ان نثر فَمَا اللُّؤْلُؤ المنثور انفصم نظامه أَو نظم فَمَا الدّرّ الْمَشْهُور نسقه نظامه بِخَط يزدرى بِخَط العذار اذا بقل وتحسد سَائِر الْجَوَارِح على مُشَاهدَة حسنه الْمقل وَلما دخل الْيمن فى دولة الرّوم أَقَامَ لَهُ رئيسها بِمَا يحب ويروم فولاه منصب الْقَضَاء وسطع نور أمله هُنَاكَ وأضاء وَلم يزل مجتليا وُجُوه أمانيه الحسان مجتنيا من رياضه أزاهر المحاسن والاحسان الى أَن انْقَضتْ مُدَّة ذَلِك الامير وَمنى الْيمن بعده بِالْفَسَادِ والتدمير فَانْقَلَبَ الى وَطنه وَأَهله وكابد خزن الْعَيْش بعد سهله كَمَا أنبأ بذلك قَوْله فى بعض كتبه وَلما قفلت عَائِدًا من الْيمن بعد وَفَاة المرحوم سِنَان باشا وانقضاء ذَلِك الزَّمن اخْتَرْت الاقامة فى الوطن بعد التشرف بِمَجْلِس الْقَضَاء فى ذَلِك العطن الا أَنه لم يحل لى التخلى عَن تذكر مَا كَانَ فى تذكرة الخيال مرسوما وتفكر مَا كَانَ فى لوح المفكرة موسوما فاخترت أَن أكون مدرسا فى الْبَلَد الْحَرَام وممار سالما آذن غب الْحُصُول بالانضمام وَلم يكن فى الْبَلَد الامين كفايه وَلَا مَا يقوم بِهِ الاتمام والوقاية انْتهى وَمَا زَالَ مُقيما فى وَطنه وبلده متدرعا جِلْبَاب صبره وَجلده حَتَّى انصرمت من الْعَيْش مدَّته وتمت من الْحَيَاة عدته ثمَّ أورد لَهُ فصلا من نثره فَقَالَ كتب من كتاب إِلَى بعض أَصْحَابه ينْهَى الْمُلُوك لَا يزَال ذَاكِرًا لتِلْك الايام الْمَاضِيَة شاكرا لهاتيك الاعوام الَّتِى حلت بِفضل مَوْلَانَا وَلَا أَقُول مرت بمسرات لَا تزَال النَّفس لدينها متقاضيه
(كم أردنَا هَذَا الزَّمَان بذم ... فشغلنا بمدح ذَاك الزَّمَان)
أقفر الصَّفَا من اخوان الصَّفَا وخلا الْحطيم من رَضِيع الادب والفطيم وأقوت المشاعر من أَرْبَاب الادراك والمشاعر
(كَأَن لم يكن بَين الْحجُون الى الصَّفَا ... أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر)
وَكَانَ علم مَوْلَانَا محيطا بحالى اذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالى فَلم يبْق من يدانيهم فضلا عَمَّن يساويهم وَلَا من يباريهم فَكيف بِمن يجاريهم وَلَقَد ذكرت هُنَا قَول بَعضهم
(دجا اللَّيْل حَتَّى مَا يبين طَرِيق ... وَخَوف حَتَّى مَا يقر فريق)
(وجردت يَا برق الْمنون مناصلا ... لَهَا فى قُلُوب المبصرين بريق)
(وزعزعت يَا ريح الردى كل شَاهِق ... عَلَيْهِ لانفاس النُّفُوس شهيق)
(سَلام على الايام ان صنيعها ... أَسَاءَ فَهَل لى بالنجاة لُحُوق)(3/421)
وَمن آخر كتب بِهِ الى كَاتب الحضرتين الشريفتين الحسنية والطالبية يعزيه بسُلْطَان الْحجاز الشريف أَبى طَالب سنة 1013 كتبت اليك كتب الله لَك سَعْدا لَا يزَال يَتَجَدَّد ومجدا لَا يَنْقَطِع بِانْقِضَاء ملك الا واتصل بِملك لمكى مؤيد وانما كتبت بِدَم الْفُؤَاد وأمددت اليراع سويداى وشفعها اللحظ بِمَا فى انسانه من السوَاد والمكون علم الله كَأَنَّمَا هُوَ بَحر من مداد والقلوب وَلَا أَقُول الاجساد مسر بلة بلباس الْحداد لَا يسمع الا الانين وَلَا يصغى الا لمن تفضح بنعيها ذَوَات الحنين أضحى النَّفْع من مثار النَّقْع كليلة من جُمَادَى وربات الْخُدُور يلطمن الخدود مثنى وفرادى وذ الحجى يغوص فى لجة الْفِكر فَيسمع لَهُ زفير وَلَيْث العرين كَاد من صدمة هَذَا الْمُصَاب أَن يتفطر من الزئير وشارف الْحطيم أَن يتحطم وَأَبُو قبيس أَن يتقطم وَبَيت الله لَوْلَا التقى لَقلت ود أَن يتهدم وأخال ان الْحجر أَسف حَيْثُ لم يكن تابوتا لذَلِك الجثمان وتندم أى داهية دهياء أَصَابَت قطان ذَلِك الْحرم وأى بلية نزلت بِلَازِم أذيال ذَلِك الْمُلْتَزم انا لله وانا اليه رَاجِعُون كلمة تقال عِنْد المصائب وَلَا نجد لهَذِهِ الْمُصِيبَة مثلا وَلم تشاركنا فِيهِ حزينة وَلَا ثَكْلَى بأى لِسَان نناجى وَقد أخرسنا هَذَا النَّازِل بأى قلب نحاجى وَقد بلغنَا هَذَا الْجد الهازل بَينا نَحن فى سرُور وَفَرح اذ نَحن فى هموم وترح أَشْكُو الى مخدومى ضحوة يَوْم شمسه كاسفه أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفه أقبل نعش لابس أَثوَاب المرحمة بعد الْخلَافَة المتلقى روحه الْمَلَائِكَة مَعَ الْحور على الارائك تتحفهم السلافه والايدى ممتدة تُشِير اليه بالعويل وَالْحجاج أَرْبَاب الفجاج يضجون بالنحيب الطَّوِيل وكادت آماقنا وَالله أَن تسيل وأضحت جلاميد الْقُلُوب كضحضاح المسيل فَلم نجد شخصا من الرعايا الا وَهُوَ محرور وَذُو قرَابَته فى الحى مسرور انا لله من هَذِه الطامة الَّتِى أدهشت الْعَامَّة وأذهبت الشامة لَيْت شعرى أبعده السلاهب تركب أم الجنائب تجنب أم المقربات تقرب أم المنابر يُتْلَى عَلَيْهَا غير اسْمه ويخطب
(واحر قلبا مِمَّن قلبه شبم ... )
(مضى من أَقَامَ النَّاس فى ظلّ عدله ... وآمن من خطب تدب عقاربه)
(فكم من حمى صَعب أَبَاحَتْ سيوفه ... وَمن مستباح قد حمته كتائبه)
(أرى الْيَوْم دست الْملك أصبح خَالِيا ... أما فِيكُم من مخبر أَيْن صَاحبه)
(فَمن سائلى عَن سَائل الدمع لم جرى ... لَعَلَّ فؤادى بالوجيب يجاوبه)(3/422)
(فكم من يدوب فى قُلُوب نضيجة ... بِنَار كروب أججتها نوادبه)
(سقت قَبره الغرا الغوادى وجادها ... من الْغَيْث ساريه الملث وساربه)
فَمَا كَانَ الا كلمحة طرف أَو حُلُول حتف وَقد وضع على الْبَاب الشريف وَسمع من أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة حفيف وتليت ولكنت أود أَن أكون الْمصلى وَلَا أكون التالى فى جَمِيع ذَلِك الترصيف فَمَا ترك الرئيس لقبا من الالقاب الا وحلاه بدره وَعلمه بدره حَتَّى كَاد النَّهَار أَن ينتصف والمقل أَن تسح بالدموع وتكف وَمن عدم انصاف الدَّهْر الخؤن أَن لم يطف بِهِ سبعا وَهُوَ لمليك هَذَا الْبَيْت مسنون ثمَّ ازْدحم على رفع جنَازَته قاضى الشَّرْع والساده فذادوه عَنْهَا ورفعوه على أَعْنَاق السلاطين والقاده وَقلت فى ذَلِك الْمقَام وعيناى تهمل وَلَا همول الْغَمَام يعز على أَن أَرَاك على غير صهوه وَأَن تنادى بامر غم الانوف وَلَا تجيب دَعوه وان تحف بك الصُّفُوف وَلَا تدع لكرك فِيهَا فجوه فطالما ضرعت لَك السلاطين وخضعت لَك الاساطين وأرعدت الفرائص وأوهنت القلائص وحميت الْحمى وَلم يرعك جساس واقتنصت حَتَّى لم تدع شادنا فى كناس أَو ليثا فى افتراس فَللَّه جدث ضمك وَقد ضَاقَتْ الارض عَن علاك وَللَّه لحد علاك وَقد اتَّخذت نعلك من السماك وَكَيف بك تحل فى الثرى وبالاثير ملعب جردك والسدرة مضمار اسلافك والنبوه لحْمَة بردك فلك بجدك فى ارتقائك الى الْعَالم العلوى أسوه وَلنَا بفقدك الْجزع الذى لَا يعقبه سلوه فَأَنت لقِيت الحبيب ولقينا بعْدك مَا يلقى الكئيب فلك الْبُشْرَى بلقيا رَبك وَنَرْجُو بك اللقيا على الْكَوْثَر وَأَنت فَرح بشرابك وشربك ثمَّ يَا عفيف لَا تسل عَن نعش حفه الْوَقار وتقدمه الرّوح الامين وَالْمَلَائِكَة الابرار فوائح الْمسك الاذفر تنفح من كل جَانب كَأَنَّمَا ينْقض من غدائر خرعوبة كاعب وَبِاللَّهِ أقسم ان طيبه نفحنى وَأَنا فى الخلوه وهم فى تجهيز تِلْكَ الذَّات على هاتيك العلوه وَحَاصِل مَا أقص عَلَيْك من الْقَصَص انا أودعنا فى كنف الرَّحْمَن ذَلِك القفص وعدنا وَنحن كَمَا يُقَال شَاهَت الْوُجُوه حيارى وَلَا نعلم من نؤمله ونرجوه وَقد أظلم قتام العثير ودجا النَّقْع حَتَّى خيل لنا انه لم يكن قطّ صبح أَسْفر وَحين هجوم هَذَا الْخَبَر المهيل كَادَت الْبِلَاد تنهب لَوْلَا تسهيل بعض السادات مَا صَعب فى التسهيل والنداء من الْحَاكِم بالعافيه والاعين قد امْتَلَأت من الهاربين بالسافيه وغلقت الابواب وانقطعت الاسباب حَتَّى(3/423)
وَالله كَأَن الْقِيَامَة قد قَامَت وحقت كَرِيمَة يَوْم يفر الْمَرْء والانفس قد حامت وَحَال بينى وَبَين الْخلْوَة طَرِيق طالما صلحت للزبا وسبيل وبيل صرت أقطعه وثبا فَكل من لاقيته لَا يُجيب وَمن كَانَ من ورائى فكانما هُوَ طريد أَو سليب وَبعد الدّفن كثر القال والقيل ونودى كَمَا بَلغَكُمْ وصليل السيوف منعنَا المقيل وزف المنادى عصبَة مَشْهُورَة القواضب مسنونة الشواذب والاسواق من السكان خاليه فكانما هى خود أضحت عاطلة بعد أَن كَانَت حاليه ودور مَكَّة كَأَنَّهَا وَبِاللَّهِ أقسم دور البرامكه وَكَأَنَّهَا لم يتغزل فِيهَا بُرْهَة كدار عاتكه وَلَقَد تذكرت فِيهَا قينة الامين وَقَوْلها كَانَ لم يكن بَين الْحجُون الى الصَّفَا أنيس غير الانين هَذَا وَقد أطلت عَلَيْك مَا ينبغى أَن يقْتَصر فِيهِ مَعَ علو مَكَان ومشيد مَكَانك فى البلاغة وأركانك وَالله تَعَالَى يلهمك صبرا جميلا على هَذَا الْمُصَاب ويوليك أجرا جزيلا على فقد ذَلِك المليك المهاب وَلَا يسمعنا واياك بعْدهَا صَوت عزاء وَلَا أحدا من الاعزاء وَلَا يحملنا مَالا طَاقَة لنا بِهِ من مثل هَذِه الارزاء فو الرَّحْمَن لَهو الرزء الذى كل رزء بِالنِّسْبَةِ اليه أقل الاجزاء وَالسَّلَام وَمن شعره قَوْله فى صدر كتاب
(هَذَا كتابك أم در بمتسق ... أم الدرارى الَّتِى لاحت على الافق)
(وَذَا كلامك أم سحر بِهِ سلبت ... نهى الْعُقُول فتتلو سُورَة الفلق)
(وَذَا بيانك أم صهباء شعشها ... أغن ذُو مقلة مكحولة الحدق)
(بتاج كل مليك مِنْهُ لامعة ... وجيد كل مجيد مِنْهُ فى أفق)
(روض من الزهر والانوار زاهية ... كأنجم الافق فى اللألاء والنمق)
(وذى حمائم أَلْفَاظ سجعن ضحى ... على الخمائل غب الْعَارِض الغدق)
(رِسَالَة كفراديس الْجنان بهَا ... من كل مؤتلق يلهى ومنتشق)
(كَأَنَّمَا الالفات المائدات بهَا ... غصون بَان على أيك من الْوَرق)
(تعلو منا برهَا الهمزات صادحة ... كالورق ناحت على الافنان من حرق)
(ميماتها كثغور يبتسمن بِمَا ... يزرى على الدراديز هى على الْعُنُق)
(فطرسها كبياض الصُّبْح من يقق ... ونقشها كسواد اللَّيْل فى غسق)
(يَا ذَا الرسَالَة قد أرْسلت معْجزَة ... ردَّتْ بلاغتها الدَّعْوَى من الْفرق)
(وَيَا مليك ذوى الالباب قاطبة ... وَيَا اماما هدَانَا أوضح الطّرق)
(من ذَا يُعَارض مَا قد صاغ فكرك من ... حلى الْبَيَان وَمن يقفوك فى السَّبق)(3/424)
(أَنْت المجلى بمضمار الْعُلُوم اذا ... أضحى قروم أولى التَّحْقِيق فى قلق)
(صلى أَئِمَّة أهل الْفضل خَلفك يَا ... مولى الموالى وَرب الْمنطق الذلق)
(مُسلمين لما قد حزت من أدب ... مُصدقين بِمَا شرفت من خلق)
(مهلا فباعى من التَّقْصِير فى قصر ... وَأَنت فى الطول والاحسان ذُو عمق)
(سُبْحَانَ بارئ هذى الذَّات من همم ... سُبْحَانَ فاطر ذَا الانسان من علق)
(يَا لَيْت شعرى هَل شبه يرى لكم ... كلا وربى وَلَا الاملاك فى الْخلق)
(عذرا فَمَا فكرتى صواغه دررا ... حَتَّى أصوغ لَك الاسلاك فى نسق)
(واسلم وَدم وَتَعَالَى فى مشيد على ... تستنزل الشهب للانشا فَلم تعق)
وَقَوله
(سَلام على الدَّار الَّتِى قد تَبَاعَدت ... ودمعى على طول الزَّمَان سفوح)
(يعز علينا ان تشط بِنَا النَّوَى ... ولى عنْدكُمْ دون الْبَريَّة روح)
(اذا نسمت من جَانب الرمل نفحة ... وفيهَا عرار للغو يرو شيح)
(تذكرتكم والدمع يستر مقلتى ... وقلبى مشوق بالبعاد جريح)
(فَقلت ولى من لاعج الوجد زفرَة ... لَهَا لوعة تَغْدُو بهَا وَتَروح)
(أَلا هَل يُعِيد الله أيامنا الَّتِى ... نعمنا بهَا والكاشحون نزوح)
وَقَوله فى صدر كتاب
(بِحَق الوفا بالود بالشيمة الَّتِى ... عَرَفْتُمْ بهَا بالجود وَالْكَرم الجم)
(بِتِلْكَ الْخِصَال الاشرفيات بالنهى ... بعزتك الْعليا على قمة النَّجْم)
(بِذَاكَ الْمحيا الهش بالْمَنْطق الشهى ... بِمَا فِيك من خلق رضى وَمن عزم)
(أجرنى من التَّكْلِيف وَاقْبَلْ تحيتى ... بتقبيل أَرض لم تزل مُنْتَهى همى)
(فدهرى من الاسهاب أمنع مَانع ... ووقتى عَن الاطناب أضيق من سم)
(وماذا عَسى فى الْوَصْف يبلغ مقولى ... وَلَو مدت الاقلام من مدد اليم)
وَوجدت الْفَقِير فى تذكرة المرشدى مِمَّا كتبه الْجمال مُحَمَّد درازالى الامام عبد الْقَادِر الطبرى سَائِلًا عَمَّا يرد على كَلَام للسبكى فى الطَّبَقَات الْكُبْرَى فى اسْتِخْرَاج الْملك الْعلقَة الَّتِى فى صَدره
مَوْلَانَا الامام الذى اليه هَذَا الحَدِيث يساق الْهمام الذى تشد اليه يعملات البلاغة ببدائع السِّيَاق فيسفر عَن بدر فضل حسن الاتساق ودرنبل مُنْتَظم عُقُود الانتساق فَلهُ السّلف الَّذين تتنازل الثريا دون مقاماتهم الرفيعه وينحط الاثير عَن مكاناتهم الى هى للفخار شفيعه على(3/425)
انه العصامى الذى بِهِ تفتخر الابناء وتتبختر فى مطارف سودده الاعمام والاصناء فالمزنى لَا يُبَارى جود مزنه والرازى أضحى رزية من حزنه هدَانَا الله تَعَالَى بِهِ الى سَوَاء السَّبِيل وأغنانا بسلسال فَوَائده عَن رقراق السلسبيل قَالَ السبكى سَمِعت الْوَالِد يَقُول وَقد سُئِلَ عَن الْعلقَة السَّوْدَاء الَّتِى أخرجت من قلب النبى
فى صغره حِين شقّ فُؤَاده وَقَول الْملك هَذَا حَظّ الشَّيْطَان مِنْك ان تِلْكَ الْعلقَة الَّتِى خلقهَا الله تَعَالَى فى قُلُوب الْبشر قَابِلَة لما يلقيه الشَّيْطَان فِيهَا فأزيلت من قلبه
فَلم يبْق فِيهِ مَكَان قَابل لَان يلقى الشَّيْطَان فِيهِ شَيْئا قَالَ هَذَا معنى الحَدِيث وَلم يكن للشَّيْطَان فِيهِ
حَظّ قطّ وانما الذى نَفَاهُ الْملك أَمر هُوَ فى الجبلات البشرية فأزيل الْقَابِل الذى لم يكن يلْزم من حُصُوله حُصُول الْقَذْف فى الْقلب قَالَ فان قلت فَلم خلق هَذَا الْقَابِل فى هَذِه الذَّات الشَّرِيفَة وَكَانَ يُمكن أَن لَا يخلق فِيهَا قلت لانها من جملَة الاجزاء الانسانية فخلقة تَكْمِلَة لِلْخلقِ الانسانى فلابد مِنْهُ ونزعه أَمر ربانى طَرَأَ بعده انْتهى كَلَام السبكى أَقُول يُعَارض هَذَا بختانه
فخلقه تَكْمِلَة لِلْخلقِ الانسانى وَلَا شكّ ان بَقَاءَهُ على تِلْكَ الْفطْرَة الانسانية ثمَّ ازالتها بعد ذَلِك فِيهِ تَعْلِيم لِلْخلقِ باتباعه فان قلت ثمَّ فَارق وَهُوَ الْقَابِل الذى تُؤثر فِيهِ الوسوسة قلت الاكمل والاشرف عدم خلق الْقَابِل كَعَدم خلق القلفة وسلامته من الانزعاج الذى حصل لَهُ عِنْد شقّ الْملك صَدره خُصُوصا فى أَوَان سنّ الطفولية فالمسؤل خلاصكم للسبكى والخلاص من شباك سيدنَا السبكى ولمولانا مُنَاسبَة بِهَذَا الْفَنّ موروثه وفى الْبَقِيَّة دُرَر على طنافس الْفضل مبثوثه وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ الطبرى مَوْلَانَا الذى اليه مطايا آمال الافاضل تزجى وَمن سحائب سَمَاء فَضله الغيوث المغدقة تؤمل وترجى فيهطل يواكف ترفع لتلقيه الاكف المبسوطه وتتألق عَن بارق يضئ بِهِ مظلم وَجه الارض البسيطه ويرعد بِمَا ينتجع اليه اذا سمع ثِقَة بوعده ويشرق بذكاء ذكاء أكسبت الْبَدْر سَاطِع ضيائه وطالع سعده ويرهف سمهرى الْقَلَم فى كَتِيبَة الْكِتَابَة بالمداد الاسود والاحمر ويرعف عضب اللِّسَان فى معرك المناظرة والمناضلة فنال مَا لم ينله اللدن الاسمر امام البلاغة رب الْكَلِمَات المصاغة دَامَت فرائد فَوَائده عقوداً للنحور واستمرت وطفاء غيثه ممدة للبحور وافى المشوق المشرف المدبج المفوف فوقفت لَهُ أَقْدَام الافهام حيارى وأضحت تالية وَترى النَّاس سكارى(3/426)
وَمَا هم بسكارى غير انها درأت مَا ألم بهَا بارتشاف سلسبيله واستضأت بمصباحه لسلوك سَوَاء سَبيله فَرَأَيْت بعد التَّكَلُّف فى التَّوْفِيق بَين عبارَة مَوْلَانَا وَبَين مُرَاده انه لَا مُعَارضَة بِمَا أَشَارَ اليه من ختان من منح الله تَعَالَى الْخلق باسعافه واسعاده أما أَولا فلانهم اخْتلفُوا فى أَنه هَل ولد مختونا أَو انه ختن بعد وِلَادَته وَقد قَالَ بِكُل من الْقَوْلَيْنِ طَائِفَة فَأَما على القَوْل الثانى فَلَا اعْتِرَاض بالمعارضة الْمَذْكُورَة واما على الاول فَالْكَلَام فى جُزْء من الْخلقَة البشرية من الاجزاء الشَّرِيفَة الَّتِى لَا تمكن الْحَيَاة بِدُونِهَا فى الْعَادة فانها هى المكملة للخلقة فى الْحَقِيقَة وَأما القلفة فهى كالاظفار والشعور مِمَّا لَا يَتَرَتَّب على وجوده مَا يَتَرَتَّب على مثل الْعلقَة المستكنة فى ذَلِك الْموضع بِالنِّسْبَةِ الى الْحَيَاة وَأَيْضًا الْكَلَام فِيمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الاحكام فان الْعلقَة حَيْثُ كَانَت مَحل وَسْوَسَة الشَّيْطَان فى الْبشر رُبمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ عدم الايمان عياذا بِاللَّه وَلَا كَذَلِك القلفة وَأَيْضًا خلق القلفة وازالتها بعد ذَلِك قد وَقع لغيره
كابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام فَلَو وجدت فِيهِ
ثمَّ أزيلت لم يكن فى ذَلِك كَبِير مزية بِخِلَاف الشق الْمَذْكُور واخراج الْعلقَة الْمَذْكُورَة نعم يرد على كَلَام السبكى حَيْثُ قرر انه لم يكن للشَّيْطَان مِنْهُ
حَظّ وان خلق الْعلقَة فِيهِ لتكميل الْخلق انه لَا معنى لازالتها بعد ذَلِك حَيْثُ لم تكن مِنْهُ
مَظَنَّة لَهُ فَلَا يتم حِينَئِذٍ مَا قَرَّرَهُ على ذَلِك النمط هَذَا مالاح ودعا اليه داعى الْفَلاح قلت فِيهِ بعض مناقشة أما نَقله الِاخْتِلَاف فى كَونه ولد مختونا فَلم يكن اليه دَاع اذ الاشكال انما هُوَ وَارِد على مُقَابِله فَلَا معنى لنفى الِاعْتِرَاض وَدَعوى كَون الْعلقَة من الاجزاء الَّتِى لَا يُمكن بَقَاء الْحَيَاة بِدُونِهَا مَمْنُوعَة وَمَا أورد على كَلَام السبكى لَيْسَ بوارد عَلَيْهِ فان فى ازالتها مَعَ منع الشَّيْطَان عَنْهَا حِكْمَة هى قطع طمع وُصُوله اليه وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَلَقَد فحصت عَن وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فَلم أظفر بهَا وَقد علم انه كَانَ فى سنة اثنتى عشرَة وَألف مَوْجُودا وَمَا عَاشَ بعْدهَا كثيرا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن حسن الْمَعْرُوف بِابْن تركمان حسن التركمانى الاصل الدمشقى من أَعْيَان جند الشَّام وسراتهم وَكَانَ شجاعا عَاقِلا مهذبا حسن الاخلاق معاشرا سنحى النَّفس كَانَ وَالِده كتخدا الْجند الشامى وَسكن فى محلّة بَاب الْمصلى وَأَنْشَأَ دَارا عَظِيمَة وهى الْآن أكبر دَار بِدِمَشْق ورزق أَوْلَادًا كَثِيرَة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة(3/427)
عينهم وأنبلهم وأوجههم صَار أَولا من آحَاد الْجند بِالشَّام واشتهر بالفروسية وينقل عَنهُ فِيهَا أَشْيَاء غَرِيبَة جدا مِنْهَا ان الْحَافِظ نَائِب الشَّام كَانَ قصد أَن يُمَيّز بَينه وَبَين كنعان الْكَبِير الْمَشْهُور بالفروسية والشجاعة فَخرج بهما الى ميدان الوادى الاخضر وَأمر أَن يوضع تَحت قدم كل وَاحِد مِنْهُمَا فَوق ركابه وَهُوَ رَاكب دِرْهَم وَأَمرهمَا بالسباق فَمَا برحا يتسابقان من بعيد الظّهْر الى قبيل الْغُرُوب ثمَّ استدناهما وَنظر الى الدرهمين فَوجدَ الذى كَانَ تَحت قدم كنعان قد وَقع والذى تَحت قدم مُحَمَّد بَاقِيا فى الْمَكَان الذى وضع فِيهِ فأنعم عَلَيْهِ وقربه وَبلغ من ثمَّ الشُّهْرَة الْبَالِغَة وَاخْتَلَطَ بالعقلاء وعاشر الْفُضَلَاء ثمَّ صَار بلو كباشى وَولى السردارية بِبَاب قاضى الْقُضَاة وخدم الْمولى مصطفى بن عزمى قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق وعاشره فاكتسب من آدابه ثمَّ سَافر مَعَ وَالِده الى بِلَاد الْعَجم فى زمن السُّلْطَان أَحْمد وَلما دارت رحى الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ طرح بعض الاعاجم أَبَاهُ فخلصه مُحَمَّد مِنْهُ وَقتل عَدو وَالِده لكنه أُصِيب فى عينه بِسَهْم أَصَابَهُ وَاتفقَ لَهُ انه سَافر إِلَى روان فى بِلَاد الْعَجم أَيَّام السُّلْطَان مُرَاد فَوَقع لَهُ مَا وَقع لابيه وَقبض عَلَيْهِ بعض الاعجام فخلصه ثانى اولاده وأشجعهم مُوسَى الذى صَار آخرا أَمِير الْحَاج وسيأتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ رَجَعَ الى دمشق وَصَارَ كتخدا الْجند فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَلما ولى حُكُومَة الشَّام عُثْمَان باشا جفتلر لى عَزله وحبسه فى قلعة دمشق ثمَّ اطلقه بشفاعة شيخ الاسلام مُحَمَّد البهائى قاضى الشَّام وَجعل لَهُ علوفة فى الخزينة الشامية ثمَّ صاريياً باشى وَعظم قدره بَين الْعَسْكَر وَصَارَ كَبِيرهمْ وَصَارَت أَوْلَاده كباشيه وأخواه يباباشيين وطنت حَصَاة شهرتهم فى الْآفَاق وَكَانُوا فى الْجُمْلَة زِينَة المواكب وَرُبمَا انهم كَانُوا مَعَ توابعهم ولواحقهم يقاربون ربع الْعَسْكَر وَسَار الى الْحَج سردارا سبع مَرَّات ثمَّ بعد ان قتل عبد السَّلَام السَّابِق ذكره تنزل عَن سموهُ وَانْفَرَدَ بَين الْعَسْكَر وَلم يبْق من أقرانه أحد وَأُصِيب بولدين كَانَا أَنْجَب أَوْلَاده وهما رَجَب وخضر وَأخذ مِنْهُ مَال كَانَ لزمَه من مَال المقاطعات الَّتِى بِيَدِهِ ونفدت جَمِيع عقاراته وأمواله وغدر بِهِ الزَّمَان فبقى منزويا الى أَن مَاتَ وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سنة احدى وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير عِنْد أَبِيه تجاه دَارهم بِالْقربِ من الْمصلى
الامام مُحَمَّد بن الْحسن بن الامام الْقَاسِم بن مُحَمَّد على قَالَ القاضى أَحْمد بن ابى(3/428)
الرِّجَال فى تَرْجَمته قَائِد الجحافل وَوَاحِد المحافل السُّلْطَان المسعود وانسان الاعلام الْمَحْمُود كَانَ سريا حولا قلبا حنكته التجازب وَعرف المصادر والموارد وصحبته السَّعَادَة فى الصغر وَالْكبر وَلم يزل حميدا فى الْحَالين واستمرت أَيَّامه على نمط وَاحِد غير مَا لابد مِنْهُ فى أَوَائِل الْعُمر من الْوُقُوف فى الْكتاب للْقِرَاءَة وَأما مذ اميطت عَنهُ التمائم فَمَا هُوَ الا مسود مقدم محفوف بالجنود والبنود تولى صعده ونواحيها وَمَا ذَر الشّعْر بعارضيه فحمدت سيرته واتصل بِهِ الْفُضَلَاء وفداليه الاخيار وَنكى الاعداء فى ذَلِك الاقليم على شراستهم وابائهم وغزا مغازى محمودة الاثر وَقَرَأَ فى اثناء هَذِه الْمدَّة أَكثر الْكتب الْمُعْتَمدَة على شُيُوخ كالقاضى أَحْمد بن يحيى بن حَابِس والفقيه صديق بن رسام السوادى وَمَا ترك من مهمات الْعُلُوم فَنًّا الا وابلغ جهده فى الطّلب وقيلت فِيهِ المدائح الغر أَيَّام اقامته بصعدة وَأَجَازَ الجوائز السنيات وَلما توفى وَالِده وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يَوْمئِذٍ آيبا من زيارته الى عَمه الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقسم فَلَمَّا بلغ امام مَرضه نفذه الى جِهَة ضوران فَوَقفهُ فى الديار اليمنية مترددا بَين ضوران وذمار ثمَّ سكن مدينتى آب وذى جيله وَجمع جندا جرارا من وُجُوه الْعَسْكَر وكبراء الامراء من أَعْيَان دولة أَبِيه حَتَّى توفى الامام الْمُؤَيد فَدَعَا صَاحب التَّرْجَمَة الى مُحَمَّد الامام المتَوَكل على الله اسماعيل بن الْقسم وَسلم الامر طَوْعًا لَهُ على يَد أَخِيه السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن وولاه الامام ولَايَة عظمى فى أقاليم وحصون ومدن فاستمر على خَال حميدة محفوفا بعساكر يضيق عَنْهَا الرحب فى رفاهية ودعة لما لَهُ من الاسعاد وَاسْتمرّ حَاله كَذَلِك على نمو وازدياد من حُدُود سنة أَربع وَخمسين الى سنة تسع وَسبعين وَكَانَ يَجْعَل شطر الاقامة بذمار واليمن الاسفل وشطرها بِصَنْعَاء كَمَا كَانَ يفعل طَاوس الْفَقِيه من الاقامة أَيَّام الشتَاء بالحبذ وَأَيَّام الرّبيع وَمَا وَرَاءَهَا بصنعا وَقَرَأَ فى هَذِه الْمدَّة الْمُتَأَخِّرَة تذكرة الْعَلامَة النحوى على عَلامَة الْيمن مُحَمَّد بن صَلَاح السلامى وكملها على أَحْمد بن سعيد الهبل وَقَرَأَ الْفُصُول اللؤلؤية على ابراهيم السحولى وَمن مؤلفاته سَبِيل الرشاد الى معرفَة رب الْعباد مُخْتَصر مُفِيد فى علم الْكَلَام وَشرح مرقاة الْوُصُول الى علم الاصول لجده الامام الْقَاسِم سَمَّاهُ بالتسهيل وَجَوَاب مَبْسُوط فى حَدِيث سَتَفْتَرِقُ أمتى سَأَلَهُ عَنهُ الْعَلامَة أَحْمد بن مطير الشافعى وفى سنة تسع وَسبعين طلع من الْيمن الى صنعاء وصادف قدوم عَمه الامام اسمعيل من شهارة مُتَوَجها الى ضوران(3/429)
فامتلأت الساحات بالخلائق وامتلأت الْقُلُوب بالمسرة فَمَا كَانَ أسْرع من ان أَصَابَهُ ألم أَحْسبهُ ذَات الْجنب وَاخْتَارَ الله لَهُ جواره بداره بدرب السلاطين من أَعمال الرَّوْضَة فى الثُّلُث الاول من لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشر شهر ربيع الاول سنة تسع وَسبعين وَألف فَاجْتمع السادات بداره والامام هُنَالك وَدفن بِقرب دَاره وَكَانَ الْخطب جسيما لَوْلَا حُضُور الامام فانه جبر الخواطر واشتغل بصلاح شَأْن أَوْلَاده وَعرض عَلَيْهِم الْولَايَة وحاول أَن أَخَاهُ السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن يلم الشعث ويحفظ الْبِلَاد والجند فعف عَن الْبِلَاد قبل أَن يعرف الامام قدرهَا فَتَأَخر عَن الْجَمِيع وبقى أَوْلَاد مُحَمَّد بن الْحسن وهما يحيى واسمعيل بعد أَن بعد صيتهما وذكرا فى النَّاس ذكر آبائهما وَقد كَانَا توليا ولايات من والدهمافلذلك كَانَ مقامهما قد كبر فَاخْتَارَ الله ليحيى جواره وَكَانَ قد ناهز الاشد وَمهر فى علم الطِّبّ خُصُوصا وَلما مَاتَ بقى فى يَد أَخِيه اسمعيل جِهَة العدين من مخلاف جَعْفَر فَتوجه اليها عَن امْر الامام فَلم يصل اليها الا وَقد ألم بِهِ الالم وَتوفى فى مذيخرة فَكَانَ ذَلِك أنكى للقلوب وأبكى للعيون فسبحان من لَهُ الْبَقَاء والدوام وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك أوت العساكر الى أَخِيه احْمَد بن الْحسن وَأَعْطَاهُ الامام الى بِلَاده بلادا فاستوثق الامر وانتظم ونظمت فى صَاحب التَّرْجَمَة المراثى البليغة ووصلت التعازى الى الامام من مَكَّة وَمِمَّنْ رثاه وَلَده اسمعيل وَذكر فى مرثيته الْحَال وَذكر صنوه يحيى وَمَا أجد أوقع فى النُّفُوس مِنْهَا لانها عين الْحَقِيقَة وَلَا كلفة فِيهَا وَعَلَيْهَا مسحة الْحزن وَرب شَاعِر يشْعر ويجيد وَلَا نجد تِلْكَ المسحة على غَيرهَا من مرثية أَو موعظة أَو غزل وَأما هَذِه فَانْظُر بقلبك وهى
(هَل أقَال الْمَوْت ذَا حذره ... سَاعَة عِنْد انتها عمره)
(أَو ترَاخى عَن كحيل رنا ... فاق كل الغيد فى حوره)
(أَو رثى يَوْمًا لمرضعة ... طفلها مَا دب فى حجره)
(أَو ترَاهُ هائبا ملكا ... صائلا قد عز فى نفره)
(أَو تناسى من لَهُ نظر ... تصدر الاشياء عَن نظره)
(أَو تحامى روح سيدنَا ... مصطفى الرَّحْمَن فى بشره)
(وأبى السبطين حيدرة ... وكبار الْآل من عتره)
(بل دهى من كَانَ منتظرا ... قربه أَو غير منتظره)
(وسقاه كأس سطوته ... مدهقا من كف مقتدره)(3/430)
(مَا ترى عَن الانام ثوى ... حُفْرَة اذ آب من سَفَره)
(لم يقم فى قصره زَمنا ... غير وَقت زَاد فى قصره)
(بعد مَا قد كَانَ عزته ... ترشد السارى الى وطره)
(وندى كفيه منهمرا ... مذهلا للروض عَن مطره)
(كَانَ طودا لَا يحركه ... أى خطب جلّ فى خطره)
(كَانَ بحرا طالما الْتقط الطَّالِب الْمُحْتَاج من درره ... )
(شادركن الدّين ملتمسا ... لرضى الرَّحْمَن من صغره)
(وحوى الدُّنْيَا وديدنه ... طلب الاخرى الى كبره)
(فسقى الرَّحْمَن تربته ... صيبا ينهل فى سحره)
(وعماد الدّين أزعجه ... بعده يَغْدُو على أَثَره)
(لم ينل فى الْعُمر بغيته ... لَا وَلَا أفْضى الى وطره)
(لم يذقْ فى دهره أبدا ... صفو عَيْش صين عَن كدره)
(مَا أرَاهُ الدَّهْر مطلبه ... ليته أخلاه من غَيره)
(رحم الرَّحْمَن مصرعه ... ووقاه الْحر من سقره)
(كَيفَ أنسى شمس مفخرنا ... وَأرى السلوان عَن قمره)
(فهما قد أضرّ مَا لهبا ... فى فؤادى طَار من شرره)
(وأسالا مدمعا بخلت ... أدمعى دهرا بمهمره)
(لَا أفى يَوْمًا بحقهما ... لَو أسلت الرّوح عَن قطره)
(غير أَن الصَّبْر شِيمَة من ... صوب الرَّحْمَن فى قدره)
(لينال الاجر مِنْهُ اذا ... ذاق طعم الصاب من صبره)
(نسْأَل الرَّحْمَن خَاتِمَة ... بِرِضا الرَّحْمَن فى صَدره)
ورثاه الشَّيْخ البليغ صارم الدّين ابراهيم الهندى المهتدى بقصيدة فجيمة مِنْهَا
(قضى الفخار فَلَا عين وَلَا أثر ... واحلو لَك الْخطب لَا شمس وَلَا قمر)
(أمهبط الوحى مَا هَذَا الذى صنعت ... يَد الْقَضَاء وماذا أحدث الْقدر)
(وَمَا الذى مادت الدُّنْيَا لصدمته ... تفجعا وتوارى النَّجْم وَالشَّجر)
(وَمَا الذى مِنْهُ ماج الْكَوْن واضطربت ... لَهُ الْجبَال وريع الرَّاد وَالسحر)
(وَمَا الذى جزر الْبَحْر الكهام لَهُ ... واستشعر الْحَشْر مِنْهُ البدو والحضر)(3/431)
(ياناعى الْجُود وَالْمجد الاثيل صه ... مَاذَا زعمت لفيك للترب وَالْحجر)
(أفق فان جنَاح الْجَيْش منخفض ... مِمَّا ذكرت وقلب الْملك منكسر)
(مهلا رويدك فِيمَا قد صدعت بِهِ ... دهياء يذهب مِنْهَا السّمع وَالْبَصَر)
(مَاتَ الامام أيو يحيى وحسبك من ... رزية تتحامى حرهَا سقر)
(مَاتَ الذى كَانَ للوراد منتجعا ... وللعفاة اذا مَا أخلف الْمَطَر)
(مَاتَ المليك الذى كَانَت موارده ... للورادين عذَابا مابها كدر)
(هدت مبانى المعالى يَوْم مصرعه ... ومربع الْمجد والعلياء مندمر)
(وأقلعت يَا لعمرى من أنامله ... سحب شآبيبها الابريز والبدر)
(وغاض بَحر عُلُوم مِنْهُ كم حفظت ... مسَائِل هن فى جيد العلى دُرَر)
(وَكَانَ فى صَدره حلم يحقر مَا ... يجى المسئ وَلَكِن لات يقْتَصر)
(من للرعيل وللبخيل الْعتاق وَمن ... يزهو لَدَيْهِ بهَا التحجيل وَالْغرر)
وَمِنْهَا
(لم أنس نعشا لَهُ أمست تشيعه الافلاك والشهب والاملاك والبشر ... )
(وَمن دُعَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ لَهُ ... وَسِيلَة وهى الزلفاء وَالظفر)
(طود تحمله ظهر السرير وَمَا ... تحملت جبلا من قبله السرر)
مِنْهَا
(يَا أَيهَا الْملك الْمولى الْخَلِيفَة يَا ... من بقاه لنا المأمول والوطر)
(تعز فى عز دين الله سَيْفك من ... كَانَت بِهِ تزهر الآصال وَالْبكْر)
(وآس فِيهِ أَخَاهُ الاحمدى وَقل ... يَا أَحْمد الْقَوْم أَنْت الصارم الذّكر)
(وَشد أزر عماد الدّين خير فَتى ... لَهُ مخائل فضل كلهَا غر)
(وآس أَيْضا ضِيَاء المكرمات تَجِد ... مهذبا طَابَ من الْخَبَر وَالْخَبَر)
مُحَمَّد بن حسن بن على بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِالْحرِّ العاملى الشامى الاديب الْمَشْهُور ذكره ابْن مَعْصُوم فى السلافة فَقَالَ فى حَقه لَهُ شعر يستلب نهى الْعُقُول بسحره وَيحل من الْبَيَان بَين صَدره ونحره فَهُوَ أرق من خصر هيفاء مجدولة وادق وأصفى من صهباء يشعشعها اغن ذُو مقلة مكحولة الحدق قدم مَكَّة فى سنة سبع أَو ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وفى الثَّانِيَة مِنْهُمَا قتلت الاتراك بِمَكَّة جمَاعَة من الْعَجم لما اتهموهم بتلويث الْبَيْت الشريف حِين وجد ملوثا بالعذرة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة قد أَنْذرهُمْ قبل الْوَاقِعَة بيومين وَأمرهمْ بِلُزُوم بُيُوتهم لمعرفته على مَا زَعَمُوا بالرمل فَلَمَّا حصلت المقتلة فيهم خَافَ على نَفسه فالتجأ الى السَّيِّد مُوسَى بن سُلَيْمَان أحد أَشْرَاف مَكَّة(3/432)
الحسنيين وَسَأَلَهُ أَن يُخرجهُ من مَكَّة الى نواحى الْيمن فَأخْرجهُ مَعَ أحد رِجَاله اليها قلت وَهَذِه الْقِصَّة الَّتِى قد ذكرهَا أفضح فضيحة وَمَا أَظن أَن أحدا مِمَّن فِيهِ شمة من الاسلام بل فِيهِ شمة من الْعقل يجترى على مثلهَا وحاصلها أَن بعض سدنة الْبَيْت شرفه الله تَعَالَى اطلع على التلويث فأشاع الْخَبَر وَكثر اللَّغط بِسَبَب ذَلِك وَاجْتمعَ خَاصَّة أهل مَكَّة وشريفها الشريف بَرَكَات وقاضيها مُحَمَّد ميرزا وتفاوضوا فى هَذَا الامر فانقدح فى خواطرهم ان يكون هَذَا التجرى من الرفضة وجزموا بِهِ وأشاروا فِيمَا بَينهم أَن يقتل كل من وجد مِمَّن اشْتهر عَنهُ الرَّفْض ووسم بِهِ فجَاء الاتراك وَبَعض أهل مَكَّة الى الْحرم فصادفوا خَمْسَة أَنْفَار من الْقَوْم وَفِيهِمْ السَّيِّد مُحَمَّد مُؤمن وَكَانَ كَمَا أخْبرت بِهِ رجلا مسنا متعبدا متزهدا الا أَنه مَعْرُوف بالتشيع فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا الاربع الاخر وَفَشَا الْخَبَر فاختفى الْقَوْم المعروفون بأجمعهم وَوَقع التفتيش على بعض المتعينين مِنْهُم وَمِنْهُم صَاحب التَّرْجَمَة فالتجأوا الى الاشراف ونجوا وَرَأَيْت بِخَط بعض الْفُضَلَاء أَن صَاحب التَّرْجَمَة رَجَعَ بعد الْقِصَّة الى الْعَجم وَأنْشد لَهُ من شعره قَوْله
(فضل الْفَتى بالجود والاحسان ... والجود خير الْوَصْف للانسان)
(أَو لَيْسَ ابراهيم لما أَصبَحت ... أَمْوَاله وَقفا على الضيفان)
(حَتَّى اذا أفنى اللهى أَخذ ابْنه ... فسخا بِهِ للذبح والقربان)
(ثمَّ ابْتغى النمرود احراقا لَهُ ... فسخا بمهجته على النيرَان)
(بِالْمَالِ جاد وبابنه وبنفسه ... وبقلبه للْوَاحِد الديَّان)
(أضحى خَلِيل الله جلّ جَلَاله ... ناهيك فضلا خلة الرَّحْمَن)
(صَحَّ الحَدِيث بِهِ فيالك رُتْبَة ... تعلو بأخمصها على التيجان)
أصل هَذَا حَدِيث قدسى رَوَاهُ أَبُو الْحسن المسعودى فى أَخْبَار الزَّمَان قَالَ ان الله أوحى الى ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام انك لما سلمت مَالك للضيفان وولدك للقربان ونفسك للنيران وقلبك للرحمن اتخذناك خَلِيلًا وَمن شعره قَوْله
(يراكم بِعَين الشوق قلبى على النَّوَى ... فيحسده طرفى فتنهل أدمعى)
(ويحسد قلبى مسمعى عِنْد ذكركُمْ ... فتذكو حرارات الجوى بَين أضلعى)
وَقَوله موريا بلقبه
(قلت لما لجئت فى هجود هر ... بذلك الْجهد فى احتفاظ الجهول)
(كَيفَ لَا أشتكى صروف زمَان ... ترك الحسر فى زَوَايَا المخول)(3/433)
قلت للشعراء الْمُتَقَدِّمين أشعار كَثِيرَة تتَعَلَّق بِأَسْمَائِهِمْ وألقابهم من ذَلِك قَول السراج الْوراق
(بنى اقْتدى بِالْكتاب الْعَزِيز ... فَزَاد سُرُورًا وزدت ابتهاجا)
(فَمَا قَالَ لى أُفٍّ فى عمره ... لكونى أَبَا ولكونى سِرَاجًا)
وَقَول الشهَاب الخفاجى
(قَالُوا نرَاك سَقَطت من رتب ... أَتَرَى الزَّمَان بِمثل ذَا غَلطا)
(قلت الشَّيَاطِين اللئام علوا ... وَلذَا الشهَاب من العلى سقطا)
وَرَأَيْت للْحرّ هَذِه الابيات وفيهَا لُزُوم مَالا يلْزم فأثبتها لَهُ وهى
(لَاحَ وَجه من ربع ليلى جميل ... وركاب الركاب والركب ميل)
(بَعْدَمَا كَاد أَن يلم بِنَا الْيَأْس فَزَاد الرَّجَاء والتأميل ... )
(وظننا الحبيب لَاحَ وَقُلْنَا ... ذَاك مَا تشْتَهى النُّفُوس فَمِيلُوا)
(ذَلِك السؤل والهوى والامانى ... للبرايا وَالْقَصْد والمأمول)
(حدثونا فَذا حَدِيث عَجِيب ... حسن مُجمل رَوَاهُ جميل)
(كل دمع فرض على كل عين ... وعَلى العيس وخدها والزميل)
(ثمَّ ملنا الى ربيع ربوع ... نَحْوهَا أنفس الجماد تميل)
(وَكَأن السهاد للْقَوْم كحل ... وَكَانَ الطَّرِيق للْقَوْم ميل)
(بى نقص من الْكَمَال وَمِنْهُم ... للمحب التتميم والتكميل)
(كل حى فى ذَلِك الحى نشوان هوى وَهُوَ عَامل مَعْمُول ... )
(عمهم يَا ابْن عمى من ألم الْحبّ عُمُوم من الْهوى وشمول ... )
(كلهم عاشق يمِيل ومعشوق أمالته من هَوَاهُ شُمُول)
(كل شخص مِنْهُم بدا قلت هَذَا ... مستمال فى الْحبّ بل مستميل)
(كل من مَاتَ فى الْهوى اكسبوه ... شهرة لَيْسَ يعتريها خمول)
(من رَآهُمْ فى النّوم أَو يقظة هام وأضحى ودمعه مهمول ... )
(جنَّة قد تجمعت فى حماها ... شهوات النُّفُوس والمأمول)
(كم بِتِلْكَ المحامل استأسروا قلبا غَدا وَهُوَ فى الْحمال حميل ... )
(حملوه وَحَمَلُوهُ البلايا ... فى الْهوى فَهُوَ حَامِل مَحْمُول)
(بعدوا بالحمول عَنَّا فَلم تبْق احْتِمَالا للقرب تِلْكَ الحمول ... )(3/434)
وَقَوله
(وغانية شكل الْعَرُوس بوجهها ... يُقيم عَلَيْهَا لحظها كل برهَان)
(يبين خداها لنا باشارة ... الى رَابِع الاشكال أوضح تبيان)
(بسالفها مَعَ حاجبيها بَدَت لنا ... براهين أشكال تُشِير الى الثانى)
(وحاجبها لِلْحسنِ شكل متمم ... فيا ليته مقرون حسن باحسان)
وَقَوله
(قد كنت أستنشق من مطلكم ... عرف شذا خيبة آمالى)
(فَالْآن قد بَان بتصريحكم ... انى لنيران الجفا صالى)
(انى رَأَيْت الْيَأْس عزا وفى ... كل رَجَاء نوع اذلال)
(رجاؤكم غل وَهَا أَنْتُم ... أطلقتم عَنى أغلالي)
(وَالْمَال ظلّ حَائِل زائل ... لَا دردر الْجَامِع المَال)
(فى مَذْهَب المجدودين العلى ... سيان اكثارى واقل الى)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِالْيمن أَو الْعَجم فى سنة تسع وَسبعين وَألف
مُحَمَّد بن حسن القسطمونى الاصل القسطنطينى المولد الْمَعْرُوف بِحسن زَاده أحد أفاضل موالى الرّوم ثمَّ أَخذ طَرِيق مَوْلَانَا خدا وندكار وَصَارَ شَيخا بزاويتهم بِالْقَاهِرَةِ كَانَ من السراة النحارير وَله شهرة بِالْفَضْلِ طنانة وَكَانَ شَاعِرًا بليغا لَهُ بالتركية أشعار كَثِيرَة ونظم الشّعْر العربى وَله مخلص على طَريقَة شعراء الرّوم وَهُوَ شفائى نَشأ فى تربية أَبِيه وَكَانَ أَبوهُ فى الذرْوَة الْعَالِيَة من الْعلم وَهُوَ أستاذ الاستاذين أَخذ عَنهُ كثير من الْعلمَاء وَمِنْهُم وَلَده هَذَا وَبِه برع واشتهر صيته من حِين بلغ الْحلم ثمَّ لَازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الْمجِيد السيواسى ولازمه مُدَّة وَحكى عَن السيواسى انه قَالَ سَوف يحصل لهَذَا وعناه فيض فى طَرِيق الصُّوفِيَّة وَكَانَ النَّاس يعْجبُونَ من قَوْله لِأَنَّهُ كَانَ فى أَوَائِله مُتَّهمًا بِبَعْض الْمُنْكَرَات ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى مدرسة السُّلْطَان سليم الْقَدِيم وَاسْتمرّ مدرسا بهَا سِتَّة أَعْوَام لعذر حصل لَهُ ثمَّ نقل الى السليمانية وَولى مِنْهَا قَضَاء ازمير برتبة الْمَدِينَة المنورة ثمَّ ولى قَضَاء أَيُّوب برتبة بروسه وَلما صَار الْمولى حُسَيْن الرمال معلما للسُّلْطَان ابراهيم وَكَانَ أَولا من جملَة طلبة صَاحب التَّرْجَمَة نَهَضَ بِهِ الْحَظ وَصَارَ مرجعا فى المهام وَأعْطى قَضَاء الغلطة برتبة أدرنه وَنقل الى مصر فَأَقَامَ بهَا ثَلَاثَة أشهر وعزل وَلما ولى البهائى الافتاء كَانَ لَهُ بِهِ علاقَة كُلية من حَالَة الصغر واتحاد تَامّ فصيرة قَاضِيا بِالشَّام فى سنة سِتِّينَ وَأقَام بهَا(3/435)
ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا ثمَّ أعْطى قَضَاء مصر ثَانِيًا ثمَّ عزل وَجَاء الى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة أَرْبَعَة أشهر وَكَانَ قصد أَن يحجّ فَمَا تيَسّر لَهُ وأعيد البهائى الى الْفتيا فَوجه اليه رُتْبَة قَضَاء قسطنطينية ثمَّ ولى قضاءها اسْتِقْلَالا فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بانا طولى ثمَّ ارتحل بنية الْحَج وَلما وصل الى قونية أَخذ طَرِيق المولوية عَن ابْن مَوْلَانَا وَلبس تاجهم وَقدم الى دمشق فى سنة احدى وَسبعين وَسَار الى الْحَج مَعَ الركب الشامى وَعَاد الى مصر صُحْبَة ركبهَا والقى بهَا عَصا ترحاله وَأعْرض عَن الدُّنْيَا واستوطن مصر وَاشْترى بهَا دَارا وَبَاعَ دَاره الَّتِى بقسطنطينية بمحلة السُّلْطَان سليم وطلق زَوجته الَّتِى بالروم ولازم على الْعِبَادَة والاوراد وَلم يزل بِمصْر الى أَن مَاتَ وَكَانَ بَينه وَبَين أَبى محبَّة وصداقة وَكَانَت رسائل كل مِنْهُمَا لَا تنفك عَن الآخر ومنشآته بالتركية فى غَايَة اللطافة وَأما آثاره الْعَرَبيَّة فَلم أر لَهُ مِنْهَا الا هَذِه الابيات كتبهَا على مؤلف للقاضى عمر المغربى المالكى خَليفَة الحكم بِمصْر سَمَّاهُ المصابيح على الْجَامِع الصَّحِيح وهى
(كتاب لانواع الْمسَائِل جَامع ... وَجمع لَا شتات المباحث نَافِع)
(وَفِيه لطلاب الحَدِيث كِفَايَة ... كَمَا فِيهِ للشَّيْخ النبيه مَنَافِع)
(جزى رَبنَا خير الجامعه غَدا ... باذن لمن يَوْم الجزا هُوَ شَافِع)
(عَلَيْهِ السَّلَام التَّام مِنْهُ وَآله ... وَأَصْحَابه مَا دَامَ يشفع شَافِع)
وَكَانَت وِلَادَته سنة أَربع عشرَة وَألف وَتوفى بعد الْخمس والثمانين بِقَلِيل رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن حسن الشهير بِابْن عجلَان الحسينى الشافعى الدمشقى نقيب الاشراف بِدِمَشْق كَانَ غزير الْفضل فصيح الْعبارَة حسن الْفَهم كثير الْمَحْفُوظ وَله فى التَّفْسِير يَد طائلة اشْتغل على الشَّمْس مُحَمَّد بن مُحَمَّد العيثى وعَلى الشَّيْخ مَنْصُور السطوحى الصابونى وَأخذ عَن جمَاعَة وَحصل ودأب ثمَّ ولى نقابة الاشراف فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وعزل بعد مُدَّة فارتحل الى الرّوم وَولى الْمدرسَة السليمية وَرجع وتملك دَارا بِالْقربِ من الشَّيْخ عَمُود دَاخل بَاب الْجَابِيَة وسكنها وَلما مَاتَ السَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة نقيب الشَّام نَهَضَ بِهِ حَظه فَكَانَ تَارَة يلى النقابة وَتارَة يعْزل الى أَن اسْتَقل بهَا مُدَّة وروجع فى الامور كثيرا وَكَانَ كَامِل الْعقل خَبِيرا بِمَا يصنع ونفذت كَلمته عِنْد الاعيان وأرباب الحكومات وَولى نِيَابَة الْقَضَاء وَقَضَاء الْمَوَارِيث وَوَقع فى(3/436)
آخر أَيَّامه ان رجلا سبّ النبى
وتعصب جمَاعَة فى تبرئته وَأَرَادُوا أَن يرغموا الشُّهُود فى كتم الشَّهَادَة فَقَامَ بِهَذَا الامر وَأثبت عَلَيْهِ السب عِنْد القاضى فَقتل وَكَانَ ذَا مفاكهة عذبة ممتعا فى حَدِيثه وتملك كتبا كَثِيرَة واقرأ التَّفْسِير فى السليمية والبخارى فى بَيته وَكَانَ كثير المطالعة لَا يمل من الْبَحْث وَلَا يفتر عَن المذاكرة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من المميزين فى الْفضل وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوفى بكرَة نَهَار الِاثْنَيْنِ ثامن عشر الْمحرم سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَدفن بمدفن خَاص بهم بِالْقربِ من مَسْجِد الذبان وَكَانَ آخر درس أقرأه فى تَفْسِير سُورَة مَرْيَم قَوْله تَعَالَى {واذا مت فَسَوف أبْعث حَيا} وَلم يخلف ذكرا وَبَنُو عجلَان طَائِفَة بِالشَّام مَشْهُورُونَ بِصِحَّة النّسَب واسلافهم كَانُوا قدمُوا من مصر وَسَكنُوا بزاوية الرفاعية بمحلة ميدان الْحَصَى وهى الزاوية الْمَعْرُوفَة بزاوية شيخ الْمَشَايِخ عِنْد مَزَار سيدى حسن بن الرفاعى وهى زَاوِيَة كَبِيرَة فسيحة وَكَانَت خربَتْ بِسَبَب فتْنَة صدرت فى أَوَاخِر دولة الجراكسه فى سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وَذَلِكَ ان السُّلْطَان الغورى أرسل حَاكما الى دمشق يُقَال لَهُ النَّائِب وَكَانَ بهَا حَاكم غَيره فَمَا أَرَادَ تَسْلِيمه فتحصن النَّائِب الْمَذْكُور فى زَاوِيَة ابْن الرفاعى الْمَذْكُورَة فَرمى نَائِب القلعة على الزاوية بأحجار المدافع الْكَبِيرَة فَهد ايوان الزاوية قَالَه البورينى وَالله أعلم
مُحَمَّد بن حسن بن أَحْمد بن أَبى يحيى الكواكبى الحلبى الحنفى مفتى حلب ورئيسها والمقدم فِيهَا فى الْفُنُون النقلية والعقلية مَعَ سَعَة الجاه وَالْمَال وشهرة الصيت والاناة والحلم وَكَانَ أعظم رجل جمع كل صفة حميدة وألم بِكُل منقبة سامية انْتَهَت اليه مَكَارِم الاخلاق والبشاشة وَصدق الْوَعْد وَكَانَ مَعَ علمه الزاخر وعلو سنه وَقدره لين قشرة المعاشرة مخالطا يحضر مجَالِس المداعبة والغنا وَيَقُول رب مَعْصِيّة أورثت ذلا وافتقارا خير من طَاعَة أورثت عزا واستكباراً نَشأ بحلب وَأخذ بهَا عَن جمع من مُحَقّق عصره مِنْهُم الشَّيْخ جمال الدّين البابولى وجد كثيرا حَتَّى نَالَ الرُّتْبَة الْعَظِيمَة وَكَانَ حَدِيد الْفَهم سريع الاخذ للاشياء الغامضة حكى انه دخل يَوْمًا الى مجْلِس النَّجْم مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الحلفاوى خطيب حلب فَسَأَلَهُ عَن مسئلة فى الاصول فَلم يدرها وَكَانَ النَّجْم قصد أَن يظْهر زيفه وَيعرف انه لم يشْتَغل فى الاصول فَقَامَ من الْمجْلس وَانْفَرَدَ بِنَفسِهِ مُدَّة فى دَاره وانكب على مطالعة الاصول حَتَّى عرف من نَفسه انه حصله وَأخذ باطراً فَمه ثمَّ ذهب الى النَّجْم وناطره فى مسَائِل كَثِيرَة من هَذَا الْعلم فأربى عَلَيْهِ وَشهد لَهُ(3/437)
النَّجْم بمعرفته وَكَانَ النَّجْم الْمَذْكُور فى هَذَا الْعلم مِمَّن لَا يدْرك شاوه وَمَا زَالَ بعد ذَلِك يترقى فى الْفضل حَتَّى انْفَرد وَولى افتاء حلب وتصدر بهَا وَأفَاد ودرس وَأَلْقَتْ اليه علماؤها أَعِنَّة التَّسْلِيم وتواتر خبر فَضله وبلغنى ان السَّيِّد عبد الله بن الحجازى الْمُقدم ذكره كَانَ طلب من الْوَزير الْفَاضِل ايام انضمامه اليه أَن يشفع لَهُ فى منصب الْفتيا عَن الكواكبى عِنْد شيخ الاسلام يحيى المنقارى فَلَمَّا فاوضه الْوَزير فى ذَلِك قَالَ لَهُ المنقارى اذا عزل الكواكبى نضطر الى ان نوجه اليه منصبا يَلِيق بِهِ وَلَا يَلِيق بِهِ الا منصبى وَقصد بذلك أَن يكف الْوَزير عَن هَذَا الامر فَلم يذكرهُ لَهُ بعد ذَلِك وَبقيت عَلَيْهِ الْفَتْوَى الى أَن مَاتَ وَألف المؤلفات العديدة مِنْهَا نظم الْوِقَايَة فى الْفِقْه وَشرح نظمه شرحا مُفِيدا وَله نظم الْمنَار وَشَرحه فى الاصول وحاشية على تَفْسِير البيضاوى الْتزم فِيهَا مناقشة سعدى وَأُخْرَى ناقش فِيهَا عِصَام الدّين وحاشية عل شرح المواقف للسَّيِّد وَغير ذَلِك من التحريرات وَله نظم ونثر فى غَايَة اللطافة فَمن شعره قَوْله
(أورقاء عَن عهد الحبيب تترجم ... لِيَهنك الف بالغوير مخيم)
(لَئِن تندبى الْفَا وَمَا شط حيه ... فانى على شط المزار متيم)
(وهب سجعك الْمَوْزُون باللحن مطرب ... فدمعى أَو فى صَامت يتَكَلَّم)
(لكى مثل فى العندليب وسجعه ... ولى بالفراش الشّبَه وَالْفرق يعلم)
وَقَوله
(يَا أَيهَا الْبَدْر الْمُنِير اذا بدا ... واذا رنا يَا ايهذا الريم)
(ومعلم الْغُصْن الرطيب تمايلا ... رق النسيم لَهَا فكاد يهيم)
(كم ذاتموه عَن صبَابَة عاشق ... صب على طول الصدود مُقيم)
(فَارْحَمْ ضنى جسدى وَحسن تصبرى ... وارع الْجَمِيل فَمَا الْجمال يَدُوم)
وَله هَذَا الْمُفْرد
(فَلَا تعجبوا من لكنة فى لِسَانه ... فَمن حُلْو فِيهِ لَا يُفَارِقهُ الْحَرْف)
وَهَذَا الْمَعْنى أَصله بالتركية وَكنت عربته قبل ان أرى بَيت الكواكبى بقولى
(مَا لكنة فِيهِ تشين وانما ... تأبى الْحُرُوف فِرَاق شهد لِسَانه)
وللكواكبى مضمنا بيتى أَبى الْعَبَّاس المرسى
(حتام فى ليل الهموم زناد فكرك تقتدح ... )
(قلب تحرق بالاسى ... ودموع عين تنسفح)
(ارْفُقْ بِنَفْسِك واعتصم ... بحمى الْمُهَيْمِن تَنْشَرِح)(3/438)
(واضرع لَهُ ان ضَاقَ عَنْك خناق حالك تنفسح ... )
(مَا أم ساحة جوده ... ذُو محنة الا فح)
(أَو جَاءَهُ ذُو المعضلات بمغلق الا فتح ... )
(فدع السوى وانهج على ... نهج السوى المتضح)
(واسمع مقَالَة نَاصح ... ان كنت مِمَّن ينتصح)
(مَا تمّ الا مَا يُرِيد ... فدع مرادك واطرح)
(واترك وساوسك الَّتِي ... شغلت فُؤَادك تسترح)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَتوفى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف
السَّيِّد مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن حَمْزَة الدمشقى الشافعى نقيب الشَّام وَتقدم تَمام نسبه فى تَرْجَمَة حفيده السَّيِّد حُسَيْن كَانَ السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور شافعيا على مَذْهَب آبَائِهِ اشْتغل هُوَ وَأَخُوهُ السَّيِّد زين العابدين فى الْفِقْه على الشهَاب العيثاوى وَحصل طرفا من الْفِقْه وَكَانَ مشاركا فى غَيره ثمَّ ولى نقابة الاشرف بعد أَخِيه السَّيِّد زين العابدين الْمَذْكُور وَكَانَ شهما عَاقِلا حازما صَاحب رأى وخبرة فى الامور وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَحصل جاها ومالا وعقارا فَوق مَا يُوصف وَكَانَ موفورا الحشمة زَائِد المهابة وَلما كَانَ الْوَزير مُرَاد باشا بحلب فى قصَّة الامير على بن جانبولاذ قَصده بهَا فَلَمَّا ذهب الشهَاب العيثاوى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وَالشَّيْخ عِيسَى الصمادى الى حلب للشكاية على ابْن معن بِسَبَب مساعدته لِابْنِ جانبولاذ كَانَ السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور والقاضى تَاج الدّين التاجى بهَا وَكَانَ كيوان الطاغية الْمُقدم ذكره ثمَّة فى تبريد الامر عَن ابْن معن فاستعان بهما واستشدهما عِنْد مُرَاد باشا ان الْمَشَايِخ انما جاؤا اليه مكرهين من قبل جند الشَّام وفى الْحَقِيقَة كَانَ للجند باعث كلى على ذَلِك فان ابْن معن كَانَ سَبَب انحطاطهم وَكسر شوكتهم ثمَّ رَجَعَ السَّيِّد مُحَمَّد فَمَرض فى الطَّرِيق فَلَمَّا كَانَ بقرية الطّيبَة من قرى حماة زَاد بِهِ الْمَرَض فَحمل على بغل فَمَاتَ فى أثْنَاء الطَّرِيق وَكَانَت وَفَاته فى رَابِع صفر سنة سبع عشرَة بعد الالف وَحمل الى حماه وَدفن بهَا وَلم يُجَاوز أَرْبَعِينَ سنة من عمره وَهُوَ وَالِد السَّيِّد كَمَال الدّين مُحَمَّد الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن حُسَيْن الملقب شمس الدّين الحمامى الدمشقى العاتكى الحنفى من أنبل(3/439)
فضلاء عصره وأجمعهم لفنون مُتعَدِّدَة وَكَانَ فَاضلا كَامِلا صَالحا دينا خيرا برع وفَاق وَشهد لَهُ أهل وقته بالبراعة والسبق فى مضمار الْجد وَالِاجْتِهَاد اشْتغل فى الْفِقْه وَغَيره على الشَّمْس بن المنقار وَحضر دروسه كثيرا وَلزِمَ دروس جدى القاضى محب الدّين فى التَّفْسِير وَغَيره وَقَرَأَ على المنلا مُحَمَّد بن عبد الْملك البغدادى وَحضر الحَدِيث عِنْد الشَّمْس مُحَمَّد الداودى وَبحث مَعَ الافاضل وَكَانَ لين العريكة منصفا وَكَانَ عِنْد مشايخه الْمَذْكُورين مَقْبُولًا ملتفتا وَصَحب ولى الله تَعَالَى الْعَارِف بِهِ الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَبى بكر الْيَتِيم العاتكى السالف ذكره وانتفع بِهِ وَحصل لَهُ بِصُحْبَتِهِ خير كثير دينا وَدُنْيا وَكَانَ يلازم مَعَه الاوراد وَقيام اللَّيْل وَولى من الْوَظَائِف الدِّينِيَّة خطابة جَامع المراديه وامامتها وانتفع بِهِ جمَاعَة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من خير خلق الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته نَهَار الاربعاء رَابِع عشر شعْبَان سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن حُسَيْن بن عبد الصَّمد الملقب بهاء الدّين بن عز الدّين الحارثى العاملى الهمدانى صَاحب التصانيف والتحقيقات وَهُوَ أَحَق من كل حقيق بِذكر أخباره وَنشر مزاياه واتحاف الْعَالم بفضائله وبدائعه وَكَانَ أمة مُسْتَقلَّة فى الاخذ باطراف الْعُلُوم والتضلع بدقائق الْفُنُون وَمَا أَظن الزَّمَان سمح بِمثلِهِ وَلَا جاد بنده وَبِالْجُمْلَةِ فَلم تتشنف الاسماع بِأَعْجَب من أخباره وَقد ذكره الشهَاب فى كِتَابيه وَبَالغ فى الثَّنَاء عَلَيْهِ وَذكره السَّيِّد على بن مَعْصُوم وَقَالَ ولد ببعلبك عِنْد غرُوب شمس يَوْم الاربعاء لثلاث عشرَة بَقينَ من ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وانتقل بِهِ أَبوهُ الى بِلَاد الْعَجم وَأخذ عَن وَالِده وَغَيره من الجهابذة كالعلامة عبد الله اليزدى حَتَّى أذعن لَهُ كل مناظر ومنابذ فَمَا اشْتَدَّ كَاهِله وصفت لَهُ من الْعلم مناهله ولى بهَا مشيخة الاسلام ثمَّ رغب فى الْفقر والسياحة واستهب من مهاب التَّوْفِيق رياحه فَترك المناصب وَمَال لما هُوَ لحاله مُنَاسِب فحج بَيت الله الْحَرَام وزار النبى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ أَخذ فى السياحة فساح ثَلَاثِينَ سنة وَاجْتمعَ فى أثْنَاء ذَلِك بِكَثِير من أهل الْفضل ثمَّ عَاد وقطن بِأَرْض الْعَجم وَهُنَاكَ همى غيث فَضله وانسجم فألف وصنف وقرط المسامع وشنف وقصدته عُلَمَاء تِلْكَ الامصار واتفقت على فَضله أسماعهم والابصار وغالت تِلْكَ الدولة فى قِيمَته واستمطرت غيث الْفضل من ديمته فَوَضَعته على مفرقها تاجا وأطلعته فى مشرقها سِرَاجًا وهاجا وتبسمت بِهِ دولة سلطانها شاه عَبَّاس(3/440)
واستنارت بشموس رَأْيه عِنْد اعتكار حنادس الباس فَكَانَ لَا يُفَارِقهُ سفرا وحضرا وَلَا يعدل عَنهُ سَمَاعا ونظرا الى اخلاق لَو مزج بهَا الْبَحْر لعذب طعما وآراء لَو كحلت بهَا الجفون لم يلف أعمى وشيم هى فى المكارم غرر وأوضاح وكرم بَاقٍ جوده لشائمه لامع وضاح تتفجر ينابيع السماح من نواله ويضحك ربيع الافضال من بكاء عُيُون آماله وَكَانَت لَهُ دَار مشيدة الْبناء رحبة الفناء يلجأ اليها الايتام والارامل ويفد عَلَيْهَا الراحى والآمل فكم مهدبها وضع وَكم طِفْل بهَا رضع وَهُوَ يقوم بنفقتهم بكرَة وعشيا ويوسعهم من جاهه جنَانًا مغشيا مَعَ تمسك من التقى بالعروة الوثقى وايثار الْآخِرَة على الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خير وَأبقى وَلم يزل أنفًا من الانحياز الى السُّلْطَان رَاغِبًا فى الغربة عَن الاوطان يؤمل الْعود الى السياحة ويرجو الاقلاع عَن تِلْكَ الساحة فَلم يقدر لَهُ حَتَّى وافاه حمامه وترنم على أفنان الْجنان حمامه وَقد أَطَالَ أَبُو المعالى الطالوى فى الثَّنَاء عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ البديعى وَنَصّ عبارَة الطالوى فى حَقه ولد بقزوين فَانْظُرْهُ مَعَ قَول ابْن مَعْصُوم ببعلبك وَأخذ عَن عُلَمَاء تِلْكَ الدائرة ثمَّ خرج من بَلَده وتنقلت بِهِ الاسفار الى ان وصل الى أصفهان فوصل خَبره الى سلطانها شاه عَبَّاس فَطَلَبه لرياسة علمائها فوليها وَعظم قدره وارتفع شَأْنه الا انه لم يكن على مَذْهَب الشاه فى زندقته لانتشار صيته فى سداد دينه الا أَنه غالى فى حب آل الْبَيْت وَألف المؤلفات الجليلة مِنْهَا التَّفْسِير الْمُسَمّى بالعروة الوثقى والصراط الْمُسْتَقيم وَالتَّفْسِير الْمُسَمّى بِعَين الحياه وَالتَّفْسِير الْمُسَمّى بالحبل المتين فى مزايا الْفرْقَان الْمُبين ومشرق الشمسين وَشرح الاربعين وَالْجَامِع العباسى فارسى ومفتاح الْفَلاح والزبدة فى الاصول والتهذيب فى النَّحْو والملخص فى الْهَيْئَة والرسالة الْهِلَالِيَّة والائنى عشريات الْخمس وخلاصة الْحساب والمخلاة وتشريح الافلاك والرسالة الاسطرلابية وحواشى الْكَشَّاف وحواشى البيضاوى وحاشية على خُلَاصَة الرِّجَال ودراية الحَدِيث والفوائد الصمدية فى علم الْعَرَبيَّة وحاشية الْفَقِيه وَغير ذَلِك من الرسائل المختصرة والفوائد المحرره وَأما اشعاره فسأورد لَك مِنْهَا مَا يعظم عنْدك موقفه وتقف أمانيك عِنْده وَلَا تتجاوزه قَالَ ثمَّ خرج سائحا فجاب الْبِلَاد وَدخل مصر وَألف بهَا كتابا سَمَّاهُ الكشكول جمع فِيهِ كل نادرة من عُلُوم شَتَّى قلت وَقدر رَأَيْته وطالعته مرَّتَيْنِ مرّة بالروم وَمرَّة بِمَكَّة ونقلت مِنْهُ أَشْيَاء غَرِيبَة وَكَانَ يجْتَمع مُدَّة اقامته بِمصْر بالاستاذ مُحَمَّد بن أَبى الْحسن(3/441)
البكرى وَكَانَ الاستاذ يُبَالغ فى تَعْظِيمه فَقَالَ لَهُ مرّة يَا مَوْلَانَا أنادر وش فَقير كَيفَ تعظمنى هَذَا التَّعْظِيم قَالَ شممت مِنْك رَائِحَة الْفضل وامتدح الاستاذ بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِى مطْلعهَا
(يَا مصر سقيا لَك من جنَّة ... قطوفها يانعة دانيه)
(ترابها كالتبر فى لطفه ... وماؤها كالفضة الصافيه)
(قد أخجل الْمسك نسيم لَهَا ... وزهرها قد أرخص الغاليه)
(دقيقة أَصْنَاف أوصافها ... وَمَالهَا فى حسنها ثَانِيه)
(مُنْذُ أنخت الركب فى أرْضهَا ... أنسيت أصحابى وأحبابيه)
(فيا حماها الله من رَوْضَة ... بهجتها كَافِيَة شافيه)
(فِيهَا شِفَاء الْقلب أطيارها ... بنغمة القانون كالداريه)
وَمِنْهَا
(من شَاءَ أَن يحيا سعيدا بهَا ... منعما فى عيشة راضيه)
(فَليدع الْعلم وَأَصْحَابه ... وليجعل الْجَهْل لَهُ غاشيه)
(والطب والمنطق فى جَانب ... والنحو وَالتَّفْسِير فى زاويه)
(وليترك الدَّرْس وتدرية ... والمتن وَالشَّرْح مَعَ الحاشيه)
(الام يَا دهر وَحَتَّى مَتى ... تشقى بأيامك أياميه)
(تحقق الآمال مستعطفا ... وتوقع النَّقْص بآماليه)
(وَهَكَذَا تفعل فى كل ذى ... فَضِيلَة أَو همة عاليه)
(فان تكن تحسبنى مِنْهُم ... فهى لعمرى ظنة واهيه)
(دع عَنْك تعذيبى والا فأشكوك الى ذى الحضرة العاليه ... )
ثمَّ قدم الْقُدس وَحكى الرضى بن أَبى اللطف المقدسى قَالَ ورد علينا من مصر رجل من مهابته مُحْتَرم فَنزل من بَيت الْمُقَدّس بِفنَاء الْحرم عَلَيْهِ سِيمَا الصّلاح وَقد اتسم بلباس السياح وَقد تجنب النَّاس وَأنس بالوحشة دون الايناس وَكَانَ يألف من الْحرم فنَاء الْمَسْجِد الاقصى وَلم يسند اليه أحد مُدَّة الاقامة اليه نقصا فَألْقى فى روعى انه من كبار الْعلمَاء الاعاظم وأجلة أفاضل الاعاجم فَمَا زلت لخاطره أَتَقَرَّب وَلما لَا يرضيه أتجنب فاذا هُوَ مِمَّن يرحل اليه للاخذ عَنهُ وتشد لَهُ الرّحال للرواية عَنهُ يُسمى بهاء الدّين مُحَمَّد الهمدانى الحارثى فَسَأَلته عِنْد ذَلِك الْقِرَاءَة فى بعض الْعُلُوم فَقَالَ بِشَرْط أَن يكون ذَلِك مَكْتُوم وقرأت عَلَيْهِ شَيْئا من(3/442)
الْهَيْئَة والهندسة ثمَّ سَار الى الشَّام قَاصِدا بِلَاد الْعَجم وَقد خفى عَنى أمره واستعجم قلت وَلما ورد دمشق نزل بمحلة الخراب عِنْد بعض تجارها الْكِبَار وَاجْتمعَ بِهِ الْحَافِظ الْحُسَيْن الكربلائى القزوينى أَو التبريزى نزيل دمشق صَاحب الروضات الذى صنفه فى مزارات تبريز فاستنشده شَيْئا من شعره وَكَثِيرًا مَا سَمِعت انه كَانَ تطلب الِاجْتِمَاع بالْحسنِ البورينى فَأحْضرهُ لَهُ التَّاجِر الذى كَانَ عِنْده بدعوة وتأنق فى الضِّيَافَة ودعا غَالب فضلاء محلتهم فَلَمَّا حضر البورينى الى الْمجْلس رأى فِيهِ صَاحب التَّرْجَمَة بهيئة السياح وَهُوَ فى صدر الْمجْلس وَالْجَمَاعَة محدقون بِهِ وهم متأدبون غَايَة التأدب فَعجب البورينى وَكَانَ لَا يعرفهُ وَلم يسمع بِهِ فَلم يعبأ بِهِ ونحاه عَن مَجْلِسه وَجلسَ غير ملتفت اليه وَشرع على عَادَته فى بَث رقائقه ومعارفه الى أَن وصلوا الْعشَاء ثمَّ جَلَسُوا فابتدر البهائى فى نقل بعض المناسبات وانجر الى الابحاث فأورد بحثا فى التَّفْسِير عويصا فَتكلم عَلَيْهِ بِعِبَارَة سهلة فهمها الْجَمَاعَة كلهم ثمَّ دقق فى التَّعْبِير حَتَّى لم يبْق يفهم مَا يَقُول الا البورينى ثمَّ أغمض فى الْعبارَة فبقى الْجَمَاعَة كلهم والبورينى مَعَهم صموتا جموداً لَا يَدْرُونَ مَا يَقُول غير انهم يسمعُونَ تراكيب واعتراضات وأجوبة تَأْخُذ بالالباب فَعندهَا نَهَضَ البورينى وَاقِفًا على قديمه وَقَالَ ان كَانَ ولابد فانت البهائى الحارثى اذ لَا أجد فى هَذِه المثابة الا ذَاك واعتنقا وأخذا بعد ذَلِك فى ايراد أنفس مَا يحفظان وَسَأَلَ البهائى من البورينى كتمان أمره وافترقا تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ لم يقم البهائى فأقلع الى حلب وَذكر الشَّيْخ أَبُو الوفا العرضى فى تَرْجَمته قَالَ قدم حلب مستخفيا فى زمن السُّلْطَان مُرَاد بن سليم مغيرا صورته بِصُورَة رجل درويش فَحَضَرَ دروس الْوَالِد يعْنى الشَّيْخ عمر وَهُوَ لَا يظْهر انه طَالب علم حَتَّى فرغ من الدَّرْس فَسَأَلَهُ عَن أَدِلَّة تَفْضِيل الصّديق على المرتضى فَذكر حَدِيث مَا طلعت الشَّمْس وَلَا غربت على أحد بعد النَّبِيين أفضل من أَبى بكر وَأَحَادِيث مثل ذَلِك كَثِيرَة فَرد عَلَيْهِ ثمَّ أَخذ يذكر أَشْيَاء كَثِيرَة تقتضى تَفْضِيل المرتضى فشتمه الْوَالِد وَقَالَ لَهُ رافضى شيعى وسبه فَسكت ثمَّ ان صَاحب التَّرْجَمَة أَمر بعض تجار المعجم أَن يصنع وَلِيمَة وَيجمع فِيهَا بَين الْوَالِد وَبَينه فَاتخذ التَّاجِر وَلِيمَة ودعاهما فَأخْبرهُ ان هَذَا هُوَ المنلا بهاء الدّين عَالم بِلَاد الْعَجم فَقَالَ للوالد شتمتونا فَقَالَ لَهُ مَا علمت انك المنلا بهاء الدّين وَلَكِن ايراد مثل هَذَا الْكَلَام بِحُضُور الْعَوام لَا يَلِيق ثمَّ قَالَ أَنا سنى أحب الصَّحَابَة وَلَكِن كَيفَ أفعل سلطاننا شيعى وَيقتل الْعَالم السنى قَالَ وَكَانَ كتب قِطْعَة(3/443)
على التَّفْسِير باسم شاه عَبَّاس فَلَمَّا دخل بِلَاد السّنة قطع الديباجة وبدلها وَذكر أَنه كتب ذَلِك باسم السُّلْطَان مُرَاد وَلما سمع بقدومه أهل جبل بنى عَامل تواردوا عَلَيْهِ أفوجاً فخاف ان يظْهر أمره فَخرج من حلب انْتهى وَسِيَاق كَلَام العرضى يقتضى ان دُخُوله الى حلب كَانَ فى قَدمته من الْعَجم قَاصِدا الْحَج وَالله أعلم وأملى لبَعض الادباء بِالشَّام لغزه الذى جعله لامتحان أفكار الاذكياء من فحول الْعلمَاء وَهَذَا يدل على تبحره فى الْعُلُوم وَقد أوردته برمتِهِ فى كتابى هَذَا تطرية وتنشيطا لمن يعرف مزية الْكَلَام وَهُوَ يَا أَصْحَاب الفطنة القويمه والفطرة المستقيمه والطبيعة الالمعية والروية اللوذعية أخبرونى عَن كتاب بعضه من الْحُرُوف النورانية وَأَكْثَره من حُرُوف الزِّيَادَة وبأحد نصفيه يكمل الرجل وبالنصف الآخر تتمّ الشَّهَادَة ثَانِيَة قَابل لانواع النقط وأوله لَا يقبل الا وَاحِدَة فَقَط تالى أَوله بالكمال مَعْرُوف ومتلو ثَانِيه بالاستحداب مَوْصُوف مضعفه لوسطيه كَمَال شعورى ومضعف آخِره لثالثه كَمَال ظهورى التحسين من مُقَارنَة طَرفَيْهِ مَعْلُوم والتجرب من مقايسة ذَلِك مَفْهُوم ثانى كل حرف مِنْهُ بهيولاتية الْحُرُوف مَشْهُور وَهُوَ فِيمَا بَينهَا بالقطبية مذكوران أعْطى أَوله حليته لثانيه تَسَاويا فى الْعد وان انعكست الْقَضِيَّة زَاد التَّفَاضُل بَينهمَا عَن الْحَد ثالثه اسْم فَاعل ورابعه من أَسمَاء الافعال وَكِلَاهُمَا أَسمَاء الْعدَد الْمَوْصُوف بالكمال ان ضربت أعظم وسطيه فى مجموعهما حصل عدد جمع الافلاك المحدبة بمحدد الْجِهَات وان نقصت من ربعه الرَّابِع عقيم ضروب الشكل الثَّالِث بقى عدد القضايا الموجهات أحد نصفيه فَرد يعادل عدد الاعراض وَالنّصف الآخر زوج يعادل الْعُقُول وَهَذَا مِمَّا لَا ريب فِيهِ وان كَانَ بِحَسب الظَّاهِر غير مَعْقُول كل يساوى انحطاط الشَّمْس من الافق فى آخر غرُوب الشَّفق وَأول الصُّبْح الكذوب ومضروب صَدره فى ضعف عَجزه يعادل عرضا يتَحَقَّق فِيهِ معكوس الطُّلُوع والغروب ان أضفت ثَانِيه الى مضعف ثالثه سَاوَى الْحُرُوف المهموسه وان طرحت مِنْهُ مكعب ثَانِيه عَادل الْمنَازل المنحوسه حرفان مِنْهُ متقاربان يعادلان طَبَقَات الْعين وحرفان متعانقان يساويان أَرْكَان حِسَاب الخطأين مُكَرر نصفه فى ضروب المويسيقى مَعْدُود فان قلبته فَهُوَ طَائِر مَعْهُود وان زِدْت على مربع أَوله مهمله الا نصف ثَانِيه عَادل عِظَام بدن الانسان وان نقصت من مكعب ثالثه مضعف أَوله بقى دِيَة كل من مقاديم الاسنان مضعف أَوله(3/444)
بِعَدَد أَنْوَاع الْخِيَار ومكعب آخِره كعدد التَّكْبِيرَات فى فَرَائض اللَّيْل وَالنَّهَار مضروبه فى طرفه يساوى فَرِيضَة أَب وَثَلَاث بَنَات ومضروب وسطيه فى ثَانِيهمَا كفريضة الاخوة الْعشْرَة وَالثَّمَانِيَة مَعَ سِتّ زَوْجَات ان أضفت آخِره الى أَوله سَاوَى أَحْوَال الْمسند اليه وان جمعت ثَانِيه مَعَ ثالثه عَادل من يحجّ فى الشَّرْع عَلَيْهِ وان ضعفت رابعه سَاوَى كلم المجازات وان زِدْت على مربع ثالثه نصفه عَادل علاقات المجازات وان نقصت من مربع أَوله خمس آخِره بقى عدد صور الْكَوَاكِب المرصوده وان زِدْت ثَانِيه على طرفه حصل الْمَشْهُور من الْعُرُوق المفصوده مَجْمُوع آخريه يساوى عدد مقادير النبضات وَثلث أوليه يعدل الاجناس الْعَالِيَة للمحميات وان ضممت الى طَرفَيْهِ مربع بعضه سَاوَى بعض الاعداد التامه وان زِدْت عَلَيْهَا وَسطه عَادل الوف القوائم كَمَا اشْتهر على أَلْسِنَة العامه شكله شكل العقلة بَين الاشكال الرمليه وان نصفت ثالثه لم تكذب القضيه ان زِدْت على مضعف آخِره مسطح طَرفَيْهِ سَاوَى رقم المربع الميمون وعادل ارتفاعا يساوى فِيهِ الظل للشاخص أَيْنَمَا يكون مهمل أَوله رمز الى مَا يُوجب للثلج الاشتعال ومعجمه الى مَا هُوَ فى زراعة الذَّهَب كثير الِاسْتِعْمَال ان نقصت من آخِره نصف ثَانِيه سَاوَى الباقى أَنْوَاع التَّرْجِيح وعادل عدد المخصصات الموصولات وفى كل من نصفيه ايماء الى برهَان الزَّوْج والفرد على امْتنَاع تسلسل الْعِلَل والمعلولات ان نقصت من سطح طَرفَيْهِ ثانى مبانيه سَاوَى عرض بلد يساوى غَايَة ارْتِفَاع أول الجدى فِيهِ بعض حُرُوفه يُشِير شكله الى الْبُرْهَان السلمى على تناهى الابعاد فان جعلت زاويته قَائِمَة دلّ على مَا فَوق المُرَاد وان وضعت خُرُوج ضلعها العالى الى غير النِّهَايَة وَمن طرف السافل آخر مثله مقاطعا لَهُ متحركا عَلَيْهِ تمّ الدَّلِيل على ذَلِك الْمطلب بطرِيق لم يسبقنا أحد اليه وان جَعلتهَا ثلثى قَائِمَة أشارت الى الْبُرْهَان الترسى على ذَلِك المرام وان انطبقت على مَرْكَز الْعَالم دلّت على ان التباعد بَين الرؤس أَزِيد من التباعد بَين الاقدام وان أممتها وَجعلت كلا من ضلعها عددا فَردا أَو مت الى الِاسْتِدْلَال على نفى الْجُزْء بشكل الْعَرُوس وامكان اثبات ذَلِك بالبرهان السلمى الْغَيْر مأنوس وان زَاد كل مِنْهُمَا على غَايَة الانفراج وتفارقت أجزاؤهما بالاتصال أمكن أَيْضا اثبات ذَلِك بِدَلِيل خطر لنا بالبال وان جَعلتهَا قَائِمَة حصلت الاشارة الى بعض براهين استعلام المرتفعات وان أَوْمَأت(3/445)
مَا تُرِيدُ معرفَة بعده عَنْك منتهيا مبلغها الاعلى الى بَصرك حصل الايماء الى طَرِيق معرفَة عرُوض الانهار وَسَائِر الابعاد المتعسرات وان أوترها نصف قطر الارض وَبَينهَا وَبَين مَرْكَز الشَّمْس تماس ظهر عَلَيْك ان بعد الشَّمْس عَنَّا وهى عَلَيْهِ أَزِيد بِكَثِير مِنْهُ حَال كَونهَا على سمت الراس ولاح لديك ان تراكم الْبحار وَهُوَ الْمُوجب للاحساس بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْقيَاس وان وصلت بَين ضلعيها بِخَط مواز لآخر مماس لَهما مخرج من الْجِهَتَيْنِ أمكن اقامة أَدِلَّة عديدة على مُسَاوَاة زَوَايَا مثلث لقائمتين وَفِيه حُرُوف على صُورَة شكل ان أخرجت قطريه أَشَارَ الى نفى الْجُزْء الذى لَا يتجزى بِوَجْه منح لنا وَهُوَ لُزُوم مفسدتين أعنى تلاقى القطرين قبل الْمُرُور بالمركز وعَلى نقطتين ان ألصقت وتريه بقطره أَشَارَ الى نَفْيه أَيْضا بِوَجْه مَا وجد أعظم مِنْهُ قطّ وَهُوَ لُزُوم جَوَاز كَون قطر الْفلك الاعلى ثَلَاثَة أَجزَاء فَقَط وان مَاس مُحِيط وسط ثانى حُرُوفه أشعر بِدَلِيل الْمُتَكَلِّمين على اثبات الْجُزْء كَمَا هُوَ مَشْهُور وَأما الى شبه الظفر من لُزُوم انفراج الحادة قبل قِيَامهَا كَمَا هُوَ على الالسنة مَذْكُور وان وازاه أعظم مِنْهُ وتحرك حَتَّى ماسه تبين لَك غلط صَاحب المواقف فى قدر غلط المتممات وتعجبت من مُوَافقَة الْمُحَقق الدوانى لَهُ فى امثال هَذِه التوهمات وان تحرّك الدَّاخِل ضعف الْخَارِج حصلت الاشاره الى اصل الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة الذى اخترعه سُلْطَان الْمُحَقِّقين وَلم يسْبقهُ اليه أحد من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وان ساويت بَين وَترى قوسين مِنْهُمَا ظهر لَك ان سهم قَوس الْخَارِج أقصر وان الطاس تسع من المَاء فى أعلا المنارة أقل وفى أَسْفَلهَا أَكثر وَفِيه حرف ان فرضت خُرُوج ذيله الى غير النِّهَايَة أَشَارَ الى برهَان امْتنَاع اللاتناهى فى جِهَة أَو جِهَتَيْنِ وان أَقمت على طرفه عموداً ووصلت بَينهمَا أَشَارَ الى طَرِيق وزن الارض بذى العمودين وَفِيه حرف ان فصلت بَين عَمُود المخرجين بِخَط مخرج الى ألف فَرسَخ فَمَا زَاد حصل لَك الاذعان بِأَن مساحة ظفرك أَزِيد بِكَثِير من مثلث قَاعِدَته بسمرقند وَرَأسه بِبَغْدَاد ولنقتصر على هَذَا الْمِقْدَار من الاطناب فى ذكر أَوْصَاف ذَلِك الْكتاب والعاقل تكف الاشاره وَالْجَاهِل لَا ينْتَفع بِأَلف عباره وَكتب اليه وَالِده حُسَيْن هَذَا اللغز الْغَرِيب فَأَجَابَهُ عَنهُ وَرَأَيْت السَّيِّد مُحَمَّد كبريت المدنى قد بَين السُّؤَال وَالْجَوَاب فى بعض تعاليقه فَذكرت الْجَمِيع وَلَعَلَّ بِمَا بَين السَّيِّد أَن يحتال على اللغز الْمَذْكُور آنِفا وَالسُّؤَال هُوَ هَذَا أَيهَا الْوَلَد الْمُؤَيد بالاكرام والاعزاز الْمُوفق(3/446)
فى حل المعميات والالغاز أخبرنى عَن اسْم آخر أَوله آخر الْحُرُوف وَآخر ثَانِيه بِهَذَا الْوَصْف مَعْرُوف قلبا آخريه يتوافقان وَقَلْبًا أوليه متعانقان لَوْلَا ثالثه لصار الِاسْم حرفا وَلَوْلَا ثَانِيه لصار الْفِعْل ظرفا وَلَوْلَا رَأسه لَصَارَتْ الرجل من النَّجَاسَات وَلَوْلَا رابعه لم يتَحَقَّق رَابِع القياسات بعضه قَاتل وَبَعضه الآخر نصف قَاتل طرفا أَوله فعل أَمر بطرفين وطرفا ثَانِيه مَا نهيت عَن قَوْله لللأبوين وان نقص ربعه من ربعه بقى ربعه وان زيد ربعه على ربعه حصل ربعه صَدره عَلامَة قلب العاشق وثانيه عَلامَة الرَّقِيب الْمُنَافِق لَوْلَا ربعه لم تتَمَيَّز الْقبلية عَن القابلية وَلم تفترق الْمعَانى عَن عِلّة الفاعلية بعضه يَمِين وَالْبَعْض فى الْيَسَار كمين وبطرف آخِره يَبْتَدِئ الْمقَام وبطرفه الآخر ينتهى الْكَلَام فَأَجَابَهُ بقوله يَا سيدى وأبى واستاذى وَمن اليه فى الْعُلُوم استنادى هَذَا اسْم رباعى الاعضاء ثلاثى الاجزاء اثْنَا عشرى الاصول عديم الْحَرْف المفصول من الاسماء مَعْدُود الى الافعال مَرْدُود لَوْلَا ثلث أَوله لصار السخيف بِالْكَرمِ مَوْصُوفا ولكان كل فَقير بسواد الْوَجْه مَعْرُوفا وَلَوْلَا رابعه لَا تحدت الْمَاهِيّة بالوجود وَلم يتَمَيَّز الْحَاسِد من الْمَحْسُود لَو عدم ثَانِيه لم يكن جمع الثَّمر ثمارا ولصارت قَرْيَة بالرى حمارا وَلَو عدم ربعه لم يكن الْقلب فى الْجَسَد وتبدلت السكينَة بالغل والحسد ولصارت الْهِرَّة بعض الازهار وَلم تتَمَيَّز الْحِنْطَة عَن بعض الثِّمَار أَوله بالعراق وَآخره بِالشَّام وبثلثى ربعه يتم الايمان والاسلام وبثلث ثالثه يبتدى السُّؤَال وبثانى ثَانِيه ينتهى القيل والقال شرح أَلْفَاظ السُّؤَال قَوْله آخر أَوله الح أول الِاسْم قَاف وَآخره بِالنّظرِ الى بَسطه مُسَمّى الْفَاء وَهُوَ آخر حُرُوف كَمَا ترى وَآخر ثَانِيه وَهُوَ الالف كَذَلِك الْفَاء وَهُوَ مَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف لانه هُوَ هُوَ قَوْله قلبا آخريه وهما السِّين وَالْمِيم يتوافقان لَان حقيقتهما الْيَاء وَقَلْبًا أوليه وهما الالف وَاللَّام من قَاف والف حرفان متعانقان لَوْلَا ثالثه وَهُوَ مُسَمّى السِّين لصار الِاسْم حرف عطف وَهُوَ أم أى بعد حذف السِّين من الِاسْم وَلَوْلَا ثَانِيه وَهُوَ الالف لصار الْفِعْل ظرفا وَلَوْلَا رَأسه وَهُوَ الْقَاف وَلَوْلَا رابعه وَهُوَ الْمِيم لم يتَحَقَّق الْقيَاس التمثيلى وَهُوَ رَابِع القياسات بعضه قَاتل وَهُوَ سم وَبَعضه وَهُوَ قانصف قَاتل طرفا أَوله وهما الْقَاف وَالْفَاء أَمر بحرفين وطرفا ثَانِيه الذى هُوَ ألف أُفٍّ قَوْله وان نقص ربعه الذى هُوَ السِّين من ربعه الذى هُوَ الْقَاف بقى ربعه وَهُوَ الْمِيم لَان الباقى بعد طرح سِتِّينَ من مائَة أَرْبَعُونَ وان زيد ربعه عكس الْقَضِيَّة قَوْله صَدره عَلامَة(3/447)
قلب العاشق أى ثانى حُرُوفه وَهُوَ ألف وَالْمرَاد مِنْهُ جَوْهَر لَفظه وَهُوَ فعل من الالفة وَلم يزل قلب العاشق يألف المعشوق وَكَذَا الرَّقِيب الْمُنَافِق قَوْله لَوْلَا رابعه الذى هُوَ الالف لم تتميزا الْقبلية عَن القابلية لَان بِهِ الْفرق بَين هذَيْن اللَّفْظَيْنِ وَمثله الفعلية والفاعلية قَوْله بعضه يَمِين يعْنى الْمِيم لانه يُقَال م الله فى أَيمن الله أَو المُرَاد مَا عدا الْقَاف وَهُوَ اسْم وَبَعضه وَهُوَ السِّين فى لفظ الْيَسَار كامن قَوْله وبطرف آخِره الاول أَو الآخر يبتدى الْمقَام بل وَيخْتم وبطرف آخِره كَذَلِك ينتهى الْكَلَام لِأَن الْمِيم نِهَايَة لفظ الْكَلَام شرح أَلْفَاظ الْجَواب قَوْله رباعى الاعضاء أى حُرُوف قَاسم أَرْبَعَة ثلاثى الاجزاء أى جملَته تَنْقَسِم ثَلَاثَة من غير عكس اثْنَا عشرى الاصول لَان كل حرف يشْتَمل على ثَلَاثَة حُرُوف قَوْله عديم الْحَرْف المفصول لانه مركب من حرفين فحرفين وَهُوَ مَعْدُود من الاسماء لانه اسْم وضع لمسمى بِعَيْنِه ومردود الى الافعال بِاعْتِبَار أَنه مُشْتَقّ من الْقسم قَوْله لَوْلَا ثلث أَوله الذى هُوَ الْقَاف وَالْمرَاد الْفَاء لصار لفظ السخيف بعد حذف الْفَاء سخيا والسخى مَوْصُوف بِالْكَرمِ قَوْله واذا حذف الْفَاء من لفظ فَقير بقى قير وَهُوَ أسود الظَّاهِر وَالْبَاطِن قَوْله وَلَوْلَا رابعه الذى هُوَ الْمِيم لَا تحدث الْمَاهِيّة بالوجود لَان وجود الشئ هَيئته فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تحدث الْهَيْئَة بالماهية وَفِيه تسَامح لَان المُرَاد من الْمِيم مسماها وَهُوَ مُفْرد فَكيف يُطلق على الْمركب من الْمِيم والالف وَيُمكن أَن يُقَال تعدد المُرَاد فى هَذَا الْبَاب كثير وَهُوَ أَدخل فى الالغاز قَوْله وَلم يتَمَيَّز الْحَاسِد من الْمَحْسُود كالاول لانه لَا فرق بَين الحسود والحاسد فى أصل الْمَعْنى قَوْله لَو عدم ثَانِيه الذى هُوَ الالف من لفظ الثِّمَار بقى ثَمَر فَلم يبْق الْجمع قَوْله قريب بالرى وهى خار واذا لم تكن الالف فِيهِ بقى خر وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ اسْم للحمار قَوْله وَلَو عدم ربعه الذى هُوَ السِّين لم يكن ذَلِك الرّبع قلب الْجَسَد لسقوطه وتبدلت السكينَة فَصَارَت كينه من قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَكَانُوا} وفى الصِّحَاح وَبَات فلَان بكينة سوء بِالْكَسْرِ أى بِحَالَة سوء والاستكانة الخضوع قَوْله الْهِرَّة المُرَاد بِهِ سنور بِعَمَل الترادف واذا لم تكن فِيهِ السِّين كَانَ نورا قَوْله الْحِنْطَة المُرَاد مِنْهُ سلت على التسامح قَوْله أَوله بالعراق يعْنى الْقَاف فى لفظ الْعرَاق وَآخره وَهُوَ الْمِيم فى لَفْظَة الشَّام قَوْله وَثلثا ربعه وهما السِّين وَالنُّون من بسط الرّبع الذى هُوَ السِّين يتم بِهِ الايمان لانه تمّ بالنُّون والاسلام لَان تَمَامه بِالسِّين وَلَا يلْزم أَن يكون آخرا قَوْله وَثلث ثالثه الذى هُوَ السِّين وَهُوَ المُرَاد من بَسطه يبتدى السُّؤَال حَقِيقَة كَمَا ترى(3/448)
وبثانى ثَانِيه وَهُوَ اللَّام من ألف ينتهى القيل والقال انْتهى وأشعار البهائى كَثِيرَة وَأشهر مَا لَهُ قصيدته الكافية الَّتِى سَارَتْ مسير الْمثل ومطلعها
(يَا نديمى بمهجتى أفديك ... قُم وهات الكؤس من هاتيك)
(خمرة ان ضللت ساحتها ... فسنا نور كأسها يهديك)
(يَا كليم الْفُؤَاد داوبها ... قَلْبك الْمُبْتَلى لكى تشفيك)
(هى نَار الكليم فاجتلها ... واخلع النَّعْل واترك التشكيك)
(صَاح ناهيك بالمدام فدم ... فى احتساها مُخَالفا ناهيك)
من جُمْلَتهَا
(لست أنساه اذ أَتَى سحرًا ... وَحده وَحده بِغَيْر شريك)
(طرق الْبَاب خَائفًا وجلا ... قلت من قَالَ كل مَا يرضيك)
(قلت صرح فَقَالَ تجْهَل من ... سيف ألحاظه تحكم فِيك)
(قَالَ خُذْهَا فمذ ظَفرت بهَا ... قلت زدنى فَقَالَ لَا وَأَبِيك)
(ثمَّ وسدته الْيَمين الى ... أَن دنا الصُّبْح قَالَ لى يَكْفِيك)
(قلت مهلا فَقَالَ قُم فَلَقَد ... فاح نشر الصِّبَا وَصَاح الديك)
وَقد عَارض بهَا أبياتاً لوالده وَذَلِكَ هُوَ المخترع لهَذَا الروى وأبيات وَالِده هى قَوْله
(فاح عرف الصِّبَا وَصَاح الديك ... وانثنى البان يشتكى التحريك)
(قُم بِنَا نجتلى مشعشعة ... تاه من وجده بهَا النسيك)
(لَو رَآهَا الْمَجُوس عاكفة ... وحدوها وجانبوا التَّشْرِيك)
(ان تسر نحونا نسر وان ... مت فى السّير دُوننَا نحييك)
وَكتب الى وَالِده وَهُوَ بهراة
(ياساكنى أَرض الهراة أما كفى ... هَذَا الْفِرَاق بلَى وَحقّ الْمُصْطَفى)
(عودوا على فربع صبرى قد عَفا ... والجفن من بعد التباعد مَا غفا)
(وخيالكم فى بالى ... وَالْقلب فى بلبال)
(ان أَقبلت من نحوكم ريح الصِّبَا ... قُلْنَا لَهَا أَهلا وسهلا مرْحَبًا)
(واليكم قلب المتيم قد صبا ... وفراقكم للروح مِنْهُ قد سبا)
(وَالْقلب لَيْسَ بخالى ... من حب ذَات الْخَال)
(يَا حبذا ربع الْحمى من مربع ... فغزاله شب الغضا فى أضلعى)
(لم أنسه يَوْم الْفِرَاق مودعى ... بمدامع تجرى وقلب موجع)(3/449)
(والصب لَيْسَ بسالى ... عَن ثغره السلسال)
وَكتب اليه
(بقزوين جسمى وروحى ثوت ... بِأَرْض الهراة وسكانها)
(فَهَذَا تغرب عَن أَهله ... وَتلك أَقَامَت بأوطانها)
وَسَأَلَهُ بعض أَصْحَابه أَن يُعَارض قصيدة رثى بهَا وَالِد مطْلعهَا
(جارتا كَيفَ تحسنين ملامى ... أيداوى كلم الحشا بِكَلَام)
فَقَالَ
(خليانى ولوعتى وغرامى ... يَا خليلى واذهبا بِسَلام)
(قد دعانى الْهوى فلباه قلبى ... فدعانى وَلَا تطيلا ملامى)
(ان من ذاق نشوة الْحبّ يَوْمًا ... لَا يبالى بِكَثْرَة اللوام)
(خامرت خمرة الْمحبَّة قلبى ... وَجَرت فى مفاصلى وعظامى)
(فعلى الْعلم وَالْوَقار صَلَاة ... وعَلى الْعقل ألف ألف سَلام)
(هَل سَبِيل الى وقوفى بوادى الْجزع يَا صاحبى أَو المامي ... )
(أَيهَا السائر الْملح اذا مَا ... جِئْت نجداً فعج بوادى الخزام)
(وَتجَاوز عَن ذى الْمجَاز وعرج ... عادلا عَن يَمِين ذَاك الْمقَام)
(واذا مَا بلغت حزوى فَبلغ ... جيرة الحى يَا أخى سلامى)
(وانشدن قلبى الْمَعْنى لديهم ... فَلَقَد ضَاعَ بَين تِلْكَ الْخيام)
(واذا مَا رثوا لحالى فسلهم ... أَن يمنوا وَلَو بطيف مَنَام)
(يَا نزولا بذى الاراك الى كم ... تنقضى فى فراقكم أعوامى)
(مَا سرت نسمَة وَلَا ناح فى الدوح حمام الا وحان حمامى)
(ايْنَ أيامنا بشرقى نجد ... يَا رعاها الاله من أَيَّام)
(حَيْثُ غُصْن الشَّبَاب غض وَروض ... الْعَيْش قد طرزته أيدى الْغَمَام)
(وزمانى مساعد وأيادى اللَّهْو نَحْو المنى تجر زمامى ... )
(أَيهَا المرتقى ذرى الْمجد فَردا ... والمرجى للفادحات الْعِظَام)
(يَا حَلِيف الندى الذى جمعت فِيهِ مزايا تَفَرَّقت فى الانام)
(نلْت فى ذرْوَة الفخار محلا ... عسر المرتقى عَزِيز المرام)
(نسب طَاهِر ومجد أثيل ... وفخار عَال وَفضل سامى)
(قد قرنا مقالكم بمقال ... وشفعنا كلامكم بِكَلَام)
(ونظمنا لَهَا مَعَ الدرفى سمط ... وَقُلْنَا العبيرمثل الرغام)(3/450)
(لم أكن مقَاما على ذَا وَلَكِن ... كَانَ طَوْعًا لامركم اقدامى)
(عمرك الله يَا نديمى أنْشد ... جارتا كَيفَ تحسنين ملامى)
وَله يرثى وَالِده وَقد توفى بالمصلى من قرى الْبَحْرين لثمان خلون من شهر ربيع الاول سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة وشهرين وَسَبْعَة أَيَّام ومولده أول يَوْم محرم سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة
(قف بالطلول وسلها أَيْن سلماهما ... ورو من جرع الاجفان جرعاها)
(ورده الطّرف فى أَطْرَاف ساحتها ... وأرج الْوَصْل من أَرْوَاح أرجاها)
(فان يفتك من الاطلال مخبرها ... فَلَا يفوتنك مرآها ورياها)
(ربوع فضل تباهى التبر تربَتهَا ... وَدَار أنس يحاكى الدّرّ حصباها)
(عدا على جيرة حلوا بساحتها ... صرف الزَّمَان فأبلاهم وأبلاها)
(بدور تمّ غمام الْمَوْت حللها ... شموس فضل سَحَاب الترب غشاها)
(فالمجد يبكى عَلَيْهَا جازعا أسفا ... وَالدّين يندبها وَالْفضل ينعاها)
(يَا حبذا زمن فى ظلهم سلفت ... مَا كَانَ أقصرها عمرا وأحلاها)
(أَوْقَات أنس قضيناها فَمَا ذكرت ... الا وَقطع قلب الصب ذكرَاهَا)
(يَا جيرة هجروا واستوطنوا هجرا ... واها لقلبى الْمَعْنى بعدكم واها)
(رعيا لليلات وصل بالحمى سلفت ... سقيا لايامنا بالخيف سقياها)
(لفقدكم شقّ جيب الْمجد وانصدعت ... أَرْكَانه وبكم مَا كَانَ أقواها)
(وخر من شامخات الْعلم أرفعها ... وانهد من باذخات الْعلم أرساها)
(يَا ثاويا بالمصلى من قرى هجر ... كُسِيت من حلل الرضْوَان أصفاها)
(أَقمت يَا بَحر بِالْبَحْرَيْنِ فاجتمعت ... ثَلَاثَة كن أَمْثَالًا وأشباها)
(ثَلَاثَة أَنْت أنداها وأغزرها ... جودا وأعذبها طعما وأصفاها)
(حويت من دُرَر العلياء مَا حويا ... لَكِن دَرك أَعْلَاهَا وأغلاها)
(يَا أعظما وطِئت هام السهى شرفا ... سقاك من ديم الوسمى أسماها)
(وَيَا ضريحا على هام السماك علا ... عَلَيْك من صلوَات الله أزكاها)
(فِيك انطوى من شموس الْفضل أضوأها ... وَمن معالم دين الله أسناها)
(وَمن شوامخ أطواد الفتوة أرساها وأرفعها قدرا وأبهاها)
(فاسحب على الْفلك الا على ذيول على ... فقد حويت من العلياء علياها)(3/451)
(عَلَيْك منا صَلَاة الله مَا صدحت ... على غصون أَرَاك الدوح ورقاها)
وَله وَقد رأى النبى
فى مَنَامه
(وليله كَانَ بهَا طالعى ... فى ذرْوَة السعد وأوج الْكَمَال)
(قصر طيب الْوَصْل من عمرها ... فَلم تكن الا كحل العقال)
(واتصل الْفجْر لَهَا بَالغا ... وَهَكَذَا عمر ليالى الْوِصَال)
(اذ أخذت عينى فى نومها ... وانتبه الطالع بعد الوبال)
(فزرته فى اللَّيْل مستعطفا ... أفديه بِالنَّفسِ وأهلى وَمَال)
وأشتكى مَا أَنا فِيهِ من الْبلوى وَمَا أَلْقَاهُ من سوء حَال ... )
(فأظهر الْعَطف على عَبده ... بمنطق يزرى بنظم اللآل)
(فيا لَهَا من لَيْلَة نلْت فى ... ظلامها مَا لم يكن فى خيال)
(أمست خفيفات مطايا الرجا ... بهَا وأضحت بالعطايا ثقال)
(سقيت فى ظلمائها خمرة ... صَافِيَة صرفا طهُورا حَلَال)
(وابتهج الْقلب بِأَهْل الْحمى ... وقرت الْعين بِذَاكَ الْجمال)
(ونلت مَا نلْت على أننى ... مَا كَانَت أستوجب ذَاك النوال)
وَمن بدائعه فى الْغَزل
(وأهيف الْقد لدن الْعَطف معتدل ... بالطرف والظرف لَا يَنْفَكّ قتالا)
(ان جال أهْدى لنا الْآجَال ناظره ... أوصال قطع بالهجران أوصالا)
(وان نظرت الى مرْآة وجنته ... حسبت انسان عينى فَوْقهَا خالا)
(كَأَن عَارضه بالمسك عارضنى ... أَو ليل طرته فى خَدّه سالا)
(أَو طَاف من نور خديه على بصرى ... فَخط بِاللَّيْلِ فَوق الصُّبْح أشكالا)
وَقَوله
(أَسحر بابل فى جفنيك مَعَ سقم ... أم السيوف لقتل الْعَرَب والعجم)
(وَالْخَال مَرْكَز دور للعذار بدا ... أم ذَاك نضح عثار الْخط بالقلم)
هَذَا أَصله للرامينى الاسترابادى فى قَوْله
(هَل عثرت أَقْلَام خطّ العذار ... فى مشقها فالخال نضح العثار)
(أم اسْتَدَارَ الخد لما غَدَتْ ... نقطته مَرْكَز ذَاك الْمدَار)
رَجَعَ
(أم حَبَّة وضعت كَيْمَا تصيد بهَا ... حب الْقُلُوب فصادت كلم ملتئم)
أحسن مِنْهُ قَول صاحبنا الاديب اللبيب ابراهيم بن مُحَمَّد السّفر جلاتى جمل الله بِهِ(3/452)
الادب وَأَهله
(لَا يخدعنك تَحت عطفة صُدْغه ... خَال فَذَاك الْخَال حَبَّة فخه)
رَجَعَ
(أم كالفراش هوى طير الْفُؤَاد على ... نَار بخدك حَتَّى صَار كالفحم)
وَهَذَا قَول مَأْخُوذ من قَول عون الدّين العجمى
(لهيب الخد حِين بدا العينى ... هوى قلبى عَلَيْهِ كالفراش)
(فأحرقه فَصَارَ عَلَيْهِ خالا ... وَهَا أثر الدُّخان على الحواشى)
وللبهاء
(لعينيك فضل كثير على ... وَذَاكَ لانك يَا قاتلى)
(تعلمت من سحرها فعقدت لِسَان الرَّقِيب من العاذل ... )
وَمن رباعياته وهى كَثِيرَة قَوْله
(كم بت من المسا الى الاشراق ... من فرقتكم ومطر بى أشواقى)
(والهم منادمى ونقلى ندمى ... والدمع مدامتى وجفنى الساقى)
وَقَوله
(لما نظر الجفن ضَعِيفا نهكا ... من فرقته رق لضعفى وَبكى)
(وارتاح وَقَالَ لى أما قلت لكا ... مَا يمكنك الْفِرَاق مَا يمكنكما)
وَقَوله
(لَا تبك معاشر انأوا أوالفا ... الْقَوْم مضوا وَنحن نأتى خلفا)
(بالمهلة أَو تعاقب نتبعهم ... كالعطف بثم أَو كعطف بالفا)
وَقَوله
(قُم وامض الى الدَّيْر ببخت وسعود ... لَا يحسن فى الْمدرسَة الْيَوْم قعُود)
(واشرب قدحا وَقل على صَوت الْعود ... الْعُمر مضى وَلَيْسَ من بعد يعود)
وَقَوله
(يَا ريح اذا أتيت دَار الاحباب ... قبل عَنى تُرَاب تِلْكَ الاعتاب)
(ان هم سَأَلُوا عَن البهائى فَقل ... قد ذاب من الشوق اليكم قد ذاب)
وَقَوله
(يَا عاذل كم تطيل فى اعتابى ... دع لومك وَانْصَرف كفانى مَا بى)
(لولام اذا هَمت من الشوق فلى ... قلب مَا ذاق فرقة الاحباب)
وَقَوله
(يَا غَائِب عَن عينى لَا عَن بالى ... الْقرب اليك مُنْتَهى آمالى)
(أَيَّام نواك لَا تسل كَيفَ مَضَت ... وَالله مَضَت بأسوء الاحوال)
وَقَوله
(لَا بَأْس وان أذبت قلبى بهواك ... الْقلب وَمن سلته الْقلب فدَاك)
(وليت وَقلت أنعم الله مساك ... مولاى وَهل ينعم من لَيْسَ يراك)
وَقَوله
(أغتص بريقتى كحسى الحاسى ... اذ أذكرهُ وَهُوَ لعهدى ناسى)
(ان مت وجمرة الْهوى فى كبدى ... فالويل اذا الساكنى الارماس)(3/453)
وَقَوله
(ان كَانَ فراقنا على التَّحْقِيق ... هذى كبدى أَحَق بالتمزيق)
(لَو دَامَ لى الْوِصَال ألفى سنة ... مَا كَانَ يفى بساعة التَّفْرِيق)
وَقَوله
(أَهْوى رشأ عرضنى للبلوى ... مَا عَنهُ لقلبى الْمَعْنى سلوى)
(كم جِئْت لاشتكى فمذ أبصرنى ... من لَذَّة قربه نسيت الشكوى)
وَقَوله
(يَا بدر دجا بوصله أحيانى ... اذ زار وَكم بهجره أفنانى)
(بِاللَّه عَلَيْك عجلن سفك دمى ... لَا طَاقَة لى بليلة الهجران)
وَقَوله
(يَا بدر دجا فِرَاقه الْجِسْم أذاب ... قد ودعنى فَغَاب صبرا اذ غَابَ)
(بِاللَّه عَلَيْك أى شئ قَالَت ... عَيْنَاك لقلبى الْمَعْنى فَأجَاب)
وَكتب لبَعض أحبابه وَهُوَ بالمشهد
(يَا ريح اذا أتيت أَرض الْجمع ... أعنى طوسا فَقل لاهل الرّبع)
(مَا حل بروضة بهائيكم ... الا وَسَقَى رياضها بالدمع)
وَكتب لبَعض اخوانه بالنجف الاشرف
(يَا ريح اذا أتيت أَرض النجف ... فالثم عَنى ترابها ثمَّ قف)
(وَاذْكُر خبرى لَدَى عريب نزلُوا ... واديه وقص قصتى وَانْصَرف)
وَقَالَ أَيْضا
(للشوق الى طيبَة جفنى باكى ... لَو صَار مقامى فلك الافلاك)
(أستنكف ان مشيت فى روضتها ... فالمشى على أَجْنِحَة الاملاك)
وَقَالَ
(يَا من ظلم النَّفس وأخطا وأسا ... هَذَا حرم يغسل عَنْك الدنسا)
(هَذَا حرم مقدس يَخْدمه ... جِبْرِيل وميكال صباحا ومسا)
وَقَالَ
(يَا قوم الى مَكَّة هَذَا أَنا ضيف ... ذى زَمْزَم ذى منى وهذاك الْخيف)
(كم أعرك عينى لاستيقن هَل ... فى الْيَقَظَة مَا أرَاهُ أم هَذَا طيف)
وَقَالَ
(ان هَذَا الْمَوْت يكرههُ ... كل من يمشى على الغبرا)
(وبعين الْعقل لَو نظرُوا ... لرأوه الرَّاحَة الْكُبْرَى)
وَكَانَت وَفَاته لاثنتى عشرَة خلون من شَوَّال سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف بأصفهان وَنقل الى طوس قبل دَفنه فَدفن بهَا فى دَاره قَرِيبا من الخضرة الرضوية وَحكى بعض الثِّقَات انه قصد قبيل وَفَاته زِيَارَة الْقُبُور فى جمع من الاخلاء الاكابر فَمَا اسْتَقر بهم الْجُلُوس حَتَّى قَالَ لمن مَعَه انى سَمِعت شَيْئا فَهَل مِنْكُم من سَمعه فأنكروا سُؤَاله واستغربوا مقاله وسألوه عَمَّا سمع فأوهم وعمى فى جَوَابه وَأبْهم ثمَّ رَجَعَ الى دَاره(3/454)
وأغلق بَابه فَلم يلبث ان أهاب داعى الردى فَأَجَابَهُ والحارثى نِسْبَة الى حَارِث هَمدَان قَبيلَة وجده وَهُوَ الذى خاطبه أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْحسن على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ بقوله يَا حَار يَا حَارِث تَارَة بالترخيم وَأُخْرَى بالتفخيم وقصته على التَّفْصِيل مَذْكُورَة فى كتاب الامالى لِابْنِ بن بابويه
مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الامام الْقسم بن مُحَمَّد بن على قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال عَالم ابْن عَالم كَانَ من أهل الْعلم ورعاته مطلعا على مَقَاصِد الادباء ومناهجهم وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ مكثر من عُلُوم الآراء وتعاطى الاستنباط والتكلم فى الْمسَائِل عَن نظره من غير مُتَابعَة وَذَلِكَ فى آخر أمره واشتغل بشرح آيَات الاحكام الَّتِى جمعهَا السَّيِّد الْمُحدث مُحَمَّد بن ابراهيم ابْن الْوَزير وعددها مِائَتَا آيَة ونيف وَعِشْرُونَ آيَة فَفَسَّرَهَا واستنبط مِنْهَا وَأظْهر عجائب من علمه وَأخرج الاحاديث من أمهاتها وَكَانَ من أَعْيَان الدولة المتوكلية من وُجُوه سَادَات أَهلهَا فى البسطة مِنْهُم وَكَانَ بعد موت وَالِده مُقيما بالبستان غربى صنعاء يحف بِهِ فُقَهَاء وَجَمَاعَة من الْجند وَلما توفى الامام الْمُؤَيد وَحصل مَا حصل من الِاخْتِلَاف قصد حَضْرَة عَمه الامام اسمعيل المتَوَكل الى ضوران وَكَانَ طَرِيقه على أعشار وهى طَريقَة مسلوكة فآنسه الامام وأنزله مَنْزِلَته الَّتِى يَسْتَحِقهَا ثمَّ وَجهه الى حدار للقاء الْعَسْكَر الْخَارِجَة من صنعاء من جَانب السَّيِّد أَحْمد بن الامام الْقسم فاتفقت حروب فى حدار وَمَا زَالَت الحروب مماسية مصابحة لِلْفَرِيقَيْنِ حَتَّى طلع السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن بن الْقسم من دمار لحصار صنعاء فاجتمعا لذَلِك ثمَّ نفذ الى ثلاء وَاتفقَ تَسْلِيم أَحْمد بن الْحسن بثلاء والامير الْجَلِيل النَّاصِر بن عبد الرب ثمَّ عَاد مكرما وَارْتَفَعت حَاله وعلت كَلمته وَاجْتمعت لَهُ جنود مثل جنود أَبِيه وَولى أصقاها عَن أَمر الامام وَأَبِيهِ ثمَّ توجه فى جنده مَعَ السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن الى نجد السّلف لقِتَال سلاطين الشرق واقتضت تهيئته جعله من جَانب مُفْرد فَقضى الامر وَكَانَ النَّصْر الذى لم يعْهَد مثله فى سَاعَة من نَهَار ذهبت سلاطين الشرق على كثرتهم ونجدتهم بَين قَتِيل وأسير فى لمحة الطّرف فَلم يصل الا وَقد انجلت المعركة عَن الْفَتْح والنصر فَلم يزل حَرِيصًا على أَن يظفر بِمِثْلِهَا فَكَانَ فى يافع مَا كَانَ من الْحَرْب لانهم لم يسلمُوا يَوْمئِذٍ تَسْلِيم طَاعَة فَاجْتمعُوا وطلع وتلاه السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن وَأَخُوهُ مُحَمَّد وَهُوَ أحد أقطاب الْحَرْب فى نجد السّلف وأبلى بلَاء حسنا فطلعوا جبل يافع وَتمّ النَّصْر واستراح قلب صَاحب التَّرْجَمَة وظفر بِنَصِيب وافر وَعَاد هُوَ وَالسَّيِّد احْمَد ابْن(3/455)
الْحسن مرّة أُخْرَى الى هُنَالك وَكَانَ النَّصْر الْمُبين والتفت فى آخر عمره الى الْعلم الْتِفَات أَمْثَاله وَكَانَت الشُّيُوخ تفد اليه الى منزله وَاجْتمعَ عِنْده من الْكتب مَا لم يجْتَمع الا للسلاطين وَكَانَت وَفَاته بعد عصر الْجُمُعَة ثامن شَوَّال سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بالتربة الْمَشْهُورَة بالبستان بِبَاب صنعاء الغربى وبجواره فِيهَا السَّيِّد أَحْمد بن على الشامى وَعَمه السَّيِّد يحيى بن الامام الْقسم وَيحيى هَذَا كَانَ سيدا قد تأهل للرياسة وَتَوَلَّى امورا نِيَابَة عَن أَخِيه الْحُسَيْن بن الْقسم وَكَانَت لَهُ مَكَارِم فى ريعان الشَّبَاب وَتوفى عَام وَفَاة صنوه السَّيِّد يُوسُف ابْن الامام الْقسم توفى بالحمى وَدفن هُنَالك هُوَ والرئيس السَّيِّد الهادى بن على الشامى أظنهما فى تَابُوت وَاحِد وَكَانَ يُوسُف هَذَا من كملة أَهله ووجوه السَّادة ذَا مَكَارِم أَخْلَاق وَمَعَ ذَلِك فَكَانَ يزاحم اخوته الثَّلَاثَة الصلاحية والرتبة ومكافحة الاعداء وَكَانَ محببا الى الْملَّة المحمدية وَلَعَلَّ ذَلِك سر محبَّة وَالِده لَهُ فانه كَانَ عِنْده يُوسُف اخوته وكمله الله تَكْمِيل يُوسُف فى الْخلق وَمَات فى عَام مَوْتهمَا السَّيِّد الْحسن بن الشَّهِيد على بن الْقَاسِم وَكَانَ سيدا رَئِيسا يحب المعالى وَتمكن من ركُوب الْخَيل تمكننا عجيبا فِيهِ يضْرب الْمثل وَتوفى بضوران وقبر بالمقبرة الَّتِى تاخذ من جَانب الْقبْلَة الى جَانب الغرب عَن مَدِينَة الحصنى وَكَانَ مَوْتهمْ فى وَقت مُتَقَارب فى حُدُود سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف أَو قبلهَا بعام وفى هَذَا الْمَعْنى كتب السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقسم الى أَخِيه الامام المتَوَكل اسمعيل قَوْله
(سادة عجلوا بكاس المنايا ... عجبا مَا امْر كأس المنيه)
(من فقيدين سيدين بصنعا ... وبضوران قتل نفس زكيه)
(ثمَّ من بالحمى أجل فقيد ... يُوسُف ذُو المحاسن اليوسفيه)
(يَا لَهَا أوجها غَدَتْ فى لحود ... كَالنُّجُومِ الَّتِى تضئ فهى بهيه)
(مَا رعى الْمَوْت فى علاهم ذماما ... للمعالى وللخلال السنيه)
(أودع الْقلب فقدها حر نَار ... ضاعف الله أجرهَا من رزيه)
مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن عين الْملك الدمشقى الصالحى الشَّاعِر الشهير بالقاق كَانَ شَاعِرًا مجودا عَارِف بأساليب الشّعْر واللغة لكنه خَبِيث اللِّسَان كثير الهجاء والوقوع فى النَّاس لَا يكَاد يسلم من لِسَانه أحد وَجمع ديوانين من شعره أَحدهمَا للمدح وَالْآخر للهجو وسمى الثانى بئس الْمصير وَكَانَ جده مُحَمَّد من أهل الصّلاح صوفى الطَّرِيقَة ووالده من أفاضل الادباء وَلَهُم زَاوِيَة فى الصالحية بَاقِيَة(3/456)
الى يَوْمنَا هَذَا وَنَشَأ مُحَمَّد هَذَا ودأب فى التَّحْصِيل حَتَّى برع قَالَ والدى رَحمَه الله تَعَالَى فى تَرْجَمته ثمَّ نبذ بالقاق وَولى النِّيَابَة بنواحى دمشق وَمِنْهَا جُبَّة عَسَّال قلت واياها عَنى الامير المنجكى فِيمَا كتب بِهِ الى قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق وَابْن الحسام يتشفع لَهُ بِتِلْكَ النَّاحِيَة
(عَبدك القاق يشبه السعدى ... نتفت ريشه يَد الْبرد)
(جد عَلَيْهِ بجبة كرما ... نَاحيَة تِلْكَ لَا كسا الْبرد)
ثمَّ ولى نيابات المحاكم بِدِمَشْق كالصالحية والميدان والعونى وَكَانَت هَذَا الاخيرة أعظم مَطْلُوبه وَكَانَ ظرفاء الادباء يجعلونها مدارا لنكاتهم اذا قصدوه وَذَلِكَ لَان بِالْقربِ مِنْهَا جَامعا يُقَال لَهُ الجوزة فَكَانَ مِمَّا يُقَال فِيهِ القاق فى الجوزة للعونى تعا ثمَّ سَافر الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة ولازم سلك طَرِيق القضا بَعْدَمَا طَار غراب شبابه وَمضى وانفصل عَن قَضَاء حمص بعد مَا ضَبطهَا مُدَّة قَليلَة من الزَّمَان وفى الْمثل كل طير خَارج عَن لغاته لحان وَقد قيل أَرَادَ الْغُرَاب أَن يمشى مشْيَة الحجلة فنسى مشيته الاولى وَلم يصب مشيتهَا فأظهر خجله وَكَانَ كَمَا فى الْمثل الْمَشْهُور أخف حلما من العصفور يبكر الى زِيَارَة الاصحاب وفى الْمثل أبكر من غراب لَهُ مشرب خَاص بِهِ لم يسْلك أحد على أسلوبه وَله شعر كثير غالبه فى الهجاء كَأَنَّهُ منحوت من صَخْر أَو غابة لَيْسَ فِيهَا زهر وَكَانَ دَائِما يهدد بِهِ من حضر وَلَيْسَ بصياح الْغُرَاب يجِئ الْمَطَر وَكَانَ ارتحل الى طرابلس الشَّام وسكنها وَتزَوج بهَا وجاءه أَوْلَاد بِتِلْكَ الديار وَصَارَ بهَا نَائِبا عَن بعض الْقُضَاة فرجم ذَلِك القاضى بالاحجار وفى الْمثل من كَانَ دَلِيله الْغُرَاب رضى بالمنزل الخراب
(اذا كَانَ الْغُرَاب دَلِيل قوم ... فناووس الْمَجُوس لَهُم مصير)
وفر مِنْهَا صَاحب التَّرْجَمَة طَار الى عشه الاول وَلم يعد عَن اخلاقه السَّيئَة وَلم يتَحَوَّل وَكَانَ وحشيا لَا يألف كل أحد الا بعض أشخاص ألفهم وألفوه وَمن قديم عرفوه ونتفوه وَلَا دباء دمشق فِيهِ أهاج كَثِيره وَلَهُم مَعَه مداعبات مشهوره والطف مَا وقفت عَلَيْهِ مِنْهَا قصيدة كتبهَا الاديب ابراهيم الاكرمى الصالحى الى أَحْمد بن شاهين وَذكر فِيهَا أَسمَاء جملَة من الطُّيُور الى أَن استطرد الى ذكر القاق وهى قصيدة عَجِيبَة فى بَابهَا ومطلعها
(مولاى يَا نسر المعالى رفْعَة ... يَغْدُو لَدَيْهَا الرخ ذَا اطراق)(3/457)
(لَك عَزمَة الشاهين حَقًا يَا ابْنه ... وسطا الْعقَاب بِكُل أخيل زاق)
(أفديك من باز حماه أعز من ... بيض الانوق أعز ذى اشراق)
(فقت القطامى الْمجد براعة ... وبلاغة يَا أحوذى سباق)
(يَا مزريا بالببغاء فصاحة ... أَنا ذَا مطوقك الصدوح الزاقى)
(يَا خير مَسْعُود بأيمن طَائِر ... يَا دَائِم الافضال والاشفاق)
(يَا بلبل الافراح فى دوح المنى ... وهزار أنس الواله المشتاق)
(لَا زلت مَا دعت الهديل حمائم ... قَوَّال صدق لَيْسَ بالمذاق)
(ندعوك للجلى فيجلى خطبهَا ... لَا زلت مذخور النَّفْع رفاق)
(قل للبغاث الصعو خفاش الدجا ... حاكى الصدا فى الْخلق والاخلاق)
(ثانى غراب الْبَين آوى منزلا ... بِحَدِيث زور مُسْند كنفاق)
(يَا أَيهَا الصرد الذى من صافر ... أدهى وأجبن خل عَنْك شقَاق)
(مَا يدْرك الخطاف فى طيرانه ... للجو شأو الاجدل الخفاق)
(والمطرب الصداع لست أعده ... فى الطير قبل الابقع النعاق)
(هَل أَنْت الا كالحبارى خصْلَة ... فسلاحها بسلاحها الدفاق)
(قبحت يَا خرب الخرائب ذلة ... يَا مشبه العصفور من دراق)
(أضحى يعرض نَفسه من جَهله ... للْخَارِج الفتاك ذى الاخفاق)
(أطرق كرا ان النعامة فى الْقرى ... يرنو اليها الطير بالاحداق)
(نَحن البراة الشهب فى أفق العلى ... تعنو لَهَا العنقاء بالاعناق)
(ويصفى الطاوس من عجب بِنَا ... ويغرد القمرى للعشاق)
(وَلنَا الشوارد فالجوارح بَعْضهَا ... وَالْبَعْض هن سواجع الاوراق)
(فتشان أَقوام وأقوام بهَا ... تزهو كزهو الْوَرق بالاطواق)
(فَمن الْعَجَائِب وهى عندى جمة ... عتبى على زاغ بِغَيْر خلاق)
(وَمن استحالت الزَّمَان وقبحه ... وصفى وطاوط مَالهَا من واق)
(رخم سوانحها بوارح عائف ... تحكى العقاعق أولعت بشقاق)
(واسلم وَدم فى نعْمَة لبدية ... أبدية تبقى ومجدك باقى)
(مَا غردت ورق الْحمام فهيجت ... وجد الْكَرِيم ولاعج الاشواق)
(فلأنت فِينَا نعْمَة بل رَحْمَة ... يَا أَحْمد الْمَحْمُود بِاسْتِحْقَاق)(3/458)
وفى ايراد هَذِه القصيدة غنية عَن ذكر مَا هجى بِهِ وَمن أحاسن شعره قَوْله من قصيدة
(سقى الخزاما باللوى والاقاح ... من عَارض أَبْلَج سجل النواح)
(حَتَّى ترَاهَا وهى مخضلة ... تغص ريا بالزلال القراح)
(معاهدا للانس كَانَت وَهل ... لى وَقْفَة بَين جنوب البطاح)
(أَيَّام فى قَوس الصِّبَا منزع ... وللملاهى غدْوَة أَو رواح)
(والظبية الادماء لى منية ... وحبذا مرض الْعُيُون الصِّحَاح)
(لم أنس يَوْم الطلح اذ ودعت ... وأدمت الْقلب بِغَيْر الْجراح)
(يَا وَقْفَة لم يبْق فِيهَا النَّوَى ... الا ظنونا لَيْسَ فِيهَا نجاح)
(يَا قلب خُذ بى عَن طَرِيق الْهوى ... ففى مُنَاجَاة المعالى ارتياح)
(فالراح والراحة ذل الْفَتى ... والعز فى شرب ضريب اللقَاح)
وَمن شعره قَوْله فى دولاب المَاء
(ودولاب روض قد شجانا أنينه ... وحرك منا لوعة ضمنهَا حب)
(وَلكنه فى بَحر عشق جَهَالَة ... يَدُور على قلب وَلَيْسَ لَهُ قلب)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته بالصالحية فى سنة سِتّ بعد الالف وَتوفى فى ختام ذى الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بزاويتهم بسفح قاسيون وَمن غَرِيب خَبره ان تمرض ببستان يعرف بالجور تَحت جوزة فِيهِ وَمَات ثمَّة
مُحَمَّد بن حُسَيْن الملا بن نَاصِر بن حسن بن مُحَمَّد بن نَاصِر بن الشَّيْخ القطب الربانى شهَاب الدّين الاشقر العقيلى الْمَشْهُور الْمَعْرُوف قَبره بِمَدِينَة حماه الحموى الحنفى الْفَاضِل البارع المفنن كَانَ لَهُ صِحَة فهم وذكاء ومشاركة جَيِّدَة فى عُلُوم مُتعَدِّدَة وَطيب محاورة وَصدق لهجة ولد بحماة وَبهَا نَشأ ولازم وَالِده فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية وَتخرج بِهِ وَأخذ عَن خَاله الْخَطِيب أَحْمد بن يحيى علوما مُتعَدِّدَة وتأدب بهما وَلما جارت حكام ذَلِك الاقليم على أَهله هَاجر غالبهم الى دمشق فَكَانَ مِمَّن هَاجر مَعَ وَالِده وَأَهله وتوطن دمشق سِنِين عديدة ورحل الى مصر وَأخذ بهَا عَن شيوخها كالعلامة عَامر الشبراوى وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَالشَّمْس البابلى ولازم فى الْفِقْه حسن الشرنبلالى وَعمر الدفرى وَغَيرهمَا من فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة وأجازوه وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة وتكرر تردده الى مصر لطلب الرزق بِالتِّجَارَة على عَادَة أسلافه الْمَارَّة وجاور بالحرمين سِنِين كَثِيرَة ورحل الى الْيمن مرَّتَيْنِ ثمَّ تدير مصر وَأقَام بهَا على(3/459)
الِاشْتِغَال وَهُوَ خَال صاحبنا الْفَاضِل الاديب الاريب مصطفى بن فتح الله شَقِيق والدته كفله بعد موت أَبِيه ورباه وَبِه تخرج كثيرا وَقَرَأَ عَلَيْهِ طرفا من الْعَرَبيَّة وَذكر ان لَهُ شعرًا كثيرا قَالَ لَكِن لم يحضرنى مِنْهُ الا قَوْله فى غُلَام اسْمه عذيبى
(قد مسنى قلق فى وسط ساعية ... والبين يجرى دموعى وهى تجرى بى)
(من عشق ذى هيف حلوا للمى غنج ... أَزورهُ خافيا وَالصُّبْح يغرى بى)
(أَشْكُو إِلَى الله من ممشوق قامته ... وريق ثغر عذيبى فِيهِ تعذيبى)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَتوفى بِمصْر يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع جُمَادَى الاولى سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن خَلِيل الاحسائى المكى الاديب الشَّاعِر الْمَشْهُور ذكره السَّيِّد على ابْن مَعْصُوم وَقَالَ فى وَصفه قَاض قضى من الادب الارب وحظى باتشاف الضَّرْب من لِسَان الْعَرَب وَمَا زَالَ بكعبة الْفضل طائف حَتَّى تقلد منصب الْقَضَاء بِالطَّائِف وَكَانَ شَدِيد الْعَارِضَة فى علم الْعرُوض مُبينًا لطلابه مِنْهُ السّنَن والفروض مَعَ المام جيد باللغة والاعراب ومفاكهات تنسى مَعهَا نَوَادِر الاعراب وَهُوَ من أبدع النَّاس خطا وأتقنهم للكتب نقلا وضبطا كتب مَا ينوف على الالوف وخطه بالحجاز مَعْرُوف ومألوف وَله شعر أَجَاد فِيهِ وأبدع وأودعه من الاحسان مَا أودع فَمِنْهُ قَوْله مهنيا الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدى بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية لما تقلد تدريسها
(لقد سرنى مَا قد سَمِعت فهزنى ... بلذته هز المدام فأسكرا)
(وَذَلِكَ لما أَن غَدا الْحق رَاجعا ... لاهليه من بعد الضلال مكبرا)
(فدونكها مفتى الانام حَقِيقَة ... وانا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا)
وَقَوله فى النسيب
(وشادن كالبدر شاهدته ... عيونه الدعج تميت الانام)
(بدأت بِالتَّسْلِيمِ حباله ... فَقَالَ بالغنج عَلَيْك السَّلَام)
وَكتب الى القاضى تَاج الدّين المالكى وَقد فوض اليه تَفْرِيق الصَّدقَات الْهِنْدِيَّة
(امام هَذَا الْعَصْر لَا ... تجْعَل محبك فى الاضاعه)
(مَا خلت حاجاتى اليك وان نأت دارى مضاعه)
(لَا تنس ثدى مودتى ... بينى وَبَيْنك وارتضاعه)(3/460)
(فَلَقَد عهدتك فى الْوَفَاء أَخا تَمِيم لاقضاعه ... )
(علما بأنك لى تود من التفاريق الفقاعه ... )
(صدقَات قطر الْهِنْد قد ... صَارَت اليك بِلَا دفاعه)
(لَا تتركنى فى الرعاع اذا تَفَرَّقت البضاعه ... )
وَكتب اليه مستقضيا مِنْهُ ارسال نعل كَانَ طلبَهَا مِنْهُ وَهُوَ بِالطَّائِف
(قاضى الشَّرْع فقت هَذَا الاناما ... بحجى ثَابت وَعز فداما)
(وذكاء يُفِيد كل ذكى ... واطلاع يخجل النظاما)
(ان أهل الْكَمَال عطل وتاج الدّين تَاج يزين الاقواما ... )
(من أنَاس فى بطن مَكَّة سادوا ... اذ غدوا يمنحون فضلا لَهَا لما)
(زَينُوا منصب الرياسة وَالْفضل بِفضل ومنطق لن يراما ... )
(مذ حللت الْحجاز ضاء ومذ غبت راينا عَلَيْهِ حزنا ظلاما ... )
(كل وَقت لم ننس ذكرك فِيهِ ... فاحفظن للمحب مِنْك الذماما ... )
(وادكر حَاجَة الْمُحب وان رك ادكارى لَهَا فحاشى المقاما ... )
فَرَاجعه القاضى بقوله مداعبا
(وصلت رقْعَة الْحَمِيم وَلَكِن ... اقْتضى النّظم ان أَقُول الحماما)
(وصلت يقظة عيَانًا وَكَانَت ... وصلت قبل ذَا مرَارًا مناما)
(أذكرتنى فأذكرت غير نَاس ... لَا تخلنى أنساك حاشى المقاما)
(وكأنى أَرَاك تعرك بالتفكير فِيهَا مِنْك القذال دواما)
(ان تكن قد ضعفت لما ترَاخى ... بعثها عَن وصولنا يَا هماما)
(فاعتذارى شحى بأنسك لما ... كل حِين تَزُورنَا أحلاما)
(يَا لَهَا من مَطِيَّة أمتعتنا ... بمحياك زَائِرًا بساما)
(قد لعمرى وريت فِيهَا بلطف ... واحتكمت التنكيت فِيهَا احتكاما)
(كل أبياتها قُصُور وَلَكِن ... كَانَ بَيت القصيد مِنْهَا الختاما)
(فنشقنا فتيت مسك ختام ... زَاد نشرا بِمَا افتتحت النظاما)
(عجل الله ذَلِك الفأل مِنْهُ ... وَأقَام الْمُحب ذَاك المقاما)
فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْجَواب بقوله
(وصلت رورة الفريد على مَا ... كَانَ فى حليها محبا فقاما)(3/461)
(وهى فى كَفه يفكر فِيهَا ... أيرى ذرْوَة لَهَا أم سناما)
(أم يخلى سَبِيلهَا فى عفاء ... ليرى انها تقيم النظاما)
(واذا احتجتها ليَوْم نزال ... فحميمى يكون فِيهَا اماما)
(زِينَة يَوْم زِينَة وهى فى الْكَفّ سلَاح اذا أردنَا اللطاما ... )
الى أَن قَالَ
(ثمَّ لَا زلت من أياديك تمطى ... كل وجناء لَا تمل الزماما ... )
(كل يَوْم أرى نوالك يهمى ... مخجلا حِين يستهل الغماما)
(يَا أَخا الْفضل اننى فى زمَان ... سل من جوره على الحساما)
(صدعنى فصدعنى صديقى ... ورآنى لَا أستحق السلاما)
(هَذِه قسمتى جرت من قديم ... كلما رمته أرَاهُ حَرَامًا)
(وابق يَا سيدى وقرة عينى ... فى سرُور ونعمة لَا تسامى)
(مَا أَجَاد الْمطَالع الغر ذُو الشّعْر وَمَا أحسن البليغ الختاما ... )
وأتبع ذَلِك بنثر فَقَالَ وَبعد فقد وصلت المطية الَّتِى هى حَمْرَاء الْوَبر المركوبة فى السّفر والحضر الكافية راكبها مؤونة نَفسهَا فَلَا تشرب المَاء وَلَا ترعى الشّجر فقبلها الْمَمْلُوك وَمَا قبلهَا وأجهدها بعد مَا قبلهَا فَشكر الله فَضلكُمْ وَلَا أعدم أحبابكم طولكم وَالسَّلَام قلت وتشبيه النَّعْل بالمطية وَالرَّاحِلَة وَقع كثيرا فى شعر الْعَرَب من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فَمِنْهُ قَول بعض الْعَرَب
(رواحلنا سِتّ وَنحن ثَلَاثَة ... نجنهن المَاء فى كل منزل)
وَقَالَ أَبُو نواس
(اليك أَبَا الْعَبَّاس من بَين من مَشى ... عَلَيْهَا امتطينا الحضرمى الملسنا)
(قَلَائِص لم تعرف حنينا على طلا ... وَلم تدر مَا قرع الضّيق وَلَا الهنا)
وَقَالَ أَبُو الطّيب
(لَا ناقتى تقبل الرديف وَلَا ... بِالسَّوْطِ يَوْم الرِّهَان أجهدها)
(شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها)
وَقَالَ أَيْضا
(وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فَغَدَوْت أمشى رَاكِبًا)
وَلما تولى القاضى مُحَمَّد قَضَاء الطَّائِف فى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف أرخ ولَايَته الباشا مُحَمَّد رضَا الشهير بعجم زَاده بقوله القاضى مُحَمَّد وأرخه القاضى تَاج الدّين(3/462)
بقوله قَاض بِالطَّائِف وَكَانَ قد عزل بِهِ القاضى احسان ابْن الْمدرس وَلم يكن مَحْمُود السِّيرَة فَكتب اليه القاضى تَاج الدّين
(قَاض طَرِيقَته المثلى قد اشتهرت ... فَلَيْسَ يخفى سناها مِنْهُ كتمان)
(تبدى سَرِيرَته مَعْلُوم سيرته ... كالطرس دلّ على مَا فِيهِ عنوان)
(فحبه لصلاح الْخلق أجمعهم ... سحية لم يحزها قطّ انسان)
(مَا زَالَ يبْذل فى الْمَعْرُوف قدرته ... حَتَّى تناقلت الاخبار ركبان)
(فصان عَن فعل احسان حكومته ... اذ طالما استبعد الاحرار احسان)
قلت وَرَأَيْت بِخَط الاخ ابْن فتح الله هَذِه الابيات كتبهَا القاضى مُحَمَّد الْمَذْكُور الى القاضى تَاج الدّين وَقد طلب شَيْئا من شعره
(لديك أَخا الْعليا وَالْفضل وَالْعلم ... وَمن جلّ من بَين الاخلاء بالفهم)
(تحل رحال الظاعنين وَمن غَدا ... اليك بدا فى حاملى الْعلم كالنجم)
(لَئِن كَانَ رب الْعلم كالرأس فى الورى ... فَأَنت لَهُ تَاج يضئ بِلَا كتم)
(طلبت من النّظم البديع لآلئا ... فدونكها كالعقد فى الْحسن وَالنّظم)
(تشنف أسماع الروَاة بدرها ... وتقطع أفلاذ الغبى من السعم)
(فيا أَيهَا القاضى المولد طبعه ... من الْعلم أفنانا تجل من العقم)
(نَوَائِب هَذَا الدَّهْر غالت قريحتى ... ودقت عظامى بعد تمزيقها لحمى)
(فَلَو أَن هَذَا الدَّهْر يبدى تعطفا ... لظل بديع النّظم وَالنّظم فى سهم)
(وَلَو أَن جزأ من همومى مفرق ... على الْخلق عاموا فى بحار من الْهم)
(وسامح فمنديل الْقَرار مقطع ... ورق لقلب لَا يقر من الْقدَم)
(وَدم أبدا فى نعْمَة ضد هاله ... يطَأ طئ رَأْسا فى الرغام الرغم)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف
مُحَمَّد بن دَاوُد قاضى الْقُضَاة بِالشَّام الشهير برياضى الاطروش الرومى أوحد فضلاء الرّوم وشعرائهم المفلقين وبنغائهم الموصوفين وديوانه بَينهم سَائِر مَشْهُور مَرْغُوب فِيهِ وَله تذكرة الشُّعَرَاء وهى مَقْبُولَة أَيْضا وَاخْتصرَ من تَارِيخ ابْن خلطان كتابا مُخْتَصرا وَكَانَ يتبجح بتأليفه ولى قَضَاء الشَّام فى يَوْم الاربعاء ثامن عشر جُمَادَى الاولى سنة سِتّ وَعشْرين ودخلها وأرخ تَوليته الشَّيْخ عبد اللَّطِيف المنقارى بقوله
(قَالَ الحيا لما اسْتَقر بجلق ... قَاض بِهِ فاض عُيُون حياضى)(3/463)
(أرخت مقدمه فَكَانَ بجلق ... يَا صَاح تَارِيخا بهاء رياضى)
وَكَانَ مَذْمُوم السِّيرَة فى قَضَائِهِ لِكَثْرَة طمعه وَقلة انصافه وَتصرف فى زَمَنه مِنْهُ يُوسُف ابْن كريم الدّين رَئِيس الْكتاب فى حُقُوق النَّاس وَأَمْوَالهمْ وَجمع أَمْوَالًا كَثِيرَة لانه كَانَ يلْعَب بِهِ لعب الصّبيان بالكرة وَكَانَت لَهُ زَوْجَة مَشْغُولَة باللهو واللعب سمع عِنْدهَا لَيْلَة صَوت الْآلَات فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَت لَهُ ان المؤذنين يذكرُونَ فى المنارة فَصدق قلوها وَكَانَت متصرفة فى منصبه وفيهَا يَقُول العمادى
(قضايا ابْن دَاوُد فى حرثه ... على عجل لم تزل جاريه)
(تلقنه الحكم عِنْد القضا ... فيا ليتها كَانَت القاضيه)
وَقد سبقه الى ذَلِك بعض الشُّعَرَاء فى هجو قَاض كَانَ مَحْكُومًا لامْرَأَته
(بلينا بقاض لَهُ زَوْجَة ... عَلَيْهِ أوامرها ماضيه)
(فيا ليته لم يكن قَاضِيا ... وَيَا ليتها كَانَت القاضيه)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء الشَّام ورحل الى الرّوم فَلم تطل مُدَّة مكثه بهَا حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف بقسطنطينية قَالَه النَّجْم الغزى
مُحَمَّد بن زين الدّين النخجوانى الاصل الدمشقى المولد تقدم أَخَوَاهُ ابراهيم وَأحمد الْمَعْرُوف بالمنطقى وَمُحَمّد هَذَا هُوَ الاكبر مِنْهُم كَانَ من أَعْيَان عُلَمَاء الشَّام وكرمائها ورزق الْحَظ الْعَظِيم فى الرياسة أول أمره ونفذت كَلمته وَولى النِّيَابَة بِدِمَشْق مَرَّات عديدة وَكَذَلِكَ قسْمَة الْعَسْكَر وَكَانَ حسن الْخط وَله معرفَة بالانشاء فى اللُّغَة الفارسية والتركية وَفِيه سخاء ولطف وَحسن لِقَاء الا أَنه كَانَ محتالا كذوبا واستبد بعزة وافرة وَلم يسْبقهُ أحد الى التَّصَرُّف الذى كَانَ فِيهِ والاختلاط بالوزراء والحكام وَكَانَ جلّ النَّاس الَّذين يحترمون ساحته ويخشون من أذيته لجسارته فى الامور ولوجود اخيه الاوسط المنطقى فى الرّوم وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ صَدرا من صُدُور الشَّام وَفِيه يَقُول الْفَتْح ابْن النّحاس قصيدته الْمَشْهُورَة وهى من غرر القصائد ومطلعها
(نظر والغايتك الَّتِى لم تلْحق ... فتحققوا ان العلى للسبق)
(طلبُوا العلى وَسعوا وَلَكِن فتهم ... وأتيت من طرق لَهَا لم تطرق)
(شابوا وَمَا لَحِقُوا الْغُبَار فحظهم ... مَا كَانَ غير غُبَار شيب المفرق)
(بأخيك أَو بك أشرقت سبل العلى ... وتبسمت بالبارق المتألق)
(من للعلى بِمُحَمد وبأحمد ... حَتَّى تدل بمنظر وبمنطق)(3/464)
(لَا يبعد الاخوان كل فرقد ... لَكِن كلا مشرق فى مشرق)
(وهما كَمَا ضاءت بنجمهما العلى ... ستضئ بالصبحين جبهة جلق)
(أمحمد وكلاكما من دوحة ... تدلى بفرع فى المعالى معرق)
(حببت عشق الْمجد حَتَّى سامه ... من كَانَ ذَا عشق وَمن لم يعشق)
(لَكِن تفاوتت الحظوظ فعاشق ... رزق الْوِصَال وَآخر لم يرْزق)
(انى لَا عذل حاسديك لانهم ... يترقبون وُقُوع مَا لم يخلق)
(تَعب الذى فى الارض أصبح طاويا ... للفرقدين حَشا الحسود المحنق)
(لَا تخشهم فالدهران تنقم بهم ... ينقم وان تعطف لرفق يرفق)
(واذا وجدت من الْعِنَايَة سلما ... فامدد خطاك وثق بِرَبِّك وارتقى)
(واسلم على خدع الحظوظ موفقا ... ليدوم من عاداك غير موفق)
وَلما ولى أَخُوهُ المنطقى قَضَاء حلب أرسل يَطْلُبهُ اليه فَرَحل وَأخذ مَعَه أَخَاهُ الاصغر ووالدتهم وأختا لَهُم ثمَّ ولى أَخُوهُ قَضَاء الشَّام فصيره بعد أَيَّام نَائِبا عَنهُ وَوَقعت مِنْهُ هفوة فأهان الشَّيْخ عمر بن قطب الدّين وَهُوَ مَعْرُوف بِصِحَّة الانتساب الى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ فاتهم لذَلِك بالرفض وَقتل أَخُوهُ قَرِيبا من ذَلِك فضاقت فى وَجهه الشَّام وَخرج الى حلب وآمد وَأقَام مُدَّة فى تِلْكَ النواحى ثمَّ رَجَعَ الى الشَّام فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَولى قسْمَة الْعَسْكَر ثمَّ عرضت لَهُ أُمُور فَهَاجَرَ الى الرّوم وَأقَام خمس سنوات ثمَّ صَار قَاضِيا بأرزن الرّوم وَلما عزل عَنْهَا جَاءَ الى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة وَبَاعَ أَكثر كتبه وأسبابه ورحل الى دَار الْخلَافَة فَلم يطلّ مقَامه بهَا حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَخمسين وَألف عَن سِتّ وَخمسين سنة
مُحَمَّد بن زين العابدين بن مُحَمَّد بن على أَبُو الْحسن الاستاذ الْكَبِير قطب الاقطاب الشَّمْس البكرى الصديقى المصرى بركَة الدُّنْيَا وسر الْوُجُود ولسان الحضرة ولب الْبَاب الْعرْفَان كَانَ من الْعلم وَالتَّحْقِيق آيَة من آيَات الله تَعَالَى وَمن الْولَايَة والتحقق غَايَة من الغايات وَكَانَ فصيح الْعبارَة طلق اللِّسَان كثيرا الْفَوَائِد جم النَّوَادِر وَكَانَت الْولَايَة ظَاهِرَة عَلَيْهِ مَعَ الدّين المتين وَالْعقل الْكَامِل والتظاهر بِالنعْمَةِ فى الملبس والمأكل والخدمة وَكَانَ من أحسن النَّاس خلقا وخلقا مجللا عِنْد الكبراء والوزراء ذَا جاه عريض مُعْتَقدًا عِنْد عَامَّة النَّاس وخاصتهم مسموع الْكَلِمَة مَقْبُول الشَّفَاعَة يرجع اليه فى مشكلات الامور رفيع الهمة كريم الاخلاق ولد بِمصْر وَنَشَأ بهَا(3/465)
وَحفظ الْقُرْآن وتأدب واشتغل بِطَلَب الْعُلُوم واتقنها وبرع فى كثير من الْفُنُون سِيمَا علم التَّفْسِير والْحَدِيث وَكَانَ لَهُ فى عُلُوم الْقَوْم وأصول التصوف قدم راسخ وَأَقْبل على التدريس الى أَن صَار رَئِيس الْبَيْت البكرى فَكَانَ يدرس على عَادَة اسلافه فى الْجَامِع الازهر فى الليالى الْمَشْهُورَة كليلة المولد والمعراج وَالنّصف من شعْبَان ثمَّ لما كبر ترك ذَلِك كُله واستقل بالافادة فى بَيتهمْ الْمَعْمُور وَقد ذكره والدى رَحمَه الله تَعَالَى فى رحلته المصرية فَقَالَ فى وَصفه عين أَعْيَان هَذِه القاده وثمين دُرَر هَذِه القلادة فرع غُصْن الدوحة البكريه وفنن الشَّجَرَة الطاهرة الصديقيه الَّتِى لم تزل من الْبركَة والسمو فى النَّمَاء أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السَّمَاء رونق الليالى والايام وتاج رَأس الْعلمَاء الاعلام بهجة الْجَمِيع ورواء حسنها البديع من أضحت لَهُ فى الْعُلُوم الْحَقِيقِيَّة الرُّتْبَة الشامخة وفى المعارف الالهية الْقدَم الراسخه وَلَو لم يكن لَهُ من عُمُوم الشّرف الاخصوص هَذِه النسبه لكفاه ذَلِك فى الْفَخر وعلو الرتبه وناهيك فخرا بِأَنَّهُ من ذُرِّيَّة من اخْتَارَهُ الرَّسُول للصحبة والمصاهرة واصطفاه للخلافة على مِلَّته وشريعته الطاهره فيحق لاهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن يطوفوا ويسعوا الى هَذَا الْبَيْت فى كل وَقت سَاعَة فيا لَهُ بَيت عموده الصُّبْح وطينته المجره وَمن ادّعى بَيْتا يضاهيه فَتلك مِنْهُ معره ان تكافأت الْبيُوت فى الشّرف فعلى شرف هَذَا الْمعول أَو تطاولت فى الانساب فدعائم هَذَا الْبَيْت أعز وأطول وانى لاحمد الله تَعَالَى على ان جبلنى على المغالاة فى حبهم وطبعنى على الْمُوَالَاة لاهل الْبَيْت ولاهل نسبهم انْتهى وَاجْتمعَ بِهِ شَيخنَا الْعَلامَة ابراهيم بن عبد الرَّحْمَن الخيارى المدنى فى مرتحله الى مصر وَذكره فى رحلته الَّتِى ألفها وَقَالَ بعد توصيفه وَقد شرفنى لمناسبة ذكر النّيل بتأليف لَهُ فِيهِ جَدِيد عهد وفريد عقد ذكر فِيهِ النّيل وَمَا ورد فِيهِ من الْآيَات والاحاديث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من ذكر مبدئه وَمن أَيْن هم أَجَاد فِيهِ كل الاجاده وَحَازَ الْحسنى وزياده وَأما شعره فَمَا العقد الفريد فى أجياد الغيد قد أشرقت فى الخدود ذَات التوريد وَمَا قلائد العقيان تنضدت فى نحور الحسان وَأما نثره فَمَا لرياض النضرة كلل عُيُون زهرها الطل وَنبهَ أحداق الْورْد والنرجس بهَا الوبل وسرى عليل نسيمها مبلل الاذيال بعذب تسنيمها وَمَا زواهر الافق المنتثرة قد لاحت مشرقة فى فلكها مضيئة فى طرائق حبكها تهدى من ضل وتورده من نهر مجرتها النهل والعل(3/466)
من تتويجهما بجواهر المعارف وتسميطهما باليواقيت من بَحر كل عَارِف تلهج مِنْهُمَا اذ تحلى بهما بعد الآذان السطور والطروس وتتملى بهما الاعيان والقلوب والنفوس وَقد أصبحا بَيت القصيد المشيد العالى ويتيمة سلك الْخَلَاص المنضد بفرائد اللآلى فتخلب الافئدة وَتَشَوُّقِ وَتَدْعُو اليهما الالباب وتسوق وَقد جاوزا الْحَد كَثْرَة وبلاغة وتفننا فى طرق الصِّنَاعَة والصياغه وأفردا بِالْجمعِ فَكَانَا دواوين وحليا كل سمع فَمَا العقد الثمين وانتشرا فى مَشَارِق الارض وَمَغَارِبهَا وَعَما جَمِيع مسالكها ومذاهبها أردْت أَن أسطر شطر مِنْهُمَا فى هَذِه الوريقات ثمَّ أحجمت لَان ذكر الْبَعْض وَحذف الْبَعْض تَقْصِير فى حقوقهما الْوَاجِبَات وَالنَّفس مولعة بالانتقاء والانتقاد وَكلهَا أَفْرَاد جِيَاد وَاسْتِيفَاء الْمَوْجُود كُله لَا ينوء الْمَتْن بِحمْلِهِ فليحج كعبة ديوانه من أَرَادَ أبياته وليسلك فى سَعْيه بالصفا اليه مِيقَاته ليظفر بِالْحجرِ المكرم من ذَلِك الْبَيْت ويفوز بكيمياء السَّعَادَة الَّتِى لَا تفْتَقر الى لَو وَلَا لَيْت ومدحه بقصيدة مطْلعهَا
(لَيْسَ يهدا تشوقى والحريق ... وفؤادى أودى بِهِ التَّفْرِيق)
(وضلوع من الجوى خافقات ... حِين عز اللقا وَبَان الْفَرِيق)
(معشر أصبح الْفُؤَاد لديهم ... فى أسار والدمع فيهم طليق)
(معشر بالنقاو بَان الْمصلى ... برتاهم قلبى الْمَعْنى رَشِيق)
(لست أنسى معاهدا لظباء ... لحن فِيهِ والخد مِنْهَا شريق)
(ان تبدوا فَكل ذاتى عُيُون ... أَو تناءوا فَكل نهج طَرِيق)
(من عذيرى فى حبهم من مجيرى ... من ولوعى بهم وَكَيف أفِيق)
(غربتنى الحظوظ حَتَّى أطاحت ... بركابى النَّوَى ونهج سحيق)
(غربَة الشكل وَاللِّسَان مَعَ الاهل وَمن ذَا لبَعض ذَاك يُطيق ... )
ثمَّ تخلص الى الْمَدْح قلت وَقد وقفت للاستاذ على ديوَان مَجْمُوع أوقفنى عَلَيْهِ غُصْن دوحته الاستاذ الاعظم زين العابدين فى قَدمته الَّتِى شرف بهَا الشَّام لَا برح واطئا فَوق السها بأقدام الاجلال والاعظام وَهَذَا الدِّيوَان قد اشْتَمَل على نفائس القصائد والموشحات والمقاطيع والالغاز وَرَأَيْت الامر فِيهِ كَمَا قَالَ شَيخنَا بَينا يراج انتخاب بعض شئ مِنْهُ يقف الرأى عِنْد جَمِيعه وَالْوَقْت يضيق عَن كِتَابَته فَلم أتشرف مِنْهُ الا بِهَذِهِ الابيات من جملَة قصيدة مدح بهَا شيخ الاسلام يحبى المنقارى(3/467)
وأرسلها الى الرّوم ومطلعها
(أمسكية الانفاس أم عبقة الند ... وناسمة الازهار أم نفحة الْورْد)
مِنْهَا فى المديح
(ومعتقل للعز صعدة عزمه ... أَنا بيبها رعافة بِدَم الاسد)
(ومرسل ارسال العطايا مباريا ... بأيسرها وَطف الغمائم فى الرفد)
(فيا من لَهُ ودى من النَّاس كلهم ... وَمن هولى من بَينهم غَايَة الْقَصْد)
(وَمن صرت فى مدحى علاهُ كأننى ... حمامة جرعا فَوق ميالة الملد)
(على اننى مَا فهت يَوْمًا لماجد ... سواهُ بِشعر لَا بِقرب وَلَا بعد)
(وَلَكِن دعانى الشوق لبيت مسرعا ... وَهَذَا وَمَا أخفيه بعض الذى أبدى)
(ألية محنى الضلوع على الاسى ... تحار الاسى مِمَّا براه من الوجد)
(لَهُ زفرات من فؤاد تضرمت ... بِهِ نَار شوق دونهَا النَّار فى الوقد)
(لأَنْت الذى مَا حل فى الْقلب غَيره ... وَلَا حَال حالى فِيهِ من ذَلِك الْعَهْد)
(وَلم ترعينى مثله بعده وَهل ... يمِيل الى غورفتى عَاشَ فى نجد)
وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثانى عشرى شهر ربيع الاول سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ اماما بِالنَّاسِ الشَّيْخ مَنْصُور الطوخى بالازهر فى مشْهد عَظِيم حافل وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى فى قبَّة آبَائِهِ الْمَعْرُوفَة هُنَاكَ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن سعد الكلشنى نزيل دمشق كَانَ من أدباء الصُّوفِيَّة لَهُ محاضرة رائقه وأخبار عَجِيبَة وَكَانَ فضلاء دمشق يميلون اليه ويعاشرون مِنْهُ رحلا سهلا خلوقا متوددا طارحا للتكلف صَاحب نَوَادِر وآداب وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله شعر مطبوع مِنْهُ قَوْله
(وانى امْرُؤ فى طبعى الْعِزّ والغنا ... ومذ كنت طفْلا لَا أذلّ وأخضع)
(اذا انصرفت نفسى عَن الشئ لم تكن ... اليه بِوَجْه مُدَّة الْعُمر ترجع)
وَقَوله
(يَا نَاظر الخيال الْفِكر مفتكرا ... أَنْت الخيال وفيك السِّرّ فاعتبروا)
(أنظر مُصَور هَذَا الْكَوْن مِنْك ترى ... مُصَور الْكل فى الاشياء قد ظهرا)
وَقَوله مضمنا
(يَا وَاحِدًا عَم الْوُجُود وجوده ... وجماله فى الْكَوْن أضحى بَينا)
(أَنْت الذى ظَهرت حَقِيقَة ذَاته ... فى كل شئ والحجاب تعينا)
(كَالشَّمْسِ يمنعك اجتلاء وَجههَا ... فاذا اكتست برقيق غيم أمكنا)(3/468)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف
مُحَمَّد بن سعيد باقشير المكى الْفَاضِل الاديب الشَّاعِر من ألطف أدباء الْحجاز وَأَكْثَرهم نَوَادِر وتحفا وَقد ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه أديب بارع وشاعر لَهُ فى مناهل الادب مشارع نظم فأجاد وأرزم سَحَاب فَضله فجاد فعلت رتبته فى القريض وسمت وافترت ثغور محاسنه وابتسمت كل ذَلِك عَن غير تكلّف نَحْو وعروض بل عَن قريحة تذلل لَهُ جوامح الْكَلَام وتروض فجَاء نظمه السهل الْمُمْتَنع ونزهة النَّاظر والمستمع ثمَّ ذكر لَهُ قَوْله من قصيدة يمدح بهَا السَّيِّد أَحْمد ابْن مَسْعُود
(علقا أَظُنك بالكعاب الرود ... أم والها بهوى الظباء الغيد)
(أسبلن أَمْثِلَة الغداف غدائرا ... سُودًا تطل على الليالى السود)
(وسفرن عَمَّا لَو لطمن بِمثلِهِ ... خد الظلام لما بدا بالبيد)
(بيض يرنحهن ريعان ريعان الصِّبَا ... تيها كخوط البانة الا ملود)
(عذر العذول على الْهوى فِيهَا وَقد ... عنت لنا بَين اللوى وزرود)
(فطفقت أنْشدهُ على تأنيبه ... أَرَأَيْت أى سوالف وخدود)
(تربت يَد اللوام كم ألظت حَشا ... دنف بألهوب من التفنيد)
(أَو مادروا أَن الْجمال حبائل ... مَا ان يصاد بِهن غير الصَّيْد)
(ولرب مهضمة الحشا بهنانة المتنين منعمة الازار حرود)
(ترنو فتحسب أم خشف ثارها القناص عَن خضل الكلا مخضود ... )
(لله أحداق الحسان وفعلها ... فى قلب كل متيم معمود)
(الحفننى البرحاء لكنى امْرُؤ ... وزرى بِرُكْن فى الْمُلُوك شَدِيد)
وَقَوله وَكتب بهَا اليه أَيْضا يصف أمة لَهُ سَوْدَاء مداعبًا
(أَبَت صروف القضا المحتوم وَالْقدر ... الا اشابة صفو الْعَيْش بالكدر)
(وان من نكد الايام أَن قربت ... دَار الحبيب وَلَكِن شط عَن نظرى)
(بى من سَطَا الْبَين مَا لَو بالجبال غَدَتْ ... عهنا وبالسبعة الافلاك لم تدر)
(نوى الاحبة والشوق الشَّديد ولى ... جوى تجدده مهما انْقَضى فكرى)
(وزادنى الدَّهْر هما لَا يعادله ... هم بسمراء ألهتنى عَن السمر)
(زنجية من بَنَات الزنج تحسبها ... حظى تجسم جثمانا من الْبشر)
(كَأَن قامتها ليلى ومنخرها ... ذيلى فيالك من طول وَمن قصر)(3/469)
(لَهَا يَد ألفت حطب الكسار وَلَو ... باتت تحوط بالهندية البتر)
(تسطو على الفرص سطوى غير ذى جبن ... لَو أَنه بَين نَاب اللَّيْث وَالظفر)
(كم غادرتنى من جوع وَمن سغب ... جزنا أعض بنان النادم الْحصْر)
(وَرب يَوْم غَدا موتى يجر عَنى ... كاساته فِيهِ حَتَّى عيل مصطبرى)
(أروضها تَارَة عتبا وأزجرها ... طورا فَلم يجد تأنيبى ومزدجرى)
(وَرُبمَا أفحمتنى القَوْل قائلة ... وَلَيْسَ كل مقَال بِالْجَوَابِ حرى)
(تخشى الردى وبنود الْمجد خافقة ... على ابْن مَسْعُود فرع الْفَرْع من مُضر)
وَقَالَ على مصطلح أَرْبَاب الْحَال وهى قصيدة غَرِيبَة
(رُبمَا عاكف على الخندريس ... رافل فى ملابس التلبيس)
(جهبذ يمْلَأ الدفاتر علما ... لم يبل بالتقرير والتدريس)
(أَيّمَا خطة أردْت تَجدهُ ... قهرمان الْمَعْقُول والمحسوس)
(يعلم السَّابِقين من عهد طسم ... ويفيد الطلاب عصر جديس)
(علم لم يكن على رَأسه نَار وَلَكِن كالنور فى الحندوس ... )
(مَاشِيا عمره على نهج الصدْق على مَا بِهِ من التَّدْلِيس ... )
(دغة مرّة وآونة قس ... وطورا يمليك عَن ابليس)
(وَعَلِيم بطب عِلّة بقراط ويهز وبجد جالينوس)
(ارمه حَيْثُ شِئْت تلق أَخا النجده من آدم وَمن ادريس ... )
(لعب الْجد مِنْهُ بِالْجَبَلِ الراسى وبالضيعم الهموس العبوس ... )
(من هوى ربة الحجال وَمن قد ... لعبت من دلالها بالنفوس)
(والتى خيمت على كل قلب ... ورمت كل مهجة برسيس)
(وأبت ان ترى بِعَين محب ... قطّ الا فى صُورَة ولبوس)
(لَاحَ من نورها الاغر سناء ... فترا آى فى ناره للمجوس)
(قد بَدَت للكليم نَارا وَلَكِن ... لَا بحصر ففاز بالتقديس)
(وَغدا المانوى مِنْهَا على رأى صَحِيح لَكِن بِلَا تأسيس ... )
(وَالنَّصَارَى ظلت على صور شَتَّى فضلت برأيها المعكوس ... )
(قيدوا مُطلق الْجمال فَبَاتُوا ... فى قيود الشماس والقسيس)
(كَيفَ من قيدت تقيد والاطلاق قيد والقيد غير مقيس ... )(3/470)
(شَأْنهَا فى محبها فتها الاكباد من رائس وَمن مرؤس ... )
(رب قلب قد تاه فِيهَا فَلم يدر حسيسا وَلم يمل للمسيس ... )
(ظلّ فِيهَا فى جحفل من سرُور ... وخميس يلقى الاسى بخميس)
(كلما أسفرت لَهُ عَن نقاب ... وفنى فى فنائه المأنوس)
(أشرقت من وَرَاء ذَاك لعينيه بمغنى حسن الْجمال النفيس ... )
(فطوى كشحه على غصص الوجد تقى بَين طامع ويؤوس ... )
قلت تذكرت بمطلع هَذِه القصيدة وصدرها مَا حَكَاهُ الْعَلامَة الْبَهَاء فى كشكوله وَهُوَ أَن تَاجِرًا من تجار نيسابور أودع جَارِيَة عِنْد الشَّيْخ أَبى عُثْمَان الحميرى فَوَقع نظر الشَّيْخ عَلَيْهَا فعشقها وشغف بهَا فَكتب الى شَيْخه أَبى حَفْص الْحداد بِالْحَال فَأَجَابَهُ بالامر بِالسَّفرِ الى الرى لصحبة الشَّيْخ يُوسُف فَلَمَّا وصل الى الرى وَسَأَلَ النَّاس عَن منزل الشَّيْخ يُوسُف أَكْثرُوا من ملامته وَقَالُوا كَيفَ يسْأَل تقى مثلك عَن بَيت شقى فَاسق مثله فَرجع الى نيسابور وقص على شَيْخه فَأمره بِالْعودِ الى الرى وملاقاة الشَّيْخ يُوسُف الْمَذْكُور فسافر مرّة ثَانِيَة الى الرى وَسَأَلَ عَن منزل الشَّيْخ يُوسُف وَلم يبال بذم النَّاس لَهُ وازدرائهم بِهِ فَقيل لَهُ انه فى محلّة الْخمار فَأتى اليه وَسلم عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِ السَّلَام وعظمه وَرَأى الى جَانِبه صَبيا بارع الْجمال والى جَانِبه الآخر زجاجة مَمْلُوءَة من شئ كَأَنَّهُ الْخمر بِعَيْنِه فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو عُثْمَان مَا هَذَا الْمنزل فى هَذِه الْمحلة فَقَالَ ان ظَالِما شرى بيُوت أصحابى وصيرها خمارة وَلم يحْتَج الى بيتى فَقَالَ مَا هَذَا الْغُلَام وَمَا هَذِه الْخمْرَة فَقَالَ أما الْغُلَام فولدى من صلبى وَأما الزجاجة فَحل فَقَالَ وَلم توقع نَفسك فى مقَام التُّهْمَة بَين النَّاس فَقَالَ لِئَلَّا يعتقدوا انى ثِقَة أَمِين فيستودعونى جواريهم فأبتلى بحبهن فَبكى أَبُو عُثْمَان بكاء شَدِيدا وَعلم قصد شَيْخه انْتهى وبهذه الْحِكَايَة يظْهر معنى صدر هَذِه القصيدة وَيحصل الْجمع بَين مَا فى ظَاهرهَا من الْمَدْح والقدح رَجَعَ وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ مُخْتَار من قصيدة لَهُ
(أتعذل فى لمياء والعذر أليق ... تعشقتها جهلا وَذُو اللب يعشق)
(وَلَا عَيْش الا مَا الصبابة شطره ... وَصَوت المثانى والسلاف الْمُعْتق)
(وجوبك أجواز الموامى مشمرا ... الى الْمجد يطويها عذافر معنق)
(وان تتهاداك النعائم معلما ... تضلك أَو تهديك بيداء سملق)
(وان ترد المَاء الذى شطره دم ... فتسعى برأى ابْن الْحُسَيْن وترزق)(3/471)
(وأسوغ مَا بل النهى بعد عيمة ... وأروى من المَاء الشَّرَاب المروق)
(فدع لجج التعنيف وابك بذى اللوى ... ديارًا كَأَنَّهَا للتقادم مهرق)
(أحالت مغانيها السنون فَأَصْبَحت ... قوى لهريق الودق وَالرِّيح مخرق)
(وقفت بهَا وَالْقلب بالوجد موثق ... كفيت الردى والجفن بالدمع مُطلق)
(أناشدها بينونة الحى عَن حوى ... بقلب اذا هَب النسائم يخْفق)
(شح تتصاباه الصِّبَا وتلوعه الْجنُوب ويشجوه الْحمام المطوق ... )
(الى الله أَفعَال الليالى بهَا وبى ... لقد كنت مِنْهَا دَائِم الدَّهْر أفرق)
(فسم سمة الصَّبْر الْجَمِيل لَعَلَّهَا ... بديل فان لم تغن فالصبر أخلق)
(فَلَو سلمت من حَادث الدَّهْر دمنة ... تمطى على هام الدهور الخورنق)
وَمن محاسنه قَوْله فى زيات بديع الْجمال وَقد أَجَاد فى التورية
(أفديه زياتاً رنا وانثنى ... كالبدر كالشادن كالسمهرى)
(أحسن مَا تبصر بدر الدجى ... بلعب بالميزان والمشترى)
وَله غير ذَلِك من غرر النَّوَادِر وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فى سنة سبع وَسبعين وَألف
مُحَمَّد بن سعيد المريغتى السوسى الاصل والمنشا نزيل مراكش وامام مَسْجِد المواسين بهَا كَانَ اماما عَالما فى التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وعلوم الْعَرَبيَّة وفى الاوفاق والتنجيم والفلك بحرا لَا سَاحل لَهُ قَرَأَ ببلاده على كثيرين ثمَّ بتافيلات على الشريف عبد الله بن طَاهِر وبمراكش على مفتيها عِيسَى السكتانى ثمَّ تصدر بهَا للتدريس وانتهت اليه بهَا الرياسة فى الْعُلُوم وَكَانَ مكثرا من اقراء الْكتب السِّتَّة والشفا واسماعها لطلبة الحَدِيث النبوى وَأَخذهَا عَنهُ عَالم لَا يُحصونَ وَتخرج بِهِ فى طَرِيق التَّصَرُّف كَثِيرُونَ ولازمه أفاضل عصره من الْمغرب الاقصى والادنى وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وَتخرج بِهِ الْفَاضِل الْعَلامَة ابراهيم السوسى وَمُحَمّد البوفرانى وَكَانَا كثيرا مَا يديمان ذكره ويحاضران بِهِ فى مجالسهما ويذكران عَنهُ وقائع غَرِيبَة مِنْهَا أَن رجلا شكى اليه والى بَلَده وَذكر لَهُ مظلمته فَقَالَ لَهُ سر اليه وَقل لَهُ يَقُول لَك مُحَمَّد بن سعيد لَا تجْلِس فى الْبَلَد فَلم يبت بهَا وفارقها وَلم يرجع اليها وَبلغ السُّلْطَان خُرُوجه مِنْهَا بِغَيْر اذن مِنْهُ فَأرْسل يَطْلُبهُ فَسَأَلَهُ عَن سَبَب الْخُرُوج فَقَالَ لما أرسل الى لم يسْتَقرّ لى قَرَار بِالْجُلُوسِ وَخرجت بِغَيْر اخْتِيَار فَعَزله عَن عمله وَأرْسل لَهَا واليا آخر وَمِنْهَا أَن رجلا اجْتمع عَلَيْهِ دُيُون كَثِيرَة وَعجز عَن قَضَائهَا فَأتى اليه وَذكر لَهُ ذَلِك فَقَالَ لَهُ(3/472)
اذْهَبْ الى الْمَكَان الفلانى واقرأ الاخلاص الى أَن يَأْتِيك رجل صفته كَذَا فَقل لَهُ يَقُول لَك مُحَمَّد بن سعيد أعطنى واطلب مِنْهُ مَا تُرِيدُ فَذهب وَأَتَاهُ الرجل فدكر لَهُ ذَلِك فَأعْطَاهُ مَا طلبه وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا منظومة فى الوفق المخمس الخالى الْوسط ومنظومة فى علم الْحجر ومنظومة فى التنجيم ومنظومة فى التصوف ومنظومة فى الْفِقْه وَأُخْرَى فى النَّحْو وَله شعر وانشاء وَكَانَت وَفَاته شَهِيدا بالطاعون فى سنة تسعين وَألف بمراكش وَصلى عَلَيْهِ بالجامع الْمَذْكُور وَدفن بتربة بَاب أغمات وعمره خمس وَتسْعُونَ سنة
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الكيلانى القاضى الشَّاعِر الرومى الشهير بحكيمى ذكره ابْن نوعى وَقَالَ أَصله من لاهجان فى خطة كيلان وَقَالَ ابْن الحنائى فى تذكرة الشُّعَرَاء أَصله من أبهر من قصبات قزوين كَانَ فى ابْتِدَاء أمره صحب الْمولى اللارى وبسببه رَحل الى الْهِنْد واتصل بسلطانها هما يون شاه ثمَّ ورد الرّوم فى عصر السُّلْطَان سليم الثانى وَوصل الى معلم ابْنه السُّلْطَان مُرَاد الْمولى ابراهيم ولازمه وفى ذَلِك الاثناء صَار معلما لمُحَمد باشا الْمَعْرُوف ببكلر بَكَى نديم السُّلْطَان ثمَّ ولى التداريس فَصَارَ اولا مدرس الجانبازيه ثمَّ لما تمت مدرسة الْوَزير الاعظم عُثْمَان باشا فى سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة أَعْطَيْت لَهُ فَهُوَ أول مدرس بهَا ثمَّ أعْطى مدرسة فَاطِمَة سُلْطَان ثمَّ مدرسة مُحَمَّد باشا باسكدار ثمَّ أعْطى قَضَاء قيصرية وطرابلس الشَّام دفعات وَله شعر وانشاء ذكره مِنْهُ ابْن الحنائى أَشْيَاء نَوَادِر وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر الْمحرم سنة سِتّ وَعشْرين وَألف بِمَدِينَة قسطنيطينية
السَّيِّد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن أَبى الْفَتْح بن تَاج الدّين بن أَحْمد بن اسمعيل بن مُوسَى بن يحيى بن مرعى بن اسمعيل بن سُلَيْمَان الميسونى الْمُقِيم ببلدة شبرى بميسون ابْن ابراهيم بن علوان بن بن أَبى بكر بن ادريس ابْن ادريس الاكبر ابْن عُثْمَان بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن يحيى بن عِيسَى بن مُحَمَّد التقى عِيسَى أَبى الْحسن العسكرى بن على الهادى بن مُحَمَّد الْجواد بن على الرضاء بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن على زين العابدين بن الْحُسَيْن بن على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ السَّيِّد الشريف المصرى نزيل الشَّام الْمَعْرُوف بالمسرابى قدم الشَّام وَسكن قَرْيَة مسرابا بِكَسْر الْمِيم ثمَّ سين مُهْملَة سَاكِنة وَرَاء بعْدهَا ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة وَألف مَقْصُورَة من قرى الغوطة وَكَانَ فَاضلا مُتَمَكنًا محققا ورعا زاهد القى من النَّاس(3/473)
قبولا تَاما وَأَقْبَلت أهالى دمشق عَلَيْهِ وعظموه واعتقدوا فِيهِ وَلَزِمَه جمع من الْفُضَلَاء فَكَانُوا يقصدونه كل يَوْم فى موطنه للْقِرَاءَة مَعَ بعد الْمسَافَة وَبَعْضهمْ يذهب مَاشِيا لاجل التَّبَرُّك وبلغنى أَن بَعضهم الْتزم أَن يذهب اليه حافيا وَكَانَت لَهُ أَحْوَال تدل على صَلَاحه وَعلمه وَكَانَ فى التصوف مُفْرد زَمَانه وَيحل كتب ابْن عربى واضرابه أحسن حل وَلم أسمع أَنه ألف أَو قَالَ شعرًا وَغَايَة مَا يُقَال فِيهِ انه كَانَ من خِيَار خلق الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى رَابِع شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف
مُحَمَّد بن سِنَان الْمَعْرُوف بشيخ زَاده أحد موالى الرّوم البارعين قدم أَبوهُ الى قسطنطينية من بَلَده كيبوزه وهى بليدَة صَغِيرَة على سَاحل الْبَحْر يتَوَصَّل مِنْهَا الى اسكدار على طَرِيق الذَّاهِب من قونية وَبَينهمَا مَسَافَة سبع سَاعَات وَكَانَ شَيخا مُعْتَقدًا واعظا ورزق أَوْلَادًا أكبرهم مُحَمَّد هَذَا فَنَشَأَ مشتغلا بِالْعلمِ حَتَّى عد من الْعلمَاء الْكِبَار وَكَانَ فَقِيها مطلعا على الْمسَائِل قوى الحافظة واشتهر بالفقه مَعَ أَنه فى غَيره أَيْضا من الفائقين ولازم من شيخ الاسلام أَبى الميامن ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا فصيره أَمينا لفتواه وَمهر فى هَذِه الْخدمَة حَتَّى صَار فِيهَا مرجعا يعول عَلَيْهِ وَلما بنى الْمولى يحيى الْمَذْكُور مدرسته بقسطنطينية صيره مدرسها وَهُوَ أول من درس بهَا وَصَحبه مَعَه الى سفر روان وَلم يزل بعْدهَا يترقى فى الْمدَارِس الى أَن ولى السليمانية وَنقل مِنْهَا الى مدرسة أيا صوفيا بتربة دَار الحَدِيث ثمَّ ولى قَضَاء حلب فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف ثمَّ ولى قَضَاء الشَّام ودخلها فى سنة سبع وَخمسين ثمَّ عزل عَنْهَا وَولى بعْدهَا قَضَاء الغلطة ثمَّ أدرنه ثمَّ صَار امين الْفَتْوَى لشيخ الاسلام البهائى ثمَّ صَار قَاضِيا بقسطنطينية ثمَّ أعْطى رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بانا طولى وَقَضَاء أنقره على وَجه التَّأْبِيد وَلم تطل مُدَّة حَيَاته بعد ذَلِك فتوفى فى شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف وَدفن تجاه دَاره بقسطنطينية قريب الْمَكَان الْمَعْرُوف بقرمان
مُحَمَّد بن شعْبَان الطرابلسى الحنفى من أهل طرابلس الْمغرب ذكره ابْن نوعى وَوَصفه بِالْفَصْلِ الباهر وَقَالَ قدم قسطنطينية فى سنة سِتّ عشرَة وَألف وتناظر مَعَ علمائها فظهرت مزيته وروعى حَقه وَأَقْبل عَلَيْهِ شيخ الاسلام صنع الله بن جَعْفَر وَأَعْطَاهُ قَضَاء بَلْدَة بِاعْتِبَار المولوية وأضاف الى الْقَضَاء الْفَتْوَى والتدريس فَتوجه الى وَطنه وَله تآليف باهرة مِنْهَا شرح مجمع الْبَحْرين سَمَّاهُ تشنيف المسمع فى شرح الْمجمع وَجمع مَنَاقِب الشَّيْخ أَبى الْغَيْث القشاش الْمُقدم ذكره وَله غير ذَلِك من الْآثَار(3/474)
مَا لَيْسَ لَهُ نِهَايَة وفتاويه كلهَا مسلمة وَكَانَت وَفَاته فى سنة عشْرين وَألف
مُحَمَّد بن صَالح بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد الغزى الثَّمر تاشى حفيد شيخ الاسلام الشَّمْس مُحَمَّد بن عبد الله صَاحب التَّنْوِير وَغَيره الآتى ذكره قَرِيبا ان شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ مُحَمَّد هَذَا من فضلاء الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة برع فى شبابه وَقد أَخذ بِبَلَدِهِ عَن وَالِده وَعَن ابْن الْمُحب ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على الشهَاب أَحْمد الشوبرى وَالْحسن الشرنبملالى وَالشَّيْخ محيى الدّين الغزى الفاروقى وَالشَّيْخ أَبى بكر الجبرتى وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّيْخ عَامر الشبراوى وَالشَّيْخ عبد الْجواد الجنبلاطى وَالشَّيْخ أَبى الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْخَطِيب الشربينى الشافعى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الحموى وَالشَّمْس مُحَمَّد بن الْجلَال البكرى وأبى الْعَبَّاس أَحْمد المقرى المغربى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن يُوسُف البهوتى الحنبلى وَرجع الى بَلَده وَقد بلغ الْغَايَة من الْفضل وَألف فى حَيَاة وَالِده تآليف مِنْهَا شرح الرحبية ونظم الفية فى النَّحْو شرحها أَبوهُ فى حَيَاته وأولها
(قَالَ مُحَمَّد هُوَ ابْن صَالح ... أَحْمد ربى الله خير فاتح)
وَله منظومة فى المناسخات ورسالة فى تَفْضِيل الانسان وَله شعر كثير وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف ووالده مَوْجُود فى الاحياء رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن صَالح بن مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو الْفَتْح شمس الدّين الدجانى القدسى الشافعى كَانَ من الْعلمَاء الراسخين ارتحل الى مصر وَأقَام بالازهر سِنِين عديدة واشتغل بالفقه على مَشَايِخ كثيرين مِنْهُم الشهَاب القليوبى وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَالشَّيْخ على الحلبى صَاحب السِّيرَة وَأخذ عَن الْبُرْهَان اللقانى والشهاب أَحْمد بن عبد الْوَارِث الصديقى وَعبد الْجواد الجنبلاطى وَغَيرهم فى عُلُوم مُتَفَرِّقَة واخذ الحَدِيث عَن أَبى الْعَبَّاس المقرى واشتغل فى أواسط عمره بالتصوف أَخذه عَن جده لابيه وصنف رِسَالَة العقد الْمُفْرد فى حكم الامرد وَله غَيرهَا من التآليف وانتفع بِهِ خلق كثير وَكَانَ فى آخر أمره شرع فى قِرَاءَة الْجَامِع الصَّغِير للسيوطى فَوقف عِنْد حَدِيث أتتكم الْمنية وَتوفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَسبعين وَألف
مُحَمَّد الامين بن صدر الدّين الشروانى نزيل قسطنطينية أجل أَفْرَاد الدُّنْيَا فى التَّحْقِيق والتبحر من كل فن لم ترعين من وصل الى ثمَّة من ذكائه وتضلعه من الْعُلُوم فى عصره أَخذ عَن الملا حُسَيْن الخلخالى وَكَانَ يعرض عَلَيْهِ حَاشِيَته على شرح العقائد العضدية للملا جلال الدوانى فيزيفها لَهُ حَتَّى شهد لَهُ بِأَنَّهُ أفضل مِنْهُ وَمن(3/475)
مؤلفاته تعليقات على أَمَاكِن من تَفْسِير البيضاوى وَكَلَامه فِيهَا يدل على انه جمع الْفُنُون كلهَا وَشرح على جِهَة الْوحدَة الَّتِى للفنرى فى أول شَرحه على ايساغوجى صَعب المسلك وَهُوَ يقْرَأ فى الرّوم واعتنى بِهِ جمَاعَة وَكَتَبُوا عَلَيْهِ حواشى وتحريرات مِنْهُم السَّيِّد الْمَعْرُوف بازميرى أَمِير واعظ جَامع السُّلْطَان بايزيد كَانَ وَقد قرأته بعون الله تَعَالَى مَعَ حَوَاشِيه بالروم وانتفعت بِهِ وَله كتاب سَمَّاهُ بالفوائد الخاقانية مُشْتَمل على ثَلَاثَة وَخمسين علما أَلفه باسم السُّلْطَان أَحْمد وَجعل الْعُلُوم الَّتِى فِيهِ عدد اسْمه وَكَانَ خرج من بِلَاده فوصل الى الْوَزير نصوح وَهُوَ معِين لقِتَال شاه الْعَجم فَعَظمهُ وَبَالغ فى احترامه ورتب لَهُ التعايين الوافرة ثمَّ صَحبه الى الرّوم فَأقبل عَلَيْهِ أَهلهَا ولزموه للاخذ عَنهُ واشتهر حد الاشتهار فولاه السُّلْطَان أَحْمد مدرسته برتبة قَضَاء قسطنطينية وانعكفت عَلَيْهِ الافاضل وَكَانَ يحضر درسه مَا يزِيد على ثلثمِائة تلميذ وحدثنى حفيده الْمولى الْفَاضِل صَادِق قاضى الْقُضَاة بِمصْر أَن جمَاعَة من قَضَاء العساكر كَانُوا يذهبون الى درسه ويستمعون من الشبابيك وَلَا يدْخلُونَ الى دَاخل الدَّرْس حذرا من هضم جانبهم وحضورهم فى زى مستفيد وَحكى لى من فطانته وتحقيقه واستحضاره للمسائل وأجوبتها مَا يبهر الْعقل قَالَ وَلما قدم الى قسطنطينية قاضى زَاده الرومى حضر الى مَجْلِسه فَقيل لَهُ ان قاضى زَاده يُرِيد الدُّخُول اليك فَلم يكترث حَتَّى وصل اليه فَنَهَضَ قَلِيلا ثمَّ جلس فَقَالَ لَهُ قاضى زَاده عندى ثَلَاثُونَ سؤالا فى أَنْوَاع من الْعُلُوم أُرِيد جوابها مِنْك قَالَ وَكَانَ مُضْطَجعا على الوسادة فَقَالَ وَالله لَا رفعت جنبى عَن الوسادة حَتَّى أجيبك عَنْهَا هَات مَا عنْدك فشرع قاضى زَاده يُورد لَهُ السُّؤَال فَقبل أَن يتمه يجِيبه عَنهُ من غير انفعال وَلَا ترو وكل مَا يجِيبه بِهِ يقبله ويكتبه عَنهُ وعَلى الْجُمْلَة فَهُوَ آخر الْمُحَقِّقين وَبِه ختم هَذَا الْبَاب وَسَأَلت حفيده الْمَذْكُور عَن وَفَاته فَقَالَ لى انه توفى فى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف
السَّيِّد مُحَمَّد الامين بن صنع الله الحسينى القسطنطينى مفتى السلطنة الْمَعْرُوف بصنعى زَاده الْمُحَقق البارع الالمعى كَانَ عَالما فَاضلا كَامِل الْعيار أديبا أريبا عَاقِلا حسن الْخلق مَشْهُور بِالْفَضْلِ مشهودا لَهُ بِهِ وَفِيه يَقُول بعض الادباء مضمنا
(ان ابْن صنعى الذى جلت فضائله ... لم يلف فى عجم ثَانِيه أَو عرب)
(لَوْلَا عجائب صنع الله مَا نَبتَت ... تِلْكَ الْفَضَائِل فى لحم وَلَا عصب)
وَلم يرم من المعائب قطّ الا بالشره لما فى ايدى النَّاس من قسم الملبس والامتعة(3/476)
وَجمع من الْكتب والمتحف مَا لَا يدْخل تَحت حصر حاصر وَكَانَ اشْتغل بتحصيل الْعُلُوم على عُلَمَاء عصره حَتَّى سَاد وَقدم بِخِدْمَة وَالِده الى حلب لما ولى قضاءها فى سنة عشْرين بعد الالف وَهُوَ شَاب فَأخذ عَن بعض علمائها ثمَّ لَازم من الْمولى عمر معلم السُّلْطَان عُثْمَان وَلزِمَ بعد ذَلِك قاضى العساكر مصطفى بن عزمى وانتفع بِهِ وَعَلِيهِ تخرج فى كثير من الْفُنُون وَكَانَ عِنْده فى منزلَة وَلَده وصيره كَاتبا لرسائله وَهُوَ قاضى الْعَسْكَر ثمَّ درس بمدرسة شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وَهُوَ ثانى مدرس بهَا واتصل ببانيها وَهُوَ مفت فَأَحبهُ وَأَدْنَاهُ مِنْهُ حَتَّى اشْتهر وَوصل خَبره الى السُّلْطَان مُرَاد وَحكى أَن السُّلْطَان مرَادا كَانَ يتفقده واذا صَارَت سلسلة المدرسين يستخبر هَل وَجه اليه مدرسة أَولا فَلم يزل يترقى فى الْمدَارِس حَتَّى وصل الى الْمدرسَة السليمانية وَولى مِنْهَا قَضَاء سلانيك فى سنة خمسين وَألف وَأَقْبل عَلَيْهِ الْوَزير الاعظم قُرَّة مصطفى باشا فَأعْطى بوسيلته رتبه أدرنه ثمَّ عزل عَنْهَا وَقدم الى دَار الْخلَافَة واقتنى دَارا بِالْقربِ من جَامع السُّلْطَان سليم لَطِيفَة غَايَة ثمَّ ولى قَضَاء حلب وَنقل مِنْهَا الى قَضَاء مصر وَحكى انه كَانَ فى ابْتِدَاء أمره مَعَ مصطفى باشا بن حيدر الْوَزير وَكَانَ من جملَة الْعَسْكَر اذ ذَاك فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة ستصير ان شَاءَ الله تَعَالَى حَاكما بِمصْر فَقَالَ لَهُ وَعَسَى أَن تصير أَنْت قَاضِيا بهَا فى ذَلِك الزَّمَان ونجتمع مَعًا ثمَّ دعيا بذلك فاستجيب دعاؤهما واجتمعا بِمصْر على الحكومتين ثمَّ عزل صَاحب التَّرْجَمَة وَقرر بهَا قبل أَن يخرج مِنْهَا ثمَّ عزل وَولى قَضَاء قسطنطينية فى سنة تسع وَخمسين ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بانا طولى فى سنة خمس وَسِتِّينَ وَاتفقَ ان ابْن خَالَته السَّيِّد مُحَمَّد الْمَعْرُوف بقدسى زَاده صَار قاضى الْعَسْكَر بروم ايلى فتشرف صدر الدِّيوَان بِهَذَيْنِ الصدرين وهما ابْنا خَالَة ثمَّ عزل وَولى قَضَاء روم ايلى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَنقل مِنْهَا الى الْفَتْوَى فى أَوَاخِر السّنة وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد اذ ذَاك فى أدرنه وَقيل فى تَارِيخه أَرخُوا مفن كريم عَالم عَامل وَوَافَقَ تَارِيخ تَوليته امضاءه الذى يَكْتُبهُ على الْفَتَاوَى وَهُوَ لفظ كتبه مُحَمَّد الامين الْفَقِير وَهَذَا من أعجب مَا وَقع من التواريخ ثمَّ عزل فى نَهَار الثُّلَاثَاء تَاسِع شهر ربيع الثانى سنة ثَلَاث وَسبعين وَأمر بالاقامة فى حديقته ببشكطاش فَأَقَامَ بهَا مُدَّة الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى رَابِع الْمحرم سنة أَربع وَسبعين وَألف وَدفن باسكدار بِالْقربِ من مرقد الشَّيْخ مَحْمُود الاسكدارى(3/477)
مُحَمَّد بن الظَّاهِر بن أَبى الْقسم بن أَبى الْغَيْث بن أَبى الْقسم بن أَبى بكر شُعَاع بن على الايبع بن أَحْمد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النجيب بن حسن بن يُوسُف بن حسن بن يحيى بن سَالم بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن على بن آدم بن ادريس بن الْحُسَيْن ابْن مُحَمَّد الْجواد بن على الرِّضَا ابْن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر ابْن على زين العابدين بن الْحُسَيْن ابْن على بن أَبى طَالب كرم الله تَعَالَى وَجهه هَكَذَا نقل نسب بنى الْبَحْر مُحَمَّد بن أَبى بكر الاشخر فى كِتَابه كشف الْغَيْن وان نسبهم هَذَا يجْتَمع فِيهِ ثَلَاثَة عشر قَبيلَة من أَشْرَاف سرو والحسينيين بِالتَّصْغِيرِ يجمعهُمْ الْحسن ابْن يُوسُف وَأم المترجم عَائِشَة بنت أَحْمد بن أَبى الْغَيْث بن أَبى الْقسم الْبَحْر الْمُتَقَدّم السَّيِّد الولى الْمَشْهُور ولد فى ثامن عشر شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَألف بالمنصورية وهى من أَعمال بَيت الْفَقِيه بن عجيل من قرى اللامين مَعْرُوفَة بَينهَا وَبَين زبيد مرحلة كَامِلَة من جِهَة الْقبْلَة وَكَانَ أسلافه بِمَدِينَة الحرجة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَالْجِيم من أَعمال بَيت الْفَقِيه الْكَبِير ابْن حشيبر بِقرب اللِّحْيَة بَلْدَة مَعْرُوفَة خربَتْ قَدِيما وَأول من قدم من أجداده الى المنصورية أَحْمد بن أَبى الْغَيْث بن أَبى الْقسم الْبَحْر وَمَعَهُ أَخُوهُ أَبُو الْقسم بن أَبى الْغَيْث المقبور برباط الشَّيْخ مُحَمَّد بن عمر النهارى الْمَشْهُور بقمر الصَّالِحين وقبره هُنَاكَ يزار ويتبرك بِهِ فسكنوا فى مَحل يُقَال لَهُ منيبر قرب محلتهم الْآن من الشرق وَيُقَال ان ذَلِك باستدعاء عَامر بن عبد الْوَهَّاب وَدخل صَاحب التَّرْجَمَة الى زبيد فى سنة احدى وَعشْرين وَألف للْقِرَاءَة فَقَرَأَ على شيخ الْقُرَّاء عبد الباقى بن عبد الله العدنى لِلشَّيْخَيْنِ ثمَّ لحفص عَن عَاصِم وَقَرَأَ فى الْفِقْه على ابراهيم بن مُحَمَّد جعبمان وعَلى القاضى أَبى الوفا أَحْمد بن مُوسَى الضجاعى وعَلى مُحَمَّد بن أَحْمد المريرى الازهرى وعَلى مُحَمَّد بن أَبى بكر حجر بِهِ الاهدل صَاحب مَقْصُورَة الْجَامِع فى زبيد وفى الْعَرَبيَّة على الشهَاب أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى المطيب الحنفى وَسمع صَحِيح البخارى وصحيح مُسلم مَرَّات مُتعَدِّدَة على الشَّيْخ الْعَلامَة على بن أَحْمد بن جعمان وَبَعض الْمِنْهَاج والاذكار وَجُمْلَة من البخارى وَحج سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ بمكه عَن الشَّيْخ مُحَمَّد على بن عَلان التَّفْسِير والْحَدِيث وَأَجَازَهُ بمروياته وَله مؤلفات مِنْهَا تحفة الدَّهْر فى نسب الاشراف بنى بَحر وَنسب من حقق نسبه وَسيرَته من أهل الْعَصْر وَكَانَت رفاتا عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ رَابِع الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف بالمنصورية وَبهَا دفن عِنْد أسلافه السَّادة روح الله تَعَالَى أَرْوَاحهم(3/478)
