَالْبكْر تستأمر) فَدلَّ على أَن غير الثّيّب وَهِي الْبكر لَيست أَحَق بِنَفسِهَا وَأقوى طَرِيق تثبت بِهِ الْعلَّة مَا نطق بِهِ صَاحب الشَّرْع
وَأما النّظر فَلَا خلاف أَن الْبكر يجوز أَن تزَوجهَا من غير نطق لبكارتها وَلَو كَانَت ثَيِّبًا لم يجز تَزْوِيجهَا من غير نطق أَو مَا يقوم مقَام النُّطْق عِنْده وَهُوَ الْكِتَابَة وَلَو لم يكن تَزْوِيجهَا إِلَى الْوَلِيّ لما جَازَ تَزْوِيجهَا من غير نطق
اعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي فَقَالَ الْمعول فِي الدَّلِيل على مَا ذكرت من الْخَبَر وَالنَّظَر فَأَما الْخَبَر فَإِنَّهُ يحْتَمل التَّأْوِيل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا لِأَنَّهُ لَا يملك تَزْوِيجهَا إِلَّا بالنطق وَالْبكْر بِخِلَافِهَا وَإِذا احْتمل التَّأْوِيل أولناه على مَا ذكرت بطرِيق يُوجب الْعلم وَهُوَ أَنه قد اجْتمع للبكر الْبَالِغَة الْأَسْبَاب الَّتِي يسْقط مَعهَا ولَايَة الْوَلِيّ وتستقل بِنَفسِهَا فِي التَّصَرُّف فِي حق نَفسهَا لِأَن الْمَرْأَة إِنَّمَا تفْتَقر إِلَى الْوَلِيّ لعدم استقلالها بِنَفسِهَا لصِغَر أَو جُنُون فَإِذا اجْتمع فِيهَا الْأَسْبَاب الَّتِي تَسْتَغْنِي بهَا عَن ولَايَة الْوَلِيّ لم يجز ثُبُوت الْولَايَة عَلَيْهَا فِي التَّزْوِيج بِغَيْر إِذْنهَا وَلِأَن فِي الْخَبَر مَا يدل على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه ذكر الْوَلِيّ وَأطلق وَلم يفصل بَين الْأَب وَالْجد وَغَيرهمَا من الْأَوْلِيَاء وَلَو كَانَ المُرَاد ولَايَة الْإِجْبَار لم يُطلق(4/253)
الْولَايَة لِأَن غير الْأَب وَالْجد لَا يملك الْإِجْبَار بِالْإِجْمَاع فَثَبت أَنه أَرَادَ بِهِ اعْتِبَار النُّطْق فِي حق الثّيّب وسقوطه فِي حق الْبكر وَلِأَنَّهُ قَالَ وَالْبكْر تستأمر وإذنها صماتها فَدلَّ أَنه أَرَادَ فِي الثّيّب اعْتِبَار النُّطْق
أجَاب الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ لَا يجوز حمله على مَا ذكرت من اعْتِبَار النُّطْق لِأَنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَحَق بِنَفسِهَا) وَقد اقْتضى أَنَّهَا أَحَق بِنَفسِهَا فِي العقد وَالتَّصَرُّف دون النُّطْق
وقولك إِنَّه أطلق الْوَلِيّ فَإِنَّهُ عُمُوم مَا حمله على الْأَب وَالْجد بِدَلِيل التَّعْلِيل الَّذِي ذكره فِي الثّيّب فَإِنَّهُ قَالَ وَالثَّيِّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا) وَذكر الصّفة فِي الحكم تَعْلِيل وَالتَّعْلِيل بِمَنْزِلَة النَّص فيخص بِهِ الْعُمُوم كَمَا يخص بِالْقِيَاسِ
وقولك إِنَّه ذكر الصمات فِي حق الْبكر فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِهِ النُّطْق فِي حق الثّيّب لَا يَصح بل هُوَ الْحجَّة عَلَيْك لِأَنَّهُ لما ذكر الْبكر صفة إِذْنهَا وَأَنه الصمات وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ فِي الثّيّب النُّطْق لما احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة الصمات فِي قَوْله (وَالْبكْر تستأمر) وَأما قَوْله إِن هَاهُنَا دَلِيلا يُوجب الْقطع غير صَحِيح وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس على سَائِر الولايات وَالْقِيَاس يتْرك بِالنَّصِّ
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْمَعَالِي لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تَدعِي أَنه نَص ودعواه لَا تصح لِأَن النَّص مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل فَإِذا بَطل أَنه نَص جَازَ التَّأْوِيل بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذكرت
وَأما قَوْلك إِنِّي أحمل الْوَلِيّ على الْأَب وَالْجد بِدَلِيل التَّعْلِيل الَّذِي ذكره فِي الْخَبَر فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن ذكر الصّفة فِي الحكم إِنَّمَا يكون تعليلا إِذا كَانَ مناسبا للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ كالسرقة فِي إِيجَاب الْقطع والثيوبة غير مُنَاسبَة للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهَا وَهِي أَنَّهَا أَحَق بِنَفسِهَا فَلَا يجوز أَن تكون عِلّة وَلِأَن مَا ذكرت لَيْسَ بِقِيَاس وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيق آخر فَجَاز أَن يتْرك لَهُ التَّعْلِيل(4/254)
أجَاب الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ أما التَّأْوِيل فَلَا يَصح دَعْوَاهُ لِأَن التَّأْوِيل صرف الْكَلَام عَن ظَاهره إِلَى وَجه يحْتَملهُ كَقَوْل الرجل رَأَيْت حمارا وَأَرَادَ بِهِ الرجل البليد فَإِن هَذَا مُسْتَعْمل فَصَارَ صرف الْكَلَام إِلَيْهِ فَأَما مَا لَا يسْتَعْمل اللَّفْظ فِيهِ فَلَا يَصح تَأْوِيل اللَّفْظ عَلَيْهِ كَمَا لَو قَالَ رَأَيْت بغلا ثمَّ قَالَ أردْت بِهِ رجلا بليدا لم يقبل لِأَن الْبَغْل لَا يسْتَعْمل فِي الرِّجَال بِحَال فَكَذَلِك هَاهُنَا قَوْله (الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا)
