الْهَدِيَّة ويجازى عَلَيْهَا فاذا أَتَتْهُ هَدِيَّة من ظَالِم بَاعهَا وَاشْترى بِثمنِهَا مَا يُرْسِلهُ الى صَاحبهَا وَكَانَ كثير الِاغْتِسَال لَا سِيمَا للصلوات وَأكْثر غسله فى الْبَحْر لقُرْبه من دَاره وَكَانَ ورعا جدا كثير الِاحْتِيَاط فى أُمُور متقشفا مخشوشنا متواضعا وَلما بلغه أَن بعض الاولياء من أهل الْحَرَمَيْنِ قَالَ لَا يكْتب على أهل عصره ذَنْب اكراما لَهُ بَكَى وَقَالَ أَنا أقل عباد الله وأحقر من أَن يُقَال فى حقى ذَلِك وَكَانَ يتستر بالعلوم الظَّاهِرَة وَيَقُول من فعل كَذَا أُصِيب بِكَذَا وَمن فعل كَذَا أعْطى كَذَا فَكَانَ كل من خَالفه فِيمَا نَهَاهُ عَنهُ أُصِيب بِمَا ذكره وَمن أطاعه نَالَ مَا ذكره وَكَانَ يَقُول لاهل الْبَحْر احترزوا يَوْم كَذَا من كَذَا وفى مَحل كَذَا فَمن خَالفه عطب وَمن امتثل سلم وَله فى ذَلِك حكايات وَكَانَ يكاشف بعض أَصْحَابه بِمَا يخْطر بِبَالِهِ وَمَا جرى لَهُ فى غيبته قَالَ الشلى وَوَقع لى أَنى دخلت عَلَيْهِ بعد الْعَصْر فى شهر رَمَضَان وَذَلِكَ أول اجتماعى بِهِ فَحصل لى بِهِ غَايَة المدد والانس وَكَانَ معى ابْن عمى وَكَانَ أكبر منى ومعنا لَهُ هَدِيَّة من بعض أَصْحَابه بِالْهِنْدِ فعزمنا للعشاء فَاعْتَذر ابْن عمى عَن ذَلِك وَقصد بذلك عدم تَكْلِيف الشَّيْخ لَان وَقت الافطار قريب فَقَالَ رُبمَا لَا تَجِدُونَ عشَاء فى هَذِه اللَّيْلَة فانفق أَنا درنا فى الْبَلَد فَلم نجد مَا نتعشى بِهِ لَا قَلِيلا وَلَا كثيرا فَعرفنَا أَن ذَلِك من مخالفتنا لَهُ وَأَنَّهَا كَرَامَة مِنْهُ فبتنا وتوسلنا الى الله تَعَالَى بالشيخ فاذا بِرَجُل يَقُول لنا مَا تُرِيدُونَ فَقُلْنَا الْعشَاء فَقَالَ عندى وَلما أَصْبَحْنَا ودخلنا على الشَّيْخ كاشفنا بِمَا وَقع لنا ودعا لنا بِالْخَيرِ وَلم يزل يترقى فى أَعلَى الدَّرَجَات حَتَّى انْتقل بالوفاة الى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف بِمَدِينَة اللِّحْيَة الَّتِى اشْتهر عَن جده الْفَقِيه أَحْمد بن عمر الزيلعى رضى الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فى شَأْنهَا ان من زارها أَو دارها كفى جَهَنَّم ونارها وَأَن الْمَيِّت لَا يسئل بهَا وَلَا يلقن كَمَا قَالَ مُحَمَّد الهندى فى قصيدته الَّتِى مدح بهَا سيدى أَحْمد بن عمر الزيلعى رضى الله تَعَالَى عَنهُ مِنْهَا قَوْله فِيهِ
(ان مَاتَ فِيهَا الْمَيِّت لَا يلقن ... وَمن سُؤال الْملكَيْنِ يَأْمَن)
(كَرَامَة فى غَيرهَا لَا تمكن ... طُوبَى لعبد فى ثراها يدْفن)
(فانها للْعَبد نعم المستقر ... )
وَدفن بتربة سيدى المقبول صَاحب القضب رَحمَه الله
الامير ملحم بن يُونُس بن قمر قماس الشهير بِابْن معن ابْن أخى الامير فَخر الدّين الْمُقدم(4/408)
ذكره وَكَانَ أَبوهُ يُونُس فى زمن أَخِيه رَأس الكبانية الَّذين فى خدمته وَنَشَأ الامير ملحم هَذَا فى عزة وَحُرْمَة وافرة وَلما قبض على عَمه الْوَزير أَحْمد باشا الكوجك كَانَ هرب فنجا وَظهر بعد ذَلِك وسعى على الامارة بِبِلَاد عمَّة فولى الشوف وَالْعرب والجرد والمتن وكسروان وَكَانَ حَازِم الرأى عَاقِلا لَهُ حسن تصرف وانقياد تَامّ الى جَانب السلطنة فَلهَذَا أبقى مُدَّة تزيد على عشْرين سنة لم ينغص لَهُ فِيهَا عَيْش الا مرّة وَاحِدَة قَلما قَصده الوزيرا بشير باشا وَكَانَ ذَلِك باغراء بعض المفسدين من غير دَاعِيَة حصلت من قبله وانتصر فى تِلْكَ الْوَقْعَة ولكثير من الادباء فِيهِ مدائح وَكَانَ بَينه وَبَين أَحْمد بن شاهين أديب دمشق رابطة محكمَة ومودة أكيدة وَكَانَ الشاهين خرج اليه فى قصَّة طَوِيلَة واختفى عِنْده مُدَّة وَفِيه يَقُول هَذَا الْمَقْطُوع يُشِير الى مَا كَانَ عَلَيْهِ تبعا لاسلافه من أَنهم يسهرون من اللَّيْل أَكْثَره وينامون الى وَقت الزَّوَال خوفًا من أَمر يدهمهم بِاللَّيْلِ والمقطوع هُوَ هَذَا
(ينَام الى وَقت نصف النَّهَار ... وَيخرج مُسْتَوْفيا فيا حَظه)
(فأى زمَان يرَاهُ الشوق ... يرى لَحْظَة سودت لحظه)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة بِمَدِينَة صيدا وَبهَا دفن وَخلف وَلدين قرقاس وَأحمد أما قرقاس فَقتله مُحَمَّد باشا حَاكم صيدا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَأما أَحْمد فانه الْآن بَاقٍ وَهُوَ امير بِلَادهمْ الْمَذْكُورَة انْتهى
الامير منجك بن مُحَمَّد بن منجك بن أَبى بكر بن عبد الْقَادِر بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن ابراهيم بن منجك الْكَبِير اليوسفي الدمشقى
(أَمِير جند المعالى وَابْن بجدتها ... انسان عين العلى وَالْمجد وَالْكَرم)
نسب مَا وَرَاءه نسب وَحسب مَا مثله حسب تعقد ذوائبه بالنجوم ويستوى عِنْده الْمَجْهُول والعلوم وَهُوَ فى دماه السليقه لَيْسَ بشبهه أحد من الخليقه وَله من الْفضل مَا لَا يحْتَاج الى اقامة الدَّلِيل وَمن الْكَمَال مَا اجْتمع فِيهِ مِنْهُ كل كثير وَقَلِيل وَقد ذكره الخفاجى فى كِتَابه وَوَصفه بقوله وَمِمَّنْ رَأَيْته بِالشَّام من الاعلام الامير منجك بن منجك وَهُوَ جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وحبابها المذرب قَوْله جذيلها المحكك هَذَا مثل قَائِله حباب والجذيل تَصْغِير جذل وَهُوَ عود يغرز فى حَائِط فتحتك بِهِ الجرباء أى يستشفى بِرَأْيهِ استشفاء الابل بالجذل وَذكره البديعى فَقَالَ فى حَقه نجيب ورث المفاخر كَابِرًا كالرمح أنبوبا على أنبوب وَجمع(4/409)
بَين فضيلتى الاقلام والبواتر كَمَا جمعت خلاله بَين أهواء الْقُلُوب وأريب بِكُل مدح قمين وأديب لَهُ الْفضل ترب والسماح قرين وحسيب من قوم تهدى لَهُم تحف الاشعار وتزف لديهم أبكار الافكار
(وَمَا دب الا فى بُيُوتهم الندى ... وَلَا رب الا فى حجورهم الْحَرْب)
(وَمَا كَانَ بَين الهضب فرق وَبينهمْ ... سوى انهم زَالُوا وَلم يزل الهضب)
(أولاك بَنو الاحساب لَوْلَا فعالهم ... درجن فَلم يُوجد لمكرمة عقب)
وَله من الْكَلَام مَا يَنُوب عَن المدام قلت وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَذْكُور بِكُل لِسَان وممدوح لكل انسان نَشأ فى أَيَّام أَبِيه متفيأ ظلال نعمه مَبْسُوط الرَّاحَة بهمائه وَكَرمه وشغف من حِين نشأته بِالطَّلَبِ وَصرف نقد عمره عل تَحْصِيل الادب وَقَرَأَ على مَشَايِخ عِظَام وانتظم فى سلك الْفُضَلَاء أى انتظام وَمن مشايخه الَّذين قَرَأَ عَلَيْهِم وَجَثَا زَمنا على رُكْبَتَيْهِ بَين يديهم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وأخذا لحَدِيث عَن الشهَاب أَحْمد الوفائى وأبى الْعَبَّاس المقرى والادب عَن أَحْمد بن شاهين ووهب الله تَعَالَى الذكاء وَقُوَّة الحافظة وَحسن التخيل والاداء وَكَانَ فَصبح اللهجة فسيح ميدان المحادثة كثير المحفوظات جيد المناسبات كريم الطيع خلوقا متواضعا وعَلى كل حَال فَهُوَ كَمَا قيل
(مَا فِيهِ لَو وَلَا لَيْت تنقصه ... وانما أَدْرَكته حِرْفَة الادب)
وَلما مَاتَ وَالِده فى التَّارِيخ الذى ذكرته فى تَرْجَمته تقلبت بِهِ الاحوال وفجأته طوارق الاهوال ونفق مَا وَرثهُ عَن وَالِده وأحرزه من طريفه وتالده وَذَلِكَ لمبالغته فى الْبَذْل والسرف ومباشرة الاوقاف الَّتِى بِيَدِهِ بالاجارات الطَّوِيلَة وَالسَّلَف ثمَّ انزوى مُدَّة فى دَاره وَلزِمَ الْوحدَة بِاخْتِيَارِهِ الى أَن أنف من الاقامة ففوض عَن الشَّام خيامه وَهَاجَر الى الديار الرومية وَأقَام بهَا مؤملا ادراك مَاله من الامنيه والدهر يعده ويمنيه ويذيقه الْغصَص فى ضمن تأبيه وَلَقَد قاسى فى الغربه من الْمَشَقَّة المبرحة والكربه وعناد الدَّهْر فى الْمَقَاصِد والتعنى فى المصادر والموارد مَا لَا أَحسب أحدا قاصاه وَلَا لقى أحد من أغذياء النعم أدناه وَلَقَد سمعته مرّة يحْكى أَنه كَانَ لَهُ جَار فى الرّوم مَعْدُود من أَرْبَاب الوجاهة القروم وَله حفدة وَدَار عظيمه وثروة بَين أقرانه جسيمه لم يتَّفق انه زَارَهُ وَلَا حَيا مزاره وَكَانَ بعض أصدقاء الامير يصاحب رجلا من المقربين الى السلطنة وَذكر لَهُ أمره(4/410)
وَمَا هُوَ فِيهِ من الْفَاقَة والمسكنه فَقَالَ اذا نزروه فى مَكَانَهُ ونسعى بعد ذَلِك فى فكه من قَيده وهوانه قَالَ ثمَّ جاءنى بعيد الْعَصْر وَمَا عندى بلغه وَلَا أجد فى الجراب وَلَا مُضْغَة فَمَا اسْتَقر بِهِ الْجُلُوس الا وَذَلِكَ الْجَار حبانى بِجَمِيعِ مَا عِنْده من خدام الدَّار وابتدأ خدمه فى الخدمه وجلب مَا يلْزم من المشروبات بِكَمَال الادب والحرمه ثمَّ بعد هنيئة جَاءَ بسفرة وآلات الطَّعَام مِمَّا لَا يُوجد فِيمَا أَحْسبهُ الا عِنْد الوزراء الْعِظَام وَجَاء بنفائس من الاطعمه وَالْجَار يُبَالغ فى التَّعْظِيم وفى التكرمه حَتَّى أكل الطَّعَام وَاسْتوْفى بعده المشروب والمشموم رَأَيْت الرجل الذى جَاءَ بِهِ صاحبى نَهَضَ وَهُوَ مغموم فَتَبِعَهُ صاحبى الى الدَّار وَعَاد لَا يُدِير لحظا من شدَّة الافكار فَقلت لَهُ مَا الذى عرَاك وَمن برد نشاطك الذى كَانَ عرَاك فَقَالَ أَمر عَجِيب وحادث غَرِيب وَهُوَ أَن الرجل غضب لما وَقع وَقَالَ أَنا أسمع عَن الامير السَّفه وانه فِيهِ طبع مُتبع فَلَمَّا رَأَيْت مَا رَأَيْت تحققت مَا سَمِعت وَمَا ماريت وَهَذَا الرجل لَو وَجه اليه أعظم منصب فى مملكة آل عُثْمَان لَا يفى بمصرفه وَلَا يحصل لَهُ مِنْهُ الا الخسران قَالَ فَحَلَفت لَهُ بِاللَّه ان الذى رَأَيْته من نعْمَة جَاره الذى وافاه فَلم يصدق وآلى لَا عَاد مرّة أُخْرَى وَلَا يسْعَى فِيمَا يخجله عِنْد الدولة وانه بالسلامة أَحْرَى انْتهى وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه كَانَ اشار اليه الْعَلامَة يُوسُف الفتحى الامام السلطانى بنظم قصيدة فى مدح السُّلْطَان ابراهيم لتَكون وَسِيلَة الى شئ من الامانى فنظم قصيدته الميمية الَّتِى أَولهَا
(لَو كنت اطمع بالمنام توهما ... لسألت طيفك ان يزور تكرما)
فبيضها لَهُ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن الحسام بِخَطِّهِ المدهش وترجمها بالتركية على الْهَامِش وَكَانَ الفتحى عرف بِهِ السُّلْطَان فَدخل لاعطاء القصيدة ثمَّ وقف وتناولها الفتحى وَقرأَهَا وَحصل من السُّلْطَان الْتِفَات وَقبُول لَكِن القصيدة لم تسفر عَن شئ من الْمَوَاهِب وَلَا قوبلت بمطلب من المطالب نعم دخل الامير بشيرا وَخرج بشيراً وَكَانَ مَعَه دِينَار أعطَاهُ للَّذي أخبرهُ بحصو الْإِذْن للدخول مبشراً وَهَكَذَا الدَّهْر أَبُو الْعجب وعناده مُوكل بِأَهْل الادب وَاتفقَ لَهُ فى أَوَاخِر مقَامه بالروم رُؤْيا صَالِحَة حَسَنَة عَجِيبَة وواقعة فالحة مستحسنة غَرِيبَة وَقد سدت عَلَيْهِ جَمِيع الابواب وَبَات الْقلب مِنْهُ فى اضْطِرَاب وَذَلِكَ أَنه رأى رجلا فى سِيمَا الصّلاح يتوسم فِيهِ الْفَلاح وَهُوَ وَاقِف بوادى ينشد وينادى كانه حادى قصيدة(4/411)
مُطَوَّلَة بشرح حَاله مفصلة فَلم يعلق بخاطره فى الْمَنَام سوى مصراع المطلع وَبَيت الختام وَقد أورد حَضْرَة الشَّيْخ الاكبر قدس الله سره الْعَزِيز فى بَاب من أَبْوَاب الفتوحات لعلى بن الجهم هَذَا الْبَيْت
(وأبواب الْمُلُوك محجبات ... وَبَاب الله مبذول الفناء)
وَلَا غرو فَكل بَاب سوى الْكَرِيم مسدود وكل وَاقِف غير سَائل فَهُوَ مَرْدُود فسبحان من اذا أغلق بَابا فتح أبوابا واذا قطع سَببا أوصل أَسبَاب فَلَمَّا انتبه من الخيال قَامَ فى الْحَال ونظم على سَبِيل الارتجال مكملا للمصراع ومضمنا للبيت بِحسن الابداع وَذَلِكَ آخر جُمُعَة فى شهر رَمَضَان عَام سِتّ وَخمسين وَألف والابيات هى هَذِه
(أَيْن الاساة فقلبى الْيَوْم مَجْرُوح ... متيم لعبت فِيهِ التباريح)
(روح تسيل على خدى فيحسبها ... دمعا خلى فؤاد مَا لَهُ روح)
(وَالْحب سطر بلوح الصَّدْر مكتتب ... مترجم بِلِسَان الشوق مشروح)
(وضعت خدى على كف الخضوع ولى ... ذل على عتيبات الْعِزّ مطروح)
(فَلَا بارق وادى الشّعب وانتبهت ... نوام وجدى وفاح الرند والشيح)
(وَقَامَ هَاتِف ذَاك الحى ينشدنى ... بَيْتا يسلى فؤادى مِنْهُ تلويح)
(ان الْمُلُوك اذا أَبْوَابهَا غلقت ... لَا تيأسن فباب الله مَفْتُوح)
وَقَالَ أَيْضا فى الْمَعْنى
(ذهب الشراع وضلت الملاح ... فى جنح ليل مَا لذاك صباح)
(وسفينتى لم يبْق فِيهَا قِطْعَة ... الا ومزقها بلَى ورياح)
(والسحب تهطل والرعود قواصف ... والبرق سيف فاتك سفاح)
(وجهت وجهى نَحْو بابك راجيا ... اذا سدت الابواب يَا فتاح)
وَله فى تغربه بالروم أشعار كَثِيرَة سَمَّاهَا الروميات مُعَارضا بِالتَّسْمِيَةِ روميات ابي فراس فانه كَانَ يحذو حذوه ويقفو أَثَره فَمن رومياته قَوْله أَيْضا
(نزيح ديار لَا أنيس وَلَا صحب ... وعاتب دهر لَيْسَ يعتبه العتب)
(مَنَازِله بِالشَّام أضحت خلية ... حكت جِسْمه اذ سَار عَن جِسْمه الْقلب)
(لَهُ صبية عِنْد العداة رهينة ... ومدمعهم من فرط لهفهم صب)
(عُرَاة اذا نَامُوا تيقظ شرهم ... فَأَمنَهُمْ خوف وسلمهم حَرْب)(4/412)
(جنيت على نفسى الذَّنب كُله ... بسيرى وَمَا للذنب فى فعله ذَنْب)
(غررت بِأَقْوَام وعودهم هبا ... تمر جهاما وَاسْمهَا عِنْدهم سحب)
(يلبون بِالدَّعْوَى لطَالب سيبهم ... وَلَو شاهدوا فلسًا على الارض لانكبوا)
(وَلم أر من قبلى عليلا طبيبه ... سقيم اختبار لَيْسَ يعرف مَا الطِّبّ)
(يمد لصيد الْمَدْح منى حبالة ... على الْغدر مَعْقُود بأطرافه الْكَذِب)
(وَمَا النَّاس الا حَيْثُ يلْتَمس الندى ... وَمَا الطير الا حَيْثُ يلتقط الْحبّ)
(رجعت وَعون الله للمرء حارس ... وطرفى لَا يكبو ونارى لَا تخبو)
وَمِنْهَا قَوْله
(انى لآنف من قَول الاعاجيب ... لهول مَا شاهدته عين تجريبى)
(الصدْق يسأم مِنْهُ سمع مختبر ... حَال الزَّمَان فَمَا شَأْن الاكاذيب)
(تلاعب الدَّهْر بى طفْلا وبصرنى ... بالفكر مَا لَا ترَاهُ أعين الشيب)
(عوضت عَن جلق بالروم متخذا ... يأسى بهَا بَدَلا عَن كل مَطْلُوب)
(بدا بعيد فَقلت الْعِيد أيكما ... لما تَأَمَّلت من حسن وَمن طيب)
(أعَاد حزنى افراحا وصيرنى ... أثى على طول تشتيتى وتغريبى)
وأشعاره كلهَا على نمط وَاحِد فى الرقة واللطافة وَلم تكن مَجْمُوعَة فى دفتر على حِدة أَولا لَكِن لما ورد دمشق شيخ الاسلام عبد الرَّحْمَن بن الحسام بعد عَزله عَن الْفَتْوَى أَمر والدى بجمعها فَأَنْشَأَ لَهَا ديباجة وَجَمعهَا ورتبها ترتيبا حسنا وهى الْآن فى دفتر مَشْهُور متداول فَمن غزلياته قَوْله رَحمَه الله تَعَالَى
(وغزال كناسه المران ... مَا لقلب من مقلتيه أَمَان)
(ذى نواص كَأَنَّهَا ظلمَة الشّرك وَوجه كَأَنَّهُ الايمان ... )
(وَكَانَ العذار فى صفحة الخد كفور فى جيده فرقان ... )
(وَكَانَا من انسه ومحياه بروض تظلنا الافنان ... )
(خَدّه الْورْد والبنفسج صدغاه لعينى وثغره الاقحوان ... )
(وَكَانَ الحَدِيث مِنْهُ هُوَ اللُّؤْلُؤ يرفض بَيْننَا والجمان)
(وَكَانَ الندى والكاس تجلى ... فِيهِ أفق نجومه الندمان)
(وَكَانَ الندمان فى رَوْضَة اللَّهْو غصون ثمارها الكتمان)
(يتعاطون أكؤس العتب اذ طَاف عَلَيْهِم بهَا المنى والامان ... )(4/413)
(يَا سقى الله ذَلِك الزَّمَان وحياه ملث من الرِّضَا هتان ... )
(زمن كُله ربيع وعيش ... غصنه يَانِع الجنا فينان)
(مر لى بالشآم والعيش غض ... وشبابى يزينه العنفوان)
(ابْن عشر وَأَرْبع وثمان ... هى عيدى وَبَعضهَا مهرجان)
وَقَوله
(لحظات ترمى الحشا بِنِبَالٍ ... قاتلات ولات حِين قتال)
(وخدود كالورد لونا وطعما ... صقلتها صبا البها وَالْجمال)
(وثنايا كَاللُّؤْلُؤِ الرطب يزرى ... حسن نظم لَهَا بِعقد اللآلى)
(وقوام يحْكى العوالى وَلَكِن ... فعله فى الْقُلُوب فعل العوالى)
(من نصيرى على الحبيب المفدى ... بنفوس منا كرام غوال)
(قمر يخجل الشموس سناء ... وقضيب يسقى بِمَاء الدَّلال)
(وغزال للمسك فى الْغم مِنْهُ ... نفحات تفوق مسك الغزال)
(قَامَ يشدو بِذكر خمرة دن ... عِنْد سمعى فاسكرت آمالى)
(خمرة صورت عصارة خمر ... لظنون فى أكؤس من آل)
(غادرتنى أيدى هَوَاهُ بجسم ... ناحل مَا حل كربع بَال)
(أَتَمَنَّى خياله وبعيد ... أَن يزور الخيال طيف الخيال)
وَمن خمرياته أَيْضا قَوْله
(أدر المدامة يَا نديمى ... حَمْرَاء كالخد اللطيم)
(تسرى بأرواح النهى ... كالبرء فى الْجِسْم السقيم)
(وأقم اذا جن الدجى ... مترديا ظلّ الكروم)
(فالجو راق كانما ... صقلته أنفاس النسيم)
(وتبددت زهر النُّجُوم تبدد العقد النظيم ... )
(قُم هَاتِهَا واستحلبها ... من كف ذى شجو رخيم)
(بدر يُرِيك محاسنا ... يسبى بهَا عقل الْحَلِيم)
(ان مَاس يزرى بالقنا ... واذا رنا فبكل ريم)
(فى رَوْضَة نسجت بهَا ... أيدى الصِّبَا حبر الجميم)
(ضحِكت بهَا الازهار لما أَن بَكَى جفن الغيوم ... )
(كم لَيْلَة قضيتها ... فى ظلها الضافى الاديم)(4/414)
(متذكرا عهد الدمى ... متناسيا ذكر الرسوم)
(نشوان من خمر الصِّبَا ... جذلان بالانس الْمُقِيم)
(حَيْثُ الشبيبة غضة ... وَالْوَقْت مقتبل النَّعيم)
وَقَوله
(قُم للمدامة يَا نديم فانها ... شرك المنى وحبالة الافراح)
(حَمْرَاء صَافِيَة المزاج كَأَنَّهَا ... ورد الخدود أذيب فى الاقداح)
(شمس اذا بزغت لعينك فى الدجى ... أغنتك عَن صبح وَعَن مِصْبَاح)
(مسكية أَنى فضضت ختامها ... عبق الندى من نشرها الفضاح)
(تفتر عَن حبب ثغور كؤسها ... كسقيط طل فى ثغور أقاح)
(يسقيكها رشأ اذا غنى بهَا ... رقصت لذاك معاطف الارواح)
وَقَوله
(أَلا هَات اسقنى كاسا فكاسا ... وحى بهَا ثَلَاثًا بل سداسا)
(فانى فى احتساها لَا أعاصى ... رشا تخذ الحشا منى كناسا)
(حبيب كلما أَلْقَاهُ يغضى ... فَلَو أَعْطيته آسا لآسى)
(يُرِيك اذا بدا قمرا منيرا ... وغصنا ان ثنى عطفا وماسا)
(ويبسم ثغره عَن أقحوان ... ويجلو خَدّه وردا وآسا)
(خلعت عذار نكى فى هَوَاهُ ... وَمَا راقبت فى حبيسه نَاسا)
(فأحلى الْحبّ مَا كَانَ افتضاحا ... وأشهى الْوَصْل مَا كَانَ اختلاسا)
وَقَوله
(زمن الرّبيع كنشوة العشاق ... غب التَّفَرُّق فى نَهَار تلاق)
(فانهض الى تِلْكَ الرياض مبكرا ... تبكير ذَات السجون والاطواق)
(واشرب على ورد ونرجس أيكة ... صبغا بلون الخد والاحداق)
(صهباء تلعب بالعقول وفعلها ... فعل الْهوى بالوا لَهُ المشتاق)
وَقَوله
(قُم هَاتِهَا فانتهاب الْعَيْش مغتنم ... من كف معتزل فى خير ابان)
(حَيْثُ الرياض اكتست من سندس حللا ... وتوجت بيواقيت وعقيان)
(والمسك فى الْفلك العلوى اذ رتعت ... غزالة الافق والكافور سيان)
وَمن ربيعياته قَوْله
(ومنتزه يروق الطّرف حسنا ... بِمَا فِيهِ من المرأى البديع)
(تجول كتائب الازهار فِيهِ ... وَقد كُسِيت حلى الْغَيْث المريع)
(وَبَات الْورْد فِيهَا وَهُوَ شَاك السِّلَاح يميد فى الدرْع المنيع)(4/415)
(حكى منظم زنبقه طروسا ... وفيهَا عرض أَحْوَال الْجَمِيع)
(تنمق حليها أيدى النعامى ... وتبعثها الى ملك الرّبيع)
وَمن رياضياته أَيْضا قَوْله
(أربوثنا حيتك عَنَّا السحائب ... فانت لوجه الارض عين وحاجب)
(نزلنَا بِظِل السفح مِنْك فكلنا ... مُصِيب لانواع المسرة صائب)
(وبتنا وأفياء الغصون سماؤها ... فَنحْن بدور والندامى كواكب)
وَقَوله أَيْضا فى قصرهم المنجكى)
(قصر الامير بوادى النير بَين سقى ... رباك عَنى من الوسمى مدرار)
(كم مر لى فِيك أَيَّام هواجرها ... أصائل ولياليهن اسحار)
(حَيْثُ الشبيبة بكر فى غضارتها ... وللصبابة احلاف وأنصار)
(حَيْثُ الرياض تغثبينى حمائمها ... بالدف والجنك والسنطور لى جَار)
(حَيْثُ الخمائل أفلاك بهَا طلعت ... زهر من الزهر والندمان أقمار)
(حَيْثُ المدامة فِي زجاجتها ... يديرها سعار ... )
(عطرية نفضت فِيهَا عوارضه ... فتيت مسك لَهُ الارواح سفار)
(ياقوتة أفرغت فِي قشره لُؤْلُؤ ... فلاح مِنْهَا نور الْمنَار)
(شمس تعاطيتها من راحتى قمر ... لَهُ من الْحسن مَا يرضى ويختار)
(يسْعَى الى بهَا تَحت الدجى حذرا ... من الوشاة لَان اللَّيْل ستار)
(متوج الراح بالابريق ذُو قرط ... مثل الْهلَال لَهُ الجوزاء زنار)
(سقى وساقيه من رَاح وَمن قدح ... الى الصَّباح فمرباح ومخار)
(يضمنا بأعالى الْقصر ثوب هدى ... زرت عَلَيْهِ من الاشواق أزرار)
(متع الطّرف منى فى محاسنه ... وَلَيْسَ عندى من العذال اشعار)
(حَتَّى تيقظ دهرى بعد مَا غفلت ... عَنى حوادثه والدهر غدار)
وَمن غرامياته قَوْله
(نفس تعلل بالامانى ... لَا بالقناني والبقنانى)
(ومدامع مسفوحة ... بَين الْمعَاهد والمغانى)
(وأبيت مضموم الْيَدَيْنِ على الترائب والجنان)(4/416)
(أَشْكُو الصبابة للصبابة بالمدامع لَا اللِّسَان)
(وَأَقُول اذ هَتَفت بِنَا ... ورق شَجَّاهَا مَا شجانى)
(يَا ورق مَا هَذَا النواح فبعض مَا عندى كفانى ... )
(غادرت بَين الغوطتين ... بمنزلى السامى الْمَكَان)
(أَو مَالهَا كبد على مذابة مِمَّا دهانى ... )
(تستخبر الركْبَان عَن ... حالى وتندب كل آن)
(فَعَسَى الذى أبلى يعين ويلتقى ناء بدان ... )
وَمن زهدياته قَوْله
(أرح مطايا الامانى واترك الطلبا ... لم يبْق فى الْعُمر شئ يُوجب التعبا)
(قد أطلعتنى على الاشياء تجربة ... مَا غادرت لى فى شئ اذا أربا)
(مَا زَالَ يمنعنى مَا رمته أدبى ... حَتَّى طفقت لعمرى أكره الادبا)
(حتام يغْرس عندى من بليت بِهِ ... غرس الوعود ويجنى مطمعى الكذبا)
(ان قلت واحربا فى الدَّهْر ملتمسا ... مِنْهُ الاعانة قَالَ الدَّهْر واحربا)
وَقَوله
(لَا أطلبن مراما لست أدْركهُ ... وان رقت بى الى أَعلَى الذرى هممى)
(وَلَا يلذ لسمعى ذكر سالفه ... من النَّعيم مَضَت كالطيف فى الْحلم)
(مالى وَعرض الْجنان السَّبع لَو وضعت ... وَلم يكن لى فِيهَا مَوضِع الْقدَم)
وَمن فخرياته رَحمَه الله تَعَالَى قَوْله
(نشأت بمهدى رفيع الذرى ... وحولى الظباء وَأسد الشرى)
(ونادمت كل سخى الْوُجُود ... يطعم نيرانه العنبرا)
(ووالدى الشهم فَحل الرِّجَال ... وجدى الامير أَمِير الورى)
(وان يمم الضَّيْف أحياءنا ... بذلنا لَهُ الرّوح دون الْقرى)
(وَلَكِن أَنَاخَ علينا الزَّمَان ... وخان عهودا لنا وافترى)
وَقَوله أَيْضا
(لعمرى لَيْسَ بالاشعار فخرى ... وَلَكِن بالقواضب والعوالى)
(وأحسابى لِسَان الدَّهْر يَتْلُو ... مآثرها على سمع الليالى)
(وبذلى للنضار بِغَيْر من ... على مَقْدُور موجودى ومالى)
(وآلى تستقى مِنْهَا بحور ... وأبحر من يفاخر لمع آل)(4/417)
(فَقل لى ابْن بنت أَبى مداس ... بعم أَنْت تفحر أم بخال)
(وترفل فى ثِيَاب الْكبر تعسا ... لمثلك قد عريت من المعالى)
(وترمى آل منجك بانتقاص ... وهم أهل الْفَضَائِل والكمال)
(أتنصدع السَّمَاء بنبح كلب ... ام الشعرى العبور ربه تبالى)
(تسب صحابة الْمُخْتَار حينا ... وحينا تدعى حبا لآل)
(ويكرهك الْجَمِيع كَمَا كرهنا ... لارجلنا الْعَتِيق من النِّعَال)
(أَلا دعنى وشانى يَا ابْن ودى ... ومحوى كل شخص من خيالى)
(فَمَا ترك الصدود لَدَى شَيْئا ... يسر من الاحبة بالوصال)
(نقضت بِهِ الامانى من عهود ... أكلفها حَقِيقَة ذى ملال)
(أيقصد من أسربه سيوفه ... طبعن لضرب أَعْنَاق الرِّجَال)
وَله
(ان تغزلت أَو مدحت فانى ... لست بالشاعر المطيل كلامى)
(أَنا من معشرهم النَّاس أَمْسوا ... لم يداروا الورى لاجل مرام)
(كل من قد مدحته فَهُوَ دونى ... وحبِيب هويته فغلامى)
وَله
(دعنى من الشّعْر ان الشّعْر منقصة ... فالمجد يختال بَين الْبيض والاسل)
(لَا تدركنه وان راجت جواهره ... فَالْعقد للنحود لَا للفارس البطل)
(أسْتَغْفر الله من شعر مدحت بِهِ ... قوما مديحهم من أعظم الزلل)
وَقَالَ أَيْضا رَحمَه الله تَعَالَى فى ذمّ الشّعْر
(انى أرى الشُّعَرَاء أفنوا دهرهم ... فى وصف كل حَبِيبَة وحبِيب)
(ومضوا وَلم يحظوا بوصل مِنْهُمَا ... بتأسف وتلهف ونحيب)
(وسواهم يحظى بِمن وصفوا لَهُ ... فهم من القواد فى التَّرْغِيب)
(لكنما القواد تظفر بالعطا ... وهم بمقت النَّاس والتكذيب)
وَمن حكمياته قَوْله
(مَا فَاتَ فَاتَ وَلَيْسَ تعلم مَا الذى ... يَأْتِيك من قبل الزَّمَان الْمقبل)
(لم تلف الا مدْركا أَو آخرا ... يرْوى وينقل مخبرا عَن أول)
(فاذا تَأَمَّلت الثرى ألفيته ... غرر الْمُلُوك تداس تَحت الارجل)
وَقَوله
(لَا تغترر بشبابك الغض الذى ... أَيَّامه قمر يلوح ويأفل)
(ودع اتِّبَاع النَّفس عَنْك فانما ... حب الْجمال الصَّبْر عَنهُ أجمل)(4/418)
(نعم الْعُيُون الفاتنات قواتل ... لَكِن سِهَام الله مِنْهَا أقتل)
وَقَالَ ذكر الزمخشرى فى كِتَابه ربيع الابرار ان الواقدى شكى لِلْمَأْمُونِ فاقة نزلت بِهِ وديونا لم يعين مقدارها فَوَقع لَهُ الْمَأْمُون فِيك خلَّتَانِ سخاء وحياء فالسخاء أبلى يدك بتبذير مَا ملكت وَالْحيَاء مَنعك أَن تذكر لنا فَوق حَاجَتك فان كُنَّا قَصرنَا فبجنايتك على نَفسك وان كُنَّا بلغناك بغيتك فزد فى بسط كفك فخزائن الله تَعَالَى مَفْتُوحَة وَيَده بالخيرات مبسوطة وَأَنت كنت حدثتنى اذ كنت قَاضِيا للرشيد أَنه قَالَ
وخزائن الرزق بازاء الْعَرْش ينزل للنَّاس أَرْزَاقهم على قدر نفقاتهم فَمن كثر كثر لَهُ وَمن قلل قلل عَلَيْهِ فَقَالَ الواقدى مَا فرحت بِالْعَطِيَّةِ مَا فرحت بِالْحَدِيثِ فانى كنت نَسِيته وَقد نظم الامير هَذَا الْمَعْنى قَالَ
(زَعَمُوا بِأَن الواقدى قد اشْتَكَى ... من فاقة وأغاثه الْمَأْمُون)
(وروى لَهُ معنى الحَدِيث فانه ... قد قَالَ خير الْعَالمين أَمِين)
(بازاء عرش الله جلّ جَلَاله ... رزق الورى بخزائن مخزون)
(فمكثر لمكثر ومقلل ... لمقلل للرزق وَهُوَ خرين)
(فابسط يَمِينك بالعطاء وَلَا تخف ... فَالله رَبك كافل وضمين)
(فعمدت لما أَن سَمِعت مقاله ... لمطيتى وَمن الْعُيُون عُيُون)
(وقصدت بَاب الله أَرْجُو فَضله ... اذ كل فضل دون ذَلِك دون)
(فَعَسَى الْمَوَاهِب ان تكون قريبَة ... منى ويسعد طالعى ويعين)
(وَأَقُول هاتوا يَا بنى رحالكُمْ ... وتمتعوا فَكَذَا الهبات تكون)
وَمن رباعياته الْمُتَعَلّقَة بالالهيات والنصائح قَوْله
(فى حُسَيْن اذا مَا ... أردْت نطقا يَقِينا)
(جوانحى للسانى ... تَقول ألله فِينَا)
وَقَوله
(ان آمالنا الَّتِى شَغَلَتْنَا ... عَن طلاب الحظوظ والارزاق)
(آيستنا من كل شئ وَلَكِن ... مَا أيسنا من رَحْمَة الخلاق)
وَقَوله
(اشغل فُؤَادك بالتقى ... وَاحْذَرْ زَمَانك تلتهى)
(واعمل لوجه وَاحِد ... يَكْفِيك كل الاوجه)
وَقَوله
(الام أحمل من نفسى وَمن نفسى ... عبئا من الاثم فِي صبحى وفى غلسى)
(عَسى الْكَرِيم بلطف مِنْهُ ينقذنى ... منى فاخلص شرورى الطبر من قفسى)(4/419)
وَقَوله
(تزَود فَخير الزَّاد مَا كَانَ بَاقِيا ... وخلا الامانى المسفرات عَن الكرب)
(يسَار الليالى مِنْك فى الاخذ لم تزل ... بأسرع من يمناك فى طلب الْكسْب)
وَقَوله
(مهلا سفينة آمالى لَعَلَّ بِأَن ... تهب نحوى ريَاح اللطف وَالْكَرم)
(وَيَا حظوظى رفقا لست مدركة ... غير الذى قسم الارزاق فى الْقدَم)
وَقَوله
(لَا تتهم بالسوء دهرك انه ... جبل يُجيب صداك مِنْهُ صداء)
(مرآتك الدُّنْيَا وفعلك صُورَة ... فِيهَا فَمَا الشنعاء والحسناء)
وَقَوله
(ربح المخلصون بالاخلاص ... وَاكْتفى العابدون هول الْقصاص)
(وَأَنا المذنب الذى بسوى الْعَفو بعيد من الْجَحِيم خلاصى ... )
وَقَوله
(سيدى مَا قنطت مِنْك وَلَا رَاع فؤادى من الخطا مَحْذُور)
(ان أكن راجيا فَأَنت جواد ... أَو أكن مذنبا فانت الغفور)
وَقَوله يَا الهى هبنى لعفوك انى ... وَجل الْقلب من شنيع الذُّنُوب)
(حسناتى جَمِيعهَا سيئات ... واعتذارى اليك عين الذُّنُوب)
وَقَالَ رَحمَه الله تَعَالَى بتوسل بالنبى
(اليك رَسُول الله وجهت وجهتى ... لانك أَنْت الْمُنعم المتفضل)
(وَلَا نصر الا من جنابك يرتجى ... وَلَا غيث الا من يَمِينك يهطل)
وَكَانَ قبل مَوته بِنَحْوِ سنة ترك الْعُزْلَة وَظهر وعاشر قرناءه الَّذين ألفهم من زمن الصِّبَا مِنْهُم والدى المرحوم فَكَانَ كل يَوْم غَالِبا يزور أَبى فيتفرغ عَن جَمِيع اشغاله لمحادثته وَكَانَ يَقع بَينهمَا محاورات عَجِيبَة ومحادثات غَرِيبَة وَكنت أَنا أَقف فى خدمتهما وَكَثِيرًا مَا يخاطبنى الامير وَيطْلب من والدى دواوين الشُّعَرَاء المفلقين ويجلسنى ويأمرنى بِقِرَاءَة قصائد ينتقيها لى ويسألنى عَن بعض أَلْفَاظ مغلقة مِنْهَا فَأُجِيبَهُ عَمَّا أعرفهُ وَكَانَ يَدْعُو لى ويحرص على فَوَائِد يلقيها الى وكتبت عَنهُ فى ذَلِك الاثناء أناشيد كَثِيرَة من شعره وَشعر غَيره وَمَا رَأَيْته يغالى بشئ من شعره الغزلى بِأَكْثَرَ من هَذِه الابيات وهى قَوْله رَحمَه الله تَعَالَى
(قد زارنى وَكَأَنَّهُ رَيْحَانَة ... يَهْتَز من تَحت القباء الاخضر)
(فَظَنَنْت مِنْهُ ضمن كلا سَلامَة ... من طيبه شمامة من عنبر)
(ولكنز مبسمه دَنَوْت فخلته ... ياقوتة ملئت بأنفس جَوْهَر)
(فهصرته هصر النسيم أراكة ... متلطفا حَتَّى كَأَن لم يشْعر)(4/420)
(متعانقين على فرَاش صِيَانة ... متحذرين من الصَّباح المسفر)
وكتبت عَنهُ من املائه قَوْله يمدح أَبى رحمهمَا الله تَعَالَى
(أرى الْعُمر فى غير السرُور مضيعا ... وَمن ودع الاحباب روحا مودعا)
(فانى قد نازلت كل كريهة ... وقضيت فى النعماء عزا منوعا)
(وجالست أَرْبَاب الْفَضَائِل يافعا ... وشاهدت أقمار الكمالات طلعا)
(وصادفت فضل الله وَابْن محبَّة ... أجل بنى الدُّنْيَا وَأكْرم من سعى)
(فَلَا من كَسَاه الله ثوبا كمن غَدا ... عَلَيْهِ لثوب مستعار مرقعا)
(وَلَا من يُصِيب النَّاس أنواء فَضله ... كمن رَاح يرضى بِالْقَلِيلِ تقنعا)
وَقَالَ رَحمَه الله تَعَالَى يمدح بعض الاعيان
(بذاتك طابت فى الْوُجُود العناصر ... وقرت عُيُون واطمأنت سرائر)
(وأيسر وصف من جميلك دوحة ... يجول بهَا فكر ويرتع نَاظر)
(سقيت رياض الشُّكْر منى مآثرا ... تفتح مِنْهَا بالثناء أزاهر)
(أَزور وضدى لَا سواهُ مصاحبى ... حماك فتثنينى وحولى عشائر)
(اذا سرت خفف من عطاياك اننى ... ليثقل ظهرى جودك المتكاثر)
(وَمَا أَنا من يَأْبَى نداك وانما ... يمل من السحب الثقال الْمُسَافِر)
(كفانى عزا اننى بك لائذ ... وحسبك فخرا أننى لَك شَاعِر)
وَحضر يَوْمًا عِنْد والدى فَقَالَ لى اكْتُبْ مَا أمْلى عَلَيْك وَهُوَ مِمَّا نظمته فى هَذِه اللَّيْلَة ثمَّ أنْشد هَذِه الابيات معرضًا بِجَمَاعَة من صُدُور دمشق فَقَالَ
(أسود على مَا تدعيه نُفُوسهم ... نمال اذا عدوا ليَوْم رهان)
(يسؤوننى فى القَوْل غيبا وانهم ... لتسدى لَهُم نعماى طول زمَان)
(وَأمسى مروعا من مَخَافَة عتبهم ... وهم تَحت ظلى رأفتى وامانى)
(وَلم أنس مَا قد قَالَ والدى الذى ... تعوض عَن دنياهم بجنان)
(أَبَت همتى العلياء عَنى أَن ترى ... رجَالًا مكانى لَا تسد مكانى)
ثمَّ سمعته بعد أَيَّام يَقُول قد ظَفرت فى مسوداتى الْقَدِيمَة بِهَذِهِ الابيات الْخَمْسَة وَكنت قد نظمتها من مُنْذُ خمس وَثَلَاثِينَ سنة والآن توارد الْفِكر فِيهَا وَهَذَا غَرِيب ثمَّ بعد مُدَّة اخْتَلَط وَظَهَرت فِيهِ أَحْوَال الطاعنين فى السن وتناقضت أَقْوَاله ثمَّ مرض وَطَالَ بِهِ الْمَرَض مُدَّة أشهر ونظم فى مَرضه هَذِه القصيدة المطولة وَلَيْسَت من(4/421)
// حسن شعره بل هى ضَعِيفَة من ضَعِيف // ومطلعها
(دَار عَلَيْهَا وَحْشَة وقتام ... )