مُحَمَّد بن عبد الباقى بن مُحَمَّد بن محب الدّين بن أَبى بكر تقى الدّين بن دَاوُد المحبى الدمشقى الحنفى ابْن عَم أَبى كَانَ فَاضلا كَامِلا لطيفا أديبا ظريفا ذكيا حسن الْخط وَله صَوت يَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب لم يكن أحسن مِنْهُ وَلَا أندى فى عصره وَكَانَ يعرف الادب والموسيقى معرفَة جَيِّدَة وَله فى الضروب واصطناع الاغانى يَد طائلة وَكَانَ أَبوهُ ذَا ثروة عَظِيمَة وَلما مَاتَ فى سنة سبع وَعشْرين وَألف فِيمَا أَحسب ترك مَالا كثيرا فنفد فى أقل قَلِيل وَهُوَ أَخُو جدى لابيه وَأم مُحَمَّد أُخْته من أمه وهى بنت الشَّيْخ عبد الصَّمد العكارى مفتى طرابلس وَاسْمهَا بديعة الزَّمَان وَكَانَت من الْعلم والمعرفة ونظم الشّعْر فى ذرْوَة سامية اشتغلت الْكثير على جدى القاضى محب الدّين وَأخذت عَنهُ الْفِقْه والعربية وَقَرَأَ عَلَيْهَا ابْنهَا مُحَمَّد المترجم وانتفع بهَا ثمَّ لزم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَأخذ عَنْهُمَا وَتخرج فى الادب على أَبى الطّيب الغزى والقاضى عبد الْكَرِيم الطارانى ثمَّ لَازم من شيخ الاسلام عبد الْعَزِيز بن قره جلى ودرس بدار الحَدِيث الْكُبْرَى وَولى النيابات بِدِمَشْق وَكَانَ فى حَيَاة جدى محب الله مرفه البال رغيد الْعَيْش مكفى الْمُؤْنَة زوجه بابنته عمتى وَبنى قصرا على سوق الرصيف يشرف على الْمدرسَة الامينية وأتقن بناءه وصنع لَهُ تَارِيخا من نظمه كتبه على بعض جدرانه وَهُوَ قَوْله
(مُنْذُ أنشا العَبْد المحبى قصرا ... من نوال الْمولى الْكَرِيم وَمِنْه)
(قد سما بهجة وَحَازَ بهاء ... ورقى رفْعَة وفَاق بيمنه)
(وَهُوَ فَرد فزوده فَردا وأرخ ... قَصرنَا قد زهى برونق حسنه)
وَلما مَاتَ جدي ساءت حَاله وَاسْتولى عَلَيْهِ الْغم فسافر الى الرّوم وَولى قَضَاء بعلبك ثمَّ قَضَاء صيدا وَمَا برح الدَّهْر يصدمه ويزعجه الى أَن مَاتَ وفى ذَلِك يَقُول
(لَوْلَا الامانى اذ أعيش مُسلما ... للنَّفس فى نيل المرام الا بعد)
(لقضيت من محن الزَّمَان فدأبه ... جور الفعال على اللبيب الامجد)
وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول بَعضهم
(لَوْلَا مواعيد آمال أعيش بهَا ... لمت يَا أهل هَذَا الحى من زمنى)
(وانما طرف آمالى بِهِ مرح ... يجرى بوعد الامانى مُطلق الرسن)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ عشرَة وَألف وَتوفى وَهُوَ رَاجع من الرّوم بِمَدِينَة حمص فى سنة سِتِّينَ وَألف وَدفن بهَا(3/479)
السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْحُسَيْن بن ابراهيم المكنى بأبى عبد الله بن أَبى شَبابَة الحسينى البحرانى أديب الْبَحْرين ومنطيقها والمطلع نفائس درها وجوهرها ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه علم الْفضل ومناره ومقبس الادب ومستناره فرع دوحة الشّرف الناضر الْمقر بسمو قدره كل مناضل ومناظر أَضَاءَت أنوار مجده مآثرا ومناقباً
(كالبدر من حَيْثُ الْتفت رَأَيْته ... يهدى الى عَيْنَيْك نورا ثاقباً)
وَكَانَ قد نسل الْهِنْد فَاجْتمع بالوالد ومدحه بمدائح وقابله من الاكرام بِمَا استوجبه واستحقه وَذكره عِنْد مَوْلَانَا السُّلْطَان فَعرف لَهُ حَقه ثمَّ رَحل الى ديار الْعَجم وَأقَام بأصفهان الى ان مَاتَ ثمَّ أورد لَهُ هَذِه القصيدة مدح بهَا وَالِده النظام ومستهلها
(أرى علما مَا زَالَ يخْفق بالنصر ... بِهِ فَوق أوج الْمجد تعلو يَد الْفَخر)
(مضى الْعُمر لَا دنيا بلغت بهَا المنى ... وَلَا عمل أَرْجُو بِهِ الْفَوْز فى الْحَشْر)
(وَلَا كسب علم فى الْقِيَامَة شَافِع ... وَلَا ظَفرت كفى بمغن من الوفر)
(وأصبحت بعد الدَّرْس فى الْهِنْد تَاجِرًا ... وان لم أفز مِنْهَا بفائدة التَّجر)
(طويت دواوين الْفَضَائِل والتقى ... وصرت الى طى الامانى والنشر)
(وسودت بالاوزار بيض صحائفى ... وبيضت سود الشّعْر فى طلب الصفر)
(وبعت نَفِيس الدّين والعمر صَفْقَة ... فيا لَيْت شعرى مَا الذى بهما أشرى)
(اذا جننى اللَّيْل البهيم تَفَجَّرَتْ ... على عُيُون الْهم فِيهِ الى الْفجْر)
(تَفَرَّقت الاهواء منى فبعضها ... بشيراز دَار الْعلم وَالْبَعْض فى الْفِكر)
(وبالبصرة الفيحاء بعض وَبَعضهَا القوى بِبَيْت الله والركن وَالْحجر)
(فَمَا لى وللهند الَّتِى مذ دَخَلتهَا ... محت رسم طاعتى سيول من الْوزر)
(وَلَو أَن جِبْرَائِيل رام سكونها ... لَا عَجزه فِيهَا الْبَقَاء على الطُّهْر)
(لَئِن صيد أَصْحَاب الحجا بشباكها ... فقد تَأْخُذ الْعقل الْمَقَادِير بالقهر)
(وَقد تذْهب الْعقل المطامع ثمَّ لَا ... يعود وَقد عَادَتْ لميس الى العتر)
هَذَا تلميح الى الْمثل الْمَشْهُور وَهُوَ قَوْلهم عَادَتْ الى عترها لميس أى رجعت الى أَصْلهَا والعتر بِكَسْر الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة من فَوق الاصل يضْرب لمن رَجَعَ الى خلق كَانَ قد تَركه وَلَيْسَ هُوَ الْمثل بِعَيْنِه حَتَّى يعْتَرض بِأَن الامثال لَا تغير
(مَضَت فى حروب الدَّهْر غَايَة قوتى ... فَأَصْبَحت ذَا ضعف عَن الْكر والفر)(3/480)
(الام بِأَرْض الْهِنْد أذهب لذتى ... ونضرة عَيْش فى محاولة النَّضر)
(وَقد قنعت نفسى بأوبة غَائِب ... الى أَهله يَوْمًا وَلَو بيد صفر)
(اذا لم تكن فى الْهِنْد أَضْعَاف نعْمَة ... ففى هجر أحظى بصنف من التَّمْر)
(على أَن لي فِيهَا حماة عهدتهم ... بناة الْمَعَالِي بالمثقة السمر)
(إِذا مَا أصَاب الدَّهْر أكناف عزهم ... رَأَيْت لَهُم غارات تغلب فِي بكر)
(ولى وَالِد فِيهَا اذا مَا رَأَيْته ... رَأَيْت بِهِ الخنساء تبكى على صَخْر)
(ولكننى أنسيت فى الْهِنْد ذكرهم ... باحسان من يسلى عَن الْوَالِد الْبر)
(اذا ذعرتنى فى الزَّمَان صروفه ... وجدت لَدَيْهِ الا من من ذَلِك الذعر)
(وفى بَيته فى كل يَوْم وَلَيْلَة ... أرى الْعِيد مَقْرُونا الى لَيْلَة الْقدر)
(وَلَا يدْرك المطرى نِهَايَة مدحه ... وَلَو أَنه قد مد من عمر النسْر)
(وفى كل مضمار لَدَى كل غَايَة ... من الشّرف الاوفى لَهُ سَابق يجرى)
(اذا مَا بَدَت فى أول الصُّبْح نقمة ... ترى فَرحا قد جَاءَ فى آخر الْعَصْر)
(فَقل لى أَبيت اللَّعْن ان عَن مفظع ... أأصبر أم أحتاج للاوجه الغر)
(اذا لَا علت فى الْمجد أَقْدَام همتى ... وَلَو كَانَ شعرى فِيك من أنفس الشّعْر)
(وانى لأرجو من جميلك عَزمَة ... تبلغنى الاوطان فى آخر الْعُمر)
(تقر عيُونا بالعراق سخينة ... وتبرد أكبادا أحر من الْجَمْر)
(وتونس أطفالا صغَارًا تَركتهم ... لفرقتهم مَا زَالَ دمعى كالقطر)
(وعيشى بهم قد كَانَ حلوا وبعدهم ... وجدت لذيذ الْعَيْش كالعلقم المر)
(اذا مَا رأونى مُقبلا ورأيتهم ... نقُول أيوم القر أم لَيْلَة النَّفر)
(وَمَا زلت مشتاقا اليهم وعاجزا ... كَمَا اشتاق مقصوص الْجنَاح الى الوكر)
(ولكنما حسبى وجودك سالما ... وَلَو أننى أَصبَحت فى بلد قفر)
(فَمن كَانَ مَوْصُولا بِحَبل ولائكم ... فَلَيْسَ بمحتاج الى صلَة الْبر)
وَقَوله على لِسَان أهل الْحَال وَقد أَجَاد
(لعمرى لقد ضل الدَّلِيل عَن الْقَصْد ... وَمَا لَاحَ لى برق يدل على نجد)
(فَبت بلَيْل لَا ينَام ومهجة ... تقلب فى نَار من الْهم والوجد)
(وَقلت عَسى أَن أهتدى لسبيلها ... بنفحة طيب من عرار وَمن رند)
(فَلَمَّا أتيت الدَّيْر أَبْصرت رَاهِبًا ... بِهِ ثمل من خمرة الْحبّ والود)(3/481)
(فَقلت لَهُ أَيْن الطَّرِيق الى الْحمى ... وَهل خبر من جيرة الْعلم الْفَرد)
(فَقَالَ وَقد أَعلَى من الْقلب زفرَة ... وفاضت سيول الدمع مِنْهُ على الخد)
(لَعَلَّك يَا مِسْكين ترجو وصالهم ... وهيهات لَو أتلفت نَفسك بالكد)
(أرى زمرة العشاق فى مجْلِس الْهوى ... نشاوى غرام من كهول وَمن مرد)
(ألم تَرَ أَنا من مدامة شوقهم ... سكارى وَلم نبلغ الى ذَلِك الْحَد)
(فكم ذهبت من مهجة فى طريقهم ... وَمَا وصلت الاعلى غَايَة الْبعد)
(فَقلت أأدنو قَالَ من كل محنة ... فَقلت أأرجو قَالَ شَيْئا من الصد)
(ألم ترنا صرعى بدهشة حبهم ... نقلب فَوق الترب خدا الى خد)
(فكم طامع فى حبهم مَاتَ غُصَّة ... وَقد كَانَ يرضى بالمحال من الْوَعْد)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف بأصفهان وَنقل الى طوس وَدفن بالمشهد الرضوى بِقرب تربة الشَّيْخ بهاء الدّين العاملى
مُحَمَّد بن عبد الْحق بن أَبى اللطف الملقب كَمَال الدّين القدسى الحنفى كَانَ فَاضلا ظريفا رَقِيق حَاشِيَة الْعشْرَة طارحا للتكلف خليعا مَاجِنًا مَقْبُول النادرة وَكَانَ كثير الاسفار قَلما يُقيم بِبَلَدِهِ رَحل الى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا سِنِين عديدة واشتغل على علمائها وبرع ثمَّ سَافر الى الرّوم وَطلب تدريس الْمدرسَة العثمانية بالقدس فوجهت اليه عَن الشَّيْخ زَكَرِيَّا المصرى وَتصرف بهَا وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره // مطبوع جيد // فَمِنْهُ قَوْله من تخميس
(بدا بكأس مدام والدجا حلكا ... وَعزة النَّفس أرخت فَوْقه شبكا)
(فَقلت لما أَتَى لَا يختشى دركا ... يَا بدرتم غَدا قلبى لَهُ فلكا)
(ان كنت أبذل روحى فى الْهوى فلكا ... )
وَسمعت لَهُ قصيدة فى نِهَايَة الْحسن فَلم يعلق فى خاطرى مِنْهَا الا مطْلعهَا وَهُوَ
(أهْدى الزَّمَان الى الانام نفيسا ... فَالْحق أَن نهدى اليه نفوسا)
وَقد تقدم لَهُ ثَلَاثَة أَبْيَات فى تَرْجَمَة السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن النَّقِيب فى تَشْبِيه القرنفل وهى فى غَايَة الْجَوْدَة وَكَانَ اعتراه مرض الفواق وَهُوَ قادم فى طَرِيق الرّوم لشدَّة الْبرد ففى ثانى يَوْم من دُخُوله الْبَيْت الْمُقَدّس توفى وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر ذى الْقعدَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَقد بلغ من الْعُمر سِتِّينَ سنة
مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم الْمَعْرُوف بالبورسوى وبالاسيرى مفتى السلطنة وَرَئِيس(3/482)
علمائها الْمَشْهُور بِالْعلمِ والتصلب فى الدّين وَكَانَ طودا من الْعلم راسخا متمسكا بِحَبل الله فى سره ونجواه يناضل عَن الْحق ويباحث عَنهُ وَكَانَ كثير الْعِبَادَة والتلاوة لِلْقُرْآنِ مهابا متواضعا أَخذ بِبَلَدِهِ بروسه عَن الْمولى مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن المعيد وَعَن الشَّيْخ الْكَامِل مُحَمَّد حَافظ زَاده ولازم درسه ثمَّ دخل قسطنطينية وتلمذ بهَا للشريف الشروانى وَكَانَ مدرسا بمدرسة أيا صوفيا وسمعته يحْكى مَا كَانَ فِيهِ اذ ذَاك من رقة الْحَال وضنك الْعَيْش ويبالغ ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة شيخ لاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وَصَارَ من خَواص طلبته ولازم مِنْهُ وَتعين لكتابة الْفَتَاوَى ثمَّ صَار أَمِين الْفَتْوَى وَانْفَرَدَ فى هَذِه الْخدمَة بأَشْيَاء من التفرس وَسُرْعَة الاخذ لم يسْبقهُ اليها أحد وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا ونفذت كَلمته وشاع ذكره وقصدته النَّاس من أقاصى الْبِلَاد وَوصل خَبره للسُّلْطَان مُرَاد وَكَانَت الوزراء وقضاة العساكر وَمن فى رتبتهم يراجعونه فى المهام ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى مدرسة السُّلْطَان سليم الْقَدِيم وَولى مِنْهَا قَضَاء مَكَّة وسافر وَهُوَ وسنبل أغا حَافظ الْحرم السلطانى بحرا فأسرتهما الفرنج وأخذا الى جَزِيرَة مالطه وَذهب لَهما من الامتعة والاموال شئ كثير وَاسْتمرّ صَاحب التَّرْجَمَة أَسِيرًا قَرِيبا من أَربع سِنِين ثمَّ خلص وَوصل الى دَار الْخلَافَة فَأعْطى قَضَاء مصر وَكَانَ ذَلِك فى سنة تسع وَخمسين وَألف وَقدم الى دمشق وَتوجه الى الْقَاهِرَة فصحبه والدى رَحمَه الله تَعَالَى ونال مِنْهُ قبولا تَاما ثمَّ فَارقه فى مصر كَمَا تقدم فى تَرْجَمَة والدى وعزل فَخرج الى دمشق وَنزل فى دَارنَا وَولد لَهُ ولد سَمَّاهُ يحيى ثمَّ توجه الى الرّوم فَمَاتَ وَلَده هَذَا بانطاكية وَبعد وُصُوله بِمدَّة أعْطى قَضَاء أدرنه وَأخذ بهَا طَرِيق القشاشية عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ مصلح الدّين وَلزِمَ الاوراد والاذكار ثمَّ عزل وَنفى الى ينبولى ثمَّ جئ بِهِ وَولى قَضَاء دَار الْخلَافَة وَوجه اليه رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طول ثمَّ ولى الْقَضَاء أَنا طولى اسْتِقْلَالا وَأَقْبل عَلَيْهِ الْوَزير الاعظم مُحَمَّد باشا الكوبريلى فصيره مفتيا وَلما سَار السُّلْطَان مُحَمَّد الى بورسة وأدرنة كَانَ فى خدمته واستبد بالاقبال التَّام وَوَقع من الْوَزير الْمَذْكُور قتل جماعات فى أَطْرَاف الْبِلَاد وفى مَحل التخت السلطانى فَكَانَ لَا يقدم على ذَلِك حَتَّى يستفتيه وَهَذَا مستفيض على الالسنة وَالله أعلم بِمَا هُنَالك وَكَانَ لما ولى الافتاء استرضاه والدى فرضى وَكتب اليه بالصفح عَن تباعده عَنهُ فَرَاجعه والدى برسالة اقترحها على لِسَان فرس كَانَت عِنْده من مشاهير الْخَيل وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة فى قَدمته الى الشَّام(3/483)
رَآهَا وَعرفهَا فأظهر اعتذاره عَن التَّقْصِير الذى نسب اليه فى خدمته على لِسَان حَالهَا والرسالة هى هَذِه حَضْرَة الْمولى شيخ الاسلام مفتى الانام الْهمام الْمُقدم فى حلبة الرِّهَان والامام الْمصلى الذى بِهِ يقْتَدى المجلى والتالى فى ميدان الْبَيَان الْغرَّة فى جبهة دهم الليالى وشهب أَيَّامه ربيع المفاخر والمعالى جعل الله تَعَالَى مُجمل سعادته غَنِيا عَن الافصاح وجياد أَوْصَافه الْحَسَنَة متبارية فى ميدان المداح بجاه سيدنَا مُحَمَّد الذى علا على الْبراق وتشرفت بِهِ الْآفَاق وَآله الْكِرَام وَأَصْحَابه الفخام وَبعد فالذى يعرض على عالى حَضرته بعد تَقْبِيل سامى عتبته أَنه لَا يخفى مَا ورد فى الحَدِيث الشريف عَن النبى النبيه أهْدى الله اليه صلَاته وَسَلَامه الْخَيل مَعْقُود فى نَوَاصِيهَا الْخَيْر الى يَوْم الْقيام واننى تِلْكَ الْفرس الاصيلة الطَّرفَيْنِ والحجرة العريقة الْجَانِبَيْنِ المهذبة الاخلاق الْكَرِيمَة الاعراق سبوح لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِد نشأت فى أراضى الشَّام وشممت ذَلِك العرار والبشام فَأبى من الْعتاق المغبقية وأمى من الصافنات الْجِيَاد السقلاويه مَعْرُوفَة الاب وَالْجد فى تهَامَة ونجد صَحِيحَة النّسَب بَين الْعَرَب
(وَمَا الْخَيل الا كالصديق قَليلَة ... وان كثرت فى عين من لَا يجرب)
وَقد كَانَ شرفنى الْمولى بالركوب وأملت مِنْهُ الْمَطْلُوب وسبقت الْجِيَاد وفزت بالشرف وَالْمرَاد وَتَقَدَّمت الخدم أمامى وحملت الغاشية قدامى ومشيت بالادب وَالْوَقار وَلم يصدر منى عثار وَلَا نفار وَلَا غروماً لسيوف على مقادير الاعضاء تفرى وَالْخَيْل على حسب فرسانها تجرى
(وَالْخَيْل عَالِمَة مَا فَوق أظهرها ... من الرِّجَال جَبَانًا كَانَ أَو بطلا)
وفى الْمثل الْخَيل بفرسانها وَالدَّار بسكانها وَقد طرق سمعى ان الْمولى صَار فَارس الميدان وسابق الرِّهَان وامتطى من الصدارة صهوة الاقبال وسحب لَهُ جنيب الْعِزّ والاجلال وَملك زِمَام الامور وَشد حزَام عزمه فى مصَالح الْجُمْهُور فَحصل لى بذلك كَمَال السرُور والنشاط وكدت أَن أفك مَا بى من الرِّبَاط وَأَجد فى الْمسير الى تهنئة جنابه الخطير لَكِن أقعدتنى الايام عَن ذَلِك ومنعتنى عَن سلوك هَذِه المسالك بماحل بى من مُوَاصلَة الصّيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود عِنْد الْقيام وتقدمنى فى الْمسير الرفيق الذى جمعنى واياه هَذَا الطَّرِيق
(ان الْعَوَائِق عقن عَنْك ركائبى ... فَلَهُنَّ من طرب اليك هديل)(3/484)
وَكَانَ بلغنى أَنه ركض على فى ميدان حضرتك بعض اللئام وَوضع قدم قَوْله حَيْثُ شَاءَ من الملام ونسبنى الى البطر والجموح وسلك طَرِيق قلَّة الادب الْمَتْرُوك الْمَطْرُوح وان الْبَحْر على تعكر والورد الصافى تكدر
(قد كَانَ لى مشرب يصفو بموردكم ... فكدرته يَد الايام حِين صفا)
فوَاللَّه لَيْسَ لما قيل أصل أصيل وَكنت أود أننى أتوصل الى بره وأكرع عَن فائض بحره وأرد مواردا حسانه وأفوز بِلُطْفِهِ وامتنانه فَلَا خير فى حب لَا يحمل أقذاؤه وَلَا يشرب على الكدر مَاؤُهُ وَمَعْلُوم حَضرته أَن الْبَهَائِم لَا تعلم شعر أَبى تَمام وَلَا تعرف مَا بلاغة أَبى الطّيب الْهمام وَلَا تطرب الْخَيل الا لسَمَاع الْكَيْل وَلَا تستغنى الاكاديش عَن أكل الْحَشِيش والعلاف لَا يعرف مسَائِل الْخلاف ومالكى وان كَانَ هُوَ الاصيل العريق لكنه مقتر للضيق فى العليق كثير الشّعْر قَلِيل الشّعير ينشد بِلِسَان التَّقْصِير
(ومالى صَنْعَة غير القوافى ... وَشعر لَا يُبَاع وَلَا يعار)
فالشعير أبعد من الشعرى العبور وَلَا وُصُول اليه وَلَا عبور فالبطن ضامر لَا يشد عَلَيْهِ حزَام والفم خَال لَيْسَ فِيهِ سوى اللجام وَقد بليت بعد الهزال بالخرس وَصَارَ حالى كَمَا قيل الجل خير من الْفرس وغيرى مِمَّن هُوَ دخيل لَيْسَ لَهُ أصل وَلَا فصل وَلَا أدب وَلَا فضل يرتع فى رياض الانعام وَالْبر التَّام
(حمَار يسيب فى رَوْضَة ... وطرف بِلَا علف يرْبط)
فان أنعم الْمولى دَامَ لَهُ المسار بِمنْصب فى هَذِه الديار فَأكْرم الْخَيل أَشدّهَا حنينا الى وَطنه وَأعْتق الابل أَكْثَرهَا نزاعا نَحْو عطنه فلينتهز فرص الاقتدار ويغتنم التجاوز عَن عثرات الاحرار فالدابة تضرب على النفار لَا على العثار فَلَيْسَ لى سواهُ من أعول عَلَيْهِ وَأَرْفَع قصتى اليه
(وهيهات أَن يثى الى غير بَابه ... عنان المطايا أَو يشد حزَام)
وَالله سُبْحَانَهُ ولى التَّوْفِيق والهادى بكرمه الى سَوَاء الطَّرِيق وَهُوَ قاضى الْحَاجَات وميسر المرادات وعالم بِكُل الاحوال وَعَلِيهِ فى جَمِيع الامور الاتكال
(وَدم وابق فى سعد وَعز مخلد ... وخيلك فى أوج السَّعَادَة تسبق)
قلت وَقد حذا فى هَذِه الرسَالَة حَذْو الوهرانى فى رقعته الَّتِى كتبهَا على لِسَان بغلته وعلقها فى عُنُقهَا وسيبها فى دَار الامير عز الدّين موسك وهى من محَاسِن(3/485)
مخترعاته ولطائف نزعاته يَقُول فِيهَا الْمَمْلُوكَة رَيْحَانَة بغلة الوهرانى تقبل الارض بَين يدى الامير عز الدّين حسام أَمِير الْمُؤمنِينَ نجاه الله من حر السعير وَعظم بداره قوافل العير ورزقه من التِّبْن وَالشعِير وسق مائَة ألف بعير واستجاب فِيهِ أدعية الجم الْغَفِير من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وتنهى اليه مَا تقاسيه من مُوَاصلَة الصّيام والتعب فى اللَّيْل وَالدَّوَاب نيام قد أشرفت مملوكته على التّلف وصاحبها لَا يحمل الكلف وَلَا يُوقن بالخلف وَلَا يَقُول بالعلف وانما يحل بِهِ الْبلَاء الْعَظِيم فى وَقت حاجتى الى القضيم وَالشعِير فى بَيته مثل الْمسك والعبير والاطريفل الْكَبِير أقل من الامانة فى النَّصَارَى الاقباط وَالْعقل فى رَأس قاضى سنباط فشعيره أبعد من الشعرى العبور وَلَا وُصُول اليه وَلَا عبور وقرطه أعز من قرطى ماريه لَا يُخرجهُ صَدَقَة وَلَا هبة وَلَا عَارِية والتبن أحب اليه من الابْن والجلبان أعز عِنْده من دهن البان والقضيم بِمَنْزِلَة الدّرّ النظيم والفصه أجل من سبائك الفضه والفول من دونه ألف بَاب مقفول وَمَا يهون علبه يعلف الدَّوَابّ الا بفنون الاداب وَالْفِقْه اللّبَاب وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب وَمَا عِنْد الله من الثَّوَاب وَمن الْمَعْلُوم أَن الدَّوَابّ لَا تُوصَف بالحلوم وَلَا تعيش بِسَمَاع الْعُلُوم وَلَا تطرب بِشعر أَبى تَمام وَلَا تعرف الْحَرْث بن همام وَلَا سِيمَا البغال الَّتِى تسْتَعْمل فى جَمِيع الاشغال شبكة قصيل أحب اليها من كتاب التَّحْصِيل وَقْفَة من الدريس أشهى اليها من فقه مُحَمَّد بن ادريس وَلَو أكل الْبَغْل كتاب المقامات لمات وَلَو لم يجد الا كتاب الرَّضَاع لضاع وَلَو قيل لَهُ أَنْت هَالك لم يَأْكُل موطأ مَالك وَكَذَلِكَ الْجمل لَا يتغذى بشرح أَبْيَات الْجمل ووقوفه فى الكلا أحب اليه من شعر أَبى الْعلَا وَلَيْسَ عِنْده طيب شعر أَبى الطّيب وَأما الْخَيل فَلَا تطرب الا الى اسْتِمَاع الْكَيْل واذا أكلت كتاب الذيل مَاتَت بِالنَّهَارِ قبل اللَّيْل وَالْوَيْل لَهَا ثمَّ الويل وَلَا تستغنى الأكاديش عَن أكل الْحَشِيش بِكُل مَا فى الحماسة من شعر أَبى الخريش واذا أطعمت الْحمار شعر ابْن عمار حل بِهِ الدمار وَأصْبح منفوخا كالطبل على بَاب الاصطبل وَبعد هَذَا كُله فقد رَاح صَاحبهَا الى العلاف وَعرض عَلَيْهِ مسَائِل الْخلاف وَطلب من تبنه عشر قفاف فَقَامَ الى رَأسه بالخفاف فخاطبه بالتقصير وَفسّر لَهُ آيَة العير وَطلب مِنْهُ قفة شعير فَحمل على سُؤَاله ألف بعير فَانْصَرف الشَّيْخ منكسر الْقلب مغتاظا(3/486)
من الثلب وَهُوَ أخسر من ابْن بنت الْكَلْب فَالْتَفت الى المسكينه وَقد سلبه الغيظ ثوب السكينه وَقَالَ لَهَا ان شِئْت ان تكدى فكدى لَا ذقت شعيرَة مَا دمت عندى فَبَقيت الْمَمْلُوكَة حائرة لَا قَائِمَة وَلَا سائرة فَقَالَ لَهَا العلاف لَا تجزعى من خباله وَلَا تلتفتى الى سباله وَلَا تنظرى الى نَفَقَته وَلَا يكن عنْدك أخس من عنفقته هَذَا الامير عز الدّين سيف الْمُجَاهدين أندى من الْغَمَام وأمضى من الحسام وأبهى من الْبَدْر لَيْلَة التَّمام لَا يرد سَائِلًا وَلَا يخيب آملا فَلَمَّا سَمِعت الْمَمْلُوكَة هَذَا الْكَلَام جذبت اللجام ورفست الْغُلَام وَقطعت الزِّمَام وَشقت الزحام حَتَّى طرحت خدها على الاقدام ورأيك العالى وَالسَّلَام انْتهى رَجَعَ وَلما مَاتَ الْوَزير الكوبريلى الْمَذْكُور عزل عَن منصب الْفَتْوَى وَنفى الى كليبولى وَحكى أَنه جَاءَهُ خبر الْعَزْل يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ فى الْجَامِع والخطيب يخْطب فَلم يُمكنهُ التَّخَلُّف ونهض مسرعا وَأخذ من وقته الى السَّفِينَة فأركب فِيهَا وجهز وَبعد مُدَّة أعْطى قَضَاء رودس وَأمر بِالْمَسِيرِ اليها فَأَقَامَ بهَا مُدَّة تسع سنوات ثمَّ اسْتَأْذن فى الْحَج فَأذن لَهُ وَورد دمشق فى غرَّة رَجَب سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ وَجه الى أَخِيه شقيقه الْمولى مصطفى قَضَاء مَكَّة فاجتمعا فى دمشق ورحلا صُحْبَة الْحَاج وحجا وجاورا بِمَكَّة سنة ثمَّ فَارقه أَخُوهُ وبقى هُوَ فى الْمَدِينَة سنة أُخْرَى ثمَّ قدم الى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ أعْطى قَضَاء الْقُدس فَتوجه اليها وَحكم بهَا نَحْو سنة ثمَّ عزل وَقدم الى دمشق ثمَّ أَمر بالتوجه الى بَلَده بروسة فَخرج من دمشق وصحبته أَنا الى الرّوم وَكَانَ خروجنا من دمشق فى ثامن صفر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف واستمريت مرافقا لَهُ الى بروسة وفارقته مِنْهَا وَأقَام هُوَ وَأعْطى قَضَاء مطانيه على وَجه التأيد وَاسْتمرّ مُدَّة الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف
مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق المنزلاوى الشافعى الامام الْعَلامَة الصَّالح الولى الزَّاهِد الْجَامِع بَين الْعلم وَالْعَمَل الْمجد فى بَث الْعُلُوم النافعة كَانَ عَالما مفننا وَكَانَ يخْتم فى كل سنة نَحْو عشرَة كتب كبار فى فنون وقراءته تَحت اللَّفْظ لَا يتَعَدَّى الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من الْكتاب وَيَقُول الْقِرَاءَة هَكَذَا فى هَذِه الازمان أفود فان الهمم قصرت والافهام كلت مَعَ كَونه اذا سُئِلَ عَن مُشكل فى الْكَلَام أجَاب عَنهُ بِأَحْسَن عبارَة وَمن شُيُوخه الْبُرْهَان اللقانى والنور الزيادى وَسَالم الشبشيرى وَأحمد الغنيمى والنور على الحلبى وَغَيرهم وَعنهُ أخذا أَكثر المدركين من مَشَايِخ الْعَصْر مِنْهُم مَنْصُور(3/487)
الطوخى وَسليمَان الشامى وَدَاوُد الرحمانى وَأحمد البشيشى وأفلج فى آخر عمره وَاسْتمرّ بِهِ الفالج سِنِين وَهُوَ ببيته وَمَعَ ذَلِك كَانَ يدرس وَهُوَ بِهَذَا الْحَال وَسبب فلجه كَثْرَة انهماكه على الْجِمَاع بِحَيْثُ لَا يتْركهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَكَانَ لَهُ عدَّة نسَاء وسرارى قَالَ ونصحنى بعض شيوخى عَن ذَلِك وَقَالَ لى ان كثرته هَكَذَا تورث الفالج بالتتبع فَلم يفدنى ذَلِك حَتَّى كَانَ من أَمر الله تَعَالَى مَا كَانَ وَاجْتمعَ بِهِ صاحبنا الْفَاضِل الاديب مصطفى بن فتح الله وَسمع عَلَيْهِ طرفا من تَفْسِير الجلالين وَمن شرح الالفية للمرادى بِقِرَاءَة شَيْخه الفهامة مُوسَى بن حجازى الْوَاعِظ وَذَلِكَ بعد مَا أفلج وَأَجَازَهُ بمروياته قَالَ وَأخْبرنَا عَن شَيْخه الْعَلامَة طه السفطى انه كَانَ يأتى الى الدَّرْس بعصا يضْرب بهَا من يسْأَله سؤالا غير مُنَاسِب للمقام وَاتفقَ انه كَانَ يَوْمًا يقرئ فى مُخْتَصر خَلِيل فَسَأَلَهُ بعض طلبته سؤالا من ذَلِك فَضَربهُ فَقَالَ بديهة
(لقد نلْت يَا طه مقَاما ورفعة ... فَمَا نالها بَين الانام أَمِير)
(تقرر فى معنى خَلِيل بمطرق ... كَأَنَّك تراس وَنحن حمير)
والتراس سائق الْحمير بلغَة المصريين وَكَانَت وَفَاة المنزلاوى فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف بِمصْر وعمره نَحْو ثَمَانِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه مُحَمَّد بلفقيه الْمَشْهُور بالاعسم الحضرمى الشَّيْخ الاعظم أحد الْعلمَاء العاملين ذكره الشلى وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين مِنْهُم عَمه السَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن مُحَمَّد بلفقيه صَاحب الشبيكة وَمن فى زَمَانه من الْعلمَاء كالشيخ أَحْمد بن علوى با جحذب وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن حسن وَالشَّيْخ حُسَيْن بن الْفَقِيه عبد الله بَافضل وَكَانَ كثير الْعِبَادَة محبا للصوفية وَكَانَ لَهُ الشَّأْن الْعَظِيم كثير الْمُسَامحَة ظَاهر الْولَايَة وَالصَّلَاح وَاسع الصَّدْر رفيع الْقدر وَكَانَت وَفَاته سنة سبع بعد الالف بتريم وَدفن بمقبرة زنبل والاعسم أفعل من العسم وَهُوَ اليبس فى الْمرْفق وَالله أعلم
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الملقب شمس الدّين الحموى اشْتهر وَالِده بالمكى الحنفى نزيل مصر كَانَ اماما عَالما بالفقه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث والقراآت والاصول والنحو كثير الاستحضار للاحاديث النَّبَوِيَّة خُصُوصا الْمُتَعَلّقَة بالاوراد والفضائل أديبا ذكيا فصيحا صَالحا ورعا متواضعا طارحا للتكلف متصوفا كثير الْمُرُوءَة عَظِيم الْبر خُصُوصا لاقاربه كثير الزِّيَارَة والموافاة لاصحابه حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ(3/488)
صَادِق اللهجة والمحبة والنصح وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الانبساط حُلْو النادرة وَفِيه دعابة زَائِدَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من كملة الرِّجَال أَخذ عَن النُّور الزيادى وَالشَّمْس مُحَمَّد الخفاجى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الوسيمى والصفى الْعُزَّى وَالشَّيْخ طه المالكى وَالشَّمْس مُحَمَّد الدمراوى والسراج ابْن الجائى وأبى النجا السنهورى والشهاب أَحْمد بن خَلِيل السبكى وَقَرَأَ بالروايات على شحاذة الْيُمْنَى المقرى وَأخذ عُلُوم الْعَرَبيَّة عَن أَبى بكر الشنوانى واشتغل بالفقه على عَلامَة عصره على بن غَانِم المقدسى وَغَيرهم وفَاق أهل زَمَانه فى الْفضل وَذكره عبد الْبر الفيومى فى المنتزه فَقَالَ فى وَصفه عَالم نشر ألوية فَضله الزهية فتلقاها بِالْيَمِينِ كل فَاضل رام دقائق الْعَرَبيَّة رَقِيق الطباع دَقِيق الْفِكر بِلَا دفاع علمه متين وعقله رصين وأدبه باهر وشعره زَاهِر لَزِمت درسه وَشهِدت فَضله وأنسه وَألف صنف وزين الاوراق ورصف فحشى المغنى بحاشية لكل طَالب تغنى وَله كتابات أخر مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْقَوَاعِد الهشامية للشَّيْخ خَالِد اختصرها من حَاشِيَة شَيْخه الشنوانى وَله بديعية مطْلعهَا
(هجرى على ولى وصل بأحيانى ... أماتنى الهجر جَاءَ الْوَصْل أحيانى)
قلت وَله شعر رَقِيق مِنْهُ قَوْله من قصيدة مدح بهَا شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا لما كَانَ قَاضِيا بِمصْر ومطلعها
(أوجوه غيد أم حسان ربوع ... وعيون آرام تزيد ولوعى)
(أم نشر زهر ضَاعَ فَامْتَلَأَ الربى ... عطرا عبيرا أم رياض ربيع)
(وَالْمَاء قد صقل النسيم متونه ... أم فى جِدَار لَهُ متون دروع)
(والطل قد زَان الشَّقِيق بلؤلؤ ... أم وجنة مطلولة بدموع)
(والقضب من لطف النسيم تمايلت ... خجلا فأبدت ذلنى وخضوعى)
(والبدر أشرق فى ثنيات الدجا ... سحرًا وَبرد اللَّيْل فى توشيع)
(سفر اللثام فلاح فى وجناته ... ورد الخد فحار فِيهِ بديعى)
(ساجى اللواحظ فاتك بجفونه ... ذُو خبْرَة فى صَنْعَة التقطيع)
(مَا تمّ مسك عذاره فى خَدّه ... الا ليظْهر عذر كل خليع)
(والثغر قد حَاز العذيب وبارقا ... وجواهرا للدر فَغير مضيع)
(يَا قلب خل هوى الحسان وخلننى ... من ذكر أحباب وَذكر ربوع)
(واقطع أقاويل الوشاة فقطعها ... سَبَب لوصلة حبلنا الْمَقْطُوع)(3/489)
(واجنح الى ظلّ الجناب المرتجى ... قاضى الْقُضَاة الامجد الْمَرْفُوع)
(يحيى الذى يحيي الْوُجُود بجوده ... سحت يَدَاهُ بسيحا المهموع)
(يعْطى مؤمله بِغَيْر شَفَاعَة ... مَا رامه من نائل مشفوع)
(مذ شاع فى مصر السَّعَادَة عدله ... دَامَت لَهُ الاحكام بالتوقيع)
(حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِين حَدِيثه الْمَوْضُوع)
(كفر يَمِينك يَا زمَان وَلَا تعد ... لَيْسَ الشريف الْجد مثل وضيع)
مِنْهَا
(يَا من رَجَوْت وَقد أمنت بجاهه ... من كل خطب للزمان فظيع)
(وَوضعت عَن كتفى السُّؤَال لغيره ... وَالْمَوْت أطيب من سُؤال وضيع)
(ورجوته بالشعر لما خصنى ... مِنْهُ جميل اللطف عَم جميعى)
(اسْمَع بمذهبها البديع وهاكها ... تختال بالتهذيب والترصيع)
(قصرت خطاها عَن سواك وَأَقْبَلت ... تمشى الى علياك شى سريع)
(فاقبل وزدنى فى العطا مَا غربت ... شمس النَّهَار وأشرقت بِطُلُوع)
(لَا زلت ممدوح الْخِصَال جَمِيعهَا ... مَا نَار وجد أضرمت بضلوع)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الاحد تَاسِع عشر شَوَّال سنة سبع عشرَة بعد الالف
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْجمال مُحَمَّد بن الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد البونى المكى المالكى الاديب الزكن الماهر قدم جده من الْمغرب وَهُوَ فَقير جدا فقطن الْحجاز وترقى ابْنه بِخِدْمَة الشريف بَرَكَات بن أَبى نمى صَاحب مَكَّة وَكَانَ فِيهِ خير ونفع وقف فى مرض مَوته على البيمارستان المكى بعض الاماكن وَخَلفه ابْنه فى الترقى وَله أَخُوهُ وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا على مَذْهَب آبَائِهِ وَكَانَ كَاتبا شَاعِر ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ أشعار الْعَرَب ونافس أقرانه فى عُلُوم الادب وَله أشعار حسان مِنْهَا قَوْله مجيبا للبرهان ابراهيم المهتار عَن قصيدة خمرية نظمها وأرسلها اليه لبعارضها ومطلعها
(دع الْوُقُوف على الاطلال والنجب ... وَلَا تعرج على مجهولها الخرب)
فعارضها بقوله
(مَا دَامَ كأس الحميا باسم الشنب ... فَترك لثمى لَهُ من قلَّة الادب)
(فاستجلها بنت كرم مَعَ ذوى كرم ... من كف سَاق بِبرد الْحسن محتجب)
(كالبدر يسْعَى بشمس الراح فى يَده ... فاعجب لبدر سعى بالشمس للهب)(3/490)
(اذا رنا قلت خشف فى تلفته ... وان تثنى فغصن مَاس فى الكثب)
(من لى بهَا وهى تجلى فى زجاجتها ... وَمن سنا مؤنسى باللهو والطرب)
(مَعَ رفْقَة كَالنُّجُومِ الزهر ساطعة ... حازوا جَمِيع النهى والذوق فى الْعَرَب)
(وَالْوَرق تشدو على الاغصان قائلة ... باكر صبوحك بالكاسات والنجب)
وَلها تَتِمَّة لم أَقف عَلَيْهَا وَكتب اليه المهتار قصيدة مبدؤها
(بقلبى سيف اللواحظ سنه ... وأفرض وجدى وهجرى سنه)
فَرَاجعه بقصيدة طَوِيلَة أَولهَا
(أَجَبْتُك مولاى من غير مِنْهُ ... فذوقك قد حفنى الْفضل مِنْهُ)
(وانى مطيعك فِيمَا أمرت ... بِهِ وودادى كَمَا تعهدنه)
مِنْهَا
(عجبت لسحر عُيُون الظبا ... تصيد القساو رمن غابهنه)
(وَهن الدمى الخرد الآنسات ... وَمن لَهُم الشّعب أضحى مظنه)
(فكم دون أخدارهم مهلك ... وَكم حَولهمْ من جِيَاد معنه)
(ببيض الصفاح وَسمر الرماح ... وصفر القسى وزرق الاسنه)
(فحيى حمى الشّعب من عَامر ... حَيا لم يزل يسقى أطلا لهنه)
(فثم الغوانى الملاح الصَّباح ... يرن الوشاح باعطافهنه)
(اذا مسن مَا بَين تِلْكَ الْخُدُور ... يحاكى القنالين أعطا فهنه)
(فطير الحشا لم يزل وَاجِبا ... عَلَيْهِنَّ ان لحن فى حيهنه)
مَا أحسن قَوْله وَاجِبا بعد قَوْله فطير وطيور الْوَاجِب المتعارفة عِنْد أَرْبَاب الْقوس والبندق أَرْبَعَة عشر وهى الكركى والسبيطر والعنز والسوغ والمرزم والغرنوق وَهَذِه السِّتَّة يُقَال لَهَا قصار السَّبق والنسر وَالْعِقَاب والاوز والتم واللغلغ والانيسه والسلوى يُقَال لَهَا طوال السَّبق وانما قيل لَهَا طيور الْوَاجِب لَان الرامى كَانَ لَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الرامى الا بعد قتل هَذِه بأجمعها بالبندق وجوبا صناعيا
(وَمن ثمَّ أَهْوى بديع الْجمال ... حوى اللطف والظرف من بينهنه)
(رشا خصره مُضْمر ناحل ... اذا قَامَ والردف مَا أرجحنه)
(فوجبته مُنْذُ دب العذار ... حكت يَا ذوى الْعِشْق نَارا وجنه)
وَمن شعره قَوْله
(أنحل الله خصر ذَات الْمِثَال ... فهى وَالله لَا ترق لحالى)(3/491)
(وأرانى ألحاظها فى انكسار ... ولظى جمر خدها فى اشتعال)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَدفن بالمعلاة والبونى نِسْبَة لبونة بالمغرب من أَعمال تونس
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سراج الدّين الملقب جمال الدّين الحضرمى الْفَقِيه الشافعى القاضى كَانَ من الْعلمَاء المبرزين انْتَهَت اليه رياسة الْفِقْه فى جِهَته قَرَأَ الْعلم على وَالِده وَغَيره وارتحل الى الشحر وَأخذ عَن الْفَقِيه على بن على بايزيد ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وتصدر للْفَتْوَى والتدريس وَولى الْقَضَاء فى عدَّة بِلَاد مِنْهَا تريم والشحر وشبام والغرفة وَله رحْلَة طَوِيلَة رَحل الى الْهِنْد فى شبابه والى المسقاص ودوعن وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين أَجلهم الشَّيْخ أَبُو بكر بن سَالم وَأدْركَ الشَّيْخ مَعْرُوف باجمال ولحظه بنظراته وَله نثر ونظم وَولى الخطابة وَكَانَ فصيحا جهورى الصَّوْت عذب الْمنطق لَهُ بسطة فى الْعلم والجسم وَكَانَ مَقْبُولًا عِنْد الْخَاص وَالْعَام كثير الْبكاء والخشوع وَكَانَ زاهدا فى الدُّنْيَا كَرِيمًا يحب الْفُقَرَاء وَتخرج عَلَيْهِ جمَاعَة وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا منظومة الارشاد وَشَرحهَا ومنظومة فى النِّكَاح كبرى وَأُخْرَى صغرى وَله مؤلف فى الْفِقْه صَغِير وَكتاب الْبر الرؤف فى مَنَاقِب الشَّيْخ مَعْرُوف رتبه على مُقَدّمَة وَأَرْبَعَة أَبْوَاب وخاتمة وَجعل الخاتمة فى مَنَاقِب الشَّيْخ أَبى بكر بن سَالم قَالَ وَمن أَرَادَ أَن يَكْتُبهُ مُفردا قليسمة بُلُوغ الظفر والمغانم فى الشَّيْخ أَبى بكر بن سَالم وَجعل الخاتمة فى تراجم بعض الاعيان قَالَ وَمن شَاءَ أَن يفردها فليسمها بالدر الفاخر فى تراجم أَعْيَان الْقرن الْعَاشِر وَله فَتَاوَى كَثِيرَة غير مدونة وَحصل لَهُ فى آخر عمره اعراض عَن الْخلق فَصَارَ كالذاهل وَلم يزل كَذَلِك الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى شعْبَان سنه تسع عشرَة بعد الالف بِبَلَدِهِ الغرفة وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الهادى بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد شهَاب الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن على الْمَعْرُوف بِابْن شهَاب الحضرمى الشافعى الصوفى الباهر الطَّرِيقَة ذكره الشلى فى تَارِيخه الذيل وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بتريم وربى فى حجر وَالِده وَحضر دروسه فى الْفِقْه والْحَدِيث وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَحفظ الْقُرْآن وتفقه بالشيخ مُحَمَّد بن اسمعيل بَافضل وَأخذ التصوف عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَعَن غَيره ثمَّ لبس الْخِرْقَة من كثيرين وَأذن لَهُ جمَاعَة من مشايخه بالافتاء والتدريس وأقرأ كثيرا(3/492)
وتزهد حَتَّى شاع ذكره وقصدته الطّلبَة من الاقطار وانتفع بِهِ جم غفير مِنْهُم وَلَده السَّيِّد الْجَلِيل أَحْمد بن نزيل مَكَّة وسيدى الصنو أَحْمد وَالشَّيْخ عبد الله بن زين بافقيه وَالسَّيِّد على بن عمر فَقِيه وَغَيرهم من الْعلمَاء والادباء ورزق فى الْعِبَادَة أوفر نصيب وَكَانَ جوادا كَرِيمًا حَلِيمًا عفيفا وَكَانَ بَصيرًا بِزَمَانِهِ متواضعا خلوقا عَظِيم الْقدر والهيبة وَله رسائل فى علم التصوف وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَرْبَعِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام نسبه فى تَرْجَمَة ابْن أَخِيه ابراهيم بن أَبى الْيمن البترونى الحلبى مفتى الْحَنَفِيَّة بحلب وَيعرف بمفتى الْعقبَة لسكناه فى محلّة الْعقبَة كَانَ قَلِيل البضاعة فى الْعلم وَتَوَلَّى الْفَتْوَى وَلم يكن أَهلا لَهَا وَسبب ذَلِك أَن الشَّيْخ فتح الله البيلونى كَانَ كثير الْعَدَاوَة لاخى مُحَمَّد الْكَبِير وَهُوَ أَبُو الْجُود الْمُقدم ذكره وَكَانَ البيلونى مُعْتَقد الْوَزير الاعظم نصوح باشا وَشَيْخه وَاتفقَ أَن مُحَمَّدًا صَاحب التَّرْجَمَة ذهب الى الرّوم لطلب المعاش من قَضَاء أَو غَيره فأنزله البيولنى عِنْده وأكرمه وَقَالَ لَهُ اقْضِ مآربك ثمَّ بعد أَيَّام قَالَ لَهُ قد شفعت لَك عِنْد الْوَزير الاعظم وَأخذت لَك منصبا جَلِيلًا وَلَا أُعْطِيك الاوراق حَتَّى تقطع الْبَحْر وأودعك الى أسكدار وأسلمها لَك فَفعل فَلَمَّا ودعه سلمه مَكْتُوب الْفَتْوَى فَامْتنعَ وَقَالَ أَنا لست أَهلا لذَلِك وَهل يمكننى التَّصَرُّف بهَا مَعَ وجود أخى الشَّيْخ أَبى الْجُود فَقَالَ لَهُ ان لم تقبل أسعى على اهانتك ونفيك فَلم يَسعهُ الا الْقبُول وَلما دخل الى أَخِيه قبل أقدامه وَعرض عَلَيْهِ هَذَا الامر فَقَالَ جعله الله مُبَارَكًا وَأَنا أعلم أَن هَذَا من مكر فتح الله فافعل وَلَا تخَالف فاننا نخشى شَره ثمَّ بعد لم يقبلهَا أَبُو الْجُود وَتصرف بهَا مُدَّة مُحَمَّد ووجهت بعده لاخيهما أَبى الْيمن وَكَانَ أَبُو الْيمن وَمُحَمّد بِمَنْزِلَة الخدام عِنْد أخيهما الْكَبِير أَبُو الْجُود الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاة مُحَمَّد فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن على بن مُوسَى بن خضر الخيارى المدنى الشافعى الاديب الاريب اللوذعى نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَمَّن بهَا من الْعلمَاء الاعيان ورحل الى مصر وَالشَّام وَالروم وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله شعر وسط مِنْهُ قَوْله بمدح شيخ الاسلام يحيى المنقارى مفتى الرّوم
(فى كل قطر حَيْثُ ذكرك ينشر ... يَبْدُو الثَّنَاء عَلَيْك مسك أذفر)
(وتود أَرْبَاب الْمقَام بِأَنَّهَا ... من ترب نعلك دَائِما تتعطر)(3/493)
(شرفت بك الايام حَتَّى أَنَّهَا ... ودت تراك الماضيات الاعصر)
(وأتى الزَّمَان اليك عبدا طَائِعا ... يصغى لما تنهاه عَنهُ وتأمر)
(وَقد اقتصرت على مديح جنابكم ... اذ مدح خير الْخلق فِيكُم أكبر)
(فى قَوْله الْعلمَاء وَرَثَة قد كفى ... الصَّادِق المصدوق فِيمَا يخبر)
(واذا أردْت بِأَن أصوغ مدائحا ... فِيكُم فانى مَا حييت مقصر)
(من أجل هَذَا قَالَ قبلى من مضى ... بَيْتا وَذَاكَ الْبَيْت فِيكُم أشهر)
(وعَلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزَّمَان وَفِيه مَالا يحصر)
(فاليك يَا مولاى صغت دراريا ... تهدى اليك وَأَيْنَ مِنْهَا الْجَوْهَر)
(ضمنتها أوصافك الغر الَّتِى ... مَا شامها الثَّقَلَان الا كبروا)
(لَا ترتجى الا الْقبُول اجازة ... واجازة الشُّعَرَاء أَبيض أصفر) 5 وَكَانَت وِلَادَته فى شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَتوفى بِالْمَدِينَةِ فى شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد قاضى الْعَسْكَر بن الْمُفْتى عبد الرَّحِيم الْمُقدم ذكره صدر الرّوم ورئيسها وواحدها فى الْفضل والمعرفة وَكَانَ فَاضلا كَامِلا مطلعا على الاشعار الْعَرَبيَّة مائلا اليها أديبا لَهُ طبيعة مطيعة وفطنة قويمة صَاحب همة وجاه عريض صَاحب رابطة متقنة جوالا بِالْحَقِّ بَرِيئًا من الرِّيَاء والمداهنة صافى المشرب حسن الشكل جَريا فى الْكَلَام حكى لى بعض الاخوان من الروميين انه ذكر عِنْد المترجم ثَلَاثَة من الْقُضَاة الْكِبَار فى زَمَانه كَانُوا معروفين بالجور وَتَنَاول الرِّشْوَة فَقَالَ ان ولانى الله تَعَالَى أَمرهم صلبت مِنْهُم فلَانا فى مَكَان كَذَا وَفُلَانًا فى محلّة الْيَهُود وَفُلَانًا فى محلّة النَّصَارَى فَبلغ أحدهم مَا قَالَه فَذهب اليه يستفسر مِنْهُ فى زى متعتب فَقَالَ لَهُ كَيفَ سَمِعت مقالتى قَالَ بلغنى أَنَّك قلت ان وليت حكمه صلبته فى محلّة النَّصَارَى قَالَ انما قلت عَنْك أصلبه فى محلّة الْيَهُود لَان شهرتك بالجور فَوق ذَيْنك الشخصين وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وَهُوَ أحد من أَخذ عَن أَبِيه الْعُلُوم ولازم من الْمُفْتى أَبى سعيد وسافر فى خدمَة وَالِده الى يكى شهر لما ولى قضاءها ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى مدرسة وَالِدَة السُّلْطَان مُرَاد فاتح بَغْدَاد وَولى مِنْهَا قَضَاء الغلطة وَكَانَ وَالِده اذ ذَاك مفتيا فَعظم شَأْنه وراجعته النَّاس فى مهماتهم وَلما عزل أَبوهُ عَن الْفَتْوَى أَمر بِالْحَجِّ فَكَانَ مَعَه وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء(3/494)
دَار الْخلَافَة وحجا وعادا من طَرِيق مصر ثمَّ رجعا الى دمشق فَوجه الى وَالِده قَضَاء الْقُدس وَتوجه مَعَه اليها وَأقَام بهَا مُدَّة يسيرَة ثمَّ سَافر الى الرّوم وَولى قَضَاء دَار الْخلَافَة وعزل عَنْهَا فَأعْطى قَضَاء بعض القصبات وَأمر بِالْمَسِيرِ اليها فَأَقَامَ بهَا مِقْدَار نصف سنة ثمَّ اسْتَأْذن فى الذّهاب الى دَار الْملك فَأذن لَهُ ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولى فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَاسْتمرّ مُدَّة طَوِيلَة وَأَقْبل عَلَيْهِ الصَّدْر الاعظم الكوبريلى لما رأى من تصلبه واستقامته ثمَّ عزل وَولى بعد ذَلِك قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى فى سنة خمس وَسبعين والف ثمَّ عزل وَأعْطى قَضَاء اسكدار ثمَّ وَجه اليه قَضَاء روم ايلى مرّة ثَانِيَة وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة سلانيك فَتوجه اليها ودخلها منحرف المزاج فَلم يلبث كثيرا حَتَّى توفى وَكَانَت وَفَاته فى آخر سنة ثَمَانِينَ وَألف وَدفن بهَا وَولى مَكَانَهُ الْعَالم الْعلم الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بضحكى فَقَالَ شَيخنَا ابراهيم الخيارى المدنى يرثيه وَكَانَ اذ ذَاك بسلانيك
(ان ابْن عبد الرَّحِيم قاضى ... عَسَاكِر الرّوم دون شكّ)
(رمته عَن قوسها المنايا ... بِكُل سهم عَظِيم شكّ)
(وَقد أُصِيبَت بِهِ البرايا ... فَكل عين عَلَيْهِ تبكى)
(مذعمهم غمهم عَلَيْهِ ... أبدلتهم رَبنَا بضحكى)
تمّ الْجُزْء الثَّالِث من خُلَاصَة الاثر فى أَعْيَان الْقرن الحادى عشر ويليه الْجُزْء الرَّابِع أَوله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن حسن جَان(3/495)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن حسن جَان الشهير بالبهائى مفتي الديار الرومية وَاحِد أَفْرَاد الدُّنْيَا ذكره والدى المرحوم فى ذيله فَقَالَ فى وَصفه عَزِيز الرّوم وَابْن عزيزها وَبدر افق المعالى الْحَائِز قصبات السَّبق فى مضمار العلى وتبريزها وَمن أَطَاعَته البلاغة ففتحت لَهُ عَن كنوزها واطلع على دقائق حقائقها ورموزها الحرى بِمَا قَالَه فِيهِ خَاله الْمولى ابْن ابى السُّعُود النبيه
(ابْن عبد الْعَزِيز فى آل سعد ... كَابْن عبد الْعَزِيز بَين أُمِّيّه)
نَشأ فى حجر الْعِزّ العالى وتربى فى مهد الْعِزّ والمعالى وارتضع من أفاويق الْفضل أخلافها وانتجع من الفواضل أكنافها فَهُوَ كريم الجدين ومحبوك الْمجد من الطَّرفَيْنِ أما جده لابيه فَهُوَ شيخ الاسلام الخواجة سعد الدّين وَأما جده لوالدته فَهُوَ الْمولى مصطفى بن شيخ الاسلام أَبى السُّعُود الْمُفَسّر اشْتغل بِطَلَب الْعلم وجد فَوجدَ وَمد بَاعه الى أقْصَى الْفَضَائِل فنالها فى أقصر أمد ولازم الْقِرَاءَة أَولا(4/2)
على بعض الافاضل ثمَّ قَرَأَ على شيخ الاسلام عبد الرَّحِيم وَسبق فى تَرْجَمَة عبد الرَّحِيم الْمَذْكُور أَن وَالِد البهائى كَانَ اتَّخذهُ لتعليمه أستاذا وفى حل مشكلات الْعُلُوم ملاذا وَاعْتمد فى ذَلِك عَلَيْهِ وفوض أَمر قِرَاءَته اليه وأنزله وَأكْرم نزله وَرفع قدره بَين أقرانه وأجله فَأَقْرَأهُ قِرَاءَة من طب لمن حب وبذل فى ذَلِك جهده وأتى فى النصح بأقصى مَا عِنْده وَكَانَ لَهُ نفس مبارك فى الْقِرَاءَة والتعليم والتقرير والتفهيم وَلما اشْتهر فَضله وشاع كَمَاله ونبله تحاسدت عَلَيْهِ الْعُيُون والآذان وحقق الْخَبَر فى فضائله العيان حكى بعض الْفُضَلَاء انه لما بلغت شهرته الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْغنى قاضى العساكر وفاضل الرّوم ظن ان النَّاس يبالغون فى وَصفه فَطلب الِاجْتِمَاع من شَيْخه الْمشَار اليه فجَاء بِهِ فَلَمَّا ذاكره رَآهُ فَوق مَا وصف فَالْتَفت الى عبد الرَّحِيم وَقَالَ لَهُ سرا كنت أَظُنك فطنا فاذا أَنْت غبى وَسبب ذَلِك انك بالغت فى النصح مَعَ شخص يصير عَلَيْك نقمة لانه من آل حسن جَان وهم أولو المناصب الْعَالِيَة وَلَهُم الْغيرَة الْعَظِيمَة على طَرِيق أسلافهم وَقد وَقع مَا قَالَه فانه كَانَ سَببا لعزل الاستاذ عَن قَضَاء روم ايلى والفتيا ووليهما مَكَانَهُ وَحكى بَعضهم أَيْضا ان البهائى دخل الى مجْلِس ابْن عبد الْغنى الْمَذْكُور وَكَانَ عِنْده قاضى الْعَسْكَر صنوه فى الْفضل الْمولى مصطفى بن عزمى فتباحث الصدران الْمَذْكُورَان فى بحث مغلق فشاركهما البهائى مُشَاركَة جَيِّدَة فشهدا تفوقه على جَمِيع المخاديم من أهل بلدتهم وَلما حج أَبوهُ فى سنة خمس وَعشْرين وَألف حج فى خدمته ولازم من عَمه الاوسط شيخ الاسلام أسعد ونظم الشّعْر فى طَلِيعَة عمره وَحكى انه لما ابْتَدَأَ النّظم نظم ربَاعِية بالتركية ورفعها الى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا يطْلب مِنْهُ أَن يضع لَهُ مخلصا على عَادَتهم فَوضع لَهُ لفظ بهائى وَأفَاد أَنهم من نسل الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ بهاء الدّين نقشبند وَشعر البهائى فى الذرْوَة الْعليا من المتانة وَحسن التخيل والمضامين العجيبة لكنه قلق التراكيب يسْتَعْمل فِيهِ الالفاظ الغريبة وَلِهَذَا كَانَ يَقُول عَنهُ الْمولى يحيى الْمَذْكُور من أَرَادَ أَن يطالع شعر البهائى فليهيئ الْقَامُوس ولغة الدشيشة الفارسية ثمَّ ينظر فِيهِ وَلما شاع أمره أعْطى مدرسة بقسطنطينة وَلم يزل يدرس فى مدرسة اثر مدرسة حَتَّى وصل الى مدرسة شهرزاده فنظم قصيدة للسُّلْطَان مُرَاد وأوصلها اليه على يَد بعض أَرْكَان الدولة من المقربين فَوَقَعت من السُّلْطَان فى أتم موقع فَوجه اليه قَضَاء سلانيك ثمَّ نقل مِنْهَا الى حلب ثمَّ عزل مِنْهَا وَنفى الى جَزِيرَة قبرق فَأَقَامَ(4/3)
بهَا مُدَّة ثمَّ أُعِيد مكرما وَلما سَافر السُّلْطَان مُرَاد الى بَغْدَاد صَحبه فى خدمته وولاه فى الطَّرِيق قَضَاء الشأم وَذَلِكَ فى الْمحرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَقَالَ أَبُو بكر بن مَنْصُور الْعُمْرَى فى تَارِيخ قَضَائِهِ
(لَا تقل لى فى الْعدْل زيد وَعَمْرو ... وَخذ الصدْق بالْكلَام الْوَجِيز)
(انما الْعدْل يَا أَخا الْفَهم أرخ ... عدل هَذَا مُحَمَّد بن عَزِيز)
ثمَّ عزل عَنْهَا فى ذى الْقعدَة سنة خمسين ثمَّ ولى قَضَاء أدرنه وقسطنطينية وَقَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولى ثمَّ ترثى الى روم ايلى فى عشرى ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَخمسين وعزل ثمَّ أُعِيد فى ثامن من جُمَادَى الاولى سنة سبع وَخمسين ثمَّ ولى الافتاء فى ثامن رَجَب سنة تسع وَخمسين وَأنْشد والدى فِيهِ عِنْد ذكر تَوليته الافتاء
(زَان الرياسة وهى زين للورى ... فازداد رونق وَجههَا بعلائه)
(كالدر يحسن لطفه وبهاؤه ... فى لبة الْحَسْنَاء ضعف بهائه)
وارخ عَام فتواه ابْن عمى مُحَمَّد بن عبد الباقى القاضى الْمَار ذكره بقوله
(وَلما تولى مفتى الْعَصْر من غَدَتْ ... فضائله تسمو بغرب وتبريز)
(وشيد بَيت السعد أَرْكَان مجده ... فَسَاد بهاء بافتخار وتمييز)
(تباشرت الدُّنْيَا بفتواه فازدهت ... وأضحت بِهِ الايام عيدا كنوروز)
(هفا هَاتِف للبشر قَالَ مؤرخا ... فطوبى لفتوى الرّوم بِابْن عَزِيز)
ومدحه الامير بقصيدته البائية الَّتِى // لم يقل أَجود مِنْهَا وَلَا أحسن // ومستهلها
(يعد على أنفاسى ذنوبا ... اذا مَا قلت أفديه حبيبا)
(وَأبْعد مَا يكون الود مِنْهُ ... اذا مَا بَات من أمْلى قَرِيبا)
(حبيب كلما يلقاه صب ... يصير عَلَيْهِ من يهوى رقيبا)
(سقَاهُ الْحسن مَاء الدل حَتَّى ... من الكافور أَنْبَتَهُ قَضِيبًا)
(يعاف منَازِل العشاق كبرا ... وَلَو فرشت مسالكها قلوبا)
(فَلَو حمل النسيم اليه منى ... سَلاما رَاح يمنعهُ الهبوبا)
(أغار على الجفا مِنْهُ لغيرى ... فليت جفاه لى أضحى نَصِيبا)
(وأعشق أعين الرقباء فِيهِ ... وَلَو ملئت عيونهم عيوبا)
(لقد أَخذ الْهوى بزمام قلبى ... وصير دمع أجفانى جنيبا)
(وَمَا أملت فى أهلى نَصِيرًا ... فَكيف الْآن أطلبه غَرِيبا)(4/4)
(وأقصد أَن يُعِيد روا شبابى ... زمَان غادر الْولدَان شيبا)
(وَمَا خفيت على النَّاس حَتَّى ... أروم الْيَوْم من رخم حليبا)
(اذا ظن الذُّبَاب خشيت مِنْهُ ... لفقد مساعد يلفى مجيبا)
(وهب أَنى حكيت الشَّاة ضعفا ... فمالى أَحسب السنور ذيبا)
(عَسى يَوْمًا يراش جنَاح خطى ... فأغدو قَاصِدا شهما وهوبا)
(عَزِيزًا مستفادا من عَزِيز ... كورد أكسب الايام طيبا)
(لَئِن سعدت وَلَو فى النّوم عين ... برؤياه لتِلْك الْعين طُوبَى)
(وان ضن السَّحَاب فَلَا أبالى ... وفيض نداه قد أضحى سكوبا)
(وَهل أبغى وفى النادى سناه ... طُلُوع الشَّمْس أَو أخْشَى المغيبا)
(ظَفرت بمدحه فعلوت قدرا ... وسمانى الزَّمَان بِهِ أديبا)
(وغادر روض أفكارى جنيا ... وصير غُصْن آمالى رطيبا)
(اذا تليت مآثره بِأَرْض ... غَدا الْفلك الْمدَار بهَا طروبا)
قلت ولهذه القصيدة خبر عَجِيب أَحسب أَنى سمعته من فَم الامير وَذَلِكَ انه لما نظمها دَفعهَا لبَعض المتأدبين المقيمين بدار الْخلَافَة من أهل دمشق ليبيضها لَهُ بِخَطِّهِ وَكَانَ حسن الْخط فَأخذ نسختها وبيضها ونسبها لنَفسِهِ وَدفعهَا الى البهائى فأعجب بهَا ونالت ذَلِك الرجل شَفَاعَته عِنْد قاضى الْعَسْكَر بِمنْصب فَحصل على طول واشتهر بِحسن الشّعْر وَقبُول البهائى وَكَانَ بعض أَصْحَاب الامير وقف على جلية الامر وَذكره لَهُ وَأَرَادَ أَن يظْهر زيف الرجل فَأَعْرض عَنهُ الامير وَقَالَ لَا نخيب من توسل بِنَا فى حَال وللرجل نصيب ناله على يدنا فَالله يمتعه ويزيده وَهُوَ غَايَة فى مَكَارِم الاخلاق رَجَعَ ثمَّ عزل البهائى وَأمر بِالْمَسِيرِ الى بعض القصبات الْقَرِيبَة وأعيد ثَانِيًا فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وأرخ عوده الاديب يُوسُف البديعى بقوله
(تشيد الْمجد بالمعالى ... وَصَارَ فى الارض كالسماء)
(والدهر قد سر قَالَ أرخ ... فتواى عَادَتْ الى البهائى)
وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ رونق عُلَمَاء الدولة علما وكرما وسماحة ويحكى عَنهُ فى الْكَرم أَشْيَاء غَرِيبَة جدا مِنْهَا انه كَانَ يجود بِثَوْبِهِ الذى يستره كَمَا قيل وَقس عَلَيْهِ غَيره وَالْكَرم الى حد يذكر من قبيل الْمَعْدُوم فى الرّوم ولطف طبعه وظرفه مِمَّا يقْضى مِنْهُمَا بالعجب حَتَّى يرْوى أَنه كَانَ اذا جَاءَ رَمَضَان اسْتعْمل خادمين نَصْرَانِيين اشفاقا(4/5)
على خدمته الْمُسلمين من تأذيهم بِالْخدمَةِ من قبل أَن يستوعبوا المأكل وَالْمشْرَب وآلاتهما وَلم يكن فِيهِ عيب يسند اليه الا اسْتِعْمَاله المكيفات من الافيون والبرش ونوادره وأشعاره وآثاره كَثِيرَة وَلم أَقف لَهُ من آثاره الْعَرَبيَّة الاعلى مَا كتبه على نِسْبَة أدهمية يَقُول فِيهِ حمد الْمَنّ جعل الانتساب إِلَى بعض الانساب من واكد الْأَسْبَاب الناجحة فى انشاء ذخائر الْحَمد والثنا وأباح لاقدام المتشبثين بأذيالها موطئ الْعِزّ ومدارج الْعلَا وَنصب لَهُم سلما يرفعون فِيهِ الى سَمَاء السمو وفلك الارتقا
(مرابع قدس نالها كل أقدس ... سما من سما من نائليها الى السما)
وَصَلَاة وَسلَامًا على من بِهِ بدئت نُسْخَة الْجُود والعطا كَمَا بِهِ ختمت رسائل النُّبُوَّة والاصطفا وعَلى آله وَأَصْحَابه الكرماء النجبا وَبعد فَهَذِهِ شَجَرَة طيبَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السما تُؤْتى أكلهَا كل حِين بِأَمْر رَبهَا وتفوح من كل زهرَة مِنْهَا رَوَائِح كَأَنَّهَا نوافج النوافج حسنا وطيبا ويبدو من محاسنها مَا يخاله الانسان غصنا طيبا كَأَنَّهَا اتَّصَلت بأفواه عروقها عين الْحَيَاة اذا انسجمت عَلَيْهَا أذيال نفحات الْجنان بِتِلْكَ الْحَسَنَات يَا لَهَا من شَجَرَة زكية تسد عين الشَّمْس بأوراقها وتعطر أعماق الثرى بِطيب أعراقها ثَابِتَة فى تربة طالما ربت غصونا طاميات ودوحا ناميات من أَسْفَل سافلين الى أعلا عليين وجنة عالية قطوفها دانية وثمارها يانعة غير فانية تورد أخدُود خدودها حَيَاء وخجلاً حَيْثُ تشرفت بلثم انامل السَّيِّد الاجل ملك أقاليم الاطلاق على الاطلاق وَارِث أسرة مقامات الكمل بِالِاسْتِحْقَاقِ الذى أتحف الضرتين بِطَلَاق وَقَامَ فى مقَام الْجد على سَاق فطوبى لمن لَهُ نصيب فى تِلْكَ الشَّجَرَة الرفيعة الشان السامية الْمَكَان المورقة الاغصان المشرقة الانوار المزهرة الازهار اليانعة الاثمار طُوبَى لَهُ طُوبَى لَهُ كالشيخ الاجل والصاحب الامجد الاكمل فلَان فان فِيهِ مِمَّا يشْهد لَهُ أَلْسِنَة الاقلام من أجلة الْعلمَاء الاعلام بِصِحَّة هَذَا النّسَب الباذخ والحسب الْعَاطِس من انف شامخ دَلَائِل تدل على تلألؤ نور السِّيَادَة من غربَة وانبلاج صبح السَّعَادَة عَن مفرق طرته قَالَه بفمه وَكتبه بقلمه مُسْتَيْقنًا بِصِحَّة هَذَا النّسَب الاخطر وحاكما بهَا على مَا يُوجِبهُ الشَّرْع المطهر فلَان انْتهى وَسُئِلَ عَن صَاحب كتاب اخوان الصَّفَا وَحكم قرَاءَتهَا فَكتب أَنا الْفَقِير رَأَيْتهَا منسوبة للمجريطى وَمَا تحققت من هُوَ وَمَا(4/6)
أخباره وَحَاصِل تِلْكَ الرسائل لَيْسَ الا مَذْهَب الباطنية الاسماعيلية وهم على أنحاء شَتَّى ومعظم القَوْل فى هَذِه الشعبة من شِعْبهمْ تناسخ الارواح وادعاء حُلُول البارى جلّ وَعلا عَمَّا يَقُوله المبطلون فى الانبياء الْمَشْهُورين من آدم الى مُحَمَّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وفى أَئِمَّة آل الْبَيْت وَآخرهمْ المهدى ويعظمونه على الْجَمِيع والاسماعيلية يوافقون الامامية فى ذَلِك فى الصَّادِق وَمن قبله ويخالفونهم فى الكاظم وَيَقُولُونَ بامامة اسمعيل بن جَعْفَر الصَّادِق واليه ينسبون بالسبعية لقَولهم بسبعة أَئِمَّة وَمِمَّنْ ذمّ من يقْرَأ كتب اخوان الصَّفَا مُحَمَّد بن الْمحلى الطَّبِيب الْمَعْرُوف بالعنترى بقوله
(رسائل اخواننا فى الصَّفَا ... هم أَصْبحُوا كأفاعى الصَّفَا)
(اذا جئتهم لم تجدهم سوى ... أراقم من تَحت شوك السفا)
(عناصرهم كدارت الطباع ... وَمن كدر كَيفَ يُرْجَى الصَّفَا)
(وَكَانُوا ظباء الربى بالنقا ... فصاروا ذئاب الفضا بالفلا)
(طلبت فَلم أر مِنْهُم سوى ... عقارب فى منزل قد عَفا)
(تمرد كل امْرِئ مِنْهُم ... على الله مذ عبد القرقعا)
(لقد رسبوا فى بحار الْهوى ... فلست ترى مِنْهُم من طفا)
( ... وَمَا فى بنى آدم صَادِق ... يَدُوم على وده الوفا)
(خَلِيل صفا لَيْسَ فِيهِ قذا ... جواد جدير بِأَن يصطفى)
(سوى الْعقل عَن حكم بالنجاة يلقبهن وَكتب الشفا ... )
(سقى الله نفس الرئيس الذى ... هدَانَا من الْعقل غيث الْهدى)
(فَتلك مُقَدَّسَة بالجنان ... قد اتحدث بنفوس السما)
(فَلَا تفش لله سرا وَلَا ... تبث البرايا عُلُوم الحجى)
(فلولا الشَّرَائِع قيد النهى ... لضل الْمُهَيْمِن كل الورى)
(فان كنت متخذا صاحبا ... لدنياك فليك رب التقى)
(فَذَلِك خير من اللوذعى اللَّئِيم الطباع الْكثير المرا ... )
قلت وَرَأَيْت فى بعض المجاميع مِمَّا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الرسائل أَن الْوَزير صمصام الدولة ابْن عضد الدولة سَأَلَ أَبَا حَيَّان التوحيدى عَن زيد بن رِفَاعَة وَقَالَ لَا أَزَال أسمع عَن زيد مقَالا يريبنى ومذهبا لَا عهد لى بِهِ وَقد بلغنى أَنَّك تعاشره كثيرا وتجلس(4/7)
اليه وَعِنْده دَائِما وَمن طَالَتْ عشرته لانسان أمكنه اطِّلَاعه على مستكن رَأْيه فَقلت لَهُ أَيهَا الْوَزير هُنَاكَ ذكاء غَالب وذهن وقاد فَقَالَ فعلى هَذَا مَا مذْهبه قلت لَا ينْسب الى شئ لكنه أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ زَمَانا طَويلا وصادف بهَا جمَاعَة عِنْدهم أَصْنَاف الْعلم فصحبهم وخدمهم وَكَانَت هَذِه الْعِصَابَة قد تآلفت بِالْعشرَةِ وتصافت بالصداقة وَاجْتمعت على الْقُدس وَالطَّهَارَة والنصيحة فوضعوا بَينهم مذهبا زَعَمُوا انهم قربوا بِهِ الطَّرِيق الى الْفَوْز برضوان الله تَعَالَى وَذَلِكَ انهم قَالُوا ان الشَّرِيعَة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات وَلَا سَبِيل الى غسلهَا وتطهيرها الا بالفلسفة وَزَعَمُوا انه مَتى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة الْعَرَبيَّة فقد حصل الْكَمَال فصنفوا خمسين رِسَالَة فى خمسين نوعا من الْحِكْمَة ومقالة حادية وَخمسين جَامِعَة لانواع المقالات على طَرِيق الِاخْتِصَار والايجاز وسموها رسائل اخوان الصَّفَا وكتموا فِيهَا أَسْمَاءَهُم وبثوها فى الوراقين ووهبوها لاكثر النَّاس فحشوا هَذِه الرسائل بالكلمات الدِّينِيَّة والامثال الشَّرْعِيَّة والحروف المحتملة والطرق المموهة وهى محشوة من كل فن بِلَا اشباع وَلَا كِفَايَة وفيهَا خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات فتعبوا وَمَا طربوا وعنوا وَمَا أغنوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا فغلغلوا وَبِالْجُمْلَةِ فهى مقالات مشوقات غير مستقصاة والا ظَاهِرَة الادلة والاحتجاج وَلما كتم مصنفوها أَسْمَاءَهُم اخْتلف النَّاس فى الذى وَضعهَا فَكل قوم قَالُوا قولا بطرِيق الحدس والتخمين قوم قَالُوا هى من كَلَام بعض الائمة العلويين وَقَالَ آخَرُونَ هى تصنيف بعض متكلمى الْمُعْتَزلَة فى الْعَصْر الاول وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال انْتهى ثمَّ رَأَيْت ابْن حجر المكى ذكر فى فَتَاوِيهِ وَقد سُئِلَ من صَاحب رسائل اخوان الصَّفَا وَمَا تَرْجَمته وَمَا حَال كِتَابه فَأجَاب بقوله نَسَبهَا كثير الى جَعْفَر الصَّادِق وَهُوَ بَاطِل وانما الصَّوَاب أَن مؤلفها مسلمة بن أَحْمد بن قَاسم بن عبد الله المجريطى وَيُقَال المرجيطى ومجريط من قرى الاندلس ويكنى أَبَا الْقسم كَانَ جَامعا لعلوم الْحِكْمَة من الالهيات وطبائع الاحجار وخواص النَّبَات واليه انْتهى علم الْحِكْمَة بالاندلس وَعنهُ أَخذ حكماء ذَلِك الاقليم وَتوفى بهَا فى آخر جُمَادَى سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة وَمِمَّنْ ذكره ابْن بشكوال وَغَيره وَكتابه فِيهِ أَشْيَاء حكمِيَّة وفلسفية وشرعية وَمِمَّنْ شدد عَلَيْهِ ابْن تَيْمِية لكنه يفرط فى كَلَامه فَلَا تغتر بِجَمِيعِ مَا يَقُوله انْتهى وَكَانَت ولادَة البهائى فى سنة عشرَة وَألف وَتوفى فى ثَالِث عشر صفر سنة(4/8)
أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن قبالة دَاره فى تربة مَخْصُوصَة عمرها لنَفسِهِ بِالْقربِ من جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح من جِهَة قرمان الصَّغِيرَة وَقَالَ والدى يرثيه
(الرّوم قد محيت محَاسِن أُنْسُهَا ... وَغدا بهَا رسم الْعلَا كهباء)
( ... وتعطلت لما نأى ابْن عزيزها ... اذ لَا بهاء لَهَا بِغَيْر بهائى)
مُحَمَّد بن عبد الْعَلِيم بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى بكر بن على الاهدل وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة أَبى بكر بن أَبى الْقسم وَصَاحب التَّرْجَمَة هُوَ السَّيِّد الْجَلِيل لَهُ رياسة الحديدة الثغر الْمَشْهُور بِالْيمن وَكَانَ ذَا جاه وَمَكَارِم واخلاق رضية وَدُنْيا وَاسِعَة صحب السَّيِّد الطَّاهِر ابْن الْبَحْر وَكَانَت وَفَاته بالحديدة فى سنة سبع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة وَألف وَصلى عَلَيْهِ اماما بِالنَّاسِ السَّيِّد الطَّاهِر الْمَذْكُور
مُحَمَّد بن عبد الْغنى بن مير بادشاه الْمَعْرُوف بغنى زَاده وبنادرى نادرة الرّوم وقاضى الْعَسْكَر الْمَشْهُور فى الْآفَاق كَانَ من الْفضل فى أَعلَى ذرْوَة مِنْهُ وَهُوَ أشهر موالى الرّوم فى الذكاء والفطنة وَالنّظم والنثر وَبِالْجُمْلَةِ فهم ثَلَاثَة اجْتَمعُوا فى عصر وَاحِد من عُلَمَاء الرّوم لم يتَّفق نظيرهم فى عصر من العصور وهم حُسَيْن ابْن أخى وَصَاحب التَّرْجَمَة ابْن عزمى لَكِن صَاحب التَّرْجَمَة أطولهم باعا فى التَّحْقِيق ولطف الطَّبْع والاخذ من الْفُنُون بالنصيب الوافر مِمَّن تخرج بِهِ الشهَاب الخفاجى وَكَانَ لَا يَنْفَكّ عَن مَجْلِسه وَله من المؤلفات حَاشِيَة على تَفْسِير البيضاوى لم تتمّ وَكَلَامه فِيهَا يدل على تَحْقِيق عَظِيم وَله من الْآثَار الادبية تقريظ على كتاب فى الْفِقْه رَأَيْته بِخَط شقائق الادباء فكتبته هُنَا وَهُوَ لما نظرت فى هَذَا الْكتاب وجدته حديقة أنيقه شقائق حقائقها النعمانية لازهار الحدائق الجنانية شقيقه تأصل فِيهَا خلاف الائمة فَأخذ فى النما حَتَّى صَار شَجَرَة طيبَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السما امتدت أغصانه الْمُخْتَلفَة فى الْآفَاق فأظلت الآنام حَيْثُ ظلت ملتفة الاوراق وغردت ساجعات قلم الْفَتْوَى على مَا هُوَ الاصح من أغصانه والاقوى وَللَّه من غرسه فى مقَامه وأمده برشحات مراعف أقلامه جعل الله تَعَالَى سَعْيه مشكورا وصير عمله بِالْبرِّ الاخروى مبرورا وَكَانَ يرْمى بتعاطى المدام وَاتفقَ لَهُ من النكات البديعة ان أَحْمد باشا الْحَافِظ كَانَ حَاكم الْبَحْر فاجتمعا وتذاكرا شَيْئا من مبَاحث التَّفْسِير وَكَانَ ابْن عبد الْغنى اذ ذَاك مشتغلا بتحشية التَّفْسِير فَقَالَ لَهُ الْحَافِظ مَا كتبت على(4/9)
قَوْله تَعَالَى {يسئلونك عَن الْخمر وَالْميسر} فَقَالَ الْآن أَنا أكتب على قَوْله تَعَالَى {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر} وَحكى أَنه قَالَ لَهُ شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا بلغنى عَنْك انك تسْتَعْمل الْخمْرَة وتبعث بعض غلمانك الى الحانة ليأتيك بهَا وَهَذَا لَا يَلِيق بشأنك فَقَالَ أما الشَّأْن فلست فى شَأْنه وَأما قَوْلك انى أبْعث بعض غلمانى فَلَا كَانَ ذَلِك لَان الله جعل لى رجلَيْنِ فَأَنا أسعى الى الحانة وأشربها فى محلهَا وَهَذَا من بَاب الغلوقى المداعبة والا فقدره يجل عَن كل هَذَا وينقل عَنهُ فى هَذَا الْبَاب أَشْيَاء غَرِيبَة أخر ولعلها مصنوعة وَقد ولى مناصب عديدة مِنْهَا قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء العسكرين ولشعراء عصره فِيهِ مدائح كَثِيرَة ويعجبنى مِنْهَا قصيدة كَانَ أَحْمد ابْن شاهين الدمشقى مدحه بهَا وَهُوَ بالروم يهنيه بِقَضَاء الْعَسْكَر ومطلعها
(بِنَا مِنْك مَا بِالربعِ من وجد مغرم ... سوى أننا نشكوا وَلم يتَكَلَّم)
(شَكَوْنَا لَهُ وَهنا فظلت رِكَابنَا ... تميد بِنَا أكوارهن وترتمى)
(ورحنا نواليه بصوب غمامة ... من الدمع تغنى عَن سمال وزمزم)
(هى الدَّار دَار الْمَالِكِيَّة والهوى ... تجل بِأَن توطا بخف ومنسم)
(سقى الله أَيَّامًا صَحِبت بربعها ... جآذر بَانَتْ فى عرينة ضيغم)
(غرمت شبابى والشباب تعلة ... وَلَكِن من يشرب هوى الغيد يغرم)
(وَمَا الشيب شيب العارضين وانما ... هى النَّفس شابت بَين جنبى فَاعْلَم)
(هرمت وَلم يعل المشيب عوارضى ... وَلَكِن من يهجر وعيشك يهرم)
(على انها الايام تلعب بالفتى ... فتحزن مَسْرُورا وتلهو بمغرم)
(لحا الله ذى الدُّنْيَا حَدِيثا السامر ... ونصرا لمظلولم ويسرا لمعدم)
(طلبنا بهَا مقدارهمات صدرنا ... فضاقت كَمَا ضَاقَ الْبَخِيل بدرهم)
(وَلَو أَن كفى قد أميطت بهمتى ... لطال الى نيل السماكين معصمى)
يَقُول فى مديحها
(فيا عَالما فى ثَوْبه كل عَالم ... وَمَا الدَّهْر الا فى مقَام التَّعَلُّم)
( ... لِيهن قَضَاء الرّوم حِين وليته ... ببسطة علم مثل رَأْيك مُحكم)
(ويهن بنى الدُّنْيَا جَمِيعًا فلنهم ... لقوك وَقد وافوا لاعظم منعم)
(فَللَّه أَقْلَام بكفك أَصبَحت ... تجول بتفسير الْكتاب المكرم)
(وَللَّه هَذَا السعى اذ رحت منشيا ... لحاشية قد أوضحت كل مُبْهَم)(4/10)
(وأبرزت لِلْقُرْآنِ كل خُفْيَة ... ترد الى عقل رصين مُحكم)
(جبلتك العلياء وهى شريفة ... لآدَم بِاسْتِحْقَاق علمك تنتمى)
(فانت صفى جِئْت من خير صفوة ... كَأَنَّك من نور خلقت مجسم)
وَلها تَتِمَّة طَوِيلَة وَقد اكتفينا بزبدتها وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف
مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن أَبى بكر بن اسرائيل بن اسمعيل بن مُحَمَّد بن عمر الْيُمْنَى ذكره الشلى فى تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين وَقَالَ فى وَصفه الامام الْعَلامَة الذى ظهر شرفه وعلت غرفه وأنبأ عَن جَوْهَر كَلمه صدفه صنف عدَّة كتب فى فنون كَثِيرَة مِنْهَا تَفْسِير غَرِيب الْقُرْآن سَمَّاهُ شذور الابريز فى لُغَات الْكتاب الْعَزِيز وَهُوَ كتاب يعجز الواصفون عَن وصف جماله وتعشى الْعُيُون من شمس كَمَاله وَله رِسَالَة فى القهوة ورسالة فى علم المساحة سَمَّاهَا المشمة النفاحة بتحقيق المساحه جمع فِيهَا الْكثير المتفرق من الْكتب فى هَذَا الْفَنّ على أقصد سَبِيل وَأقرب مَأْخَذ وَله نظم حسن ورد على الشَّيْخ مُحَمَّد بن عمر بحرق فى قصيدة لَهُ فى السُّلْطَان بدر الْكثير فى قَوْله وكأنما أنصارك الانصار فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة أنقيس غفلا جَاهِلا بنبينا وَمن نظمه فى القهوة
(يَا شَاعِر افاق فى أَقْوَاله الشعرا ... أبدى لنا من قوافى نظمه دررا)
(أطربتنى اذ وصفت الْقَاف تتبعه ... هَاء وواو وهاء بعده زبرا)
(حققت فى وصفهَا وصفى كفى وَرقا ... بل قد شفى وجلا عَن قلبى الكدرا)
(فانها قُوَّة مهما حذفت لَهَا ... هَاء تبين ذَا من فى الانام قرا)
(لذاك ناسبها فى ذكرك اسْم قوى ... مُوَافقا عدهَا فاعدده واعتبرا)
(بقافها قويت أَعْضَاء كل فَتى ... وهاؤها لهدى وَالْوَاو مِنْهُ جرا)
(بَين الانام الوفا وَالْهَاء آخرهَا ... مِنْهُ الهبات وَهَذَا السِّرّ قد ظهرا)
(فَاشْرَبْ هَنِيئًا فَمَا فى ذَاك منقصة ... كلا وَلَا حُرْمَة تخشى بهَا ضَرَرا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء لثنتى عشرَة بقيت من رَجَب سنة خمس عشرَة وَألف وَدفن بروضة بنى اسرائيل
مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر المنعوت شمس الدّين الشهير بالحادى الصيداوى الشافعى مفتى صيدا الْفَاضِل الاديب الْمَشْهُور لَهُ ألحان الحادى بَين المراجع والبادى(4/11)
وَضعه على أسلوب الحان السواجع للصلاح الصفدى قَالَ فى خطبَته بعد أَن ذكر انه وقف على كتاب الصّلاح فتحركت القريحة لجمع مَا هُوَ كالشريد وان كَانَ بَين المقامين بون بعيد وَالْفضل للسابق على كل تَقْدِير وَأجر اللَّاحِق لَهُ من غير تقتير لَكِن الشَّيْخ صَلَاح الدّين افْتقر لذكر السواجع للالحان والحادى غنى بألحانه عَن تَحْرِيك الْعود من الاغصان وشتان بَين من يتَصَرَّف بأنواع فنون نغماته من الانسان وَبَين مغردة تفْتَقر فى تَحْرِيك ألحانها الى سُكُون فنن من الافنان قلت وَقد وقفت على هَذَا الْكتاب وطالعته مرَارًا فَلم أجد فِيهِ كَبِير فَائِدَة سوى انه ذكر مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم بالشأم مِنْهُم الشَّمْس بن المنقار وجدى القاضى محب الدّين والملا أَسد الدّين بن معِين الدّين التبر يزى وَالشَّمْس مُحَمَّد الداودى والشهاب العيثاوى وَالشَّمْس الميدانى وأضاف اليهم بعض أدباء راسلهم وراسلوه وَقد استوعبت شعره الذى ذكره فِيهِ فَلم أر لَهُ أَجود من قَوْله من قصيدة راسل بهَا الشَّيْخ الامام حسن جمال الدّين الصيداوى مستهلها
(اذا أنْكرت دَعْوَى الْمُحب شُهُوده ... فحسبى انى فى الغرام شهيده)
(فَللَّه شوقى لَا يقر قراره ... من الْبعد حَتَّى مَاله من يعودهُ)
(وَقد مله عواده وَهُوَ مدنف ... حَلِيف جوى صب الْفُؤَاد عميده)
(رعى الله أَيَّامًا تقضت بقربهم ... وَمن لى بِذَاكَ الْقرب من ذَا يُعِيدهُ)
(أيا عاذلى عَمَّن نعيمى وعده ... وحر جحيمى بعده ووعيده)
(وَلم يتلطف بالوصال لمغرم ... وَقد طَال مِنْهُ هجره وصدوده)
(فَهَذَا ملامى مسمعى لَا يُريدهُ ... وَهَذَا غرامى لَا أَزَال أروده)
(وان كَانَ دهرى قد يجور زَمَانه ... تخلصت مِنْهُ بالذى عَم جوده)
فَرَاجعه بقصيدة اخْتَرْت نسيبها ومبدؤها
(مَرِيض هواكم مله من يعودهُ ... فعصر التدانى مَاله من يُعِيدهُ)
(أقمتم على هجرى وانى على الولا ... مُقيم وعتدى كل آن مزيده)
(بِمَاذَا استبحتم ضرّ صب بحبكم ... غَدا عدما بَين الانام وجوده)
(كَسَاه النَّوَى ثوب اكتئاب وحسرة ... مدى الْعُمر لَا يبْلى لَدَيْهِ جديده)
(فان شئتمو عودوا على من غرامه ... قضى بعناه والدموع شُهُوده)
(وحاشاكمو أَن لَا تجودوا لطَالب ... الى نحوكم فى الدَّهْر سَارَتْ وفوده)(4/12)
(وَمَا هُوَ بَاقٍ مَا يُقيم على الذى ... عهدتم وَلَو زَالَت لديكم عهوده)
(فيا عاذلى مَا عَاد لى الْآن مسمع ... بِمَا نالنى وَالصَّبْر حلت عقوده)
(وَمَا أَنا مِمَّن قد شكى حكم دهره ... بضد الذى يَرْجُو بِهِ ويريده)
(وَقد حق شكرى حَيْثُ قد صَار مسكنا ... فؤادى لمولى أخجل اليم جوده)
وَذكر فى تَرْجَمَة شَيْخه الشَّمْس الداودى انه ختم عَلَيْهِ قِرَاءَة شرح الْمحلى على الْمِنْهَاج فَعمل دَعْوَة حضرها جمع من الْعلمَاء والادباء فَأَنْشد بَعضهم
(وَيَوْم قد قطعناه سعيد ... لجيد الدَّهْر قد أضحى محلى)
(بروض زَاهِر جنبات نهر ... ومأكول ومشروب محلى)
(قطعناه بقرآن وَذكر ... واخوان حووا أَسْنَى مَحل)
(وَكَانَ ختامه مسكا فَقَالُوا ... كَذَلِك فَلْيَكُن ختم الْمحلى)
وَكَانَ كثير النّظم وَله فى عمل الالغاز وحلها الْيَد الطُّولى وَمَتى كتب اليه شئ مِنْهَا حلّه فى وقته وَكتب الْجَواب وَكَانَ لطيف المحاضرة لذيذا الصُّحْبَة ممتع المؤانسة وَكَانَ رُؤَسَاء الشأم يميلون اليه جدا ويعدونه رَيْحَانَة الندماء ويعاشر مِنْهُم من تطيب عشرته وتلين قشرته وَلَهُم مَعَه نكات تجرى بَينهم ومقاصد لَا يغْضب مِنْهَا وَلَا يتألم وَلَو كَانَت سبا حكى انه دخل على بَعضهم وَكَانَت الْمِائَة الْعَاشِرَة تمت وَدخلت الْمِائَة الْحَادِيَة عشر فَقَالَ ذَلِك الرئيس قد خلصنا من الْقرن الْعَاشِر وَهَذَا الْقرن الحادى قد أقبل وَاتفقَ لَهُ انه اجْتمع عِنْده فى حجرَة لَهُ بِأحد مَسَاجِد صيدا عشرُون شخصا من أَصْحَابه فجَاء أحد الشُّعَرَاء مِمَّن كَانَ يألفهم فَلَمَّا وجدهم خرج وَكتب على بَاب الْحُجْرَة
(أحد وَعِشْرُونَ لقد جمعُوا ... كلهم فى خلْوَة الحادى)
(فقاتل الْعشْرين رب السما ... ولعنة الله على الحادى)
وَله لطائف من هَذَا الْبَاب كَثِيرَة فَمن ذَلِك مَا كتبه الى أَبى اللطف بن مُحَمَّد الخوجى يطْلب مِنْهُ شدا
(يَا أَبَا اللطف ان فَضلكُمْ ... لَيْسَ يُحْصى بِكَثْرَة الْعد)
(شدّ وسطى بِمَا ترى كرما ... وَلَا تماطل فكثرة الشد)
فسير لَهُ شدا وَأرْسل لَهُ هَذَا الْمَقْطُوع فى كتاب وَهُوَ قَوْله
(مقصد ذَا العَبْد من تفضلكم ... من دون من قبُول ذَا الشد)(4/13)
(قد سدت فضلا وشدت كل علا ... وَقد شددت الْقُلُوب بالود)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة صيدا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وصيدا مَعْرُوفَة وهى مَدِينَة بساحل الْبَحْر الرومى بَينهَا وَبَين دمشق سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا سميت بصيدون بن صدفا بن كنعان بن حام بن نوح النبى عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أول من عمرها وسكنها وَقَالَ فى الرَّوْض المعطار سميت بِامْرَأَة وَقِيَاس النِّسْبَة اليها صيداوى بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة كَمَا هى مَفْتُوحَة فى الْمُفْرد والعامة تكسرها فَكَسرهَا من غلط الْعَوام
مُحَمَّد حجازى بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الشهير بِابْن قضيب البان الحلبى الحنفى نقيب حلب كَانَ عَالما فَاضلا جسورا كثير الْعرْفَان فصيح اللِّسَان فى اللُّغَات الْعَرَبيَّة والفارسية والتركيه وَكَانَ ذَا همة عالية مغبوطه وَيَد لِلْخَيْرَاتِ مبسوطه ولى بعد أَبِيه نقابة الاشراف بحلب مُدَّة وقصدته النَّاس فى الْمُهِمَّات ثمَّ سلك طَرِيق الموالى وَوجه اليه قَضَاء أرِيحَا على طَرِيق التَّأْبِيد وَأعْطى رُتْبَة الْقُدس وَرَأس فى حلب وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره لَا بَأْس بِهِ فَمن ذَلِك من قصيدة يمدح بهَا البهائى الْمُفْتى الْمُقدم ذكره لما كَانَ قَاضِيا بحلب ومستهلها
(أَلا منجدا فى أَرض نجد من الوجد ... فَمَا عِنْد أهليها سوى لوعة تجدى)
(وقفت بهَا مستأنسا بظبائها ... كَمَا يأنس الصب المتيم بالوجد)
(أسائل عَمَّن حل بالجزع والحمى ... وَأنْشد عَمَّن جَازَ بالاجرع الْفَرد)
(خليلى ان الصَّدْر ضَاقَ عَن الجوى ... فَلَا تَعَجبا من طفرة النَّار فى الزند)
(قفى الْجِسْم من سعدى جروح من الاسى ... وفى الْقلب من أجفانها كل مَا عدى)
(بثغر يزِيد الوقد من خمرة اللمى ... وصدغ يثير الوجد من جَمْرَة الوجد)
(تقرب لى باللحظ مَا عز دركه ... وتنفر عمدا كى تصاد على عمد)
(تلاعب فى عقل الفحول بطرفها ... ملاعبة الاطفال من غرَّة المهد)
(رمت مهجتى أهدابها عَن تعمد ... نبالا فزادت من توقدها وقدى)
(دَنَوْت اليها وهى لم تدر مَا الْهوى ... وَمَا علمت مَا حل بى من هوى نجد)
(فَقلت أمالى من رضابك رشفة ... معللة أروى بهَا غلَّة الوجد)
(وَهل للتدانى سَاعَة أستمدها ... وأبذل فى انجاز وصلتها جهدى)
(فَقَالَت أما يَكْفِيك وعدى تعلة ... لقلبك فاقنع يَا أَخا الود بالوعد)(4/14)
(وَلَا ترج مهما تقصد النَّفس نيله ... فان الرزايا فى مُتَابعَة الْقَصْد)
(وَلَا تستمح من كل خدن وَصَاحب ... اخاء نقد يفضى الاخاء الى الزّهْد)
(فَمَا كل انسان ترَاهُ مهذبا ... وَلَا كل خل صَادِق الْوَعْد والعهد)
(وَلَا كل نجم يهتدى بضيائه ... وَلَا كل مَاء طيب الطّعْم والورد)
(وَلَا الْمسك فى كل المهاة مَحَله ... وَلَا ريح مَاء الْورْد من عاصر الْورْد)
(وَلَا فضل مَوْلَانَا البهائى مُحَمَّد ... كفضل الموالى السَّابِقين على حد)
وَقَوله من أُخْرَى فى مدح البهائى الْمَذْكُور
(قطب السَّمَاء هُوَ الطَّرِيق الاقصد ... دارت عَلَيْهِ نجومه والفرقد)
(والمشترى والزهرة الزهراء فى ... أوج السُّعُود هبوطها والمصعد)
( ... وَالشَّمْس مَا شرفت على أقرانها ... الا بنسبته اليها العسجد)
(وَالله لَا تحصى شؤون كَمَاله ... فالويل ثمَّ على الذى لَا يشْهد)
(وَلَقَد أَبيت الدَّهْر غير مغادر ... فى حَالَة مِنْهَا أقوم وأقعد)
(فَسَأَلته من بالحمى فأجابنى ... مفتى الانام أَبُو الْبَهَاء مُحَمَّد)
وَقَوله فى الصَّهْبَاء وتعليل نشأتها
(لَا ترض بالاضرار للنَّاس ... ان رمت أَن تنجو من الباس)
(وَانْظُر الى الْخمر وَمَا أوقعت ... فى شاربيها بعد ايناء)
(لما رَضوا فى دوسها عوقبوا ... بضربة مِنْهَا على الراس)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته بِمَكَّة المكرمة سنة احدى بعد الالف وَتوفى بحلب فى صفر سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف
مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد محب الدّين بن أَبى بكر تقى الدّين ابْن عمر أَبى المحبى الخلوتى الدمشقى الحنفى الْمَعْرُوف بشقير كَانَ من الْفُضَلَاء الْمشَار اليهم بالنباهة والبراعة وَكَانَ قوى الحافظة للمسائل وَالشعر والاخبار حسن الصُّحْبَة كثير الْعِبَادَة والمطالعة لكتب التَّفْسِير والتصوف وَله رسائل وتحريرات على مَوَاطِن من التَّفْسِير لَطِيفَة قَرَأَ على الشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وعَلى الْمُفْتى فضل الله بن عِيسَى البوسترى وَالْمولى يُوسُف بن أَبى الْفَتْح وَأخذ عَن جمَاعَة كثيرين مِنْهُم العمادى الْمُفْتى والنجم الغزى وَالْفَتْح البيلونى وَالشَّيْخ على القبردى الصالحى وَلزِمَ الشَّيْخ أَحْمد العسالى وَأخذ عَنهُ طَرِيق الخلوتية وداوم على قِرَاءَة الاوراد وَدخل مَعَه(4/15)
الْخلْوَة مَرَّات عديدة وسافر الى الْقُدس والقاهرة وَحج من طَرِيق مصر فى صُحْبَة الامير رضوَان أَمِير الْحَاج المصرى وَحكى عَن نَفسه مَرَّات انه من حِين خرج من مصر فى صحبته الى ان عَاد اليها لم يصرف سوى قِرْش وَاحِد وهبه للجمال وَسَببه محبَّة الامير الْمَذْكُور لَهُ وتقيده بِهِ ثمَّ قدم الى دمشق وَأقَام بخلوة لَهُ فى مدرسة الكلاسة وعمرها عمَارَة فائقة وحببت اليه الْعُزْلَة وَاسْتمرّ عمره كُله مُجَردا وَكَانَ سمته غَرِيبا لَا يشبه أحدا وَكَانَ نديم الرؤساء والكبراء يحاضرهم أحسن محاضرة ويورد النكات البديعة والاشعار اللطيفة وَيحسن اللُّغَة التركية جدا وَكَانَ مغرما بالجمال وَمضى عمره كُله فى نشاط وسرور فَلم ير الا مَسْرُورا مُتَبَسِّمًا وَكَانَ سخيا متعبدا يَصُوم غَالب الايام وَله شعر كثير فى لِسَان الْقَوْم وَبَينه وَبَين أدباء عصره مراسلات من ذَلِك مَا كتبه الى الاديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمى ملغزا فى غزال
(نراجع فى الْفضل أهل الْكَلَام ... ونأخذ عَن كل حبر همام)
(ونسأل من ساحة الاكرمين ... ونخضع للمجد لَا للانام)
(فنتبع من رفعته النُّفُوس ... ونترك من قَدمته اللئام)
( ... فأختار طورا زَوَايَا الخمول ... وطورا أحب الامور الْعِظَام)
(ترانى على كل حَال أرى ... أَسِير الْهوى ومليك الغرام)
(وَمَا جرعة الْحبّ الا الْمنون ... وَمَا لوعة الهجر الا الهيام)
(وَمَا رَاحَة الْعِشْق الا العنا ... وَلَا صِحَة الصب الا السقام)
(ولى حسرة بعد أُخْرَى لَهَا ... زفير وَلَيْسَ لَهُ انحسام)
(يذيب الحشا ويثير الشجون ... بِنَار غَدا وقدها كالضرام)
(وَهل للهوى غير من ذاقه ... فنشكو لَهُ مر سمع الملام)
(وَلَا كل من غاص بَحر الْهوى ... حوى من جواهره باغتنام)
(وَلَا كل من قد سما فى الْعُلُوم ... يُقرر مشكلها عَن امام)
(فَذَاك هُوَ النّدب بدر الْعُلُوم ... وَمن نوره لم يزل فى التَّمام)
( ... كخلى الكريمى من فَضله ... تلفعه يافعا باهتمام)
(مهذب أَخْلَاق أهل الوفا ... حفيظ لعهد التقى والذمام)
( ... وجامع آدَاب أهل النهى ... وبانى بيُوت المعالى الفخام)
( ... وفى كل فن ترَاهُ لَهُ ... نصيب وحظ أَبى الانقسام)(4/16)
(فيوضح من مشكلات الْعُلُوم ... بفكر خلا ضوءه عَن ظلام)
(فنظم القريض يرى دونه ... عصامى طبع شرِيف الْمقَام)
(يشابه للدر فى سلكه ... ويحوى اشارات طعن السِّهَام)
(فَلَو رام سحبان أَلْفَاظه ... لقصر فى رقة الانسجام)
( ... ويهفو جرير لتقبيلها ... ويعجز عَن مثلهَا فى النظام)
(فيأيها الخدن شمس العلى ... وجرثومة الْفَخر نسل الْكِرَام)
(فَمَا اسْم رباعى اذا مَا بدا ... فنعتا يرى فى مجَاز الْكَلَام)
(فآونة تلقه فى الْعلَا ... وفى الارض طورا بحول الاكام)
(ثَلَاثَة أَرْبَاعه ان قلبت ... هى اسْم لما بدؤه فى انعدام)
(وان لم ترد قصد تقليبها ... فَمَعْنَاه فى الْحَرْب بادى اللثام)
(وَأَيْضًا يرادف معنى الذّهاب ... اذا كَانَ عَن بدئه فى انفصام)
(وَنصف لَهُ بعد تصحيفه ... حرى بِهِ من لَهُ احترام)
(وَبَاقِيه بِالْقَلْبِ لَا يقتضى ... لاثبات شئ وَأمر يرام)
(فأنعم بِحل رموزى الَّتِى ... لَهَا الْفِكر فى حيرة واصطلام)
(وألغز لنا مَا بدا فى الْجَواب ... وَبَين لنا قصدنا والمرام)
(وَدم وابق فى سودد سرمدا ... مدى الدَّهْر مَا ناح ورق الْحمام)
فَأَجَابَهُ بقوله
(أَزْهَر الربى كللته الْغَمَام ... أم الزهر ساطعة فى الظلام)
(وَهل مَا أرى حببا رائقا ... بكاس طلا حسن الانتظام)
(أم الْبَرْق ام دُرَر نظمت ... أم افتر ثغرك عِنْد ابتسام)
(أيا بدر تمّ غرامى بِهِ ... قديم أكيد وَحقّ الغرام)
(وَيَا ريم أنس لجراه لم ... يعد لى سوى سقمى من مرام)
(يمانى لحظك هلا نبا ... وخطى قدك هلا استقام)
(وَيَا ممرض الْقلب من هجره ... وبالجسم يَا مورثا للسقام)
(وَيَا تاركى مثلا فى الْهوى ... أفديك جد وارع لى فى الذمام)
(رَضِينَا الْهوى حَاكما بَيْننَا ... أحل من المغرم الانتقام)
(وجد بالنهى شرطا أَحْكَامه ... وأى حجى كَانَ للمستهام)(4/17)
(أخى لظمك العذب هاج الجوى ... الْقَدِيم وذكرنى بالهيام)
(وَلم أنس قطّ ولكنما ... التَّذَكُّر يذكى خفى الضرام)
(فدار الْهوى مانحاها مزاج ... عليل كجسمى الا استقام)
(سَقَاهَا الرِّضَا من ربوع غَدا ... خلال خباها لغيرى حرَام)
(مغانى المنا وديار الشفا ... ومأوى الْغَرِيب وَدَار السَّلَام)
(لقد رمت اِدَّرَكَ فى وصفهَا ... مدى عاقنى عَنهُ شيق الْمقَام)
(وحلى امتثالا للغز حوى ... قوافى رقت وَحسن انسجام)
(لخدنى الذى فَضله شَامِل ... وبادلنا بَين خَاص وعام)
(محبى نجار وحبى لَهُ ... بِصدق لفضل لَهُ مَعَ نظام)
(أَبُو الْفضل حاوى الْعلَا ماجد ... وَندب أهالى الْعُلُوم الْكِرَام)
(وَذُو الادب الرَّائِق المشتهى ... وَبَين ذويه أَمِير الْكَلَام)
(وحاوى الْفَضَائِل والمكرمات ... وَمن هُوَ فى كل فن امام)
(بهرت بلغزك عقلى وَكم ... فَتى فِيهِ مثل مُسَمَّاهُ هام)
(قريب بعيد تحار الْعُقُول ... بِهِ وحلال وفاه حرَام)
(هُوَ الشَّمْس للعين من حسنه ... ضِيَاء اذا مَا المذاق استقام)
(رباعى حُرُوف ومنطوقها ... مَعَ اثْنَيْنِ عشر حُرُوف تَمام)
(ثَلَاثَة أَرْبَاعه فعله ... بِعَيْنيهِ فى المغرم المستهام)
(بِغَيْر استوا قلب أَرْبَاعه الثَّلَاثَة مَا قلت يَا ابْن الْهمام ... )
(وَزَالَ يرادف معنى الذّهاب ... مرَادا بِهِ وصف نفى المرام)
(وان حرف النّصْف مِنْهُ يعد مصحفه الْعِزّ والاحتشام)
(وَلَا قلب بَاقِيه يَا سيدى ... نعم وسلمت لنا وَالسَّلَام)
(وَهَذَا هُوَ الْجهد فى حل مَا ... أمرت والا فيأتى الْكَلَام)
(بقيت مُفِيد لنا دَائِما ... فرائد باهرة الانتظام)
(مدى الدَّهْر مَا نفرائريم عَن ... متيمه ناقضا للذمام)
وَكَانَت ولادَة صَاحب التَّرْجَمَة فى سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَتوفى فى صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن على أَبِيه بمقبرته الَّتِى أَنْشَأَهَا بِالْقربِ من جَامع جراح
مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد الْخَطِيب بن مُحَمَّد الْخَطِيب ابْن ابراهيم الْخَطِيب ابْن مُحَمَّد(4/18)
الْخَطِيب التمرتاشى الغزى الحنفى الْمَذْهَب رَأس الْفُقَهَاء فى عصره كَانَ امام فَاضلا كَبِيرا حسن السمت جميل الطَّرِيقَة قوى الحافظة كثير الِاطِّلَاع وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يبْق فى آخر أمره من يُسَاوِيه فى الدرجَة أَخذ بِبَلَدِهِ أَنْوَاع الْفُنُون عَن الشَّمْس مُحَمَّد بن المشرقى الغزى مفتى الشَّافِعِيَّة بغزة ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة أَربع مَرَّات آخرهَا فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وتفقه بهَا على الشَّيْخ الامام زين بن نجيم صَاحب الْبَحْر والامام الْكَبِير أَمِين الدّين بن عبد العال وَأخذ عَن الْمولى على بن الحنائى قاضى الْقُضَاة بِمصْر وَرجع الى بَلَده وَقد رَأس فى الْعُلُوم وقصده النَّاس للْفَتْوَى وَألف التآليف العجيبة المتقنة مِنْهَا كِتَابَة تنوير الابصار وَهُوَ متن فى الْفِقْه جليل الْمِقْدَار جم الْفَائِدَة دقق فى مسَائِله كل التدقيق ورزق فِيهِ السعد فاشتهر فى الافاق وَشَرحه هُوَ الشَّرْح الْمُسَمّى بمنح الْغفار وَهُوَ من أَنْفَع كتب الْمَذْهَب واعتنى بشرحه جمَاعَة مِنْهُم الْعَلَاء الحصكفى مفتى الشأم والملاحين بن اسكندر الرومى نزيل دمشق وَالشَّيْخ عبد الرَّزَّاق مدرس الناصرية الجوانية بِدِمَشْق وَكتب عَلَيْهِ شيخ الاسلام بالديار الرومية وَهُوَ الْمولى مُحَمَّد الانكروى كتابات فى غَايَة التَّحْرِير والنفع وَكتب على شرح مُؤَلفه شيخ الاسلام خير الدّين الرملى حواشى مفيدة وَله من التآليف فى الْفِقْه شرح الْكَنْز وصل فِيهِ الى كتاب الايمان وَقطعَة من شرح الْوِقَايَة وحاشية على الدُّرَر وَالْغرر وصل فِيهَا الى نِهَايَة كتاب الْحَج وَله منظومة وَشَرحهَا وَكتاب معِين الْمُفْتى على جَوَاب المستفتى فى مُجَلد كَبِير وَجَمِيع مجلدين من فَتَاوِيهِ وَله رسائل كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة فى خَصَائِص الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ ورسالة فى بَيَان جَوَاز الاستبانة فى الْخطْبَة وَكتاب مسعف الْحُكَّام على الاحكام ورسالة فى بَيَان أَحْكَام الْقِرَاءَة خلف الامام ورسالة النفائس فى أَحْكَام الْكَنَائِس ورسالة فى عصمَة الانبياء ورسالة فى دُخُول الْحمام ورسالة فى التجويز ورسالة فى مسح الْخُفَّيْنِ ورسالة فى النُّقُود ورسالة فى أَحْكَام الدروز والارفاض وَكتاب شرح مشكلات وَردت عَلَيْهِ من الْفُرُوع والاصول لَهُ فى الاصول كتاب الْوُصُول الى قَوَاعِد الاصول وَقطعَة من شرح الْمنَار الى بَاب السّنة وَشرح مُخْتَصر الْمنَار فى مُجَلد وفى الْكَلَام شرح اللامية يَقُول العَبْد وَشرح زَاد الْفَقِير للكمال بن الْهمام سَمَّاهُ اعانة الحقير ومنظومة فى التَّوْحِيد وَشَرحهَا وَله رِسَالَة فى التصوف ورسالة فى علم الصّرْف وَكتاب شرح العوامل فى النَّحْو وَقطعَة من شرح الْقطر وصل فِيهِ(4/19)
الى اعمال اسْم الْفَاعِل وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم ولداه صَالح ومحفوظ والشيخان الامامان أَحْمد وَمُحَمّد ابْنا عمار وَمن أهالى الْقُدس الْبُرْهَان الفتيانى الْمُؤلف وَالشَّيْخ عبد الْغفار العجمة وَغَيرهم وَذكره جدى القاضى محب الدّين فى رحلته الى مصر وَوَصفه بأوصاف جليلة وَذكر مَا وَقع بَينهمَا من المحاضرة قَالَ ثمَّ اتسعت مَعَه دَائِرَة المخاطبة واستطرد القَوْل بطرِيق الْمُنَاسبَة الى ذكر رحلته الى بَلْدَتنَا حماة المحروسة وتغزل لنا بِوَصْف مَا فِيهَا من تِلْكَ الاماكن المأنوسة ثمَّ سألنى عَمَّن يعهده فِيهَا من أفاضل الاصحاب فَكَانَ سَائل دمع مقلتى الْجَواب ثمَّ حَدثنَا بِكَثِير من حسن المحاضرات ولطيف المحاورات الَّتِى كَانَت تصدر بَينه وَبَين فاضلها المرحوم سيدى الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشَّيْخ علوان وَكَانَ يتعجب من فَصَاحَته وبلاغته الَّتِى حارت فِيهَا الْعُقُول والاذهان ويمدح فضائله وفواضله الغزار وَيذكر صفاء الْعَيْش الذى قَضَاهُ فى صحبته فى تِلْكَ الديار انْتهى وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر رَجَب سنة أَربع بعد الالف عَن خمس وَسِتِّينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الله بن شيخ بن الشَّيْخ عبد الله العيدرورس الحضرمى أحد الاولياء الْكِبَار ذكره الشلى فى تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين وَقَالَ ولد فى مَدِينَة تريم فى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَظَهَرت عَلَيْهِ لوايح الْفَلاح فسلك طَرِيق الاقدمين ولازم التَّقْوَى وَكَانَ كثير الصَّلَاة وَالْعِبَادَة مخلصا فى أَعماله حَافِظًا لِسَانه وَكَانَ مُعظما عِنْد الْمُلُوك والامرا مكرما مُحْتَرما عِنْد الاغنياء والفقرا وانتفع بِهِ الْخَاصَّة والعامه واشتهر بِالْولَايَةِ التَّامَّة وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس بعد الالف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الله بن الامام شرف الدّين من أَعْيَان مُلُوك كوكبان الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ نَشأ فى حجر الْخلَافَة والامامة ودرج فى حجرات الْعلم والورع وَطلب الْعلم عَن جهد وجد حَتَّى انْتهى الى أقْصَى غَايَة وجد لم يزل لاهجا بطلابه مغرى باكتسابه حَتَّى الْحق الاصاغر بالاكابر وَغدا كل كَبِير لَهُ صاغر وَعقد عَلَيْهِ عِنْد ذكر الْعلمَاء بالخناصر فَمَا من فن من الْفُنُون الا وَقد بلغ غَايَته القصوى وفاز بقدحه الْمُعَلَّى ذكره السَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن حميد الدّين فى كِتَابه ترويح المشوق فَقَالَ هُوَ الْعَلامَة الذى يسْتَغْرق مدحه الْكَلَام وتحفى فى قطع مَسَافَة أوراقه جاريات الاقلام وتطأطئ البلغاء رُؤْسهمْ عِنْد سَمَاعه ان نظم قَالَ النظام لَا محَالة ان جَوْهَر(4/20)
عقدك الْفَرد أَو نثر قَالَ الْفَاضِل انت ملك الْكَلَام ومولاه وَأَنا العَبْد أوجد قَالَ المزاح رعتنى بجدك وَقَالَ القاضى السعيد مَا أرى السعد الا بجدك وَجدك وَمَا هُوَ الا سُورَة النُّور فى الشعرا وَالْآيَة الْبَيِّنَة الَّتِى حام الافاضل يتلونها زمرا وَقد تتبع سيدى عِيسَى بن لطف الله تقاصير نظمه الذى يطْرَح عِنْده شعر ابْن مطروح ونظمها فى أحسن سلك وَهل يقوم جسم الفصاحة الا بِالروحِ رحم الله وَجهه ونضره والى سَبِيل الْجنَّة يسره فَمِنْهَا
(يَا رَاقِد اللَّيْل لم يشْعر بِمن سهرا ... أَسهرت عينى فعينى لَا تذوق كرا)
(تنام عَنى وأجفانى مؤرقة ... عبراء مَا مرها نوم وَلَا عبرا)
(سلبت عقلى وأودعت الْهوى كبدى ... يَا منيتى وملكت السّمع والبصرا)
(فأنثنى وَاضِعا كفاعلى كبد ... حرا وكفا يكف الدمع حِين جرى)
(يدنى لى الْوَهم غصنا مِنْك أعشقه ... حَتَّى أكاد أناجيه اذا خطرا)
(وَأَرْفَع الْكَفّ أَشْكُو مَا أكابده ... أَقُول أَنْت بحالى يَا عليم ترا)
(ادعو اذى جننى ليل ولى مقل ... تفيض دمعا وقلب ذاب واستعرا)
(لَا واخذ الله من اهوى بجفوته ... وَلَا ملا مثل قلبى قلبه شررا)
(وَلَا ثناه الْهوى وجدا وَلَا اكتحلت ... عَيناهُ مثل عيونى فى الدجا سهرا)
(رق النسيم لتبريح الصبابة بى ... لما انثنى ذيله من أدمعى خضرًا)
(والبرق شقّ جُيُوب السحب عَن كبدى ... والرعد حن وأبكى دمعى المطرا)
(يَا صاحبى ان لى سرا أكاتمه ... أخفيته من نسيم الرّيح حِين سرا)
(ان كنت تضمن لى أَن لاتبوح بِهِ ... سَمِعت من سرى الْمكنون مَا استترا)
(غزيل الْحلَّة الفيحاء أرشقنى ... من لَحْظَة بسهام راشها وَبرا)
(رمانى الرَّمية الاولى فَقلت بِلَا ... عمد رمانى فأصمانى وَمَا شعرًا)
(وَحين فَوق لى سهميه ثَانِيه ... بَكَيْت نفسى واستبكيت من حضرا)
هَذَا من قَول مهيار
(رمى الرَّمية الاولى فَقلت مجرب ... وكررها أُخْرَى فأحسست يَا لشر)
(بَكَيْت نفسى لعلمى أَن مقلته ... لَا يقتلنى ظلما وسوف ترى)
(ممتع الْوَصْل لَا يُرْجَى تواصله ... لوزاره الصب فى طيف لما صَدرا)
(لَا تَسْتَطِيع صبا نجد اذا خطرت ... تهدى الى الصب من أكافه خَبرا)(4/21)
(ربيب ملك كَانَ الله صوره ... ملكا وخيره بَين الورى الصورا)
(مهفهف الْقد لَا يطفى لظى كبدى ... الا ارتشا فى لماه الْبَارِد العطرا)
(أغن يكسر جفنيه على حور ... يذيب نفسى ونفسى تعشق الحورا)
(بدر على غُصْن بَان فى محبته ... أكاد أعشق غُصْن البان والقمرا)
(أقبل الدّرّ من عشقى لمبسمه ... لما رَأَيْت ثنايا ثغره دررا)
(عَلَيْهِ كل هِلَال ينحنى أسفا ... وكل بدر حَيا من وَجهه استترا)
(والنرجس الغض غض الطّرف حِين رنا ... واحمر ورد الربى من خَدّه خضرًا)
(ذكرته حِين فاحت لى معنبرة ... ريح الصِّبَا وسرى لى سرها سحرًا)
(يأيها الْقَمَر السارى اذا خطرت ... اليك عَيناهُ واستحل بك السمرا)
(أبلغه يَا بدر قل مضناك أودعنى ... أهْدى اليك سَلاما طيبا عطرا)
(يمسى سميرى ويبكى من صبابته ... شوقا اليك ويرعى الانجم الزهرا)
(عَسى أَخُوك اذا أخْبرته خبرى ... يرثى لحالى فحالى شجو من نظرا)
وَله سامحه الله تَعَالَى
(نسمات النسيم من نعْمَان ... وابتسام الوميض باللمعان)
(سعرا نَار مهجتى وأنارا ... شجو قلبى وهيجا أشجانى)
(ذكرانى بعصر وصل تقضى ... آه لهفى لفوت مَا ذكرانى)
(هَا شبابى مضى وَمَا نلْت وصلا ... أَيْن منى شباب عمر ثانى)
(يَا خليلى خليانى فَمَا بى ... من غرام أذاب قلبى كفانى)
(لَا تحلا باللوم عقد عهودى ... واعذرانى بِاللَّه أَو فاعذلانى)
(فبسمعى من ذَلِك اللوم وقر ... قد أجبْت الغرام لما دعانى)
(قسما بِالْحَطِيمِ وَالْحجر وَالْبَيْت الْعَظِيم الْمقبل الاركان ... )
(وبمن حل عقد عهدى وَمن قد ... حل منى هَوَاهُ كل مَكَان)
(وبعصر الشَّبَاب عذر التصابى ... وعفافى اذا وصلت الغوانى)
(وبعصيانى الملام مُطيعًا ... لغرامى وَهَذِه أيمانى)
(اننى قد حملت من مثقلات الصد مَالا يطيقه الثَّقَلَان ... )
(يَا مرِيدا لسلوتى كف عَنى ... فَعَن الْحبّ لَيْسَ يثنى عنانى)(4/22)
(انا حلف الْهوى رَضِيع الصبابات حلف الغرام والأشجان ... )
(بَين قلبى وسلوتى مثل مَا بَين حسان الْوُجُوه والاحسان ... )
(فاسترح عاذلى ودعنى أعانى ... من تباريح لوعتى مَا أعانى)
(لَا تلمسنى وَمثل نَفسك عاملنى فان الانسان كالانسان ... )
(أَنْت بدرى وان تجاهلت مَا يفعل وجد بذى هوى ولهان ... )
(لست لَا والغرام تجْهَل شَأْنًا ... لمحب وان تجاهلت شانى)
(أَنْت اما مغالط لى والا ... فغيور أَو حَاسِد أَو شانى)
وَمن // جيد شعره // قَوْله
(يَا طلعة الْبَدْر فى ديجور اغلاس ... وَيَا هلالا على غُصْن من الآس)
(يَا من كتمت الْهوى صونا لَهُ فاذا ... فاهوا بِذكر اسْمه غالطت جلاسى)
(يَا من اذا ضربت فى حبه عنقى ... مَا مَال الا اليه مسرعا راسى)
(يَا منية الْقلب مَا عَنى أَتَاك فقد ... أوحشتنى يَا حبيبى بعد ايناس)
(فقد أتانى حَدِيث مِنْك آربنى ... وَزَاد وَالله من همى ووسواسى)
(أذاب نفسى مِمَّا جَاءَ مِنْك فَلَو ... لَا أدمعى أحرقتنى نَار أنفاسى)
(وَحين عَايَنت صبرى عَنْك مُمْتَنعا ... وَبت أتضرب أَخْمَاسًا بأسداس)
(كتبت وَالِد مَعَ يمحو مَا تخط يدى ... حَتَّى بَكت لى اقلامى وقرطاسى)
(فاعطف على مستهام عاشق دنف ... بَين الرَّجَاء لطيف مِنْك والياس)
(مَاذَا الصدود الذى مَا كنت آنفة ... مَتى يلين لما بى قَلْبك القاسى)
(لَو ان لى سَاعَة أَشْكُو عَلَيْك بهَا ... حالى وَقد نَام حسادى وحراسى)
(مالى أملك نفسى من يعذبها ... بالصد عَنى ومالى أذكر النَّاس)
(يَا نَاس هَل لى مجير من هوى رشأ ... مهفهف كقضيب البان مياس)
(أذاب قلبى وسل النّوم من مقلى ... بفاتن فاتر الاجفان نُعَاس)
(من لى بزورته جنح الظلام وَقد ... غَابَ الرَّقِيب ونامت أعين النَّاس)
(أَمْسَى أعانقه ضما الى كبدى ... مَا فى العناق وَمَا فى الضَّم من باس)
(وأنثنى عِنْد رشفى خمر مبسمه ... شكرا وأسكر من مَا رِيقه الكاسى)
(عَسى الذى قد قضى بالحب يجمعنا ... يَا طلعة الْبَدْر فى ديجور أغلاس)
وَقَوله
(نفسى الْفِدَاء لشادن ... مر الجفا حُلْو المراشف)(4/23)
(قاسى الْفُؤَاد أعَار أَغْصَان النقالين المعاطف ... )
(لهبت بِنَار صدوده ... كبدى ودمع الْعين ذارف)
(وممتع كالغصن دون لِقَائِه خوض المتالف ... )
(من وَصله وصدوده ... أَنا دَائِما راج وخائف)
(فعلت بِنَا ألحاظه ... مَا تفعل الاسد الرواعف)
(متجاهل عَمَّا يقاسى فِيهِ قلبى وَهُوَ عَارِف ... )
وَله غير ذَلِك مِمَّا يروق ويشوق وَكَانَت وَفَاته فى جُمَادَى الاولى سنة عشرَة بعد الالف
مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الرؤف المكى أحد الْفُضَلَاء الاذكياء والادباء الالباء وَمِمَّنْ نَشأ فى طَاعَة الله ولازم تقواه واشتغل بِمَا يعنيه من أموردينه ودنياه وجد فى طلب الْعلم النافع فَأدْرك مَا لم يُدْرِكهُ الْكِبَار وَهُوَ يافع وَأخذ عَن كثيرين مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن سعيد باقشير وَصَحب السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس الْخِرْقَة ولازمه واختص بِهِ وَفتح الله عَلَيْهِ بفتوحاته السّنيَّة الا انه لم تطل حَيَاته فاخترمته الْمنية فى شبابه وَهُوَ وَالِد الشَّيْخ عبد الرؤف الْمَوْجُود الْآن وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله يمدح السَّيِّد أَبَا بكر بن شَيْخه السَّيِّد سَالم الْمَذْكُور وَيُشِير الى ثُبُوته على حَلقَة الذّكر الَّتِى كَانَ يعقدها وَالِده فى الْمَسْجِد الْحَرَام وَمنعه من أَرَادَ أَن يتَعَدَّى بِمَنْعه مِنْهَا فى الْمَسْجِد وَنَصره الله على أعدائه
(سلوا عَن فؤادى فى الْهوى كل شائق ... وَعَن شوق كلى للوى كل سائق)
(وكل فَتى قد نَالَ منى صبَابَة ... وَلَا مَال عَن نهجى وَلَا بمقارقى)
(يخال بِأَن الْحبّ لم يبْق من ضنى ... بقا يَا للقيا أَو لرؤيا المفارق)
(صَبَّابًا لصبا قد مالكم فى صبَابَة ... فَهَل مثله صب وَذُو قلب خافق)
(وَمن حب ليلى ثمَّ هِنْد وَزَيْنَب ... وَرَافِع دعد ذى المواضى الهوارق)
(اذا لَاحَ من تِلْكَ الثنايا بويرق ... ثنتنا المنايا وافنتنا بطالق)
(وان لَاحَ فى شَرق بريق شروقها ... وجادت بريق من وميض البوارق)
(فانى الصد الصادى لطيف خيالها ... بمهجة ايقادى ومقلة وامق)
(وان ماست الاعطاف مِنْهَا من الصِّبَا ... ومالت بهَا الارداف ميلًا كآنق)
(تسترت الاغصان فى قضب دوحها ... حَيَاء وَعَاد كالفئام الطوارق)
(وَمن كلهَا كلى قَتِيل جمَالهَا ... وتفصيله منى فَلَيْسَ بلائق)(4/24)
(وَمن هز عطفيها بقلبى جِرَاحَة ... وَمن سحر عينيها أسرنا بوامق)
(وَمن قدها قدقد قلبى سناؤها ... وَأَسْنَانهَا لاحت ببارق بارق)
(أَسِير على الاجفان ان قيل انها ... تنيل الْفَتى الْوَسْنَان عهد وثائق)
(فعندى عقد الْوَصْل لَو طَال بَيْننَا ... كأهنى وصال عِنْد أصدق صَادِق)
(وَمن عرفان الْوَصْل سَارَتْ قبابها ... ومالت الى جمع المنى والحقائق)
(وظلت مطايا الْحبّ تطوى محسرا ... فيا حسرة المشتاق من قلب تائق)
(وفى منحتى ضلعى وَخيف بنائِهِ ... هُنَاكَ المنى فِيهِ المنايا الْآبِق)
(وفى الجمرات اللاء خيمن فى الحشا ... عَلَامَات نيران الْهَوَاء لواثق)
(سقى الله أَيَّامًا مَضَت ولياليا ... عرفت الْهوى فِيهَا وحلت بسابق)
(لقد جَاءَنَا نصر من الله حفنا ... وَفتح قريب عمنَا مثل وادق)
(على فرقة الْفرق الَّذين عموا على ... بَصِيرَة أبصار ورشد لحاذق)
(يُرِيدُونَ أَن يطفوا ضيا الاله بالعقول الَّتِى قَالَت بقول مُنَافِق ... )
(فَردُّوا بغيظ لم يحوزوا بِهِ الْعلَا ... وباؤا بخسران جَزَاء لفَاسِق)
(على انهم لم يعلمُوا الْحق ظَاهرا ... فَكيف بِأَمْر بَاطِن غير طَارق)
(على أَنهم من افكهم شفعوا الذى ... تفرد عَن فَرد وَعَن كلا لَاحق)
(على الْحق لَا يَعْلُو على كل بَاطِل ... على جرف هار وَلَيْسَ براهق)
(بليث همام زاكى الاصل سيد ... كريم السجايا نسل أَعلَى الْخَلَائق)
(حَلِيم لذى الامر الْعَظِيم وَلم يزل ... على اثر آثَار الجدود السوابق)
(وفى الذرْوَة الْعليا الَّتِى لَا ينالها ... جَمِيع الألى كَانُوا وكل اللواحق)
(حمانا بِسيف الصدْق من كل مُعْتَد ... تعدى بِدَعْوَى الْجَهْل لَيْسَ بصادق)
(هُوَ السَّيِّد العالى أَبُو بكر الذى ... سما عَن سَمَاء الْمجد من كل شَاهِق)
(ونجل وحيد الدَّهْر سَالم من غَدا ... سليلا لشيخان امام الطرائق)
(مُفِيد الورى عَن سر أسرار من مضى ... ومظهر دين الْحق ثمَّ الْحَقَائِق)
(فَمن رام أَن يُحْصى صِفَات كَمَاله ... كمن رام أَن يلفى شَرِيكا لخالق)
(وَصلى الهى ثمَّ سلم مَا حدث ... حداة المطايا نَحْو أصدق نَاطِق)
(عَلَيْهِ وَآل ثمَّ صحب من غَدا ... وريثا لَهُم فى علمهمْ غير زاهق)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَتوفى فى شهر ربيع الاول سنة اثْنَتَيْنِ(4/25)
وَخمسين وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة
مُحَمَّد العيدروس بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس الحضرمى أحد الكمل الْمَشْهُورين ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ امام وقته علما وَعَملا وَحَالا ومقالا وزهدا وتحقيقا وورعا ولد بِمَدِينَة تريم فى سنة سبعين وَتِسْعمِائَة وَضبط عَام وِلَادَته فى قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} ثمَّ حفظ الْقُرْآن وَغَيره فى فنون عديدة وربى فى حجر وَالِده وَقَرَأَ عَلَيْهِ عدَّة عُلُوم وَتخرج بِهِ طَرِيق الْقَوْم وتفقه على السَّيِّد مُحَمَّد بن حسن والفقيه مُحَمَّد بن اسمعيل وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَأخذ التصوف عَن جمَاعَة وَسمع الحَدِيث من طَائِفَة وَلزِمَ الْعِبَادَة واثنى عَلَيْهِ مشايخه وَغَيرهم بل انْعَقَد الاجماع على فَضله وكماله وَأخذ عَن عَمه الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن شيخ وَكتب الى وَالِده يَقُول لَهُ يَكْفِيك فَخر يَا عبد الله خُرُوج مثل هَذَا الْوَلَد من صلبك وَلما سمع بِهِ جده شيخ بن عبد الله طلبه اليه وَهُوَ باحمد أباد من أراضى الْهِنْد فَرَحل اليه وَاجْتمعَ بِهِ فِيهَا وَذَلِكَ فى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأَشَارَ الى ذَلِك جده الْمَذْكُور فى بعض قصائده بقوله قدومك حَافظ للشمل جَامع فان عدد حَافظ كَذَلِك ولازم جده فى جَمِيع دروسه وأحواله واقتدى بِهِ فَبلغ مَا لم يبلغهُ الْمَشَايِخ الْكِبَار وَقَرَأَ عَلَيْهِ فى كثير من الْعُلُوم عدَّة متون وشروح وَألبسهُ الْخِرْقَة وَصَافحهُ وَحكمه وَأذن لَهُ فى الالباس والتحكيم وَجعله ولى عهد ثمَّ انْتقل جده شيخ الْمَذْكُور فى سنة تسعين وَتِسْعمِائَة فَقَامَ من بعده وَكَانَ ينْفق على جَمِيع من يمونه جده من أهل الْهِنْد وحضرموت وَلما سَأَلَ عَنهُ وَالِده عبد الله السَّيِّد الولى أَحْمد بن على أَجَابَهُ بقوله الذى أعتقده فِيهِ انه أحسن من أَبِيه فَسجدَ وَالِده شكرا وَقَالَ هَذَا الذى كنت أوده وأتمناه وَقَالَ كل أحد لَا يُرِيد أَن يكون أحد أحسن مِنْهُ الا وَلَده وَبعد انْتِقَال وَالِده أجْرى مَا كَانَ يجريه وَالِده من نَفَقَة وَكِسْوَة وَغَيرهَا فَكَانَ الْوَارِث لابيه وجده ثمَّ ارتحل من أَحْمد آباد الى بندرسورت واستوطنه واشتهر كَمَال الاشتهار واعتقده أهالى تِلْكَ الدائرة وَكَانَ سُلْطَان الْهِنْد يعرف قدره ويرجحه على أهل زَمَانه ويجرى عَلَيْهِ كل يَوْم مَا يَكْفِيهِ من النَّفَقَة الْعَظِيمَة وَكَانَ كثير العطايا كَرِيمًا وَكَانَ مَعَ كَثْرَة مدخوله لَا يفى مدخوله بِنَفَقَتِهِ وَرُبمَا زَاد عَلَيْهَا ضعفين أَو أَكثر وكل ذَلِك دين يبْقى عَلَيْهِ وَكَانَ يسْتَغْرق احيانا فَرُبمَا دخل عَلَيْهِ شخص وَلم يشْعر بِهِ وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَدفن ببندرسوت وَبنى عَلَيْهِ بعض التُّجَّار قبَّة عَظِيمَة وَبنى عِنْدهَا(4/26)
مَسْجِدا وبركة مَاء وأجرى لمن يقْرَأ عَلَيْهِ أُجْرَة وأوقف على ذَلِك ضيَاعًا واراضى ورباعا وقبره ظَاهر يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
الشريف مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن أَبى نمى كَانَ سيد شجاعا مقداما رَئِيسا ولاه وَالِده الشريف عبد الله مَكَّة فى حَيَاته وأشرك مَعَه الشريف زيد بن محسن غرَّة صفر سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف وخطب لَهما على المنابر الى شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة فوصلت الاتراك من الْيمن فى قصَّة ذكرتها فى تَرْجَمَة الشريف زيد فَوَقَعت اللقيا بِالْقربِ من وادى البيار بَين السَّادة الاشراف وَبَين الاتراك فحصلت ملحمة عَظِيمَة وقتال شَدِيد وَقتل صَاحب التَّرْجَمَة وَقتل مَعَه جمَاعَة من الاشراف مِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن حراز وَالسَّيِّد حُسَيْن بن بنايس وَالسَّيِّد سعيد بن رَاشد وَخلق آخَرُونَ وَأُصِيبَتْ يَد السَّيِّد هيزاع بن مُحَمَّد الْحَارِث فَقطعت وتعلقت بباقى جلدتها وَلم تنفصل وَدخل بهَا كَذَلِك الى مَكَّة وَمر على جِهَة سوق اللَّيْل قَائِلا عذرى يَا أهل مَكَّة مَا تَرَوْنَهُ وَتوجه بَقِيَّة الاشراف الى وادى مر وَدخل الاتراك الى مَكَّة ونودى بِالْبَلَدِ للسَّيِّد نامى بن عبد الْمطلب وَكَانَ دُخُولهمْ من جِهَة بركَة ماجن فتعب النَّاس أَشد تَعب وَحصل الْخَوْف الشَّديد وتسلطت العساكر على النَّاس وأزعجوهم نهبا وفسقا وظلما وتقطعت الطّرق وعصت الاعراب وَحمل صَاحب التَّرْجَمَة فى عصر ذَلِك الْيَوْم وَدفن بالمعلاة فى مَقَابِر آبَائِهِ وأجداده بعد أَن قَاتل قتال من لَا يخَاف الْمَوْت وَكَانَت الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة فى رَابِع عشرى شعْبَان سنة احدى وَأَرْبَعين وَكَانَت مُدَّة ولَايَة الشريف مُحَمَّد سِتَّة أشهر وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا
مُحَمَّد بن عبد الله بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الولى الْمَنْقُول بن مُحَمَّد بن عبد الولى جعمان كَانَ اماما عَالما عَلامَة مَشْهُورا فى الْيمن أَخذ عَن جمَاعَة واستفاد وَأفَاد وروى وَضبط توفى بِالرَّوْحَاءِ بعد ان زار النبى
فى سنة خمس وَخمسين وَألف وجده الْفَقِيه عبد الولى بن مُحَمَّد وَأَخُوهُ عمر بن مُحَمَّد صَاحب الموجز كَانَا فى بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل فى أَيَّام السُّلْطَان عَامر بن عبد الْوَهَّاب الاموى وَكَانَ الْفَقِيه عمر بن مُحَمَّد مفتى بَيت الْفَقِيه وَصَاحب رياستها على ولَايَة عَظِيمَة مَشْهُورَة فاستولد بهَا عبد الولى ثمَّ تزوج فى مَحل الاعوص الْقرْيَة الْمَشْهُورَة فاستولد بهَا أَيْضا فَلَمَّا توفى قبر فى تربة الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى العجيل فَرَآهُ أَخُوهُ فى الْمَنَام وَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ انقلنى الى مَحل الاعوص فانتبه الْفَقِيه عمر من نَومه فَقَالَ هَذِه رُؤْيا مَنَام وَالنَّقْل عِنْد(4/27)
الْفُقَهَاء حرَام ونبش الْمَيِّت أعظم خَطِيئَة فَجَاءَهُ لَيْلَة أُخْرَى ثمَّ فى الثَّالِثَة كَذَلِك فَقَالَ لَهُ لَئِن لم تنقلنى والا خرجت من الْقَبْر فجَاء الْفَقِيه الْمَذْكُور الى التربة لينقل أَخَاهُ فَرَآهُ خَارج الْقَبْر باكفانه فَحَمَلُوهُ فَنقل الى قَبره الْآن بِمحل الاعوص فَسمى الْمَنْقُول وَهَذِه الْكَرَامَة مستفاضة والفقيه الرائى ثِقَة عَارِف وَالله أعلم
السَّيِّد مُحَمَّد كبريت ابْن عبد الله بن مُحَمَّد بن شمس الدّين بن أَحْمد بن قَاسم بن شرف الدّين بن يحيى بن شرف الدّين بن حُسَيْن بن فَخر الدّين بن مُوسَى بن كريم الدّين بن مُحَمَّد ابْن ابراهيم بن دَاوُد بن مَحْمُود بن حسن بن عَبَّاس بن على بن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن أَحْمد بن جَعْفَر بن مُوسَى الكاظم ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن على زين العابدين ابْن الْحُسَيْن بن على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ السَّيِّد الْجَلِيل كَانَ من أعجب خلق الله تَعَالَى فى الاخذ باهداب الْفُنُون كثير النَّوَادِر جم المناقب ولد بِالْمَدِينَةِ وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بالعلوم النقلية والعقلية فَقَرَأَ النَّحْو والتصريف والمعانى وَالْبَيَان على جمَاعَة مِنْهُم عبد الْملك العصامى وَالشَّيْخ الامام وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدى وَأخذ الْعُلُوم الرياضية والحكمية والطبيعية وَعلم الْحَقِيقَة عَن الْمُحَقق الْكَبِير عبد الله بن ولى الحضرمى تلميذا لقطب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى السَّيِّد صبغة الله بن روح الله السندى ثمَّ توجه الى الرّوم فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ والف وَألف رحْلَة بديعة سَمَّاهَا رحْلَة الشتَاء والصيف ذكر فِيهَا مَا وَقع لَهُ فى سفرته هَذِه من الغرائب وَدخل دمشق وَاجْتمعَ فِيهَا بالاستاذ الْكَبِير ايوب بن أَحْمد الْمُقدم ذكره وَأخذ عَنهُ ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة وَلزِمَ بهَا الاستاذ مُحَمَّد بن زين العابدين البكرى وَكَانَ أَشَارَ اليه بالاخذ عَن بعض السَّادة الخلوتية شَيْئا من علم الاسماء فأخلاه الْمَأْخُوذ عَنهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لرياضة نَفسه فَفتح عَلَيْهِ ثمَّ عَاد الى الْمَدِينَة واختص بِصُحْبَة سيدنَا مُحَمَّد مكى المدنى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى فَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فى أغلب أوقاته وَأقَام على بَث الْعلم ومراقبة الله تَعَالَى وَألف تآليف كَثِيرَة بديعة مِنْهَا كتاب سَمَّاهُ نصر من الله وَفتح قريب شرح فِيهِ أبياتا لبَعض أفاضل عصره جمع فِيهِ من كل غَرِيبَة وَمِنْهَا كتاب الْجَوَاهِر الثمينة فى محَاسِن الْمَدِينَة وَمِنْهَا بسط الْمِثَال فى القيل والقال فى مجلدين وَغير ذَلِك من مُفْرد ومجموع وَله ركاز الرِّكَاز فى المعمى والالغاز ورسالة سَمَّاهَا خمائل الافراح وبلابل الادواح تشْتَمل على أشعار لَطِيفَة وَكتاب الزنبيل اختصر فِيهِ كتاب الكشكول للبهائى العاملى وَكتاب الْعُقُود الفاخره(4/28)
فى أَخْبَار الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكتاب حَاطِب ليل كَبِير جدا وَشرح ديوَان ابْن الفارض سَمَّاهُ ظلّ الْعَارِض وَكتاب الْمطلب الحقير فى وصف الْغنى وَالْفَقِير وَهُوَ كتاب حسن الْوَضع عَجِيب الاسلوب قَالَ فى آخِره وَهَذَا آخر مَا جرى بِهِ الْقَلَم من تسطير هَذِه الحكم وَرُبمَا اشْتَمَل على كَلَام لَا يفهم وَمَفْهُوم لَا يكَاد يعقل ومعقول لَا يكَاد يقبل بِحَسب مَا قيل
(يَقُولُونَ أقوالا وَلَا يفهمونها ... وَلَو قيل هاتوا بينوا لم يبينوا)
ثمَّ ذكر كلَاما طَوِيل الذيل من هَذَا الْقَبِيل وَأنْشد لنَفسِهِ فى مدح الْكتاب قَوْله
(لله تأليف غَدا جاءها ... بَين النقيضين لمن يعقل)
(جَامعه اغرب فى نَقله ... لكنه لم يدر مَا ينْقل)
وَعَكَفَ آخر عمره على مطالعة الفتوحات المكية والفصوص للشَّيْخ الاكبر ابْن عربى وَألف فى وحدة الْوُجُود رِسَالَة وَكَانَ يصدر عَنهُ قولات رُبمَا أنكرها بعض معاصريه ونسبوه فِيهَا الى الالحاد وَله أشعار كَثِيرَة حَسَنَة التَّرْكِيب بَيِّنَة الْجَوْدَة فَمن مقاطيعه قَوْله
(هبوا أَن ذَاك الْحسن عَنى محجب ... أَلَيْسَ برياه سرت نسمَة الصِّبَا)
(اذا رمت أَن تبدى مصونات خدره ... فَحدث بِذَاكَ الحى عَن ذَلِك الخبا)
وَقَوله
(يَا من تبادى بهجر مَا لَهُ سَبَب ... وَصد عمدا يرى فى ذَاك تبكيتى)
(كَانَ هجرك بعد الْوَصْل يَا أمْلى ... أَوَائِل النَّار فى أَطْرَاف كبريت)
نَقله حسن للمصراع الاخير عَن مَوْضُوعه الذى هُوَ تَشْبِيه البنفسج وَهُوَ
(وَلَا زوردية تزهو بزرقتها ... بَين الرياض على حمر اليواقيت)
(كَأَنَّهَا فَوق قامات ضعفن بهَا ... أَوَائِل النَّار فى أَطْرَاف كبريت)
وَقَوله
(أرى مطالعتى فى الْكتب مَا نَفَعت ... لَعَلَّ وَجهك يغنينى عَن الْكتب)
(فَمن رأى وَجهك الباهى وبهجته ... فانه فى غنى عَن كل مكتتب)
وَقَوله
(لَيست على الْحر الْكَرِيم مشقة ... بأضر من أَن لَا يرى أَمْثَاله)
(ذَاك الْغَرِيب وان يكن فى أَهله ... وارحمتاه لَهُ لما قد ناله)
وَله
(يَا لائمى فى حب من ... عزت على ربوعه)
(خفض عَلَيْك وخلنى ... أحلى الْهوى ممنوعه)
وَقَالَ يفتخر(4/29)
(نشأت بِفضل الله فى ظلّ دوحة ... سمت بنبى كنت من بعض عترته)
(فان شِئْت فى صفح العوالى وان أشأ ... بدار الذى طابت وطالت بهجرته)
(فهاتيك دَار للحبيب وَهَذِه ... بهَا منزهى يَا صَاح من حول حجرته)
وَقَالَ فى تَفْصِيل الْعَالِيَة
(أَرَاك تغالى فى العوالى وفى قبا ... وَأَنت على وهم الخيال تعول)
(الى كم ترى تهوى الذى أَنْت سَائِر ... الى غَيره اذ أَنْت عَنهُ تحول)
(فَكُن سائرا فى لَا مقَام فانما ... تقلب من شان لشأن وترحل)
الْعَالِيَة أَرض ذَات رياض فائقة قَالَ فى الْوَفَاء هى من الْمَدِينَة مَا كَانَ فى جِهَة قبلتها من قبَاء وَغَيرهَا على ميل فَأكْثر وأقصاها عمَارَة على ثَلَاثَة أَمْيَال وَأَرْبَعَة الى ثَمَانِيَة أَو سِتَّة على الْخلاف فى ذَلِك انْتهى وَوجه التَّسْمِيَة جلى وَذَلِكَ لَان السُّيُول تنحدر من تِلْكَ النواحى الْعَالِيَة الى سوافل الْمَدِينَة فعلى ذَلِك يُقَال نزلنَا من العوالى الى الْمَدِينَة وطلعنا الى العوالى وَله فى مدحها قطع كَثِيرَة غير هَذِه فَمِنْهَا قَوْله
(فضل العوالى بَين ولاهلها ... فضل قديم نوره يَتَهَلَّل)
(من لم يقل ان الْفَضِيلَة طينت ... أَرض العوالى وَهُوَ حق يقبل)
(انى قضيت بفضلها وَأَقُول فى ... وادى قبا الْفضل الذى لَا يجهل)
وَله
(اذا كنت فى ارْض العوالى تشوقت ... لارض قبا نفسى وفيهَا المؤمل)
(وَلَو كنت فِيهَا قَالَت النَّفس لَيْت لى ... بِأَرْض العوالى يَا خليلى منزل)
(فيا لَيْت انى كنت شَخْصَيْنِ فيهمَا ... وَمَا لَيْت فى التَّحْقِيق الا تعلل)
وَله من أَبْيَات قَالَهَا وَهُوَ بالروم يتشوق الى معاهده
(مَا أطيب الايام فِيهَا تنقضى ... وَالْعين قد قرت بوصل حبيبها)
(مَا الْعَيْش الا فى حماها لَيْت لى ... مأوى وَلَو فى سفحها ورحيبها)
وَله وهى من لطائفه
(الْحَمد لله على مَا أرى ... من ضيعتى مَا بَين هَذَا الورى)
(صيرنى الدَّهْر الى حَالَة ... يرثى لَهَا الشامت مِمَّا يرى)
(بدلت من بعد الرخا شدَّة ... وَبعد خبز الْبَيْت خبز الشرا)
(وَبعد سُكْنى منزل مبهج ... سكنت بَيْتا من بيُوت السكرا)
(وَلَو تحققت الذى نالنى ... لارتفع الشَّك وَزَالَ المرا)(4/30)
وَرَأَيْت فى كِتَابه الْجَوَاهِر قَالَ مَرَرْت فى رحلتى بِبَعْض قرى الرّوم فَرَأَيْت قبرا عَلَيْهِ بُنيان قد أظهرت فِيهِ الْحِكْمَة زخارف صَنْعَة الْبناء على رَأسه مَكْتُوب
(وَمَا ينفع الانسان بُنيان قَبره ... اذا كَانَ فِيهِ جِسْمه يتهدم)
وَذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه مُفْرد جَامع وأديب ضوء أدبه لامع نافت شمائله على أنفاس الشُّمُول وَالشمَال وَقَالَ من ظرفه وأدبه بجنتين عَن يَمِين وشمال كَانَ لطيف قشرة الْعشْرَة تحسد تباشير الصَّباح بشره لَا تمل ند مَاؤُهُ مُجَالَسَته وَلَا تسأم أَصْحَابه مؤانسته الى فصاحة ولسن وتجمل بِكُل خلق حسن وتقنع بقناع القناعة والكفاف واشتمال بأبراد الصون والعفاف سلك مَسْلَك من نبذ الدُّنْيَا وَرَاء ظَهره ورضى مِنْهَا بمسالمة خطوب دهره ورام انتحال مَذْهَب أهل الْحَال فَتكلم بَعضهم فى اعْتِقَاده وَنقل عَنهُ فلتات أشعرت بخفى الحاده وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فى جَمِيع نَوَادِر الادب والنسل الى تَقْيِيد شوارد النكت من كل حدب وَله فى ذَلِك مؤلفات مِنْهَا محك الدَّهْر وَكتاب المباهج وَرشح البال بشرح البال وَغير ذَلِك الا انه لم يكن لَهُ فى سَائِر الْعُلُوم رسوخ قدم مَعْلُوم أخبرنى الْوَالِد بِسَمَاعِهِ عَنهُ ان أستاذه خَالف فى تَعْلِيمه النظام وطفر بِهِ طفرة النظام فنقله من الاجرومية الى الْكَشَّاف وأبدله النشاف من الارتشاف وَله شعر انتظم بِهِ فى سلك من نظم ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله
(واذا جَلَست مَعَ الرِّجَال وأشرقت ... فى جو باطنك الْمعَانى الشرد)
(فاحذر مناظرة الجهول فَرُبمَا ... تغتاظ أَنْت ويستفيد فيحسد)
وَقَوله موريا فى الْمولى عبد الرَّحْمَن العشاقى
(قد قلت للمجد من تهوى تواصله ... فكلنا ذَلِك ذُو وجد وأشواق)
(فَقَالَ لى بِلِسَان غير مقتدر ... لَا أشتهى أَن أوافى غير عشاقى)
انْتهى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَتوفى بعد الظّهْر عشرى شهر رَمَضَان سنة سبعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد باعلوى وَدفن شمالى الْقبَّة المطهرة قبَّة سيدنَا ابراهيم بن النبى
ببقيع الْغَرْقَد رَحمَه الله
مُحَمَّد بن عبد الْملك البغدادى الحنفى نزيل دمشق الشَّيْخ الامام الْمُحَقق كَانَ من كبار الْعلمَاء خُصُوصا فى المعقولات كَانَ لهى والطبيعى والرياضى وَهُوَ من جمَاعَة عَلامَة الزَّمَان منلا مصلح الدّين اللارى قيل وَأخذ عَن أَخِيه شمس الدّين البغدادى(4/31)
وَكَانَ فى الاصول وَالْفِقْه عَلامَة وَله الْيَد الطُّولى فى الْكَلَام والمنطق وَالْبَيَان والعربية قدم دمشق فى سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة ودخلها لابسا عباءة من الصُّوف وثوبا من القماش الابيض الْقطن وجاور بِجَامِع دمشق فى بَيت خطابته ثمَّ انْتقل الى الْمدرسَة العزيزية جوَار الكلاسة وَحضر دروس الْبَدْر الغزى ولازم ابا الفدا اسماعيل النابلسى وَقَرَأَ فقه الشافعى على الشهَاب العيثاوى ثمَّ تحنف وَولى وظائف وتدريس مِنْهَا الْمدرسَة الدرويشية وبقعة فى الْجَامِع الاموى وَتَوَلَّى تصدير حَدِيث بالجامع الْمَذْكُور وَكَانَ لَهُ من صندوق السلطنة فى كل يَوْم مَا يزِيد على أَرْبَعِينَ عثمانيا وَتَوَلَّى مشيخة الْجَامِع فَسمى شيخ الْحرم الاموى وَتَوَلَّى تَوْلِيَة الدرويشية وَعظم أمره وَتردد الى الْقُضَاة وشمخ بِأَنْفِهِ حِين رَجَعَ النَّاس اليه وَكَانَ يحضر دروسه أفاضل الْوَقْت ودرس التَّفْسِير بالجامع وَكَانَ فى لِسَانه لكنة عَظِيمَة حَتَّى انه كَانَ لَا يفصح عَن كَلَامه أبدا وشاع ذكره فى الاقطار الشامية وَلما مرض مرض الْمَوْت وَثقل فى مَرضه حضر اليه قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى ابراهيم بن على الازنبقى وعاده وَقَالَ لَهُ أفرغ عَن وظائفك لنائبنا حسن الطَّوِيل وَهُوَ ابْن عُثْمَان الذى ذَكرْنَاهُ فى حرف الْحَاء فَيُقَال انه أفرغ لَهُ وَقيل انه لم يفرغ وَلَكِن كتب ذَلِك القاضى رَغْبَة أَن تصير الْجِهَات الْمَذْكُورَة لنائبه وَقَالَ لَهُ القاضى ايْنَ أموالك فَقَالَ لَهُ وَمَا تُرِيدُ بأموالى فَقَالَ لَهُ نُرِيد أَن نحرزها خوفًا عَلَيْهَا من سَارِق يَأْخُذهَا وَأَنت مَرِيض فَيُقَال انه أذن لَهُ فى أَخذهَا وَقيل بل أَخذهَا القاضى جبرا فَلَمَّا أخذت أَمْوَاله أَفَاق من سَكَرَات مَرضه وَطلب الاموال من حسن الطَّوِيل فَقَالَ لَهُ وَمَا تصنع بهَا ان كنت مُحْتَاجا الى شئ من المَال أقرضتك من عندى مَا تخرجه وَأما مَالك فانى لَا أَسْتَطِيع احضاره اليك خوفًا عَلَيْهِ فَيُقَال انه لما قَالَ ذَلِك احتد وَاشْتَدَّ غيظه وَمد يَده الى لحية النَّائِب وضربه على رَأسه فَقَالَ لَهُ أَنْت فى جُنُون الْمَرَض وَلَا حرج عَلَيْك فِيمَا فعلته وَلم يَأْتِ لَهُ بِالْمَالِ فانتكس وَرجع الى الْمَرَض بعد ان كَانَ أبل مِنْهُ قَلِيلا وَمَات عقيب ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى لَيْلَة الِاثْنَيْنِ عشرى شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَألف وَدفن شمالى تربة مرج الدحداح فى أقصاها عَن بضع وَسِتِّينَ سنة وَكَانَ بنت من أمة سَوْدَاء فنفاها قبل مَوته بأشهر لامر رَآهُ على الامة فَأنكرهُ ثمَّ بعد مَوته ثَبت نسب الْبِنْت اليه بِشَهَادَة قاضى الْقُضَاة على اقراره واخر ثمَّ جَاءَ بعد مُدَّة ابْن عَم لَهُ من بَغْدَاد الى دمشق فَصَالحه النَّائِب على شئ من المَال ثمَّ ذهب(4/32)
فَشَكَاهُ الى الْوَزير نصوح باشا وَكَانَ الْوَزير الْمَذْكُور رَأس العساكر اذ ذَاك بحلب فوردت بِطَلَب النَّائِب بِسَبَب ذَلِك الى حلب وَالْعجب العجاب انه كَانَ فى دمشق رجل من الْعَسْكَر يُقَال لَهُ مُحَمَّد البغدادى مُوَافق لصَاحب التَّرْجَمَة فى الِاسْم وَالنِّسْبَة مَاتَ يَوْم مَوته فبقى الرجل يَقُول مَاتَ مُحَمَّد البغدادى الْيَوْم فَلَا يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر الا نبية الْعلم لهَذَا وَنسبَة العسكرية لذاك وَالله تَعَالَى أعلم
مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطائفى الْفَقِيه الشافعى كَانَ من فضلاء وقته ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد سنة أَربع بعد الالف وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ نَسيَه فَقيل لَهُ لم لَا تحفظه ثَانِيًا فَقَالَ أخْشَى أَن أنساه ثَانِيًا وَأخذ الْعُلُوم عَن مَشَايِخ عصره مِنْهُم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ احْمَد الحكمى وَالشَّيْخ عبد الْملك العصامى وَأذن لَهُ غير وَاحِد بالافتاء والتدريس فدرس فى الْمَسْجِد الْحَرَام وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر الباز وَالشَّيْخ عبد الْجَامِع بن أَبى بكر بارجا الحضرمى وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْحسن النبتيتى مَعَ جلالته يحض درسه وَكَذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو الْجُود المزين وَله تآليف مِنْهَا شرح حسن على الاجرومية أملاه على بعض طلبته وَله حواش على شرح الْمنْهَج وحواشى على النِّهَايَة للشمس الرملى وَكَانَ حسن الاخلاق بارا بوالدته لَا يُخَالِفهَا فى كل مَا أمرت بِهِ وَترك الزواج خوفًا من أَن يتكدر خاطرها وَكَانَ كثير الْعِبَادَة والتهجد يحب الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين ويعرض عَن غَيرهم من أَرْبَاب الشَّأْن قانعا من الدُّنْيَا باليسير ومدحه صَاحبه الشَّيْخ غرس الدّين الخليلى المدنى بقصيدة أَولهَا
(وَالله انى مغرم بالطائفى ... لم لَا وَذَلِكَ كعبة للطائف)
وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس حادى وعشرى شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف فى مَكَّة بعلة الاسهال وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن تقى الدّين الْمَعْرُوف بِابْن المهمندار الحلبى الحنفى وَالِد شَيخنَا الْعَالم الفهامة أَحْمد مفتى الشَّام الْآن وزبدة من بهَا من الْعلمَاء ذوى الشان لابرحت فضائله ملهج أَلْسِنَة الوصاف وفواضله مَظَنَّة الاطراء والاتحاف كَانَ الْمَذْكُور من أشهر مشاهير الْعلمَاء لَهُ بسطة بَاعَ فى الْفُنُون وَيَد طائلة فى التَّحْرِير والتهذيب قَرَأَ بحلب على علمائها الاجلاء مِنْهُم الشَّيْخ عمر العرضى(4/33)
وَخرج وَهُوَ متقن متضلع وَدخل دمشق فى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ هَاجر الى الرّوم وتوطنها ودرس بهَا الْعُلُوم وانتفع بِهِ جمَاعَة ثمَّ لَازم من الْمولى يحيى وصيره شَيخا لِابْنِهِ الْمولى عبد الْقَادِر ثمَّ استخلصه الْمولى صَادِق مُحَمَّد بن أَبى السُّعُود لنَفسِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ وانتفع بِهِ وَبِه شاع ذكره واشتهر بَين موالى الرّوم ثمَّ درس بمدارس دَار الْخلَافَة الى أَن وصل الى مدرسة وَالِدَة السُّلْطَان مُرَاد فاتح بَغْدَاد وَولى مِنْهَا قَضَاء مَدِينَة أَيُّوب وَله من التآليف رِسَالَة فى الْمعَانى وَله تحريرات كَثِيرَة وتميقات لَطِيفَة وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ قَاض بِأَيُّوب فى سنة سِتِّينَ وَألف عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عَتيق الحمصى الشافعى نزيل مصر الشَّيْخ الْفَاضِل كَانَ قوى الذكاء والفطنة حسن الاشارة فصيح الْعبارَة ذَا دعابة لَطِيفَة وطبع مُسْتَقِيم دخل الْقَاهِرَة فى أَيَّام شبابه واشتغل بفنون الْعُلُوم وَأخذ عَن الْبُرْهَان اللقانى والنورين على الحلبى وعَلى الاجهورى وَعبد الْجواد الجنبلاطى وحسين النمساوى وَمُحَمّد النحوى الشهير بسيبويه وَيس بن زين الحمصى وَالشَّمْس البابلى وسلطان المزاحى والنور الشبراملسى وجد واجتهد وبرع فى سَائِر الْفُنُون وفَاق أقرانه وتقوى على حل المشكلات العلمية وَألف حَاشِيَة على شرح التَّلْخِيص الْمُخْتَصر للسعد ورسائل فى فنون شَتَّى ثمَّ عرض لَهُ قَاطع عَن الْعلم واشتغل بتحصيل الدُّنْيَا وَفتح حانوتا للْبيع وَالشِّرَاء وَكَثُرت دُنْيَاهُ بِحَيْثُ أعرض عَن النّظر فى كتب الْعلم نَحْو عشْرين سنة ثمَّ طرقه طَارق الْخَيْر فَرجع الى مَا كَانَ عَلَيْهِ فى بدايته من الْجد وَالِاجْتِهَاد واشتغل بتصحيح جَمِيع مَا عِنْده من الْكتب على كثرتها وجد فى تَحْصِيل كتب الحَدِيث وكتبها بِخَطِّهِ وَكَانَ حسن الْخط وَلم يزل على هَذَا الْحَال الى أَن مَاتَ وَكَانَت وِلَادَته بحمص فى سنة عشْرين وَألف وَتوفى فى جُمَادَى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف بِمصْر وَدفن بتربة المجاورين وَرَآهُ بعض اخوانه فى الْمَنَام بعد مَوته فَقَالَ لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لى وكتبنى عِنْده من الْعلمَاء قَالَ فَقلت لَهُ كَيفَ وَقد كنت انْقَطَعت عَن الْعلم مُدَّة فَقَالَ لى الْفضل أوسع وَمَا رَأَيْت الا كل خير وان أردْت النجَاة فى الْآخِرَة فَعَلَيْك بالاشتغال بِالْعلمِ فانه من أعظم أَسبَاب الْمَغْفِرَة عِنْد الله تَعَالَى واياك والتكلم فى أحد بِسوء فان عَلَيْك رقيبا أى رَقِيب
مُحَمَّد بن عُثْمَان الملقب أَمِين الدّين الدمشقى الصالحى الهلالى أحد الموقعين(4/34)
للاحكام بالمحكمة الْكُبْرَى الاديب الشَّاعِر النَّاظِم الناثر اشْتغل فى الْعلم ثمَّ تَركه وتعانى التوقيع وَالشعر وَكَانَ لطيف الذَّات حُلْو النادرة وَمن ألطف مَا وَقع لَهُ انه كتب على خَاتمه من شعره
(يَرْجُو ابْن عُثْمَان الامين الصالحى ... من ربه حسن الختام الصَّالح)
وَكَانَ مغرما بالهجاء وثلب اعراض النَّاس وَقيل لَهُ مَالك لَا يكَاد يجود شعرك الا فى الهجاء فَقَالَ خاطرى لَا يغْرف الامن الْبَحْر المنتن وَحكى البورينى أَنه سَمعه مَرَّات يَقُول كل شَاعِر لَهُ عينان نضاختان فى فكره الْوَاحِد عذبة للمديح وَمَا يُضَاف اليه وَالثَّانيَِة مُنْتِنَة للهجو وَمَا يُقَاس عَلَيْهِ وَأما انا فلى عين وَاحِدَة فَقَط وهى الْعين الثَّانِيَة فانى لَا أعرف الا الهجو المثالب قَالَ فَقلت لَهُ تَبًّا لَك يَا بغيض هَل يَلِيق بك أَن تقبح محَاسِن القريض فَقَالَ هَذِه جبلة ذاتيه وطبيعة على القبيحة مبنيه وَمن شعره قَوْله فى هجو عَمه ولى الدّين البزورى
(اذا رَأَيْت ولى الدّين مفتكرا ... مُنَكسًا رَأسه انسانه ساهى)
(فَذَاك من أجل دُنْيَاهُ لَا الْآخِرَة ... خوفًا من الْفقر لَا خوفًا من الله)
وَله فى بنى الْخطاب الَّذين كَانُوا قُضَاة مالكية بِالشَّام أهاج كَثِيرَة وَقد جمعهَا فى جُزْء خَاص وَسَماهُ قرع القبقاب فى قرعَة بن الْخطاب وَفِيه كل عَجِيبَة وكل مسَبَّة غَرِيبَة فَمن ذَلِك قَوْله
(بَيت ابْن خطاب غَدا ... بَيْتا قَلِيلا خَيره)
(ينْفق فِيهِ عاشق ... قَامَ عَلَيْهِ أيره)
وَنظر يَوْمًا الى شُهُود محكمَة الْكُبْرَى فَوَجَدَهُمْ تِسْعَة وَهُوَ وَاحِد مِنْهُم وَوجد قضاتهم أَرْبَعَة وَمِنْهُم كَمَال الدّين أحد بنى خطاب الْمَذْكُورين فَقَالَ
(قَالَت لنا الْكُبْرَى أما ... آن لكم مَا توعدون)
(قضاتنا أَرْبَعَة ... لكِنهمْ لَا يعلمُونَ)
(شهودنا عدتهمْ ... تِسْعَة رَهْط يفسدون)
(والكتخدا والترجمان ... فى الْجَحِيم خَالدُونَ)
وَمن شعره مقوله يهجو بعض الادباء
(يَخُوض بعرضى من غَدا عَار دهره ... وَمن هُوَ أدنى من سجَاح واكذب)
(وَمن أقعدته همة الْمجد والعلا ... وطارت بِهِ للخزى عنقاء مغرب)(4/35)
(وَمن كَانَ فى عهد الحداثة نَاقَة ... يُقَاد الى أردى الانام ويركب)
(وَقد كَانَ قصدى أَن أبين وَصفه ... وَلَكِن اجمال القبائح أنسب)
وَدخل يَوْمًا على الخواجه الرئيس أَبى السُّعُود بن الْكَاتِب فأنشده
(يَا من بِهِ رق شعرى ... وجال فى الْفِكر وَصفه)
(قد مزق الدَّهْر شاشى ... وَالْقَصْد شاش أَلفه)
فَأعْطَاهُ شاشا وَبِالْجُمْلَةِ فنوادره كَثِيرَة وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة عيد الْفطر سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى وَقت الضحوة الْكُبْرَى من يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر شعْبَان سنة أَربع بعد الالف وَدفن فى قبر وَالِده فى تربة الفراديس
مُحَمَّد بن عُثْمَان الصيداوى الْفَقِيه الاصولى الشافعى الْمَذْهَب نزيل دمشق كَانَ من الْعلمَاء العاملين كَامِل الْخِصَال كثير التَّقْوَى وَالصَّلَاح والورع وَكَانَ زاهدا فى الدُّنْيَا لذيذا المصاحبة خَفِيف الرّوح تميل اليه الْقُلُوب الا أَنه كَانَ حاد المزاج كثير الانفعال مَعَ صفاء السريرة وَكَانَ عُلَمَاء دمشق يعظمونه وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ بَقِيَّة السّلف خرج من بلدته صيدا وَهُوَ فى ابان الطّلب فَدخل الْقَاهِرَة وَأخذ عَن علمائها وَأقَام مُدَّة بِجَامِع الازهر وبرع فى كل الْفُنُون واشتهر صيته وَكَانَ مَعَ تغربه ذَا وجاهة وايثار على طلبة الازهر قَرَأت فى ثَبت الشَّمْس مُحَمَّد بن على المكتبى الدمشقى قَالَ لما حججْت فى سنة تسع وَخمسين وَألف اجْتمعت فى مَكَّة بِالْحَافِظِ الشَّمْس مُحَمَّد البابلى فسألنى عمر بِدِمَشْق من الْعلمَاء وَعَمن اجْتمع فى مصر حَال قِرَاءَته على مشايخه فسردتهم عَلَيْهِ وَاحِد بعد وَاحِد الى أَن وصلت فى التعداد الى شيخى الصيداوى فَبكى وَقَالَ لَيْسَ لَاحَدَّ على منَّة وَلَا فضل سواهُ لانه كَانَ يَأْتِيهِ من أَبِيه دَنَانِير من الذَّهَب فيصرفها علينا ويطعمنا بهَا لذيذ الاطعمة وَيَأْخُذ الى الاماكن المفرحة ويمزح مَعَ كل منا بِمَا يُوَافقهُ حَتَّى انه أعطانى جوخة سَوْدَاء جَاءَتْهُ من وَالِده ليلبسها وَكَانَ ذرعها أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف فَلم تكفنى على الْعَادة فطفت مصرا أتطلب فِيهَا نصف ذِرَاع لتتميمها فَلم أجد فشار على بعض الاخوان بِبَيْعِهَا وَقَالَ اشْتَرِ بدلهَا من الجوخ فَبِعْت كل ذارع مِنْهَا بِخمْس من الريال واشتريت بِبَعْض الثّمن جوخة خضراء مَعَ كافتها وَهَا أَنا لابس لَهَا الى يَوْم تَارِيخه مَعَ مَا فضل لى من الثّمن انْتهى ثمَّ قدم الى دمشق فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَأقَام بمحلة القنوات وأقرأ وَأفَاد وَكَانَ لَا يفتر(4/36)
وَلَا يمل من المطالعة والبحث وَحضر دروس الشَّمْس الميدانى والنجم الغزى وَولده الشَّيْخ سعودى تَحت قبَّة النسْر وَلزِمَ العمادى الْمُفْتى فى دروسه أَيْضا وَكَانَ أَصْحَاب الْمجْلس يرجعُونَ الى مَا يَقُوله وَكَانَ يُطِيل الْبَحْث وَكَانَ صَوته جهورياً فَيسمع من بعيد وَرُبمَا تهور على بعض الطّلبَة فآلمه بالْكلَام وَلَا ينفعل كل الانفعال الا تلافى مَا يَقع مِنْهُ لصفاء طويته وَكَانَ لَا يُنَادى أحدا الا باسمه كَائِنا من كَانَ وَلم يلبس السَّرَاوِيل مُدَّة عمره وَكَانَ كثير التقشف فى أَمر الْعِبَادَة وَرُبمَا عارضته الوسوسة فى الضَّوْء وَالصَّلَاة ودرس فى بقْعَة بالجامع الاموى فرغ لَهُ عَنْهَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس المقرى لَيْلَة ارتحاله الى الْقَاهِرَة وَأعْطى بعض جِهَات فى بعض الاوقاف وَمن الحوالى شَيْئا قَلِيلا وَكَانَ جَمِيع ذَلِك لَا يقوم بِهِ لما كَانَ عَلَيْهِ من السخاء وَبسط الْكَفّ وَكَانَ متوكلا فى أُمُوره كلهَا واذا فاوضه أحد فى مصرفه يَقُول أنْفق مَا فى الجيب يأتى مَا فى الْغَيْب وَكَانَ كثير الشغف بايراد حَدِيث أنْفق بِلَالًا وَلَا تخش من ذى الْعَرْش اقلالا وَكَانَت وِلَادَته بِمَدِينَة صيدا فى سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير فى قبر كَانَ اشْتَرَاهُ فى حَيَاته وأعده لنَفسِهِ قبل مَوته بِنَحْوِ عشر سِنِين بِالْقربِ من قبر سيدى نصر المقدسى رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن على الهوش الدمشقى الصالحى الشافعى الْفَاضِل الاديب البارع صَاحب الرأى والمعرفة مَعَ الْخلق الْحسن والصدر السَّلِيم والتواضع وَحفظ اللِّسَان صحب جمَاعَة من أَعْيَان الْمَشَايِخ بِدِمَشْق مِنْهُم الشَّيْخ عبد الباقى الحنبلى وَالشَّمْس مُحَمَّد بن بليان وَأخذ الطَّرِيق عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَيُّوب الخلوتى ثمَّ رَحل الى مصر وَأكْثر تردده اليها وَكَانَ من أخيار التُّجَّار وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ سُلْطَان وَالشَّمْس البابلى والنور الشبراملسى وَغَيرهم وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وَحج مَرَّات وجاور بالحرمين وَله شعر مِنْهُ قَوْله فى تخميس لامية ابْن الوردى بعد قَوْله
(واله عَن آلَة لَهو أطربت ... وَعَن الامرد مرتج الكفل)
(أعربت عَنهُ لُغَات الفصحا ... أَنه كالبدر بل شمس الضُّحَى)
(قلت للعاذل فِيهِ اذ لحا ... ان تبدى تنكشف شمس الضُّحَى)
(واذا قسناه بالبدر أفل ... )
(حل بِالْقَلْبِ وعظمى وَهنا ... وَنفى عَن ناظرى الوسنا)(4/37)
(مذ تبدى ولعطفيه ثنى ... زَاد اذ قسناه بالشس سنا)
(وعدلناه ببدر فاعتدل ... )
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَتوفى بِدِمَشْق لَيْلَة الْخَمِيس ثانى عشر رَجَب سنة احدى وَتِسْعين والف
مُحَمَّد بن عقيل بن شيخ بن على بن عبد الله وطب بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة آخِره مُوَحدَة ابْن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ الامام عبد الله بن علوى ابْن الاستاذ الاعظم امام الصُّوفِيَّة بديار حضر موت والقائم بوظائف السّنة فِيهَا الْمَشْهُور بِصَاحِب مديحج بميم ودال مُهْملَة ومثناة تحتية وحاء مُهْملَة وجيم تَصْغِير مدحج وَهُوَ اسْم مَسْجِد كَانَ ملازما فِيهِ الِاعْتِكَاف ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وتلاه على طَريقَة التجويد واشتغل بِعلم التَّوْحِيد وَقَرَأَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وحقق التصوف وَأخذ الْفِقْه عَن القاضى محمدبن حسن بن الشَّيْخ على وَأخذ عَن السَّيِّد شهَاب الدّين عبد الرَّحْمَن وَالشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله بَافضل عدَّة عُلُوم ثمَّ لزم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن علوى مُلَازمَة تَامَّة واقتدى بِهِ فى أَحْوَاله فَكَانَ يجْتَهد فى جَمِيع الْمَقَاصِد وَكَانَ متصفا بمحاسن الاوصاف مَوْصُوفا بالورع والعفاف والزهد مواظبا على الِاعْتِكَاف والتلاوة وَكَانَ مواظبا على الْجَمَاعَة وَصلى جَمِيع الصَّلَوَات فى أول وَقتهَا وَكَانَ يحضر للصَّلَاة خَلفه خلق كثير بِحَيْثُ ان الْمَسْجِد يضيق بالمصلين وَيصلى كثير مِنْهُم فى الشَّارِع وَمن لم يكن متوضئا قبل الْوَقْت لم يدْرك مَعَه الصَّلَاة لانه يَأْمر باقامة الصَّلَاة بعد صَلَاة الرَّاتِبَة عقب الاذان وتصدى لنفع النَّاس وقصدته الْخَلَائق وَأخذُوا عَنهُ وَمِمَّنْ تخرج بِهِ السَّيِّد أَبُو بكر ابْن على معلم خرد وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عمر بارقيه وَبَنُو أَخِيه عبد الله وَعقيل وعَلى وَمُحَمّد وَأحمد وَكَانَ لَهُ اعتناء تَامّ بِكِتَاب احياء عُلُوم الدّين فَكَانَ يقْرَأ مِنْهُ جُزْءا فى كل يَوْم سوى غَيره من الْكتب وَكَانَ عَارِفًا بعدة عُلُوم وَله كرامات كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس بعد الالف وَحضر النَّاس لتشييع جنَازَته من جَمِيع النواحى حَتَّى ضَاقَتْ بهم الطّرق وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل الامام الْكَبِير الولى الحضرمى ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته تَرْجَمَة تِلْمِيذه شيخ بن عبد الله فى السلسلة قَالَ كَانَ عَظِيم الْحَال مُنْقَطع القرين(4/38)
كثير المجاهدات ملازما لِلْعِبَادَةِ متخليا عَن العلائق كلهَا لم يتَزَوَّج قطّ وَلَا غرس نخلا وَلَا بنى بَيْتا وَلَا تعلق بشئ من أَسبَاب الدُّنْيَا فِرَارًا من قَوْله
ذبح الْعلم على أفخاذ النِّسَاء وَعَملا بقوله
من غرس نخلا أَو بنى بَيْتا فقد ركن الى الدُّنْيَا وَهَكَذَا كَانَ
وَمن تبعه من السّلف الصَّالح لم يضعوا لبنى على لبنة وَلَا قَصَبَة على قَصَبَة الى أَن فارقوا الدُّنْيَا وَسبب ذَلِك أَنهم رَأَوْا الدُّنْيَا جِسْرًا مَنْصُوبًا على نهر عَظِيم وهم عابرون راحلون عَنهُ وَلَا غرو أَن من بنى مثل ذَلِك فقد تعرض للتلف وَلَقَد سَمِعت عَن الشَّيْخ المجذوب صندل الحبشى صَاحب المخا حِكَايَة تومى الى ذَلِك وَذَلِكَ أَن بعض مُلُوك الْهِنْد أرسل الى فُقَرَاء الشَّيْخ صندل بِمَال وَأمرهمْ أَن يبنوا لَهُ بَيْتا يسكنهُ وَيكون باشارة مِنْهُ فى أى مَوضِع يُرِيد فَلَمَّا أعلموه والتمسوا مِنْهُ الاشارة الى أى مَوضِع يُرِيد ليقدموا فى الْعِمَارَة فَقَامَ وَخرج بهم الى سَاحل الْبَحْر ثمَّ أشرا الى الباحة فى الْبَحْر وَقَالَ ابْنُوا هُنَاكَ فتحيروا فى ذَلِك فسألوا الْفَقِيه على الجازانى فتعجب من ذَلِك وَأَشَارَ اليهم بالذهاب الى الْفَقِير وَكنت اذ ذَاك بالمخا عِنْد رجوعى من الْحَج فى سنة سبع بعد الالف فَقلت الله أعلم أَن مَقْصُود الشَّيْخ صندل بالاشارة الى الْبَحْر الاشارة الى فنَاء الدُّنْيَا وزوالها وان من فِيهَا كَأَنَّهُ مبْنى على أمواج الْبَحْر هَذَا مَا قَالَه الشَّيْخ شيخ وَكَانَت وَفَاة السَّيِّد مُحَمَّد فى سنة سِتّ بعد الالف
مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين أَبُو عبد الله شمس الدّين البابلى القاهرى الازهرى الشافعى الْحَافِظ الرحلة أحد الاعلام فى الحَدِيث وَالْفِقْه وَهُوَ أحفظ أهل عصره لمتون الاحاديث وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها وَكَانَ شُيُوخه وأقرانه يعترفون لَهُ بذلك وَكَانَ اماما زاهدا ورعا بركَة من بَرَكَات الزَّمَان حكى أَنه رأى لَيْلَة الْقدر ودعا بأَشْيَاء مِنْهَا أَن يكون مثل ابْن حجر العسقلانى فى الحَدِيث فَكَانَ حَافِظًا نبيها مَا وَقع نظره قبل انكفافه على شئ الا وَحفظه بديها والذى عد من محفوظاته الْقُرْآن بالروايات والشاطبية والبهجة والفية العراقى فى أصُول الحَدِيث والفيه ابْن مَالك وَجمع الْجَوَامِع وَمتْن التَّلْخِيص وَغَيرهَا وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة مِنْهَا فتح البارى لِابْنِ حجر وَكَانَ قدم بِهِ؟ أَبوهُ من قريتهم بابل من أَعمال مصر الى الْقَاهِرَة وَهُوَ صَغِير دون التَّمْيِيز وسنه دون ارْبَعْ سِنِين وأتى بِهِ الى خَاتِمَة الْفُقَهَاء الشَّمْس الرملى وَهُوَ مُنْقَطع فى بَيته فَدَعَا لَهُ بِخَير وَدخل فى عُمُوم(4/39)
اجازته لاهل عصره وَلما ترعرع لزم النُّور الزيادى وَالشَّيْخ على الحلبى وَالشَّيْخ عبد الرؤف المناوى وَأخذ الحَدِيث والعربية وَغَيرهمَا عَن الْبُرْهَان اللقانى وأبى النجا سَالم السنهورى والنور على الاجهورى المالكيين وَأخذ علم الاصول والمنطق والمعانى وَالْبَيَان عَن الشهَاب الغنيمى والشهاب أَحْمد بن خَلِيل السبكى والشهاب أَحْمد بن مُحَمَّد الشلبى وخاله الشَّيْخ سُلَيْمَان البابلى وَالشَّيْخ صَالح بن شهَاب الدّين البلقينى ومشايخه فى الْعُلُوم لَا يُمكن حصرهم مِنْهُم الشَّيْخ حجازى الْوَاعِظ وَالشَّيْخ أَحْمد بن عِيسَى الكلبى وَالْجمال يُوسُف الزرقانى وَالشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد النحريرى وَالشَّيْخ سَالم الشبشيرى وَالشَّيْخ مُوسَى الدهشينى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الجابرى وَالشَّيْخ عبد الله الدنوشرى وَالشَّيْخ سيف الدّين المقرى وَالشَّيْخ أَحْمد السنهورى وجد واجتهد الى أَن وصل الى مَا لَا يطْمع فى الْوُصُول اليه من اهل زَمَانه أحد وَكَانَ من أحسن الْمَشَايِخ سيرة وَصُورَة وَكَانَ لَهُ فى الطَّرِيق قدم راسخ يواظب على التَّهَجُّد وَصرف عمره فى الدُّرُوس والنفع التَّام وَكَانَ قانعا باليسير عَارِفًا نَفسه كَمَال الْمعرفَة حكى بعض الاخباريين أَنه سمع عَلامَة الزَّمَان يحيى بن عمر المنقارى مفتى الرّوم يَقُول كنت وَأَنا قَاض بِمصْر وجهت الى البابلى تدريس الْمدرسَة الصلاحية بعد موت الشَّمْس الشوبرى وَهُوَ مَشْرُوط لَا علم عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة قَالَ وكتبت تقريرها وأرسلته اليه فجَاء الى وَامْتنع من قبُولهَا جدا مَعَ الاقدام عَلَيْهِ مارت وَادّعى أَنه لَا يعرف نَفسه أَنه أعلم عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة قَالَ فَقلت لَهُ حِينَئِذٍ تنظر لنا الْمُسْتَحق لَهَا من هُوَ حَتَّى نوجهها لَهُ فَقَالَ اعفنى من هَذَا أَيْضا وَانْصَرف وَذكره الشلى فى تَارِيخه الْمُرَتّب وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ وَهُوَ مِمَّن تزينت ببديع صِفَاته الْمَدْح ونشرت على الدُّنْيَا خلع الْمنح أَقْلَام فتواه مَفَاتِيح مَا أرتج من الْمسَائِل المشكله وَالْعلم بَاب مفتاحه المسئله وَأما حَاله فى القاء الْعُلُوم وَنشر مطارف المنثور مِنْهَا والمنظوم فَكَانَ فَارس ميدانها وناظورة ديوانها ومشكاة أضوائها وعارض أنوائها وَسَهْم اصابتها وطراز عصابتها قد تأنس بِهِ معقولها ومسموعها وقرت عينا أُصُولهَا وفروعها يجرى على طرف لِسَانه حَدِيثهَا وتفسيرها وينقاد لعلم بَيَانه تنقيحها وتحريرها وطوع يَدَيْهِ تواريخها وسيرها وَنصب عَيْنَيْهِ انشاؤها وخبرها كلما أَقرَأ فَنًّا من الْفُنُون ظن السامعون أَنه لَا يحسن غَيره وَقد حج مَرَّات وجاور بِمَكَّة عشر سِنِين وَأخذ عَنهُ جماعات لَا يُحصونَ فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ من أهل(4/40)
الْقَاهِرَة الشَّيْخ مَنْصُور الطوخى والشهاب أَحْمد البشبيشى وَالشَّمْس مُحَمَّد بن خَليفَة الشوبرى وَمن أهل الشَّام الشَّيْخ عبد الْقَادِر الصفورى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الخباز الْمَعْرُوف بالطنينى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن على المكتبى وَمن أهل مَكَّة الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الرؤف وَالشَّيْخ عبد الله بن طَاهِر العباسى وَالشَّيْخ على الايوبى وَالشَّيْخ على بن أَبى البقا وَالشَّيْخ اسكندر المقرى وَالشَّيْخ سعيد بن عبد الله باقشير وَالشَّيْخ عدب المحسن القلعى وَالشَّيْخ ابراهيم بن مُحَمَّد الزنجبيل والشخي على باحاج وَمن أهل الْمَدِينَة شَيخنَا المرحوم ابراهيم الخيارى وَغَيرهم وَله فهرست مجمع مروياته وشيوخه ومسلسلاته جمعهَا تِلْمِيذه شيخ مَشَايِخنَا الْعَلامَة عِيسَى بن مُحَمَّد الجعفر المغربى فى نَحْو خَمْسَة كراري حصلت عَلَيْهَا من تفضلات شَيخنَا الامام أَحْمد بن مُحَمَّد النخلى المكى عِنْدَمَا أجازنى بِجَمِيعِ مروياته فى حرم الله الامين يَوْم الاربعا ثانى ذى الْحجَّة سنة احدى وَمِائَة وَألف وَمَعَ تبحره فى الْعُلُوم لم يعتن بالتأليف وألجئ الْوَزير الاعظم أَحْمد باشا الْفَاضِل الى تأليف كتاب فى الْجِهَاد وفضائله فألف فِيهِ فى أَيَّام قَليلَة كتابا حافلا أَتَى فِيهِ بالعجب من الاثار الْوَارِدَة فِيهِ وَأَحْكَامه المختصة بِهِ وَكَانَ ينْهَى عَن التَّأْلِيف وَيَقُول التَّأْلِيف فى هَذِه الازمان من ضياعة الْوَقْت فان الانسان اذا فهم كَلَام الْمُتَقَدِّمين الْآن واشتغل بتفهيمه فَذَاك من أجل النعم وَأبقى لذكر الْعلم ونشره والتأليف فى سَائِر الْفُنُون مفروغ مِنْهُ واذا بلغه ان أحدا من عُلَمَاء عصره ألف كتابا يَقُول لَا يؤلف أحد كتابا الا فى أحد أَقسَام سَبْعَة وَلَا يُمكن التَّأْلِيف فى غَيرهَا وهى اما ان يؤلف فى شئ لم يسْبق اليه يخترعه أَو شئ نَاقص يتممه أَو شئ مستغلق يشرحه أَو طَوِيل يختصره دون أَن يخل بشئ من مَعَانِيه أَو شئ مختلط يرتبه أَو شئ اخطأ فِيهِ مُصَنفه يُبينهُ أَو شئ مفرق يجمعه قلت وَيجمع ذَلِك قَول بَعضهم شَرط الْمُؤلف أَن يخترع معنى أَو يبتكر مبْنى وَحصل لَهُ عَارض فى فى عَيْنَيْهِ أذهب بَصَره قبل انْتِقَاله بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ اذا طالع لَهُ أحد حثه على الاسراع بِحَيْثُ ان السَّامع لَا يفهم مَا يقرأه القارى واذا توقف القارى فى مَحل سابقه بِالْفَتْح عَلَيْهِ حَتَّى كانه يحفظ ذَلِك الْكتاب عَن ظهر قلب وَكَانَ كثير الْعِبَادَة يواظب على قِرَاءَة الْقُرْآن سرا وجهرا وَكَانَ راتبه فى كل يَوْم وَلَيْلَة نصف الْقُرْآن وبختم يَوْم الْجُمُعَة ختمة كَامِلَة وَكَانَ كثير الْبكاء عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن وَلَا يُفَارِقهُ خوف الله فى جَمِيع الاحيان وَكَانَ يعْفُو عِنْد الاقتدار وَله خلق سهل رضى وَكَانَ مَحَله(4/41)
يشْتَمل على حكايات ونكات وَكَانَ منصفا حد الانصاف حكى لى بعض الْعلمَاء وَأَنا بِمَكَّة عَن الشهَاب البشبيشى عَن البابلى انه كَانَ يَقُول اذا سئلنا من أفضل الائمة نقُول أَبُو حنيفَة وَبِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فقد اجْتمعت فِيهِ الصِّفَات الْحَسَنَة بأسرها وَلم يكن فى وقته أرأس مِنْهُ وَلَا أروع وَلَا أَكثر تقللا قَالَ الشهَاب العجمة عِنْدَمَا تَرْجمهُ فى مشيخته وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ألف وَتوفى عصر يَوْم الثلاثا خَامِس وعشرى جُمَادَى الاولى سبع وَسبعين وَألف ورثاه شَيخنَا ابراهيم الخيارى بقصيدة طَوِيلَة ذكرهَا فى رحلته وَلم يعلق فى خاطرى مِنْهَا الا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ
(قد ختم الْعلم بِهِ ... فأرخوه الخاتمه)
وَذكر لى بعض الاخوان ان أَبَا بكر الصفورى الدمشقى نزيل مصر رثاه بقصيدة مطْلعهَا
(مَا أرى نَصهَا من الاطراف ... غير موت الائمة الاشراف)
وَلم أَقف عَلَيْهَا بِتَمَامِهَا وَالله أعلم
مُحَمَّد بن علوى بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن علوى بن أَحْمد بن أَبى بكر بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف نزيل الْحَرَمَيْنِ نادرة الزَّمَان وَعلم الْعلمَاء ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد ببندر الشحر وَحفظ الْقُرْآن ولازم قِرَاءَته وَصَحب الْعلمَاء فَأول من صَحبه الامام الْعَارِف بِاللَّه نَاصِر الدّين بن أَحْمد بن لاشيخ أَبى بكر بن سَالم وتربى فى حجره وَأخذ التصوف وَالْفِقْه عَن الْفَقِيه السَّيِّد عمر باعمر ثمَّ رَحل الى مَدِينَة الاشراف تريم وَأخذ عَن شمس الشموس زين العابدين ابْن على بن عبد الله العيدروس وَعَن السَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَعَن السَّيِّد الْكَبِير أَحْمد بن حُسَيْن العيدروس والعارف بِاللَّه عبد الله بن أَحْمد الصيدروس والعارف بِاللَّه تَعَالَى زين بن حُسَيْن بَافضل وَغَيرهم ومأرمه شيخ السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل بالخلوة فى زَاوِيَة مَسْجِد الشَّيْخ على أَرْبَعِينَ فَفعل وَحصل لَهُ الْفَتْح وَظَهَرت لَهُ أُمُور ثمَّ رَحل الى قَرْيَة السادات الْمَشْهُورَة بعينات فَأخذ عَن امامها الْمُقدم الشَّيْخ الْحُسَيْن بن أَبى بكر بن سَالم وَعَن أَخَوَيْهِ الحامد وَالْحسن وَغَيرهم من السَّادة وَأخذ عَن الشَّيْخ الْعَارِف الاديب الامام حسن بن أَحْمد باشعيب الانصارى ورحل الى الْهِنْد وَأخذ عَن الشَّيْخَيْنِ السيدين الجليلين عبد الْقَادِر بن شيخ الله وَمُحَمّد بن عبد الله العيدروس وَأمره الشَّيْخ عبد الْقَادِر بالرحلة الى الشَّيْخ الولى السَّيِّد عبد الله بن على فَرَحل اليه(4/42)
وَهُوَ بالقرية الشهيرة بالوهظ ولازم صحبته وَألبسهُ الْخِرْقَة وَحكمه وَأمره بِالْحَجِّ سنة تسع عشرَة وَألف فحج حجَّة الاسلام وزار جده رَسُول الله
