قسطنطينية فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف ثمَّ ولي قَضَاء الْعَسْكَر باناطولي فِي سنة خمس عشرَة ثمَّ قَضَاء الرّوم مرَّتَيْنِ وعزل عَن الْأَخِيرَة فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَكَانَ فِي صدر الدولة العثمانية كل من دعى أَمِير الْأُمَرَاء يتَقَدَّم فِي الْجُلُوس على قَضَاء العساكر إِلَى أَن ولي الْمولى أَحْمد بن مَحْمُود الشهير بقاضي زَاده وَالْمولى مُحَمَّد بن شيخ مُحَمَّد بن الياس الشهير بجوى زَاده قَضَاء العسكرين فَكَانَا سَببا فِي تَقْدِيم قُضَاة العساكر على أُمَرَاء الْأُمَرَاء فِي الْجُلُوس فَوْقهم مَا عدا أَمِير الْأُمَرَاء بروم أيلي وأناطولي إِلَى أَن ولي صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء روم أيلي فاتفق أَن أَمِير الْأُمَرَاء بروم أيلي كَانَ من أسافل النَّاس يُسمى ماريول حُسَيْن باشا فاستنكف صَاحب التَّرْجَمَة من الْجُلُوس دونه فَعرض ذَلِك إِلَى السُّلْطَان أَحْمد فَخرج خطّ شرِيف بِتَقْدِيم قُضَاة العساكر على مُطلق أُمَرَاء الْأُمَرَاء وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سبع عشرَة وَألف وَحج صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة خمس وَعشْرين ثمَّ رَجَعَ وَلم يتَوَلَّى بعد ذَلِك منصبا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد أَبُو فَارس المغربي الْمَعْرُوف بالفشتالي كَاتب الْملك الْمَنْصُور مولَايَ أَحْمد صَاحب الْمغرب الَّذِي يَقُول فِيهِ أَن الفشتالي نفتخر بِهِ على الْمُلُوك ونباري بِهِ لِسَان الدّين بن الْخَطِيب كَمَا ذكره أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي كِتَابه نفح الطّيب وناهيك بِمثل هَذَا القَوْل من مثل هَذَا الْملك وَهُوَ شَاهد بِكَمَال فضل الْمَقُول فِيهِ وَأَنه فِي نفس الْأَمر كَمَا قيل فِيهِ وَقد ذكره الخفاجي فَقَالَ فِي وَصفه أديب عذب الْبَيَان ماضي شبا اللِّسَان إِلَى أَن قَالَ جر عَلَيْهِ الدَّهْر ذيول إقباله وفوقه فِي الدولة الأحمدية على أقرانه وَأَمْثَاله فَمَا ارتشفه فَم السّمع من مورده العذب الْبَيَان وتشنف من لآلئه الَّتِي أصدافها الْقُلُوب والآذان قَوْله
(حِين أزمعت عِنْد خوف البعاد ... وَعَدتنِي من الْفِرَاق العوادي)
(قَالَ صحبي وَقد أطلت التفاتي ... أَي شَيْء تركت قلت فُؤَادِي)
وَذكر لَهُ عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه هَذِه الأبيات وَقَالَ كتب بهَا الأستاذنا نَا الْمقري
(يَا نسمَة عطست بهَا أنف الصِّبَا ... فتضمخت بعبيرها فنن الرِّبَا)
(هبي على عرصات أَحْمد واشرخي ... شوقي إِلَى رُؤْيَاهُ شرحاً مطنباً)
(وصفي لَهُ بالمنحنى من أضلعي ... قلباً على جمر الغضا متقلباً)
(بَان الْأَحِبَّة عَنهُ حب قد توى ... عَنهُ وَآخر قد نأى وتغيباً)(2/425)
(فعساك تسعد يَا زمَان بقربهم ... فَأَقُول أَهلا باللقاء ومرحبا)
ثمَّ قَالَ متعرضا للخفاجي فِي اعتراضه على المطلع أَن اسْتِعَارَة العطاس للنسيم لييست بحسنة مَقْبُولَة وَالْمَعْرُوف عطس الصُّبْح وَالْفَجْر إِلَى آخر مَا قَالَه حَيْثُ أُرِيد التَّشْبِيه صَحَّ التشميت فَإِن الْمعَانِي مُتَسَاوِيَة بَين الْأَنَام لَا خُصُوصِيَّة لَهَا بعصر دون عصر كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَقَول المرزوقي فِي شرح الفصيح وعطس الصُّبْح انفجر على التَّشْبِيه كَقَوْل أبي إِسْحَق الْغَزِّي
(كم من بكور إِلَى إِحْرَاز منقبة ... جعلته لعطاس الْفجْر تشميتا)
لَيْسَ فِيهِ منع لاستعماله على وَجه التَّشْبِيه فِي غير الصُّبْح بل هُوَ أتم فِي الرّيح مِنْهُ فِي الْفجْر لقَوْل الْمَذْكُور يُقَال عطس إِذا فاجأته صَيْحَة من غير إِرَادَة وهبوب الرّيح فَجْأَة كَذَلِك بِخِلَاف الْفجْر فَإِنَّهُ يلوح شَيْئا فَشَيْئًا انْتهى وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة على مَا أنْشدهُ لَهُ ابْن مَعْصُوم فِي السلافة قَوْله فِي بعض المباني المنصورية
(مَعَاني الْحسن تظهر فِي المغاني ... ظُهُور السحر فِي حدق الحسان)
(مشابه فِي صِفَات الْحسن أضحت ... تمت بهَا المغاني للغواني)
(بِكُل عَمُود صبح من لجين ... تكون فِي استقامة خوط بَان)
(مفصلة القدود ممثلات ... مُوَاصلَة العناق من التداني)
(تردت سابري الْحسن يزري ... بِحسن السابري الخسرواني)
(وتعطو الخيزرانة من دماها ... بسالفة القطيع البرهماني)
(لمجدك تنتمي لَكِن نماها ... إِلَى صنعاء مَا صنع اليدان)
(يدين لَك ابْن ذِي يزن ويعنو ... لَهَا غمدان فِي الأَصْل الْيَمَانِيّ)
(غَدَتْ حرما وَلَكِن حل مِنْهَا ... لوفدكم الْأمان مَعَ الْأَمَانِي)
(مبان بالخلافة آهلات ... بهَا يَتْلُو الْهدى السَّبع المثاني)
(هِيَ الدُّنْيَا وساكنها إِمَام ... لأهل الأَرْض من قاص ودان)
(قُصُور حَالهَا فِي الأَرْض شبه ... وَمَا فِي الأَرْض للمنصور ثَان)
قَالَ الْمقري فِي كِتَابه نفح الطبب وَقد بَلغنِي وَفَاته وَأَنا بِمصْر عَام ثَلَاثِينَ وَألف وَذكر الشلي أَن وَفَاته كَانَت فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَلم أدر عَمَّن حَرَّره وَالله أعلم
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام بن مُوسَى بن أبي بكر بن أكبر عَليّ بن احْمَد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن دَاوُد الْبَيْضَاوِيّ(2/426)
الشِّيرَازِيّ الأَصْل ثمَّ الْمَكِّيّ الزمزمي نِسْبَة لبئر زَمْزَم لِأَن جده عَليّ بن مُحَمَّد قدم مَكَّة فِي سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة عَام قدمهَا الْفِيل من الْعرَاق فِي قصَّة ذكرهَا المؤرخون فباشر عَن الشَّيْخ سَالم بن ياقوت الْمُؤَذّن فِي خدمَة بِئْر زَمْزَم فَلَمَّا ظهر لَهُ خَيره نزل لَهُ عَنْهَا وزوجه بابنته فولد مِنْهَا وَلَده أَحْمد الْمَذْكُور وَغَيره من إخْوَته وَصَارَ لَهُم أَمر الْبِئْر وَكَانَ مَعَه أَيْضا سِقَايَة الْعَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمَا زَالُوا يتوالدون إِلَى أَن ولد عبد الْعَزِيز صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ عريق فِي الْمجد من الطَّرفَيْنِ فَإِن جده لأمه الشهَاب أَحْمد بن حجر الْمَكِّيّ وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب كأسلافه كلهم وَكَانَ إِمَامًا كَبِير الشَّأْن عَالما رَئِيسا نبيها نَشأ بِمَكَّة وَأخذ عَن أساطين علمائها وجد وبرع فِي الْعُلُوم سيمى الْفِقْه وطار صيته وانتفع بِهِ النَّاس طبقَة بعد طبقَة وانتهت إِلَيْهِ رياسة الشَّافِعِيَّة على الْإِطْلَاق وسارت فَتَاوِيهِ وَعمر حَتَّى صَار الْعلم الْفَرد وَألف وَمن جملَة تأليفاته كتابات على التُّحْفَة تأليف جده ابْن حجر الْمَذْكُور وَهِي تدل على سَعَة اطِّلَاعه وَأخذ عَنهُ الشلي وَذكره فِي تَارِيخه عقد الْجَوَاهِر وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا قَالَ وَكَانَت وِلَادَته بِمَكَّة المشرفة فِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بعد وَفَاة جده ابْن حجر بِثَلَاث سِنِين كَمَا أَخْبرنِي بذلك مشافهة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد لثمان بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف قلت وَأَبوهُ مُحَمَّد كَانَ رَئِيس مَكَّة فِي عصره أَخذ عَن وَالِده عبد الْعَزِيز وَعَن ابْن حجر وَأخذ عَنهُ النَّجْم الْغَزِّي الدِّمَشْقِي وَتُوفِّي سنة تسع وَألف وَإِنَّمَا ذكرته هُنَا لِأَنَّهُ لم يصلني من خَبره إِلَّا مَا ذكرته وجده عبد الْعَزِيز لَهُ تَرْجَمَة مُسْتَقلَّة فِي الْكَوَاكِب السائرة ذكر الْغَزِّي ابْنه مُحَمَّدًا فِي ضمنهَا فأدرجته أَنا فِي الضمن أَيْضا اقْتِدَاء بِالنَّجْمِ وَأَيّمَا كَانَ فقد حصلت على ذكره وَإِذا جَاءَ مَحل ذكره ذكرت اسْمه وأشرت إِلَى ذكره فِي هَذَا الْموضع
عبد عَليّ بن نَاصِر بن رَحْمَة الحويزي الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ أوحد زَمَانه فِي الْأَدَب الغض وَالشعر البديع وَقد ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فِي حَقه فَاضل قَالَ من الْفضل بِظِل وريف وكامل حل من الْكَمَال بَين خصب وريف فالإسماع من زهرات أدبه فِي ربيع وَمن ثَمَرَات فَضله فِي خريف إِن أنشأ ينشئ أبدى من فنون السجع ضَرَائِب أَو طفق ينظم أهْدى الشنوف للإسماع والعقود للترائب ومؤلفاته فِي الْأَدَب أحلى من رشف الضَّرْب بل أجل من نيل الأرب وَمَتى جاراه قوم فِي كَلَام الْعَرَب كَانَ النبع وَكَانَ الغرب واتصل بحكام الْبَصْرَة(2/427)
وولاتها فوصلته بأسنى أفضالها وأهنى صلَاتهَا وهبت عَلَيْهِ من قبلهم رخاء الإقبال وعاش فِي كنفهم بَين نَضرة الْعَيْش ورخاء البال وَلم يزل بهَا حَتَّى انصرمت من الْحَيَاة أَيَّامه وقوضت من هَذِه الدَّار الفانية خيامه وَمن مؤلفاته الْمعول فِي شرح شَوَاهِد المطول وقطر الْغَمَام فِي شرح كَلَام الْمُلُوك مُلُوك الْكَلَام وَغير ذَلِك وَله ديوَان شعر بِالْعَرَبِيَّةِ وانتخب مِنْهُ نبذة سَمَّاهَا بحلي الأفاضل وَله أشعار بالتركية والفارسية ثمَّ أنْشد لَهُ هَذِه القصيدة يمدح بهَا عَليّ باشا ابْن أفرا سياب حَاكم الْبَصْرَة ويستأذنه فِي الْحَج وزياة النَّبِي
ومطلعها
(لمع الْبَرْق فِي اكف السقاة ... وبدا الصُّبْح فِي سنا الكاسات)
(فالبدار البدار حَيّ على الراح ... وهبوا لأكمل اللذا)
(نَار مُوسَى بَدَت فَأَيْنَ كليم الذَّات ... يمحو بهَا حجاب الصِّفَات)
(صَاح ديك الصَّباح يَا صَاح بِالرَّاحِ ... فَوَات الأفراح قبل الْفَوات)
(واصطبحنا اصطباح من رَاح ... لَا يفرق بَين الشموس والذرات)
(تلق فِيهَا الْعُقُول منتقشات ... كانتقاش الْأَشْخَاص فِي الْمرْآة)
(فَهِيَ الشربة الَّتِي عثر الْخضر عَلَيْهَا ... فِي عين مَاء الْحَيَاة)
(وتقصى الاسكندر الْبَحْث عَنْهَا ... فعداها وتاه فِي الظُّلُمَات)
(سكنت من حضائر الْقُدس حانا ... جلّ عَن أَن يُقَاس بالحانات)
(نور حق بِنَفسِهِ قَامَ مَا احْتَاجَ ... إِلَى كوَّة وَلَا مشكاة)
(قبس أشعلته أَيدي التجلي ... فَأَضَاءَتْ بِهِ جَمِيع الْجِهَات)
(حجبت بالزجاج وَهِي عيان ... كاحتجاب البذور بالهالات)
(يَا نديمي أجل لي عرائس سر ... بغواشي الكؤس محتجبات)
(هَات راحي وناد خُذْهَا فَإِنِّي ... لست أنسى يَوْم اللقا خُذ وهات)
(فَلَقَد هد ركن نحسي لما ... سعدت بالحبيب كل جهاتي)
(هِيَ شهد الشُّهُود بل رَاحَة الْأَرْوَاح ... بل حسن طلعة الْحَسَنَات)
(يَا سقاتي لَا تصرفوا الصّرْف عني ... فحياتي فِي رشفها يَا سقاتي)
(غير بدع مِمَّن حساها إِذا ارْتَاحَ ... وَقَالَ الْوُجُود بعض هباتي)
(قَامَ زين الْعباد من شربهَا قطبا ... عَلَيْهِ دارت رحى الْبَينَات)
(فتلاشى بشعلة فتح الْعَينَيْنِ ... مِنْهَا إِلَى عُيُون الذَّات)(2/428)
(وخطت بالجنيد لجة بَحر ... غرقت فِيهِ أَكثر الكائنات)
(ورمت بالحسين حَتَّى ترقى ... بِأَن الْحق أرفع الدَّرَجَات)
(واستمعنا من شيخ بسطَام مَا أعظم ... ذاتي بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات)
(وقصارى خلع العذار بهَا نيل ... مقَام يُقَاوم المعجزات)
(رب وفر مِنْهَا يُصِيب فَتى الْمجد ... عَليّ العلى سرى السراة)
(فَهُوَ فِي سره المنزه سرى ... أَنه لم يهم بجوز الفلاة)
(حاد عَن مَذْهَب التقشف ... وانحاز إِلَى مَذْهَب الحماة الكماة)
(وتردّى برد البواطن وَالْأَصْل ... خلوص الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ)
(فَهُوَ فِي السِّرّ خَادِم الْفقر عاف ... وَهُوَ فِي الْجَهْر ضيغم الْملك عاتي)
(وَله فِي مَرَاتِب الْفضل ذهن ... هُوَ مِفْتَاح مقفل المشكلات)
(كتمته أولى الدهور وأبدته ... على فَتْرَة من المكرمات)
(فأفادت بمجده الْبَصْرَة الفيحاء ... حلى الْمعَاهد العاطلات)
(حل من حفظ نَفسه للْمَسَاكِين ... سَنَام الْمَرَاتِب العاليات)
(أَسد فِي ملاحم الْحَرْب غيث ... فِي الندى خضرم بِعلم اللُّغَات)
(كَفه مقلة العدوّة فَلَا يَنْفَكّ ... كل عَن شِيمَة المرسلات)
(وَكَذَا خيله وأفئدة الْأَعْدَاء ... سيان فِي رَحا العاديات)
(وَكَذَا مَاله وأرواح من عَادَاهُ ... فِي كونهن فِي النازعات)
(أَن يضع وَقت من سواي فَإِنِّي ... لي بعلياه أشرف الْأَوْقَات)
(شملتني مِنْهُ الْعِنَايَة حَتَّى ... قد سمت همتي عَن النيرات)
(يَا إِمَام الْكِرَام يَا صَادِق الْوَعْد ... إِذا لم يَفِ الورى بالعدات)
(وهما مَا تعوّد الْحلم والجود ... وَهَاتَانِ أكْرم الْعَادَات)
(نلْت من جودك العميم نوالا ... وَجَبت فِيهِ حجتي وزكاتي)
(عرف النَّاس فِي حماك وُقُوفِي ... فأجزني الْوُقُوف فِي عَرَفَات)
(ومرادي لَك الثَّوَاب وللرق ... قَضَاء الْمَنَاسِك الْوَاجِبَات)
(طوف بَيت الله الْحَرَام وتقبيل ... ثرى قبر سيد الكائنات)
(لم أُفَارِق حمى العلى لبيت ... غير بَيت العلى ذِي الدَّرَجَات)
(وابق واسلم على الرَّجَاء مليكاً ... طوع مَا يَشْتَهِي الزَّمَان المواتي)(2/429)
( ... )
قلت أَخْبرنِي بعض المكيين أَن حج وَفِي ذكرى أَنه قَالَ لي جاور وَاتفقَ لَهُ مَعَ أدباء مَكَّة مطارحات ومدائح فَمن قصيدته الَّتِي مدح بهَا الشريف رَاشد ومستهلها
(الآم انتظاري للوصال وَلَا وصل ... وحتام لَا تَدْنُو إليّ وَلَا أسلو)
(وَبَين ضلوعي زفرَة لَو تبوّأت ... فُؤَادك مَا أيقنت أَن الْهوى سهل)
(جميلاً بصب زَاده النأي صبوة ... ورفقاً بقلب مَسّه بعْدك الخبل)
(إِذا أطرفت مِنْك الْعُيُون بنظرة ... فأيسر شَيْء عِنْد عاشقك الْقَتْل)
(أمنعمة بالزورة الظبية الَّتِي ... بخلخالها حلم وَفِي قُرْطهَا جهل)
(وَمن كلما جردتها من ثِيَابهَا ... كساها ثيابًا غَيرهَا الفاجم الجثل)
(سقى المزن أَقْوَامًا بو عساء رامة ... لقد قطعت بيني وَبينهمْ السبل)
(وَحيا زَمَانا كلما جِئْت طَارِقًا ... سليمى أجابتني إِلَى وَصلهَا جمل)
(تود وَلَا أصبو وَتُوفِّي وَلَا أَفِي ... وأنأي وَلَا تنأى وأسلو وَلَا تسلو)
(إِذا الْغُصْن غض والشباب بمائه ... وجيد الرِّضَا من كل نائبة عطل)
(وَمن خشيَة النَّار الَّتِي فَوق وجنتي ... تقاصر أَن يدنو يعارضي النَّمْل)
(بروحي من ودعتها ومدامعي ... كسقط جمان جد من سمطه الْحَبل)
(كَانَ قلاص الْمَالِكِيَّة نوخت ... على مدمعي فَارْفض مذ سَارَتْ الأبل)
(وَمَا ضربت تِلْكَ الْخيام بعالج ... لقصد سوى أَن لَا يصاحبني الْعقل)
(وحدب كَانَ العيس فِيهِ إِذا خطت ... تسابق ظلا أَو يسابقها الظل)
(سئمن بِنَا الأمضاء حَتَّى كأننا ... حياري ذجى أَو أَرْضنَا مَعنا قفل)
(إِذا عرضت لي من بِلَاد مذلة ... فأيسر شَيْء عِنْدِي الوخد والرحل)
(وَلَيْسَ اعتساف البيد عَن مربع الْأَذَى ... بذل وَلَكِن الْمقَام هُوَ الذل)
(وَلَا أَنا مِمَّن أَن جهلت خلاله ... أَقَامَت بِهِ القامات والأعين النجل)
(فَكل رياض جِئْتهَا إِلَى مرتع ... وكل أنَاس أكرموني هم الْأَهْل)
(ولي بإعتماد إِلَّا بلج الْوَجْه رَاشد ... عَن الشّغل فِي آثَار هَذَا الورى شغل)
(همام رست للمجد فِي جنب عزمه ... جبال جبال الأَرْض فِي جنبها سهل)
(وَلَيْث هياج مَا عرين جفونه ... من الْكحل إِلَّا والعجاج لَهَا كحل)
(يقوم مقَام الْجَيْش إِن غَابَ جَيْشه ... ويخلف حد النصل إِن غمد النصل)
(زكتْ شرفاً أعراقه وفروعه ... وَطَابَتْ لنا مِنْهُ الْفَضَائِل وَالْفِعْل)(2/430)
(إِذا لم يكن فعل الْكَرِيم كَأَصْلِهِ ... كَرِيمًا فَمَا تغني الْمُنَاسب وَالْأَصْل)
(من النَّفر الغر الَّذين تحالفوا ... مدى الدَّهْر أَن يَأْتِي دِيَارهمْ الْبُخْل)
(كرام إِذا راموا فطام وليدهم ... عَن الثدي حطوا الْبُخْل فانفطم النجل)
(لُيُوث إِذا صالوا غيوث إِذا هموا ... بحور إِذا جادوا سيوف إِذا سلوا)
(وَإِن خطبوا مجدا فَإِن سيوفهم ... مُهُور وأطراف الْقَنَاة لَهُم رسل)
(إِذا قَفَلُوا تنأى الْعلَا حَيْثُمَا نأوا ... وَإِن نزلُوا حل الندى أَيْنَمَا حلوا)
(توالت على كسب الثَّنَاء طباعهم ... فأعراضهم حرم وَأَمْوَالهمْ حل)
(أمولاي أَن يمضوا ففيك سما الْعلَا ... وَقَامَت قناة الدّين وانتشر الْعقل)
(وَإِن يَك قد أفْضى الزَّمَان بسالم ... فَإنَّك روض الوبل إِن ذهب الوبل)
(إِلَيْك ارتمت فِينَا قلُوص كَأَنَّهَا ... قسى بأسفار كَأَنَّهُمْ نبل)
(وَمَا زجرا إِلَّا نضاء سَوْطِي وَإِنَّمَا ... إِلَيْك بِلَا سوق تسابقت الْإِبِل)
(يَمِينك لَا أقْصَى الزَّمَان بهَا حَيا ... وكهفك لَا أودى الزَّمَان بِهِ ظلّ)
(وكل لحاظ لست أنسانها قذى ... وَلَك بِلَاد لست صيبها مَحل)
وَمن مبدعاته خمريته الَّتِي تخلص فِيهَا إِلَى مدح الشريف الْمَذْكُور وأولها
(أقرقف فِي الزّجاج أم ذهب ... ولؤلؤ مَا عَلَيْهِ أم حبب)
(شمس علا فَوق قرصها شهب ... وَالْعجب الشَّمْس فَوْقهَا الحبب)
(حَمْرَاء قد عتقت فَلَو نطقت ... حكت بِخلق السَّمَاء مَا السَّبَب)
(إِن لهبوها السقاة فِي غسق ... يمزق اللَّيْل ذَلِك اللهب)
(وَإِن حساها النديم مصطبحا ... ألم فِي الْجَيْش همه الطَّرب)
(لم أدر من قبل ذوب عسجدها ... أَن بهَا التبر أَصله الْعِنَب)
(لله أيامنا بِذِي سلم ... سقتك أَيَّام وصلنا السحب)
(وَالرَّوْض بالمزن يَانِع أنق ... والغصن بِالرِّيحِ هزه الطَّرب)
(وَالنّهر يحتاكه الصِّبَا زردا ... إِذا نضت من بوارق قضب)
(فحاننا الدَّهْر بالفراق وَقد ... رثت جلابيب وصلنا القشب)
(عجبت للدهر فِي تصرفه ... وكل أَفعَال دَهْرنَا عجب)
(يعاند الدَّهْر كل ذِي أدب ... كَأَنَّمَا ناك أمه الْأَدَب)
(يَا عربا باللوى وكاظمه ... لي فِي مقاصير حيكم أرب)(2/431)
(بأهيف كالقضيب قامته ... تسقيه دَوْمًا جفوني السكب)
(كَالشَّمْسِ أنواره وغرته ... فَمَا لَهُ بالظلام ينتسب)
(تسفح من سفح مقلته سحب ... إِذْ لَاحَ من فِيهِ بارق شنب)
(كَأَنَّمَا فيضها ووابلها ... أَعَارَهُ الْفَيْض رَاشد النّدب)
وَكَانَ فِي فن الموسيقى من الْأَفْرَاد وَله أغان متداولة ومقبولة جَارِيَة على الصَّنْعَة البارعة وَأكْثر أغانيه من نظمه المطرب فَمن ذَلِك مَا ابتدعه فِي نَغمَة السيكاه من الثقيل
(أما والهوى لَوْلَا العذار المنمنم ... لما اهتاج وجدي ساجع يترنم)
(وَلَا اهتجعت عَيْنَايَ من فيض أدمعي ... قضى جريها أَن لَا يفارقها الدَّم)
(هُوَ الْحبّ مَا أحلى مقاساة خطبه ... وأعذبه لَو كَانَت الْعين تكْتم)
وَله من نَغمَة الْحجاز وَالضَّرْب مخمس
(لَا تطلعي فِي قمر أنني ... أَخَاف أَن تغلط أهل السّفر)
(أَو طلعت شمس فَلَا تطلعي ... أَخَاف أَن تعمي عُيُون الْبشر)
وَله من هَذِه النغمة وَالضَّرْب دارج
(لمن العيس عشيا تترامى ... تركتهَا شقق الْبَين سهاما)
(كلما برقعها نشر الصِّبَا ... لبست من أَحْمَر الدمع لثاما)
(شفها جذب براها للحمى ... فَهِيَ تصمي لرب نجد زماما)
(فِي هواكم آل نجد زَاد وجدي ... وَغدا الْقلب ولوعا مستهاما)
وَله من الألحان الفارسية الْمَشْهُورَة مسرت آباد فِي نَغمَة الْعرَاق وضربه ثقيل وجام جم فِي نَغمَة الْحُسَيْنِي وضربه خَفِيف وَغير ذَلِك وَأشهر مَاله من الشعرة وَله فِي راقص
(وراقص تقضيب الْبَانِي قامته ... تكَاد تذْهب روحي فِي تنقله)
(لَا تَسْتَقِر لَهُ فِي رقصه قدم ... كَأَنَّمَا نَار قلبِي تَحت أرجله)
وَكثير من أهل الْأَدَب يظنون أَنه مخترع هَذَا الْمَعْنى وَلم يعلمُوا أَنه اختلسه من قَول السرى الرفاء فِي وصف جواد
(لَا يسْتَقرّ كَانَ أَرْبَعه ... فرش الثرى من تحتهَا جَمْرَة)
وأشعاره وأخباره كَثِيرَة وَكَانَ يُسَمِّي نَفسه كلب عَليّ ويروي لَهُ فِي هَذَا المعرض بَيت هُوَ قَوْله
(فتية الْكَهْف نجا كلبهم ... كَيفَ لَا ينجو غَدا كلب عَليّ)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أديب بِحقِّهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف بِالْبَصْرَةِ(2/432)
عبد الْغفار بن يُوسُف جمال الدّين بن مُحَمَّد شمس الدّين بن مُحَمَّد ظهير الدّين الْقُدسِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالعجمي من أَعْيَان عُلَمَاء عصره وَكَانَ عَالما وجيها متواضعا متلطفا قَرَأَ بِبَلَدِهِ على أَبِيه وَالشَّمْس الخريشي الْحَنْبَلِيّ وَأخذ الحَدِيث عَن السراج عمر اللطفي وَالشَّيْخ مَحْمُود البيلوني الْحلَبِي قدم عَلَيْهِم الْقُدس وَأخذ طَرِيق النقشبندية عَن الْمولى مُحَمَّد صَادِق النقشبندي لما قدم لزيارة الْبَيْت الْمُقَدّس وَطَرِيق العلوانية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الدجاني وَله رحلتان إِلَى الْقَاهِرَة أولاهما فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين تِسْعمائَة أَخذ بهَا الحَدِيث عَن الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَالْفِقْه عَن النُّور عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَالشَّمْس النحريري والسراج الحانوتي وَالشَّيْخ عمر بن نجيم وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الذِّئْب والفرائض عَن الشَّيْخ عبد الله الشنشوري وَالْأُصُول عَن الشَّيْخ حسن الطناني والقراآت عَن الشهَاب أَحْمد بن عبد الْحق وَالثَّانيَِة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف رَاجعا بحرا من الرّوم وَأخذ عَن الشهَاب عبد الرؤوف الْمَنَاوِيّ وَأخذ بِدِمَشْق عَن الشهَاب العيثاوي وبحلب عَن الشَّيْخ عمر العرضي وسافر إِلَى الرّوم مرَّتَيْنِ وَولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بالقدس وتدريس الْمدرسَة العثمانية وتصدر وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم وَلَده هبة الله مفتي الْقُدس وَالشَّمْس مُحَمَّد بن عَليّ المكتبي الدِّمَشْقِي وَغَيرهمَا وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث أَو أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْخَمِيس غرَّة ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الملقب زين الدّين النابلسي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي وَهُوَ وَالِد إِسْمَاعِيل النابلسي الْمُقدم ذكره وخال جدي وَالِد وَالِدي محب الله كَانَ من الْفُضَلَاء الأعزاء نَشأ فِي كنف أَبِيه شيخ مَشَايِخ الشَّام وكبيرها وعالمها ومرجعها وَلما مَاتَ وَالِده تَوَجَّهت إِلَيْهِ جهاته ومعاليمه مِنْهَا تدريس الشَّافِعِيَّة بِجَامِع المرحوم درويش باشا الْمَشْرُوط لَهُ ولذريته وَآل إِلَيْهِ من مِيرَاث وَالِده أَشْيَاء كَثِيرَة من كتب وأثاث فاختص وتنعم مُدَّة عمره واشتغل بالتحصيل على الشهَاب أَحْمد الوفائي الْحَنْبَلِيّ وَلكنه لم يبلغ فِي الْعلم دَرَجَة يُنَوّه بهَا كَمَا بلغ وَالِده وَولده إِلَّا أَنه كَانَ متأدبا سخيا حسن المعاشرة وَله مذاكرة حلوة ولطف شمايل وَكَانَت وَفَاته فِي أواسط رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن مَعَ وَالِده فِي قَبره فِي المدفن الْمعد لنا وَلَهُم بالصف الْمُقَابل لجامع جراح خَارج(2/433)
بَاب الشاغور رَحمَه الله
عبد الْغَنِيّ بن صَلَاح الدّين الْمَعْرُوف بالخاني الْحَنْبَلِيّ الْحَنَفِيّ الأديب الأريب نزيل الْمَدِينَة المنورة كَانَ فَاضلا أديبا جميل المنظر وافر الْحُرْمَة ولد بحلب وَقَرَأَ بهَا واشتغل ورحل لكثير من الْبلدَانِ للتِّجَارَة فَدخل الشَّام ومصر وَالروم واليمن وَالْعراق وتكرر دُخُوله للحرمين لِلْحَجِّ ثمَّ ترك الْأَسْفَار واشتغل على أَخِيه ومربيه الشَّيْخ قَاسم الخاني بحلب وَبِه تخرج وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من مؤلفاته وَاتفقَ لَهُ أَنه أمره بمطالعة بعض رسائله ألف مرّة فامتثل أمره ثمَّ جاور بالحرمين مُدَّة مديدة إِلَى أَن توطن طيبَة الطّيبَة وَأقَام فِيهَا وأكب على تَحْصِيل الْعلم وانهمك ولازم شيخ الْعَصْر إِبْرَاهِيم الْكرْدِي الكوراني وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق ولحظه باكسير نظره حَتَّى ألف الرسائل اللطيفة وَتَوَلَّى بِالْمَدِينَةِ المناصب الْعلية واشتهر أمره وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله ترسلات رائقة وَقد تلقيت خَبره من صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر لي أَن بَينه وَبَينه مراسلات كَثِيرَة لَكِنَّهَا فقدت مِنْهُ وَالْحَاصِل أَنه أديب فَاضل وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ فِي ثَانِي عشر صفر سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ
عبد الْغَنِيّ بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن خَلِيل العنبوسي الدِّمَشْقِي الْفَاضِل الْفَقِيه الْمُتَكَلّم الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب أَخذ بِدِمَشْق عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحِجَازِي وَولده عبد الْحق وَالْقَاضِي أكمل بن مُفْلِح وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ يحيى بن مُحَمَّد البهنسي الْخَطِيب والقراآت عَن الْعَلَاء الطرابلسي ثمَّ لزم الْعَلامَة فضل الله بن عِيسَى البوسنوي نزيل دمشق وانتفع بِهِ فِي كثير من الْفُنُون وَأخذ التصوف وَالْكَلَام عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه مُحَمَّد الأتراوي المغربي نزيل دمشق الْآتِي ذكره وبرع فِي الْفُنُون خُصُوصا الْكَلَام فَإِنَّهُ كَانَ ماهرا فِيهِ وَأَخذه عَنهُ جمَاعَة وَتَوَلَّى الْكِتَابَة بالمحكمة العونية مُدَّة وَكَانَ أَبوهُ بهَا قَاضِيا شافعيا ثمَّ فرغ عَن الْكِتَابَة وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع يلبغا ومتوليا على أوقافه وَحج فِي سنة تسع وَخمسين وَكَانَ يعرف اللِّسَان التركي وَكَانَ لَهُ معرفَة تَامَّة بأحوال النَّاس وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الثُّلَاثَاء عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من قبر أَوْس بن أَوْس والعنبوسي بِفَتْح الْبَاب الْمُهْملَة وَالنُّون من غير تَشْدِيد ثمَّ بعْدهَا مُوَحدَة وواو وسين مُهْملَة نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى نابلس خرج مِنْهَا(2/434)
جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن أبي الْفِدَاء المكتبي الشَّاعِر من أَجود شعره قَوْله
(أَنا الْمقل وحبي ... إذاب قلبِي ولوعه)
(أبْكِي عَلَيْهِ بجهدي ... حسب الْمقل دُمُوعه)
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن فرج الشَّافِعِي خطيب جدة وعالمها والمقدم فِيهَا بالعلوم الشَّرْعِيَّة والأخلاق النَّبَوِيَّة ولد بجدة وَبهَا نَشأ وَأخذ بِمَكَّة عَن شيخ الْإِسْلَام الشهَاب أَحْمد بن حجر الهيثمي وَغَيره من عُلَمَاء عصره وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم الشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد الخلي وَله مؤلفات مِنْهَا السِّلَاح وَالْعدة فِي فضل ثغر جدة وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم السبت سَابِع شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف بجدة وَبهَا دَفنه رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الصُّوفِي القادري صدر أَشْيَاخ الشَّام وَصَاحب الْقدَم الراسخة فِي المعارف والكمالات وَكَانَ كَبِير الْقدر سامي الرُّتْبَة جم المناقب حسن الْخلق طليق الْوَجْه مفرط السخاء والتودد نَشأ فِي حجر وَالِده إِلَى أَن بلغ من الْعُمر اثْنَتَيْ عشر سنة فَمَاتَ أَبوهُ وَجلسَ مَكَانَهُ على سجادة المشيخة فِي يَوْم مَوته وَكَانَ لِأَبِيهِ خَليفَة وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد المرزناتي الصَّالِحِي فَطلب الْخلَافَة لنَفسِهِ وتعصب مَعَه قوم مِنْهُم الشَّمْس بن المنقار وَكَانَ جدي القَاضِي محب الدّين مِمَّن قَامَ مَعَ عبد الْقَادِر واهتم بأَمْره وَوَقع بِسَبَب ذَلِك أُمُور ومحاربات كَثِيرَة وَمن جُمْلَتهَا فِي المحاورات الخطابية مَا أنْشدهُ الشَّمْس الذُّكُور فِي مجمع حافل بزاويتهم القلجية وَأَرَادَ بذلك الإزراء بالجد وَعبد الْقَادِر وَذَلِكَ الْبَيْت الْمَشْهُور
(شَيْئَانِ عجيبان هما أبرد من يخ ... شيخ يتصابى وَصبي يتشايخ)
فَأَجَابَهُ الْجد وَكَانَ أَصْغَر مِنْهُ سنا وأكبر مرتبَة بقوله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} وَأنْشد معرضًا بِهِ وبالمرزناتي الْمَذْكُور
(لَو كَانَ كبر السن محمودة ... فضل إِبْلِيس على آدم)
واستمرت هَذِه الشّحْنَة بَين الْجد وَالشَّمْس أَيَّامًا حَتَّى اجْتمعَا يَوْمًا فِي مجْلِس الدُّعَاء للسُّلْطَان بالجامع الْأمَوِي وَكَانَا قبل ذَلِك الْيَوْم إِذا حضرا مَجْلِسا مثل هَذَا يجلس قَاضِي الْبَلَد وَيجْلس وَاحِد مِنْهُمَا عَن الْيَمين وَالْآخر عَن الشمَال فَفِي ذَلِك الْيَوْم جَاءَ الْجد إِلَى الطّرف الَّذِي فِيهِ الشَّمْس وَجلسَ بَينه وَبَين القَاضِي فَلَمَّا تمّ الدُّعَاء قَامَ الشَّمْس مغضبا ونادى بِأَعْلَى صَوته أتجلس فَوقِي وَأَنا مفتي الْبَلدة من مُنْذُ كَذَا(2/435)
فَأَجَابَهُ الْجد كل هَؤُلَاءِ يعلمُونَ أَن الْمُفْتِي بِالْأَمر السلطاني أَنا وَأما أَنْت فلك أُسْوَة بِمن يُفْتِي مثلك من غير إِذن فرتبة الرحجاني لي فَكل من حضر صدق قَوْله وَكَانَ الْجَمِيع يَغُضُّونَ من الشَّمْس ويكرهونه لسوء أخلاقه فَيُقَال أَنه ذهب من ذَلِك الْمجْلس محموما وَبَقِي أَيَّامًا وَمَات عودا على بَدْء واستقام الْأَمر لعبد الْقَادِر صَاحب التَّرْجَمَة فِي الْخلَافَة فسلك مَنْهَج وَالِده من إِقَامَة الذّكر بالجامع الْأمَوِي بعد صَلَاة الْجُمُعَة عِنْد بَاب الخطابة وبزاويتهم يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْعَصْر وَمَا زَالَ يسمو ويرتفع حَتَّى بلغت شهرته الْآفَاق وَكَانَ حكام الشَّام وكبراؤها يقبلُونَ عَلَيْهِ ويترددون إِلَيْهِ وَيطْلبُونَ مدده وَتوجه إِلَى الْقُدس على عَادَة صوفية الشَّام بحشمة وافرة وَحج فِي سنة خمس عشرَة وَألف وسافر إِلَى قسطنطينية أَربع مَرَّات وانحصرت آخرا فِيهِ رياسة الْمَشَايِخ بِدِمَشْق وَكَانَ أَكْثَرهم حَالا وَقَالا وَبلغ من نُفُوذ الْكَلِمَة وشهرة الاعتناء مرتبَة علمية وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة أولى النباهة من الرؤساء وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْخَمِيس سادس جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بزاويتهم إِلَى جَانب وَالِده ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الْعَلامَة إِسْمَاعِيل بن عبد الْغَنِيّ الْمُقدم ذكره وَهَذِه أبياته
(شيخ شُيُوخ الشَّام يَا مرشد ... من جنَّة الْخلد لَك المرقد)
(من للمريدين وَمن يلتجي ... إِلَيْهِ فِي الْمُشكل أَو ينجد)
(من للمهماة إِذا أعضلت ... وللمساكين إِذا أجهدوا)
(من لعيال وَالِد ماجد ... مَعَ أمّهم فِي سَاعَة يفقد)
(أَواه من عظم مصاب بهم ... وَمثل هَذَا الْخطب مَا يعْهَد)
(يَا حَاتِم الطَّبْع والمنتمى ... جودك بالموجود لَا يجْحَد)
(وحلمك الْمَعْرُوف مَا مثله ... قد كَانَ فِي الدَّهْر وَلَا يُوجد)
(من عَام خمس كنت شَيخا لَهُ ... سجادة ديدنه يرشد)
(طلق الْمحيا هاضما نَفسه ... وَتارَة يرْكَع أَو يسْجد)
(يَا شامة الشَّام وَيَا قطبها ... قد طَابَ مِنْك السِّرّ والمشهد)
(أودعك الْأَسْرَار كَهْف الورى ... والدك السَّامِي الذرى أَحْمد)
(وَأَنت أودعت الَّذِي حُزْته ... للخلف الصَّالح كي يسْعد)
(بهم تسلينا وَمن بعده ... مثلهم يُوجد لَا يفقد)(2/436)
(أشياخنا السادات أهل التقى ... وَذُو الكرامات الَّتِي تورد)
(لَا سِيمَا من كنت أجلسته ... وَهُوَ الْكَبِير الصَّالح المرشد)
(ميزته بِالسِّنِّ إِذْ كلهم ... أَعْلَام إرشاد لم يسْعد)
(لَا زَالَ هَذَا الْبَيْت ملجاً لَهُ ... سكان ذخر لنا منجد)
(وَلم تزل رَحْمَة رَبِّي رَبِّي على ... ضريحك الرَّوْضَة تستخلد)
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن شعْبَان الْمَعْرُوف بِابْن الغصين الْغَازِي الشَّافِعِي الْعَالم الْعَامِل الْوَلِيّ الصَّالح رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي وَأبي الْعَبَّاس الْمقري والبرهان اللَّقَّانِيّ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني وَالشَّيْخ حجاز الْوَاعِظ والميناوي والنور الشبراملسي وَالشَّمْس البابلي وَأخذ طَرِيق الرفاعية عَن الْأُسْتَاذ الْكَبِير مُحَمَّد العلمي الْقُدسِي وبرع فِي علمي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَحفظ عَلَيْهِ الْقُرْآن جماعات لَا يُحصونَ وَأخذ عَنهُ الحَدِيث وَغَيره كثير مِنْهُم صاحبنا الْفَاضِل الْكَامِل المكمل إِبْرَاهِيم الجينيني وَأَخْبرنِي أَنه كَانَ صَاحب كرامات وأحوال باهرة قَالَ وَذكر لنا أَنه من مُنْذُ عرف نَفسه لم يُصَلِّي صَلَاة إِلَّا بِجَمَاعَة وَلم يفته إِلَّا صَلَاة وَاحِدَة وَهِي صَلَاة الصُّبْح وَكَانَ مُسَافِرًا فِي طَرِيق مَكَّة فغلبه النّوم وَلم يفق إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس وَأخْبرنَا صاحبنا الْمَذْكُور أَن مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَأَنه رَحل إِلَى مصر لطلب الْعلم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَقدم غَزَّة فِي الْمحرم سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَن وَفَاته كَانَت فِي نَهَار الِاثْنَيْنِ سَابِع عشرى ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَلم يخلف بعده فِي غَزَّة مثله علما وَعَملا
عبد الْقَادِر بن بهاء الدّين بن نَبهَان بن جلال الدّين بن تَقِيّ الدّين أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن عبد الْهَادِي الْعمريّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي شَيخنَا الجهبذ الْمُحَقق المدقق الفطن الذيق كَانَ من الغواصين عَن المباحث وَحل غوامضها وتبيين مبهماتها وَله فكرة تتوقد ذكاء وتتلهب فطنة وَكَانَ أغلب معلوماته أصُول الدّين وَالْفِقْه وَبِهِمَا تقوى وَضبط التحقيقات مَعَ الإتقان للعلوم الطبيعية والرياضية وَقَرَأَ الْكثير وَقيد وَضبط واستفاد وَأفَاد وَمن مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم المنلا مَحْمُود الْكرْدِي والمنلا مَحْمُود أَمِين اللاري وَشَيخنَا إِبْرَاهِيم الفتال وَحضر دروس السَّيِّد مُحَمَّد نقيب الشَّام الْمَعْرُوف بِابْن حَمْزَة فِي التَّفْسِير وَغَيره وَجل انتفاعه بِهِ وتصدر للإقراء(2/437)
فاشتغل عَلَيْهِ جمع كثير مِنْهُم ابْن عَمه عبد الْجَلِيل ورفيقي فِي الطّلب مُحَمَّد بن مُحَمَّد القَاضِي الْمَالِكِي بالمحكمة الْكُبْرَى وَالْفَقِير قَرَأت أَنا وإياه عَلَيْهِ طرفا من شرح الْعَضُد على مُخْتَصر الْمُنْتَهى لِابْنِ الْحَاجِب فِي الْأُصُول وَشرح الرسَالَة الوضعية للعصام وَكُنَّا نطالع شَرحه الَّذِي وَضعه على الْمُخْتَصر الْمَذْكُور وحقق فِيهِ التَّحْقِيق الَّذِي مَا وَرَاءه غَايَة وَألف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا شَرحه هَذَا وَشرح على عقيدة الْمقري الْمُسَمَّاة بإضاءة الدجنة فِي عقائد أهل السّنة وَاخْتصرَ الهمع للسيوطي فِي النَّحْو وَشَرحه شرحاً نفيساً وَله منظومات فِي عُلُوم مُتَفَرِّقَة ومسائل متنوعة وَله شعر كثير وَكَانَ سَافر إِلَى الرّوم صُحْبَة الْأُسْتَاذ الْعَالم الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي السُّوسِي نزيل مَكَّة وتقرب إِلَيْهِ وَأخذ عَنهُ فنوناً كَثِيرَة وبسببه عرف فَضله عِنْد الْوَزير الْأَعْظَم الْفَاضِل وأخيه مصطفى باشا وَابْن عَمهمَا حُسَيْن حَلَبِيّ وَكَانَ وَهُوَ بالروم مَاتَ الشَّيْخ الإِمَام عبد الْقَادِر الصفوري الْآتِي ذكره قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ مدرس دَار الحَدِيث الأشرفية فوجهت لصَاحب التَّرْجَمَة فَقدم دمشق وَأقَام بهَا على الِاشْتِغَال والتحصيل والإفادة والتصنيف وَكَانَ ابتلى بِمَرَض المراقيا وعالجه مُدَّة فَلم يفد علاجه ثمَّ استحكم فِيهِ فَكَانَ سَبَب وَفَاته فَتوفي فِي نَهَار الْخَمِيس ثَانِي صفر سنة مائَة وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس مِمَّا يَلِي عَمه الْأُسْتَاذ مُحَمَّد وَوضع عَلَيْهِمَا تَابُوت من الْخشب
عبد الْقَادِر بن حاجي المؤيدي مفتي الرّوم وَصدر الدولة الْمَعْرُوف بشيخي وَهُوَ ابْن أخي الْمولى عبد الرَّحْمَن المؤيدي كَبِير الْعلمَاء بالروم فِي عهد السُّلْطَان بايزيد وَولده السُّلْطَان سليم الفاتح ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيل الشقائق وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد فِي حُدُود سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وجد واجتهد ثمَّ وصل إِلَى مجْلِس شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ ولازم مِنْهُ وَتَوَلَّى التدريس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية فولي مِنْهَا قَضَاء الشَّام فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة بعد الْمولى عَليّ بن أَمر الله الْمَعْرُوف بِابْن الحنائي الْمَذْكُور ثمَّ تولى قَضَاء بروسة بعد سلفه الْمَذْكُور أَيْضا فِي رَجَب سنة سِتّ وَسبعين ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي رَجَب سنة سبع وَسبعين وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَسبعين ولي قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَفِي الْمحرم سنة تسع وَسبعين ولي قَضَاء روم ايلي وَفِي الْمحرم سنة إِحْدَى(2/438)
وَثَمَانِينَ تقاعد بوظيفة أَمْثَاله ثمَّ فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَتِسْعين ضمت إِلَيْهِ دَار الحَدِيث وَفِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَتِسْعين صَار مفتياً وَكَانَ صَدرا جَلِيلًا صَاحب قدر عَال جبلا شامخاً من الْفضل وَالتَّقوى مَعْرُوفا بالنباهة مَوْصُوفا بالنزاهة شيخ فن الْفضل وَالْأَدب وَجُمْلَة ملك الْحسب وَالنّسب ثمَّ عزل عَن الْفَتْوَى فِي سنة سبع وَتِسْعين وتقاعد بِخَمْسِينَ عثمانياً وَاسْتمرّ مشتغلاً بِعبَادة الله وتقواه حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف وَدفن بِجنب وَالِده فِي جوَار أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
عبد الْقَادِر بن حسن المنعوت محيى الدّين بن بدر الدّين الْبكْرِيّ الصديقي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الإِمَام الْفَقِيه الزَّاهِد العابد الْوَرع كَانَ من اجلاء الْعلمَاء الْكِبَار أَصْحَاب الدّيانَة والصلف وَله الْفضل الباهر والمشاركة التَّامَّة فِي فنون كَثِيرَة أجلهَا الْفِقْه والعربية وَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن النَّاس قَلِيل الِاخْتِلَاط بهم ملازماً للاشتغال وَالْعِبَادَة مَوْصُوفا بِحسن الْأَخْلَاق وجلالة الْمِقْدَار وَهُوَ من بَيت عريق مجمع على صِحَة انتسابه للأسرة الصديقية وَلَا يشك فِي نسبهم إِلَّا جَاهِل أَو معاند وناهيك بِنِسْبَة لم يبْق من عُلَمَاء دمشق الْكِبَار الْمَشْهُورين فِي هَذِه لمِائَة وَالَّتِي قبلهَا أحد إِلَّا وَشهد بحقيتها وَمِنْهُم أمس النَّاس بِهَذِهِ النِّسْبَة السادات البكرية بِمصْر ولهذه النِّسْبَة الْعَظِيمَة كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة مُعظما مُحْتَرما وانضاف إِلَيْهِ الْفضل التَّام فَزَاد احترامه وَقد قَرَأت بِخَط الأديب عبد الْكَرِيم الكريمي الطاراني الدِّمَشْقِي قَالَ سَأَلت عَنهُ صاحبنا الإِمَام الْعَلامَة زين الدّين عمر بن مُحَمَّد الْقَارِي الشَّافِعِي فَقَالَ كَانَ ماهراً فِي عُلُوم شَتَّى مِنْهَا الْفَرَائِض والحساب وَالْكَلَام وَالْعرُوض وَأما الْفِقْه والعربية فَكَانَ فيهمَا الْغَايَة القصوى لَا أرى لَهُ ضريباً فِي الْفُنُون الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ تلقاها عَن مَشَايِخ عِظَام ودأب فِي تَحْصِيل الْكَمَال وَذكره النَّجْم فِي الذيل وَقَالَ فِي تَرْجَمته حضر دروس شيخ الْإِسْلَام وَالِدي وَقَرَأَ على أخي الشهَاب شرح الْمحلى مصاحباً لرفيقه التَّاج الفرعوني مَعَ مطالعة حَاشِيَة الْوَالِد الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَمَعَ إمْسَاك الشهَاب شرح وَالِده الصَّغِير على الْمِنْهَاج ولازمه فِي غير ذَلِك ولازم النُّور النَّسَفِيّ الْمصْرِيّ نزيل دمشق وَلَعَلَّه أول من قَرَأَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تزوج بِأم الشَّيْخ محيى الدّين وَسكن عِنْدهم بمحلة بَاب توما وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ اسماعيل النابلسي مرافقاً للشَّيْخ عمر الْقَارِي واصطحبا مُدَّة ثمَّ تقاطعا وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة(2/439)
فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة الْأَحَد لليلتين بَقِيَتَا من صفر سنة ثَلَاث بعد الْألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن شيخ عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الملقب محيي الدّين الشَّيْخ الإِمَام أَبُو بكر اليمني الحضرموتي الْهِنْدِيّ أحد أكَابِر عُلَمَاء الحضارمة ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته قد ترْجم نَفسه هُوَ فِي تَارِيخه النُّور السافر عَن أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر فَقَالَ ولدت فِي عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس لعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة بِمَدِينَة أَحْمد أباد من بِلَاد الْهِنْد وَكَانَ وَالِدي رأى فِي الْمَنَام قبل ولادتي بِنَحْوِ نصف شهر جمَاعَة من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني وَالشَّيْخ أَبُو بكر العيدروس وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يُرِيد حَاجَة من الْوَالِد فَذَلِك هُوَ الَّذِي حمله على تسميتي بِهَذَا الِاسْم وَكَنَّانِي أَيْضا أَبَا بكر ولقبني محيي الدّين وتقرر عِنْده أَنه سَيكون لي شَأْن وَكَانَ قل أَن يسلم لَهُ ولد بِأَرْض الْهِنْد فَمَا عَاشَ لَهُ مِنْهُم غَيْرِي وَكَانَ يحبني جدا وَقَالَ لي مرّة إِذا وَقع زَمَانك افْعَل مَا شِئْت وَحكى بعض الثِّقَات قَالَ جَاءَ بعض الوزراء الْكِبَار إِلَى والدك يطْلب مِنْهُ الدُّعَاء فِي أَمر من الْأُمُور وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا جدا وَكنت جَالِسا بَين يَدَيْهِ فَقَرَأت فِي الْحَال هَذِه الْآيَة {وَأُخْرَى تحبونها نصر من الله وَفتح قريب} فَقَالَ الشَّيْخ يكفيكم هَذَا الْمقَال هَذَا مثل الْوَحْي قَالَ ثمَّ قضيت تِلْكَ الْحَاجة وَكَانَت أُمِّي أم ولد هندية وهبتها بعض النِّسَاء من بَيت الْملك الْمَشْهُورَة بالصدقات لأبي وأعطتها جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من أثاث وأخدمتها جملَة من الْجَوَارِي وَكَانَت تنظرها مثل ابْنَتهَا وتزورها فِي الشَّهْر مَرَّات وَكَانَت هِيَ إِذْ ذَاك بكرا وَلم تَلد لَهُ من الْأَوْلَاد غَيْرِي وَكَانَت من الصَّالِحَات وقرأت الْقُرْآن حَتَّى ختمته على يَد بعض أَوْلِيَاء الله فِي حَيَاة الْوَالِد ثمَّ اشتغلت بالتحصيل وقرأت عدَّة متون على جمَاعَة من الْعلمَاء وتصديت لنشر الْعلم وشاركت فِي كثير من الْفُنُون وتفرغت لتَحْصِيل الْعُلُوم النافعة وأعملت الهمة فِي اقتناء الْكتب المفيدة وبالغت فِي طلبَهَا من أقطار الْبِلَاد مَعَ مَا صَار إليّ من كتب الْوَالِد فَاجْتمع عِنْدِي جملَة وَلما بَلغنِي أَن سَيِّدي الشَّيْخ عبد الله العيدروس قَالَ من حصل كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين وَجعله فِي أَرْبَعِينَ جلدا ضمنت لَهُ على الله بِالْجنَّةِ فحصلته كَذَلِك بِهَذِهِ النِّيَّة ووفقت لاستماع الْأَحَادِيث وإشغال الْأَوْقَات بهَا وطالعت كثيرا من الْكتب ووقفت على أَشْيَاء غَرِيبَة مَعَ مَا تلقيته عَن الْمَشَايِخ(2/440)
فَلم تفتني بِحَمْد الله إِشَارَة صوفية أَو مسئلة علمية أَو نُكْتَة أدبية وَلَكِنِّي مَعَ ذَلِك أظهر التجاهل فِي ذَلِك لِأَن الْكَلَام على إشارات التصوف ومقامات الصُّوفِيَّة لَا يَنْبَغِي للشَّخْص أَن يقدم عَلَيْهَا إِلَّا إِن كَانَ متحققاً بهَا وَمَعَ ذَلِك فَلَا يجوز لَهُ أَن يَخُوض فِيهَا مَعَ غير أَهلهَا لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على المواجيد والأذواق لَا يطلع على بَيَان حَقِيقَتهَا بالألسنة والأوراق ثمَّ من الله عَليّ بمالاً كَانَ لي قطّ فِي حِسَاب حَتَّى سَارَتْ بمصنفاتي الرفاق وَقَالَ بِفضل عُلَمَاء الْآفَاق وَرزقت محبَّة أَرْبَاب الْقُلُوب من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وحظيت بدعواتهم الصَّالِحَة وعظمني الْعلمَاء شرقاً وغرباً وخضع لي الرؤساء طَوْعًا وَكرها وكاتبني مُلُوك الْأَطْرَاف وأرفدوني بصلاتهم الجميلة ووصلت إِلَى المدائح من الْآفَاق كمصر وأقصى الْيمن وَغَيرهمَا وَأخذ عني غير وَاحِد من الْأَعْلَام وَلبس مني خرقَة التصوف جم غفير من الْأَعْيَان وألفت جملَة من الْكتب المقبولة الَّتِي لم أسبق إِلَى مثلهَا ككتاب الفتوحات القدوسية فِي الخرفة العيدروسية وَهُوَ كتاب نَفِيس لم يؤلف قبله أجمع مِنْهُ وَهُوَ مُجَلد ضخم وقرظه جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام حَتَّى بلغت تقاريظه كراريس وَمن غَرِيب الِاتِّفَاق أَن تَارِيخه جَاءَ مطابقاً لموضوعه وَهُوَ لبس خرقَة وَكتاب الحدائق الخضرة فِي سيرة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه الْعشْرَة وَهُوَ أول كتاب ألفته وسنى إِذْ ذَاك دون الْعشْرين وَكتاب إتحاف الحضرة العزيزة بعيون السِّيرَة الوجيزة وَهُوَ على نمط الحدائق إِلَّا أَنه أَصْغَر وَكتاب الْمُنْتَخب الْمُصْطَفى فِي أَخْبَار مولد الْمُصْطَفى وَكتاب الْمِنْهَاج إِلَى معرفَة الْمِعْرَاج وَكتاب الأنموذج اللَّطِيف فِي أهل بدر الشريف وَكتاب أَسبَاب النجَاة والنجاح فِي أذكار الْمسَاء والصباح وَكتاب الدّرّ الثمين فِي بَيَان المهم من الدّين وَكتاب الحوشي الرشيقة على العروة الْوَثِيقَة وَكتاب منح الْبَارِي بِخَتْم البُخَارِيّ وَكتاب تَعْرِيف الْأَحْيَاء بفضائل الْأَحْيَاء وباعثه أَن سَيِّدي الشَّيْخ عبد الله العيدروس قَالَ غفر الله لمن يكْتب كَلَامي فِي الْغَزالِيّ فرجوت أَن يتناولني دعاؤه وَأَرَدْت إسعاف وَالِدي بتحقيق رجاه فَإِنِّي سمعته يَقُول إِن أمْهل الزَّمَان جمعت كَلَام الشَّيْخ عبد الله فِي الْغَزالِيّ فِي كتاب وأسميه الْجَوْهَر المتلالي فِي كَلَام الشَّيْخ عبد الله فِي الْغَزالِيّ وَكتاب عقد اللآل بفضائل الْآل وَكتاب خدمَة السَّادة بني علوي بِاخْتِصَار العقد النَّبَوِيّ وَأَرْجُو أَن يوفقني الله لإتمامه وَكتاب بغية المستفيد بشرح تحفة المريد وَهُوَ مُخْتَصر جدا وَكتاب النفحة(2/441)
العنبرية فِي شرح الْبَيْتَيْنِ العدنية وَكتاب غَايَة الْقرب فِي شرح نِهَايَة الطّلب اعتنى بِهِ النَّاس كثيرا وحصلوا مِنْهُ نسخا عديدة نَحْو الْأَرْبَعين فِيمَا علمت وَشرح على قصيدة الشَّيْخ أبي بكر العيدروس صَاحب عدن النونية وَكتاب إتحاف إخْوَان الصفاء بشرح تحفة الظرفاء بأسماء الْخُلَفَاء وَكتاب صدق الْوَفَاء بِحَق الإخاء وَكتاب النُّور السافر عَن أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر وتقريظ على شرح قصيدة البوصيري الَّتِي عَارض بهَا بَانَتْ سعاد لشَيْخِنَا شيخ الْإِسْلَام عبد الْملك بن عبد السَّلَام دعسين الْأمَوِي اليمني الشَّافِعِي وَآخر على رِسَالَة صاحبنا الشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ فِي تَنْزِيه الإِمَام مَالك عَن تِلْكَ الْمقَالة الشنيعة الَّتِي نَسَبهَا إِلَيْهِ من لَا خلاق لَهُ وَأَجَازَ للفقيه الصَّالح أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد باجابر وديوان شعر اسْمه الرَّوْض الأريض والفيض المستفيض انْتهى كَلَامه فِي حق نَفسه قَالَ الشلي وَمن مؤلفاته الَّتِي لم يذكرهَا الزهر الباسم من روض الْأُسْتَاذ حَاتِم وَهُوَ شرح رِسَالَة من السَّيِّد حَاتِم إِلَيْهِ وَهُوَ مطول نَحْو مجلدين وَكتاب قُرَّة الْعين فِي مَنَاقِب الْوَلِيّ عمر بن مُحَمَّد باحسين قَالَ فِي الزهر الباسم وَشَيخنَا وإمامنا فِي هَذَا الشَّأْن شيخ الْإِسْلَام الْعَالم الرباني المربي شيخ بن عبد الله العيدروس فَإِنَّهُ رباني بنظره وغذاني بسره وصدرني فِي مَكَانَهُ وَشَيخنَا الثَّانِي الشَّيْخ الَّذِي هُوَ الْأَخ وَابْن الْعم الإنساني الْكَامِل والجزء الَّذِي هُوَ الْكل شَامِل أَبُو الْأَرْوَاح وَشَيخ الْأَشْيَاخ حَاتِم بن أَحْمد الأهدل وَهُوَ الَّذِي أسْرع بأسرارنا حَتَّى لحقت وفتق ألسنتنا حَتَّى نطقت وَشَيخنَا الثَّالِث قطب الْوُجُود وَإِمَام أهل الشُّهُود وشمس الشموس الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس صنوي ووالدي فَإِنَّهُ حكمني وألبسني الْخِرْقَة ونصبني شَيخا وَذكر صُورَة إِجَازَته لَهُ وتحكيمه وَشَيخنَا الرَّابِع درويش حُسَيْن الكشميري وَشَيخنَا الْخَامِس مُوسَى بن جَعْفَر الكشميري وَذكر تَرْجَمَة هذَيْن وَأَجَازَهُ الثَّانِي لَهُ وَشَيخنَا السَّادِس الْوَلِيّ الْكَبِير الْقدْوَة الشهير مُحَمَّد بن الشَّيْخ حسن جشني انْتهى وَلم يزل فِي أَحْمد أباد مستمراً على نفع الْعباد إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف بِمَدِينَة أَحْمد أباد وعمره سِتُّونَ سنة وقبره فِيهَا مَشْهُور مَعْرُوف يزار ويتبرك بِهِ
عبد الْقَادِر بن عُثْمَان القاهري الْحَنَفِيّ الشهير بالطوري مفتي الْحَنَفِيَّة بِمصْر من بَيت أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة ذَوي حسب وَكَانَ عَالما فَاضلا فَقِيها أديباً وَله وجاهة ونباهة(2/442)
فِي أَنْوَاع الْعُلُوم وَكَانَ ملازما على الْإِفْتَاء والتدريس بِجَامِع الْأَزْهَر وَله تصانيف مِنْهَا شرح على الْكَنْز فِي الْفِقْه وتكملة الْبَحْر الرَّائِق وَله كتاب فِي الْأَدَب جمعه من نظمه ونثره سَمَّاهُ الفواكة الطورية وَفِي هَذِه التَّسْمِيَة لطف لِأَن بلدته الطّور أَكثر تِلْكَ الدائرة فَاكِهَة ويعجبني مَا كتبه إِلَيْهِ بعض الأدباء فِي طلب كِتَابه هَذَا وَكَانَ وعده بإرساله إِلَيْهِ وَذَلِكَ
(يَا إِمَامًا لقد حوى دررا ... بِكُل نظم وكل منثور)
(غرست بِالْفَضْلِ رَوْضَة بسقت ... ثمارها من طلائع النُّور)
(يشتاق طرفِي لِأَن يشاهدها ... فَتلك عِنْدِي أجل مَنْظُور)
(وفؤادي العليل من قدم ... يتَمَنَّى فواكه الطّور)
وَذكره الشهَاب فِي الخبايا فَقَالَ فِي تَرْجَمته وَالطور وَكتاب مسطور لَهو صديق لي تجربه الْمَوَدَّة حلل الحبور روض مجد ناضر وبحر أدب وافر لَكِن طبعه أم الضقر مقلات نزور وَلم يورق حَتَّى احْتضرَ وَمضى بِأَمْر عَزِيز مقتدر ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله
(تنور منيتي بلطيف صنع ... مَعَاني حسنه أضحت غزيرة)
(لَهُ قد رَشِيق ثمَّ جسم ... عَلَيْهِ حِين لَاحَ رَأَيْت نوره)
ثمَّ تعقبه بِمَا فِي تَحْرِير التحريف للصفدي يَقُولُونَ تنور الرحل من النورة وَالصَّوَاب اتنور واتنار وَلَا يُقَال تنور إِلَّا إِذا أبْصر الْمنَار ثمَّ قَالَ وَمَا مَنعه صرح بِهِ غَيره من أهل اللُّغَة لَكِن الْمَشْهُور هَذَا قلت وَيشْهد للْأولِ مَا فِي حماسة الطَّائِي قَالَ أَعْرَابِي لابْنَيْهِ وَقد دخلا الْحمام فأحرقتهما النورة
(نهيتهما عَن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء مَاؤُهُ يتسعر)
(أجدكما لم تعلما أَن جارنا ... أَبَا الحسل فِي الصَّحرَاء لَا يتنور)
على أَن تنور فِي كَلَام الطوري لَا يتَعَيَّن حمله على تعَاطِي النورة لاحْتِمَال جعل لَهُ نورا وَقَول الشهَاب فِي حَقه لَكِن طبعه أم الصقور إِلَى أَخّرهُ إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ قَلِيل الإفادة والْآثَار وَهُوَ حل لقَوْل النفيه الحماسي
(يغاث لطير أَكْثَرهَا فراخا ... وَأم الصَّقْر مقلات نزور)
والمقلات بِالْفَتْح نَاقَة تضع وَاحِدًا ثمَّ لَا تحمل والنزور النَّاقة مَاتَ وَلَدهَا وتروم ولدا لَهَا وَقَوله وَيشْهد للْأولِ إِلَى آخِره هَذِه عبارَة الطَّائِي وَقَالَ الشريشي فِي شرح المقامات روى أَن عبيد بن قرط الْأَسدي دخل مَعَ صاحبين لَهُ بَلَدا فِيهِ حمام فَأحب(2/443)
صَاحِبَاه دُخُوله فَنَهَاهُمَا عبيد فأبيا إِلَّا دُخُوله فَلَمَّا دخلا رَأيا فِيهِ رجلا يتنور أَي يسْتَعْمل النورة فسألا عَنْهَا فأخبرا بإذهابها الشّعْر فاستعملاها فَلم يحسنا فأحرقتهما وأضرت بهما فَقَالَ عبيد
(لعمري لقد حذرت قرطا وجاره ... وَلَا ينفع التحذير من لَيْسَ يحذر)
(نهيتهما عَن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ناره تتسعر)
(فَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَتَانِي موقعاً ... بِهِ أثر من مَسهَا يتقسر)
(أجدكما لم تعلما أَن جارنا ... أَبَا الحسل بِالْبَيْدَاءِ لَا يتنور)
(وَلم تعلما حمامنا فِي بِلَادنَا ... إِذا جعل الحرباء فِي الحدل يحضر)
والنورة قيل إِنَّهَا لَيست عَرَبِيَّة فِي الأَصْل واشتقاقها يشابه اشتقاق الْعَرَبِيّ فَزعم قوم أَنَّهَا سميت بذلك لِأَن أول من عَملهَا امْرَأَة يُقَال لَهَا نورة وَقد استعملتها الْعَرَب فِي الشّعْر الْقَدِيم قَالَ الراجز
(يَا رب إِن كَانَ بَنو عميره ... رَهْط الثلب هَؤُلَاءِ مقصوره)
(قد أَجمعُوا الخلعة مشهوره ... واجتمعوا كَأَنَّهُمْ قاروره)
(فَابْعَثْ عَلَيْهِم سنة قاشوره ... تحتلق المَال احتلاق النوره)
انْتهى وَقد تفحصت عَن وَفَاة الطوري كثيرا فَلم أظفر بهَا سوى أَنِّي رَأَيْت فِي مَجْمُوع بِخَط بعض الأفاضل الأدباء وَكَانَ مِمَّن قَرَأَ على الطوري أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي سنة سِتّ وَعشْرين ألف
عبد الْقَادِر بن عَليّ بن يُوسُف بن مُحَمَّد أَبُو السُّعُود بن أبي الْحسن بن أبي المحاسن المغربي الفاسي الْمَالِكِي الإِمَام الْعَلامَة الْمُحدث الْمُفَسّر الصُّوفِي البارع فِي جَمِيع الْعُلُوم جَمِيع من انتسب إِلَى الْمغرب متفقون على جلالته وتوحده وَإنَّهُ عديم النظير وأوحد الْمَشَايِخ وَالْعُلَمَاء وَشَيخ الشُّيُوخ وسلطان عُلَمَاء الزَّمَان وَقد كَانَ جَامعا بَين الْعلم الظَّاهِر وَالْبَاطِن اشْتهر ذكره من حَال صغره وَكثر الثَّنَاء عَلَيْهِ وَبعد صيته فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَكثر أَخذ النَّاس عَنهُ بِحَيْثُ أَن تلامذته لَا يُحصونَ وَلم يحرم أحد مِنْهُم من الْعلم السِّرّ فِيهِ وَفِي آبَائِهِ وبركته مَشْهُورَة بِحَيْثُ أَن الطّلبَة تقصده من الْبِلَاد النائية لذَلِك وَقد جرب ذَلِك واشتهر عِنْد أهل الْمغرب وَكَانَ عَظِيم الْحِفْظ عَجِيب الاملاء إِذا قَرَأَ كتابا استوفى مَا فِيهِ فَإِن وجد فِيهِ مسئلة نَاقِصَة تممها أَو شَيْئا مستغلقاً شَرحه أَو طَويلا اخْتَصَرَهُ دون أَن يخل بِشَيْء من مَعَانِيه أَو مسَائِل مختلطة(2/444)
رتبها أَو وجد فِيهِ خطأ بَينه بغاية الْأَدَب بِحَيْثُ لَا ينتقص مُصَنفه وَكَانَ من الْحلم والبذل وَالصَّبْر بِحَيْثُ فاق أقرانه فِي ذَلِك خُصُوصا مَعَ ندرة ذَلِك فِي أهل الغرب وَكَانَ من الهيبة بِحَيْثُ تخافه الْمُلُوك وتخشى سطوته الْأُمَرَاء وَكَانَت الْعلمَاء والعامة منقادين لأَمره فِيمَا يرومه مَعَ وُقُوفه عِنْد حَده فِي سَائِر شؤونه وأدب نَفسه وَلسَانه إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ من حسن اللِّقَاء وَجَمِيل الْمُعَامَلَة وَالْإِكْرَام لجليسه وَكَانَ لجماله وبداعة وَجهه وَحسن صورته لَا يمْلَأ النَّاس مِنْهُ نظرتهم وَقد أفرد وَلَده عبد الرَّحْمَن لترجمته مجلداً حافلاً سَمَّاهُ تحفة الأكابر بمناقب الشَّيْخ عبد الْقَادِر ذكر فِيهِ بعض أخلاقه وعلومه اللدنية والمكتسبة ومنازلاته وكراماته وأسراره ومعاملاته مَعَ ربه سُبْحَانَهُ وإشاراته مِمَّا ذكره بِلِسَانِهِ أَو كتبه أَو قَرَّرَهُ فِي آيَة من كتاب الله عز وَجل من عِنْد نَفسه أَو من حَاصِل مَا حفظ وَنقل وَمَا تكلم بِهِ فِي بعض الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة أَو فِي بعض الْحَقَائِق المنقولة عَن أحد الصُّوفِيَّة وَبَعض كَلَامه فِي الحكم والحقائق وَمَا قَالَه من الشّعْر أَو قيل فِيهِ مِمَّا يتَضَمَّن ذكر الطَّرِيق وَأَهله إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتعرف مِنْهُ مبْنى طَرِيقه وتبريزه فِي الْمعرفَة وَالْعلم وتحقيقه فَقَالَ ولد بِالْقصرِ الْكَبِير عِنْد زَوَال يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر رَمَضَان سنة سبع بعد الْألف وَتسَمى هَذِه السّنة بالمغرب سنة الْفِيل وَسبب ذَلِك أَن فِي هَذِه السّنة فِي شهر رَمَضَان مِنْهَا بعث السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور لوَلَده الْمَأْمُون هَدِيَّة من مراكش إِلَى فاس اشْتَمَلت على تحف وَبعث مَعهَا فيلة خَارج أهل فاس كلهم للقائها بِمِائَة ألف أَو يزِيدُونَ فَعظم وقعها وَكثر التَّعَجُّب مِنْهَا وَنَشَأ فِي حجر وَالِده مصوناً عَن عَبث الصّبيان ملازماً لدار جده وَبهَا ولدور بِي محفوفاً بالتدريج الرحماني فَقَرَأَ على وَالِده وَتعلم الْقُرْآن وَحفظه على معلمه غَانِم السفياني ثمَّ لَازم الْقِرَاءَة على أَخِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَقَرَأَ أَيْضا على الْفَقِيه مُحَمَّد الزيات وَمُحَمّد الرفاس وَعبد الْقوي كلهم من فُقَهَاء الْقصر ثمَّ رَحل إِلَى فاس بِقصد الْقِرَاءَة فِي أَوَائِل رَجَب سنة خمس وَعشْرين وَألف فَنزل بِالْمَدْرَسَةِ المصباحية وأكب على الِاجْتِهَاد فَكَانَ كثيرا مَا يجد نَفسه فِي الطَّرِيق سائراً لتَعلق قلبه بمجالس الْعلم وحنينه إِلَى أَمَاكِن الْقِرَاءَة فِي وَقتهَا وَفِي غير وَقتهَا فَانْتَفع فِي أقرب مُدَّة وَقَرَأَ على جمَاعَة من الْأَشْيَاخ مِنْهُم عَم أَبِيه الْعَارِف بِاللَّه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد ثمَّ قَرَأَ على غَيره من عُلَمَاء فاس كالشيخ أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم الغسان وَالْإِمَام الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الْمقري التلمساني وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْجنان(2/445)
الغرناطي وَأبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عَاشر وَأبي الْحسن بن الزبير السلجماسي وَقَرَأَ فِي خلال ذَلِك وَبعده على عَمه الْعَلامَة أبي حَامِد مُحَمَّد الْعَرَبِيّ ولازم فِي أول أمره بفاس أَبَا الْحسن عَليّ بن أبي الْقَاسِم بن القَاضِي فِي كثير من الْأُمَّهَات النحوية والرسمية والعروضية والحسابية وَقَرَأَ أَيْضا فِي الْمنطق وَغَيره على أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمُزنِيّ الشريف التلمساني وجود بفاس الْقُرْآن على الْأُسْتَاذ الْمقري أبي عبد الله مُحَمَّد الخروبي وَأخذ الْعشْر النافع عَن الْفَقِيه أبي مهْدي عِيسَى الشرفي وَعَن الْأُسْتَاذ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد السُّوسِي وَعَن الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن أبي الْقَاسِم القَاضِي وَأخذ الشاطبية بمضمنها سَمَاعا عَن ابْن عَاشر الْمَذْكُور فَأَما شَيْخه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن فمولده فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشري شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَقَرَأَ على أَخِيه أبي المحاسن وعَلى الْفَقِيه الْمُفْتِي الْخَطِيب أبي زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد السراج والفقيه القَاضِي الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَالْإِمَام المتفنن الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور وَالْإِمَام الْأُسْتَاذ النَّحْوِيّ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم العزومي وَالْإِمَام الْمُحَقق النظار أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقَيْسِي الْقصار وَالْإِمَام الْمقري المجود أبي مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد الدراوي وَغَيرهم وَقد اسْتَوْفَيْنَا مشايخه فِي تَرْجَمته وَأما وَالِده فَعَن وَالِده والسراج والْحميدِي والمنجور والعزومي وَزَاد عَن الْفَقِيه النوازلي أبي رَاشد يَعْقُوب بن يحيى البدري ومولده سنة ثَمَان وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن أبي الْحسن عَليّ ابْن هَارُون وَأبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن سُفْيَان وهما عَن ابْن غَازِي وَغَيره وَزَاد أَيْضا عَن أبي عبد الله بن مجير المساري وَأبي عبد الله الترغي المساري وَأبي النَّعيم رضوَان ابْن عبد الله الجنوي وَأبي النجد مبارك بن عَليّ المصمودي وَغَيرهم ومولد ابْن مجير فِي أول الْعَاشِرَة وَتُوفِّي فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن ابْن غَازِي وَغَيره وَتُوفِّي الترعي سنة تسع بعد الْألف وَأخذ عَن أبي عبد الله الخروبي الطرابلسي عَن سَيِّدي زَرُّوق وَغَيره وَعَن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد إِبْرَاهِيم ومولده سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن ابْن غَازِي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الدقون وَتُوفِّي فِي مستهل شعْبَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة عَن أبي عبد الله الْمواق وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة(2/446)
عَن المستوري بأسانيده الَّتِي فِي فهرسته ولد وَالِد شَيخنَا فِي نصف رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي عصر الْجُمُعَة السَّادِس عشر من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَله تَرْجَمَة على حِدة اسْتَوْفَيْنَا فِيهَا أَحْوَاله ومشايخه وَأما عَمه الشَّيْخ أَبُو حَامِد فمولده سادس شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي رَابِع عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَأَخذه عَن وَالِده الشَّيْخ أبي المحاسن ومولده سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد الثَّامِن عشر من شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَعَن الإِمَام الْقصار ومولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة آخر شعْبَان سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَعَن الْفَقِيه المشارك أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْعَرَب السفياني وَتُوفِّي سنة ثَمَان عشرَة وَعَن الأديب الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ الْقَنْطَرِي القصري وَتُوفِّي فِي التَّارِيخ أَيْضا وَعَن القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد المركني المغراوي وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة وَألف وَعَن عَمه الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الْمُتَقَدّم وَعَن شقيقه الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف ومولده فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف وَعَن الإِمَام أبي الطّيب الْحسن بن يُوسُف الزناتي ومولده سنة سِتِّينَ من الْعَاشِرَة وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَأخذ وَالِده عَن البستيني وَابْن جلال وَأبي زيد بن إِبْرَاهِيم وَعبد الْوَهَّاب الرقَاق والخباز وخروف وَابْن مجير والمصمودي وأسانيدهم فِي تَرْجَمته وترجمة أَخِيه أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن وَأخذ الْقصار عَنْهُم مَا عدا الخباز والمصمودي وَزَاد عَن أبي شامة بن إِبْرَاهِيم وَأبي الْحسن الرَّاشِدِي وَأبي عبد الله بن هبة وَأبي النَّعيم رضوَان وَأبي الْعَبَّاس التسولي وبالإجارة عَن أبي الطّيب الْغَزِّي والبدر الْقَرَافِيّ وَأبي زَكَرِيَّا الْحطاب وزين العابدين الْبكْرِيّ وَأبي الْقَاسِم بن عبد الْجَبَّار القيجميجي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وأسانيدهم مَذْكُورَة فِي غير هَذَا وَأخذ ابْن القَاضِي عَن ابْن مجير وَأبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم والقدومي والسراج والْحميدِي والبدري وَغَيرهم وَأخذ المري عَن المنجور وَشَيْخه أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم وَأخذ(2/447)
ابْن أبي الْعَرَب عَن المنجور والقصار وَأخذ الْقَنْطَرِي عَن أبي المحاسن الفاسي وَأبي النَّعيم رضوَان والمنجور وَأخذ المركني عَن ابْن مجبر وَالْمَجْبُور والسراج والْحميدِي والقدومي وَأبي الْقَاسِم بن عبد الْجَبَّار وَأبي الْقَاسِم بن سَوْدَة وَأما ابْن أبي النَّعيم فمولده فِي رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي خَامِس ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن ابْن مجبر وَعَن السراج والْحميدِي والمنجور والقدومي وَقد تقدمُوا وَعَن الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْعَبَّاس أَحْمد بَابا ابْن أَحْمد بن أَحْمد ابْن عمر بن اقيت السوداني وَتُوفِّي فِي سَابِع شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن وَالِده عَن جمَاعَة مشارقة ومغاربة وَتُوفِّي وَالِده فِي سَابِع عشر شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ومولده فِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَأما الْمقري فَتوفي بِمصْر فِي منتصف رَجَب أَو شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَرُوِيَ عَن الْقصار وَقَبله عَن عَمه الْمُفْتِي أبي عُثْمَان سعيد بن أَحْمد عَن الزقاق والونشريشي وَابْن جلال وسُفْيَان وَابْن هَارُون وخروف وَسَعِيد المانوي وَغَيرهم وَأما الْجنان فمولده سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي آخر ذِي الْحجَّة سنة خمسين وَألف وَأخذ عَن ابْن مجير والقدومي والبدري والسراج والْحميدِي والمنجور وَقد تقدمُوا عَن أبي عبد الله الحضري وَتُوفِّي سنة خمس عشرَة وَألف وَهُوَ عَن الخروبي وَقد تقدم وَأما ابْن عَاشر فَعَن الْقصار وَابْن أبي النَّعيم وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَزِيز التجِيبِي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون بن القَاضِي وَأبي عبد الله مُحَمَّد الهراوي وبالمشرق عَن سَالم السنهوري وَعبد الله الدنوشري وبركات الْحطاب والصفي الْعزي وَغَيرهم وَتُوفِّي ابْن عَاشر ثَالِث الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَابْن عَزِيز سنة ثَلَاث وَعشْرين ومولده سنة أَربع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ يروي عَن القدومي والمنجور والْحميدِي والسراج وَأبي إِسْحَاق ابْن عبد الْجَبَّار الفحبي وَمُحَمّد بن عَليّ الشَّامي فَالْأول عَن ابْن غَازِي وَالثَّانِي عَن سُفْيَان وَأما ابْن الزبير فَعَن الشَّيْخ الْوَرع الصَّالح النَّحْوِيّ أبي يزِيد عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن مُحَمَّد بن عبد الله إِعْرَاب المكناسي وَولد سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي بعد الْألف وَتُوفِّي ابْن الزبير سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَأما أَبُو الْحسن بن القَاضِي فَتوفي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف عَن خمس وَأَرْبَعين سنة وَأخذ عَن أَبِيه وَعَن ابْن عَمه أبي الْعَبَّاس بن شقرون وَقد تقدما وَعَن عَمه أبي مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن القَاضِي وَتُوفِّي سنة سِتّ وَألف ومولده بعد الْخمسين(2/448)
وَتِسْعمِائَة وَأخذ أَبوهُ وَعَمه وَابْن عَمه جَمِيعًا عَن جدنا أبي المحاسن يُوسُف بن مُحَمَّد وَأخذ أَبُو الْحسن أَيْضا عَن أبي الْعَبَّاس أَحْمد حبيب عَن الشَّيْخ أبي المحاسن أَيْضا وَأخذ أَبُو الْحسن أَيْضا عَن الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحسن عَليّ الشريشي وَتُوفِّي تَاسِع عشر ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف عَن أبي النَّعيم رضوَان بن عبد الله وَتُوفِّي سنة إجدى وَتِسْعين من الْعَاشِرَة ومولده سنة اثْنَتَيْ عشرَة مِنْهَا وَأخذ عَن سُفْيَان وَغَيره وَأخذ أَبُو الْحسن المري عَن أَبِيه الْمُفْتِي أبي عبد الله مُحَمَّد وَعَن الْحميدِي والسراج وَابْن أبي النَّعيم والمقري وَقد تقدمُوا وَعَن القَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن عمرَان وَتُوفِّي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ عَن الْأُسْتَاذ الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الزموري وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَألف عَن الونشريشي والزقاق وَأبي الْقسم بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم وَلم يُمكن بسط أسانيدهم وَقد بسطناها فِي غير هَذَا وَلما أكمل الْقِرَاءَة شَيخنَا اقْتصر على شَيْخه أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن عَم أَبِيه بِقصد التربية مظْهرا بالحقاق الربانية وَلم ينتسب إِلَّا إِلَيْهِ إِلَى أَن ربطه بعده بالشيخ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَكَانَ لَقِي قبله رجَالًا من أهل الله مِنْهُم الشَّيْخ سَيِّدي أَبُو الْقَاسِم ابْن الزبير المصباحي وَكَثِيرًا مَا تردد إِلَيْهِ بِالْقصرِ قبل رحلته إِلَى فاس وَكَانَ جليل الْقدر محافظاً على رسوم الشَّرِيعَة مَعَ تغفل فِي دُنْيَاهُ وغيبة لَا يُنكر فِيهَا من أَحْوَاله شَيْء وَله منازلات ومكاشفات توفّي فِي مستهل الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْحسن بن عِيسَى المصباحي من أكَابِر أَصْحَاب الغزواني وَعَن وَالِده أبي مُحَمَّد عِيسَى بن الْحسن عَن وَالِده وَعَن أبي عبد الله الطَّالِب وَارِث الغزواني وَأخذُوا وَالِده أَيْضا عَن أبي عسرية المصباحي وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى الشريعي الفجاج وَكَانَ جليل الْقدر كثير المكاشفات وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن أبي عبد الله الصّباغ القصري عَن أبي الْحسن فندرير عَن أبي الْعَبَّاس الحساني عَن أبي الْحسن عَليّ صَالح عَن التباع وَأخذ أَيْضا عَن سَيِّدي أبي شتاغي عَن سَيِّدي الغزواني وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الصرصري وَتُوفِّي سنة سبع وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن أبي مهْدي عِيسَى بن الْحسن وَعَن أَبِيه الْمَذْكُورين وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن أَيُّوب الخلطي وَأخذ عَنْهُمَا أَيْضا فِيمَا أَظن وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد القجيري القصري وَكَانَ صَاحبه حَال عَظِيم توفّي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ عَن الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أبي مُحَمَّد عبد الله(2/449)
ابْن حسون السلائي دفن بسلا وَتُوفِّي سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَهُوَ عَن سَيِّدي عبد الله الهيطي وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف عَن سَيِّدي الغزوانني وَتُوفِّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ عَن التياع وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة كلهم من الْعَاشِرَة وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ المصمدي وَتُوفِّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن أبي الْحسن الجعيدي وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف عَن الشَّيْخ أبي الْحجَّاج يُوسُف التليدي أحد وارثي الغزواني وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة واختص بعده بتلميذه سَيِّدي مَنْصُور بن عبد الْمُنعم وَمِنْهُم الشَّيْخ سَيِّدي عبد الرَّحْمَن الشريف وَغَيرهم وَنَشَأ مُنْذُ صباه مُسْتَقِيم النَّفس على التَّزْكِيَة بالطاعات فيسر الله لَهُ التَّعَلُّم حَتَّى كَانَ يحفظ دون كثير قِرَاءَة فحدثنا من كَانَ يقْرَأ مَعَه فِي الصغر أَنه كَانَ ينظر فِي اللَّوْح ويحرك شَفَتَيْه من غير أَن يسمع لَهُ صَوت ثمَّ يعرض لوحه كَمَا يَنْبَغِي وَدخل فِي طَرِيق الْقَوْم وَكَانَ يحضر حزب أَخِيه أبي عسرية وَغَيره ثمَّ دخل فاس فلازم عَم أَبِيه قِرَاءَة وَطلب مِنْهُ الدُّخُول فِي حزب أَصْحَابه مَعَ جمَاعَة مِمَّن يقْرَأ مَعَه فَأَشَارَ بِالْقبُولِ وَلَكِن شَرط عَلَيْهِم حلق الشّعْر وَكَانَ للشَّيْخ شنتوف إِذْ ذَاك فبادر إِلَى حلقه وأغفل غَيره احتقاراً للشّرط فَلَمَّا أكمل الْقِرَاءَة طُولِبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى وَطنه بعد كتبه الْإِجَازَة عَن شَيْخه أبي النَّعيم وأستاذه عَم أَبِيه وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَو كنت وَحدك مَا أطلقتك وَلَكِن سر فَلَمَّا وصل بعث إِلَيْهِ بالعوذ ليَأْتِيه فاختص بِهِ وَكَانَ يطالعه سَائِر يَوْمه وَرُبمَا خرج لَيْلًا بِحَسب مَا يحدث لَهُ من حَال يبثه أَو علم ينشره وَلم يزل يلازمه إِلَى وَفَاته مَعَ مَا كَانَ يُنَوّه بِهِ ويثني عَلَيْهِ وَيُشِير إِلَيْهِ بالخصوصية ثمَّ ظهر بعده الشَّيْخ الْعَارِف الشَّيْخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله معَان الأندلسي بِإِخْرَاج الْجَمَاعَة لَهُ فاستخرجوه جمعا لأمرهم وضبطاً لحالهم فصادفوا الْإِذْن لَهُ فِي ذَلِك فأظهر مَا كَانَ خَفِي ولاحت أنواره وَنزل لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة فخدمه إِلَى وَفَاته جمعا للآراء وَلم يزل الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَزْبُور يتيمن بِعلم المترجم وَيُشِير إِلَى توفيقه واختصاصه من بَين أَهله بِمَا هُوَ أقوى من التَّصْرِيح بتقديمه بعده فهمه وعرفه من سلم من شين الْحَسَد وَأخذ غَيره بعموقات لَا تفِيد شَيْئا لقَوْله الْوَقْت غال وَلَيْسَ هَذَا وَقت فقر إِنَّمَا نطلب أَن نموت مُسلمين وَمَا علم أَن هَذَا قَالَه الشَّيْخ المجذوب قبله وَقَالَهُ من الْمُتَقَدِّمين كثير بل وَالشَّيْخ وأشياخنا كَانُوا ينفون المشيخة عَنْهُم وَعَن أهل وقتهم ثمَّ قَالَ وَكَانَ أعلم أهل زَمَانه وأثبتهم وأضبطهم وَأَكْثَرهم تحريراً وَكَانَ يحفظ(2/450)
مَا يسمع وَلَا يَعْتَرِيه نِسْيَان مُنْذُ زمن قِرَاءَته وَكَانَ لَا يدع مُشكلا فِي علم يسْأَل عَنهُ وَلَا يتَكَلَّم مَعَه فِي نازلة إِلَّا ويفكها وَلَا يتَكَلَّم مَعَه فِي علم إِلَّا ويفيد ثَمَرَته عَن روية لَا بتكلف مطالعة وَلَا ترددّ بِعِبَارَة سهلة لَا يتَكَلَّف لَهَا تأنقاً وَلَا يلْتَزم لَهَا خُرُوجًا عَن لِسَان الْوَقْت بل كَانَ تدريسه على ذَلِك تَارَة بِعِبَارَة الْوَقْت وَتارَة بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَة فَإِذا كتب ظَهرت الفصاحة والبلاغة على الْوَجْه الَّذِي يبلغ من استحسانه كل مبلغ وَمَا رَأينَا تحصيلاً أتمّ من تَحْصِيله مَعَ التبحر فِي الْعُلُوم وَالْجمع لأدوات الِاجْتِهَاد وَكَانَ يمِيل إِلَيْهِ إِلَّا أَنه يوفق بَين رَأْيه ورأي أهل الْمذَاهب حَتَّى يصيره قولا جَارِيا على مَشْهُور الْمذَاهب وَلَا يقنع فِي أجوبته بِمَا يرَاهُ بنظره بل يَسْتَخْرِجهُ من النُّصُوص وَيَردهُ إِلَى مفهومها وَكَانَ لَهُ التَّمْكِين الْعَظِيم مَعَ قُوَّة التضلع فِي التَّفْسِير والْحَدِيث ومعاني الْكتاب وَالسّنة وَله فِي التصوف الْيَد الْبَيْضَاء وَأما الْعَرَبيَّة فَهُوَ أَبُو عذرها حَتَّى كَانَ يَقُول تِلْمِيذه الإِمَام الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن جلال كل من يحسن النَّحْو بفاس وَيَزْعُم أَنه أَخذه عَن غير سَيِّدي عبد الْقَادِر فَهُوَ كَذَّاب وَأما الْأُصُول والمنطق وَالْبَيَان فَكَانَ يَقُول تِلْمِيذه الْمَذْكُور مارسنا الْعلمَاء فَكَانَ إِذا أشكل علينا فِي الْمحلى أَو السعد أَو غَيرهمَا شَيْء أَتَيْنَا شَيخنَا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عمرَان وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ مَعَه فِي ذَلِك فَسَأَلْنَاهُ فَيَأْخُذ الْكتب من أَيْدِينَا فيتأملها ثمَّ يجيبنا وَإِذا أَتَيْنَا سَيِّدي عبد الْقَادِر وسألناه أجابنا على البديهة دون تَأمل كتاب وَقد نفقت بضَاعَة سَائِر الْعُلُوم فِي عصره ببركته فتضلع بهَا تلامذته وتلامذة تلامذته حَتَّى صَارُوا يلقون من يَأْتِي بِشَيْء مِنْهَا مسارعين وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أكمل أهل زَمَانه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
عبد الْقَادِر بن عمر الْبَغْدَادِيّ نزيل الْقَاهِرَة الأديب المُصَنّف الرّحال الباهر الطَّرِيقَة فِي الْإِحَاطَة بالمعارف والتضلع من الذَّخَائِر العلمية وَكَانَ فَاضلا بارعاً مطلعاً على أَقسَام كَلَام الْعَرَب النّظم والنثر رَاوِيا لوقائعها وحروبها وأيامها وَكَانَ يحفظ مقامات الحريري وَكَثِيرًا من دواوين الْعَرَب على اخْتِلَاف طبقاتهم وَهُوَ أحسن الْمُتَأَخِّرين معرفَة باللغة والأشعار والحكايات البديعة مَعَ التثبت فِي النَّقْل وَزِيَادَة الْفضل والانتقاد الْحسن ومناسبة إِيرَاد كل شَيْء مِنْهَا فِي مَوْضِعه مَعَ اللطافة وَقُوَّة المذاكرة وَحسن المنادمة وَحفظ اللُّغَة الفارسية والتركية وإتقانهما كل الإتقان وَمَعْرِفَة الْأَشْعَار الْحَسَنَة مِنْهُمَا وأخبار الْفرس خرج من(2/451)
بَغْدَاد وَهُوَ متقن لهَذِهِ اللُّغَات الثَّلَاث وَورد دمشق وَقَرَأَ بهَا على الْعَلامَة السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين نقيب الشَّام وعَلى شَيخنَا النَّجْم مُحَمَّد بن يحيى الفرضي فِي الْعَرَبيَّة وَأقَام بِدِمَشْق فِي مَسْجِد قبالة دَار النَّقِيب الْمَذْكُور مِقْدَار سنة ثمَّ رَحل إِلَى مصر فَدَخلَهَا فِي سنة خمسين وَألف بعد فتح بَغْدَاد بعامين وَأخذ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وآلاتها النقلية والعقلية عَن جمع من مَشَايِخ الْأَزْهَر أَجلهم الشهَاب الخفاجي وَالسري الدروري والبرهان المأموني والنور الشبراملسي وَالشَّيْخ يس الْحِمصِي وَغَيرهم وَأكْثر لُزُومه كَانَ للخفاجي قَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من التَّفْسِير والْحَدِيث والآداب وَأَجَازَهُ بذلك وبمؤلفاته وَكَانَ الخفاجي مَعَ جلالته وعظمته يُرَاجِعهُ فِي الْمسَائِل الغريبة لمعرفته مظانها وسعة اطِّلَاعه وَطول بَاعه حكى صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ قلت لَهُ لما رَأَيْته من سَعَة حفظه واستحضاره مَا أَظن هَذَا الْعَصْر سمح بِرَجُل مثلك فَقَالَ لي جَمِيع مَا حفظته قَطْرَة من غَدِير الشهَاب وَمَا استغدت هَذِه الْعُلُوم الأدبية إِلَّا مِنْهُ وَلما مَاتَ الشهَاب تملك أَكثر كتبه وَجمع كتبا كَثِيرَة غَيرهَا وَأَخْبرنِي عَنهُ بعض من لَقيته أَنه كَانَ عِنْده ألف ديوَان من دواوين الْعَرَب العاربة وَألف المؤلفات الفائقة مِنْهَا شرح شَوَاهِد شرح الكافية للرضي الاسترابادي فِي ثَمَان مجلدات جمع فِيهِ عُلُوم الْأَدَب واللغة ومتعلقاتها بأسرها إِلَّا الْقَلِيل وملكته بالروم وانتفعت بِهِ ونقلت مِنْهُ فِي مجاميع لي نفائس أبحاث يعز وجودهَا فِي غَيره وَله أَيْضا شرح شَوَاهِد شرح الشافية للرضي أَيْضا والحاشية على شرح بَانَتْ سعاد لِابْنِ هِشَام وَقد رَأَيْتهَا وانتقيت مِنْهَا مبَاحث ونوادر كَثِيرَة من جُمْلَتهَا الناسب يجوز لَهُ أَن يذكر مَا تقدم وَأَن يفرغ مجهوده فِيمَا يدل على الصبابة وإفراط الوجد واللوعة والانحلال وَعدم الصَّبْر وَمَا أشبه ذَلِك من التذلل والتوله وَيجب أَن يجْتَنب مَا يدل على الإباء والعزة والتخشن والجلادة كَقَوْل إِسْحَاق الْأَعْرَج
(فَلَمَّا بدا لي مَا رَابَنِي ... نزعت نزوع الأبيّ الْكَرِيم)
فَإِنَّهُ وصف نَفسه بِالْجلدِ والإقناع والتسلي وَهَذَا نقض للغرض وَقد عَابَ عَلَيْهِ بَعضهم فَقَالَ قبحه الله مَا أحبها سَاعَة قطّ وكقول عبد الرَّحْمَن
(إِن تنأ دَارك لَا أمل تذكرا ... وَعَلَيْك مني رَحْمَة وَسَلام)
فَهَذَا وَإِن كَانَ معنى صَحِيحا لكنه أثقل من رضوى لَيْسَ فِيهِ لطف وَلَا عذوبة وَهُوَ(2/452)
بالرثاء أشبه مِنْهُ بالنسيب ثمَّ إِن مثله إِنَّمَا يُخَاطب بِهِ الأماثل من الرِّجَال وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يُخَاطب بِهِ النسوان وربات الحجال إِذْ لَيْسَ فِيهِ من الصنبوة والخلاعة مَا يجلب بِهِ مودتهن وَمن المخاشنة قَول طرفَة
(وَإِذا تلسنني ألسنها ... إِنَّنِي لست بموهون فقر)
وَمن النِّهَايَة فِي المخاشنة قَول الآخر
(سَلام لَيْت لِسَانا تنطقين بِهِ ... قبل الَّذِي نالني من صَوته قطعا)
فَهَذَا قَول عَدو مكاشر لَا محب مكاسر وأقبح من هَذَا قَول عبد بني الحسحاس فِي الدُّعَاء على محبوبته
(وراهن رَبِّي مثل مَا قدورينني ... وأحمي على اكبادهن المكاويا)
وَمثله قَول جَنَازَة
(من حبها أَتَمَنَّى أَن يلاقيني ... من نَحْو بلدتها ناع فينعاها)
(لكَي يكون فِرَاق لَا لِقَاء لَهُ ... وتضمر النَّفس يأسا ثمَّ تسلاها)
انْتهى وَله من التآليف أَيْضا شرح الشاهدي الْجَامِع بَين الْفَارِسِي والتركي وَغير ذَلِك مِمَّا لم يصل إِلَيّ خَبره وكل تآليفه مفيدة نافعة وَكَانَ مَعَ تبحره فِي الْآدَاب وَمَعْرِفَة الشّعْر لم يتَّفق لَهُ نظم حَتَّى طلبت من بعض المختصين بِهِ شَيْئا من شعره لأثبته فِي تَرْجَمته فَذكر لي فِيمَا زعم أَنه لم يتفوه بِشَيْء مِنْهُ ترفعا عَنهُ ثمَّ رَأَيْت الشلي ذكر لَهُ فِي تَرْجَمته هَذِه الأبيات فِي هجاء طَبِيب يَهُودِيّ يعرف بِابْن جَمِيع
(يَا ابْن جَمِيع أَصبَحت تمتحن النَّحْو ... ودعواك فِيهِ منحولة)
(أمك مَا بالها فقد ذهبت ... مَرْفُوعَة السَّاق وَهِي مفعولة)
(فاعلها الا يرو وَهُوَ منتصب ... مسَائِل قد أتتك مَجْهُولَة)
(وَالْعين عطل وَعين عصعصها ... بِنُقْطَة الخصيتين مشكولة)
وَدخل دمشق فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ فِي صُحْبَة الْوَزير إِبْرَاهِيم باشا الْمَعْرُوف بكتخذا الْوَزير منصرفا من حُكُومَة مصر وسافر مَعَه إِلَى أردنة راجيا أَن يحل من الزَّمَان مَحل الفريدة من العقد فَدخل إِلَى مجْلِس الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الْفَاضِل واستمكن مِنْهُ واختص بِهِ وَلما حللت أدرنة فِي ذَلِك الْعَهْد زرته مرّة فِي معهده وَكَانَ بَينه وَبَين وَالِدي حُقُوق ومودة قديمَة فَرَحَّبَ بِي وَأَقْبل عَليّ وَكَانَ إِذْ ذَاك فِي غَايَة من إقبال الكبراء عَلَيْهِ فَلم يلبث حَتَّى هجمت عَلَيْهِ على فأسى مِنْهَا آلاما شَدِيدَة وَلم يبْق طَبِيب حَتَّى بَاشر معالجته وَكَانَ أمره فِي نيل أمانيه مأخوذا على التَّرَاخِي(2/453)