وَتوفى عقيب نظمها بأيام وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَانِينَ وَألف عَن ثَلَاث وَسبعين سنة وَدفن بتربتهم بِجَامِع جدهم بميدان الْحَصَا وروى عَنهُ انه قَالَ عِنْد حَالَة نَزعه أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا حَيّ يَا قيوم بِرَحْمَتك أستغيث وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على جَمِيع الانبياء وَالْمُرْسلِينَ وعَلى خَاتم الرُّسُل الْكِرَام الذى هدَانَا ودلنا على سَبِيل الله أشهد الله على وَمَلَائِكَته بأنى أشهد أَن لَا اله الا الله آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وَالْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى الى يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون الا من أَتَى الله بقلب سليم وَحكى انه رأى الْغَوْث فى رَابِع وعشرى جُمَادَى الْآخِرَة وَبَين يَدَيْهِ أَبُو الْغَيْث وَاقِفًا فى حرم الْمَدِينَة المنورة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام وَهُوَ ينشد هَذِه الابيات
(يَا أَبَا الْغَيْث هَل يُجَاب دُعَاء ... رحت تَدعُوهُ من لسانى وتسأل}
(ويجئ المشير مِنْك بشيرا ... بالتهانى يَقُول سعدك أقبل)
(كنت أَشْقَى الانام قولا وفعلا ... فَعَلَيْك الْكَرِيم لطفا تفضل)
(كل هَذَا بِفضل أَحْمد اذ كَانَ شَفِيعًا ذَاك النبى الْمفضل ... )
فأنشدنى رجل بِغَيْر صَوت أسمعهُ وَلَا أرَاهُ وَأَظنهُ ملكا مقربا
(هاكها قد أتتك وَالْخَيْر يَتْلُو ... بعضه الْبَعْض والمواهب تترى)
(سَوف يَأْتِيك مَا أَقُول قَرِيبا ... سَوف تلقى من بعد كسرك جبرا)
(سَوف يَأْتِيك مَا أَقُول قَرِيبا ... سوفى تلقى من بعد عسرك يسرا)
(كنت كَلْبا فهاك قد صرت ليثا ... تختشيك الاسود سرا وجهرا)
وَقَالَ لى أَمِير الْمُؤمنِينَ سعد بن عبَادَة قَالَ لعرابة وَهُوَ تابعى أرى كثيرا من النَّاس يَقُولُونَ يَا رب خَاتِمَة الْخَيْر وَالْخَوْف من السَّابِقَة قَالَ الله تَعَالَى بعد أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ان الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} فَقلت يَا سيدى كَيفَ حَال الْوَاحِد منا من العصاة بعد قَوْله
لَو علم الْمَرْء مَا يَأْتِيهِ بعد الْمَوْت مَا أكل أَكلَة وَلَا شرب شربة الا وَهُوَ يبكى وَيضْرب على صَدره فجاءنى شيخ الاسلام الشَّيْخ مُحَمَّد البطنينى وَقَالَ لى أما حدثتك بِحَدِيث رَسُول الله
انه قَالَ أقيلوا ذوى الْبيُوت عثراتهم فان الله نَاظر اليهم وان كَانَ جدك مَمْلُوكا وَجَدْتُك جَارِيَة حبشية غفر الله لَك وَقد غفر لَك ببيتين(4/422)
قلتهما أَيَّام كنت لبطنك وفرجك وهما
(حتام سفن اما بَينا على يبس ... تجرى بجنح ظلام مطفئ القبس)
(لَعَلَّ من جَانب الالطاف يدركا ... ريح النجَاة فننجوا آخر النَّفس)
وَقَالَ
ان من الشّعْر لحكمة وان من الْبَيَان لسحرا فَكَانَ سَبَب خلاصى ببيتين وَكنت قد نسيتهما كَمَا وَقع لِابْنِ هانى المكنى بأبى نواس الحكمى غفر لَهُ بِأَبْيَات قَالَهَا وهى قَوْله
(تَأمل فى رياض الارض وَانْظُر ... الى آثَار مَا صنع المليك)
(عُيُون من لجين شاخصات ... باحداق كَمَا الذَّهَب السبيك)
(على قضب الزبرجد شاهدات ... بَان الله لَيْسَ لَهُ شريك)
مَنْصُور بن عبد الرَّزَّاق بن صَالح الْمَعْرُوف بالطوخى المصرى الشافعى امام الْجَامِع الازهر الشَّيْخ الامام الْعَلامَة صدر الافاضل وَشَيخ المدرسين وَبَقِيَّة الْعلمَاء المتمكنين أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا من الْعُلُوم الدِّينِيَّة عَن جمع من الْعلمَاء الاعلام مِنْهُم الشَّمْس الشوبرى والشهاب القليوبى وَالشَّيْخ سُلْطَان وَالشَّمْس البابلى والنور الشبراملسى وَغَيرهم من أكَابِر الشُّيُوخ واكب على طلب الْعلم والتقيد بِهِ حَتَّى بلغ الْغَايَة القصوى فى جَمِيع الْعُلُوم وَشهد أشياخه لَهُ بِالْفَضْلِ التَّام واعترف لَهُ أكَابِر عُلَمَاء عصره بالتفوق على اقرانه وتصدر للاقراء بِجَامِع الازهر وَصرف فِيهِ جَمِيع اوقاته حَتَّى كَانَ يَأْتِيهِ غداؤه وعشاؤه فى مَكَان درسه وَلَا يذهب الى بَيته الا بعد الْعشَاء بساعة ويأتى الى الْجَامِع قبل الْفجْر وَاسْتمرّ على هَذِه الْحَالة الى أَن توفى وَكَانَ ورعا جدا وَحج وَأخذ عَنهُ بالحرمين جمَاعَة وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى الْمحرم سنة تسعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
مَنْصُور بن على السطوحى الْمحلى نزيل مصر ثمَّ الْقُدس ثمَّ دمشق الشافعى الْعَالم الْعَامِل والفاضل الْكَامِل الْمَشْهُور بِالْعبَادَة والعرفان والبالغ الى مرتبَة التفرد فى الزّهْد وَعظم الشان دخل مصر وَصَحب بهَا الشَّيْخ الولى الصَّالح مبارك وَأخذ عَنهُ طَرِيق الشاذلية وسلك مَسْلَك الْقَوْم وهجر المألوف وَالنَّوْم وصقل قلبه بصيقل المجاهده فشاهد فى طَرِيق الْحق مَا شَاهده وجاور بِجَامِع الازهر وَقَرَأَ الْكثير وَمهر وبهر ومشايخه كَثِيرُونَ رَأَيْت بِخَطِّهِ اجازة كتبهَا لبَعض المقدسيين قَالَ فِيهَا عِنْد ذكر مشايخه فَمنهمْ القطب الربانى شيخ عصره بِمصْر الشَّيْخ نور الدّين الزيادى(4/423)
وَمِنْهُم شيخ الْمُحَقِّقين ولسان الْمُتَكَلِّمين وَحجَّة المناظرين وبستان المفاكهين الشَّيْخ أَحْمد الغنيمى وَجَمِيع مَا أذكرهُ من مشايخى عِنْد الحذاق أشهر من قفا نبك فَلَا نطيل بِذكر أوصافهم والذى أذكرهُ مِنْهُم لَيْسَ الا كَمَا قَالَ الْقَائِل فى الْمَعْنى وَأحسن
(لى سادة من عزهم ... أَقْدَامهم فَوق الجباه)
(ان لم أكن مِنْهُم فلى ... فى ذكرهم عز وجاه)
وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو بكر الشنوانى وَمِنْهُم القاضى يحيى الشامى الحنبلى وَمِنْهُم الشَّيْخ ابراهيم اللقانى وَمِنْهُم الشَّيْخ يُوسُف الزرقانى وَالشَّيْخ سَالم الشبشيرى وَمِنْهُم الشَّيْخ سُلَيْمَان البابلى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد الجابرى وَمِنْهُم الشَّيْخ عبد الله الدنوشرى وَمِنْهُم الشَّيْخ سراج الدّين الشنوانى وَمِنْهُم الشَّيْخ عبد الْمُنعم بن الشَّيْخ طه المالكى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد الْقصرى وَمِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد الكلبى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد البكرى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشلبى وَمِنْهُم الشَّيْخ حجازى الْوَاعِظ وَمِنْهُم وَهُوَ أَوَّلهمْ صَاحب الدّين المتين الذى اشْتهر انه يقرئ الْجِنّ الشَّيْخ يس المالكى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُوسَى الدميتى وَمِنْهُم الشَّيْخ ابراهيم المعمرى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد الحبار وَمِنْهُم الشَّيْخ محب الدّين المنزلاوى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد الخوانكى ولى مَشَايِخ أخر يُؤدى ذكرهم الى الاطالة نفعنا الله تَعَالَى بهم وببركاتهم جَمِيعًا انْتهى ثمَّ قدم الى الْقُدس وَأقَام بهَا منعكفا على الْعِبَادَة وتلاوة كَلَام الله تَعَالَى الْقَدِيم والقاء حَدِيث النبى الْعَظِيم وَاسْتقر منعزلا عَن النَّاس وَلَا يخالطهم فى وَحْشَة وَلَا ايناس فحسده أهل الْقُدس على حبه الخفاء وشهرته تأياه ولاقبال الكبراء والاعيان عَلَيْهِ مَعَ أَن ذَلِك بِخِلَاف رِضَاهُ فأظهروا لَهُ الشرة والتجرى وأسندوا اليه أمورا هُوَ مِنْهَا فى غَايَة التبرى
(وحاشاه من قَول عَلَيْهِ مزور ... وَمَا علمت ذَنبا عَلَيْهِ الملائك)
فَهَاجَرَ الى دمشق فقابلته بتأهيل وترحيب وأنزلته فى صدر مِنْهَا رحيب وَأقَام بالجامع الْمَعْرُوف بالصابونية قرب بَاب الصَّغِير يقْصد ويزار واليه بالورع التَّام والزهد الْكَامِل يشار انعكفت عَلَيْهِ أهل دمشق قاطبة واعتقدوه وأحبوه حَتَّى صَار من تلامذته ومريدية خلق كثير من أَهلهَا دمشق وَكَانَ سَببا لنشر حفظ الْقُرْآن فِيهَا فان الْحفاظ صَارُوا أَكثر من أَرْبَعمِائَة نفر بِنَفسِهِ الْمُبَارك وَأقَام على حَالَته الْمَذْكُورَة ايضا منعزلا لَا يذهب الى اُحْدُ من الْحُكَّام بل هم يأْتونَ اليه ويلتسمون مِنْهُ الدُّعَاء ويأتى محبوه اليه بالاطعمة النفيسة والاحسانات وَهُوَ لَا يدّخر مِنْهَا(4/424)
شَيْئا وَكَانَ كثيرا مَا يحجّ فى غَالب السنين وَحج فى سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وجاور بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ السّنة هى السّنة الَّتِى مَاتَ فِيهَا فَأرْسل اليه الشَّيْخ عبد الْجواد المنوفى من مَكَّة الى الْمَدِينَة هَذِه القصيدة يهنئه بالمجاورة عِنْد خير خلق الله مُحَمَّد
(دَار الحبيب أَحَق أَن تهواها ... وتحن من طرب الى ذكرَاهَا)
(وعَلى الجفون مَتى هَمَمْت بزورة ... يَا ابْن الْكِرَام عَلَيْك أَن تنساها)
(فَلَانَتْ انت اذا حللت بِطيبَة ... وظللت ترتع فى ظلال رباها)
(مغنى الْجمال من الخواطر والتى ... سلبت عقول العاشقين حلاها)
(لَا تحسب الْمسك الذكى كثربها ... هَيْهَات أَيْن الْمسك من رياها)
(طابت فان تبغى التَّطَيُّب يَا فَتى ... فأدم على السَّاعَات لثم ثراها)
(أبشر ففى الْخَبَر الصَّحِيح مُقَرر ... ان الاله بِطيبَة سَمَّاهَا)
(واختصها بالطيبين لطيبها ... واختارها ودعا الى سكناهَا)
(لَا كالمدينة منزلا وَكفى بهَا ... شرفا حُلُول مُحَمَّد بفناها)
(حظيت بجيرة خير من وطئ الثرى ... وأجلهم قدرا فَكيف ترَاهَا)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الابيات وهى قَوْله
(أيا سَائِلًا عَنى وَعَن وصف خلتى ... تُرِيدُ بهَا حظا بأوفر بغيتى)
(مآرب أمرى ثمَّ مربى مآربى ... باقوال ربى ثمَّ افعال سنة)
(مجامع أمرى فى اجْتِمَاع أحبتى ... بِطيبَة اذا طابت لنَفس زكية)
(وقرة عين فى اقتراب منيتى ... بموطنها ان شَاءَ رب الْبَريَّة)
(وأهنى باخبار الاحبة كلما ... أَرَاهَا بِعَين الرَّأْس ثمَّ البصيرة)
(وأذكر مَا بَين المحبين شَأْنهَا ... فتصغى لَهَا أهل الصَّفَا والمودة)
(فيا قرب دارى بالمحبين كلهم ... وسيدهم يَوْم اللقا وَالْغنيمَة)
(فَللَّه در المغبطين لنا بهَا ... وَقدر بحت نفسى تهنى ببغيتى)
(فوَاللَّه لَا أنسى محبا ومخلصا ... وعبدا لجواد كريم السجية) 5 وروى عَنهُ انه قَالَ لما وصلته أَبْيَات الشَّيْخ عبد الْجواد أرسل لنا الشَّيْخ هَذِه الابيات يودعنا بهَا وَكَانَ كَمَا قَالَ وَكَانَت وَفَاته فى حادى وعشرى شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ بِالْقربِ من مرقد سيدنَا ابراهيم بن النبى(4/425)
مَنْصُور بن يُونُس بن صَلَاح الدّين حسن بن أَحْمد بن على بن ادريس البهوتى الحنبلى شيخ الْحَنَابِلَة بِمصْر وخاتمة عُلَمَائهمْ بهَا الذائع الصبت الْبَالِغ الشُّهْرَة كَانَ عَالما عَاملا ورعا متبحرا فى الْعُلُوم الدِّينِيَّة صارفا أوقاته فى تَحْرِير الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة ورحل النَّاس اليه من الْآفَاق لاجل أَخذ مَذْهَب الامام أَحْمد رضى الله عَنهُ فانه انْفَرد فى عصره بالفقه أَخذ عَن كثير من الْمُتَأَخِّرين من الْحَنَابِلَة مِنْهُم الْجمال يُوسُف البهوتى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن البهوتى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الشامى المردارى وَأكْثر أَخذه عَنهُ وَعنهُ الشَّيْخ مُحَمَّد وَمُحَمّد بن أَبى السرُور البهوتيان وابراهيم بن أَبى بكر الصالحى وَغَيرهم وَمن مؤلفاته شرح الاقناع ثَلَاثَة أَجزَاء وحاشية على الاقلاع وَشرح على مُنْتَهى الارادات للتقى الفتوحى وحاشية على الْمُنْتَهى وَشرح زَاد المستنقع للجحاوى وَشرح الْمُفْردَات للشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الهادى المقدسى وَكَانَ مِمَّن انْتهى اليه الافتاء والتدريس وَكَانَ شَيخا لَهُ مَكَارِم دارة وَكَانَ فى كل لَيْلَة جُمُعَة يَجْعَل ضِيَافَة وَيَدْعُو جماعته من المقادسة واذا مرض مِنْهُم أحد عَاده وَأَخذه الى بَيته ومرضه الى أَن يشفى وَكَانَت النَّاس تَأتيه بالصدقات فيفرقها على طلبة الْعلم فى مَجْلِسه وَلَا يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا وَكَانَت وَفَاته ضحى يَوْم الْجُمُعَة عَاشر شهر ربيع الثانى سنة احدى وَخمسين وَألف بِمصْر وَدفن فى تربة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
الامير مَنْصُور الْمَعْرُوف بِابْن الفريخ تَصْغِير فرخ البدوى أَمِير الْبِقَاع العزيزى بعد اولاد الحنش كَانَ فى أول أمره بدويا من عرب تِلْكَ الْبِلَاد وَكَانَ يتكسب بالرجادة ثمَّ انْتهى أمره الى أَن حَاز الامارة وتظاهر بقتل المناحيس وَأهل الزعارة والشطارة وَكَانَ يبغض اللُّصُوص والقطاع ويعاملهم اذا قبض عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والتمثيل وَكَانَ يحب أهل الشجَاعَة حَتَّى عظم أمره فولى حُكُومَة الْبِقَاع ثمَّ أعْطى حُكُومَة نابلس وانحاز اليه جمَاعَة من جند دمشق واشتهر وأخاف الدروز ثمَّ شن الغارات عَلَيْهِم وَكَانَ هُوَ السَّبَب فى أَخذ ابراهيم باشا أحد الوزراء فى عهد السُّلْطَان مُرَاد بن سليم اليهم وَقد جَاءَ من نِيَابَة مصر ثمَّ كَانَ قيدومه حَتَّى أثر فيهم وَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة واختفى مِنْهُ أَمِيرهمْ الامير قرقماس بن معن حَتَّى مَاتَ فى اختفائه ثمَّ جمع لَهُ بَين حُكُومَة نابلس وصفد وعجلون وَالْبِقَاع وأضيف اليها امارة الْحَاج وَالْتزم مَالا عَظِيما على صفد ونابلس وَجعل نابلس باسم وَلَده وعجلون باسم وَاحِد من جماعته(4/426)
يُقَال لَهُ دالى على وصفد باسمه وَالْبِقَاع بحاكم من قبله وسافر بِالْحَجِّ مرَّتَيْنِ فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وفى الَّتِى بعْدهَا ثمَّ زَاد عتوه وتمرده وَخرب بلادا كَثِيرَة وَقتل خلقا كثيرا وَعمر عمارات عَظِيمَة بالبقاع بقرية قبر الياس وَشرع فى عمَارَة دَار عَظِيمَة خَارج دمشق قبلى دَار السَّعَادَة لم يرسم مثلهَا جعل بَابهَا بالرخام الابيض وَالْحجر الاحمر المعدنى وَنقل لَهَا الرخام من بِلَاد السواحل وَالْحِجَارَة من الْبِقَاع وَاسْتعْمل فِيهَا العملة بالسخرة وَسيرَته طَوِيلَة وَكَانَ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ من التعدى ملازما للصلوات محبا للسّنة وَأَهْلهَا مبغضا للرافض والدروز والتيامنة شَدِيدا على المفسدين وَكَانَت الطرقات آمِنَة فى أَيَّامه ثمَّ لما ولى مُرَاد باشا نِيَابَة الشَّام وَهُوَ الذى صَار آخرا وزيرا أعظم طلع من صيدا فى سنة احدى بعد الالف فخدمه الامير فَخر الدّين بن معن بِخِدْمَة سنية وأطعمه بِكُل جزئية وكليه فَعمل مُرَاد باشا على قبض الامير مَنْصُور صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ آمن مِنْهُ بعد أَن أمره بِعَمَل ضِيَافَة لَهُ فى بَيته الذى ابتناه عِنْد الدرويشية ثمَّ اعتذر عَن الذّهاب اليه وَأمره أَن تكون الضِّيَافَة عِنْده فى دَار السَّعَادَة فَلم يشْعر الامير مَنْصُور الا وَقد أحيط بِهِ ثمَّ أودعهُ قلعة دمشق وَعرض فِيهِ الى السُّلْطَان مُرَاد فجَاء الامر بقتْله فَقتل فى نَهَار الثلاثا ثَالِث عشر شهر ربيع الاول سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَأخرج من القلعة فى بلنسة عتيقة مَحْمُولا فِيهَا من غير نعش وَغسل فى بَيت زَوجته بنت مُرَاد باشا وَدفن بتربتهم قبلى ميدان العبيد خَارج بَاب الصَّغِير وَفِيه يَقُول الاديب يُوسُف العلمى مؤرخا
(فى السجْن شخص اشتبك ... مُقَيّدا من غير شكّ)
(من ظلمه وجوره ... عَلَيْهِ قد دَار الْفلك)
(فكم طَغى وَكن بغى ... وَكم سبى وَكم فتك)
(لم ير فى خير سعى ... وَلَا مَشى وَلَا سلك)
(فَلَا نجا لما اعْتدى ... وَلَا افتدى بِمَا ملك)
(وَقد أَتَى تَارِيخه ... ابْن فريخ جاهلك)
وَخلف عشرَة أَوْلَادًا أكبرهم قرقاس الظَّالِم العسوف وَكَانَ عِنْد قتل وَالِده مُقيما ببوارش من أَرض الْبِقَاع فَأرْسل مُرَاد باشا الى الامير فَخر الدّين بن معن يَأْمُرهُ بالكبس عَلَيْهِ فَتوجه اليه فى جمع عَظِيم من الدروز والتيامنة فَقبل وُصُوله الى بوارش الَّتِى كَانَ نازلا فِيهَا جَاءَهُ النذير ففر وَمَعَهُ نَحْو مائَة بندقانى فعمدوا الى(4/427)
بيوته فنهبوها وحرقوها ونقلوا محاسنها الى بِلَادهمْ ثمَّ نزلُوا الى قبر الياس وبعثوا الى مُرَاد باشا يخبرونه أَن قرقاس هرب الى ابْن سَيْفا بِبِلَاد كسروان فَأرْسل مُرَاد باشا يَأْمُرهُم بالرحيل عَن قبر الياس اليه ثمَّ جَاءَت الاخبار بِأَن قرقاس لما توجه من بوارش هَارِبا الى ابْن سَيْفا لم يُمكنهُ ابْن سَيْفا من النُّزُول عَلَيْهِ فى بِلَاده فَتفرق عَنهُ من كَانَ مَعَه وَلم يدر أَيْن ذهب وَالله أعلم قلت ثمَّ كَانَت عاقبته أَنه قتل على يَد الامير مُوسَى بن الحرفوش بمواطأة الامير فَخر الدّين بن معن وَكَانَ قَتله فى حُدُود سنة ثَلَاث بعد الالف
مَنْصُور سبط شيخ الاسلام نَاصِر الدّين الطبلاوى نِسْبَة لبلدة بالمنوفية من أقاليم مصر الشافعى الشَّيْخ الْعَالم الْمُحَقق خَاتِمَة الْفُقَهَاء ورحلة الطلاب وَبَقِيَّة السّلف برع فى التَّفْسِير وَالْفِقْه والْحَدِيث والنحو والتصريف والمعانى وَالْبَيَان وَالْكَلَام والمنطق والاصول وَغَيرهَا من الْعُلُوم فَلَا يدانيه فِيهَا مدان بِحَيْثُ انه تفرد فى اتقان كل مِنْهَا وقلما يُوجد فن من الْفُنُون العلمية الا وَله فِيهَا الملكة القوية ولد بِمصْر وَبهَا نِشأ وَحفظ الْقُرْآن بالروايات واشتغل بعلوم الشَّرْع والمعقولات وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّمْس الرملى والعربية عَن أَبى النَّصْر بن نَاصِر الدّين الطبلاوى ولازم فى الْعُلُوم النظرية الْمُحَقق الشهَاب أَحْمد بن قَاسم العبادى وَبِه تخرج وببركته انْتفع وَحصل وَجمع وَأفْتى ودرس ولازمه بعده جلّ تلامذته وَمِمَّنْ لَازمه وَأخذ عَنهُ علوما عديدة الشَّمْس مُحَمَّد الشوبرى وَألف المؤلفات السّنيَّة ورزق السَّعَادَة فِيهَا فانتشرت واجتهد النَّاس فى تَحْصِيلهَا وسارت بهَا الركْبَان وَمن مؤلفاته شرح على الازهرية فِي مُجَلد حافل وَشرح على شرح تصريف الْعُزَّى للتفتازانى ونظم الاستعارات وَشَرحهَا ونظم عقيدة النسفى وَله مؤلف فى لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَغير ذَلِك من كتب ورسائل وجرد حَاشِيَة شَيْخه ابْن قَاسم الْمَذْكُور على التُّحْفَة لِابْنِ حجر وَلم يزل مشتغلا بِالْعبَادَة والافادة حَتَّى توفى وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الثلاثا رَابِع عشر ذى الْحجَّة سنة أَربع عشرَة بعد الالف
مَنْصُور الشهير بالفرضى الشافعى المصرى نزيل الصالحية بِدِمَشْق الْفَقِيه الفرضى الحيسوب فَرد وقته أَخذ بِمصْر عَن عُلَمَاء أجلاء ثمَّ ورد صالحية دمشق فَنزل بِالْمَدْرَسَةِ العمرية وقطن بهَا مُدَّة حَيَاته ودرس بهَا وَأفَاد واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة من فضلاء دمشق وانتفعوا بِهِ من أَجلهم بَقِيَّة الْبَيْت الغزى الشَّيْخ الْعَالم عبد(4/428)
الْكَرِيم ابْن الشَّيْخ سعودى مفتى الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق الْآن وَغَيره وَكَانَ صَالحا ناسكا حسن السمت والنزاهة وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت عَاشر ذى الْقعدَة سنة سبعين وَألف
الامير مَنْصُور الْمَعْرُوف بِابْن الشهَاب التيمانى أَمِير وادى التيم وَابْن أميرها ولآبائه وعمومته قدم فى امارة الوادى الْمَذْكُور وجورهم بِالنِّسْبَةِ الى أُمَرَاء بِلَاد الشَّام كالدروز بنى معن والرفضة بنى الحرفوش وَبنى سرحان مَقْصُور على أنفسهم من حَيْثُ المعتقد فَحسب ومالهم فى الْقَدِيم والْحَدِيث كَثْرَة أذية للْمُسلمين وبلادهم الْمَذْكُورَة من أصح بِلَاد الشَّام هَوَاء وأطيبها بقْعَة والامراء المذكورون يسكنون مِنْهَا حاصبيا وريشيا قريتين وَلَهُم فيهمَا أبنية نفيسة وعمارات فائقة وَكَانَ الامير مَنْصُور الْمَذْكُور صَاحب بسطة فى المَال لطيف الشكل والمصاحبة مائلا الى المعاشرة والمباسطة عَاقِلا ذَا فكرة جَيِّدَة الا انه لعبت بِهِ وساوس الحشمة فأدته الى مُوَافقَة عبد السَّلَام وَبَقِيَّة رُؤَسَاء جند الشَّام فى مصادمة مرتضى باشا لما ولى نِيَابَة الشَّام وقارب أَن يدخلهَا وَكَانَ عبد السَّلَام كَاتب الامير مَنْصُور وَابْن عَمه الامير عليا فى هَذَا الامر وَطلب اسعافه بِالرِّجَالِ فَجمعُوا من بِلَادهمْ جمعا عَظِيما وجاؤا بهم الى دمشق ثمَّ تجمع الْعَسْكَر وَخرج الفتيان ومعهما من الرعاع والاوباش مَا ضبط فَكَانَ أَرْبَعَة عشر ألفا وَكَانَ مرتضى باشا وصل الى القطيفة فَخَرجُوا الى محاربته فَلَمَّا سمع بخبرهم رَجَعَ وَلم يدْخل الى دمشق وَرَجَعُوا هم الى دمشق وَأقَام الاميران الْمَذْكُورَان بهَا أَيَّامًا وَأَقْبل الْعَسْكَر عَلَيْهِمَا وتغالوا فى تعظيمهما ومواساتهما فأعجبهما ذَلِك الاقبال وظنا أَن الدَّهْر سالمهما فى الْحَال والمآل وَحسن لَهما كثير أَن يسكنا دمشق ويدخلا فى زمرة جندها فانساغا وَلم يعْهَد فِيمَا أَحسب لَاحَدَّ من أهل بيتهما ذَلِك الانسياغ وتملكا دارين بمحلة القنوات احداهما اشْتَرَاهَا الامير مَنْصُور من بنى فرهاد والاخرى اشْتَرَاهَا الامير على من مخلفات الصنجقدار وصارا كِلَاهُمَا من كبار الْجند الْمعبر عَنْهُم بالبلوكباشية وَشرعا فى عمَارَة هذَيْن الدَّاريْنِ على أسلوب متقن مُحكم وزخرفاهما بأنواع الزخارف والنقوشات وجلبا اليهما الرخام من بلادهما واستمرا مُدَّة يصرفان جهدهما فى اتقان بنائهما حَتَّى تمت عمارتهما ولعمرى انهما أبدعا ونوعا وأجادا فِيمَا صنعا وَهَاتَانِ الداران بعد تناقل الايدى لَهما من محَاسِن دمشق الْآن وَاتفقَ قريب التَّمام قصَّة قتل عبد السَّلَام(4/429)
كَمَا ذكرنَا فى تَرْجَمته فتنغص عيشهما وأقلعا الى بلادهما متخوفين وعلما أَن مَا ارتكباه كَانَ غَلطا وتواردت عَلَيْهِمَا بعد ذَلِك أَخْبَار زعزعتهما عَن مستقرهما وطفقا يلتجئان الى من يحسن التَّدْبِير فى أَمرهمَا فَلَمَّا أعياهما الظفر بمخلص لَهما عِنْد ارباب العقد والحل وَعظم الكرب عِنْدهمَا من كَثْرَة الاوهام وَجل لم يقر للامير مَنْصُور قَرَار دون أَن ترك الديار وَالدَّار وصمم على السّفر الى جِهَة السلطنة العليه وَلم يبال اذا قدم عَلَيْهِم أتدركه منية أَو أمنيه فَوَقع أَنه وصل وقابل الْوَزير فعوجل بِالْقَتْلِ من غير تَأْخِير وَكَانَ قَتله فى سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف بقسطنطينية وَوَقع فى أَطْرَاف دمشق التفتيش على ابْن عَمه على فظفروا بِهِ تِلْكَ السّنة وَقتل أَيْضا
مُوسَى بن ابراهيم بن مُسلم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَلِيل بن على بن عِيسَى بن أَحْمد بن صَالح بن خَمِيس بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن دَاوُد بن مُسلم السَّيِّد الصمادى القادرى الشافعى الدمشقى الشَّيْخ الاجل الصَّالح الدّين الْخَيْر الْفَقِيه كَانَ من أجل الصُّوفِيَّة فى عصره تلقى الطَّرِيقَة القادرية الصمادية عَن وَالِده وَأَجَازَهُ اجازة خَاصَّة فى سنة سبعين وَألف وَكتب على الاجازة فضلاء دمشق مِنْهُم والدى المرحوم وَكَانَ من جملَة مَا كتبه لما تشرف الْبَصَر بِالنّظرِ الى هَذِه الاجازة الشريفه وسرح طرف الطّرف فى مضمار مطالعة مَا ذكر فِيهَا من أهل هَذِه الطَّرِيقَة المنيفه الَّذين بذكرهم تنزل الرحمه وبصبا أنفاسهم القدسية تنقشع غمائم الغمه آنست من جَانب طورها الايمن نَار الْقرى وَعلمت ان كل الصَّيْد فى جَوف الفرا فيا لَهَا من سلسلة أَحَادِيث علاها معنعنة سلسلة علية الشّرف محتوية على السداد والاستعداد من كل طرف مُتَّصِلَة من الاجداد الى الْآبَاء الى الابناء فَلَا جرم فبالآباء تقتدى الاولاد والامجاد وعَلى عراقها تجرى الْجِيَاد وَحقّ لنهر شقّ من بَحر أَن يكون غزيرا ولنجم استضاء من بدر أَن يكون منيرا كحاوى هَذِه الاجازه من فَازَ بالشرف وحازه الْجَامِع بَين الْحسب وَالنّسب وَالْفضل التَّام والادب المتحلى باستعداد كل فَضِيلَة نالها
(فَلم تَكُ تصلح الا لَهُ ... وَلم يَك يصلح الا لَهَا)
ولابدع فَهُوَ وسلالة الْبَيْت النبوى من أصبح امام الانام فى الْعَصْر بالجامع الاموى قد سلك مَسْلَك آبَائِهِ العارفين وتابع أجداده واهتدى بهدى سلفه المرشدين فَلهُ جد فى الطَّاعَة وخلوص فى الْعِبَادَة مَعَ اشتماله على فضل غزير يعرب عَن رفع(4/430)
مَحَله وَعلم مبْنى على قَاعِدَة الْعَمَل وَأَصله لَا بدع فَمن كَانَ لَهُ كوالده وَالِد فقد حرى الْفَلاح وَالصَّلَاح طارفا عَن تالد وناهيك بوالده الْعَزِيز الْمُجِيز من أضحى كَالْعلمِ الْفَرد فى بَاب التَّمْيِيز قطب دَائِرَة هَذِه الديار ومركز احاطة عباد الْعباد الاخيار فاقسم بالْمقَام وَالْبَيْت الْحَرَام أَن من علم مَا لَهُ من المزايا وَفهم مَا خص بِهِ من السجايا من واهب العطايا تحقق أَن فى الزوايا خبايا وفى الرِّجَال بقايا وَلم يزل صَاحب التَّرْجَمَة بعد موت وَالِده خَليفَة قَائِما بأوراده وأذكاره مشكور السِّيرَة فى جَمِيع أَحْوَاله وأطوره الى أَن توفى نَهَار الاربعاء رَابِع عشر صفر سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُوسَى بن أَحْمد الملقب شرف الدّين الحمصى الجوسرى الشافعى امام الشَّافِعِيَّة بِجَامِع بنى أُميَّة بِدِمَشْق كَانَ من الْعلمَاء الصَّالِحين والفضلاء الموقرين حضر دروس الْمَشَايِخ الاجلاء واشتغل عَلَيْهِم وَأخذ عَنْهُم مِنْهُم الْبَدْر الغزى والشهاب الطيبى وَالشَّيْخ أَبى الْفِدَاء اسماعيل النابلسى وصاهر الشهَاب القابونى وَولى امامة الاولى بالاموى بعد الشهَاب الفلوجى وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَألف
مُوسَى بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فى تَرْجَمَة وَالِده أَحْمد الى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن مُوسَى الْعجل شيخ بَيت الْفَقِيه الاكبر وبركة الْيمن وَسَنَد تهَامَة انْعَقَد الاجماع على ولَايَته قدس سره ولد يَوْم الاحد سادس وعشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع بعد الالف بِبَيْت جده الْفَقِيه بن عجيل وَبهَا قَرَأَ الْقُرْآن وَأخذ عَن وَالِده ورباه وأدبه فَأحْسن أدبه وكلأه حَتَّى لاحت فِيهِ مخايل النجابة فأقامه مقَامه فى حَيَاته وَجعله خَلِيفَته فى طاعاته وشارك وَالِده فى الاخذ عَن عَارِف زَمَانه تَاج الدّين الهندى رضى الله عَنهُ ورحمه طَرِيق النقشبندية وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس الْخِرْقَة فى لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة سبع وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن كثيرين من مَشَايِخ الْحَرَمَيْنِ واليمن وَقَرَأَ على الشَّيْخ الْعَارِف الزين بن الصّديق المرجاجى رَحمَه الله تَعَالَى عوارف المعارف للسهروردى وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه بالالباس والتلقين على طَريقَة أهل الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَانْفَرَدَ فى عصره بِبَلَدِهِ فى عُلُوم الطَّرِيقَة وانتهت اليه بهَا الرياسة مَعَ الجاه العريض عِنْد جَمِيع النَّاس والشفاعة المقبولة والكلمة المسموعة والتحلية بالاستقامة وَكَانَت وَفَاته فى ثامن عشر شعْبَان سنة سبع وَتِسْعين(4/431)
وَألف وَدفن بِقرب تربة وَالِده رَحمَه الله تَعَالَى
مُوسَى بن سعد الدّين بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن السعدى الجباوى الدمشقى القبيباتى الشافعى كَانَ من كبار الصُّوفِيَّة لَهُ الشهامة الزَّائِدَة وَالنعْمَة الطائلة وَقد توسع فى آلَات الاحتشام حد التَّوَسُّع وَجمع من الذَّخَائِر والتحف وأنواع الامتعة والاقمشة مَالا يُحْصى كَثِيرَة وَكَانَ على طَرِيق أسلافه فى الْبَذْل والادرارات والميل الى الشُّهْرَة وَكَانَ معتدلا فى أَمر الجذب بل كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ سَلامَة الْفِكر وَحسن التَّدْبِير والصلف وَله محاضرة جَيِّدَة ولطف أَدَاء ومعاشرة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أكمل أهل بَيته وأعرفهم وأحذفهم وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بتربتهم الْمَعْرُوفَة خَارج بَاب الله
الامير مُوسَى بن على بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الحرفوش الامير بن الامير أَمِير بعلبك ولى امارتها بعد قتل أَبِيه وَذَلِكَ بعد أَن كَانَ قبض على أَبِيه وَأرْسل هُوَ والامير مَنْصُور ابْن الفريخ والامير قانصوه الى الرّوم ثمَّ خلص هُوَ وَابْن الفريخ ثمَّ قبض عيله مُرَاد باشا كَمَا قبض على ابْن الفريخ وخنقه فى قلعة دمشق فى سنة احدى أَو اثْنَتَيْنِ بعد الالف وَهَؤُلَاء الْقَوْم من الغلاة فى الرَّفْض خذلهم الله تَعَالَى الا أَن صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ أقرب أَهله الى التسنن كَمَا قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته وَكَانَ بطلا شجاعا جوادا وَكَانَ ركب على الامير على بن سَيْفا صَاحب طرابلس الشَّام بِأَمْر من الْوَزير مُحَمَّد باشا السَّيِّد الشريف الْمُنْفَصِل عَن نِيَابَة مصرحين كَانَ نَائِبا بِالشَّام فى سنة سبع أَو ثَمَان بعد الالف وَقتل ابْن سَيْفا فى نَاحيَة عُزَيْر وَقد ذكرنَا خبر هَذِه الْوَقْعَة فى تَرْجَمَة الامير حسن بن الاعرج وَذكرنَا بَيْتَيْنِ تمثل بهما ابْن الاعوج الْمَذْكُور فى صدر رِسَالَة أرسلها الى الامير مُوسَى صَاحب التَّرْجَمَة يحثه فِيهَا على قتال ابْن سَيْفا والبيتان هما
(عُزَيْر طور ونار الْحَرْب موقدة ... وَأَنت مُوسَى وَهَذَا الْيَوْم مِيقَات)
الى آخرهَا فَارْجِع اليهما ثمَّة وبقى الامير مُوسَى فى امارة بعلبك حَتَّى دخل الامير على بن جانبولا بعلبك قَاصِدا دمشق فَنَهَضَ الامير مُوسَى الى نواحى حمص لاستقباله مداراة ومحاماة عَن أرضه فتحادثا وتقاولا وتشاورا فِيمَا صدر وتجاولا فَقَالَ الامير مُوسَى هَل تعطينى عهدا على الصُّلْح وَأَنا أذهب الى الشَّام وآخذ لَك الْعَهْد الوثيق من الانام فَقَالَ اذْهَبْ سليما وَكن يَا مُوسَى كليما فَحَضَرَ الى الشَّام وَرمى من(4/432)