ثمَّ عَاد الى شيخ وَقد أجزل من الْفضل فَأقبل عَلَيْهِ وزوجه ابْنَته ثمَّ انْتقل شَيْخه فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف فحج عَن شَيْخه حجَّة الاسلام ثمَّ رَجَعَ الى وهط الْيمن وَأَرَادَ أَن يَجْعَلهَا محلا للوطن فَلم تطب لَهُ فَرجع الى وَطنه بندر الشحر وَكَانَ فى غَايَة الخمول وَيخْفى حَاله فَمَا مضى عَلَيْهِ زمن الا حصل لَهُ ظُهُور عَجِيب وَظَهَرت مِنْهُ خوارق واشتهر فى جَمِيع تِلْكَ الْبلدَانِ وقصده النَّاس ثمَّ قصد قطر الْحجاز وتوطن بِهِ واعتقده أَهله وانقعد على ولَايَته الاجماع وَكَانَ ملْجأ للوافدين قَالَ الشلى وَهُوَ من أدل مشايخى فى علم الْحَقِيقَة أَخذ عَنهُ الطَّرِيقَة وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة كَثِيرُونَ وَأما كرمه وايثاره فَكَانَ غَايَة لَا يدْرك وَله كرامات مِنْهَا استقامته على طَريقَة وَاحِدَة يواطب على الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَلَا يمضى عَلَيْهِ سَاعَة الا وَهُوَ مشتغل بِطَاعَة وَمِنْهَا ان الدُّنْيَا لَا تذكر بِحَضْرَتِهِ وَلَا الْغَيْبَة وَلَا النميمة وَمِنْهَا ان من رَآهُ ذكره الله تَعَالَى وَمن شَاهده ذهل عَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمِنْهَا انه مَا دَعَا لَاحَدَّ من أَصْحَابه الا اسْتُجِيبَ دعاؤه وَمِنْهَا انى أول ملاقاتى لَهُ خطر بالبال أَن يلفننى الذّكر فَمَا اسْتمرّ خاطرى الا وَقد نظر الى وَأَقْبل بِوَجْهِهِ على ولقننى الذّكر الذى خطر وَله كرامات غير مَا ذكره وعَلى الْجُمْلَة فَهُوَ بَقِيَّة السّلف وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة بعد صَلَاة الْجُمُعَة لاربع عشرَة خلت من شهر ربيع الثانى سنة احدى وَسبعين وَألف وَحضر جنَازَته سُلْطَان مَكَّة فَمن دونه وَدفن شروق يَوْم السبت بمقبرة المعلاة وَعمل على قَبره تَابُوت عَظِيم وَهُوَ بِقرب قبر أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة رضى الله عَنْهَا
مُحَمَّد بن على بن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن السقاف الحضرمى كَانَ من كبار الْعلمَاء لَهُ مَنَاقِب مأثوره ومآثر مشهوره قَالَ الشلى ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن وَالِده الشَّيْخ على ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَصَحب جمَاعَة من العارفين وَسمع الحَدِيث وَلبس الْخِرْقَة من وَالِده وَغَيره وَحكمه وَالِده وَأَجَازَهُ بالالباس والتحكيم وَلزِمَ الطَّاعَة وَكَانَ وَالِده يثنى عَلَيْهِ كثيرا وَلما ولد رأى وَالِده وَغَيره فى جَبهته آيَة الكرسى واعتقد بعض جهلة الْعَوام انه المهدى المنتظر وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف بِمَدِينَة تريم وَدفن لَهَا
مُحَمَّد بن على الملقب شمس الدّين العلمى القدسى الدمشقى الْفَقِيه الحنفى وَهُوَ خَال(4/43)
الشَّيْخ مُحَمَّد بن عمر العلمى الصوفى الآتى ذكره قَرِيبا ان شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا يعرف بالعالم وَذَاكَ بالصوفى وَهُوَ سبط شيخ الاسلام بن أَبى شرِيف رَئِيس الْعلمَاء فى زَمَانه وَكَانَ عَالما عَاملا حسن الِاعْتِقَاد فى النَّاس وَكَانَ الين المقادسة المقيمين بِدِمَشْق عَرِيكَة وَأَحْسَنهمْ مَوَدَّة منصفا فى الْبَحْث غَايَة فى الاستحضار ذكره النَّجْم فى الذيل وَقَالَ فى تَرْجَمته طلب الْعلم فى بَلَده ثمَّ دخل الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على الشَّيْخ أَمِين الدّين بن عبد العال وَالشَّيْخ زين بن نجيم صَاحب الاشباه وَالْبَحْر وَالشَّيْخ على بن غَانِم المقدسى وَغَيرهم وَأخذ النَّحْو عَن الشَّمْس الفارضى المصرى ثمَّ دخل دمشق وقطنها آخرا وَصَحب شَيخنَا الشَّيْخ زين الدّين بن سُلْطَان وَكَانَ يتَرَدَّد اليه كثيرا وَكَانَ يدرس ويفيد وَولى آخر أمره تدريس القضاعية الْحَنَفِيَّة بعد الشَّمْس بن المنقار وَأفْتى بعد وَفَاة شَيخنَا القاضى محب الدّين وَكَانَ فى حَيَاته يتَرَدَّد اليه وَكَانَ شَيخنَا القاضى يعظمه وَيعرف حَقه قَالَ وأنشدنى لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع شهر ربيع الاول سنة ثَمَان عشرَة وَألف قَالَ أنشدنى شَيخنَا الْعَلامَة الشَّاعِر الْجيد الْفَاضِل الشَّمْس مُحَمَّد الفارضى المصرى الحنبلى وذكران البيضاوى خطأ من أدغم الرَّاء فى اللَّام وَنسبه الى أَبى
(أنكر بعض الورى على من ... أدغم فى اللَّام عِنْد رَاء)
(وَلَا تخطى أَبَا شُعَيْب ... وَالله يغْفر لمن يَشَاء)
وأنشدنا لَهُ
(اجرر محلا وانصباً وارفعنا ... فى رَبنَا مَعَ اننا سمعنَا)
وَكَانَت وَفَاته فى نَهَار الِاثْنَيْنِ السَّابِع من ذى الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن على الشبراملسى المالكى الامام الْجَلِيل الْجَامِع للعلوم الذى تضلع مِنْهَا وَصرف أوقاته فى التَّحْصِيل والتفريع والتأصيل وَانْفَرَدَ فى عصره بالعلوم الحرفية والاوفاق والزايرجة وَبَقِيَّة الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح على ايساغوجى فى الْمنطق وَقد أَخذ عَن شُيُوخ مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد الشناوى الخامى وَعنهُ الشَّيْخ مسوى القليبى وَكَانَ فى سنة احدى وَعشْرين وَألف مَوْجُودا
مُحَمَّد بن على المنعوت شمس الدّين بن عَلَاء الدّين بن بهاء الدّين البعلى الشهير بِابْن الفصى الْفَقِيه الشافعى مفتى ديار بعلبك وآباؤه كلهم رُؤَسَاء الْعلم بِتِلْكَ النَّاحِيَة كَانَ مَشْهُورا بِالْفَضْلِ الوافر وَله تآليف مِنْهَا شرح الْبردَة سَمَّاهُ الْخَلَاص من الشده وَكَانَ قَرَأَ على عَمه الشَّيْخ أَبى الصَّفَا فى بعلبك ورحل الى دمشق فَقَرَأَ على الشهَاب(4/44)
الطيبى الصَّغِير والشهاب العيثاوى وَرجع الى بَلَده ودرس بِالْمَدْرَسَةِ النورية وَتفرد بهَا عِنْد انْقِرَاض الْفُضَلَاء وحمدت طَرِيقَته وَأفْتى مُدَّة وَعظم شَأْنه ثمَّ لما ماست الامير مُوسَى بن على بن الحرفوش أَمِير بعلبك وَاسْتولى عَلَيْهَا الامير يُونُس ابْن عَمه بعد فتْنَة ابْن جانبولاذ رَحل الى دمشق مَعَ من رَحل من بعلبك وَسكن دمشق مُدَّة ثمَّ ألجأته الضَّرُورَة الى الرُّجُوع اليها فَلم ير من الامير يُونُس مَا كَانَ يعهده من الاقبال فَصَارَ كَاتبا محكمَة بعلبك وَأقَام بهَا وَكَانَ أديبا حسن الشّعْر وَكَانَ بَينه وَبَين الْحسن البورينى محبَّة أكيدة وَأَنا شيد وَذكره فى تَارِيخه وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وكتبت اليه مرّة مَكْتُوبًا مرغوبا وقررت فِيهِ مراما مَطْلُوبا ورقت فى صَدره هَذِه الابيات
(يَا لَيْت شعرى وَالزَّمَان تنقل ... هَل نلتقى من بعد طول تفرق)
(أم هَل يعود الْقرب بعد تبَاعد ... وتزول اسباب الْفِرَاق ونلتقى)
(يَا قلب مهلا قد أطلت تحسرى ... وحبست فى طرفى القريح تأرقى)
( ... ومنعت عينى ان تشاهد منْظرًا ... يحلو لَهَا أَو حسن روض مونق)
(أسفا على تِلْكَ الليالى ليتها ... طَالَتْ وليل الْوَصْل فِيهَا قد بقى)
فَكتب الى بعد مُدَّة الْجَواب ورقم فى أَوله هَذِه الابيات مُشِيرا الى أَمر أوهم خاطره حُصُول بعض الْمُضْمرَات فَقَالَ
(قَالَ العداة واكثروا لَا امهلوا ... وجوانحى حذرا عَلَيْك تحرق)
(أَمْسَى وَأصْبح والها متنسما ... خَبرا بِروح نسيمه أترفق)
(هَذَا ولى جسم أَسِير قلبه ... بيد الهموم ودمع عينى مُطلق)
(ولسان سرى لَا يزَال مكررا ... يَا رب صنه على مِمَّا أشْفق)
قَالَ فأجبته بمكتوب كتبت فى صَدره هَذِه الابيات مُشِيرا لى رد مَا توهمه من الْمُضْمرَات على حِكَايَة بعض الحساد لَا فازوا بِحُصُول مُرَاد فَقلت
(كذبت ظنون الحاسدين وأخفقوا ... وتعذبوا طول المدى وتحرقوا)
(لَا كَانَ مَا راموه من آمالهم ... وَتَفَرَّقُوا أيدى سبا وتمزقوا)
(يلغون فى حقى وَذَلِكَ منهمو ... سَبَب لاظهار الْكَمَال مُحَقّق)
(مَاذَا يروم الحاسدون من الذى ... طول الزَّمَان لَهُ الصفاء الْمُطلق)
(مَا كَانَ مِنْهُ الْكسر يَوْمًا لامرئ ... من دهر مفيه انكسار موبق)
(بل دأبه جبر الْقُلُوب وَهَذِه ... صفة بهَا كل الْخَلَائق تنطق)(4/45)
(يَا سيدى وَأَنا الذى أختاره ... يشفى وداد فى فؤادى يورق)
(وصلت رِسَالَتك الَّتِى أبدعها ... وبضمنها روض الْكَمَال منمق)
(وافت وَكنت مُسَافِرًا فلقيتها ... وَقت الْقدوم وفى الْفُؤَاد تشوق)
(فقنعت مِنْهَا بِالسَّلَامِ وَمن لقا ... أهل لَهُم طول المدى أتشوق فَبَقيت مِنْهَا بِالسَّلَامِ وَمن لقا ... أهل لَهُم طول المدى أتشوق)
(فَبَقيت تحفظ للصديق وداده ... واليك أحداق السَّعَادَة تحدق)
وَمن شعره مَا كتبه الى البورينى أَيْضا فى صدر كتاب
(يَا سادتى قسما بلطف صنيعكم ... وَهُوَ الْيَمين لَدَى لما أَحْلف)
(مَا حلت عَن عهد الْمَوَدَّة لَحْظَة ... وَالله يشْهد والملائك تعرف)
قلت وَأورد فى شرح الْبردَة عِنْد الْكَلَام على قَوْله
(فَكيف تنكر حبا بَعْدَمَا شهِدت ... بِهِ عَلَيْك عدُول الدمع والسقم)
بَيْتَيْنِ ونسبهما لنَفسِهِ وهما فى غَايَة الرقة
(قلبى وطرفى ذَا يسيل دَمًا وَذَا ... دون الورى أَنْت الْعَلِيم بقرحه)
(وهما بحبك شَاهِدَانِ وانما ... تَعْدِيل كل مِنْهُمَا فى جرحه)
ثمَّ رأيتهما فى أَمَاكِن كَثِيرَة منسوبين للظهير الاربلى وَذكر فى بعض مروياته فى شرف الْعلم وان الارض قد حرم عَلَيْهَا أَن تَأْكُل أجساد الْعلمَاء كَمَا ورد فى الحَدِيث قَالَ أنشدنا شَيخنَا النسفى الشافعى قَالَ أنشدنا القاضى زَكَرِيَّاء قَالَ أنشدنا شَيخنَا ابْن كَمَال باشا من نظمه
(لَا تَأْكُل الارض جسما للنبى وَلَا ... لعالم وشهيد الْقَتْل معترك)
(وَلَا لقارئ قُرْآن ومحتسب ... أَذَانه لَا لَهُ مجْرى الْفلك)
وللبهائى صَاحب الترجمه
(تعلم فان الْعلم زين لاهله ... وَصَاحبه مَا زَالَ قدما مبجلا)
(وانى بتقوى الله أوصيك دَائِما ... وبالجد فى الْعلم الشريف لتفضلا)
(وَلَا تتركن الْعلم يَوْمًا وَكن فَتى ... حَرِيصًا على جمع الْعُلُوم فتكملا)
(ويشركنى فى صَالح من دُعَائِهِ ... فظهرى بأوزار غَدا متثقلا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته ببعلبك نَهَار الِاثْنَيْنِ سَابِع وعشرى شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَعشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن على بن ابراهيم الاسترابادى نزيل مَكَّة المشرفة الْعَالم الْعَلامَة صَاحب(4/46)
كتب الرِّجَال الثَّلَاثَة الْمَشْهُورَة لَهُ مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح آيَات الاحكام ورسائل مفيدة وَصيته بِالْفَضْلِ التَّام شَائِع ذائع وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة لثلاث عشرَة خلون من ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف
الامير مُحَمَّد بن على السيفى الطرابلسى أحد أُمَرَاء بنى سَيْفا حكام طرابلس الشَّام وولادتها الْمَشْهُورين بِالْكَرمِ والادب كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فى هَذَا الْعَصْر كبنى برمك فى عصرهم فضلا وكرما ونبلا مَا برحوا فى طرابلس لَهُم الْعِزَّة الزاهره وَالْحُرْمَة الباهره والدولة الظاهره وهم مقصد كل شَاعِر ومورد كل مادح ومدحهم شعراء كَثِيرُونَ قصدوهم وَكَانَ يُعْطون أعظم الجوائز وَكَانَ الامير مُحَمَّد بَينهم كالفضل فى بنى برمك وَكَانَ من أهل الادب الظَّاهِر وَالْفضل السامى أديبا فَاضلا بليغا ولى حُكُومَة طرابلس بعد الامير يُوسُف السيفى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى وبذل العطايا وَكَانَت احساناته تستغرق الْعد ويحكى عَنهُ من ذَلِك مَا يبعد وُقُوعه فَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ الاديب الشَّاعِر مُحَمَّد بن ملحة العكارى وَكَانَ من شعراء الامير المختصين بِهِ قَالَ لما دهم الامراء بنى سَيْفا الْخطب من فَخر الدّين بن معن وَركب عَلَيْهِم وحار بهم كنت اذ ذَاك فى خدمَة الامير مُحَمَّد فَمَا بَرحت أدافع عَنهُ بالمقاتلة حَتَّى لقينى رجل من عَسْكَر ابْن معن فضربنى على رجلى بِسيف فجرحها فَبعث بى الامير الى منزله وَأمر بمعالجة رجلى حَتَّى برأت وَكَانَ أَمرهم انْتهى الى الصُّلْح والصافاة فَخرج الامير يَوْمًا الى التَّنَزُّه وَأَنا مَعَه وَكَانَ الْفَصْل فصل الرّبيع وَقد أزهرت الاشجار فَجَلَست الى جَانب شَجَرَة مزهرة فسألنى عَن رجلى فَقلت قد برأت وَأُرِيد أَن أريك قوتها ثمَّ ضربت بهَا تِلْكَ الشَّجَرَة فَتَنَاثَرَ من نوارهاشئ كثير فسر بذلك وَأمر لى بجائزة من الدَّنَانِير بِمِقْدَار مَا سقط من النوار وَكَانَ شَيْئا كثيرا واختص بِهِ جمَاعَة من الشُّعَرَاء كحسين بن الجزرى الحلبى وسرور ابْن سِنِين وَكَانَ يَقع بَينهمَا محاورات بِحَضْرَتِهِ حَتَّى خَاطب الامير مُحَمَّد بن الجزرى بقوله معرضًا بسرور وَقد كَانَ انْقَطع عَن الْمجْلس أَيَّامًا
(وحقك مَا تركت عَن ملال ... وسهو أَيهَا الْمولى الامير)
(وَلَكِن مذ ألفت الْحزن قدما ... أنفت مواطنا فِيهَا سرُور)
وأنشده بديهة فى مجْلِس شراب وسرور حَاضر وَقد ألْقى فرَاش نَفسه الى النَّار
(يظنّ الْفراش اللَّيْل سجنا مُؤَبَّدًا ... عَلَيْهِ وضوء الشَّمْس من سجنه بَابا)(4/47)
(كَذَاك السخيف الْعقل يقصى مهذبا ... كَرِيمًا ويدنى نَاقص الْعقل مُرْتَابا)
وَطلب الامير حُسَيْنًا لَيْلَة للشُّرْب فَجَاءَهُ وَهُوَ سَكرَان فأنشده ارتجالا
(يَا ابْن المكارم والعلا ... انى أريك الذَّنب منى)
(فَلَقَد ثملت بليلتى ... فى منزلى من خمردنى)
(وَالْعَفو من شيم الْكِرَام فان تشَاء عَفَوْت عَنى)
وأنشده بديهة فى مجْلِس شراب
(خلونا بدار للمدام تكَاد أَن ... تماثلها الافلاك لَوْلَا نعيمها)
(فهذى الندامى كالبدور شمسها الامير وأقداح المدام نجومها ... )
وَكَانَ مَعَه فى قبولا بجبل عكار فَأوقد نَار اشعاعها مُتَّصِل بالجو فأنشده بِأَمْر مِنْهُ
(كَأَن نارك يَا مولاى قلب شج ... بِهِ الصبابة تعلو حِين تشتعل)
(وَمن أشعتها فى الجو أَلْسِنَة ... تَدْعُو الاله ببقياكم وتبتهل)
وسافر الامير مُحَمَّد الى حلب فى عَاشر ذى الْحجَّة سنة أَربع وَعشْرين وَألف فَبلغ حَسبنَا أَن بعض حساده اكثروا الوقيعة فِيهِ عِنْده فأنشده قصيدته الْمَشْهُورَة
(هلما نحييها ربى وربوعا ... وهيا نسقيها دَمًا ودموعا)
وهى من أعذب شعره وأحلاه وَلَوْلَا شهرتها لذكرتها بِتَمَامِهَا وللامير مُحَمَّد بن القريض مواليا كثير وَلم أظفر لَهُ بشئ من الشّعْر وَلَعَلَّه كَانَ ينظم وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بِمَدِينَة قونية مسموماً وَكَانَ مُتَوَجها الى الرّوم هَكَذَا رَأَيْته بِخَط الاديب عبد الْكَرِيم الطارانى وَلما بلغ ابْن الجزرى خبر وَفَاته قَالَ يرثيه
(وَلما احتوت أيدى المنايا مُحَمَّد الامير بن سَيْفا طَاهِر الرّوح وَالْبدن)
(تعجبت كَيفَ السَّيْف يغمد فى الثرى ... وَكَيف يوارى الْبَحْر فى طية الْكَفَن)
حكى ان أُخْتا للامير مُحَمَّد سَمِعت بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فَبعثت الى ابْن الجزرى بسبعمائة قِرْش وَفرس وَكَانَ الامير الْمَذْكُورَة نظام الْبَيْت السيفى وَمن بعده تقلب بهم الزَّمَان وَخرجت عَنْهُم الْحُكُومَة وَتَفَرَّقُوا أيادى سبا وَحكى لى بعض الادباء قَالَ أخبرنى بعض الادباء قَالَ أخبرنى بعض الاخوان انه جاور مِنْهُم امْرَأَة بِدِمَشْق وَكَانَت تعرف الشّعْر حق المعرة قَالَ فسألتها يَوْمًا عَن دولتهم وَمَا كَانُوا فِيهِ من النِّعْمَة فتنهدت وأنشدت(4/48)
(كَانَ الزَّمَان بِنَا غرافا فَمَا بَرحت ... بِهِ الليالى الى أَن فطنته بِنَا)
مُحَمَّد بن على بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالحريرى وبالحرفوشى العاملى الدمشقى اللغوى النحوى الاديب البارع الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ فى الْفضل نخبة أهل جلدته وَله تصانيف كَثِيرَة مِنْهَا شرح الاجرومية فى مجلدين سَمَّاهُ اللآلى السّنيَّة وَشرح شرح الفاكهى وَشرح التَّهْذِيب وحاشية شرح الْقَوَاعِد ونهج النجاه فِيمَا اخْتلف فِيهِ النحاه وَشرح الزبدة فى الاصول وطرائف النظام ولطائف الانسجام فى محَاسِن الاشعار وَغير ذَلِك قَرَأَ بِدِمَشْق وَحصل وسما وَحضر دروس العمادى الْمُفْتى وَكَانَ العمادى يجله وَيشْهد بفضله وَطَلَبه الْمولى يُوسُف بن أَبى الْفَتْح لاعادة درسه فحضره أَيَّامًا ثمَّ انْقَطع فَسَأَلَ الفتحى عَن سَبَب انْقِطَاعه فقيله انه لَا يتنزل لحضور درسك فَكَانَ ذَلِك الْبَاعِث على اخراجه من دمشق وسعى الفتحى عِنْد الْحُكَّام على قَتله بِنِسْبَة الرَّفْض اليه وَتحقّق هُوَ الامر فَخرج من دمشق الى حلب هَارِبا ثمَّ دخل بِلَاد الْعَجم فَعَظمهُ سلطانها شاه عَبَّاس وصيره رَئِيس الْعلمَاء فى بِلَاده وَكَانَ وَهُوَ بِدِمَشْق خامل الذّكر وَكَانَ يصنع القماش العنايات الْمُتَّخذ من الْحَرِير وَلذَلِك قيل لَهُ الحريرى وَكَانَ كثير من الطّلبَة يقصدونه وَهُوَ فى حانوته يشْتَغل فيقرؤن عَلَيْهِ وَلَا يشْغلهُ شاغل عَن الْعلم وَكَانَ فى الشّعْر مكثرا محسنا فى جَمِيع مقاصده وَقد جمعت من أشعاره أَشْيَاء لَطِيفَة فَمن ذَلِك قَوْله
(حبانى الوجد والحرقا ... وأودع مقلتى الارقا)
(وروع بالجفا قلبا ... بِغَيْر هَوَاهُ مَا علقا)
(رنا بصوارم خدم ... تسمت بَيْننَا حدقا)
(حمى أوراد وجنته ... بأسود خَاله ووقا)
(ولاح بواضح أضحى ... لَهُ شمس الضُّحَى شفقا)
(لَهُ خصر بألحاظ الورى مَا زَالَ منتطقا ... )
هَذَا كَقَوْل المتنبى
(وخصر تثبت الاحداق فِيهِ ... كَانَ عَلَيْهِ من حدق نطاقا)
وَفِيه تعَارض مَعَ السرى الرفاقى قَوْله
(أحاطت عُيُون العاشقين بخصره ... فهن لَهُ دون النطاق نطاق)
(فيا لله من بدر ... غَدا قلبى لَهُ أفقا)(4/49)
(أَلا يَا حبذا زمن ... حظيت بِهِ ونلت لقا)
(زمَان لم أجد مِنْهُ ... لشمل الْوَصْل مفترقا)
(أهيم بسالف حلك ... وأهوى وَاضحا يققا)
(تولى مسرعا عنقًا ... وَمر كطارق طرقا)
(وطبع الدَّهْر لَا يبْقى ... على حَال وان رفقا)
(فَكُن خلوا بِهِ فَردا ... وسرفى الارض مُنْطَلقًا)
(وَكن جلد لَا ذَا مَا الدَّهْر أبدى مشربا رنقا ... )
وَقَوله
(يَا ليتها اذ لم تَجِد بوصال ... سمحت بوعد أَو بطيف خيال)
(جنحت لما رقش الوشاة ونمقوا ... من اننى سَالَ وَلست بسال)
(كَيفَ السلو ولى فؤادى لم يزل ... بجحيم نيران الصبابة صالى)
(ومدامعى لَوْلَا زفيرى لم يكد ... ينجو الورى من سحها المتوالى)
(ونحول جسم وَاحْتِمَال مكاره ... وسهاد جفن وَاد كار ليالى)
(فالام أظمأ فى الْهوى ومواردى ... فِيهِ سراب أَو لموع الْآل)
(وَلم اختيارى عَن فؤادى كل من ... ألْقى وقلبى عِنْد ذَات الْخَال)
أَخذه وَلم يحسن الاخذ من قَول الباخرزى
(قَالَت وَقد فتشت عَنْهَا كل من ... لاقيته من حَاضر أَو بادى)
(أَنا فى فُؤَادك فارم طرفك نَحوه ... ترنى فَقلت لَهَا وَأَيْنَ فؤادى)
(هيفاء رنحها الدَّلال فأخجلت ... هيف الغصون بقدها الميال)
(فى خدها الْورْد الجنى وثغرها ... يحوى لذيذ الشهد والجريال)
(حجبت محياها الدجميل ببرقع ... كرقيق غيرم فَوق بدر كَمَال)
(ونضت من الاجفان بيض صوارم ... نصرت بِهن وَلم تناد نزال)
وَقَوله من قصيدة طَوِيلَة يتفخر فِيهَا وهى من غرر قصائده ومستهلها
(الْحَمد لله أحرزت الْكَمَال وَمَا ... أرجوه مِمَّا لَدَى أهل الْعلَا حسن)
(وطلت فَوق السهى قدرا ومنزلة ... أصَاب أهل المعالى دونه الوهن)
(وطبت أصلا وقدرى قد زكا شرفا ... وحرت مجدا بِهِ الْعرْفَان مقترن)
(ونلت فضلا بِهِ الاعداء قد شهِدت ... وأعلنت وَكفى من يُنكر العلن)
(فالشمس ينكرها الخفاش لَيْسَ لَهَا ... فى ذَاك مَنْفَعَة تلفى فتمتهن)(4/50)
(أَنا ابْن قوم اذا مَا جَاءَ يسألهم ... ذُو فاقة وهبوا مَا عِنْدهم وغنوا)
(يعفون عَمَّن أَتَى فى حَقهم سفها ... وهم على الْجُود وَالْمَعْرُوف قد مرنوا)
(ويرغبون شِرَاء الْمجد مكرمَة ... مِنْهُم وجودا وَلَو أَرْوَاحهم وزنوا)
(لَكِن دهرى لم ينْهض بكلكه ... عَنى وَلَا ارْتَفَعت من صرفه المحسن)
(كَأَنَّهُ قد أتانى أَن يُذِيق بنى العلياء من بأسه الضراء اذ فطنوا ... )
(وَلم يزل قدر أهل الْجَهْل يرفعهُ ... على ذوى الْفضل طورا وَهُوَ مؤتمن)
(كم قلت من ظلمه وَالنَّاس فى سَعَة ... وَالْقلب فى سجنه بالضيق مُرْتَهن)
(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ ... تجرى الرِّيَاح بِمَا لَا تشْتَهى السفن)
وَذكره البديعى ذكرى حبيب فَقَالَ فى وَصفه امام من أَئِمَّة الْعَرَبيَّة جليل يقصر عَنهُ سِيبَوَيْهٍ والخليل وَقد أعرب كِتَابه المعنون بنهج النجاه فِيمَا اخْتلف فِيهِ النحاه عَن غزارة فَضله فانه كتاب لم تنسج يَد فكر على منواله وَلم تسمح قريحة بِمثلِهِ وَله غَيره من التصانيف المحرره والرسائل المحبره مَعَ شعر ديباجة أَلْفَاظه مصقولة وحلاوة مَعَانِيه معسوله ثمَّ أورد من شعره هَذَا القصيدة يمدح بهَا النَّجْم الحلفاوى الحلبى وأرسلها اليه من دمشق الى حلب وهى
(فؤاد الْمَعْنى فى التباعد مُودع ... بحى الذى يهوى فَلَو موه أودعوا)
(ففى قلبه شغل من الوجد شاغل ... وَلَيْسَ فى الْعَيْش بِالْعَبدِ مطمع)
(يود بِأَن يقْضى وَلم يقْض سَاعَة ... لَهُ بالنوى لَو كَانَ ذَلِك ينفع)
(وَمَا بِاخْتِيَار مِنْهُ أصبح نازحا ... وماذا الذى فِيمَا قضى الْبَين يصنع)
(سأشكو من الْبَين المفرق بَيْننَا ... الى الله عل الله بالشمل يجمع)
(فجسمى نحيل مذ نأى من أوده ... وعينى لطول الْبعد لم تَكُ تهجع)
(فَلَو عادنى العواد لم يهدم الى ... مكانى سوى مَا من أنينى يسمع)
(وَلَو عَاد من أَهْوى لعادت بِهِ القوى ... لجسم بأثواب الضنى يتلفع)
(فيا لَيْت شعرى هَل أرَاهُ وَلَو كرى ... وَهل ذَلِك الماضى من الْعَيْش يرجع)
(وَقد علم الاحباب انى مفارق ... حشاشة نفس ودعت يَوْم ودعوا)
(وَهل هم على الْعَهْد الْقَدِيم الذى أَنا ... عَلَيْهِ مُقيم أم لذَلِك ضيعوا)
(فيا سائرا يطوى المفاوز مسرعا ... فعرج وقاك الله مَا مِنْهُ تجزع)
(الى حلب الشهبا وأبلغ تحيتى ... الى من لبعدى عَنْهُم أتوجع)(4/51)
(وَخص بهَا عين الافاضل بل وَمن ... على فَضله أهل الْفَضَائِل أَجمعُوا)
(جلا غيهب الظلماء عَن كل شُبْهَة ... وَأَحْيَا رسوما للعلى وهى بلقع)
(علا رُتْبَة من دونهَا اقتعدا السهى ... وَأصْبح كل نَحْوهَا يتطلع)
(لعمرى لقد أَصبَحت للفضل منهلا ... وحضرتك العلياء للْعلم مشرع)
(عَلَيْك سَلام من محب متيم ... لطول النَّوَى أحشاؤه تتقطع)
(فبعدك أضناه وذكرك عِنْده ... هُوَ الْمسك مَا كررته يتضوع)
وَقَوله فبه أَيْضا وَهُوَ بحلب يتشوق لدمشق
(سقى جلق الفيحاء مغنى النواسم ... وجادرباها هاطلات الْغَنَائِم)
(وَلَا بَرحت تهدى اليها الصِّبَا ... نسائم يزرى نشرها باللطائم)
(وَلَا زَالَ يجرى فى أنيق رياضها ... جداول تنساب انسياب الاراقم)
(ودامت على الاغصان تهتف بالضحى ... حمائم يشجى صدحها قلب هائم)
(وَحيا الحيا تِلْكَ الْمعَاهد من فَتى ... يرى حفظ عهد الدو ضَرْبَة لَازم)
(أَلا حبذا دهر نعمت بظلها ... أتيه بِهِ مَا بَين تِلْكَ المعالم)
(هصرت بهَا هيف الغصون كَأَنَّهَا ... غصون أمالتها أكف النسائم)
(خرائد فى ألحاظها سحر بابل ... وفى لَفظهَا للمجتلى در ناظم)
(قضيت بهَا مَا تشْتَهى النَّفس نيله ... وجانبت مَا يأتى الْهوى غير واجم)
(وخالست دهرى فرْصَة مَا غنمتها ... وفرصة صفو الْعَيْش أجدى الْمَغَانِم)
(فمذبان عَنى من أحب وخيمت ... على الْقلب أخطار الجفا المتراكم)
(وَوَلَّتْ لَيَال كنت أَحسب أَنَّهَا ... تدوم وَمَا عَيْش رخى بدائم)
(تقنعت بالفكر الذى صدع الحشا ... أسامر فِيهِ سائرات النعائم)
وَمن مديحها
(سرى رقى اوج الْكَمَال بهمة ... وَجَاز السهى من قبل لى العمائم)
(هُوَ الْبَحْر حدث عَن علاهُ وفضله ... بِمَا شِئْت من قَول فلست بزاعم)
(لَهُ كرم لَو شاع فى النَّاس بعضه ... لاصبح كل جوده مثل حَاتِم)
(لَهُ قلم ان جال من فَوق طرسه ... حباه درارى الافق من كف رَاقِم)
(حوى رُتْبَة فى الْفضل قصر دونهَا ... بَنو الدَّهْر واستعصمت على كل حَازِم)
(لقد شاد ربعا للفضائل طالما ... غَدا دارس الاركان رث الدعائم)(4/52)
(بِهِ حلب فاقت على كل بَلْدَة ... وأضحت بِهِ تفتر عَن ثغر باسم)
وَله ينْدب أوقاته الْمَاضِيَة
(رعى الله أوقاتا بهَا كنت أَجْهَل الْفِرَاق وأياما بهَا أنكر الجفا)
(تقضت كلمح الْعين أَو زور طَارق ... أَتَى مسرعا أَو بارقافى الدجى خفا)
(وأبدلت مِنْهَا فرقة وتشتتا ... وبعدا وهجرا دَائِما وتأسفا)
(فيا رب أنعم باللقاء لمدنف ... والا فَكُن بالحتف يَا رب مسعفا)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله
(يَا حبيبا أضحى جميل الْمعَانى ... وَهُوَ فى الْحسن مُفْرد فى الحقيقه)
(قد مضى موعد بوصلك قدما ... وَهُوَ لاشك من علاك وثيقه)
(قَالَ لى موعدى مجَاز فَقلت الاصل فى سَائِر الْكَلَام الحقيقه ... )
قلت معنى قَوْلهم الاصل فى الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة لَيْسَ مَعْنَاهُ انه اذا دارت الْكَلِمَة بَين أَن تكون حَقِيقَة أَو مجَازًا تحمل على الْحَقِيقَة بل مَعْنَاهُ أَنه اذا علم موضوعها الحقيقى وَلم يمْنَع مَانع من ارادته لَا يعدل عَنهُ الى الْمَعْنى المجازى وَأما مَعَ جهل موضوعها الحقيقى فَتحمل على الْمجَاز قطعا لَان اسْتِعْمَال الْمجَاز فى اللُّغَة كثير بل قَالَ ابْن جنى انه أَكثر من الْحَقِيقَة قَالَ سيد الْمُحَقِّقين اثبات الْحَقِيقَة أصعب من خرط القتاد وعَلى مَا ذكر يحمل قَوْلهم الاصل فى سَائِر الْكَلَام الْحَقِيقَة وَله فى الْخَال
(قَالَ لى من غَدا امام أولى الْفضل وَرب المباحث الفلسفيه ... )
(ان عندى برهَان حق على نفسى الهيو لى وَالصُّورَة الجسمية ... )
قلت هَذَا جَار على رأى الْمُتَكَلِّمين فى الرَّد على الْحُكَمَاء من أَن اثبات النقطة يسْتَلْزم نفى الهيولى وَالصُّورَة وَقد حاول محاولة عَجِيبَة وَمثل هَذَا الِاسْتِعْمَال من ذكر أَلْفَاظ الْمُتَكَلِّمين وَنَحْوهم من المهندسين والنحويين مِمَّا قَالَ فِيهِ ابْن سِنَان الخفاجى ينبغى أَن لَا يسْتَعْمل فى الْكَلَام المنظوم والمنثور قَالَ لَان الانسان اذا خَاضَ فى علم وَتكلم فى صناعَة وَجب عَلَيْهِ أَن يسْتَعْمل أَلْفَاظ أهل ذَلِك الْعلم وَأَصْحَاب تِلْكَ الصِّنَاعَة ثمَّ مثل ذَلِك بقول أَبى تَمام
(مَوَدَّة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جَوْهَر معروفها عرض)(4/53)
قَالَ ابْن الاثير فى الْمثل السائر وَهَذَا الذى أنكرهُ هُوَ عين الْمَعْرُوف فى هَذِه الصِّنَاعَة
(ان الذى تَكْرَهُونَ مِنْهُ ... هُوَ الذى يشتهيه قلبى)
فَقَوله لَان الانسان الخ مُسلم اليه وَلكنه شَذَّ عَنهُ ان صناعَة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعَة لنها مَوْضُوعَة على الْخَوْض فى كل معنى وَهَذَا لَا ضَابِط لَهُ يضبطه وَلَا حاصر يحصره وجود الحريرى فى قَوْله
(تروم وُلَاة الْجور نصرا على العدى ... وهيهات يلقى النَّصْر غير مُصِيب)
(وَكَيف يروم النَّصْر من كَانَ خَلفه ... سِهَام دُعَاء عَن قسى قُلُوب)
وَهَذَا معنى تداولته الشُّعَرَاء وَالْحسن مِنْهُ قَول ابْن نباتة المصرى
(أَلا رب ذى ظلم كمنت لحربه ... فأوقعه الْمَقْدُور أى وُقُوع)
(وَمَا كَانَ لى الاسهام تركع ... وأدعية لَا تتقى بدروع)
(وهيهات أَن ينجو الظلوم وَخَلفه ... سِهَام دُعَاء من قسى رُكُوع)
(مريشة بالهدب من جفن ساهر ... منصلة أطرافها بدموع)
وللحريرى
(أَشْكُو الى الله لَا أَشْكُو الى أحد ... مَا نابنى من صديق يدعى الرشدا)
(صافيته من ضميرى ودذى ثِقَة ... فاعتضت مِنْهُ بمذق بِاللِّسَانِ غَدا)
(فعدت من بعده والدهر ذُو عجب ... لَا أصطفى فى الورى لى صاحبا أبدا)
وَكَانَت وَفَاته بديار الْعَجم فى شهر ربيع الثانى سنة تسع وَخمسين وَألف والحرفوشى نِسْبَة لآل الحرفوش امراء بعلبك
مُحَمَّد بن على بن عمر بن مُحَمَّد الْمَشْهُور بِابْن القارى الدمشقى الحنفى تقدم جده عمر وَابْنه حُسَيْن وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا فَاضلا نبيلا شَاعِرًا لطيفا حسن المحاضرة جيدا الْخط لَهُ كرم اخلاق وطلاقة وَجه وَكَانَ مائلا الى الصلف والفخامة ويروى عَنهُ انه كَانَ كثيرا مَا يلهج بقول بعض الكبراء أنظر يَمِينا فَلَا ارى قرينا وَشمَالًا فَلم أجد مِثَالا قَرَأَ على جده وعَلى الْمُفْتى فضل الله بن عِيسَى البوسنوى وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن الشّرف الدمشقى وتفقه بالشيخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَأخذ الحَدِيث عَن أَبى الْعَبَّاس المقرى ولازم من الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسى الْمُقدم ذكره وَفرغ لَهُ جده عَن الْمدرسَة الشامية الجوانية فدرس بهَا برتبة الدَّاخِل وَولى قَضَاء الْحَج فى سنة احدى وَخمسين وَألف وسافر الى الرّوم ونال جاها وَحُرْمَة بَين أقرانه وَكَانَ ينظم الشّعْر وَرَأَيْت هذيه(4/54)
الْبَيْتَيْنِ بِخَط بعض أَصْحَابه منسوبين اليه وهما
(خلت الْعُيُون الراميات بأسهم ... يجرحن قلبا بالعباد معذبا)
(فاعجب للحظ قَاتل عشاقه ... فى حالتيه اذا مضى واذا نبا)
// وَهُوَ معنى لطيف // وَأَصله قَول ابْن الرومى
(نظرت فأقصدت الْفُؤَاد بسهمها ... ثمَّ انْثَنَتْ عَنهُ فكا يهيم)
(وبلادى ان نظرت وان هى أَعرَضت ... وَقع السِّهَام ونزعهن أَلِيم)
وَكَانَ بَينه وَبَين أَحْمد بن شاهين مَوَدَّة الحيدة ومراسلات كَثِيرَة مِنْهَا مَا طتبه إِلَيْهِ الشاهينى فى صدر كتاب وَهُوَ فى الْحَج
(سَلام كورد فاتح مونق ندى ... على منزل فِيهِ خيام مُحَمَّد)
(مُحَمَّد قاضى الركب لَا زَالَ ساميا ... لاوج حجاز خدن رأى مُسَدّد)
(ورد الهى ذَلِك الْوَجْه سالما ... بعيش على رغم الحواسد أرغد)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة احدى عشرَة وَألف وَتوفى وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَحكى والدى فى تَرْجَمته قَالَ مِمَّا اتّفق لَهُ مَعَه انى ذهبت أَنا واياه الى عِيَادَة مَرِيض فصادفنا عِنْده يَعْقُوب الطَّبِيب اليهودى فَلَمَّا خرجنَا خرج الطَّبِيب مَعنا فَسَأَلَهُ الْقَارئ عَن الْمَرِيض فَقَالَ رُبمَا أَنه يَمُوت الْيَوْم أَو غَدا فان نبضه سَاقِط جدا ففى ثانى يَوْم من ذَلِك مرض الْقَارئ وَمَات بعد أَيَّام وَلم تمض جُمُعَة الا والطبيب مَاتَ أَيْضا وعوفى الْمَرِيض فَذكرت قَول الْقَائِل
(كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا وَمَات طبيبه وَالْعود)
السَّيِّد مُحَمَّد بن على الْمَعْرُوف بالمنير الحسينى الحموى الاصل الدمشقى الشافعى الْمَذْهَب الشَّيْخ المعمر الْمُنِير الْخَيْر الْبركَة قطب وقته كَانَ من المعمرين الاخيار اتّفق أهل عصره على صَلَاحه وديانته وَكَانَ فى جَمِيع أَحْوَاله مَاشِيا على نهج الْكتاب وَالسّنة وَعمر كثيرا قيل انه جَاوز الْمِائَة وَانْقطع مُدَّة عَن الْحَرَكَة وَله كرامات وأحوال عَجِيبَة مِنْهَا مَا حَكَاهُ بعض الثِّقَات أَنه رَآهُ فى موقف عَرَفَة وَكَانَ لم يخرج فى تِلْكَ السّنة من دمشق وَذكره والدى رَحمَه الله فى ذيله وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ وَمن شَاهد أَحْوَاله لَا يشك أَنه من الْقَوْم السالمين من الْمَحْذُور واللوم اذا حلوا ارضا أخصبت من أنواء جودهم وأضاءت بأنوار وجودهم
(اذا نزلُوا أَرضًا تولى محولها ... وَأصْبح فِيهَا رَوْضَة وغدير)(4/55)
(وان رحلوا عَنْهَا غَدَتْ ورمالها ... من الْمسك طيب وَالتُّرَاب عبير)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ بركَة الزَّمَان وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَخلف ثَلَاثَة أَوْلَاد أكبرهم السَّيِّد حسن وَتقدم ذكره فى حرف الْحَاء وأوسطهم السَّيِّد عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَالما عَاملا تقيا نقبا توفى فى سنة وثالثهم السَّيِّد اسحاق وَهُوَ الْآن حى مَوْجُود عَالم صَالح وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة لَا شكّ فى انهم من خِيَار أمة مُحَمَّد
وَذريته وَلَقَد حكى لى بعض الاخوان عَن صَدُوق من النَّاس أَنه رأى والدهم صَاحب التَّرْجَمَة فَسَأَلَهُ عَن مرتبتهم فى الْولَايَة فَقَالَ أما حسن فَكُنَّا نتجارى نَحن واياه فسبقنا وَأما عبد الرَّحْمَن فقد وصل وَأما اسحق فع الركب مجد على الْوُصُول وَالله أعلم
مُحَمَّد بن على بن عبد الله صَاحب الشبيكة ابْن عَم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن أَحْمد بن على بن مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الاجل السَّيِّد الْجمال بلفقيه الْمَشْهُور فى مَكَّة كأبيه وجده بالعيدروس ذكره الشلى فى تَارِيخه وَأطَال فى وَصفه بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وتفقه على الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمى وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر الطبرى وحصب وَالِده وَغَيره من أكَابِر الاولياء وَكَانَ وَاحِد عصره وَشَيخ زَمَانه وانتهت اليه الرياسة وَكَانَ يلبس الملابس الفاخرة وتهابه الصُّدُور وَلَا ترد لَهُ شَفَاعَة وَكَانَ يُقيم بمنى الْمدَّة المديدة فتفد عَلَيْهِ الاعيان ويكرمهم بالاطعمة الفاخرة ويعمهم بخيراته وَكَانَ يعْطى العطايا الجزيلة وَكَانَت سيرته سيرة الْمُلُوك ثمَّ انخلع من تِلْكَ الْحَالة وَترك اللَّهْو وتجنب صُحْبَة أهل الظَّوَاهِر وتجرد للطاعة وَرغب فى صُحْبَة بنى عَمه من السَّادة قَالَ وَكنت مِمَّن لَازمه الى الْمَمَات ودعا لى بدعوات ظهر لى نَفعهَا وَكَانَت تقع لَهُ كرامات خوارق من جُمْلَتهَا انى كنت جَالِسا عِنْده فجَاء بدوى فسألنى عَنهُ فأشرت اليه فَلَمَّا سلم عَلَيْهِ قَالَ هَات النّذر الذى مَعَك فبهت البدوى ثمَّ قَالَ أخبرنى مَا هُوَ فَقَالَ كَذَا وَكَذَا فأكب البدوى على رجله يقبلهَا ثمَّ قَالَ لى مَا علم أحد بنذرى غير الله تَعَالَى وَمِنْهَا أَن بعض الْفُقَرَاء شكى اليه حَالَته فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ الى شرِيف مَكَّة يحصل لَك مطلوبك فَذهب الى الشريف وَأنْشد قصيدة وَافَقت مَا فى ضَمِيره فطرب لذَلِك وَأمر لَهُ بكسوة وجائزة وَمِنْهَا ان حاك مَكَّة مَاتَ وَطلب مرتبته من شرِيف مَكَّة جمَاعَة من المتأهلين لَهَا ووقفوا على بَاب الشريف ينْتَظر كل وَاحِد أَن يوليه(4/56)
الْحُكُومَة وَكَانَ الامير سُلَيْمَان منديه يعْتَقد صَاحب التَّرْجَمَة فجَاء اليه وَأخْبرهُ بذلك وَكَانَ لَا يرومها لضعف حَاله فألبسه السَّيِّد ثوبا من ثِيَابه وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ الْآن الى الشريف فَأَنت حاكمها فَلَمَّا دخل على الشريف وجده مفكرا فِيمَن يوليه من الطالبين للحكومة فَلَمَّا رَآهُ انْشَرَحَ صَدره وخلع عَلَيْهِ خلعة الامارة وَمِنْهَا أَن عين مَكَّة انْقَطَعت وَقرب مجئ الْحجَّاج والبرك فارغة وَكَانَ الشريف بَعيدا فَكتب لحاكمه أَن يجْتَهد فى تملية البرك بأى وَجه أمكن وَعلم الْحَاكِم عَجزه عَن ذَلِك لقرب الْمدَّة فَأتى الى صَاحب التَّرْجَمَة وشكى اليه حَاله فَقَالَ لَهُ أعْط الْخَادِم خَمْسَة حُرُوف يتَصَدَّق بهَا على الْفُقَرَاء فَلَمَّا أَصْبحُوا أمْطرت السَّمَاء وسالت أَوديَة مَكَّة وامتلأت البرك من السَّيْل وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بعد صَلَاة الْجُمُعَة حادى عشر ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن شروق يَوْم السبت فى قبر وَالِده فى مشهدهم الشهير بالشبيكة وَكَانَت لَهُ جَنَازَة حافلة
السَّيِّد مُحَمَّد بن على بن حفظ الله بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن على بن أَحْمد بن عِيسَى الْحسنى النعمى وَتقدم ذكر بَقِيَّة نسبه فى تَرْجَمَة أَخِيه السَّيِّد حسن بن على النعمى كَانَ السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور جمال الْعلمَاء وتاج الْحُكَمَاء سيد جَلِيلًا وأديبا نبيلا علم الْمعَانى الحسان والناسج من وشى البلاغة مَا يقصر عَنهُ بديع الزَّمَان لَهُ الشّعْر الرَّائِق والنثر الْفَائِق عَنى بجمعه ابْن أَخِيه صفى الدّين أَحْمد بن الْحسن بن على بن حفظ الله فى ديوَان فَمِنْهُ قَوْله متغزلا
(من لقلب مزاجه الاهواء ... وعيون أودى بِهن الْبكاء)
(لشجى متيم مستهام ... عَمه النوح دَائِما والاساء)
(يَا خليلى بالبكا ساعدانى ... فى عراص ربوعهن خلاء)
(دَار ليلى وَدَار نعم وَهِنْد ... وديار تحلها أَسمَاء)
(وَقفا بى هديتما لَو فواقا ... فوقوفي على الطلول شِفَاء)
(أَيهَا الرَّسْم هَل تجيب سؤالا ... لمشوق أودت بِهِ البرحاء)
(كَائِنا عَن وداد ليلى بهند ... وبنعم وشوقه أَسمَاء)
(وَكَذَا كل مولع بحبيب ... يتكنى وَهل تفِيد الكناء)
(بح غراما ان كنت حلْس وداد ... وَقل اللوم فى الحسان هذاء)
(انا حلف الغرام فى كل حِين ... وفؤادى من السلو هَوَاء)(4/57)
(كلما أزمع الْفُؤَاد سلوا ... ذكرتنى وهنانة هيفاء)
(ذَات قد كَأَنَّهُ غُصْن بَان ... جللته غمامة سَوْدَاء)
(وعيون فواتر ساجيات ... رسل الْمَوْت بَينهَا كمناء)
(قائلات لمن تمنى لقاها ... لابقاء مَعَ اللقا لابقاء)
(وقدود بميلها تتثنى ... ظاميات أكفالهن رواء)
(يطْمع الصب لينها فى لقاها ... وهى للصب صَخْرَة صماء)
(لم أنلها بِالْعينِ الا اختلاسا ... رد عينى عَن الصِّفَات الضياء)
(وعدانى عَن ازديارى حماها ... رقباها وصدها الرقباء)
(فترانى أَهْوى الْمَمَات طماعا ... لازديارى مِنْهَا وَبئسَ الرَّجَاء)
(أَو أَرْجَى يَوْم النشور لقاها ... وَكثير من الرَّجَاء هباء)
(انما الْحبّ ذلة وغرور ... وسقام يكل عَنهُ الدَّوَاء)
وَقَوله أَيْضا
(سمحت بوصل المستهام العاشق ... هيفاء خصت بالجمال الْفَائِق)
(بَيْضَاء صامتة الموشح طفلة ... تزرى الْقَضِيب بلين قد باسق)
(من بعد مَا شحت بِطيب وصالها ... نحوى ومل تسمح بطيف طَارق)
(وافت وثوب اللَّيْل أسود حالك ... فى جسم عاشقها وزى السَّارِق)
(باتت ذوائبها الحسان قلائدى ... وموسدى نعم الذِّرَاع الرَّائِق)
(نشكو الجوى ونبث سر غرامنا ... فى غَفلَة الرقبا ونوم الرامق)
(لله من وصل هُنَالك نلته ... فى جنح ليل غيهبى غَاسِق)
(فى لَيْلَة ظلما كَأَن نجومها ... فى لج بَحر أوثقت بوثائق)
(من شادن غنج أغن مهفهف ... أحوى الْعُيُون بديع صنع الْخَالِق)
(ملك الْفُؤَاد بدله ودلاله ... فجوانحى كجناح طير خافق)
(تالله لَا أنساه لَيْلَة قَالَ لى ... لَا تنس منى مَحْض ود صَادِق)
(واسأل فُؤَادك عَن فؤادى انه ... ينبيك عَمَّا جن قلب الوامق)
(واليك يَا سبط المكارم حلوة ... عذرا تضوع عنبر اللناشق)
(أَلْقَت اليك زمامها منقادة ... وتبرزت نَحْو اللبيب الحاذق)
(فَاجْعَلْ اجازتها الْجَواب فانه ... طب الْفُؤَاد المستهام العالق)(4/58)
وَله من قصيدة مدح بهَا الامام مُحَمَّد بن الْحسن بن الْقسم مطْلعهَا
(سقى المنحنى صوب من المزن هاطل ... وسحت على كثب العقيق الْمسَائِل)
(فألبسها من حلَّة النبت سندسا ... وماس غضاها تزدهيه الغلائل)
(منَازِل أنس للاوانس حبذا ... لَدَى الصب هاتيك الرِّبَا والمنازل)
(وملعب غزلان ومسرح ربرب ... وَمَا الدَّار شجو الصب لَوْلَا الأواهل)
وَمِنْهَا
(فيا من لصب تيمت قلبه النَّوَى ... وجار الْهوى فِيهِ وَمَا الْبَين عَادل)
(تحامته أَحْدَاث الزَّمَان لانه ... بِأَكْنَافِ عز الدّين وَالْملك نَازل)
وَمِنْهَا فى مدحه
(وَمَا اشتبهت يَوْمًا لَدَيْهِ قَضِيَّة ... من الامر الا ظافرته الدَّلَائِل)
(وَلم ينأ جَبَّار عَلَيْهِ بِجَانِب ... من الامر الا قربته الصواهل)
وَمِنْهَا
(تلاقى العطايا والنوائب والوغى ... ووجهك وضاح وكفك باذل)
(لذَلِك لَا يلفى ببرك سَائل ... وَكَيف يلاقى حَضَرنَا وَهُوَ سَائل)
وَمِنْهَا
(وحسبى من التَّفْصِيل مَا أَنْت أَهله ... وفى النّيل للمرتاد شرب ونائل)
(ودمت لَهُم بل للبرية عَن يَد ... وعلمك مأهول وَمَالك راحل)
وَله فى النسيب
(يتمتنى بجيدها والدلال ... وأباحت دمى بِغَيْر قتال)
(ذَات فرع كَأَنَّهُ جنح ليل ... وجبين يحْكى ضِيَاء الْهلَال)
(وسواج ينفثن سحرًا مُبينًا ... وهى للعاشقين أى نبال)
(وَلها الْحَاجِب الازج قسى ... ان قَتْلَى مَا بَين تِلْكَ النصال)
(غضة بضة رداح شموع ... برزت فى صفاتها والخصال)
(تسلب الخشف جيده ورناه ... وتصاهى فى الافق بدر الْكَمَال)
(جلّ من خصها بِحسن بديع ... وبراها شخصا بِغَيْر مِثَال)
(رَوْضَة للعيون بَين رياض ... عللت بالمجلجل الهطال)
(عذل العاذلون لى عَن هَواهَا ... لَيْسَ يصغى سمعى الى العذال)
(لست أنسى مِنْهَا ليالى ود ... ان لله درها من ليالى)
(يَوْم أعطتنى الوداد دهاقا ... وسقتنى من ثغرها السلسال)
(من شنيب كَأَنَّهُ عقد در ... شيب بِالْخمرِ والمعين الزلَال)(4/59)
(فى خلاء عَن الرَّقِيب وواش ... ساعدى فرشها وفرش الدَّلال)
(فلئن أسعدت على الْوَصْل غيرى ... وحمتنى اللقا وطيف الخيال)
(فلكم فزت باللقاء قَدِيما ... فى ليلاتنا القدام الخوالى)
(فَمن الْمبلغ السَّلَام اليها ... من كئيب حذته حَذْو النِّعَال)
(وأذابته بالصدود وخلت ... مدمعيه تفيض فيض السجال)
(وَعَلَيْكُم أحباب قلبى سَلام ... كل يَوْم مَا مَال فئ الظلال)
(أَو تذكرت وصلكم فشجانى ... أَو سفحت الدُّمُوع فى الاطلال)
وَله
(تيمتنى ذَات الخدود الرهاف ... وبرتنى ذَات القدود اللطاف)
(طفلة تفضح الْقَضِيب قواما ... تسبل اللَّيْل فَوق رمل الحقاف)
(صور الله شخصها من ضِيَاء ... ولجين ولؤلؤ الاصداف)
(أَعلَى من هوى لتِلْك ملام ... لَا وَرب الْحَدِيد والاحقاف)
وَله غير ذَلِك مِمَّا يطول بِهِ ذيل الْكَلَام وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَتوفى فى عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَسبعين وَألف بِجِهَة مور وَبهَا دفن والنعمى تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فى تَرْجَمَة الْحسن وَالله أعلم
السَّيِّد مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن على النَّقِيب بن خَلِيل ابْن عماد بن زهيف بن عُثْمَان بن قيس بن على الرئيس ابْن مَنْصُور بن طَاهِر النَّقِيب ابْن المحسن بن على بن الْحُسَيْن بن حَمْزَة بن مُحَمَّد بن على بن الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن اسحق بن ابراهيم المرتضى ابْن مُوسَى الثانى الاصغر ابْن ابراهيم المرتضى ابْن الامام مُوسَى الكاظم ابْن الامام جَعْفَر الصَّادِق ابْن الامام مُحَمَّد الباقر ابْن الامام زين العابدين على بن الامام أَبى عبد الله الْحُسَيْن بن الامام على بن أَبى طَالب كرم الله وَجهه الْمَعْرُوف بالسيد القدسى وبابن خصيب الدمشقى الشافعى من فضلا الدَّهْر المعروفين ونبلائه الْمَشْهُورين وَكَانَ مَعَ كرم حَسبه وتكامل شرفه يرجع الى علم طائل وأدب باهر الا أَنه كَانَ مستخفا بِنَفسِهِ وَعِنْده طيش وَكَانَ ممسكا محبا للدنيا فَلهَذَا انخفض قدره بَين النَّاس وَسقط من مرتبَة الْفضل مَعَ انه كَانَ فى مرتبَة من الْعلم يقصر عَنْهَا أضرابه قَرَأَ بِدِمَشْق على الشَّمْس الميدانى وَغَيره ورحل الى الْقَاهِرَة فَقَرَأَ بهَا الْقُرْآن للسبع على شيخ الْقُرَّاء الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى وَحضر اللقانى فى مغنى اللبيب والجاربردى وجوهرة التَّوْحِيد وَلزِمَ الشهَاب الغنيمى والبرهان(4/60)
الميمون وَأخذ عَنْهُمَا فنون الادب وَأخذ التَّفْسِير عَن الشهَاب أَحْمد بن عبد الْوَارِث البكرى والْحَدِيث عَن الْحَافِظ أَبى الْعَبَّاس الْمُقْرِئ وَكلهمْ أجازوه بالافتاء والتدريس ثمَّ قدم الى دمشق فدرس بهَا مُدَّة وانتفع بِهِ جمَاعَة ثمَّ رَحل الى الرّوم وسلك طَرِيق عُلَمَائهمْ فلازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّاء وَكَانَ لزمَه مُدَّة مستطيلة حَتَّى نَالَ مِنْهُ ذَلِك وَرَأَيْت بِخَطِّهِ قِطْعَة انشاء كتبهَا اليه أَيَّام ملازمته وفى صدرها هَذَانِ الْبَيْتَيْنِ
(يَقُول لى النَّاس مذ رأونى ... أسعى لقوت منى يفوت)
(قدمت سعيا فَقلت حاشا ... أَيَّام يحيى مثلى بِمَوْت)
ثمَّ أعقبهما بالنثر وَهُوَ مَدين المآرب ومنتهى المطالب قصدت التَّمَسُّك بثرى أعتابك والتشرف بملازمة بابك وجنابك ليرى مَوْصُول ضميرى بِالْخَيرِ عَائِدًا واسناد خبرى فى رياض بيانك رائدا زَائِدا وَلم يبعثنى لناديك سوى فضلك وجود أياديك والعبودية الَّتِى ورثهَا العَبْد من الْوَالِد عَن الْجد فبالفعل أَنْت مصدر الْكَمَال فَلَا تتركنى بعد نَحْوك ملغى من الاعمال فقد أَصبَحت بحماك نزيلا وفى ذِمَامك خيلا وَلَقَد لقِيت ظاميا بحرا طاميا وَمن قصد الْبَحْر اسْتَقل السواقيا لَا زَالَ رَأْيك الْفَصْل جَامعا لوصل مثلى ومقدمات افضالك مُحَققَة لانتاج شكلى ثمَّ درس بِالْمَدْرَسَةِ اليونسية برتبة الدَّاخِل وَأخذ وظائف كَثِيرَة عَن أَهلهَا وهم فى الاحياء وَحكى أَن أَتَى بصندوقين من البرآت السُّلْطَانِيَّة وَآل أمره فِيهَا الى الْمَشَقَّة وَالنّصب وَلم يتَصَرَّف مِنْهَا الا بِالْقَلِيلِ وَكَانَت هَذِه الفعلة مِنْهُ أحد اسباب بغض النَّاس لَهُ وَلزِمَ الْعُزْلَة مُدَّة وَحفظ وَكتب وَكَانَ لَهُ فى فن التَّارِيخ وَالسير والوقائع جمعية عَظِيمَة وَله شعر وقفت على كثير مِنْهُ فَمِنْهُ قَوْله من // قصيدة طَوِيلَة حَسَنَة الديباجة // مطْلعهَا
(سواك بقلبى لم يحلل ... وَغير مديحك لم يحل لى)
(وَغَيْرك عِنْد انْعِقَاد الامور ... اذا اشتدت الْحَال لم يحلل)
(قصدتك سعيا على ضامر ... حكانى نحولا وَلم ينْحل)
(يكَاد يسابق برق السَّمَاء ... وَلَوْلَا وجودك لم يعجل)
(وجردت من خاطرى صاحبا ... لشكوى الزَّمَان وَمَا تمّ لى)
(أعاطيه كأس الْهوى مترعا ... شكاة فَأَلْقَاهُ لم يمل لى)(4/61)
(وَصَحب بجلق خلفتهم ... سواهُم بقلبى لم ينزل)
(وخضت بدمعى مذ فارقوا ... وبالصد منزل قلبى بلَى)
(فَقلت لجارى عيونى قفا ... لذكرى الحبيب مَعَ الْمنزل)
(وفتانة سمتها وَصلهَا ... فأصمت بمنظرها مقتلى)
(بقد ترنحه ذابلا ... وخد بِهِ الْورْد لم يذبل)
(مهاة من الْحور فى ثغرها ... رحيق الْحَيَاة مَعَ السلسل)
(لختم الْجمال بِهِ شامة ... وَكَانَ عَن الْعِشْق فى معزل)
(تحرش طرفى بلحظ لَهَا ... وَكَانَ عَن الْعِشْق فى معزل)
(فآبت بمهجته للحمى ... أَسِير ظبا طرفها الاكحل)
(ومدت شِرَاك دجا شعرهَا ... فصادت لطائر دمعى ولى)
وَقَوله من أُخْرَى مستهلها
(أما آن تقضى لقلبى وَعوده ... ويورق من غُصْن الاحبة عوده)
(فقد شفه دَاء من الصد متْلف ... وَلَيْسَ لَهُ غير السقام يعودهُ)
(وَمَا حَال مشتاق تناءت دياره ... وأحبابه مضنى الْفُؤَاد عميده)
(يراقب من زور النسيم زِيَارَة ... فان جَاءَهُ يذكى الجوى ويزيده)
(حكى النَّجْم بَين السحب يَبْدُو ويختفى ... اذا سَالَ أجفانا وثار وقوده)
(وَلَو كَانَ يسْعَى للزيارة مُمكنا ... لسار وَلَكِن أثقلته قيوده)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(جذبت بمغناطيس لحظى خَاله ... فَصَارَ لجفنى نَاظرا وعلاجا)
(ومذ خَافَ من عين المراقب أنبتت ... دموع زفيرى للجفون سياجا)
وقرأت بِخَطِّهِ أنشدنى الامير المنجكى بداره بِدِمَشْق فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف
(وَلما طارت الآمال شرقا ... وغربا ثمَّ لم أر لى مغيثا)
(بسطت جنَاح ذلى ثمَّ انى ... وقفت بِبَاب عزك مستغيثا)
قَالَ ثمَّ بعد مُدَّة تأملتهما ومعناهما وَقلت مَا أَحَق مثلى بهما وَمَا أحلاهما وَجعلت اذ ذَاك بَيْتَيْنِ من الْوَزْن دون القافية وهما
(وَلما ضَاقَتْ الايام ذرعا ... بأحوالى وَلم أر لى نَصِيرًا)
(شرحت فؤاد آمالى يذل ... وَقمت بِبَاب عزته فَقِيرا)(4/62)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَتوفى فى سَابِع عشر شهر ربيع الثانى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من بِلَال الحبشى رضى الله عَنهُ
مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن على بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن جمال الدّين بن حسن بن زين العابدين الملقب عَلَاء الدّين الحصنى الاصل الدمشقى الْمَعْرُوف بالحصكفى مفتى الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَصَاحب التصانيف الفائقة فى الْفِقْه وَغَيره مِنْهَا شرح تنوير الابصار الْمُسَمّى بالدر الْمُخْتَار وَكَانَ شرع فى كِتَابَة شرح مطول عَلَيْهِ قدره فى عشرَة أسفار كتب مِنْهَا سفرا وَاحِدًا وصل فِيهِ الى بَاب الْوتر والنوافل وَسَماهُ خَزَائِن الاسرار وبدائع الافكار وَله شرح ملتقى الابحر سَمَّاهُ الدّرّ الْمُنْتَقى وَشرح الْمنَار فى الاصول سَمَّاهُ افاضة الانوار وَشرح الْقطر فى النَّحْو ومختصر الْفَتَاوَى الصُّوفِيَّة وَالْجمع بَين فَتَاوَى ابْن نجم جمع التمرتاشى وَجمع ابْن صَاحبهَا وَله تعليقة على صَحِيح البخارى تبلغ نَحْو ثَلَاثِينَ كراسة وعَلى تَفْسِير القاضى البيضاوى من سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة الاسراء وَغير ذَلِك من رسائل وتحريرات وَكَانَ عَالما مُحدثا فَقِيها نحويا كثير الْحِفْظ والمرويات طلق اللِّسَان فصيح الْعبارَة جيد التَّقْرِير والتحرير الا أَن علمه أَكثر من عقله ولد بِدِمَشْق وَقَرَأَ على وَالِده وعَلى الامام مُحَمَّد المحاسنى خطيب دمشق الْمُقدم ذكره ولازمه وانتفع بِهِ وَبَلغت محبته لَهُ الى أَن صيره معيد درسه فى البخارى وَأَجَازَهُ اجازة عَامَّة فى شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وارتحل الى الرملة فَأخذ بهَا الْفِقْه على شيخ الْحَنَفِيَّة خير الدّين الرملى ثمَّ دخل الْقُدس وَأخذ بهَا عَن الْفَخر بن زَكَرِيَّاء المقدسى الحنفى السالف الذّكر وَحج فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الصفى القشاشى وَكتب لَهُ اجازة مؤرخة بعاشر الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَله مَشَايِخ كَثِيرُونَ مِنْهُم الشَّيْخ مَنْصُور بن على السطوحى نزيل دمشق والاستاذ القطب ايوب الخلوتى وَالشَّيْخ عبد الباقى الحنبلى واشتغل عَلَيْهِ خلق كثير وَأخذُوا عَنهُ وانتفعوا بِهِ أَجلهم شَيخنَا الشَّيْخ اسماعيل بن على الْمدرس بن عبد الباقى الْكَاتِب وَالشَّيْخ عُثْمَان بن حسن بن هدايات وَالشَّيْخ عمر ابْن مصطفى الْوزان وَغَيرهم وحضرته ان بِحَمْد الله تَعَالَى وَهُوَ يقرى تنوير الابصار فى دَاره وَتَفْسِير البيضاوى فى الْمدرسَة التقوية والبخارى فى الْجَامِع الاموى(4/63)
وانتفعت بِهِ وَكَانَ فى أول عمره فَقير الْحَال جدا فسافر الى الرّوم فى سنة ثَلَاث وَسبعين ونهض بِهِ حَظه لاقبال الْوَزير الْفَاضِل عَلَيْهِ فولى الْمدرسَة الجقمقية ثمَّ فرغ عَنْهَا وَطلب افتاء الشَّام فناله وَقدم الى دمشق بحشمة باهرة وَاسْتمرّ مفتيا خمس سِنِين وَكَانَ متحريا فى امْر الْفتيا غَايَة التحرى وَلم يضْبط عَلَيْهِ شئ خَالف فِيهِ القَوْل الْمُصَحح وَلما توفى الشَّمْس مُحَمَّد بن يحيى الخباز الشهير بالبطنينى انْحَلَّت عَنهُ بقْعَة التحديث بِجَامِع دمشق فوجهت اليه ودرس بهَا وَعلا صيته واشتهر أمره ثمَّ سعى بعض حساده فى كِتَابَة مَا هُوَ عَلَيْهِ من الانفة وَالْخُيَلَاء وَزَادُوا أَشْيَاء وَأَرْسلُوا فى ذَلِك كتبا الى جَانب الدولة فاستقر ذَلِك فى عقول أَصْحَاب الْحل وَالْعقد وَاتفقَ انه مَاتَ فى غُضُون ذَلِك الْعَلامَة المنلا أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الكردى الْمُقدم ذكره وَكَانَ مدرس السليمية فَعرض فِيهَا قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى عبد الله بن مُحَمَّد الطَّوِيل لنائبه شَيخنَا الْهمام أَحْمد بن مُحَمَّد المهمندارى فوجهت السليمية لشَيْخِنَا صَاحب التَّرْجَمَة ووجهت الْفتيا لشَيْخِنَا المهمندارى وَأعْطى درس التحديث عَنهُ للشمس مُحَمَّد بن مُحَمَّد العيثى وبقى على هَذَا نَحْو سنة ثمَّ سَافر الى الرّوم وَاجْتمعَ بشيخ الاسلام يحيى المنقارى وشكى اليه حَاله فَوجه اليه قَضَاء قاره وعجلون على التَّأْبِيد وَأعَاد اليه بقْعَة التحديث وَكَانَ الْوَزير الْفَاضِل يَوْمئِذٍ فى محاصرة جَزِيرَة كريت فَتوجه اليه فَلَمَّا وصل واستقبله وأكرمه وَفتحت مَدِينَة قندية وَهُوَ ثمَّة فعينه الْوَزير لخطبة الْفَتْح فى الْجَامِع الذى وسم باسم السُّلْطَان مُحَمَّد بن ابراهيم وَحصل لَهُ بذلك كَمَال الاشتهار وَوجه اليه قَضَاء حماة فَقدم الى دمشق ودرس مُدَّة ثمَّ أشيع مَوته فى الرّوم فوجهت عَنهُ الْمدرسَة السليمية وَالْقَضَاء فبقى مُدَّة صفر الْيَد ثمَّ لما مَاتَ السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين بن حَمْزَة نقيب الشَّام وجهت اليه مدرسة التقوية ثمَّ سَافر الى الرّوم وأضاف اليها قَضَاء صيدا ثمَّ رَجَعَ الى دمشق وبقى يُفِيد ويدرس الى ان مَاتَ وَكَانَ مَوته يَوْم الِاثْنَيْنِ عَاشر شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَاتفقَ لَهُ قبل مَوته أَحْوَال تدل على حسن الختام لَهُ مِنْهَا انه كَانَ من حِين ابْتَدَأَ درس البخارى فى سنة مَوته يقْرَأ الْفَاتِحَة كل يَوْم فى أول درسه وَآخره ويهديها النبى
فَوَافَقَ انها كَانَت ختام درسه فانه انْتهى درسه فى البخارى عِنْد آخر تَفْسِير الْفَاتِحَة فى الْيَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان وَاتفقَ انه فى ثانى يَوْم ثَبت الْعِيد وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة فَحَضَرَ الى الْجَامِع وَعقد درسا حافلا(4/64)
فَاجْتمع النَّاس من كل مَكَان وَقَرَأَ من تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة من صَحِيح البخارى فى حَدِيث الشَّفَاعَة الْعَامَّة وَلما اتم الدَّرْس شرع فى الدُّعَاء وَكَانَ يَقُول يَا عباد الله أوصيكم بتقوى الله والاكثار من قَول لَا اله الا الله ويكرر ذَلِك مرَارًا وَيَقُول أَكْثرُوا من ذَلِك حد الاكثار وَأَنا لَا أُرِيد مِنْكُم أَن تشهدوا لى بِفضل وَلَا علم وَلَا جاه سوى انى كنت أَقُول لَا اله الا الله وانى كنت أذكركم بهَا ثمَّ لما ختم الدُّعَاء ودع الْحَاضِرين بعبارات مرموزه وَذهب الى بَيته وَاسْتمرّ عشرَة أَيَّام فى عبَادَة وتسبيح وتهليل حَتَّى مَاتَ ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ الامام مُحَمَّد بن على المكتبى الآتى قَرِيبا فانه رثاه بقصيدة طَوِيلَة أَولهَا
(قفا يَا صاحبى على الرسوم ... نسائلها عَن الْعَهْد الْقَدِيم)
(وَمَا فعلت أيادى الْخطب فِيهَا ... مَعَ الاهوال والزمن الغشوم)
(ونوحا وابكيا مولى جَلِيلًا ... امام الْعَصْر فى كل الْعُلُوم)
(عَلَاء الدّين حَلَال القضايا ... وحيد الدَّهْر ذَا الرأى السَّلِيم)
(دَعَاهُ الله حَلَال القضايا ... مُطيعًا مسرعا نَحْو الرَّحِيم)
(فوا أسفى عَلَيْهِ مدى حياتى ... وَلست على التأسف بالملوم)
(وَلَوْلَا ان دمعى من حماء ... سقيت سراه كالغيث العميم)
مُحَمَّد بن على بن مَحْمُود بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن ابراهيم الشامى العاملى الشهير بالحشرى الاديب الشَّاعِر البليغ الوحيد فى مقاصده الْبعيد الْغَايَة فى ميدانه ذكره السَّيِّد على بن مَعْصُوم فى السلافة واستوعب ذكر فضائله فأغنانى عَن شرح أَحْوَاله حَيْثُ قَالَ الْبَحْر الغطمطم الزخار والبدر الْمشرق فى سَمَاء الْمجد بسناء الافتخار الْهمام الْبعيد الهمة المجلوة بأنوار علومه ظلم الْجَهْل المدلهمه اللابس من مطارف الْكَمَال أطرف حلّه وَالْحَال من منَازِل الْجلَال فى أشرف حلّه فضل تغلغل فى شعاب الْعلم زلاله وتسلسل حَدِيث قديمه فطاب لراويه عذبه وسلساله وفحل رقى من أوج الشّرف أبعد مراقيه وَحل من شخص المعالى بَين جوانحه وتراقيه شاد مدارس الْعُلُوم بعد دروسها وَسَقَى بصيب فَضله حدائق غروسها وأنعش جدودها من عثارها وَأخذ من احزاب الْجَهْل بثارها ففوائده فى سَمَاء الافادة أقمار ونجوم وشهب لشياطين الانس وَالْجِنّ رجوم ان نطق صفد الْمعَانى عَن أُمَم وأسمعت كَلِمَاته من بِهِ صمم وان كتب كبت الْحَاسِد عَن كثب فجَاء بِمَا شَاءَ على الاقتراح(4/65)
وَترك أكباد أعدائه دامية الْجراح وَمَتى احتبى مُفِيدا فى صدر نَادِيه وجثت بَين يَدَيْهِ طلاب فَوَائده وأياديه رَأَيْت دأ مَاء الْعلم تقذف دُرَر المعارف غواربه وقمر الْفضل اشرقت بضياء عوارفه مشارقه ومغاربه فَيمْلَأ أصداف الاسماع درا فاخرا ويبهر الابصار والبصائر محَاسِن ومفاخرا وَأما الادب فَعَلَيهِ مَدَاره واليه ايراده واصداره ينشر مِنْهُ مَا هُوَ أذكى من النشر فى خلال النواسم بل أحلى من الظُّلم يترقرق فى ثنايا المباسم وَمَا الدّرّ النظيم الا مَا انتظم من جَوَاهِر كَلَامه وَلَا السحر الْعَظِيم الا مَا نفثت سواحر أقلامه وَأقسم انى لم أسمع بعد شعر مهيار والرضى أحسن من شعره الْمشرق الوضى ان ذكر الانسجام فَهُوَ غيثه الصيب أَو السهولة فَهُوَ نهجها الذى تنكبه أَبُو الطّيب ثمَّ قَالَ وَله على من الْحُقُوق الْوَاجِبَة شكرها مَا يفل شبايراعتى وبراعتى ذكرهَا وَهُوَ شيخى الذى أخذت عَنهُ فى بَدْء حالى وأنضيت الى مَوَائِد فَوَائده بعملات رحالى واشتغلت عَلَيْهِ فاشتغل بى وَكَانَ دأبه تَهْذِيب أدبى ووهبنى من فَضله مَالا يضيع وحنا على حنو الظِّئْر على الرَّضِيع ففرش لى حجر علومه وألقمنى ندى معلومه حَتَّى شحذ من طبعى مرهفا وبرى من نبعى مثقفا فَمَا يسح بِهِ قلمى فَهُوَ من فيض بحاره وَمَا ينْفخ بِهِ كلمى انما هُوَ من نسيم اسحاره وَأما خبر ظُهُوره من الشَّام وَخُرُوجه وتنقله فى الْبِلَاد تنقل الْقَمَر فى بروجه فانه هَاجر الى الديار العجمية بعدا بدار هلاله وانسجام وسمى فَضله وانهلاله فَأَقَامَ بهَا بُرْهَة من الدَّهْر مَحْمُود السّير والسريرة فى السِّرّ والجهر عاكف على بَث الْعلم ونشره مؤرجا الارجاء بطيبه ونشره وَلما تلت الالسن سور أَوْصَافه واجتلت الاسماع صور اتسامه بِالْفَضْلِ واتصافه استدعاه أعظم وزراء مَوْلَانَا السُّلْطَان يُرِيد بِهِ سُلْطَان الْهِنْد الى حَضرته وأحله من كنفه فى بهجة الْعَيْش ونضرته ثمَّ رغب الْوَالِد فى انحيازه الى جنابه فاتصل بِهِ اتِّصَال المحبوب بعد اجتنابه فَأقبل عَلَيْهِ اقبال الوامق الْوَدُود وَأكله بسرادق جاهه الْمَمْدُود فانتظم فى سلك ندمائه وطلع عُطَارِد فى نُجُوم سمائه حَتَّى قصد الْحَج فحج وَقضى من مَنَاسِكه العج والثج وَأقَام بِمَكَّة سنتَيْن ثمَّ عَاد فَاسْتَقْبلهُ ثَانِيًا بالاسعاف والاسعاد وَكنت قد رَأَيْته حَال عوده ببندر المخا ثمَّ رَأَيْته بِحَضْرَة الْوَالِد وَبَينهمَا من الْمَوَدَّة مَا يربى على الاخا فَأمرنَا بالاشتغال عَلَيْهِ والاكتساب مِمَّا لَدَيْهِ فَقَرَأت عَلَيْهِ الْفِقْه والنحو وَالْبَيَان والحساب وتخرجت عَلَيْهِ فى النّظم والنثر وفنون الْآدَاب وَمَا زَالَ يشنف أذنى بفرائده ويملأ اردانى بفوائده حَتَّى(4/66)
حسدنا عَلَيْهِ الدَّهْر الحسود وَجرى على سجيته فى تَبْدِيل الايام الْبيض بالليالى السود فَقضى الله علينا بِفِرَاقِهِ لامور أوجبت نكس الآبل بعد اعراقه ثمَّ انشد لَهُ من شعره قَوْله
(شَرق على حكم النَّوَى أَو غرب ... مَا أَنْت أول ناشب فى مخلب)
(فى كل يَوْم أَنْت نهب مخالب ... أَو ذَاهِب فى اثر برق خلب)
(متألق فى الجو بَين مشرق ... غص الفضاء بِهِ وَبَين مغرب)
(يبكى ويضحك والرياض نواسم ... ضحك المشيب على عذارى الاشيب)
(أزعمت ان الذل ضَرْبَة لَا زب ... فنشبت فى مخلاب باز أَشهب)
(لعبت بلبك كَيفَ شَاءَ لَهَا الْهوى ... مقل مَتى تَجِد النواظر تلعب)
(زعمت عثيمة ان قَلْبك قد صبا ... من لى بقلب مثل قَلْبك قلب)
(قد كنت آمل أَن تَمُوت صبابتى ... حَتَّى نظرت اليك يَا ابْنة يعرب)
(فطربت مَا لم تطربى ورغبت مَا ... لم ترغبى ورهبت مَا لم ترهبى)
(وَلَقَد دلفت اليهم فى فتية ... ركبُوا من الاخطار أصعب مركب)
(جعلُوا الْعُيُون على الْقُلُوب طَلِيعَة ... ورموا القفار بِكُل حرف ذعلب)
(ترمى الفجاج وقلبها متصوب ... فى البيد اثر البارق المتصوب)
(هوجاء مَا نفضت يدا من سبسب ... الا وَقد غمست يدا فى سبسب)
(تسرى وقلب الْبَرْق يخْفق غيرَة ... مِنْهَا وَعين الشَّمْس لم تتنقب)
(تطفو وترسب فى السراب كَأَنَّهَا ... فلك يشق عباب بَحر رعرب)
(تفلى بِنَا فى البيد نَاصِيَة الفلا ... حَتَّى دفعت الى عقيلة ربرب)
(وافتك تخلط نَفسهَا بلداتها ... وَالْحسن يظهرها ظُهُور الْكَوْكَب)
(كفريدة فى غيهب أَو شادن ... فى ربرب أَو فَارس فى موكب)
(تمشى فتعثر فى فضول ردائها ... بحياء بكر لَا بنشطة ثيب)
وَقَوله من قصيدة
(باجتلاء المدام فى الاقداح ... وبمرآة وَجهك الوضاح)
(لَا تذرنى على مرَارَة عيشى ... أكل واش وَلَا فريسة لاحى)
(صَاح كلنى الى المدام ودعنى ... والليالى تجول جول القداح)
(لَا تخف جور حادثات الليالى ... نَحن فى ذمَّة الظبار والرماح)
(طوع أيدى الخطوب رهن المنايا ... تَتَخَطَّى بهَا الى صفاحى)(4/67)
(قلدتنى من المشيب لجاما ... كف رأسى شكيمة عَن جماح)
(صَاح ان الزَّمَان أقصر عمرا ... من بكاء بدمنة ونواح)
(رق عَنَّا ملاحف الجو فاسمح ... برقيق من طبعك المرتاح)
(يَا مليك الملاح ان زَمَانا ... أَنْت فِيهِ زمَان روح وَرَاح)
(طَابَ وَقت الزَّمَان فَاشْرَبْ عساه ... يَا صباحى يطيب وَقت الصَّباح)
(واسقنيها سقيت فى فلق الْفجْر على نَغمَة الطُّيُور الفصاح ... )
وَقَوله
(أيا ريح الصِّبَا ان جِئْت نجدا ... فجدد بالظباء الْعين عهدا)
(فقد أرضعتنى ندى الامانى ... وشبت وَمَا بلغت بِهِ أشدا)
(وَكم زفت الى طوال ليل ... ذوائب ذَلِك الرشأ المفدى)
(وَمَا نجد وَأَيْنَ ظباء نجد ... سقى الرَّحْمَن مَاء الْحسن نجدا)
وَقَوله من قصيدة
(وَقد جعلت نفسى تحن الى الْهوى ... حلافيه عَيْش من بثينة أَو مرا)
(وَأرْسلت قلبى نَحْو تيماء رائدا ... الى الخفرات الْبيض والشدن العفرا)
(تعرف مِنْهَا كل لمياء خاذل ... هى الريم لَوْلَا ان فى طرفها فترا)
(من الظبيات الرود لَو أَن حسنها ... يكلمها أبدت على حسنها كبرا)
(وَآخر ان عَرفته الشوق راعنى ... بصد كأنى قد أتيت لَهُ وترا)
(أناشد فِيهِ الْبَدْر والبدر غائر ... وأسأل عَنهُ الريم وَهُوَ بِهِ مغرى)
(فَمَا ركب الْبَيْدَاء لَو لم يكن رشا ... وَلَا صدع الديجور لَو لم يكن بَدْرًا)
(لحاظ كَانَ السحر فِيهَا عَلامَة ... تعلم هاروت الكهانة والسحرا)
(وَقد هوى الْغُصْن الرطيب كانما ... كسته تلابيب الصِّبَا وَرقا نضرا)
(رتقت على الواشين فِيهِ مسامعا ... طَرِيق الردى مِنْهَا الى كبدى وعرا)
(أعاذلتى واللوم لؤلم ألم ترى ... كَانَ بهَا عَن كلا لائمة وقرا)
(بفيك الثرى مَا أَنْت والنصح انما ... رَأَيْت بِعَيْنَيْك الْخِيَانَة والغدرا)
(وَمَا للصبا يَا وَيْح نفسى من الصِّبَا ... تبيت تناجى طول لَيْلَتهَا البدرا)
(تطارحه وَالْقَوْل حق وباطل ... أَحَادِيث لَا تبقى لمستودع سرا)
(وتلقى على النمام فضل ردائها ... فَيعرف للاشواق فى طيها نشرا)
(يعانقها خوف النَّوَى ثمَّ تنثنى ... تمزق من غيظ على قدك الازرا)(4/68)
(ألم تَرَ بَان النقا كَيفَ هَذِه ... تميل بعطفيها حنوا الى الاخرى)
(وَكَيف وشى غُصْن الى غُصْن هوى ... وَأبْدى فنونا من خيانته تترى)
(فَمن غُصْن يدنى الى غُصْن هوى ... وَمن رشأ يُوحى الى رشأ ذكرا)
(هما عذلانى فى الْهوى غير أننى ... عذرت الصِّبَا لَو تقلين لَهَا عذرا)
(هبيها فدتك النَّفس راحت تسرهُ ... اليه فقد أبدته وهى بِهِ سكرى)
(على أَنَّهَا لَو شايعت كثب النقا ... وشيح الخزامى انما حملت عطرا)
وَمن مبدعاته قَوْله من قصيدة أُخْرَى
(مَا فى التصابى على من شَاب من باس ... أما ترى جلوة الصَّهْبَاء فى الكاس)
(النَّاس بِالنَّاسِ وَالدُّنْيَا بأجمعها ... فى درة تعطف الساقى على الحاسى)
(يئست واليأس احدى الراحتين وَكم ... جلوت منى صدا الاطماع باليأس)
مِنْهَا
(فى كل غانية من أُخْتهَا بدل ... ان لم تكن بنت راس فابنة الراس)
(أودعت عقلى الى الساقى فبدده ... فى كسر جفنيه أَو فى مَيْلَة الكاس)
(لَا أوحش الله من غَضْبَان أوحشنى ... مَا كَانَ أبطاه عَن بَرى وايناسى)
(سلمت يَوْم النَّوَى مِنْهُ وأسلمنى ... الى عدوين نمام ووسواسى)
(ذكرته وهولاه فى محاسنه ... عهود لَا ذَاكر عهدى وَلَا ناسى)
(وددت اذ بِعته روحى بِلَا ثمن ... لَو كنت أضْرب اخماسا لاسداس)
(يَا وَيْح من أَنْت يَا لمياء بغيته ... مَا كَانَ أغناه عَن فكر ووسواس)
(قَامَت تغنى بِشعر وهى حَالية ... بِهِ أَلا حبذا المكسو والكاسى)
(تَقول وَالسكر يطويها وينشرها ... أى الشرابين أحلى فى فَم الكاس)
(يَا حبذا أَنْت يَا لمياء من سكن ... وحبذا سَاكن الْبَطْحَاء من نَاس)
(مَا ان ذكرتك الا زَاد بى طربى ... وطاب ريح الصِّبَا من طيب أنفاسى)
(وَلَا ذكرت الصِّبَا وأذكرنى ... لياليا أرضعتنى درة الكاس)
(وجيرة لعبت أيدى الزَّمَان بهم ... أنْكرت من بعدهمْ نفسى وجلاسى)
(أَيَّام أختال فى ثوبى بلهنية ... وميعة من شباب ناعم عاس)
(عَار من الْعَار حَال بالصبا كاسى ... كأننى وَالصبَا فى برد أَخْمَاس)
(أنضيت فِيهِ مطايا الْجَهْل والباس ... عريت مِنْهُ وَمَا عريت افراسى)
(فى صبية كنجوم اللَّيْل اكياس ... كَانَ ايامهم ايام اعراس)(4/69)
(أسمو اليهم سمو النّوم للراسى ... أدب فيهم دَبِيب السكر فى الحاسى)
(باتوا بميثاء صرعى لاحراك بهم ... وانما صرعتهم صدمة الكاس)
(يَا عاذلى أَنْت أولى بى فَخذ بيدى ... فَأَنت أوقعتنى فيهم على راسى)
(وَيَا حمام اللوى هلا بَكَيْت معى ... على زمَان تقضى أَو على نَاس)
وَقَوله من أُخْرَى
(أتراك تهفو للبروق اللمع ... وتظن رامة كل دَار بلقع)
(لَوْلَا تذكر من ذكرت برامة ... مَا حسن قلبى للوى والاجرع)
(ريم بأجوبة الْعرَاق تركته ... قلق الوساد قرير عين المضجع)
(فى السِّرّ من سعد وَسعد هَامة ... رعناء لم تصدع وَلم تتضعضع)
مِنْهَا
(قَالَت وَقد طَار المشيب بلبها ... أنشبت فى حلق الْغُرَاب الابقع)
(وتلفتت وَالسحر رائد طرفها ... نَحْو الديار بمقلة لم تخشع)
(وَلكم بعثت الى الديار بمقلة ... رجعت تعثر فى ذيول الادمع)
(عرفت رسوم الدَّار بالمتربع ... فَبَكَتْ وَلَوْلَا الدَّار لم تتقشع)
وَله وهى من غرره
(أَرَأَيْت مَا صنعت يَد التَّفْرِيق ... أعلمت من قتلت بسعى النوق)
(رَحل الخليط وَمَا قضيت حُقُوقهم ... بمنى النُّفُوس وَمَا قضين حقوقى)
(عَلقُوا بأذيال الرايح ووكلوا ... للبين كل معرج بفريق)
(وغدوت أصرف ناجذى على النَّوَى ... واغص من غيظ الوشاة بريقى)
(هجروا وَمَا صنع الشَّبَاب بعارضى ... عجلَان مَا علق المشيب بزيقى)
(فكاننى والشيب أقرب غَايَة ... يَوْم الْفِرَاق كرعت من راووق)
(لَا راق بعدهمْ الْخِيَار لناظرى ... ان حن قلبى بعدهمْ لرحيق)
(لعب الْفِرَاق بِنَا فشرد من يدى ... ريحانتى صديقتى وصديقى)
(لله ليلتنا وَقد علقت يدى ... مِنْهُ بعطف كالقناة رَشِيق)
(عاطيته حلب الْعصير وصدنا ... عَن وَجه حاجبنا يَد التعويق)
(مَا كَانَ أسْرع مَا وحته وانما ... دهش السقاة بِهِ عَن الترويق)
(أيقظته وَاللَّيْل ينفض صبغه ... وَالسكر يخلط شائقا بمشوق)(4/70)
(وَالنَّوْم يعبث بالجفون وَكلما ... رق النسيم قست قُلُوب النوق)
(والبرق يعثر بالرحال وللصبا ... وقفات مصغ للْحَدِيث رَفِيق)
(فأجابنى وَالسكر يعجم صَوته ... والكاس تضحك للثنايا الروق)
(لَوْلَا الرَّقِيب هرقت مضمضة الْكرَى ... وغصصت صَافِيَة الدنان بريقى)
(ثمَّ انثنيت وزلفه بيد الصِّبَا ... وشميمه فى جيبى المفتوق)
وَله
(آه يَا غُصْن النقا مَا أميلك ... جلّ يَا غُصْن النقا من عدلك)
(قد قضى لى بتباريح الجوى ... من قضى بالحب لى وَالْحسن لَك)
(أكل الْحبّ فؤادى بَعْدَمَا ... لاك منى مَا تمنى وعلك)
(هلك الشامى وجدا وأسى ... مَا يبالى يَا حياتى لوهلك)
(قل لى فِيك غراما وجوى ... قلل الله عذولا قللك)
(حكم الله لفودى على ... نُسْخَة الشيب وتسويد الحلك)
(أَترَاهُم قدرووا أى دم ... هرق الواشى على تِلْكَ الْفلك)
(يَا غراب الْبَين لَا كنت وَلَا ... كَانَ واش دب فيهم وسلك)
(أخذُوا منى وأعطوا مَا اشتهوا ... مَا كَذَا يحكم فِينَا من ملك)
(جرت فى الحكم على أهل الْهوى ... لَا تخف فالامر لله وَلَك)
(لَيْت شعرى أمليك فى الورى ... أَنْت يَا انسان عينى أم ملك)
(حكم الدَّهْر علينا بالنوى ... هَكَذَا تفعل أدوار الْفلك)
وَله
(آه من داءين باد ودخيل ... وخصيمين مشيب وعذول)
(مَا على من طَال ليلى بعدهمْ ... لَو أعانونى على ليلى الطَّوِيل)
(عَاجل الْقلب اليهم ناظرى ... مَا أضرّ الْحسن بِالْقَلْبِ العجول)
(نادمت مِنْهُم بنانى ناجذى ... واستشاط الوجد فى اثر الحمول)
(وبأكناف الْمصلى غادة ... سنحت لى مسخ الظبى الجذول)
(عرضت شَرط المفدى فى مهى ... يتعثرن بأطراف الذيول)
(قد عرفنَا وَقْفَة الركب دجى ... فى سنا الْجور وأنفاس الْقبُول)
(اذ شفيعى عِنْد لمياء الصِّبَا ... ورسولى خلسة اللحظ الكليل)
(نظرت نحوى ورقراق السنا ... يخطف الابصار عَن طرف كحيل)(4/71)
(حكم الله لقلبينا على ... قلق القرط ووسواس الحجول)
(زَاد شوقى يَا حمامات اللوى ... عللينا ببكاء وعويل)
(أَنا أولى بنواح وبكا ... لَا يزالانى كوجدى وغليل)
(لَيْت شعرى والامانى ضلة ... هَل صبا نجد الى الغيد رَسُول)
(يَا صبا نجد وَمن لى لَو وعت ... رَجَعَ قولى أَو أصاخت لسؤول)
(أَنْت أدرى يَا هناتى بالجوى ... خبريهم يَا لَك الْخَيْر وَقَول)
(لَو رأى وَجه سليمى عاذلى ... لتفارقنا على وَجه جميل)
(بشرت سلمى عذولى بالنوى ... آه مِمَّا أودعت سمع العذول)
وَله
(كلينى لَهُم لَا ينَام ونامى ... فَمَا الشَّام ان ضَاقَتْ على بشام)
(وَمَا بى سوى أم رؤم وجيرة ... عزاز علينا يَا عثيم كرام)
(وَقد كنت قبل الْبَين جلدا على الاسى ... تطالبنى نفسى بكر مرام)
(لصوقا بأكباد الحسان محببا ... الى الغيد يحلو لى لَهُنَّ كلامى)
(يقودوننى قَود الجنيب الى الْهوى ... فَمَا لى منبوذ الى ذمامى)
(وفى الركب مَدْلُول اللحاظ الى الحشا ... يدافع عَن أترابه ويحامى)
(لقد كمنت أم المنايا بلحظه ... كمون المنايا فى شَفير حسام)
(يشايعه من آل كسْرَى ضراغم ... براثنهم عِنْد اللِّقَاء دوامى)
(يروحون والتيجان فَوق رؤوسهم ... أَلا رب تيجان زهين بهام)
(برزت لَهُم الحتف منى على شفا ... أرى الحتف خلفى تَارَة وأمامى)
(أوارب عَن صحبى وَأعلم أننى ... لاول مقتول لاول رامى)
(فناضلته والركب بَين مفوق ... وَآخر مقروح الجوانح دامى)
(أَصَابَت وَكَانَت لَا تصيب سهامه ... وطاشت وَكَانَت لَا تطيش سهامى)
(كَذَا الغيد يَا عثماء اما مجاهر ... واما ختول لَا يفى بذمام)
وَله
(لَا يتهمنى العاذلون على البكا ... كم عِبْرَة موهتها ببنانى)
(يَا من يفندنى على ابْنة وَائِل ... عَنى اليك فَغير شَأْنك شانى)
(آلَيْت لَا فتق العذول مسامعى ... يَوْمًا وَلَا خاط الْكرَى أجفانى)
(قَالَت عثيمة قد كَبرت عَن الصِّبَا ... مَا للكبيرة وصبوة الشبَّان)
(مَا الشيب الا كالقذاة لناظرة ... فقليله وَكَثِيره سيان)(4/72)
(سلبت أساليب الصبابة من يدى ... صبرى وأغرت ناجذى ببنان)
وَله
(طرقت تخطى رَقَبَة الواشين بى ... وعيونهم مطروقة بكراها)
(وَأَنا وموار الْيَدَيْنِ نلوذ فى ... سجف الْغَمَام كأننا طنباها)
مِنْهَا
(هَل فى الْقَضِيَّة أَن يشايعك العدا ... فى لَيْلَة نَاجَيْت فِيك سهاها)
(هَب أَن للشامى فِيهَا بالسهى ... نسبا فَأَيْنَ هم وَأَيْنَ دجاها)
(لَيْت الَّتِى بعثت الى خيالها ... أَذِنت لعينى أَن تذوق كراها)
وَله غير ذَلِك مِمَّا لَا تنتهى بدائعه وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَتِسْعين وَألف
مُحَمَّد بن على بن سعد الدّين بن رَجَب بن علوان الْمَعْرُوف بالمكتبى الدمشقى الْخَطِيب الامام الشافعى الْمَذْهَب كَانَ من أجل عُلَمَاء الزَّمن مُحدثا فَقِيها اخباريا أديبا لَهُ نظم ونثر وَكَانَ حسن الاخلاق صَدُوقًا ثَبت الرِّوَايَة جمع لنَفسِهِ مشيخة وقفت عَلَيْهَا بِخَطِّهِ ونقلت مِنْهَا بعض تراجم أشياخه فَمنهمْ وَالِده وَالشَّيْخ مُحَمَّد الميدانى والنجم مُحَمَّد الغزى وَالشَّيْخ على النجار الصالحى وَالشَّيْخ على القبردى والشيح يحيى الفرضى والكمال العيثاوى وَالسَّيِّد ابراهيم الصمادى وَالشَّيْخ ابراهيم الحلبى العلوانى امام الصابونية بِدِمَشْق والشهاب أَحْمد العرعانى وَهَؤُلَاء كلهم شافعيون وَمن الْحَنَفِيَّة العمادى الْمُفْتى والشهاب أَحْمد البهنسى وَالْمولى يُوسُف بن أَبى الْفَتْح والاديب أَحْمد ابْن شاهين وَالشَّيْخ رَمَضَان العكارى وَالشَّيْخ أَيُّوب الخلوتى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الحزرمى الْبَصِير وَمن الْحَنَابِلَة الشَّيْخ عبد الباقى الْمُفْتى والشهاب أَحْمد الوفائى وَمن الْمَالِكِيَّة أَبُو الْقَاسِم المغربى وَهَؤُلَاء كلهم دمشقيون وَأخذ عَن أَبى الْعَبَّاس المقرى وَشَيخنَا الشَّيْخ يحيى الشاوى وَحج فى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ بِمَكَّة عَن الْجمال مُحَمَّد على بن عَلان الصديقى ثمَّ حج ثَانِيًا فى سنة تسع وَخمسين وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الصفى القشاشى وبمكة عَن الشَّمْس البابلى وَدخل الْقُدس وَأخذ بهَا عَن مفتى الْحَنَفِيَّة بهَا الشَّيْخ عبد الْغفار وَولى امامة السنانية وخطابة السيبائية وَكَانَ لَهُ كرسى وعظ بِجَامِع بنى أُميَّة وبالسنانية ودرس الجامعين الْمَذْكُورين كثيرا وانتفع بِهِ جمَاعَة وَكَانَ جهورى الصَّوْت فصيح الْعبارَة فى وعظه وَكَانَ فَقِيرا كثير العائلة صَابِرًا قنوعا سخى الطَّبْع مجدا فى الْعِبَادَة فى وعظه وَكَانَ فَقِيرا كثير العائلة صَابِرًا قنوعا سخى الطَّبْع مجدا فى الْعِبَادَة والمطالعة ونفع النَّاس لَا يمل وَلَا يكل وَكَانَ للنَّاس فِيهِ محبَّة لتواضعه وكرم اخلاقه وَله أشعار كَثِيرَة غالبها فى الْمَدْح والرثا وَبِالْجُمْلَةِ ففضله لَا يحْتَاج الى شَاهد وَكَانَت وِلَادَته فى الْيَوْم السَّابِع عشر من ذى(4/73)
الْقعدَة سنة عشْرين بعد الالف وَتوفى نَهَار السبت ثانى عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عمر بن فواز الملقب شمس الدّين الدمشقى الشافعى كَانَ فَاضلا أديبا لطيف الذَّات حسن الْخلال عذب الْفَاكِهَة لَهُ مُشَاركَة فى عدَّة فنون وَله شعر // حسن لطيف السبك // أَخذ بِدِمَشْق عَن الْعَلامَة العمادى الحنفى ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا سِنِين وَصَحب أفاضلها الْمَشَاهِير وَلزِمَ الاديب مُحَمَّد الفارضى الْمَشْهُور وروى عَنهُ منظومات كَثِيرَة وَرجع الى دمشق ودرس بِبَعْض الْمدَارِس وَكَانَ كثيرا مَا يألف الشَّيْخ مُحَمَّد الحجازى مفتى الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق وَولده عبد الْحق وَكَانَ عبد الْحق يقْرَأ عَلَيْهِ وانتفع بِهِ وَكَانَ يراسله فَمَا كتبه الفوازى اليه وَقد انْقَطع عَن صحبته أَيَّامًا لجفوة صدرت مِنْهُ وتعتب عَلَيْهِ فى المهاجرة
(يَا غَائِبا والذنب ذَنْبك ... متعتبا الله حَسبك)
(لَا تبعدن فانما ... أمْلى من الايام قربك)
وَقد ذكره البورينى فى تَارِيخه وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَكَانَ عندنَا فى يَوْم قد هَب نسيمه وَصَحَّ بِوَصْف السَّلامَة سليمه فَقَرَأَ بعض الاصحاب هَذَا الْبَيْت من كتاب الصادح والباغم لِابْنِ الهبارية وَظَاهره لَا يَخْلُو من شئ على مُقْتَضى الشَّرِيعَة المحمدية وَالْبَيْت هَذَا
(وَلَيْسَ فى الْعَالم ظلم جارى ... اذ كَانَ مَا يجرى بِأَمْر البارى)
فأظهر اشكاله وأودع حَقِيقَة الْحق أَقْوَاله فَقَالَ
(هَذَا كَلَام ظَاهر الاشكال ... ظَاهره لم يخل من مقَال)
(اذ عَالم الْكَوْن مَعَ الْفساد ... كم قد حوى كفرا على عناد)
(وَكم بِهِ ظلم على اعتداء ... وَالله لَا يَأْمر بالفحشاء)
(ومدعى هَذَا أَتَى بهتانا ... اذ قَوْله يصادم القرآنا)
(مُنَاقض فَائِدَة الارسال ... وَحِكْمَة التَّكْلِيف بالاعمال)
(كَقَوْلِه لَا تقربُوا أقِيمُوا ... فظلمنا مرتعه وخيم)
(فان أَرَادَ الْعلم والاراده ... بالامر فَهُوَ ظَاهر الافاده)
(وهى صِفَات رَبنَا فى الْقدَم ... وَالظُّلم فى فعل الْعباد فَاعْلَم)(4/74)
(وربنا منزه عَن ظلم ... اذ فعله عَن حِكْمَة وَعلم)
(وَمَا جرى فى الْكَوْن بالتقدير ... مَعَ القضا فى سَائِر الامور)
(وَالله سمى الْبَعْض ظلما حَقًا ... فَلَيْسَ من يُنكره محقا)
(وَكم حوى الْقُرْآن ذمّ الظَّالِمين ... وكل من خَالف نهج الْمُؤمنِينَ)
(وَيجب الايمان بِالْقضَاءِ ... وَلم يكن سرا بِلَا امتراء)
(وَامْتنع الرضاء بالمقضى ... اذ كَانَ شَيْئا لَيْسَ بالمرضى)
(كَقَوْل أهل الْعلم وَهُوَ الصدْق ... ان الرِّضَا بالْكفْر كفر حق)
(فَلَا تجوز الرِّضَا بالظلم ... أنكر وَلَو بِالْقَلْبِ يَا ذَا الْفَهم)
(هَذَا جَوَاب حسن مُحَقّق ... وَالله مَوْلَانَا هُوَ الْمُوفق)
وَمن نظمه مَا يتَعَلَّق بِأَكْل المكيفات من البرش مضمنا
(بالكيف تظهر اخلاق الرِّجَال لنا ... لَا بالصنائع والهيئات والحرف)
(والكيف كَيْفيَّة للنَّفس تخبرنا ... عَن خلق صَاحبهَا اخبار معترف)
(فانه الرّيح ان مرت على عطر ... طابت وتخبث ان مرت على الْجِيَف)
وَفِيه تضمين مَعَ نقل وَأَصله
(لَا تشرب الراح الا مَعَ أخى ثِقَة ... واختر لنَفسك حرا طيب السّلف)
(فالراح كَالرِّيحِ ان مرت على عطر ... طابت وتخبث ان مرت على الْجِيَف)
قَالَ وَمِمَّا قرأته لَهُ بِخَطِّهِ فى طلب سفينة شعر من بعض اخوانه
(يَا سيدا فى المعالى ... لَهُ أياد مبينه)
(انى بك الْبر فَابْعَثْ ... يَا بَحر نحوى سَفِينِهِ)
(لَا زلت تهدى دواما ... لى اللآلى الثمينة)
ورحل آخر أمره الى مَكَّة وجاور بهَا وَكَانَ سَبَب رحلته ان رجلا من أجناد دمشق أَخذ لَهُ صرا بِمَكَّة المشرفة فى كل سنة مَا يقرب من ثملثمائة دِينَار هبه فَرَحل اليها وتديرها وقرأت بِخَط البورينى قَالَ لما عزم على الرحيل الى ذَلِك الجناب وصمم على ترك الاقامة بِاخْتِيَار الذّهاب ذهبت اليه مودعا وأنشدته متوجعا مرتجلا فى نظمه مظهر الهيب الْفِرَاق بعد كتمه مضمنا الْبَيْت الاخير لابى الْحسن التهامى مودعا لَهُ فى غُضُون كلامى فَقلت
(فَازَ ابْن فواز فَفَارَقَ جلقا ... وَغدا بِمَكَّة جَار أكْرم جَار)(4/75)
(وغدوت فَردا فى دمشق لبعده ... متجرعا غصصا لِجَار الدَّار)
(جَاوَرت أعدائى وجاور ربه ... شتان بَين جواره وجوارى)
وَلم يذكر وَفَاته فى تَارِيخه وَقد كنت فحصت عَنْهَا فرأيتها فى مَجْمُوع بِخَط عبد الْكَرِيم الطارانى الْمُقدم ذكره قَالَ فِيهِ ان وَفَاته كَانَت بِمَكَّة فى أَوَائِل ذى الْحجَّة سنة خمس بعد الالف وَمَات وَله من الْعُمر نَيف وَخَمْسُونَ سنة تَقْرِيبًا وَورد خبر مَوته الى دمشق فى عشرى صفر سنة سِتّ بعد الالف
مُحَمَّد بن عمر الملقب شمس الدّين بن سراج الدّين بن سراج الدّين الحانوتى المصرى الْفَقِيه الحنفى كَانَ رَأس الْمَذْهَب فى عصره بِالْقَاهِرَةِ يرجع اليه أَمر الْفَتْوَى والرياسة بعد شيخ الْمَذْهَب على بن غَانِم المقدسى وَكَانَ فَقِيها وَاسع الْمَحْفُوظ لَهُ الْفَتَاوَى الْمَشْهُورَة وهى فى مُجَلد كَبِير مرغوبة يعتمدها الْفُقَهَاء فى زَمَاننَا ولوالده أُخْرَى نافعة سائرة تفقه على وَالِده وعَلى قاضى الْقُضَاة نور الدّين الطرابلسى ثمَّ المصرى والشهاب أَحْمد بن يُونُس بن الشلبى صَاحب الْفَتَاوَى وَأخذ عَن الامام تقى الدّين الفتوحى وقاضى الْقُضَاة شمس الدّين الشامى المالكى والامام النَّاصِر بن حسن اللقانى المالكى والشهاب أَحْمد الرملى والشهاب ابْن عبد الْحق والاستاذ أَبى الْحسن البكرى وَالشَّمْس مُحَمَّد الدلجى شَارِح الشفا وَالشَّمْس مُحَمَّد الشامى الصالحى ثمَّ المصرى صَاحب السِّيرَة وَالشَّيْخ مُحَمَّد الداودى وتلميذ السيوطى والمظفرى وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الاجلاء مِنْهُم الشَّيْخ الامام خير الدّين الرملى وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشر صفر سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَتوفى بِالْقَاهِرَةِ فى سنة عشرَة بعد الالف
مُحَمَّد بن عمر الخفاجى وَالِد الشهَاب الْمُقدم ذكره المصرى الشافعى أحد أجلاء الْعلمَاء فى عصره كَانَ من الْفضل فى المكانة السامية والهضبة الْعَالِيَة مفننا بارعا محققا مدققا مَشْهُور الصيت ذائع الذّكر أَخذ عَن كبار الشُّيُوخ وتصدر للافادة والتدريس وانتفع بِهِ جمَاعَة من كبار الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو بكر الشنوانى وَكَفاهُ بتلمذ هَذَا لَهُ مفخرا وَلَزِمَه ابْنه الشهَاب وتأدب بِهِ وَعَلِيهِ تخرج فى كثير من الْفُنُون وَبِالْجُمْلَةِ فجلالته وَعظم قدره أشهر من أَي يذكر وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى عشرَة بعد الالف ورثاه الْفَاضِل الاديب مُحَمَّد بن يس المنوفى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى بقصيدة مطْلعهَا(4/76)
(مَا بَال أيدى النائبات تخون ... وتذيم رصف الْمجد وَهُوَ رصين)
(يَا دهر لَا عتبى عَلَيْك وَلَا رضى ... كل المصائب بعد ذَاك تهون)
(تعد الورى البوسى فتسرع وقعها ... واذا وعدت بِمَا يسر تمين)
مِنْهَا
(لَو كَانَ يجدى النوح مَيتا قبله ... نفعا لنا حت أعصر وقرون)
(يَا واعظا بسكونه حركتنا ... ولأنت بالوعظ الْمُفِيد قين)
(وَغدا ضجيع الا انه ... فى قلب كل موحد مدفون)
ختامها
(حفتك رَحْمَة ذى الْجلَال وعفوه ... وَسَقَى ثرى جدث حواك هتون)
(وسرت محَاسِن مَا صنعت حواملا ... حسن الثَّنَاء يحفها التَّأْمِين)
مُحَمَّد بن عمر بن أَبى بن أَحْمد بن أَبى بكر بن عمر بن أَبى بكر بن عمر بن العزب السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر وَالِد بِالْيمن بسردد وَأخذ عَمَّن بِهِ من الشُّيُوخ من بنى القديمى ثمَّ رَحل من الْيمن وَاتفقَ انه دخل زبيد لقَضَاء حَاجَة لبَعض شُيُوخه فَدَخلَهَا بعد الْمغرب فَوجدَ سورها مغلوقا فَبَاتَ على بَاب الْبَلَد واذا هُوَ بِرَجُل فَجَلَسَ عِنْده واكل مَعَه وانسه الى الصُّبْح وَقَالَ لَهُ سلم على شيخك فَقَالَ لَهُ السَّيِّد من أَنْت فَقَالَ هُوَ يعرفنى فَأخْبر شَيْخه بذلك فَقَالَ لَهُ أما عَرفته قَالَ لَا قَالَ ذَاك الْخضر وَهُوَ صاحبى فتعب السَّيِّد فَقَالَ لَهُ لَا تتعب سيصير صَاحبك بعدى وَلما دخل القنفدة كَانَ صَاحب المنصب من أَوْلَاد الشَّيْخ على الطوشى بِمَدِينَة جلى لَيْلَة قدومه الى القنفدة يقوم وَيقْعد وَينظر يَمِينا وَشمَالًا وَيَقُول دخل هَذِه الْبِلَاد فى هَذِه اللَّيْلَة نور عَظِيم وَأوصى بعض المتوجهين الى جِهَة القنفدة يسْأَل عَمَّن قدمهَا فى تِلْكَ اللَّيْلَة فأخبروه أَن القادم تِلْكَ اللَّيْلَة السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور ثمَّ ظهر حَاله وشاع أمره واعتقده النَّاس وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ السّكُون والثبات فى جَمِيع الامور وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع عشرَة وَألف بهَا دفن رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن حسن بن عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن أَحْمد بن عمر بن الشَّيْخ على بن عمر الاهدل كَانَ هَذَا السَّيِّد من كبار مَشَايِخ الصُّوفِيَّة أهل الْحل وَالْعقد الْمُسْتَعَان بهم فى النوائب والشدائد والشفاعات صَاحب زَاوِيَة واكرام وافضال وانعام وشهرته تغنى عَن شرح حَاله أَخذ عَن وَالِده ونصبه جده عبد الْقَادِر وَهُوَ فى سنّ الصغر دون التَّمْيِيز شَيخا فَكَانَ يَقُول لَهُ يَا شيخ وَالله ان لَك(4/77)
جدا لَو نظر الى أهل الارض لصاروا كلهم مَشَايِخ انْتهى وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة كثيرا مَا يَتْلُوا الْقُرْآن بالجهر تِلَاوَة مجودة بترتيل وَحسن صَوت مواظبا الزِّيَارَة جده الشَّيْخ الْكَبِير على الاهدل كل يَوْم ثمَّ يقف عِنْد كل قبر من الْقُبُور الْمَعْرُوفَة هُنَاكَ سَاعَة ثمَّ يدْخل مَسْجِد التربة فيصلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُو وينصرف الى بَيته وَلم يزل كَذَلِك الى أَن توفى لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد سعد الدّين بن تقى الدّين بن القاضى نَاصِر الدّين بن أَبى بكر ابْن أَحْمد بن الامير مُوسَى وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة ابْن أَخِيه أَحْمد بن صَالح الشَّيْخ الْبركَة الولى المعتقد الْمَعْرُوف بالعلى القدسى كَانَ من أصلح صلحاء زَمَانه وأعرفهم بِاللَّه تَعَالَى لَهُ الطَّرِيقَة الباهرة والسمت الْحسن فى مصطلحات الصُّوفِيَّة وَذكرهمْ وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَ فى مبدأ أمره يسكن دمشق بخانقاه تقى الدّين عمر الكردى فى محلّة القنوات ثمَّ حج وجاور وَلم يسْتَقرّ بعد ذَلِك فى دمشق فَرَحل الى موطنه الْقُدس وقطن بهَا واعتقده أَهلهَا وأحبوه واشتهر صيته فى الْآفَاق وَكَانَ عَالما صَالحا سالكا على نهج كبراء الصُّوفِيَّة وَله على لسانهم شعر نَفِيس فَمن ذَلِك قَوْله مُشِيرا الى الْوحدَة الْمُطلقَة
(سلم اذا ذكر اتحادا عاشق ... وافطن فطور الْمَرْء لَيْسَ يزِيد)
(فَالنَّار يدخلهَا الْحَدِيد فيغتدى ... نَارا فَذَاك معاين مشهود)
(فاذا تخلى عَن مقَام وصالها ... فَالنَّار نَار وَالْحَدِيد حَدِيد)
وَله كرامات مَشْهُورَة مِنْهَا مَا حَكَاهُ خَلِيفَته الشَّيْخ على الحورانى الحبراصى من حبراص قَرْيَة بحوران وَكَانَ من أخص جماعته وَذَلِكَ انه شاور الشَّيْخ فى الذّهاب الى بِلَاده لزيارة أَهله فحذره من أَمر يأتى عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ دَافع عَن نَفسك مهما أمكنك وَلم يُصَرح ثمَّ توجه فَلَمَّا وصل الى دَارهم الَّتِى يعهدها دَخلهَا فَخرجت اليه امْرَأَة وأدخلته وَلم يدر أَنَّهَا غَرِيبَة فَلَمَّا اسْتَقر دَاخل الدَّار غلقت عَلَيْهِ الابواب وراودته عَن نَفسه وَكَانَ غارقا فى الجذب فَصَرَخَ عَلَيْهَا بقول الله فَلم تلْتَفت وَأَقْبَلت عَلَيْهِ فَلم يضعر الا والجدار قد انْشَقَّ وَالشَّيْخ العلمى وَاقِف يَقُول لَهُ هَات يدك يَا على وسحبه وَأخرجه فَلَمَّا أَتَى الْقُدس لزيارة الشَّيْخ وَسلم عَلَيْهِ مسك الشَّيْخ يَده وَشد عَلَيْهَا وَأَوْمَأَ اليه بالكتم وَذكره الفيومى فى المنتزه وَقَالَ فى وَصفه أشرقت شمس معارفه بالارض المقدسه فأطلعت أهل ارشاده هادية ومؤنسه فانتشرت فضائله(4/78)
واشتهرت فواضله وَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ النَّاس وَأَقْبَلت عَلَيْهِ أَرْبَاب الباس فنفذت كَلمته وازدادت حرمته وَله ديوَان شعر مَشْهُور وتائية فى السلوك درها منثور على النحور افتتحها بقوله تبعا لِابْنِ حبيب فى تائيته
(باسم الاله ابتدائى فى مهماتى ... فَذَاك حصنى فى كل الملمات)
(وَالْحَمْد لله ربى دَائِما أبدا ... حمدا ننال بِهِ أَعلَى المبرات)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار سيدنَا ... مُحَمَّد الْمُصْطَفى عز الوجودات)
(كَذَا سَلام من الْمولى يضاعفه ... من اليه بأنواع التَّحِيَّات)
(فى كل حِين وآن لَا انْقِضَاء لَهُ ... من رَحْمَة الله يأتى بالمسرات)
(كَذَاك للآل والصحب الْكِرَام وَمن ... للدّين قد أيدوا فى كل حالات)
وهى كَبِيرَة تشْتَمل على قَوَاعِد أهل الطَّرِيقَة والحقيقة وَذكره البورينى فى تَارِيخه وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَلما كَانَ بِدِمَشْق سرت اليه يَوْمًا من الايام وهزنى الشوق والغرام لاغتنام مصاحبته واجتلاء مكالمته فصادفت الديار خاليه والمنازل عاطلة غير حاليه لانه قد سَار الى زِيَارَة أَهله فى بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا رَأَيْت وحشتها بعد انسها وظلمتها بعد أنوار شمسها أنشدت مرتجلا وكتبت عجلا على جِدَار الخانقاه الَّتِى كَانَ يسكنهَا هَذِه الابيات
(أتيت ديار الحى بعد ارتحالهم ... فصادفت ربعا بعد سكانه أقوى)
(ورمت من الْقلب التصبر بعدهمْ ... فَقَالَ على بعد الاحبة لَا أقوى)
(وَمن نكد الدُّنْيَا على الْمَرْء ان يرى ... منَازِل من يهوى على غير مَا يهوى)
انْتهى وَكَانَت وَفَاة العلمى فى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بجبل الطّور ظَاهر الْقُدس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عمر بن أَبى بكر بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن أَبى بكر عبَادَة بن يُوسُف بن أَحْمد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن اسماعيل بن مُحَمَّد الاحنف مُصَنف كتاب الثَّمَرَة فى الْفِقْه ابْن اسماعيل بن عمر بن يحيى بن عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن على بن الشويش بن على بن وهب بن صريف بن ذوال وَقد مر تَتِمَّة النّسَب فى تَرْجَمَة ابراهيم عبد الله جعمان فبنو عباده وَبَنُو جعمان يَجْتَمعُونَ فى عمر بن مُحَمَّد كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة فَقِيها عَالما ورعا زاهدا قَامَ فى مَحل آبَائِهِ أتم قيام فى الْفَتْوَى والتدريس بِبَيْت الْفَقِيه ابْن عجيل وَكَانَت وَفَاته فى شعْبَان سنة خمسين وَألف(4/79)
مُحَمَّد بن عمر بن الصّديق الحشيبرى مفتى الديار اليمنية ومحدثها كَانَ فَقِيها عَالما محققا نقالا ورعا زاهدا عابدا صَاحب تربية واخلاق رضية وأفعال مرضيه وأحوال وكرامات خارقة وَله رُؤْيا منا مَاتَ تدل على تمكنه وَقرب مَنْزِلَته عِنْد الله تَعَالَى صحب السَّيِّد الطَّاهِر بن الْبَحْر وَأخذ عَن الْعَلامَة مُحَمَّد بن أَبى الْقسم جعمان وَعنهُ أَخذ السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْمَذْكُور والعلامة مُحَمَّد صَاحب الْخَال وَعبد الرَّحْمَن الخلى وكثيرون وَكَانَت وَفَاته فى ذى الْحجَّة سنة خمسين وَألف وَدفن بِبَيْت الْفَقِيه الايمن بتربة جده الولى الشهير على بن أَحْمد حشيبر وجدهم الْفَقِيه الولى مُحَمَّد بن عمر نفع الله تَعَالَى بهم وَحصل بِمَوْتِهِ التَّعَب الشَّامِل وَنزل الْعلم بِمَوْتِهِ دَرَجَة لانه لم يخلف بعد مثله فى الْحِفْظ والاتقان ورثاه السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر بقصيدة أَولهَا
(دهتنا الليالى بِمَوْت الْفَقِيه ... امام الْهدى غوث أهل الْيمن)
وهى طَوِيلَة أَعرَضت عَنْهَا لطولها وَالله أعلم
مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن علوى بن أَبى بكر بن على بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَسد الله ابْن حسن بن على بن الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الْمُقدم نزيل مَكَّة المشرفة وشهرته بالغزالى وبالحبشى كسلفه صَاحب المناقب والاحوال المرشد الْكَامِل فريد الزَّمَان ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره وَصَحب الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس والقاضى عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَالسَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الحبشى وَالسَّيِّد عبد الله بن سَالم وَغَيرهم وتفقه بِجَمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن اسمعيل بَافضل وَلزِمَ الطَّاعَة واعتنى بكتب الغزالى وَمن ثمَّ قيل لَهُ الغزالى ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَصَحب بهما جمَاعَة من العارفين وَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان ثمَّ صحب السَّيِّد صبغة الله وَالسَّيِّد أسعد وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوى ولازم مطالعة كتب الشَّيْخ الاكبر ابْن عربى وَلزِمَ طَرِيقَته وَرُبمَا حصل مِنْهُ بعض شطح وَتكلم فِيهِ بعض الْفُقَهَاء وتوطن مَكَّة وَأكْثر الْمُحَقِّقين من الْعلمَاء لم يثبتوا لَهُ قدماً فى التربية وجعلوه مِمَّن يعْتَقد وَلَا يقْتَدى بِهِ وَله نظم فائق أَكْثَره فى طَرِيق الْقَوْم فَمِنْهُ قَوْله
(تجلت عَن تجليها فسلنى ... فقائلها بهَا أعْطى التثنى)
(بِذَات لاتصال فى افْتِرَاق ... بِجمع الْجمع فى عين التخبى)(4/80)
(مَكَان الْفَرد والزوجين لاحت ... تلاهت لَا بهَا والفرد يثنى)
(فَكُنَّا فِيهِ بل هُوَ كَانَ فيبنا ... فطبنا رب زدنى رب زدنى)
(فكاسى لَا تزيده الردايا ... وفيضى لاتساع الْفقر يغنى)
(وَلم لَا وَالْمُحِيط الْحق منى ... بِمَنْزِلَة الهجوم على منى)
(سَأَلت وَمَا علمت سواى لَكِن ... بِحكم الْفرق كنت رميت عَنى)
(فأسهمك الَّتِى بَعدت باذنى ... وصيدك لم يكن الا باذنى)
(وَلَوْلَا الرتق بعد الْخرق أبقى ... لسحرك فى الْبَيَان لكل فن)
(لما كتب الْبَيَان سَواد عين ... وَلَكِن مَا النظار قرَان قرن)
ثمَّ ابتلى بِمَرَض هائل وَاسْتمرّ الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء ثامن عشر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَقد جَاوز السّبْعين وَدفن بالمعلاة
مُحَمَّد بن عمر بن شيخ بن اسمعيل بن أَبى بكر بن ابراهيم بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف اشْتهر كسلفه بالبيتى لكَون جده الاعلى أَبى بكر سكن بَيت مسلمة فنسب اليها السَّيِّد الاجل الْعَالم ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب أكَابِر العارفين وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن اسمعيل بَافضل وَأخذ عدَّة عُلُوم عَن الشَّيْخ الْكَبِير القاضى عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَالشَّيْخ زبن بن حُسَيْن بَافضل وَعَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الله بن شيخ العيدروس وَابْنه زين العابدين ولازم صحبته ورحل الى الْحَرَمَيْنِ فَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى والعارف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ سعيد بابقى وَالشَّيْخ الْكَبِير عبد الرَّحْمَن باوزير قَرَأَ على هذَيْن الاحياء وَأخذ التصوف عَنْهُمَا وَعَن السَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن سَالم خيلة وَأخذ بِالْيمن وَغَيرهَا عَن جم غفير وَكَانَ كثير التَّرَدُّد الى الْحَرَمَيْنِ والمجاورة فيهمَا ثمَّ لزم الاقامة بتريم ولازم صُحْبَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد العيدروس فى دروسه وَكَانَ يحضر درس الْوَالِد يعْنى الشلى الْكَبِير أَبَا بكر بعد الْعشَاء فى مَسْجِد الْقَوْم كل لَيْلَة وَكَانَ بَينهمَا صُحْبَة أكيدة قَالَ وصحبته سِنِين وَكَانَ كثير الاوراد والاذكار مواظبا على الْجَمَاعَات وَكَانَ لَا يتْرك الْجَمَاعَة فى مَسْجِد بنى علوى وَمَسْجِد السقاف الا عَن عذر شرعى وَكَانَ كثير الزِّيَارَة للقبور لَا سِيمَا قبر الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الْمُقدم وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْعُزْلَة عَن النَّاس فَلَا يجْتَمع بهم الا فى مَسْجِد جمَاعَة أَو مجْلِس علم(4/81)
وَكَانَ لَهُ خلق حسن وَلم يزل مواظبا على الْعلم وَالْعَمَل الى أَن مَاتَ فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف بتريم وَدفن بمقبرة زنبل
مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن أَبى بكر الملقب تقى الدّين قاضى الْقُضَاة الفارسكورى المصرى المولد نزيل قسطنطينية من أفضل فضلاء الزَّمَان وأبلغ البلغاء نظما ونثرا وبراعة وَكَانَ وَهُوَ بِمصْر اتَّصل بِخِدْمَة قاضيها شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّاء وَتوجه بخدمته الى الديار الرومية وَأقَام بهَا ولازم على قاعدتهم ودرس وَمَا زَالَ عِنْد الْمولى الْمَذْكُور فى المكانة المكينة الى أَن دبت لاجله عقارب الْحَسَد من حَوَاشِيه وندمائه وَطَفِقُوا يركبون الصعب والذلول فى ذمه فَأَبْعَده عَن مَجْلِسه وأقصاه فَلَزِمَ الْعُزْلَة وغضت عَنهُ الابصار وَرمى فى زَاوِيَة الهجران وَله فى ذَلِك أشعار ورسائل يُشِير بهَا الى سوء معاملتهم مَعَه وَمِنْهَا أبياته الْمَشْهُورَة الَّتِى يَقُول فِيهَا
(من الرأى ترك انى بلوتهم ... فَلم أرهم فى الْخَيْر يَوْمًا وَلَا الشَّرّ)
(وَكم من جهول بى وَلم يدر جَهله ... وَلم يدر علمى انه بى لَا يدرى)
(مدحت فَلم ينْتج هجوت فَلم يفْسد ... وعهدى بأشعارى تُؤثر فى الصخر)
(فَلَا يأملوا من بعد خيرى كَمَا مضى ... فقد حيل بَين العير وليأمنوا شرى)
(وَلَا يطعموا فى الْمَدْح منى وَلَا الهجا ... فقد شط شيطانى وتبت عَن السحر)
(وَأَدت العذارى من بَنَات خواطرى ... بقلبى وَأم الشّعْر طَلقهَا فكرى)
الْبَيْت الاول سبكه من الحَدِيث وَهُوَ مَا أخرجه الطبرانى عَن ابْن مَسْعُود اتْرُكُوا التّرْك مَا تركوكم فان أول من يسلب أمتى ملكهم وَمَا خولهم الله بَنو قنطوراء وَبَنُو فنطوراء التّرْك وهى جَارِيَة لابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام من نسلها التّرْك وَالْبَيْت الاخير // لطيف الْمَعْنى // وَمِنْه قَول الشهَاب الخفاجى
(بَنَات أفكارى الَّتِى ... وأدتها اذ كسدت)
(موؤدة مَا سُئِلت ... بأى ذَنْب قتلت)
والموؤدة الْبِنْت يدفنها أَبوهَا حَيَّة فى الْجَاهِلِيَّة انْتهى ثمَّ لما مَاتَ أستاذه الْمَذْكُور ولى بعد وَفَاته قَضَاء الْقُدس وَكَانَ من الادب والبلاغة وَالشعر وَصِحَّة التخيل والانطباع فى الذرْوَة الْعليا وَكَانَ عَارِفًا بِكَثِير من الْفُنُون كثير الِاطِّلَاع وَجمع مدائح أستاذه هَذَا الَّتِى مدح بهَا فى بِلَاد الْعَرَب أَيَّام قَضَائِهِ بحلب ودمشق ومصر وَالْتزم أَن يذكر الشَّاعِر عِنْد ايراد شئ من شعره وَلَا يزِيد على توصيفه بِكَلِمَة أَو كَلِمَتَيْنِ وَاعْتذر(4/82)
عَن اطالة التراجم بقوله فى أَوله وَكنت أردْت ان أترجم كل شَاعِر مِنْهُم عِنْد ايرادى لشعره وأتكلم فى حَقه هُنَاكَ بِمَا عساه أَن لَا يتَعَدَّى بِهِ طوره بل يوقفه عِنْد قدره وَذَلِكَ بعد رِعَايَة الْمُطَابقَة لمقْتَضى الْحَال وحسبما يثبت دَعْوَى فَضله عِنْد حَاكم الْعقل من شُهُود الْمقَال فاخترت وقتا بعد جمع هَذِه القصائد حررت فِيهِ الطالع وَالْغَارِب وضبطت غب اطلاعى على الفرائد مِنْهَا والفوائد مقامات الجوزهرات ومقدمات الْكَوَاكِب ثمَّ نظرت نظرة فى النُّجُوم واستخرجت الْمَجْهُول مِنْهَا من الْمَعْلُوم فَظهر لى انه لَا شئ أدل من شعر الْمَرْء على عقله وَلَا أصدق من ذَلِك الطل على وبله كَمَا قيل
(وانما الشّعْر لب الْمَرْء يعرضه ... على الانام فان كيسا وان حمقا)
فاكتفينا فى الدّلَالَة على فضائله بذلك الْمِقْدَار وناهيك مِنْهُ بِدلَالَة النُّور على النُّور وَالشَّمْس على النَّهَار انْتهى وَمِمَّا أورد فى كِتَابه الْمَذْكُور من أشعاره الغضة الشهية قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(مَا هبت الرّيح برِيح الرند ... الا أثارت سَاكِنا من وجدى)
(وَمَا بدا رعد الْحمى الاهمى ... دمعى دَمًا مخددا للخد)
(وان تلح بارقة جاوبها ... من خفقان الْقلب أى رعد)
(أَواه واشوقاه هَل من حِيلَة ... الى لقاكم يَا أهيل ودى)
(غادر تمونى نازحا وَالْقلب منى خافقا مثل سُهَيْل الْفَرد ... )
(بأى حكم زمن وَلم أحل ... عَن عقد عهدكم نقضتم عهدى)
(بَين الْهوى وَالْقلب حَرْب داحس ... وَالسّلم بَين مقلتى والسهد)
(من أجل ظبى مهجتى كاسه ... وَلَيْسَ حظى مِنْهُ غير الصد)
(كَالْمَاءِ رق جِسْمه لكنه ... يحمل قلبا قاسيا كالصلد)
(أَمِير حسن مَاله جماله ... وَحَوله عشاقه كالجند)
(ان سل سيف غنجه من جفْنه ... قَالَ لَهُ قلبى مقَام الغمد)
(أخرنى على علو رتبتى ... كَأَنَّهُ يرقمنى بالهندى)
(ينصف غيرى غير أَنه يرى الانصاف ان يقتلنى بالعمد ... )
(قد قلد ابْن البارزى ردفه ... وخده يُقَلّد ابْن الوردى)
(نفسى وَمن تَحت السَّمَاء لَهُ الغدا ... فان أَبَوا فبى حبيبى وحدى)(4/83)
(بِاللَّه يَا مَالك رقى حسنه ... عذب بِمَا تشَاء غير الْبعد)
(وَحقّ عَيْنَيْك وذلى الذى ... ألبسنى الْعِزّ وكل الْمجد)
(وصبح غرَّة هدانى للهوى ... وليل طرة أضاع رشدى)
(لَا حلت عَن حبيك فى الدُّنْيَا وفى الاخرى أَرَادَ مؤنسى فى لحى)
وَقَوله من أُخْرَى مستهلها
(قفى ودعى يَا ربة الاعين النجل ... فكم من بتاريخ الْهوى بارح الْعقل)
(وَلَا تمنعيه اللحظ ان لم يكن وفا ... اذا عز وبل لَا أقل من الطل)
(صددت فعاينت الردى غير أننى ... تأسيت بالعشاق فِيك الالى قبلى)
(ونعاسة الْعَينَيْنِ يقظانة الجفا ... مفرغة الْهِمْيَان ملآنة الحجل)
(يفرع دجى من فَوق فرق كَأَنَّهُ ... صباح وجسم ملْء أثوابه عبل)
(وظلم كراح لم يدنسه عاصر ... وطرف كحيل صبغة الله لَا الْكحل)
(دعانى الدّين الْعِشْق مُرْسل فرعها ... وَمَا مذهبى الا هوى الشادن الطِّفْل)
(حبيب أرانا الله فى عصرنا بِهِ ... حلى يُوسُف الصّديق فى الْحسن والشكل)
(بِوَجْه على قد على ردفه علا ... كبدر على غُصْن على نقوى رمل)
(بخديه تفاحى وَعَيْنَيْهِ نرجسى ... وَمن ثغره راحى وَأَلْفَاظه نقلى)
(رنا لى بِطرف سَاحر لَو رنا بِهِ ... سَهَا كل ذى نسك عَن الْفَرْض وَالنَّفْل)
(ترى من غَدا فى السحر أستاذ طرفه ... فهاروت لم يقدر على ذَلِك الْفِعْل)
(نظرت لَهُ يَوْمًا فأدميت خَدّه ... وَمَا خلته يقْتَصّ فى الْجرْح بِالْقَتْلِ)
(لعمرى لقد أبكيت عينى وان أمت ... بَكت لَا بَكت عَيْنَاك فى الاجل من أجلى)
(أتقتل نفسا حرم الله قَتلهَا ... وَلم تخش من شكواى للْحَاكِم الْعدْل)
وَقَوله من أُخْرَى مبدؤها
(حتام واخيبة الْمَسْعَى أرى قدمى ... يسْعَى لمن فى رضى الواشى أراق دمى)
(يبيت فى اللَّيْل ملآن الجفون كرى ... وليلتى فِيهِ ساهى الطّرف لم أنم)
(لم أقض من حبه فى حبه وطرا ... بلَى قضيت أسى من هجره الوخم)
(أعارنى خصره ثوب النحول وَمن ... لحظيه كَانَ كسانى حلتى سقم)
(وَلَيْسَ دمعى عَلَيْهِ راقئا وبدت ... عقارب الصدغ شبه الْخط فى اللقم)
(ريم من الرّوم مَا أزرى بوجنته ... من عَارض غير خطّ الله لَا الْقَلَم)(4/84)
(ونا فطاره فؤادى نَحْو ناظره ... فاعجب لسهم ببرجاس الْفُؤَاد رمى)
(آهالها نظرة كَانَت شقاى بلَى ... كَانَ الشقافى السقا كالسم فى الدسم)
(قبلته ودموعى كالعقيق فلى ... دم على مَا ترى فى خدريمهم)
(مَا فاض دمعى الا افتر مبسمه ... كالزهر يبسم زهوا من بكا الديم)
(لَو لم يكن غصنا مَا كَانَ قابلنى ... من غيث دمعى بثغر مِنْهُ مبتسم)
(مَا أنبت اللحظ فى خديه ورد حَيا ... الا وأثمر فى جفنى بالعنم)
(يَا عاذلى دعانى من ملامكما ... فى الْحبّ فالعاشق المطبوع لم يلم)
(صبرا فآيات رايات السوَاد على ... عوارض الخد لاحت مِنْهُ فى الْعَجم)
(لَا كنت يَا قلب كم تصبو على شبح ... صيرتنى بعد زهدى عَابِد الصَّنَم)
(حتام تصبوا لى الْحور الحسان وَلم ... تذكر خلودك فى نيران هجرهم)
(صحنا المحبون وانفضت عواذ لَهُم ... وخلفونى صريع الوجد والالم)
وَقَوله من أُخْرَى أَولهَا
(قد حركت طرب الْغَرِيب العانى ... كاس المدام الخندريس العانى)
(طافت بهالتها البدور يحثها ... نغمات اسحاق ورقص غوانى)
(لَو خامرت صلد الْحِجَارَة لاستحى ... أَن لَا يرى فى خفَّة السَّكْرَان)
(أَو أشرقت من مدلهم دنانها ... لَيْلًا أزالت شُبْهَة من مانى)
(مزجت بظُلْم سقايتها بيض الطلا ... سود الغدائر فى اللبَاس القانى)
(وجآذر الآرام لَا الآرام فى ... صفة الشموس على غصون البان)
(من كل أشنب صاعه ريح الصِّبَا ... ثمل بخمرة رِيقه نشوان)
(سَاد الْقَبَائِل فى صباه لَهُ على ... فتك الاسود تلفت الغزلان)
(قد ضرجت بدمائنا وجناته ... وسيوفه لم تنض من أجفان)
(يقوى غرام بجلنار خدوده ... مِنْهُ تغار شقائق النُّعْمَان)
(آس العذار بجلنا خدوده ... مِنْهُ تغار شقائق النُّعْمَان)
(فى وَجهه وحماه غَايَة بلغتى ... ونتيجة الاوطار والاوطان)
قَالَ وَقلت فى يَوْم سرُور
(سقى الله يَوْم المهرجان كَمَا سقى ... وَحيا فأحيا فِيهِ سَاق مقرطق)
(تجمع فِيهِ كلما شت باصر ... وَلكنه مِمَّا يروق ويعشق)(4/85)
(كؤس وساقوها وَشرب ومشرب ... شموس وأقمار وَغرب ومشرق)
(شغلنا عَن التدريس فِيهِ وحبذا ... منازلة الغزلان ذَا الْيَوْم أليق)
(ركبنَا فخرت السَّبق فى حلبة الْهوى ... ففى اللَّهْو لي طرف من الطّرف أسبق)
(الى حلَّة حَيْثُ الثريا قُصُورهَا ... يقصر عَنْهَا فى النظام الخورنق)
(وصحبة قوم قد تشابه رقة ... حَدِيثهمْ والبابلى الْمُعْتق)
(نعمت بهم والدهر لم يغف لحظه ... وَرَاء ستور الْغَيْم مطبق)
(حكى فَوق عين الشَّمْس أجفان نَائِم ... يفتحها بالبرق نحوى ويطبق)
(وَلَو لم أكن فى ظلّ يحيى أصابنى ... صواعقه مَعَ من أصيوا فأحرقوا)
(فَلَا قلصت للحشر عَنى ظلاله ... فَفِيهَا كَمَا نهوى نَعِيش ونرزق)
(تنبه فوسنان الزهور تنبها ... وأفواهها افترت تسبح رَبهَا)
(وَقد وعظ الايك الهزا وفأخرجت ... أكفا بهَا تستغفر الله رَبهَا)
(وشابهت الارض السَّمَاء فزهرها ... كزهر وَكَانَ النَّجْم بِالنَّجْمِ أشبها)
(وطاب الْهوى حَتَّى الغصون تعانقت ... كمحلولة مَالَتْ تعانف حلهَا)
(وحيهل الصهبا بِلَال بلابل ... فَفتح آذان الْوُرُود وقلها)
(ورش الحيا ثوب الربى وشقيقه ... مجامره العنبر الرطب شبها)
(وَمَا فتح الزهر الرّبيع يخال من ... يُرَاد ثغوراكى يتم بهَا)
(وَلَكِن رأى يحيى يفتح بالندى ... ثغورا لنا فى مدحه فتشبها)
وَقلت أَيْضا ارتجالا وَقد ألبسنى حلتين من ملبوسه الفاخر فَخرجت أجر مِنْهَا ذيول المعالى والمفاخر
(ألبستنا الْمجد فى الباسنا الحللا ... قشبا وأنسيتنا الاوطان والحللا)
(كسوتنا كسْوَة رحنا نجر بهَا ... ذيل الفخار على اكفائنا خيلا)
(هَذَا وَكم لَك من اسداء مكرمه ... بهَا فضحت الندى والوابل الهطلا)
(يَا من اذا جاد للمعافى بِمَا ملكت ... يَدَاهُ ظن سخاء انه بخلا)
(قبولنا مِنْك فيض الْفضل فِيهِ لنا ... عز وفخر وَأما من سواك فَلَا)
وَقلت أَيْضا وَقد توالت بالروم الامطار والغيوم واستولت على الْقلب الاكدار والغموم(4/86)
(يَا رب قطر غزير الْقطر صيرنى ... أعض كفى لما جِئْته أسفا)
(حسبت فِيهِ رِدَاء الْمجد يدفئنى ... فَلم أر الْمجد أغنانى وَلَا الشرفا)
(كم لَيْلَة خانها صبح كمصطبرى ... وغيثها كدموعى بالعهود دوفا)
(دجت فَلم يدر فِيهَا الْخلّ وَجه أَخ ... من بردهَا بل وجارى مَائِهَا وَقفا)
(وَكم نهاربه ظلّ النَّهَار ضحى ... حسبى من الوكف مَا شاهدته وَكفى)
(وَالشَّمْس فى فر وسنجاب السَّحَاب بَدَت ... مَرِيضَة قَلبهَا بالرعد قد رجفا)
(والارض قد نسجت أيدى الرِّيَاح لَهَا ... من شقة الوحل أخياط الحما لحفا)
(أما ترى بعد تَفْصِيل البروق لَهَا ... قَوس الْغَمَام لقطن الثَّلج قد ندفا)
(كَأَنَّهُ كف يحيى باللجين على ... أمثالنا من أهالى الْعلم والضعفا)
(لَوْلَا تلافيه كَانَ الْبرد أتلفنى ... فقد حمانى وعنى أتلف التلفا)
(وَلم يزل يُوصل الجدوى فضقت بهَا ... لانها أثقلت من كاهلى كَتفًا)
(لَا زَالَ فى برج سعد غير مُنْقَلب ... ونجد حاسده للحشر منكسفا)
انْتهى وَقد ذكره الخفاجى فى كِتَابيه وَقَالَ فى حَقه فى الخبايا فَاضل أديب وحبِيب ابْن حبيب واذا طابت الاصول زكتْ الْفُرُوع واذا صَحا الجو أشرق بدره فى الطُّلُوع وَقد ضمنى واياه عقد الِاجْتِمَاع بَعْدَمَا كَانَت دُرَر مآثره ملات صدفة الاسماع فَرَأَيْت النَّاس فى رجل والدهر فى ساعه وجلى على فى سوق الْعَرُوس أنفس بضاعه وشاهدت فى مرآته سماته وُجُوه محَاسِن صِفَاته مِمَّا نقر بِهِ عُيُون المدائح وتنشرح لَهُ صُدُور الْمجَالِس وتطيب نفوس المكارم فطفت بكعبة فضائله ونزهت عُيُون المنى فى رياض شمايله وانتشيت من صهبائه وتنقلت بانشاده وانشائه وَمَا كل قَول حسن وَلَا كل خضراء خضراء الدمن وشكرت دهرا لف شملى بشمله وعرفنى بضالة الْفضل فى ظله وَلم أقل اذ مد لى بِهِ أيادى الامتنان ان دهرى يضن بالاحسان ثمَّ أنْشد لَهُ من شعره قَوْله مضمنا
(تَقول سليمى بعد مَا تبت تبت عَن ... هواى وَعَن ذى الْخَال لست بتائب)
(تواصل واوات بخد معذر ... وتجفو بِلَا ذَنْب ذَوَات الذوائب)
(اليك فانى لست مِمَّن اذا اتَّقى ... عضاض الافاعى نَام فَوق العقارب)
وَقَوله من قصيدة فى المديح
(يَا من محياه يستسقى بِهِ الْمَطَر ... وعدله ينسى عِنْده عمر)(4/87)
(ان كنت تبغى بِنَار الهجر تجربتى ... انى على الخالتين العنبر الْعطر)
(وسوف ينبيك صبرى فى الْجَحِيم على ... جفاك هَل أَنا ياقوت أم الْحجر)
أَصله قَوْله سعيد بن هَاشم الخالدى
(تزيدنى قسوة الايام طيب ثَنَا ... كأننى الْمسك بَين الفهر وَالْحجر)
وَقَول الآخر
(ألقنى فى لظى فان غيرتنى ... فتيقن ان لست بالياقوت)
وَقَوله
(ان قسطنطينية طرفَة الدُّنْيَا وبيمارستان هَذَا الْوُجُود ... )
(ساكنو مَا مرضى وزمنى وأهلوها المجانين والطبيب يهودى)
وَقَالَ الفيومى فِيهِ روض آدَاب أَو حَوْض ملئ بأعذب شراب حبر شمايله الصِّبَا قد سَاد من عصر الصِّبَا سيد الادبا فاق أقرانه أدبا وحسبا وَله انشاء وَشعر كل مِنْهُمَا نضر وَروض أدبه كُله ربيع خضير ثمَّ أورد لَهُ أبياتاً من جملَة قصيدة تائية قَالَهَا فى مدح أستاذه الْمولى يحيى الْمَذْكُور وَقد عَارض بهَا قصيدة لِلشِّهَابِ احْمَد الفيومى المصرى وهى أَيْضا فى مدح الْمولى الْمَذْكُور ومطلع قصيدة التقى
(حسب الْمَعْنى عُيُون بابليات ... لكسرها فى جيوش الصَّبْر كسرات)
(بالضعف تقوى على اهلاك عاشقها ... يَا للرِّجَال ضعيفان قويات)
(من كل سَاق بيمناه ومقلته ... كَأَن عَيْنَيْهِ للعشاق حانات)
وَأول قصيدة الفيومى
(بَدَت لمدحى وآدابى براعات ... معنية بالتهانى مستهلات)
(وَالْوَقْت صَاف وَمن أهواه بعد قلى ... وافى وَكَانَ لَهُ من قبل نفرات)
(بدر على الْمُشْتَرى يَعْلُو وغرته ... كزهرة وَله فى الخد زهران)
(فالطرف مشرقه وَالْقلب مغربه ... بداله فِيهِ اشراق وطلعات)
وَقَوله وَفِيه حسن الِاتِّبَاع
(وَمَا فى الْبَدْر معنى مِنْهُ الا ... قلامة ظفره مثل الْهلَال)
وَقد تبع فِيهِ ابْن المعتز فى قَوْله
(ولاح ضوء هِلَال كَاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر)
وَقَبله
(وجاءنى فى قَمِيص اللَّيْل مستترا ... يستعجل الخطو من خوف وَمن حذر)
وَابْن المعتز أَخذه من قَول بعض الْعَرَب(4/88)
(كَانَ ابْن مزتها جانحا ... فسيط لَدَى الافق من خنصر)
وَابْن مزنتها الْهلَال والفسيط بِفَتْح الْفَاء وَكسر السِّين الهملة قلامة الظفر وَقد أبرز عبد الْبر الفيومى هَذَا الْمَعْنى فى ادق مبْنى فَقَالَ
(ومذرام الْهلَال وَقد تعدى ... مشابهة لَهُ من غير قَابل)
(أجَاب قلمت من ظفرى شَبِيها ... لَهُ ورميته فَوق الْمَزَابِل)
وَمن // جيد شعر التقى // قَوْله
(توهمته شمسا وَكَانَ يريبنى ... نسيم الصِّبَا مِنْهُ وَمن طبعها الْحر)
(فَلَمَّا دجا ليل العذار وَلم يغب ... علمت وزالت شبهتى أَنه الْبَدْر)
ومحاسنه كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق وَهُوَ مار الى الْقُدس فى رَجَب سنة سبع وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِيرَة بِالْقربِ من بِلَال الحبشى رضى الله تَعَالَى عَنهُ
مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْوَهَّاب بن ابراهيم بن مَحْمُود بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن العرضى الحلبى أَنا أَقُول فى حَقه انه لم تنجب الشَّهْبَاء من مُنْذُ بنيت بِمثلِهِ كَانَ من الْفضل فى مرتبَة الْآحَاد وَمن الادب فى مرتبَة لَا تنَال بِالِاجْتِهَادِ وَحَاصِل مَا أَقُول انى عاشق لَهُ والعاشق مَعْذُور فِيمَا يَقُول وهيهات أت نستوعب مزاياه وَلَو القَوْل وَالْمقول وَكَانَ لَهُ سيادة من جِهَة أمه فَهُوَ سيد قومه وَقد ولى الْقَضَاء مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ درس بِالْمَدْرَسَةِ الكلتاوية والسعيدية وَولى افتاء الْحَنَفِيَّة بحلب مُدَّة سِنِين ثمَّ سَافر الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة مديدة وَأخذ بهَا عَنهُ الادب جمَاعَة من الصُّدُور وقصة تولهه بِغُلَام خمار ولزومه لَهُ مُدَّة طولة وهيمانه بِهِ وشغفه مِمَّا شاع واشتهر وَلما مَاتَ أَخُوهُ أَبُو الوفا صَار مَكَانَهُ مفتى الشافعيه بحلب وواعظا بجامعها وَحصل لَهُ جذب الهى وَتكلم فى وعظه برموز ودقائق على لِسَان الْقَوْم وَوعظ أَربع مَرَّات ثمَّ مَاتَ وَذكره الخفاجى وأجاد فى مدحه وَبث فضائله ثمَّ قَالَ وَكتب لى مَعَ هَدِيَّة أهداها الى
(مولاى من يَوْم لقيَاهُ الاغر غَدا ... هَدِيَّة من زمَان قبل ضن بكا)
(لَو كَانَ تنصفنى الاقدار آونة ... وَكنت أنصف فِيمَا أرتضيه لكا)
(لَكُنْت أهْدى لَك الدُّنْيَا وَزينتهَا ... وَالشَّمْس والبدر والعيوق والفلكا)
قَالَ وَأكل عندى برشا فَلَمَّا انتشى قَالَ(4/89)
(وَمَا كَانَ اكل البرش مولاى كى أرى ... بفرحة نشوان وغبطة مسرور)
(ولكننى كنت السَّلِيم ببينكم ... فَكَانَ لآلامى بِهِ بعض تخدير)
وعَلى هَذَا فَانْظُر قَوْله فى الصُّفْرَة الَّتِى وسط الْورْد
(أتظنون صفرَة وسط ورد ... عَبَثا أظهرت لنا ألوانا)
(انما خَافَ من تألم قطع ... فاحتسى قبل قطعه زعفرانا)
وَفِيه ايضا لى
(فتح الْورْد فى الرياض صباحا ... عِنْد مَا قبل النسيم خدوده)
(بلع الزَّعْفَرَان فَهُوَ لهَذَا ... ضَاحِك شقّ من سرُور بروده)
وَهَذَا فن من قرض الشّعْر من النَّوَادِر يُسمى الاغراب وَهُوَ وصف مَا لم يعْهَد وَصفه وتشبيهه وَمن أغرب مَا مر لى فِيهِ قَول ابْن رَشِيق فى ضم الاصابع اشارة للتقليل
(قبلنى محتشم شادن ... أحْوج مَا كنت لتقبيله)
(أَوْمَأ اذ حَيا بأترجة ... عرفت فِيهَا كنة تَأْوِيله)
(لما تطيرت بمعكوسها ... ضمت بنانا نَحْو تقليله)
وَأحسن مِنْهُ قولى
(وأزرار ورد لم تفتح كَأَنَّهَا ... لِمَعْنى بديع للانام تُشِير)
وَذكره البديعى وَقَالَ فى وَصفه فَاضل روض فَضله أريج دبج حدائق معلوماته أدبه البهيج وشاعر رقت طباعه وَكثر اختراعه وابداعه يسترق الْقُلُوب بألفاظه الزاهرة ويسكر الْعُقُول بمعانيه الساحره ينظم فيأتى بِكُل عجيبه ويشنف الاسماع بِكُل غَرِيبه وينثر فينفتض أبكار الدقائق بنظره الثاقب ويجلى غياهب المشكلات بفكره الصائب وَقد تقمص جلابيب المعارف فى عنفوان عمره فأسبغت عَلَيْهِ ظلها الوارف من ابْتِدَاء أمره وَقد توجه الى الرّوم مُقَدرا أَن يبلغ كل مروم وَلم يعلم أَن الحظوظ لَيْسَ بالعلوم قَالَ لما ضَاقَتْ رقاع بلادى ونفدت حقيبة زادى فوقت سِهَام الاحتيال وأجلت قداح الفال فَكَانَ معلاها السّفر سفينة النجَاة وَالظفر طفقت أتوكأ على عَصا التسيار وأقتحم موارد القفار أفرى فلاة يبعد دونهَا مسرى النعى وألطم خدود الارض بأيدى المطى فنت فَتى قَذَفته الْحَال على بريد النَّوَى واعتنقته الهمة العاقرة وألحقت بعزمه(4/90)
لَو اقمح المنى أساير عَسَاكِر النُّجُوم والافلاك وَقد ركز اللَّيْل رمح السماك فأنخت بمخيم الْمجد وقرارة مَاء السعد كعبة الافاضل الا انهم يحجون اليها كل آن وسوق عكاظهم الا أَنَّهَا تنصب فِيهَا مصاقع الرّوم لَا مصاقع عدنان فَلَمَّا ألقتنى فِيهَا أرجوحة الْمَقَادِير فاذا هى فلك الْعِزّ ومطلع التَّدْبِير الا أَن حالى تقسمت فِيهَا بَين الاغتراب وَالِاضْطِرَاب والاكتئاب اثلاثا فانزلت مِنْهَا منَازِل الا حسبتها على أجداثا وسقتنى الدردى من أول دنها وَسُوء الْعشْرَة من باكورة فنها كل هَذَا وَأَنا أستلين مس خشونتها وأسيغها على كدورتها وَأَقُول اذا لم تتمّ الصُّدُور فتتم العواقب وان لم تريش القوادم فستريش الخوافى والجوانب ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة نبوية مطْلعهَا
(سقى الله ذَات الشَّيْخ وَالْعلم الفردا ... وَحيا الحيا وَجه البشامة والرندا)
(وَمَا طلبى السقيا لَهَا عَن ظما بهَا ... وَلَكِن بسقياها بقلبى أرى بردا)
وَمِنْهَا
(وحلت خيوط الغاديات يَد الصِّبَا ... على أَنَّهَا من قبل قد احكمت عقدا)
(وَقد أوقدت فى مجمر الزهر عنبرا ... يَمِين شمال من براد الندى أندى)
(ذكرت بهاريا الحبيب وَسَاعَة ... بهَا لبيض وَجه الدَّهْر من بعد مَا اسودا)
(حبيب زنت عينى بِعَين جماله ... فصيرت تَزْوِيج السهاد لَهَا حدا)
وَمِنْهَا
(وقربنى مِنْهُ وأخشى بعاده ... فَرب اقتراب جر من بعده بعدا)
(كسهم الرمايا كلما ازْدَادَ قربه ... الى صدر راميه تبَاعد وامتدا)
وَهَذَا معنى مطروق وَمن ظريفه
(مدت الى يدا تودعنى ... فَدَنَا اليها المغرم الصب)
(كالسهم راميه يقربهُ ... ولاجل بعد ذَلِك الْقرب)
وَمِنْهَا
(ترى تمترى عشب الْحجاز رواحلى ... وتلطم أيديها وُجُوه الفلا وخدا)
وَله من نبوية أُخْرَى
(مَا زلت حسانا لَهُ ولبيته ... ولصخرك ذَاك الْبَيْت كالخنساء)
(أبكى البقيع وساكنيه وليتنى ... كنت المخضب دونهم بدماء)
وَله من أُخْرَى
(مذ نشرت صحيفَة البيد سرى ... رسمت بالمنسم واللنوى)
وَمن أُخْرَى
(هاب القريض مديحه ... فانشق أنصافا سطوره)(4/91)
// وَهُوَ معنى مبتكر لطيف // الى الْغَايَة وَله
(أَيهَا الريم هَل تريم بنظره ... عل يصحو الْفُؤَاد من بعد سكره)
(بأبى أَنْت غُصْن بَان تثنى ... وَغدا يمزج الدَّلال بخطره)
(ألف الْقد زانها نقطة الْخَال فأضحى وَوَاحِد الْحسن عشره ... )
قلت هى حَسَنَة والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا
(شَارِب أَخْضَر وبيض ثنايا ... سُودًا وَجه عيشتى بعد خضره)
(أَنْت زهر غض وقلبى كمام ... فلماذا أوقدت بَيْتك جمره)
قلت وَمن شعره قَوْله
(لم يبْق منى هوى ذَاك الغزال سوى ... بَقِيَّة من حَيَاة نازعت بدنى)
(فسين طرته مَعَ نون حَاجِبه ... كِلَاهُمَا سنّ لى سَيْفا من المحن)
هَذَا من التوليد الْحسن فانه ولد من الطرة والحاجب لَفْظَة سنّ وَمثله لبَعض الشُّعَرَاء
(كَيفَ لَا يسرق الْعُقُول وَذَا الْعَارِض واللحظ مِنْهُ لَام وصاد)
وَهُوَ مَأْخُوذ من قَول بعض ظرفاء الْعَجم قَالَ الزكى بن أَبى الاصبع فى تَحْرِير التحبير ان أغرب مَا سَمِعت فى التوليد
(كَأَن عذاره فى الخدلام ... ومبسمه الشهى العذب صَاد)
(وطرة شعره ليل بهيم ... فَلَا عجب اذا سرق الرقاد)
فانه ولد من تَشْبِيه العذار بِاللَّامِ وتشبيه الْفَم بالصَّاد لَفْظَة لص وَولد من مَعْنَاهَا تَشْبِيه الطرة بِاللَّيْلِ وَذكر سَرقَة النّوم فَحصل توليدوا غراب وادماج وَله
(روحى الْفِدَاء الظبى ذبن فِيهِ أسى ... مؤنس الطّرف وَسنَان بِلَا وَسن)
(لم أنس اذ قَامَ للتوديع وانبسطت ... يَد الْفِرَاق لقطع الشمل بالمحن)
(يَقُول وَالِد مَعَ فى الآماق يخنقه ... يَا لَيْت معرفتى اياك لم تكن)
وَله
(وَجهه كعبة حسن ... ولماه مَاء زَمْزَم)
(خلت ذَاك الْخَال مِنْهُ ... حجر الاسود يلثم)
وَقد وقفت على أنموذج من شعره أَظُنهُ من جمعه وَفِيه كل نادرة وتحفة سَاحِرَة فاخترت مِنْهُ جله لهَذَا الْكتاب وأرجوا أَن لَا يُقَال طَال بِهِ بل طَابَ وَقد صَدره بِهَذِهِ الديباجة الْآتِيَة من انشائه النفيس وَجعلهَا مُقَدّمَة لرسالة أهداها الشَّيْخ(4/92)
الاسلام مصطفى الشهير ببالى زَاده فى فتح قلعة يُنَوّه على يَد الْوَزير الاعظم مُحَمَّد باشا الكوبرى فى سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف فَقَالَ سُبْحَانَ من جعل اندفاق امداده لاوليائه وفيضه الالهى غير مشوب بِانْقِطَاع وَلَا امْتنَاع مَعَ انه منظوم فى سلك المسلسل الْغَيْر متناهى وان كبت جِيَاد هممهم فى بعض الاحيان تداركها لطفه بنشاط فَيكون لَهَا السَّبق والاحراز فى حومة الميدان فَلَا تزَال خيولها بالمراح كالسيول متدفقه وكمائمها فى حدائق الْكَوْن عَن نوار النجاح متفتقه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من جعل الله بِهِ للْعَرَب الْفَخر الاشب وحوز بحبوحة النّسَب والنشب فأنزلهم من غوارب الضوامر وأكبهم متون الاسرة والمنابر فَلهم بِهِ الفخار الْبكر على سَائِر الْقَبَائِل والامم فاستأسرت لَهُم مماليك وعبيدا مُلُوك الديلم والعجم رفع الله بِهِ منار الدّين وَقطع دابر الْقَوْم الْكَافرين فالاسلام وان بُدِئَ بالذلة والاغتراب فسيعود عَزِيزًا وينقلب نُحَاس أربابه لَدَى السبك ذَهَبا ابريزا وعَلى آله وسائط القلائد واللآلى الفرائد وَأَصْحَابه مصابيح الدجى وشموس الضُّحَى ونجوم اللَّيْل اذا سجى وَبعد فَلَمَّا برز الاذن الالهى بتبرج الفتوحات الاسلامية من خدور الغيوب وجالت أَفْرَاس الافراح تركض فى ميادين الْقُلُوب ودبت حميا المسرة فى الضمائر وَقَامَت خطباء الاقلام تصدح بالبشائر وهدرت شقاشقها من أنامل الْكتاب على المنابر وزرفنت فى وجنات الصفحات بالمداد الغوالى تشرح مَا كتبته فى صُدُور الْكَفَرَة صُدُور العوالى وَذَلِكَ باقبال ظلّ الله فى الارض الفائض من وَجه البسيطة على الطول وَالْعرض وَاسِطَة عقد مُلُوك آل عُثْمَان لَا زَالَت الامور متسقة النظام مَا قَامَ لَهُ كل يَوْم ديوَان واقدام حَضْرَة الصَّدْر الْكَبِير الْقَائِم بأعياء الرأى وَالتَّدْبِير من هُوَ من فلك الوزارة بِمَنْزِلَة النير الاعظم من بَين الْكَوَاكِب السياره ويمن حَضْرَة شيخ الاسلام ودرة تَاج الْملك وفص الختام بكر عُطَارِد الْعلم وثانى الفرقد وَمن هُوَ من بَين جَوَاهِر الذَّات در التقاصير والزبرجد لَا زَالَت غرَّة الْمجد شادخة فى جَبينه وقلم الْفتيا رَاكِعا وساجدا فى محراب يَمِينه عَن لى نظم أَبْيَات براعتها التهنئة بِهَذَا الْفَتْح الْمُبين وختامها تَارِيخه من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة بِالسِّنِينَ ضاما الى ذَلِك رسائل علمية تبحث عَن اسْمه الشريف فَقَط وهى وان لم تبلغ الذرْوَة الْعليا من التَّحْقِيق لَكِنَّهَا كَمَا قيل خير الامور الْوسط وهى لما كَانَت كالمولود الْجَدِيد من بَين بنيات(4/93)
الصَّدْر تسْتَحقّ التَّسْمِيَة كَمَا تسْتَحقّ الرَّضَاع والدر سميتها بمنهل الصَّفَا على اسْم الْمُصْطَفى لَا زَالَ المسماه من هَذَا الِاسْم نصيب انه سُبْحَانَهُ قريب مُجيب ثمَّ قَالَ فلنبدأ أَولا بالقصيدة وهى هَذِه
(قبُول يرود ويتلوه نجح ... وأيد لتسآل قصد تلح)
(فأهلا بنشر بشير أَتَى ... يصمخ من مسكه الروع جنح)
(كَانَ الخزامى وشيح الربى ... متون وريح الصِّبَا ذَاك شرح)
(فَللَّه بكر قد افتصها ... مهندة وَسنَان ورمح)
(وعهدى بهَا هَامة للجبال ... فأضحت بتمهيدها وهى سفح)
(وَكم طرف طرف كبا دونهَا ... لَهُ فى بحار السيادين سبح)
(وَلَكِن باقبال سلطاننا ... تَزُول الرواسى وينهد صرح)
(مليك بكلكه قد أَنَاخَ ... فانقاد صَعب وانزح جمح)
(ونكس أَعْلَام كفر عَتَتْ ... وَلما شقها عَاد صلح)
(فعيد شعانينهم مأتم ... عَلَيْهِم وابكم قد عَاد فصح)
(ففى مهرق الارض امسوا كخط ... سقيم لَهُ صارم الدّين يمحو)
(قد استله يمن سلطاننا ... وتدبير صدر توخاه نصح)
(واقبال شيخ لاسلامنا ... تخطى المعالى وحاشاه كدح)
(تصدر رغما لانف العدا ... وَلَكِن بِهِ قر طرف وكشح)
(تقدم من قبله معشر ... هم لليالى ذنُوب وقبح)
(مضوا قبله كبهيم الدجى ... وَقد جَاءَ من بعدهمْ وَهُوَ صج)
(ولابدع أقلامه ان جرت ... بغالية النَّفس وَالنَّفس شح)
(فصحف فَتَاوِيهِ من حسنها ... خدود العذارى عَلَيْهِنَّ رشح)
(وَللَّه سربدا فى علاهُ ... ومنذ تولى تولاه مدح)
(وَحَتَّى أعاديه لم ينطقوا ... بذم وان نابهم مِنْهُ ذبح)
(يُرَاعى قد طاش فى مدحه ... وثنى الْعَنَان الى الْفَتْح مرح)
(فَللَّه فتح مُبين ذَا ... وَمَا هُوَ الامن الله منح)
(لذا أنشأ الْحَال تَارِيخه ... لنصر من الله حم وَفتح)
وَقَالَ وهى من غرره(4/94)
(تألق الْبَرْق لى سلاسل ... قلت وشاح على الْمنَازل)
(أَو شرد الطيف عَن جفونى ... فامتد مِنْهَا لَهُ حبائل)
(أَو أَنَّهَا قد حكت عشورا ... أخذت مِنْهَا فألا لقابل)
(أَو صارم وَالسَّمَاء قين ... غَدا لَهَا بالنسيم صاقل)
(ذكرنى بالوميض خصرا ... جال بِهِ للنطاق جائل)
(أَو انه ابتسام ثغر ... فِيهِ شِفَاء لكل ناهل)
(بل طلعة الْعَالم المفدى ... عين المعالى صدر الافاضل)
(درة تَاج المليك يزهو ... جيد بِهِ للزمان عاطل)
(يراعه شمر المعالى ... يُصِيب مِنْهُ الشبا الشواكل)
(ان يسقه النقس فَهُوَ غُصْن ... يضوع مِنْهُ شذا الخمائل)
(صريره مطرب قُضَاة ... مَا بَين راج مِنْهُم وآمل)
(يصون منا مَاء الْمحيا ... وَهُوَ بِمَاء الْحَيَاة سَائل)
(ثانى عصاة الكليم تجرى ... لنا أنابيبه جداول)
(وَلَفظه عنبر بشحر ... يقذفه الْبَحْر للسواحل)
( ... أَنْجَب دهر بِهِ أَتَانَا ... رَضِيع ضرع الْعُلُوم حافل)
(وَكَانَ من قبله عقيما ... كَذَاك ليلاته حوائل)
(فليهننا طالبى نداه ... فزنا وَرب الورى بطائل)
(أعَاد افراد من تقضى ... كالصاحب الشهم وَابْن وَائِل)
(ان رمد الطرس من جهول ... فَهُوَ بميل اليراع كاحل)
(أعر لقولى مولاى سمعا ... أشكوك دهرا على حَامِل)
(قطع أسبابنا اللواتى ... كَانَت لحاجاتنا وَسَائِل)
(تَلا محياك لى سطورا ... فِيهَا نجاح لكل سَائل)
وَمِمَّا أوردهُ قَوْله فى الرثا
(لَك الله من غاد يسير بِلَا عزم ... ومغترب فى أَهله والحمى المحمى)
(وَمن رَاقِد لَيست لَهُ هَيْئَة الْكرَى ... ونشوان رَاح لَا من التَّمْر وَالْكَرم)
(فكم نَاشد منا ويدرى مَكَانَهُ ... فَهَلا وجدنَا مَا نشدناه فى الرَّسْم)
(حبيب فَقدنَا مِنْهُ نجم سعوده ... وكوكبه الوضاح بل قر التم)(4/95)
(أَقَامَت عَلَيْهِ الكائنات مآثما ... فدمع السَّحَاب الجون من بعده ميهمى)
(والبس أَثوَاب الْحداد الدجى أسى ... وَبدر الدجى فى وَجهه أثر اللَّطْم)
(وَقد حلقت رأسى وَأَلْقَتْ جلاببا ... وَشقت جيوبا رَوْضَة جادها الوسمى)
(وَقد لبست ثوب الصدار سماؤنا ... بغيم وَلَيْسَ الْغَيْم الا من الْغم)
(وصكت بنعل الفرقدين صدورها ... فَمن زرقة قد أثرت أثر الْخَتْم)
(عجبت لَهُ وَهُوَ الضنين بِنَفسِهِ ... يحارب عَنْهَا كَيفَ يجنح للسلم)
(بنينَا المرائى بعده وبيوتها ... وَقد صَار مِنْهُ هيكل الْجِسْم للهدم)
(عزاء بنى الامجاد والشرف الجم ... وصبرا جميلا لَا يقبح بالاثم)
(فسيف الْقَضَاء الحتم لَا يسلب المضا ... يصول بِلَا ذَنْب ويسطو بِلَا جرم)
(وَمَا أُمَّهَات الْخلق الا صوائر ... بشكل وَمَا الابناء الا الى الْيُتْم)
(لقد أنتج الْآبَاء أشكا الناسدى ... فياليت ذَا الانتاج بدل بالعقم)
(فيا رب أسْكنهُ الْجنان ممتعا ... وأسبل عَلَيْهِ ستر غفرانك الجم)
(وأبدله عَن هذى الرسوم وَأَهْلهَا ... قصورا وحورا قاصرت بِلَا نقم)
وَقَوله من قصيدة وهى من تحائفه
(على أَثلَاث الواد بَين سَلام ... وَبَعض تحايا الزائرين غرام)
(تذكرت أيامى بهَا وأحبتى ... اذ الْعَيْش غض وَالزَّمَان غُلَام)
(والمامتى بالحى حَيْثُ تواجهت ... قُصُور بِأَكْنَافِ الْحمى وخيام)
(ألام على هجرانهم وهم المنى ... وَكَيف يُقيم الْحر وَهُوَ يضام)
(همو شرعوا أَن الْجفَاء مُحَلل ... وهم حكمُوا أَن الْوَفَاء حرَام)
(وأبلج أما وَجهه حِين يجتلى ... فشمس وَأما كَفه فغمام)
(جرى طائرى مِنْهُ سنيحا فعلنى ... بدر أياد مَا لَهُنَّ فطام)
(شَردت عَلَيْهِ غير جَاحد نعْمَة ... اكلف خفا بعده وأسام)
(وَقد يسلب الرأى الْفَتى وَهُوَ حَازِم ... وينبو غرار السَّيْف وَهُوَ حسام)
(فقد وجد الواشون سوقا ونفقوا ... بضائع زورما لَهُنَّ دوَام)
(وَبَعض كَلَام الْقَائِلين تزيد ... وَبَعض قبُول السامعين أَنَام)
(فَأصْبح شَمل الانس وَهُوَ مبدد ... لَدَيْهِ وحبل الْقرب وَهُوَ ذمام)
(يقرب دونى من شهِدت وغيبوا ... ويوصل قبلى من سهرت وناموا)(4/96)
(تزاور حَتَّى مَا يُرْجَى التفاته ... وَأعْرض حَتَّى مَا يرد سَلام)
(فَلَا عطف الا لَحْظَة وتنكر ... وَلَا رد إلاضجرة وسآم)
قَالَ وَمِمَّا نسجته فى حلية من نسج عَلَيْهِ العنكبوت من حليته الشَّرِيفَة وَهُوَ مثبوت
(اسْتمع حلية النبى المكنى ... من لآل فرائد ذَات معنى)
(أَبيض اللَّوْن أَنفه كَانَ أقنى ... ذُو جبين طلق وأفرق سنا)
(خافض الطّرف هَيْبَة وحياء ... وَله حَاجِب أَزجّ مثنى)
(وكثيف اللحى مجمع شعرًا ... أسود الْعين كاسر لَك جفنا)
(هدب عَيْنَيْهِ مثل أَقْدَام نسر ... وَله رَاحَة غَدَتْ وهى تثنى)
(مثل مَا رق أنملا رق قلبا ... مِثْلَمَا طَال أيديا طَال منا)
(يَا لسطر من فَوق مهرق صدر ... من شُعُور كالخز لينًا وحسنا)
(ان يسر سَار جملَة كانحطاط ... من علو يجوز ركنا فركا)
(كَامِل الْقد لم يسايره قرن ... فى مداه الا ترَاهُ ارجحنا)
(واذا رام فى مجالسه القَوْل بنصح فيوزن اللَّفْظ وزنا)
(دَائِم الْفِكر مظهر لسرور ... فى محياه وَهُوَ يكتم حزنا)
(فَعَلَيهِ الصَّلَاة كل مسَاء ... وصباح مَا صِيغ فى القَوْل معنى)
وَله ملغزا فى عيد وَكتب بهَا الى السَّيِّد بكر بن النَّقِيب الْمُقدم ذكره
(رعى الله ظَبْيًا فى الحشاشة مرعاه ... وحياه قلب لم يُفَارق محياه)
(بِوَجْه لَهُ اختطت محاريب حَاجِب ... أطلت صَلَاة اللحظ فِيهَا المرآه)
(وَقَامَ بِلَال الْخَال فِيهَا مراقبا ... صباح جبين لَا تغيب ثرياه)
(وَلم أنس اذ جاذبته طرف المنى ... وَقد نظمت عقد التهانى ثناياه)
(بجنح دجى من قبل نبت عذار ... تسربل فى شيب من الصُّبْح خداه)
(وَقد طلعت فِيهِ شموس كؤوسنا ... كَمَا أطلعت نجل الشهابى دُنْيَاهُ)
(نجيب لعين الْمجد أصبح قُرَّة ... وَأمسى قذاة فى نواظر أعداه)
(وَلَا بدع أَن يطوى لَهُ سَبَب الْعلَا ... وينشر فى سوق المفاخر رداه)
(فَمن كَانَ من نسل الشهابى عُطَارِد ... سيملك من قدح المعالى معلاه)
(فيا بكر بشرى أَنْت بشكر عُطَارِد ... وَمن لم تقف فى حومة الْبَحْث خيلاه)(4/97)
(لقد جاش فى صدرى مباراة طبعكم ... وصق يمانى لَهُ لَان متناه)
(فَمَا اسْم حكى النُّعْمَان فى يَوْم بؤسه ... وَيَوْم نعيم يستطار لنعماه)
(يريق دَمًا من لَيْسَ يجنى على الورى ... وَيطْعم أُخْرَى جائعا من تَلقاهُ)
(وَلَيْسَ من الاجسام لَكِن لَهُ يَد ... وَعين على مر الجديدين ترعاه)
(اذا صحفوه فَهُوَ عبد مُقَيّد ... اذا أَطْلقُوهُ كَانَ مولى بمولاه)
(فجد بِجَوَاب نستضئ بنوره ... ونقطف ازهار الامانى جدواه)
(بقيت بأفق الْفضل وَالْمجد طالعا ... يَقُول الذى يلقاكم رَبك الله)
وَله فى وَالِد السَّيِّد بكر الْمَذْكُور وَهُوَ السَّيِّد أَحْمد الْمَار ذكره يُشِير الى خَال لَهُ كَانَ يلقب بآلا والى غُلَام كَانَ يهواه يعرف بِصَاحِب الْخَال
(من مبلغ عَنى الشهابى أحمدا ... نجل النَّقِيب الشامخ المتعالى)
(لَا تفخرن عَلَيْك بعد بَقِيَّة ... مَا لم تنلها لست بالمفضال)
(الْمَرْء يكرع من مناهل خَاله ... وشراب آلا كالسراب الْآل)
(لله قاضى دهرك الْعدْل الذى ... أَعْطَاك خالا ثمَّ صَاحب خَال)
(فبقدر مَا تهواه من ذى الْخَال قد ... أَعْطَيْت عكس هَوَاك عِنْد الخالى)
وَله من مُكَاتبَة كتبهَا وَهُوَ بالروم
(أَيهَا القاصد العواصم من أكلف شهبا ثَنَا ذَوَات النطاق ... )
(ان لى حَاجَة اليك فَهَل أَنْت ترى فى وفائها خير راقى ... )
(قل لسكان جَامع طالما طاردت بالبحث فِيهِ خيل السباق ... )
(لم جفوتم صبا لقد قَذَفته ... رَاحَة الْبَين فَوق حَوْض العناق)
(فتلافوا فُؤَاده بِكِتَاب ... فكتاب الاحباب نصف التلاقى)
وَله فى الْغُلَام الْخمار الذى كَانَ يهواه
(مهلا فعينى من بكا ونحيب ... عميت وتوجنى الْهوى بمشيب)
(فى حب بدر مَا استضأت بوصله ... الا وأعقبه الجفا بمغيب)
(أورد عينى عيسوى جماله ... الا وأدركها الْعَمى برقيب)
وَله فِيهِ أَيْضا
(وعصر بقسطينية قد قطعته ... على وفْق مَا قد كَانَ فى النَّفس والصدر)
(يمينى بهَا كراسة أجتلى بهَا ... علوما لقد زاولتها غابر الدَّهْر)(4/98)
(أحرر مِنْهَا فى الطروس بدائعا ... فاملأ صدر الْقَوْم فى الْورْد والصدر)
(وطورا أحلى من زمانى عاطلا ... بِعقد نظام صاغه صائغ الْفِكر)
(معَان اذا مَا الصر در دعى لَهَا ... ترَاهُ بصر رَاح وَهُوَ بِلَا در)
(أضمنها سلوى الحز بن ورقية السَّلِيم ومأخوذ من اللحظ بِالسحرِ ... )
(وخمر شمالى للشمول متابع ... اذا حثها الساقى أذاعت لَهُ سرى)
(من العبقريين الَّذين تحملوا ... نقى كلكل الزنار فَوق وهى الخصر)
(اذا اعتم زرقاء الْيَمَامَة خلتها ... سَمَاء بهَا قد لَاحَ نورسنا الْبَدْر)
(وان قَامَ بَين الشّرْب خلت قوامه ... قِنَا ألف قَامَت على وسط السطر)
(وان أترع الكاسات خلت يَمِينه ... لجينا تحليها مَقَامِع من تبر)
(وان نظرته الْعين نظرة ى هوى ... سقانى بكاس الْعين خمرًا على خمر)
(وأدجوا بلَيْل من ذوائب شعره ... فيارب هَل فى لثمتى الثغر من فجر)
(أفكر فى يَوْم النَّوَى لَيْلَة اللِّقَاء ... فأذرى دِمَاء الْعين من حَيْثُ لَا أدرى)
(فأمسح فى كافورة الْجيد مقلتى ... عَسى ان بالكافور دمعى لَا يجرى)
(فَمَا زَالَ فى ثوب الخلاعة ظاهرى ... وقلبى بِذكر الله يفتر عَن در)
(الى أَن قذفت الشّرك عَن صفو خاطرى ... كَمَا تقذف الادناس عَن لجة الْبَحْر)
وَمن غزلياته قَوْله
(الصخر رق لحالتى يَا ذَا الْفَتى ... مذ صرت خنساء وقلبى قد عتا)
(يأيها الريم الذى ألحاظه ... سلت على العشاق سَيْفا مُصْلِتًا)
(عطفا على بنظرة أَو لفتة ... اذ عَادَة الآرام أَن تتلفتا)
(كم ذَا اعانى فِيك أهواء وَكم ... أصلى بنيران الْهوى والى مَتى)
(الله أعلم لم أبح بهواكم ... لكنما العينان فِيهَا نمتا)
(أَتَرَى زَمَانا مرحلوا بالحمى ... هُوَ عَائِد والعيش غض ثمنا)
(مَا كَانَ فى ظنى الْفِرَاق وانما ... قاضى الغرام على ذَلِك أثبتا)
(كم لَيْلَة للوصل قربت الْكرَى ... عطس الصَّباح وَلم أجبه مشتما)
(وعَلى الذى نطق الْكتاب بمدحه ... وأتى الْخطاب لَهُ بِسُورَة هَل أَتَى)
(منى صَلَاة أجتنى نوارها ... من جنَّة عيناى فِيهَا نامتا)
وَمن بدائعه قَوْله من قصيدة(4/99)
(مَا الْخَال مسكاً فت فى الاجياد ... بل انه بقيا فتيت فؤادى)
(أَو أَنه شحرور رَوْضَة وَجهه ... قد جاوبته بلابل الانشاد)
(أَو عَابِد لبي المسوح وقدرفى ... من سحر عَيْنَيْهِ بِسُورَة صَاد)
(وَأقَام فى محراب حَاجِبه الْهدى ... يحْكى بِلَالًا للصَّلَاة يُنَادى)
(بل انه كرة تجول بسالف ... كالسيف يسكن فى حَشا الاغماد)
(أَو ان وجنته صحيفَة مهرق ... قلم الاله أمدها بمداد)
(أَو نقطة وَلها العذار حمائل ... أَو كالكمام بغصنه المياد)
(بل انه حبب طفا وخدوده ... قدح تطفح من دم الاكباد)
(أَو مَرْكَز والخد دَائِرَة المنى ... خطت ببيكارا الْجمال البادى)
(بل حَبَّة نصبت لصيد حشاشتى ... بل قَطْرَة من نقس عبد الهادى)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(ريحَان خدك نَاسخ ... مَا خطّ ياقوت الخدود)
(وَقع الْغُبَار بهَا كَمَا ... وَقع الْغُبَار على الْوُرُود)
وَقَوله
(تِلْكَ الثنايا واشقائى بهَا ... باتت ترينى عِنْد لثمى الطَّرِيق
(تبددت من غيرَة عِنْدهَا ... سبْحَة در نظمت من عقيق)
(يَا لَيْلَة طَالَتْ على عاشق ... بَات من الوجد على جمر)
(كليلة الميلاد فى طولهَا ... تسبح فِيهَا الْعين بالقطر)
(كَأَنَّهَا ثَكْلَى جَنِين لَهَا ... أغر قد سمته بِالْفَجْرِ)
وَله فى شرِيف
(لما تعمم بالخضرة ذُو شرف ... قوامه سيغ من تبر وَمن صلف)
(أيقظت صحبى وَعين النَّجْم ساهرة ... قومُوا انْظُرُوا يحكم للبدر فى الشرق)
وَله
(ارفقوا فالفؤاد لَيْسَ بجلد ... وارحموا اذلتى وَطول عويلى)
(ان شحاذ حسنكم وعيونى ... يَا غناة الْجمال كالكشكول)
وَله فى يَتِيم
(ان ذَاك الرشأ الخشف الذى ... مَاتَ عَنهُ وَالِد فَهُوَ كظيم)
(زَاده موت أَبِيه قيمَة ... كَانَ درا فغدا الْيَوْم يَتِيم)
وَله فى أرمد
(ذَاك الذى طلت دمى عَنهُ ... وَرَاح يُسمى أرمد الِاسْم)
(لما رآنى لدمى ثائرا ... عصبها بالطرف الْمعلم)(4/100)
(قُولُوا لَهُ يكْشف عَن عينه ... فان فِيهَا نقطا من دمى)
وَله فى جراح
(لحا الله الطَّبِيب لقد تعدى ... وَجَاء لقلع ضرسك بالمحال)
(أعاق الظبى قد شلت يَدَاهُ ... وسلط كلبتين على غزال)
وَله فى حَامِل قنديل
(وشادن والقنديل فى يَده ... مَا بَيْننَا وظلام اللَّيْل معتكر)
(كَأَنَّهُ فلك وَالْمَاء فِيهِ سما ... وَالنَّار شمس بِهِ وَالْحَامِل الْقَمَر)
وَله فى موشم
(أفدى غزالا تعرى من ملابسه ... والجسم من ترف أضحى كفالوذج)
(كَأَنَّهُ وطراز الوشم دَار بِهِ ... جسم من الدّرّ فِيهِ نقش فيروزج)
وَله
(ان خَال الحبيب لما دهانى ... وشجانى منا الجفا والمطال)
(قلت اذ زَاد نكهة وصفاء ... قُم أَرحْنَا بقبلة يَا بِلَال)
وَله
(ويلاه من جيد كَمَاء الحياه ... حف بِهِ زيق كشط الفراه)
(كَأَنَّمَا أطواقه حوله ... فوارة تمطر مَاء الحياه)
وَله
(لم أزل من صحيفَة الْقلب أمْلى ... فى دجا الاغتراب سطر مثالك)
(ناصبا هدب جفن عينى شباكا ... فَعَسَى أَن أصيد طير خيالك)
وَله فى الْعُيُون المستعارة للنَّظَر
(قَالَ لى الْحبّ لم وضعت على الانف عيُونا وفى عيونك مقنع ... )
(قلت مذ خطّ كَاتب الْحسن فى ثغرك نونا كحاجبين وأبدع ... )
(فجعت الْعُيُون أَربع على ... ان أرى يَا رشا حواجب أَربع)
وَله
(وجنة كالشقيق مرآتها الْيَوْم صفت من قذاة عين الرَّقِيب)
(خضبت من دم الرَّقِيب فَمَا ... تبصر الا تعلّقت بالقلوب)
وَله
(عَابَ قوم شربى المدام وَلَا يَد ... رون أَن التعييب عين الْعُيُوب)
(جبر قلب الاقداح بِالرَّاحِ خير ... فى اعتقادى من كسر كاس الْقُلُوب)
وَلما طَال مكثه بالروم قَالَ
(شيبت فود سيد الرُّسُل هود ... وَلَقَد شيبت فؤادى الرّوم)
وَرجع الى وَطنه فَأخذ ينْدب أوقاته الْمَاضِيَة فَمَا قَالَه فى ذَلِك المعرض(4/101)
(مَا قصرت تِلْكَ الليالى الَّتِى ... فى جنحها بت سمير الملاح)
(لَكِن أشواقى لذاك الرشا ... مَا عاجلتنى خوف وَشك البراح)
(شققت جيبا كالدجا حالكا ... عَن صَدره فانجاب لى عَن صباح)
وَقَالَ
(قد ألفت الهموم لما تجافت ... عَن وصالى الافراح وازددت كربه)
(فديار الهموم أوطانى الغر ... وَدَار الافراح لى دَار غربه)
وَقَالَ
(أَلا قل لقسطنطينية الرّوم انى ... أعادى لقسطنطين اسْمك والرسما)
(لقد غيبته فى الثرى غير وَاجِد ... محبا يفاديه الحشاشة والجسما)
(وَقد تركتنى ساهر الطّرف بعده ... مشتت شَمل البال أرتقب النجما)
(سأهجر فِيهِ خلة الكاس والهوى ... وأجتنب اللَّذَّات ان عدن لى خصما)
وَقَالَ
(كَانَ لى فى الحظوظ بدرة عَيْش ... بدرتها يَد الشبيبة نثرا)
(لَيْت حكم النهى حماها فَكَانَت ... لى فى فاقة الكهولة ذخْرا)
(قَالُوا عهدنا غُصْن عمرك بالصبا تَدْنُو قطوفه ... )
(فذوى بمغبر المشيب وطالما روى نزيفه ... )
(فأجبتهم ضيف ألم بنادجى لم لَا نضيفه ... )
(وربيع ذَاك الْعُمر سَار فليت لَو يبْقى خريفه ... )
وَلما لزم الزهاد شرع فى عمل الاشعار الْمُتَعَلّقَة بالانكفاف والتوسل والمناجاة فَمن جملَة مَا صنعه قَوْله
(دواتى كاسى وَالْكتاب حديقتى ... وساقى مدام الْفِكر قَامَ على قدم)
(صرير يُرَاعى مطربى فَكَمَا نما ... سطورى أوتار ومضرابها الْقَلَم)
وَقَوله
(أَلا ان حبى لطول الْحَيَاة لَيْسَ لاجل حظوظ مضاعه ... )
(وَلَكِن لَا شهد لطف الا لَهُ ... فأزداد شكرا وأزداد طاعه)
وَقَوله
(أيا رب نفسى أتعبتنى حظوظها ... وتسويلها الايقاع فى زلَّة الْقدَم)
(فيا رب ان كنت السقى بِفِعْلِهَا ... فَمَا أَنا الا السن يقترع النَّدَم)
(وَلست باياها وحاشاى اننى ... من الرّوح ذَات الْقُدس لى أوفر الْقسم)
وَقَوله
(اليك رَسُول الله وجهت وجهتى ... وأرسيت فى تيار بَحر الرجا فلكى)
(فَكُن شافعى يَا من يشفع فى غَد ... بسترى فى الدَّاريْنِ من فاضح الهتك)
وَقَوله
(قيل لى كم وَكم ترى تتمادى ... فى الْهوى وَالطَّرِيق وعرقصى)(4/102)
(قلت ظنى بِاللَّه ظن جميل ... وبخير الانام جدى على ... )
(ان لله رَحْمَة تسع الْخلق جَمِيعًا فَمن هُوَ العرضى ... )
وَكَانَت وَفَاته فى صفر سنة احدى وَسبعين وَألف وَبلغ من الْعُمر نَحْو سِتِّينَ سنة
السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر العباسى الخلوتى الدمشقى الصالحى الحنبلى شَيخنَا فى الطَّرِيق ولى الله ومعتقد الشَّام بِنسَب الى الْعَبَّاس عَم النبى
من جِهَة وَالِده والى الشَّيْخ أَبى عمر بن قدامَة الحنبلى من جِهَة والدته كَانَ شَيخنَا جَلِيلًا من أكَابِر العارفين والاولياء المتمكنين أَخذ الْفِقْه عَن الشهَاب أَحْمد الوفائى المفلحى وَمن شُيُوخه الْبُرْهَان بن الاحدب الصالحى والنجم الغزى وَأخذ الطَّرِيق عَن الاستاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد العالى لَازمه بقرية عَسَّال وَتخرج بِهِ حَتَّى صَار خَلِيفَته من بعده وَكَانَ يُؤثر الخمول على الظُّهُور الى أَن أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ ظُهُوره لما حبس الْغَيْث عَن دمشق سنة سبعين وَألف واستسقى أَهلهَا مَرَّات فَلم يمطر وَاو كَانَ شَيخنَا رَحمَه الله تَعَالَى لَا يخرج مَعَهم هضما لنَفسِهِ فأنطق الله بعض المجاذيب بأنكم ان أردتم الْغَيْث فاستسقوا بالعباسى فَأمره نَائِب الشَّام بِالْخرُوجِ للاستسقاء بهم فَخرج وَهُوَ فى غَايَة الخجل وَقَالَ اللَّهُمَّ ان هَؤُلَاءِ عِبَادك قد أَحْسنُوا الظَّن بى فَلَا تفضحنى بَينهم فأغيثوا من ساعتهم وَمَا رجعُوا الى الْبَلَد الا بِمَشَقَّة من كثر الْمَطَر وَاسْتمرّ الْمَطَر ثَلَاثَة أَيَّام فاشتهر عِنْد ذَلِك ذكره وَلم يمنكه أَن يكتم أمره وَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ المريدون وتسلك بِهِ من أهل الطَّرِيق الصالحون وانتفع بِهِ الجم الْغَفِير الَّذين لَا يُمكن حصرهم وَأَعْطَاهُمْ الله تَعَالَى حسن السمت وَالْقَبُول وَنور حَالهم ببركته ودعائه وَقد وفقنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للاخذ عَنهُ والتبرك بدعواته وَكَانَ يتحفنى بامدادته الباطنية ثمَّ انْقَطع عَن النَّاس وَكَانَ لَا يقبل من الْحُكَّام هَدِيَّة وَلَا يتَرَدَّد اليهم وكراماته كَثِيرَة مَشْهُورَة مِنْهَا أَن بعض المجاورين بِمَكَّة من أهل دمشق رَآهُ يصلى الاوقات الْخَمْسَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بالْمقَام الحنبلى وَهُوَ بِالشَّام وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَسبعين عَن سنّ عالية وَدفن بمقبرة الفراديس وقبره مَعْرُوف يزار
مُحَمَّد الباقر ابْن عمر بن عقير بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن جمل اللَّيْل مُحَمَّد بن حسن اشْتهر كلفه ببا حسن الْعَالم العلامه الْبَحْر الحبر قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بتريم وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ الْعلم عَن أَخَوَيْهِ عقيل وعلوى وَالشَّيْخ زين(4/103)
العابد بن وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العيدروسيين وَالشَّيْخ عبد الله بن زين بافقيه وَحضر درس الشَّيْخ أَحْمد عيديد وَالشَّيْخ أَحْمد بلفقيه ثمَّ ارتحل الى الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَحج وزار جده
وَأخذ بهما عَن جمَاعَة من السَّادة وَدخل الْهِنْد واتصل بولاتها ثمَّ رَجَعَ الى بَلَده بالسلامة فَلم تطب لَهُ فَدخل الْهِنْد ثَانِيًا وَأقَام بهَا زَمنا طَويلا وَأكْثر فى نَوَاحِيهَا الترداد يرحل من بلد الى أُخْرَى الى تقدس نفس وَذَات ومداعبات مستلذات وحظى من الْعَرَبيَّة والادب وتميز بهما نظما ونثرا ومنحه الله تَعَالَى مَكَارِم الاخلاق قَالَ الشلى فى مشرعه اجْتمعت بِهِ فى الديار الْهِنْدِيَّة وَقد اجْتمعت فِيهِ الصِّفَات العليه واشتملت على كرم الطباع شمايله ودلت على النجاح والفلاح مخائله فتعاشرنا معاشرة صدق ووقا وتواددنا وداد محبَّة وَصفا ثمَّ عَاد الى وَطنه وَاسْتقر بِهِ النَّوَى وَألقى بِهِ من يَده الْعَصَا ثمَّ عكف على الْعُلُوم الصوفيه عكوف تَوْبَة على حب الاخيلية ولازم قِرَاءَة كتاب الاحياء مُلَازمَة غيلَان دراميه وَلزِمَ صُحْبَة شيخ الْبِلَاد والعباد صَاحب الارشاد والامداد السَّيِّد عبد الله بن علوى الْحداد فَحصل لَهُ الاسعاد وَفتح الْجواد وتجردهما كَانَ عَلَيْهِ من تِلْكَ الاوصاف وَلم يتطلع الى مَا فَوق الكفاف وَلبس ثوب القناعة والعفاف فأسفرت لَهُ وُجُوه المحاسن سافرة النقب ظَاهِرَة الْجمال من وَرَاء الْحجب وَلم يُصَادف الا من قَالَ لَهُ أهابك اجلالا وناداه كل محب هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا وَكَانَ صدر المحافل اذا عقدت وصيرفى الامور اذا انتقدت وَلم يزل كَذَلِك الى أَن مَاتَ وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَتوفى فى تريم فى سنة تسع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل
السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر بن يحيى بن المساوى الردينى الْحسنى القطب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى المتوجه بِكُل كليته الى مَوْلَاهُ أحاطت بِهِ الْمعرفَة فظهرت مِنْهُ الْعَجَائِب وَكَانَ فى بدايته مشتغلا بِقِرَاءَة الْقُرْآن مجدا فى الْعِبَادَة ثمَّ أَخذ بِالْيمن عَن شُيُوخ من السَّادة بنى الاهدل وَغَيرهم ثمَّ قدم الْحَرَمَيْنِ وجاور بهما سِنِين ولازم بِالْمَدِينَةِ الصفى القشاشى وَأخذ عَنهُ وَبِه تخرج وانتفع كثيرا وَكَانَ القشاشى يُشِير اليه كثيرا وَيَقُول فى شَأْنه اذا ألبس السَّيِّد مُحَمَّد أحدا خرقَة فهى خرقَة نبوية وَرَأى صَاحب التَّرْجَمَة النبى
فى الْمَنَام قَائِلا لَهُ قدمك كقدمى ومسجدك كمسجدى وَرَأى بعض الصَّالِحين فى عَالم الرُّؤْيَا أَيْضا قَائِلا يَقُول مُحَمَّد
أَمِين(4/104)
الله على خَزَائِن الارض وَمُحَمّد بن عمر أَمِين رَسُول الله
وَكَانَ يَعْتَرِيه فى بعض أوقاته حَال يغيب فِيهِ عَن شعوره فيجلس الْيَوْم واليومين مصطد مَالا يتَكَلَّم ومناقبه وكراماته لَا يحصيها عد وَلَا يُحِيط بهَا حد وَاسْتمرّ على المجاهدة وَالصِّيَام واطعام الطَّعَام والانفاق على الْفُقَرَاء والاحسان اليهم بِحَيْثُ انه كَانَ ينْفق جَمِيع مَا يحصل لَهُ من بِلَاده ومزارعه على كثرتها وَلما قربت وَفَاته قَرَأَ من أول سُورَة الانعام الى قَوْله تَعَالَى {الله يعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} ثمَّ خرجت روحه وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس رَابِع شهر ربيع الاول سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَدفن بقرية السنان بِكَسْر السِّين من بِلَاد بنى جلّ من أَعمال الشّرف من الْيمن رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن عِيسَى المنعوت بشمس الدّين الميمونى المصرى الشافعى أحد الْعلمَاء الْكِبَار أَخذ عَن الشَّمْس الرملى والشهاب البلقينى والشهاب أَحْمد بن قَاسم وَالشَّيْخ الْفَاضِل الْوَاعِظ مُحَمَّد شمس الدّين الصفوى الشافعى وَالشَّيْخ عبد الحميد السمهودى وَغَيرهم وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء وَله من المؤلفات مُخْتَصر الْآيَات الْبَينَات تأليف شَيْخه ابْن قَاسم وَبَعض رسائل تتَعَلَّق بآيَات شريفة قرآنية وَكَانَت وِلَادَته فى نَيف وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَدفن بتربة المجاورين قَالَه الشَّيْخ مَدين القوصونى
مُحَمَّد بن فتح الله بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حسن البيلونى الحلبى القاضى أَبُو مُفْلِح كَانَ غرَّة فى جبهة الْفضل كثير الادب ولد بحلب وَبهَا نَشأ وتأدب بوالده فتح الله الْمُقدم ذكره ورحل الى الرّوم وسلك طَرِيق الْقَضَاء فولى المناصب السّنة فى اقليم مصر وَقد ذكره الفيومى فى المنتزه فَقَالَ فى وَصفه فَاضل ركعت أقلامه فى المحابر وسجدت فى محاريب الدفاتر فطرزت فلك الاوراق بِمَا لذا وراق من نثر تغار مِنْهُ النُّجُوم وَشعر كَأَنَّهُ عقد الدّرّ المنظوم ثمَّ أورد لَهُ قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(وَجه يقابلنى لكنه قمر ... فى اللَّيْل يطلع لَكِن ليله شعر)
(نظرته فسطا فى الْقلب ناظره ... وَرب حتف بِهِ قد أوقع النّظر)
(لله مَا صنعت بى وجنتاه وَمن ... للنار يقرب لَا يَنْفَكّ يستعر)
(ظبى سبا اللب الا أَنه ملك ... من الملائك لَكِن طبعه بشر)(4/105)
وَلم يزدْ على الْقدر وَأَنا رَأَيْت القصيدة فى مدائح يحيى الَّتِى جمعهَا التقى فاخترت مِنْهَا قدرا وَهُوَ
(علقته بدويا راق مَنْطِقه ... ورق حَتَّى استعارت دله أخر)
(للسحر من لحظه معنى بقوته ... عَن الْعُقُول صَوَاب الراى مسترر)
(مَا شاقنى قبل رُؤْيا شكله قمر ... وَلم يشم بعد ريا نَعله عطر)
(جم المحاسن معسول الدَّلال لَهُ الْقد الذى خصره لَا يدْرك الْبَصَر ... )
(لَا عيب فِيهِ سوى أَن المحاسن من ... دون الانام جَمِيعًا فِيهِ تَنْحَصِر)
(عَن كأسه خَدّه سل يَا نديم لكى ... ينبيك أَن الحميا مِنْهُ تعتصر)
(وانظم محاسنه درا كمبسمه ... مِنْهُ كد مَعَك در اللَّفْظ ينتثر)
(ألله اكبر مَا هَذَا الْفَتى شَرّ ... وَلَا تشاكله فى ذَاته الصُّور)
(لكنه سر صنع الله أبرزه ... فَلَا يُحِيط بِهِ عقل وَلَا فكر)
(كم لَيْلَة بت والاشواق تلعب بى ... والفكر سامرنى والنجم والسهر)
(تعذب الْقلب آمال الْوِصَال دجى ... حَتَّى فؤادى كضوء الصُّبْح ينفجر)
(لَا الْحبّ دَان وَلَا وعد أسربه ... وَلَا فؤاد عَن الاشواق ينزجر)
(اذا تذكرت أيامى الالى سلفت ... يسيل من عبراتى السهل والوعر)
(أَيَّام أنسى الَّتِى كَانَ الزَّمَان بهَا ... فى غَفلَة لَيْسَ تدرى شَأْنهَا الْغَيْر)
(وَكلما خطرت أُمْنِية قضيت ... ويكمل السعد لما يحصل الوطر)
(هَذَا الذى ذكره انسى الْحَيَاة الى ... أَن صرت حَيا مَعَ الاموات اذكر)
(لَا الشوق ينسى وَلَا دهرى يعود بِمَا ... قد كَانَ مِنْهُ وَلَيْسَ الْقلب يصطبر)
(لَكِنَّهَا حسرة تبدو لسفك دمى ... بهَا وان دَمًا أهل الْهوى هدر)
مِنْهَا فى الْمَدْح
(يكَاد بدر الدجى ينمى لطلعته ... لَو كَانَ يمشى على وَجه الثرى الْقَمَر)
(قضى الاله بَان يفدى بحاسده ... فَمَاله حَاسِد بَاقٍ لَهُ عمر)
(والدهر لَو أَنه ناواه لانقلصت ... ظلاله ورأينا النَّاس قد حشروا)
وَله من قصيدة أُخْرَى أَولهَا
(دمت يَا مربع الاحبة تندى ... كاسيا بالزهور بردا فبردا)
(يَا لَهُ مربعًا اذا جاده النوء فساقى الصبوح يقطف وردا ... )(4/106)
(واذا انساب فى جداوله المَاء حساما جلى النسيم الفرندا ... )
(جنَّة والغصون فى حلل الازهار حور بهَا ترنح قدا
( ...