فعاجله الملال والسآمة وضاق بِهِ الْأَمر فَذهب إِلَى معرة مصر وَعَاد مرّة ثَانِيَة وَأَنا بالروم فَابْتلى برمد فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى قَارب أَن يكف فسافر من طَرِيق الْبَحْر إِلَى مصر فوصلها وَلم تطل مدَّته بِهِ حَتَّى توفّي وَكَانَت وِلَادَته بِبَغْدَاد فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي فِي أحد الربعين من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن سوار الدِّمَشْقِي العاتكي شيخ الْمحيا بِالشَّام وَأحد الكبراء الصلحاء أَصْحَاب الشان كَانَ فِي مبدأ أمره يُسَافر إِلَى الْقَاهِرَة للتِّجَارَة فَحَضَرَ مجْلِس النَّبِي
وَشَيْخه أذذاك الشَّيْخ شهَاب الدّين البُلْقِينِيّ فَوَقع عمله فِي خاطره ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق فابتدأ بِعَمَل الْمحيا فِي لَيْلَة الْجُمُعَة بِجَامِع الْبزورِي بمحلة قبر عَاتِكَة فِي رَجَب سنة سبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ يحضر مَعَه رجلَانِ أَو ثَلَاثَة من جِيرَانه أَنه لَا يزِيدُونَ فحضرهم ذَات لَيْلَة الشهَاب بن الْبَدْر الْغَزِّي فَاسْتحْسن فعلهم وَكَانَ يعاودهم كثيرا واعتنى بهم جدا وَمن لطائفه مَا قَالَه فِي مدح الْمحيا
(أَمَانَة تفسي فِي مطالعة الأحيا ... وَأَحْيَاء روحي فِي مُشَاهدَة الْمحيا)
(فيارب هَذَا دأب عَبدك دَائِما ... وديدنه مَا دَامَ فِي هَذِه الدِّينَا)
وَلما طَال تردده إِلَيْهِم ذكر ذَلِك لوالده الْبَدْر فَاسْتَحْسَنَهُ وَأمره أَن يَأْتِي بالشيخ عبد الْقَادِر إِلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ أَشَارَ لَهُ بِعَمَل الْمحيا فِي الْجَامِع الْأمَوِي بالمشهد الْمَعْرُوف بزين العابدين فامتثل أمره وقوى قلبه وابتدأه فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَسبعين لرؤيا رَآهَا هُوَ وَرجل يُقَال لَهُ بَرَكَات العقرباني موافقين لإشارة الْبَدْر وَحدث الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه فِي أَوَائِل عمل المحياد دخل عَلَيْهِ الشَّيْخ صَالح خير الدّين الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ فَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله
وَمَعَهُ الشَّيْخ عَليّ الشوني وَهُوَ أول من عمل مجْلِس الصَّلَاة على رَسُول الله
بِمصْر وَالشَّيْخ شهَاب الدّين البُلْقِينِيّ وَهُوَ خَلِيفَته فِي الْمجْلس فَقَالَ لي رَسُول الله
تعرف الشَّيْخ عبد الْقَادِر إِمَام الْجَامِع الْبزورِي فَقلت لَهُ نعم فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ وَقل لَهُ يعْمل الْمحيا على طَريقَة الشَّيْخَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى الشوني والبلقيني ثمَّ رأى الشَّيْخ عبد الْقَادِر نَفسه رَسُول الله
فِي النّوم فَقَالَ لَهُ اسْتَعِنْ عَن مجلسي بِأَصْحَابِك ثمَّ التمس بعد مُدَّة من الرُّؤْيَا من أَصْحَابه مساعدته فَلم يطعه مِنْهُم أحد وَقَالُوا لَا قدرَة لنا على سهر اللَّيْل فَرَأى رَسُول الله
مرّة ثَانِيَة فَقَالَ لَهُ أما قلت لَك اسْتَعِنْ على الْمجْلس بِأَصْحَابِك قَالَ فَقلت لَهُ مَا أَطَاعَنِي أحد فَقَالَ لَهُ أرسل إِلَيْك(2/454)
جمَاعَة يعاونونك قَالَ فَبعد أَن رَأَيْت ذَلِك يسر الله لي جمَاعَة وَكَانَ يرى النَّبِي
فِي الْمَنَام كثيرا وَيحدث عَن رُؤْيَاهُ فَرُبمَا وَقع بعض النَّاس الضُّعَفَاء فِيهِ حَتَّى اتّفق للشَّيْخ الْفَاضِل الْبَدْر حسن بن عبد الْقَادِر محيي الدّين الْبكْرِيّ الصديقي وَكَانَ مِمَّن يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ فَرَأى فِي مَنَامه أَن الْجَامِع الْأمَوِي ملآن من النَّاس وهم ينتظرون قَالَ فَقلت مَا تنتظرون قَالُوا نَنْتَظِر رَسُول الله
فَبعد ذَلِك دخل النَّبِي
فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يقبلُونَ يَدَيْهِ وَكنت مِمَّن قبل يَده وَقلت لَهُ من أَنْت يَا سَيِّدي قَالَ أَنا رَسُول الله
الَّذِي يَقُول الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن سوار كثيرا أَنه يراني فِي مَنَامه وَقد جِئْت لحضور مَجْلِسه فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ تَابَ عَن الْإِنْكَار وَصَارَ يلازم مجْلِس ابْن سوار ويعتقده وَيقبل يَده وَكَانَ للشَّيْخ عبد الْقَادِر فَضِيلَة وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن مجوداً وَكَانَ من أحسن النَّاس قِرَاءَة وَله رِوَايَة عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَالشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ والشهاب أَحْمد الطَّيِّبِيّ الْكَبِير قَالَ النَّجْم وَرَأَيْت فِي تَارِيخ ابْن طولون بِخَطِّهِ هَذِه الأبيات منسوبة للشَّيْخ عبد الْقَادِر بن سوار وَهِي هَذِه
(لَوْلَا ثَلَاث لم أرد عيشة ... أعيش فِيهَا مدّة الْعُمر)
(محيا رَسُول الله ذخر الورى ... من نوره أَسْنَى من الْبَدْر)
(وصحبة الإخوان لي دَائِما ... بِالصّدقِ وَالْإِخْلَاص وَالذكر)
(وتوبة تمحو الَّذِي قد مضى ... فِي الزَّمن الْمَاضِي من الْوزر)
(فأسأل الرَّحْمَن تيسيرها ... فَهُوَ إلهي مَالك الْأَمر)
وَكنت أستبعد أَن تكون لَهُ فَقلت لَهُ رَأَيْت بِخَط ابْن طولون هَذِه الأبيات منسوبة لكم فَهَل أَنْتُم قُلْتُمُوهَا فَقَالَ لي وَإِنَّمَا هِيَ لأخيك الشَّيْخ شهَاب الدّين وَكنت أتفرس ذَلِك حَتَّى أَخْبرنِي الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه كَانَ يتَمَثَّل بهَا فَظن الشَّيْخ شمس الدّين بن طولون أَنَّهَا نظمه ونقلها النَّاس من خطّ ابْن طولون منسوبة إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر حَتَّى رَأَيْتهَا بِخَط الدَّاودِيّ وَغَيره وَكَانَت ولادَة ابْن سوار لَيْلَة دُخُول السُّلْطَان سليم إِلَى دمشق وَهِي لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سحر لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة أَربع عشرَة بعد الْألف عَن أحد وَتِسْعين سنة وَسِتَّة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وَصلى عَلَيْهِ فِي التوريزية وَدفن بمقبرة الدقاقين شرقيها من جِهَة الْقبْلَة بمحلة قبر عَاتِكَة وَقيل فِي تَارِيخ مَوته(2/455)
(قَالُوا قضى قطب الورى نحبه ... وَذَاكَ عبد الْقَادِر المرتضى)
(فَهَل قضى الله لَهُ بِالرِّضَا ... فَقلت فِي تَارِيخه قد قضى)
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زين الفيومي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الإِمَام الْكَبِير الْمَعْرُوف وَهُوَ وَالِد عبد الْبر صَاحب المنتزه الْمُقدم ذكره لزم الشَّمْس الرَّمْلِيّ مُدَّة سِنِين وتفقه بِهِ وَأخذ عَن الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد بن عبد الْحق السنباطي وَعَن شيخ الْقُرَّاء الشَّيْخ شحاذة اليمني وَأبي النجا سَالم السنهوري وَالشَّمْس مُحَمَّد البنوفري وَالشَّيْخ صَالح البُلْقِينِيّ وَمن مشايخه أَيْضا النُّور الزيَادي وتلقى الرياضيات عَن السَّيِّد الشريف الطَّحَّان وفَاق فِي الْفُنُون فَجمع بَين الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَكَانَ فَقِيها مُحدثا فرضياً صوفياً وَيعرف الْحساب والهيئة والميقات والموسيقى وَغَيرهَا وتصدّر للإفتاء والتدريس وانتفع بِهِ كثير من الطّلبَة واشتهر فَضله والف تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شَرحه الْكَبِير لمنهاج النَّوَوِيّ جمع فِيهِ بَين شرحي شَيْخه الرَّمْلِيّ وشرحي الْخَطِيب وَابْن حجر وَهُوَ عُمْدَة فِي مَذْهَبهم وَله شرح عَلَيْهِ مُخْتَصر من هَذَا سَمَّاهُ الرَّوْض الْمُهَذّب فِي تَحْرِير مَا لخصته من فروع الْمَذْهَب وَكتب على شرح الْمنْهَج وَشرح الْبَهْجَة وَشرح النزهة فِي الْحساب وَمتْن اللمع وَشرح متن الْمقنع فِي الْجَبْر والمقابلة وَشرح الْمَنْظُومَة الشهيرة بالرحبية فِي الْفَرَائِض وَله نظم يتَعَلَّق بالتصوف والعقائد وَمن شعره مَا رثى بِهِ شَيْخه الشمسي الرَّمْلِيّ الْمَذْكُور
(واحر قلبِي على حبر قضى وَمضى ... لَو كَانَ يفدى فدته الْعين بالبصر)
(فالعين تَدْمَع وَالْقلب الحزين غَدا ... بجمرة أوقدت باللهب والشرر)
(لفقد شمس لدين الله سيدنَا ... وَمن هدى النَّاس من بَدو وَمن حضر)
(مُحَمَّد الْعَالم المفضال من سطعت ... بِهِ الْفَضَائِل فِي العلياء كَالْقَمَرِ)
وَكَانَ لَهُ رُتْبَة علية بَين الْأَوْلِيَاء وَكَانَ يصدر عَنهُ كرامات وأحوال باهرة مِنْهَا أَنه مرض لَهُ ولد فزار الإِمَام الشَّافِعِي فَاجْتمع بزين العابدين الْمَنَاوِيّ فَقَالَ لَهُ مصلحتك عِنْد ذَاك الرجل وَأَشَارَ بِهِ إِلَى رجل جَالس فِي طاق من بَيت فَذهب إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ بعض أَصْحَابه من الْعلمَاء فَذكر لَهُ فَدَعَا لوَلَده فَعُوفِيَ وَمِنْهَا أَنه رأى منا مَا عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي طَرِيق مطهرة الْجَامِع الْأَزْهَر فَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ لَهُ بَقِي من عمرك ثَلَاثَة أَيَّام فَذهب إِلَى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد البنوفري فَقص عَلَيْهِ الْمَنَام فَقَالَ لَهُ من عمرك الَّذِي مَعَ الْمَشَقَّة والكدر فَكَانَ كَذَلِك فَعَاشَ بعد(2/456)
ذَلِك مَا ينوف على ثَلَاثِينَ سنة وَسُئِلَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى صَالح البُلْقِينِيّ عَن القطب فَقَالَ من أَرَادَ أَن يرى القطب فَلْينْظر إِلَى عبد الْقَادِر إِلَى غير ذَلِك من كراماته الْمَشْهُورَة بَين عُلَمَاء جَامع الْأَزْهَر وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَكَانَ هيأ قَبره قبل مَوته بِمدَّة جوَار الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن الترجمان الْمَشْهُور تجاه مقَام السُّلْطَان قايتباي بصحراء مصر
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن يحيى بن مكرم بن محب الدّين بن رَضِي الدّين بن محب الدّين ابْن شهَاب الدّين بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن عَليّ بن فَارس بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن مُوسَى ابْن إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْحُسَيْنِي الطَّبَرِيّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي إِمَام أَئِمَّة الْحجاز قد ترْجم نَفسه فِي بعض كتبه فَقَالَ بعد أَن ذكر نسبه هَكَذَا سرد نسبه هَذَا أَئِمَّة التَّارِيخ وَالْعُلَمَاء الأكابر وَهُوَ متلق لَهُ كَابِرًا عَن كَابر فَإِن الْحَافِظ الْعُمْدَة سراج الدّين عمر بن فَهد مؤرخ مَكَّة ترْجم أَبَا بكر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ وَنسبه فِي كتاب التَّبْيِين فِي تراجم الطبريين بِهَذَا النّسَب وَوجد ذَلِك بِخَط الْحَافِظ الْعُمْدَة الْمُحدث أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْوَادي آشي وبخط الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن فَهد وَذكر أَنه وجده بِخَط الإِمَام رَضِي الدّين بن الْمُحب الطَّبَرِيّ وسرده كَذَلِك السراج الفهدي فِي مُعْجَمه وذيله على تَارِيخ الفاسي الْمُسَمّى بالدر الكمين بذيل العقد الثمين عِنْد تَرْجَمَة الإِمَام محب الدّين الطَّبَرِيّ وَذكره فِي تَرْجَمَة الْمَذْكُور أَيْضا الشَّيْخ الْعَلامَة عز الدّين بن فَهد فِي مُعْجَمه وَفِي كِتَابه الْمُسَمّى نزهة ذَوي الأحلام بأخبار الخطباء وَالْأَئِمَّة وقضاة بلد الله الْحَرَام وَسَاقه أَيْضا الشَّيْخ الرحلة جَار الله بن فَهد فِي مُعْجَمه الْمُسَمّى نوافج النفح المسكي بمعجم جَار الله بن فَهد الْمَكِّيّ عِنْد تَرْجَمَة شَيْخه الإِمَام محيي الدّين الطَّبَرِيّ وَفِي كِتَابه الْمُسَمّى القَوْل المؤتلف فِي الْخَمْسَة الْبيُوت المنسوبين للشرف وَصَاحب هَذِه التَّرْجَمَة ولد وَنَشَأ بِمَكَّة وترعرع فِي حجر أَبَوَيْهِ وأكمل حفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَصلى بِهِ التَّرَاوِيح فِي مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ فِي هَذَا السن وَحفظ عدَّة متون مِنْهَا الْأَرْبَعين النووية فِي الحَدِيث والإشارات عَلَيْهَا والعقائد النسفية وألفية ابْن مَالك فِي النَّحْو وَثلث الْمنْهَج لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا فِي الْفِقْه وَعرض جُمْلَتهَا على عدَّة مَشَايِخ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مِنْهُم شَافِعِيّ عصره الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ الْمصْرِيّ(2/457)
الشَّافِعِي والعلامة المفنن شمس الدّين مُحَمَّد النحراوي الْحَنَفِيّ والقدوة الْمُفِيد عبد الرَّحْمَن الشربيني الْخَطِيب وَالشَّيْخ الإِمَام الْعُمْدَة عَليّ بن جَار الله بن ظهيرة الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ الصَّالح الْعَالم يحيى بن مُحَمَّد الْحطاب الْمَالِكِي وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ وأجازوه بمحفوظاته إجَازَة رِوَايَة وَكَتَبُوا لَهُ مَا يكْتب مثله فِي الْعَادة من الْإِجَازَة وَشرع من هَذَا الْعَام فِي الِاشْتِغَال وَحل الْمُتُون على الْمَشَايِخ فلازم دروس الرَّمْلِيّ فِي مجاورته تِلْكَ السّنة بِمَكَّة تبركاً وَشرع فِي حل الْمنْهَج على الشربيني وانْتهى فِيهِ إِلَى شُرُوط الصَّلَاة ولازم دروس الشَّيْخ الْجَلِيل المتقن المفنن عبد الرَّحِيم بن أبي بكر ابْن حسان الْحَنَفِيّ وَأخذ عَنهُ النَّحْو وَالصرْف وَأخذ النَّحْو وَالْعرُوض عَن الأديب الألمعي جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي والمنطق عَن أخي الْمَذْكُور على العصامي وَحضر عِنْده قِرَاءَة شرح آدَاب الْبَحْث لمنلا حَنَفِيّ وَقطعَة من أَوَائِل الْمُغنِي لِابْنِ هِشَام وَقطعَة من شرح الجامي على الكافية وَحضر قِرَاءَة جَانب من شرح الْمنْهَج على الشَّيْخ الْقدْوَة أبي الْبَقَاء الغمري وَحضر عِنْده أَيْضا قِرَاءَة شرح الورقات للمحلى وَقَرَأَ قِطْعَة من أَوَائِل شرح الْمنْهَج على الشَّيْخ الصَّالح نصر الله بن مُحَمَّد وجانباً مِنْهُ أَيْضا على الشَّيْخ الْمُفِيد مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الزمزمي وَقَرَأَ جانباً من متن الْمِنْهَاج على الشَّيْخ الْجَامِع المطلع مُحَمَّد البهنسي وَقَرَأَ جانباً من متن الشاطبية بعد حفظ نصفهَا على الشَّيْخ المفنن عَليّ الْهَرَوِيّ وَجمع عَلَيْهِ للقراء السَّبْعَة سُورَة الْبَقَرَة بكمالها وَقَرَأَ جانباً من تَهْذِيب الْمنطق للْقَاضِي زَكَرِيَّا عَليّ الشَّيْخ عَليّ بن ظهيرة ولازم ودأب وأعانه فهمه الثاقب فتصرف فِي النّظم والإنشاء وإنشاء الرسائل البديعة واطلع على الْعُلُوم الْعَرَبيَّة الأدبية فانقادت لَهُ طَائِعَة ثمَّ ترقى إِلَى مَا هُوَ أصعب مَسْلَك فاهتم بِقِرَاءَة جَانب من شرح الجغميني فِي الْهَيْئَة وَقطعَة من أَوَائِل شرح التَّجْرِيد للمنلا عَليّ القوشجي على الْعَلامَة الْجَلِيل نصير الدّين بن مُحَمَّد غياث الدّين مَنْصُور وَقَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة من رِسَالَة الإسطرلاب وَقَرَأَ جانباً من كليات شرح الموجز فِي الطِّبّ للنفيسي على الْفَاضِل الْكَامِل يُوسُف الكيلاني وَقَرَأَ جانباً من شرح هِدَايَة الْحِكْمَة لمير قَاضِي حُسَيْن على السَّيِّد الْجَلِيل غضنفر ثمَّ صنف وأجاد كتبا عديدة مِنْهَا مقامة سَمَّاهَا درة الأصداف السّنيَّة فِي ذرْوَة الْأَوْصَاف الحسنية وَكتاب مُشْتَمل على زبدة أَرْبَعِينَ علما سَمَّاهُ عُيُون الْمسَائِل من أَعْيَان الرسائل وَشرح على الدريدية سَمَّاهُ الْآيَات الْمَقْصُورَة على الأبيات الْمَقْصُورَة وَشرح على سيرته الَّتِي(2/458)
نظمها سَمَّاهُ حسن السريرة فِي حسن السِّيرَة وَشَرحه على قِطْعَة من ديوَان المتنبي سَمَّاهُ الْكَلم الطّيب على كَلَام أبي الطّيب وعلو الْحجَّة بِتَأْخِير أبي بكر بن حجَّة وَله رسائل علمية مِنْهَا قِطْعَة على أَوَائِل صَحِيح البُخَارِيّ سَمَّاهَا إفحام المجاري فِي إفهام البُخَارِيّ ورسالة سل السَّيْف على حل كَيفَ ورسالة فسر بهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} سَمَّاهَا عرائس الْأَبْكَار وغرائس الأفكار وَمِنْهَا شرح على كتاب الْكَافِي فِي علمي الْعرُوض والقوافي سَمَّاهُ كشف الخافي من كتاب الْكَافِي وَلم يزل منهمكاً على الْعلم مباحثاً فِيهِ مَعْرُوفا بِهِ وَله الْأَشْعَار الرائقة الحلوة فَمن ذَلِك قَوْله يمدح الشريف حسن بن أبي نمي
(بَدَت تجر ذيول التيه والخيلا ... فِي رَوْضَة الْعجب حَتَّى قلت حيّ على)
(خود تجرّد بيضًا من لواحظها ... فَتتْرك الْأسد فِي ساحاتها قَتْلَى)
(وتنثني بقوام زانه هيف ... فتجعل الْغُصْن تعديلاً كَذَا ميلًا)
(مَا أطلعت لي هلالاً من مبرقعها ... إِلَّا وعاينته بَدْرًا فَلَا أَفلا)
(وَلَا رنت لي بلحظ فَتْرَة كسلا ... إِلَّا وَقد بعثت جَوف الحشا رسلًا)
(يَا حسنها من فتاة حل مبسمها ... ظلم يفوق على لذاته العسلا)
(ورصعته لآل حول منبتها ... زمزّد الوشم يَا لله من فعلا)
(ناديتها ورماح الْحَيّ معلنة ... يَا ظَبْيَة الْحَيّ هَل مَا يبلغ الأملا)
(لوالهٍ عبثت أَيدي الغرام بِهِ ... أما ترى شَأْنه أَن يبدع الغزلا)
(قَالَت صدقت وَلَكِن ذَاك تَوْطِئَة ... لمدح أفضل من فِي الأَرْض قد عدلا)
(السَّيِّد الْحسن الْملك الْهمام وَمن ... ترَاهُ بِالْحَقِّ للجوزاء منتعلا)
(سُلْطَان مَكَّة حامي الْبَيْت من شهِدت ... بعد لَهُ الأَرْض لما مهد السبلا)
(مؤيد الدّين بالفهم الَّذِي اقترنت ... بِهِ السعادات فِي حالاته جملا)
(لَيْث الكتيبة مروى المشرفية من ... دم العدا منهلاً إِذا أرعف الأسلا)
(صَاد الصناديد يَوْم الْحَرْب مَا بَطل ... رأى عجائبه إِلَّا وَقد بطلا)
(كم ذَا أبانت عَن العلياء همته ... وَكم أبادت معالي عزمه رجلا)
(وَكم محا سَيْفه أهل الْفساد وأرباب ... العناد فجارى سَيْفه الأجلا)
(فَأَصْبحُوا لَا ترى إِلَّا مساكنهم ... بلاقعاً قد كساها الذل ثوب بلَى)
(وَلَيْسَ بدعاً فَهَذَا شَأْن وَالِده ... على المرتضى السَّامِي بِفضل وَلَا)(2/459)
(فسل حنيناً وسل بَدْرًا وسل أحدا ... والنهروان وسل صفّين والجملا)
(فيا ابْن طه عَلَوْت النَّاس مرتبَة ... وَجل قدرك أَن تحكي لَهُ مثلا)
(هَل أَنْت ملك عَظِيم الْخلق أم ملك ... أبن فأمرك هَذَا حير العقلا)
(جمعت كل صِفَات الْحسن أعظمها ... جبر الخواطر للعاني وَمن وصلا)
(لَا سِيمَا من عبيد غرس نعمتكم ... أَبَا وجدا فَمن ذَا أَصْبحُوا أصلا)
(لذا حثثت مطايا الْعَزْم مسرعة ... إِلَى فنائك كَيْمَا أبلغ الأملا)
مِنْهَا
(مَا ينفذ حكم الشَّرْع دَامَ سوى ... ذَات الشريف وَمَا عَنهُ نرى حولا)
(أدامه الله فِي سعد يسر بِهِ ... وَذَا دُعَاء لكل الْخلق قد شملا)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار من مُضر ... والآل والصحب مَا مدح الشريف حلا)
وَلما وقف على قَول الْبَدْر الدماميني
(يَا سَاكِني مَكَّة لَا زلتم ... أنسا لنا أَنِّي لم أنسكم)
(مَا فِيكُم عيب سوى قَوْلكُم ... عِنْد اللقا أوحشنا إنسكم)
قَالَ مجيباً
(مَا عيبنا هَذَا وَلكنه ... من سوء فهم جَاءَ من حدسكم)
(لم نعن بالإيحاش عِنْد اللقا ... بل مَا مضى فابكوا على نفسكم)
وحذا حذوه وَلَده زين العابدين الْمُقدم ذكره فَقَالَ
(يَا مظهر الْعَيْب على قَوْلنَا ... عِنْد اللقا أوحشنا أنسكم)
(مَا قصدنا مَا قد جنحتم لَهُ ... من خطأ قد جَاءَ فِي فهمكم)
(فقولنا الْمَذْكُور جَار على ... حذف مُضَاف غَابَ من حدسكم)
(وَالْقَصْد فقد الْأنس فِيمَا مضى ... لَا ضِدّه الْوَاقِع فِي وهمكم)
(فالأنس لم يوحش بلَى فَقده ... هُوَ الَّذِي يوحش من مثلكُمْ)
(وَبعد أَن بَان لكم فاجزموا ... بِنِسْبَة الْعَيْب إِلَى نفسكم)
وَحين وقف على مَا قَالَه الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الرؤف قَالَ مجيباً ومعتذراً عَن الدماميني
(صونا موَالِي الْفضل بَين الورى ... للبدر إِن تُدْرِكهُ شمسكم)
(وجللوه بعباء الإخا ... فَإِنَّهُ الْأَنْسَب من قدسيكم)
(فَإِنَّهُ الْكَنْز وبنيانه ... مؤسس قد مَا على أسكم)
(كَأَنَّهُ أضمر أَن شانكم ... صناعَة الْإِيهَام فِي لفظكم)
(فَاسْتعْمل النَّوْع الَّذِي أَنْتُم ... أَدْرِي بِهِ كي يجتني غرسكم)(2/460)
(وَلم يَسعهُ كَونه مُنْكرا ... لمثل هَذَا الحذق من مثلكُمْ)
(فَإِن هَذَا سَائِغ شَائِع ... برهانه أوحشنا أنسكم)
وَكَانَت ولادَة صَاحب التَّرْجَمَة آخر نَهَار السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة بِمَكَّة وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي وَالِده الإِمَام مُحَمَّد ابْن يحيى سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَسبب موت صَاحب التَّرْجَمَة أَنه لما كَانَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سلح شهر رَمَضَان أَمر حيدر باشا مُتَوَلِّي الْيمن أَن لَا يخْطب الْعِيد فِي هَذَا الْعَام إِلَّا خطيب حَنَفِيّ وَكَانَت النّوبَة لصَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ قد تهَيَّأ للخطبة وَأخذ جَمِيع مَا يَحْتَاجهُ من السماط والحلوى على عَادَة خطيب الْعِيد بِمَكَّة فراجع حيدر باشا فِي ذَلِك فَلم يفعل وشدد فِي مَنعه مُبَاشرَة خطْبَة الْعِيد فتعب لذَلِك تعباً شَدِيدا فَمَاتَ فَجْأَة وَصلى عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْعِيد من يَوْمه والطبريون بَيت علم وَشرف مَشْهُورُونَ فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وهم أقدم ذَوي الْبيُوت بِمَكَّة فَإِن الشَّيْخ نجم الدّين عمر بن فَهد ذكر ذَلِك فِي كِتَابه التَّبْيِين بتراجم الطبريين وَقَالَ إِن أول من قدم مَكَّة مِنْهُم الشَّيْخ رَضِي الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ بن فَارس الْحُسَيْنِي الطَّبَرِيّ قيل سنة سبعين وَخَمْسمِائة أوفى الَّتِي بعْدهَا وَانْقطع بهَا وزار النَّبِي
وَسَأَلَ الله تَعَالَى عِنْده أَوْلَادًا عُلَمَاء هداة مرضيين فولد لَهُ سَبْعَة أَوْلَاد وهم مُحَمَّد وَأحمد وَعلي وَإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَكَانُوا كلهم فُقَهَاء عُلَمَاء مدرسين وَكَانَ دُخُول الْقَضَاء وإمامة مقَام إِبْرَاهِيم فِي بَيتهمْ سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة كَمَا ذكره النَّجْم بن فَهد فِي تَارِيخه إتحاف الورى بأخبار أم الْقرى وَذكره الفاسي فِي تَارِيخه العقد الثمين فِي تَارِيخ بلد الله الْأمين وَلم تزل إِمَامَة الْمقَام الْمَذْكُور مَخْصُوصَة بهم لَا مدْخل مَعَهم فِي ذَلِك الْأَجْنَبِيّ وكل من كمل مِنْهُم للمباشرة يُبَاشر وَلَا يحْتَاج إِلَى إِذن جَدِيد لوُقُوع الْإِذْن الْمُطلق لَهُم من زمن السلاطين السَّابِقين والأشراف الْمُتَقَدِّمين وَاتفقَ فِي عَام إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف أَن إنْسَانا رام الدُّخُول مَعَهم فِي ذَلِك وَقع كَلَام طَوِيل فِي ذَلِك ثمَّ مَنعه الشريف عبد الله بن الْحسن ثمَّ ورد أَمر من وَزِير مصر حِينَئِذٍ مُحَمَّد باشا بِمَنْع الْمَذْكُور أَيْضا وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى الْآن وَمَا زَالَت المناصب الْعلية فِي أَيْديهم يتلقونها كَابِرًا عَن كَابر ويعقدون عَلَيْهَا فِي مقَام الافتخار بالخناصر من الْقَضَاء وَالْفَتْوَى والتدريس والإمامة والخطابة بِبَلَد الله النفيس وَكَانَ منصب الخطابة قَدِيما(2/461)
ينْتَقل بِمَكَّة فِي ثَلَاثَة بيُوت الطبريين والظهيريين والنويريين وَبَيت الطَّبَرِيّ أقدمهم فِي ذَلِك كَمَا يعلم من كتب التواريخ الْقَدِيمَة وَمن خطباء الطبيين الْمُحب الطَّبَرِيّ والبهاء الطَّبَرِيّ ثمَّ إِنَّه فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَألف جدد خطيب مالكي ثمَّ حنبلي ثمَّ آخر حنبلي فِي عَام ثَلَاث وَأَرْبَعين وَكَانَ منصب الخطابة مَحْفُوظًا عَن أَحْدَاث النَّاس فَلَا يقلده إِلَّا الْعَظِيم علما أَو نسبا وَاتفقَ فِي عَام إِحْدَى وَأَرْبَعين أَن بَاشر الخطابة الشَّيْخ مُحَمَّد المنوفي فورد أَمر من وَزِير مصر مُخَاطبا بِهِ صَاحب مَكَّة وقاضيها وَشَيخ حرمهَا بِمَنْعه من ذَلِك فَلَمَّا جَاءَت نوبَته امْتنع قَاضِي مَكَّة إِذْ ذَاك شكر الله أَفَنْدِي من الصَّلَاة خَلفه فَأرْسل إِلَى الشريف زيد وَكَانَ بمصلاه بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَقد صعد الْمِنْبَر وخطب فَأرْسل إِلَيْهِ الشريف وَمنعه من الصَّلَاة وَأَشَارَ إِلَى غَيره فصلى بِالنَّاسِ ثمَّ الخطباء فِي زَمَاننَا بغاية الْكَثْرَة بِحَيْثُ أَنه لم يصل الْوَاحِد مِنْهُم إِلَى نوبَته إِلَّا بعد مُضِيّ سنة ولنبي الطَّبَرِيّ مزِيد التَّقْوَى والورع وَالصَّلَاح وَتُوفِّي أَسبَاب الْخَيْر والفلاح وَزِيَادَة الألفة بَينهم وَبَين وُلَاة مَكَّة المشرفة والتراسل بَينهم بالأشعار الْحَسَنَة اللطيفة مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي التواريخ الْمَذْكُورَة وَغَيرهَا حَتَّى أَن تِلْكَ الألفة بَينهم اقْتَضَت المواصلة بالمصاهرة وأكملت مَا هُوَ من أَسبَاب الْمُفَاخَرَة فقد نقل الفاسي أَن زَيْنَب بنت قَاضِي مَكَّة الشهَاب أَحْمد بن قاضيها أَيْضا الْجمال مُحَمَّد الطَّبَرِيّ كَانَت زَوْجَة للشريف عجلَان صَاحب مَكَّة سنة سبعين وَسَبْعمائة ثمَّ اخْتلعت مِنْهُ لتسريه عَلَيْهَا وَمن طالع العقد الثمين علم مَا لَهُم من المناقب وَمَا اشتملوا عَلَيْهِ من المناصب وناهيك بالمقامة الَّتِي أَنْشَأَهَا الْحَافِظ جلال الدّين السُّيُوطِيّ مهنئاً الْمُحب الطَّبَرِيّ الْمُتَأَخر لما عزل أَبَا السعادات وَأَبا البركات ابْني ظهيرة عَن خطة الْقَضَاء وَولي ذَلِك بمفرده مَعَ مَا أضيف إِلَيْهِ من المناصب بسعاية الشريف أبي الْقَاسِم بن حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة وَمن جملَة المقامة
(إِن الْقُضَاة بِمَكَّة لثَلَاثَة ... طبقًا لما قد جَاءَ فِي الْأَخْبَار)
(شيخ الْمقَام وَقد مضى فِي جنَّة ... والقاضيان كِلَاهُمَا فِي النَّار)
وَذكر الْحَافِظ نجم الدّين عمر بن فَهد فِي تَذكرته الْمُسَمَّاة نور الْعُيُون بِمَا تفرق من الْفُنُون قَالَ لما كنت بِالْقَاهِرَةِ المحروسة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة ورد إِلَيْهَا القَاضِي أَبُو البركات بن عَليّ بن ظهيرة ساعياً لِأَخِيهِ أبي السعادات فِي عوده لمنصبه قَضَاء الشَّافِعِيَّة وصحبة سؤالان مَعْنَاهُمَا أَن رجلَيْنِ من طلبة الْعلم الشريف بهَا(2/462)
تنَازعا فِي مسئلة فَرضِيَّة فقصد أَحدهمَا بالسؤال عَنْهَا أَخَاهُ أَبَا السعادات وَامْتنع الآخر فَحلف الأول بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَنه لَيْسَ بِمَكَّة وأعمالها أحد أعلم مِنْهُ فَهَل يَقع على الْحَالِف حنث أم لَا وَهل بِالْبَلَدِ من يُسَاوِي الْمشَار إِلَيْهِ فِي الْعلم أَو يفوقه فَأجَاب شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ الشهَاب أَحْمد بن حجر الْعَسْقَلَانِي الْكِنَانِي وَالْإِمَام السنباطي بِعَدَمِ الْحِنْث وَأطلق الأول بِانْفِرَادِهِ فِي وقته وَعدم مساواته فضلا عَن أَن يفوقه أحد فِي بَلَده وَقيد الثَّانِي بِأَنَّهُ إِذا سُئِلَ فِي الْفِقْه أجَاب فِي الْحَال من الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَو فِي الْأُصُول فَمن ابْن الْحَاجِب والبيضاوي وَكَذَا الحَدِيث وَالتَّفْسِير كَمَا شَاهده مِنْهُ فِي مجاورته بِبَلَدِهِ فَلَمَّا اطلع على السؤالين وجوابهما الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي الْمُحب الطَّبَرِيّ كتب فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة قصيدة لامية من نظمه إِلَى الْحَافِظ ابْن حجر مضمونها الْإِنْكَار عَلَيْهِ وعَلى السنباطي فِي الْفتيا وَهِي هَذِه
(يقبل الأَرْض عبد قد أحبكم ... طفْلا وَفِي كبرٍ فِي الْحبّ مَا عدلا)
(وَيسْأل الله أَن يحظى برؤيتكم ... على الصَّفَا فَعَسَى أَن يبلغ الأملا)
(يَا وَاحِد الْعَصْر خُذ منا مراسلة ... تَشْكُو لما قد حكى عَنْكُم وَمَا حصلا)
(من مَكَّة صدرت تَشْكُو لخالقها ... أَيْضا وتروى لكم عَن ألسن الفضلا)
(مَا بَال سيدنَا زلت أنامله ... وَالله تِلْكَ لعمري زلَّة العقلا)
(جَاءَت لمَكَّة فتيا قد جزمت بهَا ... بِأَن أفضلهَا هَذَا الَّذِي خذلا)
(وَقلت هَذَا طَلَاق لم يَقع وَلَقَد ... قَالَ المحق طَلَاق الأحمق اتصلا)
(إِن كَانَ أعملها من قد ذكرت فقد ... صَارَت بِلَا عَالم وَالْعلم قد هزلا)
(رام الترقي إِلَى الْعليا فأنزله ... ذَا الدَّهْر من طيشه لَا زَالَ مستفلا)
(قد أوقع الحبر فِيمَا لَيْسَ شيمته ... كَانَ الإِمَام عَن التحريف منعزلا)
(ارْجع هداك الَّذِي أَعْطَاك منزلَة ... عَن ذِي الْمقَالة وَالْأَمر الَّذِي نقلا)
(مَا يحمد الله فِي الدّين والهوى وَلَقَد ... ذمّ الَّذِي بالهوى قد كَانَ مشتغلا)
(هلا كتبتم أدام الله دولتكم ... مثل السباطي إِذْ من أَكلَة وحلا)
(خُذ زادك الله حرصاً ذكر سيرته ... عَن وَاحِد لم يزدْ فِيهَا وَلَا جهلا)
(أَبُو السعادات هَذَا من شبيبته ... وَفِي كهولته مَا حَاز قطّ علا)
(لم يَأْخُذ الْعلم عَن شيخ يعرفهُ ... وَجه الصَّوَاب وَلَا أصغى وَلَا قبلا)
(يُفْتِي من الْكتب إِن أخطا فعادته ... وَإِن أصَاب فَوجه الذَّم مَا جهلا)(2/463)
(والنحو لم يدر فِيهِ قطّ مسئلة ... مثل الْحمار إِذا مَا فِيهِ قد سئلا)
(كَذَا الْأُصُول إِذا مَا قلت مبحثه ... ينشى الرياسة إِذْ كَانَت لَهُ شغلا)
(علم الْفَرَائِض لم يحسن لمسئلة ... مِنْهُ وَلَا لحساب الأَصْل قد عملا)
(قد ضيع الْعُمر حسداً للملا وَله ... عجب وَكبر وحقد بئْسَمَا فعلا)
(أضحى بِمَكَّة يُؤْذِي الْخلق من حمق ... وَلَيْسَ فِي النَّاس شخص من أَذَاهُ خلا)
(لَهُ مثالب أُخْرَى غير مَا ذكرت ... إِنِّي عقلت لساني عَنهُ فانعقلا)
(جَمِيع جيران بَيت الله يَعْقِلهَا ... إِن اتهمت فسل عَن ذَاك من عقلا)
(فَكيف ينْسب من هَذَا لَهُ صفة ... بِأَنَّهُ عَالم وَالْحَال مَا نقلا)
(فَكُن رعاك الْإِلَه الْيَوْم معتذراً ... عَمَّا جنيت وَقل وَالله قد جهلا)
(الله يبْقى لنا هَذَا المليك لقد ... أراح مَكَّة من أَحْكَام من عزلا)
(كَانَت ولَايَته للْحكم نازلة ... وَالْحَمْد لله عَنَّا زَالَ مَا نزلا)
(أسْتَغْفر الله فِي تَقْصِيرهَا فَلَقَد ... جَاءَت بذب لما بِالنَّاسِ قد حصلا)
(وصل رب على الْمُخْتَار من مُضر ... وَآله وأجب يَا خير من سئلا)
(كَذَلِك الصحب والأتباع مَا طلعت ... شمس ولاح ضِيَاء الْأُفق أَو أَفلا)
وَقد أطلقنا عنان الْقَلَم فِي ميدان المداد وَإِن كَانَ لَيْسَ من شَرط المُرَاد إِذْ الحَدِيث شجون وَالْكَلَام يجر بعضه بَعْضًا هَذَا وَقد قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي الْمَذْكُور فِي بعض كتبه أَن قَول الأقران بَعضهم فِي بعض غير مَقْبُول قَالَ وَمَا علمت عصراً سلم أَهله من ذَلِك غير عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ انْتهى كَلَامه قلت وَفِي قَوْله غير عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تَأمل إِذْ لم يسلمُوا أَيْضا من ذَلِك كَمَا يعرفهُ من طالع سيرهم فَالظَّاهِر الْعُمُوم وَلَعَلَّ كَلَامه مَبْنِيّ على الْأَكْثَر وَالْغَالِب لقلته فيهم بِالنِّسْبَةِ لمن بعدهمْ وَالله تَعَالَى أعلم
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد أبي الغيض السَّيِّد الْأَفْضَل أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن قضيب البان يتَّصل نسبه بِأبي عبد الله الْحُسَيْن قضيب البان الْموصِلِي من أَوْلَاد مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَالْحُسَيْن قضيب البان الْمَذْكُور صَاحب الكرامات الْمَشْهُورَة ذكره كثير من النسابة والمؤرخين وَهُوَ الَّذِي كَانَ صحب الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني قدّس سره وَزوج الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْنَته الْمُسَمَّاة(2/464)
بخديجة السمينة لأبي المحاسن على ولد الشَّيْخ قضيب البان الْمَذْكُور وَكَانَت قبل تَحت ولد الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الطنشونجي فَمَاتَ عَنْهَا جده وَتَزَوجهَا بعده أَبُو المحاسن عَليّ الْمَذْكُور واستولدها ذكر ذَلِك عبد الله بن سعد اليافعي وَشَيخ الشّرف فِي كِتَابَيْهِمَا فَيكون نسب السَّيِّد عبد الْقَادِر صَاحب التَّرْجَمَة مُتَّصِلا بِحَضْرَة الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني من ابْنَته خَدِيجَة السمينة وبحضرة الشَّيْخ قضيب البان من وَلَده أبي المحاسن على المسطور وَهَذَا السَّيِّد هُوَ أكبر أهل وقته وفريد أقرانه ولد بحماه وَهَاجَر بِهِ أَبوهُ إِلَى حلب وتوطن بهَا إِلَى سنة ألف وفيهَا حج إِلَى بَيت الله الْحَرَام وجاور بِمَكَّة إِلَى حُدُود سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وَمِنْهَا توجه إِلَى الْقَاهِرَة بِإِشَارَة القطب وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا قَاضِيا بِمصْر فزاره وَكَانَ مُعْتَقدًا على الْمَشَايِخ والأولياء فبشره بمشيخة الْإِسْلَام وَبَايَعَهُ على الطّرق الثَّلَاثَة النقشبندية والقادرية والخلوتية ثمَّ أقره على طَرِيق النقشبندية وَأمره بالاشتغال بِالذكر القلبي وَله مَعَه كرامات ومكاشفات وَلما ولي الْإِفْتَاء وَجه إِلَيْهِ نقابة حلب وديار بكر وَمَا والاهما مَعَ قَضَاء حماه بطرِيق التَّأْبِيد برتبة مَكَّة المكرمة فَلم يقبل الْقَضَاء والرتبة وَاعْتذر عَن عدم قبُوله وَقبل النقابة لكَونهَا خدمَة آل الرَّسُول
وَاسْتمرّ نَقِيبًا بحلب إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ لَهُ كرامات شهيرة وأحوال باهرة وَألف التآليف الْحَسَنَة الْوَضع الدَّالَّة على رسوخ قدمه فِي التصوف والمعارف الإلهية من جُمْلَتهَا الفتوحات المدنية ألفها على وتيرة الفتوحات المكية والمدنية للشَّيْخ الْأَكْبَر ابْن عَرَبِيّ وفيهَا يَقُول شيخ الْإِسْلَام ابْن زَكَرِيَّا الْمَذْكُور مقرظاً عَلَيْهَا بقوله
(فتوحات شَيْخي غادة مَدَنِيَّة ... كستها نفيسات الْعُلُوم ملابسا)
(فَلَا عجب لَو تشتهيها نفوسنا ... وأبحاثها أبدت إِلَيْنَا نفائسا)
(فَللَّه در الشَّيْخ أكبر عصره ... بأنفاسه لَا زَالَ يحيي المجالسا)
وَله كتاب نهج السَّعَادَة فِي التصوف وناقوس الطباع فِي أسرار السماع وَشرح أَسمَاء الله الْحسنى ورسالة فِي أسرار الْحُرُوف وَكتاب مَقَاصِد القصائد ونفحة البان وحديقة اللآل فِي وصف الْآل وَكتاب المواقف الإلهية وعقيدة أَرْبَاب الْخَواص وَغير ذَلِك مَا ينوف على أَرْبَعِينَ تأليفاً وَله ديوَان شعر كُله فِي لِسَان الْقَوْم وَله تائية عَارض بهَا تائية ابْن الفارض وَقد شرحها الْعَلامَة إِبْرَاهِيم بن المنلا الْمُقدم ذكره شرحاً لطيفاً وَمن لطائف شعره قَوْله(2/465)
(أرى للقلب نحوكم انجذابا ... لأسْمع من جنابكم خطابا)
(فكم ليل بقربكم تقضى ... إِلَى سحر سُجُود أَو اقترابا)
(وَكم من نشوة وَردت نَهَارا ... فَلَا خطأ وعيت وَلَا صَوَابا)
(وَكم سحت علينا من نداكم ... غيوث لَا تفارقنا انسكابا)
(وَكم نفحات أنس أسكرتنا ... بهَا حضر الصَّفَا وَالْقَبْض غابا)
(توافقت الْقُلُوب على التداني ... فَلم نشْهد بِهِ مِنْكُم حِجَابا)
(لقد حَاز الْوَلِيّ بِكُل حَال ... من الرَّحْمَن فيضاً مستطابا)
(ترَاهُ بَين أهل الأَرْض أضحى ... لداعي الْحبّ أسرعهم جَوَابا)
(وَغير الله لَيْسَ لَهُ مُرَاد ... وَغير حماه لَا يَرْجُو انتسابا)
وَمن رَقِيقه قَوْله
(سقاني الْحبّ من خمر العيان ... فتهت بسكرتي بَين الدنان)
(وَقلت لرفقتي رفقا بقلبي ... وخاطبت الحبيب بِلَا لِسَان)
(شربت لحبه خمرًا سقاني ... كصحبي فانتشى مِنْهَا جناني)
(شطحت بشربها بَين الندامى ... ورشدي ضَاعَ مِمَّا قد دهاني)
(فأكرمني وتوجني بتاج ... يقوم بسره قطب الزَّمَان)
(وَأَمرَنِي على الأقطاب حَتَّى ... سرى أَمْرِي بهم فِي كل شان)
(وأطلعني على سر خفيّ ... وَقَالَ السّتْر من سر الْمعَانِي)
(فهام أولو النهى من بعد سكري ... وغابوا فِي الشُّهُود عَن الْمَكَان)
(مريدي لَا تخف واشطح بسري ... فقد أذن الحبيب بِمَا حباني)
وَقَوله
(نظرت إِلَيْك بِعَين الطّلب ... ومنك إِذن طلبي وَالسَّبَب)
(رَأَيْتُك فِي كل شَيْء بدا ... وَلَيْسَ سواك لعَيْنِي حجب)
(فَأَنت هُوَ الظَّاهِر المرتجى ... وَأَنت هُوَ الْبَاطِن المرتقب)
(وَأَنت الْوُجُود لأهل الشُّهُود ... وَأَنت الَّذِي كل شَيْء وهب)
(وعيني بِعَيْنِك قد أَبْصرت ... لعينك فِي كل تِلْكَ النّسَب)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(وَلَقَد شكوتك فِي الضَّمِير إِلَى الْهوى ... وعتبت من حنق عَلَيْك تجننا)
(منيت نَفسِي فِي هَوَاك فَلم أجد ... إِلَّا الْمنية عِنْد مَا هجم المنا)(2/466)
وَقَوله
(إِذا امتدّ كف للأنام بحاجة ... فقوّتها من عَادَة الهمة السُّفْلى)
(وَمن يَك يَسْتَغْنِي عَن الْخلق جملَة ... فيغنيه رب الْخلق من فَضله الْأَعْلَى)
وَقَوله
(إِذا أَسَأْت فَأحْسن ... واستغفر الله تنجو)
(وَتب على الْفَوْر وارجع ... وَرَحْمَة الله فارجو)
وَله غير ذَلِك من لطائف القَوْل وَكَانَت وِلَادَته بحماه فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي حُدُود سنة أَرْبَعِينَ وَألف بحلب
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن عمر العلمي الْمَقْدِسِي بن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ مُحَمَّد العلمي وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه كَانَ عبد الْقَادِر هَذَا من الصلحاء الأجلاء وَكَانَ من محَاسِن وقته ونوادره فِي لطف الطَّبْع والتواضع والمعرفة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وَإِلَيْهِ كتب الإِمَام خير الدّين الرَّمْلِيّ فِي صدر كتاب قَوْله
(لحضرة القطب وَابْن القطب سيدنَا ... مختارنا العلمي دَامَت فضائله)
(مني سَلاما كعد الْقطر أخصره ... وَذَاكَ نزر إِذا نصت شمائله)
وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْأَحَد وَدفن نَهَار الْإِثْنَيْنِ ثَانِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَسبعين وَألف بِمَدِينَة لدّ بِضَم اللَّام وَتَشْديد الدَّال وَهِي الْقرْيَة الْمَشْهُورَة قرب مَدِينَة الرملة من نواحي الْبَيْت المقدّس فِيهَا يقتل الدَّجَّال فِيمَا يَزْعمُونَ
عبد الْقَادِر بن مصطفى الصفوري الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الْمُحَقق الْكَبِير كَانَ من أساطين أفاضل عصره مَشْهُور الذّكر بعيد الصيت اتّفق أهل عصرنا على جلالته وَعظم شَأْنه وَدينه وورعه وصيانته وأمانته كَانَ فَقِيها مُفَسرًا محدّثاً أصولياً نحوياً وَعِنْده فنون كَثِيرَة غَيرهَا وَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن النَّاس كثير الْبلوى والأمراض أَخذ بِدِمَشْق عَن الشَّمْس الميداني وَغَيره ثمَّ رَحل فِي صباه إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأبي الْعَبَّاس الْمقري وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن النَّقِيب الْبَيْرُوتِي نزيل دمياط وَجمع لنَفسِهِ مشيخة رَأَيْتهَا وَعَلَيْهَا خطه وَأكْثر الرِّوَايَة فِيهَا عَن ابْن النَّقِيب الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّام ودرس بهَا وَأفَاد وانتفع بِهِ جمَاعَة ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم وَمكث بهَا زَمَانا وَلم يحصل على أمانيه فورد دمشق وَأعْطى بعد ذَلِك الْمدرسَة البلخية وَدَار الحَدِيث الأشرفية فسكنهما ودرس بهما مُدَّة حَيَاته وَكَانَ يدرس بالجامع الْأمَوِي فيحضره أَعْيَان الطّلبَة الشَّافِعِيَّة وَأجل من انْتفع بِهِ وَحصل ودأب مَوْلَانَا الشَّيْخ(2/467)
الْعَالم الصَّالح الْوَرع تَقِيّ الدّين بن شمس الدّين السَّيِّد الحصني نفع الله بِهِ فَإِنَّهُ لَازمه سِنِين وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ صاحبنا الْفَاضِل أَحْمد بن مُحَمَّد الصَّفَدِي إِمَام الدرويشية الْمُقدم ذكره وصاحبنا الأديب الْفَاضِل زين الدّين بن أَحْمد البصراوي وَغَيرهم وَله تحريرات ورسائل كَثِيرَة ووقفت لَهُ على تَحْرِير علقه على عبارَة الْغَزالِيّ الْمَشْهُورَة فَذَكرتهَا هُنَا لما فِيهَا من الْفَائِدَة والعبارة هِيَ قَوْله لَيْسَ فِي الْإِمْكَان أبدع مِمَّا كَانَ وَكَانَ بعض الطّلبَة سَأَلَهُ عَنْهَا فَأجَاب بِمَا نَصه اعْلَم أَيهَا الْأَخ أَن الْمحَال على قسمَيْنِ أَحدهمَا محَال لذاته وَالثَّانِي محَال لغيره فَإِن الْمُمكن قد يصير محالاً لغيره أَو وَاجِبا لغيره مِثَاله بعث الْمَوْتَى من قُبُورهم مُمكن فِي حد ذَاته لِأَنَّهُ إِذا خلى الْعقل وَنَفسه حكم بِجَوَازِهِ لَكِن لما أخبر سُبْحَانَهُ صَار وَاجِب الْوُقُوع بِالنّظرِ إِلَى خبر الله تَعَالَى لَا يتَخَلَّف عَدمه وَصَارَ محالاً لغيره بِهَذَا الِاعْتِبَار إِذا تقرر لَك هَذَا علمت أَن مَا قَالَه حجَّة الْإِسْلَام حق وإيضاحه إِنَّمَا هُوَ بعد أَن تعلم أَن علم الله تَعَالَى قديم وَأَنه تعلق فِي الْأَزَل بِأَن الْمُمكن الَّذِي وجد يُوجد فِي أَي زمَان وَفِي أَي مَكَان وعَلى أَي صفة وَحِينَئِذٍ فوقوعه على خلاف مَا تعلق بِهِ الْعلم محَال لغيره لِأَنَّهُ لَو وَقع على خلاف ذَلِك لزم انقلاب الْعلم جهلا وَأَنه محَال فِي حق الْحَكِيم الْخَبِير الْعَلِيم الْقَدِيم والإرادة وَالْقُدْرَة تعلقهما بالممكن إِنَّمَا يكون على وفْق تعلق الْعلم الْقَدِيم بِهِ وحينئذٍ تعلم أَن عدم إِمْكَان أبدع مِمَّا كَانَ لَيْسَ فِيهِ نِسْبَة الْجَهْل وَلَا نِسْبَة الْعَجز إِلَى الْملك الديَّان كَيفَ يظنّ ذَلِك بِحجَّة الْإِسْلَام الَّتِي مَلَأت معلوماته الدُّنْيَا بل عدم إِمْكَانه إِنَّمَا هُوَ لعدم تعلق الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة بِهِ لما يلْزم عَلَيْهِ من الْمحَال فَتدبر ذَلِك ينْدَفع عَنْك خيال أَوْهَام من لم يعلمُوا مواقع الْكَلَام وَلم يَذُوقُوا دقائق الْعُلُوم بل مطمح أنظارهم اعْتِرَاض أكَابِر الْعلمَاء والطعن على وَرَثَة الْأَنْبِيَاء كَأَنَّهُمْ صَارُوا لَهُم ضدّا فصرف الله تَعَالَى أذهانهم عَن الْوُصُول إِلَى غوامض الْمعَانِي وتمسكوا بظواهر المباني وَمن أجَاب بِأَن مَا مَوْصُولَة لم يُصَادف محلا لِأَن الْمَنْقُول عَن الإِمَام أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَان إِلَى آخِره وَجَوَاب هَذَا الْمُجيب مَبْنِيّ على أَن كَلَام الْحجَّة مَا فِي الْإِمْكَان إِلَى آخِره وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا لَيْسَ كَمَا نَقله عَنهُ بعض الْمُتَأَخِّرين وَتكلم عَلَيْهِ بِكَلَام طَوِيل أَيْضا وقفت عَلَيْهِ بعد كتابتي مَا تقدم ورأيته نقل كَلَام الْحجَّة وَمن جملَة مَا نَقله أَن الْبذر الزَّرْكَشِيّ تكلم على هَذِه الْكَلِمَة فِي تَذكرته وَنقل كَلَام بعض من تقدمه فِيهَا هَذَا آخر مَا حَرَّره بفكره وَله ذيل نَقله عَن الإِمَام الْغَزالِيّ وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا التَّحْرِير لِكَثْرَة تداول النَّاس هَذِه الْعبارَة وَبِاللَّهِ(2/468)
التَّوْفِيق وَكَانَت ولادَة الصفوري فِي سنة عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
عبد الْقَادِر بن الْمَعْرُوف بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُوسَى المشرع بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد أخي سَيِّدي الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى بن مُوسَى المشرع الصُّوفِي العجيل أحد الصُّوفِيَّة السالكين طَريقَة الأسلاف المتمكنين فِي الْمعرفَة الملازمين لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ مِمَّن كمله الله فِي خلقه وخلقه وكرم طبعه وَحسن طَرِيقَته وَكَانَت لَهُ مهابة فِي الْقُلُوب مَعَ خلق جميل وأدب وبراعة وإحسان وَكَانَ المنكرون عَلَيْهِ إِذا سَقَطت عينهم عَلَيْهِ يفرون مِنْهُ فرار الوحوش من الْأسد وَلَا يسْلك مَعَهم إِذا بلغه ذَلِك إِلَّا الْفِعْل الْأسد وَله ثبات على ظُهُور المقربات وَيَد طولي فِي على المقامات وتواترت مِنْهُ الكرامات الَّتِي اشتهرت ووضحت وَكَانَ متواضعاً حسن الْمُعَامَلَة للْمُسلمين وَلَا ينزل نَفسه منزلتها وَله عناية بكتب الصُّوفِيَّة وميل لعلوم الشَّرِيعَة وَكَانَ قَائِما بِخِدْمَة منصب آبَائِهِ وَله فِي بَيت جده الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى العجيل ظُهُور تَامّ ومنزلة علية ونفوذ كلمة عِنْد الْأُمَرَاء والحكام وَكَانَ من الْكَرم فِي ذروته الْعَالِيَة وتلتمس بركته من الأقطار وَكَانَ من الملازمين للصَّلَاة على النَّبِي
فِي خلواته وجلواته على طَريقَة جده فَإِن لَهُ فِيهَا طَرِيقا راسخة وَكَانَت وَفَاته نفع الله تَعَالَى بِهِ فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف بِبَلَدِهِ بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل وَدفن فِي قبَّة آبَائِهِ وَخَلفه فِي منصبه الشَّيْخ عبد الرَّزَّاق العجيل
عبد الْقَادِر بن ميمي الْبَصْرِيّ الْحَنَفِيّ الأديب الْفَاضِل الشَّاعِر عرفني بِهِ المرحوم السَّيِّد عبد الله بن حجازي الْحلَبِي روح الله تَعَالَى روحه وَكنت رَأَيْت تَرْجَمته الَّذِي تَرْجمهُ بهَا فِي التَّأْلِيف الَّذِي أَرَادَ أَن يذيل بِهِ على الريحانة وَقد أثنى عَلَيْهِ وَوَصفه بالأدب وَالْفضل وَرَأَيْت خَبره فِي تعاليق الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فَقَالَ فِي حَقه كَانَ إِمَامًا عَالما فَاضلا أَخذ عَن عُلَمَاء بَلَده وَقَرَأَ على المنلا إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي نزيل الْمَدِينَة المنورة وَله تآليف مِنْهَا سالة فِي الْمنطق وَأُخْرَى فِي الْعرُوض وَأُخْرَى فِي التصريف وحاشية على تلويح السعد وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله
السَّيِّد عبد الْقَادِر بن النَّاصِر بن عبد الرب بن عَليّ بن شمس الدّين ابْن الإِمَام يحيى شرف الدّين صَاحب كوكبان أحد أَفْرَاد الزَّمَان الْمجمع على جلالته مولده(2/469)
كوكبان وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن وَأخذ بهَا عَن أكَابِر الْعلمَاء الْأَعْيَان وَلم يزل يكْتَسب الْفَضَائِل ويجد فِي تَحْصِيل دَقِيق الْمسَائِل حَتَّى نَالَ مَا ناله ثمَّ تولى بعد وَالِده ملك كوكبان وَمَا والاها من الْبِلَاد وَعلا شَأْنه وَقصد وحطت عِنْده رحال أهل الآمال وَكَانَت حَضرته مجمع الأدباء وحلبة الشُّعَرَاء وهمته مَقْصُورَة على مجد يشيده وأنعام يجدده وَفضل يصطنعه وخامل وَضعه الدَّهْر فيصنعه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ فاق فِي عصره بِالْيمن على الأقران وساد الْأَعْيَان فَلَا يدانيه مدان مَعَ مَا يُضَاف إِلَى ذَلِك من منظر وسيم ومخبر كريم وخلائق رقت وراقت وطرائق علت وفاقت وفضائل ضفت مدارها وشمائل صفت مشارعها وسودد تثنى بِهِ عُقُود الخناصر ويثنى عَلَيْهِ طيب العناصر وللفقيه الْعَارِف صَالح ابْن الصّديق النمازي الخزرجي أرجوزة سرد فِيهَا نسب جد صَاحب التَّرْجَمَة الإِمَام المتَوَكل على الله يحيى شرف الدّين بن شمس الدّين وأضاف القَاضِي الْفَاضِل الْعَلامَة أَبُو الْفضل عماد الدّين يحيى بن الْحسن الحيمي نسب صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى الإِمَام شرف الدّين فلنذكر أَولا أَبْيَات الحيمى ثمَّ نعقبها بِأَبْيَات النمازي فمطلع الأولى هُوَ قَوْله
(أَقُول بعد الْحَمد فِي مقالي ... وَالشُّكْر للخالق ذِي الْجلَال)
(وَبعد أَن أهْدى الصَّلَاة سرمدا ... ثمَّ السَّلَام قَاصِدا مُحَمَّدًا)
إِلَى أَن يَقُول
(معطي الجزيل ذِي النوال الغامر ... مولَايَ عبد الْقَادِر بن النَّاصِر)
(سليل عبد الْبر ذِي المكارم ... نل على صفوة الأكارم)
(سليل شمس الدّين ذِي الْكَمَال ... رَافع بَيت الْمجد والمعالي)
(ابْن الإِمَام الحبر ذِي الْعُلُوم ... كَهْف اللهيف كافل الْيَتِيم)
(يحيى بن شمس الدّين من سَاد الورى ... وَمن حَدِيث مجده لن يفترى)
(هَيْهَات أَن تحصى لَهُ مَكَارِم ... أَو أَن تكون مثله الأكارم)
(دَعَا إِلَى الله بعزم صَادِق ... وَقَامَ بِالْفَرْضِ وَحقّ الْخَالِق)
(ومهد الأقطار والبلادا ... وَأصْلح الله بِهِ العبادا)
(أَحْيَا من الْعلم بدرس مَا درس ... وَاتبع النَّاس هدى ذَا القبس)
(وهاك مَا أوردت فِي إيجازي ... متمماً مَا نظم النمازي)
(فِي نظمه سلسلة الإبريز ... وسردها فِي النّسَب الْعَزِيز)(2/470)
(الْحَمد لله الْعلي الْأَحَد ... الْقَادِر الْفَرد الْعَزِيز الصَّمد)
(ذِي الطول والإجلال وَالْإِكْرَام ... وَالْفضل وَالْإِحْسَان والأنعام)
(أَحْمَده على توالي النعم ... وأستمده صنوف الحكم)
(وَبعده فأفضل السَّلَام ... على النَّبِي سيد الْأَنَام)
(مُحَمَّد وَآله الْكِرَام ... سفن النجَاة أنجم الظلام)
(وَهَذِه أرجوزة شريفة ... نظمت فِيهَا نسب الْخَلِيفَة)
(الْجَوْهَر الْمُفْرد فِي الْكَمَال ... لما حوى من أكمل الْخِصَال)
(فِي ذَاته الْعُظْمَى وَفِي الْأُصُول ... وَفِي حَوَاشِيه وَفِي الْفُصُول)
(فَمَاله فِي النَّاس من نَظِير ... شَهَادَة من عَارِف خَبِير)
(ألبسهُ الله حلى الخلافه ... فصانها بِالْعَدْلِ والعفافه)
(كعبة أهل الْفضل والعلوم ... وَحجَّة الله على الْعُمُوم)
(أَحْيَا بِهِ الله أموراً جمه ... من دَرَجَات الْآل والأئمه)
(وَكم لَهُ من آيَة وحجه ... دَعَا بهَا النَّاس إِلَى المحجه)
(ليهتدوا فَمن أجَاب الدَّاعِي ... فَهُوَ على الْحق بِلَا اندفاع)
(وَفقه الرَّحْمَن للإجابه ... ولقبول الْحق والإنابه)
(وَمن عَصَاهُ فِي شقاء سرمدي ... فِي هَذِه الدُّنْيَا وَفِي يَوْم غَد)
(مَا بَين مقتول ومستهان ... وَبَين مطرود مدى الزَّمَان)
(وَهَذِه من أعظم الْآيَات ... عِنْد جَمِيع العلما الْأَثْبَات)
(فِي كل حِين مِنْهُ يُسْتَفَاد ... علم بِهِ يَتَّضِح الرشاد)
(راياته محفوفة بالسعد ... يحيى بن شمس الدّين نجل الْمهْدي)
(أَحْمد أَعنِي نجل يحيى الحجه ... نجل الإِمَام المرتضى المحجه)
(ابْن الْجواد أَحْمد بن المرتضى ... ابْن مفضل بن مَنْصُور الرِّضَا)
(ابْن مفضل بن حجاج العلى ... لله من قوم أولي فضل جلى)
(ابْن عَليّ نجل يحيى الْكَامِل ... وَذَاكَ نجل الْقَاسِم الحلاحل)
(نجل الإِمَام يُوسُف الدَّاعِي إِلَى ... هدى الْإِلَه نجل يحيى ذِي العلى)
(ابْن الإِمَام النَّاصِر بن الْهَادِي ... يحيى إِمَام الْحق والرشاد)
(ابْن الْحُسَيْن بن الإِمَام الْقَاسِم ... سليل إِبْرَاهِيم ذِي المكارم)(2/471)
(سليل إِسْمَاعِيل ذِي الذّكر الْحسن ... سليل إِبْرَاهِيم أَعنِي بن الْحسن)
(هُوَ الْمثنى نجل سبط الْمُصْطَفى ... ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفى)
(أَعنِي سليل الدرة البتول ... بنت النَّبِي الْمُصْطَفى الرَّسُول)
(مُحَمَّد خير الْأَنَام طرّا ... أكْرم بِهِ من نسب أغرّا)
(وسمته سلسلة الإبريز ... والجوهر الْمُرْتَفع الْعَزِيز)
(ورقية لكل دَاء معضل ... فِي الدّين وَالدُّنْيَا فَخذهَا تعتلي)
(وَقد سَأَلت الله بِالْجَمِيعِ ... وبالنبي الْمُصْطَفى الشَّفِيع)
(سُؤال من يستيقن الإجابه ... ويرتجي فِي ذَلِك الإثابه)
(الْعَفو وَالْقَبُول والإنابه ... والفهم والتوفيق والإصابه)
(وجملاً مضمرة فِي النَّفس ... مقدورة قطعا بِغَيْر لبس)
(وَالله ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام ... يعلمهَا وَيعلم اعتصامي)
(بهؤلاء السَّادة الْأَعْلَام ... أول البها والنيل والأحلام)
(حاشا جلال الله أَن يردّا ... يداي صفراً بعد أَن تمدّا)
وَشرح هَذِه الأرجوزة شرحاً وجيزاً لطيفاً السَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الْوَزير جمع فِيهِ سير الْمَذْكُورين فِيهَا وَبَعض فضائلهم وَقد استوفى أَخْبَار الإِمَام شرف الدّين السَّيِّد عِيسَى بن لطف الله بن المطهر بن الإِمَام شرف الدّين فِي تَارِيخ لطيف سَمَّاهُ روح الرّوح وَذكر وقائعه مَعَ التّرْك وماجرياته رَجَعَ إِلَى ذكر المترجم وَمن شعره قَوْله
(قد طَار قلبِي إِلَى من لَا أُسَمِّيهِ ... وَإِن تناسى الوفا فَالله يحميه)
(مهفهف ماد من تيه وَمن جذل ... فكاد قدّ قضيب البان يحكيه)
(بدر تكَاد بدور التم تشبهه ... والظبي حاكاه لَكِن مَا يُسَاوِيه)
(ذُو مقلة يعرف السحر الْحَلَال بهَا ... قلبِي بهَا يتقلى فِي تلظيه)
(كم أكتم الْحبّ فِي قلبِي وأضمره ... لَكِن مدامع عَيْني لَيْسَ تخفيه)
(أَبيت أرعى نُجُوم اللَّيْل منزعجاً ... ألتاع شوقاً وَفِي قلبِي الَّذِي فِيهِ)
(لي نَار وجد وأشواق أكابدها ... لله قلبِي فِيهِ كم يقاسيه)
(الْبَرْق يذهله وَالرِّيح تدهشه ... والشوق ينشره حينا ويطويه)
وَكَانَت وَفَاته فِي الْمحرم سنة سبع وَتِسْعين وَألف بكوكبان وَكَانَ مَرضه ثَلَاثَة أَيَّام(2/472)
السَّيِّد عبد الْقَادِر القيصري نقيب الْأَشْرَاف بالممالك العثمانية من بَيت مَعْرُوف بِصِحَّة النّسَب فِي مَدِينَة قيصرية دخل دَار السلطنة فِي ابْتِدَاء أمره وجدّ واشتغل ثمَّ لَازم من الْمولى بهاء الدّين زَاده وسلك طَرِيق الْقَضَاء فولي قَضَاء بلدته قيصرية وَمَا انْعَزل عَنْهَا بقريب حَتَّى طلب من طرف السلطنة وَأعْطى نقابة الْأَشْرَاف بالممالك وَكَانَ النَّقِيب إِذْ ذَاك السَّيِّد يحيى قد مَاتَ وَكَانَ ذَلِك فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان بعد الْألف فاستمر نَقِيبًا إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فَاضلا أديباً شَاعِرًا ومخلصه على قاعدتهم قدري ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيله وَقَالَ كَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَولي النقابة بعده السَّيِّد ياوز الْمَعْرُوف بياوز أَمِير
عبد الْقَادِر قَاضِي الْعَسْكَر الشهير بقدري وَهُوَ صَاحب الْفَتَاوَى الْمَشْهُورَة بفتاويه قدري وَيُطلق عَلَيْهَا لفظ الْمَجْمُوعَة وَهِي الْآن عُمْدَة الْحُكَّام فِي أحكامهم والمفتين فِي فتاويهم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا مَجْمُوعَة نفيسة أَكثر مسائلها وقائع وَكَانَت تقع أَيَّام الْمُفْتِي يحيى بن زَكَرِيَّا وَكَانَ هُوَ فِي خدمَة الْمُفْتِي الْمشَار إِلَيْهِ موزع الْفَتْوَى وموزع الْفَتْوَى عِنْدهم عبارَة عَن رجل يجمع الْفَتَاوَى الَّتِي كتبت أجوبتها ويدعها إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء من كل أُسْبُوع فَهَذَا يَوْم التَّوْزِيع فيقف فِي مَكَان من دَار الْمُفْتِي الْمعِين وينادي بأسماء أَصْحَاب الْفَتَاوَى وأسماؤهم مَكْتُوبَة على ظهر قرطاس الْفَتْوَى فَهَذِهِ خدمَة الموزع وَأمين الْفَتْوَى هُوَ الَّذِي يُرَاجع الْمسَائِل من محالها وَينزل عَلَيْهَا الوقائع وَاسْتمرّ عِنْد ابْن زَكَرِيَّا بِهَذِهِ الْخدمَة زَمَانا طَويلا وَكَانَ من ذَلِك الْعَهْد مَوْصُوفا بالتقى والإقبال على أَمر الْآخِرَة وَفِيه صَلَاح وإنابة وَمن هُنَا يحْكى أَن الْمُفْتِي الْمَذْكُور كَانَ أعرف أهل زَمَانه وَاجْتمعَ عِنْده من الحفدة أَرْبَاب الْمعرفَة مَا لم يجْتَمع عِنْد غَيره فَكَانَ إِذا أَرَادَ الْمُفَاوضَة مَعَ أحد فِي أَمر الدُّنْيَا والدولة وأحوال النَّاس قدم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البورسوي الَّذِي صَار آخرا مفتياً الْآتِي ذكره وَكَانَ عِنْده أَمِين الْفَتْوَى وَأقرب المقربين فيتفاوض مَعَه فِي هَذِه الْأُمُور لكَمَال فطنته ودربته ومعرفته بأحوال النَّاس وَإِذا أَرَادَ المذاكرة فِي مشكلات الْفِقْه والمسائل اخْتَار الْمولى أوزون حسن أَي الطَّوِيل وَكَانَ من خواصه وَإِذا أَرَادَ المباحثة فِي أَنْوَاع الْفُنُون الْعَقْلِيَّة رجح الْمولى مصطفى البولوي الَّذِي صَار آخرا مفتياً وَكَانَ من حَوَاشِيه وَإِذا أَرَادَ المناقشة فِي الْأَدَب وَالشعر ميز الْمولى مُحَمَّد بن فضل الله الشهير بعصمتي الَّذِي صَار آخرا قَاضِي العساكر وَكَانَ من ندمائه وَإِذا أَرَادَ المفاكرة(2/473)
فِي أَمر الْآخِرَة وأحوال الْمعَاد وَالْجنَّة وَالنَّار استدعى صَاحب التَّرْجَمَة وعَلى كل حَال فَهُوَ من خِيَار الموَالِي الْعِظَام ولي قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء العسكرين مَرَّات وَكَانَ عَالما فَاضلا وقوراً عَلَيْهِ مهابة الْعلم وَالصَّلَاح وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف بقسطنطينية وَدفن خَارج بَاب أدرنه
عبد الْكَرِيم بن الْعَالم الْوَلِيّ أبي بكر الشهير بالمصنف ابْن السَّيِّد هِدَايَة الله الْحُسَيْنِي الكوراني الشاهوي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْمُفِيد أَخذ عَن وَالِده ثمَّ رَحل إِلَى الْفَاضِل المنلا أَحْمد الْكرْدِي المجلى بِضَم الْمِيم ثمَّ جِيم مَفْتُوحَة على وزن صرد قَبيلَة من الأكراد قَالَه بَعضهم وَقَالَ آخر إِنَّه نِسْبَة إِلَى مجلان قَرْيَة تلميذ المنلا حبيب الله الشهير بميرزاجان الشِّيرَازِيّ تِلْمِيذه جمال الدّين مَحْمُود الشِّيرَازِيّ تلميذ جلال الدّين مُحَمَّد الدواني فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِثْبَات الْوَاجِب وَشرح حِكْمَة الْعين وَشرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب للْقَاضِي عضد الدّين ثمَّ عَاد وَأَبوهُ مَوْجُود وَأقَام على بَث الْعلم ونشره وَله من التصانيف تَفْسِير الْقُرْآن وصل فِيهِ إِلَى سُورَة النَّحْل فِي ثَلَاث مجلدات وَكتاب فِي المواعظ وَعنهُ أَخذ عَلامَة الْوُجُود الإِمَام الْكَبِير المنلا إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي الكوراني نزيل الْمَدِينَة المنورة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمسين بعد الْألف
عبد الْكَرِيم بن أكمل الدّين بن عبد الْكَرِيم بن محب الدّين بن أبي عِيسَى عَلَاء الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن قاضيخان وَهَذَا قاضيخان غير صَاحب الْفَتَاوَى بن بهاء الدّين يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن الْقَاسِم ابْن الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْعَدنِي ثمَّ البيجابوري ثمَّ النهرواني الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالقطبي وَسَيَأْتِي جده عبد الْكَرِيم قَرِيبا كَانَ هَذَا من أَعْيَان الْفُضَلَاء بِمَكَّة وَمن أجلاء الصُّوفِيَّة المجللين ولد بِمَكَّة وَأخذ عَن وَالِده وَغَيره وَأخذ الطَّرِيق عَن الشهَاب أَحْمد الشناوي ولازم بعده تِلْمِيذه السَّيِّد الْجَلِيل سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَفتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بفتوحات وَتحقّق بِمَعْرِِفَة الْوحدَة الوجودية وَله شرح على فصوص القونوي واعتراه فِي آخِره أمره جذب كَانَ يغيب فِيهِ أَحْيَانًا عَن وجوده مَعَ حفظ الْمَرَاتِب الشَّرْعِيَّة وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بَين العشاءين عَاشر شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وَألف بِمَكَّة وَدفن صَبِيحَة يَوْمه بالمعلاة
المنلا عبد الْكَرِيم بن المنلا سُلَيْمَان بن مصطفى بن حسن القَاضِي بديورنه وَسَنَده ابْن عبد الْوَهَّاب الْكرْدِي الشَّامي الخالدي الشَّافِعِي نزيل دمشق الْعَالم(2/474)
الْكَبِير الزَّاهِد العابد كَانَ من أمره أَنه قَرَأَ ببلاده واجتهد وَأخذ عَن كبار الْمُحَقِّقين ومشايخه كَثِيرُونَ فَمن أَخذ عَنهُ الحَدِيث عَمه مُحَمَّد عَن ميرزا مُحَمَّد الكوراني وَهُوَ عَن أَبِيه عبد اللَّطِيف عَن المنلا إلْيَاس من كلاط من كوران صَاحب التسهيل على العوامل وَهُوَ أَخذ عَن الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي بأسانيده الْمَشْهُورَة وَأخذ الْفِقْه عَن المنلا أَحْمد الْعُمر ابادي وَهُوَ أَخذ عَن المنلا إلْيَاس الثَّانِي البروزي وَهُوَ أَخذ عَن المنلا إلْيَاس الْمُتَقَدّم بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدّم وَالتَّفْسِير عَن المنلا يُوسُف الكوراني عَن الشَّيْخ عبد الْكَرِيم الشهرزوري الكركدري عَن المنلا إلْيَاس الْمَذْكُور بِسَنَدِهِ وَأخذ تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ عَن المنلا محسن بن المنلا سُلَيْمَان الدشاني قِرَاءَة لبعضه وسماعاً لباقيه فِي الرَّوْضَة الشَّرِيفَة وَهُوَ أَخذه عَن السَّيِّد ميرزا إِبْرَاهِيم الهمذاني وَعَن المنلا أَحْمد المنجلي تلميذ ميرزاجان وَأخذ الْفَرَائِض عَن القَاضِي شكر الله الشقري عَن الشَّيْخ بدر الدّين الطَّائِي عَن الْمولى إلْيَاس الْمَذْكُور بِهَذَا السَّنَد والنحو عَن المنلا عبد الصَّمد الموجشي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة موجش من قرى كوران وَله رِوَايَات غير هَذِه وَتمكن فِي الْعُلُوم والمعارف كل التَّمَكُّن وَورد دمشق وَأقَام بهَا وَأخذ عَنهُ بهَا غَالب فضلائها الَّذين بهروا واشتهروا مِنْهُم الْعَلامَة السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين النَّقِيب وَالشَّيْخ مُحَمَّد العيثي وَشَيخنَا إِبْرَاهِيم الفتال وَالسَّيِّد الْعَالم شمس الدّين مُحَمَّد الحصني وَكَانَ صَاحب قدم راسخة فِي الْولَايَة وصدرت عَنهُ كرامات ومكاشفات كَثِيرَة مِنْهَا أَنه صَار يَوْمًا إِلَى ربوة دمشق وَمَعَهُ تلامذته المذكورون وَكَانَ الشَّمْس العيثي احْتَلَمَ فِي ليلته تِلْكَ وغفل عَن الِاغْتِسَال فَلَمَّا قَامُوا لصَلَاة الظّهْر تَوَضَّأ وَأَرَادَ الشُّرُوع فِي الصَّلَاة فَجَذَبَهُ المنلا عبد الْكَرِيم من كتفه وَقَالَ لَهُ امْضِ اغْتسل ثمَّ صل فَذهب واغتسل ثمَّ عَاد وَصلى وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى تمّ الْجُزْء الثَّانِي ويليه الْجُزْء الثَّالِث وأوله عبد الْكَرِيم بن سِنَان المنشي(2/475)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
عبد الْكَرِيم بن سِنَان أحد موالى الرّوم ومنشى الدوران وَأحسن أهل الرّوم لهجة فى النثر العجيب المدهش وأوفرهم اطلاعا على فنون الادب وأعرفهم باللغة الْعَرَبيَّة قَرَأَ على الْمولى على بن سِنَان المحشى ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة فى حُدُود التسعين وَتِسْعمِائَة وَقَرَأَ بهَا على النُّور على بن غَانِم المقدسى الحنفى وَصَحب مُدَّة اقامتة بهَا القاضى بدر الدّين القرافى المالكى وَبَينهمَا مفاوضات وأناشيد كَثِيرَة ثمَّ رَجَعَ الى الرّوم وسلك طَرِيق الموالى فدرس ثمَّ صَار قاضى حلب فى سنة ثَمَان وَعشْرين وَله مَعَ أدبائها مكالمات ومخاطبات ثمَّ عزل عَنْهَا وَولى قَضَاء الْقَاهِرَة وَذَلِكَ يَوْم السبت رَابِع عشرى جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَت مُدَّة قَضَائِهِ بهَا خَمْسَة أشهر وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَله مَعَ أَبى الْعَبَّاس المقرى صُحْبَة ومودة وَكَانَ المقرى عرض عَلَيْهِ كِتَابه فتح المتعال فى وصف النِّعَال وَطلب مِنْهُ أَن يقرظ لَهُ عَلَيْهِ فَكتب تقريظا لم يسْبق الى مثله لَكِن فِيهِ طول وَمن جملَته قَوْله فى وصف الْمُؤلف صَاحب الذِّهْن(3/2)
المتوقد فى فهم المشكلات وَحل رموزها وصائب الْفِكر المتوهج فى فك طلاسمها وَفتح كنوزها
(يحل رموزا لَا يرى من يحلهَا ... وَمَا شَذَّ فهما من كَلَام الاوائل)
طرز حلل الْعُلُوم بوشى أرقامه وَرمى أغراض الْفُنُون بسهام أقلامه
(سِهَام اذا مَا راشها ببنانه ... أُصِيب بهَا قلب البلاغة والنحر)
صفت عَن قذى الْخَطَأ منا هَل أنظاره وَصحت من غمام الأوهام آفَاق افكاره وَشرح ببراعة يراعته صُدُور المهارق وأتى من معجزات البلاغة بالخوارق ان نظم أزرى بِعقد الثريا أَو نثر أخجل زهر الرَّوْض الباسم الْمحيا اذا نطق يطلع نور الْفضل من أفق بَيَانه أَو كتب يجرى زلال الادب من ميزاب قلمه ببنانه
(قلم أَقَامَ وَلَفظه متداول ... مَا بَين مشرق شمسها وَالْمغْرب)
الى أَن قَالَ ألْقى عَلَيْهِ الشّرف رِدَاءَهُ وَالْمجد سرباله فاستسعد بِخِدْمَة نعل النبى عَلَيْهِ سَلام الله مَا هبت الصِّبَا فطوبى لَهُ وناهيك بنعلين لَو أَن الفرقدين حازا أملا لَهما أَن يَكُونَا مِنْهُمَا بَدَلا يَا لَهُ من مَجْمُوع جمع أنواعا وأجناسا من المحاسن وَجرى مَاء البلاغة فى جداول سطوره غير آسن نفث فى عقد الْعُقُول بسحره وسبى أَفْئِدَة البلغاء بنظمه ونثره شفت ظروف حُرُوف مبانيه فَنمت على سلافة لطافة مَعَانِيه كَمَا نم الزّجاج على الرَّحِيق والنسيم على شذى الرَّوْض الانيق
(انى لَا قسم لَو تجسم لَفظه ... أنفت نحور الغانيات الجوهرا)
فَكَانَ البلاغة قَالَت لَا أعصى لَك أمرا وبحور الشّعْر أَطَاعَته فاستخرج مِنْهَا جوهرا ودرا فرشحات تِلْكَ الاقلام نافثات الْمسك ندها
(والعنبر الرطب غَدا قَائِلا ... لَا تدعنى الا بياعبدها)
وَلما استكشفت وُجُوه عرائس مَعَانِيه المخبأة تَحت براقع أسجاعه وقوافيه لمحت ربات جمال قد حسرت لثامها عَن منظر متهلل باسم فتمسكت بِشعر الاديب الناثر النَّاظِم أَبى الْفَتْح كشاجم
(شخص الانام الى صليعك فاستعذ ... من شَرّ أَعينهم بِعَين الْوَاحِد)
فتيقنت ان ارادة التقريظ باجالة جواد الْقَلَم فى ذَلِك المجال لَيْسَ الا للاستعاذة من شرعين الْكَمَال فَمَا أحقنى بقول من قَالَ
(جعلت تقريظى لَهُ عوذة ... تقيه من شَرّ أَذَى الْعين)(3/3)
انْتهى وَمن بدائعه الفائقة تراجم أَنْشَأَهَا وَترْجم بهَا بعض الوزراء ومشايخ الاسلام وَبَعض الموالى وَالْكتاب وَالْعُلَمَاء وَكلهَا لَا تنوف على الْعشْرين تَرْجَمَة بِكَثِير وهى مَجْمُوعَة عندى فى دفتر من أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة وَقد ذكرت مِنْهَا فى محالها بَعْضًا وسأذكر الْبَعْض الآخر ان شَاءَ الله تَعَالَى فانها من نفائس القَوْل وأعجبها التَّرْجَمَة الوهابية ترْجم بهَا أَحْوَال القاضى عبد الْوَهَّاب قاضى الْقُضَاة بِالشَّام كَانَ وَقد ذكر الخفاجى قِطْعَة مِنْهَا عِنْد مَا تَرْجمهُ فى كِتَابه الريحانه وَهَذِه هى برمتها بعد ذكر اسْم المترجم ضَاعَت أوقاته وغلبت على حَسَنَاته سيئاته تمحض للفحص عَن أَحْوَال النَّاس وأخبارهم وتفرغ لنبش خباياهم وأسرارهم يسْأَل من يدْخل عَلَيْهِ عَن الوقائع والحوادث ويشرع فى الْبَحْث عَن النَّاس وَفِيه مبَاحث شعر
(وَلَو نظر العياب فى عيب نَفسه ... لَكَانَ لَهُ شغل عَن النَّاس شاغل)
لَعَلَّه لم يعلم أَن من غربل النَّاس نخلوه وَأَن من أظهر لَهُم الصعوبة ذللوه فيا لهفى على اضاعة بضَاعَة أوقاته بَين حَدِيث غث وَكَلَام رث تمجه نفس السَّامع وتتلوث بِهِ المسامع وَبَين تَدْبِير الاكل وَالشرب وَالْحَالة انه يكفى الانسان لقْمَة تقيم الصلب
(أَظُنك من بَقِيَّة قوم مُوسَى ... فهم لَا يصبرون على طَعَام)
وَلَقَد رَأَيْته وَهُوَ يُكَرر ابتلاع الجوارش وَلَاء وَذَلِكَ لدفع التُّخمَة احْتِيَاطًا وان اسْتَحَالَ أَن تحس تِلْكَ الْمعدة امتلاء لعمرى لَو أكل لُقْمَان العادى ذَلِك الْقدر مِنْهُ لقضى نحبه من التخم ولألقى رَحْله الى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم وليت شعرى مَا يلْزمه عنيف اكل حَتَّى تشبث فى هضمه بأذيال الجوارشات وَكَانَ قد وَجب عَلَيْهِ حَيْثُ انه مغرم بالاكل أَن يتحاشى اكثاره لَان الْعَامَّة تَقول رب اكلة تمنع اكلات
(وَلَيْسَ الاكل بالقنطار لَكِن ... على مِقْدَار مَا تسع الْبُطُون)
وَلَو رَأَيْته اذا حضر عِنْده الطَّعَام لرأيته حوتى الالتقام خطا فى الاختطاف ثعبانى الجذبات غضنفرى الوثبات وَكَانَ الْحَيَاة على زَعمه لَيست مخلوقة الا للشُّرْب والاكل وان الانسانية فى اعْتِقَاده مَا هى الا عبارَة عَن الْهَيْئَة والشكل وان سَاعَات اللَّيْل وَالْيَوْم مَا وضعت الا للسّنة وَالنَّوْم فيا ضَيْعَة الاعمار تمضى سَبَهْلَلا من زَارَهُ زار شَيخا ملآن الحشا متتابع التمطى والجشا وارحمتا لمجالسيه من الروائح الَّتِى تهب من فِيهِ وَكَانَ يواظب على مَجْلِسه فى خوانه أتراك بَلَده وَمَا يَليهَا من أخدانه واخوانه(3/4)
(وَأنس القرين الى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب)
من كل من اذا وَقع الْخطاب الْعَام لَا يصلح للخطاب وَمن باكأذيبه تنعطف الْقُلُوب على مُسَيْلمَة الْكذَّاب فيتخذون تِلْكَ الدَّار دَار الندوه ويعدون للصوارم نبوه وللجياد كبوه يتجاذبون لُحُوم أَصْحَاب الاعراض فَلَا بدع فانهم كلاب بل ذئاب على اجسادها ثِيَاب وَمن ذَلِك الحزب الخاسر لئيمهم يلقب بجثى جحود الْحَشْر والبعث قد بلغنى عَنهُ لَا بلغه الله الامل وَلَا زَالَ فى النَّدَم الْمُقِيم المقعد من مجازاة سوء الْعَمَل
(جزى ربه عَنى عدى بن حَاتِم ... جَزَاء الْكلاب العاويات وَقد فعل)
أَنه يروم تَفْضِيل نَفسه بتنقيص الافاضل ويؤمل بِهَذَا السَّبَب تنويه ذكره وَهُوَ فى النَّاس خامل وهيهات واين الثريا من يَد المتناول فتصاممت وَقلت الجانى حمَار وجرح العجماء جَبَّار من ذَا يعَض الْكَلْب ان عضا وحسبت مقاله طنين الذُّبَاب أَو صرير الْبَاب أذن الْكَرِيم عَن الْفَحْشَاء صماء وَقد مَا قيل لَا يضر السَّحَاب نباح الْكلاب وتمثلت بقول أَبى اسحاق الصابى
(لَا تؤمل أَنى أَقُول لَك اخْسَأْ ... لست أسخو بهَا لكل الْكلاب)
وَلَا عتب عَلَيْهِ فان المسعود مَحْسُود وَهل تلام الثعالب بحسد الاسود ونزهت نفسى عَن مجاراة مثله مَتى كَانَت الآساد مثل الثعالب وَبعد هَذَا خض الله تَعَالَى فَاه وَلَا زَالَت ترد وُفُود الصفع على قَفاهُ لم يزل يُدِير على كاسات الاذى مترعة بالقذى
(قد أَصبَحت أم الشرور تدعى ... على ذَنبا كُله لم أصنع)
حَتَّى كَأَنَّهُ اتخذ ثلبى وردم يتَقرَّب الى الشَّيْطَان بِهِ والى الْآن لم أَقف على سَببه كم تحملت مِنْهُ الاذى وَهُوَ البادى وَكم شربت على القذى وَأَنا الصادى وَلما طَال تماديه فى الْبَاطِل بتجانبه عَن الْحق واعراضه لَا غر وحركا أظفار الاقلام فى تخديش صفحات أعراضه فوَاللَّه لانت الظَّالِم لنَفسك فى هَذَا الامر والجانى عَلَيْهَا فى نفخ هَذَا الْجَمْر وَلست الا كَالْكَلْبِ يكْسب لَهُ نباحه الضَّرْب وَمَا مثلك الا مثل كلب غادا فَمه لَهُ ظلوما اذ جنى على استه بِأَكْل الْعِظَام كلوما فانى قد كنت طويت عَن مثالب النَّاس كشحا وَضربت دون ذكر مناقبهم صفحا وأمسيت غضيض الطّرف عَن أَحْوَالهم فَلم أر لَهُم محاسنا ومساويا فَلَا رَحِمك الله ذكرتنى الطعْن وَكنت نَاسِيا عمرى لقد زاحمت الْبَحْر الخضم وتلاعبت بأنياب الاسود والارقم وَمَا أَنْت الا أذلّ من النَّقْد كمبتغى الصَّيْد فى عريسة الاسد أَو مَا خشيت من(3/5)
اليراعة الَّتِى لعاب الافاعى القاتلات لُعَابهَا أَو مَا خفت من البراعة الَّتِى لَا ينْفق سوق الادب الا بهَا اَوْ مَا قلت ان أَمَامِي مَالا أسامى أتتحكك بأنياب الاسود وبراثن الاسد أَو تراجم جندلا أَو تهادى أجدلا لقد سخنت عَيْنك وحان حينك وَقد قيل اذا جَاءَ أجل الْبَعِير حام حول البير
(يَا سالكا بَين الاسنة والقنا ... انى أَشمّ عَلَيْك رَائِحَة الدَّم)
ولعلك تمسكت بقول الهمدانى من انقادت لعذوبة بَيَانه الْمعَانى
(يَا خَائِف الهجو على نَفسه ... كن فى أَمَان الله من مَسّه)
(أَنْت بِهَذَا الْعرض بَين الورى ... مثل الخرا يمْنَع عَن نَفسه)
نعم الامر كَذَلِك لَكِن الْعبْرَة بقول أَبى الطّيب رقرق على تربه من سِجَال الغفران الصيب وفى عنق الْحَسْنَاء يستحسن العقد وَلَقَد أحسن هَذَا الْمَعْنى الاديب ابْن االزقاق الاندلسى من بأدبه فضل الْمُتَقَدّم قد نسى
(زَادَت على كحل الْعُيُون تكحلا ... ويسم نصل السَّيْف وَهُوَ قتول)
الام تجس المعايب وتطعن فى النَّاس أكليب خُذْهَا من يدى جساس يَا أقذر من آلَة الاحتقان مَتى فست بك فقحة الزَّمَان يَا أنتن من مبال الطواشى وَيَا أنجس من شعير رَوْث المواشى يَا ضمادا الْجرْح وَقد مَضَت عَلَيْهِ عدَّة لَيَال يَا قِطْعَة البلغم فى رئة المسلول وَلم يُخرجهَا السعال يَا تنفس من بِهِ ضيق النَّفس وَيَا اراقة بَوْل قد احْتبسَ يَا طول شعر العانه وَيَا قار مرّة مقروح المثانه يَا لعاب فَم المجذوم وَيَا جشاء من أكل الثوم يَا مَحِيض النِّسَاء وَيَا فسَاء الخنفساء يَا أنجس من سُؤْر الْكَلْب وَيَا أقذر من سَرَاوِيل من بِهِ الجرب الرطب يَا منديل المسلول وَقد لزقت بِهِ قطعات البلغم يَا ريح فَم المخمور المتقيء قبل ان يغسل الْفَم يَا من أغنت عَن المسهلات طلعته يَا من تكفل عمل المغيبات رُؤْيَته يَا من يُكرمهُ النَّاس فى الْمجَالِس والمجامع اكرام الْكَلْب المبتسل اذا دخل الْجَامِع يَا من تحار فى فهم كَلِمَاته الْعَارِية عَن الْمَعْنى والتناسب عقول الافاضل وتذكر فى تِلْكَ الْجمل قَول صَاحب التَّحْقِيق تمثيلا دَرَجَات الْحمل ثَلَاثُونَ وفى عين الذُّبَاب جحوظ وجالينوس ماهر فى الطِّبّ والقرد شَبيه بالآدمى وَكم الامير فى غَايَة الطول يَا من أربى على أَبى جهل فى الضلاله يَا من أتعب بترهاته الْجمال النقاله يَا كَاف وَجه الايام يَا قرحَة عين الاسلام يَا افلاس العاشق يَا تعفف الْفَاسِق يَا صباح المخمور يَا ليل الْغَرِيب يَا سُقُوط نبض الْمَرِيض وَيَا يأس(3/6)
الطَّبِيب يَا خيبة من رَجَعَ رَاضِيا من الْغَنِيمَة بالاياب وندامة رستم بعد قتل ابْنه سهراب يَا من نتج عِنْده من الْخبث طريفه وتلاده وَيَا من تصلح معايبه مِثَالا لكلى لَا تتناهى أَفْرَاده يَا من جمع من القبائح أنواعا وأجناسا فى قالب وَاحِد وَيَا من عناه ابْن الرومى بقوله
(وَلَو لم تكن فى صلب آدم نُطْفَة ... لخر لَهُ ابليس أول ساجد)
يَا أكره من حَدِيث معاد وَيَا أعبس من وَجه التَّاجِر فى أَيَّام الكساد يَا خجل الْعَرُوس عِنْد أَهلهَا قد فض خَتمهَا غير بَعْلهَا يَا قذارة من يستنجى بِالْمَاءِ الْقَلِيل وَيَا عقدَة تكة أَبَت الْحل وَالْبَوْل يكَاد يحرق الاحليل يَا مسبار الْحجام يَا بَيت حلاقة الْعَانَة فى الْحمام يَا سجادة الزَّانِيَة وَيَا منديل مسح اللائط بعد أَن يرتكب الْحَرَام يَا شَعْرَة رَأس الْقَلَم حِين شُرُوع الْكَاتِب فى الرقم يَا قِطْعَة البلعم فى حلق المغنى عِنْد بَدْء النغم يَا وَاسع الْمَذْهَب وَيَا ضيق الصَّدْر يَا وسخ الْعرض يَا نظيف الْقدر يَا من ألزم كَاتب الْيَسَار كل حِين كِتَابه وَيَا من لَا يَأْثَم عِنْد الله من اغتابه يَا من أدْمى أنامل حِسَاب قبائحه ومعايبه يَا من أحفى أَقْلَام كتاب مساويه ومثالبه
(مسَاوٍ لَو قسمن على الغوانى ... لما أمهرن الا بِالطَّلَاق)
فاليكها وتفكه قبل أَن يقدم لَك الطَّعَام بِهَذَا الحنظل فانى سَوف ألقمك الخرا بالخردل وَلم أزل أذيقك من هَذِه الْفُصُول الموجعة للقلب سياطا الى أَن لَا تتمالك استك الْوَاسِع ضراطا فَترد عَن نَفسك اذ ذَاك وتطفى فى قَلْبك هَذَا الْجَمْر كماردها يَوْمًا بسوأته عَمْرو وَمَا أَنْت الا كالحبارى لَيْسَ سلاحها فى مدافعة السقر الا سلاحها لعمرى لقد أدخلتك هَذِه الاسجاع فى حجر ضَب خرب أَو فى است كلب جرب فأبشرفان بَقِيَّة عمرك القذر تمضى فى ذَلِك الْمنزل الرحب العذب مَاؤُهُ الطّيب هواؤه وَكَانَ وَجب على ذمَّة الحمية الابية مجازاتك فأدينا اليك الْكَيْل صَاعا بِصَاع وأحرقناك شواظ من النَّار الَّتِى هى عبارَة عَن هَذِه الاسجاع كلا وشتان بَينهمَا فان هَذِه لَا تقاس بدواجن كلماتك وَنهى كَمَا تعرفها لَا تخرج من دَارك وَلَا يتعهدها من بجوارك وَأما تِلْكَ الْفُصُول فستسير مسرى الصِّبَا وَالْقَبُول وتصادف من النَّاس مواقع الْقبُول فَلَا غر وأوجبنا عَلَيْك ان نشافهك بِمَا اتصفت بِهِ من المعايب والمثالب وَلَا عتب علينا لَان مَا لَا يتم الْوَاجِب الابه فَهُوَ وَاجِب وَوَاللَّه ان تِلْكَ الالفاظ لتأنف مِنْك وانى أستغفره تَعَالَى فى تعذيبها بك وايذائها بخطابك(3/7)
كَيفَ لَا وانك لعذرة ملْء اهابك وَمِمَّا بلغنى عَنْك أَن لِسَان الدَّهْر لما أسمعك بعض أسجاعنا الذى تخضع لَهُ رِقَاب القوافى ويميس من حلل البلاغة فى البرود الضوافى بادرت الى مطالعة فقر المقامات لَعَلَّك تجدها فِيهَا أَو فى كتاب آخر يضاهها وتفضل علينا بتصحيح صلَاتهَا وَجعلهَا أنموذج فضلك الغزير فهاتها ونسأل الله السَّلامَة من الوصمة والامداد بالتوفيق والعصمة والارشاد الى سلوك سَبِيل التَّقْوَى والتمسك فى كل حَال بِسَبَبِهَا الاقوى انْتهى وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فى عشر الاربعين وَالله أعلم
عبد الْكَرِيم بن محب الدّين بن أَبى عِيسَى عَلَاء الدّين وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة حفيده القطبى الحنفى مفتى مَكَّة المشرفة الامام الْعَلامَة الملقب بهاء الدّين كَانَ اماما فَاضلا لَهُ اشْتِغَال تَامّ بِالْعلمِ وَخط حسن وَنسخ بِخَطِّهِ كتبا وَله حفظ جيد ومذاكرة قَوِيَّة وَكَانَ عَارِفًا بالفقه خَبِيرا بأحكامه وقواعده مطلعا على نصوصه مَعَ طلاقة الْوَجْه وَكَثْرَة السّكُون وَأما الادب فَكَانَ فِيهِ فريداً يفهم نكته ويكشف غوامضه ويستحضر من الاخبار والوقائع وأحوال الْعلمَاء جملَة كَثِيرَة وَكَانَ من أذكياء الْعَالم ذَا انصاف فى الْبَحْث لَازم عَمه وأستاذه الْعَلامَة قطب الدّين الحنفى مفتى مَكَّة وَبِه تفقه وَعَلِيهِ تخرج وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله السندى والعلامة الشهَاب أَحْمد بن ججر الهيتمى روى عَنهُ صَحِيح البخارى وَمِمَّنْ أَخذ عَن المترجم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَتَوَلَّى افتاء مَكَّة سنة ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَولى ايضا الْمدرسَة السُّلْطَانِيَّة المرادية بِمَكَّة وَألف مؤلفات لَطِيفَة مِنْهَا شرح على البخارى ممزوج لم يكمله سَمَّاهُ النَّهر الجارى على البخارى وتاريخ سَمَّاهُ اعلام الْعلمَاء الاعلام بِبِنَاء الْمَسْجِد الْحَرَام وَهُوَ مُخْتَصر تَارِيخ عَمه الْمَذْكُور زَاد فِيهِ أَشْيَاء حَسَنَة مهمة مِمَّا يحْتَاج اليه وَمَا حدث بعد تألفيه منبهاً عَلَيْهِ وَحكى الامام على الطبرى أَن صَاحب التَّرْجَمَة شَارك فى حُدُود التسعين وَتِسْعمِائَة أَئِمَّة الْمقَام فى امامته وهم السَّادة البخاريون فانهم أقدمهم ثمَّ بَيت الشَّيْخ أَبى سَلمَة وَكَانُوا لَا يزِيدُونَ على أَرْبَعَة أَنْفَار غَالِبا فَكَانَ حَافِظًا للمقام وصائنا لَهُ عَن تطرق مشارك فى الامامة بِحَيْثُ انه ورد سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَظِيفَة امامة مستجدة للملامكى بن فروخ فَمَنعه صَاحب التَّرْجَمَة بِمَا بِيَدِهِ من الاحكام السُّلْطَانِيَّة لانه كَانَ قد استخرج خُطُوطًا سلطانية بِعرْض صَاحب مَكَّة ان لَا تتجدد وَظِيفَة بالْمقَام الْمَذْكُور فتشفع فروخ والدمكى بِبَعْض أكَابِر الاروام فَبلغ(3/8)
صَاحب التَّرْجَمَة ذَلِك فَبين الْحَال للمتشفع فامتع من الرَّجَاء فى ذَلِك حِينَئِذٍ فَلَمَّا توفى صَاحب التَّرْجَمَة قَامَ بِهَذَا الشان وَلَده اكمل الدّين وَحفظ النظام ثمَّ جرى عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْقدر فَمَاتَ شَهِيدا فى سنة عشْرين وَألف بعد قصَّة طَوِيلَة فَحِينَئِذٍ انْفَتح الْبَاب فى الامامة فَلم يزل التزايد الى أَن بلغُوا فى زَمَاننَا أَرْبَعَة عشر اماما انْتهى كَلَامه قلت وَقد بلغُوا الْآن نَحْو أَرْبَعِينَ وَصَاحب التَّرْجَمَة هُوَ الذى سعى فى احداث مَعْلُوم من بندر جده يكون فى مُقَابلَة خدمَة افتاء الْحَنَفِيَّة بِمَكَّة وَأجِيب الى ذَلِك وَجعلت لَهُ خلعة تحمل مَعَ الركب المصرى يلبسهَا فى يَوْم العرضة ثمَّ أحدث لَهُ فى مُقَابلَة ذَلِك أَيْضا صوفان من الديار الرومية وفى ضمنهما مائَة دِينَار وَاسْتمرّ ذَلِك لمفتى مَكَّة الى الْآن وَكَانَت وِلَادَته ضحى يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر شَوَّال سنة احدى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة بِأَحْمَد آباد من بِلَاد الْهِنْد وكنى بأبى الْفَضَائِل وَهُوَ تَارِيخ وِلَادَته وَقدم مَكَّة مَعَ وَالِده وَبهَا نَشأ وَتوفى بهَا قبل غرُوب شمس يَوْم الاربعاء خَامِس عشر ذى الْحجَّة سنة أَربع عشرَة بعد الالف وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالعبادى الدمشقى الحنفى الاديب الْفَاضِل الذكى كَانَ لَهُ مُشَاركَة تَامَّة فى الْفُنُون وخبرة فى نقد الشّعْر وَله فى المعميات وحلها الْيَد الطُّولى قَرَأَ بِدِمَشْق على الشَّيْخ عمر القارى وَعبد الرَّحْمَن العمادى والشرف الدمشقى وَعبد اللَّطِيف الجالقى وَغَيرهم وَأخذ طَرِيق الرفاعية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد العلمى القدسى وَحج فى بعض السنين وينقل لحجة سَبَب عَجِيب وَهُوَ انه كَانَ لَهُ بعض اخوان مِمَّن اخْتَلَط بهم وامتزج فتوجهوا قَاصِدين الْحَج فَسَار لوداعهم وَكَانَ الْفَصْل فصل الصَّيف وَعَلِيهِ الصُّوف وعَلى رَأسه الْعِمَامَة الْكَبِيرَة فَلَمَّا وصلوا الى بَاب الله أبرموا عَلَيْهِ ان يسير مَعَهم الى الْكسْوَة وَمَا برحوا يلحون عَلَيْهِ الحاحا بعد الحاح الى ان أَخَذُوهُ مَعَهم بنية الْمسير الى المزيريب وفى لَيْلَة الْمسير أبرموا عَلَيْهِ بِأَن يتَوَجَّه مَعَهم الى الْحَج فَلم يخالفهم وَتوجه مَعَهم وكل مِنْهُم أعطَاهُ مَا يحْتَاج اليه فحج حجَّة وَمَا زَالَ مُدَّة عمره يذكر مَا وَقع لَهُ فِيهَا من الاكرام والانبساط ثمَّ عَاد الى دمشق ولازم بعد مُدَّة من الْمولى عبد الْعَزِيز بن قره حلبى الْمُقدم ذكره وناب فى الْقَضَاء بمحكمة الميدان ثمَّ سَافر الى الرّوم فى سنة احدى وَخمسين وَألف وسلك طَرِيق الْقَضَاء فولى قَضَاء بيروت ثمَّ سَافر الى الرّوم مرّة ثَانِيَة وانتقل الى اقليم مصر فَصَارَ قاضى أبيار ثمَّ أَتَى الى دمشق وَصَارَ بهَا مُتَوَلِّيًا على أوقاف الْجَامِع الاموى مُدَّة(3/9)