عسكرها بغاية الملام وأوجعوه بغليظ الْكَلَام ظنا من جهلائهم انه عَلَيْهِم وَمَا كَانَ نَاوِيا الا سوق الْخَيْر اليهم فَلَمَّا حضر الى أَمِير الامراء بِدِمَشْق قَالَ لَهُ قد جِئْت على قدر يَا مُوسَى فَجرد سيف عزمك لَعَلَّه يذهب البوسى فَقَالَ ان ابْن جانبولاذ يطْلب أَن تُعْطى حوران لعمر والبدوى من عرب المفارجة وَالْبِقَاع العزيزى لمنصور بن الفريخ وان يُؤذن لكيوان بِالدُّخُولِ الى الشَّام وَالْعود كَمَا كَانَ وَيكْتب عرض بِأَن ابْن جانبولاذ لم يدْخل الى أَرض الشَّام وان فَخر الدّين بن معن يُؤدى مَا عَلَيْهِ من مَال السُّلْطَان وبلاده مَوْصُوفَة بالامان فعقد أَمِير الامراء ديوانا لهَذِهِ المطالب فاتفقوا على أَن حواران لعَمْرو وَلَكِن فى السّنة الْقَابِلَة وَأما الْبِقَاع فان اعطاءه لمنصور غير مَعْقُول لكَونه عِنْد الرعايا غير مَقْبُول وَأما كيوان فانه يرجع وَعَلِيهِ الامان وانه يكْتب عرض بِمَا أَرَادَ من عدم دُخُوله وبتعديل ابْن معن ثمَّ وَقع فى ثانى يَوْم اباء من الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين لما صمم عَلَيْهِ أَولا فَرجع الامير مُوسَى الى ابْن جانبولاذ بِغَيْر المُرَاد فعزم ابْن جانبولاذ على قصد دمشق وهرب الامير مُوسَى اليها وَاخْبَرْ انه ترك ابْن جانبولاذ على قصد دمشق ثمَّ ان ابْن جانبولاذ جَاءَ الى الْبِقَاع وخيم بهَا وانحاز اليه الامير يُونُس بن حُسَيْن بن الحرفوش ابْن عَم الامير مُوسَى وَمن مَعَه من أَوْلَاد عَمه وقصدوا بعلبك فنهبوها وَفرقُوا أَهلهَا وَوَقع من ابْن جانبولاذ بعد ذَلِك مَا وَقع من قصَّته الَّتِى ذكرتها فى تَرْجَمته وحوصرت الشَّام وصولح ابْن جانبولاذ على المَال وصولح ابْن معن على أَن تكون بعلبك وَالْبِقَاع للامير يُونُس فَلَمَّا رَجَعَ ابْن جانبولاذ وعشيره خرج الامير مُوسَى الى القيروانية وَجمع عشيرا كَبِيرا لقِتَال ابْن عَمه واخراجه من بعلبك ثمَّ صرف العشير وَرجع الى دمشق مَرِيضا فَمَاتَ يَوْم الْجُمُعَة سَابِع وعشرى صفر سنة سِتّ عشرَة بعد الالف وَدفن فى مَقْبرَة الفراديس بالقبة الْمَعْرُوفَة ببنى الحرفوش
مُوسَى بن مُحَمَّد حجازى الْوَاعِظ الشَّيْخ الْفَاضِل الْعَالم المتفنن فى الْعُلُوم ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن الشَّمْس الشوبرى وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَالشَّمْس البابلى ولازم أَبَا النُّور على الشبراملسى السنين العديدة وَلم يُفَارِقهُ فى غَالب دروسه وَكَانَ من أجلاء طلبته وَكَانَ يجله وَيُحِبهُ محبَّة شَدِيدَة وَكَانَت وَفَاته فى شهر ربيع الثانى سنة سبع وَألف وَصلى عَلَيْهِ اماما بِالنَّاسِ شَيْخه الشبراملسى الْمَذْكُور وحزن عَلَيْهِ كثيرا وَصلى عَلَيْهِ بالازهر وَدفن على وَالِده بتربتهم الْمَعْرُوفَة بالمدابغ الْعتْق(4/433)
الامير مُوسَى بن مُحَمَّد الشهير بِابْن تركمان حسن الدمشقى الشجاع الباسل الْمَشْهُور أَمِير الْحَاج وَصَاحب الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة مَعَ الامير مُحَمَّد بن رشيد أَمِير بِلَاد حوران نَشأ فى طَلِيعَة عمره رَيَّان الهزة من مَاء الشَّبَاب مقتد حازناد العزمة موريا برواء الاتراب وَكَانَ مِمَّن أجْرى جواد همته فى ميدان الشجاعه فحاز قصب السَّبق فى الفروسية والبراعه ثمَّ تنقلت بِهِ مناصب الْجند بِالشَّام حَتَّى صَار باش جاويش وَحج مرَّتَيْنِ متتابعتين ثمَّ صَار كتخدا الْعَسْكَر وَأمر بِالسَّفرِ الى محاصرة فنديه فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَوَقع لَهُ ثمَّة مَعَ بعض الشجعان من الفرنج منازلة كَانَت الْغَلَبَة فِيهَا لَهُ فاشتهر بالفروسية وَعلا صيته وَقدم الى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ وجهت اليه الامارة بِبِلَاد عجلون فاستقام بهَا أَمِيرا سِنِين وَأحسن الْعشْرَة مَعَ أَهلهَا فعمرت فى زَمَنه وانتظم أمرهَا وَكَانَ لَهُ مَعَ عرب البوادى حسن ملاءمة ومعاشرة وَلَهُم اليه انجذاب وانعطاف وتوغل فى الْميل اليهم حَتَّى صَار لَا ينْطق الا بلسانهم وَلَا يتزيا الا بزيهم ثمَّ وجهت اليه امارة الْحَاج وَحج بالركب الشامى سنتَيْن متتابعتين وَوَقع فى ثانيتهما قصَّة ابْن رشيد ونهبه للْحَاج فى الْمَكَان الْمَعْرُوف بالصافى والحاج رَاجع وظفرت الْعَرَب بأَشْيَاء كَثِيرَة من مجلوبات مَكَّة وَقتل جمَاعَة من الْحَاج وَبقيت فى قلب الامير مُوسَى حرارة من ابْن رشيد فانه كَانَ فِيمَا يُقَال يواخيه وَبَينهمَا سَابق عهود مَحْفُوظَة فَلَمَّا وصل الى دمشق اسْتَأْذن من جَانب الدولة بالركوب عَلَيْهِ ومحاربته فَأعْطى الاذن فَجمع جمَاعَة من دمشق والقدس ونابلس وَهَذِه الدائرة وَخرج اليه وتقابلا فى مَكَان قريب الزَّرْقَاء وَوَقع بَينهمَا حزب عَظِيم وَدخل الامير مُوسَى فى المعمعة وَهُوَ يكتنى على دأب الْعَرَب ويحث عسكره على الْقِتَال وَقد قتل جمَاعَة من الْعَرَب فاتفق أَنه صادفه بعض الاوباش فطعنه بِرُمْح أرداه فَوَقع مَيتا عَن جَوَاده وَكَانَ حمد بن رشيد قَرِيبا من مَوضِع مَقْتَله فَلَمَّا رَآهُ قد سقط بَادر اليه يظنّ أَن الطعْن لم يردهُ فَلَمَّا رَآهُ قد مَاتَ علم ان عسكره لَا تقوم لَهُم بِدُونِهِ قَائِمَة واذا هم كَمَا ظن قد ولوا هاربين فَأمر بالكف عَنْهُم واشتغل بِأَمْر الامير مُوسَى وَعظم مصابه بِهِ وَأخذ يندبه ويبكيه وَحكى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول ان حزن مُوسَى لَا يذهب منى أبدا وَقتل من جماعته اخوان وهرب بنوه وَبَقِيَّة اخوته وجماعته وَكَانَ قَتله فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وبقى ابْن رشيد بعده مُدَّة والطلب وَاقع عَلَيْهِ فَلم يظفر بِهِ ثمَّ ساقته الْمَقَادِير الى أَجله برحلة وَقعت لَهُ الى نواحى بَغْدَاد نزل فِيهَا عِنْد(4/434)
رجل غدر بِهِ فَهَلَك فى حُدُود سنة تسعين بعد الالف
مُوسَى القبى الرملى من كبار الْعلمَاء أهل الافادة وَكَانَ لَهُ فى التصوف المهارة الْكُلية وشهرته فى بِلَاد الرملة غنية عَن الافصاح بعلو الْمنزلَة وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الاحد حادى وعشرى شَوَّال سنة سبع بعد الالف وَرَأَيْت فى أخباره أَنه مَكْتُوب على قَبره هَذَا قبر شيخ الطَّرِيقَة والحقيقة ثمَّ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(قدمت على الْكَرِيم بِغَيْر زَاد ... من الْحَسَنَات وَالْعَمَل السقيم)
(وَحمل الزَّاد أقبح مَا ترَاهُ ... اذا كَانَ الْقدوم على كريم)
مُوسَى السندى أحد أَصْحَاب السَّيِّد صبغة الله السندى نزيل الْمَدِينَة ذكره النَّجْم وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ من الْفُضَلَاء البارعين والاولياء الصَّالِحين جاور بِالْمَدِينَةِ المنورة ولازم السَّيِّد صبغة الله وَله اشْتِغَال بِالْعلمِ قَدِيما وسافر من الْمَدِينَة الى الشَّام قَاصِدا زِيَارَة الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبَيت الْمُقَدّس قَالَ وصحبناه فى طَرِيقه ذَلِك من الْمَدِينَة الى الشَّام فى سنة احدى عشرَة بعد الالف فَرَأَيْنَا فَاضلا فى عُلُوم التَّفْسِير والمعانى وَالْبَيَان والمنطق والْحَدِيث والتصوف وَكَانَ لطيف المزاج نَافِذ الْفَهم ذكيا وَكُنَّا نرَاهُ كالمقهور والملجأ فى خُرُوجه من الْمَدِينَة لتَعلق قلبه بالحضرة النَّبَوِيَّة الا أَنه خرج مِنْهَا لمنام رَآهُ قيل لَهُ فِيهِ ان الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام يطلبك قَالَ وزارنى فى منزلَة ذَات حج فى أَوَائِل صفر وَكنت قد اضطجعت للقائلة وَأَنا حَرِيص عَلَيْهِ لقرب الرحيل وَتعذر النّوم فى الْمسير فزارنى وَقد غلب على النّوم وَأَنا مسجى برداء فَلم انهض لَهُ ايذانا بانى نَائِم وَقلت فى نفسى يجلس ثمَّ يقوم من عندنَا الى شَأْنه فعرضت عَلَيْهِ القهوة وشئ من المأكل فَقَالَ أَنا مكتف انما جِئْت لزيارة الشَّيْخ وَلم يَأْكُل وَلم يشرب فَقلت فى نفسى أما تستحى من الله تَعَالَى أَن رجلا صَالحا يزورك فى الله وَلَا ينَال غَرضا من زيارتك أى جفَاء فَوق هَذَا فَقَعَدت وسلمت عَلَيْهِ وَرفعت الوسادة فاذا تحتهَا عقرب كَبِير فقتلناها وَعلمت أَن ذَلِك كَرَامَة لَهُ ثمَّ صحبناه بُرْهَة من الزَّمَان بِدِمَشْق وَلم يمْكث بهَا الا أَيَّامًا قَليلَة ثمَّ سَافر الى بَيت الْمُقَدّس فزار الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وفطن فى الْقُدس الشريف حَتَّى مَاتَ فى سنة اثنتى عشرَة بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُوسَى الرام حمدانى الحلبى الْبَصِير الشافعى الْمَذْهَب فَاضل حلب وأديبها ولد برام حمدَان من قرى حلب ثمَّ توطن حلب واشتغل بتحصيل الْفُنُون حَتَّى(4/435)
تفنن فى الْعُلُوم الرياضيات وبرع فى الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَأما مَعْرفَته بِعلم الْحَرْف فانه الْمُتَصَرف فِيهِ وَكَانَ مطلعا على مواقع الْعَرَب وغرر الاخبار وَهُوَ فى ذَلِك بَحر زاخر لَيْسَ لَهُ قَرَار وَأما علم الادب وَالشعر فقد أبدع فِيهِ غرائب أَنْوَاع السحر وَكَانَ من المنتصرين لابى الْعَلَاء المعرى ويحفظ أَكثر شعره وَيَرْوِيه وَيكرهُ كل من يذمه أَو يسيئ الظَّن فِيهِ واذا ذكر فى مَجْلِسه يمدحه غَايَة الْمَدْح وَيَقُول هَل خلا كَامِل غَيره من الْقدح وَيَقُول جَمِيع مَا نسب اليه من الاقوال المذمومة افتراء عَلَيْهِ وَيُقِيم الادلة على ذَلِك وينشد لَهُ من الشّعْر مَا يُنَاقض مَا هُنَالك وَله مؤلفات مِنْهَا نظم الاسماء الْحسنى يدل على علو مقَامه وَذكره البديعى فَقَالَ فى وَصفه فَاضل تقتبس مشكاة الصّلاح من نوره وتطلب الْهِدَايَة من جَانب طوره وموشحاته وشحت كل جمع وقرعت كل سمع وَمن خوارقه أَنه بعد مَا بلغ اشده خَاضَ بَحر القريض واستمده والشاعر يَقُول فى الْمَعْنى
(وماذا يطْلب الشُّعَرَاء منى ... وَقد جَاوَزت حد الاربعين)
وَقد أَشَارَ اليه السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب فى مُكَاتبَة كتبهَا اليه يَقُول فِيهَا
(قسما بِمن جعل الْفَضَائِل والمعالى حَشْو بردك ... )
(وحباك مِنْهُ قريحة ... كعصا سميك فى أشدك)
(أبطلت سحر بنى القريض بهَا فَكنت نَسِيج وَحدك)
(فتلقفت مَا يصنعون فآمنوا رغما بمجدك ... )
(ان القوافى قد ملكت زمامها بعلو جدك ... )
(وَأخذت كل فريدة ... مِنْهَا تضئ بسمط عقدك)
(وَبَلغت مِنْهُ مَا تروم فَلم يصل أحد لحدك)
(فَلَانَتْ فى شهبائها ... ملك القريض برغم ضدك)
(فَاسْلَمْ وَلَا رميت بَنو الْآدَاب فى حلب بفقدك ... )
فَأَجَابَهُ بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(فَوق الشداد تشرعت ... يَا ابْن النَّقِيب قباب مجدك)
(وأطاعك الشّرف الرفيع فَأَنت فِيهِ نَسِيج وَحدك ... )
(أَتعبت جد بنى الْعُلُوم فقصروا عَن نيل جدك ... )
(وغدوت ترفل فى العلى ... تيها وترغم أنف ضدك)(4/436)
قَالَ وأخبرنى السَّيِّد يحيى الصادقى أَن السَّيِّد مُوسَى انتحل شَيْئا من شعره فَقَالَ يداعبه
(أَقْسَمت بِالسحرِ الْحَلَال وَحُرْمَة الادب الخطير ... )
(ومجالس الانس الَّتِى ... عقدت على عقد السرُور)
(ان كَانَ مُوسَى ذُو الايادى الْبيض والادب الغزير ... )
(لم يرجع الْمَغْصُوب من ... شعرى وَمَا أبدى ضمير)
(لاذيقه مر العتاب لَدَى الكبيرى مَعَ الصَّغِير ... )
(بل وَالْخِصَام لَدَى الْهمام رئيسنا صدر الصُّدُور ... )
(وأصوغ من دُرَر القوافى عقد لوم مستتير ... )
(ينسى أولى الالباب مَا ... فعل الفرزدق مَعَ جرير)
فَأَجَابَهُ بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا قَوْله
(مالى وللقنص الصَّرِيح وهمتى صقر الصقور ... )
(وعصاى طوع يدى تلقف كل سحر مستطير ... )
(ان ألقها انبجست عُيُون الْمجد من صم الصخور ... )
(وَبهَا على الدّرّ الثمين أغوص فى لجج البحور ... )
(ولى الْيَد الْبَيْضَاء بَين الْجمع والجم الْغَفِير ... )
(أسْتَغْفر الرَّحْمَن من ... دَعْوَى تدنس بِالْفُجُورِ)
(هذى قوافى الشّعْر حَاضِرَة لَدَى الْمولى الْكَبِير ... )
(نجل الحسام المستبد ... بِرَأْيهِ اللَّيْث الهصور)
(من شرفت حلب بِهِ ... وعلت على هام النسور)
(ان كَانَ مَا زعموه حَقًا فَهُوَ أدرى بالامور)
وَكتب اليه بعض الظرفاء عَن لسانى قصيدة منحولة وَاقْتضى الامر عدم اخباره بذلك فَأجَاب بقصيدة مِنْهَا
(يَا دير سمْعَان ذكرتنى ... رسومك الدَّرْس الدريسا)
(أودت بسكانك الليالى ... وَلم تدع مِنْهُم أنيسا)
(فَلَا أغبتك غانيات ... وَلَا عدت ربعك الدريسا)
(وَالنَّاس مثل الرَّسُول الا ... اذا حبوا فاخرا نفيسا)(4/437)
فَكتب لَهُ
(لَيْسَ الا بِالْقَلْبِ مَا بك يوسى ... من جوى دونه يذيب النفوسا)
(قد سقتك الايام خمرة وجد ... وأدارت من البعاد كؤسا)
(بَعدت عَنْك من تحب وَهَذَا الدَّهْر يُولى الْفَتى نعيما وبوسا ... )
(أَيْن أوقاتك الَّتِى كنت فِيهَا ... لم تبت من رضَا حبيب يؤسا)
(حَيْثُ يسقيك خندر يَا حبيب ... رِيقه العذب يزدرى الخندريا)
(ذُو قوام مَا مَاس فى الرَّوْض الا ... علم الْغُصْن قده أَن يميسا)
(طالما زار فى الدجا وثرياه تحاكى فى الْمغرب الانكيسا)
(غلسا خوف لائم والذى يكتم وصلا يحاول التغليسا ... )
(فسقى عَهده بجلق عهد الدمع من مقلتى وربعا أنيسا ... )
(بَلْدَة مَا ذكرتها قطّ الا ... حرك الشوق من غرامى رسيسا)
(واستهلت مدامعى كالغوادى ... وَغدا الْقلب من جواه وطيسا)
(مُنْذُ فَارَقت أَهلهَا لم يرق لى ... صفو عَيْش وَلَا نديم سؤسا)
مِنْهَا
(من أنَاس زكوا أصولا وَكَانُوا ... من أنَاس نموا وطابوا غروسا)
(نصروا دين بهم بمواض ... كم أذلت جحافلا وخميسا)
(يقف النَّاس هَيْبَة ووقارا ... بحماهم اذا رَأَوْهُمْ جُلُوسًا)
(أذهب الله عَنْهُم الرجس والفحشاء دون الانام والتدنيسا ... )
وَبعد أَن رأى هَذِه القصيدة المنحولة أَخذه مَا أَقَامَهُ وَأَقْعَدَهُ وَملكه مَا أزعجه وأكمده وَلم يبْق أحد الا زَارَهُ واشتكى وحياه وَبكى فَكتب اليه معتذرا
(مَا لمُوسَى الشريف أصبح يبدى ... بعد ذَاك الإقبال هجري وصدي)
(مَا كفى أَنه أَرَادَ لى الكيد مرَارًا وَلم ينل غير وجد ... )
(زار دَار النَّقِيب ذُو الْفضل من أَوْصَافه الغر لَيْسَ تحصى بعد ... )
(ذُو المعالى والمكرمات حجازى ... من غَدا فى الانام من غير ضد)
(سيد جوده لَو اقتسمته ... النَّاس طرا لم تلف طَالب رفد)
(الْجَلِيل الشهير بِابْن قضيب البان لَا زَالَ للورى بدر سعد ... )
(واشتكى عِنْده وذم وَلَكِن ... ذمّ مثلى من مثله لَيْسَ يجدى)
(شاتما مَلأ فِيهِ فى معرض الْهزْل ... وَوَاللَّه لم يرم غير جد)
(مسبلا دمعه كَانَ حبيبا ... بعد قرب مِنْهُ رَمَاه ببعد)(4/438)
(مبديا من حرارة الْقَهْر مَا لَو ... حلت الْكَوْن لم يكن كنه برد)
(وبدا مغرما هُنَاكَ بشتمى ... آدمى غَدا بهيئة قرد)
(والذى أوجب التخاصم أَنى ... كنت قدما منحته صفو ودى)
(ثمَّ كلت قريحتى عَن مديح ... فاستعارت لَهُ حديقة حمد)
(وَرَآهَا من بعد حول وشهرين بدرج قد كَانَ من قبل عندى ... )
(فَبَدَا مِنْهُ مَا بدا وسقانى ... وتحسى من أكؤس الذَّم دردى)
(وعَلى كل حَالَة سيد الاحكام أَرْجُو وَمَا سواهُ تعدى ... )
وَمِمَّا وقفت عَلَيْهِ أَنا الْفَقِير من شعره هَذِه القصيدة يمدح بهَا النَّجْم مُحَمَّد الحلفاوى خطيب حلب فَقَالَ
(حَيا الحيا حلب العواصم والقلاع الاعصميه ... )
(وَسَقَى معالمها الممنعة المحصنة الْأَبْنِيَة)
(وتداركها بالعناية كل ألطاف خفيه ... )
(بلد تكنفها الحدائق والرياض الاريضيه ... )
(فاحت على أرجائها ... نفحات أزهار زهيه ... )
(وترنحت عرصاتها ... بالرائحات المندلية)
(وتقمصت أبناؤها ... حللا من الزلفى العليه)
(ولمائها وهوائها ... وبنائها أوفى مزيه)
(فاقت على الدُّنْيَا فَوَافَقَ اسْمهَا حلب العديه ... )
(بلد هى الْملك المطاع وكل مملكه رعيه ... )
(زهر النُّجُوم لنجمها السامى الذرى خضعت وليه ... )
(نجم الْهِدَايَة والدراية والاسانيد القويه ... )
(واللوذعى الالمعى ... السَّيِّد الوافى العطيه)
(لما اسْتهلّ نواله الْغمر الذى غمر البريه ... )
(صدحت بلابل روضها ... سحرًا بِأَصْوَات شجيه)
(عقدت بأعناق العفاة شوارد المنن الخفيه ... )
(غرر القلائد والقصائد والعقود الجوهريه ... )
(ضاهى بهَا السَّبع الشداد على مَنَازِله العليه ... )(4/439)
(وكواكب الجوزاء تشهد أَن رتبته سنيه ... )
(وتلونت شمس الظهيرة عِنْد غرته المضيه ... )
(وتواضع الْقَمَر الْمُنِير لحسن طلعته البهيه ... )
(وتمنت الافلاك لَو ... دارت بِحَضْرَتِهِ المليه)
(أَلْقَت أعنتها الْعُلُوم اليه وانقادت أَبِيه ... )
(وسعت لناديه أَبْيَات الْعُلُوم الفلسفيه ... )
(فالفضل كل الْفضل من ... فحوى فَتَاوِيهِ الجليه)
(والجود كل الْجُود من ... جدوى أياديه النديه)
(مولى يُعَامل من أَسَاءَ بِحسن أَخْلَاق رضيه ... )
(ويصد عَن كيد الحسود رجا الحظوظ الاخرويه ... )
(وَيرد من خوف الاله عَن الامور الدنيويه ... )
(مَاتَت بغيظهم العدا ... كمداو أنفسهم سخيه)
(يَا زهرَة الدُّنْيَا فداؤك كل نفس موسويه ... )
(وكما تحب وقتك آرام الظباء العيسويه ... )
(ومنحت مَا تخْتَار من ... لثم الشفاه الالعسيه)
(وسقتك من خمر اللمى ... كأس الثغور الاشنبيه)
(وسلمت يَا مولاى من ... سحر اللحاظ البابليه)
(ومنيت مَا تهواه من ... هصر الخصور الخاتميه)
(وغنتك سودات المحاجر بالبنان العندميه ... )
(وتمايلت شوقا لجبهتك القدود السمهريه ... )
(ورنت لرؤيتك اللحاظ الناعسات الجؤذريه ... )
(يَا عَالم الدُّنْيَا نداك على البوادى والبريه ... )
(وَاذْكُر حليفك بل أليفك فِي الديار الأحسنية)
(وامظر قديمك بل خديمك فِي الربوع الأنعمية)
(واعذر كليمك مَا طوى ... تِلْكَ الدُّرُوس الطورويه)
(وادى المزار وَلَا مَزَار اذا تعرضت المنيه)
(واجمع تبدد شملنا ... بك والليالى الاسعديه)(4/440)
(فهوا كَمَا لم يبْق لى ... فرط الغرام بِهِ بقيه)
(فاذا تشَاء منازلى ... يَا غايتى مِنْهُ الدنيه)
(وعلام أَعتب ان رضيت لى المقامات القصيه ... )
(بجوار قوم مُرْمِلِينَ من الْخلال الآداميه ... )
(لَا مصر دارى يَا همام ولامرابعها العليه ... )
(كلا ولالى مَا حبيت بجلق والكوخ نيه ... )
(الا جوارك منيتى ... وَكَذَا مراتعه الشهيه)
(حَيْثُ الاخلاء الْكِرَام ذوى المروآت الوفيه)
(راق النسيم تلطفا ... بهم ورقتهم سجيه)
(لَا خانك الدَّهْر الخون وَلَا منتك يَد المنيه ... )
(وسلمت من غدر الزَّمَان وَلَا ملتك بِهِ مليه ... )
(فَعَلَيْك منى مَا ترنم طَائِر أزكى تحيه ... )
(مفتوقة بشذا العبير ونافجات عنبريه ... )
(واسلم وَدم يدم الزَّمَان فَأَنت ميزَان البريه ... )
وَله أَيْضا فى وصف الاخوة
(خليلى من ان جِئْت طَالب مقصد ... كفانى مؤنات المطالب وَالْقَصْد)
(وان صممت خيلى على شن غَارة ... وقى شَرها مِمَّا يشين وَمَا يردى)
(وان نابنى خطب من الدَّهْر هائل ... تولى معاناة الخطوب بِمَا يجدى)
(وان أسلمتنى للردى شقة الردى ... أَقَامَ باقوام جرت بَيْننَا بعدى)
(فَذَاك خليلى ان ظَفرت بِمثلِهِ ... فرشت مراعاته لمرضاته خدى)
(وأشغلت بالى فى منامى ويقظتى ... بِمَا يرتضيه حَالَة الْقرب والبعد)
(وأسهرت ليلى فى صَلَاح شؤنه ... وَعنهُ جبال الضيم أحملها وحدى)
(وَكنت لَهُ حصنا منيعا وموئلا ... وصنت بنفسى نَفسه صولة الاسد)
(فانى مَا أدّيت مَا يسْتَحقّهُ ... وَلَو طاقتى فِيهِ بذلت مَعَ الْجهد)
(وَمن أَيْن للايام عين بِأَن ترى ... لذَلِك مثلا لَا يكون بِلَا ند)
وَمن مقاطيعه أَيْضا قَوْله وأجاد
(أَشد من الْمَوْت الزؤام مرَارَة ... وأصعب من قيد الهوان وحبسه)(4/441)
(معاشرة الانسان من لَا يطيقه ... وَحشر الْفَتى مَعَ غير أَبنَاء جنسه)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة تسع وَثَمَانِينَ بعد الالف بحلب رَحمَه الله تَعَالَى
مهنا بن عوض بن على بن أَحْمد بامزروع بن على بن عوض بامترف القنزلى الحضرمى والقنازلة قَبيلَة مَعْرُوفَة عِنْدهم وقليلا مَا يستعملون الِاسْم فى هَذَا الزَّمن الواسطى نِسْبَة الى الْوَاسِطَة بَلْدَة بحضرموت الشطارى الصوفى نزيل الْحَرَمَيْنِ شيخ الطَّرِيقَة وامام أهل التَّحْقِيق أَخذ بحضرموت عَن جمَاعَة من الْعلمَاء والصوفية ثمَّ رَحل الى مَكَّة فَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ عبد الهادى أَبى اللَّيْل طَرِيق النقشبندية وَقَرَأَ الفصوص على شيخ شَيْخه الشَّيْخ تَاج قدس سره فاعتراه جذب قوى غَابَ فِيهِ عَن حسه حَتَّى دله السَّيِّد مُحَمَّد الحبشى على السَّيِّد الْجَلِيل سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ باعلوى فلازمه واختص بِهِ حَتَّى كشف عَن عين بصيرته الْحجاب وعادت بركَة تِلْكَ الانفاس عَلَيْهِ وَهُوَ فى غُضُون ذَلِك مقبل على مطالعة كتب الْعُلُوم الالهية وتحصيلها مُتَوَجّه الى دقائق معقولها متخلق بأخلاق الصُّوفِيَّة مُتَحَقق بالوحدة وَله فِيهَا نظم كثير حسن وَألف رِسَالَة فى طَرِيق الشطارية أحسن فِيهَا كل الاحسان وَبَين طريقهم وَصَارَ بعد موت شَيْخه الْمَذْكُور خَليفَة فى الذّكر والتربية ثمَّ أَخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشى وَكَانَ يُحِبهُ ويجله وَأرْسل اليه مرّة بهدية وَكتب لَهُ على اللفافة مهنا بِلَا عوض وَلَا يخفى مَا فِيهِ من اللطافة وانتفع بِهِ فى طَرِيق الْقَوْم خلق كثير وَتخرج بِهِ جم غفير وَمن شعره قَوْله
(وكل من ضمه فى الحان مَجْلِسنَا ... نشوان من خمرة مَا شانها سكر)
(هَذَا الزَّمَان الذى مَا كَانَ يسمح لى ... بِهِ الحبيب اذا مَا ساعد الْقدر)
(أبكى على الصدْق وَالصديق يقصدنى ... اذا دعينا يلبينا بِهِ عمر)
(فيثقل الرَّهْط فى تأييد نصرتنا ... من عَالم الْفرق لَا يبْقى ولايذر)
(هَذَا مِثَال ضَرَبْنَاهُ لناهجه ... حَتَّى يرى وَجه ليلى كُله غرر)
(وَيشْهد الْجمع وَالْمَجْمُوع جَامعه ... وَيَأْخُذ الْجد لابؤس وَلَا عبر)
(هَذَا طَرِيق سلطناه على ثِقَة ... وكافح السرا علانا بِهِ الصُّور)
(وأذعنوا بعد مَا قَامَت قيامتنا ... وتليت فى محاريب لنا سور)
(وقرروا اننا سر وباطننا ... غيب وَمَا ظلت الْخضر النا حجر)
وَقَوله
(للقادسية فية ... لَا يشْهدُونَ الْعَار عارا)(4/442)
(قد صيروا جمع الورى ... فى حَالهم عجزى حيارى)
(لَا مُسلمُونَ وَلَا مجوس ... وَلَا يهود وَلَا نَصَارَى)
(متيمنون منعمون ... فهم بِهِ صحوى سكارى)
(أَفْرَاد اجناد الْهوى ... فخيولهم أَنى تحارى)
(صَارُوا صراعى فى الغرام وفى حمى ليلى اسارى ... )
(شاهدتهم فشهدتم ... أَعْيَان محبوبى جهارا)
(مذ بَان أَنى مِنْهُم ... أيقنت أَن لَا لى قرارا)
(اذ لَا مقَام لَهُم يرى ... الا بِفَرْض الحكم دَارا)
(هم عين شَاهد رَبهم ... سربهم مِنْهُ استنارا)
(كل يُحَقّق مِنْهُم ... بِحَقِيقَة لاحت ظِهَارًا)
(بِمُحَمد لوح القضا ... سرا بأقدار توارى)
(بمظاهر مِنْهَا الْكَرِيم الى الكليم ألاح نَارا ... )
(فَأتى يُهَرْوِل نَحْوهَا ... فلاجل ذَا شكر البدارا)
وَكَانَت وِلَادَته كَمَا أخبر بِهِ بعض تلامذته فى شَوَّال سنة أَربع بعد الالف وَتوفى بِالْمَدِينَةِ سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد ميرماه الحسينى البخارى المدنى الْعَلامَة صَاحب الذِّهْن الْوَقَّاد والفكر النقاد وَكَانَ آيَة باهرة فى الْعُلُوم بأسرها وَله الْيَد الطُّولى فى كَلَام سيدى الشَّيْخ الاكبر ابْن عربى قدس سره وَغَيره من أَرْبَاب المعارف وَكَانَ شيخ هَذَا الشَّأْن فى عصره توطن الْمَدِينَة المنورة وَكَانَ من أَصْحَاب الْعَالم الربانى عبد الرَّحْمَن بن على الخيارى وَأخذ عَنهُ الحَدِيث وَلَزِمَه وَلَده شَيخنَا ابراهيم وانتفع بِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ التَّفْسِير والعربية والمعانى وَالْكَلَام وَكَثِيرًا من الفتوحات ووصايا ابْن عربى وجانبا من الفصوص وَكَثِيرًا من رسائله وَكتبه سِيمَا المحاضرة وَكَثِيرًا من كتب الْقَوْم وَذكره فى رحلته فى محلات مِنْهَا وَقَالَ فى وَصفه كَانَ امام أَرْبَاب الطَّرِيقَة وَالْجَامِع بَين الشَّرِيعَة والحقيقة سمعته غير مرّة يَقُول انه لَا مُخَالفَة بَينهمَا وَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْجَواب ثمَّ ألف مؤلفا فى ذَلِك سَمَّاهُ مرج الْبَحْرين وَالْجمع بَين المذهبين يعْنى مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَأهل الْبَاطِن قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس حادى عشر شَوَّال سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف ورثاه شَيخنَا الْمَذْكُور بقصيدة طَوِيلَة ذكرهَا فى رحلته ومطلعها(4/443)
(يَا عين جودى بدمع مَعَ رائح غاد ... لهول خطب عَظِيم فادح عَاد)
(حرف النُّون)
النَّاصِر بن عبد الحفيظ المنلا الشرقى الْيُمْنَى امام الِاجْتِهَاد كَانَ لَهُ من التَّمْكِين ودقة النّظر فى كل مَبْحَث وَمَعْرِفَة بالمقاصد والمآخذ واخراجه للمسائل من غير مظنتها وَحل المشكلات وَفتح المقفلات شَأْن عَظِيم وَأمر شهير فى الاقاليم استوزره الامام الْمُؤَيد بِاللَّه وَكَانَ لَهُ وللامام مجَالِس خَاصَّة تحتوى على بحث عَظِيم فى جَمِيع الْعُلُوم أَخذ عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم وَالِده وجده والعلامة مُحَمَّد بن الصّديق الْخَاص السراج الحنفى الزبيدى وَغَيرهم وَأَجَازَهُ شُيُوخه وَغَيرهم مِمَّن يطول تعدادهم وَعنهُ أَخذ جمع من عُلَمَاء الزَّمَان مِنْهُم أَوْلَاده الْحُسَيْن وَالْحسن وعَلى وَأحمد وَمُحَمّد وَالسَّيِّد الْجَلِيل يحيى بن أَحْمد الشرفى وَغَيرهم وقصده الطّلبَة من الاقطار وانتفع بِهِ جمع عَظِيم من عُلَمَاء الامصار وَله مؤلفات مَشْهُورَة مِنْهَا الْمُقَرّر وَالْمُحَرر فى القراآت وَمِنْهَا أرجوزة فى الْفِقْه وَمِنْهَا تَكْمِيل منظومة اليوسى فى الْفِقْه وَمِنْهَا مُخْتَصر الاوائل وَمِنْهَا مؤلف أجَاب بِهِ عَن الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن اسماعيل فى مبَاحث نحوية شريفة وَله أجوبة مسَائِل يطول تعدادها وَله الشّعْر النَّضِير مِنْهُ مَا كتبه الى السَّيِّد الامام يحيى بن أَحْمد الشرفى عاتبا عَلَيْهِ فى تَأَخره عَن التدريس لشغل عرض لَهُ فَقَالَ
(أحبابنا مَا لهَذَا الهجر من سَبَب ... وَمَا الذى أوجب الاعراض وَاعجَبا)
(يمضى الزَّمَان وَلَا نحظى بقربكم ... على الْجوَار وَكَون الْجَار ذى قربى)
(وَلبس شئ على المشتاق أصعب من ... بعد اللِّقَاء اذا مشتاته قربا)
(أُعِيذك الله يَا سبط الاكارم أَن ... يكون ودك للاحباب مضطربا)
(هَذَا وانى أدرى أَن قصدك لى ... وَأَنت مَعَ ذَاك شيخى عكس مَا وجبا)
(لكنه لم يكن منى لحقكم ... جهل وَلَكِن عذرى عَنْك مَا عزبا)
وَطلب السَّيِّد يحيى مِنْهُ أَن يُرْسل لَهُ مُؤَلفه الْمُحَرر فى علم القراآت فَأرْسلهُ وَكتب مَعَه قَوْله
(سَلام الله مَا همر السَّحَاب ... ففاح عبير زهر مستطاب)
(واكرام وانعام على من ... لَهُ فى الْمجد مرتبَة شهَاب)
(على يحيى الذى مَا نَالَ كهل ... علوما نالها وَكَذَا الشَّبَاب)(4/444)
(وَبعد فان أشواقى اليكم ... كثير لَيْسَ يحصرها كتاب)
(وتقصر ألسن الاقلام عَن أَن ... تقوم بوصفها وَكَذَا الْخطاب)
(فيا ابْن مَدِينَة الْعلم الَّتِى لم ... يكن غير الوصى لتِلْك بَاب)
(وَمن حَاز المكارم والمعالى ... فَمِنْهُ قد بدا الْعجب العجاب)
(اليك أَتَى الْمُحَرر فى حَيَاء ... لتصلح مِنْهُ مَا الْعلمَاء عابوا)
(وتنظره بِعَين الْبر حَتَّى ... يَزُول اذا وجدت بِهِ اضْطِرَاب)
(فَمن قد زار من بلد بعيد ... حقيق أَن يلان لَهُ الجناب)
(وراجع فى عِبَارَته أصولا ... لديك بحفظها كشف الْحجاب)
(وانى طَالب بسطا الْعذر ... ويشملنى دعاؤكم المجاب)
(فَمَا لى غير شعب الْآل شعب ... وان حسنت بزهرتها الشعاب)
(وَدم واسلم معافى فى نعيم ... مُقيم والقرابة والصحاب)
فَكتب اليه السَّيِّد أَيْضا هَذِه الابيات)
(سَلام لَا يُحِيط بِهِ حِسَاب ... وَلَا يُحْصى فضائله كتاب)
(وَلَو أَن الْبحار لَهُ مسداد ... وَلم يبرح لَهُ الدَّهْر اكتتاب)
(سَلام من فتيت الْمسك أدكى ... وَدون مذاب سلسله الرضاب)
(سَلام حشوه ود مصفى ... يروق فَمَا بتكدير يشاب)
(وَرَحْمَة رَبنَا الرَّحْمَن تهدى ... مَعَ البركات مَا انهمر السَّحَاب)
(الى من لم يزل للمجد خدنا ... وَلم يَنْفَكّ بَينهمَا اصطحاب)
(حَلِيف محَاسِن الشيم الذى لم ... يدنس مجده مذ كَانَ عَابَ)
(سليل أكَابِر الْعلمَاء من لم ... يكن كنصاب فَضلهمْ نِصَاب)
(حماة شرائع الْمُخْتَار من أَن ... تضام وَأَن يخامرها اضْطِرَاب)
(بناة مَكَارِم التَّقْوَى الَّذين اتَّقوا مَوْلَاهُم وَله أنابوا ... )
(وَوَاحِد أهل هَذَا الْعَصْر طرا ... بِمَا قد قلته لَا يستراب)
(أَلَيْسَ مقصرا عَن نيل أدنى ... علاهُ الشيب مِنْهُم والشباب)
(وجيه الدّين ناصره فَمَا ان ... يزَال لَهُ بنصرته احتساب)
(حماه الله من كيد الاعادى ... وأرغم أنفهم عَنهُ وخابوا)
(وأبقاه الاله لنا ملاذا ... لَهُ فى الْعِزّ مرتبَة تهاب)(4/445)
(وَبعد فانه قد جَاءَ مِنْهُ ... كتاب سرنى مِنْهُ الْخطاب)
(بلغت بِهِ من الْفَرح الامانى ... وزايلنى بِرُؤْيَتِهِ اكتئاب)
(وفى بِالدّينِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا ... فَمَا لى غير مَا فِيهِ طلاب)
(وَكَيف وطيه ملك عَظِيم ... يَدُوم فَلَا يخَاف لَهُ ذهَاب)
(هُوَ الذخر الذى من لم يحزه ... ذخائره وان كثرت تُرَاب)
(وَذَاكَ الْعلم أفضل مَا تحلت ... بِهِ نفس وَأفضل مَا يصاب)
(وَقد أهديت مِنْهُ لنا نَصِيبا ... بِهِ منا تطوقت الرّقاب)
(جمعت بِهِ الْمُحَرر من عُلُوم ... جلاها أَهلهَا طابت وطابوا)
(فنلت بِمَا أَنْت عَظِيم فضل ... ومغفرة ويهنيك الثَّوَاب)
(ولابرحت فواضلك اللواتى ... علون بهَا لنا يَعْلُو جناب)
(ودمت مُسلما مالاح فجر ... وفاح عبير نشر يستطاب)
وَلما وَفد القاضى أَحْمد بن صَالح بن أَبى الرِّجَال اليه أَيَّام اقامته فى حَضْرَة الامام الْمُؤَيد بِاللَّه أَخذ عَنهُ علوما كَثِيرَة من جُمْلَتهَا عُلُوم الْقُرْآن وَسَأَلَهُ نظم شئ يكون فِيهِ لَهُ كالضابط المرجوع اليه عِنْد الْحَاجة فَقَالَ النَّاصِر
(سألننى يَا ابْن أَبى الرِّجَال ... يَا ساميا فى رُتْبَة لكَمَال)
(يَا منبع السؤدد والمعالى ... ومعدن الْعلم الشريف العالى)
(وَأَنت فى هَذَا السُّؤَال عندى ... كسائل كَيفَ طَرِيق نجد)
(أهل طَوِيل ذَاك أم قصير ... تلذذا وَهُوَ بهَا خَبِير)
(شرعت فى قَاعِدَة تمهد ... غازلها الْيَاقُوت والزبرجد)
(قد كنت ألفت بهَا المقررا ... ثمَّ اختصرت بعده المحررا)
(فحين مَا استعجلت منى مَا ترى ... فعلتها مسارعا مبادرا)
(وان تكن على الصَّوَاب فَهُوَ من ... افضال مَوْلَانَا الامام المؤتمن)
(فانها قد جمعت فى حَضرته ... ونعمة قد نلتها من دَعوته)
(مَعَ اشتغالى بِكِتَاب التذكره ... وَغَيرهَا بعد الْعشَاء الْآخِرَة)
(وفى النَّهَار لم أجد وقتا يسع ... فاقبل من المهدى اليك مَا جمع)
وَمن هُنَا خرج الى الْمَقْصُود فَقَالَ
(الْمَدّ أَنْوَاع فجَاء مُتَّصِل ... يَا أَيهَا الانسان هَذَا مُنْفَصِل)(4/446)
الى آخرهَا فَقَالَ القاضى أَحْمد أَيْضا
(أنهلنى من بحره وَعلا ... من قدحه بَين الورى الْمُعَلَّى)
(وزف لى خرائد الْمعَانى ... قد قلدت قلائد الجمان)
(عين الزَّمَان أوحد الانام ... من قدره على السماك سامى)
(لَا زَالَ فى أفق الْعُلُوم طالعا ... ونوره فى الْعَالمين ساطعا)
(لم يزل للصالحات أَهلا ... حاوى الْكَمَال النَّاصِر المهلا)
(أملأنا فى النَّحْو والتصريف ... وملأ الْآفَاق بالتأليف)
(لاننى سَأَلته تدريسه ... لى فى الْعُلُوم الجمة النفيسه)
(فَقَالَ لى لما سَأَلت هلا ... لظَنّه كونى لذاك أَهلا)
الى آخرهَا وللناصر من السماعات والاجازات على وَالِده وجده الْمُجْتَهدين وَغَيرهمَا مَا يطول تعداده وَكَانَت وَفَاته فى صفر يَوْم الْجُمُعَة من سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