(وتهادى معاطف البان سكرا ... بتهادى العناق أخذا وردا)
(وتدير الصِّبَا كؤوس شذا النُّور على نَغمَة البلابل سردا ... )
(كَيفَ جزت الطَّرِيق جوزا وَمن خوفك دمعى بالسيل يسْلك سدا ... )
(لَو رعيت العهود أَحْسَنت لَكِن ... قَلما تحفظ المليحة عهدا)
وَله من أُخْرَى مطْلعهَا
(صبَابَة لَا اصطبار يضمرها ... ومهجة لَا خَلِيل يعذرها)
(ودمعة لَا الزَّفِير ينضبها ... وزفرة لَا الدُّمُوع تضمرها)
(وعشقة قد أبان أَولهَا ... ان هَلَاك الْمُحب آخرهَا)
(فَكل نَار اذا علت خمدت ... سوى الَّتِى جَمْرَة تسعرها)
(وَيْح جريح اللحاظ علته ... فى الطِّبّ حَيْثُ الطَّبِيب خنجرها)
(تبات عين الحبيب ليلته ... كالنجم لَكِن أَبيت أسهرها)
(لَوْلَا الْكرَى قَامَت مرنحة ... لم تَكُ أيدى الجفون تهصرها)
(لى زفرَة لم أزل أصعدها ... ودمعة لم أزل أقطرها)
(مَا الْعِشْق الا كالكيمياء أَنا ... دون جَمِيع الانام جابرها)
(تَبَسم ان كلمت مشاكلها ... ودر دمعى غَدا يناظرها)
(هيفاء مَا الْغُصْن مثل قامتها ... لَكِن أعطافه أشايرها)
(أعشق من أجلهَا الْكَثِيب اذا ... تضم أَمْثَاله مآزرها)
(وأحسد الْبَدْر فى محبتها ... فَغَيره لَا يكَاد ينظرها)
(وألثم الْمسك والعبير عَسى ... يكون مِمَّا فتت ظفائرها)
(لله مَا فى الْهوى أعالج من ... لَو اعج فى الْهوى أصابرها)
(يَا حبذا خلسة ظَفرت بهَا ... فى غَفلَة للزمان أشكرها)
(حَيْثُ لعهد غَدَتْ تمديدا ... لم تدر أسرارها أساورها)
(يسْأَلهَا خاطرى الْوِصَال وَلَا ... يُجيب عَنهُ الا خواطرها)
(لَيْت ليالى الْوِصَال لَو رجعت ... أَو لَيْت قلبى معى فيذكرها وَمن مقطوعاته قَوْله(4/107)
(لَا تسلم من شكا الزَّمَان وان لم ... تشف شكواه عِلّة المجهود)
(انما يحوج الْكِرَام لشكوى ... شوق مَا فى طباعهم من جود)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف والبيلونى تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فى تَرْجَمَة وَالِده
الامير مُحَمَّد بن فروخ أَمِير الْحَاج الشامى النابلسى المولد أحد شجعان الدُّنْيَا الْمَشْهُورين وكرماها الْمَذْكُورين كَانَ من أمره انه لما رَحل أَبوهُ بِالْحَجِّ وَهُوَ أَمِير فى سنة مَوته وهى سنة ثَلَاثِينَ وَألف ترك ابْنه مُحَمَّد هَذَا فى نابلس مُبْعدًا عَنهُ لنفرة كَانَت بَينهمَا وفوض أَمر حُكُومَة الْقُدس ونابلس لممولك لَهُ يدعى يُوسُف وَكَانَ يُحِبهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بعض أَتبَاع أَبِيه بقتل يُوسُف فى غيبَة وَالِده فَقتله وَقَامَ مقامة فَوَقع خَوفه فى قُلُوب أهالى تِلْكَ الْبِلَاد وهابوه وَاتفقَ موت وَالِده فسافر الى الرّوم وَاجْتمعَ بالوزير الاعظم مره حُسَيْن باشا وَكَانَ بَينه وَبَين وَالِده حُقُوق قديمَة فولاه امارة الْحَاج وَقدم الى دمشق وَسَار الحجيج فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ وأرهب العربات وَكبر صيته واشتهر خَبره وبقى فى الامارة مُدَّة ثانى عشرَة سنة وشهرته تتضاعف وأخباره تتزايد وَبَلغت رهبته فى قُلُوب العربان الى انهم كَانُوا اذا أَرَادوا يخوفون أحدا مِنْهُم يَقُولُونَ هَا ابْن فروخ أقبل فَتَاوَى قوائمه والى ذَلِك أَشَارَ فتح الله بن النّحاس فى قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِى مدحه بهَا بقوله
(واذا قيل ابْن فروخ أَتَى ... سقطوا لَو أَن ذَاك القَوْل مزح)
هَذِه القصيد // من أحسن محَاسِن الشّعْر وأعذبه // ومطلعها
(بَات ساجى الطّرف والشوق يلح ... والدجا إِن يمض جنح يَأْتِ جنح)
وغزلها مَشْهُور متداول فلذها تركته وَأما مديحها فَمِنْهُ قَوْله فى وَصفه
(بَطل لَو شَاءَ تمزيق الدجا ... لأتاه من عَمُود الصُّبْح رمح)
(كم سطور بالقنا يَكْتُبهَا ... وسطور بِلِسَان السَّيْف يمحو)
(بأبى أفدى أميرى انه ... صَادِق الطعْن جرئ الْقلب سمح)
(كلما قد قيل فى تَرْجِيحه ... فى الندى أَو فى الوغى فَهُوَ الاصح)
(يَا عروس الْخَيل وَالسيف لَهُ ... فى قراع الْخَيل والابطال صدح)
(يَا رحاة الْخَيل وَالْخَيْل لَهَا ... فى حِيَاض الْمَوْت بالغرسان سبح)
(حط سيف الْجُود فى حظى الذى ... هُوَ كالدهر يمسنى ويضح)(4/108)
(طالع الادبار مالى وَله ... ان يكن من كَوْكَب الاقبال لمح)
وَكَانَ على مَا مكن لَهُ من الطول الطائل يتفرغ للادب وَكَانَ يحفظ من الاشعار والاخبار شَيْئا كثيرا وروى انه كَانَ يحفظ مقامات الحريرى وَكَانَ فكه الطَّبْع مائلا الى الْغناء وأرباب الموسيقى وَهُوَ فى الشجَاعَة مِمَّن لم ير نَظِيره فى عصره وَلِلنَّاسِ فِيهِ مدائح كَبِيرَة فَمن ذَلِك هَذِه الابيات قَالَهَا فِيهِ الامام الْهمام عبد الرَّحْمَن العمادى الْمُفْتى
(مُحَمَّد باشانا ابْن فروخ من لَهُ ... عجائب شاعت من عَظِيم نعاله)
(فكم طعنات أقصدت من رماحه ... وَكم رشقات أنفذت من نباله)
(شَهِدنَا وشاهدنا لَهُ فى حَدِيدَة ... منافذ سهم خارقا من نصاله)
(اذا كَانَ هَذَا فى الْحَدِيد فعاله ... فَمَا حَال أجساد العدى فى قِتَاله)
(وَمَا ذَاك فعل السهْم بل فعل ساعد ... يساعده الرامى بِقُوَّة حَاله)
وللامير المنجكى فِيهِ
(أميرنا لَا بَرحت فى رتب ... ينحط عَن دون بَعْضهَا الْفلك)
(بيكلر بكيا سموك مظْلمَة ... وَأَنت بالمجد والعلى ملك)
(اذا طويت الْكتاب تنفذه ... الى العدى قبل فضه هَلَكُوا)
(وان قصدت النُّفُوس تبذرها ... تركت طير الْمنون تحتبك)
(سلكت بيض الْوُجُوه أَوديَة ... رَأْيك لولاه قطّ مَا سلكوا)
(عبيد نعماك أَيْنَمَا ذَهَبُوا ... حَاز والمعالى وللمنى ملكوا)
(زهد قلب المشوق بأسهم ... حب الغوانى يُعِيدهُ النّسك)
(من كل زمر اذا بعثت بِهِ ... قَامَ بِهِ فى العداة معترك)
(يحمده الذِّئْب فى الفلاة وفى الجو نسور والابحر السّمك ... )
(حَار لسانى فَمَا يَقُول ترى ... أَنْت مليك الزَّمَان أم ملك)
(حويت كل الفخار مُنْفَردا ... وفى سواك الفخار مُشْتَرك)
وَله فى أَبْيَات أخر مطْلعهَا
(يَا ربع كم لَك من شجى هَالك ... مغرى بجؤذرك المصون الهاتك)
(لست الملول وان رددت مآربى ... مَمْنُوعَة وهواك لَيْسَ بتاركى)
(أوقفت دمعى فى عراصك بَعْدَمَا ... سد الجوى الا اليك مسالكى)(4/109)
(عهدى وَشَمل السعد فِيك منضد ... والعيش يبسم عَن ثنايا ضَاحِك)
(وَعَلَيْك من وَجه الامير بشاشة ... أفديه من وَجه أغر مبارك)
(ملك جنَاحا خيله ورماحه ... يَوْم الوغى من فتية وملائك)
(تمشى الفوارس تَحت أَمر ركابه ... طوع الفياد فياله من مَالك)
(وَأَقل عبد من شِرَاء هباته ... مأوى الطريد وقبلة للسالك)
(يأيها الْمولى الذى قد دبرت ... آراؤه الدُّنْيَا بِحسن ندارك)
(قلدت أَعْنَاق العداة كارما ... بحسامك الْحق الجلى الفاتك)
(ومحوت من صحف الْحَيَاة نُفُوسهم ... محو الصَّباح ظلام ليل حالك)
(تخذوا سهامك فى الجسوم أَمارَة ... فنجوا بيمن جادها من مَالك)
(لم يكفروا نعماك لَكِن ساقهم ... قدر الاله لورطة ومهالك)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف بنابلس وَدفن بهَا وَخَلفه ولدان لَهُ على وعساف وَكِلَاهُمَا وليا الامارة فالاول وَليهَا سنة وَاحِدَة وَلَا أتحقق مَوته فى أى سنة كَانَ والثانى وَليهَا مَرَّات وَتوفى وَهُوَ مُتَوَجّه الى الرّوم بقونيه فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف
مُحَمَّد بن فضل الله الرهانبورى نِسْبَة لبرهانبور بَلْدَة عَظِيمَة بِالْهِنْدِ الصوفى الهندى سُلْطَان الصُّوفِيَّة فى عصره كَانَ اماما عَالما زاهدا عابدا ورعا اشْتهر فى الْهِنْد الشُّهْرَة الْعَظِيمَة وَبلغ فى ذَلِك مبلغا لم يبلغهُ أحد وَذَلِكَ انه كَانَ يُحَاسب نَفسه كل يَوْم فى آخر نَهَاره وَكَانَ من طَرِيقَته أَن يكْتب جَمِيع مَا وَقع مِنْهُ وَتصرف فِيهِ وَكَانَ عَظِيم الْخَوْف من الله تَعَالَى يتَوَقَّع الْمَوْت فى كل وَقت وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من أسياد الصُّوفِيَّة وحجتهم وبطانة خَالِصَة الْعلمَاء بالْقَوْل وَالْفِعْل سالكا محجتهم وَكَانَ من أكبر الْقَائِلين بالوحدة الوجودية وَألف فِيهَا رِسَالَة سَمَّاهَا التُّحْفَة الْمُرْسلَة الى النبى
وَكَانَ فَرَاغه مِنْهَا سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَشَرحهَا شرحا لطيفا أَتَى فِيهِ بالعجب العجاب وَاعْتذر فِيهِ عَمَّا يَقع من محققى الصُّوفِيَّة من الشطح الموهم خلاف الصَّوَاب اعتذارا يقبله من أَرَادَ الله تَعَالَى لَهُ الزلفى وَحسن المآب وَمِمَّنْ تولى شرحها أَيْضا الاستاذ رَأس الْمُحَقِّقين ابراهيم بن حسن الكورانى نزيل الْمَدِينَة المنورة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام وَمن شُيُوخ صَاحب التَّرْجَمَة الشَّيْخ وجيه الدّين بن القاضى نصر الله العلوى(4/110)
الاحمد أبادى الهندى امام الصُّوفِيَّة فى الْهِنْد وَغَيره من أكَابِر شيوخهم وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ برهانبور فى سنة تسع وَعشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ
مُحَمَّد بن فضل بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بعصمتى الرومى قاضى الْعَسْكَر أوحد الزَّمَان كَانَ أجل فضلاء الرّوم وأفصحهم وأظرفهم مُمَيّزا بَينهم بالمعرفة وَالْفضل وكل من رَأَيْته من أَرْبَاب الْمعرفَة سمعته يصفه بِالْفَضْلِ والذكاء وجودة الطَّبْع // وَحسن الشّعْر // والفصاحة وَهُوَ من بَيت فضل وَصَلَاح وَقد تقدم ذكر أَبِيه وَقد نَشأ وَحصل ودأب ثمَّ اتَّصل فى أَوَائِل أمره بشيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّاء فصيره ملازما ثمَّ أَرَادَ أَن يسْلك طَرِيق الملاخداوندكار فَلم يَتَيَسَّر لَهُ فَعدل الى طَرِيق الْمولى وضمه شيخ الاسلام الْمَذْكُور اليه واستخلصه لنَفسِهِ ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى الْمدرسَة الَّتِى جددتها وَالِدَة السُّلْطَان مُرَاد فاتح بَغْدَاد وَهُوَ ثانى مدرس بهَا حكى والدى عَن شيخ الاسلام الْمَذْكُور قَالَ سمعته يَقُول لما وجهت اليه الْمدرسَة الْمَذْكُورَة والدته وَكَانَ عندى شرح الْمِفْتَاح بِخَط عصمتى فَأَخَذته معى فَقَالَ لى السُّلْطَان لمن وجهت الْمدرسَة فَقلت لصَاحب هَذَا الْخط وَهُوَ حفيد الشَّيْخ مُحَمَّد البركلى فأعجبه خطه وسألنى عَن فَضله فَذكرت لَهُ فَضله وزكنه فَقَالَ لى سَمِعت نبله من الافواه ثمَّ أَخذ الْكتاب وأبقاه عِنْده لإعجابه بِهِ قَالَ والدى وَلَقَد أخبرنى عصمتى انه بعد وَفَاة السُّلْطَان وصل اليه الْكتاب على يَد بعض الكتبيين فَاشْتَرَاهُ ثمَّ ولى من تِلْكَ الْمدرسَة قَضَاء الشَّام وَذَلِكَ فى شَوَّال سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وكبابه الْجواد قبل قدومه الى دمشق فانصدعت رجله فأنشده الاديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمى ارتجالا هَذِه الابيات فى مجْلِس الِاجْتِمَاع بِهِ فَقَالَ
(انهض فَلَا قعدت بك الايام ... وسما بك الاقدام والاقدام)
(قدم العلى انصدعت فَلَمَّا صدعت ... صدع الْفُؤَاد فَلَا يكَاد ينَام)
وَلم ينزل بقرية حرستا على عَادَة الْقُضَاة بل دخل وَكَانَ دُخُوله اليها فى سَابِع ذى الْحجَّة فَقَالَ الْفَاضِل عبد اللَّطِيف بن يحيى المنقارى فى تَارِيخ قدومه
(زَمَانك يَا شمس المعالى مشرق ... وعصرك يَا بدر الْكَمَال لطيف)
(وفضلك بَين الْخلق دق ضاء نوره ... وقدرك مَا بَين الانام منيف)
(وانك فى جمع الكمالات مُفْرد ... وانك فى حكم الْقَضَاء عفيف)(4/111)
(وليت دمشقا حَاكما فى رعية ... بِعدْل لَهُ ظلّ عَلَيْك وريف)
(وَلما أتيت الشَّام قلت مؤرخا ... قدومك عيد عندنَا الشريف)
ومدحه أدباء الشَّام بقصائد كَثِيرَة وَوَقع فى مجَالِس سطرت عَنهُ وَمِمَّا ريأته من آثَار قلمه مَا كتبه على نِسْبَة أدهمية لِابْنِ المرزناتى بِدِمَشْق ألحمد لله الذى جعل الانساب فى بعض الْفُرُوع النجباء وسائط لاستفاضة الانوار والهمم الْعَالِيَة من الاصول الاتقياء عصيا يتوكؤن عَلَيْهَا ويدركون بهَا غَايَة المنى ويرتقون الى مدارج العلى وَلَهُم فِيهَا مآرب أُخْرَى وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله الْكَرِيم النُّور الاول والظهور الآخر فَاتِحَة مصحف الْوُجُود وخاتمة رِسَالَة الرسَالَة مُحَمَّد الْمُصْطَفى الذى هُوَ حجَّته الْكُبْرَى من استضاء بمصابيحه أبْصر وَنَجَا وَمن أعرض عَنْهَا ذل وَهوى صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وعَلى آله وعرته الَّذين هم حَبل الْهدى وشجرة التَّقْوَى وسفينة النجَاة الْعُظْمَى وَعُرْوَة الدّين الوثقى وَبعد فَلَمَّا تشرفت بِصَاحِب هَذَا النّسَب الْجَلِيل وجدته رَفِيق الْمجد وخليله نزيل الصّلاح وزميله تنَاول الْفضل كَابِرًا عَن كَابر وَأخذ الْفَخر عَن أسرة ومنابر فى نَاصِيَة تلوح عَلَيْهَا آثَار السَّعَادَة كالنور وفى جَبينه الانتساب الى من هُوَ كالتاج على مفرق هَذَا المنشور سطور فَمن نظر الى جميل خلقه وَحسن فعاله كَاد ينشد لِسَان حَاله بِاللَّه صلى الله تَعَالَى على النبى وَآله وَالشَّيْخ الْكَامِل الْوَاصِل الى مقَام الْعُبُودِيَّة الْمَدْعُو لهَذَا النّسَب بِعَبْد الْحق وَلَا ريب فى أَن أَلْسِنَة الْخلق أَقْلَام الْحق من سر العنصر الْكَرِيم ومعدن الشّرف الصميم الذى ببركة أنفاسه القدسية تبتهج الدُّنْيَا وعَلى عماده تضرب خيام الزّهْد وَالتَّقوى سيدنَا وسندنا الاكمل الآتم ابراهيم بن أدهم قدس الله سره وأفاض علينا خَيره وبره انْتهى قلت وَهَذَا المترجم مَعَ فَضله الباهى هُوَ أحد الْقُضَاة المذمومين بِالشَّام وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قرب جمَاعَة من أهل دمشق معروفين بالبغى وسلمهم أمره فبالغوا فى التعدى وَنسب ذَلِك اليه فعزل وسافر من دمشق فصحبه والدى الى الرّوم وَألف رحلته الاولى باسمه قَالَ وَلما وصلنا الى دَار الْخلَافَة كَانَ شيخ الاسلام الْمولى يحيى الْمَذْكُور آنِفا مَرِيضا فاتفق انه عَاده الْوَزير الاعظم مصطفى باشا وَسَأَلَهُ عَن حَاله فَقَالَ الْحَمد لله تَعَالَى حصل لى الشِّفَاء بقدوم عصمتى وَكَانَ الْوَزير الْمَذْكُور نَاوِيا أَن يُوقع بِهِ مَكْرُوها لما سَمعه من خَبره فَكَانَت كلمة شيخ الاسلام سَببا للعفو عَنهُ ثمَّ صَار قَاضِيا ببروسه وعزل فى مُدَّة جزئية(4/112)
وعانده الزَّمَان مُدَّة وانخفض حَتَّى ولى قَضَاء أَيُّوب وازمير ورق حَاله وَركبهُ دين عَظِيم وَلما ولى الْبَهَاء الْفتيا تقيد بتنميته فصيره قَاضِيا بقسطنطينية عشرَة أَيَّام وَنَقله الى قَضَاء سلانيك وفى أثْنَاء الطَّرِيق ضرب بعض خُدَّامه من غير عمد فَمَاتَ الْخَادِم وَحصل من سلانيك مَالا جزيلا وَقدم فبقى معزولا مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى أقبل عَلَيْهِ الْوَزير الاعظم مُحَمَّد باشا الكوبرى فَجعله قاضى الْعَسْكَر باناطولى وروم ايلى وتكرر لَهُ قَضَاء روم ايلى ثَانِيًا وَكَانَ شهما على الْقدر صلفا لحسن المنادمة وَكَانَ ظرفاء الرّوم يتنافسون فى حُضُور مَجْلِسه ويتفاخرون فى مكالمته وَكَانَ أديبا باهر الطَّرِيقَة وَقد ذكره الفيومى فى كِتَابه فَقَالَ فِيهِ لَهُ أدب كزهر الرياض وَشعر كَمَاء حلا وعذب فى الْحِيَاض فَهُوَ كمامة الزهر بل نادرة الدَّهْر تشرفت بِهِ وربطت سببى بِسَبَبِهِ فشنف سمعى وبعشرته رق طبعى فكم تلقيت من فِيهِ مَا هُوَ نَزعَة النبيه وَكم تلقفت مِنْهُ زهر الْآدَاب النديه وَبَيَان الصاحة الادبية فَمن درره الزاهره وأشعاره الباهية الباهره هَذِه المقاطيع
(أَهلا بِمن فاق السماك مخجلا ... شمس الضُّحَى فى رفْعَة وسناء)
(فَكَانَ لى فَوق الثريا منزلا ... علقت بسدته حبال رجائى)
وَقَوله فى صدر مُكَاتبَة
(يَا سراج التقى وَبدر المعالى ... دم منيرا وهاديا للعباد)
(كنت من قبل ألثم الْيَد بالاجلال والآن نَالَ ذَاك مدادى ... )
وَكتب الى شيخ الاسلام أَبى السُّعُود فى صدر كتاب وَهُوَ
(لَا زلت فى فلك السَّعَادَة ساطعا ... أَنْت الكفى بحاجتى وحسيبى)
(أملت حظوة نظرة من أجلهَا ... أشغلت ساحتكم ببسط كروبى قَالَ وَلما قَرَأت عَلَيْهِ فى تَارِيخ ابْن خلكان قَول ابْن عبد ربه
(نعق الْغُرَاب فَقلت اكذب طَائِر ... ان لم يصدقهُ رُغَاء بعير)
أنشدنى لنَفسِهِ
(ورد النسيم فَقلت اصدق قَائِل ... اذ كَانَ من ألم الغرام خَبِيرا)
وَبعث رقْعَة الى وَاحِد الدُّنْيَا الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَعْرُوف بعزتى وفى صدرها
(يومكم نصفة تقضى بنوم الْعِزّ وَالنّصف مِنْهُ للقرناء ... )
(طالع الدَّرْس بعد كل عشَاء ... فالليالى تعد للاحياء)(4/113)
قَالَ وَلما كنت مَعَه فى بروسه وَجَاء زمن الْورْد أنشدنى لنَفسِهِ
(عصر ورد عش بالرحيق الصفوق ... دم فان الصبوح مثل الغبوق)
(أَنْت بِالْفَتْح والدلال أنيس ... ولى الْخمر كالصديق الصدوق)
وَانْتَحَلَ على أَن أنظم من هَذِه القافية قصيدة فَقلت
(قُم الى الرَّوْض واغن بالراووق ... من سلاف قد راق فى الابربق)
(فى ربيع وأعين الْورْد تبدو ... بَين غمض الزهور والمستفيق)
(واجتل الكاس فى الرياض عروسا ... تشف بِالرَّاحِ من لهيب الرَّحِيق)
(هى رَاح وراحة وشفاء ... بل وبرء لكل قلب خفوق)
(قد صفت فى الزّجاج عَن التصافى ... فهى أهل الصَّفَا لصب مشوق)
(طَابَ وَقت الرّبيع فاغتنم الصفو وبادر اليه نَحْو الرفيق ... )
(طيب عَيْش اللبيب بالذوق والانس وخل مُوَافق ورحيق ... )
(والمليح الذى اذا مَاس عجبا ... وانثنى قد سبا بخصر رَقِيق)
(يسلب الْعقل والفؤاد بِوَجْه ... وبطرف ومبسم وبريق)
(ان تدر كاسه ترى الْقَوْم صرعى ... من مدام حبابه فى بريق)
(قُم وبادر فالروض فى طالع السعد وَمن أفق روضه فى شروق ... )
(حركته على الغصون شمال ... فَهُوَ نشوان فَوق غُصْن وريق)
(حَار عقل اللبيب فى سَاعَة الْبسط وَقد دَار كأس خمر عَتيق ... )
(بَين ورد وجنة ومدام ... وانحدار الْمِيَاه بالتصفيق)
(اتما الْعُمر عيشة الْمَرْء فى الصفو بروض البها وَحسن الصّديق ... )
(حَيْثُمَا السكر من دنان الحميا ... نشأة الصب فى منى والعقيق)
وَذكره والدى رَحمَه الله تَعَالَى وَأطَال فى وَصفه الى أَن قَالَ وَقد تشرفت بِهِ فى سفرتى الثَّانِيَة الى الرّوم سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف فرأيته منعما بهَا وَقد دارت رحى رجانه على قطبها وذكرنى بأَشْيَاء كنت نسيتهَا الطول الْغَيْبَة بل تناسيتها وَقد صدئت مرْآة فهمى لطول الْمدَّة عَن حَضرته وتكدر مَاء خاطرى لبعد الْعَهْد عَن خدمته
(فان الصارم الصمصام ينبو ... شباه لطول عهد بالصقال)
ورأيته لم يتَغَيَّر عَن معاملتى فى الْحَقِيقَة وَهَذَا خلاف مشربه الْمَشْهُور عِنْد الْخَلِيفَة وتقيد بأحوالى وَهُوَ فى صدارة الرّوم على حسب مَا أمكنه عِنْد السَّادة القروم(4/114)
وَقد شمت من كرمه بارق سَحَاب وحصلت من وَعوده على أخصب جناب وَمن زرع خيرا حصد جَزَاء فحالت غيوم سوء الْحَظ بَين طرفى المنى والاحسان فَلم يساعد على الامنية الْمَقْصُودَة الزَّمَان وكتبت اليه فى تِلْكَ الايام قصائد ورسائل وفصولا هى لشرح حالى رسائل قلت وَقد أورد مِنْهَا فى تَرْجَمته وفى رحلته الثَّانِيَة أَشْيَاء كَثِيرَة قَالَ وَلم يزل على الظّرْف والصلف الى أَن جاور من مضى من السّلف وفاجأته الْمنية وناوله ساقى الْحمام كأس الْمنون لَا كأس المدام وَذَلِكَ فى ثانى عشر صفر قريب وَقت السحر سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بِبَاب أدرنه من أَبْوَاب قسطنطينية وَلم يخلف ولدا وَلَقَد فجعت الرّوم مِنْهُ بفاضل نجيب وكامل لَبِيب وَسَهْم الرزايا بالنفائس مولع انْتهى
مُحَمَّد بن الْقَاسِم الملقب شمس الدّين بن المنقار الحلبى ثمَّ الدمشقى الحنفى الْعَالم البارع المناظر القوى الساعد فى الْفُنُون كَانَ من أَعْيَان الْعلمَاء الْكِبَار ذكره الخفاجى فَقَالَ فى حَقه صدر من صُدُور دهره مخلط مزيل سَابق فى حلبة عصره روض تجاذبت الاخبار اذيال فضائله واهتزت أَغْصَان الربى اذا حدث النسيم عَن شمايله تزينت بتاج ذكره هام الايام وتاهت بِهِ على سَائِر الْبلدَانِ بقاع الشَّام صدحت ورق فَصَاحَته فى ناديها وسارت محاسنه رائحها وغاديها وأثمرت أَقْلَام الْفَتْوَى بشمس آفَاق لَهُ ارْتَفَعت فيا لَهَا من أَغْصَان أثمرت من بعد مَا قطعت وَنور فَضله بادى لكل حَاضر وبادى
(كَالشَّمْسِ فى كبد السَّمَاء وضوءها ... يغشى الْبِلَاد مشارقا ومغاربا)
قَوْله مخلط مزيل يضْرب للذى يخالط الامور ويزايلها ثِقَة بِعِلْمِهِ واهتدائه اليها انْتهى قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته ولد بحلب وَنَشَأ بهَا ولازم لرضى بن الحنبلى وَغَيره ثمَّ وصل الى دمشق فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وتدبرها ورافق الشَّيْخ اسمعيل النابلسى والعماد الحنفى والمنلا أَسد وطبقتهم فى الِاشْتِغَال على الْعَلَاء بن الْعِمَاد وَالشَّيْخ أَبى الْفَتْح الشبشيرى وَغَيرهمَا وَحضر دروس شيخ الاسلام الْوَالِد وَرَأَيْت فى بعض مجاميع الطارانى انه درس بعدة مدارس وَمَات عَن تدريس القصاعية والوعظ بالعمارتين السليمانية والسليمية والبقعة بالجامع الأموى وَغير ذَلِك من الْجِهَات والحوالى وَأفْتى على مَذْهَب الامام أَبى حنيفَة وَكَانَ يدرس فى البيضاوى وَأخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم التَّاج الْقطَّان وَالْحسن البورينى وَالشَّمْس(4/115)
الميدانى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى والشسم مُحَمَّد الحادى وَغَيرهم وَكَانَ عَالما متضلعا من عُلُوم شَتَّى الا ان دَعْوَاهُ كَانَت أكبر من علمه وَكَانَ يزْعم ان من لم يقْرَأ عَلَيْهِ ويحضر درسه فَلَيْسَ بعالم وَكَانَ كثير اللهج بِذكر شَيْخه ابْن الحنبلى الْمَذْكُور والاطراء فى الثَّنَاء عَلَيْهِ وانما يقْصد بذلك التميز على أقرانه والانفراد عَنْهُم بِهِ وَكَانَت بَينه وَبَين رَفِيقه النابلسى والمنلا أَسد مهاجرات بِسَبَب المناظرة حَتَّى يُؤدى ذَلِك الى المنافرة وَكَانَ النابلسى يلائمه وَيَأْخُذ بخاطره لانه كَانَ أنبل مِنْهُ وأوسع جاها وَأطلق لِسَانا وَكَانَ كثير الْمُخَاصمَة والجدال يحب التصدر على اعلام الشُّيُوخ فى الْمجَالِس الحافلة ويتمثل بأشعار الْجَاهِلِيَّة وَغَيرهم كَقَوْل سحيم
(أَنا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتى أَضَع الْعِمَامَة تعرفونى)
وَقَول أَبى الطّيب
(أَنا صَخْرَة الوادى اذا مَا زوحمت ... واذا نطقت فاننى الجوزاء)
وَكَانَ كثيرا مَا يلهج بِأَبْيَات أَبى الْعَلَاء المعرى فى قصيدته اللامية الْمَشْهُورَة
(اذا وصف الطائى بالشح مادر ... وعير قسا بالفهاهة بَاقِل)
(وطاولت الارض السَّمَاء سفاهة ... وفاخرت الشهب الْحَصَى والجنادل)
(وَقَالَ السهى للشمس أَنْت خُفْيَة ... وَقَالَ الدجى للصبح لَو أَنَّك حَائِل)
(فيا موت زر ان الْحَيَاة ذميمة ... وَيَا نفس جدى ان دهرك هازل)
وَكَانَ اذا وصل الى قَوْله وَقَالَ السهى للشمس يضع يَده على صَدره مُشِيرا الى نَفسه الى غير ذَلِك وَكَانَ مَعَ مَا اتّصف بِهِ من التفاخر مبغضا لمن يَتَّصِف بفضيلة وَجرى لَهُ فى أَيَّام سُلَيْمَان باشا ابْن قباد بن رَمَضَان لما كَانَ نَائِبا بِدِمَشْق فى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة أَنه تعصب على الشَّمْس مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن دَاوُد المقدسى الآتى ذكره بِسَبَب قِرَاءَة الحَدِيث بالجامع الاموى بَين العشاءين على أسلوب الاستاذ الْكَبِير مُحَمَّد بن أَبى الْحسن البكرى بالديار المصرية وَمنعه من ذَلِك وشق على أهل الْعلم مَا فعله فَقَالَ السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن على بن خصيب القدسى نزيل دمشق الآتى ذكره هَذِه الابيات يُخَاطب ابْن المنقار بهَا
(منعت ابْن دَاوُد الحَدِيث بجلق ... وَمَا مثله فى الشَّام وَالله من فار)
(وتزعم حصر الْعلم فِيك بجلق ... فتنقر أهل الْعلم فِيهَا بمنقار)
(سيأتيه من ربى بلَاء وفى غَد ... ستلقى بِوَجْه يَا ابْن منقار وَمن قار)(4/116)
ثمَّ عظم الامر بَين ابْن المنقار والداودى وَلَا زَالَ يبلغهُ غليظ مَا يكره حَتَّى قَالَ فِيهِ الداودى قصيدة رائية أَولهَا
(يَا سخطَة من عَظِيم الْقَهْر جَبَّار ... حلى بِسَاحَة من يدعى ابْن منقار)
مِنْهَا
(يصفر من حسد حَتَّى كَأَن بِهِ ... ربعا قديمَة عهد ذَات أدوار)
(ويعتريه اضْطِرَاب فى مفاصله ... كَأَن أفكل فى أَعْضَائِهِ سَار)
وَرَأَيْت بِخَط الطارانى قَالَ وَمن أعجب مَا وَقع لى مَعَه أننى مدحته بقصيدة سيمية بديعة أَولهَا
(سقى مربع الاحباب ودق الغمائم ... وجادت عَلَيْهِ هاطلات السواجم)
وَبَيت المخلص
(سفرن بدورا عَن محيا كَأَنَّهُ ... سنا نور شمس الدّين عين الاكارم)
فَمَا كَانَت جائزتى مِنْهُ غير الذَّم والمقابلة بِمَا لَا يَلِيق وقصة حطه على النَّجْم الغزى مَشْهُور وملخصها كَمَا قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته كَانَ يعظ وَيقْرَأ الحَدِيث فى الْجَامِع وَكَانَت الشَّمْس كسفت وَصلى الشهَاب العيثاوى اماما بِالنَّاسِ صَلَاة الْكُسُوف بمحراب الشَّافِعِيَّة ثمَّ حضر الشّرف الْحَكِيم الْخَطِيب بالجامع وَصلى وَحضر ابْن المنقار وَلما فرغ النَّاس من الصَّلَاة أَخذ فى الانكار على العيثاوى والنجم فى الصَّلَاة وَعطف عَلَيْهِ انه علم النَّجْم وَقواهُ على النّظم والتدريس فَاجْتمع بِهِ العيثاوى والنجم فَلَمَّا تكالموا ثارت الْعَوام عَلَيْهِ وألجأوه حَتَّى خرج من بَاب الْبَرِيد حافيا وَهُوَ بعمامة صَغِيرَة غير عمَامَته الْمُعْتَادَة وهم يصيحون بِهِ ثمَّ آل الامر أَن عقد لَهُ مجْلِس عِنْد قاضى الْقُضَاة مصطفى بن بُسْتَان وَحضر جمَاعَة من أَعْيَان الْعلمَاء مِنْهُم الْجد القاضى محب الدّين والشهاب العيثاوى فأصلحوا بَينهمَا ثمَّ طلبُوا المناظرة بَينهمَا فتناظرا فى عبارَة من تَفْسِير البيضاوى وَكَانَت الْغَلَبَة للنجم وَألف العيثاوى رِسَالَة حافلة فِيمَا وَقع بَينهمَا وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم قد ظَهرت نُجُوم السَّمَاء نَهَارا لقُوَّة الْكُسُوف فَقَالَ بعض الادباء مصراعا أَجَاد فِيهِ وَهُوَ قَوْله وَعند كسوف الشَّمْس قد ظهر النَّجْم فسبكه النَّجْم فى أَبْيَات هى قَوْله
(بعام ثَمَان بعد تسعين حجَّة ... وتعمى مرت جرى الامر وَالْحكم)
(بَان حضر الشَّمْس ابْن منقار الذى ... تحرى جد الا حِين زايله الحزم)(4/117)
(وناظرنا يَوْم الْكُسُوف فَلم يطق ... لنا جدلا بل خانه الْفِكر والفهم)
(فَقيل وَبَعض القَوْل لَا شكّ حِكْمَة ... وَعند كسوف الشَّمْس قد ظهر النَّجْم)
(وَلَوْلَا تلافى الله جلّ جَلَاله ... أصَاب تلافا حِين تَابعه الرَّجْم)
وَالْحَاصِل انه كَانَ ضيق الْخلق وَأما علمه فَسلم عِنْد من يعرفهُ وان طعن فِيهِ طَاعن فَعَن عَدَاوَة وحسد وَله أشعار كَثِيرَة وقفت فى بعض المجاميع على أَبْيَات لَهُ كتبهَا الى قاضى الْقُضَاة بِالشَّام الْعَلامَة الْمولى على بن اسرائيل الْمَعْرُوف بِابْن الحنائى وَكَانَ وَقع لَهُ وَهُوَ قاضى بِدِمَشْق أَنه اخْرُج عَن رجل بعض الْوَظَائِف فَكتب الرجل محضرا فى شَأْن نَفسه واستكتب الاعيان فَكتب لَهُ بعض من كَانَ يظْهر الصداقة والمودة للقاضى الْمَذْكُور فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ مضمنا
(لنا فى الشَّام اخوان ... بِظهْر الْغَيْب خوان)
(فأبدوا فى الجفا شانا ... بِهِ وَجه الصَّفَا شانوا)
(وظنوا أَنهم ذهلوا ... وَمَا غدروا وَمَا خانوا)
(وَلما ان رَأينَا الذهل طبع النَّاس مذ كَانُوا ... )
(صفحنا عَن بنى ذهل ... وَقُلْنَا الْقَوْم اخوان)
وأبيات الشَّمْس هى هَذِه
(لِسَان العدا ان سَاءَ فَهُوَ كليل ... قصير وَلَكِن يَوْم ذَاك طَوِيل)
(وَأَقْلَام من ناواك ضلت وأخطأت ... وَلَيْسَ لَهُم فى ذَا السَّبِيل دَلِيل)
(لقاليك شان شانه سوء فعله ... وَفعل الذى والى علاك جميل)
(فَلَا تحتفل مولاى ان قَالَ قَائِل ... ستنشدهم عِنْد اللقا وَتقول)
(وننكران شِئْنَا على النَّاس قَوْلهم ... وَلَا يُنكرُونَ القَوْل حِين نقُول)
(اذا طلعت شمس النَّهَار تساقطت ... كواكب ليل للافول تميل)
(وَهل يغلب الْبَحْر الْمُعظم جدول ... وَهل يدعى قهر الْعَزِيز ذليل)
(وَهل لجهول أَن يُقَاوم عَالما ... وَلَيْسَ سَوَاء عَالم وجهول)
(فَلَا عجب ان خَان خل وَصَاحب ... لَان وجود الصَّادِقين قَلِيل)
(على أننى أَصبَحت للْعهد حَافِظًا ... وحاشا لدينا أَن يضيع جميل)
(صُفُونا وَلم نكدر وأخلص ودنا ... وَفَاء عهود قد مَضَت وأصول)
(وانا الْقَوْم لَا نرى الْغدر سنة ... اذا مَا رَآهُ صَاحب وخليل)(4/118)
(نعم قد كبا عِنْد الطراد جوادهم ... وَأَنت كريم لَا بَرحت تقيل)
وَكَانَ بَينه وَبَين جدى القاضى محب الدّين مراجعات ومطارحات كَثِيرَة لما كَانَ بَينهمَا من سالف مَوَدَّة واخاء ثمَّ تغيرا وانحرفا كَمَا سأذكره وَلَقَد ذكر الْجد فى رحلته قطعا من تِلْكَ المراجعات وَرَأَيْت الْفَقِير بِخَط الْجد فى بعض مجاميعه أبياتا كتبهَا اليه الشَّمْس مسائلا فَأَجَابَهُ عَنْهَا الْجد بِأَبْيَات من نظمه فَأَما أَبْيَات الشَّمْس فهى هَذِه وتاريخ كتَابَتهَا سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وهى قَوْله
(أيا فَاضلا أثنت عَلَيْهِ الافاضل ... وشاعت وذاعت عَن علاهُ الفواضل)
(جمعت علوما ثمَّ رحت تفيدها ... فَأَصْبَحت فَردا فى الورى لَا تماثل)
(وَكم غصت فى الْقَامُوس نَحْو صحاحه ... فأخرجت در الْيَسْ يحويه فَاضل)
(ففى نظمك الدّرّ النضيد منظم ... وفى النثر منثور الْجَوَاهِر حَاصِل)
(حللت محب الدّين فى الشَّام فانثنت ... تتيه بكم اذ زينتها الْفَضَائِل)
(وَلَا بدع أَنْت الْبَحْر فى الْعلم والندى ... وَكم عَم طلاب الْقرى مِنْك نائل)
(رقيت مقَاما فى الفصاحة ساميا ... يقصر عَن غاياته المتطاول)
(لبيد بليد وامرؤا لقيس مطرق ... لَدَيْهِ وسحبان الفصاحة بَاقِل)
(وَقد أرسل الممولك نَحْوك سَائِلًا ... سُؤال محب للحبيب يسائل)
(لانك فى الْفِقْه الامام مُحَمَّد ... لذَلِك قد قَامَت عَلَيْهِ الدَّلَائِل)
(فأى وَكيل لَا مجَال لعزله ... وان مَاتَ ذُو التَّوْكِيل فَهُوَ يزاول)
(بعثت سؤالا عاطلا نَحْو ربعكم ... وَلكنه يَرْجُو الحلى ويحاول)
(وَقد جَاءَكُم عبد يروم كِتَابَة ... ويكفيه فخرا أَنه بك نَازل)
(تَأَخَّرت فى عصر وَأَنت مقدم ... وفزت بِمَا لم تستطعه الاوائل)
(فجد بِجَوَاب لَا بَرحت تفيدنا ... لانك شيخ فى الْحَقِيقَة كَامِل)
وَأما أَبْيَات الْجد فَهَذِهِ وهى قَوْله
(أهذى سطور أم قدود عوامل ... وَتلك شموس أم بدور كوامل)
(وَهل هَذِه الالفاظ أزهار رَوْضَة ... سَقَاهَا من المزن الغدير هواطل)
(وَتلك الْمعَانى أنجم مستنيرة ... أم القاصرات الطّرف فِيهَا تغازل)
(وَبعد فيا رب الْفَضَائِل والندى ... وَيَا بَحر علم مَا لفضلك سَاحل)
(لَئِن كَانَ مَا أظهرت فى الطرس أنجما ... فانك شمس فى سما الْفضل رافل)(4/119)
(وان كَانَ مَا رصعت درا منظما ... فانك بَحر فى الْحَقِيقَة كَامِل)
(لقد أفحم النظام مَا أَنْت ناظم ... وأعجز أهل الْفضل مَا أَنْت قَائِل)
(أَشرت بالغاز وَحسن تلطف ... الى لغز فِيهِ الْعُيُون تغازل)
(وَصورته مولَايَ تَوْكِيل رَاهن ... لمرتهن فى بيع رهن يزاول)
(وَقد شَرط التَّوْكِيل فى عقد رَهنه ... فان مَاتَ قبل البيع لَا عزل حَاصِل)
(فجد وتفضل بِالْقبُولِ فاننى ... لعبد فَقير خامد الْفِكر خامل)
(وسامح لهَذَا العَبْد ان بضاعتى ... لفى الشّعْر مزجاة وحظى سافل)
(فوابل نظمى عنْدك الطل قد غَدا ... كَمَا ان يَا مولاى طلك وابل)
(فَلَا زلت فى أوج الْفَضَائِل ساميا ... وفى ذرْوَة الْمجد الرفيع تحاول)
(وَلَا زلت صَدرا للعلوم وموردا ... فَلَا غرو إِن طابت لديك المناهل)
وَمن ألطف شعره أَيْضا قَوْله من قصيدة كتب بهَا الى الاديب مُحَمَّد بن نجم الدّين الهلالى الصالحى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى ومطلعها
(وقفت على ربع الحبيب أسائله ... ودمعى بالمكتوم قد باح سائله)
(وَقلت لَهُ منى اليك تَحِيَّة ... أما هَذِه أوطاونه ومنازله)
(أما مَاس فى روضاتها بَان قده ... ومالت لَدَى مر النسيم شمايله)
(فمالك قد أَصبَحت قفرا وطوفت ... طوائح دهرى فِيك ثمَّ زلازله)
(فَقَالَ سرى عَنى الحبيب وفاتنى ... سنا برق شمس الدّين ثمَّ هواطله)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى عِنْد غرُوب الشَّمْس من يَوْم الثلاثا رَابِع عشرى شَوَّال سنة خمس بعد الالف وَدفن بمَكَان صَغِير بِهِ محراب قديم على الطَّرِيق الْآخِذ الى السويقة المحروقة غربى تربة بَاب الصَّغِير قَالَ النَّجْم وَكَانَ سَبَب مَرضه أَن شَيخنَا القاضى محب الدّين كَانَ يتأدب مَعَه ويعظمه لسنه وجريا على عَادَته فى التأدب مَعَ أهل دمشق واكرام كل مِنْهُم على حسب مَا يَلِيق بِهِ فَكَانَ شَيخنَا اذ اجْتمع هُوَ وَالشَّمْس يقدمهُ فى الْمجْلس فَلَمَّا انتصر لنا شَيخنَا بِسَبَب تعنت الشَّمْس وَقع بَينهمَا وَكَانَ كلما تعرض الشَّمْس لنا بَادر شَيخنَا الى الِانْتِصَار حَتَّى بلغه أذية الشَّمْس لَهُ قلت وَقد أسلفت فى تَرْجَمَة الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن أَحْمد بن سُلَيْمَان أَن الشحناء تأكدت بَينهمَا بِسَبَب قيام الْجد بنصرته فاجتمعا آخرا عِنْد قاضى الْقُضَاة الْكَمَال ابْن طاشكبرى قاضى دمشق فَتقدم عَلَيْهِ شَيخنَا(4/120)
فى الْمجْلس فَغَضب ابْن المنقار وَقَالَ أَنْت كنت سَابِقًا تقدمنى فَلم تقدّمت على قَالَ تقدّمت الى مجلسى وَكنت أوثرك سَابِقًا بمقامى وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين فى الْمجْلس فَأخذ بيد الشَّمْس وَأَجْلسهُ بَينه وَبَين القاضى ثمَّ بقى الشَّمْس على غيظه حَتَّى مرض مِنْهُ وَجعل تتزايد بِهِ الامراض حَتَّى توفى فى الْيَوْم الدى ذَكرْنَاهُ انْتهى
مُحَمَّد بن قَاسم بن على القيسى الغرناطى أصلا وَأَبا والقصار لقبا مفتى فاس وَرَيْحَانَة ذَلِك الكاس ومحدث الغرب الاقصى الذى فضائله لَا تعد وَلَا تحصى فَقِيه عصره وعلامة قطره حفظ الْقُرْآن وجوده وَأخذ الْعُلُوم الْفِقْه والْحَدِيث عَن ولى الله أَبى نعيم رضوَان بن عبد الله الحملولى الفاسى وَعَن المتفرد بالْمَنْطق وَالْكَلَام وأصول الْفِقْه وَالْبَيَان بِفَارِس جَار الله مُحَمَّد خروف الانصارى التونسى وَعَن الاستاذ مُحَمَّد النولى وَعَن أَبى عبد الله مُحَمَّد بن جلال وَغَيرهم من مَشَايِخ الْمغرب وَأخذ بالاجازة عَن شيخ الاسلام الْبَدْر مُحَمَّد الغزى مفتى دمشق وَغَيره وَعنهُ أَخذ عُلَمَاء الْعَصْر من الْمغرب كأبى الْعَبَّاس المقرى وَمُحَمّد بن أَبى بكر الدلائى الفشتالى وَالسَّيِّد عبد الهادى السجلماسى الْحسنى وأبى عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف أَبى المحاسن العربى الفاسى وَكَانَ سوق الْمَعْقُول كاسدا فى فاس فضلا عَن سَائِر أقطار الْمغرب فنفق فى زَمَانه مَا كَانَ كاسدا من سوق الاصلين والمنطق وَالْبَيَان وَسَائِر الْعُلُوم لَان أهل الْمغرب كَانُوا لَا يعتنون بِمَا عدا النَّحْو وَالْفِقْه وَالْقُرْآن مِمَّا يُوصل الى الرياسة الدُّنْيَوِيَّة وَكَانَ من قبل هَذَا الْقرن فِيهِ أَيْضا كَذَلِك وَأكْثر الى أَن رَحل البيستنى الى الْمشرق فَأتى بشئ من ذَلِك ثمَّ ورد الشَّيْخ خروف التونسى وَكَانَ امام ذَلِك كُله والمقدم فِيهِ الا أَنه جَاءَ من غير كتب لابتلائه بالاسر وغرق كتبه فى الْبَحْر وَمَعَ ذَلِك كَانَت بِلِسَانِهِ عجمة مَعَ ميله الى الخمول فَلم يقدروا قدره وانما انْتفع بِهِ الشَّيْخ المنجور وَالشَّيْخ الْقصار صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ للمنجور مُشَاركَة فى فنون كَثِيرَة وتنقيح عبارَة وَمَعْرِفَة بالتدريس وَكَانَ للقصار عبارَة قَاصِرَة مَعَ زِيَادَة تَحْقِيق وَكَمَال معرفَة وتحرير وغوص على الْمسَائِل فَمَا انْتفع بِهِ الا من صلحت نِيَّته وَلم يثنه عَنهُ عبَادَة وَلَا خمول واليه والى المنجور مرجع شُيُوخ الْمغرب مَعَ مُلَازمَة الْقصار أَكثر لانفراده بعده وَله مؤلفات مفيدة وفهرست جمعت فِيهِ مروياته فى الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَله نظم من ذَلِك قَوْله(4/121)
(تسع أَبى مِنْهَا أولو الاحلام والهمم السنيه ... )
(الا بِحَال ضَرُورَة ... تدعوا لَهَا من حسن نيه ... )
(وهى الشَّهَادَة والوساطة والحكومة فى القضيه ... )
(وَكَذَا الامامة والوديعة والتعرض للوصيه ... )
(وَكَذَا الاجابة للطعام وللولائم والهديه ... )
(فسد الزَّمَان وَأَهله ... الا الْقَلِيل من البريه)
وَكَانَت وَفَاته فى فاس فى سنة اثنتى عشرَة بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى برحمنه
الامام مُحَمَّد الْمُؤَيد ابْن الامام الْقسم بن مُحَمَّد بن على وَبَقِيَّة نسبه فى تَرْجَمَة أَبِيه الْقسم قَالَ الْحُسَيْن بن المهلا لَا بَرحت آثاره زِينَة الْكتب وفضائله الازمنة والحقب انه السَّيِّد الذى ظَهرت فضائله فى الْبِلَاد وأذعن لفضله الْحَاضِر والباد وَاجْتمعت كلمة الْيمن اليه وَأخرج الاتراك بأسرهم وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الفتوحات من كل وجهة وَقَامَ بنصرته اخواته الْحسن وَالْحُسَيْن وَأحمد أَبُو طَالب واسمعيل وَكَانَ اماما جَلِيلًا مفننا فى كثير من الْعُلُوم قَائِما باعباء الامامة مباشرا للامور بِنَفسِهِ لَا ينَام من اللَّيْل قَلِيلا محسنا الى الْفُقَرَاء حَافظ للبلاد كلهَا أصلح الله تَعَالَى فى ولَايَته بَين الْخلق وَأمن الله تَعَالَى الطرقات ببركات نِيَّته ومكت فى الامامة نَحْو سبع وَعشْرين سنة لم ينكب فِيهَا واستوزر والدى الْعَلامَة نَاصِر بن عبد الحفيظ واختصه بمجالس النّظر الْخَاصَّة فى جَمِيع الْعُلُوم وَألف رسائل كَثِيرَة تشْتَمل على علم وَاسع وأجوبة فى أَنْوَاع الْعُلُوم مَشْهُورَة وَكَانَت وَفَاته فى سَابِع وعشرى رَجَب سنة أَربع وَخمسين وَألف فى شهاره وَدفن بهَا عِنْد قبر وَالِده وَلما توفى بُويِعَ بالخلافة ولى عَهده أَخُوهُ أَحْمد فى شهاره ثمَّ دَعَا أَخُوهُ اسمعيل الى نَفسه فى ضوران فَبَايعهُ جمع من النَّاس وَكَذَلِكَ دَعَا مُحَمَّد بن الْحسن بن الْقسم الى نَفسه فَبَايعهُ أهل الْيمن فى أَب وجبلة وَمَا يَليهَا وَلما تفاقم الامر وَتَفَرَّقَتْ الاحوال اتّفق رأى الْعُقَلَاء من النَّاس فَاجْتمع مُحَمَّد بن الْحسن وَأَخُوهُ أَحْمد وَمن والاهم ففوضوا الامر لاسمعيل فَبَايعُوهُ وَكَانَ رَأيا سديد فَأَقْبَلت عَلَيْهِ النَّاس وأمراء الْبِلَاد من كل جِهَة وطاعوه وجهز على أَخِيه أَحْمد السَّيِّد مُحَمَّد بن الحسني فَسَار يُرِيد مَدِينَة ثلا فَلَمَّا علم بقدومه أَحْمد أغار من شهاره بأعيان من فِيهَا وصحبته القاضى أَحْمد بن سعد الدّين وَجَمَاعَة من الكبراء فيهم ابراهيم بن أَحْمد بن عَامر وَغَيره فَالتقى الْجَمْعَانِ فِيمَا بَين(4/122)
الطريف الى ثلا فَاقْتَتلُوا فَكَانَت الطائلة لجَماعَة اسمعيل واجتاز أَحْمد الى ثلا فحصروه فِيهَا ثمَّ قدم الامام أَحْمد الى أَخِيه اسمعيل من ثلا الى ضوران فَسلم اليه الامر وَبَايَعَهُ وصحبته الامير النَّاصِر بن عبد الرب صَاحب كوكبان فى جمع من الاعيان وَفِيهِمْ القاضى أَحْمد بن سعد الدّين والناصر بن رَاجِح وَجمع وَكَانَ يَوْمًا مشهودا لِاجْتِمَاع عِصَابَة الْمُسلمين واصلاح ذَات الْبَين ثمَّ توجه أَحْمد الى صعدة متولبا عَلَيْهَا من قبل أَخِيه الامام المتَوَكل انْتهى
محمدبن قباد الْمَعْرُوف بالسكوتى البدونى ثمَّ الدمشقى الحنفى مفتى الشَّام وَأجل فضلاء الزَّمَان كَانَ فَقِيها بارعا حَافظ للمسائل كثير الِاطِّلَاع عَلَيْهَا عفيفا خيرا دينا وَكَانَ حسن الْخط والانشاء حسن الْمعرفَة كثير الصمت مثابرا على الْعِبَادَات والمطالعة ويروى عَنهُ انه كَانَ لَا يفتر عَن المطالعة وَلَو كَانَ مَاشِيا فى طَرِيق وَجمع كتبا كَثِيرَة وأكثرها عَلَيْهَا تعليقاته وتحريراته وَكَانَ وُرُوده الى دمشق صُحْبَة قاضى الْقُضَاة الْمولى مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بنهالى فى سنة أَربع عشرَة وَألف وَلما عزل القاضى الْمَذْكُور عَن قَضَاء دمشق أَقَامَ بهَا وتأهل وَولى النّظر على أوقاف الدرويشية ودرس فى الْمدرسَة الجوزية وَأعْطى نظارة النظار وتولية البيمارستان القيمرى وَولى النِّيَابَة الْكُبْرَى وَقِسْمَة الْمَوَارِيث مَرَّات وانحط مُدَّة فاستولى عَلَيْهِ الاقلال وَحكى أَنه فى تِلْكَ الْمدَّة دَعَاهُ الرئيس الْجَلِيل مُحَمَّد بن الطباخ أحد الْكتاب وَكَانَ مصاهره الى بُسْتَان فى يَوْم نوروز وَكَانَ مِمَّن حضر فى الدعْوَة الامام الْهمام يُوسُف بن أَبى الْفَتْح ووالده أَبُو الْفَتْح الْمَذْكُور وَكَانَ أَبُو الْفَتْح يعرف علم الزايرجا حق الْمعرفَة فأبرم عَلَيْهِ وَلَده فى اسْتِخْرَاج طالع صَاحب التَّرْجَمَة فَجمع أعدادا ثمَّ ركبهَا وَقَالَ قد طلع فى طالعه منصب قريب جدا وَقد وصل خَبره الى دمشق فَلم يمض الا هنيئة واذا بشخص من جيران السكوتى دخل عَلَيْهِم وَذكر أَنه جَاءَهُ مساع من الرّوم فَقَالَ من وقته وَتوجه الى بَيته فَرَأى الساعى ينتظره وَقد جَاءَهُ بِأَمْر النِّيَابَة وَلما صَار الفتحى الْمَذْكُور امام السُّلْطَان مُرَاد نبه حَظه من رقدته فَكَانَ لَا يَنْفَكّ عَن النِّيَابَة وَرَأس بِدِمَشْق وَعظم شَأْنه وَمَات الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن العمادى فوجهت الْفتيا اليه ودرس بالسليمانية والى ذَلِك يُشِير أَحْمد بن شاهين فى قصيدته الَّتِى رثى بهَا العمادى فَقَالَ
(يَا مفتيا طَال السُّؤَال لقبره ... وَجَوَابه مُتَعَذر الامكان)(4/123)
وَحكى والدى بل الله ثراه بوابل غفرانه انه وقف على رِسَالَة كتبهَا أَوْلَاد العمادى الى مفتى الرّوم يطْلبُونَ مِنْهُ الْفتيا ويذكرون مَا دهمهم من صَاحب التَّرْجَمَة واستشهدوا بِبَيْت المتنبى الْمَشْهُور
(وفى النَّفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتى بَيَان عِنْدهَا وَكَلَام)
وَاسْتمرّ مفتيا الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى ثانى شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير والبدونى بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ واه وَنون نِسْبَة الى قَاعِدَة بِلَاد البشانقة وَأَعْظَمهَا وهى الْحَد الْفَاصِل بَين بِلَاد العثامنة سلاطين بِلَادنَا أعزهم الله وبلاد النَّصَارَى الانكروس وتعرف هَذِه الْبَلدة بمفتاح بِلَاد الاسلام وَقد استولت عَلَيْهَا النَّصَارَى الْآن بعد حروب تقذت بهَا عين الاسلام والمأمول من الله تَعَالَى أَن يُعِيد باعادتها رونق الدّين كَمَا كَانَ بمنه وَكَرمه
السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن حَمْزَة وَبَقِيَّة النّسَب ذكرته فى تَرْجَمَة أَخِيه السَّيِّد حُسَيْن نقيب الشَّام وعلامة الْعلمَاء الاعلام الحسينى المنتمى الحنفى الْمَذْهَب رَئِيس وقته فى الْعلم والجاه ووحيد دهره فى سودده وعلاه وَكَانَ عَالما محققا وحبرا مدققا غواصا على الْمسَائِل كثيرا لتبحر مملوءا معارف وفنونا وَقد حظى من التَّخْصِيص والتنعم بِمَا قصر عَنهُ غَيره وَتقدم على كل من عاصره من الْكِبَار وَبَلغت شهرته الْآفَاق ورزق الابناء الَّذين هم غرر جباه المعلومات وأكاليل تَاج المكرمات والسعادات وهم السَّيِّد عبد الرَّحْمَن الماضى ذكره والباقى على مدى الازمان حَمده وشكره وَالسَّيِّد عبد الْكَرِيم وَالسَّيِّد ابراهيم الباقيان كالفرقدين النيرين والساميان فى الانارة على نور القمرين أحياهما الله تَعَالَى الْحَيَاة الطبية وروى الآمال بسحائب مواهبهم الصيبة وَقد ولد بِدِمَشْق وربى فى حجر وَالِده وَقَرَأَ الْقُرْآن الْعَظِيم على الشَّيْخ المعمر الصَّالح أَبى بكر السليمى الحنفى وجوده عَلَيْهِ ثمَّ على الشَّيْخ عبد الباقى الحنبلى وَقَرَأَ عَلَيْهِ لاهل سما افرادا وجمعا من طَرِيق الشاطبية والتيسير الى أواسط سُورَة الْبَقَرَة وأحضره وَالِده الى الْفَقِيه الْمسند المعمر الشَّمْس مُحَمَّد بن مَنْصُور بن محب الدّين الحنفى وَأَجَازَهُ بِمَا يجوز لَهُ رِوَايَته وَحضر مجْلِس الشَّمْس الميدانى فى صَحِيح البخارى تَحت قبَّة النسْر من جَامع الاموى فى دمشق فى الثَّلَاثَة أشهر رَجَب وَشَعْبَان ورمضان فَسمع عَلَيْهِ بعض الصَّحِيح وَأَجَازَهُ(4/124)
بسائره وَمَا يجوز لَهُ رِوَايَته فى آخَرين وَقَرَأَ على الْمسند المعمر الشهَاب أَحْمد بن مُحَمَّد الفرغانى البقاعى قِطْعَة من صَحِيح البخارى وَقطعَة من صَحِيح مُسلم وَقطعَة من الاربعين النووية وَأَجَازَهُ بسائرهن وَبِمَا يجوز لَهُ رِوَايَته وجد فى طلب الْعُلُوم على جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن على الصفورى وَسمع بقرَاءَته بعض صَحِيح البخارى على النَّجْم الغزى وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن على الحرفوشى العاملى الحريرى وَالشَّيْخ ابراهيم القبردى وَسمع عَلَيْهِ بعض صَحِيح البخارى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن المنقار وَعَلَيْهِمَا تفقه وَالشَّيْخ عمر القارى وَالشَّيْخ رَمَضَان بن عبد الْحق العكارى وتفقه عَلَيْهِ وَسمع عَلَيْهِ بعض صَحِيح مُسلم وَالشَّيْخ يُوسُف ابْن أَبى الْفَتْح وتفقه عَلَيْهِ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عماد الدّين وتفقه عَلَيْهِ وَسمع عَلَيْهِ بعض التَّفْسِير الزمخشرى وَبَعض صَحِيح البخارى والنجم مُحَمَّد الغزى وَسمع وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح التَّبْصِرَة لِلْحَافِظِ العراقى وَأَجَازَهُ بهَا وبشرح القاضى زَكَرِيَّاء وبسائر تآليفه فى آخَرين وَكتب لَهُم فى طبقَة السماع خطه بذلك ولازم مَجْلِسه تَحت قبَّة النسْر فى صَحِيح البخارى فى الثَّلَاثَة أشهر فَسمع عَلَيْهِ كثيرا من الصَّحِيح والمنلا عبد الْكَرِيم الكورانى نزيل دمشق وَقَرَأَ وَسمع عَلَيْهِ شرح العقائد النسفية للسعد التفتازانى وَشرح الطوالع للسَّيِّد الفنرى وَشرح منَازِل السائرين وَأَجَازَهُ بِمَا يجوز لَهُ رِوَايَته فى آخَرين وَلما ورد الْحَافِظ الاثرى أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المقرى الى دمشق فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف لَازمه وَحضر درسه فى شرح الهمزية لِابْنِ حجر فى أرجوزته الْمُسَمَّاة باضاءة الدجنة وَسمع عَلَيْهِ من صَحِيح البخارى قِطْعَة ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة مِنْهُ وَمن صَحِيح مُسلم وَقطعَة من الاربعين النووية وأرجوزته الْمَذْكُورَة وَأَجَازَهُ بسائرهن وَمَا تصح لَهُ وَعنهُ رِوَايَته وَلما رَحل الى دَار السلطنة صُحْبَة وَالِد مُسِنَّة أَرْبَعِينَ وَألف لَازم بهَا درس الشَّيْخ حُسَيْن بن عبد النبى الشعال الدمشقى وَلما حج فى سنة خمسين وَألف اجْتمع بمحدث مَكَّة المكرمة الشَّيْخ على بن عَلان وَقَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة من الشفا للقاضى عِيَاض وَأَجَازَهُ بِمَا يجوز لَهُ رِوَايَته وَكتب لَهُ خطه بذلك وَاجْتمعَ بمحدث الْمَدِينَة المنورة الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخيارى وَقَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة من أول صَحِيح البخارى وَأَجَازَهُ بسائرهن وَمَا يجوز لَهُ رِوَايَته وَأنْشد حِين ابتهج بمشارق أنوار طابه وألم بمزار من فضل الله تَعَالَى على كَافَّة الخليقة ترابه هَذِه الابيات
(حياك يَا طيبَة الغراء مبتكرا ... من الْحيَاء جزيل النَّفْع منسكب)(4/125)
(فلى بأفقك بدر كَامِل أبدا ... فى حبه مهجتى وَالروح أحتسب)
(بِهِ اعتصامى اذا مَا شفنى ألم ... بِهِ أغاث اذا حلت بى الكرب)
(بِهِ غنيت عَن الدُّنْيَا وزخرفها ... بِهِ توطد لى الاكناف والرتب)
(بِهِ فنيت جوى يَا حبذا تلفى ... وَالْحب مقترب والوصل مرتقب)
(عَلَيْهِ أزكى تحيات معطرة ... من نشره اذ اليه الْعرف ينتسب)
(مَا اخضر عَيْش محبيه بروضته ... وَقَامَ فِيهَا على الاقدام منتحب)
وَقَالَ أَيْضا ممتدحا بَاب السَّلَام على دَاخله السَّلَام
(حبذا بَاب السَّلَام اذا ... عاينته مقلة البادى)
(فِيهِ لى نشأة نشأت ... كَأَنَّمَا نوديت للنادى)
وَلما ورد لدمشق سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف الْمولى الشهَاب أَحْمد الخفاجى وَقد وَافق قدومه وُرُود الْورْد كتب لخدمته
(اذا حل مجد فى ديار تزينت ... بِأَحْسَن مَا تولى الرياض وَمَا تبدى)
(وَحَيْثُ اغتدى الْمولى الشهَاب بجلق ... فَلَا غر وَأَن تزهو بهَا بهجة الْورْد)
وتكرر سفرهالى دَار السلطنة ولازم على عَادَتهم ودرس ومدح مَشَايِخ الاسلام وصدور الدولة بقصائد فائقة فَمن ذَلِك مَا مدح بِهِ قاضى العساكر الرومية الْمولى أَحْمد الشهير بالمعيد
(أَبى الْقلب أَن يقوى على النَّار والصد ... وغصن الصِّبَا غض يمِيل الى الود)
(وَمَا كل تبريح يُطَاق احْتِمَاله ... وَلَا كل من تهوى تجنيه لَا يردى)
(وبى مائل فى مهجتى لَا اعتياض لى ... بِذَات وشاح عَن لقاه وَلَا برد)
(خميل الدمى عذب اللمى مونق الْحمى ... ظريف السمى غض النما مائس الْقد)
(جميل الْمحيا يخجل الشَّمْس ان بدا ... ضحى أَو مسا أزرى على الاغصن الْمَدّ)
(وان قَامَ حاكى السمهرى اعتداله ... وَيَا حبذا ان رنح الْعَطف بِالْقَصْدِ)
(مليح وشى النمام من فَوق خَدّه ... عذار تحاشى من سَطَا شَوْكَة الْورْد)
(غزانا بهتدى من اللحظ صارم ... فيا حسنه من فَارس فاتك نجدى)
(حكى شعره ليل التجافى بِطُولِهِ ... وأعقب خلفا بعد مَا جاد بالوعد)
(وألوى وَمَا ألوى على بزورة ... فيا حسرى غاض الوفا من ذوى الْعَهْد)
(وَلَكِن لى من فضل مولاى أَحْمد ... نتائج عقد فاح مِنْهَا شذا الند)(4/126)
وَكتب فى صدر كتاب لبَعض أحبابه قَوْله
(لقد هيج الْقلب التنائى وزادنى ... ولوعا فَهَل أقضى الليالى بعلما)
(وانى لراج للقا بعد بَعدنَا ... وَقد يجمع الله الشتيتين بعد مَا)
وَقَالَ يشكو فِرَاق بعض أحبابه
(كُنَّا ازدواجا فبنا ... والآن صرنا فُرَادَى)
(يَا فرقة قطعتنا ... وَمَا نَسِينَا الودادا)
وَقَالَ أَيْضا فى معنى قَول مهيلر
(أبكى ويبكى غير أَن الاسا ... دُمُوعه غير دموع الدَّلال)
مَا لَفظه
(يقْضى الدجى غير بمطلوبه ... وصلا وأقضيه بوعد محَال)
(أحيى وَيحيى اللَّيْل لكنما ... ليل التجافى غير ليل الْوِصَال)
وَكتب الى أَخِيه السَّيِّد حُسَيْن من دَار الْخلَافَة قَوْله
(كم من بعيد والقلوب دياره ... وَالْعين من طول المدى تختاره)
(يَا نازحين ولى بهم وجد على ... وجد تشعب حَيْثُ شبت ناره)
(رعيا لايام مضين وَنحن فى ... مرح التألف والهنا أقطاره)
(أَيَّام حنا الرياض ومرحنا ... فَوق الْحِيَاض وأسنا أقماره)
(وحديثنا النَّجْوَى يدار ألذ من ... كأس الْعقار تشعشعت أنواره)
(وخطابنا السحر الْحَلَال أسر من ... طيف الخيال اذا بَدَت أسراره)
(لله من عصر نضى لما مضى ... سيف العتو على الحشا تذكاره)
(عود فعود مدنفا فِيكُم قضى ... شرخ الشَّبَاب وَمَا انْقَضتْ أوطاره)
(وتعطفوا بحشاشة الصب الذى ... هجر السكرى وتواصلت أخطاره)
(وعساه يسعده بلطف شَامِل ... من وصلكم فعلى الْكَرِيم مَدَاره)
ثمَّ رَجَعَ الى الشَّام وَأقَام بهَا وَولى النِّيَابَة الْكُبْرَى بِدِمَشْق وقسمه الْعَسْكَر ودرس بالتقوية وَلما توفى وَالِده ولى مَكَانَهُ النقابة وانعقدت عَلَيْهِ صدارة الشَّام وهرعت لبابه الطّلبَة وأرباب الْحَاجَات ودام على الافادة والتحرير وَأَجَازَ فى الاستدعاآت وَألف التآليف الحسان المقبولة من ذَلِك حَاشِيَة على شرح الْخُلَاصَة لِابْنِ النَّاظِم شرع فى تأليفها من بَاب الِاسْتِثْنَاء مَعَ الدَّرْس والتحريرات على الْهِدَايَة مَعَ الدَّرْس من كتاب الطَّهَارَة الى أثْنَاء كتاب الصَّلَاة وَغير ذَلِك من الرسائل والتحريرات(4/127)
وانتفع بِهِ جمَاعَة وَمن أجل من أَخذ عَنهُ الامام الْهمام مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربى نزيل الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَشَيخنَا الشَّيْخ رَمَضَان بن مُوسَى بن عطيف وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو الْمَوَاهِب الحنبلى وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الحى العكرى وَغَيرهم وَكَانَت تصدر لَهُ مجَالِس تُؤثر عَنهُ وَيحدث عَن عظم وقعها فى النُّفُوس فَمن ذَلِك أَنه خرج يَوْمًا الى منتزه يسفر عَن محياه وينفتق عَن طيب رياه فقرئ بَين يَدَيْهِ مَا غنته نعم الْجَارِيَة بَين يَدي الْمَأْمُون وَهُوَ
(وَلَقَد أَخَذْتُم من فؤادى انسة أَنه ... لَا شل ربى كف ذَاك الْآخِذ)
(وَزَعَمت أَنى ظَالِم فهجرتنى ... ورميت فى قلبى بِسَهْم نَافِذ)
(وَنعم هجرتك فاغفرى وتجاوزى ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
(هَذَا مقَام فَتى أضرّ بِهِ الْهوى ... قرح الجفون بِحسن وَجهك لائذ)
قلت وقصة هَذِه الابيات ذكرهَا ابْن خلكان وَقَالَ انه استعادها الْمَأْمُون الصَّوْت ثَلَاث مَرَّات وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ اليزيدى فَقَالَ لَهُ يَا يزيدى أَيكُون شئ أحسن مِمَّا نَحن فِيهِ قَالَ قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مَا هُوَ فَقلت الشُّكْر لمن خولك هَذِه النعم الْعَظِيمَة الجليلة فَقَالَ أَحْسَنت وصدقت ووصلنى وَأمر بِمِائَة ألف دِرْهَم يتَصَدَّق بهَا فكانى أنظر الى الْبَدْر وَقد أخرجت وَالْمَال يفرق انْتهى فَلَمَّا قُرِئت أنْشد النَّقِيب صَاحب التَّرْجَمَة لنَفسِهِ مضمنا لمصراع هَذَا مقَام المستجير العائذ فَقَالَ
(نقل العذول بأننى أفنيت مَا ... أخْفى الْحفاظ من الغرام الواقذ)
(هبنى اقترفت لما افترى فاغفره لى ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَأنْشد أَيْضا قَوْله
(نبذا الخليط مودتى حَيْثُ العدا ... حولى يروعنى بهجر النابذ)
(فَسَأَلته الرجعى وَقلت دع القلى ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ أَشَارَ لاولاده وَمن فى مَجْلِسه من أحفاده بِأَن يضمن كل مِنْهُم هَذَا المصراع وينظم مَا يُنَاسِبه على وَجه الِاتِّبَاع وَمَا قَصده الاسبر قرائحهم واختبار سافلهم وراجحهم فَانْتدبَ وَلَده النّدب السَّيِّد عبد الرَّحْمَن فَقَالَ
(نبذا العهود مغاضبى فألم بى ... فى صُورَة الاشفاق طيف النابذ)
(فَسَأَلته أَن لَا يفوه بِمَا جرى ... فيحيله عَنى بقول نَافِذ)
(فَمضى ونم على فِيمَا قلته ... فاتى يهددنى بِسيف شاحذ)(4/128)
(رحماك قد صدق الخيال وانما ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ تَلا تلوه السَّيِّد عبد الْكَرِيم فَقَالَ
(هَب قادنى فِيك الغرام فَمَا الذى ... ألجاك تعذيبى بهجر واقذ)
(أضراعتى أم مَا افترته عواذلى ... عَنى اليك من الْكَلَام النَّافِذ)
(رحماك بِي لَا ترع غير مودتي ... وحفاظ ودي لاتكن بالنابذ)
(فلديك مِنْك بك استعذت وانه ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ أَيْضا
(ريم رنا نحوى بِطرف أدعج ... فاستل روحى من جَمِيع مآخذى)
(فطفقت أستعفى اللواحظ قَائِلا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ ثلث الثَّالِث السَّيِّد ابراهيم فَقَالَ
(قد أوسعت عَيناهُ قلبى أسهما ... ان غض عَنى هَذِه أصمى بذى)
(مَا فوقت الا وَقلت لسهمها ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ قَالَ شَيخنَا بركَة الْوُجُود الشَّيْخ عبد الْغنى النابلسى
(لاحظت خالا فَوق صفحة خَدّه ... متواريا خوف اللهيب النَّافِذ)
(فَسَأَلته مَاذَا الْمقَام فَقَالَ لى ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ اتَّصل بشيخنا الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الهادى فَقَالَ
(وافى الحبيب بِغَيْر وعد زَائِرًا ... يرنو بِطرف بالمجامع آخذ)
(أربى بسكر هوى وسكر مدامة ... حَتَّى اذا سدت على منافذى)
(ناديته حسبى فديتك زَائِرًا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ قَالَ شَيخنَا الشَّيْخ عبد الحى العكرى
(أنزلت آمالى بوادى مخصب ... وَحمى منيع نعم كَهْف اللائذ)
(فلذاك نادانى يقينى مُعْلنا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ الشَّيْخ زين الدّين البصروى
(وأغن فتاك اللواحظ ادعج ... يرْمى بنبل فى الْقُلُوب نوافذ)
(نادته أفلاذى وَقد فتكت بهَا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ شَيخنَا عبد الرَّحْمَن التاجى البعلى
(وَلَقَد وقفت على الطلول عَشِيَّة ... التوديع يَوْم الْبَين وَقْفَة لائذ)(4/129)
(فاستعبرت عيناى لما بَان من ... أَوْهَى بفرقته جَمِيع مآخذى)
(لَام العذول وَقد رآنى والها ... فأجبته خفض عَلَيْك منا بذى)
(لَو راعك الْبَين المشت عذرتى ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ الأمجد بن السّفر جلانى
(يَا آل بَيت الْمُصْطَفى شعرى حلا ... فِيكُم وَطَابَتْ بالمديح لذائذى)
(وافيتكم أبغى حماكم منشدا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد الذهبى
(يَا من اذا جَارِيَته فى مَسْلَك ... ألفيته قد سد طرق منافذى)
(أَهْون بمضناك الذى حيرته ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
ثمَّ بعد أَيَّام طلب تَضْمِينه من الامير المنجكى فَقَالَ
(بسوى حماكم لَا ترانى مقلة ... يَا من لَهُم ودى الْمُؤَكّد لائذى)
(فاذا وقفت ببابكم متذللا ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الموصلى
(عاهدته أَن لَا يمل وَقد رآى ... نبذ العهود فديته من نابذ)
(رد الصَّباح لناظرى بهجره ... لَيْلًا وسدد بالصدر منافذى)
(ناديته واليأس أَمْسَى ضَاحِكا ... وأنامل الآمال تَحت نواجذى)
(رفقا بقلب لَا يمِيل لغيركم ... هَذَا مقَام المستجير العائذ)
انْتهى وَمِمَّا يحْكى من مَكَارِم اخلاقه أَنه دَعَاهُ بَنو الاصفر أَعْيَان تجار الشَّام فَسقط قنديل مَمْلُوء زيتا على عِمَامَة صَاحب التَّرْجَمَة وفروته فاستشاط غيظا وحنقا فَأَنْشد بعض الادباء مُخَاطبا أَصْحَاب الدعْوَة بمسمع من صَاحب التردمة بيتى محيى الدّين بن عبد الظَّاهِر فى الْملك الاشرف لما نَازل عكا وهما
(يَا بنى الاصفر قد حلت بكم ... نقمة الله الَّتِى لَا تنفصل)
(نزل الاشرف فى ساحلكم ... فابشروا مِنْهُ بصفع مُتَّصِل)
فسرى عَنهُ الْغَضَب وتلافى الْمجْلس بِأَحْسَن تلاف وانهش قَالَ لى بعض الاخوان كَثِيرَة وَكَانَ مُضر ذَلِك الْمجْلس مَا رَأَيْته سرورة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد وَقعت على أشعار وَقد ذكر لى وَلَده الصَّغِير الْكَبِير الشان السَّيِّد الْفَاضِل ابراهيم انه جمع ديوانا لنَفسِهِ وَمِمَّا يلطف موقعه قَوْله فى الْغَزل(4/130)
(أمل لَيْسَ يقْضى فى تمنى ... نظرة تستفاد عِنْد التفاتك)
(لست أرضاك مُسْرِفًا فى تجنيك بِحَال وَالْحسن بعض صفاتك)
(لَك فى كل مهجة راضها الْحبّ هوى يستطاب فى مرضاتك ... )
(بقوام يملى على اذا مَال حَدِيث الرماح فى لفتاتك ... )
(ومحيا يرى ضئيل نحولى ... لعذولى وَالصُّبْح للسر هاتك)
(وسنا مبسم الى الرشد يهدى ... هائما ضل فى دجى مرسلاتك)
(يَا بديعا تحكى الرياض سجاياه أقل مهجتى شبا لحظاتك ... )
(أَنا من لَا يحيله فرط اعرا ... ضك عَن مَذْهَب الولا وحياتك)
(وعَلى مهجتى رَقِيب من الوجد أرى فى لقاه بهجة ذاتك ... )
(حسب قلب وناظر يتمنا ... ك بِأَن لَا يرى سوى حَسَنَاتك)
(ملح تسلب النهى ومزايا ... أَيهَا يُسْتَطَاع واللحظ فاتك)
وَله غير ذَلِك مِمَّا ذكرته فى كتابى النفحة وَكَانَت وِلَادَته فى غرَّة رَجَب سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَتوفى ختام صفر سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن لطف الله بن زَكَرِيَّاء بن بيرام الشهير بشيخ مُحَمَّد العربى أستاذى ومرجعى وملاذى عين الرّوم وعماد ملك بنى عُثْمَان وَصدر عُلَمَائهمْ وأوحد الْعَصْر فى الْعلم وَالْفضل وَسَائِر أدوات الرياسة والآخذ من الْآدَاب بالطرف القوى وَكَانَ اليه الاشارة فى الفصاحة والبراعة مَعَ حسن النّظم والنثر فى الالسن الثَّلَاثَة وجزالة الالفاظ وسلاستها الى براعة الْمعَانى ونفاستها وَقد جمع الله تَعَالَى لَهُ أدوات الْفَضَائِل وَلم يزل يتدرج الى المعالى حَتَّى بلغ مَا بلغ وازداد على الايام رونقا واتساقا ورياسة وَعزة وَاسْتقر فى الذرْوَة الْعَالِيَة من قَضَاء الْعَسْكَر ورياسة الْعلمَاء وَكَانَ مقصد الشُّعَرَاء من كل مَكَان لَا تزَال عطاياه وَارِدَة عَلَيْهِم واحساناته فائضة لديهم وَلَو جمع مَا مدح بِهِ من القصائد والمقاطيع لناف على ألف ورقة وَجمع من الْكتب مَا لَا يدْخل تَحت حصر حاصر وَلَا ضبط ضَابِط وَكَانَ مَعَ كَثْرَة تنوعها لَا يشذ عَن فكره شئ مِنْهَا برسومه كلهَا وَلَقَد شاهدت مِنْهُ غَرِيبَة وهى انه افْتقدَ يَوْمًا ملحمة دانيال فَأمر حَافظ كتبه أَن يخرج الرسائل الْمُتَعَلّقَة بالعلوم الرياضية فاستمر الْحَافِظ وَالْفَقِير مَعَه ثَلَاثَة أَيَّام فى مُرَاجعَة هَذِه الرسائل وظفرنا(4/131)
من الملحمة بنسخ مُتعَدِّدَة وَكَانَت النُّسْخَة الَّتِى أرادها لم تخرج بعد فَكَانَ يشخصها بأسطرها وورقها ثمَّ ظفرنا بهَا على طبق مَا شخصها وَكَانَ من الذكاء فى مرتبَة لم تسمع عَن أحد حَتَّى انه جَاءَهُ يَوْمًا رجل بأسطرلاب عَلَيْهِ كِتَابَة لِسَان الارمنى وَكَانَ عرضه على اناس مِمَّن يعرف ذَلِك اللِّسَان فَلم يستخرجوا الْكِتَابَة وَكَانَ الاستاذ صَاحب التَّرْجَمَة لم يعرف مصطلح كِتَابَة الارمنى فاستملى من شخص نصرانى مقطعات حُرُوفه وَمَا زَالَ يعْمل فكرته حَتَّى استخرج الْكِتَابَة بِقُوَّة رَأْيه وَسلمهَا لَهُ أَرْبَاب ذَلِك اللِّسَان وَكَانَت الْكِتَابَة تَارِيخ عمل الاسطرلاب وَله من هَذِه الخوارق فى الحدس أَشْيَاء كَثِيرَة ولد بغلبه وَتقدم أَن وَالِده ولى قضاءها مُدَّة خمس وَأَرْبَعين سنة وَتوفى أَبوهُ وَهُوَ ابْن سبع سِنِين فَأحْضرهُ اليه عَمه شيخ الاسلام يحيى وتقيد بِحِفْظ هَذَا الدّرّ الْيَتِيم وَكَانَ عِنْده وَعند زَوجته أعز من كل أحد فانهما مَا رزقا ولدا وَكَانَ عَمه يطْلب لَهُ الدُّعَاء من كل من يدْخل اليه وَيرد من أهالى الْبِلَاد عَلَيْهِ لَا سِيمَا من أهالى الْحَرَمَيْنِ الشريفين ثمَّ شرع فى الِاشْتِغَال فَقَرَأَ أَولا على الاستاذ السَّيِّد مُحَمَّد نزيل قسطنطينية ثمَّ على حَامِد بن مصطفى الاقسرابى وعَلى الْعَلامَة أَحْمد الشهير بدرس عَام وعَلى الْمولى حسن الطَّوِيل قاضى الْعَسْكَر باناطولى رُتْبَة ثمَّ لزم الْمولى مُحَمَّد الكردى الشهير بمنلا حلبى وعَلى الملا عبد الله وَتخرج فى الادب على عَمه سُلْطَان الْعلمَاء وَالشعرَاء وَكَانَ فى عنفوان عمره يعرض عَلَيْهِ لطائف أشعاره فيصلح مَا فِيهَا وتخلص أَولا بشيخى ثمَّ بعزتى واشتهر كَمَاله من حِين كَانَ ولدا وَكَانَ السُّلْطَان مُرَاد يسْأَل عَمه عَنهُ كثيرا وَيُرْسل لَهُ العطايا الطائلة وَلَقَد ذكر والدى بوأه الله تَعَالَى فسيح جنانه انه استدعاه السُّلْطَان مُرَاد وَأَعْطَاهُ فى يَده بعض دَنَانِير فَفَاضَتْ عَن يَده وَسقط مِنْهَا الى الارض جَانب فَلم يلْتَفت الى مَا سقط فَعجب السُّلْطَان من نزاهته ثمَّ لَازم على دأبهم من السُّلْطَان ابراهيم فى أَوَائِل شَوَّال سنة احدى وَخمسين وَمَات عَمه بعد ذَلِك فاستقر فى دَاره وانضمت اليه حواشى عَمه من الصُّدُور وَحكى أَنه لما عَاد من جَنَازَة عَمه الى دَاره وَمَعَهُ حفدة عَمه صحبهم السَّيِّد مُحَمَّد نقيب الاشراف فَلَمَّا أَتَوا الدَّار أَخذ المخدوم صَاحب التَّرْجَمَة الى صَدره وضمه وَقبل رَأسه وَأَجْلسهُ مَكَان عَمه وكساه الله تَعَالَى فى ذَلِك الْوَقْت ثوب الْوَقار والسكون والهيبة وَكَانَ عمره يَوْمئِذٍ ثَمَان عشرَة سنة فَأَقَامَ بدار عَمه وَورثه وحفته جمَاعَة عَمه كالمولى مُحَمَّد عصمتى وَالْمولى مُحَمَّد العجمى ثمَّ اتَّصل بكريمة(4/132)
شيخ الاسلام أَبى سعيد فَأقبل عَلَيْهِ وصيره كَأحد أَوْلَاده فى الْمحبَّة والحنو وَوجه اليه ابْتِدَاء مدرسة عَمه برتبة موصلة الصحن ثمَّ نَقله الى احدى الثمان وَمِنْهَا درس بمدرسة أسماخان بنت السُّلْطَان سُلَيْمَان وَنقل مِنْهَا الى دَار الحَدِيث وَأعْطى مِنْهَا قَضَاء الشأم وَكَانَ ذَلِك فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وأرخ قَضَاءَهُ عبد الْبر الفيومى بقوله للشام عز وَشرف وَقدم اليها نَهَار الْجُمُعَة عشرى رَجَب من تِلْكَ السّنة وسلك طَرِيقا محمودة مَعَ الْوَقار والعفة وَكتب اليه والدى هَذِه القصيدة يمدحه بهَا وهى
(صبح الْوِصَال بدا عموده ... والدهر قد صدقت وَعوده)
(وَالرَّوْض أضحى باسما ... لمسرتى واخضر عوده)
( ... وتضوعت أنواره ... بمناى اذ وَردت وُرُوده)
(قد صَاح فِيهِ العندليب ... وفاح فى الْآفَاق عوده)
(من منصفى من شادن ... فى الْحبّ قادتنى قيوده)
(ملك تحكم فى الورى ... وَقُلُوبهمْ طَوْعًا جُنُوده)
(رقت معاطف خصره ... فتحيرت فِيهَا بنوده)
(ان رمت معنى الْحسن مِنْهُ عَلَيْك تمليه خدوده ... )
(وعَلى الْحَقِيقَة مَاله ... من مشبه لَوْلَا صدوده)
(نشوان من خمر الدَّلال عَلَيْهِ مَا قَامَت حُدُوده ... )
(مَا زلت أخْشَى بعده ... فعلى اذ وفدت وفوده)
(والصب من نَار الغرام فُؤَاده فِيهَا خلوده ... )
(وعَلى مياه خدوده ... ورياضها أبدا وُرُوده)
(رق العذول لحاله ... يَوْم النَّوَى وَكَذَا حسوده)
(وافى خيال خياله ... فَأتى لمضناه يعودهُ)
(فلك المسرة والمنى ... نحوى لقد دارت سعوده)
(بقدوم مولى الشَّام من ... أمْلى من الدُّنْيَا وجوده)
(قد حَاز رقى بالولا ... ولرق أجدادى جدوده)
(من ذَا يضاهى مجده ... لاسؤدد الا يسوده)(4/133)
(مَا الْمجد الا مجده ... فاليه قد خضعت أسوده)
(قاضى عَدَالَته غدن ... كل الانام بهَا شُهُوده)
(ملئت ملابسه حَيا ... وَمن التقى نسجت بروده)
(فى الْعلم طود والتوا ... ضع مُفْرد وَالْبَحْر جوده)
(أبقاه ربى ملْجأ ... أبدا وللعليا صُعُوده)
ثمَّ نقل مِنْهَا الى مصر فى غرَّة رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ ثمَّ عزل وَتَوَلَّى قَضَاء بروسه ثمَّ أعْطى رُتْبَة قَضَاء أدرنه ثمَّ صَار قَاضِيا بدار السلطنة فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَاسْتمرّ بهَا قَاضِيا سَبْعَة عشر شهرا وصل اليه والدى فى أثْنَاء قَضَائِهِ فَوجه اليه نِيَابَة أخى جلبى وأجزل عَلَيْهِ نعمه الدارة قَالَ والدى وَوجدت مِنْهُ أَبَا شفيقاً وأخا بارا شقيقا فنظم أمرى واغتنم شكرى وأجرى ورعى فى معروفه مَعْرُوف اسلافه لاسلافى وَجعل السُّعُود فى جَمِيع الْمَقَاصِد من أخلافى بانيا كَمَا بنوا وبادياً من حَيْثُ انْتَهوا فغدت وَحْشَة اغترابى بخدمته انسا وألسن شكرى لاياديه وَنشر مساعيه خرسا وَكنت أرى من فَضله وبديع بديهته وصفاء قريحته ولطف طَبِيعَته واشاراته الذوقيه ومحاضراته الادبيه مَا يبهر الْعُيُون ويحقق الظنون الى مَا حواه من كرم الشمايل والاحتشام والمحاسن الموفرة الانواع والاقسام فَمَا أنْكرت طرفا من أخلاقه وأقواله وَمَا شاهدت الا مجدا وشرفا من أَحْوَاله
(واذا نظرت الى أميرى زادنى ... ضنابة نظرى الى الامراء)
فَلَو صرفت أَوْقَات عمرى وتشرعت بِجَمِيعِ مَذَاهِب الثَّنَاء وَالدُّعَاء لَهُ طول دهرى لما كنت الا فى كَمَال التَّقْصِير ومعترفا بِالْعَجزِ الْكثير وَمِمَّا شنف سمعى بِهِ فى أثْنَاء المذاكره أَيَّام تشرفى فى مجالسة الزاهية الزاهره قَوْله من ربَاعِية أنشدنيها
(ناديت أحبتى لاجل السلوى ... والدهر رسوم ربعهم قد سوى)
(بالنوحة جدت فى المغانى حَتَّى ... قد ساعدنى على بكائى رضوى)
فَأَنْشَدته بديهة على طَرِيق الْمُعَارضَة وهى
(يَا من بعدوا وأورثونى الْبلوى ... أبدى لكم من الْفِرَاق الشكوى)
(أَصبَحت وحبكم عميدا دنفا ... من بعدكم رق لحالى رضوى)
وأنشدنى بعد أَيَّام قَوْله أَيْضا(4/134)
(يسبى الْعُقُول بلحظه فَكَأَنَّمَا ... سقيت سيوف جفونه بسلاف)
(سيفيه صَاد الْقُلُوب بنظرة ... من بَين نقل قوادم الخطاف)
فَأَنْشَدته
(رشأ رَقِيق الْقد والاعطاف ... لم يخْش صارم لحظه اتلافى)
(خطف الْفُؤَاد بنظرة من لحظه ... لما رآنى انقض كالخطاف)
ثمَّ فارقته عَازِمًا على الرحلة الى الوطن وأنشدته حَالَة التوديع هَذَا
(ان سَار عَبدك ظَاعِنًا ... فى النَّاس أَو أضحى مُقيما)
(فَهُوَ الذى لحماكمو ... مَا زَالَ فى الدُّنْيَا خديما)
انْتهى ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بانأطولى فى ثامن عشر الْمحرم سنة تسع وَسبعين وَكَانَ وَهُوَ قَاض بِدِمَشْق وعد أَبى بملازمة لى فَأحْسن بهَا وأرسلها من مَدِينَة يسكى شهر وَكَانَ توجه اليها فى خدمَة السُّلْطَان مُحَمَّد وَأرْسل الى مَعهَا مدرسة لامعى فى بروسه بِخمْس وَعشْرين عثمانيا ثمَّ نقل الى قَضَاء عَسْكَر روم ايلى وَأرْسل الى مدسة خوجه خير الدّين بِثَلَاثِينَ عثمانيا ثمَّ عزل عَن قَضَاء الْعَسْكَر وَقدم الى دَار السلطنة فانزوى فى دَاره وَاسْتمرّ مُدَّة لَا يخرج الا فى يَوْم الثلاثا وَيَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ اذا خرج فى هذَيْن الْيَوْمَيْنِ تواردت عَلَيْهِ الافاضل من كل نَاحيَة وجبيت اليه أنفس البضائع من الْفُنُون فَلَا تمر لَحْظَة من ذَلِك الْمجْلس الا فى مذاكرة ومطارحة وَلما وصلت الى قسطنطينية فى سنة سبع وَثَمَانِينَ رَأَيْته فى تِلْكَ الْحَالة وحضرته فَوَجَدته محط رحال الْفُضَلَاء ومقصد الادباء وَالشعرَاء فَدخلت الى مَجْلِسه وأنشدته هَذِه الابيات وهى
(دنا الركب من حى تقادم عَهده ... وهيج فِيهِ الْقلب وجد يجده)
(دَعَتْهُ الى الشكوى معالم انسه ... وَلَكِن أسرار الغرام تصده)
(بنفسى من جرعائه كل شادن ... تملك منى حَبَّة الْقلب وده)
(من الصَّيْد يرنو لحظه عَن مهند ... يفْسد قُلُوب الدارعين فرنده)
(أرد عيونى عَنهُ خيفة كاشح ... وَهل يمْنَع الصادى عَن المَاء رده)
(سقانى مداما رق فى اللطف جرمها ... فشف بهَا عَن أَحْمَر الْورْد خَدّه)
(سلافا يصير الصُّبْح فى كشفه لنا ... قناع الدجى مِنْهُ سنا يستمده)
(وَقد بسطت فى الرَّوْض كف بَيْعه ... نَسِيج نوار حيك كالوشى برده)(4/135)
(أَقَمْنَا بِهِ نملى حَدِيث صبَابَة ... الى الْعُمر اشهى من شباب يوده)
(الى أَن دعانى للوداع فهاج بى ... خفى سعير يظْهر البث وقده)
(وقفت وطرفى لَا أردد دمعه ... وَقد كنت حينا للفراق أعده)
(وطار بى الغى المشت فى كل منهل ... فؤاد بحى يصحب الْحبّ رشده)
(أنهنه طرف الشوق فى كل منهل ... يكَاد الفضا يبدى وَلم يبد ورده)
(وعزمى يَقُود الشوق منى عنانه ... لربع جواد يمْلَأ الدَّهْر رفده)
(أَخُو عَزمَات لَا يفل جسامها ... وَعند مضاها يجل السَّيْف حَده)
(يفوت احْتِمَال الْمَرْء أول عَفوه ... وَقد جَاوز الْمَقْدُور فى السعى جهده)
(اذا أشرقت شمس العلى عَن جَبينه ... فطلعها يستخدم الدَّهْر سعده)
(يروق بِهِ غُصْن من الْحَمد يَانِع ... ويعبق من نشر الثنا فِيهِ رنده)
( ... فَلَا تعثر اللحظان دون مقَامه ... بِغَيْر منال يقْدَح الْعِزّ زنده)
(بِمَا تستجد المزن وضاير وقه ... وَمن فيض يمناه المنى يستجده)
(أدر على الايام سيا تَفَجَّرَتْ ... ينابيع حَتَّى الصخر أعشب صلده)
(وَلم يبْق للمقدار غير تعلة ... يسير بهَا من قَارن الْيمن كده)
(فيا من يرينى من نداه أمانيا ... يسالمنى فِيهَا من الدَّهْر وغده)
(رعى الامل الغادى اليك انسيابه ... فَكَانَ الى صوب المجرة قَصده)
(وشام لديك الْبَحْر فى صُورَة الحجا ... يفِيض علينا من هباتك مده)
(فَلَا تنتهى فى يَوْمنَا لَك نعْمَة ... كَمَا انه لَا ينتهى فِيك حَمده)
وَكَانَت الامراض قد أثرت فِيهِ تَأْثِير بَالغا وأحناه الضعْف حَتَّى صَار كالقوس وَكَانَ لَا يقدر على الْحَرَكَة الا بِمَشَقَّة عَظِيمَة وَكَانَت النزلات تعتريه فى دماغه وفى الشتَاء يجلس فى مَكَان صَغِير وَيكون عِنْده منقل كَبِير يكون عَلَيْهِ من الفحم وَالنَّار شئ كثير وَكَذَا فى الموقد كثير من الْحَطب وَعَلِيهِ الثِّيَاب الْكَثِيرَة وَتَحْته الطرحة الوثيرة بِحَيْثُ انه يُوجد الْحر وَالْكرب وَهُوَ مرتاح ثمَّ ولى ثَانِيًا قَضَاء روم ايلى وازدانت بِهِ الدولة وَأَقْبل عَلَيْهِ السُّلْطَان مُحَمَّد اقبالا زَائِدا وَكَانَ يطْلب الِاجْتِمَاع بِهِ وَطلب أَن يضيفه فى بستانه الذى باستبه فأضافه فَلَمَّا تمّ الْمجْلس ألبسهُ السُّلْطَان فَرْوَة من السمور ثمَّ عزل فَقلت أسليه بِهَذِهِ القصيدة
(ضرب الْغَمَام مضاربا من عنبر ... ملئت خزائنها بأنفس احور)(4/136)
(والارض ترفل فى مطارف سندس ... كالخود فى حلل الْحَرِير الاخضر)
(وَالرَّوْض معتل النسيم كَأَنَّهُ ... دَار النَّعيم وماؤه كالكوثر)
(فَاشْرَبْ على ورد الخدود مَعَ الربى ... رَاح الزجاجة والرضاب الْمُسكر)
(وانهب زمَان اللَّهْو قبل فَوَاته ... فالعيش لَيْسَ بدائم لمعمر)
(والدهر أغدر من أضب فانه ... يصمى الْفَتى من حَيْثُ مَا لم يحذر)
(وَلَقَد عرفت بنيه معرفتى بِهِ ... فعجبت من حَظّ اللبيب الْمُدبر)
(وَالنَّاس أميل مَا رَأَيْت الى الْغنى ... فيكاد يعبد كل عبد مُوسر)
(ولرب ذى فضل يواصل ليله ... طيا وَجَهل فى النَّعيم الاوفر)
(لَا سامح الله الزَّمَان فانه ... من شَأْنه تَقْدِيم كل مؤحر)
(والنذل أَضْعَف مَا يرى مُتَقَدما ... كتقدم الْمَعْمُول قبل الْمصدر)
(وَالنَّدْب أجمل مَا يكون مُجَردا ... كالعضب لَيْسَ قدما لم يشهر)
(واذا الضمائر فى الْمَرَاتِب قدمت ... وتظاهرت حسن اختفاء الْمظهر)
(مَا خص ذُو الْجَهْل الدنى برتبة ... الا كَمَا خص الختام بختصر)
(والمرء أتعب مَا ترَاهُ اذا ابْتغى ... خطرا وليل حظوظه لم يقمر)
(كالمدح أضيع مَا يكون اذا جرى ... فى غير روح الْكَوْن قاضى الْعَسْكَر)
(عَلامَة الدُّنْيَا وَخير مقدم ... هُوَ فى الصُّدُور كتبع فى حمير)
(قلب الْوُجُود العزتى مُحَمَّد ... ذُو الْوَجْه وَالْفِعْل الْجَمِيل الازهر)
(وتر الْكَمَال فَمن رأى أهل العلى ... وأضله أَمْسَى كمن لم يُوتر)
(متواضع للسائلين وَرُبمَا ... يسمو تكبره على المتكبر)
(بِالْعَدْلِ تقطر نعْمَة أَيَّامه ... للمهتدين ونقمة للفجر)
(لَو كَانَ يطْلب قدره لم يرضه ... الا الاسرة أَو مراقى الْمِنْبَر)
(مولى اذا بخل الْغَمَام أَفَاضَ من ... يمناه بالنقدين خَمْسَة أشهر)
(يعْطى على الْحَالين قدرَة ملكه ... ويريك عذر المذنب المستغفر)
(لَا شئ أكْرم مِنْهُ الا جائد ... كرما بِهِ والجود أشرف مخبر)
(تبع الافاضل والا ماجد رَأْيه ... ان الْقَلِيل لتابع للاكثر)
(قَامَت فضائلهم بِهِ فَكَأَنَّهَا ... عرض وجوهر ذَاته كالجوهر)
(من قاسهم جودا بِهِ فَكَأَنَّمَا ... قَاس الجداول جَاهِلا بالابحر)(4/137)
(نسخت مكارمه أَحَادِيث الألى ... سَبَقُوهُ من معن الْجواد وجعفر)
(وَلَئِن تَأَخّر عصره عَنْهُم فَمَا ... هُوَ فى سَبِيل الْمجد بالمتأخر)
(لَيْسَ الزَّمَان بِمُوجب تَفْضِيلهمْ ... فَسَمِّيهِ الْمُخْتَار آخر مُنْذر)
(والطل قبل الوبل والاسفار من ... قبل الضُّحَى والخلد بعد الْمَحْشَر)
(وتجئ فذلكة الْحساب أخيرة ... لتَكون جَامِعَة العديد الاوفر)
(وَاضْرِبْ لَهُم مثلا مَنَاقِب ماجد ... محصورة لمناقب لم تحصر)
(يأيها الْمولى الْعَظِيم وَخير من ... ورث السياد قسورا عَن قسور)
(خُذْهَا بديعة بَابهَا وضاحة ... رقت فرق لَهَا قريض البحترى)
(واستجلها بكرا قبولك مهرهَا ... وَالْبكْر لَيْسَ تحل مَا لم تمهر)
(فَلَانَتْ أهل الْمَدْح دمت لاهله ... مَا بيع الا كنت أَنْت الْمُشْتَرى)
(لَا زلت فى أوج السَّعَادَة راقيا ... ومقامك الْمَحْمُود فَوق الْمُشْتَرى)
(مَا حجك الراجى وبابك قبْلَة ... بقلائد فضحت صِحَاح الجوهرى)
فألبسنى من حلله جوخة بنفسجية اللَّوْن ركب فِيهَا فَرْوَة من النافة فَقلت هَذِه القصيدة أمدحه بهَا ومستهلها قولى
(شَأْن الموله أَن يعِيش متيما ... وَالْحب مَا منع الْقَرار المغرما)
(هُوَ مَا علمت غرام صب دمعه ... مَا زَالَ يظْهر سره المتكتما)
(لَو شَاءَ من أضناه فرط هجيره ... رد الْحَيَاة لجسمه متكرما)
(واذا الصبابة خامرت قلب امْرِئ ... وجد الشِّفَاء من الحبيب تنعما)
(ولرب مغبر الاديم قطعته ... من فَوق مبيض القوائم أدهما)
(لَا تَسْتَطِيع الشَّمْس توسم ظله ... فاذا مَشى سبق الْقَضَاء المبرما)
( ... وَاللَّيْل بَحر قد تدافع موجه ... وَترى الْكَوَاكِب فِيهِ تسرى عوما)
(وَكَأن وَجه الافق مُنْقد فضَّة ... والبدر تحسبه عَلَيْهِ درهما)
(وكأنما المريخ شعلة قابس ... أَو رَأس نصل خضبته يَد دَمًا)
(أسرى وشخصك لَا يزَال مسامرى ... وَأرى التصبر عَنْك مرا علقما)
(يَا آفَة الارواح مَا ألهاك عَن ... دنف لذكر هَوَاك يهوى اللوما)
(لله عهد كنت بدر ضيائه ... أَيَّام نلقى كل وَقت موسما)
(فى رَوْضَة لبست رِدَاء زمرد ... صبغت حَوَاشِيه الشقائق عِنْدَمَا)(4/138)
(وَكَأن أجياد الغصون كواعب ... أظهرن عقدا فى النحور منظما)
(لَا تسمع الآذان فى ارجائها ... الا هدير هزارها مترنما)
(وشربتها صهباء من يَد شادن ... فضحت محاسنه الغزار الانجما)
(نادمته والراح يعْطف عطفه ... كالغصن جاذبه النسيم فهيما)
(فهصرت قدا كالقضيب ومعطفا ... ولثمت خدا كالاقاح ومبسما)
(مهلا فلست بِمن تقود عنانه ... الا الصبابة منجدا أَو مُتَّهمًا)
(وأظن لى فى الدَّهْر حظا كامنا ... كالنار أودعت الزِّنَاد الابكما)
(مالى وللايام أبغى مِنْهَا ... والى جناب العزتى لى انتما)
(عَلامَة الثقلَيْن أفضل ماجد ... حلف الزَّمَان بِمثلِهِ لن ينعما)
(مولى اذا ظلم الزَّمَان فَمَا ترى ... الا الى عزماته متظلما)
(جارى الْمُلُوك الى مقامات العلى ... فتأخروا عَنهُ وَكَانَ مقدما)
(لَو مد راحنه لثغر مقبل ... أنف الثريا أَن تكون لَهَا فَمَا)
(أَو تنطق الدُّنْيَا بمدحة ماجد ... نطق الزَّمَان بمدحه وتكلما)
(دعواته تجلو الكروب وعزمه ... لَو يلتقيه الْمَوْت مَاتَ توهما)
(وَلَو استجار بِهِ النَّهَار من الدجى ... لم تبصر الاحداق شَيْئا مظلما)
(قد حكم الْمَعْرُوف فى أَمْوَاله ... والرعب فى أعدائه فتحكما)
(يعْطى الالوف سماحة متكتما ... والجود لَيْسَ بممكن أَن يكتما)
(وَمَتى تَخَيَّلت القرائح مدحه ... سبقت جوائزه القريض تكرما)
(متوقد كالبدر لَيْلَة تمه ... فاذا تحرّك للعطاء تبسما)
(ملئ الزَّمَان مهابة من عدله ... حَتَّى أَخَاف الظبى مِنْهُ الضيغما)
(وسرت لَهُ سير معطرة الربى ... فَكَأَنَّمَا كَانَت صبا متنسما)
(يَا من نلوذ من الزَّمَان بِبَابِهِ ... ونرى نداه لما نؤمل مغنما)
(مَاذَا نقُول سموت عَن أفهامنا ... حَتَّى اسْتَوَت فِيك الْبَريَّة أعجما)
(لله أنعمك الَّتِى من بَعْضهَا ... لم تبْق فى الدُّنْيَا فَقِيرا معدما)
(وخصا لَك الزهر الَّتِى لم يرضها ... أَن تجتلى قمم الْمَرَاتِب أنجما)
(ألبستنى نعما رَأَيْت بهَا الدجى ... صبحا وَكنت أرى صباحى مظلما)
(فَبَقيت يحسدنى الصّديق وَقبلهَا ... كَانَ الْعَدو يمر بى مترحما)(4/139)
(مَا عذر من شرفته بفضيلة ... أَن لَا ينَال بهَا السها والمرزما)
(هَيْهَات لست بِشَاهِد جود امْرِئ ... من بعد مَا عَايَنت جودك منعما)
(فاليكها زهراء ذَات بلاغة ... لَو رامها قس لاصبح أبكما)
(من كل بَيت لَو تجسم لَفظه ... لرأيته شيا عَلَيْك منمنما)
(وتهن بِالْعَام الْجَدِيد ممتعا ... بسعادة رحب الجناب مُعظما)
(واسلم لنشر فَضِيلَة مَعْلُومَة ... لولاك طَال على الملا أَن تعلما)
(ان العلى بدئت بذكرك مثل مَا ... آلت بغيرك فى الورى لن تختما)
وكتبت اليه أستدفع بِهِ مَا نابنى من سلوك طَرِيق الْقَضَاء وأرجوه فى تخليصى من هَذِه الورطة قبل أَن أتولى منصبا وَأَن يشفع لى بالملازمة لباب شيخ الاسلام على مدرسة فى الرّوم فَقلت
(باكر الحانة والكاس تدار ... فشباب الْعُمر ثوب مستعار)
(هَذِه الارض اكتست أزهارها ... مَا على من يغنم اللَّذَّات عَار)
(وَكَأن الرَّوْض وشى فاخر ... نقشه آس وَورد وبهار)
(ان سرت فى سرحه ريح الصِّبَا ... فَضَح العنبر رند وعرار)
(وَكَأن المزن تبر كنزه ... درة بَيْضَاء وَالْمَاء نضار)
(فتقت كف الغوادى جيبها ... فهمى مِنْهَا على الدوح نثار)
(يَا رفيقاى دعانى والهوى ... انما الصبوة للصب شعار)
(كنت أخْفى محنة فى خلدى ... لَو يكن للقلب فى الْعِشْق اختبار)
(من يبت ولهان فى حب الظبا ... خانه الْقلب فى الْعِشْق اخْتِيَار)
( ... يعذب الهجر لمن يعرفهُ ... وبمطل الغيد يحلو الِانْتِظَار)
(انما نشوان أحداق المهى ... صحوه من سكرة الْعِشْق خمار)
(يَا سقى موطن لهوى بالحمى ... أدمعى ان سحت السحب الغزار)
(كم لَيَال فِيهِ قد قضيتها ... وَمن الايام حُلْو مرار)
(فانقضت أسْرع من سهم القضا ... يَا ابْن ودى لَيْسَ للعيش قَرَار)
(وحبِيب بَات زندى طوقه ... والمنى ثالثنا والحظ جَار)
(قمر يحسده الْبَدْر اذا ... لَاحَ والغصن مَتى مَال يغار)
(قد نأى لَكِن عَن الْعين وَكم ... نَازع الدَّار لَهُ الْقلب ديار)(4/140)
(أى نفع فى اقتراب الْجِسْم ان ... بعد الْقلب وَمَا يغنى الْجوَار)
(هَكَذَا تفعل أَحْكَام الْهوى ... فى بنى الْعِشْق وللدهر الْخِيَار)
(ينقضى الْعُمر ومالى مسعف ... وَمن الضيم مصيح لَا يجار)
(هَذِه حالى وان طَال المدى ... وَاعْتِبَار الْحَال للمرء اختبار)
(غير أَن الْحِرْص غلاب النهى ... والمنى منهى اخْتِيَار واضطراب)
(لَا أَذمّ الدَّهْر حاشاى ولى ... أنعم الْمولى عَن الذَّنب اعتذار)
(كعبة الآمال والركن الذى ... كل مجد من علاهُ يستعار)
(ماجد قد صيرت آلاؤه ... كل مجد من علاهُ يستعار)
(جمعت فِيهِ المعالى والتقى ... وَله الْعِزَّة خيم وَالْوَقار)
(قد جلا خطب الليالى عزمه ... مثل مَا يجلو دجى اللَّيْل وَالنَّهَار)
(لَو يكن للبحر أدنى بره ... لم يلح للعين بر وقفار)
(وحماه ملتقى عيشى المنى ... لَا سواهُ للندى مأوى وَدَار)
(روض فضل نجتلى من جوده ... وَكَذَا تجنى من الرَّوْض الثِّمَار)
(يغْفر الذَّنب وَلَو جلّ وَقد ... يحسن الامران عَفْو واقتدار)
(واذا نَاب امْر أجهد القضا ... فالى سدته مِنْهُ الْفِرَار)
(أَيهَا الاستاذ وَالْبَحْر الذى ... غرفت من فيض كفيه الْبحار)
(أَنْت من لولاه مَا كَانَ لنا ... ملْجأ يُرْجَى وكهف يستجار)
(لَك أنهى نوبا من بعضهما ... يذهل اللب وَذُو الْعقل يحار)
(حل بى الشيب فأفنى رونقى ... وكذاك الْبَدْر يعلوه السرَار)
(فأغثنى من كروب فى الحشا ... حرق مِنْهَا وفى الطّرف انكسار)
(وتمتع بقواف كربى ... ضَاحِك النُّور بهَا الجلنار)
(بدع قد أشربت ألفاظها ... ريقة المبسم وَالْخمر الْعقار)
(كخدود الغيد تحمر حَيا ... واذا شِئْت كَمَا اخضر العذار)
(أَنا حسان القوافى فاذا ... فهت طَابَ الْعشْر وارتاح الفخار)
(واذا غنتك أطيار الثنا ... فَأَنا من بَينهَا وحدى الهزار)
(لَيْسَ لى مَال وَلَكِن كلمى ... عسجد ينْحل درا ونضار)
(لم أقل طَالَتْ واطناب الورى ... فى معاليك مدى الدَّهْر اخْتِصَار)(4/141)
(فابق أَعلَى النَّاس جاها وندى ... والى مجدك بالعز يشار)
(لَك أهنى عيشة تختارها ... وَلَا عداك البلايا والدمار)
وَكَانَت وِلَادَته فى صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوفى نَهَار الاحد ثَالِث عشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَدفن بمدرسة جده شيخ الاسلام زَكَرِيَّاء مِمَّا يلى عَمه شيخ الاسلام يحيى وَلم أقِم بعد وَفَاته بالروم الا يَوْمًا وَاحِدًا ورحلت الى دمشق وَأَنا الْآن أليف حزنه وكئيب مصابه انْتهى
مُحَمَّد بن مبارك باكراع الحضرمى محتدا المدنى الاديب الشَّاعِر ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى حَقه أديب مستعذب الْمَوَارِد ومقتنص الاوابد والشوارد الى أدب سَنَد حَدِيثه مسلسل وعتيق رحيقه سلسل ومحاضرة تنسى مَعهَا محاضرات الرَّاغِب ومحاورة يوسى باسترواحها اللاغب ونظم نظم بِهِ عُقُود الجمان وقلد بفرائده نحر الْعَصْر وجيد الزَّمَان فَمِنْهُ مَا كتبه الى القاضى تَاج الدّين مهنئا لَهُ بزيارة النبى
(أاكليل رَأس الْمجد وَالْفضل والتقى ... وسابق شأوالسعد والعز والبها)
(وعلامة الْعَصْر الشريف وفخره ... وفهامة الاعلام مرجع ذى النهى)
(وَمن عقد الاجماع وَالله شَاهد ... على فَضله عقلا ونقلا أودها)
(فدمت بِحَمْد الله تاجا لدينِهِ ... ودمت بشكر الله فى جبهة السهى)
(وزرت رَسُول الله وَالْحَال منشد ... هَنِيئًا مريئا نَالَ فضل مَا اشْتهى)
فَأَجَابَهُ
(أيا من حوى الافضال وَالْفضل والنهى ... وَحَازَ التقى وَالدّين وَالْحسن والبها)
(وَأصْبح فَردا فى الْكَمَال كَأَنَّمَا ... تصور فى تكوينه مثل مَا اشْتهى)
(تطولت لما ان بعثت برقعة ... اذا مَا حَكَاهَا الرَّوْض قيل تشبها)
(وكللت تاجى من جواهرك الَّتِى ... تَعَالَى بهَا قدرا على مفرق السهى)
(ودمت وَلَا زَالَت صفاتك كلما ... تَلَاهَا محب زَاد فِيك تولها)
الْبَيْت الثانى ينظر الى قَول الْقَائِل فى حق خير الكائنات
(خلقت مبرأ من كل عيب ... كَأَنَّك قد خلقت كَمَا تشَاء)
قَالَ وَرَأَيْت الْوَالِد مَا نَصه من الاملاء الشَّيْخ مُحَمَّد باكراع بِمَكَّة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَهُوَ قَوْله وَبَيت فى حُسَيْن(4/142)
(صيرت جفنى واصلا والكرا ... رَاء فجد بالوصل فالوصل زين)
(وَلَا تجبنى فى سؤالى بِلَا ... فالقلب يخْشَى كرب لَا يَا حُسَيْن)
ثمَّ وقفت فى الريحانة أَنَّهُمَا لِلشِّهَابِ الفيومى وتعقبهما بعد انشادهما فَقَالَ فى قَوْله زين ابهام غير زين لَان الْعَامَّة تَقول فى حُرُوف الهجاء زين وَالصَّحِيح فِيهَا زاى بِالْمدِّ وَالْقصر وَيُقَال زى بزنة كى وَأما هَذِه فتحريف قَبِيح انْتهى وَأَنا أَقُول هُوَ ابهام حسن فان الابهام يَكْفِيهِ هَذَا الْقدر وان كَانَ فى اللُّغَة غير صَحِيح اذ الْمَعْنى لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ لانه لم يقْصد بالزين هُنَا الا الْحسن لَكِن بِمُقَابلَة الرَّاء أوهم هُنَا ارادة الزاى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن بَرَكَات الملقب شمس الدّين بن شمس الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الكيال الشافعى الْعَالم الْهمام المطلع أَخذ الْفِقْه عَن الْبَدْر الغزى والنور النسفى وَغَيرهمَا وسافر الى الْقُسْطَنْطِينِيَّة ساعيا فى الْمدرسَة الشامية البرانية بعد أَن اسْتَقَرَّتْ على أَبى الْفِدَاء اسمعيل النابلسى فَلم تتيسر لَهُ لشهرة النابلسى بِالْفَضْلِ الْعَام التَّام وَمَعْرِفَة أَرْكَان الدولة وبفضله اما مُشَاهدَة واما سَمَاعا فبقى فى الرّوم وسنين وَورد دمشق فى حُدُود سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وبقى بهَا مُدَّة ثمَّ رَجَعَ الى الرّوم وَلما مَاتَ أَبُو الْفِدَاء وجهت الشامية البرانية للمنلا أَسد الدّين بن معِين الدّين وَوصل الْخَبَر الى الرّوم بتوجيهها اليه قبل التَّوْجِيه اليه وَلم يُمكن صَاحب التَّرْجَمَة مِنْهَا وبقى هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ ثمَّة بعد الالف)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد القاضى شمس الدّين بن محيى الدّين الرجيحى الحنبلى الدمشقى أحد نواب الحكم بمحكمة الْبَاب بِدِمَشْق وَلَيْسَ هُوَ بِابْن الرجيحى وانما هُوَ ابْن بنت القاضى الرجيحى قيل كَانَ وَالِده صفديا يعرف بِابْن الْمُحْتَسب من أَعْيَان صفد فصاهر الرجيحى الْمَذْكُور وَرَأس بمصاهرته وَولى نِيَابَة الْقَضَاء نَحْو خمسين سنة مِنْهَا بِالْبَابِ أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ حسن الاخلاق منعما مثريا ظَاهر الْوَضَاءَة والنباهة وَله محاضرة جَيِّدَة وَكَانَ فى مُبْتَدأ أمره يخْدم قاضى الْقُضَاة ولى الدّين بن الفرفور ثمَّ طلب الْعلم وَأخذ عَن الرضى الغزى وتفقه بالشيخ مُوسَى الحجازى وَالشَّيْخ شهَاب بن سَالم وَولى قَضَاء الْحَنَابِلَة بالكبرى فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنقل الى نِيَابَة الْبَاب وسافر الى مصر فى سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَاجْتمعَ بالاستاذ مُحَمَّد البكرى وَغير وَاسْتمرّ بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد الى دمشق وَولى مَكَانَهُ الى أَن مَاتَ وَكَانَ لَهُ حجرَة بِالْمَدْرَسَةِ الباذرائية وسرق لَهُ مِنْهَا أَمْتعَة ثمينة فَلم يتأثر وَكَانَ(4/143)
محببا فى النَّاس جميل اللِّقَاء كثيرا التجمل وَكَانَ يلبس الثِّيَاب الواسعة والعمامة الْكَبِيرَة على طَريقَة أَبنَاء الْعَرَب بالاكمام الواسعة والعمامة المدرجة والشد على الْكَتف واذا جلس فى مجْلِس أَو كَانَ بَين جمَاعَة أَخذ يتَكَلَّم عَن أَخْبَار النَّاس ووقائعهم الْقَدِيمَة الَّتِى وَقعت فى أَيَّام الجراكسة وأوائل أَيَّام العثمانية حَتَّى ينصت لَهُ كل من حضر وَكَانَ شُهُود الزُّور يهابونه فَلَا يقدمُونَ بِحَضْرَتِهِ على أَدَاء الشَّهَادَة وَكَانَ يعرفهُمْ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من الرؤساء الْكِبَار قَرَأت بِخَط الطارانى أَن وِلَادَته كَانَت فى سنة سِتّ عشرَة وَقيل فى سنة سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الْجُمُعَة سادس عشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من سيدى بِلَال الحبشى رضى الله عَنهُ وَحضر جنَازَته خلق كثير وَكتب وَصِيَّة قبل وصيتى تَحت الوسادة فاذا مت فخذوها وَاعْمَلُوا بمسنته ثمَّ لما قضى نحبه أخرجت فَوجدَ فِيهَا جَمِيع مَا يملك وأنبأت بأَشْيَاء أجازها ورثته وَخلف أَشْيَاء كَثِيرَة من كتب وأمتعة وَغَيرهَا وَذكر الغزى فى ذيله أَنه رَآهُ فى النّوم بعد سِنِين من مَوته قَالَ فَقلت لَهُ مَا فعل الله تَعَالَى بك فَضَحِك اليه وَقَالَ أما علمت أَنى مت لَيْلَة الْجُمُعَة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد مَعْرُوف ابْن مُحَمَّد شرِيف قاضى للقضاة بِالشَّام ومصر ولى دمشق فى سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَلم يدخلهَا ثمَّ ولى قَضَاء مصر فى حادى رَجَب سنة احدى وَألف وعزل فى تَاسِع ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَحصل لَهُ مرض الفالج فَأَقَامَ بهَا وَبهَا توفى كَانَ عَالما فَاضلا متضلعا من فنون وَله بالتصوف وَكَلَام الْقَوْم خبْرَة تَامَّة وَشرح تائية سيدى الشَّيْخ عمر بن الفارض رضى الله عَنهُ وَله آثاره غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ ثانى عشر جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاث بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ بسبيل الْمُؤمنِينَ بالرملة وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ أَحْمد باشا الْحَافِظ وَمن دونه وَدفن بجوار الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سيدى الشَّيْخ عمر بن الفارض قدس الله سره الْعَزِيز تجاه مقصورته وقبره ظَاهر رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشريف كَمَال الدّين بن عجلَان الدمشقى الميدانى الشافعى شيخ مَشَايِخ الْحَرْف الرفاعى الطَّرِيقَة وَالِد السَّيِّد مُحَمَّد النَّقِيب الآتى ذكره قَرِيبا كَانَ من السَّادة أهل الصّلاح والسكون صَحِيح النِّيَّة حسن الاخلاق(4/144)
وَرُبمَا كَانَ يَأْكُل من كسب يَمِينه ونسج الْحَرِير وَكَانَ يُقيم الذّكر فى زاويتهم الَّتِى ذكرنَا خَبَرهَا فى تَرْجَمَة السَّيِّد مُحَمَّد بن حسن فى رَجَب وَشَعْبَان ورمضان يَوْمًا فى الاسبوع وَهُوَ يَوْم الاحد وَكَانَ كَرِيمًا سخيا عَاقِلا كَامِلا قَلِيل الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ وَكَانَ محبا للخمول والانزواء وَقَالَ الْحسن البورينى فى تَرْجَمته وعندى انه كَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى لَان أخلاقه كَانَت أَخْلَاق الاولياء العارفين وَقَالَ النَّجْم كنت يَوْمًا جَالِسا فى الْجَامِع الاموى فَدخل من بَاب العنبرانيين وَصلى مَا تيَسّر لَهُ فأسرع فى الاركان فخطر لى فِيهِ أَنه عامى لَا يحسن الطمأنية فى الصَّلَاة فَسلم من صلَاته ثمَّ قَامَ من مَجْلِسه وَأَقْبل على وصافحنى وَقَالَ لى يَا سيدى لَا تؤاخذنى فانى عامى وَصَلَاة العامى لَا تعجب الْعلمَاء فَعلمت أَنه كشف مِنْهُ فكارمته فى الْخطاب واعتذرته وَكَانَت آثَار الصّلاح ظَاهِرَة على وَجهه وَكَانَت وَفَاته يَوْم الثلاثا سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة ارْبَعْ بعد الالف وَشَيخ الْمَشَايِخ هُوَ الذى يعْقد الشد والعهد لاهل الصَّنَائِع وَكَانَ صَاحب هَذَا المنصب قَدِيما يعرف بسُلْطَان الحرافيش ثمَّ كنى احتشاما بشيخ الْمَشَايِخ وَالله تَعَالَى أعلم
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن بَرَكَات الملقب ولى الدّين بن شمس الدّين بن الكيال الشافعى الدمشقى الامام الْعَالم الصَّالح الدّين وَهُوَ وَالِد شمس الدّين الْمُقدم ذكره آنِفا وجد جدتى لابى وَله وقف أهلى نصفه بيدى كَمَا ذكرته فى تَرْجَمَة ابْن عَمه بَرَكَات بن تقى الدّين وَكَانَ خطيب الصابونية وَولى نِيَابَة النّظر بالشامية البرانية فَلَمَّا ولى تدريسها أَبُو الْفِدَاء اسمعيل النابلسى عوضه عَنْهَا بتولية الظَّاهِرِيَّة فَبَقيت مَعَه الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى الْيَوْم الذى توفى فِيهِ الشَّمْس مُحَمَّد بن المنقار الْمُقدم ذكره بل فى الْوَقْت الذى مَاتَ فِيهِ وَهُوَ وَقت الْغُرُوب من يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع وعشرى شَوَّال سنة خمس بعد الالف بعد أَن تمرض وأقعد سنوات وَمَات وَهُوَ فى عمر الثَّمَانِينَ وَدفن يَوْم الاربعاء بتربة بَيت بِبَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن دَاوُد المنعوت شمس الدّين بن صَلَاح الدّين الداودى القدسى الدمشقى الشافعى الْمُحدث الْفَقِيه علم الْعلمَاء الاعلام والمفتى الْمدرس الْهمام قَرَأَ بالقدس على الْعَلامَة مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَبى اللطف المقدسى وَغَيره ثمَّ رَحل الى مصر وَأخذ عَن جمَاعَة من المصريين مِنْهُم النَّجْم الغبطى والناصر الطبلاوى وَالْجمال يُوسُف ابْن القاضى زَكَرِيَّاء والخطيب الشربينى وَالشَّمْس الرملى وَدخل دمشق فَأخذ(4/145)
بهَا عَن الْبَدْر الغزى ولازم دروسه وَأعَاد للعلامة اسمعيل النابلسى بالشامية وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة جَيِّدَة فى الْفِقْه ومسايرة تَامَّة فى الْمعَانى وَالْبَيَان وَسَائِر عُلُوم الْعَرَبيَّة واستحضار جيد للشواهد والامثال وَأما الحَدِيث فَكَانَ فِيهِ متقنا ماهرا وَلما دخل دمشق سكن فى حجرَة فى العزيزية وَكَانَ فَقِيرا فسعى لَهُ شَيْخه النابلسى الْمَذْكُور فى أَقسَام من الْعِمَارَة السليمانية ثمَّ ولى مشيخة الحافظية خَارج دمشق ودرس فى الحَدِيث بالجامع الاموى بعد موت الْبَدْر الغزى وَبِه اشْتهر فأقرأ صَحِيح مُسلم ثمَّ صَحِيح البخارى ثمَّ السِّيرَة وَكَانَ يقْرَأ بَين يَدَيْهِ الشَّيْخ مُحَمَّد الحادى الصيداوى ونقلت عَن خطه مَا نَصه وَقع الْخَتْم للسيرة النَّبَوِيَّة بِقِرَاءَة الشَّيْخ مُحَمَّد الحادى على الْفَقِير بِجَامِع بنى أُميَّة عَشِيَّة الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف وحضره جمع من الْعلمَاء والمشايخ والطلبة وَغَيرهم وأملينا فِيهِ حديثين وهما مِمَّا ذكره الْحَافِظ العراقى فى أَمَالِيهِ أَحدهمَا حَدِيث اعذار الله الى عبد أخر عمره الى السِّتين أَو السّبْعين وَذكر ان البخارى رَوَاهُ من غير أوالسبعين وَالْآخر حَدِيث قَالَ رجل يَا رَسُول الله أى النَّاس خير قَالَ من طَال عمره وَحسن عمله قَالَ فأى النَّاس شَرّ قَالَ من طَال عمره وساء عمله فسقناهما باسنادين منا الى النبى
وَكَذَا مَا أملاه فى مَعْنَاهُمَا عقب املائهما وَهُوَ قَوْله نظما
(أكملت فى ذَا الْيَوْم سبعين سنه ... مرت وَمَا كَأَنَّهَا الا سنه)
(لم أدخر فِيهَا سوى توحيده ... وَحسن ظنى فِيهِ وَهُوَ حسنه)
(مَا حَال من لم يتعظ بزاجر ... وفى مراعى اللَّهْو أرْخى رسنه)
(قد أعذر الله الذى السِّتين هَل ... يلفى مسئ عمل أَو محسنه)
(وان شَرّ النَّاس من طَالَتْ بِهِ ... حَيَاته وَفعله مَا أحْسنه)
(وان خير النَّاس من طَالَتْ بِهِ ... حَيَاته وَفعله قد أحْسنه)
(لكننا نأمل من خالقنا ... عَافِيَة دائمة مستحسنه)
(متعنَا الله بأسماع تعى ... وأعين باصرة وألسنه)
(ونرتجى عِنْد انقضا آجالنا ... ختما بِخَير ووفاة حسنه)
(وانما النَّاس نيام من يمت ... مِنْهُم أَزَال الْمَوْت عَنهُ وسنه)
قَالَ وَقلت أَنا من لفظى لنفسى عقب املائى لما ذكر يَوْم الْخَمِيس عشرى شهر رَمَضَان(4/146)
سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَهُوَ
(أدْركْت فى ذَا الْعَام سِتِّينَ سنه ... وَقد مَضَت مثل خيال وسنه)
(ظلمت فِيهَا النَّفس ظلما بَينا ... قصرت عَن كسب الْخِصَال الحسنه)
(لم آل جهدا فى اتباعى للهوى ... وَلم أحصل قربا مستحسنه)
(واخجلتا فى مَوَاقِف الْعرض اذا ... يصير سر كل شخص علنه)
(لَكِن ظنى فى كريم حسن ... ينيلنى من الْجَمِيل حسنه)
(الا أجى يَوْم اللقا معترفا ... بالفقر وَالْعجز وذل المسكنه)
(مرتجيا غفرانه عَن زلتى ... بخصلتين كل احدى حسنه)
(توحيده بِالْقَلْبِ منى مخلصا ... كَذَاك نشرى للنبى سنَنه)
(فالفوز أَرْجُو من الهى بِالرِّضَا ... فى جنَّة الفردوس دَار المأمنه)
(وبشفاعة النبى أرتجى ... منزلَة تقرب فِيهَا وَطنه)
(فصل با رب عَلَيْهِ دَائِما ... وَاجعَل الهى ختم عمرى أحْسنه)
وَلما وقفت على مَا أسْندهُ الْحَافِظ أَبُو الْفضل العراقى الى الامام أَبى الْقَاسِم الرافعى مِمَّا أملاه من لَفظه لنَفسِهِ وَلم يذكر تَارِيخ املاء الرافعى لذَلِك وَلَا مَكَانَهُ وَذكر تَارِيخ املائه هُوَ لَهُ ومكانه وَهُوَ الْمجْلس الْمِائَة الْوَاقِع بِالْقَاهِرَةِ بِالْمَدْرَسَةِ القراسنقرية يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع جُمَادَى الاولى سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَهُوَ
(طُوبَى لمن طيب أوقاته ... اذا نأى عَنْكُم بذكراكم)
(اذا دنا عطر أردانه ... بِمَا يغِيظ الْمسك رياكم)
(كل فؤاد بكم مغرم ... وكل عين تترضاكم)
(اذا حييتُمْ فدعونى أمت ... فانما محياى محياكم)
(رفقا بِمن صَار أَسِيرًا لكم ... أما ترقون لاسراكم)
(أمالكم فى وَجهه سيمة ... روحى فدَاء لثناياكم)
(أمالكم فى شَأْنه رَحْمَة ... رحمنا الله واياكم)
فَقلت أَنا من لفظى لنفسى وأمليته عقد ختمى لمجلس الْوَعْظ على الكرسى بالجامع الاموى فى يَوْم الِاثْنَيْنِ سلخ شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف
(اذا حضرتم واجتمعنا بكم ... فقد تَمَتعنَا برؤياكم)
(وان نأت عَن دَارنَا داركم ... فقد تداوينا بذكراكم)(4/147)
(طُوبَى لمن أنستموه بكم ... فَهُوَ بِغَيْب يتراآكم)
(وَقد سكنتم فى سويدائه ... فأينما وَجه يلقاكم)
(فَالْعَبْد مِنْكُم واليكم وفى ... بَاب رضاكم يترجاكم)
(وَمَاله من سَبَب موصل ... الى مناه غير رحماكم)
(فَمن يُرْجَى جودكم صَادِقا ... تولوه من فيض عطاياكم)
وَكَانَ يعظ يَوْم الاحد وَالْخَمِيس من كل جِهَة فى الاشهر الثَّلَاثَة رَجَب وَشَعْبَان ورمضان عَن ظهر قلب وَكَانَ الوعاظ غَيره يعظون النَّاس من الكراريس فثار جمَاعَة الشهَاب الطيبى الْمُتَوفَّى فى سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة اليه وَقَالُوا كَيفَ يأتى رجل غَرِيب ويعظ غيبا وَأَنت شيخ الوعاظ والمفسرين بِدِمَشْق وتعظ النَّاس من الكراريس فَلَا زَالُوا بِهِ حَتَّى ترك الكراريس وَصَارَ يملى فى التَّفْسِير وَغَيره ففاق على الداودى لانه كَانَ وَاسع الصَّوْت فصيح الْعبارَة سريع الاملاء وَكَانَ الداودى منخفض الصَّوْت وَله فى لِسَانه رتة الا انه كَانَ صَحِيح الْعبارَة حسن الاستحضار عَلَيْهِ مهابة الْعلمَاء وَله سكينَة وَولى آخر تدريس الاتابكية بالصالحية وانتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ من الْفُضَلَاء الْمشَار اليهم أنبلهم الْحسن البورينى فانه أَخذ عَنهُ الحَدِيث وَذكره فى تَارِيخه وَأَطْنَبَ فى مدحه على عَادَته ثمَّ قَالَ وَكَانَ مَعَ كَمَال فَضله وَغَايَة فطنته ونبله ينظم الشّعْر البديع الذى يعْتَرف بحسنه البديع كتب الى وكتبت اليه وَأورد على وأوردت عَلَيْهِ فَمن ذَلِك أرسل الى ملغزا فى ورد فَقَالَ
(يَا اماما قد حَاز كل الْمعَانى ... ورقى للعلى بِغَيْر توانى)
(دمت للمجد والفضائل كنزا ... دَائِما آمنا من الْحدثَان)
(مَا اسْم شئ لَهُ حُرُوف ثَلَاث ... وحروف تزيد فَوق ثَمَان)
(واذا مَا حرفته كَانَ دأبا ... لذوى الدّين من أولى الْعرْفَان)
(وَكَذَا مَا حذفت أول حرف ... مِنْهُ أضحى فعلا لماضى الزَّمَان)
(واذا مَا عكست ذَا الامر تلقى ... جوهرا فى نحور حورحسان)
(واذا مَا بدلت أول حرف ... مِنْهُ بَاء أضرّ بالانسان)
(أَو بجيم فوصف ثوب معنى ... فَاقِد الْقُوت عادم الامكان)(4/148)
(أَو بفاء أبدلته فَهُوَ وصف ... للاله الْمُهَيْمِن الديَّان)
(أَو بنُون فَذا حرَام علينا ... معشر النَّاس من أولى الايمان)
(واذا قلبه أزلت تَجدهُ ... لَك فى قلب خلص الاخوان)
(واذا مَا أبدلت بِالْقَلْبِ عينا ... صَار مِمَّن تحب أقْصَى الامانى)
(أَو بغين أبدلته فَهُوَ وصف ... لرقيب مِنْهُ الكروب أعانى)
(أَو بفاء فاسم لمن لحماكم ... أم يَرْجُو منا هَل الاحسان)
(أَو بقاف فوصف مَا بفؤادى ... للقاكم من لاعج النيرَان)
(وَهُوَ مَا يبْقى بالجسم للنَّاس دهرا ... وبروح ان جِسْمه صَار فانى)
(وَيسر النُّفُوس فى مجْلِس الانس اذا ضَاعَ نشره فى الْمَكَان ... )
(وَهُوَ فى وَجه من تحب ترَاهُ ... وَاضحا دَائِما مدى الازمان)
(ورد اللغز نَحْو بابك يسْعَى ... يرتجى حلّه بِحسن الْبَيَان)
(فأجب سيدى فَلَا زلت أَهلا ... للمعالى فى نعْمَة وأمان)
قَالَ وَهَذَا الْجَواب الذى كتبته اليه وَهُوَ
(أمعان بَدَت لنا من مبانى ... أم عُقُود فاقت عُقُود الجمان)
(أم سلاف راقت ورقت فَلَمَّا ... مَا زجتنى غَدَوْت كَالسَّكْرَانِ)
(أم حبيب مواصل بعد هجر ... من لطفا بِقُرْبِهِ والتدانى)
(أم نظام قد جَاءَنَا من امام ... وَاحِد الدَّهْر مَاله فِيهِ ثانى)
(فظباء الْعُلُوم ترتع زهوا ... فى رباه مَا بَين تِلْكَ المغانى)
(مَا امْرُؤ الْقَيْس فى القريض وَقس ... عِنْدَمَا قلت يَا امام الزَّمَان)
(أَنْت بَحر الندى وَحبر المعالى ... أَنْت انسان عين هَذَا الزَّمَان)
(أَنْت شمس لَكِن بِغَيْر كسوف ... أَنْت بدر لَكِن بِلَا نُقْصَان)
(لَك يَا أوحد الزَّمَان بَيَان ... قد غَدا حاويا بديع الْمعَانى)
(كل أهل الْعُلُوم ركن وَلَكِن ... أَنْت مولاى عُمْدَة الاركان)
(فَضلكُمْ شَامِل الانام فانى ... وَاجِد شكركم بِكُل لِسَان)
(كل شخص أَتَى يؤم حماكم ... شملته هواطل الاحسان)
(جَاءَ من در بَحر فضلك لغز ... فاق لطفا قَائِد العقيان)
(هُوَ روض وفاح مِنْهُ عبير ... فغدا مذكرى خدود الحسان)(4/149)
(ان هَذَا وَالله سحر حَلَال ... فاتنى حلّه بِعقد اللِّسَان)
(كَانَ فى خُفْيَة فَهبت عَلَيْهِ ... نسمات الافكار والاذهان)
(فأثارت مِنْهُ العبير فاضحى ... وَاضحا ظَاهرا لعين جنانى)
(واذا مَا قلبته قلب بعض ... صَار دور ايا كَامِل الْعرْفَان)
(واذا مَا حذفت قلبا فَيبقى ... مشبهى صدغ شادن فتان)
(فِيهِ نشر حكى ثنائى عَلَيْكُم ... لعطاء كالوابل الهتان)
(يَا اماما سما على كل سَام ... فعلا رفْعَة على كيوان)
(خُذ جَوَابا أَتَاك يبدى قصورا ... هن حَلِيف الهموم والاحزان)
(أَيْن نظم القريض من فكر شخص ... أغرقته مواطر الاشجان)
(عاندته يَد الزَّمَان فاضحى ... فى مَكَان وقصده فى مَكَان)
(ثمَّ قل لى مَا اسْم ثلاثى وضع ... ثُلُثَاهُ عش دَائِما فى أَمَان)
(واذا مَا فتحت عينا ترَاهُ ... صَار فعلا لماضى الازمان)
(آخر مِنْهُ مثل علمك طود ... أول مِنْهُ أَنْت فى الانسان)
(لَيْسَ يَخْلُو مِنْهُ لطيف وإنى ... صرت مِنْهُ فى النَّاس كالحيران)
(ان تصحفه تلقه ضد ضوء ... فِيهِ أبكى من زَائِد الهجران)
(فاكشفنه وأوضحن لِمَعْنى ... دمت فى رفْعَة مدى الازمان)
(مَا تغنت على الاراكة ورق ... فأمالت مَوَائِد الاغصان)
قَالَ فأجابنى بقوله بِهَذِهِ وهى
(أَيهَا الْفَاضِل الذى فى الْمعَانى ... وَبَيَان علا بديع الزَّمَان)
(يَا فصيحا قد فاق فى الْفضل قسا ... وبليغا أربى على سحبان)
(من يجارى جواد فكرك يكبو ... طرفه فى غَدَاة يَوْم الرِّهَان)
(هَكَذَا هَكَذَا القريض والا ... فالاحق السُّكُوت للانسان)
(قد حللت الْمَعْقُود أحسن حل ... وعقدت المحلول عقد الجمان)
(وبذكر الخدود هيمت قلبا ... كَانَ من قبل زَائِد الهيمان)
(وبواو الاصداغ وَالدَّال أضحى ... لى دور فى فى الْورْد وَالريحَان)
(وحوى نظم عقد لفظك لغزا ... سَاب الرّوح من يَد الجثمان)
(هُوَ شئ لَهُ على النَّاس حكم ... من تولى عَلَيْهِ أصبح عانى)(4/150)
(حَاكم ظَالِم لطيف عنيف ... بَاطِن ظَاهر بِلَا كتمان)
(جَائِر فى قُضَاته لَيْسَ يخْشَى ... من وَزِير علا وَلَا سُلْطَان)
(وَقُلُوب الاسود بالرغم أمست ... مِنْهُ قهرا مراتع الغزلان)
(كم لَهُ فى الاحياء مثلى قَتِيلا ... من كماة لَدَى الوغى شجعان)
(وَهُوَ فى اللَّفْظ ذُو حُرُوف ثَلَاث ... ولدى الْبسط وَاحِد مَعَ ثَمَان)
(أول مِنْهُ ان بدا لى أنادى ... مرضى من مرضة الاجفان)
(وأخير مماثل طور سينا ... عَكسه فاق شامخ الْبُنيان)
(ان تفصل حُرُوفه وتصحف ... تلقه فى مفصل الْقُرْآن)
(وتراه مُصحفا عَاد كالصبح ... اذا من هَاجر بالندانى)
(وَهُوَ فى الْقلب كامن وتراه ... ناطقا مفصحا بِغَيْر لِسَان)
(ثُلُثَاهُ أودعته فى مقالى ... عِشْت دهرا ممتعا فى أَمَان)
(خُذ جَوَابا بَينته لَك حَتَّى ... صَار من بعد وَاضح التِّبْيَان)
(ثمَّ دم راقيا سَنَام المعالى ... حائز الْمجد فائق الاقران)
(مَا جرى بَين أهل فضل سُؤال ... وَجَوَاب يفوق زهر الْجنان)
وَمِمَّا أوردهُ النَّجْم الغزى مَا أنْشدهُ اياه قَوْله
(لَوْلَا ثَلَاث هن من ودى ... مَا كنت أخْشَى الرمس فى لحدى)
(ان أنشر السّنة أبغى بهَا ... نصرا على الْحَاسِد والضد)
(وأتلو الْقُرْآن لَيْلًا اذا ... نَام الورى فى الْفرش والمهد)
(وان أرى فى عمل مخلصا ... لَدَى الاله الْوَاحِد الْفَرد)
(فهى ثَلَاث أرتجى فى غَد ... أرقى بهَا فى جنَّة الْخلد)
قَالَ النَّجْم مولده كَمَا سمعته من لَفظه ثمَّ قرأته من خطه فى أحد الربيعين سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى يَوْم الاربعاء ثَالِث شعْبَان سنة بعد الالف وَكَانَت جنَازَته حافلة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير قَالَ وَكَانَ سَبَب مَوته مرض عقب غيظ حصل لَهُ فى مجْلِس عقده عَلَيْهِ شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا حِين كَانَ قَاضِيا بالشأم بِسَبَب حمية لابى زَوجته السَّيِّد أَبى بكر الحصرى بِسَبَب دَعْوَى سبقت مِنْهُ فى زمن الْمولى كَمَال الدّين حُسَيْن كَانَ قاضى الشأم على زين الدّين بن المريد أَنه سبه وَسَب أجداده وَكَانَت مفتراة على ابْن المريد أَن يذب عَن عرضه وَيدْفَع(4/151)
مَا سجل عَلَيْهِ من الدَّعْوَى فعرضت صُورَة الدَّعْوَى على شُيُوخ الْعَصْر فوجدوها متناقضة هى وَالشَّهَادَة وبينوا التَّنَاقُض فعارف فى ذَلِك الداودى فَجمع قاضى الْقُضَاة الْعلمَاء مِنْهُم شَيخنَا القاضى محب الدّين الحنفى وَالشَّيْخ شهَاب الدّين العيثاوى الشافعى وَكَانَا قد أفتيا بِعَدَمِ مُطَابقَة الشَّهَادَة للدعوى فعارضهما الداودى وأيد أهل الْمجْلس كَلَامهَا وأفهموا القاضى مَا أفهماه وَوَقع من القاضى فى حَقه بِسَبَب انه قَالَ معتذرا عَن قِيَامَة فى ذَلِك الْمُصَاهَرَة تقتضى المناصرة وَقَالَ لَهُ القاضى لَا تكْتب على الْفَتْوَى بعْدهَا فَحصل لَهُ غيظ وانزعاج وَمرض من يَوْمئِذٍ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الذى مَاتَ فِيهِ ابرهيم بن الطباخ الْمُقدم ذكره دخل ضحوة النَّهَار جمَاعَة يعودون الداودى فَبَيْنَمَا هم عِنْده اذ دخل عَلَيْهِ منلا على العجمى الاعرج وَكَانَ من أصدقائه وتلاميذه فَقَالَ لَهُ أعظم الله أجركُم فى الشَّيْخ ابراهيم بن الطباخ فتألم الداودى وتأوه وتأسف عَلَيْهِ وتكدر الْمجْلس لما كَانَ بَينهمَا من الصداقة والتلاميذ فَخرج النَّاس فَقَالَ لاخيه الشَّيْخ عبد الْقَادِر أقعدنى يَا أخى فأقعده فلقف ثَلَاث لقفات وَمَات لوقته رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الملقب بدر الدّين الكرخى الشافعى نزيل مدرسة السُّلْطَان حسن بِمصْر ذكره الشَّيْخ مَدين القوصونى فَقَالَ فى حَقه كَانَ عَالما عَاملا فَاضلا كَامِلا فَقِيها مُفَسرًا مُحدثا مطلعا أَخذ الْعلم عَن جمَاعَة مِنْهُ شيخ الاسلام زَكَرِيَّا الانصاري قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى قَرَأت عَلَيْهِ سُورَة الْفَاتِحَة وأجازنى بِجَمِيعِ مروياته ومؤلفاته وَمِنْهُم الامام شهَاب الدّين أَحْمد الرملى وَولده الشَّمْس وَالشَّيْخ الْعَلامَة الشَّمْس مُحَمَّد بن ابراهيم التتائى المالكى قَالَ وَمن جملَة مَا قرأته عَلَيْهِ شَرحه على القصيدة الَّتِى فى مصطلح الحَدِيث الَّتِى أَولهَا قَوْله
(غرامى صَحِيح والرجا فِيك معضل ... وحزنى ودمعى مُرْسل ومسلسل)
قَالَ قرأتها عَلَيْهِ فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَألف التآليف الفائقة مِنْهَا حاشيتان على تَفْسِير الجلالين كبرى فى أَربع مجلدات وصغرى مجلدين ضخمين وَله أَيْضا حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للشَّيْخ جلال الدّين الْمحلى وَكَانَت وِلَادَته فى عشرَة وَتِسْعمِائَة وَتوفى سنة سِتّ بعد الالف فى ذى الْقعدَة وَدفن بحوش الامام الشافعى رحمهمَا الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مُؤذن باجمال قَالَ الشلى فى وَصفه صَاحب الاحوال(4/152)
والمهابة ولد فى سنة خمس وَتِسْعمِائَة بعد وَفَاة وَالِده مُحَمَّد فَسمى باسمه وتربى فى حجر عَمه الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَحفظ الْقُرْآن وَقَرَأَ على عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور الْعلم وَأخذ الْفِقْه عَن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن سراج ووالده والفقيه مُحَمَّد بامهيد وَحصل كتبا كَثِيرَة ووقفها على طلبة الْعلم وَكَانَ صَحِيح الْقلب والجسم معافى من الامراض معاشر بِالْمَعْرُوفِ قَائِما بِحُقُوق الاخوان والمحبين فى الله تَعَالَى من الاكرم وصلَة الرَّحِم لَهُ صَبر شَدِيد شكور لله تَعَالَى على نعمه الظَّاهِرَة والباطنة وَكَانَ لَهُ همة علية ومروءة تَامَّة فى جَمِيع أَحْوَاله ووقف على عمَارَة كتبه وَقفا كَبِيرا ووقف سقايتين ووقف عَلَيْهِ مَا يقوم بهما وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع بعد الالف
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله التركى الخلوتى المصرى أَخُو عبد الله الصبان الْمُقدم ذكره المناوى فى طبقاته وَقَالَ كَانَ شَيخنَا صَالحا متعبدا متزهدا ريض الاخلاق حسن الشمايل جيد الْخِبْرَة بطرِيق التصوف مشاركا لاهل الْحَقَائِق أَخذ عَن الشَّيْخ كريم الدّين الخلوتى ثمَّ عَن أَخِيه الشَّيْخ عبد الله وَكَانَ مَعَ تخلقه باخلاق الْقَوْم وتمكنه فى طريقهم لَا يَأْكُل إِلَّا من عمل يَده فَكَانَ يعْمل المناخل ويبيعها ويتقوت مِنْهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك ملازما للْجدّ وَالِاجْتِهَاد بِحَيْثُ لَا يغْفل طرفَة عين وَكَانَ محمدى الصِّفَات ان ذكرت الدُّنْيَا ذكرهَا مَعَك وان ذكرت الْآخِرَة ذكرهَا مَعَك وَلم يكن للغضب عَلَيْهِ سَبِيل وَكَانَ قد انْتهى الى حَالَة يسمع مَعهَا نطق الْحَيَوَانَات والجمادات بالتسبيح وَكَانَ اذا اشْتغل بِالذكر شَاركهُ الموجودات قَالَ وَلَزِمتهُ فَمَا رَأَيْته غضب وَقَالَ لى انه أَقَامَ ثَلَاثَة عشر عَاما لَا يضع جنبه الى الارض بل يصلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَقَالَ لى انه أَقَامَ بِمَكَّة سِنِين ينفصد فى كل أُسْبُوع مرَّتَيْنِ لشدَّة حر الْقطر وحدة الِاشْتِغَال قَالَ وَهَذِه كَرَامَة لَا ينكرها الا حَاسِد أَو معاند وَوَقع لَهُ أَنه دخل بَيْتا لَيْسَ فِيهِ مِصْبَاح فأضاء بدنه وَكَانَ يتأسف على اندراس أهل الطَّرِيق واختفاء آثَارهم وَحج فى آخر عمره وَرجع مَرِيضا وَمَات فى سنة سبع بعد الالف بعد هُوَ شهر من قدومه وَقَالَ فى مَرضه قد فتشت وطفت الْحجاز فَلم أر أحدا من الظاهرين فِيهِ أَهْلِيَّة التسليك وَطَرِيقَة الخلوتية قد صَارَت شاذلية وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الازهر وَدفن بِجَانِب أَخِيه عبد الله بحارة بهاء الدّين تجاه مدرسة ابْن حجر وَلم يخلف بعده مثله رَحمَه الله تَعَالَى(4/153)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد شمس الدّين القدسى الشافعى الدمشقى الْمَعْرُوف فى بِلَاده بِابْن خصيب وبالسيد الصادى وفى دمشق بالسيد القدسى وَقد تقدم حفيده مُحَمَّد بن على وَذكرت نسبه ثمَّة فَليرْجع اليه وَكَانَ هَذَا السَّيِّد المترجم من أهل الْفضل والادب نَشأ على الْجد وَالِاجْتِهَاد حَتَّى سَاد وبرع ونبغ من بَين أَهله وحيدا لانه لم يكن فيهم صَاحب معرفَة بل كلهم من أَرْبَاب الْحَرْف ورحل الى مصر فى ابْتِدَاء أمره وَحفظ فِيهَا صفوة الزّبد وَكَانَ يَقُول كنت أسمع العلاماء بَيت الْمُقَدّس يَقُولُونَ من قَرَأَ هَذَا الْكتاب لابد أَن يلى الْقَضَاء قَالَ وَكنت لَا أَرغب فِيهِ فَكنت أَقُول انخرمت الْقَاعِدَة فَلَمَّا كنت بالروم احْتِيجَ الى قَاض شافعى لاجل فسخ نِكَاح فوليت الْقَضَاء فى تِلْكَ الْقَضِيَّة فَقلت هَذَا تَأْثِير مَا قيل فى من قَرَأَ الصفوة وَأخذ تدريس الْمدرسَة الجوزية وَأخذ فى مرّة أُخْرَى توجه فِيهَا الى الرّوم تدريس الْمدرسَة العمرية بالصالحية وَكَانَت لِلشِّهَابِ العيثاوى فَأعْطَاهُ العيثاوى دَرَاهِم واستفرغه عَنْهَا ثمَّ سَافر الى الرّوم مرّة أُخْرَى فاخذ تدريس العذارية فَقَرَأَ واقرأ وَأخذ العذراوية عَن القاضى ابْن المنقار فسافر وَأَخذهَا عَن ابْن المنقار ثَانِيًا واستمرت عَلَيْهِ الى أَن مَاتَ ودرس بالجامع الاموى وَلما هدمت دَار الْعدْل الَّتِى كَانَ قد عمرها الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق وَكَانَ هدمها فى أَوَاخِر سنة ألف أَخذ السَّيِّد الْمَذْكُور حِصَّة من أرْضهَا وعمرها دَارا لَهُ وَسكن بهَا مُدَّة وَكَانَ قبل ذَلِك سَاكِنا بِالْمَدْرَسَةِ الريحانية وَكَانَ فى مُدَّة اقامته بِدِمَشْق يزاخم أكابرها ويداخلهم ويشفع فَتقبل شَفَاعَته الى أَن ولى قَضَاء الشَّام شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّاء فولاه قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق قَالَ البورينى فاقتضت حِكْمَة الله تَعَالَى أَن اخْتَلَّ تَدْبيره وانهدم تعميره وَصَارَ عقله معقولا وَعقد تصرفه محلولا وَصَارَ يسير فى الاسواق مُنْفَردا وَيدخل بيُوت الطباخين وحيدا فيأكل من طعامهم ويلتذ بكلامهم ويلقى أَصْحَابه فَلَا يعرفهُمْ وينصرف عَنْهُم ويصرفهم وَلما ظهر اختلاله وَاخْتلفت أَفعاله وتناقضت أَقْوَاله وَلم تنتظم أَعماله قَيده وَلَده فى دَاره وَمنعه من تسياره وَمَضَت لَهُ مُدَّة شنيعة وَانْقَضَت أَحْوَاله البديعة والدهر أَبُو الاهوال وَلَا يبْقى مَعَ أحد على حَال ثمَّ قَالَ وَكَانَ لى رَفِيقًا وَكنت لَهُ صديقا لَا أفتر عَن مصاحبته وَلَا أغيب عَن مُوَافَقَته فاما يكون عندى واما أكون عِنْده وَكَانَ(4/154)
لَا يلتذ بالعيش بعدى وَلَا ألتذ بالعيش بعده كَمَا قيل فى مَعْنَاهُ
(بروحى من نادمته فَوَجَدته ... ألذ من الشكوى وأصفى من الدمع)
(يوافقنى فى الْهزْل والجدد دَائِما ... فَينْظر من عينى وَيسمع من سمعى)
قَالَ وَكنت فى صحبته مرّة فى قَرْيَة منين من قرى الشَّام وهى فى الْحَقِيقَة ذَات روض نسام وزهر يفوق وزه على الثغر البسام مَاء جارى ونسيم سارى وواد لَا ترى فِيهِ الشَّمْس الا من خلال الاشجار وفوقها أطيار تسبح الْوَاحِد الْغفار فى الاصل والاسحار فَلَمَّا دنا وَقت الظهيره وَحمى حر الهجيره أَرَادَ الراحه فَانْفَرد عَنَّا للاستراحة فَمَا رَأَيْت الْمَنَام غنما بل رَأَيْته فى مثل ذَلِك الْمَكَان غرما فَكتبت اليه مرتجلا وَأرْسلت اليه عجلا
(بحقك خلى لَا تضع فرْصَة المنى ... وبادر الى هَذَا الغدير المسلسل)
(وان لم تَجِد زهر الرياض فاننا ... نريك زهوراً من كَلَام مرتل)
فَكتب الى وَعطف بجوابه على قَوْله
(على غَدِير جلسنا فى مذاكرة ... ودوحة قَامَ من سوق على سَاق)
(فخلت أَغْصَان ذَاك الدوح باكية ... تُرِيدُ تكْتب مَا نملى بأوراق)
وَلما وصلا الى وحصلا لَدَى كتب اليه هَذَا
(جلسنا بروض فِيهِ زهران أسقيا ... بِمَاء افتكار والمياه الدوافق)
(فَمن زهر يبديه روض كلامنا ... وَمن زهر يبديه روض الحدائق)
قَالَ وبالقرب من قَرْيَة منين قَرْيَة يُقَال لَهَا التل قبل الْوُصُول اليها من جَانب دمشق فَلَمَّا قَفَلْنَا من جَانب منين عزم علينا أَهلهَا أَن نمكث بهَا عِنْدهم يَوْمًا فأجبنا الدعوه وانتهزنا فرْصَة الايام الحلوه فَكتب الى السَّيِّد الْمَذْكُور مداعبا فَقَالَ
(أيا رَوْضَة الْآدَاب وَالْفضل والحجى ... وَمن فاق فى جمع الْكَمَال على الْكل)
(ترى هَل يعود الدَّهْر يَوْمًا يؤمنا ... ونرقى كَمَا رام الْفُؤَاد على التل)
فَكتبت اليه فى الْحَال على سَبِيل الارتجال فَقلت
(أيا سيد السادات يَا من بنانه ... تضيف الورى بالجود فى الزَّمن الْمحل)
(اذا ساعد الْحَظ السعيد فاننا ... نطل على الوادى ونرقى على التل)
وَكَانَ بِدِمَشْق خطيب فى الْجَامِع الاموى وَكَانَ أعرج أَعْوَج مُتَّهمًا فى العقيدة وفى الافعال وَهُوَ شرف الدّين مَحْمُود بن يُونُس الطَّبِيب وَكَانَ مَعَ جَهله يتَعَرَّض للفتيا(4/155)
وَكَانَ النَّاس يعدون ذَلِك من الْبلوى فَكتب يَوْمًا على بعض أَحْكَام قاضى الْقُضَاة بِالشَّام مصطفى بن بُسْتَان انه بَاطِل وَمن حلى الْحَقِيقَة عاطل فَجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء وَكتب فِيهِ رِسَالَة بِالْجَهْلِ بعض تَوَابِع القاضى الْمَذْكُور وَهُوَ الْفَاضِل أَحْمد بن اسكندر الرومى وَكتب عَلَيْهَا غَالب عُلَمَاء الْبَلدة فَمن جملَة من كتب عَلَيْهَا السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة وَصُورَة مَا كتبه الْحَمد لله الذى أيد الْحق بالبرهان الْقَاطِع وَأظْهر الدّين وقمع كل فَاسق مخادع وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله الْمُصْطَفى الذى مَا زَالَ عَن الشَّرِيعَة يدافع حَتَّى أَزَال الظلام وبدا وَجه الْحق بِالنورِ الساطع وعَلى آله الَّذين هم طراز المحافل وعَلى صَحبه مَا ارْتَفع الْحق وخفض الْبَاطِل وَبعد فقد وقفت على هَذِه الرسَالَة الَّتِى سَارَتْ بسيرتها الركْبَان وتناقلها أكَابِر الْفُضَلَاء فى هَذَا الزَّمَان فَوَجَدتهَا غَرِيبَة الْمِثَال معربة عَن قَائِلهَا بِأَن لِسَان الْحَال أفْصح من لِسَان الْمقَال قد تَضَمَّنت مَا انطوى عَلَيْهِ هَذَا الْغمر من القبائح وَمَا انْتَشَر مِنْهُ فى هَذَا الْعُمر الْقصير من الفضائح فانه قد امتطى غارب الْجَهْل والعناد وانتضى حسام الزُّور الشرة بَين الْعباد وَأخذ أَمْوَال النَّاس وتوصل بهَا الى الْحُكَّام وَحصل ضَرَره وفساده فى الارض للخاص وَالْعَام مَشى على غير استقامة حسا وَمعنى وَأنْشد قَول الْقَائِل فى ذَلِك الْمَعْنى
(من يَسْتَقِيم يحرم مناه وَمن يزغ ... يخْتَص بالاسعاف والتمكين)
(أنظر الى الالف استقام ففاته ... عجم وفاز بِهِ اعوجاج النُّون)
تصدر للفتياء مَعَ انه أَجْهَل من توما الْحَكِيم وأنصف حِمَاره ابْن حجيج فَرَكبهُ فى اللَّيْل البهيم قد فتح فَاه بجهله وَصدر فتياه بقوله الْحَمد لله سُبْحَانَهُ وَالشُّكْر لله تَعَالَى شانه وَلم يُمَيّز فى السجعين بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول فَكَأَنَّهُ اشْتغل بِبَاب الْبَدَل مَعَ حبه فَحصل لَهُ بِرُوحِهِ هَذَا الذهول لانه رأى فى كتب النَّحْو المهذبه أَن الْفَاعِل مَا اسند اليه فعل فَظَنهُ بِهَذِهِ المرتبه وَلَو سُئِلَ لأبرز من ضَمِيره هَذَا الخاطر وَحلف بأبى عمْرَة ان هَذَا هُوَ الظَّاهِر وَلَقَد شهدته حضر بِمَجْلِس قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الشَّام مَعَ وَاسِطَة عقد الْفُضَلَاء الْكِرَام وَبدر الليالى وشمس الايام الشَّيْخ حسن ابْن مُحَمَّد البورينى فدار بَينهمَا الْكَرم حَتَّى ذكر فى أثْنَاء كَلَامه وَلَا رجل لغوى فَفتح اللَّام فى الْمَنْسُوب فَقَالَ لَهُ البدرى حسن انك لغوى مُبين وانفضح فى ذَلِك بَين الْعَالمين فيا لَيْت شعرى بِهَذِهِ الرُّتْبَة السافله والدرجة النازله يروم أَن(4/156)
يرقى الْمَرَاتِب العليه بل هَذَا دَلِيل على انه أَجْهَل البريه
(لَا يستوى مُعرب فِينَا وَذُو لحن ... هَل تستوى البغلة العرجاء وَالْفرس)
وطالما عرج على درج الْمِنْبَر وَجعل أمرده أَمَامه وَلَوْلَا التقية لجعله امامه وَمَا تلفت على أَعْوَاد الْمِنْبَر يَمِينا وَشمَالًا الا ليقتنص ظَبْيًا أَو يصيد غزالا واذا ترنم وَأظْهر الْخُشُوع واهتز لغير طرب وأجرى الدُّمُوع فلأجل مليح يرَاهُ عِنْد الْمِحْرَاب وَلم يسْتَطع أَن يشافهه بِالْخِطَابِ أَو ليخدع بعض الحضار من الاتقياء الاخيار فَأَنْشَدته ارتجالا وأنفاسى تتصعد ومهجتى بِنَار الكمد تتوقد
(أفاضل جلق أَيْن الْعُلُوم ... وَأَيْنَ الدّين مَاتَ فَلَا يقوم)
(يجاهركم خطيبكم بفسق ... ويفتى فِيكُم توما الْحَكِيم)
أَبَا الْحبّ والخب ترجو الرّفْعَة على الانام أم بالرشوة والتزوير تنَال الرتب فى هَذِه الايام أم بالسعى فى ابطال حق وَحَقِيقَة بَاطِل ستان بَين من تحلى بالفضائل وَبَين من هُوَ مِنْهَا عاطل وَمَا كَفاك أخذك التدريس بالتدليس وخوضك فى الْفِتَن الَّتِى فقت بهَا على ابليس حَتَّى دخلت على الْعلمَاء من غير بَاب ورددت أَقْوَال الْفُضَلَاء بِغَيْر صَوَاب كَأَنَّهُ خطر فى زعمك الْفَاسِد وفكرك الْقَبِيح الكاسد أَن الله قبض الْعلمَاء وَلم يبْق مِنْهُم أحد وَاتخذ النَّاس رُؤَسَاء جهلاء فى كل بلد فتضل النَّاس كَمَا ضللت وتعديت وتنفق بضاعتك الكاسدة بِقَوْلِك أَفْتيت وَفِيه
(قُولُوا الاعرج جَاهِل متكبر ... قد جَاءَ يطْلب رفْعَة وتكرما)
(دع مَا تروم فان حظك عندنَا ... تَحت الحضيض وَلَو عرجت الى السما)
وَمَا يدل على جهلك الْمركب وَعدم فهمك الذى هُوَ من ذَاك اعْجَبْ انك ترى دمشق الشَّام مشحونة بالعلماء والافاضل الَّذين لَيْسَ لَهُم فى الدَّهْر من مماثل وهم مشتغلون بالعلوم وتحريرها وتنقيح الْمسَائِل وتقريرها وَأَنت تغالط بِنَفْسِك وَتدْخلهَا مَعَ غير أَبنَاء جنسك وتترفع على من لَا يرتضيك تقبل رجله وَلَا يراك أَهلا لخدمة نَعله دع الْفَخر فلست من فرسَان ذَلِك الميدان وَلَا أَنْت مِمَّن أحرز قصب السَّبق فى الْيَوْم الرِّهَان وَمَالك فى ذَلِك وَمَالك شيخ فى التدريس سوى أَبى مرّة ابليس فَمَا زلت تسلك فى مسالكه وَتَقَع فى مهاوى مهالكه حَتَّى أنْشد لِسَان حالك فى قَبِيح سيرتك وخبث أفعالك هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(وَكنت فَتى من جند ابليس فارتقى ... بى الْحَال حَتَّى صَار ابليس من جندى)(4/157)
(فَلَو عِشْت يَوْمًا كنت أَحْسَنت بعده ... طرائق فسق لَيْسَ يحسنها بعدى)
فَلَمَّا تبين من حالك انه كالليل الحالك طردك شيخ الاسلام وأقصاك وحجب سَمعه عَن كلماتك الملفقة وَمَا أدناك فتضاعف لَهُ الدُّعَاء من سَائِر الورى وترادف لَهُ الشُّكْر من أهل الْمَدَائِن والقرى لَا زَالَ طَائِر الْفضل فى بُسْتَان فَضله مغردا ودام يَعْلُو على جَمِيع الاقران مُفردا فَهُوَ ذُو الْفِكر الصائب والفهم الناقب أعلم الْعلمَاء على الاطلاق وأوحد الاصلاء بالِاتِّفَاقِ حامى حوزتى الْعلم والشريعه حاوى الدقائق الَّتِى أَصبَحت لَهُ مطيعه مظهر الْحق فى سَائِر الامصار ممحى الْبَاطِل وقامع الاشرار من سقيت أُصُوله الزاكية من بُسْتَان الْعُلُوم وَطَابَتْ فروع ذَلِك الاصل زاهرة كَالنُّجُومِ أمد الله تَعَالَى أطناب دولته السعيده وأدام صولته الشديده بِمُحَمد وَآله وَمن سلك على منواله انْتهى وَللسَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة أشعار وأخباره كَثِيرَة وفى الْقدر الذى أوردنا لَهُ مقنع وَكَانَ عرض لَهُ فالج قبل مَوته بنحوسنة ثمَّ مَاتَ بالاسهال فى يَوْم السبت ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن اسمعيل بن أَحْمد بن الْفَرد فى زَمَنه الشَّيْخ محيى الدّين ينتهى نسبه الى السُّلْطَان ابراهيم بن أدهم قدس الله سره وَقد قدمنَا تَتِمَّة نسبه فى تَرْجَمَة ابْنه عبد الْحق المرزتانى الصوفى الحنبلى الْمَذْهَب الصالحى الشَّيْخ الصَّالح الْخَيْر كَانَ من أمثل صوفية الشَّام وَكَانَ أَخذ طَرِيق القادرية عَن الاستاذ أَحْمد بن سُلَيْمَان وَادّعى بعد موت شَيْخه انه خَلفه وَأَرَادَ أَن يجلس مَكَانَهُ على سجادته فَمَا مكن وَذكرنَا ذَلِك فى تَرْجَمَة الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور فَلَا نطيل باعادته وَكَانَ المترجم كثير الرحلة الى الرّوم وَله مَعَ علمائها اخْتِلَاط كثير وَكَانَ لَهُ فِيمَا يَفْعَله مَشَايِخ الصُّوفِيَّة من النشر والتعويذات شهرة تَامَّة وَكَانَ يروج بذلك مِقْدَاره عِنْد الاروام بِسَبَب اعْتِقَاد الْمُتَقَدِّمين مِنْهُم ونال بِسَبَب ذَلِك قبولا وَأخذ وظائف ومعاليم كَثِيرَة وَكَانَ فَاضلا عَارِفًا وَله فى التَّارِيخ معرفَة وَقيد كثيرا من أَحْوَال معاصريه فى مجاميعه وَذكر وفيات بعض الْعلمَاء وَقد رَأَيْت مَنْقُولًا من خطه كثيرا من الْفَوَائِد من ذَلِك مَا صورته وفى نَهَار السبت ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَألف رَأَيْت أَسمَاء السَّبْعَة رضى الله عَنْهُم من أَصْحَاب النبى
الَّذين قتلوا وأجسامهم بقرية عذرا ورؤسهم بالسبعة وأقصابهم(4/158)
بِمَسْجِد الاقصاب وأقدامهم بِمَسْجِد الْقدَم فَقَالَ
(وَسَبْعَة بفنا عذراء قد دفنُوا ... وهم صِحَاب لَهُم فضل واكرام)
(حجر قبيصَة صيفى شريكهم ... ومحرز ثمَّ كرام وَهَمَّام)
(منى السَّلَام عَلَيْهِم دَائِما أبدا ... تترى يَدُوم عَلَيْهِم كلما داموا)
قلت قَالَ ابْن كثير فى تَارِيخه يسْتَحبّ زِيَارَة قُبُور الشُّهَدَاء بقرية عذراء وهم حجر بن عدى الكندى حَامِل راية رَسُول الله
وَابْن همام وَقبيصَة بن عدى الكندى حَامِل راية رَسُول الله
وَابْن همام وَقبيصَة بن ضبيعة العبسى وصيفى بن نسيك الشيبانى وَشريك بن شَدَّاد الحضرمى ومحرز بن شهَاب السعدى وكرام بن حَيَّان العنزى كلهم فى ضريح وَاحِد بِجَامِع الْقرْيَة المزبورة وهى مَكْتُوبَة على لوح من صَخْرَة نظمهم بعض الْعلمَاء فَقَالَ فى ذَلِك
(جمَاعَة بثرى عذراء قد دفنُوا ... وهم صِحَاب لَهُم فضل واكرام)
ألى آخر الْبَيْتَيْنِ عودا وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فى أَربع عشرَة بعد الالف
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمر بن سَالم الملقب شمس الدّين بن أَبى البقا الْمَعْرُوف بالقصير الموصلى الاصل الدمشقى الشافعى الْمَذْهَب ذكره النَّجْم وَقَالَ كَانَ يحفظ كَلَام الله تَعَالَى حفظا متينا ويحفظ من خطب الشهَاب الطيبى كثيرا أَخذ القراآت عَنهُ وَعَن وَلَده الشهَاب أَحْمد الصَّغِير وَكَانَ حَرِيصًا على مصنفات الطيبى ومناطمه وَكَانَ يلازم صَلَاة الظّهْر وَالْعصر فى جَامع الاموى وَيصلى الْجَمَاعَة ارْبَعْ مَرَّات وليم على الزِّيَادَة على مرَّتَيْنِ فَلم يدع ذَلِك وَولى ربع خطابة التوريزية بمحلة قبر عَاتِكَة مِقْدَار أَربع سِنِين وَتوفى فى جُمَادَى الاخرة سنة خمس عشرَة بعد الالف وَدفن بمقبرة مرج الدحداح على وَالِده قلت وَقد ذكر النَّجْم أَبَاهُ أَبَا البقا فى الْكَوَاكِب وَذكر ان جده لامه قاضى الْقُضَاة محيى الدّين النعيمى وانه مَاتَ فى غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَانِبك القاضى شمس الدّين الْمَعْرُوف بالسكنجى الدمشقى الشافعى ذكره النَّجْم وَقَالَ أَخذ الْعلم عَن الْعَلَاء بن الْعِمَاد والنور النسفى القاضى وَغَيرهمَا لكنه لم يحصل شَيْئا وَكَانَ مغفلا يعْتَقد الْفَضِيلَة فى نَفسه ويدعيها وناب فى الْقَضَاء فى تَوْلِيَة الْمولى على بن الحنائ فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة بمحكمة قناة العونى ثمَّ بمحكمة الميدان ثمَّ بمحكمة الصالحية ثمَّ بمحكمة الْكُبْرَى ثمَّ بِالْبَابِ بعد القاضى(4/159)
عمر بن الْموقع وعزل مِنْهَا مرَارًا وأعيد اليها وامتحن فى فتْنَة مَحْمُود البواب يعْنى الَّتِى ذكرنَا خَبَرهَا فى تَرْجَمَة حسن باشا بن مُحَمَّد الْوَزير وَأَخذه هُوَ والقاضى عبد الله ابْن الرملى المالكى من المحكمة الْكُبْرَى مهانين وحبسهما فى بَيت ابْن خطاب وَكَانَ أحد الشُّهُود بهَا مُحَمَّد بن عُثْمَان أَمِين الدّين الصالحى يداعب القاضى السكنجى وَيَقُول لَهُ يَا مَوْلَانَا أَنْت ضائع فى هَذِه المحكمة وَقد قصروا فى حَقك فَيَقُول لَهُ يَا قاضى أَمِين الدّين أما انا صَالح للنيابة فَيَقُول لَهُ يَا مَوْلَانَا القاضى الشافعى قامتكم مَا تصلح الا للباب فيتشكر مِنْهُ ويفرح بِمَا يَقُوله وَهُوَ يُرِيد التورية عَن نِيَابَة الْبَاب بِالْبَابِ الذى تعزر بِهِ السوقة وَلما ولى النِّيَابَة فى أول الامر أنكر النَّاس ذَلِك لقلَّة بضاعته وَعدم صلاحيته اذ ذَاك للْقَضَاء وَكَانَ يتعاقب الْقَضَاء بِالْبَابِ هُوَ وَالسَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الجعفرى الْمَعْرُوف بالصالحى ثمَّ اسْتَقر هُوَ فى النِّيَابَة حَتَّى مَاتَ فى أَوَاخِر شهر ربيع الاول سنة سِتّ عشرَة بعد الالف عَن بضع وَسبعين سنة
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الملقب شمس الدّين المهدوى المالكى الازهرى ذكره الشَّيْخ مَدين وَقَالَ فى حَقه كَانَ عَالما نحوياً لَهُ من التآليف شرحان على الاجرومية كَبِير وصغير ذكر فيهمَا اعراب كل شَاهد ذكره قَالَ وَالْكَبِير رَأَيْته بِخَطِّهِ فى تِسْعَة عشر كراسا بِخَط مضموم فى نصف الفرخ سَمَّاهُ بالتحفة الانسية على الْمُقدمَة الاجرومية وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث عشر من الْمحرم سنة عشْرين وَألف وَدفن خَارج بَاب النَّصْر بِالْقربِ من حَوْض اللفت بجوار الْعَارِف بِاللَّه سيدى ابراهيم الجعبرى قدس الله سره
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن شمس الدّين الشهير بِابْن سعد الدّين الشَّيْخ المربى الْجواد الجبارى الدمشقى الشافعى الصوفى كَانَ فى مبدأ امْرَهْ يتعانى التِّجَارَة ويسافر الى الْحجاز وَوَقع لَهُ اجتماعات بسادات من الاولياء حلت عَلَيْهِ أنظارهم وَجرى لَهُ مَعَهم مكاشفات حدث من لَفظه انه كَانَ هُوَ وَبَعض اخوانه بِمَكَّة وَقد فرغت نَفَقَتهم وَكَانَ مَعَهم بضائع شامية الا انها كَانَت كاسدة اذ ذَاك فأصبحنا يَوْمنَا وَنحن فى اضْطِرَاب وَتردد فى الِاسْتِدَانَة من مقصد فَدخل علينا الشَّيْخ الصَّالح المعتقد أَبُو بكر الْيُمْنَى نزيل مَكَّة وَقَالَ كَيفَ حالكم يَا أَوْلَاد أخى وَجلسَ يعْمل الْقصب وَكَانَت حرفته فَلَمَّا قَامَ قَالَ هاتوا أَرْبَعِينَ محلقا قَالَ وَلم يكن مَعنا غَيرهَا فدفعناها اليه فاخذ خواطرنا ودعا لنا فَلم يكن بأسرع من أَن جَاءَنَا الدَّلال(4/160)
وبعنا مَا كَانَ مَعنا من البضائع وَمن ثمَّ اتسعت دائرته ونبل وَتَوَلَّى مشيخة بنى سعد الدّين فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وتصدى لتلقى الصُّوفِيَّة وَالزُّوَّارِ المتبركين واستعد للنَّاس اسْتِعْدَادًا عَظِيما وشيعه فى ذَلِك اخوه ابراهيم الْمُقدم ذكره وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد يسْتَمر فى زاويتهم ويستعقب اخاه الْمَذْكُور فى حلقتهم بالجامع الاموى يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ اذا تردد الى الْحُكَّام ووجوه النَّاس كَانَا مَعًا وعلت كلمتهما فى دمشق حَتَّى نَشأ لَهما ولدان هما عِيسَى بن مُحَمَّد وَكَمَال الدّين بن ابراهيم فتناظر الْولدَان وَدخل بَينهمَا المترددون بالقال والقيل حَتَّى تعاديا وسرى ذَلِك الى ابويهما فَوَقع النزاع بَينهمَا وترافعا الى الْحُكَّام مرَارًا وَآل الامر الى ان عزل الشَّيْخ مُحَمَّد أَخَاهُ من مشيخة الْحلقَة وَصَارَ يذهب هُوَ بِنَفسِهِ الى الْحلقَة وَانْقطع اخوه فى بَيته ثمَّ مَاتَ قبل اخيه فاستقل الشَّيْخ مُحَمَّد بالمشيخة وَزَاد فى الاستعداد للنَّاس وَكَانَ يعم الْحُكَّام بنواله ويدعونه الى بُيُوتهم واقبلت النَّاس عَلَيْهِ اقبالا زَائِدا وَكَانَ سمته فى الْقرى للواردين سمة الْمُلُوك وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من افراد الدَّهْر ومحاسن الْعَصْر وَلَزِمَه جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم الْعَلَاء بن المرحل مفتى الْمَالِكِيَّة وَالشَّمْس الميدانى والتقى الزهيرى والشهاب الجعفرى القاضى الشافعى وابو الطّيب الغزى وَالشَّيْخ عبد الرَّحِيم الاسطوانى واخوه امين الدّين وَالشَّيْخ محيى الدّين الخضيرى والقطب بن سُلْطَان فى آخَرين وَكَانُوا فى عداد جماعته وَرَأس فى آخر أمره فى الشَّام بِحَيْثُ كَانَ صَدرا فى الْمجَالِس ومرجع النَّاس وجدد زاويتهم وَعمل مَجْلِسا آخر للضيافة وَعمر قبل ذَلِك بَيته عمَارَة الْمُلُوك وَكَانَت الْهَدَايَا تترادف اليه من سَائِر الاقطار وَملك من الْمزَارِع والاراضى والبساتين والحمامات والدكاكين شَيْئا كثيرا لَا يُمكن ضَبطه وَكَانَ مَعَ ذَلِك محافظا على الاوراد والصلوات بِالْجَمَاعَة فى أول الاوقات وَيُقِيم الذّكر على طريقتهم بالجامع الاموى وبالزاوية وَكَانَ يكرم الْعلمَاء ويجلهم وَيرجع الى قَوْلهم ويوقر الكبراء وَيحسن الى الْفُقَرَاء الا انه كَانَ لَا يُعَارض فى اغراضه لسعة جاهه ونفوذ كَلمته ووفور حرمته وَكَانَ جوادا سخيا متواضعا وَكَانَ سَافر الى الْقُدس غير مرّة وَحج مرَارًا كَثِيرَة ومدح بالقصائد البديعة واثنى النَّاس عَلَيْهِ كثيرا وَكَانَت وَفَاته فى ثلث اللَّيْل الاول من لَيْلَة الثُّلَاثَاء الْعشْرين من صفر سنة عشْرين بعد الالف وحفلت جنَازَته كثيرا وَدفن خَارج بَاب الله غربى الْمَعْرُوفَة بتربة الحصنى وَقد مَاتَ عَن احدى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة وَمكث فى مشيخة بنى سعد الدّين اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى(4/161)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن سيمان الملقب نَاصِر الدّين الاسطوانى الحنبلى اُحْدُ الْعُدُول بِدِمَشْق كَانَ من اعرف الْكتاب بمحكمة الْبَاب وَكَانَ يكْتب بَين يدى قُضَاة الْقُضَاة وَكَانَ شيخ الاسلام الشهَاب العيثاوى ويثنى عَلَيْهِ كثيرا ويعدله وَيَقُول هُوَ احسن الشُّهُود كِتَابَة وادينهم وَكَانَ صامتا قَلِيل الْكَلَام لَا يدْخل فِيمَا لَا يعنيه وَكَانَت وَفَاته فى رَجَب سنة عشْرين بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس الْمَعْرُوفَة بتربة الغرباء رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الملقب شمس الدّين الحجازى الحميدى الحمصى الدمشقى وَيعرف فى حمص بِابْن سماقة وفى دمشق بالحجازى لمجاورته بِمَكَّة بضع عشرَة سنة وَكَانَ اذا انتسب ينتسب للحميدى شيخ البخارى الشَّيْخ الامام الْعَالم الْفَقِيه الْمُفْتى الْهمام أَخذ طَرِيق الْقَوْم عَن الشَّيْخ على الانبلاقى الْيُمْنَى القاطن بِالْمَدِينَةِ المنورة وَكَانَ مَوْجُودا فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ عَاد الى دمشق فصحب الشَّيْخ مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن خطيب السَّقِيفَة وَزعم انه أَخذ عَنهُ علم الزايرجا وَعلم الكيميا وعرفهما وَصَحبه لذَلِك الخواجه ابْن عتور فاتلف عَلَيْهِ مَالا كثيرا وَأخذ الطِّبّ عَن الشَّيْخ يُونُس بن جمال الدّين رَئِيس الاطباء بِدِمَشْق واختص بِصُحْبَتِهِ زَمَانا وَكَانَ يحاضر باخباره كثيرا فَمن ذَلِك مَا ذكره ابو المعالى الطالوى فى كِتَابه السانحات وفى الْقصر اخبرنى من لَفظه فى مَسْجِد القلعى دَاخل سور دمشق غرَّة ذى الْقعدَة سنة سِتّ بعد الالف قَالَ بَيْنَمَا أَنا فى مَجْلِسه واذا بقاصد من قبل القاضى مَعْرُوف الصهيونى الْمُتَوفَّى سنة احدى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَمَعَهُ سكرجة يستهدى فِيهَا شَيْئا من التَّرْكِيب الْمُسَمّى ببرء سَاعَة وفى طراز السكرجة هَذِه الابيات
(لَا زَالَ كل رَئِيس ... يُرِيك سمعا وطاعه)
(وكل رب مزاج ... بكم يُرْجَى انتفاعه)
(عبد اتاكم محب ... قد مد كف الضراعه)
(يشكوا أَذَى ودواه ... لديكم برْء ساعه)
فَقضى حَاجته وَكتب تَحت السكرجة فى اقل من دقيقة هَذِه الابيات
(العَبْد عبد محب ... ابدى قبولا وطاعه)
(كالسحر قَابل أمرا ... مطرزا بالبراعه)
(أهْدى اليكم دَوَاء ... مهذبا بالصناعه)(4/162)
(يشفى بِفعل وحى ... على الْمَكَان ابْن ساعه)
وَصَحب الشَّيْخ مُوسَى الكنارى الدمشقى الصوفى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْمَشْهُور الْمُتَوفَّى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة واخذ عَنهُ واعرض عَنهُ الكنارى آخرا وَكَانَ سَبَب اعراضه عَنهُ ان الشَّيْخ مُوسَى ذكر حَدِيثا عَن النبى
فِيهِ رخصَة فَقَالَ الحجازى ان النبى
عجرف فى ذَلِك فَغَضب الشَّيْخ مُوسَى وَقَالَ لَا تعد الينا بعْدهَا وَلم يعد حَتَّى سَافر الى مصر ثمَّ جَاءَ بعد مُدَّة وَمَعَهُ من الْهَدِيَّة أَشْيَاء الى الشَّيْخ فَلم يقبلهَا مِنْهُ وَقَالَ يَا رجل خرجنَا عَنْك لله فَلَا نعود وَاسْتقر آخر أمره على الافادة مَعَ التَّرَدُّد الى الْحُكَّام واستجلابهم بالالواح الموفقة والتبشير لَهُم على دَعْوَى معرفَة ذَلِك بالارصاد والاستخراج من الجفر وبالخط فى الرمل وَغَيره وَكَانُوا يجلونه لذَلِك وحظى عِنْد قاضى الْقُضَاة السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول وبشره بَان زَوجته تحمل وتلد ولدا ذكرا وامره ان يُسَمِّيه مُحَمَّد فَوَافَقَ ان ولد لَهُ ذكر فَسَماهُ مُحَمَّدًا وبشره بانه يكون الْهدى الْمَوْعُود بِهِ فى آخر الزَّمَان وبشره بانه يلى قَضَاء الْعَسْكَر فَيكون فِيهِ سبع عشرَة سنة فَلَمَّا ولى قَضَاء الْعَسْكَر باناطولى كَانَ الحجازى مَعَه فاعطاه الْمدرسَة التقوية بِدِمَشْق عَن شيخ الاسلام الْبَدْر الغزى وَكَانَ ذَلِك تعصبا من ابْن مَعْلُول فانه عضب على الْبَدْر الغزى لما كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق لانه كَانَ قد مَاتَ لَهُ بنت فَمَا خرج الْبَدْر لجنازتها فاضمر ذَلِك فى نَفسه فَلَمَّا ولى قَضَاء الْعَسْكَر اراد اهانته فولى الْمدرسَة الْمَذْكُورَة الحجازى فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك الى الشَّام كَادَت تميد باهلها استعظاما لهَذَا الامر حَتَّى ان بَعضهم مَا كَانَ يعْتَقد صِحَة هَذَا الْخَبَر لانه من قبيل المستحيل عَادَة فَبعد نَحْو شَهْرَيْن جَاءَ الْخَبَر بعزل ابْن مَعْلُول من قَضَاء الْعَسْكَر وصيرورة شيخ الاسلام شيخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الياس الشهير بجوى زَاده مَكَانَهُ فَرد الْمدرسَة الى الْبَدْر فى أول يَوْم من تَوليته لانه قد روى الحَدِيث بِدِمَشْق عَن الْبَدْر حِين كَانَ قَاضِيا بهَا فى سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَعَاد الحجازى الى دمشق مُتَوَلِّيًا فحلقه عَزله وَكَانَ سفر الحجازى من دمشق الى الرّوم يَوْم السبت سادس عشرى الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَعَاد الى دمشق فَدَخلَهَا فى سَابِع عشرى رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة مُتَوَلِّيًا للتقوية بعد ان فرغ عَن دَار الحَدِيث الاشرفية لوَلَده عبد الْحق الْمُقدم ذكره وَورد الْخَبَر بعزله واعادتها للبدر يَوْم الاربعاء تَاسِع شَوَّال مِنْهَا وَعمل فى الحجازى أشعار واهاج وَبقيت فى يَد الْبَدْر سنة واياما ثمَّ لما مَاتَ الْبَدْر ولى الحجازى التقوية وَلما مَاتَ(4/163)
الشهَاب الفلوجى عرض القاضى لَهُ اذ ذَاك فى الشامية البرانية وَكتب شيخ الاسلام أَبُو الْفِدَاء اسمعيل النابلسى كتاب الى بعض اصحابه بالروم من الموالى فَجَاءَت بَرَاءَة الشامية باسم النابلسى وَكَانَ سعى الحجازى فى التقوية بعد ذَلِك ودرس بالعذراوية وَدَار الحَدِيث الاشرفية وَجمع لَهُ بَينهمَا بعد ان تفرغ عَن التقوية لِابْنِهِ عبد الْحق وَكَانَ هُوَ وَولده ملازمين لمَسْجِد القلعى يدرسان فِيهِ ويتردد النَّاس اليهما وَكَانَ ينْسب للمترجم جمع الاموال وَرُبمَا حصل لَهُ بِسَبَب الشفاعات والمخافات الْهَدَايَا والاموال وَكَانَ يَصُوم الْعشْر الاخر من جُمَادَى الْآخِرَة وَرَجَب وَشَعْبَان وَلَا يَأْكُل اللَّحْم عِنْد صَوْمه وَلَا يَأْكُل عِنْد الْفطر الا الحمص وَالزَّيْت ويعد النَّاس مِنْهُ ذَلِك رياضة لاجل التَّوَصُّل الى مَا هُوَ فِيهِ من اسْتِعْمَال الاسماء وتوفيق الاوفاق وَكَانَ ينْسب اليه قلَّة الانصاف والطمع الزَّائِد قَرَأت بِخَط الْعَلامَة اسماعيل بن عبد الْغنى بن أَبى الْفِدَاء اسماعيل النابلسى قَالَ وجدت بِخَط الْعَلامَة الْعُمْدَة الفهامة المرحوم السَّيِّد مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد القدسى انه فى عَام ثَمَانِينَ انْحَلَّت مشيخة الجهاركسيه فى الصالحية فتوجهت لطلبها من قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق فاخذ فى الْوَعْد فذهبنا الى الشَّيْخ مُحَمَّد الحجازى ليدعو لى بتحصيلها فَمَا قُمْت من عِنْده الا وَقد أرسل الى القاضى يطْلبهَا لنَفسِهِ فَقلت فى ذَلِك هَذِه الابيات ودفعتها لقاضى دمشق
(لقاضى جلق وافيت يَوْمًا ... ولى جِهَة ونفسى تشتهيها)
(فماطلنى فرحت الى الحجازى ... ليوصلنى بدعوات اليها)
(فَأَطْرَقَ رَأسه للارض يَدْعُو ... ودمعته غَدَتْ تجرى بديها)
(وَصَارَ لنَفسِهِ يسْعَى بعزم ... وَكَانَ بكاؤه حرصا عَلَيْهَا)
قَالَ النابلسى وَقد اتّفق لى مَعَ ولد وَلَده فى الْفَرَاغ عَن هَذِه الْوَظِيفَة نَحْو ذَلِك بِقصَّة مُطَوَّلَة وَهَذَا من عَجِيب الِاتِّفَاق وَبعد هَذَا فالانصاف فِيهِ انه كَانَ متضلعا من الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة والعربية عَلامَة فيهمَا وَكَانَ لَهُ استحضارا حسن للابحاث والشواهد وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمِمَّا رَأَيْته مَنْسُوبا اليه قَوْله
(بدا كالبدر يجلى فَوق غُصْن ... يميس بِحسن قد وابتسام)
(وأرخى فَوق خديه لثاما ... فَمَا احلاه فى ذَاك اللئام)
(يغار الْبَدْر مِنْهُ اذا تبدى ... وَيخْفى تَحت اذيال الْغَمَام)
(كحيل الطّرف ذُو خد أسيل ... نحيل الخصر ممشوق القوام)(4/164)
(لَهُ مقل مراض قاتلات ... فواتر راميات بِالسِّهَامِ)
(رمى بسهام مقلته فؤادى ... فَمَا أحلاه من رشا ورام)
(فوا أسفاه كَيفَ أَمُوت وجدا ... وَلَا أقضى من الرامى مرامى)
(لَهُ ثغر حوى فِيهِ رحيقا ... بِهِ يشفى العليل من السقام)
(أَنا المضنى المتيم فى هَوَاهُ ... وجفنى من جفاه جَفا منامى)
وَله أَيْضا هَذَا الْمَقْطُوع وَهُوَ قَوْله
(يَا خل ذَا الحبشى يفتن وَاقِفًا ... من شَرطه قاضى الْهوى قد حَار فى)
(يقْضى بِذَاكَ الشَّرْط فى عشاقه ... فالصب مقتول بِشَرْط الْوَاقِف)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا أخبر بِهِ من لَفظه للبورينى وَتوفى يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشرى شعْبَان سنة عشْرين بعد الالف قَالَه البورينى وَقد اعتمدته واما قَول النَّجْم انه سنة تسع فقد ناقضه مناقضة ظَاهِرَة بقوله فى تَرْجَمَة وَلَده عبد الْحق انه توفى لخامس عشر رَمَضَان سنة عشْرين وعقبه بقوله وَبَينه وَبَين وَالِده اُحْدُ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير قَالَ البورينى وَالْعجب انه كَانَ وَاقِفًا عِنْد بَاب مَسْجِد القلعى على حَانُوت خباز كَانَ يعْتَاد الْوُقُوف عَلَيْهِ لقَضَاء بعض الْحَوَائِج فَأعْطَاهُ رجل سؤالاً ليكتب عَلَيْهِ الْجَواب فَأخذ الْقَلَم بِيَدِهِ وَكتب الْحَمد لله رب زدنى علما وَمد صُورَة ألف ليكتب لاما فانجر الْقَلَم مَعَ يَده على القرطاس وَوَقع مغشيا عَلَيْهِ فاستمر فى بَيته نَحْو اسبوع وَقضى الى رَحْمَة الله وَلم ينْطق بِحرف فِيمَا علمناه وَالله أعلم
مُحَمَّد بن مُحَمَّد شمس الدّين بن الجوخى الشافعى الْفَاضِل الذكى الْمَشْهُور كَانَ جيد الْمُشَاركَة محسنها فى كثير من الْعُلُوم كالفقه والنحو والمعانى وَغَيرهَا وآباؤه من رُؤَسَاء التُّجَّار المياسير بِدِمَشْق وَلما مَاتَ وَالِده ترك لَهُ ولاخيه محيى الدّين أَمْوَالًا كَثِيرَة فَكَانَا يتعاونان فى تنميتها وَكَانَ منزويا عَن النَّاس مُقْتَصرا على نفع نَفسه وينسب اليه الشُّح لزم أَبَا الْفِدَاء اسماعيل النابلسى والشهاب العيثاوى فى الْفِقْه وَأخذ الْعَرَبيَّة والمعانى عَن النابلسى الْمَذْكُور والعماد الحنفى وَالشَّمْس بن المنقار وَأخذ التَّفْسِير عَن جدى القاضى محب الدّين وَتزَوج بنت الشَّيْخ الْعِمَاد الْمَذْكُور بعد وَفَاة بَعْلهَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن يحيى البهنسى وسافر الى مصر فَأخذ عَن شيوخها وَملك كتبا كَثِيرَة وَكَانَ رَفِيقًا للقاضى بدر الدّين حسن الموصلى(4/165)
فى الِاشْتِغَال وَبَينهمَا صداقة كُلية وتناسب كثير وَكَانَ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من تقليب الاموال لَا يتْرك الِاشْتِغَال بِالْعلمِ وَكَانَ ينظم الشّعْر ووقفت على أَبْيَات لَهُ فى مَجْمُوع بِخَط ابْنه أَبى اللطف كتبهَا للعمادى الْمُفْتى فى صدر كتاب لَهُ وهى هَذِه
(وَمَا شوق ظمآن الْفُؤَاد رمت بِهِ ... صروف الليالى فى مُلَمَّعَة قفر)
(شكا من لظى نارين ضمت عَلَيْهِمَا ... أضالعه نَار الهجير مَعَ الهجر)
(يرْوى غليل الارض من فيض دمعه ... وَلَيْسَ لَهُ جهد الى غلل الصَّدْر)
(الى عَارض من مزنة عطفت بِهِ ... نسيم صبا الاحباب من حَيْثُ لَا يدرى)
(بأبرح من شوقى لرؤياكم الَّتِى ... أعد لعمرى أَنَّهَا لَذَّة الْعُمر)
وَكَانَت وَفَاته فى أَوَائِل شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَولى أمره وَأمر أَوْلَاده الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى لغيبة أَخِيه الخوجا محيى الدّين بِمصْر ثمَّ لما رَجَعَ الى الشَّام سلم اليه مَا كَانَ بِيَدِهِ قلت وَكَانَ نبغ لَهُ ولد اسْمه أَبُو اللطف وَكَانَ نبل وَفضل وَله أدب وَشعر وَبَينه وَبَين الامير المنجكى مُرَاجعَة وَقد ذكرته هُوَ ووالده فى كتابى النفحة وأوردت لَهُ بعض أشعار ووقفت عَلَيْهَا بِخَطِّهِ من جُمْلَتهَا قَوْله
(بعيشكم أهل الصبابة وَالصبَا ... أقلبا رَأَيْتُمْ مثل قلبى معذبا)
(فَلم أرلى فى محنة الْحبّ منجدا ... وَلم أستطع من فيض دمعى تحجبا)
(وَقد صرت من حر الْفِرَاق بِحَيْثُ لَو ... يُشَاهد حالى كل واش تحجبا)
(فيا لَيْت من أهواه فى النّوم زارنى ... فشلى معنى صَار فى حبه هبا)
(سَأَلت الذى قد قدر الْبعد بَيْننَا ... سيجمعنا يَوْمًا يكون لَهُ نبا)
وانما لم افرد لَهُ فى كتابى هَذَا تَرْجَمَة لانه لم أَقف على تَارِيخ وَفَاته واحسب انه تجَاوز عشر الثَّلَاثِينَ
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الفرفور الحنفى الدمشقى تخرج أَولا بِعَمِّهِ القاضى جمال الدّين ثمَّ اشْتغل على القاضى مُحَمَّد الاندلسى بن المالكى المغربى فَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من النَّحْو وَالصرْف وَقَرَأَ على الْحسن البورينى حِصَّة من شرح التَّلْخِيص الْمُخْتَصر للتفتازانى ثمَّ حضر دروس الْجد القاضى محب الدّين وَولى نظارة أوقافهم ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الاغلبكية بِمحل القيمريه بِدِمَشْق وهى مَشْرُوطَة لَهُم وَكَانَ لَهُ هَيْئَة حَسَنَة وظرافه وَكَانَ لَهُ خيل على عَادَة أَوْلَاد الاكابر وَكَانَ ينظم الشّعْر(4/166)
فَمن شعره مَا كتبه الى شَيْخه البورينى مستنجزا وَعدا
(يَا عَالما قد رقى فى الْعلم مرتبَة ... دارت بقطب سناها دارة الْقَمَر)
(وكاملا قد سما فى الْخَافِقين لَهُ ... بِالْفَضْلِ ذكر حميد سَار كالمثل)
(وَمن هُوَ الجهبذا الحبر الذى شهِدت ... لَهُ الموالى هداة الْعلم وَالْعَمَل)
(حوى معارف فضل لَيْسَ ينكرها ... سوى جهول لفرط الْحمق معتزل)
(شيخ الْعُلُوم الَّتِى تبدى فوائدها ... فوائدا لم تقل فى الاعصر الاول)
(جَوَاهِر قد حلى جيد الزَّمَان بهَا ... من بعد مَا مر حينا وَهُوَ ذُو عطل)
(مولى غَدا مجرياً فضل السباق بمضمار العلى فى سِيَاق الْبَحْث والجدل ... )
(ودوحة الْفضل تزهو من جلالته ... ورونق الْعلم مِنْهُ عَاد فى كمل)
(يَا صَاح ان رمت حل المشكلات فلذ ... بِهِ وَعَن فهمه السيال قُم فسل)
(حبر تفرد فى جمع الْكَمَال فَلَا ... يرى مضاهيه فى مَاض ومقتبل)
(هَذَا وَقد طَال وعد مِنْك يَا سندى ... وَالْقلب من أَجله قد صَار فى شغل)
(والوعد دين لَدَى رب الْكَمَال يرى ... قَضَاؤُهُ لَازِما من غير مَا مهل)
(فحققن رجائى فاعتقادى فى ... صدق العلى لكم عَار عَن الزلل)
(وجد برد جوابى فالجوى بى قد ... أحَاط والوجد منى غير منتقل)
(وخادع الدَّهْر قد أبدى جِنَايَته ... كَأَنَّهُ طَالب ثارا على دخل)
(أقلب الطّرف من وجدى لعلى أَن ... أرى معينا لدفع الْحَادِث الجلل)
وَذكر النَّجْم هَذَا الْمَقْطُوع وَقَالَ انه مِمَّا أنشدنيه
(اذا أَرَادَ الاله أمرا ... قَضَاؤُهُ فى النُّفُوس مبرم)
(فوضت أمرى وَقلت خيرا ... مَا دفع الله كَانَ أعظم)
قَالَ وَمِمَّا اتّفق لَهُ انه لما ولى قَضَاء دمشق السَّيِّد مُحَمَّد الشريف وَكَانَ لَهُ حِدة وَكَانَ مِمَّن صحب الامير مُحَمَّد بن منجك فشفع الامير مُحَمَّد الى القاضى الْمَذْكُور لِابْنِ عَم مُحَمَّد المترجم عمر بن جمال الدّين ان ينظر فِيمَا بَينه وَبَين ابْن عَمه من الِاسْتِحْقَاق فى أوقافهم فاحتد القاضى على مُحَمَّد حَتَّى عَزله عَن النّظر وولاه ابْن عَمه عمر فَحصل لمُحَمد غَايَة الْقَهْر وَالْكَسْر ثمَّ اصلح بَينهمَا الامير بعد ان وصل الى مرده وبقى مُحَمَّد على انكساره الى أَن مَاتَ قَالَ البورينى أخبرنى من لَفظه ان وِلَادَته فى ثَالِث عشر ذى الْقعدَة سنة احدى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى بعد ان تمرض أَيَّامًا قَليلَة بحمى محرقة فى يَوْم الْجُمُعَة(4/167)
حادى عشرى شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف عَن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة وَأَبوهُ مَاتَ أَيْضا وسنه ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَدفن بتربتهم جوَار ضريح الشَّيْخ ارسلان قدس الله سره
مُحَمَّد بن مُحَمَّد سعد الدّين حسن جَان الشهير بِابْن الخوجة مفتى السلطنة وَرَئِيس علمائها وَكَانَ فى الْفضل والفطنة والحافظة فى مرتبَة خَارِجَة عَن طوق الْبشر وَلَقَد يحْكى عَنهُ انه ركب يَوْمًا الْبَحْر بِقصد السّير فى بُسْتَان لَهُ مَعْرُوف قَدِيما بِهِ وَكَانَ أَمِين الْفَتْوَى فى خدمته وَكَانَ توزيع الْفَتَاوَى قرب فَقَالَ لَهُ أخرج الاسئلة واقرأها على لاستحضر أجوبتها فاذا وصلنا الْبُسْتَان سهلت الْكِتَابَة عَلَيْهَا فأخرجها وَقرأَهَا حَتَّى أَتَى على آخرهَا وَكَانَ يضع المقروء أَمَامه فى الزورق الذى هم فِيهِ فَهبت ريح عَاصِفَة بالاوراق وألقتها فى الْبَحْر فاضطرب الامين لذَلِك غَايَة الِاضْطِرَاب فَقَالَ لَهُ لَا بَأْس عَلَيْك فَلَمَّا وصل الْبُسْتَان استدعى بقراطيس وَقسمهَا صورا وَقَالَ اكْتُبْ مَا أمْلى عَلَيْك وَأخذ يمليه الاسئلة المكتتبة وَهُوَ يكْتب حَتَّى لم يبْق شئ مِنْهَا وبلغنى من بعض الروميين انها كَانَت تنوف على مائَة سُؤال وَهَذِه المنقبة من أعظم مَا يكون وهى كَافِيَة لَهُ عَن الاطناب فى وَصفه وَله نظم بالالسنة الثَّلَاثَة وَخمْس القصيدة البرأة بِتَمَامِهَا وَله انشاء وخطب وتقاريظ كلهَا ممتعة وَلَقَد وقفت لَهُ على تقريظ كتبه على كتاب فى الطِّبّ يَقُول فِيهِ
(رَوْضَة أنوار آثَار الشفا مِنْهَا تلوح ... دوحة أنوار أثمار الصَّفَا فِيهَا تفوح)
(عرفهَا ذَاك يقوى الْقلب طيبا طيبا ... مِنْهُ للارواح روح فِيهِ للابدان روح)
رَوْضَة نباتها أزهرت فاقتطفت مِنْهَا أدوية الشِّفَاء وحديقة دوحتها أثمرت فاجتنيت من أَغْصَانهَا أفاويه الدَّوَاء أَجَاد جَامعهَا وَأحسن وأمعن فِيمَا جمع وأتقن حَيْثُ أَتَى بمختصر حسن فى تَلْخِيص مطولات هَذَا الْفَنّ فغدا موجزا سديدا نفيسا يَلِيق بَان يكون لحذاق الطِّبّ أنيسا فِيهِ مَالا يسع الطَّبِيب جَهله وانما يعرف قدره أَهله جرى فِيهِ على سمت الطبائع كَمَا هُوَ بَين أهل الْفَنّ شَائِع فان الشَّرْع مناع الشنائع يدل الاسباب والعلامات على اتقان بأوضح العلامات يتَعَيَّن للاعيان أَن يتمموا آماله ويطيبوا بِطيب التطبيب باله وَقد ولى قَضَاء دَار الْخلَافَة ثمَّ قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولى فى ثانى عشر رَجَب سنة أَربع بعد الالف وسافر هُوَ وَأَبوهُ مَعَ السُّلْطَان مُحَمَّد(4/168)
ابْن مُرَاد فى سفر أكرى وَظَهَرت كفايتهما فى ذَلِك السّفر وَحكى ان صَاحب التَّرْجَمَة تدرع ايام الْمُحَاربَة وجاهد مجاهدة عَظِيمَة ونفع النَّفْع التَّام عِنْد هجوم الْكفَّار على صف السُّلْطَان فَكَانَ يجمع الْعَسْكَر الى طرف السُّلْطَان وَيُقَاتل أَشد الْقِتَال حَتَّى وهب الله النَّصْر وَالظفر وَفتحت قلعة اكرى وَلما رَجَعَ السُّلْطَان عزل عَن قَضَاء الْعَسْكَر فى خَامِس عشر جُمَادَى الاولى سنة خمس بعد الالف ثمَّ ولى قَضَاء روم ايلى فى خَامِس عشر ذى الْقعدَة سنة سبع بعد الالف وعزل فى ثامن عشر شهر رَمَضَان سنة تسع بعد الالف وَولى الافتاء فى صفر سنة عشر وَألف وعزل فى ثانى عشرى رَجَب سنة احدى عشرَة ثمَّ اعيد فى صفر سنة سبع عشرَة وبقى الى أَن مَاتَ فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى مفتى الشَّام فى تَارِيخ وَفَاته
(قدمات مُحَمَّد الْعُلُوم الْمَعْلُوم ... فالروم رجت لفقد ذَاك المخدوم)
(لم لَا وأتى وفْق وَفَاة المرحوم ... تَارِيخ افول شمس علم فى الرّوم)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشريف شمس الدّين بن السَّيِّد كَمَال الدّين بن عجلَان نقيب الاشراف بِدِمَشْق وَكَانَ قبل ذَلِك كأبيه وَقد تقدم ذكر شيخ الْمَشَايِخ فَلَمَّا مَاتَ السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد حُسَيْن بن حَمْزَة فى سنة سِتّ عشرَة وَألف بحماة قَافِلًا من حلب كَمَا تقدم فى تَرْجَمته وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين اذ ذَاك بحلب فَطلب النقابة عَنهُ للسَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور من الْوَزير الاعظم مُرَاد باشا فَعرض لَهُ فِيهَا فوجهت اليه ووليها مُدَّة سلك فِيهَا مسلكا حسنا وتصدى للنَّاس بِالْكَرمِ وَحسن الْخلق مَعَ صغر سنه وَكَانَ حسن الْمُوَافقَة كثير الْحيَاء والسخاء متخلقا بالاخلاق الَّتِى تدل على صِحَة الشّرف وَالنّسب وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت ثامن عشرى رَجَب سنة خمس وَعشْرين وَألف بعد ان تمرض نَحْو خَمْسَة أَيَّام بحمى محرقة وَلم يبلغ أَرْبَعِينَ سنة وَدفن بتربة الجورة من ميدان الْحَصَى بِالْقربِ من دَارهم
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَانِبك القاضى كَمَال الدّين بن القاضى شمس الدّين المالكى الْمَذْهَب وَأَبوهُ الْمُقدم ذكره كَانَ شافعيا وَيعرف بالسكنجى ولى الْقَضَاء بقناة العونى ثمَّ بالكبرى وَكَانَ فَاضلا سَاكِنا وَهُوَ على كل حَال أفضل من أَبِيه واحذق وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر شَوَّال سنة تسع وَعشْرين بعد الالف
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حبيقه الدمشقى الميدانى الطَّبِيب أَخذ الطِّبّ عَن عَمه يحيى وَغَيره(4/169)