وقولك لَيْسَ بتعليل لِأَنَّهُ لَا يُنَاسب الحكم فَلَا يَصح لِأَن ذكر الصّفة فِي الحكم تَعْلِيل فِي كَلَام الْعَرَب أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ اقْطَعُوا السَّارِق
كَانَ مَعْنَاهُ لسرقته وَإِذا قَالَ جَالس الْعلمَاء
مَعْنَاهُ لعلمهم
وقولك إِنَّه إِنَّمَا يجوز فِيمَا يصلح أَن يكون تعليلا للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ كالسرقة فِي إِيجَاب الْقطع
إِلَّا أَن التَّعْلِيل للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ طَرِيقه الشَّرْع وَلَا يُنكر فِي الشَّرْع أَن تجْعَل الثيوبة عِلّة لإِسْقَاط الْولَايَة كَمَا لَا يُنكر أَن تجْعَل السّرقَة عِلّة لإِيجَاب الْقطع وَالزِّنَا للحد
وقولك هَذَا الَّذِي ذكرت لَيْسَ بِقِيَاس خطأ بل جعلت استقلالها بِهَذِهِ الصِّفَات معينا على الْولَايَة وَلَا يَصح بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِالْإِسْنَادِ إِلَى الولايات الثَّابِتَة فِي الشَّرْع والولايات الثَّابِتَة فِي الشَّرْع إِنَّمَا زَالَت بِهَذِهِ الصِّفَات فِي الأَصْل فَحملت ولَايَة النِّكَاح عَلَيْهَا وَذَلِكَ يحصل بِالْقِيَاسِ وَلَو لم يكن هَذَا الأَصْل لما صَحَّ لَك دَعْوَى الِاسْتِقْلَال بِهَذِهِ الصِّفَات فَإِنَّهُ لَا يسلم أَن الْولَايَة تثبت فِي حق الْمَجْنُون وَالصَّغِير بِمُقْتَضى الْعقل وَإِنَّمَا يثبت ذَلِك بِالشَّرْعِ وَالشَّرْع مَا ورد إِلَّا فِي الْأَمْوَال فَكَانَ حمل النِّكَاح عَلَيْهِ قياسيا وَالْقِيَاس لَا يُعَارض النَّص وَقد ثَبت أَن الْخَبَر نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل فَلَا يجوز تَركه بِالْقِيَاسِ وَلِأَن هَذَا طَرِيق تعارضه مَسْأَلَة وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَت الْأُصُول مَوْضُوعَة على ثُبُوت الْولَايَة للْحَاجة وسقوطها بالاستقلال بِهَذِهِ الصِّفَات فالأصول مَوْضُوعَة على أَن(4/255)
النُّطْق لَا يعْتَبر إِلَّا فِي مَوضِع لَا يثبت فِيهِ الْولَايَة وَقد ثَبت أَن النُّطْق قد سقط فِي حق الْبكر فَوَجَبَ أَن تثبت الْولَايَة عَلَيْهَا
فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي رَحمَه الله النُّطْق سقط أَيْضا
فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق هَذَا تَأْكِيد لِأَن سُقُوطه بِالنَّصِّ دَلِيل على مَا ذكرت
وَهَذَا آخر مَا جرى بَينهمَا
وَالله أعلم
358 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مهْرَان الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني
أحد أَئِمَّة الدّين كلَاما وأصولا وفروعا
جمع أشتات الْعُلُوم
واتفقت الْأَئِمَّة على تبجيله وتعظيمه وَجمعه شَرَائِط الْإِمَامَة
قَالَ الْحَاكِم انْصَرف من الْعرَاق بعد الْمقَام بهَا وَقد أقرّ لَهُ أهل الْعلم بالعراق وخراسان بالتقدم وَالْفضل فَاخْتَارَ الوطن إِلَى أَن خرج بعد الْجهد إِلَى نيسابور وَبنى لَهُ الْمدرسَة الَّتِي لم يبن قبلهَا بنيسابور مثلهَا ودرس فِيهَا وَحدث
سمع بخراسان الشَّيْخ أَبَا بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ
وبالعراق أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الله الشَّافِعِي ودعلج بن أَحْمد وأقرانهما
روى عَنهُ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو السنابل هبة الله بن أبي الصَّهْبَاء وَمُحَمّد بن الْحسن البالوي وَجَمَاعَة(4/256)
قيل وَكَانَ يلقب ركن الدّين
وَله التصانيف الفائقة مِنْهَا كتاب الْجَامِع فِي أصُول الدّين وَالرَّدّ على الْمُلْحِدِينَ ومسائل الدّور وتعليقة فِي أصُول الْفِقْه وَغير ذَلِك
قَالَ عبد الغافر كَانَ أَبُو إِسْحَاق طراز نَاحيَة الْمشرق فضلا عَن نيسابور ونواحيها ثمَّ كَانَ من الْمُجْتَهدين فِي الْعِبَادَة المبالغين فِي الْوَرع انتخب عَلَيْهِ أَبُو عبد الله الْحَاكِم عشرَة أَجزَاء
وَذكره فِي تَارِيخه لجلالته
قَالَ وَكَانَ ثِقَة ثبتا فِي الحَدِيث
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر حكى لي من أَثِق بِهِ أَن الصاحب بن عباد كَانَ إِذا انْتهى إِلَى ذكر ابْن الباقلاني وَابْن فورك والإسفرايني وَكَانُوا متعاصرين من أَصْحَاب أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ قَالَ لأَصْحَابه ابْن الباقلاني بَحر مغرق وَابْن فورك صل مطرق
والإسفرايني نَار تحرق
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ درس عَلَيْهِ شَيخنَا القَاضِي أَبُو الطّيب وَعنهُ أَخذ الْكَلَام وَالْأُصُول عَامَّة شُيُوخ نيسابور
وَقَالَ أَبُو صَالح الْمُؤَذّن سَمِعت أَبَا حَازِم العبدوي يَقُول كَانَ الْأُسْتَاذ يَقُول لي بعد مَا رَجَعَ من أسفراين أشتهي أَن يكون موتى بنيسابور حَتَّى يُصَلِّي على جَمِيع أهل(4/257)