وعزل لاختلال وَقع فى الْوَقْف وَولى قسْمَة الْعَسْكَر ثمَّ سَافر الى الرّوم مرّة ثَالِثَة وَصَارَ قاضى بنى سويف وَتوجه اليها فَمَاتَ بهَا وَكَانَ فى أَوَائِل عمره مائلا لجَانب الصّلاح ثمَّ اخْتلف وَكَانَ مفرط السخاء احسن المعاشرة والمحاورة وَكَانَ بَينه وَبَين مُحَمَّد وأخيه أكمل الكريميين مَوَدَّة وصحبة وَجرى بَينهم مفاكهات ومطارحات كَثِيرَة فَمن ذَلِك مَا اتّفق لَهُم وَقد ضمهم مجْلِس فابتدر مُحَمَّد على طَرِيق المساجلة فَقَالَ
(هواى عذرى وَلَا أعذر ... هَذَا على أهل النهى يُنكر)
(يعذلنى اللؤام فى صبوتى ... جهلا وَمَجْنُون الْهوى يعْذر)
(وجدى بِمن تخجل شمس الضُّحَى ... اذا تبدى وَجههَا الانور)
(قد سل من أجفانها أَبيض ... وهز من أعطافها أسمر)
وَقَالَ أَخُوهُ أكمل
(يُرِيك أَن مَاس قِنَا قدها ... غصنا بنوار البها يُثمر)
(ظَبْيَة أنس كم سبت جؤذرا ... وان سبا ريم الفلا الجؤذر)
(تريش من أجفانها أسهما ... يرْمى بهَا حاجبها الموتر)
(لم يقنى من حربها جوشن ... كلا وَلَا درع وَلَا مغفر)
(ينهانى اللائم فى حبها ... هَل أنْتَهى وَالْحسن لى يَأْمر)
وَقَالَ عبد الْكَرِيم صَاحب التَّرْجَمَة
(غادة دلّ أختشى غدرها ... يَا من رأى الغادة لَا تغدر)
(رحت عَلَيْهَا فى الجفا صَابِرًا ... لَكِن عَنْهَا قطّ لَا أَصْبِر)
(ورد الحيا يقطف من خدها ... وماؤه من وَجههَا يقطر)
وَقَالَ أكمل أَيْضا
(دموع عينى فى الْهوى ترسل ... عَمَّا يعانيه الحشا تخبر)
(نمام دمع الصب عاداته ... لكل مَا يطوى الحشا ينشر)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سنة سبعين وَألف وَبَنُو العبادى فِيمَا يَزْعمُونَ ينتسبون الى سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج الصحابى الْجَلِيل فَعَلَيهِ يكون العبادى بِضَم الْعين والعامة تكسرها فَهُوَ غلط مَشْهُور
عبد الْكَرِيم بن مَحْمُود بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالطارانى الميقاتى البعلى الاصل الدمشقى المولد وَالدَّار والوفاة الْكَاتِب الشَّاعِر المؤرخ الملقب كريم الدّين أحد كتاب محكمَة(3/10)
القسام بِدِمَشْق كَانَ من أَفْرَاد الزَّمَان ومحاسن الايام انْتَهَت اليه الْمعرفَة بِأُمُور الْكِتَابَة والتوريق والانشاء والحساب مَعَ مُشَاركَة تَامَّة فى فنون الادب وَغَيرهَا وَله النّظم الْجيد جَالس جدى القاضى محب الدّين وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا وعَلى غَيره كالحسن البورينى وتأدب بالشمس مُحَمَّد الصالحى الهلالى الشَّاعِر الْمَشْهُور وَكَانَ مليح الْعبارَة فى انشاء الوثائق جيد الفكرة لطيف المحاورة وَكتب الْكثير وَكَانَ كثير المحفوظات عَجِيب الايراد وَله تشيع وَكتب النَّاس عَنهُ كثيرا من نظمه ونثره وقرأت فى بعض مجاميعه بِخَطِّهِ قَالَ جرى لى يَوْمًا فى بعض الاندية أَنه ذكر أشج بنى مَرْوَان عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَمَا فعله وَهُوَ خَليفَة من أمره بالكف عَن لعن أَمِير الْمُؤمنِينَ على ابْن أَبى طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على المنابر مُدَّة تزيد على سبعين عَاما كَمَا هُوَ مَشْهُور وتلاوة قَوْله تَعَالَى ان الله يَأْمر بِالْعَدْلِ والاحسان الى آخر الْآيَة عقيب انْتِهَاء خطْبَة يَوْم الْجُمُعَة وَصَارَ هَذَا دأب الخطباء فى جَمِيع الامصار وانجر الْكَلَام من بعض من حضر الى مَا نظمه الشريف الرضى الموسوى فى هَذَا الْمَعْنى بقوله من أَبْيَات يُخَاطب بهَا عمر بن عبد الْعَزِيز
(يَا ابْن عبد الْعَزِيز لَو بَكت ... الْعين فَتى من أُميَّة لبكيتك)
الى آخر الابيات فنظمت هَذِه الابيات وهى من أحسن الشّعْر وأجوده
(أشج بنى مَرْوَان لله دره ... لقد كف عَن سبّ الامام الْمفضل)
(خَليفَة خير النَّاس والاول الذى ... دَعَاهُ رَسُول الله فى كل معضل)
(على أَمِير الْمُؤمنِينَ وصنوه ... وناصره فى يَوْم زحف ومحفل)
(لقد خصّه فى فتح مَكَّة بالاخا ... وبالراية الْعُظْمَى وناهيك من على)
(غَدَاة دَعَاهُ مر حب يَوْم خَيْبَر ... فجلله بِالسَّيْفِ وَالْحَرب تصطلى)
(وفى يَوْم أحزاب أَتَى بفضيلة ... بقتل ابْن ود العامرى المضلل)
(وفى الْحَرْب يَوْم النهروان لقد شفى ... غليلا وحرقوص يجول بمفصل)
(فَأَلْقَاهُ مطروحا صَرِيعًا مجدلا ... كاصحابه النائين عَن نهج مُرْسل)
(أَتَاهُم فلاقاهم رجَالًا خوارجا ... فأرداهم طرا بِغَيْر تمهل)
(وَلم ينج من صماصمه غير سَبْعَة ... وَكلهمْ باؤا باثم معجل)
(كأشقى مُرَاد نَالَ خزيا وذلة ... بقتل امام عَارِف متبتل)
(عَلَيْهِ من الله الْمُهَيْمِن لعنة ... مدى الدَّهْر مَا هبت نسيمات شمأل)(3/11)
(فَلم تبك شخصا من أُميَّة أعين ... بَكت مِنْهُم عين الاشج بمسيل)
(عَظِيم بنى مَرْوَان خير خَليفَة ... وَخير ذويه من أكول وأحول)
(لقد نزه الماضين عَن لعن سيد ... يكنى أَبَا السبطين فى كل منزل)
(وَعوض ان الله يَأْمر فافتهم ... لما جَاءَ فى نَص الْكتاب الْمنزل)
(فروى ضريحا ضمه صوب رَحْمَة ... وجازاه ربى بالثواب الْمُعَجل)
(وانى لراج أَن أنال بحبه ... من الله فى الفردوس كل مُؤَمل)
(فيا رب بوئنى بحقك جنَّة ... وَأحسن الهى فى الْقِيَامَة موئلى)
قلت وَالْمرَاد من أشج بنى مَرْوَان عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان وَأمه أم عَاصِم بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب وَكَانَ ابْن الْخطاب رضى الله عَنهُ يَقُول ان من ولدى رجلا بِوَجْهِهِ أثر يمْلَأ الارض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَلما نفحه حمَار بِرجلِهِ فَأصَاب جَبهته وَأثر بهَا قَالَ أَخُوهُ اصبع الله أكبر هَذَا أشج بنى أُميَّة يملك ويملأ الارض عدلا انْتهى وَلَا يرد عَلَيْهِ عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب فانه وان كَانَ أشج أَيْضا وَهُوَ من أَوْلَاد عمر الا انه لم يل حكما وبشجته ضرب الْمثل لمستهجن يزِيد بِهِ صَاحبه حسنا فانه كَانَ من أجمل أهل زَمَانه وأصابته شجه فزادته حسنا قَالَه فى ربيع الابرار وَكَانَ لصَاحب التَّرْجَمَة أَخ اسْمه مُحَمَّد وَكَانَ أحد الْمَشْهُورين بجودة الْخط الى الْغَايَة وَكَانَ يكْتب أَنْوَاع الخطوط بأجمعها ويقلد أقسامها على اخْتِلَاف أجناسها وَرُبمَا قلد الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة وَكَانَ سَافر الى مصر فاتفق انه حصلت لَهُ كائنة أدَّت الى وُصُول خَبره الى حَاكم مصر بتقليده الطغرا فَاسْتَحْضرهُ وألح عَلَيْهِ بالاعتراف بذلك فاعترف فَقطعت يَمِينه وَكَانَ بعد ذَلِك أَيْضا يلف على يَده خرقَة ويمسك بهَا الْقَلَم وَيكْتب وَقد وقفت لاخيه عبد الْكَرِيم على أَبْيَات أرسلها اليه بعد حُصُول هَذِه الكائنة لَهُ وَذكر فى أَولهَا مَا هَذَا نَصه من مراسلات كَاتب الْحُرُوف الى اخيه شقيقه وَهُوَ بالديار المصرية مُشِيرا الى حادثته الَّتِى أبكت الْعُيُون وأورثت الْقُلُوب الشجون ومتشوقا اليه
(سَلام كنشر الرَّوْض باكره الْقطر ... على ساكنى قلبى ومنزلهم مصر)
(سَلام عَلَيْهِم من كئيب متيم ... توالى على خديه مدمعه الْغمر)
(وان لَاحَ برق حن شوقا اليهم ... حنين أخى الاشجان قد خانه الصَّبْر)
(وَبعد فانى يَا أخى لما جرى ... أَخُو عِبْرَة تنهر اذ فدح الامر)(3/12)
(وَلم يَنْقَطِع ذكرى لايامنا الَّتِى ... تقضت بِأَرْض الشأم وهى بكم غر)
(وَكَيف وَقد كُنَّا جَمِيعًا بألفة ... وحاسدنا من غمَّة شفه الْقَهْر)
(واخواننا فى خفض عَيْش وكلنَا ... لفرط ائتلاف لَا يروعنا الذعر)
(وَلَكِن قضى هَذَا الزَّمَان بصدعنا ... وتشتيتنا صبرا على مَا قضى الدَّهْر)
(فَللَّه منا الْحَمد وَالشُّكْر دَائِما ... على المنن اللاتى يجل لَهَا الْحصْر)
(وَلَا زلت ترقى ذرْوَة الْعِزّ مَا شدا ... حمام على غُصْن وَمَا اكتمل الْبَدْر)
(وحن الى الاوطان كل مغرب ... مشوقا الى أهليه وانسكب الْقطر)
وقرأت بِخَطِّهِ مِمَّا نظمته ارتجالا وَقد جلس الى جانبى مليح من ملاح الشأم فى مَكَان مُرْتَفع وَكَانَ الْقَمَر فى تِلْكَ اللَّيْلَة فى حَالَة الابدار وَهُوَ مطل علينا فَقَالَ لى انْظُر الْبَدْر أمامك فَقلت لَهُ الْبَدْر أمامى على أى حَالَة فَخَجِلَ فَقلت منشدا
(وذى قوام رَشِيق ... دنا لبدر التَّمام)
(فَقَالَ والثغر مِنْهُ ... حَال بِحسن ابتسام)
(غَدا أمامك بدر ... فَقلت بدرى أمامى)
وأشعاره وأخباره كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته فى ثامن شعْبَان سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقابر الشِّيعَة فى بَاب الصَّغِير والطارانى نِسْبَة الى طارية وهى قَرْيَة من قرى بعلبك قدم مِنْهَا وَالِده الى دمشق ورأيته فى بعض مجاميعه ينتسب بالطيرانى بِالْيَاءِ ولعلها نِسْبَة على خلاف قِيَاس وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
عبد الْكَرِيم الواردارى مفتى الْحَنَفِيَّة بالشأم ومدرس السليمانية بهَا كَانَ من أهل الْعلم وَالدّين قدم الى دمشق صُحْبَة نائبها الْوَزير سِنَان باشا حِين وَليهَا بعد انْفِصَاله عَن الوزارة الْعُظْمَى فَرفع مرتبته حَتَّى صيره مفتيا فَأَقَامَ بِدِمَشْق سِنِين وَتزَوج بنت الشَّيْخ برهَان الدّين بن أدهم بن عبد الصَّمد وَكَانَ معلما لسنان باشا المومى اليه وَكَانَ كثير الصمت حسن السمت عَلَيْهِ مهابة الْعلم وسكينة الْفضل وَوَقع بَينه وَبَين الشَّمْس ابْن المنقار بِسَبَب مسئلة تحَالفا فِيهَا وَكَانَ ابْن المنقار يتبجح بِهَذِهِ الْقِصَّة وينشد
(أَنا صَخْرَة الوادى اذا هى زوحمت ... واذا نطقت فاننى الجوزاء)
فَكتب لَهُ عبد الْكَرِيم رِسَالَة لَطِيفَة قَالَ فِيهَا بلغنَا انكم حِينَئِذٍ تفخرون وتنشدون أَنا صَخْرَة الوادى وفى الحَدِيث الْمُؤمن هَين لين وَحج من دمشق ثمَّ عَاد اليها وَترك شعر رَأسه بعد حلق النّسك فَلم يحلقه ثمَّ صَار يضفره وَكَانَ مَقْبُولًا ثمَّ عزل عَن فَتْوَى(3/13)
الشأم ورحل الى قسطنيطينية وَكَانَ سِنَان باشا بنى دَار الحَدِيث عِنْد تربته الْمَعْرُوفَة بقسطنطينية فَشرط تدريسها لصَاحب التَّرْجَمَة فَصَارَ يدرس بهَا وَأقَام سنوات الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته بهَا فى صفر سنة ثَلَاث بعد الالف كَذَا قرأته بِخَط الشَّمْس الداودى المقدسى نزيل دمشق
عبد اللَّطِيف بن أَحْمد بن أَبى الوفا المفلحى الانصارى الحنبلى الدمشقى تقدم أَبوهُ أَحْمد وَكَانَ عبد اللَّطِيف هَذَا فَقِيها مشتغلا مَشْهُور السمعة جريئا فى فصل الامور رَحل الى مصر فى سنة خمس عشرَة بعد الالف وَأخذ بهَا الحَدِيث عَن النُّور الزيادى وتفقه بالشيخ يحيى بن مُوسَى الحجاوى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف البهوتى وأجازاه بالفتوى والتدريس وَذكر لَهُ الحجاوى فى اجازته أَنه أفتى بالجامع الازهر مرَارًا وَأفَاد واستفاد ثمَّ رَجَعَ فى سنة سبع عشرَة وَولى قَضَاء الْحَنَابِلَة بالمحكمة الْكُبْرَى أَولا ثمَّ صَار قاضى قُضَاة الْحَنَابِلَة بمحكمة الْبَاب وَكَانَت وَفَاته فى سادس عشر شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف
عبد اللَّطِيف بن بهاء الدّين بن عبد الباقى البعلى الحنفى الْمَعْرُوف بالبهائى القاضى الاجل الافضل كَانَ بارعا فى كثير من الْفُنُون فَارِسًا فى الْبَحْث نظارا مفرط الذكاء قوى الحافظة كثير الِاشْتِغَال حسن العقيدة قَرَأَ بِبَلَدِهِ بعلبك على جده لامه الْعَلامَة مُحَمَّد البهائى ثمَّ قدم الى دمشق وعمره سِتّ وَعِشْرُونَ سنة وَلزِمَ بهَا الشّرف الدمشقى والامام يُوسُف الفتحى وَأخذ عَنْهُمَا وبرع ثمَّ سَافر الى لروم وسلك طَرِيق الْقَضَاء الى أَن ولى أكبر المناصب بِبِلَاد الرّوم ثمَّ انحاز الى الْمُفْتى الْعَلامَة يحيى بن عمر المنقارى فقربه وَأَدْنَاهُ وَنَقله من طَرِيق الْقَضَاء الى طَرِيق الموالى فَأعْطَاهُ قَضَاء ترابلس الشأم ثمَّ بلغراد ثمَّ فلبه ونما حَظه واشتهر فَضله وَألف تآليف حَسَنَة تدل على قُوَّة بَاعه فى الْعُلُوم مِنْهَا شَرحه على فصوص ابْن عربى ونظم متن الْمنَار فى الاصول فى تِسْعمائَة وَثَلَاثَة أَبْيَات وَسَماهُ قُرَّة عين الطَّالِب وَهُوَ عدد أبياته ثمَّ شَرحه شرحا لطيفا وعنونه باسم الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل وَله شرح على ديوَان أَبى فراس أبدع فِيهِ كل الابداع ونظمه ونثره كثيران مستوفيان شَرَائِط الْحسن والمتانة فَمن ذَلِك قَوْله فى الْمَدْح
(اليك دون الورى انْتهى الْكَرم ... وَمن أياديك تكسب النعم)
(لن يبلغ الْمَدْح فِيك غَايَته ... بل دون معناك تنفد الْكَلم)(3/14)
(أَنْت الذى ترتجى مكارمه ... وَكم أنَاس وجودهم عدم)
(أَنْت الذى الدَّهْر دون همته ... وَفَوق هام السهى لَهُ قدم)
(طود وقار بالحلم مُشْتَمل ... بَحر نوال بالجود ملتطم)
(يخجل صوب الْغَمَام نائله ... بل دون هتان كَفه الديم)
(أعتابه مأمن لداخلها ... من كل هول كَأَنَّهَا حرم)
وَقَالَ يمدح شيخ الاسلام المنقارى بقوله
(معَاذ الوفا أَن يصبح العَبْد خَالِيا ... عَن الشُّكْر للْمولى الذى قد وفاليا)
(وأنعم حَتَّى لم يدع لى مطلبا ... وأنكى بِمَا أسدى الى الاعاديا)
(وكل الذى أملته من نواله ... حظيت بِهِ بل فَوق مَا كنت راجيا)
(وَفرغ عَن قلبى سوى حبه الذى ... تمكن فى قلبى وأنعم بَالِيًا)
(فغاية سؤلى فى الزَّمَان رضاؤه ... وأقصى المنى ان كَانَ عَنى رَاضِيا)
(ولى نفس حر قد أَبَت غير حبه ... وحاشا لمثلى أَن يرى عَنهُ ساليا)
(وقلب اذا مَا الْبَرْق أومض موهنا ... قدحت بِهِ زندا من الشوق واريا)
(تحكم فِيهِ حَبَّة واشتياقه ... لَهُ الحكم فليقض الذى كَانَ قَاضِيا)
(فَللَّه عَيْش مر لى بظلاله ... أجربه ذيل المآرب ضافيا)
(أروح بافضال وأغدو بأنعم ... ويمنحنى ورد الْمحبَّة صافيا)
(وفزت بِعلم مِنْهُ عز اكتسابه ... وأصبحت من حلى الْفَضَائِل حاليا)
(اذا مَا دجى بحث وأظلم مُشكل ... أَضَاء بِنور الْفِكر مِنْهُ الدياجيا)
(يجول على نجب الذكاء بفكرة ... أَبَت فى الذى تبديه الا التناهيا)
(يفوق على الْبَحْر الخضم بِعِلْمِهِ ... ويرجح فى الْحلم الْجبَال الرواسيا)
(يسابق أجناد الرِّيَاح الى الندى ... وينضح جدوى راحتيه الغواديا)
(نظمت لَهُ عقد المديح منضدا ... جعلت مَكَان الدّرّ فِيهِ القوافيا)
وَكتب اليه يمدحه أَيْضا
(بأى لِسَان يحصر العَبْد مدح من ... دمى من أياديه ولحمى وأعظمى)
(وَمن عِشْت دهرا تَحت اكناف ظله ... أروح بافضال وأغدو بانعم)
(وفزت بِعلم مِنْهُ عز اكتسابه ... وَذَاكَ لعمرى حسرة المتعلم)
(ينزهنى فى ظاهرى وسرائرى ... بارشاده عَن كل ريب ومأثم)(3/15)
(ويمنحنى مَحْض النَّصِيحَة جاهدا ... يعلمنى طرق الْعلَا والتكرم)
(ولولاه من عبد اللَّطِيف وَمن لَهُ ... وَمن يخْدم الاشراف يشرف وَيكرم)
(وحسبى من شكرى اعترافى بفضله ... وتصديق قلبى والجوارح والفم)
وَمن شعره قَوْله
(لَا تويسين عدوا ... من الوداد وداجى)
(تسرى اليه بلَيْل ... من المكيدة داجى)
عقد فِيهِ حِكْمَة وهى لَا تويسن عَدوك من ودادك تسرى اليه بلَيْل من المكيدة وَهُوَ لَا يدرى وَمن لطائفه قَوْله
(ان الشجَاعَة والندى ... سيان فى الْخلق الْجَمِيل)
(ثِقَة الْكَرِيم بربه ... ثِقَة الْمُجَاهِد فى السَّبِيل)
وَله غير ذَلِك مِمَّا يطول وَلَا تنتهى محاسنه وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف بِقَلْبِه وَهُوَ قَاض بهَا
عبد اللَّطِيف بن حسن الجالقى الْمَعْرُوف بالقزديرى الدمشقى الحنفى الْعَالم الْكَبِير الْمُفِيد المتورع الزَّاهِد البارع كَانَ من كبار عُلَمَاء زَمَانه لم يزل مكبا على الافادة والتدريس زاهدا فى الدُّنْيَا رَاغِبًا فى الْآخِرَة مُنْقَطِعًا عَن النَّاس غنى النَّفس فَقِيرا صَابِرًا أَخذ عَن جدى القاضى محب الدّين وَعَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن هِلَال وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن على العلمى المقدسى نزيل دمشق وتفقه بهم ولازمهم كثيرا حَتَّى تمهر وتجرد لنفع النَّاس فَلَزِمَهُ الجم الْغَفِير من الْفُضَلَاء وقرأوا عَلَيْهِ وغالب الافاضل الَّذين نبلوا قريب عَهده تلامذته وَكَانَ صَاحب نفس مبارك فَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد الا انْتفع بِهِ وَكَانَ شَدِيد الْحِرْص على تَأْدِيب جمَاعَة درسه لَا يبرح يخلقهم بالاخلاق الْحَسَنَة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العادلية الْكُبْرَى وسكنها الى أَن مَاتَ وَله من التآليف منظومة فى عبادات الْفِقْه يتداولها الطّلبَة وهى مَشْهُورَة بِالْبركَةِ واليمن وَله شعر كثير الا أَنه من شعر الْعلمَاء وأجود مَا رَأَيْت لَهُ قَوْله من قصيدة
(شغفنها ذَات حسن مَعَ سيادتها ... وَلم ترق لرق صَار يرقيها)
(لَا عيب فِيهَا سوى بخل على دنف ... بالوصل يَوْمًا وَمَا رقت حواشيها)
(وَلست كُفؤًا لَهَا شعرًا وَلَا أدبا ... وَلَيْسَ صفر وَلَا بيض فأهديها)
(وَذَاكَ من زمن قد راب ذامحن ... من غير مَا منحة للنَّفس تجديها)(3/16)
وَلَقَد رَأَيْت جمَاعَة من الآخذين عَنهُ وكل وَاحِد مِنْهُم يتغالى فى مدحه مغالاة زَائِدَة وَقَالُوا فية مَعَ فضيلته غَفلَة وَصُورَة بله فى الظَّاهِر من حَاله حَتَّى قَالُوا انه كَانَ يَوْمًا فى مجْلِس أحد قُضَاة دمشق فَدخل العاضل الاديب عبد اللَّطِيف بن يحيى المنقارى الآتى ذكره قَرِيبا ان شَاءَ الله تَعَالَى وَجلسَ فى الْجَانِب الْمُقَابل لَهُ فَقَالَ لَهما القاضى فى اثناء المخاطبة الْحَمد لله حصل لنا اللطف من كلا الْجَانِبَيْنِ فَأَنْشد الجالقى
(وفى الْحَيَوَان يشْتَرك اضطرارا ... ارسطا لَيْسَ وَالْكَلب الْعَقُور)
فَقَالَ المنقارى الشق الاول لنا والثانى لكم فَخَجِلَ وَأخذ يعْتَذر عَن هفوته وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء اخر وَمَعَ ذَلِك فَالْقَوْل فِيهِ انه بركَة من بَرَكَات الزَّمَان وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى يَوْم الثُّلَاثَاء ثانى عشر الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف بعلة الاسهال وَأوصى عِنْد الاحتضار أَن يُقَال عِنْد الصَّلَاة عَلَيْهِ الصَّلَاة على العَبْد الْفَقِير الحقير خَادِم الْعلم الشريف عبد اللَّطِيف ونفذت وَصيته وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
عبد اللَّطِيف بن عبد الْمُنعم بن زين الدّين بن يُونُس بن مُحَمَّد العجلونى الاصل الدمشقى المولد الْمَعْرُوف بِابْن الجابى الْفَقِيه القاضى الشافعى كَانَ أَبوهُ تَاجِرًا فى المصوغات بصاغة دمشق وَنَشَأ هُوَ وَقَرَأَ ودأب وَأخذ عَن الْبَدْر الغزى والْعَلَاء ابْن عماد الدّين والشهاب الفلوجى والشهاب أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد الطيبى وتلقى عَنهُ القرا آتٍ والعربية وَالْفِقْه حَتَّى فضل وَكَانَ الطيبى فِيهِ علاقَة وسعى لَهُ فى وَظِيفَة الْوَعْظ يَوْم الثُّلَاثَاء بالجامع الاموى وَكَانَ فصيح اللِّسَان فى الْوَعْظ وَفرغ لَهُ عَن خطابة التوريزية وَغَضب عَلَيْهِ آخرا فسعى فى أَخذهَا عَنهُ وَولى عبد اللَّطِيف نِيَابَة الْقَضَاء بمحكمة الْكُبْرَى ثمَّ نقل الى الْبَاب بعد موت القاضى تقى الدّين الزهيرى وسافر الى الرّوم وَرجع وَمَعَهُ بَرَاءَة بتدريس الشامية البرانية عَن عَم أَبى القاضى عبد اللَّطِيف وَقَضَاء الشَّافِعِيَّة بِالْبَابِ بعد ان كَانَ وَجه للقاضى مَحْمُود الْعَدْوى الزوكارى فَسلمت اليه النِّيَابَة وَلم تسلم لَهُ الْمدرسَة ثمَّ وجهت اليه الْمدرسَة بعد مُدَّة من جَانب ابْن عزمى وَلم تبْق مَعَه الا قَلِيلا حَتَّى جَاءَت عَنهُ لِلْحسنِ البورينى وبقى ابْن الجابى نَائِبا الى أَن مَاتَ وَكَانَ سيئ السِّيرَة متهاونا فى أُمُور الشَّرْع وَكَانَ يَأْكُل البرش وَكَانَ ثقيلا جدا حَتَّى لقب بشباط وَفِيه يَقُول النَّجْم الغزى
(مَا زَالَ اشباط بكيفية ... مختلة فى حَال اخباط)(3/17)
(يهذى على النَّاس كَمَا يشتهى ... وَالنَّاس كانون باشباط)
وكانون فى الْبَيْت بِفَتْح النُّون جمع كَانَ قَالَ فى الصِّحَاح رجل كَانَ وَقوم كانون وَهُوَ من كنيت عَن الشئ اذا أخْبرت عَنهُ وَلم تصرح باسمه وَمِمَّا قيل فى التَّعْرِيض بِهِ بَيْتا الشاهينى وهما
(حركات حاكمنا وَقد بلغت ... فى الْبرد أقْصَى غَايَة الامد)
(حركات غيم شباط حِين بدا ... ملآن من ثلج وَمن برد)
وَكَانَ ينظم الشّعْر وَلَقَد رَأَيْت لَهُ أشعارا كَثِيرَة فى مَجْمُوع كَبِير بِخَطِّهِ وَلم أستحسن لَهُ الا هَذِه الْقطعَة من قصيدة مدح بهَا ابْن عزمى وَالْحق انها من سَائِغ الْمَقُول ومطلعها
(مَا كَانَ يخْطر قطّ فى أوهامى ... ان الاسود مصايد الآرام)
(قف حَيْثُ فوقت اللحاظ سهامها ... وَانْظُر لمرمى هُنَاكَ ورامى)
(وسل الامان فكم خلى فارغ ... أَمْسَى قَتِيل محبَّة وغرام)
(لله مَا بِالْقَلْبِ والاحشاء من ... حرق وَمَا بالجسم من أسقام)
(ومدامع تهمى فيحرق لدغها ... خدى وَمن يقوى للدغ هوَام)
(وبمهجتى الْبَدْر الذى وجناته ... وعذاره كالورد والنمام)
(الْقَاتِل الآلاف من عشاقه ... عمدا بِلَا جرح وَلَا آثام)
(ان لم يكن بمثقل ومحدد ... فبسحر الحاظ وسحر كَلَام)
(باللحظ مِنْهُ غنيت عَن زهر وَعَن ... خمر فَمِنْهُ نرجسى ومدامى)
(فى خَدّه لَام تجر الى الْهوى ... فالقلب مجرور تِلْكَ اللَّام)
(ظبى من الاتراك مرعاه الحشا ... والمورد الدمع الغزير الهامى)
(عرف المُرَاد من الدُّمُوع فَلم يزل ... يرنو لعاشقه بِطرف ظامى)
وقرأت بِخَطِّهِ هَذِه الابيات خَاطب بهَا بعض من تصدر من غير أهل التصدر
(أَرَاك تلوم النَّاس بِالنَّقْصِ مِنْهُم ... وَأَنت لعمرى أنقص النَّاس فى الذّكر)
(فان أَنْت فى جمع حضرت وَبينهمْ ... افاضل لم تنطق بشئ سوى الْحصْر)
(فَأَنت كنون الْجمع حَال اضافة ... وان شِئْت بل مثل القلامة من ظفر)
ونقلت من خطه اعجوبة ذكرانه رَآهَا بِجَزِيرَة ساقز وَهُوَ رَاجع من الرّوم بحرا وهى شجر يحمل بطيخا أصفر يعْنى الخربز والقاوون أشبه مَا يكون بشجر التوت وعَلى هامشه وأعجب مِنْهُ مَا رَأَيْت فى جَزِيرَة مرمرة وهى جَزِيرَة بَين مَدِينَة(3/18)
كليبولى وبغاز حصارى يخرج من قاع الْبَحْر عين زَيْت طيب ويعلو الى وَجه الْبَحْر لَا يَنْقَطِع مدى الدَّهْر أبدا رَأَيْتهَا بعينى مرَّتَيْنِ من غير شكّ فى طعمه ورائحته انْتهى وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت ثانى شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وَألف
عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد محب الدّين ابْن ابى بكر تقى الدّين عَم أَبى القاضى عبد اللَّطِيف ابْن القاضى محب الدّين أحد فضلاء الزَّمَان البارعين كَانَ فِيمَا أعلم من أَحْوَاله دراية وخبرا من أنبل أهل عصره معرفَة واتقانا وجمعية للفنون وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَضبط وَرَأَيْت من متملكاته الَّتِى وقف اكثرها أخر أمره مَا يُقَارب مائَة وَخمسين كتابا وغالبها بِخَطِّهِ فَمَا وجدت كتابا مِنْهَا خَالِيا من تَصْحِيح وتحرير لَهُ وَألف تآليف تدل على تمكنه واحاطته مِنْهَا تَفْسِير على سُورَة الْفَتْح وَكتاب جمعه فى خَمْسَة عُلُوم التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف والادب وَفِيه أَشْيَاء جَيِّدَة الى الْغَايَة طالعته كثيرا وانتفعت بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَمن رأى كِتَابه هَذَا عرف مِقْدَاره من الْفضل واكثر قِرَاءَته على وَالِده وَلما قدم الشَّام مَعَ أَبِيه حضر عِنْد الْبَدْر الغزى وَأخذ عَنهُ وَله مَشَايِخ كَثِيرَة وسافر الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة ونال فى صر مَكَّة دِينَارا ذَهَبا كل يَوْم غير مَا ناله من الْقَمْح المجهز الى الْحَرَمَيْنِ من مصر وسافر فى أَوَاخِر الالف الى مَكَّة بنية الْمُجَاورَة وجاور سنة أَو سنتَيْن وَصَحب بِمَكَّة السُّلْطَان مَسْعُود بن الشريف حسن بن أَبى نمى وَصَارَ لَهُ حظوة عِنْدهم ومدحهم بعدة قصائد وَتزَوج ثمَّة ثمَّ اقْتضى رَأْيه انه تفرغ عَن الصر الْمَذْكُور وَعَاد الى دمشق ثمَّ سَافر مِنْهَا الى الرّوم وَولى قَضَاء حماة وَحصل مِنْهَا مَالا طائلا ثمَّ بعد عَزله مِنْهَا قدم دمشق وتديرها وَعمر دَاره الْمَعْرُوفَة بِهِ بسوق العنبرانيين عِنْد بَاب الْجَامِع الاموى وَكَانَ مَحل الْبَيْت خَانا يعرف بخان الخرفان وقف بعض الْمكَاتب فَاشْترى اقلاده من الشهَاب أَحْمد الوفائى متولى الْمكتب واحتكر أرضه بِأُجْرَة ثمَّ هَدمه وعمره بَيْتا واقتنى طاحونا وَبَيت قهوة خَارج بَاب السَّلامَة وبساتين فى بَيت لهيا ووقفها على قراء ومدرس ومرتزفة يُعْطون علوفات عينهَا لَهُم وَشرط أَن يكون الْمدرس الشَّيْخ أَحْمد الوفائى الْمَذْكُور وَولى نِيَابَة الْبَاب فِيمَا بَين مَرَّات وَقَضَاء الْقِسْمَة العسكرية وَكَانَ لَهُ عفة ونزاهة وَلما مَاتَ وَالِده وَجه اليه الْمولى ابراهيم بن على الازنيقى قاضى قُضَاة الشَّام الْمدرسَة الشامية البرانية عَنهُ وَكَانَ بِيَدِهِ قبل ذَلِك تدريس الظَّاهِرِيَّة فَجمع لَهُ بَينهمَا ثمَّ تفرغ عَن الظَّاهِرِيَّة وَبقيت الشامية فى يَده وَأَخذهَا عَنهُ القاضى(3/19)
عبد اللَّطِيف بن الجابى الْمُقدم ذكره فَلم تسلم اليه ثمَّ بعد مُدَّة وجهت عَنهُ الى الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن أَحْمد الحتاتى المصرى الآتى ذكره واستفرغه عَنْهَا ابْن الجابى ثمَّ وجهت لِلْحسنِ البورينى وبقى صَاحب التَّرْجَمَة بِلَا مدرسة مُدَّة حَتَّى أُعِيدَت اليه واستمرت عَلَيْهِ الى أَن مَاتَ وَكَانَ مبتلى بعلة الكبد ولازم الحمية مُدَّة مديدة وَكَانَ أول مَا عرض لَهُ هَذَا الدَّاء أَشَارَ اليه بعض الْحُكَمَاء أَن يكف عَن شَيْئَيْنِ كل مِنْهُمَا يقتل صَاحب هَذَا الدَّاء وهما التُّخمَة وَالْجِمَاع فَكَانَ حذرا من ذَلِك حَتَّى كَانَ لَا يَأْكُل من الْخبز الا قَلِيلا جدا فاتفق لَهُ انه ذهب يَوْمًا الى بُسْتَان لَهُ واستدعى بعض أخدانه وَعمل لَهُم وَلِيمَة فِيهِ فَأكل من الْفَاكِهَة والنفائس أَكثر من عَادَته ثمَّ عَاد الى بَيته فَمَاتَ فى ليلته وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء لليلتين بَقِيَتَا من صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين بعد الالف وَيُقَال انه جَامع فى تِلْكَ اللَّيْلَة فَمَاتَ فَجْأَة وَدفن فى بَيت صَغِير عمره بالخشابين خَارج بَاب الشاغور وَعمر عِنْده مكتبا لطيفا وَهُوَ على طَرِيق مَقْبرَة بَاب الصَّغِير قريب مِنْهَا وقرأت بِخَط وَالِده ان وِلَادَته كَانَت فى أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة
عبد اللَّطِيف بن يحيى بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْمَعْرُوف بلطفى بن المنقار الدمشقى الحنفى أحد مشاهير الْفُضَلَاء النبلاء وَكَانَ مَعَ تمكنه فى الْفِقْه واحاطته التَّامَّة بفروعه أديبا اليه النِّهَايَة فى المحاضرات وَحسن البديهة وَالشعر المرقص أَخذ الْعَرَبيَّة عَن الْحسن البورينى وتفقه بِعَبْد الرَّحْمَن العمادى وَأحمد بن مُحَمَّد بن قولاقسز الْمُقدم ذكره وَعَلِيهِ تخرج فى كِتَابَة الاسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتوى وفَاق فى جَمِيع أدوات الِاتِّفَاق وَولى تدريس الماردانية وَكتب للعمادى الاسئلة واشتهر أمره وسافر الى حلب مَرَّات والى ديار بكر فى عنفوان عمره لعَارض عشق عرض لَهُ وَلم ير لَهُ خلاصا الا السّفر والتشاغل بطى المراحل وَكنت وقفت على قصيدة لِابْنِ شاهين الدمشقى أرسلها اليه الى حلب وَسبب ارسالها أَن أَحْمد بن زين الدّين المنطقى ولى قضاءها وَقدم اليها وصير أَخَاهُ مُحَمَّدًا نَائِبا بمحكمة الْبَاب ووزع بَقِيَّة الخدمات على أقربائه الاعاجم فَأرْسل اليه القصيدة الْمَذْكُورَة يَرْجُو مِنْهُ الْقدوم الى الشأم وصدرها بقوله
(طلعت عَلَيْك طَلِيعَة الاعجام ... فانهض الينا قادما بِسَلام)
وهى قصيدة عَجِيبَة نحا بهَا منحى قصيدة السرى الرفا الَّتِى أَولهَا
(طلعت عَلَيْك طَلِيعَة الاعراب ... فاحفظ ثِيَابك يَا أَبَا الْخطاب)(3/20)
وَقد ذهبت منى نُسْخَة القصيدة وتطلبتها فَلم أجد من ياتينى عَنْهَا بِخَبَر وَلَو وَجدتهَا أوردتها هُنَا لبداعة أسلوبها وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة مَعَ أدباء حلب اخْتِلَاط تَامّ ومراسلات كَثِيرَة وَذكره مِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب فى مَجْمُوعَة فَقَالَ فى وَصفه من فضلاء الزَّمَان الَّذين يشار اليهم بالبنان وأفراده الَّذين قلدوا جيده بفرائدهم عقودا وأفاضوا على أعطافه من فوائدهم برودا وَله مذاكرة كلهَا جَارِيَة على نهج الِاسْتِحْسَان ومحاورة تحسد عَلَيْهَا الْعُيُون الآذان وأشعار قد سرقت نسمَة الاسحار من لطفها لطفا وَجرى طرف فصاحتها فى ميادين البلاغة فَلم يتْرك أَمَامه طرفا وَمن شعره قَوْله من قصيدة مستهلها
(بَين خبايا ضلوعى اللهب ... وَمن جفونى استهلت السحب)
(وفى فؤادى غليل منتزح ... يعاف أَن الديار تقترب)
(يَا بأبى الْيَوْم شادن غنج ... يعبث بِالْقَلْبِ وَهُوَ يلتهب)
(يسنح لَكِن بصفحتى رشأ ... وَالْقد ان ماد دونه القضب)
(صفر وشاح يزينه هيف ... لَيْسَ كخود يزينه الْقلب)
... ان لَاحَ فى الحى بدر طلعته ... فالشمس فى الافق مِنْهُ تحتجب)
(أشنب لم تحك برق مبسمه ... يَا برق الا وفاتك الشنب)
(يطفو على الثغر فى مقبله ... حباب ظلم وحبذا الحبب)
(كَأَنَّهُ لُؤْلُؤ تبدده ... أيدى عذارى أفْضى بهَا اللّعب)
(مَا مر فى الحلى وَهُوَ مؤتلق ... الا ازدهى الحلى ثغره الشنب)
(يعطو بجيد كقرطه قلق ... وَالْقلب مَا جال مِنْهُ يضطرب)
(وسانحات نفثن فى عقدا لَا لباب سحرًا ودونه العطب ... )
(بِهِ اختلسن الْفُؤَاد من كثب ... واقتاد جسمى السقام والوصب)
(تجرح مِنْهُنَّ مهجتى مقل ... يفعلن مَا لَيْسَ تفعل القضب)
(ظعن وَالْقلب فى ركائبهم ... يخْفق والجسم للضنى نهب)
(من فَوق خلبى وضعت صَاح يدى ... فَلم أَجِدهُ وصدها لَهب)
هَذَا أدق من قَول المتنبى
(ظلت بهَا تنطوى على كبد ... نضيجة فَوق خلبها يَدهَا)
(لما تيقنت أَن روحتهم ... لَيْسَ لَهَا مَا حييت مُنْقَلب)(3/21)
(ابليت صبرا لم يبله أحد ... واقتسمتني مآرب شعب)
(مِنْهُنَّ ذَات دملج سلبت ... عقلى وعادت تَقول مَا السَّبَب)
أَخذ هَذَا من قَول مهيار
(قتلتنى وانثنت تسْأَل بى ... أَيهَا النَّاس لمن هَذَا الْقَتِيل)
(يصبو جنونا ويدعى سفها ... انى لَهُ دون ذَا الورى طلب)
(وَلَيْسَ عندى علم بصبوته ... وَلَا تعهدت انه وصب)
(لَو كَانَ فِيمَا يَقُوله شغفا ... صدق عراه لعشقنا النصب)
(فَقلت لَو شِئْت يَا مناى لما ... سَأَلت عَنى وَأَنت لى أرب)
(ان نحولى وعبرتى مَعًا ... بعد أنينى لشاهد عجب)
وَقَوله من قصيدة أرسلها من بِلَاد ديار بكر يتشوق بهَا الى دمشق وَيذكر منتزهاتها ومطلعها
(سقى دَار سعدى من دمشق غمام ... وحيى بقاع الغوطتين سَلام)
(وجاد هضاب الصالحية صيب ... لَهُ فى رياض النير بَين ركام)
مِنْهَا
(ذكرت الْحمى وَالدَّار ذكر طريدة ... تذاد كظمآن سَلام أوام)
(فنحت على تِلْكَ الربوع تشوقا ... كَمَا ناح من فقد الْحَمِيم حمام)
(أيا صاحبى نجواى يَوْم ترحلوا ... وحزن الفلا مَا بَيْننَا واكام)
(نشدتكما بالود هَل جاد بَعدنَا ... دمشق كأجفانى القراح غمام)
(وَهل عذبات البان فِيهَا موائس ... وزهر الربى هَل أبرزته كمام)
(وَهل أعشب الرَّوْض الدمشقى غبنا ... وَهل فاح فى الوادى السعيد بشام)
(وَهل ربوة الانس الَّتِى شاع ذكرهَا ... تجول بهَا الانهار وهى حمام)
(وَهل شرف الاعلى مطل وقصره ... على المرجة الخضراء فِيهِ كرام)
(وَهل ظلّ ذَاك الدوح ضاف وغصنه ... وريق وَبدر الحى فِيهِ يُقَام)
(وَهل ظبيات فى ضمير سوانح ... وَعين المها هَل قادهن زِمَام)
(وَهل أموى الْعلم وَالدّين جَامع ... شعائره وَالذكر ليه يُقَام)
(وَهل قاسيون قلبه متفطر ... وَفِيه الرِّجَال الاربعون صِيَام)
(أَلا لَيْت شعرى هَل أَعُود لجلق ... وَهل لى بوادى النير بَين مقَام)
(وَهل أردن مَاء الجزيرة راتعا ... بمقصفها والحظ فِيهِ مدام)(3/22)
(سَلام على تِلْكَ المغانى وَأَهْلهَا ... وان ريش لى من نأيهن سِهَام)
(لقد جمعت فِيهَا محَاسِن أَصبَحت ... لدرج فنجار الشَّام وهى ختام)
(بِلَاد بهَا الْحَصْبَاء در وتربها ... عبير أنفاس الشمَال مدام)
(وغرتها أضحت بجبهة روضها ... تضئ فخلخال الغدير لزام)
(تناءيت عَنْهَا فالفؤاد مشتت ... ووعر الفيافى بَيْننَا ورغام)
(لقد كدت أقضى من بعادى تشوقا ... اليها وجسمى قد عراه سقام)
ويستحاد لَهُ قَوْله
(لهفى على زمن قَضيته جذلا ... مسربلا ببرود الْعِزّ وَالنعَم)
(مضى كَانَ لم يكن ذَاك الزَّمَان أَتَى ... حَتَّى كأنى بِهِ فى غَفلَة الْحلم)
(مَا أثمرت لى لياليه الَّتِى سلفت ... بلذة الْعَيْش الا زهرَة النَّدَم)
وَقَوله
(لله معترك يجول مهفهف ... فِيهِ وَلم يثن القوام عقار)
(وبكفه قصب الدُّخان كَأَنَّهَا الصعدات لَكِن للنديم نثار ... )
(وَالْوَجْه عِنْد الشّرْب مِنْهُ كَأَنَّهُ ... حلى الْمِجَن وَقد أثير غُبَار)
وَذكره الخفاجى فى كِتَابه الريحانه فَقَالَ وَلما ارتحلت عَن مصر فَارَقت أترابى ولداتى وَمَا بهَا من ذخائر مالى وكنز حياتى
(وظئر بِلَاد أرضعتنى بِمَائِهَا ... وأنفاس نسمات ومهد ديار)
مَرَرْت على دمشق الشَّام فَرَأَيْت من بهَا من الْكِرَام فَكَانَ مِمَّن نعمت بلقياه ووقفت على هضبات علاهُ هَذَا الاديب الحسيب وَالرَّوْض الاريض وَالربيع الخصيب فحبانى بانفاس من أنفاس الخزامة أندى وهبت مِنْهُ نفحات أنس كنفحات روض قبيل الصُّبْح يلتها الا ندا فعطر بفضائله المجامع وفكه بثمرات أدبه المسامع وَأهْدى الى فى مشرفة قصيدة حبانى بهَا وهى قَوْله
(بأفق دمشق قد طلع الشهَاب ... )
ثمَّ أوردهَا بِتَمَامِهَا فَلَا حَاجَة بايرادها هُنَا فَالْحَاصِل أَن فضائله وآدابه مَشْهُورَة مسلمة وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَخمسين وَألف رَحمَه الله
عبد اللَّطِيف الْمَعْرُوف بأنسى أحد موالى الرّوم ودرة قلادة الادب وَوَاحِد الزَّمَان فى الْكَمَال والمعرفة أَصله من بَلْدَة كوتاهية وَبهَا ولد ثمَّ دخل دَار الْخلَافَة فى حَدَاثَة سنه فخدم قاضى الْقُضَاة مُحَمَّد بن يُوسُف الشهير بنهالى وَورد مَعَه الى دمشق لما ولى قضاءها فى سنة اثنتى عشرَة وَألف واعتنى بِهِ مخدومه هَذَا فَأَقْرَأهُ وأدبه حَتَّى مهر(3/23)
وتفوق وصيره ملازما مِنْهُ وَكَانَ من أَوَائِل أمره ظريف النادرة وَكَانَ رُبمَا قصد مخدومه بنكاته فيستحسنها وَيزِيد فى الاقبال عَلَيْهِ وَمِمَّا يستحسن من مضامينه مَعَه أَن مخدومة تبجح يَوْمًا بِأَنَّهُ لم يل مُدَّة عمره مدرسة وَلَا منصبا مرَّتَيْنِ فَقَالَ أَحْمد الله على انه لم يَقع لى حَرَكَة مثلية وَكَانَ السُّلْطَان قبل ذَلِك نَفَاهُ مرَّتَيْنِ الى جَزِيرَة قبرس لامر جرى لَهُ فَقَالَ لَهُ انسى فى الْجَواب استثنوا تِلْكَ الْحَرَكَة المثلية الى قبرس ثمَّ بعد موت مخدومه تلاعبت بِهِ الاسفار والاحوال الى أَن اسْتَقر بِمصْر وَولى قَضَاء الركب المصرى ومحاسبة أوقاف مصر وَذَلِكَ فى سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف ثمَّ عَاد الى الرّوم وَولى بهَا مدرسة ثمَّ صَار قَاضِيا بطرابلس الشأم فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَوَقع بَينه وَبَين الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى اذ ذَاك مراسلات فَمن ذَلِك مَا كتبه اليه العمادى
(مولاى أنسى الذى طابت طرابلس ... بِهِ وَأصْبح فِيهَا الْوَحْش فى أنس)
(وَمن غَدا فَضله فى الْعَصْر مشتهرا ... كَالشَّمْسِ فى شفق وَالصُّبْح فى غلس)
(أَنْت الذى فَخر الْعَصْر العصور بِهِ ... وَقصرت كل مصر عَن طرابلس)
(أوصيكم بالحكيم الشَّيْخ مخلصكم ... مُحَمَّد بن غَدا يعزى الاندلس)
(حَملته بَث شوقى كرتين لكم ... لَعَلَّه بثه أَو كَانَ قبل نسى)
(قد كَانَ لى حر أشواق فضاعفه ... قرب الديار كشب النَّار بالقبس)
(لَكِن رجونا لِقَاء مِنْك يطفئه ... يَا رب فَاجْعَلْ رجائى غير منعكس)
فَرَاجعه بقوله
(هَذَا كتابك أم ذى نفحة الْقُدس ... يَا طيب الله ذاكى عرف ذَا النَّفس)
(فقد حلا كلما كررته بفمى ... كَأَنَّهُ أشنب قد جاد باللعس)
(كانما كل سطر مفعم أدبا ... غُصْن توقره الاثمار لم يمس)
(كأنهن المهارى وقرها دُرَر ... وفى سوى الْقلب والاسماع لم تطس)
(نظم بديع جناس الِالْتِفَات حلا ... مِنْهُ فبالله هَذَا ظَبْيَة الانس)
(مخايل السحر تبدو من دقائقه ... كاللحظ أجفانه مَالَتْ إِلَى التعس)
(لنا بِهِ كل وَقت عَن سواهُ غنى ... فى طلعة الشَّمْس مَا يغنى عَن القبس)
(تكسو المسامع أشنافا مضاعفة ... وتكتسى صنع صنعاء واندلس)
(فَبَيْنَمَا نَحن نجنى من أزاهرها ... اذ أشرقت وهى مثل الزهر فى الْغَلَس)(3/24)
(وبينما هى تجلى فى طرابلس ... والشأم طلت على مصر ونابلس)
(أذكرتنى مِنْهُ مَا لم أنيه أبدا ... وَلم يزل مؤنسى فى مجْلِس الانس)
(يَا من تنزه عَن احصا فضائله ... هَل فى حِسَابك انسى للعهود نسى)
(واننى لحفيظ للوداد وَلَو ... أعياك رسم وداد غير مندرس)
(لَا زلت عُمْدَة أهل الْفَصْل فى صعد ... الى العلى يَا عمادى غير منتكس)
(مَا لى سوى نسمات الشّعْر أبعثها ... تَحِيَّة لدمشق من طرابلس)
فَكتب اليه العمادى وَغير الْوَزْن والقافية
(عقدت لنفسى عهد ودك يَا أنسى ... وقلبى حفيظ قطّ للْعهد مَا أنسى)
(وحسبك اذ أضحى ثناؤك ديدنى ... فيورد فى وردى ويسرد فى درسى)
(رفعت عمادى فى بيُوت بنيتها ... من الْمجد وَالْفضل البليغ على أس)
(لقد سحبت سحبان للعى مفحما ... وَجَرت جرير اللفهاهة مَعَ قس)
(أَتَت تتهادى فى الطروس كَأَنَّهَا الْعَرُوس اذا مَا تجلى لَيْلَة الْعرس)
(وَلما تجلى فى دجى النَّفس بدرها ... تَلَوت عَلَيْهَا عوذة آيَة الكرسى)
(اذا مَسهَا كف الحسود لحسنها ... تخبطه الشَّيْطَان غيظا من الْمس)
(وتعقل عقل الساحرين بسحرها ... فَأحْسن بهَا فتانة الْجِنّ وَالْإِنْس)
(جَنِينا ثمار الْفضل من روض غرسها ... وناهيك روضا يانعا طيب الْغَرْس)
(فيأيها الْمولى الذى شاع فَضله ... لاسماعنا حَتَّى شهدناه بالحس)
(قصيدتك الفصحى كستنا بفصلها ... ملابس فَخر لبسهَا أنفس اللّبْس)
(وشاع لَهَا مَا بَين جلة جلق ... سنا بهجة قد لقبت ضرَّة الشَّمْس)
(فَمَا كل من صاغ الْمعَانى صائغا ... وَكم بَين دِينَار نضار الى فلس)
(فدم لتنال الشَّام فوزا بكم كَمَا ... طرابلس فازت ومصر مَعَ الْقُدس)
(وَلَا زلت فى ثوب السَّعَادَة رافلا ... وتصبح فى عز وفى نعْمَة تمسى)
(خدين الْعلَا مَا الشَّمْس حَمْرَاء أشرقت ... وَمَا غربت فى الافق صفراء كالورس)
ثمَّ ولى قَضَاء بَلْدَة كوتاهية ومرعش مَرَّات وَأعْطى قَضَاء الجيزة بِمصْر على وَجه التَّأْبِيد فَرَحل الى مصر وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ ولى قَضَاء طرابلس ثَانِيًا وعزل عَنْهَا ثمَّ صَار قَاضِيا بِمَكَّة المكرمة ثمَّ بَغْدَاد ثمَّ طرابلس ثَالِث مرّة وَلما أنشأ الْوَزير مُحَمَّد باشا كوبريلى وَقفه كَاف الى انشاء وقفية فصنعها على أسلوب عَجِيب من الانشاء التركى البديع(3/25)
وصدرها بديباجة من انشائه العربى فَقَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَا أصح حجتك وَمَا أوضح محجتك تبَارك اسْمك يَا مَالك الْملك والملكوت وَتَعَالَى جدك يَا ذَا الْجلَال والجبروت لَك الْحَمد على آلَائِكَ المسلسل غيثها ونعمائك المحتبس على سَبِيل الاطلاق غوثها حمدا تدوم موحباته وَتقوم على قَائِمَة الابد مثوباته تتباهى بِهِ الاخيار لم لَا وَأَنت بِهِ الْمَحْمُود وَلَا يتناهى من بركاته الادرار كَيفَ وَهُوَ بدار الخلود وَلَك الشُّكْر على هدايتك لشراء جَوَاهِر الاجور الْبَاقِيَة بالاعراض السيالة الفانيه وَبيع زواهر الامور الدُّنْيَوِيَّة الدنيه بأزاهر الرياض الاخروية الرضية السنيه شكرا يَلِيق بِمَا أوليت من توالى رواتب نعمك وَيُذِيق الواقفين نفائس أنفاسهم على اسْتِعْمَال ذكرك لَذَّة الْقبُول بكرمك أَنْت مبدئ النشأة الاولى فضلا بِلَا اسْتِحْقَاق تَبَارَكت عَن الْوُجُوب عَلَيْك ومعيد النشأة الاخرى لانجاز وعد الْجَزَاء فَسُبْحَانَك لَا شئ الا مِنْك واليك لَا اله غَيْرك وَلَا مرجو الا خيرك صل وَسلم على مَدِينَة الْعلم نبيك الامى وخزينة الْحلم رَسُولك العربى سيدنَا وسندنا مُحَمَّد معلم النَّاس الْخَيْر ومتمم النعم عَلَيْهِم فقريب القربات اليهم ليجلبوا النَّفْع ويدفعوا الضير وعَلى آله أكارم الْخلق فى مَكَارِم الاخلاق وَصَحبه الصارفين فى ارتزاق الْمُحْسِنِينَ بانفاس الْهِدَايَة نفائس الارزاق مَا دَعَا الى تشمير سَاق البرداعى الدواعى وسعى لتعشير خطى الْخَيْر ساعى المساعى فَلَمَّا رَآهَا الْوَزير أعجبه حسن رونقها فَأقبل عَلَيْهِ وصيره قَاضِيا بازمير فضبطها مُدَّة سنتَيْن وَحصل مِنْهَا مَالا كثيرا فَكَانَت سَبَب انتظام حَاله وَعَن مدَّتهَا عَنى فى قَوْله وَقد سُئِلَ عَن عمره فَقَالَ سنتَانِ يومى الى قَوْلهم عمر الْفَتى زمَان الرَّاحَة وَمن هَذَا الْبَاب قَول مُحَمَّد الحتاتى الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى
(عمر الْفَتى قَالُوا زمَان الرِّضَا ... بصفوة الاحباب فى الْيُسْر)
(صدقت مَا قَالُوهُ كى يقبلُوا ... فينظروا شَيخا بِلَا عمر)
وَمِنْه قَول الشاهينى من قصيدة
(عددت أويقاتى ولاحظت طيها ... فأجودها مَا مر فى الْحلم من دهرى)
(اذا رحت أحصيها اأعلم يسرها ... عدمت حياتى والمصير الى عسر)
(مَتى مَا اعْتبرت الْعُمر مَا كَانَ صافيا ... تَجِد رجلا قد عَاشَ عمرا بِلَا عمر)
وَكِلَاهُمَا أَخذ من قَول الامير اسامة بن منقذ
(قَالُوا نَهَاهُ الاربعون عَن الصِّبَا ... وأخو المشيب بحوز ثمَّة يهتدى)(3/26)
(كم حَار فى ليل الشَّبَاب فدله ... صبح المشيب على الطَّرِيق الاقصد)
(واذا عددت سنى ثمَّ نقصتها ... زمن الهموم فَتلك سَاعَة مولدى)
ويروى عَن بعض المجان انه قَالَ صرفت من عمرى كَذَا فى بَلْدَة كَذَا وَكَذَا فى كَذَا وَكَذَا فى بعلبك فَمَا كَانَ فى غَيرهَا عددته من عمرى وَلَا خسران وَمَا كَانَ فِيهَا فعلى الطَّلَاق لَا أعده من عمرى فانه مَحْض خسارة وَصَاحب التَّرْجَمَة كَمَا رَأَيْت مِمَّن أُوتى حسن الانشاء العربى وَقد وقفت لَهُ على رِسَالَة كتب بهَا الى الْمولى عبد الله بن عمر معلم السُّلْطَان عُثْمَان وَالِده وَهُوَ قاضى الْعَسْكَر يتشكى فِيهَا من معاناة بعض الخطوب وَهَذِه الرسَالَة انا شغف بهَا جدا وَكَثِيرًا مَا يختلج فى صدرى أَن أشرحها شرحا أبين فِيهِ مَا تَضَمَّنت من الامثال والنوادر وَقد عَن لى الْآن ان أذكرها وأوضح بعض مغلقاتها وَهَذِه هى طالما شمت بروقك مستمطر اللامانى فَكَانَت خلبا وتعرضت لعوارضك مُسْتَبْشِرًا بالتهانى فانحسرت قلبا وَلم يصب ربى مآربى من هاطل سحائب زخارفك وابل وَلَا طل وَلَا حصلت سوائم مطالبى من غُدْرَان طرائفك على نهل وَلَا عل ورصفت صروفك لى سافا على ساف فأسفت حَتَّى مَا أشتكى السواف السواف ذهَاب المَال واذا أَتَت على أم اللهيم لَا رئمت لخلق بوضيم أَتَت عَلَيْهِ أم اللهيم أى اهلكته الداهية وَيُقَال الْمنية والبوجلد الحوار المحشو تبنأ وَأَصله ان النَّاقة اذا أَلْقَت سقطها فحيف انْقِطَاع لَبنهَا أخذُوا جلد حوارها فيحشى تبنا ويلطخ بشئ من سلاها فتر أمه وَترد عَلَيْهِ يُقَال نَاقَة رؤم اذا رئمت بوها أَو وَلَدهَا فان رئمته لم تدر عَلَيْهِ فَتلك الْعلُوق يضْرب الْمثل لمن ألف الضيم ورضى بالخسف طلبا لرضى غَيره بل لما دلكت بوح فَلَا ترى وَرَأَيْت الْكَوَاكِب مظْهرا قلت الظمأ الفادح خير من الرى الفاضح ظمأ قامح الى آخِره قَالَ الْخَلِيل القامح والمقامح من الابل مَا اشْتَدَّ عطشه حَتَّى فتر لذَلِك فتورا شَدِيدا فوصف بِهِ الظمأ وَهُوَ فى الْمَعْنى لصَاحبه يضْرب فى وجوب صون الْعرض وان احتملت فِيهِ المشاق وتجنب القريحة وان قرن بهَا الْعَيْش الْبَارِد وَيُقَال القامح الذى يرد الْحَوْض وَلَا يشرب يضْرب فى القناعة وكتمان الْفَاقَة ويروى ظمأ فادح خير من رى فاضح الفادح المثقل يُقَال فدحه الدّين أى أثقله فَمَا وهى لصروفك سقائى وَلَا هريق لحدثانك بالفلاة مائى أصل الْمثل خل سَبِيل من وهى سقاؤه وَمن هريق بالفلاة مَاؤُهُ أى اذاكره الْخَلِيل(3/27)
صحبتك وَلم يستقم لَك فَازَ هدفيه كزهده فِيك وهراقة المَاء مثل لخلو الْقلب عَن الْمَوَدَّة يضْرب لمن كره صحبتك وزهد فِيك وَلم أقل لشدائدك الوصام مَا وَرَاءَك يَا عِصَام مَا وَرَاءَك يَا عِصَام مثل يورى بِكَسْر الْكَاف وَخرج على مَا قَالَ الْمفضل أول من قَالَ ذَلِك الْحَارِث بن عَمْرو ملك كِنْدَة وَذَلِكَ أَنه لما بلغه جمال ابْنة عَوْف بن محلم وكمالها وَقُوَّة عقلهَا دَعَا امْرَأَة من كِنْدَة يُقَال لَهَا عِصَام ذَات عقل ولسان وأدب وَقَالَ لَهَا اذهبى حَتَّى تعلمى لى علم ابْنة عَوْف فمضت حَتَّى انْتَهَت الى أمهَا وهى أُمَامَة بنت الْحَارِث فأعلمتها مَا قدمت لَهُ فَأرْسلت الى ابْنَتهَا وَقَالَت أى بنية هَذِه خالتك أتتك لتنظر اليك فَلَا تسترى عَنْهَا شَيْئا ان أَرَادَت النّظر الى وَجه وَلَا خلق وناطقها ان استنطقتك فَدخلت اليها فَنَظَرت الى مَا لم تَرَ مثله قطّ فَخرجت من عِنْدهَا وهى تَقول ترك الخداع من كشف القناع فأرسلتها مثلا ثمَّ انْطَلَقت الى الْحَارِث فَلَمَّا رَآهَا مقبلة قَالَ مَا وَرَاءَك يَا عِصَام قَالَت صرح الْمَحْض عَن الزّبد ثمَّ ذكرت محاسنها وحملت اليه فَعظم موقعها مِنْهُ وَولدت لَهُ الْمُلُوك السَّبْعَة الَّذين ملكوا بعده الْيمن وروى أَبُو عبيد مَا وَرَاءَك على التَّذْكِير وَقَالَ يُقَال ان الْمُتَكَلّم بِهِ النَّابِغَة الذيبانى قَالَه لعصام ابْن شهير حَاجِب النُّعْمَان وَكَانَ النُّعْمَان مَرِيضا فَسَأَلَهُ النَّابِغَة عَن حَال النُّعْمَان فَقَالَ لَهُ مَا وَرَاءَك وَمَعْنَاهُ مَا خلفت من أَمر العليل أوما أمامك من حَاله ووراء من الاضداد قَالَ الميدانى قلت يجوز أَن يكون أصل الْمثل مَا ذكر ثمَّ اتّفق الاسمان فخوطب كل بِمَا اسْتحق من التَّذْكِير والتأنيث هَذَا وان صرت الحوالت وأربت بالكلاب الثعالب فانى لم يصلد قدحى وَلم أَجْهَل وسم قدحى بل لَزِمت لكل حَال مقَاما وَنَفس عِصَام سودت عصاما وان يَك قد بدر من صروفك مَا بدر فَمَا سلمت الجلة فالنيب هدر الجلة جمع جليل يعْنى الْعِظَام من الابل والنيب جمع نَاب وهى النَّاقة المسنة يعْنى اذا سلم مَا ينْتَفع بِهِ هان مَا لَا ينْتَفع بِهِ لقد زهدت فى الضنائن وَقبل الرماء تملأ الكنائن قبل الرماء تملأ الكنائن أى تُؤْخَذ الاهبة قبل وُقُوع الامر
(وانى لاخفى باطنى وَهُوَ موجع ... فَينْظر منى ظاهرى وَهُوَ ضَاحِك)
(وأسئل عَن حالى وبى كل فاقة ... فأوهم أَنى للعراقين مَالك)
يَا طالما زممت نفسى عَن شربة بالوشل وكل شئ أَخطَأ الانف جلل وانى وان كسرت على الارعلظ وأزمعت على أَن ترمينى من نَار صروفك بشواظ وقشرت لى الْعَصَا وَركبت على أصوص صوصا قشرت لَهُ الْعَصَا يضْرب فى خلوص الود(3/28)
أى أظهرت لَهُ مَا كَانَ فى نفسى وَيُقَال أقشر لَهُ الْعَصَا أى كاشفه وَأظْهر لَهُ الْعَدَاوَة والثانى هُوَ المُرَاد هُنَا وَركبت على أصوص صوصا الاصوص النَّاقة الْحَائِل السمينة والصوص اللَّئِيم كراكب على جناحى نعامه وانى لأجمل أَخْلَاقًا من ذى الْعِمَامَة ركب على جناحى نعامه يضْرب لمن جد فى أمرا مَا الانهزام واما غير ذَلِك وأجمل من ذى الْعِمَامَة مثل من أَمْثَال أهل مَكَّة وَذُو الْعِمَامَة سعيد بن الْعَاصِ ابْن أُميَّة وَكَانَ فى الْجَاهِلِيَّة اذا لبس عِمَامَة لَا يلبس قرشى عِمَامَة على لَوْنهَا واذا خرج لم تبْق امْرَأَة الا خرجت لتنظر اليه من جماله وَزعم بعض أَصْحَاب الْمعَانى أَن هَذَا اللقب انما لزم سعيد بن الْعَاصِ كِنَايَة عَن السِّيَادَة قَالَ وَذَلِكَ لَان الْعَرَب تَقول فلَان معمم يُرِيدُونَ أَن كل جِنَايَة يجنيها الجانى بِتِلْكَ الْقَبِيلَة أَو الْعَشِيرَة فهى معصوبة بِرَأْسِهِ فالى مثل هَذَا الْمَعْنى ذَهَبُوا فى تسميتهم سعيدا ذَا الْعِصَابَة وَذَا الْعِمَامَة
(تزيدنى شدَّة الايام طيب ثَنَا ... كاننى الْمسك بَين الفهر وَالْحجر)
بيد أَنى أعتبك فى أُخْرَى وألومك على الاحرى حَيْثُ أقصيتنى من معَاذ المعتفين وعياذ المقتدين والمقتفين قَائِد كتائب سباق المعالى فى مضمار الْمجد والممدوح بِذكر محامده المحمودة فى كل غور ونجد مَالك نواصى مصَالح الْجُمْهُور ماضى حسام الامر فى مستقبلات الامور جرثومة الْفَضَائِل والمحامد أرومة قطيبة الافاضل والاماجد أفلاطون الاوان ارسطاليس الزَّمَان مربى السلطنة السّنيَّة العثمانية معلم الحضرة الْعلية السُّلْطَانِيَّة من يَقُول لِسَان الْحَال فى شانه وعلو قدر مخدومه وسلطانه
(من مخبر الاقوام أَنى بعدهمْ ... لاقيت رسطاليس والاسكندرا)
(وَرَأَيْت كل الفاضلين كَأَنَّمَا ... رد الاله نُفُوسهم والاعصرا)
(نسقوا النانسق الْحساب مقدما ... وأتى فذالك اذ أتيت مُؤَخرا)
وَكَيف لَا وَهُوَ الذى يتزين بِمثلِهِ ألقابه ويتشرف بالانتساب اليه أنسابه
(من شاد سيرته المرضى منهجها ... بِالْعَدْلِ وَالْحق مَا قد شاده عمر)
(وَهُوَ الْمُسَمّى بِهِ لَا زَالَ يتبعهُ ... فى فعله مَا أَضَاء الشَّمْس وَالْقَمَر)
لعمرى لقد حوى كل فضل ومكرمه واذا تولى عقد شئ أحكمه مَرْكَز دَائِرَة السماحة والحماسة قطب رحى السياسة والرياسه
(تودعيون النَّاس عِنْد ثنائه ... لَو انقلبت أحداقها بالمسامع)(3/29)
فانى لما تَوَجَّهت تِلْقَاء مَدين وجوده وجدت على مَاء كرمه وجوده أمة من النَّاس يسقون ويستقون وبعلى هممه وعميم نعمه الى مدارج معارج المعالى يرقون ويرتقون
(فَمَا ألبس الله امْر أبين خلقه ... من الْمجد الا بعض مَا هُوَ لابسه)
وَلما صَار أَيهَا الدَّهْر الغدار أثر الصرار دون الذئار أَصله أثر الصرار يأتى دون الذئار الصرار خيط يشد فَوق الْخلف والتودية لِئَلَّا يرضع الفصيل والذئار بعرر طب يلطخ بِهِ أطباء النَّاقة لِئَلَّا يرتضع الفصيل أَيْضا فاذا جعل الذئار على الْخلف ثمَّ شدّ عَلَيْهِ الصرار فَرُبمَا قطع الْخلف يضْرب هَذَا فى مَوضِع قَوْلهم بلغ الحزام الطبيين يعْنى تجَاوز الامر حَده وَقلت اذ نبذتنى بالعرا أسوأة عروس ترى فَمَا ساءتك لحوادثك شرواى وَلَا شغلت شعابى جدواى
(تنكرت لى دهرى وَلم تدر أننى ... أعزو وأهوال الزَّمَان تهون)
(فَبت ترينى الْخطب كَيفَ اعتداؤه ... وَبت أريك الصَّبْر كَيفَ يكون)
وان يَك عدا قارصك فحذر وأخلف مدك فجزر القارص اللَّبن يحذى اللِّسَان والحازر الحامض جدا عدا القارص فحذر مثل يضْرب فى الامر يَتَفَاقَم ويروى بِنصب القارص أى عدا القارص أى حد القارص وَمن رفع جعل الْمَفْعُول محذوفا أى جَاوز القارص حَده فحزر فانا الذى لَا تعصب سلماته وأخبرت عَن مجهولاته مرآته لم أبع الكبة بالهبه وشتى تؤوب الحلبه شَتَّى تؤوب الحلبه كَانُوا يوردون ابلهم وهم مجتمعون فاذا صدر واتفرقوا واشتغل كل وَاحِد بحلب نَاقَته ثمَّ يؤوب الاول فالاول وشتى فى مَوضِع الْحَال أى تؤوب الحلبة مُتَفَرّقين يضْرب فى اخْتِلَاف النَّاس وتفرقهم فى الاخلاق
(لله در النائبات فانها ... صدأ اللئام وصيقل الاحرار)
وَلَئِن أظهر هلالى ثراؤك وهاجت زبراؤك وانكشف بلمعك اللامع واتسع الْخرق على الراقع وَقَالَ لِسَان حالك لَوْلَا الوئام لهلك الانام لَوْلَا الوئام هلك الانام الوئام الْمُوَافقَة يُقَال واءمته مواءمة ووئاما وهى أَن تفعل كَمَا يفعل أى لَوْلَا مُوَافقَة النَّاس بَعضهم بَعْضًا فى الصُّحْبَة والمعاشرة لكَانَتْ الهلكة هَذَا قَول أَبى عبيد وَغَيره من الْعلمَاء وَأما أَبُو عُبَيْدَة فانه يرْوى لَوْلَا الوئام لهلك اللئام وَقَالَ الوئام المباهاة قَالَ ان اللئام لَيْسُوا يأْتونَ الْجَمِيل من الامور على انها أَخْلَاقهم وانما يفعلونها(3/30)
مباهاة وتشبها بَاهل الْكَرم وَلَوْلَا ذَلِك هَلَكُوا ويروى لَوْلَا اللئام لهلك الانام من قَوْلهم لأمت بَينهمَا أصلحت من اللأم وَهُوَ الاصلاح ويروى اللوام بِمَعْنى الملاومة من اللوم صبرا على مجامر الْكِرَام قَالَ قوم رواد يسَار الكواعب مولاته عَن نَفسهَا فنهته فَلم ينْتَه فواعدته فخذل فَذكر ذَلِك لصَاحب لَهُ فَقَالَ وَيلك يَا يسَار كل من لحم الْجوَار واشرب من لبن العشار واياك وَبَنَات الاحرار فَأبى الا هَواهَا فَأَتَاهَا فَقَالَت لَهُ انى مبخرتك ببخور فان صبرت عَلَيْهِ طاوعتك ثمَّ أَتَتْهُ بمجمرة فَلَمَّا جَعلتهَا تَحْتَهُ قبضت على مذاكيره فقطعتها فَقَالَت صبرا على مجامر الْكِرَام يضْرب فى احْتِمَال الشدائد عِنْد صُحْبَة الكبراء هَيْهَات أَيكُون الوعر سهلا وَالْخمر تكنى بالطلا هى الْخمر تكنى بالطلا يضْرب للامر ظَاهره حسن وباطنه على خلاف ذَلِك اذلام المعيدى وَنَفر وَاعْتبر بأوله السّفر وحجت السحائب السُّوق وشب عمر وَعَن الطوق فالبث قَلِيلا تلْحق الحلائب انه مَعَ الخواطئ سهم صائب يضْرب للذى يخطى مرَارًا ويصيب مرّة والخواطئ الَّتِى تخطئ القرطاس وهى من خطئت أى أَخْطَأت قَالَ أَبُو الْهَيْثَم هى لُغَة ردية قَالَ وَمثل الْعَامَّة فى هَذَا رب رمية من غير رام قَالَ أَبُو عبيد يضْرب قَوْله مَعَ الخواطى للبخيل يعْطى أَحْيَانًا مَعَ بخله
(وَلست بمفراح اذا الدَّهْر سرنى ... وَلَا جازع من صرفه المتقلب)
انى قد شمرت ذيلا وادرعت لَيْلًا وقدمت كتابى وتوجهت بِوَجْه خطابى الى حَضْرَة مولى الموالى وقرة عين الموالى سيد صَنَادِيد الرّوم وَسَنَد السَّادة القروم أنهى الى سدته السنيه وعتبته الْعلية أَن شوقى الى تمريغ خد الْمُلَازمَة فى تُرَاب بَابه المشيد وَبسط ذراعى الْعُبُودِيَّة بوصيدة السعيد شوق الْغَرِيب الى الوطن والنازح الى السكن والمهجور الى العناق والمخمور الى الكاس الدهاق والصديان الى المَاء القراح والحيران الى تبلج الصَّباح وَلَوْلَا خشيَة الاملال بعد رِعَايَة عدم الاخلال لأرخيت عنان أدهم الْقَلَم فى ميادين الشكوى ونشرت دَفِين الالم الذى عَلَيْهِ أطوى لكنى زحمت جماحه وَكسرت جنَاحه رفقا أَن يألم مولاى واشفاقا أَن يلتاح قلبه من جراى وأمرته أَن يرد فنَاء سيدى مَسْرُورا فَرحا وان يسحب ذيله بساحاته مرحا ويسفر طلاقة وسرورا بشرا ويفتر بمبسم خريدة عذرا مُقبلا للارض بَين يَدَيْهِ قَاضِيا بعض مَا يجب من الثَّنَاء عمليه اذ لَيْسَ(3/31)
بممكن أَدَاء الثَّنَاء بِوَجْهِهِ وَلَا الْبلُوغ الى غَايَته وكنهه
(هَيْهَات أَن تصل العناكب بالذى ... نسجت أناملها ذرى الافلاك)
ذَلِك أعز من بيض الانوق وَأبْعد من العيوق والابلق العقوق وَلَكِن كفى الْمَتْن الْمُفَسّر وَمَا يَوْم حليمة بسر ثمَّ أَمرته أَن يُنَادى فى شرِيف حَضرته بَين قطيبته وأسرته
(يَا من يعز على الاعزة جَاره ... ويذل من سطواته الْجَبَّار)
(لله قَلْبك لَا يخَاف من الردى ... وَتخَاف أَن يدنو اليك الْعَار)
أشكوك اذ قلب لى دهرى ظهر الْمِجَن وَأَرْدَفَ على الخطوب والمحن وتركى فى أقفر من ابرق الْفِرَاق وَأهْلك من ترهات البسابس والجراق يُقَال أقفر من بَريَّة الْفِرَاق وَمن بَريَّة خساق وَأهْلك من ترهات البسابس قَالَ ابو عُبَيْدَة انه مثل من أَمْثَال بنى تَمِيم وَذَلِكَ ان لغتهم أَن يَقُولُوا هَلَكت الشئ بِمَعْنى أهلكته وَقَالَ الاصمعى ان الترهات الطّرق الصغار المتشعبة من الطَّرِيق الاعظم والبسابس جمع بسبس وَهُوَ الصَّحرَاء الواسعة الَّتِى لَا شئ فِيهَا فَيُقَال لَهَا بسبس وَسبب بِمَعْنى وَاحِد هَذَا أصل الْكَلِمَة ثمَّ يُقَال لمن جَاءَ بِكَلَام محَال أَخذ فى ترهات البسابس وَجَاء بالترهات وَمعنى الْمثل انه أَخذ فى غير الْقَصْد وسلك فى الطَّرِيق الذى لَا ينْتَفع بِهِ كَقَوْلِهِم ركب فلَان بنيات الطَّرِيق وَأخذ يتعلل بالاباطيل وَقَوله والجراق لم أره فى الامثال ولظاهر انه أَرَادَ الجراق بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد وَهُوَ السَّيْل الذى يذهب بِكُل شئ وَكَانَ لى أخلف من خفى حنين وأشح من ذَات النحيين وسلكنى فى طَرِيق يحن فِيهِ الْعود ومهمه يظمأ فِيهِ الذود وأعطانى اللفا عَن الوفا وجر عَنى حَيْثُ لَا يضع الراقى انفا رضى من الوفا باللفا الْوَفَاء التوفية يُقَال وفيته حَقه تَوْفِيَة ووفاء واللفا الشئ الحقير يُقَال لفه حَقه اذ ابخسه فاللفا وَالْوَفَاء مصدران يقومان مقَام التوفيه واللفية يضْرب لمن رضى بالتافه الذى لَا قدر لَهُ دون التَّام الوافر وجدد لى فى كل آن متربه وأرانى فى كل وَاد أثرا من ثَعْلَبه بِكُل وَاد أثر من ثَعْلَبه هَذَا من قَول ثعلبى رأى من قومه مَا يسوءه فانتقل الى غَيرهم فَرَأى أَيْضا مِنْهُم مثل ذَلِك يضْرب لمن يرى مَالا يُرِيد أَيْن توجه وَمثله بِكُل وَاد بَنو سعد فنفرت الذود عَن الاعطان والتقت حلقتا لبطان وَلَا يدعى للجلى الا أَخُوهَا وللعظيمة الا أَبوهَا وَقد حسداني فكرى الى ساحتك الْكَرِيمَة حدوا وأعلقت بدلوى دلواً وَقلت لنفسى أصبح ليلك ووفى كيلك لقد بلغت العلى(3/32)
وأصبت قرن الكلا وَركبت على أتمك من سَنَام وألقيت مرامى مرامك بذى رمرام الرمرام حشيش الرّبيع وَالشَّاة ترم الْحَشِيش بمرمتها فيأيها الْمولى الذى عز جَاره وَلَا تصطلى ناره اليك قد أفضيت بشقورى وأخبرتك بعجرى وبجورى الشقور بِفَتْح الشين وَضمّهَا فعلى الاول هُوَ فى مَذْهَب النَّعْت والشقور الامور المهمة الْوَاحِدَة شقرة وَيُقَال أَيْضا شقور وفقور وَاحِد الفقور فقر وَقَالَ ثَعْلَب يُقَال لامور النَّاس شقور وفقور وهماهم النَّفس وحوائجها يضْرب لمن يفضى اليه بِمَا يكتم عَن غَيره من السِّرّ فانك ابْن بجدة المكارم وعذيقها المرجب ومرمى نجدة الاكارم وبازها الاشهب
(يَا من ألوذ بِهِ فِيمَا أؤمله ... وَمن أعوذ بِهِ فِيمَا أحاذره)
(لَا يجْبر النَّاس عظما أَنْت كاسره ... وَلَا يهيضون عظما أَنْت جابره)
(وَمن توهمت أَن الْبَحْر رَاحَته ... جوداً وَأَن عطاياه جواهره)
اللَّهُمَّ جدا لَا كدا سمعا لَا بلغا فانى لم ازل فى خلال هَذِه الضراعه لابسا جميل حلل القناعه مرتديا بِبُرْدَةٍ الصَّبْر الْجَمِيل سالكا فى سلوك آدابى سَوَاء السَّبِيل
(مدامى مدادى والكؤس محابرى ... وندماى أقلامى وفاكهتى شعرى)
(ومستمعى وَرْقَاء ضنت بحسنها ... فأسدلت الاستار من ورق خضر)
الى ان آنست من جَانب طورك نَار الْقرى وَعلمت أَن الصَّيْد فى جَوف الفرا فخلعت عِنْد ذَلِك نعلى عزيمتى وحققت فى المأمول مِنْك صريمتى وأرعيت سمعى لمنادى جودك من جَانب طور وجودك مَتى يُقَال لى أفرخ روعك واخضل فرعك وبرأ جرحك وَزَالَ برحك
(قصدى والراجون قصدى اليهم ... كثير وَلَكِن لَيْسَ كالذنب الانف)
(وَلَا الْفضة الْبَيْضَاء والتبر وَاحِدًا ... نفوعان للمكدى وَبَينهمَا صرف)
حاشا سيدى أَن يخلف مخيلة عَبده أَو يصده بِعُذْر عَن مأموله وقصده فَأَكُون لَا مائى أبقيت وَلَا درنى انقيت فان الاسعاف شرف والمعذرة طرف
(حاشا سجيتك الْكَرِيمَة أَن تحد ... عَن مَنْهَج الاسعاف والاسعاد)
ودونك مَا سردته من أَمْثَال الْعَرَب السائرة الساريه وأوردته عِنْد اجالتى فى تيارها جوارى فكرى الجاريه فَخذهَا وَلَو بقرطى ماريه وان كنت فى ارْتِكَاب هَذِه(3/33)
الخطه وطى هَذِه الشقة المشطه كمستبضع الثَّمر الى هجر والفصاحة لاهل الْوَبر لكنى أردْت ازالة وهم المتوهم من كل منجد ومتهم أَن مكابدة هَذِه الشدائد الَّتِى لَا يُنَادى لَهَا ولائد لم تمنعنى من الِاجْتِهَاد والطلب للعلوم النافعة والادب فان الْمَوْت الفادح خير من الْمَعْنى الفاضح وأخصر عطب عدم الادب والا فَأَنا وكل يعلم أَن الفصيح لَدَى سيدى أبكم وَمَعَ ذَلِك فجل الْقَصْد وَغَايَة المبذول من الْجهد التَّوَصُّل بالانتساب الى رفيع أعتابك والانتماء الى منيع جنابك الى البراعة فى سَائِر الْعُلُوم من كل مَنْطُوق وَمَفْهُوم وحراسات الاوقات بادراك متوسط الاقوات وَقد نثرت فى وصف محامك الحميدة درها وَمن ينْكح الْحَسْنَاء يُعْط مهرهَا هَذَا جناى وخياره فِيهِ وكل جَان يَده الى فِيهِ والمرجو والمسؤل التلقى بِالْقبُولِ والاسعاف بنيل المأمول فان مَوْلَانَا أكْرم النَّاس شنشنه واولى من ستر سَيِّئَة وَنشر حسنه لَا أصابتك عين الْكَمَال وَلَا سلب الدَّهْر بفقدك ثوب الْجمال وَلَا بَرحت كعبة للجود وعصرة للمنجود ونوراً يلوح فى أَبنَاء الْوُجُود مَا حدى بالضمر الْقود الى شَفِيع الْيَوْم الْمَشْهُود شعر
(فيأيها الْمَنْصُور بالجد سَعْيه ... ويأيها الْمَنْصُور بالسعى جده)
(لَئِن نلْت مَا أملت مِنْك لربما ... شربت بِمَاء يعجز الطير ورده)
(فَكُن فى اصطناعى محسنا كمجرب ... يبن لَك تقريب الْجِيَاد وشده)
(اذا كنت فى شكّ من السَّيْف قابله ... فاماتنفيه واما تعده)
(وَمَا الصارم الْهِنْدِيّ الا كَغَيْرِهِ ... اذا لم يُفَارِقهُ النجاد وغمده)
(وانك للمشكور فى كل حَالَة ... وَلَو لم تكن الا البشاشة رفده)
(وكل نوال كَانَ أَو هُوَ كَائِن ... فلحظة طرف فاح عندى نده)
(وَمَا رغبتى فى عجد أستفيده ... ولكنما فى مفخر أستجده)
(يجود بِهِ من يفضح الْجُود جوده ... وَيَحْمَدهُ من يفضح الْحَمد حَمده)
(فانك مَا مر النحوس بكوكب ... وقابلته الا ووجهك سعده)
هَذَا مَا رَآهُ قريح القريحة الكابى جوادها وأوراه قدح قدح لافكار الخابى زنادها
(فقد يكبو الْجواد لغيرداء ... وَقد يخبوا الزِّنَاد وَفِيه نَار)
وَلما عرضته على ذَلِك الجناب الرفيع الرحيب رحاب الْجد وأحللته تِلْكَ الابواب الموقفة على الاعتاب بالجد لحظه من الرضى بعيون ترى النُّجُوم ظهرا وقابله بِقبُول(3/34)
يخلق لقلائد الْمَدْح من المكارم صَدرا وان كنت فى ذَلِك كمهدى نور نور البراعة لذكاء روض الذكا وجالب برودوشى الصَّنَائِع بَين يدى صنائع بلاغته صنعا فكالنجم يهتدى بِهِ وان غطت على نوره الشَّمْس وكالسحاب يستمطر الْيَوْم وان أمدته الْبحار أمس وَعلمت أَن حَصْبَاء ثرى الجدبها أثرى من درارى السَّمَاء سنا وأسنى من دُرَر الْبحار بهَا وَكَاد سقى الله ثراه ورقى الى أَعلَى العليين ذرى مثواه ان ينتاشنى بيد الاسعاف من بَين أَنْيَاب أَسد النوائب وَيكْتب على صَحَائِف الزَّمَان بنصرى كتب كتائب المصائب ثمَّ لم ألبث الا وَقد انفجر فجر لَيْلَة الْوَصْل عَن ينابيع النَّوَى وحالت غيوم سوء الْحَظ بَين طرف المنى وشمس الضُّحَى فظل سَائِر تِلْكَ الآمال فى هجير الاغفال لَا يجد ظلا وَروض هاتيك المواعيد لَا يرى من الانجاز وابلا وَلَا طلا وَصَارَ نسيا منسيا كَأَنَّهُ لم يكن شيا
(ويممته بحرا وَقد حَال دونه ... عواصف سوء الْحَظ لَا بخل الْبَحْر)
فَبينا أَنا فى لَيْلَة طَال جنح سهادها وعبثت أيدى أَطْفَال الافكار بكاس رقادها أقلب فى أسفاط الْخُمُور أسفار الاداب النكاسده وألحظ سَائل سلسال المعارف بعيون الافهام الجامدة اذ عثر ذيل نظرى بخدر خود فكرى فَرَأَيْت هَذِه الاوراق مخبوءة فى زَوَايَا خمولها مرتقبة فى ليل آمالها طُلُوع صبح بُلُوغ مأمولها فمت اذ ذَاك وتهللت فَرحا وَقلت الوحا الوحا فقد جَاءَ الابان وآن الاوان وَأَقْبل سعد الاوان وَقَامَت سوق الْعرْفَان وطلعت الشَّمْس ان غَابَ بدر وخلفت الْبحار ان أخلف قطر فَمَا دولة سيدى خَامِس العبادلة سلمه الله تَعَالَى الا موسم الاحرار وَربح متاجر مدائح الاخبار فَالْوَلَد سر أَبِيه وَفرع ذَلِك الاصل النبيه
(بِأَبِيهِ اقْتدى عدى فى الْكَرم ... وَمن يشابه أبه فَمَا ظلم)
وَعلمت انه أحرز رقى بالولا لما ورث عَن أَبِيه الْعلَا وانه بذلك أَحْرَى وجواد جوده أجْرى وانى وان عرضتها على جناب حَضرته وتعرضت بهَا لنفحات أريحيته قد أَعْطَيْت الْقوس باريها ووافيت حومة السَّبق بمجليها وان مواطر تِلْكَ لرعود تنْبت الْآن زهر الظفر وأزهار سرورها يجنى غبها من الانجاز الثَّمر
(خلائق دلتنا على طيب أَصْلهَا ... وَمن طيب أصل الْمَرْء طيب فعاله)
كشجرة طيبَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السَّمَاء تُؤْتى اكلها كل حِين باذن رَبهَا فها أَنا قد مثلتها بَين يَدَيْهِ لتقبيل ذيوله واكف دعائها مبسوطة تِلْقَاء مَدين سَمَاء(3/35)
قبُوله فَالله يبقيه مَا لمع بارق وانجز وعد صَادِق وَهَذَا آخرهَا والانصاف انها من امتن الانشاء وأجوده وَله اخرى لَا تقصر عَنْهَا أوردتها فى كتابى النفحة واشعاره ومنشآته بِالْعَرَبِيَّةِ والتركية كَثِيرَة وَكلهَا جَيِّدَة مرغوبة وَكَانَ لما سَافر الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل الى سعر ايوار جعله قَاضِيا ينظر الاحكام فى العساكر فَتوجه مَعَه وَأعْطى قَضَاء سيروز على وَجه التَّأْبِيد ثمَّ بعد فتح ايوار وَجه اليه قَضَاء الشَّام فَدَخلَهَا نَهَار الثُّلَاثَاء ثانى عشر جُمَادَى الاولى سنة خمس وَسبعين وَألف وَقيل فى تَارِيخ تَوليته أَزَال الله وحشتنا بأنسى وَكَانَ قدومه عِنْد أهل الادب موسما عَظِيما وتباشر الْفُضَلَاء بذلك وسروا وَشرع الشُّعَرَاء يردون عَلَيْهِ بالمدائح الْعَظِيمَة وَمِمَّنْ مدحه الامير المنجكى بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِى مطْلعهَا
(غَرِيب وانى فى الْعَشِيرَة من أهلى ... أرى الخصب مَمْنُوع الجوانب من مَحل)
ثمَّ فى ثَالِث يَوْم من وُصُوله مرض وَاسْتمرّ مَرِيضا سِتَّة أَيَّام ثمَّ توفى عصر نَهَار الثُّلَاثَاء تَاسِع عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَصلى عَلَيْهِ ثانى يَوْم من وَفَاته فى الْجَامِع الاموى فى مشْهد حافل وَدفن فى الحديقة قبالة جَامع السنانية وَكثر الاسف عَلَيْهِ
عبد الله بن أَبى بكر صَائِم الدَّهْر الْيُمْنَى السَّيِّد الولى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ على قدم كَامِل من الْعِبَادَة وَالصِّيَام وَالْقِيَام وسلامة الصَّدْر ولين الْجَانِب توفى فى شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَدفن بتربة أَبِيه بالمرتفع من أَعمال بَيت الْفَقِيه ابْن حشيبر وَكَانَت وَفَاة أَبِيه سنة ألف ووفاة أَخِيه الولى الشهير أَبى الْقَاسِم بن أَبى بكر سنة سبع عشرَة وَألف وَكَانَ ذَا صِيَام وَقيام وَعلم وَعمل وأخلاق رضية وتصرفات فى الْولَايَة ظَاهِرَة بِالْجُمْلَةِ فشهرتهم كلهم تغنى عَن التَّصْرِيح بحالهم
عبد الله بن أَبى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أَبى الْقَاسِم بن أَحْمد بن أَبى الْقَاسِم بن يحيى ابْن ابراهيم بن مُحَمَّد بن عمر بن على بن أَبى بكر بن على الاهدل كَانَ سيدا كَامِل الْمعرفَة بالعلوم من الْفِقْه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير والنحو والمنطق وَله الحكم العجيبة فتحا من الله تَعَالَى والقدم الراسخ فى الْعِبَادَة ذكره السَّيِّد أَبُو بكر بن أَبى الْقَاسِم فى نفحة المندل فَقَالَ فَقِيه أديب فطن لَبِيب حسن المحاضرة جيد المذاكرة وَله همة علية فى تَحْصِيل فنون الْعلم وخطه فى نِهَايَة الْحسن وَكَذَا تجليده الْكتب وَيحسن غير ذَلِك من الصناعات كالصياغة لجودة فهمه وحدة ذكائه وَله نقد صائب فى الشّعْر بِحَيْثُ يعرف جيده من رديه وشعره جيد وَكَانَ مَسْكَنه المنيرة وَكَانَت(3/36)
وَفَاته فى عشر الاربعين وَألف
عبد الله بن أَحْمد بن حُسَيْن بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس ذكره الشلى وَقَالَ فى وَصفه صَاحب الكرامات الظَّاهِرَة والكشف الجلى لَهُ قدس اللاهوت وعالم الملكوت صحب جمَاعَة من أَعْيَان الصُّوفِيَّة مِنْهُم وَالِده أَحْمد وَالشَّيْخ أَحْمد بن علوى باجحدب والفقيه على بن أَحْمد السياح ابْن عبد الله الصافى بافرج وَغَيرهم وسافر الى مَكَّة المشرفة مصاحبا لاخيه مُحَمَّد فحجا حجَّة الاسلام وَسبب سفرهما محنة لحقتهما وَكَانَت سَببا لِلْحَجِّ وسئلوا الاقامة بِالْيمن فَلم يجيبوا وَلما عَاد الى تريم ظَهرت عَنهُ عجائب وغرائب وانتفع بِهِ النَّاس وَصَحبه خلق كثير وَكَانَ من أخص النَّاس بِصُحْبَتِهِ أَحْمد بن أَخِيه مُحَمَّد وَكَانَت ترد عَلَيْهِ أَحْوَال عَظِيمَة تخرجه عَن شعوره فَيَصِيح بِأَعْلَى صَوته وَرُبمَا حصل لَهُ شطح وَيَأْمُر بِالسَّمَاعِ بِضَرْب الدفوف ويدور بِأَهْل السماع فى الازقة بِاللَّيْلِ الى الْفجْر وَكَانَ ذَا كَاف بِالنسَاء فَتزَوج عدَّة زَوْجَات وَتوسع فى افخاذهن وخلط فى جنوسهن فَانْتهى فى ذَلِك الى أمد لم يبلغهُ أحد من نظرائه وَولد لَهُ أَوْلَاد كَثِيرُونَ وَأما الذى صَحَّ عَنهُ من الكرامات وَصِحَّة الفراسات واستجابة الدَّعْوَات فَأمر مَشْهُور متداول بَين النَّاس وَله مكاشفات كفلق الصُّبْح من جُمْلَتهَا انه مَا جَاءَهُ طَالب الا رَجَعَ بمطلوبه وَمَا ضَاعَ لَاحَدَّ شئ وأتى اليه الا طفر بِهِ وَمَا اضمر أحد شَيْئا الا أخبرهُ بضميره وَمَا اسْتَغَاثَ بِهِ أحد من أهل الْمشرق وَالْمغْرب الا أغاثه الله ببركاته وَبشر غير وَاحِد بِالْجنَّةِ فَكف بصرهم وَتَابَ جمَاعَة من الْفُسَّاق بدعائه لَهُم وَله فى ذَلِك حكايات يطول شرحها بل مَا من أحد من أهل الْعَصْر من أهل تِلْكَ الْجِهَة الا ويحفظ لَهُ عدَّة حكايات وترجمه تِلْمِيذه الشَّيْخ شيخ ابْن عبد الله العيدروس فى السلسلة قَالَ وَكَانَ فَرد أهل زَمَانه مِمَّن وهبه الله الِاطِّلَاع على أسرار الاولياء وَله لقدم الراسخ فى منازلات العارفين وَكَانَ ذاهيبة وسطوة قل أَن يرقد من اللَّيْل الا الْقَلِيل وَكَانَ يحب السماع وَرُبمَا أَخذ الدُّف وضربه بِيَدِهِ وَله قبُول عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَكَانَت وَفَاته نَهَار الاربعاء لثمان خلون من الْمحرم سنة خمس وَعشْرين وَألف
عبد الله بن أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الامام الْكَبِير أحد كبراء الْعلمَاء باقليم حَضرمَوْت وَكَانَ شَاعِرًا ناثرا ظريفا لَهُ لطف طبع قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم فى سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف وتربى فى حجر(3/37)
الْولَايَة وَحفظ الْقُرْآن والارشاد والملحة وَطلب من صباه واعتنى اعتناء لم يشاكاه فِيهِ مثله وَأخذ أَولا عَن وَالِده وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة ولازمه الى أَن مَاتَ وتفقه على الْفَقِيه فضل بن عبد الله بن فضل بن سَالم والقاضى أَحْمد بن خبل وَأخذ عَن شيخ الزَّمَان أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن علم الحَدِيث وَالتَّفْسِير والعربية والمعانى وَالْبَيَان وَأَلْقَتْ اليه أقرانه مقاليد التَّسْلِيم وَأخذ علم الطَّرِيقَة والتصوف عَن الجلة مِنْهُم الشَّيْخ زين العابدين وَكَانَ يُحِبهُ ويثنى عَلَيْهِ وزوجه بابنته وَمن مشايخه شهَاب الدّين القاضى أَحْمد بن حُسَيْن وَشَيخ السَّادة الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف وارتحل لزيارة الْحَد الاعلى أَحْمد بن عِيسَى وَأخذ عَن السَّيِّد الْكَبِير أَحْمد بن مُحَمَّد الحبشى ومشايخه كثير وانتفع بِهِ خلق قَالَ الشلى وصحبته زَمَانا طَويلا واستفدت مِنْهُ وَكَانَ بَينه وَبَين الْوَالِد مَوَدَّة شَدِيدَة وَكَانَ هُوَ وَشَيخنَا عمر بن حُسَيْن رَفِيقَيْنِ فى الطّلب وَكَانَا فرسى رهان الا أَن صَاحب التَّرْجَمَة يفوق فى الْحِفْظ والاتقان وَكَانَ يخرج بِأَصْحَابِهِ النجباء الى مَحَله الشهير بالشبير بِضَم الشين مُصَغرًا ويجرى فِيمَا بَينهم مفاكهات وَكَانَ مِمَّن جمع لَهُ الْحِفْظ والفهم وَكَانَ حسن الشّعْر والنثر اماما فى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة عَالما بِالْعَرَبِيَّةِ وفنون الادب وَكَانَ من أعرف النَّاس بِعلم الانساب والحساب والفرائض حَافِظًا للسير والامثال يستشهد بهَا فى محاضراته وَكَانَ يتبع أَحْوَال كل اقليم وَيسْأل عَن مَرَاتِبهمْ وأحوالهم كثير الفحص عَن فضائلهم وَله اعتناء بمطالعة الْكتب وابراز خفياتها وَهُوَ مَعَ ذَلِك سالك طَرِيق الْقَوْم متمسك بِالسَّبَبِ الاقوى من الزّهْد وَالْعِبَادَة وشاع ذكره وقصدته النَّاس وَاتفقَ أهل عصره على انه لم يغْضب على مَخْلُوق وَلم يتَكَلَّم على اُحْدُ بِمَا يكره وانه مَا سُئِلَ شَيْئا فَقَالَ لَا وَبِالْجُمْلَةِ فقد شهد لَهُ أهل زَمَانه بِأَنَّهُ لم ير مثله وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وعمره احدى وَخَمْسُونَ سنه
الشريف عبد الله بن الْحسن بن أَبى نمى صَاحب مَكَّة كَانَ سيداً جَلِيلًا عَظِيما صَالحا ولى مَكَّة بعد ابْن أَخِيه الشريف مَسْعُود وَهُوَ اكبر آل أَبى نمى بالِاتِّفَاقِ من الاشراف وأمراء السُّلْطَان وَكَانَ قد تخلف عَن الْجِنَازَة لذَلِك بعد ان امْتنع من الْقبُول فألزموه بذلك حَقنا لدماء الْعَالم وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى رضى وَحصل بولايته الامن والامان وَكَانَ الِاجْتِمَاع لذَلِك فى السَّبِيل الْمَنْسُوب لمُحَمد بن مزهر كَاتب السِّرّ الْكَائِن فى جِهَة الصَّفَا الْمَعْرُوف علوه فى زَمَاننَا بسكن الشَّيْخ على الايوبى وَاسْتمرّ(3/38)
الى أَن حج بِالنَّاسِ سنة أَرْبَعِينَ وَألف ثمَّ فى الْمحرم سنة احدى وَأَرْبَعين خلع نَفسه من الْولَايَة وَولى وَلَده مُحَمَّد وأشرك مَعَه زيد بن محسن كَمَا أسلفنا وَتوجه الى عبَادَة ربه الى أَن توفى لَيْلَة الْجُمُعَة عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَكَانَت مُدَّة ولَايَته تِسْعَة اشهر وَثَلَاثَة أَيَّام
عبد الله بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن على بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الشهير بمولى عيديد يعرف كسلفه ببافقيه صَاحب مَدِينَة كنور أحد عُلَمَاء الاسلام الْكِبَار ذكره الشلى وَقَالَ ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن على الْفَقِيه الْمعلم مُحَمَّد با عائشه وَحفظ الجزرية وَقرأَهَا عَلَيْهِ وَحفظ بعد الارشاد والملحة والقطر وعرضها على مشايخه وتفقه بوالده حُسَيْن وأخد عدَّة عُلُوم عَن الشَّيْخ أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين مِنْهَا الحَدِيث والعربية واكثر الْعُلُوم الادبية وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن علوى بافقيه وَمن مشايخه عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس والقاضى أَحْمد بن حُسَيْن والقاضى أَحْمد بن عمر عيديد وَالشَّيْخ أَحْمد بن عمر البيتى والشلى الْكَبِير وَأخذ التصوف عَن أَكثر مشايخه الْمَذْكُورين وَلبس الحرقة من غير وَاحِد وجد فى الطّلب واعتنى بعلوم الادب حَتَّى شهر أمره وَبعد صيته ثمَّ دخل الْهِنْد وَاجْتمعَ فى رحلته هَذِه بِكَثِير من أَرْبَاب الْفضل وَالْحَال ثمَّ قصد مَدِينَة كنور وَأخذ بهَا عَن السَّيِّد الْكَبِير ابْن مُحَمَّد بن عمر بافقيه وَغَيره وَحصل لَهُ قبُول تَامّ عِنْد صَاحبهَا الْوَزير عبد لوهاب وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة اذ ذَاك شَابًّا فَرغب فى صهارته وزوجه بابنته وَأَعْطَاهُ دست الوزارة فنصب نَفسه للتدريس والاقراء ونفع الْعَالمين فشاع ذكره شرقا وغربا وَكَانَ لَا يُقَاوم فى المناظرة وَألف تآليف عديدة مِنْهَا شرح الاجرومية وَشرح الملحة ومختصرها وَشرح مُخْتَصره وَله رسائل بديعة وَكَانَ فى صناعَة النّظم والنثر حَاز قصب السباق وَله قصائد غَرِيبَة قَالَ الشلى وَرَأَيْت لَهُ رسائل وَأَنا صَغِير أَتَى فِيهَا بِمَا لم يسْبق الى مثله كَانَ أرسلها الى سيدى الْوَالِد وَلم يتَّفق لى الى الْآن الْوُقُوف على شئ من مؤلفاته وَلَا قصائده وَلم يقدر لى الله الِاجْتِمَاع بِهِ فى رحلتى الى الْهِنْد وَكَانَ من علو همته لَا يسمع بشئ الا أحب أَن يقف على أَصله ومادته ويتطلب أربابه من سَائِر الْآفَاق حَتَّى أحكم على الرمل والهيئة والاسماء والاوفاق واجتهد فى علم الكيميا غَايَة الِاجْتِهَاد وَيُقَال انه ناله وَكَانَ مَعَ ذَلِك كُله ذَا قدم راسخة فى الصّلاح وَالتَّقوى وَالدّين مُقبلا على الطَّاعَة وَله خلق(3/39)
حسن وعذوبة كَلَام ولين جَانب لَا يزَال مَسْرُورا وَكَانَ آيَة فى الْكَرم كثير الاحسان وَكَانَ ينْفق نَفَقَة السُّلْطَان ويسكن الْعَظِيم من الدّور ويركب الْخَيل الْجِيَاد وَهُوَ قَائِم بنفع الْعباد عاكف على طلبة الْعلم وَلم تطل لياليه حَتَّى مَاتَ وَهُوَ فى الوزارة
عبد الله بن الْحُسَيْن اليزدى صَاحب التحقيقات عَلامَة زَمَانه بِغَيْر دفاع وخاتمة محققى الْعَجم من غير نزاع لم يدانه أحد فى عصره مِنْهُم فى جلالة الْقدر وعلو الْمنزلَة وَكَثْرَة الْوَرع وَكَانَ منهمكا على المطالعة والاشتغال بِالْعلمِ ومنحه لمستحقيه وَكَانَ مبارك التدريس مَا اشْتغل عَلَيْهِ أحد الا انْتفع بِهِ وَكَانَ عَظِيم الْهَيْئَة نير الصُّورَة شَدِيد الْخَوْف والخشية ذَا سكينَة وانصاف فى الْبَحْث وَأخذ عَنهُ خلق لَا يُحصونَ مِنْهُم بهاء الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن العاملى والميزرا ابراهيم الهمدانى وَولده حسن على وَله مؤلفات مفيدة سهلة الْعبارَة مَعَ الوجازة مِنْهَا شرح الْقَوَاعِد فى الْفِقْه وَشرح العجالة وحاشية على الشَّرْح الْمُخْتَصر على التَّلْخِيص للسعد وحاشية على حَاشِيَة الْعَلامَة الخطائى على الشَّرْح الْمَذْكُور وَشرح على تَهْذِيب الْمنطق للسعد وَكلهَا مرغوبة ممتعة قد رزقه الله تَعَالَى فِيهَا الْقبُول وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس عشرَة بعد الالف بِمَدِينَة أَصْبَهَان
عبد الله بن زين بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن زين بن مُحَمَّد مولى عيديد الْفَقِيه الاجل الامام النظار قَالَ الشلى ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ طلب الْعلم وَحفظ الجزرية والعقيدة الغزالية والاربعين النواوية والملحة والقطر والارشاد وَعرض محفوظاته على الْعلمَاء الاجلاء وتفقه على القاضى أَحْمد بن حُسَيْن ولازمه الى أَن تخرج بِهِ وبرع وَجمع من الْفَوَائِد شَيْئا كثيرا وَأخذ عدَّة عُلُوم مِنْهَا الحَدِيث وَالتَّفْسِير والعربية عَن الشَّيْخ أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأخذ عَن أَخِيه مُحَمَّد الهادى التصوف والْحَدِيث وَمن مشايخه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد العيدروس وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن علوى بافقيه وَغَيرهم وَكَانَ فى الْحِفْظ مُنْقَطع القرين لَا تغيب عَن حفظه شاردة وَكَانَ أجمع أقرانه للفقه وأبرعهم فِيهِ وَأذن لَهُ غير وَاحِد من مشايخه بالافتاء والتدريس فدرس وَأفْتى وانتفع بِهِ جمَاعَة قَالَ الشلى وَحَضَرت دروسه وقرأت عَلَيْهِ بعض الارشاد وَحَضَرت بِقِرَاءَة غيرى فتح الْجواد وَكَانَ آيَة فى الْفُرُوع والاصول محققا وَمَا شهِدت الطّلبَة أسْرع من نَقله وَكَانَ علمه أوسع من عقله وَلما حفظ الارشاد جَمِيعه حصل لَهُ خلل فى سَمعه واشتهر عِنْد الْعَوام أَن من حفظ(3/40)
الارشاد كُله ابتلى بعلة وَلذَا كَانَ كثير مِمَّن حفظه يتْرك بعضه وَمن حسن المناظرة قَالَ وَوَقع بَينه وَبَين شَيخنَا القاضى عبد الله بن أَبى بكر الْخَطِيب مناظرات فى مسَائِل مشكلات وَرُبمَا تناظرا أَكثر اللَّيْل وَكَانَ صَاحب حد فِي الدّين وَكَانَ ذَا هدى ورشاد وَصَلَاح معرضًا عَن الرين حسن الصيت نير الْوَجْه والسريرة بَصِير الْقلب وَالْبَصَر متقللا من الدُّنْيَا وارتحل من بَلْدَة تريم وَدخل الْهِنْد وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن عبد الله باشيبان عُلُوم الصُّوفِيَّة والادب وَأخذ السَّيِّد عمر عَنهُ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَطلب مِنْهُ السَّيِّد عمر أَن يُقيم عِنْده وَالْتزم لَهُ بِمَا يَحْتَاجهُ فَقَالَ حَتَّى اجْتمع بِمن فى الْهِنْد من الْمُحَقِّقين فقصد مَدِينَة بيجافور وَاجْتمعَ فِيهَا بالشيخ أَبى بكر بن حُسَيْن بافقيه أخى شَيْخه القاضى بافقيه وَأخذ عَن هذَيْن عُلُوم التصوف والحقيقة وَجلسَ يدرس أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ بِمَدِينَة بيجافور وَدفن عِنْد قُبُور بنى عَمه من السَّادة رضوَان الله عَلَيْهِم
عبد الله بن سَالم بن مُحَمَّد بن سهل بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوى بن مُحَمَّد مولى الدويله اشْتهر جده عبد الرَّحْمَن بِصَاحِب خيله الشَّيْخ الصوفى الْكَبِير أحد أَرْكَان حضر موت ذكره الشلى وَقَالَ فى حَقه ولد بتريم وَأخذ عَن الائمة الْكِبَار وَصَحب الْعلمَاء العارفين وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عقيل وطب وَالشَّيْخ عبد الله بن شيخ والقاضى عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَالسَّيِّد سَالم بن أَبى بكر الْكَاف وَغَيرهم ولازم الاخير مُلَازمَة تَامَّة وبرع فى التصوف والحقائق وَلبس الْخِرْقَة من جمَاعَة من مشايخه واعتنى بِعلم الحَدِيث وسلك منهاج الصَّالِحين من السّلف من الزّهْد وَالتَّقوى والتقشف مَعَ الْوَرع الزَّائِد ورحل الى الْيمن وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وجاور بِمَكَّة سِنِين وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة من العارفين مِنْهُم الشَّيْخ الْكَبِير ابراهيم الْبَنَّا تلميذ الْعَارِف بِاللَّه عبد الله بن مُحَمَّد بافقيه وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَالسَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ سعيد بابفى وَغَيرهم ثمَّ عَاد الى تريم وَلما قدمهَا قَالَ الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس قدم تريم صَاحبهَا وَأقَام بهَا مُدَّة يسيرَة ثمَّ توجه إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأقَام بهما سبع سِنِين وَصَحب جمَاعَة من العارفين وَأخذ عَن غير وَاحِد من المستوطنين والواردين مِنْهُم الشَّيْخ الْكَبِير الْعلم الشهير تَاج العارفين سيدى مُحَمَّد بن مُحَمَّد البكرى وَحضر درس الشَّيْخ الامام الشَّمْس مُحَمَّد الرملى وَلما دخل على تَاج العارفين قَرَأَ لَهُ قَوْله تَعَالَى (أَفَمَن وعدناه(3/41)
وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه} وَهَذِه عَادَته رضى الله عَنهُ يقْرَأ لمن دخل عَلَيْهِ من العارفين آيَة مُنَاسبَة لحاله ومقامه وتجرد صَاحب التَّرْجَمَة للْقِيَام بوظائف الْعِبَادَة والامعان فى الرياضات وَلما رَجَعَ الى تريم نصب نَفسه للارشاد وَحصل بِهِ نفع عَام وَتخرج بِهِ خلق كثير مِنْهُم وَلَده سَالم وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن امام السقاف وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الله الْغُصْن وَكَانَ هُوَ وَالسَّيِّد الْجَلِيل أَحْمد بن مُحَمَّد الحبشى رَفِيقَيْنِ فى الطّلب من الصغر لَا يفترقان وَمن أَوْصَاف صَاحب التَّرْجَمَة انه كَانَ حابسا نَفسه عَن أَرْبَاب الدُّنْيَا لَا يقبل مِنْهُم هَدِيَّة بل كَانَ غَنِيا بِمَا رزقه الله تَعَالَى وَكَانَ قوته كفافا وَلما قَالَ لَهُ بعض أهل الدُّنْيَا أُرِيد أشترى لَك نخلا ينْتَفع بِهِ أولادك وَلَا يكونُونَ كلا بعْدك فَقَالَ قد تكفل برزق الاولاد خَالق الْعباد وَله كرامات يظهرها عِنْد الْحَاجة مِنْهَا أَن بعض بَنَات الدُّنْيَا عبرت بعض بَنَاته بالفقر فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ لَهَا سيفتح الله عَلَيْكُم بِمَا يغنيكم وَيحْتَاج غَيْركُمْ اليكم فَكَانَ الامر كَمَا قَالَ فتح الله على بَنَاته حَتَّى احْتَاجَت تِلْكَ الْبِنْت الَّتِى عيرتهن الى أَن تستعير مِنْهُنَّ الحلى فى مهماتها وَلم يزل على طَرِيقَته المحمودة حَتَّى توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل
عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن أَبى بكر باقشير المكى استاذ الاستاذين وكبير عُلَمَاء قطر الْحجاز فى عصره وَكَانَ أديبا باهرا وشاعرا ماهراً ذكره السَّيِّد على فى السلافة فَقَالَ فى وَصفه خَاتِمَة أَئِمَّة الْعَرَبيَّة وقائد صعابها الابية وَمن لَهُ فِيهَا المزية الْعُظْمَى وَالْمحل الرفيع الاسمى مَعَ تعلق بِسَائِر الْفُنُون وَتحقّق صدق بِهِ الظنون ورتبة فى الادب معروفه وهمة الى تأثيل الْفضل مصر وفه رَأَيْته غير مرّة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فى حَلقَة درسه وَهُوَ يجنى الاسماع من روض فَضله ثمار غرسه وَقد أصغت الاسماع اليه وجثت الطّلبَة على الركب بَين يَدَيْهِ وَذكره الشلى فى تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين وَبَالغ فى وَصفه جدا ثمَّ قَالَ ولد بِمَكَّة فى سنة ثَلَاث بعد الالف وَحفظ الْقُرْآن والشاطبية وجوده وَأحكم علم التجويد وَالْقُرْآن وجد فى الِاشْتِغَال حَتَّى وصل الى مرتبَة لم ينلها أحد غَيره من أهل عصره وَكَانَ على اخْتِصَاصه بِحل الْفُنُون أدبيا اليه النِّهَايَة متميزا فى المعارف والآداب أَخذ عَن أَئِمَّة عديدة من أهل مَكَّة مِنْهُم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى والامام عبد الْقَادِر الطبرى وَعبد الْملك العصامى وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَأحمد(3/42)
الحكمى وَمن الواردين عَن الْبُرْهَان اللقانى وَكَانَ قوى الذكاء والفهم طلق اللِّسَان خاشع الْقلب صادعا بِالْحَقِّ ندى الْقَلَم وَجلسَ للتدريس فَلَزِمته الطّلبَة وأنجب تلاميذ أفاضل وَاتفقَ لَهُ انه أَقرَأ التُّحْفَة لِابْنِ حجر درسا عَاما بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام الى أَن خَتمهَا ثمَّ أعَاد قرَاءَتهَا الى أَن وصل فِيهَا الى بَاب الاجارة فتوفى فَفِيهِ اشارة الى ثُبُوت الاجر لَهُ ان شَاءَ الله تَعَالَى فكمل وَلَده الْعَلامَة سعيد على قِرَاءَة وَالِده حَتَّى وصل الى بَاب الْجعَالَة ثمَّ توفى الى رَحْمَة الله تَعَالَى وَثَبت لَهُ الْجعل من الله تَعَالَى اذ لم يكن لَهما مَعْلُوم على تدريسهما وَهَذَا من لطيف الِاتِّفَاق ذكر ذَلِك بعض تلامذتهما وَكَانَ من عجائب الدَّهْر كتب الْكثير وحشى الحواشى وعلق التَّعَالِيق النفيسة والفتاوى العجيبة وَكَانَ كثير الْمَحْفُوظ لطيف الاخلاق منور الشيبة كثير الْوَقار قَلِيل الْكَلَام طارحا للتكلف جميل الْعشْرَة كثير التودد للنَّاس قوى الهمة فى الِاشْتِغَال مَعَ الطّلب بأدب وَحفظ لِسَان وَحسن تصرف فى الْكَلَام واحسان واعتراف واخلاص طوية لَا يقْصد الا وَجه الله تَعَالَى وانتفع بِهِ خلق كثير من أهل مَكَّة واليمن والشأم وَالْعراق وصنف التصانيف المقبولة مِنْهَا مُخْتَصر الْفَتْح شرح الارشاد وَالْتزم فِيهِ ذكر خلاف التُّحْفَة وَالنِّهَايَة والمغنى لكنه لم يتم وَاخْتصرَ نظم عقيدة اللقانى وَشرح نظمه وَاخْتصرَ تصريف الزنجاني نظماً وَشَرحه شرحاً مُفِيدا ونظم الحكم وَشَرحه ونظم آدَاب الاكل وَشَرحه وَمن شعره قَوْله
(جاذبتها طرق الحَدِيث مفاكها ... فَأَبت سوى التهديد والتعنيف)
(ورجوت مِنْهَا الْوَصْل لمحة نَاظر ... لأفوز بالتكريم والتشريف)
(فكانها التَّنْوِين رام اضافة ... للصرف أَو لازالة التَّعْرِيف)
وَقَوله
(يَا رب مَا أمرضت من مُسلم ... فنجه من ثقل الْعَائِد)
(فانه أعظم مِمَّا بِهِ ... وَلم يفدر مر من الجامد)
وَقَوله
(مناصب الْعِزّ بأيدى الرعاع ... من ذكرهَا ينقصم الظّهْر)
(يَا زَمنا نكس اعلامه ... ملاذ من تمتحن الصَّبْر)
وحذا حذوه صنوه مُحَمَّد بن سعيد فَقَالَ
(مناصب الْعِزّ لمن لَا يرى ... الا فَتى جلبابه الصَّبْر)
(فان عَن الكونين بَاقٍ بِهِ ... تغبطه الْعِزَّة والفقر)
(يعْمل شكرا وَكثير الورى ... يَبْعَثهُ للْعَمَل الشُّكْر)(3/43)
وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من شهر ربيع الاول سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَتوفى قَرِيبا مِنْهُ أَخُوهُ ووالده ودفنوا كلهم بالمعلاة رَحِمهم الله تَعَالَى
السَّيِّد عبد الله بن سيف الله السَّيِّد الشريف الْمَعْرُوف بِابْن سعدى القسطنطينى أحدالموالى الاجلاء الاديب المنشى الشَّاعِر المتخلص على دأب شعراء الرّوم بفائزى كَانَ فَاضلا أديبا جسيما وسيما حسن النّظم والنثر فى الالسنة الثَّلَاثَة عَارِفًا بِنَقْد الشّعْر وأساليبه وَله الشُّهْرَة التَّامَّة بالمعرفة والتفنن لقى كثيرا من الْفُضَلَاء وَأخذ عَنْهُم ولازم من شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا وَورد دمشق فى خدمَة أَبِيه لما صَار قَاضِيا بالقدس ثمَّ بعد عوده الى الرّوم درس بمدارس دَار الْخلَافَة الى أَن وصل الى مدرسة موصلة السليمانية فَجرى بَينه وَبَين عمر بن سعدى القرمانى الْمدرس امتحان فى مجْلِس الْمُفْتى الاعظم وَكَانَ القرمانى الْمَذْكُور قَلِيل البضاعة جدا لَكِن ساعده الْقدر بِسَبَب انفعال السَّيِّد عبد الله من اقترانه بِهِ فتلاشى فى الْبَحْث وَظهر القرمانى عَلَيْهِ فَقدم عَلَيْهِ الى الْمدرسَة السليمانية وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بعد هَذِه الْوَاقِعَة بالبيتين الْمَشْهُورين وهما
(ان أصلى وذكائى ... من مرادى حرمانى)
(ليتنى كنت من التر ... ك جهولا قرمانى)
ثمَّ بعد مُدَّة وصل الى السليمانية وَدَار الحَدِيث وَولى مِنْهَا قَضَاء سلانيك فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وتعصب عَلَيْهِ طَائِفَة من أَهلهَا فاشتكوا مِنْهُ الى السُّلْطَان ونقموا عَلَيْهِ أَشْيَاء فعزل فى مُدَّة جزئية وَخرج خطّ شرِيف فِيهِ بِأَن لَا يلى الْقَضَاء بعْدهَا فبقى مُدَّة وَقد ضربت الْعُزْلَة عَلَيْهِ حجابها وَانْقطع عَن النَّاس وضاق حَاله من تكدر عيشه وتشتت حواسه حَتَّى ولى شيخ الاسلام يحيى المنقارى منصب الفيتا فأنقذه من ذَلِك الْحَال وشفع لَهُ عِنْد السُّلْطَان بتوليته قَضَاء بروسه ثمَّ نَقله فى مُدَّة جزئية الى ازمير فقوى رياشه وَحسن معاشه ثمَّ بعد مُدَّة ولاه قَضَاء مَكَّة المشرفة فورد دمشق فى منتصف شعْبَان فى سنة ثَمَان وَسبعين وَألف ورأيته بهَا فَرَأَيْت أديبا كَامِل الاوصاف قوى البداهة والحافظة الا أَن طبعه خَارج عَن الطباع لما فِيهِ من شدَّة الْحَرَارَة فقد شاهدته فى بحبوحة الشتَاء واستحكام برد الشأم يجلس كاشفا رَأسه وكأنما بخار الْحَرَارَة الصاعد من رَأسه دُخان مدخنة حمام وَلَا يسْتَقرّ لَحْظَة الا ويتطلب ثلجا فيأكله بنهمة وَكَانَ بَينه وَبَين والدى المرحوم مَوَدَّة سالفة(3/44)
وصحبة قديمَة فتقيد برعاية جَانِبه وَسمعت والدى يَقُول وَقد سُئِلَ عَنهُ كَأَنَّمَا البلاغة تُؤْخَذ عَن لَفظه والآداب ترنو عَن لحظه وَكَانَ جرى بَينهمَا مطارحات ومراسلات كَثِيرَة من جُمْلَتهَا قصيدة كَانَ والدى كتب اليه بهَا ومطلعها
(يَا سَاكِنا بشغافى ... وَعَن عيونى خافى)
(طولت مُدَّة بينى ... وَبَعضهَا كَانَ كافى)
(كدرت بالبعد عيشى ... من بَعْدَمَا كَانَ صافى)
(لهفى لطيب لَيَال ... مرت لنا بالتصافى)
(حَيْثُ الشَّبَاب قشيب ... والدهر فِيهِ موافى)
(وسالف من زمَان ... تدار فِيهِ سلافى)
(من كف ريم كغصن ... يمِيل بالاعطاف)
(يزهو بوردى خد ... يزرى بورد القطاف)
(زمَان لَهو تولى ... بروضة ميناف)
(تسقى من السحب وَبلا ... بِعَارِض وكاف)
(يَا دهر رفقا بصب ... حَتَّى مَتى ذَا التجافى)
(وعدتنى بالامانى ... فَكُن بوعدك وافى)
(واسمح بِرُؤْيَة مولى ... سليل عبد منَاف)
(ذَاك الْهمام المفدى ... وَسيد الاشراف)
(كم حل مُشكل بحث ... بِلَفْظِهِ الْكَشَّاف)
(مولاى يَا بَحر فضل ... طام من الْجُود طافى)
(وفائزا بقواف ... قد أعجزت ابْن قَاف)
(يَا مُفْرد الرّوم حَقًا ... وجامع الالطاف)
(أَنْت الْغنى بمدحى ... عَن كَثْرَة الاوصاف)
(فَلَا تظن بأنى ... لسابق الود جافى)
(لَو كنت أعلم صبرى ... لَكِن أمرى خافى)
(لَكَانَ سعيى اليكم ... وفى حماكم طوافى)
(فربع غَيْرك عندى ... مولاى كالاعراف)
(ان رمت تَفْصِيل حالى ... من الزَّمَان المجافى)(3/45)
(ملان تمنيت شَيْئا ... الا أَتَى بِالْخِلَافِ)
(من جوره ضَاقَ صدرى ... فسحت فى الارياف)
(صَحِبت بالرغم منى ... قوما من الاجلاف)
(حَتَّى حللت بِمصْر ... من بعد قطع الفيافى)
(فَلم أجد لى فِيهَا ... غير الثَّلَاث الاثافى)
(فَلَا صديق صَدُوق ... وَلَا حبيب يوافى)
(هَذَا زمَان عَجِيب ... مَا فِيهِ خل مصافى)
(وَالْفضل قد صَار ذَنبا ... وللرواج منافى)
(عَسى الاله قَرِيبا ... يمن بالاسعاف)
(بجاه خير البرايا ... والآل أهل العفاف)
(واعذر بِفَضْلِك فضلى ... ضَاقَتْ على القوافى)
(وَدم بسعدك ترقى ... لمنهل لَك صافى)
(مَا غرد الْورْد شجوا ... على غصون الْخلاف)
(مفكرا عهد صب ... نأى عَن الاحلاف)
فَرَاجعه عَنْهَا بِهَذِهِ القصيدة ومطلعها
(يَا خير خل مصافى ... لَا زَالَ وردك صافى)
(أَيْن الزَّمَان الذى قد ... كِتَابه فى التصافى)
(مَا بَيْننَا غير ود ... مَا بَيْننَا من خلاف)
(طورا نرى من رياض الْعُلُوم فى الاقتطاف ... )
(وَتارَة من بحار القريض فى الاغتراف ... )
(كُنَّا كَمثل الثريا ... بِصُحْبَة وائتلاف)
(فصيرتنا بَنَات النعش الليالى الجوافى ... )
(بَيْتا نروض بروض ... يَوْمًا مَعَ الاحلاف)
(وطيره فى وفَاق ... ولحنه فى خلاف)
(اذ صَاح مِنْهَا غداف ... تعسا لذاك الغداف)
(فَبَان كل عَن الالف وهى ذَات الاف ... )
(قد انصرفنا بِصَرْف الزَّمَان أى انصراف ... )(3/46)
(كل امْرِئ صَار فى جَانب من الأكناف ... )
(ألْقى الزَّمَان المعادى الا حباب فى الاطراف ... )
(أرجوا لما فَاتَ من ذ لَك التلاف التلافى ... )
(عساى نَحْو دمشق ... عَمَّا قَلِيل أوافى)
(عَسى لَيَال تقضت ... يعدن بالاسعاف)
(آه عَلَيْهَا فآه ... قد أسرعت فى التجافى)
(مَضَت سَرِيعا وَوَلَّتْ ... كَمثل دهم خفاف)
(مرت كخاطف برق ... وطرن كالخطاف)
(تبعتها لَو أعانت ... قوادمى والخوافى)
(قد كن شام زمانى ... كالشأم فى الارياف)
(دمشق أعنى ودامت ... مخضرة الاكناف)
(قد خصها الله بَين الْبِلَاد بالالطاف ... )
(شوقى لَهَا كل يَوْم ... يزْدَاد بالاضعاف)
(أصبو الى برداها ... بلوعة والتهاف)
(وَلَو قدرت اليها ... أسرعت رجلَانِ حافى)
(نسيمها وَهُوَ ذُو عِلّة لدائى شافى ... )
(انهارها لجيوش الهموم كالاسياف ... )
(يزِيد دمعى اذاما ... ذكرت تِلْكَ الصوافى)
(بهَا حدائق فاقت ... فى أحسن الاوصاف)
(تِلْكَ الحدائق تحكى ... صِفَات خلى المصافى)
(أَخُو وَفَاء يُرَاعى ... اخوانه ويصافى)
(كل لَهُ مُثبت الْفضل مَاله من نافى ... )
(مليك نظم ونثر ... ملاك أَمر القوافى)
(الْحل وَالْعقد فى كَفه بِغَيْر خلاف ... )
(بجلق ذَات فضل ... الله ذى الالطاف)
(يَا من لَهُ كَابْن برد ... برد من الْفضل ضافى)
(يَا ظافرا بقواف ... أعيت عويف القوافى)(3/47)
(أتحفتنا بقريض ... أحسن بذا الاتحاف)
(أقرضت قرضا وأسلفت أحسن الاسلاف ... )
(فائية مَا رَأينَا ... مثلا لَهَا فى القوافى)
(مَا من سناد خليلى ... بهَا وَمن اصراف)
(زففت بكرا عروبا ... الى خير زفاف)
(بختمها بلغتنى ... مصونة فى السجاف)
(صَدَاقهَا صدق ودى ... حفظته فى شغافى)
(أحببتها مُنْذُ دهر ... وأولعت بخلافى)
(علقتها ذَات ظلم ... عديمة الانصاف)
(عشقتها فغدت فى ... هجرى وفى احصافى)
(قد أدنفتنى زَمَانا ... وَمَا لدائى شافى)
(والآن رقت فوافت ... أعزز بطب موافى)
(عَادَتْ فَعَادَت لتبرى ... مريضها وتعافى)
(قد عاملت بعد حيف ... بِالْفَضْلِ والالطاف)
(زارتنى من غير وعد ... بعد اجتياب الفيافى)
(قد كنت أرقبها قَائِلا عَسى أَن توافى ... )
(ياصاح يامن حكى طبعه الزلَال الصافى)
(عتبت ودك فى ترك الْكتب والعتب شافى ... )
(لَا تعذلنى فَهَذَا ... حوب الزَّمَان المجافى)
(وان يكن ذَاك ذنبى ... فاصفح وَمثلك عافى)
(مَا أجمل الصفح عَن ذَنْب مجرم ذى اعْتِرَاف ... )
(وَالله ربى الذى لَا ... تخفى عَلَيْهِ الخوافى)
(حبيسك فى كل حِين ... يكون فى استحصاف)
(راس كقاف وان كَانَ ... بَيْننَا بعد قَاف)
(لَا زلت ترفل عزا ... وثوب قدرك ضافى)
(قابلت جَيِّدَة قد ... أهديت بالسفساف)
(فاعذروثن بِأُخْرَى ... يَا وَاحِد الآلاف)(3/48)
هَذَا مَا وقفت عَلَيْهِ من شعره العربى وَأما شعره التركى ومنشآته وآثاره فكثيرة ورحل مَعَ الْحَج وَحج تِلْكَ السّنة وَأقَام بِمَكَّة فتوفى فى أَوَائِل سنة تسع وَسبعين وَألف عَن خمسين سنة فان وِلَادَته فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف كَمَا حررها والدى
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس المكنى بأبى مُحَمَّد الامام الْكَبِير استاذ الاساتذة وخاتمة الْعلمَاء بقطر الْيمن قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واعتنى بِالطَّلَبِ أتم الاعتناء وَلزِمَ وَالِده وَأَخذه عَنهُ كثيرا من الْفُنُون وَهُوَ شَاب وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن وَالشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بلحاج وَالشَّيْخ الولى أَحْمد بن عبد الله بن عبد القوى ثمَّ ارتحل لوالده بِأَحْمَد آباد فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَنهُ علوما شَتَّى وَأول كتاب قَرَأَهُ عَلَيْهِ كتاب الشفا وَحج وَأخذ بالحرمين عَن جمع كثير ثمَّ عَاد الى بَلْدَة تريم وَنصب نَفسه للنفع والاقراء وقصده النَّاس من أقْصَى الْبِلَاد وَصَارَ شيخ الْبِلَاد الحضرمية وَألْحق الاحفاد بالاجداد وَكَانَ عَالما متضلعا تَفْسِيرا وحديثا وأصولا وَأخذ عَنهُ خلق لَا يُحصونَ أَكْثَرهم مِمَّن بلغ فَضله حد التَّوَاتُر مِنْهُم أَوْلَاده الثَّلَاثَة مُحَمَّد وَشَيخ وزين العابدين وحفيده الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد وَالشَّيْخ أَبُو بكر الشلى والامام عبد الله بن مُحَمَّد بروم وَالشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله الْغُصْن وَشَيخ الاسلام أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وشهاب الدّين والقاضى أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن على خرد وَالشَّيْخ نزين وحسين بَافضل وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى وَكَانَ يجلس من اول الضُّحَى الى منتصف النَّهَار وَمد الله تَعَالَى لَهُ فى عمره حَتَّى انْتفع بِهِ الْعلمَاء الْكِبَار من كل قطر وَكَانَ كَرِيمًا الى الْغَايَة صَاحب جاه وشأن وَاتفقَ أهل عصره على امامته وتقدمه وَكَانَ لَهُ فى الْقُلُوب هَيْبَة عَظِيمَة مَعَ حسن الْخلقَة وَقبُول الصُّورَة وَنور الطَّاعَة وجلالة الْعباد وَحسن الْخلق وَكَانَ كثير الانصات دَائِم الْعِبَادَة وَكَانَ لَا يخرج من بَيته الا لحضور جُمُعَة أَو جمَاعَة أَو لاجابة وَلِيمَة واذا خرج من بَيته يزدحم النَّاس على تَقْبِيل يَده ويلتمسون بركته وَله كرامات كَثِيرَة من أعظمها أَن بعض اتِّبَاعه سرق بعض مَتَاعه فتعب لذَلِك تعبا شَدِيدا فَلَمَّا رأى شدَّة تَعبه قَالَ لَهُ اذْهَبْ الى مَحل كَذَا واجلس فِيهِ وَأول من يمر بك أمْسكهُ وطالبه بِمَا سرق لَك فان أَعْطَاك والا فأت بِهِ الى فَفعل ذَلِك فَأعْطَاهُ مَتَاعه كَمَا هُوَ وَلم يذهب مِنْهُ شئ(3/49)
وَرَأى بعض العارفين فى الْمَنَام النبى
يصلى فى محراب مَسْجِد مديحج وَالشَّيْخ عبد الله صَاحب التَّرْجَمَة يصلى خَلفه مقتدياً بِهِ وَالشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد بن حُسَيْن العيدروس يصلى خلف صَاحب التَّرْجَمَة والاولان فى الرواق المسقف والاخير فى الصحن والمطر نَازل عَلَيْهِ فَلَمَّا أصبح قصها على بعض العارفين فَقَالَ هَذِه الرُّؤْيَا تدل على كَمَال اتِّبَاع الشَّيْخ عبد الله بن شيخ للنبى
لكَونه أقرب اليه وعَلى صفته والمطر هُوَ الكرامات لَان عبد الله بن أَحْمد كثير الكرامات وَاتفقَ لَهُ كثير مِمَّا يدل على رِعَايَة الاحوال الباطنية ومحاسبة النَّفس وَمن شرح أَحْوَاله وحكاياته من جماعته لم يعلم الْوُقُوف على كثير من كشفه وكراماته وَله مآثر كَثِيرَة بتريم مِنْهَا المسجدان المشهوران أَحدهمَا فى طَرِيق تريم الشمالى وَيُسمى مَسْجِد الابرار وَالْآخر فى طرفها الجنوبى وَيُسمى مَسْجِد النُّور وَبنى بِقرب مَسْجِد النُّور سَبِيلا يمْلَأ دَائِما وَغير ذَلِك وغرس نخيلا كثيرا ينْتَفع بِهِ كَثِيرُونَ من الْفُقَرَاء وَأَبْنَاء السَّبِيل ومدحه كثير من الْفُضَلَاء بقصائد طنانة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عَالم ذَلِك الْقطر وامامه وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر ذى الْقعدَة سنة تسع عشرَة وَألف وَهُوَ ساجد فى صَلَاة الْعَصْر بعد توعك قَلِيل وارتجت لمَوْته الْبِلَاد وَحضر لتشييعه خلائق لَا يُحصونَ وصلوا عَلَيْهِ عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة صلى عَلَيْهِ اماما وَلَده الشَّيْخ زين العابدين وَحضر السُّلْطَان وَأَتْبَاعه للصَّلَاة عَلَيْهِ وَدفن بِمحل بِطرف مَقْبرَة زنبل اشْتَرَاهُ وَهُوَ بَين الْمقْبرَة وَمَسْجِد النُّور وَعمل عَلَيْهِ قبَّة
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن شيخ بن عبد الله بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف اشْتهر جده بالضعيف تَصْغِير ضَعِيف الشَّيْخ العالى الْقدر الْعَالم الربانى ولد بِمَدِينَة قسم وَصَحب أَبَاهُ وَأخذ عَمَّن بهَا من الاعيان ثمَّ رَحل الى تريم وَأخذ عَن جمَاعَة من علمائها مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن شيخ وَولده زين العابدين وَعبد الرَّحْمَن السقاف العيدروسيين وَأخذ عَن الشَّيْخ أَبى بكر الشلى ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بِمَكَّة عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ الْعَارِف أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ تَاج الهندى وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن كثيرين من السَّادة السمهوديين وَعَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخيارى وَغَيرهم من عُلَمَاء الْحرم الوافدين عَلَيْهِ وَكَانَ كثير الطَّاعَة وَالْعِبَادَة حَرِيصًا على طلب الْفَائِدَة وَأكْثر اشْتِغَاله بِعلم التصوف وَكَانَ مَبْسُوط الْكَفّ متواضعا وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَأَرْبَعين ألف(3/50)
وَدفن بِالبَقِيعِ
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ حفيد الشَّيْخ عبد الله الْمَذْكُور قبل هَذَا الذى اتَّصل ذكره الشَّيْخ الْكَبِير الْعلم الصوفى ولد بتريم سنة سبع وَعشْرين وَألف ورباه عَمه زين العابدين واشتغل بتحصيل الْعُلُوم فَأخذ عَن ابْن عَمه الشَّيْخ عبد الله السقاف بن مُحَمَّد العيدروس ولازمه فى دروسه وَأخذ عَن الشَّيْخ أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب والعارف بِاللَّه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد امام السقاف وَلبس الْخِرْقَة من كثيرين مِنْهُم وَالِده وَعَمه زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف وَالشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد العيدروس وَغير هَؤُلَاءِ ورحل إِلَى بندر الشّجر وَأخذ عَن جمَاعَة من العارفين وَحج وَأخذ عَن جمَاعَة ثمَّ عَاد الى بَلَده ودخلها فى موكب عَظِيم وَخرج شَيْخه عبد الرَّحْمَن السقاف بِأَهْل السماع بِالدُّفُوفِ واليراع واشتهر صيته وَبلغ على صغر سنه مَا لم تبلغه الْمَشَايِخ الْكِبَار وبرع فى كثير من الْفُنُون وَلما مَاتَ شَيْخه الشَّيْخ الامام عبد الرَّحْمَن السقاف قَامَ بِمنْصب آباءه أتم قيام من اطعام الطَّعَام وبذل الشَّفَاعَة وفى سنة سِتِّينَ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ عبد الله بن سعيد باقشير وَاجْتمعَ بالشيخ الْعَارِف مُحَمَّد بن علوى وَأخذ عَنهُ وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَجمع كتبا كَثِيرَة من كل فن وَأخذ عَنهُ جمَاعَة علم التصوف قَالَ الشلى وَاجْتمعت بِهِ بِمَكَّة واستفدت مِنْهُ فَوَائِد ثمَّ رَحل الى الْمَدِينَة وَأخذ عَن الصفى القشاشى وَدخل مَعَه الْخلْوَة سَبْعَة أَيَّام ثمَّ رَحل الى الْهِنْد فَدخل بندر سورت وَأخذ عَن ابْن عَمه الامام جَعْفَر الصَّادِق ولازمه بُرْهَة ثمَّ سَار الى تلميذ وَالِده الْوَزير الْعَظِيم حبشخان فَعرف لَهُ حَقه وأحله مَحل مهجته وزوجه بابنته ثمَّ رَحل إِلَى مَدِينَة بيجافور وَاجْتمعَ بسلطانها مَحْمُود شاه ابْن ابراهيم شاه فاكرمه ثمَّ حصل من بعض الحسدة فى حَقه بعض كَلَام ففارقها وَرجع الى بَلَده تريم وانعقدت عَلَيْهِ صدارتها وقصده النَّاس وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الانزواء وَصرف الاوقات فى الْعِبَادَة ثمَّ رَحل الى بندر الشحر وَصَارَ بِهِ مقصد القاصدين وَله كرامات كَثِيرَة وَمَا زَالَ مُقيما ببندر الشحر حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت خَامِس عشر ذى الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
عبد الله بن طورسون الْمَوْصُوف بفيض الله طورسون زَاده أحد موالى الرّوم الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ الباهى الباهر أَخذ عَن كبار الاساتذة ثمَّ وصل الى خدمَة(3/51)
السَّيِّد مُحَمَّد مَعْلُول زَاده الْمُفْتى والنقيب ولازم مِنْهُ ودرس أَولا بمدرسة مُحَمَّد باشا النيشانى لما تمت فى جُمَادَى الاولى سنة احدى وَألف وَهُوَ أول مدرس بهَا برتبة الْخَارِج ثمَّ ترقى فى الْمدَارِس الى أَن وصل الى مدرسة وَالِدَة السُّلْطَان بأسكدار فولى مِنْهَا قَضَاء الْقُدس سنة عشرَة وَألف ثمَّ ولى بَغْدَاد فى شهر رَمَضَان سنة احدى عشرَة ثمَّ قَضَاء أَيُّوب فى ذى الْحجَّة سنة أَربع عشرَة ثمَّ قَضَاء اسكدار فى شَوَّال سنة ثَمَان عشرَة وَكَانَ عَالما فَاضلا مَشْهُورا بِالْفَضْلِ التَّام ماهرا فى اسلوب التَّحْرِير بالالسنة الثَّلَاثَة وَله شعر وانشاء مقبولان وَكَانَ حسن الْخط الى الْغَايَة وَله تآليف سَائِغَة دقيقة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الجامى وصل فِيهَا الى بحث المرفوعات وَله على التَّفْسِير تعليقات وَكَذَلِكَ على شُرُوح الْهِدَايَة والمفتاح ونظم الْفَرَائِض بالتركية ثمَّ شَرحه شرحا لطيفا وَله فى معجزات الانبياء رِسَالَة بالتركى وَكَانَ فى فن الصكوك والحجج ماهرا جدا وَجمع فِيهَا صور وقفيات وتمسكات وهى دستور الْعَمَل عِنْد أهل الرّوم وَله رِسَالَة قلمية وَكَانَ فى فن المعميات فى معادلة مير وشهاب عِنْد الْفرس وَقد صنع بَيْتا يخرج مِنْهُ مائَة اسْم وَهُوَ هَذَا
(درديمه درمان أَو لوردى اولسه كراى سر وَقد ... درده غايت درده غايت درده غايت درده حد)
وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ قَاض بأسكدار فى جُمَادَى الاولى سنة تسع عشرَة وَألف
السيدعبد الله بن عَامر بن على الْيُمْنَى ذكره ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه وَقَالَ فى تَرْجَمته هُوَ ابْن عَم الامام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن على كَانَ عَالما متيقظا ذكيا فصيحا مجيدا فى الشّعْر على منهاج الْعَرَب الاولى وَكَانَ شَيخنَا شمس الدّين أَحْمد بن سعد الدّين يثنى على شعره وَيَقُول السَّيِّد مجيد وَهُوَ كَذَلِك وَلم يظْهر شعره الا فى آخر أَيَّامه بعد موت وَلَده أَبى تُرَاب على بن عبد الله فانه اكثر فِيهِ المراثى وناح عَلَيْهِ بِشعر كثير وَلَعَلَّه كَانَ يكره شعره فى مبادى أمره وَكَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال اسْتَأْثر بهَا مِنْهَا جودة خطه فانه فائق عَجِيب وَمِنْهَا جودة الرماية بالبندق فانه كَانَ استاذا بارعا فى صَنْعَة الرماية لم يسْبق اليه ويعالج البنادق وَمِنْهَا ركُوب الْخَيل وَكَانَ وحيدا فى ذَلِك وَأَخْبرنِي أَنه لم يتْرك فِي تعلم الْكِتَابَة والرماية مجهوداً حَتَّى أَنه بلغه أَن فِي مشْهد الامام أَحْمد بن الْحُسَيْن رجلَيْنِ أَحدهمَا يجيد الْكِتَابَة وَالْآخر يجيد الرمى فَبَالغ فى وُصُوله الى ذيبين لامتحان الرجلَيْن فوجدهما كَمَا وصف لكنه فاق عَلَيْهِمَا ووقف بذيبين(3/52)
أَيَّامًا عَن رأى الامام الْقَاسِم أرْسلهُ الى القاضى الْعَلامَة الهادى بن عبد الله ابْن ابى الرِّجَال فاستقر عِنْده مُدَّة وَكَانَ لَا يزَال يحدث عَن القاضى بعجائب من السَّعَادَة ومطاوعة حسى حاشدو بكيل لَهُ وَهُوَ كَذَلِك فانه مَا اتّفق لَاحَدَّ مَا اتّفق لَهُ وَكَانَ والدنا القاضى الْعَلامَة على بن أَحْمد صديق السَّيِّد الْمَذْكُور لانه تولى وادعه والقاضى على كَانَ يلى أَمر الْقَضَاء وَكَانَ بَينهمَا من التَّحِيَّات والتواصل أَمر عَجِيب واعتنى المترجم بِالْجمعِ بَين الْمُنْتَخب والاحكام وفى بالى انه أَرَادَ التَّصَرُّف بالاختصار لَاحَدَّ الْكِتَابَيْنِ وسمى الْكتاب الْمَذْكُور بالتصريح بِالْمذهبِ الصَّحِيح والاختصار الذى فى ذهنى تحققته فَوَجَدته فى أَسَانِيد الْمُنْتَخب تَركهَا وَلم يستحسن ذَلِك الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم واشعاره كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته بحوت لانه استوطنها واستوطن هِجْرَة الحموس بِبِلَاد غدد فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف أَحْسبهُ فى رَجَب مِنْهَا وَالله أعلم
عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن على بن مُحَمَّد الدنوشرى الشافعى خَليفَة الحكم بِمصْر أحد فضلاء الزَّمَان الَّذين بلغُوا الْغَايَة فى التَّحْقِيق والاجادة وضربوا فى الْفُنُون بالقدح الْمُعَلَّى وَكَانَ لغوياً نحوياً حسن التَّقْرِير باهر التَّحْرِير ولد بِمصْر وَبهَا نشا وَأخذ عَن الشَّمْس الرملى والشهاب ابْن قَاسم العبادى وَالشَّمْس مُحَمَّد العلقمى وَغَيرهم وتصدر بِجَامِع الازهر وأقرأ الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا من الْعُلُوم وانتفع بِهِ جمَاعَة أجلاء مِنْهُم الشَّمْس البابلى والنور الشبراملسى وَغَيرهمَا وَألف تآليف كَثِيرَة فى النَّحْو مِنْهَا حَاشِيَة على شرح التَّوْضِيح للشَّيْخ خَالِد وَله رسائل وتعليقات ورحل الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد الى الْقَاهِرَة وَرَأس بهَا وَبَلغت شهرته حد التَّوَاتُر وَكَانَ ينظم الشّعْر وَأكْثر شعره مَقْصُور على نظم مسَائِل نحوية فَمن ذَلِك جَوَابه عَن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(أفدنى يَا نحوى مَا اسْم غَدَتْ بِهِ ... مَوَانِع صرف خَمْسَة قد تجمعت)
(فان زَالَ مِنْهَا وَاحِد فاصرفنه ... أجبنى جَوَابا يَا أخى نَقله ثَبت)
وَجَوَابه هُوَ هَذَا
(نظمت نظاما مبدعا فى اتساقه ... سؤالا عَظِيما كاللآلى تنظمت)
(وَقد غصت فى بَحر من النَّحْو زاخر ... فصغت جَوَابا ناره قطّ مَا خبت)
(وَذَا أذربيجان اسْم قَرْيَة اعجم ... حوى عجمة تركيبه ثمَّ قد حوت)
(زِيَادَته تَعْرِيفه كَون لَفظه ... مؤنثا اعرفه سلمت من الْعَنَت)(3/53)
قلت مَا مشنى عَلَيْهِ هَذَا السَّائِل هُوَ مَا ذهب اليه ابْن جنى وَفرع الْمَوَانِع الْخَمْسَة فِيهِ على كَون اذربيجان مُعرب آذر بايكان مركب واذربيجان اقليم من بِلَاد الْعَجم يُقَال فِيهِ نهر يجرى مَاؤُهُ يستحجر فَيصير صفايح صَخْر يستعملونه فى النباء الاذربى نِسْبَة الى اذربيجان قَالَه الْمبرد وَالْقِيَاس اذرى بِلَا بَاء كرامى فى رامهرمز ابْن الاثير هَذَا مطرد فى النّسَب الى الاسماء المركبة وَضبط اذربيجان النووى فى تَهْذِيب الاسماء واللغات بِهَمْزَة مَفْتُوحَة غير ممدودة ثمَّ ذال مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ جِيم ثمَّ الف ثمَّ نون هَذَا هُوَ الاشهر والاكثر فى ضَبطهَا قَالَ صَاحب الْمطَالع هَذَا هُوَ الْمَشْهُور قَالَ وَمد الاصلى والمهلب الْهمزَة يعْنى مَعَ فتح الذَّال واسكان الرَّاء قَالَ والافصح الْقصر واسكان الذَّال وَرَأَيْت من آثَار الدبوشرى مَا نَصه قَالَ ابْن مَالك لَك فى يَاء الذى وَجْهَان الاثبات والحذف فعلى الاثبات تكون اما خَفِيفَة فَتكون سَاكِنة واما شَدِيدَة فَتكون اما مَكْسُورَة أَو جَارِيَة بِوُجُوه الاعراب وعَلى الْحَذف فَيكون الْحَرْف الذى قبلهَا اما مكسورا كَمَا كَانَ قبل الْحَذف واما سَاكِنا وَلَك فى يَاء الَّتِى من اللُّغَات الْخمس مَالك فى يَاء الذى وَقد نظمت هَذَا فَقلت
(وفى الذى وفى الَّتِى لُغَات ... خمس رَوَاهَا السَّادة الاثبات)
(اسكان يَاء ثمَّ تَشْدِيد أَتَى ... بِكَسْر يَاء مُطلقًا فأثبتا)
(وَمَعَهُ جَازَت أوجه الاعراب ... أَيْضا وَهَذَا جَاءَ فى الصَّوَاب)
(وَجَاء حذف الْيَاء والتسكين ... وَالْكَسْر أَيْضا هَكَذَا التَّبْيِين)
(فَهَذِهِ الْخمس أَتَت محرره ... وَاضِحَة مبينَة مقرره)
وَورد عَلَيْهِ سُؤال وَهُوَ هَذَا
(يأيها الْعَارِف فى فنه ... ومدعى الْفَهم وَعلم الْبَيَان)
(مَا قَوْلكُم فى أحرف خَمْسَة ... اذا مضى حرف تبقى ثَمَان)
(ترَاهُ بِالْعينِ وَلكنه ... يحْتَاج فى الْقلع الى ترجمان)
فَأجَاب عَنهُ بِجَوَاب ضمنه لغزا فى لَفْظَة بَاب وَهُوَ قَوْله
(قد جاءنى لفظ بديع علا ... يحكيه فى نظم عُقُود الجمان)
(دلّ على فضل وَعلم زكا ... يشْعر بِاللَّفْظِ العلى الْمَكَان)
(ترض عَن عُثْمَان يَا سيدى ... وَعَن جَمِيع الصحب أهل الْجنان)(3/54)
(هَذَا وَمَا اسْم طرده عكة ... يحجب بَين النَّاس رأى العيان)
(وجوفه اعتل وتلقاه فى ... أَبْوَاب فقه يَا فصيح الزَّمَان)
وَله لغز اجْتمع فِيهِ أَربع يَا آتٍ مُتَوَالِيَة وَهُوَ
(أَلا يَا عَالما بِالصرْفِ يَا من ... لنَحْو علومه صرف الا عَنهُ)
(أبن لى أَربع اليا آتٍ فى اسْم ... توالت وهى فِيهِ مستكنه)
وَذكره الخفاجى فِي كِتَابيه فَقَالَ فى وَصفه جَامع التَّقْرِير والتحرير الراقى الى ربوة الْمجد الخطير تآليفه أصبح الدَّهْر من خطابها وآثار اقلامه يتلمظ أَفْوَاه السامعين الى ثمار آدابها وَله عقائل طالما جلاها على وَأهْدى باكورتها الى الا انه كَانَ يعد الشّعْر سهلا ويمزج بالجد هزلا فَهُوَ فى سَمَاء الْفضل والعلوم تحسد علاهُ الْكَوَاكِب والنجوم
(وهى تخفى عِنْد الصَّباح وَهَذَا ... ظَاهر فى صباحه والمساء)
فَهُوَ جَوْهَر نَفِيس فى صناديق الْقبُول وسر مَكْتُوم فى ضمائر الخمول فَمَا كتبه الى قَوْله وأرسلها الى الى الْقُسْطَنْطِينِيَّة
(نوالك يَا شهَاب الدّين زَائِد ... وبحر نداك يَا مولاى زابد)
(تركت العَبْد لم تنظر اليه ... وَقد عودته أَسْنَى العوائد)
(مَتى يَأْتِيهِ مِنْك جَوَاب كتب ... وتأتيه الصلات مَعَ العوائد)
(ويكحل جفْنه ميل التلاقى ... ويغمد سيف هجرك عَنهُ غامد)
وَأنْشد لَهُ التقى الفارسكورى فى كِتَابه المدائح قصائد عديدة من أَجودهَا قصيدة مطْلعهَا
(غنى الهزار فأغنانى عَن الْعود ... فى روض أنس أنيق مورد الْعود)
(وَطَاف بالقهوة السمرا بِهِ رشأ ... مذ أطلق الطّرف عوملنا تَقْيِيد)
(كالبدر لَكِن أضلتنا غدائره ... بغدرها غادرتنا كالجلاميد)
(لقدر متناقسى من حواجبه ... وَلَيْسَ غير الحشا منا بمقصود)
(حللت فِيهِ عذارى مذ عقدت لَهُ ... حبا فصرت بمحلول ومعقود)
(يمِيل بى حسنه نَحْو الْهوى وانا ... مَا حلت عَنهُ لذى عذل وتفنيد)
(أَشْكُو لَهُ فرط وجدى عل يرحمنى ... يَا ليته لَو صغى يَوْمًا لمكمود)
(أَعرَضت عَنهُ لمدح الحبر سيدنَا ... قاضى الْقُضَاة الذى قد فاق بالجود)(3/55)
وَأنْشد لَهُ غير قَوْله
(أرى فى مصر أَقْوَامًا لِئَامًا ... وهم مَا بَين ذى جهل ونذل)
(شجاعتهم بألسنة حداد ... وعيشهم بجبن وَهُوَ مقلى)
وَقَوله فى قاضى مصر وَكَانَ اسْمه مُوسَى
(لقد كَانَ فى مصر الامينة حَاكم ... تسمى بفرعون وَكَانَ لنا مُوسَى)
(وفى عصرنا هَذَا لقلَّة قسمنا ... لنا ألف فِرْعَوْن وَلَيْسَ لنا مُوسَى)
قلت والقاضى الْمَذْكُور هُوَ الذى يَقُول فِيهِ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى مفتى الشَّام مؤرخا
(أهل مصر بشرا كم بسعود ... لَا تذوقون بعده قطّ بوسا)
(سنة الْخَيْر والهنا أرخوها ... مِنْهَا فِرْعَوْن أقبل مُوسَى)
وَركب بعض شُهُود المحاكم بِمصْر ثورا تشهيرا فَكتب الدنوشرى اليه
(ان ركبوك الثور فى مصراذ ... جرست بالظلم وبالجور)
(فاصبر وَلَا تحزن لما قد جرى ... فَالنَّاس وَالدُّنْيَا على ثَوْر)
وَكتب لتلميذه مُحَمَّد بن أَبى اللطف الشامى وَقد ترك حُضُور درسه
(يَا سيدى يَا ابْن أَبى اللطف ... يَا صَاحب الاحسان والعطف)
(وعدتنا وَعدا وأخلفته ... وَمَا درينا سَبَب الْخلف)
(الْوَعْد بدر نوره بالوفا ... وَالْخلف فى الميعاد كالكسف)
(هَل كَانَ عرقوب عديم الوفا ... أَوْصَاك بالتسويف فى الْعرف)
وَمر يَوْمًا على صَاحبه درويش الْمحلى وفى يَده دِينَار فَسقط من يَده فَقَالَ بديها
(يَا فائقا بالجود بَين الورى ... ومشبها للمزن فى وكفه)
(مذ سقط الدِّينَار من كفكم ... وَعَاد مثل الْبَرْق فِي خطفه)
(كذبت من قد قَالَ فى حقكم ... لَا يسْقط الْخَرْدَل من كَفه)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الاحد غرَّة شهر ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَألف
عبد الله ابْن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن سراج باجمال الحضرمى الغرفى ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ذكره تِلْمِيذه الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد باجمال مُؤذن الشهير بالاصبحى فى كِتَابه مطالع الانوار فى بروج الْجمال بِبَيَان الشَّجَرَة والمناقب لآل باجمال فَقَالَ أحد الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقين وَالْعُلَمَاء العاملين أَخذ الْفِقْه عَن وَالِده بِبَلَدِهِ(3/56)
الغرفة ثمَّ ارتحل إِلَى الشحر فَأَخذه عَن شيخ وَالِده الشَّيْخ على بن على بايزيد وَولى امامة مَسْجِد الغرفة مُدَّة ثمَّ ولى تدريس الْجَامِع بالشحر ثمَّ ولى الْقَضَاء فِيهِ فحمدت أَحْكَامه وَاسْتمرّ بالشحر نَحْو ثمانى عشرَة سنة ثمَّ عَاد الى وَطنه الغرفة وَولى قضاءها ودرس وانتفع بِهِ جمَاعَة وَله مؤلفات مِنْهَا شرح القصيدة البستية نظم الشَّيْخ أَبى الْفَتْح البستى الَّتِى أَولهَا
(زِيَادَة الْمَرْء فى دُنْيَاهُ نُقْصَان ... وَربحه غير مَحْض الْخَيْر خسران)
جمع فِيهِ آدابا كَثِيرَة وَله تَنْبِيه الثِّقَات على كثير من حُقُوق الاحياء والاموات وَله نظم حسن ونثر بديع وَله فَتَاوَى غير مَجْمُوعَة وَكَانَ ذَا يَد طولى فى اسْتِخْرَاج الغوامض وَعبارَته فى أجوبته حَسَنَة جدا وَكَانَت وَفَاته فى شعْبَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن فى تربة الغرفة غربى دَاره فى الْجَانِب الجنوبى وَهُوَ أول من دفن هُنَاكَ وَكَانَ يُشِير الى ذَلِك فى حَيَاته لَان تربة باجمال الشمالية ضَاقَتْ عَن الدّفن وَلما مَاتَ رثاه تِلْمِيذه الاصبحى الْمَذْكُور بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(أرقت وليلى طَال مَا آن ينجلى ... وَبَات سلؤى يَا رفيقى بمعزل)
عبد الله بن عبد الله بن المهلا بن سعيد بن على النيسائى ثمَّ الشرفى الانصارى الخزرجى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه هُوَ الْعَلامَة الْمُحَقق المدقق الْحَافِظ لعلوم الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول شيخ شُيُوخ زَمَانه وامام الِاجْتِهَاد فى اوانه رَحل اليه الطّلبَة وانتفعوا بِعُلُومِهِ وَاسْتقر بِبَاب الاهجر زَمَانا ووفد اليه الطّلبَة وَكَانَ نظيراً للسعد التفتازانى فى عُلُوم الْعَرَبيَّة وَالتَّفْسِير وَله أجوبة مسَائِل تدل على علم وَاسع وَمن تلامذته الامام الْقَاسِم وَأكْثر الْفُضَلَاء فى زَمَانه عِيَال عَلَيْهِ وَتَشَوُّقِ اليه الْوَزير جَعْفَر عِنْد اقامته بصنعا فَلم يَتَيَسَّر لَهُ لقاؤه حَتَّى نكب بنكبة من الْوُلَاة بمطالبته أَو مُطَالبَة شركائه فى المَال بخراج فتمتع ورحل الى الْوَزير فَعَدهَا الْوَزير من سعادات الايام فَأَجله وَأعظم مَحَله وسَاق اليه من النَّفَقَات مَا يجل خطره وَاسْتمرّ على ذَلِك ورسم لَهُ باعفاء شركائه من الْمَطْلُوب مِنْهُم وَكَانَ يعده الْوَزير عين اهل الحضرة مَعَ كَثْرَة الْعلمَاء فيهم وَاتفقَ أَن الْوَزير أَرَادَ امتحان أهل حَضرته بِحَدِيث اختلقه من عِنْد نَفسه نمق الفاظه فَلَمَّا أملاه ابتدر الْحَاضِرُونَ من الْفُقَهَاء لكنابته وأثنوا على الْوَزير بروايته وَقَالُوا نتشرف بعلو اسناده فَلم يَتَحَرَّك صَاحب التَّرْجَمَة لشئ من ذَلِك فَسَأَلَهُ لم لم تكْتب كالاصحاب فَقَالَ أَنْتُم قد أفدتم وَالْجَمَاعَة كتبُوا وَنحن حفظنا فَقَالَ هَذَا وَالله هُوَ الْعَالم(3/57)
وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر لَهُم أَن الحَدِيث // لَا أصل لَهُ // وانما المُرَاد بِهِ الِاخْتِيَار وَكَانَ لَهُ أَوْلَاد عُلَمَاء نبلاء وَله أحفاد فيهم الْفَضِيلَة وَالْعلم مَا مِنْهُم الا عَالم شهير مُصَنف مرجوع اليه فى التَّحْقِيق وَحل المشكلات وَقَالَ سيدنَا احْمَد بن يحيى بن حَنش سَأَلت الْفَقِيه الْعَلامَة بدر الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن المهلا عَن أَحْوَال وَالِده ومشايخه ووفاته فَأجَاب بِأَنَّهُ ولد فى صفر سنة خمسين وَتِسْعمِائَة فى بلد الدعليه من الشّرف الاعلى وَطلب الْعلم فى حداثته وَأخذ عَن وَالِده وَعَن جمَاعَة من الْعلمَاء الاكابر وَأدْركَ السَّيِّد عبد الله بن قَاسم العلوى وَلم يتأت لَهُ الاخذ عَنهُ وارتحل للْعلم الى الاقطار صُحْبَة وَالِده وَأخذ فنون الْعَرَبيَّة عَن عبد الله وأخيه ابراهيم ابنى الرَّاغِب وَعَن السَّيِّد هادى الوشلى ثمَّ ارتحل الى الشّرف وارتحل لقِرَاءَة الْفِقْه الى غرفَة عفار وَقَرَأَ على القاضى على بن عطف الله ثمَّ ارتحل الى الظفر وَقَرَأَ الْبَحْر على السَّيِّد احْمَد ابْن الْمُنْتَصر الغربابى ثمَّ تزامل هُوَ والامام الْحسن بن على فى قِرَاءَة الْعَضُد والكشاف على السَّيِّد الهادى الوشلى وَكَانَت قراءتهما عَلَيْهِ فى الدعلية ثمَّ ارتحل لطلب الحَدِيث فَقَرَأَ كتبا على وَالِده وعَلى القاضى على بن عطف الله وسافر الى جبل تنس وَقَرَأَ البخارى وَمُسلمًا وَتَجْرِيد الاصول وَغَيرهَا على الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن النزيلى وَأَجَازَهُ ثمَّ رَجَعَ الى الشّرف وَأخذ عَنهُ الامام الْقسم وَالسَّيِّد أَمِير الدّين أصُول الْفِقْه وطلع الى صنعا عَام خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأقَام فِيهَا أَيَّامًا وَأخذ عَنهُ جمَاعَة ثمَّ انْتقل بأولاده الى الاهجر من بِلَاد كوكبان وَأقَام فِيهِ تسع سِنِين وارتحل اليه الطّلبَة من صنعا والاهنوم وبلاد أنس والخيمة والشرف وبشام وكوكبان اسْتَفَادَ مِنْهُ خلق كثير وفى خلال ذَلِك قرا الرسَالَة الشمسية على الشَّيْخ نجم الدّين البصرى الْوَاصِل الى الْيمن سنة ألف ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه وَأقَام بَقِيَّة عمره يقرى وَله كرامات كَثِيرَة مِنْهَا أَن بعض عُلَمَاء سادة تهَامَة الْيمن رَآهُ فى النّوم بِصفتِهِ الْحَسَنَة وهيئته الجميلة ثمَّ رأى بعد ذَلِك قَائِلا يَأْمُرهُ بزيارة الْعَلامَة عبد الله المهلا فَقَالَ لَا أعرفهُ فَقَالَ هُوَ الرجل الذى رَأَيْته فى الْمَنَام وبلده الشجعة من الشّرف وبيته بِالْقربِ من بَاب الْبَلَد وَهُوَ أول من ترَاهُ اذا بلغت اليها فارتحل الرجل حَتَّى بلغ أَطْرَاف الشّرف وَسَأَلَ عَن بلد تسمى الشجعة فَقيل لَهُ بلد الْعَالم الشهير عبد الله المهلا فسر واستبشر وَعلم صدق رُؤْيَاهُ الَّتِى أَمر فِيهَا بزيارته واغتنامها لقرب أَجله وَكَانَ أول من رَآهُ عِنْد دُخُولهَا بِالصّفةِ الَّتِى رَآهُ عَلَيْهَا فى مَنَامه فاكب عَلَيْهِ يقبل اقدامه ويبكى ويسأله الدُّعَاء(3/58)
ثمَّ أسر برؤياه الى بعض أَوْلَاده أَظُنهُ عبد الحفيظ وَأقَام مُدَّة سمع فِيهَا شَيْئا من الْعُلُوم وَحضر مجَالِس الْعلمَاء وَأَظنهُ شهد دَفنه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا ذكره حفيده الْعَلامَة النَّاصِر بن عبد الحفيظ من قَائِل يَقُول فى الْمَنَام لم يبْق من عمر جدك عبد الله غير تسع وَعشْرين لَيْلَة وَكَانَ كَمَا قَالَ وَمِنْهَا مَا رَآهُ بعض السَّادة قبل مَوته من أَخذ النبى
بِيَدِهِ ذَاهِبًا بِهِ نَحْو الْموضع الذى فِيهِ ضريحه بالاشعاف ثمَّ الى الْمَدِينَة والى هَذَا أَشَارَ وَلَده القاضى عبد الحفيظ بقوله وَرَأى تقى الْبَيْت وَمِنْهَا الْكَرَامَة الشهيرة من بُلُوغه الى قريب مَكَّة على مرحلة أَو مرحلَتَيْنِ وَكَانَ يتَخَلَّف عَن الْقَافِلَة للصَّلَاة وَيلْحق بهَا على حمَار مَوْصُوف بِسُرْعَة المشى فَأَبْطَأَ فى بعض الايام عَن اللحوق بالقافلة ركونا مِنْهُ على مَا جرت عَادَته بِهِ فَركب حِمَاره فَلم يقدر على المشى البته فَلَمَّا علم تعذر مَشْيه وفوت الْقَافِلَة وَعدم مَعْرفَته بِالطَّرِيقِ تحير وَصلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَأَقْبل على التِّلَاوَة فاذا بِرَجُل أَخْضَر اللَّوْن حسن الْقَامَة ينحط عَن جبل قريب مِنْهُ ويسرع المشى نَحوه فحياه باسمه وَقَالَ أَبْطَأت عَن الْقَافِلَة فاقف أثرى وَحمل مَا مَعَه من أَشْيَاء كَانَ يستصحبها فَوَقع فى نَفسه انْقِطَاعه عَن النَّاس وان هَذَا رجل لَا يدرى من هُوَ فَالْتَفت اليه مُتَبَسِّمًا وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فى نَفسه فاطمأن وَمَا زَالَ يحدثه حَتَّى بلغ بِهِ بركَة مَا جن فى مَكَّة وَأخذ لَهُ مَاء اغْتسل بِهِ وأعلمه بِالْحرم الشريف وَالطَّرِيق اليه بعد ان أحرم من الْمِيقَات وَقَالَ ان لقيتنى بعد ذَلِك والا فَأَنا أستودع الله تَعَالَى دينك وأمانتك وخواتيم عَمَلك وودعه وَمضى وَلم يره بعد ذَلِك وَكَانَ من الْعَجَائِب مصادفة الْحمار على أحسن أَحْوَاله بعد مُدَّة فى مَوضِع الِانْقِطَاع انْتهى وَكَانَت ترد اليه كتب الْعلمَاء فى عصره لاستيضاح المشكلات فى كل فن من جَمِيع الْجِهَات وَبَينه وَبَين الْعَلامَة مُحَمَّد بن أَحْمد الرومى الحنفى والعلامة سعد الدّين وأخيه على ابنى الْحُسَيْن المسورى مكاتبات ومحاورات طَوِيلَة ذكرهَا ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه وَكَانَت وَفَاته فى ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف بالشجعة وقبره بالاشعاف بهَا وَكَانَ عمره ثَمَانِيَة وَسبعين سنة ورثاه بعد مَوته جمَاعَة عِظَام وَكَانَ من جُمْلَتهمْ وَلَده القاضى عبد الحفيظ فَقَالَ يرثيه بقصيدة مطْلعهَا
(يَا غيث يَا وكاف يَا سحاح جد ... متعطفا مترددا بهناء)
(قبرا على الاشعاف جلّ ضريحه ... مستوطنا عَلامَة الْعلمَاء)
(بالسفح من جبل الْعَرُوس ومربع الشّرف الَّتِى فاقت على الانحاء ... )(3/59)
(بدر مُنِير للانام اذا هم ... فى لَيْلَة من جهلهم ظلماء)
(أقلامه مثل الاسنة فى الوغى ... والحبر أفضل من دم الشُّهَدَاء)
(ان الذى دفنوه بَين ظُهُورهمْ ... متبركين بِهِ من السُّعَدَاء)
(كَانَ الزَّمَان اذا بدا بقبحيه ... وبداله ولى على استحياء)
(ان مُشكل فى أى فن قد بدا ... أبدى ظهورا فِيهِ بعد خَفَاء)
مِنْهَا
(سبعين فَنًّا حازها فى صَدره ... لله ذَلِك سيد الكملاء)
مِنْهَا
(يَا قَبره وافيت بحرا زاخرا ... هَذَا لعمرى أعجب الاشياء)
(وَرَأَيْت من مَلأ الْبِلَاد بِعِلْمِهِ ... من مَكَّة الغرا الى صنعاء)
(لَكِن وسعت الْعلم اذ هُوَ ميت ... لَو كَانَ حَيا ضَاقَ كل فضاء)
(ووفاته ثلم لدين مُحَمَّد ... ومعاشر الاشراف والرؤساء)
(مَا كل سَالَ بعد موت نظيريه ... الا شَبيه بَهِيمَة عمياء)
(واذا بدا منى سلو فَهُوَ من ... حمدى على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)
(يأيها الرجل الذى بهر الورى ... علما وحلما فائق النظراء)
(أبقيت ذكرا للمهلا طيبا ... يَا طيب الْآبَاء والابناء)
(وَتركت علما نَافِعًا فِينَا وفى ... أهل الزَّمَان زَمَاننَا الاحياء)
(فجزاك رَبك مَا جزى أحبابه ... الاخيار عَنَّا أفضل الاجزاء)
(وَمن الْعَجَائِب ان رَأَيْت مُحَمَّدًا ... فى عامك الماضى أَتَى بوفاء)
(ورآك فى ثوبى مَنَامك هاجعا ... فوقاك عَن برد بِخَير وقاء)
(وَرَأى فَتى لَك شافعى انه ... أضحى النبى الهادى من الرفقاء)
(وَرَأى تقى فاطمى انه ... صلى عَلَيْهِ الله كل مسَاء)
(مَاض بك السهل الرحيب بِنَفسِهِ ... نَحْو الْمَدِينَة طيبَة الفيحاء)
(فسررت ثمَّ خشيت فرقتك الَّتِى ... هى عندنَا من أعظم البلواء)
(لله دَرك يَا حمام الايك كم ... أَحْسَنت حفظا عُهْدَة الْآبَاء)
(انى نظيرك فى وفائى بعده ... أَيْضا وفى حزنى وَبَعض بكائى)
(لَكِن تسلينا بِمَوْت مُحَمَّد ... صلى عَلَيْهِ طيب الاسماء)
(والآل مَا طلعت شموس علومه ... تنصب فى الْآفَاق والانحاء)
السَّيِّد عبد الله بن علوى باذنجان علوى أحد أَوْلِيَاء حضر موت ذكره الشلى وَقَالَ(3/60)
فى تَرْجَمته ولد بظفار فى أَوَائِل سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ بهَا وَكَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَله سيرة حميدة مرضية صحب شَيخنَا السَّيِّد عقيل با عمر وانتفع بِهِ وفاضت عَلَيْهِ بَرَكَات انفاسه وَرَأى بعض السَّادة الاخيار فى الْمَنَام كَأَنَّهُ جَالس وَعِنْده بعض الصَّالِحين فَقَالَ ذَلِك الصَّالح من أَرَادَ أَن ينظر الى ولى فَلْينْظر الى هَذَا وَأَشَارَ الى صَاحب التَّرْجَمَة وَمن كراماته أَنه كَانَ إِذا أَذَاهُ أحد أُصِيب أما فِي حَال أَو مآل وَقَالَ مرّة فِي رجل وَقد أَذَاهُ يقتل فَقتل بعد مُدَّة يسيرَة فَلَمَّا قتل قَالَ مَا أحد يسْتَوْفى بِهِ قصاصا وَلَا دِيَة فَكَانَ الامر كَمَا قَالَ وَمِنْهَا ان امْرَأَة أَتَت الى زرع لَهُ وَأخذت مِنْهُ حمولة قصب على رَأسهَا وَبقيت قَائِمَة فكانها لَا تَسْتَطِيع المشى ثمَّ بعد سَاعَة جَاءَ صَاحب التَّرْجَمَة وهى لَا تعرفه فَقَالَ لَهَا اذهبى لِئَلَّا يراك صَاحب الزَّرْع يعْنى نَفسه وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف
عبد الله بن على بن حسن بن الشَّيْخ على أحد سَادَات الْيمن الْمُتَّفق على ولايتهم وجلالتهم قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن مَشَايِخ عصره مِنْهُم الشَّيْخ زين بن حُسَيْن بَافضل وَالسَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن سَالم خيله وَالشَّيْخ شهَاب الدّين ثمَّ رَحل الى بندر الشحر وتفقه بهَا على الْفَقِيه الْمُحَقق نور الدّين على بن على بايزيد ولازمه فِيهِ حَتَّى برع وَكَذَلِكَ أَخذ عَن هَؤُلَاءِ النصوف والعربية وَدخل اقليم السواحل وَاجْتمعَ بعلمائها وَأخذ عَنْهُم وَأخذ عَنهُ بَعضهم ورحل الى الديار الْهِنْدِيَّة وَقصد أَحْمد آباد وَأخذ عَن شيخ الاسلام شيخ بن عبد الله العيدروس وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض مؤلفاته وَألبسهُ الْخِرْقَة الشَّرِيفَة ولازمه مُدَّة مديدة ثمَّ أمره بالرحلة الى السَّيِّد الْكَبِير عمر بن عبد الله العيدروس ببندر عدن فَرَحل اليه وَقَرَأَ عَلَيْهِ عدَّة فنون وَحكمه وَألبسهُ الْخِرْقَة ولازمه حَتَّى صَار علما من الاعلام وصادف بِالْيمن قبولا عَظِيما وَكَانَ لَهُ مجاهدات ورياضات وَظهر لَهُ ابليس فى صُورَة عبد أسود كاشفا رُكْبَتَيْهِ على عَادَة بادية تِلْكَ الْجِهَة وَقَالَ لَهُ مَا عبد أحد مثل عبادتك فطرده ثمَّ توطن قَرْيَة الوهط وقصده النَّاس وانتهت اليه تربية المريدين وَاجْتمعَ عِنْده خلق من المنقطعين وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الاولياء والصلحاء مِنْهُم الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس صَاحب دولة أباد وَالسَّيِّد الولى مُحَمَّد بن علوى نزيل الْحَرَمَيْنِ والامام الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن عقيل نزيل المخا وَالسَّيِّد الْكَبِير أَبُو الْغَيْث بن أَحْمد صَاحب لحج وَالسَّيِّد الْعَظِيم عبد الله المساوى صَاحب أَب وَالسَّيِّد(3/61)
عقيل بن عمرَان صَاحب ظفار وَغَيرهم وَكَانَ ينْفق نَفَقَة الْمُلُوك وَرُبمَا أعْطى المَال الجزيل لفقير وَاحِد وَكَانَ لَهُ قبُول تَامّ عِنْد الوزراء والامراء وشفاعته لَا ترد مهما كَانَت وَله انشاء بليغ ونظم مستحسن جمعه فى ديوَان مَشْهُور بَين النَّاس وَله كرامات وخوارق مِنْهَا انه لما دخل السواحل طلبُوا مِنْهُ العشور والمكس فَامْتنعَ من اعطائه لكَونه حَرَامًا فَقَالَ الوالى لابد من أَخذ ذَلِك فَتَنَاول السَّيِّد الْحمل وَكَانَ لَا يحملهُ الا أَرْبَعَة رجال بِيَدِهِ وَرَفعه بِيَدِهِ كَأَنَّهُ كرة وَرمى بِهِ فَتنحّى عَنهُ فخاف الوالى وَطلب الْعَفو مِنْهُ وَاعْتذر اليه وَمِنْهَا انه دَعَا لجَماعَة من الْفُقَرَاء بالغنى فأغناهم الله وَطلب بَعضهم مِنْهُ الدُّعَاء بِأَن ييسر الله لَهُ الْحَج فَدَعَا لَهُ فحج وَكَانَ بكره اظهار الكرامات وَيَأْمُر أَصْحَابه المخصوصين بِعَدَمِ اظهارها وَيَقُول عَلَيْكُم بالاستقامة فانها أعظم كَرَامَة وَيَقُول صَاح مُتَعَيّن الاولياء بِأخذ الْعَهْد عَلَيْهِم أَن يستردوا مَا عِنْدهم بعد الاربعين وَألف وَلم يزل على حَالَته الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ والف فى قَرْيَة الوهط وقبره بهَا ظَاهر مَقْصُود بالزيارة وَقَضَاء الْحَاجَات وَمن استجار بِهِ نجا من جَمِيع المخاوف وَعمل مُحَمَّد باشا حَاكم الْيمن على قَبره قبَّة عَظِيمَة والوهط قَرْيَة قريبَة من لحج عدن باقليم الْيمن وهى غير الوهط الْمَشْهُورَة باقليم الْحجاز قريبَة من الطَّائِف وهى الْمَذْكُورَة فى كتب اللُّغَة قَالَ صَاحب مُعْجم الْبلدَانِ الوهط بِفَتْح أَوله وَسُكُون ثَانِيَة وطاء مُهْملَة الْمَكَان المطمئن المستوى ينْبت العضاه والسمر والطلح وَبِه سمى الوهط وَهُوَ مَال كَانَ لعَمْرو بن الْعَاصِ بِالطَّائِف وَهُوَ كرم كَانَ على ألف الف خَشَبَة شِرَاء كل خَشَبَة بدرهم انْتهى وَلما رَآهُ سُلَيْمَان بن عبد الْملك قَالَ هَذَا أكْرم مَال وَأحسنه لَوْلَا هَذِه الْحرَّة فى وَسطه فَقَالُوا هَذِه زبيبة جمع فى وَسطه وَهُوَ الْآن قَرْيَة وبساتين
السَّيِّد عبد بن على بلفقيه بن عبد الله العيدروس صَاحب الشبيكة بِمَكَّة المشرفة قَالَ الشلى فى وَصفه كَانَ من عباد الله الصَّالِحين أهل الْولَايَة وَله كرامات خارقة مِنْهَا أَن بعض أَصْحَابه الْفُقَرَاء جَاءَ لَيْلَة عيد الْفطر وَهُوَ ذُو بَنَات وثيابهن عِنْد الصّباغ لم يقدر على أجرته وشكا حَاله اليه فَقَالَ اذْهَبْ الى المسفلة لنا هُنَاكَ نذر خُذْهُ فَخرج فاذا هُوَ بِرَجُل بدوى يسْأَل عَن بَيت السَّيِّد فَقَالَ لَهُ أَنا خادمه فَقَالَ هَذِه نَاقَة نذر لَهُ فَأَخذهَا وباعها وَأعْطى الصّباغ أجرته وَعِيد بالباقى وَمِنْهَا أَن رجلا من أَصْحَاب السَّيِّد هَاشم الحبشى أَمر بقتْله مَعَ آخَرين الشريف ادريس وَهُوَ(3/62)
بِالطَّائِف فَمَا مروا بِهِ سوق المعلاة رَآهُ أَخُوهُ مكتوفا فجَاء الى السَّيِّد هَاشم وَبكى وَقَالَ لَهُ ذَهَبُوا بأخى للْقَتْل فَقَالَ لَيْسَ هَذَا من وظيفتى فَذهب بِهِ السَّيِّد هَاشم الى صَاحب التَّرْجَمَة فَدَعَا الله تَعَالَى وَقَالَ يسلم من الْقَتْل ان شَاءَ الله تَعَالَى فَلَمَّا أَصْبحُوا خَرجُوا بهم من الْحَبْس الى مَحل الْقَتْل فتعب أَخُو الرجل وأتى للسَّيِّد وَهُوَ يبكى فَقَالَ لَهُ لَا بَأْس على أَخِيك فَبَيْنَمَا هم اذ جَاءَ رَسُول من عِنْد الشريف ادريس بفك الرجل الْمَذْكُور وَسَببه ان الشريف كَانَ يصلى الْمغرب فَدخل عَلَيْهِ صَاحب التَّرْجَمَة وَمَعَهُ الرجل فَقَالَ لَهُ فك هَذَا الرجل فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة قَالَ للحاجب اطلب السَّيِّد عبد الله فَقَالَ الْحَاجِب مَا دخل على أحد فَأرْسل الى أهل الْفَرِيق ان السَّيِّد عبد الله ضيفنا أَرْسلُوهُ لنا فسألوا عَنهُ فى الْفَرِيق فَلم يُوجد فَأرْسل فى الْحَال قَاصِدا يفك الرجل فَأتى وَقد قتل أَصْحَابه فَلم هموا بقتْله اذا هم بالرسول فأطلقوه وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمسين وَألف وَدفن بقبة أَبِيه وجده بالشبيكة
عبد الله بن عمر بن عبد الله بن أَحْمد باجمال الحضرمى ذكره الشلى وَقَالَ فى وَصفه ذُو المقامات الفاخرة والاحوال الظَّاهِرَة أَخذ الْعلم عَن الشيح الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن سراج وَغَيره وجد فى الطّلب واجتهد فى الْعِبَادَات واستغرق بهَا حَتَّى فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بالمقامات الْعلية ثمَّ تصدى للارشاد وشاع ذكره فقصده النَّاس وَكَانَ شفوقا على النَّاس حسن التودد اليهم وَكَانَت كتب الرَّقَائِق والسلوك وصفات رجال الطَّرِيق كَأَهل الرسَالَة نصب عَيْنَيْهِ وَاتفقَ أهل بَلَده على انه أكملهم علما وَعَملا وزهدا وكرما وورعا وتواضعا ومروءة وصبرا وحلما وَله كرامات خارقة وَكَانَ لَا يرد سَائِلًا كَائِنا مَا كَانَ وَيتَصَدَّق بغالب أَمْوَاله الْبر وَكَانَت صدقاته كَثِيرَة وَحصل كتبا كَثِيرَة ووقفها وَله مؤلفات نافعة فى مهمات الدّين وَاخْتصرَ الزواجر لِابْنِ حجر وَكَانَ اذا جَاءَهُ صَاحب الدُّنْيَا اسْتَحى من حَاله ويزهد فى الدُّنْيَا واذا جَاءَهُ الْفَقِير استقوى قلبه وزادت رغبته فى الْآخِرَة وَلم يتَزَوَّج لاستغراقه فى مقَام الاحسان وَكَانَت لَهُ أَحْوَال عَجِيبَة فَتَارَة يبرز للنَّاس ويدرس فى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة كالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَكتب الرَّقَائِق وَتارَة يحتجب عَن النَّاس أشهرا وأياما وَلما قربت وَفَاته وَردت عَلَيْهِ حَالَة عَظِيمَة واعتراه من الهيبة والانوار مَا يدهش الْعُقُول فَأرْسل اليه بعض المريدين الصَّادِقين الاولياء وَهُوَ فى ذَلِك الْحَال ليحمل عَنهُ بعض مَا نزل بِهِ من الاحوال فَقَالَ للرسول قل لَهُ لَو وَقعت عَلَيْك ذرة(3/63)
لقتلتك وَتوفى من غير مرض وانخسف الْقَمَر لَيْلَة وَفَاته وَوَقعت الهيبة فى قُلُوب الْحَاضِرين فَسَكَتُوا وَلم ينطقوا بِكَلِمَة وَلم تأت امْرَأَة الى الْبَيْت الذى توفى فِيهِ وَحضر النَّاس من الْبِلَاد الَّتِى وصل اليها خبر وَفَاته وازدحم النَّاس على مَاء غسله وَكَانَت وِلَادَته فى يَوْم الْجُمُعَة لخمس خلون من شهر ربيع سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى صبح يَوْم الثلاثا ثَالِث عشر شَوَّال سنة ثَمَان عشرَة وَألف
عبد الله بن عمر الشهير بخواجه زَاده قاضى الْعَسْكَر القسطنطينى المولد الصَّدْر الْكَبِير الالمعى الاديب الْفَاضِل كَانَ من الاذكياء الْمَشْهُورين لَهُ التفوق فى الادب والتبريز فى الشهامة وَكَانَ يحفظ كثيرا من أشعار الْعَرَب وأمثالهم ووقائعهم وبحاضر بهَا وسما حَظه فى طَلِيعَة عمره لتعين وَالِده بَين عُلَمَاء الدولة وقربه من السلطنة لكَونه كَانَ معلم السُّلْطَان عُثْمَان وملتفته ومرغوبه وَنَشَأ وَلَده هَذَا واشتغل على عُلَمَاء عصره حَتَّى سَاد واشتهر بِالْفَضْلِ والادب ولازم من الْمولى شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ثمَّ درس بالمدارس الْعلية وتوصل فى مُدَّة قَليلَة الى الْمدرسَة السليمانية وَصَارَ قَاضِيا بأدرنة بِلَا وَاسِطَة وَاتفقَ لَهُ انه اجْتمع بشيخ الاسلام الْمولى أسعد فأشعره بِأَنَّهُ استكثر ذَلِك عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ لَيست بِأول قَارُورَة كسرت فى الاسلام يُشِير بذلك الى مَا وَقع للْمولى الْمَذْكُور من صَيْرُورَته ابْتِدَاء قَاضِيا بأدرنه وَذَلِكَ لمكانة وَالِده عِنْد السُّلْطَان مُحَمَّد لكَونه كَانَ معلما لَهُ ثمَّ بعد ذَلِك صَار قاضى دَار السلطنة وعزل عَنْهَا فى مقتل السُّلْطَان عُثْمَان وطالت مُدَّة عَزله حَتَّى قاربت عشر سنوات ثمَّ صَار قاضى الْعَسْكَر بِأَنا طولى وَأَقْبل عَلَيْهِ السُّلْطَان مُرَاد فرقاه الى قَضَاء عَسْكَر روم ايلى وسافر فى خدمَة السُّلْطَان الْمشَار اليه الى روان ثمَّ طلب وَهُوَ فى الصدارة قَضَاء الْقَاهِرَة فَوجه اليه وَورد دمشق فى ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَتوجه الى الْقَاهِرَة فَابْتلى عِنْد دُخُوله اليها بالاسهال وَلم تطل مدَّته حَتَّى توفى فى السّنة الْمَذْكُورَة رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله المصرى الشَّيْخ العابد الزَّاهِد الْمَعْرُوف بِابْن الصبان لَان وَالِده كَانَ يَبِيع الصابون فى بَاب زويلة من أَبْوَاب الْقَاهِرَة ذكره المناوى فى طَبَقَات الاولياء وَقَالَ فى تَرْجَمته نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن عِنْد ابْن المناديلى بِبَاب الْخرق ثمَّ غلب عَلَيْهِ الْحَال وَهُوَ فى سنّ الِاحْتِلَام فَكَانَ يهيم ويصعق أَحْيَانًا ثمَّ حبب اليه لُزُوم مجْلِس الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الملقب كريم الدّين الخلوتى فَأخذ عَنهُ(3/64)
واختص بِهِ وأرشده كريم الدّين الى سُكْنى زَاوِيَة الشَّيْخ دمرداش فناب عَن بعض أَوْلَاد الشَّيْخ فى عدَّة وظائف وأقرأ بهَا الاطفال وَهُوَ فى خلال ذَلِك يلازم مجْلِس شَيْخه ويعرض عَلَيْهِ وقائعه ويقص عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ وَهُوَ يرقيه فى الْمَرَاتِب ويخليه وتكرر لَهُ ذَلِك فَاسْتَأْذن الشَّيْخ يَوْمًا أَن يتْرك أكل الْحَيَوَان وَمَا خرج مِنْهُ فَمَنعه ثمَّ أذن نمكث كَذَلِك مُدَّة فرق حجابه وقويت روحا نِيَّته وتمثلت لَهُ الارواح وخاطب وخوطب ثمَّ حصل لَهُ لمحة من التجلى البرقى فهام وَغَابَ عَن حواسه فَوكل بِهِ الشَّيْخ من لَازمه ليضبط حَاله وَصَارَ يَأْكُل كل يَوْم عدَّة من رُؤْس الْغنم ويشكو الْجُوع وَالنَّار ثمَّ انحل ذَلِك وَأَجَازَهُ الشَّيْخ بالتربية والارشاد وَلما مَاتَ الشَّيْخ شرع يلقن ويخلى فتشوش جمَاعَة الشَّيْخ وَقَالُوا ولد ابْنَته سيدى مُحَمَّدًا حق بارث المشيخة وَتوجه جمع مِنْهُم الى زَاوِيَة دمرداش فَضربُوا صَاحب التَّرْجَمَة وجماعته وأخرجوهم من الْخلْوَة فَشَكَاهُمْ الى شيخ الْحَنَفِيَّة على بن غَانِم المقدسى وَشَيخ الشَّافِعِيَّة الشَّمْس الرملى فأرسلا يَقُولَانِ ان لم يحصل الْكَفّ عَن هَذَا الرجل والا أخبرنَا الْحَاكِم بِمَا نعلمهُ من أَحْوَال الْفَرِيقَيْنِ فكفوا وَبنى الامر على السّكُون وَلم يزل أَمر الشَّيْخ عبد الله فى ازدياد حَتَّى اشْتهر بالمكاشفات وشوهد لَهُ كرامات شَتَّى من جُمْلَتهَا انه دخل بَيته لَيْلًا فى الظلمَة فأضاء هيكله وَصَارَ كالشمعة ثمَّ تحول من زَاوِيَة الشَّيْخ دمرداش وَسكن بمدرسة ابْن حجر بِخَط حارة بهاء الدّين فَأقبل النَّاس عَلَيْهِ أَكثر واشتهر ذكره وَبعد صيته وَلم يزل يسوح فى رياض الاذكار الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى بعد الالف وَهُوَ فى عشر التسعين وَدفن تجاه الْمدرسَة وَله عدَّة رسائل فى الطَّرِيق واستخلف أَخَاهُ الشَّيْخ مُحَمَّدًا رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الله بن مُحَمَّد الْمصْرِيّ الحنفى امام مدرسة شادى بك خَارج دمشق بمحلة القنوات كَانَ فَاضلا وَله معرفَة بعدة فنون أجلهَا الْعَرَبيَّة وفروع الْفِقْه مَعَ مُشَاركَة فى أصُول الْفِقْه الى غير ذَلِك وَكَانَ حسن الاخلاق ضَاحِك السن عادم الكلفة سمح الْكَفّ مَعَ ضيق يَده قَرَأت بِخَط عبد الْكَرِيم بن مَحْمُود الطارانى فى مَجْمُوع ترْجم فِيهِ بعض من أدركهم من الْعلمَاء وَمِنْهُم صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ فى تَرْجَمته ورد الى دمشق من مصر فى سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَاخْتَارَ الاقامة بهَا فتديرها ولازم عُلَمَاء دمشق مُدَّة وَاسْتمرّ بهَا زَمَانا الى أَن اشْتهر وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع العداس بمحلة القنوات واماما بمدرسة شادى بك بالجامع الاموى أَيَّامًا مَا قَالَ(3/65)
وأخبرنى انه قَرَأَ الْعلم زَمَانا بِمصْر وَمن جملَة أشياخه الَّذِي أَخذ عَنْهُم وأجازوه بالاقراء الشَّيْخ الامام على بن غَانِم المقدسى وَشَيخ الادب مُحَمَّد الحنبلى الْمَعْرُوف بالفارضى صَاحب الْمَقْصُورَة فى مديح مفتى الرّوم عَلامَة الْوُجُود الْمولى أَبى السُّعُود وَكَانَ مُدَّة اقامته يظْهر كَمَال الشوق الى زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام والتثام ثرى الْقَبْر الشريف قَالَ الْحسن البورينى وسمعته يلهح بِهَذِهِ الْكَلِمَات
(ارى نفسى باشواق رهينه ... لقبر قد ثوى وسط المدينه)
(وللبيت الْحَرَام وَمَا حواه ... من الدُّرَر المعظمة الثمينة)
فاتفق انه فى سنة أَربع بعد الالف ولى امامة الركب الشامى وَحج فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ الْحَاج الى منزلَة الجديدة بَين الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَأَرَادَ الرحلة مِنْهَا قدمت لَهُ نَاقَة من جمال السلطنة فَلَمَّا أَرَادَ ركُوبهَا وقصته فَمَاتَ شَهِيدا عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة وَدفن ثمَّة رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الله بن مُحَمَّد بن محيى الدّين عبد الْقَادِر بن زين الدّين بن نَاصِر الدّين النحراوى الحنفى أوحد الْفُضَلَاء الْفُقَهَاء وَأجل أَصْحَاب التخاريج فى مَذْهَب النُّعْمَان الَّذين تكحلت بحبرهم عُيُون الْفَتْوَى فى عصره ارْتَفع الى ذرى الْفَضَائِل وسابق فى حلبة الْعُلُوم فحاز قصب الفواضل أَخذ عَن وَالِده فسرى فى ليل الْمجد فباكره الْفَلاح وَحط رَحْله فى شأو الْعلم فَمَا ترك من أَبِيه مغدى وَلَا مراح وَأفْتى ودرس وَنزل فى ساحة الْفضل وعرس وَأخذ عَنهُ الْخلق الْكثير وانتفع بِهِ الجم الْغَفِير وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى أحد الربيعين سنة سِتّ وَعشْرين وَألف عَن نَحْو خمسين سنة
السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحسينى المغربى الاصل ثمَّ القاهرى الشافعى الْمَعْرُوف بالطبلاوى ولنزوله بِمصْر عِنْد الشَّيْخ الْعَلامَة نَاصِر الدّين الطبلاوى الشافعى وَكَانَ أعظم شُيُوخه الشَّيْخ الْمَذْكُور أَخذ عَنهُ عدَّة عُلُوم مِنْهَا علم القراآت وساد فِيهَا سيادة عَظِيمَة بِحَيْثُ انه كتب فِيهَا حواشى عل شرح الشاطبية للجعبرى بِخَطِّهِ جردها تِلْمِيذه الشَّيْخ سُلَيْمَان اليسارى المقرى وَانْفَرَدَ بِعلم اللُّغَة فى زَمَنه على جَمِيع أقرانه بِحَيْثُ انه كتب نسخا مُتعَدِّدَة من الْقَامُوس وَاخْتصرَ لِسَان الْعَرَب وَسَماهُ رشف الضَّرْب من لِسَان الْعَرَب لم يكمل وَكَانَ عَارِفًا بارعا بِعلم الْعرُوض وَله شرح على تأنيس المروض فى علم الْعرُوض وَله شرح على عُقُود الجمان فى الْمعَانى(3/66)
وَالْبَيَان تأليف الْجلَال السيوطى وَله حَاشِيَة على حَاشِيَة الْعَلامَة الْبَدْر الدمامينى على مغنى اللبيب لِابْنِ هِشَام وَسُئِلَ عَن معنى بَيت النهروانى وَهُوَ
(فِيك خلاف لخلاف الذى ... فِيهِ خلاف لخلاف الْجَمِيل)
فَأجَاب بقوله من أَبْيَات
(ان كَلَام النهروانى الذى ... ذكرتموه فِيهِ مدح جليل)
(ترَاهُ من لفظ خلاف حوى ... أَرْبَعَة مِنْهَا خلاف الْجَمِيل)
(يعْنى قبيحا قبله ثَالِث ... خِلَافه وَهُوَ جميل نبيل)
(خِلَافه الثانى قَبِيح ففى ... خِلَافه الاول مدح جميل)
وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة بِخَط صاحبنا الْفَاضِل اللبيب مصطفى بن فتح الله قَالَ فِيهَا فرع نما من أَفْخَر نسب جَامع فضيلتى الْعلم والحسب
(أَلا ان مخزوما لَهَا الشّرف الذى ... غَدا وَهُوَ مَا بَين الْبَريَّة وَاضح)
(لَهَا من رَسُول الله أقرب نِسْبَة ... فيا لَك عزا نَحوه الطّرف طامح)
كَانَ من المشتغلين بِالْعلمِ فقها وأصولا وَمن أَعْيَان الادباء نثرا ونظما وَكَانَ خطه يضْرب بِهِ الْمثل فى الْحسن وَالصِّحَّة وَكتب بِخَطِّهِ من الْقَامُوس نسخا هى الْآن مرجع المصريين لتحرية فى تحريرها وَكَانَ كريم النَّفس حسن الْخلق والخلق من بَيت علم وَدين لَهُ شُيُوخ كَثِيرُونَ مِنْهُم الْعَلامَة أَبُو النَّصْر الطبلاوى وَالشَّمْس الرملى والشهاب أَحْمد بن قَاسم العبادى وَغَيرهم من أكَابِر الْمُحَقِّقين وَاسْتمرّ حسن السِّيرَة جميل الطريقه الى أَن نقل من مجَاز دَار الدُّنْيَا الى الْحَقِيقَة وشعره مَشْهُور ونثره منثور ولواء حَمده على كَاهِل الدَّهْر منشور وَله قصيدة مدح بهَا أستاذه الطبلاوى الْمَذْكُور وَالْتزم فى قوافيها تجنيس الْخَال وهى مَشْهُورَة ومطلعها يَا سلسلة الصدغ من لواك على الْخَال وَذكره الخفاجى وأخاه السَّيِّد مُحَمَّد وَأثْنى عَلَيْهِمَا كثيرا وَكَانَت وَفَاة السَّيِّد عبد الله فى صبح يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل ذى الْحجَّة سنة سبع وَعشْرين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالازهر وَدفن بِالْقربِ من الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سيدى عمر بن الْعَارِف وَقد ناهز السّبْعين وَكَانَ مولده بقرية يُقَال لَهَا أَبُو الريش بِالْقربِ من دمنهور الْوَحْش بالبحيرة
عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حسن بروم ابْن مُحَمَّد بن علوى الشيبه ابْن عبد الله بن على بن الشَّيْخ عبد الله باعلوى الْمسند الاخبارى الْعلم الصوفى ولد بتريم وَحفظ(3/67)
الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وَقَرَأَ القراآت وَأَخذهَا عَن جمع ثمَّ اشْتغل بعلوم الدّين فَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس ولازمه فى جَمِيع دروسه وتفقه على قاضى تريم وفقيهها القاضى عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وعَلى الشَّيْخ الامام مُحَمَّد بن اسماعيل بَافضل وَسمع من كثيرين وَصَحب جمَاعَة من الاكابر واشتغل بعلوم الصُّوفِيَّة ثمَّ ارتحل الى الْيمن والحجاز وجاور بالحرمين سِنِين وَأخذ بهما عَن جمَاعَة وَكَانَ كثير الاعتمار وَالصَّلَاة وَالطّواف وتلاوة الْقُرْآن قَلِيل الِاجْتِمَاع بِالنَّاسِ ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه تريم وَأخذ عَنهُ خلق كثير لَا سِيمَا الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَكَانَت تعتريه حِدة عِنْد المذاكرة وَكَانَ يحضر درس الشَّيْخ على زين العابدين وَيتَكَلَّم بِحَضْرَتِهِ فى الْمسَائِل المشكلة فينصت لما يَقُوله وَكَانَ زين العابدين يُحِبهُ ويثنى عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كَانَ وَالِده عبد الله بن شيخ يعظمه ويكرمه وَكَانَ قَلِيل الغلال كثير العائلة وَكَانَ لَا يخَاف لومة لائم فى أَمر الدّين وَلَا يقبل من أَرْبَاب الدولة هَدِيَّة وَكَانَ سعى فى تَوْلِيَة أَمر أوقاف آل عبد الله با علوى فولاه السُّلْطَان أمرهَا وَأنْفق على الْفُقَرَاء مِنْهُم وَمن غَيرهم وَاسْتمرّ على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ سعى كل وَاحِد فى رد مَا كَانَ تَحت يَده من الْوَقْف وَرجع على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَولا وَجَرت فى ذَلِك أُمُور ثمَّ سعى لَهُ الشَّيْخ زين العابدين فى امامة الْمَسْجِد الْجَامِع ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَاسْتمرّ على حَاله حَتَّى مَاتَ فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَقد أناف على السّبْعين وَدفن بمقبرة زنبل
عبد الله بن مُحَمَّد قاضى الْقُضَاة بالشأم الْمَعْرُوف بالطويل الْفَقِيه المتشرع الدّين الْخَيْر المتقى ولى قَضَاء حلب ثمَّ دمشق وَورد اليها فى سنة سِتّ وَسبعين وَألف واجتهد فى اجراء الاحكام والتصلب فى أَمر الشَّرْع وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ السّكُون وَهُوَ فى الْعِفَّة والاستقامة أعظم من رَأَيْنَاهُ وَسَمعنَا بِهِ وَكَانَ مثابرا على الْعِبَادَة كثير التَّرَدُّد الى الْمَسْجِد الْجَامِع مواظبا على فعل الْخَيْر وكل أَحْوَاله تدل على صَلَاح حَاله ثمَّ عزل عَن دمشق وَتوجه الى الرّوم فَلم تطل مدَّته حَتَّى توفى وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة ثَمَان وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد أَحْمد قسم ابْن علوى بن عبد الله بن على بن الشَّيْخ عبد الله با علوى امام أهل زَمَانه فى الزّهْد والورع ولد بِمَدِينَة قسم ونشأبها وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب عُلَمَاء زَمَانه وَأخذ عَن جمع مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْمعلم وَجَمَاعَة من آل باقشير وَآل باشعيب ورحل الى تريم فَأخذ عَن الشَّيْخ أَبى بكر(3/68)
الشلى وَعَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَالشَّيْخ الْجَلِيل الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى السَّيِّد حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الحبشى وَلَزِمَه وحذا حذوه فى الْعُزْلَة وَقِرَاءَة كتب الصُّوفِيَّة لَا سِيمَا كتب الشاذلية والكتب الغزالية وَغَيرهم ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بِمَكَّة عَن غير وَاحِد ثمَّ رَحل إِلَى الْمَدِينَة وتوطنها واشتهر بهَا شَأْنه وَكَانَ كثير المطالعة لكتب الاولين لَا سِيمَا كتاب الاحياء فانه كَانَ ملازما لقرَاءَته وروى انه الْتزم بِالنذرِ كل يَوْم قِرَاءَة بعضه الا لعذر من سَفَره ومرضه وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم الْجمال الشلى المؤرخ وَكَانَ عَارِفًا بِكَلَام الْقَوْم واصطلاحاتهم واذا تكلم فى مسئلة أفادوا وأجاد متقللا من الدُّنْيَا قانعا مِنْهَا بالكفاف سائراً على طَريقَة سلفه وَمِمَّا يدل على زِيَادَة فَضله ورفعة قدره انه لما طاح بعض قناديل الْحُجْرَة الشَّرِيفَة على الْقَبْر الشريف فتحير أهل الْمَدِينَة فى ذَلِك وَأَرْسلُوا الى الْخَلِيفَة السُّلْطَان مُحَمَّد بن ابراهيم يخبرونه بذلك فَاسْتَشَارَ أَعْيَان أَصْحَابه فى ذَلِك فاتفقوا على أَن لَا يتعاطى اخراجه الا أفضل أهل الْمَدِينَة فَأرْسل اليهم يَأْمُرهُم بذلك فَأَجْمعُوا على أَن الْمُسْتَحق لهَذَا الْوَصْف صَاحب التَّرْجَمَة فأخبروه بِأَمْر السُّلْطَان فامتثل الامر ورفعوه فى لوح وأنزلوه على الْقَبْر الشريف فَرفع الْقنْدِيل ثمَّ أرْسلُوا بِهِ الى السُّلْطَان فَوَضعه فى خزانته وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من أكَابِر عصره وَكَانَت وِلَادَته فى سنة خمس عشرَة وَألف وَتوفى بِالْمَدِينَةِ نَهَار الاربعاء أول شعْبَان سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ وقبره مَعْرُوف يزار
عبد الله بن مُحَمَّد بن قَاسم الْمَعْرُوف بقاسم زَاده الحلبى الاصل القسطنطينى المولد المنشأ والوفاة قاضى الْقُضَاة الْفَاضِل اللوذعى الحذق الباهر الطَّرِيقَة نَشأ وَقَرَأَ على وَالِده الْعَلامَة الشهير مُحَمَّد بن قَاسم المترجم فى الريحانة الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى وبرع وتفوق ثمَّ درس بمدارس الرّوم وَولى قَضَاء الْقُدس ثمَّ قَضَاء ازمير ثمَّ قَضَاء الشأم فى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ والف وَكَانَ أحد أَعَاجِيب الزَّمَان فى فصل الاحكام واستحضار الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة فَلَا يشذ عَن فكره مِنْهَا الا الْقَلِيل وَكَانَ مَعَ كَونه متكيفا مُسْتَغْرقا فى الكيف حَاضر الذِّهْن جدا واذا عرض عَلَيْهِ أطول حجَّة أوصك انساق فكره الى منَاط الحكم بِسُرْعَة وَأصَاب فِيهَا المحزو بِالْجُمْلَةِ فَلم ير مثله فى هَذَا الْبَاب ثمَّ عزل عَن قَضَاء الشأم وَورد الرّوم وأقرأ دروسا خَاصَّة فى أَنْوَاع الْفُنُون وَلم تطل مدَّته بعد ذَلِك حَتَّى توفى الى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى الثَّامِن وَالْعِشْرين من(3/69)
شهر رَمَضَان سنة احدى وَتِسْعين وَألف
عبد الله بن مُحَمَّد طَاهِر بن مُحَمَّد صفا التاشكندى الاصل المكى الشهير بعباسى لكَونه ولد فى الطَّائِف الْمَعْرُوف عِنْد بعض النَّاس بوادى الْعَبَّاس أحد صُدُور الشَّافِعِيَّة بالديار المكية وَمِمَّنْ برع فى فنون الْعَرَبيَّة كَانَ ذَا همة عالية واخلاق لَطِيفَة قطع ريعان عمره وشيخوخته بالاشتغال بِالْعلمِ والانهماك عَلَيْهِ وَكَانَ ذكى الْفَهم حسن الْعبارَة لطيف المحاضرة ويغلب عَلَيْهِ حِدة المزاج مَعَ سَلامَة الصَّدْر ولد بِمَكَّة فى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف تَقْرِيبًا وَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَهُوَ آخر تلامذته موتا وَصَحب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس الْخِرْقَة وَأَجَازَهُ بمروياته ولازم خدمته سِنِين كَثِيرَة وَمَات وَهُوَ عَنهُ رَاض وَكَانَ يَقُول كل مَا أَنا فِيهِ من الْخَيْر وَالْبركَة فَهُوَ من سيدى سَالم وَلذَلِك كَانَ كثير الادب مَعَ أَوْلَاده ملازما لَهُم فى سَائِر أَحْوَاله وَأخذ الْفِقْه وَغَيره عَن الْعَلامَة على بن الْجمال وَعبد الله بن سعيد باقشير وَمُحَمّد بن عبد الْمُنعم الطائفى وَلما قدم الشَّمْس مُحَمَّد البابلى الى مَكَّة لَازمه كثيرا وَأخذ عَنهُ واختص بِهِ وَكَانَ يطالع لَهُ دروسه وَأخذ عَن الْعَلامَة عِيسَى المغربى وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان وَحكى انه لما حج النَّجْم الغزى مُحدث الشأم ذهب مَعَ شَيْخه البابلى وَأخذ عَنهُ وَأَجَازَهُ بمروياته وَصَحب السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن الادريسى وَتوجه صحبتة الى الْيمن وَدخل زبيد والمخا وموزع وغالب تهَامَة وَأخذ عَمَّن بهَا من أكَابِر الْعلمَاء وَأَجَازَهُ عَامَّة شُيُوخه وتصدر للتدريس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بِأَمْر من شُيُوخه وَأخذ عَنهُ فضلاء فخام مِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن أَبى بكر شَيْخَانِ وَأَخُوهُ سَالم وَابْن عَمهمَا السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر وَعمر وَعبد الله بن سَالم البصرى والامام على بن فضل الطبرى وَأحمد ابْن أَبى الْقسم الخلى وَمُحَمّد بن أَحْمد الاسدى وَحضر دروسه الاخ الْفَاضِل مصطفى ابْن فتح الله وَأَجَازَهُ بمروياته وَكَانَت وَفَاته فى ثانى عشر شَوَّال سنة خمس وَتِسْعين وَألف بِمَكَّة وَدفن بحوطة السَّادة آل شَيْخَانِ قدس الله تَعَالَى أسرارهم بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد حجازى بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد أَبى الْفَيْض الشهير بِابْن قضيب البان الحلبى الحنفى الْفَاضِل الاديب الشَّاعِر المنشى البليغ كَانَ وَاحِد الزَّمن وغرة جبهة الدَّهْر وَله فى الْفضل شهرة طنانة وَحَدِيث لَا يمل وَكَانَ مَعَ علو(3/70)
قدره وسمو شَأْنه لين قشرة الْعشْرَة ممتع المؤانسة حُلْو المذاكرة جَامعا آدَاب المنادمه عَارِفًا بِشُرُوط المعاقره وَكَانَ أحد المبرزين بِحسن الْخط مَعَ أَخذه من البلاغة بأوفر الْحَظ وَله تآليف سَائِغَة مِنْهَا نظمه للاشباه الْفِقْهِيَّة وَكتاب حل العقال وذيل على كتاب الريحانة وَلم يكمله وشعره وانشاؤه فى الالسنة الثَّلَاثَة حُلْو مطبوع وَكَانَ دأب فى طَلِيعَة عمره وَحصل وَأخذ عَن جملَة من الْعلمَاء مِنْهُم الْعَلامَة مُحَمَّد بن حسن الكواكبى مفتى حلب والمنلا مُحَمَّد امين اللارى قدم عَلَيْهِم حلب وَالسَّيِّد مُحَمَّد التَّقْوَى الْحَكِيم وَالشَّيْخ مصطفى الزيبارى وتفوق وتصدر للتدريس فى الْمدرسَة الحلاوية وَولى نقابة الاشراف وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء ديار بكر ثمَّ استدعاه الْوَزير الْفَاضِل لما بلغه فَضله فانحاز اليه وَاشْتَدَّ اخْتِصَاصه بِهِ وَحل مِنْهُ مَحل الْوَاسِطَة من العقد فسير فِيهِ قصائد فائقة أنشدنى مِنْهَا جلها فَلم يعلق فى خاطرى مِنْهَا أَلا قَوْله من قصيدة حَسَنَة التَّرْكِيب وَذَلِكَ مَحل التَّخَلُّص مِنْهَا
(ولرب يَوْم قد تلفعت الضُّحَى ... مِنْهُ بثوبى قسطل وغمام)
(حسرت فناع النَّقْع عَنهُ عصبَة ... غبر الْوُجُوه مضيئة الاحلام)
(متجردين الى النزال كَأَنَّمَا ... يتجردون لواجب الا حرَام)
(لَا يأنسون بِغَيْر أَطْرَاف القنا ... كالاسد تألف مربض الآجام)
(يسرى بهم نجمان فى ليل الوغى ... رأى الْوَزير وَرَايَة الاسلام)
ثمَّ ترقى عِنْده فى الْمنزلَة حَتَّى استدعاه اليه وصيره نديم مَجْلِسه الْخَاص فحسده حواشى الْوَزير وَدخل اليه أحدهم فى زى نَاصح يَقُول لَهُ ان حَال الدولة فى تقلباتها لَيْسَ بالخفى وَقد امكنت الفرصة فاذا طلبت قَضَاء نلْت مَا طلبته على الْفَوْر فانساغ لهَذَا القَوْل وَوَقعت مِنْهُ هفوة الطّلب والالحاح فانحرف الْوَزير عَلَيْهِ وَظن أَنه سئم من مَجْلِسه فَوجه اليه قَضَاء ديار بكر اسْتِقْلَالا فَتوجه اليه وَكَانَ من خبرته وتجربته للامور سيء التَّدْبِير فانزوى عَن الِاجْتِمَاع بِأحد وفوض أَمر الْقَضَاء لرجل من أَتْبَاعه فَتَجَاوز الْحَد فى أَخذ مَال النَّاس والرشوة وَلم يُمكنهُم عرض ذَلِك على السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة فشكوا أَمرهم الى جَانب السلطنة فعزلوه وانخفض قدره وَأقَام مُدَّة طامعا فى أَن يحصل على غَرَض من اغراضه فَمَا قدر لَهُ وَاسْتمرّ بالروم نَحْو خَمْسَة اعوام منزويا وَاجْتمعت بِهِ فى أَيَّام انزوائه بقسطنيطينية ومدحته بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا(3/71)
(بدا فَأَرَاك الْغُصْن والشادن الخشفا ... بديع جمال جَاوز النَّعْت والوصفا)
(أغن يكَاد الظبى يَحْكِي التفاته ... وتختلس الصَّهْبَاء من جِسْمه لطفا)
(اذا طرفت مِنْهُ الْعُيُون بلمحة ... فأيسر شئ مِنْهُ مَا ينهب الطرفا)
(تروح بِهِ الالباب نهب هجيره ... وَمَا عفرت خدا وَلَا انتشقت عرفا)
(سقى عَهده بالسفح حلَّة هاطل ... من المزن لم يطو الزَّمَان لَهَا سجفا)
(أَوَان توافينا نشاوى من الصِّبَا ... وَلم يبْق منا الوجد الاهوى يخفى)
(تحجبنا الظلماء حَتَّى كأننا ... رعينا لَهَا من كل مكرمَة صنفا)
(وَبَات يحيينى بممزوجة الطلا ... فانى قد آلَيْت لاذقتها صرفا)
(الى أَن تولى اللَّيْل قَائِد جَيْشه ... وَرَاح سُهَيْل الافق يقدمهُ طرفا)
(وقفنا وأدمينا المحاجر بُرْهَة ... فسالت نفوس فى مهارقنا ذرفا)
(وَسَار مسير الْبَدْر يطوى منازلا ... على انه لَا محق فِيهِ وَلَا خسفا)
(فأودعني مِنْهُ تعلة وامق ... وزفرة وجد لم تكد أبدا تطفا)
(أسر بتجديد الْهوى ذكره عَهده ... وان كنت لَا أقوى لاعبائه ضعفا)
(عدمت فؤاد الم تبت فِيهِ لوعة ... من الْعِشْق تذكيه لواعجها لهفا)
(أَبيت ولى قلب يقلب فى الجوى ... فللشوق مَا أبدى وللوجد مَا أخْفى)
(ويذكرنى عهد التصابى مغرد ... من الشجو يَتْلُو فى أغاريده صحفا)
(كِلَانَا غَرِيب يشتكى فقد الفه ... فيبكى وَحقّ الالف أَن يبكى الالفا)
(تعللنا الآمال وهى كواذب ... وَمن دونهَا وعد نرى دونهَا خلفا)
(فليت الْهوى فِينَا رخاء صَنِيعه ... وَلم يبْق رحما من لدينا وَلَا عطفا)
(فنفرغ عَن كل الآمانى لمدح من ... بِهِ صَحَّ جسم الْفضل من بعد مَا أشفى)
(هُوَ ابْن الحجازى الرفيع جنابه ... أعز الورى جاها وَأَعْلَاهُمْ كهفا)
(فَتى طابت الدُّنْيَا بِحسن خصاله ... وَلم يبْق فِيهَا الدَّهْر خطبا وَلَا صرفا)
(تثقفت الآراء مِنْهُ بأروع ... يخيف الضوارى حَيْثُ مَا اقتحمت حرفا)
(ويفتر عَن لألاء بشركانه ... مقبل شاد لَا تمل بِهِ الرشفا)
(فَمَا رَوْضَة قد فاح نشر عبيرها ... بأطيب يَوْمًا من خلائقه عرفا)
(تحلت بِهِ الاعناق عقد مواهب ... اذا مَا هطلن استحين المزنة الوطفا)
(فَمَا تنطق الافواه الا بمدحه ... وَلَا ترفع الآمال الا لَهُ كفا)(3/72)
(فديتك يَا من لَو صرفت لمدحه ... جَمِيع وجودى رحت أَحْسبهُ قذفا)
(وأحقر فِيهِ الْمَدْح حَتَّى لَو انه ... تجَاوز ضعف الضعْف بل مثله ضعفا)
(فيأيها الْمولى الذى عَم جوده ... وَمن عِشْت دهر الم أُفَارِق لَهُ عطفا)
(لرحماك أَشْكُو من زمانى حوادثا ... أبادت بقايا الصَّبْر من جلدى عنفا)
(فَمَا كنت الا الشَّمْس فى فلك العلى ... تعدى عَلَيْهَا الْبَين فانمحقت كسفا)
(حنانك فالحظنى بنظرة مُشفق ... تنبه منى الْحَظ من بعد مَا أغفى)
(ودونكها وَرْقَاء فى روض محتد ... تقلد أذن الدَّهْر من درها شنفا)
(تود نُجُوم الافق لَو كن منطقا ... لَهَا وكلا البدرين يشطرها وحفا)
(نثرت عَلَيْهَا من مديحك لؤلؤا ... فأهوت أيادى الْمجد ترصفه رصفا)
(تمتّع بهَا واستر بعفوك هفوها ... فَمن دونهَا الحساد ترمقها طرفا)
(وَدم فى عرين الْعِزّ صدر ليوثه ... وكل البرايا مِنْك قد نكبت خلفا)
(مدى الدَّهْر مَا جَادَتْ قريحة شَاعِر ... بِبَيْت فحاز الْفَخر دُنْيَاهُ واستكفى)
فَمَا أنشدتها بَين يَدَيْهِ نشط لَهَا وتبجح بهَا وَتحفظ أغلبها وأجزل صلتى عَلَيْهَا وَمن عهدها لَزِمته لُزُوما لَا انفكاك مَعَه وَوَقع لى مَعَه محاورات عَجِيبَة من جُمْلَتهَا انى دخلت عَلَيْهِ يَوْمًا فى وَقت الصبوح فرأيته نَائِما فَكتبت هَذِه الابيات بديهة ووضعتها على وسادته وهى
(أَيهَا الراقد طَابَ الْعَيْش ... فاستحكم فَلَا حك)
(قُم نبا كرها شمولا ... تبْعَث الْيَوْم انشراحك)
(واصطبح كأس الحميا ... أسعد الله صباحك)
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ دعانى اليه وَجَلَسْنَا نتفاوض المطارحة والمساجلة ثمَّ استغرق بِنَا الْوَقْت ثَلَاثَة أَيَّام فَكَانَ يَقُول لى كل بَيت بِيَوْم وَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا فَوَجَدته منقبضا والفكرة قد استوعبه وَكَانَ اذ ذَاك فى غَايَة الانحطاط فَأَنْشَدته