وعالج النَّاس كثيرا فَصَارَ لَهُ آخر الامر حذق وَمَعْرِفَة تَامَّة وانتفع بِهِ النَّاس ولازمته الْحمى سنتَيْن أَو ثَلَاثَة حَتَّى قَالَ مَا رَأَيْت اعْجَبْ من هَذِه الْحمى الَّتِى تأخذنى وَمَات بِدِمَشْق فى شعْبَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَقد جَاوز التسعين رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن أَحْمد بن مُحَمَّد الملقب شمس الدّين الحموى الاصل الدمشقى الْمولى الميدانى الشافعى عَام الشَّام ومحدثها وَصدر علمائها الْحَافِظ المتقن كَانَ بديع التَّقْرِير متين لتحقيق غَايَة فى دقة النّظر وَكَمَال التدقيق حَافِظًا ضابطا ذَا ذهن ثاقب وقريحة وقادة وَسُرْعَة فهم وَنظر مُسْتَقِيم ومروءة وعقل وافر وشكل نورانى شَدِيد الانقبضاض عَن النَّاس شَدِيدا فى الدّين مهابا جدا عِنْد النَّاس ولد بِدِمَشْق وَقَرَأَ الْقُرْآن وَغَيره على الشَّيْخ قزيحة امام جَامع منجك بميدان الْحَصَى خَارج دمشق وَقَرَأَ فى الْقُرْآن على الشَّيْخ حسن الصلتى والفرائض والحساب على الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن ابراهيم التنورى ثمَّ أنكر مشيخة الْمَذْكُور فَكَانَ يَقُول غصبنى اسمى وشهرتى وسمى نَفسه مُحَمَّد الميدانى وانما مُحَمَّد الميدانى أَنا وَهُوَ مَسْكَنه بالقبة الطَّوِيلَة جوَار حارة بَاب الْمصلى ثمَّ قَرَأَ فى القراآت وَغَيرهَا على شيخ الاسلام الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد الطيبى والشهاب أَحْمد بن الْبَدْر الغزى وَأخذ عَن الْبَدْر وَكَانَ يحضر دروسه وَعَن الشّرف يُونُس العيثاوى وَمَنْصُور بن الْمُحب وَقَرَأَ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة عَن أَبى الْفِدَاء اسماعيل النابلسى والعماد الحنفى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الحجازى والشهاب العيثاوى ثمَّ أنكر مشيخة هذَيْن بعد عوده من مصر ورحل الى مصر فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وجاور بالازهر تسع سِنِين وَحضر دروس مَشَايِخ الاسلام بهَا كَالشَّمْسِ الرملى والنور والزيادى وَمن فى طبقتهما من عُلَمَاء وقته وانهمك على الطّلب واستغرق فِيهِ جَمِيع أوقاته حَتَّى كَانَ أهل الازهر يضْربُونَ الْمثل بفهمه وثباته وَكتب جملَة كتب بِيَدِهِ ثمَّ قدم الشَّام فى سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فتصدر بهَا للتدريس وَالْقِرَاءَة فَاجْتمع اليه الطّلبَة طبقَة بعد طبقَة نَحْو أَرْبَعِينَ سنة وشاع أمره قَالَ النَّجْم وَكَانَ اعظم معلوماته الْفِقْه الا انه كَانَ يشبه على الطّلبَة ويورد الاشكالات عَلَيْهِم فاذا أجابوه خطأهم فاذا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِكَلَام الْمُتَأَخِّرين كشيخه الرملى والزيادى وَابْن حجر يَقُول مَا علينا من كَلَامهم ويخطئهم واذ رُوجِعَ غاظ من يُرَاجِعهُ وَكَانَ يحب التبكيت بالطلبة والنداء عَلَيْهِم بِالْجَهْلِ وَعدم الْفَهم وَكَانَ لَا يتواضع مَعَ الْعلمَاء والافاضل فَبِهَذَا السَّبَب مكث بِدِمَشْق(4/170)
سِنِين وَلم يَجْعَل لَهُ من الْجِهَات والوظائف الا قَلِيل حَتَّى ظفر بعض تلاميذه بالوظائف السّنيَّة وَهُوَ محروم مِنْهَا وَكَانَ يتكبر على الاكابر من الْعلمَاء الْمَوْجُودين اذ ذَاك كَالشَّمْسِ ابْن المنقار والقاضى محب الدّين الَّذين يحْتَاج الى ملايمتهم والتردد اليهم وَحُضُور دروسهم وَلم يحصل على مُرَاده مِنْهُم ثمَّ حصل على امامة الشَّافِعِيَّة الاولى بِجَامِع بنى أُميَّة وَشطر اخرى بَينه وَبَين القاضى بدر الدّين الموصلى تمّ انْحَلَّت قِرَاءَة الحَدِيث عَن الشَّيْخ نجم الدّين بن حَمْزَة العاتكى فوجهت اليه وَقِرَاءَة الحَدِيث والوعظ عَن الشَّيْخ ولى الدّين الكفرسوسى فوجهت اليه وَلم يباشرهما قطّ ثمَّ لما انْحَلَّت امامة الْمَقْصُورَة شركَة شَيخنَا يعْنى الشهَاب العيثاوى عَن الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن مُوسَى بن عفيف الدّين الآتى ذكره وَجههَا قاضى الْقُضَاة مُحَمَّد الشريف اليه وَلما انْحَلَّت خطابة الصابونية عَن الشَّيْخ بَرَكَات بن الكيال ذهب ليشفع لوَلَده الشَّيْخ كَمَال الدّين الْكَاتِب فِيهَا فطلبها لنَفسِهِ فاعطيها وَكَانَ لما مَاتَ الشَّمْس الداودى فقد النَّاس مَجْلِسه للْحَدِيث فَقَامَتْ الطّلبَة على الميدانى لعقد مجْلِس فى الحَدِيث بعد مَوته بِسنتَيْنِ أَو أَكثر فاقرأ فى صَحِيح البخارى بعد صَلَاة الْعَصْر وَاخْتَارَ ان يكون جُلُوسه تَحت قبَّة النسْر وَكَانَ الداودى يجلس تجاه الْمِحْرَاب الذى للشَّافِعِيَّة وَكَانَت الْعَوام تحمل عَنهُ مسَائِل فَنَشَأَ عَنهُ القَوْل بتفضيل الْمَلَائِكَة مُطلقًا وانكار ان تكون قِرَاءَة كل قَارِئ بِالنِّسْبَةِ اليه متواترة الا أَن يتلقاها عَن مَشَايِخ يبلغ عَددهمْ التَّوَاتُر وَكَانَ لَهُ من هَذَا الْقَبِيل اشياء وَلما توفى الشَّيْخ عبد الْحق الحجازى وَجه اليه قاضى الْقُضَاة بِالشَّام الْمولى نوح بن أَحْمد الانصارى تدريس دَار الحَدِيث الاشرفية فَلَمَّا كَانَ طاعون سنة تسع وَعشْرين مَاتَ لَهُ ولد بَالغ كفيف الْبَصَر لَهُ فَضِيلَة وَكَانَ اسْمه مُحَمَّدًا وَلم يكن لَهُ ولد غَيره سوى بنت فَوجدَ لفقده وَحمله حزنه على ان تفرغ عَن وظائفه واظهر انه يُرِيد الْحَج والمجاورة بِمَكَّة ثمَّ سَافر صُحْبَة الشَّيْخ سعد الدّين الى مَكَّة وجاور ثمَّ رَجَعَ من الْعَام الْمقبل سنة ثَلَاثِينَ ثمَّ ورد عَلَيْهِ فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بَرَاءَة فى تدريس الشامية البرانية سعى لَهُ فِيهَا مُحَمَّد البحرى بِدلَالَة باكير محْضر باشى عَن مدرسها النَّجْم الغزى فبادر قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق وَسلمهَا اليه فسافر النَّجْم لاجلها الى الرّوم وَألف رحلته الَّتِى سَمَّاهَا بِالْعقدِ المنظم فى رحْلَة الرّوم وَقرر بِالْمَدْرَسَةِ بِقَيْد الْحَيَاة وتسلمها فَلَمَّا كَانَ أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بعث باكير بَرَاءَة بتقرير الشَّمْس فى الْمدرسَة أَيْضا وترافعا لَدَى قاضى(4/171)
الْقُضَاة فأبرز النَّجْم نقلا عَن عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة ان السُّلْطَان اذا أعْطى رجلا وَظِيفَة بِقَيْد الْحَيَاة ثمَّ وَجههَا لغيره لَا يَنْعَزِل عَنْهَا الا أَن ينص السُّلْطَان على الرُّجُوع عَن الاعطاء بِقَيْد الْحَيَاة فَلَمَّا رأى قاضى الْقُضَاة الْمولى عبد الله الْمَعْرُوف ببلبل زَاده النَّقْل قَالَ للنجم الْحق لَك لَكِن تطيعنا على رِعَايَة سنّ هَذَا الرجل ونقسم بَيْنكُمَا التدريس فَصَارَت الْوَظِيفَة بَينهمَا شرطين الى أَن مَاتَ الميدانى فضم الشّطْر الثانى الى النَّجْم وَكَانَ الميدانى مبتليا بالقولنج قَالَ النَّجْم وَلم يدرس بالاشرفية وَلَا بالشامية وَلم يُبَاشر وظائفة الا الامامة فى بعض الاوقات وَكَانَ يمدح الْحِرْص وَجمع الدُّنْيَا وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الْفِقْه الا انه انْفَرد بمسائل كَانَ يفيدها على خلاف الْمَذْهَب وَكَانَ يُنكر أَن يُقَال تَحِيَّة الْمَسْجِد وَيَقُول قُولُوا تَحِيَّة رب الْمَسْجِد ويحتج بِمَا تَأَول بِهِ ابْن الْعِمَاد فى قَوْلهم تَحِيَّة الْمَسْجِد وَهُوَ خلاف الْمَنْقُول الجارى على أَلْسِنَة الْعلمَاء قَدِيما وحديثا وَمن اغرب مَا وَقع لَهُ فى مجْلِس عُثْمَان باشا نَائِب الشَّام فى لَيْلَة النّصْف من رَمَضَان سنة احدى عشرَة وَألف وَكَانَ فى الْمجْلس الشهَاب العيثاوى والْعَلَاء الطرابلسى والنجم الغزى فتذاكروا فضل دمشق وجامعها حَتَّى ذكر السَّيِّد مُعَاوِيَة رضى الله عَنهُ وانه مدفون بِبَاب الصَّغِير وقبره ومعروف يزار وَكَانَ الذاكر لذَلِك الْعَلَاء فَقَالَ الشَّمْس هَذَا الْمَشْهُور بِبَاب الصَّغِير قبر مُعَاوِيَة لَا مُعَاوِيَة الْكَبِير وَمُعَاوِيَة الصَّغِير ابْن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَكَانَ صَالحا بِخِلَاف أَبِيه فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء فَأَيْنَ قبر مُعَاوِيَة الْكَبِير قَالَ فى بَيته فى قبْلَة الْجَامِع الاموى وَقيل ان قَبره غير مَعْرُوف وأخفى قَبره وَهَذَا مِنْهُ غير تثبت وَلَا احسب انه يرى لَهُ نقل فان كَون قبر مُعَاوِيَة فى بَاب الصَّغِير شَائِع مَحْفُوظ فى الالسن وَذكره غير وَاحِد مِنْهُم الْحَافِظ السيوطى فانه قَالَ فى تَارِيخ الْخُلَفَاء فى تَرْجَمَة مُعَاوِيَة رضى الله عَنهُ انه دفن بَين بَاب الْجَابِيَة وَبَاب الصَّغِير وَكَانَ قَدِيما وَقع بَينه وَبَين بعض مشايخه فى مسئلة الكاس الْمَوْضُوع الْآن فى صحن الْجَامِع الاموى فَكَانَ الشَّمْس يَقُول بِصِحَّة الْوضُوء مِنْهُ لانه يَتَحَرَّك المَاء بحركته وَهُوَ زَائِد على الْقلَّتَيْنِ وَكلما يَتَحَرَّك المَاء بحركته يعْتَبر فِيهِ الْقَوْلَانِ وَشَيْخه بخالفه فى ذَلِك ويشنع عَلَيْهِ وَكَانَ اذ ذَاك شَابًّا وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْل فِيهِ انه عَالم عصره وَرَئِيس محدثيه وفقهائه خُصُوصا بعد موت الشهَاب العيثاوى وَبلغ بِهِ سطوع الشَّأْن الى مرتبَة قل من يضاهيه فِيهَا حَتَّى ان الْحُكَّام كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الظُّلم خوفًا مِنْهُ ويحترمونه اقوى احترام مَعَ عدم تردده اليهم وَقلة اكتراثه بهم وحطه(4/172)
عَلَيْهِم وَأكْثر النَّاس من الاخذ عَنهُ وَالْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَمن اجل من أَخذ عَنهُ واعاد دروسه سِنِين الشّرف الدمشقى وَالشَّيْخ على القبردى وَله من التحريرات حَاشِيَة على شرح التَّحْرِير فى الْفِقْه لم تشتهر وَكَانَ يكْتب الْخط الْمَنْسُوب وَجمع من الْكتب شَيْئا كثيرا وَكَانَت وَفَاته بالقولنج فى وَقت الضُّحَى يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ والف وَصلى عَلَيْهِ قبل صَلَاة الْعَصْر وَدفن بمقبر بَاب الصَّغِير عِنْد قبر وَالِده وَلما أنزل فى قَبره عمل المؤذنون ببدعته الَّتِى ابتدعها مُدَّة سنوات بِدِمَشْق من افادته اياهم ان الاذان عِنْد دفن الْمَيِّت سنة وَهُوَ قَول ضَعِيف ذهب اليه بعض الْمُتَأَخِّرين ورده ابْن حجر فى الْعباب وَغَيره فأذنوا على قَبره وَحكى الشَّيْخ مُحَمَّد ميرزا الدمشقى نزيل الْمَدِينَة انه دخل عَلَيْهِ فى مرض مَوته يعودهُ فروى لَهُ حَدِيثا بِسَنَدِهِ وَهُوَ نعمتان مغبوط فيهمَا كثير من النَّاس الصِّحَّة والفراغ وَحكى الشَّمْس مُحَمَّد بن على المكتبى فى ثبته ان وَالِده الْمَذْكُور رأى لَيْلَة وَفَاة الشَّمْس وَهُوَ نَائِم فى خلوته بالمرادية انه حضر لسَمَاع خطبَته بالصابونية فاذا بِهِ قد خرج من بَيت الخطابة وعَلى رَأسه عِمَامَة بهَا تروك عدتهَا أَرْبَعُونَ وكل ترك مِنْهَا لَهُ عَلامَة تميزه بعذبة مرخية فَوق الْجَمِيع فَخَطب خطْبَة اولى وَنزل وَلم يتم الثَّانِيَة ثمَّ خرج النَّجْم الغزى من بَيت الخطابة وَعَلِيهِ تِلْكَ الْعِمَامَة بِعَينهَا من غير تَغْيِير لَهَا فَخَطب الْخطْبَة الثَّانِيَة وَصلى بهم الْجُمُعَة وَدخل بَاب الصَّغِير الْمُقَابل للجامع الْمَذْكُور والمقتدون فى وَجل عَظِيم فَقَامَ من مَنَامه وجلا وَعلم من التَّأْوِيل أَن الميدانى قضى نحبه فَتَوَضَّأ وَصلى بعض رَكْعَات واذا بالمؤذن دخل وَهُوَ يهلل جَهرا ويحادث بعض جمَاعَة وَيَقُول ان الشَّيْخ شمس الدّين قد مَاتَ واول هَذِه الرُّؤْيَا بَان الشَّمْس رَأس الاربعين واكثر النَّاس فِيهِ من المراثى والتواريخ فَمن ذَلِك تَارِيخ الاديب ابراهيم الاكرمى الصالحى وَهُوَ قَوْله
(شيخ دمشق وشمس دين الاله فِيهَا قضى وفاتا ... )
(فَقلت واحسرتاه ارخ ... أشافعى الزَّمَان مَاتَا)
وَمن ذَلِك تَارِيخ الشَّيْخ أَبى الطّيب الغزى قَوْله
(أَيهَا الْعَادِل دعنى وبكائى ... أَنْت خلو من مصابى وبلائى)
(عد عَنى لَا تلمنى أبدا ... فى رثائى لامام الْعلمَاء)
(غَابَ شمس الدّين عَنَّا فاذن ... نَحن فى ظلماء من بعد ضِيَاء)
(غَابَ عَنَّا بَغْتَة فانقمعت ... لرداه نجباء النبهاء)(4/173)
(كَانَ وَالله حَنِيفا مُسلما ... مُسْتَقِيمًا من كبار الصلحاء)
(يَا لَهُ من عَالم تَارِيخه ... مَاتَ بالقولنج نور النبلاء)
وَقَالَ أَيْضا
(أَيهَا الْعَصْر الذى ... باينته المكرمات)
(ساوت الايام فِيك الليالى المظلمات ... )
(فَاتَ مِنْهُ الْمُسلمين الْهدى ثمَّ المسلمات ... )
(وابكه للمشكلات الصعاب المبهمات ... )
(واستمع تَارِيخه ... شمسك العلام مَاتَ)
وَقَالَ فِيهِ أَبُو بكر الْعُمْرَى شيخ الادب
(مغانى الْعلم قد درست ... وَقد أقوت معالمها)
(لمَوْت الْعَالم النحرير عينى فاض ساجمها ... )
(من افتخرت بِهِ العلياء وانتظمت مكارمها ... )
(امام الْعَصْر شمس الدّين وَالدُّنْيَا مساهمها ... )
(قضى وَعَلِيهِ قد قَامَت ... من الدُّنْيَا مآتمها)
(فَقل ان شِئْت أَو ارخ ... دمشق مَاتَ عالمها)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بآلتى برمق صَاحب السِّيرَة النَّبَوِيَّة التركية أَصله من بَلْدَة أسكوب وَكَانَ يعرف بِابْن الجقرقجى أى الْخَرَّاط أَخذ طَرِيق البيرامية عَن السَّيِّد جَعْفَر المدفون باسكوب وَحصل طرفا عَظِيما من المعارف ثمَّ قدم قسطنطينية وعظ بهَا بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد وَحدث وَفسّر واشتهر صيته ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة وَألقى فِيهَا رَحل الاقامة وأحرز جرايات وجهات وَوعظ ومشيخة وَحج مِنْهَا وَرجع وَأقَام بهما وَله تآليف مِنْهَا تَرْجَمَة المطول بالتركية والسيرة التركية وهى تَرْجَمَة معارج النُّبُوَّة وترجمة نكار ستان غفارى سَمَّاهُ نزهة جهان ونادرة الزَّمَان وَكَانَ عذب الْبَيَان منطلق اللِّسَان حُلْو المحاوره لطيف المجاوره شرِيف النَّفس عَظِيم الجاه مَشْهُورا بِعظم الْقدر والشان وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُفْرد زَمَانه واوحد اقرانه وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ والف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد حجازى بن مُحَمَّد بن عبد الله الشهير بالواعظ القلقسندى بلد الشعراوى(4/174)
طَريقَة لوالده الخلوتى طَريقَة لَهُ الاكراوى مولد الشافعى الامام الْمُحدث المقرى خَاتِمَة الْعلمَاء كَانَ من الاكابر الراسخين فى الْعلم واشتهر بالمعارف الالهية وَبلغ فى الْعُلُوم الحرفية الْغَايَة القصوى مَعَ كَونه كَانَ يغلب عَلَيْهِ حب الخمول وكراهية الظُّهُور نَشأ بِمصْر وَحفظ الْقُرْآن وعدة متون فى النَّحْو والقراآت وَالْفِقْه وعرضها على عُلَمَاء عصره وَأخذ عَن جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم الْحَافِظ النَّجْم الغيطى وَالشَّيْخ الْجمال ابْن القاضى زَكَرِيَّا وَالشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد بن عبد الْحق السنباطى وَالشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراوى وَالشَّمْس مُحَمَّد الرملى وَالشَّيْخ شحاذة الْيُمْنَى وَالسَّيِّد الارميونى وَالشَّمْس العلقمى وَالشَّيْخ كريم الدّين الخلوتى وَأَجَازَهُ الْمُحدث الْمسند أَحْمد بن سَنَد بثلاثيات البخارى فى حُدُود السّبْعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن عضد الدّين مُحَمَّد بن اركماس اليشبكى التركى الحنفى رَفِيق الشَّيْخ عبد الْحق الكافيجى قَالَ المترجم كَمَا رَأَيْته بِخَط ابْنه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن نَاقِلا من خطّ وَالِده أَسمَاء مشايخه حَتَّى وصل الى ابْن اركماس وَهُوَ أَعلَى من لقيناه لسبقه بِالسِّنِّ انْتهى وَذكر الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة فى اجازة شيخ الْحَنَابِلَة بِالشَّام الشَّيْخ عبد الباقى البعلى قَالَ أروى بِحَق الاجازة عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن اركماس الحنفى المعمر السَّاكِن بغيط الْعدة بِمصْر الى مَوته بِحَق اجازته عَن شيخ الاسلام حَافظ الْعَصْر أَحْمد بن حجر العسقلانى وبحق اجتماعه مَعَ الْحَافِظ الْجلَال السيوطى وَالشَّيْخ عبد الْحق السنباطى قَالَ أَحدهمَا عَن الشَّيْخ محيى الدّين الكافيجى فبفضل الله تَعَالَى هَذَا الاسناد أَنا مُنْفَرد بِهِ مشرقا ومغربا انْتهى قلت وَقد تكلم فى لُحُوق ابْن اركماس لِابْنِ حجر فاستبعد وَأَنا رَأَيْت تَرْجَمته فى طَبَقَات الْحَنَفِيَّة الَّتِى ألفها القاضى تقى الدّين الْيُمْنَى فَقَالَ فِيهَا مُحَمَّد بن اركماس اليشبكى عضد الدّين النظامى نِسْبَة للنظام الحنفى لكَونه ابْن اخته ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَمَات وَالِده وَهُوَ صَغِير فرباه خَاله الْمَذْكُور وَحفظ الْقُرْآن والشاطبية والمنار والكنز والفية ابْن مَالك وَغَيرهَا وَعرض على ابْن حجر وَغَيره واشتغل على ابْن الديرى والزين قَاسم وَغَيرهمَا وَحج غير مرّة وكنب بِخَطِّهِ الْكثير وَجمع تذكرة فى مجلدات وَكَانَ لطيف الذَّات حسن الصِّفَات غزير الادب انْتهى وَأَنت اذا عرفت مولده لم تستبعد انه أَخذ عَن ابْن حجر فان وَفَاة ابْن حجر فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَمَانمِائَة فقد ثَبت بِهَذَا الْوَجْه لُحُوقه لِابْنِ حجر مَا لُحُوق صَاحب التَّرْجَمَة فَمُسلم لَا مطْعن فِيهِ وَبِالْجُمْلَةِ فقد نَالَ صَاحب التَّرْجَمَة بِهَذَا السَّنَد شَأْنًا(4/175)
عَظِيما وَله مَشَايِخ كَثِيرُونَ يبلغون ثلثمِائة شيخ وَعنهُ اخذ الشَّمْس البابلى وَعَامة الشُّيُوخ الْمُتَأَخِّرين بِمصْر وَمن الدمشقيين عبد الباقى الْمَذْكُور آنِفا وكل من لقِيه مثن عَلَيْهِ وَألف كتبا كَثِيرَة نافعة مِنْهَا شرح الْجَامِع الصَّغِير للسيوطى وَهُوَ شرح جَامع مُفِيد سَمَّاهُ فتح الْمولى النصير بشرح الْجَامِع الصَّغِير وَقد وصل حجمه الى اثنى عشر مجلدا كل مُجَلد خَمْسُونَ كرسا وَله شرح على الفية الحَدِيث الَّتِى للسيوطى أَيْضا وَله سَوَاء الصِّرَاط فى بَيَان الاشراط وَهُوَ كتاب جلليل فِي أَشْرَاط السَّاعَة أوصلها فِيهِ الى ثلثمِائة وَله القَوْل الشَّفِيع فى الصَّلَاة على الحبيب الشَّفِيع وَشرح على الطّيبَة الجزرية ونظم طيبَة على روى الشاطبية وَشَرحهَا وَله ثَلَاثَة شُرُوح على الْمُقدمَة الجزرية وَشرح على الاربعين المضاهية للاربعين النووية لِلْحَافِظِ السيوطى وَشرح على الْقَوَاعِد والضوابط النووية وَقطعَة على تَلْخِيص ابْن أَبى جَمْرَة لصحيح البخارى وَقطعَة على نظم الشَّيْخ العمريطى للتحرير ورسالة سَمَّاهَا القَوْل المشروح فى النَّفس وَالروح وَله كشف اللثام عَن آيَة احل لكم لَيْلَة الصّيام وَالْقَوْل المقبول فى كَفَّارَة ذَنْب الْمَقْتُول ووثوق الْيَدَيْنِ بِمَا يُجَاب عَن حَدِيث ذى الْيَدَيْنِ والرقيم المسطور فى علم الْمَوْتَى بِمن يزور الْقُبُور ومعترك الْخَلَاص فى تَكْرِير سُورَة الاخلاص وَالْجَوَاب الشَّفِيع عَن الجناب الرفيع وَالْقَوْل العلى فى رُؤْيَة الْملك العلى والسراج الْوَهَّاج فى ايضاح رَأَيْت ربى وَعَلِيهِ التَّاج وَالْجَلالَة بِمد الالف قبل هَاء الجلاله والموارد المستعذبه بمصادر الْعِمَامَة والعذبه والبرهان فى أوقاف السُّلْطَان والاستعلام عَن رُؤْيَة النبى فى الْمَنَام وَالْجَوَاب المصون فى آيَة {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} واتحاف السَّائِل بِمَا لفاطمة من الْفَضَائِل واطلاق الْعَنَان فى رُؤْيَة الله تَعَالَى فى العيان وتنبيه الْيَقظَان فى قَول سُبْحَانَ وَالْقَوْل المثبوت فى قصَّة هاروت وكشف النقاب فى حَيَاة الانبياء اذا تواروا فى التُّرَاب وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَكَانَت وِلَادَته فى اللَّيْلَة السَّابِعَة عشرَة من ذى الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَتِسْعمِائَة بِمَنْزِلَة اكرى من منَازِل الْحَاج المصرى حَال التَّوَجُّه الى بَيت الله الْحَرَام وَتوفى بِمصْر بعد اذان الْعَصْر من يَوْم الاربعاء سادس عشر شهر ربيع الاول سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن عِنْد وَالِده بتربة فِيهَا ولى الله تَعَالَى الشَّيْخ مُحَمَّد الفارقانى دَاخل جَامع يعرف بالشيخ الْمَذْكُور بسويقة عُصْفُور بِالْقربِ من المدابغ الْقَدِيمَة والاكراوى(4/176)
نِسْبَة لاكرى بِالْقصرِ وَيُقَال اكره منزلَة بطرِيق الْحَاج المصرى مَعْرُوفَة بقلة لَهُ مَائِهَا وفيهَا يَقُول فتح الله البيلونى الحلبى
(تعففت عَن وادى الْفَقِير ومائه ... وسرت بَيت الله أهْدى لَهُ شكره)
(ووفرت مَا عندى احْتِرَازًا واننى ... لصونى مَاء الْوَجْه لم أر مَا أكره)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن القاضى تقى الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام ابْن روزبه بن مَحْمُود بن ابراهيم بن أَحْمد الكازرونى المدنى الزبيرى امام الشَّافِعِيَّة بالْمقَام النبوى صلى الله على ساكنه وَسلم وكرم وَعظم ومفتى الْمَدِينَة ومدرسها بروضة الشِّفَاء كَانَ فى الْعُلُوم بحرا زاخرا وعلما ظَاهرا ساهم فى الْفَضَائِل فَأدْرك مَا أدْركهُ الاواخر والاوائل وَتخرج على يَدَيْهِ الْفُضَلَاء مَعَ عذوبة اللِّسَان وسعة الصَّدْر وَحسن الْخط وَكَانَ مبتلى بِالشَّكِّ فى الطَّهَارَة مَعَ كبر سنه وشيخوخته وَكَانَ صَدرا على الْقدر وافر الْحُرْمَة أَخذ عَن الطَّاهِر بن على بن الشَّيْخ مُحَمَّد بن عراق ولازمه وَبِه تخرج وَنزل لَهُ عَن امامته دون وَلَده وأشرك مَعَه فِيهَا مُحَمَّد مَكَارِم الْبناء ثمَّ انهما فرغا لولدى شيخهما مُحَمَّد وأخيه على بِالثُّلثِ بِطيب نفس مِنْهُمَا وَكَانَ مقَام الشَّافِعِيَّة بِطيبَة خَاصّا بهؤلاء الثَّلَاثَة الْوَظَائِف وهى الْوَظَائِف الْقَدِيمَة وَلم يكن لَاحَدَّ سواهُم فِيهِ وَظِيفَة وَأخذ عَنهُ أكَابِر لَا يُحصونَ كَثْرَة مِنْهُم عبد الله باولى وَابْن عَمه أَبُو السُّعُود الكازرونى الْمُقدم ذكره وَأحمد الصالحى وَكَانَ ذَا دنيا متسعة بِحَيْثُ أَن ورثته تقاسموا النَّقْد بالطاس كَمَا أخبر بذلك من أدْركهُ وَكَانَت وفته فى يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر ذى الْقعدَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ المنورة وَدفن ببقيع والغرقد بمدفن آبَائِهِ وأجداده
السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن برهَان الحسينى الشهير بشيخى وبالعلامة الحميدى الاصل القسطنطينى المولد نقيب الاشراف بممالك الرّوم المحروسة الْعَالم الحبر المتبحر فى الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول الباهر السمت كَانَ عَالما بارعا نبيها نبيلا صَاحب أَخْلَاق حميدة وَمَكَارِم جزيلة وَمَعْرِفَة تَامَّة بِلِسَان الْعَرَب وَله أشعار وانشاآت غضة لَازم من شيخ الاسلام يحيى زَكَرِيَّا ودرس وَلما ولى الولى الْمَذْكُور قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى ثانى مرّة صيره فى خدمَة التذاكر وَقد اتّفق لِابْنِ عَمه الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن برهَان الشهير بشريف الْمُقدم ذكره انه كَانَ من ملازمى وَالِد الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا وصيره وَهُوَ قاضى الْعَسْكَر بروم ايلى فى خدمَة التذاكر ثمَّ تنقل صَاحب التَّرْجَمَة(4/177)
فى الْمدَارِس الى أَن وصل الى الْمدرسَة السليمانية ثمَّ ولى مِنْهَا قَضَاء حلب ثمَّ صَار قَاضِيا بالقدم فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف ونظم قصيدته الْمَشْهُورَة وتعرف بالثلجية ورتب لمن يقْرؤهَا كل لَيْلَة فى الصَّخْرَة الشَّرِيفَة وَقفا وهى الى الْآن تقْرَأ كل لَيْلَة ومطلعها قَوْله
(مَا الثَّلج ثلج على ذَا الطّور وَالْحرم ... نور تجلى بِهِ الرَّحْمَن ذُو الْكَرم)
(من عهد مُوسَى تجلى لَا نَظِير لَهُ ... لكنه شَامِل للْعَرَب والعجم)
مِنْهَا
(من أَيمن الطّور نَار الله قد سطعت ... هياكل النُّور فى الزَّيْتُون والاجم)
(من جَانب الرّوم ضيف قد ألم بِنَا ... أنجى الْخَلَائق من جَدب وَمن ألم)
(منور الْوَجْه شيخ من محاسنه الْبيض ببيض وَجه البان وَالْعلم ... )
(ثانى سُلَيْمَان من حفت أريكته ... فالريح تحملهَا بِالْخَيْلِ والحشم)
(تواضعا وَجهه فى الارض محتشم ... فَمن تخطاه قل يَا زلَّة الْقدَم)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء الْقُدس فَوجه اليه قَضَاء الغلطة ثمَّ صَار نقيب الاشراف مَكَان ابْن عَمه الشريف الْمَذْكُور آنِفا وَوجه اليه رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولى وَعظم شَأْنه وروجع فى مهام الامور وشمله الْتِفَات السُّلْطَان مُرَاد وَكَانَ وافر السخاء والمروءة وَكَانَ مَجْلِسه مجمع الْفُضَلَاء من كل جَانب وَكَانَ يُورد عِنْده كل غامضة ويبث كل رائقة وَكثير من الادباء مدحوه وأثنوا عَلَيْهِ فَمنهمْ الاديب أَحْمد بن شاهين فانه كتب اليه هَذِه القصيدة لما صَار نَقِيبًا مهنئا لَهُ وهى
(ثَنَاء لآل الْمُصْطَفى وسناء ... بمطلع سعد لم تنله ذكاء)
(وأنى لشمس الافق مطلع سودد ... لَهُ من علا نور النبى سناء)
(وكل فخار بعد نور مُحَمَّد ... نبى الْهدى فى الْعَالمين مناء)
(لَك الْحَمد اللَّهُمَّ فِيمَا منحته ... وخيرتك اللَّهُمَّ حَيْثُ تشَاء)
(لصفوة هَذَا الْوَقْت من آل هَاشم ... وَمن قصرت عَن شأوه النظراء)
(لمولاى شيخ الدَّهْر علما وَمن لَهُ ... مَنَاقِب لم يظفر بهَا النُّقَبَاء)
(لعلامة الدُّنْيَا وحسبك شهرة ... لَهُ لقب دَانَتْ لَهُ الْعلمَاء)
(سما لمقام قد رقى بسموه ... لذاك لكل من علاهُ بهاء)
(وَمَا كَانَ الا الْبَدْر نورا ورفعة ... وحظ الورى مِنْهُ سنا وسناء)
(فَأصْبح شمسا لَا يُوَقت نورها ... سَوَاء صباح عِنْدهَا وَمَسَاء)(4/178)
(وَمَا زَاده فخرا حُلُول برتبة ... بروج ذكاء فى السمو سَوَاء)
(وانك يَا مولاى أشرف ذَا الورى ... لذاك نَقِيبًا عدك الشرفاء)
(فيا ابْن رَسُول الله وَابْن وَصِيّه ... وَمن كل قلب فِيهِ مِنْك رَجَاء)
(كفيت من الدُّنْيَا وَأَنت ذخيرتى ... لاخراى يَا من دونه الكرماء)
(وَلَيْسَ قريضى بَالغا فِيك مِدْحَة ... ولاهى مِمَّا يبلغ البلغاء)
(وان اله الْعَرْش أوصى بفضلكم ... بنى الْمُصْطَفى فليقصر الشُّعَرَاء)
وَكتب اليه فى جَوَاب كتاب ورد اليه من جنابه هَذِه
(جاءنى من جناب شيخى كتاب ... مستطاب مهذب مألوف)
(من جناب الشريف صدر الموالى ... هُوَ ذَاك الْعَلامَة الْمَعْرُوف)
(دُرَر كُله وسحر وخمر ... فلآليه كُلهنَّ شفوف)
(فبألفاظه اهتديت فمهما ... قيل أَحْسَنت قلت انى رَدِيف)
(قَائِلا فِيهِ قل أجيبك مهما ... رمته عِنْد همتى للطيف)
(فترويت ثمَّ جِئْت بِبَيْت ... قَالَه شَاعِر خَبِير عريف)
(مالنا فى الندى عَلَيْك اخْتِيَار ... كل مَا يمنح الشريف شرِيف)
وَحكى والدى قَالَ أخبرنى الْمولى الْعَلامَة الشهَاب الخفاجى وَأَنا بِمصْر فى سنة سِتِّينَ وَألف أَنه كَانَ فى يَوْم من الايام فى مَجْلِسه الرفيع الْمقَام مَعَ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وزمرة من الاماجد النبلاء فاحتجب الشهَاب عَن الْمجْلس لاجل الدُّخان وَكَانَ الْمَنْع عَنهُ قد حصل من حَضْرَة السُّلْطَان وَلما عَاد الى الْمجْلس أنْشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وهما نظم وقتهما من غير مين
(اذا شرب الدُّخان فَلَا تلمنا ... وجد بِالْعَفو يَا روض الامانى)
(تُرِيدُ مهذبا من غير ذَنْب ... وَهل عود يفوح بِلَا دُخان)
قَالَ فَأجَاب صَاحب التَّرْجَمَة فى الْحَال على سَبِيل الارتجال
(اذ شرب الدُّخان فَلَا تلمنى ... على لومى لابناء الزَّمَان)
(أُرِيد مهذبا من غير ذَنْب ... كريح الْمسك فاح بِلَا دُخان)
وَمن آثَار قلمه البديعة مَا كتبه الى الامام الْهمام يُوسُف بن أَبى الْفَتْح امام السُّلْطَان وَهُوَ بِدِمَشْق
(يَا من علا بجماله ... وكماله أَعلَى الْعلَا)
(منى اليك تَحِيَّة ... حرز البقا لذوى العلى)(4/179)
ينْهَى على رسم أولى النهى الى الْمحل الذى خصّه الْحسن والبها انه كُنَّا مجهزين اليه قبل تَارِيخه كتابا مَكْتُوبًا بمداد الصدْق والخلة وخطابا فِيهِ شِفَاء من الْعلَّة وَالْغلَّة ثمَّ قعدنا ناظرين بِمَ يرجع الْمُرْسل فَلم يظْهر مِمَّن رَحل وقفل وطلع وأفل نوع أثر من عين ونغمة خبر من ربَاب ذى رعين فَلَعَلَّ المجهز ضَاعَ فى الْبَين وَمَا ضَاعَ نشره بَين اثْنَيْنِ والا فالحبيب لَا محَالة وثيق الوفا سحيق عَن شفا جرف الجفا فَلَو وصل لوصل وَمَا قطع عروق مَا حصل ودمت يُوسُف الْحَقَائِق موفيا كيل الدقائق بَين مُتَّهم ومنجد ومشئم ومعرق وَكتب على رقْعَة دفعت اليه من بعض الْفُضَلَاء على يَد وَاسِطَة بعض خَواص الافاضل متضمنة لعتب حصل من الْمولى الْمَذْكُور يحْضرُون الى الْبَيْت ويحكون الْحِكَايَة كَيْت وَكَيْت قَضِيَّة الهجر فِرْيَة الواهمه والقطيعة من الْجِيرَان لَا من اهل كاظمه عِنْد الملاقاة تظهر الامور ولذى المصافاة يحصل شِفَاء الصُّدُور وَالسَّلَام وَكتب على اجازة لبَعض الحلبيين لما تشرفت بمطالعة هَذَا الطامور الْفَائِق على هياكل النُّور وقلائد الْحور بيمن مَا احتواه من ذكر الصَّالِحين الذى تنزل الرَّحْمَة عِنْده وَتحصل الاجور اللَّائِق كتبه بالمسك على الكافور بل سَواد أحداق الْحور على صَحَائِف قدود ربات الحجول والقصور ذكرتهم بِالدُّعَاءِ الصَّالح وَالثنَاء الْعطر الفاتح وأثنيت على صَاحبه الفائض الفالح بالمدح العبق اللائح مستمدا من روحانيتهم الْعَالِيَة متيمنا بِحسن الانتظام فى زمرتهم الساميه ومستمطرا سحب همتهم الهامية الناميه فَقلت فِيهِ مقرظا
(حققت أَن جمال الدّين من زمر ... حلوا مَحل سَواد الْقلب وَالنَّظَر)
(من أهل خرقَة تجويد بهَا ادرعوا ... والتاج بيضهم تحمى عَن الضَّرَر)
(من مشرب عبقرى بيضهم جدد ... المرتوى صدرهم من رَملَة الصَّدْر)
(المنتمين الى الباز المحلق فى ... جو الْعلَا الاشهب العالى عَن النّظر)
(طُوبَى لَهُ اذ جلا مرْآة خاطره ... بِخرقَة مِنْهُم تجلو عَن الكدر)
(جمال ذى الْعَصْر فى محياه دَامَ وَاد ... حلت شعوب جمال الْكتب وَالسير)
(بَين الالى فَرَأَوْا عزا لنظير لَهُ ... عز الفريدة فى عقد من الدُّرَر)
(فان لَهُ ينبح الحساد من حسد ... فَلَا يضر عواء الْكَلْب للقمر)
تمّ عزل عَن النقابة وَأعْطى قَضَاء مَكَّة المشرفة فسافر بحرا على طبق مَا أَمر بِهِ من(4/180)
قبل السُّلْطَان فَلَمَّا وصل الى ثغر جدة أدْركهُ بريد الْحمام وَذَلِكَ فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن على الشهير بالحزرمى الْبَصِير الدمشقى المولد والوفاة الحنفى الْفَقِيه الْعَالم الْجَلِيل الْقدر أحد شُيُوخ الْحَنَفِيَّة المتصدين للافادة أَخذ الْفِقْه عَن اجلاء كبار مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن العلمى نزيل دمشق وَقَرَأَ انواع الْعُلُوم على المنلا مُحَمَّد بن عبد الْملك البغدادى الدمشقى وَحصل وبرع وَلَزِمَه جمَاعَة من الْفُضَلَاء أخذُوا عَنهُ وانتفعوا بِهِ وَكَانَ أول أمره فَقِيرا فسكن فى حجرَة بمدرسة العزيزية وَاتفقَ انه دخل حجرته بعض السراق وَأخذُوا اسبابه وَبَعض دَرَاهِم كَانَ جمعهَا من كد وَجهد فَحصل لَهُ كَمَال الالم وفى اثناء ذَلِك عرض لَهُ الْعَمى وَكَانَ عروضه لَهُ فى حُدُود سنة عشْرين وَألف فعالج بَصَره مُدَّة فَمَا أَفَادَهُ العلاج فسافر الى بَغْدَاد راجيا ان يبرأ على يَد أحد فَمَا تيَسّر لَهُ فَعَاد الى دمشق ثمَّ وجهت اليه الْمدرسَة اليونسية فدرس بهَا وَكَانَ لَهُ بقْعَة بالجامع الاموى وَكَانَ قبل ان يكف ولى الخطابة بِجَامِع السُّلْطَان سُلَيْمَان مُدَّة وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير والحذرمى نِسْبَة الى حزر مَا بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بعد هازاى سَاكِنة ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة فيمَ فألف قَرْيَة بغوطة دمشق
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الملقب نجم الدّين الحلفاوى الانصارى الحلبى الدَّار الحنفى الْمَذْهَب خطيب جَامع حلب وصدرها الْمُسْتَوْفى اقسام النباهة والبراعة وَكَانَ فى عصره أوحد الْفُضَلَاء وابلغ البلغاء وَله الصيت الذائع بالسخاء والمروءة ووفور المهابة والفتوة ذكره الخفاجة فى الخبايا فَقَالَ فى وَصفه نجم طلع من وَافق المكارم زَائِد الِارْتفَاع وَنزل منَازِل سعد رقى فِيهَا عَن قَوس الشّرف باطول ذِرَاع يقطع أوقاته فى طلب الْفَضَائِل والكمال وَلَا ينزه طرفه فى غير سَمَاء خلال أَو رياض جمال فَلَو كَانَ الْعلم بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ أَو بالعيوق لطاله ثمَّ أورد لَهُ ابياتا كتبهَا الى النَّجْم فِيهَا سُؤال نحوى والابيات هى هَذِه
(أنجما أَضَاءَت سَمَاء الرتب ... بِهِ وتسامت فخارا حلب)
(أخالى واسمى أخلا لاسمه ... وَكم من اخاء يفوق النّسَب)
(أبن كلمة قيل مَبْنِيَّة ... بِغَيْر اخْتِلَاف لَهُم أَو شغب)
(وان نعتت كَانَ اعرابها ... باعراب ناعتها مَا السَّبَب)(4/181)
(فتبوعها لم يزل تَابعا ... على عكس مَا فى لِسَان الْعَرَب)
(فدم نجم سعد بِرَأْس الْعلَا ... وطالع اعدائه فى الذَّنب)
فَأَجَابَهُ النَّجْم أَيْضا بقوله
(أمولاى منشى لِسَان الْعَرَب ... وقاضى دواوين أهل الادب)
(وَمن فَضله شاع فى الكائنات ... ونال بِهِ ساميات الرتب)
(سبقت الالى فى نظام القريض ... وفى كل علم بلغت الارب)
(وجادت اكفك بالنائلات ... وفاضت بهَا غاديات النشب)
(لعمرى لقد فقت كل الانام ... بذوق حلا وبفهم ثقب)
(كَانَ الْمسَائِل قطر الندا ... وفكرك كالسحب مِنْهَا انسكب)
(وَقد كنت أسمع أوصافكم ... فَلَمَّا تبدت رَأَيْت الْعجب)
(وَقد كنت فى تَعب للعلوم ... فَلَمَّا رَأَيْتُك زَالَ التَّعَب)
(وَقد شرفت بك كل الْبِلَاد ... وشاق بِفَضْلِك نَادَى حلب)
(بعثت لعبدك در النظام ... وصغت لَهُ أنجما من ذهب)
(سكرت بِخَمْر معَان صفت ... بِهِ نقط الْخط مثل الحبب)
(تضمن لغزا يُنَادى بيا ... شهَاب بن شمس حويت الطّلب)
(فَلَا زلت تنظم نثر اللآل ... وتنثر من دره الْمُنْتَخب)
(وَلَا زلت أنْشد فِيهِ المديح ... وأطوى الزَّمَان بِهِ والحقب)
(وَأثْنى عَلَيْهِ بآلائه ... وَأقرب مِنْهُ نأى أَو قرب)
(وأذهب من نور آدابه ... ظلام الدياجى وظلم النوب)
(مدى الدَّهْر مَا انقض نجم وَمَا ... شهَاب سما فى سَمَاء الرتب)
وترجمه تِلْمِيذه البديعى فَقَالَ فى وَصفه امام الْفُضَلَاء الذى بِهِ يقتدون وبأنواره من حنادس الشّبَه يَهْتَدُونَ عَالم جدد رسوم البلاغة بعد ان نسجت عَلَيْهَا العناكب واحيا ربوعها بعد أَن قَامَت عَلَيْهَا النوادب وافتتح بصوارم افكاره مقفلات صياصيها واستخرج خرائدها الممنعة بمعاقلها واسترق نَوَاصِيهَا حسن سيرته وطهر سَرِيرَته وقدزها بخطابته الْجَامِع الاكبر
(لَو أَن مشتاقا تكلّف فَوق مَا ... فى وَسعه لسعى اليه الْمِنْبَر)
وَقد نسجت افكار شعراء الْعَصْر وشائع مفاخره وخلدت فى دواوينها ظرائف(4/182)
مآثره وَلم تزل حَضرته الشَّرِيفَة كعبة الْجُود وسدته المنيفة قبْلَة الْوُفُود مَعَ سماحة شيم وفصاحة كلم ورجاحة كرم وَقد أصَاب شاكلة الصَّوَاب وأتى بفصل الْخطاب من قَالَ فى مدحه
(لقد بت فى الشَّهْبَاء مَا بَين معشر ... تهاب الليالى ان تروع لَهُم جارا)
(مقاديرهم بَين الانام شريفة ... وَلَكِن نجم الدّين أشرف مِقْدَارًا)
(ترى الْبشر يَبْدُو من أسارير وَجهه ... فَلَو جِئْته لَيْلًا لاهداك انوارا)
ثمَّ أنْشد لَهُ من شعره قَوْله من قصيدة
(أَتَرَى الزَّمَان يُعِيد لى ايناسى ... ويرق لى ذَاك الحبيب القاسى)
(كم قد نشرت بِهِ باسط لذائذى ... وهصرت من عطفيه غُصْن الآس)
(أَيَّام لَا غُصْن الشَّبَاب بملتو ... عَنى وَلَا حبى لعهدى ناسى)
(قطر الحيا فى وجنتيه مكلل ... مثل الْحباب على صفاء الكاس)
(ساقيته طعم المدام فَلم يشب ... صفو الْحَيَاة بكدرة الادناس)
(لم أنسه متسر بِلَا ثوب الحياه ... متبخترا فى قده المياس)
وَقَوله فى قصيدة
(نثر الدّرّ من كلامك نظما ... لم نَكُنْ بعد ورده الدَّهْر نظما)
قلت وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن شيخ الاسلام عمر العرضى وَغَيره وتصدر للاقراء فَانْتَفع بِهِ الجم الْغَفِير من أهل دائرته من أَجلهم الْعَلامَة مُحَمَّد بن حسن الكواكبى مفتى حلب والفاضل الاديب مصطفى الثانى وَشَيخنَا الْعَلامَة الاجل أَحْمد بن مُحَمَّد المهمندارى مفتى الشَّام وَغَيرهم وَاجْتمعَ بِهِ والدى فى عودته من الرّوم فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَذكره فى رحلته الَّتِى الفها وقرظ لَهُ عَلَيْهَا النَّجْم المترجم فَقَالَ بعد الحمدلة والتصلية وَبعد فَلَمَّا تشرفت الشَّهْبَاء بقدوم مَوْلَانَا فَخر الافاضل وعمدة الادباء الْوَارِث سلافة الْمجد عَن أَبِيه وجده الْحَائِز قصبات الرِّهَان فى ميدان البلاغة بعزمه وجده من فاق ببلاغته نثر النظام وسما فى متانة نظمه على البحترى وابى تَمام وَملك ديوَان الانشاء وَلَا بدع فَذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَكَانَ قدومه عَلَيْهَا ووروده اليها من دَار السلطنة العليه قسطنطينية المحميه راتعا طيب الْعَيْش بِحُصُول المآرب ناهلا من وُرُوده على الذ المشارب فأوقفنى على هَذِه الرحلة الَّتِى تشد اليها الرّحال وتقف عِنْدهَا مطايا الآمال فوقفت على(4/183)
حديقة أريجة النَّبَات وصحيفة بهيجة الصِّفَات واجلت طرفى فى الفاظ ارق من السلافه والذ من الامن بعد الاخافة وَمَعَان أحلى من لعاب النَّحْل واعذب من الخصب بعد الْمحل جمعت فَضَائِل الْآدَاب وملكت معاقل الالباب تعرب عَن بلاغة منشيها وتبلغ الانفس من امانيها فَلَا زَالَت الاعين من لقائها مبتهجة والالسن بِحسن ثنائها ملتهجة وامده الله تَعَالَى بِسَعْد لَا انْقِطَاع لحبله وأيده بمجد لَا انصداع لشمله لابرح يرتع فى رياض الْفَضَائِل ويطبق من اصول دلائله الْمسَائِل على الدَّلَائِل انْتهى وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَخمسين وَألف وَجَاء تَارِيخ وَفَاته زفت لنجم الدّين حور الْجنان والحلفاوى بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام ثمَّ فَاء بعْدهَا ألف مَقْصُورَة قَالَ ابْن الحنبلى فى تَرْجَمَة الْعَفِيف مُحَمَّد بن أَبى النمر أخبرنى انما قيل لاجداده بَنو حلفاء لما انه كَانَ لَهُم أَب ولد فى طَرِيق الْحجاز بجوار أَرض كَانَت تنْبت الحلفاء وَلم يكن مهد يوضع فِيهِ فَكَانَت أمه تَأْخُذ شَيْئا من ورق الحلفاء وتضعه تَحت وَلَدهَا الى ان فَارَقت تِلْكَ الاراضى فسكنى بأبى حلفاء قَالَ فَنحْن بَنو أَبى حلفاء الا انه اختصر فَقيل بَنو حلفاء بِحَذْف مُضَاف قَالَ وَكَانَ أَمر أَن يكْتب فى نسبه الانصارى فى آخر وقته لما بلغه ان أَبَاهُ كَانَ من ذُرِّيَّة حباب بن الْمُنْذر بن الجموح الانصارى الخزرجى وَهُوَ الذى ذكر ابْن دُرَيْد فى تَرْجَمته فى كتاب الاسعاف انه شهد بَدْرًا قَالَ وَهُوَ ذُو الرأى سمى لمشورته يَوْم بدر ذَا الرأى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن طريف الصالحى الحنبلى قاضى العونية كَانَ من الْفُضَلَاء والاخيار الاتقياء عفيف النَّفس قانعا من الدُّنْيَا باليسير متجملا فى جَمِيع أُمُوره تولى نِيَابَة الْقَضَاء بمحكمة قناة العونى مُدَّة تزيد على أَرْبَعِينَ سنة وَلم ينْسب اليه مَكْرُوه قَرَأت بِخَط الشَّيْخ عبد الْحق المرزناتى أَنه أخبرهُ ان مولده فى ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الْخَمِيس تَاسِع شَوَّال سنة سبع وَخمسين وَألف بالصالحية وَصلى عَلَيْهِ بالجامع المظفرى وَدفن بالروضة من السفح قلت وَهُوَ وَالِد القاضى عبد اللَّطِيف بن طريف رَئِيس الموقعين بالعونية وامهر أهل فنه فى عصرنا الاخير مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف
مُحَمَّد على بن مُحَمَّد عَلان بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن عَلان بن عبد الْملك بن على بن مُجَدد الْمِائَة الثَّامِنَة كَمَا هُوَ مَشْهُور على الالسنة والافواه الشَّيْخ الْمُحَقق الطيبى والخطيب التبريزى صَاحب الْمشكاة على بن مبارك شاه البكرى الصديقى العلوى سبط آل(4/184)
الْحسن الشافعى وَتقدم نسبهم فى تَرْجَمَة عَمه الشَّيْخ أَحْمد بن ابراهيم منظوما فَلَا حَاجَة الى اعادته وَصَاحب التَّرْجَمَة هُوَ وَاحِد الدَّهْر فى الْفَضَائِل مُفَسّر كتاب الله تَعَالَى ومحيى السّنة بالديار الحجازية ومقرى كتاب صَحِيح البخارى من أَوله الى آخِره فى جَوف كعبة الله أحد الْعلمَاء الْمُفَسّرين والائمة الْمُحدثين عَالم الرّبع الْمَعْمُور صَاحب التصانيف الشهيرة كَانَ مرجعا لاهل عصره فى الْمسَائِل المشكلة فى جَمِيع الْفُنُون وَكَانَ اذا سُئِلَ عَن مسئلة ألف بِسُرْعَة رِسَالَة فى الْجَواب عَنْهَا ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن بالقراآت وَحفظ عدَّة متون فى كثير من الْفُنُون وَأخذ النَّحْو عَن الشَّيْخ عبد الرَّحِيم بن حسان قَرَأَ عَلَيْهِ شرح الاجرومية للازهرى وَشرح الْقَوَاعِد لَهُ وَشرح الفية ابْن مَالك للسيوطى وَعَن الشَّيْخ عبد الْملك العصامى قَرَأَ عَلَيْهِ شرح الْقطر للْمُصَنف وَشرح الشذور للْمُصَنف وَأخذ عَنهُ علم الْعرُوض والمعانى وَالْبَيَان وَأخذ القراآت والْحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف عَن عَمه الامام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ وَعَن الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَار الله بن فَهد الهاشمى وَالسَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى والصدر السعيد كَمَال الاسلام عبيد الله الخجندى وروى صَحِيح البخارى وَغَيره من كتب السّنَن اجازة عَن كثير من الشُّيُوخ الوافدين الى مَكَّة كالشيخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الولى جلال الدّين عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الشربينى العثمانى الشافعى وَعَن الْعَلامَة الْحسن البورينى الدمشقى وَعَن مفتى الْحَنَفِيَّة بِمصْر الشَّيْخ عبد الله النحراوى وَعَن مُحدث مصر مُحَمَّد حجازى الْوَاعِظ اجازة مِنْهُ فى سنة عشْرين والف وتصدر للاقراء وَله من السن ثَمَانِيَة عشر عَاما وباشر الافتاء وَله من السن أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَجمع بَين الرِّوَايَة والدراية وَالْعلم وَالْعَمَل وَكَانَ اماما ثِقَة من افراد أهل زَمَانه معرفَة وحفظا واتقانا وضبطا لحَدِيث رَسُول الله
وعلما بعلله وَصَحِيحه وَأَسَانِيده وَكَانَ شَبِيها بالجلال السيوطى فى معرفَة الحَدِيث وَضَبطه وَكَثْرَة مؤلفاته ورسائله قَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخيارى انه سيوطى زَمَانه وَحكى تِلْمِيذه الْفَاضِل مُحَمَّد النبلاوى الدمياطى نقلا عَنهُ انه قَالَ رؤى النبى
فى الْمَنَام وَهُوَ يعْطى النَّاس عطايا فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله وَابْن عَلان فاخذ يحثو لَهُ بِيَدِهِ الشَّرِيفَة حثيات وَقَالَ المترجم أَيْضا اخبرنى بعض الصَّالِحين عَن بَعضهم فى عَام سبع وَثَلَاثِينَ والف انه رأى النبى
فى الْمَنَام لَيْلَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب على نَاقَته عِنْد الْحجُون سائرا الى مَكَّة(4/185)
فَقبل يَده الشَّرِيفَة الْكَرِيمَة وَقَالَ يَا سيد الْمُرْسلين يَا رَسُول الله النَّاس قصدُوا حضرتك الشَّرِيفَة للزيارة فلماذا وصلت قَالَ لختم صَحِيح البخارى أَو لختم ابْن عَلان شكّ الرائى ثمَّ يَوْم الْخَتْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب ذَلِك الْعَام حضر بعض الصَّالِحين فحصلت لَهُ وَاقعَة رأى خيمة خضراء باعلى مَا بَين السَّمَاء والارض فَسَأَلَ فَقيل هَذَا النبى
حضر لختم البخارى وَكَانَ حسن الْخط كثير الضَّبْط وانتصب للتدريس ونفع النَّاس فاخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ يطول شرحهم وَقَرَأَ صَحِيح البخارى فى جَوف الْكَعْبَة أَيَّام بنائها لما انْهَدَمت فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ من جِهَة الْحطيم وَكَانَ سَبَب هدمها مجئ السَّيْل الآتى بَيَانه فى هَذِه التَّرْجَمَة وَكَانَ اتّفق لَهُ انه قَارب ختم الصَّحِيح وَكَانَ البناؤون قد جعلُوا لَهُم سترا حَال التَّعْمِير فخطر لَهُ أَن يدْخلهُ وَيخْتم فِيهِ وَيشْرب فِيهِ القهوة فَفعل فوشى بعض اعدائه الى الشريف وَقَالُوا انه قد جعل بَيت الله حانة للقهوة فاغضبوا الشريف عَلَيْهِ فارسل فى الْحَال وأحضره وحبسه واراد أَن يُوقع بِهِ أمرا فاخذ يَتْلُو الْقُرْآن ويتوسل الى الله تَعَالَى بِنَبِيِّهِ ان يكْشف عَنهُ هَذَا الكرب فاتفق ان الشريف كَانَ قَامَ لى صَلَاة الْمغرب وَهُوَ بقصره فاهتزت أَرْكَان القصروظن السامعون انها زَلْزَلَة وَقعت فَنَادَى الشريف وزيره وَسَأَلَهُ عَن الامر فاجابه انها كَرَامَة للشَّيْخ ابْن عَلان فَلَا سمع مقَالَته قَالَ لَهُ كَيفَ يكون حَالنَا مَعَه وَقد فعلنَا بِهِ هَذِه الفعلة فَقَالَ السَّبِيل الى أَخذ خاطره اطلاقه السَّاعَة فناداه اليه واستعفى مِمَّا فعله بِهِ وانعم عَلَيْهِ فَاعْتَذر ابْن عَلان ان مَا وَقع مِنْهُ كَانَ هفوة فَلَمَّا كَانَ عِنْد الصَّباح وجده اعداؤه طَائِفًا بِالْبَيْتِ وَكَانُوا يظنون غير ذَلِك وصنف فى جَوَاز التدريس دَاخل الْبَيْت مصنفا حافلا أطنب فِيهِ الْمقَال فى هَذَا الْمقَام وَجمع فِيهِ الاقوال فى هَذَا المرام وَسَماهُ القَوْل الْحق وَالنَّقْل الصَّرِيح بِجَوَاز ان يدرس بجوف الْكَعْبَة الحَدِيث الصَّحِيح وَألف كتبا كَثِيرَة فى عدَّة فنون تزيد على السِّتين وتآليفه كلهَا غرر فَمِنْهَا التَّفْسِير سَمَّاهُ ضِيَاء السَّبِيل الى معالم التَّنْزِيل وَله رفع الالتباس بِبَيَان اشْتِرَاك معانى الْفَاتِحَة وَسورَة النَّاس وَله رِسَالَة فى ختم البخارى سَمَّاهَا الْوَجْه الصبيح فى ختم الصَّحِيح وَله فتح الْكَرِيم الْقَادِر بِبَيَان مَا يتَعَلَّق بعاشوراء من الْفَضَائِل والاعمال والمآثر ونظم انموذج اللبيب للسيوطى وَشَرحه شرحا عَظِيما ونظم ام الْبَرَاهِين سَمَّاهَا العقد الثمين ونظم عقيدة النسفى سَمَّاهَا العقد الوفى ونظم مُخْتَصر الْمنَار فى اصول الْحَنَفِيَّة ونظم ايساغوجى وَالْعقد(4/186)
والمدخل فى علم البلاغة للعضد وَله فتح الْوَهَّاب بنظم رِسَالَة الْآدَاب للعضد وَله شرح على تصريف الشَّيْخ مُحَمَّد البركلى الْمُسَمّى بالكفاية سَمَّاهُ حسن الْعِنَايَة بالكفاية وَشرح الاذكار للنووى ورياض الصَّالِحين وَله دُرَر القلائد فِيمَا يتَعَلَّق بزمزم وسقاية الْعَبَّاس من الْفَوَائِد وَشرح منسك النووى الْكَبِير سَمَّاهُ فتح الفتاح فى شرح الايضاح وَشرح منظومة السيوطى فى مُوَافقَة عمر رضى الله عَنهُ لِلْقُرْآنِ وَله مؤلف فى رجال الاربعين النووية ومؤلفان فى التنباك أَحدهمَا يُسمى تحفة ذوى الادراك فى الْمَنْع من التنباك وَالْآخر اعلام الاخوان بِتَحْرِيم الدُّخان والابتهاج فى ختم الْمِنْهَاج ونظم الْقطر والاجرومية وحاشية على شرحها للشَّيْخ خَالِد الازهرى ورشف الرَّحِيق من شرب الصّديق وَله مؤلف لى أجداده الى الصّديق رضى الله تَعَالَى عَنهُ وارضاه ومؤلف فِيمَن اسْمه زيد وَحسن النبا فى فضل قبا اخْتَصَرَهُ من جَوَاهِر الانباء للشَّيْخ ابراهيم الوصابى الْيُمْنَى وزهر الرِّبَا فى فضل مَسْجِد قبا والنفحات الاحديه تصدير وتعجيز الْكَوَاكِب الدريه امن تذكر جيران بذى سلم وَالْعلم الْمُفْرد فى فضل الْحجر الاسود وَله اتحاف أهل الاسلام والايمان بِبَيَان ان الْمُصْطَفى
لَا يَخْلُو عَنهُ زمَان وَلَا مَكَان وشمس الْآفَاق فِيمَا للمصطفى
من كرم الاخلاق وحاتم الفتوه فى خَاتم النُّبُوَّة والطيف الطَّائِف بتاريخ وَج والطائف ومؤلف فِيمَن أردفهم رَسُول الله
مَعَه على مركوبه سَمَّاهُ بغية الظرفا فى معرفَة الردفا وبلغوا فَوق الاربعين وَله الْمنح الاحدية بتقريب معانى الهمزية وَشرح قلادة العقيان بشعب الايمان للشَّيْخ ابراهيم بن حسن مفتى ديار الشرق والاقوال المعرفه بفضائل أَعمال عرفه وَكتاب الْفَتْح المستجاد لبغداد ومنهج من ألف فِيمَا يرسم بِالْيَاءِ ويرسم بالالف ومورد الصَّفَا فى مولد الْمُصْطَفى والنفحات العنبريه فى مدح خير البريه وعيون الافادة فى أحرف الزِّيَادَة وَشرح منظمة ابْن الشحنه فى الْمعَانى وَالْبَيَان وَشرح الزّبد وَله المنهل العذب الْمُفْرد فى الْفَتْح العثمانى لمصر وَمن ولى نِيَابَة تِلْكَ الْبَلَد وَله ثَلَاثَة تواريخ فى بِنَاء الْكَعْبَة أَحدهَا أَلفه برسم خزانَة السُّلْطَان مُرَاد وَسَماهُ باسم فِيهِ تَارِيخ عَام عِمَارَته هُوَ انباء الْمُؤَيد الْجَلِيل مُرَاد بِبِنَاء بَيت الْوَهَّاب الْجواد وأرسله الى السُّلْطَان صُحْبَة المشير بتأليفه السَّيِّد مُحَمَّد الانقروى وَسَأَلَهُ أَن يعين لَهُ من الصَّدقَات والجرايات مَا يقوم بالكفاية وان(4/187)
يجدد لَهُ درسا لتفسير الْكتاب الْكَرِيم وَلِحَدِيث الْمُصْطَفى
فَمَا أَجدت وَله رِسَالَة فى تَعْرِيف وَاجِب الِاسْتِثْنَاء وجائزه سَمَّاهَا فتح الْمَالِك فى تَجْوِيز طَرِيق ابْن مَالك وَله مؤلف فى السَّيْل الْمُقدم ذكره آنِفا سَمَّاهُ اعلام سَائِر الانام بِقصَّة السَّيْل الذى سقط مِنْهُ بَيت الله الْحَرَام ثمَّ لخص مِنْهُ مُجَرّد مَا وَقع فى عمَارَة الْبَيْت واعرض عَمَّا فى أَصله مِمَّا زَاد عَن بَيَان أَعمال تِلْكَ الكره من أَحْوَال عِمَارَته العشره وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الاحكام وَجعل هَذَا الْمُخْتَصر باسم خزانَة السُّلْطَان مُرَاد وَله مؤلف فى ذَلِك أَيْضا سَمَّاهُ نشر الوية التشريف بالاعلام والتعريف بِمن لَهُ ولَايَة عمَارَة مَا سقط من الْبَيْت الشريف سَببه ان الْبَيْت الْعَتِيق لما سقط سَأَلَ الشريف مَسْعُود صَاحب مَكَّة اذ ذَاك الْعلمَاء عَن حكم عِمَارَته فاجابوا بانه فرض كِفَايَة على سَائِر الْمُسلمين ولشريف مَكَّة تعاطى ذَلِك وانه يعمره وَلَو انه من الْقَنَادِيل الَّتِى لم يعلم انها عينت من واقفها لعين الْعِمَارَة وَوَافَقَهُمْ صَاحب التَّرْجَمَة أَولا ثمَّ ظهر لَهُ ان هَذَا الْعَمَل لَا يتَوَجَّه الا الى السُّلْطَان الاعظم وَتوقف مُعظم الْعلمَاء عَن مُوَافَقَته فألف الْمُؤلف الْمَذْكُور ثمَّ بلغه توقفهم عَن دَلِيله فى ذَلِك فألف مؤلفا آخر سَمَّاهُ الْبَيَان والاعلام فى تَوْجِيه فَرضِيَّة عمَارَة السَّاقِط من الْبَيْت لسلطان الاسلام وَله فتح الْكَرِيم الفتاح فى حكم مَا سد بِهِ الْبَيْت من حصر وأعواد وألواح قَالَ الفته صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ سلخ رَمَضَان الى ضحوة نَهَار وَكنت فى عصر ذَلِك الْيَوْم نسخته لرئيس المعلمين على بن شمس الدّين وَبَين فِيهِ عَمَلهم أتم بَيَان وَله رِسَالَة فى الاعمال الَّتِى يحتاجها النَّائِب عَن الْعِمَارَة سَمَّاهَا فتح الْقَدِير فى الاعمال الَّتِى يحْتَاج اليها من حصل لَهُ بِالْملكِ على الْبَيْت ولَايَة التَّعْمِير وَله رِسَالَة سَمَّاهَا اسنى الْمَوَاهِب والفتوح بعمارة الْمقَام الابراهيمى وَبَاب الْكَعْبَة وسقفها والسطوح وَله رِسَالَة فى حجر اسماعيل وَكتاب النفحات الاريجه فى متعلقات بَيت ام الْمُؤمنِينَ خديجه وسارت بتآليفه الركْبَان واشتهرت بالآفاق وَله النّظم الْفَائِق فَمِنْهُ قَوْله فى بِئْر زَمْزَم
(وزمزم قَالُوا فِيهِ بعض ملوحة ... وَمِنْه مياه الْعين أحلى وأملح)
(فَقلت لَهُم قلبى يَرَاهَا ملاحة ... فَلَا بَرحت تحلو لقلبى وتملح)
وَقَوله
(يَا رب أَنْت حبست الْحسن فى قمر ... حُلْو الشمايل لَا يرثى لمن عشقه)
(أكاد أَدْعُو عَلَيْهِ حِين يهجرنى ... لَكِن لفرط غرامى تمنع الشفقه)
وَقَوله
(يَا مَالِكًا رق قلبى ... رفقا بِنَفس رقيقك ... )(4/188)
(الله بينى وَبَين السِّوَاك فى رشف ريقك ... )
وَقَوله
(يَا من يلم يلم فى هَوَاهُ ... وَلَا يُرَاعى الجمالا)
(بِاللَّه دعنى فانى ... لقد فنيت انتحالا)
وَله مضمنا
(كتبته ولهيب الشوق فى كبدى ... والدمع منسكب والبال مَشْغُول)
(وَقلت قد غَابَ من أهواه وَا أسفى ... بَانَتْ سعاد فقلبى الْيَوْم متبول)
وَمن املائه لنَفسِهِ قَوْله فى عقد الحَدِيث
(اذا أمسيت فابتدر الصباحا ... وَلَا تمهله تنْتَظر الصباحا)
(وَتب مِمَّا جنيت فكم أُنَاسًا ... قضوا نحبا وَقد نَامُوا صحاحا)
وَله اشعار كَثِيرَة مِنْهَا تشطير الهمزية وتخميسها وَخمْس قصيدة الشَّيْخ أَبى مَدين قدس سره وذيلها وَأنْشد لَهُ بَعضهم هَذِه الابيات
(الْمَوْت بَحر موجه طافح ... يغرق فِيهِ الماهر السابح)
(وَيحك يَا نفس قفى واسمعى ... مقَالَة قد قَالَهَا نَاصح)
(مَا ينفع الانسان فى قَبره ... الا التقى وَالْعَمَل الصَّالح)
وعَلى كل حَال ففضله وَشرف قدره مِمَّا شاع وذاع وملأ الدُّنْيَا والاسماع قَالَ البورينى فى تَارِيخه كَانَت وِلَادَته فى الْعشْرين من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الثُّلَاثَاء لتسْع بَقينَ من ذى الْحجَّة سنة سبع وَخمسين وَألف وَدفن بالمعلاة بِالْقربِ من قبر شيخ الاسلام ابْن حجر المكى رحمهمَا الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مفرج بن بدر وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة أَخِيه أَبى الطّيب مُحدث الشَّام ومسندها الشَّيْخ الامام نجم الدّين أَبُو المكارم وَأَبُو السُّعُود بن بدر الدّين بن رضى الدّين الغزى العامرى الدمشقى الشافعى شيخ الاسلام مُلْحق الاحفاد بالاجداد المتفرد بعلو الاسناد ترْجم نَفسه فى كِتَابه بلغَة الْوَاجِد فى تَرْجَمَة وَالِده الْبَدْر فَقَالَ مولدى كَمَا رَأَيْته بِخَط شيخ الاسلام يَوْم الاربعاء حادى عشر شعْبَان المكرم سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وسط النَّهَار وَقت الظهيرة ودعا لى الْوَالِد بَعْدَمَا كتب ميلادى فَقَالَ أنشأه الله تَعَالَى وعمره وَجعله ولدا صَالحا برا تقيا وَكَفاهُ وحماه من بلَاء الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَجعله من عباده الصَّالِحين وَحزبه المفلحين وعلمائه العاملين ببركة سيد الْمُرْسلين صلى الله(4/189)
تَعَالَى عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل انْتهى مَا وجدته بِخَط الشَّيْخ الْوَالِد وَلَا بَأْس بِذكر شئ مِمَّا من الله تَعَالَى على بِهِ على عَادَة عُلَمَاء الحَدِيث وان كنت فى نفسى مقصرا وَعَن حلبة الْعلمَاء مقهقهرا فاقول ربيت فى حجر والدى وَتَحْت كنفه حَتَّى بلغت سبع سنوات وقرأت عَلَيْهِ من كتاب الله تَعَالَى قصار الْمفصل وَحَضَرت بَين يَدَيْهِ يَوْم عيد الْفطر عَام وَفَاته وَقلت يَا سيدى أُرِيد أَن أَقرَأ عَلَيْك من أول الْبَقَرَة الى المفلحون فَقَالَ لى يَكْفِيك الى هُنَا فأطبقت الْمُصحف بعد ان لقننى سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ وَسَلام على الْمُرْسلين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وانعم على حِينَئِذٍ بِأَرْبَع قطع فضَّة ترغيبا لى وأمرنى وَأَنا ابْن سِتّ سنوات ان أَصوم رَمَضَان ويعطينى فى كل يَوْم قِطْعَة فضَّة فَصمت مُعظم الشَّهْر وَكَانَ ذَلِك ترغيبا مِنْهُ وَحسن تربية وَصمت رَمَضَان السّنة الَّتِى مَاتَ فِيهَا الا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ وَأَنا ابْن سبع وَبقيت اجْلِسْ مَعَه للسحور وَكَانَ يَدْعُو لى كثيرا وأحضرنى دروسه أَنا وأخى الشَّيْخ كَمَال الدّين فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبع وَثَمَانِينَ وحدثتنى والدتى عَنهُ انه كَانَ يَقُول ان أحيانى الله تَعَالَى حَتَّى يكبر نجم الدّين أَقرَأته فى كتاب التَّنْبِيه وأجازنى فِيمَن حضر دروسه اجازة خَاصَّة وأجازنى فى حزبه الذى كتبه لمفتى مَكَّة الشَّيْخ قطب الدّين اجازة عَامَّة فى عُمُوم أهل عصره من الْمُسلمين ثمَّ ربيت بعد وَفَاته فى حجر والدتى أَنا واخوتى فأحسنت تربيتنا ووفرت حرمتنا وعلمتنا الصَّلَوَات والآداب وحرصت على تعليمنا الْقُرْآن وَجَازَت شُيُوخنَا على ذَلِك وكافأتهم وَقَامَت فى كفالتنا بِمَا هُوَ فَوق مَا تقوم بِهِ الرِّجَال مترملة علينا راغبة من الله سُبْحَانَهُ فى حسن الثَّوَاب والنوال وجزيل الْحَظ من قَوْله
أَنا أول من يفتح بَاب الْجنَّة أَلا انى أرى امْرَأَة تبادرنى فَأَقُول لَهَا مَالك وَمن أَنْت فَتَقول أَنا امْرَأَة قعدت على أَيْتَام لى رَوَاهُ أَبُو يعلى من حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ الْحَافِظ المنذرى // واسناده حسن // ان شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ
أَنا وَامْرَأَة سفعاء الْخَدين كهاتين يَوْم الْقِيَامَة وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يُرِيد ابْن زُرَيْع السبابَة وَالْوُسْطَى وَامْرَأَة آمت من زَوجهَا ذَات منصب وجمال حبست نَفسهَا على يتاماها حَتَّى باتوا أَو مَاتُوا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَوْف بن مَالك الاشجعى رضى الله عَنهُ قَالَ الخطابى السفعاء الَّتِى تغير لَوْنهَا الى الكمودة والسواد(4/190)
من طول الايمة يُرِيد بذلك انها حبست نَفسهَا على أَوْلَادهَا وَلم تتَزَوَّج فتحتاج الى الزِّينَة والتصنع للزَّوْج فجزاها الله عَنَّا أحسن الْجَزَاء وعوضها عَمَّا تركت من أَجله لوجهة فى دَار الْبَقَاء وساعدها على ذَلِك كُله شقيقها الخواجا زين الدّين عمر بن الخواجا بدر الدّين حسن بن سبت واجزل الينا خيرا وَكَانَت معيشتنا من ريع وقف جدنا وَملك ابينا وميراثه الذى تلقيناه عَنهُ أَحْسَنت والدتنا التَّصَرُّف فى أَمْوَالنَا وفى مؤنتنا وكسوتنا وَلم تحملنا منَّة أحد قطّ وَتقول هُوَ ببركة والدهم ثمَّ انها أعزها الله وَمد فى أجلهَا اشغلتنا بِقِرَاءَة الْقُرْآن وَطلب الْعلم فَقَرَأت الْقُرْآن على الشَّيْخ عُثْمَان اليمانى ثمَّ نقلنى الْوَالِد قبل وَفَاته الى الشَّيْخ يحيى العمارى فختمت عَلَيْهِ الْقُرْآن مَرَّات واقرأنى فى الاجرومية والجزرية والشاطبية والالفية تَصْحِيحا وحفظا لبعضهن وحفظت عَلَيْهِ مُعظم الْقُرْآن قلت وَقد تَرْجمهُ فى الْكَوَاكِب وَقَالَ انه كَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى مِمَّن تطوى لَهُ الارض قَالَ ثمَّ أخذت فى طلب الْعلم فترددت الى مجْلِس الشَّيْخ الْعَلامَة زين الدّين عمر بن سُلْطَان مفتى الْحَنَفِيَّة فَقَرَأت عَلَيْهِ الاجرومية حفظا وحلا وَشَرحهَا للشَّيْخ خَالِد ثمَّ لَزِمت درس شَيخنَا شيخ الاسلام شهَاب الدّين العيثاوى فَقَرَأت عَلَيْهِ شرح الجزرية للمكودى وقرأت عَلَيْهِ شرح الْمِنْهَاج بِتَمَامِهِ الا فرقا يَسِيرا من أواسطه وأواخره وَلَكِن سَمِعت عَلَيْهِ مَا فاتنى وقرأت عَلَيْهِ نصف شرح الْمِنْهَاج الصَّغِير الاول لشيخ الاسلام والدى وَسمعت عَلَيْهِ مَوَاضِع صَالِحَة من شرح الْمحلى وقرأت من أَوَائِل شرح الْبَهْجَة للقاضى زَكَرِيَّا وَسمعت عَلَيْهِ من أول الارشاد واوسطه بِقِرَاءَة الشَّيْخ مُحَمَّد بن دَاوُد وَصَاحبه الشَّيْخ مُحَمَّد الزوكارى الصالحيين وَسمعت عَلَيْهِ عقيدة الشيبانى بِقِرَاءَة أَبى الصفاء بن الحمصى وَله على تربية وحنو وَعطف وَهُوَ أعز شيوخى عندى وأحبهم الى جزاهم الله عَنى خيرا وقرأت عَلَيْهِ فى الحَدِيث من أول البخارى وَغَيره والى الْآن فى صحبته من سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثَلَاث عشرَة سنة اطال الله صحبتنا ومتعنى بحياته ونفعنى ببركته ولزمت شَيخنَا مفتى الْفرق شيخ الاسلام أَبَا الْفضل مُحَمَّد محب الدّين القاضى الحنفى أعز الله جَانِبه فَقَرَأت شَرحه على منظومة الشَّيْخ الْعَلامَة محب الدّين ابْن الشّحْنَة كَمَا تقدم فى تَرْجَمته وَمن أَوَائِل المطول وقرأت عَلَيْهِ نَحْو ربع صَحِيح البخارى وَكتب لى بِهِ وَبِغَيْرِهِ اجازة بِخَطِّهِ وَهُوَ متع الله بحياته الى الْآن يُوصل الينا احسانه وانعامه علما وثناء ومالا وَغير ذَلِك مِمَّا لَا نستطيع مكافأته الا ان يجازيه الله(4/191)
عَنَّا أحسن الْجَزَاء ويمتعنا بحياته وعلومه مَا تعاقب الصَّباح والمساء وقرأت على السَّيِّد الشريف الحسيب النسيب الامام الْعَلامَة اللوذعى الْمُحَقق الفهامه قاضى الْقُضَاة فى حلب ثمَّ الْمَدِينَة ثمَّ آمد بضميمة الافتاء بهَا وَقَضَاء البيره السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد حسن السعودى تغمده الله تَعَالَى برحمته حُسَيْن قدم علينا دمشق الشَّام فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مَوَاضِع من تَفْسِير القاضى الْعَلامَة نَاصِر الدّين البيضاوى وَمِنْهَا تَفْسِير قَوْله تَعَالَى شهد الله انه لَا اله الا هُوَ الْآيَتَيْنِ باشارته وأجازنى بمروياته مِنْهَا تَفْسِير الْمُفْتى الاعظم والامام الاقدم أَبى السُّعُود مُحَمَّد بن العمادى رَحمَه الله تَعَالَى وَلم أر فى موالى الرّوم اذكى من وَلَا ارغب فى الْعلم مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى وأجازنى من المصريين شَيخنَا شيخ الاسلام شمس الدّين الرملى المصرى وَشَيخنَا الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الاستاذ الاعظم زين العابدين البكرى متع الله بحياتهما كِتَابَة الى قلت وَسمع المسلسل بالاولية من مُحدث حلب شيخ الاسلام مَحْمُود بن مُحَمَّد البيلونى الشافعى حِين قدم دمشق فى سنة سبع بعد الالف وَأَجَارَهُ بمروياته وَأخذ عَن مُحدث مَكَّة المشرفة شيخ الاسلام الشَّمْس مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الزمزمى الشافعى فى سنة سبع بعد الالف قَالَ وَفتح الله تَعَالَى على بالنظم والنثر والتأليف من سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَذكر من شعره قَوْله
(لَو بحت بالحب الذى ... أضنى الْفُؤَاد وَكلما)
(لبكى لى الصخر الاصم وَكَاد أَن يتكلما ... )
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك وَدخلت فى يَوْم عَرَفَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة على شيخ الاسلام الشَّيْخ اسماعيل النابلسى أهنيه بالعيد فَرَأَيْت عِنْده جمَاعَة مِنْهُم شَيخنَا الْعَلامَة المنلا أَسد بن معِين الدّين أَقُول فَعلم من قَوْله ذَلِك ان المنلا أَسد من مشايخه ثمَّ رَأَيْته ذكر فى تَرْجَمَة الاسد فى الْكَوَاكِب انه قَرَأَ عَلَيْهِ فى شرح الشذور لِابْنِ هِشَام ودروسا من شرح الجاربردى على الشافية ثمَّ قَالَ وَمن مؤلفاته نظم الاجرومية سميته الْحلَّة البهية واقتديت فى نظمها بوالدى لشرح الاجرومية لطيف ممزوج وَشرح الْقطر لِابْنِ هِشَام وَشرح الْقَوَاعِد لِابْنِ هِشَام ايضا وَشرح منظومة والدى فى النَّحْو نظما فى أَرْبَعَة آلَاف بَيت سميته المنحة النجمية فى شرح الملحة البدرية قرط الْعلمَاء عَلَيْهَا ومنظومة فى النَّحْو مائَة بَيت ومنظومة فى التصريف والخط كَذَلِك مائَة بَيت ونظم العقيان فى مورثات الْفقر وَالنِّسْيَان للناجى وَهُوَ غير(4/192)
نظم الْجد الشَّيْخ رضى الدّين ومختصر فى النَّحْو سميته الْبَهْجَة وكتبت قِطْعَة على التَّوْضِيح لِابْنِ هِشَام وَقطعَة على الشافية لِابْنِ الْحَاجِب وَشرح لامية الافعال لِابْنِ مَالك فى التصريف فى شرحين ممزوجين الاول منظوم من بَحر الاصل وقافيته فى نَحْو ألف بَيت ونظم شرح شَيخنَا عَلامَة الْعَصْر الْمُحب الحموى على منظومة الْعَلامَة الْمُحب ابْن الشّحْنَة فى الْمعَانى وَالْبَيَان ونظم فَرَائض الْمِنْهَاج فى الْفِقْه وَشرح منظومة والدى فى ضبط شَأْن الْقَاعِدَة الْفِقْهِيَّة كل مَا كَانَ أَكثر عملا أَو أشق فَهُوَ أَكثر فى الثَّوَاب وسميته تحفة الطلاب وشرحت ابياتا لصاحبنا الشَّيْخ أَبُو الوفا الحموى العبدرى فى شُرُوط تَكْبِيرَة الاحرام بالتماس مِنْهُ فى شرحين الاول منثور سميته الدرة المنيرة فى شُرُوط التَّكْبِيرَة الثانى منظوم سميته تحفة النظام فى تَكْبِيرَة الاحرام وشرحت كتاب اللآلى المبدعة فى الْكِنَايَات المخترعة لشيخ الاسلام الْجد ونظمت خَصَائِص الْجُمُعَة فى منظومة سميتها اللآلى المجتمعه ونظمت كتاب رُوَاة الاساطين فى عدم الدُّخُول على السلاطين للشَّيْخ السيوطى واختصرت كتاب المنهل الروى فى الطِّبّ النبوى لَهُ أَيْضا فى مُخْتَصر سميته الْمُخْتَار وكتبت شرحا حافلا على قَول الشَّيْخ علوان الحموى رَحمَه الله تَعَالَى
(وَشرع وَحقّ وَحقّ وَشرع ... وَجمع وَفرق وَفرق وَجمع)
(ينَال الْفَتى كل مَا يشتهى ... بتنزيه طرف وتقديس سمع)
(وَترك هوى بِاتِّبَاع الْهوى ... وتأديب نفس وتنزيه طبع)
(عَلَيْك بهَا انها انها ... جماع لخير ومفتاح جمع)
وسميته كتاب الهمع الهتان فى شرح أَبْيَات الْجمع للشَّيْخ علوان وَأعظم مؤلفاتى الْآن شرحى على ألفية التصوف لشيخ الاسلام الْجد الْمُسَمّى بمنبر التَّوْحِيد ومظهر التفريد فى شرح جمع الْجَوْهَر الفريد فى أدب الصوفى والمريد وَهُوَ كتاب حافل جمعت فِيهِ جَمِيع أَحْكَام الطَّرِيق ووفيت فِيهِ شُرُوط الشَّرْع فى عين التَّحْقِيق وَهُوَ وكل مؤلفاتى الَّتِى أَشرت اليها الْآن كوامل بِفضل الله مَا عدا شرح التَّوْضِيح وَشرح الشافية وَشرح اللآلى المبدعة لَكِن الاخير مشرف على الْكَمَال وفى عزمى الْآن أَن أكتب فى الْفِقْه كتابا حافلا وَأَنا شَارِع فى مؤلفات أُخْرَى اسْأَل الله تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن مؤلفاتى الَّتِى كملت الْآن أَيْضا مجالسى فى تَفْسِير سُورَة الاسراء الَّتِى أمليتها فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ومجالسى الَّتِى أمليتها فى السنتين(4/193)
بعْدهَا الى آخر سُورَة طه ثمَّ تركت تدريس مجَالِس وعظى وَجعلت أُمليهَا على مَا يفِيض الله من سيب فَضله وَيفتح وَمن مؤلفاتى أَيْضا هَذَا الْكتاب الحافل الْمُسَمّى بلغَة الْوَاجِد فى تَرْجَمَة شيخ الاسلام الْوَالِد وفى ضمنهَا أَرْبَعُونَ حَدِيثا من مسموعاتى كَمَا ترَاهَا مسطرة فى الْبَاب السَّابِع ونسأل الله تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد قرظ أكَابِر عُلَمَاء مصر وَالشَّام على شرحى اللمحة البدرية وشرحى على منظومة ابْن الشحنه اه كَلَامه ثمَّ ذكر شَيْئا من التقاريظ أَقُول وَمن مؤلفاته أَيْضا كتاب عقد النظام لعقد الْكَلَام وَهُوَ كتاب غَرِيب الْوَضع مبْنى على مقولات للسلف فى النَّصِيحَة والزهد واشباههما ثمَّ ينظم تِلْكَ المقولات وَيذكر نظمه عِنْد آخر كل مقولة نقلت مِنْهُ أَشْيَاء مِنْهَا ذكر النووى فى تَهْذِيب الاسماء واللغات عَن الامام الشافعى انه قَالَ مَا أَفْلح فى الْعلم الا من طلبه فى الْقلَّة وَلَقَد كنت أطلب القرطاس فيعسر على وَقَالَ لَا يطْلب أحد هَذَا الْعلم بِالْمَالِ وَعز النَّفس فيفلح وَلَكِن من طلبه بذلة النَّفس وضيق الْعَيْش وخدمة الْمعلم والتواضع فى النَّفس أَفْلح قَالَ وَقلت فى مَعْنَاهُ هَذَا
(من يطْلب الْعلم بذل وضيق الْعَيْش والخدمة والانقطاع ... )
(فَهُوَ الذى يفلح لَا من غَدا ... يَطْلُبهُ بالعز والاتساع)
وَقلت
(من يطْلب الْعلم بعز الْغنى ... يبطر وَلَا يفلح بِمَا يصنع)
(للْعلم طغيان كَمَا للغنى ... وَالْعلم بالطغيان لَا ينفع)
(لَا يبلغ الْعَالم شأو الْعلَا ... الا لتقى الاروع الاورع)
وَمِنْهَا عَن أَبى سُلَيْمَان الدارانى رضى الله عَنهُ قَالَ لَو اجْتمع الْخلق جَمِيعًا أَن يضعوا عملى كَمَا عِنْد نفسى مَا قدرُوا على ذَلِك قَالَ وَقد ضمنت كَلَامه رضى الله عَنهُ فى قولى
(قل لنفسى ان تراعى ... حق ربى لن تراعى)
(انما نقص وَضعف ... وانتقاص من طباعى)
(من يضع منى ويجهد ... لم يضعنى كَمَا تضاعى)
(ان عرفانى بنفسى ... قد كفانى وعظ واعى)
(انما الدُّنْيَا مَتَاع ... لم يدم فِيهَا انتفاعى)
(انما يسْعَى لدار ... لم تضع فِيهَا المساعى)
(دَار تكريم اليها ... قد دعانى كل داعى)(4/194)
وَله كتاب تحبير الْعبارَات فى تَحْرِير الامارات وَهُوَ أَيْضا عَجِيب نقل فِيهِ مَا نَصه يبتلى المغتاب بِأَن يغتاب روى أَبُو الشَّيْخ بن حَيَّان فى كتاب النكت والنوادر عَن عبد الله بن وهب قَالَ قَالَ مَالك بن أنس رضى الله عَنهُ كَانَ عندنَا بِالْمَدِينَةِ قوم لَا عُيُوب لَهُم تكلمُوا فى عُيُوب النَّاس فَصَارَت لَهُم عُيُوب وَكَانَ عندنَا قوم لَهُم عُيُوب سكتوا عَن عُيُوب النَّاس فنسيت عيوبهم قلت
(عائب النَّاس وان كَانَ سليما يستعاب ... )
(والذى يمسك عَن عيب الورى سَوف يهاب ... )
(مَا دُخُول الْمَرْء فِيمَا ... لَيْسَ يعنيه صَوَاب)
وَذكر فِيهِ أَيْضا روى أَبُو الشَّيْخ أَيْضا عَن مطرف قَالَ قَالَ لى مَالك بن أنس رضى الله عَنهُ مَا تَقول النَّاس فى قلت أما الصّديق فيثنى وَأما الْعَدو فَيَقَع فَقَالَ مَا زَالَ النَّاس كَذَلِك لَهُم صديق وعدو وَلَكِن نَعُوذ بِاللَّه من تتَابع الالسن كلهَا وَقلت
(لَا ترى كَامِلا خلا ... من عَدو يعِيبهُ)
(بل لَهُ من سبابه ... وأذاه نصِيبه)
(أَحمَق النَّاس من يرى ... ان ذَا لَا يُصِيبهُ)
(وأخو الْكيس قد رجا الله عَنهُ يثيبه ... )
(حَسبه الله ربه ... فَهُوَ عَنهُ ينوبه)
وَنقل فِيهِ عِنْد ذكر امارات الصّبيان قَالَ وَمن لطائف الْعَلامَة الشَّيْخ زين الدّين عمر ابْن المظفر الوردى وَقد ولى السلطنة صبى مُمَيّز غير بَالغ
(سلطاننا الْيَوْم طِفْل والاكابر فى ... خلف وَبينهمْ الشَّيْطَان قد نزغا)
(وَكَيف يطْمع من مسته مظْلمَة ... أَن يبلغ السؤل وَالسُّلْطَان مَا بلغا)
وَله كتاب التنسيه فى التَّشْبِيه وَهُوَ كتاب بديع فى سبع مجلدات فى قطع النّصْف لم يسْبق الى تأليفه وَهُوَ أَن يذكر مَا ينبغى للانسان مَا يتشبه بِهِ من أَفعَال الانبياء وَالْمَلَائِكَة والحيوانات المحمودة وَمَا يتشبه بِهِ من اجْتِنَاب مَا يذم فعله رَأَيْته ونقلت مِنْهُ أَشْيَاء لَطِيفَة مِنْهَا قَوْله لقد مر بى فى بعض مجالسى من نَحْو عشْرين سنة أَنى دَعَوْت الله تَعَالَى فَقلت اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من الصَّالِحين فان لم تجعلنا من الصَّالِحين فاجعلنا من المخلطين الَّذين خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا أَو مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَبعد انْقِضَاء الْمجْلس اعْترض على بعض السامعين فَقَالَ يَا سيدى كَيفَ تَدْعُو الله أَن(4/195)
يجعلنا من المخلطين وَالْمَعْصِيَة مقررة فيهم قلت سُبْحَانَ الله وَالْعَمَل الصَّالح مُقَرر فيهم أَيْضا وَهُوَ أولى من أَن نَكُون من المصرين فان لم يصبهَا وابل فطل ثمَّ وقفت على كَلَام مطرف وَهُوَ مَا روى البيهقى عَن مطرف قَالَ انى لاستلقى فى اللَّيْل على فراشى وأتدبر الْقُرْآن فَأَعْرض نفسى على أَعمال أهل الْجنَّة فاذا أَعْمَالهم شَدِيدَة كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما مَا أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا فَلَا أرانى مِنْهُم فَأَعْرض نفسى على هَذِه الْآيَة {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} الى قَوْله {نكذب بِيَوْم الدّين} فَأرى الْقَوْم مكذبين فَلَا أرانى مِنْهُم فَأمر بِهَذِهِ الْآيَة {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} فأرجو أَن أكون مِنْهُم فحمدت الله تَعَالَى على مُوَافَقَته على ان المخلطين الْمَذْكُورين كَانُوا من أَعْيَان الانصار وَالصَّحَابَة الاخيار وأنى لنا باللحاق بأقلهم وَقَوله تَعَالَى {عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم} فَعَسَى وَلَعَلَّ فى الْقُرْآن يدلان على تَحْقِيق مَا بعدهمَا باجماع الْمُحَقِّقين من الْمُفَسّرين فالتوبة مَقْبُولَة مِنْهُم بِفضل الله تَعَالَى انْتهى وَمِمَّا ذكره فِيمَا يجْتَنب التَّشْبِيه بالثيران وَنَحْوهَا من الفظاظة وجهر الصَّوْت والتكلم بِمَا لَا يَلِيق بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان وَالنَّاس يشبهون كل فظ غليظ بليد أكول بالبقرة والثور وَتقدم فِيمَا أنشدناه عَن عبد الْحق الاشبيلى وَهُوَ
(يَا رَاكب الروع للذاته ... كانه فى أتن عير)
(يَأْكُل من كل الذى يشتهى ... كانه فى كلأ ثَوْر)
وَكنت يَوْمًا فى جمَاعَة مِنْهُم الْعَلامَة المنلا أَسد الدّين بن معِين الدّين العجمى أحد تلاميذ والدى عِنْد بعض الصُّوفِيَّة فَبَيْنَمَا المنلا أَسد يقْرَأ الْفَاتِحَة اذا فَقير من فُقَرَاء ذَلِك الصوفى صرخَ متورا فانذعر المنلا أَسد وانزعج ثمَّ الْتفت الينا وَقَالَ وَالله لم أعلم قَول فُقَرَاء الصُّوفِيَّة ثوروا من أى شئ اشتقاقه الا فى هَذَا الْوَقْت علمت انه مُشْتَقّ من لفظ الثور فانى رَأَيْت هَذَا الرجل الْآن خار خوارا كانه ثَوْر وَذكر ان بعض الوعاظ كَانَ يعظ طَائِفَة من النَّاس وَهُوَ يلقى الْكَلَام فَنظر مِنْهُم اعراضا ولغطا فَأَرَادَ أَن يستبطنهم فَقَالَ أَلا اسمعوا يَا بقر فَقَالَ بَعضهم قل يَا ثَوْر ونقلت من خطه قَالَ أوردت فى بعض مجالسى هَذَا الحَدِيث " يَقُول الله تَعَالَى للحفظة يَوْم الْقِيَامَة اكتبوا لعبدى كَذَا وَكَذَا من الاجر فَيَقُولُونَ رَبنَا لم نَحْفَظ ذَلِك عَنهُ وَلَا هُوَ فى صحفنا فَيَقُول انه نَوَاه وَقلت على هَذَا بديهة حَتَّى كَانَ المنسد على لسانى ينشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ(4/196)
(تلومونى على فعل ... بفرط اللوم ولعتب)
(وَلم تدروا الذى بينى ... وَبَين الله فى قلبى)
وَحكى انه رأى النبى صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم فى النّوم فى لَيْلَة مرَّتَيْنِ فأنشده يَقُول
(لَئِن تقضى زمن أَنْت فِيهِ ... فان آثارك تكفى النبيه)
(من تبع الْآثَار مِنْك اهْتَدَى ... وَمن أَبَاهُ فَهُوَ فى أى تيه)
(صلى عَلَيْك الله يَا سيدى ... مُسلما مَا فَاه بالنطق فِيهِ)
أَصله فِيهِ بالحركة الظَّاهِرَة وَله فَوَائِد منظومة كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله جَامعا آدَاب العيادة للْمَرِيض وهى
(ان تعد يَوْمًا مَرِيضا فَلْيَكُن ... فى زمَان لَاق فِيهِ أَن تعود)
(واطرق الْبَاب بِرِفْق ثمَّ بِاسْمِك صرح مَا صديق كالحسود ... )
(واغضض الطّرف وَلَا تكْثر اذا ... من سُؤال ثمَّ خفف فى الْقعُود)
(لَا تكلم فى الذى يضجره ... أَوله فِيهِ ارتياب فى الْوُجُود)
(ضع عَلَيْهِ يدك الْيُمْنَى وَعَن ... حَاله سَله على وَجه يجود)
(أظهر الرقة وسع مُدَّة ... وعدنه بالعوافى ان تعود)
(وأشر بِالصبرِ حذر جزعا ... وادع بالاخلاص مَوْلَاك الْوَدُود)
(تِلْكَ آدابك ان عدت وَمن ... يحفظ الْآدَاب يُرْجَى أَن يسود)
وَله التَّارِيخ الذى أَلفه فى أَعْيَان الْمِائَة الْعَاشِرَة وَسَماهُ بالكواكب السائرة والذيل الذى سَمَّاهُ لطف السمر وقطف الثَّمر من تراجم أَعْيَان الطَّبَقَة الاولى من الْقرن الحادى عشر والثانى أحد مَادَّة تاريخى هَذَا وكلا الاثرين لَهُ جيد جزاه الله على صنعهما خيرا الا انهما يحتاجان الى تَنْقِيح وَحسن ضبط فان فيهمَا الغث وتكرير بعض تراجم وَبَعض سَهْو فى الوفيات وَمَا خا لله الا انه أَجَاد كل الاجادة فى هَذَا الْجمع على كل حَال وَأما مَا فِيهِ من بعض الاغراض فقد عرفت بهَا المؤرخون فى الماضى وَأَبْرَأ أَنا مِنْهَا فى الْحَال وأماما فِيهِ من بعض الاغراض فقدعرفت بهَا المؤرخون فى الماضى وَأَبْرَأ مِنْهَا فى الْحَال وَمن نظر فى كتابى بِعَين الرِّضَا عرف انى أتلافى كثيرا مِمَّا مضى وَبِاللَّهِ أستعين واستدفع الْمَكْرُوه واسأله أَن يبيض وجهى يَوْم تبيض الْوُجُوه عودا ثمَّ تصدر للاقراء والتدريس فدرس بالشامية البرانية تفرغ لَهُ عَنْهَا الشهَاب العيثاوى اخْتِيَارا وَكَذَلِكَ فرغ لَهُ عَن تدريس(4/197)
بالعمرية وَعَن امامة بالجامع الاموى وَعَن وعظ بِهِ بعد ان وليه عَن الشَّيْخ أَحْمد ابْن الطيبى ثمَّ ولى العيثاوى الْوَعْظ أَيْضا عَن الشَّمْس الداودى ففرغ لَهُ وَلابْن اخته الْبَدْر الموصلى وَأذن لَهُ العيثاوى بِالْكِتَابَةِ على الْفَتْوَى قبل وَفَاته بِنَحْوِ عشْرين سنة فَكتب فى هَذِه الْمدَّة على فَتْوَى وَاحِدَة فى الْفِقْه وَغير وَاحِدَة فى التَّفْسِير تأدبا مَعَ العيثاوى فَلَمَّا كَانَ قبل وَفَاته بِنَحْوِ خَمْسَة أَيَّام دخل النَّجْم عَلَيْهِ فَحَضَرت فَتْوَى فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ عَلَيْهَا فَكتب وَقَالَ اكْتُبْ اسمكم قَالَ بل اكْتُبْ اسْمك فَكَتبهُ ثمَّ تَتَابَعَت عَلَيْهِ الْفَتَاوَى فاستمر يُفْتى من سنة خمس وَعشْرين وَألف الى سنة احدى وَسِتِّينَ وهى سنة وَفَاته وَكَانَ مغرما بِالْحَجِّ الى بَيت الله الْحَرَام وانفق لَهُ مَرَّات فَأول حجاته كَانَت فى سنة احدى وَألف قَالَ فى تَرْجَمَة وَالِده فى الْكَوَاكِب بمناسبة وَقع لنا اتِّفَاق غَرِيب وَهُوَ أَنا حجَجنَا فى سنة احدى وَألف وهى أول حجَّة حججتها وَكُنَّا نترجى أَن يكون عَرَفَة يَوْم الِاثْنَيْنِ فَرَأَيْنَا هِلَال ذى الْحجَّة لَيْلَة السبت وَكَانَ وقوفنا بِعَرَفَة يَوْم الاحد وَهُوَ خلاف مَا كَانَ النَّاس يتوقعونه فَقلت لبَعض اخواننا من أهل مَكَّة وَغَيرهم ظهر لى اتِّفَاق غَرِيب وَهُوَ ان الله تَعَالَى قدر الْوُقُوف يَوْم الاحد فى هَذَا الْعَام لانه عَام أحد بعد الالف فاستحسنوا ذَلِك وَقلت مُقَيّدا لهَذَا وَهُوَ
(لقد حجَجنَا عَام ألف وَأحد ... وَكَانَت الوقفة فى يَوْم الاحد)
(الْيَوْم وَالْعَام توافقا مَعًا ... فجل مَوْلَانَا الْمُهَيْمِن الاحد)
قلت والموافقة الثَّالِثَة انها اُحْدُ وَقْفَة بِعَرَفَة وسافر الى حلب مَعَ شَيْخه العيثاوى فى جمَاعَة من مَشَايِخ دمشق مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن عجلَان نقيب الاشراف وَالسَّيِّد ابراهيم بن مُسلم الصمادى وَالسَّيِّد أَحْمد بن على الصفورى فى آخَرين الى الْوَزير مُحَمَّد باشا بِقصد رفع التَّكْلِيف عَن أهل دمشق بِسَبَب السّفر الْعَجم الْوَاقِع ذَلِك فى سنة خمس وَعشْرين وَألف وَلما وجهت عَنهُ الشامية للشمس الميدانى كَمَا ذَكرْنَاهُ فى تَرْجَمَة الميدانى سَافر الى الرّوم فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَقرر فى الْمدرسَة الى ان جَاءَ الميدانى تقريرا آخر فاشتركا فى الْمَعْلُوم ثمَّ لم تمض سنة الا مَاتَ الميدانى فاستقل بِالْمَدْرَسَةِ وَجلسَ مَكَان الميدانى تَحت الْقبَّة فى الْجَامِع الاموى لاقراء صَحِيح البخارى فى الاشهر الثَّلَاثَة رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وَرَأس الرياسة التَّامَّة وَلم يبْق من أقرانه الشَّافِعِيَّة أحد وهرعت اليه النَّاس والطلبة وَعظم قدره وَبعد صيته وَكَانَ قارى الدَّرْس بَين يَدَيْهِ السَّيِّد أَحْمد بن على الصفورى ثمَّ الشَّيْخ الامام رَمَضَان بن عبد الْحق العكارى ثمَّ(4/198)
الشَّيْخ الْعَالم مصطفى بن سوار وَكَانَت مُدَّة جُلُوسه تَحت قبَّة النسْر سَبْعَة وَعشْرين سنة وَهُوَ قَادر مُدَّة الميدانى وَهَذَا من غَرِيب الِاتِّفَاق وانتفع النَّاس بِهِ وَأخذُوا عَنهُ طبقَة بعد طبقَة وهم فى الْكَثْرَة لَا يحوم الا حِصَار حَولهمْ وَقد مر مِنْهُم فى كتَابنَا جمَاعَة وسيأتى جمَاعَة وَكَانَ لَهُ بالحجاز الصيت الذائع وَالذكر الشَّائِع وَحكى الشَّيْخ الْعَالم التقى الشَّيْخ حَمْزَة بن يُوسُف الدومانى ثمَّ الدمشقى الحنبلى أبقاه الله تَعَالَى غير مرّة أَنه لما حج فى سنة تسع وَخمسين وَألف كَانَ النَّجْم حَاجا تِلْكَ السّنة وهى آخر حجاته وَكَذَلِكَ الشَّيْخ مَنْصُور السطوحى الْمحلى كَانَ حَاجا قَالَ وَكنت صُحْبَة الشَّيْخ مَنْصُور فَبَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم عِنْد الشَّيْخ مَنْصُور بخلوة عِنْد بَاب الزِّيَادَة واذا بحس ضجة عَظِيمَة قَالَ فَخرجت فَنَظَرت واذا بالشيخ النَّجْم بَينهم وهم يَقُولُونَ لَهُ أجزنا وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا حَافظ الْعَصْر وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا حَافظ الشَّام وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا مُحدث الدُّنْيَا فَوقف عِنْد بَاب الزِّيَادَة وَقَالَ لَهُم أجزتكم بِمَا تجوز لى رِوَايَته بِشَرْطِهِ عِنْد أَهله بِشَرْط أَن لَا يلحقنا أحد حَتَّى نطوف ثمَّ مَشى الى المطاف فَمَا وصل اليه الا وَخَلفه اناس اكثر من الاولى فَوقف وَأَجَازَهُمْ كَمَا تقدم وَقَالَ لَهُم بِشَرْط ان لَا يشغلنا أحد عَن الطّواف قَالَ فَوقف النَّاس وَطَاف الشَّيْخ قَالَ وَلم يكن يطوف مَعَ الشَّيْخ الا اناس قَلَائِل كانما أخلى لَهُ المطاف فَلَمَّا فرغ من الطّواف طلبُوا مِنْهُ الاجازة أَيْضا فأجازهم ثمَّ أرسل الشَّيْخ مَنْصُور وَدعَاهُ الى الْخلْوَة فَذهب ولحقه النَّاس الى بَاب الْخلْوَة وطلبوا مِنْهُ الاجازة فاجازهم وَدخل الْخلْوَة ثمَّ جَاءَ الشَّمْس مُحَمَّد البابلى ثمَّ بعد هنيئة جَاءَ الشريف زبد صَاحب مَكَّة فَلَمَّا اسْتَقر بهم الْمجْلس تَذَاكَرُوا أَمر السَّاعَة فاخذ الشَّمْس البابلى فى الْكَلَام فَقَالَ النَّجْم بِصَوْت مزعج وَقد جلس على ركبته وَشرع يُورد أَحَادِيث السَّاعَة بأسانيد وعزوها لمخرجيها وَيتَكَلَّم على مَعَانِيهَا حَتَّى بهر الْعُقُول وَأطَال فى ذَلِك ثمَّ لما فرغ قَالَ البابلى تجيزونا يَا مَوْلَانَا بِمَا لكم وَكَذَلِكَ استجازه الشَّيْخ مَنْصُور والشريف زيد وَأَنا وَمن حضر فاجاز الْجَمِيع ثمَّ قدم لَهُم الشَّيْخ مَنْصُور من عِنْده سماطا وأردفه الشريف زيد باشياء من المآكل فَلَمَّا فرغوا انْصَرف الشَّيْخ النَّجْم وبقى البابلى فَقَالَ للشَّيْخ سُبْحَانَ الله مَا هَذَا الا عَن نبأ عَظِيم فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مَنْصُور أَنا كنت اذا رَأَيْت كتبه وتصانيفيه اعْجَبْ مِنْهَا واذا اجْتمعت بِهِ لَا يتَكَلَّم الا قَلِيلا فاعجب من ذَلِك وَلَكِن الْآن تحقق عندى علمه وَحفظه انْتهى وَكَانَ قبل مَوته بست سنوات أَو سبع سنوات اعتراه طرف فالج فَكَانَ لَا يتَكَلَّم الا قَلِيلا فعد(4/199)
هَذَا الْمجْلس وَكَثْرَة الْكَلَام فِيهِ بالمناسب لما هم بصدده من غير توقف وَلَا تلعثم كَرَامَة لَهُ وَهُوَ مَحل الْكَرَامَة فقد أخبر بعض الثِّقَات انه سَأَلَ بعض الصَّالِحين عَن الابدال بِالشَّام فعد مِنْهُم ثَلَاثَة احدهم النَّجْم وَمَا اشْتهر من ان سُكُوته بذلك الْعَارِض كَانَ من الشَّيْخ حُسَيْن بن فرفره كَمَا ذَكرْنَاهُ فى تَرْجَمَة الشَّيْخ حُسَيْن لَا يقْدَح فى ولَايَته كَمَا يظنّ وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ سَببا لولايته فى مُقَابلَة انكسار حصل لَهُ وَتوجه الى الْقُدس قرب مَوته هُوَ وَالشَّيْخ ابراهيم الصمادى فى جمعية عَظِيمَة وَنزلا الى الرملة وزارا تِلْكَ الْمعَاهد ورجعا الى دمشق فتخلى النَّجْم لِلْعِبَادَةِ وَترك التَّأْلِيف وَبَلغت بِهِ السن الى الْهَرم وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة حفاظ الشَّام وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة وَعشرَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام وَدفن بمقبرة الشَّيْخ ارسلان رضى الله عَنهُ وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ فى درسه تَحت الْقبَّة ان الشَّمْس الداودى كَانَ وصل فى قِرَاءَته البخارى الى بَاب كَانَ
اذا صلى لَا يكف شعرًا وَلَا ثوبا ودرس بعده الشَّمْس الميدانى من ذَلِك الْبَاب الى بَاب مَنَاقِب عمار بن يَاسر وَتوفى ودرس من بعده النَّجْم الى ان اكمله فى ثَلَاث سنوات ثمَّ افتتحه وختمه واعاد قِرَاءَته الى أَن وصل الى بَاب الْبكاء على الْمَيِّت وَوَقع لَهُ قبل مَوته بيومين انه طلع الى بساتينه أوقاف جده واستبرأ الذِّمَّة من الفلاحين وَطلب مِنْهُم الْمُسَامحَة وفى الْيَوْم الثانى دَار على أَهله ابْنَته وبنتها وَغَيرهم وزارهم وأتى الى منزله بَيت زَوجته أم القاضى يحيى بن حميد بزقاق الْوَزير الْآخِذ الى سوق جقمق وَصلى الْمغرب ثمَّ جلس لقِرَاءَة الاوراد وَأخذ يسْأَل عَن اذان الْعشَاء وَأخذ فى ذكر لَا اله الا الله وَهُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة ثمَّ سمع مِنْهُ وَهُوَ يَقُول بالذى أرسلك ارْفُقْ بى فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فرأوه قد قضى نحبه ولقى ربه رَحْمَة الله تَعَالَى ورثاه جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم الاديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمى رثاه بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(لما لجنات العلى ... شيخ الشُّيُوخ انتقلا)
وَجعل تَارِيخ الْوَفَاة فى بَيت هُوَ آخر القصيدة وَهُوَ هَذَا
(يَا نجم دين الله من ... أفق دمشق أَفلا)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن خضر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن على القاضى بدر الدّين المناشيرى الصالحى الشافعى الْفَقِيه الاخبارى كَانَ من الْفُضَلَاء المثابرين على الافادة والاسفادة قَرَأَ الْكثير واخذ عَن(4/200)
النَّجْم الغزى وَالشَّيْخ على القبردى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الاسطوانى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن بليان وَغَيرهم وَضبط وَقيد وَكتب الْكثير وانتفع بِهِ جمع وَولى قَضَاء الشَّافِعِيَّة بمحكمة بَاب قناة العونى وَكَانَ لَا يفتر عَن حُضُور مجَالِس الْعلم ويذاكر بأدب ولطف تَعْبِير وَكَانَ نقى الْعرض مِمَّا ابتلى بِهِ كثير من قُضَاة المحاكم سَاكِنا قَلِيل التَّكَلُّم وَله قُوَّة حافظة للاخبار والاشعار فاذا فاوضه أحد فى شئ من ذَلِك جاش مجره ووقفت على مَجْمُوع بِخَطِّهِ يبلغ سِتِّينَ كراسا جمع فِيهِ كل غَرِيبَة ووقف عَلَيْهِ بعض الظرفاء فَكتب عَلَيْهِ زنبيل الاعمال فَلَمَّا رأى الْكِتَابَة كتب تحتهَا الصَّالِحَة ان شَاءَ الله تَعَالَى وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَجْمُوع نَوَادِر وَكَانَت وِلَادَته كَمَا قرأته بِخَطِّهِ يَوْم الثلاثا بَين الظّهْر وَالْعصر رَابِع عشر شهر ربيع الثانى سنة سبع وَعشْرين وَألف وَتوفى سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بسفح قاسيون وأرخ بَعضهم وَفَاته بقوله
(نجل المناشيرى لما قضى ... فَقلت من لهفى بدمع سجام)
(عساك يَا ذَا الطول مذ أَرخُوا ... بوأت بدر الدّين دَار السَّلَام)
والمناشير نِسْبَة الى المناشير وهى رقاع الاحكام وَكَانَ جده خضر الادنى كَاتب الانشاء بالديار المصرية وَكَانَ صَاحب فضل وأدب رحمهمَا الله تَعَالَى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد العيثاوى الدمشقى كَانَ عَلامَة فهامة فى جَمِيع الْعُلُوم أحد عَن النَّجْم وأخيه أبي الطّيب الغزبين وَعَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وَالشَّيْخ رَمَضَان العكارى وَالشَّيْخ أَحْمد البهنسى وَالشَّيْخ على القبردى والمنلا حسن الكردى والمنلا أَحْمد بن حيدر الظهرانى وَالسَّيِّد حسن الحجار وَمن الواردين عَن السرى الدرورى المصرى وَالشَّيْخ غرس الدّين الخليلى المدنى ومشايخه يزِيدُونَ على الثَّمَانِينَ وفَاق أقرانه فى الاخذ بانواع الْفُنُون ودرس وَأفَاد وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن حسن بن عجلَان النَّقِيب وَكَانَ كثير الثَّنَاء عَلَيْهِ وانتفاعه كَانَ بِهِ وَكَانَ متصلبا فى أَمر الدّين قوالا بِالْحَقِّ لَا تَأْخُذهُ فى الله لومة لائم وَمِمَّا اتّفق لَهُ انه دخل مرّة على محافظ الشَّام فى مصلحَة مُتَعَلقَة بالخانقاه السمساطية وطعامها فتشاغل الباشا عَنهُ بأوراق فمسك الباشا من طوقه وجذبه وَقَالَ لَهُ انْظُر فى أَمر هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء واقض مصلحتهم فَالْتَفت اليه وَقضى لَهُ مَا جَاءَ فِيهِ وَدخل مرّة اخرى على حَاكم آخر بِسَبَب معاليم الْجَامِع الاموى وَكَانَ سِنَان باشا المتولى عَلَيْهِ كتب بهَا دفترا وَأَرَادَ قطع شئ مِنْهَا فَوجدَ الباشا ينظر فى دفتر المتولى ويتأمله فَجَذَبَهُ أَيْضا من طوقه وَقَالَ لَهُ(4/201)
لَا تلْتَفت الى مَا كتبه هَذَا الظَّالِم وَكَانَ حَاضرا فى الْمجْلس وَانْظُر الى عباد الله بِنور الله فَعمل على مُرَاده وَترك مَا أَرَادَ المتولى وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وَله تحريرات على التَّفْسِير وَغَيره لَكِنَّهَا لم تجمع وَذَهَبت وَولى آخر أمره تدريس البخارى فى الاشهر الثَّلَاثَة تَحت قبَّة النسْر بِجَامِع بنى أُميَّة ودرس وَكَانَ يُقرر تقريرا جيدا الا انه كَانَ ضيق الْعبارَة وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع شهر ربيع الاول سنة ثَمَانِينَ وَألف بداء الاسْتِسْقَاء وَدفن بتربة بَاب الصَّغِير
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عَلَاء الدّين أَبُو الْيُسْر الملقب كَمَال الدّين العسيى القدسى ينتهى نسبه الى الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الصنابحى ذكره ابْن قيم الجوزية فى صفة الصفوة كَانَ عَالما مُحدثا حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى محبا للْفُقَرَاء وَالصَّالِحِينَ محسنا اليهم اجازه جده الشَّيْخ ابْن قاضى الصَّلْت الامام بِالْمَسْجِدِ الاقصى بِحَدِيث الاولية وَكَانَ عمره اذ ذَاك اثنتى عشرَة سنة رَحل إِلَى مصرفى سنة خمس وَخمسين وَألف هُوَ وَأَخُوهُ يُوسُف وَأخذ بهَا الحَدِيث عَن المعمر الشَّيْخ اسماعيل بن ماضى بن يُونُس بن اسماعيل ابْن خطاب السنجيدى الشافعى خطيب جَامع الْحَاكِم وَله اجازات جمة من عُلَمَاء الازهر مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى اجازه فى القراآت السَّبع وَمِنْهُم الْبُرْهَان اللقانى وَالشَّيْخ ابراهيم البيجورى شيخ الْقُرَّاء بمقام الامام الشافعى وَكَانَ مواظبا لزيارته فى كل لَيْلَة سبت وَالْقِرَاءَة مَعَه فى المقرأ الْكَبِير وَولى الامامة بِالْمَسْجِدِ الاقصى وَحج ثَلَاث مَرَّات وَأخذ بِمَكَّة عَن ابْن عَلان الصديقى وَاجْتمعَ القطب الْغَوْث بِمَكَّة فى الْمرة الثَّالِثَة ودعا لَهُ بِحسن الخاتمة فجَاء من الْحَج فى تِلْكَ السّنة وهى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف متوعكاً وَتوفى فى شهر بيع الاول من تِلْكَ السّنة
مُحَمَّد ميرزا بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالسروجى الدمشقى الميدانى كَانَ فى ابْتِدَاء أمره وَهُوَ بِدِمَشْق يشْتَغل السُّرُوج ويبيعها ثمَّ طلب الْعلم وَأخذ عَن الشيم الميدانى والنجم الغزى وَعَن أَبى الْعَبَّاس المقرى وَأَجَازَهُ بِجَمِيعِ مؤلفاته ومروياته وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْمُحَقق الصوفى عبد الله الرومى البوسنوى شَارِح الفصوص الشهير بعبدى رَحمَه الله ورحل الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بِمَكَّة عَن الشَّيْخ الولى الْكَامِل تَاج الدّين النقشبندى قدس الله روحه وَنور ضريحه وَأخذ بِالْمَدِينَةِ المنورة عَن الشَّيْخ غرس الدّين الخليلى وجاور بِالْمَدِينَةِ نَحْو أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ يحجّ غَالب السنين وَكَانَ تقيا ورعا زاهدا فى الدُّنْيَا ورياستها ملازما لِلْعِبَادَةِ وَالذكر كثير المطالعة(4/202)
لكتب الْقَوْم خَبِيرا باصطلاحاتهم محققا لكتب الْحَقَائِق لَا سِيمَا كتب الشَّيْخ الاكبر قدس الله سره الْعَزِيز وَكَانَ يحل المشكلات الَّتِى يستشكلها غَالب النَّاس وَأقَام بِمَكَّة سِنِين قَالَ الشلى وَأخذت عَنهُ وصحبته مُدَّة مجاورته وَكَانَ حسن الاخلاق متواضعا مشتغلا بِمَا يعنيه وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة
مُحَمَّد المرابط بن مُحَمَّد بن أَبى بكر أَبُو عبد الله شهر بالصغير الدلائى الفشتالى المغربى المالكى نادرة الدَّهْر وفريد العضر لم يَأْتِ من الْمغرب فى هَذَا الْعَصْر لَهُ شَقِيق فَهُوَ لعمرى بِجمع الْفَضَائِل حقيق لَهُ حسب تليد وَبَاعَ فى الْمجد طَوِيل مديد لَهُ فى كل علم سهم مُصِيب وحذق عَجِيب خُصُوصا علم الْعَرَبيَّة فانه رَأس المؤلفين فى زَمَانه وَسَار ذكره مسير الْمثل بَين اقرانه روى عَن جمع مِنْهُم وَالِده الْعَلامَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد وَعَن امام الْمغرب أَبى عبد الله مُحَمَّد المغربى بن يُوسُف أَبى المحاسن الفاسى وَعَن الولى أَبى مُحَمَّد عبد الهادى بن عَالم الغرب فى الحَدِيث أَبى مُحَمَّد عبد الله بن على بن طَاهِر السجلماسى واشتهر فى الْآفَاق وانتفع بِهِ خلق كَثِيرُونَ من أفاضل الْمغرب وَقدم الْقَاهِرَة فى سنة ثَمَانِينَ وَألف فَأقبل عَلَيْهِ فضلاؤها واستفاد مِنْهُ نجباؤها وَجرى بنيه وَبَين الْعَلامَة الشهَاب البشبيشى مطارحات واسئلة منظومة فى فنون الْعَرَبيَّة وَكَانَ أَخُوهُ مُحَمَّد الْحَاج بن مُحَمَّد بن أَبى بكر سُلْطَان فاس ومكناس وَالْقصر وَمَا والاها من أَرض الدلا وسلا وَغَيرهَا من أَرض الْمغرب وَمكث ملكا نَحْو أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ انتزع الْملك مِنْهُ مولاى رشيد الشريف الْحسنى كَمَا انتزعه من غَيره وحبسه الى أَن مَاتَ مسجونا وَخرب مدينتهم الْمَعْرُوفَة بالزاوية كَمَا أسلفناه فى تَرْجَمَة مولاى رشيد ورحلوا باجمعهم الى تلمسان وَورد مَعَه الى مصر ابْن أَخِيه عبد الله بن مُحَمَّد الْحَاج وَكَانَ أَمِيرا بِمَدِينَة سلا وَمَا والاها من قبل وَالِده وَله ولد اسْمه مُحَمَّد كَانَ من أكَابِر الافاضل تصدر لقِرَاءَة الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَله // شعر حسن // وللسيخ مُحَمَّد المرابط مصنفات مِنْهَا نتائج التَّحْصِيل فى شرح التسهيل وَفتح اللَّطِيف للبسط والتعريف والمعارج المرتقيات الى معالى الورقات وَالْبركَة البكرية فى الْخطب الوعظية والدرة الدرية فى محَاسِن الشّعْر وغرائب الْعَرَبيَّة وَفصل الْخَصْمَيْنِ فى مُتَعَلق الظرفين والدلائل القطعية فى تَقْرِير النصب على الْمَعِيَّة والتحرير الاسمى فى اعراب الزَّكَاة اسْما وَرفع اللّبْس عَن وُرُود تفعل(4/203)
بِمَعْنى فعل وَالْعَكْس وَله غير ذَلِك وَله ديوَان كَبِير الحجم من طالعه عرف فى البلاغة مَكَانَهُ مِنْهُ قَوْله
(سبحت اذ أَوْمَضْت للصب عَيْنَاك ... وكدت أقضى هوى من حسن مرآك)
(يَا من ثملت براح من لواحظها ... لله مَا فعلت فِينَا حمياك)
(أفردت حسنا كَمَا أفردت فِيك صفا ... ودو حاشاى من شرك وحاشاك)
(تكاملت فِيك أَوْصَاف جللت بهَا ... عندى فسبحان من بالْحسنِ حلاك)
(يَا أُخْت ظبى النقاد لَا وفرط بهَا ... ردى ودائع قد أودعتها فَاك)
(وَلَا تجورى فَأَنت الْيَوْم مالكة ... ذوى الصبابات واستبقى رعاياك)
وَاجْتمعَ بِهِ الاخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله لَا برح رونق الادب ومبلغ السؤل والارب وَكتب اليه أبياتا يستدعى مِنْهُ الاجازة مطْلعهَا قَوْله
(مليك نحاة الْعَصْر عَلامَة الدَّهْر ... وَيَا علما فى الْفضل مُرْتَفع الذّكر)
مِنْهَا
(وقبلك مَا كَانَ ابْن مَالك هَكَذَا ... وَعَمْرو نسيناه وَعَاد بِلَا بكر)
(أجزنى بِمَا ألفته وقرأته ... على السَّادة الاعلام اشياخك الغر)
(بقيت بَقَاء الدَّهْر يَا غَايَة المنى ... وَبَلغت مَا تهواه يَا ابْن أَبى بكر)
وَسَنَده فى الْعُلُوّ والافتخار أشهر من الشَّمْس فى رَابِعَة النَّهَار ثمَّ رَحل الى الْمغرب وَأذن لَهُ مولاى رشيد فى الدُّخُول الى مَدِينَة فاس فَأَقَامَ بهَا الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى سنة تسعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن الفاسى وَهُوَ اسْم لَهُ لَا نِسْبَة الى فاس ابْن طَاهِر السوسى الرودانى المغربى المالكى نزيل الْحَرَمَيْنِ الامام الْجَلِيل الْمُحدث المفنن فَرد الدُّنْيَا فى الْعُلُوم كلهَا الْجَامِع بَين منطوقها ومفهومها وَالْمَالِك لمجهولها ومعلومها ولد فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف بتارودنت بتاء مثناة من فَوق بعْدهَا ألف ثمَّ رَاء مَضْمُومَة فواو ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة فنون ومثناة من فَوق ساكنتان قَرْيَة بسوس الاقصى وَقَرَأَ بالمغرب على كبار الْمَشَايِخ من أَجلهم قاضى الْقُضَاة فَتى مراكش ومحققها أَبُو مهدى عِيسَى السكانى والعلامة مُحَمَّد بن سعيد المربغنى المركاشى وَمُحَمّد بن أَبى بكر الدلائى وَشَيخ الاسلام سعيد ابى ابراهيم الْمَعْرُوف بقدروه مفتى الجزائر وَهُوَ أجل مشايخه وَمِنْه تلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة ولازم الْعَلامَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعى أَرْبَعَة أَعْوَام فى التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه(4/204)
والتصوف وَغَيرهَا وَصَحبه وَتخرج بِهِ ثمَّ رَحل الى الْمشرق وَدخل مصر وَأخذ عَمَّن بهَا من أَعْيَان الْعلمَاء كالنور الاجهورى والشهابين الخفاجى والقليوبى والمسند المعمر مُحَمَّد بن أَحْمد الشوبرى وَالشَّيْخ سُلْطَان وَغَيرهم وأجازوه ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وجاور بِمَكَّة وَالْمَدينَة سِنِين عديدة وَهُوَ مكب على التصنيف والاقراء ثمَّ توجه الى الرّوم فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف صُحْبَة مصطفى بيك أخى الْوَزير الْفَاضِل وَمر بطريقه على الرملة وَأخذ بهَا عَن شيخ الْحَنَفِيَّة خير الدّين الرملى وبدمشق عَن نقيب الشَّام وعالمها السَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة والمسند المعمر مُحَمَّد بن بدر الدّين بن بلبان الحنبلى وَلما وصل الى الرّوم حظى عِنْد الْوَزير وَمن دونه وَمكث ثمَّة نَحْو سنة وَرجع الى مَكَّة المشرفة مجللا وحصلت لَهُ الرياسة الْعَظِيمَة الَّتِى لم يعْهَد مثلهَا وفوض اليه النّظر فى أُمُور الْحَرَمَيْنِ مُدَّة حَتَّى صَار شرِيف مَكَّة لَا يصدر الا عَن رَأْيه وأنيطت بِهِ الامور الْعَامَّة والخاصة الى ان مَاتَ الْوَزير فرق حَاله وتنزل عَمَّا كَانَ فِيهِ ثمَّ ورد أَمر السُّلْطَان الى مَكَّة سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف باخراجه مِنْهَا الى بَيت الْمُقَدّس وَسَببه عرض الشريف بَرَكَات أَمِير مَكَّة فِيهِ الى السلطنة وَطلب اخراجه من مَكَّة بعد ان كَانَ بَينهمَا من المرابطة مَا كَانَ وعَلى يَده تمت لَهُ الشرافة ونهض بِهِ الْحَظ وَكَانَ يَوْم وُرُود الامر يَوْم عيد الْفطر فألح عَلَيْهِ الشريف سعيد بن بَرَكَات شرِيف مَكَّة يَوْمئِذٍ وقاضى مَكَّة فى امْتِثَال الامر السلطانى فَامْتنعَ من الْخُرُوج فى هَذِه الْحَالة وتعلل بالخوف من قطاع الطَّرِيق فَأبى أَن يسلم نَفسه وَمَاله فأمهل بعد علاج شَدِيد وَتشفع عِنْد بعض الاشراف الى مخرج الْحَج ثمَّ توجه صُحْبَة الركب الشامى وَأبقى أَهله بِمَكَّة وَأقَام فى دمشق فى دَار نقيب الاشرف سيدنَا عبد الركيم بن حَمْزَة حرس الله جَانِبه وَجعل أطوع أمره مجانبه وَاجْتمعت بِهِ ثمَّة مرّة صَحبه فَاضل الْعَصْر ودرة قلادة الْفَخر الْمولى أَحْمد بن لطفى النَّجْم المولوى نضر الله بِهِ وَجه الْفَضَائِل وابقاه مغبوطة بِهِ الاواخر من الاوائل فَرَأَيْت مهابة الْعلم قد أخذت باطرافه وحلاوة الْمنطق فى محَاسِن أوضافه وَاسْتمرّ بِدِمَشْق مُدَّة مُنْفَردا بِنَفسِهِ لَا يجْتَمع الا بِمَا قل من النَّاس واشتغل مُدَّة اقامته بتأليف كتاب الْجمع بَين الْكتب الْخَمْسَة والموطأ على طَريقَة ابْن الاثير فى جَامع الاصول الا انه استوعب الرِّوَايَات من الْكتب السِّتَّة وَلم يختصر كَمَا فعل ابْن الاثير وَله من التآليف الشاهدة بتبحره ودقة نظره مُخْتَصر التَّحْرِير فى أصُول الْحَنَفِيَّة لِابْنِ الْهمام وَشَرحه ومختصر(4/205)
تَلْخِيص الْمِفْتَاح وَشَرحه والمختص الذى آلفه فى الْهَيْئَة والحاشية على التسهيل والحاشية على التَّوْضِيح وَله منظومة فى علم الْمِيقَات وَشَرحهَا وَله جدول جمع فِيهِ مسَائِل الْعرُوض كلهَا واخترع كرة عَظِيمَة فاقت على الكرة الْقَدِيمَة والاسطرلاب وانتشر فى الْهِنْد واليمن والحجاز وَغير ذَلِك من الرسائل وَله فهرست يجمع مرويانه واشياخه سَمَّاهَا صلَة الْخلف بموصول السّلف ذكر فِيهِ انه وَقع لَهُ بالمغرب غرائب مِنْهَا انه كَانَ مجتازا على بلد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبى عبد الله مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الواورغتى الناولى وَهُوَ قَاصد بلد أُخْرَى فَسَأَلَ عَن الْبَلَد فَقيل لَهُ ان فِيهِ شَيخا مربيا صفته كَذَا وَكَذَا قَالَ فجذبنى الشوق اليه وَلم أملك نفسى حَتَّى دخلت بَلَده فلقينى رجل خَارج الى وَقَالَ أمرنى الشَّيْخ أَن اخْرُج اليك وآتيه بك فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رفع الى بَصَره فَوَقَعت مغشيا على بَين يَدَيْهِ وَبعد حِين أَفَقْت فَوَجَدته يضْرب بِيَدِهِ بَين كتفى وَيَقُول وَهُوَ على جمعهم اذا يَشَاء قدير أَفَمَن وعدنا وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه فأمرنى بملازمته ومذاكرة أَوْلَاده بِالْعلمِ فَقلت لَهُ انى طلبت كثيرا لَكِن الى الْآن مَا فتح الله تَعَالَى على بشئ وَلَا أقدر على اسْتِخْرَاج كتاب وَلَا الاجررومية وَكنت اذ ذَاك كَذَلِك فَقَالَ لى اجْلِسْ عندنَا ودرست أى كتاب شِئْت فى أى علم شِئْت ونطلب من الله وَتَعَالَى أَن يفتح لَك فَجَلَست ودرس طَائِفَة من الْكتب الَّتِى قرأتها وَكنت اذا توقفت فى شئ أحس بمعان تلقى على قلبى كانها أجرام وغالب تِلْكَ الْمعَانى هى الَّتِى كَانَت مَشَايِخنَا تقررها لنا وَلَا نفهمها وَلَا أتذكرها قبل ذَلِك وَكَانَ مسكنى قريب مَسْكَنه فَكنت أعرف انه يخْتم الْقُرْآن الْعَظِيم بَين الْعشَاء وَالْمغْرب يصلى بِهِ النَّوَافِل ورأيته يَوْمًا تصفح جَمِيع الْمُصحف الشريف وَجَمِيع تَنْبِيه الانام وَجَمِيع دَلَائِل الْخيرَات فى مجْلِس فعجبت من ذَلِك وَسَأَلت عَن ذَلِك بعض الْحَاضِرين فَقَالَ لى من ورد الشَّيْخ انه يخْتم ثلاثتها بعد صَلَاة الضُّحَى وشاهدت لَهُ الْعجب العجاب فى نزُول الْبركَة فى الطَّعَام وَغير ذَلِك بِمَا هُوَ مَحْض كرامات الاولياء وَمِنْهَا أَنه لقى يَوْمًا الْعَلامَة عِيسَى المراكشى مفتى مراكش وَقد احتف بِهِ خلق كثير يزدحمون على تَقْبِيل يَده وركبته وَهُوَ رَاكب فزاحمهم حَتَّى قبل يَده تبركا قَالَ فَانْحنى الى دون النَّاس وَقَالَ أجزتك بِجَمِيعِ مروياتى فَكَأَنَّمَا طبعها فى قلبى الْآن وَكَانَ ذَلِك قبل اشتغالى بِطَلَب الْعلم وَلست متزييا بزى طلبته حَتَّى يُقَال انه رأى عَلامَة الاهلية وَلَا ان ذَلِك من عَادَته مَعَ المتأهلين للاجازة بل لم يظفر(4/206)
بالاجازة مِنْهُ الا الْقَلِيل من أخصائه فَمَا أَظن ثمَّ بعد غيبتى عَنهُ ثَمَانِيَة أَعْوَام فى طلب الْعلم الشريف من الله تَعَالَى بِالرُّجُوعِ اليه وتجديد الاخذ عَنهُ فى سنة سِتِّينَ وَألف قبل وَفَاته بِسنة وَللَّه تَعَالَى الْحَمد والْمنَّة قلت والظاهرين من شَأْنه كَمَا نقلت عَن شَيخنَا المرحوم عبد الْقَادِر بن عبد الهادى وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَنهُ وسافر الى الرّوم فى صحبته وانتفع بِهِ وَكَانَ يصفه بأوصاف بَالِغَة حد الغلو وَيذكر الْفُنُون الَّتِى كَانَ يُشِير بمعرفتها فيستغرق الْعد ان ذَلِك فِيهِ بِمُجَرَّد فتح الهى ببركة شَيْخه الواورغنى الْمَذْكُور فانه كَانَ يَقُول انه يعرف الحَدِيث والاصول معرفَة مَا رَأينَا من يعرفهَا مِمَّن أدركناه وَأما عُلُوم الادب فاليه النِّهَايَة فِيهَا وَكَانَ فى الْحِكْمَة والمنطق والطبيعى والالهى الاستاذ الذى لَا تنَال مرتبته بالاكتساب وَكَانَ يتقن فنون الرياضة اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطى وَيعرف أَنْوَاع الْحساب والمقابلة والارتماطيقى وَطَرِيق الخطاءين والموسيقى والمساحة معرفَة لَا يُشَارِكهُ فِيهَا غَيره الا فى ظواهر هَذِه الْعُلُوم دون دقائقها وَالْوُقُوف على حقائقها وَكَانَ يبْحَث فى الْعَرَبيَّة والتصريف بحثا تَاما مُسْتَوْفيا وَكَانَ لَهُ فى التَّفْسِير وَأَسْمَاء الرِّجَال وَمَا يتَعَلَّق بِهِ يَد طائلة وَكَانَ يحفظ فى التواريخ وَأَيَّام الْعَرَب ووقائعهم والاشعار والمحاضرات شَيْئا كثيرا وَكَانَ فى الْعُلُوم الغريبة كالرملة والاوفاق والحروف والسيميا والكيميا حاذقا اتم الحذق وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر فى الْمَعْنى
(وَكَانَ من الْعُلُوم بِحَيْثُ يقْضى ... لَهُ فى كل علم بِالْجَمِيعِ)
وَقد أَخذه عَنهُ بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَالروم خلق ومدحه جمَاعَة وأثنوا عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق يَوْم الاحد عَاشر ذى الْقعدَة سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَدفن بالترية الْمَعْرُوفَة بالايجية بسفح قاسيون بِوَصِيَّة مِنْهُ ورثاه شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الهادى رَحمَه الله تَعَالَى بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا قَوْله
(صبرا فَكل الانام يفقد ... لَا أحد هَهُنَا يخلد)
يَقُول من جُمْلَتهَا هَذَا
(وَالنَّاس آجالهم كخيل ... فَالسَّابِق الْمُضمر الْمُجَرّد)
(وعالم الْكَوْن فى فنَاء ... فحقق الامر فِيهِ واشهد)
(والخطب عَم الانام طرا ... بِمَوْت شيخ الْعُلُوم أوحد)
(ابْن سُلَيْمَان من حباه ... الْمُصْطَفى باسمه مُحَمَّد)(4/207)
(تبكى عُلُوم الالى عَلَيْهِ ... وطرسها قد غَدا مسود)
مِنْهَا
(فى كَفه دَائِما يراع ... لَهُ وُجُوه الطروس سجد)
(ان هزه فَالصَّوَاب يَبْدُو ... من أمره وَاضحا مُؤَكد)
(فى كل علم ترَاهُ فَردا ... أدْرك آحاده وجدد)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن احْمَد الْمَعْرُوف بالبخشى البكفالونى الحلبى الشافعى الْمُحدث الْفَقِيه الصوفى العذب الطَّرِيقَة كَعْب الاحبار ولد ببكفالون بِفَتْح الْمُوَحدَة قَرْيَة من أَعمال حلب وَبهَا قَرَأَ الْقُرْآن وَنَشَأ فى حجر وَالِده ورحل فى أَوَائِل طلبه الى دمشق وَأخذ عَمَّن بهَا من علمائها كالشيخ عبد الباقى الحنبلى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الخباز البطنينى وَشَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن بلبان وَشَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد العيثاوى وَغَيرهم وَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ أَيُّوب الخلوتى وَقَرَأَ عَلَيْهِ جملَة فنون وأطلعه على أسرار علمه الْمكنون حَتَّى نَالَ مِنْهُ غَايَة الامل وأثمرت لَهُ غيث دُعَائِهِ اغصان الْعلم وَالْعَمَل فَرجع الى أَهله بنعم وافرة ثمَّ توطن حلب وَأخذ بهَا عَن عالمها مُحَمَّد بن حسن الكواكبى الْمُفْتى بهَا وَأقَام على بَث الْعلم ونشره فى غَالب أوقاته وانتفع بِهِ كثير من فضلاء حلب وَله من التآليف الشافية نظم الكافية وَشرح على الْبردَة وَغَيرهمَا وسافر الى الرّوم فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف وَاجْتمعت بِهِ بادرنه ثمَّ اتحدث مَعَه اتحادا تَاما فَكُنَّا نجمتع فى غَالب الاوقات وَكنت شَدِيد الْحِرْص على فَوَائده وَحسن مذاكرته مَعَ الادب والسكينة وَمَا رَأَيْت فِيمَن رَأَيْت احلم وَلَا أحمل مِنْهُ وَكَانَ روح الله تَعَالَى روحه من خِيَار الْخِيَار كريم الطَّبْع مفرط السخاء ثمَّ اجْتمعت بِهِ بقسطنطينية بعد عودنا اليها وَكَانَ لاخى الْوَزير الاعظم الْفَاضِل مصطفى بيك عَلَيْهِ اقبال تَامّ وَله اليه محبَّة زَائِدَة وَكَانَ جَاءَ الى الرّوم بِخُصُوص مشيخة التكية الاخلاصية الخلوتية بحلب فوجهت اليه وَتوجه الى حلب وَأقَام بالتكية الْمَذْكُورَة شَيخا مبجلا مُعظما مَقْصُودا ثمَّ نازعه فِيهَا بعض الخلوتية فَلم تتمّ لَهُ وَبقيت على صَاحب التَّرْجَمَة ودرس بالمقدمية الَّتِى بحلب ثمَّ بعد مُدَّة مل الاقامة بحلب فقصد الْحَج بنية الْمُجَاورَة وَأقَام ابْنه مُحَمَّدًا مقَامه فى المشيخة وَدخل دمشق صُحْبَة الْحَاج وَأقَام بِمَكَّة مجاورا وَأَقْبَلت عَلَيْهِ أهالى مَكَّة المشرفة على عَادَتهم وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض أفاضلها ولقى حظا عَظِيما من شريفها المرحوم الشريف أَحْمد بن زيد لما كَانَ بَينهمَا من الْمَوَدَّة والصحية بالروم أَيَّام كَانَ وَكنت حَتَّى(4/208)
مدحه وأخاه سَعْدا بقصيدة غراء مطْلعهَا هَذَا
(خليلى ايه من حَدِيث صبا نجد ... وان حركت دَاء قَدِيما من الوجد)
(فآها على ذَاك النسيم تأسفا ... وآه على آه تروح أَو تجدى)
(عليلة انفاس تصح نفوسنا ... معطرة الاردان بالشيخ والرند)
(وهيهات نجد والعذيب ودونه ... مهامه تغوى الكدر فِيهَا عَن الْورْد)
(وَمن كل شماخ الاهاضب خالط السَّحَاب يروم الشَّمْس بالصد وَالرَّدّ ... )
(وتسرى الصِّبَا مِنْهُ فتمسى وبيننا ... من البون مَا بَين السماوة والسند)
(سقى الله من نجد هضابا رياضها ... تنفس عَن أذكى من العنبر الوردى)
(وَحيا الحيا حَيا نعمنا بظله ... بنعمان مَا بَين الشبيبة والرفد)
(نغازل غزلانا كونس فى الحشى ... أوانس فى ألحاظها مقنص الاسد)
(تحاكى الجوارى الكنس الزهر بهجة ... وتفضلها فى رفْعَة الشَّأْن والسعد)
(حجازية الالفاظ عذرية الْهوى ... عراقية الالحاظ وردية الخد)
(بعيدَة مهوى القرط معولة اللمى ... مرهفة الاجفان عسالة الْقد)
(تميس وَقد أرخت ذوائب فرعها ... فتخطر بَين البان وَالْعلم الْفَرد)
(وتعطو بجيد عطل الحلى حسنه ... كَانَ ظَبْيَة تعطو الى ريق المرد)
(وَكم لَيْلَة باتت يداها حمائلى ... وباتت يدى من جيدها مطرح العقد)
(ندير سلافا من حباب حبابها ... على حِين ترشاف ألذ من الشهد)
(وَلما تمطى الصُّبْح يطْلب علمنَا ... تكنفنا ليل من الشّعْر الْجَعْد)
(عفيفين عَمَّا لَا يَلِيق تكرما ... على مَا بِنَا من شدَّة الشوق والوجد)
(وَقد كَاد يسْعَى الدَّهْر فى شت شملنا ... وَلَكِن توارى شفعنا عَنهُ بالفرد)
انْظُر الى هَذَا الْمَعْنى تَجدهُ فى غَايَة اللطافة وَكَأَنَّهُ اختلسه من قَول بلديه ومعاصره الْمولى مصطفى البابى من قصيدة وهى
(وماسها الدَّهْر عَن تفرقنا ... بل ظننا لالتئامنا وَاحِدًا)
(رَجَعَ فَأَصْبَحت أَشْكُو بَينهَا وفراقها ... بشط النَّوَى شكوى الاسير الى الْقد)
(وانى قد استدركت دَرك مطالبى ... وتبليغ آمالى وَمَا ند عَن حدى)
(بطلعة نجلى ذرْوَة الْجد غارب المعالى سَنَام الْفَخر بل غرَّة الْمجد ... )
(امام الْمصلى والمحصب والصفا ... وراثة جد عَن نمى الى جَسَد)(4/209)
(أَبى أَحْمد زيد الصناديد فى الوعى ... بنى حسن الاسد الكواسرة الْحَد)
(بزاة الْعلَا الغر الميامنة الالى ... سما قدرهم يَوْم التفاخر عَن ند)
(غيوث اذا أعطو لُيُوث اذا سطوا ... مناقبهم جلت عَن الْحَد وَالْعد)
(فَمَا أفلت شمس لزيد وَقد بدا ... لنا من ضياها شمس أَحْمد والسعد)
(هما نيرا اوج المعالى وشرفا ... بروج قُصُور الرّوم فى طالع السعد)
(ومذر حلا عَن مَكَّة غَابَ انسها ... فَكَانَا كنصل السَّيْف غَابَ عَن الغمد)
(اضاءت لَهُم أَرض الشآم وأصبحت ... ضواحى نواحى الرّوم تنضح بالند)
(وَقد طَال مَا ذَابَتْ قَدِيما تشوقا ... الى نبل تَقْبِيل المواطئ بالخد)
(الى أَن تجلى الله جلّ جَلَاله ... عَلَيْهِنَّ بالانعام واليمن والرشد)
(فَأَصْبَحْنَ يحكين الْجنان تبرجا ... ويرفلن من نور الخمائل فى برد)
(جوادين فى شوط المماجد جليا ... وحازا رهان السَّبق فى حنق الضِّدّ)
(براحتهم ان تنْسب الْجُود فى العطا ... فَتلك بحور تتقى الجزر بِالْمدِّ)
(وان أحيت السحب النَّبَات بِمَائِهَا ... فكم أحيت الراحات انفس مستجد)
(رياض لمرتاد حصون للائذ ... رجوم لمستعد نُجُوم لمستهد)
(شمائل تهزا بالشمائل لطفها ... وَعطف شُمُول الراح هزته تبدى)
(اذا ماد جاليل الخطوب بمعضل ... أما ط لثام الْكَشْف عَن ذَاك بالجد)
(بهم شرفت أَرض الْحجاز وَآمَنت ... ظباها وأمتها الْوُفُود الى الرفد)
(بنوها هَاشم ان كنت تعرف هاشما ... وَمَا هَاشم الا الاسنة والهندى)
(بهم فخرت عدنان وَالْعرب كلهَا ... ودانت لَهُم قحطان أهل الفنا الصلد)
(فَمن مجدهم يستقبس الْمجد كُله ... وَمن جودهم أهل المكارم تستجدى)
(هَنِيئًا لنسل الْمُصْطَفى الشّرف الذى ... تسامى فَلَا يُحْصى بعد وَلَا حد)
(بمدحتكم جَاءَ الْكتاب فَمَا عَسى ... تَقول الورى من بعد حم وَالْحَمْد)
(وعذرا بنى الزهراء انى ظامئ ... الى الْمَدْح والايام تنسى عَن الْورْد)
(يود لسانى أَن يترجم بعض مَا ... لكم فى فؤاد الصب من صَادِق الود)
(وَقد نضبت مِنْهُ القريحة نضة ... على حذر من حاذر أحذر الريد)
(كنفثة مصدور ولمحة عاشق ... تسارقه عين الرَّقِيب على بعد)
(فان أَعْطَتْ الايام بعض قيادها ... رَأَيْتُمْ لَهُ من مدحكم أعظم الْورْد)(4/210)
وَكَانَت وِلَادَته فى شهر ربيع الاول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف بقرية بكفالون وَتوفى بِمَكَّة المشرفة لَيْلَة الثُّلَاثَاء الْخَامِس من شهر ربيع الثانى سنة ثَمَان وَتِسْعين والف وَصلى عَلَيْهِ اماما بِالنَّاسِ ضحى يَوْمهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام شَيخنَا الْعَالم الْعَامِل الشَّيْخ أَحْمد النخلى الشافعى فسح الله فى أَجله فى مشْهد حافل حَضَره شرِيف مَكَّة الشريف أَحْمد بن زيد وقاضيها وغالب اعيانها وَدفن بالمعلاة بِالْقربِ من مَزَار أم الْمُؤمنِينَ السيدة خَدِيجَة رضى الله عَنْهَا وَكَانَ فى بِلَاده اخبره بعض الاولياء انه يُقيم بِمَكَّة المكرمة مُدَّة طَوِيلَة جدا فَكَانَ فى كَلَام ذَلِك الولى اشارة الى أَنه يَمُوت بِمَكَّة فانه لم تطل مُدَّة اقامته فَكَانَت اقامته بهَا مَيتا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مَحْمُود بن ابى بكر الوطرى التنبكتى المالكى عرف بيغبغ بياء مَفْتُوحَة فغين مُعْجمَة سَاكِنة فباء مَضْمُومَة فعين مُهْملَة مَضْمُومَة قَالَ تِلْمِيذه الْعَلامَة أَحْمد بَابا فى كتاب كِفَايَة الْمُحْتَاج لمعْرِفَة مَا لَيْسَ فى الديباج مُخْتَصر كتاب الذيل ذيل بِهِ كتاب الديباج الْمَذْهَب فى معرفَة اعيان عُلَمَاء الْمَذْهَب للامام برهَان الدّين بن فَرِحُونَ الْمُسَمّى نيل الابتهاج بتطريز الديباج لشَيْخِنَا وبركتنا الْفَقِيه الْعَالم المتقن الصَّالح العابد الناسك كَانَ من صالحى خِيَار عباد الله الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء العاملين مطبوعا على الْخَيْر وَحسن النِّيَّة وسلامة الطويه والانطباع على الْخَيْر واعتقاده فى النَّاس حَتَّى كَانَ النَّاس يتساوون عِنْده فى حسن ظَنّه بهم وَعدم مَعْرفَته الشَّرّ يسْعَى فى حوائجهم ويضر نَفسه فى نفعهم وينفجع فى مكروههم وَيصْلح بَينهم وينصحهم الى محبَّة الْعلم وملازمة تعلميه وَصرف اوقاته فِيهِ ومحبة اهله والتواضع التَّام وبذل نفائس الْكتب العزيزة الغريبة لَهُم وَلَا يفتش بعد ذَلِك عَنْهَا كَائِنا مَا كَانَ من جَمِيع الْفُنُون فَضَاعَ لَهُ بذلك جملَة من كتبه نَفعه الله تَعَالَى بذلك وَرُبمَا يأتى لبابه طَالب يطْلب كتابا فيعطيه لَهُ من غير معرفَة فَكَانَ الْعجب العجاب فى ذَلِك ايثارا لوجهه تَعَالَى مَعَ محبته للكتب وتحصيلها شِرَاء ونسخا وَقد جِئْته يَوْمًا اطلب مِنْهُ شَيْئا من كتب النَّحْو ففتش فى خزانته فاعطانى كل مَا ظفر بِهِ مِنْهَا مَعَ صَبر عَظِيم على التَّعْلِيم وايصال الْفَائِدَة للبليد بِلَا ملل وَلَا ضجر حَتَّى يمل حاضروه وَهُوَ لَا يبالى حَتَّى سَمِعت بعض أَصْحَابنَا يَقُول أَظن هَذَا الْفَقِيه شرب مَاء زَمْزَم لِئَلَّا يمل من الاقراء تَعَجبا من صبره من مُلَازمَة الْعِبَادَة والتجافى عَن ردئ الاخلاق واضمار الْخَيْر لكل الْبَريَّة حَتَّى الظلمَة مُقبلا على مَا يعنيه متجنبا الْخَوْض فى الفضول ارتدى من الْعِفَّة(4/211)
والمسكنة ازين رِدَاء وَأخذ بِيَدِهِ من النزاهة أقوى لِوَاء مَعَ سكينَة ووقار وَحسن واخلاق وحياء سهل الْوُرُود والاصدار فاحبته الْقُلُوب كَافَّة واثنوا عَلَيْهِ بِلِسَان وَاحِد فَلَا ترى الا محبا مادحا ومثنيا بِالْخَيرِ صَادِقا مَعَ تَشْبِيه بجوامع الْعَامَّة وَأُمُور الْقُضَاة لم يُصِيبُوا عَنهُ بديلا وَلَا نالوا لَهُ مثيلا طلبه السُّلْطَان لتولية الْقَضَاء بمحله فَأَنف وَامْتنع واعرض عَنهُ واستشفع فخلصه الله تَعَالَى لَازم الاقراء سِيمَا بعد موت سيدى أَحْمد بن سعيد فَأَدْرَكته انا يقرى من صَلَاة الصُّبْح اول وقته الى الضُّحَى الْكَبِيرَة دولا مُخْتَلفَة ثمَّ يقوم الى بَيته وَيصلى الظّهْر بِالنَّاسِ ويدرس الى الْعَصْر ثمَّ يُصليهَا وَيخرج لموْضِع آخر يدرس فِيهِ للأصفرار أَو قربَة وَكَانَ غواصا على الدقائق حَاضر الْجَواب سريع الْفَهم منور البصيرة سَاكِنا صامتا وقورا وَرُبمَا انبسط مَعَ النَّاس ويمازحهم وَكَانَ آيَة الله فى جودة الْفَهم وَسُرْعَة الادراك مَعْرُوفا بذلك ولد عَام ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة على مَا سَمِعت مِنْهُ واخذ الْعَرَبيَّة عَن الفقيهين الصَّالِحين وَالِده وخاله ثمَّ قطن مَعَ اخيه الْفَقِيه سيدى أَحْمد شقيقه بتنبكت فلازما الْفَقِيه أَحْمد بن سعيد فى مُخْتَصر خَلِيل ثمَّ رحلا لِلْحَجِّ فلقيا بِمصْر اللقانى والتاجورى والشريف يُوسُف الارميونى والبرهمتوشى الحنفى والامام مُحَمَّد البكرى وَغَيرهم فاستفادا ثمَّة ثمَّ رجعا بعد حجهما وَمَوْت خالهما فَنزلَا بتنبكت فاخذا عَن ابْن سعيد الْفِقْه والْحَدِيث ولازماه وَعَن سيدى ووالدى الاصول وَالْبَيَان والمنطق قرآ عَلَيْهِ أصُول السبكى وتلخيص الْمِفْتَاح وَحضر على شَيخنَا جمل الجويخى ولازم مَعَ ذَلِك الاقراء حَتَّى صَار خير شيخ فى وقته فى الْفُنُون لَا نَظِير لَهُ ولازمته أَكثر من عشر سِنِين وَذكر مقروآته عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة فى شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف وَله تعاليق وحواش نبه فِيهَا على مَا وَقع لشراح خَلِيل وَغَيره وتتبع مَا فى الشَّرْح الْكَبِير للتائى من السَّهْو نقلا وتقريرا فى غَايَة الافادة جمعهَا فى آخر تأليفاته وَالله تَعَالَى أعلم
مُحَمَّد بن مَحْمُود الشهير بحلوجى زَاده أحد موالى الرّوم الْمَشْهُورين بالادب وَالشعر وَكَانَ يتَخَلَّص على عَادَتهم بعارف ذكره ابْن نوعى فى ذيل الشقائق وَقَالَ فى تَرْجَمته قَرَأَ على عُلَمَاء دَار الْخلَافَة الى أَن وصل الى مرتبَة الاستعداد فلازم من المنلا حسام الدّين بن قره حلبى ودرس باحدى الثمان فى شهر ربيع الاول سنة ثَمَان بعد الالف ثمَّ وَجه اليه قَضَاء مغنيسا فى ذى الْقعدَة من هَذِه السّنة فَلم يفعل وَاخْتَارَ(4/212)
الْعَزْل فبقى معزولا الى صفر سنة عشْرين ثمَّ وَجه اليه التدريس باحدى الثمان ثمَّ ولى الْقَضَاء ازمير فى جُمَادَى الاخرة سنة احدى وَعشْرين ثمَّ قلبه فى شعْبَان من هَذِه السّنة ثمَّ قَضَاء الْقُدس فى شهر ربيع الاول سنة أَربع وَعشْرين ثمَّ قَضَاء أَيُّوب فى سنة ثَلَاثِينَ وَكَانَ فَاضلا لَهُ من كل فن نصيب وافر وشعره وانشاؤه مسبوكان فى قالب الرقة الا انه كَانَ متكيفا كثير الِاسْتِعْمَال للبرش وَكَانَ كثيرا مَا تَأْخُذهُ نشوة الكيف فيغرق ويستغرق بِهِ النعاس والسرد قَالَ ابْن نوعى وشهدته يَوْمًا وَقد حضر فى محفل جَامع وَكَانَ صدر الْمجْلس نفس زَاده مدرس الخانقية بوفاء وَكَانَ من متعينى أهل الْفضل وَكَانَ مُعْتَمد شيخ الاسلام صنع الله بن جَعْفَر فى أُمُوره ومستشاره الذى لَا يصدر الا عَن رَأْيه وَكَانَ فى نفس الامر من اهل الْعلم والوجاهة الا ان لَهُ كبر نفس وَدَعوى طائلة فَأخذ فى نقل بعض الماجريات وَأطَال بِحَيْثُ مله الْحَاضِرُونَ وَكَانَ فى أثْنَاء خطاباته يلْتَفت يمنة ويسرة ويتمشدق وَيحسن مَا يَقُوله وَوجد صَاحب التَّرْجَمَة فى غُضُون ذَلِك فرْصَة للنوم وَهُوَ يسْرد فاتفق أَنه رأى فى نَومه رجلا يحْكى لَهُ حِكَايَة لكنه أغرب فِيهَا حَتَّى ظن المترجم استحالتها فَهَب من نعسته وَنَفس زَاده نَاظر إِلَى جِهَته وَهُوَ يَقُول كل مَا تَقوله كذب لَا أصل لَهُ فَغَضب نفس زَاده واحتد وَقَامَ من الْمجْلس وَهُوَ يسبه فَاعْتَذر اليه صَاحب الْمجْلس بِالْبَيْتِ الْمَشْهُور
(لقد أسمعت لَو ناديت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادى)
فسكن غَضَبه بعض سُكُون الا ان أهل الْمجْلس عجبوا من وُقُوع هَذَا الامر على هَذِه الصُّورَة وَاسْتولى عَلَيْهِم الضحك فغلب الْحيَاء على نفس زَاده حَتَّى تصبب عرقا وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة من هَذَا الْقَبِيل نَوَادِر كَثِيرَة مطربة وَمِمَّا يستظرف مِنْهَا انه دخل على شيخ الاسلام اِسْعَدْ بن سعد الدّين وَكَانَ ولى قَضَاء أَيُّوب فَقَالَ لَهُ يسليه عَن تَوليته منصبا ارْفَعْ مِنْهُ ويرغبه فِيهِ ان أَيُّوب بِمَثَابَة شهنشين استانبول بِمَعْنى روزنتها فاستجاد صَاحب التَّرْجَمَة هَذَا التَّشْبِيه وَصَارَ يكْتب فى امضائه القاضى بشهنشين قسطنطينية وَهَذَا غَايَة فى سَلامَة الطَّبْع وَهَكَذَا تفعل فويضات البرش وجدت رقْعَة بِخَطِّهِ فِيهَا امضاؤه وَهَذَا نَصهَا وَثِيقَة ثقتى وَحجَّة مستنابى بمحكمتى بِالْبَابِ صَحِيحَة الِاحْتِجَاج من غير لجاج وارتياب وَأَنا الْفَقِير غفرت ذنوبى وسترت عيوبى مُحَمَّد الْمُبْتَلى بِالْقضَاءِ الايوبى الجارى على لِسَان أهل الْجنَّة الدريه الشهير بشهنشين قسطنطينية لَا زَالَ ظلال جلال حاميها غير مفارق أهاليها يَوْم(4/213)
الْحساب عفى عَنهُ الرب الْوَهَّاب وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مَحْمُود بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن خضر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن سُلَيْمَان بن على المناشيرى الصالحى الشافعى وَالِد القاضى بدر الدّين الْمُقدم ذكره كَانَ من فضلاء الشَّافِعِيَّة قَرَأَ وَحصل وَكَانَ أديبا مطبوعا لَهُ شعر مستعذب مِنْهُ قَوْله
(وأهيف لَهُ دعجٌ ... بِعَيْنِه سبى المهج)
(يَا سائلى عَن وَصفه ... بوصفه نلْت الْفرج)
وَقَوله
(صرفت زَكَاة الْحسن هلا بدأت بى ... وانى لَهَا الْمُحْتَاج اذ أَنْت تعرف)
(فَقير ومسكين وغاز وغارم ... كَذَا ابْن سَبِيل عَامل ومؤلف)
(فَمن اى قسم ان اردت فاننى ... محب صَدُوق للمحبة آلف)
وَله
(كَثْرَة الْمكْث فى الاماكن ذل ... فاغتنم بعْدهَا وَلَا تتأنس)
(أَوله المَاء فى الغدير زلال ... فاذا طَال مكثه يتدنس)
هَذَا ينظر الى قَول البديع الهمدانى المَاء اذا طَال مكثه ظهر خبثه وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الاحد ثامن عشر ربيع الثانى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الْخَمِيس بعد الْعشَاء حادى عشرى رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ والف وَدفن غربى الْبركَة بسفح قاسيون
مُحَمَّد بن مَحْمُود الشهير بِابْن الناشف الدمشقى أحد الاعيان الَّذين رفوا بجدهم ونالوا مَا نالوا بسعيهم وَكَانَ فى طَلِيعَة عمره معانقا للقلة ثمَّ أثرى وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بقضها وقضيضها وَصَارَ كَاتبا للجند الشامى وسافر الاسفار الْكَبِيرَة وقاسى مشاقا ولقى أهوالا خُصُوصا فى سفرة أردويل وشهرزور وَغَيرهَا من الاسفار السُّلْطَانِيَّة ثمَّ تفرغ لَهُ الرئيس مُحَمَّد الشهير بِابْن الْخياط عَن خدمَة التذاكر الْمُتَعَلّقَة بالزعماء وأرباب التيمارات وتفوق وتمكنت قَوَاعِده فى الجاه وَالْحُرْمَة ونفوذ الْكَلِمَة وَلما قدم الْوَزير أَحْمد باشا نَائِب الشَّام الْمَعْرُوف بالكوجك وَعين لمقاتلة الامير فَخر الدّين بن معن قربه اليه وَأَدْنَاهُ وَكَانَ مَعَه فى سَفَره وانحل قرى ومزارع وتيمارات كَثِيرَة فَأَخذهَا وَتصرف بهَا وأحبه الوزراء والحكام وَكَانُوا يعاملونه بالاجلال ويتخذونه محرما لاسرارهم ويزورونه لَيْلًا وَكَانَ يبْذل جهده فى تمشية حَاله عِنْدهم ويبالغ فى الاسباب الموصلة اليهم وَجمع من الْكتب النفيسة(4/214)
والخيول والامتعة والاملاك مَالا يُمكن وَصفه وَملك كثيرا من المماليك والجوارى وسافر الى روان لما سَافر اليها السُّلْطَان مُرَاد وَأهْدى الى كبراء الدولة الْهَدَايَا الْعَظِيمَة واشتهر عِنْد أَرْكَان الدولة وسافر الى بَغْدَاد أَيْضا عَام فتحهَا ثمَّ اسْتَقر بِدِمَشْق وَصَارَ ركنها الركني وَحج مرّة فى صُحْبَة عَمه الرئيس حسن بن الناشف أحد الْكتاب بِدِمَشْق ثمَّ حج ثَانِيًا فى سنة سبع وَخمسين ثمَّ صَار كتخدا الدفتر وَهُوَ رَأس أَرْبَاب التيمارات وعزل بعد قَلِيل وَأُصِيب بِولد كَانَ أكبر أَوْلَاده ثمَّ بعد مَوته بيومين مَاتَ لَهُ ولدان فى يَوْم وَاحِد وَصلى عَلَيْهِمَا مَعًا ثمَّ تَبِعَهُمْ من المماليك وَالْعَبِيد والجوارى والخدم مَا يُقَارب الْخمسين وبقى لَهُ ولد كَانَ ثانى أَوْلَاده وَكَانَ اسْمه أَحْمد وَكَانَ تقيا نزيها محبا للصالحين مواظبا على الصَّلَوَات فى اوقاتها مَعَ الصّيام وَالْقِيَام ولين الْجَانِب ثمَّ أَمر المترجم بعمارة قلعة تَبُوك فتعلل أَولا ثمَّ امْر ثَانِيًا فاسرع فى الذّهاب وَأخذ مَعَه جمَاعَة من الْعَسْكَر الشامى وشرذمة من البنائين وعمرها عمَارَة متقنة وَعَاد الى دمشق وَكَانَت عمارتها فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَلما جَاءَ ختم الوزارة الْعُظْمَى للوزير أبشير بحلب توجه اليه مَعَ جمَاعَة من أَعْيَان دمشق وَكَانَ بَينه وَبَينه مَوَدَّة سالفة أَيَّام حكومته بِدِمَشْق فصادف مِنْهُ اكراما وَصَحبه مَعَه الى قسطنيطينية ثمَّ جعل لَهُ رُتْبَة حُكُومَة روم ايلى وايا صوفيه فَقدم الى دمشق باسلوب غَرِيب وطور عَجِيب وَفرغ من خدمَة التذاكر لِابْنِهِ أَحْمد الْمَذْكُور آنِفا ثمَّ صَار دفتريا بِالشَّام سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَكَانَ المنصب الْمَذْكُور مبدأ انحطاطه بِقدر صُعُوده فَلَمَّا جَاءَ ختم الوزارة لمُحَمد باشا بوينى اكرى اى اعوج الرَّقَبَة وَهُوَ بِدِمَشْق محافظ لَهَا أهانه اهانة كُلية ثمَّ فوض اليه أَحْمد باشا ابْن مصطفى باشا الشهير بِابْن الطيار لماصار نَائِب الشَّام امْر الْحُكُومَة قبل قدومه اليها فَلَمَّا ورد اهانه بابلغ مِمَّا اهانه بِهِ الْوَزير وزجر وَلَده أَحْمد زَجْرَة اثرت فِيهِ فَكَانَت سَبَب مَوته فَتوجه صُحْبَة ابْن الطيار الى السّفر مَعَ جملَة الْعَسْكَر فتوفى فى الطَّرِيق وَلما وصل خبر مَوته الى وَالِده حزن كثيرا حَتَّى اداه حزنه عَلَيْهِ الى مرض طَالَتْ مدَّته وكابد عللا شَتَّى وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ صَدرا رَئِيسا حسن الْملقى متوددا لكنه مغرور باقبال الدُّنْيَا وَقد مدح كثيرا وَأثْنى عَلَيْهِ لاقباله على الادباء وَكَثْرَة تقربهم اليه وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع والف وَتوفى فى عَاشر صفر سنة ارْبَعْ وَسبعين والف وَدفن بمدفن عَمه بِالْقربِ من دَارهم بمحلة قصر حجاج رَحمَه الله تَعَالَى(4/215)
السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد بن سليم بن سلمَان بن سليم بن بايزيد بن مُحَمَّد الْملك الاعظم الباهر الشَّأْن كَانَ سُلْطَانا عَظِيم الْقدر مهيبا جوادا عالى الهمة مظفرا فى وقائعه وقورا اريبا وجيها مهيبا صَالحا عابدا ساعيا فى اقامة الشعائر الدِّينِيَّة مراعيا كأحكام الشَّرِيعَة الشَّرِيفَة مُطيعًا لاوامر الله منقاد لما بِقرب اليه مداوما للْجَمَاعَة فى الاوقات الْخمس قَائِما بالسنن والرواتب وَمن عَادَته المرضية انه كَانَ اذا ذكر النبى
نَهَضَ قَائِما وَبِالْجُمْلَةِ فاوصافه كلهَا حَسَنَة فائقة وَكَانَ على عَادَة أجداده الْكِرَام رُبمَا نظم الشّعْر وَكَانَ يتَخَلَّص على عَادَة شعراء الرّوم بعدلى ذكر مبدا أمره انه لما بلغ من الْعُمر سِتّ عشرَة سنة صنع لَهُ أَبوهُ الْخِتَان الذى طَنَّتْ حَصَاة خَبره فى الْآفَاق وَلم يتَّفق لَاحَدَّ من ابناء الْمُلُوك مثله على الاطلاق وسأذكر تفصله فى تَرْجَمَة وَالِده واشير من خَبره الى طريفه وتالده ثمَّ فى ثانى سنة من ختانه وهى سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة خلع عَلَيْهِ ابوه خلعة الامارة وقلده بِلَاد قَاعِدَة الْملك صَار وخان ومدينتها الْعُظْمَى مغنيسا فَتوجه اليها ثانى ذى الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَاسْتمرّ بهَا الى ان اندرج ابوه الى عَفْو الله وغفرانه يَوْم الاربعاء سادس جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاث بعد الالف فارسل اليه بالْخبر وأخفى موت وَالِده عشرَة ايام حَتَّى وصل فَجَلَسَ على التخب يَوْم الْجُمُعَة سادس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَقيل فى تَارِيخه الذى تسلطن فِيهِ
(قد مهد الله الْبِلَاد ... بِحكم سُلْطَان نبيل)
(والكون نَادَى منشدا ... تَارِيخه ظلّ ظَلِيل)
قَالَ الْمولى عبد الْكَرِيم المنشى لما تلالات انوار السلطنة المحمدية من سريرها وأصبحت الدُّنْيَا بِتِلْكَ الانوار مشرقة بحذافيرها بَدَأَ أحسن الله مبداه وختامه واغمد فى قرَاب الظَّالِمين حسامه بقتل ابراهيم باشا من عَم الْعَالم ظلمه وَفَشَا قلت وابراهيم هَذَا تقدّمت تَرْجَمته وَذكرت هُنَاكَ تَتِمَّة مَا ذكره المنشى هُنَا ثمَّ صير راس المقربي اليه وَهُوَ لَا لَا مُحَمَّد باشا وسيأتى ذكره مُنْفَردا بترجمة وَزِير اوفر هاد باشا صدر الوزراء وَكَانَ قَائِما مقَام الْوَزير وعينه سردار اعلى العساكر لقِتَال ميخال حَاكم بِلَاد الافلاق من قبل السلطنة العثمانية وَكَانَ خرج عَن الطَّاعَة وَجمع جموعا من الْكفَّار الارجاس وتمرد وعاث فى بِلَاد روم ايلى فوصل اليها فرهاد باشا وجرد عزمه لمقاتلته وَكَانَ بعض المقربين بَين الى السُّلْطَان حسن لَهُ عَزله وتولية(4/216)
سِنَان باشا الْمَشْهُور الوزارة فَفعل وعينه للسَّفر مَكَانَهُ فوصل سِنَان باشا الى الْعَسْكَر وَبلغ ميخال عزل فرهاد باشا وَكَانَ ألْقى رعبه فى قلبه ففرح بعزله وقوى جاشه وقابل الْعَسْكَر فَظهر بعض الظُّهُور وَزَاد فى عتوه بعد ذَلِك وارسل السُّلْطَان لمحاربته عَسَاكِر مَرَّات فَلم يظفروا مِنْهُ بِمُرَاد ثمَّ عزل السُّلْطَان سِنَان باشا وَولى لَا لَا مُحَمَّد باشا الصدارة فى منتصف شهر بيع الاول سنة ارْبَعْ بعد الالف فَمَاتَ بعد عشرَة أَيَّام من تَوليته بِمَرَض الاكلة فأعيد سِنَان باشا وبهذه الْمرة تمّ لَهُ خمس مَرَّات ثَلَاثَة فى عهد السُّلْطَان مُرَاد وثنتان فى عهد السُّلْطَان مُحَمَّد فَفتح حَرْب الانكروس الْمَشْهُور وَشرع فى تهيئة لوازمه وَمهما والزم السُّلْطَان بَان يُسَافر بِنَفسِهِ فادركه الاجل فى شعْبَان من هَذِه السّنة قبل ان يُسَافر فولى الوزارة ابراهيم باشا الْوَزير الثانى وَكَانَ السُّلْطَان صمم على السّفر فَخرج من دَار خِلَافَته فته فى شَوَّال سنة ارْبَعْ بعد الالف وَوصل الى قلعة فى غَايَة المنعة والتحصين فنازلها بجُنُوده واطلق أمره فى ضربهَا بالمكاحل فَاشْتَدَّ الْبلَاء بِمن فِيهَا فحرجوا مِنْهَا طائعين وسلموها فى أَوَاخِر صفر سنة خمس والف وَوصل خبر اخذها الى ملك الانكروس فَقَامَ وَقعد وأرغى وأزبد لانها كَانَت عِنْدهم من القلاع الْمُعْتَبرَة فكاتب مُلُوك النَّصَارَى يطْلب الامداد مِنْهُم بالعساكر والذخائر فَاجْتمع اليه ملك النمجه وَملك الفرنج وحاكم الاردل وحاكم البغدان وحاكم الافلاق وسواكن الجزائر من حكام الْبَحْر فجاؤا الى امداده بسبعة جيوش يضيق عَنْهَا الفضاء وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد سَار بعسكره بعد فتح اكرى كل جَانب واحاطوا بِهِ وَكَانَ عَسْكَر الاسلام حِينَئِذٍ غير مستعد وَالنَّصَارَى فى غَايَة الْكَثْرَة جدا بِحَيْثُ ان جمعهم المخذول لَا يُحْصى وَكَانَ يَوْم دهمتهم يَوْم الْخَمِيس ثانى شهر ربيع الاولى من السّنة وَوَقع حَرْب عَظِيم فى ذَلِك الْيَوْم كُله الى ان دخل اللَّيْل فَتَفَرَّقُوا واصبحوا يَوْم الْجُمُعَة متحاربين أَيْضا واستعدت النَّصَارَى ازيد من الْيَوْم الاول فَكَانُوا غرقى فى الفولاذ ثمَّ هجموا دفْعَة وَاحِدَة على الْمُسلمين وفرقوهم بددا ووصلوا الى مخيم السُّلْطَان فَطلب السُّلْطَان اليه معلمه الخوجه سعد الدّين وَكَانَ فى صحبته فَحَضَرَ بَين يَدَيْهِ وَجعل يُثبتهُ وَالسُّلْطَان يستنهض عساكره الْخَاصَّة بِهِ من سلا حداريه وبلطجيه ويستغيث بِاللَّه فَلم يكن باسرع من أَن قوى الْمُسلمُونَ وادكهم بعض المنهزمين ففرقوا شَمل النَّصَارَى وأبادوهم ودخلوا بَينهم والتحم الْقِتَال(4/217)
وتراجع جَمِيع الْعَسْكَر مسعفين فكسروا النَّصَارَى وردوهم على اعقابهم وَوَقع السَّيْف فيهم وهم فارون حَتَّى قتل بَعضهم بَعْضًا من الزحام وَغَيره ووهب الله تَعَالَى لَهُ النَّصْر والتأييد وَلم يسلم اُحْدُ من الْكفَّار الا من هرب وغنم السُّلْطَان وَمن مَعَه غنيمَة عَظِيمَة واكثر ذَلِك كَانَ على يَد الْوَزير سِنَان باشا ابْن جغال والوزير حسن باشا ابْن مُحَمَّد باشا وأحصيت قَتْلَى الْمُسلمين فَكَانَ الذى اسْتشْهد من القواد مَا يقرب من اربعمائة وَمن اصحاب الالوية الْمعبر عَنْهُم فى اصْطِلَاح الرّوم بالصناجق بضعَة عشر رجلا وَمن الامراء الكبراء اربعة انفار وَمن العساكر مَا بَين فَارس وراجل مَا لَا يُحْصى وَوَافَقَ بعد الظفران السُّلْطَان قتل من عسكره الفارين جمَاعَة كثيرين وَقبض على باقيهم وحقرهم غَايَة التحقير فى مُنْصَرفه وعاقب بعض من فر بِقطع علوفته وَضبط ملكه وَمَاله لجِهَة بَيت المَال وَالْحَاصِل ان مَا وَقع لَهُ من هَذِه النُّصْرَة لم يَقع لَاحَدَّ من مُلُوك آل عُثْمَان وَذَلِكَ انما هُوَ بمحض لطف الهى وامداد ربانى غير متناه وَلَقَد حكى كثير من السياح ان مُلُوك الفرنج تطلق على هَذَا السُّلْطَان صَاحب الْقرَان وَهَذَا الْوَصْف انما هُوَ لمن بلغ فى الشجَاعَة الْمرتبَة الَّتِى لَا تسامى وانهم على عَادَتهم يصورون مُلُوك آل عُثْمَان فيقدمون هَذَا فى التَّصْوِير على كل الْمُلُوك وَذَلِكَ كُله بِسَبَب هَذِه النُّصْرَة الَّتِى رزقها وَحكى ابْن نوعى فى ذيل الشقائق عَن أَبِيه قَالَ بَيْنَمَا النَّاس فى ترقب أَمر النُّصْرَة للسُّلْطَان اذ هُوَ بشرنى بِهَذِهِ المبشرة الغيبية وَذَلِكَ انه رأى فى مَنَامه انه دخل مَجْلِسا فِيهِ النبى
واصحابه فَسمع اصحاب النبى
يتذاكرون أَمر هَذِه الْغَزْوَة ووقائعها ويحكون مَا جرياتها على التَّرْتِيب أمرا بعد أَمر قَالَ ثمَّ سَمِعت حَضْرَة الصّديق الاكبر رضى الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول ان انهزام الْمُسلمين كَانَ مقررا لَكِن لما كَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد أكْرمه الله تَعَالَى فأمده بملائكة النَّصْر حَتَّى حصل لَهُ الظفر والتأييد ثمَّ فى ثانى يَوْم من النُّصْرَة عزل الْوَزير الاعظم ابراهيم باشا وصير سِنَان باشا ابْن جغال مَكَانَهُ وَكَذَلِكَ فعل فى خَان التاتارغازى كراى خَان فانه عَزله وَأمره بالتوجه الى دَار السلطنة وصير أَخَاهُ فتح كراى خَانا وَعين حسن باشا ابْن مُحَمَّد باشا الْمُحَافظَة بلغراد ثمَّ أَمر الْعَسْكَر بالرحيل الى جَانب دَار الْملك ورحل بهم فَلَمَّا وصل الى قرب ادرنه عزل ابْن جغال واعاد ابراهيم باشا وَذَلِكَ بعد خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا من تَوليته وَكَذَلِكَ فعل بِفَتْح كراى الا أَنه قَتله(4/218)
وَأعَاد غازى كراى الى مَكَانَهُ وَدخل الى مقرّ ملكه فى ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَألف بموكب حافل وَاسْتقر وفى أَوَاخِر شَوَّال من هَذِه السّنة عين حسن باشا لمحافظة نهر الطونه عوضا عَن بلغراد وَعين مُحَمَّد باشا الساطور جى سردارا على بِلَاد الانكروس فتقابل مَعَ الْكفَّار وَوَقع بَينهم قتال وَوَقع من محافظ بوسنه حسن باشا الترباقى اهمال فى مساعفته ولولاه مَا خلص مِنْهُم أحد وبقى الى سنة سبع سردارا وفيهَا فتح قلعة واردار وفى شهر ربيع الاول فى سنة سِتّ عزل ابراهيم باشا بِسَبَب انه كَانَ السَّبَب فى قتل فتح كراى بعد سبق اعانته الْعَسْكَر فى السّفر وَولى حسن باشا الْخَادِم الوزارة وفى ثانى شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة حَبسه فى يدى قله ثمَّ قَتله بعد ثَمَانِيَة أَيَّام وَصَارَ مُحَمَّد باشا الْجراح وزيرا وفى اثناء ذَلِك استولت الْكفَّار على قلعة يانق وَبَعض قلاع وفى تَاسِع شَوَّال صَار ابْن جغال حَاكم الْبَحْر وفيهَا ولى حسن باشا ابْن مُحَمَّد باشا مُحَافظَة بَغْدَاد وارسل أَحْمد باشا الْحَافِظ الطواشى لمحافظة طونه وفى أَوَائِل سنة سبع كبس ميخال اللعين على غَفلَة قرب نيكبولى ففر الْحَافِظ مُنْهَزِمًا فحاصر اللعين قلعة نيكبولى مُدَّة ثمَّ رَحل عَنْهَا وفى ثانى عشر ربيع الاول مها عين مَحْمُود باشا الشهير بكوز لجه سردارا على الْعَسْكَر بِبِلَاد روم ايلى وفى جُمَادَى الْآخِرَة عزل الْجراح بتقاعد وَجه اليه وَأعَاد ابراهيم باشا وبهذه تمّ لَهُ ثَلَاث مَرَّات وفى عشرى شَوَّال عينه سردارا على بِلَاد الانكروس فوصل الى بلغراد وَأقَام بهَا مستنظرا قدوم مُحَمَّد باشا الساطورجى وَكَانَ غضب عَلَيْهِ السُّلْطَان لاهماله فى أَمر الْمُحَاربَة واتعابه الْعَسْكَر واسرافه فى المصارف وانتزاع يانق فى زَمَانه واقتلاع بعض قلاع فارسل اليه ضَابِط الْجند الطرفجى فَقتله فى ذى الْحجَّة وفى هَذِه السّنة تحركت الطغاة فى بِلَاد اناطولى لخلوها من العساكر واشتغالهم بمحاربة الْكفَّار فَخرج عبد الْحَلِيم البازجى الْمُقدم ذكره حُسَيْن باشا حَاكم الْحَبَشَة ثمَّ تبعهما حسن أَخُو عبد الْحَلِيم وَقد ذكرنَا تَفْصِيل أَحْوَالهم فى تَرْجَمَة عبد الْحَلِيم فَلَا تطيل باعادتها وفى سنة ثَمَان هلك ميخال اللعين وفيهَا قتل الْوَزير جَعْفَر باشا محافظ تبريزا كدره خَان من امراء الجرج وَبعث بِرَأْسِهِ وبابن لَهُ فحبس ابْنه فى يدى قله ثمَّ أسلم فاطلق وسمى مُحَمَّدًا وفيهَا هدم مَحْمُود باشا قلعة يركوك وَقدم الى دَار السلطنة وفى رَجَب مِنْهَا وصل خبر موت جَعْفَر باشا محافظ تبريز وفى غرى شعْبَان صَار حسن باشا اليمشجى قَائِما مقَام الْوَزير وفى شَوَّال رفعت امانة الْخمر(4/219)
وَنهى عَنْهَا وفى هَذِه السّنة فتحت قلعة قاينسره وَكَانَ فتحهَا على يَد الْوَزير الاعظم ابراهيم باشا وَكَانَ فتحا عَظِيما يعادل فتح اكرى وسربها الْمُسلمُونَ وزينت الْبِلَاد لهَذَا الْفَتْح ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ فى أَيَّام محاصرتها وَقع اضْطِرَاب عَظِيم فَرَأى بعض الصلحاء فى منامة شيخ الاسلام صنع الله بن جَعْفَر وَهُوَ يَأْمُرهُ بِقِرَاءَة هَذَا الدُّعَاء وَهُوَ اللَّهُمَّ قو قُلُوب الْمُؤمنِينَ بِقُوَّة الْكِرَام البرره وألق الرعب فى قُلُوب الْكَفَرَة الفجره فشاع هَذَا الدُّعَاء وداوم على قِرَاءَته النَّاس فَظهر أَثَره وَللَّه الْحَمد وفى عَاشُورَاء محرم سنة عشر ورد خبر وَفَاة الْوَزير الاعظم ابراهيم باشا فصير حسن باشا اليمشجى مَكَانَهُ وسافر على وَجه السرعة الى بلغراد وَصَارَ خَلِيل باشا قَائِما مقَامه وفى هَذِه السّنة استولت النَّصَارَى على استون بلغراد وَكَثُرت الجلالية والزرب بدار السلطنة وبالغوا فى التعدى والشقاوة فَاجْتمع الْعلمَاء وذهبوا الى خَلِيل باشا الْقَائِم مقَام وَأَقَامُوا النكير عَلَيْهِ وذكروه مَا يَفْعَله الْقَوْم من خرق حُرْمَة الشَّرْع فَعرض مَا قَالُوهُ على السُّلْطَان فَكَانَ جَوَابه لكل شئ وَقت وزمان وفى أَوَائِل ذى الْقعدَة عزل خَلِيل باشا وصيرحسن باشا الساعتجى مَكَانَهُ وفى أَوَائِل جُمَادَى الاولى من سنة احدى عشرَة قتل عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بصارى عبد الرَّحْمَن مدرس مدرسة بهْرَام لم كتخدا وَقد ثَبت انه ملحد زنديق وفى عشرى رَجَب اجْتمع الْعَسْكَر وطلبوا عزل الساعتجى فعزل وصير مَكَانَهُ مَحْمُود باشا وَفِيه اجْتمع السباهية وطلبوا ان يَتَرَتَّب السطلان ديوانا يحضر فِيهِ اعيان الْعلمَاء ليعرضوا على السُّلْطَان بعض أُمُور بالمشافعهة فَجمع السُّلْطَان اليه الْمُفْتى صنع الله والقائم مقَام وقاضى الْعَسْكَر وَنَحْو ثَلَاثِينَ مدرسا وعالما ثمَّ دخل من السباهية حُسَيْن خَليفَة وبويراز عُثْمَان وَكَاتب حزى وَذكروا ان رُؤْس العساكر خلت مِنْهُم بلاداناطولى فَكَانَ ذَلِك سَببا لاتصال الطغاة بِهَذِهِ الْبِلَاد وَمَا ذَاك الا من اهمال وكلاء الدولة ومسامحة المقربين للسلطنة فَظن السُّلْطَان انهم يعنون الساعتجى والطرنقجى فَأمر باحضارهما فاظهر الْقَوْم براة ذمتهما وأحالوا الامر على غضنفر اغا حَافظ البابا السلطانى وَعُثْمَان أغا ضَابِط الْحرم فَأمر السُّلْطَان بِقَتْلِهِمَا فقتلا وفى هَذِه السّنة اسْتردَّ اليه شجى قلعة استونلى بلغراد وَقدم الى مقرّ الْملك فَلَمَّا وصل الى قريب من قسطنطينية أعمل عَلَيْهِ مَحْمُود باشا حِيلَة أدَّت الى تَحْرِيك الاشقياء وطغيانهم وَذَلِكَ انه استفتى الْمُفْتى فِيهِ بِنِسْبَة التَّقْصِير فى أَمر الْمُسلمين وَسُوء التَّدْبِير فى أَمر الْحَرْب(4/220)
واعطى الْفتيا للسباهية فَبلغ الْوَزير الْخَبَر فاسرع فى الدُّخُول الى دَاره وفى ثانى يَوْم اجْتمع اليه الْعَسْكَر واختفى الْمُفْتى صنع الله ومحمود باشا وَوجد فى مَجْلِسه أَبُو الميامن فوجهت اليه مشيخة الاسلام ثمَّ اقْتضى الرأى ان يُوَجه ضَابِط الْجند الى السباهية وَكَانُوا مُجْتَمعين بآت ميدان فهجم عَلَيْهِم وَفرق جمعهم ثمَّ استحضر مِنْهُم بويراز عُثْمَان واكوز مَحْمُود ودبه كور رضوَان بعد تفتيش بليغ فَقتلُوا فى حَضْرَة السُّلْطَان وفى أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة احدى عشرَة بلغ السُّلْطَان عَن وَلَده مَحْمُود وَهُوَ اكبر أَوْلَاده بعض امور تتَعَلَّق بِالْملكِ فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ مَالك تدخل فى امور الْملك فَأَجَابَهُ بِجَوَاب مَا أرضاه فَضَربهُ بخنجر فَقتله وَكَانَ عمره نَحْو ثَمَان عشرَة سنة ثمَّ نَدم على ذَلِك النَّدَم الكلى وفى سنة اثنتى عشرَة عين الْوَزير اليمشجى وزراء كثيرين وأمراء للمحافظة وتلافى أَمر الطغاة بِالصُّلْحِ وانتقم من اعدائه وَظهر لَهُ انه اسْتَقل بِأَمْر الْملك فتمرد وأجحف وَكثر شاكو ظلمه وفساده فَعَزله السُّلْطَان فى سلخ ربيع الآخر وصيرياوز على باشا مَكَانَهُ وَمُحَمّد باشا الْجراح قَائِما مقَام الْوَزير وفى هَذَا الاثناء أعْطى ضَابِط الْجند قَاسم باشا رُتْبَة الوزارة وفى أَوَائِل جُمَادَى الاولى طلب الْجند اعادة اليمشجى الى الوزارة فَغَضب السُّلْطَان من جراءتهم فى الطّلب فَأرْسل الى اليمشجى من قَتله وَكَانَ ببستانه الْمَعْرُوف فى قَصَبَة سوليجيه وفى خَامِس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة عزل الْجراح لمَرض كَانَ اعتراه وصير مَكَانَهُ قَاسم باشا وفى سلخ هَذَا الشَّهْر ورد من محافظ بحجوان أَمِير باشا كتاب يذكر فِيهِ ان شاه الْعَجم نقض عقد الصُّلْح واستأسر محافظ تبريز واضطرب أَمر الْمُسلمين فضمت تبريز الى وان واعتبرا وزارة ووجهتا لكافل حلب نصوح باشا مَعَ ضم السردارية وفى ذَلِك الاثناء ورد من حسن باشا الساعتجى كتاب يذكر فِيهِ ان الامر مُقْتَض لعسكر يُرْسل الى تبريز فعين السُّلْطَان عسكرا جرارا وَأَرْدَفَ بهم نصوح باشا الى هُنَا انْتَهَت الوقائع الصادرة فى زمن السُّلْطَان مُحَمَّد وَقد ذكرنَا تتمثها فى تَرْجَمَة ابْنه السُّلْطَان أَحْمد وَكَانَت وِلَادَته فى اللَّيْلَة السَّابِعَة من ذى الْقعدَة سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى يَوْم الاحد سَابِع عشر رَجَب سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَحكى ابْن نوعى انه وَقع لَهُ فى ثانى عشرى جُمَادَى الاولى وَكَانَ مُتَوَجها الى دَار سعادته فَاسْتَقْبلهُ شخص مجذوب وَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك انه يحدث بعد سِتّ وَخمسين يَوْمًا حَادِثَة عَظِيمَة فَلَا تسكن غافلا عَنْهَا فاذا هى مَوته وَمِمَّا نقل عَنهُ انه قبل وَفَاته بِثَلَاثَة أَيَّام جمع اليه سَائِر الوزراء والمفتى(4/221)
وقضاة الْعَسْكَر وَسَائِر اركان الدولة وعهد بمحضرهم لوَلَده السطان أَحْمد بِالْملكِ ثمَّ أحضرهُ واوصاه بِأَن تكون جدته وهى وَالِدَة صَاحب التَّرْجَمَة فى السراى العتيقة وان لَا يقبل فِيهَا قولا وَبِأَن لَا يقتل أَخَاهُ السُّلْطَان مصطفى وَلَا يَجْعَل وزيره الاعلى باشا صَاحب مصر ثمَّ أَمرهم بالانصراف فَلَمَّا توفى اجْتمع أهل السراى وَأَرْسلُوا الى قَاسم باشا قَائِم مقَام الْوَزير والمفتى وَضَابِط الْجند فَلَمَّا اجْتَمعُوا بالسراى خرج عَلَيْهِم السُّلْطَان أَحْمد وأعلمهم بِمَوْت وَالِده فقبلوا يَده ودعوا لَهُ ثمَّ جهز السُّلْطَان مُحَمَّد وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ الْعلمَاء والوزراء وَتقدم شيخ الاسلام أَبُو الميامن مصطفى فصلى عَلَيْهِ وَدفن مِمَّا يلى تربة السُّلْطَان سليم وَكَانَت مُدَّة عمره تِسْعَة وَثَلَاثِينَ سنة وَمُدَّة سلطنته تسع سِنِين وشهرين وَمن الطف مَا قيل فى تَارِيخ وَفَاته قَول بعض الْفُضَلَاء مَاتَ السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن مُرَاد ثمَّ قَالَ فى تَارِيخ تَوْلِيَة وَالِده وَهُوَ التَّارِيخ بِعَيْنِه وتسلطن السُّلْطَان أَحْمد على الْعباد وَأَوْلَاده أَرْبَعَة وهم السُّلْطَان سليم توفى فى ثَالِث عشرى شهر رَمَضَان سنة خمس بعد الالف وَالسُّلْطَان مَحْمُود قَتله فى سَابِع عشرى ذى الْحجَّة سنة عشر وَالسُّلْطَان أَحْمد وَالسُّلْطَان مصطفى وسيأتى ذكره بترجمة مُسْتَقلَّة ان شَاءَ الله تَعَالَى ومعلموه الَّذين قَرَأَ عَلَيْهِم وهم الْمولى جَعْفَر مَاتَ فى أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَالْمولى حيدر مَاتَ فى شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَالْمولى عزمى مَاتَ فى رَجَب سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَالْمولى نوال مَاتَ فى جُمَادَى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وزراؤه الْعِظَام تِسْعَة وهم سِنَان باشا وفرهاد باشا وَلَا مُحَمَّد باشا وابراهيم باشا وَسنَان باشا ابْن جغال وَحسن باشا الْخَادِم وَمُحَمّد باشا الْجراح وَحسن باشا اليمشجى وياوز على باشا ومشايخ الاسلام خَمْسَة وهم الْمولى مُحَمَّد بن بُسْتَان وساذكره بعده وَالْمولى سعد الدّين مُحَمَّد بن حسن جَان وَالْمولى صنع الله بن جَعْفَر وَالْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين وَالْمولى ابو الميامن وصدور الْعلمَاء فى قطر روم ايلى تِسْعَة وهم الْمولى صنع الله وَالْمولى عبد الباقى الشَّاعِر وَالْمولى مصطفى بن بُسْتَان وَالْمولى على بن سِنَان وَالْمولى مُحَمَّد الداماد وَالْمولى قوشجى وَالْمولى مصطفى بن أَبى السُّعُود وَالْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين وَالْمولى عبد الْحَلِيم أخى زَاده وصدوراناطولى اثْنَا عشر وهم الْمولى على بن سِنَان وَالْمولى مصطفى بن أَبى السُّعُود وَالْمولى مصطفى بن بُسْتَان وَالْمولى مُحَمَّد الداماد وَالْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين وَالْمولى قوشيجى وَالْمولى عبد الْحَلِيم أخى زَاده وَالْمولى شمس بن الخوجه عَطاء الله(4/222)
وَالْمولى اِسْعَدْ بن الخوجه سعد الدّين وَالْمولى أَبُو الميامن وَالْمولى مصطفى الشهير بكتخدا وَالْمولى كَمَال الدّين مُحَمَّد بن طاشكبرى وَهَذَا الصَّنِيع لِابْنِ نوعى حاكيه فِيهِ وَالله أعلم
مُحَمَّد بن مصطفى الْمَعْرُوف أَبوهُ ببستان الرومى مفتى الدولة العثمانية وَرَئِيس علمائها وعالمها الْمَشْهُور الذى طَنَّتْ حَصَاة فَضله فى الْخَافِقين وذاعت معاليه فى المغربين والمشرقين ذكره الاديب المنشى فَقَالَ فى وَصفه نَشأ فى رياض فضل ناضره وَعين الْعِنَايَة اليه ناظره وربى فى مهد الْعِزّ ووالده يتعهده بِحسن اجماله ويتفقده بتفصيل كرمه واجماله فاحرز الْفَضَائِل وتحرك على مَا هُوَ الْعَادة حَتَّى وصل الى خدمَة أَبى السُّعُود وتحلى بقلادة الاعادة وَلم يزل منظورا بِعَين الْعِنَايَة المتواصلة المدد وملحوظا بنهاية الرِّعَايَة على توالى المدد والفلك يَدُور حَسْبَمَا أَرَادَ وكوكب السعيد يدل لَهُ بالاسعاف والاسعاد مَعَ استقلاله بالمآثر الَّتِى اخْتصَّ بهَا دون سَائِر الاشراف واستبداده بالمفاخر الَّتِى سَار ذكرهَا فى أقْصَى الْبِلَاد والاطراف وَلم يزل تتشرف بِهِ المناصب ويطلع بَدْرًا من سَمَاء الْمَرَاتِب الى ان حل من الدولة مَحل الانسان من الْعين وأشرقت بشمس ذَاته فضاء العسكرين ثمَّ بعد الْعَزْل زفت لَهُ عروس الْقَاهِرَة وعدت فى عقده وأصبحت محلاة من حسن السلوك بعقده ففارقها بعد التَّمَتُّع بهَا ونفوس غَيره تحترق باشواقها وسمحت همته الْعلية لمثل هَذِه الْحَسْنَاء بِطَلَاقِهَا فَلَمَّا وصل الى دَار السلطنة أثمر روض سروره وأزهر واستقبله السعد وَبسط بَين يَدَيْهِ شقة قَضَاء الْعَسْكَر وَبعد ذَلِك طرز حلل الْفَتْوَى بوشى رقّه وَحل عقد المشكلات بِبَيَان قلمه ثمَّ فارقته وَلم تصبر على نَوَاه فَرَاجعهَا بَعْدَمَا استحلت بسواه فَعَاد روض الْفضل الى نمائه وكوكب السعد الى سمائه كعود الحلى الى العاطل وَلم يزل تكتحل الطروس بميل يراعته وتتشنف الاسماع بلآلى براعته الى أَن ذبل بسموم الْمَرَض غُصْن نَبَاته وقطفت بيد الْمَوْت زهرَة حَيَاته وَنَفسه من احشاء المكارم تنْزع وَعين الْعلَا على مصائب فَقده تَدْمَع ثمَّ أورد لَهُ من شعره العربى قَوْله من قصيدة يرثى بهَا السُّلْطَان سُلَيْمَان مطْلعهَا
(الا أَيهَا الناحى كانك لَا تدرى ... بِمَا قلت من سوء الْمقَالة وَالشَّر)
(أسلت سيول الْمَوْت فى الدَّهْر بَغْتَة ... وَقد بلغ السَّيْل الربى من جوى الصَّدْر)
(وسقت قُلُوب الْمُسلمين جِرَاحَة ... بصارم سيف قد مضى ماضى الامر)(4/223)
(سِهَام المنايا من قسى صروفها ... أَصَابَت بدهر فى ابتسام من الثغر)
(نسيم الصِّبَا رقت باشجان فرقة ... حمامة ذَات السدر حنت من الذعر)
(همام على هام الممالك تاجه ... امين رشيد فى الْخلَافَة ذُو قدر)
(فأعنى جوادا فى جواد بِذكرِهِ ... لقد سَارَتْ الركْبَان فى الْبر وَالْبَحْر)
(عزيمته فى الْبَحْر كَانَت عَظِيمَة ... وهمته فاقت على الانجم الزهر)
(وايامه كَالشَّمْسِ كَانَت مضيئة ... واعوامه فى الْحسن ابهى من الْبَدْر)
(وَمَا قيل اجمال لبَعض جميله ... وَلَا يُمكن التَّفْصِيل بالنظم والنثر)
(فهاتيك أَوْصَاف لعمرى جليلة ... فدونكها أبهى من الزهر والزهر)
(على عكس مَا طَاف الْبِلَاد بجنده ... كشمس غَرِيبا غَابَ فى مغرب الْقَبْر)
(صَحَائِف اكوان تدبرت كلهَا ... فصادفتها شرحا لفن من الهجر)
(على صفحة الْخَدين أمليت مَا جرى ... باقلام اهداب من الْبُؤْس والضر)
وَذكره النَّجْم فى الذيل وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ وَكَانَ فصيح الْعَرَبيَّة عَلامَة فهامة وَكَانَ فى أَوَائِله ولى قَضَاء الشَّام وقدمها فى خَامِس عشرى ذى الْحجَّة سنة احدى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ ولى مصر ثمَّ ترقى الى قَضَاء العسكرين ثمَّ ولى قَضَاء مصر ثَانِيًا ثمَّ كتب اليه السُّلْطَان مرادخان بانى لم أعزلك عَن مصر فاقم من شِئْت فِيهَا فى مقامك ثمَّ جِئْنَا زَائِرًا فَدخل دمشق فى رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فاجتمعت بِهِ اذ ذَاك فى صُحْبَة شَيخنَا يُرِيد بِهِ العيثاوى فِيمَا احسب فى مجَالِس كَانَت حافلة بالعلماء وسمعته يَقُول كنت بِمصْر لَا أترك زِيَارَة الامام الشافعى رضى الله عَنهُ وَكنت أستنهضه فى الْمُهِمَّات فاذا كَانَ أَمر مُهِمّ يحْتَاج الى الْعرض فِيهِ الى السُّلْطَان اذْهَبْ الى ضريح الامام الشافعى رضى الله عَنهُ وَأَقُول لَهُ يَا امام هَذِه بلدتك وَقد حدث بهَا كَذَا وَكَذَا وَأَنا أَرْجُو مِنْك الامداد ثمَّ ارْجع فآمر بشئ فَيتم ببركة الامام الشافعى رضى الله عَنهُ قلت ثمَّ سَافر الى قسطنطينية فولى بهَا قَضَاء الْعَسْكَر ثمَّ صَار مفتيا فى جُمَادَى الاولى سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وعزل فى رَجَب سنة احدى بعد الالف ثمَّ أُعِيد فى شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَاسْتمرّ مفتيا الى ان مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى رَابِع شعْبَان سنة سِتّ بعد الالف بقسطنطينية وَهُوَ الْيَوْم الذى توفى فِيهِ الشَّمْس الداودى بِدِمَشْق وَوصل الْخَبَر بِمَوْتِهِ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن وعشرى شهر رَمَضَان مِنْهَا وَصلى عَلَيْهِ غَائِبَة يَوْم الْجُمُعَة بعد صلَاتهَا رَحمَه الله تَعَالَى(4/224)
مُحَمَّد بن مصطفى الشهير بكانى الرومى الاصل المدنى المولد والمنشاء الحنفى كَانَ من الْفُضَلَاء الاعيان وَأهل البلاغة وَالْبَيَان وَكَانَ أَمِيرا من جِهَة الاتراك حِين كَانُوا مستولين على الْيمن وَكَانَ حسن السِّيرَة صافى السريرة وَله اطلَاع على الْعُلُوم الادبية وَمَعْرِفَة جَيِّدَة لعلوم الْعَرَبيَّة وَله تَارِيخ سَمَّاهُ بغية الخاطر ونزهة النَّاظر جعله برسم الْوَزير مَحْمُود باشا وابتدأ فِيهِ من أَخْبَار النبى
وأحواله من زمن ميلاده الى هجرته وَوصل فِيهِ الى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَذكر فِيهِ الائمة الدعاة من الزيدية وَغَيرهم وملوك آل عُثْمَان وحكامهم فى الْيمن وَله اشعار كَثِيرَة حَسَنَة مِنْهَا قصيدة فى مدح خي الْخلق
من جُمْلَتهَا قَوْله
(يَا نَبيا كمل الله لَهُ ... كل وصف زينته الشيم)
(والذى من يأسه نَار لظى ... وأياديه الزلَال الشيم)
(والذى قد أَصبَحت أمته ... يتدانى من علاها الامم)
(من لصب لَيْسَ يشفيه البكا ... وَهُوَ من اجفانه منسجم)
(ولقلب ولبرق مثله ... تَحت جِلْبَاب الدجا يضطرم)
(وكئيب الْقلب صنعا دَاره ... مَا بدا رسم لَهُ أَو معلم)
(حب جرعا طيبَة جرعه ... كأس شوق مَا حَكَاهُ العلقم)
(يَا احبابى وَأَيَّام خلت ... هى أَيَّام مَضَت أَو حلم)
(وعهودا قد حفظناه الْكمّ ... مَا نرى انكم ضيعتم)
(وهواكم وَهُوَ عندى قسم ... بسواه حَالفا لَا أقسم)
(بعدكم لم يجر من بعدكم ... غير دمع قد جرى وَهُوَ دم)
(وسقام لَا يداويه سوى ... من برؤيا يداوى السقم)
(حَيْثُ لَا يصبر الارغبة ... فى جنان ظلها مرتكم)
(فى ربى طيبَة طابت تربة ... حَيْثُ حل الْمُصْطَفى وَالْحرم)
(مَضْجَع حل الحبيب الْمُصْطَفى ... فى ثراه والعلا وَالْكَرم)
(بقْعَة ضمت بهَا اعضاؤه ... أفضل الارض بقول يجْزم)
(بلد بالمصطفى الهادى لَهُ ... كل يَوْم وَقْفَة أَو موسم)
(الثبى الهاشمى الْمُجْتَبى ... سيد الْخلق وان هم رغموا)(4/225)
(صفوة الله وَمَا من آدم ... كَانَ فى الْكَوْن وَلَا كَانُوا هم)
(جمع الله بِهِ اشتاتنا ... من شتات كَاد لَا يلتئم)
(هُوَ مسك طيب من أجل ذَا ... انبياء الله مِنْهُ ختموا)
(نجل اسمعيل فى عرق الثرى ... وَابْن ابراهيم فاظر من هم)
(يَا خَلِيل الله هَل من نفحة ... يخجل الْبَحْر بهَا والديم)
(يَا رَسُول الله هَل من جذبة ... حَيْثُ حل الرُّكْن والملتزم)
(يَا حبيب الله هَل من شربة ... يرتوى العطشان مِنْهَا زَمْزَم)
(يَا عَظِيم الجاه هَل من غَارة ... هى بالنصر المرجى موسم)
(يَا أجل الْخلق هلى تسمعنى ... مثل مَا قَالَ الاجل الاكرم)
(واليك الْيَوْم أَشْكُو خلة ... أسقمت جسمى وَمَا بى سقم)
(خوف أعدائى ونفسى والهوى ... وشياطين عَن الْحق عموا)
(بل انا عبد مسئ مذنب ... مُنْذُ وافى سَائل لَا يحرم)
(يَا جميل الْخلق فعلى سيء ... فاسأل الرَّحْمَن يَا من يرحم)
(فانا الْمُضْطَر وافى سَائِلًا ... جود مولى مَا عداهُ الْكَرم)
(لست بالسكانى لما أَشْكُو لكم ... أَنْتُم بِالْحَال مِنْهُ أعلم)
(وحياء لم أقل لى ذمَّة ... بِاسْمِك الْمَحْمُود ذَاك الاعظم)
( ... فكنيت الِاسْم اجلالا وان ... صَحَّ لى مِنْهُ الذمام الْمُحكم)
(فَعَلَيْك الله صلى دَائِما ... مَا هدى الساعى اليك الْقدَم)
(وَكَذَا آلك أَرْبَاب التقى ... وَكَذَا الصحب الهداة الانجم)
مُحَمَّد باشا بن مصطفى باشا الْوَزير بن الْوَزير الشهير بِابْن الدفتر دَار البوسنوى الاصل القسطنطينى المولد والمنشا والوفاة قدم أَبوهُ من بوسنه الى دَار السلطنة وَولى بهما الخدمات السُّلْطَانِيَّة ثمَّ اسْتَقر دفتريا فى عهد السُّلْطَان مُرَاد صَاحب بَغْدَاد واعطى رُتْبَة الوزراة وَنَشَأ وَلَده هَذَا وَقَرَأَ ودأب واشتغل بِالْعلمِ حَتَّى صَار لَهُ ملكة ولازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ثمَّ درس ثمَّ عدل الى طَرِيق أَرْبَاب الخدمات فَصَارَ من كبار البوابين للسُّلْطَان ثمَّ أَمِير الامراء ثمَّ وزيرا وَولى مُحَافظَة مورة ثمَّ مُحَافظَة الشَّام فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف ودخلها فى خَامِس عشر رَمَضَان وَكَانَ فى حكومته معجبا بِنَفسِهِ متعاظما قَالَ والدى رَحمَه الله تَعَالَى وَمَا أحقه بِمَا قَالَه(4/226)