نيسابور فَتوفي بعد هَذَا الْكَلَام بِنَحْوِ من خَمْسَة أشهر يَوْم عَاشُورَاء سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع قَالَ أَنبأَنَا الشَّيْخَانِ أَبُو بكر مُحَمَّد ورقية ابْنا إِسْمَاعِيل الْأنمَاطِي حضورا وَغَيرهمَا قَالُوا حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي سعد الصفار كِتَابَة أَنبأَنَا أَبُو مَنْصُور عبد الْخَالِق بن زَاهِر الشحامي سَمَاعا أَنبأَنَا الشَّيْخ أَبُو إِبْرَاهِيم مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد البالوي أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الإسفرايني أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد دعْلج ابْن أَحْمد السجْزِي بِبَغْدَاد حَدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ حَدثنَا أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (مثل الْمُؤمن كَمثل الخامة من الزَّرْع يميلها الرِّيَاح مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا وَمثل الْمُنَافِق كَمثل الأرزة المجذية على الأَرْض حَتَّى يكون انجعافها)
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله الدِّمَشْقِي عَن أبي بكر الْقَاسِم بن أبي سعد عبد الله بن عمر الصفار وَأبي المظفر عبد الرَّحِيم بن أبي سعد عبد الْكَرِيم بن السَّمْعَانِيّ قَالَا أنبأتنا عَائِشَة ابْنة أبي نصر أَحْمد بن مَنْصُور بن الصفار قِرَاءَة عَلَيْهَا وَنحن نسْمع قَالَت أَنبأَنَا الشريف أَبُو السنابل هبة الله ابْن أبي الصَّهْبَاء مُحَمَّد بن حيدر الْقرشِي قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع حَدثنَا الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المهرجاني الإسفرايني إملاء فِي مَسْجِد عقيل(4/258)
بعد صَلَاة الْعَصْر يَوْم الْخَمِيس فِي الْمحرم سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ أول إملاء عقد لَهُ أخبرنَا الإِمَام أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة حَدثنَا أَحْمد بن طَارق حَدثنَا مُسلم بن خَالِد حَدثنَا زِيَاد بن سعد عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن صَفْوَان بن سليم عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بعثت على أثر ثَمَانِيَة آلَاف نَبِي مِنْهُم أَرْبَعَة آلَاف من بني إِسْرَائِيل)
ذكر نخب وفوائد عَنهُ
تكلم الْأُسْتَاذ الإسفرايني فِي كتاب الْحلِيّ فِي أصُول الدّين على قَول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْإِيمَان لَا يشركهُ الشّرك والشرك يشركهُ الشّرك بِمَا حَاصله أَن الْإِيمَان لَو قارنه اعْتِقَاد قدم الْعَالم أَو نَحوه من الكفران ارْتَفع بجملته وَالْكفْر كالتثليث مثلا لَو قارنه اعْتِقَاد خُرُوج الشَّيْطَان على الرَّحْمَن ومغالبته كَمَا يَقُول الْمَجُوس لم يرْتَفع شركه بالنصرانية بل ازْدَادَ شركا بالمجوسية
وَأطَال فِي ذَلِك
قلت فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْإِيمَان لَا يزِيد وَلَا ينقص وَأَن الْكفْر يزِيد وَينْقص فَتَأمل ذَلِك
وَمن الْمسَائِل الحديثية الَّتِي سَأَلَهَا الْحَافِظ أَبُو سعد عبد الرَّحْمَن بن الْحسن ابْن عَلَيْك النَّيْسَابُورِي من الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق إِذا روى عَن الشَّيْخ الْأَحَادِيث الطوَال وَقَالَ فِيهِ وَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ ثمَّ أحب هَذَا أَن يروي الحَدِيث بِطُولِهِ وَلَا يختصر هَل لَهُ ذَلِك أجَاب الْأُسْتَاذ أَن ذَلِك لَا يجوز
قلت وَهَذَا الَّذِي أرَاهُ وَقد قَدمته فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة فِي تَرْجَمَة دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَذكرت مَا فِيهِ عَن أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي عَليّ الزجاجي(4/259)
وفيهَا أَنه لَا يرجح الذُّكُورَة عَن الْأُنُوثَة فِي الرِّوَايَة بل هما سَوَاء
وَأَنه إِذا سقط من الأسناد رجل يعلم أَنه غلط من الْكَاتِب لم يجز أَن يثبت اسْم ذَلِك الرجل وَقَالَ الْأُسْتَاذ وَمن فعله سقط فِي جَمِيع أَحَادِيثه
وَأَنه إِذا قلب الأسناد والمتن على حَاله فَجعل بدل شُعْبَة سعيدا وَمَا أشبهه يُرِيد أَن يَجْعَل الحَدِيث مرغوبا فِيهِ غَرِيبا يصير دجالًا كذابا تسْقط بِهِ جَمِيع أَحَادِيثه وَإِن رَوَاهَا على وَجههَا
نقل الرَّافِعِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق أَن الْأُم تعْتق إِذا أعتق حملهَا مَالِكهَا كَمَا يعْتق هُوَ بِعتْقِهَا وَهَذَا مُشكل فَإِنَّهُ لَا تتخيل فِيهِ السَّرَايَة فَإِن السَّرَايَة فِي الأشقاص لَا فِي الْأَشْخَاص وَالْحمل إِنَّمَا يتبع الْأُم إِذا أعْتقهَا مَالِكهَا لِأَن الْحمل تَابع للْأُم لَا للسراية لما ذَكرْنَاهُ وَكَيف تتبع الْأُم الْحمل وَالتَّابِع كَيفَ يَنْقَلِب متبوعا(4/260)
مناظرة بَين الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإسفرايني وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار المعتزلي
قَالَ عبد الْجَبَّار فِي ابْتِدَاء جُلُوسه للمناظرة سُبْحَانَ من تنزه عَن الْفَحْشَاء