(وَلَو كَانَ عقل النَّفس فى الْمَرْء كَامِلا ... لما أضمرت فِيمَا يلم بهَا هما)
فأنشدنى على الْفَوْر
(وَمَا ذَنْب الضراغم حَيْثُ كَانَت ... وصير زَادهَا فِيمَا يذم)
وَوَقع حريق فى دَاره فَاحْتَرَقَ لَهُ شئ من الملبوس والكتب فَكتبت اليه مسليا
(فدى لَك مَا على الدُّنْيَا جَمِيعًا ... فعش فى صِحَة وابل الربوعا)(3/73)
(لَئِن جزع الانام لفقد شئ ... فلست لفقدك الدُّنْيَا جزوعا)
(تعلمنا الاناءة مِنْك حَتَّى ... توطنا بهَا الشّرف الرفيعا)
(أَفَاضَ الله جودك فى البرايا ... وَأنْبت من أياديك الربيعا)
(وصورك الْمُهَيْمِن من كَمَال ... لتعلم صنع خالقك البديعا)
(فمرواحكم بِمَا تخْتَار فِينَا ... تَجِد كلا كَمَا تهوى مُطيعًا)
(فَلَو كلفت يَوْم الامس عودا ... لخاض اللَّيْل وَاخْتَارَ الرجوعا)
(وَلَو ناديت سَهْما فى هَوَاء ... لعاد الْقَهْقَرَى وأتى سَرِيعا)
(يضم الْبرد مِنْك أَخا فخار ... يبيت اللَّيْل لَا يدرى الهجوعا)
(وانى من بجودك قد ترقى ... وَحل من العلى حصنا منيعا)
(خلقت على الْوَفَاء لكم مُقيما ... وأوفى النَّاس من حفظ الصنيعا)
وَمِمَّا طارحنى بِهِ فى جملَة مطارحاته انه لما كَانَ مر بِدِمَشْق قَاصِدا الْحَج شغف بِأحد أَبنَاء سراتها وَكَانَ من الاشراف قَالَ ثمَّ فارقته وتباكينا عِنْد التوديع فَكتبت اليه من الطَّرِيق مضمنا بَيت البحترى فَقلت
(يَا آل بَيت الْمُصْطَفى هَل رَحْمَة ... لفؤاد مشبوب الجوانح ثَائِر)
(ضلت نواظره الرقاد وَمَا اهتدت ... ببياض دمع من سَواد ضمائر)
(دمع تعلق بالشؤون فساقه ... زفرات برح من جوى متخامر)
(لَو تنْظرُون الى الشتيت وسربه ... يقفو سروب زواخر زوافر)
(لعذرتموه وَمَاله من عاذل ... وعذلتموه وَمَاله من عاذر)
(واها لايام تقضت خلسة ... فى ظلّ دوح بالسيادة ناضر)
(دوح عَلَيْهِ من النبى مُحَمَّد ... وضح الصَّباح ونفح روض باكر)
(لم أنسه يَوْم الْوَدَاع وطرفه ... يرنوا لى شعث النجيب الضامر)
(وفعاله تبدى نفاسة عرفه ... فى فضل وَجه بالسماحة زَاهِر)
(حَتَّى اذا جدت بِنَا ذلل النَّوَى ... وَالْعين تسفح بالنجيع المائر)
(سرنا وعاود كالمقيم وَرُبمَا ... كَانَ الْمُقِيم علاقَة للسائر)
وَمَا زَالَ مُدَّة اقامته يعْمل حِيلَة ويصطنع خدعة ليحصل على أرب فَمَا نَهَضَ بِهِ حَظّ وَاسْتمرّ الى أَن سَافر السُّلْطَان مُحَمَّد الى جِهَة أدرنه فى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وَتَبعهُ الْوَزير فلحقهم وَاسْتمرّ مَعَهم مُدَّة خمس وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ قدم الى استانبول وأشاع(3/74)
انه أعْطى قَضَاء الْقُدس والتفتيش على الاشراف بِبِلَاد الْعَرَب وَأقَام أَيَّامًا قَليلَة ثمَّ سَافر وَالْتزم التفتيش من حِين دُخُوله الى بَلَده حلب الى أَن دخل الْقَاهِرَة من طَرِيق السَّاحِل وَأَرَادَ أَن يفعل ذَلِك فى الْقَاهِرَة فَلم يمكنوه وَرُبمَا أَرَادوا ايقاع مَكْرُوه بِهِ فَخرج حَاجا ثمَّ بعد ان حج رَجَعَ من طَرِيق الشَّام وَتوجه الى حلب وَأقَام بهَا فى رفْعَة وصولة وَالنَّاس يعظمونه ويحترمون ساحته واشتغل مُدَّة بالاقراء فأقرأ التَّلْوِيح وانكف عَن أُمُور مَحْذُورَة كَانَ يرتكبها وَكنت اذ ذَاك قدمت الشَّام فبلغنى حسن مُعَامَلَته للنَّاس وانقياده للزمن فَكتبت اليه قصيدة أَولهَا
(أرى النّدب من صافى الزَّمَان المحاربا ... وأغبى الورى من بَات للدهر عاتبا)
(أتعتب من لَا يعقل العتب والوفا ... وَلَا همه شئ فيخشى العواقبا)
(وان ضن لم يسمح بمثقال ذرة ... وَلم يبْق موهوبا وَلم يبْق واهبا)
(وَلَا جنَّة تغنيك ان كَانَ مَانِعا ... وَلَا منزل يؤويك ان كَانَ طَالبا)
(أحاول شكواه فَألْقى نوائبا ... تهون عندى مِنْهُ تِلْكَ النوائبا)
(ولين يسْبق الاقدار من كَانَ سَابِقًا ... وَلَا يغلب الايام من كَانَ غَالِبا)
(وَمن صحب الدُّنْيَا وَلَو عمر سَاعَة ... رأى من صروف الدَّهْر فِيهَا عجائبا)
(وقفر كَيَوْم الْحَشْر أَو شقة النَّوَى ... يضل القطا أعملت فِيهِ النجائبا)
(وليل كقلب السامرى قطعته ... الى أَن حكى بِالْفَجْرِ أسود شائبا)
(وَمَا كنت أرْضى بالنوى غير أننى ... جدير بَان لَا ارتضى الذل صاحبا)
(فنظمت من در الْمعَانى قلائدا ... جعلت قوافيها النُّجُوم الثواقبا)
(ويممت أقْصَى الارض فى طلب العلى ... وَلم أصطحب الا القنا والقواضبا)
(فلاقيت فى الاسفار كل غَرِيبَة ... وَمن يغترب يلق الامور الغرائبا)
(وخلفت من يَرْجُو من الاهل أَو بتى ... كَمَا انْتظر الْقَوْم العطاش السحائبا)
(وَكم قَائِل لاقرب الله دَاره ... وَمن يتَمَنَّى لَو بلغت المطالبا)
(فعدت على رغم الْفَرِيقَيْنِ سالما ... وَلم أقض من حق الْفَضَائِل وَاجِبا)
(وحسبى وجود ابْن الحجازى نائلا ... بِهِ لم أزل ألْقى المنا والمآربا)
(فَتى قد جهلت الْعسر مُنْذُ عَلمته ... ولانت لى الايام عطفا وجانبا)
(وَأصْبح يلقانى الْعَدو مسالما ... وَقد كَانَ يلقانى الصّديق مُحَاربًا)
(تخيم فَوق الفرقدين مقَامه ... وَمد على أفق السَّمَاء مضاربا)(3/75)
(بعزم يرد الْخطب والخطب مقبل ... وَرَأى وتدبير يرد الكتائبا)
(وحزم يُمَيّز الْحق من غير رِيبَة ... وَحكم يديب الشامخات الرواسبا)
(فراسته تغنيك عَن ألف شَاهد ... تريه من الاشياء مَا كَانَ غَائِبا)
(لقد نسخت أنواره كل ظلمَة ... كَمَا نسخت شمس النَّهَار الغياهبا)
(وقور كَانَ الطير فَوق جليسه ... ترى الدَّهْر مِنْهُ خَائِف الدَّهْر رَاهِبًا)
(أَخَاف سِبَاع الطير من سَوط رَأْيه ... فَكَادَتْ لفرط الْخَوْف تلقى المخالبا)
(وَلَو أدْرك الْمَجْنُون أَيَّام حكمه ... لَا عرض عَن ليلى وَأصْبح تَائِبًا)
(جواد بِمَا يحويه فى كل حَالَة ... اذا مل قوم لم يمل المواهبا)
(نقى عَن الْفِعْل الْقَبِيح منزه ... كلا حافظين يكتبان الرغائبا)
(خَبِير بتحقيق الْعُلُوم مدقق ... اذا جال فى بحث أَرَاك العجائبا)
(وان نثرت يمناه فى الطرس لؤلؤا ... كتبنَا على تِلْكَ اللآلى مطالبا)
(فَتى لَا يحب الْهزْل والهزل بَاطِل ... وَمَا خلق الله السَّمَوَات لاعبا)
(يبيت بحب المكرمات متيما ... اذا عشق النَّاس الحسان الكواعبا)
(اذا رمت أَن تحصى فضائله وَلم ... تدع قَلما فى الارض لم تقض وَاجِبا)
(فانى رَأَيْته الْمَدْح دون مقَامه ... فَلَا أيتم الرَّحْمَن مِنْهُ المراتبا)
وذيلتها برسالة وهى أقسم بِمن جلت عَظمته وعلت كَلمته وسخر الْقُلُوب للمودة المؤبدة وَجعل الارواح جُنُودا مجندة اننى أشوق الى لثم يَد مولاى من الرَّوْض الى الْغَمَام وَمن السارى الى ببلج الْقَمَر فى الظلام وَقد كَانَت حالتى هَذِه وَأَنا جَاره فَكيف الْآن وَقد بَعدت عَنى دَاره وَلَيْسَت غيبته عَنى الا غيبَة الرّوح عَن الْجَسَد الباقى الْمَطْرُوح وَلَا العيشة بعد فِرَاقه الجانى الا كَمَا قَالَ البديع الهمدانى عيشة الْحُوت فى الْبر والثلج فى الْحر وَلَيْسَ الشوق اليه بشوق وانما هُوَ الْعظم الكسير والنزع العسير والسم يسرى ويسير وَالنَّار تشوى وَتَطير وَلَا الصَّبْر عَنهُ بصبر وانما هُوَ الصاب والمصاب والكبد فى يَد القصاب وَالنَّفس رهينة الاوصاب والحين الحائن وَأَيْنَ يصاب وَقد كتبت الى مولاى هَذِه القصيدة وانا لَا أحسبها من الاحسان بعيده وَهَذَا الْكتاب وَقد أنفقت عَلَيْهِ مُدَّة من الْعُمر وصرفت على تحريره حينا من الدَّهْر وحررته وَأَنا مشغوف بذكرك مَشْغُول بحَمْدك وشكرك وعينى تود لَو كَانَت مَكَانَهُ وأمكنت من قطع الْمسَافَة(3/76)
امكانه كل ذَلِك لتذكرى عَهْدك ومقامى عنْدك فى أَوْقَات ألذ من شفَاه الغيد وأشهى من قبل الخدود ذَات التوريد حَيْثُمَا الْعَيْش آخذ فى طلقه وَاسْتوْفى من الامانى حَقه وَأَنت تقرط سمعى بفرائدك وتملأ صدفة أدنى بلآلى فوائدك من أدب أغزر مَادَّة من الديم وَأنْشط للقلب من بَوَادِر النعم وَلَقَد يعز على أَن ألفى بَعيدا عَنْك مَتْرُوك الذّكر مِنْك وَلَكِن هُوَ الدَّهْر وعلاجه الصَّبْر
(فصبرا على الازمان فى كل حَالَة ... فكم فى ضمير الْغَيْب سر محجب)
وَرُبمَا تَخَالَجَ فى صدرى لرعونة أوجبهَا طلب ازدياد قدرى أَن يشرفنى بمكاتبه ويؤهلنى الى مخاطبه جَريا على معروفه الْمَعْرُوف وَطَمَعًا فى اغتنام كرمه الْمَوْصُوف حَتَّى أباهى بِكَلِمَة الزَّمَان وأجعلها حرز الامانى والامان وَأَظنهُ يفعل ذَلِك متفضلا لابرح لكل احسان مؤملا فَكتب الى فى الْجَواب
(نَحن عفنا الشَّهْبَاء شوقا اليكم ... هَل لديكم بِالشَّام شوقا الينا)
(قد عجزتم عَن أَن ترونا لديكم ... وعجزنا عَن أَن نَرَاكُمْ لدينا)
(حفظ الله عهد من حفظ الْعَهْد ... ووفى بِهِ كَمَا وَفينَا)
اللَّهُمَّ جَامع المحبين بعد الْبَين ومعين القوى على ألم النَّوَى وَمَا جعل الله لرجل من قلبين أَسأَلك بِمَا أودعته فى سرائر المخلصين من أسرار المحبه وَأنْبت فى رياض صُدُورهمْ من الْمَوَدَّة الَّتِى هى كحبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائَة حبه فارع فرع الشَّجَرَة المحبية وَأَصلهَا وأفض عَلَيْهَا فواضلك الَّتِى كَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا واحفظ اللَّهُمَّ هاتيك الذَّات الزكية الَّتِى رؤيتها أجل الامانى وَنور تِلْكَ الصِّفَات الَّتِى اذا تليت تلقتها الاسماع كَمَا تتلقى آيَات المثانى هَذَا وَمَا الصب الى الحبيب وَالْمَرِيض الى الطَّبِيب بأشوق منى الى تلقى خَبره واستماع مَا يفتخر بِهِ الركْبَان من حسن أَثَره وَمَا غرضى من عرض الاشواق الَّتِى ضَاقَتْ عَنْهَا صُدُور الاوراق الا تَأْكِيدًا لما يُحِيط بِهِ علمه الْمُحْتَرَم وتشنيف لمسامع اليراع بِذكر صِفَاته الَّتِى تطرب فيترنم بألطف نغم وَلَقَد كنت أتوقع زيارته لما قدم من الْبَلدة النجرا فَثنى عنان الاعراض وأجرى جواد الانبرا
(وَمَا هَكَذَا كُنَّا لقد كَانَ بَيْننَا ... مُعَاملَة عَن غير هَذَا الجفا تنبى)
هَذَا وَضمير الاخ أنور من أَن يستضئ بمصباح الِاعْتِذَار وَأعلم بِصدق الْمحبَّة فى حالتى الْقرب والبعد والاعلان والاسرار وَلَيْسَ يندمل الْجرْح منا الا بمرهم(3/77)
لِقَائِه وَلَا يشفى غليله الا بَرى رُوَائِهِ فالرجاء أَن يتلافى مَا فرط بل أفرط من الاعراض ويسمح بِمَا نتوقعه مِنْهُ بِلَا اغماض
(هى الْغَايَة القصوى فان فَاتَ نيلها ... فَكل من الدُّنْيَا على حرَام)
وَمن شعره الذى اشْتهر قصيدته الَّتِى أرسلها الى الامير المنجكى وهى قصيدة طَوِيلَة اختصرت مِنْهَا هَذَا الْمِقْدَار وَهُوَ زبدتها وأولها
(سقى جلقا صوب السَّحَاب المزرد ... وباكر من أفنائها كل معهد)
(وقلد أجياد الربى فى عراصها ... يَد الْغَيْث عقدى لُؤْلُؤ وَزَبَرْجَد)
(وَلَا زَالَ خفاق النعامى منبها ... عُيُون الخزامى بالحفيف المحسد)
(وغنت بهَا الاطيار من كل نَغمَة ... تهجن ألحان النديم ومعبد)
(لقد هَتَفت مِنْهَا بوجدى سواجع ... تلفع أظلال الغصون وترتدى)
(تنوح وتشجينا فتزداد عيمة ... ستعلم ان متْنا صدى أَيّنَا الصدى)
(أَشْيَم بروقا بالشآم مثيرة ... عقابيل شوق بالفؤاد المشرد)
(وأستاف نشرا كلما هَب ضائعا ... يحدث أنفاس الحبيب المبعد)
(فيهتز من رياه قلبى وينثنى ... وَلَوْلَا اهتزاز الْغُصْن لم يتأود)
(فوا حرقتى ان لم أبلغ نعيمها ... ووافرقتى ان بت والبين مقعدى)
(وَيَوْم بلألاء الكؤس مفضض ... كسته يَد الصَّهْبَاء حلَّة عسجد)
(قضيت بِهِ حق الْهوى غير اننى ... مَتى أدن مِنْهُ الْيَوْم ينأى وَيبعد)
(رعى الله أَيَّام الْوِصَال فانها ... ألذ من التهويم فى جفن أرمد)
(نقضت وضن الدَّهْر مِنْهَا بنهلة ... تبل غليل الشائق المتزود)
مِنْهَا
(عَسى تقذف الْبَيْدَاء نضوى برحلة ... تنفس عَن أسر المشوق الْمُقَيد)
(الى بقْعَة زينت بباقعة الحجى ... سليل المعالى المنجكى مُحَمَّد)
(عريق بِلَاد الشَّام درة تاجها ... غياث بنى الْآدَاب مأوى المطرد)
مِنْهَا
(أخامنجك يَا أكمل النَّاس فطنة ... وأشرفهم بَيْتا بِغَيْر تردد)
(صبغت العلى بالمكرمات فَلم تحل ... وينكر فى الاعراض غير التجدد)
(أمولاى يَا بدر المعالى وشمسها ... وَيَا رحْلَة الآمال من غير موعد)
(لقد ذلقت فى وصف مجدك ألسن ... وعجت بِهِ الركْبَان فى كل مشْهد)
(وأهدت لنا من بَحر طبعك لؤلؤا ... على الطرس حَتَّى كَاد يلقط بِالْيَدِ)(3/78)
مِنْهَا
(فأسلفتك الا عِظَام والود موفيا ... حُقُوق معاليك الَّتِى لم تعدد)
(وقدمت من فكرى اليك ألوكة ... حبتك بمغبوط من الْمَدْح سرمد)
(تخبر عَمَّا فى الْقُلُوب من الجوى ... ويأتيك بالاخبار من لم تزَود)
(فَأوجب لَهَا حَقًا وأنعم بِمِثْلِهَا ... وعفنى بنظم من عقودك يحمد)
(أروى بهَا من لاعج الشوق والنوى ... غليل فؤاد بالصبابة مكمد)
(وَآخِرهَا فَأَنت لجفن الدَّهْر سيف وناظر ... ولولاك لم يبصر وَلم يتقلد)
ثمَّ أعقبها بِقِطْعَة نثر وهى حَامِل لِوَاء النّظم والنثر وحامى بيضته عَن الصدع وَالْكَسْر مَحل اسْتِوَاء شموس الْكَرم العاصر بمجده عنقود الثريا تَحت الْقدَم وَاسِطَة قلادة الْفَضَائِل وَعقد نظامها وَبَيت قصيدة الْآدَاب ورونق كَلَامهَا جناب الامير ابْن الامير والعطر بَين العبير لَا بَرحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الايام وظل حساده أقلص من جفون العاشق عَن طيب الْمَنَام هَذَا وَلَو أُوتى الداعى لَهُ زكن اياس واستضاء من محاضرة أَبى الْفرج بنبراس وَملك براعة ابْن العميد وأحرز خطب ابْن نباتة وبداهة عبد الحميد وَأعْطى بلاغة الصاحب ونوادر أَبى القندين ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين وَحَازَ محاورات الاحنف وفصاحة سحبان وحوى منشآت القاضى الْفَاضِل ومدائح حسان ورام أَن يزخرف كلا مَا يُنَاسب مُقْتَضى الْمقَام وَالْحَال لفل حد الْقَلَم وضاق ذرع المجال وان أحجم بقيت فى النَّفس حاجه وعصف على الْقلب ريح حسرة فهاجه فَلذَلِك أقدم على الثَّانِيَة سجيا وَأبْدى لتِلْك الحضرة الْعَالِيَة هَديا فان أكْرم الامير مثواها فنظم من فرائد عوائده فحلاها وَأجَاب بِمَا يرْوى غليل الْفُؤَاد ويخصب مُرَاد المُرَاد فَذَلِك من مساعى فطرته المنجكية ودواعى شيمته البرمكية فوصلته القصيدة والرسالة وَهُوَ متوعك المزاج فَرَاجعه بِهَذِهِ الابيات
(أمولاى من دون الانام وسيدى ... بمدحك قد بلغتنى كل سودد)
(بعثت بِأَبْيَات كَانَ عقودها ... منضدة من لُؤْلُؤ وَزَبَرْجَد)
(أمتع طرفى فى طروس كَأَنَّهَا ... مبادى عذار فَوق خد مورد)
(سطور اذا مَا رمت قتل حواسدى ... أجرد مِنْهَا كل عضب مهند)
(تكلفنى رد الْجَواب واننى ... أَبيت بفكر فى الزَّمَان مشرد)
(وَلَيْسَ يجيد الشّعْر منطق عَاجز ... ضئيل على فرش السهاد موسد)(3/79)
(يمر بِهِ الْعُمر الطَّوِيل مضيعا ... على الكره مِنْهُ بَين واش وحسد)
(فعذرا أَخا العلياء قلت عزائمى ... وَقد كنت كالسيف الصَّقِيل الْمُجَرّد)
(فانك أهل العغو والصفه وَالرِّضَا ... وانك من نسل النَّبِي مُحَمَّد)
(أعز بنى الدُّنْيَا وأشرف من سما ... الى الرُّتْبَة الْعليا بِغَيْر تردد)
(صَغِير اذا عدت سنى زَمَانه ... كَبِير بِهِ أشياخنا الغر تقتدى)
(تملك رق الْحَمد وَالشُّكْر والثنا ... بكف على فعل الْجَمِيل معود)
(فَلَا زَالَ عينا للزمان وَأَهله ... يجرر ذيل الْفَخر فى كل مشْهد)
وبلغنى فى أخريات أمره انه تَغَيَّرت أطواره وانقلب الى طبعه الاول وتجرأ على النَّاس بالاذية وَسُوء الْمُعَامَلَة وَمَا زَالَ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ أهل بَلَده وقتلوه وَكَانَ قَتله نَهَار الاربعاء سَابِع عشرى جُمَادَى الاولى سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف ويروى خبر قَتله على أنحاء شَتَّى والذيعتمدتع أَنه كَانَ سعر الْقَمْح بحلب قد نَهَضَ وَلم يزل يترقى حَتَّى بيع الاردب بِخَمْسَة وَعشْرين قرشا وشاع الْخَبَر أَن السَّيِّد عبد الله ارتشى هُوَ وقاضى حلب من المحتكرين بِأَلف قِرْش ليبيعوه بِهَذَا الثّمن فَبلغ ذَلِك حَاكم الْعرف فَنَادَى بِأَن يُبَاع الاردب بِخَمْسَة عشر قرشا وتقيد بِنَفسِهِ فى اخراج المحتكر من الْحبّ واعتنى بذلك اعتناء بليغا فَأسر لَهُ ابْن الحجازى المكيدة وَاتفقَ فى ذَلِك الغضون ان بعض أَعْيَان حلب دَعَا المتسلم وَبَعض أَعْيَان الْبَلدة وَمِنْهُم ابْن الحجازى فَلَمَّا تفَرقُوا صحب ابْن الحجازى المتسلم وَدعَاهُ الى دَاره فَيُقَال انه فى أثْنَاء الْمجْلس أَتَاهُ بمشروب مَسْمُوم فَلَمَّا تنَاوله أحس بالسم وتمت عَلَيْهِ المكيدة فَخرج وَاسْتمرّ ثَمَانِيَة أَيَّام يعالج نَفسه فَلم يفد ثمَّ انه مَاتَ فى الْيَوْم الثَّامِن وأخرجوا جنَازَته وَخرج ابْن الحجازى فى جملَة من خرج الى الْجِنَازَة وَكَانَ النَّاس قد كرهوه وسئموا من أَحْوَاله وهم يترقبون لقَتله فرْصَة فَلَمَّا دفنُوا المتسلم ركب فرسه وَأَرَادَ الِانْصِرَاف فنادت امْرَأَة هَذَا قَاتل المتسلم فتبعها رجل من الْعَوام واتصل ذَلِك بِالرِّجَالِ وَالصبيان وَالنِّسَاء فَضَربهُ رجل بِحجر فَأصَاب رَأسه وعثرت بِهِ الْفرس فانسكب على وَجهه فهجم النَّاس عَلَيْهِ وقتلوه وَلم يبقوا عضوا صَحِيحا وَذهب دَمه هدرا وَمضى هُوَ وَأَوْلَاده واتباعه فى أقل الازمنة
عبد الله بن مَحْمُود العباسى الْمَعْرُوف بمحمود زَاده قاضى الْقُضَاة الْفَاضِل التقى الْمَشْهُور كَانَ مهابا وقورا لَهُ فصاحة منطق وَصَوت حسن وَهُوَ فى الْعِفَّة الْغَايَة الَّتِى(3/80)
لَا تدْرك وَكَانَ كَرِيمًا مفرط السخاء الا أَنه مفتون بعقله لَازم من شيخ الاسلام زَكَرِيَّا ابْن بيرام ثمَّ درس وَولى قَضَاء حلب ثمَّ نقل الى قَضَاء الْقُدس ثمَّ الى قَضَاء الشأم وَذَلِكَ فى غرَّة رَجَب سنة ثَلَاثِينَ وَألف وشكرت فِيهَا سيرته وجدد من مَاله بهَا تعمير ثَلَاث قباب لزوجتى النبى
المدفونتين بمقبرة بَاب الصَّغِير وهما أم سَلمَة ومَيْمُونَة على قَول قلت وَذَلِكَ قَول شَاذ مُخَالف لما أطبق عَلَيْهِ المؤرخون من أَن زَوْجَاته لم يمت أحد مِنْهُنَّ خَارج أَرض الْحجاز وَأما مَيْمُونَة فقد ذكر الْحَافِظ الباجى انها مَاتَت بسرف وَهُوَ مَاء مَعْرُوف على أَمْيَال من مَكَّة ودفنت ثمَّة بالِاتِّفَاقِ وَكَانَ
بنى بهَا هُنَاكَ أَيْضا بعد عمْرَة الْقَضَاء وَبنى على قبر أَبى بن كَعْب رضى الله عَنهُ خَارج بَاب شرقى قبتين ويليهما مَسْجِد وَصرف على ذَلِك من خَالص مَاله ألف دِينَار وَكَانَ يحسن الى المحتاجين من الْفُقَرَاء والايتام والارامل وَالْمَسَاكِين وَالْحَاصِل انه الْتزم أَن يصرف جَمِيع مَا حصله فى أَيَّام قَضَائِهِ بِدِمَشْق على جِهَات الْخَيْر وَفعل وَخرج مِنْهَا مديونا وَكَانَ وَقع بَينه وَبَين محافظ الشأم سُلَيْمَان باشا كَمَا تقدم فى تَرْجَمته منافرة كُلية أدَّت الى أَنه عرض فِيهِ الى الابواب السُّلْطَانِيَّة فعزل عَن دمشق ورحل عَنْهَا فَبينا هُوَ فى أثْنَاء الطَّرِيق جَاءَهُ أَمر قَضَاء مصر فَعَاد الى دمشق وَتوجه اليها وباشر قضاءها ثمَّ عزل وأعيد اليها ثَانِيًا وَكتب اليه الاديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمى الدمشقى قصيدة يهنيه بهَا وَذكر فِيهَا تَارِيخ تَوليته ومطلعها
(تَبَسم للزمان الْيَوْم ثغر ... وأشرق للمعالى فِيهِ بدر)
(وأخصبت الامانى بعد جَدب ... فَوَافى فِي ربى الآمال زهر)
(وطاب لمغرم الْحبّ التصابى ... ولذ سوى عَن المعشوق صَبر)
(وأضحى أوقر العذال صبا ... خليعا عذله واللوم عذر)
(وَقد عدم العواذل كل صب ... عدمتهم فَذكرهمْ مُضر)
(فَلَا أجد الغرام بِلَا وشَاة ... كَأَنَّهُمْ لِليْل الْوَصْل فجر)
(علقت بناعس الالحاظ ريم ... صَحِيح هَوَاهُ فى جفنيه كسر)
(رمى خلدى بِسَهْم اللحظ حَتَّى ... أَتَى نحوى بِطرف فِيهِ سحر)
(فيالله من ظبى نفور ... على حكم الْهوى لَا يسْتَقرّ)
(ورحت وللغرام على حكم ... وفى أذنى عَن التصنيف وقر)
(كَذَا من قَادَهُ وَله وَوجد ... وأضحى للغرام عَلَيْهِ أَمر)(3/81)
(غرام قد تحمله فؤادى ... يضيق لَهُ لَو ان الْكَوْن صدر)
(غزال من هَوَاهُ حشاى جمر ... وَكفى من نوال لقاه صفر)
(لنا من ثغره المعسول شهد ... وَمن ألحاظه رَاح وخمر)
(وَلَيْسَ لمغرم يهواه الا ... صدود دَائِم وجفا وهجر)
(اذا ذكر اسْمه أهتز وجدا ... ويعر وَالْقلب من ذكرَاهُ ذعر)
(كَمَا يَهْتَز من ذعر ظلوم ... مَتى يُتْلَى لعبد الله ذكر)
(امام عَادل حكم همام ... لَهُ فى ذرْوَة الْعليا مقرّ)
(يضاهى وَجهه للجود بشر ... وفى كفيه للاحسان بَحر)
(وصارم عدله الْمَشْهُور أضحى ... لَهُ بَين الانام سَطَا وَنصر)
(لقد حَاز المعالى حَيْثُ لاحت ... نُجُوم من سنا علياه زهر)
(فبشرى أهل مصر لقد أَتَاهَا ... بِفضل الله بعد الْعسر يسر)
(ووافى نيلها اذ قد تسامت ... بِعَبْد الله بعد الْكسر جبر)
(ونيلك ان وفى فى الْعَام يَوْمًا ... فعبد الله بَحر مُسْتَمر)
(لَهُ فى المكرمات بحار جود ... فَلَا يلفى لبحر نداه بر)
(فمذ حلت ركائبه بِمصْر ... وَزَالَ بعدله ظلم وقهر)
(تَبَسم ثغرها جذلا وبشرا ... وَبَان لسعدها وَجه أغر)
(ونادى هَاتِف بالبشر أرخ ... لقد زهيت بِعَبْد الله مصر)
قَالَ مَدين القوصونى دخل الى مصر مُتَوَلِّيًا قضاءها فى يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من ذى الْحجَّة سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ فَاضلا متواضعا متعففا أديبا وَمن نظمه وَمن خطه نقلت
(دُرَر أَضَاءَت فى لجين صَحَائِف ... كَالْكَوْكَبِ الدرى فى أضوائه)
(فكانها منشورة بطروسها ... نجم تضئ سماؤه بسنائه)
(وكأنما هى فى يدى غواصها ... نور الْيَد البيضا وَحسن ثنائه)
(لله غواص أَتَى بفرائد ... يسْتَوْجب الا علا على نظرائه)
وَمن نظمه أَيْضا قَوْله
(لبحرندا كم قد وَردت على ظما ... وَمن ورد الْبَحْر اسْتَقل السواقيا)
(عَسى قَطْرَة من بَحر فيض نوالكم ... أكون بهَا رَيَّان مذ كنت صاديا)(3/82)
وَتوفى بهَا لَيْلَة السبت سَابِع عشر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف بمنزل نقيب الاشراف المطل على بركَة الْفِيل بِالْقربِ من بَاب جَامع قوصون وَدفن بِالْقربِ من القاضى بكار عَن ثَمَان وَخمسين سنة كَذَا قَالَ أخبرنَا بذلك وَهُوَ مَرِيض رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الله بن المهدى بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن مَسْعُود الحوالى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَرْجَمته سِيبَوَيْهٍ زَمَانه وخليل الْعُلُوم فى أَوَانه امام الادب الْفَاضِل الْمُحَقق الْحَافِظ المدقق كَانَ علما فى الْعُلُوم أديبا لبيبا مطلعا على أَفْرَاد اللُّغَة وَعلم تراكيبها حَافِظًا لايام الْعَرَب فى الْجَاهِلِيَّة والاسلام واشتهر باللغة وَكَانَ برز فِيهَا واستدرك على الْمُحَقِّقين من أَهلهَا كصاحب الصِّحَاح والقاموس وأضرابهما وَكَانَ بعض مَشَايِخنَا يُسَمِّيه بالبحر وَرَأَيْت استدراكات مِنْهُ على أَئِمَّة اللُّغَة فَقلت كم ترك الاول للْآخر وَكَانَ من لين العريكة وسهولة النَّاحِيَة وعذوبة الْحَاشِيَة بِمحل يكَاد تسيل لَدَيْهِ طباعه سيلانا ويتواجد للالهيات ويهتز للادبيات وَلم تطمح نَفسه مَعَ أَهْلِيَّته الى شئ من الْمَرَاتِب ولقيته بوطنه الظهرين بِحجَّة فَرَأَيْت فَوق مَا سَمِعت وَعلمت أَن الله تَعَالَى لم يعطل الزَّمَان وَكَانَ لَهُ شعر فى الذرْوَة الْعليا وَله القصيدة الطنانة الَّتِى طارت فى الْآفَاق يمدح بهَا الامام الْمُؤَيد بِاللَّه واخوته الثَّلَاثَة الحسنيين وَأحمد أَيَّام الْجِهَاد وأجاد مَا شَاءَ وَكَانَ يَقُول انها لَيست من جيد شعرى وهى طَوِيلَة مطْلعهَا
(عَن سعاد وحاجر حدثانى ... ودعانى عَن الملام دعانى)
(واذكرا بُرْهَة من الدَّهْر مرت ... كنت أدعى بهَا صريع الغوانى)
(انا لَا أكتفى بنأى زنام ... والربوع الرحاب من نعْمَان)
(فلسقتنى بكاسها من مدام ... هيم الْقلب لَوْنهَا الارجوانى)
(عتقت فى الدنان من عهد كسْرَى ... فهى تنمى الى أنوشروان)
(بهرت فى الصِّفَات صفراء حَمْرَاء سرُور الْقلب والابدان ... )
(وَصفا وَقتهَا فَلم يلع الْهم بساحاتها مَعَ الاحزان ... )
(يَا عذولى وَلست للعذل أصغى ... غير قلبى يهيم بالسلوان)
(وَلَو انى رزقت حظا لما صرت أعانى من الْهوى مَا أعانى ... )
(وَلما ثرت حَاجَة فى فؤادى ... صنتها عَن فُلَانَة وَفُلَان)
(وسأقضى لبانتى عَن قريب ... بنجيب شمردل غير وان)(3/83)
مِنْهَا فى المديح
(صال هَذَا المصال يبغى رضى الله ونلنا بِهِ المنى والامانى ... )
(وَانْقَضَت دولة العلوج ونالت ... ساسة الْملك من بنى عُثْمَان)
(وَتَوَلَّى دِيَارهمْ عبقرى ... لَيْسَ يقوى قَوِيَّة الثَّقَلَان)
وَمِنْهَا
(قسما بالامام غوث البرايا ... وَهُوَ عندى من اعظم الايمان)
(لقد اقتاد عنْوَة كل صَعب ... وَلَقَد غم صولة كل جانى)
(أَيهَا النَّاس قد علمْتُم بذا الْفَتْح وَذَا الفتك فى قديم الزَّمَان ... )
(يَا لفخر سما لَهُ الحسنان ... نسخ الظَّن بعده بالعيان)
(نهضا للعلى أداراً رحى الْحر ... ب وقاما ببكرها والعوان)
(فسقوا من دم الاعادى صَبُوحًا ... كل عضب مهند وَسنَان)
(أقحموا خيلهم غمار المنايا ... وأبادوا الجيوش بِالْهِنْدِ وانى)
(وَلَقَد حاق بالعدى يَوْم روع ... وَسقوا أحمرا من الدمع قانى)
(يَا لَهَا صولة شفت عِلّة الْقلب ... وأهدت من المنى مَا كفانى)
(حِين شدت لريمة ابْن حميد ... كل جردا طمرة وحصان)
(طَال فِيهِ النزال والطعن وَالضَّرْب واعمال عَامل ويمانى ... )
(وَاذْكُر السَّيِّد الهزبر المحامى ... من أدَار الرَّحَى على عمرَان)
(أَحْمد بن الامام غيظ الاعادى ... نَاصِر الدّين قاهر الاقران)
(أعجز المفسدين أَن يطمعوا فِيهِ وأخنى على ذوى الشنآن ... )
(يَا بنى الْقَاسِم الامام حماكم ... رَبنَا بالزبور وَالْفرْقَان)
(فباقدامكم حَيا ميت الْمجد وقمتم بنصرة الاديان ... )
الى أَن قَالَ
(فَكفى الله كل ضير وهول ... بامام الْهدى كَمَال الزَّمَان)
(فكراماته غَدَتْ خارقات ... وَهُوَ لاغر ومظهر الْبُرْهَان)
وَمِنْهَا
(فليفز بالنجاة قوم تولوه وَقَامُوا بِطَاعَة الرَّحْمَن ... )
قَالَ وَلَوْلَا اشتهارها لذكرناها بِطُولِهَا وَله مقاطيع وكل // معنى حسن // وَله دوبيت
(يَا جود حَيا على الجناب الغربى ... قد أنعمه بوا كفات السحب)
(أَحييت الارض فى رباه فَمَتَى ... يحيا بالوصل من حبيبى قلبى)(3/84)
وَكَانَت وَفَاته بوصه فى أَفْرَاد سنة احدى وَسِتِّينَ ألف
عبد الله الكردى البغدادى ثمَّ الدمشقى اشْتغل بالعلوم أَولا وفَاق اقرانه ثمَّ غلب عَلَيْهِ الْحَال وَرمى كتبه فى المَاء وسلك الطَّرِيقَة ونال الرُّتْبَة الْعلية وَنزل دمشق وَسكن بالكلاسة وَيُقَال انه كَانَ من الابدال السَّبْعَة وَله كرامات شهيرة قيل كَانَ تَارَة لَا يَأْكُل وَلَا يشرب أسبوعا وَتارَة يَأْكُل أكل سَبْعَة رجال وَكَانَ شخص من أَعْيَان دمشق يُقَال لَهُ رَجَب محبا لَهُ فزاره مرّة وَكَانَ محموما فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أخذت حماك فبرأ من الْحمى مُدَّة عمره وَقيل لما دخل الشَّيْخ بُسْتَان الْوَاعِظ الى دمشق ولقى الشَّيْخ فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا أعطيناك الْوَظِيفَة أشرفيا فَبعد أَيَّام جعلُوا لَهُ وَظِيفَة بذلك الْقدر وَكَانَ خَلِيل باشا نَائِب الشأم يزوره كثيرا فَلَمَّا عزل أَشَارَ بوصوله الى المنصب الاعلى وَقَالَ لَهُ أودعناك الله تَعَالَى ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا وصل الى دَار السلطنة صَار وزيرا كَبِيرا وصهراً للسُّلْطَان فَظهر مَا أَشَارَ بِهِ الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فى سنة ثَلَاث بعد الالف تَقْرِيبًا وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الله الكردى الشافعى العلوانى الامام الْعَلامَة ذكره النَّجْم الغزى وَقَالَ فى تَرْجَمته حج من بِلَاده مرَارًا فَدخل بِلَاد الشأم غير مرّة وَأخذ بهَا عَن الْبَدْر الغزى وَغَيره وَأخذ الطَّرِيق عَن سيدى أَبى الوفا ابْن الشَّيْخ علوان الحموى وَلما أجَازه كتب لَهُ الاجازة الصُّغْرَى فَقَالَ لَهُ يَا سيدى اكْتُبْ لى الاجازة الْكُبْرَى فَقَالَ وَمَا الاجازة الْكُبْرَى فَقَالَ لَهُ هى فى كتاب صفته كَذَا وَكَذَا ولون جلده كَذَا وَهُوَ تَحت الْكتب كلهَا وَكَانَ الامر كَذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الوفا من أخْبرك بِهَذَا فَقَالَ يَا سيدى أخبرنى بِهِ الشَّيْخ الْكَبِير سيدى علوان البارحة فى منامى وَقَالَ لى قل لابى الوفا يعطيك الاجازة الْكُبْرَى وَأَشَارَ الى مَا ذكرت لكم فَأَجَازَهُ الشَّيْخ أَبُو الوفا الاجازة الْكُبْرَى باشارة وَالِده قَالَ النَّجْم حَدَّثَنى بذلك الشَّيْخ أَبُو الْجُود البترونى الحنفى مفتى حلب فى يَوْم الثلاثا خَامِس جُمَادَى الاولى سنة اثنتى عشرَة بعد الالف وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة ببلاده بعد أَن جاور بِدِمَشْق مُدَّة مديدة فى حُدُود سنة سِتّ بعد الالف
عبد الله البخارى الحنفى مفتى الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق ومدرس السليمانية بهَا كَانَ عَالما صَالحا متواضعا صوفى المشرب توفى بِدِمَشْق نَهَار السبت سَابِع ذِي الْحجَّة سنة عشرَة وَألف بِسوء القنيه وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير(3/85)
عبد الله الرومى البوسنوى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى وَاحِد عُلَمَاء الرّوم وعظمائهم الامجاد الْمَشْهُور الذّكر المتحقق بِحَق الْيَقِين كَانَ عَالما عَاملا عَارِفًا بالدقائق والحقائق متجرا فى الْعُلُوم النقلية والعقلية الى جاه عَظِيم وَقدر جسيم ومنظر بهى وَوجه نورانى ولد بالروم وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر العارفين وَلبس الْخِرْقَة وتلقن الذّكر من كثيرين وبرع فى جَمِيع الْعُلُوم حَتَّى صَار مُنْقَطع القرين وزار النَّبِي
سنة سِتّ وَأَرْبَعين والف وَكَانَ يتَمَنَّى رُؤْيَة السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ باعلوى الحسينى فَلم تتيسر لَهُ تِلْكَ الامنية وانتقل السَّيِّد قبل وُصُوله الى مَكَّة بأيام قَليلَة ورحل الى مصر والشأم وَاجْتمعَ بِمن بهما من الْعلمَاء واشتهر فى سَائِر الْبِقَاع الاسلامية وحظى عِنْد أكَابِر الدولة وَأخذ عَنهُ شُيُوخ كرام عِظَام مِنْهُم الشَّيْخ غرس الدّين الخليلى وَالشَّيْخ مُحَمَّد ميرز الدمشقى الصوفى وَالشَّيْخ مُحَمَّد مكى المدنى وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَبى بكر الْقعُود وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا وَهُوَ أجلهَا شرح على الفصوص وعَلى التائية للشَّيْخ الاكبر محيى الدّين وَشرح على نظم مَرَاتِب الْوُجُود للجيلى للشَّيْخ غرس الدّين الْمَذْكُور ورسالة فى تَفْضِيل الْبشر على الْملك وَمِمَّا اتّفق لَهُ مَعَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد المغربى نزيل مَكَّة انه لما دخل الْقُسْطَنْطِينِيَّة اسْتَأْذن مِنْهُ صَاحب التَّرْجَمَة فى الدُّخُول اليه للسلام عَلَيْهِ فَلم يَأْذَن لَهُ وتكرر مِنْهُ ذَلِك مَرَّات عديدة فَركب يَوْمًا وَأَرَادَ الدُّخُول عَلَيْهِ بِلَا اذن فَلَمَّا وصل الى بَيت السَّيِّد وَنزل عَن دَابَّته فبمجرد نُزُوله سقط على رجله فَانْكَسَرت فتحقق حِينَئِذٍ انها كَرَامَة من السَّيِّد نفع الله بِهِ وَرجع الى بَيته وَمكث شهورا وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج حَتَّى سَافر السَّيِّد من الرّوم وَلم يقدر لَهُ الِاجْتِمَاع بِهِ وَكَانَت وَفَاته عقب رُجُوعه من الْحَج سنة أَربع وَخمسين وَألف بِمَدِينَة قونيه وَدفن بِالْقربِ من قبَّة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى صدر الدّين القونوى وَبنى عَلَيْهِ قبَّة وَكتب على قَبره هَذَا قبر غَرِيب الله فى أرضه واسْمه عبد الله
الشريف عبد الْمطلب بن حسن بن أَبى نمى الشريف الْحسنى كَانَ على غَايَة من الْكَمَال وَمن مشاهير الابطال وَمن أكمل أهل زَمَانه عقلا وَأكْرمهمْ احسانا وفضلا ذَا مُرُوءَة تَامَّة وفتوة عَامه وَكَانَ يلبس الخلعة الثَّانِيَة فى حَيَاة أَبِيه وَكَانَ وَالِده يعْتَمد عَلَيْهِ فى الامور ويفتخر بِهِ وَاسْتمرّ الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة عشرَة بعد الالف بِمَكَّة بعد أَبِيه الشريف حسن بِقَلِيل(3/86)
عبد الْملك بن جمال العصامى بن صدر الدّين بن عِصَام الدّين الاسفراينى الْمَشْهُور بالملا عِصَام صَاحب الْحَاشِيَة على الشَّرْح الْجَدِيد على الكافية والاطول الذى عَارض بِهِ المطول وَغَيرهمَا من التصانيف المفيدة والتآليف السديدة وَعبد الْملك هَذَا امام الْعُلُوم الْعَرَبيَّة وعلامها والمنشورة بِهِ فى الْخَافِقين أعلامها والسالك أوضح مسالكها وَالْمَالِك لازمتها وَابْن مَالِكهَا ورد عذب الْفضل نهلا وَعلا وفاز من سهامه بالقدح الْمُعَلَّى فجدد مغنى الْعلم الدريس وَنصب نَفسه للاقراء والتدريس واشتغل بالتصنيف والتأليف وتخلى عَن كل أنيس وأليف حَتَّى بلغت مؤلفاته السِّتين من شرح مُفِيد وَمتْن متين فلقب بخاتمة الْمُحَقِّقين وعد من أَرْبَاب الْفضل وَالْيَقِين الى زهد وَصَلَاح وتقوى أشرق نورها فى أسرة وَجهه ولاح والمام بالادب وافر طلع فى أفق الاحسان يدره السافر الا أته قل مَا أعَار ذهنه وفكره غير مسَائِل الْعلم الَّتِى خلدت فى صَحَائِف الايام ذكره ولد بِمَكَّة فى سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَجَاء تَارِيخه نعم الْمَوْلُود ذَا وَنَشَأ وَأخذ عَن وَالِده وَعَن عَمه القاضى على بن صدر الدّين الشهير بالحفيد وَعبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبى وَالسَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد الشهير بمير بادشاه وَالشَّيْخ عبد الرؤف المكى وَعنهُ الامام مُحَمَّد على بن عَلان والقاضى تَاج الدّين المالكى وَعبد الله بن سعيد باقشير وعَلى بن الْجمال والخطيب أَحْمد البرى المدنى وَغَيرهم ولازم الاقراء والتدريس حَتَّى فاق واشتهر وَبلغ فى التَّحْقِيق مبلغا عَالِيا وانعقد عَلَيْهِ الاجماع وَتفرد بصنوف الْفضل فبهر النواظر والاسماع فَمَا من قَول الا وَله فِيهِ الْقدح الْمُعَلَّى والمورد العذب الْمحلى ان قَالَ لم يدع قولا لقَائِل أَو طَال لم يَأْتِ غَيره بطائل حَتَّى قَالَ فِيهِ بعض عُلَمَاء عصره
(لم ترعينى عَالما ... تَحت أَدِيم الْفلك)
(مثل امام الْحَرَمَيْنِ ... الشَّيْخ عبد الْملك)
وَله تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شرح شرح الشذور لِابْنِ هِشَام وَشرح الارشاد فى النَّحْو أَيْضا وحاشية على شرح الْقطر للْمُصَنف وحاشية على شرح الْقَوَاعِد للشَّيْخ خَالِد وَشرح على الخرزجية وَشرح على منظومة السمنى فى أصُول الحَدِيث ومنظومة فى الالغاز النحوية وَشَرحهَا وبلوغ الارب من كَلَام الْعَرَب وشرحان على رِسَالَة الاستعارات للسمرقندى كَبِير وصغير وَشرح ايساغوجى والكافى فى الْعرُوض والقوافى والتسهيل فى الْعرُوض وَكتب اليه القاضى تَاج الدّين(3/87)
المالكى مسائلا
(مَاذَا يَقُول امام الْعَصْر عالمه ... وَمن لَدَيْهِ يرى التَّحْقِيق طَالبه)
(فى الدَّار هَل جَائِز تذكير عائدها ... فى قَوْلنَا مثلا فى الدَّار صَاحبه)
(وَمن ابانة همز ابْن أَرَادَ فَهَل ... يكون موصوفه اسْما تطالبه)
(أم كَونه علما كَاف وَلَو لقبا ... أَو كنية ان أَرَادَ الْحَذف كَاتبه)
(أخد فَمَا رَأينَا الْحق منخفضا ... الا وَأَنت على التَّحْقِيق ناصبه)
فَأَجَابَهُ بقوله
(يَا فَاضلا لم يزل يهدى الفرائد من ... علومه وتروينا سحائبه)
(تأنيشك الدَّار حتم لَا سَبِيل الى ... التَّذْكِير فامنع اذا فى الدَّار صَاحبه)
(وَالِاسْم مَوْصُوفَة عمم فان لقبا ... أَو كنية فارتكاب الْحَذف واجبه)
(هَذَا جوابى فاعذران تَجِد خللا ... فصدر الْعَجز وَالتَّقْصِير كانبه)
(لَا زلت تاجاً لَهَا مَاتَ العلى علما ... فى الْعلم يحوى بك التَّحْقِيق طَالبه)
وَمن نظمه قَوْله
(أهْدى لمجلسه الْكَرِيم ... فرائدا تهدى اليه)
(كالبحر يمطره السَّحَاب ... وَمَا لَهُ فضل عَلَيْهِ)
وَهُوَ من قَول البديع هبة الله الاسطرلابي
(أهْدى لمجلسه الْكَرِيم وانما ... أهْدى لَهُ مَا خرت من نعمائه)
(كالبحر يمطره السَّحَاب وَمَاله ... فضل عَلَيْهِ لانه من مَائه)
وتناوله الامير أَبُو بكر بن جلالا الحلبى وأفرغه فى قَوْله
(أيا بحرا غدونا من نداه ... نقدم بعض أنعمه لَدَيْهِ)
(كَذَاك الْبَحْر ينشأ مِنْهُ غيث ... وَبَعض سحابه يهدى اليه)
وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة بِالْمَدِينَةِ المشرفة فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن ببقيع الْغَرْقَد
عبد الْملك بن عبد السَّلَام بن عبد الحفيظ بن عبد الله بن دعسين بِفَتْح السِّين ابْن عبد الله بن أَبى بكر بن أَحْمد بن على بن عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد دعسين ابْن هبينى بن ربيعَة بن على بن أَحْمد بن شكر بن رزام بن يحيى بن عبد الله بن زَكَرِيَّا ابْن خَالِد ابْن عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن الصحابى خَالِد بن أسيد بن الْعيص بن أُميَّة الاكبر ابْن عبد شمس بن عبد منَاف ابْن قصى الاموى القرشى الْيُمْنَى الامام الْكَبِير كَانَ(3/88)
أعجوبة من أَعَاجِيب الزَّمَان ذكره الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى حَاتِم بن أَحْمد الاهدل وَقَالَ فى حَقه امام المصنفين وعلامة المؤلفين وَفِيه يَقُول بعض الشُّعَرَاء
(لم ترعينى فى أَدِيم الْفلك ... مثل الامام النّدب عبد الْملك)
وتصانيفه اليها النِّهَايَة فى التَّنْقِيح وَكَانَت لَهُ يَد طولى فى جَمِيع الْعُلُوم كالحديث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والتصوف والاصلين والفرائض والحساب والنحو وَالصرْف واللغة والمعانى وَالْبَيَان والهيئة والفلك وَالشعر والتاريخ والانساب وَالْعرُوض وصنف فى كثير من هَذِه الْعُلُوم وَمن مصنفاته منحة الْملك الْوَهَّاب بشرح ملحة الاعراب وَشرح مُعَارضَة بَانَتْ سعاد الْمُسَمّى اعداد الزَّاد بشرح ذخر الْمعَاد فى مُعَارضَة بَانَتْ سعاد وَشرح قصيدة ابْن نَاصِر الدّين ابْن بنت الميلق من ذاق طعم شراب الْقَوْم يدريه شرحا بديعا سَمَّاهُ جَوَاهِر السلوك المتحلى بهَا جيد السلوك الى ملك الْمُلُوك وَهُوَ شرح نَفِيس فى غَايَة الْحسن وَهُوَ أول من شرحها شرحا حافلا وَكتب عَلَيْهَا قبله الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الولى عبد الْقَادِر بن الْجُنَيْد المشرع الزبيدى شرحا كالتعليق مُخْتَصرا فى أوراق قَليلَة نَحْو الكراس الا انه نحا فِيهِ منحى الصُّوفِيَّة وَكَانَ عَالما بِالْكتاب وَالسّنة عَاملا بهما حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى مواظبا على تِلَاوَته ناصرا لشرع الله مثابرا على نشره قَائِما بِمَا جرى عَلَيْهِ سلفه الصَّالح من الاوراد والاذكار واكرام الوافدين وبذل الجاه وَكَانَ حسن الاخلاق عَظِيم التَّوَاضُع سخى النَّفس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خير كُله من فرقه الى قدمه وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله ملغزا
(مَا ذُو بِنَاء حوى جمعا من الْبشر ... نصيفه اسْم لواد أَخْضَر نضر)
(ان انت ضعفت هَذَا النّصْف جَاءَك فى ... تَضْعِيف تركيبه نوع من الْحجر)
د
(وَمَا بقى ان تضعفه أَتَاك بِتَضْعِيف لَهُ جبل يدريه ذُو الْفِكر ... )
(معكوسه ان تصحفه رَأَيْت بِهِ ... طيرا يغرد بالآصال وَالْبكْر)
(وان تزل من جَمِيع الِاسْم أَوله ... بدا بباقيه قوم طالبو سفر)
(مقلوبهم ان تحقق مِنْهُ جملَته ... يكن معينا على الادلاج فى السحر)
(وان تزل آخرا للاسم تلق بعكس مَا يبْقى اسْم ذى طعم من الْبشر ... )
(يَأْتِيك فى صفة من كَانَ لازمها ... فَهُوَ الْمُعظم بَين البدو والحضر)
أجَاب الشَّمْس مُحَمَّد العجمى بقوله(3/89)
(ركبت من لغزك الجارى على خطر ... وغصت من حلّه فى لجة الْفِكر)
(وَمر بى نصفه لما عبرت على ... روض هُنَاكَ مريع رائق نضر)
(صقلت فكرتى الدُّنْيَا بمرمره ... حَتَّى رَأَتْ كبكب العالى على النّظر)
(وغرد الصب من وجد بِهِ طَربا ... كبلبل صَاح بالالحان فى السحر)
(أشجى بنغمته أهل الغرام فكم ... من سابح فى الْهوى يجرى على غرر)
(قد شدّ بكر هَوَاهُ والها غزلا ... ونال غَايَة مَا يَرْجُو من الوطر)
(وَحَازَ من ساكنى وادى النقا كرما ... وَعَاد فى مركب الاقبال بالظفر)
وَمن مناقبه أَن بعض الاخيار رأى النبى
فى الْمَنَام كسا عبد الْملك هَذَا قَمِيصًا بعد أَن عرض عَلَيْهِ كراسا من تصنيفه وَكَانَت وَفَاته لعشر بَقينَ من شهر ربيع الاول سنة سِتّ بعد الالف وعمره ارْبَعْ وَخَمْسُونَ سنة وَدفن بمقبرة بندر المخا وَبَنُو دعسين قَبيلَة مَشْهُورَة بِالْيمن اشْتهر مِنْهُم جمَاعَة بِالْولَايَةِ وَالْعلم حَتَّى ان صَاحب التَّرْجَمَة أفردهم بتأليف سَمَّاهُ قُرَّة الْعين بِمَعْرِِفَة بنى دعسين
عبد الْمُنعم الماطى المصرى الشَّاعِر الماهر ذكره الخفاجى وَقَالَ فى حَقه أديب أسكرنا بِلَفْظِهِ العذب الانسجام وجلا علينا من مدام فكره فى نَادَى الانس جَام وَقد كَانَ فى شرخ الشَّبَاب وطليعة اقباله العجاب
(زمانى كالورد طيبا وبهجة ... فيا لَيْت ذَاك الْورْد كَانَ نصيبى)
وَنشر أفكاره دارى وَمن بَحر كرمه لنارى وان توقد ذكائه لنارى وَله اخلاق ذَات حواش رقاق فَمن شعره الذى أنْشدهُ لى قَوْله
(اذا رام مَحْفُوظ يرينى للشرا ... من الدّفن قطرالانظير لحسنه)
(فقولا لَهُ انى وَحقّ حَيَاته ... مرادى أرى تَعْلِيقه قبل دَفنه)
وَقَوله
(وَعَن كَبْش الذَّبِيح سَأَلت يَوْمًا ... خَبِيرا بالعلوم أَتَى اليا)
(أيحيا الْكَبْش يَوْم الْبَعْث أَيْضا ... فأخبرنى بِأَن الْكَبْش يحيى)
انْتهى وَكَانَت وَفَاته بِمصْر سنة خمس بعد الالف
عبد النافع بن عمر الحموى نزيل طرابلس الشأم الحنفى الْفَاضِل الاديب الْمَشْهُور كَانَ فى غَايَة من الذكاء والفطنة والتضلع من أَنْوَاع الْفُنُون وَكَانَ فى أول أمره سَاقِط الرُّتْبَة فخدم القاضى مُحَمَّد بن الاعوج باقراء أَوْلَاده الْقُرْآن فَجعله كَاتبا بمحكمة حماة ثمَّ انه ترقى الى أَن أفتى وَانْفَرَدَ بالفتوى من حمص الى معرة النُّعْمَان وَألف وَمن(3/90)
تآليفه منظومة فى العقائد سَمَّاهَا الرسَالَة الهادية الى اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية وَتَفْسِير سُورَة الاخلاص فى مُجَلد وشاع ذكره فى الْبِلَاد الشامية وَكَانَ على شهامته بذى اللِّسَان مغرى بالهجا وَكَانَت بَينه وَبَين الْحسن البورينى مَا جرت الْعَادة بِمثلِهِ بَين الْفُضَلَاء من التنافر والتنافس وكل مِنْهُمَا لَهُ فى حق الآخر أهاج شنيعة أَعرَضت عَن ذكرهَا لبذاءتها وَلم أختر مِنْهَا الا هَذِه الاحجية بعث بهَا عبد النافع للعلامة أَبى المعالى درويش مُحَمَّد الطالوى فى بورينى وهى هَذِه
(على الاخلاء الا جلاء فى ... دمشق سلم غير ذَاك السمج)
(وَقل لَهُم حَاجا كم ذُو الحجى ... مَا مثل قولى سمك مَا نضج)
وَكَانَ بَينه وَبَين قَاض بحماة مشاحنة وتعاضد القاضى مَعَ أَمِير حماة الامير حسن ابْن الاعوج عَلَيْهِ فَكتب الى ابْن الاعوج قَوْله
(تخذت وليا ظَالِما ذَا مذلة ... وَقد كنت لَا ترْضى وليا من الذل)
(وَمن يتَّخذ نسج العناكب درعه ... فسهم معاديه غنى عَن النصل)
ثمَّ هجا بنى الاعوج وَأطلق فيهم لِسَانه فَضَاقَ عَلَيْهِ حمى حماة فأقلع الى طرابلس الشأم وسكنها وَكَانَ حاكمها اذ ذَاك الامير يُوسُف بن سَيْفا فمدحه وتقرب اليه وَكَانَ بطرابلس رجل متصوف من أهالي حمص يدعى بِعَبْد النافع أَيْضا وَكَانَ الْأَمِير يُوسُف يوده فاتفق أَن الامير أرسل لعبد النافع الحموى مَالا من مرتبه على صدقَات السلطنة بطرابلس فَأَخذهَا رَسُوله الى عبد النافع الحمصى لاشتراك الِاسْم فَلَمَّا وصل الْخَبَر الى الحموى قصد الامير وَقَالَ لَهُ ان اشْتِرَاك الِاسْم قد يضر وَهَذِه دراهمى ذهبت الى عبد النافع الحمصى فَلَا بُد من تَمْيِيز يكون سَبَب رفع الِاشْتِبَاه فَقَالَ لَهُ انْظُر وَصفا مُمَيّزا فَقَالَ لَهُ أَنا أكون عبد النافع الشَّاعِر يُشِير الى أَن يكون ذَاك عبد النافع المشعور لانه حمصى وَالْمَشْهُور أَن أهل حمص مشعورون فى الْعقل لنقصانهم فِيهِ فَضَحِك الامير وَأرْسل اليه بِالْمَالِ الذى ذهب الى الحمصى ثمَّ انه أطلق لِسَانه فى الامير ابْن سَيْفا وَاتفقَ فى ذَلِك الاثناء نهوض الامير على بن جانبولاذ الى نواحى طرابلس لمحاربته فهرب ابْن سَيْفا مِنْهُ الى نواحى حيفا كَمَا سنفصله فى تَرْجَمَة ابْن جانبولاذ وَدخل بعض أقَارِب ابْن جانبولاذ الى طرابلس ناهباً لاموالها وَكَانَ عبد النافع دَلِيله فَلَمَّا آل الامر الى الصُّلْح وَرجع ابْن سَيْفا الى طرابلس صمم على قتل عبد النافع فهرب مِنْهُ الى حلب وَكَانَ يتَرَدَّد مِنْهَا الى الْبلدَانِ الَّتِى بقربها وَمِنْهَا(3/91)
ادلب الصُّغْرَى وَقد وقفت لَهُ على أشعار لَطِيفَة المسلك من جُمْلَتهَا هَذَانِ البيتان وَقد أحسن فى مَعْنَاهُمَا كل الاحسان وهما
(كَأَن الدجى ظرف على الصُّبْح موكأ ... وَلَكِن لطول الا متلا والبلى انْفَلق)
(فَسَالَ فَغطّى أنجما مَا تعلمت ... لقصر المدى سبحا فأدركها الْغَرق)
وَمن ذَلِك قَوْله فى هجاء قَاض
(من شَرّ بَيت شَرّ قَاض أَتَى ... حماته يَا قبح مَا استحسنت)
(أَبوهُ محتال دنىء وَكم ... فى رَأسه من دوحة أغصنت)
(وَأمه مَرْيَم لَكِنَّهَا ... وعيشكم لَيْسَ الَّتِى أحصنت)
وَذكره الخفاجى وَقَالَ فى تَرْجَمته فَاضل تود الْعين قربه ويعتقد أَن وده أعظم قربه وأديب بديع زَمَانه وتاج رُؤْس أقرانه يستعير السحر رقته من طبعه الرفيع وَلَا تنكر الِاسْتِعَارَة من صَاحب الْبَيَان البديع الا انه اقْتدى فى شعره بِابْن حجاج كَقَوْلِه فى هجاء من لقب بالتاج
(أقبح خلق الله فى خلقه ... وخلقه وَهُوَ خسيس وضيع)
(لقب بالتاج وَلكنه ... تَاج الخصا وَهُوَ مجَال وسيع)
وَسُئِلَ عَن قَول أَبى تَمام
(رَقِيق حواشى الْحلم لوأن حلمه ... بكفيك ماريت فى انه برد)
كَيفَ وصف الْحلم بالرقة فَأجَاب بِمَا لَا يشفى الغليل مِمَّا رَأَيْت تَركه خيرا من ذكره وانا أقوله قَالَ الْقطر بلَى والآمدى انه مِمَّا يضْحك مِنْهُ لانه لم يصف الْحلم بالخفة وانما وصف بالرزانة فخفته ورقته ذمّ وَقَوله بكفيك فى غَايَة السخافة وَقَالَ ابْن السَّيِّد مَا قَالَاه لَا يلْزمه لِأَنَّهُ لم يُطلق الرقة على حلمه أجمع وانما أَرَادَ أَنه ترك الْجد الى الْهزْل فى بعض الاوقات وَالْوَقار الى الانبساط وَلذَا تحفظ بِأَن جعل الرقة للحواشى خَاصَّة واذا لم تكن الرقة الا لحواشيه فمعظمه كثيف وَقد كرر هَذَا فى قَوْله
(لَا طايش يهفو وخلائقه وَلَا ... خشن الْوَقار كَأَنَّهُ فى محفل)
وَقَوله
(الْجد شيمته وَفِيه فكاهة ... سمح وَلَا جد لمن لَا يلْعَب)
ثمَّ أَقُول وَمِمَّا يُوضح خطأه انه لم يخترع هَذِه الِاسْتِعَارَة وَقد انشد صَاحب زهر الْآدَاب فى قصَّة وَقعت مَعَ الرشيد لبَعض الاعراب من شعر أوردهُ لَهُ
(رَقِيق حواشى الْحلم حِين تثوره ... يُرِيد الهوينا والأمور تطير)(3/92)
// فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَجَازَهُ جَائِزَة سنية // فاذا عرفت انه مسموع لمن قبله من الْعَرَب من غير انكار عَلَيْهِ اتَّضَح خطاؤه وانه لَيْسَ المُرَاد مَا ذكره الْمُجيب بل المُرَاد انه مُحِيط بأفعاله وأقواله احاطة الرِّدَاء ثمَّ وَصفه بالرقة اشارة الى لطفه وَحَيْثُ وصف بالرزانة فباعتبار عدم تغيره لَا بِاعْتِبَار ثقله أَلا تراك لَو قلت ثقيل الْحلم لم يحسن مِنْك ذَلِك فاعرفه انْتهى وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة بأدلب الصُّغْرَى فى احدى الجماديين سنة سِتّ عشرَة وَألف وَاتفقَ لَهُ قبل مَوته بأيام انه نظم هَذِه الابيات وهى قَوْله
(فؤادى مِمَّا لَا أُسَمِّيهِ مكاوم ... وذنبى اليه عِنْد مولاى مَعْلُوم)
(فَلَا عجب ان ضَاعَ حقى لَدَيْهِ بل ... عجبت لانى عِنْد مولاى محروم)
(فقد مسنى الضّر الذى لَيْسَ فَوْقه ... فَلَيْسَ كمثلى فى التواريخ مظلوم)
فَكَانَ لفظ مظلوم تَارِيخا لوفاته مَعَ مظلوميته فقصد هُوَ الثَّانِيَة وأجرى الله الاولى على لِسَان الْفَاضِل الاديب ابراهيم بن أَبى الْيمن البترونى الحلبى وَكَانَ اذ ذَاك قَاضِيا بحماة فَقَالَ
(قد مَاتَ عبد النافع الحبر الذى ... مَاتَت بِهِ فى الْعَالمين عُلُوم)
(فى أدلب الصُّغْرَى غَرِيبا نَائِيا ... عَن أَهله تَارِيخه مظلوم)
عبد الهادى بن أَحْمد بن صَلَاح بن مُحَمَّد بن الْحسن الثلاثى الْمَعْرُوف بالحسوسه ذكره ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه وَقَالَ فى وَصفه كَانَ مُنْقَطع القرين فى علومه يملى من صَدره مَا لَا تسعه الاوراق قَالَ سيدنَا أَحْمد بن سعد الدّين كَانَ هَذَا القاضى يحفظ مجموعات الْقَاسِم والهادى وَغَيرهمَا من الائمة ويمليها عَن ظهر قلبه غيبا بِمَا يبهر الْعُقُول مَعَ عُلُوم سَائِر أهل الْكَلَام فَهُوَ أَحَق من يمثل لَهُ بِمَا قيل فى أَبى الْهُذيْل
(أطل أَبُو الْهُذيْل على الْكَلَام ... كاطلال الْغَمَام على الانام)
وَكَانَ يحفظ أَحْوَال النَّاس ولقى الْعلمَاء الْفُضَلَاء وَقَرَأَ عَلَيْهِم وَمن جملَة شُيُوخه عبد الرَّحِيم الخيمى وَعِيسَى دعفان فِيمَا أَظُنهُ وعَلى بن الْحَاج وَتحمل القاضى عبد الهادى من جليل الْكَلَام ودقيقه مَا لَا يُشبههُ فِيهِ أحد حَتَّى أَن الامام الْقسم بن مُحَمَّد لما اجْتمع بِهِ فى ذيبين بِبَيْت الْفَقِيه الْفَاضِل مُحَمَّد بن يُوسُف الشرعى وراجعه وَكَانَ مَعَه ابْنه أَحْمد بن الهادى وَكَانَ فَاضلا فَلَمَّا افْتَرَقُوا قَالَ الامام ظنى أَن عبد الهادى أوسع علما من أَبى الْهُذيْل لانه اطلع على مَا حصله أَبُو الْهُذيْل وَغَيره وَكَانَ مطلعا على قَوَاعِد البهشمية لَا يند عَنهُ مِنْهَا شئ وَلَا يخفى عَلَيْهِ شئ من أَحْوَال أهل الْعلم الكلامى(3/93)
يحفظ قَوَاعِد أَهله وأخبارهم وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ فى علم آل مُحَمَّد الخريت الماهر عَن سَماع وَرِوَايَة روى أَن شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن سعيد بن صَلَاح الهبل لما بلغه أَن عبد الهادى درس فى مَجْمُوع الْقسم الرسى قَالَ هَذَا الْكتاب لَيْسَ من كتب الْمُعْتَزلَة كالعرض بعيد الهادى انه لَا يعرف علم الائمة فَبَلغهُ ذَلِك فضجر وَقَالَ وَالله انى لأعرف آل مُحَمَّد وَأَبوهُ القاضى سعيد فى بُد يَده غير مُتَعَلق بِالْعلمِ أَو كَمَا قَالَ وَقد كَانَ يظنّ بعض النَّاس لِكَثْرَة حفظه لقواعد الْمُعْتَزلَة انه يمِيل عَن مَذْهَب العترة وَهُوَ ترجمان ذَلِك وحافظه روى أَنه ذكر بعض تلامذته شَيْئا من أَحْوَاله فنسب اليه الْميل عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ على بن أَبى طَالب رضى الله تَعَالَى عَنهُ كَمَا يمِيل الْمُعْتَزلَة فاتفق أَن القاضى أمْلى فى فَضَائِل على مَا لَا يعرفهُ الا هُوَ وَأطَال وأتى بِكُل عَجِيب وغريب وَكَانَ فِي التلامذة الْفَقِيه على الشَّارِح وَكَانَ شِيعِيًّا كَمَا يُقَال جلدا فَقَامَ وحجل على رجلَيْهِ أَو نَحْو ذَلِك فَرحا بِمَا سمع فَسَأَلَهُمْ القاضى عَن سَبَب ذَلِك فأخبروه بِمَا حصل من التلميذ فى اعْتِقَاده فى أَمِير الْمُؤمنِينَ وانه نسب اليه مَا ينْسب الى غَيره فَبكى من ذَلِك وتجرم من الْقَائِل وَهُوَ شيخ الشُّيُوخ انْقَطع اليه الْعلمَاء وقرأوا عَلَيْهِ كالقاضى ابراهيم ابْن يحيى والقاضى أَحْمد بن صَالح العنسى وَآل الحربى وَغَيرهم وَسَيِّدنَا أَحْمد بن سعد الدّين المسورى وَكَانَ يعطر الْمجَالِس بفكره ويملى عَنهُ غرائب وَولى الْقَضَاء بصنعا فتم بسعيه أُمُور عَظِيمَة للاسلام بحذاقة وبهارة وصناعة خارقة وَله فى السياسة مَا لَا يبلغهُ أحد وقصصه فى ذَلِك مَشْهُورَة وَله أَوْلَاد نجباء مِنْهُم عَلامَة الزَّمَان المهدى وَهُوَ على منوال وَالِده فى التَّحْقِيق والحذاقة وَمِنْهُم على وَهُوَ من الْعلمَاء الكملة وَالْحُسَيْن من فضلاء الْوَقْت وانتقل من صنعاء الى ثلافى أَوَائِل مرض مَوته ثمَّ توفى بثلا وَكَانَت وَفَاته نصف لَيْلَة الْجُمُعَة الثانى عشر من ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف
القاضى عبد الهادى بن المقبول بن عبد الاول بن أَبى بكر بن عبد الاول بن عِيسَى بن عبد الْغفار بن عبد الاول بن الاستاذ مُحَمَّد بن عِيسَى بن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن عمر الزيلعى صَاحب اللِّحْيَة وَأمه مَرْيَم بنت عِيسَى بن يُوسُف بن أَبى بكر صَاحب الْحَال الاكبر ابْن مُحَمَّد بن عِيسَى بن أَحْمد بن عمر الزيلعى أحد الْعلمَاء الزهاد جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل والادب الغزير مَعَ اطلَاع وافر وذكاء وفطنة وسؤال عَمَّا أشكل فى مَوَاضِع الافادة بِحَيْثُ لَا يمر على الْمُشكل الا بعد أَن ينْحل عقده ويتضح مَعْنَاهُ وَيظْهر دَلِيله وَله مسابقة الى التمَاس الْفَوَائِد وَله فى آل رَسُول الله(3/94)
محبَّة راسخة وَلذَا حصلت لَهُ الْجَلالَة والاحترام عِنْد الائمة بنى الْقسم وَبَينه وَبينهمْ مكاتبات ومودة ولد بجازان سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن وجوده على الْفَقِيه مَقْبُول القرشى وَقَرَأَ بالحجزين وهى قَرْيَة غربى صَبيا مُخْتَصر أَبى شُجَاع وَشَرحه لِابْنِ قَاسم الغزى على الْفَقِيه مُحَمَّد بن صديق الديباجى وبصبيا شرح الْمِنْهَاج للمحلى على الْفَقِيه أَحْمد بن علم الدّين شَافِع وعَلى الْفَقِيه اسماعيل ابْن مُحَمَّد المحلوى شرح الاجروميه لخَالِد الازهرى وَشرح الرحبية لابى محزمة ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَقَرَأَ بجدة على عبد الْقَادِر بن أَحْمد الخلى وَأخذ بِمَكَّة عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد على بن عَلان وَالشَّمْس البابلى وَعبد الله بن سعيد باقشير وَصَحب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مهنا بن عوض بامزروع الحضرمى وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق وتلقن الذّكر وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة ثمَّ رَجَعَ الى الْيمن وَقدم اللِّحْيَة وَأخذ بهَا عَن الْجمال مُحَمَّد صَاحب الْحَال وَصَحب عَارِف زَمَانه ولى الله تَعَالَى الْفَقِيه مَقْبُول ابْن أَحْمد المحجب وَكَانَ يجله ويعظمه ويميزه على وَلَده أَحْمد وَيَقُول لَهُ من خلف مثلك مَا مَاتَ ويتمثل لَهُ بقول بَعضهم
(لَوْلَا بك النَّفْع مَا أخرجت من بلد ... الى الَّتِى خصصت فى سَابق الْقدَم)
وَرجع الى بَلْدَة جازان وَصَحب بهَا الشَّيْخ سعيد بادهمج زمن اقامته بهَا معتكفا بِمَسْجِد بنى عبد الاول وَكَانَ لَهُ عِنْده مقَام رفيع وَيُشِير اليه فِيمَا يخْطر لَهُ من الخواطر الرحمانية وَيَقُول لَهُ أَنْت معَان وَلَا تقوم فى أَمر الا أعانك الله تَعَالَى عَلَيْهِ وشيوخه بِالسَّمَاعِ والاجازة كَثِيرُونَ مِنْهُم عَالم الْيمن القاضى حُسَيْن المهلا وَأحمد بن أَبى بكر ابْن مجنة الكنانى الشافعى والفقيه أَحْمد بن صديق الحشيبرى وَبَينه وَبَين الْعَلامَة السَّيِّد يحيى بن أَحْمد الشرفى وَغَيره من الاكابر مكاتبات ومراسلات وَله أشعار حسان مِنْهَا قَوْله يرثى السَّيِّد يحيى الْمَذْكُور
(أفل الْبَدْر من سَمَاء السُّعُود ... واختفى النُّور عَن سناء السعيد)
(وَغدا الدَّهْر لابسا ثوب حزن ... أسفا مُنْذُ غَابَ عين الْوُجُود)
(لَا رعى الله لليالى ذماما ... اذ دهتنا بِكُل حتف سديد)
(حِين وافت عين الخطوب بخطب ... ومصاب مشيب للوليد)
وَمِنْهَا
(وعَلى الدَّهْر والليالى سَلام ... بعد فقد الحبيب زاكى الجدود)
(صفوة الْآل والمكارم يحيى ... مَعْدن الْفضل والوفا بالعهود)(3/95)
وَمِنْهَا
(كل صَعب سوى مصابك سهل ... لَيْسَ فِيمَا أَقُول من ترديد)
(غير أَن المُرَاد لله فِيمَا ... شَاءَ فى الْخلق من جَمِيع العبيد)
وَكَانَت وَفَاته سلخ ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف بجازان رَحمَه الله
عبد الْوَاحِد بن أَبى بكر الانصارى الشافعى قاضى القنفدة الامام الْفَاضِل كَانَ بمَكَان مكين من الْعلم غَايَة فى الذكاء والفهم حسن التَّقْرِير والتحرير روى الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا عَن الْعَلامَة الشَّيْخ على بن الْجمال وَعبد الله بن سعيد باقشير وَعِيسَى بن مُحَمَّد الجعفرى وَله فِيهِ مدائح كَثِيرَة ومرثيات كَثِيرَة وجاور بالحرمين سِنِين // وَأَجَازَ شُيُوخه // وَكَانَ رَئِيس القنفدة وَمَا والاها من أَرض الْحجاز لَا تصدر حَقِيقَة أمورها الا عَن رَأْيه وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى سعى بِهِ بعض الوشاة بِسَبَب سَعْيه فى صلح بَين الاشراف بنى عبد الله الى الشريف سعيد بن زيد ورماه بِأُمُور أوجبت ان أَمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَنهب دَاره وَجَمِيع أثاثه ودثاره ثمَّ قيد بالقيود وأتى بِهِ اليه وَأَرَادَ قَتله بعد الذى جرى عَلَيْهِ من حلق ذقنه ولحيته فشفع فِيهِ بعض الاعيان فَعَفَا عَنهُ وَاخْتَارَ الاقامة بعد ذَلِك بِنَجْد الْحجاز وَلم تسمح نَفسه بسكنى بَلَده القنفدة بل كَانَ يتَرَدَّد اليها أَحْيَانًا لزيارة من بهَا من أحبابه وتوطن محلّة موطف وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا نظم الْمنْهَج وَشرح على الرحبية فى الْفَرَائِض ومنظومة فى أصُول الدّين وَشرح عقيدة الامام اسماعيل بن الْقسم ملك الْيمن وَبَين فِيهَا أَدِلَّة أهل السّنة ورد على الزيدية وَله رسائل كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة سَمَّاهَا الْجَواب الابى فى صِحَة الطَّلَاق مَعَ الْكَلَام الْقَلِيل وان كَانَ بالاجنبى وَغير ذَلِك من المنثور والمنظوم وَالشعر الْفَائِق وَكَانَت وَفَاته فى جُمَادَى الاولى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف
عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن على بن عَاشر الانصارى نسبا الاندلسى أصلا الفاسى منشأ ودارا ذكره تِلْمِيذه الْعَلامَة مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشهير بميارة فى شَرحه على منظومة المترجم الْمُسَمّى بالدر الثمين والمورد الْمعِين فى شرح المرشد الْمعِين على الضرورى من عُلُوم الدّين فَقَالَ كَانَ اماما عَالما ورعاً عابداً متفننا فى عُلُوم شَتَّى قَرَأَ الْقُرْآن على الامام الشهير الاستاذ الْمُحَقق أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن الْفَقِيه والاستاذ عُثْمَان اللمطى وعَلى غَيرهمَا وَأخذ قِرَاءَة الائمة السَّبْعَة عَن الاستاذ الْمُحَقق أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن الكفيف ثمَّ عَن الْعَارِف الشهير مفتى فاس وخطيب حضرتها أَبى عبد الله مُحَمَّد الشريف المرى وَغَيرهمَا وَلَا شكّ انه فاق أشياخه فى التفنن فى التوجيهات(3/96)
والتعليلات وَأخذ النَّحْو وَغَيره من الْعُلُوم عَن جمَاعَة من الائمة كالامام الْعَالم المتفنن مفتى فاس وخطيب حضرتها أَبى عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار القيسى وكالامام النحوى الاستاذ أَبى الْفضل قَاسم بن أَبى الْعَافِيَة الشهير بِابْن القاضى وكشيخنا الْفَقِيه الْمُحدث الْمسند الرِّوَايَة الاديب الْحَاج الابر أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَبى الْعَافِيَة الشهير بِابْن القاضى ابْن عَم أَبى الْفضل الْمَذْكُور قبله وكالامام الْعَالم الْمُحَقق قاضى الْجَمَاعَة بفاس أَبى الْحسن على بن عمرَان وكالامام الْعَالم مفتى فاس وخطيب حضرتها أَبى عبد الله الهوارى وكالشيخ الْعَالم الْعَامِل الْوَرع الزَّاهِد أَبى عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد التجيبى شهر بِابْن عَزِيز بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الزاى وَكَانَ النَّاظِم رَحمَه الله تَعَالَى يذكر لنا عَنهُ كرامات نفعنا الله تَعَالَى بِهِ وكشيخنا الامام الْعَالم المتفنن الْمُفَسّر المسن قاضى الْجَمَاعَة بفاس وخطيب حضرتها ومفتيها أَبى الْفضل قَاسم بن مُحَمَّد أَبى النَّعيم الغسانى وَغَيرهم من الائمة وَأخذ الحَدِيث عَن بعض من تقدم من الشُّيُوخ الفاسيين كَابْن عَزِيز والقصار وَشَيخنَا ابْن القاضى وَعَن غَيرهم من المشارقة لما حج وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَألف وَدخل مصر فَمنهمْ الامام الْمُحدث المعمر صفى الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى الْعُزَّى بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَكسر الزاى الْمُشَدّدَة الشافعى وَقَرَأَ موطأ مَالك بن أنس على الْفَقِيه الْعَالم الْحسن أَبى عبد الله مُحَمَّد الْجنان وشمايل الترمذى على شَيخنَا الامام الْعَالم الْمُحدث أَبى الْحسن على البطوى وَكَانَ ذَا معرفَة بالقراآت وتوجيهها وبالنحور وَالتَّفْسِير والاعراب والرسم والضبط وَعلم الْكَلَام يحفظ نظم ابْن ذكرى عَن ظهر قلب وبعلم الاصول وَالْفِقْه والتوقيت وَالتَّعْدِيل والحساب والفرائض والمنطق وَالْبَيَان وَالْعرُوض والطب وَغير ذَلِك وَحج وجاهد وَاعْتَكف وَكَانَ يقوم من اللَّيْل مَا شَاءَ الله وَألف تآليف عديدة مِنْهَا هَذِه الْمَنْظُومَة العديمة الْمِثَال فى الِاخْتِصَار وَكَثْرَة الْفَوَائِد وَالتَّحْقِيق وموافقة الْمَشْهُور ومحاذاة مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل وَالْجمع بَين أصُول الدّين وفروعه بِحَيْثُ أَن من قَرَأَهَا وَفهم مسائلها خرج قطعا عَن ربقة التَّقْلِيد الْمُخْتَلف فى ايمان صَاحبه وَأدّى مَا أوجب الله عَلَيْهِ تعلمه من الْعلم الْوَاجِب على الاعيان وَلذَا قَالَ فِيهَا الْفَقِيه الاديب النحوى اللغوى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الشَّيْخ الاجل الولى الصَّالح الْمُجَاهِد المرابط بالثغورذى الفتوحات العديدة والمآثر الحميدة أَبى عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد العباشى أبقى الله وجوده كهفا للاسلام وجلاء لغياهب الظلام مَا نَصه(3/97)
(عَلَيْك اذا رمت الْهدى وَطَرِيقه ... وبالدين للْمولى الْكَرِيم تدين)
(بِحِفْظ لنظم كالجمان فصوله ... وَمَا هُوَ الا مرشد ومعين)
(كَانَ الْمعَانى تَحت الفاظه وَقد ... بَدَت سلسبيل بالرياض معِين)
(وَكَيف وَقد أبداه فكر ابْن عَاشر ... امام هدى للمشكلات يبين)
(تضلع من كل الْعُلُوم فَمَاله ... شَبيه وَلَا فى المعلوات قرين)
(وأبرز ربات الْجمال بفهمه ... فها هى أبكار لَدَيْهِ وَعون)
(وأعمل فكرا سالما فى جَمِيعهَا ... فذل لَهُ صَعب ولان خرون)
(وأنهى الى قطب الْوُجُود تَحِيَّة ... علينا بهَا كل الامور تهون)
وَمِنْهَا شَرحه العجيب على مورد الظمآن فى علم رسم الْقُرْآن فقد أَجَاد فِيهِ مَا شَاءَ وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان وأدرج فِيهِ تأليفا آخر سَمَّاهُ الاعلان بتكميل مورد الظمآن فى كَيْفيَّة رسم الْقُرْآن لغير نَافِع من بَقِيَّة السَّبْعَة فى نَحْو خمسين بَيْتا وَشَرحه وابتدأ شرحا على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل مُلْتَزما فِيهِ نقل لفظ ابْن الْحَاجِب ثمَّ لفظ التَّوْضِيح وأضاف الى ذَلِك فَوَائِد عَجِيبَة ونكثا غَرِيبه كتب مِنْهُ من قَوْله فى النِّكَاح والكفاءة الدّين وَالْحَال الى بَاب السّلم وَالله أعلم وَله طرر عَجِيبَة مفيدة على الْمُخْتَصر الْمَذْكُور بَعْضهَا يتَعَلَّق بِلَفْظ الْمُخْتَصر وَبَعضهَا بِلَفْظ شَارِحه الامام التتائى فى شَرحه الصَّغِير وَله رساله عَجِيبَة فى عمل الرّبع الْمُجيب فى نَحْو مائَة وَثَلَاثِينَ بَيْتا من الرجز وَله تقاييد على العقيدة الْكُبْرَى للامام السنوسى وَله طرر عَجِيبَة على شرح الامام أَبى عبد الله مُحَمَّد التنسى لذيل مورد الظمآن فى الضَّبْط وَله المقطعات فى جمع نَظَائِر رساله مهمة من الْفِقْه والنحو وَغَيرهمَا وَمن نظمه وَكَانَ يكثر من ذكره عِنْدَمَا تكْثر عِنْده الاسئلة الْفِقْهِيَّة وَمن املائه نقلت
(يزهدنى فى الْفِقْه أَنى لَا أرى ... يسائل عَنهُ غير صنفين فى الورى)
(فزوجان راما رَجْعَة بعد بتة ... وذئبان راما جيفة فتسعرا)
أُصِيب بالداء الذى يُسمى على لِسَان الْعَامَّة بالنقطة ضحى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ذى الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَمَات عِنْد الاصفرار من ذَلِك الْيَوْم والى سنة وَفَاته أَشرت بالشين وَالْمِيم بِحِسَاب الْجمل من قولى فى جملَة أَبْيَات فى تواريخ وفيات جملَة من شُيُوخنَا والاشارة الى بعض صفاتهم
(وعاشر المبرور غزوا وَحجَّة ... امام التقى وَالْعلم شم قرنفل)(3/98)
عبد الْوَاحِد الرشيدى البرجى الشافعى تَرْجمهُ الخفاجى وَقَالَ فى نَعته حَسَنَة بهَا ذَنْب الزَّمَان غفر وَأصْبح بِهِ عصره على سَائِر الازمان يفتخر فَهُوَ رَيْحَانَة الدَّهْر النَّضر والذائع ذكره حَتَّى كَأَنَّمَا سعى بِهِ الْخضر لَهُ محاورات تطرز بهَا حلل الوشائع وسقيط حَدِيث كَأَنَّهُ جنى النَّحْل ممزوجاً بِمَاء الوقائع ثمَّ قَالَ فَمن لؤلؤة الرطب وَرشح قلمه العذب قَوْله فى نَائِب غير رشيد تفلج بِهِ ثغر رشيد
(قلت للنائب الذى ... قد رَأينَا معائبه)
(لست عندى بنائب ... انما أَنْت نَائِبه)
وَمثله قَول الآخر
(وقاض لنا حكمه بَاطِل ... وَأَحْكَام زَوجته ماضيه)
(فيا ليته لم يكن قَاضِيا ... وَيَا ليتها كَانَت القاضيه)
وللارجانى
(وَمن النوائب اننى ... فى مثل هَذَا الامر نَائِب)
وَله
(لَا تحسبن أَن هجوى فِيك مكرمَة ... شعرى بهجو لئيم قطّ مَا سَمحا)
(لَكِن أجرب طبعى فِيك فَهُوَ كَمَا ... جربت فى الْكَلْب سَيْفا عِنْدَمَا نبحا)
وَمِنْه قَول الآخر
(هجوتك لَا لانك أهل هجو ... ولكنى أجرب فِيك سبى)
(وَلَيْسَ يضر شفرة حد سيف ... اذا مَا جربت فى جلد كلب)
وَله وَقد سمع بِمَوْت بعض قُضَاة مصر
(قَالُوا قضى القاضى فواحسرتا ... ان لم يكن قد مَاتَ من جُمُعَة)
(مُصِيبَة لَا غفر الله لى ... ان كنت أجريت لَهَا دمعتى)
وَقَالَ الشَّيْخ مَدين القوصونى فى تَرْجَمته شَيخنَا الشَّيْخ الْفَاضِل والامام الْكَامِل الْوَرع الزَّاهِد كَانَ عَارِفًا بعلوم شَتَّى وَكَانَ يستحضر أَشْيَاء كَثِيرَة من النَّوَادِر قَالَ وَرَأَيْت لَهُ من المؤلفات كتاب نزهة السامره فى أَخْبَار مصر والقاهره ذكر فِيهِ الوزراء الَّذين توَلّوا مصر الى الْوَزير الاعظم كَانَ مُحَمَّد باشا وَأنْشد لَهُ من شعره قَوْله
(يَقُولُونَ لى قهوة البن هَل ... تجل وتؤمن آفاتها)
(فَقلت نعم هى مَأْمُونَة ... وَمَا الصعب الا مضافاتها)
قَالَ وَسَأَلته عَن مضافتها فأجابنى هى مَا يسْتَعْمل مَعهَا من المكيفات وَمن املائه بثغر رشيد فى سنة تسع بعد الالف(3/99)
(لعمرك مَا أهديت للحب خَاتمًا ... وَلَا قَلما يبرى ولابست عينه)
(وَلَا آلَة للْقطع تقطع بَيْننَا ... فَمَا سَبَب التَّفْرِيق بينى وَبَينه)
وَقَالَ غَيره فى توصيفه عبد الْوَاحِد الرشيدى امام برج مغيزل الشَّيْخ الامام الْعَلامَة كَانَ من مشاهير الْفُضَلَاء قَرَأَ عَلَيْهِ كثير مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد الجمازى ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله
(لَا تصحبن نَاقِصا فتضحى ... قَلِيل حَظّ كثير ذَنْب)
(وَانْظُر الى الرّفْع من أَبُو من ... والخفض فى الْقَبْر بعد حَرْب)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى شَوَّال سنة ثَلَاث وَعشْرين والف وَدفن بتربة الْجلَال السيوطى وَبلغ من الْعُمر مائَة فَأكْثر قَالَه الشَّيْخ مَدين والبرجى تبين انها نِسْبَة لبرج مغيزل
عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَحْمُود بن عبد الله بن مَحْمُود الفرفورى الدمشقى الحنفى مفتى الشأم وَأحد الْفُضَلَاء المبرزين كَانَ فَقِيها وجيها جليل الْقدر سامى الرُّتْبَة قوى الحافظة طَوِيل الباع وَله أدب بارع ومحاضرة جَيِّدَة اشْتغل فى مباديه على الشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى والشرف الدمشقى وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّيْخ عمر الْقَارئ ثمَّ لزم العمادى الْمُفْتى وَمَال اليه العمادى بكليته فصيره معيد درسه فى صَحِيح البخارى وَتخرج فى كِتَابَة الاسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتيا على الشهَاب أَحْمد بن قولا قسز وَعبد اللَّطِيف المنقارى ثمَّ لَازم ودرس على قَاعِدَة الرّوم وَفرغ لَهُ أَحْمد بن شاهين عَن تدريس الجقمقية قبل وَفَاته ثمَّ درس وَأفَاد وانتفع بِهِ جمَاعَة وَتَوَلَّى النِّيَابَة الْكُبْرَى مَرَّات مُتعَدِّدَة ونال رُتْبَة الدَّاخِل المتعارفة الْآن فى بِلَادنَا وَلما قدم الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل الى دمشق أقبل عَلَيْهِ كثيرا لما رأى من فَضله فَلَمَّا ولى الوزارة الْعُظْمَى صيره مفتيا بالشأم وَوَقعت مِنْهُ موقعها وَكتب اليه الامير المنجكى قَوْله
(شكت الى الرّوم أحباؤنا ... من فتية تفتى على جهلها)
(فارسل الْفَتْوَى مليك الورى ... لنجل فرفور على رسلها)
(وَأصْبح الْفضل لنا قَائِلا ... أَدّوا الامانات الى أَهلهَا)
وأرخ تَوليته شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْغنى النابلسى فَقَالَ
(قد جَاءَت الْفَتْوَى الى بَابَكُمْ ... مسرعة تولى معاليها)
(لما بكم لاقت ولقتم بهَا ... والدهر أعْطى الْقوس باريها)
(وَالله مَا جارت بكم آرخوا ... بل آلت الْفَتْوَى لأهليها)(3/100)
وَقد تمكنت قَوَاعِده فى الْفتيا واشتهر أمره وَكَانَ مَعَ عراقته الطائلة وتفوقه فى الْفضل والادب متواضعا دمث الاخلاق ودودا حسن الْعشْرَة طارحا للتكلف فَلهَذَا مَالَتْ اليه الْقُلُوب وانبعثت اليه الاهواء وَكَانَ فى الِاطِّلَاع على فروع الْفِقْه والاخذ بمحال الاحكام فى الذورة الْعَالِيَة وَمن غَرِيب أمره انه مَعَ فَضله الباهر لم يرو لَهُ أثر من تَحْرِير أَو تَقْرِير وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن // جيد شعره // قَوْله
(لله بدر قد حكى بخدوده ... ورد الربى وشقائق النُّعْمَان)
(وبثغره زهر الاقاح منضد ... وبقده المياس غُصْن البان)
(وبطيبه طيب الرياض ونشرها ... وبصدغه للاس وَالريحَان)
(واذا محاسنه بَدَت لعيوننا ... تجلى فَلَا نحتاج للبستان)
وَقَوله
(ان غبت عَن ناظرة يَا من كلفت بِهِ ... فَمَا أَرَاك عقيب الْآن فى عمرى)
(لَان عينى تجرى بعد فرقتكم ... دَمًا ويتبعه ماطل من بصرى)
وَقَوله
(دع الْحبّ ان الْحبّ لِلْعَقْلِ سالب ... وعش خَالِيا فالحب فِيهِ النوائب)
(فَلَا يصلحن الا لمثلى فاننى ... فَتى دون نَعْلَيْه السهى وَالْكَوَاكِب)
(فَمن كَانَ مثلى كَانَ بالحب لائقا ... والا فَهَب بالصبابة لاعب)
وَكتب الى جدى محب الله فى غَرَض
(يَا من أياديه سَحَاب ممطر ... ولديه حَاتِم فى السخا لَا يذكر)
(وَعَلِيهِ من سِيمَا الْكِرَام دلَالَة ... وشواهد تبدو عَلَيْهِ وَتظهر)
(طوقتنى من راحتيك بمنة ... أضحت على طول الليالى تنشر)
(لم أقض حق ثنائها لَو أَن لى ... فى كل جارحة لِسَانا يشْكر)
وَلم تطل مدَّته فتوفى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة اثنتى عشرَة وَألف وَتوفى فى خَامِس عشر الْمحرم سنة ثَلَاثَة وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة أجداده بنى الفرفورى لصيق مَزَار الشَّيْخ أرسلان قدس الله تَعَالَى سره الْعَزِيز وَقَالَ الامير المنجكى يرثيه
(رَيْحَانَة الافضال عاجلها الردى ... ولفقدها مس الانام زكام)
(مَا كَانَت الايام الا مقلة ... وَلها ابْن فرفور ضيا ومنام)
(حيته أَرْوَاح الرِّضَا من ربه ... وهمى عَلَيْهِ من الهبات غمام)
عبد الْوَهَّاب بن رَجَب المنعوت تَاج الدّين الحموى الشافعى نزيل دمشق الاديب النَّحْو الْمَشْهُور ورد دمشق مَعَ عَمه حسن واشتغل بهَا على جدى ابى الفدا النابلسى(3/101)
والقاضى محب الدّين وعَلى العمادى الحنفى وَالشَّمْس المنقارى وَغَيرهم لكنه بجدى القاضى أَكثر اختصاصا وَكَانَ معيد دروسه وبرع فى الْفُنُون الا أَنه غلب عَلَيْهِ علم الْعَرَبيَّة حَتَّى صَار فِيهِ من الراسخين وَلَعَلَّه كَانَ أنحى أهل عصره ودرس ببقعة فى الْجَامِع الاموى وانتفع بِهِ كثير من الْفُضَلَاء وَكَانَ من خِيَار النَّاس وَهُوَ من بَيت كَبِير بحماة من جملَة أقاربهم أَوْلَاد الاعوج امراء حماة وَكَانَ التَّاج صَاحب التَّرْجَمَة مشتغلا بخويصة نَفسه لَا يشْتَغل غَالِبا الا بِمَا يَنْفَعهُ يأتى كل يَوْم الى الْجَامِع وَيصلى الظّهْر وَيجْلس للاقراء الى أَن يفرغ وَيذْهب الى بَيته فى جوَار الْمدرسَة الصابونية خَارج بَاب النَّصْر وَهُوَ ممتحن بأمرين غريبين الاول انه اذا أتلف الْحُكَّام من الْمُجْرمين أحد وأشهروه فانه يتبع ذَلِك الرجل وَلَا يزَال تَابعا لَهُ الى الْمَكَان الذى يقتل فِيهِ فيقف فى أقرب مَكَان مِنْهُ الى أَن يُشَاهد صُورَة قَتله وَيسْتَمر وَاقِفًا الى انْتِهَاء الامر وَهَذِه عَادَته دَائِما وَسُئِلَ عَن سَبَب هَذَا الامر فَقَالَ أقصد بذلك تَأْدِيب نفسى بِهِ وزجرها بمشاهدة ذَلِك الثانى انه كَانَ متهالكا على لعب الشطرنج فى دكاكين بَاب الْجَابِيَة يجلس فى بعض الدكاكين ويلعب مَعَ من أَرَادَ ويكشف رَأسه وَيَضَع الْعِمَامَة الى جَانِبه وَلَا يزَال يلْعَب الى أَن تغرب الشَّمْس فى غَالب الاوقات وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من محَاسِن الايام وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس عشرَة وَألف
عبد الْوَهَّاب بن سعيد بن عبد الله بن مَسْعُود الحميرى الحوالى ذكره ابْن أَبى الرَّجَاء فى تَارِيخه وَقَالَ فى وَصفه كَانَ عَالما مُجْتَهدا من بَيت شهير بِالْعلمِ معمور بِالْفَضْلِ نسبهم الى ذى حوال فهم وَآل يعفر وَالْفُقَهَاء آل الاكوع فى نسب وَاحِد وَكَانَ من فضلاء وقته وَيُسمى الصنعانى نِسْبَة الى أمه وَكَانَ مُتَعَلقا بالسياحة دمث الاخلاق كريم السجايا وَله مَكَارِم وآداب وَكَانَ يأتى الى ذيبين للتنزه أَيَّام الخريف فيجتمع بِهِ الْفُضَلَاء وَيتم لَهُم بِهِ الانس وَكَانَ جميل الثِّيَاب حسن الْهَيْئَة وَيُقَال انه يعرف السيميا وَلما اعتقل بكوكبان ظهر هَذَا مِنْهُ فانه كَانَ يخرج من السجْن وَيَضَع ثِيَابه عِنْد أهل السجْن ويغيب الْيَوْم واليومين ثمَّ يرجع ويفارقهم من مَحل وعر لَا يُمكن النّفُوذ مِنْهُ وَله صناعَة فى الامر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر مِمَّا يدل على ذَلِك مَا اشْتهر عَنهُ انه طلع الى بعض جبال ذيبين فَوجدَ فى بعض الكهوف امْرَأَة تبكى وَعِنْدهَا رجل رَقِيب عَلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن شَأْنهَا وَمِمَّا سَبَب بكائها فَأَخْبَرته انها امْرَأَة(3/102)
محتشمة لَيست من ذَوَات الريب وانه اتّفق بهَا نَحْو ثَمَانِيَة من العتاة العصاة فاغتصبوها نَفسهَا وَأمرُوا ذَلِك الرجل رقيباً بحفظها وعزموا ليأتوا بِمَا يَلِيق بمعصيتهم من لحم يسرقونه وَنَحْو ذَلِك فَلَمَّا أَطَالَ مَعهَا الحَدِيث جَاءَ ذَلِك الرَّقِيب واستنكر الْخطاب فَقَالَ القاضى الْمَذْكُور لَهُ يَا مِسْكين ترْضى لنَفسك بِهَذِهِ الْحَال الدنية وَالْحَال الْعلية تمكنك قَالَ وَمَا هى قَالَ أزَوجك هَذِه الْمَرْأَة وَتَكون لَك خَاصَّة قَالَ الرجل وَهَذَا يتم قَالَ نعم فعقد لَهُ بِغَيْر شُهُود فَلَمَّا وصل أَصْحَاب ذَلِك الرجل لَقِيَهُمْ وَقَالَ لَهُم هَذِه صَارَت زوجتى بِحكم القاضى فَلَا يقربهَا أحد فَمَنعهُمْ وَنزل القاضى وَعقد لَهُ عقدا جَدِيدا وَكَانَ يزورها كل سنة وَكَانَ مَعَ هَذَا الْحلم الْكثير بَينه وَبَين الْعَلامَة ابراهيم بن مَسْعُود وَحْشَة وَذَلِكَ من الْعَجَائِب وَقد روى انه صلح أَمرهمَا وتراضيا وَتوفى بالظهرين هجرتهم الْمَعْرُوفَة بِحجَّة فى تَاسِع عشرى رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وَألف وقبره الى جنب السَّيِّد الْفَاضِل شرف الدّين بن مُحَمَّد الحميرى من جِهَة الْقبْلَة ورثاه السَّيِّد الْعَلامَة على بن صَلَاح العبالى فَقَالَ
(عين جودى بدمعك الهتان ... واندبى ماجدا عَظِيم الشان)
(فَاضل طلق الدنا وتخلى ... عَالم عَامل بِكُل مَكَان)
(لم يدع بغية من الْفضل الا ... نالها بالسباق طلق الْعَنَان)
(يَا لَهُ من مبرز فى عُلُوم ... مَا حواها سواهُ من انسان)
(فلفقدانه ثوت بفؤادى ... لوعة دونهَا لظى النيرَان)
(آه أضحى الانام عميا عَلَيْهِ ... لَا يرَوْنَ الضيا من الضبعان)
(رحم الله تربة ابْن سعيد ... وَسَقَى من لَدَيْهِ بالهتان)
(وتغشى ضريحه بِصَلَاة ... انه كَانَ طيب الاردان)
عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن الدمشقى الحنفى القاضى تَاج الدّين الْمَعْرُوف بالتاجى أحد كبراء دمشق وَكَانَ لَهُ فى وقته شهامة وَحُرْمَة وسخاء ورزق وسعة طائلة ونعمة وافرة تفقه بِالنَّجْمِ البهنسى الْخَطِيب واخذ عَن الْبَدْر الغزى وَكَانَ جيد الْمُشَاركَة فى الْفِقْه وسافر الى الرّوم وَولى قَضَاء بعض القصبات الى أَن وصل الى قَضَاء حماة وتقاعد بعْدهَا بِدِمَشْق وَتَوَلَّى قَضَاء الركب الشامى فى سنة سبع بعد الالف وَكَانَ يرْمى بِأَنَّهُ سامرى الاصل وَاتفقَ لَهُ انه ادّعى الشّرف من جِهَة أمه لكَونهَا شريفة وهى بنت السَّيِّد القطبى وَوضع الْعَلامَة الخضراء فى عمَامَته فَقَالَ فِيهِ أَبُو المعالى(3/103)
درويش مُحَمَّد الطالوى مضمنا بَيت المتنبى
(طافت يَهُودِيَّة بِالْبَيْتِ قلت لَهما ... حويت كفرا واسلاما نرى عجبا)
(فاستضحكت ثمَّ قَالَت كالذبيح يرى ... مشرفاً وَهُوَ من عجل اذا انتسبا)
وَلما تعين الْوَزير نصوح باشا سردارا على العساكر لمحاربة شاه الْعَجم رَحل اليه القاضى تَاج الدّين فَلَقِيَهُ بديار بكر وَطلب أَن يُعْطِيهِ تقاعدا عَن دفتر داريه الشَّام حَتَّى يجلس فَوق الاقوام فَمَاتَ بديار بكر وَصَحَّ خبر مَوته بِدِمَشْق فى منتصف شعْبَان سنة عشْرين بعد الالف
عُثْمَان بن ابراهيم أَبى سيفين بن عمر بن أَحْمد أَبى مُوسَى بن أَبى بكر صَاحب الْخَال الاكبر بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن الشَّيْخ أَحْمد بن عمر الزيلعى العقيلى صَاحب اللِّحْيَة كنى وَالِده بأبى سيفين بكنية الْفَقِيه ابراهيم بن مُحَمَّد بن عِيسَى لانه كَانَ لَهُ سيفان فى صغره فكنى بهما وَاتفقَ لوالد صَاحب التَّرْجَمَة انه كَانَ لَهُ سيف فَضَاعَ مِنْهُ فَقيل لَهُ أَنْت أَبُو سيفين فَأَيْنَ الثانى فَأخْرج سَيْفا من فَمه بدله كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة عمار زَمَانه وسلمان أَوَانه صبيح الْوَجْه حسن الْخلق رَقِيق الْخلق مَا رَآهُ أحد الا ذكر الله أفنى كهولته وشيخوخته فى طَاعَة خالقه وَكَانَ امام الشَّرِيعَة والطريقة وحيد وقته وفريد عصره وَكَانَ صَدرا من الصُّدُور تفزع اليه النَّاس ويجلون مَحَله ويعظمونه لمكانته فى الْعلم وَالْولَايَة وَكَانَ سَمحا فى المأكل وَالْمشْرَب والملبس ورعا تقيا محافظا على الطَّاعَات ملازما للجماعات ولد بِجَزِيرَة عِيسَى من اعمال اللِّحْيَة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن ورباه وَالِده أحسن تربية حَتَّى فاق جماعته واخوته وَكَانَ كثير الاحسان وصُولا لما أَمر الله بِهِ أَن يُوصل وَكَانَ الله سُبْحَانَهُ يجرى لَهُ ألطافه فى افعاله فقد حكى عَنهُ أَن ابْن عَمه الْعَارِف بِاللَّه أَحْمد السطيحة عمل وَلِيمَة ختان أَو عرس لخاصته من أَهله وجماعته فَلم يشْعر الا ووجوه النَّاس وقبائل الْعَرَب أَتَت اليه لتتبرك بِحُضُور الْوَلِيمَة وَلم يكن متهيئا لَهُم وَلَيْسَ عِنْده مَا يكفيهم من المأكل فبقى متحيرا كَيفَ يفعل فَذكر لبَعض خاصته ذَلِك فَقَالَ لَهُ عَلَيْك بالفقيه عُثْمَان فَأتى اليه فَقَالَ لَهُ يَا عَم أَتَيْتُك فى مُهِمّ وَذكر لَهُ الْقِصَّة فَقَالَ مَا هُنَاكَ خلاف وأتى مَعَه الى منزله وَأمر النِّسَاء ان يخلوا الْمَكَان الْمعد للطبخ ليتعاطى الامر بِنَفسِهِ فاخلوه فَأَمرهمْ بِتَقْدِيم الْمَائِدَة للنِّسَاء أَولا وَأتوا بأواني الاكل اليه ليغرف لَهُم بِيَدِهِ فَصَارَ يُحَرك الْقُدُور ويغرف لَهُم مِنْهَا حَتَّى قدم لَهُم مَا كفاهم وَفضل مِنْهُ(3/104)
شئ كثير ثمَّ فعل بِالرِّجَالِ كَذَلِك حَتَّى شبع الْجَمِيع وغرف للجيران والفقراء وَجَمِيع من كَانَ حَاضرا فى ذَلِك المهم وبقى الذى فى الْقُدُور على حَاله لم ينقص مِنْهُ شئ وَله وقائع كَثِيرَة وكرامات شهيرة وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَثَلَاثِينَ وَألف بِجَزِيرَة عِيسَى بن أَحْمد وَبهَا دفن وأعقب ذُرِّيَّة صَالِحَة رضى الله عَنهُ
السُّلْطَان عُثْمَان بن السُّلْطَان أَحْمد بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان سليم الثانى ابْن سُلَيْمَان بن سليم السُّلْطَان الاعظم أحد مُلُوك آل عُثْمَان رحم الله الماضين مِنْهُم وَأبقى البَاقِينَ كَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أحسن هَؤُلَاءِ الْمُلُوك خلقا وخلقا وأجملهم شيما وطباعا لَهُ أدب وحياء وعرفان وَفِيه شجاعة وفروسية وَكَانَ ينظم الشّعْر التركى ومخلصه على طَريقَة شعراء الرّوم فارسى ولى الْخلَافَة عَن عَمه السُّلْطَان مصطفى لما خلع فى سادس سَاعَة من لَيْلَة الاربعاء ثامن شهر ربيع الاول سنة سبع وَعشْرين وَألف وسافر على القزق وَقبل ذَهَابه قتل أَخَاهُ السُّلْطَان مُحَمَّدًا خوفًا من الْفِتْنَة بعده وَلما أَرَادوا قَتله أحضرهُ الى مَحل جُلُوسه وَكَانَ جَالِسا على صفة وَبِيَدِهِ كتاب يقْرَأ فِيهِ فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ بِاللَّه عَلَيْك لَا تدخل فى دمى وَلَا تجعلنى خصمك يَوْم الْقِيَامَة وَأَنا أقنع مِنْك برغيف فَمَا كَانَ من جَوَابه الا الامر بخنقه فخنق بالوتر بَين يَدَيْهِ ففار من مَنْخرَيْهِ الدَّم الى أَن وصل الى عِمَامَة السُّلْطَان وَيُقَال ان آخر كَلَام قَالَه فى خطاب أَخِيه سلط الله عَلَيْك من لَا يَرْحَمك وَلَا يخشاك وَكَانَ قَتله فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاثِينَ فَمَا فَاتَ الْحول بِكَثِير حَتَّى فعل بِهِ كَمَا فعل بأَخيه وَخرج لِلْقِتَالِ فى أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة فى نَحْو سِتّمائَة ألف مقَاتل وَجعل القنطرة الَّتِى على الْبَحْر الحاجز بَينه وَبَين الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة وأتقنها وَهَذِه القنطرة هى الَّتِى أحدثها هُوَ من حِين حُلُول ركابه بِبِلَاد القزق وَأخذ الْجِزْيَة مِنْهُم عَن ثَلَاث سِنِين وانتصر عَلَيْهِم مَعَ أَخذ قلاع مُتعَدِّدَة وَغَنَائِم وَعَاد الى مقرّ خِلَافَته فى أَوَاخِر السّنة الْمَذْكُورَة وأنعم على العساكر انعامات عَظِيمَة فهابته مُلُوك الْآفَاق وقويت شوكته واتسعت فى أَيَّامه دَائِرَة الْملك واتصل بعقيلة شيخ الاسلام الْمولى أسعد وَلم يتَّفق التَّزَوُّج بِنِكَاح لَاحَدَّ من آل بَيته الا لجده الاعلى وسميه السُّلْطَان عُثْمَان فانه تزوج بابنة الْمولى اده بالى كَمَا هُوَ مَذْكُور فى الشقائق النعمانية وَكَانَ فِيهِ صَلَاح وَتعطف وخشوع وَأمر فى أَيَّامه بتعطيل حانات الْخمر وَدَار عَلَيْهَا بِنَفسِهِ وقفل أَبْوَابهَا وطرد أَصْحَابهَا وفى أَيَّامه فى سنة ثَلَاثِينَ جمد الْبَحْر الحاجز بَين(3/105)