نَاصِر بن الشَّيْخ نَاصِر الدّين الرملى الدمشقى امام الْحَنَفِيَّة بِجَامِع بنى أُميَّة الْفَقِيه المقرى اخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الحنفى امام جَامع دمشق وَغَيره والقراآت عَن شيخ الْقُرَّاء الشهَاب الطيبى وَكَانَ خَطِيبًا بالجامع الْجَدِيد خَارج بَاب الفراديس الْمَعْرُوف بالجامع الْمُعَلق شركَة الشهَاب العيثاوى ثمَّ ولى امامة الْمَقْصُورَة بفراغ الشَّيْخ شرف الدّين الطَّبِيب لَهُ عَنْهَا شركَة الْعَلَاء الطرابلسى وليا خطابة السليمية بالصالحية بُرْهَة من الزَّمَان ثمَّ أخذت عَنْهُمَا وَكَانَ لَهما شئ من الجوالى وَكَانَت امامة الْحَنَفِيَّة بالمقصورة فى الاموى بَينهمَا لَا غير حَتَّى ولى قاضى الْقُضَاة مُحَمَّد نهالى قَضَاء دمشق فضم اليهما روميا ثمَّ تفرغ الرومى عَن امامته الثَّالِثَة الْحَادِثَة للشَّيْخ حُسَيْن بن عبد النبى الشعال وَكَانَ نَاصِر الدّين مجذوبا صَالحا الا انه كَانَ يترافق مَعَ شَرِيكه الْعَلَاء الْمَذْكُور فى التَّرَدُّد الى الاكابر والحكام وَغَيرهم للِانْتِفَاع وَكَانَ للشَّيْخ نَاصِر الدّين جَرَاءَة وخفة فى الْعقل فاذا لقنه الْعَلَاء شَيْئا تلقنه وَفعل مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ فان نفع شَاركهُ فى الِانْتِفَاع وان ضرّ تَبرأ الْعَلَاء مِمَّا أَتَى بِهِ وَأَقْبل على ملامته فى حَضرته وغيبته وَكَانَا لتثقيلهما على النَّاس قد سميا بالهم والحزن بِحَيْثُ يستعاذ مِنْهُمَا وَكَانَت وَفَاة النَّاصِر يَوْم الثلاثا عَاشر صفر سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَولى الامامة بعده يُوسُف بن أَبى الْفَتْح السقيفى(4/447)
الشريف نامى بن عبد الْمطلب بن حسن بن أَبى نمى أَمِير مَكَّة ولاه الاتراك كَمَا قدمْنَاهُ مَبْسُوطا فى تَرْجَمَة الشريف زيد وأشركوا مَعَه السَّيِّد عبد الْعَزِيز بن ادريس فى الرّبع محصولا لَا ذكرا فى الْخطْبَة وَضَربا للنوبة ثمَّ أرْسلُوا الى أَمِير جدة ليسلمها لَهُم فَأبى وَقتل الرُّسُل فتجهزوا وَسَارُوا وحاصروها يَوْمَيْنِ ثمَّ دخلُوا جدة ونهبوها وَاسْتمرّ السَّيِّد نامى يعسف أهل مَكَّة وَنهب عسكره الْبِلَاد واستباحوا الْمُحرمَات وَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد وَلما توجه الشريف زيد فى تِلْكَ الْوَقْعَة الى وادى مر بعد أَن دخل الى مَكَّة وَمَعَهُ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَرْث وَمر على بَيت السَّيِّد عبد الْمطلب نَادَى السَّيِّد فَخرج اليه متجرداً متلففا فى مقنع أَزْرَق فَتكلم مَعَه وَأطَال فَقَالَ السَّيِّد أَحْمد لَيْسَ الْوَقْت وَقت الْكَلَام وَكَانَ من جملَة مَا قَالَه الشريف زيد
(نجازى الرِّجَال بأفعالها ... فخيرا بِخَير وشرا بشر)
فَالله الله يَا نامى بِالْحَرِيمِ أَو مَا يقرب من هَذَا ثمَّ سَار الى الْمَدِينَة وَعرف وَزِير مصر بذلك وَكَانَ رَسُوله بذلك السَّيِّد على بن هيزع فَلَمَّا وصل الْخَبَر لصَاحب مصر أرسل سبع صناجق وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا ذَكرْنَاهُ فى تَرْجَمَة زيد حَتَّى جئ بِهِ وبأخيه موثوقين مكتوفين فاستفتى الْعلمَاء مَاذَا يجب عَلَيْهِمَا فَأَجَابُوا بِمَا اقتضته الْآيَة الشَّرِيفَة صَرِيحًا {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض} فشنقا عِنْد الْمُدعى وَمُدَّة ولَايَته متغلبا على مَكَّة مائَة يَوْم وَيَوْم وهى عدَّة حُرُوف اسْمه لانه دَخلهَا خَامِس وعشرى شعْبَان سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف وَخرج مِنْهَا عصر الْيَوْم الْخَامِس من ذى الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وفى هَذِه السّنة لم يذهب الْمحمل السلطانى من مَكَّة الا فى الْعشْر الاول من صفر
النجيب بن مُحَمَّد شمس الدّين النكداوى الانضمى من أكَابِر شُيُوخ تنبكت مَعَه فقه وَصَلَاح شرح مُخْتَصر خَلِيل بشرحين كَبِير فى أَرْبَعَة أسفار وَآخر فى سفرين وَله تَعْلِيق على تخميس عشرينيات الفازرى لِابْنِ مهيب فى مدحه
أَخذ عَن اسحق سحُولِيَّة وَتوفى فى الْعشْر الاول من هَذَا الْقرن انْتهى وَالله أعلم
نصوح باشا وشهرته بناصف باشا وَهَذِه عَادَة الاتراك فى تلاعبهم بالحروف فَيَقُولُونَ فى نصوح ناصف وتبديلاتهم لَيْسَ لَهَا حد يحصرها وَلَا قَاعِدَة تضبطها ونصوح باشا هَذَا أَصله من نواحى درامه من بِلَاد روم ايلى خدم أَولا فى حرم السلطنة(4/448)
الْخَاص ثمَّ صَار من المتفرقة وَحكم ببلدة زله ثمَّ صَار أَمِيرا خور صَغِيرا فى سنة سبع بعد الالف ثمَّ ولى كَفَالَة حلب وَكَانَ متغلبا فى حكمه عسوفا قوى النَّفس شَدِيد الْبَأْس وَلما وَليهَا كَانَ الْجند الشَّام حِينَئِذٍ الْغَلَبَة والعتو وَكَانَ فى ذَلِك الْعَهْد يذهب مِنْهُم فى كل سنة طَائِفَة الى حلب وَينصب عَلَيْهِم سردار من كبرائهم يستخدمون بِمَدِينَة حلب وَكَانَ بعض كبار الْجند قد تقووا فى حلب وفتكوا وجاروا خُصُوصا طواغيهم خدا وردى وكنعان الْكَبِير وَحَمْزَة الكردى وأمثالهم حَتَّى رهبهم أَهلهَا وصاهرتهم كبراؤها واستولوا على أَكثر قراها فَلَمَّا رأى نصوح باشا مَا فَعَلُوهُ وَمَا استولوا عَلَيْهِ مِنْهَا وَمن قراها بِحَيْثُ قلت أَمْوَال السلطنة وَصَارَت أهالى الْقرى كالارقاء لَهُم رفع أَيْديهم عَن قراها وجلاهم عَن تِلْكَ الْبِلَاد وَوَقع بَينه وَبينهمْ وقْعَة وَكَانَ مَعَه حسيب باشا ابْن جانبولاذ عِنْد المعرة وَكَانَ مَعَه حُسَيْن باشا ابْن جانبولاذ عِنْد المعرة وفروا بَين يَدَيْهِ هاربين الى حماه وَأخذ مَا وجد من أَمْوَالهم وخيولهم وخيامهم ثمَّ جمعُوا عَلَيْهِ عشيرا بحماه وَأَرَادُوا قِتَاله فأدركهم مُرُور على باشا الْوَزير مُنْفَصِلا عَن نِيَابَة مصر وَمَعَهُ خزينتها عَن سنتَيْن وَقد تحفظ عَلَيْهَا بِخَمْسَة عشر مدفعا وعساكر نَحْو الاربعة آلَاف فجاؤا الى دمشق للقائه واتقائه فَلَمَّا خرج على باشا من دمشق بالخزينة قَاصِدا جَانب السلطنة لم يصل الى حماه حَتَّى هموا بِالْخرُوجِ وَخرج أوائلهم ثمَّ ذهب فى اثناء ذَلِك طاغيتهم خدا وردى وفى صحبته نَحْو عشْرين رجلا من أعيانهم الى الامير على بن الشهَاب ثمَّ الى الامير فَخر الدّين بن معن ووقعوا عَلَيْهِمَا فى السّفر مَعَهم لقِتَال ابْن جانبولاذ وَأخذ ثارهم مِنْهُ فسافر قبلهم أَمِير بعلبك الامير مُوسَى بن الحرفوش وجمعوا عشيرا كثيرا بحمص وحماه وَورد أَمر سلطانى وَعَلِيهِ خطّ شرِيف بِأَن طَائِفَة الْجند بِالشَّام لَا يخرجُون الى حلب لقِتَال كافلها ناصف باشا وحاكم كلز حُسَيْن باشا ابْن جانبولاذ لانهم كَانُوا اجْتَمعُوا وعرضوا بذلك الى أَبْوَاب الدولة وَكَانَ ذَلِك جَوَاب عرضهمْ وَكَانَ وُصُوله الى دمشق يَوْم السبت عَاشر رَجَب سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَمن جملَة مَا ذكر فى الْخط الْمَذْكُور أَنهم ان خَرجُوا يَكُونُوا مغضوبا عَلَيْهِم مستحقين للعقوبة والنكال من السُّلْطَان فَرَأى نَائِب الشَّام اذ ذَاك فرهاد باشا وقاضيها الْمولى مصطفى ابْن عزمى ودفتريها حسن باشا شوربزه انهم لَا يرجعُونَ الا بحيلة فَرَأَوْا ان يرسلوا الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين لكسر هَذِه الْفِتْنَة الْمُوجبَة للعقوبة الى حماه وَيقْرَأ عَلَيْهِم الْخط السلطانى ويرجعهم الى دمشق ليقال لَوْلَا خاطر الشَّيْخ مُحَمَّد مَا رَجعْنَا فَخرج(4/449)
الشَّيْخ مُحَمَّد اليهم فى ثانى عشر رَجَب ثمَّ عَاد يَوْم الاحد ثانى شعْبَان وَلم يسمعوا قَوْله وَخَرجُوا بعد قِرَاءَة الحكم عَلَيْهِم وَالْكَلَام مَعَهم الى الطّيبَة ثمَّ توجهوا الى نَاحيَة حلب وانضم اليهم غجر مُحَمَّد الجلالى وعشيره ثمَّ رجعُوا فى أَوَاخِر شعْبَان الى دمشق بعد أَن صَار بَينهم وَبَين ناصف باشا وَابْن جانبولاذ مناوشة عِنْد كلز يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ ولوا هاربين وتفرق عشيرهم وَذَلِكَ بعد أَن حاصروا كلزا أَيَّامًا وخربوا مَا حولهَا من قَرْيَة الْبَاب وعزاز وَغَيرهمَا من قرى حلب وهتكوا النِّسَاء وافتضوا جملَة أبكارهن وَدخلت أشقياؤهم حَماما بكلز على النسْوَة وفعلوا أفاعيل جَاهِلِيَّة ثمَّ تلاقوا مَعَ نصوح باشا وَابْن جانبولاذ خَارج كلز يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ انْهَزمُوا من ليلتهم وعادوا الى دمشق وفر غجر مُحَمَّد الى البيوة وَكَانَت الْوَقْعَة فى أواسط شعْبَان ثمَّ تتبع نصوح باشا غجر مُحَمَّد الجلالى وَمَعَهُ عشيره وَمِنْهُم طَائِفَة من جند الشَّام فَأَغَارَ عَلَيْهِم فى شَوَّال وَهُوَ فى الرّبيع بِالْقربِ من حماه وانتهبهم وَأخذ خيولهم وَكرر الْغَارة عَلَيْهِم فَلَمَّا كَانَ أَوَائِل ذى الْحجَّة مر مصطفى باشا الشهير بِابْن راضيه مُتَوَلِّيًا نِيَابَة الشَّام بغجر مُحَمَّد وَقد جمع عشيرا نَحْو ثَلَاثَة آلَاف مقَاتل فَقَالُوا لَهُ لَا نمكنك من الذّهاب الى دمشق حَتَّى تنتصف لنا من ناصف باشا فَسَار مَعَهم مكْرها وَكَانُوا قد تظاهروا ابقطع الطَّرِيق وضربوا على أهل حمص وحماه ضَرَائِب من المَال واعترضوا القوافل وجرموهم فَخَرجُوا بمصطفى باشا من حماه الى نَاحيَة حلب فَلم يثبتوا لَهُ سَاعَة وأفلت عَلَيْهِم المكاحل فَقتل مِنْهُم جمَاعَة كَثِيرُونَ وفر الغجر وَمن مَعَه من الْجند الشامى وانحاز مصطفى باشا الى ناصف باشا ثمَّ بعث خَلفه الى تدمر وشتت شَمله ثمَّ شاع الْخَبَر فى دمشق فى رَابِع أَو خَامِس الْحجَّة ان ناصف باشا وصل الى دمشق للانتقام من الْجند ثمَّ عقب يَوْمَيْنِ وصل من طرفه رَسُول وَمَعَهُ كتاب مِنْهُ يطْلب مِنْهُم نَحْو ثَلَاثِينَ رجلا ليَأْخُذ مَا فى عهدتهم من الاموال السُّلْطَانِيَّة الَّتِى تناولوها من أَمْوَال حلب وَمِنْهُم خدا وردى وآق يناق وقرايناق وَحَمْزَة الكردى وَآخَرُونَ وان لم يسلمُوا هَذِه الطَّائِفَة اليه والا أَتَى الى دمشق وَقَاتلهمْ واستأصلهم فامتنعوا وأظهروا لَهُ العناد والتمرد وَالْقُوَّة والاشتداد ثمَّ دخلت طَائِفَة مِنْهُم الى القلعة واستولوا عَلَيْهَا وتحصنوا ثمَّ بعثوا مِنْهُم جمَاعَة الى الامير فَخر الدّين بن معن والامير مُوسَى بن الحرفوش والامير أَحْمد بن الشهَاب وَالشَّيْخ عمر شيخ المفارجة ثمَّ خَرجُوا(4/450)
الى القابون وَاجْتمعَ العشير عَلَيْهِم ثمَّة وَلم يتَأَخَّر الا الامير فَخر الدّين بن معن وَبقيت خيامهم بالقابون نَحْو عشرَة أَيَّام وَأخذُوا فى نهب زروع النَّاس وَبَعض مَوَاشِيهمْ وَدخل أهل الغوطة الى دمشق ونقلوا أسبابهم وأمتعتهم ونساءهم اليها وارتعبت أهل دمشق ثمَّ شاع فى ثامن ذى الْحجَّة بِدِمَشْق أَن ناصف باشا رَجَعَ الى حلب بعد أَن كَانَ وصل الى الرستن وَكَانَ مصطفى باشا نَائِب دمشق قد فَارقه قبل ذَلِك بأيام وَنزل بالقابون فَلم يمكنوه من دُخُول دمشق بل قَالُوا لَهُ ارْجع وَقَاتل مَعنا ناصف باشا وبقوا ثمَّة حَتَّى استهلت سنة ثَلَاث عشرَة يَوْم الِاثْنَيْنِ فَهموا بالرحيل وافترقوا فرْقَتَيْن فرقة تَقول نَذْهَب الى حلب وهم الَّذين كَانُوا فى اسْتِخْدَام حلب وَالْآخرُونَ يَقُولُونَ نرْجِع الى دمشق وَقد رَجَعَ عَنَّا ناصف باشا وَنحن لَا نعصى السلطنة ثمَّ فكوا خيامهم وَتوجه الحلبيون الى أَرض الْقصير وعذارا ثمَّ فى يَوْم الثلاثا رَحل مصطفى باشا الى دمشق بعد الْعَصْر وَمَعَهُ ابْن الشهَاب وَابْن الحرفوش وَأكْثر الْجند وَانْقطع أَمرهم عَن حلب وَعَن سردار بتهم فِيهَا وليته انْقَطع عَن دمشق أَيْضا فلعمرى ان بَلْدَة تأمن من غوائلهم وَلَا ترى مصائبهم ونوازلهم لهى أمينة من جَمِيع المصائب مَدْفُوع عَنْهَا بلطف الله تَعَالَى جملَة النوائب فانهم مدَار كل ضَرَر آجل وعاجل وَلَيْسَ لَهُم تالله نفع وَلَا تَحْتهم طائل عودا الى تَتِمَّة تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة ثمَّ صَار بعد ذَلِك نَائِب السلطنة بديار اناطولى ثمَّ ولى مُحَافظَة بَغْدَاد ثمَّ صَار نَائِبا بديار بكر ثمَّ وَجه اليه الْوَزير الاعظم مُرَاد باشا سردار العساكر حُكُومَة مصر فَلم تمض أَيَّام إِلَّا مرض مُرَاد باشا مرض مَوته فَبعث السُّلْطَان أَحْمد مَرَاسِيل الى صَاحب التَّرْجَمَة بِأَن يكون قَائِم مقَام الْوَزير ثمَّ توفى مُرَاد باشا فوجهت اليه الوزارة العظيمى والسردارية وجاءه الْخَتْم فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشْرين وَألف وَعقد الصُّلْح بَين السُّلْطَان وشاه الْعظم ثمَّ سَافر رَاجعا بالعساكر الى حلب وأرهب جند الشَّام وَغَيرهم وهرعت النَّاس اليه الى حلب ثمَّ سَافر من حلب الى قسطنطينية فَدَخلَهَا فى شعْبَان فقابله السُّلْطَان أَحْمد بِالْقبُولِ والاقبال وزوجه ابْنَته ثمَّ قَتله يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثانى عشر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَالله أعلم
نظام الدّين السندى النقشبندى ذكره البورينى وَقَالَ فى تَرْجَمته ورد الى دمشق وَمَعَهُ أَخ لَهُ صَغِير وَصَارَ يدعى علما غزيرا يرا وَيَزْعُم أَنه حمل فضلا كثيرا وَلم يكن كَمَا قَالَ وَلَا صدقت مِنْهُ الاقوال غير أَنه كَانَ ذكيا جدا وَالْعجب أَنه كَانَ يتنوع فى الدَّعَاوَى(4/451)
فَتَارَة يَقُول أَنا شرِيف علوى وَتارَة كَانَ يدعى الرياضة الْمُطلقَة وَترك دمشق ورحل الى صالحيتها وقطن بمدرسة شيخ الاسلام أَبى عمر وَصَارَ يدعى أَنه مهدى الزَّمَان الْمَوْعُود بِهِ فَقيل لَهُ ذَاك مُحَمَّد وَأَنت نظام الدّين فَقَالَ مُحَمَّد يلقب بنظام الدّين فَقيل لَهُ ذَاك شرِيف وَأَنت سندى أسود فَقَالَ أَنا شرِيف علوى صَحِيح النّسَب غير أَنى تركت دَعْوَى ذَلِك الا فى وقته وَأما سَواد الْوَجْه فَكَانَ يعْتَذر عَنهُ بَان المُرَاد الْبيَاض المعنوى الذى يكون فى الافعال وَزَاد بِهِ الْحَال الى أَن صعد المنارة الشرقية بَين الْمغرب وَالْعشَاء وَقَالَ يَا أهل دمشق أَنا مهدى الزَّمَان وَأَنا أدعوكم الى اجابتى واتباعى وَسمع ذَلِك كثير من الصَّالِحين وَغَيرهم مِمَّن كَانَ بالجامع الاموى وَكَانَ مرّة بالجامع السليمى السلطانى يَوْم الْجُمُعَة فَلَمَّا نزل الْخَطِيب عَن الْمِنْبَر قَامَ وَأمر رجلا أَن يصعد الْمِنْبَر ويلعن أَمِين الدفترى العجمى وَقَالَ بِصَوْت عَال ان الدفتر دَار مُحَمَّد أَمِين رافضى يبغض أَبَا بكر وَعمر رضى الله عَنْهُمَا وَقد أمرنى رَسُول الله
أَن ألعنه وشاع ذَلِك الامر وذاع فَوضع فى البيمارستان القيمرى بالصالحية مُدَّة وَسكن عَن التَّخْلِيط وقلل من التخبيط فَأمر قاضى الْقُضَاة باخراجه بعد ان أَمر بايلاجه وَضَاقَتْ بِهِ دمشق بعد هَذِه الدَّعْوَى وَكَانَ يَذُوق من الزَّمَان شَدِيد الْبلوى فطار من دمشق الى بَيت الْمُقَدّس وَمر بنابلس وَدخل غَزَّة واقتتل مَعَ بعض علمائها وَوصل الى مصر وَمكث بهَا قَلِيلا وَلم تطل مدَّته بهَا بل توفى هُوَ وَأَخُوهُ بهَا انْتهى مَا قَالَ البورينى قلت والذى تلقيته من احوال المنلا نظام أَنه كَانَ من الْمُحَقِّقين الْعِظَام وانه كَانَ من أَرْبَاب الْولَايَة وَمِمَّنْ أَدْرَكته عين الْعِنَايَة فى الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَهُوَ من خَواص تلامذة السَّيِّد صبغة الله نزيل الْمَدِينَة المنورة وَكَانَ السَّيِّد الْمَذْكُور يُحِبهُ وينافس فى ولَايَته المقررة وَوَقع للسَّيِّد بِسَبَبِهِ كَرَامَة ذكرتها فى تَرْجَمته وألمعت فِيهَا بِذكر انتمائه اليه وتلمذته وَمَا وَقع بِدِمَشْق من بعض التخاليط فقد يُقَال انه يموه بهَا عَن حَقِيقَة أمره حَتَّى تعد من الاغاليط وَمِمَّا شاع أَن وَضعه فى البيمارستان كَانَ عَن أغراض نفسانية وانه دَعَا على من كَانَ السَّبَب فى ذَلِك من الْفُضَلَاء بِأَن يسلب رونق فضيلته البهية فاستجيب دعاؤه فيهم وحرموا لَذَّة النَّفْع بالعلوم على أَن كلا مِنْهُم كَانَ مِمَّن برع على هَذَا الاستاذ فى الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم وَلَقَد حكى بعض عُلَمَاء الشَّام الْكِبَار أَنه حج فزار السَّيِّد صبغة الله فى مَدِينَة النبى الْمُخْتَار فَمَا اسْتَقر بِهِ الْجُلُوس حَتَّى سَأَلَهُ عَن أَحْوَال المنلا نظام مبديا للقائه غَايَة الشوق والغرام فَقَالَ لَهُ ذَلِك الْعَالم(4/452)
انه جن وَوضع فى البيمارستان وَلم يتَنَبَّه بقرائن السُّؤَال الى مَا تضمنه من الاعتناء لرفعة الشان فاضطرب السَّيِّد وَقَالَ لذَلِك الْعَالم بِلِسَان عاذل لَاحَ ذَا مليح وعشاقه كلهم ملاح ويكفى مَا فى هَذِه الْكَلِمَة من الاشارة الى علو قدره وَأَنه مِمَّن يغالى فى التنويه بفضله الذى سلم لَهُ أعظم أهل عصره وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ عشرَة بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى
نعْمَان بن أَحْمد الحنبلى الدمشقى قاضى الْحَنَابِلَة بمحكمة الْبَاب بِدِمَشْق كَانَ من فضلاء الْحَنَابِلَة ووجهائهم تفقه على جمَاعَة وَلزِمَ من أول عمره هُوَ وَأَخُوهُ الشَّيْخ الْفَاضِل عبد السَّلَام أديب الزَّمَان أَحْمد بن شاهين وتخرجا عَلَيْهِ وانتفعا بِهِ علما وجاها وَولى القاضى نعْمَان النيابات بوسيلته والتقرب اليه الى أَن اسْتَقر آخرا بِالْبَابِ وَكَانَ أمثل الْقُضَاة فى عصره وجيها مهابا نقى الْعرض عَمَّا يدنس ملازما خويصة نَفسه ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الحجازية وَكَانَ لَهُ بهَا خلْوَة يُقيم بهَا أَكثر أوقاته وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
نعْمَان بن عبد الرَّحْمَن وَيعرف فى دمشق بِابْن الجلده أحد الموالى الرومية ولد بِدِمَشْق وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ وجد حَتَّى حصل طرفا صَالحا من الْعُلُوم ثمَّ سَافر فى أول أمره الى قسطنطينية وسلك بهَا طَرِيق الموالى فدرس بمدارس دَار الْخلَافَة وتوطن ثمَّة ونهض بِهِ حَظه نهضة بليغة فترقى فى أقرب زمَان الى قَضَاء بروسه وغدر بِهِ الزَّمَان عَاجلا فَقتل بهَا وَكَانَ سَبَب قَتله تراخيه فى أَمر دُخُول حسن باشا الجلالى الى بروسه على مَا قيل وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَالله أعلم
نعْمَان بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الايجى العجمى الدمشقى الشافعى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ من أجل الصُّوفِيَّة فَاضلا أديبا سخى الطَّبْع يُؤثر بِمَا لَهُ فى وُجُوه الْخَيْر وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته وَكَانَ يتَزَوَّج كثيرا وَيُطلق حَتَّى بلغنى أَنه وقفت عَلَيْهِ سَائِلَة تسأله فَقَالَ لَهَا أَلَك زوج فَقَالَت لَا فَأَخذهَا الى المحكمة العونية وَعقد عقده عَلَيْهَا ثمَّ لَزِمَهَا حَتَّى اجْتمع بهَا فى منزلهَا قلت وَقد وقفت لَهُ على أشعار مِنْهَا هَذَا الْمَقْطُوع نسبه بعض الادباء اليه وَلَا أدرى صِحَة النِّسْبَة وَهُوَ هَذَا
(قَالُوا نرَاك بِلَا خل فَقلت لَهُم ... مَا بعد جَوْهَر علمى أبتغى عرضا)
(جربت دهرى وأهليه فَمَا تركت ... لى التجارب فى ود امْرِئ غَرضا)
وَالْبَيْت الاخير مضمن من قصيدة لابى الْعَلَاء المعرى وَبَاب هَذِه التجربة متسع جدا(4/453)
واذا أضمرت الزّهْد فى النَّاس فقد نجحت الآمال وَأمن الباس وَمن شعره قَوْله أَيْضا
(أضعت الْعُمر فى لَهو وطيش ... وَكنت أَظن فى الدُّنْيَا صديقا)
(فَلَمَّا صرت مُحْتَاجا لفلس ... فقدت الاهل والخل الشفيقا)
وَقَوله
(صديق الْمَرْء فى الدُّنْيَا قَلِيل ... وأصدقهم على التَّحْقِيق دِرْهَم)
(تمسك ان ظَفرت بِهِ ودع مَا ... سواهُ فانه للهم مرهم)
وَكتب فى صدر مُكَاتبَة للرئيس يحيى بن كَمَال الدّين الدفترى فى الرّوم تَتَضَمَّن الشكاية فَقَالَ
(من كَانَ يَنْفَعهُ الادب ... ويحله أَعلَى الرتب)
(فَلَقَد خسرت عَلَيْهِ مَا ... ورثت من أم وَأب)
(كم رزقة كَانَت تصون الْوَجْه عَن ذَلِك الطّلب)
(أتلفتها لَا فى القيان وَلَا هوى بنت الْعِنَب)
(بل فى الْحَوَائِج والحوادث والعوارض والنوب)
(كم قلت لما بعتها ... وحصلت فى أسر الكرب)
(ذهبت دجاجتنا الَّتِى ... كَانَت تبيض لنا الذَّهَب)
فَلَمَّا وصلت الرسَالَة والابيات للرئيس يحيى الْمَذْكُور كلف أَبَا المعالى الطالوى أَن يكْتب عَن لِسَانه جَوَابا فَكتب فى جَوَاب الابيات قَوْله
(خسر الذى بَاعَ الادب ... بالبخس فى سوق الطّلب)
(أَو مَا درى أَن القناعة للفتى مَال يحب ... )
(وَرَأى بَان الْحر يقنعه الْقَلِيل من النشب ... )
(مَا رزقة كَانَت تصون وَمَا الذى أورثه أَب ... )
(حاشا لمثلك عَن هوى الْقَيْنَات أَو بنت الْعِنَب ... )
(أَو ناعم أَطْرَافه ... عذب اللمى حُلْو الشنب)
(فى كَفه لَهب المدام وفى الحشا مِنْهُ لَهب ... )
(كم من أَخ كُنَّا نظن بِهِ اخاء ذوى النّسَب ... )
(حَتَّى بلونا وده ... فازور ينشد فى غضب)
(ذهبت دجاجتنا الَّتِى ... كَانَت تبيض لنا الذَّهَب)
(هلا تذكر ديكها ... اذ صَاح صيحته الْعجب)(4/454)
(صعِقَتْ دَجَاج الحى مِنْهَا فهى فى قفص الكرب ... )
(وَغدا يقوقئ حولهَا ... وَالْقلب من خوف وَجب)
(فاشكر لبازى الجو حَيْثُ حمى الْحمام من العطب ... )
(لولاه أَصبَحت الدَّجَاجَة لَا جنَاح وَلَا ذَنْب ... )
قلت والابيات الَّتِى كتبهَا صَاحب التَّرْجَمَة لَيست لَهُ بل هى قديمَة وَقد غفل الطالوى عَن ذكره هَذَا فَلَعَلَّهُ لم يطلع على أَنَّهَا قديمَة وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ نعْمَان عَشِيَّة الاحد لليلتين بَقِيَتَا من صفر سنة سِتّ عشرَة وَألف وَقد تقدم ابْنه مُحَمَّد وحفيده أَحْمد وسيأتى حفيده يحيى
نعْمَان العجلونى الحبراصى الشَّيْخ الْعَالم الْعَلامَة الْفَقِيه الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ذكره النَّجْم وَقَالَ فى تَرْجَمته سَافر الى مصر وَقَرَأَ على الْخَطِيب الشربينى وَالشَّمْس مُحَمَّد الرملى وَغَيرهمَا وَكَانَ يستحضر مسَائِل الْفِقْه من شرح الْمِنْهَاج لشيخه الْخَطِيب الْمَذْكُور كَأَنَّهُ ينظر اليه وَلما رَجَعَ من طلب الْعلم الى بِلَاده كَانَ يحجّ فى كل عَام وَلم يَنْقَطِع عَن الْحَج الا قَلِيلا واجتمعنا بِهِ بِدِمَشْق ثمَّ بطرِيق الْحَاج كثيرا ثمَّ بالحرمين الشريفين وَكَانَ لَا يتَقَيَّد بملبس وَلَا مطعم وَكَانَ يقبل من النَّاس مَا يعطونه ثمَّ كَانَ يعود على الْفُقَرَاء بعوائد وَكَانَ جوادا سخيا بكيا من خشيَة الله تَعَالَى وبقى على حَاله من الْحَج من سنة أَربع عشرَة بعد الالف سنة تسع عشرَة فَمَاتَ فى مرحلة الْمُعظم فى أَوَاخِر الْمحرم من هَذِه السّنة وَدفن بالاخضر
الشَّيْخ نعْمَة الله بن عبد الله بن محيى الدّين بن عبد الله بن على بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا بن يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلانى بن أَبى صَالح مُوسَى بن جنكى دوست حق بن يحيى الزَّاهِد بن مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُوسَى الحرن بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن بن على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ وعنهم كَانَ من أكَابِر أَوْلِيَاء الله تَعَالَى الَّذين نالوا مِنْهُ الْوَفَاء والكرامة وَمن محبيه المقتدى بهم فى جمال الاخلاق سَطَعَ نور كَمَاله وأشرقت شمس صِفَاته وتواترت كراماته وكلماته وانعقد الاجماع على ولَايَته ولد بِالْهِنْدِ ورحل من بِلَاده الى مَكَّة المكرمة وَكَانَ وُصُوله اليها فى سنة أَربع عشرَة بعد الالف وجاور بهَا ولازم الصمت وَالْمَسْجِد عدَّة سِنِين ثمَّ سكن شعب عَامر وَتزَوج وَولد لَهُ أَوْلَاد واشتهر عِنْد أهل الْحَرَمَيْنِ ومدحه أكَابِر الْعلمَاء لما رَأَوْا مِنْهُ من الكرامات الخارقة والاحوال(4/455)
الصَّالِحَة وَمِنْهُم الْعَلامَة الشَّيْخ على ابْن أَبى بكر الْجمال المكى قَالَ فِيهِ قصيدة مطْلعهَا قَوْله
(يَا من يروم قضا مَصَالِحه الَّتِى ... صعبت وأشكل أمرهَا بالمرة)
(لَا تيأسن ولذ بقدوتنا الذى ... أعطَاهُ رب الْعَرْش حسن السِّيرَة)
وهى طَوِيلَة فلنقتصر مِنْهَا على هَذَا الْمِقْدَار وللشيخ الْفَاضِل أَحْمد بن الْفضل باكثير قصيدة مدحه بهَا ذكر فِيهَا شَيْئا من كراماته مطْلعهَا هَذَا
(شِفَاء فؤادى بل جلاء نواظرى ... مراتع غزلان الكناس النواضر)
(وحضرة أنسى رَوْضَة الْحسن والبها ... وحضرة قدسى والهوى شعب عَامر)
(فَذا الشّعب فِيهِ شعب كبرى ولى بِهِ ... بديعة حسن لم تحل عَن سرائرى)
(وَذَا الشّعب فِيهِ عشب خصب تفتقت ... كمائمه عَن مزهرات الازاهر)
(وَذَا الشّعب من آفَاق علياه أشرقت ... نُجُوم هدى يهدى بهَا كل حائر)
(وَذَا الشّعب امسى هَالة مستنيرة ... ببدر كَمَال سَاطِع النُّور باهر)
(وَذَا الشّعب أضحى برج سعد ومنزلا ... لشمس العلى قد أشرقت فى البصائر)
(وَذَا الشّعب برصار للبر معدنا ... فكم رب فقر مِنْهُ أضحى كتاجر)
(أَضَاء بزهر مشرقات وأنجم ... بهَا يهتدى للحق أهل السرائر)
(أَضَاء بشمس أشرقت فانجلى بهَا ... دجى كل ليل للمعارف سَاتِر)
(أَضَاء بقطب الكائنات لانه ... حوى نعْمَة الله بن عبد الْقَادِر)
(أَضَاء بِوَجْه مِنْهُ مَا الشَّمْس فى الضُّحَى ... وَمَا الْبَدْر فى جنح الدياجى لناظر)
(وَمَا النَّجْم فى الافلاك يسطع نوره ... وَمَا الْفجْر يَبْدُو مُسْفِرًا للنواظر)
(وَمَا النُّور حَتَّى ان يُقَاس بنوره ... وَهل يستوى نور يعم بقاصر)
وَمن شُيُوخه الَّذين أَخذ عَنْهُم عُلُوم الطَّرِيق الشَّيْخ أَبُو بكر بن سَالم باعلوى صَاحب عينات وَكَانَ فى بدايته ملازما للرياضات وَاسْتمرّ أشهرا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَهُوَ مختل بِغَار وَخرج مِنْهُ وَهُوَ يتَكَلَّم بالعلوم والمعارف وتواترت كراماته الَّتِى لَا يُمكن حصرها وَكَانَ ابْتَدَأَ الْعَلامَة ابراهيم الدهان فى جمع شئ من كراماته فى مؤلف وَلم يعلم بذلك أحدا فَأتى اليه وَهُوَ فى بَيته وَقَالَ لَهُ يَا شيخ ابراهيم هَل يُمكن عد الْمَطَر للبشر فَقَالَ لَا فَقَالَ كراماتنا كَذَلِك فَعِنْدَ ذَلِك صرف نَفسه عَن جمع هَذَا التَّأْلِيف(4/456)
وَهَذِه من كراماته وَمِنْهَا أَن الْحمى كَانَت طوع يَدَيْهِ فَكَانَ يسلطها يَوْمًا وأياما وأشهرا وأعواما على من أَرَادَ من المنكرين وَاتفقَ لَهُ أَنه دخل على بعض أكَابِر الرّوم فى الْمَوْسِم فَلم يكترث بِهِ فَغَضب وَقَالَ يَا حمى خذيه فركبته من وقته وَلم يبت تِلْكَ اللَّيْلَة الا فى تربته وَمِنْهَا أَنه دخل على الامير رضوَان أَمِير الْحَاج المصرى وَكَانَ عِنْده من عُلَمَاء الشَّيْخ مكى فروخ فَقَامَ لَهُ وعظمه وَلم يقم لَهُ الامير وتغافل عَنهُ فَغَضب مِنْهُ وَتكلم عَلَيْهِ وَخرج من عِنْده وَقَالَ يَا حمى اركبيه فركبته من حِينه فَأرْسل اليه الشَّيْخ مكى يعْتَذر اليه وَيطْلب مِنْهُ الْعَفو فَقَالَ ان كَانَ ولابد فَتبقى عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى يتواضع من كبره فَبَقيت عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام وَقد أنهكته وعوفى بعْدهَا وَمِنْهَا أَنه كَانَ يُمِيت باذن الله تَعَالَى فَمَا اتفقه لَهُ أَنه غضب على شخص فَقَالَ مت فَمَاتَ من وقته وَمِنْهَا أَن بعض التُّجَّار المتوسطين كَانَ يتعاطى خدمته فى أَخذ كسْوَة لَهُ وَشبههَا فَاجْتمع لَهُ عِنْده خَمْسُونَ قرشا فَأتى اليه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ كم اجْتمع لَك عندنَا فَقَالَ خَمْسُونَ قرشا فَقَالَ تأخذها أَو تتركها ونعوضك عَنْهَا خمسين ألف قِرْش فَقَالَ لَهُ الامر اليك فَقَالَ نَفسك طيبَة بذلك قَالَ نعم فَقَالَ اذْهَبْ وشاور من تثق بِهِ فَذهب الى عمَّة لَهُ كَانَ يُحِبهَا وتحبه فَذكر لَهَا كَلَامه فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِتَرْكِهَا لَهُ فَرجع اليه وَقَالَ يَا سيدى انى قد تركتهَا لَك فَقَالَ اذْهَبْ وَنفى لَك بوعدك فَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلم تمض مُدَّة يسيرَة حَتَّى ملك مَا ينوف عَن خمسين ألف قِرْش وَمِنْهَا أَنه دخل على الشريف نامى بن عبد الْمطلب شرِيف مَكَّة فى شَفَاعَة فَلم يقبلهَا مِنْهُ فَخرج من عِنْده وَهُوَ يَقُول مَا قبل شفاعتنا نَحن نصلبه وأخاه فى مَكَان عينه فَمَا مَضَت مُدَّة يسيرَة حَتَّى أَتَى الْعَسْكَر من مصر وولوا الشريف زيد بن محسن الشرافة وقبضوا على الشريف نامى وأخيه وصلبوهما عِنْد الْمُدعى فى الْمَكَان الذى ذكره الشَّيْخ وَمِنْهَا أَن الشريف ادريس شرِيف مَكَّة غضب على بعض النَّاس وَأرْسل اليه أَن يخرج من مَكَّة وَلَا يسكنهَا وأمهله ثَمَانِيَة أَيَّام فَأتى اليه وشكى لَهُ حَاله وَمَا جرى لَهُ من الشريف ادريس فَأرْسل رَسُوله للشريف ادريس يشفع لَهُ فَلم يقبل شَفَاعَته فَسكت سَاعَة ثمَّ قَالَ وَالله لَا تخرج من مَكَّة وَيخرج هُوَ مِنْهَا فَبعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة قَامَت عَلَيْهِ الاشراف وعزلوه وَأَقَامُوا الشريف محسنا مَكَانَهُ وأخرجوه من مَكَّة وَمِنْهَا مَا أخبر بِهِ شَيخنَا بركَة الْعَصْر الْحسن العجيمى فسبح الله تَعَالَى فى أَجله أَن وَالِده قَالَ لَهُ يَوْمًا يَا سيدى انى أَخَاف على أولادى من الْجُوع فَقَالَ لَهُ أولادك(4/457)
لَا يجوعون قَالَ شَيخنَا فانى بِحَمْد الله لَا أجوع أبدا جوعا مزعجا يحصل مِنْهُ مشقة وَذكر السَّيِّد مُحَمَّد الشلى فى مسودة تَارِيخه انه كَانَ اذا طلب من أحد شَيْئا وَلم يُعْطه قَالَ لَهُ نرسل لَك الْحمى فَتَأْتِيه تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ زعم انه من ذُرِّيَّة الشَّيْخ عبد الْقَادِر المكيلانى قدس سره وَالله أعلم بِحَالهِ وَاسْتمرّ على تِلْكَ الْحَال حَتَّى أَتَى مَوْلَانَا السَّيِّد علوى ابْن عقيل السقاف وَطلب مِنْهُ أردبا من الْحبّ وَاعْتذر اليه فَقَالَ اما أَن تعطينى واما أَن أرسل اليك الْحمى وَكَانَ السَّيِّد علوى قد احتجب فى بَيته فَأرْسل اليه خادمه وَقَالَ افْعَل هَذَا مَعَ غيرى وأقعدناك فَلم يقدر على الْقيام فَاسْتَغْفر وَتَابَ وعاهده السَّيِّد على أَن لَا يضر أحدا وَأَن يَتُوب من هَذِه الْحَالة وَقَالَ لَهُ ان ضربت أحدا قتلنَا الجنى الذى ترسله للنَّاس ثمَّ مرض فأوصى أَن يدْفن فى مَحَله بشعب عَامر فَدفن فِيهِ اهـ قَالَ شَيخنَا العجميى الْمَذْكُور وَلَا يخفى على منصف أَن الِاسْتِخْدَام بالجان لَا ينافى الْولَايَة فقد وَقع لكثير مثل هَذَا مِمَّن لَا يشك فى ولَايَته مِمَّن يطول تعداد أسمائهم وَذكر صفاتهم نعم كَانَ من صَاحب التَّرْجَمَة انكار على شيخ مَشَايِخنَا أَحْمد الشناوى رَحمَه الله تَعَالَى حَتَّى انه دخل يَوْمًا على السَّيِّد سَالم شَيْخَانِ وَقَالَ لَهُ أخرجك الله من بَحر الشناوى فَغَضب السَّيِّد سَالم عَلَيْهِ وَقَامَ وضربه وَقَالَ أفيك أَهْلِيَّة لاجراء اسْم الشَّيْخ الشناوى فَخرج صَاحب التَّرْجَمَة هَارِبا من بَيت الشَّيْخ سَالم وَوَقع بَينهمَا شبه مَا يَقع بَين الاولياء فماتا فى شهر وَاحِد وَبَين وفاتبهما نَحْو عشرَة أَيَّام وَهَذَا من صَاحب التَّرْجَمَة غير قَادِح فى ولَايَته أَيْضا فقد جَاءَ فى حَدِيث الاولياء عِنْد أَبى نعيم ان كَلَام من الابدال والاوتاد وَغَيرهمَا لَو اطلع أحد مِنْهُم على من هُوَ فَوْقه فى الرُّتْبَة لحكم بِكُفْرِهِ أَو نَحْو ذَلِك وَكَانَ الشَّيْخ الشناوى ختم زَمَانه فَلَا يدع أَن يخفى مقَامه على أَكثر أهل أَوَانه بِاللَّه تَعَالَى التَّوْفِيق وَهُوَ الهادى الى سَوَاء الطَّرِيق وَكَانَت وَفَاة السَّيِّد نعْمَة الله صبح يَوْم الْخَمِيس سادس وعشرى ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَله من الْعُمر أَربع وَسَبْعُونَ سنة وقبره يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