فَقَالَ الْأُسْتَاذ مجيبا سُبْحَانَ من لَا يَقع فِي ملكه إِلَّا مَا يَشَاء(4/261)
فَقَالَ عبد الْجَبَّار أفيشاء رَبنَا أَن يعْصى
فَقَالَ الْأُسْتَاذ أيعصى رَبنَا قهرا
فَقَالَ عبد الْجَبَّار أَفَرَأَيْت إِن مَنَعَنِي الْهدى وَقضى عَليّ بالردى أحسن إِلَيّ أم أسا فَقَالَ الْأُسْتَاذ إِن كَانَ مَنعك مَا هُوَ لَك فقد أسا وَإِن مَنعك مَا هُوَ لَهُ فَيخْتَص برحمته من يشا
فَانْقَطع عبد الْجَبَّار
359 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف أَبُو إِسْحَاق الطوسي
الْفَقِيه النظار أحد كبراء الْأَصْحَاب ومناظريهم وَمن لَهُ الثروة الزَّائِدَة والجاه الوافر
تفقه على الْأُسْتَاذ أبي الْوَلِيد الْفَقِيه
وروى عَنهُ وَعَن أبي الْعَبَّاس الْأَصَم وَغَيرهمَا(4/262)
روى عَنهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره
وَقع لنا حَدِيثه فِي الْأَرْبَعين الصُّغْرَى للبيهقي
360 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن هَارُون بن الْفضل بن هَارُون أَبُو إِسْحَاق المطهري السروي
بِالسِّين الْمُهْملَة وَالرَّاء المفتوحتين نِسْبَة إِلَى سَارِيَة بَلْدَة من بِلَاد مازندران وَرُبمَا نسب إِلَيْهَا الساري
والمطهري نِسْبَة إِلَى مطهر قَرْيَة من قرى سَارِيَة وَهِي بِفَتْح الْهَاء اسْم لمفعول طهر
لَهُ تصانيف كَثِيرَة فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول والفرائض
تفقه بِبَلَدِهِ على أبي مُحَمَّد بن أبي يحيى
وببغداد على أبي حَامِد الإسفرايني
وَقَرَأَ الْفَرَائِض على ابْن اللبان
وَولي قَضَاء سَارِيَة والتدريس وَالْفَتْوَى
وَسمع المخلص وَأَبا الْعَبَّاس النسوي وَأَبا نصر بن الإِمَام أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ
وأملى الحَدِيث
وَتُوفِّي عَن مائَة فِي صفر سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة(4/263)
361 - إِبْرَاهِيم بن المظفر الشهرستاني أَبُو إِسْحَاق الْفَقِيه درس الْفِقْه على أبي الْقَاسِم البوشنجي
قَالَ عبد الغافر وَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
362 - إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْحَافِظ أَبُو يَعْقُوب القراب السَّرخسِيّ ثمَّ الْهَرَوِيّ
الإِمَام الْجَلِيل مُحدث هراة صَاحب المصنفات الْكَثِيرَة
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة
وَطلب الحَدِيث فَأكْثر
قَالَ أَبُو النَّصْر الفامي حَتَّى إِن عدد شُيُوخه زَاد على ألف ومائتي نفس
وَله تَارِيخ السنين الَّذِي صنفه فِي وفيات أهل الْعلم من زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سنة وَفَاته سنة تسع وَعشْرين
وَمن تصانيفه أَيْضا كتاب نسيم المهج وَكتاب الْأنس والسلوة
وَكتاب شمائل الْعباد
قَالَ وَكَانَ زاهدا مقلا من الدُّنْيَا(4/264)
قلت وَمن مشايخه الْعَبَّاس بن الْفضل النضروي وَأَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله اليساري وَعبد الله بن أَحْمد بن حمويه السَّرخسِيّ وزاهر بن أَحْمد الْفَقِيه وَأحمد بن عبد الله النعيمي والخليل بن أَحْمد القَاضِي
وَكتب عَمَّن هُوَ أَصْغَر مِنْهُ
وَحدث عَن الْحَافِظ أبي عَليّ الوخشي وَهُوَ من أَصْحَابه
روى عَنهُ أَبُو إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ وَأَبُو الْفضل أَحْمد بن أبي عَاصِم الصيدلاني وَالْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مت وَغَيرهم
توفّي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
363 - إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عبد الله أَبُو عبد الرَّحْمَن الضَّرِير الْحِيرِي النَّيْسَابُورِي
صَاحب الْكِفَايَة فِي التَّفْسِير وَغَيرهَا
ولد سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلاثمائة
وَقَرَأَ الْخَطِيب عَلَيْهِ صَحِيح البُخَارِيّ كَامِلا فِي ثَلَاثَة مجَالِس(4/265)
حدث عَن زَاهِر السَّرخسِيّ وَغَيره
مَاتَ بعد سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
364 - إِسْمَاعِيل بن أَحْمد النوكاني الطريثيثي من تلامذة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ
وقفت بِخَطِّهِ على شرح عُيُون الْمسَائِل للفارسي علقه عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بنيسابور فِي مجلدة وَاحِدَة ...
365 - إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن القراب أَبُو مُحَمَّد
الْفَقِيه المقرىء السَّرخسِيّ ثمَّ الْهَرَوِيّ أَخُو الْحَافِظ إِسْحَاق
هَذَا مُصَنف كتاب مَنَاقِب الشَّافِعِي الَّذِي رتبه على مائَة وَسِتَّة عشر بَابا أَولهَا فِي نسب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي يرجع إِلَيْهِ نسب الشَّافِعِي وَآخِرهَا أَرْبَعُونَ بَابا جمع فِيهَا أَرْبَعِينَ حَدِيثا من أَحَادِيث الْأَحْكَام من رِوَايَة الشَّافِعِي بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ كتاب حافل رَأَيْت مِنْهُ نُسْخَة فِي مجلدين فِي خزانَة كتب دَار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق(4/266)