بعض الاطباء فى وصف رَئِيس صفراوى الذكاء سوداوى الرأى دموى المزاج لَوْلَا مَا فى لفظ البلغم من الْكَرَاهَة لَقلت بلغمى الاناة وَلما كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة هوائى المشرب نارى الطبيعة مائى الطمع صَاحب نفس عامية لَا ترابية غلب عنصر المَاء فى ايام حكومته واشتعلت النَّار فى زمن ولَايَته وَوَقع السَّيْل الْعَظِيم الْمَشْهُور بِهَذِهِ الْبِقَاع حَتَّى علا المَاء على حجر التَّارِيخ الذى تَحت قلعة دمشق مِقْدَار ذِرَاع وَقد وَقع أَمْثَاله لَكِن هَذَا أربى بِهَذَا الْمِقْدَار كَمَا وجدت الْآثَار فى جَامع بلبغا بالجدار وَكَانَ الْفَصْل أواسط فصل الرّبيع بل مضى مِنْهُ ثُلُثَاهُ وَلم يؤذ نفس الْمَدِينَة بالجدار وانما كَانَ فى الْخَارِج كمان شَاهَدْنَاهُ وَأخذ بعض الرِّجَال وَالنِّسَاء والاطفال حَتَّى رؤى من الاطفال الصغار حِصَّة وهم فى المهاد وأظن ان الَّذين غرفوا مِنْهُم جاوزوا التعداد وَتلف للنَّاس من الْعَسَل والارز وَالسمن وَبَقِيَّة الْمُؤَن شئ كثير لَان أَكثر بقالة دمشق فى نَاحيَة الزِّيَادَة وخصوصا سوق المؤيدية الشهير وبقى المَاء من بعد الظّهْر الى نَحْو نصف اللَّيْل ثمَّ غاض باذن رب الارض وَالسَّمَاء الْملك الْفَيَّاض وَكَانَ ذَلِك نَهَار الثُّلَاثَاء تَاسِع عشر جُمَادَى الاولى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف ثمَّ وَقع أَيْضا الْحَرِيق بسوقى الطواقية والذراع الْعَتِيق لصيق الْجَامِع الاموى وَسبب ذَلِك ان بعض أهل الصِّنَاعَة من أهل السُّوق غفل عَن اطفاء النَّار بحانوته المغلوق فشبت النَّار فى صَبِيحَة النَّهَار وَوَقع التَّنْبِيه على الْمُبَادرَة لاطفائها وامتحن النَّاس ساعتئذ بكر بهَا وبلائها ثمَّ جَاءَ الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة وَمَعَهُ غَالب الْعَسْكَر والسقائين والبنائين والقصارين الى مَحل الْحَرِيق ووقف بِنَفسِهِ وأطفاه وَذهب للنَّاس من القماش والامتعة مَا لَا يُمكن ضَبطه واحصاه وَكَانَ ذَلِك نَهَار السبت الْعشْرين من رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَكَانَ جملَة مَا حرق من الحوانيت مائَة وَثَلَاثَة وَعشْرين حانوتا وَاتفقَ ان صَاحب التَّرْجَمَة تجَاوز الْحَد فى الظُّلم وابتدع مظالم كَثِيرَة وانتهك محارم غزيره فَاجْتمع الْعَسْكَر الشامى وتحزبوا لمصادمته وصمموا على محاربته ومقاتلته وجاؤا الى الْجَامِع الاموى بجمعية عَظِيمَة وأحضروا عُلَمَاء الْبَلدة وَذكروا مَا أَخذه من الاموال على سَبِيل الجريمة ونقموا عَلَيْهِ أَخذ الْبَقر من أَصْحَابهَا بِدُونِ أَثمَان ليطعم مِنْهَا رِجَاله من الصارجية والسكبان وَقد كَانَ شدد فى ذَلِك كبنى اسرائيل لما شَدَّدُوا شدد عَلَيْهِم فَأرْسل اليهم صَاحب التَّرْجَمَة الْمَرَاسِيل العديدة فى تهميدهم فَلم يفد إرْسَاله اليهم ثمَّ نهبوا(4/227)
غَالب اتِّبَاعه وهمدت الْفِتْنَة وزالت بعون الله تَعَالَى تِلْكَ المحنة وَكَانَ جَاءَ ختم الوزارة الْعُظْمَى فى تِلْكَ الاثناء للوزير أبشير محافظ حلب الشَّهْبَاء وَكَانَ بَينه وَبَين منافرة كليه وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يتجلد فى أمره مَعَه خُصُوصا بعد صُدُور القضيه فاتفق انه عز لَهُ وَورد متسلم الكافل الْجَدِيد غازى باشا الى دمشق فَخرج المترجم مِنْهَا فى أول ربيع الاول سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَبعد وُصُوله الى دَار السلطنة قتل الوزيرا بشير باشا فَصَارَ دفتردارا ثمَّ قتل أَيْضا قَرِيبا من صيروريته فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف كَمَا قتل أَبوهُ وَهود فتردار أَيْضا
مُحَمَّد بن مصلح بن اسماعيل الرومى نزيل الْقُدس الشريف كَانَ من الصلحاء خَادِمًا لكتب الْعلم وَالْقُرْآن الْعَظِيم كِتَابَة وَوَقع لَهُ أَنه كتب {قل هُوَ الله أحد} على أرزة وَكتب سُورَة يس فى حُرُوف الْبَسْمَلَة وَالْقُرْآن جَمِيعه فى حُرُوف سُورَة يس وَكَانَ لَا يتَعَلَّق بشر من أُمُور الدُّنْيَا مهما جَاءَهُ أنفقهُ فَلَا يجمع شَيْئا وتصبر اذا لم يجئه شئ وَعمر زَمَانا طَويلا وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن فى بَابا الرَّحْمَة رَحمَه الله ورحم أنامله آمين
مُحَمَّد بن الْفَقِيه مَعْرُوف بن عبد الله بن أَحْمد العقيبى باجمال أحد عباد الله الصَّالِحين المواظبين على طَاعَة الله تَعَالَى كَانَ ورعا زاهدا قانعا يحب الخمول وَيكرهُ الشُّهْرَة يحب الصَّالِحين حسن الظَّن باخوانه صحب خَاله الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد بن عمر باجمال وحصلت لَهُ نظرات ولحظات ودعوات ظهر عَلَيْهِ بركتها وَله صدقَات كَثِيرَة مِنْهَا بِنَاء الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بالحمام فى وسط مَدِينَة الغرفة وآبار كَثِيرَة وَقفهَا على الْمُسلمين وَله أوقاف على مَسَاجِد بِمَدِينَة هنيز وأوقاف على قرَابَته وصدقات تقسم على الْفُقَرَاء يَوْم عَاشُورَاء وَحصل كتبا كَثِيرَة ووقفها ووقف على عمارتها مَعَ قلَّة مَاله وَلَيْسَ لَهُ صَنْعَة وَلَا تِجَارَة وَكَانَ محبوبا عِنْد النَّاس مُعْتَقدًا مَقْبُولًا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت منتصف صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين والف
مُحَمَّد أَبُو سِرين بن المقبول بن عُثْمَان بن أَحْمد بن مُوسَى بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عِيسَى ابْن القطب صفى الدّين أَحْمد بن عمر الزيلعى العقيلى صَاحب اللِّحْيَة رضى الله عَنهُ رَأَيْت تَرْجَمته بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله وَلست أدرى أهى لَهُ ام لغيره قَالَ فِيهَا لَيست تحضرنى عبارَة تنبئ عَن مَحَله وعلو مرتبته فى الْعلم وَالْولَايَة(4/228)
والقدم الثَّابِت فى مراقبة الله تَعَالَى وَالرِّعَايَة سَارَتْ بِذكرِهِ الركْبَان وَبلغ الشرق والغرب مَاله من علو الْمَكَان وَكَانَ فى عصره مرجع اللِّحْيَة وَمَا والاها من اقرى وَالْعرب مطيعون لَهُ اطاعة الامرا وَكَانَت دولة الاتراك لَا تصدر الا عَن رَأْيه واشارته وَلَا تخرج جَمِيع الْحُكَّام عَن طَاعَته وَكَانَ رَئِيسا عالى الهمة آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر صَاحب عبَادَة وزهاده مُمِدًّا من الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ بالسعاده وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ على ظهر قلبه كثير التِّلَاوَة لَهُ عَظِيم الْقيام بِهِ وَكَانَت اللِّحْيَة فى زَمَنه كالحديقة المزهره ووجوه بنى الزيلعى بِنور وَجهه ضاحكة مستبشره وَهُوَ مرجعهم فى الْمُهِمَّات والمدار عَلَيْهِ من بَينهم فى الملمات وَله المهابة فى الْقُلُوب وَالْجَلالَة فى النُّفُوس بِرُؤْيَتِهِ ينجلى كل هم وبوس وَكَانَ من الْكَرم فى ذروته الْعَالِيَة وَمن التَّوَاضُع بمكانة غَالِيَة مقدما فى قومه مُعظما فى عشيرته نَشأ على خير وفى خير وكنى بابى سِرين لانه كَانَ لَهُ سرتين وَلما ولد وَاجْتمعَ النَّاس من أَصْحَاب وَالِده لتسميته فى سابعه أَتَى بِهِ أَبوهُ وَوَضعه بَينهم وَقَالَ لَهُم من يقدر مِنْكُم يرفع رَأسه من الارض فَأخذ كل مِنْهُم بِرَأْسِهِ فَلم يقدروا على رَفعه فَقَالَ لَهُم وَالِده هَذَا صَاحب المنصب بعدى وَكَانَ لَهُ اخوة كبار أمّهم عَرَبِيَّة وَصَاحب التَّرْجَمَة أمه ام ولد فَأَرَادَ وَالِده تنبيههم على ذَلِك وَأَنه الاحق بِمَا هُنَالك وَفضل الله يؤتيه من يَشَاء وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة مَعَ الاتراك وقائع كَثِيرَة وكرامات شهيرة وَكَانَ لَا يتَعَرَّض لَهُ أحد بِسوء الاعطب وتصرفه فى عصره مَشْهُور وَعند النَّاس مَذْكُور وَمن كراماته انه وشى بِهِ بعض الحساد الى السَّيِّد الْحسن ابْن الامام الْقَاسِم وَمن جملَة مَا رَمَوْهُ بِهِ انه يعين الاتراك ويمدهم بِمَال من عِنْده وَيقدم لَهُم الْهَدَايَا ويحثهم على الْمُحَاربَة للائمة فارسل اليه جمَاعَة من أَتْبَاعه يَأْمُرهُ بالوصول اليه فاتوا بِهِ اليه وَهُوَ مَرِيض مَحْمُول على سَرِير وَكَانَ اراد قَتله بِمُجَرَّد وُصُوله فَلَمَّا أَتَوا اليه وَرَآهُ أَجله وأكرمه وَاعْتذر لَهُ من فعله وَأمر بار جاعه الى بَلَده مجللا مكرما ثمَّ اشْتغل عَن ذَلِك فاتى اليه وَقَالَ لَهُ انى مَرِيض ومرادى أَمُوت ببلدى فجهزنى سَرِيعا وَاعْلَم انك ميت على أثرى فجهزه لوقته وَسَار الى بَلَده اللِّحْيَة فَلَمَّا وصل اليها جلس أَيَّامًا قَليلَة وَمَات وَكَانَت وِلَادَته فى سنة تسع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى ثانى شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَمَات فى اثره السَّيِّد الْحسن ابْن الإِمَام الْقَاسِم رَحمَه الله
الامير مُحَمَّد بن منجك بن أَبى بكر بن عبد الْقَادِر بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن ابراهيم بن(4/229)
منجك الْكَبِير اليوسفى الذى اشْتهر فى الدُّنْيَا وتناقلت أَحَادِيثه النَّاس فى الْعليا وَصَاحب التَّرْجَمَة نبع فى الدوحة المنجكية نبيلا وسما قدره فى دمشق جَلِيلًا وارتقى الى اعلى ذرْوَة وَلم يحذ أحد فى المعلوات حذوه كَانَ أَمِيرا جليل الْقدر سامى الهضبة سخى الطَّبْع كَبِير الشان الا انه مغال فى الْكبر والتيه بذى اللِّسَان كثير الوقيعة فى النَّاس مفرط فى أذيتهم وَلِهَذَا خافه النَّاس وَكَبرت دولته وعظمت صولته ومدحه الشُّعَرَاء واتقادت اليه الْفُضَلَاء سلك اولا طَرِيق الْعَسْكَر فَصَارَ من آحَاد الْجند الشامى ثمَّ زعيما ثمَّ مُتَوَلِّيًا على عمَارَة السُّلْطَان سُلَيْمَان بالميدان الاخضر وَصَارَ بعْدهَا أَمِيرا بتدمر مَعَ التَّوْلِيَة الْمَذْكُورَة ثمَّ صَار متقاعدا على قانون آل عُثْمَان عَن دفتر دارية دمشق ثمَّ عرض لَهُ الْوَزير مُحَمَّد باشا ابْن سِنَان باشا فى أَن يكون أَمِير الامراء بمدينتى الرقة والرها فَنَهَضَ بِهَذِهِ الرُّتْبَة وسما وتقلبت بِهِ الاحوال وطافت بِهِ الاهوال حَتَّى سَافر مَرَّات الى دَار السلطنة وخالط الوزراء حَتَّى علا فى الْمقَام وَولى انظارا وقافهم عَن عَمه الامير عبد اللَّطِيف بن أَبى بكر لما مَاتَ فى ثانى عشر شَوَّال سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ الامير عبد اللَّطِيف وَليهَا عَن عَمه الامير ابراهيم بن عبد الْقَادِر فى حَيَاته وَلم يتم لَهُ التصريف حَتَّى مَاتَ عَمه فى شهر ربيع الاول سنة موت عبد اللَّطِيف واما وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة الامير منجك فانه لم يتول الانظار الْمَذْكُورَة وَمَات فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَالْحق انه لم يصل مِنْهُم أحد الى مَا وصل اليه المترجم فانه بلغ من نُفُوذ القَوْل الى مرتبَة عَظِيمَة وَعمر العمارات الفائقة مِنْهَا القاعة الْمَشْهُورَة فى دَارهم بَين بَاب جيرون وَبَاب السلسلة فانه أنق فى عمارتها بالقاشان والرخام وَصرف عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وَعمر الْقصر الْمَعْرُوف بِهِ فى الوادى الاخضر أحد منتزهات دمشق وانتهت عِمَارَته فى سنة احدى عشرَة وَألف وَفِيه يَقُول الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى الْمُفْتى مؤرخا بناءه ومخاطبا بانيه بقوله
(بنيت فصرا ام الْجنان جرى ... من تحتهَا النَّهر فَوْقه الغرف)
(جَاوَرت فى سَمَكَة السماك مَعَ ... الْجَوْز اولم ينْتَه لَهُ طرف)
(بدر الدجا من سناه ممتحق ... شمس الضُّحَى من سناه تنكسف)
(بنيت مجدا وسوددا وَعلا ... ظَهرت فِيهَا والحاسدون خفوا)
(بِنَاء من لَا يمل من كلف ... متيم بالعطا بِهِ كلف)
(يضيق للوفد مَعَ توسعه ... فبعضهم تَحت ظله يقف)(4/230)
(قد جَاوز الواصفون حَدهمْ ... فى وَصفه وَهُوَ فَوق مَا وصفوا)
(فَحسن ذَات العمادا خَلفه ... عماد هَذَا وحبذا الْخلف)
(ان سَالَ الْوَارِد دون عَن شرف ... أَعلَى ومروا بِهِ وَمَا عرفُوا)
(فاصدقهم الامر واهدهم كرما ... وَقل وارخه قصرى الشّرف)
وَقَالَ أَبُو بكر بن مَنْصُور الْعُمْرَى
(وَقصر تود قُصُور الْجنان لَو أَنَّهَا بَابه تخْدم ... )
(وكوثرها دائر حوله ... وأشجارها تربه تلثم)
(بناه الامير فَتى منجك ... مُحَمَّد الْفَارِس الْمعلم)
(وشرفه فغدا قدره ... عَظِيما وتاريخه أعظم)
قلت وَكَانَ الامير منجك ابْن المترجم الآتى ذكره وهب الْقصر الْمَذْكُور لاحمد باشا الْمَعْرُوف بالكوجك لما كَانَ كافل دمشق فادرجه الكوجك فى وَقفه وَهُوَ الْآن من جملَة وَقفه غير انه لعبت بِهِ أيدى الحادثات فَذَهَبت برونقه وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة أَحْوَال ووقائع وَمَا جريات وفظائع تجاوزت الْحَد وكل عَنْهَا الْعد وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كَمَا تلقيناه وأخذناه من الافواه رجل اساءته أَكثر من احسانه فانه قل من سلم من يَده وَلسَانه ولعمرى لقد أنصف ابْنه المرحوم الامير منجك سقى الله ثراه صيب الرحمه فِيمَا قَالَ مُشِيرا لما فعله أَبوهُ من الظلامات الْمَدّ لهمه
(اساء كبارنا فى النَّاس حَتَّى ... جرى هَذَا الاساء على الصغار)
(لقد شرب الاوائل كاس خمر ... غَدَتْ مِنْهَا الاواخر فى خمار)
وَكَانَت وَفَاته فى رَابِع وعشرى شهر ربيع الاول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بِجَامِع جده بالميدان وجده الاعلى صَاحب الاوقاف مَذْكُور فى كتب التواريخ مِنْهَا المنهل الصافى لِابْنِ ثغرى بردى وذكرانه تنقل فى نيابات الشَّام كحلب وطرابلس ودمشق وصفد وطرسوس وَولى قبل ذَلِك الوزارة فى زمن النَّاصِر مُحَمَّد ابْن قلاون وَجرى عَلَيْهِ امور وَقبض عَلَيْهِ مَرَّات
مُحَمَّد بن مَنْصُور بن ابراهيم بن سَلامَة محب الدّين الملقب شمس الدّين الشهير بالمحبى الدمشقى الحنفى الْفَقِيه الْمُحدث المقرى المعمر الْبركَة مُلْحق الاحفاد بالاجداد حفظ الْقُرْآن وجوده وَأخذ القراآت عَن الشهَاب الطيبى وَالشَّيْخ حسن الصلتى وغبرهما وَالْفِقْه عَن النَّجْم البهنسى الْخَطِيب بِجَامِع دمشق وَغَيره والْحَدِيث عَن(4/231)
وَالِده الْمسند الْكَبِير عَن القاضى زَكَرِيَّا والبرهان القلقنشدى والحافظ عبد الْحق السنباطى المصريين وَالتَّقوى بن قاضى عجلون وَالسَّيِّد كَمَا الدّين بن حَمْزَة الدمشقيين وأتقن وَضبط وانتفع بِهِ وَلَده ابراهيم وَمَات فى حَيَاته فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة عَن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ نبل جدا وَلم أَقف على وَفَاته وانتفع بِهِ شيخ الاسلام عبد الرَّحْمَن العمادى وَتزَوج بوالدة العمادى آخرا وَحصل لَهُ ثقل فى سَمعه آخر عمره وَكَانَ مُنْقَطِعًا فى بَيته يَتْلُو كَلَام الله تَعَالَى وَألف وَمن تآليفه شرح على الْهِدَايَة على مَا سَمِعت وَمَا رَأَيْته وَرَأَيْت لَهُ من شعره هذَيْن الْبَيْتَيْنِ منسوبين اليه فاثبتهما لَهُ وهما
(يَا قَارِئًا خطا لمن لم يجد ... حظا مدى الايام من دهره)
(عساك ان تَدْعُو بغفران مَا ... جنى من الآثام فى عمره)
وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ التغفل وَالصَّلَاح قَالَ النَّجْم الغزى ميلاده فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا نقلته من خطّ المحيوى الشَّيْخ عبد الْقَادِر النعيمى وَتوفى سنة ثَلَاثِينَ بعد الالف قلت فَيكون بلغ من الْعُمر مائَة سنة وَقَالَ الشهَاب العمادى فى تَارِيخ وَفَاته
(مَاتَ المحبى شيخى ... وَكَانَ نعم الْمُحب)
(بدر الْفَضَائِل لما ... هوى تخلف شهب)
(وأشرقت شمس علم ... مِنْهُ لَهَا الْقَبْر غرب)
(سُلْطَان فضل حمته ... كتائب هن كتب)
(قطب الْوُجُود تسامى ... فِيهِ صَلَاح وجذب)
(فَقلت يَا صَاح أرخ ... بِالشَّام قدمات قطب)
قلت وَبَيت محب الدّين هَؤُلَاءِ غير بيتنا بِدِمَشْق وهم أقدم منا فِيهَا وَيُقَال لَهُم بَيت نَاظر الْجَيْش لَان جدهم الاعلى القاضى محب الدّين كَانَ نَاظر الْجَيْش أَيَّام السطلان الغورى واما جد صَاحب التَّرْجَمَة ابراهيم الْمَذْكُور فَكَانَ بِسَبَب مَوته الْفِتْنَة الْمَشْهُورَة بِدِمَشْق وَأخذ الْعلمَاء مِنْهَا الى مصر تَحت الترسيم وَذَلِكَ انه مَاتَ وَله ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَ أَبوهُ بِمصْر عِنْد الاشرف الغورى فَلَمَّا دفن بنيت عَلَيْهِ قبَّة فى ملاصقة قبَّة القطب الولى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سيدنَا الشَّيْخ ارسلان قدس الله سره الْعَزِيز فَأفْتى السَّيِّد كَمَال الدّين مفتى دَار الْعدْل بهدم الْقبَّة الْمَذْكُورَة لكَونهَا بنيت فى مَقْبرَة(4/232)
مسبلة وَأفْتى التَّقْوَى ابْن قاضى عجلون بِعَدَمِ هدمها وَقَالَ هَذِه الْقبَّة كَانَت مَوْجُودَة وَلها أساس وَمَا بنيت الثَّانِيَة الا على أساس الاولى والاولى كَانَت عامرة مُدَّة طَوِيلَة من غير تعرض لَهَا والاصل وضع الشئ بِحَق وَكَانَ القاضى الْحَاكِم بهدمها قاضى الْقُضَاة خير الدّين المالكى وَكَانَ الامير سيباى أَمِير الامراء بِدِمَشْق حَاضرا على هدمها فَلَمَّا صدر ذَلِك ذهب الْخَبَر الى وَالِد الْمَيِّت القاضى محب الدّين فَقدم الى دمشق وَاسْتمرّ من الطَّرِيق عَازِمًا الى قبر وَلَده وَعَزاهُ النَّاس فِيهِ هُنَاكَ ثمَّ انه أَخذ عظاما من التربة وَضعهَا فى وعَاء وَذهب الى مصر وَألقى الْعِظَام بَين يدى الْملك الاشرف قانصوه الغورى فَقَالَ لَهُ مَا هَذِه قَالَ هَذِه عِظَام ولدى الَّتِى أخرجتها أكَابِر دمشق من قَبره وَمَا فعلوا ذَلِك الا لانتسابى اليك وَقَالَ للسُّلْطَان عندى كنز يحْتَاج الى البخور فَقَالَ عندى بخوره فَكتب لَهُ عِنْد ذَلِك أَسمَاء الْجَمَاعَة الَّذين كَانُوا داخلين فى الْقِصَّة مِنْهُم التَّقْوَى ابْن قاضى عجلون مَعَ انه أفتى بِعَدَمِ هدم الْقبَّة وَلَكِن كَأَنَّهُ أَخذه ليستشهده على من أفتى بهدمها وَمِنْهُم السَّيِّد كَمَال الدّين مفتى دَار الْعدْل والشهاب أَحْمد الرملى امام الْجَامِع الاموى والقاضى خير الدّين المالكى وَجَمَاعَة وَكتب حكم سلطانى بأسماء هَؤُلَاءِ وَأرْسل خاصكى الى دمشق بِطَلَب هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة فَذَهَبُوا مُتَفَرّقين ودخلوا الى السُّلْطَان بِمصْر فرسم عَلَيْهِم الا التَّقْوَى فانه أبقاه فى بعض الْمدَارِس غير مرسم عَلَيْهِ وَلما حَضَرُوا فى الْجمع الى السُّلْطَان زجر الْجَمَاعَة وَلم يزل الامر يزِيد وَينْقص الى أَن وَقعت الدَّعْوَى على القاضى المالكى الذى حكم بهدم الْقبَّة وَحكم قاضى حنبلى بِمصْر بِأَن الحكم الصَّادِر بهدمها لم يَقع موقعه وخسر الْقَوْم بِسَبَب هَذِه الْقِصَّة مَا يزِيد على عشْرين ألف دِينَار وَرَجَعُوا بمناصب زَالَت بعد قَلِيل وَالله أعلم
مُحَمَّد بن مُوسَى بن عفيف الدّين المنعوت شمس الدّين بن شرف الدّين القابونى الدمشقى الشافعى ذكره الغزى وَقَالَ هُوَ سبط الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد بن بدر الدّين الطيبى عرف بجدى لانه كَانَ يلازم جده الطيبى فَيَقُول لَهُ جدى جدى فغلب عَلَيْهِ ذَلِك كَانَ خطيب جَامع منجك الْمَعْرُوف بِمَسْجِد الاقصاب خَارج دمشق كأبيه ثمَّ ولى امامة الْمَقْصُورَة من الْجَامِع الاموى شركَة شَيخنَا يعْنى بِهِ العيثاوى بعد موت خَاله الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد فى منتصف شهر رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بِمَعْرِِفَة قريبهم الشَّيْخ أَحْمد بن النعمى خطيب ايا صوفيه وَكَانَ ورد دمشق(4/233)
حَاجا فى صُحْبَة الْمولى عبد الْغنى قاضى قُضَاة الشَّام وَقد وَليهَا ثَانِيًا ثمَّ قَالَ وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن وختمه فى الْمِحْرَاب مَرَّات وَكَانَ يلازم فى جُمُعَة شَيخنَا أَيْضا وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة فى القراآت وَيقْرَأ مجودا ولى نصف وَظِيفَة الْوَعْظ فى يَوْم الاربعاء من الثَّلَاثَة الاشهر عَن ابْن قنديل شركَة التَّاج القرعونى فباشره وَكَانَ يعسر عَلَيْهِ التأدية من الْوَرق لضعف نَصره وَعبارَته فَكَانَ يتصحف عَلَيْهِ أَلْفَاظ ويتكرر مِنْهُ تصحيفها وتحريفها حَتَّى سمعته بورد هَذَا الحَدِيث غير مرّة لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة فيقرؤه فى سنّ شَاة كَلِمَتَيْنِ وَسن بِالتَّشْدِيدِ يُرِيد وَاحِد الاسنان وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاحد خَامِس عشر صفر سنة تسع عشرَة وَألف وَدفن من الْغَد بمقبرة الفراديس عِنْد قبر جده وخاله الطيبيين قلت وَالشَّيْخ أَحْمد النعيمى الذى ذكره هُوَ الشَّيْخ بهاء الدّين أَحْمد بن عبد الْقَادِر النعيمى الدمشقى تقلبت بِهِ الاحوال بِدِمَشْق فسافر الى الرّوم فَصَارَ خطيب السليمانية وامام ياصوفيه بقسطنيطينية وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة
مُحَمَّد بن مُوسَى بن عَلَاء الدّين الْمَعْرُوف بالعسيلى القدسى ولد الشَّيْخ كَمَال الدّين الْمُقدم ذكره كَانَ من كبار الْفُضَلَاء أَصْحَاب التصانيف أَخذ الْفَرَائِض عَن الولى الْبركَة الشَّيْخ مُحَمَّد الدجانى وَأَجَازَهُ وَأخذ الْفِقْه والْحَدِيث عَن الشَّيْخ يحيى ابْن قاضى الصَّلْت القدسى والتصوف والعقائد عَن الشَّيْخ مُحَمَّد العلمى وَكَانَ مغرما بِهِ وقارئ درسه وَأخذ الْمعَانى وَالْبَيَان عَن شيخ الاسلام رضى الدّين اللطفى وَالشَّيْخ مَحْمُود البيلونى وَقَرَأَ البيضاوى بِتَمَامِهِ على المنلا على الكردى واجازه شيخ الاسلام التمرتاشى الغزى صَاحب التَّنْوِير رَحمَه الله تَعَالَى بِمَا لَهُ من مروياته نظما ووقفت على الاجازة وَأرْسل لَهُ النُّور الزيادى اجازة من مصر لما سَأَلَهُ عَن أسئلة عديدة وَطلب مِنْهُ الاجازة وَلم يره وَمن مؤلفاته حَاشِيَة على الفاكهى وَقطعَة كَبِيرَة على الجلالين اخترمته الْمنية قبل اكمالها ونظم الْقطر وَشَرحه ونظم خَصَائِص النبى
وَشرح النّظم شرحا لطيفا لم يسْبق اليه مَعَ زيادات على انموذج اللبيب فى خَصَائِص الحبيب وَسَماهُ النّظم الْقَرِيب فى خَصَائِص الحبيب وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بِمَا من الله
مُحَمَّد بن مُوسَى بن مُحَمَّد الجمازى نِسْبَة الى الامير عز الدّين جماز شَيْخه بن هَاشم بن قَاسم بن مهنا بن حُسَيْن بن مهنا بن دَاوُد بن قَاسم بن عبد الله بن طَاهِر بن(4/234)
يحيى بن جَعْفَر بن عبيد الله بن الْحُسَيْن الاصغر بن على زين العابدين بن الْحُسَيْن بن على بن أَبى طَالب كرم الله وَجهه ورضى الله عَنْهُم الحسينى المالكى أحد الْفُضَلَاء الاعيان وَاحِد أَئِمَّة الْبَيَان أخر زمن الادب طرفا وحوى مِنْهُ جانبا مستظرفا وَكَانَ لَهُ بِمصْر منزلَة ومكانه وَقدر شرف بِهِ زَمَانه ومكانه وَولى الْقَضَاء بمحكمة ابْن طولون وَمن شُيُوخه مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزى الحنفى لَازمه سِنِين عديدة واختص بِصُحْبَتِهِ وَأخذ عَن عبد الْوَاحِد الرشيدى امام برج مغزل وَمن مشايخه مرعى الحنبلى وخاتمة الْمُحدثين النُّور الاجهورى وَله مؤلفات مِنْهَا شرح الاندلسية فى الْعرُوض ونظم أم الْبَرَاهِين للسنوسى وَغير ذَلِك من الرسائل وَله شعر مِنْهُ قَوْله فى النَّعْل الشريف
(مذ شاهدت عيناى شكل نعاله ... خطرت على خواطر بمثاله)
(فَغَدَوْت مَشْغُول الْفُؤَاد مفكرا ... متمنيا انى شِرَاك نعاله)
(حَتَّى ألامس أخمصيه ملاطفا ... قد مَا لمن كشف الدجى بجماله)
(يَا عين ان شط الحبيب وَلم أجد ... سَببا الى تقريبه ووصاله)
(فَلَقَد قنعت برؤيتى آثاره ... فامرغ الْخَدين فى اطلاله)
وَاصل هَذَا قَول عَلَاء الدّين بن سَلام حَيْثُ قَالَ
(يَا عين ان بعد الحبيب وداره ... ونأت مراتعه وشط مزاره)
(فَلَقَد ظَفرت من الزَّمَان بطائل ... ان لم تريه فَهَذِهِ آثاره)
وَمثله قَول لِسَان الدّين بن الْخَطِيب الاندلسى حَيْثُ قَالَ فِيهِ
(ابْن بَان منزله وشط مزاره ... قَامَت مقَام عيانه أخباره)
(قسم زَمَانك عِبْرَة أَو عسرة ... هَذَا ثراه وَهَذِه آثاره)
وَمن شعر الجمازى أَيْضا قَوْله يمدح السَّيِّد زَكَرِيَّا المقدسى نقيب السَّادة الاشراف بِمصْر من قصيدة مطْلعهَا قَوْله
(ان بعدى وغربتى واشتياقى ... وافتراقى كفرقة الاعتزال)
(واصطبارى على الْمقَام هوانا ... بَين قوم كعصبة الدَّجَّال)
(لم يفيدوا علما وَلم يستفيدوا ... ان فيهم تهاتها مَعَ جِدَال)
(وتقضى الزَّمَان فى ترهات ... آفَة الْعلم قلَّة الِاشْتِغَال)
(لَا حَيَاة هنيئة فى عِيَال ... وارتكاب لَا خبث الاعمال)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى(4/235)
مُحَمَّد بن نَاصِر الدّين بن على البلينى الْمصر الاديب الشَّاعِر ذكره الخفاجى فَقَالَ فى وَصفه فَاضل شافعى الْمَذْهَب ولبيب طراز فَضله بالآداب مَذْهَب من الْقَوْم الالى فى طَرِيق الْخيرَات ساعون وَالَّذين هم لاماناتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ وَله شعر أصفى من الرَّحِيق الْمُعْتق وابهى من وشى الرّبيع المنمق الا انه تجَاوز رقة النسيب الى التَّجْنِيس والغريب ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة
(اهلا بِهِ ملكا فى زى انسان ... أَهلا بِهِ قادما فى شهر نيسان)
مِنْهَا قَوْله فى الْمَدْح
(ابكى على حِين مرغوس على جنى ... وَمن تلافى فِيهِ قد تلافانى)
الْحِين الْهَلَاك والرغس النِّعْمَة
(واننا شنى بِالْيَدِ الْبَيْضَاء سودده ... من أسود الْخطب لما أَن تخاطانى)
(قد كنت غصان بِالْمَاءِ الزلَال وَهل ... يجرى سوى المَاء فى حلقوم غصان)
(صديان أَشْكُو فَلَا اشكى كَأَن خرس الصدا وصم فَلَا يجرى بميدان ... )
(يَا جَامعا شَمل اشتات الْفَضَائِل فى ... جثمانه عز عَن جمع وجثمان)
(وَمن تفرد فى هضبات عزمته ... ألية مَا لفرد مِنْك من ثَان)
(حجبت غَيْرك عَمَّا ظلت تملكه ... ارثا من الْفضل حجبا حجب حرمَان)
قَوْله قد كنت غصان معنى مطروق كَقَوْلِه
(من غص داوى بِشرب المَاء غصته ... فَكيف يصنع من قد غص بِالْمَاءِ)
وَقَوله
(لَو بِغَيْر المَاء حلقى شَرق ... كنت كالغصان بِالْمَاءِ اعتصارى)
وَهُوَ فى معنى قَوْله
(كنت من محنتى أفر اليهم ... وهم محنتى فَأَيْنَ الْفِرَار)
ولابى فراس
(قد كنت عدتى الَّتِى أسطو بهَا ... ويدى اذا اشْتَدَّ الزَّمَان وساعدى)
(فرميت مِنْك بضد مَا أملته ... والمرء يشرق بالزلال الْبَارِد)
وَمن كَلَام ابْن المعتز رُبمَا شَرق شَارِب المَاء قبل ريه وللشهاب
(فديتك مَا كل مطل لَهُ ... يصبر من ذاقه وَاحْتمل)
(اذا مطل المَاء ذَا غُصَّة ... فقد رام انجاز وعد الاجل)
(وعدت بنصرى على حَالَة ... لَهَا الصَّبْر عادى وفر الامل)
وللبلينى من قصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا هَذَا(4/236)
(لَو علمت الْجمال يَا جمل بعدى ... لَو صلت الْوِصَال بعدا ببعد)
(زعمت اننى شغفت بدعد ... جمل فاستأثرت بلَى وَصد)
(مَا لَهَا أَعرَضت وَلم آتٍ ذَنبا ... غير انى علقت مِنْهَا بود)
(كل حَال يجل مَا شِئْت فِيهَا ... غير رفض الْهوى وصدور صد)
(حادى العيس سر بسربى لسرب ... بالمصلى لَهُم جَوَامِع عهدى)
(حبهم فى جوانحى مستجن ... فى ضمير بدا وَمَا كدت أبدى)
(نم دمعى بِهِ فنم شجونى ... ظَاهر مخبر بباطن وجدى)
(لَيْت شعرى وَمَا شَعرت أغيرى ... مغرم فى الغرام أم أَنا وحدى)
(لم أجد حِيلَة فحيلة وجدى ... وجدد مَعَ قد خد أخدُود خدى)
وَقَوله من أُخْرَى مستهلها
(ظلّ ظلّ الْهوى بنعم مُقيما ... فَأَقَمْنَا بِهِ فَكَانَ النعيما)
(ورأينا وَلَا نرى الصد يسمو ... فى معالى الْكَمَال وَجها وسيما)
(يَا خليلى ان تَرَ وَمَا فروما ... غُصْن بَان اذا تثنى وريما)
(يصحب الصحب بالتكرم فهم ... بابنة الْكَرم مكرما ونديما)
(واكسبا الْمجد مَا احتسى الراح روح ... واكتسى الرَّوْض عَن نَسِيج نسيما)
(واذا الغانيات غنتك فاغنم ... من بَنَات العريب صَوتا رخيما)
(غادة غادرت دموعى غديرا ... دائرا حائرا وصبرى عديما)
(جمعت فى القوام ضدين فاعجب ... عَجزا رابيا وكشحا هضيما)
(أوهنت قوتى فأقوت هيولاى وبادت فصرت هشا هشيما)
(لَزِمت قَومهَا ففارقت قومى ... قَائِما اقْتضى القوام القويما)
(ورنت باللحاظ فى كسر جفن ... ظلّ يهدى الى حشاى الجحيما)
(ففؤادى بهَا السَّلِيم بلدغ ... لَا تَظنن ذَا السَّلِيم السليما)
(ومشت فى الربى فاربت على مَا ... مَاس من غصنها فامسى خديما)
(وامالت مثل الردينى قدا ... مِنْهُ بثت فى الرَّوْض عرفا شميما)
(بعثت طيفها لطيفا ودت ... لَو يكون الرَّسُول عَنْهَا النسيما)
(علمت اننى سقيم فاهدت ... لى من حسنها مِثَالا سقيما)
(فتنبهت لم أجد فَلَو جدى ... فى لطيف جعلت خدى لطيما)(4/237)
(وتخيلت فى البروق ضِيَاء ... هُوَ كالطيف فاغتديت مشيما)
(فر منى من ليته قرحتى ... أذكر الْعَهْد فى سليمى القديما)
(مَا على من على الْهوى من جنَاح ... لزم السهد أم أَتَى التهويما)
(حالتاه أجهدتاه فاما ... يرصد الطيف أَو يناجى النجوما)
(يحْسب العاذلون اى اذا مَا ... لج بى الشجولا أكون الكتوما)
(انما الشّعْر حِكْمَة يصطفيها ... مصقع مدره يُسمى الحكيما)
وَمِنْهَا فى المديح وَرَأى الْبَدْر مِنْهُ فى الارض بَدْرًا ... فارتضى أَن يكون عبدا خديما)
(من يكن دَائِما سواهُ فانى ... عَن حماه وحمده لن أريما)
(وَقُلُوب الورى تدَاخل ودا ... فسليم الْفُؤَاد يهوى السليما)
(كحروف الادغام تُدْغَم فى الْمثل وَقد يدغمون فى الْفَاء ميما ... )
(صَاح من لوعتى توالت همومى ... مِنْهُم والهموم تغرى الهموما)
(طَال مدحى لَهُم وَمَا نلْت الا ... مدح مدحى فظل برئى سقيما)
(فكأنى أسلفتهم نقد لفظ ... فَرَأَوْا رد جنسه تَسْلِيمًا)
مِنْهَا
(أَيهَا المبتغى الْعباب ليروى ... من صداه ويغبق الشغموما)
(صد عَن غَيره وعرج وعود ... عودك الوخد نَحوه تسقيما)
(وترحل عَمَّا سوى أرضه ... وَارْضَ بِأَرْض يكون فِيهَا مُقيما ... )
(واذا لم يكن من السعى بُد ... فالرحيل الرحيل أبغى الرحيما)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْخَمِيس حادى وعشرى شَوَّال سنة تسع عشرَة وَألف والبلينى بِضَم أَوله ثمَّ لَام سَاكِنة بعْدهَا تحتية مَفْتُوحَة نِسْبَة لبلية بحرى هُوَ بلد من الصَّعِيد
مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعى العربى النحوى اللغوى النَّاظِم مُجَدد الطَّرِيقَة الشاذلية مربى الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء بركَة الْمغرب صَاحب الكشوفات وأوحد الدَّهْر أجمع أهل الْمغرب على جلالته وَعظم قدره وَمَا أَظن أحدا بلغ رتبته فى الاشتهار عِنْدهم فانى كثيرا مَا أسأَل عَنهُ آحَاد المغاربه فيبادرونى بِذكر فضائله وولايته بِأول وهلة وَلَا أَرَاهُم فى وصف غَيره كَذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف رحه الله تَعَالَى(4/238)
مُحَمَّد بن نجم الدّين بن مُحَمَّد الملقب شمس الدّين الْمَعْرُوف بالصالحى الهلالى الدمشقى الاديب الْكَاتِب المنشى الشَّاعِر الْمَشْهُور فَرد الزَّمَان وأوحد الاوان ولد بمشق وَقَرَأَ بهَا الْقُرْآن ثمَّ توجه الى مَكَّة المشرفة وَقَرَأَ بهَا الْفِقْه على الشَّيْخ الامام شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر الهيتمى وعَلى الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن فَهد وعَلى القطب المكى الشهروانى ثمَّ قدم دمشق بعد وَفَاة وَالِده فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَقَرَأَ بهَا النَّحْو والمعانى وَالْبَيَان على الْعِمَاد الحنفى والشهاب أَحْمد المغربى وتفقه بِالنورِ النسفى المصرى نزيل دمشق وبرع فى الْفِقْه وَالتَّفْسِير والادب مَعَ الذكاء المفرط وَحسن الْفَهم وَلزِمَ الْعُزْلَة فى حجرَة بِالْمَدْرَسَةِ العزيزية وَكَانَ فى الْغَالِب يكْتب تَفْسِير البيضاوى وخطه فى غَايَة الْجَوْدَة ومشهور حق الشُّهْرَة خُصُوصا فى الرّوم فانهم يتغالون فِيهِ وَكَانَ جمع مَالا عَظِيما وَلم يتَزَوَّج مُدَّة عمره وَكَانَت لَهُ أُخْت متزوجة فى طرابلس الشَّام فسافر لزيارتها فى سنة ثَمَان بعد الالف فَاجْتمع هُنَاكَ بالامير على بن سَيْفا فَجعله فى مُدَّة اقامته بطرابلس معلما لوَلَده الامير مُحَمَّد السيفى فَكَانَ ذَلِك سَببا لاقامته بطرابلس مُدَّة ومدح الامير عليا وأخاه الامير يُوسُف بقصائد طنانة ثمَّ رَجَعَ الى دمشق والذى تلخص فِيهِ من القَوْل انه أبلغ بلغاء عصره وأفصح فصحاء دهره لم تكتحل بِمثلِهِ عين الزَّمَان وَلم يبتسم لنظيره ثغر الْعرْفَان وَقد ذكره الخفاجى وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَهُوَ أَخذ عَنهُ الادب ثمَّ قَالَ فى تَرْجَمته وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى من سنته الاعتزال عَن النَّاس وَتَقْدِيم الوحشة على الِاسْتِئْنَاس عَاملا فى أَوَاخِر عمره بقول على رضى الله عَنهُ بَقِيَّة عمر الْمَرْء لَا ثمن لَهَا يدْرك بهَا مَا فَاتَ وَيحيى مَا مَاتَ وَقد عقده البستى بقوله
(بَقِيَّة الْعُمر عندى مَا لَهَا ثمن ... وان غَدا خير مَحْبُوب بِلَا ثمن)
(يسْتَدرك الْمَرْء فِيهَا مَا أفات وَيحيى مَا أمات ويمحى السوء بالْحسنِ ... )
وَمن شعر الْعَلامَة الزمخشرى قَوْله فى هَذِه الْبَقِيَّة
(خربَتْ هَذَا الْعُمر غير بَقِيَّة ... ولعلنى لَك بالقية عَامر)
واشعاره ومنشآته كَثِيرَة وَله ديوَان فى مدح مصطفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام سَمَّاهُ صدح الْحمام فى مدح خير الانام ذكر فِيهِ تِسْعَة وَعشْرين قصيدة مرتبَة على حُرُوف المعجم وَقد ذكر فى ديباجته نبذا من صِفَاته ومعاهد انسه ولذاته ومسارح آرام أترابه ولداته قَالَ فى فصل صَدره اننى لما نشأت بِمَكَّة المشرفة(4/239)
والاماكن الَّتِى هى بالجوزاء ممنطقة وبالثريا مشنفه وَقد كسانى الزَّمَان قشيب بروده وطفت فِيهَا مَا بَين عقيق الْحمى وزروده وغصن الصِّبَا بأيام السعادات مُورق وَبدر الشَّبَاب فى سَمَاء الكمالات مشرق خلى البال منفى البلبال لَا دأب لى الا موسم وُفُود الْعُلُوم فى سوق عكاطها وَلَا شغل لى الا استكشاف وسائم وُجُوه الْمعَانى المخبأة تَحت براقع ألفاظها أستمرى من اخلاف الائمة الْمَشَايِخ در الْمَفْهُوم وأستخرج من بَحر كل حبر راسخ در الْعُلُوم أفاضل امتطوا من سَائِر الْعُلُوم غوارب الانتاج وأماثل فاضت بحور علومهم كَمَا يفِيض الْبَحْر المتلاطم بالامواج اغترفوا من حِيَاض المعارف نمير الْحَقَائِق واقتطفوا من رياض الْآدَاب ثَمَرَات اللطائف وَالرَّقَائِق لَو سمع قس فصيح لغاتهم لادركه العى بسوق عكاظ وَلَو شاهدهم سحبان لولى يسحب ذيله خجلا من جزالة الْمعَانى ورقة الالفاظ شموس فضائلهم لم تزل دائمة الطُّلُوع ومزن أدبهم مَا انْفَكَّ بقطر النّظم والنثر هموع ثمَّ لما قضى الله بِحمْل عَصا الترحال وَشد الاقتاب وحلول انتاج الاجمال وَبَطلَت حَرَكَة ذَلِك الدّور وتنقل الزَّمَان من طور الى طور أعملنا حُرُوف النجائب تنبض بِنَا الْبَيْدَاء فى سراها ولطمنا خُذ الارض باخفافها الى أَن براها السرى فى براها فكم جاوزنا جبالاً شوامخ زاحمت بمناكبها السحائب وذرعنا الناجبات شقة قفر فَلم تطوالا بأيدى الركائب وَكم جسرنا بالجاسرات على ملاقاة زنجى الظلام وَكلما رَاعنا أشرعنا اليه من الْكَوَاكِب أسنة وسللنا عَلَيْهِ من الْبَرْق حسام الى أَن بَدَت لاعيننا قباب الْمصلى كالفوانس وشاهدنا عروس الشَّام تنجلى فى سندسى الملابس وَحقّ للْمُسَافِر ان ينشد الْبَيْت السائر
(فَأَلْقَت عصاها وَاسْتقر بهَا النَّوَى ... كَمَا قر عينا بالاياب الْمُسَافِر)
فنزلنا بِأَرْض دمشق المحروسه وحللنا رحابها المأنوسه فعكفت على مَا كنت بِمَكَّة عَلَيْهِ وفوقت سِهَام عزمى الى غَرَض كَانَ مرماى قَدِيما عَلَيْهِ من اقتناص الشوارد وَتَقْيِيد الاوابد وصادفت بهَا سادة أَئِمَّة وقادة يهتدى بنورهم فى ظلم الْجَهْل المدلهمه اعيان مجد يشار اليهم بالاصابع واقران فضل لَا طَاعن فيهم وَلَا مدافع وصدور علم تتجمل بهم صُدُور الْمجَالِس اذا الْتفت عَلَيْهِم المجامع وآساد بِحَيْثُ يتضاءل لصولتهم كل معاند مُنَازع وفرسان كَلَام فى ميدان نثر ونظام اشرقت شموس فضائهم فى افلاك السُّعُود ونظموا فى سلك الْفَضَائِل كنظم الدّرّ فى اسلاك(4/240)
الْعُقُود رياض آدَاب كلهَا زَاهِر وبحار عُلُوم كلهَا لآلئ وجواهر وَقَالَ
(قد انتظموا فى سلك فضل قلادة ... وَكلهمْ وسطى وناهيك من عقد)
فصحبتهم بُرْهَة من الزَّمَان ونظمت من منثور فضائلهم قلائد العقيان ثمَّ الا غَالب هَؤُلَاءِ الَّذين أخيرا ذكرتهم وحلبت أشطرهم فى حَال الصُّحْبَة وخبرتهم راسلته وراسلنى يرائق شعره وسجعه وادرت كؤس قوافى شعرى على أَفْوَاه سَمعه وَمِنْه من مدحته لَا رَغْبَة فى نواله وَلَا طَمَعا فى الارتواء من سجله يَوْم سجاله بل تَلَوت عَلَيْهِ غرائب أسمارى استقداحا لزناده وزففت اليه عرائس افكارى استجلابا لوداده
(فهن عذارى مهرهَا الود لَا الندى ... وَمَا كل من يعزى الى الشّعْر يستجدى)
ثمَّ عَن لى وَارِد ربانى وخاطر الهى رحمانى سَار بذكرى فى مجَاز الْحَقِيقَة وأشهدنى عُقبى الامور السحيقه فَرَأَيْت كل قَول لَا ينفع صَاحبه غَدا فَهُوَ من زخرف القَوْل الفانى وَعلمت يَقِينا ان هَذِه الشقاشق لَا تعقب فى الْآخِرَة سرُور وَلَا تهانى وقوى الْعَزْم على ان أقدم بَين يدى مُقَدّمَة من نتائج الْفِكر وَحجَّة يقْضى الْعقل بِصِحَّة ثُبُوتهَا لتضمنها مدح خير الْبشر عَسى انها اذا قبلت تكون وَسِيلَة الى الْفَوْز بالنجاة وَكَفَّارَة لذنوب اكتسبتها وجرائم اقترفتها أَيَّام الْحَيَاة وظنى انها من القضايا المنتجة وان أَبْوَاب الْقبُول مَفْتُوحَة لَهَا غير مرتجة قلت وكل قصائده هَذِه // جَيِّدَة // لَكِن تعجبنى هَذِه الرائية ومستهلها قَوْله
(يَا ثانى الْغُصْن من قد لَهُ خطر ... ومفرد الْحسن هَا قلبى على خطر)
(وَيَا مديرا علينا من مراشفه ... سلافة الراح فى كاس من الثغر)
(لَا تحبس الراح عَمَّن رَاح ذَا علل ... شوقا لورد اللمى من ريقك الخصر)
(يَا صاحبى بنعمان الاراك خذا ... عَن يمنة الحى أَو كونا على حدر)
(فمرصد الْحبّ حَيْثُ الْغُصْن منعطف ... ومكمن الْمَوْت بَين الْورْد والصدر)
(وَحَيْثُ مسرح آرام رعايتها ... حب الْقُلُوب بسفح الاضلع الشّعْر)
(من كل ريم يصيد الاسد ناظره ... وَيكسر الجفن يَوْم الروع من حور)
مِنْهَا
(يَا ثَبت الله قلب الصب حِين دنا ... من موقف يستطير الْعقل بالطير)
(وَقد تسر بل درع الصَّبْر سابغة ... وَرَاح فى السّير بَين الامن والحذر)
مِنْهَا
(مَا كنت ادرى بَان الْحبّ ذُو محن ... حَتَّى ابْتليت وَلَيْسَ الْخَبَر كالخبر)(4/241)
(امسى وداء الامانى لَا يفارقنى ... ان الامانى تضنى الْقلب بِالذكر)
(والجسم قد رق من ضعف وَمن سقم ... حَتَّى تشكى مَسِيس القمص والازر)
(والجفن لم يعرف الاغماض مذ عقدت ... بحاجب مِنْهُ اهداب من الشّعْر)
(كم قلت للقلب من خوف عَلَيْهِ وَقد ... امسى بحب ظباء البدوفى فكر)
(أَنهَاك أَنهَاك لَا آلوك معذرة ... عَن نومَة بَين نَاب اللَّيْث وَالظفر)
(فَمَا أصاخ الى قولى وموعظتى ... حَتَّى رمى من صروف الْحبّ بالغبر)
(ان تمس يَا قلب من قَتْلَى الْهوى فلكم ... مُلُوك عشق هووا من أرفع السرر)
(وَغير بدع فلك الْحبّ سطوته ... تصير الاسد أشلاء الظبا العفر)
(يَا ظبى انس لَهُ فتك الاسود وَمن ... لولاه لم ألف الف الْهم والغير)
(كف الانمارة عَن قلب بِهِ فتكت ... سيوف لحظ صَحِيح الجفن منكسر)
(مَا ان يمر بِهِ يَوْم بِلَا نصب ... وَلَا يُبَاح لَهُ صفو بِلَا كدر)
(سليته يَوْم ملقانا بذى سلم ... حَيْثُ الخزاما وَنبت الضال والسمر)
(وَهَا أَنا مستجير من هَوَاك بِمن ... أَجَارَ ظبى الفلا الْمُخْتَار من مُضر)
مِنْهَا
(سَائل قُريْشًا غَدَاة النَّقْع حَيْثُ رموا ... بِعَارِض من زوام الْمَوْت منهمر)
(وَكَيف أضحوا جفَاء عِنْد مَا غرقوا ... بسيل خيل جرى فى الاخذ منحدر)
(كانما الْخَيل فى الميدان ارجلها ... صوالج ورؤس الْقَوْم كالاكر)
وَقَوله أَيْضا الطائية وأولها
(سقى طللا حَيْثُ الاجارع والسقط ... وَحَيْثُ الظباء العفر مَا بَينهَا تعطو)
(هزيم همول الودق مرتجس لَهُ ... بافنائه فى كل نَاحيَة سقط)
(وَلَو ان لى دمعا يرْوى رحابه ... لما كنت أرْضى عارضا جوده نقط)
(وَلَكِن دمعى صَار أَكْثَره دَمًا ... فَأنى يُرْجَى ان يرْوى بِهِ قحط)
هَذَا كَقَوْل مهيار
(بَكَيْت على الوادى فَحرمت مَاءَهُ ... وَكَيف يحل المَاء اكثره دم)
وكقول الابيوردى أَيْضا فى الْمَعْنى
(سقى الله ليل الْخيف دمعى والحيا ... اريد الحيا فالدمع أَكْثَره دم)
رَجَعَ
(وَلما رمانى الْبَين سَهْما مُسَددًا ... فأقصدنى والحى ألوى بِهِ شحط)
(نحوت باصحابى وركبى أجارعا ... فَلَا دفل يلفي لَدَيْهَا وَلَا خمط)(4/242)
(وَجِئْنَا ديارًا لوتصدن لقطعها ... روامس أرياح لاعيت فَلم تخط)
مِنْهَا
(سريت وصحبى قد اديرت لديهم ... سلاف كروى العيس فى سَيرهَا تمطو)
(وَقد مَالَتْ الاكوار وانحلت البرى ... لطول السرى حَتَّى فرى الالسع الغط)
(كأنا ببحر الْآل والركب منجد ... وَنحن بِبَطن الْغَوْر نعلو وننحط)
(كَمثل غريق لَيْسَ يدرى سباحة ... وَقد صَار وسط المَاء يَبْدُو وينغط)
(وقفنا برسم الرّبع وَالرّبع خاشع ... نسائله عَن ساكنيه مَتى شطوا)
(فَلَو أَن رسما قبله كَانَ مخبرا ... لقَالَ لنا سارواو بالمنحنى حطوا)
(كَانَ فنَاء الرّبع طرس وركبنا ... صُفُوفا بِهِ سطر ورسما بِهِ كشط)
(رعى الله طيفا زار من نَحْو غادة ... وَحيا وُفُود اللَّيْل مَا شابه وَخط)
(فحييت طيفا زار من نَحْو ارضها ... وَمن دونهَا وَالدَّار شاسعة سقط)
(فيا طيف هَل ذَات الوشاحين واللمى ... على الْعَهْد أم ألوى بهَا بَعدنَا الشحط)
(وَهل غُصْن ذَاك الْقد يحْكى قوامه ... اذا خطرت فى الرَّوْض مَا ينْبت الْخط)
(وَهل ذَلِك السبط الْمرجل لم يزل ... يمج فتيت الْمسك من بَينه الْمشْط)
(وَهل عقرب الصدغين فى روض خدها ... لشوكتها تحمى ورودا بِهِ تغطو)
(وَهل خصرها بَاقٍ على جور ردفها ... فعهدى بِذَاكَ الردف فى الْجور يشتط)
(وَهل حجلها غصان من مَاء سَاقهَا ... وَهل جيدها بَاقٍ بِهِ العقد والقرط)
(وَهل رِيقهَا كَالْخمرِ يَا صَاح مُسكر ... فعهدى بِهِ قدما وَمَا ذقته اسفنط)
(وَهل ردنها والذيل مهما تفاوحا ... يضوعان عطرا دونه الْمسك والقسط)
(وَهل سرها مَا سَاءَ عشاق حسنها ... وَقد نزفوا للبين دمعا وَقد أطوا)
(وَهل نسيت لَيْلًا وَقد دَار بَيْننَا ... حَدِيث كَمثل الدّرّ سمعى لَهُ سفط)
(وَهل علمت انى نظمت قلائدا ... فَمَا عقدهَا فى الْجيد مِنْهَا وَلَا السمط)
(قلائد فى وصف الذى طوق الورى ... عوارف مثل الْبَحْر لَيْسَ لَهُ شط)
وَقَوله أَيْضا من الفائية وأولها
(أجيراننا الغادين وَاللَّيْل مسدف ... عساكم لمضنى الْقلب أَن تتخلفوا)
(وَركب طلاح صاحبوا النَّجْم فى السرى ... ترامى بهم فى السّير بيد ونفنف)
(نضوا مِنْهُم فى السّير عزما كمرهف ... وأنضوا قلاصا فى المفاوز تعسف)
(يَخُوضُونَ بَحر الْآل يطغى عبابه ... وطورا دياجى اللَّيْل وَاللَّيْل مسدف)(4/243)
(كَانَ المطايا والاكلة فَوْقهَا ... سفين بأيدى الارجيات عيدف)
(كَأَنَّهُمْ قد عاقدوا العبس حلفة ... على انها فى كل بيداء توجف)
(الى ان يرَوا تِلْكَ القباب الَّتِى بهَا ... شَفِيع الورى ذَاك النبى المشرف)
وَقَوله أَيْضا من الكافية
(يَا ربة الْحسن لَو تممت حسناك ... لعدت مضنى وَمَا أضناه الاك)
(لابدع فى الشَّرْع عود الصب ذى دنف ... وَكَيف والصب يَا ضمياء مضناك)
(لَا تعجبين وَقد أسقمت مهجته ... والعاشقون وَأهل الحى قتلاك)
(ترمين أسْهم الحاظ تفوقها ... اذا نظرت الى العشاق عَيْنَاك)
(كفى لحاظك ان شِئْت الْبَقَاء على ... هَذَا الاثام اطال الله بقياك)
(لحظى ولحظك مَا زَالَت فعالهما ... تحكى فعائل سفاح وسفاك)
(حذرت قلبى مِمَّا قد ألم بِهِ ... كَأَن تحذير هَذَا الْقلب أغراك)
(هَل تعلمين بَان الْقلب فى قلق ... شوقا اليك وان الْقلب يهواك)
(لولاك مَا بت ارعى النَّجْم ساهرة ... منى الْعُيُون حَلِيف الوجد لولاك)
(لما خطرت بقد كالقنا خطرت ... ذكراك فى قلب صب لَيْسَ ينساك)
(وَكَيف ينساك صب مَاله شغل ... فى كل صبح وليل غير ذكراك)
(أبعدت صبك اذ قربت ذاهلة ... من لَا يزَال مدى الايام يشناك)
(كَأَنَّمَا المبغضون الاصدقاء غدوا ... والاصدقاء وَأهل الْحبّ أعداك)
(نصبت حَبَّة قلبى والضلوع غَدَتْ ... منى كأشباه أفخاخ وأشراك)
(ورمت صيدك يَا أُخْت الغزال فقد ... غَدَوْت وَالْقلب والاشراك أسراك)
(فأضلعى المنحنى اذ تنزلين بهَا ... وحبة الْقلب اذ ترعين مرعاك)
(وَهَا أَنا الْيَوْم عبد طائع فمرى ... يسمع وارضاى فِيمَا فِيهِ ارضاك)
(سُلْطَان حسنك نَادَى فى ممالكه ... وهى الْقُلُوب بِأَنا من رعاياك)
(ملكت قلبى فارعى حق صحبته ... بِعَين عطف فعين الله ترعاك)
(هَل تسمحين بورد الثغر مِنْك لنا ... أَو هَل يجود بنفثات اللمى فَاك)
(قَالَا الاراك وَقد حاس الشفاه وَلم ... يَجْسُر ليدنو مِنْهَا غير مسواك)
(سَأَلتهَا مَا الذى بَين الرضاب أذا ... حَصْبَاء در والا ذَا ثناياك)
(يَا ربة الخدر جاد الْغَيْث مرتبعا ... قد ضمنا فِيهِ جنح اللَّيْل مغناك)(4/244)
(حَيْثُ العفاف رَقِيب مَا يزايلنا ... وَحَيْثُ مغناك معمور بمعناك)
(وجاد سلعا وقرا أرضه شرفت ... على سَمَاء وجنات وأفلاك)
(بِهِ اسْتَقر الذى فاق الانام علا ... وساد حَتَّى على جن واملاك)
وَقَالَ رَحمَه الله تَعَالَى من قصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا هَذَا
(أذكرت ربعا من أُمَيْمَة أقفرا ... وأسلت دمعا ذَا شُعَاع أحمرا)
(أم شاقك الغادون عَنْك سحيرة ... لما سروا وتيمموا أم الْقرى)
(زموا المطى وأعنقوا فى سيرهم ... لله دمعى خَلفهم ياما جرى)
(مَا قطرت فى السّير أجمال لَهُم ... الا ودمعى فى الركاب تقطرا)
(فَكَأَن ظهر البيد بطن صحيفَة ... وقطارها فِيهِ تحاكى أسطرا)
(وَكَأَنَّهَا وهوادجا قد رفعت ... سفن ولمع الْآل يحْكى الابحرا)
(شكت الركائب من حثيث مسيرها ... وونين من جذب الازمة والبرا)
(رحلوا وَمَا عاجوا على مضناهم ... واها لحظى كَيفَ كنت مُؤَخرا)
(ان كَانَ جسمى فى الديار مخلفا ... فالقلب مَعَهم حَيْثُ قَالُوا هجرا)
(لم يأل جهدا فى الْمسير لَعَلَّه ... يحظى بِقرب أَو يَمُوت فيعذرا)
وَقَالَ أَيْضا رَحمَه الله من أُخْرَى على وَزنهَا ورويها مطْلعهَا
(مَا لَاحَ فى افق المحاسن اَوْ سرى ... الا حمدت بلَيْل طرته السرى)
(عقد الازار على كثيب فى نقا ... فغدا اصطبارى عَنهُ محلول العرى)
(لَا تذكر الغزلان عِنْد كناسها ... مَعَه فان الصَّيْد فى جَوف الفرا)
وَمن بدائعه رَحمَه الله تَعَالَى هَذِه الثَّمَانِية الابيات وَلها سبع قواف تقْرَأ على ثَلَاثَة عشر وَجها بِلَا كلفة وتبلغ بالتداخل الى مِائَتَيْنِ وَسِتَّة وَخمسين وَجها وبامعان النّظر والتداخل وبالضرب تبلغ اربعة آلَاف وَسِتَّة وَسبعين وَجها وَيخرج مِنْهَا مُحَمَّد زُرَيْق مرَّتَيْنِ وَبِالْجُمْلَةِ فهى من محَاسِن النظام وهى هَذِه
(ملك الْجمال بحسنه لما انثنى ... هَذَا الرشا ... من تيهه متأودا)
(حَاز الملاحة ياله ... قلبى سبا ... ريقا حمى ... حاوى الرضاب مبردا)
(من لحظ بابل جفْنه ... اذ قَدرنَا ... متحرشا ... ماضي الحسام مُجَردا)
(دمع الكئيب أساله ... فَلهُ صبا ... بدر سما ... دع عَنْك رشدى وَالْهدى)
(زَاد الحزين بغينه ... وهى المنى ... لما مَشى ... زين المحاسن قد بدا)(4/245)
(ريم يفوق غزاله ... بَين الربى ... عذب اللمى ... رشأ ربيبا اغيدا)
(يهوى الخلود بسجنه ... مِمَّا جنى ... اضنى الحشى ... يبغى الْهَلَاك تعمدا)
(قلب اليه أماله ... وَله نبا ... وجد نما ... قاسى الْفُؤَاد بِهِ الردى)
قَالَ الخفاجى فى الخبايا وَكنت كتبت اليه قصيدة تائية من شعر الصِّبَا تنبه بهَا فى صباح الْعُمر نسيم الصِّبَا كَمَا قَالَ الباخرزى هى التَّمْر باللباب بل هى باكورة ثمار الْآدَاب بل الرَّوْض النَّضِير الذى سقى من مَاء الشَّبَاب وَكنت لما مدحته نوه باسمى وَجرى من الْكَرم على رسمه فَوق رسمى كتبت اليه فصلا مِنْهُ قولى سيدى وَأَنت أَنْت وَأَنا أَنا ان أصبت الْغَرَض فبباعك استعنت وَكَيف لَا يَعْلُو شهَاب تنؤه بِذكرِهِ وتشرق بأنوارك السّنيَّة سَمَاء قدره وَحقّ شعر أَنْت لَهُ رَاوِيه أَن يبيت لكل بَيت مِنْهُ فى الْقلب زاويه ويطأ بأخمصه هَامة النُّجُوم ويرفرف طَائِر يمنه على نسر السَّمَاء ويحوم كَمَا قَالَ شيخ المعرة فى الْمَعْنى
(والنحل يجنى المر من نور الربى ... فَيصير شَهدا فى طَرِيق رضابه)
اَوْ كَمَا قَالَ قاضى تستر والشئ بالشئ يذكر
(شعرى وَأَنت لَهُ الراوى لرفعته الشعرى وشعرى شعرى حَيْثُمَا رويا ... )
(وَالْبَحْر يلفظ درا كَانَ واقعه ... فى اذن أصدافه قطرا اذا رعيا)
أَو كَمَا قَالَ أَيْضا
(أخذت قولى معوجا وتورده ... على الورى مُسْتَقِيمًا حَيْثُمَا اجتليا)
(كالشمع يقبل نقش الفص منعكسا ... مكتوبه ليريه النَّاس مستويا)
فأجاد وجاد وَصفا من قذى الكدر موارد الوداد ثمَّ أورد قصيدته الَّتِى رَاجعه بهَا برمتها ومطلعها هَذَا
(طَالَتْ وَقد قصرت عَنْهَا الْعبارَات ... وحازت الْحسن هاتيك البراعات)
يَقُول فِيهَا
(غراء فائقة باللطف رائقة ... تحلو الخلاعات فِيهَا والصبابات)
(أُخْت الغزالى اشراقا وملتفتا ... لَهَا لَدَى السّمع لذات ونشوات)
ثمَّ ذيل القصيدة بقوله تذييل فى حسن الختام من البديع الِاسْتِخْدَام كَقَوْلِه أُخْت الغزالة الخ الا ان هُنَا فَائِدَة يتبغى التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَهُوَ ان الْمَذْكُور فى البديع هُوَ الِاسْتِخْدَام بالضمير وَهُوَ مَعْرُوف وَهُوَ لَا ينْحَصر فِيهِ فَيكون باسم الاشارة وَهُوَ ظَاهر وَقد يكون بالتمييز كَقَوْلِه اشراقا وملتفتا وَهُوَ مصدر لَا ضمير فِيهِ وَقد أغرب سيدنَا الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عمر بن الفارض قدس الله روحه اذ استخدم(4/246)
بِالِاسْتِثْنَاءِ فى قَوْله رضى الله تَعَالَى عَنهُ
(أبدا حديثى لَيْسَ بالمنسوخ الا فى الدفاتر ... )
انْتهى قلت لكنه فى اسْتِعْمَاله الغزالة بِمَعْنى الظبية اعْتِرَاض مَشْهُور وزبدته ان الغزالة لم يسمع الا بِمَعْنى الشَّمْس فى أول النَّهَار الى الِارْتفَاع واما فى مؤنث الغزال فَلَا يُقَال غزالة بل ظَبْيَة وَقد غلطوا الحريرى فى قَوْله فَلَمَّا ذَر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة وَقَالُوا لم تقل الْعَرَب الغزالة الا للشمس وَقد رد هَذَا الدمامينى فى حَاشِيَته على شرح لامية الْعَجم للصلاح الصفدى وَأورد لَهُ شَوَاهِد كَثِيرَة انْتهى قَالَ البورينى وَكَانَ الصالحى الْمَذْكُور يعادى معاصره أَحْمد العناياتى الْمُقدم ذكره فيذمه ويقدحه ويؤلمه ويجرحه عملا بِمَا عَلَيْهِ الاقران من التحاسد والخذلان وَكَانَ اذا أغضبهُ يُنكر حَسبه ويستلئم نسبه وَيَقُول هَذَا من سبتيات مَكَّة وَكَانَ فى وَقت الرِّضَا يُنكر مَعْرفَته ويبدى نُسكه وَمَا كَانَ ذَلِك الا للحسد الذى لَا يَخْلُو مِنْهُ فى الْغَالِب جَسَد لَا سِيمَا أهل الْفَضَائِل فان الْحَسَد عِنْدهم مركوز فى الطبائع غير زائل وَكَانَ العناياتى أَيْضا يسب الصالحى الْمشَار اليه وَكَانَ شَدِيد البغض لَهُ والتحامل عَلَيْهِ كنت يَوْمًا ماراً فى بعض أَزِقَّة دمشق فصادفته فَقَالَ لى هَل سَمِعت بالخراع الذى أبداه مُحَمَّد الصالحى فَقلت لَهُ الام تُشِير وعَلى أى كَلَام تبدى النكير فَقَالَ انه يَقُول فى مطلع مرثيته لشيخك الْعَلامَة العمادى الحنفى الدمشقى
(لم أقض من يَوْم الْفِرَاق شؤنى ... فَقضيت ان لم أجر مَاء جفونى)
قَالَ انْظُر الى عدم الرابطة بَين المصراعين وأى مُنَاسبَة بَين الجزءين هَذَا مَعَ كَونه مأخوذا من قَول بهذب الدّين الموصلى أَخذه أخذا شنيعا وَسَرَقَهُ وكساه ثوبا فظيعا لَا وشيا بديعا وَلَا زهرا أظهره الزَّمَان ربيعا فَقلت كَيفَ قَالَ مهذب الدّين فى نظمه الْمُهَذّب فانشدنى لَهُ مطلع قصيدة منضدة من الدُّرَر فريده وَذَلِكَ
(أعلمت حَقًا ان مَاء شؤنى ... سَبَب يدل على خَفَاء شؤنى)
قَالَ حشفا وَسُوء كَيْله انها خطة سوء فى أَسْوَأ قبيله وانكر عَلَيْهِ كثيرا من مَعَانِيه وغط فى شئ من مستهجن مبانيه قلت أمامنا مناقشته فى الْمعَانى فغالبها مسلمه وَأما مناقشته فى الالفاظ فكالسيوف المثلمه لَيست عندنَا بمقبوله وَلَا عَن الاعلام منقوله فَأَقُول اما قَوْله أَخذه من قَول الْمُهَذّب ان اراد انه أَخذ لفظى الشؤن فَمُسلم لَهُ وَلَا مَحْذُور فِيهِ اذا الالفاظ لَيست بِملك لَاحَدَّ وان أَرَادَ أَنه أَخذ الْمَعْنى فقد أبعد(4/247)
واما قَوْله لَا رابطة بَين المصراعين فليت شعرى اذا كَانَ لم أقض جَوَاب الشَّرْط على ان يكون الْمَعْنى ان لم أجر مَاء عروق دمعى لم أقض من يَوْم الْفِرَاق أمورى فمت والمرء اذا لم يقْض اموره الَّتِى لابد مِنْهَا يكون مَعْدُوما أى وصمة فِيهِ على انه يرْوى اذ مَكَان ان فالارتباط حِينَئِذٍ أجلى من الجلى وَالْعجب من البورينى كَيفَ رافقه وَوَافَقَهُ ويغلب على ظنى أَنه فى هَذَا المعرض نافقه وأعجب من هَذَا أَنه قَالَ بعد مَا نقل كَلَامه نعم انه رأى لَهُ ضَبطه فى كتاب خطه وَهُوَ ديوَان الاستاذ سيدى عمر بن الفارض قدس الله سره الْعَزِيز عِنْد قَوْله فى تائيته الْكُبْرَى الْمُسَمَّاة بنظم السلوك حَيْثُ قَالَ رضى الله عَنهُ
(ففى مرّة لبنى وَأُخْرَى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت)
فان الصالحى كتبهَا بعزة عزة وَكتب اللَّفْظَيْنِ على صُورَة وَاحِدَة بِالتَّاءِ المربوطة الصَّغِيرَة وَذَلِكَ مُخَالف للصَّوَاب بل الْحق كِتَابَة الاولى بِالتَّاءِ المربوطة وَالثَّانيَِة بِالتَّاءِ الممدودة على انه فعل مَاض وان الْجُمْلَة دعائية أى أعزها الله تَعَالَى فان هَذَا مِمَّا لَا يسْقط فَضِيلَة فَاضل وَلَا ينقص مرتبَة كَامِل وَمَا من أحد سلم من عَثْرَة لِسَان كَيفَ والسهو وَالنِّسْيَان من عَادَة الانسان فَهَذَا العناياتى قَالَ فى مطلع فائيته
(قلبى على قدك الممشوق بالهبف ... طير على الْغُصْن أَو همز على الالف)
فدق فى بَيته كَمَا دق ثمَّ تَدَارُكه الله تَعَالَى بتوجيه أرق من كل شَعْرَة وأدق فَأَما الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فِيهِ فَهُوَ انه لَا وَجه لتشبيه الْقلب بِالْهَمْزَةِ وَهَذَا الِاعْتِرَاض قوى وَأما الْجَواب فَيمكن ان يُقَال انه لما شبهه بطير على غُصْن وَهُوَ كثير فى الشّعْر نزله منزلَة الْمُحَقق فَبنى عَلَيْهِ تَشْبِيها آخر كالترشيح لَهُ لَان الطَّائِر على الْغُصْن يشبه بذلك كَمَا قَالَ بَعضهم فى وصف قصيدة وَهُوَ قَوْله
(والقوافى اليك حنت حنينى ... فَتَأمل فهمزها وَرْقَاء)
وَهَذَا الْجَواب للخفاجى وَهُوَ غَرِيب جدا وَبِالْجُمْلَةِ فالصالحى والعناياتى فى الادب فرسا رهان وطليقا عنان وان أربى الصالحى فى الْمُشَاركَة فى الْفُنُون العلمية والتفوق بِحسن الْخط التَّعْلِيق والعراقة فى الْجُمْلَة وَكَانَت وِلَادَته فى دمشق فى سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر صفر سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن نعْمَان بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشهير بالايجى الدمشقى الشافعى الْعَالم الْعَامِل(4/248)
التقى كَانَ من الْفضل فى رُتْبَة علية وَكَانَ حسن الاخلاق مرضى الشيم قَرَأَ على الْعَلامَة أَسد الدّين بن معِين الدّين التبريزى الدمشقى وعَلى الشَّمْس بن المنقار وَالْجد القاضى محب الدّين وَحَازَ الادب وَالْعلم والحلم ودرس بِبَعْض مدارس دمشق وَأفَاد وَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة وَكَانَ جيد الْخط قَوِيا على الْكِتَابَة بالضبط الصَّحِيح وَكتب كتبا كَثِيرَة وحواشى عديدة وَتزَوج بابنة نقيب الاشراف السَّيِّد حُسَيْن بن السَّيِّد حَمْزَة ولد لَهُ مِنْهَا ولدان وهما أَحْمد وَتقدم دكره وَيحيى وسيأتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بالاميجبية بسفح قاسيون والايحى تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فى تَرْجَمَة ابْنه أَحْمد انْتهى
مُحَمَّد بن نور الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الدرا الدمشقى الشافعى الاديب الشَّاعِر المطبوع كَانَ من أنبل أَبنَاء وقته فَاضلا ممتع المحاضرة معاشرا مسلوب الِاخْتِيَار مغرما بالجمال كثير الهيام والتعشق وَلِهَذَا رق شعره وعذب موقعه فان من شفه الغرام يَأْخُذ مِنْهُ وَيدْرك مراميه فِيهِ وعَلى كل حَال فَمَا أرَاهُ الا محسنا فى غزلياته وان لم يطلّ بَاعه فى الشّعْر وأنواعه قَرَأَ الْعَرَبيَّة على شَيخنَا النَّجْم مُحَمَّد بن يحيى الفرضى وَحضر دروس النَّجْم الغزى وَكَانَ قبل ذَلِك حضر دروس الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وتفوق من حِين نشأته وشاع فَضله وَبحث وناظر ونظم وَقد وقفت لَهُ على أَبْيَات من بَحر الرجز كتبهَا الى العمادى الْمُفْتى الْمَذْكُور يسْأَله فِيهَا عَن بَيت الاستاذ ابْن الفارض رضى الله تَعَالَى عَنهُ فى قصيدته الكافية وَهُوَ قَوْله
(وَمر الغمض أَن يمر بجفنى ... فكانى بِهِ مُطيعًا عصاكا)
والابيات هى هَذِه
(مَاذَا يَقُول جهبذ الجهابذة ... وكعبة الطلاب والتلامذه)
(حبر الْعُلُوم صَاحب التَّحْقِيق ... بَحر الندى ومعدن التدقيق)
(مِفْتَاح ايضاح الْمعَانى من غَدا ... كنزا لمن رام الْهدى ومقصدا)
(هِدَايَة الفحول والاكابر ... رقى على الاشباه والنظائر)
(شيخ على مَشَايِخ الاسلام ... وَصَاحب الافتاء للانام)
(فى قَول شيخ الْوَقْت والحقيقه ... أستاذ أهل الله فى الطريقه)
(أعنى بِهِ ابْن لفارض السالك فى ... مَرَاتِب الرقى فى التصوف)
(فى فكانى حَيْثُ جَاءَ بعده ... بِهِ مُطيعًا سؤلنا مَا قَصده)(4/249)
(أبن لنا اعرابه وَالْمعْنَى ... وفز بتكرار الدُّعَاء منا)
(واعذر فَعَن ضَرُورَة سؤالى ... لَا زلت ترقى رتب المعالى)
فَأَجَابَهُ بقوله
(يَا فَاضلا أهْدى لنا ارجوزه ... بديعة بليغة وجيزه)
(لَا غر وَحَيْثُ انه ابْن الدرا ... فَهُوَ بأنواع الْفُنُون أدرى)
(وجده الولى ذُو مَنَاقِب ... رؤتها عَمَّن رَوَاهَا عَن أَبى)
(عَلَيْهِم الرَّحْمَة والرضوان ... ثمَّ بهم يَرْحَمنَا الرَّحْمَن)
(سَأَلت عَن بَيت الولى الفارضى ... روحه الله بِفضل فائض)
(لكَونه من معضل الابيات ... معنى واعراباً لَدَى النجَاة)
(اما كَانَ فهى للتقريب ... ان شِئْت فَانْظُر مغنى اللبيب)
(فقد حكى الاقوال فى اعرابها ... وَكلهَا غَرِيبَة فى بَابهَا)
(ذكرت بعض أوجه لطيفه ... مِنْهَا وأعرضت عَن الضغيفه)
(ثمَّ قرنت بالوجوه الْمَعْنى ... مناسبا لما عَلَيْهِ يبْنى)
(وَذَاكَ وسع طَاقَة الامكان ... فى فهم قَول الْعَارِف الربانى)
(أوردته نثرا لضيق النّظم ... مرتجيا تقريبه للفهم)
(معترفا بِالْعَجزِ وَالتَّقْصِير ... فى مثل هَذَا المسلك الخطير)
(ثمَّ ختمته بِحَمْد ربى ... مستعفيا مُسْتَغْفِرًا لذنبى)
(مُصَليا مُسلما على النبى ... القرشى الهاشمى العربى)
(وَآله وَصَحبه الابرار ... وتابعيه السَّادة الاخيار)
(وَقَالَ ذَاك أَضْعَف الْعباد ... عبيد رَحْمَن الورى العمادى)
اعْلَم ان كَانَ فى الْبَيْت حرف تقريب على رأى الْكُوفِيّين مثلهَا فى قَوْلهم كانك بالشتاء مقبل وكانك بالفرج آتٍ وكانك بالدنيا لم تكن وكأنك بِالآخِرَة لم تزل وَقَول الحريرى من قصيدته الفريدة من مقاماته المفيدة
(كانى بك تنحط ... الى الْجهد وتنغط ... وَقد اسلمك الرَّهْط ... الى أضيق من سم)
وَقد اخْتلف النحويون فى اعراب ذَلِك على اقوال أقواها قَول أَبى على الفارسى ان الْكَاف فى كَأَنَّك حرف خطاب وَالْيَاء فى كانى حرف تكلم لَا مَحل لَهَا من الاعراب وَالْبَاء بعدهمَا زَائِدَة وَالْمَجْرُور بهَا مَحَله النصب على انه اسْم كَانَ التقريبية وَالْجُمْلَة(4/250)
بعْدهَا خبر ثمَّ الالطف من تِلْكَ الاقوال قَول الامام أَبى الْفَتْح نَاصِر الدّين المطرزى النحوى الْفَقِيه الحنفى خَليفَة الزمخشرى ان أصل الْكَلَام كانى ابصر الدُّنْيَا لم تكن وكانى ابصرك تنحط ثمَّ حذف الْفِعْل وزيدت الْبَاء ونقول التَّقْدِير كَأَنَّك تبصر بالدنيا أى تشاهدها من قَوْله تَعَالَى فبصرت بِهِ عَن جنب وَالْجُمْلَة بعد الْمَجْرُور وبالباء حَال وَالْمعْنَى كَأَنَّك تبصر بالدنيا وتشاهدها غير كائنة انْتهى وَقَالَ الرضى الاولى ان تبقى كَانَ على معنى التَّشْبِيه وَلَا يحكم بِزِيَادَة شئ انْتهى وَهَذَا من الرضى انتصار لمَذْهَب الْبَصرِيين فى انكار افادة كَانَ معنى التَّقْرِيب وابقائها فى مثل هَذِه الامثلة على معنى التَّشْبِيه الاصلى فَنَقُول فى اعراب الْبَيْت على قَول أَبى على الْيَاء فى كانى حرف تكلم لَا مَحل لَهَا من الاعراب وَالْبَاء فى بِهِ زَائِدَة وَالْهَاء مَنْصُوبَة الْمحل اسْم كَانَ التقريبية وَجُمْلَة عصاك خَبَرهَا ومطيعا حَال من فَاعل عصاك وَالْمعْنَى كَانَ الغمض عصاك فى حَال طَاعَته وسيأتى بَيَان صِحَة هَذَا الْكَلَام ان شَاءَ الله تَعَالَى وعَلى قَول المطرزى الْيَاء ضميرالمتكلم مَنْصُوبَة الْمحل اسْم كَانَ التقريبية وخبرها مَحْذُوف تقديرها ابصر وَالْبَاء زَائِدَة وَالْهَاء مفعول الْفِعْل الْمَحْذُوف وَجُمْلَة عصاك حَال من الْهَاء ومطيعا حَال متداخلة من فَاعل عصاك وَالتَّقْدِير كانى ابصر الغميض عَاصِيا لَك فى حَال طَاعَته وعَلى قَول الرضى الْيَاء اسْم كَانَ التَّشْبِيه وخبرها مَحْذُوف وَبِه مُتَعَلق بالمحذوف وَالتَّقْدِير كانى ابصر بالغمض وأشاهده عَاصِيا لَك فى حَال طَاعَته ومحصل الْمَعْنى المُرَاد من الْبَيْت وَالله أعلم أَن الشَّيْخ أَفَادَ فى الْبَيْت الذى قبله وَهُوَ قَوْله رضى الله عَنهُ
(ذاب قلبى فَأذن لَهُ يتمناك وَفِيه بَقِيَّة لرجاكا ... )
انه على شرف الفناء وَلَكِن فِيهِ بَقِيَّة رَمق يُمكنهُ فِيهَا تمنى الْوِصَال ثمَّ سَأَلَ فى هَذَا الْبَيْت ان لم يسمح بالاذن الْمَذْكُور ان يَأْمر الغمض بالمرور بجفنه الْآن حَيْثُ يُمكن الغمض ان يطيعه فى الْمُرُور مَا دَامَت الْبَقِيَّة مَوْجُودَة لانها اذا زَالَت انْعَدم مَحل الغمض بالفناء الْمَحْض فَلَا يُمكن الغمض طَاعَته من الْمُرُور بالجفن بعد انعدامه ثمَّ بَين بقوله فكأنى بِهِ الخ أَن بَقِيَّة الرمق وان كَانَت مَوْجُودَة الْآن وَطَاعَة الغمض مُمكنَة لَكِنَّهَا قريبَة الزَّوَال وعَلى شرف الاضمحلال حَتَّى كَانَ عصيان الغمض لتحَقّق قرب وُقُوع الزَّوَال وَاقع فى حَال طَاعَته الْآن من غير امهال فعلى كَون كَانَ تقريبية أفادت أَن حَال بَقِيَّة الرمق الَّتِى يُمكن فِيهَا طَاعَة الغمض قريبَة(4/251)
من حَال الفناء الَّتِى يَقع فِيهَا عصيانه وتمتنع طَاعَته حَتَّى كَأَنَّهَا وَاقعَة فِيهَا وعَلى كَونهَا تشبيهية أفادت ان حَال بَقِيَّة الرمق الَّتِى يُمكن فِيهَا الطَّاعَة شَبيهَة بِحَال الفناء الَّتِى يَقع فِيهَا الْعِصْيَان حَتَّى كَأَنَّهَا هى وَكَانَ الْعِصْيَان الْوَاقِع فى تِلْكَ الْحَالة مُقَارن للطاعة الْوَاقِعَة فِيهَا انْتهى عوداً لذكر صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ رَحل الى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ سُلْطَان وَمن عاصره ثمَّ حج وجاور وَأخذ بِمَكَّة عَن ابْن عَلان الصديقى وتكرر لَهُ بعد ذَلِك السّفر الى مصر ومدح بهَا الاستاذ مُحَمَّد ابْن زين العابدين الْكُبْرَى بقصيدتين مطلع الاولى
(خليلى حطا بالركائب فى مصر ... سَقَاهَا وحياها الهزيع من الْقطر)
وَالثَّانيَِة
(من لقلب من الْهوى لَا يفِيق ... وعيون انسانهن غريق)
وَاجْتمعَ بِهِ والدى بهَا فى سنة سِتِّينَ وَألف ثمَّ حج وجاور بِمَكَّة فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَعمل بِمَكَّة شرحا على سقط الزندلابى الْعَلَاء المعرى وَجعله برسم الشريف زيد بن محسن وصدره بقصيدة من نظمه ثمَّ أدْركهُ الْمَرَض بِمَكَّة وَلم يكمل الشَّرْح وَالْقَصِيدَة الْمَذْكُورَة مطْلعهَا هَذَا
(خُذ يَمِين الْحمى فثم بدور ... طلعت فى دجى الشُّعُور تنير)
(كل بدر يقلهُ غُصْن بَان ... مثمر بالدلال لدن نضير)
(فقدت قَلبهَا المناطق فِيهِ ... فهى حيرى على الخصور تَدور)
(سلب الظبى لفتة ولحاظا ... ظبى أنس مرعاه منا الضَّمِير)
(كل لحظ اذا أَشَارَ بشزر ... فالمنايا تحل حَيْثُ يُشِير)
(واذا شابه الرضى فحياة ... فَهُوَ حتف طورا وطورا نشور)
(خل عَنْك الرقى فسحر ظباه ... فى نفوس الرقى لَهُ تَأْثِير)
(ان نضاه فَلَا يقيك مجن ... وَلَو ان الْمِجَن مِنْهُ ثبير)
(قد وَحقّ الْهوى وعهد التصابى ... أعوز العاشقين مِنْهُ المجير)
(بيد أَن تستجير بِالْحرم الآمن حَيْثُ الملاذ حَيْثُ النصير ... )
(حَيْثُ قطب الْمُلُوك فى فلك الْمجد عَلَيْهِ زهر الفخار تَدور ... )
يَقُول فى مديحها
(شرف المشرفى حِين رقى مَا ... رصعته من الْمُلُوك الثغور)
(من بنان الشريف فَهُوَ على الْهَام الى الله بِالسُّجُود يُشِير ... )(4/252)
(فى مقَام تكَاد هام عداهُ ... قبل ان ينتضى ظباه تطير)
(نظرة أحمدية حبذا من ... آيَة الرعب للشريف نصير)
(مَعَ امضاء عَزمَة هى فى الْحَرْب اذا طاشت الْعُقُول سعير ... )
(وتراه بالبشر يعرف اذ ذَاك وَقد أنكر العشيرا لعشير ... )
(فى بنان الْيَسَار مِنْهُ عنان الطّرف وَالْمَوْت فى الْيَمين أَسِير ... )
(موطئا مِيم مهره عبن أعداه وهم فى طرس الْوَطِيس سطور ... )
(لابسا لَام طَاعَة ألف الْخَوْض ببحر الهيجاء وَهُوَ صَغِير ... )
(حَيْثُ لَا مهد غير سرج المذاكى ... وَله هَالة الشموس سَرِير)
وَهَذِه القصيدة من أَجود شعره واكتفيت مِنْهَا بِهَذَا الْقدر لَان لَهَا أَخَوَات تذكر بقَوْلهمْ لكل جَدِيد لَذَّة فَمِنْهَا مَا كتبه الى بعض خلانه من أهل مَكَّة المشرفة وَهُوَ قَوْله
(فَدَيْنَاك من خل ارق من الصِّبَا ... واعذب من ترشاف كأس لمى الثغر)
(وآخذ للالباب من سُورَة الطلا ... وانفذ فِيهَا من مخالسة السحر)
(واشهى الى الاحداق من رونق الضُّحَى ... بروض كسته الدّرّ غادية الْقطر)
(وابهج من روق الشَّبَاب زهرَة ... وَقد قذيت اجفان حَادِثَة الدَّهْر)
(واوقع للآمال من وصف معرض ... تميل الامانى ان يُبِيح سوى الهجر)
(من التّرْك فى احداقه طبعة الجدجا ... وتشرق من أطواقه طلعة الْبَدْر)
(اذا خامرته نشوة الدل وَالصبَا ... يُرِيك المنايا من لواحظة الشزر)
(رَقِيق حواشى الْحسن كالورد مترف ... يبرمه وحى الوشاح الى الخصر)
(رخيم الْمعَانى كالسلاف لطافة ... يكَاد مَعَ الارواح من لطفه يجرى)
(تدفق فى خديه مَاء جماله ... فَاطلع وردا فى خمائله الْخضر)
(وَمَال بعطفى بانة نقوية ... بريقته نشوان لَا بطلا الْخمر)
(يجر ذيول التيه فِينَا تصلفا ... فيختلس الالباب منا وَلَا ندرى)
(أما وسويعات لنا بوصاله ... نعمنا بهَا بالأمن من سطوة الهجر)
(لانت على وفْق المنى ورضا الْهوى ... وانك ملْء الْعين والسمع والصدر)
(وَلَيْسَ لصهباء المدامة موقع ... اذا رحت تملى بَيْننَا أكؤس الشّعْر)
(سأثنى على الايام مَا دمت انها ... رمتنى الى مَا لم يجل قطّ فى فكرى)
وَلما نظم هَذِه القصيدة عتب عَلَيْهِ بعض الادباء بِمَكَّة وَقَالَ ان فلَانا الذى مدحته(4/253)
بِهَذِهِ لَا يَسْتَحِقهَا فَكتب للمعاتب فى الْحَال يَقُول لَهُ
(يَا من تنكر وَهُوَ كالنبراس ... أَو تختفى اللألىء بَين النَّاس)
(هون عَلَيْك فَمَا كَذَلِك من جرت ... منا اليه جداول الايناس)
(وتسابقت أَرْوَاحنَا لوداده ... مرتاضة لَيست بِذَات شماس)
(فعلام أَو فيمَ التناكر بَعْدَمَا ... هَب التعارف طيب الانفاس)
(ان كَانَ ذَلِك من تجنيك اتئد ... فالقلب طود للتجنى راسى)
(أَو كَانَ من طرف الدَّلال وتيهه ... فعلى محاجرى الْقبُول وراسى)
(لَكِن أرى فى ضمن مَا أرشفتنى ... من كأس عتبك حسنها من كاس)
(عوض الْحباب قذى يكدر مَا صفا ... من سلسبيل مزاجها للحاسى)
(فالغض فِيمَا بَين اخوان الصَّفَا ... من بَعضهم من زِينَة الوسواس)
( ... وأعيذ جمعكم المنضد شَمله ... من شَرّ خلسته بِرَبّ النَّاس)
(هَذَا وَمَا نظمى القريض لانه ... فخرأتيه بِهِ على الْجلاس)
(لَكِن فِيهِ للنفوس علالة ... تخْتَار كالريحان للاكياس)
(لَا تعتقد أَنِّي أرَاهُ صناعَة ... وأعده من حليتى ولباسى)
(مَا الْفَخر الا بالعلوم وكسبها ... أفدى رقائقها بِكُل حواسى)
(فبها يجر الْمَرْء أذيال العلى ... وبغيرها عَار وان يَك كاس)
(وَأَبِيك لَا أزهو بِنِسْبَة غَيرهَا ... انى وَتلك الرَّأْس للرآس)
وَمن غزلياته أَيْضا قَوْله
(مَال كالغصن حركته الشَّمَائِل ... يتثنى تيها بلطف الشمايل)
(رشأ دب فى لواحظه الغنج وأضحى فى طرفها السحر جائل ... )
(لست أدرى أبابل هى هذى ... أم اليها بِالسحرِ تنْسب بابل)
(سل مِنْهَا على الْقُلُوب سيوفا ... مَا لَهَا غير عارضيه حمائل)
(تقتل الصب وَهُوَ يصبو اليها ... وَعَجِيب ميل الْقَتِيل لقَاتل)
(اهيف زانه الْجمال ولاحت ... بَين عطفيه للدلال دَلَائِل)
(تخذ الْعجب عَادَة فمحال ... أَن يرى فِيهِ للوصال مخائل)
(جذبتنى الحاظه فاطعت الْحبّ فِيهِ وَقد عصيت العواذل ... )
(نحلتنى فِيهِ الصبابة حَتَّى ... صَار هَذَا النحول فى مفاصل)(4/254)
(خلته اذ بدا قَضِيبًا وَلَكِن ... كذبتنى بِمَا ظَنَنْت الغلائل)
(رمت مِنْهُ وَقد مددت اليه ... يَد ذلى وصلا ودمعى سَائل)
(فانثنى والصدود يعْطف مِنْهُ ... عَن وصالى عطفا يهيج البلابل)
(فهجرت الْكرَى وأوصلت سهدا ... عَنهُ قد كَانَت الجفون غوافل)
(أسهر اللَّيْل فى مسامرة النَّجْم وَنجم سامرته غير آفل ... )
(يَا رعى الله مهجتى كم تلاقى ... من قوام الحبيب والطرف ذابل)
(ورعى أضلعى فكم ذَا نقاسى ... حر وجسد لهيبه غير زائل)
(كلما قلت ذى أَوَاخِر مَا بى ... من دواعى الغرام كَانَت أَوَائِل)
وَقَوله
(هَات حدث عَن مقلة وطفاء ... بجفون مَرِيضَة الايماء)
(ومحيا كطلعة الْبَدْر نورا ... وخدود تضرجت بحياء)
(وثنايا مَا بَين خمرة ريق ... كحباب الرَّحِيق شيب بِمَاء)
(وجبين من تَحت طرة فرع ... كالهدى بعد ظلمَة الاغواء)
(قوام كَأَنَّهُ غُصْن بَان ... يتثنى كالصعدة السمراء)
(وتجن فِيهِ مخائل عطف ... تزدهيه مثل الْتِفَات الظباء)
(ووقار يجول فِيهِ التصابى ... جولان الرِّضَا خلال الْجفَاء)
(وَحَدِيث يسبى الْعُقُول اختلاسا ... كاختلاس الاجفان للاغفاء)
(بِبَيَان فِيهِ عصارة سحر ... نقشتها سلافة الصَّهْبَاء)
وَقَوله وَيخرج من أَولهَا بالالتزام اسْم درويش ومضمنا وَهُوَ
(يَمِينا بسُلْطَان الْعُيُون على الْقلب ... وسطوتها مَا حلت عَن مَذْهَب الْحبّ)
(بروحى افدى كل أغيد أهيف ... اذا لعبت خمر الدَّلال بِهِ يسبى)
(لَهُ لحظات فى محاجر جؤذر ... مدعجة الاجفان يصرعن ذَا اللب)
(جلا تَحت جنح الشّعْر غرَّة كَوْكَب ... على غُصْن بَان من معاطفه رطب)
(شغفت بِهِ رَيَّان من مَاء حسنه ... أغن يُرِيك السحر من منطق عذب)
(يُدِير بِالْمَاءِ الجفون اذا رنا ... سلافة كاسات الغرام على الصب)
(ويلعب بالافكار رونق حسنه ... وجد الْهوى يَنْمُو على ذَلِك اللّعب)
(رويدك يَا من لَام فى الْحبّ أَهله ... اليك فَمَا تجدى الْمَلَامَة فى الْحبّ)
(دع اللوم أَو فاعشق فانك ان تدق ... مطاعم أهل الْعِشْق أَقرَرت بالذنب)(4/255)
(ودونك فَانْظُر من سبيت بحسنه ... ترى دون وصف من ملاحته يصبى)
(رَقِيق حواشى الْحسن مهما لحظته ... يزيدك مَا يَدْعُو الْعُقُول الى السَّلب)
(وَمهما غضضت الطّرف ناداك لطفه ... الى أَيْن عَن مغنى شمايلنا الرحب)
(يضرج خديه الْجمال فيكتسى ... نقابا من الْيَاقُوت من أَفْخَر النقب)
(ويحجبه عز الْجمال وصونه ... ومرهف جفنيه وناهيك من حجب)
(وَيَوْم توافينا على غير موعد ... طرفنا بِهِ طرق التباعد بِالْقربِ)
(ونلنا ثمار الْوَصْل يانعة وَقد ... أفمنا حاديث الْهوى مَوضِع الشّرْب)
(وَقد لَاحَ فى ثوب كطرته الَّتِى ... كوجه عذولى فِيهِ اذ لج فى عتبى)
(وَشد على أعطافه بعقيقة ... ليحرسها من أعين النَّاس والشهب)
(فَللَّه من يَوْم بلغت من الْهوى ... مناى وبرأت الامانى من الْكَذِب)
(لَئِن عَاد عيد الْوَصْل يجمع بَيْننَا ... نحرت مَتى مَا أشرقت شمسه قلبِي)
وَقَوله
(أَلا صاب كاسات الغرام أوارى ... وان كنت أخْفى حبها وأوارى)
(فَتلك هى العذب الْفُرَات على الظما ... وَمَا دونهَا عندى عصارة نَار)
(وكل عَذَاب فى الْهوى وفْق مَا اقْتَضَت ... قضاياه حكم بالتنعم جارى)
(وَمن يجتبى برد الصبابة فَهُوَ فى ... حلا الْعِزّ أَو يخلع فلابس عَار)
(وَمن يَك فى ذل الْمحبَّة مخلدا ... فَذَاك لهام الفرقدين يُبَارى)
(وَمن ولعت أيدى الغرام بلبه ... حرى بِأَن يدعى بِكُل فخار ...
(وَمن طاش فى نهج الخلاعة عقله ... فقد ملئت أثوابه بوقار)
(وَمن يمتطى طرف الْهوى يزدهى على السماك وللريح الرخَاء يجارى ... )
(يميد ارتياحا بالغرام وينثنى ... وَمَا عاقرت عطفيه كأس عقار)
(لحى الله قلبا يشتكى حرق الْهوى ... وَيرجع يستجديه جذوة نَار)
(فانى بلوت الْحَالَتَيْنِ وَبَان لى ... بِأَن خلى الْقلب مثل حمَار) 5 وَقَالَ أَيْضا مضمنا بَيت مهيار الديلمى ( ... فتنت بِهِ وَالصُّبْح من فرق شعره ... بدا ولشمس الرّوح فِيهِ غرُوب)
(فكدت لما شاهدت لَوْلَا طُلُوعهَا ... بمشرق خد الْقلب مِنْهُ أذوب)
(وَلَوْلَا طُلُوع الشَّمْس بعد غُرُوبهَا ... هوت مَعهَا الارواح حِين تغيب)
وَمن خطه قَالَ بَعضهم(4/256)
(وَمَا قلت آه بعدكم لمسامر ... من الْبعد الا قَالَ قلبى آها)
فَقلت ولسان الطّلب هُوَ النَّاطِق ومقتضيات الْمجْلس الى البديهة تسابق
(رعى الله أوقاتا بقربكم مَضَت ... وَلم يبْق مِنْهَا الْبعد غير مناها)
(لقد طرفت ايدى البعاد لحاظها ... فأظلم ناديها الْفَقْد سناها)
(فآه لَهَا لَو تمّ بِالْقربِ أُنْسُهَا ... سقى ربعكم صوب الهنا وسقاها)
(فَمَا سر قلبى بعْدهَا غير ذكرهَا ... وحاشاه أَن يهدى بِذكر سواهَا)
(وماقلت آه بعْدهَا لمسامر ... من الْبعد الا قَالَ قلبى آها)
وَله غير ذَلِك وَقد ذكرت لَهُ فى كتابى النفحة مُعظم احسانه وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان وَعشْرين بعد الالف وَتوفى يَوْم السبت قبل الزَّوَال سادس شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
مُحَمَّد مكى بن ولى الدّين المدنى الحنفى رَئِيس الْحَرَمَيْنِ وقاضى البلدين أوحد الْعَصْر ومفرد الدَّهْر كَانَ رَئِيسا نبيلا فَاضلا كَامِلا كريم النَّفس والاخلاق عالى الهمة مَشْهُورا بالرياسة والحشمة ولد بِالْمَدِينَةِ وَقَرَأَ الْقُرْآن واشتغل بِالْعلمِ النافع وأخذا الطَّرِيق وتلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة من السَّيِّد سَالم شَيْخَانِ وَلَزِمَه كثيرا وَكَانَ أعجز جماعته عِنْده وبشره بأَشْيَاء ظهر لَهُ بعد ذَلِك حَقِيقَتهَا مِنْهَا أَنه يعِيش سعيدا فَكَانَ كَذَلِك وَمِنْهَا انه لَا يتَعَرَّض لَهُ أحد بِسوء الا رأى فِيهِ مَا يسره فَلم يتَعَرَّض لَهُ أحد بِسوء الا قصمه الله تَعَالَى وَهَذَا مَشْهُور فى وأقعة أهل الْمَدِينَة وَمَا فعله بَعضهم من شكواه الى الابواب السُّلْطَانِيَّة ثمَّ رَجَعَ مخذولا وغالبهم مَاتَ فى حَيَاته وَمِنْهَا أَنه من أهل الْجنَّة وَمِمَّا اتّفق لَهُ فى مجاورته بِمَكَّة عَام اثْنَيْنِ وَسبعين وَألف أَنه رد علية تَفْوِيض الحكم الشرعى بِطيبَة من قاضيها الْمولى بهائى من الديار الرومية تفويضا مُطلقًا وَوَافَقَ ان القاضى الْمَعْزُول وَهُوَ الْمولى مُحَمَّد المرغلى أعْطى قَضَاء مَكَّة وجاءه المنشور فَأرْسل هُوَ أَيْضا تَفْوِيض حكم مَكَّة اليه فباشر النِّيَابَة عَن القاضى بِنَفسِهِ بِمَكَّة وَأقَام من يُبَاشر عَنهُ فى الْمَدِينَة حَسْبَمَا ابيح لَهُ ذَلِك فَقَالَ فى ذَلِك الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الرؤف المكى هَذِه الابيات
(وضحت لرائدة مدحكم طرق الْبَيَان ... وتحدثت بنسيبكم خرس اللِّسَان)
(وَأَتَتْ باسجاع الهديل حمائم الترسيل من أوصافك الغر الحسان)
(وتقلدت تيها نظام حليها ... وتطاولت شرفا لَهَا عنق الزَّمَان)(4/257)
(وشدا بهَا حادى علاك مُحدثا ... وَلَقَد روى الْحسن الصَّحِيح عَن العيان)
(سعت المناصب نَحْو بابك خطْبَة ... وتروم نحلتها الْقبُول لَان تصان)
(وَأَتَتْ اليك خلَافَة مقرونة ... بفرائد التسديد يقدمهَا الامان)
(بِقَضَاء مَكَّة وَالْمَدينَة مُفردا ... اذ لَا يكون لنجم سعدكم قرَان)
(فلذاك ناديت الْغَدَاة مؤرخا ... يَا حَاكم الْحَرَمَيْنِ فى وَقت وآن)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة تسع عشرَة وَألف وَتوفى بِالْمَدِينَةِ لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشر ذى الْحجَّة سنة أَربع وَسبعين وَألف وَدفن وَقت الضحوة من الْيَوْم الْمَذْكُور فى بَقِيع الغر قد رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يحيى الشهير بِابْن شرف المصرى الشافعى أحد أجلاء الْفُضَلَاء وأعيان النبلاء وَمِمَّنْ برع فى الْفِقْه وجد فِيهِ وفَاق فِيهِ من يماثله أَخذ عَن الشَّمْس مُحَمَّد الرملى ولازمه واستفاد من فَوَائده وأجزل عَلَيْهِ من فواضله وعوائده وَأَجَازَهُ بمروياته ومسنداته ومؤلفاته وَجمع بَين التَّقْرِير والتحرير وَألف حَاشِيَة لَطِيفَة على شرح التَّحْرِير للقاضى زَكَرِيَّا وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى يَوْم الثلاثا سَابِع وعشرى ذى الْحجَّة سنة سبع بعد الالف وَهُوَ شَاب فى عشر الثَّلَاثِينَ
مُحَمَّد بن يحيى بن عمر بن يُونُس الملقب بدر الدّين القرافى المصرى المالكى القاضى بِالْبَابِ المصرى رَئِيس الْعلمَاء فى عصره وَشَيخ الْمَالِكِيَّة كَانَ صَدرا من صُدُور الْعلم لَهُ همة عالية وطلاقة وَجه مَعَ خلق وضى وَخلق رضى الى سجايا كفاغمة الرياض النواضر وباهر مزايا تحار فِيهَا الاعين النواظر فكانها زهر الرياض تفتقت عَنهُ الكمام أَو ثغر باسمة الاقاح من الحيا فِيهِ ابتسام أَو شرخ مقتبل الشَّبَاب سقى معاهده الْغَمَام وشدت بالحان الْغَرِيض ومعبد فِيهِ الْحمام أَخذ الْمُخْتَصر عَن الشَّيْخ الْفَقِيه الْقدْوَة عبد الرَّحْمَن بن على الاجهورى وَعَن الشَّيْخ زين بن أَحْمد الجيزى وَعَن وَالِده وَالثَّلَاثَة تلقوهُ عَن الْعَلامَة شمس الدّين اللقانى وَهُوَ أَخذه عَن الْعَلامَة الشَّيْخ على السنهورى وَهُوَ أَخذه عَن الشَّيْخ عبَادَة وَهُوَ عَن الشَّيْخ عبد الله الافقهى وَهُوَ عَن الشَّيْخ تَاج الدّين بهْرَام وَهُوَ عَن الشَّيْخ خَلِيل مُؤَلفه وَمن مشايخه أَيْضا التاجورى وَسمع الحَدِيث عَن الْجمال يُوسُف بن القاضى زَكَرِيَّا والنجم الغيطى والصالح أَبى عبد الله بن ابى الصَّفَا البكرى الحنفى وَولى قَضَاء الْمَالِكِيَّة وَألف كتبا مِنْهَا شرح ابْن الْحَاجِب وذيل الديباج لِابْنِ فَرِحُونَ فِيهِ نَيف(4/258)
وثلثمائة شخص فى أَرْبَعَة كراريس أَو خَمْسَة وَشرح الموطا وَشرح التَّهْذِيب بَين فِيهِ الْمَشْهُور خُصُوصا مَا فى التَّقْيِيد من خلاف هَكَذَا ذكر هُوَ فى فهرسته وَذكره جدى القاضى محب الدّين فى رحلته فَقَالَ فى حَقه وَأما مَوْلَانَا الْعَلامَة والعمدة الفهامة المتصف بالفضائل والفواضل فى جَمِيع المسالك الْحَائِز لرق الْآدَاب فَهُوَ للفتوة متمم وللفتاوى مَالك بدر الْملَّة وَالدّين القاضى بدر الدّين القرافى المالكى فانه اتقن مذْهبه غَايَة الاتقان واحتوى على الْفَضَائِل ونباهة الشان وَله جامعية حسنه وَحسن انشاء واشعار مستحسنه وَذكره الخفاجى وَأطَال فى ثنائه لكنه أدمج قوهية شعره ونثره فى أَثْنَائِهِ حَيْثُ قَالَ وَله شعر الْعلمَاء ونثر طَار مَعَ العنقاء تانق فِيهِ وتصلف وَلَا عجب للبدر أَن يتَكَلَّف ثمَّ أورد لَهُ بَيْتَيْنِ وَأورد فَأَخذهُمَا ذكرتها كلهَا فى تَرْجَمَة عبد الْبر الفيومى وَقَالَ فِيهِ عبد الْكَرِيم المنشى أَبُو الاشراف بدر الدّين القارفى مطبوع الاسجاع والقوافى القاضى الْفَاضِل الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل أعلم الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة فى عصره وَمن ترنو اليه احداق الاحكام فى مصره شمايله من الشمَال ألطف وَلَو حَكَاهُ الْبَدْر فى السنا لتكلف مَا من تكلّف شَيْئا مثل من طبعا نفذ للشريعة الطاهرة بِالْقَاهِرَةِ أحكاما وتقلد الْقَضَاء بهَا نَحْو الْخمسين عَاما وفى مقامى بِالْقَاهِرَةِ كُنَّا لصيقى دَار وَصبي جوَار وَكَانَ منزلى تَارَة يتعطر بعبير أنفاسه ويتأرج أُخْرَى بعنبر ايناسه ودارت بينى وَبَينه كاسات المكاتبات بأرق معَان وألطف عِبَارَات فكم جلا من العرائس الادبيه وَكم جنيت من رياض الْفَوَاكِه البدرية وَكَانَ محظوظا من الدُّنْيَا معانقا للثروة وَمَعَ ذَلِك لم يعْهَد لَهُ صبوه وَقَالَ
(وَمَا سمعنَا قطّ أَن امْرأ ... أهْدى لَهُ شَيْئا وَلَا قدر شاه)
وَأما مَا جمعه من الْكتب فيعجز الْحساب احصاؤه وتعداده وَرُبمَا تصلح لكلى لَا تنتهى افراده وَبعد أَن غربت شمسه وواراه رمسه فرقتها الدَّهْر أيدى سبا وبددتها كأوراق الْورْد اذا نثرتها الصِّبَا وَمن آثَار قلمه مَا أوردهُ لَهُ أَبُو المعالى الطالوى فى سانحاته وَذَلِكَ مَا كتبه لَهُ على نسبهم الطالوى وَصورته حمد الله الذى أنشأ الموجودات بباهر قدرته فأحكم الانشا وَبِيَدِهِ سُبْحَانَهُ أبدع من هَذَا الانشاء ان شا وَصَلَاة وَسلَامًا على أعظم الْمَخْلُوقَات كمالا ومنشا الْمَبْعُوث من الله رَحْمَة للْعَالمين وهداية من شا وعَلى آله وَصَحبه الَّذين جاهدوا فى الله حق جهاده فكرمهم(4/259)
بشرف ان الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة فَكَانُوا من السالكين فى طرق الْخيرَات أحسن ممشى وَبعد فان نعم الله لَا تحصى وآلاءه لَا تستقصى أَقَامَ نظام الْعَالم على أحسن مَا رسم وفاوت فى الْقسم بِنِسْبَة حيرت الْعُقُول فِيمَا نظم قدر أَقْوَامًا قواما وأعلاما أَعلَى مَا وأخلص لَهُم السِّيرَة وَحسن لَهُم السره وحلاهم بعلو الهمم وسمو الشيم وَكَانَ من تِلْكَ النعم الجسيمة والافضالات الوسيمة والْمنَّة المستديمة مَا ابتهج بِهِ النَّاظر وانتهج لَهُ الخاطر من الْوُقُوف على هَذِه السِّيرَة الشَّرِيفَة وأخبار الاخيار المنيفة سيرة مفاخر الامراء الاعيان والكبراء الا عزة أولى الشان الجارى نشر مآثرهم بأسنة الاقلام وألسنة أولى الْبُرْهَان السارى ذكر مفاخرهم على ممر الزَّمَان الآ طالوا لارتقى من تحلت تواريخ الاسلام بِذكر محامدهم وعلو شَأْنهمْ بغاية التِّبْيَان فَقَالَ
(وَمر دهور بالثناء عَلامَة ... على حسن ممدوح ورفعة شَأْنه)
أَمر انْعَقَد الاجماع وَعَلِيهِ الْوِفَاق بِلَا دفاع
(وَالنَّاس اكيس من أَن يبرزوا مدحا ... من غير أَن يَجدوا آثَار افضال)
دلّ على شرف قدرهم وَجَمِيل فَخْرهمْ نسلهم الطَّاهِر وعلمهم الظَّاهِر ذُو الْمجد الزَّاهِر وَالْفضل الباهر والكمال الفاخر ولى التَّحْقِيق ومعدن التدقيق جَامع الْفَضَائِل حائزا لفواضل
(كالبدر من حَيْثُ الْتفت رَأَيْته ... يهدى الى عَيْنَيْك نورا باهيا)
مفاخره ظَاهره ومحامده باهره
(عريق فى الْكَمَال وَقد ترقى ... الى نيل الْعُلُوّ مَعَ الْمَزِيد)
(لَهُ سعد بِمَا أوتيه فضلا ... فواعجبا لدرويش سعيد)
شَجَرَة طيبَة النَّمَاء الاصل ثَابت وَالْفرع فى السَّمَاء
(إِن السرى اذا سرى فبنفسه ... وَابْن السرى اذا سرى اسراهما)
شعر (فيا آل طالو طَابَ جد بجدهم ... وَيَا خير نسل عَاشَ من ذكرهم جد)
(حويتم جميلا أنتج الدَّهْر صدقه ... بِنَسْل جليل فِيهِ حمد وَلَا حد)
ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء ويوليه من شَاءَ وَلما أحَاط النّظر بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه السِّيرَة الجليلة من الْخلال الجميله والخيرات الجزيله والغزوات المشكوره والمشاهد الْمَشْهُورَة والعزمات المبرورة والمقاصد المأثورة أنْشد لِسَان الْحَال(4/260)
بالارتجال
(وهب الله للمعالى اناسا ... بذلوا عزمهم وجالوا وصالوا)
(وَأَقَامُوا لِوَاء دين بِصدق ... وحموا مجده ففازوا نالوا)
(وَرَأَوا نَصره بعزة دين ... فأروا قُوَّة وبأسا وجالوا)
(وعَلى من رَأَوْهُ صَاحب بغى ... وجهوا عزمهم اليه ومالوا)
(أظهر الله حَالهم وحباهم ... بثناء عبيره يستطال)
(وأراهم من نسلهم خير حبر ... وَبِه ذكرهم داوا مَا يطال) 5 وَقد حصل التشرف بلقاء نسلهم هَذَا الْمولى الْفَاضِل ولى الْفضل الْكَامِل المومى اليه فِيهِ أدام الله تَعَالَى غرَّة معاليه وَظهر من مُجَالَسَته وفرائد مباحثته مَا يشْهد النَّاظر بجماله وَيسر الخاطر بِكَمَالِهِ
(وَأَحْرَى بِأَن تزهى دمشق ببارع ... اذا عد فى أَسد الشرى ريح الشرا)
وَلما حلت مصر بمشاهدته وَعلمت بِرُؤْيَتِهِ أنْشد لِسَان حَالهَا
(سعدت مصر اذا أَتَاهَا فريد ... ليرى حسنها وَمَا قد أَتَاهَا)
(وَلذَا كَانَ بَين مصر وشام ... مَا بِهِ النَّفس تبتغى مشتهاها)
(علمت مصر فى تنَازع ثَان ... وبرجحانه مقَال تباهى)
فَالْحَمْد لله على مَا أولى وَله الْحَمد فى الْآخِرَة والاولى
(وَالنَّفس ترغب للكمال وَأَهله ... لم لَا وَقد بلغ الْكَمَال مَحَله)
وَالله سُبْحَانَهُ يديم هَذَا الْمولى لفوائد يبديها وفرائد لاولى الْكَمَال يهديها راقيا فى رتب الافادة والفضائل المستجاده رافلا فى حلل الْعِنَايَة المستزاده بِحرْمَة حَضْرَة الْمُصْطَفى ولى السياده وَآله وَصَحبه أولى السعاده انْتهى وَمن شعر القرافى مَا كتبه الى الْعَلامَة سرى الدّين بن الصَّائِغ رَئِيس الاطبا بِمصْر وَقد دفع عَنهُ دِينَارا لآخر فَأرْسلهُ لَهُ ظَانّا مِنْهُ أَنه يقبله فَقَالَ
(مَاذَا جنيت على القاضى بمنقصة ... مضمونها الشُّح فى أخذى لدينار)
فَأَجَابَهُ السرى بقوله
(يَا بدر تمّ بِلَا نقص واقتار ... وقاضيا فى البرايا حكمه سَار)
(لقد صرفت عَن القاضى تصرفه ... فَكيف تبذل دِينَارا بِدِينَار)
(حاشاك تنْسب الا للوفا وَلذَا ... جرت بحارك بالنعمى على الْجَار)(4/261)
وَكتب اليه الْعَلامَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدنوشرى قَوْله
(أَتَيْنَا لكم قصد لتقبيل أَقْدَام ... أيا من على خير لَهُم حسن اقدام)
(وَيَا من هُوَ الْبَدْر الْمُنِير أَبُو الْهدى ... غَدا مشرقا فى أفق سعد واعظام)
(نظرتم الينا فى الطَّرِيق ومالنا ... سواكم لنجح فى الامور واعلام)
(قطفنا زهورا من رياض علومكم ... وفاح شذاها مذ قطفنا لافهام)
(فسحبا لذيل الصفح وَالْعَفو وَالرِّضَا ... على عيب مثلى بل على نشر أوهامى)
(أيا عَالم الاسلام يَا علم الْهدى ... وَيَا قبْلَة للفضل زين بافهام)
(عَلَيْك سَلام الله مَا هبت الصِّبَا ... وَمَا دبج الاوراق وشى لاقلام)
(نشرنا لِوَاء الْحَمد والمدح والثنا ... لَك لابرحتم مفهمين لاعلام)
فاجابه صَاحب التَّرْجَمَة بقوله
(زواهر أبداها لنا خير أَعْلَام ... وَأبْدى مقَالا فِيهِ أبلغ اعلام)
(قريض أَتَانَا بارع بفصحاة ... وَأحكم احكام كدر لنظام)
(فيا أَيهَا المفضال انى عَالم ... بانك فى اوج المعالى باقدام)
(وانى على دهرى لاثنى بهمة ... لفضل بِهِ زينت مفاخر أقلامى)
(وانا أحطنا ان مَا قد نظمته ... لموف طَرِيقا فِيهِ أحسن اعظام)
(محامد أبداها جليل مقَالَة ... عبير بِهِ قلب يسير بانعام)
(وانى لما أبديته لمقصر ... وَخير رِدَاء فِيهِ ستر لآلام)
(بقيت لابداء الْفَوَائِد دَائِما ... ودمت لاهل الْفضل دهر باكرام)
(بِحرْمَة خير الْخلق اكمل كَامِل ... وَرَحْمَة رب الْعَالمين لاسقام)
وَقَالَ الشَّيْخ مَدين عِنْدَمَا ذكره وَرَأَيْت فى تأليفه الْمُسَمّى بتوشيح الديباج فى تَرْجَمَة جده لامه القاضى مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الدميرى المالكى مَا نَصه وجدى هَذَا هُوَ الذى لقبنى بدر الدّين وَذَلِكَ انى ولدت لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا وجدته بِخَط والدى وبلغنى من طَرِيق آخر أَن السّنة انما هى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَتكلم النَّاس فى اللَّيْلَة أَنَّهَا لَيْلَة الْقدر فَقَالَ لَا ألقبه الا بدر الدّين وَتوفى نَهَار الْخَمِيس ثانى وَعشر شهر رَمَضَان سنة ثَمَان بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الازهر وَدفن بتربته الَّتِى أَنْشَأَهَا مَعَ الضريح بجوار الْقبَّة الْمُعَلقَة المدفون بهَا بِالْقَاهِرَةِ فِيمَا يُقَال بِالْقربِ من الْبَيْت الذى ينزل بِهِ قَضَاء العساكر(4/262)
محمدبن يحيى الملقب صفى الدّين الْعُزَّى المصرى الشافعى الْمُحدث الاديب الشّعْر ذكره الخفاجى فى كِتَابه فَقَالَ فى وَصفه ماجد اذا تليت أَوْصَافه ركع لَهَا الْقَلَم وَسجد دو معال انْفَرد بأسانيده فاصبح دَار علمي بَين العلياء والسند حَدِيثه فى الْفضل مَرْفُوع وَأثر سواهُ ضَعِيف ومقطوع لَفظه يحسن ان يرسم بِنور الْبَصَر فى عنوان صَحَائِف الْفِكر وطبعه سكر مصرى يحلو مكرره ومعاده لم يزل بهَا يَتْلُو ثناه لِسَان الدَّهْر ويحفظه فُؤَاده وَهُوَ أحد من رويت عَنهُ السّنَن وتشرفت بملقاه الْحسن ثمَّ انشد لَهُ قَوْله فى مليح نُحَاس
(على رفقا بِمن ذَابَتْ حشاه ضنى ... صب ازال ضيا من مقلتيه وصب)
(حَدِيد قَلْبك يَا نُحَاس يمنعهُ ... لجين جسمك وَالنَّوْم المصون ذهب)
وَله فى نديمه الصحافى
(يَا عاذلى فى هَوَاهُ ... تلاف قبل تلافى)
(وهات لى الدن واجمع ... بينى وَبَين الصحافى)
وَكَانَت وَفَاته يَوْم الثلاثا ثانى عشرشوال سنة تسع عشرَة بعد الالف والعزى نِسْبَة لمنية الْعِزّ بِنَاحِيَة فاقوس من شرقية مصر
مُحَمَّد بن يحيى بن بير على بن نصوح نوعى زَاده صَاحب ذيل الشقائق وأطروفة الزَّمن ونادرته الحرى بِكُل وصف معجب الراقى فى الادب والمحاضرات الذرْوَة الْعلية كَانَ اليه النِّهَايَة فى حسن الانشاء والترصيع ونوادره ومناسباته مِمَّا يقْضى مِنْهَا بالعجب وَلَا يفارقها الطَّرب وَكَانَ من قُضَاة بِلَاد روم ايلى وَلم يكن من الموالى وَقد ولى أَسْنَى المناصب واشتهر بِالْفَضْلِ التَّام والمعرفة وَألف ذيله الْمَشْهُور على الشقائق النعمانية ابْتَدَأَ فِيهِ من انْتِهَاء دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان ورتبه طَبَقَات على تراجم السُّلْطَان مُرَاد فاتح بَغْدَاد وَقد أحسن الصَّنِيع فِيهِ وأجاد وَقد طالعته مرَارًا آخرهَا بِمَكَّة المشرفة وجردت مِنْهُ تراجم لزمنى اثباتها فى كتابى هَذَا السكن فاتنى مِنْهُ حلاوة التَّعْبِير لاخْتِلَاف اصْطِلَاح اللغتين على أَنى سعيت جهدى فى مُرَاعَاة تأدياته وَأَنا الْآن أمْلى عَلَيْك من قطعه الفذة المستلذة مَا ترتاح بِهِ ارتياح الْغُصْن بالنسيم اذا هَب فَمن ذَلِك تمثيله بِأَبْيَات الحريرى صَاحب المقامات حِين ذكر شرب أَبى زيد وأرسله للنصيح واسْمه مطهر فى تَرْجَمَة الْمولى مطهر الشروانى وَكَانَ يتهم بالتعاطى والابيات هى هَذِه
(أَبَا زيدا علم أَن من شرب الطلا ... تدنس فالحظ كنة قَول المجرب)(4/263)
(وَقد كنت سميت المطهر والفتى ... يصدق فى الْأَقْوَال تَسْمِيَة الْأَب)
(فَلَا تحسها كَيْمَا تكون مطهرا ... والا فَغير ذَلِك الِاسْم واشرب)
وَمن ذَلِك قَوْله فى تَرْجَمَة بعض المتكيفين ابتلى بالكيف ثمَّ دَعَتْهُ الْغيرَة الى قطعه دفْعَة فَكَانَ قطعه قَاطع عرق حَيَاته وَسبب وَفَاته وَقَوله فى تَرْجَمَة قَاض صَارَت أَيَّام ربيع حَيَاته وَهُوَ قَاض مقضيه وشؤن حَاله منحصرة فى الاخبار الماضويه وَمَا ذكرته النموذج من حسن تعبيراته واذا فتشت كِتَابه تلقى فِيهِ الْكثير مِمَّا لَا يَخْلُو عَن مقصد معجب وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف
مُحَمَّد بن يحيى الناصرى القدسى كَانَ فَاضلا أديبا ورعا مهيب الشكل نير الْوَجْه نَشأ فى الِاشْتِغَال حَتَّى برع وَلما قدم الشَّيْخ مَنْصُور الْمحلى السطوحى الى الْقُدس لَازمه مُلَازمَة الرّوح للجسد فَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح العقائد ومختصر الْمعَانى وَالْبَيَان والكافى وَشرح الشمسية فى التصريف وَغَيره وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَخمسين وَألف وَدفن بِجَانِب وَالِده بِبَاب الرَّحْمَة
مُحَمَّد بن يحيى بن أَحْمد بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الخباز الْمَعْرُوف بالطنينى الدمشقى الشافعى الْمُحدث الْفَقِيه الْوَرع الصَّالح الناسك كَانَ غَايَة فى الْوَرع ذَا صلابة فى دينه يُنكر الْمُنكر وَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم وَكَانَ متواضعا خلوقا عَلَيْهِ سكينَة ووقار وَكَانَ فى بداية أمره خبازا بِدِمَشْق فارتحل الى مصر وجاور بِجَامِع الازهر سِنِين وَأخذ عَن الشَّيْخ السُّلْطَان المزاحى وَالشَّمْس البابلى والشهاب أَحْمد القليوبى وَالشَّمْس مُحَمَّد الشوبرى وَمن عاصرهم من طبقتهم وَفتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بعد رُجُوعه وَكَانَ يدرس فى فنون ويملى من حفظه مَا يطلعه بِحسن تَقْرِير ثمَّ عرض لَهُ عمى فَزَاد حفظه واشتهر واعتقدته النَّاس وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الْعَامَّة والخاصة وانتفع بِهِ جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد البجشى الحلبى وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الهادى وَالشَّيْخ أَبُو السُّعُود بن تَاج الدّين وَالشَّيْخ حَمْزَة الدومانى وَكثير وَله تآليف مِنْهَا كِتَابه فتح رب الْبَريَّة بِالْجَوَابِ عَن أسئلة المبتدعة الزيديه ثمَّ درس تَحت قبَّة النسْر البخارى بعد موت الشَّيْخ مُحَمَّد المحاسنى الْخَطِيب وانتهت اليه الرياسة عِنْد الشَّافِعِيَّة والتحديث وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَسبعين وَألف وأرخ وَفَاته القاضى ابراهيم الغزالى بقوله
(أبدت لنا بطنين شَيخا جلّ من أمده ... )(4/264)
(علم الحَدِيث فنه ... لذاك زَان سرده)
(مَاتَ فَقلت أَرخُوا ... مَاتَ الحَدِيث بعده)
والبطنينى نِسْبَة الى قَرْيَة من قرى دمشق وَالله أعلم
مُحَمَّد بن يحيى بن تقى الدّين بن عبَادَة بن هبة الله الملقب كَمَال الدّين الحلبى الاصل الدمشقى المولد الشافعى الْفَقِيه الفرضى المقرى كَانَ من اتقياء الْعلمَاء وَأَكْثَرهم انْقِطَاعًا الى الله تَعَالَى ينفع النَّاس فى أَمر المناسخات والقراآت وَكَانَ مهاب الشكل عَلَيْهِ مهابة الْعلم وَكَانَ ذَا بشاشة وكرم زَائِد قَرَأَ على أَبِيه الْعَرَبيَّة والفرائض والحساب والقراآت وَغَيرهَا وَأخذ عَن غَيره من عُلَمَاء عصره وَلما مَاتَ الشَّيْخ رَمَضَان العكارى وجهت اليه عَنهُ الخطابة بِجَامِع السنانية وَكَانَ أَكثر مقَامه بالمكتب الْمَعْرُوف بالدرويشية يقرى فِيهِ الْعُلُوم واخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء وَكَانَت وَفَاته فى منتصف ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يحيى الملقب نجم الدّين أَخُو الذى قبله شَيخنَا واستاذنا النَّجْم الفرضى روح الله تَعَالَى روحه وَجعل من الرَّحِيق الْمَخْتُوم غبوقه وصبوحه كَانَ أعظم شيخ أدركناه واستفدنا مِنْهُ وَكَانَ فى الْعلم وَالتَّقوى والزهد فَرد الزَّمَان وَوَاحِد الاقران وَلم أر مثله فى تفهيم الطّلبَة والحرص على تَهْذِيب قرائحهم وجبر خواطرهم مَعَ انه كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى حاد المزاج سريع الانفعال لكنه اذا انفعل يرضى فى الْحَال ويتلافى مَا كَانَ مِنْهُ وَكَانَ نَفسه مُبَارَكًا مَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد الا انْتفع ببركته وبركة اخلاصه وسلامة طويته وَهُوَ فى عُلُوم الْعَرَبيَّة فَارس ميدانها والمجلى يَوْم رهانها لم يكن أحد مثله فِيهَا لَهُ الِاطِّلَاع التَّام على قوادمها وخوافيها وَله فى الحَدِيث وَالْفِقْه فضل لَا يرد وَأما فى الْفَرَائِض والحساب ففضائله فِيهَا جَاوَزت الْحَد وَالْعد أَخذ عَن وَالِده وأخيه الْمَذْكُور قبله فِيمَا أَحسب وَكَانَ يعظمه تَعْظِيم الْوَلَد لوالده ويذكره بره لَهُ فى طريفه وتالده ثمَّ لزم الشّرف الدمشقى فَأخذ عَنهُ مُعظم الْفُنُون وأكرمه الله بِالْقبُولِ فى الْحَرَكَة والسكون ثمَّ لزم دروس الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى والنجم الغزى وَأخذ عَنْهُمَا ثمَّ جلس مجْلِس التدريس فَانْتَفع بِهِ الْفُضَلَاء طبقَة بعد طبقَة وادركته أَنا أَولا وَهُوَ يدرس دروسا خَاصَّة بِجَامِع بنى أُميَّة فَقَرَأت عَلَيْهِ الاجرومية ثمَّ مَاتَ لَهُ ولد نجيب كَانَ نبل فَانْقَطع عَن الدَّرْس مُدَّة سِنِين وفى انْقِطَاعه هَذِه الْمدَّة اجرى الله على يَده الْخَيْر الذى لَا يَنْقَطِع فاجرى من مَاله(4/265)
نَحْو مائَة وَأَرْبَعين قناة كَانَت داثرة ثمَّ جلس للتدريس الْعَام فى محراب الْحَنَابِلَة فاقرأ أَولا الاجرومية ثمَّ شرحها للشَّيْخ خَالِد ثمَّ شرح الازهرية ثمَّ شرع فى قِرَاءَة شرح الْقَوَاعِد للشَّيْخ خَالِد وَشرح تصريف الْعُزَّى للتفتازانى وَمن حِين شُرُوعه فيهمَا لَزِمته ولزوما لانفكاك مَعَه الا مجَالِس قَليلَة الى أَن أتمهما وأقرأ الشذور للقاضى زَكَرِيَّا واتمه ثمَّ حضرت عِنْد ابْن المُصَنّف الى الِاسْتِثْنَاء وسافرت الى الرّوم وبلغنى انه أتمه بعد ذَلِك وأقرأ جانبا من مغنى اللبيب وَكَانَ يحضر درسه جمع يجاوزون الاربعين من امثلهم صاحبنا الْفَاضِل مُحَمَّد بن مُحَمَّد المالكى وَالسَّيِّد عبد الباقى بن عبد الرَّحْمَن المغيزلى وَالشَّيْخ خَلِيل الحمصانى وَالشَّيْخ عز الدّين بن خَليفَة الحمصى وَهَؤُلَاء الْآن من الْفُضَلَاء المنوه بهم كثر الله تَعَالَى من امثالهم وَزَاد فى فَضلهمْ وافضالهم ثمَّ مرض الشَّيْخ النَّجْم مُدَّة وَمَات نَهَار الْجُمُعَة ثانى عشر صفر سنة تسعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن على المكتبى مؤرخا وَفَاته بقوله
(قلت لما ان قضى نحبا لَهُ ... خلنا الحبر الامام الفرضى)
(يَا عَزِيزًا غَابَ عَنَّا آفلا ... نَالَ دَار الْخلد ارخ فرضى)
ورؤيت لَهُ بعد مَوته منامات صَالِحَة مِنْهَا أَن رجلا من الصَّالِحين رأى بعض أَصْحَابه من الْمَوْتَى لابسا حلَّة عَظِيمَة لم ير مثلهَا فى الدُّنْيَا فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَقَالَ لَهُ كُنَّا بِأَسْوَأ حَال فَلَمَّا دفن الشَّيْخ نجم الدّين الفرضى فى جبانتنا البس الله تَعَالَى جَمِيع أهل جبانته حللا مثل هَذِه الْحلَّة وَغفر لَهُم ببركته رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يس المنوفى الشافعى الْعَالم الْفَاضِل البارع الْكَامِل مهذب مبَاحث الجهابذة الْفُضَلَاء ومحرر دَلَائِل الطّلبَة النبلاء ومحط رحال الْعلمَاء الاماثل ومصدر الْعُلُوم الجلائل ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ واشتغل بالعلوم اشتغالا تَاما وَأخذ عَن جمع مِنْهُم أَبُو بكر الشنوانى مُحَمَّد الميمونى وَمُحَمّد الخفاجى وَأحمد السنهورى وَغَيرهم واجازوه وتعالطى النّظم فَبلغ فِيهِ الْغَايَة القصوى وارتقى الى أَن زاحم بمناكبه أكَابِر الشعرا ورحل الى الديار الرويمة وتمذهب بِمذهب الامام أَبى حنيفَة رضى الله تَعَالَى عَنهُ ومدح من بهَا من الموالى الْعِظَام وَتَوَلَّى بنواحى مصر المناصب العديدة ثمَّ ترك الْقَضَاء وَعَكَفَ على عبَادَة الله تَعَالَى وَاعْتَزل عَن النَّاس الا افرادا مِنْهُم وَترك النّظم الا مَا كَانَ استغاثة ومدحا فى النَّبِي
وَمن شعره(4/266)
السائر قَوْله رَحمَه الله تَعَالَى من قصيدة
(تائهة بالدلال يثنيها ... عَن حائر فى الْهوى تثنيها)
(قرح فيض الدُّمُوع مقلته ... فاشتبك المَاء فى مآقيها)
(وَمن نمت فى سَواد مهجته ... لواهج الشوق كَيفَ يخفيها)
(يبعدها الصد والهوى محن ... عَن ناظرى والغرام يدنيها)
(هَل بارق مَا أرى أم ابتسمت ... فانتظم الدّرّ فى تراقيها)
(عَن فتكها قدها يحذرها ... وحسنها بالصدود يغريها)
(ان أسفرت فالهلال طلعتها ... أَو نكهت فالعبير فى فِيهَا)
(أسخطت فى حبها ولوعتها ... كل صديق عساه يرضيها)
(لَو سمحت بالكرى لارقنى ... وَهنا من اللَّيْل خوف واشيها)
(أَو بعثت طيفها لعرفها ... مَا ذاقه الصب من تجنيها)
(وشقة الهجر بَيْننَا نشرت ... فَلَا يكَاد الزَّمَان يطويها)
(جرعنى الدَّهْر بعْدهَا غصصا ... اكتمها تَارَة وأبديها)
(يَا بَائِعا نَفسه بِلَا ثمن ... أرخصتها فالهوان يشريها)
(مَا بَال هَذَا الزَّمَان يتحفنى ... بمصميات الى يهديها)
(طلائع للمشيب ضاحكة ... بعارضى والشباب يبكيها)
وَله الْمَقْصُورَة الَّتِى عَارض بهَا مَقْصُورَة الشهَاب الخفاجى الَّتِى أَولهَا
(أيا شَقِيق الرَّوْض حَيَّاهُ الحيا ... فاحمر خد ورده من الحيا)
ومطلع مقصورته هُوَ هَذَا
(سقى الاله ان سقى الارض الحيا ... حوامل المزن ربى أم الْقرى)
(وجاد دفاق الْغَمَام مردفا ... بِمثلِهِ ظهر الْحجُون فكدى)
(فبطن نعْمَان الاراك فالصوى ... فالبرك فالتنعيم فالهضب الدنا)
(فذات عرق فالبطاح دونه ... الى حراء فثبير فمنى)
(وجللت أيدى السَّحَاب وكست ... أنوارها طلع الهضاب فالربى)
(وقاربت وَقع الخطا غمائم ... تَدْعُو عَن الْبَهَاء ألبان الجفا)
(يحثها حاد مرن خلفهَا ... فهى لذاك الْحَث تدعى الحيدى)
(يكَاد أَن يُخطئ فى مسيرها ... وهى الْمُصِيب سَيرهَا من الوحا)(4/267)
(فاطرح الحدب وَكَانَ آيسا ... من ارتجاع الْخطب اطمار السعا)
(ونسجت من كل وشى حبرًا ... فالزمت لحمتها مَعَ السدى)
(وماست الوهاد فى ملابس ... مخضرة من الحلى والحلى)
(فسوقها فى لجج من زئبق ... يخفى بهَا طورا وطورا يجتلى)
(وهامها يحملن من زبرجد ... عمائما تلوثها ايدى الصِّبَا)
(فطبق العنبر أطباق الثرى ... وملأ العبهر أَطْرَاف الملا)
(لَا يهتدى نجم السَّمَاء أَن يرى ... نجم المحاجر بَين فذوثنا)
(يصير فِيهَا الخازباز مصعبا ... فَلم يَصح من وفرة الندا الصدا)
(اضحت وَكَانَ الْوَحْش لَا يسوفها ... خوفًا وَلَا يسلكها صل كدا)
(مسرح آرام وغيل اشبل ... وحصن ريبال وأفحوص قطا)
(يرمقها الْبَرْق فيغضى خجلا ... والطرف يدرى مَا يرى اذا رنا)
(كانها صفيحة يغمدها ... فى جفنها صانعها فتنتضى)
(أَو نصف مرْآة بكف ماجن ... يديرها من وَجههَا الى الْقَفَا)
(أذكرنى وَمَا نسيت خلسا ... لله مَا هيج لى برق الدجا)
(أَيَّام خلصاى الالى عهدتهم ... لَا ينقضون للملمات الحبا)
(من كل فنان الشَّبَاب عَاقد ... يمناه بالمجدين علم وَعلا)
(ان رتق الافواه فى الامر اهْتَدَى ... لغامض يدق عَن دَرك القوى)
(تطارحوا خير الْعُقُول بُرْهَة ... وَبعده تفَرقُوا ايدى سبا)
(فبعضهم فَوق الاثير همة ... وَبَعْضهمْ جثمانه تَحت الثرى)
(لَوْلَا الخفاجى الشهَاب أَحْمد ... عصارة الشم العرانين الالى)
(تفيؤا فى ظلّ كل شَاهِق ... من الْكَمَال والعلا أوج الذرى)
(مزاحمى الافلاك فى مدارها ... بهمة لم ترضهن مستوى)
(أَبوهُ شيخ خَاله وخاله ... عَلامَة الدُّنْيَا أَتَى ثمَّ مضى)
(ثوى أَبُو بكر لديغ حسرة ... لفقده مُحَمَّدًا سامى الرقا)
(كَانَا لجيد الدَّهْر عقدى جَوْهَر ... وزينة الْكَوْن وأرباب النهى)
(تشارفت من الذرى اذ لَا ذرى ... مغارس الْآدَاب ان لَا تجتنى)
(نتيجة الدَّهْر وحشو برده ... وَلَذَّة الْعَيْش وريعان المنى)(4/268)
(طوى لآفاق الْبِلَاد ليرى ... لَهُ نظيرا فى الْكَمَال والعلى)
(اشرق فى الرّوم فعين مصره ... لبعده مَمْلُوءَة من القذى)
(وَالْجَامِع الازهر وَالْعلم مَعًا ... حنا الى ذَاك البنان واللقا)
(كَانَت بِهِ مصر تجر ذيلها ... تيها واعجابا على كل الْقرى)
(سقته دَار الْمجد من ثديها ... فشب فى حجر الْعُلُوم ونما)
(صفت بِهِ نافسة لقدره ... والشئ يَعْلُو قيمَة فيصطفى)
(صونا لَهُ عَن أَن يرى بغَيْرهَا ... فشاركتها فِيهِ اسباب النَّوَى)
(ألْقى بقسطنطينية جرانه ... وفاز فِيهَا بِالْقبُولِ وَالرِّضَا)
(ونال مِنْهَا حظوة لَو قسمت ... مَعَ اسْتِوَاء الْحَظ عَمت الورى)
(أَحْيَا بهَا ميت الْعُلُوم واستوى ... ينفض عَن أكتافه برد البلى)
(يعْتَقد الْبَعْث ولات مبعث ... وَالروح مِنْهُ بَين ثغر وَلها)
(وسَاق فى سوق الرِّهَان حلبة ... من الْبَيَان بالنفوس تشترى)
(ينظم فى الاسماع من محفوظه ... جَوَاهِر اللَّفْظ بلبات الدمى)
(كم رَوْضَة دبجها يراعه ... فأينع الزهر وطاب المجتنى)
(مَا زَالَت الركْبَان تطرى بعض مَا ... ضم رحيب صدر وَمَا حوى)
(حَتَّى الْتَقَيْنَا فالتقطنا الدّرّ من ... الفاظه الغر فُرَادَى وثنا)
(رَأَيْته الْبَدْر اذا الْبَدْر سرى ... وَخلته الْبَحْر اذا الْبَحْر طمى)
(فَهُوَ السنان هزة اذا سَطَا ... وَهُوَ الزَّمَان همة اذا اعتلى)
(شفى الْفُؤَاد لحظه وَلَفظه ... وَكَانَ قبل الْمُلْتَقى على شفا)
(ذُو منطق لَو صَادف الْبَحْر حلا ... وَلَو فرى بِهِ الحسام لانفرى)
(وهاكها على علاك وَحده ... مَقْصُورَة فى حسنها مدى البقا)
(لم تدعها ضَرُورَة لقطع مَا ... مدوه بل جَاءَت باحكام الْبَنَّا)
(حركنى الى اختراع وَزنهَا ... أيا شَقِيق الرَّوْض حايه الحيا)
(طَلِيعَة يتبعهَا مقانب ... من القريض القح ان طَال المدى)
(رقى لممدود القوافى وقرى ... وغصة للحاسدين وجشا)
وَله من قصيدة مستهلها هَذَا
(مَا الْعَصْر الشَّبَاب رثت بروده ... وَلَو جيدها من الْوَصْل روده)(4/269)
(ولمياده وَمَا طَال عهدا ... من سقيط الندى ذوى أملوده)
(وَسَوَاد العذار عَاد مَرِيضا ... فَأتى ناصع البنان يعودهُ)
(وحبِيب يحنو عَلَيْهِ وَلَكِن ... بزمام الى الْحمام يَقُودهُ)
وَله
(وَمن تخطئه نيران القوافى ... فَسَوف يصبهُ ألم الدُّخان)
وأبلغ من مذاق الْمَوْت بَأْس ... جناه الْمَرْء من روض الامانى)
وللشهاب فى معنى الاول وَهُوَ قَوْله
(أَقُول لَهُ تنكب عَن مرامى ... نبال الذَّم وَاحْذَرْ شرداء)
(فَمن يقْعد على طرق القوافى ... تمر عَلَيْهِ قافية الهجاء)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْخَمِيس ثانى ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى جوَار السَّادة الوفائية
(مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الْقَادِر الدمياطى المصرى الحنفى الْمُفْتى الامام الْمُقدم على اقرانه البارع فى أهل زَمَانه مفتى مَذْهَب النُّعْمَان بالقاهره والمبدى من تحريراته التحقيقات الباهره فاق فى الْفَضَائِل جَمِيعهَا وبهر فى تأصيل الْمسَائِل وتفريعها وَتكلم فى الْمجَالِس واظهر من دُرَر بحره النفائس وَجمع وَألف وَكتب وافاد وارسل فَتَاوِيهِ طائرة بأجنحة وَرقهَا الى سَائِر الْبِلَاد ولازم شُيُوخ الْحَنَفِيَّة من المصريين كالشيخ الامام زين بن نجيم وأخيه الشَّيْخ عمر وَشَيخ الْفُقَهَاء فى وقته الشَّيْخ على بن غَانِم المقدسى وَغَيرهم واجازوه وتصدر للتدريس ونفع النَّاس وَذكره الخفاجى فَقَالَ فى حَقه مقدم نتائج الْفضل وَغَيره التالى ومشيد بُنيان المكارم بطبعه العالى ذُو وقار تَزُول عِنْده الراسيات الشوامخ بمحكم فضل لَا يرد على آيَاته الْبَينَات نَاسخ ان خطّ فَمَا خطّ الرّبع والعذار أَو تكلم فَمَا مطرب الاوتار والاطيار ورد الرّوم وَأَنا بهَا كِرَاء وَاصل أَو حرف عِلّة أَو همزَة وَاصل وشوقى الى الْكِرَام كَمَا قَالَ أَبُو تَمام
(وَاجِد بالخليل من برحا الشوق وجدان غَيره بالحبيب ... )
ثمَّ أورد لَهُ ابياتا رَاجعه بهَا عَن ابيات أرسلها اليه مطْلعهَا هَذَا
(أيا روض مجد منبتا زهر الْحَمد ... وَمن ذكره اذكى من العنبر الْورْد)
وأبيات الدمياطى صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه
(أفائق أهل الْعَصْر فى كل مَا يبدى ... وأوحد هَذَا الْعَصْر فى الْحل وَالْعقد)(4/270)
(وَمن فاق سحبانا وقسا فصاحة ... وَمن نظمه الْمَشْهُور بالجوهر الْفَرد)
(نظمت قريضا فى حلاوة لَفظه ... وفى الصوغ أزرى بالنباتى والورد)
(وضمنته معنى بديعا فَمن يرم ... لادراك شئ مِنْهُ يُخطئ فى الْقَصْد)
(ملكت اساليب الْكَلَام بأسرها ... فَأَنت بارشاد الى طرقها تهدى)
(لقد كنت فى مصر خُلَاصَة أَهلهَا ... وفى الرّوم قد أَصبَحت جَوْهَرَة العقد)
(وَحقّ شهَاب أَصله الشَّمْس ان يرى ... حريا بِأَن يرقى الى غَايَة السعد)
(فمعذرة منى اليك وَمَا ترى ... من الْعَجز وَالتَّقْصِير قابله بالسد)
(فَلَا زلت فى أوج العلى متنقلا ... وشانئك الممقوت فى الْعَكْس والطرد)
(وَلَا بَرحت ابياتك الغر فى الذرى ... وابيات من عاداك فى الدك والهد)
(ودمت فريدا للفرائد راقيا ... مَرَاتِب فضل منهلا طيب الْورْد)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر ربيع الثانى شهر ربيع الثانى سنة أَربع عشرَة وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يُوسُف المراكشى التاولى المالكى أحد فُقَهَاء المغاربه الممتطين سَنَام الْفضل وغاربه عَالم ماضى شبا اللِّسَان والقلم وَعلم فضل أشهر من نَار على علم لَهُ فى الادب يَد لَا تقصر عَن ادارك غايه وَبَاعَ تلقى رياة البلاغة فَكَانَ عرابة تِلْكَ الرايه وَمن نوابغ كَلمه قَوْله من جملَة كتاب فعذر الْمَنّ هُوَ أخرس من سمكه وَأَشد تخبطا من طَائِر فى شبكه وَقَوله من ارجوزة ضمن فِيهَا مصاريع من الفية ابْن مَالك مدح بهَا شَيْخه الْحَافِظ أَبَا الْعَبَّاس المقرى وَقَالَ فِيهِ
(ذَاك الامام ذُو الْعَلَاء والهمم ... كعلم الاشخاص لفظا وَهُوَ عَم)
(فَلَنْ ترى فى علمه مثيلا ... مستوجبا ثنائى الجميلا)
(ومدحه عندى لَازم أَتَى ... فى النّظم والنثر الصَّحِيح مثبتا)
(أَوْصَاف سيدى بِهَذَا الرجز ... تقرب الاقصى بِلَفْظ موجز)
(فَهُوَ الذى لَهُ المعالى تعتزى ... وتبسط الْبَذْل بوعد منجز)
(رتبته فَوق العلى يَا من فهم ... كلامنا لفظ مُفِيد كاستقم)
(وَكم أَفَادَ دهره من تحف ... مبدى تَأَول بِلَا تكلّف)
(لقد رقى الى الْمقَام الباهر ... كطاهر الْقلب جميل الظَّاهِر)
(وفضله للطالبين وجدا ... على الذى فى رَفعه قد عهدا)(4/271)
(قد حصل الْعلم وحرر السّير ... وَمَا بَالا أَو بانما انحصر)
(فى كل فن ماهر فِيهِ وَلَا ... يكون الا غَايَة الذى تَلا)
(سيرته سَارَتْ على نهج الْهدى ... وَلَا يلى الا اخْتِيَارا ابدا)
(وَعلمه وفضله لَا يُنكر ... مِمَّا بِهِ عَنهُ مُبينًا يخبر)
(يَقُول دَائِما بصدر انْشَرَحَ ... اعرف بِنَا فاننا نلنا الْمنح)
(يَقُول مرْحَبًا لقاصد وَمن ... يصل إِلَيْنَا يستعن بِنَا يعن)
(والزم جنابه واياك الْملَل ... ان يستطل وصل وان لم يستطل)
(واقصد جنابه ترى مآثره ... وَالله يقْضى بهبات وافره)
(وانسب لَهُ فانه ابْن معطى ... ويقتضى رضَا بِغَيْر سخط)
(واجعله نصب الْعين وَالْقلب وَلَا ... تعدل بِهِ فَهُوَ يضاهى المثلا)
وَلما قدم فى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف من مَدِينَة مراكش الى فاس كتب الى شَيْخه يستدعى مِنْهُ اجازة هَذِه الابيات
(أموقظ جفن الدَّهْر من بعد مَا غفا ... وباسط كف الْبَذْل من بعد مَا كفا)
(ومحيى رَسُول الاكرمين الَّتِى عفت ... ومجرى معِين الْفضل من بعد مَا جَفا)
(أجزنى بِمَا قد قلته ورويته ... ففضلك يَاذَا الْفضل قد حير الوصفا)
فَأَجَابَهُ بِهَذِهِ الابيات
(أمشكاة أنوار القراآت والادا ... وساحب اذيال الْكَمَال على الاكفا)
(وحائز شتات الْفَضَائِل اذ غَدَتْ ... مفاخرة فى اذن مغربنا شنفا)
(بعثتم بطرس بل بروض بلاغة ... تعطرت الارجاء من نشره عرفا)
(وأملتم أَعلَى الاله مقامكم ... وألبسكم من عزه الْمطرف الاضفى)
(من الْقَاصِر الباع الضَّعِيف اجازة ... ألم تعلمُوا ان الصَّوَاب هُوَ الاعفا)
(وَلست بِأَهْل ان أجَاز فَكيف أَن ... أُجِيز على ان الْحَقَائِق قد تخفى)
(فأضواء فكرى أظلمتها حوادث ... فآونة تبدوا وآونة تطفا)
(وَلَوْلَا رجائى مِنْكُم صَالح الدعا ... لما سطرت يمناى فى مثل ذَا حرفا)
وَلم أَقف على تَارِيخ وَفَاته لَكِن أعلم انه من رجال هَذِه الْمِائَة وَالله تَعَالَى أعلم
مُحَمَّد بن يُوسُف بن أَبى اللطف الملقب رضى الدّين المقدسى الحنفى من آل بَيت أَبى اللطف كبراء بَيت الْمُقَدّس وعلمائها أَبَا عَن جد وَكَانَ رضى الدّين هَذَا فَاضلا(4/272)
أديبا بارعا استجاز لَهُ وَالِده من شيخ الاسلام الْبَدْر الغزى وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن ابْن عَم أَبِيه الشَّيْخ عمر بن مُحَمَّد بن أَبى اللطف وتفقه أَولا على وَالِده يُوسُف فى فقه الشافعى ثمَّ تحول حنفيا وَاقْتضى حَاله لتطاول الزَّمَان ان يكون كَاتبا عِنْد قاضى بَيت الْمُقَدّس وَكَانَ يلى النِّيَابَة وَقدم دمشق قبل ذَلِك فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَكَانَ فى صُحْبَة ابْن عَمه وَشَيْخه الشَّيْخ عمر الْمَذْكُور وَصَحب الْحسن البورينى فى دمشق فى قَدمته هَذِه وَأخذ عَنهُ قَالَ النَّجْم وعلق شرحا على منظومة الْوَالِد فى الْكَبَائِر والصغائر على حسب حَاله وأوقفنى عَلَيْهِ وقرظت عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِبَيْت الْمُقَدّس فى جُمَادَى الاخرة سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَصلى عَلَيْهِ غَائِبَة بِدِمَشْق يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن حَامِد بن أَبى المحاسن المغربى الفاسى الْقصرى الشَّيْخ الامام المفنن الْعَلامَة المتبحر النقاد عَالم الْمغرب فى عصره من غير مدافع أَخذ عَن وَالِده وَعَمه الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وأخيه الْحَافِظ أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف وَعَن الامام الْقصار والامام أَبى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن القاضى والمفتى والخطيب أَبى عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد المرى التلمسانى والفقيه المشارك أَبى الْحسن على بن مُحَمَّد بن أَبى الْعَرَب السفيانى والفقيه الاديب أَبى عبد الله مُحَمَّد ابْن على القنطر الْقصرى والقاضى أَبى مُحَمَّد المركنى المغراوى والامام أَبى الطّيب الْحسن ابْن يُوسُف الزناتى وَغَيرهم وَعنهُ كثير مِنْهُم ولد أَخِيه عَالم الْمغرب الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن يُوسُف الفاسى وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح على دَلَائِل الْخيرَات فى مجلدين ضخمين ورسالة منظومة فى الوفق الخماسى الخالى الْوسط وشرحا وَكَانَت وِلَادَته فى سادس شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى رَابِع عشر شهر ربيع الثانى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين والف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن يُوسُف بن يُوسُف الكريمى الدمشقى أديب الزَّمَان وَرَيْحَانَة أفاضل الشَّام وواسطة عقد مخاديمها الْكِرَام طراز حلَّة الْفضل وأوحد النثر وَالنّظم فشعره تسكر مِنْهُ الطباع وتكاد للطفه تشربه الاسماع وَلَقَد أصَاب البديعى فى وَصفه بقوله هُوَ الشَّاعِر لَو لم تكن بِهِ جنَّة لما قيل الاساحر قَرَأَ على الشّرف الدمشقى والمفتى فضل الله بن عِيسَى وَالشَّيْخ عمر القارى وَأخذ عَن الامامين الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وأبى الْعَبَّاس المقرى وَتخرج فى الادب على الشَّيْخ أَبى الطّيب(4/273)
الغزى فراض طبعه على أسلوبه وَحكى انه لما قيد أَبُو الطّيب الْمَذْكُور للعارض السوداوى الذى اعتراه وَحجر عَلَيْهِ وَمنع النَّاس من التَّرَدُّد اليه كَانَ اذا نظم قصيدة بعث بهَا اليه مَعَ بعض النِّسَاء على صفة انها تُرِيدُ حرْزا اَوْ نشرة وقصده عرضهَا عَلَيْهِ ليهذبها وينقحها فَكَانَ اذا وصلته اصلحها ورمز لَهُ بِوُجُوه الاصلاح وعرفه طرق الانتقاد فَلهَذَا مهر فى سبك الْمعَانى وَحسن البذرقة وأربى على فضلاء الْعَصْر باتقان اللغتين الفارسية والتركية والموسيقى وَكَانَ ينظم الشّعْر فى اللُّغَات الثَّلَاثَة وَكَانَ لَهُ اغان يسيرها فى نغمات مَقْبُولَة وسافر الى الرّوم صُحْبَة وَالِده فى سنة ثَمَان وَعشْرين ولازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ومدحه بقصائد كَثِيرَة ثمَّ قدم مَعَ وَالِده الى دمشق ودرس بعد موت وَالِده بِالْمَدْرَسَةِ العزية بالشرف الْأَعْلَى ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم ثَانِيًا وَولي قَضَاء الركب الشَّامي فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَانْقطع بعد ذَلِك فِي منزله مُدَّة ثمَّ سَافر ثَالِثا الى الرّوم فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَصَارَ لَهُ رُتْبَة الْخَارِج المتعارفة الْآن بَين أَبنَاء الشَّام ثمَّ رَجَعَ واستغرق أوقاته فى الْعُزْلَة وابتلى بِاسْتِعْمَال البرش ثمَّ غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَضرب الْحجر على نَفسه سِنِين وطواه الزَّمَان فى خريدة النسْيَان وَلم ينل مَا يسْتَحقّهُ من سمو الشان ثمَّ ظهر بعض الظُّهُور وَاخْتَلَطَ بِبَعْض أَصْحَاب الْفَهم وَطرح التَّكَلُّف وامتحن بلعب الشطرنج على عَادَة الاذكياء وَكَانَ ماهرا فى لعبه وَكَانَ كثير النّظم وَله ديوَان يُوجد فى أيدى النَّاس ومختاراته كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله من قصيدة
(فى فؤادى من الخدود لهيب ... جنَّة طَابَ لى بهَا التعذيب)
(صحوتى من هوى الحسان خمار ... وشبابى بالاتصاب مشيب)
(داونى باللحاظ فالحب فِيهَا ... دَار بلوى بهَا السقام طَبِيب)
(لفؤادى من لَحْظَة السخط سهم ... هى من قسْمَة الْهوى لى نصيب)
(كل قلب لَهُ الصبابة دَاء ... ألف الدَّاء فالحكيم رَقِيب)
(محنة الْحبّ عندنَا دَار بلوى ... فلهَا من قُلُوبنَا أَيُّوب)
(هَكَذَا حَاكم الْهوى فلديه ... من ذنُوب لنا تعد الْقُلُوب)
(لَو بدا للوجود يُوسُف حسن ... ضمه من قُلُوبنَا يَعْقُوب)
(لَا تلمنى سدى فَمد من خمر الْحبّ فى مِلَّة الْهوى لَا يَتُوب ... )
(فى لحاظ الظباء آيَة حسن ... قد تَلَاهَا على الْعُقُول الحبيب)(4/274)
(رشا أخجل البدور اذا مَا ... شوشت خاطر الْفُؤَاد الْجنُوب)
(مَا رَأينَا من قبل وَجهك ان قد ... حمل الْبَدْر فى الزَّمَان قضيب)
(قاتلى فى الْهوى اللحاظ وَهَذَا ... شَاهد الخد من دمى مخصوب)
(قد رمانى بأسهم الْجور عمدا ... وَسوى الْقلب سَهْمه لَا يُصِيب)
(لَيْت أَنا لم يخلق الْحسن فِينَا ... لَيْت أَو لم يكن فؤادى طروب)
(يَا أَخا الوجد هَل رَأَيْت قَتِيلا ... وَهُوَ ظلما بِنَفسِهِ مَطْلُوب)
(يَا لقلب أطعته وعصانى ... لَهو الا الى الْهوى لَا يُجيب)
(خبرى يَا صبار رياض التصابى ... فبذكر الْهوى فؤادى يطيب)
(عرف الْقلب فِيك رَائِحَة الْحبّ ويدرى بشمه الملسوب)
(ساعدتنى على النحيب حمام ... حَيْثُ مالى سوى صداها مُجيب)
(أَنا وَالْوَرق فى الطلول غَرِيبَانِ ويستصحب الْغَرِيب الْغَرِيب)
(غير انى بهَا رهين فؤادى ... وهى تأتى وَحَيْثُ شَاءَت تؤوب)
(علم الْقلب منطق الطير شجوا ... فَلهُ فى فنونه تَهْذِيب)
(يهتدى فى سَبيله بفؤادى ... كلما ضل فى الغرام كئيب)
وَقَوله من أُخْرَى أرسلها من الرّوم الى بعض اخوانه من أفاضل دمشق فى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ ومستهلها قَوْله
(بعاد يزِيد الجوى والحنينا ... وَبَين يعلم قلبى الانينا)
(فِرَاق أذاب الحشى أدمعا ... فَأجرى بصافى الدِّمَاء العيونا)
(ألفنا السهاد لسكب الدُّمُوع ... فَأنْكر منا الرقاد الجفونا)
(فقدت اصطبارى غَدَاة الرحيل ... وعوضت عَنهُ الجوى والشجونا)
(رعى الله أَيَّام قرب مَضَت ... وَحيا لياليها والسنينا)
(وجاد الحيا أَرْبعا بالشآم ... وَسلم صحبا بهَا قاطنينا)
(وهبت بهَا نسمات الْقبُول تحدو اليها سحابا هتونا)
(وسالت بروضتها للرضا ... جداول تنساب مَاء معينا)
(وغنت بهَا سحرًا وَرقهَا ... تنبه للنور فِيهَا عيُونا)
(ولابرحت فى رباها الصِّبَا ... تروح شمالا وتغدو يَمِينا)
(تلاعب أَغْصَان باناتها ... فتهتز مثل القدود الغصونا)(4/275)
(وتجلو عرائس نوارها ... فتنثر للطل درا ثمينا)
(غصون تعلم من فعلهَا ... قدود الغوانى قواما ولينا)
(رياض بهَا للعليل الْهوى ... شِفَاء فلولا التنائى شفينا)
(فكم بت فى خلدها لَيْلَة ... أسامر فِيهَا من الآس عينا)
(وَكم غازلتنى بهَا أعين ... تعلم هاروت مِنْهَا فنونا)
(وَكم جمعت للهوى مدنفا ... وَمثل فؤادى فؤادا حَزينًا)
(رعى الله أحبابنا فى دمشق ... وَحيا بدوحتها الساكنينا)
(أحبتنا هَل يفك الرهونا ... غَرِيب وَيقْضى البعاد الديونا)
(وَهل عَائِد زمن بالحمى ... وبالقرب هَل يسعف النازحينا)
(وَهل بالتلاقى يجود الزَّمَان ... لنعلم أحبابنا مَا لَقينَا)
(فقد صدع الصَّدْر طول النَّوَى ... وللقلب قد كَانَ حصنا حصينا)
(وعلمنى الْبَين مَا قد جهلت ... فذقت النَّوَى وَعرفت الحنينا)
(فَهَل تذكرُونَ غَرِيب الديار ... وَيذكر من بالحمى الظاعنينا)
(رحلنا فَمَا تابعتنا الْقُلُوب ... وسرنا فظلت لديكم رهونا)
(كانى لم أقض حق الوداد ... فأبقيت قلبى فِيكُم رهينا)
وَقَوله أَيْضا من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا قَوْله
(صَحَّ الْهَوَاء وطاب مِنْهُ نسيم ... وأتى الرّبيع وفضله مَعْلُوم)
(وبدت أزاهره بِأَحْسَن منظر ... فرياض جلق جنَّة ونعيم)
(وسرت بِهِ خود الصِّبَا وفْق الْهوى ... تذكى الجوى فغدا الْفُؤَاد يهيم)
(مرت تذكرنى جوى كابدته ... أَيَّام غازلنى برامة ريم)
(رشأ لحر جفاه مَعَ اعراضه ... فى الْقلب منى مقْعد ومقيم)
(غُصْن ثمار الْحسن فِيهِ شهيه ... للعين والجانى لَهَا محروم)
(بدر محاسنه الْجَمِيع جوارح ... بِالْقَلْبِ تفعل مَا تشا وتروم)
(صحت محاسنه كَمَا صَحَّ الْهوى ... منى ومثلى الطّرف مِنْهُ سقيم)
(متناسب الاعطاف أما ردفه ... فنقا وَأما كشحه فهضيم)
(من سهم مقلته جَمِيع جوانحى ... جرحى وقلبى من سواهُ سليم)
(مالامنى فى حبه من لائم ... الا رَقِيب حَيْثُ كَانَ لئيم)(4/276)
(مَا من هوى الا وَفِيه مراقب ... هَذَا عَذَاب للفؤاد أَلِيم)
(أبدا لقلبى من جفاه شكاية ... لَا تنقضى وَمن الغرام غَرِيم)
(وجدى بِهِ قِسْمَانِ باد للورى ... قهرا ومعظمه هوى مَكْتُوم)
(طرفى وقلبى ذَا غريق مدامع ... تجرى وَهَذَا باللحاظ كليم)
(يَا قلب مَالك والهوى فالى مَتى ... بالوجد تقعد تَارَة وَتقوم)
(محن الْمحبَّة جمة لَا تنقضى ... أبدا فكم تشقى بهَا وتهيم)
(من عهد آدم للغرام وقائع ... تروى رويدك فالبلاء قديم)
(ألفت جوانحك الصبابة والاسى ... هَذَا ابتلاء بالغرام عَظِيم)
وَكتب الى أَخِيه أكمل الدّين الْمُقدم ذكره فى حرف الْهمزَة ملغزا فى أَكْتَع
(يَا أكملا يستكمل الظرفا ... يَا فاضلاوالفضل لَا يخفى)
(وَيَا شقيقى من فخارى بِهِ ... وَمن غَدا لى فى الورى طرفا)
(أكمل منى ان أصفه فلى ... أرجع من أَوْصَافه الوصفا)
(قل لى عَن وصف حُرُوف لَهُ ... أَرْبَعَة مَا نقصت حرفا)
(اذا وصفت الشَّخْص يَوْمًا بِهِ ... فعينه فى دبره تلفى)
(وَلم يزل يصحب كلابة ... بهَا يجيد الْقَبْض والصرفا)
(ثَانِيه نصف الْعشْر من ثَالِث ... وَكله لم يبلغ الالفا)
(ينقص عَنْهَا بل وَعَن بَعْضهَا ... وَلم تكمل نَاقِصا حلفا)
(موصوفه نِصْفَانِ فَانْظُر لَهُ ... نصفا وَلَا تنظر لَهُ نصفا)
(ثَانِيه مَعَ ثالثه فعله ... مَتى يشاجر عرسه عنفا)
(يظْهر فى أَفعاله خفَّة ... وَهُوَ لثقل لم يغب صرفا)
(كالبوم شوم وَهُوَ الف لنا ... فَهَل رَأَيْتهمْ بومة الْفَا)
(أجب عَن ذَا الْوَصْف أفْصح لنا ... لاذقت للدهر اذ صرفا)
فَأَجَابَهُ بقوله
(جَاءَت فزادت روضنا عرفا ... بل قلدت آذاننا شنفا)
(وَأَطْفَأت من كبدى لوعة ... وَلم تكن من غَيرهَا تطفى)
(وهيجت شوقى الى ماجد ... لم أك أبغى غَيره الْفَا)
(أعنى شقيقى من أرى بعده ... للدهر ذَنبا لم يكد يُعْفَى)(4/277)
(ذُو كرم لَو شامه حَاتِم ... عض على أنمله لهفا)
(رب الْمعَانى والقوافى الَّتِى ... كالدر إِذْ ترصفه رصفا)
(كَانَت كعذب المَاء عِنْد الصَّفَا ... أَو كلما أرشفه رشفا)
(أَو كوصال من حبيب وَقد ... أَكثر فى ميعاده الخلفا)
(مضيع أرعاه بَين الورى ... وشيمة الاحباب لَا تخفى)
(أَبيت أمْلى من غرامى لَهُ ... كتبا وَمن اعراضه صحفا)
(يُدِير من ألحاظه أكؤسا ... حملهَا أجفانه الوطفا)
(تسقيه رَاحا مزجت من دَمًا ... عينى ويسقينى الْهوى صرفا)
( ... مائلة عَن ساعد لم يزل ... كقطعة الاصداغ ملتفا)
(أَو كسوار ضَاقَ عَن عبلة ... أَو كهلال كَاد أَن يخفى)
(لَكِن اذا مدت الى مرقد ... كقامة الْحبّ اذا تلفى)
(لازلت تعطها وأمثالها ... من رَاحَة كالديمة الوطفا)
(هاك جوابى واعف تَأْخِيره ... اذ لم يكن ليا وَلَا خلفا)
(وَبعد مَا وصف لَهُ أحرف ... أَرْبَعَة وَلم يزدْ حرفا)
(أَوله سبع لعشر حوى ... ثَانِيه لَا زلت لَهُ حلفا)
(ان تسْقط الْمُفْرد مِنْهُ يعد ... جمعا وَهَذَا مِنْك لَا يخفى)
(وَفعل أَمر ثمَّ فعلا لمن ... نَار غرامى فِيهِ لَا تطفا)
(ان تقلب الثاث مَعَ رَابِع ... يكن لموصوف بِهِ وَصفا)
(ثَانِيه مَعَ ثالثه وَصفه ... اذا اعتراه النّوم والاغفا)
(أبنه لى لَا زلت فى عزة ... لم تغض عمارمته طرفا)
(والدهر عبد لَك أوقائد ... بِجنب من عاديته طرفا)
وَمر مَعَ شَيْخه أَبى الْعَبَّاس المقرى بالمرجة ذَات الشرفين فَلَمَّا تجاوزا صدر الباز والمقرى بَينه وَبَين أَخِيه خَاطب المقرى مرتجلا بِهَذِهِ الابيات)
(بالمرج مَا أشبهنا يَا بدر ... نَحن الجناحان وَأَنت الصَّدْر)
(وَالْبَحْر قد شاكلنا يَا در ... اطرافه نَحن وَأَنت الْبَحْر)
(والافق مولاى وَفِيه الزهر ... وَالشَّمْس تحتاط بِهِ والبدر)
(ودمت فى الدَّهْر وَأَنت الدَّهْر ... اليه ينقاد الدجا وَالْفَجْر)(4/278)
وَأرْسل اليه الشَّيْخ ابراهيم الاكرمى قصيدة يمدحه بهَا فَبعث اليه شَيْئا من الملبوس وألحقه بِهَذِهِ الابيات هى
(ألبستنا حلل الثَّنَاء فزنتنا ... بملابس مَا شانها الاخلاق)
(حكت الرياض غَضَاضَة ونضارة ... فكانها لَك فى البها أَخْلَاق)
(فاقبل لخلك حلَّة خيطت لَهَا ... من ودك الاردان والاطواق)
(واعذر لقلتهَا فان عرائس الْآدَاب عندى مَا لَهُنَّ صدَاق ... )
(شاكلت مِنْك ملابسا لدا ... شتان بَينهمَا فَتلك رقاق)
(أهديت در مدائح تزهو بهَا ... منا العلى وَمن المهى الاعناق)
(فَبَقيت للاحسان شمس فَضَائِل ... بسنا قريضك تشرق الْآفَاق)
وَمن غزلياته قَوْله وَأحسن
(وَيَوْم أردْت الصَّبْر فِيهِ فَلم أجد ... لقلبى اصطبارا والحبيب قريب)
(دنت دارها منى وشط بشخصها ... وَقرب زَوَال لم أرده لهيب)
(ممنعة لَا يرتجى قطّ وَصلهَا ... فَلَيْسَ لمضنى أمرضته طَبِيب)
(دعانى هَواهَا عنْوَة فاجبته ... وقلبى لداعى الغانيات مُجيب)
(تعلقتها تركية ان سهمها ... لَهُ غَرَض منا حَشا وَقُلُوب)
(اذا مَا بَدَت للعين قَامَت شؤنها ... فدمعى واش بَيْننَا ورقيب)
(معَاذًا الْهوى ان يحرم الْوَصْل عاشق ... لَهُ فى التصابى والغرام نصيب)
(وصبرا على حر النَّوَى ولربما ... رأى وطنا بعد البعاد غَرِيب)
(فَمَا غزل من حر وجد بِنَافِع ... لَدَى وَلَا يشفى الْفُؤَاد نسيب)
(وَمَا طَابَ نفسا بالتصبر مغرم ... وَلَا قر عينا بالبكاء كئيب)
وَقَوله
(لحى الله فعل الغانيات اذا دهت ... فؤاد الابناء الصبابة والوصلا)
(وَلَا سلطت يَوْمًا على قلب عاشق ... عيُونا ترى فى ظلم عاشقها عدلا)
(يدينك عين الود والوجد نظرة ... ويمزجن جد الوجد للقلب والهزلا)
(فحمتى اذا شبت بِنَار جوانح ... وأيقن بالمطروح من أرسل النبلا)
(غدرن فَلَا يرعين للصب ذمَّة ... وأغضين عَنهُ فى الْهوى الاعين النجلا)
(نوافر منا لم نفز شقوة سوى)
بوعد رَأينَا فى جوانبه المطلا)
وَقَوله
(علام تفتك فى العشاق بالمقل ... أما تخَاف على الهندى من فلل)(4/279)
(لقد أبحت دمى يَا من كلفت بِهِ ... فاصبحت كلماتى فِيهِ كالمثل)
(يَا من اذا مَا لسهم اللحظ عرضنى ... أيقنت وجدان قوم من بنى ثعل)
(شمائل لَك عاطتنى الشُّمُول فَمَا ... بَرحت مَا بَين سَكرَان الى ثمل)
(آها على زمن كَانَ الرَّقِيب بِهِ ... صفر الأكف من التعنيف والعذل)
(هلا تعيد زَمَانا كَانَ طوع يَدي ... فِيهِ وصدري ملآن من الأمل)
وَله مضمنا بَيت الارجانى وَنَقله من النقاب الى العذار فَقَالَ
(ومورد الوجنات شمس جماله ... لما بَدَت بهر الضياء الاعينا)
(خطّ الْجمال بعارضيه أسطرا ... فغدا بهَا نظرى اليه مُمكنا)
(كَالشَّمْسِ يمنعك اجتلاءك وَجههَا ... فان اكتست برقيق غيم امكنا)
وَقَوله
(وَكنت أَقُول انك فى فؤادى ... لَو ان الْقلب بعْدك كَانَ عندى)
(سوى عَن ناظرى مَا غبت يَوْمًا ... فذكرك غَالب الاوقات وردى)
وَمن رباعياته قَوْله
(يذكر بالوداد من لَا ينسى ... عهدا لَك ان أصبح أَو ان أَمْسَى)
(أَقْسَمت وان تطاول الْعَهْد بِنَا ... لَا أنسى الود بَيْننَا لَا أنسى)
وَقَوله أَيْضا
(مَا جَاءَ اللَّيْل أَو أَضَاء الْفجْر ... الا وذكرك عيشنا يَا بدر)
(لهفى لزمان عيشة راضية ... قد من بهَا على يَديك الدَّهْر)
وَقَالَ
(هَل ترجع ايامنا بنادى الوادى ... تالله لقد أعددتها اعيادى)
(أَيَّام يضم شملنا منتزه ... بالغوطة لَا فقدت ذَاك النادى)
وفقد لَهُ مَجْمُوع بِخَطِّهِ فَقَالَ فى ذَلِك
(مجموعى ضَاعَ رده يَا صَمد ... قد بَان تصبرى بِهِ وَالْجَلد)
(اتهمت أَنى بِعته من سفه ... هَذَا ولدى وَهل يُبَاع الْوَلَد)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان بعد الالف وَتوفى لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع شهر ربيع الاول سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
المنلا مُحَمَّد شرِيف بن المنلا يُوسُف بن القاضى مَحْمُود بن المنلا كَمَال الدّين الكورانى الصديقى الشاهوى الرويسى الشافعى صدر من صُدُور الائمة كَانَ عَالما وليا قدوة فى افراد الْعلمَاء الزاهدين حَامِلا لِوَاء المعارف محافظا على الْكتاب وَالسّنة قَائِما باعباء(4/280)
صَلَاح الامة باسطا جنَاح الرأفة للضعفاء وذوى الْحَاجَات ذَا أوراد وأدكار وَله مواظبة على الصّيام وَالْقِيَام مَعَ فَضَائِل لَا تحصى وصلابة فى الدّين وَانْقِطَاع عَن النَّاس أَخذ عَن وَالِده وَغَيره من عُلَمَاء بِلَاده وجد واجتهد حَتَّى بلغ من الْعلم مبلغا كَبِيرا وَحفظ الْقُرْآن فى اقرائه تَفْسِير البيضاوى درسا بدرس حَتَّى خَتمه وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ ولازمه وَتخرج بِهِ وانتفع بِعُلُومِهِ ربانى هَذَا الْعَصْر المنلا ابراهيم الكورانى ثمَّ المدنى قَرَأَ عَلَيْهِ فى بِلَاده كتبا كَثِيرَة وبالمدينة طرفا من فتح البارى لِلْحَافِظِ ابْن حجر وَله مؤلفات مِنْهَا حاشيتان على تَفْسِير البيضاوى احداهما الى أَوَاخِر سُورَة الْكَهْف والبحث فِيهَا مَعَ سعدى المحشى والاخرى الى آخر الْقُرْآن والبحث فِيهَا مَعَ مظهر الدّين الكازرونى وحاشية على شرح الاشارات للطوسى محاكمة بَينه وَبَين الامام الرازى وحاشية على تهافت الفلاسفة لخواجه زَاده الرومى ومحاكمة بَينه وَبَين الامام الغزالى وَحج من طَرِيق بَغْدَاد سنة خمس وَخمسين وَألف وجاور بالحرمين سنتَيْن ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه ثمَّ عَاد الى الْحَرَمَيْنِ وجاور مُدَّة ثمَّ توجه الى الْيمن وَأخذ عَنهُ بهَا خلق لَا يُحصونَ وَعرفُوا جلالته وَلما قدم المخا أَجله السَّيِّد زيد بن الحجاف وَمن جملَة مَا وَقع لَهُ مَعَه انه سَأَلَهُ عَن مقْصده فى هَذِه الرحلة الى أى مَكَان فَقَالَ لَهُ قصدى الْقَبْر فَرَحل بعد أَيَّام من المخا الى تعز وَمِنْهَا الى اب فتوفى بهَا وَكَانَت وَفَاته فى ثامن وعشرى صفر سنة ثَمَان وَسبعين وَألف رَحمَه الله
مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَدْعُو عبد النبى بن أَحْمد بن السَّيِّد عَلَاء الدّين على بن السَّيِّد مُحَمَّد ابْن يُوسُف بن حسن البدرى الدجانى القشاشى القدسى الاصل المدنى وَالِد الصفى الْمُقدم ذكره القطب الولى سيد الْعلمَاء وَصَاحب الكرامات الظَّاهِرَة الْجَوْهَر الْفَرد الْمُتَصَرف بعد مَوته ولد بِالْمَدِينَةِ وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وتمذهب بِمذهب شَيْخه مُحَمَّد بن عِيسَى التلمسانى المالكى ورحل الى الْيمن فى سنة احدى عشرَة بعد الالف وَأخذ عَن علمائه وأوليائه مِنْهُم الشَّيْخ الامين بن الصّديق المزجاجى طيب الله ثراه وَالسَّيِّد محمدج الغرب وَالشَّيْخ أَحْمد السطيحة الزيلعى وَالسَّيِّد على النبعى وَالشَّيْخ على بن مطير وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وجال فى الاقطار اليمنية وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الطَّاهِر بن مُحَمَّد الاهدل صَاحب المراوغة والعلامة مُحَمَّد الفروى وَغَيرهمَا وَأقَام بِصَنْعَاء وَنشر بهَا لِوَاء السَّادة الصُّوفِيَّة وَصَارَ لَهُ بهَا الْمنزلَة الرفيعة وَظَهَرت كراماته وانتشرت وَمِمَّا يحْكى مِنْهَا أَن بعض الامراء الزيدية(4/281)
بِصَنْعَاء لما ظَهرت أَحْوَاله وَعلا مقَامه حَبسه وَدخل الامير للخلاء لقَضَاء حَاجته واراد الْخُرُوج مِنْهُ بعد فَرَاغه فَلم يسْتَطع الْخُرُوج مِنْهُ حَتَّى أَمر باخراجه من الْحَبْس فَخرج حِينَئِذٍ وَمِنْهَا أَن بعض أُمَرَاء صنعاء بلغه عَن بعض جمَاعَة من أهل ولَايَته كَلَام يقتضى رفعهم اليه واهانتهم فَأتوا بهم اليه على حَالَة مُنكرَة فَلَمَّا قدمُوا صنعاء رَأَوْا عِنْد بَابهَا صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ فيهم من يعرفهُ فَأتوا اليه وسلموا عَلَيْهِ وَذكروا لَهُ مَا جرى لَهُم وتوسلوا بِهِ فَقَالَ لَهُم اعقدوا على محبته ظَاهرا وَبَاطنا وَلَا يُصِيبكُم مِنْهُ الا خير فقرؤا الْفَاتِحَة وفعلوا مَا أَمرهم بِهِ فبمجرد دُخُولهمْ عَلَيْهِ رَأَوْا مِنْهُ من الاجلال والتعظيم لَهُم والمحبة مَا لم يخْطر ببال أحد مِنْهُم وَرَجَعُوا الى بلدهم وَلم ينلهم مِنْهُ ضَرَر أَلْبَتَّة وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح الحكم لِابْنِ عَطاء الله وَشرح على الاجرومية سلك فِيهِ طَرِيق الصُّوفِيَّة على أسلوب نَحْو الْقلب للامام القشيرى رضى الله عَنهُ وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة صنعاء فى خَامِس عشر شعْبَان سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بهَا وقبره ثمَّة مَشْهُور يزار ويتبرك بِهِ وَتقدم فى تَرْجَمَة ابْنه ذكر نسبه وسيادته فَلَا حَاجَة الى الاعادة
مُحَمَّد ابو البركات البزورى الدمشقى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى تلميذ الشَّيْخ القطب مُحَمَّد ابْن على بن عبد الرَّحِيم بن عراق اجْتمع بِهِ بِمَكَّة فَسَأَلَهُ عَن اسْمه فَقَالَ لَهُ بَرَكَات فَقَالَ لَهُ بل أَنْت مُحَمَّد أَبُو البركات ثمَّ صافحه ولقنه الذّكر ودعا لَهُ وحرضه على قِرَاءَة قصيدته اللامية الجامعة لاسماء الله الْحسنى الَّتِى أَولهَا قَوْله
(بدأت بِبسْم الله وَالْحَمْد أَولا ... على نعم لم تحص فِيمَا تنزلا)
قَالَ فى كل لَيْلَة أَحْسبهُ قَالَ بَين الْمغرب وَالْعشَاء قَالَ النَّجْم الغزى فى الْكَوَاكِب السائرة قلت لشَيْخِنَا أَبى البركات هَذِه القصيدة اللامية الَّتِى أشرتم اليها هى من نظم سيدى مُحَمَّد بن عراق قَالَ نعم هى من نظمه وَأَنا أَخَذتهَا عَنهُ فلازم على قرَاءَتهَا فانها نافعة وأجازنى بهَا قَالَ وَكَانَت وَفَاته فى أَوَائِل جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاث بعد الالف وَهُوَ آخر من أَخذ عَن ابْن عراق وَفَاة فِيمَا أعلم انْتهى كَلَام النَّجْم قلت وَكَون القصيدة اللامية لِابْنِ عراق خلاف الْمَشْهُور من أَنَّهَا للدمياطى فَليُحرر وَابْن عراق الْمَذْكُور هُوَ الْعَالم الْكَبِير والولى الشهير خُصُوصا بالحرمين وَذريته بهما موجودون وَمن الْمَشْهُور الشَّائِع بَين المكيين أَن الدُّنْيَا لَا تزَال بِخَير مَا دَامَت ذُرِّيَّة ابْن عراق رضى الله عَنهُ موجودين
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِلَالًا مُحَمَّد باشا الْوَزير الاعظم فى عهد السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث تَرْجمهُ(4/282)
المنشئ فَقَالَ فى وَصفه تكون بِبَلَد قريب من مغنيسا جَوْهَر ذَاته وَبهَا كَانَت أوطانه وأوطار لذاته وَلما حلت بيد الشَّبَاب لمائمه وصدحت فى أَغْصَان الفتوة حمائمه تَيَقّن أَن فقد الْعِزّ فى الْحَضَر وَأَن السّفر يسفر عَن غرَّة الظفر
(والمرء لَيْسَ ببالغ فى أرضه ... كالصقر لَيْسَ بصائد فى وَكره)
كَمَا أَن السَّيْف لَا يقطع فى غمده وَلَا يظْهر مَا دَامَ فِيهِ جَوْهَر فرنده والدر لَوْلَا تنقله من الْبَحْر لما علا التَّاج والنحر وَلَوْلَا سير الْهلَال لما ظفر بعد النَّقْص بالكمال
(فالماء يكْسب مَا جرى ... طيبا ويخبث مَا اسْتَقر)
فَخرج مِنْهَا وَدَار فى بقاع الارض وبلدانها حَتَّى وصل الى الْقَاهِرَة وانتظم فى سلك كتبة ديوانها وبينما هُوَ فى بعض تِلْكَ الخدم اذ برز أَمر سُلْطَان الامم رَاقِم طراز الْعَدَالَة على حلل الْبِلَاد وَمن هُوَ مَقْصُود لكل مَوْجُود وَمُرَاد بعمارة الْحرم الْمُحْتَرَم الامين فعين لخدمة الْكِتَابَة اذ كَانَ من الْكِرَام الْكَاتِبين يَا من يرى حرما يسرى الى حرم فجاور حرم الله وخفض عيشه على الْجوَار وراعى حق الْخدمَة حَتَّى كَأَنَّهُ لبيت الله عبد الدَّار وانضم بعد ذَلِك الى بعض الخدام بالديوان السلطانى لَا زَالَ مطلعا الشموس الامانى ثمَّ لما أَصبَحت مغنيسا لذكاء الدولة المحمدية مشرقا وفلكها ببدر كَمَال ذَاته مشرقا تقلد عقد مناصب تِلْكَ الدولة حَتَّى صَار لالا وَلم يقل أحدا قَوْله لَا لَا ورقاه لما فِيهِ من الاستعداد كترقى مَرَاتِب الاعداد فسلك طَرِيق العداله وَلم يدْرك أحد فى كَمَاله كَمَاله وَهَذَا من أقوى الداعيات لَهُ على التَّقْدِيم وَأعظم الباعثات لتخطيه كل حَدِيث وقديم وَحين نسخ نور مُحَمَّد أَحْكَام من قبله وَحل ذكاء دولته من فلك السلطنة مَحَله ولمعت فى اسرتها أنوار أسرته واستنار الْعَالم بشمس جَبهته قَلّدهُ صارم الوزاره وَتوجه بتاج الصداره ثمَّ نَقله الى الوزارة الْعُظْمَى وَأنْشد لِسَان الْحَال حِين أَصبَحت أَفعاله أسما
(ذى المعالى فليعل من قد تَعَالَى ... هَكَذَا هَكَذَا والا فلالا)
وَمَا كَانَ شمس الْعَصْر الاصيل ولع قصر وقته بِظِل عدله الظليل قصرت دولته مَعَ ذَلِك الْقصر وَمَا خالط الصفو فِيهَا كدر بل صحب بتدبيره مزاج الْعباد وَجمع بعدله بَين الاضداد كالخد يجمع بَين المَاء واللهب فَلَو دَامَ مُدَّة فى رياض الوزاره لاتخذ العصفور من مخالب البزاة أَو كَارِه وَلَوْلَا مَا فى فَم الاسد من البخر لما تبَاعد عَنهُ الغزال وَنَفر بل اتخذ حضنه كناسه وحصنه لَكِن أسْرع الدَّهْر بغدره ورد(4/283)
جَوْهَر ذَاته الى صدف قَبره وَلَيْسَ يخْشَى النَّقْص الا عِنْد الْكَمَال وَهَكَذَا الدَّهْر ينْتَقل من حَال الى حَال وَكَانَ لَهُ دربة بِبَعْض الْعُلُوم وَمَعْرِفَة بالمنثور والمنظوم وَلَقَد أَجَاد التَّكَلُّم بلغَة فَارس وَأصْبح يُقَال لَهُ فى ميدانها فَارس وأى فَارس وَله جَامع بناه لوجه الله وعمره فى قَصَبَة يُقَال لَهَا مرمره قلت وَذكر ابْن نوعى فى تَرْجَمته أَنه ولى الوزارة فى سَابِع عشر شهر ربيع الاول سنة أَربع بعد الالف ثمَّ اعتراه مرض الاكلة لم يخرج الى الدِّيوَان إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَتوفى بعد عشرَة أَيَّام من تَوليته الصدارة وَدفن بحرم جَامع الشَّيْخ وفا بِمَدِينَة قسطنطينية رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الترجمان المصرى الاستاذ الْكَبِير الْوَرع الزَّاهِد الناسك الْمَشْهُور ذكره المناوى فى الطَّبَقَات وَقَالَ فى تَرْجَمته أَصله من الجراكسة وَترك زى أُصُوله وَقعد فى مكتب بِالْقربِ من بَاب الْخرق يقرئ الاطفال ثمَّ حبب اليه السلوك فَأخذ عَن الشَّيْخ يُوسُف الكردى المدفون بِقرب قناطر السبَاع ولازمه وانتفع بِهِ وطريقهم تسمى طَرِيق الخواطرية لكَون أسلوبهم أَنه اذا أَرَادَ الانسان أَن يسألهم عَن شئ ابْتَدَأَ بقوله يَا سيدى الشَّيْخ خاطر ثمَّ يذكر مَا خطر لَهُ فى نَفسه مِنْهُ خير أَو من شَرّ فيتكلم عَلَيْهِ الشَّيْخ ويأمره وينهاه بِمَا يرى فِيهِ صَلَاحه ويأتى لَهُ بآيَات قرآنية وَأَحَادِيث نبوية للترغيب والترهيب وَلما مَاتَ شَيْخه تقرر فى الامامة بِجَامِع اسكندر باشا بِبَاب الْخرق وَصَارَ يعْمل فِيهِ الْمجْلس عقب الصُّبْح الى طُلُوع الشَّمْس وَبعد صلَاته بِالنَّاسِ الْعَصْر ويحضره خلق كثير ثمَّ يتَوَجَّه الى منزله بِقرب الْجَامِع الْمَذْكُور واشتهر أمره وَعلا ذكره وَقبلت شَفَاعَته وَقصد التَّبَرُّك بِهِ وَأخذ عَنهُ أَعْلَام الرِّجَال كالبرهان اللقانى وَأَضْرَابه وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى دَعَاهُ حَاكم مصر الْوَزير الى وَلِيمَة فَحَضَرَ سماطه بعد الْغُرُوب ثمَّ نزل من القلعة شاكيا فَمَا أَتَى نصف اللَّيْل الا وَقد قضى عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة أَربع بعد الالف بعد موت شيخ الاسلام على بن غَانِم المقدسى بِقَلِيل قلت وَقد تقدم أَن وَفَاة ابْن غَانِم كَانَت فى سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة من سنة أَربع بعد الالف وَدفن بِقرب تربة قايتباى بالصحراء وَعمر عَلَيْهِ بعض أَرْكَان الدولة ضريحا وَهُوَ الْآن يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الْيُمْنَى القادرى الشهير بفقيه بِالتَّصْغِيرِ كَانَ سَاكِنا ببلدة تعز وَكَانَ شَيخا جَلِيلًا مرشدا نبيلا عَالما فَاضلا كَامِلا مكملا بارعا فى أسرار الْحُرُوف وخواص الاسماء والوفق والجفر والتصرفات بهَا وَله كرامات كَثِيرَة وحالات عَظِيمَة انْتَهَت(4/284)
اليه رياسة هَذَا الشَّأْن وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الاحباء والمريدون وَكَانَ يَأْكُل من طَعَامه كل يَوْم نَحْو وثلثمائة أَو يزِيدُونَ قَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَطاء الله الاسكوبى الْوَاعِظ بالسليمانية بقسطنطينية صحبته مُدَّة فأجازنى وَقَالَ يَا لي مُحَمَّد حفظنى الله لحفظ هَذِه الامانة الَّتِى أودعتك اياها فَبعد هَذَا سأموت قَالَ فَمَاتَ بعد ثَمَانِيَة أَيَّام فى أول جُمُعَة من شهر رَمَضَان سنة خمس بعد الالف وَله ثَمَان وَتسْعُونَ سنة قلت وَقد وقفت على تَرْجَمَة رجل شَارك هَذَا فى الِاسْم وَالنِّسْبَة والطريقة فَهُوَ مُحَمَّد القملى القادرى لَكِن شهرته بالشداد بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالتَّشْدِيد كَانَ سَاكِنا بجبل ثَوْر قَرِيبا من بَلْدَة تعز وَبنى بهَا زَاوِيَة ومسجدا على أَربع قباب يُقَال أَنه أَولا اجْتهد بالعبادات والرياضات والمجاهدات كالمشايخ السَّابِقين وَوصل الى مقاماتهم وحالاتهم وَصَارَ مرشدا كَامِلا مكملا فى الشَّرِيعَة والطريقة وَله أَصْحَاب وأحباب وَكَانَ يتعيش بالرفاهية والحضور مستغنيا عَن النَّاس وَمَا كَانَ لَهُ شئ من أَسبَاب الدُّنْيَا روى انه لما بنى مَسْجده أَولا على قبَّة وَاحِدَة وَكَانَ الامير حُسَيْن بن حسن باشا أَمِيرا بِبِلَاد تعز وَكَانَ لَهُ ولد شَاب حدث السن فَقيل لَهُ ان خَازِن أَبِيك يحب الشَّيْخ وَبعث اليه مَالا جزيلا من مَال أَبِيك بنى بِهِ الْمَسْجِد فَغَضب الامير وَأمر بهدم الْمَسْجِد فَذكرُوا ذَلِك للشَّيْخ فَسكت فَلَمَّا هدموه دخل الشَّيْخ الى دَاره ثمَّ خرج وفى يَده خرقَة فِيهَا خَمْسَة عشر دِينَارا وَقَالَ هَذَا الذى بعث بِهِ الى الخازن فَعلمت أَن الْحَال يكون على هَذَا المنوال فحفظتها فادفعوها الى الامير يبعثها الى أَبِيه فَمَاتَ الشَّاب بعد أَيَّام فَقَالُوا أَيهَا الشَّيْخ هَذَا شَاب لَا يعلم شَيْئا فَكيف تدعون عَلَيْهِ وَأَنْتُم أعلم بِهِ فَقَالَ مَا دَعونَا عَلَيْهِ وَلَا نحتاج الى الدُّعَاء وَلَكِن غيرَة الله بَاقِيَة فينتقم فى مثل هَذَا ان رجا صَاحبه أَو لم يرج وَلم أَقف على تَارِيخ وَفَاته وذكرته لِئَلَّا يظنّ أَنه هُوَ الذى قبله وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
مُحَمَّد الوسيمى نِسْبَة الى وسيم قَرْيَة بالجيزة الشافعى رَأَيْت تَرْجَمته بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ فى وَصفه الشَّيْخ الْعَلامَة المعمر كَانَ من أجلاء الْعلمَاء العاملين فى الديار المصرية منعزلا فى بَيته عَن النَّاس مقتديا بقول من قَالَ وأجاد
(لِقَاء النَّاس لَيْسَ يُفِيد شَيْئا ... سوى الهذيان من قيل وَقَالَ)
(فأقلل من لِقَاء النَّاس إِلَّا ... لأخذ الْعلم أَو اصلاح حَال)
وَكَانَ يَقُول كل قرصك والزم خصك أَشَارَ بذلك الى القناعة وَالْعُزْلَة عَن النَّاس(4/285)
أَخذ عَن شيخ الاسلام القاضى زَكَرِيَّا ولازمه سِنِين وَأدْركَ الْحَافِظ ابْن حجر وَله عَنهُ رِوَايَات وبلغنى أَن شيخ الاسلام زَكَرِيَّا كَانَ يجله لذَلِك كعادته مَعَ كل من أدْرك الحافظة ابْن حجر وَنقل شَيخنَا الْعَلامَة الْحَافِظ الشَّمْس مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فى شَأْن الْحَافِظ ابْن حجر الحَدِيث فنه وَالشعر طبعه وَالْفِقْه يتَكَلَّف فِيهِ روى عَنهُ النُّور الزيادى وَسَالم الشبشيرى والبرهان اللقانى والنور الاجهورى وَكثير وَكَانَ أَكثر قِرَاءَته فى منزله وَلَا يتْرك قِرَاءَة الحَدِيث صيفا وشتاء وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر جُمَادَى الاولى سنة سِتّ بعد الالف بِمصْر قلت نقلت هَذِه التَّرْجَمَة من خطّ صاحبنا الْمَذْكُور كَمَا وَجدتهَا وعَلى رِوَايَته عَن الْحَافِظ يكون عمر فَوق الْمِائَة وَالْخمسين سنة وَهَذَا غَرِيب جدا وَالله تَعَالَى أعلم
الاستاذ مُحَمَّد أَبُو الْفضل الوفائى الشاذلى المالكى المصرى شيخ السالكين وَرَأس الْعلمَاء العاملين وَاحِد سَادَات السادات الَّذين لَهُم بِمصْر مجد تقصر عَنهُ الغايات صَاحب النَّفس القدسية المفاض عَلَيْهِ الْعُلُوم اللدنية من بنى وفا من بَيتهمْ معمور ولواء فَضلهمْ على كَاهِل الدَّهْر منشور وَلَهُم مساع ومآثر ورثوها كَابِرًا عَن كَابر مَا مِنْهُم الا صَاحب ديوَان نَافِذ لى سَبِيل البلاغة بسُلْطَان وَله نظم ونثر فَمن نظمه قَوْله من قصيدة
(أَلا صَاحب كالسيف حُلْو شمائله ... يسائلنى عَن فتنتى وأسائله)
(يَدُور غرام بَيْننَا كلما انْقَضتْ ... أواخره عَادَتْ علينا أَوَائِله)
وَقَوله
(على وجنتيه جنَّة ذَات بهجة ... ترى لعيون النَّاس فِيهَا تزاحما)
(حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحَان العذار حماحما)
والحماحم نوع من الريحان مَعْرُوف لُغَة وَعرفا وَقَوله أَيْضا
(يَا من يُبَالغ فى سقية خَدّه ... مَاء الحيا ولذاك قيل مورد)
(فى خدك الراح الَّتِى بكؤسها ... أسكرت لحظك فَهُوَ فى يعربد)
(سدت الانام غَدَاة خدك أَبيض ... وَالْيَوْم خدك بالعذار مسود)
(تمنح العذار ملاحة بملاحة ... قلم بسعدك لَا يزَال يجود)
(قلب يمِيل الى حَدِيثك بل لَهُ ... فِيمَا يؤمل من وفائك مُسْند)
(عكفت على مغناك أَرْوَاح الْغِنَا ... فَلَانَتْ للطرب المحرك معبد)(4/286)
(فعلى محياك السَّلَام فديته ... بِالنَّفسِ بل بِالْعينِ فَهُوَ مُؤَكد)
(وعَلى فؤادى المستجير تَحِيَّة ... مَا طَار نَحْو ربى الرياض مغرد)
فِيهِ مَعَ التورية مُرَاعَاة النظير العديمة الشبيه والنظير لما فِيهِ من الْجمع بَين التبييض والتسويد الْمَعْرُوف بَين المصنفين وَكَذَا التجويد فان مَعْنَاهُ التحسين وَيُطلق فى الْعرف على حسن الْخط وفى عرف أهل الاداء تَحْسِين مخارج الْحُرُوف وهيآتها وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الاحد ثانى وعشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان بعد الالف وَهُوَ كهل رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالاضطرارى المغربى المالكى نزيل دمشق الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْمَشْهُور الصيت فى الْولَايَة مُعْتَقد أهل الشَّام فى عصره قَالَ النَّجْم عِنْد مَا ذكره فى الذيل قطن بِدِمَشْق أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ يعرف علم التَّوْحِيد معرفَة تَامَّة الا أَنه كَانَ عاميا وَكَانَ يجْتَمع اليه الْعَوام بالجامع الاموى وَغَيرهم فَيَأْخُذُونَ عَنهُ علم التَّوْحِيد ويحدثهم بالحقائق وَكَانَ يجلس فى بيُوت القهوة كثيرا ويجتمع النَّاس حوله فِيهَا وَيَأْخُذُونَ عَنهُ وَكَانَ يظْهر من أَتْبَاعه أَشْيَاء مُنكرَة خُصُوصا انكار ايمان الْمُقَلّد ويرتبون على هَذَا أَن النَّاس كلهم مقلدون حَتَّى عُلَمَاء الظَّاهِر وَسُئِلَ عَنهُ الشَّيْخ على بن الشَّيْخ عمر العقبى الْعَارِف بِاللَّه بن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى فَقَالَ هُوَ ينظر باحدى عَيْنَيْهِ يُشِير الى أَنه يتَكَلَّم على الْحَقِيقَة وَلَا يعرف الشَّرِيعَة وَكَانَ لكثير من النَّاس فِيهِ كَبِير اعْتِقَاد وَكَانَت وَفَاته فى أواسط شهر رَمَضَان سنة عشر وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَقد عمر نَحْو ثَمَانِينَ سنة أَو أَزِيد رَحمَه الله
مُحَمَّد الكردى صَائِم الدَّهْر الشَّيْخ الْفَاضِل الصَّالح ذكره النَّجْم وَقَالَ كَانَ من جمَاعَة الاخ الشَّيْخ شهَاب الدّين الغزى وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَرَأَ الْفِقْه بعده على جمَاعَة مِنْهُم شَيخنَا يُرِيد الشهَاب العيثاوى ولازمه كثيرا وَقَرَأَ على الشَّيْخ شمس الدّين الميدانى وَأكْثر قِرَاءَته للانوار وَكَانَ يلازم الْقِرَاءَة فى الْمُصحف وَكَانَ مجاورا بالجامع الاموى غير أَنه ينَام فى حجرَة بالتقوية وَكَانَت لَهُ وَسْوَسَة زَائِدَة فى الطَّهَارَة وَالصَّلَاة وَكَانَ متجردا من الزَّوْجَة حكى لى أَنه اقتات بِمَكَّة ثَلَاث لَيَال بِمَاء زَمْزَم قَالَ فَعرض على بعض النَّاس قِطْعَة خبز فَأَكَلتهَا فَذَهَبت عَنى تِلْكَ الخاصية وَحضر فى أَوَائِل أمره دروس شيخ الاسلام الْوَالِد وقطن بِدِمَشْق أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة وَتوفى يَوْم الثلاثا سَابِع جُمَادَى الاولى سنة أَربع عشرَة بعد الالف(4/287)
وَدفن بتربة الدحداح خَارج بَاب الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد باشا البوسنوى أحد الوزراء الْعِظَام فى عهد السُّلْطَان أَحْمد وَهُوَ من أقَارِب أَحْمد باشا القرحة الْوَزير الاعظم الْمَشْهُور كَانَ فى ابْتِدَاء أمره من جمَاعَة الْحرم الْخَاص للسُّلْطَان ثمَّ صَار اميرا خور ثمَّ ضَابِط الْجند ثمَّ ولى الْحُكُومَة بِولَايَة اناطولى ثمَّ انْعمْ عَلَيْهِ برتبة الوزارة وَعين لمحافظة حد بِلَاد الاسلام فى نَاحيَة المجر وَلما توجه ياوز على باشا الْوَزير الاعظم الى محاربة المجر فى سنة ثَلَاث عشرَة بعد الالف أدْركهُ الاجل ببلغراد فوجهت الصدارة الْعُظْمَى لصَاحب التَّرْجَمَة وَعين لمحاربة قلعة اسْتُرْ غون فَسَار اليها وَلم يتَمَكَّن تِلْكَ السّنة من فتحهَا ثمَّ فى السّنة الثَّانِيَة وهى سنة أَربع عشرَة فتحهَا وَكَانَ فى السّنة السَّابِقَة وَقع محاربة بَين الشاه وَبَين العساكر السُّلْطَانِيَّة وَكَانَ ابْن جغال رَأس العساكر فَخَالف أمره فى التَّرَبُّص عَن الهجوم بعض الوزراء فَكَانَ ذَلِك سَببا لانكسار الْعَسْكَر السلطانى وَقتل الَّذين كَانُوا سَببا فى ذَلِك وَخَافَ ابْن جغال من وخامة هَذِه الكسرة فانحاز الى قلعة وان فأدركه الْمَوْت بهَا وَبلغ الْخَبَر الى السُّلْطَان فَأرْسل الى صَاحب التَّرْجَمَة يَقُول لَهُ أَن يضع محافظا فى بِلَاد روم ايلى وَيقدم للسَّفر الى الْعَجم فَوضع مُرَاد باشا محافظا وَقدم الى قسطنطينية ثمَّ تجهز الى السّفر ففى معبره الى اسكدار ابتلى بِمَرَض الفالج وأسرع اليه الْحمام فَمَاتَ فى خَامِس عشر الْمحرم سنة خمس عشرَة بعد الالف وَدفن فى تربة ى قَرِيبه الْوَزير القوجه بِأَيُّوب قلت وسيأتى ذكر السّفر الى الْعَجم فى تَرْجَمَة الْوَزير مُرَاد باشا ان شَاءَ الله تَعَالَى
الخوجه مُحَمَّد الباقى الهندى النقشبندى كَانَ قدس الله روحه وَنور ضريحه آيَة من آيَات الله سُبْحَانَهُ ونورا من أنواره وسرا من أسراره صَاحب علم ظَاهر وباطن وتصرفات كثير الصمت والتواضع والانكسار ذَا خلق حسن لَا يتَمَيَّز عَن النَّاس بشئ حَتَّى انه كَانَ يمْنَع أَصْحَابه من أَنه يقومُوا لتعظيمه وَأَن لَا يعاملوه الا كَمَا يُعَامل بَعضهم بَعْضًا وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ ولازمه وانتفع بِهِ الشَّيْخ الْكَبِير والقطب الاكمل الشهير الْعَارِف بِاللَّه الربانى تَاج الدّين الهندى النقشبندى العثمانى الْمُقدم ذكره رحم الله تَعَالَى روحه كتب الخوجه اليه كتابا وَكَانَ الخوجه فى لاهور وَالشَّيْخ تَاج الدّين فى سنبل فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابه عزم على زيارته فَلَمَّا وصل اليه توجه الى سلوك طَرِيق الاكابر النقشبندية فتم سلوكه قدس سره فى ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أجَازه الخوجه(4/288)
بتربية المريدين وَهُوَ أول من أجَازه وَصَحبه عشر سِنِين وَكَانَت الصُّحْبَة بَينهمَا كصحبة شَخْصَيْنِ لَا يدرى أَيهمَا عاشق وَأيهمَا معشوق وَكَانَا يأكلان فى اناء وَاحِد ويرقدان على سَرِير وَاحِد ثمَّ ظَهرت لَهُ التَّصَرُّفَات الْعَظِيمَة فَصَارَ كل من يَقع نظره عَلَيْهِ أَو يدْخل فى حلقته يصل الى الْغَيْبَة والفناء وَلَو لم يكن لَهُ مُنَاسبَة وَكَانَ النَّاس مطروحين على بَابه كالسكارى وَبَعْضهمْ كَانَ ينْكَشف لَهُ فى أول الصُّحْبَة عَن عَالم الْملك والملكوت وكل هَذَا كَانَ من غَلَبَة الجذبات الالهية وَكَانَ مولده ومنشؤه فى نواحى كابل من بِلَاد الْعَجم الَّتِى تَحت يَد سُلْطَان الْهِنْد وَكَانَ جَاءَ الى الْهِنْد لامر من الامور الدُّنْيَوِيَّة فجذبته الجذبات الالهية فَترك الدُّنْيَا وأربابها وَدَار فى الطّلب عِنْد أَكثر الْمَشَايِخ فى وقته وَمضى عَلَيْهِ زمَان فى السياحة والاخذ على الْمَشَايِخ فى طرق شَتَّى حَتَّى حضرت لَهُ روح الشَّيْخ عبيد الله أَحْرَار قدس الله سره الْعَزِيز فَعلمه الطَّرِيقَة النقشبندية وَتمّ امْرَهْ ثمَّ ذهب الى بِلَاد الْعَجم لاخذ الاجازة من الشُّيُوخ ثمَّ رَجَعَ الى الْهِنْد وتوطن مَدِينَة دهلى وَظَهَرت مِنْهُ الامور العجيبة وانتفع بِهِ خلق كثير فى مُدَّة قَليلَة وَمَا انتشرت هَذِه السلسلة الْمُبَارَكَة فى الْهِنْد الا مِنْهُ رضى الله عَنهُ وَمَا كَانَ أحد يعرفهَا مِنْهُم قبله وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعا رَابِع وعشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة بعد الالف بِمَدِينَة دهلى جهان آباد من بِلَاد الْهِنْد وَله أَرْبَعُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وقبره بهَا على غربيها عِنْد أثر قدم النبى
يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الشهير بالمشهدى الرومى نريل دمشق الشَّيْخ الصَّالح الصَّامِت وانما سمى المشهدى لانه كَانَ محاور بالمشهد الشرقى البرانى من جَامع بنى أُميَّة الْمَعْرُوف بمشهد زين العابدين قَدِيما والآن بمشهد الْمحيا وَكَانَ لَهُ فى جواره حجرَة ينَام فِيهَا وَيُقِيم وَأكْثر اقامته فى نفس المشهد معتكفا صحب الشهَاب الغزى وَكَانَ كل مِنْهُمَا يعْتَقد ولَايَة الآخر وَكَانَ للنَّاس فِيهِ مزِيد اعْتِقَاد يتَرَدَّد اليه أكَابِر الدولة وَهُوَ لَا يتَرَدَّد اليهم وَمَعَ ذَلِك منجمع عَنْهُم غير مستشرف الى شئ مِنْهُم أَقَامَ بِدِمَشْق نَحْو خمسين سنة كَانَ مِنْهَا نَحْو ثَلَاثِينَ سنة متجردا ثمَّ تزوج فولد لَهُ بنُون وماتوا فى حَيَاته بعد مَا برع وَاحِد مِنْهُم ثمَّ مَاتَت أمّهم فَتزَوج ثَانِيًا وَكَانَ وقورا مهيبا مَعَ حسن خلقه وبشاشته وَله ذوق فى فهم كَلَام الصُّوفِيَّة وَكَانَ اذا خرج من الْحمام يصب على رَأسه المَاء الْبَارِد وَيَقُول انه يحفظ صِحَة الدِّمَاغ وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت سلخ رَجَب(4/289)
سنة سبع عشرَة بعد الالف وَقد قَارب مائَة سنة وَدفن بِبَاب الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد اليمانى شيخ اليمانية بِدِمَشْق فى الْجَامِع الاموى الشَّيْخ الصَّالح المعتقد أَقَامَ بِدِمَشْق سِنِين يتبرك النَّاس بِهِ ويعتقدونه ويحسنون الى اليمانية على يَده وَكَانَ أَخذ عَن ولى الله تَعَالَى الشَّيْخ أَبى بكر اليمانى نزيل دمشق وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء سادس وعشرى الْمحرم سنة تسع عشرَة بعد الالف وَدفن بوصبته فى الدوحة عِنْد قبر سيدى جوشن بالسويقة المحروقة خَارج دمشق عِنْد قبر الشَّيْخ تقى الدّين وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد أَمِين الدفترى العجمى الابهرى محتدا القزوينى مولدا الدمشقى سكنا السابقى الطيارى نِسْبَة الى الامام جَعْفَر الطيار فِيمَا ادَّعَاهُ أحد ذوى النباهة والشان العالى والادب الوافر وَالْكر الباهر وَقد رزق الحظوة فى الاقبال وتوفرت لَهُ دواعى الآمال وَكَانَ فى الاصل من أَرْبَابًا العراقة وَالْمجد لَان وَالِده كَانَ وزيرا فى خُرَاسَان من جَانب سُلْطَان الْعَجم شاه طهما سبّ ثمَّ مَاتَ وَالِده فتفرقت أَوْلَاده فَوَقع كل وَاحِد مِنْهُم فى جَانب من الارض فَكَانَ مُحَمَّد أَمِين وَاقعا بِدِمَشْق ورد اليها فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة على صُورَة فُقَرَاء الْعَجم الَّذين يُقَال لَهُم الدراويش وَكَانَت لَهُ كِتَابَة حَسَنَة ونظم رائق بِالْفَارِسِيَّةِ ثمَّ انه خدم فى دمشق دفتريها مُحَمَّد ابْن كَمَال الدّين التبريزى فَأرْسلهُ الى قسطنطينية فى بعض مصَالح السلطنة فَتعلق بِخِدْمَة معلم السُّلْطَان مُرَاد الْمولى سعد الدّين وَرجع الى دمشق بشئ من مُرَتّب الْجِزْيَة بِدِمَشْق وَلم يزل يتَرَدَّد الى قسطنطينية حَتَّى اتَّصل بالمولى سعد الدّين أَشد اتِّصَال فعلا شانه وارتفع مَكَانَهُ وَتَوَلَّى على أوقاف عمَارَة السُّلْطَان بايزيد وتاثل وَبنى وَعمر وَتردد اليه أكَابِر المدرسين وأرباب الْحَوَائِج مِمَّن يُرِيد من الاوقاف ثمَّ انه ورد الى دمشق فى أَوَائِل سنة تسعين وَتِسْعمِائَة فى بعض الخدم السُّلْطَانِيَّة فَمَكثَ نَحْو سنة وسافر الى قسطنطينية ورسخ بهَا وَبلغ الحظوة التَّامَّة وراجع النَّاس وكاتبه ملك الْمغرب مولاى أَحْمد الْمَنْصُور وَقد ذكر أَبُو المعالى الطالوى الْكتاب الْوَارِد اليه من مولاى أَحْمد فى سانحاته وَذكر فى اثره جَوَابه الذى كتبه أَبُو المعالى على لِسَانه وَعَن لى أَن أذكرهما لِئَلَّا يَخْلُو كتابى مِمَّا يُخَاطب بِهِ أَمْثَال هَذَا الْملك ويخاطب بِهِ وَصُورَة الْكتاب هَذَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد(4/290)