نوح بن مصطفى الرومى الحنفى نزيل مصر الامام الْعَلامَة سَابق حلبة الْعُلُوم سَار ذكره واشتهر علمه وَهُوَ فى عُلُوم عديدة من الفائقين سِيمَا التَّفْسِير وَالْفِقْه والاصول وَالْكَلَام وَكَانَ حسن الاخلاق وافرا الحشمة جم الْفَضَائِل ولد ببلاده ثمَّ رَحل الى مصر وتديرها وَأخذ الْفِقْه عَن الْعَلامَة عبد الْكَرِيم السوسى تلميذ شيخ الاسلام على(4/458)
ابْن غَانِم المقدسى وَقَرَأَ عُلُوم الحَدِيث رِوَايَة ودراية على مُحدث مصر مُحَمَّد حجازى الْوَاعِظ وتلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة وَأخذ عُلُوم المعارف بِاللَّه حسن ابْن على بن أَحْمد بن ابراهيم الخلوتى وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على الدُّرَر وَالْغرر وَالْقَوْل الدَّال على حَيَاة الْخضر وَوُجُود الابدال وَله رسائل بِمصْر مُقيما بِخِدْمَة الدّين مصون الْعرض وَالنَّفس مُتَمَتِّعا بِمَا من الله عَلَيْهِ من فَضله حَتَّى توفى بِمصْر وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبعين بعد الالف وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى وَبنى عَلَيْهِ بعض الوزراء قبَّة عَظِيمَة رَحمَه الله
نوح الدمشقى المنشد كَانَ مجاورا عِنْد بَاب المنارة الشرقية من جَامع دمشق بوابها بعد الشَّيْخ سَلامَة المصرى وَكَانَ فى بداية أمره عقادا وَكَانَ صَوته حسنا وانشاده مَقْبُولًا فصحب الشَّيْخ مُوسَى السيورى مُؤذن قلعة دمشق وَأخذ عَنهُ الالحان والانغام وَكَانَ يحذو حذوه فى حب الْجمال وَكَانَ يحفظ غَالب ديوَان الشَّيْخ عمر بن الفارض رضى الله تَعَالَى عَنهُ وَأَشْيَاء من كَلَام الْقَوْم وَكَانَ يتناشد هُوَ وَالشَّيْخ مُوسَى الْمَذْكُور فيطربان جدا ثمَّ انْقَطع آخرا وَاقْتصر على مَا يحصل لَهُ من بوابة المنارة وَمن الاكابر المعتقدين لَهُ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشرى ذى الْحجَّة سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
حرف الْهَاء
السَّيِّد هَاشم بن أَحْمد الحسينى باعلوى السَّيِّد السَّنَد الامجد النسيب الاوحد مظهر تجلى جمال الْجلَال ومظهر الرِّضَا بسابق الرأى والمقال ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَصَحب أكَابِر عُلَمَاء وأولياء وَكَانَ على طَريقَة سلفه الصَّالِحين من الإجتهاد فى الدّين وَالطَّاعَة قَالَ الشلى فى تَرْجَمته وَرَأَيْت بِخَط السَّيِّد أَبى بكر شَيْخَانِ مَا نَصه وَكَانَ بَينه وَبَين السَّيِّد الْعَظِيم الشَّأْن الشريف أَحْمد شَيْخَانِ معاقدات اخوه ومباسطات حلوه وصلات سنيه واشارات معنويه لَا يُحِيط بكهنها الا الْفَرد الصَّمد وَلَا يحط نقابها الا لمعى وان جد تراهما اذا اجْتمعَا يبديان مَا خفى ويتنادمان بالصفا وينتقلان بالمحادثه ويتوغلان بالمباحثه ويمتزجان بالارواح ويزدوجان بالاشباح
(وربى ان حَالهمَا عَجِيب ... وَمن يهواهما فى الْحَال أعجب)
(هما الشَّيْخَانِ فى أهل النهى قد ... أَقَامَا للشباب ربى وملعب)(4/459)
(يخالهما الغبى طفلى رضَاع ... تعاطى للمدام وعشق أشنب)
(وَلَا عجب فَهَذَا شَأْن قوم ... لَهُم والى الْخَبِير بهم وَقرب)
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة نَهَار الْجُمُعَة بعد انْقِضَاء اقامة فَرضهَا لعشر بَقينَ من صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن مغرب لَيْلَة السبت بالحويطة الدُّنْيَا بالمعلاه بجوار اخوانه السَّادة
الشريف هَاشم بن حَازِم بن أَبى نمسى الشريف الْحسنى كَانَ سيدا مقداما مجالسه معمورة بالعلوم يجمع الْفُقَهَاء للمناظرة ولاحياء الْعُلُوم وَكَانَ كثير العطا وَضبط الْبِلَاد الَّتِى كَانَت تَحت يَده وسدد بَين قبائلها وَتَوَلَّى بَيت الْفَقِيه وَمَا والاها من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف الى سنة تسع وَثَلَاثِينَ فَلَمَّا قدم قانصوه باشا الى الْيمن تولى صَاحب التَّرْجَمَة فى هَذِه الْمدَّة اللجب والمحرق ثمَّ نزل صُحْبَة الْحسن فَأَقَامَ على زبيد حَتَّى استولى عَلَيْهَا وتولاها الى بِلَاد مور وَتمكن من الْولَايَة مَا لم يتَمَكَّن غَيره مِنْهَا وجبيت اليه الاموال والجنود وَكَانَت ولَايَته الاخرى تسع سِنِين وأشهرا ثمَّ توفى صَبِيحَة الْجُمُعَة سادس عشرى الْمحرم سنة خمس وَخمسين وَألف بزبيد وَدفن ضحى بتربة الْفَقِيه الولى الشهير أَبى بكر بن على الْحداد الْمُفَسّر شرقى المشهد وَحضر جنَازَته جمع كثير وَمَات قبله فى سادس عشرى ذى الْحجَّة سنة أَربع وَخمسين وَلَده الشريف على فى تريم وَتركُوا من الخزائن وَالْعدَد مَالا يُوصف وَلَا يعد
هبة الله بن عبد الْغفار بن جمال الدّين بن مُحَمَّد المقدسى الحنفى الْمَعْرُوف بِابْن العجمى الْفَاضِل الاديب الْكَامِل كَانَ من لطف الطَّبْع من أَفْرَاد أهل خطته وَمن سَلامَة الطَّبْع مَا أَجَاد أهل جلدته قَرَأَ الْكثير وبرع وكرع من بَحر الْفَضَائِل مَا كرع حَتَّى رَأس بَين اقرانه وعد وَاحِد زَمَانه وَمن مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم وَالِده وَعَلِيهِ تخرج وسافر الى الرّوم وامتزج بِأَهْلِهَا وَولى افتاء الْحَنَفِيَّة بالقدس مَعَ الْمدرسَة العثمانية وَكَانَ يكْتب الْخط الْمَنْسُوب وَله نظم ونثر وَلم أَقف لَهُ على نظم الا على أَبْيَات رَاجع بهَا شرف الدّين العسيى عَن أَبْيَات كتبهَا اليه ملغزا تقدّمت فى تَرْجَمَة شرف الدّين الْمَذْكُور وَبِالْجُمْلَةِ ففضله وكماله غير متنازع فِيهِ وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَتوفى فى رُجُوعه من الرّوم بسعسع فى الْمحرم سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
الهجام بن أَبى بكر بن مُحَمَّد المقبول بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن الهجام بن عمر ابْن(4/460)
أَبى الْقسم خزانَة الاسرار صَاحب القطيع مُصَغرًا ابْن أَبى بكر المعمر بن الْقسم ابْن عمر بن الشَّيْخ على بن عمد الاهدل كَانَ هَذَا السَّيِّد من أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْولَايَة عَلَيْهِ ظَاهِرَة وَكَانَ الْفَقِيه مُحَمَّد بن عمر حشيبر يَقُول السَّيِّد الهجام مشيته تشبه مشْيَة رَسُول الله
يتمايل يَمِينا وَشمَالًا من غير اكتراث وبيتهم مَعْرُوف بِالْفَضْلِ الْعَظِيم والشرف الرفيع وَلَهُم ثروة وجاه وَاسع مَشْهُور بِالْكَرمِ واطعام الطَّعَام للوافدين وَكَانَت وَفَاة الهجام فى جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاثِينَ بعد الالف وَدفن فى زَاوِيَة القطيع فى مقبرتهم هُنَاكَ بالمراوعة وَتوفى وَالِده فى سنة عشرَة والف رَحمَه الله تَعَالَى
هِدَايَة الله بن مُحَمَّد العجمى نزيل دمشق الامير الْجَلِيل الْقدر أحد الرؤساء الْمَشْهُورين بالنباهة وَالْعقل الرصين دخل مَعَ وَالِده حلب وَسكن بهَا مُدَّة ثمَّ هَاجر الى دمشق وقطن بهَا وَجعله مصطفى باشا نَائِب الشَّام اذ ذَاك من آحَاد اجناده ثمَّ سَافر الى مصر ثمَّ الى الرّوم وترقى فى مَرَاتِب الاجناد حَتَّى صَار صنجقا وَأعْطى امارة الْحَاج فَلم يتَصَرَّف فِيهَا وبقى فى أَوَاخِر عمره منعزلا عَن النَّاس وَصَارَ أَوْلَاده الاربعة وهم عُثْمَان وَمُرَاد وَمُحَمّد وَأسد من أَعْيَان كتاب الدِّيوَان وَكَانَ الامير صَاحب الْعلمَاء بِدِمَشْق وَغَيرهَا وَله ولاتباعه فى الخزينة السُّلْطَانِيَّة رزقة وَاسِعَة وَله أَمْوَال هائلة ونعمة طائلة وعاش متنعما كسوبا عَاقِلا وَله حشمة زَائِدَة واحسان الى الْفُقَرَاء وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف عَن سنّ عالية وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
هِلَال المصرى المجذوب الْمُسْتَغْرق ذكره المناوى فى طَبَقَات الاولياء وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ لَا يزَال حَامِلا لمفاتيح كَثِيرَة قَالَ الْوَالِد يعْنى الشَّيْخ زين العابدين المناوى هى مَفَاتِيح كنوز أَرض مصر الَّتِى هى عبارَة عَن الاقوات والزروع وَالثِّمَار والزهور والفواكه والمياه وَالطير وحيوان الْبَحْر والمعدن الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَكَانَ أعْطى حفظهَا دون التَّصَرُّف فِيهَا قَالَ لَقيته مرّة وَقد خاضت نفسى فى الامل فَمشى أمامى وَصَارَ بقول بَعرَة ويكرر ذَلِك لَان الدُّنْيَا جيفة وطالابها كلابها مَاتَ فى أَوَائِل هَذَا الْقرن وَالله أعلم
حرف الْوَاو(4/461)
ولى الْمَعْرُوف بَين النَّاس بشاه ولى العينى الحنفى الخلوتى العَبْد الصَّالح كَانَ فى بداية أمره جنديا من أُمَرَاء الْمقَام العثمانى ثمَّ ترك ذَلِك وَصَحب رجلا صَالحا يُقَال لَهُ الشَّيْخ يَعْقُوب فتربى على يَدَيْهِ وسلك السّير الى الله تَعَالَى ثمَّ مَاتَ الشَّيْخ يَعْقُوب وَلم يحصل للشَّيْخ شاه ولى كَمَال فصحب بعده خَلِيفَته الشَّيْخ أَحْمد ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ أَحْمد كَانَ شاه ولى كَامِلا فى دَرَجَات النَّفس فاستقل بالمشيخة بعده فأرشد ونصح ورتب الاوراد والخلوات وَأخذ العهود وربى ودعا الى الله عز وَجل فَكثر مريدوه واتباعه وهذب نَفسه وأدبها مَعَ الصّلاح وَالْكَرم والعفاف والزهد فى الدُّنْيَا وَكَانَ مثابرا على طَاعَة الله تَعَالَى مُقبلا على النَّصِيحَة مكفوف اللِّسَان سَاكن الْجَوَارِح عفيف النَّفس زكى الاخلاق حسن الْحَال رَاغِبًا فى الْعُزْلَة ملازم الصَّبْر يقْضى أوقاته بِالْمرضِ وَعدم صِحَة المزاج وَلم يزل حَتَّى توفى فى ذى الْقعدَة سنة ثَلَاث عشرَة بعد الالف خرج الى دَار عزه لاجل ادخال مريديه الى الْخلْوَة فَمَرض بهَا بحصر الْبَوْل فجِئ بِهِ الى حلب فبقى نَحْو عشرَة أَيَّام على تِلْكَ الْحَالة ثمَّ توفى وَدفن بِالْقربِ من مقَام ابراهيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام
ولى الدّين بن أَحْمد بن مُحَمَّد ولى الدّين بن أَحْمد الفرفورى الدمشقى الحنفى ولد بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا وَقَرَأَ على بعض مشايخها وَكَانَ فى خدمَة أَخِيه عبد الْوَهَّاب يبيض الاسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتوى وَولى نِيَابَة الْقَضَاء بمحكمة الميدان وَقِسْمَة الْمَوَارِيث والعونية وَكَانَ لَهُ على ذَلِك نهمة شَدِيدَة وَولى قَضَاء الركب الشامى وَكَانَ كثير الْحَرَكَة قَلِيل الْبركَة قلق الْعَيْش دَائِم الطيش
(كريشة فى مهب الرّيح سَاقِطَة ... لَا تَسْتَقِر على حَال من القلق)
كثير التملق كأخيه مشدودة بِهِ فى المكرا واخيه وَلِهَذَا لقبا بالوسواس الخناس واشتهرا بِعَدَمِ الرابطة بَين النَّاس الا ان ولى الدّين فى ذَلِك أشهر كَمَا أَن أَخَاهُ فى طَرِيق المداراة أمهر وَكَانَ ولى الدّين يزِيد بأَشْيَاء ذَاك سَالم الْعرض مِنْهَا بعيد الساحة عَنْهَا وَعلمه وَكَرمه ساتران مِنْهُ كل عيب موجبان لَهُ الْمَدْح فى كل محْضر وغيب وَكَانَت وَفَاة ولى الدّين فى أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بتربتهم لصيق مَزَار الشَّيْخ أرسلان قدس سره الْعَزِيز
(حرف لَام ألف خالى)
(حرف الْيَاء)
يحيى بن أَبى السُّعُود بن يحيى بن الشَّيْخ الْعَلامَة بدر الدّين الشهاوى المصرى(4/462)
الحنفى الامام الْعَلامَة الْفَقِيه الْمُفِيد ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن واشتغل فَأخذ عَن أكَابِر الشُّيُوخ كالشهاب أَحْمد الغنيمى والبرهان اللقانى وَالشَّمْس مُحَمَّد المحبى والشهاب الشوبرى والنور على الحلبى وَغَيرهم مِمَّن يطول ذكرهم وَأَجَازَهُ غَالب شُيُوخه وَكَانَ من اكابر عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة فى زَمَانه خُصُوصا فى معرفَة الْكتب وسعة الِاطِّلَاع وَكَانَت تعرض عَلَيْهِ كتب منخرمة الاوائل لَا يعرفهَا أحد من اقرانه فبمجرد وُقُوفه عَلَيْهَا يعرفهَا بِسُرْعَة من غير تردد وَلَا نظر وَكَانَ فَاضلا صَالحا متواضعا عفيفا شرِيف النَّفس والطبع مجللا عِنْد خَاصَّة النَّاس وعامتهم قَلِيل التَّرَدُّد الى أحد الا فى مهمة وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين تجاه تربة الشَّيْخ أَحْمد الشلبى شَارِح الْكَنْز رَحمَه الله تَعَالَى
يحيى بن أَبى الصَّفَا بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن محَاسِن الدمشقى الحنفى الْفَاضِل الاديب كَانَ أحسن آل بَيته فضلا وكمالا وأبرعهم اسْتِيلَاء على المعارف واشتمالا قَرَأَ وَحصل وَفرع وأصل ونظم فأجاد وأقرأ فَأفَاد وَقد أَخذ جملَة الْعُلُوم من مَنْطُوق وَمَفْهُوم عَن جمَاعَة أَََجَلًا واشياخ ازدان بهم الدَّهْر وتحلى مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وَالشَّيْخ يُوسُف الفتحى وَلما ورد أَبُو الْعَبَّاس المقرى دمشق لزمَه لُزُوم الظل للشبح وَأخذ عَنهُ غرائب الظّرْف وَالْملح وَكنت رَأَيْت بِخَطِّهِ مجموعا ذكر فِيهِ كثيرا من أمالى شَيْخه الْمَذْكُور وبدع فِيهِ بتحف وَصفه الْمَحْمُود المشكور وَولى من الْمدَارِس الْمدرسَة الغزالية ودرس بهَا الْعلم فى بلهنية من الْعَيْش رضية الا انه لم تطل مُدَّة ايامه ففاجأه فى نهنهة الشَّبَاب حمامه وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَرَأَيْت هَذِه الابيات لاديب الدَّهْر أَحْمد بن شاهين كتبهَا على شعر لصَاحب التَّرْجَمَة وقف عَلَيْهِ وهى تشبه أَن تكون رثاء فِيهِ فَذَكرتهَا هُنَا وهى
(رحم الْمُهَيْمِن ناظما ... قدما لهَذَا الشّعْر راوى)
(يحيى الذى قد مَاتَ ... وَهُوَ لمفخر الاحياء حاوى)
(قد كَانَ روح بنى المحاسن وجده لَهُم يساوى ... )
(مدح الديار وَأَهْلهَا ... وَمضى فروض الانس ذاوى)
(نشر الثَّنَاء وانه ... لرداء مَا فى الْعَيْش طاوى)
(يَا رب وسع مرقدا ... هُوَ فى مضيق مِنْهُ ثاوى)
(فنو المحاسن كلهم ... من بعد مشهده مساوى)(4/463)
السَّيِّد يحيى بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشرفى الْيُمْنَى عماد الاسلام والجهبذ الْهمام عَالم الزَّمن وفقيه الْيمن أَخذ عَن كثير من الاشياخ والائمة مِنْهُم الْعَلامَة عبد الحفيظ المهلا وَولده النَّاصِر وَغَيرهمَا من الاكابر وَله مبَاحث واشعار رائقة مِنْهَا ابيات فى تَحْرِيم النتن مطْلعهَا
(الْحَمد لله مولى الْفضل والمنن ... حمدا أكرره فى السِّرّ والعلن)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار من مُضر ... وَآله من هم لِلْخلقِ كالسفن)
(ثمَّ الصَّحَابَة ثمَّ التَّابِعين لَهُم ... من كل مَاض عَن الاحسان لَيْسَ بنى)
(وَبعد أَشْكُو الى الرَّحْمَن خالقنا ... من مُنكرَات بَدَت فى أهل ذَا الزَّمن)
(وَمن مضلات أهواء لَهَا ابتعدوا ... وَأَجْمعُوا أَمرهم فِيهَا على سنَن)
وَمِنْهَا
(وَالله أنزل تَحْرِيم الْخَبَائِث فى ... كِتَابه فاتخذه حجَّة تعن)
وَالْتمس من القاضى حُسَيْن بن النَّاصِر المهلا أَن يُرْسل لَهُ المتحصل من تأليفه الْمَوَاهِب السّنيَّة فَأرْسلهُ اليه وَكتب صحبته ارتجالا
(الى الحضرة العلياء والسؤددة الَّتِى ... أَفَادَ جَمِيع الْعَالمين امامها)
(ومحفل أهل الْعلم والحلم والتقى ... فَحق على هَذَا الانام احترامها)
(ومربع علم الِاجْتِهَاد الذى بِهِ ... ينَال المعالى والامانى كرامها)
(ليحيى الذى يحيا بِهِ الْمجد والعلى ... حَلِيف المعالى فى الهداة نظامها)
(سَلام كنشر الْمسك فى رَوْضَة ربت ... فراقت بهَا أزهار وكمامها)
(وَمن حَضْرَة الاحباب يأتى مقَامه ... فيا حبذا مِنْهَا ليه سلامها)
(وَبعد فأشواق الْمُحب عَظِيمَة ... الى من بِهِ يأتى النُّفُوس مرمها)
(الى من بِهِ يلقى الْهِدَايَة طَالبا ... فَيرجع بِالْفَضْلِ الْعَظِيم همامها)
(الى موقظ الاسلام من سنة الْكرَى ... وَيَا طالما استولى عَلَيْهِ منامها)
(الى غيث أهل الْفضل والغوث للورى ... اذا ضن بالامطار يَوْمًا غمامها)
(غرست بارض الْعلم غرسا وأثمرت ... براهين فالاعداء حَان اخترامها)
(وأعليت للدّين الْمُبين مناره ... فَطلب لارباب الْعُلُوم مقَامهَا)
(فأوليت أهل الْعلم فضلا ونعمة ... يَدُوم على مر الزَّمَان دوامها)
(فمنك قرى أَرْوَاحهم بعلومها ... ومنك قرى الاشباح هام ركامها)
(وأبرزت من تِلْكَ الْعُلُوم دقائقها ... فاحيت نفوسا حِين زَالَ سقامها)(4/464)
(فأروت نفوسا طالما صديت لَهَا ... فَعَاد بِحَمْد الله ريا أوامها)
(طلبت بهَا تِلْكَ الْمَوَاهِب فانثنى ... بأسواقها بَين الْعُلُوم قِيَامهَا)
(فَأَنت لَهَا يَا ذَا الْمَوَاهِب كعبة ... يطيب لَهَا عِنْد الْوُصُول التزامها)
(فأعذب لَهَا من زَمْزَم الْعلم مشربا ... ليحسن مِنْهَا للخليل مقَامهَا)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّرْجَمَة بقوله
(أجونة مسك فضل عَنْهَا ختامها ... وَعقد لآل زانهن نظامها)
(وَروض أريض صَافح الْقطر فاغتدت ... أزاهير يسبى الْقُلُوب ابتسامها)
(أم النّظم وافى من بليغ محبر ... حسان القوافى فى يَدَيْهِ زمامها)
(يحبر مِنْهَا كَيفَ شَاءَ بدائعا ... يحير أَرْبَاب الْعُقُول وشامها)
(ويودعها اسرار كل غَرِيبَة ... من الْعلم عَال فى الْعُلُوم مقَامهَا)
(فيبرز للطالبين قريبَة ... مسهلة اذ كَانَ صعبا مرامها)
(وَذَلِكَ من تثنى الخناصر باسمه ... اذا عددت فى المكرمات كرامها)
(وأوحدهم فى حوز كل فَضِيلَة ... ينافس فِيهَا غير وان همامها)
(وَأما فنون الشّعْر فَهُوَ مجيدها ... وَأما فنون الْعلم فَهُوَ امامها)
(اذا قَالَ عَاد الدّرّ عِنْد مقاله ... حَصى قد علاهُ فى الفلاة رغامها)
(وان أبرز التَّحْقِيق مِنْهُ دقائقا ... من الْعلم حلت فى الصُّدُور فخامها)
(وان أظلمت فى المشكلات عويصة ... جلا صبحها وانجاب عَنهُ ظلامها)
(على المقامات الْحُسَيْن بن نَاصِر ... حميد السجايا القاصرات سهامها)
(قفا اثرهم فِيمَا بنوا من مَكَارِم ... بنى ضعفهم فَاشْتَدَّ ركنا شمامها)
(ووفت معاليه معالى جدوده ... فَكَانَ بهَا من غير نقص تَمامهَا)
(أعالم هَذَا الْعَصْر والمنهل الذى ... موارده عذب كثير زحامها)
(ومفزع طلاب الْعُلُوم فكلهم ... بحبلك فى سبل الرشاد اعتصاهما)
(جمعت فنون الْفضل فانتظمت حلى ... بك ازدان فِي جيد الزَّمَان انتظامها)
(فهناك مَا أولاك رَبك من على ... معال قصارى السؤل مِنْهَا دوامها)
(وأبقاك محروس الجناب لانه ... يزورك مِنْهَا كل حِين سلامها)
وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة بالقويعة بِالتَّصْغِيرِ من أَعمال الشّرف الاعلى لَيْلَة الثلاثا لثلاث عشرَة خلت من ذى الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وعمره نَحْو سبعين(4/465)
سنة ورثاه جمع من الْعلمَاء بالقصائد الطنانه
يحيى بن تقى الدّين بن عبَادَة بن هبة الله الشافعى الحلبى الدمشقى الشهير بالفرضى أحد الْعلمَاء الاجلاء كَانَت الْعُلُوم نصب عينه فقها ونحوا وأدبا وَكَانَ يقْرَأ بمكتب جَامع الدرويشية وَكَانَ رَئِيسا بالهندسة والهيئة والحساب والفرائض ولد بِمَدِينَة سرمين وَقَرَأَ الْقُرْآن بحلب وَلما ميز وَكبر قدم الى دمشق وَقَرَأَ وبرع خُصُوصا فى الْفَرَائِض والحساب حَتَّى فاق فيهمَا على جَمِيع معاصريه واشتغل عَلَيْهِ كثير مِمَّن أدْركهُ وانتفعوا بِهِ وَكَانَ يُبَاشر جَمِيع ظائفه بِنَفسِهِ من غير أَن يُقيم أحدا من تلامذته ليَكُون وَفَاء لما شَرطه أَصْحَابهَا وَله التصانيف الْحَسَنَة مِنْهَا شرح النزهة فى مجلدين ذكر فِيهَا كثيرا من الالغاز وفوائد ضمهَا اليه ثمَّ اخْتَصَرَهُ فى مُجَلد وَاحِد وَشرح الْمِنْهَاج للنووى وَشرح منظومة الجعبرى فى الْفَرَائِض وَكَانَ لَهُ فى الشّعْر والالغاز والاجوبة يَد طولى قَالَ البورينى فى تَرْجَمته زارنى فى منزلى بِدِمَشْق يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من صفر سنة احدى وَعشْرين بعد الالف وأنشدنى من لَفظه هَذِه الابيات
(امولى المعالى والمعارف وَالْمجد ... وَعين العلى كَهْف الورى مُنْتَهى الْقَصْد)
(وَيَا فَاضلا طَال الانام بفضله ... وَقصر عَن معشاره كل ذى جد)
(وَيَا كَامِلا حَاز الْعُلُوم بعزمه ... وأحرز فخرا قد تزايد عَن حد)
(وَلَا سِيمَا فن الْحساب فانه ... أقرّ لَهُ كل من الالف والضد)
(واحرز مِنْهُ غَايَة لَيْسَ مدْركا ... ذراها وَلم يلْحق بهَا قطّ ذُو كد)
(وَهَذَا وَقد وافى الْفَقِير رِسَالَة ... تضمن لغزا ضَاعَ فى حلّه رشدى)
(فها هى يَا ذَا الْعلم فاسمح وَكن لنا ... معينا عَلَيْهَا دمت فى طالع السعد)
(وَلما تجلى الْحبّ فى غيهب الدجى ... وأقلق قلبى بالصدود وبالبعيد)
(وَقَالَ وصالى لَا ينَال لطَالب ... فَقير فجد بِالْمَالِ ان كنت ذَا نقد)
(فأعطيته سدسا وَسبعا وثمنه ... وتسعيه مَعَ عشر وَمَعَ وَاحِد فَرد)
(وأبقيت لى ألفا أعيش بِكَسْبِهِ ... فكم كَانَ هَذَا المَال ان كنت ذَا وجد)
(فَلَا زلت كشاف الغوامض للورى ... ومفتاح كنز المشكلات بِلَا عد)
وَهَذَا جَوَاب اللغز لصَاحب التَّرْجَمَة
(فهاء وياء ثمَّ قَاف رمزتها ... وَأَرْبع آلَاف صِحَاح من الْعد)
(وهاء وكاف ذى كسور كَمَا ترى ... عَلَيْك بهَا فَافْهَم وَكن حَافظ الود)(4/466)
(مخارجها جِيم وياء وخاؤها ... مقامات كسر من لدن قسْمَة الْعد)
(هى المَال قطعا لَا خلاف بِوَضْعِهِ ... فسدد مقالى يَا أَخا الْفضل وَالْمجد)
(وَقد أَخذ المحبوب ماقد جمعته ... وَأبقى لنا ألفا على الْقرب والبعد)
(فدونك شكلا مِنْهُمَا مَا رمزته ... على طرق الْحساب يَا كَامِل السعد)
(وناظمه عبد حقير وَذَا اسْمه ... كَمَا قيل دم يحيى مَعَ الشُّكْر وَالْحَمْد)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سنة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير من قرب بِلَال الحبشى
يحيى بن زَكَرِيَّا بن بيرام شيخ الاسلام واوحد عُلَمَاء الرّوم بِاتِّفَاق الاعلام ذكره والدى رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ فى حَقه سُلْطَان عُلَمَاء الْمغرب والمشرق ومطلع كَوْكَب أفق السَّعَادَة الْمشرق شيخ الْكل فى الْكل من الدق والجل وَاحِد الزَّمَان وثانى النُّعْمَان من بمكارم الاخلاق فى الْآفَاق مَوْصُوف وفى تعداد افراد النَّوْع الانسانى وَاحِد يعدل أُلُوف كَبِير المملكة السُّلْطَانِيَّة دون مُنَازع بركَة الدولة العثمانية من غير مدافع عُمْدَة الْمُلُوك مرشد اهل الطَّرِيق والسلوك بَحر المعارف بدر اللطائف صَاحب الْكَلم النوابغ من ثوب انعامه على الانام سابغ الذى ألقيت اليه أزمة السّلم واحتوى على جَوَامِع الْعلم وبدائع الحكم محط رحال الآمال وكعبة أَرْبَاب الْكَمَال من لم تسمح بِمثلِهِ الادوار وَلم يَأْتِ بنده الْفلك الدوار يُقَال فِيهِ
(هَيْهَات لَا يأتى الزَّمَان بِمثلِهِ ... ان الزَّمَان بِمثلِهِ لبخيل)
ولد بقسطنطينية وَنَشَأ بهَا واجتهد فى التَّحْصِيل على عُلَمَاء عصره حَتَّى برع وتفوق ثمَّ لَازم من شيخ الاسلام السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول كَمَا أَن وَالِده لَازم من وَالِد السَّيِّد الْمَذْكُور ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية وَحج فى خدمَة وَالِده سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ وَالِده اذ ذَاك مُنْفَصِلا عَن قَضَاء الْعَسْكَر باناطولى وَلما رَجَعَ ترقى فى الْمدَارِس الى ان وصل الى احدى الثمان وَمَات أَبوهُ وَهُوَ مدرس بهَا ثمَّ درس بمدرسة الشهرزاده وَنقل مِنْهَا الى مدرسة وَالِدَة السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث باسكدار وَكَانَ لَهَا شَأْن عَظِيم فى حَيَاة بانيتها فَأعْطى مِنْهَا قَضَاء حلب وَكَانَت أول مناصبه وَكَذَلِكَ وَقع لوالده فَدَخلَهَا فى سنة أَربع بعد الالف خلفا عَن الْمولى الْكَمَال ابْن طاشكبرى ثمَّ بعد مُدَّة قَليلَة وَقع بَينهمَا مُبَادلَة فَنقل صَاحب التَّرْجَمَة الى قَضَاء دمشق(4/467)
والكمال الى قَضَاء حلب وَقيل فى تَارِيخ تَوليته لَهَا
(لما أحيى شرع الهادى ... قَاض عَنهُ شاع الْعدْل)
(يحيى الْمولى السامى قَالُوا ... حَقًا أرخ قَاض عدل)
وَكَانَت سيرته فى هذَيْن القضاءين من أحسن سيرة لقاض ثمَّ عزل وَتوجه من دمشق الى معرة النُّعْمَان قَاصِدا دَار الْخلَافَة وَكَانَ خرج من دمشق وَعَلِيهِ دين سَابق لم يقدر على وفائه وَكَانَ قصد ان يمر على حلب ويستدين من بعض أَهلهَا مبلغا يُوفى بِهِ مِمَّا عَلَيْهِ وَاتفقَ ان كتخداه دخل عَلَيْهِ وشكى من المضايقة فَلم يستتم الْكَلَام الا وَدخل عَلَيْهِم قَاصد من طرف الدولة وَمَعَهُ أَمر بتوجيه قَضَاء مصر الى صَاحب التَّرْجَمَة فسر بذلك وَعَاد مبلغ المُرَاد وَسَار اليها وسلك مسلكه الْمُعْتَاد ة وَنقل انه كَانَ فى خدمته أحد عشر نَائِبا من ملازمى وَالِده وَمن طلبته فاتفق أَنه ولى مِنْهُ سنة قَضَاء مصر بعد مُدَّة وعزل عَن قَضَاء مصر فَأعْطى كلا مِنْهُم مبلغا من الدَّرَاهِم من مَاله زِيَادَة على مَا حصل لَهُم من الِانْتِفَاع فى أَيَّام قَضَائِهِ وَكَانَ ابْن أُخْته اسماعيل الذى صَار آخر أمره أحد صناجق مصر فى خدمته وَكَانَ وَجه اليه نِيَابَة المحاسبات فَبَلغهُ انه أَخذ من بعض النظار عشرَة سلطانية من غير وَجه فناداه اليه وَهُوَ فى دَاخل الْحمام وَقَالَ لَهُ بلغنى انك أخذت من فلَان كَذَا فاعترف فَقَالَ لَهُ اذن ترحل عَنى الى الرّوم وَالْيَوْم سفينة فلَان متجهزة فَلَا تتخلف عَنْهَا فأقلع من وقته وَلما عزل أَقَامَ ببولاق بعض أَيَّام عِنْد القاضى زين الدّين العبادى كَاتب المحاسبات بأوقاف مصر وَكَانَ العبادى الْمَذْكُور من الرياسة وَالنعْمَة بمَكَان لَكِن حصل مِنْهُ تَقْصِير فى خدمته وَاتفقَ انه شكى اليه كَثْرَة الناموس وَطلب مِنْهُ ناموسية فتهاون فى ارسالها اليه فَبعث صَاحب التَّرْجَمَة الى محافظ مصر يَسْتَأْذِنهُ فى الذّهاب بحرا فَلَمَّا وصل رَسُوله الى المحافظ وَعرض عَلَيْهِ أَجَابَهُ بِأَن يتربص أَيَّامًا فَقَامَ الرَّسُول ليذْهب واذا ببريد قدم من قسطنيطينية وَمَعَهُ أَمر بتقرير صَاحب التَّرْجَمَة فى قَضَاء مصر فَعَاد الرَّسُول مسرعا وَأخْبرهُ ثمَّ أرسل الْوَزير الامر فَدخل الزين العبادى مهنيا وَأظْهر كَمَال الريا وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة حقد عَلَيْهِ جدا فَأخْرج فى الْحَال عَنهُ جَمِيع مَا فى يَده من جِهَات ومعاليم ووجهها الى فُقَرَاء الازهر وَكَانَت اشياء كَثِيرَة مَعَ عدم احْتِيَاجه اليها لكَونه فى غنية زَائِدَة وعزله عَن كِتَابَة المحاسبات وبقى مقهورا مُدَّة أَيَّام ثمَّ مَاتَ من قهره ثمَّ عزل وَسَار الى قسطنطينية بعد مُدَّة صَار قَاضِيا ببروسة ثمَّ ولى قَضَاء(4/468)
أدرنه ثمَّ قَضَاء قسطنطينة ثمَّ صَار قاضى الْعَسْكَر باناطولى مُدَّة يسيرَة وَنقل الى روم ايلى ثمَّ عزل وأعيد مرّة ثَانِيَة سنة ثَمَان عشرَة وَقيل فى تَارِيخه فضل حق وَوَقع فى أَيَّام قَضَائِهِ ان درويش باشا الْوَزير الاعظم أَمر بقتل رجل فى الدِّيوَان فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة مَا الذى أوجب قَتله فَقَالَ لَهُ أَنْت مَالك علاقَة بِهَذَا فَقَامَ من الدِّيوَان وَترك منصب قَضَاء الْعَسْكَر فَلَمَّا سمع السُّلْطَان أَحْمد بذلك بعث اليه يستخير مِنْهُ عَن قَضِيَّة تَركه فَأَجَابَهُ بقوله ان الْقَضَاء أَمَانَة وَالسُّلْطَان انما يُولى قَضَاء الْعَسْكَر لسَمَاع الدَّعَاوَى وانصاف الظَّالِم من الْمَظْلُوم والآن قد قتل رجل من غير ان يُوجب الشَّرْع قَتله فَلم يُوجد اتصاف بِمَا ولينا لاجله الْقَضَاء فتركنا المنصب لذَلِك ففى ذَلِك الْيَوْم قتل السُّلْطَان أَحْمد درويش باشا الْمَذْكُور وَحصل لصَاحب التَّرْجَمَة غَايَة الاقبال من السُّلْطَان وعزل بعد مُدَّة وأعيد ثَالِثا ثمَّ ولى الافتاء السلطانى فى يَوْم جُلُوس السُّلْطَان مصطفى وَهُوَ الْيَوْم السَّادِس من رَجَب سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف وَقَالَ الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن العمادى مؤرخا تَوليته بقوله
(لقد صَار مفتى الرّوم يحيى الذى سما ... سناء سَمَاء الْمجد وَالْعلم وَالتَّقوى)
(فَنَادَى بشير السعد فِيهَا مؤرخا ... لمولاى يحيى منصب الْعلم وَالْفَتْوَى)
وَكَانَ أول سُؤال كتب اليه اول وَاجِب على الْمُكَلف مَا هُوَ فَأجَاب هُوَ معرفَة الله تَعَالَى فَاعْلَم انه لَا اله الا الله وَبنى فى تَوليته هَذِه مدرسته الْمَعْرُوفَة قَرِيبا من دَاره بمحلة جَامع السُّلْطَان سليم الْقَدِيم وأرخ عَام تَمامهَا الاديب مُحَمَّد الحتاتى المصرى بقوله
(مفتى البرايا بنى لله مدرسة ... لَهَا من الانس أنوار تغشها)
(على الْهدى أست واليمن أرخها ... دَار الْعُلُوم فيحيى الْعدْل منشها)
ثمَّ عزل وأعيد ثَانِيًا وَكَانَ أول سُؤال رفع اليه الْمُؤمن اذا أَرَادَ الشُّرُوع فى أَمر ذى بَال بِمَاذَا يبْدَأ حَتَّى يكون مَا شرع فِيهِ مُبَارَكًا فَأجَاب يبْدَأ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ عزل ثَانِيًا فى رَجَب سنة احدى وَأَرْبَعين فى حَرَكَة الْعَسْكَر بمخامرة الْوَزير رَجَب باشا وَشَيخ الاسلام حُسَيْن ابْن اخى وجمعوا جمعا عَظِيما عِنْد السُّلْطَان مُرَاد وَأَرْسلُوا الى صَاحب التَّرْجَمَة رَسُولا يطلبونه الى الدِّيوَان على لِسَان السُّلْطَان وَكَانُوا صمموا على قَتله فى الطَّرِيق اذا جَاءَ حَتَّى انهم رأوى الْمولى مُحَمَّد الشهير بجشمى قاضى الْعَسْكَر باناطولى وَهُوَ مُتَوَجّه فظنوه هُوَ وَمَا حققوه بِعَيْنِه فَلَمَّا عرفوه أطْلقُوا سَبيله فَأرْسل الى(4/469)