وَله مصنفات فِي عُلُوم أخر كتاب دَرَجَات التائبين وَكتاب الشافي فِي الْقرَاءَات وَكتاب الْكَافِي وَكتاب الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ
وَكَانَ إِمَامًا فِي عدَّة عُلُوم زاهدا ورعا
تفقه على الداركي
وَسمع الحَدِيث من أبي بكر الإسماعلي بجرجان
وَمَنْصُور بن الْعَبَّاس بهراة
وَأحمد بن مُحَمَّد بن مقسم بِبَغْدَاد
وَمن مُحَمَّد بن عبد الله الساري وَأبي عَمْرو بن حمدَان وَعلي بن عِيسَى العاصمي وَأبي أَحْمد الغطريفي ومخلد بن جَعْفَر الباقرحي وَبشر بن أَحْمد الإسفرايني وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن زيد الصفار وَعلي بن الْحسن بن عَليّ الجراحي وَمُحَمّد بن عبد الله أبي عبد الله بن الْحَاكِم وَغَيرهم
وروى عَنهُ الْأنْصَارِيّ صَاحب كتاب ذمّ الْكَلَام وَأَبُو عَطاء عبد الْأَعْلَى بن عبد الْوَاحِد بن أَحْمد المليحي وَغَيرهمَا
وَكَانَ إِمَامًا مبرزا فِي عدَّة عُلُوم زاهدا ورعا
ذكره أَبُو نصر الفامي ويوسف بن أَحْمد الشِّيرَازِيّ الحافظان
وَقَالا كَانَ فِي عدَّة عُلُوم إِمَامًا مِنْهَا الحَدِيث والقراءات ومعاني الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالْأَدب وَله تصانيف كلهَا حَسَنَة(4/267)
قَالَا وَكَانَ فِي الزّهْد والتقلل من الدُّنْيَا آيَة
قَالَا وَلم يجد سوق فَضله بهراة نفَاقًا لِأَن الِاسْم كَانَ لغيره
قَالَ ابْن الصّلاح وَقد رَأَيْت بنيسابور كِتَابه الْكَافِي فِي الْقرَاءَات وَهُوَ كتاب يشْتَمل على علم كثير فِي مجلدات عدَّة
وَفِي كِتَابه المناقب يَقُول لقِيت جمَاعَة من أَصْحَاب أبي الْعَبَّاس يَعْنِي ابْن سُرَيج فَمنهمْ من سمع الحَدِيث مِنْهُ وَمِنْهُم من تفقه عَلَيْهِ وَمِنْهُم من حكى لي عَنهُ حكايات
قَالَ ابْن الصّلاح وَوجدت عَن الْحَاكِم أبي عبد الله أَنه ذكره فَقَالَ كَانَ من صالحي أهل الْعلم والمقدمين فِي معرفَة الْقرَاءَات
طلب الْعلم بخراسان وَالْعراق
وَكَانَ من أجل بَيت لأهل الحَدِيث بهراة
انْتهى
قلت وَقد تَأَخَّرت وَفَاته عَن الْحَاكِم فَإِنَّهُ مَاتَ فِي شعْبَان سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَمَات الْحَاكِم سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة
وَقد حدث هُوَ أَيْضا فِي كِتَابه المناقب عَن الْحَاكِم وَأكْثر فِيهِ النَّقْل عَنهُ
وَقد نقلت من كتاب المناقب هَذَا فَوَائِد استعذبتها فَمِنْهَا قَالَ سَمِعت أَبَا الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن عبد الله الداركي يَقُول بِبَغْدَاد فِي درسه(4/268)
حُكيَ لَهُ أَنه صلى على أَحْمد بن حَنْبَل سِتّمائَة ألف رجل وَسِتُّونَ ألف امْرَأَة(4/269)
وَذكر ذَلِك فِي الْبَاب الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ من الْجُزْء الثَّانِي من المناقب
والجزء الثَّانِي مُشْتَمل على ثَلَاثَة وَسبعين بَابا فَإِنَّهُ جزأ كِتَابه جزئين أَولهَا أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ بَابا أَولهَا فِي النّسَب الزكي وَآخِرهَا فِي أَلْفَاظ رويت عَن الشَّافِعِي فِي فضل الْعلم وَالْعُلَمَاء وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ أَولهَا فِي تبحر الشَّافِعِي فِي اللُّغَة والعربية وَآخِرهَا حَدِيث من رِوَايَته فِي الْوَعْظ والتذكير هُوَ آخر الْأَرْبَعين الَّتِي هِيَ آخر الْكتاب
366 - إِسْمَاعِيل بن زَاهِر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم النوقاني ثمَّ النَّيْسَابُورِي
تلميذ أبي بكر الطوسي(4/270)
قَالَ فِيهِ عبد الغافر الْفَقِيه الإِمَام فَاضل جليل نبيه ثِقَة أَمِين من أَرْكَان فُقَهَاء أَصْحَاب الشَّافِعِي
درس الْفِقْه على أبي بكر الطوسي قَدِيما
قَالَ وسافر إِلَى الْعرَاق وَحج مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وزين الْإِسْلَام يَعْنِي الْقشيرِي أَبَا الْقَاسِم وَالْبَيْهَقِيّ
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ شَيخا فَقِيها حسن السِّيرَة صَالحا دينا كثير السماع وَالرِّوَايَة ثِقَة صَدُوقًا
سمع أَبَا الطّيب سهل بن مُحَمَّد الصعلوكي وَالْقَاضِي أَبَا عمر البسطامي وَالشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَأَبا بكر الْحِيرِي وخلائق
وَذكر عبد الغافر أَن مولده سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة وَذكر غَيره أَنه ولد سنة خمس وَتِسْعين
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَالْأول أشبه
قَالَ وَسمعت أَبَا الْحسن عَليّ بن جَعْفَر الْكَاتِب يَقُول يُقَال إِنَّه توفّي سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
367 - إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم ابْن عَامر بن عَابِد شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي
الْفَقِيه الْمُحدث الْمُفَسّر الْخَطِيب الْوَاعِظ الْمَشْهُور الِاسْم الملقب بشيخ الْإِسْلَام لقبه أهل السّنة فِي بِلَاد خُرَاسَان فَلَا يعنون عِنْد إِطْلَاقهم هَذِه اللَّفْظَة غَيره(4/271)
وَأما المجسمة بِمَدِينَة هراة فَلَمَّا ثارت نُفُوسهم من هَذَا اللقب عَمدُوا إِلَى أبي إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ صَاحب كتاب ذمّ الْكَلَام فلقبوه بشيخ الْإِسْلَام وَكَانَ الْأنْصَارِيّ الْمشَار إِلَيْهِ رجلا كثير الْعِبَادَة مُحدثا إِلَّا أَنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السّنة وَقد بَالغ فِي كِتَابه ذمّ الْكَلَام حَتَّى ذكر أَن ذَبَائِح الأشعرية لَا تحل وَكنت أرى الشَّيْخ الإِمَام يضْرب على مَوَاضِع من كتاب ذمّ الْكَلَام وَينْهى عَن النّظر فِيهِ
وللأنصاري أَيْضا كتاب الْأَرْبَعين سمتها أهل الْبِدْعَة الْأَرْبَعُونَ فِي السّنة يَقُول فِيهَا بَاب إِثْبَات الْقدَم لله بَاب إِثْبَات كَذَا وَكَذَا
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ لَا يسْتَحق هَذَا اللقب وَإِنَّمَا لقب بِهِ تعصبا وتشبيها لَهُ بِأبي عُثْمَان وَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ
وَكَانَ أهل هراة فِي عصره فئتين فِئَة تعتقده وتبالغ فِيهِ لما عِنْده من التقشف والتعبد وَفِئَة تكفره لما يظهره من التَّشْبِيه
وَمن مصنفاته الَّتِي فوقت نَحوه سِهَام أهل الْإِسْلَام كتاب ذمّ الْكَلَام وَكتاب الْفَارُوق فِي الصِّفَات وَكتاب الْأَرْبَعين وَهَذِه الْكتب الثَّلَاثَة أبان فِيهَا عَن اعْتِقَاد التَّشْبِيه وأفصح
وَله قصيدة فِي الِاعْتِقَاد تنبىء عَن العظائم فِي هَذَا الْمَعْنى وَله أَيْضا كتاب منَازِل السائرين فِي التصوف
وَكَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية مَعَ ميله إِلَيْهِ يضع من هَذَا الْكتاب أَعنِي منَازِل السائرين
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَكَانَ يَرْمِي أَبَا إِسْمَاعِيل بالعظائم بِسَبَب هَذَا الْكتاب وَيَقُول إِنَّه مُشْتَمل على الِاتِّحَاد(4/272)
قلت والأشاعرة يرمونه بالتشبيه وَيَقُولُونَ إِنَّه كَانَ يلعن شيخ السّنة أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَأَنا لَا أعتقد فِيهِ أَنه يعْتَقد الِاتِّحَاد وَإِنَّمَا أعتقد أَنه يعْتَقد التَّشْبِيه وَأَنه ينَال من الأشاعرة وَأَن ذَلِك بجهله بِعلم الْكَلَام وبعقيدة الأشعرية فقد رَأَيْت أَقْوَامًا أَتَوا من ذَلِك
وَكَانَ شَدِيد التعصب للْفرق الحنبلية بِحَيْثُ كَانَ ينشد على الْمِنْبَر على مَا حكى عَنهُ تِلْمِيذه مُحَمَّد بن طَاهِر
(أَنا حنبلي مَا حييت وَإِن أمت ... فوصيتي للنَّاس أَن يتحنبلوا)
وَترك الرِّوَايَة عَن شَيْخه القَاضِي أبي بكر الْحِيرِي لكَونه أشعريا وكل هَذَا تعصب زَائِد برأنا الله من الْأَهْوَاء
وَذكر أبي إِسْمَاعِيل خَارج عَن غَرَض هَذَا الْكتاب فَإِنَّمَا أردنَا أَن ننبه على الْفرق بَينه وَبَين شيخ الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة أبي عُثْمَان نترجمه الْآن فلنعد إِلَى تَرْجَمته فَنَقُول ذكره عبد الغافر فِي السِّيَاق فَقَالَ هُوَ الْأُسْتَاذ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان الْخَطِيب الْمُفَسّر الْمُحدث الْوَاعِظ أوحد وقته فِي طَرِيقَته وعظ الْمُسلمين فِي مجَالِس التَّذْكِير سبعين سنة وخطب وَصلى فِي الْجَامِع يَعْنِي بنيسابور نَحوا من عشْرين سنة
ثمَّ قَالَ ورزق الْعِزّ والجاه فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَكَانَ جمالا للبلد زينا للمحافل والمجالس مَقْبُولًا عِنْد الْمُوَافق والمخالف مجمعا على أَنه عديم النظير وَسيف السّنة ودافع الْبِدْعَة(4/273)
وَهُوَ النسيب المعم المخول المدلي من جِهَة الأمومة إِلَى الْحَنَفِيَّة والفضلية والشيبانية والقرشية والتميمية والمزنية والضبية من الشّعب النَّازِلَة إِلَى الشَّيْخ أبي سعد يحيى بن مَنْصُور بن حسنويه السّلمِيّ الزَّاهِد الْأَكْبَر على مَا هُوَ مَشْهُور من أنسابهم عِنْد جمَاعَة من العارفين بالأنساب لِأَنَّهُ أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن زين الْبَيْت ابْنة الشَّيْخ أبي سعد الزَّاهِد بن أَحْمد بن مَرْيَم بنت أبي سعد الْأَكْبَر الزَّاهِد
وَأما من جِهَة الْأَب فَهُوَ الأَصْل الَّذِي لَا يحْتَاج نسبه إِلَى زِيَادَة فَقَالَ وَكَانَ أَبوهُ أَبُو نصر من كبار الواعظين بنيسابور ففتك بِهِ لأجل التعصب وَالْمذهب وقلد الْأمة صَبيا بعد حول سبع سِنِين فاستدعى أَن يذكر صَبيا دعِي للختم على رَأس قبر أَبِيه كل يَوْم وأقعد بِمَجْلِس الْوَعْظ مقَام أَبِيه وَحضر أَئِمَّة الْوَقْت مجالسه