قسطنطينية وأسكدار والغلطة جلد من شدَّة الْبرد وَمر على الجليد اناس من اسكدار الى قسطنطينية وَهَذَا لم يتَّفق فى زمن من الازمنة وَقد مدح بالقصائد النفيسة من جُمْلَتهَا قصيدة امامه وملتفته الشَّيْخ الامام يُوسُف بن أَبى الْفَتْح الدمشقى ومطلعها
(تذكر من أكناف رامة مربعًا ... ومغنى بِهِ غُصْن الشبيبة أينعا)
(فَبَاتَ على جمر الغضى يستفزه ... غرام فيذرى الدمع أَربع أَرْبعا)
(كئيبا لليلات الغميم متيما ... معنى بايام الْحجُون مُولَعا)
(يُخَالف بَين الراحتين على الحشا ... ويلوى على الْقلب الضلوع توجعا)
(فَمن صبوات تستفز فُؤَاده ... وَمن زفرات أضرمت مِنْهُ أضلعا)
(أَلا فى سَبِيل الْحبّ مهجة عاشق ... تولع فِيهِ الْحبّ حَتَّى تولعا)
(وَعين أَبَت بعد الاحبة سحبها ... وَفَاء بِحَق الرّبع أَن تتقشعا)
(سقى الله من دارين لى كل لَيْلَة ... هى الْعُمر كَانَت والشباب المودعا)
(وَيَا جاد أَيَّامًا بهَا قد تصرمت ... ثَلَاثًا وَمن لى أَن أراهن أَرْبعا)
(وَحيا مقامى بالْمقَام وأربعا ... لَدَى عَزمَات يَا سقاهن أَرْبعا)
(فَللَّه مَا أبهى بِمَكَّة معشرا ... وَللَّه مَا أحلى لزمزم مشرعا)
(أَلا ورعى دهرا تقضى بجلق ... وَلَوْلَا الْهوى مَا قلت يَوْمًا لهارعا)
(وَيَا عاقب الله الغرام بِمثلِهِ ... لكى يعْذر المشتاق فِيمَن تولعا)
(خليلى مالى كلما لَاحَ بارق ... تكَاد حَصَاة الْقلب أَن تتصدعا)
(وان نسمت من قاسيون رويحة ... أجد أدمعا منى تساجل أدمعا)
(وحتام قلبى يستطير اذ شدا ... حمام اللوى بالرقمتين ورجعا)
(وَكم ذَا أقاسى سُورَة الْبَين والاسى ... وَلَا يرحم العذال منى توجعا)
(أَلا هَكَذَا فعل الغرام بأَهْله ... وَمن مَاتَ من صنع الْهوى مَا تصنعا)
(عذيرى من هَذَا الزَّمَان وَأَهله ... وَمن لى بِمن يصغى لشكواى مسمعا)
(يخوفنى مِنْهُ الْعَدو قطيعة ... وَيظْهر لى مِنْهُ الصّديق توجعا)
(وَلم يدر أَنى للْقَضَاء مفوض ... وَمَا كَانَ قلبى للْقَضَاء ليجزعا)
(وَكَيف أَخَاف الدَّهْر يَوْمًا وَقد غَدا ... نصيرى مولاى الْهمام السميدعا)
(مليك الورى ركن الْعلي كعبة التقى ... حَلِيف الْعلَا نجم الْهدى المتورعا)(3/106)
(خَليفَة رب الْعَالمين وظله ... على خلقه والمعقل المتمنعا)
(وقطبا يَدُور الامر وفْق ارادة ... عَلَيْهِ كَمَا فى الْعلم كَانَ موقعا)
(وَمن قلبه بَين اصبعين لرَبه ... يصرفهُ وفْق الْمَشِيئَة طيعا)
(مَتى فلك التَّقْدِير دَار لحكمة ... بشئ تَجدهُ نَحوه صَار مسرعا)
(بنى فَوق هام النيرين مكانة ... لَهَا النسْر أغضى والسماك تضعضعا)
(مليك لَهُ كل الْمُلُوك تَوَابِع ... فدع ذكرهم اسكندرا ثمَّ تبعا)
(رأى كموكب الاقبال فَوق جَبينه ... فَقَالَ لقد صادفت للعز مطلعا)
(وَأبْصر مأوى سعده فلك العلى ... فألفاه أرقى من علاهُ وأرفعا)
(بَصِير بأعقاب الامور اذا رأى ... رَحِيم باحوال الرّعية ان رعا)
(جزاه اله الْعَرْش خير عَن الورى ... فكم أحكم الاحكام فيهم ووقعا)
(وَحيا على رغم الكواعب غرَّة ... تعلم مِنْهَا الْبَدْر أَن يتشعشعا)
(عَلَيْهَا من النُّور الالهى مسحة ... تردى محياه بهَا وتلفعا)
(لقد جِئْت قسطنطينة طوع أمره ... ووافيت بحرا بالمكارم مترعا)
(وشمت محيا بِالْحَيَاءِ مبرقعا ... وأبصرت روضا بالمعارف ممرعا)
(وأبصرت قلبا فِيهِ خشيَة ربه ... وَمَا كَانَ قلب الخاشعين ليخشعا)
(اذا سمع الْقُرْآن يَوْمًا بأذنه ... ترى الْقلب مِنْهُ خَاشِعًا متصدعا)
(وان ذكرُوا فضل الْجِهَاد رَأَيْته ... يمد جيوشا نَاوِيا كَونه مَعًا)
(كَمَا كَانَ ذُو النورين وَهُوَ سميه ... يُجهز جَيش العسرتين توسعا)
(الهى بِحَق الواردين لزمزم ... وَمن طَاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وَمن سعا)
(أطل عمره واشرح بلطفك صَدره ... وعامله بالالطاف يَا وَاسع الدعا)
(وأيده بالنصر الْعَزِيز وَكن لَهُ ... مُمِدًّا وبالفتح الْمُبين ممتعا)
(مدى الدَّهْر مَا سَار الحجيج لمَكَّة ... وَمَا زَمْزَم الحادى لطيبة مسرعا)
وَقصد السّفر الى الشَّام بنية الْحَج وَأخرج خيامه وسرادقه الى أسكدار وَذَلِكَ فى يَوْم الاربعاء سَابِع رَجَب سنة احدى وَثَلَاثِينَ وصمم على هَذَا الامر فَحصل اللَّغط من الْعَسْكَر فى ذَلِك الْيَوْم وَقَامَت الْفِتْنَة وَاجْتمعت العساكر وَاتَّفَقُوا على عدم السّفر مَعَه ثمَّ تجمعُوا فى الْمَكَان الْمَعْرُوف بآت ميدانى وَاتَّفَقُوا على قتل الْوَزير الاعظم دلاور باشا وَضَابِط الْحرم السلطانى وَالِد فتردار ومعلم السُّلْطَان الْمولى عمر بِدَعْوَى(3/107)
انهم كَانُوا السَّبَب لتحرك السُّلْطَان على السّفر الى الْحَج وهجموا فى ذَلِك الْيَوْم بعد الظّهْر على بَيت معلم الْملك ونهبوا أَمْوَاله وَأَرَادُوا قَتله فَمَا وجدوه ثمَّ فِي وَقت الْعَصْر اجْتمع كبار الْعلمَاء بالسلطان وسألوه أَن يسلم الْوَزير الاعظم وَضَابِط الْحرم أَو يقتلهما هُوَ حَتَّى تسكن الْفِتْنَة وأبرموا عَلَيْهِ بالسؤال فَامْتنعَ ثمَّ تفرق الْعَسْكَر وفى ثانى يَوْم وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس اجْتَمعُوا أَيْضا والعسكر كلهم بالاسلحة وَآلَة الْحَرْب وذهبوا الى الموالى وجمعوهم بالجامع الْجَدِيد الذى عمره السُّلْطَان أَحْمد وَأَرْسلُوا قاضى الْعَسْكَر وقاضى دَار السلطنة وَبَعض الموالى الى السُّلْطَان بِطَلَب الْجَمَاعَة الَّذين اتَّفقُوا على قَتلهمْ الْمَذْكُورين أَولا فَامْتنعَ من تسليمهم واستمروا فى مُرَاجعَته الى وَقت الظّهْر ومل الْعَسْكَر من الِانْتِظَار فَهَجَمُوا على دَار الْخلَافَة فوجدوا السُّلْطَان مصطفى بَين الابواب فأخرجوه وأجلسوه وَلما رأى السُّلْطَان مَا حل بِهِ تحير فى أمره فَأخذ مَعَه الْوَزير الاعظم السَّابِق حُسَيْن باشا وَذهب الى بَيت ضَابِط الْجند ليدبر أمره وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان تذْهب وَتَأْخُذ خاطر الْعَسْكَر وَتجْعَل لكل انسان مِنْهُم خمسين شريفيا وَخَمْسَة أَذْرع من الجوخ وألزمه بذلك فَذهب الى الْعَسْكَر وكلمهم فى ذَلِك فَمَا كَانَ من جوابهم الا قَتله وذهبوا من وقتهم الى بَيته وَقتلُوا حُسَيْن باشا وقبضوا على السُّلْطَان وأحضروه بَين يَدي السُّلْطَان مصطفى فَأرْسلهُ الى يدى قلَّة وأحضروا دلاور باشا وَضَابِط الْحرم وَقَطعُوا رأسهما وعلقوا رُؤْس الْجَمِيع على جَامع السُّلْطَان بايزيد وَقعت الْبيعَة الْعَامَّة للسُّلْطَان مصطفى فَجعل زوج أُخْته دَاوُد باشا وَزِير أعظم وَبعد الْعَصْر من هَذَا الْيَوْم ذهب دَاوُد باشا الى يدى قلَّة من غير علم السُّلْطَان مصطفى وخنق السُّلْطَان عُثْمَان وغسله وكفنه وَصلى عَلَيْهِ وَدَفنه عِنْد أَبِيه السُّلْطَان أَحْمد وَكَانَ ذَلِك فى الْيَوْم الثَّامِن من رَجَب وَجَرت أُمُور هائلة ونهبت دور كَثِيرَة من دور أَرْكَان الدولة وَقد استخرج بعض المعتنين بالجفر قَتله فى تِلْكَ السّنة من جفر الشَّيْخ الاكبر ابْن عربى برموز ظَاهِرَة وفى ذيلها الْعجب كل الْعجب بَين جُمَادَى وَرَجَب وَقيل فى تَارِيخ قَتله
(مَاتَ سُلْطَان البرايا ... فَهُوَ فى الاخرى سعيد)
(قَالَ لى الْهَاتِف أرخ ... ان عُثْمَان شَهِيد)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَمُدَّة خِلَافَته أَربع سنوات وشهراً وَاحِدًا وَقتل وَله من الْعُمر سبع عشرَة سنة(3/108)
عُثْمَان بن أَحْمد بن القاضى الْعَلامَة تقى الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن على بن ابراهيم بن رشد بِضَم الرَّاء الفتوحى القاهرى الحنبلى الشهير بِابْن النجار أحد أجلاء عُلَمَاء الْحَنَابِلَة بِمصْر كَانَ قَاضِيا بالمحكمة الْكُبْرَى بِمصْر فَاضلا مجللا ذَا وجاهة ومهابة عِنْد عَامَّة النَّاس وخاصتهم حسن السمت والسيرة والخلق قَلِيل الْكَلَام لَهُ فى الْفِقْه مهارة كُلية واحاطة بالعلوم الْعَقْلِيَّة ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ الْفِقْه عَن وَالِده وَعَن مُحَمَّد المرداوى الشامى وَعبد الرَّحْمَن البهوتى الحنبليين وَأخذ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة عَن كثير كابراهيم اللقانى وَمن عاصره وَعَن وَلَده القاضى مُحَمَّد والقاضى مُحَمَّد الحواوشى وَعبد الله بن أَحْمد المقدسى وَكثير وَمن مؤلفاته حَاشِيَة على الْمُنْتَهى فى الْفِقْه وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى شهر ربيع الاول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بتربة المجاورين بتربة أَبِيه وجده قَرِيبا من شيخ الْحَنَفِيَّة السراج الهندى
عُثْمَان بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزى المالكى أحد أجلاء شُيُوخ الْعَرَبيَّة وَصدر انديتها النديه وَمِمَّنْ تصدر بالديار المصرية للتدريس فى كل علم نَفِيس واستفاد طلبة الْعلم من فَوَائده وَأَجَازَهُ بِصَلَاتِهِ وعوائده وأتى الْعُلُوم من أَبْوَابهَا وجرد مرهفات السّنة من قرابها ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين وَعنهُ جمع من أكَابِر الْعلمَاء مِنْهُم الشهَاب أَحْمد الخفاجى وَألف مؤلفات مفيدة وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم السبت سَابِع عشر الْمحرم سنة تسع بعد الالف وَهُوَ فى عشر السّبْعين ورثاه الشَّيْخ صَالح النوسى بقوله
(اذا مَا دَعَوْت الصَّبْر بعْدك والبكا ... أجَاب البكا طَوْعًا وَلم يجب الصَّبْر)
(فان يَنْقَطِع مِنْك الرَّجَاء فانه ... سَيبقى عَلَيْك الْحزن مَا بقى الدَّهْر)
السَّيِّد عُثْمَان البيراقى كَانَ عَالما صَالحا سكن عِنْد الشَّيْخ غضنفر البيراق واجازه بالارشاد وَسكن ببلدة قَاسم باشا تجاه قسطنطينية بزاوية وَله كشف وكرامات قَالَ حسن بيك ابْن جاشنكير كَانَ النقشى المنجم مُنْكرا عَلَيْهِ فاتفق انه جَاءَ يَوْمًا الى قَاسم باشا وقر عِنْد زَاوِيَة الشَّيْخ فَرَأى الْجَمَاعَة قد قَامُوا الصَّلَاة الظّهْر فَدخل الزاوية وَقَامَ جنب الشَّيْخ فى الصَّفّ الاول وَكَانَ بَين يدى الشَّيْخ جلد ظبى مفروشا طولا لاجل السجادة فخطر للنقشى ليته لَو كَانَ الْجلد قَرِيبا مِنْهُ حَتَّى يقوم عَلَيْهِ مَعَ الشَّيْخ فَانْقَلَبَ الْجلد فى الْحَال عرضا بِحَيْثُ كَانَ هُوَ وَالشَّيْخ يسجدان عَلَيْهِ فَلَمَّا تمت الصَّلَاة قبل النقشى يَد الشَّيْخ وَتَابَ وَصَارَ مرِيدا ومعتقدا لَهُ وَكَانَت وَفَاته بعد سنة(3/109)
ثَلَاث وَألف وَدفن بزاويته بِالْمحل الْمَعْرُوف با ينجيل
عَرَفَة بن أَحْمد الدجانى القدسى الشَّيْخ الامام الْقدْوَة رَأَيْت تَرْجَمته بِخَط الشَّمْس مُحَمَّد بن مُحَمَّد الداودى القدسى نزيل دمشق الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ فى حَقه كَانَ عبدا صَالحا خيرا عَالما عَاملا فَاضلا مُنْقَطِعًا فى منزله بدير صهيون بجوار ضريح نبى الله دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام رَحل فى حَيَاة وَالِده هُوَ وأخواه مُحَمَّد ومحمود الى مصر وقرؤا بالجامع الازهر واشتغل كل مِنْهُم بِمذهب امام فاشتغل هُوَ بِمذهب الامام مَالك وَمُحَمّد بِمذهب الشافعى ومحمود بِمذهب أَبى حنيفَة وحصلوا وفضلوا وعادوا الى الْقُدس ملازمين الِاشْتِغَال والاشغال فَأَما مَحْمُود فَلم تطل مدَّته بل قتل شَهِيدا أُصِيب بِسَهْم لَيْلًا من قطاع الطَّرِيق بَين نابلس والقدس قبل سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأما مُحَمَّد وعرفة فبقيا الى أَن حج الشَّيْخ عَرَفَة فى سنة ثَلَاث بعد الالف فَمَاتَ بِمَكَّة عقب فَرَاغه من الْحَج
السَّيِّد عز الدّين بن دريب بن المطهر بن دريب بن عِيسَى بن دريب بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مهنا بن سرُور بن دهاس بن سُلْطَان بن منيف بن يحيى بن ادريس بن يحيى بن على بن بَرَكَات بن فليته بن حُسَيْن العابد ابْن يُوسُف بن نعْمَة بن على بن دَاوُد الْمَحْمُود ابْن سُلَيْمَان الشَّيْخ الْكَرِيم ابْن عبد الله الْبر الملقب بالشيخ الصَّالح ابْن مُوسَى الجون ابْن عبد الله الْكَامِل شيبَة الْحَمد ابْن الْحسن الْمَحْض ابْن الْحسن السبط ابْن على بن أَبى طَالب رضى الله تَعَالَى عَنهُ ذكره ابْن أَبى الرِّجَال وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ سيدا سريا فَاضلا عَارِفًا بالفقه مشرفاً على غَيره ممتلئا من الْوَقار والحشمة والجلال قَرَأَ على القاضى النَّاصِر بن عبد الحفيظ المهلا الْفُصُول فى أصُول الْفِقْه مُدَّة اقامته بشهارة أَيَّام الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم فى لَيَال قَليلَة وَكَانَ يسْتَغْرق أَكثر اللَّيْل فى درسه مَعَ تِلَاوَته لقرآن النافع بِوَجْهِهِ وبحضرة كثير من الْفُضَلَاء وَهُوَ من بلد الجمالة خَارج صَبيا وَكَانَ مسعودا ميمونا رَحل الى صعدة وَتمّ لَهُ بهَا فضل وَعرف بالمعلم ثمَّ لَازم السَّيِّد الامام أَحْمد بن مُحَمَّد بن لُقْمَان واختص بِهِ وانتفع بِهِ وَذَلِكَ سَبَب سُكُون السَّيِّد عز الدّين فى الطَّوِيلَة فانه سكنها وَولى أمورها وتمول وَكَانَ هُوَ الْمرجع لاهل الاقليم فى الْقَضَاء والفتيا وَفِيمَا يعوز من أُمُور السياسة والولاة يَجْتَمعُونَ عِنْده لكل مُهِمّ وَهُوَ فيهم نَافِذ الْكَلِمَة رحب الفناء وَله أَمْوَال هُنَالك ودور ومقام عَظِيم وابتنى بالطويلة جَامعا عَظِيما ووقف عَلَيْهِ أوقافا وَكَانَ من أسعد النَّاس(3/110)
باعتبارات كَثِيرَة من ذَلِك خزانَة كتب الْمُخَالفين والموالفين وَله معرفَة بانساب أهل الْبَيْت وَسَمَاع فى الحَدِيث وَله كتاب فى الاصول يجرى مجْرى الشَّرْح للثلاثين مسئلة ويتعرض فِيهَا لفوائد كَثِيرَة وَله على الانساب اطلَاع وَلما تَوَجَّهت العساكر المتوكلية الى حَضرمَوْت صُحْبَة سيف الاسلام أَحْمد بن الْحسن بن الْقَاسِم كَانَ هَذَا الشريف أحد الاعضاد وَنزل هُنَالك وَعَاد مسعودا وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بِقرب الْجَامِع الذى بناه فى الطَّوِيلَة
السَّيِّد عز الدّين بن على بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى ابْن مُحَمَّد بن عِيسَى وتتمة نسبه مَذْكُورَة فى تَرْجَمَة السَّيِّد الْحسن النعمى الْحسنى السَّيِّد الْعَلامَة الْعَارِف بِجَمِيعِ الْعُلُوم والكارع من مشارب الفهوم ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بعتود وَنَشَأ بالدهناء وَعَكَفَ فى محاريب الْفُنُون كلهَا لَا سِيمَا الادبية وَحَازَ من تِلْكَ المزايا أَسْنَى المفاخر وَسَار فى الْآفَاق صيت فَضله وَكَانَ قاضى الْحَج اليمانى من قبل الامام المتَوَكل على الله اسماعيل بن الْقَاسِم ارتحل فى أول طلبه الى صعدة وَأخذ الْفِقْه عَمَّن بهَا ثمَّ الى صنعاء وَأخذ عَن الْعَلامَة القاضى أَحْمد ابْن أَبى الرِّجَال فنونا عديدة وَعَن الْعَلامَة مُحَمَّد بن ابراهيم السحوتى وَأخذ عَن السَّادة آل حجاف بحبور وَاسْتمرّ قاضى الْحَج من سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف الى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فَعرض لَهُ عمى فعزل وَكَانَ لَهُ على ذَلِك جَائِزَة عَظِيمَة فَكتب الى الامام يستعطفه وَيطْلب مِنْهُ أَن يجرى عَلَيْهِ مَا كَانَ لَهُ قصيدة مطْلعهَا
(اليك يدا ذَا الْعَرْش من متظلم ... رمته قسى الْبَين من غير ظَالِم)
(يمد يدا مِنْهُ ويبسط أنملا ... يُبِيح بشكوى من أسى وجرائم)
(وَمن عقد أَنْت اللَّطِيف بحلها ... وَمَا نفثت فِيهَا ذَوَات التمائم)
(تبصرت الايام منى خلسة ... فصالت على جسمى بِرُمْح وصارم)
(وأشلت على صرمى بنيها تعمدا ... فعفت بديوان الصلات معالمى)
(محت مِنْهُ آمالى ومالى وَمَا رعت ... خلَافَة مهدى تسمى بقاسم)
(خلَافَة مهدى علت بركاته ... على النَّجْم حمال لثقل المغارم)
(وَمَا جَازَ فى دين الخلائف انهم ... يعودون فِيمَا عودوا من مَكَارِم)
(وَمَا أشرفت مِنْهُم على حِين غَفلَة ... عُيُون العدى الا رموا برواجم)
(يرد مشير السوء عَن مقْعد الندى ... ذَمِيمًا وَمن يسْعَى بِقطع الغلاصم)(3/111)
(فعطفا أَمِير الْمُؤمنِينَ ومنة ... على العَبْد من تَغْيِير وصل ملازم)
(فانى أرى الْعَادَات مِنْك كَرِيمَة ... وَأَكْرمهَا عادات أهل المواسم)
(لَهُم كل عَام مِنْك سَبَب الى منى ... بمحكم ديوَان جزيل الْمَغَانِم)
(وَقد كَانَ لى فِيهِ عَطاء مخلد ... برسم كريم رَازِق غير حارم)
(فان يكن الامر الذى أَصبَحت بِهِ ... عيونى فى قلبى محا اسمى وخاتمى)
(وألق عَن الظّهْر النحيف علائقا ... لفصل القضا والرسم مَفْرُوض حَاكم)
(فهبه فَهَلا كَانَ فى سَعَة الندى ... لفاقد عَيْنَيْهِ اقالة رَاحِم)
(واجراء مالى من نوال مدفتر ... تخب بِهِ نحوى حداة الرواسم)
(وَمَا راش ذُو سهم سِهَام ابْن حرَّة ... بريش أَخِيه من حَدِيث وقادم)
قَوْله فان يكن الامر الْبَيْت يُشِير الى قَول ابْن عَبَّاس رضى الله تَعَالَى عَنْهُمَا ان يَأْخُذ الله من عينى نورهما وَكتب الى السَّيِّد الْحسن بن الامام اسماعيل المتَوَكل شاكيا من السَّيِّد سَالم بن مهنا وَهُوَ اذ ذَاك والى تبش والشريف أَبى طَالب بن مُحَمَّد بن حُسَيْن الخواجى صَاحب صَبيا لما أرْسلُوا عسكرا عَمت بليتهم ذَا الجرم وَمن لَا جرم لَهُ على لِسَان أهل المخلاف بقوله
(أمثلك يَا ابْن بجدتها ينَام ... على حَال يضام بِهِ الانام)
(يسامون الَّتِى فِيهَا هوان ... وَذَلِكَ لَا يُقَاس بِهِ اثام)
(وَيُؤْخَذ سَالم مِنْهَا بجان ... وَيتْرك من بِهِ مِنْهُم سقام)
(الْيَسْ لذا الورى مِنْكُم ذمام ... وَلَيْسَ وَرَاء ذمتكم ذمام)
(فكلهم لَدَى حرم أَمِين ... وَأَنت لخوفهم بلد حرَام)
(وَقد وصلوا بعروتكم حِبَالًا ... متانا مَا لعروتها انفصام)
(فَلَا ترضوا بِمَال من دعى ... يصادرانكم قوم كرام)
(نقيبان ببلداتنا أناخا ... منا خالا يسد بِهِ انثلام)
(رَأَوْا مَالا يرى حسنا ومالوا ... الى غير الذى شرع الامام)
(وَهل الابكم تحمى الرعايا ... ويأمن مِنْهُم يمن وشام)
(بِمثل علاك يعتصمون يَوْمًا ... يكون لِبَأْسِهِ فِيهِ ضرام)
(وَأَنت الْبَدْر يهدى من ضلال ... ويستجلى بطلعته الظلام)
(وَسيف للامام أَبى المعالى ... ومهدى الزَّمَان فَلَا يضام)(3/112)
(وفيك يُقَال لَيْسَ لَهُ نَظِير ... وفيك يناظر الْبَحْر اللهام)
(فكفوا سنة الاجناد عَنْهُم ... فان الْجند أشرار طغام)
(وَمَا المهدى الا خير هاد ... وَسيرَته على النَّاس الْغَمَام)
(تعيش بِهِ الْبَريَّة فاستغيثوا ... لَهُم بِالْعَدْلِ مِنْهُ وَالسَّلَام)
وَكتب اليه وَهُوَ بِمَدِينَة حبور وَكَانَ اذ ذَاك بِحَضْرَتِهِ بهَا
(بقيت أَبَا يحيى على النَّجْم واطيا ... وبالنصر مخدوما وللدين حاميا)
(وَبدر الهالات المعارف ساطعا ... وبحر الطلاب العوارف طاميا)
(دَعَانَا الى علياك فضل أرى لَهُ ... رَوَائِح فى هَذَا الورى وغواديا)
(فأيقظت آمالى وَمَا كن غفلا ... وكلفتها طودا تناجى الدراريا)
(أَقُول لنفسى وهى تركب روعها ... وَقد بلغت مِمَّا تلاقى التراقيا)
(وَقد قصرت عَن قلَّة النيق بغلتى ... وأعوزنى حالى الى المشى راقيا)
(مديحن لَا ينجيك مِنْهُ تَمِيمَة ... وَلَا ذورقى ان تطلبى لَك راقيا)
مديحن اسْم لعقبة ينفذها الطَّرِيق السالك الى مَدِينَة حبور
(وَمَا كنت أخْشَى أَن تعاطى ركُوبه ... وَلَا أَن تلاقى مِنْهُ تِلْكَ الملاقيا)
(فَقَالَت اذا كَانَت مراقيه تنتهى ... الى حسن أحسن بِهن مراقيا)
(الى ملك يستسهل الصعب والسرى ... اليه ويرمى بالنفوس المراميا)
(ويمتاح للآمال من عتباته ... رغائب ينقعن الْقُلُوب الصواديا)
عَزِيز المعزلى المكنى بابى عَزِيز نزيل مصر ذكره المناوى فى الطَّبَقَات وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ مُقيما بِمصْر فى الْجَامِع الازهر وَهُوَ من أَرْبَاب المجاهدة وَالذكر والفكر وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الجذب والاستغراق وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن وَيكثر من تِلَاوَته وَمن كراماته الخارقة انه كَانَ اذا غلب عَلَيْهِ الْحَال أكل رَطْل كبريت مدقوقا وَرُبمَا زَاد على ذَلِك وَيَأْخُذ صحن الْجَامِع فى وثبة وَاحِدَة وَرُبمَا أَقَامَ صَارِخًا أَو شاخصا الْيَوْم أَو اللَّيْلَة قَالَ وَاجْتمعت بِهِ فى جَامع طولون من غير قصد منى فانى بَيْنَمَا أَنا جَالس بِهِ اذ هُوَ قد أتانى وَوضع يَده فى يدى فَوَجَدتهَا من كَثْرَة المجاهدة وَغَلَبَة الْحَال جلدا بِلَا لحم قَالَ وَكَانَت وَفَاته فى سنة عشرَة بعد الالف وَتوفى بالصحراء
السَّيِّد عَطاء الله بن مَحْمُود الْمَعْرُوف بالصادقى الحلبى القاضى كَانَ من أدباء الْعَصْر الفائقين وَله منادمة مبهجة وشعره بديع الصِّيغَة والصنعة رَقِيق النادرة(3/113)
ولى الْقَضَاء فى عدَّة بِلَاد الى أَن وصل الى قَضَاء الْموصل وفيهَا نظم أبياته الْمَشْهُورَة اللطيفة الْموقع يُشِير فِيهَا الى بَيْتَيْنِ للامير شرف الدولة أَبى الْفضل بن منقذ وأبياته هى قَوْله
(ومعذر حلوا للمى قبلته ... نظرا الى ذَاك الْجمال الاول)
(وَطلبت مِنْهُ وَصله فأجابنى ... ولى زمَان تعطفى وتدللى)
(نضبت مياه الْحسن من خدي وَقد ... ذهب الروى من غُصْن قدى الاعدل)
(قلت الحديقة لَيْسَ يحسن وصفهَا ... الا اذا حفت بنبت مبقل)
(دعك اتبع قَول ابْن منقذ طَائِعا ... وَاعْلَم بأنى صرت قاضى موصل)
وبيتا ابْن منقذهما قَوْله
(كتب العذار على صحيفَة خَدّه ... سطرا يحير نَاظر المتأمل)
(بالغت فى استخراجه فَوَجَدته ... لَا رأى الا رأى أهل الْموصل)
وأصل هَذَا مَا شاع عَن أهل الْموصل انهم لَا يهوون الا المعذر وَرُبمَا بَالغ بَعضهم فَقَالَ نَحن قوم اذا سمحنا فى طَرِيق الْمحبَّة بنوال لَا نسمح الا لمن ينْفق على عِيَاله وَهَذَا مَذْهَب جرى عَلَيْهِ الحلبيون أَيْضا وسؤالا الْعَلامَة الْعِمَاد الحنفى الدمشقى للاستاذ أَحْمد بن المنلا الحلبى فى قصيدة لَهُ عَن ترك الْميل الى المرد والميل الى المعذرين وَجَوَاب ابْن المنلا بِمَا لَا يشفى الغليل فى قصيدة أُخْرَى كِلَاهُمَا مثبتان فى رَيْحَانَة الشهَاب وَكَانَت وَفَاة الصادقى المترجم فى سنة احدى وَتِسْعين وَألف
عقيل بن عبد الله بن عقيل بن شيخ بن على بن عبد الله وطب ابْن مُحَمَّد منقذ ابْن عبد الله بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ عبد الله باعلوى الحضرمى الامام الْعَالم الْعلم ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بِالْعلمِ والادب وتفقه بالسيد الْجَلِيل مُحَمَّد بن الْفَقِيه على بن عبد الرَّحْمَن وَصَحب الامام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عَمه السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ ثمَّ رَحل الى الْمَسْجِد الْحَرَام وَحج ثمَّ رَحل الى الديار الْهِنْدِيَّة وَحصل لَهُ بهَا جاه عَظِيم وَكَانَ لَهُ اعتناء تَامّ بِجمع الْكتب النفيسة فَجمع مِنْهَا حِصَّة عَظِيمَة ثمَّ عَاد الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بهما عَن جمَاعَة ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه تريم وَألقى بهَا عَصَاهُ الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين بعد الالف وَدفن بمقبرة السَّادة الشهيرة بزنبل
عقيل بن عمر اشْتهر بعمران بن عبد الله بن على بن عمر بن سَالم بن مُحَمَّد بن عمر(3/114)
ابْن على بن أَحْمد بن الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الْمُقدم أَبى الْمَوَاهِب أحد الْعباد الْمَشْهُورين ولد بقرية المرباط من قرى ظفار الحبوطي وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب العارفين والمشايخ فَأول سَمَاعه وَهُوَ ابْن عشر سِنِين من السَّيِّد الْجَلِيل شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الهادى ابْن شهَاب الدّين بظفار أَخذ عَنهُ وَعَن غَيره وَكَانَ لَهُ فى ابْتِدَائه سياحات واجتهادات فَكَانَ يَنْعَزِل عِنْد قبر جده الاعلى مُحَمَّد بن على بمرباط الْمدَّة المديدة وَكَذَا عِنْد قبر الْعَارِف بِاللَّه صَاحب حاسك وَرُبمَا تعبد فى بعض الْجبَال قريب الْبِلَاد ثمَّ رَحل الى الديار الحضرمية فلقى جمَاعَة من السَّادة العلوية وَأخذ بتريم عَن تَاج العارفين الشَّيْخ زين العابدين العيدروس وأخيه الشَّيْخ شيخ وَابْن أَخِيه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد الهادى ابْن عبد الرَّحْمَن ولازمه مُلَازمَة تَامَّة وَأخذ عَنهُ عدَّة عُلُوم وَلبس الْخِرْقَة من هَؤُلَاءِ وتفقه على القاضى السَّيِّد أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَأخذ التصوف والحقائق عَن السَّيِّد الْجَلِيل أَبى بكر الْجُنَيْد وَعَن السرى بن عمر بن عبد الله باهرون بروغة وَصَحب السَّيِّد بن الْحُسَيْن وَالْحسن ابنى أَبى بكر بن سَالم بعينات وَغَيرهمَا من أَوْلَاده وَأخذ عَن الشَّيْخ حسن باشعيب بالواسطة ثمَّ رَحل الى الْيمن للسَّيِّد الْعَارِف عبد الله بن على ابْن حسن ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَحضر دروس السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى الْفِقْهِيَّة وَغَيرهَا وَأخذ عَن الشَّيْخ الْكَبِير أَحْمد بن عَلان وَالسَّيِّد الْجَلِيل على باهرون والعارف بِاللَّه سغيدبا بقى وَغَيرهم ثمَّ رَحل لطيبة وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة ثمَّ عَاد إِلَى شَيْخه الْعَارِف عبد الله بن على الوهط ولازمه مُلَازمَة تَامَّة وَأخذ عَنهُ علوما جمه وَألبسهُ الْخِرْقَة وَلما ألبسهُ قَالَ فِيهِ
(لبست تِلْكَ الْخِرْقَة الانيقة ... وحزت اسرارا لَهَا دقيقة)
(فهمت مَا قد لَاحَ أَو تلالا ... من نور تِلْكَ البرقة المشيقه)
(وَأَنت مخطوب لسر معنى ... أهل الطَّرِيق صرت والحقيقه)
ثمَّ عَاد الى مَدِينَة تريم وَأخذ عَنهُ جمَاعَة ثمَّ عَاد لوطنه ظفار وَألقى بهَا عَصا السّفر وَنصب نَفسه لنفع الانام وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد الصَّالح الولى ابْن عَمه عمر بن على وَولده السَّيِّد على بن عمر بن على الشهير باقليم ظفار وَمِنْهُم اولاده السَّادة أَحْمد وطه وزين العابدين وقاضى ظفار الشَّيْخ عمر بن عبد الرَّحِيم بارجا الشهير بالخطيب وَالشَّيْخ الْكَبِير مُحَمَّد بلعفيف وَأَخُوهُ الشَّيْخ أَبُو بكر صَاحب طابقة وَالشَّيْخ أَحْمد(3/115)
حاسكى ابْن الشَّيْخ سعد وَغَيرهم قَالَ الشَّيْخ الشلى وَاجْتمعت بِهِ فى ظفار سنة احدى وَخمسين وَألف وقرأت عَلَيْهِ كتاب التَّنْوِير لِابْنِ عَطاء الله الاسكندرى وَبَعض احياء عُلُوم الدّين وقرأت عَلَيْهِ تأليفه الْمُسَمّى فتح الْكَرِيم الغافر فى شرح حلية الْمُسَافِر وَسمعت بِقِرَاءَة غيرى كتبا كَثِيرَة وألبسنى الْخِرْقَة وأجازنى فى جَمِيع مروياته وَأذن لى فى الالباس وَله مؤلفات مفيدة مِنْهَا العقيدة وهى منظومة وَشَرحهَا الشَّيْخ أَحْمد ابْن مُحَمَّد المدنى الشهير بالقشاشى شرحا عَظِيما وَشَرحهَا أَيْضا تِلْمِيذه الْعَارِف بِاللَّه على بن عمر با عمر بأبسط من شرح القشاشى وَله شرح على قصيدة الْعَارِف بِاللَّه سعيد ابْن عمر بلحاق الَّتِى مطْلعهَا لما بَدَت لى حلية الْمُسَافِر سَمَّاهُ فتح الْكَرِيم الغافر لم يسْبقهُ غَيره الى نسج مثله ورتبه على تَرْتِيب السلوك الى ملك الْمُلُوك مَعَ زِيَادَة أَمْثِلَة فى معنى السّفر الحسى والمعنوى وَله نظم بديع الاسلوب وَأَكْثَره على طَريقَة الصُّوفِيَّة وَكَانَ يحب السماع وَكَانَ لَهُ جاه وَاسع وأخلاق شريفة وَكَانَ ملْجأ للوافدين يكرم الضيفان ويكسو الْعُرْيَان وَكَانَ ملازم الاسْتقَامَة وَظَهَرت مِنْهُ كرامات وَكَانَ يَقُول شفعت فى أهل وقتى من قَاف الى قَاف اشارة الى أَنه أعْطى الْولَايَة الْكُبْرَى وَلم يزل فى ظفار الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء لليلتين بَقِيَتَا من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وشيعه خلائق لَا يُحصونَ وَدفن بقرية المرباط وقبره بهَا مَعْرُوف باستجابة الدُّعَاء عِنْده ورثاه السَّيِّد على بن عمر بقصيدة أَولهَا
(سَلام على من حل فى لب خاطرى ... وان غَابَ عَن عينى شُهُود النواظر)
(محب ومحبوب وداع الى الْهوى ... وفتاق سر السِّرّ من قرب قَادر)
ثمَّ قَالَ فى اثنائها
(لَئِن قَالَ مَعْرُوف وَبشر وحاتم ... وَسَهل مقامات جُنَيْد البواهر)
(وغزال تصنيف ومحضار سطوة ... وجيلان بَغْدَاد سما عِنْد عَاقِر)
(وبسطام أَحْوَال وشبلى وشاذلى ... أَبُو الْغَيْث جذبات حظى بالبشائر)
(فَفِيهِ انطوت أَحْوَالهم وتجمعت ... فَصَارَ اماما جلّ عَن كل ماهر)
وهى طَوِيلَة ورثاه غَيره
السَّيِّد علوى بن اسماعيل البحرانى الاديب الشَّاعِر ذكره السَّيِّد على ابْن مَعْصُوم وَقَالَ فى وَصفه شَاعِر هجر ومنطيقها الذى وَاصل الْمنطق الْفَصْل وَمَا هجر يفسح للْبَيَان مجالا ويوضح مِنْهُ غرارا وأحجالا ويطلع فى آفاقه بدورا وشموسا(3/116)
ويروض من صعابه جموحا وشموسا ويشتار من جناه علا ويهز من قناه أسلا ومعظم شعره فائق مستجاد فَمِنْهُ قَوْله فى النسيب وأجاد
(بنفسى أفدى وَقل الفدا ... غزالا بوادى النقا أغيدا)
(مليحا اذا نض عَن وَجهه ... نقاب الحيا خلت بدر ابدا)
(غزال وَلَكِن اذا مَا نصبت شراكا لأصطاده استأسدا ... )
(سقيم اللواحظ مكحولها ... وَلم يعرف الْميل والاثمدا)
(رَشِيق القوام اذا هزه ... رَأَيْت الغصون لَهُ سجدا)
(لَهُ رِيقه طعمها سكر ... يجلى الصدا ويروى الصدا)
(ولحظ كعضب وَلكنه ... يشق الْقُلُوب وَمَا جردا)
(تفرد بالْحسنِ دون الملا ... فسبحان مولى لَهُ أفرادا)
(نأى بعد فَهُوَ لغيرى ولى ... قريب المزار بعيد الملا)
(رعى الله ليلاتنا الماضيات ... وعيش ألفنا بِهِ أرغدا)
(وصب على ترب تِلْكَ الربوع متعنجرا مبرقا مرعدا ... )
(الى حَيْثُ أخنت صروف الزَّمَان ... وَشَمل الْوِصَال بهَا بددا)
(وأضحت قفارا وَلَيْسَ بِهن من ذَلِك الْجمع الا الصدا ... )
(اذا قلت أَيْن حبيبى غَدا ... يُجيب بأين حبيبى غَدا)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة تسع وَسبعين وَألف بِالْبَحْرَيْنِ وَدفن بِمَسْجِد أَبى عنبرة
علوى بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الله العيدروس النَّاقِد الْمُحَقق البارع النجيب كَانَ فَرد وقته فى اقتناء المفاخر وَالْعلم الجم ولد بتريم فى سنة ألف وَحفظ الْقُرْآن وَأَدَّاهُ بالتجويد واشتغل حَتَّى بلغ مَا لم يبلغهُ الْمَشَايِخ الْكِبَار مَعَ تقدس نفس وَمَكَارِم أَخْلَاق وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن علوى بافقيه ولازمه مُلَازمَة تَامَّة وَكَانَ جلّ انتفاعه عَلَيْهِ وَأخذ عَن الشَّيْخ أَحْمد بن عمر عبديد عدَّة عُلُوم ثمَّ حج وَدخل الْمَدِينَة وَعَاد الى مَكَّة وتديرها واشتغل على السَّيِّد عمر ابْن عبد الرَّحِيم ولازمه فى دروسه وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عمر الحبشى وصاهره بابنته وَكَانَ ملازما للشريعة والطريقة كثير التحرى فى الدّين وانتفع بِهِ جمع وَكَانَ كَلَامه مُشْتَمِلًا على الْعبارَات الفصيحة والنكت البديعة وَكَانَ مُجْتَهدا فى الْعِبَادَة وَنشر الْعلم يصدع بِالْحَقِّ ويسطو على الفسقة وَكَانَ متورعا من(3/117)
صُحْبَة الْمُلُوك متجردا عَن الدُّنْيَا قانعا مِنْهَا بالكفاف لَا يشْتَغل بشئ من أُمُور الدُّنْيَا وَكَانَ النَّاس يعتقدونه ويأتون اليه بالنذور وَلَا يَأْخُذ الا عَن تثبت وَمَا دخل عَلَيْهِ أنفقهُ على من عِنْده من الْفُقَرَاء ملازما لاخيه الشَّيْخ أَبى بكر مُتبعا لامره وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفى وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المكرمة فى سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن فى مَقْبرَة المعلاه رَحمَه الله تَعَالَى
علوى بن عبد الله بن أَحْمد بن حُسَيْن بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس امام الاولياء الاخيار وقدوة العارفين الْكِبَار قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ اشْتغل فصحب السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى علوى بن مُحَمَّد با فرج وَالسَّيِّد الْعَالم الْعَارِف عبد الله بن سَالم وَبدر الدّين الشَّيْخ زين بن حُسَيْن أَخذ عَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عدَّة عُلُوم من عُلُوم الشَّرِيعَة والحقيقة وألبسوه خرقَة التصوف وَصَحب وَالِده واجتهد فى الْعِبَادَات ولازم السّنَن النَّبَوِيَّة وَجمع بَين الْعلم وَالْعَمَل وَجمع الله تَعَالَى لَهُ بَين تَمام الْفضل وَكَمَال الْعقل وحببه الى جَمِيع الانام وَكَانَ يحب الْعُزْلَة والانقطاع وَله مكاشفات شَتَّى وَخرج عَن تريم الى مَحَله الْمَعْرُوف بوادى بتى وخلا بِنَفسِهِ وقصده النَّاس فى مَحَله وتصدر للِانْتِفَاع فَسَار ذكره وانتفع بِهِ خلائق لَا يُحصونَ وَتخرج بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُم الشَّيْخ الْعَالم الْعَامِل أَحْمد بن عمر بن فلاح وَولده الشَّيْخ عمر وَسَالم ابْن زين بَافضل وَعبد الله بَافضل وَأَخُوهُ وحسين قَالَ الشلى وَقد حضرت عِنْده مرَارًا بمجلسه وانتفعت بِصُحْبَتِهِ واستفدت من درسه وَكَانَ حسن الْعبارَة عَالما متضلعا فى علم التصوف والْحَدِيث وَالْفِقْه صادعا بِالْحَقِّ كثيرا الشفاعات يجْهر بِالْحَقِّ على السُّلْطَان فَمن دونه وَلَا يعبأ بالجهال وَله فى ذَلِك وقائع كَثِيرَة وَلم يزل فى ذَلِك الوادى حَتَّى توفى فى سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنان بشار
السَّيِّد علوى بن على بن عقيل بن أَحْمد بن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن السقاف نزيل مَكَّة الاستاذ الْكَبِير الولى صَاحب الكرامات الخارقه والانفاس الصادقه قَالَ الشلى ولد بتريم فى سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ بهَا وَكَانَ أميالا يقْرَأ وَلَا يكْتب وارتحل الى الْيمن والحرمين وَكَانَ يتَرَدَّد اليهما وَيتَعَاطَى أول أمره أَسبَاب التِّجَارَة وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين وانتفع بصحبتهم وَرَأى لَيْلَة الْقدر ودعا بدعوات مِنْهَا أَن يُبَارك الله فى رزقه وعمره ودعا بِدُعَاء الْقُنُوت اللَّهُمَّ اهدنى فِيمَن هديت الى آخِره وَكَانَ أَكثر أَعماله قلبية ثمَّ أَقَامَ بِمَكَّة واستوطنها وَترك التِّجَارَة وَتزَوج بهَا(3/118)
وَولد لَهُ أَوْلَاد نجباء وَأَقْبل عَلَيْهِ النَّاس بالاعتقاد وَاخْتلفت اليه أكَابِر مَكَّة وأعيانها لالتماس بركته ودعائه وَكَانَ يكره تردد النَّاس اليه ويهضم نَفسه على الدَّوَام لَا يصف نَفسه بِحَال وَلَا مقَام لَهُ آدَاب نبوية وَمَكَارِم حاتمية مَقْبُول الشَّفَاعَة عِنْد الْمُلُوك فَمن دونهم وَكَانَ شرِيف مَكَّة يحترمه غَايَة الاحترام وانتفع النَّاس بِصُحْبَتِهِ الا ان صحبته كَانَت صعبة غَالب النَّاس لَا يقدر عَلَيْهَا وَله كرامات كَثِيرَة مِنْهَا أَن كَانَ كثير العطب لمن تعرض لَهُ بالاذى فَكل من أَذَاهُ أَو أنكر عَلَيْهِ لابد أَن يحصل لَهُ نكد اما مرض أَو موت أَو سَرقَة مَال أَو موت من يُحِبهُ أَو خُرُوج من وَطن أَو نَحْو ذَلِك وَقد جمع كراماته فقراؤه فى جُزْء لطيف وَهَذِه نبذة مِنْهَا ملخصة من هَذَا الْجُزْء مِنْهَا أَن شرِيف مَكَّة وَكَانَ اذ ذَاك الشريف محسن بن حُسَيْن كَانَ وزيره أَخذ بعض حبوب الجراية الَّتِى ترد لحكة من مصر فَأرْسل اليه السَّيِّد علوى يشفع فى رده لاهله فَلم يقبل شَفَاعَته فَأرْسل اليه ثَانِيًا يَقُول لَهُ ان أخذت حبوب الْفُقَرَاء تسكن هَذِه السّنة آخر سنة لَك ولسيدك فَلم يلْتَفت اليه فَكَانَ الامر كَمَا قَالَ فَمَا حَال عَلَيْهِمَا الْحول حَتَّى استلبوا دولتهم وعذب ذَلِك الْوَزير بِعَذَاب عَظِيم وَمِنْهَا ان الْوَجِيه عبد الرَّحْمَن بن عَتيق الحضرمى وَكَانَ وزيرا بِمَكَّة تعرض لبَعض آل باعلوى بالاذى فَجَاءُوا الى السَّيِّد علوى وَأَخْبرُوهُ بذلك وطلبوا مِنْهُ أَن يَدْعُو عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم كفيتم شَره فَلَمَّا أَمْسَى اللَّيْل انْهَدَمت دَار ابْن عَتيق عَلَيْهِ وَكَانَ جَدِيدا وَخَافَ على نَفسه الْهَلَاك ثمَّ عَاهَدَ الله تَعَالَى فى سره أَن لَا يتَعَرَّض لَاحَدَّ مِنْهُم أبدا وَمِنْهَا أَن بعض المتعجرفين أَسَاءَ الادب بِحَضْرَة السَّيِّد علوى فزجره بعض أَقَاربه فَلم ينزجر وَقَالَ ان كَانَ السَّيِّد كَذَا فَليدع الله على بِالْمَوْتِ فَدَعَا السَّيِّد علوى عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ فَمَاتَ فى ذَلِك الْيَوْم وَمِنْهَا أَنه جَاءَهُ جوخ فَطلب صَاحب المكس مكس ذَلِك الجوخ فَقَالَ السَّيِّد مَا على مكس وَلَا أعْطى شَيْئا فى ذَلِك فَأرْسل المكاس يَقُول لَئِن لم تعط طَوْعًا والا أرسلنَا لَك عشرَة عبيد يَأْخُذُونَ مِنْك ذَلِك كرها فَقَالَ السَّيِّد للرسول قل لَهُ ان أَصبَحت على وَجه الارض فَأرْسل مائَة وصيف فَمَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَة وَمِنْهَا أَنه أَتَاهُ عبيد فَطلب مكاس بندر جدة رسم تِلْكَ العبيد فَامْتنعَ السَّيِّد من الاعطاء وَقَالَ مَا على رسم فلازمه فى ذَلِك فَأعْطَاهُ ثَلَاثَة أحرف وَقَالَ هَذِه ثَلَاثَة بِثَلَاث سِنِين مَا يأتيكم موسم الْهِنْد فَوَقع الامر كَمَا قَالَ وَمِنْهَا ان زبدية صَارَت ملآنة قهوة فى الروشن فَجَاءَت يَده عَلَيْهَا على غَفلَة فطاحت الى الزقاق فَأمر عَبده أَن يأتى بهَا فَخرج وفى ظَنّه ان الزبدية صَارَت رضاضا لكَونهَا طاحت(3/119)
من علو وهى ملانة فَوَجَدَهَا سَالِمَة والقهوة فِيهَا فهت عِنْد ذَلِك وَمِنْهَا ان أَوْلَاده أَرَادوا أَن يحلقوا رُؤْسهمْ فشرعوا فى الْحلق وَقد جَاءَ وَقت ذهابهم الى الْكتاب فخافوا من الْفَقِيه أَن يَضْرِبهُمْ لتأخرهم فَقَالَ لَهُم نَحن نمسك الشَّمْس لكم حَتَّى تحلقوا رؤسكم وَقَالَ اللَّهُمَّ بجاه نبيك مُحَمَّد
أَن توقف الشَّمْس حَتَّى يحلق الاولاد رُؤْسهمْ فوقفت الشَّمْس حَتَّى حَلقُوا رُؤْسهمْ كلهم وَشَاهد ذَلِك من حضر وَمِنْهَا أَن بعض الْفُقَرَاء أَتَى اليه وَقَالَ لَهُ لَيْسَ عِنْده نَفَقَة هَذَا الْيَوْم وَكَانَ عِنْده عُمَّال يفرشون طينا فَقَالَ لَهُ السَّيِّد اعْمَلْ مَعَهم لَعَلَّك تَجِد مَا تنفقه فَعمل مَعَهم فاذا بِدِينَار ذَهَبا وَمِنْهَا أَن بعض الْفُقَرَاء ألح عَلَيْهِ فى الطّلب وَكَانَت لَهُ بقرة عِنْدهم فَأمرهَا أَن تنطحه فتبعته وَهُوَ شارد مِنْهَا حَتَّى أحَال النَّاس بَينه وَبَينهَا وَمِنْهَا أَن بعض آل باعلوى طلب أَن يَدْعُو الله تَعَالَى أَن يُوسع عَلَيْهِ فى الدُّنْيَا فَدَعَا لَهُ بذلك وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ واعمل أكياسا للدراهم فَفعل فَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهى راغمة حَتَّى امْتَلَأت تِلْكَ الاكياس وَمِنْهَا أَنه أَتَى من سفر فَلَمَّا وصل بندر القنفدة طلب مِنْهُ بعض الْمُسَافِرين أَن يتَقَدَّم الى أَهله ليخبرهم بوصوله وَطلب مِنْهُ سبْحَة عَلامَة فَأبى فَأخذ السبحة على حِين غَفلَة من السَّيِّد وسافر بهَا فتعرضت لَهُ حَيَّة عَظِيمَة على طَرِيقه فمنعته السّفر الى مَكَّة حَتَّى رَجَعَ الى السَّيِّد وَاعْتذر اليه ومناقبه كَثِيرَة وَكَانَ زاهدا فى الدُّنْيَا ورياستها وَمن زهده فِيهَا أَنه طلب ورثته من حَضرمَوْت وَقسم بَينهم جَمِيع مَا عِنْده من المَال على حسب ارثهم وتجرد عَن الدُّنْيَا وتكفل بخدمته وَنَفَقَته تِلْمِيذه ابْن ابْن ابْن أَخِيه أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن على بن عقيل لكَونه كَانَ يُحِبهُ جدا وَلم تطل حَيَاته بعد ذَلِك وَكَانَ سَبَب مَوته أَنه سئم من الْحَيَاة وَطلب من الله تَعَالَى أَن يقبضهُ اليه فَظهر فى بدنه بثرة وَلم تزل تزداد كل يَوْم وَاشْتَدَّ بِهِ الالم وَعرض على كثير من الاطباء وَالَّذين يعانون الْجِرَاحَات فَلم يُوجد عِنْدهم طب وَلم يعرفوا لَهَا دَوَاء وَاسْتمرّ مَرضه نَحْو اثنى عشر يَوْمًا وَمَات فى يَوْم الاربعاء وَقت الضُّحَى لخمس مضين من الْمحرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وحزن النَّاس لفقده وَاجْتمعَ الْخَلَائق للصَّلَاة عَلَيْهِ فى الْمَسْجِد الْحَرَام وَحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ شرِيف مَكَّة الشريف زيد بن محسن وَدفن بالمعلاة فى حوطة آل باعلوى وقبره بهَا مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
علوى بن عمر بن عقيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن الشَّيْخ مُحَمَّد جمل اللَّيْل الامام الْجَامِع بَين الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بقرية روعة وَحفظ الْقُرْآن(3/120)
بالتجويد ثمَّ اشْتغل بِالْعلمِ وتفقه فى الدّين على جمَاعَة واعتنى بِسَائِر الْعُلُوم وَجمع بَين الْحَقِيقَة والشريعة ثمَّ دخل الْهِنْد فقابله بعض وزراء السُّلْطَان الْمُسَمّى ملك ريحَان بالاكرام واقام عِنْده بُرْهَة يدرس ويفيد ثمَّ عَاد الى وَطنه وَمَشى على طَريقَة آبَائِهِ من النَّفْع والقرى فَظهر شَأْنه وَدخل الْهِنْد مرّة ثَانِيَة ونال عِنْد الْملك ريحَان مرتبَة علية قَالَ وبلغنى انه حج وانه أَخذ عَن جمَاعَة من العارفين بالحرمين وَلم تكن لَهُ كَثْرَة قِرَاءَة وانما كَانَ مجداً فى الطّلب لَهُ جلد على مطالعة الْكتب وَرُبمَا سهر أَكثر اللَّيْل فى ذَلِك وَله خطّ حسن كتب بِخَطِّهِ عدَّة كتب اكثرها فى الْعَرَبيَّة والادب وَله رسائل مُشْتَمِلَة على عِبَارَات فصيحة ونكت بديعة وَكَانَ عذب اللِّسَان حُلْو الْمنطق جوادا سخيا كثير الْوَرع تَامّ الْمُرُوءَة كَامِل الفتوة حَافِظًا لسيرة السّلف وَلم يزل فى التَّحْصِيل حَتَّى توفى الى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَخمسين وَألف رَحمَه الله
السَّيِّد علوى بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوى بن أَبى بكر الجفرى بن مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الْمُقدم وَيعرف كسلفه بالجفرى أحد الْعباد الْمَشْهُورين ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة قسم وَنَشَأ بهَا ثمَّ اشْتغل بِالتِّجَارَة وبورك لَهُ فِيهَا وجاب الْبِلَاد وَسَار الى الْجبَال وَأقَام بالمستفاض أَرض المهرة مُدَّة وعظمه سلطانها ورحل الى السواحل وبجله مُلُوكهَا وارتحل الى الْهِنْد واليمن ومصر وَغَيرهَا وَكَانَ كثير الاسفار الى الْحَج وزيارة النبى
وَصَحب جمَاعَة من اكابر الصُّوفِيَّة وانتفع بصحبتهم وَكَانَ غَايَة فى الْجُود وَالْكَرم وصلَة الرَّحِم وَحب الْفُقَرَاء والاحسان اليهم ومحبة الْعلم وَالْعُلَمَاء والصلحاء والاولياء وَكَانَ دينا صَدُوقًا وقورا مَشْهُورا بالعفاف وكرم النَّفس كثير الْوَرع وَكَانَ على قدم كَامِل من الصّلاح وَالْعِبَادَة وَكَثْرَة الصَّدَقَة والصلة ثمَّ أَقَامَ يتريم وَترك السّفر وتخلى لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ من عَادَته حِين يستهل شهر رَمَضَان لَا يخرج من بَيته حَتَّى يَنْسَلِخ الا لصَلَاة الْجُمُعَة أَو صَلَاة صَلَاة التَّرَاوِيح وَكَانَ وجيها عِنْد النَّاس مَقْبُول الشَّفَاعَة وَالْقَوْل مسموع الْكَلِمَة صبورا على السعى فى قَضَاء حوائج الْمُسلمين وَكَانَ عَاقِلا محتشما ذَا رأى صَوَاب وَكَانَ بَينه وَبَين سيدى مُحَمَّد بن عمر البيتى صُحْبَة ومودة عَظِيمَة قَالَ الشلى وَكَانَ الْوَالِد يعْنى وَالِده أَبَا بكر يَقُول لم أر مثلهَا بَين اثْنَيْنِ قطّ وَلزِمَ صُحْبَة الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد العيدروس فى آخر عمره مُلَازمَة تَامَّة(3/121)
وَكَانَ يمشى على نهجهويتبع طَريقَة ويقتدى بصنيعه وَكَانَ كثير الاعتناء بِهِ وَكَانَ بيتهما من الصُّحْبَة والالفة مَا هُوَ مَشْهُور فَلَا حَاجَة الى الاطالة فِيهِ وَكَانَ من طَرِيقَته ان تَفْرِيق الصَّدَقَة على جماعته أحب اليه من أَن يُعْطِيهَا رجلا وَاحِدًا وَهَذِه مسئلة ذكرهَا الشَّافِعِيَّة وَاخْتلفُوا فى انه لَو سد جوعة مِسْكين عشرَة أَيَّام هَل أجره كَأَجر من سد جوعه عشرَة مَسَاكِين فالذى قَالَه ابْن عبد السَّلَام وَتَبعهُ كَثِيرُونَ لَا يكون كأجره فقد يكون فى الْجمع ولى وَقد حث الله تَعَالَى على الاحسان للصالحين وَهَذَا لَا يتَحَقَّق فى وَاحِد ولانه يُرْجَى من دُعَاء الْجمع مَا لَا يُرْجَى من دُعَاء الْوَاحِد وَمن ثمَّ أوجب الشافعى رَحمَه الله تَعَالَى دفع الزَّكَاة الى جَمِيع الاصناف انْتهى وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة صافى الْفُؤَاد حسن الِاعْتِقَاد لَا يعرف الغل وَالْخداع وعاش فى النِّعْمَة معززا مكرما وَحج آخر عمره وَكَانَ الْوُقُوف يَوْم الْجُمُعَة وَعَاد الى وَطنه تريم فتوفى بهَا وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف
على بن ابراهيم بن أَحْمد بن على بن عمر الملقب نور الدّين بن برهَان الدّين الحلبى القاهرى الشافعى صَاحب السِّيرَة النَّبَوِيَّة الامام الْكَبِير أجل أَعْلَام الْمَشَايِخ وعلامة الزَّمَان كَانَ جبلا من جبال الْعلم وبحرا لَا سَاحل لَهُ وَاسع الْحلم عَلامَة جليل الْمِقْدَار جَامعا لاشتات العلى صارفا نقد عمره فى بَث الْعلم النافع ونشره وحظى فِيهِ حظوة لم يحظها أحد مثله فَكَانَ درسه مجمع الْفُضَلَاء ومحط رحال النبلاء وَكَانَ غَايَة فى التَّحْقِيق حاد الْفَهم قوى الفكرة متحريا فى الْفَتَاوَى جَامعا بَين الْعلم وَالْعَمَل صَاحب جد واجتهاد عَم نَفعه النَّاس فَكَانُوا يأتونه لاخذ الْعَمَل عَنهُ من الْبِلَاد مهابا عِنْد خَاصَّة النَّاس وعامتهم حسن الْخلق والخلق ذَا دعابة لَطِيفَة فى درسه مَعَ جلالته وَكَانَ الشُّيُوخ يثنون عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله من الْفضل التَّام ومزيد الْجَلالَة والاحترام وَكَانَ اذا مر على الشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَهُوَ فى درسه مَعَ جلالته يقوم لَهُ وَيقبل يَدَيْهِ وَيَأْخُذ سر موذته بِيَدِهِ ويضعها فى خزانَة الشَّيْخ على ويفرش لَهُ سجادته الَّتِى يجلس عَلَيْهَا فى التدريس ثمَّ يرجع الى درسه ووقف جَمِيع كتبه على الشَّيْخ الْمَذْكُور ولد بِمصْر فى سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة وروى عَن الشَّمْس الرملى ولازمه سِنِين عديدة وَعَن الاستاذ مُحَمَّد البكرى والنور الزيادى والشهاب ابْن قَاسم وابراهيم العلقمى وَصَالح البلقينى وأبى النَّصْر الطبلاوى وَعبد الله الشنشورى وَسعد الدّين المرحومى وَسَالم الشبشيرى وَعبد الْكَرِيم البولاقى وَمُحَمّد الخفاجى وأبى بكر(3/122)
الشنوانى وَمَنْصُور الخوانكى وَمُحَمّد الميمونى الشافعيين وَعَن الامام على بن غَانِم المقدسى الحنفى وَمُحَمّد النحريرى الحنفى وَسَالم السنهورى المالكى وَمُحَمّد بن الترجمان الحنفى وَمُحَمّد الزفزاف وَعبد الْمجِيد خَليفَة سيدى أَحْمد البدوى وانتفع بِهِ خلق لَا يُحصونَ كَثْرَة مِنْهُم النُّور الشبراملسى وَالشَّمْس مُحَمَّد الوسيمى وَالشَّمْس مُحَمَّد النحريرى وَغَيرهم ألف المؤلفات البديعة مِنْهَا السِّيرَة النَّبَوِيَّة الَّتِى سَمَّاهَا انسان الْعُيُون فى سيرى النبى الْمَأْمُون فى ثَلَاث مجلدات اختصرها من سيرة الشَّيْخ مُحَمَّد الشامى وَزَاد أَشْيَاء لَطِيفَة الْموقع وَقد اشتهرت اشتهارا كثيرا وتلقتها افاضل الْعَصْر بِالْقبُولِ حررها تحريرا مَا مَعَ الشَّيْخ سُلْطَان وَله حَاشِيَة على مَنْهَج القاضى زَكَرِيَّا وحاشية على شرح الْمِنْهَاج للجلال الْمحلى وحاشية على شرح الورقات للجلال الْمَذْكُور وحاشية على شرح الورقات لِابْنِ امام الكاملية وحاشية على شرح التصريف للسعد وَشرح على الاربعين النووية وَشرح على الشَّمَائِل النَّبَوِيَّة لم يتم سَمَّاهُ الوفا لشرح شمائل الْمُصْطَفى رد فِيهِ كثيرا على عصريه عبد الرؤف المناوى وَحسن التَّبْيِين لما وَقع فى مِعْرَاج الشَّيْخ نجم الدّين وَالْفَجْر الْمُنِير بمولد البشير النذير وَشرح لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَشرح على الْبردَة وَشرح على المنفرجة وزهر المزهر وَهُوَ مُخْتَصر المزهر للسيوطى فى اللُّغَة وَشرح على شرح الْقطر للفاكهى ومطالع البدور فى الْجمع بَين الْقطر والشذور والفوائد العلوية بشرح شرح الازهرية والتحفة السّنيَّة شرح الاجرومية وَغَايَة الاحسان بِوَصْف من لقِيه من أَبنَاء الزَّمَان وَحسن الْوُصُول الى لطائف حكم الْفُصُول والمحاسن السّنيَّة من الرسَالَة القشيرية وَالْجَامِع الازهر لما تفرق من ملح الشَّيْخ الاكبر والنفحة العلوية من الاجوبة الحلبية والنصيحة العلوية فى بَيَان حسن الطَّرِيقَة الاحمدية وَالْمُخْتَار من حسن الثنا فى الْعَفو عَمَّن جنا واللطائف من عوارف المعارف وتحرير الْمقَال فى بَيَان وحدة من نَحْو لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده من أى أَنْوَاع الْحَال والطراز المنقوش فى أَوْصَاف الحبوش وصبابة الصبابه مُخْتَصر ديوَان الصبابه وانقاذ المهج بمختصر الْفرج وَمتْن فى التصريف وحسنات الوجنات النواخر من الْوُجُوه والنظائر واعلام الناسك بِأَحْكَام الْمَنَاسِك وَقطعَة لَطِيفَة على الْجَامِع الصَّغِير وَشرح على شرح الْبَسْمَلَة للقاضى زَكَرِيَّا سَمَّاهُ خير الْكَلَام على الْبَسْمَلَة وَالْحَمْد لَهُ لشيخ الاسلام وَله(3/123)
قِطْعَة علقها على أَوَائِل تَفْسِير البيضاويوله رِسَالَة لَطِيفَة فى التصوف ودخان التبغ وَغير ذَلِك وَكَانَ أحد مَشَايِخ الْمدرسَة الصلاحية الَّتِى هى تَاج الْمدَارِس الكائنة بجوار الامام الشافعى وَأَعْطَاهُ الله الْقبُول التَّام فى تأليفه وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت آخر يَوْم من شعْبَان سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين رَحمَه الله
على بن ابراهيم بن على المنعوت بعلاء الدّين أَبُو الْحسن الْمَعْرُوف بالقبردى الدمشقى الصالحى الشافعى الْعَالم الْمَشْهُور أوحد أهل عصره فى الْجمع بَين الْفُنُون والاخذ بدقها وجلها الى التَّحْقِيق الباهر الذى يعجب مِنْهُ الْعجب وَقُوَّة الحافظة وَحسن الاداء والتفهيم وَبِالْجُمْلَةِ فَكل من عاصره معترف لَهُ بالتفوق ومقر لَهُ بالتقدم قَرَأَ العقليات على المنلا أَبى بكر والمنلا نظام الدّين السنديين وَأخذ الشرعيات عَن أجلاء كثيرين مِنْهُم الْبُرْهَان ابراهيم بن الاحدب الْمُقدم ذكره وَأعَاد درس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر وَشَيْخه الشَّمْس الميدانى وَكَانَ الميدانى مَعَ كَونه شَيْخه وَقد تلقى مِنْهُ فنونا عديدة يعرف حَقه واذا أبدى سؤالا تَلقاهُ بِالْقبُولِ ويقدمه على غَيره وَيشْهد لَهُ بِالْفَضْلِ التَّام وَلما حج أَقَامَهُ مقَامه فى بقْعَة التدريس الَّتِى كَانَت لَهُ فى الْجَامِع الاموى واشتهر بعد ذَلِك كل الاشتهار وَصَارَ يومأ اليه بالاتقان والاحاطة التَّامَّة واقام بالصالحية فى حجره من حجرات الْمدرسَة العمرية لَا يتَرَدَّد الى أحد وَهُوَ رَاض بخشونة الْعَيْش ورقة الْحَال وَلَزِمَه جمَاعَة للاخذ عَنهُ فانتفعوا بِهِ ونبلوا وأجلهم السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين بن حَمْزَة نقيب الشَّام وَشَيخنَا عبد الحى بن أَحْمد بن الْعِمَاد العكرى وَكَانَت الطّلبَة تقصده حَيْثُ كَانَ حَتَّى انهم يُسَارِعُونَ إِلَيْهِ من الْمَدِينَة فى زمن الشتَاء وَلَا يمنعهُم الْمَطَر والثلج حرصا على فَوَائده وَمن فَوَائده المنقولة عَنهُ على مَا رَأَيْته بِخَط بعض الفضلا ان الشَّيْخ يصغر على شيخ وَلَا يجوز تصغيره على شويخ لَان أَصله الْيَاء وَله جموع سَبْعَة وَقد نظمها بَعضهم فَقَالَ
(اذا رمت جمع الشَّيْخ وَهُوَ مُجَرّد ... يصير مزيدا عِنْدَمَا ضمه الْجمع)
(شُيُوخ وأشياخ وشيخان شيخة ... مَشَايِخ مشيوخاء مشيخة سبع)
واعتراه مرض بركبتيه فَانْقَطع مُدَّة وَلما ولى الْمولى أَحْمد بن المنلا زين الدّين المنطقى قَضَاء الشأم وَجه اليه الْمدرسَة المرشدية بصالحية دمشق وَكَانَ يجله كثيرا وعَلى كل حَال فَهُوَ من عِظَام الْعلمَاء الْمُحَقِّقين وَكَانَت ولاته فى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة(3/124)
وعمى قبل مَوته بِمِقْدَار سنتَيْن ثمَّ توفى فى ثَالِث عشرى ذى الْقعدَة سنة سِتِّينَ وَألف وَدفن بسفح قاسيون
السَّيِّد على بن ابراهيم بن على بن المهدى بن صَلَاح بن على بن أَحْمد بن الامام مُحَمَّد ابْن جَعْفَر القاسمى الْمَعْرُوف بالعالم الشرفى وَمُحَمّد بن جَعْفَر الْمَذْكُور فى نسبه هُوَ المقبور فى جبل حرَام من الشّرف مَشْهُور مزور عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة ابْن الْحُسَيْن بن فليته ابْن على بن الْحُسَيْن بن أَبى البركات بن الْحُسَيْن بن يحيى بن على بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الْحسن بن الْحسن بن على بن أَبى طَالب كرم الله وَجهه قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه هُوَ أحد السَّادة المعروفين بِالْفَضْلِ الموسومين بِالْخَيرِ وَكَانَ السَّيِّد الْعَالم صَاحب التَّرْجَمَة وَالسَّيِّد العابد الآتى ذكره فرسى رهان فى الْفَضَائِل وذكرهما مَلأ الْآفَاق وَكَانَ السَّيِّد العابد قد رأى فى النّوم انه نزل بِالْمُسْلِمين خطب عينه فى الرُّؤْيَا لم يحضرنى مَا هُوَ فهرب النَّاس وَنَجَا هُوَ بِنَفسِهِ مَعَهم وَأما السَّيِّد الْعَالم فاشتغل باطلاع النَّاس من مَوَاضِع الهلكة الى النجوة فَعرض الرُّؤْيَا عَلَيْهِ فَقَالَ الامر كَذَلِك أَنْت مَشْغُول بِنَفْسِك وَأَنا بِالْمُسْلِمين وَصَاحب التَّرْجَمَة أحد شُيُوخ الامام الْقَاسِم مولده فى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر صفر سنة ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ بِبَلَدِهِ هِجْرَة الجاهلى من الشاهل ورباه عَمه السَّيِّد صَلَاح الدّين بن على بن المهدى وَكَانَ السَّيِّد صَلَاح هَذَا من أَعْيَان أعوان الامام شرف الدّين وَتَوَلَّى الْقَضَاء بجهات الشّرف والاوقاف للامام ثمَّ ارتحل السَّيِّد على بن ابراهيم الى صنعاء لطلب الْعلم وَأقَام مُدَّة حَتَّى فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَعْرِِفَة تَامَّة فى الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة ثمَّ رَجَعَ الى بَلَده وَقد كَادَت تضعف دولة الامام شرف الدّين فَحصل على كثير من عُلَمَاء صعدة مَا أوجب الْهِجْرَة من أوطانهم من تغلب أهل الْجور فوفد الى السَّيِّد على بن ابراهيم جمَاعَة من أَعْيَان أهل التَّقْوَى وَالْعلم من بعض أهل علاف وَبَعض بنى عقبَة فأفادوا السَّيِّد الْمَذْكُور علما الى علمه وَكَانَ موردا للطالبين وكعبة للمسترشدين وَتخرج على يَدَيْهِ جمَاعَة من أهل الْفضل وَالْعلم وَالْعَمَل مِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة الهادى بن الْحسن من هِجْرَة بنى أَسد وَمِنْهُم السَّيِّد رَأس الْعباد وَعين الزهاد وخاتمة أهل التَّقْوَى وَالْيَقِين شمس الدّين صَلَاح بن يُونُس صَاحب هِجْرَة أسلم ناشر من أَوْلَاد الامام المتَوَكل على الله المطهر بن الامام يحيى شرف الدّين وَمِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن الحسبن بن على صَاحب هِجْرَة الخواقع من(3/125)
حَبل الشاهل تولى الْقَضَاء للامام الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَغَيرهم من الْفُقَهَاء من أهل هجر الشّرف وَغَيرهَا ودرس فى شرح ابْن مِفْتَاح على الازهار والتذكرة وَالْبَيَان مُدَّة مديدة وَلما مَاتَ السَّيِّد الاجل الْمُجَاهِد المطهر بن الامام شرف الدّين ظهر بِجِهَة الشّرف من أَنْوَاع الْمُنْكَرَات مَا لَا يقدر قدره وَذَلِكَ سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فوصل قبائل تِلْكَ الْجِهَات الى السيدين الْعَالم وَالْعَابِد الآتى ذكرهمَا يستغيثون بهما فى دفع مَا حصل من الظُّلم والجور فَلم يجد عذرا عِنْد الله تَعَالَى فى التّرْك وَمن أعظم الاسباب فى قيامهما مرجان متولى تِلْكَ الْجِهَة من أَعمال غوث الدّين بن المطهر ابْن شرف الدّين تظاهر بِفعل الْمُنْكَرَات وعسف وأفرط فى ظلمه فَاجْتمع من قبائل الشّرف الى السيدين قدر خَمْسمِائَة مقَاتل فقصد الى المحابشة بِمن اجْتمع اليهما الى مَوضِع يُقَال لَهُ جبل الغابش وطلع مقدماتهم الى حصن الْقَاهِرَة من المحابشة فَلَقِيَهُمْ مرجان بمحطة من الْجند فناوشوهم الْقِتَال فَقتل من الْقَبَائِل خَمْسَة رجال ثمَّ انهزم الْقَبَائِل وَلم يثبت مِنْهُم أحد وغدر أهل المحابشة بِمَا قد تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ من الْقيام بالامر بِالْمَعْرُوفِ ومعاونة السيدين ثمَّ قصد مرجان الْمَذْكُور قَبيلَة الا مُرُور فَقتل مِنْهُم عشْرين رجلا فَهَاجَرَ السَّيِّد على بن ابراهيم العابد إِلَى غفار للْقِرَاءَة والاقراء وَأما السَّيِّد عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْعَالم فَلم يزل يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر ويدرس الْعُلُوم بهجرته ثمَّ هَاجر بأَهْله وَأَوْلَاده الى حجور الاسلام وَوصل الى السَّيِّد غوث الدّين بن المطهر الى قفل مدوم فَوضع لَهُ مَوْضُوعا فى الِاسْتِمْرَار على حَالَته من التدريس واحترام جَانِبه وَمن يلوذ بِهِ حَتَّى دَعَا الامام النَّاصِر لدين الله الْحسن بن على بن دَاوُد فَقَامَ بهَا فى تِلْكَ الْجِهَة الشرفية وَلما أسر الامام الْحسن أَخذ السَّيِّد على فى معاونة الامام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد على الْقيام بالامامة وَجمع لَهُ من أَمْوَال فضلات الاوقاف والزكوات ونذورا كَثِيرَة وحشد لَهُ من بَلَده أهل السِّلَاح قدر سِتِّينَ رجلا وَكَانَ الامام الْقَاسِم الْمَذْكُور مِمَّن أَخذ عَنهُ الْعلم من صغره وَكَانَ كثير تِلَاوَة الْقُرْآن وَالْعِبَادَة وَله كرامات مَشْهُورَة فى حَيَاته وَبعد وَفَاته مَاتَ فى شهر ربيع الآخر سنة سِتّ بعد الالف واستجاب الله تَعَالَى دعاءه أَن لَا يميته الا بعد ظُهُور قَائِم من أهل الْبَيْت وقبر بِهِجْرَة الجاهلى وَعَلِيهِ مشْهد مزور وَخلف وَلدين السَّيِّد الْعَلامَة الاوحد بدر الدّين مُحَمَّد بن على وَكَانَ عَالما نبيلا مدرسا للفقه والفرائض وَهُوَ شيخ السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقَاسِم فى الْفَرَائِض وَتَوَلَّى الفضاء للامام(3/126)
الْقَاسِم فى الْجِهَات الشرفية وأرسله الى عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن المطهر فى الصُّلْح الاول وَتمّ على يَدَيْهِ وَاسْتمرّ على حَاله من الِاشْتِغَال بِأُمُور الْمُسلمين وتدريس الْعلم الى ان اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ مَا عِنْده من الِانْتِقَال الى دَار الْقَرار سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف تَقْرِيبًا وعقبه فى هِجْرَة الجاهلى من الشاهل وَقت رقم هَذِه سنة احدى وَثَمَانِينَ نَحْو ثَمَانِينَ رجلا مِنْهُم الْعلمَاء الْعَامِلُونَ كالسيد الْعَلامَة أَحْمد بن صَلَاح بن مُحَمَّد بن على بن ابراهيم أَخذ الْعلم عَن السَّيِّد مُحَمَّد بن عز الدّين الْمُفْتى بِمَدِينَة صنعاء ثمَّ رَجَعَ الى بَلَده الْهِجْرَة بعد أَن أَقَامَ بِصَنْعَاء سبع سِنِين فَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الطّلبَة علم الْفِقْه بتحقيق قَوَاعِده وَاسْتمرّ على ذَلِك الى وقتنا هَذَا وَتَوَلَّى الْقَضَاء بِجِهَة الشّرف الاسفل مَعَ مَكَارِم أَخْلَاق واكرام للوافدين وَالْولد الآخر من ولدى السَّيِّد على بن ابراهيم هُوَ السَّيِّد صارم الدّين ابراهيم بن على مَاتَ مُهَاجرا بِمَدِينَة حوت سنة اثنتى عشرَة وَألف وَله الْعقب الاطيب الاكثر خلف سِتَّة أَوْلَاد مِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة شرف الدّين بن ابراهيم وَهُوَ اكبر أَوْلَاده وَكَانَ من أَعْيَان أهل الْبَيْت علما وَعَملا وسعة صدر وَتَوَلَّى الْقَضَاء للامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم بعد وَفَاة عَمه مُحَمَّد بن على وَاسْتمرّ عَلَيْهِ الى أَن مَاتَ سنة أَربع وَسبعين وَألف وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ وَخلف أَرْبَعَة عشر ولدا وَمِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة الْمُحَقق فى الاصول وَالْفُرُوع شمس الدّين بن ابراهيم بن على الْعَالم كَانَ من الْعباد الجامعين بَين فَضِيلَة الْعلم وَالْجهَاد وَلم يتول شَيْئا من الاعمال الى أَن مَاتَ سنة أَربع وَخمسين وَألف وعمره خمس وَسِتُّونَ سنة وَللسَّيِّد ابراهيم أَرْبَعَة أَوْلَاد غير هذَيْن وهم السَّيِّد مُحَمَّد بن ابراهيم وَالسَّيِّد العابد أَحْمد بن ابراهيم وَالسَّيِّد صَلَاح بن ابراهيم وَالسَّيِّد الْحُسَيْن بن ابراهيم وكل مِنْهُم خلف جمَاعَة من الاولاد ذكورهم فى تَارِيخ رَاقِم هَذِه الاحرف خَمْسَة وَسَبْعُونَ مَا بَين كهل وشاب وصغير وَلم يخل الله تَعَالَى أَوْلَادهم من التَّمَسُّك بِالْعلمِ وسلوك طَرِيق سلفهم الطاهرين هَكَذَا نَقله ولد ولد وَلَده السَّيِّد أَحْمد بن الْحُسَيْن بن ابراهيم بن على الْعَالم رَحِمهم الله تَعَالَى
على بن ابراهيم بن على بن ابراهيم بن المهدى بن أَحْمد بن يحيى بن الْقَاسِم بن يحيى ابْن عليان وَمن هُنَا تَتِمَّة النّسَب قد ذكرتها فى تَرْجَمَة السَّيِّد اسماعيل الحجاف السَّيِّد الْجَلِيل الصَّالح الولى رَأس الْفُضَلَاء وتاج الكبراء كَانَ سيدا مُبَارَكًا عادلا عَارِفًا لَهُ أَخْلَاق رضية وشمائل مرضية تولى الجعفرية وَمَا والاها من أَرض الْيمن نَحْو(3/127)
ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة وَهُوَ على حَالَة وَاحِدَة مُسْتَقِيمَة وَكَانَ من الاحسان الى السَّادة والفقراء بمَكَان لَا يُسَاوِيه فِيهِ غَيره وخلالته عِنْد الائمة اشهر من أَن تذكر وَلم يذكر عِنْد أحد من أهل الدّين وَالصَّلَاح الا اثنى عَلَيْهِ ودعا لَهُ وَكفى بذلك منقبة وَهُوَ وَالِد السبيد النجيب فَخر أهل الزَّمَان زيد بن على صَاحب المخا ذكرته فى كتابى النفخة وَذكره صَاحب التَّرْجَمَة السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْبَحْر فى تَارِيخه واثنى عَلَيْهِ قَالَ وَمَا رَأَيْت فِيمَن رَأَيْت من الْوُلَاة فى عصرنا اتَّقى وَلَا اكرم مِنْهُ وَكَانَت وَفَاته فى كسمه فى رَجَب سنة احدى وَسبعين وَألف عَن نَحْو ثَمَانِينَ عَاما وَدفن هُنَالك فى جَانب مَسْجده الذى أسسه
على بن ابراهيم الْخياط الرشيدى الشافعى الشَّيْخ الامام الْحجَّة الولى المفنن فى الْعُلُوم وَالْجَامِع لَهَا والمقدم فى المعارف كلهَا والمتكلم فى أَنْوَاعهَا والناقد فى جَمِيعهَا والحريص على أَدَائِهَا مَعَ ذهن ثاقب وآداب أَخْلَاق وَحسن معاشرة ولين جَانب وَكَثْرَة احْتِمَال وكرم نفس وَحسن عهد وثبات ود وملازمة طَاعَة وَكَثْرَة ذكر ولد فى الْعشْر الاول من هَذِه الْمِائَة برشيد وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وجوده وَأخذ عَمَّن بهَا من عُلَمَاء عصره ثمَّ قدم مصر وَقَرَأَ بالروايات على مقرى مصر عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى وَأخذ الْفِقْه والعلوم الشَّرْعِيَّة والعقلية عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم النُّور على الحلبى والبرهان اللقانى وَالشَّمْس الشوبرى وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى والنور الشبراملسى وَالشَّمْس البابلى وجد واجتهد الى أَن بلغ الْغَايَة القصوى وَرجع الى بَلَده وحمدت سيرته فِيهَا وَأَقْبل عَلَيْهِ جَمِيع أَهلهَا واعتقده عَامَّة ذَلِك الاقليم وَظَهَرت لَهُ كرامات كَثِيرَة وتصدر للتدريس وَأخذ عَنهُ خلق كَثِيرُونَ مِنْهُم الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الرَّزَّاق الرشيدى وَأَقْبل على قِرَاءَة الْقُرْآن قبل مَوته بِسنة فَصَارَ لَا يَتْرُكهَا صباحا وَمَسَاء وكل وَقت حَتَّى ترك التدريس الى أَن توفى فى أَوَائِل رَجَب سنة أَربع وَتِسْعين وَألف برشيد وَبهَا دفن وَأخْبر وَلَده انه لما احْتضرَ قَرَأَ بعض الْحَاضِرين سُورَة يس والرعد فَلَمَّا بلغ الى قَوْله تَعَالَى سَلام عَلَيْكُم طبتم الْآيَة خرجت روحه وَكَانَ أخبرهُ بعض الاولياء انه يَمُوت فى رَجَب فَكَانَ كلما اتى رَجَب يقبل على الْعِبَادَة الى أَن توفى رَحمَه الله تَعَالَى
على بن أَبى بكر بن على نور الدّين بن أَبى بكر بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالجمال المصرى بن أَبى بكر بن على بن يُوسُف بن ابراهيم بن مُوسَى بن ضرغام(3/128)
ابْن طعان بن حميد الانصارى الخزرجى المكى الشافعى الامام الْحجَّة الْمُؤلف المُصَنّف كَانَ صَدرا عالى الْقدر وَاسع الْمَحْفُوظ محققا تشد اليه الرّحال للاخذ عَنهُ ذكره الشلي وسَاق نسبه كَمَا ذكرته ثمَّ قَالَ ولد بِمَكَّة سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَمَات أَبوهُ سنة سِتّ بعد الالف كَمَا تقدم فى تَرْجَمته فَنَشَأَ يَتِيما فقيض الله تَعَالَى لَهُ الشَّيْخ الولى أَبَا الْفرج المزين فاحتفل بتربيته واشتغل أَولا بالقراآت على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن أَبى الْحسن بن نَاصِر الاشعرى فَقَرَأَ عَلَيْهِ الى أَن مَاتَ فى سنة احدى وَثَلَاثِينَ والف فاكمل الْقِرَاءَة على تِلْمِيذه الشَّيْخ أَحْمد الحكمى وَقَرَأَ على الشَّيْخ مُحَمَّد تقى الدّين الزبيرى وَسَنَد الزبيرى وَسَنَد الشَّيْخ أَبى الْحسن من طَرِيق أهل الْمَدِينَة وَاحِد فانهما قرآ جَمِيعًا على المقرى الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَبى الْحرم المدنى وَهُوَ عَن جمَاعَة اجلاء من اعلاهم سَنَد الشَّيْخ الامام الشَّمْس مُحَمَّد بن ابراهيم السمديسى المصرى الحنفى وَهُوَ عَن شيخ الْقُرَّاء أَحْمد بن رَاشد الاسيوطى وَهُوَ عَن امام الْقُرَّاء أَبى الْخَبِير مُحَمَّد بن مُحَمَّد الجزرى وَسَنَده مَذْكُور فى النشر وَغَيره وَلم يَأْخُذ الشَّيْخ مُحَمَّد تقى الا عَن شَيْخه الْمَذْكُور واما الشَّيْخ أَبُو الْحسن فَلهُ سَنَد آخر من طَرِيق أهل مَكَّة فَهُوَ عَن الامام عمر الشعرانى وَهُوَ عَن اجلاء معتبرين من أهل الْيمن مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن رعيل الحضرمى الضَّرِير وَالشَّيْخ على الريمى القرشى وَله اسانيد أخر وَأخذ صَاحب التَّرْجَمَة النَّحْو والاصول وَالْعرُوض عَن الشَّيْخ عبد الْملك العصامى وَالْكَلَام عَن الْبُرْهَان اللقانى وَأخذ عَن السَّيِّد عمر ابْن عبد الرَّحِيم البصرى الْفِقْه والاصول والعربية والْحَدِيث واصوله وَالتَّفْسِير والمعانى وَالْبَيَان وَأَجَازَهُ بِاللَّفْظِ فى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن ابراهيم عَلان العقائد والْحَدِيث وَعَن الشهَاب الخفاجى الحَدِيث وَعَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن باوزير التصوف وتصدر للاقراء والتدريس فى الْمَسْجِد الْحَرَام وانتفع بِهِ جمَاعَة من الاعلام مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد طَاهِر عباسى وَالشَّيْخ أَحْمد باقشير قلت وَشَيخنَا الْحسن العجيمى وَشَيخنَا أَحْمد النخلى فسح الله تَعَالَى فى اجلهما قَالَ وقرأت عَلَيْهِ الْفِقْه والفرائض والحساب والاصلين والْحَدِيث واصوله وَكَانَ لَهُ قُوَّة اقدام على تَفْرِيق كِتَابَة المشكلات وَله مؤلفات عديدة مِنْهَا الْمَجْمُوع الوضاح على مَنَاسِك الايضاح وشرحان على ابيات ابْن المقرى كَبِير وصغير وَله كافى الْمُحْتَاج لفرائض الْمِنْهَاج وَفتح الْفَيَّاض بِعلم الْقَرَاض(3/129)
وقرة عين الرائض فى فنى الْحساب والفرائض وَله الْمُذَلل فى الْفَرَائِض والنفحة المكية بشرح التُّحْفَة القدسية لِابْنِ الهائم والنقول الْوَاضِحَة الصَّرِيحَة فى عدم كَون الْعمرَة قبل النَّفر صَحِيحَة ورسالة فى التَّقْلِيد وَشرح ابيات الْجلَال السيوطى الَّتِى أَولهَا يتبع الْفَرْع فى انتساب أَبَاهُ وَفتح الْوَهَّاب بشرح نزهة الاحباب والتحفة الحجازية فى الاعمال الحسابية وتحرير الْمقَال فِي قَول ابْن المجدى فِي الشَّرِيك أشكال والدر النضيد فِي مَأْخَذ القراآت من القصيد والمواهب السنيه فى علم الْجَبْر والمقابلة وَشرح الياسمينية فى الْجَبْر والمقابلة ورسالة فى احكام النُّون الساكنة والتنوين وصلَة المبتدى بشرح نظم در المهتدى وَهُوَ فى الْفَرَائِض على مَذْهَب أَبى حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى وَله ابيات مسوغات الِابْتِدَاء وَشَرحهَا وَله مؤلف سَمَّاهُ الِانْتِصَار النفيس لجناب مُحَمَّد بن ادريس ردا على بعض الْحَنَفِيَّة فى زَمَانه زعم ان حَدِيث لَا تسبوا قُريْشًا فان عالمها يمْلَأ الارض علما منزل على ابْن عَبَّاس وَزعم ان مَا ورد فى فضل قُرَيْش مَخْصُوص بالقاطنين بِأم الْقرى وَله غير ذَلِك من تآليف واشعار وآثار وَانْفَرَدَ فى فقههم بمسائل لم يُوَافقهُ عَلَيْهَا أحد من فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة مِنْهَا ان الْمصلى فى دَاخل الْمَسْجِد بقبة مثلا مَبْنِيَّة فِيهِ اذا صك عَلَيْهِ بَابهَا مَعَ علمه بانتقالات الامام وَلم يُمكنهُ الْوُصُول مِنْهَا اليه كمقام ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فان قدوته غير صَحِيحَة وَصلَاته بَاطِلَة وَمِنْهَا فى الْحَج ان من وصل الى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّفر الاول نَاوِيا النَّفر ورماها فَهُوَ عِنْد وُصُوله اليها خَارج منى فَيجب عَلَيْهِ بعد رميها الرُّجُوع الى حد منى ثمَّ ينفر عقبه لَان الاول كَانَ قبل استكمال الرمى وان مَا عَلَيْهِ عمل النَّاس الْيَوْم من سيرهم من منى وافاضتهم عقب رمى جَمْرَة الْعقبَة سِيمَا النِّسَاء غير صَحِيح قَالَ كَمَا تَقْتَضِيه عباراتهم سِيمَا عبارَة التُّحْفَة هَذَا مَا ظهر فان ظهر نقل بِخِلَافِهِ فالمعول عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من شهر ربيع الثانى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة المعلاة
على بن أَبى بكر بن المقبول صَاحب الْحَال الزيلعى العقيلى وَتقدم رفع نسبه فى تَرْجَمَة أَبِيه كَانَ من أكَابِر بنى الزيلعى ووجوههم وَمن خِيَار عباد الله الصَّالِحين المتمسكين بِالسنةِ وَكَانَ حسن الْخلق والخلق لطيف الطباع حسن الشَّمَائِل متواضعا خيرا كَرِيمًا ملازما لطاعة الله وَذكره الشلى وَقَالَ ولد باللحية فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أَبِيه وَعَن الْفَقِيه مَقْبُول بن أَحْمد المحجب(3/130)
وَاجْتمعَ بِكَثِير من الاولياء وَأخذ عَنْهُم وأجازوه واشتهر ذكره بِبَلَدِهِ ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ ثمَّ الى صَعِيد مصر وَمكث ثمَّة نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ مسموع الْكَلِمَة عِنْد امرائها مَقْبُول الشَّفَاعَة مجللا مُعظما وَله كرامات كَثِيرَة مِنْهَا ان بعض الاصحاب كَانَ مُسَافِرًا فى سفينة المترجم من الْقصير الى الينبع فهاج الْبَحْر وتعب أهل السَّفِينَة كثيرا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ فَقَالَ فى نَفسه سُبْحَانَ الله النَّاس يَقُولُونَ ان صَاحب هَذِه السَّفِينَة من أَوْلِيَاء الله وَلَا يُلَاحظ سفينته وتحكم ذَلِك فى خاطره فَأَخَذته سنة من النّوم فَرَآهُ وَهُوَ ماسك مقدمها بِيَدِهِ يَقُودهَا والتفت اليه وَقَالَ لَهُ يَا فلَان لَا تخف فَنحْن لَا نغفل عَن سواعينا قُم من النّوم وَلكم السَّلامَة فأفاق من نَومه فَوجدَ الامر هان والسفينة اسْتَقَرَّتْ وسلموا وبلغوا الينبع وَرَآهُ فِيهَا على صورته الَّتِى رَآهُ عَلَيْهَا فى النّوم وَمِنْهَا ان الامير مُحَمَّد أَمِير الصَّعِيد كَانَ يَعْتَقِدهُ كثيرا وَكَانَ لَهُ مركب فَقَالَ يَا شيخ على اشْتَرِ هَذَا الْمركب وَأعْطِ حَقه على حسب التَّيْسِير فَأخذ مِنْهُ بألفي قِرْش فَبعد مُدَّة حصل على الامير مَا حصل من قيام وَزِير مصر وعسكرها عَلَيْهِ حَتَّى جهزوا عَلَيْهِ عسكرا جراراً وقتلوه وضبطوا مخلفاته فوجدوا الْمبلغ مَكْتُوبًا فى الدفاتر على الشَّيْخ على فَجَاءَهُ رَسُول من وَزِير مصر يقبض جَمِيع المخلفات فَطلب من الشَّيْخ على الْمبلغ الْمَذْكُور فَذكر لَهُم انه أَخذه من الامير على التدريج وَلَا يقدر على دفع شئ فى هَذِه الْحَال من ثمنه أَو يأخذوه بِعَيْنِه فَأبى الرَّسُول ذَلِك فَاقْتضى نظر أَمِير الصَّعِيد الامير أَحْمد ان يُسَافر الى مصر وَيرد الامر الى الْوَزير فَذهب الى مصر وَمَعَهُ جمَاعَة مطلوبون أَيْضا فى دُيُون مَعَ رَسُول الْوَزير فأهانهم وأجلسهم مَجْلِسا غير مُنَاسِب فى السَّفِينَة المتوجهة بهم الى مصر وَصَارَ يمْنَع النَّاس عَن الِاجْتِمَاع بهم فنصحه الشَّيْخ وَقَالَ لَهُ مَالك حَاجَة بِنَا فَلم يفده فَخرج لَهُ فى دبره شئ مَنعه من الْجُلُوس وَالطَّعَام وَالشرَاب وَاشْتَدَّ بِهِ ذَلِك فَأرْسل اليه وَقَالَ لَهُ يَا سيدى تبت الى الله فَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من الْقُرْآن فعوفى لوقته وَصَارَ يتعاطى خدمته بِنَفسِهِ الى مصر فَلَمَّا وصلا الى مصر قَالَ لَهُ يَا سيدى انْزِلْ عندى فى بيتى وأقضى لَك جَمِيع امورك فَأبى وَنزل عِنْد بعض أَصْحَابه ثمَّة من أهل الْيمن ثمَّ ذهب الى الامير قيطاس واخبره بذلك وَكَانَ فى ذَلِك الْوَقْت رَئِيس مصر فَذهب بِهِ الى الْوَزير فبمجرد ان وَقع بصر الْوَزير عَلَيْهِ قَامَ لَهُ اجلالا وبقى بَين يَدَيْهِ كالطفل الصَّغِير وَهُوَ فى غَايَة التأدب فَأخْبرهُ بذلك فَقَالَ نحط عَنْكُم من الْمبلغ كَذَا والباقى مِنْهُ نحاسبكم بِهِ من اجرة(3/131)
حبوب الْحَرَمَيْنِ الَّتِى نضعها فى السَّفِينَة ونادى الْكتاب فى ذَلِك الْوَقْت فَحَسبُوا ذَلِك وَفضل لَهُ من الاجرة شئ كثير فدفعوه لَهُ فى الْحَال وزاده الْوَزير من عِنْده شَيْئا وكساه ثيابًا فاخرة وَبَالغ فى اكرامه وَقَالَ لَهُ الْحُبُوب نزلُوا مِنْهَا فى الساعية الَّتِى تريدوها والباقى يكون فى سفرة اخرى وَأمر أَمِير الصَّعِيد ان يدْفع لَهُ من الْحُبُوب شَيْئا كثيرا وَرجع الشَّيْخ الى الصَّعِيد منصورا مظفرا وَتشفع بِهِ بَقِيَّة المطلوبين بِمَا عَلَيْهِم من الدّين فَقبل شَفَاعَته وسامحهم الْوَزير بذلك وَكَانَ حَافِظًا للمراتب الشَّرْعِيَّة وَمن الْقَائِلين بالوحدة وَكَانَ ملآنا من معرفَة الله تَعَالَى وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى رَجَعَ الى الْحَرَمَيْنِ وَمكث مُدَّة ثمَّ توجه الى الْيمن فى سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَرجع من عَامه فتوفى بِمَكَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ حادى عشرى ذى الْقعدَة الشَّرِيفَة سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَدفن بالشبيكة رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد على بن أَبى الْحسن الملقب نور الدّين الحسينى الشامى العاملى الامام الْهمام الْعَالم المنطيق الجم الْفَائِدَة الْمَشْهُور ذكره السَّيِّد على بن مَعْصُوم فى السلافة فَقَالَ فِي تَعْرِيفه طود الْعلم المنيف وعضد الدّين الحنيف وَمَالك ازمة التَّأْلِيف والتصنيف الباهر بالرواية والدراية والرافع لخميس المكارم أعظم رايه فضل يعثر فى مداه مقتفيه وَمحل يتَمَنَّى الْبَدْر لَو أشرق فِيهِ وكرم يخجل المزن الهاطل وشيم يتحلى بهَا جيد الزَّمَان العاطل وصيت حل من حسن السمعة بَين السحر والنحر
(فَسَار مسير الشَّمْس فى كل بَلْدَة ... وهب مهب الرّيح فى الْبر وَالْبَحْر)
حَتَّى كَانَ رائد الْمجد لم ينتجع سوى جنابه وبريد الْفضل لم يقعقع سوى حَلقَة بَابه وَكَانَ لَهُ فى مبدا أمره بِالشَّام مجَال لَا يكذبهُ بارق الْعِزّ اذا شام بَين اعزاز وتمكين وَمَكَان فى جَانب صَاحبهَا مكين ثمَّ انثنى عاطفا عنانه وثانية فقطن بِمَكَّة شرفها الله تَعَالَى وَهُوَ كعبتها الثَّانِيَة تستلم اركانه كَمَا تستلم اركان الْبَيْت الْعَتِيق وتستنسم اخلاقه كَمَا يستنسم الْمسك الفتيق وَلَقَد رَأَيْته بهَا وَقد أناف على التسعين وَالنَّاس تستعين بِهِ وَلَا يَسْتَعِين والنور يسطع من اسارير جَبهته والعز يرتع فى ميادين جلهته وَلم يزل بهَا الى ان دعى فَأجَاب وَكَأَنَّهُ الْغَمَام امرع الْبِلَاد فانجاب وَله شعر يدل على علو مَحَله وابلاغه هدى القَوْل الى مَحَله فَمِنْهُ قَوْله متغزلا
(يَا من مضوا بفؤادى عِنْدَمَا رحلوا ... من بعد مَا فى سويدا الْقلب قد نزلُوا)
(جاروا على مهجتى ظلما بِلَا سَبَب ... فليت شعرى الى من فى الْهوى عدلوا)(3/132)
(وأطلقوا عبرتى من بعد بعدهمْ ... وَالْعين اجفانها بالسهد قد كحلوا)
(يَا من تعذب من تسويفهم كبدى ... مَا آن يَوْمًا لقطع الْحَبل أَن تصلوا)
(جادوا على غَيرنَا بالوصل مُتَّصِلا ... وفى الزَّمَان علينا مرّة بخلوا)
(كَيفَ السَّبِيل الى من فى هَوَاهُ مضى ... عمرى وَمَا صدنى عَن ذكره شغل)
(واحيرتى ضَاعَ مَا أوليت من زمن ... اذ خَابَ فى وصل من أهواهم الامل)
(فى أى شرع دِمَاء العاشقين غَدَتْ ... هدرى وَلَيْسَ لَهُم ثار اذا قتلوا)
(يَا للرِّجَال من الْبيض الرشاق أما ... كفاهم مَا الذى بِالنَّاسِ قد فعلوا)
(من منصفى من غزال مَاله شغل ... عَنى وَلَا عاقنى عَن حبه عمل)
(نصبت أشراك صيدى فى مراتعه ... وَالصَّيْد فنى ولى فى طرقه حيل)
(فصاح بى صائح خفض عَلَيْك فقد ... صيد الغزال الذى تبغيه يَا رجل)
(فصرت كالوا لَهُ الساهى وفارقنى ... عقلى وَضَاقَتْ على الارض والسبل)
(وَقلت بِاللَّه قل لى أَيْن ساربه ... من صَاده علهم فى السّير مَا عمِلُوا)
(فَقَالَ لى كَيفَ تلقاهم وَقد رحلوا ... من وقتهم واستجدت سَيرهَا الابل)
وَقَوله من قصيدة طَوِيلَة فى الْمَدْح أَولهَا
(لَك الْفَخر بالعليا لَك السعد راتب ... لَك الْعِزّ والاقبال والنصر غَالب)
مِنْهَا
(سموت على قب السراحين صائلا ... فكلت بكفيك القنا والقواضب)
(وحزت رهان السَّبق فى حلبة العلى ... فَأَنت لَهَا دون الْبَريَّة صَاحب)
(وجلت بحومات الوغى جول باسل ... فَردَّتْ على اعقابهن الْكَتَائِب)
(فَلَا الدارعات المقتمات تكنها ... ملابسها لما تحق الْمضَارب)
(وَلَا كَثْرَة الاعداء تغنى جموعها ... اذا لمعت مِنْك النُّجُوم الثواقب)
(خض الحتف لَا تخش الردى واقهر العدى ... فَلَيْسَ سوى الاقدام فى الرأى صائب)
(وشمر ذيول الحزم عَن سَاق عزمها ... فَمَا ازدحمت الا عَلَيْك الْمَرَاتِب)
(اذا صدقت للناظرين دَلَائِل ... فدع عَنْك مَا تبدى الظنون الكواذب)
(ببيض المواضى يدْرك الْمَرْء شأوه ... وبالسمران ضَاقَتْ تهون المصاعب)
(لاسلافك الغر الْكِرَام قَوَاعِد ... على مثلهَا تبنى العلى والمناصب)
(زكوت وحزت الْمجد فرعا ومحتدا ... فآباؤك الصَّيْد الْكِرَام الا طائب)
(وَمن يزك أصلافى المعالى سمت بِهِ ... ذرى لمجد وانقادت اليه الرغائب)(3/133)
(بَنو عمكم لما اضاءت مَشَارِق ... بكم أشرقت مِنْهُم علينا مغارب)
(وَفِيكُمْ لنا بدر من الغرب طالع ... فَلَا غروان كَانَت لَدَيْهِ الْعَجَائِب)
(هُوَ الْفَخر مد الله فى الارض ظله ... وَلَا زَالَ تجلى من سناه الغياهب)
(الى حلب الشَّهْبَاء منى بِشَارَة ... تعطر حَتَّى تستطيب الجوانب)
(اذا مَا مضى من بعد عشر ثَلَاثَة ... من الدّور فِيهَا تستتم المآرب)
(لقد حدثت عَنْهَا أولو الْعلم مِثْلَمَا ... جرى وَانْقَضَت تِلْكَ السنوات الجوادب)
(بدا سعدها لما على بدابها ... وَيَا طالما قد أنحست وَهُوَ غارب)
(وَفَوْز على بالعلى فوز هابه ... فَكل الى كل مُضَاف مُنَاسِب)
(كأنى بِسيف الدولة الْآن واردا ... اليها يلاقى مَا جنته الثعالب)
(لقد جادها صوب الحيا بعد محلهَا ... وشرفها من أحكمته التجارب)
(كريم اذا مَا أمحل الْغَيْث أمْطرت ... أياديه جودا مِنْهُ تصفو المشارب)
(أديب اريب لَو تجسم لَفظه ... أَصَابَته عقدا للنحور الكواعب)
(فيا أَيهَا الْمَنْصُور بِشِرَاك رُتْبَة ... بهَا السعد حَقًا وَالسُّرُور مواظب)
(مدحتكم والمدح فِيكُم تِجَارَة ... بهَا تثمر النعمى وتغلوا المكاسب)
(الى بَاب عليا كم شددت رواحلى ... وَيَا طالما شدت اليها الركائب)
(بهَا الْفضل منشور بهَا الْجُود وافر ... بهَا فتح من سدت عَلَيْهِ الْمذَاهب)
(وماذا عَسى أَن يبلغ الْوَصْف فِيكُم ... الى غَايَة هَل ينقص الْبَحْر شَارِب)
(فَلَا زلتم فى اكمل السعد والهنا ... مدى الدَّهْر مَا مَالَتْ وَمَا سِتّ ذوائب)
وَله غير ذَلِك وفضله اشهر من ان يذكر وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة لثلاث عشرَة بَقينَ من ذى الْحجَّة الْحَرَام سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف وَابْنه السَّيِّد جمال الدّين تقدم فى حرف الْجِيم
على بن أَحْمد بن حصن الْمَشْهُور بحشيش الولى الْمَشْهُور المصرى ذكره المناوى فى الطَّبَقَات وَقَالَ أَصله من هلبا سُوَيْد من نَاحيَة الحاجر من أَعمال بلبيس نَشأ على طَرِيق المطاوعة وَأخذ بالريف وَغَيره عَن جمع من الْمَشَايِخ مِنْهُم وَالِده وَالشَّيْخ أَبُو بكر بن قعُود وَمُحَمّد بن الْحصين والكاشف غنيم والحماقى ومجاع ومرجات وَعَلِيم المدفون بالحشيبة وعَلى الْجمل والفتى وَعمر السلمونى والخضيرى والبحيرى وَغَيرهم ثمَّ دخل مصر فَصَارَ يَبِيع الحمص المجوهر يَدُور بِهِ فى الاسواق ثمَّ جلس(3/134)