صَاحب التَّرْجَمَة رَسُولا يحذرهُ الْحُضُور من الطَّرِيق الْعَام فَسَار من طَرِيق آخر فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان عرف انها مكيدة فَأَشَارَ اليه بِالْعودِ بِيَدِهِ فَلم يُمكنهُ ذَلِك فَأرْسل اليه السُّلْطَان رَسُولا وَأَخذه الى الدَّاخِل ثمَّ ان الْعَسْكَر قتلوا الْحَافِظ الْوَزير الاعظم ونصبوا رَجَب باشا مَكَانَهُ وَجعلُوا ابْن أخى مفتيا وخمدت الْفِتْنَة ثمَّ ان السُّلْطَان الْتفت الى صَاحب التَّرْجَمَة وَقَالَ لَهُ قد عزلك الْقَوْم وَأَنا مَا عزلتك فسر الى حديقتك واشتغل لنا بِالدُّعَاءِ واذا صَار سلطانك سُلْطَانا كَمَا كَانَ صرت مفتيا كَمَا كنت ثمَّ فَارقه فَسَار الى دَاره ثمَّ توجه الى بستانه الْمَعْرُوف بِهِ بطوب قبوسى من أَبْوَاب قسطنطينية وبقى ثمَّة الى أَن قتل ابْن أخى فى رَجَب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فأعيد وبقى فى هَذِه الْمرة الى ان مَاتَ وَلم يتَّفق لَاحَدَّ من الْمُفْتِينَ مَا اتّفق لَهُ من طول الْمدَّة والاقبال وَالْحُرْمَة وَالْجَلالَة وَلم يمدح أحد بِمَا مدح بِهِ من مشاهير الشُّعَرَاء ومدائحه الَّتِى جمعهَا التقى الفارسكورى وَقد تقدم ذكر خَبَرهَا فى تَرْجَمَة من ابْتِدَاء تَوليته قَضَاء حلب الى ان ولى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى وَمَا بعد ذَلِك فقد تكفل والدى بِجمع حِصَّة مِنْهَا بلغت مِقْدَار ثَلَاثَة كراريس وهى قَطْرَة من بَحر ورزق السَّعَادَة فى الجاه والحفدة بِحَيْثُ صَار أحد ملازميه وَهُوَ الْمولى عبد الله بن عمر خواجه زَاده قاضى الْعَسْكَر بروم ايلى وَولى الافتاء من جماعته ثَلَاثَة وهم مصطفى البولوى وَمُحَمّد البورسوى وَمُحَمّد الانقروى وَأما من ولى مِنْهُم قَضَاء العسكرين وَغَيرهمَا من المناصب والمدارس وَالْقَضَاء من أهل الرّوم ودمشق وحلب وَغَيرهَا فَلَا يُحصونَ كَثْرَة وَأَكْثَرهم شاعت فضائلهم وعمت فواضلهم وَبِالْجُمْلَةِ فانه أستاذ الاساتذة وَأعظم الصُّدُور الجهابذة وَقد جمع شيخ الاسلام مُحَمَّد البورسوى فَتَاوِيهِ الَّتِى وَقعت فى عَهده فى كتاب سَمَّاهُ فَتَاوَى يحيى وَهُوَ الْآن مَشْهُور متداول وَأما شعره العربى فَمِنْهُ تخميس الْبردَة للبوصيرى يَقُول فى مستهله
(لما رَأَيْتُك تذرى كالغنم ... غرقت فى لجج الاحزان والالم)
(فَقل وسر الْهوى لَا تخش من نَدم ... أَمن تذكر حيران بذى سلم)
(مزجت دمعا جرى من مقلة بِدَم ... )
(تمسى بِعَين بوبل الدمع ساجمة ... ونار وجد بجوف الْقلب ضارمة)
(فَهَل بريد أَتَى من حى فَاطِمَة ... أم هبت الرّيح من تِلْقَاء كاظمة)
(وأومض الْبَرْق فى الظلماء من اضم ... )(4/470)
(مَتى السلو لاهل الْعِشْق عَنهُ مَتى ... وَحب حب سليمى فى الحشا بِنَا)
(ان تنكر الوجد عندى بعد مَا ثبتا ... فَمَا لعينيك ان قلت اكففا همتا)
(وَمَا لقلبك ان قلت استفق يهم ... )
(تُرِيدُ تخفى الْهوى والدمع منسجم ... وفى حشاك لظى الاشواق مضطرم)
(هَيْهَات كاتم سر الْعِشْق منعدم ... أيحسب الصب أَن الْحبّ منكتم)
(مَا بَين منسجم مِنْهُ ومضطرم ... )
(تَقول قلبى سلا عَن أعين نجل ... وتدعى السحو والسلوان عَن مقل)
(انى أَخَاف وَحقّ الود من وغل ... لَوْلَا الْهوى لم ترق دمعا على طلل)
(وَلَا أرقت لذكر البان وَالْعلم ... )
مِنْهَا
(اذا وجدت امْرأ بِاللَّه معتصما ... اسْمَع ماقلته مسترشدا فهما)
(وَكن لصحبة العلياء مغتنما ... وَخَالف النَّفس والشيطان واعصهما)
(وان هما محضاك النصح فاتهم ... )
(حكمت نَفسك والشيطان فاحتكما ... يَا قلب وَيحك مَاذَا الْخبط وَيحك مَا)
(لَا تقبلن مِنْهُمَا حكما وان حكما ... وَلَا تُطِع مِنْهُمَا خصما وَلَا حكما ... فَأَنت تعرف كيدا الْخصم وَالْحكم)
وَمن لطائف شعره أَيْضا
(ورد النسيم بأطيب الاخبار ... طَابَ الْوُرُود وَسَائِر الازهار)
(سَكِرُوا بِخَمْر الشوق حَتَّى أظهرُوا ... مَا فى ضمائرهم من الاسرار)
(فى جمعهم لم تلق الا ماسكا ... قدحا من الابريز والبلار)
(والحوض فِيهِ مجَالِس ملكية ... والورد كالسلطان فى الانوار)
(لعب الشُّمُول بهم فحركهم كَمَا ... لعب الشمور بزمرة الشطار)
وَقَوله هوه // معنى جيد //
(كَانَ ورد خَدّه عقار ... شربتها حَتَّى بدا البلار)
والبلار لُغَة فى البلور رَأَيْته فى اسْتِعْمَال المولدين مِنْهُم المعتمدين بن عباد على مَا ذكره الْفَتْح فى قلائد العقيان
(جاءتك لَيْلًا فى ثِيَاب نَهَار ... من نورها وغلالة البلار)
وَالشرب فى بَيته كِتَابَة عَن التقبل زَالَت بِهِ الْحمرَة فَبَدَا الْبيَاض وَمن لطائفه)(4/471)
أَيْضا قَوْله
(بحلة حَمْرَاء جَاءَ وَقد ... تفوح بالعنبر أذيالها)
(حليتها الْعَسَل وياقوتة ... صبغ من العسجد خلْخَالهَا)
وَمن انشائه الباهر مَا كتبه على كتاب فى الطِّبّ اسْمه مغتى الشفا ياله من رَوْضَة شحاريرها أَقْلَام المادحين من التحارير وألحان سواجعها مَا سمع لَدَى التَّحْرِير من الصرير غصونها أورقت وَلَكِن بصحائف كانها مَمْلُوءَة باللطائف أطباق وأثمرت وَالْعجب ان منابت ثمارها بطُون الاوراق من وقف عَلَيْهَا وَتوقف فِيمَا قلته من الْوَصْف العارى عَن المراء فَلَا شكّ انه مبتلى بداء التّرْك وَلَيْسَ لَهُ دَوَاء وَلما أجلت نظرى فى ربوة حسنها وبهجتها ونشقت شذار رياحينها وشممت عرف نفحتها وعاينت مجَالِس أُنْسُهَا وقضيت مِنْهَا الْعجب وحرك منى سطور طروسها مَا يحدثه القانون من الطَّرب تَوَجَّهت بِمَجَامِع قلبى اليها وَقلت موثرا موجز القَوْل فى الثَّنَاء عَلَيْهَا هَذِه الابيات وفى قولى
(يَا رَوْضَة فى رباها ... دوح غَدا سجع طيره)
(مغنى الشِّفَاء ومغن ... عَن الشِّفَاء وَغَيره)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَدفن عِنْد وَالِده بمدرسته الْمَعْرُوفَة بِهِ وَقَالَ الْمولى مُحَمَّد عصمتى مؤرخا وَفَاته بقوله
(مفتى الورى يحيى بِهِ ... سما العلى وحية)
(لما مضى موليا ... عَن هَذِه الدنية)
(سَمِعت من جهزه ... بِأَحْسَن التَّحِيَّة)
(يَقُول تَارِيخا لَهُ ... فى جنَّة علية)
يحيى بن زَكَرِيَّا المعصرانى من أَوْلَاد نامر القدسى كَانَ فَقِيها نحويا يقرى بالخلوة النحوية بِطرف سطح الصَّخْرَة القبلى حكى بعض طلبته انه كَانَ يدرس فى الْجَامِع الصَّغِير فى آخر أمره بَين الْمغرب وَالْعشَاء فَكَانَ آخر عَهده أَنه وقف على حَدِيث من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت اللَّهُمَّ لَا عَيْش الا عَيْش الْآخِرَة وَصلى الْعشَاء بقوله تَعَالَى كل شئ هَالك الا وَجهه وَكَانَ آخر عَهده من دُخُول الْمَسْجِد وَأوصى بِجَمِيعِ كتبه الى طلبته وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف
يحيى بن عبد الْملك بن جمال الدّين بن صدر الدّين بن عِصَام الدّين الاسفراينى(4/472)
الاصل المكى المولد الْفَاضِل الاديب الشَّاعِر ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه أديب منفسح الخطا وأريب مَأْمُون العثار والخطا لَهُ فى الادب الْمقَام الْمَحْمُود والطبع الذى مَا شان سلسال قريحته جمود وَقد وقفت لَهُ على تأليف سَمَّاهُ أنموذج النجباء من معاشرة الادباء تكلم فِيهِ شارحا قَول الْقَائِل
(حاشا شمائلك اللطيفة أَن ترى ... عونا على مَعَ الزَّمَان القاسى)
غير انه لم يعرف قَائِله فَقَالَ ولعمرى انه وان جهل بانيه فَهُوَ من الْبيُوت الَّتِى أذن الله أَن تسكن فَمَا اللَّفْظ الا بمعانيه وان كَانَ قَائِله ألكن ثمَّ قَالَ وَهَذَا الْبَيْت مِمَّا يكثر الاستشهاد بِهِ أهل الْآدَاب فى محاضرة الاصدقاء والاحباب وَهُوَ من أَرْبَعَة أَبْيَات معمرة بلطيف العتاب مبرورة بِصدق الْمنطق واقتضاء الصَّوَاب محاسنها غرر فى أجياد القصائد والمعانى البديعة بهَا صلَة ومفرداتها عَائِد تشرق شموس التَّهْذِيب فى سَمَاء بلاغتها وترشف الاسماع على الطَّرب من ريق سلافتها فَمَا أحقها بقول الْقَائِل
(أَبْيَات شعر كالقصور وَلَا قُصُور بهَا يَلِيق ... )
(وَمن الْعَجَائِب لَفظهَا ... حر وَمَعْنَاهُ رَقِيق)
وهى
(انى لاعجب من صدودك والجفا ... من بعد ذَاك الْقرب والايناس)
(حاشا شمائلك اللطيفة ان ترى ... عونا على مَعَ الزَّمَان القاسى)
(أَو ثغرك الصافى يرد حشاشة ... تَشْكُو لهيبا من لظى انفاسى)
(تالله مَا هَذَا فعالك فى الْهوى ... لَكِن حظوظ قسمت فى النَّاس)
انْتهى كَلَامه قلت وَقد وقفت انا على مَجْمُوعَة قديمَة بِخَط ابى البقا الوفائى الوداعى الحنفى يَقُول فِيهِ القاضى عَلَاء الدّين على بن فضل الله أَبُو الْحسن صَاحب ديوَان الانشاء أَخُو القاضى شهَاب الدّين أَحْمد الْعُمْرَى وقف على بَيْتَيْنِ للصلاح الصفدى وهما
(انى لاعجب من صدودك والجفا ... من بعد ذَاك الْقرب والايناس)
(حاشا شمائلك ... )
الخ فَقَالَ مجيزا لَهما أَو
(ثغرك الصافى يرد حشاشة ... )
الخ انْتهى فَعلم من هَذَا ان الْبَيْت الذى شَرحه للصلاح الصفدى وَقَوله انه من أَرْبَعَة أَبْيَات لَيْسَ بصواب لايهامه ان الاربعة قَائِلهَا وَاحِد وَقد علمت انها الشاعرين وَمن شعر الاديب الْمَذْكُور وَقَوله موجها باسماء الانغام فِيمَن اسْمه حُسَيْن وَقد ورد الْمَدِينَة من مَكَّة فَقَالَ(4/473)
(أَقُول لمعشر العشاق لما ... بدا ركب الْحجاز وقرعينى)
(أمنتم من نوى المحبوب فَاسْعَوْا ... لَهُ رملا وغنوا فى حسينى)
وَمَا ألطف قَول مُحَمَّد بن جَابر الاندلسى فى مثل ذَلِك
(يَا أَيهَا الحادى اسقنى كاس السرى ... نَحْو الحبيب ومهجتى للساق)
(حى الْعرَاق على النَّوَى واحمل الى ... أهل الْحجاز رسائل العشاق)
وَله
(رأى سقم الكئيب فمل عَنهُ ... سقيم الجفن ذُو حسن بديع)
(فَقلت لَهُ فدتك الرّوح هلا ... مُرَاعَاة النظير من البديع)
وَله
(قَالُوا أضافك يَا يحيى لخدمته ... حبيب قَلْبك فى سر وفى علن)
(فَقلت لما رآنى غير منصرف ... عَن حبه رام كسْرَى فَهُوَ يجبرنى)
وَقَوله
(ان الدَّرَاهِم مرهم ... قد جَاءَ فى تصحيفها)
(فدع التطير قَائِلا ... الْهم بعض حروفها)
كَأَنَّهُ يُشِير الى قَول الْقَائِل
(النَّار آخر دِينَار نطقت بِهِ ... والهم آخر هَذَا الدِّرْهَم الجارى)
(والمرء مَا دَامَ مشغوفا بحبهما ... معذب الْقلب بَين الْهم وَالنَّار)
وَقَوله وَقد أهْدى نبقا وفلا
(أهديت نبقا لنبقى فى الوداد على ... صدق الوداد وارغام العدا أبدا)
(وَمَعَهُ يَا سيدى فل يبشركم ... بانه فل من يشناكم كمدا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ فى شهر ربيع الاول سنة أَربع وَسبعين وَألف وَدفن على وَالِده بالقيع
يحيى بن على بن نصوح الْمَعْرُوف بنوعى وَالِد عطائى صَاحب ذيل الشقائق الْفَاضِل الاديب الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ عَالما محققا أجيبا باهرا وَهُوَ من حَيْثُ لطافة الشّعْر عِنْد الروميين مَعَ باقى شَاعِرهمْ فرسا رهان وَفرقُوا بَينهمَا فى التَّرْجِيح بِأَن باقى فى القصائد أرجح كَمَا ان نوعى فى الاغزال أرجح مولده بقصبة طغرة من بِلَاد الرّوم ثمَّ قدم الى قسطنطينية وابتدأ بالاشتغال فى سنة سبع وخمسي فَأخذ عَن الْمولى أَحْمد الشهير بِابْن القرمانى ثمَّ اتَّصل بأَخيه الْمولى مُحَمَّد وَهُوَ مدرس الصحن وَقد اجْتمع عِنْد فى ذَلِك الْعَهْد من أَرْبَاب المعارف والكمالات مَا لم يجْتَمع عِنْد أحد قبله من جُمْلَتهمْ الْمولى سعد الدّين وباقى الشَّاعِر ورمزى زَاده وخسرو زَاده وَمن(4/474)
الْقُضَاة الهى الاسكوبى ومحيى القرمانى ومجدى وجورى وحامى زَاده ولازم من قاضى زارده الرومى ودرس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى احدى الثمان فى ذى الْقعدَة من سنة خمس وَتِسْعين ثمَّ ولى مِنْهَا قَضَاء بَغْدَاد فى ثانى وعشرى شهر ربيع الاول سنة ثَمَان وَتِسْعين فى ثامن شهر ربيع الآخر من هَذِه السّنة عين لتعليم السُّلْطَان مصطفى ابْن السُّلْطَان مُرَاد ثمَّ سلم اليه من أَوْلَاد السُّلْطَان الْمَذْكُور من فِيهِ قابلية الْقِرَاءَة مِنْهُم السُّلْطَان بايزيد وَالسُّلْطَان عُثْمَان وَالسُّلْطَان عبد الله ونال بِسَبَب ذَلِك كَمَال التَّقْرِيب الى السُّلْطَان مُرَاد وحظى حظوة عَظِيمَة وَاسْتمرّ الى أَن ولى الْخلَافَة السُّلْطَان مُحَمَّد بعد موت أَبِيه السُّلْطَان مُرَاد وَقتل اخوته الْمَذْكُورين فأبقيت فى يَده الادرارات من المشاهرة واليومية وَغَيرهمَا وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر وَعين لَهُ عشرَة من الملازمين ثمَّ أضيف اليه بعد ذَلِك مدرسة حموه مُحَمَّد بيك بِخَمْسِينَ عثمانيا وتفرغ للافادة والتأليف وَمن تآليفه الفائقة متن فى علم الْكَلَام سَمَّاهُ مُحَصل الْكَلَام وَله شرح الرسَالَة القدسية لشمس الدّين الفنارى وَتَفْسِير سُورَة الْملك وحاشية على التهافت للخواجه زَاده وحاشية على هياكل النُّور وتعليقه على أَوَائِل المواقف وتعليقات على التَّلْوِيح وَالْهِدَايَة والمفتاح وَله ثَلَاثُونَ رِسَالَة فى فنون مُتَفَرِّقَة مِنْهَا رِسَالَة فى الْكَلَام النفسى ورسالة قلمية وَمن آثاره التركية تَرْجَمَة فصوص الحكم أَلفه باسم السُّلْطَان مُرَاد وَكتاب سَمَّاهُ نتائج الْفُنُون ذكر فِيهِ اثنى عشر فَنًّا وترجمة العقائد ورسالة منطق نواى عشاق وَشرح دوبيت المثنوى وترجمة قصَّة الْخضر ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وترجمة منشآت خواجهة جهان وَله ديوَان منشآت وَتَحْقِيق مسئلة الايجاب وَالِاخْتِيَار وديوان شعر وَله رِسَالَة منظومة سَمَّاهَا حسب حَال ومناطرة طوطى وزاغ ومثنوى من بَحر ليلى وَمَجْنُون ليلى وَمَجْنُون وَمَا عدا ذَلِك مِمَّا أَلفه بِأَمْر السُّلْطَان مُرَاد وَضَبطه خَارج عَن الطوق وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى يَوْم الاربعاء آخر يَوْم من ذى الْقعدَة سنة سبع بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ صبح يَوْم الْخَمِيس بِجَامِع السُّلْطَان مَحْمُود وَدفن بِجَامِع الشَّيْخ وفا رَحمَه الله
الامير يحيى بن على باشا الاحسائى المدنى الحنفى الامير الخطير والسرى الْكَبِير الذى حوى من الْفضل أجمعه وَمن الْكَمَال أعذبه وأبدعه ولد بِمَدِينَة الاحساء وَبهَا نَشأ فى حجر وَالِده وتأدب بأكابر عُلَمَاء بَلَده وَأخذ عَن الْعَلامَة ابراهيم بن حسن(4/475)
الاحسائى الْفِقْه والْحَدِيث وعلوم الْعَرَبيَّة وَأَجَازَهُ بمروياته وَجَمِيع مؤلفاته وتلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة وصافح من طَرِيق المعمر ابْن الشَّيْخ تَاج الدّين الهندى النقشبندى قدس سره عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الشهير بمحاجى رمزى قَالَ صافحنى الشَّيْخ حَافظ على الاوبهى قَالَ صافحنى الشَّيْخَانِ مَحْمُود الاسفرازى وَالسَّيِّد مير على الهمدانى قَالَ صافحنى أَبُو سعيد الحبشى المعمر قَالَ صافحنى النَّبِي
وللامير يحيى المدكور أشعار وَمِنْهَا قَوْله يمدح النبى
(أَتُرِيدُ جارا حاميا لَك سيدا ... ومقام عز عَالِيا مستفردا)
(وترود شرقا للبلاد ومغربا ... متفكرا متحيرا مترددا)
(وتروم ذَا وَالْحَال مِنْك مقصر ... عَمَّا ترى وَالْفِعْل لَيْسَ مُسَددًا)
(فَعَلَيْك ان ترد النجَاة وتبتغى ... خوف الْعقَاب تِلَاوَة والمسجدا)
(وَانْزِلْ بدار الْمُصْطَفى متأوبا ... ولجوده مستمطرا متقصدا)
(واعرف لفيض الْفضل مِنْهُ موسما ... فِيهَا وَكن مترقبا مترصدا)
(فَلَعَلَّ أَن تحيا كَمَا أَحْيَا بِهِ ... للدّين رسما قد عَفا وتهددا)
(فاجهد تكن جارا لَهُ ودخيله ... وابذل لذى روحا ومالا مجهدا)
وَقَوله
(ظلمت نفسى وَلم أعمل بموجبها ... وَمَا علمت بِأَن الغى يتلفنى ... )
(يقْضى على الْمَرْء فى أَيَّام محنته ... حَتَّى يرى حسنا مَا لَيْسَ بالْحسنِ)
وَكَانَ وَالِده على باشا واليا على الاحساء والامير يحيى هَذَا أَمِيرا على الْعَطف بأَمْره فَأرْسل وَالِده أكبر أَوْلَاده مُحَمَّدًا بهدية الى ملك الرّوم على عَادَتهم فزور كتابا من وَالِده مضمونه انه كبر وَالْتمس من السُّلْطَان أَن يُقيم وَلَده مُحَمَّدًا بمرسوم وَأجِيب الى ذَلِك وَلما وصل الى الاحساء رشى أكَابِر الْعَسْكَر وأعلمهم بالامر وتلقاه وَالِده واخوته فَلَمَّا اجْتَمعُوا أخرج المرسوم وَتَوَلَّى وَأَرَادَ حبس وَالِده واخوته فطلبوا أَن يجهزهم الى الْحَرَمَيْنِ ويعين لَهُم مصروفا وجاوروا بِالْمَدِينَةِ وَتوفى والدهم بهَا وَتوفى وَلَده أَبُو بكر يَوْم عَرَفَة وَتوفى الامير يحيى رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة خمس وَتِسْعين وَألف بِالْمَدِينَةِ عَن نَحْو خمس وَسبعين سنة رَحمَه الله
السَّيِّد يحيى بن عمر الشهير بِابْن عَسْكَر الحموى الشافعى كَانَ من الافاضل الْبَالِغين رُتْبَة التفرد الصارفين الى التَّحْصِيل عَزمَة الهمة والتجرد قَرَأَ بحماه على عُلَمَاء زَمَانه وبرع الى ان فاق على جَمِيع اقرانه ثمَّ دخل الرّوم مرَارًا عديدة وَأقَام بهَا مُدَّة(4/476)
مديدة وَأعْطى فى بعض المرات الْمدرسَة القيمرية بِدِمَشْق فوردها وقطن بهَا ودرس وَأفَاد وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء ثمَّ ارتحل الى بَلَده فَمَاتَ بهَا وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة سبعين وَألف وَقد تقدم ذكر وَلَده أَحْمد
يحيى بن عمر المنقارى الرومى شيخ الاسلام وعلامة الْعلمَاء الاعلام صَاحب التَّقْرِير والتحرير الراقى بعلو جده رُتْبَة الْفلك الاثير أَخذ بالروم فنون الْعلم عَن أكَابِر علمائها مِنْهُم شيخ الاسلام عبد الرَّحِيم الْمُفْتى وَتمكن من التَّحْقِيق كل التَّمَكُّن وأحرز من أول أمره فى الْفضل كَمَال التعين ثمَّ لَازم على دأبهم ودرس بمدارس قسطنطينية وَولى المناصب الْعلية مِنْهَا قَضَاء مصر وَليهَا فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وأعبد اليها مرّة ثَانِيَة وَعقد بهَا درسا بِمَجْلِس الحكم فى تَفْسِير البيضاوى وحضره أكَابِر علمائها وأذعنوا لَهُ بالتحقيق الذى لَيْسَ لَهُ فِيهِ مساوى ومدحه فضلاؤها بالاشعار الرائقة وخلدوا مآثره فى صحف محامدهم الفائقة مِنْهُم المرحوم السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الحموى حَيْثُ قَالَ فِيهِ
(قد شرفت مصر بِرَبّ الحجى ... الْعَالم التَّحْرِير متقارى)
(وَالنَّاس فى تمداحه أَصْبحُوا ... من كَاتب ينشى وَمن قارى)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(اذا ذكر التَّحْقِيق فى فصل مُشكل ... فيحيى الذى تثنى عَلَيْهِ الخناصر)
(وان ذكر الْمَعْرُوف والحلم والندى ... فَذَاك لَهُ مِنْهُ حَلِيف وناصر)
(بِهِ الله أَحْيَا مَا انطوى من معارف ... رفاتا غَدَتْ أجداثهن الدفاتر)
ثمَّ تولى قَضَاء مَكَّة ودرس فِيهَا فى الْمدرسَة السليمانية فى تَفْسِير البيضاوى أَيْضا وحضره أَكثر الْعلمَاء وَطلب من الشَّمْس البابلى ان يحضر درسه هُوَ وطلبته فَحَضَرُوا فشرع يُقرر من أول سُورَة مَرْيَم وأتى بالعجب العجاب مِمَّا يدل على انه أَخذ من الْفُنُون بلب اللّبَاب مَعَ حسن التأدية وَالتَّعْبِير وسعة الملكة ولطف التَّقْرِير ثمَّ ولى بعد ذَلِك قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى وَنقل من قَضَاء الْعَسْكَر الى منصب الْفَتْوَى فى شهر ربيع الاول سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَقبل فى تَارِيخ تَوليته شيخ الاسلام وَسَار أحسن سير مَعَ التعفف وَحسن السيره وسلامة النَّاحِيَة والسريره وراجت فى زَمَنه بضَاعَة الافاضل وَرغب النَّاس فى تَحْصِيل المعارف والفضائل وَكَانَ دأبه المطالعة والمذاكره فَلَا يُوجد الا مُسْتَعْملا لَهما(4/477)
المبادره وَألف تآليف عديدة فى فنون شَتَّى مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير البيضاوى وحواش على حَاشِيَة ميرابى الْفَتْح على شرح آدَاب الْبَحْث وَله رِسَالَة فى الْكَلَام على قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} سَمَّاهَا الِاتِّبَاع فى مسئلة الِاسْتِمَاع وانتهت اليه الرياسة فى عصره بالعلوم وحظى حظوة لم يحظها أحد مثله عِنْد ملك الرّوم ثمَّ اعتراه ريح فى يَده الْيُمْنَى أبطل حركتها وعالجها مُدَّة فَلم يفد علاجها فَكَانَ ذَلِك سَببا لعزله عَن الافتاء وَأمر بالاقامة ببستانه الْمَعْرُوف بِهِ ببشكطاش وَأقَام ثمَّة معزولا الى ان مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن باسكدار فى مَكَان عينه فى وَصيته وَأوصى ان يعمر عِنْده مدرسة فنفذ ابْنه وَصيته بعد مَوته وَقيل فى تَارِيخ مَوته رَحمَه الله تَعَالَى
(فرحمة رَبنَا ارخ ... تؤم الحبر منقارى)
يحيى بن عِيسَى الكركى من كرك الشويك وَيُقَال السلطى الملحد الزنديق كَانَ رجلا اسود خَفِيف العارضين قيل انه سَافر الى مصر فى طلب الْعلم وكانه عَاشر بعض الْمَلَاحِدَة فَغلبَتْ عَلَيْهِ اعتقادات فَاسِدَة وَبث فِيهَا شَيْئا من اعتقاداته حَتَّى ضرب ثمَّة ثمَّ انْتقل الى الكرك وَأخذ يسْعَى على ترويج أمره فَكَانَ يكْتب أوراقا مشحونة بالفاظ الْكفْر ويرسلها من الكرك الى عجلون وَكَانَ بعجلون رجل من فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة يُقَال لَهُ عبد الله بن المدله فَلَمَّا شَاهد مَا كتبه يحيى الْمَذْكُور استشاط وثار وأخذته الْغيرَة الدِّينِيَّة فَأرْسل اليه من جَانب حَاكم الْبِلَاد الامير حمدَان ابْن الامير فَارس بن ساعد الغزاوى فَلَمَّا وصل الى عجلون ادّعى عَلَيْهِ الشَّيْخ عبد الله الْمَذْكُور فأدبه القاضى بِضَرْب خَمْسمِائَة سَوط على رجلَيْهِ وعَلى بدنه وَرجع الى مقره فى بِلَاد الكرك فَأخذ أهل الكرك يشنعون عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ لَوْلَا الحادك مَا ضربك القاضى فان كنت تريدا غماض الْعين عَنْك وَترك التَّعَرُّض لَك فَاذْهَبْ الى دمشق واستكتب علماءها على كلامك هَذَا بانه من قَوَاعِد أهل الايمان وَكَانَ قبل ذَلِك يراسل الشَّيْخ شمس الدّين الميدانى من عُلَمَاء دمشق بالثناء عَلَيْهِ ثمَّ بَث اعتقاداته القبيحة ويقوله لَهُ اريد ان تكون نصيرى ووزيرى حَتَّى أظهر الدّين وَكَانَ الميدانى يكتم تِلْكَ الرسائل وَيَقُول لَعَلَّه مَجْنُون أَو جَاهِل ثمَّ دخل دمشق وَسكن الْقبَّة الطَّوِيلَة بمحلة القبيبات وَاجْتمعَ بعوام هوَام لَا يفرقون بَين الصَّحِيح والمعتل وَلَا يميزون بَين المنتظم والمختل وَشرع يكْتب أوراقا مُشْتَمِلَة على عِبَارَات فَاسِدَة(4/478)
التَّرْكِيب مختلة الْمَعْنى وَالتَّرْتِيب لَا لفظ لَهَا وَلَا معنى وَلَا سَاكن فى حيها وَلَا معنى وَرُبمَا تشْتَمل الصَّحِيفَة مِمَّا يَكْتُبهُ على مكفرات عديده وموجبات للردة جَارِيَة عَن فكرة لَيست بسديده وخاض فى ذَلِك حَتَّى غرق فى بَحر الضلاله وَجعل الشَّيْطَان كفره لَهُ حباله فَمن جملَة مَا كتب وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى انه صعد الى الْعَرْش وانه شَاهد الله تَعَالَى وَشَاهد فَوْقه الله أعظم ثمَّ شَاهد تَحْتَهُ الله غَيرهمَا فَصرحَ بالاشراك وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَكتب الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام أَخطَأ فى خرق السَّفِينَة وان الذى اعْترض عَلَيْهِ أَجْهَل مِنْهُ وَحمل عَنهُ بعض الطّلبَة رِسَالَة من رسالاته فِيهَا كثير من ضلالاته وَهُوَ غير مُنكر عَلَيْهِ فِيهَا بل أَتَى بهَا الى الشهَاب العيثاوى يقرظها ويزكيها وَكَانَ الكركى قبل ذَلِك بِيَوْم وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ذى الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة وَألف قد حضر الى الْجَامِع الاموى وَعقد مَجْلِسا اجْتمع عَلَيْهِ فِيهِ كثير بَث فيهم ضلالاته فَحمل الى قاضى الْقُضَاة السَّيِّد مُحَمَّد ابْن السَّيِّد برهَان الدّين فَأمر بِوَضْعِهِ فى البيمارستان ثمَّ ذهب الشَّمْس الميدانى فى الْيَوْم الثانى الى قاضى الْقُضَاة لمذكور وَعرض عَلَيْهِ رِسَالَة كَانَ بعثها الكركى اليه من عجلون مُشْتَمِلَة على الْحَط من مقَام النبى
وعَلى لعن الشَّيْخ تقى الدّين الحصنى وَشتم الْعلمَاء ودعاوى فَاسِدَة واعتقادات مكفرة فَدَعَا قاضى الْقُضَاة الكركى اليه لَيْلًا وَسَأَلَهُ عَن الرسَالَة فاعترف بهَا وانها بِخَطِّهِ وَذكر انه تكلم بذلك فى وَقت الْغَيْبَة وفى اثناء ذَلِك وصلت الرسَالَة الاخرى الى العيثاوى وهى بِخَطِّهِ أَيْضا فى سنة أَو سَبْعَة كراريس وَكَانَت مُشْتَمِلَة على الطعْن فى الدّين وَأَهله وعَلى انكار وجود الصَّانِع جلّ وَعلا وَفعله بل على سبّ رب الْعَالمين وتجهيل الانبياء وَالْمُرْسلِينَ صَلَاة الله تَعَالَى وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ والحط من مقامات الْعلمَاء والانحراف عَن طَريقَة الْحُكَمَاء تَارَة يدعى فِيهَا الْحُلُول والاتحاد وَتارَة يعْتَقد حل مَا فى ايدى الْعباد وَتارَة يعْتَقد التناسخ والانتقال وَتارَة يصف بِالْعَجزِ والحيرة الْكَبِير المتعال وَتارَة يشْتم أول الامه وَتارَة يُنكر الْفضل وَالرَّحْمَة وَهُوَ مَعَ ذَلِك دَاعِيَة ضلاله ودجال بِأَمْر بالجهاله والعوام اتِّبَاع كل دجال لَا يفرقون بَين هداة وضلال فثار الْعلمَاء بِدِمَشْق لذَلِك وتحزبوا واجتمعوا لازالة هَذَا الْخَبيث وانتدبوا ثمَّ ذهب مِنْهُم أَولا الى القاضى الشهَاب العيثاوى وَالشَّمْس الميدانى وَالْحسن البورينى والنجم الغزى والقاضى تَاج الدّين التاجى فبادر القاضى لِلْخُرُوجِ(4/479)
اليهم وَقَالَ لَهُم وَالله لقد أزلتم عَنى كربَة بت فِيهَا وشبهة قَامَت عندى أَسَأْت بهَا الظَّن فى عُلَمَاء هَذِه الْبَلدة فانى تَأَمَّلت كفريات هَذَا الملعون واعلانه بهَا وَقد قبضت عَلَيْهِ واستودعته البيمارستان دون السجْن خوفًا ان تغلب علينا الْعَامَّة وتستخرجه خُصُوصا وَقد بلغنى ان بعض اكابر الْجند واشقاهم يَعْتَقِدهُ وَقلت فى نفسى سُبْحَانَ الله أكون فى مَدِينَة دمشق وَتَقَع لى هَذِه الْحَادِثَة وَلَا اجد فِيهَا من يساعدنى على انكارها ويعضدنى فى دفع ضَلَالَة هَذَا الْخَبيث وَأَنْتُم الْآن بحضوركم قد أزلتم عَنى العبئ الذى أثقلنى والشبهة الَّتِى اساءت فى الْعلمَاء اعتقادى ثمَّ حضر بَقِيَّة عُلَمَاء مِنْهُم مفتى الشَّام عبد الله البخارى والخطيب يحيى البهنسى ومفتى الْحَنَابِلَة الشهَاب أَحْمد الوفائى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن الغزال رَئِيس الاطباء وَالشَّيْخ مُحَمَّد الحزرمى وَالشَّيْخ حليمى مدرس الجقمقيه فى آخَرين فَلَمَّا تَكَامل الْمجْلس أَمر بالضال فَاحْضُرْ فى الاغلال وَقَامَ الشَّيْخ الميدانى اليه وبادر فَادّعى عَلَيْهِ فاعترف بِمَا ادّعى بِهِ وَلم يُنكر سَببا من اسبابه فاتفق أهل الْمجْلس على اكفاره وَحكم القاضى باراقة دَمه بعد تحقق اصراره وَكتب سجلا بِمحضر من الْعلمَاء وجم غفير من النَّاس وَأرْسل مَا كتب الى الْوَزير الْحَافِظ ليأمر بقتْله حذرا من الْفِتْنَة والباس فَوَقع الْوَزير بقتْله واشار بتطويفه كَمَا يفعل بِمثلِهِ وَحضر عِنْد القاضى أعوان الوالى وَأَرَادُوا تشهيره فى الْبَلَد فَأَشَارَ بعض الْعُقَلَاء بانه رُبمَا تظاهر بعض الْعَوام بتخليصه فَيَقَع الْخِصَام واللدد فالاولى ان يهرق دَمه عِنْد مجْلِس الشَّرْع الشريف ليظْهر بذلك ان سيف الشَّرِيعَة طائل الوقع لاهل الضلال والتحريف فَضربت عُنُقه بِفنَاء المحكمة وأطفئت نَار ضلالته الْمظْلمَة وَكَانَ ذَلِك يَوْم الثلاثا الثَّامِن من ذى الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة بعد الالف وطمس قَبره حافة نهر قليط فى حُدُود مَقْبرَة بَاب الصَّغِير وَقَالَ النَّجْم الغزى مؤرخا لمهلكه
(لقد لقى الشقى يحيى الكركى مهْلكا ... جَاءَ دمشق ليضل أَهلهَا فأهلها)
(فَقلت فى تَارِيخ قَطعك عنق يحيى مُشْركًا ... )
وَقَالَ الشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن يحيى المنقارى
(وَلما أَن طَغى الزنديق يحيى ... بِدَعْوَى انه الرب اللَّطِيف)
(اتى فى قَتله تَارِيخ صحب ... دم الدَّجَّال اهدره الشريف)
يحيى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الاصيلى المصرى الاديب الشَّاعِر الْمَشْهُود ذكره(4/480)
الخفاجى فى كِتَابيه واثنى عَلَيْهِ كثيرا وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة فى مَجْمُوع الاخ الْفَاضِل الشَّيْخ مصطفى بن فتح الله وَلست ادرى لمن هى قَالَ فِيهَا شَاعِر ناط شعره بالشعرى وقلد جيد الدَّهْر درا فَسَماهُ شعرًا مَعَ رقة طبع وخفة روح ودمائه اخلاق توسى بهَا الجروح ومجون يسلب الْحَكِيم ثوب وقاره وينسى الخليع كأس عقاره وَتعلق بفنون الالحان يُدِير بهَا من سلاف الطَّرب مَا يهزأ بسلاف الحان يهزأ اتِّفَاق نظامه بِالْعقدِ الثمين وتتلو ألسن سامعيه ان هَذَا الا سحر مُبين كم فصل ببيانه من الادب مُجملا
(ألذ من السلوى وَأطيب نفحة ... من الْمسك مفتونا وأيسر محملًا)
وَلم يزل موفور الجاه بالديار المصرية لَا سِيمَا عِنْد الْمَشَايِخ البكرية حَتَّى قصد الْحَج لاداء الْفَرْض وطوى لمشاهدة تِلْكَ الْمشَاهد مهامه الارض فَلَمَّا قضى مَنَاسِكه وتفثه وَلم من وعثاء السّفر شعثه طافت بِهِ الْمنية طَوَافه بِتِلْكَ البنيه فانتقل من جوَار بَيت الله وَحرمه الى مقرّ رَحمته وَكَرمه ولد بدمياط وَبهَا نَشأ ثمَّ هَاجر الى مصر فَتخرج بِالنورِ العسيلى حَتَّى حلا فى ذوقه شهد آدابه وتزينت حقاق افكاره بفرائد خطابه وَكَانَ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ويقرط بِصَوْتِهِ الْحسن الآذان وَكَانَ فَردا فى فنون الْغناء والطرب فاذا ترنم أسكر فى مجَالِس الانس ابْنة الْعِنَب فيميت الهموم وَيبْعَث الابدان فتخاله نسيم الصِّبَا وَالنَّاس اغصان وَله شعر يروق السَّامع والناظر ويحسد ازهاره الرَّوْض الناضر فَمِنْهُ قَوْله
(لى فى الْمحبَّة عَن ملام العاذل ... بِجَمَال من أهواه أشغل شاغل)
(أغرت عيونى بالسهاد وانما ... دمعى الذى أضحى بِوَصْف السَّائِل)
(ان غردت قمرى الحمائم جددت ... شوقا أهاج من الغرام بلابلى)
(بأبى غزال ارْض نجد دَاره ... لَكِن لواحظه عزين لبابل)
(لدن المعاطف رق مرشف ثغره ... فاعجب لَهُ من ذابل فى ذابل)
(ولحاظه حفت بأصداغ فيا ... لله من سيف سَطَا بحمائل)
(تتطاول الاغصان تحكى قده ... والى التناهى مرجع المتطاول)
(أعيا الفصيح بنبت عَارضه فَقل ... قس الفصاحة من أُسَارَى بَاقِل)
وَله فِيمَن اسْمهَا شمس الضُّحَى موريا
(لما وفت شمس الضُّحَى ... لى موعدى وشفت غليلى)(4/481)
(شاهدت أى عَجِيبَة ... شمس الضُّحَى عِنْد الاصيلى)
وَله فى عرب العشير وأجاد فى التورية
(عَن العشير أبعد وَكن سالما ... وَكن فَتى بالبعد عَنْهُم مشير)
(عاشرت مِنْهُم وَاحِدًا خاننى ... عهدى وميثاقى فبئس العشير)
وَله فى مليح يعرف بالمنهلى
(يناديك حب المنهلى اذا بدا ... تنقل فلذات الْهوى فى التنقل)
(وَقَالَت لنا أَصْحَابه دع مقاله ... ورد كل صَاف لَا تقف عِنْد منهل)
وفى تَذكرته قَالَ كُنَّا بِخِدْمَة الاستاذ مُحَمَّد البكرى قدس سره بِمَنْزِلَة ببولاق انا وَجَمَاعَة من فقرائه وذوى ولائه فَأرْسل لكل وَاحِد حِصَّة من الرُّمَّان وَكنت قد ظَهرت من الْمنزل لقَضَاء الْحَاجة فَلَمَّا حضرت أخْبرت بذلك فَكتبت اليه
(مولاى يَا أكْرم الانام وَمن ... بحار جدوى نداه منصبه)
(قد جَاءَ رمانك الورى جملا ... وَالْعَبْد مَا جَاءَهُ وَلَا حبه)
فَأرْسل مِنْهُ جملَة وافرة وَكتب مجيبا
(نأمر بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان بِمَا ... يفِيض مِنْهُ غيث العطا صبه)
(فَلَيْسَ هَذَا الْفَقِير يعرف من ... أَتْبَاعه مثلكُمْ غادصيه)
(فاعذر وَلَا عتب فى الْحساب على ... مُخطئ محبوبه وَلَا حبه)
فَانْظُر الى قَوْله نامر بِالْقَلْبِ فانه رمان ثمَّ قَالَ لى احتفظ بِهَذِهِ الْوَقْعَة فان لَك فِيهَا غَايَة الرّفْعَة وهى تشهد باعترافى بأنى لَا أعرف أحدا من اتباعى يحبنى كمحبتك ويودنى كمودتك وَقَالَ أَيْضا كنت أَنا وَشَيخنَا الْعَلامَة نور الدّين العسيلى جالسين عِنْده وَقد ذكر فى الْمجْلس جمَاعَة من أفاضل الدَّهْر وادباء الْعَصْر توفوا فى مُدَّة قريبَة كالعلامة الفارضى والشهاب السيفى والبرهان البلط وخلائق لَا يُحصونَ فانشد بديهة
(أَقُول وَقد قيل لى كم مضى ... أديب لَهُ حسن نظم جليل)