وَآله وَأَصْحَابه وَسلم تَسْلِيمًا من عبد الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فى سَبيله الامام الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الشريف الْحسنى أيد الله أمره وأعز نَصره بمنه ويمنه آمين الْمنزلَة الَّتِى لاحت من محبتنا لهَذَا الجناب العلوى من سَمَاء الطروس واتضح من شَوَاهِد ولائها وأمثلة خلوصها مَا أشرق شروق الشموس وأركضت فى الاعتلاق بحبلنا الْحسن طرف الصَّفَا غير حرون وَلَا شموس مثابة الْفَقِيه الْمُعْتَبر الامين الرضى الْمِسْكِين الاحظى الْمَاجِد الحسيب الاصيل العريق النسيب الزعيم الملاحظ الاثير الْوَجِيه الاديب الفهامة التَّحْرِير المثيل أَبى عبد الله مُحَمَّد الامين بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ الْعُظْمَى زَاد الله رتبته عَلَاء ومصاعدته لمراتب الْكَمَال ارتقاء سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله مؤلف الْقُلُوب المتنائيه تأليف الشّرطِيَّة فى الالتئام للجزائيه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الرَّسُول الامين سيدنَا ومولانا مُحَمَّد النُّور الذى أنقذ الله بِهِ من غياهب الْهَلَاك وأزاح بهديه مَا للزيغ والضلال من مدلهمات الاحلاك وعَلى آله ذوى الْفضل الباهر والسودد الظَّاهِر والشرف الذى عز عَن المساجل والمفاخر وَصَحبه الَّذين أجروا جداول السيوف فى رياض الحتوف لاجتناء ثَمَر نصْرَة الشريعه وفتحوا أَبْوَاب الْجِهَاد سدا لكل سَبِيل من النِّفَاق وذريعه وَالدُّعَاء لهَذِهِ الْخلَافَة الْحَسَنَة الْبناء بالتأييد لهد قَوَاعِد الْكفْر هدا وسوق عَبدة الصَّلِيب الى سَاقِط سحائب المنايا وردا فانا كتبناه اليكم من دَارنَا الْعلية بحضرتنا المراكشيه حاطها الله ومواهب الله مَعَ الآناء متهللة الاسره وصنائعه الجميلة كفيلة بنيل كل مسره فَشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا وَقد انْتهى لمقامنا العلى من كتابكُمْ المرعى الذى ثج من سَمَاء بلاغته كل وسمى وَولى مَا أَقَامَ لكم بنادينا الْكَرِيم سوق الْوَلَاء على سَاق وَرفع لخلوصكم على صعدة الاحتفال اللِّوَاء الخفاق وَتمكن ودكم بِهَذَا الجناب العلوى أى تَمْكِين وَاسْتقر من وافر الْقبُول عَلَيْهِ بِرَبْوَةٍ ذَات قَرَار ومعين وأدلى بحجج تسفر عَن الاعتلاق بمحبتنا اسفار الصَّباح وأدلة هى فى مقَام الْجلاء والظهور كَالشَّمْسِ فى الاتضاح فتقرر لدينا من حسن اعتقادكم وصريح ودادكم على أَلْسِنَة الارسال والاقلام مَالا يحْتَاج بعد الى دَلِيل يُقَام والتحف الادبية الَّتِى انتقتها ايدى عنايتكم لخزانتنا العلمية قد وافت الينا فألفت من الهش لَهَا والترحاب بهَا مَا لَا يقدر على تكييفه وَلَا تمد أيدى الاسترابة الى تحويله وتحريفه نتيجة عَن(4/291)
مُقَدّمَة فى شكل المضاهاة معمله غير مُعَارضَة بِمَا يناقضها وَلَا مهمله وَالْقدر الذى تتصورونه من المبالاة بكم والاعتناء بشأنكم لكم عندنَا أضعافه مبره مسيرَة اليكم أَن شَاءَ الله تَعَالَى أَنْوَاع الجذل والمسره وحظكم لدينا ملاحظ بِعَين الايثار مرعى من علائنا بِكُل اعْتِبَار وَالله يتَوَلَّى حراستكم بمنه ويمنه وَالسَّلَام وَكتب فى أواسط جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَهَذَا هُوَ الْجَواب ادام الله تَعَالَى جلال اقبال الدولة الامامية الحسنية الشَّرِيفَة وضاعف كل حِين حلاها وَعقد رايات النَّصْر وَالظفر بألويتها العلوية المجاهدية المنصورية وأسبغ فى الْعَالمين ظلالها وَلَا زَالَ مقَامهَا الشريف الْمَكَان والمكانة فى الْخلَافَة مَحْمُودًا ولواؤها الخفاق بالنصرة الْكَامِلَة على الاعداء معقودا مَضْرُوبا سرادق مجدها الشامخ على هام المجرة والنجم والسماك مَنُوطًا شرفها الباذخ بمستقر الافلاك فرع الدوحة الهاشمية العلوية المتفرع من الاغصان الزكية المرتضويه فيا لَهَا دوحة زكا غصنها الرطيب فى الْخلَافَة ونما من شَجَرَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السما مهبط الوحى ومتنزل الرّوح الامين مقَام عصمَة الامام ابى عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ منزع الهمم وملاذ الاسلام ومفزع الامم ومصار الانام مقرّ السِّيَادَة والعز المكين وقرار السَّعَادَة والنصر والتمكين كتاب صدر عَن ساحة علا مجدها هام الْكَوَاكِب وزاحم شرفها الجوزاء بالمناكب طلع فى سَمَاء الْخلَافَة كوكبها السيار ونار ولمع نوره فكاد سنا برقه يذهب بالابصار نسب طَاهِر وَحسب ظَاهر فَللَّه كم جلت سَواد الْكفْر عَن الْمغرب بامراهها بيض صفاحه وارتشفت من ثغوره اللمياء بأفواهها سمر رماحه وَايْم الله لقد تبسمت ضاحكة تِلْكَ الثغور من ذَلِك الْعَزْم الناصرى والرأى الْمَنْصُور لَا زَالَت هام الاعداء لسيوفه غمدا يسوقهم الْقدر كل حِين لمشرع الردى وردا منوها باسم من تشرف بانتمائه الى ذَلِك الجناب اسْمه وَقد شام من مخائل تِلْكَ الحضرة بارق الْوَلَاء فَصدق توسمه فداخله بذلك مَسَرَّة وجذل كادا يردان عَلَيْهِ شبابه المقتبل حَيْثُ كَانَ من النعم الجسام التنويه بِذكرِهِ فى ذَلِك الْمقَام فشكرا على نعمائه الظاهره وآلائه المتظاهره وَأما التنويه بِذكر مَا خدم بِهِ ذَلِك القيطون الشريف برسم الخزانة العلمية والقمطر المنيف على يَد أخينا ذَلِك الْفَاضِل الاديب والكامل الاريب من نور الْفضل فى جَبينه متلألىء أَبُو عبد الله مُحَمَّد الفشتالى خَادِم السدة(4/292)
الشَّرِيفَة العلياء والعنة المنيفة القعساء فَأمر لَا تفى الالسنة بشكره والاقلام على توالى الازمنة وَمر الايام حَيْثُ وَقع الْموقع من ذَلِك الجناب المضمخة سوحه الشَّرِيفَة بالاناب هَذَا وَمَا زَالَ العَبْد رافلا كل آن فى حلل الامتنان والاحسان مُعْلنا فى كل نَادَى بشكر تِلْكَ الايادى الَّتِى وصلته الْمقَام الرفيع نَادِيه الفائز بالسعادة حاضره وباديه فلهَا على السندس والاستبرق مزيه حَيْثُ وَافَقت شعار السَّادة العباسيه على يَد قَاصد الحضرة عبد الْعَزِيز ذَلِك الشَّيْخ الْجَلِيل فَكَانَت جملا أغنت عَن التَّفْصِيل وفى الاعتاب الهاشميه والابواب العلوية العليه مَكَارِم أَخْلَاق ان شَاءَ قَامَت بِعُذْر خدامها فى التَّقْصِير عَمَّا كَانَ اللَّائِق بمقامها من ارسالي نفائس الْكتب الادبيه لتتشرف بانحيازها الى تِلْكَ الخزانة الشَّرِيفَة العلميه لعَارض جر حرمانى بالجوار سلب مَعَه عَن الجفن الْفِرَار والقرار وَمولى بَابهَا وَعبد جنابها مَوْلَانَا عبد الْعَزِيز على ذَلِك شَاهد عدل وَحكمه فى امْتِثَال هَذِه الْقَضِيَّة هُوَ الْفَصْل سيصدق الحضرة الْمقَال حَيْثُ شَاهد بالعيان حِكَايَة الْحَال وَالْعَبْد مَا زَالَ فى تدارك مَا فرط فى حب مَوْلَاهُ فى الْعَام الْقَابِل ان شَاءَ الله موصلا لثم بِسَاط الثرى متضرعا لإله يسمع وَيرى أَن يخلد ذكر الدولة المنصورية على صفحات الايام ويربط أطناب معدلتها بِأَوْتَادٍ الخلود والدوام الى قيام السَّاعَة وَسَاعَة الْقيام بِمُحَمد وَآله وعترته الطاهرين وَصَحبه المنتخبين قاصرا على فَاتِحَة ثنائه بِنَفسِهِ فى خَاتِمَة وَهَذَا آخرهَا قلت وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يجمع نِفَاس الْكتب ويرسلها الى مولاى الْمَنْصُور الْمَذْكُور فبسبب ذَلِك كَانَت المراسلات بَينهمَا غير مُنْقَطِعَة ثمَّ طلب بنت منلا أغا التبريزى نزيل دمشق وَهُوَ الذى كَانَ مُعْتَمدًا على الْعِمَارَة السليمانية وَكَانَ من وُجُوه الاعيان أَصْحَاب الوجاهة فَتزَوج بهَا وقطن بِدِمَشْق فى دَار المنلا الْمَذْكُور الْمَشْهُورَة بمحلة القيمرية وَتَوَلَّى خدمَة الدفاتر السُّلْطَانِيَّة بِالشَّام وَمَات منلا أغا وَاسْتمرّ سَاكِنا فِي بيوته وباشر خدمَة الدفاتر باستقامة وصرامة ودقة نظر ثمَّ انه عزل عَنْهَا فسعى لنَفسِهِ فى أَن يكون متقاعدا بِدِمَشْق على قَاعِدَة أَرْكَان الدولة العثمانية اذا أَرَادَ رجل مِنْهُم أَن يتخلى عَن المناصب السُّلْطَانِيَّة ويقنع أَن يرتب لَهُ شئ من بَيت المَال فَأعْطَاهُ السُّلْطَان فى دمشق كل يَوْم مائَة وَخمسين قِطْعَة يأكلها وَهُوَ جَالس فى بَيته ثمَّ انه تشكى من مماطلة من يُحَال عَلَيْهِم من المباشرين لقبض الاموال السُّلْطَانِيَّة(4/293)
فَعرض ذَلِك على الْوَزير سِنَان باشا بن جغال لما ورد الى دمشق حَاكما بهَا فَعرض ذَلِك لحضرة السُّلْطَان مُحَمَّد فَأعْطَاهُ قَرْيَة فى الغوطة بِدِمَشْق وَيُقَال لَهَا الحرجله فَكَانَ يتَنَاوَل مرتبه من محصولها وَكَانَ فَاضلا فى التَّارِيخ جدا وفى اللُّغَة الفارسية والعربية ناظا كَاتبا فيهمَا وَكَانَ حسن الْخط منشئا للمكاتيب الحسان مداعبا كَرِيمًا عَارِفًا بِقدر الافاضل مُعَرفا لَهُم عِنْد أَرْبَاب الدولة وَكَانَ نحيف الْجِسْم لملازمته على أكل الافيون وَكَانَ غَالب فضلاء دمشق يَتَرَدَّدُونَ اليه ويعاشر مِنْهُم من تطيب عشرته وتصفو لَهُ مودته مِنْهُم أَبُو المعالى الطالوى وَالْحسن البورينى وَغَيرهمَا وَلَهُم فِيهِ المدائح الزاهرة ذكر الطالوى مِنْهَا كثيرا وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من محَاسِن عصره الَّذين يتزين بهم وَجه مصره وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَخمسين وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا وَتوفى يَوْم الاربعا تَاسِع شهر ربيع الاول سنة تسع عشرَة بعد الالف وَدفن من الْغَد فى تربة منلا أغا قبلى الصابونية فى الصَّفّ الشرقى وَخلف من الْكتب نَحْو ثَمَانمِائَة كتاب من أنفس الْكتب
المنلا مُحَمَّد الاخلاقى نزيل دمشق كَانَ كَاتبا ماهرا فى صناعَة الْكِتَابَة وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة من جُمْلَتهَا كتاب اخلاق علائى فى أَرْبَعِينَ مجلدا مركب من الثَّلَاثَة الالسن العربى والفارسى والتركى وبكتابة هَذَا الْكتاب وَكَثْرَة مطالعته قيل لَهُ الاخلاقى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الِاثْنَيْنِ ثانى الْمحرم سنة احدى وَعشْرين بعد الالف وَدفن بمقبرة الفراديس
مُحَمَّد الشهير بِابْن البيطار الدمشقى امام جَامع منجك بمحلة مَسْجِد الْقصب كَانَ فَاضلا شافعى الْمَذْهَب مقرئا مجودا مجيدا الا أَنه كَانَ خامل الذّكر قَلِيل الْحَظ أَخذ عَن الشهَاب الطيبى وَبِه انْتفع وَجَرت لَهُ محنة فى أَوَاخِر عمره كَانَ نَائِما فى حجرَة لَهُ بالجامع الْمَذْكُور فى بعض الليالى فجَاء مُحَمَّد باشا بن سِنَان باشا ليزور الشُّهَدَاء دَاخل الْجَامِع فطرق لَهُ بَاب الْجَامِع فاجاب الشَّيْخ بعد حِين بعنف وَقَالَ من الطارق فى هَذَا الْوَقْت وَصَاح فَقيل لَهُ الْوَزير فَلَمَّا فتح الْبَاب أَمر بضربه فَضرب ضربا مبرحا لانه كَانَ لَهُ جبروت وَلم يعرف أَنه الامام وحنق عَلَيْهِ وَلم يُمكن من مَعَه مُرَاجعَته وَكَانَت وَفَاته فى لَيْلَة السبت عشرى الْمحرم سنة احدى وَعشْرين بعد الالف وَبلغ من الْعُمر أَرْبعا وَثَمَانِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد باشا نَائِب حلب وأذنة ودمشق ذكره النَّجْم الغزى وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ(4/294)
وزيرا ولى نِيَابَة حلب فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَ ظَالِما ثمَّ عزل عَنْهَا وَولى مَدِينَة أذنة وأساء الحكم فِيهَا حَتَّى حرج على البضائع كلهَا فَلَا يَبِيعهَا جلابها الا لمن عينه من جماعته ثمَّ تبَاع للسوقة بعد ذَلِك ثمَّ لما خلع السُّلْطَان مصطفى عَن الْملك وسلطن السُّلْطَان مُرَاد ولى على باشا الْمُنْفَصِل عَن بَغْدَاد الوزارة الْعُظْمَى وَكَانَ أَخُو مُحَمَّد باشا الْمَذْكُور تلخيصا عِنْده وَالتَّلْخِيص عبارَة عَن مرسال بَين السطلان والوزير يذهب بعروض التوجيهات وَغَيرهَا من المعروضات ويأتى بِالْجَوَابِ فسعى لاخيه فى ولَايَة دمشق فَلَمَّا وَليهَا أرسل متسلما عَنهُ يُقَال لَهُ كنعان فَدخل دمشق فى يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس صفر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَوَافَقَ دُخُوله اشتعال الْفِتْنَة بِسَبَب انكسار عَسْكَر دمشق فى سادس الْمحرم صُحْبَة الْوَزير مصطفى باشا وَذَلِكَ أَن الْعَسْكَر الشامى كَانُوا قصدُوا محاربة أَوْلَاد الحرفوش واخراجهم من بعلبك وطلبوا من مصطفى باشا أَن يخرج مَعَهم فَأبى أَولا وَأمر بالتربص فَلم يرْضوا الا بِخُرُوجِهِ فَخرج بهم بعد أَن كتب عَلَيْهِم حجَّة بذلك وَلما تقَابل الْفَرِيقَانِ انْكَسَرَ الْعَسْكَر الشامى وَوَقع الْوَزير الْمَذْكُور فى أيدى عشير بن معن ثمَّ بقى عِنْده بالبقاع أَيَّامًا ثمَّ ذهب مَعَه الى بعلبك فى طلب أَوْلَاد الحرفوش وَوَقع الرأى من قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى عبد الله الشهير ببلبل زَاده وعقلاء النَّاس أَن يذهب جمَاعَة فى طلب عوده الى دمشق فعين القاضى جمَاعَة من الْوُجُوه فَخَرجُوا من دمشق الى بعلبك وَأَقَامُوا بهَا اثنى عشر يَوْمًا ثمَّ عَادوا فى خدمَة مصطفى باشا فَدخل دمش يَوْم الْخَمِيس تَاسِع وعشرى محرم والفتنة قَائِمَة فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت ثانى صفر عقد عِنْد الْوَزير مجْلِس عَظِيم كتب فِيهِ حجَّة على الْعَسْكَر أَنهم لَا يرابون وَلَا يتجاوزون الْحُدُود فى خدمهم مَعَ أُمُور أُخْرَى فَبَيْنَمَا النَّاس على ذَلِك وَطَائِفَة العسرك فى أَمر مريح بِسَبَب ذَلِك اذ دخل كنعان متسلم مُحَمَّد باشا صَاحب التَّرْجَمَة فسلمه مصطفى باشا الْبَلَد أَيَّامًا ثمَّ رفع يَده عَنْهَا خوفًا من اثارة الْفِتْنَة ثَانِيًا بِسَبَب أَن مُحَمَّد باشا انحاز اليه حَمْزَة الكردى أحد رُؤَسَاء الْجند وجماعته الفارون فاذا دخل دخلُوا الى دمشق واذا دخلوها طَلَبهمْ ابْن معن وَلَا يسلمُونَ اليه فَيدْخل الشَّام فى طَلَبهمْ وَكَانَت أهالى دمشق قد تقدم لَهُم مِنْهُ مخافات وأراجيف حَتَّى نقلوا أمتعتهم وأثقالهم من خَارج الْمَدِينَة الى داخلها مرَارًا فَرفع مصطفى باشا يَد كنعان عَن الْبَلَد بِسَبَب ذَلِك ثمَّ عقد عِنْده مَجْلِسا فى دَار الامارة بوم السبت سَابِع أَو ثامن من ربيع الاول جمع(4/295)
فِيهِ الْعلمَاء ووجوه الْعَسْكَر ثمَّ اجْتَمعُوا بقاضى الْقُضَاة بلبل زَاده وطلبوا مِنْهُ الْحُضُور الى الْجَامِع الاموى فَحَضَرُوا وَمَعَهُمْ أهل الْبَلَد وَكتب محْضر فى الْوَاقِعَة ليجهز الى طرف السلطنة ثمَّ خرج الْجند الى القطيفة فَرَأَوْا بهَا مُحَمَّد باشا وَقد نزلها فأشاروا عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ الى حماه ليعرض ذَلِك الى السُّلْطَان ثمَّ عقد بعد ذَلِك مجْلِس آخر عِنْد القاضى وَكتب عرض آخر الى الْبَاب العالى وَخرج كنعان الى أستاذه وبقى الْوَزير مصطفى باشا بِدِمَشْق فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ ثانى جُمَادَى الْآخِرَة ورد من بعلبك حسن بن الطريفى بِحكم سلطانى بتقرير مُحَمَّد باشا وَكتاب مِنْهُ فى ذَلِك بعد أَن كَاتب مُحَمَّد باشا الامير فَخر الدّين بن معن ورضى بذلك فَلَمَّا كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر جُمَادَى الاخرة فى وَقت الضُّحَى سَافر مصطفى باشا من دمشق وفى صحبته قاضى الْقُضَاة بلبل زَاده الرئيس سهراب الدفترى معزولين وفى يَوْم الثلاثا وصل وطاق مُحَمَّد باشا الى المزة وَنزل بهَا آخر النَّهَار وَأقَام بهَا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ويومها وَتردد اليه بعض أهل الْبَلَد ونافقه بَعضهم ثمَّ دخل دمشق فى يَوْم الْخَمِيس من جِهَة القابون معرضًا عَن السَّلَام على النَّاس حَتَّى دخل دَار السَّعَادَة فَترد اليه بعض الناسل فَلم يقم لَاحَدَّ مِنْهُ ثمَّ انفطع يَوْم السبت عَن الْخُرُوج وعاثت جماعته فى الْبَلَد وضواحيها يمنة ويسرة كَانَ كل وَاحِد يُرِيد أَن ينْتَقم من دمشق وَأهلا وَظن النَّاس عدم خُرُوجه عَن تكبر فاذا هُوَ مَحْمُوم ثمَّ مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة ختام جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَظهر بعد مَوته أَنه كَانَ لعلماء الْبَلدة فى نِيَّة شنيعة وَكَانَ مَوته لطفا من الله تَعَالَى بِهِ وَقَامَ مقَامه ابراهيم باشا الدفترى ثمَّ عِنْد الْغُرُوب من يَوْم مَوته ورد الى دمشق راكبان أخبرا أَن مصطفى باشا قرر على ولَايَة دمشق وَضبط تَارِيخ تَقْرِيره مصطفى باشا قرر وَهُوَ لطيف قلت وَصَاحب التَّرْجَمَة قد تقدم معرض فى ذكر مَوته فى حرف الْهمزَة فى تَرْجَمَة أَبى الْبَقَاء الصالحى وَهُوَ كالتتمة لما ذَكرْنَاهُ هُنَا
مُحَمَّد باشا الْوَزير حَاكم الْيمن ذكره مؤرخ الْيمن مُحَمَّد بن كانى فى تَارِيخه وَقَالَ فى تَرْجَمته تولى الْيمن فى مصر بعد عَزله عَنْهَا فى زمن السُّلْطَان أَحْمد بن السُّلْطَان مُحَمَّد فوصل الى بندر الْبقْعَة فى شعْبَان سنة خمس وَعشْرين وَألف وَكَانَ رجلا حَلِيمًا حازما فى جمع الاموال صبورا على الشدائد دخل صنعاء فى صفر سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَكَانَ يَقُول انه أدرى النَّاس باحوال أهل الْيمن وَكَانَ كَاتب الدُّيُون بِمصْر للوزير حسن باشا صَاحب الْيمن لانه كَانَ يختبره ويرقم فى دفتره فَمَا كَانَ حكمه(4/296)
فى الْيمن الا من ذَلِك الدفتر المضبوط ولسان حَاله يَقُول
(مَا أَنْت أول سَار غرَّة الْقَمَر ... ورائد أَعْجَبته خضرَة الدمن)
وَمَا أجدره بقول الشَّاعِر حَيْثُ قَالَ فى الْمَعْنى
(من تحلى بِغَيْر مَا هُوَ فِيهِ ... كَذبته شَوَاهِد الامتحان)
فَفتح وَجه الْحَرْب وناصحته عقلاء الْبِلَاد بِأَن هَذَا الامر لَا يتم فى الْيمن الا بَعْدَمَا تملك رُؤْس الْقَبَائِل وترغب الْجنُود بالعطايا وتشحن الانبار السلطانى بالحبوب فَمَا قبل بل تجلد وتنمر وَقَالَ اما الْملك واما الْهَلَاك
(وَجرى فى السباق جرى سكيت ... وخلفته الْجِيَاد يَوْم الرِّهَان)
فَلم يحصل من ذَاك على طائل فأتعبه الْجند بِطَلَب الترقيات والانعامات مَعَ عدم نهضتهم ونصحهم فى الْحَرْب فَاتخذ لَهُ عونا الامير مُحَمَّد بن سِنَان باشار وَجعله كتخدا لَهُ فَكَانَ عَلَيْهِ وَكَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(فَكَانَ كالساعى الى مُتْعب ... مرا بِلَا على سبل الراعد)
وفى روض الاخبار من استبد بتدبيره زل وَمن استخف بأسيره ذل حكى بعض أهل الْيمن قَالَ سمعته يَقُول فى حَال عَزله كنت أعْتَمد على دفاترى وحفظى من اخبار الْيمن وَأَقُول لَيْسَ أحد أعرف منى بأحوال الْيمن وأعترف الْآن انى دخلت الْيمن وَخرجت مِنْهُ وَلَا عرفت وَلَا حققت قدر أُنْمُلَة وَكَانَ قَائِما على قدم الثَّبَات ذَا عَزِيمَة مَاضِيَة مَعَ ظُهُور الْقَحْط وعمومه فى جَمِيع الْبِلَاد وافراط العساكر فى طلب الانعامات والترقيات مرّة بعد مرّة فعجز الفريقات فانعقد الصُّلْح بَينه وَبَين الامام الْقَاسِم بِأَن لكل وَاحِد مَا كَانَ تَحت يَده فى حَال الْحَرْب وضبطت الْحُدُود والاطراف وَكَانَ انْعِقَاد الصُّلْح على يَد الامير على بن المطهر والشويع مُحَمَّد بن عبد الله فى جُمَادَى الاولى سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَبعد انْعِقَاد الصُّلْح فك الْوَزير مُحَمَّد باشا قيد الْحَدِيد من السَّيِّد حسن بن الامام الْقَاسِم لَان خُرُوجه مَا كَانَ فى شَرَائِط الصُّلْح وبقى فى دَار الادب الى أَن وصل المتسلم من جَانب الْوَزير فضل الله باشا الى صنعاء فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ السَّيِّد حسن يعْمل الْحِيلَة فى خلاصه حَتَّى حصلت لَهُ الفرصة فَخرج متنكرا على بعض القَوْل فى غَفلَة الحراسين فَلَمَّا وصل الْوَزير فضل الله باشا الى صنعاء فى رَجَب سنة احدى وَثَلَاثِينَ صلب الحارس الذى كَانَ على دَار الادب ولنرجع الى الْمَقْصُود فَنَقُول كَانَت وَفَاة الامام الْقَاسِم عقب الصُّلْح نَهَار الِاثْنَيْنِ(4/297)
خَامِس عشر شهر ربيع الاول سنة تسع وَعشْرين وَألف وَقَامَ فى مقَامه وَلَده السَّيِّد مُحَمَّد وجدد الصُّلْح بَين وَبَين الْوَزير الْحَاج مُحَمَّد باشا على مَا كَانَ فى زمن وَالِده من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَاسْتمرّ الْقَحْط والطال فى زمَان صَاحب التَّرْجَمَة حَتَّى بيع حمل الْجمل من الْحِنْطَة بِأَرْبَعِينَ حرفا وعبرة حمل الْجمل ثَلَاثُونَ قدحا صنعانيا وبيضة الدَّجَاجَة ببقجة وهى عبارَة عَن كَبِير وَاحِد فى مُقَابلَة عثمانيين وَكَانَ أول زَمَانه حَربًا وفتنا وَآخره نهبا ومحبا وَله آثَار عَظِيمَة فى تعمير القلاع السُّلْطَانِيَّة مَا سبقه الى مثل ذَلِك أحد وَبنى جَامعا فى صنعاء وَله غير ذَلِك من الْخيرَات وَكَانَ خُرُوجه من صنعاء غرَّة صفر سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَلما سمع بمحئ الْوَزير فضل الله باشا أسْرع فى النهوض فَخَالف التَّقْدِير التَّدْبِير وتقاربوا فى الْمنَازل بِالْقربِ من زبيد فارسل فضل الله باشا اليه عسكرا وسردارا فرموا عَلَيْهِ وعَلى أَوْلَاده بالرصاص لاجل الجلب فَكَانَت ام الْبَنِينَ تعرض نَفسهَا على وَلَدهَا خوفًا عَلَيْهِ من الرصاص انْتهى ثمَّ وصل الى مَكَّة فى غرَّة شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَصَامَ رَمَضَان وَتصدق وَفعل أفعالا عديدة من الْخيرَات وَكَانَ وصل مَعَه فى مركبه الْوَاصِل بحرا فيل صَغِير أَرَادَ ان يهديه الى الحضرة السُّلْطَانِيَّة ثمَّ ان هَذَا الْفِيل اسْتمرّ بجدة أَيَّامًا فجَاء الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان عُثْمَان ثمَّ انْتقل الْوَزير الْمَذْكُور بالوفاة لَيْلَة سَابِع وعشرى شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن ضبيحة تِلْكَ اللَّيْلَة بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة بَاقِيَة الى الان وَوَقع بعد وُصُول الْفِيل غلاء شَدِيد بِمَكَّة قَالَ الامام عبد الْقَادِر الطبرى فِيهِ مؤرخا وَهُوَ على غير وزن الابحر المتداولة
(حرم الله حل ساحته ... قدم الْفِيل ضل عَن رشده)
(كثر الْهم يَا فَتى ارخ ... سنة الْفِيل همه شده)
وفى هَذَا الْقرن يضْرب الْمثل بالغلاء الْوَاقِع بِمَكَّة فى سنة تسع بعد الالف وَنِهَايَة مَا وصل فِيهِ الاردب المصرى الى ثَمَانِيَة عشر دِينَارا على مَا سمعناه من الثِّقَات الشَّاهِدين لذَلِك قلت فَتكون الغرارة الشامية على هَذَا بِاثْنَيْنِ وَسبعين دِينَارا فان الاردب المصرى ربع الغرارة الشامية وَلم يسْتَمر هَذَا الغلا الا نَحْو ثَلَاثَة أشهر وَفِيه أكل النَّاس لُحُوم الْكلاب والبسس قَالَ الامام على بن عبد الْقَادِر الطبرى فى الارج المكى والتاريخ المسكى سَمِعت من الْوَالِدَان الْفُقَرَاء كَانُوا يَأْخُذُونَ دم الشَّاة ويجعلونه فى اناء على النَّار ثمَّ يستعملونه ثمَّ وَقع بعد عَام تسع غلاء مُتَعَدد مِنْهُ الغلاء(4/298)
الذى ذَكرْنَاهُ فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَقع غلاء عَظِيم وَاسْتمرّ متزايدا الى سنة ثَمَان فَبَقيت الكيلة الدخن فى هَذَا الْعَام بِأحد عشر محلقا ثمَّ وَقع فى عَام تأليف هَذَا الْكتاب غلاء أضرم فى الافئدة نيران الاشتعال وأعمى بصائر النَّاس من التفرغ للاشتغال وَاسْتمرّ أشهر عديدة وفى الْغَالِب انما يكون فى أَنْوَاع الْحُبُوب وَقد يَقع فى السّمن وَغَيره من أَنْوَاع المأكولات وَالله تَعَالَى أعلم
مُحَمَّد الشَّهْر بِابْن الغزال الحمصى نزيل دمشق وَرَئِيس الاطباء بهَا أرأس من انْتَمَى الى الطِّبّ فى وقته ذكره والدى رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ فى وَصفه أبقراط وقته وزمانه وجالينوس عصره وأوانه قد جمع شَمل الْفضل بعد شتاته ورد فى جَسَد الادب روح حَيَاته
(وان يفق الْبَريَّة فهم وَمِنْهُم ... فان الْمسك بعض دم الغزال)
هَاجر من حمص الى طرابلس الشَّام واتصل بأمرائها بنى سَيْفا الْكِرَام وَأقَام بخدمتهم مُدَّة طويله يسامر الصَّحِيح ويعالج عليله وهم يقابلونه بالصلات الوافيه شكر الله على نعْمَة الصِّحَّة والعافية ثمَّ ورد الى دمشق الشَّام وَصَارَ بهَا رَئِيس الاطباء وعمدة الْفُضَلَاء والادباء واشتهر بِعلم الابدان حَتَّى صَار الشَّيْخ الرئيس فى ذَلِك الزَّمَان وَكَانَ حسن المصاحبه لطيف المسامرة والمخاطبه تميل الى طباع الْخَاصَّة والعامة ويحضر مجَالِس قُضَاة الشَّام وينادمهم أحسن منادمه وَالْحَاصِل أَنه ختمت بِهِ هَذِه الرياسه وفَاق أَرْبَاب هَذِه الصِّنَاعَة بِحسن الملاحة والكياسه وَكَانَ بعض من يحسدونه يَقُولُونَ معالجته لَيست بميمونه
(مَا زار فى الاربعا عليلا ... الا وقدمات فى الْخَمِيس)
وَهَذَا تعنت على الاقدار فانها تجرى على مِقْدَار الاعمار لَا على مَا تشتهيه النُّفُوس من أَصْنَاف الصِّحَّة والبوس
(وَالنَّاس يلحون الطَّبِيب وانما ... غلط الطَّبِيب اصابة الْمَقْدُور)
فالاولى التَّسْلِيم للقضا فان الْقَلَم بالاجل المحتوم رقم وَمضى فأى عتب على الطَّبِيب وان كَانَ هُوَ الْفَاضِل اللبيب
(ان الطَّبِيب لذُو عقل وَمَعْرِفَة ... مَا دَامَ فى أجل الانسان تَأْخِير)
(حَتَّى اذا مَا انْقَضتْ أَيَّام مدَّته ... حَار الطَّبِيب وخانته العقاقير)
وَقد جمع كتبا كَثِيرَة وجهات قل من جمع مثلهَا من أهل الكمالات ودرس(4/299)
بِالْمَدْرَسَةِ النورية وتمكنت قَوَاعِده فى الرُّتْبَة الْعلية ثمَّ ابتلى بِمَرَض عضال وَطَالَ مَرضه وَتغَير جَوْهَر بدنه وَعرضه فَلم تنجع فِيهِ الادواء وَلم ينجح فِيهِ معالجة الاوداء
(ان الطَّبِيب بطبه ودوائه ... لَا يَسْتَطِيع دفاع مَقْدُور أَتَى)
(مَا للطبيب يَمُوت بالداء الذى ... قد كَانَ يبرى مثله فِيمَا مضى)
(هلك المداوى والمداوى والذى ... جلب الدَّوَاء وَبَاعه وَمن اشْترى)
ثمَّ توفى فى أَوَاخِر الْقعدَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالهريرى الحلبى الْكَاتِب الشَّاعِر نزيل دمشق قلت فى وَصفه هُوَ وان كَانَت حلب مسْقط راسه فدمشق مدرج أنفاسه قدم اليها وَاخْتَلَطَ بأبنائها وغذى طبعه برقة مَائِهَا وهوائها وَكَانَ ممتع المجالسه حُلْو الْمُنَاسبَة والمجانسه وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَضَبطه بضبطه لَكِن خطه صدا النواظر وقسوة الخواطر وَله شعر ينْسب اليه أَكْثَره مَغْصُوب ضَمَانه عَلَيْهِ وعندى أَن شعره لَو قيل لَهُ ارْجع الى أهلك لم يبْق مِنْهُ شئ وَلَا يحضرنى مِنْهُ الا مَا أنْشدهُ البديعى فى كِتَابه ذكرى حبيب وَذَلِكَ قَوْله معميا باسم عدى
(رقت حواشى نديم انسى ... فراح يمشى بِلَا حواش)
(وَالشَّمْس قد توجته لما ... أدارها وَهُوَ فى انتعاش)
وَقد رَأَيْت هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فى بعض المجاميع الْقَدِيمَة على هَذَا الاسلوب مَكْتُوب فَوْقهمَا معمى فى عدى وَلم يعزيا لَاحَدَّ
(رقت حواشى نديم انسى ... فَبَاتَ عندى بِلَا حواش)
(أدرت شمس الطلا عَلَيْهِ ... فى جنح داج من غير واش)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَقَالَ أديب الزَّمَان أَحْمد بن شاهين يرثبه بِهَذِهِ الابيات
(رحم الله الهريرى ... كَانَ لَا يألف غيرى)
(كَانَ لَا يُنكر حقى ... كَانَ لَا يكفر خيرى)
(ثمَّ لقاه نعيما ... ووقاه كل ضير)
(ان شخصا يكفر الْحق لشخص دون عير ... )
(شَاكر النَّاس لعبد ... يذكر الله بِخَير)
(ثمَّ لما سَار للجنة عَنَّا أى سير ... )(4/300)
(قَالَ لى الْهَاتِف أرخ ... وَلَقَد مَاتَ الهريرى)
مُحَمَّد المنجم الرومى رَئِيس المنجمين فى الدولة الاحمدية وَكَانَ مَشْهُورا بالحذق والصنعة وَله وقائع وأخبار غَرِيبَة مطربة وحذاقة يضْرب بهَا الْمثل عِنْد الروميين وَمن حسن فطنته أَنه قيل لَهُ فى سنة وَفَاة السُّلْطَان أَحْمد نرَاك لم تتعرض لامر وَفَاته فَقَالَ انى أَشرت الى ذَلِك فى النُّسْخَة الَّتِى وضعت فى الخزانة العامرة فَلَمَّا نظر اليها رؤى فى الْحَقِيقَة قد ذكر فَوت السُّلْطَان وشدد الْوَاو وتمويها وَوضع النقطة الْوَاحِدَة بالاحمر وعجائبه فى هَذَا الْبَاب كَثِيرَة قَالَ ابْن نوعى وَكَانَ فى ابْتِدَاء أمره فى صُورَة الْعَوام ثمَّ حصل علم النُّجُوم وَمهر فِيهِ وَصَارَ موقت جَامع الشهزاده ثمَّ صَار رَئِيس المنجمين وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَرْبَعِينَ بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد المحبى المصرى الملقب شمس الدّين الحنفى شيخ الاسلام وَأجل عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة الْكِبَار فى الْمَذْهَب وَالْخلاف وأوحد أَفْرَاد الدَّهْر فى اللُّغَة والعربية والْحَدِيث أَخذ الْفِقْه عَن شيخ الاسلام وَالْحَنَفِيَّة النُّور على بن غَانِم المقدسى وَعَن الامام الْكَبِير السراج الحانوتى والْحَدِيث عَن الرحلة أَبى النجا سَالم السنهورى وعلوم الْعَرَبيَّة عَن الاستاذ الْكَبِير أَبى بكر الشنوانى وَغَيره ولازم الافادة والاقراء الى حِين انْتِقَاله وَأخذ عَنهُ جمع من الاكابر الْعلمَاء مِنْهُم الشهَاب أَحْمد الشوبرى وَالْحسن الشرنبلالى وَيحيى الشهاوى من المصريين وَمن الدمشقيين مُحَمَّد بن تَاج الدّين المحاسنى خطيب دمشق وَكَانَت وَفَاته هار الاربعاء عشرى ذى الْقعدَة سنة احدى وَأَرْبَعين بعد الالف وَدفن بتربة المجاورين رَحمَه الله
السَّيِّد مُحَمَّد باقر الشهير بالدمادى الحسينى العجمى الاصبهانى رَئِيس الْعلمَاء بِبِلَاد الْعَجم بعد الْبَهَاء الحارثى ذكره السَّيِّد على بن مَعْصُوم فى السلافة فَقَالَ فى حَقه باقر الْعلم وتحريره وَالشَّاهِد بفضله تَقْرِيره وتحريره ان عدت الْفُنُون فَهُوَ منارها الذى يهدى بِهِ أَو الْآدَاب فَهُوَ مؤثلها الذى يتَعَلَّق بأهدابه أَو الْكَرم فَهُوَ بحره المستعذب النهل والعلل أَو الشيم فَهُوَ حميدها الذى يدب مِنْهُ نسيم الْبُرْء فى الْعِلَل أَو السياسة فَهُوَ أميرها الذى تجم مِنْهُ الاسود فى الاجم أَو الرياسة فَهُوَ كبيرها الذى هاب تسلطه شاه الْعَجم وَكَانَ الشاه عَبَّاس أضمر لَهُ السوء مرَارًا وَأمر لَهُ حيل غيلته امرارا خوفًا من خُرُوجه عَلَيْهِ وفرقا من توجه الْقُلُوب اليه فحال ذُو الْقُوَّة والحول وأبى الا أَن يتم عَلَيْهِ الْمِنَّة والطول وَلم يزل موفور الْعِزّ والجاه(4/301)
حَتَّى دَعَاهُ داعى أَجله فلباه وَمن مصنفاته فى الْحِكْمَة القبسيات والصراط الْمُسْتَقيم وَالْحَبل المتين وفى الْفِقْه شَارِع النُّحَاة وَله حواش على الكافى والفقيه والصحيفة الْكَامِلَة وَغير ذَلِك وَبَينه وَبَين الْبَهَاء العاملي مراسلات كَثِيرَة أَعرَضت عَنْهَا لطولها وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف باصبهان
مُحَمَّد الشهير بغلامك البوسنوى قاضى الْقُضَاة بحلب الْعَالم الْمَشْهُور صَاحب الْحَاشِيَة على الجامى وَله حَاشِيَة على الزهراوين وَأُخْرَى على شرح القطب للشمسية وَمثلهَا على شرح الْمِفْتَاح للسَّيِّد وَكَانَ عَالما متقشفا وَفِيه عجب وَكبر وسافر من حلب وَهُوَ مولى وَأقَام مقَامه السَّيِّد مُحَمَّد بن النَّقِيب وَلما وصل الى اسكدار تألم مِنْهُ مصطفى باشا السلاحدار خوفًا أَن يبلغ خبر ظلم وكلائه فى بِلَاد الْعَرَب فَيحصل لَهُ ضَرَر فوبخه ثمَّ سيره الى الْحصار وَأمره بِلُزُوم الْخلْوَة ووجهت عَنهُ حلب بعد أَيَّام وشاع أَنه أُصِيب بالنقرس وَحكى انه جَاءَهُ رَسُول الله من جَانب السلاحدار الْمَذْكُور وَمَعَهُ بِشَارَة بتوجيه قَضَاء قسطنيطينية اليه فَقَالَ للرسول قل لَهُ وجادت بوصل حَيْثُ لَا ينفع الْوَصْل فَلم تمض ثَلَاثَة أَيَّام الا مَاتَ وَكَانَ وَهُوَ بحلب أَقرَأ حَاشِيَته على الجامى وكتبت عَنهُ واشتهرت بحلب وفيهَا يَقُول السَّيِّد احْمَد بن النَّقِيب
(حواشى امام الْعَصْر بكر عُطَارِد ... مُحَمَّد السامى على هام بهْرَام)
(صوارم أفكار اذا هزمتنها ... نبا كل هندى وكل حسام)
(وأبحر تَحْقِيق اذا طم موجها ... فهيهات منا عَاصِم لعصام)
(وخمرة توفيق زكتْ فتسارعت ... الى حانها أهل الْفَضَائِل بالجامى)
وَحكى لى شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد المهمندارى مفتى الشَّام أَن صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ يَوْمًا للنجم مُحَمَّد الحلفاوى السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب يَقُول وَهُوَ غَائِب انه أفضل مِنْك فَقَالَ صدق وَهُوَ أَكثر احاطة منى وَقَالَ لِابْنِ النَّقِيب مثل هَذِه الْمقَالة فى غيبَة النَّجْم فَقَالَ لَا شكّ فِيمَا يَقُول فانه أستاذى والاستاذ على كل حَال لَهُ رُتْبَة الافضلية قلت وَمثل هَذَا مَا يحْكى أَن التيمور قَالَ يَوْمًا للسعدان السَّيِّد لَهُ مَعنا صُحْبَة وَهُوَ نديم لنا ويركب مثل هَذِه الْفرس المهزولة وَذَلِكَ مسْقط لنا موسه فَقَالَ لَهُ السعد السَّيِّد جبل من جبال الْعلم فَلَيْسَ بالعجب هزال دَابَّة تحمله وَقَالَ للسَّيِّد السعد يركب مثل هَذِه الْفرس الْعَظِيمَة فَكيف يسوغ لَهُ اظهار العظمة وَهُوَ من(4/302)
الْعلم بمكانة فَقَالَ انه يُرِيد اظهار نعْمَة الله عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاة غلامك فى سنة خمس وَأَرْبَعين والف وَالْكَاف فى غلامك للتصغير فى اللُّغَة الفارسية كَمَا ذكر فى مصنفك وَأَمْثَاله
مُحَمَّد باشا سبط الْوَزير الاعظم رستم باشا الْوَزير الاعظم فى عهد السُّلْطَان ابراهيم كَانَ من الْجَلالَة والمهابة فى الْمحل الاسمى وفى رزانة الْعقل ومتانة الْفِكر فى القنة الشما صَار أَولا أَمِير علم ثمَّ صَار وزيرا فى سلطنة السُّلْطَان مُرَاد ثمَّ صَار محافظا بِمصْر ثمَّ أحد الوزراء السَّبْعَة ثمَّ عينه السُّلْطَان ابراهيم لاخذ قلعة الازق فسافر اليها أَولا وافتتحها فوجهت اليه نِيَابَة الشم وَورد دمشق فى خَامِس عشر شهر مرضان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَأكْرم قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى دَاوُد بن بايزيد وَألبسهُ فَرْوَة من السمور وَهُوَ أول من ألبس قَاضِيا فَرْوَة وَمِنْه بقيت عَادَة مستمرة فى دمشق لكل كافل وقاض وَكَانَ الْمُعْتَاد قبل ذَلِك ان يلبس القاضى يَوْم دُخُول الكافل خلعة وَكَانَ معتدلا فى حكومته غَايَة وَاتفقَ فى زَمَنه أَوَاخِر شهر رَمَضَان أَنه وجد ثَلَاثَة أَنْفَار مقتولين بمدرسة الاقبالية قرب الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة فصرف جهده فى التفتيش على القاتلين حَتَّى وجدهم وَثَبت عَلَيْهِم الْقَتْل فصلبهم على بَاب الْمدرسَة الْمَذْكُورَة ثمَّ جَاءَهُ ختم الوزارة الْعُظْمَى وَصدر عَنهُ بِدِمَشْق تواجيه وَكتب براآت واوامر وَكَانَ قبل ذَلِك بشره الشَّيْخ أَبُو بكر قعُود الْمَار ذكره بمجئ الْخَتْم اليه حَتَّى أرسل اليه لَيْلَة الْوُصُول يستخبره فاجاب أَنه وصل الى حُدُود دمشق وَاتفقَ لبَعض المهرة بالفلك من أهل دمشق أَنه استخرج مكثه بِدِمَشْق وَأَنه يكون سِتَّة وَتِسْعين يَوْمًا وَوَافَقَ ذَلِك اشارة الشَّيْخ الاكبر ابْن عربى قدس الله سره فى الجفر فَلَمَّا خرج من دمشق كَانَ بقى من الْمدَّة سِتَّة أَيَّام فَكَانهُ اعْتبر دُخُوله فى أول حُدُود دمشق وَهُوَ حَسبه وَخُرُوجه مِنْهُ فَيصح بذلك الْحساب ثمَّ توجه من دمشق فى ثانى وعشرى ذى الْحجَّة وبقى وزيرا ثَلَاث سنوات ثمَّ عزل فى ذى الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَألف وعينه السُّلْطَان سردارا على العساكر الموجهة الى جَزِيرَة كريت فَمَاتَ بهَا فى سنة سِتّ وَخمسين وَألف قلت وَهَذَا الْوَزير يعرف بجوان قبوجى باشى وَذريته الْآن باقون وَله أوقاف وتعلقات تستغرق الْحَد وهم نظراء فى وسع الدائرة لاولاد ابراهيم خَان الْمَشْهُور وَالله أعلم
مُحَمَّد الشهير بالقحوفى الدمشقى نادرة الزَّمَان فى حسن البداهة وحلاوة التَّعْبِير(4/303)
وَكَانَ مشاركا بِبَعْض الْفُنُون وَالْغَالِب عَلَيْهِ التصوف وَمَعْرِفَة اصْطِلَاح الصُّوفِيَّة وَحل عباراتهم وَله رِوَايَة وَاسِعَة فى الاخبار والاشعار وَكَانَ رُؤَسَاء الشَّام يميلون اليه حدا ويعدونه رَيْحَانَة الندماء ويعاشر مِنْهُم من تطيب لَهُ حركاته وتروق كَلِمَاته وتحدث عَن مجهولاته معلوماته وَكَانَ كثير النَّوَادِر واللطائف وَمِمَّا يعزى اليه مِنْهَا أَنه مر بِهِ أحد الاعيان وَكَانَ نَاظرا على وقف الْجَامِع الاموى فَدَعَا لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ادْع الله لَك بِأَن تنْحَل وَظِيفَة من وظائف الْجَامِع الاموى حَتَّى أوجهها اليك فَقَالَ الْيَسْ جيبك أقرب من ملك الْمَوْت وَكَانَ شَيخنَا الْعَلامَة ابراهيم بن مَنْصُور الفتال يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ وَيَقُول انه كَانَ أعجوبة وقته وَقد مضى عمره كُله فى بلهنية عَيْش وَطيب محادثات ومفاكهات وَلم يبْق أحد مِمَّن يتوسم فِيهِ الْعرْفَان الا خالطه وامتزج بِهِ وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَخمسين والف
السَّيِّد مُحَمَّد الشهير بالتقوى الحلبى الْفَاضِل الاديب الْحَكِيم البارع ذكره البديعى وَقَالَ فِيهِ حَدِيث مجده قديم يغنى عَن الكاس والنديم ودر كَلمه النظيم جَار على أسلوب الْحَكِيم وَقد عَام فى لجج دراية الافلاك ووقف على سَاحل نهابة الادراك وابتدع من الاشياء العجاب مَا لم يبتدعه قبله ابْن دَاب وَله خطّ كَأَنَّهُ در تزينه الفاظه الغر ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله
(قد جدد الشوق الشَّديد خيالكم ... بجوارحى وضمائرى وسرائرى)
(فاذا نظرت الى الْوُجُود رأيتكم ... فِي كل مَوْجُود عيان الخاطر)
وَقَوله
(قد قسم الْحبّ جسمى فى محبتكم ... حَتَّى تجزا بِحَيْثُ الْجِسْم يَنْقَسِم)
(وَمَا تصورت مَوْجُودا ومنعدما ... الا خيالكم الْمَوْجُود والعدم)
وَقَوله من قصيدة طَوِيلَة مدح بهَا الْوَزير نصوح باشا ومطلعها
(حياك سرحة دارة الآرام ... وحباك دِيمَة مزنة وغمام)
الى أَن قَالَ فِيهَا
(ذَاك النصوح أَبُو الوزارة من رقى ... فلك العلى وَعلا على بهْرَام)
وَمِنْهَا
(تجرى الامور بوفق مَا يختاره ... ويطيعه العاصى بِكُل مرام)
(فكانما الاقدار طوع يَمِينه ... بعد الْمُهَيْمِن فى قضا الاحكام)
(قطب تَدور عَلَيْهِ دولة أَحْمد ... ملك الدنا بِالْحلِّ والابرام)(4/304)
(هابته أنفاس النُّفُوس بأسرها ... فى النَّاس بعد الْعَالم العلام)
(ولبأس شدته الاسود تشردت ... وتسترت فى الغاب وَالْآجَام)
مِنْهَا
(يلقاك بالبشر الذى من نشره ... ريح المنى يسرى بِطيب بشام)
(بخلائق تكسو الرياض خلائقا ... فتضيع ريا منْدَل وخزام)
(ويريك من رضوَان عدل جنَّة ... فِيهَا الْحَرْب البغى نَار ضرام)
مِنْهَا
(يَا أَيهَا الطود الْعَظِيم وَصَاحب الطول الجسيم وجوشن الاسلام)
(ألبست من حلل الوزارة خلعة ... فنع الالى مِنْهَا بطيف مَنَام)
مِنْهَا
(مَا دَار فى فلك المدير مَدَاره ... الا لنصرك فى أَلد خصام)
الى أَن قَالَ فى آخرهَا
(كتبت مدائحك الليالى أشطرا ... تبقى بقيت على مدى الايام)
وَقلت أَنا الْفَقِير فى تَرْجَمته حَكِيم أَخذ حَظه من الْحِكْمَة فَنَطَقَ بهَا وَالْحكمَة حَظّ النَّفس الناطقه فَمَا سرى ذهنه فى استقصاء غَرَض الا وَكَانَت الصِّحَّة لَهُ موافقه فَلَو عالج نسيم الصِّبَا لما اعتل فى سحره والجفن الْمَرِيض لزانه وَزَاد فى حوره
(وَلَو أَنه طب الزَّمَان بِعِلْمِهِ ... لبراه من دَاء الْجَهَالَة بِالْعلمِ)
حكى لى المرحوم السَّيِّد عبد الله الحجازى قَالَ رَأَيْته وَقد ملك كَامِل الصِّنَاعَة وَبلغ الْغَرَض فى البلاغة والبراعة وأملى مَالا يسع واعتدلت مَعَ الطبائع الاربع وَفصل الموجز بفصيح الْعبارَات وَعلم الاسباب مِنْهَا والعلامات فاويت مِنْهُ الى فَاضل جمع شَمل الْفضل بعد شتاته ورد فى جد الادب روح حَيَاته وَأخذت عَنهُ جملَة من فنونه وتمتعت حينا بمصونه ومخزونه وَكَانَ على أسلوب الْحَكِيم ومشرب النديم وَلِهَذَا كثر القَوْل فى اعْتِقَاده حَتَّى صرح كثير بالحاده وَقد وقفت لَهُ على قصيدة أثبت مِنْهَا هَذَا الْقدر ومستهلها قَوْله
(سرت وَاللَّيْل محلول الوشاح ... ونسر الجو مبلول الْجنَاح)
(وَعقد الزهر مُنْتَظم الدرارى ... كثغر الْبيض يبسم عَن اقاح)
(وزاهى الرَّوْض اسفر عَن زهور ... بهَا ظمأ الى مَاء الصَّباح)
(كَانَ كواكب الظلماء روم ... على دهم تهب الى الكفاح)
[ (اذا انعكست أشعتها تردت ... على صفحات غُدْرَان البطاح)
(تحاول ستر مسراها بوهن ... وَقد أرجت برياها النواحى)(4/305)
(فواعجبا أتخفى وهى بدر ... وشمس فى الحظائر والضواحى)
(أما علمت عبير الْمسك مِنْهَا ... يسنم بهَا الى واش ولاح)
(مهفهفة يغار الْبَدْر مِنْهَا ... ويخجل قدها هيف الرماح)
(تمازج حبها بدمى وروحى ... مزاج الراح بِالْمَاءِ القراح)
(فَأصْبح فى الملا طبعى وخلقى ... وَمَا فى الطَّبْع عَنهُ من براح)
(كَانَ الله لم يخلق فؤادى ... لغير الوجد بالخود الرداح)
(أحن الى هَواهَا وَهُوَ حتفى ... كَمَا حن السقيم الى الصّلاح)
(وأصبو والصبابة برحتنى ... وأنحلت الْجَوَارِح بالبراح)
(فلولا الطمر يمسك من خيالى ... لطار من النحول من الرِّيَاح)
(أبث لطرفها شكوى فؤادى ... وَهل يشكو الجريح الى السِّلَاح)
(وأطمع ان يزايلنى هَواهَا ... وَهل حذر من الْمَقْدُور ماح)
(فَلَا تأوى لكسرة ناظريها ... فكم ألوت بألباب صِحَاح)
(أفق يَا حب لَيْسَ الْحبّ سهلا ... فكم جد تولد من مزاح)
(رويدك كم تبيت تَئِنُّ وجدا ... كَمَا أَن الطعين من الْجراح)
(وقائلة أرى نجما تبدى ... بلَيْل عوارض كالصبح ضاح)
(أبعد الشيب تمزح بالتصابى ... وتمرح فى برود الافتضاح)
(فَمَا ماضى الشبيبة مسترد ... وَلَا الخسران يسمح بالرباح)
(فَمَا ماضى الشبيبة مسترد ... وَلَا الخسران يسمح بالرباح)
(فدع حب الغوانى فَهُوَ فى ... وتفنيد يحيد عَن الْفَلاح)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف باسحقلى قريب من قونيه وَهُوَ رَاجع من قسطنطينية
مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب البيرونى نزيل دمياط الشافعى الْعَالم الْكَبِير وَالْعلم النحرير كَانَ من كبار الْعلمَاء الحريين بالتفضيل بعيد الصيت فى الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل دخل دمشق أول مرّة وَأخذ بهَا عَن الشَّمْس الميدانى وَأَضْرَابه وَأَجَازَهُ مشايخه بالافتاء والتدريس ثمَّ رَحل الى مصر وَأخذ بهَا عَن النُّور الزيادى وَالشَّيْخ على الحلبى وَتمكن فى الْعُلُوم حق التَّمَكُّن ودرس بِجَامِع الازهر وَأخذ عَنهُ الْجمع الْكثير مِنْهُم الشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَهُوَ أجل من روى عَنهُ وَالشَّيْخ سُلَيْمَان الشرنوبى وَالشَّيْخ على الهيدبى وَمن المصريين وَمن الدمشقيين الشَّيْخ عبد الْقَادِر الصفورى(4/306)
وَحكى الهيدبى الْمَذْكُور أَنه كَانَ يدرس وَلَا ينظر فى كتاب وَيَقُول هَذِه طريقنا وَطَرِيقَة مَشَايِخنَا وَقَالَ الشرنوبى انه كَانَ يدرس فى اُحْدُ وَعشْرين علما وَلَا ينظر فى الكراس واقام فى الازهر يدرس أَرْبَعِينَ عَاما وتلامذته لَا تحصى قَالَ وَلم يكن لَهُ درس يعرف فِيهِ لَكِن كل درس حضر فِيهِ يصير هُوَ شَيْخه وَلَا يقدر ذَلِك الْمدرس يبدى وَلَا يعبد فى حَضرته وَكَانَ عَالما طَبِيبا حاذقا ربع الْقَامَة نحيف الْجِسْم مهابا يسطع النُّور من وَجهه وَكَانَ كل من يرَاهُ يُحِبهُ ثمَّ رَحل الى دمياط وَلما وردهَا لم يعرف بفضله اُحْدُ وَكَانَ زيه غير زى الْعلمَاء وَكَانَ يحمل طبق الْعَجِين على رَأسه الى الفرن وَيَأْخُذ المقطف بِيَدِهِ يقْضى مَصَالِحه من السُّوق وَيرجع الى بَيته أَو الى الْمَسْجِد وَاسْتمرّ على ذَلِك سنة وَنصفا ثمَّ ورد دمياط الشَّيْخ مُحَمَّد القطب الصيداوى وأضافه بعض الْعلمَاء فَذهب هُوَ وَصَاحب التَّرْجَمَة الى ذَلِك الْعَالم فَرَأى صَاحب التَّرْجَمَة قبل يَده فَقَالَ لَهُ كَيفَ هَذَا الْحَال فَقَالَ لَهُ عرفت فَالْزَمْ فَسَأَلَهُ الْعَالم عَنهُ فَقَالَ لم يَأْذَن باعلام أحد بِحَالهِ أما سَمِعت قَوْله عرفت فَالْزَمْ وسافر الشَّيْخ مُحَمَّد القطب بعد ذَلِك بأيام قَلَائِل وفى ذَلِك الْعَهْد كَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد السبينى يقرئ فى تَفْسِير البيضاوى فى جَامع الْبَحْر وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يأتى الى وَرَاء سَارِيَة بعيدَة عَن مجْلِس السبينى وَيجْلس وَحده حَتَّى لَا يكَاد يرَاهُ أحد فَبعد ثَلَاث سِنِين سَافر الشَّيْخ شمس الدّين أَخُو السبينى الْمَذْكُور الى قسطنطينية وَرجع الى صيدا وَنزل عِنْد الشَّيْخ مُحَمَّد القطب فَأعلمهُ بفضيلة الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة وَأخْبرهُ أَنه يجلس بحذاء السارية الْفُلَانِيَّة وَوَصفه لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ الشَّيْخ شمس الدّين الى دمياط وَقعد فى مَكَان التدريس بحذاء أَخِيه الْمدرس واذا بالشيخ المترجم أقبل وَقعد وَرَاء تِلْكَ السارية فَأخْبر الشَّيْخ شمس الدّين أَخَاهُ بِهِ وَذكر شهرته فألجمه الله تَعَالَى عَن الْكَلَام وَلم يقدر على النُّطْق فَقَامَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى الشَّيْخ وسلما عَلَيْهِ وأجلساه فى مَكَان التدريس فَشهد للسبينى بِالْفَضْلِ وأعلمه أَنه فى الْيَوْم الفلانى من الشَّهْر الفلانى تكلم فى تَفْسِير الْآيَة الْفُلَانِيَّة فى سُورَة كَذَا وَكَذَا وَكَانَ الصَّوَاب كَذَا وَكَذَا وَلزِمَ التدريس من ذَلِك الْيَوْم الى أَن مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وكمل فى مَجْلِسه مائَة وَثَلَاثُونَ طَالبا وَلم ينظر فى كراس قطّ حَالَة التدريس وَمن مؤلفاته حَاشِيَة على الْمِنْهَاج والمحلى سَمَّاهَا فتح التجلى وَكَانَت وَفَاته بدمياط فى سنة أَربع وَسِتِّينَ بعد الالف وَلما توفى لم يبْق فى دمياط كَبِير وَلَا صَغِير الا حضر جنَازَته وَدفن فى سيدى فتح بَين الجناحين وقبره مَشْهُور يزار(4/307)
ويتبرك بِهِ
مُحَمَّد الشهير بملا حلبى الكردى قاضى الْقُضَاة بِالشَّام مُحَقّق الزَّمَان وأستاذ الاساتذة وَرَأس الجهابذه أَخذ ببلاده عَن الجلة من الْمُحَقِّقين ثمَّ دخل الرّوم فملأت شهرته ارجاها وَقصرت عَلَيْهِ مهرَة الطلاب رجاها واشتغل عَلَيْهِ جلّ من نبل بعد السّبْعين وَألف من عُلَمَاء الرّوم ورؤساء صدورها وأجلهم أستاذى المرحوم شيخ مُحَمَّد عزتى قاضى الْعَسْكَر وَالْمولى صَالح الشهير باسحق زَاده الْمُقدم ذكرهمَا ثمَّ درس بمدارس الطَّرِيق الْمُعْتَبرَة عِنْدهم وَألف نفائس التَّأْلِيف وَقد وقفت لَهُ على كتاب سَمَّاهُ الانموذج أَحسب أَنه ذكر فِيهِ سَبْعَة مبَاحث من سَبْعَة عُلُوم أبان فِيهَا عَن تَحْقِيق باهر وَهَذِه التَّسْمِيَة مسبوقة للشمس الفنرى فانه ألف كتابا سَمَّاهُ الانموذج ذكر فِيهِ مائَة وَعشْرين علما ثمَّ تلاه الْجلَال الدوانى فى تَسْمِيَته كِتَابه ذكر فِيهِ عشرَة مبَاحث من عشرَة عُلُوم وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة تأليف ورسائل غير مَا ذكر وَله فى التَّفْسِير ومتعلقاته بَاعَ طَوِيل ثمَّ ولى قَضَاء الشَّام بعد استاذى عزتى الْمَذْكُور فى غرَّة رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَمَات بهَا فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمدفن السنانية
مُحَمَّد أَمِين الْمَعْرُوف بالارى الاستاذ الْكَبِير الصديقى الشافعى الْبَصِير أعظم الْمُحَقِّقين على الاطلاق وَأجل أهل عصره بالِاتِّفَاقِ كَانَ مِمَّن طبعه الله تَعَالَى على الْفضل والذكا وامتزج بالمعارف الالهية فأشرقت فى بَاطِنه اشراق ذكا وَكَانَ فى التَّحْقِيق غايه وفى حل المشكلات نهايه حَدَّثَنى بعض عُلَمَاء دمشق نَاقِلا عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الاستاذ أَيُّوب بن أَحْمد الخلوتى أَنه كَانَ يَقُول فى حَقه لَو أدْركهُ السَّيِّد الشريف لما وَسعه الا التلمذ لَهُ وَمن شهد لَهُ خُزَيْمَة فحسبه وَحكى بعض المغاربة الواردين الى دمشق وَكَانَ مِمَّن دخل بِلَاد الْعَجم والهند ولار أَن اللارى صَاحب التَّرْجَمَة من أَوْلَاد الْمُلُوك وَكَانَ أَبوهُ السُّلْطَان اللار وَلما تغلب شاه الْعَجم على تِلْكَ الديار خرج مُحَمَّد امين مِنْهَا الى بِلَاد آل عُثْمَان فَدخل بَغْدَاد وَحج مِنْهَا ثمَّ رَجَعَ الى الْموصل وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ ورد حلب واستوطنها مُدَّة وانتفع بِهِ فضلاؤها مِنْهُم السَّيِّد عبد الله الحجازى ثمَّ قدم دمشق فَحل مِنْهَا مَحل الانسان من الْعين وخدمته أفاضلها وبالغوا فى تَعْظِيمه ورعوا حق مِقْدَاره بِحَسب امكانهم وَمَا أَحسب فِيمَا سَمِعت أَن احدا روعى حَقه بهَا مثله وتلمذ لَهُ أَكثر الْفُضَلَاء وَأخذُوا عَنهُ مِنْهُم(4/308)
سيدنَا أَبُو الصفاء مُحَمَّد بن أَيُّوب الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الهادى وَقد حَدَّثَنى هَذَانِ الفاضلان عَن فضائله وعلومه ومكاشفاته الباهرة وأحواله الظَّاهِرَة مِمَّا يحير الالباب وبحكم بِأَنَّهُ أُوتى من المعارف لب اللّبَاب وَقَالَ انه بلغ مَا بلغ وسنه لم يُجَاوز الثَّلَاثِينَ بِكَثِير وَالْحَاصِل أَنه مصداق قَول بَعضهم هُوَ بَصِير مَاله فى جَمِيع من رأى ورؤى نَظِير فسبحان من أطفأ نور بَصَره وَجعل قلبه مشكاة نور فانها لَا تعمى الابصار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِى فى الصُّدُور وَمِمَّا حكى لى مَوْلَانَا أَبُو الصَّفَا الْمَذْكُور من أَحْوَاله انه زار حَضْرَة سيدى الشَّيْخ الاكبر قدس الله روحه قَالَ فَركب وتوجهنا مَعَه معشر التلامذة مشَاة فى خدمته وَكُنَّا نزيد على خمسين نَفرا وَلما رَجعْنَا جِئْنَا الْمحل الْمَعْرُوف بالبحصة فَوقف ثمَّة وَقَالَ أَشمّ هُنَا رَائِحَة زكية وأظن أَن فى هَذَا الْمَكَان أحدا من كبار الاولياء قَالَ فعجبنا من ذَلِك ثمَّ مَشى فَلَمَّا وصلنا الى المزار الْمَعْرُوف فى الرفاق الضّيق بَين البحصة والحسودية وَهُوَ الذى يألفه الشَّيْخ الولى الْبركَة حُسَيْن بن فرفره رَأينَا الشَّيْخ حُسَيْن الْمَذْكُور وَاقِفًا على الْبَاب ثمَّ نَظرنَا الى خلفنا فَرَأَيْنَا الاستاذ ترجل عَن الْفرس وَهُوَ يَقُول بِأَعْلَى صَوته هَذَا صَاحب الرَّائِحَة الْحَمد لله على الِاجْتِمَاع بِهِ فَاسْتَقْبلهُ الشَّيْخ حُسَيْن وَأدْخلهُ الى مَجْلِسه الذى كَانَ يجلس فِيهِ وَجَرت بَينهمَا مُخَاطبَة تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب ثمَّ وضع الشَّيْخ حُسَيْن قُدَّام الاستاذ قَصْعَة فِيهَا لبن وخبز فَأكل وأكلنا مَعَه ثمَّ أمرنَا الاستاذ بِالْخرُوجِ فخرجنا وَبَقينَا نسْمع كَلَامهمَا فَكَانَ الاستاذ يسْأَله وَهُوَ يجِيبه فَلَا نفهم مَا يَقُولَانِ الا قَول الاستاذ حينا هَذَا هُوَ الْجَواب الذى لم أسمعهُ الا الْآن ثمَّ توادعا ببكاء وخضوع وانصرفنا وَله من الامور الخارقة مَا هُوَ أغرب من هَذَا وأعجب وَكَانَ اذا تلمذ لَهُ أحد أمده الله تَعَالَى بإمدادته الْعَظِيمَة وَقد شاهدن ذَلِك فِي كثير من المنتمين إِلَيْهِ أغدق الله عَلَيْهِم الْخيرَات ووفر لَهُم دواعى المعلومات وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ بركَة الزَّمَان ونتيجة الاوان وَكَانَت وَفَاته فى دمشق فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد باشا الكوبرى الْوَزير الاعظم فى عهد السُّلْطَان مُحَمَّد بن السُّلْطَان ابراهيم أشهر من نَار على علم كَانَ من أمره انه ولى حُكُومَة الشَّام فى سنة سِتّ وَخمسين وَألف ثمَّ ولى حُكُومَة الْقُدس ثمَّ طرابلس الشَّام وَلم يزل خامل الذّكر مهضوم الجناب الا أَن لَهُ حسن تَدْبِير وخروا فى الامور وَكَانَ أَمر الْملك من عهد أَن ولى السُّلْطَان مُحَمَّد(4/309)
الْمَذْكُور السلطنة قد اخْتَلَّ وتهاون رُؤَسَاء الدولة لصِغَر السُّلْطَان فى نظم الامور على نسق يرضى الْجُمْهُور فكثرت الاغراض وبدلت الْجَوَاهِر بالاعراض وتغيرت الدول وَذَهَبت النَّاس الاول وَقَامَت الْفِتَن على سَاق وانتصب الْخلاف وارتفع الْوِفَاق وتقوت ضِعَاف الدوله واظهروا العتو والصوله فَكَانُوا فى آرائهم ناظرين الى ورائهم وَبِهَذَا السَّبَب كَانَ يُولى الْوَزير أَيَّامًا فَلَا يرى هُدُوا وَلَا رَاحَة وَلَا ان كَانَ مناما ثمَّ يقتل أَو يعْزل وينهب أَو يسلب الى ان بَغت طَائِفَة من العبيد اللئام الَّذين هم دَاخل حرم السُّلْطَان من الخدام وهجموا على جدة السُّلْطَان صَاحِبَة الْخيرَات فَقَتَلُوهَا لَيْلًا وَلم يخشوا اثما وَلَا ويلا وَلم تزل نَار تِلْكَ الْفِتَن تتقد والجمعيات السوء فى كل حِين تَنْعَقِد الى ان وَقع الِاخْتِيَار على صَاحب التَّرْجَمَة أَن يكون وزيرا ومدبرا للْملك ومشيرا هُنَالك انْقَلب العيان وَأخذ حَده السَّيْف والسنان وَمن هُنَا أشرع فى التجرمة فَأَقُول أخبرنى من أَثِق بِهِ انه لما استصعب الامر فى لم شعث الدولة جمع اليه السُّلْطَان المقربين من أهل الْحرم السلطانى وَفِيهِمْ على اغا الطَّوِيل المهشور وتفاوضوا فِيمَن يصلح للوزارة الْعُظْمَى ويحسم مَادَّة التَّفَرُّق فَكل مِنْهُم أَشَارَ الى وَاحِد حَتَّى انْتَهَت النّوبَة الى على أغا الْمَذْكُور فَأَشَارَ الى انه يَلِيق بالوزارة الاصاحب التَّرْجَمَة فسخروا مِنْهُ على مَا يعْرفُونَ من انحطاط قدره فَقَالَ أَنا أَقُول هَذَا عَن اختبار وممارسة والامر مَأْخُوذ على التراخى فَيمكن أَن يكون وزيرا اياما ثمَّ اذا لم يحكم الْأَمر عزل وَلَيْسَ عَزله بالصعب على الدولة فاتفق الرأى عَلَيْهِ ثمَّ فى ثانى يَوْم ناداه السُّلْطَان وَسلم اليه الختمر وأوصاه بِمَا يلْزم التبصر فِيهِ فَكَانَ أول مَا ابْتَدَأَ فِيهِ من الامور نفى على أغا الذى كَانَ سَببا لتوليته لجزيرة قبرس وابعاده عَن الدولة وَقَالَ من قدر على التَّوْلِيَة قدر على الْعَزْل ثمَّ أطلق الْقَتْل فى أَرْكَان الدولة وَاحِد ابعد وَاحِد وَقَامَ بأعباء السلطنة وأخمد بِحسن تَدْبيره نائرة الْفِتَن وأضعف العسرك بالاسفار وَأكْثر من محو أَصْحَاب الْكَلِمَة وَفرق شملهم وأبلغ مَا يحْكى عَنهُ فِي خُصُوص الْقَتْل أَنه كَانَ يواخي وزيرا أَحسب أَن اسْمه خسرو باشا وَكَانَ بَينهمَا مواثيق ومودة زَائِدَة يعرفهَا النَّاس فَاسْتَحْضرهُ يَوْمًا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أُرِيد قَتلك الْيَوْم فَقَالَ لَهُ لم تقتلني وَلم يصدر مني مَا يُوجب الْقَتْل وَأَنا على عَهْدك وميثاقك فَمَاذَا يحصل من قَتْلِي فَقَالَ لَهُ إِن فِي قَتلك إرهابا عَظِيما للْقَوْم فَإِنَّهُم يَقُولُونَ الْوَزير قتل أقرب النَّاس إِلَيْهِ فَهُوَ لَا يتَوَقَّف فِي أَمر الْقَتْل وَفرق شملهم وأبلغ مَا يحْكى عَنهُ فى خُصُوص الْقَتْل أَنه كَانَ يواخى وزيرا أَحسب أَن اسْمه خسر وباشا وَكَانَ بنهما مواثيق ومودة زَائِدَة يعرفهَا النَّاس فَاسْتَحْضرهُ يَوْمًا اليه وَقَالَ لَهُ أُرِيد قَتلك الْيَوْم فَقَالَ لَهُ لم تقتلنى وَلم يصدر منى مَا يُوجب الْقَتْل وَأَنا على عَهْدك وميثاقك فَمَاذَا يحصل من قَتْلَى فَقَالَ لَهُ ان فى قَتلك ارهاب عَظِيما للْقَوْم فانهم يَقُولُونَ الْوَزير قتل أقرب النَّاس اليه فَهُوَ لَا يتَوَقَّف فى أَمر الْقَتْل(4/310)
فَيلقى الرعب فى قُلُوبهم فأبرم عَلَيْهِ فى ترك ذَلِك فَلم يفعل وَقَتله فى الْحَال قلت وَقد وَقع مثل هَذَا كثيرا وَأَعْجَبهُ مَا وَقع فى زَمَاننَا الْقَرِيب للامام مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحسن سُلْطَان الْيمن أَنه قتل ابْنه ارهابا لعسكره وَقَالَ لَهُم مَا فرطت فى ابنى الا ليعلم النَّاس انى لَا أعرف الا الْقَتْل وَلَا أتوقف فِيهِ بِحَال فَملك الْبِلَاد وقهر رَعيته بِهَذَا الصَّنِيع الفظيع وَكَذَلِكَ أَخَاف صَاحب التَّرْجَمَة النَّاس بِفِعْلِهِ هَذَا وَلزِمَ كل أحد مِنْهُم فى زَمَانه طوره وسالمه الزَّمَان وانقاد لَهُ فِيمَا أبرمه وعظمت دولته وجبيت اليه ذخائر الدُّنْيَا ثمَّ ان السُّلْطَان مُحَمَّد سَافر الى أدرنه فى سنة سبع وَسِتِّينَ وجهز صَاحب التَّرْجَمَة الى قتال الْكفَّار فسافر وافتتح قلعة يُنَوّه وَبَعض قلاع أخر وَخرج فى ذَلِك الاثناء على الدولة حسن باشا محافظ حلب وَتَبعهُ ابْن الطيار كافل الشَّام والوزير كنعان وانضاف اليهم من الْعَسْكَر جمع عَظِيم وَكَانَ خُرُوجهمْ خوفًا من صَاحب التَّرْجَمَة وحسدا لَهُ فصرف وَجه همته الى الانتقام مِنْهُم فَقتلُوا على يَد مرتضى باشا كَمَا أسلفته فى تَرْجَمَة حسن باشا وأوقع الْقَتْل فِيمَن كَانَ تَبِعَهُمْ من السكبان وَغَيرهم على يَد نواب الْبِلَاد فَقتل مِنْهُم خلق كثير وَتَفَرَّقُوا أيدى سبا وَكَانَ فرط من الْعَسْكَر الشامى الامر فى انحيازتهم الى مُحَافظَة دمشق فَجهز شرذمة نَحْو الثلثمائة من جند السُّلْطَان المعروفين بالقبوقولية وَبعث بهم فوصلوا الى دمشق واستقروا بقلعتها وَأخذُوا غَالب دورها وتسلموا أَبْوَاب الْمَدِينَة وَبَاب المحكمة والحسبة وسوق الْخَيل وميزان الْحَرِير وَبَقِيَّة الخدم الَّتِى كَانَت مَخْصُوصَة بعسكر الشَّام وَبِذَلِك انحط عَسْكَر الشَّام بعض الانحطاط بِمَا توارد عَلَيْهِم من الْوَهم ثمَّ أَخذ كبراءهم بَغْتَة فَأرْسل أمرا بِقَتْلِهِم فَقتل مِنْهُم قتلة عَظِيمَة وَقد قدمنَا قصَّة قَتلهمْ فى تَرْجَمَة عبد السَّلَام بن عبد النبى فَلَا نطيل باعادتها ثمَّ توجه السُّلْطَان الى بروسه وَصَاحب التَّرْجَمَة مَعَه وَأَقَامَا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رجعا الى مقرّ السلطنة وَقد تمهدت الْبِلَاد وتأطدت أَحْوَال الْملك وَأمنت الغوائل واطمأنت النَّاس وتفرغ الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة لاجراء الْخيرَات فعمر الخان الْمَعْرُوف بِهِ فى طَرِيق قسطنطينية بَين اسكى شهر وازنيق والخان والعمارة الْعَظِيمَة بقصبة الثغور والعمارات الْكَثِيرَة فى ادلب وفى بِلَاد رومأيلى مِمَّا صَار تعلقا عَظِيما وجوارا جسيما ثمَّ وقف على جِهَات وَقد وقفت على صُورَة الوقفية بانشاء الْمولى أنسى وَذكرت ديباجتها فى تَرْجَمته فَارْجِع اليها وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بالتربة الَّتِي عمرها(4/311)
مُحَمَّد الشهير بالملغروى قالضى الْحَرَمَيْنِ أحد موالى الرّوم الْمَشْهُورين بِالْعلمِ وَالتَّحْقِيق وَكَانَ لَهُ فى التَّفْسِير الْيَد الطُّولى وَكَانَ فى الصّلاح وَالْعِبَادَة على جَانب عَظِيم نير الْوَجْه نقى الشيبة عَلَيْهِ مهابة الْعلم وَالتَّقوى رَأَيْته بِدِمَشْق وَلم أجتمع بِهِ وَذكره شَيخنَا الْعَلامَة الخيارى فى رحلته وَقَالَ فى تَرْجَمته تولى قَضَاء الْمَدِينَة مُدَّة أَرْبَعَة أشهر وايام مبدؤها غرَّة الْمحرم سنة خمس وَسبعين وَألف ثمَّ نقل مِنْهَا الى قَضَاء مَكَّة المشرفة وَكَانَ مُقيم قسطاس الشريعه ومديم الْعدْل فاذا ناداه لباه مطيعه رفع منَازِل الْعلم بالبلدين المحترمين وَأقَام شعائره وشراعه وناهيك بِهَذَيْنِ درس تَفْسِير القاضى البيضاوى بالروضة الشريفية بَين الْقَبْر والمنبر فأجاد وَأفَاد وَكَانَ درسه أعجب درس قَرَأَهُ الموالى أَمْثَاله بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ يحضرهُ الْجمع الْكثير من الْفُضَلَاء والجم الْغَفِير من النبلاء قَالَا لازمته قِرَاءَته فتحليت بفرائده ولاحت لى مشرقة فى سلك الافادة جَوَاهِر فَوَائده فحضرته من أول سُورَة عَم الى آخر سُورَة الطارق وَمن أعجب الِاتِّفَاق أَنه جَاءَهُ تَوْلِيَة قَضَاء مَكَّة مَعَ خبر عَزله من الْمَدِينَة فانتقل من حرم الى حرم وَللَّه در الْقَائِل وَكَأَنَّهُ نطبق بِلِسَان حَال الْمشَار اليه فَقَالَ
(فَارَقت طيبَة مشغوفا بطيبتها ... وَجئْت مَكَّة فى وجد فى ألم)
(لَكِن سررت بِأَنِّي عِنْد فرقتها ... مَا سرت من حرم إِلَّا إِلَى حرم)
وَاتفقَ حَال مجئ الرَّسُول بالْخبر أَنه كَانَ بالروضة الشَّرِيفَة فى مجْلِس الدَّرْس وَهُوَ مشتغل بالتحقيق وَكَانَ الدَّرْس ذَلِك الْيَوْم فى سُورَة التطفيف فَوقف مِنْهَا على قَوْله تَعَالَى {ختامه مسك} فَلَمَّا قُرِئت المراسيم بتوليته مَكَّة وعزله عَن الْمَدِينَة خاطبته بقولى تَعَالَى ختامه مسك فَلَمَّا فأعجب بذلك غَايَة الاعجاب وَأظْهر أسفه على الْمَدِينَة ثمَّ بَيْنَمَا تهَيَّأ للبروز الى مَكَّة تمم قِرَاءَته الى ختام سُورَة الطارق قَالَ وَكَانَت وَفَاته بقسطنطينية فى الْعشْر الاول من صفر سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف والملغروى نِسْبَة الى ملغره بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا رَاء ثمَّ هَاء مُعرب مكفره بِالْمِيم وَالْكَاف الَّتِى تقْرَأ نونا فى اصْطِلَاح التركية وهى بَلْدَة بِالْقربِ من تكرطاغى بَينهمَا وَبَين أدرنه مرحلتان
السَّيِّد مُحَمَّد غازى الخلوتى الاستاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى خَليفَة الشَّيْخ اخلاص الْمُقدم ذكره بحلب وَكَانَ من خلص عباد الله تَعَالَى كثير التَّعَبُّد والمجاهدة ورد(4/312)
دمشق مرَّتَيْنِ وفى كلتيهما ألْقى الله تَعَالَى محبته فى قُلُوب النَّاس وَأَقْبلُوا بكليتهم عَلَيْهِ وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق جلّ أهل دمشق وَكَانُوا يزدحمون عَلَيْهِ لاخذ الطَّرِيق فَلَا يُمكنهُ الْمُبَايعَة بِالْيَدِ فَيمسك بِيَدِهِ شاشا طَويلا ويرسله الى خَارج الْحلقَة المزدحمة عَلَيْهِ فَيقبض عَلَيْهِ النَّاس ويبايعهم وَكنت أَنا الْفَقِير مِمَّن جدد عَلَيْهِ الْعَهْد وَكَانَ نورانى الشكل أخذت مهابة الصّلاح بِجَمِيعِ أَطْرَافه وَكَانَ سَافر فى قَدمته الاولى الى الْقُدس وَأخذ عَنهُ بهَا جمع عَظِيم أَيْضا وَلم نر فى عصرنا من مَشَايِخ الطّرق من أَخذ عَنهُ النَّاس مِقْدَار هَذَا الشَّيْخ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مسك الختام لحزب الخلوتية فى جلالة الشَّأْن وَالْحَال والقال وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف بحلب رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الاحسائى الحنفى نزيل بَغْدَاد كَانَ من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين قَرَأَ ببلاده على الشَّيْخ ابراهيم الاحسائى واخذ بِبَغْدَاد عَن مفتيها الشَّيْخ متلج وَله مؤلفات مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الالفية للجلال السيوطى وَكتاب فى التعريفات وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف
مُحَمَّد الديرى القدسى ينتسب الى السَّيِّد بدر الدّين سَاكن وادى النسور كَانَ مَشْهُورا فى الْقُدس بالصلاح والزهادة حَافِظًا لِلْقُرْآنِ مجودا عابدا تقيا ناسكا لَهُ تهجدات كَانَ لَا ينَام فى النّصْف الاخير من اللَّيْل كثير الْبكاء من خشيَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف
مُحَمَّد قاضى الْقُضَاة كَانَ فَاضلا صَاحب جاه وحشمة وَفِيه سخاء ومروءة الا أَنه كَانَ يغلب عَلَيْهِ الطمع ولى قَضَاء الْقُدس وَالْمَدينَة ثمَّ ولى الشَّام فى سنة ثَمَانِينَ وَألف وعزل عَنْهَا فولى بعْدهَا قَضَاء أدرنه وَلما دخلت أدرنه كَانَ قَاضِيا بهَا فاجتمعت بِهِ مَرَّات وَكَانَ لَهُ مباحثة جَيِّدَة فى التَّفْسِير ناقشنى فى عِبَارَات سطرت مِنْهَا أَشْيَاء وَكَانَ نَهَضَ بِهِ الْحَظ فى أثْنَاء قَضَائِهِ بادرنه لاقبال الْوَزير الْفَاضِل عَلَيْهِ ووجهت اليه رُتْبَة قَضَاء قسطنطينية ثمَّ عزل وَلم يطلّ بِهِ الْعُمر لِاسْتِيفَاء بعض أمانيه وَكَانَت وَفَاته بقسطنطينية فى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن دَاخل سور قسطنطينية بِالْمَسْجِدِ الْمَعْرُوف بقوغه جى دده بِالْقربِ من حمام السُّلْطَان سليم
مُحَمَّد المتلولي الزيلعى العقيلى الاستاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الولى الصَّالح الْمجمع على جلالته وولايته ولد بجازان فى نَيف وَثَلَاثِينَ وَألف وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَقَرَأَ(4/313)
مَا يَكْفِيهِ لمعاشه ومعاده وَكَانَ من أحباء الله تَعَالَى وخواص أوليائه المقربين كَبِير الْحَال قوى الْمقَال موثرا للخمول ويأبى الله الا اشتهاره عَظِيم الهيبة كثير السكينَة اذا رَآهُ من لم يعرفهُ تحقق ولَايَته لطيف الطباع متحملا للاذى لَا تكَاد تسمع مِنْهُ كلمة تغيظ وَكَانَ سَيْفا مسلولا اذا ألجئ الى اظهار شئ من الكرامات أَتَى بالعجب العجاب مِنْهَا وَلذَلِك كَانَت تهابه امراء الْبلدَانِ الَّتِى يدخلهَا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَخذ شئ مِنْهُ من المكوس على جارى عَادَتهم وَكَانَ يتستر بالرياسة فى السفن وَاتفقَ لَهُ كثيرا أَنه يخرج بحمول الْبَز الْهِنْدِيَّة من الفرضة فيراها المكاسون حبوبا وَيكون قد أعطَاهُ أَصْحَابهَا عَلَيْهَا شَيْئا على أَن يُخرجهَا لَهُم من غير مكس وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ مُتَوَجّه بعد الْحَج الى الْيمن فى سفينة فى سفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَدفن بالقنفذة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد الشهير بالانكورى شيخ الاسلام وعالم الرّوم وفقيهها وَصدر الدولة ووجيهها كَانَ كَبِير الشان متصلبا فى أَحْكَامه مؤيدا فى اتقان اجراء الْحق وَأَحْكَامه فَقِيها مطلعا على النقول والتصحيحات منقحا لما تشعب من الاقوال والتخريجات وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يكن أفقه مِنْهُ فى الْعَصْر الاخير وَلَا أحكم من رَأْيه فى التَّقْرِير والتحرير وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الصمت والسكون لكنه اذا تحرّك جاد جود الْغَيْث الهتون لَازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية وَصَارَ أَمِين الْفَتْوَى فى زمن شيخ الاسلام مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البورسوى واشتهر بِالْعلمِ وَالْفِقْه ثمَّ ولى قَضَاء ينكى شهر ثمَّ قَضَاء مصر ثمَّ قَضَاء قسطنطينية ثمَّ قَضَاء الْعَسْكَر باناطولى وَكَانَ الْمُفْتى شيخ الاسلام يحيى المنقارى حصل لَهُ عِلّة فى يَده منعته من الْكِتَابَة فاستناب صَاحب التَّرْجَمَة فى الْكِتَابَة على الْفَتَاوَى فاستمر مُدَّة يكْتب على الْفَتَاوَى الى ان عزل المنقارى عَن الْفَتْوَى ووجهت لقاضى الْعسر بروم ايلى شيخ الاسلام على فَوجه قَضَاء روم ايلى لصَاحب التَّرْجَمَة فَأَقَامَ ارْبَعْ سنوات قَاضِيا بالعسكر ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان مُحَمَّد من أدرنه الى قسطنطينية فى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف عزل فى غرَّة جُمَادَى الاولى من هَذِه السّنة وَأعْطى قَضَاء بَلْدَة انكورية على وَجه التَّأْبِيد فَأَقَامَ بداره مشتغلا بالتحرير وَكتب على تنوير الابصار شرحا نفيسا أبان فِيهِ عَن فضل باهر واطلاع تَامّ وانتقد على التمرتاشى انتقادات أَكْثَرهَا مسلمة لَا مجَال للخدش فِيهَا وَقد حَضرته مرّة وَهُوَ يقْرَأ(4/314)
فِيهِ ببستانه الْمَعْرُوف بِهِ بقنلجيه فى صُحْبَة صاحبنا الْفَاضِل عبد الباقى بن أَحْمد السمان وَجَمَاعَة من فضلاء المدرسين ثمَّ أُعِيد الى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى وَلما قتل الْوَزير مصطفى باشا وَاخْتلف أَمر الدولة فى الْعَزْل وَالتَّوْلِيَة طلب لمشيخة الاسلام فوجهت اليه بعد شيخ الاسلام على وَلم تطل مدَّته فِيهَا فتوفى وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف عَن نَحْو سبعين سنة رَحمَه الله تَعَالَى
مَحْفُوظ بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن ابراهيم التمرتاشى الغزى الْفَقِيه الحنفى بن الشَّيْخ الامام صَاحب التَّنْوِير الْعَالم كَانَ فى الْفضل سامى الهضبة بعيد الْغَوْر وتفقه بوالده ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة فَأخذ بهَا عَن شيخ الْحَنَفِيَّة النُّور على ابْن غَانِم المقدسى وَعَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن محب الدّين الشهير بِابْن الذِّئْب وبابن الْمُحب الحنفى وَأخذ النَّحْو عَن الْعَلامَة أَبى بكر الشنوانى وَرجع الى بَلَده وأفادوا وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَخُوهُ الشَّيْخ صَالح الْمُقدم ذكره وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمن شعره مَا كتبه الى الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد النبى النويرى معاتبا لامر حصل من أَخِيه الشَّيْخ صَالح الْمَذْكُور فَقَالَ
(أخى ان هَذَا العتب مِنْك طَوِيل ... وشمس وجودى بالبعاد أفول)
(وودك فى وسط الْفُؤَاد غرسته ... وحاشاى يَوْمًا أَن يُقَال ملول)
(ولسنا نقيس الْغَيْر يَوْمًا بذاتكم ... فَلَيْسَ سَوَاء عَالم وجهول)
(فانك مِمَّن حَاز فضلا وعفة ... وقدركم بَين الانام جليل)
(وأصبحت فى فن الفصاحة مُفردا ... وَلَيْسَ لكم بَين الانام مثيل)
(فيا شَاعِر الدُّنْيَا وَيَا خير فَاضل ... وَيَا من لَهُ فضل على جزيل)
(لَئِن كَانَ منا صَار مَا يُوجب القلى ... فانت كريم وَالْكَرم يقيل)
(وَكن واثقا بى اننى بك واثق ... وَقَول اللواحى والعذول فضول)
(وَوَاللَّه سعيى فى الصفاء محبَّة ... اليك وانى للعتاب حمول)
(فَلَا زلت فى عز منيع ورفعة ... مدى الدَّهْر من يشنيك فَهُوَ ذليل)
(وان دمت فى صد وهجر وجفوة ... تمثلت بَيْتا أنشدته فحول)
(خليلى مَا فى دَهْرنَا من معاشر ... صديق واخوان الصفاء قَلِيل)
(ومحفوظ أبدى ذَا النظام وَعلمه ... بمنظومكم مَا ان اليه سَبِيل)
فَأَجَابَهُ النويرى يَقُوله(4/315)
(أتانى نظام فاق درا بِهِ بدا ... بديع معَان هذبته عقول)
(تضمنه عتبا حلا لي بَيَانه ... تمنيت أَن العتب فِيهِ يطول)
(وحقك يَا مولاى مَا كنت بالذى ... لَهُ فكرة فِيهَا القلاء يجول)
(وقلبى بِقَيْد الود مِنْك مُقَيّد ... وَلم يبد للسلوان عَنهُ سَبِيل)
(سقيت كؤس الْمَوْت ان ملت فى الْهوى ... وان كنت عَن عهدى الْقَدِيم أَحول)
(فانتم منى عينى وبهجة ناظرى ... على فَضلكُمْ دون الانام أعول)
(وبعدى عَنْكُم لَيْسَ للصد والقلى ... وَلَكِن لامر صَار فَهُوَ دَلِيل)
(فوَاللَّه ذَاك الامر أسهر مقلتى ... وأزعجنى والجسم مِنْهُ نحيل)
(رميت من الدَّهْر المغر بنكبة ... خصصت بهَا والدهر صَاح يمِيل)
(فصبرا على مَا نالنى من أحبتى ... عساهم يجودوا بِالرِّضَا ويقيلوا)
(بحقك يَا مولاى كن عاذرى فقد ... وهى الْجِسْم منى والفؤاد كليل)
(فَلَا زلت فى عز عَظِيم ورفعة ... مدى الدَّهْر مَا أبدى العتاب خَلِيل)
وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف
السُّلْطَان مَحْمُود بن ابراهيم عَادل شاه السُّلْطَان الدكن الْملك الْمُوفق النَّاصِر للشريعة كَانَ ملكا كثير الْفضل حسن التَّدْبِير سَار فى ولَايَته أحسن سيرة تولى الْملك بعد وَفَاة وَالِده وَتوفى هُوَ فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وفى هَذِه السّنة أُصِيب خرم شاه جهان ابْن جهانكير شاه أكبر مُلُوك الْهِنْد بفالج عطله عَن الْحَرَكَة وَحصل بَين أَوْلَاده حروب كَثِيرَة وَلما أَرَادَ الله تَعَالَى بِالْهِنْدِ خيرا واحسانا وَقدر ظُهُور الْعدْل فيهم كرما وامتنانا أظهر فى خافقها شموس السلطنة بِلَا ريب وأنار فى سَمَاء سلطنتها أنوار بدور الْملك السُّلْطَان أَو رنك زيب وطوى بِسَاط اخوته ونتف حللهم ومزق وَحرق بِنَار المظلومين لباسهم وخرق وَقتل أَخَاهُ دَارا شكوه واقتلعه هُوَ وَأَصْحَابه وَكَانَ دَارا شكوه ذَا ذوق وفطنة بهية وصفات مستحسنة الا أَنه فى اخر عمره صَارَت سيرته مذمومة وأحدث مظالم كَثِيرَة وَقتل أَخَاهُ الثانى مُرَاد بخش وفر مُحَمَّد شُجَاع اخوه الثَّالِث وَلم يعرف أَيْن ذهب وأورنك زيب مِمَّن يُوصف بِالْملكِ الْعَادِل الزَّاهِد وَبلغ من الزّهْد مبلغا أناف فِيهِ على ابْن أدهم فانه مَعَ سَعَة سُلْطَانه يَأْكُل فى شهر رَمَضَان رغيفا من خبز الشّعير من كسب يَمِينه وَيصلى بِالنَّاسِ التَّرَاوِيح وَله نعم بارة وخيرات دارة جدا وَأمر من حِين ولى السلطنة بِرَفْع المكوس والمظالم عَن(4/316)
الْمُسلمين وَنصب الْجِزْيَة بعد أَن لم تكن على الْكفَّار وَتمّ لَهُ ذَلِك مَعَ انه لم يتم لَاحَدَّ من اسلافه اخذ الْجِزْيَة مِنْهُم لكثرتهم وتغلبهم على اقليم الْهِنْد وَأقَام فِيهَا دولة الْعلم وَبَالغ فى تَعْظِيم أَهله وعظمت شوكته وَفتح الفتوحات الْعَظِيمَة وَهُوَ مَعَ كَثْرَة أعدائه وقوتهم غير مبال بهم مشتغل بالعبادات وَلَيْسَ لَهُ فى عصره من الْمُلُوك نَظِير فى حسن السِّيرَة وَالْخَوْف من الله تَعَالَى وَالْقِيَام بنصرة الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
مَحْمُود بن أَبى بكر الشهير بالمجتهد الشافعى الدمشقى نحوى الزَّمَان وأديبه ومنطيق الدوران وأريبه كَانَ فَاضلا كثير الِاطِّلَاع وفرا لتضلع والاتساع حُلْو النُّكْتَة والمصاحبة لطيف المكالمة والمخاطبة قَرَأَ بِدِمَشْق وَحصل حَتَّى برع فى الْفُنُون الْعَرَبيَّة خُصُوصا النَّحْو فانه كَانَ فِيهِ وحيدا وَألف فِيهِ حَاشِيَة على ابْن عقيل شرح الالفية واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة وَكَانَ لَا يتَكَلَّم الا معربا وَفِيه دعابة لَطِيفَة ويؤثر عَنهُ فى هَذَا الْبَاب مضحكات عَجِيبَة أَعرَضت عَنْهَا لبذاءتها وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمن // جيد شعره // قَوْله
(كتبت كتبى وسهد الْعين يشْهد لى ... والدمع من ناظرى يشكو لى الغرقا)
(وفى فؤادى نيران مؤججة ... كم سودت صحفا من خطه غسقا)
(شاكات للحبر كتبا فى المداد بِهِ ... وَصَارَ يبعدنى لما علا وَرقا)
(مهلا فيا زمنى بيعتنى كتبا ... سامرتها وعيونى تشتكى الارقا)
(كم بت أرتع فى روضات بهجتها ... وأقطع الْحزن سهلا فى الورى طرفا)
(كم عَابَ كل خَلِيل بذلها ثمنا ... منى لكل جهول ثار فانحرقا)
(وَالله مَا سهرت عيناى فى زمن ... الا وَكَانَ سميرى الْفقر والحرفا)
(لَا تعجلن واصبرن ان الاه اذا ... أَرَادَ شَيْئا أَتَاك الرزق مندفقا)
(لَا تحسبن بسعى أَنْت نائله ... وَلَا تلح عَلَيْهِ كَانَ مَا رزقا)
(وأبذل الْجهد طَوْعًا فى أوامره ... فَلَيْسَ يعجزه رزق وَقد خلقا)
(وَلَا ترخص لاهل البغى رزقهم ... وَلَا تلج لَهُم بَابا يفى القلقا)
(وَاقْبَلْ نصيحة صب طالما أسفت ... حشاشتى ولسانى طالما نطقا)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف
مَحْمُود بن بَرَكَات بن مُحَمَّد الملقب نور الدّين الباقانى الدمشقى الْفَقِيه الحنفى الْوَاعِظ المتبحر فى الْفِقْه كَانَ كثير الِاطِّلَاع مؤلفا مجيدا حسن التَّنْقِيح للعبارات منقحا(4/317)
للمسائل قَرَأَ الْفِقْه على شيخ الاسلام النَّجْم البهنسى خطيب الاموى بِدِمَشْق ولازمه مُدَّة طَوِيلَة وتلمذ لَهُ حَتَّى برع فى فنه وَحضر دروس الْبَدْر الغزى وَكَانَ متدينا ثِقَة صَحِيح الضَّبْط صنف التصانيف المفيدة وانتشرت عَنهُ مِنْهَا شَرحه على النقابة وَشَرحه على ملتقى الابحر وتكملة لِسَان الْحُكَّام وتكملة الْبَحْر الرَّائِق وَاخْتصرَ الْبَحْر فى مُجَلد وَكَانَ يخْتَار فى كتبه نقل الْمسَائِل الغريبة وَملك كتبا كَثِيرَة وَكَانَ يتاجر فِيهَا ويكتسب من ذَلِك مَالا كثيرا ودرس بِدِمَشْق بعدة مدارس وَمَات وَهُوَ مدرس بِالْمَدْرَسَةِ القيمرية البرانية وَكَانَ لَهُ بقْعَة تدريس بالجامع الاموى وَكَانَ يعظ بالجامع الْمَذْكُور بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَت وَفَاته فى الْمحرم سنة ثَلَاث بعد الالف قَالَ البورينى فى تَارِيخه الى باقا قَرْيَة من قرى نابلس وَهُوَ ولد بِدِمَشْق وأظن ان وَالِده قدم الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَسكن فى محلّة القيمرية بِدِمَشْق قَالَ النَّجْم وَكَانَ وَالِده من المعمرين أخبر عَن نَفسه أَنه بلغ من الْعُمر مائَة وَعشْرين سنة وانه أدْرك الْحَافِظ ابْن حجر العسقلانى وَبَعض مشايخه وَلم يسلم لَهُ ذَلِك الْعُقَلَاء وَمَات فى سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة
مَحْمُود بن صَلَاح الدّين بن أَبى المكارم عِيسَى الفتيانى القدسى من الْفُضَلَاء الاجلاء أَخذ عَن عَمه الْعَلامَة ابراهيم بن عَلَاء الدّين بن أَحْمد وَعَن الشَّيْخ مُحَمَّد الخرشى وَالشَّيْخ مُحَمَّد العلمى وَكَانَ زاهدا فى الدُّنْيَا ملازما لتلاوة الْقُرْآن لَا يخالط أحدا الا فى المذاكرة وَتَوَلَّى امامة الصَّخْرَة وَاسْتمرّ الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَبَيت الفتيانى بالقدس بَيت علم وَصَلَاح وابراهيم الْمَذْكُور من أجلائهم الْمَشْهُورين أَخذ عَن الرملى الْكَبِير وَكَانَ اماما بالصخرة الشَّرِيفَة وَله مؤلفات عديدة مِنْهَا تَذكرته الْمَشْهُورَة على الالسنة وَالله أعلم
مَحْمُود بن عبد الحميد المنعوت بِنور الدّين الحميدى الصالحى الحنبلى وَهُوَ سبط شيخ الْحَنَابِلَة الشَّيْخ مُوسَى الحجاوى صَاحب الاقناع كَانَ فَاضلا فَقِيها مُتَمَكنًا اشْتغل بِالْعلمِ وسافر الى الْقَاهِرَة لطلب الْعلم مَعَ التِّجَارَة فَأكْرم مثواه خَاله الشَّيْخ يحيى الحجاوى واشتغل عِنْده فى الْعُلُوم وَقَرَأَ عَلَيْهِ وعَلى غَيره وبرع ثمَّ رَجَعَ الى دمشق فلازم ابْن المنقار وانتسب اليه فسعى لَهُ فى النِّيَابَة فى الْقَضَاء فَوَلِيه بالصالحية ثمَّ بالكبرى وَفضل عَن ابْن الشويكى لديانته ثمَّ لما مَاتَ القاضى شمس الدّين سبط الرجيحى نقل الى مَكَانَهُ بِالْبَابِ فتغيرت أطواره وَتَنَاول وَتوسع فى الدُّنْيَا(4/318)
وَأَنْشَأَ عقارات وَعظم أمره وَتقدم على النواب لسنه وَمد أياديه وتصرفه مَعَ استحضاره لمسائل الْقَضَاء حَتَّى كَانَ يُؤَاخذ على غَيره من النواب من غير أهل مذْهبه وَحصل عَلَيْهِ محنة أَيَّام الْحَافِظ أَحْمد باشا فَأخذ مِنْهُ مبلغا لَهُ صُورَة ثمَّ جرت لَهُ محنة أُخْرَى فى نِيَابَة جركس مُحَمَّد باشا وَأخذ مِنْهُ مَالا أَيْضا غير أَنه تلافى خاطره وَوَقع فى آخر الامر بَينه وَبَين القاضى يُوسُف بن كريم الدّين ثمَّ مرض وَطَالَ مَرضه من الْقَهْر وَلما علم أَنه لم يبْق مِنْهُ رجوى بذل مَالا لقاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسى على أَن يُولى نِيَابَة الْبَاب لوَلَده القاضى مُحَمَّد فولاه يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ سعى الكريمى عِنْد القاضى بِأَن يُولى نِيَابَة الْبَاب للقاضى عبد اللَّطِيف بن الشَّيْخ أَحْمد الوفائى وَأَن يُولى ابْن الحميدى بالمحكمة الْكُبْرَى مَكَان القاضى عبد اللَّطِيف فَفعل وَلم يتم للقاضى مَحْمُود مُرَاده وَكَانَ المَال الذى بذله فى مُقَابلَة نِيَابَة الْبَاب صَار فى مُقَابلَة نِيَابَة الْكُبْرَى وَلَو لم يقبلهَا الضاع عَلَيْهِ المَال فبقى فى حزنه وغيظه وقوى عَلَيْهِ الْمَرَض فَمَاتَ مقهورا بعد ان أقعد شهورا وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
مَحْمُود بن عبد الله الموصلى الحنفى مفتى الْموصل ورئيسها الْمَشْهُور عِنْد الْخَاص وَالْعَام بالعلوم الشَّرْعِيَّة والفنون الْعَقْلِيَّة ولد بالموصل بهَا نَشأ واشتغل بالعلوم وتفنن فى علم النّظر وَالْكَلَام وَالْحكمَة وبرع فى جَمِيع ذَلِك ورحل الى حلب وَأقَام بهَا مُدَّة وَأخذ بهَا عَن النَّجْم الحلفاوى وابراهيم الكردى وأبى الوفا العرضى وَالْجمال البابولى وَغَيرهم وأجازوه وَرجع الى بَلَده وَمكث مُدَّة ورحل الى الديار الرومية وحظى عِنْد الصَّدْر الْفَاضِل وَبَقِيَّة كبرائها وَأخذ عَن جمع بهَا وَولى افتاء بَلَده الْموصل وَرجع اليها وَأقَام بهَا يشْتَغل باقراء الْعُلُوم وَتخرج بِهِ جمَاعَة وَكَانَت الْمسَائِل المشكلة ترد عَلَيْهِ فيجيب عَنْهَا بِأَحْسَن جَوَاب وأتقن خطاب وَكَانَ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية والتركية وَله تصانيف مِنْهَا حَاشِيَة على التَّلْوِيح وحاشية على البيضاوى ونظم حسن وَكَانَ سهلا ذَا دين متين وتقوى ويقين صَادِق اللهجة مواظبا على السّنَن النَّبَوِيَّة والنوافل الشَّرْعِيَّة حسن السمت رَقِيق الْقلب كَامِل الْعقل مُعْتَقدًا للسادة الصُّوفِيَّة وَحج فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَأخذ عَنهُ جمَاعَة بالحرمين مِنْهُم صاحبنا الْفَاضِل الاديب والكامل الاريب الشَّيْخ مصطفى(4/319)
ابْن فتح الله وَطلب مِنْهُ أَن يُجِيزهُ فَأَجَابَهُ بديهة بقوله
(انى أجزت الْمُصْطَفى الفتحى بِمَا ... أرويه عَن أَشْيَاخ أهل الْموصل)
(ومحققى أهل الْعرَاق وجلق ... وَالروم والشهباء أكْرم منزل)
(وَبِكُل مَا ألفته ونظمته ... ونقلته عَن كل عذب المنهل)
(وَبِمَا يطول اذا ذكرت جَمِيعه ... بل بعضه فكفايتى بالافضل)
(أعنى البخارى الصَّحِيح وَمُسلمًا ... وَبَقِيَّة السِّت الشهيرة فانقل)
(عَن شَيخنَا العرضى وَهُوَ أَبُو الوفا ... عَن عَالم الشهبا الامام الافضل)
(عمر أَبِيه عَن أَبِيه ذى التقى ... عبد لوهاب عَن الشَّيْخ الولى)
(زكرينا عَن حَافظ الدُّنْيَا شهَاب الدّين أَحْمد بن سيدنَا على ... )
(العسقلانى الْحفاظ الحبر الذى ... ينْهَى اليه كل ذى سَنَد على)
(وَجَمِيع مَا يرويهِ فى فهرسته ... اطلبه فِيهِ تَجدهُ ثمَّة وادع لى)
وَلما رَجَعَ من الْحَج توفى بحلب وَدفن بهَا وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف عَن ثَلَاث وثماتنين سنة تَقْرِيبًا
مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حسن البابى ثمَّ الحلبى الْمَعْرُوف بِابْن البيلونى الْعَدْوى الشافعى الشَّيْخ أَبُو الثَّنَاء نور الدّين الامام الْعَالم المقرى الْمُحدث من صرف عمره فى الْعلم تعلما وتعليما نَشأ فى حجر عَمه أَبى الْيُسْر مُحَمَّد البيلونى امام الحجازية بحلب لوفاة وَالِده وَهُوَ صَغِير ثمَّ حفظ الْقُرْآن وَقَرَأَ للسبعة على الشَّيْخ الضَّرِير ابراهيم القابونى ثمَّ قَرَأَ على الشَّيْخ الامام عبد الْوَهَّاب العرضى فى المهاج الفرعى ثمَّ على الشَّيْخ عبد الْقَادِر التكسيرى حِصَّة فى الارشاد لِابْنِ المقرى ولازم الرضى بن الحنبلى كثيرا فَقَرَأَ عَلَيْهِ وَسمع مِنْهُ وَحضر دروسه طرفى النَّهَار واستفاد مِنْهُ وترقى على يَده وَأخذ عَنهُ مَعَ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية الحَدِيث وَعَن أَبِيه الْبُرْهَان الحنبلى صحيحى البخارى وَمُسلم اجازة فى مرض الْبُرْهَان وَعَن الشَّيْخ الْمُوفق شيخ الشُّيُوخ الْكتب السِّتَّة اجازة وَكتب استدعاء الى مصر ودمشق فَكتب لَهُ محدثوهما وعلماؤهما وَلما حج فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة اجْتمع بعالم الْحجاز الشهَاب أَحْمد ابْن حجر الهيتمى وَكتب لَهُ اجازة طنانة بالافتاء والتدريس وَلم يجْتَمع بِهِ الا أَيَّام الْحَج فَقَط فانه لم يجاور ثمَّ عَاد الى حلب وَقد فضل فى حَيَاة شَيْخه ابْن الحنبلى فَكَانَ يدرس فى زَمَانه وَكَانَ ابْن الحنبلى يجله وَأخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم شيخ حلب عمر العرضى(4/320)
وَذكره فى تَارِيخه وَذكر مقروآته عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ اشْتغل بخويصة نَفسه وَجلسَ فى بَيته وَعمر لَهُ ابراهيم باشا جَامعه الذى بِجَانِب دَاره وَجعل فِيهِ خطْبَة وَبنى لَهُ مَنَارَة وَانْقطع فِيهِ وَلم يخرج الا للحمام حَالَة الِاحْتِيَاج اليه وَأَقْبل النَّاس عَلَيْهِ يثنون عَلَيْهِ وينسبون اليه الصّلاح ويصفونه بالانقطاع وَثقل سَمعه وَضعف بَصَره واشتغل بِمُجَرَّد تِلَاوَة الْقُرْآن والاشتغال بمصالح عِيَاله وكف الْجَوَارِح وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ رجل صَالح فَاضل لَا شكّ فى ذَلِك قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته بعد أَن قَالَ شَيخنَا وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم حفظا متينا مَعَ التجويد متينا مَعَ التجويد والاتقان فِيهِ مَعَ تبحره فى النَّحْو وَالصرْف والمعانى وَالْبَيَان والمنطق والهيئة وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والاصول ومعارف الصُّوفِيَّة وَكَانَ اذا تكلم فى فن من الْعُلُوم يَقُول سامعه لَا يحسن غَيره وَكَانَ مَعَ ذَلِك يظْهر لَهُ كشف فى مَجْلِسه واشراق على قُلُوب جُلَسَائِهِ قدم علينا دمشق قَاصِدا الْحَج على طَرِيق مصر فى سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع بعد الالف وَأخْبر أَنه أَخذ الْعلم أَيْضا عَن منلا مصلح الدّين اللارى وَسمع الحَدِيث من الشَّيْخ برهَان الدّين العمادى وَأَجَازَهُ الشَّيْخ نجم الدّين الغيطى مُكَاتبَة قَالَ وَحضر درسى بالجامع الاموى تجاه سيدى يحيى عَلَيْهِ السَّلَام عَشِيَّة فى أثْنَاء رَجَب هُوَ وجماعته وَشَيخنَا القاضى محب الدّين ثمَّ ذَهَبُوا لضيافتى وحضروا عندى لَيْلَة كَامِلَة كَانَت لَيْلَة مَشْهُودَة وخطر لى فى لَيْلَة النّصْف من رَجَب أَن أستحيزه بالافتاء والتدريس فَلَمَّا أَصبَحت ذهبت لزيارته وَكَانَ نزل بالعادلية الصُّغْرَى دَاخل دمشق فرأيته قد كتب لى اجازة بالافتاء والتدريس وَدفعهَا الى وَكَانَ يُقَابل من يأتى للسلام عَلَيْهِ بالبشاشة والاقبال ويبادر الى اسماع الحَدِيث المسلسل بالاولية وَكَانَ من افراد الدَّهْر عَلَيْهِ جلالة الْعلم وأبهة الْفضل ونورانية الْعِبَادَة يتوقد وجهة نورا وَيشْهد لَهُ من رَآهُ أَنه من الْعلمَاء العاملين والاولياء الصَّالِحين وَمن شعره وَهُوَ مِمَّا تلقيناه عَنهُ وأجازنا بِهِ وَكَانَ حصل لَهُ مرض حِين تمّ لَهُ سِتُّونَ من عمره فَقَالَ
(لما وعكت بغاية السِّتين ... جافيت كل دنية فى الدّين)
(وبذلت جهدى فى الْعُلُوم ونشرها ... للعاملين بهَا ليَوْم الدّين)
وَمِنْه أَيْضا
(اقنع بِمَا لابد مِنْهُ وكف عَمَّا قد بدا مِمَّا عَلَيْهِ النَّاس ... )
(واذا كَفَفْت عَن الذى فتنُوا بِهِ ... ذهبت همومك والعنا والباس)(4/321)
وَمِنْه
(ربع قواى من سِنِين قد عَفا ... وَالْحب أبدال الْوِصَال بالجفا)
(والدمع من أجفان عينى وكفا ... فحسبى الله تَعَالَى وَكفى)
قَالَ ورأيناه أطروشا لَا يسمع الا باسماع فى أُذُنه وَقَالَ من نعم الله تَعَالَى على هَذَا الطرش فانى لَا أسمع غيبَة وَلَا غَيرهَا الا أَنى أسمع قِرَاءَة الْقُرْآن اذا قرى عندى وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ من أَفْرَاد الْعَصْر واعجوبة من أَعَاجِيب الدَّهْر ثمَّ ذكر سَنَده فى الحَدِيث المسلسل بالاولية وعقبه بقوله ثمَّ انه سَافر فى أَوَاخِر رَجَب الْمَذْكُور من دمشق الى مصرفمات بهَا فى رَمَضَان أَو بعده قَالَ العرضى فى شَوَّال سنة سبع الْمَذْكُورَة قَالَ النَّجْم وَحضر جنَازَته وَالصَّلَاة عَلَيْهِ قاضى قُضَاة مصر اذ ذَاك يحيى بن زَكَرِيَّا قَالَ النَّجْم مُحدثا عَنهُ انه لما ورد حلب مَعَ أَبِيه زَكَرِيَّا حاجين اجْتمع بشيخنا صَاحب التَّرْجَمَة وَقَالَ لَهُ نرَاك ان شَاءَ الله قَاضِيا بحلب ثمَّ بِمصْر قَالَ فَلَمَّا وليت حلب كنت أعتقد الشَّيْخ وأتأول كَلَامه ثمَّ بِمصْر ثمَّ تكون قَاضِيا بِمصْر وَلم أتحقق أَن الْمَعْطُوف مُتَعَلقا مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فى حكم وَاحِد تعقله الرُّؤْيَة فَلَمَّا وليت قَضَاء مصر زَاد اعتقادى فى الشَّيْخ على التَّأْوِيل الْمَذْكُور حَتَّى تحققت ذَلِك الْآن حِين رآنى الشَّيْخ قَاضِيا بِمصْر قبل مَوته وَظهر لى صدق كشف الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى
مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عِيسَى بن ابراهيم الْعَدْوى القاضى نور الدّين الصالحى الشافعى الْمَعْرُوف بالزوكاري قَرَأَ على المنلا أَسد وَالشَّمْس بن المنقار فى الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا وَكَانَ من أصلح النواب فى وقته وَكَانَ عزل مُدَّة وَولى مَكَّة القاضى عبد اللَّطِيف بن الجابى ثمَّ لما مَاتَ ابْن الجابى ردَّتْ اليه النِّيَابَة فبقى نَائِبا الى أَن مَاتَ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثانى ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بسفح قاسيون وَكَانَ قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسى قد عزل قبل مَوته فَبَقيت نِيَابَة الْبَاب معطلة حَتَّى دخل الْمولى أَبُو سعيد فولاها القاضى بدر الدّين حسن الموصلى فوليها بعد أَن جلس على سجادة الصُّوفِيَّة مَكَان أَخِيه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن سِنِين وَالله أعلم
مَحْمُود بن مُحَمَّد أَبُو الْفضل قاضى الْعَسْكَر الشهير بقره جلبى زَاده الصَّدْر الْكَبِير وَالْبَحْر الْعَزِيز عديم النظير والبديل فقيد المثيل والعديل صَاحب مَكَارِم الاخلاق الْمَشْهُور بكرم الْقَلَم فى الْآفَاق حصل من الْفضل والافضال وَجمع المَال والنوال مَا لَا يُمكن وَصفه وعده وَلَا يتَصَوَّر ضَبطه وَحده وَهُوَ من بَيت(4/322)
قديم كَبِير بَين الانام شهير لَازم من شيخ الاسلام أَبى الميامن ثمَّ حج فى خدة وَالِده قاضى الْعَسْكَر فى سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف ثمَّ تدرج فى الْمدَارِس حَتَّى وصل الى الْمدرسَة السليمانية وَولى قَضَاء ينكى شهر ثمَّ قَضَاء مَكَّة المكرمة وَقدم إِلَى دمشق فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَنقل إِلَى قَضَاء دمشق وَهُوَ لم يخرج مِنْهَا وَكَانَ ابْتِدَاء تَوليته نَهَار الثلاثا سَابِع عشر شَوَّال من هَذِه السّنة وَكَانَ فى قَضَائِهِ معتدلا ملاطفا وَشَاهد مِنْهُ فضلاء دمشق رِعَايَة واقبالا ومدحه شعراؤها بالقصائد النفيسة مِنْهُم أَحْمد بن شاهين فانه مدحه بقصيدة مطْلعهَا هَذَا
(نسجت حاكة الرّبيع برودا ... واقتنت صاغة النسيم عقودا)
(تِلْكَ تكسو بهَا الرياض وهذى ... لتحلى الغصون جيدا فجيدا)
(سلبت فى الخريف عقدا وبردا ... فكساها الرّبيع مِنْهُ برودا)
(فَكَانَ الرياض حِين أبانت ... خفرات أَتَت تريك الخدودا)
(وتثنت ملد الغصون فخلنا ... أَنَّهَا خرد أمالت قدودا)
(ورأينا أكمة النُّور تزهى ... فاجتلينا من الكعاب النهودا)
(حاكت الرّيح فى الجداول درعا ... مُحكم النسيج سابغا مسرودا)
(خادمت بُرْهَة سُلَيْمَان فى الْملك فحاكى صنيعها داودا ... )
(أتقنت صَنْعَة اللبوس فضاهت ... بنسيج الْمِيَاه درعا جَدِيدا)
(فَتَأمل ترى الخمائل غيدا ... نظمت فى النحور مِنْهَا الفريدا)
(مَا شككنا أَن الرياض جنان الْخلد حسنا أَن لَو تَسَاوَت خلودا ... )
(واذا مَا أردْت تحظى بروض ... دَائِم الْبشر يممن مَحْمُودًا)
(خلق يسلب الرياض ذكاها ... وَيَد تسلب السَّحَاب الجودا)
(وسجايا كانها الزهر فارغب ... عَن ذَا الزهر واطلبن المزيدا)
(انما الْفضل فى الانام لمولى ... همه أَن يُفِيد أَو يستفيدا)
(عَالم وَابْن عَالم فَتَأمل ... كَيفَ ذَا الشبل رَاح يقفو والاسودا)
(متع الله سيدى بِأَبِيهِ ... ليرى مِنْك والدا وحفيدا)
(والدا حُزْته أم الْمجد أضحى ... والدا جَاءَ بالعلا مولودا)
الى أَن قَالَ فِيهَا
(يَا ابْن قاضى العساكر الغر سمعا ... لنظام كالدر جَاءَ نضيدا)(4/323)
(بهجة الشّعْر فى النشيد وهذى ... قصتى كلهَا تزين النشيدا)
(كَانَ رأيى وَقد أردْت مديحا ... فِيك يَا رونق المديح سديدا)
(وابق للدهر نصْرَة ودراء ... مَا غَدا العيض فى حماك رغيدا)
(لَيْلَة نجتليه لَيْلَة قدر ... وَكَذَا الْيَوْم مهرجانا وعيدا)
ثمَّ نقل الى قَضَاء مصر ثمَّ قَضَاء قسطنطينية فى رَابِع صفر سنة أَربع وَأَرْبَعين ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولى سنة خمس وَأَرْبَعين ثمَّ عزل ووجهت إِلَيْهِ رُتْبَة قَضَاء روم أيلي ثمَّ ولي قَضَاء روم أيلي فِي شهر ربيع الاول سنة سبع وَخمسين وَاتفقَ أَنه ولى زوج بنته الْمولى حُسَيْن الشهير بالخوجه قَضَاء أَنا طولى وَكَانَ السُّلْطَان ابراهيم مُقبلا عَلَيْهِمَا مَا نعقد على صدارتهما الِاتِّفَاق وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة كريم الطَّبْع جدا كَمَا ذكرت فبسبب ذَلِك أَدخل فى طَرِيق الموالى أجانب ونماهم فَنَشَأَ بذلك الابتذال وَدخُول الاسافل والانذال ثمَّ عزل وأنشده أديب الزَّمَان الامير منجك يَوْم عَزله هَذِه الابيات
(يَا ابْن الْكِرَام الالى شادت عزائمهم ... بَيْتا جَلِيلًا كبيت الله نعرفه)
(أَنْت الْكَبِير الذى لَا عزل ينقصهُ ... قدرا وَلَا النّسَب العالى يشرفه)
(ولوسعى جهده الْمَعْرُوف مختبرا ... لم يلف غَيْرك فى الدُّنْيَا فيألفه)
(عبيد نعماك لَا يَخْشونَ من سرف ... ان أتلف الدَّهْر شَيْئا أَنْت تخلفه)
ثمَّ أُعِيد الى قَضَاء روم ايلى وَعمر مدرسة لَطِيفَة بِالْقربِ من جَامع الشهزاده بقسطنطينية وَصرف عَلَيْهَا مَالا جزيلا وَكَانَ ذَا حلم وأناة وتواضع لَا يعرف الْغَضَب محبا بالطبع لابناء الْعَرَب وَكَانَ ينظم الشّعْر العربى وَمن شعره وقفت لَهُ على هذَيْن الْبَيْتَيْنِ كتبهما على ديوَان بِخَط العناياتى وهما
(لَك الْحَمد اللَّهُمَّ فى كل أوقاتى ... بمنك لطفا لم يزل بالعناياتى)
(على أننى مَا زلت أشكر نعْمَة ... بِتَمْلِيك ديوَان بِخَط العناياتى)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمدرسة الَّتِى أَنْشَأَهَا رَحمَه الله تَعَالَى
مَحْمُود بن يُونُس بن يُوسُف الملقب شرف الدّين الْخَطِيب الطَّبِيب رَئِيس الاطباء وخطيب الخطباء بِدِمَشْق الشهير بالحكيم الاعرج الحنفى الْمَشْهُور قرآ فى الْفِقْه على الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب خطيب الْجَامِع الاموى وفى الطِّبّ على أَبِيه وفى القراآت والتجويد على الشهَاب الطيبى وَولى امامة الْمَقْصُورَة بالاموى سِنِين ثمَّ فرغ عَنْهَا(4/324)
للشَّيْخ نَاصِر الدّين الرملى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى وَولى خطابة الاموى شركَة الشَّيْخ يحيى البهنسى ثمَّ جَاءَ بِحكم سلطانى أَن لَا يخْطب الْعِيدَيْنِ الا هُوَ ثمَّ تفرغ آخر الامر عَن شطر الخطابة لشَرِيكه الشَّيْخ يحيى الْمَذْكُور وَحج فى سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فَأخذ عَن عَالم مَكَّة الشهَاب أَحْمد بن حجر الهيثمى وَعَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن فَهد وَغَيرهمَا ودرس بالخاتونية وبالجقمقية وَكَانَ يستلف أجور أوقافهما وَكَانَ لَهُ تبذبر وَسُوء تَدْبِير فى معيشته وعَلى كل حَال فقد كَانَ مَذْمُوم السِّيرَة مَعْرُوفا بِالْكبرِ وَالْخُيَلَاء وَكَانَ يتجرى على الْفَتْوَى مَعَ أَنه كَانَ يقصر عَن رتبتها وَوَقعت لَهُ محنة بِسَبَب قتيا انحرف عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا قاضى الْقُضَاة الْمولى مصطفى بن بُسْتَان ورد عَلَيْهِ الْفَاضِل أَحْمد بن اسكندر أحد جمَاعَة القاضى الْمَذْكُور فى رِسَالَة قرظ عَلَيْهَا عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن خصيب وَتقدم تقريظه وَمِنْهُم البورينى وَمن جملَة مَا قَالَه فى تقريظه وَقد وقفت على هَذِه الرسَالَة وقُوف وامق على مرابع عذرا وأجلت طرف طرفى فى مضمار بلاغتها اجالة ابْن عباد لحظه فى مراتع الزهرا
(ونادمتها وَاللَّيْل مرخ ستوره ... كأنى جميل زار ربع بثينة)
فَمَا زلت أغترف من حياضها وأقتطف من رياضها رَاوِيا عَنْهَا غيث الادب الذى انسجم نَاقِلا عَنْهَا الفصحاء الْعَرَب مَا يزرى بلامية الْعَجم قَائِلا لله در مؤلفها فَلَقَد فتح من البلاغة بَابا مقفلا ومنح من صِحَاح أَلْفَاظه لاهل الادب مُجملا ومفصلا بيد أَنَّهَا ترجمت عَن أَوْصَاف صَادِقَة على مَوْصُوف وَحدثت عَن اقتراف من هُوَ بالمنكر مَعْرُوف فتعجبت من بعد المبنى عَنهُ مَعَ قرب الْمَعْنى وأفكرت فى كَمَال يجْتَمع مَعَ النَّقْص فى منزل ومغنى فَقلت أما الاوصاف فانها عَلَيْهِ صَادِقَة وَأما الالفاظ بفضلته غير لائقة فَعلمت أَن ذَلِك كَمَا يحْكى عَن أَبى زيد الذى كَانَ تعارجه لكيد وصيد وَمن أَيْن هَذِه التراكيب لمن انحل تركيبه واختل مَا بَين أهل الْكَمَال ترتيبه ولعمرى لقد حدث عَنهُ لِسَان الرسَالَة فوعى من الْكثير قَلِيلا وَاخْتصرَ فى ايضاح بَيَانه والمتن يحْتَمل شرحا طَويلا على أَن فى اعتذار الْمُؤلف عَن عدم التكثير مندوحة بقوله والقطرة تنبئ عَن الغدير اعلاما بِأَن البعرة تدل على الْبَعِير اشارة الى وقُوف السقطات وَكَثْرَة المخازى والجهالات فَمن ذَلِك رِوَايَته للْحَدِيث من غير معرفَة كَلَام الْعَرَب ودخوله قَوْله
من كذب هَذَا مَعَ عدم الاجازة الْمَأْخُوذَة لرِوَايَة الحَدِيث لَا فى زَمَنه السَّابِق(4/325)
وَلَا فى وقته الحَدِيث وَمِنْهَا أَنه يدعى الْوَعْظ وَلَيْسَ متعظا وَمِنْهَا مداومته على اغتياب من شِمَاله أندى من يَمِينه وغثه مَا زَالَ أَنْفَع من سمينه فالى مَتى يقْرض الاعراض السليمه وهلا اشْتغل باحواله الحائلة السقيمة لَيْت شعرى أى بَاب من الزلل مَا دخل اليه وأى نوع من الخطل مَا أَقَامَ عاكفا عَلَيْهِ على أَنه من يغتابه من المذمة سليم خَالص وَمَا زَالَ يتَمَثَّل بقول الشَّاعِر
(واذا أتتك مذمتى من نَاقص ... )
وَمِنْهَا جُلُوسه مَعَ زعنفة لم تحنكهم التجارب وَلم يزِيدُوا فى الْفضل على صبيان الْمكَاتب موهما أَنه انتظم فى سلك الافاضل مخيلا أَنه ورد من مياه الْفضل أعذب المناهل مفاخرا بالاشعار الَّتِى لَو أنصف دَفعهَا الى أَهلهَا وَلما تكلّف من غير انْتِفَاع بهَا مشقة حملهَا فَهُوَ جَالس بَين الْقُبُور طَالبا للنزال أَو كملهوف الى الْورْد قانعا بالآل عَن الزلَال
(واذا مَا خلا الجبان بِأَرْض ... طلب الطعْن وَحده والنزالا)
وَمِنْهَا أَنه يشمخ بِأَنْفِهِ على عِصَابَة هم جمال الانام وبمثلهم تفتخر الليالى والايام مَعَ حقارة مَتَاعه وَقصر بَاعه فيالله الْعجب مِمَّن سقط عَن مرتبَة الطّلب كَيفَ يترقى الى معالى الرتب
(مَا لمن ينصب الحبائل أَرضًا ... ثمَّ يَرْجُو بِأَن يصيد الهلالا)
فيا أَيهَا الناكب عَن طَرِيق الصَّوَاب الذَّاهِب فى غير مَذَاهِب أولى الالباب وَيحك الى مَتى تتوكأ على العكاز وتدعى بَين النَّاس أَنَّك من أهل البرَاز وَيلك هلا وقفت فى مجازك وَمَا تعديت من حقيقتك الى مجازك
(وَمن جهلت نَفسه قدره ... رأى غَيره مِنْهُ مَا لَا يرى)
ولعمرى لقد كَاد زيفك أَن يروج وَقربت على عرجك من العروج لَكِن قبض الله لَك ناقدا بَصيرًا وعالما كَامِلا خَبِيرا فأظهر عوارك الذى كنت تخفيه وَأبْدى من حالك مَا لم تكن تبديه وَذَلِكَ عَلامَة الْمُحَقِّقين بِلَا نزاع وخاتمة المدققين من غير دفاع هُوَ من أَقُول فِيهِ من غير وَلَا تمويه
(هَذَا الْهمام الذى من عز سطوته ... أَمْسَى الذى رام ظلم الْخلق مبتذلا)
(هَذَا الذى مذ بدا فى الشَّام صافحها ... كف السرُور وعنها الْهم قد رحلا)
(قاضى الْقُضَاة ابْن بُسْتَان الذى شملت ... عواطف الْفضل مِنْهُ السهل والجبلا)
(قد انجلت عِنْده كل الامور كَمَا ... عَن البرايا ظلام الظَّالِمين جلا)
(من در مَنْطِقه أَو نور طلعته ... طول الزَّمَان يحلى السّمع والمقلا)(4/326)
انْتهى قَالَ النَّجْم وَكَانَ حسن الصَّوْت الا انه كَانَ يلحن فى قِرَاءَته ويطرب فى خطبَته ويطيل بِسَبَب ذَلِك وَكَانَ النَّاس يمقتونه ويسبونه بِسَبَب التَّطْوِيل وَكَانَ يلبس عِمَامَة كَبِيرَة مكورة وَله عرج وَقصر وَهُوَ مَعَ ذَلِك يتبختر ويتخذ غُلَاما أَمْرَد من أَبنَاء النَّاس يمشى خَلفه وَرُبمَا يلْتَفت ويخاطبه فى الطَّرِيق وكل مِنْهُمَا يرفل فى زينته وَكَانَ يعرف التركية واذا تكلم بهَا تبجح ازراء بأبناء الْعَرَب وَهُوَ لَيْسَ الا مِنْهُم وَكَانَت فضيلته جزئية الا أَن جراءته كُلية وَكَانَ اخْتَلَّ مزاجه مُدَّة تقرب من سنتَيْن وَحصل لَهُ طرف من الفالج ثمَّ مَاتَ فجاءة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع وعشرى شعْبَان سنة ثَمَان بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
الشَّيْخ مَحْمُود الاسكدارى قطب الاقطاب ومظهر فيوضات رب الارباب مهدى الزَّمَان ومرشد الْعَصْر والاوان
(هُوَ الدّين وَالدُّنْيَا هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى ... هُوَ الْغَايَة القصوى هُوَ الذرْوَة الْعليا)
أَصله من بَلْدَة سورى حِصَار ولد بهَا ثمَّ لزم التَّحْصِيل الى ان برع ونظم الشّعْر وَكَانَ يتَخَلَّص على عَادَتهم بهدايى وَخرج من بَلَده الى قسطنطينية فوصل الى نَاظر زَاده وتلمذ لَهُ فَلَمَّا تمت عمَارَة مدرسة السُّلْطَان الَّتِى بأدرنه وجهت ابْتِدَاء لاستاذه الْمَذْكُور فَصَارَ بهَا معيدا فى سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة ولازم مِنْهُ وَلما ولى قَضَاء الشَّام ومصر كَانَ فى صحبته وَولى بهما بعض النيابات ثمَّ فى الْمحرم سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة أعْطى الْمدرسَة الفرهادية ببروسه بهَا نِيَابَة الْجَامِع الْعَتِيق فاتفق انه عزّر بعض الصلحاء لامر دَعَا الى ذَلِك فَرَأى فى تِلْكَ اللَّيْلَة فى مَنَامه كانه جئ بِهِ للفرجة على جَهَنَّم فَرَأى فِيهَا أُنَاسًا كَانَ يظنّ انهم لِكَثْرَة صَلَاحهمْ فى صدر الْجنَّة وَمِنْهُم أستاذه نَاظر زَاده وَكَانَ اسْمه رَمَضَان وَكَانَ مَشْهُورا بالديانة والاستقامة فتأثر من هَذِه الرُّؤْيَا وَلم يخرج عَلَيْهِ النَّهَار الا وَقد بَاعَ جَمِيع مَا يملكهُ وَترك النِّيَابَة والمدرسة وَذهب الى الشَّيْخ افتاده الْمَشْهُور وَأخذ عَنهُ وجد كثيرا وَكَانَ يلازم الرياضة ويبالغ فِيهَا الى النِّهَايَة حكى عَنهُ انه قَالَ كَانَ بعض أحباب الاستاذ قد مَاتَ فرأيته بعد مُدَّة فى عَالم الْيَقَظَة وَهُوَ خَارج من بَاب الشَّيْخ فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم على ثمَّ دخلت الى الشَّيْخ وأخبرته بذلك وَقلت لَهُ أَهَذا غلط خيال أَو وَاقعَة مَنَام فَقَالَ لى يَا ولدى قد قويت روحك بالرياضة فَمَا رَأَيْته من آثارها وَأَنا كنت أَيَّام رياضتى اذا دخلت السُّوق أَحْيَانًا أرى من الاموات أَكثر مَا ارى من الاحياء قلت(4/327)
وَقد نقل الشَّيْخ مَحْمُود صَاحب التَّرْجَمَة روح الله تَعَالَى روحه فى رِسَالَة لَهُ سَمَّاهَا بِجَامِع الْفَضَائِل ان بعض أهل السلوك اذا تصفى يرى الْمَوْتَى عيَانًا وَعَن بعض الْفُقَرَاء قَالَ كنت فى بداية سلوكى ببروسه المحروسه وَكَانَ بمحلتنا رجل مُؤذن بِجَامِع مَوْلَانَا الفنارى فَمَاتَ ذَلِك الْمُؤَذّن وَمضى عَلَيْهِ ايام كَثِيرَة وَذَهَبت الى شيخى قدس سره بعد صَلَاة الصُّبْح فَلَقِيت الْمُؤَذّن الْمَذْكُور فى الطَّرِيق وَمَعَهُ شخص آخر لَا أعرفهُ وَكَانَ الثَّلج ينزل علينا فَسلمت ومضيت ثمَّ ذكرت الْقِصَّة للشَّيْخ فَقَالَ هَذَا بِسَبَب رياضتك اياما وَكَانَت رياضى خبْزًا يَابسا ثمَّ قَالَ الشَّيْخ قدس سره قد لقِيت أَنا بعض الْمَوْتَى فى سكَّة زقاق السلك ببروسة المحروسة وَرَأَيْت الْفَقِير فى اجازة القطب الربانى الشَّيْخ مَنْصُور الْمحلى نزيل الصابونية أجَاز بهَا بعض الْفُضَلَاء عِنْد مَا ذكر اشياخه الَّذين أَخذ عَنْهُم قَالَ وَمِنْهُم وَهُوَ أَوَّلهمْ صَاحب الدّين المتين الذى اشْتهر أَنه يقرى الْجِنّ الشَّيْخ يس المالكى وَمن أعجب مَا سَمِعت مِنْهُ انه قَالَ جاءتنى أمى فى الْمَنَام وَقَالَت لى يَابِس فى خاطرى شنبر اسود فَأخذت لَهَا شنبرا وَوَضَعته تَحت رأسى فَجَاءَت وأخذته وَمِمَّا سمعته مِنْهُ أَيْضا انه قَالَ جزت يَوْمًا بِالسوقِ فَرَأَيْت فلَانا الْمَيِّت وَاقِفًا على اللحام فَقلت لَهُ مَا الذى أوقفك هَهُنَا فَقَالَ فُلَانَة جَاءَت البارحة وَأَنا اشْترى لَهَا لَحْمًا تطبخه لنا وامثال هَذَا كثير عودا الى تَتِمَّة التَّرْجَمَة وَلما اكمل الشَّيْخ مَحْمُود الطَّرِيق على شَيْخه الْمَذْكُور ورد الى اسكدار وَاخْتَارَ الاقامة بهَا ثمَّ فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف اعطى الْوَعْظ والتذكير والتحديث وَالتَّفْسِير بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد بعد وَفَاة الشَّيْخ معيده وفى الْمحرم سنة سبع وَألف زيد لَهُ من الْوَقْف الْمَزْبُور مائَة عثمانى كل يَوْم وَلما أتم عمَارَة الْجَامِع الذى بناه بزاويته الَّتِى باسكدار اخْتَار هُوَ ايْنَ يكون خَطِيبًا فِيهِ وتفرغ عَن وعظ جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد لبعد الْمسَافَة وَطلب وعظا بِجَامِع مهروماه الذى باسكدار فى يَوْم الْخَمِيس فَأعْطِيه وَكَانَ يعظ بِهِ الى أَن مَاتَ وَلما أتم السُّلْطَان أَحْمد جَامعه فى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف فوض اليه فى وعظا فى نَهَار الِاثْنَيْنِ فَكَانَ يعظ فِيهِ وَكَانَ مُعْتَقدًا للسُّلْطَان أَحْمد يعظمه كثيرا وَلَا يصدر الا عَن رَأْيه وَوَقع لَهُ مَعَه مكاشفات وحكايات تثر عَنهُ فَمن ذَلِك مَا يذكر ان السُّلْطَان ذهب هُوَ وَبَعض خواصه الى أحد المنتزهات باسكدار وَطلب لَحْمًا مشويا فجِئ بِاللَّحْمِ وحفر لَهُ حفيرة وشوى بِحَضْرَتِهِ فَلَمَّا أَرَادَ التَّنَاوُل مِنْهُ حضر الشَّيْخ مَحْمُود وَنَهَاهُ عَن تنَاول شئ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ انه كَانَ بجنبه حَيَّة وَقد احترقت وسرى(4/328)
سمها الى اللَّحْم وَأمر بالقاء قِطْعَة لحم الى كلب هُنَاكَ فَلَمَّا أكلهَا مَاتَ ثمَّ حفروا الْمَكَان فَرَأَوْا آثَار الْحَيَّة كَمَا اخبر وَحكى أَن السُّلْطَان كَانَ عزل أحد وزرائه الْعِظَام وارسل ختم الوزارة الى وَزِير كَانَ مُقيما باسكدار فغرق الرَّسُول وَمَعَهُ الْخَاتم فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك توجه الى الشَّيْخ مَحْمُود وَذكر لَهُ الامر فَكَانَ جَوَابه أَنه كشف السجادة وناوله الْخَاتم من تحتهَا وَمن اللطائف الَّتِى تنقل عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ السُّلْطَان الْمَذْكُور بلغنى أَنَّك صرت فى ابْتِدَاء أَمرك نَائِبا فَقَالَ نعم صرت نَائِبا فى عدَّة بِلَاد وَلم أدر أَن أحدا وضع لى نقطة يُشِير الى سَلَامَته من ادناس النيابات ثمَّ وضعت أَنا لنفسى نقطة فصرت تَائِبًا بعد ان كنت نَائِبا وَحكى السَّيِّد الْفَاضِل الاديب يحيى ابْن عمر العسكرى الحموى قَالَ كنت رحلت فى ابْن الصِّبَا الى الرّوم وَكنت قَلِيل الجدوى فاذا احتجت الى شئ من قسم الْمَأْكُول أَخَذته من عِنْد أربابه فيجتمع لَهُم فى ذمتى حِصَّة من المَال وَكنت أرد مورد الشَّيْخ مَحْمُود الاسكدارى فيعطينى نَفَقَة من عِنْده فاذا أدّيت مَا يكون على لَا يبْقى على وَلَا لى شئ ويأتى الْمبلغ رَأْسا بِرَأْس وَله غير ذَلِك نَوَادِر وأخبار وَمن آثاره الشَّرِيفَة مجَالِس تَفْسِير كَانَ يحررها قريبَة التَّمام وَله الرسَالَة الَّتِى سَمَّاهَا جَامع الْفَضَائِل وقامع الرذائل وَله رسائل كَثِيرَة وديوان شعر منظوم ومنثور الهيات وكل ذَلِك مَشْهُور متداول عِنْد الرّوم وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بالتربة الَّتِى أعدهَا لنَفسِهِ فى جوَار زاويته باسكدار وَاسْتقر مَكَانَهُ بالزاوية خَلِيفَته الاستاذ الْكَامِل النير الْخَيْر الصَّالح سميه الشَّيْخ مَحْمُود الشهير بغفورى وَكَانَ من الْعلمَاء الكمل وفضله وزهده أشهر من من ان يذكر وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعا لَهُ شعر سَائِر وَولى الْوَعْظ بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد واعتقده جلّ النَّاس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خير صلحاء وقته وَكَانَت وَفَاته بعد السّبْعين وَألف وَدفن بتربة شَيْخه باسكدار رحمهمَا الله تَعَالَى
المنلا مَحْمُود الكردى نزيل دمشق وَأعلم الْعلمَاء الْمُحَقِّقين بهَا الاستاذ الْعَلامَة الْمُحَقق المدقق كَانَ أعجوبة الزَّمَان فى التضلع من الْعُلُوم والاستحضار العجيب وَقُوَّة الحافظة الَّتِى لم تشاهد فى غَيره من أَبنَاء جنسه فانه كَانَ كثيرا مَا يقْرَأ عَلَيْهِ الْكتب المطولة فاذا تصحف شئ من عباراتها أملاها كَمَا هى وَكَثِيرًا مَا يُؤْتى بنسخ مصححة فيطابقها مَا يسرده من غير روية وَلَا فكر وَقد أَقَامَ بِدِمَشْق نَحْو سِتِّينَ سنة منهمكا على اقراء لعلوم وَأكْثر قِرَاءَته لكتب الاعاجم وَهُوَ أول من عرف طلبة الشَّام(4/329)
تِلْكَ الْكتب وقواهم على قرَاءَتهَا واقرائها وَمِنْه انْفَتح بَاب التَّحْقِيق فى دمشق هَكَذَا سمعنَا مَشَايِخنَا يَقُولُونَ وَكَانَ نَفسه مُبَارَكًا وَكَانَ فى غَايَة الصّلاح والزهد والتغفل والتواضع وَأقَام هَذِه الْمدَّة سَاكِنا بِالْقربِ من الْمدرسَة الجقمقية وَلم يحصل لَهُ من من الْوَظَائِف والمعاليم الا النزر الْقَلِيل وَكَانَ اذا أتم الدَّرْس وَتوجه لنَحْو بَيته يسْأَل عَن الْبَيْت من يلقاه لتغفله وَأما فِيمَا يتَعَلَّق بِالْعلمِ فَكَانَ أبلغ مستحضر سمع وَهَذِه كَرَامَة لَهُ بِلَا شكّ وَلَا مرية وَكَانَ اذا سُئِلَ عَن عمره يَقُول مائَة وَخَمْسَة وَثَلَاثُونَ ظنا وَمِائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ قطعا وَلما ورد دمشق كَانَ فى عداد أساتذة الاكراد المتبحرين كالخلخالى وَأَضْرَابه وَحكى الْمولى الْمُحَقق مُحَمَّد الكردى الشهير بملا حلبى قاضى قُضَاة الشَّام أَن صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ فى ابْتِدَاء أمره أجل من نوه بِقَدرِهِ بَين الْمُحَقِّقين وَكَانَ فى أَيَّام اشْتِغَاله مشارا اليه وغالب الْمَشَايِخ يلزمون طلبتهم بالتلمذ لَهُ والاخذ عَنهُ وَيَقُولُونَ انه فهامة الزَّمَان وملا حلبى الْمَذْكُور أحد من أَخذ عَنهُ وَلما ورد الشَّام قَاضِيا كَانَ يعظمه ويجله وَأكْثر الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين بِدِمَشْق أخذُوا عَنهُ وانتفعوا بِهِ أَجلهم شَيخنَا الْعَلامَة ابراهيم بن مَنْصُور الفتال وَسَيِّدنَا المفضال أَبُو الصَّفَا مُحَمَّد بن أَيُّوب ومشايخنا الاجلاء عبد الْقَادِر بن عبد الهادى وَعُثْمَان بن مَحْمُود المعيد واسماعيل بن على الحائك وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مَحْمُود الْبَصِير الصالحى الدمشقى الشافعى شَيخنَا الْفَاضِل الذكى الفطن نادرة الزَّمن وأعجوبة الْوَقْت واطروفة الدوران كَانَ فى الْفضل سَابِقًا لَا يملك عنانه وفى الذكاء فَارِسًا لَا يشق ميدانه وَله جمعية نَوَادِر وفنون لَا تحوم حولهَا الاوهام والظنون قَرَأَ بِدِمَشْق على الجلة من الْمَشَايِخ مِنْهُم شخينا الْعَلامَة ابراهيم الفتال وَبِه تخرج وتفنن فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبيَّة والمعانى والمنطق وَأخذ الرياضيات عَن الشَّيْخ رَجَب بن حُسَيْن والالهيات عَن المنلا شرِيف الكردى وتفقه على جمَاعَة وناظر وباحث وَسمع الْكثير وَضبط وَكَانَ قوى الحافظة جيد الفكرة كثير التدبر للمشكلات جوال الطَّبْع فى المباحث وَقد انْتفع بِهِ بعض الاخوان وَأخذت أَنا عَنهُ الْمنطق والهندسة وَالْكَلَام وَكَانَ هُوَ لما أَخذ الهندسة احتال على ضبط أشكالها بتماثيل من شمع عسلى كَانَ يمثلها لَهُ استاذه الشَّيْخ رَجَب الْمَذْكُور فضبطها ضبطا قَوِيا فَلَمَّا قَرَأت الهندسة عَلَيْهِ كنت أعجب من تَصْوِيره الاشكال(4/330)
كَمَا أَخذهَا عَن أستاذه وَكَانَ يَقُول اذا برز الشكل الذى اصطنعه فليقابل الشكل الذى فى الْكتاب وَصرف جهده فى تَحْرِير شرح على تَهْذِيب الْمنطق وَمَات وَلم يكمله ثمَّ اعتنى بِعلم الطِّبّ وَلزِمَ التجربات ومذاكرة كتبه مَعَ رَئِيس الاطباء بِدِمَشْق يُوسُف الطرابلسى حَتَّى تمهر فِيهِ جدا ثمَّ مل الاقامة بِدِمَشْق لقلَّة ذَات يَده وَلعدم وَظِيفَة يحصل مِنْهَا نَفَقَته فسافر الى الرّوم فتعرف بأكابر الدولة واشتهر فِيمَا بَينهم بالحذق والفهم وَلم يزل يتدرج حَتَّى وصل الى مصاحب السُّلْطَان مصطفى باشا فقربه اليه وأحبه وَاعْتمد عَلَيْهِ فى أَمر مزاجه وأمزجة حَوَاشِيه فنال الحظوة التَّامَّة بِسَبَب تقربه اليه وساعده الْحَظ فانحلت الْمدرسَة الشامية البرانية بِدِمَشْق عَن الشَّيْخ على بن سعودى الغزى فطلبها فوجهت اليه وَلكنه أسْرع اليه مرض السل واستحكم فِيهِ فَلم يقر لَهُ قَرَار بأدرنه دون أَن شدّ رَحْله الى قسطنطينية فتأثر من الْحَرَكَة العنيفة وأدركه الاجل لَدَى وُصُوله الى قسطنطينية وَكَانَ وَفَاته فى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله
مَحْمُود قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق وَليهَا فى غرَّة رَجَب سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بعد أَن كَانَ ولى قبلهَا قَضَاء ينكى شهر وَدخل دمشق فى عَاشر رَجَب وَكَانَ مَشْهُورا بِالْفَضْلِ فى الرّوم وأعرفه وَهُوَ يشار اليه بَينهم فى التجول بالمناظرات الا أَنه عِنْد قَدمته الى الشَّام رَأَيْته قد اخْتَلَط وتعاورت جِسْمه أمراض مهولة ضَاقَتْ بِسَبَبِهَا حظيرته وَكَانَ مُشَوه الْخلقَة بذى اللِّسَان قَلِيل التَّدْبِير وَلَيْسَ عِنْده شئ بممتنع بل مهما خطر فى باله وَلَو كَانَ مستحيلا عَادَة كَانَ عِنْده سهلا حكى لى بعض الاخوان انه تشاجر هُوَ وَابْن زَوجته فَتَرَافَعَا اليه وَمُرَاد الحاكى أَن يعتزل هُوَ وَزَوجته عَن ابْن الزَّوْجَة لبيت مُسْتَقل اذ الْبَيْت الذى يسكنونه بَيت ابْن الزَّوْجَة فَلَمَّا قصا على القاضى قَالَ للرجل أَيْن تسكن فَقَالَ فى بَيت هَذَا يعْنى ابْن زَوجته فَقَالَ وَمن يصرف على الْبَيْت قَالَ أَنا قَالَ اذا أَنْت صَاحب الْبَيْت وَذَا لَاحق فِيهِ وَأمره باخراجه من الْبَيْت وَجرى فى زَمَانه أَن شخصا من الْجند الشَّام سبّ شريفا وأحضر لَدَيْهِ وَادّعى عَلَيْهِ بِمحضر عَام من الْعلمَاء والعسكر أَنه سبّ الشريف وتجاوزه الى آبَائِهِ وَحصل فى الْقَضِيَّة أغراض فَاسِدَة نشأت عَن تهور صَاحب التَّرْجَمَة وَعدم تدبره وَأدّى أمره الى أَن عرض فى أنَاس من متعينى الْجند وحبسوا فى قلعة دمشق مُدَّة الى أَن ورد أَمر باطلاقهم وَلم يحكم فى الْقَضِيَّة بشئ وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة مبدأ ظُهُور(4/331)
الْجند الشامى وتحزبهم وَلم يزل جاشه يقوى شَيْئا فَشَيْئًا الى أَن بدر مِنْهُم ممانعة حَمْزَة باشا ومصادمته كَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا فى تَرْجَمَة صَالح بن عبد النبى بن صَدَقَة ثمَّ عزل صَاحب التَّرْجَمَة عَن الْقَضَاء فى أثر الْقِصَّة وسافر الى الرّوم فَلم تطل مُدَّة حَيَاته بهَا وَتوفى سنة سبع وَتِسْعين وَألف بقسطنطينية وَالله أعلم
محبى الدّين بن خير الدّين بن أَحْمد بن نور الدّين بن على بن زين الدّين بن عبد الْوَهَّاب الايوبى العليمى الفاروقى الرملى الْفَقِيه الحنفى الْعَالم بن الْعَالم وَقد تقدم أَبوهُ شيخ الْحَنَفِيَّة وبركة الشَّام فى عصره ومحيى الدّين هَذَا ولد بالرملة وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ على وَالِده وعَلى الشَّيْخ أَبى الوفا بن مُوسَى القبى الحنفى وَالشَّيْخ ابراهيم الشلبى الحنفى الرمليين وَأخذ الْفَرَائِض والحساب عَن الشَّيْخ زين العابدين المصرى الفرضى النحوى شَارِح الرحبية قدم عَلَيْهِم الرملة فى حُدُود سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف فأنزله وَالِده عِنْده لاجل اقراء وَالِده وَمكث عِنْدهم نَحْو سنتَيْن ثمَّ توجه الى مصر وَأَجَازَهُ وَالِده بالافتاء فَأفْتى فى حَيَاته وَكَانَ أعجوبة الزَّمَان فى كشف الْمسَائِل من مظانها عَلامَة فى الْفَرَائِض والحساب حَتَّى ان غَالب فَتَاوَى وَالِده فى الْفَرَائِض كَانَ هُوَ الذى يقسمها وغالب كتب وَالِده كَانَت تَحْصِيله إِمَّا بالاستكتاب واما بِالشِّرَاءِ وَكَانَ يعجب وَالِده اجْتِهَاده فى تحصليها وَكَانَ متصرفا فى دنيا وَالِده تَصرفا حسنا حَتَّى انه جدد أملاكا وتجملات كَثِيرَة وَكَانَ يحب اكرام من يقدم على وَالِده وَكَانَ حسن الْخلق والخلق كريم الطَّبْع وقورا عالى الهمة سامى الْقدر دينا خيرا أخبرنى صاحبنا الْفَاضِل المؤرخ ابراهيم الجنينى أَن مولده فى نَيف وَعشْرين وَألف وَتوفى نَهَار الاربعاء حادى عشر ذى الْحجَّة سنة احدى وَسبعين وَألف فى حَيَاة وَالِده وأسف عَلَيْهِ أسفا عَظِيما وَبعد مَوته تكدر عيشه وَذهب رونق حَيَاته وَله فِيهِ مَرَّات وأشعار كَثِيرَة رحمهمَا الله
محيى الدّين بن ولى الدّين بن الْمسند جمال الدّين يُوسُف بن شيخ الاسلام زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن أَحْمد الانصارى الشافعى السنيكى الاصل المصرى المولد والمنشا والوفاة الْفَقِيه الْمُحدث كَانَ من كبار عُلَمَاء عصره لَهُ الِاعْتِبَار الزَّائِد والصيت الشَّائِع تهابه الْعلمَاء وتحترم ساحته الكبراء أَخذ عَن جده شيخ الْمُحدثين الشَّيْخ جمال الدّين وجده يرْوى عَن وَالِده قاضى الْقُضَاة صَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة وَجلسَ مجْلِس التدريس فدرس فى كل علم نَفِيس وروى عَنهُ أجلاء الْعلمَاء مِنْهُم الْعَلامَة النُّور عَليّ(4/332)
الشبراملسى وَالشَّيْخ أَحْمد العجمى الشافعى وَولد صَاحب التَّرْجَمَة الْعَلامَة زين العابدين وحفيده الشَّيْخ شرف الدّين الْمُقدم ذكرهمَا وَكَانَت وَفَاته فى شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف عَن سبع وَثَمَانِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
مَدين بن عبد الرَّحْمَن القوصونى المصرى الطَّبِيب رَئِيس الاطباء بِمصْر الْفَاضِل الاديب المؤرخ أَخذ الْعُلُوم عَن الشهَاب أَحْمد بن مُحَمَّد المتبولى الشافعى وَعَن الشَّيْخ عبد الْوَاحِد البرجى والطب والطلب عَن الشَّيْخ دَاوُد ولى مشيخة الطِّبّ بِمصْر بعد السرى أَحْمد الشهير بِابْن الصَّائِغ وَألف التآليف النافعة مِنْهَا كتاب ريحَان الالباب وريعان الشَّبَاب فى مَرَاتِب الْآدَاب والتاريخ الذى نقل عَنهُ وَكتاب قَامُوس الاطباء فى الْمُفْردَات وَله غير ذَلِك وَذكره الخفاجى فى الخبايا وَقَالَ فى تَرْجَمته هُوَ فَاضل كَانَ سميرى فى نَادَى الطّلب فكم نافثته فى ابان الِاشْتِغَال بِالطَّلَبِ والادب فَكَانَت بينى وَبَينه عشرَة لم نخرج لَهَا من القشره أعد كل يَوْم مِنْهَا غرَّة وَجه الزَّمَان وعيدا تهاداه الايام على رغم النيروز والمهرجان والعمر طرير مَا بَين رَوْضَة وغدير وَهُوَ اذا ضمخ كافور قرطاسه بمسك مداده وأنفاسه أنكر الْمسك دارين وخطا وَغدا انتسابه لواه خطا فكم فاح مِنْهُ عنبر البراعه وقطرت مياه الفصاحة من ميزاب اليراعه وفى عودتى لمصر عرض على كتابا جَلِيلًا لَهُ سَمَّاهُ قَامُوس الاطبا وسألنى أَن أقرظ عَلَيْهِ فَكتبت عَلَيْهِ مَا هَذَا صورته مَا طرزت حلل الثنا ووشيت رياض البلاغة بثمرات غضة الجنا الا لتَكون لباسا الابكار المحامد ومرتعا لافكار شَاكر وحامد فَالْحَمْد للْمولى على مَا أنعم من اللغاة وَالْبَيَان وأنعم بتلقينها الاطفال والارواح فى مكَاتب الابدان وألهمها اسْتِخْرَاج دُرَر الْمعَانى من أصداف الْحُرُوف لننظم مِنْهَا فى الصُّدُور ونعلق فى الآذان أبهى عُقُود وشنوف وأزكى صَلَاة وَسَلام على أفْصح من نطل بالضاد فروى من عين فَصَاحَته كل صَاد وشفى بطب هدايته مَرِيض كل قلب قلب وَهدى بمفردات حكمته كل ذى جهل مركب وعَلى آله وَأَصْحَابه مَدَائِن الْعلم وَالْحكم ورؤساء أطباء الابدان والاديان من سَائِر الامم لَا سِيمَا الاربعة الَّذين ترياقهم الْعَتِيق وفاروقهم حَافظ صِحَة مزاج الدّين بِكُل ماضى الشفرتين رَقِيق مَا دَامَت الدُّنْيَا دَار الشفا وَصَحَّ مزاج الدَّهْر من الاعراض واشتفى هَذَا وان أخى شَقِيق الرّوح وَقُوَّة الْعين وصفوة الْحَيَاة وَمن محبته على فرض عين لما أتحفنى(4/333)
فى قدومى للقاهرة بكتابه قَامُوس الاطباء وجدته الدرة الفاخرة وَالرَّوْضَة الَّتِى تفتحت فِيهَا عُيُون أنواره الزهية الزاهرة ظنا مِنْهُ أَنى شُعَيْب مدينته وَمَا أَنا الا سلمَان بَيته بل أشعب مَوَائِد كرمه ومنته فاذا هُوَ برد محبر وَعقد كُله جَوْهَر وَكتاب جَمِيعه مُفْرَدَات ولغة لَو رَآهَا الجوهرى قَالَ هَيْهَات العقيق هَيْهَات أَو الْخَلِيل بِعَيْنِه فدَاه بِعَيْنِه أَو جَار الله لقَالَ هَذَا هُوَ الْفَائِق أَو ابْن البيطار لود لَو طابقه كِتَابه مُطَابقَة النَّعْل بالنعلم لما فِيهِ من الدقائق أَو صَاحب الْقَامُوس لقَالَ هَذَا هُوَ الْمجد الذى ارْتقى ذرْوَة الْعَرَبيَّة مَا بَين تهَامَة ونجد فَللَّه در مُصَنفه فقد أرانا فى الرِّجَال بقايا وفى الزوايا خبايا وأنار فكرة ظلمَة الْجَهْل وَقد وَقد وروى ظمآن الْفِكر فِيمَا ورد ورد وحقق مَا قيل من دق الْبَاب ولج ولج وَمن جد وجد وَقلت فِيهِ ارتجالا
(دهر يجود بِمثلِهِ ... أنعم بِهِ دهرا وفى)
(روى بكاس علومه ... وختامه مسك وفى أنْتَهى وَلَقَد سعيت جهدي فِي تَحْصِيل وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فَلم أظفر لَكِن غَايَة مَا حققت من خَبره أَنه كَانَ فى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف مَوْجُودا فى الاحياء كَمَا يعلم ذَلِك من تَارِيخه الذى وَضعه وَالله اعْلَم
مُرَاد بن ابراهيم الْمَعْرُوف بن الشريطى الدِّمَشْقِي الدفترى الرئيس النبيه اللوذعى الْكَامِل أحد الافراد فى المعارف وَحسن الْخط وبداعة الاسلوب فى الْمُنْشَآت والرقم وَكَانَ شهما حاذقا صائب الرأى وَالتَّدْبِير سما بِهِ حَظه من حِين نشأته فخالط الْكِبَار وتمهر فى أفانين الْكِتَابَة وسافر الى الرّوم وَولى كِتَابَة الْجند بِالشَّام وازداد على توالى الايام رونقا واشتهارا ثمَّ ولى الدفتر بِدِمَشْق وَعظم صيته واتسعت دائرته وتملك دَار سِنَان باشا الْوَزير ابْن جغال قرب الْجَامِع من نَاحيَة سوق السِّلَاح فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وجدد فِيهَا عمارات وأتقنها غَايَة الاتقان وفيهَا يَقُول أَبُو بكر الْعُمْرَى شيخ الادب
(ان دَارا أَحييت مِنْهَا رسوما ... أخلقتها أيدى الزَّمَان العوادى)
(ومغان كسوتها حلل الْمجد فَقَامَتْ تختال فَوق المهاد ... )
(أذكرتنا عهد الْجنان وَأَنت ... مَا حكوه من وصف ذَات الْعِمَاد)
(هى دَار العلى وَبَيت المعالى ... ومقام السُّعُود والاسعاد)
(وَلها الْجَامِع الْمُعظم جَار ... نعم جَار الرِّضَا الْيَوْم الْمعَاد)(4/334)
(صانها الله رَبنَا وحماها ... ووقاها من أعين الحساد)
(لذبها مَا اسْتَطَعْت صَاح وأرخ ... فهى بَيت مبارك لمراد)
وَقَالَ يمدحه ويهنئه بِالدَّار الْمَذْكُورَة بِهَذِهِ القصيدة وهى من أَجود شعره ومطلعها قَوْله
(رويدا فَمَا ظهر المطى حَدِيد ... وَلَا منزل الاحباب عَنْك بعيد)
(ومهلا فَمَا سوق الركائب مطفئ ... لهيب ضرام الشوق وَهُوَ شَدِيد)
(ورفقا بِهَذَا الْقلب كم يحمل الجوى ... على أَنه دون الْقُلُوب عميد)
(تَقول زرود يَا أَخا الوجد بغيتى ... صدقت وَلَكِن أَيْن مِنْك زرود)
(وان المغانى لَا يُفِيد ادكارها ... وَهل دون وصل القاطعين يُفِيد)
(بلَى تَنْفَع الذكرى اذا طمع الحشا ... وَقد ساعدته فى الدنو وعود)
(وبالكلة الْحَمْرَاء حوراء لَو جلت ... على الْبَدْر وَجها قابلته سعود)
(وان خطرت فى الرَّوْض وَالرَّوْض حافل ... لعَلِمت الاغصان كَيفَ تميد)
(وَلَو نفثت فى الْبَحْر وَالْبَحْر مالح ... لحلاه در الثغر وَهُوَ نضيد)
(وأغيد لَوْلَا وَجهه وقوامه ... لما ذكرت يَوْم التنافر غيد)
(من التّرْك معسول المراشف لين المعاطف حَبل الشّعْر مِنْهُ مديد ... )
(لواحظه تحمى موارد ثغره ... فَمَا لصد نَحْو الرضاب وُرُود)
(ضنين باهداء السَّلَام ورده ... على أَن بعض الباخلين يجود)
(وَرب صديق صَادِق قد بثتته ... شجونا لَهَا بَين الضلوع وقود)
(فأوسعنى عتبا وَقَالَ لى اتئد ... فَمَا الرأى فى وصف الحسان سديد)
(أتطلب من بعد الثَّمَانِينَ صبوة ... وَهل يتَغَنَّى بالملاح رشيد)
(فَقلت لَهُ اكفف فالنسيب مقدم ... على كل مدح طَابَ مِنْهُ نشيد)
(وان ارتجال الشّعْر فى الْمَدْح مَذْهَب ... محاسنه والذائقون شُهُود)
(فَقَالَ وَمن ترجوه فى الجاه والغنى ... فَقلت لَهُ وَالْحق فِيهِ شَهِيد)
(أغير مُرَاد الدفترى يَلِيق أَن ... يساق اليه فى دمشق قصيد)
(وَهل ينظم الشّعْر البديع لماجد ... سواهُ معَاذ الله ذَاك بعيد)
(أَمِير المعالى والمعانى خدينها ... لَهُ من وُفُود المعتفين جنود)
(كريم الْمحيا باسط الْكَفّ بالندى ... اذا شحت الانواء فَهُوَ يجود)
(تَطوف بَنو الآمال سعيا بِبَابِهِ ... فتبلغ مَا قد أملت وتعود)(4/335)
(تصدق يمناه وَلم تدر أُخْتهَا ... ويسراه يسر وهى مِنْهُ تفِيد)
(ضحوك الثنايا باسم الثغر بشره ... يبشر بالجدوى وَفِيه مزِيد)
مِنْهَا
(يمزق أَمْوَالًا حوتها يَمِينه ... وَعَن بَيت مَال الْمُسلمين يذود)
مِنْهَا
(كسانى وأولانى الْجَمِيل ببره ... وَمَا بره الالهى ونقود)
(وحقق تجدنى فى ثِيَاب سخائه ... وَهل أَنا الا أعظم وجلود)
(فيا أيهذا السَّيِّد الْجيد الذى ... ترَاهُ على رغم حسود يسود)
(اليك بهَا من منطقى عمرية ... تهادى على أترابها وتميد)
(محجبة بكر الْمعَانى رفيعة المبانى وَقصر الغانيات مشيد ... )
(اذا أنشدت تكسو المحبين بهجة ... وَيَعْبَسَ مِنْهَا كاشح وحسود)
وَقد بقى فى دفترية الشَّام مُدَّة سِنِين ووجهت اليه رُتْبَة امير الامراء وَهُوَ بهَا وسالمه الزَّمَان فَلم ينغص لَهُ عَيْش ورزق السَّعَادَة فى المَال والبنين فانه نَشأ لَهُ ولدان كَانَا غَايَة فى المحاسن والفطنة وَكَانَ كثير الْميل للفضلاء والادباء يعاشرهم ويداوم الِاجْتِمَاع بمجالسهم ويبالغ فى تعظيمهم واذا عرض لاحدهم أَمر مُهِمّ فى جَانب الدولة صرف جهده فى انجازه وَكَانَ صُدُور الدولة يرعون حرمته ويكاتبونه ثمَّ عزل عَن دفترية الشَّام وسافر الى الرّوم وتوطن بقسطنطينية وانخرط فى سلك أَرْبَاب الخدمات والمناصب وبقى ابناه فى دمشق فانتقى لَهما زعامتين عظيمتين وجهتا اليهما وَكَانَ صهره الرئيس النَّبِيل أَحْمد السحملى كَاتب الْجند بِدِمَشْق فَصَارَ لَهُ تعين تَامّ بالاستناد اليه ثمَّ ترقى صَاحب التَّرْجَمَة حَتَّى صَار دفتريا فى الشق الثانى فى أَيَّام السُّلْطَان ابراهيم وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بخيلها ورجلها وراجعته الْخَاصَّة والعامة فى الامور وتهيأ فى أثْنَاء ذَلِك للدفترية الْكُبْرَى لما كَانَ فِيهِ من الاهلية وَلَكِن بدر مِنْهُ بِسَبَب غرور الدولة مَا كَانَ سَببا فَقتل فى سنة سبع وَخمسين وَألف بقسطنطينية
السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان أَحْمد بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان سليم بن السُّلْطَان سُلَيْمَان بن السُّلْطَان سليم أعظم سلاطين آل عُثْمَان مِقْدَارًا وأسطاهم همة واقتدارا الذى خضعت لعظمته رُؤْس الاكاسرة وذلت لِحُرْمَتِهِ وقهره من تصلب فى فَمَعَ المفسدين بسداد الرأى فى أمره كَانَ من أمره أَنه لما تحركت العساكر وغدروا بأَخيه عُثْمَان كَمَا ذكرنَا أَولا أعادوا عَمهمَا السُّلْطَان(4/336)
مصطفى الى السلطنة فَلم تظهر كِفَايَته واختل أَمر السلطنة فى عَهده فاختبر للسلطنة صَاحب التَّرْجَمَة بِاتِّفَاق الآراء من الْعلمَاء ولوزارة وبويع فى يَوْم الاحد رَابِع عشر ذى الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بعد أَن خلع عَمه السُّلْطَان مصطفى وَكَانَ عمره يَوْمئِذٍ احدى عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر وَقيل فى تَارِيخ سلطته مُرَاد خَان الْعَادِل وَكَانَ السُّلْطَان مصطفى ولى فى آخر سلطته على باشا الْمَعْرُوف بكمانكش الوزارة الْعُظْمَى فأبقاه على مَا كَانَ وَكَذَلِكَ أبقى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا فى منصب الْفَتْوَى وَأقَام شعار الْملك أتم قيام متثبتا فى حالتى النَّقْض والابرام وابتدأ أَولا باستئصال الطغاه من الْعَسْكَر الَّذين قتلوا أَخَاهُ فاهتم بِأَمْر تحصيلهم من الْبِلَاد وتحرى قَتلهمْ وَقد أَجَاد وبقى على هَذَا الْحَال مُدَّة وَأعد لَهُ من رَأْيه الصائب كل عده وجعلهم ديدنه وشغله وأباد مِنْهُم كل متحزب شَمله وَحكى بعض المتقربين اليه أَنه خرج لَيْلَة من الْحرم وَمَا عَلَيْهِ الا ثِيَاب الْمَنَام قَالَ وَكَانَت لَيْلَة شَدِيدَة الثَّلج وَأمر بِفَتْح بَاب السراى السلطانى وَخرج مِنْهُ فَتسَارع الْخدمَة اليه وَكنت أَنا من جُمْلَتهمْ فصحبت معى فروتين من فرى السُّلْطَان وتبعناه فَانْتهى الى الْبَحْر وَطلب زورقا وَركب وركبنا وَمَا زَالَ الى ان أَشَارَ الى الملاح بِأَن ينحوالى نحوة اسكدار ثمَّ خرج مِنْهَا الى التربة الْمَشْهُورَة فى طرفها الْآخِذ الى انا طولى فاستقر تَحت شَجَرَة ثمَّة ووقفنا معاشر الْخدمَة وَكُنَّا نشاهد مِنْهُ غَايَة التضجر حَتَّى ان بخار الْحَرَارَة ليتصعد من وَجهه لشدَّة مَا عِنْده من الانزعاج ثمَّ بعد حِصَّة أَشَارَ الى وَقَالَ انْظُر هذَيْن الشجين اللَّذين لاحا من بعيد أدركهما وسلهما من أَيْن أَقبلَا قَالَ فأدركتهما وسألتهما فَقَالَا مقدمنا من حلب فَقلت لَهما السُّلْطَان طلب أَن يراكما وَهُوَ جَالس هُنَا وأشرت اليه فأسرعا الى أَن وَقفا قدامه وقبلا الارض ثمَّ قَالَ لَهما مَا الذى جَاءَ بكما فَقَالَا مَعنا رُؤْس أَقوام من الطغاة قتلوا بحلب فَأَمرهمَا باخراج الرؤس فحين وَقع بَصَره عَلَيْهَا انْصَرف عَنهُ مَا كَانَ يجده من التلهب وَطلب فروا فَوَضَعْنَا عَلَيْهِ مَا كَانَ مَعنا من فرى وَغَيرهَا وَهُوَ يشتكى الْبرد ثمَّ نَهَضَ وأسرع الى السراى الَّتِى باسكدار وَقَالَ انى مذ أويت الى الْفراش فى ليلتى هَذِه أخذتنى الفكرة فى أَمر هَؤُلَاءِ المقتولين وتحثيلهم فَلم أملك نفسى أَن نهضت من مرقدى وَجرى مَا جرى وَكَانَ بطلا من الابطال قوى الجاش متين الساعد ذكر أَنه أرسل الى مصر درقة نَحْو احدى عشرَة طبقَة مطبقة ضربهَا بِعُود فَثَبت فِيمَا وبرز أمره الى العساكر المصرية باخراج(4/337)
الْعود مِنْهَا وَأَن من أخرجه يُزَاد فى علوفته فحاولوا اخراجه فعجزوا عَن ذَلِك ثمَّ أرسل قوسا وَمَعَهُ خطّ شرِيف خطابا لوزير مصر أَحْمد باشا مضمونه أَمر العساكر والاجناد بجر هَذَا الْقوس وَزِيَادَة علوفة من يفعل ذَلِك فحاولت العساكر جَرّه فَلم يقدروا على ذَلِك ثمَّ علقت الدرقة بالديوان السلطانى بِمصْر وعلق الْقوس بِبَاب زويله وَجعل بعض أَعْيَان مصر تَارِيخا لطيفا بالتركية لما ورد الْقوس وترجمه بَعضهم بِالْعَرَبِيَّةِ يَا سُلْطَان الْوُجُود لساعدك الْقُوَّة وجهز عساكره لافتتاح الْبلدَانِ وَتوجه هُوَ بِنَفسِهِ فى سنة أَربع وَأَرْبَعين لغزو الْعَجم وَكَانَ سلطانها الشاه عَبَّاس خذله الله قد تمكنت فى السلطنة قَوَاعِده وخلاله الْوَقْت مُدَّة وَأخذ كثيرا من الْبلدَانِ الَّتِى كَانَت مُضَافَة لبلاد آل عُثْمَان فَجرد السُّلْطَان مُرَاد عزمه لمحاربته واذلاله وَتوجه الى بِلَاده بعساكر يضيق عَنْهَا الفضاء وحاصر من بلدانه روان وافتتحها ثمَّ توجه فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين لفتح بَغْدَاد ونازلها بجنده وَكَانَ الشاه عَبَّاس حصنها بِالْعدَدِ والعسكر فَأمر السُّلْطَان بِحَفر لغم عَظِيم وَوضع فِيهِ البارود وأطلقت فِيهِ النَّار فهدم جانبا عَظِيما من جِدَار السُّور بِحَيْثُ قيل انه لم يرى لغم مثله فى محاصرة قلعة من القلاع فَصَارَ يرى من هدم اللغم مَا فى مَدِينَة بَغْدَاد من الْبيُوت والدور لانه صَار فى ذَلِك الْجَانِب جِدَار السُّور سهلا مستويا مَعَ سطح الارض فَلَمَّا رأى أهل بَغْدَاد مَا دهمهم مِمَّا لم يعرفوه قطّ تَلا شوا وبعثوا الى الشاه عَبَّاس الْمَرَاسِيل يُرِيدُونَ التَّسْلِيم وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان قد توانوا فى الهجوم وتثبطت همتهم وفى أثْنَاء ذَلِك أرسل الشاه رَسُولا يطْلب الصُّلْح وَكَانَ الرَّسُول الْمَذْكُور من أَعْيَان عَسْكَر الشاه يُسمى جَانِبك سُلْطَان وفى يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر رَجَب بكرَة النَّهَار اجْتمع بالوزير الاعظم فى ديوَان عَظِيم وَدفع اليه كتاب الشاه بِالصُّلْحِ فقرئ بمسمع من النَّاس وَفهم الْكل مِنْهُ مَا قَصده الشاه من الْحِيلَة فَأبى السُّلْطَان وَجَمِيع الوزراء والاركان الصُّلْح وَلَقَد رَأَيْت الْوَاقِعَة بِخَط الاديب رامى الدمشقى وَذكر أَنه تفاءل حَالَة اجْتِمَاع الرَّسُول فى مصحف كَانَ مَعَه فجَاء فى أول الصفحة قَوْله تَعَالَى {قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى} ثمَّ أطلق السُّلْطَان الامر بالمحاصرة وشدد فى ذَلِك فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر شعْبَان يسر الله تَعَالَى فتحهَا وَكَانَ مُدَّة حصارها أَرْبَعِينَ يَوْمًا ودخلها الْعَسْكَر وَالسُّلْطَان فى أَثَرهم(4/338)
وَقتلُوا من الْعَجم أَكثر من عشْرين ألفا وأسروا من رُؤَسَائِهِمْ وَأهل شوكتهم جمَاعَة وضعفت شوكتهم وزالت قوتهم لَان معتمديهم كَانُوا بهَا وَصرف السُّلْطَان همته الى ازالة مَا كَانَ أحدثه الارفاض خذلهم الله تَعَالَى فى مرقد الامام الاعظم ومرقد الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلانى رضى الله عَنْهُمَا وَأمر بتجديد عمَارَة محليهما وَأحكم أَمرهمَا غَايَة الاحكام وَبنى مَا كَانَ تهدم من سور القلعة وشحنها بالعسكر وَالْعدَد وَعين لكفالتها وزيرا وَقد أَكثر النَّاس من نظم الشّعْر والتواريخ لفتحها ووقفت بِمَكَّة المشرفة على تَارِيخ للقاضى تَاج الدّين المالكى
(خَليفَة الله مُرَاد غزا ... قلعة بَغْدَاد فأردها)
(وعندما حاصرها جَيْشه ... اندك للاسفل أَعْلَاهَا)
(وَأصْبح الشاه ذبيحا لما ... أخبر من كَثْرَة قتلاها)
(هَذَا اخْتِصَار القَوْل فِيهَا فان ... قيل لقد أجملت ذكرَاهَا)
(فالتشرحن فعل مُرَاد بهَا ... مؤرخا قد ذبح الشاها)
ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهَا قَاصِدا دَار ملكه هَذَا مَا وَقع فى عَهده من الفتوحات وَأما مَا وَقع من الْحَوَادِث فى أَيَّام سلطنته فَمِنْهَا تغلب الْعَسْكَر بعد أَن كَانَ أضعفهم بِالْقَتْلِ والنهب بعد تَوليته الْملك كَمَا قدمْنَاهُ آنِفا ثمَّ حصلت لَهُ فلتة فتجاوزوا الْحُدُود وَنصب نَفسه الْمولى حُسَيْن ابْن أخى لزعزعتهم وقوى جنان السُّلْطَان حَتَّى جمع جمعية على السباهية وأباد كبراءهم وَقتل الْوَزير الاعظم رَجَب باشا الذى كَانَ مستظلا بظلهم وفى ذَلِك الابان سَافر السُّلْطَان الى بروسة فَبَلغهُ ان الْمُفْتى وَهُوَ ابْن أخى وَالْعُلَمَاء يُرِيدُونَ الِاجْتِمَاع على خلعه فبادر فى المجئ وَدخل دَار ملكه وخنق الْمُفْتى وخمدت نَار فتْنَة الْعَسْكَر بعد ذَلِك وَمِنْهَا تبطيله القهوات فى جَمِيع ممالكه وَالْمَنْع عَن شرب التبغ بالتأكيدات البليغة وَله فى ذَلِك التحريض الذى مَا وَقع فى عهد ملك أبدا وَمِمَّا يدل على سعادته الْعُظْمَى توجه خاطره الى أهل الْحَرَمَيْنِ وَأمره لمتولى الْجِهَات خُصُوصا مصر باجراء حبوبهم وارسال مغلات اوقافهم فَمَا من أَمر يرد عَنهُ الا وَفِيه الْحَث على ذَلِك وَمن ذَلِك أَيْضا التفاته الى أَخْبَار الرّعية مُطلقًا والبحث عَن أَحْوَال وُلَاة الْبلدَانِ التفاتا وبحثا تامين بِحَيْثُ ان وُلَاة الْجِهَات لَا يجاوزون حدا وفى زَمَانه وَقع السَّيْل الْعَظِيم الْمَشْهُور بِمَكَّة المشرفة فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَطَاف بِالْبَيْتِ وَوَافَقَ تَارِيخه رقى الى قفل(4/339)
بَيت الله وبسببه انْهَدَمت الْكَعْبَة وَعمل النَّاس فى ذَلِك التواريخ والاشعار وفى سنة أَرْبَعِينَ كَانَ بِنَاء الْبَيْت الشريف وَمن التواريخ المنثورة فِيهِ رفع الله قَوَاعِد الْبَيْت وَكَانَت هَذِه الْفَضِيلَة مِمَّا اخْتصَّ بهَا السُّلْطَان مُرَاد وَمن تَارِيخ الفاسى لغيره قَوْله
(بنى الْكَعْبَة الغراء عشر ذكرتهم ... ورتبتهم حسب الذى أخبر الثقه)
(مَلَائِكَة الرَّحْمَن آدم ابْنه ... كَذَاك خَلِيل الله ثمَّ العمالقه)
(وجرهم يتلوهم قصى قريشهم ... كَذَا ابْن زبير ثمَّ حجاج لاحقه)
وذيل ذَلِك بَعضهم بقوله
(وخاتمهم من آل عُثْمَان بدرهم ... مُرَاد المعالى أسعد الله شارقه)
وَبَيت آخر
(وَمن بعدهمْ من آل عُثْمَان قد بنى ... مُرَاد حماه الله من كل طارقه)
وَوَقع بعد تَمام الْعِمَارَة بِأَرْبَع سِنِين خلل فى السَّطْح المكرم فَعرض صَاحب مَكَّة وَشَيخ حرمهَا ذَلِك الى وَزِير مصر فَعرض ذَلِك على السُّلْطَان الْمَذْكُور فورد أمره بذلك فعين وَزِير مصر لهَذِهِ الْخدمَة من كَانَ قَائِما بهَا ومتعاطيا لَهَا قبل ذَلِك وَهُوَ الامير رضوَان الفقارى وأضاف اليه يُوسُف المعمار مهندس العمارات السَّابِقَة فوصلا فى موسم سنة أَربع وَأَرْبَعين فَلَمَّا كَانَ الْعشْر الْأَخير من ذى الْحجَّة جعل اجْتِمَاع النَّاس بمصلى الشريف زيد بن محسن وَحضر فِيهِ هُوَ وقاضى مَكَّة الشَّيْخ أَحْمد البكرى وقاضى الْمَدِينَة الْمولى حنفى والامير رضوَان وَغَيرهم من الْعلمَاء والاعيان فقرأوا سُورَة الْفَتْح ثمَّ وصلوا الى الْكَعْبَة وأشرفوا على بَابهَا ثمَّ تفَرقُوا ثمَّ فى الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين شرع الامير فى تهيئة الْحَصَى لِلْمَسْجِدِ ففرشه بِهِ ثمَّ لما كَانَ سَابِع عشر شهر ربيع الاول وصل الى بَاب الْكَعْبَة وَفتح السادن باببها فقلعوه وركبوا عوضه بَابا من خشب لم يكن عَلَيْهِ شئ من الْحِلْية وانما عَلَيْهِ ثوب من القطنى أَبيض وفى يَوْم الثلاثا تَاسِع عشر الشَّهْر وزنت الْفضة الَّتِى كَانَت على الْبَاب المقلوع فَكَانَ مَجْمُوع ذَلِك مائَة وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعين رطلا خَارِجا عَن الزرافين فوزنها وَمَا شابهها مِمَّا كَانَ على الْبَاب ثَمَانِيَة عشر رطلا ثمَّ شرع فى تهيئة بَاب جَدِيد فشرع فِيهِ وأتمه وَركب عَلَيْهِ حلية الْبَاب السَّابِق وَكتب عَلَيْهِ اسْم السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة ثمَّ جئ بِهِ مَحْمُولا على أَعْنَاق الفعلة فَمشى النَّاس(4/340)
أَمَام الْبَاب الى أَن وصلوا الى الْحطيم وَبِه الشريف جَالس فَوضع بَين يَدَيْهِ فَقَامَ الشَّيْخ عمر الرسام ودعا للسُّلْطَان والشريف فألبس الشريف جمَاعَة فى ذَلِك الْمجْلس خلعا مِنْهُم عمر الْمَذْكُور والامير رضوَان وفاتح الْبَاب والفعلة ثمَّ أدخلُوا فردتى الْبَاب الى دَاخل الْكَعْبَة وَدخل الشريف وَمَعَهُ الْأَمِير وَجَمَاعَة من الْأَعْيَان إِلَى الْكَعْبَة وصعدوا السَّطْح وأشرفوا عَلَيْهِ ثمَّ انفض الْجمع فشرع الامير بعد انفضاض النَّاس فى تركيب الْبَاب فركبته وَتمّ عِنْد غرُوب الشَّمْس من يَوْم الْعشْرين من شهر رَمَضَان ثمَّ فى موسم الْعَام الْمَذْكُور توجه بِالْبَابِ الْقَدِيم الى مصر واستمله وَزِير مصر وأرسله الى السُّلْطَان وَقد أفرد الْكَلَام على عمل الْبَاب الْمَذْكُور الشَّيْخ الْعَلامَة على بن عبد الْقَادِر الطبرى برسالة سَمَّاهَا تحفة الْكِرَام باخبار عمَارَة السّقف وَالْبَاب لبيت الله الْحَرَام وَبَين فِيهَا جَوَاز قلع الْبَاب وَلَو للزِّينَة كَمَا صرح بِهِ الْعلمَاء فقد قلع مرَارًا قبل ذَلِك وَلم يُنكر كالترخيم والتزيين وَكَانَت ولادَة السُّلْطَان مُرَاد صَاحب التَّرْجَمَة فى سنة احدى وَعشْرين وَألف وَتوفى فى تَاسِع عشر شَوَّال سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَمُدَّة سلطنته سِتّ عشرَة سنة وَأحد عشر شهرا وَخَمْسَة أَيَّام رَحمَه الله تَعَالَى
السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان بن سليم جد وَالِد الذى قبله السُّلْطَان الْجَلِيل الشان أوحد سلاطين الزَّمَان كَانَ أجل آل بَيته علما وأدبا وأوفرهم ذكاء وفهما اشْتغل بالعلوم حَتَّى فاق وملأ صيته بالادب الْآفَاق وَكَانَ لَهُ علم التصوف المهارة الْكُلية وفى النّظم بالالسن الثَّلَاثَة أعظم مزيه وَكَانَ بَعيدا عَن التُّهْمَة فِيمَا يشوب بشائبه مَأْمُون الدولة بسعادة ملاحظته عَن أدنى نَائِبه جلس على سَرِير الْملك فى نَهَار الاربعاء سَابِع شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعد موت وَالِده وَكَانَ وَالِده مَاتَ وَقت الْغُرُوب من نَهَار الِاثْنَيْنِ ثامن وعشرى شعْبَان من هَذِه السّنة وأخفى مَوته الى أَن قدم السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة من مغنيسا وبويع بالخلافة وَأمر بقتل اخوته على مَا هُوَ قَاعِدَة سلطنتهم وَكَانُوا خَمْسَة فخنقوا فى الْوَقْت وَأمر بتجهيزهم مَعَ وَالِده فجهزوا وَصلى عَلَيْهِم دَاخل السراى فى عدَّة من الوزراء والاركان وَالْموالى وَتقدم للصَّلَاة عَلَيْهِم مفتى الْوَقْت الْمولى حَامِد باشا بِإِشَارَة من السُّلْطَان قَالَ جدى المرحوم القاضى فى رحلته وَقد أولع النَّاس فى تواريخ فنظموا ونثروا وأطنبوا وَاخْتصرَ وَوَقع اخْتِيَار الْفَقِير(4/341)
مِنْهَا على تَارِيخ لبَعض الاصحاب وَهُوَ نصر من الله وَفتح قريب لَكِن يزِيد على سنى التَّارِيخ بثلثمائة وَعشْرين من الاعداد فاحترس لاخراج ذَلِك باحتراس عَجِيب حَيْثُ قَالَ
(السعد مذقارنه منشد ... بِطيب ألحان وَصَوت رطيب)
(من غير شكّ جَاءَ تَارِيخه ... نصر من الله وَفتح قريب)
ونظمت الْفَقِير تَارِيخا وَقع فى نصف من مصراع اتِّفَاقًا وَأَظنهُ لَا يجد فى سوق الادب نفَاقًا
(لقد من رب الْعَالمين على الورى ... بسُلْطَان عدل لَيْسَ فى عدله شكّ)
(فَقلت بِتَوْفِيق الاله مؤرخا ... مُرَاد تولى الْملك دَامَ لَهُ الْملك)
انْتهى قلت وَالْفَقِير اسْتحْسنَ تاريخين لتوليته من نظم مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِمَا ميه الدمشقى أَحدهمَا قَوْله
(قد مهد الله الْبِلَاد بِحكم سُلْطَان الْعباد ... )
(والكون نَادَى منشدا ... تَارِيخه هَذَا المُرَاد)
والثانى وَهُوَ قَوْله أَيْضا فِيهِ
(بالبخت فَوق التخت أصبح جَالِسا ... ملك بِهِ رحم الاله عباده)
(وَبِه سَرِير الْملك سر فأرخوا ... حَاز الزَّمَان من السرُور مُرَاده)
(وَبِه سَرِير الْملك سر فأرخوا ... حَاز الزَّمَان من السرُور مُرَاده)
وَكَانَ همه من حِين ولى السلطانة قتال صَاحب اذربيجان وخراسان من أَوْلَاد حيدر الصوفى فعين الْوَزير مصطفى باشا فاتح بِلَاد قبرس صَاحب الخان وَالْحمام بِدِمَشْق فَتوجه فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعسكر كثير الى بِلَاد الشرق فبسنى قلعة قارص وشحنها بالمدافع والمكاحل وَبنى مَدِينَة اسلامية فَوجدَ فِيهَا الْمَسَاجِد والجوامع ومزارات الاولياء مِنْهَا مَزَار الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ابى الْحسن الخرقانى رضى الله تَعَالَى عَنهُ من كبار الصُّوفِيَّة فَلَمَّا استولى عَلَيْهَا الْكفَّار أخربوها ثمَّ سَار الى تخوم بِلَاد الْعَجم والكرج حَتَّى وصل الى مَكَان يُسمى حكدر من بِلَاد الشاه فحاصر هُنَاكَ قلعة لكفار الكرج تسمى بَكَى قلعه فاستولى عيها ثمَّ هجم عَلَيْهِ عَسْكَر الشاه صُحْبَة وزيره دقماق فَبعث الْوَزير مصطفى باشا عسكرا الى قِتَاله فهزموهم وحصدوهم بِالسُّيُوفِ واستولوا على أَمْوَالهم وخيولهم ثمَّ استولى الْوَزير الْمَذْكُور هُنَاكَ على عدَّة قلاع وشحنها بِالرِّجَالِ ثمَّ سَار حَتَّى افْتتح قلعة تفليس(4/342)
من بِلَاد أورخان قَاعِدَة مملكة الكرج وَكَانَ الْمُسلمُونَ افتتحوها قَدِيما ثمَّ غلبت الكرج واستولت عَلَيْهَا وَلما فتحت مَدِينَة تفليس أرْسلت أم منوجهرالكرجى ملكة تِلْكَ الْبِلَاد ابْنهَا الى الْوَزير ثمَّ قَامَ الْوَزير الْمَذْكُور بعد أَن نصب فى تفليس أَمِير الامراء فى طرف شرْوَان وفى شماخى وَبث سراياه الى الاطرف وَتمكن مِنْهَا ثمَّ ترك فِيهَا الْوَزير عُثْمَان باشا ابْن أزتمر واليا بهَا فَلَمَّا أقبل الشتَاء توجه الْوَزير الى طرف بِلَاد السُّلْطَان وشتى هُنَاكَ للاغارة فى الرّبيع على بِلَاد الْعَجم ثمَّ بلغه أَن أرسخان صَاحب شرْوَان الْقَدِيم قَصده بِنَحْوِ اثنى عشر ألف عسكرى لقِتَال عُثْمَان باشا فَوَقع بَينهمَا قتال شَدِيد فاتفق أَن انتصر عُثْمَان باشا وَقتل أرس خَان وغالب عسكره ثمَّ وَقع بَينه وَبَين عَسْكَر الشاه هُنَاكَ مَا ينوف عَن عشْرين وقْعَة كَانَت النُّصْرَة دَائِما فى جَانب عُثْمَان باشا وَآخر ذَلِك أَن عدل امام قولى بعسكر يقرب من ثَلَاثِينَ ألفا على أَرض شرْوَان فقاتل عُثْمَان باشا مُدَّة أَرْبَعَة ايام ثمَّ نزل نصر العثمانية وَقتل غَالب الشاهية وَبنى عُثْمَان باشا بعد هَذِه الْوَقْعَة فى شماخى حصارا عَظِيما فى دور سَبْعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع الْبناء فى مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ ترك حصارا عَظِيما فى دور سَبْعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع الْبناء فى مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ ترك فِيهَا جَعْفَر باشا نَائِبا بهَا وَبعد مُدَّة دخل دَار الْخلَافَة وَصَارَ وزيرا أعظم وَذَلِكَ بعد أَن قَاتل فى سره عدَّة أُمَم اعْتَرَضُوهُ بِالْحَرْبِ وانتصر عَلَيْهِم ثمَّ لما وصل الى بِلَاد كفة بلغه أَن خَان التتار أظهر الْعِصْيَان على آل عُثْمَان فقاتله وانتصر عَلَيْهِ وَقطع رَأسه وفى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعث السُّلْطَان مُرَاد وزيره سِنَان باشا الى قتال الْعَجم فَسَار مَعَ عَسْكَر جرار وَوصل الى حُدُود الْعَجم وَأرْسل اليه الشاه فى الصُّلْح وَبعث الى السُّلْطَان أحد وزرائه يدعى بابراهيم خَان بتحف سنية وهدايا جليلة وَظن سِنَان باشا ان هَذِه الْحَالة مِمَّا تعجب فَلم يكن كَذَلِك بل لما عَاد الْوَزير من سَفَره عَزله السُّلْطَان وَأقَام مقَامه فرهاد باشا وفى سنة تسعين وَتِسْعمِائَة احتفل السُّلْطَان بختان وَلَده السُّلْطَان مُحَمَّد وصنع لذَلِك فَرحا لم يَقع فى زمن أحد من الْخُلَفَاء والملوك وامتدت الولائم والفرجة وَاللَّهْو والطرب مُدَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَجلسَ للفرجة فى دَار ابراهيم باشا بمحلة آتٍ ميدان وأغدق النعم الْعَظِيمَة وَرَأَيْت فى تَارِيخ البكرى أَنه جعل صوانى صغَارًا من ذهب وفضلة وملأ الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّة بِالذَّهَب وَألقى ذَلِك لارباب الملاهى وَغَيرهم من طالبى الاحسان وَجعل بعد ذَلِك دشيشة لاجل فُقَرَاء الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ووقف عَلَيْهَا(4/343)
أوقافا كَثِيرَة وَبهَا النَّفْع التَّام لاهل الْمَدِينَة وفى سنة احدى وَسبعين توجه الْوَزير فرهاد باشا الى بِلَاد الْعَجم فَسَار وتوغل فى بِلَاد أذربيجان نَحْو سَبْعَة أَيَّام وَاسْتولى على مَدِينَة روان وَبنى عَلَيْهَا حصنا حصينا وَنصب فِيهَا يُوسُف باشا واليا وأميرا وفى هَذِه السّنة خرج ابراهيم باشا من قسطنطينية الى الديار المصرية والشامية ليصلح مِنْهَا مَا فسد وغزا الدروز وَوَقع لَهُ تأييد وفى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سَافر فرهاد باشا بعسكر عَظِيم للغزو بِبِلَاد الكرج فَبنى هُنَاكَ عدَّة قلاع وفى هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان الْوَزير الاعظم عُثْمَان باشا بعساكر عَظِيمَة الى قتال الْعَجم فَتوجه بعد أَن شَتَّى فى بِلَاد قسطمونى وَسَار فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمَعَهُ من العساكر مَالا يعلم عَددهمْ الا الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك لمحبة النَّاس لَهُ لكرمه وشهامته وَحسن تَدْبيره فعارضه الْعَجم فى الطَّرِيق فَقتل مِنْهُم قتلة عَظِيمَة ثمَّ دخل تبريز فى أَوَاخِر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَمن هُنَا أذكر ملخص مَا ذكره جدى القاضى محب الدّين فى رحلته التبريزية الَّتِى مَا نسج على منوالها وَلَا جَادَتْ قريحة بمثالها وَاتفقَ لَهُ السّفر الْمَذْكُور لتسليم مَال عوارض فى قَضَاء تولاه وَحضر الْفَتْح الْمَذْكُور حَتَّى أنهى أمره واستوفاه قَالَ وَكَانَ هَذَا السّفر مِمَّا لم يُشَاهد مثله فى الاسفار وَلَا دون مَا يدانيه فى الْكتب والاسفار لَا سِيمَا جمع كثرته الذى انْتهى اليه جمع الجموع وَعدم حصر أَفْرَاده الَّتِى بلغت الْغَايَة فى الشُّيُوع بِحَيْثُ انه كَانَ اذا سَار يسد الفضاء الْوَاسِع ويملاء الفلا الشاسع ويضيق عَنهُ الْمَكَان النائى وَيكون كالجراد الْمُنْتَشِر بِحَذْف كَاف التَّشْبِيه بِعَين الرائى وَكَانَ هَذَا الْفَقِير اذا شبهه من جِهَة الْكَثْرَة بشئ كثيرا مَا يظْهر فِيهِ وَجه التَّشْبِيه وَيكون لَهُ عِنْد التَّأَمُّل وَجه وجيه فَكَانَ اذا شبهته بالنهر العجاج أَو الْبَحْر المتلاطم بالامواج يظْهر وَجه التَّشْبِيه فى حَال سير بعضه ووقوف الْبَعْض وَقد غطى الْبِقَاع وَألقى القناع على وَجه الارض فتختلف الانظار الحسية فى جِهَة سيره اذا سرى فالبعض يَقُول انه يمشى الْقَهْقَرَى وَأما اذا اخْتَلَط الظلام وَظَهَرت الاضواء من تِلْكَ الْخيام وقابلت بنورها نُجُوم السما وَشبه الْفَقِير هَذِه الْهَيْئَة بِتِلْكَ الْهَيْئَة الْتبس عَلَيْهِ أَيهمَا الْمُشبه والمشبه بِهِ مِنْهُمَا وَأما الْغُبَار الذى كَانَت تثيره السوابح بل تعقده بعدوها الضوابح فَكَانَ يذكرنَا ذَلِك مَا كثيرا قَالَه بعض افاضل الورى عقدت سنابكها عَلَيْهَا عثيرا لَا شُبْهَة ان هَذَا الْمَعْنى فِيمَا نَحن(4/344)
فِيهِ أمكن بل قيل انه فِيمَا نَحن فِيهِ حَقِيقَة وَفِيمَا قيل فِيهِ مجَاز وان كَانَ الْكل مجَازًا فَهُوَ أحسن وَمِمَّا شَاهده الْفَقِير من كَثْرَة العساكر أَنهم كَانُوا يصيحون على الطير وَهُوَ طَائِر فيعجز عَن الطيران ويروم أَن يسْتَقرّ على مَكَان فَلَا يجد تَحْتَهُ غير انسان وَلم يبْق لَهُ الى الطيران مجَال ثمَّ يسْقط فتخطفه النَّاس فى الْحَال وَأما ظباء الفلا والوحوش الهائمة فى الملا فَكَانَت تحول بَينهَا النَّاس فتجول مشرقا ومغربا ويضيق عَلَيْهَا الفضاء فَلَا تَسْتَطِيع هربا فيغدوا وَاحِدهَا وَهُوَ حيران ويحال بَينه وَبَين النزوان وَلَا يُمكنهُ عَدو ولاحراك فَيمسك بالايدى ويصاد من غير شباك الى غير ذَلِك من لَوَازِم الكثره وَالْوَصْف الذى لَا نستطيع حصره ثمَّ قَالَ فَلَمَّا تحقق قزلباش أَن العساكر مدركوه وَأَن الْوُصُول الى تبريز من الامر الْمُحَقق الْوَاقِع وَصدق عَلَيْهِ قَول الْقَائِل حَيْثُ قَالَ
(فانك كالليل الذى هُوَ مدركى ... وان خلت أَن المنتأى عَنْك وَاسع)
ضَاقَ بِهِ العطن وأحاطت بِهِ المحن فشرع فى تحصين تبريز بأَشْيَاء يظنّ أَنه يحصل بهَا الدفاع وَيَزْعُم أَن أَخذهَا من يَده بعد هَذَا التحصين مِمَّا لَا يُسْتَطَاع على أَن تِلْكَ الاشياء لَيست بحاجز حُصَيْن وَلَا يتحصن بهَا من كَانَ ذَا رَأْي سديد وعقل رصين وَذَلِكَ أَن مَدِينَة تبريز على عظمها وَكَونهَا فى الْقدر قَرِيبا من مصر الا أَنَّهَا لَيست بمسورة وَلَيْسَ فِيهَا قلعة معمرة بل هى محاطة بالبساتين احاطة بساتين دمشق بهَا أى مَعَ قطع النّظر عَن لطف الرونق وَحسن المنظر فان كَون الْمُشبه لَيْسَ كالمشبه بِهِ من كل وَجه من الْمَعْلُوم الْمُقَرّر حَاصِل الامر أَنه عمد الى حيطان الْبَسَاتِين وهى من لبن المغاربه وَعمل بَين كل حائطين حَائِطا فِيهِ طاقات لَان يرْمى بهَا الْعَسْكَر حَال المحاصرة والمحاربه وَأبقى فى تبريز حاكمها من قبله الْمُسَمّى بامام قولى خَان وَجمع الى اهاليها تِلْكَ الاطراف وَأمرهمْ بمحاربة الْعَسْكَر مَعَهم ومساعدتهم بِحَسب الامكان وَخرج هُوَ مَعَ عسكره الى مَكَان خَارج عَن الْمَدِينَة وَزعم أَنَّهَا بِهَذِهِ الاوهام والخيالات قد صَارَت حصينه وَكَانَ فى عزمه بل فى زَعمه أَنه اذا جَاءَت عَسَاكِر الاسلام المنصوره وقصدوا أَن يحاصروا الْمَدِينَة المذكوره يذودهم ويصدهم عَنْهَا من هُوَ فِيهَا بالنشاب والبنادق وَأَن تخصم هَذِه الفرازين بِتِلْكَ البيادق وَأَنه يحْتَاط بالعسكر من خَارج الْمَدِينَة ويحاربهم من الْخَارِج بعسكره الاقل وَيَزْعُم بِأَنَّهُ(4/345)
المتصف بمضمون قَوْله تَعَالَى {ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} معَاذًا الله بل قَالَ عَسْكَر الاسلام عِنْد قربه للبلد ووصوله نقُول بِمُوجب مَا قلت وَلَكِن الْعِزَّة لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ ان الْوَزير تقدم اليها بالعساكر المنصورة وَهُوَ فى غَايَة الْقُوَّة والمنعة وَتقدم أَمَامه بِيَسِير جغال زَاده يمشى شَيْئا فَشَيْئًا كَأَنَّهُ كَمَا قيل
(منصرف فى اللَّيْل من دَعْوَة ... قد أسرجت قدامه شمعه)
حَتَّى أَتَاهَا وَقَامَ على رياضها وقاربها واستقى من حياضها وعندما قصد أَخذهَا ورام يحاولها وَقَالَ رائدهم ارسوا نزاولها اسْتَعَانَ الله تَعَالَى وَوجه اليه مرامى كَادَت أَن تكون من حَدِيد جبالا وقابل تِلْكَ الثغور الَّتِى تحَصَّنُوا بهَا بثغور مدافع كَأَنَّهَا تَبَسم وَلَكِن عَن شرر كالقصر وحاصرها من قبل الظّهْر الى بعد الْعَصْر ورماها بهَا فَكَانَت كالصواع المحرقه وَأرْسل عَلَيْهَا شواظا من نَار ونحاس أحرق بهَا أهل الْبدع والزندقه وحوم عَلَيْهَا بالعسكر وَحلق
(وأخاف أهل الشّرك حَتَّى انه ... لتخافه النطف الَّتِى لم تخلق)
وابتدع ذَلِك بمشرفيات كأنهن أَنْيَاب اغوال أضحت كسنن لَاحَ بَينهُنَّ ابتداع وقابل تِلْكَ البيادق بأفيال من مدافع لَا يُمكن عَنْهَا دفاع فَلَمَّا عاينوا ذَلِك الْحَرِيق وَشدَّة وقوده قَالُوا لَا طاقه لنا الْيَوْم بِهَذَا الْوَزير وَجُنُوده فان هَؤُلَاءِ كَمَا قيل
(قوم اذا حَاربُوا ضروا عدوهم ... أَو حاولوا النَّفْع فى أشياعهم نفعوا)
(سجية تِلْكَ مِنْهُم غير محدثة ... ان الْخَلَائق فَاعْلَم شَرها الْبدع)
فعندما شَاهد حَاكم تبريز تِلْكَ الحاله وَعلم أَن المملكة مَأْخُوذَة لَا محاله لم ير بدا من أَن ينهزم من الْبَلدة ويتسحب وأوجس فى نَفسه خيفة وَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب وطلع عَنْهَا متنكرا وهرب مِنْهَا مبكرا فَكَانَ حَاله كَمَا قيل
(اذا أنكرتنى بَلْدَة أَو نكرتها ... خرجت مَعَ البازى على سَواد)
وَلَكِن سَواد الذله ولباس الخزى والمذله فَلَمَّا ذهب على هَذِه الْحَالة الى الشاه مَاتَ من قهره وَجعل الله كَيده فى نَحره وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وملكت الْبِلَاد بعناية الله على أحسن الاحوال ثمَّ لما خذل الله ذَلِك الْعَدو وانفشل وهرب بعسكره نَاحيَة وَاعْتَزل متحيرين مِمَّا لَقِيَهُمْ وَقد غشيهم من الْهم مَا غشيهم وصاروا أَضْعَف النَّاس قبيلا وظلماً تمنوا الْمُحَاربَة فَلم يَجدوا اليها سَبِيلا وَكلما رام ذَلِك الْعَدو والضعيف أَن يُوقد نَارا للحرب أطفأها الله وأخمد مِنْهَا الضرام وَمَتى قصد(4/346)
الْمُقَاتلَة والمقابلة يُقَال لَهُ تنكب لَا يقطرك الزحام فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ لَهُ قومه اقترح شَيْئا نجد لَك التباعه ومرنا بِأَمْر نجد بامتثاله بِحَسب الاستطاعه فَقَالَ لَهُم اتبعونى وَلَكِن فى الْهَرَب وجدوا فى الْهَزِيمَة قبل أَن يمنا العطب فلسنا من فرسَان هَذَا الميدان وَلَا يُقيم على ضيم يُرَاد بِهِ الا الاذلان ثمَّ ان حَضْرَة الْوَزير لم يقنع مِنْهُ بالهرب بل كَانَ كلما ترحل عَنهُ لج فى الطّلب وَكلما بلغه خبر شرذمة من اولئك جد فى طلبَهَا وأقدم وارسل لحربها حزبا من شجعان الْعَسْكَر الضاربين بِكُل أَبيض مخذم وَمَتى قيل لَهُ ان طائة من اولئك فى جِهَة أرسل عينا تشرف عَلَيْهَا وَهُوَ دَائِما ماسك عنان فرسه كلما سمع هتفة طَار اليها يجول تِلْكَ الاطراف مشارقا ومغاربا عزماته مثل النُّجُوم ثواقبا
(تَدْبِير معتصم بِاللَّه مرتقب ... لله منتصر فى الله منتقم)
ثمَّ انه قبل وُصُوله الى تبريز كَانَ يترقب من أهاليها لَا سِيمَا الاكابر والافاضل ان يستقبلوه الى خَارج الْمَدِينَة بمراحل ويقابلوه بِكَمَال الطَّاعَة والانقياد ويظهروا لَهُ كَمَال الْمحبَّة والاعتقاد وَأَنَّهُمْ يستبشرون بمقدمه ويسرون بحلول قدمه ويبايعونه على أَنهم رعايا وَأَنَّهُمْ قدمُوا أنفسهم لَهُ هَدَايَا فيراعى كلا مِنْهُم على حسب حَاله ويبلغه من الامن والامانى مَا فى آماله الا أَن الشاه كَانَ هددهم غَايَة التهديد وأوعدهم على اقامتهم بِالْمَدِينَةِ بأنواع الْوَعيد فَلَمَّا دَخلهَا لم ينظر فِيهَا غير فُقَرَاء الرعايا والشيوخ الْكِبَار الَّذين فيهم من عهد عَاد بقايا وَأَكْثَرهم فُقَرَاء آفاقيه وَأما اكابر الْمَدِينَة فَلم يبْق مِنْهُم أحد بِالْكُلِّيَّةِ ثمَّ ان أهل الْمَدِينَة لما ذَهَبُوا أخذُوا من أَمْوَالهم وارزاقهم مَا رخص حمله وغلت قِيمَته وأبقوا مَا عدا ذَلِك مِمَّا يثقل حمله وتكثر مُؤْنَته فَحصل للوزير من هَرَبهمْ غَايَة الْغَضَب وانحرف مزاجه بِهَذَا السَّبَب وَكَانَ فعلهم هَذَا الى نهب أَرْزَاقهم وَسِيلَة وذريعه فَلَمَّا دخل الْعَسْكَر لَا سِيمَا الينكجريه أغمضت عَنْهُم الْعين فنهبوا ذَلِك جَمِيعه واسترقوا أَوْلَادهم وعيالهم وَأخذُوا أَرْزَاقهم وَأَمْوَالهمْ بِحَيْثُ لم يتْركُوا من ذَلِك شَيْئا أصلا وتتبعوا الْبيُوت بَابا بَابا وفصلا فصلا حَتَّى أخذُوا الاخشاب وجعلوها أحطابا وَلم يبقوا فى المساكن طاقات وَلَا أبوابا وَكَثِيرًا مَا شاهدت أَمَاكِن ذَات أَبْوَاب محكمَة الصِّنَاعَة وآلات حازت من اللطف أَنْوَاعه من عمل الصناع العوال والاساتذة الَّتِى لَيْسَ لاساتذة بِلَادنَا عِنْدهم مجَال قد كسرت أَبْوَابهَا فَعَادَت مَبْنِيَّة على الْفَتْح(4/347)