وَأخذ الإِمَام أَبُو الطّيب سهل بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الصعلوكي فِي تَرْبِيَته وتهيئة أَسبَابه وترتيب حشمته ونوبه وَكَانَ يحضر مجالسه ويثني عَلَيْهِ مَعَ تكبره فِي نَفسه وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّة كالأستاذ الإِمَام أبي إِسْحَاق الإسفرايني والأستاذ أبي بكر بن فورك وَسَائِر الْأَئِمَّة كَانُوا يحْضرُون مجْلِس تذكيره ويتعجبون من كَمَال ذكائه وعقله وَحسن إِيرَاده الْكَلَام عربيه وفارسيه وَحفظه الْأَحَادِيث حَتَّى كبر وَبلغ مبلغ الرِّجَال وَقَامَ مقَام أسلافه فِي جَمِيع مَا كَانَ إِلَيْهِم من النوب
وَلم يزل يرْتَفع شَأْنه حَتَّى صَار إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ من الحشمة التَّامَّة والجاه العريض وَهُوَ فِي جَمِيع أوقاته مشتغل بِكَثْرَة الْعِبَادَات ووظائف الطَّاعَات بَالغ فِي العفاف والسداد وصيانة النَّفس مَعْرُوف بِحسن الصَّلَاة وَطول الْقُنُوت واستشعار الهيبة حَتَّى كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي ذَلِك
وَكَانَ مُحْتَرما للْحَدِيث ولثبت الْكتب(4/274)
قَرَأت من خطّ الْفَقِيه أبي سعيد السكرِي أَنه حكى عَن بعض من يوثق بقوله من الصَّالِحين أَن شيخ الْإِسْلَام قَالَ مَا رويت خَبرا وَلَا أثرا فِي الْمجْلس إِلَّا وَعِنْدِي إِسْنَاده وَمَا دخلت بَيت الْكتب قطّ إِلَّا على طَهَارَة وَمَا رويت الحَدِيث وَلَا عقدت الْمجْلس وَلَا قعدت للتدريس قطّ إِلَّا على الطَّهَارَة
وَقَالَ مُنْذُ صَحَّ عِنْدِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ بِسُورَة الْجُمُعَة وَالْمُنَافِقِينَ فِي رَكْعَتي صَلَاة الْعشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة مَا تركت قراءتهما فيهمَا
قَالَ وَقد كنت فِي بعض الْأَسْفَار المخوفة وَكَانَ أَصْحَابِي يفرقون من اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق وَيُنْكِرُونَ على فِي التَّطْوِيل بِقِرَاءَة السورتين وَغير ذَلِك فَلم أمتنع عَن ذَلِك وَلم أنقص شَيْئا مِمَّا كنت أواظب عَلَيْهِ فِي الْحَضَر فتولانا الله بحفظه وَلم تلحقنا آفَة
وقرأت من خطّ السكرِي أَيْضا قَالَ قَرَأت فِي كتاب كتبه الإِمَام سهل الصعلوكي إِلَى زَاهِر بن أَحْمد الإِمَام بسرخس حِين قصد الْأُسْتَاذ الإِمَام إِسْمَاعِيل أَن يرحل إِلَيْهِ لسَمَاع الحَدِيث فِي صباه بعد مَا قتل أَبوهُ شَهِيدا وَفِي الْكتاب بعد الْخطاب وَإِذا عدت الْأَحْدَاث الَّتِي كَانَت فِي هَذِه السنين الخالية قطارا أَرْسَالًا ومتصلة اتِّصَالًا ومتوالية حَالا فحالا كَانَ أعظمها نكاية فِي الدّين وَجِنَايَة عَلَيْهِ مَا جرى من الفتك بِأبي نصر الصَّابُونِي رَحمَه الله نَهَارا وَالْمَكْر الَّذِي مكر بِهِ كبارًا كَمَا إِذا عدت غرائب الْوَقْت وعجائبه فِي الْحسن كَانَ بولده الْوَلَد الْفَقِيه أبي عُثْمَان إِسْمَاعِيل أدام الله بقاه وسلامته الِابْتِدَاء وبذكره الِافْتِتَاح فَإِنَّهُ بلغ وَلم يبلغ بِالسِّنِّ مَا تقصر عَنهُ الأمنية والاقتراح من التدبر والتعلم والوجاهة والتقدم على التحفظ(4/275)
والتورع والتيقظ وَقد كَانَ فِي نَفسه لذكائه وكيسه وفطنته وهدايته وعقله الرحلة إِلَى الشَّيْخ فَذكر فصلا فِيهِ ثمَّ قَالَ وَلَا نشك أَنه يُصَادف مِنْهُ فِي الْإِكْرَام والتقديم والتعظيم مَا يَلِيق بصفاته وإنجابه ودرجاته وَأَنا شريك فِي الامتنان لذَلِك كُله وراغب فِي تَعْجِيل إصداره إِلَى مَوْضِعه ومكانه فِي عمَارَة الْعلم بقعوده للتذكير والتبصير وَمَا يحصل بِهِ من النَّفْع الْكثير فَإِن الرُّجُوع لغيبته شَدِيد والاقتضاء بِالْعُمُومِ لعوده أكيد وَالسَّلَام
وَذكر عَن الشَّيْخ أَحْمد الْبَيْهَقِيّ أَنه قَالَ عهدي بالحاكم الإِمَام أبي عبد الله مَعَ تقدمه فِي السن وَالْحِفْظ والإتقان أَنه يقوم للأستاذ عِنْد دُخُوله إِلَيْهِ ويخاطبه بالأستاذ الأوحد وينشر علمه وفضله وَيُعِيد كَلَامه فِي وعظه مُتَعَجِّبا من حسنه معتدا بِكَوْنِهِ من أَصْحَابه
قَالَ السكرِي وَرَأَيْت كتاب الْأُسْتَاذ الإِمَام أبي إِسْحَاق الإسفرايني الَّذِي كتبه بِخَطِّهِ وخاطبه بالأستاذ الْجَلِيل سيف السّنة وَفِي كتاب آخر غيظ أهل الزيغ
وَحكى الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الصَّيْرَفِي الْمُتَكَلّم أَن الإِمَام أَبَا بكر بن فورك كَانَ رَجَعَ عَن مَجْلِسه يَوْمًا فَقَالَ تعجبت الْيَوْم من كَلَام هَذَا الشَّاب تكلم بِكَلَام مهذب عذب بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية
وَحكى عَن الشَّيْخ الإِمَام سهل أَيْضا أَنه كَانَ يَقُول لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أبي سرايخ براتيش است بيش است
قَرَأت بِخَط السكرِي أَن الْأُسْتَاذ أَبَا عُثْمَان كَانَ يتَكَلَّم بَين يَدي الإِمَام سهل(4/276)
الصعلوكي وَكَانَ ينحرف بِوَجْهِهِ عَن جَانِبه فصاح بِهِ الإِمَام سهل استقبلني واترك الانحراف عني
فَقَالَ إِنِّي أستحيي أَن أَتكَلّم فِي حر وَجهك
فَقَالَ الإِمَام سهل انْظُرُوا إِلَى عقله
وَلَقَد أَكثر الْأَئِمَّة الثَّنَاء عَلَيْهِ وَلذَلِك مدحه الشُّعَرَاء فِي صباه إِلَى وَقت شبابه ومشيبه بِمَا يطول ذكره فَمن ذَلِك مَا قَالَ فِيهِ بعض من ذكر من أَئِمَّة الْأَصْحَاب