يَبِيعهُ بِالْقربِ من سوق تَحت الرّبع وَله أَحْوَال باهرة وكرامات ظَاهِرَة لكنه مَسْتُور عَن أَكثر النَّاس لَا يعْرفُونَ الا انه رجل مبارك وَمن كراماته انه اذا زار أحدا من الاولياء ظَهرت لَهُ روحانيته فتخاطبه وَقع لَهُ ذَلِك مَعَ الشافعى وَغَيره وانه مَشى فى الْهَوَاء وعَلى المَاء وَذكر أَنه رأى جبل قَاف أَرضًا تتحرك بِنَفسِهَا وانها تسمى الرجراج لَيْسَ بهَا سَاكن وانه اطلع على بَحر الظُّلُمَات وَبِه بلد لَا يبصر أَهلهَا الا فى الظلمَة وانه رأى ارْمِ ذَات الْعِمَاد وَاجْتمعَ بأصحاب الْكَهْف قَالَ ولابد لسالك الطَّرِيق من رُؤْيَتهمْ وَرَأى روح الله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَاجْتمعَ بالخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَوَجَدَهُ يظْهر فى صور مُخْتَلفَة وبالقطب فَوَجَدَهُ يلبس كل يَوْم لباسا لَونه غير لون الآخر وَلم يذكر وَفَاته وَقد رَأَيْتهَا بِخَط الاخ مصطفى بن فتح الله حرس الله وجوده من الطوارق وانها كَانَت بِمصْر فى سنة احدى بعد الالف وَدفن بسويقة الصباغين
على بن أَحْمد الملقب عَلَاء الدّين الحموى الاصل الطرابلسى الحنفى الْمَعْرُوف بِابْن القبانى نزيل دمشق كَانَ فَقِيها نبيلا ورد الى دمشق فى صُحْبَة وَالِده وَسكن بمحلة قبر عَاتِكَة وَأَبوهُ هُوَ الْمَعْرُوف بالقبانى ثمَّ سكن الصالحية وَأخذ القراآت والعربية عَن شيخ الْقُرَّاء الشهَاب الطيبى والْحَدِيث عَن الْبَدْر الغزى والشرف يُونُس العيثاوى وتفقه بِالنَّجْمِ البهنسى خطيب دمشق وَكَانَ فَاضلا لطيف المحاورة ظريف النادرة وَله حسن صَوت وَقِرَاءَة جَيِّدَة وَولى امامة السليمية وخطابة جَامع يلبغا عَن الداودى وناب فى خطابة الْجَامِع الاموى عَن شَيْخه البهنسى قَدِيما وَعَن وَلَده الشَّيْخ يحيى حِين سَافر الى الرّوم وَكَانَ حسن الْخط لطيف التأدية وَله شعر متوسط لم أر فِيهِ مَا هُوَ من شَرط كتابى وَكَانَت وَفَاته بصالحية دمشق لَيْلَة الاربعاء ثامن عشر شهر ربيع الثانى سنة سبع بعد الالف وَقد تجَاوز السّبْعين وَحمل الى محلّة قبر عَاتِكَة فَدفن بمقبرة الدقاقين
الامير على بن أَحْمد بن جانبولاذ بن قَاسم الكردى القصيرى قد أَكثر أهل التَّارِيخ والمجاميع مِمَّن لَحِقُوا واقعته من ذكره وَذكر مَا فعله بِدِمَشْق وَمَا جرى لحكام الشَّام وَأَهْلهَا مَعَه من الوقائع وَقد اخْتَرْت من ذَلِك مَا أودعته فى هَذِه الاوراق من مبدأ أمره الى منتهاه وأماذ كرّ أَصله ومنزعه فجده جانبولاذ هَذَا كَانَ يعرف بِابْن عربوا وَكَانَ أَمِير لِوَاء الاكراد بحلب ولى حُكُومَة المعرة وكلس وعزاز وَكَانَ لَهُ صيت(3/135)
شَائِع وهمة علية ومبدا الامير على هَذَا انه كَانَ فى طَلِيعَة عمره ولى حُكُومَة العزيزى وَقد تقدم فى تَرْجَمَة عَمه حُسَيْن باشا انه لما قَتله الْوَزير ابْن جغال لتراخيه فى أَمر السّفر الذى كَانَ عين لَهُ خرج الامير على عَن طَاعَة السلطنة وَجمع جمعا عَظِيما من السكبانية حَتَّى صَار عِنْده مِنْهُم مَا يزِيد على عشرَة آلَاف وَمنع المَال الْمُرَتّب عَلَيْهِ وَقتل وَنهب فى تِلْكَ الاطراف ودبر على قتل نَائِب حلب حُسَيْن باشا وَكَانَ ولاه السُّلْطَان نياتها وصل الى اذنة وَكَانَ باذنة حَاكم يعرف بجمشيد فَكتب اليه ابْن جانبولاذ أَن يصنع لَهُ ضِيَافَة ويقتله فَفعل ونما خَبره الى الاقطار وَاسْتمرّ فى حلب يظْهر الشقاق الى أَن أرسل الامير يُوسُف بن سَيْفا صَاحب عكار الى بَاب السلطنة رِسَالَة يطْلب فِيهَا أَن يكون أَمِيرا على عَسَاكِر الشَّام وَالْتزم بازالة الامير على عَن حلب فَجَاءَهُ الامر على مَا الْتزم وَأرْسل الى عَسْكَر دمشق وأمراء ضواحيها يطلبهم الى مُجْتَمع العساكر وَهُوَ مَدِينَة حماه فتجمعوا هُنَاكَ من كل نَاحيَة وَجَاء ابْن جانبولاذ الى حماه وتلاقيا وتصادما فَمَا هُوَ الا ان كَانَ اجْتِمَاعهم بِمِقْدَار نحر جزور فانكسر ابْن سَيْفا وَأَتْبَاعه وَرجع بأَرْبعَة أَنْفَار وَاسْتولى ابْن جانبولاذ على مخيمه ومخيم عَسْكَر الشَّام ثمَّ انه راسل الامير فَخر الدّين بن معن أَمِير الشّرف وبلاد صيدا وَأظْهر لَهُ انه قَرِيبه مَعَ بعد النِّسْبَة فَحَضَرَ اليه واجتمعا عِنْد منبع العاصى وتشاورا على أَن يقصدا طرابلس الشَّام لاجل الانتقام من ابْن سَيْفا فَسَار ابْن سَيْفا فى الْبَحْر وأخلى لَهُم طرابلس وعكار وَأرْسل اولاده وَعِيَاله الى دمشق وأجلس مَمْلُوكه يُوسُف فى قلعة طرابلس فتحصن بهَا وَبعث ابْن جانبولاذ الامير درويش بن حبيب بن جانبولاذ الى طرابلس فضبطها وَاسْتولى على غَالب أَمْوَال من وجد هُنَاكَ واستخرج دفائن كَثِيرَة لاهلها وَلم يسْتَطع أَن يملك قلعتها وَسَار الامير على وَمَعَهُ ابْن معن الى نَاحيَة الْبِقَاع العزيزي من نواحى دمشق وَمَرا على بعلبك وخربا مَا أمكن تخريبه مِنْهَا وَاسْتقر فى الْبِقَاع وأظهرا انهما يُريدَان مقاتلة عَسْكَر الشَّام وَلم تزل العساكر الشامية ترد الى دمشق حَتَّى اسْتَقر فى وادى دمشق الغربى مَا يزِيد على عشرَة آلَاف وتزاحف العسكران حَتَّى اسْتَقر ابْن جانبولاذ وَابْن معن فى نواحى العراد وزحف الْعَسْكَر الدمشقى الى مقابلتهما وَكَانَ ابْن سَيْفا وصل الى دمشق وَأظْهر التمارض وَلم يرحل مَعَ الْعَسْكَر الشامى واستمرت الرُّسُل مترددة بَين الْفَرِيقَيْنِ ليصطلحا فَلم يقدر لَهُم الِاصْطِلَاح وتزاحف الجيشان فَتوهم ابْن(3/136)
جانبولاذ من صدمة الْعَسْكَر الشامى فشرع فى تفخيذ أكَابِر الْعَسْكَر عَن الِاتِّفَاق وأوقع بَينهم ثمَّ انه أرسل الى طَائِفَة من أكابرهم فَوَرَدُوا عَلَيْهِ فى مخيمه لَيْلًا وألبسهم الْخلْع وتوافقوا مَعَه على انهم ينكسرون عِنْد الْمُقَابلَة وَكَانَ فى جَانب ابْن جانبولاذ ابْن معن وَابْن الشهَاب أَمِير وادى التيم وَيُونُس بن الحرفوش فطابت نفسهم لملاقاة الشاميين وتقابل الْفَرِيقَانِ فى يَوْم السبت من أواسط جُمَادَى الاخرة سنة خمس عشرَة بعد الالف وَلم يَقع قتال فاصل بَين الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ فى صَبِيحَة نَهَار الاحد وقف الْعَسْكَر الشامى فى الْمُقَابلَة واقتتلا فَمَا مر مِقْدَار جلْسَة خطيب الا وَقد انفل الْعَسْكَر الشامى حَتَّى قَالَ ابْن جانبولاذ الْعَسْكَر الشامى مَا قاتلنا وانما قابلنا للسلام علينا فَلَمَّا ولى عَسْكَر دمشق زحف ابْن جانبولاذ حَتَّى نزل بقرية المزة وَكَانَ نُزُوله فى الْخيام وَأما ابْن معن فانه كَانَ ضَعِيف الْجَسَد فى هاتيك الايام وَكَانَ نُزُوله فى جَامع المزة وأصبحت أَبْوَاب الْبَلدة يَوْم الِاثْنَيْنِ مقفلة وَقد خرج مِنْهَا ابْن سَيْفا وجماعته لَيْلًا بعد ان اجْتمع بِهِ قاضى الْقُضَاة بِالشَّام الْمولى ابراهيم بن على الازنبقى وَحسن باشا الدفترى الْمُقدم ذكرهمَا وَلم يمكناه من الْخُرُوج حَتَّى دفع اليهما مائَة ألف قِرْش ليفتدوا بهَا الشَّام من ابْن جانبولاذ ثمَّ خرج وَمَعَهُ الامير مُوسَى ابْن الحرفوش وَلما بلغ الامير ابْن جانبولاذ خُرُوجه غضب وَقَالَ أهل دمشق لَو أَرَادوا السَّلامَة منى مَا مكنوا ابْن سَيْفا من الْخُرُوج وهم يعْرفُونَ اننى مَا وَردت بِلَادهمْ الا لاجله ونادى عِنْد ذَلِك بالسكبانية أَن يذهبوا مَعَ الدروز جمَاعَة ابْن معن لنهب دمشق فوردت السكبانية والدروز أَفْوَاجًا الى خَارج دمشق وشرعوا فى نهب المحلات الْخَارِجَة فَلَمَّا اشْتَدَّ الكرب وَالْحَرب على المحلات وتلاحم الْقِتَال خَافَ الْعُقَلَاء فى دمشق فَخرج جمَاعَة الى ابْن جانبولاذ وَقَالُوا لَهُ ان ابْن سَيْفا قد وضع لَك عِنْد قاضى الشَّام مائَة ألف قِرْش وتداركوا لَهُ خَمْسَة وَعشْرين ألف قِرْش أُخْرَى كَمَا وَقع عَلَيْهِ مَعَه الِاتِّفَاق من مَال بعض الايتام الَّتِى كَانَت على طَرِيق الامانة فى قلعة دمشق وَبعد ذَلِك أَدَّاهَا أَيْضا ابْن سَيْفا كالمائة ألف فَلَمَّا تكلم النَّاس فى الصُّلْح طلب ابْن جانبولاذ المَال الذى وَقع عَلَيْهِ الصُّلْح على يَد الدفترى وَقَالَ ان جاءنى المَال فى هَذَا الْوَقْت رحلت فحملوا لَهُ مائَة ألف قِرْش وَخَمْسَة وَعشْرين ونادى بالرحيل عَن المزة فى الْيَوْم الرَّابِع من نُزُوله وَاسْتمرّ النهب فى أَطْرَاف دمشق ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَة وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الاموال والاولاد الذُّكُور وَلم يتَعَرَّضُوا للنِّسَاء(3/137)
وَلما رَحل ابْن جانبولاذ ارْتَفع النهب عَن الْمَدِينَة وَفتحت أَبْوَاب الْمَدِينَة فى الْيَوْم الرَّابِع فازدحم النَّاس على الْخُرُوج أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا وَدخل اليها من نهبت أَسبَابه من المحلات الْخَارِجَة فَكَانُوا لَا يعْرفُونَ لتغير أسبابهم ووجوههم وابتدأت العساكر الهاربة تتراجع الى دمشق وَلم ينالوا بِمَا صدر مِنْهُم من الفضيحة وَلما فَارق ابْن جانبولاذ دمشق سَار على طَرِيق الْبِقَاع وَفَارق ابْن معن هُنَاكَ ورحل الى أَن وصل الى مُقَابلَة حصن الاكراد وَأقَام هُنَاكَ وَأرْسل الى ابْن سَيْفا يطْلب مِنْهُ الصُّلْح والمصاهرة فَأَجَابَهُ وَأَعْطَاهُ مَا يقرب من ثَلَاث كرات من القروش وزوجه ابْنَته وَتزَوج مِنْهُ أُخْته لِابْنِهِ الامير حُسَيْن ورحل ابْن جانبولاذ من هُنَاكَ إِلَى جَانب حلب وجاءته الرُّسُل من جَانب السلطنة تقج عَلَيْهِ مَا فعل بِالشَّام فَكَانَ تَارَة يُنكر فعلته وَتارَة يحِيل الامر على عَسْكَر الشَّام وَشرع يسد الطرقات وَيقتل من يعرف انه سَائِر الى طرف السلطنة لابلاغ مَا صدر مِنْهُ حَتَّى أَخَاف الْخلق وَنفذ حكمه من ادنه الى نواحى غَزَّة وَكَانَ ابْن سَيْفا ممتثلا لامره غير تَارِك مداراة السلطنة وَاتفقَ مَعَه على ان تكون حمص تَحت حكم ابْن سَيْفا وَكَانَت حماة وَمَا وَرَاءَهَا من الْجَانِب الشمالى الى ادنه فى تعلق ابْن جانبولاذ وانقطعت أَحْكَام السلطنة عَن الْبِلَاد الْمَذْكُورَة نَحْو سنتَيْن وَوَقعت الوحشة وانقطعت الطرقات الى أَن ولى الوزارة الْعُظْمَى مُرَاد باشا وَكَانَ سَافر فى ابْتِدَاء وزارته الى الرّوم وَأصْلح مَا بَين السُّلْطَان وَمَا بَين سلاطين المجر فَلَمَّا قدم عينه السُّلْطَان لدفع ابْن جانبولاذ وَبَقِيَّة الْخَوَارِج مثل العَبْد سعيد وَمُحَمّد الطَّوِيل الْخَارِج فى نواحى سيواس فَقدم الْوَزير الْمَذْكُور وَمَعَهُ من العساكر الرومية مَا يزِيد على ثلثمِائة ألف مَا بَين فَارس وراجل وَكَانَ كلما مر بِقوم السكبانية الخارجين يقتلهُمْ حَتَّى أَزَال السبكانية الخارجين وَلم يبْق سوى العَبْد سعيد والطويل مُحَمَّد فانهما حادا عَن طَرِيقه وَلم يسْتَطع لحاقهما وَوصل الى ادنه فخلصها من يَد جمشيد الخارجى وَلما انْفَصل عَن جسر المصيصة الى هَذَا الْجَانِب تَيَقّن ابْن جانبولاذ انه قاصده فَجمع جموعه المتفرقة فى الْبِلَاد حَتَّى اجْتمع عِنْده أَرْبَعُونَ ألفا وَخرج من حلب والوزير فى بِلَاد مرعش وَجزم بمقابلته وَكَانَ الْوَزير فى أثْنَاء ذَلِك يراسله بالكلمات الطّيبَة طَمَعا فى اصلاح أمره فَلم يَزْدَدْ الا عتوا وَلما تلاقى الْفَرِيقَانِ برز عَسْكَر ابْن جانبولاذ الى الْمُقَاتلَة يَوْمَيْنِ وَلم يظْهر لَاحَدَّ الفئتين غَلَبَة على الاخرى ففى الْيَوْم الثَّالِث التحم الْقِتَال حَتَّى(3/138)
كَاد أَن يكون عَسْكَر الْبُغَاة غَالِبا وَكَانَ من أَعَاجِيب الامر ان وزيرا يُقَال لَهُ حسن باشا الترياقى وَكَانَ من جملَة الْعَسْكَر السلطانى رتب عَسْكَر السُّلْطَان وَقَالَ قَاتلُوا الْبُغَاة الى وَقت الظّهْر فاذا حكم وَقت الظّهْر فافترقوا فرْقَتَيْن فرقة مِنْكُم تذْهب لجَانب الْيَمين وَأُخْرَى تذْهب لجِهَة الشمَال وَاجْعَلُوا عَرصَة الْقِتَال خَالِيَة للاعداء وحدهم وَقد أخْفى المدافع الْكَبِيرَة فى مُقَابلَة الْعَدو وملأها بالبارود فَلَمَّا افترق عَسْكَر السُّلْطَان ظن حزب ابْن جانبولاذ انهم كسروا فبالغوا فى اتِّبَاع عَسْكَر السُّلْطَان الى أَن كَادُوا يخالطونهم فَلَمَّا قربوا وخلت لَهُم عَرصَة الْقِتَال أطْلقُوا عَلَيْهِم المدافع ولحقوهم بِالسُّيُوفِ الى ان أزاحوهم عَن خيامهم وكسروهم كسرة شنيعة وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وهرب ابْن جانبولاذ الى حلب وَلم يقربهَا الا لَيْلَة وَاحِدَة فَوضع أَهله وَعِيَاله وذخائره فى قلعتها وَخرج مِنْهَا الى أَن أَلْجَأَهُ الْهَرَب الى ملطيه وبقى الْوَزير يتبع أعوان ابْن جانبولاذ فأبادهم قتلا بِالسَّيْفِ وَجَاء الى حلب بالجنود فَرَأى قلعتها فى أيدى بعض أعوان الْبُغَاة فرام محاصرتها فتحقق من فِيهَا ان كل مَحْصُور مَأْخُوذ فطلبوا الامان من الْوَزير فأنزلهم بأمانه وَكَانُوا نَحْو ألف رجل وَكَانَ مَعَهم نسَاء ابْن جانبولاذ وَكَانَ أكَابِر الْجَمَاعَة أَرْبَعَة من رُؤْس السكبانية فَلَمَّا نزلُوا بَادرُوا الى تَقْبِيل ذيل الْوَزير فَأَشَارَ الى النِّسَاء بالكن فى مَكَان مَعْلُوم وَفرق الرِّجَال على أَرْبَاب المناصب وطلع الى القلعة وَرَأى مَا بهَا من أَمْوَال ابْن جانبولاذ وتحفه العزيزة فضبط ذَلِك كُله لبيت المَال ثمَّ شرع يتجسس فى حلب على الاشقياء واتباعهم فَقتل جملَة من الِاتِّبَاع وهجم الشتَاء فَفرق العساكر فى الاطراف وشتى هُوَ فى حلب وَأما ابْن جانبولاذ فانه خرج من ملطيه وَسَار الى الطَّوِيل العاصى فَلَا بِلَاد انا طولى وأرد أَن يتحد مَعَه فَأرْسل اليه الطَّوِيل يَقُول لَهُ أَنْت بالغت فى الْعِصْيَان وَأَنا وان كنت مُسَمّى باسم عَاص لكنى مَا وصلت فى الْعِصْيَان الى رتبتك فَرَحل عَنهُ بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَسَار الى العاصى الْمَعْرُوف بقرًا سعيد وَمَعَهُ ابْن قلندر وَلما وصل الى جمعية هَؤُلَاءِ العصاة تلقوهُ وعظموه وحسنوا فعلته مَعَ العساكر السُّلْطَانِيَّة وَأَرَادُوا أَن يَجْعَلُوهُ عَلَيْهِم رَئِيسا فَشرط عَلَيْهِم شُرُوطًا فَمَا قبلوها فاطمأن تِلْكَ اللَّيْلَة الى أَن هجم اللَّيْل وَأخذ عَمه حيدر وَابْن عَمه مصطفى وَابْن عَمه مُحَمَّدًا وَخرج وَلم يزل سائرا حَتَّى دخل بروسة مَعَ اللَّيْل وَتوجه الى حاكمها وَأخْبرهُ بِنَفسِهِ فتحير مِنْهُ وَلما تحقق ذَلِك قَالَ لَهُ مَا سَبَب وقوعك فَقَالَ ضجرت من الْعِصْيَان وَهَا أَنا(3/139)
ذَاهِب الى الْملك فأرسلنى اليه فى الْبَحْر فَأرْسلهُ من طَرِيق الْبَحْر فَلَمَّا دخل دَار السلطنة أعلم بِهِ السُّلْطَان فَقَالَ أحضروه فَلَمَّا حضر اليه قَالَ لَهُ مَا سَبَب عصيانك فَقَالَ لَهُ مَا أَنا عَاص وانما اجْتمعت على فرق الاشقياء وَمَا خلصت مِنْهُم الابان ألقيتهم فى فَم جنودك وفررت اليك فرار المذنبين فان عَفَوْت فَأَنت لذَلِك أهل وان أخذت فحكمك الاقوى فَعَفَا عَنهُ وَأَعْطَاهُ حُكُومَة طمشوار فى دَاخل بِلَاد الرّوم وَنَجَا بذلك وَلم يزل على حكومتها الى أَن عرض لَهُ أَمر أوجب قِتَاله لرعايا تِلْكَ الديار وَلزِمَ انه انحصر فى بعض القلاع فى بِلَاد الرّوم فَعرض أمره الى بَاب السلطنة الاحمدية فبرز الامر بقتْله وَعدم اخراجه من تِلْكَ القلعة فَقتل وَأرْسل رَأسه الى بَاب السلطنة وَكَانَ ذَلِك فى حُدُود الْعشْرين وَألف وَالله أعلم
على باشا بن أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بكوزلجه هُوَ وَمن بَلْدَة استانكوى وجده لامه قيا باشا فَهُوَ سيد صَحِيح النّسَب قَالَ ابْن نوعى فى تَرْجَمته كَانَ أَبوهُ أَمِير الامراء بتونس من بِلَاد الغرب فَلَمَّا خرج بِتِلْكَ الدائرة الخارجى الْمَعْرُوف بِيَحْيَى وَادّعى أَنه مهدى الزَّمَان حاربه أَحْمد باشا فَقتل أَحْمد باشا فى تِلْكَ الْوَقْعَة بعد حروب كَثِيرَة وَكَانَ ذَلِك فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ سنّ على باشا اذ ذَاك تسع سِنِين فَبعد مُدَّة من قتل أَبِيه تسلط بعض عبيدهم على يحيى وَوجد فرْصَة فَقتله ثمَّ قدم على باشا الرّوم فولى حُكُومَة دمياط فضبطها خَمْسَة عشر سنة ثمَّ قدم الى طرف الدولة وَكَانَ السُّلْطَان أَحْمد عَازِمًا على التَّوَجُّه الى بروسه فَأَخذه فى سفينته الْمعينَة لَهُ وَذَلِكَ فى سنة أَربع عشرَة وَألف وفى تِلْكَ الاثناء أعْطى ولَايَة الْيمن فَلم يقبلهَا ثمَّ عرضت عَلَيْهِ حُكُومَة مانجوسة قبرس فَلم يقبلهَا أَيْضا ثمَّ أعْطى ولَايَة تونس فتصرف بهَا سنتَيْن وَعمر بهَا جَامعا ثمَّ أعْطى حُكُومَة موره وَبعد ثَلَاث سِنِين نقل الى حُكُومَة قبرس ثمَّ أعْطى تونس برتبة الوزارة ثمَّ صَار حَاكم الْبَحْر فى الْمحرم سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وانفق لَهُ فى سفرته الثَّالِثَة انه أَخذ سِتَّة غلايين من غلايين الْكفَّار وَجَاء بهَا الى دَار الْخلَافَة وأتى بغنائم كَثِيرَة لَا تعد وَلَا تحصى وَأهْدى الى السُّلْطَان هَدِيَّة لَا يُمكن وصفهَا فَكَانَت جائزته من السُّلْطَان مصطفى أَن ميزه على سَائِر الوزراء بزنجير ذهب يَضَعهُ لجواده اذا ركب ثمَّ صَار صدر الوزراء فى الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَألف وَأثر آثارا حَسَنَة مِنْهَا جَامع فى جَزِيرَة ساقز وَآخر فى ينكى كوى قرب حِصَار روم ايلى من ضواحى قسطنطينية وسَاق المَاء لزاوية عمرها للشَّيْخ أَمِير بقصبة قَاسم باشا قبالة(3/140)
قسطنطينية وَكَانَت وَفَاته فى خَامِس عشر شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بيشكطاش فى تربة مَخْصُوصَة وَكَانَ عمره لما مَاتَ احدى وَأَرْبَعين سنة رَحمَه الله تَعَالَى
على بن أَحْمد أَبُو الْحسن الفاسى الشهير بالشامى نِسْبَة الى الشَّام لَان جده قدم من الشَّام الى فاس فشهر بنوه بِالنِّسْبَةِ الى الشَّام أديب لَهُ فى الادب مَذْهَب طرازه بِحسن البلاغة مَذْهَب وشعره ألطف من دلّ الحبيب وأسحر من مقلة الشادن الربيب يتَصَرَّف فِيهِ وَلَا يتَكَلَّف ويتقدم بِهِ وَلَا يتَخَلَّف وَهُوَ اذا تغزل أهْدى نفحات نجد واذا تشوق أورى لفحات شوق وَوجد على ان عَلَيْهِ من الجزالة ديباجة تفوق عبقرى الوشى وديباجه لَا يشينه من الْكَلَام حوشيه وَلَا يلم بِسَاحَة أنسه وحشية فَمن تفثات قلمه السحار ونسمات كَلمه الفائقة نسائم الاسحار قَوْله مُخَاطبا للشَّيْخ أَحْمد المقرى بمحروسة فاس عَام سبع وَعشْرين وَألف وَأَشَارَ فِيهَا الى كِتَابه أزهار الرياض
(دعوا شفة المشتاق من سقمها تشفى ... وترشف من آثَار ترب الْهدى رشفا)
(وتلثم تمثالا لنعل كَرِيمَة ... بهَا الدَّهْر يستسقى الْغَمَام ويستشفى)
(وَلَا تصرفوها عَن هَواهَا وسؤلها ... بعد لكم فالعدل يمْنَعهَا الصرفا)
(وَلَا تعتبوها فالعتاب يزيدها ... هياما ويسقيها مدام الْهوى صرفا)
(جفتها بكتم الدمع بخلا جفونها ... فَمن لامها فى للثم فَهُوَ لَهَا أجفى)
(لَئِن حجبت بالبعد عَنْهُم فَهَذِهِ ... مكارمهم لم تبْق سترا وَلَا سحفا)
(وان كَانَ ذَاك الْخيف ملفى وصالهم ... فها نفحة الافضال قربت الملفى)
(فحركت الاشواق منا لروضة ... أَبَاحَ لنا الاسعاد من زهرها قطفا)
(زَمَانا بِهِ موصولنا نَالَ عَائِدًا ... واكد نَحْو الْوَصْل من نحوهم عطفا)
(تولى كَمثل الطيف اذ زار فى الْكرَى ... والا كَمثل الْبَرْق اذ سارع الخطفا)
مِنْهَا
(كَانَا وَمَا كُنَّا نجوب منازلا ... يود بهَا المشتاق لَو وَافق الحتفا)
(وَلم تبصر الابصار مِنْهَا محاسنا ... وَلم تسمع الآدان من ذكرهَا هتفا)
(كَذَاك الليالى لم تحل عَن طباعها ... مَتى واصلت يَوْمًا تصل قطعهَا ألفا)
(فَلَا عَيْش لى أرجوه من بعد بعدهمْ ... وهيهات يَرْجُو الْعَيْش من فَارق الالفا)
مِنْهَا
(أيا من نأت عَنهُ ديار أحبة ... فَمن بعدهمْ مثلى على الهلك قد أشفى)(3/141)
(لَئِن فاتنا وصل بمنزل خيفهم ... فَمَا نفحة من عيشهم للحشا أشفى)
(وهاتيك أزهار الرياض تنفست ... بِأَنْفَاسِهِمْ فاستشفين بهَا تشفى)
(وَقل للالى هاموا اشتياقا ببانهم ... هلموا الْعرف البان نستنشق العرفا)
(فصفحة هَذَا الطرس أبدت نعَالهمْ ... وَصَارَت لَهَا ظرفا فيا حسنه ظرفا)
(تَعَالَوْا نغالى فى مديح علائها ... فَرب غلو لم يعب ربه عرفا)
(وَللَّه قوم فى هَواهَا تنافسوا ... وَقد غرفوا من بَحر أمداحها غرفا)
(وانا وان كُنَّا على الْكل لم نطق ... نحاول بعض الْبَعْض من بعض مَا يلفى)
(لَئِن قبلوا ألفا نزد نَحن بعدهمْ ... على الْألف مَا يسْتَغْرق الْعَدو والالفا)
(وان وصفوا واستغرقوا الْوَصْف حَسبنَا ... نجيل بروض الْحسن من وَصفهم طرفا)
(ونقبس من آثَارهم قدر وسعنا ... ونركض فى مضمار آثَارهم طرفا)
وَمن مديحها فى النبى
(أناديك يَا خير الْبَريَّة كلهَا ... نِدَاء عبيد يرتجى الْعَطف واللطفا)
(وانى محق فى هوى حبك الذى ... يفك جيوش الْهم ان أَقبلت زحفا)
(وَمَا أَنا فِيهِ بالذى قَالَ هازلا ... أليلتنا اذ أرْسلت واردا وجفا)
أَشَارَ بِهَذَا الْبَيْت الى قصيدة ابْن هانى الاندلسى الَّتِى أَولهَا
(أليلتنا اذ أرْسلت وَارِد وجفا ... )
وَكَانَت وَفَاته بفاس بعد الثَّلَاثِينَ وَألف
القاضى على بن أَحْمد بن ابراهيم بن أَبى الرِّجَال قَالَ القاضى الْعَلامَة أَحْمد بن صَالح بن أَبى الرِّجَال فى تَرْجَمته كَانَ فَقِيها عَالما بالفروع الْفِقْهِيَّة حقق فِيهَا وبرز وَيُقَال انه حفظ شرح الازهار غيبا وَكُنَّا نَسْمَعهُ عَلَيْهِ وَمِمَّا شاع فى ألسن الْفُقَهَاء انه لَوْلَا الْجِهَاد لَكَانَ القاضى على بن أَحْمد بِمَنْزِلَة الْفَقِيه على بن يحيى الوشلى صَاحب الزهرة وَلَقَد تعجب مِنْهُ كثير من الْمُحَقِّقين فى مسَائِل وتحصيلات أملاها فى الغصوب وَالرَّهْن وَمَعَ ذَلِك فقد أَقرَأ فى الْفُنُون الاخرى قَرَأَ مستصفى الامام الغزالى فى الاصول على السَّيِّد الْعَلامَة على بن صَلَاح العيالى وهما فى صف الْحَرْب كَانَ اذا سكن عَنْهُم الْعَدو وقرأوا واذا كرّ عَلَيْهِم الْعَدو وَأَقْبلُوا عَلَيْهِ وَلما أَمر الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم السَّيِّد على بن ابراهيم الحيدانى الماضى ذكره بِولَايَة بِلَاد حاشد وبكيل أَمر القاضى أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْبَحْر فَكَانَت من أعجب القراآت كَانُوا يلبثُونَ فى الْبَحْث من عقيب صَلَاة الْفجْر الى ظهيرة النَّهَار وَاتفقَ انه وَفد الى حَضْرَة(3/142)
الامام الى شَهَادَة بعض الْعلمَاء الْكِبَار من أهل الشَّام فَأعْطَاهُ الامام مَا يسْتَحقّهُ من التَّعْظِيم لقُوَّة حرص الامام على انزال النَّاس مَنَازِلهمْ وبادر بارسال السَّيِّد الْعَلامَة صَلَاح بن عبد الْخَالِق الحجاف وَصَاحب التَّرْجَمَة الى ذَلِك الْعَالم ليعرفوا فضيلته فوجدوه لما يسْتَقرّ وخدمه فى أثْنَاء التَّنْظِيف للمحل فحيوه ثمَّ رحبوا بِهِ وتعرفا لَهُ قَالَ القاضى لذَلِك الرجل هَذَا السَّيِّد صَلَاح من كبار الْعلمَاء وَنسب الامام وَنَحْو هَذَا ثمَّ قَالَ السَّيِّد وَهَذَا القاضى على قاضى الامام أحد الْعلمَاء الاحلاء وَوصف بِمَا ينبغى فَأجَاب انكما لستما مِمَّن يعرف الادب وَلَا يسْتَحق هَذِه الصِّفَات كَيفَ تكون منزلتكما هَذِه الْمنزلَة وتفدان على وَأَنا مدهوش لم أستقر فى رحلى وَلَا تتمّ لى مجاراتكم بالانس فاستحيا اليه ثمَّ عزم القاضى الى ذيبين وَأخذُوا فى قِرَاءَة الْبَحْر هَذِه الْمَذْكُورَة وَفِيهِمْ الْبَقِيَّة من شيعَة الطَّاهِر يَوْمئِذٍ كالقاضى الْعَلامَة مُحَمَّد بن صَالح بن حَنش والقاضى الْحسن بن مُحَمَّد ابْن سَلَامه وَغَيرهم فوفد الى الْمَسْجِد الْجَامِع وهم يَخُوضُونَ بحار التَّحْقِيق ويأتى كل مِنْهُم بالاشكال ويحله الآخر وَذَلِكَ الْعَالم يتفكر فيهم فَلَمَّا أَتموا الْقِرَاءَة انزله السَّيِّد منزلا يَلِيق بِهِ فانه عَظِيم الشَّأْن وآنسه القاضى لسابق تِلْكَ الْمعرفَة فَقَالَ ذَلِك الْعَالم يَا قاضى أَنْتُم معاشر اليمانيين لَا تَنْزِلُونَ الْعلم مَنْزِلَته فَقَالَ لَهُ مَا استنكرت من طريقتنا قَالَ رَأَيْت الْيَوْم مجلسكم للْقِرَاءَة فَرَأَيْت مَا لم أره من الِاطِّلَاع على الْفِقْه وَالتَّحْقِيق بِحَيْثُ ان كل انسان من الْحَاضِرين لَو برز باقليم لعلا صيته وَقل نَظِيره وَمَعَ هَذَا فَأنْتم لَا تعتمون الا بعمائم سود وَلَا تلبسُونَ الْجيد من الثِّيَاب فَلم يُبدلهُ القاضى حَقِيقَة الْعذر فى ذَلِك وَكَانَ الْمُقْتَضى لمرور هَذَا الْعَالم ذيبين ان السودة كَانَت يَوْمئِذٍ فى ايدى الاتراك وَصَنْعَاء فَمر ذيبين مجتازا الى صنعاء وَكَانَ عِنْده من ضريبة الامام دَرَاهِم جعلهَا فى ذيبين سبائك وَكَانَت قِرَاءَة صَاحب التَّرْجَمَة على عبد الْقَادِر التهامى البيهى رَحل اليه الى عَاشر وَقَرَأَ على السكامدى الْكَبِير يذمار وَأحسن السكامدى رعايته وَحين أَرَادَ الِانْصِرَاف خرج وَلَده الْعَلامَة الشَّهِيد لتجهيز القاضى وَأَعْطَاهُ زاداً ثمَّ قَرَأَ على الْعَلامَة على بن قَاسم السخانى وَمن جملَة مَا قَرَأَهُ مقامات الحريرى وفى بالى انه قَرَأَ مِفْتَاح السكاكى عَن أَمر شَيْخه السخانى على بعض الآفاقيين وَلم يكن لَهُ فى الْعَرَبيَّة ذوق وَقد كَانَ اشْتغل بشرح الازهار بلغ فِيهِ الى التتميم حَتَّى مر عَلَيْهِ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الشرفى الى السرات من بِلَاد الصَّيْد فَأعلمهُ بعنايته بشرح مَعَ كَمَال اهلية السَّيِّد فَأَضْرب عَن(3/143)
ذَلِك وَكَانَت لَهُ عدَّة كَبِيرَة من الْكتب من خزانَة السّلف وَكَانَت لَهُ همة فى الْجِهَاد وشجاعة مَعَ قُوَّة فى بدنه وَهُوَ أول من سارع الى الْجِهَاد قبل ابْن عَمه القاضى الشَّهِيد الهادى بن عبد الله فانه نَهَضَ فى سنة سِتّ وهى سنة الدعْوَة بحارف واعيان قبائل يلبل نَحْو ألف رجل وَدخل هزم وانصاف اليه الاعيان لَا على جِهَة الِاسْتِقْلَال مِنْهُم بل على جِهَة الْعَادة كالسيد الا غضب من حوث استدرجه القاضى حَتَّى ادخله هزم واما الْحَاج أَحْمد بن عوض فوصل مغيرا من نهم ووقف خَارج الْبِلَاد على رَأس الاكمة المشرفة على الْقرْيَة وَغير هَؤُلَاءِ من الرؤساء وَكَانَت الحروب الْمَشْهُورَة نَحْو أَرْبَعَة اشهر والقاضى أَبُو عذرها وَاتفقَ فى هَذِه النهضة قَضِيَّة تعد فى كرامات الامام الشَّهِيد أَحْمد بن الْحُسَيْن وَذَلِكَ ان القاضى وصل الى ناعط من بِلَاد حاشد وخطاط النَّاس ففقدوا رجلا يُسمى الهامى من أهل ظفار وَكَانَ لَهُ خَبِير يعرف بحوال فَبَحَثُوا عَنهُ فَلم يجدو لَهُ أثر فاتفق عِنْد مجئ النَّاس من الخطاط أَن بعض النَّاس سمع صَوتا فى شعب فَبَحَثُوا عَنهُ فَلم يَجدوا لَهُ أثرا فَأخْبر القاضى بقضيته وَهُوَ انه خرج من مَسْجِد ناعط فأحس بِحَال غير مُعْتَادَة فَلم يفقد نَفسه الا فى عَالم آخر وَفِيهِمْ رَئِيس كَبِير بَين يَدَيْهِ خلق قيام فاشتكى رجل من اولئك ان هَذَا التهامى رجمه فَأنْكر التهامى فَقَالَ لَهُ بلَى أَنْت رجمت خَشَبَة حطت فى القنة بِالْقَافِ وَالنُّون وَهُوَ جبل هُنَالك وعندك من عبيد المشهد فلَان بن فلَان قَالَ التهامى نعم هَذَا اتّفق لكنى غير عَارِف بمحلك فَقَالَ ذَلِك الرئيس يَا معاشر الْجِنّ نزهوا أَنفسكُم هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين لَا يرونكم ثمَّ الْتفت الى التهامى فَقَالَ من أَيْن أَنْت فَقَالَ مسكنى ذيبين والاصل من ظفار الا انى مُقيم بمشهد الامام قَالَ فلاى شئ وصلت الى ناعط قَالَ صُحْبَة القاضى على بن أَحْمد مغيرين على الامام فَقَالَ ذَلِك الرجل الْكَبِير قد التزمت بِمَا لزم هَذَا من الارش رِعَايَة لحق الامام الشَّهِيد أَحْمد بن الْحُسَيْن وأبلغ عَنى القاضى عليا السَّلَام الْكثير وَهَذِه قَضِيَّة مَشْهُورَة تناقلها الْفُقَهَاء وَسمعتهَا عَن غير وَاحِد من الْفُضَلَاء مِنْهُم من شهد الْمقَام وَالله أعلم وللقاضى فى مقامات الْجِهَاد مساع مَشْهُورَة تولى بِلَاد حاشد وبلبل وَتَوَلَّى بِلَاد خولان الطبال وافتتح حصن جبل اللوز وغنم مِنْهُ غنيمَة وَكَانَ الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن على الشامى شَرِيكه فى حِصَار الْحصن غير ان أَصْحَاب القاضى بَنو جُبَير وَأَصْحَاب السَّيِّد غَيرهم فَكَانَت الْيَد للقاضى وَكَانَ الامام الْقَاسِم بن مُحَمَّد يفضله فى الشجَاعَة على غَيره بل نقل السَّيِّد عبد الله بن عَامر بن على انه سمع(3/144)
الامام يحْكى ان القاضى اشجع من رَآهُ الامام وَحكى لَهُ قصَّة وَاجْتمعت بالقاضى فى منزل السَّيِّد عبد الله بن عَامر بالجراف من مخارف صنعاء فَسَأَلَهُ السَّيِّد عَن الْقَضِيَّة فأخبروه وَأَنا اسْمَع قَالَ تَوَجَّهت العساكر من جِهَة التّرْك على السَّيِّد الْمُجَاهِد مُحَمَّد بن عَامر الى مَحل بِجِهَة وَادعَة سَمَّاهُ فاتنى اسْمه فَأَغَارَ الامام وأغرنا مَعَه فَوَجَدنَا فى الطَّرِيق قضبة معمورة على رَأسهَا كالصفيف قد دَخلهَا نَحْو سَبْعَة نفر رُمَاة الذى فى ذهنى من الرِّوَايَة انهم سَبْعَة وَذكر سيدنَا المتَوَكل على الله اسماعيل ان القاضى ذكر انهما رجلَانِ فَقَط لكنهما قد قتلا نَحْو سَبْعَة نفر فَلَعَلَّ الذى فى ذهنى ذكر السَّبْعَة فمنعوا جَيش الامام من الْغَارة فتخوف الامام على السَّيِّد مُحَمَّد بن عَامر الاستئصال فَقَالَ من يحب الله وَرَسُوله
حمل على هَؤُلَاءِ فَسمع القاضى وأعلنها فى النَّاس لَعَلَّ رَاغِبًا يرغب فَلم ينْهض أحد فَوضع شملة سَوْدَاء على عمَامَته وَحمل متفردا وَلحق رجل من ظفار فَرَمَوْهُ من القصبة فسلمه الله تَعَالَى ثمَّ نفذ الى تَحت القصبة وَقَالَ لصَاحب ظفار أعطنى ظهرك اصْعَدْ عَلَيْهِ فارتقى على ظَهره وَوضع على عمَامَته تَحت الصفيف ونطحه حَتَّى انتثر الْبناء وَهُوَ من الْبناء الْمَعْرُوف بِجِهَة الْبَادِيَة فالقى الله الرعب فى قُلُوب اولئك فَانْهَزَمُوا مِنْهُ وثب الى دَاخل القصبة ثمَّ دَعَا بأصحاب الامام فَأَقْبَلُوا وظفروا بِبَعْض أُولَئِكَ وَقتل بَعضهم صبرا بَين يدى الامام الْقَاسِم وَاتفقَ لَهُ ان بعض المفسدين عاث فى الْحجَّاج وأذاهم وَنهب من نهب فتجرد لَهُ القاضى وارتبطه ارتباطا وفى آخر أمره تولى الْقَضَاء بِجِهَة وصاب بعد ان شهد الْمشَاهد الامامية جَمِيعهَا وَتوفى بالدن وقبر بالروضة هُنَالك فى شهر ربيع سنة احدى وَخمسين وَألف ورثاه المقرى الْفَاضِل صَلَاح بن مُحَمَّد السودى الصعدى بقصيدة مطْلعهَا
(هُوَ الدَّهْر مَا كافاه ملجا وَلَا كَهْف ... اذا لم تطق منعا وَقد وَقع الصّرْف)
(ألم بِهِ عِنْد الملمات واحتسب ... بِهِ لَامة من دونهَا الْبيض والزعف)
(أخى ألق اعباء الاسى لَا مجهلا ... وَخذ فى الاسى نهجا فمثلك لَا يهفو)
(فَمَا جزع يغنى فتيلا لجازع ... وَلَا عبرى تجدى وَلَو جادها الوكف)
(واما الْفَتى الماضى لوجه سَبيله ... فَمَا رزؤه فى الدّين الا البلا الصّرْف)
(لَئِن غَابَ نور الدّين وانهد طوده ... فَهَذَا الخسوف الْحق عمرك والخسف)
(وَمَا الْمَوْت الا للاكارم وَاصل ... وَلكنه عَن وصل غَيرهم يجفو)(3/145)
(فَللَّه مَا أحلى الثرى من صِفَاته ... صِفَات علا فَوق الثريا لَهَا وصف)
(فَتى قد نمته من عدى غطارف ... ضراغم غلابون شم الذرى أنف)
(مفاخرهم كَالشَّمْسِ نورا ورفعة ... وَفِيهِمْ بِحسن الذّكر أَنْعَمت الصُّحُف)
(فَتى ان دجا فى الْعلم وَالْمحل مُشكل ... فَمن عِنْده فى الْحَالَتَيْنِ لَهَا كشف)
(فينحل مَعْقُود ويرتاح منكد ... وينهل مطرود ومنهله يصفو)
مِنْهَا
(ويبكى لَهُ الملهوف للْعلم والندى ... يحِق لَهُ فِيهَا التأسف واللهف)
(وتبكيه بيض الْهِنْد والسند وَالثَّرَى ... ويرتاح مِنْهُ الطّرف ان سخن الطّرف)
(وَمَا الْمَوْت الاكل حى يذوقه ... وَآخر هَذَا الحى أَوله يعْفُو)
(لَئِن شيب الابكار عظم مصابه ... فَفِيهِ جَمِيع الْوَصْف بِالْحَقِّ ملتف)
(عَلَيْهِ سَلام الله مَا فَاه عَارِف ... بأوصافه الْحسنى وفاح لَهَا عرف)
على بن أَحْمد المدنى الحشيبرى الشافعى كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب والاحاديث النَّبَوِيَّة مَعَ التفاسير يملى من حفظه على الدرسة بِنَقْل صَحِيح غير متكلف وَكَانَ على جَانب عَظِيم من الْوَرع فى الْفَتْوَى وَغَيرهَا وفى التدريس أَخذ عَنهُ كثير مِنْهُم السَّيِّد الطَّاهِر بن الْبَحْر وَولده مُحَمَّد وَكَانَت وَفَاته فى سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَخمسين وَألف بِبَيْت الْفَقِيه الايمن وَدفن عِنْد اجداده وَللسَّيِّد مُحَمَّد بن الظَّاهِر فِيهِ مرثيات عديدة مِنْهَا قَوْله
(أخلاى ضَاعَ الدّين من بعد شَيخنَا ... امام الْهدى شمس المعالى ابْن أَحْمد)
(أَفَاضَ على الطلاب من فيض علمه ... وأوسعهم من بحره المتزيد)
(أَمَام صبور صَادِق متورع ... أحَاط بِعلم الشَّافِعِي مُحَمَّد)
(وحقق منهاج النواوى محققا ... وارشادنا الْمَشْهُور فى كل مشْهد)
وهى طَوِيلَة فَبِهَذَا الْقدر مِنْهَا كِفَايَة
على بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن بجع البعلى الاصل الدمشقى الشافعى الاديب البارع كَانَ حسن الْمعرفَة بفنون كَثِيرَة كثير الِاشْتِغَال والمثابرة حسن العقيدة جيد المحاضرة قَرَأَ بِدِمَشْق على جمَاعَة ورحل الى الرملة وَأخذ عَن شيخ الْحَنَفِيَّة الْخَيْر الرملى وَحج وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الامام الْكَبِير الْحجَّة الصفى أَحْمد القشاشى وَعَن المنلا ابراهيم بن حسن الكورانى ثمَّ رَحل الى مصر فى سنة أَربع وَسبعين وَألف وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ عبد السَّلَام اللقانى وَغَيره كَانَ شَدِيد الاعتناء بِجمع الْفَوَائِد(3/146)
ووقفت لَهُ على مَجْمُوع بِخَطِّهِ فِيهِ كل ذخيرة من نفائس الادب ومحاسنه وَرَأَيْت فِيهِ من آثاره هَذَا الْجَواب عَن اللغز الْمَشْهُور وَهُوَ
(يَا أَيهَا الْمولى الذى ... علم الْعرُوض بِهِ امتزج)
(بَين لنا دَائِرَة ... فِيهَا بسيط وهزج)
قَالَ سألنى عَنهُ بعض الاخوان فأجبته بديها أَن المُرَاد بالدائرة الدولاب وَأَرَادَ بالبسيط فِيهَا المَاء وَأَرَادَ بالهزج صَوت الدولاب فَيكون الْمَعْنى بَين لنا دَائِرَة جمعت بَين الْبَسِيط والهزج لَا الْمَذْكُورين فى علم الْعرُوض وان ساعده قَوْله علم الْعرُوض بِهِ امتزج لما بَينهمَا من الْبعد اذ الْبَسِيط ثمانى الاجزاء والهزج سداسيها وهما لَا يَجْتَمِعَانِ قلت وَالْمَعْرُوف ان بعض الْعلمَاء سُئِلَ عَن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ففكر سَاعَة ثمَّ أجَاب فَقَالَ لَهُ السَّائِل اجبت الْجَواب الْحق وَلَكِن درت فى الدولاب كثيرا وقرأت بِخَطِّهِ قَالَ كَانَ عندى مَجْمُوع عَارِية للعلامة الشَّيْخ حسن الصفدى العيلبونى طلبه فأرسلته اليه وكتبت مَعَه
(جَاءَت من الْمولى الاجل بطاقة ... ترجو مرا مَا لَيْسَ بالممنوع)
(فالقلب عنْدك رهن ود صَادِق ... والآن قد أرْسلت بالمجموع)
قَالَ فَكتب الى
(أرْسلت مجموعى وَقد امسكت مَا ... هُوَ قلبى الذ كَانَ بَين ضلوعى)
(فَبَكَيْت من شوقى اليه مدامعا ... حمرا وَلَيْسَت غير صرف نجيع)
(فجرت على هذى البطاقة احرفا ... مجموعها يومى بسلب جميعى)
فَكتبت اليه
(لَا تبك عَيْنك واتئد فلربما ... أودعته وَالله غير مضيع)
(وَارْحَمْ اسير هوى طليق مدامع ... لم يقْض فى شرع الْهوى بِرُجُوع)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوفى نَهَار السبت ثانى عشر الْمحرم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
القاضى على بن اسماعيل صدر الدّين بن الْعَلامَة ابراهيم بن مُحَمَّد بن عربشاه الشهير بعصام الدّين الاسفراينى الشافعى المكى المشتهر بالعصامى ذكره الشهَاب فى كِتَابيه وَقَالَ فى وَصفه وَهَذَا الْحَفِيد عقد المناقب بِهِ نضيد لم يفتخر بآبائه وَلم يبتهج بنضارة أَصله وَلَا مائَة لما اعْتصمَ بِعُرْوَة الْفضل الوثقى وَصعد الى ربوة(3/147)
الْمجد وترقى وَقَالَ أَنا عصامى لَا عظامى وان كنت لذمام مآثرى حامى فالف وصنف وَنَوع قرى الاسماع وأتحف وَأفَاد الطلاب وَحل باسنان قلمه عقد المشكلات الصعاب قَالَ وَذكر مرّة قَول الرئيس ابْن سينا فى بعض كتبه حَدِيث ان الْحِكْمَة لتنزل من السَّمَاء فَلَا تدخل قلبا فِيهِ هم الْغَد فَقلت لَهُ انه لم يسْندهُ وَهُوَ بِكَلَام النُّبُوَّة اشبه وَقد نظمته فى قولى
(من ترك الدُّنْيَا يسد أَهلهَا ... ويقتطف زهرتها بِالْيَدِ)
(لَا تسكن التَّقْوَى وَلَا حِكْمَة ... تنزل قلبا فِيهِ هم الْغَد)
وللامام الشافعى قريب مِنْهُ
(كم ضَاحِك والمنايا فَوق هامته ... لَو كَانَ يعلم غيبا مَاتَ من كمد)
(من كَانَ لم يُؤْت علما فى بَقَاء غَد ... مَاذَا تفكره فى رزق بعد غَد)
وَذكر الامام على بن عبد الْقَادِر الطبرى فى تَارِيخه ان ميرزا مخدوم أَقَامَ صَاحب التَّرْجَمَة قَاضِيا شافعيا ليتعاطى الاحكام على مَذْهَب الشافعى بِمَكَّة وَاسْتمرّ من ذَلِك الْحِين اقامة أَرْبَعَة قُضَاة الى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ ترك ذَلِك وَصَارَ القاضى وَاحِدًا حنفيا من الرّوم وينبغى اقامة الْقُضَاة على الْمذَاهب خُصُوصا مَذْهَب الشافعى فان غَالب أهل الْقطر الحجازى شافعيون والائمة جَمِيعًا على هدى وَذكر أَيْضا انه أول من سعى فى جعل مَعْلُوم لمفتى الشَّافِعِيَّة فانه توجه الى الديار الرومية وَجعل لَهُ خمسين عثمانيا من جدة فى مُقَابل افتاء الشَّافِعِيَّة وَمن مؤلفاته حَاشِيَة على شرح الاستعارات لجده العصام أَتَى فِيهَا بالعجب العجاب من فَوَائِد الْبَيَان وتلقاها الْفُضَلَاء بِالْقبُولِ وَلم يزل بجوار بَيت الله حَتَّى توفى الى رَحمَه الله وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع بعد الالف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة
السَّيِّد على بن الامام المتَوَكل على الله اسماعيل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن على السَّيِّد الامام العلى الْمقَام قَرَأَ واشتغل وَحج سنة سبعين وَألف وَمَعَهُ جملَة من الاعيان ولازم حَضْرَة وَالِده الَّتِى كَانَت محط الرّحال وَأخذ عَن جمع من الشُّيُوخ وَرغب فى الادب فَبلغ الْغَايَة القصوى فِيهِ وَلما تفرس فِيهِ وَالِده النجابة قَلّدهُ اعمال بِلَاد ضوران وَمَا حولهَا من الْبِلَاد وَكَانَ وَالِده اذ ذَاك مُقيما يحصن شهارة وَلم يزل مُقيما على عمله حَتَّى توفى ابْن عَمه السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن الْحسن بن الْقَاسِم وَكَانَت الْيمن منوطة بنظرة فاستخلفه وَالِده على اعماله وقلده ولَايَة ذَلِك الاقليم وَاسْتقر فِيهِ الى(3/148)
ان توفى وَالِده وَتَوَلَّى الامامة من بعده الامام أَحْمد المهتدى بن الْحسن فأقره على مَا كَانَ فى حَيَاة وَالِده عَلَيْهِ وفوض جَمِيع الاعمال اليمنية اليه وَكَانَ غَالب اقامته بتعز وخيله وَلم يزل محط رحال الادباء والفضلاء وَله من // الشّعْر مَا حسن لَفظه وَمَعْنَاهُ // وَدلّ بفحواه على مغزاه فَمِنْهُ قَوْله
(صب يكَاد يذوب من حر الجوى ... لَوْلَا انهمال جفونه بالادمع)
(واذا تنفست الصِّبَا ذكر الصِّبَا ... ولياليا مرت بوادى الاجرع)
(آه على ذَاك الزَّمَان وطيبه ... حَيْثُ الغضا سكى وَمن أَهْوى معى)
(ولياليا مرت فيالله مَا ... أحلى وأملحها فَهَل من مرجع)
الى ان خَتمهَا ببيتى الذهبى على جِهَة التَّضْمِين
(أحمامة الوادى بشرقى الغضا ... ان كنت مسْعدَة الكئيب فرجعى)
(انا تقاسمنا الغضا فغصونه ... فى راحتيك وجمره فى أضلعى)
وَمِنْه قَوْله يمدح أَخَاهُ الْحسن
(اكذا المشتاق يؤرقه ... تغريد الْوَرق ويقلقه)
(واذا مَا لَاحَ على اضم ... برق أشجاه تألقه)
(يخفى الاشواق فيظهرها ... دمع فى الخد يرقرقه)
(آها يَا برق أما خبر ... عَن أهل الْغَوْر تحَققه)
(فيزيل جوى لَا سير هوى ... مضنى قد طَال تشوقه)
(ريم الهيجاء وربربها ... خمرى الثغر مُعْتقه)
(ممشوق الْقد لَهُ كفل ... يتشكى الضعْف ممنطقه)
(مغرى بالعذل لعاشقه ... وبدرع الصَّبْر يمزقه)
(يَا ريم السفح علام ترى ... ترْضى الواشى وَتصدقه)
(رفقا بالصب فان لَهُ ... قلبا بهواك تعلقه)
(فَعَسَى بالوصل تجود وَلَو ... فى اللَّيْل خيالك يطرقه)
(أَو مَا ترثى لشج قد زَاد ... بطول اللَّيْل تحرقه)
(وَأرَاهُ الصد سيخرجه ... من أسر الْحبّ ويطلقه)
(فَلهُ نفس تأبى كرما ... يَأْتِيهِ النَّقْص ويلحقه)
(ولذاك سلت نتذركها ... لأخ بالمجد تخلقه)(3/149)
(شرف الاسلام وبهجته ... وختام الْجُود ومغدقه)
(وعماد الْملك ومفخره ... وسنام الدّين ومفرقه)
(من دون علاهُ لرائمه ... برج الجوزاء ومشرقه)
(حلم كالطود لنائله ... جود كالبحر تدفقه)
(اسْمَع مولاى نظام أَخ ... قد زَاد بمدحك رونقه)
(ود قد صَار يكلفه ... لمقال الشّعْر وينطقه)
(فاحفظ ودى لَا تصغ لما ... يملى الواشى وينمقه)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة خمسين وَألف وَتوفى يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بتعز وَبهَا دفن
القاضى على بن جَار الله بن مُحَمَّد بن أَبى الْيمن بن أَبى بكر بن على بن أَبى البركات مُحَمَّد بن أَبى السُّعُود مُحَمَّد بن حُسَيْن بن على بن أَحْمد بن عَطِيَّة بن ظهيرة بن مَرْزُوق بن مُحَمَّد بن عليان بن هَاشم بن حرَام بن على بن رَاجِح بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن حَارِث بن ادريس بن سَالم بن جَعْفَر بن هَاشم بن الْوَلِيد بن جُنْدُب بن عبد الله بن الْحَارِث بن عبد الله بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم القرشى المخزومى الظهيرى الحنفى مفتى مَكَّة الشهير بِابْن ظهيرة ونسبهم هَذَا مصحح مُسلم لَا غُبَار عَلَيْهِ وبيتهم بَيت علم وَفضل بالحجاز قَالَ السخاوى فى الضَّوْء اللامع وَأول من تحنف من بنى ظهيرة أَبُو الْيمن وَصَاحب التَّرْجَمَة هُوَ الْمُفْتى والخطيب بِالْحرم المكى فى عصره وَله الشُّهْرَة الطنانة وَالْفَخْر الاتم وَقد ذكره الخفاجى فى كِتَابيه وَقَالَ فى حَقه خطيب مصقع وبليغ لَفظه موشى موشع اذا انحدر فى أَوديَة الْكَلَام مَاء بلاغته وسال فى بطاحها سلسال فَصَاحَته شهد النَّاس بفضله من فَاجر وَمن بر وَكَاد أَن يخضر أَعْوَاد كل مِنْبَر
(فتهتز أَعْوَاد المنابر باسمه ... فَهَل ذكرت أَيَّامهَا وهى أَغْصَان)
وَله آثَار يتحلى بعذو بتهافم اللسن وعقود سجع نظمتها يَد فَضله فى لبات الزَّمن رَأَيْته وَقد طعن فى السن وَلَيْسَ لَهُ الا الْعَصَا فَتى ورقى شرف التسعين وهى آخر سلم الفنا وَقَالَ الشلى فى تَرْجَمته اعتنى بِالْعلمِ فاشتغل بِهِ على جمَاعَة من الْكِبَار وحظى مِنْهُ بأوفر نصيب وانتفع بِهِ جمَاعَة من الْكِبَار مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدى وَأَخُوهُ قاضى الْقُضَاة شهَاب الدّين أَحْمد والامام عبد الْقَادِر الطبرى(3/150)
وَغَيرهم وَله تصانيف مفيدة ومآثر حميدة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح التَّوْضِيح وحاشية على شرح ايساغوجى للقاضى زَكَرِيَّا وَتَذْكِرَة مفيدة وَله فَتَاوَى مَشْهُورَة لَكِنَّهَا غير مَجْمُوعَة وَله ديوَان شعر وَمن نظمه قَوْله
(قلت لشهر الصَّوْم لما وفى ... مودعا منى وداع الصّديق)
(سلم على الْمَوْسِم بِاللَّه لى ... وَقل لَهُ أقبل فَهَذَا الطَّرِيق)
وكف بَصَره فى آخر عمره وَتوفى سنة عشر بعد الالف وَقد جَاوز التسعين
على بن جَار الله بن أَبى بكر بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة أَبِيه جَار الله وَيعرف بَيتهمْ بالقدس ببنى اللطف وعَلى هَذَا نَشأ على سمت وَالِده ومذهبه وَكَانَ حنفيا كَمَا تقدم وَمهر فى فنون عديدة وَكَانَ فَاضلا الى الْغَايَة محققا قوى الحافظة أديباً سَمحا جوادا ممدحاً فَردا فِي وقته سَافر الى الرّوم مرَارًا وَولى افتاء الْحَنَفِيَّة بالقدس وخطابة الْمَسْجِد الاقصى وَكَانَ كثير المجون متهتكا فى التعشق والصبابة وَله شعر يدل على رقة طبعه فَمِنْهُ قَوْله من قصيدة
(من دياجى الْبعد هَل للقرب ومض ... أم بمضمار التهانى ثمَّ ركض)
(لَا أمنى النَّفس مَا لى والمنى ... عاقنى من أدهم الايام ركض)
(كَانَ تسآلى مخلا بالعطا ... يَوْم لَا نأى دنا بالعيش غض)
(يَوْم كَانَ الشّرْب سمعا وانا ... بلبل ثمَّ سما وَالْكل أَرض)
(صَاح عاطينى وَلَا تسْأَل لما ... جفن كاسى وجفونى لَا تغض)
(ان تقل جرح زمانى كاتم ... مِنْهُم فى الْقلب جرح لَا يمض)
(علق الْقلب بلحظ ان رنا ... قَاتل أَو كف ظن الْكَفّ غمض)
(من مجيرى من هوى من ليثه ... فى عرين الْقلب فرات وربض)
(كنت لَا أعرف تمزيق الْكرَى ... فأرانى كَيفَ عضب الجفن ينضو)
(وَرَأى طغيان قلبى فرنا ... ليريه شهب الطاغى تقض)
(فتأسيت بلمع برقة ... مذ بدا لى مِنْهُ بسط ثمَّ قبض)
(قَالَ لى والصحو مَا خامره ... واستملى قده طول وَعرض)
(هَل تخمرت بِنور طرتى ... أم جفون الشّعْر داناهن غمض)
(قلت شيبى من سعير مهجتى ... أبرزته زفرات الْقلب ومض)
(أَو سِنَان طَاعن قلب الصَّفَا ... أَو شهَاب أَو لختم الْعَيْش فض)(3/151)
(ودموعى مَاء قلبى ناره ... أخرجتها من قُرُوح الجفن بض)
(قَالَ لى والغصن يثنيه الْهوى ... قد أَتَى من سَائِر الاجفان عرض)
(فَارْجِع الدمع لتطفى ناره ... حَيْثُ لى فى منزل الاشواق عرض)
(حلية العاشق قرب وقلى ... أى وجد لفؤاد لَا يرض)
وَقَوله فى ذمّ الزَّمَان
(خليلى هَذَا لدهر دَانَتْ عجائبه ... فطمن فؤادا ابْن نشبن مخالبه)
(وَلَا تعتبنه ان تَأَخّر ذوى حجا ... فَذا الدَّهْر لم يحرز سباقا معاتبه)
(سكرت بِهَذَا الدَّهْر لَا من عقاره ... وَلَكِن لما أبدته عندى عجائبه)
(فَمَا محرم الانسان الا علومه ... وَمَا ذائقوه السم الا أَقَاربه)
قَوْله وَمَا ذائقوه الى آخِره فِيهِ ايماء الى قَول ابْن العميد
(آخ الرِّجَال من الاباعد والاقارب لَا تقَارب ... )
(ان الاقارب كالعقارب بل أضرّ من العقارب ... )
وفى الْمثل ظلم الاقارب أَشد مضضا من وَقع السَّيْف وَقيل انما أخْشَى سيل تلعتى والتلعة سيل الوادى من النجد الى بطن الوادى وَمعنى الْمثل انما أَخَاف شَرّ أقاربى وَمن شعر ابْن جَار الله قَوْله
(اشرب الكاسات صرفا ... واغتنم رشف الثغور)
(واعتقد فى الله خيرا ... ان ربى لغَفُور)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بغزة هَاشم فى سنة سبعين وَألف قَتله حاكمها الامير حُسَيْن ابْن حسن الْمُقدم ذكره قيل عُدْوانًا وَقيل ورد فِيهِ أَمر شرِيف بقتْله وَذَلِكَ لامور مُنكرَة كَانَت صدرت مِنْهُ يرجع اكثرها الى حب الدُّنْيَا والرياسة
على بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن مُحَمَّد بن عِيسَى وَتقدم تَمام النّسَب فى تَرْجَمَة السَّيِّد الْحسن الملقب ضِيَاء الدّين النعمى الشريف الْحسنى الْيُمْنَى أحد فضلاء الْيمن وأجلائه واكابر سراته وَكَانَ عَالما فَاضلا شَاعِرًا اولى الْقَضَاء بِجِهَة صَبيا وفَاق اقرانه بالتحقيق وَألف المؤلفات العديدة والرسائل الشهيرة ورزق الحظوة التَّامَّة فى الْبَنِينَ حَتَّى أعقب اثنى عشر ولدا ذكرا كلهم عُلَمَاء أدباء شعراء وَكَانَ يَهْتَز للادب وَالْعلم ويحفظ الاخبار والْآثَار ويطلع على الْقَصَص الْمُتَقَدّمَة والمتأخرة وَكَانَ يأتى على اكثر الْكَشَّاف غيبا وانتفع بِهِ أهل(3/152)
الاقليم ومسكنه جِهَة سلفه الدهناء من أَعمال وادى بيشر والمحلة وَاتخذ بَيْتا بعتود وَكَانَ عَلَيْهِ مدَار المخلاف وَكَانَ وَاسع الصَّدْر مهيبا جَلِيلًا أحنفى الْحلم حيدرى الْبَأْس وَالْعلم ولى الْقَضَاء عَن أَمر امام زَمَانه الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم ثمَّ أَخِيه المتَوَكل على الله اسماعيل الى أَن مَاتَ وَذَلِكَ بِمَدِينَة صَبيا وأعمالها // وَله نظم ونثر جيدان // فَمن نظمه قَوْله فى مدح شرح الازهار
(درسة الشَّرْح نزهة للنفوس ... وَبهَا مرهم لداء وبوس)
(وهى أشهى لالفها من سلاف ... قد أديرت على ندامى الكؤس)
(وَلها صُورَة بمنظر قلبى ... هى أبهى من صُورَة الطاوس)
(فاستمروا فى درسها فالمعالى ... تتهادى فى حالكات الدُّرُوس)
(والمعانى مهورهن مغان ... واردات عَن صفوة القدوس)
(وجليس مذاكر فى رشاد ... خير خل وَصَاحب جليس)
(فاذا لم يكن فصحبة سفر ... هى عِنْد اللبيب خير أنيس)
(وَاسْتَمَدُّوا فضلا من الله يأتى ... فِيهِ نور يفوق ضوء الشموس)
(وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ كَيْمَا تفوزوا ... بخلال عَظِيمَة الناموس)
(فلام عَلَيْكُم مُسْتَمر ... مَا همى عَارض الْغَمَام الرجيس)
وَقَوله أَيْضا يُخَاطب الْعَلامَة السَّيِّد شرف الدّين الْحسن بن عقيل
(قل للاديب سليل كل خَلِيل ... خدن العفاف مقرّ كل جميل)
(نجل الميامين السراة وَمن لَهُم ... أَصْنَاف مجد فى الانام اثيل)
(يمم هديت مدارج السّلف الالى ... نشأوا على التَّفْرِيع والتأصيل)
(واسلك سبيلهم فانك فرع من ... سَاس الورى بدلائل التَّنْزِيل)
(طه عَلَيْهِ الله صلى مَا سرى ... برق وَمَا أجْرى معِين النّيل)
وَله من رِسَالَة كتبهَا الى الْفَقِيه أَبى الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَبى هم فى مسئلة حصل بَينهمَا فِيهَا نزاع وَقد كَانَ الاولى رفع النَّفس عَن مجاراتك فى جهلك والالتفات الى فرطات عقلك وكف الْيَد عَن جوابك وَقطع المدعن اعتابك غير انى اعْلَم انك لم تعدنى بالاعراض متكرما وَلَا بالازورار عَنْك مستحكماً بل تقدر مَعَ ذَلِك انك قد أصبت مُعظم الصَّوَاب من هَذَا الْبَحْث وانك قد أخذت بمقالك الاقبح الارفث وَأَيْضًا فان من مُحكم كَلَام الْجَلِيل وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل وَمن(3/153)
قَول حكم الشّعْر
(اذا أَتَت الاساءة من وضيع ... وَلم ألم المسئ فَمن ألوم)
وَبعد هَذَا فاعرف مَوضِع قدمك قبل الْمسير وتبصر فى الامور أَيهَا الْجَاهِل الغرير وقف عِنْد انْتِهَاء قدرك وَانْظُر فى اصلاح أَمرك فالاولى لَك أَن تكون متعلما لَا معلما وَلَيْسَ لَك فِيمَا سلكت جمل وَلَا نَاقَة وَلَا مُقَدّمَة وَلَا سَاقه وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى ذى الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف والنعمى تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فى تَرْجَمَة ابْن عَمه السَّيِّد حسن بن على بن عبد الرَّحْمَن فى حرف الْحَاء وَتقدم ان هَؤُلَاءِ الاشراف فرقتان آل مُحَمَّد بن عِيسَى وَآل أَحْمد بن عِيسَى فَصَاحب التَّرْجَمَة من آل مُحَمَّد وَالسَّيِّد حسن من آل أَحْمد ولآل أَحْمد على غير هَذَا وَهُوَ ابْن حسن بن عقيل تولى هُوَ وَأَبوهُ الْقَضَاء بصبيا ببلدة تسمى العثيرة أَسْفَل وادى وساع مَاتَ فى أَوَائِل الْمحرم سنة خمس وَسبعين وَألف فى طَرِيق الْحَج وَهُوَ آيب من مَكَّة فى حمصة محط الْحَاج اليمانى بِالْقربِ من وادى عتود وَكَانَ وَالِده فى الْحَيَاة فَلَمَّا أخبر بِمَوْتِهِ انفطر قلبه حزنا عَلَيْهِ لانه لم يكن لَهُ من الاولاد سواهُ فتوفى بعده بِعشْرين يَوْمًا بالدهناء وَدفن بِالْهِجْرَةِ من العثيرة ورثاهما السَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور فى تَرْجَمَة أَخِيه السَّيِّد حسن فى حرف الْحَاء بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(صدم الدَّهْر طود مجد أثيل ... ووهى الدّين بالمصاب الْجَلِيل)
(ونجوم الْهدى هوت وأغيضت ... أبحر الْجُود بعد نجلى عقيل)
(فسرى أفقها وطودى علاها ... وعمودى نوالها المأمول)
(جبلى أمنها اذا نَاب خطب ... وجمال الورى لحمل الثقيل)
وَمِنْهَا
(وَسَلام على ضريحين ضما ... نخوة الملتجى وكهف النزيل)
وَأما أَوْلَاده الاثنا عشر فهم مُحَمَّد وَحسن وَأحمد وَعبد الرَّحْمَن وَيحيى ومحسن وحسين وَعز الدّين وابراهيم وشبير واسماعيل وشمس الدّين فَأَما مُحَمَّد فتوفى فى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وأعقب أَوْلَادًا امجاداً ذوى معرفَة وَأما حسن فَكَانَ لَهُ مُشَاركَة فى الْعُلُوم ونظم بديع وَتوفى فى غرَّة الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف بِمَكَّة المشرفة وَدفن بالشبيكة بِقرب تربة العيدروس وَأما أَحْمد فَكَانَ اماما عَلامَة مَاتَ بِمَكَّة فى سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بِجَانِب قبر أَخِيه وَمَات عَن وَلدين موجودين وَأما عبد الرَّحْمَن فَكَانَ على طَريقَة الصَّالِحين من الْمُوَاظبَة على الطَّاعَات وَله أَوْلَاد(3/154)
على صفته وَأما حُسَيْن فموجود وَلَيْسَ لَهُ عقب وَأما عز الدّين فذو معرفَة تَامَّة فى جَمِيع الْعُلُوم ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَ قاضى حَاج الْيمن وَقد تقدم ذكره وَأما ابراهيم فَكَانَ عَلامَة وَقد توفى وَخلف أَوْلَادًا اكبرهم طَالب علم وَأما شبير فمشارك فى الْعُلُوم واسماعيل درج وَلَيْسَ لَهُ عقب وَأما شمس الدّين فذو فضل باهر وَهُوَ الْآن خطيب صَبيا
القاضى على بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن غَانِم بن يُوسُف بن عبد الهادى ابْن على بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْوَاحِد بن عبد الحميد الاصغر بن عبد الحميد الاكبر قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه هَكَذَا رقم نسبه القاضى أَحْمد بن سعد الدّين الى عبد الحميد وَلم يزدْ عَلَيْهِ وَنسب عبد الحميد مَشْهُور مَذْكُور من بنى المنشأ سلاطين مسور وَلَهُم عقب هُنَالك مَشْهُور مِنْهُم من سكن وادى عبال على بِبِلَاد مسور وَسكن هَؤُلَاءِ الْقُضَاة وادى صارة فهم بَيت شهير لَهُم نمط متجدد لَا يحتلفون فِيهِ وخاتمة بَيت الْمعلم عقد القاضى الْحُسَيْن بن مُحَمَّد فَأَما عقب سعد الدّين فقد انْقَطع بِمَوْت القاضى أَحْمد بن سعد الدّين وَأما عقب على الْمَذْكُور فبقى مِنْهُم طِفْل صَغِير بثغر العدنية ابْن لمُحَمد بن على بن الْحُسَيْن ثمَّ درج وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا أديبا لبيباً يجيد الترسل وَيحسن الشّعْر على نهج أَهله وَتعلق بالطب وَهُوَ الذى لمح اليه فى قصيدته البائية الَّتِى انشدها بالقدوم وَاسْتقر صَاحب التَّرْجَمَة مُدَّة بِجِهَة الوعلية من الشّرف الاعلى ورحل الى صنعاء وَقَرَأَ بهَا وحقق فى جَمِيع الْعُلُوم سِيمَا فى المعقولات وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الْعِبَادَة حسن السمت محبوبا عِنْد كل أحد وَمِمَّا شاع فى الالسن على الْعُمُوم لَو أَن فى الارض مَلَائِكَة يَمْشُونَ كَانَ القَاضِي على بن الْحُسَيْن مِنْهُم وَرويت هَذِه اللَّفْظَة عَن الامام الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ وَهُوَ شيخ شَيخنَا الْعَلامَة شمس الدّين فى كثير من الْعُلُوم كَانَ يَأْتِيهِ القاضى صفى الدّين من هجر ابْن المكروم الى الْقدوم أَيَّام سكونه فِيهِ كل يَوْم فَيقْرَأ عَلَيْهِ جَمِيع نَهَاره ثمَّ يعود الى الهجر وأخبرنى القاضى صفى الدّين انه كَانَ يُشَاهد من يَصْحَبهُ من الْجِنّ فى اثناء الطَّرِيق ويسير بسيره قَالَ القاضى صفى الدّين فى مشيخته عِنْد ذكر وَالِده وَعَمه الْمَذْكُور اما عمى ووالدى على بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد المسورى وَسعد الدّين بن الْحُسَيْن المسورى فانهما بعد الله وَرَسُوله قَائِمَة الْهدى أصل هدايتى وعنوان رَحْمَة الله تَعَالَى لى بِمَا رزقنى من تأديبهما وتهذيبهما وتعليمهما وارشادهما وتلقينهما(3/155)
اياى فَوَائِد الْعلم وغرائب الحكم وتغذيتهما اياى بحب الله عز وَجل وَحب رَسُوله
وَحب أهل بَيته الَّذين أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة بَحر الْعُلُوم الطامي وجبل الحلوم السامى صَاحب عبَادَة وزهادة وخلوص طوية حَلِيف الْقُرْآن رطب اللِّسَان بِهِ لَا يزَال موجها للْقبْلَة وَكَانَ لَهُ فى الشّعْر قدم راسخة وَمن مخترعاته قَوْله فى كرسى التَّسْبِيح
(صبرت على شقى بنشر وان لي ... بِيَحْيَى نبى الله أُسْوَة عَارِف)
(فجوزى جنَّات النَّعيم بصبره ... وجوزيت عَن شقى بِحمْل الْمَصَاحِف)
(وصرت جليس الاتقياء وَلم أزل ... على حَالَة يرضى بهَا كل عَارِف)
وَله قصيدة يحث بهَا الامام الْقَاسِم على شرح الاساس وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة صَبيا من المخلاف السليمانى فى ثانى عشرى ذى الْقعدَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَهُوَ مُتَوَجّه لفريضة حج بَيت الله الْحَرَام وقبر عِنْد الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بِمَسْجِد عقيل
على بن حُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الارنؤد أحد كبراء جند الشَّام كَانَ وَالِده قدم الى دمشق وَتزَوج بهَا وَصَارَ من جندها ثمَّ صَار رَئِيس الجاويشية وسافر الى الْحَج بِهَذِهِ الْخدمَة سِنِين وَمَات بِمَكَّة فى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَخلف وَلدين وهما على وخداوردى فاما خداوردى فقد أَدْرَكته وَكَانَ من أَعْيَان الْجند أَرْبَاب الْمُرُوءَة والسخاء وَقد توفى بجرش من بِلَاد حوران فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَأما على صَاحب التَّرْجَمَة فَصَارَ أَولا من آحَاد الْجند وتنقل فى مَرَاتِبهمْ وَلما توفى أَبوهُ وَجه اليه منصبه الْمَذْكُور وسافر مَرَّات الى الْحَج بِكَمَال الوسعة واشتهر بِالْمَالِ وسعة الدائرة ثمَّ صَار كتخدا الْجند وَتعين فى هَذَا المنصب وتطلب امارة الْحَاج وجاءه الْخَبَر بحصولها ثمَّ وَقع بَينه وَبَين نَائِب الشَّام الْوَزير أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بالسرجى وَكَانَ مغفلا فَلم يعتبره وَكَانَ يَقْصِدهُ بِالْهَزْلِ والملاعبة فَبَلغهُ ذَلِك فَغَضب وَجمع ديوانا حافلا وَأمر اتِّبَاعه بِحمْل السِّلَاح واستحقر الْعَسْكَر الشامى وَكَانَ على فى حديقته خَارج بَاب الفراديس فَأرْسل اليه مرسالا خَاصّا وأحضره الى الدِّيوَان ثمَّ أهانه وَأمر بقتْله فَقتل فى ذَلِك الْوَقْت وَألقى خَارج بَاب السَّعَادَة ثمَّ غسله بِجَامِع الصابونية وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَكَانَ مَقْتَله فى الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين والف وَاتفقَ ان الشَّيْخ مُحَمَّد المتبولى المصرى صَاحب التقاويم تعرض لذكره فى تَقْوِيم تِلْكَ السّنة بقوله يَا سَلام سلم من قَول يَا على كلم وضبطت أَمْوَاله ومتعلقاته(3/156)
لجِهَة السلطنة وَكَانَ شَيْئا كثيرا وَذهب دَمه هدرا
على بن حُسَيْن بن عمر بن حُسَيْن بن عمر بن الشَّيْخ على الشَّيْخ الْعَالم الْيُمْنَى المكى ولد بلحج من أَرض الْيمن وَنَشَأ بِهِ وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن على صَاحب الوهط وَالسَّيِّد أَبُو الْغَيْث ثمَّ رَحل الى مَكَّة فحج وجاور بهَا وَصَحب كثيرين مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد بن ابراهيم عَلان وَابْن أَخِيه الشَّيْخ مُحَمَّد على وَالسَّيِّد الْجَلِيل عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالسَّيِّد مُحَمَّد الحبشى الشهير بالغزالى وشهاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الهادى بن شهَاب وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلى المصرى وَالشَّيْخ مُحَمَّد مكى بن فروخ الحنفى وَغَيرهم ورحل الى الْمَدِينَة وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشى وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن على ثمَّ قطن بِمَكَّة وتجرد لِلْعِبَادَةِ مواظبا على الْجَمَاعَة فى الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَة الاحرام وَكَانَ لَا يَنْفَكّ عَن صَلَاة أَو مطالعة وَكَانَ عَاملا بِعِلْمِهِ قَلِيل المخالطة لَا يجْتَمع بِأحد الا فى الْمَسْجِد قَلِيل الْكَلَام وَكَانَ النَّاس يعتقدونه اعتقادا عَظِيما لزهده وورعه وَكَانَ قانعا متقشفا فى الملبس والمطعم متواضعا وَلم يتَزَوَّج قطّ وَلَا ملك جَارِيَة وَلَا عبدا وَجمع كتبا عَظِيمَة ووقفها على طلبة الْعلم وَكَانَت وَفَاته قَافِلًا من الْمَدِينَة بِالْقربِ من بندر جدة سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَحمل الى البندر وَدفن بهَا وقبره بهَا مَشْهُور يزار
على بن زين العابدين مُحَمَّد بن أَبى مُحَمَّد زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن على أَبُو الارشاد نور الدّين الاجهورى بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْجِيم وَضم الْهَاء نِسْبَة الى اجهور الْورْد قَرْيَة بريف مصر المالكى شيخ الْمَالِكِيَّة فى عصره بِالْقَاهِرَةِ وامام الائمة وَعلم الارشاد وعلامة الْعَصْر وبركة الزَّمَان كَانَ مُحدثا فَقِيها رحْلَة كَبِير الشَّأْن وَقد جمع الله تَعَالَى لَهُ بَين الْعلم وَالْعَمَل وطار صيته فى الْخَافِقين وَعم نَفعه وعظمت بركته وَقد جد فبرع فى الْفُنُون فقها وعربية وأصلين وبلاغة ومنطقا ودرس وَأفْتى وصنف وَألف وَعمر كثيرا ورحل النَّاس اليه من الْآفَاق للاخذ عَنهُ فَألْحق الاحفاد بالاجداد أَخذ عَن مَشَايِخ كثيرين سرد مِنْهُم الشهَاب العجمى فى مشيخته نَحْو ثَلَاثِينَ رجلا واعلاهم قدرا الشَّمْس مُحَمَّد الرملى والبدر حسن الكرخى والسراج عمر ابْن الجاى والحافظ نور الدّين على بن أَبى بكر القرافى الشافعى وامام الْمَالِكِيَّة فى عصره الشَّمْس مُحَمَّد بن سَلامَة البنوفرى وقاضى الْمَالِكِيَّة الْبَدْر ابْن يحيى القرافى وأملى الْكثير من الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه وَأخذ عَنهُ الشَّمْس البابلى والنور(3/157)
الشبراملسى والشهاب العجمى وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَألف التآليف الْكَثِيرَة مِنْهَا شروحه الثَّلَاثَة على مُخْتَصر خَلِيل فى فقه الْمَالِكِيَّة كَبِير فى اثنى عشر مجلدا لم يخرج عَن المسودة ووسيط فى خَمْسَة وصغير فى مجلدين وحاشية على شرح التتائى للرسالة وَشرح عقيدة الرسَالَة وَشرح الفنية السِّيرَة للزين العراقى ومجلد لطيف فى الْمِعْرَاج ومجلد فى الاحاديث الَّتِى اختصرها ابْن أَبى جَمْرَة من البخارى وَشرح ألفية ابْن مَالك لم يخرج عَن المسودة وَشرح التَّهْذِيب للتفتازانى فى الْمنطق وحاشية على شرح النخبة لِلْحَافِظِ ابْن حجر ومنسك صَغِير وجزء فى مسئلة الدُّخان وَكِتَابَة على الشمايل لم تخرج من المسودة وعقيدة منظومة وَشَرحهَا شرحا نفيسا وَشرح على رِسَالَة ابْن أَبى زيد القيروانى فى الْفِقْه فى مجلدات وَغير ذَلِك ورزق فى كتبه الْحَظ وَالْقَبُول واصيب آخرا فى بَصَره بِسَبَب غَرِيب وَهُوَ ان بعض الطّلبَة مِمَّن أَرَادَ الله بِهِ شرا كَانَ يحضر مجْلِس الاجهورى وَكَانَ فى ظَاهر حَاله صَالحا فاتفق ان تزوج وَوَقع بَينه وَبَين زَوجته مشاجرة فَطلقهَا ثَلَاثًا ثمَّ أدْركهُ تَعب فاستفتى الاجهورى فأفتاه بِأَنَّهَا لَا تحل لَهُ الا بعد زوج آخر فتوعده بانه يقْتله ان لم يردهَا فَلم يكترث الاجهورى بِكَلَامِهِ فَترك الاجهورى يَوْمًا حَتَّى جلس للتدريس على عَادَته فجَاء وَتَحْت صوفه سيف فاستله وَضرب الاجهورى على رَأسه فَقَامَ عَلَيْهِ أهل الْحلقَة وَمن حضرهم من أهل الْجَامِع فتناولوه يَمِينا وَشمَالًا بالنعال والحصر حَتَّى حالوا بَينه وَبَين الاجهورى وَقد شجه فى رَأسه وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ دوسا بالارجل وَضَربا بالايدى وَالنعال والعصى وَرفع الاجهورى الى دَاره فأثرت تِلْكَ الشَّجَّة فى بَصَره وللاجهورى فَوَائِد وآثار كَثِيرَة معجبة مِنْهَا مَا نقلته عَن معراجة التَّتِمَّة الرَّابِعَة ورد أَن الْحور الْعين يَتَغَنَّيْنَ بِمَا يَقُوله شعراء الاسلام كَمَا ذكره بَعضهم فَقَالَ اخْرُج الديلمى عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا ان الشُّعَرَاء الَّذين يموتون فى الاسلام يَأْمُرهُم الله تَعَالَى ان يَقُولُوا مَا تتغنى بِهِ الْحور الْعين لازواجهن فى الْجنَّة وَالَّذين مَاتُوا فى الشّرك يدعونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور وَقد نظم ذَلِك بَعضهم فَقَالَ
(الديلمى عَن ابْن معسود روى ... فى آيَة الشعرا حَدِيثا مُسْندًا)
(من مَاتَ فى الاسلام مِنْهُم فى غَد ... بالشعر يَأْمُرهُ الاله فينشدا)
(ونشيده من كل حوراء الى ... زوج لَهَا تلفى على طول المدى)
(وَالْمُشْرِكُونَ دعاؤهم فى نارهم ... ويل ثبور كل وَقت سرمدا)(3/158)
وَمن فَوَائده المأثورة عَنهُ ان من قَرَأَ عِنْد النّوم قَوْله تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم} ان الَّذين اتَّقوا اذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فاذا هم مبصرون أَمن من الِاحْتِلَام تِلْكَ اللَّيْلَة وَمن قَرَأَ فى آخر جُمُعَة من رَجَب والخطيب على الْمِنْبَر أَحْمد رَسُول الله مُحَمَّد رَسُول الله خمْسا وَثَلَاثِينَ مرّة لَا تَنْقَطِع الدَّرَاهِم من يَده تِلْكَ السّنة وَأفَاد لقَضَاء الْحَوَائِج أَن تَقول وَأَنت مُتَوَجّه الى حَاجَتك عشر مَرَّات اللَّهُمَّ أَنْت لَهَا وَلكُل حَاجَة فاقضها بِفضل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا ولبكاء الاطفال يكْتب فى ورقة ويعلق على رَأس الصَّغِير بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء} سُلَيْمَان وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء بلقيس وتعز من تشَاء ادريس وتذل من تشَاء ابليس عِيسَى ولدليلة السبت وَلَا ريح ينفح وَلَا كلب ينبح ارقد أَيهَا الطِّفْل حَتَّى تصبح أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك وهم نائمون وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه العلى الْعَظِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم وَمن فَوَائده جِيم جماجم طهطيل جبال راسيات سندية هندية قدسية من قَرَأَهَا اذا أَوَى الى فرَاشه ثَلَاث مَرَّات لم تقربه وفراشه حَيَّة وَلَا عقرب وَمن نظمه لفوائد جليلة الْموقع هَذِه الابيات فى قَاعِدَة النكرَة اذا أُعِيدَت نكرَة اَوْ معرفَة وَبِالْعَكْسِ
(وان يعد مُنكر مُنْكرا ... فالثانى غير أول بِلَا مرا)
(وفى سوى ذَا الثانى عين الاول ... الى ثَلَاثَة فذو الاصل جلى)
(قلت وفى مغنى اللبيب حكما ... بِأَن هَذَا كُله مَا سلما)
(اذ قَوْله فَوق الْعَذَاب أبْطلهُ ... وَالصُّلْح خير قد أبان خلله)
(وَذَا لَان الصُّلْح عَم الاولا ... والشئ فَوق نَفسه لن يعقلا)
(وَقَوله عَلَيْهِم كتابا ... يردهُ فاستمع الخطابا)
(وَقَوله وَالنَّفس بِالنَّفسِ وَمَا ... شاكلها يُخَالف اللذ رسما)
(وَقَوله أَيْضا وفى الارض اله ... لَان ربى وَاحِد بِلَا اشْتِبَاه)
(الا اذا قيل بِأَن ذَلِك ... ان لم تكن قرينَة هُنَالك)
(فان تكن ثمَّ فَلَا يعول ... الا عَلَيْهَا فَالْمُرَاد يسهل)
وَله فى تَقْدِيم بعض الْفَاكِهَة على الطَّعَام وتأخيرها عَنهُ ومعية بَعْضهَا(3/159)
(قدم على الطَّعَام توتا خوخا ... ومشمشا والتين والبطيخا)
(وَبعده الاجاص كمثرى عِنَب ... كَذَاك تفاح وَمثله الرطب)
(وَمَعَهُ الْخِيَار والجميز ... قثا ورمان كَذَاك الْجَوْز)
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ جم الْفَائِدَة منشور العائدة وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة بِمصْر وَتوفى بهَا لَيْلَة الاحد مستهل جُمَادَى الاولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ صبيحتها بِجَامِع الازهر وَدفن بتربة سلفه بجوار المشهد الْمَعْرُوف باخوة سيدنَا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ أخبرهُ بعض الاولياء انه يعِيش مائَة سنة فَلَمَّا مرض وَعرف انه مرض الْمَوْت وَكَانَ قد بلغ تسعا وَتِسْعين سنة تعجب وَقَالَ كَلَام الاولياء لَا يتَخَلَّف قَالَ الشَّيْخ أَحْمد البشبيشى فَلَعَلَّهُ اشْتبهَ عَلَيْهِ مولده انْتهى أَو يُقَال مَا قَارب الشئ أعْطى حكمه
على بن سعد الدّين بن علوان المكتبى الْمَعْرُوف بالاسود الْفَقِيه الشافعى الدمشقى كَانَ من الْعلمَاء الصلحاء كثير التصلب فى دينه منعزلا عَن النَّاس مشتغلا بالافادة أَخذ عَن الشهَاب العيثاوى وَالشَّيْخ النجار وأبى الْقَاسِم المغربى مفتى الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وخطب بِجَامِع الْمصلى وَكَانَ يقرئ الاطفال فى مكتب المرادية فَإِذا صرفهم عقد حَلقَة تدريس بحجره لَهُ فى جَامع المرادية يقرئ بهَا الطّلبَة الْفِقْه والنحو والتجويد وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم وَلَده الشَّيْخ الامام مُحَمَّد الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ يَأْكُل من كسب يَمِينه وَكتب كتبا كَثِيرَة بِخَطِّهِ مِنْهَا الْجَامِع الصَّغِير للسيوطى كتب مِنْهُ احدى وَعشْرين نُسْخَة واشتهر فِيهَا وَسبب ذَلِك انه كَانَ اشْترى نُسْخَة من بعض الافاضل وقابلها وصححها وَكتب على ألفاظها المشكلة مقالات شراحه واعتنى بهَا ولزمها حَتَّى حفظ الْكتاب عَن ظهر قلب ومحصل القَوْل فِيهِ انه كَانَ بركَة من بَرَكَات عصره وَكَانَت وِلَادَته فى سنة احدى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وتمرض مقْعدا ثَلَاث سِنِين ثمَّ توفى فى سلخ شَوَّال سنة أَربع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
على بن سعودى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزى العامرى الشافعى مفتى الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق وَأحد رُؤَسَاء الْعلم بهَا وَشرف بَيته ومكانتهم تقدم ذكره مرَارًا وسيأتى جده النَّجْم مُحدث الشَّام وَكَانَ على هَذَا فَقِيها فَاضلا جيد المحاضرة لطيف النُّكْتَة والنادرة سخيا جواد طليق اللِّسَان صَاحب نخوة وفتوة أَخذ عَن جده ودرس بالشامية البرانية وَأفْتى مُدَّة طَوِيلَة بعد أَبِيه وفتاواه كلهَا مسددة وَكَانَت وِلَادَته فى(3/160)
سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَتوفى فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ والف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان
على بن عبد الْقَادِر النبتيتى موقت الْجَامِع الازهر أحد المتجرين فى علم الْمِيقَات والحساب من الْعلمَاء العاملين الفائقين فى فن الزايرجة والاوفاق والمنفردين بِعلم الدعْوَة والاسماء باجماع أهل الْخلاف والوفاق وَكَانَ مَعَ ذَلِك مفننا على علم الادب قَائِما بوظائف الْعُبُودِيَّة مجد بالاشتغال لَهُ كفاف وقناعة أَخذ الحَدِيث عَن شُيُوخ مِنْهُم أَبُو النجا سَالم السنهورى وَالْفِقْه عَن جمع مِنْهُم الشَّمْس مُحَمَّد المحبى والعربية عَن أَبى بكر الشنوانى وَعنهُ عبد الْمُنعم النبتيتى وَمُحَمّد بن حُسَيْن المنلا الدمشقى وكثيرون لَهُ مؤلفات كَثِيرَة شهيرة نافعة مِنْهَا شرح على مِعْرَاج النَّجْم الغيطى وَشرح على شرح الازهرية للشَّيْخ خَالِد وَشرح على شرح الآجرومية لَهُ أَيْضا وَشرح على الرحبية فى الْفَرَائِض وَكتاب حافل فى الاوفاق سَمَّاهُ مطالع السَّعَادَة الابدية فى وضع الاوفاق والخواص الحرفية والعددية وَله رسائل كَثِيرَة فى فنون شَتَّى وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى نَيف وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بتربة المجاورين والنبتيتى تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فى تَرْجَمَة ابراهيم النبتيتى فَليرْجع اليها ثمَّة
على بن عبد الْقَادِر الطبرى الحسينى المكى الشافعى الامام بن الامام تقدم ذكر نسبهم فَلَا حَاجَة الى اعادته وعَلى هَذَا ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وجوده ولازم وَالِده فى الْفُنُون العلمية وَأخذ عَمَّن عاصره من أكَابِر الْعلمَاء حَتَّى رقى الْمَرَاتِب الْعلية وجد فى التَّحْصِيل واشتغل بالعلوم على الانماط الْحَسَنَة وسلك فى الطّلب الطَّرِيق الاقوم وَبَدَأَ بِمَا هُوَ الاقدم فشرع فى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة ثمَّ صرف الهمة للْقِيَام بخدمتى التدريس والافتا والانتصاب لجواب من سَأَلَ واستفتى وفى غُضُون هَذِه الْمدَّة صنف كتبا عديدة مِنْهَا التَّارِيخ الذى جمع فأوعى وأقربه النَّاظر عينا وشنف سمعا المتضمن أَخْبَار الْبَلَد الامين الْمُسَمّى بالارج المسنكى والتاريخ المكى وَهُوَ تَارِيخ حافل مُتَضَمّن لاخبار الْحرم والكعبة المشرفة وَالْبَيْت الْحَرَام وَمَا فِيهِ من مَنَابِر وقباب وأساطين وَغير ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِمَكَّة وتراجم الْخُلَفَاء والملوك من زمن الصّديق رضى الله تَعَالَى عَنهُ الى زَمَنه وَمِنْه الْجَوَاهِر المنظمة بفضيلة الْكَعْبَة المعظمة وَله رِسَالَة فى بَيَان الْعِمَارَة الْوَاقِعَة بعد سُقُوطهَا سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ مَا وَقع من اصلاح سقفها وتغيير بَابهَا سنة(3/161)
خمس وَأَرْبَعين وَألف وَله منظومة سَمَّاهَا شرح الصُّدُور وتنوير الْقُلُوب فى الاعمال المكفرة للمتأخر والمتقدم من الذُّنُوب وَشَرحهَا وَمن شعره قَوْله
(غانية تخجل بدر التَّمام ... غَايَة سؤلى من جَمِيع الانام)
(رقيقَة الخصر حوى لَفظهَا ... رقى فَأَصْبَحت لَهَا كالغلام)
(بَين ثناياها وَذَاكَ اللما ... برق تلألأ فى دياجى الظلام)
(يحسدها الْمسك على لَوْنهَا ... يَا للهوى والريق يحْكى المدام)
(هَمت بهَا جدا وَكم فى الْهوى ... هام بهَا فى الْعِشْق قبلى هيام)
وَقَوله فى مليحة تسمى غَرِيبه
(ولى جِهَة غربية أشرقت بهَا ... لعينى شمس الافق من غير مَا حجب)
(ولاح بهَا بدر التَّمام لناظرى ... وَمن عجب شمس وَبدر من الغرب)
وَقَوله فِيهَا
(ان الاهلة مذ بَدَت غربية ... فالغرب مِنْهُ ضيا المسرة يشرق)
(فالشرق دَعه فَلَيْسَ مِنْهُ سوى ذكا ... تحترفي وسط النَّهَار وَتحرق)
وَذكره السَّيِّد على بن مَعْصُوم فَقَالَ فى حَقه سَابق فرسَان الاحسان وَعين أَعْيَان الْبَيَان الْمشَار اليه فى المحافل الحالب ضرع الادب الحافل والباهر الالباب والعقول بفوائد الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول غاص فى بحار الادب فاستخرج درره وسا إِلَى مطالعه فاستجلى غرره فنظم اللآلي والدرارى ونثر وجدد مَا درس من مغانى الْمعَانى ودثر فَمن نثره مَا كتبه الى القاضى تَاج الدّين المالكى مسائلا سيدنَا المقتدى بآثاره المهتدى بأنواره امام محراب الْعُلُوم البديعه وخطيب مِنْبَر البلاغة الَّتِى أضحت مذعنة لَهُ ومطيعه قمر سَمَاء الْمجد الاثيل فلك شمس فَخر كل ذى مقَام جليل المميطة يَد بَيَانه حواجز الاشكال عَن وُجُوه الْمعَانى الْمُعْتَرف بمنطقه الفصيح القاصى من هَذِه الامة والدانى عُمْدَة الْمُحَقِّقين قَدِيما وحديثا ملاذ المدققين تَفْسِيرا وتحديثا الصاعد معارج الْعليا بِكَمَالِهِ المنشد فى مقَام الافتخار لِسَان حَاله
(لنا نفوس لنيل الْمجد عاشقة ... وَلَو تسلت أسلناها على الاسل)
(لَا ينزل الْمجد الا فى مَنَازلنَا ... كالنوم لَيْسَ لَهُ مأوى سوى الْمقل)
وَالْقَائِل عِنْد المجادلة فى مقَام المباهلة
(نَحن الَّذين غَدَتْ رحى أحسابهم ... وَلها على قطب الفخار مدَار)(3/162)
الْمَمْلُوك يقبل الارض الَّتِى ينَال بهَا القاصد مَا يؤمله ويرتجيه وَينْهى انه نظم بعض الجهابذة الاعيان بَيْتَيْنِ فى التَّشْبِيه وَالسَّبَب الداعى لَهما وَالْمعْنَى الْمُقْتَضى لنظمهما انه أَبْصرت الْعين ظَبْيًا يرتع فى رياضه وَيمْنَع بسيوف جماله عَن وُرُود حياضه يرى العاشق سيآته حَسَنَات جاد بهَا وَأحسن ويعترف لَهُ بالْحسنِ كل حسن فى الانام وَابْن أحسن بدا وَهُوَ الْجَوْهَر السَّالِم من الْعرض وَظهر وَعَلِيهِ أثر من آثَار الْمَرَض فَأَرَادَ الْمُشبه تشبيهه فى هَذِه الْحَالة فشبهه بِغُصْن ذابل قَائِلا لَا محاله ونظم ذَلِك الْمَعْنى فشدا بِمَا قَالَه صادح الفصاحة وغنى وَهُوَ
(بدا وَعَلِيهِ أثر من سقام ... كمكحول من الآرام ساهى)
(فخيل لى كبدر فَوق غُصْن ... ذوى للبعد من قرب الْمِيَاه)
فَاعْترضَ معترض عَالم بالاصدار والايراد قَائِلا ان الْبَيْت الثانى لَا يُؤدى الْمَعْنى المُرَاد اذ الْقَصْد تشبيهه بالغصن الْمَوْصُوف وَلَيْسَ المُرَاد تشبيهه بالبدر فالبدر لَا يُوصف الا بالخسوف فطالت بَين الْمُعْتَرض والمعترض عَلَيْهِ المنازعه وَلم يسلم كل وَاحِد مِنْهُمَا للثانى مَا جادل فِيهِ ونازعه فاختارا القاضى الْفَاضِل حكما ورضيا سيدنَا حَاكما ومحكما فليحكم بِمَا هُوَ شَأْنه وشيمته من الْحق وليتأمل مَا عَسى أَن يكون قد خفى عَن نظرهما ودق والاقدام مقبله وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد مَا هبت المرسله فَأَجَابَهُ القاضى بِمَا هَذَا صورته سيدنَا الامام الْهمام الذى أضحى علم الائمة الاعلام الامام المقتدى بِهِ وانما جعل امام الحبر الذى قصرت عَن اسْتِيفَاء فضائله الارقام وَلَو ان مَا فى الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَارِث الْجَلالَة عَن آبَائِهِ الَّذين زهت بذكرهم الاخبار وَالسير الْمُقِيم من نَفسه العصامية على ذَلِك أوضح دلَالَة يصدق فِيهَا الْخَيْر الْخَبَر الحرى بِمَا اسْتشْهد بِهِ فى شَأْن الْمَمْلُوك السالك من الْكَمَال طَريقَة عز على غَيره فِيهَا لعزته السلوك يقبل الْمَمْلُوك الارض بَين يَدَيْهِ ويؤدى بذلك مَا هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ وَينْهى وُصُول الْمِثَال العالى الفائقة جَوَاهِر كَلِمَاته على فرائد اللآلى يتَضَمَّن السُّؤَال عَن بيتى ذَلِك الجهبذ فى الشَّأْن الذى قضى حسنه أَن تسلب الارواح وَتُؤْخَذ وَمنع حبه الْكَلَام الالسن وَكَانَ الدَّلِيل على ذَلِك اعْتِرَاف ابْن أحسن فانه ذُو النّظر العالى الْمدْرك حَقِيقَة الكنه فاذا تنور من أَذْرُعَات أدنى مَا تنوره الى قيد شبر مِنْهُ فَتَأمل الْمَمْلُوك مَا وَقع من تِلْكَ المعارضه الَّتِى أفضت الى التَّحْكِيم والمفاوضه فاذا المتعارضان قد مزجا فى حُلْو فكاهتهما(3/163)
شدَّة الْبَأْس فى الْبَحْث برقة الْغَزل وَأَخْرَجَا الْكَلَام لبلاغتهما على مُقْتَضى حَال من جد وهزل وجريا الى غَايَة حققا عِنْد كل سَابق انه الْمَسْبُوق وأريا غبارهما لمن أَرَادَ اللحوق وَكَانَ الاحرى بالمملوك ستر عوار نَفسه وَحبس عنان قلمه ان يجرى فى ميدان طرسه لَكِن لما كَانَ ترك الْجَواب من الامر الْمَحْظُور لم يلْتَفت الى مَا يَتَرَتَّب على الْوَاجِب من الْمَحْذُور فَقَالَ حَيْثُ كَانَ الامر على مَا السندة مَوْلَانَا عَن الناطم وروى من انه قصد التَّشْبِيه فى حَال بقايا أثر السقام بِغُصْن ذوى فَعدل الى سبكه فى قالب صياغته وسلكه فى سلك بلاغته فلاشك انه أَتَى بِمَا لَا يدل على المُرَاد دلَالَة أولية ظَاهِرَة وَكَانَ كمن شبه الاغصان أَمَام الْبَدْر ببنت مليك خلف شباكها ناظره وَحِينَئِذٍ فاطلاق القَوْل بِأَن الْبَيْت الثانى لَا يدل على مَا أُرِيد رُبمَا تمسك الْخصم فى عدم ثُبُوت الحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ اطلاق فى مَحل التَّقْيِيد كَمَا ان للمعترض أَن يتَمَسَّك فى ذَلِك باشفاء الدّلَالَة الاولوية فَيكون الْمَحْكُوم بِهِ هُوَ المتعارض فى الْقَضِيَّة وَهَذَا أجدى مَا رَآهُ الْمَمْلُوك فى فصل الْخطاب وَأَحْرَى مَا تحرى فِيهِ انه الصَّوَاب مَعَ اتهامه نَفسه فى مُطَابقَة الْوَاقِع فى الْفَهم لعلمه بدقة نظر مَوْلَانَا اذا قرطس اغراض الْمعَانى من فهمه بِسَهْم وتجويزه على نَفسه الْعَجز عَن الْوُصُول الى مَأْخَذ مَوْلَانَا ومدركه واعترافه بِأَنَّهُ لَا يجارى فى نقد الشّعْر لانه فَارس معركة انْتهى قَوْله فى أثْنَاء الْجَواب كَانَ كمن شبه الاغصان أَمَام الْبَدْر ببنت مليك خلف شباكها ناظره يُشِير بِهِ الى الصّلاح الصفدى حَيْثُ قَالَ
(كَأَنَّمَا الاغصان لما انْثَنَتْ ... امام بدر التم فى غيهبه)
(بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت مِنْهُ على موكبه)
وَقَالَ فى ذَلِك أَيْضا
(كَأَنَّمَا الاغصان فى روضها ... والبدر فى أَثْنَائِهَا مُسْفِر)
(بنت مليك سَار فى موكب ... قَامَت الى شباكها تنظر)
قَالَ النواجى لَا يخفى مَا فى هذَيْن المقطوعين من ضعف التَّرْكِيب وَكَثْرَة الحشو وقلب الْمَعْنى وَذَلِكَ انه جعل الاغصان مُبْتَدأ وَأخْبر عَنهُ ببنت المليك وَهُوَ فَاسد وان كَانَ قَصده تَشْبِيه الْمَجْمُوع بالمجموع الا أَن الاعرب لم يساعده على انه لم يخترع هَذَا الْمَعْنى بل سبقه اليه القاضى محيى الدّين بن قرناص فَقَالَ
(وحديقة غناء يتظم الندى ... بفروعها كالدر فى الاسلاك)(3/164)
(والبدر من خلل الغصون كَأَنَّهُ ... وَجه المليحة طل من شباك)
فَانْظُر الى حشمة هَذَا التَّرْكِيب وانسجامه وَعدم التَّكَلُّف والحشو وَاسْتِيفَاء الْمَعْنى فى الْبَيْت الثانى فَحسب والصفدى لم يسْتَوْف الا فى بَيْتَيْنِ على مَا فيهمَا فَلَو قَالَ فى الْمَقْطُوع الاول
(كَانَ بدر التم لما بدا ... من خلل الاغصان فى غيهبه)
(بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت مِنْهُ على موكبه)
وفى الْمَقْطُوع الثانى
(كَانَ بدر التم فى رَوْضَة ... من خلل الاغصان اذ يسفر)
(بنت مليك سَار فى موكب ... فامت الى شباكها تنظر)
وَمن شعر الامام الْمَذْكُور قَوْله
(هذى رياض الْحسن أَغْصَانهَا ... غرد بالدوحة مِنْهُ الهزار)
(يَهْتَز فِيهَا قد ذَات الرنى ... رقيقَة الخصر على الِاخْتِصَار)
(بت ونار الشوق قد أضرمت ... بمهجة قد أحرقها الاستعار)
(رام عذولى هد ركن الْهوى ... يَا كعبة الْحسن بك الاستجار)
(غضيت ذَاك الطّرف عَن نَاظر ... هيجة الوجد عفيف الازار)
وَقَوله مشجرا
(غزال كبدر التم لَاحَ بِوَجْهِهِ ... هِلَال رَأَتْهُ الْعين من أفق الشَّمْس)
(رنا طرفه الفتان يَوْمًا لناظر ... يهيم بِهِ من حَيْثُ يصبح أَو يمسى)
(بدا لى فى خضر الرياض بأسمر ... بِهِ سودها تيبك الحدائق فى لبس)
(يُعلل بالتسويف قلبى فليته ... رأى دنفا مَا زَالَ يقنع باللمس)
(هَلَكت جوى مِنْهُ فَمن لمتيم ... غَرِيب عَن الاوطان يدنو من الرمس)
وَقَوله فى الفتاة الْمَار ذكرهَا وهى غربية
(هيفاء كَالشَّمْسِ وَلكنهَا ... غربية يَا قوم عِنْد الشروق)
(يفتر مِنْهَا الثغر عَن لُؤْلُؤ ... رطب ويبدو مِنْهُ لمع البروق)
(بِاللَّه يَا عاذل عَنى فَذا ... بارده السلسل فِيهِ يروق)
(رفقا فَمَا فى العذلى لى طَاقَة ... يُمكن مِنْهَا العذولى الطروق)
(غبت عَن العاذل فِيهَا فَمَا ... هزل وجد لذوات الفروق)(3/165)
وَقَوله فى صدر كتاب
(على الحضرة العلياء دَامَ مقَامهَا ... عليا سَلام طيب النشر وَالْعرْف)
(الى نَحْوهَا حَملته نسمَة الصِّبَا ... لتكسب وَصفا من شذا ذَلِك الْوَصْف)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبعين وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة بتربتهم الْمَعْرُوفَة