وهدمت جدرانها من الاساس الى السَّطْح فأضحت على عروشها خاويه بعد أَن كَانَت لانواع النقوش والزخاريف حاويه وَلم يُوجد فِيهَا مَكَان الا تهدم وَلم يبْق من أَكْثَرهَا كَمَا قبل الادمنة لم تكلم ثمَّ ان تَحت غَالب بيُوت تبريز مغارات وَاسِعَة جدا ينْسب واصفها الى الغلو اذا رام لرسمها حدا طولهَا فِيمَا يُقَال كَمَا بَين دمشق والصالحيه لَا يهتدى اليها كل أحد لَان لَهَا مدَاخِل خفيه أضمرها من كَانَ لَهَا صانعا وَجعل لَهَا مثل حجر اليربوع ذافقاء وقاصعا مُشْتَمِلَة على خبايا وزوايا أعدوها قَدِيما الاخفاء أَرْزَاقهم اذا حل بهم مثل هَذِه المحن والبلايا فوضعوا أمتعتهم فى المغارات وأخفوها عَن الْعُيُون وجعلوها من قبيل الْمُضْمرَات المبنية على السّكُون حَتَّى أخبر من يعْقد على اخباره ان غَالب أهاليها وأبنائها الى الْآن مختب فى داخلها ومحتب بفنائها الا أَن الينكجرية لِكَثْرَة تفتيشهم وتنقيرهم وتتبعهم وتحريرهم ظَهَرُوا على كثير من تِلْكَ المغارات فتوجهوا اليها وشنوا عَلَيْهَا الغارات وَكلما اطلع أحد من الينكجريه على شئ من ذَلِك ذهب لاعلام رفقائه فتجئ وتستخرج اليربوع من نافقائه وَقد شوهد بعض من ذَلِك النَّوْع وَذَلِكَ مغارة فى الباذستان وضع فِيهَا حَاكم الْبَلدة خزائنه لما حصل لَهُ من الْخَوْف والروع وَلما نهب الباذستان لم يعلم بهَا أحد وَلم يطلع عَلَيْهَا انسان لَكِن اطلع عَلَيْهَا كَثِيرَة التنقير وَبلغ أثر تِلْكَ حَضْرَة الْوَزير فَأرْسل من جَانِبه الدفترادار فى الْحَال وَضبط جَمِيع مَا فِيهَا لبيت المَال ثمَّ ان الْعَسْكَر بعد أَن نهبوا الْمَدِينَة ذَهَبُوا الى الاطراف فنهبوا الزروع ودخلوا الْبَسَاتِين فَقطعُوا الاشجار من الاصول وَالْفُرُوع فَكَانَ حَال أُولَئِكَ كَمَا قيل فى الْمَعْنى
(للسبى مَا نكحوا وَالْقَتْل مَا ولدُوا ... والنهب مَا جمعُوا وَالنَّار مَا زرعوا)
ثمَّ بعد ذَلِك حضر جمَاعَة من أهل الْمَدِينَة وأكابرها بعد أَن ذهب عَنْهُم الروع وجاؤوا بِحسن الِاخْتِيَار والطوع وتقدموا الى حَضْرَة الْوَزير وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم كَانُوا مجبورين على هَذَا التَّأْخِير فَقبل مِنْهُم مَا أبدوه وعذرا وَمن عَلَيْهِم بفك الاسرى فَانْقَلَبَ كل مِنْهُم الى أَهله مَسْرُورا ولقى من بعد ذَلِك الْخَوْف أمنا وسرورا فشرعوا فى الْعود الى أوطانهم من بعد الْهَرَب وَأَقْبلُوا يَنْسلونَ اليها من كل حدب هَذَا وَكَثِيرًا مَا سَأَلنَا بعض أبنائها عَن محاسنها واستفسرنا مِنْهُ عَن لطيف موَاضعهَا وأماكنها فَيَقُول لَو رأيتموها وهى مأهوالة معموره وبالخيرات(4/348)
والارزاق مغموره لرأيتم شَيْئا يحير الافكار ولحكمتم بِأَن لَيْسَ لَهَا نَظِير فى الديار ثمَّ يتنفس الصعدا وَيَغْدُو لِسَان حَاله منشدا
(ألما على الدَّار الَّتِى لَو وجدتما ... بهَا أَهلهَا مَا كَانَ وحشا مقيلها)
(وَلَو لم يكن الا معرج سَاعَة ... قَلِيلا فانى نَافِع لى قليلها)
وفى الْحَقِيقَة هى من أحسن الْبِلَاد الانيقه ومعدودة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الاماكن الرشيقه لَكِن تعرضت لَهَا أيدى الْحدثَان وَكَانَ مُقَدرا عَلَيْهَا أَن تصاب بِهَذَا الْمُصَاب فى هَذَا الاوان
(واذا تَأَمَّلت الْبِقَاع وَجدتهَا ... تشقى كَمَا تشقى الرِّجَال وتسعد)
وَأما جوا مَعهَا الْعَظِيمَة الشان وَحسن رونقها الذى لَا يُوجد نَظِيره الا فى الْجنان فانها حازت أَنْوَاع المحاسن واللطائف وَلَا يُمكن أَن يضْبط حسن نضارتها بِوَصْف واصف
(لقد جمعت كل المحاسن صُورَة ... شهِدت بهَا كل الْمعَانى الدقيقة)
لَا سِيمَا تزينها ظَاهر اَوْ بَاطِنا بنفيس القيشانى والنقوش البديعة الْمعَانى والكتابات الْحَسَنَة الَّتِى تكل عَن وصفهَا الالسنه كخط ابْن البواب وَمن فاقه من مشاهير الْكتاب فانا لم نشاهد مثل هَذِه الكتابات قطّ وَقد أنسانا ذَلِك جمع مَا شَاهَدْنَاهُ فى عمرنا من حسن الْخط خُصُوصا وضع كل شئ فى مَحَله واقترانه مَعَ مناسبه والتئامه كالكتابة على المنارة مثلا المؤذنون أطول النَّاس أعناقا يَوْم الْقِيَامَة وكالكتابة على الاخرى بالخط الْوَاضِح الْمُبين وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ اننى من الْمُسلمين وعَلى الاخرى أشهد أَن لَا اله الا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَقَد شاهدنا على حَائِط الْجَامِع مِمَّا يلى الْبَاب من الْجِهَتَيْنِ مَكْتُوبًا بالخط الجلى القويم آيَات من الْكَلَام الْقَدِيم فَمن جِهَة الْيَمين قَوْله تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وزلفى من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ واصبر فان الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} وَمن جِهَة الشمَال قَوْله {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} لَكِن لم يتمتع النّظر بأنضر من ذَلِك الْخط وَلَا أجلى وَلم تشاهد الْعين ألطف من ذَلِك الرقم وَلَا أحلى كلما زِدْته نظرا زادك حسنا وَكلما راجعت الْبَصَر كرة بعد كرة يظْهر لَك من ذَلِك الشكل(4/349)
لطيف معنى لَو اجْتمع كتاب الْعَصْر لم يستطيعوا أَن يكتبوا على شكله مِثَالا وَالْحَاصِل ان ذَلِك آيَة من آيَات الله تَعَالَى وَكُنَّا نقُول عِنْد مُشَاهدَة ذَلِك سُبْحَانَ خَالق القوى وَالْقدر وانما لمعان تعشق الصُّور ثمَّ بعد أَن وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا وَأَطْفَأت الفئة الغازية نارها شرع الْوَزير فى أَن يحصن المدينه ويعمر بهَا قلعة حصينه وتفحص عَن مَكَان مُنَاسِب يَلِيق وأعمل فى ذَلِك الْمَعْنى فكره الدَّقِيق فَوَقع الِاخْتِيَار على أَن يكون مَحل القلعة مَوضِع قصر الشاه وبستانه وَاتفقَ الرأى على أَن تكون القلعة عوضا عَن الْبُسْتَان ومكانه فشرع فى تعميرها يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس شَوَّال من غير قُصُور وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهَا خَامِس وعشرى الشَّهْر الْمَذْكُور وَصَارَ الْقصر دَاخل القلعة المذكوره وعادت الْبَلدة بذلك مستوره وَأما الْقصر الْمَذْكُورَة فَهُوَ حسن المبانى لطيف الْمعَانى لَا يُوجد لَهُ مثل فى سَائِر الْبِلَاد وَلَا عمر نَظِيره وَلَا من عهد عَاد أحكم وَاضعه بناءه النفيس وأتقن صانعه فى شكله المسدس أشكال التأسيس وَهُوَ فى الْحَقِيقَة كَمَا كتب على بَابه كمل هَذَا الْقصر الْمُعَلَّى والصرح الممرد الْمحلى الذى لم يوضع مثله فى الْجنان وَلم يخْطر مِثَاله للجنان وتاريخه سنة تسع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ولعمرى انه الْمَعْنى بقول الْقَائِل
(قصر عَلَيْهِ تَحِيَّة وَسَلام ... خلعت عَلَيْهِ جمَالهَا الايام)
وَقد نقل عَن الشاه أَنه لما بلغه عمَارَة القلعة مَكَان قصره وبستانه تأسف كثيرا على معاهد ملكه وسلطانه وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الارض بِمَا رَحبَتْ وعاين أَن روحه من جسده سلبت وَمَا أحراه أَن ينشد فى هَذَا الْحَال تحسرا على الْقصر الْمَذْكُور قَول من قَالَ
(فَدَيْنَاك من ربع وان زدتنا كربا ... فانك كنت الشرق للشمس والغربا)
وَقد غَدا مخذولا مقهورا وأضحى كَانَ لم يكن شَيْئا مَذْكُورا ثمَّ لما اتم الْوَزير بِنَاء القلعة وأكمل الْحصار وَأحكم وَضعه وضع فِيهِ جمعا كثيرا من الْعَسْكَر وَأمر عَلَيْهِم حَاكما الباشا جَعْفَر ثمَّ بعد أَن أعْطى كَمَا ذكرنَا لاهل تبريز الْأمان وَرجع بَعضهم الى الْمنَازل والاوطان وَفتحت بعض الدكاكين والحمامات وأضحت مأنوسة بِأَهْلِهَا بعض المحلات اتّفق فى ذَلِك الاثناء أَن قتل فى بعض الحمامات بعض أشخاص من الْعَسْكَر وَنقل الى الْوَزير أَن جمَاعَة القزباش مختفين بِالْمَدِينَةِ بِاتِّفَاق من أَهلهَا فَغَضب من ذَلِك وتأثر وَأقسم أَنه ينْتَقم من أهالى(4/350)
تبريز غَايَة الانتقام وَأمر فيهم حَيْثُ وجدوا بِالْقَتْلِ الْعَام واستوعبهم بِالْقَتْلِ واستأصل واصر حَالهم كَمَا قيل
(فَمَا زَالَت الْقَتْلَى تمج دماءها ... بدجلة حَتَّى مَاء دجلة أشكل)
وَقتل عِنْد ذَلِك آمنهم وَأَصْبحُوا لَا ترى الا مساكنهم بل هى أَصبَحت مضمحلة لَا ترى وَلم يذروا مِنْهَا عينا وَلَا أثرا بِحَيْثُ لم يبْق مِنْهَا الا بعض الْمَوَاضِع وَلم يتْركُوا مِنْهَا الا الثَّلَاث الاثافى والديار البلاقع وَلم يبْق من أَهلهَا الا من كَانَ طفْلا أَو صارخة تصرخ صُرَاخ الثكلى وَكَانَ بقى لَهُم من رزقهم بعض بَاقٍ فنهب الْعَسْكَر ذَلِك الباقى وَلم يتْركُوا لَهُم شَيْئا يَأْكُلُونَهُ فَكَادَتْ أَرْوَاحهم من الْجُوع ترقى الى التراقى وَصَارَ حَالهم الى أَسْوَأ الاحوال وناهيك بِالْجرْحِ على قرب الِانْدِمَال وَقد نقل أَنه قتل فى جملَة أُولَئِكَ جمع من الاشراف الافاضل وَجَمَاعَة من الْعلمَاء الاكامل وَكَانَ ذَلِك فعلا صادرا من غير رأى صائب وأمرا يمجه الطَّبْع وَيحكم الْعقل بِأَنَّهُ أَمر مَحْذُور العواقب وَكَانَ الْكَفّ عَن هَذَا الْفِعْل أولى وَأَحْرَى وان صدر من بعض مَجْهُول جرم فَلَا تزر وَازِرَة وزرة أُخْرَى ثمَّ اتّفق بِمُقْتَضى الْحِكْمَة الالهية والاوامر الربانيه أَن الْوَزير مرض عقيب ذَلِك الْفِعْل من غير تَأْخِير وَاسْتمرّ أَرْبَعَة أَيَّام والتحق بالعليم الْخَبِير وَخرج من تبريز وَهُوَ يعالج سَكَرَات الْمَوْت وانتقل بالوفاة بعد خُرُوجه مِنْهَا بِيَوْم من غير فَوت انْتهى مَا لزم ايراده عودا الى مَا يتم بِهِ من صَاحب التَّارِيخ مُرَاده وَكَانَ قبل وَفَاته نصب سِنَان باشا حَاكما وانه قَائِما مقَامه فَلَمَّا توفى رَحل سِنَان باشا بالعساكر فاعترضهم الْعَدو يَمِينا وَشمَالًا وَوَقع بَينهم مناوشة فَلَمَّا وصلوا الى حُدُود المملكة العثمانية أَمَام قلعة سلماس هجم حَمْزَة ميرزا ابْن شاه مُحَمَّد خدا بنده صَاحب عراق الْعَجم فى نَحْو ثَلَاثِينَ ألف رَاكب فَوَقع بَين العسكرين قتال كثير انجلى الْحَرْب عَن هزيمَة الاعجام بعد أَن حصد غالبهم بِالسَّيْفِ فَلَمَّا دخلُوا مَدِينَة وان شَقوا بطن الْوَزير عُثْمَان باشا وحشوه بالطيب وبعثوا جده الى مَدِينَة آمد فدفنوه بهَا وَكَانَ الْوَزير الْمَذْكُور رأى مناما وَهُوَ بِمَدِينَة تبريز أَنه كَانَ رَاكِبًا فرسا أَبيض فَأَلْقَاهُ الْفرس الى الارض وَسَقَطت عمَامَته عَن رَأسه فَعرف أَنه يَمُوت من مَرضه الذى اعتراه فأوصى بِمَا أَرَادَ وَكَانَ من الشجَاعَة فى جَانب عَظِيم وَكَانَ تولى عدَّة صناجق فى ابْتِدَاء حَاله ثمَّ صَار أَمِير الامراء بِبِلَاد الْحَبَشَة فَسَار حَتَّى انْتهى الى تخوم أَرض الْحَبَشَة فَرَأى مَكَانا(4/351)
ينْبت الذَّهَب فِيهِ فى سفح جبل كَمَا ينْبت الْقصب فوصل الى اقليم القرود وتقاتل مَعَهم مَرَّات عديدة فَكَانَ النَّصْر لَهُ وفى سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة جهز السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة فرهاد باشا الْوَزير مَعَ عَسَاكِر عَظِيمَة الى بِلَاد الْعَجم فوصلوا الى تبريز وحصنوا قلعتها ورمموا سورها وَكَانَت السباهية حاصروها مرَارًا عديدة وقربوا من أَخذهَا ثمَّ بنى بَين وان وتبريز قلعتين وشحنهما بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح وَلم يزل الْوَزير الْمَذْكُور يشتى بِبِلَاد الرّوم وَيرجع فى الصَّيف الى بِلَاد الْعَجم حَتَّى مهد الْبِلَاد الَّتِى أخذت من الكرج وَبنى قلعة كورى وَوصل الى بِلَاد قره بَاغ وكنجه وابتنى هُنَاكَ حصنا على كنجه وحصنا على بردعه وَقَاتل صَاحب قره بَاغ مُحَمَّد خَان فَكسر وغنم أَمْوَاله وَعَاد الى بِلَاد الرّوم وَقد وَقع فتح بِلَاد شرْوَان فى هَذِه السّنة وَمن الْعَجَائِب الَّتِى وَقعت فى هَذِه السّنة أَنه فى خَامِس صفر مِنْهَا ولد بحارة بلاط من قسطنطينية بدار رجل يُقَال لَهُ الْحَاج خضر مَوْلُود لَهُ لحية بَيْضَاء طَوِيلَة وَلَيْسَ لَهُ عينان وَلَا فَم وعَلى حَاجِبه أَو جَبينه ثؤلول قدر الباقلا وأذناه فى عُنُقه وَحين ولد سَطَعَ لَهُ نور وبقى الى أَن مَاتَ من يَوْمه وَلما مَاتَ ذهب ذَلِك النُّور وجئ بِهِ الى مجْلِس قاضى استانبول وَرَآهُ النَّاس وسجل بالسجل وَبعث بِصُورَة الْوَاقِعَة للامصار وفى سنة سبع وَتِسْعين وَردت أوَامِر الى الاقطار بِأَنَّهُ ظهر بِمَدِينَة مراكش من الْمغرب ثَلَاث أَنْفَار أحدهم اسْمه يحيى بن يحيى وَهُوَ لابس ثوبا من لِيف النّخل وفى صَدره مرْآة وَهُوَ رَاكب جملا وَيَقُول لَا اله الا الله وَيَقُول الْجمل مُحَمَّد رَسُول الله وانه يَقُول للجدار انْهَدم بِأَمْر الله فينهدم وَيَقُول كن جدارا كَمَا كنت باذن الله فَيكون جدارا عَامِرًا وان الثَّلَاثَة تفَرقُوا وَاحِد الى الشَّام وَآخر الى مصر وَآخر الى قسطنطينية وَإِن الثَّلَاثَة يَجْتَمعُونَ بِالشَّام وان المهدى يتلاقى مَعَهم بِالشَّام وَمَعَهُمْ محْضر نَائِب القاضى على قاضى طرابلس الغرب وخطوط الْعلمَاء وَغَيرهم وان البندق والسهام وَالسُّيُوف لَا تُؤثر فى وَاحِد مِنْهُ وَلما اتَّصل بِعلم السُّلْطَان مُرَاد أَمرهم أرسل الى بِلَاد الغرب أَن لَا يعتبروا شَيْئا من ذَلِك وَكَذَلِكَ الى مصر وَالشَّام وَصَحَّ هَذَا الْخَبَر وَثَبت وفى نَهَار الثلاثا ثَالِث وعشرى شهر ربيع الآخر سنة احدى بعد الالف وَقعت الْفِتْنَة باسلا مبول وَذَلِكَ أَن العساكر من طَائِفَة الْيَمين واليسار والسلاحدراية وَغَيرهم اتَّفقُوا ودخلوا الى ديوَان السُّلْطَان بِسَبَب ابطاء علوفاتهم عَن الْعَادة وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ مُحَمَّد الشريف صَاحب الدفاتر يَوْمئِذٍ(4/352)
فَامْتنعَ السُّلْطَان من تَسْلِيمه لَهُم خوفًا من أَن يقتلوه وَلم تزل قُضَاة العساكر يَتَرَدَّدُونَ لهَؤُلَاء الْجَمَاعَة لدفع هَذِه الْفِتْنَة فَلم يقدروا فرجموهم واستمروا واقفين مصرين حَتَّى هجم عَلَيْهِم من الدَّاخِل بعض الصّبيان وساعدهم من وجد من القواد وخدمة الدِّيوَان واستمروا يضربونهم ويرجمونهم بِالْحِجَارَةِ فازدحموا عِنْد خُرُوجهمْ من الْبَاب الوسطانى حَتَّى تراكم بَعضهم على بعض بَين الْبَابَيْنِ واستد الْبَاب فَكَانَ النَّاس يَمْشُونَ عَلَيْهِم فَقتل مِنْهُم وَمن المتفرجين نَحْو من مائَة وَسَبْعَة عشر انسانا فَأمر السُّلْطَان بالقاء أَجْسَادهم فى الْبَحْر وَسلم الدفترى الْمَذْكُور وفى هَذِه السّنة عين الْوَزير سِنَان باشا لمحاربة كفار المجر وَأرْسل العساكر فَفتح تِلْكَ السّنة قلعة بستريم وقلعة طاطا وشتى بِمَدِينَة بلغراد وفى السّنة الثَّانِيَة فتح قلعة قرَان بِضَم الْقَاف وقلعة يانق وهى من أحصن القلاع وأصعبها قد أحَاط بهَا المَاء وهى مَدِينَة مَاتَت الْمُلُوك بحسرتها لحصانتها ومنعتها ومتانتها وَكَانَ فتحهَا عِنْد النَّصَارَى بِمَنْزِلَة الْمحَال لصعوبة مراقيها واستعلاء مراميها وَذَلِكَ بعد أَن نَالَ الْمُسلمين شدَّة عَظِيمَة قيل ان النَّصَارَى رموهم بالمدافع فجَاء مدفع بصنجق النبى
الذى صَحبه عَسْكَر الشَّام مَعَهم فكاد يسْقط فَتَلقاهُ رجل قبل السُّقُوط فَلم يسْقط ثمَّ بعد أَيَّام لما اشْتَدَّ بهم الْحصار سلط الله عَلَيْهِم مَوتَانا فَجعلُوا يموتون فى مدينتهم من غير قتال فَسَلمُوا الْمَدِينَة للْمُسلمين فَدَخَلُوهَا فوجدوها قد جافت من الْمَوْتَى وسر الْمُسلمُونَ بذلك سروا عَظِيما وَهَذِه جملَة الوقائع الَّتِى وَقعت فى زمن السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ سعيد البخت وَكَانَت أَيَّام سلطنته معتدلة غَايَة الِاعْتِدَال وَالْعُلَمَاء والسادات فِيهَا مكرمون وَقد كثر فى زَمَنه الْعلمَاء وَكَانَ محبا لجمع الْكتب مَعَ حسن مطالعتها وَله أدب باهر وَشعر بليغ وَكَانَ غَايَة فى التَّوَاضُع والاستكانة لله تَعَالَى حكى النَّجْم عَن الْخَطِيب أَحْمد بن النعيمى الدمشقى خطيب أيا صوفيا بقسطنطينية أَنه كَانَ فى حَضْرَة السُّلْطَان مُرَاد حِين دخل قسطنطينية بعض أقَارِب سُلْطَان الْعَجم لطلب الْمُصَالحَة وَقد أَمر السُّلْطَان أَن تعرض عَلَيْهِ عساكره مارين عَلَيْهِ بَين يدى الاعجام على وَجه الِاسْتِيفَاء وَجلسَ فى مَكَان لَهُ على كرسيه وَبَين يَدَيْهِ شيخ الاسلام الْمُفْتى والخوجه ونقيب الاشراف وامامه وخطيب أيا صوفية وَهُوَ الْمُحدث قَالَ فعرضت عَلَيْهِ العساكر من أول النَّهَار الى وَقت الظّهْر فى موكب عَظِيم قَالَ فَرَأَيْنَا السُّلْطَان قد بَكَى وانتحب وخر عَن(4/353)
كرسيه سَاجِدا ثمَّ قَالَ لنا اشْهَدُوا على أَنى عبد الله تَعَالَى من جملَة عبيده هَؤُلَاءِ لَا مزية لى بسلطنتى عَلَيْهِم فأبكانا وَبِهَذَا الْمِقْدَار من الاستكانة لله تَعَالَى وَالِاعْتِرَاف يُرْجَى لَهُ الْمَغْفِرَة وَكَانَت وِلَادَته بِمَدِينَة قسطنطينية فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وتاريخ وِلَادَته خير النّسَب وَتوفى يَوْم الثلاثا سادس جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاث وَألف بحصر الْبَوْل بعد أَن اسْتمرّ مُدَّة طَوِيلَة مُنْقَطِعًا وَاسْتمرّ مَيتا عشرَة أَيَّام حَتَّى جَاءَ وَلَده السُّلْطَان مُحَمَّد وَجلسَ على التخت ثمَّ جهز وَأخرج بعد صَلَاة الْعَصْر وَصلى عَلَيْهِ بِسَاحَة أيا صوفيا وَتقدم للصَّلَاة عَلَيْهِ شيخ الاسلام مُحَمَّد بن بُسْتَان وَدفن بِالْقربِ من تربة وَالِده بِقرب ايا صوفيا وَله من الْعُمر خَمْسُونَ سنة وَكَانَت مُدَّة ملكه عشْرين سنة وَخلف عشْرين والدا ذكرا غير الاناث فَلَمَّا اسْتَقر ابْنه سُلْطَانا أَمر بخنق اخوته كَمَا تقدم فى تَرْجَمته وَالله أعلم
مُرَاد بن هِدَايَة الله العجمى الاصل الدمشقى المولد رَئِيس الْكتاب بِدِمَشْق وَصَاحب دفاتر المحاسبة بِبَاب الدفترى وَكَانَ صَدرا نبيلا وقورا ممدوحا وَهُوَ الذى مدحه الْفَتْح بن النّحاس بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِى أَولهَا قَوْله
(بصباح وَجهك تشرق الانوار ... ولباب مجدك تهرع الامجاد)
(واذا جرى ذكر الانام بِمَجْلِس ... بدؤا بذكرك وانْتهى الاعداد)
(سجدت لَك الافلاك حِين رفعتها ... والغاب ترفع ذكره الآساد)
(حيرت حذاق الْحساب بفكرة ... تَركتهم وألوفهم آحَاد)
(قس الفصاحة لَو نطقت سحرته ... وَلَو دلو أَن الحَدِيث يُعَاد)
(لم يسبقوك وان سبقت بوالد ... فكلاهما فى المأثرات جواد)
(مَا الْمجد الا أَن يكون وراثة ... وتزيد عَن آبائها الْأَوْلَاد)
(مِنْكُم بدا نجم الْهِدَايَة للعلا ... وعشا لنأر قرا كم القصاد)
(كل يؤمل أَن يُرَاد سوى الذى ... خلع الْقبُول عَلَيْهِ وَهُوَ مُرَاد)
(ان السِّيَادَة فى ذراك تعوذت ... بك أَن يمد يدا لَهَا الحساد)
(عَزمَات مثلك لَا تعاب بحدة ... بيض الصوارم كُلهنَّ حداد)
(هَذَا الْغَمَام على الْخَلَائق رَحْمَة ... وَصِفَاته الابراق والارعاد)
(يَا دوحة ظلّ السَّعَادَة ظلها ... لَا زَالَ حولك ظلك المياد)
(ورعى حماك من الْعِنَايَة حارس ... وَسَقَى ثراك من الْحيَاء عهاد)(4/354)
وَكَانَ حج فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف فتوفى وَهُوَ رَاجع بعسفان فى ثانى الْمحرم سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُرَاد رَئِيس المغربى الْمَشْهُور أَمِير الْبَحْر وَصَاحب المغازى كَانَ مَيْمُون النقيبة قوى الطالع غَالِبا للكفرة كاسرا لشوكتهم بطلا من الابطال وَلم يتول منصبا للسُّلْطَان بل كَانَ يغز وَالْكفَّار وَمهما اكْتسب من غنيمتهم أنفقها على نَفسه وعَلى جماعته الشجعان وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان عشرَة بعد الالف وَكَانَ طاعنا فى السن ناهز الثَّمَانِينَ سنة وَذكر البورينى أَنه ورد فى سنة مَوته كتاب من الامير فَخر الدّين بن معن لبَعض أَصْحَابه يذكر فِيهِ مَوته بقوله وَمُرَاد رَئِيس توفى فحسبت هَذِه الالفاظ فَوَافَقت تَارِيخ مَوته
مُرَاد باشا الْوَزير فى عهد السُّلْطَان أَحْمد صَاحب الحروب مَعَ المجر والعجم والجلالية وشهرته تغنى عَن تَعْرِيفه أَصله من الخرواد وَكَانَ خدم مَحْمُود باشا الْمَشْهُور الذى كَانَ تولى الْيمن ومصر وَقَتله عَسْكَر مصر فى شعْبَان سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ صَار كتخداه فَلَمَّا قتل الْوَزير الْمَذْكُور صَار أحد الصناجق بِمصْر ثمَّ صَار حَاكما بِالْحَبَشَةِ ثمَّ عينه السُّلْطَان مُرَاد حَاكما لليمن فوصل الْوَزير الى ينْدر الصلف فى شهر ربيع الاول سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَدخل صنعاء فى جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وضاق حَاله بِالْيمن وامتحن فِيهَا فَظهر فى زَمَانه الامام الْحسن بن على المؤيدى فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يحب الْعلمَاء ويميل الى الصلحاء وَكَانَ لَهُ حسن عقيدة فى الشَّيْخ الصَّالح عبد الْقَادِر الجعدى وَأَوْلَاده قدس الله سرهم وَهُوَ الذى بشره بِولَايَة الْيمن وَهُوَ خازندار من عِيَال خزانَة مَحْمُود باشا وَأدْخل الشَّيْخ عبد الْقَادِر الْمَذْكُور رَأس مَحْمُود باشا فِي كمة مُشَاهدَة مَحْمُود باشا فِي كمه رجلا يُرِيد يرميه ببندق فخاف مَحْمُود باشا على نَفسه فَقَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر مَا يكون ذَلِك الا بِمصْر فَرَمَوْهُ فى ولَايَته بِمصْر وَأرْسل هُوَ حِينَئِذٍ سردار العساكر السُّلْطَانِيَّة بعد عَزله من الْيمن الى زيد ابْن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الْمَذْكُور كسَاء فاخرا ونقودا وكتابا باللغة التركية فَأمر الْوَزير كتخدا سِنَان باشا وَكَانَ كَاتب الدِّيوَان فى خدمته أَن يعرب للشَّيْخ زيد مَفْهُوم ذَلِك الْكتاب فعربه وَرَأى فِيهِ من لطف الْعبارَات مَا يدل على مَكَارِم أَخْلَاق الْوَزير الْمشَار اليه وَله آثَار حَسَنَة بِالْيمن مِنْهَا جَامع فى قصر صنعاء وأجرى لَهُ غيلا من جبل نُقِيم وَانْقطع فى زمن حسن باشا الْوَزير(4/355)
وَبنى أَيْضا قبَّة معظمة على قُبُور السَّادة بنى الاهدل بزبيد وَدفن فِيهَا من متأخريهم شيخ الاسلام والْحَدِيث فى عصره الطَّاهِر الْحُسَيْن الاهدل وَكَانَ لَهُ حسن عقيدة فيهم وَرفع عَن الرّعية جملَة من الْبدع والمظالم وَنشر عدله فى الْجبَال وَكَانَ مَعَ ذَلِك سفاكا ثمَّ عزل عَن الْيمن ووليها بعده الْوَزير حسن باشا وَلما وصل الى دَار السلطنة أعْطى حُكُومَة قرمان وَأمر بِالسَّفرِ مَعَ الْوَزير الاعظم الموجه الى تبريز فأسرته الْعَجم فى الْوَقْعَة قَالَ النَّجْم حَدَّثَنى شَيخنَا القاضى محب الدّين أَنه حَدثهُ عَن أسره انه لما أسرته الْعَجم وانْتهى الامر عرضت الاسارى على الشاه اسمعيل فَكَانَ يَأْمر بقتل الْبَعْض ورد الْبَعْض الى الرِّبَاط أَو الْحَبْس قَالَ وَكَانَت عمامتى قد ذهبت عَن رأسى وفرجيتى فَلَمَّا جَاءَت نوبتى فى الْعرض عَلَيْهِ قَالَ من تكون أَنْت من الْعَسْكَر فَقلت وَاحِد من السباهية أَو قَالَ من القبوقوليه فَقَالَ لى كذبت أَنْت خَان من خاناتهم وهم يسمون الباشا خَانا قَالَ ثمَّ أَمر لى بساق رَقِيق ثمَّ أَمر بى الى السجْن قَالَ وَكَانَ عرفنى من سروالى فانه كَانَ من الديباج قَالَ فَلَمَّا كنت فى الاسر وَالْحَبْس نذرت لله تَعَالَى عشرَة آلَاف ذَهَبا ان خلصت وعدت الى حالى أَقف بهَا عقارا على فُقَرَاء الْحَرَمَيْنِ الشريفين فَلَمَّا خلص ولاه السُّلْطَان مُرَاد نِيَابَة دمشق فعمر بهَا السُّوق الذى عِنْد بَاب الْبَرِيد وَكَانَ يعرف بسوق الطواقية شرع فى تعميره فى أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف فهدم الحوانيت الْقَدِيمَة وجدد بناءها ووسع الطَّرِيق وَرفع السّقف وَبنى على مربعة بَاب الْبَرِيد قبَّة عَظِيمَة عالية ملاصقة للعمودين العظيمين الباقيين على يَمِين بَاب الْبَرِيد وشماله فَجَاءَت قبَّة حَسَنَة وَجَاء الْبناء حسنا محكما وَأخذ الْبيُوت الَّتِى وَرَاءه وعمرها وكَالَة حَسَنَة وَأمر أَن يسكن فِيهِ تجار سوق السباهية فنقلوا اليه بُرْهَة حَتَّى مَاتَ وأعيدوا الى السُّوق الْمَعْرُوف بهم الْآن ثمَّ عمر الى جَانِبه سوقا آخر وَنقل اليه تجار سوق الذِّرَاع المتولى لَهُ على عمَارَة السُّوق الاول والقهوة وَالْوكَالَة الشَّيْخ احْمَد المغربى متولى الْجَامِع الاموى الْمُقدم ذكره وَكَانَ تَمام عمارتها فى سنة خمس بعد الالف وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الطّيب الغزى فى تَارِيخ الْوكَالَة
(هاك تَارِيخا شما لَهُ ... بدر هالات الغزاله)
(جملَة الْملك بهاء ... وسخاء وبساله)
(صَحَّ فى آخر شطر ... ضمن الدّرّ مقاله)
(ولى الشَّام مُرَاد ... فَبنى خير وكاله)(4/356)
وَالْوكَالَة اسْم للخان كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف فى عرف المصريين والدمشقيون يسمونه قيسارية والمتولى عمَارَة السُّوق الثانى لَهُ حسن باشا الْمَعْرُوف بشور بزه نزيل دمشق الْمُقدم ذكره ووقف الْجَمِيع على الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَقتل مُرَاد باشا فى تَوْلِيَة دمشق الامير مَنْصُور بن الفريخ الآتى ذكره والامير على بن الحرفوش وصير الامير فَخر الدّين بن معن صنجقا وبقى نظره عَلَيْهِ ثمَّ انْفَصل عَن دمشق وَولى حلب وديار بكر وسافر سفرة الانكروس الَّتِى فتحت فِيهَا قلعة اكره وَظَهَرت لَهُ يَد فى الْمُقَاتلَة ثمَّ أعْطى ولَايَة روم ايلى مرَّتَيْنِ ثمَّ انْعمْ عَلَيْهِ بالوزارة وَأمر بمحافظة بلغراد وَلما قتل الْوَزير الاعظم درويش باشا يَوْم السبت تَاسِع شعْبَان سنة خمس عشرَة بعد الالف أرسل الى صَاحب التَّرْجَمَة للوزارة الْعُظْمَى بسوق شيخ الاسلام صنع الله بن جَعْفَر وَعقد الصُّلْح بَين السُّلْطَان أَحْمد وَبَين نَصَارَى الانكروس وَقدم الى دَار السلطنة فَدَخلَهَا فى أَوَاخِر الْمحرم سنة سِتّ عشرَة ثمَّ فى أَوَائِل شهر ربيع الاول من هَذِه السّنة عينه السُّلْطَان سردارا على بِلَاد الشرق وَأمره بتمهيد بِلَاد أَنا طولى فَتوجه الى حلب بِقصد الامير على بن جانبولاذ وَوَقع بَينهمَا حروب كَانَ آخرهَا انهزام ابْن جانبولاذ كَمَا سلف فى تَرْجَمته ثمَّ ان الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة شَتَّى فى حلب وَخرج مِنْهَا فى أول الرّبيع لقِتَال قره سعيد وَابْن قلندر والطويل وَكَانَ ابْن قلندر استولى على بروسه وأفسد فى أطرافها وفى شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة أحرق أَكثر أماكنها فَاجْتمع أَعْيَان الدولة من الْعلمَاء والوزراء عِنْد مصطفى باشا قَائِم مقَام الْوَزير ودبروا الامر فى ان يُرْسل من المتقاعدين وأكابر الْعَسْكَر طَائِفَة لاستخلاص قلعة بروسه مِنْهُ فسارت الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة واستخلصت القلعة فغر ابْن قلندر مَا فعله أَن يُقَابل الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة فَتوجه نَحْو حلب فَالتقى مَعَ الْوَزير وَوَقع بَينهمَا حَرْب انجلى عَن هزيمَة ابْن قلندر وقره سعيد فى شرذمة قَليلَة وَقتل أَكثر جماعتها وتمهدت بِلَاد انا طولى الى حد اسكدار وَكَانَ فى تِلْكَ الاثناء خرج بِبَغْدَاد أَحْمد الطَّوِيل وَاسْتولى على بَغْدَاد واراد يفتك بِأَهْلِهَا فَقبض عَلَيْهِ حاكمها وَقَتله وَلم يبْق فى بِلَاد انا طولى من قسم الْخَوَارِج أحد واطمأنت الْبِلَاد ثمَّ دخل الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة قسطنطينية فى شهر رَمَضَان سنة سبع عشرَة فى أبهة عَظِيمَة وفى خلال سنة ثَمَان عشرَة عزم على السّفر الى الْعَجم وَعبر اسكدار ثمَّ ظهر ان الامر مَأْخُوذ على التراخى فَأبْطل الْعَزْم وَرجع الى دَار الْملك ثمَّ فى تَاسِع شهر ربيع الآخر سنة(4/357)
عشْرين بعد الالف تحركت عزيمته لنَحْو بِلَاد الْعَجم وصمم واقيم مقَامه مُحَمَّد باشا الكورجى الطواشى وسافر بالعساكر الى أَن وصل الى حُدُود تبريز فَلم يَتَيَسَّر لَهُ ملاقاة الشاه وَلَا ظفر بشئ مِمَّا كَانَ يؤمله فَعَاد وفى أثْنَاء الطَّرِيق ابتدأه مرض الْمَوْت واسترسل الى أَن وصل الى ديار بكر وَتوفى بهَا وَكَانَت وَفَاته عَن اذان الْمغرب من ثامن وعشرى جُمَادَى الاولى سنة عشْرين بعد الالف وَحمل مصبرا الى قسطنطينية فَدفن بتربته الَّتِى كَانَ أجدثها لنَفسِهِ بمدرسته الْمَعْرُوفَة بِهِ وَوصل خبر مَوته الى دمشق فى شهر رَجَب من هَذِه السّنة وتأسف النَّاس عَلَيْهِ لنصحه الزَّائِد للدولة وللمسلمين وقمع الاشقياء الَّذين أخربوا الْبِلَاد وأهلكوا بعتوهم الْعباد
مرعى بن يُوسُف بن أَبى بكر بن أَحْمد بن أَبى بكر بن يُوسُف بن أَحْمد الكرمى نِسْبَة لطوركرم قَرْيَة بِقرب نابلس ثمَّ المقدسى أحد اكابر عُلَمَاء الْحَنَابِلَة بِمصْر كَانَ اماما مُحدثا فَقِيها ذَا اطلَاع وَاسع على نقُول الْفِقْه ودقائق الحَدِيث وَمَعْرِفَة تَامَّة بالعلوم المتداولة اخذ عَن الشَّيْخ مُحَمَّد المرداوى وَعَن القاضى يحيى الحجاوى وَدخل مصر وتوطنها وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ الامام مُحَمَّد حجازى الْوَاعِظ والمحقق أَحْمد الغنيمى وَكثير من الْمَشَايِخ المصريين وَأَجَازَهُ شَيْخه وتصدر للاقراء والتدريس بِجَامِع الازهر ثمَّ تولى المشيخة بِجَامِع السُّلْطَان حسن ثمَّ أَخذهَا عَنهُ عصريه الْعَلامَة ابراهيم الميمونى وَوَقع بَينهمَا من المفاوضات مَا يَقع بَين الاقران وَألف كل مِنْهُمَا فى الآخر رسائل وَكَانَ منهمكا على الْعُلُوم انهماكا كليا فَقطع زَمَانه بالافتاء والتدريس وَالتَّحْقِيق والتصنيف فسارت بتآليفه الركْبَان وَمَعَ كَثْرَة أضداده وأعدائه مَا أمكن أَن يطعن فِيهَا أحد وَلَا أَن ينظر بِعَين الازراء اليها فَمِنْهَا كتاب غَايَة الْمُنْتَهى فى الْفِقْه قريب من أَرْبَعِينَ كراسا وَهُوَ متن جمع من الْمسَائِل أقصاها وادناها مَشى فِيهِ مَشى الْمُجْتَهدين فى التَّصْحِيح وَالِاخْتِيَار وَالتَّرْجِيح وَله كتاب دَلِيل الطَّالِب فى الْفِقْه نَحْو عشرَة كراريس وَدَلِيل الطالبين لكَلَام النَّحْوِيين وارشاد من كَانَ قَصده لَا اله الا الله وَحده ومقدمة الخائض فى علم الْفَرَائِض وَالْقَوْل البديع فى علم البديع وأقاويل الثِّقَات فى تَأْوِيل الاسماء وَالصِّفَات والآيات المحكمات والمتشابهات وقرة عين الْوَدُود بِمَعْرِِفَة الْمَقْصُور الْمَمْدُود والفوائد الموضوعه فى الاحاديث الموضوعه وبديع الانشاء وَالصِّفَات فى المكاتبات والمراسلات وبهجة الناظرين فى آيَات المستدلين نَحْو عشْرين كراسا يشْتَمل على الْعَجَائِب(4/358)
والغرائب والبرهان فى تَفْسِير الْقُرْآن لم يتم وتنوير بصائر المقلدين فى مَنَاقِب الائمة الْمُجْتَهدين وَالْكَوَاكِب الدريه فى مَنَاقِب ابْن تيميه والادلة الوفيه بتصويب قَول الْفُقَهَاء والصوفيه وسلوك الطريقه فى الْجمع بَين كَلَام أهل الشَّرِيعَة والحقيقه وَروض العارفين وتسليك المريدين وايقاف العارفين على حكم أوقاف السلاطين وتهذيب الْكَلَام فى حكم أَرض مصر وَالشَّام وتشويق الانام الى الْحَج الى بَيت الله الْحَرَام ومحرك سواكن الغرام الى حج بَيت الله الْحَرَام وقلائد المرجان فى النَّاسِخ والمنسوخ من الْقُرْآن وأرواح الاشباح فى الْكَلَام على الارواح ومرآة الْفِكر فى المهدى المنتظر وارشاد ذوى الافهام لنزول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالرَّوْض النَّضر فى الْكَلَام على الْخضر وَتَحْقِيق الظنون بأخبار الطَّاعُون وَمَا يَفْعَله الاطباء والداعون لدفع شَرّ الطَّاعُون وتلخيص أَوْصَاف الْمُصْطَفى وَذكر من بعده من الخلفا واتحاف ذوى الالباب فى قَوْله تَعَالَى {يمح الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب واحكام الاساس} فى قَوْله تَعَالَى ان أول بَيت وضع للنَّاس وتنبيه الماهر على غير مَا هُوَ الْمُتَبَادر من الاحاديث الْوَارِدَة فى الصِّفَات وَفتح المنان بتفسير آيَة الامتنان والكلمات الْبَينَات فى قَوْله تَعَالَى {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} وأزهار الفلاه فى آيَة قصر الصلاه وَتَحْقِيق الْخلاف فى أَصْحَاب الاعراف وَتَحْقِيق الْبُرْهَان فى اثبات حَقِيقَة الْمِيزَان وتوفيق الْفَرِيقَيْنِ على خُلُود أهل الدَّاريْنِ وتوضيح الْبُرْهَان فى الْفرق بَين الاسلام والايمان وارشاد ذوى الْعرْفَان لما فى الْعُمر من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَاللَّفْظ الموطا فى بَيَان الصَّلَاة الْوُسْطَى وقلائد العقيان فى قَوْله تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} وَمَسْبُوك الذَّهَب فى فضل الْعَرَب وَشرف الْعلم على شرف النّسَب وشفاء الصُّدُور فى زِيَارَة الْمشَاهد والقبور ورياض الازهار فى حكم السماع والاوتار والغناء والاشعار وَتَحْقِيق الرجحان بِصَوْم يَوْم الشَّك من رَمَضَان وَتَحْقِيق الْبُرْهَان فى شَأْن الدُّخان الذى يشربه النَّاس الْآن وَرفع التلبيس عَمَّن توقف فِيمَا كفر بِهِ ابليس وَتَحْقِيق المقاله هَل الافضل فى حق النبى الْولَايَة أَو النُّبُوَّة أَو الرساله والحجج المبينه فى ابطال الْيَمين مَعَ البينه والمسائل اللطيفه فى فسخ الْحَج الى الْعمرَة الشريفه والسراج الْمُنِير فى اسْتِعْمَال الذَّهَب وَالْحَرِير(4/359)
وَدَلِيل الْحُكَّام فى الْوُصُول الى دَار السَّلَام ونزهة الناظرين فى فَضَائِل الْغُزَاة والمجاهدين وبشرى من استبصر وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وبشرى ذوى الاحسان لمن يقْضى حوائج الاخوان وَالْحكم الملكيه والكلم الازهريه واخلاص الوداد فى صدق الميعاد وسلوان الْمُصَاب بفرقة الاحباب وتسكين الاشواق بأخبار العشاق ومنية المحبين بغية العاشقين ونزهة المتفكر ولطائف المعارف والمسرة والبشاره فى فضل السلطنة والوزاره ونزهة الناظرين فى تَارِيخ من ولى مصر من الْخُلَفَاء والسلاطين وقلائد العقيان فى فَضَائِل سلاطين آل عُثْمَان وَغير ذَلِك من فَتَاوَى ورسائل نافعة تداولها النَّاس وَله الرسَالَة الَّتِى سَمَّاهَا النادرة الغريبة والواقعة العجيبة مضمونها الشكوى من الميمونى والحط عَلَيْهِ ولد ديوَان شعر مِنْهُ قَوْله
(يَا سَاحر الطّرف يَا من مهجتى سحرًا ... كم ذَا تنام وَكم أسهرتنى سحرًا)
(لَو كنت تعلم مَا أَلْقَاهُ مِنْك لما ... أَتعبت يَا منيتى قلبا اليك سرى)
(هَذَا الْمُحب لقد شاعت صبابته ... بِالروحِ وَالنَّفس يَوْمًا بالوصال شرى)
(يَا ناظرى ناظرى بالدمع جاد وَمَا ... أيقنت فى مقلتى يَا مقلتى نظرا)
(يَا مالكى قصتى جَاءَت ملطخة ... بالدمع يَا شافعى كدرتها نظرا)
(عساك بالحنفى تسْعَى على عجل ... بالوصل للحنبلى يَا من بدا قمرا)
(يَا من جَفا ووفى للْغَيْر موعده ... يَا من رمانا ويامن عقلنا قمرا)
(الله منصفنا بالوصل مِنْك على ... غيظ الرَّقِيب بِمن قد حج واعتمرا)
(يَا غامر الكئيب بالصدود كَمَا ... ان السقام لمن يهواك قد غمرا)
(قل الصدود فكم أسقيت أَنْفُسنَا ... كأس الْحمام بِلَا ذَنْب بدا وَجرى)
(وَكم جرحت فؤادى كَمَا ضنى جسدى ... أَلَيْسَ دمعى حبيبى مذ هجرت جرى
(فالشوق أقلقنى والوجد أحرقنى ... والجسم ذاب لما قد حل بى وطرا)
(والهجر أضعفنى والبعد أتلفنى ... وَالصَّبْر قل وَمَا أدْركْت لى وطرا)
(أشكوك للمصطفى زين الْوُجُود وَمن ... أرجوه ينقذنى من هجر من هجرا)
وَقَوله
(بروحى من لى فى لقاه ولائم ... وَكم فى هَوَاهُ لى عذول ولائم)
(على وجنتيه وردتان وخاله ... كمسك لطيف الْوَصْف والثغر باسم)
(ذوائبه ليل وطلعة وَجهه ... نَهَار تبدى والثنايا بواسم)(4/360)
(بديع التثنى مُرْسل فَوق خَدّه ... عذارا هوى العذرى لَدَيْهِ ملازم)
(وَمن عجب أَنى حفظت وداده ... وَذَلِكَ عندى فى الْمحبَّة لَازم)
(وبينى وَبَين الْوَصْل مِنْهُ تبَاين ... وبينى وَبَين الْفَصْل مِنْهُ تلازم)
وَقَوله
(لَيْت فى الدَّهْر لَو حظيت بِيَوْم ... فِيهِ أَخْلو من الْهوى والغرام)
(خالى الْقلب من تباريح وجد ... وصدود وحرقة وهيام)
(كى يراح الْفُؤَاد من طول شوق ... قد سقَاهُ الْهوى بكأس الْحمام)
وَله
(يُعَاتب من فى النَّاس يدعى بِعَبْدِهِ ... وَيقتل من بِالْقَتْلِ يرضى بعمده)
(ويشهر لى سَيْفا ويمرح ضَاحِكا ... فيا لَيْت سيف اللحظ تمّ بغمده)
(فَللَّه من ظبى شرود ونافر ... يجازى جميلا قد صنعت بضده)
وَله
(يُبَالغ فى ذمى وأمدح فعله ... فشكرا لمن مَا جَار يَوْمًا بصده)
لَهُ
(لَئِن قلد النَّاس الْأَئِمَّة إِنَّنِي ... كفى مَذْهَب الْجد ابْن حَنْبَل رَاغِب)
(أقلد فتواه وأعشق قَوْله ... وَلِلنَّاسِ فِيمَا يعشقون مَذَاهِب)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى شهر ربيع الاول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله
الشريف مَسْعُود بن ادريس بن الْحسن بن ابى نمى صَاحب الْبَلَد الشريف نَشأ فى كَفَالَة أَبِيه الشريف ادريس وَوَقعت لَهُ حروب مَعَ ابْن عَمه الشريف محسن بن حسن وفى بَعْضهَا أرسل الشريف محسن وَلَده مُحَمَّدًا فظفر بالشريف مَسْعُود وَاسْتولى عَلَيْهِ وَأَخذه أخذا سنيعا وَقتل فى المعركة السَّيِّد حميصة بن عبد الْكَرِيم بن حسن وَالسَّيِّد هَاشم بن شبير بن حسن ثمَّ دخل السَّيِّد مَسْعُود مَكَّة المشرفة بِرِضا من السَّيِّد محسن بكفالة الاشراف أَنه لَا يسْعَى بِخِلَاف وَلَا يَقُول وَلَا يفعل فَلم يثبت على ذَلِك ثمَّ ولى مَكَّة بعد السَّيِّد أَحْمد بن عبد الْمطلب فى صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وحمدت سيرته وَكَانَ فى الْجُمْلَة من أَجود الاشراف ورخصت فى زَمَنه الاسعار وَكَثُرت الامطار وَوَقع السَّيْل الْمَشْهُور الذى ذَكرْنَاهُ فى تَرْجَمَة السُّلْطَان مُرَاد وَقَامَ بِأَمْر الْعرض الى السلطنة وتقيد فى تنظيف الْبَيْت وَالْمَسْجِد وَمِمَّا وَقع لَهُ أَنه شمر عَن أكمامه وَأخذ مكتلا وَحمل فِيهِ شَيْئا من الطين وَفعل النَّاس كَذَلِك فَمَا كَانَ بأسرع من تنظيمه ثمَّ برز أمره الى المهندسين والفعلة بتنظيف بَيت الله الْحَرَام مِمَّا وَقع فِيهِ من الاحجار وَالتُّرَاب فنظفوه فى أسْرع مَا يكون وبقى أَمر الْعِمَارَة الى سادس وعشرى شهر ربيع الثانى من سنة أَرْبَعِينَ كَمَا فصلناه سَابِقًا(4/361)
ثمَّ ان الشريف مَسْعُود توفى فى لَيْلَة الثلاثا ثامن وعشرى شهر ربيع الثانى من سنة أَرْبَعِينَ ببستانه بِأم عابدة بِمَرَض الدق وَنزل بِهِ الاشراف وَقت الضحوة الى مَكَّة على محفة البغال وَصلى عَلَيْهِ بالملتزم وَدفن عِنْد أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة الْكُبْرَى رضى الله تَعَالَى عَنْهَا وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنة وشهرين وَسِتَّة وَعشْرين يَوْمًا وَقَامَ بالامر بعده عَمه الشريف عبد الله الْمُقدم ذكره وفى ايامه تمت عمَارَة الْبَيْت
الشريف مَسْعُود بن الْحسن بن أَبى نمى السَّيِّد الشريف الاجل الْمُحْتَرَم نَاب عَن أَبِيه بعد أَخِيه السَّيِّد الشريف حُسَيْن فى الْقيام بالاحكام وَالتَّصَرُّف فى اقامة وُلَاة دولته من المقدمين والحكام وَكَانَ لَهُ الْبشر والخلق الرضى وامتدح بالقصائد المهذبه وَقصد بالتآليف المستعذبه لميله الى أهل الْفضل وشغفه بمذاكرة الادب وَكَانَ بَينه وَبَين الامام عبد الْقَادِر الطبرى ألفة شديده ومحبة اكيده حَتَّى انه الف شرح الكافى فى علمى الْعرُوض والقوافى خدمَة لَهُ وَمَا زَالَ فى ملازمته مُدَّة مديدة وَمِمَّا اتّفق من نَوَادِر الوقائع أَنه تواعد مَعَ بعض محضياته لَيْلًا فَأَتَاهُ غَيرهَا فَظن أَنَّهَا هى فواقعها حَالا فَحَضَرت الْمَطْلُوبَة وبيدها شمعة موقدة فندم على مواقعته الاولى وَكَانَ عِنْده معِين الدّين بن البكا تِلْكَ اللَّيْلَة فَخرج اليه فى الصَّباح وَقَالَ لَهُ أجز قَول الشَّاعِر
(نَدِمت ندامة الكسعى لما ... رَأَتْ عَيناهُ مَا فعلت يَدَاهُ)
فَأَجَابَهُ
(وعدت معذبى لَيْلًا فَلَمَّا ... تبين أَنه شخص سواهُ)
نَدِمت الخ وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث بعد الالف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة وأرخ وَفَاته معِين الدّين الْمَذْكُور بقوله
(يَا عين مَاتَ المفدى ... مَسْعُود وَالْقلب قد ذاب)
(وكوكب مذ تبدى ... حاولت تَارِيخه غَابَ)
مَسْعُود الرومى قاضى الْقُضَاة الشهير بآواره زَاده وَمعنى الاواره فى الاصل الامر بالتفتيش على الصَّيْد ثمَّ اطلق فى عرف الروميين على الْمُنْفَرد بخويصة نَفسه ولى صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء دمشق فى سنة خمس وَسبعين وَألف وَكَانَ معتدلا فى حكومته لَا يهمه شئ الا يبتنى عَلَيْهِ النشاط وَالسُّرُور لانه كَانَ متكيفا جدا وَكَانَ حُلْو الْعبارَة لطيف الْعشْرَة مائلا الى المجون والمداعبة وَكَانَت ايامه كلهَا هنيئة متواصلة الهناء بالفرح ثمَّ عزل عَن دمشق وَولى بعْدهَا قَضَاء ادرنه ثمَّ الغلطة وَمَات وَهُوَ قَاض بهَا وَكَانَت فى حُدُود سنة تسعين وَألف(4/362)
مُسلم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَلِيل الصمادى القادرى الشافعى شيخ الطَّائِفَة الصمادية بِالشَّام بعد أَبِيه وَكَانَ حِين توفى وَالِده لَيْلَة الْجُمُعَة عَاشر صفر سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بالبقاع فَأرْسل اليه خبر موت أَبِيه وبقى وَالِده حَتَّى حضر فى صَبِيحَة السبت فَدفن وَالِده ذَلِك الْيَوْم وَولى المشيخة من بعده قَالَ النَّجْم وَكنت مرّة مَرِيضا فاشتدت بى الْحمى ذَات لَيْلَة فَرَأَيْت رَسُول الله
فى الْمَنَام بالجامع الاموى وَكَانَ الْيَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَأَنا عُرْيَان فَرَأَيْت حَلقَة فِيهَا قوم قيام يذكرُونَ الله تَعَالَى فَدخلت بَينهم لاستتر فيهم لِئَلَّا يرانى النَّاس عُريَانا فَلَمَّا فرغوا من الذّكر جَلَسُوا فَرَأَيْت رَسُول الله
صدرهم وَلم أعرف من على يَمِينه وانما عرفت الشَّيْخ مُحَمَّد الصمادى عَن يسَاره وَولده الشَّيْخ مُسلم عَن يسَار أَبِيه ونقباء الصمادية عَن يسَار الشَّيْخ مُسلم فَلَمَّا فرغوا من الذّكر سَأَلَ الشَّيْخ مُحَمَّد رَسُول الله
عَن الصمادية فَقَالَ
لَا تتعب مَا فيهم غير ولدك مُسلم قَالَ ثمَّ استيقظت وَقد حصل لى عرق عَظِيم وعوفيت فبلغت رؤياى الشَّيْخ مُحَمَّد الصمادى فَبعث الى وَقَالَ لى يَا سيدى نجم الدّين بلغتنى رُؤْيَاك وَالله انها لحق وَأُرِيد مِنْك أَن تقصها أَنْت على فَلَمَّا قصصتها عَلَيْهِ بَكَى وَقَالَ وَالله لقد صدقت رُؤْيَاك مَا فى جماعتنا غير مُسلم ثمَّ توفى بعد هَذِه الرُّؤْيَا بِيَسِير وَقَامَ وَلَده الشَّيْخ مُسلم مقَامه قَالَ وَكنت أَقُول للشَّيْخ مُسلم يَا مَوْلَانَا الشَّيْخ أَنا الذى جِئْت بتوقيفك بالمشيخة من عِنْد رَسُول الله
الى أَبِيك فيعترف لى بالفضيلة ويعاملنى بالمحبة والاعتقاد وَهُوَ كَانَ فى نَفسه صَالحا دينا مُبَارَكًا سليم الصَّدْر والفطرة وَكَانَ لَهُ فى حلقته همة عالية فى زمَان وَالِده ثمَّ فى حَال مشيخته وسافر فى آخر أعوامه الى بَيت الْمُقَدّس فى سيارة على طريقتهم وَمَعَهُ من الزوار جمَاعَة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد وَلَهُم اليه محبَّة وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من خير خلق الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس عشرَة وَألف
السُّلْطَان مصطفى بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن السُّلْطَان مُرَاد الْملك الصَّالح الزَّاهِد المتقشف تقدم ذكره اجمالا مَرَّات من جُمْلَتهَا فى تَرْجَمَة وَالِده وَأَنه أوصى وَلَده السُّلْطَان أَحْمد حِين عهد اليه بالسلطنة أَن يُرَاعى أَخَاهُ صَاحب التَّرْجَمَة وَأَن لَا يقْتله فَلَمَّا توفى السُّلْطَان أَحْمد تولى السُّلْطَان مصطفى مَكَانَهُ وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس رَابِع وعشرى ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وبقى ثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية(4/363)
أَيَّام فَلم تظهر أَهْلِيَّته وَلَا كِفَايَته لشدَّة بذله الاموال وَكَثْرَة ركُوبه الى المحلات الْبَعِيدَة من غير تقيد بِأَمْر مركوب وَلَا غَيره لانه تَارِك للدنيا وَلَيْسَ براغب فِيهَا بِحَيْثُ انه كَانَ فى مُدَّة ملكه لبسه جوخة خضراء بأكمام عَرَبِيَّة وَأما أكله فانه لم يَأْكُل الزفر مُطلقًا وانما كَانَ يَأْكُل الكعك الناشف واللوز والبندق وأنواع الْفَوَاكِه وَأما أمره فى النِّسَاء فان والدته أحضرت لَهُ جوارى عديدة فَلم يقبل مِنْهُنَّ وَاحِدَة وَكَانَ لَا يدرى من أَحْوَال الْملك الا مَا ألْقى اليه فَلَمَّا رأى أَرْكَان الدولة أَن الامر بِهِ لَا يَنْتَظِم ذهب الْمُفْتى الْمولى أسعد بن سعد الدّين الى اسكدار لمولانا الشَّيْخ مَحْمُود المعتقد الصَّالح الْعَالم يستشيره فى أَمر خلعه فَأَشَارَ بخلعه وَأَن يُولى مَكَانَهُ السُّلْطَان عُثْمَان ثمَّ جَاءَ من عِنْده وَأخْبر قَائِم مقَام الْوَزير مصطفى أغا ضَابِط الْحرم قريب الْعشَاء من لَيْلَة الاربعاء ثَالِث شهر ربيع الاول فَأرْسل الْقَائِم مقَام الى الى الصوباشى اذا جاءتك فى غدورقة مختومة فافعل بِمَا فِيهَا واحترس على الابواب فَقَالَ سمعا وَطَاعَة وَأما مصطفى أغا فانه أول مَا مضى من لَيْلَة الاربعاء سِتّ سَاعَات ذهب الى أَبْوَاب السراى وقفلها جَمِيعًا وَكَذَا أَبْوَاب الامكنة الَّتِى فِيهَا أكَابِر الخدم وَأخذ المفاتيح وهيأ الْمحل الذى فِيهِ تخت السلطنة وأوقد فِيهِ الشموع وفرشه بِأَحْسَن الْفرش وَذهب من حِينه الى السُّلْطَان عُثْمَان فى مَجْلِسه الذى هُوَ فِيهِ وَهُوَ مَحل عَمه صَاحب التَّرْجَمَة الذى كَانَ فِيهِ فى حَيَاة أَخِيه السُّلْطَان أَحْمد وَفتح عَلَيْهِ الابواب فَحصل لَهُ رعب وتخوف من أَن يكون عَمه أرْسلهُ ليَقْتُلهُ فَقَالَ لَهُ لَا تخف أَنْت صرت سلطاننا فَلم يصدق ذَلِك فَصَارَ يحلف لَهُ ان القَوْل صَحِيح وَلَا زَالَ يتلطف بِهِ الى أَن أدخلهُ الى مَحل التخت فألبسه ثِيَاب الْملك وَأَجْلسهُ على التخت وَقبل يَده وَصَارَ يفتح أَبْوَاب السراى بَاب بَابا وَيدخل من كَانَ دَاخل الابواب للمبايعة حَتَّى لم يبْق أحد فى السراى بِغَيْر مبايعة هَذَا كُله وَالسُّلْطَان مصطفى نَائِم عِنْد والدته ثمَّ أرسل مصطفى أغا للمفتى وقائم مقَام الْوَزير فحضرا وَبَايِعًا ثمَّ ذَهَبُوا الى السُّلْطَان مصطفى قبل الْفجْر فطلبوه من الدَّاخِل فَخرج اليهم وَقَالَ مَا جَاءَ بكم فى هَذَا الْوَقْت فَكَانَ أول من تكلم شيخ الاسلام أسعد فَقَالَ لَهُ ان أَمر المملكة اخْتَلَّ وان الاعداء تسلطت علينا وَنحن نخشى ضيَاع الْملك وَأَنت لست بلائق للسلطنة فَأَجَابَهُ بقوله أَنا مَا طلبت مِنْكُم الْملك وَلَا أردته وَلَيْسَ لى بِهِ مصلحَة فَقَالُوا جَمِيعًا لَا نكتفى بِقَوْلِك هَذَا ولابد أَن تذْهب وتبايع ولد أَخِيك السُّلْطَان عُثْمَان فانا قد أجلسناه على التخت فَقَالَ جعله الله(4/364)
مُبَارَكًا وَأَنا لَيْسَ عندى مُخَالفَة وَذهب وَبَايع السُّلْطَان عُثْمَان فَقَالُوا الْآن نحضر جَمِيع الوزراء وأركان الدولة وَأشْهد على نَفسك بِالْخلْعِ فَقَالَ لَهُم أفعل ذَلِك فأرسلوا أحضروا الوزراء وقاضى الْعَسْكَر وَكَتَبُوا عَلَيْهِ حجَّة بخلع نَفسه وَأرْسل الْقَائِم مقَام الورقة وهى الْمَوْعُود بهَا الى الصوباشى وفيهَا الامر بالمناداة وتولية السُّلْطَان عُثْمَان فنودى بذلك ثمَّ لما قتل السُّلْطَان عُثْمَان وَقعت الْبيعَة الْعَامَّة للسُّلْطَان مصطفى فى سادس رَجَب سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف ففوض أَمر الوزارة الْعُظْمَى لزوج أُخْته دَاوُد باشا فَلم تحمد سيرته فعزل بعد عشْرين يَوْمًا من تَوليته وَلم يتَّفق لَهُ حُضُور الدِّيوَان السلطانى الا مرّة وَاحِدَة ثمَّ فوض أَمر الوزارة لمره حُسَيْن باشا وعزل بعد أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا فولى مَكَانَهُ مصطفى باشا اللفكوى وعزل بعد أَرْبَعَة أشهر لفرط حمقه وَغَلَبَة طمعه ثمَّ ولى مَكَانَهُ مُحَمَّد باشا الكرجى وَكَانَ وزيرا كَامِل الْعقل ناصحا للدولة قَائِما برعاية أُمُور الْملك الا أَنه لم يسلم من مكيدة مره حُسَيْن باشا فحرك عَلَيْهِ السباهية وثارت فتْنَة عَظِيمَة وَلم يُمكن أَن تمهد الا بعزل الكرجى وتولية مره فوليها مره وَلما وَليهَا وَافق أَمر الله أَن قَامَت أُمَرَاء أَنا طولى ونوابها على سَاق لطلب دم السُّلْطَان عُثْمَان وأظهروا الِاسْتِقْلَال التَّام فى ولايتهم فاتفق الرأى على تعْيين مَحْمُود باشا ابْن جغال لتسكين فتنتهم فَسَار الى أَن وصل الى أنقره وَلم يتَّفق لَهُ مُقَابلَة أحد فَرجع لمحافظة بروسه وفى رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ اتّفق ان الْوَزير عزّر قَاضِيا فى حَضرته فَاجْتمع الْعلمَاء بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد وقصدوا ايقاع أَمر فَلم يُمكنهُم وَبلغ الْوَزير ذَلِك فَفرق الجمعية وعزل بعض أَشْرَاف من الْعلمَاء وَنفى بَعْضًا ثمَّ فى شَوَّال من هَذِه السّنة اجْتمعت السباهية على عَزله وتبعهم الجم الْغَفِير فَلم يخلص من أَيْديهم الا بإرسال مهر الوزارة الى السُّلْطَان واختفى مُدَّة وَكَانَ قَتله على يَد السُّلْطَان مُرَاد وَولى الوزارة مَكَانَهُ على باشا الْمَعْرُوف بكمانكش ثمَّ اخْتَار السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة التخلى عَن السلطنة وَالْعُزْلَة فَخلع عَن السلطنة فى يَوْم الاحد رَابِع ذى الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته سنة وَاحِدَة وَأَرْبَعَة أشهر وَمَا عَاشَ بعد ذَلِك كثيرا وَكَانَت وِلَادَته سنة ألف رَحمَه الله
مصطفى بن أَحْمد بن مَنْصُور بن ابراهيم بن مُحَمَّد سَلَامه أَبُو الْجُود بن محب الدّين الدمشقى الْفَاضِل الاديب الْمَشْهُور كَانَ من أجلاء الْفُضَلَاء الَّذين جدوا(4/365)
فى الِاكْتِسَاب وأفادوا من الْفَضَائِل مَا يعز اليه الانتساب قَرَأَ بِدِمَشْق على الْحسن البورينى وَغَيره وسافر الى مصر مرَّتَيْنِ الاولى فى سنة أَربع وَعشْرين بعد الالف وَأقَام بهَا خَمْسَة أشهر وَانْقطع مُدَّة اقامته فى الطّلب غَالِبا الى الْبُرْهَان اللقانى وَخَصه بدرس فى ألفية الحَدِيث على خلاف عَادَته من الِامْتِنَاع عَن التَّخْصِيص لفرد على الْخُصُوص ثمَّ أجَازه بِمَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ وَمَا سَمعه مِنْهُ فى اجازة خَتمهَا ببيتين من نظمه وهما
(مذ حل فى مصر ركاب الْمُصْطَفى ... فاقت وأشرق أَزْهَر بِالنورِ)
(من آل فرفور ونخبة خيضر ... كحلول مُوسَى لاقتباس النُّور)
قَالَ الْمُصْطَفى فَقلت مادحا لَهُ مضمنا لهَذَا الْبَيْت مَعَ تَعْبِير بديع من التَّجْنِيس حصل للبيت الْمَذْكُور مِنْهُ التحسين والتأنيس وأضفت اليه بَيْتا آخر وكتبت الْبَيْتَيْنِ بخطى وأعطيتهما للشَّيْخ من يدى وهما
(ان اللقانى الْهمام انتاشنى ... من بعد مَا قد كنت كالشئ اللقى)
(حل من العلياء فى أَعلَى الذرى ... فقصر اللَّاحِق عَن طول المدى)
قَالَ ثمَّ بعد رجوعى الى الوطن وَسُكُون الْقلب بالقرار فى السكن بعثنى لاعج الحنين الى الاحباب وتذكر التأنس من تِلْكَ الْمعَاهد الرحاب أَن صغت أبيانا بديعة المطلع والختام مفصلة السمط مطبوعة النظام فى مدح الشَّيْخ الْمَذْكُور بنيت الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورين بواسطتها وبينت انهما كواسطتها بِحَيْثُ جَاءَت مَقْصُورَة مَقْصُورا عَلَيْهَا البديع أَيّمَا قصر رافلة فى غلائل البلاغة تفوق دمنة الْقصر حملهَا اليه قاضى مصر صاحبنا الشريف وَقد اجتاز على دمشق مُتَوَجها الى مصر لمباشرة قَضَائهَا وَذَلِكَ فى آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين بعد الالف والمقصورة الْمَذْكُورَة هى هَذِه
(قد عَن للقلب حنين للسرى ... لمصر وهى الشَّام فى وَجه الْقرى)
(والازهر الْجَامِع فِيهِ سادة ... غر ميامين غَدا كل رضى)
(لَا سِيمَا فَخر اللقان من لَهُ ... برهَان فضل لَيْسَ يَغْشَاهُ الخفا)
(حبر لتحقيق وتدقيق حوى ... أهاب بِالْعلمِ فلبى وسعى)
(ان اللقانى الْهمام انتاشنى ... )
الى آخر الْبَيْتَيْنِ الْمُتَقَدِّمين وبعدهما
(قداقتنى الْعلم فَقِيه يقْتَدى ... بِهِ لنعم المقتدى والمقتنى)(4/366)
(يُعِيد مَكْنُون الخفايا وَاضحا ... كالصبح عَنهُ حِين ينجاب الدجى)
(مَتى يحاول حل اشكال عرا ... رعاه توفيق فأجدى وَهدى)
(أجرد طرف الْبَحْث مِنْهُ مَا كبا ... وَلَا حسام الْفضل فى بَاب نبا)
(يشتاقه قلب اليه قد صفا ... والاذن قبل الْعين راقتها الحلى)
(جسمى نأى وَالْقلب مِنْهُ قد دنا ... وثيق عهدى لَيْسَ مفصوم العرى)
(لَا زَالَ فى صهوة عز يمتطى ... لَا يجد السوء اليه مختطى)
ثمَّ سَافر الثَّانِيَة فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ قَالَ وَاجْتمعت بشيخنا الْمَذْكُور وَحَضَرت درسه فى صَحِيح البخارى برواق المغاربة من الْجَامِع الازهر بِمصْر ثمَّ تَوَجَّهت على الطَّرِيق المصرى لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج فاجتمعت بِهِ بِمَكَّة فى موسم عَام أَرْبَعِينَ ثمَّ ودعته وداعا لَا تلاقى بعده فَتوجه صُحْبَة الركب المصرى وتوجهت صُحْبَة الركب الشامى فوافاه أَجله فى عقبَة أيله انْتهى ثمَّ اسْتَقر بِدِمَشْق مُدَّة متفرغا للافادة واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة بالجامع الاموى وَولى النّظر على دَار الْقُرْآن الخيضرية والتربة الَّتِى بمحلة مَسْجِد الذبان وهما انشاء جده من قبل الامهات القطب مُحَمَّد بن عبد الله بن خيضر بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة الشافعى البلقاوى الْمَشْهُور بالقطب الخيضرى وَكَانَ فى رحلته الى مصر وقف على مدرستين لَهُ بالقرافة الصُّغْرَى فأظهر مسطور وَقفهَا وَولى النّظر عَلَيْهِمَا أَيْضا وسافر الى حلب مرَّتَيْنِ أَيْضا الاولى فى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَالثَّانيَِة فى نَيف وَخمسين وَدخل ثغر صيدا وبيروت فى أَيَّام الامير فَخر الدّين بن معن وَولده الامير على وَله من التآليف شرح الملحة وَهَذَا الشَّرْح فِيمَا أدْركْت من معزاه لَيْسَ الا فهرست تَارِيخ أجداده وطالما حدثت عَن صَاحب التَّرْجَمَة بِأَنَّهُ كَانَ غَالب عَلَيْهِ السَّوْدَاء الْمُحْتَرِقَة فحقق عندى شَرحه هَذَا انه بلغ الْغَايَة فى التَّخْلِيط وَكَثِيرًا مَا وقفت على كتب من متملكاته وعَلى غَالب هوامشها خطه وَكَانَ يكْتب الْخط الثُّلُث الجلى وكل مَا يَكْتُبهُ لَا مُنَاسبَة لَهُ بِمَا كتب عَلَيْهِ بل ثَمَرَته تبشيع الْكتاب الذى يدْخل تَحت يَده وَهَكَذَا كَانَ يفعل فى الْكتب الَّتِى لغيره يستعيرها للمطالعة فيملؤها بخلطياته وأحسب هَذَا الامر طَرَأَ عَلَيْهِ فى أَوسط عمره فتغلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء حَتَّى كَانَ يطلع الى مَنَارَة الْمَسْجِد الذى بمحلتهم وينادى بِأَعْلَى صَوته بسب بعض الْعلمَاء الْكِبَار وَيُصَرح بِأَسْمَائِهِمْ وَقد وقفت لَهُ على تَرْجَمَة بِخَط شَيخنَا الشَّيْخ رَمَضَان العطبقى ذكر لَهُ فِيهَا مناظيم كَثِيرَة اخْتَرْت مِنْهَا هَذَا الْقدر الذى أوردهُ فَمن ذَلِك مَا كتبه(4/367)
الى شيخ الاسلام أسعد بن سعد الدّين لما قدم من الْحَج وزيارة بَيت الْمُقَدّس فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف
(بحلية فضل الاوحد الْفضل أسعدا ... تجملت الدُّنْيَا وكللها الندى)
(وقرت بِهِ عينا وقرت لانه ... غَدا فَوْقهَا ركنا ركينا مشيدا)
(امام لنَحْو الْفضل قد مد بَاعه ... فقصر عَن أدنى معاركه المدى)
(حوى الْعلم عَن جد وجد وراثة ... فيا حبذا تأسيس أصل تأكدا)
(وَحل ذرى العلياء مذ كَانَ يافعا ... فاكرم بِهِ فخرا ومجدا وسوددا)
(عَلَيْهِ من الْمجد الاثيل شعاره ... وبالعلم وَالتَّقوى تأزر وارتدى)
(وَقد تمّ فى أفق السَّعَادَة سعده ... وَلَا غرو سعد من سعيد تولدا)
(سرى قَاصِدا نَحْو الْمَدِينَة طيبَة ... فحج وَقد زار النبى مُحَمَّدًا)
(وَعَاد الى الْقُدس الشريف مبادرا ... فزار من الاقصى الْمُبَارك مَسْجِدا)
(وَأم دمشق الشَّام عودا لبدئه ... فزادت بِهِ حسنا أخيرا ومبتدا)
(وَيَا ليته لَو دَامَ فِيهَا مقَامه ... لينقع من ريا خليقته الصدى)
(وَلَكِن بِظهْر الْغَيْب أحفظ وده ... وهيهات أَن أنسى لَدَيْهِ توددا)
(وداد لَهُ فى الْقلب أزكى مغارس ... وعهد وثيق بالمحبة قد بدا)
(فدام لَهُ الْعَيْش المهنأ أرغدا ... وطالعه السيار أسعى وأسعدا)
قَالَ وأنشدنى من لَفظه لنَفسِهِ وَقَالَ انه أول نظم نظمته وَهُوَ
(يَا مليحا حوى جمالا وظرفا ... وغزالا قد فاق جيدا وطرفا)
(كلما ازْدَادَ فى الملاحة ضعفا ... زادنى فى الوجد فى الصبابة ضعفا)
وأنشدنى من لَفظه لنَفسِهِ وَقَالَ انه لم ينظم هذَيْن الْبَيْتَيْنِ على طَريقَة النّظم من الْفِكر والروية بل نفحة ربانية وَذَلِكَ بِمصْر
(لَا أشهد الْفضل لكنى شهِدت بِهِ ... للنَّفس اذ دأبت فى الْعلم تحصيلا)
(وَذَاكَ من بَاب تحديث لخالقها ... بِنِعْمَة مِنْهُ تحصيلا وتنويلا)
وأنشدنى قَوْله مادحا للنور الزيادى عَالم مصر قبل التَّوَجُّه فَلَمَّا توجه وجد الشَّيْخ قد مَاتَ فزاره قَبره وأنشدهما
(عجبت عمرى لزيد نيل ... قد زَاد نيلا لكل زَاد)
(فَقَالَ لى لَيْسَ ذَا عجيبا ... ففضل فيضى من الزيادى)(4/368)
وأنشدنى من لَفظه لنَفسِهِ ارتجالا فَقَالَ
(من رام ظلا وريفا يستظل بِهِ ... وينثنى بثناء طيب الْخَبَر)
(فليطلب الْعلم بالاخلاص مُجْتَهدا ... يفز بِمَا شَاءَ من عز وَمن خطر)
وَكتب اليه الشَّيْخ عبد الباقى الحنبلى فى ذى الْقعدَة سنة سِتّ وَخمسين وَألف مسائلا فَقَالَ
(أيا عَالما أَحْيَا مَدِينَة جلق ... وتحرير هَذَا الْعَصْر كشاف بلواه)
(دهتنى هموم أَنْت ترجى لكشفها ... فَمِنْهَا سُؤال أَنْت بِالْحَقِّ مقضاه)
(وَذَاكَ حوالينا لقد جَاءَ مُسْندًا ... وفى السّنة الغراء حَقًا روينَاهُ)
(فمفرده حول كَذَا قَالَ شَارِح ... وللمجد فى الْقَامُوس يفرد مَعْنَاهُ)
(وفى الْفَتْح أنصبه بِفعل مُقَدّر ... أى امطر حوالينا من القفر حَيَّاهُ)
(وَلكنه مبْنى أَو هُوَ مُعرب ... فان قلت بالثانى فَبين لمبناه)
(فَكيف يُفِيد الْفَرد هَل هُوَ مُفْرد ... وَهل هُوَ مَجْمُوع فأوضح لمعزاه)
(واعرابه بَين على كل حَالَة ... فَأَنت لهَذَا الْخطب وضاح منشاه)
(وَهل ظَاهر الاعراب أَو هُوَ مُقَدّر ... أرحنى من الاشكال مَا صرت أَلْقَاهُ)
فَكتب الشَّيْخ مصطفى اليه الْجَواب وَهُوَ
(أيا من حوى علما تقاصر عِنْده ... عُلُوم ذوى التَّحْقِيق عَن بعد مسراه)
(وَيَا فَاضلا عَمت فواضل جوده ... فَمَا طَالب الا وَقد حَاز جدواه)
(وَيَا من لَهُ غوص بِفضل فطانة ... على كل معتاص على الْفَهم مَعْنَاهُ)
(أتيت بِلَفْظ فى سُؤال منضد ... كعقد بجيد الغادة الخود خلناه)
(وَذَاكَ حوالينا الذى جَاءَ واردا ... بِلَفْظ حَدِيث يجتلى الْقلب مرآه)
(واعرابه نصب على الظّرْف ظرفه ... مَكَان والزمانى يُنَافِيهِ مبناه)
(وَلكنه جمع أَتَى وَهُوَ نَادِر ... على صُورَة الِاثْنَيْنِ حَقًا روينَاهُ)
(وَلكنه لما أضيق لمزد ... غَدَتْ نونه حذفا لما قد أضفناه)
(وَهَذَا الذى يَبْدُو لعبد مقصر ... مقرّ بتقصير وذنب جنيناه)
(وعذرا فان الْعذر عنْدك سَائِغ ... فَأَنت امام شاع فى النَّاس تقواه)
(فَلَا زلت للاشكال توضح بهجة ... تزيل عَن الْفَهم الذى مِنْهُ يَغْشَاهُ)
(ودمت معافى فى سرُور ونعمة ... تقر عُيُون المستفيدين نعماه)(4/369)
(وَخص اله الْعَرْش أفضل خلقه ... نَبيا عُلُوم الْخلق من فيض علياه)
(مُحَمَّد الْمُخْتَار مفزع أمننا ... بدنيا وَأُخْرَى فَهُوَ ركن عهدناه)
(بِأَفْضَل تَسْلِيم وأزكى تَحِيَّة ... وَآل وَصَحب مَا حَدِيث روينَاهُ)
وَمن خطه نقلت لَهُ أَيْضا قَوْله
(لَا تسأ من بِحمْل الْعلم من كتب ... فالعلم أنفس شئ أَنْت حامله)
فَأَجَابَهُ مجيزا لهَذَا الْبَيْت الشَّمْس مُحَمَّد الفرفورى فَقَالَ
(وانقل لصدرك مَا أودعت من كتب ... يرحك عَن حملهَا مَا أَنْت ناقله)
وَكتب من خطه أَيْضا قَوْله
(أحسن برأى امْرِئ عد الكفاف غنى ... مُجَردا لَهُم فى دَار يعادلها)
(طُوبَى لمن بَات فى أَمن وفى دعة ... فراحة الْقلب لَا شئ يعادلها)
قَالَ وَسَأَلته عَن مولده فَأخْبر أَن وَالِده كتبه على ظهر كتاب وَأَنه ضَاعَ لَكِن فى غَالب ظَنّه أَنه فى نَيف وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَحصل لَهُ مرض فى أَوَائِل سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف وَانْقطع فى دَاره الَّتِى هى دَاخل بَاب توما وتعرف بِبَيْت محب الدّين جوَار دَار شيخ الاسلام ابْن عماد الدّين فعدته فى أثْنَاء الْمَرَض فرأيته مترقبا للعافية وآثار الْمَوْت عَلَيْهِ غير خافيه فتكالمنا مَعَه فأبدى لنا من فضائله مَا يسحر الْعُقُول من مَعْقُول ومنقول وَمن كل معنى فائق ونظم رائق ثمَّ بعد ذَلِك فارقته فِرَاق وداع متأسفا على طى فضائله الَّتِى انْعَقَد على حسنها الاجماع فَكَانَ بعد ذَلِك يراسلنى بالرسل والاوراق الى أَن كتبت لَهُ جَوَاب رِسَالَة فى لَيْلَة السبت ثَالِث عشر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وفى ضمنهَا هَذِه الابيات
(أسأَل الله من أتم غلاكا ... خَالق الْخلق أَن يتم شفاكا)
(فَلَقَد زَاد سقم صبك هَذَا ... ودواه محققا رؤياكا)
(وَهُوَ حيران فى غياهب شكّ ... لَيْسَ يبدى لنورها الاكا)
(عِشْت صَدرا لطَالب الْعلم بَدْرًا ... زِدْت قدرا تسمو بِهِ الافلاكا)
(لتنال الطلاب مِنْك مُنَاهُمْ ... ومناهم وَالله أقْصَى مناكا)
ثمَّ قصدت أَن أَسِيرهَا فى الْيَوْم الْمَذْكُور فَلم يتَّفق لِكَثْرَة الامطار حَتَّى صَارَت طرقات الْمَدِينَة كالانهار فاذا هُوَ انْتقل بعد الظّهْر فى الْيَوْم الْمَذْكُور الى رَحْمَة رب الْعَالمين وَلم يُمكن فى ذَلِك الْيَوْم التَّجْهِيز والتكفين وَاسْتمرّ الْمَطَر مُتَّصِلا لَا يَنْقَطِع الى يَوْم(4/370)
الاحد فَغسل وكفن فى الامطار الغزار وَذهب بِهِ الى جَامع بنى أُميَّة وَصلى عَلَيْهِ الظّهْر وَحمل الى قَرْيَة الشَّيْخ ارسلان فَدفن قبالة الشباك المواجه للضريح عَلَيْهِ رَحْمَة الحنان المنان وَاتفقَ أَن صَار حَالَة الدّفن مطر غزير لم يتَّفق مثله فى الاعوام فَقلت القصيدة الَّتِى أَولهَا
(بَكت السَّمَاء بمدمع هطل ... اذ مَاتَ غيث الْجُود وَالْفضل)
وَلم يذكر مِنْهَا الا بَيت المطلع هَذَا وَأَنا لم أَقف عَلَيْهَا قلت وَمِمَّا يتَعَلَّق بترجمة صَاحب التَّرْجَمَة فى تَسْمِيَته نَفسه بالمصطفى مُعَرفا مَا وجدته بِخَط البورينى تَحت كِتَابَة للمصطفى فَكتب تحتهَا قَاعِدَة فى أل الَّتِى تكون للمح الْوَصْف من زَوَائِد الشَّيْخ الطَّيِّبِيّ الْكَبِير على ألفية ابْن مَالك
(كالفضل والحرث وَالْعَبَّاس ... وَلَيْسَ هَذَا الْبَاب بِالْقِيَاسِ)
قلت وَالْبَيْت فى الاصل هَكَذَا
(كالفضل والحرث والنعمان ... فَذكر ذَا وحذفه سيان)
واذا علمت هَذِه الْقَاعِدَة على هَذَا الاسلوب أَنه لَا يُؤْتى بأل فى مثل هَذِه الْكَلِمَات الا اذا سَمِعت من الْعَرَب واذا لم تسمع فالاتيان بهَا غلط فأل فى الْمُصْطَفى اذا كَانَ مصطفى علما غير وَاقعَة فى موقعها الصَّحِيح لانها لم تسمع فِيهِ فَالْوَاجِب حِينَئِذٍ حذفهَا فاعلمه
مصطفى بن أَحْمد بن مصطفى البولوى مفتى السلطنة وعالم علمائها وَرَئِيس نبلائها الامام الْعَالم الْعلم الْعَلامَة الشهير كَانَ أوحد الزَّمَان فى الْفُنُون مطلعا على الظَّاهِر مِنْهَا والمكنون مشارا اليه بالتحقيق مُنْذُ عرف محلى بنفائس الصِّفَات الْعلية من حِين وصف وَكَانَت دمت الاخلاق رَقِيق الطَّبْع ذَا مُرُوءَة وسكينه ومكانة من الادب مكينه انْتَمَى فى مبدا أمره الى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وتلمذ لَهُ ولازم مِنْهُ وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يُحِبهُ ويقدمه ولاه الْمدَارِس السامية ثمَّ بعد وَفَاة الْمولى الْمَذْكُور مَا زَالَ حَظه وَصيته يَنْمُو حَتَّى صَار مفتش الاوقاف ثمَّ ولى ابْتِدَاء قَضَاء بروسه وَلَا زَالَ فى رفْعَة الى ان تولى قَضَاء العسكرين ثمَّ الافتاء ثمَّ عزل وَأمر بالتوجه الى مصر وَأعْطى قَضَاء الفيوم فَأَقَامَ بِمصْر مُعظما يقرى ويدرس ببيته وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ اقبال عَظِيم لتواضعه ولطف مُعَامَلَته وَله من المؤلفات شرح على الْكَنْز وحواش على شرح أشكال التأسيس وَغير ذَلِك من التحريرات(4/371)
الفائقة وَكَانَت وَفَاته فى سنة تسعين وَألف
مصطفى بن رَمَضَان الشهير بِابْن صارى خوجه الدمشقى الدفترى الرئيس الْجَلِيل الشَّأْن كَانَ من أَرْبَاب الوجاهة والمروءة حسن الْخلق لين الْجَانِب حَلِيمًا معاشرا سهل الصُّحْبَة ذكره والدى فى تَارِيخه فَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ أَبوهُ روميا من أهل أدرنه ورد دمشق واستوطنها الى أَن تَلا الدَّهْر آيَة مَوته وأعلنها وَكَانَ اقتنى دَارا بِبَاب قلعة دمشق مُتَّصِلَة بدار الحَدِيث الاشرفية وجاءه أَوْلَاد مِنْهُم صَاحب التَّرْجَمَة فَأَقْرَأهُ وَكتبه وَعلمه حَتَّى تعلم الرقم والحساب فَدخل فى زمرة الْكتاب وَاخْتَلَطَ بالاعيان وَأكْثر من التَّرَدُّد الى المرحوم حسن بن عُثْمَان الرُّومِي لكنه فى جواره وداره تجاه دَاره وَفرغ لَهُ عَن كِتَابَة أوقاف الدرويشية وَكَانَ مِمَّن تمهر على يَده فى الارقام الحسابية ثمَّ انحاز الى ابراهيم باشا الدفترى وَصَارَ من خَواص جماعته وَصَارَ كَاتبا لوقف الْجَامِع الاموى ومتوليا على وقف الدرويشية ثمَّ صَار كَاتبا فى قلم المحاسبة بالخزينة الدمشقيه وكاتبا للكيلار السلطانى وَحج بِهَذِهِ الْخدمَة مرَّتَيْنِ ثمَّ صَار محاسبا بالخزينة بعد الرئيس مُرَاد بن هِدَايَة الله الْمُقدم ذكره وَكبر بِهَذِهِ الْخدمَة وَصَارَ يُرَاجع فى الامور المهمة وَصَارَت لَهُ رُتْبَة الدفترية مَعَ بَقَاء المحاسبة ثمَّ صَار دفتريا اصالة فى سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وعزل عَنْهَا وأعيد اليها مَرَّات ثمَّ صَارَت لَهُ رُتْبَة بكلر بكية مرعش وَصَارَ قَائِم مقَام الْوَزير الْكَبِير مُحَمَّد باشا بوينى اكرى لما جَاءَهُ ختم الوزارة الْعُظْمَى وَهُوَ محافظ دمشق ثمَّ بعد ذَلِك أكره من قبل الْجند الشامى على حُكُومَة الشَّام فى ماجرية مرتضى باشا ثمَّ تناقضت أَحْوَاله وتشتت فكره وباله وَلَا غرو فللزمان صروف تجول وَأُمُور تعرض وتحول فاذا أقبل جد الْمَرْء فالاقبال يسعده والاوطار تعينه وتساعده واذا أدبر فالايام تعاديه والنحوس تراوحه وتغاديه وَأظْهر الْفقر للانام والفاقة الشَّدِيدَة للحكام ثمَّ سَار الى أدرنه بِطَلَب من طرف السلطنة للسؤال عَن اختلال الخزينة الشامية فاتهم فى بعض أُمُور أحيلت عَلَيْهِ فنفذ فِيهِ الْقَضَاء وأسرع الْقَتْل اليه وَمَات شَهِيدا وَدفن وحيدا وَكَانَ قَتله فى سنة احدى وَسبعين وَألف وَمن الِاتِّفَاق ان وَالِده ولد بأدرنه وَدفن بِدِمَشْق وَهُوَ بعكس ذَلِك
مصطفى بن زين الدّين بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الشهير بِابْن سوار الحموى الاصل الدمشقى المولد الشافعى شيخ الْمحيا النبوى الامام الحبر الْبَحْر الصَّالح(4/372)
الناسك من زنده بِالْفَضْلِ وارى وَعرضه من كل مَا يشين عارى ان كَانَ الْفضل روضا فَهُوَ نواره أَو الصّلاح يدا وساعدا فَهُوَ سواره
(ندب يغار على الْفَضَائِل فَضله ... فيضمها ضم السوار المعصما)
نَشأ فى صِيَانة وديانه وترعرع ملئ برده متانة ورزانه وَأخذ الْفِقْه عَن جمع مِنْهُم الشهَاب العيثاوى وَالشَّمْس الميدانى والعلوم العقلبة عَن جمَاعَة أَجلهم الملا مَحْمُود الكردى والعلوم الْعَرَبيَّة عَن الشَّيْخ عمر القارى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى والنجم الغزى ولازمه سِنِين وروى عَنهُ الْكتب السِّتَّة وَغَيرهَا وَصَارَ معيدا لدرسه الْعَام تَحت قبَّة النسْر لما مَاتَ الشَّيْخ رَمَضَان العكارى سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَكَانَ النَّجْم يَقُول من أَرَادَ أَن ينظر الى حوارى هَذِه الامة فَلْينْظر اليه وَكَانَ حسن السمت والخلق لطيف الطباع مهابا مجللا عِنْد عُلَمَاء دمشق وأمرائها وكبرائها مُعْتَقدًا عِنْد الْخَاص وَالْعَام لَا يتَرَدَّد الى أحد الا الْخَواص وَجلسَ للتدريس وانتفع بِهِ جمَاعَة من أَجلهم شَيخنَا الشَّيْخ عُثْمَان بن مَحْمُود المعيد وَكَانَ منهمكا على بَث الْعُلُوم وافادتها مواظبا للمحيا النبوى لَيْلَة الِاثْنَيْنِ بالجامع الاموى وَلَيْلَة الْجُمُعَة بالجامع البزورى بمحلتهم قبر عَاتِكَة قَائِما بوظيفة الصَّلَاة على النبى
مَعَ الاحسان للْفُقَرَاء والضعفاء ولين الْجَانِب والتواضع التَّام وَكَانَت وِلَادَته سنة عشر بعد الالف وَتوفى سنة احدى وَسبعين وَألف وَدفن فى تربة الدقاقين بمحلة قبر عَاتِكَة ورثاه الامير المنجكى رَحمَه الله تَعَالَى بقوله
(لعمرك زند الْفضل أصبح عاطلا ... من ابْن سوار بَعْدَمَا كَانَ حاليا)
(وَقد ملئت منا الْقُلُوب لفقده ... مصابا وأضحى مجْلِس الْعلم خَالِيا)
وَرَآهُ تِلْمِيذه صاحبنا الشَّيْخ عبد الله بن على العاتكى بعد مَوته فى الْمَنَام بعد لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ طَائِر فَقَالَ لَهُ يَا سيدى الى أَيْن تطير قَالَ الى عليين فَقَالَ لَهُ بِمَ نلْت ذَا فَقَالَ بِكَثْرَة الصَّلَاة على النبى
وَكَانَ لَهُ ولدا اسْمه زين الدّين وَكَانَ من الافاضل وَاتفقَ أَنه مَاتَ ثانى يَوْم من وَفَاة وَالِده ويروى أَنه كَانَ لقن اباه وَبعد أَن فرغ من التَّلْقِين دَعَا الله أَن يلْحقهُ بوالده فاستجيب دعاؤه ورؤى وَالِده فى الْمَنَام وَهُوَ يَقُول ان الشوق الى زين الدّين جذبه الينا وَمَا قَدرنَا على فِرَاقه رحمهمَا الله تَعَالَى
مصطفى بن سعيد الدّين بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن الجباوى الدمشقى القبيباتى(4/373)
الشَّيْخ المجذوب كَانَ من الاسخياء الاجواد حج فى خدمَة وَالِده فى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ اشْتغل بِالتِّجَارَة وسافر الى مصر مَرَّات ثمَّ تعانى طبخ الصابون وَبيع الْحَرِير ثمَّ صَار شيخ زاويتهم بعد وَفَاة أَخِيه الشَّيْخ مُوسَى فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف لعدم وجود أحد غَيره واقبلت الدُّنْيَا عَلَيْهِ ومالت اليه بِالْقَلْبِ والقالب وانحصرت فِيهِ جَمِيع املاك بنى سعد الدّين وأوقافهم وَجمع من المَال مَا فاق بِهِ على آبَائِهِ واجداده وتميز بِهِ على الْمَشَايِخ الصُّوفِيَّة وَحج ثَانِيًا الى بَيت الله الْحَرَام فى سنة سِتّ وَخمسين بأَهْله وَأَوْلَاده وسافر الى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ حج ثَالِثا وَكَانَ فى جَمِيع شؤنه متناقض الاطوار وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ صدق قَوْلهم هُوَ كخبز الشّعير يُؤْكَل ويذم وكالهندية يكره ويلم
(كَمَاء طَرِيق الْحَج فى كل منزل ... يذم على مَا كَانَ فِيهِ وَيشْرب)
وَكَانَ لَهُ ابْن يُسمى سعد الدّين وَكَانَ نجيبا اصيب بِهِ فى طَرِيق الْحَج وحزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا ثمَّ بعد ذَلِك حط بِهِ الدَّهْر واستطالت عَلَيْهِ يَد اللئام واستغرق اوقاته فى النزاع وَالْخِصَام وعارضه بعض حكام دمشق فى كل أَمر وَقع لَهُ فَترك زاويته الَّتِى بالقبيبات وَسكن دَاخل دمشق وَتزَوج أم ولد بعض التُّجَّار ثمَّ تزوج زَوْجَة التَّاجِر الْمَذْكُور ايضا وزادت عَلَيْهِ الاكدار وَكَانَ لَهُ بنت مُزَوّجَة بِبَعْض الاعيان فَمَاتَتْ بعد أَن طَلقهَا وخلفت بِنْتا فَوضع يَده على جَمِيع مخلفاتها وَكَانَ اذا طُولِبَ بِالْمِيرَاثِ يَقُول ان بنى سعد الدّين لَا يورثون الاناث وَله من هَذَا الْقَبِيل كَلِمَات عَجِيبَة فَمن أعجبها أَنه ذكر بعض الافاضل بِحَضْرَتِهِ كتبا مَوْجُودَة عِنْدهم بِخَط مصنفها فَقَالَ وَأَنا عندى متن الْكَشَّاف بِخَط مُصَنفه وَمِمَّا يحْكى عَن وَالِده أَنه لما قدم جَعْفَر باشا محافظ مصر سَأَلَهُ عَن طَرِيقه فَقَالَ على السنانية فَقلت لَو قَالَ على بَاب الله لَكَانَ اصاب وَكَانَ وَقع بَينه وَبَين ابْن أَخِيه الشَّيْخ كَمَال الدّين بِسَبَب المشيخة وَكَانَ يتوسط بَينهمَا جمَاعَة بِالصُّلْحِ فاذا ذكرُوا الشَّرِيعَة فى مقَام الانذار يَقُول ان كَانَ لَهُ شَرِيعَة فلنا طَريقَة وكل هَذَا مبْنى على الجذب والاستغراق فان غَالب بنى سعد الدّين يغلب عَلَيْهِم الْغَرق وَأرى السَّلامَة فى اعْتِقَادهم فان تصرفهم مجرب ثمَّ ان الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة غلب عَلَيْهِ الْحَال وضاق بِهِ المجال وزادت عَلَيْهِ الاتعاب من الْخَارِج والداخل فَأَنْشد لِسَان حَاله قَول الْقَائِل حَيْثُ قَالَ
(جَار الزَّمَان فَلَا جواد يرتجى ... للنائبات وَلَا صديق يشفق)(4/374)
(وطغى على فَكل رحب ضيق ... ان قلت فِيهِ وكل حَبل يخنق)
ثمَّ انتهز فرْصَة الْغَفْلَة من حفدته وَدخل الى خلوته بالمشهد الشرقى من جَامع الاموى الْمَعْرُوف بمشهد الْمحيا وقفل الْبَاب وخلع ثِيَابه وَوضع حبلا فى عُنُقه وَألقى نَفسه فَمَاتَ فَدخل وَلَده بعد الْعَصْر مَعَ اتِّبَاعه فوجدوه مَيتا على الصُّورَة الْمَذْكُورَة فَسَارُوا الى قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى مُحَمَّد بن مَحْمُود المفتش وَأَخْبرُوهُ بذلك فَأرْسل مَعَهم كشافا فَكتب صُورَة الْكَشْف وأنزلوه ووضعوه فى نعش وأخذوه بعد الْغُرُوب الى بَيتهمْ بالقبيبات وَغسل وَصلى عَلَيْهِ فى قَول أَبى حنيفية رضى الله تَعَالَى عَنهُ وَدفن بمقبرة أجداده بِبَاب الله وأرخ ذَلِك شَيخنَا القَاضِي حُسَيْن الْعَدْوى الْمُقدم ذكره بقوله
(أنظر الى محن الزَّمَان ... ترى الْجواد يَمُوت خنقا)
(قد دارت الافلاك حَتَّى ... ذاقت الاحرار رقا)
(من بعض مَا نَالَ ابْن سعد ... الدّين من نكباته سلبا وَسُحْقًا)
(أَن جاد بِالنَّفسِ العزيزة ... مهديا للروح خنقا)
(فلذاك قلت مؤرخا ... عجبا بِهِ قد مَاتَ شنقا)
وَكَانَ ذَلِك نَهَار الْجُمُعَة رَابِع الْمحرم سنة تسع وَسبعين وَألف وَبلغ من الْعُمر خمْسا وَسِتِّينَ سنة وَاتفقَ قبل وقعته بِنَحْوِ سنوات أَن رجلا من المجاذيب دخل دمشق واقام بالجامع الاموى سَاكِنا صامتا مُدَّة ثمَّ تكلم أَيَّامًا وَكَانَ يَصِيح بِصَوْت عَال فصيح فى صحن الْجَامِع الشَّيْخ مصطفى بن سعد الدّين شنقوه وَكَانَ النَّاس يعْجبُونَ من ذَلِك غَايَة الْعجب حَتَّى وَقع مَا وَقع قلت وَوَقع فى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف أَن الشَّيْخ اسماعيل ابْن الشَّيْخ أَحْمد بن سوار بن أخى الشَّيْخ مصطفى شيخ الْمحيا الْمُقدم ذكره قبل صَاحب التَّرْجَمَة صلب نَفسه فى المشهد الذى صلب صَاحب التَّرْجَمَة نَفسه فِيهِ اقْتِدَاء بالشيخ المترجم وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
مصطفى بن سِنَان أحد الموالى الرومية تولى قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق فى سنة ثَلَاث بعد الالف ثمَّ ترقى حَتَّى ولى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى وَكَانَت سيرته مُسْتَقِيمَة فى قَضَائِهِ كُله عفيفا منزه الْعرض الا أَن بضاعته فى الْعلم كَانَت مزجاة وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ قَاض بروم ايلى فى شهر ربيع الثانى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بقسطنطينية
مصطفى بن طه الحلبى نقيب الاشراف بحلب وَأحد رؤسائها وَكَانَ شهما جسورا(4/375)
خَبِيرا بِأُمُور النَّاس لَهُ أَنَفَة وَحُرْمَة وَرَأس بحلب مُدَّة وَكَانَ يُرَاجع فِي المهام وَولى قسْمَة الْعَسْكَر بهَا وسما وَكَانَ الْبَاعِث لسموه مصاهرته للْمولى صَالح رَئِيس الاطباء ونديم السُّلْطَان مُحَمَّد وَكَانَت وَفَاته فى سنة
مصطفى بن عبد الْحَلِيم البروسوى قاضى العساكر الْفَاضِل الْكَامِل الْمُؤَدب الْمُهَذّب الْحَاكِم الحاسم الفطن الذكى الحرى بِأَن ينشد فِيهِ
(قَاض اذا الْتبس الامران عَن لَهُ ... رأى يخلص بَين المَاء وَاللَّبن)
كَانَ أحد أَفْرَاد الزَّمَان مَعَ وفور فضل وَعلم وعقل واثق الْعَهْد صَادِق الود حسن التَّصَرُّف بَرِيئًا من الرِّيَاء والتكلف لَهُ ديانَة وَحسن سيرة مَعَ صِحَة فطنة وسلامة سريرة عفيف النَّفس نظيف الملبس طَاهِر الذبل قَرِيبا لخاطر المتأنس اشْتغل بِطَلَب الْعلم ببروسه على الْعَلامَة الْمولى مُحَمَّد البروسوى الْمَعْرُوف بِابْن المعيد الذى تولى قَضَاء قُضَاة الشَّام فى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَعلا غَيره ثمَّ دخل قسطنطينية فى عنفوان شبابه واجتهد فى تَحْصِيل الْعُلُوم وَقَرَأَ على شيخ الاسلام عبد الرَّحِيم وَالْمولى يحيى بن عمر المنقارى ولازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ثمَّ ورد فى صُحْبَة أَخِيه شيخ الاسلام مُحَمَّد الْمُقدم ذكره الى دمشق لما ولى قَضَاء مصر وناب عَنهُ بهَا ثمَّ درس بالروم ثمَّ ولى قَضَاء دمشق وَقدم اليها فى أَوَائِل سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وعظمه أهل دمشق حق التَّعْظِيم لما احتوى عَلَيْهِ من الْوَقار والبهاء فى نَفسه ولتقيده بفصل الاحكام على وَجه الْعِفَّة والاستقامة وَلكَون أَخِيه اذ ذَاك مفتى السلطنة وَمحل الانسان من عينهَا وجاءه خبر عَزله عَن الْفَتْوَى وَهُوَ قَاض وَلم يتأثر وَزَاد فى التصلب وقمع الْحُكَّام ثمَّ عزل غرَّة الْمحرم سنة ثَلَاث وَتوجه الى الرّوم نَهَار الْخَمِيس تَاسِع الْمحرم وسافر والدى المرحوم فى صحبته سفرته الثَّانِيَة قَالَ فى تَرْجَمته وَمَا رَأَيْته يَوْمًا اطاع سُلْطَان الْغَضَب فِيمَا لاقاه من الرَّاحَة والتعب وفى الحَدِيث ان فِيك لخصلتين يحبهما الله تَعَالَى الاناة والحلم ثمَّ بعد ذَلِك صَار قَاضِيا بِمصْر وَخرج عَلَيْهِ قطاع الطَّرِيق فى نواحى اسكى شهر وَأخذُوا جَمِيع مَا مَعَه من اسباب وأمتعة ثمَّ ولى قَضَاء مَكَّة وَورد دمشق فى ثانى عشر شهر رَمَضَان سنة احدى وَثَمَانِينَ وَاتفقَ أَن أَخَاهُ كَانَ قدمهَا فى غرَّة رَجَب وَهُوَ مُتَوَجّه الى الْحَج وَاجْتمعَ بِهِ بعد عشر سنوات كَانَا لم يجتمعا فِيهَا وَسَار الى الْحَج ثمَّ ولى قَضَاء قسطنطينية ثمَّ قَضَاء الْعَسْكَر باناطولى فى سنة خمس وَثَمَانِينَ وَاجْتمعت بِهِ وَهُوَ قاضيه فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ بأدرنه وأسدى(4/376)
الى نعما طائلة ومدحته ثمَّ عزل بعد قدوم السُّلْطَان الى قسطنطينية فى احدى الجماديين سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأقَام بدار بمحلة السُّلْطَان سليم وَكَانَ تأنق فى عمارتها وَكَانَ شغفا بالمطالعة والتصحيحات وَعمر مدرسته بداخل قسطنطينية قبالة مدرسة شيخ الاسلام زَكَرِيَّا بِالْقربِ من حمام السُّلْطَان سليم وَبنى فِيهَا مدفنا ورتب فِيهِ قراء وَكَانَ تَمام بنائها فى أَوَائِل سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى وعزل فَلم تطل مدَّته بعد ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَعشْرين وَألف وَتوفى فى آخر ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف وَدفن بتربته الَّتِى أَنْشَأَهَا رَحمَه الله تَعَالَى
مصطفى بن عبد الْملك وَقيل عُثْمَان البابى الحلبى الاديب الْفَاضِل المتمكن من المعارف وَكَانَ من أجل فضلاء الدَّهْر وأوحد أدباء الْعَصْر وَبِالْجُمْلَةِ ففضله يجل عَن التَّعْرِيف وأدبه غير مُحْتَاج الى التوصيف نَشأ بحلب وَأخذ بهَا الْعُلُوم عَن جمع من أَجلهم الشَّيْخ أَبُو الْجُود البترونى والنجم الحلفاوى وَالشَّيْخ أَبُو الوفا العرضى والمنلا ابراهيم الكردى وَالشَّيْخ جمال الدّين البابولى وَدخل دمشق صُحْبَة ابْن الحسام قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق فى سنة احدى وَخمسين وَألف وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى والنجم الغزى وَأَجَازَ مشايخه ورحل الى الديار الرومية فدرس بهَا وانتفع بِهِ جمَاعَة من فضلائها ثمَّ سلك طَرِيق الموالى وَتَوَلَّى قَضَاء طرابلس الشَّام ثمَّ مغنيسا ثمَّ بَغْدَاد ثمَّ الْمَدِينَة المنورة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فى سنة احدى وَتِسْعين وَحج فى هَذِه السّنة فتوفى بِمَكَّة وأشعاره كلهَا نفيسة فائقة مطربة رائقه وهى فى الجزالة والفصاحة فَوق شعر المفلقين من الْمُتَقَدِّمين وفى الرشاقة وَحسن التخيل تفوق قَول المجيدين من الْمُحدثين وَهَا أَنا أتلو عَلَيْك مِنْهُ مَا بِهِ الارواح تنتعش والجمادات ترتعش فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة يمدح بهَا ابْن الحسام
(سرى عَائِدًا حَيْثُ الضنى رَاع عودى ... سرى الْبَدْر طيف بالدجنة مُرْتَد)
(وَمَا رق لَو لم يرع وجدى وَلَا سرى ... على الْبعد فى ثوب الْحداد المرقد)
(فأعجبه شوقى اليه على النَّوَى ... كَذَا كَانَ حَيْثُ الشمل لم يتبدد)
(وعاتبته وَالظَّن أيأس طامع ... فجاوبنى وَالْقلب أطمع مجتد)
(ولاطفته حَتَّى استملت فُؤَاده ... فيا لَك سَعْدا بعضه لين جلد)
(وَبت كَانَ الدَّهْر ألْقى زمامه ... الى وصافانى فأحرزت مقصدى)
(وحكمنى من جيده وَهُوَ عاطل ... فحلاه دمعى بالجمان المنضد)(4/377)
(الى أَن نعى بالبين صبح كَأَنَّهُ ... غراب النَّوَى لكنه غير أسود)
(وَقد جدد التذْكَار مَا أخلق الضنى ... وأى عهود مثلهَا لم تجدّد)
(فيا لَيْت أبقى ذكرهَا لي عِبْرَة ... لابكى بهَا أَو لَيْت أبقى تجلدى)
(خليلى مَا آليتما جهد نَاصح ... وَلَكِن حيران القضا كَيفَ يهتدى)
(أما تصلح الايام بعد فَسَادهَا ... فَلم تبْق من عيشى صلاحا لمفسد)
(وَقد زادنى ظلما وأوسعنى أَذَى ... يدا عصبَة لم تخش لله من يَد)
(فأكبادهم للنحر فى جَوف جلمد ... وألسنهم للشر فى فَم أسود)
(عَسى يهدم الاحسان مَا شيد الاذى ... اذا لذت بالركن الشَّديد المشيد)
(امام أَقَامَ الدَّهْر من عثراته ... وأحيت مساعيه شَرِيعَة أَحْمد)
(كَانَ أَمَالِيهِ الرياض ثمارها الدرارى والاقلام صَوت المغرد ... )
مِنْهَا
(يجود الحيا بِالْمَاءِ بابك وجوده ... مَعَ الْبشر يهمى من لجين وعسجد)
(تقلدت الشَّهْبَاء صارم عدله ... وَلَوْلَا مضاء السَّيْف لم تتقلد)
(وَلَو كلف الْمَخْلُوق مَا فَوق وَسعه ... سعت للقاه سعى صَاد لمورد)
(أَتَى وظلام الشّرك فِيهَا كَأَنَّهُ ... وساوس شرك فى فؤاد موحد)
(فأشرق بدر الْعدْل فى عرصاتها ... بِوَجْه أغر مبرق الْعَزْم مرعد)
(تردت بِثَوْب بالصيانة معلم ... وحفت ببحر بالمكارم مُزْبِد)
(عزائم بَانَتْ فاختفى كل جَاحد ... وَقَامَت فألفى وفرها كل مقْعد)
(وَسَاخَتْ أياديه فشردت الندى ... وَردت من العلياء كل مشرد)
(غَدَتْ تقْرَأ التَّحْمِيد سُورَة حَمده ... سجودا وَمن يسْتَوْجب الْحَمد يحمد)
وَقَوله من أُخْرَى يمدح بهَا ممدوحه الْمَذْكُور فَقَالَ
(عوجا على رسم ذَلِك الطلل ... نفضى حُقُوق الليالى الاول)
(لَعَلَّ نثنى أعطاف ثَانِيَة ... وَقد ترجيت غير مُحْتَمل)
(فالدهر يَأْبَى بَقَاء مغتنم ... فَكيف يُرْجَى لرد مرتحل)
(لكل مَاض من شبهه يدل ... وَمَا لعهد الشَّبَاب من بدل)
(سقى لَو يلا تنابذى سلم ... كل ملث الربَاب منهمل)
(معاهد طالما اقتطفت بهَا ... زهر الهنا من حدائق الجذل)
(وأطلع السعد فى معالمها ... بدر المنى فى غياهب الامل)(4/378)
(حَيْثُ قطوف اللَّذَّات دانية ... ومورد الانس مغدق النهل)
(تعثر تيها فى ذيل لذتها ... فى هضبات العناق والقبل)
(بِكُل مستوقف الْعُيُون سنا ... يَدْعُو فرَاغ الْقُلُوب للشغل)
(أثقل اعطافه بخفته ... لطف التصابى فخف بالثقل)
(وعطلت من حلى النَّبَات عذاراه فحلاه الْحسن بالعطل ... )
(ألْقى عَلَيْهِ الْجمال حلته ... وحلة الْحسن أحسن الْحلَل)
(اذا رمتنا من قَوس حَاجِبه ... سِهَام جفنيه مَا بَنو ثعل)
(وَا رحمتا العاشقين قد دهمتهم المنايا فى صُورَة الْمقل ... )
(وَقد تفاءلت من مصَارِعهمْ ... أَن تلافى بالاعين النجل)
(أسى لقد أزعج الاسى وَهوى ... أهويت من أَجله على أجلى)
(فَذا الذى حجبت محاسنه ... عَنَّا مساوى الصدود وَالنَّقْل)
(من كَانَ عَنى قبل النَّوَى صلفا ... أبعد من مسمعى عَن العذل)
(مَا زِدْت عَنهُ بعدا بفرقته ... لَا واخذ الله الْبَين من قبلى)
(وفى امتداحى لَيْث العرين غنى ... عَن الْغِنَا بالغزال والغزل)
(مولى غَدا فى علاهُ عَن رجل ... أبعد عَن حاسديه من زحل)
(النّدب عبد الرَّحْمَن من فضحت ... غر سجاياه الشَّمْس فى الْحمل)
(أَقَامَ للفضل دولة حسنت ... ودولة الْفضل أفضل الدول)
(فأغدقت للورى مناهله ... من بَعْدَمَا كَانَ غائض الوشل)
(قد انتضى الله مِنْهُ فى حلب ... سيف سداد لَهَا من الْخلَل)
(حَتَّى كساعد لَهُ الليالى والايام ثوب الاسحار والاصل ... )
(واستتر الظُّلم من عَدَالَته ... بَين جفون الظباء بالكحل)
(بأبيض الْعدْل مَا تركت بهَا ... سَواد ظلم إِلَّا من الْمقل)
(واعتدلت حَتَّى مَا اسْتمرّ بهَا ... لَوْلَا قدود ألحان ذُو ميل)
(مَا كنت أدرى من قبل رُؤْيَته ... كَيفَ انحصار الانام فى رجل)
(حَتَّى رَأَيْت امْرأ يقوم لَهُ الدَّهْر على سَاقه من الوجل ... )
(ان ادّعى مبصر لَهُ شبها ... فاحكم على ناظريه بالحول)
(وان يكن فى الْعُيُون بُد على ... فبأسه فى الْقُلُوب سيف على)(4/379)
(رام المهى سأو مجده فَسَهَا ... جزى بِطرف بالسهد مكتحل)
(واعتل من لطفه الصِّبَا حسدا ... لَا بَرحت حاسدوه فى علل)
(وزور الْغَيْث سح رَاحَته ... حَتَّى اعتزى للسخاء بالحيل)
(يَا سيدا أَصبَحت مكارمه ... أشهر بَين الانام من مثل)
(كَادَت معانى الثَّنَاء تسبقنا ... اليك وَالْحق وَاضح السبل)
(يهنيك عيد بِهِ الهناء لَهُ ... كَمَا أهنيك والهنا بك لى)
(وهاكها رَوْضَة لقد صبغت ... مِنْهَا خدود الربى من الخجل)
(لَو نَالَ فصل الرّبيع بهجتها ... مَا سلبت عَنهُ حلَّة الخضل)
(وانما الْمجد دولة جعلت ... لَهَا معانى الثَّنَاء كالخول)
وَله هَذِه النونية يمدحه أَيْضا
(أفى كل يَوْم لوعة وحنين ... وَمن كل فج للفراق كمين)
(وكل طَرِيق هَكَذَا غير موعر ... فلى طرق كَانَت اليك تهون)
(نقضت عهودا باللوى وتصرمت ... وعود وخابت يَا بثين ظنون)
(وَوَلَّتْ لذاذات عهِدت وأسفرت ... نوى غربَة مَا تنقضى وشطون)
(كَانَ لم تدر تِلْكَ المناجات بَيْننَا ... وَلَا هصرت ذَاك القوام يَمِين)
(وَلَا أخضلت تِلْكَ لمعاهد بَعدنَا ... وَلَا هطلت فِيهَا سحائب جون)
(على لهَذَا الْخطب ايقاضة همة ... يضج لَهَا صلد الصَّفَا ويلين)
(ووجبة ارقال ينْكث بأسها ... قوى الباس تدرى الْعَزْم كَيفَ يكون)
(فان فؤادا بَين جنبى حشوه ... أَمَان ولى عِنْد الزَّمَان دُيُون)
(وسائلة عيسا اأعيى عَن النَّوَى ... عَنى وعتاب الغانيات شجون)
(أجل من تقصى الْمجد يَا ابْنة مَالك ... تولى شمالا شَمله وَيَمِين)
(فَلَا تتعبينى واعلمى أَنما الْعلَا ... أَسِير على وَجه القلاص رهين)
(أتلك المطايا البزل أم سفن طَغى ... بهَا الْآل تخفى مرّة وَتبين)
(تمور لرجع الحدى مورا كانما ... عراها بِأَصْوَات الحداة جُنُون)
(اذا لمحت برق العواصم لم تكد ... مناسمها تقوى بِهن حزون)
(تلفت تِلْقَاء الشآم كانما ... تخلى لَهَا بالرقتين جَنِين)
(اذا أبْصر الخالى بهَا قَالَ علقت ... مشا فرهاتى بالغبيط يَمِين)(4/380)
(وصلنا السرى بالسير حَتَّى كانما ... من الوخد أَخْفَاف لَهَا ومتون)
(فرينا بهَا أَو داج كل مطوق ... من السحب مَمْنُوع الفناء حُصَيْن)
(جبال تمطت للعلى لَو رَأَيْتهَا ... لَقلت لَهَا بَين النُّجُوم دُيُون)
(أشابت نَوَاصِيهَا الثلوج فَمَا رقت ... لَهَا بعد فقدان الشَّبَاب عُيُون)
(وَيَا رب ليل ضل فِيهِ دليلنا ... فيهديه من نجل الحسام جبين)
(فَتى لَا ضلال بعد رُؤْيَة وَجهه ... وَلَا بارق الافضال مِنْهُ يَمِين)
(علاهُ رقى نسر السما بجناحه ... وَعرض بعيد الغايتين مصون)
(ورقة خلق رَاح يحسدها الصِّبَا ... فأضحى عليلا يَعْتَرِيه أَنِين)
(وبذل تذوب السحب مِنْهُ خجالة ... وبأس بِهِ يمضى القضا ويدين)
(وَعلم لَو ان النَّاس قَامَت بِبَعْضِه ... وهى الْجَهْل حَتَّى لَا يكَاد يبين)
(من الْقَوْم شادوا ذرْوَة الْبَأْس والندى ... لُيُوث لَهُم قصب اليراع عرين)
(هَنِيئًا حسام الدّين يَا خير ماجد ... بِهِ شيدت للمكرمات حصون)
(بِمقدم مولى قد هدت بقدومه ... قُلُوب وقرت للكرام عُيُون)
(أَنَاخَ بِأَرْض الرّوم أكْرم قادم ... لَهُ السعد خدن والعلا قرين)
(وَقد وفدت أخباره الغر قبله ... تطوق أَعْنَاق العلى وتزين)
(أَلا هَكَذَا فى الله من يَك سَعْيه ... تدين لَهُ أَيَّامه وتلين)
(فيا آل عُثْمَان تهنوا بِمَا جد ... يذب لكم عَن عرضكم ويصون)
(رغمتم بِهِ أنف الْعَدو وانما الزَّمَان بِهِ عَن غَيْركُمْ لضنين ... )
(أطلاب مسعاه هلموا أدلكم ... عَلَيْهِ فانى فى الْمقَال أَمِين)
(ضَعُوا يدكم فى جنح عنقاء مغرب ... وأرجلكم فى الرّيح فَهُوَ متين)
(وهام السهى فارقوا اذا حلقت بكم ... اليه فَمَا رمتم هُنَاكَ يكون)
(أجاذب ضبعى اذ قواى ضئيلة ... ومأمن روعى وَالزَّمَان خؤون)
(أما انه لولاك مَا فتقت بِنَا ... الى الرّوم رتق الراسيات ظعون)
(وَلَا كنت أدرى كَيفَ تكتسب العلى ... وَلَا كَيفَ صَعب الحادثات يهون)
(أقلت عثار الْحَال منى اذ همى ... على سَحَاب من علاك هتون)
(وانى لادرى ان فضل كَامِل ... لبانات طلاب الْكَمَال ضمين)
(ومالى بعد الله غَيْرك مسعد ... من النَّاس فى نيل المُرَاد معِين)(4/381)
(وفى بَابَكُمْ حطت رحال مطامعى ... وَمَا تمّ لى إِلَّا اليه سُكُون)
(وانك أدرى من فؤادى بحاجتى ... وحسبى بِهَذَا كاشف ومبين)
وَكَانَ وقف على هَذِه القصيدة أديب الزَّمَان مُحَمَّد القاسمى فاتهم البابى بانتحالها فَكتب اليه البابى هَذِه القصيدة وهى
(أيشعر هَذَا الْبَرْق أى المناسم ... سرى فيذكر تابآى المعالم)
(وَكم دونهَا من سبسب دون وَطنه ... سرى دونه وخد القلاص الرواسم)
(بريق الغضا هلا درى كَيفَ حَالنَا ... على الْبعد أخدان لنا بالعواصم)
(أسائلهم مَا لَا تطِيق قُلُوبهم ... صدعت اذن بالظلم قلب المراحم)
(سقى الله أَرضًا خيموا بفنائها ... وباكرها صوب الحيا المتراكم)
(وَلَا زَالَ طِفْل النبت فى مهد تربها ... تدر عَلَيْهِ من دموع الغمائم)
(وَلَو سقيت أَمْثَالهَا قبلهَا دَمًا ... لَقلت سَقَاهَا من دموعى السواجم)
(معاهد كَانَ اللَّهْو فِيهَا مساعدى ... على وفْق قصدى وَالزَّمَان مسالمى)
(أأيامنا بالأجرع الْفَرد هَل لنا ... سَبِيل الى عهد الصِّبَا المتقادم)
(ليالى لَا أقداح مرضى مدارة ... علينا سوى أحداق ظبى ملائم)
(وَلَا الْخمر الا من رضاب مبرد ... وَلَا الْورْد الا من خدود نواعم)
(وسل أثلات الْجزع تخبرك اننا ... نعمنا بعيش فى ذراهن ناعم)
(اذا الرَّوْض مخضل الربى وغصونه ... تقلد من قطر الندى بتمائم)
(وفى خلل الاغصان نور كَأَنَّهُ ... مجامر ند فى حجور الكمائم)
(يُصَافح بَعْضًا بعضه بيد الصِّبَا ... كباسم ثغر راشف ثغر باسيم)
(محَاسِن غطتها مسَاوٍ من النَّوَى ... وأعراس لَهو بدلت بمآتم)
(سل اليعملات البزل كم فتقت لنا ... بأيدى السرى من رتق أغبر قاتم)
(وَكم شدخت أخفافها هام سامد ... من الشم تيها توجت بالغمائم)
(وَكُنَّا اذا فل السرى غرب عزمنا ... تشحذه ذكرى لِقَاء ابْن قَاسم)
(مقل لِوَاء الْفضل غير مدافع ... وحامى ذمار الْمجد غير مُزَاحم)
(حديقة فضل لَا يصوح نورها ... وبحر بأمواج الذكا متلاطم)
(عنت لمعانيه الْكَوَاكِب واقتدت ... بهَا فاغتدت مَا بَين هاد وراجم)
(وَلَوْلَا مقَال جاءنى مِنْهُ أطرقت ... حَيَاء لَهُ الْآدَاب اطراق واجم)(4/382)
(وَقطع أمعاء القريض لهوله ... ورد القوافى وهى سود العمائم)
(امام العلى انى أحاشيك أَن ترى ... بِعَين الْمعَانى عرضة للوائم)
(زعمت بأنى سَارِق غير شَاعِر ... صدقت بِمَعْنى سَاحر غير ناظم)
(لقد قَالَهَا من قبل قوم فألقموا ... بأيدى الهجا حاشاك صم الصلادم)
(رَأَوْا مثل مَا عَايَنت ابداع أَحْمد ... وبادرة الطائى وطبع كشاجم)
(حنانيك بعض البغى لابدع ان أَتَى ... بِشعر حبيب من رأى جود حَاتِم)
(وان ندى نجل الحسام لروضة ... أينكر فِيهَا طيب سجع الحمائم)
(فدونكها ابكار فكر تزفها ... يَد الشوق عَن ود من الريب سَالم)
(مشيدة الْبُنيان لَا يستريبها ... حسود وَلَا يقوى بهَا كف هَادِم)
وَمن مختاراته قصيدته الَّتِى مدح بهَا السَّيِّد مُحَمَّد العرضى ومطلعها قَوْله
(هُوَ الْفضل حَتَّى لَا تعد المناقب ... بل الْعَزْم حَتَّى تطلبنك المطالب)
(وَمَا قدر الاسنان الا اقتداره ... أجل وعَلى قدر الرِّجَال الْمَرَاتِب)
(أَقَامَ الْفَتى العرضى للفضل دولة ... لَهَا قَائِد من ناظريه وحاجب)
(بهَا اعتذرت أيامنا عَن ذنوبها ... وَأَقْبل جانى دَهْرنَا وَهُوَ تائب)
(يجددها رأى من الْعَزْم صائب ... ويحرسها بَأْس مَعَ الْحلم عاطب)
(وللمجد مثل النَّاس سقم وَصِحَّة ... وَفِيه كَمَا فيهم صَدُوق وكاذب)
(أنيط بِهِ حَتَّى لَو اخْتَار نَزعه ... لحسن اليه وَهُوَ ثكلان نادب)
(وَمن لم يُوفى للمعالى حُقُوقهَا ... فان مساعيه الحسان مثالب)
(ألم تَرَهَا كَيفَ اقتناهما مُحَمَّد ... تجاذ بِهِ أذياله ويجاذب)
(اذا النَّاس لم تشتق لشارب عذبها ... فَلَا عذبت يَوْمًا عَلَيْهَا المشارب)
(فسأس طواغيها وراض شماسها ... وأضحى لَهُ مِنْهَا وَزِير وحاجب)
(حوى سوددا تبدو ذكاه بِوَجْهِهِ ... وترنو لعينيه النُّجُوم الثواقب)
(تغرب لَا يرضى ذرى الْمجد موطنا ... وَأَمْثَاله حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ غرائب)
(دَعَاهُ العلى شوقا اليه وَغَيره ... دَعَتْهُ فلباها النِّسَاء الكواعب)
(وَمن حسر الراحات يكْتَسب العلى ... وَبَعض خسارات الرِّجَال مكاسب)
(فآب بِمَا يشجى العدى ويسره ... فَوَائِد قوم عِنْد قوم مصائب)
(لِيهن علاهُ منصب طالما صبا ... لَهُ بل تهنى اذ رضيها المناصب)(4/383)
(من الْقَوْم أما عرضهمْ فَمنع ... حُصَيْن وَأما عرفهم فَهُوَ سائب)
(يدين لَهُم بالمجد دَان وشاسع ... وينعتهم بِالْفَضْلِ ساع وراكب)
(ففيهم والا لَا تقال مدائح ... وَمِنْهُم والا لَا ترام الرغائب)
(اليك امام الْفضل منا تَوَجَّهت ... كتائب الا أَنَّهُنَّ مواكب)
(معَان تعير الْعين سحر عيونها ... وتسخر مِنْهَا بِالْعُقُودِ الترائب)
(قد انسدلت بَين الطروس سطورها ... كَمَا انسدلت فَوق الصُّدُور الذوائب)
(لَهَا من براح الشوق حاد وقائد ... اليك وَمن لقياك دَاع وخاطب)
(محملة معنى الهناء بِمنْصب ... تسير ببشراه الصِّبَا والجنائب)
(وان سرنى اخبار أَنَّك قادم ... فقد ساءنى تَقْدِير أَنى غَائِب)
(قد اتسعت مَا بَيْننَا شقة النَّوَى ... وَضَاقَتْ على وَجه اللِّقَاء الْمذَاهب)
(فيا للموالى للعبيد بأوبة ... ليهدا بهَا قلب من الْبعد وَاجِب)
(وتسعد آمال وتسكن لوعة ... ويفرح محزون ويبسم قاطب)
وَمن مبتدعاته الْمَشْهُورَة الَّتِى توسل بهَا وهى هَذِه
(هوت المشاعر والمدارك عَن معارج كبريائك)
(يَا حى يَا قيوم قد ... بهر الْعُقُول سنا بهائك)
(أثنى عَلَيْك بِمَا علمت فَأَيْنَ علمى من ثنائك ... )
(متحجب فى غيبك الاحمى منيع فى علائك ... )
(فظهرت بالآثار والافعال باد فى جلائك ... )
(عجبا خفاؤك من ظهورك أم ظهورك من خفائك ... )
(مَا الْكَوْن الا ظلمَة ... قبس الاشعة من ضيائك)
(بل كل مَا فِيهِ فَقير مستميح من عطائك ... )
(مَا فى العوالم ذرة ... فى جنب أَرْضك أَو سمائك)
(الا ووجهتها اليك بالافتقار الى غنائك ... )
(انى سَأَلتك بالذى ... جمع الْقُلُوب على ولائك)
(نور الْوُجُود خُلَاصَة الكونين صفوة أوليائك ... )
(الا نظرت لمستغيث عَائِذ بك من بلائك ... )(4/384)
(قذفت بِهِ من شَاهِق ... أيدى امتحانك وابتلائك)
(ورمته من ظلم العناصر والطبائع فى شبائك)
(وسطت عَلَيْهِ لَوَازِم الامكان صدا عَن ثنائك)
(فاذا ارعوى اوكاد نادته الْقُيُود الى ورائك ... )
(فالطف بِهِ فِيمَا جرى ... فى طى علمك من قضائك)
وَله غير ذَلِك من الْبَدَائِع وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة احدى وَتِسْعين وَألف وَدفن بالمعلاة بعد أَن قضى مَنَاسِكه والبابى نِسْبَة الى الْبَاب قَرْيَة من قرى حلب لَهَا وَاد مَشْهُور بِطيب الْهَوَاء وَكَثْرَة الرياض وَفِيه يَقُول زين الدّين عمر بن الوردى هَذِه الابيات وهى
(ان وادى الْبَاب قد ذكرنى ... جنَّة المأوى فَللَّه الْعجب)
(فِيهِ دوح يحجب الشَّمْس اذا ... قَالَ للنسمة جوزى بأدب)
(طيره معربة فى لحنها ... تطرب الحى كَمَا تحيى الطَّرب)
(مرجه مبتسم مِمَّا بَكت ... سحب فى ذيلها الطّيب انسحب)
(فِيهِ روضات أَنا صب بهَا ... مثل مَا أصبح فِيهَا المَاء صب)
(نهره ان قَابل الشَّمْس ترى ... فضَّة بَيْضَاء فى نهر ذهب)
وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة فِيهِ قصائد وأبيات مِنْهَا جانبا فى كتابى النفحة فَارْجِع اليها فِيهِ وَالله أعلم
مصطفى بن فَخر الدّين بن عُثْمَان العلمى القدسى من فضلاء الْقُدس وأعيانها نَشأ فى طلب الْعلم ورحل الى مصل وَأقَام بالازهر زَمَانا طَويلا حَتَّى كَادَت لُغَة أهل مصر تغلب عَلَيْهِ وَكَانَ دَائِما يتَكَلَّم بهَا وَرجع الى الْقُدس وَصَارَ كَاتب الصكوك فى محكمتها وَولى النِّيَابَة كثيرا وَله من الْآثَار وقف على المؤذنين بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَله على الصَّخْرَة قنديل مُعَلّق يشعل لَيْلًا وَنَهَارًا وَكَذَلِكَ لَهُ خيرات على خدام سيدنَا الْخَلِيل وَله قنديل على الْغَار الذى فى الصَّخْرَة وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَسبعين وَألف وَلم يعقب رَحمَه الله تَعَالَى
مصطفى بن قَاسم عبد المنان متولى أوقاف السنانية بِالشَّام الدمشقى عين الاعيان ومجموعة النَّوَادِر الحسان كَانَ وَاحِد الْوَقْت فى المحاوره وَسُرْعَة البداهة والنكتة والنادره وَفِيه يَقُول الامير المنجكى رَحمَه الله تَعَالَى(4/385)
(لنجل أَبى المعالى حسن فهم ... وطبع كالزلال العذب صافى)
(تطاوعه الْمعَانى حِين ينشى ... وتخدمه النكات مَعَ القوافى)
اشْتغل بِالطَّلَبِ على المنلا عبد الله القونوى امام جَامع الدرويشية وعَلى الْعَلامَة الشَّيْخ رَمَضَان بن عبد الْحق العكارى وشارك فى الْعُلُوم الادبية وَحفظ من الشّعْر العربى والفارسى والتركى أَشْيَاء كَثِيرَة ونظم الشّعْر وَأكْثر نظمه كَانَ بالتركية ومخلصه رمزى وَحج فى صُحْبَة وَالِده سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَصَارَ أَولا من الْجند الشامى ثمَّ لما مَاتَ أَبوهُ فى التَّارِيخ الذى ذكرته فى تَرْجَمته توجه ثانى يَوْم من وَفَاته الى الرّوم وَصَارَ مُتَوَلِّيًا مَكَانَهُ على أوقاف سِنَان باشا بِمُوجب الشَّرْط للعتقاء وذريتهم وَصَارَ من المتفرقة بِالْبَابِ العالة وَرجع الى دمشق وَقَامَ مقَام وَالِده وَوضع يَده على مَا خَلفه لَهُ من أَمْوَال وَأَسْبَاب وَتصرف فى التَّوْلِيَة بعقله وَمد يَده الى البسطة والسرف وَكَانَت الْعُقَلَاء ينظرُونَ الى عَاقِبَة أمره فى عدم الِانْتِظَار وَصَحب الوزراء وَالْموالى وَكَانُوا يقبلُونَ عَلَيْهِ لبداعته وغربته وَكَانَ مكثرا فى حكاياته وقلما يحلو من مبالغات فى خطاباته لكنه على تعبيراته مسحة الحلاوه وَعَلَيْهَا طل الطلاوة والنداوه وَلما صَار الْوَزير مُحَمَّد باشا بوبنى اكرى كافل الشَّام وزيرا أعظم سَافر من دمشق فى خدمته وَكَانَ لَهُ اليه محبَّة فأنعم عَلَيْهِ برتبة أحد البوابين للسُّلْطَان وَلم يسْبق لغيره من أهالى دمشق وَدخل دمشق بطرز غَرِيب وَأظْهر بعض الْخُيَلَاء وَكَانَ جند الشَّام فى ذَلِك الْعَهْد قد صالوا وتاهوا فعزموا على مهاجرته فَلم يزل منطرحا فى زَوَايَا الخمول حَتَّى استألف بعض كبرائهم وَأظْهر لَهُم كَمَال الانحياز وأزال الْحجاب واختلت بعد ذَلِك أُمُوره فقابلته الايام بِوَجْه عبوس وأبدلته بعد النعم بالبوس وأصابته الْعين ونفد مَا عِنْده من النَّقْد وَالْعين وَأخذ يستلف على أَقْلَام الْوَقْف وَقل عَلَيْهِ الايراد وَكثر الصّرْف فزادت عَلَيْهِ الاحوال وتكدر مِنْهُ الْفِكر والبال وَكَانَ من جملَة مَا وَرثهُ عَن وَالِده الفلاحة وَالدَّار بقرية دير العصافير وهى من محَاسِن الابنية والبساتين بِالْقربِ من جَامع تنكر فَبَاعَهَا بِدُونِ ثمن مثلهَا وَأَنْشَأَ عوضهَا قصرا بالصالحية بالجسر الابيض وَصرف عَلَيْهِ مَالا كثيرا وبلغنى أَن الذى اشْترى الْبُسْتَان بَاعَ مِنْهُ أشجارا من الْحور فى السّنة الَّتِى اشْتَرَاهُ فِيهَا بثمنة الا ثلث قِرْش فضل عَن رَأس المَال وَكَانَ لَهُ من هَذَا الْقَبِيل أسود كَثِيرَة وَكَانَ كثير النكات وَقد جمع من نكاته جانبا فى دفتر كَانَ كثيرا مَا يوردها وَمن(4/386)
المتداول مِنْهَا أَن بعض كفلاء الشَّام كَانَ طلب رماحا من أَعْيَان دمشق وَطلب مِنْهُ ثَلَاثَة فتعسرت عَلَيْهِ فَأَنْشد الْبَيْت الْمَشْهُور وَهُوَ
(وَلَو كَانَ رمحا وَاحِد لاتقيته ... وَلكنه رمح وثان وثالث)
وَكَانَ يَوْمًا بِمَجْلِس بعض كفلاء الشَّام فَدخل جمَاعَة من طلبة الْعلم شاكين من مُسْتَوفى الخزينة بِأَنَّهُ قطع من معاليمهم أَرْبَعَة أشهر من غير وَجه وَقَرَأَ بَعضهم قَوْله تَعَالَى {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} فَقَالَ الاربعة الْحرم وهى الَّتِى قطعهَا الدفترى وَاتفقَ فى قدمة مرتضى باشا الْوَزير وَمن مَعَه من الْعَسْكَر أَنه ورد الى دمشق من أهالى حلب رجل يُقَال لَهُ عسرك وَكَانَ يحسن الموسيقى ويتردد الى الاعيان للاستجداء فَكَانَ يخطابه اذا دخل عَلَيْهِ أَتَانَا مرتضى الْجَبَّار بعسكر جرار وَوَقع لَهُ أَنه كَانَ فى مجْلِس الْقُضَاة بِدِمَشْق فَدخل الشَّيْخ يس البقاعى وَأنْشد قصيدة يمدح بهَا القاضى وَكَانَت القصيدة ركيكة فَلَمَّا أتم قرَاءَتهَا تلى صَاحب التَّرْجَمَة الْآيَة {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مصطفى بن سعد الدّين والدك كَانَ خَليفَة والدى أَخذ عَنهُ الطَّرِيق وَأَنت خليفتى فَقَالَ لست لَك بخليفة وَلَا ابْن الْخَلِيفَة وَأَوْمَأَ الى رجل من المجان يعرف بِابْن الْخَلِيفَة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة أَحول فَقَالَ بِهِ بعض من لَهُ عَلَيْهِ إدلال من الكبراء كم شخصا ترانى فَحق فِيهِ وَقَالَ لَا أرى الا وَاحِدًا وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَكثر أهل الْعَصْر نوادرا وتحفا وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَعشْرين وَألف وَتوفى فى أَوَائِل شعْبَان سنة تسع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من قبر أَبِيه
مصطفى بن قَاسم الطرابلسى الحلبى نزيل الْمَدِينَة المنورة مولده ومنشؤه الشَّام لكنه مِمَّن طابت بِطيبَة مِنْهُ المشام فانتظم فى سلك جيران الرَّسُول الشَّفِيع وارتفع مقَامه بذلك الْمقَام الرفيع وَهُوَ مِمَّن فاق فى الادب وبرع وَورد مناهله العذبة صفوا فكرع مَعَ مُشَاركَة فى علمى الْفِقْه والنحو وَتَحْقِيق مَا شان اثبات آيه محو وَقد تَرْجمهُ السَّيِّد مُحَمَّد كبريت فى كِتَابه نصر من الله وَفتح قريب بِمَا نَصه هُوَ مَوْلَانَا الشَّيْخ درويش مصطفى بن قَاسم بن عبد الْكَرِيم بن قَاسم بن محيى الدّين الحلبى الشافعى مذهبا الوفائى طَريقَة ومشربا وينتهى نسبه فِيمَا أخبرنى بِهِ السَّيِّد مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رضى الله تَعَالَى عَنهُ وَعَن أَبِيه(4/387)
(فيا نسبا من فرع دوحة هَاشم ... وَيَا حبا بالاصل قد ألحق الفرعا)
ولد بِمَدِينَة طرابلس الشَّام فى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ ودأب عبد النافع الحموى مفتى الْحَنَفِيَّة وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْحق الشافعى وَالشَّيْخ عبد الْخَالِق المصرى وَغَيرهم ثمَّ دخل دمشق فى سنة أَربع عشرَة بعد الالف فَأخذ عَن الشَّيْخ أَحْمد العيثاوى الْفِقْه والْحَدِيث وَحضر مجَالِس الْعلم ثمَّ دخل مصر فَأخذ الْفِقْه والنحو عَن النُّور الزيادى وَالشَّيْخ أَبى بكر الشنوانى وَغَيرهمَا وَأخذ الْمنطق عَن الشَّيْخ سَالم الشبشيرى وَالْكَلَام عَن الشَّيْخ أَحْمد الغنيمى واليرهان اللقانى ثمَّ دخل قسطنطينية وَأخذ عَن صدر الدّين وَعَن الْعَلامَة مُحَمَّد الْمُفْتى مَعَ الْمُلَازمَة فى الطَّرِيق ثمَّ قدم الْمَدِينَة المنورة فى سنة سبع وَعشْرين وَألف زَائِرًا ثمَّ قدمهَا ثَانِيًا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ يرفل فى ثِيَاب الْجمال وَالْجَلالَة فَأَقَامَ بهَا وتأهل وَأحسن السِّيرَة والسريرة وتقيد بنشر الْعلم والتدريس بِالْمَسْجِدِ النبوى ثمَّ لزم حَاله لما كثر الدخيل وَتقدم الدنىء والعويل وَكثر فى اللغوا القال والقيل وَصَارَت مجَالِس الْعلم لغير أَهلهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضى الْحَال فى تَقْدِيم الانذال
(وَكم قَائِل مالى رَأَيْتُك رَاجِلا ... فَقلت لَهُ من أجل أَنَّك فَارس)
وَله التآليف الرائقه والتصانيف الفائقة مِنْهَا نزهة الابصار فى السّير فِيمَا يحدث للْمُسَافِر من الْخَيْر وَمِنْهَا هتك الاستار فى وصف العذار وَمِنْهَا شرح تائية ابْن حبيب الصفدى سَمَّاهُ الْمنح الوفائيه فى شرح التائيه وَمِنْهَا الدّرّ الْمُلْتَقط من بَحر الصَّفَا فى مَنَاقِب سيدى أَبى الاسعاد بن وفا وَله النّظم الرَّائِق مِنْهُ وَقد كتب اليه بعض أحبابه
(يَا غَائِبا يشْكر اقباله ... قلبى يوشكو بعده النَّاظر)
(أوحشت طرفى واتخذت الحشا ... دَارا فَأَنت الْغَائِب الْحَاضِر)
فَكتب
(مَا غبت عَن طرفى وَلَا مهجتى ... بل أَنْت عندى فيهمَا حَاضر)
(ان غبت عَن عينى تمثلت فى ... قلبى يُرَاعى حسنك النَّاظر)
وَله تخميس فائية الشَّيْخ شرف الدّين بن الفارض رضى الله عَنهُ وَله ديوَان شعر يشْتَمل على قصائد ومقاطيع وَمن شعره قَوْله مستغيثا وَهُوَ مِمَّا قَالَه بمصرفى سنة خمس وَعشْرين
(يَا من بِهِ كل الشدائد تفرج ... وبذكره كل العوالم تلهج)(4/388)
(وَعَلِيهِ أَمْلَاك السَّمَاء تنزلت ... وبمدحه لله حَقًا تعرج)
(واليه ينْهَى كل راج سؤله ... والسائلون على حماه عرجوا)
(يَا قطب دَائِرَة الْوُجُود بأسره ... يَا من لعلياه البرايا قد لجوا)
(يَا سيد السادات يَا غوث الورى ... يَا من بِهِ ليل الْحَوَادِث أَبْلَج)
(قد جِئتُكُمْ أَرْجُو الْوَفَاء تكرما ... لكننى للعفو مِنْهُ أحْوج)
(وحططت أحمال الرَّجَاء لديكم ... فعساكمو أَن تنعموا وتفرجوا)
انْتهى مَا قَالَه السَّيِّد مُحَمَّد كبريت فى تَرْجَمته قلت وَكَانَ الْبَاعِث لَهُ على تصنيف كِتَابه نصر من الله أَن صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ نظم تَارِيخا لمَكَان بناه شيخ الْحرم المدنى عبد الْكَرِيم المصاحب بِالْمَدِينَةِ ببئر ودى ونظم لَهُ ابياتا وهى هَذِه
(بِشِرَاك يَا من صَار جَار الْكَرِيم ... بِطيب عَيْش أَنْت فِيهِ مُقيم)
(أَصبَحت فى خدمَة خير الورى ... ترفل فى روض جنان النَّعيم)
(بِطيبَة طابت لمن حلهَا ... حَدِيث ودى فى هَواهَا قديم)
(طُوبَى لمن أَمْسَى مُقيما بهَا ... يلقى أهاليها بقلب سليم)
(مصاحب السُّلْطَان نلْت المنى ... بِمَا ترجى من غَفُور رَحِيم)
(بنيت ايوانا بِهِ قد سما ... ببئر ودوى للصديق الْحَمِيم)
(بغاية الاحكام تَارِيخه ... مقْعد أنس شاد عبد الْكَرِيم)
وَأَرَادَ بغاية الاحكام آخرهَا وَهُوَ الْمِيم على طَريقَة التعمية وَعدد الْمِيم أَرْبَعُونَ فَلَمَّا شاعت الابيات وقف عَلَيْهَا فتح الله النّحاس الحلبى فهزأ بهَا وَألف رِسَالَة سَمَّاهَا التفتيش على خبالات درويش مضمونها الِاعْتِرَاض على هَذِه الابيات فألف السَّيِّد مُحَمَّد كِتَابه انتصارا الصاحب التَّرْجَمَة وَجمع فِيهِ من غرائب الْفَوَائِد وفرائد القلائد مَا تقر بِهِ الْعُيُون وتنشرح لَهُ الصُّدُور وَكَانَت وَفَاة الدرويش مصطفى فى السَّابِع وَالْعِشْرين من ذى الْقعدَة سنة ثَمَانِينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ المنورة وَدفن بِالبَقِيعِ رَحمَه الله تَعَالَى
مصطفى بن مُحَمَّد أَبى السُّعُود بن مُحَمَّد العمادى قاضى العسكرين ابْن الْمُفْتى صَاحب التَّفْسِير الْمَشْهُور ذكره الْمولى عبد الْكَرِيم المنشى فَقَالَ فى تَرْجَمته سليل الْعَالم على التَّحْقِيق وَمن هُوَ فى الْفَتْوَى لابى حنيفَة النُّعْمَان شَقِيق الْمولى الاجل الْعَلامَة أَبى السُّعُود العمادى لَا زَالَ طَائِفًا حول قَبره من السَّحَاب الرَّائِح والغادى(4/389)
تربى فى حجر الْعِزَّة متفيئا ظلال الْوَالِد مَبْسُوطا عَلَيْهِ مِنْهُ جنَاح الرأفة رافلا فى حلل حماية الاب الشفيق مسديا اليه لطفه وَعطفه وَلَا بدع فانه آخر أَوْلَاده وَلم يبْق من كأس الْعُمر الاجرعه ويسير بريد الْمنية اليه فى غَايَة السرعه وَلما بلغت أَبْيَات قصيدة سنه النّصاب وَأَقْبَلت عَلَيْهِ من كَتِيبَة الْعُمر طَلِيعَة الشَّبَاب خلع عَلَيْهِ أَبوهُ حلَّة الاعاده باسطا أَجْنِحَة الافاضة والافاده وَأكْرم وَزِير تِلْكَ الدولة وَالِده فتحلى من جمان الْمدَارِس الثمان بواحده فَلَمَّا آذن قمر حَيَاة أَبِيه بالسرار وَبلغ طواف أَيَّام عمره الاعتمار رَفَعُوهُ مِنْهَا لَا الى منصب وَكَانَ السَّبَب فى ذَلِك حقد المتعصب فنسخت بِحَدِيث الْعَزْل آيَات عزته وقص بمقراض الرّفْع جنَاح رفعته ثمَّ رَجَعَ الى احدى الثمان بِزِيَادَة الْعشْر على مهرهَا وتكفل بِمَا يجب عَلَيْهِ من مُحَافظَة أمرهَا ثمَّ نقل مِنْهَا الى الْمدرسَة السليمية بأدرنه المحميه ثمَّ توجه مِنْهَا الى سلانيك حَاكما مُتَقَلِّدًا من الْقَضَاء صَارِمًا ثمَّ عزل وَلم تزل تواصله عرائس المناصب مرّة وتفارقه أُخْرَى الى ان فَازَ بِقَضَاء العسكرين وَكَانَ أَحَق بهما وَأولى وَأَحْرَى ثمَّ عزل فَنَاوَلَهُ فى نوبَته ساقى حمام منيته وَكَانَ يسير سير الْمُلُوك ويتقلد من الترفه بأزهى سلوك فى عَيْش رائغ وشراب سَائِغ وَله احاطة بالفروع الْفِقْهِيَّة والمام بالعلوم الْعَقْلِيَّة والنقليه وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة سبع بعد الالف وَدفن بمشهد قريب من تربة أَبى أَيُّوب الانصارى بجوار أَبِيه النبيه لَا زَالَت سحب الْمَغْفِرَة تَشْمَل جدثه وتحويه
مصطفى بن مُحَمَّد الشهير بعزمى زَاده قاضى وَأشهر متأخرى الْعلمَاء بالروم وأغزرهم مَادَّة فى الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم وَله التآليف الَّتِى مَلَأت سمع الزَّمَان فائده وَثَبت فِيهِ من صلات نَفعهَا كل عائده مِنْهَا حَاشِيَة على الدُّرَر وَالْغرر فى الْفِقْه وحاشية على ابْن مَالك فى الاصول وَغَيرهمَا وَله الشّعْر النَّضِير فى الْعَرَبيَّة والتركية ومخلصه على دأبهم حالتى ورباعياته مَشْهُورَة مرغوبة وَقد جمعهَا فى سفر مُسْتَقل وهى فى التركية كرباعيات سديد الدّين الانبارى فى الْعَرَبيَّة وَعمر الْخيام فى الفارسية اليها النِّهَايَة فى الْقبُول والتحسين وَعَلَيْهَا الْمعول فى لطف النكات والمضامين وَبِالْجُمْلَةِ فآثاره كلهَا لطيفه وأخباره جَمِيعهَا ظريفه وَقد ذكره ابْن نوعى فَقَالَ فى تَرْجَمته حصل الْفُنُون الرائقه الى أَن أحرز الْمرتبَة اللائقة ثمَّ تحرّك على مُعْتَاد أَرْبَاب الاستعداد فانحاز الى الْمولى شيخ الاسلام سعد الدّين(4/390)
ولازم مِنْهُ ثمَّ درس ابْتِدَاء بمدرسة حَاجَة خاتون بِأَرْبَعِينَ عثمانيا ثمَّ ولى مدرسة مُحَمَّد أغا برتبة الْخَارِج فى شهر بيع الْآخِرَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ ولى مدرسة أَيُّوب فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث بعد الالف ثمَّ ولى احدى الثمان فى الْمحرم سنة خمس بعد الالف ثمَّ ولى مدرسة السُّلْطَان سليم الْقَدِيم فى شهر ربيع الاول سنة ثَمَان ثمَّ ولى السليمانية فى ذى الْحجَّة من هَذِه السّنة ثمَّ ولى الخفافية فى شعْبَان سنة عشر ثمَّ ولى قَضَاء الشَّام فى رَجَب سنة احدى عشرَة ثمَّ ولى قَضَاء مصر سنة ثَلَاث عشرَة وفى زمن قَضَائِهِ بهَا وَقعت فتْنَة محافظها ابراهيم باشا وَقَتله الْعَسْكَر فعزل لتَقْصِيره فى تلافى الْفِتْنَة ثمَّ ولى قَضَاء بروسه فى شعْبَان سنة خمس عشرَة وفى أَيَّام قَضَائِهِ بهَا تسلط ابْن قلندر الخارجى عَلَيْهَا وحاصرها وَحرق بعض اماكنها فعزل عَنْهَا بعيد ذَلِك ثمَّ ولى قَضَاء ادرنه فى شهر ربيع الآخر سنة عشْرين وَاتفقَ أَنه عزّر قَاضِيا مَجْهُولا فَاجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة أزعجوه بالمكالمة والمخاصمة فَنقل فى شعْبَان من هَذِه السّنة الى قَضَاء دمشق قَالَ الْحسن البوريني فى بعض مجاميعه وَوَقع فى قَضَائِهِ يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر شعْبَان سنة احدى وَعشْرين وَألف أَن رجلا كَانَ نَصْرَانِيّا قَرْيَة صيدنايا من نواحى دمشق فَأسلم وأتى الى مجْلِس قاضى الْقُضَاة مُسلما من مُدَّة تزيد على عشرَة أَعْوَام وختن ثمَّ أَتَى فى التَّارِيخ الْمَذْكُور الى نَائِب صَاحب التَّرْجَمَة أَولا وَألقى عمَامَته وَصرح على نَفسه بالْكفْر فارسله النَّائِب الى قاضى الْقُضَاة يعْنى صَاحب التَّرْجَمَة فاستفهم عَن حَاله واستنطقه فَصرحَ بِمَا قَالَه فَقَالَ القاضى لَعَلَّ لَك شُبْهَة دينية أَو ظلامة دنيوية فان رغبت فى المهلة أمهلناك وتوقفنا الى التَّأَمُّل بِمَا فى هُنَاكَ فَأبى الا التعجيب بِرُوحِهِ الى الهاويه وَقَالَ انه لَا يرغب الا فى الْفرْقَة الغاويه وَصرح بِأَنَّهُ فى مُدَّة اتصافه بالاسلام لم يُوصف بِصَلَاة وَلَا زَكَاة وَلَا صِيَام وَكَانَ يُبَادر الى طلب النَّار ويستعجل اللحاق بِأَهْل دَار الْبَوَار فَكتب القاضى مَا يسْتَحقّهُ من الْقَتْل بالتعجيل وَأرْسل الصَّك الى الْحَافِظ الْوَزير الْجَلِيل فَأمْضى فِيهِ السَّيْف الماضى امتثالا لما بِهِ الشَّرْع الشريف قاضى وَذهب شقيا الى نَار الْجَحِيم وَمَا يلقاها الا الَّذين صَبَرُوا وَمَا يلقاها الا ذُو حَظّ عَظِيم وَرَأَيْت بِخَط الاديب عبد الْكَرِيم الطارانى أَنه كَانَ لصَاحب التَّرْجَمَة ولد اسْمه أَحْمد وَكَانَ فى غَايَة النجابة والحذق والكمال والمعرفة توفى بِدِمَشْق فى لَيْلَة الْجُمُعَة ثانى عشر ذى الْقعدَة سنة احدى وَعشْرين وَقد نظمت الادباء تواريخ كَثِيرَة لوفاته فَمنهمْ الشَّيْخ مُحَمَّد الحتاتى وأبياته(4/391)
هى هَذِه
(لم يعد مَا فَاتَ يَوْمًا كمد ... والاسى عِنْد الاسى قد يحمد)
(كل مَخْلُوق قصاراه الفنا ... انما الباقى الْإِلَه الصَّمد)
(رحم الله شَهِيدا عمره ... كَانَ كالاحلام مِنْهُ الامد)
(قلت اذ ناداه مَوْلَاهُ الى ... جنَّة فِيهَا نعيم سرمد)
(نطق خير هُوَ أم تَارِيخه ... قر فى جنَّات عدن أَحْمد)
قلت وَقد مدح فى دمشق بقصائد كَثِيرَة وَكَانَ مُقبلا على الادباء وَمِمَّا أملاه من شعره العربى قَوْله
(لله من رشأ كتائب لحظه ... أهل الصبابة غادرت مأسورا)
(ولقطعه صلب الْقُلُوب كرخوها ... قد صَار صارم لحظه مكسورا)
وَقَوله فى التوسل ايضا مقتبسا
(يَا نفس عوذى بالكريم وعرجى ... فَهُوَ الذى يسدى الينا نعْمَته)
(وَينزل الْغَيْث الذى يرْوى الربى ... من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء دمشق فى رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَولى بعْدهَا قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء العسكرين وانعقدت عَلَيْهِ وعَلى الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْغنى الْمُقدم ذكره صدارة الْعلمَاء بالروم وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ النّصْف من شعْبَان سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى حُدُود سنة أَرْبَعِينَ بعد الالف
مصطفى بن مُحَمَّد الشهير بحسمى زَاده أحد الموالى الْعِظَام القسطنطينى المولد والمنشا كَانَ فَاضلا كَامِلا بارعا نبيها فَقِيها لَهُ خبْرَة كُلية بالآداب حسن المحاضرة وَالْخطاب أخلاقه جميله ومكارمه جزيله متحليا بالعفاف متخلقا بالحمية والانصاف اشْتغل فى أَوَائِل عمره على عُلَمَاء عصره وجد فى الطّلب وَحَازَ الْفضل والادب ولازم من شيخ الاسلام أسعد بن سعد الدّين ودرس بمدارس قسطنطينية الى أَن انْتهى الى الْمدرسَة السليمانية وَولى مِنْهَا قَضَاء حلب فى سنة ثَلَاث وَخمسين وألفثم ولي قَضَاء دمشق وَقدم إِلَيْهَا فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَكَانَت سيرته بهَا أحسن سيرة لقاض ضد مَا اشْتهر عَنهُ بحلب من الامور الْمُنكرَة وَله الْيَد الْبَيْضَاء فى قمع الظلمَة وَكَانَ فى أَيَّام قَضَائِهِ ورد الْوَزير مرتضى باشا محافظا بِالشَّام وَكَانَ جبارا عاتيا ظَالِما فعارضه فى أُمُور كَثِيرَة وَلم يَدعه يتَجَاوَز فى الظُّلم مِقْدَار المسكنة وَكَانَ لَهُ ولدان(4/392)
ختنهما بِدِمَشْق وَجعل وَلِيمَة عَظِيمَة دَعَا فِيهَا الْوَزير الْمَذْكُور وأعيان الْعلمَاء والعسكر واستمرت الْوَلِيمَة سَبْعَة أَيَّام ثمَّ بعد خَمْسَة عشر يَوْمًا تبدل فرحه ترحا فانثلم غربه واصطفاه ربه وَكَانَت وَفَاته فى ثَالِث وعشرى جُمَادَى الاولى سنة تسع وَخمسين وَألف وَقد قَارب سنة الْخمسين وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بالتربة الْمَعْرُوفَة بالقلندرية وَقيل فى تَارِيخ مَوته قَاض فى الْجنَّة
مصطفى بن مصطفى الشهير بِابْن بُسْتَان قاضى الْعَسْكَر وَهُوَ أَخُو شيخ الاسلام مُحَمَّد ابْن بُسْتَان الْمُقدم ذكره وَكَانَ من أجلاء الموالى أَصْحَاب الوجاهة والنباهة وَكَانَ فَاضلا صَاحب معرفَة تَامَّة فى الْعَرَبيَّة والمعانى وَالْبَيَان ولى الْقَضَاء بِدِمَشْق ثَلَاث مَرَّات قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته وَكَانَ سمينا أكولا سخيا وَلكنه كَانَ يتَنَاوَل فى قَضَائِهِ قيل انه أول من تظاهر بالرشوة من قُضَاة دمشق الروميين وَولى أدرنه وَمَكَّة وَتزَوج بنت مُرَاد باشا الْوَزير وَولى قَضَاء قسطنطينية ثمَّ قَضَاء الْعَسْكَر باناطولى فى رَابِع عشر ذى الْقعدَة سنة ثَلَاث بعد الالف ثمَّ نقل الى قَضَاء روم ايلى بعد شهر من تَوليته قَضَاء اناطولى وعزل فى خَامِس وعشرى جُمَادَى الاولى سنة أَربع بعد الالف ثمَّ أُعِيد الى روم ايلى فى ثامن عشر شهر رَمَضَان سنة تسع بعد الالف وعزل فى صفر سنة عشر وَألف
مصطفى بن مصلح الدّين قاضى الْعَسْكَر المرزيفونى قدم فى أول عمره الى قسطنطينية وانحاز الى الْمولى مُحَمَّد جشمى قاضى الْعَسْكَر ولازم وَصَارَ قَاضِيا بِبَعْض القصبات بِبِلَاد روم أيلى ثمَّ توفّي فِي مخدمه الْمَذْكُور فَتزَوج ابْنَته ثمَّ صَار قَاضِيا بشمله بروم ايلى وساعده الْحَظ بعد ذَلِك فانتسب الى ركاب دَار السُّلْطَان ابراهيم جَعْفَر باشا الذى صَار وزيرا وصهرا للسُّلْطَان فشفع لَهُ بِقَضَاء دمشق فَوجه اليه وعد ذَلِك من أغرب مَا وَقع فى الدولة العثمانية لَان رتبته بعيدَة الْوُصُول الى رُتْبَة الموالى فضلا عَن قَضَاء دمشق الْمَعْدُود عِنْدهم من أعظم المناصب وَلم يبْق أحد من موالى الرّوم مِمَّن رَآهُ أَو اجْتمع بِهِ الا أظهر بِهِ الْعَدَاوَة وقصده بِمَا يؤلمه وهم يَقُولُونَ ان قطاع الطَّرِيق الْعَام أقل وزرا من المتعرض فى هَذَا الطَّرِيق الْخَاص وَقدم الى دمشق فى شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَكَانَ متكلفا فى أدوات الاحتشام والاجلال وتعاطى الاحكام بهمة فى التَّنَاوُل علية وساعده الْوَقْت فَحصل مَالا عَظِيما وهابه أهل دمشق وعسكرها واحترموا ساحته وانقادوا اليه(4/393)
وَمن محاسنه أَنه لما رأى خطيب الْجَامِع الاموى يخْطب بعمامة صَغِيرَة نَادَى الْخَطِيب مُحَمَّد المحاسنى وَألبسهُ الْعِمَامَة الَّتِى تعرف بالمكور وَأمره ان لَا يخْطب بعد ذَلِك الا بهَا فاستمر يخْطب بهَا الى أَن مَاتَ وَتَبعهُ المرحوم أَخُوهُ الشَّيْخ اسماعيل وبالحرى ان يكون هَذَا المعبد الْكَبِير متميزا عَن غَيره بخصوصية ثمَّ عزل عَن قَضَاء دمشق وَبعد وُصُوله سعى فى قَضَاء قسطنطينية فناله وَبنى دَارا عَظِيمَة بِالْقربِ من جَامع مُحَمَّد أغا ثمَّ اجْتهد فى تَحْصِيل قَضَاء روم ايلى وَصرف على ذَلِك شَيْئا كثيرا من الْهَدَايَا وَالْمَال وسما سموا عَظِيما ثمَّ لما قَامَ الْعَسْكَر على السُّلْطَان ابراهيم واجتمعوا فى جَامع السُّلْطَان أَحْمد وَحَضَرت الْعلمَاء والصدور عزم على الْحُضُور مَعَهم فنصحه بعض خَواص أحبابه فَلم ينتصح فى عدم الْحُضُور وَسَار فَلَمَّا أقبل على الْجمع غمز عَلَيْهِ بعض الموالى الْعَسْكَر فتعرضوا لَهُ ثمَّ كثر عَلَيْهِ الْحَط فَقَتَلُوهُ فى بَاب الْجَامِع بمعاينة الصُّدُور والاعيان وَكَانَ قَتله فى ثامن عشر رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَألف والمرزيفونى بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَكسر الزاى بعْدهَا مثناة تحتية ثمَّ فَاء فواو نِسْبَة الى بلبدة مَعْرُوفَة بِبِلَاد أَنا طولى وَالله تَعَالَى أعلم
مصطفى الْمَعْرُوف بكوجك مصطفى أحد الموالى الرومية ولى قَضَاء الشَّام فى سنة احدى بعد الالف قَالَ النَّجْم وسلك فى قَضَائِهِ مسلكا حسنا وَكَانَ يتحَرَّى فى أَحْكَامه ويحررها خُصُوصا فِيمَا يتَعَلَّق بالجند ومداينتهم وَكَانَ يحط على المرابين وَدخل عَلَيْهِ خصمان أَحدهمَا جندى فحرر عَلَيْهِ وَلم يسع الجندى الا التّرْك لرباه وَلما فَاتَهُ مَا يحصل لَهُ رباه أنكر رهنا كَانَ عِنْده للمديون فَقَالَ للرَّاهِن أقِم عَلَيْهِ الْبَيِّنَة فَقَالَ انه لَا يتجرأ أحد على الشَّهَادَة عَلَيْهِ فَقَالَ للجندى ادن منى فَدَنَا مِنْهُ فَأخذ خَاتمه مِنْهُ وَأَعْطَاهُ للمعين عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ خُذ هَذَا الْخَاتم واذهب الى بَيت هَذَا الرجل وَقل لَهُم أعطونى الرَّهْن الَّذِي صفته كَذَا وَكَذَا وخذوا هَذَا الْخَاتم أَمارَة فَذهب وَجَاء بِالرَّهْنِ كَمَا وَصفه الرَّاهِن فاعترف بِهِ وَكَانَ لَهُ من قبيل هَذِه الفراسة أَشْيَاء كَثِيرَة فتهارع النَّاس اليه فى طلب الْحُقُوق وَكَانَ اذا مر فى أسواق دمشق عا لَهُ أَهلهَا ثمَّ أعْطى فى السّنة الْمَذْكُورَة قَضَاء مَكَّة وسافر اليها فى تِلْكَ السّنة ثمَّ قَالَ وأحسب أَنه مَاتَ قبل الْعشْرَة وَألف وَالله أعلم
مصطفى أَبُو الميامن شيخ الاسلام ومفتى التخت العثمانى كَانَ من كبار الْعلمَاء أَصْحَاب الِاطِّلَاع فَقِيها متبحرا وافر الْحُرْمَة مُعظما عِنْد الدولة ولى قَضَاء(4/394)
قسطنطينية ثمَّ نقل الى قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولى فى ثانى وعشرى رَجَب سنة احدى عشرَة بعد الالف ثمَّ نقل الى مشيخة الاسلام بعد شهر وَيَوْم من تَوليته قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولى وفى زمن فتواه توفى السُّلْطَان مُحَمَّد وتسلطن السُّلْطَان أَحْمد ثمَّ عزل فى الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وأعيد فى شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرَة وَتوفى فى رَجَب من هَذِه السّنة وَهُوَ مفت رَحمَه الله تَعَالَى
مصطفى الْمَعْرُوف بِابْن العلبى الحلبى مفتى الْحَنَفِيَّة بحلب ورئيسها السامى المكانة نبع من بَين قومه متفردا بشعار الْعلمَاء فان أَهله كلهم تجار غير أَن لَهُم رياسة قديمَة فى التِّجَارَة والتمول وَكَانَ سَافر الى الرّوم وانحاز الى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ولازم مِنْهُ وتقرب اليه كل التَّقَرُّب وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْيمن مفتى حلب لما قَارب الْوَفَاة فرغ لِابْنِهِ ابراهيم الْمُقدم ذكره عَن الْفَتْوَى فَلَمَّا أرسل عرضه الى دَار السلطنة كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة بهَا وَكَانَ يتطلب من شيخ الاسلام أمورا يستصعبها فَوجدَ الْفَتْوَى أسهل وأنفع لَهُ فوجهها اليه مَعَ الْمدرسَة الخسروية وَلم يعْتَبر عرض القاضى ثمَّ قدم الى حلب مفتيا وَرَأس بهَا وعلت حرمته ثمَّ لما جَاءَ السُّلْطَان مُرَاد الى حلب وفى صحبته شيخ الاسلام الْمَذْكُور أَرَادَ الشَّيْخ ابراهيم الشكاية الى السُّلْطَان بِاعْتِبَار انه أعلم من صَاحب التَّرْجَمَة فَوجدَ لشيخ الاسلام الْيَد الطُّولى عِنْد السُّلْطَان فَعرض الامر عَلَيْهِ فزجره زجرا عنيفا ثمَّ قَالَ لَهُ مهما أردْت من المناصب أسعى لَك فِيهِ الا الْفَتْوَى فَلم يقبل شَيْئا حنقا ثمَّ أضَاف شيخ الاسلام لِابْنِ العلبى صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء ادلب الصُّغْرَى وَلم ينل هَذِه الرُّتْبَة من تقدمه من مفتية حلب خُصُوصا وَلَا الاخوة الثَّلَاث أَبُو الْجُود وَمُحَمّد وَأَبُو الْيمن مَعَ اتساع علومهم ورفعة مقامهم وَابْن العلبى هَذَا بِالنِّسْبَةِ اليهم فى الْفضل بِمَثَابَة تلميذ لَهُم بل وَلَا تتأتى لَهُ هَذِه المثابة فانه كَانَ مَشْهُورا بِالْجَهْلِ وَكَانَ فى أَمر الْفَتَاوَى انما هُوَ صُورَة ممثلة والذى ينظر أمرهَا رجل كَانَ يكْتب لَهُ الاسئلة يعرف بِابْن ندى وَمن غَرِيب مَا وَقع لصَاحب التَّرْجَمَة أَنه حضر يَوْمًا الْجَامِع فاحضرت جَنَازَة فَقدم للصَّلَاة عَلَيْهَا اماما فَكبر خمْسا فَقَالَ فِيهِ السَّيِّد احْمَد بن النَّقِيب هَذِه
(ومذ مصطفى صلى صَلَاة جَنَازَة ... وَكبر خمْسا أعلن النَّاس لَعنه)
(فَقلت اعذر ومانه قلد الندى ... وَمن قبل فى الْفَتْوَى لقد قاد ابْنه)
يُشِير الى قَول أَبى تَمام فى قصيدته الَّتِى رثى بهَا ادريس بن بدر ومطلعها(4/395)
(دموع أجابت داعى الْحزن همع ... توصل منا عَن قُلُوب تقطع)
الى أَن قَالَ
(وَلم أنس سعى الْجُود خلف سَرِيره ... باكسف بَال يَسْتَقِيم ويطلع)
(وتكبيره خمْسا عَلَيْهِ معالنا ... وان كَانَ تَكْبِير الْمُصَلِّين أَربع)
(وَمَا كنت أدرى يعلم الله قبلهَا ... بِأَن الندى فى أَهله يتشيع)
وَقَوله وَمن قبل فى الْفَتْوَى الخ اشارة الى كَاتب أسئلته الذى ذَكرْنَاهُ على طَرِيق الِاسْتِخْدَام وَهَذَا الْمَقْطُوع من سحر الْكَلَام
مصطفى باشا الشهير بابشير الْوَزير الاعظم أَو حد الوزراء الْمَشْهُورين بالجلالة والرأى الصائب وَحسن السياسة ولى الشَّام فى سنة سِتِّينَ وَألف وألجئ فى حكومته الى غَزْو بِلَاد الدروز فَخرج من دمشق فى جمع عَظِيم وَبلغ الامير ملحم بن يُونُس الْمَعْنى خبر خُرُوجه بقصدهم فَجمع جمعا كثيفا من الدروز وعزم على الْمُقَابلَة وَوَقعت الْمُحَاربَة بَين الْفَرِيقَيْنِ فى وادى قرنانا فَكَانَ عَسْكَر الْوَزير فى أَسْفَل الوادى لكَوْنهم ركبانا وَجَمَاعَة الدروز من أَعلَى الوادى فخلص بعد صعوبة وَذهب لَهُ ولعسكره شئ كثير من الْخَيل وَالسِّلَاح وَالْعدَد ثمَّ عزل عَن مُحَافظَة دمشق وَأعْطى كَفَالَة حلب وَله بهَا الْخيرَات الْعَظِيمَة من الْجَامِع والخان والحوانيت وَغَيرهَا مِمَّا جعله وَقفا على الْجَامِع وعَلى صرة لأهالي مَكَّة تحمل اليهم كل سنة وَشرط توزيعها لمن يكون قَاضِيا بِمَكَّة ثمَّ جَاءَهُ ختم الوزارة الْعُظْمَى وَهُوَ بحلب سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَقيل فى تَارِيخه وَزِير الْخَيْر وَلم تطل مدَّته فى الوزارة وَقَامَ الْعَسْكَر عَلَيْهِ وقتلوه وَكَانَ قَتله فى أَوَائِل سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف
مصطفى الشهير بضحكى قاضى الْعَسْكَر وفقيه الرّوم كَانَ أعجوبة الزَّمَان فى الْفضل وَكَثْرَة الِاطِّلَاع على الْمسَائِل وَله تآليف فى الْفِقْه ولى قَضَاء قسطنطينية مَرَّات ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلى فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ مُعْتَبرا مراعيا لمراسم الطَّرِيق مُرَاعَاة بَالِغَة بِحَيْثُ تخرج بِهِ مراعاته فى بعض الاحيان الى الْهزْل والعبث وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من الْعلمَاء الصُّدُور وَكَانَت وَفَاته فى سنة تسعين بعد الالف بقسطنطينية
مصطفى سبط الشَّيْخ القطب مَحْمُود الاسكدارى قاضى الْقُضَاة السَّيِّد الاجل كَانَ من لطفاء الموالى ذاتا وطبعا لطيف الْعشْرَة متوددا خلوقا ولى مناصب(4/396)
عديدة مِنْهَا ديار بكر وَالْمَدينَة ثمَّ ولى قَضَاء دمشق فى شهر ربيع الاول سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَقدم اليها وَكَانَت سيرته بهَا حَسَنَة وَتوفى بهَا وَكَانَت وَفَاته فى ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بِالْقربِ من بِلَال الحبشى
مصطفى باشا المرزيفونى الْوَزير الاعظم فى عهد السُّلْطَان مُحَمَّد بن ابراهيم وَهُوَ الشهير بقره مصطفى باشا وبالمقتول كَانَ من أمره انه خدم مُحَمَّد باشا الْوَزير الاعظم الشهير بِالْكبرِ يلى الْمُقدم ذكره فَنَهَضَ بِهِ الْحَظ على يَدَيْهِ فولاه نِيَابَة ديار بكر ثمَّ جعله حَاكم الْبَحْر وَمَا زَالَ فى عزة تتزايد وسعادة تتصاعد الى أَن مَاتَ أستاذه الْمَذْكُور وَولى ابْنه أَحْمد باشا الْفَاضِل الوزارة الْعُظْمَى فَعَزله عَن حُكُومَة الْبَحْر وَرَأى أَن قربه الى الدولة أجدى لَهُ لما يعرف من رابطته المحكمة فصرف جهده فى المغالاة بِحقِّهِ والالتفات اليه وَكَانَ هُوَ لَا يهمه الا مُرَاعَاة جَانب مخدومه الْمَذْكُور وَلَا يعرف الا رِعَايَة حُقُوقه وَلما توجه الْفَاضِل الى جَزِيرَة كريد صيره قَائِما مقَامه وَأَقْبَلت الدولة عَلَيْهِ اقبالا لَيْسَ وَرَاءه لَاحَدَّ مطمع وسافر فى خدمَة السُّلْطَان الى سلانيك ويكى شهر واتسعت دَائِرَة جاهه وأنيطت بِرَأْيهِ الامور وَكَانَ أولى النَّاس بنيل مَا يأمله من ينتمى اليه ويعول فى أمره عَلَيْهِ وَكَثُرت فى ذَلِك الابان حفدته وحواشيه وتملك الاملاك الْكَثِيرَة ثمَّ قدم الْوَزير الْفَاضِل من كريد الى دَار السلطنة أدرنه بعد أَن فتح قلعة قندية فبقى فى تِلْكَ الْجَلالَة مستشار الدولة زَائِد العنوان والصوله وَلما دخلت أدرنه فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ والدولة اد ذَاك فى بلهنتيها وَقد استوفت الْكَمَال من عزتها وحرمتها رَأَيْته قد استوعب أدوات الرفعه وَتصرف فى السلطنة تصرف الرخ فى الرقعه وَصيته قد مَلأ الْبِلَاد وعرها وسهلها وَملك جلّ أمورها وَكَانَ أَحَق بهَا وَأَهْلهَا ثمَّ مَاتَ الْوَزير الْفَاضِل فسعت اليه الصدارة وَلم يسع لَهَا فَقَامَ بأعبائها وتصلب فى حمل اثقالها وَتمكن مِنْهَا تمَكنا عَظِيما ونال من اقبالها حظا جسيما وَكَانَ فى حَقِيقَة أمره مُدبرا حازما عَاقِلا متمولا وجيها وَله محبَّة فى الْعلمَاء والفضلاء يحب المذاكرة العلمية ويرغب فى الْفَائِدَة وَرُبمَا اشْتغل وذاكر فى صنوف من الْفُنُون وَكَانَ ملتفتا لأحوال النَّاس فِيمَا ينظم أَمرهم الا أَنه كَانَ شَدِيد الطمع فى جمع المَال وَعِنْده عجب وخيلاء ونفسانية وتملك دَارا بِالْقربِ من جَامع السليمانية وعمرها وأتقنها فاحترقت فى أسْرع مُدَّة فَأَعَادَهَا أحسن مِمَّا كَانَت عَلَيْهِ وسافر سفرة جهرين بِأَمْر مخدومه السُّلْطَان مُحَمَّد بجيوش عَظِيمَة وافتتحها واحتوى على(4/397)
الملحة الَّتِى بِالْقربِ مِنْهَا وَهَذِه المملحة كَمَا نَقله الثِّقَات من أعظم مجالب النَّفْع لبيت المَال حَتَّى انهم يبالغون فِيمَا يدْخل مِنْهَا حد الْمُبَالغَة وَسبب ذَلِك أَن بِلَاد النَّصَارَى المعروفين بالمستو والقزق محتاجون اليها وَلَيْسَ فى بِلَادهمْ مملحة غَيرهَا وَلما فتحت هَذِه القلعة سر النَّاس سُرُورًا عَظِيما لَان فتحهَا كَانَ فى غَايَة الصعوبة وَكَانَ كثير من نَصَارَى الرّوم مِمَّن رَأَيْتهمْ يَزْعمُونَ اسْتِحَالَة فتحهَا ويهزؤن بالوزير صَاحب التَّرْجَمَة فى قَصدهَا وشاع عَنْهُم أَخْبَار فى انكسار عَسْكَر الْمُسلمين وهزيمتهم وَكَانُوا يظهرون الشماتة وَسبب ذَلِك مَا يعرفونه من أَنَّهَا تَابِعَة لملك المسقو وَهَذَا الْملك هُوَ أَكثر مُلُوك النَّصَارَى جيوشا وأكبرهم ملكا قيل ان مَمْلَكَته مَسَافَة سنة طولا وَمثلهَا عرضا وفى طَرِيق هَذِه القلعة من جَانب قسطنطينية صحراء وارات وهى أَرض مُجْدِبَة قَليلَة الْخَيْر لَيْسَ بهَا بِلَاد ومسافتها بعيدَة وَبِالْجُمْلَةِ فان فتح هَذِه القلعة كَانَ من أعظم الفتوحات وزينت دَار الْخلَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد اذ ذَاك ببلدة سلستره بروم ايلى فَكتب الى قَائِم مقَام الْوَزير بقسطنطينية عبدى باشا النيشانى أَنه يُرِيد الْقدوم الى دَار المملكة وانه لم يتَّفق لَهُ رُؤْيَة زِينَة بهَا مُدَّة عمره وَأمره بالنداء لتهيئة زِينَة أُخْرَى اذا قدم فَوَقع النداء قبل قدوم السُّلْطَان بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وتهيا النَّاس للزِّينَة ثمَّ قدم السُّلْطَان فشرعوا فى التزيين وبذلوا جهدهمْ فى التأنق فِيهَا وَاتفقَ أهل الْعَصْر على أَنه لم يَقع مثل هَذِه الزِّينَة فى درو من الادوار وَكنت الْفَقِير اذ ذَاك بقسطنطينية وشاهدتها وانا مُتَحَقق من غير شكّ يخامرنى أَنَّهَا لم تصدر فى زمَان وَلم يبْق شئ من دواعى الطَّرب الا صرفت اليه الهمم ووجهت اليه البواعث واستغرقت النَّاس فى اللَّذَّة وَالسُّرُور واستوعب جَمِيع آلَات النشاط والحبور وفشت المناهى وَقصر فِيهَا المحذر والناهى وَعلمت الْعُقَلَاء أَن مثل هَذَا الامر كَانَ غَلطا وان ارتكابه جرم عَظِيما وخطا وَمَا أَحسب ذَلِك الا نِهَايَة نهنهة السلطنة وخاتمة كتاب السَّعَادَة والميمنة تمّ طَرَأَ الانحطاط وشوهد النُّقْصَان وتبدل الرِّبْح بعْدهَا بالخسران فَوَقع بعيد ذَلِك فى الْقُسْطَنْطِينِيَّة حريق عَظِيم بِنَاحِيَة الفنار حرق فِيهِ نَحْو اثنى عشر ألف بَيت ثمَّ تراسل الْحَرِيق فى كثير المحلات حَتَّى حسب مَا وَقع مِنْهُ فَكَانَ تسعين حريقا كل ذَلِك فى سنة وَاحِدَة ثمَّ طلب الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة الاذن من السُّلْطَان بِالسَّفرِ على بِلَاد الانكروس وَكَانَ عقد الصُّلْح الذى أوقعه مَعَهم الْوَزير الْفَاضِل بعد فتح ايوارعلى خمس عشرَة سنة قد مضى عَلَيْهِ(4/398)
ثَلَاث سِنِين فَأذن لَهُ السُّلْطَان وَشرع فى تهيئة الاسباب من الذَّخَائِر ومكاتبة نواب الْبِلَاد والعساكر وَجمع من الجيوش والجنود مَا لَا يدْخل تَحت حصر حاصر وَلم يتَّفق جَمِيع مثله فِيمَا مضى من الزَّمَان الغابر ثمَّ طلع صَاحب التَّرْجَمَة من قسطنطينية بأبهته الْعَظِيمَة مصمما على أَخذ بِلَاد النَّصَارَى بِالْقُوَّةِ الجسيمة وَلم يدر مَا خبئ لَهُ فى الْغَيْب حَتَّى وَقع مَا وَقع فَزَالَ الشَّك والريب ولنسق أَمر هَذَا السّفر فصلا فصلا ونبينه بمعونة الله تَعَالَى فرعا وأصلا وَمَا أَقُول الذى أقوله الا عَن نقل وعزو مَعَ التحرى فى ذَلِك باثبات ومحو فَأَقُول نَاقِلا عَن كتاب ورد من بعض الاجناد مُلَخصا مِنْهُ مَحل المُرَاد قَالَ وَلم يزل الْوَزير بِمن مَعَه من العساكر سائرين الى أَن وصلوا الى قلعة يانق فى يَوْم الْخَمِيس ثانى عشر رَجَب سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَعبر نهر ريا فى يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ فى يَوْم السبت توجه قَاصِدا قلعة بج قلت وَهَذِه القلعة هى الَّتِى كَانَت مَقْصُوده لَهُ بِالذَّاتِ وَأطلق أمره فى نهب القلاع والقرى الَّتِى على الطَّرِيق فَمَا كَانَ للعسكر مشغلة الا نهبها واحراقها واتلاف زروعها فأحرقوا من القلاع الْمَعْلُومَة نَحْو مائَة قلعة وَمَا يتبعهَا من الْقرى أَشْيَاء كَثِيرَة جدا وكل قَرْيَة من هَذِه الْقرى بِمَثَابَة بَلْدَة تحتوى على ألف بَيت أَو أَكثر وَجَمِيع هَذِه القلاع والقرى فى نِهَايَة الاحكام وَحسن الْبناء وبيوتها فى غَايَة من اتقان الصَّنْعَة مسواة بالرخام وفيهَا من السماقى مَالا يُوصف كَثْرَة وَأكْثر بيُوت هَذِه الْبِلَاد ثَلَاث طَبَقَات الثَّالِثَة مِنْهَا مصنوعة بالدف والخشب وعاثت عَسَاكِر التاتار فى بِلَاد الْكفَّار الى قريب فزل ألما الَّتِى هى مَحل ملك الانكروس الْمَعْرُوف بالبابا ونهبوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ من الْبِلَاد وحرقوها وَرَأَيْت بِخَط بعض الروميين أَن رجلا من كبار عقلاء النَّصَارَى دخل عَسْكَر الْمُسلمين ثمَّ جَاءَ الى الشَّيْخ مُحَمَّد الوانى واعظ السُّلْطَان مُسلما قَالَ وَكَانَ لَهُ وقُوف على أَحْوَال ملكهم وَأَنَّهُمْ ذكرُوا عِنْده أَمر هَذِه النُّصْرَة وَلَعَلَّ لَهَا أسبابا من جَانب النَّصَارَى أوجب الانتقام مِنْهُم فَقَالَ ان الْملك البابا دخل يَوْمًا على زَوجته بنت ملك الاسبانية وَهُوَ مغموم فَقَالَ لَهُ زَوجته مَا أغمك فَقَالَ أرى أَمر هَؤُلَاءِ العثمانية قد بلغ النِّهَايَة فى الْغَلَبَة علينا وَمن أعظم مَا يغمنى من أَمرهم طَاعَة نوابهم وامرائهم لَهُم فاذا طلبوهم بِأَدْنَى خطاب من أقْصَى الْبِلَاد لَا يُمكن ان يتخلفوا ويبادرون الى الْحُضُور اليهم وامتثال أَمرهم وَأما أَنا اذا أرْسلت الى امراء المجار مَرَاسِيل أطلبهم لامر فَلَا يطيعون أوامرى وَلَا يحْضرُون الى فَقَالَت لَهُ(4/399)
انما يُطِيع حكام الْمُسلمين أَمر سلطانها لانهم كلهم أهل مِلَّة وَاحِدَة وَمذهب وَاحِد فَخرج الْملك من عِنْد زَوجته مغضبا وجهز الرُّسُل الى بِلَاد المجار يَدعُوهُم الى مذْهبه فَلم يقبلُوا فَأرْسل عَسَاكِر من قبله فقبضوا على أَكْثَرهم وأحضروهم اليه فعذبهم وقتلهم وَفعل فى بِلَاد المجار أفعالا شنيعة جدا لم تصدر من ملك قطّ مَعَ أَنهم رعاياه ويؤدون اليه مَا عَلَيْهِم بِلَا خلاف لَهُ فَبِهَذَا تحقق النَّصَارَى ان الله تَعَالَى سلط الْمُسلمين عَلَيْهِ فخربوا بِلَاده وَألقى الرعب فى قلبه وقلب عسكره وهربت رعاياه من هَذَا الْحَد الى حد قزل ألما وتشتتوا فى الْبِلَاد كل ذَلِك بِسَبَب مَا فعله لَهُ مَعَ المجار الَّذين هم رعاياه وَحزبه انْتهى ثمَّ ان خَان التاتار نور الدّين كراى لحق كثيرا من الهاربين فَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وَمن أغرب مَا وَقع فى هَذَا الاثناء أَن سوقة الْعَسْكَر كَانُوا يدْخلُونَ قلعة من القلاع الْمَذْكُورَة فيرون فِيهَا أُنَاسًا قَلَائِل من النِّسَاء وللرجال العاجزين عَن الْحَرَكَة فيقتلونهم ويستولون على القلعة ثمَّ يطلقون فِيهَا النَّار فعلوا هَذَا فى اكثر من أَرْبَعِينَ قلعة وَاسْتولى قره مُحَمَّد باشا على قلعة تسمى أووار يُقَال انها أحصن من ايوارا الَّتِى افتتحها الْوَزير الْفَاضِل فى سنة خمس وَسبعين وَألف وَفتح بكر باشا قلعة هانبرق وهى على مَا سَمِعت فى الحصانة لَا تقصر عَن قلعة حلب ثمَّ حرقوا القلعتين المذكورتين وغنم الْمُسلمُونَ غَنَائِم لَا تحصر وَلَا تضبط واسروا نَحْو مائَة ألف أَسِير بِحَيْثُ بِيعَتْ الْجَارِيَة مَعَ وَلَدهَا بِثَلَاثَة قروش والابكار لَا يتَجَاوَز ثمنهَا الْعشْرين قرشا الا فى النَّادِر وَبيع الرَّأْس من الْغنم بقطعتين ورطل الطحين العال بقطعتين ورطل النّحاس بِثَلَاث قطع وهرب عَسْكَر النَّصَارَى من بج ونواحيها وَأخذُوا مَعَهم كثيرا من الاموال فلحقهم جمَاعَة من التاتار فأدركوهم عِنْد لنجة قلعة دَاخل بج بِنَحْوِ سِتِّينَ سَاعَة فاستأصلوهم قتلا ونهبوا جَمِيع مَا كَانَ مَعَهم وفى عشرى رَجَب توجه نور الدّين كراى نَحْو بَابا طاغى بِنَحْوِ عشرَة آلَاف من عسكره التاتار فلقى جمَاعَة من النَّصَارَى فى عدد عشْرين ألف فَقتل بعضلاا وَأسر آخَرين وَلم ينج مِنْهُم الا الْقَلِيل وَكَذَلِكَ فعل حَاج كراى سُلْطَان فى بعض النواحى فغنم غَنَائِم عَظِيمَة ثمَّ وصل الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة الى بج وَضرب مخيمه بهَا وخيمت العساكر وَهَذِه القلعة كَمَا تلقيت خَبَرهَا ذَات قلعة داخلها يُحِيط بهَا من جوانبها الثَّلَاثَة الدّور والابنية والعمارات والحدائق وَمن جملَة ذَلِك سَبْعَة عشر مَكَانا باسم الْملك تحتوى هَذِه الامكنة على عجائب الزخارف والفواكه والفساقى من السماقى(4/400)
والرخام وَقد قدمنَا ان عَسْكَر بج كَانُوا قد هربوا وَكَذَلِكَ هرب أهل الْخَارِج من الرّعية وَلم يبْق الا نَحْو عشْرين ألف رجل عشرَة آلَاف من الْعَسْكَر وَعشرَة آلَاف من الرّعية فى دَاخل القلعة فَأمر الْوَزير باحراق الْخَارِج فَأحرق فى أقل من طرفَة عين وَلم يبْق الا مَحل أَو طاق السُّلْطَان سُلَيْمَان وَمحله الْمَذْكُور كَانَت الْكفَّار قَدِيما بنته بِنَاء عَظِيما وصيرته من أحسن المنتزهات بالبلدة الْمَذْكُورَة تَعْظِيمًا مِنْهُم للسُّلْطَان سُلَيْمَان فانهم يعظمونه كثيرا ثمَّ أَمر بمحاصرة القلعة فَنصبت عَلَيْهَا المكاحل وَشرع الْعَسْكَر فى رميها بآلات الْحَرْب فَضَاقَ بِمن فِيهَا الخناق فى أقل من قَلِيل والتجؤا الى أَن يسلموها طَوْعًا فَأبى الْوَزير خوفًا من أَن ينهب الْعَسْكَر مَا فِيهَا من الاموال وَحكى أَنه ابرم عَلَيْهِ أَعْيَان الوزراء والعسكر فى الْمُبَادرَة الى دُخُولهَا صلحا خوفًا من أَمر يأتى فَقَالَ ان ضمنتم لى العسرك فى أَن لَا يَأْخُذُوا شَيْئا فعلت فَأَبَوا فتمادى الامر يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة وَهُوَ وَبَقِيَّة الوزراء فى اعمال الْفِكر على ان يفتحوها عنْوَة ومالهم علم بِمَا سيحدث عَلَيْهِم من الامر واذا بطلائع الْكفَّار أَقبلت وفى اثرها عَسْكَر سد الفضا وشب نيران الغضا لَا يبالون بقتل وَلَا ضرب بل يقدمُونَ على الْمَوْت بجنان من الصخر وقلب وهجموا دفْعَة وَاحِدَة والعسكر فى غَفلَة عَمَّا يُرَاد بهم واختلطوا بهم طامعين فى قَتلهمْ وسلبهم وأطلقوا السيوف وجردوا أسنة الحتوف فَلم يكن بأسرع مِمَّا انْقَلب العيان وجمدت فى الْوُجُوه العينان وَكَانَ الْمُقدم من الْمُسلمين من عمد الى الْفِرَار وَلم يَقُوله فى تِلْكَ الْحَالة الْقَرار فَقتل من قتل وَنَجَا من نجا لَكِن نجاة من عدم المعونة والالتجا واحتوت الْكفَّار على السرادقات والخيول وفازوا بِأَمْر كَانَ يتعسر اليه فى أحلامهم الْوُصُول وكر الْوَزير بِمن مَعَه هَارِبا وللنجاة من اللحاق بِهِ طَالبا وتفرق الْعَسْكَر فى تِلْكَ البرارى والوهاد وَلم يَجدوا من مرشد لَهُم وَلَا هاد ونفد مَا مَعَهم من الزَّاد فبعضهم وصل الى بودم وَالْبَعْض الى اكرى وَهَكَذَا حَتَّى اجْتَمعُوا بعد مُدَّة ببلغراد وَنفذ أَمر العلى الْكَبِير وَهُوَ على جمعهم اذا يَشَاء قدير وَأقَام الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة ببلغراد يدبر أمرا فى تلافى مَا مضى وَاخْتلفت بعيد ذَلِك الآراء وَكَثُرت التخاليط وأظهرت نَصَارَى الافلاق والبغدان والاردل الْعِصْيَان وَعم الْغم وَعظم الْوَهم وزحفت الْكفَّار على بِلَاد الاسلام فَأخذُوا بعض قلاع وَبعث الْوَزير فى ذَلِك الاثناء الى ملك الانكروس رَسُولا برسالة يتهدده فِيهَا وَيَقُول لَهُ انه لابد من مقابلتك وكسرك(4/401)
وَأخذ جَمِيع بلادك وفهرك فى كَلَام آخر يعلم من الْجَواب الذى ورد من ملك النَّصَارَى الانكروس وَهَذَا صورته من سُلْطَان الْملَّة المسيحية وقهرمان السلطنة النَّصْرَانِيَّة الذى هُوَ ملك مُلُوكهمْ وصولته قد أحاطت بأَرْبعَة اطراف عالمهم وَاسْتولى على جَمِيع المجار وَمَا عداهم قد اسْتَقر فى ملكه خَمْسَة آلَاف مَدِينَة وحصن حُصَيْن وَجلسَ على تخت نوشروان وَقَيْصَر وصلصال وَصَارَ لجملة أمة عِيسَى سُلْطَان السلاطين أنهى اليك أَيهَا الْوَزير الاعظم والسردار الاكرم بِنَاء على الْمحبَّة دُعَاء لائقا وثناء فائقا وَقد ورد من طرفك على يَد سردار عسكرنا مَا يُقَاس رِسَالَة فحين وصولها جَمعنَا وكلاءنا وامراءنا ورهباننا وقرئت الرسَالَة بمحضرهم وَفهم مضمونها فقولك فِيهَا ان السُّلْطَان مُرَاد الغازى الْقَدِيم لما مضى الى رَحْمَة الله الْجواد الْكَرِيم ولى ابْنه الذى فتح قسطنطينية وَهُوَ السُّلْطَان مُحَمَّد فصرف فى سَبِيل الغزاء بسمة الْعَطِيَّة للغزاة ألف حمل ذهب وان سلطنتكم الْيَوْم أعظم شَأْنًا وأزيد مملكة وأعوانا مِمَّا كَانَت عَلَيْهِ فى زَمَنه فَهَذَا السُّلْطَان مُحَمَّد الذى ذكرته كَانَ سُلْطَانا عَاقِلا عادلا وملكا لَا نجد لَهُ بَين الْمُلُوك معادلا قد نَالَ مَا ناله بعدالته وظفره الله تَعَالَى بِمَا أَرَادَهُ بعنايته وَأما أَنْتُم فَلم تقفوا فى كتب التَّارِيخ ان قلعة قسطنطينية يَأْخُذهَا منا سُلْطَان مُسَمّى بِمُحَمد وَأَيْضًا نَحن نأخذها من سُلْطَان اسْمه مُحَمَّد وَقد ظهر الان ذَلِك حد الظُّهُور وتأكذ حَيْثُ أَخذنَا مِنْكُم ثمانى عشرَة قلعة وَمَا عدا ذَلِك فحكام البغدان والافلاق والاردل جاؤا الى خدمتنا واختاروا الانحياز الى عبوديتنا وقولك انا نرفع يدنا عَن المجار لانهم هم السَّبَب فى هَذِه الْفِتْنَة فَهَذَا الْكَلَام بعيد عَن الافهام وَهل هُوَ الا أَمر ينْزع تاجنا عَن رَأْسنَا فان التَّاج لَهُم وَأما قَوْلك وَيكون ذَلِك مدَار الصُّلْح وَالصَّلَاح فَهَل طلبنا مِنْكُم الصّلاح وَالصُّلْح نَحن لَا نطلب الصُّلْح وَلَا نترجاه وَلَا يخْطر على بالنا بعد الْفساد الذى شَاهَدْنَاهُ وَأما نقض الْعَهْد فَمن ابْتَدَأَ بِهِ سيلقى غبه ويتجرع مِنْهُ مَالا يسيغه اذا كلف شربه قد راعينا فِيمَا سلف الْعَادة الْقَدِيمَة ورعينا الذِّمَّة المستقيمة فَأَرْسَلنَا هديتنا الْمُعْتَادَة الى قريب قومران فَخرج حَاكم بوديم جلالى باشا واغار على بِلَادنَا وَأنزل بهَا الهوان فَهَل يَلِيق هَذَا التعدى الذى مَا وَقع فى عصره من العصور ثمَّ بعد ذَلِك وَقع لرسلنا من الاهانة وَالْحَبْس مَا استدللنا بِهِ على النُّصْرَة لطرفنا فان الله غيور وَقَوله ان سلاطينكم أَصْحَاب مَال وعسكر كَثِيرَة فَنحْن نَعْرِف هَذَا الْمِقْدَار وَلَكِن(4/402)
كسر الْعَسْكَر الْكثير وهلاك من نقض الْعَهْد عَادَة أزلية لذى الْجلَال القهار وَالْحَاصِل ان كَانَ المُرَاد الصُّلْح فَيكون لنا من الْبِلَاد من حدنا الْآن الى حد أسكوب والا فلنا مَعَك سوق حَرْب يُقَام فِيهَا الْمَتَاع المجلوب ثمَّ لم يزل الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة مُقيما ببلغراد وَالنَّاس فى قلق واضطراب وفى كل يَوْم يحدث خبر مذهل لاولى الالباب وَنصب أهل الممالك الْعَدَاوَة وذهبوا كل مَذْهَب فى انه من أهل الغباوة والشقاوة ولهجوا بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ وفوقوا سِهَام ذمهم اليه حَيْثُ كَانَ السَّبَب فى انتهاك حُرْمَة الاسلام وامتهانه بتغلب الْكَفَرَة الفجرة اللئام وَلَهُم فِئَة بِسَبَب ذَلِك أقاويل كَثِيرَة وَكلما مزرية شعيرَة من أخفها أَن أَمر الدولة كَانَ غَنِيا عَن هَذِه المحاربه وان كَانَ يُمكن الانتصاف من الْكَفَرَة وَهُوَ الاقرب بِنَوْع من المطالبه وانما الطمع أَدَّاهُ الى هَذِه الافعال فَكَانَ عَاقِبَة أمره الوبال والنكال وَحكى لى بعض المقربين اليه وَهُوَ من المهرة فى علم النُّجُوم والرمل أَنه استشاره فى أَمر هَذَا السّفر فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ وأجمل فى العبار قَالَ فَقَالَ لى ان السُّلْطَان سُلَيْمَان وصل الى بج وَلم يفتحها فاذا فتحت على يدى كَانَ لى شَأْن عَظِيم لم ينله ملك عَظِيم فَقلت الْآن أبين لَك مَا ظهر من تَحْرِير أَمر هَذَا السّفر وَهُوَ انى لما حررته بَان لى فِيهِ نحوسة وَكَانَ قبيل ذَلِك بِمدَّة ظهر نجم لَهُ ذَنْب بقى ليالى وَكَانَ ذَنبه الى جِهَة قسطنطينية فان أَرْبَاب التنجيم قَائِلُونَ بَان جِهَة الذَّنب من نجم يظْهر جِهَة نحوسة قَالَ فَقَالَ لى كنت أَظُنك ناصحا صَدُوقًا فَالْآن تبين لى مِنْك خلاف ذَلِك فَلَا تخاطبنى بعْدهَا فى خُصُوص هَذَا السّفر بشئ ودع عَنْك اشباه هَذَا الْكَلَام فَلَا تجريه على لسَانك مرّة أُخْرَى قَالَ فَعلمت ان غرور الدولة استحكم فِيهِ وانه مدل بعجبه الى خطر عَظِيم من غير شكّ يُنَافِيهِ وَمَا زَالَ الْوَزير فى قلق واضطرب مترقبا لما يظْهر فى حَقه من طرف السلطنة من الْجَزَاء وَالْعِقَاب فبرز الامر السلطانى بقتْله وتدميره جَزَاء لَهُ على مَا جناه من سوء تَدْبيره فَقتل فى الْمحرم من سنة ألف وَخمْس وَتِسْعين عَلَيْهِ رَحْمَة الْمولى الْمعِين
مصطفى بن على بن نعْمَان الضمدى الْيُمْنَى عَالم شهد بفضله الْعَالم وَسلم لَهُ كل مناضل وَسَالم مَحَله فى الْفضل مَعْرُوف لَا يُنكر وَقدره فى الْعلم معرفَة لَا يُنكر مَلأ صيته كل موطن وقفر فغنى بِهِ حضر وحدا بِهِ سفر الى أدب مَا ميط عَن مثله نقاب وَلَا نسقت بِمثل فرائده قلائد رِقَاب ولد بوادى ضمد من أَعمال سَببه وَحفظ(4/403)
الْقُرْآن وجوده على الشَّيْخ الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح الجزرية للقاضى زَكَرِيَّا وقرا الازهار على الْفَقِيه عبد الله الْوَهم وَبَعض شَرحه على القاضى سعيد الهبل وَأَكْثَره على أَخِيه أَحْمد بن عسلى بن النُّعْمَان وعَلى الْفَقِيه ابراهيم المتميز وَقَرَأَ الْبَحْر الزخار على القاضى أَحْمد بن حَابِس وَبَعضه على السَّيِّد أَحْمد بن المهدى المؤيدى وَقَرَأَ مِفْتَاح الفرائق على عَمه أَحْمد بن عَبده النُّعْمَان وَقَرَأَ على السَّيِّد صَلَاح الحاضرى تمهيد النخبة وتنقيح الانظار كِلَاهُمَا للسَّيِّد مُحَمَّد بن ابراهيم الْوَزير وَقَرَأَ الْكَشَّاف على السَّيِّد دَاوُد وَله جازات من شُيُوخه بالكتب السِّتَّة وسيرة ابْن هِشَام وأمالى أَبى طَالب وأمالى احْمَد بن عِيسَى وَالْجَامِع الكافى ومجموع زيد بن على والاحكام والمنتخب للهادى وشفاء الاوام للامير الْحسنى واصول الاحكام لاحمد بن سُلَيْمَان وغالبها رَوَاهُ عَن القاضى أَحْمد بن حَابِس بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور فى مُعْجَمه وَله تصانيف شهيرة مِنْهَا وَهُوَ أجلهَا الْفُرَات النمبر تَفْسِير الْكتاب الْمُنِير أحسن فِيهِ الْعبارَات وجود فِيهِ الرَّمْز والاشارات قَالَ فى آخِره هَذَا آخر مَا قصدناه ومنتهى مَا أردناه من تأليف هَذَا السّفر الخطير الْمُسَمّى بالفرات النمير فدونك رخيصا ثمينا خميصا بطينا حوى من اصداف التفاسير لثاليها وأنار من مشكلات الاقاويل لياليها وَلنْ يسْعد بِحل رموزه ويظفر بكشف كنوزه الا من برز فى علم الْبَيَان وأشير اليه فى معرفَة صَحِيح الْآثَار بالبنان وراض نَفسه على دقائق مَقَاصِد السّنة وَالْقُرْآن هَذَا وَمَعَ لطافة جِسْمه فكم حوى من لطائف وَمَعَ حَدَاثَة سنه فكم حدث بظرائف وَمَعَ رشاقة قده فكم رشق من مُخَالف وَكم مُشكل أوضحه قد أغفلة الاولون وكأى من آيَة يَمرونَ عَلَيْهَا وهم عَنْهَا معرضون فَالْحَمْد الله الذى وفقنا لتفسير كِتَابه وأهلنا الايضاح معانى خطابه حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ انْتهى كَلَامه وَقد حظى هَذَا التَّفْسِير بِالْيمن بِالْقبُولِ عِنْد الفحول ومدحه كثير من علمائه بالاشعار الرائقة والمدائح الفائقة مِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة صَلَاح الدّين ابْن أَحْمد المهدى المؤيدى قَالَ فى مدحه هَذِه الابيات وهى
(هَذَا الْفُرَات فَرد مشارع مَائه ... تَجِد الشَّرَائِع أودعت فى سطره)
(كشاف كل غوامض ببيانها ... أسرار منزل رَبنَا فى سره)
(حبس الْمعَانى الرائقات برقه ... وَالْحق أطلق والضلال بأسره)
(لَا عيب فِيهِ سوى وجازة لَفظه ... مَعَ الاحتواء على الْكَمَال بأسره)(4/404)
وَله نظم ونثر سائران فَمن ذَلِك قَوْله
(من شافعى نحوكم يحنفكم ... الى يَا مالكى فأحمده)
(زيدتنى حِين صرت معتزلى ... وجدا كحر الْجَحِيم أبرده)
(يَا رافضى أَنْت ناصبى لهوى ... مَا كنت قبل الْفِرَاق أعهده)
وَله
(تظنونى مرتاحا ... وَمن أَيْن لى الراحه)
(اذ الرَّاحَة فى الْكيس ... وَلَيْسَ الْكيس فى الراحه)
وَكتب الى السَّيِّد صَلَاح بن أَحْمد الشرفى ملغزا فى قهوة البن بقوله
(وَجَارِيَة سَوْدَاء ان هى أسفرت ... يقبلهَا أهل الْمُرُوءَة والهى)
(اذا مَا اشْتهى ظلم الحبيبة عاشق ... فمجموعها ظلم لعمرى مشتهى)
(اذا بردت أحشاؤها طَال مكثها ... وان أَصبَحت محمومة طَابَ صها)
(وان ذكر الاحباب طيب أصولهم ... ليفتخروا فالرشق بِالْقَلْبِ أَصْلهَا)
(وان سقيت من خَالص الْمَحْض شربة ... تسارع فِيهَا الشيب وابيض جسمها)
فَأَجَابَهُ السَّيِّد صَلَاح الْمَذْكُور بقوله
(اذا شِئْت حل اللغز مِنْهُ فانها ... لاول مَا يقرى الضيوف أولو النهى)
(اذا خيمها فى الرشق فَابْعَثْ لَهَا دوا ... وفى القشر بُنيان لداء دوالها)
(اذا حذفوا من ابْنهَا العاء واجتزوا ... فَذَلِك شئ طيب الطّعْم مشتهى)
(اذا أدخلوه النَّار صَار محببا ... وان أودعوه الظل صَار مكْرها)
وَمن شعره ايضا وَهُوَ فى غَرَض السّفر الى الْيمن لطلب سَماع الحَدِيث
(تَقول عِيسَى وَقد أزممت مرتحلا ... لحجا وَقد لاحت الاعلام من عدن)
(أمنتهى الارض يَا هَذَا تُرِيدُ بِنَا ... فَقلت كلا وَلَكِن مُنْتَهى الْيمن)
وَكتب أَيْضا الى السَّيِّد صَلَاح المؤيدى
(تزوج هديت تهامية ... تروقك فى المتزر الْمطرف)
(ودع عَنْك بَيْضَاء نجدية ... وَلَو برزت فى بهَا يُوسُف)
(عَلَيْهَا قَمِيص وسروالة ... وَلَيْسَت ترق لمستعطف)
فَأَجَابَهُ السَّيِّد صَلَاح ايضا بقوله
(أردْت بهَا الذَّم ألبستها ... سرابيل مدح وَلَا تختفى)
(نعم هَكَذَا شِيمَة الْمُحْصنَات ... اذا شِئْت تمدح مدحا وفى)(4/405)
(قسا فى الْقُلُوب ولين القدود ... وخد نقى وَصَوت خفى)
(وان رام مِنْهَا الوفا طَارق ... فَلَيْسَتْ ترق لمستعطف)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع بعد الالف
السَّيِّد مطهر بن مُحَمَّد الجرموزى الْحسنى قَالَ فى حَقه القاضى حُسَيْن المهلا كَانَ من اعيان الدَّهْر وافراد الْعَصْر علما وَعَملا ونباهة وفضلا وَله التَّارِيخ الذى جمع فِيهِ أَحْوَال الائمة الثَّلَاث الامام الْقسم وولديه مُحَمَّد الْمُؤَيد واسماعيل المتَوَكل ذكر فِيهِ كثيرا من وقائعهم وَمَا جرياتهم وسيرهم وأحوالهم ومكاتباتهم قَالَ وَكَانَ من أصدقاء والدى وَبَينه وَبَينه مراسلات ومكاتبات رائقة وَله أَوْلَاد عُظَمَاء ادباء كرماء مُحَمَّد وَالْحسن وجعفر قلت وَقد ذكرتهما فى كتابى النفحة وَالْحُسَيْن والهادى واسماعيل وَمَا مِنْهُم أحد الا وَله النّظم السائر والمحاسن الَّتِى تفوق الرياض الزواهر وَكَانَت وِلَادَته فى جُمَادَى الاخرة سنة ثَلَاث بعد الالف وَتوفى فى سَابِع وعشرى ذى الْحجَّة سنة سبع وَسبعين وَألف رَحمَه الله
معِين الدّين بن أَحْمد البلخى الاصل المصرى المولد والمنشأ الْمَعْرُوف بِابْن البكا نزيل مَكَّة المشرفة الْفَاضِل الاديب الْمَشْهُور كَانَ من نَوَادِر الزَّمَان وعجائب الاوان مَعَ دمانة اخلاق وطباع ونضارة محاورة واستماع اذا حل بناد فَلهُ الصَّدْر الموفى واذا تكلم داوى كلم الصُّدُور بحَديثه المشفى وَلم يكن فى أهل مصر أرق من حَاشِيَته وَلَا أحلى من مفاكهته ونادرته قدم الى مَكَّة فى سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة صُحْبَة الركب المصرى ثمَّ أَقَامَ بهَا مؤتلفا بنى حسن ائتلاف المقلة بالوسن يسقى بمزن كرمهم ويخصب جَدب أمله بهطال ديمهم وَهُوَ عِنْد الشريف مَسْعُود مُورق الْعود مثمر السُّعُود وَله من الشّعْر قلائد فرائد كانها عُقُود فى اجياد خرائد فَمن ذَلِك قَوْله
(يَا شَقِيق الرّوح والجسم وَيَا ... دوحة بالود فضلا أثمرت)
(كنت لَا أخْشَى حسود الا وَلَا ... عين واش ان بِسوء نظرت)
(وَأرى الود وهى بُنْيَانه ... مَا كَأَن الْعين لَا أثرت)
(فَبِحَق الود الا صنته ... لحقير روحه قد سعرت)
وَقَوله فى ذيل قَول القاضى الْفَاضِل
(تراءت ومرآة السَّمَاء صقيلة ... فأثر فِيهَا وَجههَا صُورَة الْبَدْر)
(ولاحت عَلَيْهَا حليها وعقودها ... فأثر فِيهَا صُورَة الانجم الزهر)(4/406)
(وَله حاذر زويلة أَن تمر ببابها ... وطعامها كن آيسا من خَيره)
(فموسط الْقَتْلَى يَقُول بهَا انْظُرُوا ... من لم يمت بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ)
وَمثله قَول الآخر
(لما سلمت من الردى من طرفه ... مَعَ أَنه كالسيف فى تَأْثِيره)
(جَاءَ العذار فأيقنت نفسى الردى ... من لم يمت بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ)
وزو يلة بِمُعْجَمَة مصغر محلّة بِمصْر كباب زويلة وَوجه تَسْمِيَتهَا يعرف من الخطط وتواريخ مصر وَهَذَا المصراع مضمن من قَول ابْن السعدى من قصيدة وهى هَذِه
(أرى الْمَرْء فِيمَا يبتغيه كانما ... مداولة الايام فِيهِ مبارد)
(ويضطرم الْجَمْعَانِ وَالنَّقْع ثَائِر ... فَيسلم مِقْدَام وَيهْلك خامد)
(وَمن لم يمت بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ ... تعدّدت الاسباب وَالْمَوْت وَاحِد)
(فصبرا على ريب الزَّمَان انما ... لكم خلقت أهواله والشدائد)
وَمن شعر معِين الدّين قَوْله يستدعى بعض أَصْحَابه
(الدَّهْر أَرْبَعَة أَيَّامه انحصرت ... صحو وغيم وريح ثمَّ أمطار)
(فالصحو ظرف لاصلاح المآرب اذ ... تقضى من الْحبّ يَوْم الْغَيْم أَو طَار)
(وَيَوْم ريح لنوم لَا حراك بِهِ ... وَيَوْم هطل السما للكاس أسرار)
(وَالْيَوْم قد نثرت درا سحائبه ... على بِسَاط ربى يكسوه أزهار)
(فبادر النكاس يَا بدر الزَّمَان فَمن ... سناء وَجهك لَاقَى الافق اقمار)
وَكَانَ لَهُ فى المعمى وحله يَد طائلة وَله فِيهِ رِسَالَة مَشْهُورَة وَله أشعار ووقائع كَثِيرَة وَكَانَ الشريف مَسْعُود بن حسن الْمَذْكُور مُقبلا عَلَيْهِ كثيرا وَلما توفى تراجعت أَحْوَاله بعض التراجع وَكَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ المنورة فى سنة أَرْبَعِينَ وَألف عَن سنّ عالية رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ مُوسَى بن أَحْمد المحجب بن عِيسَى بن أَحْمد بن عبد الْغفار بن مُحَمَّد بن عِيسَى ابْن أَحْمد بن عمر الزيلعى العقيلى صَاحب اللِّحْيَة استاذ الاستاذين وَشَيخ الاولياء العارفين اشْتغل بالتحصيل وَصَحب الاولياء ونال مَا نالته الاكابر وتقيد بالشريعة ولازم الطَّاعَة وَله كرامات كَثِيرَة ومكاشفات وَحج مرَارًا وَكَانَ شرِيف مَكَّة الشريف زيد بن محسن يَعْتَقِدهُ اعتقادا عَظِيما وَحصل لَهُ مِنْهُ نفع جسيم وَكَانَ يكره ظُهُور الْكَرَامَة الا عَن ضَرُورَة وَكَانَ كَرِيمًا سخيا يحب الْفُقَرَاء وَيحسن اليهم وَيقبل(4/407)