(بَينا الْمُهَذّب إِسْمَاعِيل أرجحهم ... علما وحلما وَلم يبلغ مدى الْحلم)
وَكتب أَبُو المظفر الجُمَحِي إِلَيْهِ بعد أَن سمع خطبَته بِهَذِهِ الأبيات
(أستدفع الله عَنهُ آفَة الْعين ... وَكم قَرَأت عَلَيْهِ آيَة الْعين)
(الْعلم يفخر والآداب فاخرة ... منيرة يَهْتَدِي فِيهَا ذَوُو الشين)
(لَو عَاد سحبان حَيا قَالَ من عجب ... عين الْإِلَه على عين الْفَرِيقَيْنِ)
(قد كَانَ ديني على إتْمَام رُؤْيَته ... لما رَأَيْت محياه قضي ديني)
(قل للَّذي زانه علم وَمَعْرِفَة ... كم للعلوم بِإِسْمَاعِيل من زين)
وَقَالَ فِيهِ البارع الزوزني
(مَاذَا اخْتِلَاف النَّاس فِي متفنن ... لم يبصروا للقدح فِيهِ سَبِيلا)
(وَالله مَا رقي المنابر خَاطب ... أَو واعظ كالحبر إسماعيلا)
وَلَقَد عَاشَ عَيْشًا حميدا بعد مَا قتل أَبوهُ شَهِيدا إِلَى آخر عمره فَكَانَ من قَضَاء الله تَعَالَى أَنه كَانَ يعْقد الْمجْلس فِيمَا حَكَاهُ الْأَثْبَات والثقات يَوْم الْجُمُعَة فِي جَانب(4/277)
الْحُسَيْن على الْعَادة المألوفة مُنْذُ نَيف وَسِتِّينَ سنة ويعظ النَّاس فَبَالغ فِيهِ وَدفع إِلَيْهِ كتاب ورد من بُخَارى مُشْتَمل على ذكر وباء عَظِيم وَقع بهَا واستدعي فِيهِ أَغْنِيَاء الْمُسلمين بِالدُّعَاءِ على رُءُوس الأملاء فِي كشف ذَلِك الْبلَاء عَنْهُم وَوصف فِيهِ أَن وَاحِدًا تقدم إِلَى خباز يَشْتَرِي الْخبز فَدفع الدَّرَاهِم إِلَى صَاحب الْحَانُوت فَكَانَ يزنها والخباز يخبز وَالْمُشْتَرِي وَاقِف فَمَاتَ الثَّلَاثَة فِي الْحَال فَاشْتَدَّ الْأَمر على عَامَّة النَّاس
فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب هاله ذَلِك واستقرأ من القارىء قَوْله تَعَالَى {أفأمن الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض} ونظائرها وَبَالغ فِي التخويف والتحذير وَأثر فِيهِ ذَلِك وَتغَير فِي الْحَال وغلبه وجع الْبَطن من سَاعَته وَأنزل من الْمِنْبَر فَكَانَ يَصِيح من الوجع وَحمل إِلَى الْحمام إِلَى قريب من غرُوب الشَّمْس فَكَانَ يتقلب ظهرا لبطن ويصيح ويئن فَلم يسكن مَا بِهِ فَحمل إِلَى بَيته وَبَقِي فِيهِ سِتَّة أَيَّام لم يَنْفَعهُ علاج
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس سَابِع مَرضه ظَهرت آثَار سكر الْمَوْت عَلَيْهِ وودع أَوْلَاده وأوصاهم بِالْخَيرِ ونهاهم عَن لطم الخدود وشق الْجُيُوب والنياحة وَرفع الصَّوْت بالبكاء
ثمَّ دَعَا بالمقرىء أبي عبد الله خاصته حَتَّى قَرَأَ سُورَة يس وَتغَير حَاله وطاب وقته وَكَانَ يعالج سَكَرَات الْمَوْت إِلَى أَن قَرَأَ إِسْنَادًا فِيهِ مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة) ثمَّ توفّي من سَاعَته عصر يَوْم الْخَمِيس وحملت جنَازَته من الْغَد عصر يَوْم الْجُمُعَة إِلَى ميدان الْحُسَيْن الرَّابِع من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَاجْتمعَ من الْخَلَائق مَا الله أعلم بعددهم وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو بكر ثمَّ أَخُوهُ أَبُو يعلى ثمَّ نقل إِلَى مشْهد أَبِيه فِي سكَّة حَرْب وَدفن بَين يَدي أَبِيه(4/278)
وَكَانَ مولده سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة وَكَانَ وَفَاته طاعنا فِي سنة سبع وَسبعين من سنته
وَسمعت الإِمَام خَالِي أَبَا سعيد يذكر مَجْلِسه فِي موسم من ذَلِك الْعَام على مَلأ عَظِيم من الْخلق وَأَنه يَصِيح بِصَوْت عَال مرَارًا وَيَقُول لنَفسِهِ يَا إِسْمَاعِيل هفتا دوهفت هفتا دو هفت بِالْفَارِسِيَّةِ فَلم يَأْتِ عَلَيْهِ إِلَّا أَيَّام قَلَائِل ثمَّ توفّي لِأَنَّهُ كَانَ يذكر الْمَشَايِخ الَّذين مَاتُوا فِي هَذِه السن من أعمارهم
ثمَّ قَرَأت فِي المنامات الَّتِي رؤيت لَهُ فِي حَيَاته وَبعد مماته أَجزَاء لَو حكيتها لطال النَّفس فِيهَا فأقتصر على شَيْء من ذَلِك وَمن جملَته مَا حَكَاهُ الْفَقِيه أَبُو المحاسن بن الشَّيْخ أبي الْحسن الْقطَّان فِي عزاء شيخ الْإِسْلَام أَنه رأى فِي النّوم كَأَنَّهُ فِي خَان الْحسن وَشَيخ الْإِسْلَام على الْمِنْبَر مُسْتَقْبل الْقبْلَة يذكر النَّاس إِذْ نعس نعسة ثمَّ انتبه وَقَالَ نَعَست نعسة فَلَقِيت رَبِّي ورحمني ورحم أَهلِي ورحم من شيعني
وَحكى الثِّقَات عَن المقرىء أبي عبد الله الْمَخْصُوص بِهِ أَنه رأى قبيل مرض شيخ الْإِسْلَام كَأَن منبره خَال عَنهُ وَقد أحدق النَّاس بالمقرىء ينتظرون قِرَاءَته فجَاء على لِسَانه {وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم} الْآيَة
قَالَ فانتبهت وَلم أر أحدا فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى بَدَأَ مَرضه وَتُوفِّي مِنْهُ
وَحكى بعض الصَّالِحين أَنه رأى أَبَا بكر بن أبي نصر الْمُفَسّر الْحَنَفِيّ جَالِسا على كرْسِي وَبِيَدِهِ جُزْء يَقْرَؤُهُ فَسَأَلَهُ عَمَّا فِيهِ فَقَالَ إِذا احْتَاجَ الْمَلَائِكَة إِلَى الْحَج وزيارة بَيت الله الْعَتِيق جَاءُوا إِلَى زِيَارَة قبر إِسْمَاعِيل الصَّابُونِي(4/279)