(دعوا كل ذى أدب ينقضى ... وَيحيى العسيلى وَيحيى الاصيلى)
وَمن شعره مَا كتبه مقرظا على نظم فى الْعَرَبيَّة لبَعض الْفُضَلَاء سَمَّاهُ الاشارات فَقَالَ فِيهِ
(ان الاشارات للْعلم الْعَزِيز حوت ... وحازت الرّفْع مثل الْمُفْرد الْعلم)(4/482)
(وان تقل مادحا فى نعتها كلما ... ففى الاشارات مَا يغنى عَن الْكَلم)
وَقَالَ اقترح على مَوْلَانَا الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد السبفى المالكى ان أنظم بَيْتَيْنِ من بَحر المديد عِنْدَمَا وصلت فى الْقِرَاءَة عَلَيْهِ الى هَذِه الْموضع من ابْن الْحَاجِب وَشَرحهَا لِابْنِ وَاصل فَقَالَ
(وجنود المحبوب ذَات احمرار ... من لظى الْقلب اسْتعَار اسْتعَار)
(فَلهَذَا صَار قلبى كليما ... حَيْثُ من خديه آنست نَارا)
وَقَالَ فى كتاب الى الشريف حسن بن أَبى نمى
(أيد الله تَعَالَى سيدا ... كَامِلا فى سره والعلن)
(بدر فضل أشرقت أنواره ... من ذرى الشَّام لاقصى الْيمن)
(من حوى رق المزايا العلى ... وشرى الْمجد بأغلى ثمن)
(مجده من ذَاته من أَصله ... حسن فى حسن فى حسن)
وَقَالَ من قصيدة يمدح بهَا الاستاذ مُحَمَّد البكرى
(أَلا ان لى يَا آل صديق أَحْمد ... لشمس هدى مِنْكُم بِهِ الكرب ينجلى)
(فلى مِنْهُ أستاذ ولى مِنْهُ مرشد ... ولى مِنْهُ قطب ذُو اتِّصَال ولى ولى)
هَذَا نوع من البديع سَمَّاهُ ابْن الوردى ايهام التَّأْكِيد وَزعم انه ابتدعه وَمثله قَول ابْن مكناس
(نعم نعم محضتهم ... صدق الولا تطولا)
(ومارعوا عهدا وَلَا ... مَوَدَّة وَلَا وَلَا)
وَقَوله
(أتيت جنينة أستاذنا ... وَقد جمعت كل معنى كمل)
(بهَا أى ورد وآس بِهِ ... تفرق شَمل عداهُ وفل)
الفل نوع من الياسمين بلغَة أهل الْيمن ذكى الرَّائِحَة وَلم يذكرهُ أهل اللُّغَة وَلَعَلَّه مولد وَسَماهُ ابْن البيطار فى مفرداته النمارق وَكتب الى مُحَمَّد الصالحى يَسْتَأْذِنهُ فى الدُّخُول عَلَيْهِ لانه كَانَ شَدِيد التوحش
(على الْبَاب من كَاد من شوقه ... يَمُوت وَذَلِكَ يحيى الاصيلى)
(أَتَى يتَغَنَّى بأوصافكم ... فَهَل تأذنون لَهُ فى الدُّخُول)
فَأَجَابَهُ
(لمولاى يحيى رَقِيق الطباع ولطف السماع وَحسن الْقبُول)
(أمولاى هَل خَارج صوتكم ... لتحتاج للاذن وَقت الدُّخُول)
وَهَذَا كَقَوْل الجزار حَيْثُ قَالَ(4/483)
(أمولاى مَا من طباعى الْخُرُوج ... وَلَكِن تعلمته فى خمولى)
(أتيت لبابك أَرْجُو الْغِنَا ... فأخرجنى الضَّرْب عِنْد الدُّخُول)
الدُّخُول عِنْد المولدين حسن الصَّوْت الجارى على قانون الموسيقى وضده الْخُرُوج وَالضَّرْب النقرات الْمُسَمَّاة بالاصول وَبِهَذَا يَتَّضِح حسن الايهام فى الشّعْر الْمَذْكُور وَله أَيْضا
(قيل لى ان فلَانا ... قد تَعَالَى وتكبر)
(وَلمن قد سَاءَ رَأس ... قلت لَا بل رَأس منسر)
وَقَوله
(مذبان من أَهْوى هَمت ... عينى بِمَاء منهمر)
(نقلت للقلب اذا ... لم تلف صبرا فاستعر)
وَقَوله
(رب قَاض قبل الرِّشْوَة لما أَن تملك ... )
(قَالَ للظالم انى ... سأنجيك وَأهْلك)
وَله
(رِسَالَة من لطفها أشبهت ... ريح الصِّبَا مرت بزهر الرِّبَا)
(وَلم يزل مَا بَين أهل الْهوى ... رسائل العشاق ريح الصِّبَا)
وَقَوله
(وبى عروضى اذا ... أبصره الْبَدْر احتجب)
(أعطافه لصبه ... فاصلة بِلَا سَبَب)
وَله
(يَا ذَا العروضى الذى ... أضحى بسيط الْحسن كَامِل)
(وَعَن ابْن قطاع روى ... هلا رويت عَن ابْن وَاصل)
وَقَوله
(من منصفى من شادن ... بَيت الْمَظَالِم بَيته)
(أخفيه خشيَة بأسه ... وأود لَو سميته)
وَمِنْه قَول السراج الْوراق
(رزقت بِنْتا ليتها لم تكن ... فى لَيْلَة كالدهر قضيتها)
(فَقيل مَا سميتها قلت لَو ... مكنت مِنْهَا كنت سميتها)
قَالَ الخفاجى وَخَطأَهُ بعض الادباء إِنَّه انما يُقَال من السم سممتها وَهُوَ لحن وَاعْتذر عَنهُ بِأَنَّهُ ايهام النورية فالمخطئ مُخطئ فيغتفر فِيهِ مثله وَأَصله سممتها من التفعيل وَمثله لتوالى الافعال فِيهِ يُبدل ثَالِث حرف مِنْهُ بِحرف عِلّة وهى الْيَاء يُقَال فى تقضض البازى تقضى وَقد قَالَ بعض النُّحَاة انه مطرد وَكتب لخاله شغر الاسكندرية يَقُول
(لخالى فى الاسكندرية رَغْبَة ... وَمن بعده قد حَال لى فى الْهوى حَال)(4/484)
(فان يَك أضحى ثغرها موطنا لَهُ ... فيا حبذا فى ذَلِك الثغر لى خَال)
واشعاره كلهَا من هَذَا النمط عَلَيْهَا مسحة الْحَلَاوَة وَكَانَت وَفَاته لثلاث خلون من الْمحرم سنة عشر بعد الالف بِمَكَّة كَمَا تقدم والاصيلى نِسْبَة لاصيل الدّين أَحْمد بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أَيُّوب
يحيى بن مُحَمَّد بن الْقسم الملقب شرف الدّين بن شمس الدّين الْمَعْرُوف بِابْن المنقار الدمشقى الْفَقِيه الحنفى كَانَ فَقِيها يستحضر فقه الْحَنَفِيَّة أحسن استحضار ويحفظ نقُوله وفصوصه وَكَانَ عَجِيب الْحَال فى الْمسَائِل الَّتِى تقع لَهُ فِيهَا الْخُصُومَة خُصُوصا مَعَ أَبِيه ثمَّ مَعَ أَقَاربه وَكَانَ مغاضبا لابيه خَارِجا عَن طَاعَته وَكَانَ أَبوهُ شَدِيد الْغَضَب مِنْهُ كثير الْحَط عَلَيْهِ وَكَانَ هُوَ اذا ذكر أَبَاهُ يذكرهُ بِلَفْظ الشَّيْخ وَيذكر بعض مساويه مسكنة وأناة وَكَانَ أهل دمشق يرَوْنَ انه مسلط عَلَيْهِ قصاصا عَن تشدده على النَّاس واطلاق لِسَانه فيهم وَذهب أَبوهُ مرّة الى القاضى بِدِمَشْق وَسَأَلَهُ ان يحضر وَلَده ويعزره فَأحْضرهُ وعزره بَين يَدَيْهِ وسافر يحيى بِسَبَب ذَلِك الى الرّوم وَرمى نَفسه فى أُمُور مهلكة حَتَّى وصل خَبره الى السُّلْطَان وَعرضت عَلَيْهِ قصَّته ثمَّ آل أمره الى انه استخرج حكما دفتر يَا ان بَرَاءَة أَبِيه فى الجوالى لَا قيد لَهَا وانها مفتعلة وأوصل الحكم الى دفترى الشَّام فَحصل بَينه وَبَين أَبِيه فتْنَة عَظِيمَة ثمَّ لما مَاتَ أَبوهُ عَاشَ مَعَ أَقَاربه عيشة مكدرة وَكَانَت عيشته مَعَ زَوجته وهى بنت عَمه أَشد نكرا وكدرا حَتَّى أَبَانهَا من عصمته ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العزية فى الشّرف الاعلى غربى دمشق وَولى النّظر على الْمدرسَة المردانية وَحج مرَّتَيْنِ الثَّانِيَة مِنْهُمَا فى سنة ثَمَان عشرَة بعد الالف وَرجع مستضعفا ثمَّ لم يزل على ذَلِك وَالنَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يقوم وَيقْعد وَيظْهر التجلد وَالْقُوَّة الى ان مَاتَ يَوْم الاربعاء ثَالِث شهر ربيع الاول سنة تسع عشرَة وَألف وَدفن من الْغَد فى الْمدرسَة المردانيه بِوَصِيَّة مِنْهُ
يحيى بن مُحَمَّد بن نعْمَان بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الايجى الدمشقى قاضى الْقُضَاة الْفَاضِل الشريف الحسيب كَانَ من فضلاء زَمَانه أديبا مطبوعا لطيف الطَّبْع خلوقا اشْتغل بِدِمَشْق على وَالِده وَغَيره من الافاضل ثمَّ رَحل الى قسطنطينية فى أَيَّام شبابه وقطن بهَا ولازم ودرس وأحبه صدورها وَأَقْبلُوا عَلَيْهِ لما فِيهِ من الاهلية حَتَّى تزوج بابنة شيخ الاسلام أسعد بن سعد الدّين وسما حَظه وَلم يزل ينْتَقل فى الْمدَارِس الى ان وصل الى السليمانية ثمَّ ولى قَضَاء الْقُدس وَقدم الى دمشق ونال اقبالا من(4/485)
علمائها وصدورها لدماثة اخلاقه واعتنوا بِهِ كثيرا ومدحوه وَمن مادحيه الامير المنجكى حَيْثُ يَقُول فِيهِ
(من ترى يملك وَصفا لامرئ ... قلد الْمِنَّة أَعْنَاق السماح)
(ذَاك يحيى من بِهِ يحيا العلى ... ولناديه غدوى ورواحى)
(حَامِل نشر ثنائى فى الورى ... عنبر اللَّيْل وكافور الصَّباح)
ثمَّ نقل من قَضَاء الْقُدس الى قَضَاء مَكَّة وَرجع مِنْهَا وَتوجه الى الرّوم فأدركه أَجله اثر وُصُوله وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
يحيى بن الْفَقِيه الصَّالح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عِيسَى أَبُو زَكَرِيَّا النايلى الشاوى الملبانى الجزائرى المالكى شَيخنَا الاستاذ الذى ختمت بعصره أعصر الاعلام وأصبحت عوارفه كالاطواق فى أجياد الليالى والايام الْمُقَرّر براهين التطبيق بتوحيده فَلَا تمانع فِيهِ الا من معاند علم مرجعه عَن الْحق ومحيده آيَة الله تَعَالَى الباهرة فى التَّفْسِير والمعجزة الظَّاهِرَة فى التَّقْرِير والتحرير من روى حَدِيث الفخار مُرْسلا وَنقل خبر الفخار مرتلا وَهُوَ فى الْفِقْه امامه وَمن فَمه تُؤْخَذ أَحْكَامه وَأما الاصول فَهُوَ فرع من علومه والمنطق مُقَدّمَة من مُقَدمَات مَفْهُومه وان أردْت النَّحْو فَلَا كَلَام فِيهِ لَاحَدَّ سواهُ وان اقترحت الْمعَانى وَالْبَيَان فهما انموذج مزاياه اذا استخدم الْقَلَم أبدى سحر الْعُقُول وان جرت الْحُرُوف على وفْق لِسَانه وفْق بَين الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول واذا نَاظر عطل من مجاريه مجارى الانفاس واستنبط من بَيَان مَنْطِقه علم الجدل وَالْقِيَاس وَبِالْجُمْلَةِ فتقصر همم الافكار عَن بُلُوغ أدنى فضائله وتعجز سوابق الْبَيَان عَن الْوُصُول الى أَوَائِل فواضله ولد بِمَدِينَة ملبانه وَنَشَأ بِمَدِينَة الجزائر من أَرض الْمغرب وَقَرَأَ بهَا وبملبانة بَلَده على شُيُوخ أجلاء صالحين مِنْهُم الْعَلامَة الْمُحَقق سيدى الشَّيْخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بهْلُول وَالشَّيْخ سعيد مفتى الجزائر وَالشَّيْخ على بن عبد الْوَاحِد الانصارى وَالشَّيْخ مهدى وَغَيرهم وروى عَنْهُم الحَدِيث وَالْفِقْه وَغَيرهمَا من الْعُلُوم وَأَجَازَهُ شُيُوخه وتصدر للافادة بِبَلَدِهِ وَكَانَت حافظته مِمَّا يقْضى مِنْهَا بالعجب وَقدم مصر فى سنة أَربع وَسبعين ألف قَاصد الْحَج فَلَمَّا قضى حجه رَجَعَ الى الْقَاهِرَة وَاجْتمعَ بِهِ فضلاؤها وَأخذُوا عَنهُ وروى هُوَ من علمائها كالشيخ سُلْطَان وَالشَّمْس البابلى والنور الشبراملسى وأجازوه بمروياتهم ثمَّ تصدر للاقراء بالازهر واشتهر بِالْفَضْلِ وحظى عِنْد أكَابِر الدولة وَاسْتمرّ(4/486)
على الْقُرَّاء مُدَّة قَرَأَ فِيهَا مُخْتَصر خَلِيل وَشرح الالفية للمرادى وعقائد السنوسى وشروحها وَشرح الْجمل للخونجى لِابْنِ عرفه فى الْمنطق ثمَّ رَحل الى الرّوم فَمر فى طَرِيقه على دمشق وَعقد بِجَامِع بنى أُميَّة مَجْلِسا اجْتمع فِيهِ علماؤها وشهدوا لَهُ بِالْفَضْلِ التَّام وتلقوه بِمَا يجب لَهُ ومدحه شعراؤها واستجاز مِنْهُ نبلاؤها ثمَّ توجه الى الرّوم فَاجْتمع بِهِ أكَابِر الموالى وَبَالغ فى اكرامه شيخ الاسلام يحيى المنقارى والصدر الاعظم الْفَاضِل وَحضر الدَّرْس الذى تَجْتَمِع فِيهِ الْعلمَاء للبحث بِحَضْرَة السُّلْطَان فبحث مَعَهم واشتهر بِالْعلمِ ثمَّ رَجَعَ الى مصر مجللا مُعظما مهابا موقرا وَقد ولى بهَا تدريس الاشرفية والسليمانية والصرغتمشية وَغَيرهَا وَأقَام بِمصْر مُدَّة ثمَّ رَجَعَ الى الرّوم فأنزله مصطفى باشا وَصَاحب السُّلْطَان فِي دلره وَكنت الْفَقِير إِذْ ذك بالروم فَالْتمست مِنْهُ الْقِرَاءَة فَأذن فشرعت أَنا وَجَمَاعَة من بلد تنا دمشق وَغَيرهَا مِنْهُم الاخ الْفَاضِل أَبُو الاسعاد بن الشَّيْخ أَيُّوب وَالشَّيْخ زين الدّين البصرى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المجلد وَالسَّيِّد أَبُو الْمَوَاهِب سبط العرضى الحلبى فى الْقِرَاءَة عَلَيْهِ فقرأنا تَفْسِير سُورَة الْفَاتِحَة من البيضاوى مَعَ حَاشِيَة العصام ومختصر الْمعَانى مَعَ حَاشِيَة الْحَفِيد والخطائى والالفية وَبَعض شرح الدوانى على العقائد العضدية وأجازنا جَمِيعًا باجازة نظمها لنا وَكَانَ مَا كتبه لى هَذَا الْحَمد لله الحميد وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الطَّاهِر الْمجِيد وعَلى آله أهل التمجيد
(أجزت الامام اللوذعى المعبرا ... أَمينا امين الدّين روحا مصورا)
(سليل محب الدّين بَيت هِدَايَة ... وَبَيت منار الْعلم قدما تقررا)
(باقرائه متن البخارى الذى بِهِ ... تقاصر عَنهُ من عداهُ وقصرا)
(موطا شِفَاء والشفاء لمُسلم ... اذا مُسلما تقريه حَقًا تصدرا)
(وباقى رجال النَّقْل حَقًا مُبينًا ... وَتَفْسِير قَول الله فى الْكل فررا)
(أجزت الْمُسَمّى الْبَدْر فى الشَّرْع كُله ... كَمَا صَحَّ لى فاترك مراه تكدرا)
(وَعلم كَلَام خالى عَن أكاذب الفلاسفة الضلال وَالْعدْل نكرا ... )
(أَقُول لكل فلسفى يدينه ... أَلا لعنة الرَّحْمَن تعلو مزورا)
(أجبريل فلك عَاشر يَا عداتنا ... أعادى شرع الله نلتم تحيرا)
(بأى طَرِيق قُلْتُمْ عشر عشرَة ... وَنفى صِفَات وَالْقَدِيم تحجرا)
(حكمتم على الرَّحْمَن حجرا محجرا ... ومنعكم خلق الْحَوَادِث دمرا)(4/487)
(أبرى الحبيب اللوذعى عَن الردى ... مجَازًا بدين الشَّرْع كلا محررا)
(وَلَكِن عَلَيْهِ النصح وَالْجد والتقى ... وان ناله آمُر الْقَضَاء تصبرا)
(حماه اله الْعَرْش من كل فتْنَة ... ونجاه من أسواء سوء تسترا)
(وصل وَسلم بكرَة عَشِيَّة ... على من بِهِ أَحْيَا الْقُلُوب تحيرا)
ثمَّ رَجَعَ الى مصر وَصرف أوقاته الى الافادة والتأليف وَله مؤلفات عديدة فى الْفِقْه وَغَيره مِنْهَا حَاشِيَة على شرح ام الْبَرَاهِين للسنوسى نَحْو عشْرين كراسا ونظم لامية فى اعراب الْجَلالَة جمع فِيهَا أقاويل النَّحْوِيين وَشَرحهَا شرحا حسنا أحسن فِيهِ كل الاحسان وَله مؤلف صَغِير فى اصول النَّحْو جعله على اسلوب الاقتراح للسيوطى أَتَى فِيهِ بِكُل غَرِيبَة وَجعله باسم السُّلْطَان مُحَمَّد وقرظ لَهُ عَلَيْهِ عُلَمَاء الرّوم مِنْهُم الْعَلامَة المنقارى قَالَ فِيهِ لَا يخفى على النَّاقِد الْبَصِير ان هَذَا التَّحْرِير كنسج الْحَرِير مَا نسج على منواله فى هَذِه العصور تَنْشَرِح بمطالعته الصُّدُور وَله شرح التسهيل لِابْنِ مَالك وحاشية على شرح المرادى وَكَانَ لَهُ قُوَّة فى الْبَحْث وَسُرْعَة الاستحضار للمسائل الغريبة وبداهة الْجَواب لما يسئل عَنهُ من غير تكلّف ومحاضرة بديعة وسافر فى آخر أمره الى الْحَج بحرا فَمَاتَ وَهُوَ فى السَّفِينَة فى يَوْم الثلاثا عشرى شهر ربيع الاولى سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَأَرَادَ الملاحون القاءه فى الْبَحْر لبعد الْبر عينهم فَقَامَتْ ريح شَدِيدَة قطعت شراع السَّفِينَة فقصدوا الْبر وأرسوا بمَكَان يُقَال لَهُ رَأس أَبى مُحَمَّد فدفنوه بِهِ ثمَّ نَقله وَلَده الشَّيْخ عِيسَى بعد بُلُوغه خَبره الى مصر وَدَفنه بهَا بالقرافة الْكُبْرَى بتربة السَّادة الْمَالِكِيَّة وَوصل الى مصر وَلم يتَغَيَّر جسده وَاتفقَ انه لما أرسل وَلَده بعض الْعَرَب ليكشف لَهُ عَنهُ الْقَبْر ويأتوا بِهِ اليه تاهوا عَن قَبره فاذا هم بِرَجُل يَقُول لَهُم مَا تُرِيدُونَ فَقَالُوا قبر الشَّيْخ يحيى فَأَرَاهُم اياه فكشفوا عَنهُ فوجدوه بِحَالهِ لم يتَغَيَّر مِنْهُ شئ فوضعوه فى تَابُوت وأتوابه الى مصر فدفنوه بتربة الْمَالِكِيَّة الَّتِى كَانَ جددها ورممها وَلم يلبث بعده وَلَده الشَّيْخ عِيسَى الا نَحْو سنة أشهر فَمَاتَ فدفنوه على أَبِيه ووجدوه على حَاله لم يتَغَيَّر مِنْهُ شئ رحمهمَا الله تَعَالَى
يحيى بن مهدى المنسكى الْيُمْنَى الشَّاب الاديب الْكَامِل الاريب ولد بالدهنا من أَرض صَبيا من بِلَاد الْيمن وَنَشَأ وجد فَوجدَ وتعانى النّظم والنثر فأجاد فيهمَا وَكَانَ بَينه وَبَين صاحبنا الشَّيْخ مصطفى بن فتح الله مكاتبات مِنْهَا مَا كتبه لَهُ يستدعى تَارِيخا فى أَبْيَات مِنْهَا قَوْله(4/488)
(رُبمَا لَا يفوت صَادِقَة الرأى بِأَن الضياء سر الْهلَال ... )
(وَأرى الْبَحْر عِنْده الْجَوْهَر الشفاف لكنه يُرِيد مِنْهُ اللآلى ... )
فَأَجَابَهُ الشَّيْخ مصطفى وَكَانَ اذ ذَاك مُتَوَجها الى مَكَّة من جدة فى غرَّة شهر رَمَضَان بقوله رَحمَه الله
(يَا ابْن مهدى يَا كريم الْخِصَال ... وأخا الْفضل والنهى والكمال)
(قد أتانى بديع لفظ شهى ... صَار قلبى من بعده فى اشتعال)
(وَذكرت الْهوى وعهدا تقضى ... بعد أَن لم يكن يمر ببالى)
(وطلبتم من الْمُحب كتابا ... بفنون التَّارِيخ قد صَار حالى)
(فلك الْعذر يَا ابْن ودى فانى ... لذرى مَكَّة أَشد رحالى)
(واذا عدت جدة بعد عيد ... ستراه دَانَتْ اليك المعالى)
(وأبق واسلم فى ظلّ عيشى ظَلِيل ... مَا تغنى الْحمام فى الاطلال)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتِّينَ وَألف وَتوفى فى رَابِع عشر الْمحرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف بِمَكَّة وَدفن بمقبرة الشبيكة
السَّيِّد يحيى الْحسنى صَاحب الْقدَم الراسخة فى الْعِبَادَة وَكَانَ من أهل الفنوة وَالْحَال صَاحب جد واجتهاد اجْتمع بأكابر الْقَوْم كالمرصفى واضرابه وَكَانَ دَائِم الطَّهَارَة وَالذكر وَكَانَت ذَاته تشهد لَهُ بِالْولَايَةِ وانه من أولى الْعِنَايَة وَاخْبَرْ انه رأى النبى
يقظة كثيرا وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من مشاهير الاولياء وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس عشرَة بعد الالف وَدفن بالصحراء
يحيى الشهير بامام الكاملية المصرى الشافعى كَانَ بارعا فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة عَلامَة فى الاصول والنحوذ وَلَفظ فصيح وذهن صَحِيح اشْتغل بالعلوم وجد واجتهد فَحصل وبرع وَمن شُيُوخه الْعَلامَة النَّاصِر اللقانى وَالشَّيْخ الامام الشهَاب الرملى وَولده الشَّمْس وَغَيرهم وَله تعاليق مفيدة مِنْهَا شرح على وَرَقَات امام الْحَرَمَيْنِ فى اصول الْفِقْه وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم السبت ثانى عشر شهر جُمَادَى الاولى سنة خمس عشرَة بعد الالف عَن نَحْو تسعين سنة فَمَا فَوْقهَا رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد يحيى الشهير بالصادقى الحلبى الاديب اللَّطِيف ذكره البديعى فَقَالَ فى وَصفه هُوَ مَعَ شرف الاصل جَامع بَين أدوات الْفضل صافى ورد الاخوه ضافى برد الفتوه مطبوع على التَّوَاضُع وَالْكَرم مَعْرُوف بِحسن الاخلاق والشيم وَكَلَامه(4/489)
لَيْسَ بِهِ عشثار وَلَا عَلَيْهِ غُبَار كَمَا قيل فِيهِ
(وان أَخذ القرطاس خلت يَمِينه ... تفتق نورا أَو تنظم جوهرا)
وَهُوَ الْآن فى الشَّهْبَاء فَارس ميدانها فضلا وناظر انسانها نبْلًا ثمَّ قَالَ وأذكر لَيْلَة من الليالى خيلت لحسنها لَيْلَة الْقدر رقد عَنْهَا الدَّهْر الى ان انتبه الْفجْر فى منزل حف بامراء النّظم والنثر مِنْهُم بدر ترمقه الْمقل فتجرح مِنْهُ مواقع الْقبل أفرغ فى قالب الْجمال وَلم يُوصف بِغَيْر الْكَمَال وَاتفقَ انه بدد نَارا هُنَالك بِغَيْر اخْتِيَاره فَقَالَ الصادقى
(ضمنا مجْلِس لتاج الموالى ... عَالم الْعَصْر بكر هَذَا الزَّمَان)
(غرَّة الدَّهْر أَحْمد ذُو الايادى ... وَابْن خير الانام من عدنان)
(بفريد الحسان خلقا وخلقا ... عِنْد ليب الاخوان نور الْمَكَان)
(فانثنى كالقضيب تفيده نفسى ... عابثا بالسياط والمجان)
(فَأصَاب الكانون سَوط فطار الْجَمْر من وقعه على الاخوان ... )
(فسألنا مَاذَا فَقَالَ نثار الْحبّ جمر لَا بدرة من جمان ... )
(واعتراه الحيا فأخمدها من ... غير بؤس بساعد وبنون)
(ففرقنا عَلَيْهِ مِنْهَا فَنَادَى ... وَكَذَا النُّور مخمد النيرَان)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(لاموا الذى حَاز لطفا ... وبهجة وجلاله)
(اذا بدد النَّار عمدا ... لَيْلًا وَأبْدى الخجاله)
(وصاغ فى الْبسط شهبا ... اذ كَانَ بَدْرًا بهاله)
(وكفل الطفى يمناه ... تَارَة وشما لَهُ)
(كَذَلِك الشَّمْس تدنى ... لكل نجم زَوَاله)
(فَقلت لَا تعذلوه ... دَعوه يُوضح حَاله)
(بانه بدرتم ... حينا وحينا غزاله)
وَقَالَ
(انشدت من أَهْوى وَقد أَخذ الْهوى ... تمجامعى واستحوذ استحواذا)
(كبدى سلبت صَحِيحَة فَامْنُنْ على ... رمقى بهَا ممنونة أفلاذا)
(فَأَشَارَ للكانون فانثالت على الْجلاس جمرا وابلا ورذاذا ... )
(وبدا يكفكفه حَيا وَيَقُول لى ... من كَانَ ذَا لب أيطلب هَذَا)(4/490)
فَقَالَ السَّيِّد أَحْمد النَّقِيب
(قد قلت اذا عثر الذى ألحاظه ... فعلت بِنَا فَغَلَّ الشُّمُول مشعشعه)
(فى مجْلِس بالنَّار فانتشرت على ... بسطى فكاله الحايء وبرقعه)
(واكب يرفع غيها بأكفه ... مستعظما ذَاك الصَّنِيع وموقعه)
(جمرات حبك لَو علمت بِفِعْلِهَا ... فى الْقلب مَا استعظمت حرق الامتعه)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(لَا تحسب النَّار الَّتِى مَا بَيْننَا ... نثرت من الكانون كَانَ شتاتها)
(بل انما ذَاك الذى ألحاظه ... سلبت عقول أولى النهى فتراتها)
(لما رأى عشاقه تخفى الْهوى ... ولهيب نَار رابه زفراتها)
(وَأَرَادَ يفضحها أَشَارَ بكفه ... لقلوبها فتناثرت جمراتها)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا الشَّيْخ عبد الْقَادِر الحموى
(ان الذى أخجل شمس الضُّحَى ... فى منزل الْمولى الرفيع الْعِمَاد)
(بدد نَارا كَانَ لللاصطلا ... فانبث كالياقوت بَين الاياد)
(فانصاغ يزوى الْجَمْر فى أنمل ... كالخزان حاولت مِنْهَا انْعِقَاد)
(وَقَالَ اذ رامت بتأجيجها ... تحكى سنا خدى ومنك الْفُؤَاد)
(نثرتها عمدا على بسط من ... أروى نداه كل غاد وصاد)
وولاه بعض قُضَاة حلب نِيَابَة محكمَة السَّيِّد خَان بهَا فَكتب اليه
(أَصبَحت مَعَ الشَّمْس ببرج الْمِيزَان ... اذ أنزلنى الْهمام بالسيد خَان)
(لَكِن وعلاك كل من نَاب يخن ... وَالْعَبْد يعاف كلمة السَّيِّد خَان)
يس بن زين الدّين بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ عليم الحمصى الشافعى الشهير بالعليمى نزيل مصر الامام البليغ شيخ الْعَرَبيَّة وقدوة أَرْبَاب الْمعَانى وَالْبَيَان الْمشَار اليه بالبنان فى محفل التِّبْيَان مولده بحمص ورحل مَعَ وَالِده الى مصر وَنَشَأ بهَا وَقَرَأَ فى أَوَائِله على الشَّيْخ مَنْصُور السطوحى ثمَّ على الشهَاب الغنيمى ولازمه فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّمْس الشوبرى وَكَانَ ذكيا حسن الْفَهم وبرع فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وشارك فى الاصول وَالْفِقْه وتصدر فى الازهر لاقراء الْعُلُوم ولازمه أَعْيَان أفاضل عصره وحظى كثيرا وشاع ذكره وَبعد صيته وَكَانَ مطبوعا على الْحلم والتواضع وَله مَال جزيل وانعام كثير على طلبة الْعلم وَكلمَة مسموعة وَألف كتبا(4/491)
مفيدة مِنْهَا حَاشِيَة على المطول وحاشية على الْمُخْتَصر وحاشية على شرح التَّوْضِيح وحاشية على شرح الْقطر للفاكهى وحاشية على شرح التَّهْذِيب للخبيصى وحاشية على شرح ألفية ابْن مَالك وَغير ذَلِك من الرسائل النافعة وَله شعر كثير أَكْثَره جيد فَمِنْهُ قَوْله فى لحظه
(سحر فَسلم أر صَارِمًا ... فى غمده يفرى سواهُ فَمن أرى)
(عجبا لغصن البان من أعطافه ... فَوق الْكَثِيب لبدر تمّ أثمرا)
(قد صَامَ عَن وصل زَكَاة جماله ... قربا فَقير الْقلب رام ففطرا)
(صبرت عَنهُ الْقلب فَهُوَ بهجره ... ميت عَسى يرثى لمَيت صبرا)
(وَحَدِيث دمعى مُرْسل لما غَدا ... مِنْهُ الصدود مسلسلا ياما جرى)
(فالرأس مشتعل بشيب صدوده ... والعظم أضحى واهيا وَقد انبرى)
(وَالْقلب من مُوسَى لحاظ قد غدى ... مرضى كلما وَهُوَ لن يتغيرا)
(ان رام مرأى من بديع جماله ... جعل الْجَواب لَهُ وحقى لن ترى)
(واللحظ منى حِين أبْصر خَدّه ... فِيهِ الرّبيع جرى عَلَيْهِ جعفرا)
(يَا ذَا الذى قدر زار طيف خياله ... وأتى بَخِيلًا مَا تأهل للقرى)
(بالطيف قد منيت لَكِن بالاذى ... أتبعته فسلبت عَن عينى الكرا)
(مَا زار الا كى يعاتبنى على ... نومى فينفيه ويجنح للسرى)
(ولرب ليل طَال حَتَّى اننى ... قد قلت لَو كَانَ الصَّباح لَا سفرا)
(لَكِن ذكرت بِطُولِهِ وسواده ... شعر الحسان فطاب لى ان أسهرا)
وَاسْتمرّ ملازما للتدريس والافادة منعكفا على تَحْصِيل الْعلم ملازما لِلْعِبَادَةِ ممتعا بحواسه نَافِعًا بأنفاسه وَكَانَ مغرما بالطيب وَذَا دخل الْجَامِع الازهر يشم من بصدره رَائِحَة الْمسك والعنبر والغالية فَيعلم أهل الْجَامِع بقدومه وَكَانَت وَفَاته فى نَهَار الاحد عشرى شعْبَان سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
يس بن على بن أَحْمد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الحنبلى الْفَقِيه الْفَاضِل الرحلة رَحل الى مصر لطلب الْعلم فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَمكث الى سنة احدى وَخمسين وَأخذ عَن الشَّيْخ مَنْصُور البهوتى الْفِقْه والْحَدِيث والنحو وَقَرَأَ على الشَّيْخ عَامر الشبراوى بشرح ألفية العراقى للقاضى زَكَرِيَّا وَأَجَازَهُ بهَا وَبِمَا يجوز لَهُ رِوَايَته وَكَانَ يُفْتى على مَذْهَب الامام أَحْمد بن حَنْبَل رضى الله تَعَالَى عَنهُ بِبِلَاد نابلس وَكَانَ دينا صَالحا تقيا حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَخمسين بعد(4/492)
الالف تَقْرِيبًا
يس بن مُحَمَّد الخليلى نزيل الْمَدِينَة ابْن أخى الشَّيْخ غرس الدّين الخليلى الْمُقدم ذكره الْفَاضِل المطلع كَانَ مُتَمَكنًا من عُلُوم كَثِيرَة لَا سِيمَا الْفِقْه والْحَدِيث أَخذ عَن عَمه الْمَذْكُور وَالشَّمْس البابلى وَغَيرهمَا وجد واجتهد ودرس بالحرمين وصنف كنبا مفيدة مِنْهَا شرح على ألفية السِّيرَة لابى الْفضل زين العراقى فى مجلدين وَشرح رياض الصَّالِحين للنووى لكنه لم يكمل وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت الثانى شهر ربيع الثانى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى
يس بن مصطفى البقاعى الدمشقى الْفَقِيه الفرضى الحنفى قَرَأَ بِدِمَشْق وَحصل وَضبط وَقيد وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَكَانَ قوى الحافظة فى فروع الْمَذْهَب وَكتب الاسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتاوى وَكَانَ يقْعد فى الْجَامِع الاموى عِنْد بَاب الْبَرِيد وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ اقبال زَاد وَولى امامة مَسْجِد بالمحلة الجديدة وَسكن هُنَاكَ وَكَانَ عِنْد أهالى تِلْكَ الْمحلة وَمَا يقرب مِنْهَا هُوَ الْمُفْتى حَقِيقَة وَكَانَ يُبَاشر لَهُم جَمِيع مَا يَقع من أنكحة وخصومات وَغَيرهَا وَلما ولى قَضَاء الشَّام الْمولى عُثْمَان الكردى نَهَاهُ عَن تعاطى شئ من ذَلِك الا باذنه فَلم ينْتَه فعزره تعزيرا بليغا ثمَّ كف بعد ذَلِك عَن مُخَالطَة شئ من ذَلِك الا نَادرا واستبد بِكِتَابَة الاسئلة وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
يُوسُف بن أَبى الْفَتْح بن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن السقيفى الدمشقى الحنفى امام السُّلْطَان وعلامة الزَّمَان فاق على أهالي عصره وأذعنت لَهُ بِالْفَضْلِ عُلَمَاء دهره ذكره الشهَاب الخفاجى فى الخبايا فَقَالَ فى حَقه فَاضل كَامِل قدمه الزَّمَان على غَيره من الافاضل لما صَار مقتدى دَار الخلافه فأضحى كل مجلى ومصلى لَا يُطيق خِلَافه فلاحت من بروج الشّرف شمس سعادته المشرقه وَصحت سَمَاء عزته من غيوم الغموم المطبقة
(وانثنى الزَّمَان ينشد فِيهِ ... هَكَذَا تخْدم الْمُلُوك السُّعُود)
فَقَالَ مجده طلع الصَّباح ونادى مُؤذن اقباله حى على الْفَلاح فَقَامَتْ الامانى خَلفه صُفُوفا وظلت أَرْبَاب الْفَضَائِل بسدنه عكوفا حَتَّى غص بِذَاكَ نَادِيه وشرق بِمَاء الْحَسَد معاديه وبحار مكارمه تقذف بدره وَالْمجد عِنْده حل بمستقره وَقَالَ البديعى فِيهِ امام السُّلْطَان الماضى شكرا لله مساعيه وامام السُّلْطَان الباقى أدام(4/493)
الله معاليه يُرِيد أَنه ولى الامامة للسُّلْطَان عُثْمَان أَولا ثمَّ للسُّلْطَان مُرَاد ثَانِيًا فالاول الماضى والثانى الباقى قلت ووليها ايضا للسُّلْطَان ابراهيم فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ الباقى ثمَّ قَالَ فَاضل عرف الدَّهْر قدره فَأطلع فى فلك النباهة بدره وميزه على أترابه وأقرانه تميز سميه على اخوانه وبلغه الرُّتْبَة الَّتِى تتقاعس عَنْهَا رُتْبَة التمنى واعتنى بِهِ فأوصلها اليه بِغَيْر مشقة التعنى وَذَلِكَ انه مَا شعر الا وخيل الْبَرِيد أَمَامه بأوامر ولى الامر ليَكُون امامه فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ بِتِلْكَ البقعه وَكَانَ محاصرا احدى ممالك شاه تِلْكَ الرقعة
(تطلع فى أَعلَى الْمصلى كَأَنَّمَا ... تطلع فى محرا دَاوُد يُوسُف)
وفى ثَالِث يَوْم وَصله بلغ السُّلْطَان من تِلْكَ الممنعة غَايَة مأموله واعتقد أَن ذَلِك الْفَتْح ببركة قدومه وقارن اعْتِقَاده فِيهِ غزارة علومه فاستخلصه لنَفسِهِ واتخذه نديمه أَوْقَات أنسه هَذَا وَله الْخط الذى يسحر عقول أولى الالباب حَتَّى كَأَنَّهُ اقتبس نَفسه من سَواد مقل حسان الْكتاب
(اذا كتب القرطاس خلت يَمِينه ... تطرز بالظلماء أردية الشَّمْس)
وَالشعر النَّضر الذى تبدو مِنْهُ نغثات السحر والنثر الْعطر الذى تروى عَنهُ نفحات الزهر انْتهى قلت ومولده بِدِمَشْق وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن عُلَمَاء عصره مِنْهُم الْحسن البورينى وَأكْثر انتفاعه بِهِ وَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ أَحْمد العسالى وَأَعْطَاهُ الله تَعَالَى مَا لم يُعْطه لاقرانه من الذكاء وَحسن الطَّبْع ولطف الشّعْر وحلاوة الْمنطق وَحسن الصَّوْت وَولى فى اول أمره خطابة السليمية ثمَّ سَافر الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة اشْتهر بهَا أمره وشاع وملا خبر فَضله وَحسن صَوته الاسماع وَلم يزل حَتَّى بلغ خَبره مسامع السُّلْطَان عُثْمَان فاستدعاه اليه وصيره امامه الْمُقدم فى المكانة وَالْمَكَان وَكَانَ فى الْعَهْد السَّابِق لكل سُلْطَان يلى السلطنة نظارة على جَامع بنى أُميَّة أظنها أَرْبَعِينَ عثمانيا فَجَعلهَا السُّلْطَان الْمَذْكُور خطابة ثَانِيَة فى الْجَامِع الْمَذْكُور وَأحسن بهَا اليه فَلَمَّا قتل السُّلْطَان عُثْمَان أقلع عَن الرّوم وَقدم الى دمشق وباشر الخطابة الْمَذْكُورَة ووجهت اليه الْمدرسَة السليمية فَأَقَامَ بِدِمَشْق يُفْتى ويدرس ويخطب الى السّنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ السُّلْطَان مُرَاد فى تِلْكَ السّنة قصد روان فتوفى امامه فى الطَّرِيق وَطلب اماما فَقيل لَهُ ان امام أَخِيك السُّلْطَان عُثْمَان فى دمشق وَأَنه أحسن امام يُوجد الْآن فَأرْسل اليه فَتوجه(4/494)
من دمشق وَاجْتمعَ بالسلطان مُرَاد بِمَنْزِلَة خوى وَولى الامامة الى ان مَاتَ ثمَّ وَليهَا لاخيه السُّلْطَان ابراهيم وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء العسكرين وَبلغ الرُّتْبَة الَّتِى مَا فَوْقهَا مطمح وَوَقع بَينه وَبَين الْمولى أَحْمد بن يُوسُف المعيد مناظرة فى مسَائِل من فنون كَانَت الْغَلَبَة فى جَانب صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ لَهُ قدرَة على المناظرة وَله تحريرات وتآليف مِنْهَا شرح على منظومة جدى القاضى محب الدّين فِيمَا سَمِعت وَكتب قِطْعَة صَالِحَة على الشفا للقاضى عِيَاض وَكَانَ أقرأه بِدِمَشْق ايام عودته وَكتب عَلَيْهِ من شعره قَوْله
(حتام نَلْهُو والنفوس رهينة ... فى قَبْضَة التمليح ولاحماض)
(وعلام نستحلى مرارات الْهوى ... بِمَا طب وملاعب وغياض)
(وإلاما نسترضى الانام وَكلهمْ ... غَضْبَان يمشى فى ملابس رَاض)
(هلا معينا فى خلاص نفوسنا ... من ربقة الاغراض والاعراض)
ط ...
(مستمسكين بِحَبل مدح مُحَمَّد ... خير الْبَريَّة ذى الْهدى الْفَيَّاض)
(وشفيعنا يَوْم الْجَزَاء بموقف ... رب الْخَلَائق فِيهِ أعدل قَاض)
(يَا أَيهَا الجانى الذى عَن دائه ... أضحى الطَّبِيب يروح بالاغماض)
(أَتعبت نَفسك عج بهَا فدواؤها ... وشفاء علتها شِفَاء عِيَاض)
(فَهُوَ الشِّفَاء بِهِ صِفَات الْمُصْطَفى ... تذكارها يبرى من الامراض)
(لله مَا ضمت سطور طروسه ... من معجزات كالسيوف مواض)
(وخلائق وشمائل نفحاتها ... تزرى بعرف حدائق ورياض)
(صلى عَلَيْهِ الله مَا سرت الصِّبَا ... مختالة فى ذيلها الفضفاض)
(والآل والصحب الْكِرَام مُسلما ... مَا دَامَ برق الجو فى ايماض)
(وَسَقَى الاله ثرى عِيَاض كلما ... سقيت منَازِل للورى وأراضى)
وَمن شعره قَوْله ايضا من قصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(سقتك وَهنا يَا دارها الديم ... وجاد مغناك الوابل الرذم)
(وَلَا أغبتك كل غادية ... وطفاء ينهال غبها الاكم)
(يخلفها فَوق جلهتيك من الخصب ربيع بِالنورِ مبتسم ... )
(حَتَّى نرَاهَا تختال فى حبر ... دون حلاها مَا نمنم الرقم)
(كم مر لى فِيك من بلهنية ... وآنسات الظباء لى خدم)(4/495)
(وَمن هَنَات بالرقمتين وفى الترب شِفَاء وفى الصِّبَا سقم ... )
(كَانَت وريا دارين فى فمها ... بل أَيْن مِنْهَا دارين واللطم)
(وَبَان أحقافها لنا علم ... وَالْيَوْم لَا بانها وَلَا الْعلم)
(خطْفَة برق طارت شرارتها ... على فؤادى فكله ضرم)
(آه لَهَا وَالْوَفَاء يغدر بى ... وآه ذى الْحبّ فى الْهوى ذمم)
(من فلتات قضيتها خلسا ... وسارقتنى ايامها الْقدَم)
(لله ايامنا بذى سلم ... مرت سَرِيعا كَأَنَّهَا حلم)
(أَيَّام واليت كل ذى هيف ... كالبدر تنزاح دونه الظُّلم)
(حَيْثُ ثغو والحسان باسمة ... والشمل بالغانيات مُنْتَظم)
(نصلت مِنْهُ مؤزرى علم الله برِئ والطرف مُتَّهم ... )
(يَا من رأى الْبَرْق فَوق كاظمة ... يخضب من كف ليله العنم)
(يبسم للارض وهى عابسة ... جذوة نَار خلالها فَحم)
(قَامَت فتاة فى الحى مقبسة ... نَارا من الربض مَالهَا ضرم)
(ضل ابْن ليل فى الركب يخدعه ... يرشده خلف والهوى أُمَم)
(ويلاه مالى ان شمت بارقة ... ظلت زفيرى بالنَّار تضطرم)
(وان سرت من سقط اللوى سحرًا ... نسيمة هَب فى الحشا ألم)
(حتام هَذَا الجفا وكل هوى ... على صروف الزَّمَان ينصرم)
(يَا بانة الواديين من اضم ... سقيت غيثا مَا أبرقت اضم)
(ايه ويار برق هَات عَن نفر ... ايْنَ اسْتَقَرَّتْ ظباؤه الجثم)
(هَل عهد لمياء بالعقيق على ... مَا كَانَ أم قد أَحَالهُ الْقدَم)
(وَهل لليلاتنا على سلمات الْجزع عود أم صوح السّلم ... )
(وَهل ظباء النقا بوجرة أم ... طارت بِهن الوخادة الرَّسْم)
(يَا خَابَ سعى الوشاة كَيفَ سعوا ... مَا بَيْننَا لَا مشت بهم قدم)
(باتوا وَفِيهِمْ هيفاء مترفة الْجِسْم زهاها العفاق وَالْكَرم ... )
(مصغية الحجل والسوار على ... ان الوشاحين فيهمَا نغم)
(قد نشأت والغرام بكنفها ... وأرضعتها فى حجرها النعم)
(مَا نطقت بالصفاء مصفقة ... من مَاء صد نميرها الشبم)(4/496)
(قد روحتها الْجنُوب آونة ... وصافتحتها الْعَوَارِض السحم)
(فَبَاتَ طل الْغَمَام يزعجها ... بوقعه تَارَة ويحتشم)
(تصقلها رَاحَة النسيم ضحى ... وتنتديها تَحت الدجى الديم)
(أبرد من ظلمها على كبدى ... اذا تدانى منا فَم وفم)
(وَمَا رياض بالحزن باكرها ... نوء السماكين وَهُوَ منسجم)
(فاعتم بِالنورِ جوها فغدت ... جنَّة لَهو من دونهَا ارْمِ)
(قد توج الرفد هام ربوتها ... ومنطقت خصر دوحها الحزم)
(ترنوا لى الْورْد عين نرجسها ... شزرا وثغر الاقاح يبتسم)
(تغص مِمَّا ضَاعَ العبير بهَا ... اذا تمشى نسيمها الفغم)
(ألطف من خلق من غَدا وعَلى ... منهل فتواه الْخلق تزدحم)
وَقَالَ متغزلا فى وادى التل من ضواحى دمشق
(أَقَمْنَا بوادى التل نستجلب البسطا ... بِحَيْثُ دنا منا السرُور وَمَا شطا)
(وَجِئْنَا لروض فتقت نسماته ... رَوَائِح يبْعَثْنَ الالوة والقسطا)
(وَقد ضربت افنان اغصانه لنا ... ستائر اذ مدت خمائله بسطا)
(يُبَارى بِهِ الْوَرق الهزار كراهب ... يحاكى بعبرانى أَلْفَاظه القبطا)
(ويعطف مَا بَين الغصون نسيمه ... كَمَا اجْتمع الالفان من بعد مَا شطا)
(ويملى أَحَادِيث الغرام الحوضه ... فيرويه لَكِن رُبمَا نسيت شرطا)
(جلسنا على الرخبراض فِيهِ هنيئة ... وَقد نظمت كالدر حصباؤه سمطا)
(بِهِ من لجين المَاء ينساب جدول ... تجعده أيدى النسيم اذا انحطا)
(حكى مُسْتَقِيم الْخط عِنْد انسيابه ... فنقط مِنْهُ الجو زهر الربى نقطا)
(سقى الله دهرا مر فى ظله لقد ... أصَاب بِمَا أولى وان طالما أخطا)
(وحيى على رغم النَّوَى كل لَيْلَة ... تقضت بِهِ لَا بالغوير وذى الارطا)
(ليالى لاريحانة اللَّهْو صوحت ... وَلَا وجدت فى أرْضهَا الجدب والقحطا)
(صَحِبت بِهِ مثل الْكَوَاكِب فتية ... احاديثهم فى مسمعى لم تزل قرطا)
(يفضون مختوم الصبابة والهوى ... ويروعن حب الْقلب لَا البان والخمطا)
(اذا نثروا من جَوْهَر اللَّفْظ لؤلؤا ... أود وَلَو بِالسَّمْعِ ألقطه لقطا)
(يديرون من كاس الحَدِيث سلافة ... وربتما تحكى الاحاديث اسفنطا)(4/497)
وَقَالَ متغزلا فى الصالحية ورياضها ومتشوقا اليها
(لله ايام لنا ... سلفت بسفح الصالحيه)
(قد طَابَ لى فى ظلها ... عرف الصبيحة والعشيه)
(أَيَّام كنت من الشبيبة فى بلنهية هنيه ... )
(وبساعدى خنث الشَّمَائِل ذُو لحاظ جؤذريه ... )
(رشأ يُدِير سلافة ... من مقلتيه البابليه)
(أضحى يفوق للحشا ... من قَوس حَاجِبه حنيه)
(كَيفَ النجَاة وَلَيْسَ لى ... من سهم ناظره تقيه)
(قسما بمبسمه الشهى وَمَا أحيلاه اليه ... )
(وَبِمَا حواه من ثناياه الْعَذَاب الؤلؤيه ... )
(وبطلعة كالبدر تحملهَا قناة سمهرية ... )
(وبمقلة قد علمت ... هاروت كَيفَ الساحريه)
(وبريقة كالمسك ... ممزوجا براح قرقفيه)
(وبصبح فرق تزدرى ... أنواره الشَّمْس المضيه)
(وبليل أصداغ بِهِ ... سفهت رى المانويه)
(مَا حلت عَن سنَن الغرام وَلَو تجرعت المنيه)
(تفدى ليالينا الَّتِى ... سمحت بِهِ نفسى الابيه)
(حَيْثُ الرياض ظلالها ... بالوصل وارفة نديه)
(وَالْوَرق تهتف فى الغصون بِطيب أحلان شجيه ... )
(باتت تبث لى الْهوى ... وأبثها وهى الخليه)
(بعثت لى الاشواق حَتَّى حركت منى السجيه ... )
وَكتب الى الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى فى صدر كتاب قَوْله
(الْقلب أصدق شَاهد ... عل على صدق المحبه)
(وَمن الْقُلُوب الى الْقُلُوب موارد للحب عذبه ... )
(طُوبَى لمن يسقى بكاس شرابها الْمَخْتُوم شربه ... )
فَكتب اليه العمادى فى الْجَواب قَوْله
(الْحبّ اظهر من اقمة شَاهد بَين الاحبه ... )(4/498)
(ومحية برهانها ... غير العيان تعد حبه)
(وان ارتضى الْمولى بفتوى الْقلب فليستفت قلبه ... )
وَكتب الى الامير منجك يَدعُوهُ الى الصالحية فَقَالَ
(يَا روحه ان لم تكن شقيقه ... لما حوى من كرم الخليقه)
(يَدْعُوك صب لم تزل صديقه ... بَان تكون فى غَد رَفِيقه)
(فى رَوْضَة أريضة أنيقه ... غصونها ناضرة وريقه)
(تبدى لَهُ اشعارك الرقيقة ... تروى حَدِيث جودة السليقه)
(عَن كرم الخيم عَن الحقيقه ... وَعَن عرى اخائك الوثيقه)
(فانهض وَمن اخلاقه خليقه ... بِحِفْظ ود حفظوا حُقُوقه)
(لَا زَالَ يهديك العلى طَرِيقه ... )
// وَمن محَاسِن شعره // قَوْله أَيْضا
(يَا من هَوَاهُ بقلبى لَيْسَ يبرح من ... بَين الترائب الشوق والاسف)
(ألية بليالينا الَّتِى سلفت ... وبالغرام وان أدّى الى تلفى)
(وبالدموع الَّتِى أجريتها غدرا ... ومدمع فِيك لم يطعم كرى ذرف)
(لأَنْت أَنْت على مَا فِيك حبك فى ... جوانحى كامن كالدر فى الصدف)
وَقَوله عاقدا للْحَدِيث الشريف أحبب حَبِيبك هونا مَا فَعَسَى ان يكون عَدوك يَوْمًا مَا وَأبْغض عَدوك هونا مَا فَعَسَى أَن يكون صديقك يَوْمًا مَا
(بَين الْمحبَّة والتباغض برزخ ... فِيهِ بَقَاء الود بَين النَّاس)
(بِخِلَاف اقصى الْحبّ أَو أقْصَى الذى ... هُوَ ضِدّه من كل قلب قاسى)
( ... فمآل كل مِنْهُمَا نَدم على ... تفريطه نَدم بِغَيْر قِيَاس)
وَمن مقاطيعه
(أحببتها هيفاء يزرى قدها ... بالغصن حركه النسيم فحركا)
(مرت فَضَاعَ الْمسك من أردانها ... فوودت بالاردان ان أتمسكا)
وَقَوله
(يَا وَيْح قلبى من هوى شادن ... يجرحه اللحظ بتكراره)
(أرنو فتغدو وردتا خَدّه ... بنفسجا يزهى بنواره)
وَقَوله
(أُفٍّ لدُنْيَا لم تزل ... عَن وَجه ذَلِك سافره)
(تعميرها مُسْتَلْزم ... تخريب دَار الْآخِرَه)(4/499)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى ذى الْحجَّة سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سنة سِتّ وَخمسين وَألف بِمَدِينَة قسطنطينية وَدفن باسكدار والسقيفى نِسْبَة الى جَامع السقيفه بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة بعْدهَا فَاء جَامع بِدِمَشْق خَارج بَاب توما مَعْرُوف كَانَ جده مَنْصُور خَطِيبًا بِهِ فَقيل لَهُ السفيفى انْتهى
يُوسُف بن أَحْمد الملقب جمال الدّين أَبُو المحاسن العلموى الشَّاعِر كَانَ فى طَلِيعَة عمره يتكسب بِالشَّهَادَةِ ثمَّ تَركهَا وَولى بعض التداريس وَله شعر كثير وَكَانَ كثيرا مَا يراسل ابناء عصره بالقصائد المطولة والالغاز والاحاجى ويمتدح الموالى الواردين وخلفاء آل عُثْمَان ويلتمس من ادباء دمشق التقريظ وَمن جملَة مَاله قصيدة رائية نظمها فى مدح الْمولى فيض الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالقاق حِين كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق وقرظ عَلَيْهَا عَامَّة الادباء وَقد جمع التقاريظ عبد الْكَرِيم الطارانى فى دفتر مُسْتَقل سَمَّاهُ بالفياح المسكيه فى المدائح الفيضيه وَمِنْهَا قصيدة فى مدح السُّلْطَان مُرَاد بن سليم جمع الطارانى أَيْضا تقاريظها وسماها بُلُوغ المُرَاد فى مدح السُّلْطَان مراه وهى مرتبَة على حُرُوف المعجم وَكَانَ فى مشيته خطل مَعَ نِهَايَة الطول حَتَّى قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء
(قَالَ الاديب العلموى ... الشّعْر عَنى ينْقل)
(لاننى نظامه ... أَلَيْسَ انى اخطل)
وَمن شعره
(لما رَأَيْت مناصبى قد وجهت ... لملفق مَعَ أَحمَق ترياقى)
(وَعلمت أَنى لَا أفوز بردهَا ... ادركت مُنْتَفعا بِبيع الباقى)
(وَبقيت فى ايامكم ذَا فافة ... مَشْهُورَة فى سَائِر الْآفَاق)
وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاحد سادس عشر صفر سنة سِتّ بعد الالف وَدفن بمقبرة الفراديس
يُوسُف بن أَحْمد بن يُوسُف المنعوت جمال الدّين الْعَدْوى البقاعى رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب كَانَ حسن الْخط كَثِيرَة الْخِبْرَة بأساليب المتقدميين لحق ابْن قاضى نابلس وَأخذ عَنهُ وَولى رياسة الْكتاب بعد ابْن خطاب وَكَانَ يكْتب بَين يدى الموالى وَلم يكن بِالْعَرَبِيَّةِ بالعارف لكنه كَانَ دينا عفيفا فى شَهَادَته لَا يكْتب خطه فى الصكوك الَّتِى لم يحضر وقائعها وَلَو دفع لَهُ المَال الْكثير وَلَا يتجاسر أحد عَلَيْهِ فى طلب ذَلِك مِنْهُ وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس وعشرى جُمَادَى الاخرة سنة(4/500)
سبع وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
يُوسُف بن زَكَرِيَّا المغربى نزيل مصر الاديب الشَّاعِر قَالَ الشهَاب فى تَرْجَمته عَزِيز مصره بنانا وبيانا ويوسف عصره حسنا واحسانا نَشأ يتعاى صَنْعَة الادب ويربط بِأَوْتَادٍ شعره كل سَبَب ويشارك فى تِجَارَة الْفضل بِنَصِيب ويرمى لاغراضها كل سهم مُصِيب بطبع ألطف من نسمَة الشمَال سرت سحرة بليلة الاذيال متتابعة الانفاس فنبهت طرف نور فى مهد الرياض نُعَاس وَقد خمشت الصِّبَا خد الشَّقِيق وخاضت بحار الدياجى من كل فج عميق مرتدية برداء السحر معانقة لقدود الشّجر ثمَّ قَالَ وَله مورد من الادب صفى وديوان سَمَّاهُ الذَّهَب اليوسفى والذى رَأَيْته من خَبره أَنه قَرَأَ بِمصْر وَأخذ عَن يحيى الاصيلى وَبِه تخرج والبدر القرافى وأبى النجا سَالم السنهورى والاستاذ مُحَمَّد البكرى قدس سره وَغَيرهم وَمن شعره قَوْله
(أوصيك ان شخص غَدا ... يضْحك ان مر بكا)
(لَا تغتترر بضحكه ... فان هَذَا كالبكا)
وَقَوله
(اشرب وَلَا تعتب على عاذل ... فَمثله فى النَّاس لم يعتب)
(وان تكن يَا سيدى طَالبا ... درا وياقوتا من الْمطلب)
(فالكاس والصهباء فِيهَا الْغِنَا ... فَخذ حَدِيث الْكَنْز عَن مغربى)
وَله أَيْضا
(جعلُوا الشُّعُور على الخصور بنودا ... والراح ريقا والشقيق خدودا)
(جعلُوا لاصباح مباسما ثمَّ الظلام ضفائرا ثمَّ الرماح قدودا ... )
(والورد خدا والغصون معاطفا ... وَالشَّمْس فرقا والغزالة جيدا)
(وَرَأَتْ غصون البان أَن قدد وهم ... فاقت فاضحت ركعا وسجودا)
وَهَذَا كَقَوْل ابْن قلاقس من قصيدة أَولهَا
(عقدوا الشُّعُور معاقد التيجان ... وتقلدوا بصوارم الاجفان)
وَله فى مليح اسْمه رَمَضَان
(رَمَضَان قد جِئْته رمضانا ... وَهُوَ بدر يفوق كل الحسان)
(قلت صلنى فَقَالَ وَهُوَ مُجيب ... لَا يجوز الْوِصَال فى رَمَضَان)
وَهَذَا كَقَوْل الآخر فى هَذَا الْمَعْنى
(بليت بِهِ فَقِيها ذَا جِدَال ... يُجَادِل بِالدَّلِيلِ وبالدلال)(4/501)
(طلبت وصاله والوصل حُلْو ... فَقَالَ نهى النبى عَن الْوِصَال)
قَالَ الشهَاب وَاعْلَم ان هَذَا كُله لَيْسَ بِشعر ترتضيه الادباء وَهُوَ كل شعر اكثر فِيهِ من البديع قَالُوا وَأول من أتلف الشّعْر العربى بِهَذَا النمط مُسلم بن الْوَلِيد ثمَّ تبعه أَبُو تَمام وَأحسن هَذِه الصَّنْعَة التَّجْنِيس والتورية وهما فى الشّعْر كالزعفران قَلِيله مفرح وَكَثِيره قَاتل وَلذَا لم نجد فى أهل مصر من يعرف الشّعْر وَلَا ينظمه وَمِنْهُم من غلط فى ذَلِك فَأكْثر من اللُّغَات الغريبة وتوهم بذلك انه يصير بليغا على ان بَاب التورية قفله ابْن نَبَاته والقيراطي ثمَّ رميا الْمِفْتَاح فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَهَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا من لَهُ سليقة عَرَبِيَّة وَكتب الى الخفاجى سؤالا ادبيا صورته أَيهَا الاخ الشَّقِيق الشفيق والرفيق الرَّقِيق الامام الْهمام الهادى لسبالة الافهام اذا ضلت فى مهامه الاوهام اننى اشكل على قَول أَبى مَنْصُور الثعالبى فى الْيَتِيمَة اتّفق لى أَيَّام الصِّبَا معنى بديع حسبت انى لم اسبق اليه وَهُوَ هَذَا
(قلبى وجدا مشتعل ... وبالهموم مشتغل)
(وَقد كستنى فى الْهوى ... ملابس الصب الْغَزل)
(انسانة فتانة ... بدر الدجى مِنْهَا خجل)
(اذا زنت عينى بهَا ... فبالدموع تَغْتَسِل)
هَل استعارته لنظر الحبيب الزِّنَا مِمَّا يعد فى الادب // معنى حسنا // أَو هُوَ مِمَّا تجَاوز الْحَد فَاسْتحقَّ بِالزِّنَا الْحَد فَكتب اليه مجيبا ايها الاخ قُرَّة الْعين وَبدر هَالة الْمجَالِس الذى هُوَ لَهَا زين انه من الْمعَانى القبيحة المورثة للفضيحة وَقد سبقه اليه ابْن هِنْد فى قَوْله
(يَقُولُونَ لى مَا بَال عَيْنك مذ رَأَتْ ... محَاسِن هَذَا الظبى أدمعها هطل)
(فَقلت زنت عينى بطلعة وَجهه ... فَكَانَ لَهَا من صوب أدمعها غسل)
وَهُوَ // معنى قَبِيح // واستعارة بشعة أَلا ترى الى مَا قيل فى الذَّم
(أَيهَا الناكح فى الْعين جوارى الاصدقاء ... )
وَقَول صردر فى قصيدته الْمَشْهُورَة وان كَانَ معنى آخر
(يَا عين مثل قذاك رُؤْيَة معشر ... عَار على دنياهم وَالدّين)
(نجس الْعُيُون وان رأتهم مقلتى ... طهرتها فَنُزِحَتْ مَاء عيونى)
وَكَيف يَتَأَتَّى لهَؤُلَاء مَا قَالُوهُ بعد قَول يزِيد بن مُعَاوِيَة فى شعره الْمَشْهُور(4/502)
(وَكَيف ترى ليلى بِعَين ترى بهَا ... سواهَا وَمَا طهرتها بالمدامع)
(أَجلك يَا ليلى عَن الْعين انما ... أَرَاك بقلب خاشع لَك خاضع)
وَمِنْه أَخذ الْعَفِيف التلمسانى
(قَالُوا اتبكى من بقلبك دَاره ... جهل العواذل دَاره بجميعى)
(لم ابنكه لَكِن لرؤية غَيره ... طهرت أجفانى بفيض دموعى)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الاربعاء ثامن عشر ذى الْقعدَة سنة تسع عشرَة بعد الالف ورثاه النُّور الاجهورى
(رحم الله الْمَعْنى يوسفا ... كَانَ زهرا فى رياض الادب)
(فَسَقَاهُ الْمَوْت كاسات الردى ... فَبكى الشرق لفقد المغربى)
الامير يُوسُف بن سَيْفا أَمِير طرابلس الشَّام وأوحد الْمَشَاهِير بِالْكَرمِ والانعام ولى حُكُومَة طرابلس مُدَّة طَوِيلَة واشتهر عَنهُ عزة عَظِيمَة ونعمة جزيلة وقصده الشُّعَرَاء بالمدائح وأهدوا اليه أنفس بدايه المدائح وَكَانَ فى نفس الامر مِمَّن تفرد بالهبات الطائلة وَرغب فى ادخار الثَّنَاء الْحسن بالعطايا الشاملة واقتدى بِهِ أَخُوهُ الامير على وَابْنه الامير حُسَيْن وَابْن أَخِيه الامير مُحَمَّد فَكَانَت دولتهم السيفية اليوسفية كَمَا سَمِعت عَن الدولة البرمكية والمعتمدية جمعُوا للمعالى شملا واصبحوا للمكارم أَهلا وَكَانَت لَهُم بِلَاد طرابلس صافيه ووعود الزَّمَان بالمراد لمن قَصدهَا وافيه وَكَانَ الامير يُوسُف أكبر الْقَوْم سنا وأحدهم فى النجدة والبأس سنا وَهُوَ الذى أسس لَهُم الدولة فبنوا عى اساسه وَاقْتَدوا بِهِ فى أَمر الْحُكُومَة مستضيئين بنبراسه وَله من الْآثَار مَسْجِد بناه بطرابلس فَقيل فى تَارِيخه
(بِنَا ابْن سَيْفا يُوسُف مَسْجِدا ... دَامَ أَمِيرا للعلى راقيا)
(وَمن بنى لله بَيْتا يكن ... عَلَيْهِ فى تَارِيخه رَاضِيا)
وقصة مقاتلته ابْن جانبولاذ وانكساره قد قدمناها فى تَرْجَمَة ابْن جانبولاذ فَلَا حَاجَة الى اعادتها وَكَانَت وَفَاته فى عشر الثَّلَاثِينَ وَالله أعلم
يُوسُف بن عبد الرَّزَّاق الاستاذ أَبُو الاسعاد بن أَبى الْعَطاء بن وَفَاء المالكى المصرى كَانَ عَلامَة زَمَانه فى التَّحْقِيق وَله الشُّهْرَة التَّامَّة بالمعرفة التَّامَّة بَين ذَلِك الْفَرِيق وَله // الشّعْر الْحسن والنثر الذى يعجز عَن محاكاته // ارباب الفصاحة واللسن أَخذ الْعُلُوم عَن أَبى النَّجَاء السنهورى وأبى بكر الشنوانى وَعَن الدنوشرى(4/503)
وَالشَّيْخ فَايِد الازهرى والاجهورى وَلبس الْخِرْقَة وتلقى طريقتهم الوفائية الشاذلية عَن عَمه الاستاذ مُحَمَّد عَن وَالِده أَبى المكارم ابراهيم عَن وَالِده أَبى الْفضل مُحَمَّد المجذوب عَن وَالِده الاستاذ أَبى المراحم مُحَمَّد عَن أَبى الْفضل عبد الرَّحْمَن الشَّهِيد عَن وَالِده الشهَاب سيدى أَحْمد أخى على عَن والدهما الاستاذ الْكَبِير أَبى الْفضل سيدى مُحَمَّد وَفَاء عَن سيدى دَاوُد باحلا مؤلف عُيُون الْحَقَائِق وشارح حزب الْبَحْر عَن الاستاذ الْكَبِير تَاج الدّين بن عَطاء السكندرى مؤلف التَّنْوِير وَالْحكم ولطائف المنن وَغَيرهَا عَن الاستاذ أَبى الْعَبَّاس المرسى عَن القطب الربانى الاستاذ الشريف الحسيب النسيب أَبى الْحسن الشاذلى عَن الشريف عبد السَّلَام ابْن بشيش عَن الشريف أَبى مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار الْحسنى الادريسى عَن أَبى مَدين التلمسانى عَن الشاشى عَن أَبى سعيد المغربى عَن أَبى يَعْقُوب النهرحوى عَن الْجُنَيْد عَن خَاله السقطى عَن مَعْرُوف الكرخى عَن على الرِّضَا عَن أَبِيه مُوسَى الكاظم عَن أَبِيه جَعْفَر الصَّادِق عَن أَبِيه مُحَمَّد الباقر عَن أَبِيه على زين العابدين عَن أَبِيه الْحُسَيْن عَن أَبِيه على بن ابى طَالب رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ ودرس وأملى الْكثير وَحضر دروسه الاجلاء من الشُّيُوخ كالغنيمى والاجهورى والحلبى وَحج مَرَّات وأتى الْبَيْت الْمُقَدّس وَله شعر كثير من ذَلِك قَوْله
(قسما بكم يَا سادتى وغرامى ... مَا حلت عَن عهدى لكم وذمامى)
(وَأَنا الْمُقِيم لكم على عهد الوفا ... وعَلى هواكم تنقضى ايامى)
(غيرى يُغَيِّرهُ الْجفَاء عَن الْهوى ... فيميل نَحْو ملامة اللوام)
(وَأَنا الذى لَو مت فِيكُم لم احل ... عَنْكُم وَلَا يثنى الملام زمامى)
(يَا سادتى عطفا على عبد لكم ... فعساكم تحنوا على الخدام)
(فالقلب فى نيران تبريح الجوى ... يصلى وجفنى من جفاكم دامى)
وهى طَوِيلَة وَمن ظرائف لطائفه قَوْله
(حيهم ان جئتهم يَا سعد حى ... فهم أهل الوفا فى كل حى)
(عش بهم سبا ومت فى حبهم ... من يمت فى حب حى فَهُوَ حى)
(هم مُلُوك الارض سَادَات الورى ... فاروعنهم واطو ذكر الفى طى)
(لم يزل احسانهم يغمرنا ... مُطلقًا بالفيش من نشروطى)
مِنْهَا
(يَا لسانى أَدَم الْمَدْح لَهُم ... دَائِم الدَّهْر وَيَا فكرى تهى)(4/504)
(أَنا وَالله محب لكم ... صدقونى لَيْسَ بعد الله شى)
(مختف حبكم فى مهجتى ... عَن جَمِيع الْخلق الا ملكى)
(مذ منحتم بوفا دون جَفا ... فَكَذَا أنسيتمونى ابوى)
الخ وَكَانَت وَفَاته فى مرجعه من الْحَج غرَّة صفر سنة احدى وَخمسين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالجامع الازهر فى محفل لم ير فى هَذِه الاعصار مثله وَدفن رَحمَه الله تَعَالَى فى زَاوِيَة سلفه السادات بنى الْوَفَاء رضى الله عَنْهُم ورثاه الشهَاب الخفاجى بقوله
(قضى نحبه وَالْحج قطب لروحه ... دَعَا ربه نَحْو الْجنان فلبت)
(فَمن حج للبيت الْعَتِيق على تقى ... فَروح أَبى الاسعاد لله حجت)
(وَمن حج للرحمن احرام حجَّة ... مُجَرّدَة من جِسْمه دون موقت)
(فَلَا بَرحت سحب الرِّضَا حول قَبره ... تظل لَهُ هطالة سحب رَحْمَة)
وانما ذكرت رجال هَذِه الطَّرِيقَة على التَّفْصِيل لكَونهَا خَاصَّة بِهَذَا الْبَيْت وَيتَعَلَّق بالْمقَام فَائِدَة جليلة فى لبس الْخِرْقَة الَّتِى تقدم ذكرهَا وهى مَا قَالَ الصّلاح ان من الْقرب لبس الْخِرْقَة وَقد استخرج لَهَا بعض الْمَشَايِخ أصلا من السّنة وهى حَدِيث أم خَالِد قَالَت أَتَى النبى
بِثِيَاب فِيهَا خميصة سَوْدَاء صَغِيرَة فَقَالَ ائتونى بِأم خَالِد فَأتى بى قَالَت فالبسنيها بِيَدِهِ وَقَالَ ابلى وأخلقى وَهُوَ مخرج فى الصَّحِيح قَالَ ولى فى الْخِرْقَة اسناد عَال جدا وَذكره ثمَّ قَالَ وَلَيْسَ بقادح فِيمَا أوردناه كَون لبس الْخِرْقَة غير مُتَّصِل الى منتهاه على شَرط أَصْحَاب الحَدِيث فى الاسانيد فان المُرَاد مَا تحصل بِهِ الْبركَة والفائدة باتصالها بِجَمَاعَة من الصَّالِحين انْتهى
يُوسُف بن عبد الْملك البغدادى الدمشقى الْمَعْرُوف بالحمار كَانَ أحد الاعاجيب فى حسن الْعشْرَة ومخالطة النَّاس وسعة الرِّوَايَة فى الاخبار والنوادر وَكَانَ وجيها كَبِير الْعمة أَبيض اللِّحْيَة وَصرف عمره فى الطّلب وَالْقِرَاءَة وَحُضُور دروس الْعلم وَلزِمَ الشَّيْخ رَمَضَان العكارى وَالشَّيْخ عبد البافى الحنبلى وَغَيرهمَا الا انه لم يحصل شَيْئا الا الْقَلِيل لغباوة كَانَت فِيهِ وَلِهَذَا لقب بالحمار وانما ذكرته لَان كثيرا من الادباء كَانُوا يعرضون بِهِ فى بعض اشعارهم ويبنون على لقبه اشياء وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء سَابِع عشرى شهر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَخلف مَالا كثيرا وَقَالَ الامير منجك فى التَّعْرِيض بِهِ
(قيل عاشت بِمَوْتِهِ وارثوه ... حَيْثُ كَانُوا من فَقرهمْ فى اكتئاب)(4/505)
(قلت لابدع قد سمعنَا قَدِيما ... يَوْم موت الْحمار عيد الْكلاب)
يُوسُف بن عمرَان الحلبى الشَّاعِر الْمَشْهُور قَالَ الخفاجى فى تَرْجَمته أديب نظم ونثر فَأصْبح ذكره جمال الْكتب وَالسير الا انه لعبت بِهِ ايدى النَّوَى رحْلَة وَنَقله فَجعل الآمال على كؤوس الْآدَاب نَقله وَهُوَ لعمرى اديب اريب مَاله فى ضروب النّظم ضريب وحاله غير مُحْتَاج لدَلِيل انى وَلَا لمى فانه كَمَا عرفت الشَّاعِر الامى كَمَا قيل
(أَصبَحت بَين النَّاس اعجوبة ... بَين ذوى الْمَعْقُول والفهم)
(حموى جدى فاعجبوا وانظروا ... عمى خالى وأبى أمى)
وفى آخر عمره داسته اقدام النوب وادركته حرفه الادب فَصَبر على الايام المكدرة الى ان صفت وعَلى الليالى الجائرة فَمَا انصفت وَقَالَ السَّيِّد أَحْمد ابْن النَّقِيب الحلبى فى حَقه هُوَ أحد الْمَشْهُورين بِهَذِهِ الصِّنَاعَة والمتعيشين بكسب هَذِه البضاعة وَكَانَ فى أول أمره ذَا تِجَارَة وَمَال ونباهة وَحسن حَال فقارن الادباء من ابناء عصره وتشبث باذيالهم وَقصد أَن ينخرط فى سلكهم وينسج على منوالهم فنثر ونظم واستسمن كل ذى ورم وَأقَام على ذَلِك مُدَّة مديدة بحلب الى ان ادركته بهَا حِرْفَة الادب فَطَافَ بِلَاد الشَّام والقاهرة المعزية ثمَّ توجه الى دَار السلطنة السنيه وامتدح اكابر علمائها وانتجع ندى رؤسائها وَمن شعره
(قُولُوا لمن بهزال الْفقر يذكرنى ... ظَنَنْت انك فى أَمن من المحن)
(فالشاة يُؤْكَل مِنْهَا اللَّحْم ان عجفت ... وَلَيْسَ يُؤْكَل لحم الْكَلْب بالسمن)
وَقد جمع ديوانا من شعره كتب عَلَيْهِ بعض الشُّعَرَاء
(لشعر يُوسُف بَحر فى تموجه ... يهدى لافهامنا روحاً وريحانا)
(ذُو منطق سَاحر مطر وَذَا عجب ... للسحر ينشئه وَهُوَ ابْن عمرانا)
وَمن منتجات أشعاره قَوْله
(غُصْن تمايل فى قبَاء اخضر ... بَين الْكَثِيب وَبَين بدر نير)
(ريم أحم المقلتين اذا رنا ... فتن الانام بِسحر طرف احور)
(يَسْطُو على بأبيض من أسود ... وَمن القوام اذا ثناه بأسمر)
(سلب النهى مِنْهُ بقوسى حَاجِب ... اذ حل صبرى عقد بند الخنجر)(4/506)
وَمِنْهَا فى الْمَدْح
(يعْطى الْكثير عفاته ويظنه ... نزرا فيشفعه حَيا بالاكثر)
(لما أرانى جعفرا من جوده ... فأريته شعر الْوَلِيد البحترى)
وَله
(جَاءَت تهز قوامها الا ملودا)
حسناء ألبسها الْجمال برودا)
(حورية فى اللَّيْل ان هى أسفرت ... خرت لطلعتها البدور سجودا)
(لم يكفها تحكى الغزالة طلعة ... حَتَّى حكتها مقلتين وجيدا)
(لعساء بَارِدَة اللمى وجناتها ... كالجمر أحرقت الْفُؤَاد وقودا)
(هى رَوْضَة لِلْحسنِ صَار خدودها التفاح وَالرُّمَّان صَار نهودا ... )
(فالحسن يكسو كل حِين وَجههَا ... ثوبا اغر من الْجمال جَدِيدا)
(يستوقف الاطيار حسن غنائها ... وغنائها ابدا تظن العودا)
وَقَالَ
(لَا تنكروا رمدى وَقد ابصرت من ... أَهْوى وَمن هُوَ شمس حسن باهر)
(فالشمس مهما ان أطلت لنحوها ... نظرا تُؤثر ضعف طرف النَّاظر)
(وَلَقَد أطلت الى احمرار خدوده ... نظرى فعكس خيالها فى ناظرى)
وَله
(انْظُر الى أجفائه الرمد ... تبدل النرجس بالورد)
(تحمر لَا من عِلّة انما ... تأثرت من حمرَة الخد)
وَله أَشْيَاء كَثِيرَة من كل معنى مبتكر وَبِالْجُمْلَةِ فان // شعره جيد // وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَسبعين وَألف
يُوسُف بن مُحَمَّد أَبُو المحاسن الْقصرى الفاسى القطب النورانى المجدد على رَأس الالف الشَّيْخ الامام الْعَارِف بِاللَّه الْمُسْتَغْرق فى أنوار التجلى مَرْكَز أقطاب الدُّنْيَا أَخذ عَن البستى وَابْن جلال وَغَيرهمَا وَأخذ عَنهُ خلق كثير مِنْهُم أَخُوهُ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن وَكَانَ وَارِثا لمقام استاذه الاكبر سيدى عبد الرَّحْمَن بن عباد المجذوب فانه بِهِ تخرج وَقد أَشَارَ الشَّيْخ المجذوب الْمَذْكُور الى مقَام الوراثة مِنْهُ
الى عصره بقوله الحبيب مولاى مُحَمَّد الْقُلُوب مِنْهُ رويه الْكتاب عِنْد أهل السّنة وَالشرَاب عِنْد الصوفيه وَقد أفرد التَّرْجَمَة لشأنه وَذكر أخباره وَمَاله من الشُّيُوخ والتلامذة الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الفاسى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الاحد ثامن عشر شهر ربيع الثانى سنة ثَلَاث عشرَة وَألف(4/507)
يُوسُف بن مُحَمَّد البلقينى المصرى ثمَّ المكى رَئِيس الْقُرَّاء كَانَ من الافاضل الاجلاء حسن الْقِرَاءَة والتأدية ولقراءته وَقع عَظِيم فى الْقُلُوب انْتفع بِهِ خلق كثير وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة نَهَار الاربعاء حادى عشر الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالمعلاة
يُوسُف بن مُحَمَّد بن أَحْمد الطهوائى المالكى كَانَ من أكَابِر عُلَمَاء الْقَاهِرَة فى الْفِقْه والْحَدِيث والاصلين وَالْكَلَام أَخذ عَن الْبُرْهَان اللقانى وأبى الْعَبَّاس المقرى وَمن فى طبقتهما وَألف مؤلفات لَطِيفَة مِنْهَا منظومة حَسَنَة فى العقائد سَمَّاهَا فيروزج الصَّباح وَله غير ذَلِك من تحريرات وتقريرات وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى نَيف وَسِتِّينَ وَألف
يُوسُف بن مُحَمَّد القاضى جمال الدّين بن محب الدّين الايوبى الانصارى الدمشقى رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب كَانَ من دهاة الْكتاب شَدِيد الْبَأْس خَبِيرا باحوال النَّاس وَكَانَ فى أساليب الصكوك وَحسن الْخط وسط الْحَال تعانى فى اول أمره الشَّهَادَة بالكبرى وَصَارَ رَئِيسا بهَا ثمَّ نقل الى محكمَة الْبَاب وأثرى جدا وتملك الاملاك الْعَظِيمَة من الْبَسَاتِين وَغَيرهَا وَقفهَا على أَوْلَاده ثمَّ تفرغ عَن الرياسة وَلزِمَ الْعُزْلَة وعمى فى آخر أمره وَنقل ان سَبَب عماه حلف يَمِينا فاجرة فى خُصُومَة وَالله أعلم وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف عَن نَحْو تسعين سنة
يُوسُف بن القاضى مَحْمُود بن الملا كَمَال الدّين الكورانى الصديقى الاستاذ الْكَامِل الْعَالم الْعَامِل الحسيب النسيب الزَّاهِد أَخذ عَن كثير من شُيُوخ بِلَاده مِنْهُم ميرزا ابراهيم الحسينى الهمدانى وَعنهُ وَلَده الْعَلامَة مُحَمَّد وَغَيره وَله حَاشِيَة على حَاشِيَة الخيالى على شرح العقائد وحاشية على الخطائى وحاشية على تَفْسِير البيضاوى وَله رِسَالَة فى الْمنطق وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة بعد الالف
يُوسُف بن يحيى بن مرعى الطوركرمى الحنبلى رَحل الى مصر لطلب الْعلم فى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ مَنْصُور البهوتى وَعَن عَمه الشَّيْخ أَحْمد وَغَيرهمَا وَعَاد فى سنة تسع وَأَرْبَعين وَكَانَ يُفْتى بِبِلَاد نابلس وَكَانَ يمِيل الى(4/508)
القَوْل بِعَدَمِ وُقُوع الطَّلَاق فى كلمة مُوَافقَة لِابْنِ تَيْمِية وَكَانَت وَفَاته نَهَار الِاثْنَيْنِ عَاشر صفر سنة ثَمَان وَسبعين وَألف
يُوسُف بن يُوسُف بن كريم الدّين الدمشقى رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب بِدِمَشْق كَانَ شهما حاذقا أديبا مَشْهُور الصيت بعيد الهمة متمولا وَلم يكن فى الاصل مِمَّن سَاد بآبائه بل نبغ مجدا فى طلب المعالى فنالها باعتنائه وَصَارَ أَولا كَاتبا فى بعض المحاكم ثمَّ نقل الى محكمَة الْبَاب فَكَانَ بهَا مُدَّة ثمَّ صاهر القاضى أكمل بن مُفْلِح وَزوج كل من الآخر بنته ثمَّ لم يلبث القاضى أكمل حَتَّى مَاتَ فاستولى على مَا بِيَدِهِ من الاوقاف وَغَيرهَا وَكَانَ حُلْو اللِّسَان وَله دربة فى مصانعة الْقُضَاة ثمَّ مَاتَ مُحَمَّد نَاصِر الدّين الاسطوانى فتمت لَهُ الرياسة وَعظم شَأْنه وَلما كَانَ أَحْمد باشا الْحَافِظ نَائِبا بِدِمَشْق هدده فَتَنَاول مِنْهُ مَا شَاءَ من المَال ثمَّ ولاه قَضَاء الْعَسْكَر لما خرج الى قتال ابْن معن وَولى قَضَاء الركب الشامى وَجمع مَالا كثيرا ثمَّ سَافر الى الرّوم وانتمى الى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُنْفَصِلا عَن قَضَاء العسكرين فَأعْطى رُتْبَة الدَّاخِل بمعونة شيخ الاسلام الْمَذْكُور ثمَّ عَاد الى دمشق وتصدر بهَا وَعمر الْقصر بصالحية دمشق وَهُوَ من أحسن المنتزهات وَفِيه يَقُول الامير منجك
(قُصُور الشَّام محكمَة المبانى ... وَلَا قصر كقصر بنى الكريمى)
وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
يُوسُف الاصم الصفرانى الكردى سمى الاصم لانه كَانَ يطالع وَمر عَلَيْهِ عَسْكَر كثير وتلوثت ثِيَابه بالطين من مَشى خيلهم وَلم يشْعر بهم فَسمى أَصمّ أحد أعاظم الْمُحَقِّقين قَرَأَ ببلاده على شُيُوخ كثيرين وَمن مؤلفاته تَفْسِير الْقُرْآن مَشْهُور بِبِلَاد الاكراد وَله فى الْفِقْه الْمسَائِل والدلائل وحاشية على حَاشِيَة عِصَام على الجامى وحاشية على حَاشِيَة شرح القطب للشمسية لقره دَاوُد وحاشية على حَاشِيَة الفنرى لقَوْل أَحْمد وحاشية على شرح الانموذج لسعد الله وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بعد الالف بِقَلِيل
يُوسُف الزفزانى المغربى قَالَ المناوى فى تَرْجَمته تحول جده من الْمغرب الى زفزان قَرْيَة بالبحيرة فاستوطنها ثمَّ ولد لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة فحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن وَالِده التصوف وسلك بِهِ وَمن آدابه قَالَ مَا رفعت بصرى الى وَجه والدى مُنْذُ سلوكى عَلَيْهِ وَلَا جَلَست بِحُضُورِهِ وَلَا واكلته ثمَّ تحول من مصر الى بولاق وَأَقْبل على الْعِبَادَة(4/509)
الى ان مَاتَ فى سنة خمس عشرَة وَألف
يُوسُف القره باغى نِسْبَة لقره بَاغ من قرى همذان أحد أكَابِر الْعلمَاء الْمُحَقِّقين توفى فى نَيف وَثَلَاثِينَ وَألف
يُوسُف القيسى المالكى أحد أكَابِر مَشَايِخ الازهر الملازمين للدرس قَرَأَ عُلُوم الْعَرَبيَّة على الشَّيْخ أَبى بكر الشنوانى ولازم الْبُرْهَان اللقانى وشاركه فى كثير من مشايخه وَجلسَ للتدريس فاشتهر بالنفع التَّام وَكَانَ فِيهِ حِدة فاذا غضب يضْرب الطّلبَة وَله مؤلفات مِنْهَا حواش على شرح الشذور وَشرح الْقطر وَشرح الازهرية وَغَيرهَا وَكَانَت وَفَاته سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف
يُوسُف الْمَعْرُوف بالبديعى الدمشقى الاديب الذى زين الطروس برشحات اقلامه فَلَو أدْركهُ البديع لاعتزل صَنْعَة الانشاء والقريض عِنْد اسْتِمَاع نثره ونظامه خرج من دمشق فى صباه فَحل فى حلب فَلم يزل حَتَّى بلغ الشُّهْرَة الطنانة فى الْفضل والادب وَألف المؤلفات الفائقة مِنْهَا كِتَابه الصُّبْح المنبى فى حيثية المتنبى وَكتاب الحدائق فى الادب وَلما رأى كتاب الخفاجى الريحانة عمل كتاب ذكرى حبيب فَأحْسن وأبدع وَأطَال وَأَطْنَبَ وأعرب عَن لطافة تَعْبِيره وحلاوة ترصيعه الا أَنه لم يساعده الْحَظ فى شهرته فَلَا أعلم لَهُ نُسْخَة الا فى الرّوم عِنْد استاذى الشَّيْخ مُحَمَّد عزتى ونسخة عندى وَمن شعره مادحا ومودعا ابْن الحسام شيخ الاسلام حِين انْفَصل عَن قَضَاء دمشق
(أحاشيه عَن ذكرى حَدِيث وداعه ... وأكبره عَن بثه واستماعه)
(وَمَا كَانَ صبرى عِنْد وَشك النَّوَى على الجوى غير صَبر الْمَوْت عِنْد نزاعه ... )
(وَنحن بأفق الشَّام فى خدمَة الذى ... يضيق الفضا عَن صَدره باتساعه)
(أجل حماة الدّين وَابْن حسامه ... وحامى حمى أَرْكَانه وقطاعه)
(عَشِيَّة توديع المآثر والعلى ... وكل فخار للورى فى رباعه)
(وَمَا سرت عَن وادى دمشق وَلم يسر ... وسودده فى مدنه وضياعه)
وَلها تَتِمَّة وَله فى مدح النَّجْم الحلفاوى
(رويدا هُوَ الوجد الذى جلّ بارحه ... وَقد بَعدت مِمَّن أحب مطارحه)
(هوى تاهت الافكار فى كنه ذَاته ... وَمتْن غرام عَنهُ يعجز شَارِحه)
مِنْهَا فى الْمَدْح
(امام أَطَاعَته البلاغة مارقا ... ذرى مِنْبَر الا وكادت تصافحه)(4/510)
(تعد الْحَصَى وَاللَّيْل تحصى نجومه ... وَلم يحص جُزْءا من سجاياه مادحه)
وشعره كثير أوردت مِنْهُ فى كتابى النفحة مَا فِيهِ مقنع ثمَّ ولى قَضَاء الْموصل ثمَّ توفى بالروم سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
يُوسُف الْمَعْرُوف بالحليق أحد مجاذيب دمشق الْمَشْهُورين بالكشف كَانَ يسكن بِالْمَدْرَسَةِ الحجازية وَكَانَ يمحو شعر وَجهه حَتَّى حواجبه وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الصمت فَلَا يتَكَلَّم الا نَادرا وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وَفَاته منتصف شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
يُوسُف الرضى القدسى الحنفى الْخَطِيب بالاقصى وَرَئِيس عُلَمَاء الْقُدس فى وقته كَانَ من الْفُضَلَاء أهل النباهة حسن الْخلق والخلق سخى الطَّبْع أديبا فصيحا قَرَأَ على مَشَايِخ عصره وتفوق وَكَانَ يلى نِيَابَة الْقَضَاء بالقدس وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من خِيَار أهالى بَيت الْمُقَدّس وَكَانَت وَفَاته فى سنة ارْبَعْ وَسبعين بعد الالف انْتهى تمّ يَقُول مصححه الْفَقِير السقيم مصطفى وهبى أمده الله بفيضه الْعَظِيم ان أبهى مَا تسطره أيدى الفصحاء وازهى مَا تنمقه أَقْلَام البلغاء حمد الاله العلى شَأْنه الْعَظِيم سُلْطَانه وأعذب مَا ترتاح لَهُ النُّفُوس وتتزين بِهِ الطروس دوَام الصَّلَاة وَالسَّلَام على أكمل انسان سيدنَا مُحَمَّد الْمُخْتَار من جرثومة عدنان وعَلى آله أَعْيَان السادات وسادات الاعيان الَّذين شيدوا مبانى الدّين وقواعد الايمان وَبعد فان أجمل مَا تحلت بِهِ الهمم واعتنت بِشَأْنِهِ الامم علم التَّارِيخ اذ هُوَ مرْآة الزَّمَان وسجل غرائب الْحدثَان الْمُتَكَلف بابراز نكت الاخبار وابداء محَاسِن آثَار الاخيار بِهِ يعرف الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وأحوال الْعَالم فى البدو والحضر كم مشكلة أماط عَنْهَا اللثام وابرزها مجلوة على طرف الثمام وَكَفاهُ شرفاً أَن الْقُرْآن الْكَرِيم(4/511)
احتوى على كثير من الاخبار ليذكر بهَا أولو الالباب والابصار وَلما كَانَت الْكتب فى هَذَا الْفَنّ الْجَلِيل لَا تدخل تَحت انحصار الا ان أَكْثَرهَا بعيد الْعَهْد متطاول الاعصار وَالنَّفس تتوق لاستكشاف مَا قرب مِنْهَا وَلم تبعد بِكَثِير عَنْهَا ابتدر الامير المتحلى بأنواع الْكَمَال الْمُرَجح لنشر الْعُلُوم بطبعه على سَائِر الآمال ذُو المعارف والعوارف مُحَمَّد باشا عَارِف اُحْدُ اعضاء مجْلِس الْأَحْكَام بِمصْر الْمُعْتَرف بفضائله الْعَصْر لطبع هَذَا السّفر الْمُفِيد وَالْكتاب الفريد الْمُسَمّى بخلاصة الاثر فى الْقرن الحادى عشر فانه حوى من آثَار الْفُضَلَاء ونكات الادباء مَا يشْهد لَهُ بِحسن النظام وَأَنه جدير بقول الاديب الْهمام
(وَرَأَيْت كل الفاضلين كَأَنَّمَا ... رد الاله نُفُوسهم والأعصرا)
فَعندهَا لباه هَذَا العَبْد الضَّعِيف مجياله فى انجاز هَذَا الْغَرَض المنيف فبذل فى تَصْحِيحه جهده وجدد بجميل الطَّبْع عَهده فَظهر فى محلّة الْوُجُود على الْوَجْه الاتم لمقصود وَكَانَ تَمام طبعه وايناع طلعه بالمطبعة الوهبيه بِمصْر المحميه فى أواسط ذى الْحجَّة ختام أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة المحمدية على صَاحبهَا أزكى سَلام وابهى تَحِيَّة مالاح بدر تَمام وفاح مسك ختام م(4/512)