السَّيِّد على بن عبد الله بلفقيه الشَّيْخ الشهير صَاحب الشبيكة بِمَكَّة المشرفة الصوفى ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بتريم وارتحل مَعَ أَبِيه وَهُوَ صَغِير الى مَكَّة واستوطنها وَكَانَ شَيخا مُعْتَقدًا عِنْد الْخَاص وَالْعَام مَقْبُول الشَّفَاعَة وَقَامَ بِمنْصب وَالِده بعده أتم قيام وَظَهَرت مِنْهُ كرامات كَثِيرَة وَحج مَعَ وَالِده وَأخذ عَنهُ ولازمه مُلَازمَة تَامَّة حَتَّى تخرج بِهِ وَكَانَ وَالِده يثنى عَلَيْهِ وَحضر الشَّيْخ ابْن حجر وَأَظنهُ أَخذ عَنهُ مؤلفاته وَغَيرهَا وَأخذ عَنهُ التصوف والخرقة الشَّرِيفَة خلق وترجمه تِلْمِيذه الشَّيْخ شيخ بن عبد الله العيدروس فى السلسلة وَقَالَ كَانَ من الْمَشَايِخ العارفين لَهُ قدم راسخة فى الْحَقِيقَة وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الصمت وَحكى انه لما زار النبى
آخر زياراته نهى النَّاس عَن الدُّخُول مَعَه فى الْحُجْرَة وَتَبعهُ خَادِم لَهُ فَلَمَّا دخل الْحُجْرَة وَرَأى الانوار صَاح الْخَادِم فَدَعَا عَلَيْهِ بِأخذ عَيْنَيْهِ فَلَمَّا أَصْبحُوا أَتَى سيل عَظِيم وَنهى السَّيِّد خادمه عَن الذّهاب الى السَّيْل فَذهب وَدخل السَّيِّد يغْتَسل فَأَخذه السَّيْل ورماه بِمحل بعيد مَيتا وأكلت الطُّيُور عَيْنَيْهِ وَله أَحْوَاله ومقامات مأثورة وكرامات كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَعشْرين وَألف وعمره أَكثر من سبعين سنة وازدحم النَّاس على جنَازَته وَصلى عَلَيْهِ بِالْحرم الشريف وَدفن بقبة وَالِده عبد الله الى جِهَة الْقبْلَة
على زين العابدين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس الْمَشْهُور بزين العابدين وتاج العارفين وَهُوَ وَالِد جَعْفَر الصَّادِق الْمُقدم ذكره الشريف الحضرمى الامام الفنن الْكَبِير كَانَ فى عصره رَئِيس الْعلمَاء بحضرموت وَكَانَ أَمر اشرافها اليه وَكَانَ ذَا جاه عَظِيم عِنْد السُّلْطَان يصرفهُ فى مَمْلَكَته كَيفَ شَاءَ ويأتيه الى بَيته ويصدر عَن رَأْيه وتناهى فى الرياسة حَتَّى كَانَ هُوَ الْمُخَاطب بالامور ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَكَانَ سريع الْحِفْظ حسن البديهة وَنَشَأ فى حجر أَبِيه وَكَانَ مَعَ تفرده بعلو الْمنزلَة بارا بوالده يقف بَين يَدَيْهِ ويعتنى بخدمته فَكَانَ يمده بدعائه وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والتصوف(3/166)
وَألبسهُ الْخِرْقَة وَأخذ عَن جمَاعَة من الاعيان وَصَحب كثيرا فَمن مشايخه الشَّيْخ زين بن حُسَيْن وَالسَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عقيل وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن اسماعيل والاديب السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن على با حسن صَاحب القارة والامام السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد بروم وَغَيرهم وبرع وَمَا خطّ عذاره وتميز على مشايخه ثمَّ جلس للتدريس فدرس التَّفْسِير وحضره من اشياخه جمع كثير وانتفع بِهِ خلائق لَا يُحصونَ وَكَانَ شَيْخه السَّيِّد عبد الله بروم مَعَ جلالة قدره وَكبر سنه يَأْخُذ الْكتاب وَيقْرَأ عَلَيْهِ وَوَقع بَينه وَبَين أَخِيه الامام شيخ خصومه سَببهَا ان أباهما خص زين العابدين بِبَعْض الْعقار نذر لَهُ بِهِ دون أَخَوَيْهِ مُحَمَّد وَشَيخ فسعى السَّيِّد شيخ فى ابطال النّذر وساعده القاضى أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَقَالَ احكم بابطاله فسعى زين العابدين فى عَزله عَن الْقَضَاء فَعَزله السُّلْطَان وَولى تلميذ زين العابدين القاضى حُسَيْن بن عمر بافقيه وَحكم بِصِحَّة النّذر قَالَ الشلى والمسئلة ذَات خلاف فَمِمَّنْ أفتى بِعَدَمِ الصِّحَّة قاضى الْقُضَاة زَكَرِيَّا وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن زِيَاد وَآخَرُونَ وَمِمَّنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ جمَاعَة مِنْهُم الشهَاب أَحْمد بن حجر فى تحفته واطال فى الِاسْتِدْلَال فى فَتَاوِيهِ بِمَا يعرف حسنه من وقف عَلَيْهِ قَالَ وَمحل الْخلاف حَيْثُ لم يسن ايثار بَعضهم أما اذا ندر للْفَقِير أَو الصَّالح أَو الْبَار مُهِمّ فَيصح اتِّفَاقًا وَقَالَ فى كتاب الْوَقْف وَقد اتّفق أَئِمَّتنَا كاكثر الْعلمَاء على ان تَخْصِيص بعض الاولاد بِمَالِه كُله أَو بعضه هبة أَو وَقفا أَو غَيرهمَا لَا حُرْمَة فِيهِ وَلَو لغير عذراها واشتغل فى آخر عمره بِعلم الطِّبّ حَتَّى تمهر فِيهِ وَكَانَ من اعرف النَّاس بِأُمُور الدُّنْيَا وَيعرف عيب كل صَنْعَة وحسنها وَاتفقَ فى عصره جمَاعَة من الْفُضَلَاء والادباء فَكَانُوا يَجْتَمعُونَ فى مَجْلِسه وَيَقَع لَهُ مَعَهم نكات رشيقة وَكَانَ فى استحضار مباجث التَّفْسِير والْحَدِيث والتصوف آيَة لَا تدْرك وَكَانَ حَافِظًا لشوارد اللُّغَة وشواهد النَّحْو مستحضرا لَهَا وَله نظم ونثر كثير واكثر شعره يُوجد مقاطيع وَله رسائل كَثِيرَة فى عُلُوم شَتَّى وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ صدر من صُدُور الزَّمَان وَكَانَت وِلَادَته فى ذى الْحجَّة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ مرض اياما فغم النَّاس لَهُ ثمَّ برأَ فاظهر النَّاس الْفَرح بِصِحَّتِهِ وَقَالَ كانكم بى وَقد عملت لكم عمل ولد الزرافة ثمَّ أَصَابَهُ حصر الْبَوْل فَكَانَ سَبَب مَوته فتوفى فى يَوْم الاحد لخمس بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف وَقَامَ عَلَيْهِ الصياح من كل جَانب وجهز فى يَوْمه بِوَصِيَّة مِنْهُ وأتى السُّلْطَان عبد الله(3/167)
ابْن عمر من بَلَده سيوون وجد فى السّير فوصل تريم بعد الْعَصْر واسرع النَّاس من كل فج فضاقت بجنازته الطّرق وَأجْمع من شَاهد جنَازَته على انه لم ير اكثر جمعا مِنْهَا وَصلى عَلَيْهِ ابْن أَخِيه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف وَدفن دَاخل قبَّة وَالِده بجنان بشار
على بن عبد الله بن المهلا بن سعيد بن على الميساى ثمَّ الشرفى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه كَانَ من حَملَة الْآدَاب وكملة الْعلمَاء الاطياب مولده بكوكبان وَبِه نَشأ وَقَرَأَ بصعدة والشرف ثمَّ قَرَأَ بِصَنْعَاء مُدَّة وَعَاد الى كوكبان ثمَّ تزوج بِهِ وَحمل أَهله الى صنعاء تَرْجمهُ وَلَده فَخر الدّين عبد الله بن على فَقَالَ كَانَ عَالما فى الْفِقْه والنحو والمعانى وَالْبَيَان والمنطق والتاريخ أَخذ عَن جمَاعَة من الْمَشَايِخ مِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله المهلا والعلامة عبد الحفيظ بن عبد الله بن المهلا وعَلى بن مُحَمَّد الجملونى وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن عز الدّين الْمُفْتى وَالسَّيِّد عِيسَى بن لطف الله وَغَيرهم من الْعلمَاء قلت وَكَانَ محببا الى الْفُضَلَاء بمكارم اخلاقه طالما سَمِعت سيدنَا الْحسن بن أَحْمد الْحمى يحن اليه وينوح بعد فِرَاقه عَلَيْهِ وَيذكر من مَكَارِم اخلاقه مَا تتزين بِهِ الاوراق وَله شعر سيال قَلِيل النظير فى عصره أخبرنى السَّيِّد صَلَاح بن أَحْمد بن عز الدّين المؤيدى قَالَ قلت قصيدة فى السَّيِّد الْحسن بن الامام الْقَاسِم فَلَمَّا عرف انى اريد الْقِرَاءَة لقصيدتى قَالَ لى انه قد قَالَ فِينَا الْفَقِيه على بن عبد الله المهلا قصيدتين بليغتين تطلع عَلَيْهِمَا قَالَ السَّيِّد صَلَاح وَعرفت انه أَرَادَ ان يعرفنى انه يعرف جيد الشّعْر من زيفه فَقَرَأت القصيدتين فَرَأَيْت الْعجب وَكَانَ السَّيِّد الْحسن يذكرهما للادباء لهَذَا الْمَقْصد والقصيدتان الاولى مِنْهُمَا فى فتح ربيد وهى
(لَا تحسبوه عَن هواكم سلا ... كلا وَلَا فارقكم عَن قلا)
(وَلَا ثنت وهنانة قلبه ... هضيمة الكشح صموت الخلا)
الوهنانة لينَة الْجِسْم ناعمة تكَاد تساقط من النعومة
(تفضح بالقد غصون النقا ... لينًا وتحكى الشادن الاكحلا)
(نشوانة مَا شربت قرقفا ... سحارة مَا عرفت بابلا)
(آهلة الدَّار بأترابها ... لَا عفت الرّيح لَهَا منزلا)
(نسيمها حدث عَن مسكها ... فخاله أهل الْهوى مُرْسلا)
(دع التصابى فى الْمقَام الذى ... فاق سناه واقصد الافضلا)(3/168)
(وَقل باعلى الصَّوْت ان جِئْته ... يَا ملكا حَاز جَمِيع الْعلَا)
(هنيت هَذَا الشّرف الا طولا ... فالمفخر الباذج فَوق الملا)
(ادركت مجدا عشر معشاره ... قد اعجز الاخر والاولا)
(مَا أَنْت الا آيَة انزلت ... تقمع من حاف وَمن أبطلا)
(يشْهد مَا فى الارض من خلقه ... انك صرت الاوحد الاكملا)
(نور هدى يهدى بِهِ ذُو التقى ... نَار وغى حامية المصطلى)
(وبحر علم مَاله سَاحل ... يذخر ان فصل أَو أجملا)
(دَقِيق فكر مَا رأى مُشكلا ... الاوحل الْمُشكل المعضلا)
(يَا ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الذى ... مَا برح النَّصْر لَهُ مُقبلا)
(رمحك لَا يألف الا الحشى ... سَيْفك لَا يعشق الا الطلا)
(طرفك يختاض دِمَاء العدى ... كَأَنَّهَا كَانَت لَهُ منهلا)
(منتعلا فى الروع هاماتهم ... مجللا أكبادهم والكلى)
(مهدت للترك وَقد حزبوا ... أجنادهم تملأ عرض الفلا)
(تغص قيعان زبيد بهم ... تخال فرسانهم أَََجَلًا)
(فدارت الْحَرْب وَقد أملوا ... رَأيا وَقد يعكس من أملا)
(وزاولوا مِنْك فَتى ماجدا ... لَا يرهب الْمَوْت اذا أَقبلَا)
(يستحسن الدرْع على جِسْمه ... ثوبا ويستخشن ثوب الملا)
(سابغه تسخر بالبيض فى الهيجا وتستزرى القنا الذبلا ... )
(فجرعوا من بأسه علقما ... معتصرا من شجرات الملا)
(واستبدلوا عَن صهوات الذرى ... والضمر الجرد بطُون البلا)
(فَمنهمْ من جَاءَ مستسلما ... وَمِنْهُم من طَار خوفًا الى)
(فَهَكَذَا فلتكن الهمة القصعاء وَالْفَخْر والا فَلَا ... )
(فانقشعت تِلْكَ الغيابات عَن ... مهذب كَالْقَمَرِ المجنلى)
(عَن فاطمى ذكر أَيَّامه ... يفعل فى السَّامع فعل الطلا)
(الْحسن بن الْقَاسِم النّدب من ... غَار على الاسلام أَن يهملا)
(وشادر كُنَّا لبنى هَاشم ... طاول من رفعته يذبلا)
(سَاس من الشحر الى مَكَّة ... الى الْحمى عمرانها والخلا)(3/169)
(ودوخ الارض فَلَو رام تخت الشَّام بله الرّوم والموصلا ... )
(لأقبلت بالطوع منقادة ... لامره أسْرع من لَا وَلَا)
(ونال مِنْهَا كل مَا يبتغى ... وحازها بِالسَّيْفِ أَو بالجلا)
(وَمَا هى الارض وَمَا قدرهَا ... عنْدك يَا من قدره قد علا)
(لَو أَنَّهَا عنْدك مَجْمُوعَة ... وهبتها من قبل أَن تسألا)
(وَلَو أمرت الشهب اقبالها ... نَحْوك لَا تلبث أَن تنزلا)
(وضيغم الافلاك لَو رمته ... جعلت من فروته أنعلا)
(وَلَو نهيت الدَّهْر عَن فعله ... بِالْحرِّ لاستعبد واستمثلا)
(وان يرد مِنْهُ على بخله ... يوليه برأَ كَاد أَن يفعلا)
(دمت لدين الْمُصْطَفى معقلا ... وللهيف المعتفى موئلا)
وَالثَّانيَِة مِنْهُمَا قَوْله
(هام وجدا بساكنى نعْمَان ... حَسبه من أحبة وَمَكَان)
(جيرة خيموا فخيم قلبى ... واستقلوا فهام فى الاظعان)
(ألفتهم روحى فهانت عَلَيْهِم ... قَلما يسلم الْهوى من هوان)
(الْهوى شَأْنه عَجِيب فكم من ... مُسبل مَاء شَأْنه اثر شان)
(علق الْقلب مِنْهُم بدرتم ... سَاحر اللحظ فاتر الاجفان)
(وافر الردف كَامِل الطلعة الغراء مر الصدود حُلْو اللِّسَان)
(من لقلبى بعض تفاحه الغض وتقبيل خَدّه الارجوانى ... )
(فأداوى الْفُؤَاد من ألم الْحبّ ليشفى معذب الهجران ... )
(مالكى مَا تُرِيدُ أصلحك الله باتلاف مُطلق الدمع عان ... )
(نم هَنِيئًا ملْء الجفون فان عاود طرفى الْكرَى فَقل لَا هنانى ... )
(يصطبينى هوى الحسان وَلَكِن ... مَا رآنى ربى بِحَيْثُ نهانى)
(بل تحامى نفسى القريض فيدنيها اليه تشبيهها بالغوانى ... )
(أجماح مَعَ الصِّبَا بعد مَا لاحت ثَلَاث بيض ثنين عنانى ... )
(فاتنى ريق الشَّبَاب وَأَرْجُو ... عوده من أكف فَرد الزَّمَان)
(يَا أَبَا أَحْمد بقيت فَمَا غَيْرك يدعى اذا التقى الْجَمْعَانِ ... )
(ذدعن الدّين واحمه بالصفاح الْبيض والصافنات والمران ... )(3/170)
(أَنْت مهدى هَذِه الامة المرجو احياؤه عقيب الزَّمَان ... )
(لَك من قَول جدك الصَّادِق الهادى وَمن قَول حيدر شَاهِدَانِ ... )
(زمن الدَّهْر عِنْدَمَا درس الْحق فمذ جِئْت عَاد فى العنفوان ... )
(غبن الْمُدعى علاك لقد مد يدا ويحه الى كيوان ... )
(يرتجى شأوك الرفيع لقد ضل وغرته نَفسه بالامانى ... )
(رفع الله مِنْك راية حق ... يتقى بأسها أولو الطغيان)
(سل زبيدا والنجد نجد المحيريب وقاع القياب من سنجان ... )
(لَو تصدى لَهَا سواك اذا آل كسير القنا قَتِيل طعان ... )
(طفق الرّوم تَحت سَيْفك أَفْوَاجًا يخرؤن مِنْهُ للاذقان)
(ان أعداءك الْبُغَاة لفى النَّار يطوفون فى حميم آن ... )
(ألفت خيلك الوغى فهى من ... شوق اليهم تهم بالطيران)
(كم جيوش غادرتها للاعادى ... جزرا للنسور والعقبان)
(من رأى بأسك الشَّديد واقدامك يَوْم الوغى على الاقران ... )
(معلما يلتقى الْكَتَائِب فَردا ... حَيْثُ تنسى مَوَدَّة الاخوان)
(لَا يرى غيرهامة أَو نجيع ... أَو قتام أَو صارم أَو سِنَان)
(علم النَّاس أَن مَالك ثانى ... واستبانوا ان الفخار يمانى)
(الْغنى والفنا بكفيك موجودان ذَا اللعافى وَذَا اللجانى ... )
(وَلَك المحتد الرفيع وعلياك على الْخلق مَا لَهَا من مدانى ... )
(راق مدحى فِيمَن حوى قصب السَّبق ودانت لامره الخافقان ... )
(الْهمام الذى لَهُ الوقعات السود فى أهل الزيغ والعدوان ... )
(ملك يقهر الْجَبَابِرَة الصَّيْد ويعنو لَهُ ذَوُو التيجان ... )
(حسن بن الْمَنْصُور سبط السجايا ... مربع الْفضل منبع الاحسان)
(سنّ للنَّاس مَذْهَب الْجُود والبأس فَمَا زيد الْخَيل وَابْن سِنَان ... )
(نشر الله عدله فى البرايا ... ليفوزوا بالامن والايمان)
(وَأعَاد الاعياد تترى عَلَيْهِ ... أبدا مَا تعاقب الملوان)
وَذكره بعض الافاضل فى بعض مجاميعه فَقَالَ فَاضل مبرز فى جَمِيع الْعُلُوم يهتدى بِهِ فى أَرض المكارم كَمَا يهتدى بالنجوم وبليغ ببلاغته أهل زَمَانه وَجَاء من(3/171)
الْمعَانى المبتكرة بِمَا لَا يُوجد فى أَقْوَال الكملة من أَرْبَاب أَو أَنه مَعَ كرم وثروة وَفضل ومروة مَسْكَنه مَدِينَة شبام من أَعمال كوكبان وَسبب استيطانه اياها ان وَالِده أَقَامَ بالاهجر من أَعمال كوكبان فى ذَلِك الزَّمَان وقصده الطّلبَة وعلماء الارض من كل مَكَان وَأَحْيَا فِيهِ علوما أَيَّام الامير الْكَبِير الْعَظِيم الشان عبد الرب بن شمس الدّين بن الامام شرف الدّين انْتفع بهَا القاصى والدان وَلم يزل صَاحب التَّرْجَمَة منهمكا على افادة الْعُلُوم حَتَّى توفى فى أَيَّام الامام مُحَمَّد الْمُؤَيد بن الامام الْقَاسِم وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء فى سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بحزيبة
على بن عبد الله بن أَحْمد بن حُسَيْن بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس سراج الاصفياء وَنور الْعَالم قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن على معلمنا الشَّيْخ عبد الله بن عمر باغريب وَحفظ بعض الْمِنْهَاج وَغَيره واشتغل بِطَلَب الْفَضَائِل وتأثيل الفواضل فَقَرَأَ الْفِقْه والتصوف على شَيخنَا عبد الرَّحْمَن بن علوى بافقيه وَأخذ عَن غَيره من الْعلمَاء وَصَحب كثيرين من أكَابِر العارفين ثمَّ اشْتغل بِعبَادة مَوْلَاهُ وَمَا يَنْفَعهُ فى آخرته ودنياه وَسَار سيرة آبَائِهِ الاكرمين وَنصب نَفسه لنفع الانام وَكَانَ سالكا مَعَ النَّاس أحسن سلوك وانتشر صيته فى تِلْكَ الْبلدَانِ وَكَانَ مأوى للغريب وملاذا للبعيد والقريب وَظَهَرت مِنْهُ كرامات وخوارق عادات لَا سِيمَا لمن هفا هفوه أَو ندرت مِنْهُ نادرة أَو جفوه واقر بِذَنبِهِ واعترف وَنَدم على مَا صدر مِنْهُ وتأسف فَمثل هَذَا يقوم فى خلاصه بِالْحَال والقال وبالعناية والاحتفال وَكَانَ النَّاس يقصدونه بالنذور والهدايا ويجازى كلا بالاكرام والعطايا وَلم يزل على مَا يُحِبهُ الله ويرضاه الى أَن ناداه منادى الْمنون فلباه وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَسبعين وَألف
على بن عبد الله باراس الدوعنى الحضرمى أحد مَشَايِخ الطَّرِيقَة الجامعين بَين الشَّرِيعَة والحقيقة انْفَرد فى ذَلِك الاقليم بالارشاد والامداد وَصَحب فى بدايته الشريف الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عمر العطامى با علوى تلميذ الشَّيْخ حُسَيْن بن القطب الشَّيْخ أَبى بكر بن سَالم باعلوى صَاحب عينات واستفاد مِنْهُ وَكَانَ يُحِبهُ حبا شَدِيدا ويثنى عَلَيْهِ ولقى جمعا من أكَابِر السَّادة العلويين وانتفع بهم فَفتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بفتوحات كَثِيرَة وقصده النَّاس من نواحى شَتَّى وَتخرج بِهِ خلق كثير(3/172)
مِنْهُم الشَّيْخ الولى الزَّاهِد مُحَمَّد بن أَحْمد بامشموس الدوعنى وَحكى السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عبد الله خرد باعلوى ان الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الْقَادِر باعشر الدوعنى بشربه قبل وجوده فَكَانَ يَقُول سيخرج بعدى فى هَذَا الْبَلَد رجل اسْمه كَذَا وَصفته كَذَا بوصفه هُوَ شمس هَذَا الاقليم ونوره وَله نفع الله تَعَالَى بِهِ المصنفات النافعة الْكَثِيرَة الشهيرة الَّتِى تلقاها أهل ذَلِك الاقليم بِالْقبُولِ التَّام مِنْهَا شرحان على الحكم العطائية كَبِير وصغير وَشرح قصيدة القطب الشَّيْخ أَبى بكر بن عبد الله العيدروس الَّتِى أَولهَا
(مَا حسن يعشق غير حسن لبنى ... مَا مثلهَا مَحْبُوب)
(وَلَا جمال يذكر بِكُل معنى ... الا لَهَا مَنْسُوب)
وَغير ذَلِك مِمَّا يطول وَكَانَت وَفَاته بالحزيبة بِالتَّصْغِيرِ من أَعمال دوعن من حَضرمَوْت فى تَاسِع عشر شهر ربيع الاول سنة أَربع وَخمسين ألف
على بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن يحيى بن أَبى يحيى بن أَحْمد ابْن السراج أَبُو الْحسن الانصارى السجلماسى الجزائرى قَالَ تِلْمِيذه الامام الْعَلامَة عِيسَى أَبُو مهدى بن مُحَمَّد الثعالبى نزيل مَكَّة رَأَيْت بِخَطِّهِ نسبه مَرْفُوعا إِلَى سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج وَكَانَ عَالما مُحدثا اخبارياً أديبا قَالَ الفيومى والشلى ولد بثافلات وَنَشَأ بسجلماسسة ثمَّ رَحل الى فاس وَأدْركَ بهَا جلة الْعلمَاء فَأخذ عَنْهُم بهَا عدَّة فنون وَكَانَ جلّ أَخذه عَن الاستاذ الْكَبِير نخبة الشّرف السَّيِّد أَبى مُحَمَّد عفيف الدّين عبد الله بن على بن طَاهِر الْحسنى السجلماسى والعالم الولى بَقِيَّة السّلف أَبى عبد الله مُحَمَّد أَبى بكر الدلائى الصنهاجى وحافظ الْعَصْر أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد المقرى التلمسانى وَبلغ الْغَايَة القصوى فى الرِّوَايَة والمحفوظات وَكَثْرَة الْقِرَاءَة وَحكى بعض تلامذته انه قَرَأَ السِّتَّة على مشايخه دراية وَقَرَأَ البخارى سبع عشرَة مرّة بالدرس قِرَاءَة بحث وتدقيق وَمر على الْكَشَّاف من أَوله الى آخِره ثَلَاثِينَ مرّة مِنْهَا قِرَاءَة وَمِنْهَا مطالعة ثمَّ رَحل بعد الاربعين من بِلَاده فحج وَدخل مصر فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ بهَا عَن الشهابين أَحْمد الغنيمى وَأحمد بن عبد الْوَارِث البكرى وَعَن النُّور على الاجهورى الْمَار ذكرهم وَغَيرهم ولقيه الشَّيْخ الامام عبد الْقَادِر بن مصطفى الصفورى الدمشقى فى مرتحله الى الْقَاهِرَة فَأخذ عَنهُ مَعَ جمع ثمَّ عَاد الى الْمغرب وَوصل الى فاس ثمَّ صَار مفتيا بِالْجَبَلِ الاخضر وبقى(3/173)
هُنَاكَ وَكَانَ آيَة باهرة فى جَمِيع الْعُلُوم وَجَمِيع أجواله كلهَا مرضية وَله مؤلفات كَثِيرَة غالبها نظم مِنْهَا التَّفْسِير بلغ فِيهِ الى قَوْله تَعَالَى وَلَكِن الْبر من اتَّقى وَشرح النخبة لِابْنِ عَاصِم لم يخرج من المسودة وَتَقْيِيد على مُخْتَصر خَلِيل لم يكمل والمنح الاحسانية فى الاجوبة التلمسانية وَمِنْهَا نظم السِّيرَة النَّبَوِيَّة سَمَّاهُ الدرة المنيفة فى السِّيرَة الشَّرِيفَة افتتحها بقوله
(قَالَ على حَامِل الاوزار ... هُوَ ابْن عبد الْوَاحِد الانصارى)
ومنظومة جَامِعَة الاسرار فى قَوَاعِد الاسلام الْخمس واليواقيت الثمينة فى العقائد والاشباه والنظائر فى فقه عَالم الْمَدِينَة وَهُوَ نظم وَعقد الْجَوَاهِر فى نظم النَّظَائِر لم يتم والسيرة الصُّغْرَى نظم أَيْضا وَالنّظم الْمُسَمّى بمسالك الْوُصُول الى مدارك الاصول ونظم أصُول الشريف التلمسانى وَشَرحه ومنظومة فى وفيات الاعيان وَأُخْرَى فى التَّفْسِير وَأُخْرَى فى مصطلح الحَدِيث وَأُخْرَى فى الاصول غير مَا تقدم وَأُخْرَى فى النَّحْو وَأُخْرَى فى الصّرْف وَأُخْرَى فى الْمعَانى وَالْبَيَان وَأُخْرَى فى الجدل وَأُخْرَى فى الْمنطق وَأُخْرَى فى الْفَرَائِض وَأُخْرَى فى التصوف وَأُخْرَى فى الطِّبّ وَأُخْرَى فى التشريح وَشرح الاجرومية وَشرح الدُّرَر اللوامع لابى الْحسن بن بَرى وديوان خطب ونظم فى مسئلة الاوتاد والابدال وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى أَوَاخِر شعْبَان سنة سبع وَخمسين وَألف شَهِيدا بالطاعون فى الجزائر من الديار المغربية وسجلماسه تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فى تَرْجَمَة أَحْمد بن أَبى مران
على بن على أَبُو الضياء نور الدّين الشبراملسى الشافعى القاهرى خَاتِمَة الْمُحَقِّقين وَولى الله تَعَالَى مُحَرر الْعُلُوم النقلية وَأعلم أهل زَمَانه لم يَأْتِ مثله فى دقة النّظر وجودة الْفَهم وَسُرْعَة اسْتِخْرَاج الاحكام من عِبَارَات الْعلمَاء وَقُوَّة التأنى فى الْبَحْث واللطيف والحلم والانصاف بِحَيْثُ انه لم يعْهَد مِنْهُ انه أَسَاءَ الى أحد من الطّلبَة بِكَلِمَة حصل لَهُ مِنْهَا تَعب بل كَانَ غَايَة مَا يَقُول اذا تغير من أحد من تلامذته الله يصلح حالك يَا فلَان وَكَانَ شَيخا جَلِيلًا عَالما عَاملا لَهُ قُوَّة اقدام على تَفْرِيق كتائب المشكلات ورسوخ قدم فى حل اقفال المقفلات مهابا موقرا فى النُّفُوس بِحَيْثُ ان الانسان اذا تَأمل وَجهه النورانى ولحيتة الْبَيْضَاء الطاهرة وهيئته الْحَسَنَة يخشع لرُؤْيَته وَلَا يُرِيد مُفَارقَته وَكَانَ حسن المنادمة لطيف المداعبة لَا يتَكَلَّم الا فى مَا يعنيه وَكَانَ مَجْلِسه مصونا عَن الْغَيْبَة وَذكر النَّاس بِسوء وَجَمِيع أوقاته مصروفة فى المطالعة(3/174)
وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالصَّلَاة وَالْعِبَادَة وَكَانَ زاهدا فى الدُّنْيَا لَا يعرف أَحْوَال أَهلهَا وَلَا يتَرَدَّد الى أحد مِنْهُم الا فى شَفَاعَة خير وَكَانَ اذا مر فى السُّوق تتزاحم النَّاس مسلمها وكافرها على تَقْبِيل يَده وَلم يُنكر أحد من عُلَمَاء عصره وأقرانه فَضله بل جَمِيع الْعلمَاء اذا أشكلت عَلَيْهِم مسئلة يراجعونه فِيهَا فيبينها لَهُم على أحسن وَجه وأتمة وَقَالَ فِيهِ الْعَلامَة سرى الدّين الدرورى لَا يكلمهُ أحد الا علاهُ فى كل فن وَكَانَ يَقُول مَا فى الْجَامِع الا الاعمى وَيُشِير اليه وَكَانَ سرى الدّين هَذَا فريد عصره فى الْعُلُوم النظرية وَسُئِلَ البشبيشى عَن سرى الدّين وَعَن المترجم فَقَالَ ان سرى الدّين كَانَ اذا طالع الدَّرْس لَا يقدر عَلَيْهِ أحد فِيهِ واذا نقل الى غَيره وقف يُشِير إِلَى قلَّة استحضاره وَأما الشبر املسى فَكَانَ اذا نقل الى أى فن كَانَ لايختل وَلَا يتَوَقَّف لقُوَّة فهمه وَسُرْعَة استحضاره للقواعد من الْعُلُوم وَكَانَ جبلا من جبال الْعلم لَا يضجر من الْبَحْث فى الدَّرْس ويتعب ان لم يبْحَث مَعَه الطّلبَة وَيَقُول لَهُم مَا لنا الْيَوْم هَكَذَا واذا بحث مَعَ أحد من الْمُتَقَدِّمين يبْحَث بغاية الادب وَمن مقولاته قِيرَاط من الادب خير من أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطا من الْعلم ولد بِبَلَدِهِ شبراملس وَحفظ بهَا الْقُرْآن وَكَانَ أَصَابَهُ الجدرى وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِتِّينَ فَكف بَصَره وَكَانَ يَقُول لَا أعرف من الالوان الا الاحمر لانه كَانَ يَوْمئِذٍ لابسه ثمَّ قدم مصر صُحْبَة وَالِده فى سنة ثَمَان بعد الالف وَحفظ الشاطبية وَالْخُلَاصَة والبهجة الوردية والمنهاج ونظم التَّحْرِير للعمر يطى والغاية والجزرية والكفاية والرحبية وَغير ذَلِك وتلا جَمِيع الْقُرْآن للسبعة من طريقى التَّيْسِير والشاطبية وختمه فى سنة سِتّ عشرَة وَألف ثمَّ قَرَأَهُ كُله للعشرة من طَرِيق الشاطبية وختمه فى سنة خمس وَعشْرين وَألف على شيخ الْقُرَّاء فى زَمَانه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى وَحضر دروس الشَّيْخ عبد الرؤف المناوى فى مُخْتَصر المزنى فى الْمدرسَة الصلاحية جوَار الامام الشافعى وَأخذ الْفِقْه والْحَدِيث عَن النُّور الزيادى وَسَالم الشبشيرى وانتفع بِهِ كثيرا وَكَانَ يحْكى عَنهُ كَرَامَة وَقعت لَهُ مَعَه تقدم ذكرهَا فى تَرْجَمَة الشبشيرى ولازم النُّور الحلبى صَاحب السِّيرَة الْمُلَازمَة الْكُلية وَالشَّمْس الشوبزى وَعبد الرَّحْمَن الخيارى ومحيى الدّين بن شيخ الاسلام وفخر الدّين وسراج الدّين الشنوانيين وَسليمَان البابلى وَلزِمَ فى العقليات الشهَاب الغنيمى وَكَانَ لَا يفتر عَن ذكره وَسمع الصَّحِيحَيْنِ والشفاء على الْمُحدث الْكَبِير الشهَاب أَحْمد السبكى شَارِح الشِّفَاء وَسمع أَيْضا صَحِيح البخارى والشمايل والمواهب(3/175)
وَشرح عقائد النسفى وَشرح جمع الْجَوَامِع ومغنى اللبيب وَشرح ابْن ناظم الْخُلَاصَة وَشرح جَوْهَرَة التَّوْحِيد كل ذَلِك على الْبُرْهَان اللقانى وَحضر الاجهورى فى شرح نحبة الاثر وَشرح ألفية السِّيرَة وَالْجَامِع الصَّغِير وَشرح الشمسية وَشرح التَّهْذِيب والحفيد وَحضر عبد الله الدنوشرى فى جَمِيع شرح ابْن عقيل وَشرح الْبَهْجَة للولى العراقى فى مقدمتين فى الْعرُوض وتصدر للاقراء بِجَامِع الازهر فَانْفَرد فى عصره بِجَمِيعِ الْعُلُوم وانتهت اليه الرياسة وَكَانَ آخر أقرانه موتا ولازمه لاخذ الْعلم عَنهُ أكَابِر عُلَمَاء عصره كالشيخ شرف الدّين بن شيخ الاسلام وَالشَّيْخ زين العابدين وَمُحَمّد البهوتى الحنبلى وَيس الحمصى وَمَنْصُور الطوخى وَعبد الرَّحْمَن الْمحلى والشهاب البشيشى وَالسَّيِّد أَحْمد الحموى وَعبد الباقى الزرقانى وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى وَكَانَ يكْتب على جَمِيع مَا يَقْرَؤُهُ من الْكتب وَلَو جمع مَا كتبه لجاوز الْحَد وَلكنه تبدد بَين يدى طلبته فَمنهمْ من نسب مَا بِيَدِهِ لَهُ وَمِنْهُم من مَاتَ وَذهب مَا كتبه وَلم يشْتَهر من مؤلفاته الا حَاشِيَته على الْمَوَاهِب اللدنية فى خمس مجلدات ضخام وحاشية على شرح الشمايل لِابْنِ حجر وحاشية على شرح الورقات الصَّغِير لِابْنِ قَاسم وحاشية على شرح أَبى شُجَاع لِابْنِ قَاسم الغزى وحاشية على شرح الجزرية للقاضى زَكَرِيَّا وحاشية على شرح الْمِنْهَاج النِّهَايَة للشمس الرملى وَسبب كِتَابَته عَلَيْهِ انه كَانَ يطالع التُّحْفَة لِابْنِ حجر فَأَتَاهُ الشَّمْس الرملى فى الْمَنَام وَقَالَ لَهُ يَا شيخ على أحى كتابى النِّهَايَة يحى الله قَلْبك فاشتغل بمطالعتها من ذَلِك الْحِين وتقيد بِهِ وَكتب عَلَيْهِ هَذِه الْحَاشِيَة فى سِتّ مجلدات ضخام وَكَانَ اذا أَتَى الى الدَّرْس فى آخر عمره يجلس وَهُوَ فى غَايَة التَّعَب من الْكبر بِحَيْثُ انه لَا يَسْتَطِيع النُّطْق الا بِصَوْت خفى ثمَّ يقوى فى الدَّرْس شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى يصير كالشاب ويتجلد للبحث وَكَانَ كثير المطالعة واذا تَركهَا أَيَّامًا تَأتيه الْحمى وَالْحَاصِل انه مستحسن الْخِصَال كلهَا وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سبع أَو ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشر شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَتَوَلَّى غسله بِيَدِهِ تِلْمِيذه الْفَاضِل أَحْمد الْبناء الدمياطى فانه أَتَاهُ فى الْمَنَام قبل مَوته بأيام وَأمره أَن يتَوَلَّى غسله فَتوجه من دمياط الى مصر فَأصْبح بهَا يَوْم وَفَاته وباشر غسله وتكفينه بِيَدِهِ وَحكى انه لما وضأه ظهر مِنْهُ نور مَلأ الْبَيْت بِحَيْثُ انه لم يسْتَطع بعد النّظر اليه وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الازهر يَوْم الْخَمِيس اماما بِالنَّاسِ الشَّيْخ شرف الدّين بن شيخ الاسلام زَكَرِيَّا وَكَانَ لَهُ مشْهد عَظِيم وَحصل للنَّاس عَلَيْهِ من الْجزع(3/176)
مَا لم يعْهَد لمثله والشبراملسى بشين مُعْجمَة فموحدة فراء فألف مَقْصُورَة على وزن سكرى كَمَا فى الْقَامُوس مُضَافَة الى ملس بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة وبالسين الْمُهْملَة أَو مركبة تركيب مزج وهى قَرْيَة بِمصْر
على بن عمر الْمَشْهُور بالعقيبى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ابْن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى زين الدّين نزيل دمشق الْمجمع على ولَايَته وَكَانَ حموياً وَهُوَ من أكبر تلامذة الشَّيْخ علوان وَكَانَ امْرَهْ بالذهاب الى دمشق فَقَدمهَا وَسكن بمحلة العقيبة خَارج دمشق عِنْد جَامع التَّوْبَة وَلِهَذَا لقب بالعقيبى وَابْنه على هَذَا أدْرك الشَّيْخ علوان وَولى مشيختهم بعد أَخِيه الشَّيْخ مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ ذوق فى بَيَان الخواطر اذا شكيت اليه وَحكى ان الشهَاب أَحْمد بن الْبَدْر الغزى لقِيه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا سيدى رَأَيْت فى بعض الْكتب عَن بعض السَّادة يَا نفس هونى وعَلى مَا كَانَت النَّاس كونى وتأملت فى ظَاهر هَذَا الْكَلَام فرأيته غير مُسلم فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا المُرَاد بِالنَّاسِ الكاملون فى الانسانية مثل أَبى بكر وَعمر وأمثالهما فَقَالَ لَهُ الشهَاب بَارك الله تَعَالَى فِيك بِهَذَا يَزُول اشكال هَذَا الْكَلَام قَالَ النَّجْم فى تَرْجَمته لقيناه وصحبناه بُرْهَة من الزَّمَان وَدخلت عَلَيْهِ فى مرض مَوته فَسَمعته يَقُول وَهُوَ فى سَكَرَات الْمَوْت يَا سيدى يَا حبيبى يَا ربى وَالله انك لتعلم انى أحبك ثمَّ مَاتَ عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ قد ضعف بَصَره فى آخر عمره وَيُقَال انه أوفى على الْمِائَة سنة وَمَات فى لَيْلَة السبت سَابِع شهر ربيع الاول سنة احدى بعد الالف وَدفن عِنْد أَبِيه بزاويتهم بمحلة العقيبة وَكَانَت لَهُ جَنَازَة مَشْهُودَة وَجلسَ وَلَده الشَّيْخ أَبُو الوفا مَكَان بالزاوية يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع يَوْم دَفنه وَاجْتمعت عَلَيْهِ الْفُقَرَاء
على بن عمر بن على بن مُحَمَّد فَقِيه بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ على السَّيِّد الْعَالم الْهمام العلى الْقدر قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن وعدة متون مِنْهَا الارشاد وَعرض محفوظاته على مشايخه ثمَّ اشْتغل بتحصيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والادبية والصوفية وجد حَتَّى عد من الفحول وتفقه على شافعى زَمَانه القاضى أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث والمعانى وَالْبَيَان عَن الْعَلامَة أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين والعربية وَالْفِقْه وَغَيرهمَا عَن أَحْمد بن عمر عبديد والتصوف والْحَدِيث وَغَيرهمَا عَن تَاج العارفين الشَّيْخ زين العابدين وَابْن أَخِيه عبد الرَّحْمَن السقاف وَأخذ ذَلِك عَن الْعَارِف بِاللَّه السَّيِّد علوى بن عبد الله(3/177)
العيدروس ولازمه وَأكْثر التَّرَدُّد اليه وَكَانَ جلّ انتفاعه بِهِ واعتنى بِهِ الشَّيْخ علوى من بَين أَصْحَابه ورحل الى وادى دوعن ووادى عمد وَأخذ بهما عَن أكَابِر الْعلمَاء وَلبس الْخِرْقَة من مشايخه الْمَشْهُورين وأذنوا لَهُ فى الالباس والاقراء ونفع النَّاس وبرع فى عدَّة عُلُوم الا ان الْفِقْه أشهر علومه والتصوف أَكثر معلوماته وَكَانَ حسن المذاكرة كثير الْفَوَائِد كَرِيمًا سخيا عفيفا ذكيا بَصيرًا بالامور نظيف الثِّيَاب كثير البشاشة محبوبا لجَمِيع الانام مَقْبُول الشَّفَاعَة وَجمع كتبا كَثِيرَة ووقفها على طلبة الْعلم بتريم وَتوفى قبل الاكتهال فى أَوَائِل شَوَّال سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
على بن عمر بن على بن عبد الله بن عمر بن سَالم بن مُحَمَّد بن عمر بن على بن أَحْمد ابْن الاستاذ الاعظم الْفَقِيه الْمُقدم اشْتهر جده الاعلى ببا عمر الولى الْعَارِف القطب قَالَ الشلى فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة ظفار وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بالتحصيل فَأخذ عَن الشَّيْخ عقيل بن عمرَان ولازمه فى دروسه واعتنى بِهِ الاعتناء التَّام حَتَّى وصل الى رُتْبَة السَّادة ثمَّ قصد مَكَّة فحج ثمَّ دخل الْهِنْد وبلاد جاوة ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه وَعظم قدره وأزال مَا فِيهَا من الْفساد وانقادت لامره أهل دائرتها وَجلسَ للتدريس فقصده النَّاس ثمَّ قصد مَكَّة وَأقَام بهَا مُدَّة وَأخذ عَن جمع كثير وَأخذ عَنهُ كَثِيرُونَ قَالَ الشلى وَحضر بعض دروسى وَسمع منى بِقِرَاءَة غَيره وأجزته بِجَمِيعِ مصنفاتى ومروياتى وألبسته الْخِرْقَة ثمَّ قصد الْمَدِينَة وَحصل لَهُ هُنَاكَ غَايَة الانعام وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من المريدين ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه وَهُوَ فريد زَمَانه منحه الله تَعَالَى حسن الاخلاق وحلما عَظِيما وَغير ذَلِك من المحاسن وَله نظم ونثر قلت لم يذكر لَهُ شَيْئا مِنْهُمَا وَكَانَت وَفَاته بظفار فى سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف
المنلا على بن المنلا قَاسم بن نعْمَة الله الشيرازى المكى الاديب الْفَاضِل ذكره ابْن مَعْصُوم فى سلافته فى نَعته هُوَ امام الْمعَانى وَالْبَيَان والغنى فَضله عَن الايضاح والتبيان وَمن عَلَيْهِ الْمعول فى كل مُخْتَصر ومطول وَأما الادب فان نثر فالنثرة فى قلق أَو شعر عاذت الشعرى بِرَبّ الفلق وَهُوَ شيرازى المحتد حجازى المولد وجده الرَّابِع من آبَائِهِ الشَّيْخ ظهير الدّين كَانَ أحد الْعلمَاء الْمُحَقِّقين وَله بشيراز مدرسة وطلبة ورتبة أحرز بهَا من الْخَيْر مَا طلبه وَولد صَاحب التَّرْجَمَة بِمَكَّة ونشأبها وأكب على كسب الْعلم وتحصيله وتأثيل الْفضل وتاصيله(3/178)
حَتَّى ظهر شانه وتهدلت بفنون الْعلم أفنانه فَلَمَّا نبابه الوطن وضاق عَنهُ العطن ارْتَاحَ للسَّفر وأمل حُصُول الظفر وامتثل قَول الاول
(واذا نبا بك منزل فتحول ... )
فَدخل الْعَجم أَولا والهند ثَانِيًا وَرَاح لعنانة عَن أوطانه ثَانِيًا فاختطفته الْمنية فى بعض الْبِلَاد الْهِنْدِيَّة ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله فى صدر كتاب
(أَنَاخَ بسوحى جَيش هم وأبطال ... وأضحى قرين الْقلب من بعد ترحال)
(وَمَا فل ذَاك الْجَيْش غير صحيفَة ... تجل لعمرى عَن شَبيه وتمثال)
(أَتَت تسلب الالباب طرا كَأَنَّهَا ... ربيبة خدر ذَات سمط وخلخال)
(أَتَت من خَلِيل قربه غَايَة المنى ... ومنظره الاسنى غَدا جلّ آمالى)
(فَلَا زَالَ مَحْفُوظًا عَن الْحزن والاسى ... وَلَا زَالَ محفوفا بعز واجلال)
وَقَوله مضمنا
(وَلما أتتنى من جنابك نفحة ... تضوع من أنفاسها الْمسك والكد)
(وقفت فأتبعت الرَّسُول مسائلا ... وأنشدته بَيْتا هُوَ الْعلم الْفَرد)
(وحدثتنى يَا سعد عَنْهَا فزدتنى ... شجونا فزدنى من حَدِيثك يَا سعد)
وَالْبَيْت المضمن للْعَبَّاس بن الاحنف وَبعده
(هَواهَا هوى لم يعرف الْقلب غَيره ... فَلَيْسَ لَهُ قبل وَلَيْسَ لَهُ بعد)
قلت وَصَاحب الترخمة كَانَ تزوج بِأم السَّيِّد على صَاحب السلافة واستولدها وَلَده أَحْمد بن المنلا أحد أدباء مَكَّة الْآن وَهُوَ فى الاحياء كَامِل الادوات لطيف الذَّات فَهُوَ أَخُو السَّيِّد على بن مَعْصُوم لامه وَكَانَت وَفَاة المترجم فى الْمحرم سنة احدى وَخمسين وَألف
على بن مُحَمَّد بن ابراهيم بن أَحْمد بن ابراهيم الملقب عَلَاء الدّين بن نور الدّين بن القاضى برهَان الدّين البعلى الْمَعْرُوف بِابْن المرحل الامام الْفَقِيه المالكى الْمَذْهَب القاضى الْمُفْتى نزيل دمشق ينتهى نسبه الى صدر الدّين بن الْوَكِيل قَرَأَ بِبَلَدِهِ بعلبك على الشَّيْخ شهَاب الدّين الفصى وَغَيره ورحل الى مصر فى رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن ابْن الصيرفى وَحج من مصر فى تِلْكَ السّنة وَعَاد اليها وَصَحب الشَّيْخ شرف الدّين البرهمتوشى الحنفى وَقَرَأَ فى الرسَالَة على الشَّيْخ الامام عبد الرَّحْمَن التاجورى المغربى وعَلى الشَّيْخ على الصعيدى والمختصر للشَّيْخ خَلِيل على الشَّيْخ نَاصِر الصعيدى مرَارًا وتفقه على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الاجهورى(3/179)
والناصر اللقانى وَآخَرين وَأخذ النَّحْو عَن الشَّيْخ سراج الدّين امام الْحَنَفِيَّة بِجَامِع الازهر وَصَحب الشَّيْخ الاستاذ أَبَا الْحسن البكرى ثمَّ حج وَدخل الْيمن وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد الى بعلبك وَأقَام بهَا يدرس ويفتى حَتَّى جرت لَهُ بهَا محنة سَافر بِسَبَبِهَا الى الرّوم ثمَّ دخل فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وقطن بهَا وَصَحب الشهَاب الغزى وَقَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة من الاحياء ولازم درس الْبَدْر الغزى فى الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَغَيرهمَا وَقَرَأَ على الْعَلَاء بن عماد الدّين والشهاب الفلوجى والبدر حسن بن المزلق ثمَّ صحب الشَّيْخ أَحْمد بن سُلَيْمَان الصوفى وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر بن سوار ولازم عِنْده حُضُور الْمحيا الى الْمَمَات وَكَانَ يصحب أَيْضا الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وأخاه الشَّيْخ ابراهيم وَكَانَ بِهِ أخص وَكَانَ من اشراف النَّاس انْتَهَت اليه رياسة مذْهبه وَكَانَ يحفظ الْمَذْهَب على ظهر قلبه وَولى نِيَابَة الْقَضَاء بمحكمة الْبَاب مرَارًا وَلم يتَنَاوَل شَيْئا من الْمَحْصُول وَيَقُول للقضاة أَنا مرادى بالنيابة قيام الناموس وَكَانَ عِنْده حمية وَولى امامة الْمَالِكِيَّة بالجامع الاموى وَكَانَ سليط اللِّسَان قوى النَّفس فى انكار الْمُنكر وَغَيره وَكَانَ يعْزل نَفسه عَن النِّيَابَة لنصرة الْحق ولتنفيذ كَلمته ثمَّ تلاطفه الْقُضَاة فَيَعُود الى النِّيَابَة عَزِيزًا مكرما وَفرغ عَن النِّيَابَة والامامة آخرا وَحج صُحْبَة الشَّيْخ ابراهيم بن سعد الدّين وجاورا وَعَاد فى سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وبقى بفتى الى أَن مَاتَ وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى شهر ربيع الاول سنة ثَلَاث بعد الالف وَدفن خَارج بَاب الله عِنْد قُبُور بنى سعد الدّين
على بن مُحَمَّد بن على بن خَلِيل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن ابراهيم بن مُوسَى بن غَانِم بن على ابْن حسن بن ابراهيم بن عبد الْعَزِيز بن سعيد بن سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج الخزرجى السعدى العبادى المقدسى الاصل القاهرى المولد والسكن الملقب نور الدّين الحنفى الْعَالم الْكَبِير الْحجَّة الرحلة الْقدْوَة رَأس الْحَنَفِيَّة فى عصره وامام أَئِمَّة الدَّهْر على الاطلاق وَأحد أَفْرَاد الْعلم الْمجمع على جلالته وبراعته وتفوقه فى كل فن من الْفُنُون وَبِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فَهُوَ أعلم عُلَمَاء هَذَا التَّارِيخ وَأَكْثَرهم تبحرا وأجمعهم للفنون مَعَ الْولَايَة والورع والزهد والشهرة الطنانة الَّتِى سلم لَهَا أهل عصره وأذعنوا لَهَا مَعَ ان العصريين يجحدون فضل بَعضهم بَعْضًا وَلَا يذعنون كل الاذعان وَقد وقفت على أخباره كثيرا فى التواريخ وَكتب الْآدَاب الْمُؤَلّفَة فانتقيت مَا يحصل المُرَاد من تَرْجَمته فَأَقُول انه نَشأ بِمصْر وَحفظ الْقُرْآن وتلاه بالسبع على(3/180)
الشَّيْخ الْفَقِيه الْوَرع الزَّاهِد شهَاب الدّين أَحْمد بن الْفَقِيه على بن حسن المقدسى الحنبلى وَأخذ عَن قاضى الْقُضَاة محب الدّين أَبى الْجُود مُحَمَّد بن ابراهيم السديسى الحنفى قَرَأَ عَلَيْهِ القراآت وَالْفِقْه وَسمع عَلَيْهِ كثيرا وَعَن قاضى الْقُضَاة شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن على الفتوحى الحنبلى الشهير بِابْن النجار قَرَأَ عَلَيْهِ الصَّحِيحَيْنِ وَبَعض كل من السّنَن الاربعة وَسمع عَلَيْهِ بعض معانى الْآثَار للطحاوى وَغير ذَلِك من كتب الحَدِيث وَغَيرهَا وَمن مشايخه الْمُحَقق شهَاب الدّين أَحْمد بن يُونُس الحلبى الشهير بِابْن الشلبى صَاحب الْفَتَاوَى قَرَأَ عَلَيْهِ الْفِقْه وَسمع عَلَيْهِ الحَدِيث وَغَيره وَمِنْهُم خَاتِمَة الْمُحَقِّقين الشَّيْخ نَاصِر الدّين الطبلاوى وَالشَّيْخ الامام نَاصِر الدّين اللقانى المالكى والاستاذ الْعَارِف الْكَبِير أَبُو الْحسن البكرى وَالشَّيْخ الشهَاب الرملى والعلامة الشهير بعالم الرّبع العامر الامام المفنن شمس الدّين مُحَمَّد الشهير بمفوش المغربى التونسى قَرَأَ عَلَيْهِ بعض مُسلم وَأَجَازَهُ بسائره وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَسمع عِنْده كثيرا من الْعُلُوم وَمِنْهُم الشَّيْخ الْمسند شمس الدّين مُحَمَّد بن شرف الدّين السكندرى يرْوى عَنهُ الحَدِيث المسلسل بالاولية والكتب السِّتَّة والقراآت وَمِنْهُم السَّيِّد قطب الدّين عِيسَى بن صفى الدّين الشيرازى ثمَّ المكى الشهير بالصفوى يرْوى عَنهُ البخارى والشفاء سَمَاعا لبعضهما واجازة لسائرهما وشاركه فى الاخذ عَن شَيْخه السَّيِّد أَبى الْفضل الاسترابادى تلميذ شيخ الاسلام احْمَد بن يحيى الهروى حفيد السعد التفتازانى سمع عَلَيْهِ التَّلْوِيح للتفتازانى وَسمع على السَّيِّد الشريف مير عليم البخارى شَارِح الْفَوَائِد الغياثية وَالْمولى مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الشهير بمعلول أَمِير وقاضى الْقُضَاة عبد الله بن عبد الْعَزِيز الشهير ببرويز قاضى الْعَسْكَر بِمصْر وَكِلَاهُمَا يرْوى عَن الْعَلامَة أَحْمد بن سُلَيْمَان الشهير بِابْن الْكَمَال الْمُفْتى وَالْمولى سعدى المحشى الْمُفْتى وتفوق على أهل عصره فى كل علم وَكَانَ اليه الرحلة من الْآفَاق وَأفْتى مُدَّة حَيَاته وانتفع بِهِ الجم الْغَفِير من كبار أهل زَمَانه مِنْهُم الشهابان الغنيمى والخفاجى وَأَبُو المعالى الطالوى الدمشقى وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى وَولى المناصب الجليلة كامامة الاشرفية ومشيختها ومشيخة مدرسة الْوَزير سُلَيْمَان باشا ومشيخة الاقراء بمدرسة السُّلْطَان حسن وتدريس الصرغتمشية وَغير ذَلِك وَحج مرَّتَيْنِ ورحل الى الْقُدس ثَلَاث مَرَّات وَألف التآليف النافعة فى الْفِقْه وَغَيره مِنْهَا شرح نظم الْكَنْز سَمَّاهُ الرَّمْز وَشرح الاشباه والنظائر وَله الشمعة فى أَحْكَام الْجُمُعَة الَّتِى قَالَ فى مدحها الْمولى على بن أَمر الله(3/181)
الحنائى
(لقد أنست عيناى لمحة شمعة ... توقد من مشكاة علم وايقان)
(جلا نورها الوضاح أفق كَمَاله ... غياهب شكّ كَانَ فى ليل نُقْصَان)
وَكتب عَلَيْهَا شاه مُحَمَّد الفنارى
(أَضَاءَت خفيات الْعُلُوم بشمعة ... توقد فى مشكاة علم واتقان)
(جلا نورها البادى بصبح كمالها ... غياهب شكّ كَانَ فى ليل نُقْصَان)
وَله غير ذَلِك وَذكره الخفاجى وَقَالَ فى وَصفه امام اقتدت بِهِ عُلَمَاء الامصار وتنزهت من فضائله فى حدائق ذَات بهجة وأنوار أثمرت أَغْصَان الاقلام فى حدائق فضائله وسالت فى بطاح المكارم بحار فواضله
(فَالنَّاس كلهم لِسَان وَاحِد ... يَتْلُو الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالدُّنْيَا فَم)
فالعلم مَدِينَة وعَلى بَابهَا وكعبة تحج لَهَا آمال الْفُضَلَاء وألبابها لَو مست رَاحَته هَذَا السَّحَاب أمطر كرما ومجدا أَو النُّجُوم جرين فى التربيع سَعْدا وَلَو رَآهُ النُّعْمَان لقَالَ هَذَا أخى وشقيقى أَو الصاحب لقَالَ أَنْت فى طرق البلاغة رفيقى
(صِفَاته لم تزِدْه معرفَة ... لكننا لَذَّة ذَكرنَاهَا)
وَله فى كل فن كَعْب على وفكر بِنَقْد جواهره ملى مَعَ نباهة تحلت بهَا الاشعار وطارت بأجنحة الثَّنَاء فى الاقطار كَأَنَّهُ بكر معنى سَار فى مثل كَمَا قَالَ فى قصيدة لَهُ
(لله دَرك يَا من نظمه دُرَر ... قلائد لنحور الغيد تدخر)
(أَو روض فضل نضير لَا نَظِير لَهُ ... فى دوحه ثَمَر مَا مثله ثَمَر)
(مسك الفصاحة من فحواه منتشق ... واللؤلؤ الرطب من مَعْنَاهُ منتثر)
دخلت نَادِيه والكون متعطر بنشره متبسم الايام بثغر سروره وبشره وقرأت عَلَيْهِ طرفا من الْعُلُوم وَمن حَدِيث الرَّسُول وأمدنى بِدُعَاء لَا أَشك فى انه على أكف الْقبُول مَحْمُول وَكَانَ يُنَوّه باسمى ويتوج رَأس الدَّهْر برسمى وَكنت وَأَنا أجتنى باكورة التَّحْصِيل كتبت عِنْد وُرُود البشائر بوفاء النّيل لَهُ بَيْتَيْنِ وهما
(قسما لَيْسَ نيل كفك كالنيل اذا راية المكارم تنشر ... )
(أَنْت عِنْد الْوَفَاء طلق الْمحيا ... وَأرى النّيل فى الوفا يتكدر)
فنثر عَلَيْهِمَا من نثار الِاسْتِحْسَان مَا يهزأ بانتظام عُقُود الجمان قَالَ قلت وَلم أورد غير هَذَا من شعره لما قَالَه ابْن بسام فى الذَّخِيرَة أشعار الْعلمَاء على قديم الدَّهْر وَحَدِيثه بَيِّنَة التَّكْلِيف وشعرهم الذى روى لَهُم // ضَعِيف // اشا طَائِفَة مِنْهُم خلف(3/182)
الاحمر فان لَهُ مَا يستندر هَذَا مَا أوردهُ وَأَنت اذا أنصفت لم تقدم على هَذِه الْمقَالة فى حق مَا أوردهُ من هَذِه الابيات فانها متنزهة عَن التَّكَلُّف والاعتساف وترجمه عبد الْكَرِيم بن سِنَان المنشى فَأحْسن فى تَرْجَمته كل الاحسان حَيْثُ قَالَ على الذَّات قدسى الصِّفَات الْعقل الحادى عشر روح الْقُدس فى صُورَة الْبشر درة مقدسية الصدف من فاق شمس الاشراق فى الشّرف صَاحب أنفاس قدسية وفصاحة قسية نخبة عصره وعزيز مصره لَهُ اخلاق أرق من نسمات السحر وألطف من نغمات الْوتر تحلى جيده بقلائد الْفَتْوَى وعقدت لَهُ بِالْقَاهِرَةِ عروس الْفَتْوَى وَكنت فى شرخ الشَّبَاب ركبت غارب الاغتراب فَلَمَّا أنخت مَطِيَّة السّفر بِالْقَاهِرَةِ المعزيه أشرفت على شمس ذَاته العليه فتقرطقت أذنى بلآلئ كَلَامه واكتحلت عينى بمواقع أقلامه وَذَلِكَ التَّارِيخ فى حُدُود التسعين وَالشَّيْخ قدرقى شرف الثَّمَانِينَ وهواى اذ ذَاك مَعَ الركب اليمانين قَرَأت عَلَيْهِ مُقَدّمَة الاعراب الحاجبية وسرحت طرف الطّرف فى رياض فضائله الجنية وَكَانَ مَعَ غزارة فَضله جَامعا بَين النّظم والنثر وناظما لَهما فى سلك السحر وَله آثَار يحِق أَن تكْتب بِالنورِ على صفحات وجنات الْحور وَكَانَ لَهُ من الزّهْد حَظّ وافر وَقد رزق من الْعُمر مَا ألحق الاصاغر بالاكابر وَلم يزل بنان قلمه يحل عقد الْمسَائِل ومورد فَضله لكل سَائل سَائل الى أَن ختمت صفحات حَسَنَاته وجف من منهل الْعُمر مَاء حَيَاته وَله أَبْيَات يقرظ بهَا كتابا حازت من نقد البلاغة نِصَابا ويعجبنى مِنْهَا فى الِاعْتِذَار عَن التقريظ بَيت ولعمرى انه بَيت لَا يُقَال فِيهِ لَو وَلَا لَيْت هُوَ
(جعلت تقريظى لَهُ عوذة ... تقيه من شَرّ أَذَى الْعين)
انْتهى وَذكره ابْن نوعى فى ذيل الشقائق واستوعب ذكر علومه وأحواله ثمَّ قَالَ وَكَانَ مَعَ علمه الزاخر عَالما بِغَرَائِب الْفُنُون وَله أفاعيل عَجِيبَة فى بَاب السيميا مِنْهَا مَا حكى ان أَحْمد باشا الْحَافِظ لما كَانَ واليا بِمصْر فى حُدُود سنة ألف غضب على بعض الجناة فَأمر بِهِ الى مركب الْحجر وَكَانَ لَهُ وَالِد ووالدة فتوسلا بالشيخ فشفع عِنْده فِيهِ فَلم يقبل شَفَاعَته فَأرَاهُ فى الْحَال من ضروب السيميا انه جَاءَهُ من طرف الدولة بريد وانه خرج الى استقباله فى مركب فصادف مراكب الفرنج فأسروه هُوَ وجماعته وربطوهم للجدف بالمجاديف فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك اذ رأى الشَّيْخ المترجم وَاقِفًا على سَاحل الْبَحْر وَهُوَ(3/183)
يخاطبه كَيفَ رَأَيْت جدف المجاديف هلى هُوَ سهل وَهل تُرِيدُ الْخَلَاص فاستغاث بِهِ فمسك بيد الْحَافِظ وحركه فَتنبه وَنظر الى حَالَته فَرَأى نَفسه فى مقَامه الاول والمجلس لم يتَغَيَّر وَكَانَ غيبته كَانَت لَحْظَة فهوى هلى يَد الشَّيْخ يقبلهَا وَأمر باطلاق ذَلِك الرجل وَاتفقَ لَهُ بعْدهَا مَعَ الْحَافِظ الْمَذْكُور انه صُحْبَة للتنزه فى الْمَكَان الْمَعْرُوف بالسبيكة فَطلب مِنْهُ أَن يرِيه شَيْئا من الاعمال الغريبة فى السيميا فَطلب الشَّيْخ مِنْهُ خَاتمه الذى فى يَده فَلَمَّا أعطَاهُ اياه أَلْقَاهُ فى النّيل فَبعد حِصَّة من النَّهَار جئ الى الْمجْلس ببطيخ فَأَشَارَ الى الْحَافِظ بِأَن الْهَوَاء حَار جدا فَلَا بَأْس بِأَن تقطعوا البطيخة أَنْتُم ليحصل لكم رُطُوبَة فامتثل أمره فَلَمَّا فلقها خرج الْخَاتم فى وَسطهَا قَالَ وَحكى انه نَشأ لَهُ ولد وَكَانَ يمِيل اليه ميلًا زَائِدا فَعلمه الْعُلُوم الغريبة بأسرها ثمَّ انه تغلغل فى الْهوى وَالْفِسْق والفجور وَتعرض لبَعض حرم الْمُسلمين فَأفْتى الشَّيْخ بقتْله آخرا وَذهب الى الْحَافِظ وَأمره بقتْله فسجل عَلَيْهِ وَقتل وَمن فَوَائده الْمَنْظُومَة نظم من حفظ الْقُرْآن فى زَمَنه
(وحافظ الْقُرْآن بالغيوب ... زيد أَبُو زيد أَبُو أَيُّوب)
(عُثْمَان مِنْهُم وَتَمِيم الدارى ... عبَادَة معَاذ الانصارى)
ونظمهم أَيْضا وهم ثَمَانِيَة
(وجامع الْقُرْآن فى عصر النبى ... زيد وثابت معَاذ وأبى)
(عُثْمَان مِنْهُم وَتَمِيم الدارى ... عبَادَة بن الصَّامِت الانصارى)
وَله نظم من أفتى فى عصره
على مَا فى شرح الْمَشَارِق للاربلى
(فَازَ جمع فى الصحب بالافتاء ... فمعاذ مَعَ أَربع الْخُلَفَاء)
(وأبى ونجل مَسْعُود زيد ... وَابْن عَوْف كَذَا أَبُو الدَّرْدَاء)
(ثمَّ سلمَان مَعَ حُذَيْفَة عمار مَعَ الاشعرى رب الثَّنَاء ... )
وَذكره المناوى فى طَبَقَات الاولياء وَعدد الْعُلُوم الَّتِى ينْسب اليه مَعْرفَتهَا واتقانها ثمَّ قَالَ وَصَارَ فى آخر أمره حفيظا على المراقبة يَقُول اللَّيْل فى عبَادَة رب الْعَالمين وينام النَّهَار بعد التوقيع على أسئلة الْمُسلمين ويبر الْفُقَرَاء ويتحيل على كتمان أمره يفرق الذَّهَب ويحافظ على ستره وَكَانَ يجْتَمع بالفقراء ويحبهم وَيُحِبُّونَهُ ويعرفهم ويعرفونه ويكرمه الْحَاضِر والبادى وَكم لَهُ على أهل مصر من الايادى يعظم الصُّوفِيَّة وَيحسن فيهم الِاعْتِقَاد وَيَقُول طَرِيق الصُّوفِيَّة اذا صحت طَرِيق(3/184)
الرشاد وَرَأى الْمُصْطَفى
مرَارًا عديدة وَأخْبر شَيْخه الشَّيْخ كريم الدّين الخلوتى انه شهد الْوحدَة فى الْكَثْرَة وَالْكَثْرَة فى الوجدة وانه وصل الى مقَام اسْتحق أَن يَأْخُذ الْعَهْد ويربى وَأَجَازَهُ بذلك وَلم يزل على هَذَا حَتَّى حل بحماه الْحمام قَالَ النَّجْم الغزى وقرأت بِخَطِّهِ أَن مولده فى أَوَائِل ذى الْقعدَة الْحَرَام عَام عشْرين وَتِسْعمِائَة ثمَّ رَأَيْت بِخَط الشَّيْخ عبد الْغفار العجمى القدسى أَن وِلَادَته كَانَت فى سادس ذى الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَهُوَ بَيَان للاوائل وَتوفى لَيْلَة السبت ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الازهر فى محفل حافل وَدفن بَين القصرين من يَوْم السبت بتربة المجاورين قبلى مدفن السراج الهندى وَكَانَ قبل وَفَاته بِخَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا توفى شيخ الشَّافِعِيَّة فى وقته الامام الْكَبِير الشَّمْس الرملى فَقَالَ بعض الادباء بِالْقَاهِرَةِ فى تَارِيخ وفاتهما
(لما قضى الرملى شيخ الورى ... من كَانَ يملى مَذْهَب الشافعى)
(ثمَّ تلاه المقدسى الذى ... حَاز عُلُوم الصحب والتابعى)
(فَقلت فى مَوْتهمَا أرخا ... مَاتَ أَبُو يُوسُف والرافعى)
قلت وسيأتى فى تَرْجَمَة الرملى الْمَذْكُور انه ذهب كثيرا الى أَنه المجدد على رَأس الْمِائَة وَأَن المجدد لَا يسْتَقلّ بِمذهب دون مَذْهَب بل وَلَا منصب دون منصب فَلَعَلَّ صَاحب التَّرْجَمَة يكون المجدد من الْحَنَفِيَّة والرملى من الشَّافِعِيَّة وَالله أعلم
على بن مُحَمَّد سُلْطَان الهروى الْمَعْرُوف بالقارى الحنفى نزيل مَكَّة وَأحد صُدُور الْعلم فَرد عصره الباهر السمت فى التَّحْقِيق وتنقيح الْعبارَات وشهرته كَافِيَة عَن الاطراء فى وَصفه ولد بهراة وَرجل الى مَكَّة وتديرها وَأخذ بهَا عَن الاستاذ أَبى الْحسن البكرى وَالسَّيِّد زَكَرِيَّا الحسينى والشهاب أَحْمد بن حجر الهيتمى وَالشَّيْخ أَحْمد المصرى تلميذ القاضى زَكَرِيَّا وَالشَّيْخ عبد الله السندى والعلامة قطب الدّين المكى وَغَيرهم واشتهر ذكره وطار صيته وَألف التآليف الْكَثِيرَة اللطيفة التأدية المحتوية على الْفَوَائِد الجليلة مِنْهَا شَرحه على الْمشكاة فى مجلدات وَهُوَ أكبرها وأجلها وَشرح الشِّفَاء وَشرح الشمايل وَشرح النخبة وَشرح الشاطبية وَشرح الجزرية ولخص من الْقَامُوس مواد وَسَماهُ الناموس وَله الاثمار الجنية فى اسماء الْحَنَفِيَّة وَشرح ثلاثيات البخارى ونزهة الخاطر الفاتر فى تَرْجَمَة الشَّيْخ عبد الْقَادِر لكنه امتحن بالاعتراض على الائمة لَا سِيمَا الشافعى وَأَصْحَابه رَحِمهم الله تَعَالَى وَاعْترض على(3/185)
الامام مَالك فى ارسال الْيَد فى الصَّلَاة وَألف فى ذَلِك رساله فَانْتدبَ لجوابه الشَّيْخ مُحَمَّد مكين وَألف رِسَالَة جَوَابا لَهُ فى جَمِيع مَا قَالَه ورد عَلَيْهِ اعتراضاته وأعجب من ذَلِك مَا نَقله عَنهُ السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الرَّسُول البرزنجى الحسينى فى كِتَابه سداد الدّين وسداد الدّين فى اثبات النجَاة فى الدَّرَجَات للْوَالِدين انه شرح الْفِقْه الاكبر الْمَنْسُوب الى الامام أَبى حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى وتعدى فِيهِ طوره فى الاساءة فى حق الْوَالِدين ثمَّ انه مَا كَفاهُ ذَلِك حَتَّى ألف فِيهِ رِسَالَة وَقَالَ فى شَرحه للشفاء متبجحا ومفتخرا بذلك انى ألفت فى كفرهما رِسَالَة فليته اذ لم يراع حق رَسُول الله
حَيْثُ آذاه بذلك كَانَ استحيا من ذكر ذَلِك فى شرح الشفا الْمَوْضُوع لبَيَان شرف الْمُصْطَفى
وَقد عَابَ النَّاس على صَاحب الشِّفَاء ذكره فِيهِ عدم مفروضية الصَّلَاة عَلَيْهِ
فى الصَّلَاة وَادّعى تفرد الشافعى بذلك بِأَن هَذِه المسئلة لَيْت من مَوْضُوع كِتَابه وَقد قيض الله تَعَالَى الامام عبد الْقَادِر الطبرى للرَّدّ على القارى فألف رِسَالَة أغْلظ فِيهَا فى الرَّد عَلَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فقد صدر مِنْهُ امثال لما ذكر كَانَ غَنِيا عَن ان تصدر مِنْهُ ولولاها لاشتهرت مؤلفاته بِحَيْثُ مَلَأت الدُّنْيَا لِكَثْرَة فائدتها وَحسن انسجامها وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فى شَوَّال سنة أَربع عشرَة وَألف وَدفن بالمعلاة وَلما بلغ خبر وَفَاته عُلَمَاء مصر صلوا عَلَيْهِ بِجَامِع الازهر صَلَاة الْغَيْبَة فى مجمع حافل يجمع أَرْبَعَة آلَاف نسمَة فَأكْثر
على بن مُحَمَّد الملقب عَلَاء الدّين بن نَاصِر الدّين الطرابلسى الاصل الدمشقى الحنفى شيخ الاقراء بِدِمَشْق وامام الْجَامِع الاموى كَانَ عَلامَة فى القراآت والفرائض والحساب وَالْفِقْه وَغَيرهَا وَله تآليف عديدة أشهرها شَرحه على فَرَائض ملتقى الابحر سَمَّاهُ سكب الانهر وَله مُقَدّمَة فى علم التجويد سَمَّاهَا الْمُقدمَة العلائية فى تجويد التِّلَاوَة القرآنية ونظم أسئلة تتَعَلَّق بِبَعْض المشكلات والالغاز فى القراآت الْعشْر وسماها الالغاز العلائية وعدة أبياتها مائَة وَسِتَّة وَعِشْرُونَ بَيْتا وَلم يجب عَنْهَا أحد الى الْآن وَقع لَهُ فى بعض تآليفه عِنْد ذكر تَارِيخ ختامه هَذَا التَّرْكِيب وَقد انْتهى فى التَّارِيخ الْمُوَافق للخمس الْخَامِس من السُّدس الرَّابِع من الثُّلُث الثَّالِث من الرّبع الثانى من الْعشْر الْعَاشِر من الْعشْر التَّاسِع من الْعشْر الْعَاشِر من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة وَقد سألنى فى حلّه بعض الاصدقاء فوفقت اليه بعناية الله تَعَالَى وَمرَاده انه انْتهى فى الْيَوْم الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة لسنة(3/186)
تسعين وَتِسْعمِائَة لَان الْمِائَة الْعَاشِرَة عَاشر أعشار الالف وتاسع اعشار الْمِائَة من الاحد والثمانين الى التسعين وعاشر الْعشْرَة وَهُوَ سنة تسعين وَالثلث الثَّالِث من الرّبع الثانى هُوَ الشَّهْر السَّادِس من السّنة وَهُوَ جُمَادَى الْآخِرَة ورابع أسداسه من سِتَّة عشر الى عشْرين وخامس السُّدس هُوَ الْعشْرُونَ انْتهى وَله آثَار كَثِيرَة تدل على نباهته ومولده بِدِمَشْق وَقَرَأَ الْقُرْآن على مَشَايِخ مِنْهُم وَالِده والشهاب الطَّيِّبِيّ الْكَبِير وَالشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الحنفى امام الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَالشَّيْخ شهَاب الدّين الايدونى الشافعى امام الْجَامِع الاموى والشهاب الفلوجى الامام الشافعى بالجامع أَيْضا وَجمع القراآت السَّبع ثمَّ الْعشْر على الْمَشَايِخ الْمَذْكُورين وتفقه على الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الْمَذْكُور وعَلى شيخ الاسلام النَّجْم البهنسى شَارِح الْمُلْتَقى خطيب دمشق فى وقته ومفتيها وَقَرَأَ الْفَرَائِض على الشَّيْخ مُحَمَّد النجدى الحنبلى الفرضى وعَلى الشهَاب العلموى الملقب بشكارة والحساب والجبر والمقابلة مَعَ الهندسة على الشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن الكيال الْمُؤَقت بالجامع الاموى وَأخذ عَنهُ كثيرا من علم الْفلك وَأخذ قَوَاعِد هَذَا الْعلم حَتَّى مهر فِيهِ عَن الشَّيْخ أَبى بكر تقى الدّين الصهيونى وَأخذ الحَدِيث رِوَايَة ودراية عَن شيخ الاسلام الْبَدْر الغزى وعلوم الْعَرَبيَّة عَن الْعِمَاد الحنفى وَالشَّمْس بن المنقار وَعرض الفية ابْن مَالك على الْعَلامَة الْعَلَاء بن عماد الدّين وَولى تدريس الدولعية اليونسية والكوجانية والصباية وتدريس بقْعَة بالجامع الاموى وَكَانَ امام الْحَنَفِيَّة بِهِ وَله كرسى وعظ فى الاشهر الثَّلَاثَة وَغير ذَلِك من الْوَظَائِف الدِّينِيَّة قَالَ الْحسن البورينى أخبرنى من لَفظه أَن وِلَادَته كَانَت فى صَبِيحَة نَهَار الْجُمُعَة مستهل شَوَّال سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى بعد ان انْقَطع فى بَيته سنوات وأقعد عِنْد طُلُوع الشَّمْس من صبح يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير غربى سيدى بِلَال الحبشى فى قبر وَالِده
على بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف برضائى سبط شيخ الاسلام زَكَرِيَّا بن بيرام الْمُقدم ذكره القسطنطينى المولد قاضى الْقُضَاة بِمصْر الاديب الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ أوحد قطر الرّوم وباقعة تِلْكَ الْبقْعَة لطيف نفث السحر خَفِيف روح النّظم والنثر وأشعاره بالتركية فى الذرْوَة الْعليا من الرقة والانسجام وَحسن التأدية وهى مَجْمُوعَة فى ديوَان مَشْهُور وَأما شعره العربى فَلم أَقف مِنْهُ الا على هَذَا الْمَقْطُوع فى التبغ(3/187)
وَهُوَ قَوْله
(غليوننا حِين هَمت كل نائبة ... بِهِ وسامرنا هم وأفكار)
(قد اهتدينا الى شرب الدُّخان بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فى رَأسه نَار)
وَهُوَ تضمين حسن فان المصراع الاخير مضمن من قَول الخنساء فى أَخِيهَا صَخْر
(وان صخرا التأتم الهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فى رَأسه نَار)
وَكَانَ كثير الاعتناء بالادب وَاخْتصرَ خريدة الْقصر للعماد الْكَاتِب وَسَماهُ عود الشَّبَاب وَقَالَ فى الِاعْتِذَار عَن اختصاره وَلما وجدت بعض نَقده أزيف من زائج زَمَاننَا شرعت فى تَمْيِيز الْجِيَاد واكتفيت باقتطاف الْجِيَاد من ثمار أَغْصَانهَا بل قنعت بِالْعرْفِ الضائع من بانها وانى وان فاتنى بعض جواهره فالغائص يعْذر بِمَا فى يَدَيْهِ ويشكر الصِّبَا مُقبلا من الحبيب بِبَعْض عرف صدغيه فجَاء بِحَمْد الله تَعَالَى غادة تسحر الْقُلُوب بألفاظاها القسية وألحاظها البابلية تصيد الْقُلُوب بألحاظها الَّتِى زينها الْجمال بالفتور فَمن نظر فِيهِ يشتعل قلبه بالنَّار وتكتحل عينه بِالنورِ وانى غير آمل من أَبنَاء الزَّمَان تحسيبنهم وبقلادة حسن الْقبُول توشيحهم وتزيينهم فان من جرب النَّاس فى أَمرهم يعرف ان النَّاس مشتقون من دهرهم بل نؤمن من كرمهم الفسيح أَن لَا يوردوا وَجهه بالتصريح بِأَنَّهُ قَبِيح
(انا لفى زمن ترك الْقَبِيح بِهِ ... من أَكثر النَّاس احسان واجمال)
ثمَّ ختم الديباجة بِذكر خَاله شيخ الاسلام بحيى وَجعل الْمُخْتَصر معنونا باسمه وعقبه بِهَذِهِ الابيات وأظنها من نظمه
(يَا مصدر الآمال بدنا بَعْدَمَا ... سقنا اليك مَعَ الرجا أنقاضها)
(عش فى ذرى كافى الكفاة مصاحبا ... نعما بَيَاض الصُّبْح خَافَ بياضها)
(وَخذ الْجَوَاهِر من قلائد مقولى ... اذ كَانَ غَيْرِي مهديا أعراضها)
انْتهى قَالَ الشَّيْخ مَدين ولى قَضَاء مصر فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدخل بولاق فى يَوْم السبت السَّابِع من ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَهُوَ رمدان ثمَّ دخل مَحل حكمه بعد غرُوب شمس لَيْلَة الْخَمِيس ثانى عشرى ذى الْحجَّة ثمَّ بعد مَا شفى من الرمد حصل عِنْده اسهال فاستمر الى ان مَاتَ بِهِ وَكَانَت وَفَاته فى الثَّامِن وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف بمنزل أَخِيه الامير اسماعيل وَدفن بِالْقربِ من قبر القاضى بكار وَكَانَت مُدَّة اقامته بِمصْر دون ثَلَاثَة أشهر انْتهى قلت وَقد بلغنى انه لما بلغت وَفَاته خَاله(3/188)
الْمَذْكُور قَالَ آه وآه رضائى فصادف تَارِيخ وَفَاته
على بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن ابراهيم بن أَبى الْقَاسِم بن عمر بن أَحْمد بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن عِيسَى مطيرا الحكمى الْيُمْنَى عَلامَة بنى مطير الْمَشْهُورين بِالْعلمِ وَالْخَيْر الصارفين نفائس أوقاتهم فى خدمَة الحَدِيث النبوى والملازمين الِاتِّبَاع للشَّرْع المصطفوى فَضلهمْ مَشْهُور لَا يحْتَاج الى بَيَان كَالشَّمْسِ لَا تحْتَاج الى دَلِيل وبرهان ولد سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بفنون الْعُلُوم وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم الامين بن ابراهيم بن مطير وَأَبُو بكر بن ابراهيم مطير والفقيه عبد السَّلَام النزيلى وَغَيرهم وَألف المؤلفات الْكَثِيرَة النافعة الشهيرة مِنْهَا الاتحاف مُخْتَصر التُّحْفَة لِابْنِ حجر والديباج على الْمِنْهَاج وكشف النقاب بشرح ملحة الاعراب للحريرى وخلاصة الاحرى فى تَعْلِيق الطَّلَاق على الابرا وتكملة تَفْسِير جده ابراهيم بن أَبى الْقَاسِم مطير من أول الْكَهْف الى آخر الْقُرْآن الْمُسَمّى بالضنائن وَشرح قصيدة جده ابراهيم الْمَذْكُور فى التصوف سَمَّاهَا بِالْفَتْح الْمُبين فى شرح قصيدة الامام ضِيَاء الدّين وَغير ذَلِك وَله شعر كثير مِنْهُ قَوْله يمدح النبى
(متيم ان سرت ريح الشآم صبا ... ومستهام اذا مرت عَلَيْهِ صبا)
(وَذُو شجون وَمَا غنت مطوقة ... تبكى على الالف الا دمعه سكبا)
(يبكى ويدمع لَو فياضى مدمعه ... من جوده جاد يَوْمًا طوقها سلبا)
(وان تذكر أَيَّامًا لَهُ سلفت ... مَعَ الاحبة فى أوطانهم جذبا)
(روى الرّبيع مغانيهم ومربعهم ... وعمم الْغَيْث مِنْهَا السهل والحدبا)
(وأزهر الرَّوْض مِنْهَا وَالْحمام غَدَتْ ... مغردات عَلَيْهِ تمتطى العذبا)
(وَكلما رام يبغى نحوهم طرقا ... يعمى السَّبِيل عَلَيْهِ أَيْنَمَا ذَهَبا)
(سُبْحَانَ من نفذت فِينَا مشئته ... فَمَا يسهل لَهُ يسهل وَمَا صعبا)
(مَا زلت أَقرع أَبْوَاب الرجا وَرَجا ... نفسى تفوز بجود شَامِل وحبا)
(وعمنى الله بالاحسان مرحمة ... فضلا من الله لَا فرضا وَلَا سَببا)
(وان تغلقت الابواب عَن أمْلى ... قصدت من طَابَ فرعاه وطاب أَبَا)
(مُحَمَّد العاقب الماحى الذى انختمت ... بِهِ النُّبُوَّة بل أَعلَى الورى رتبا)
(فَهُوَ الذى ملا الاكوان أجمعها ... نورا وَفتح فِينَا الشَّخْص والحقبا)
(يَا من علا فَوق متن للبراق وَيَا ... خير الْخَلَائق قاصيهم وَمن قربا)(3/189)
(وَجئْت بِالسنةِ البيضا جعلت فدا ... لحافظيها وَمن فى درسها دأبا)
(وَلم تزل فرقة من تابعيك على ... نهج الْهدى لم يضرهم قَول من كذبا)
(فهم شموس وَلم تأفل مَنَافِعهَا ... وَلنْ يزَال بهَا نفع وَمَا غربا)
(وَكم معاجز لَا تحصى بعثت بهَا ... عَنْهَا نُجُوم العوالى ضمنت كتبا)
(يَا سيد الْخلق يَا مِفْتَاح يَوْم غَد ... تولى الشَّفَاعَة يَوْم الْحَشْر اذ صعبا)
(أَنْت الذى يَوْم بعث الْخلق شافعنا ... سبقا وأثبتهم اذ ألزموا رهبا)
(يَا سيدى يَا رَسُول الله يَا سندى ... اليك جِئْت لما قد خفته رهبا)
(سمى صنوك حاشا أَن تضيعه ... تكفى السماية عِنْد السَّادة النجبا)
(يَا خَاتم الرُّسُل يَا مُخْتَار من مُضر ... بِاللَّه رَبك قل مَا قلته وجبا)
(وان تقدّمت للعظمى بِيَوْم غَد ... لله رَبك مَقْبُولًا ومحتسبا)
(فَقل فروع مطير سيدى حسبوا ... على فَازَ الذى من حزبهم حسبا)
(وعمهم رَحْمَة يَا سيدى وندى ... يَا ملْجأ طَابَ للاجين والغربا)
(وَاشْفَعْ ليبقى بهم مَا مِنْكُم ورثوا ... الْعلم والنور لَا الْبَيْضَاء والذهبا)
(وَالْمُسْلِمين أنل كلا مطالبهم ... فى الْخَيْر مِنْهُم جَمِيعًا واكشف الكربا)
(ثمَّ الصَّلَاة مَعَ التَّسْلِيم دائمة ... على الْمُهَيْمِن مَا أم الْوُفُود قبا)
(والآل والصحب مَا غنت مطوقة ... على أَرَاك فأضحى الدمع منسكبا)
وَكَانَت وَفَاته فى حادى عشرى ذى الْقعدَة سنة احدى وَأَرْبَعين وَألف بعبس الحضن من المخلاف السليمانى بِالْيمن وَبَنُو مطير منسوبون لمطير تَصْغِير مطر بن على ابْن عُثْمَان الحكمى من حكماء الحرهن وَكَانَ مطير من أعيانهم وغالبهم فى الْمَكَان الْمَعْرُوف بالحضن من المخلاف السليمانى وهم بَيت علم وَصَلَاح مَشْهُورُونَ بِالْيمن واعتقدهم جَمِيع أَهله بل جَمِيع الْبِلَاد لسلوكهم على الْمنْهَج القويم ولابمن قَائِم مِنْهُم يكون رَأْسا للْعُلَمَاء ومرجعا عِنْد اخْتِلَاف الفهماء وَحكما للمشكلات للحكماء اذ لَا يتعصبون للمذاهب والاقوال وَلَا ينافسون فى المناصب وَلَا ينقبون على أهل الاجوال وَلَا يخرجهم عَن الْحق غضب وَلَا يدخلهم فى الْبَاطِل رضَا وَلَا يميلون الى الْحِرْص على الاموال عصمتهم الْكتاب وَالسّنة وعقيدتهم فى الله تَعَالَى حَسَنَة وَله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم الْمِنَّة قَالَ السَّيِّد الشريف الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى حُسَيْن الاهدل انه اعْتقد فضل بنى مطير جَمِيع الْبِلَاد وَقَالَ الْفَقِيه الصَّالح الولى الْمَشْهُور مُحَمَّد بن الْحسن(3/190)
المحلوى وقبره طرف بَيت عَطاء من جِهَة الْيمن رَأَيْت رَسُول الله
فى الْمَنَام وسيدى أَحْمد بن ابراهيم بن مطير يلازمه ويلح عَلَيْهِ فَرَأَيْت قَلما من جِهَة النبى
يكْتب أَوْلَادنَا أَوْلَادكُم وَمَا يعنانا يعنا كم وَلَقَد كَانَ لكم فى رَسُول الله اسوة حَسَنَة وَقد اشْتهر اخْتِصَاص بنى مطير بمزيد محبَّة رَسُول الله
وانهم من موَالِيه وَذكروا ذَلِك فى أشعارهم وَغَيرهَا وانه يحصل لَهُم الْعلم من غير كَثْرَة طلب حَتَّى قَالَ الشريف الولى حبيب آل مطير أَبُو بكر ابْن أَبى الْقَاسِم بن اسمعيل الحسينى صَائِم الدَّهْر طِفْل بنى مطير بِئْر علم مطوية لَا يحْتَاج الى اخراج التُّرَاب الْوَاقِع فِيهَا ولامير الْمُؤمنِينَ على بن أَبى طَالب كرم الله تَعَالَى وَجهه اتِّصَال بالعلماء مِنْهُم فى الْمَنَام وآثار صَادِقَة ذكرهَا مِنْهُم الْعلمَاء الاعلام نفع الله تَعَالَى بهم وَأفَاد السَّيِّد حُسَيْن الاهدل فى تحفة الزَّمن أَن بنى مطير ينتسبون الى السَّيِّد الاهدل قَالَ وانما نبهت على ذَلِك لَان كثيرا من الاهدليين الَّذين لَا خبْرَة لَهُم يُنكرُونَ نسبهم الى الاهدل وَمِمَّا يدل على شرفهم قَول السَّيِّد الولى الشهير بدر الدّين حُسَيْن بن الصّديق بن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الاهدلى فى بعض قصائده
(فان غصنى من أَغْصَان دوحتكم ... فَالله فى رحمى فالرحم مَوْصُول)
وَقَالَ الْعَلامَة الْفَقِيه ضِيَاء الدّين بن ابراهيم بن أَبى الْقَاسِم مطير فى بعض قصائده
(الَّتِى توسل بهَا وبالاهدليين الْكِرَام فانهم ... لَهُم نسب فى ذرْوَة العزيرتمى)
وفى كَلَام عبد الرَّحِيم البرعى الْقطع بشرفهم مَشْهُور فى قصائده
على بن مُحَمَّد بن ابراهيم الجملولى الهنومى نِسْبَة الى هنوم بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون النُّون أحد جبال الاهنوم ثمَّ السيرافى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال كَانَ عَالما كَبِيرا حَافِظًا لكل طَريقَة يجرى مَعَ النَّاس على طبقاتهم بِمَا تنجبر بِهِ قُلُوبهم من غير أَن يكون عَلَيْهِ وصمة وَذَلِكَ من عجائبه وَله تجربة فى الامور كلهَا كَامِلَة وآراء ثاقبة يجرى كَلَامه مجْرى الامثال وَهُوَ من بَيت شهير بِالْفَضْلِ أصلهم من الجملول بهنوم ثمَّ سكنوا الجهرة بسيراف وَله تلامذة كَثِيرُونَ كالقاضى أَحْمد بن سعد الدّين والقاضى جمال الدّين وَهُوَ كثير الرِّوَايَة عَنهُ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء ثَالِث رَجَب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف بحصن كوكبان شبام كَانَ مُقيما هُنَالك للْقَضَاء والتدريس بامر الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم
السَّيِّد على بن مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن عمر بن علوى الشبيه ابْن عبد الله بن على(3/191)
ابْن عبد الله باعلوى الشهير بشييان أحد مَشَايِخ الطَّرِيق العارفين بِاللَّه تَعَالَى كَانَ كثيرا التِّلَاوَة لكتاب الله تَعَالَى كثير الْبكاء وَكَانَ مَشْهُورا بالزهد والورع صحب كثيرا من العارفين مِنْهُم السَّيِّد الْجَلِيل زين بن مُحَمَّد خرد ولازمه مُلَازمَة تَامَّة وَغَيره من أكَابِر العارفين فى زَمَانه وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الخمول والتقشف فى الملبس والمأكل وَيُحب الانعزال عَن النَّاس لَا يجْتَمع بهم الا فى الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة معرضًا عَن اللَّهْو واللعب متقمصا بقميص الْجد وَالِاجْتِهَاد كثيرا الْقيام والتهجد بِاللَّيْلِ متواضعا جدا لَا يرى نَفسه الا أدنى النَّاس ويلتمس بركته من اجْتمع بِهِ مُعْتَقدًا عِنْد الانام وَصَحبه جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن أَبى بكر الشلى باعلوى صَاحب التَّارِيخ وَذكره فى تَارِيخه وَقَالَ استضأنا من ضِيَاء نبراسه وعادت علينا بَرَكَات أنفاسه وَمَا زَالَ يزْدَاد من فعل الْخيرَات والتقرب الى الله تَعَالَى بالقربات الى أَن مَاتَ فى سنة احدى وَسِتِّينَ وَألف بتريم وَدفن بمقبرة زنبل
على بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الامام الْحَافِظ مُحدث الْيمن وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن على بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن على الرّبيع بن يُوسُف بن أَحْمد بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن على بن عمر بن يحيى بن مَالك بن حرَام بن عَمْرو بن مَالك بن مطرق بن شريك بن عمر بن قيس بن شرَاحِيل بن همام بن مرّة بن ذهل ابْن شَيبَان بن ثَعْلَبَة بن عكابة بن صَغِير بن على بن بكر بن وَائِل بن قاسط بن هبت بن أقْصَى بن دهمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان الشيبانى الزبيدى الشافعى رَأَيْت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله النّسَب هَكَذَا سَاقه وَقَالَ كَذَا نقلت نسبه من مؤلف لجده عبد الرَّحْمَن الذيبع عمله فِيهِ وَنقل عَن مؤرخ الْيمن أَبى الْحسن الخزرجى أَن سَبَب نسبتهم الى الديبع هُوَ ان وَالِد على يُوسُف بن أَحْمد بن عمر كَانَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد وهم على وَعبد الله وَأحمد خَرجُوا ذَات يَوْم يَلْعَبُونَ مَعَ الصّبيان كعادتهم ولوالدهم عبد نوبى يُقَال لَهُ جَوْهَر فَقَالَ لَهُ سَيّده الْمَذْكُور ادْع لى سيدك على فَقَالَ ديبع ديبع على سَبِيل الِاسْتِفْهَام فَقَالَ نعم فَخرج يُنَادِيه ديبع ديبع فَسَمعهُ الصّبيان فَنَادَوْهُ بِهِ فَلَزِمَهُ هَذَا اللقب وَلزِمَ ذُريَّته من بعده فَلَا يعْرفُونَ الا بِهِ وَمَعْنَاهُ الابيض بلغَة النّوبَة قَالَ السخاوى فى الضَّوْء اللامع الديبع بِمُهْملَة مَفْتُوحَة بعْدهَا تَحْتَانِيَّة ثمَّ مُوَحدَة مَفْتُوحَة وَآخره مُهْملَة وَهُوَ لقب لجده الاعلى على بن يُوسُف وَمَعْنَاهُ بلغَة النّوبَة الابيض كَانَ على الْمَذْكُور امام(3/192)
الْمُحدثين والقراء وامام أهل التدريس والاقراء وَاحْذَرْ بيد فى عصره اماما عَاملا عَالما فَاضلا كَامِلا أَخذ عَن شُيُوخ زبيد مِنْهُم الْفَقِيه مُحَمَّد بن الصّديق الْخَاص الزبيدى والفقيه الصَّالح الْعَلامَة عماد الدّين يحيى بن مُحَمَّد الحرازمى ولازم عصريه الْعَلامَة اسحق بن جعمان وَأَجَازَهُ كثير من شُيُوخه وَقدم مَكَّة مَرَّات وَأخذ عَمَّن بهَا من شُيُوخ عصره وجاور بِالْمَدِينَةِ كثيرا ولازم بهَا الاستاذ الْكَامِل أَحْمد ابْن مُحَمَّد القشاشى وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق واختص بِهِ وَعنهُ أَخذ الاستاذ الْكَبِير ابراهيم بن حسن الكورانى قَرَأَ عَلَيْهِ طرفا من البخارى سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف فى الرَّوْضَة الشَّرِيفَة وَالسَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد بن عبد الرَّسُول البرزنجى وَشَيخنَا الْعَلامَة الْحسن بن على العجيمى المكى وَغَيرهم وَكَانَت وِلَادَته بزبيد فى حُدُود سنة ألف وَتوفى بهَا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بتربة جده عبد الرَّحْمَن الديبع الْمَذْكُور بِقرب تربة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سيدى اسمعيل الجبرتى
على بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مطير الْعَالم الْعَلامَة الْحجَّة كَانَ اماما جَلِيلًا وعارفا نبيلا عمرت أوقاته بِالْعلمِ وقصده الغادى والرائح مَعَ الْحِرْص على سلوك طَرِيق أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والمواظبة على الْخَيْر والاشتغال بِالْحَدِيثِ النبوى وعلوم الدّين والانهماك على بَث الْعلم وَالتَّقوى والورع وَعدم مُخَالطَة أحد من الْحُكَّام أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا من الْعُلُوم النافعة عَن كثير مِنْهُم الْعَلامَة مُحَمَّد بن على مظير خَاله وَأَخُوهُ خَاتِمَة الْمُحَقِّقين أَحْمد بن على مطير وَأَجَازَهُ شُيُوخه بالافتاء والتدريس وَعنهُ أَخذ جمع مِنْهُم الشَّيْخ ذهل بن على حشيبر وَألف مؤلفات مِنْهَا مُخْتَصر التَّلْخِيص فى الْفِقْه لِابْنِ مطير وَلم يزل على بَث الْعلم ونشره وملازمة طَاعَة الله تَعَالَى حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف بِمَدِينَة الزيدية وَدفن بِقرب تربة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ذهل بن ابراهيم الحشيبرى
على بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن محب الدّين بن أَيُّوب الشهير بالايوبى الشافعى المكى أحد أجلاء خطباء الْمَسْجِد الْحَرَام وسراة الْعلمَاء الْفُقَهَاء الْمُحدثين ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن والارشاد والالفية لِابْنِ مَالك وألفية الحَدِيث وَغَيرهَا ولازم الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الزمزمى فى دروسه وَالشَّيْخ على بن الْجمال وَالشَّيْخ عبد الله باقشير وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَلان وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطائفى ثمَّ لَازم الشَّمْس مُحَمَّد البابلى أَيَّام مجاورته بِمَكَّة فى جَمِيع دروسه وَكَانَ معيد درسه وَأَجَازَهُ(3/193)
أَكثر مشايخه وتصدر للاقراء والتدريس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قَالَ فى بعض رسائله ترعرعت فى رياض الْعُلُوم وتمتعت بِتِلَاوَة كتاب الله تَعَالَى الذى يشفى الامراض والكلوم ولازمت الجلة وَأخذت عَن عدَّة من الْعلمَاء فَعَاد على من بركاتهم واسرارهم مَالا يُنكره الا كل جَاهِل وَلَا يجحده الا كل حسود متجاهل ومذ نشأت وهب صبا الصِّبَا لم يحصل لَهَا عَثْرَة وَلَا كبوة بل كنت اذا فرغت من التِّلَاوَة والطلب عدت الى الْبَيْت لتكرار بعض الْمُتُون وَتَحْصِيل الْكتب الَّتِى لَيست عندى وَذَلِكَ دأبى مُنْذُ نشأت واذا نودى الى الصَّلَاة حوقلت واذا دعيت للصَّلَاة لبيت وأجبت وَلم يزل ذَلِك دأبى الى آخر عمرى بِحَيْثُ صَار لى طَريقَة وَعَادَة راجيا ان شَاءَ الله تَعَالَى أَن تكون نِهَايَة للعناية والسعادة وَهَذَا أقل اثر من حُلُول نظر الْعلمَاء العاملين وحظوظ أثر الْفُضَلَاء الكاملين وكل مِنْهُم كَانَ يثنى فى فى غيبتى واذا بلغنى ذَلِك امْتَلَأت بالسرور والبشر وَطَابَتْ رغبتى وَكنت سليم الصَّدْر من الْغِشّ والغل وَمن التَّعَرُّض لاعراض الْمُسلمين سالما مجانبا لما فِيهِ أذاهم مناصحا لَهُم وموادا لَهُم ومسالما لَا اجْتمع بهم الا لحَاجَة مهمة أَو أَدَاء وَاجِب أَو للتأنس بصديق يكَاد من لطفه يَعْلُو على الْعين والحاجب وَأقسم بِاللَّه الذى هُوَ أبر ألية وَيَمِين وَقد خَابَ وخسر من يفترى عَلَيْهِ وَيَمِين ان خلقى قَدِيما حب الخمول والعزله وبغض الِاشْتِغَال بِمَا لَا يعْنى جده وهزله وانما الْقُدْرَة الالهية هى الَّتِى أَرَادَت الشُّهْرَة لى والظهور ومخاطبتى للنَّاس فِيمَا يقصم الظُّهُور وان كَانَت النُّفُوس الابية تروم طلب الْعليا والشيم الادبية تسمو أَن تَدْنُو الى سفاسف الدُّنْيَا لَكِن لما طلب الْحَسْنَاء قَبِيح الْخِصَال وخطب الْعليا غير أكفاء وَدخل بَيت قصيدها زحاف الطى وَالْقَبْض والاقواء أعرض عَن عرضهَا كل ذى نفس نفيسه ونكحها كل دنى ذى نفس خسيسه
(لقد هزلت حَتَّى بدا من هزالها ... كلاها وَحَتَّى سامها كل مُفلس)
وَذَلِكَ انى لما بلغت الاشد وَبَلغت أَرْبَعِينَ سنه وَكنت عَن طلب المناصب فى أحلى نومَة وسنه لم أشعر الا وَقد خطبت لتقليد الخطابه وألزمنى بِهِ من أخْشَى عواقبه وَلَا أقدر أَن أرد خطابه وَعلمت ان هَذَا من ارادة الْمولى وَلَا مَانع لما أَرَادَ وَلَا دَافع لما قَضَاهُ فى الازل وَلَا راد فَحِينَئِذٍ شهرت حسام الْعَزْم وأنشأت لكل نوبَة خطْبَة(3/194)
يستملحها ذُو الْفضل والانصاف ويستحسنها أولو الشيم الحميدة والاوصاف بِحَيْثُ انى كلما باشرت بِخطْبَة طلبَهَا منى بعض النَّاس وخطبها كثير من أهل مَكَّة ومصر وَالشَّام واليمن وَالْعراق والاكراد على اخْتِلَاف الاجناس فسارت بهَا الركْبَان شرقا وغربا وطارت الْغرْبَان بهَا عجما وعربا بِحَيْثُ فاقت خطب الَّذين قبلى من الخطباء وفاقت على انشاء الْمُتَقَدِّمين من الْفُضَلَاء والادباء ثمَّ صَار يطْلب منى مجَالِس الانكحة وعقودها بِحَيْثُ جمعت من ذَلِك ديوانا حافلا سحبت فِيهِ مطارف البلاغة وَكنت فى برد الفصاحة رافلا ثمَّ لما حصل جَدب فى بعض السنين أمرنى الشريف زيد أَن أباشر الدُّعَاء وَصَلَاة الاسْتِسْقَاء فصعب ذَلِك على بعض النَّاس وَظهر الصفار فى وَجهه كَانَ بِهِ عِلّة الاسْتِسْقَاء ثمَّ لما ورد الامر السلطانى بِالدُّعَاءِ على بَاب الْبَيْت الشريف أمرنى صَاحب الْعِزّ الشريف سعد وَشَيخ الْحرم عماد وقاضى مَكَّة بِمُبَاشَرَة الدُّعَاء فأنشأت لكل يَوْم دُعَاء غير الاول اظهارا لما أنعم الله بِهِ على من نعْمَة وخول انْتهى الْمَقْصُود من ذَلِك وَكتب رِسَالَة يمدح بهَا قاضى مَكَّة الْمولى أَحْمد البياضى سَمَّاهَا الْقُصُور المشيدة المشرفة فى مدح الْمقَام العالى الْمولى أَحْمد قاضى مَكَّة المشرفة وَله // (نظم حسن بليغ) // وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف
على بن المقبول الاهدل السَّيِّد الْجَلِيل الولى الشهير تمكن كل التَّمَكُّن من الْعُلُوم الربانية وَهُوَ الذى اختط قَرْيَة الدريهمى وَبنى جَامعهَا بالآجر والنورة وعمره بِالْجمعَةِ وَالْجَمَاعَة وأقامه أتم قيام ورزق الْقبُول عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَله فى الطِّبّ الْيَد الطُّولى كَمَا لابيه وجده فتحا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَحبه السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْبَحْر وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَخمسين وَألف
على بن يحيى الملقب نور الدّين الزيادى المصرى الشافعى الامام الْحجَّة العلى الشَّأْن رَئِيس الْعلمَاء بِمصْر ذكره العجمى فى مشيخته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وسرد مشايخه الَّذين تلقى عَنْهُم من أَجلهم الشهَاب أَحْمد بن حَمْزَة الرملى شَارِح الزّبد وَغَيره وَولده الشَّمْس والشهاب عميرَة البرلسى والشهاب أَحْمد بن حجر الهيتمى والنور على الطندتائى وَالشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى شهَاب الدّين البلقينى شيخ الْمحيا بِجَامِع الازهر بعد شَيْخه الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ نور الدّين الشنوانى والقطب الربانى أَبُو الْحسن البكرى وروى الموطا من طَرِيق يحيى بن يحيى عَن الشهَاب الرملى عَن الْحَافِظ أَبى الْخَيْر السخاوى عَن الْعِزّ أَبى مُحَمَّد الحنفى بِسَنَدِهِ وروى كتاب الْمَوَاهِب(3/195)
اللدنية عَن قطب الْوُجُود الاستاذ أَبى الْحسن البكرى عَن مُؤَلفه الامام الشهَاب أَحْمد القسطلانى وروى الْجَامِع الصَّغِير عَن السَّيِّد الشريف جمال الدّين الارميونى المالكى امام الْمدرسَة الكاملية عَن مُؤَلفه الامام الْحَافِظ السيوطى وَاجْتمعَ بشيخ الاسلام الْبَدْر الغزى وَهُوَ بِمصْر فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَنهُ وَبَلغت شهرته الْآفَاق وتصدر للتدريس بالازهر وانتهت اليه فى عصره رياسة الْعلم بِحَيْثُ ان جَمِيع عُلَمَاء عصره مَا مِنْهُم الاوله عَلَيْهِ مشيخة وَكَانَ الْعلمَاء الاكابر تحضر درسه وهم فى غَايَة الادب وَكَانَت حلقته صُفُوفا مِنْهُم الافضل فالافضل والامثل فالامثل وَكَانَ يُقَال فلَان من الطَّبَقَة الاولى وَفُلَان من الثَّانِيَة وَفُلَان من الثَّالِثَة وَكَانَ لَهُ فى درسه محتسب يجلس كل أحد مِنْهُم فى مَكَانَهُ وَمِمَّنْ لَازمه مُدَّة مديدة الْعَلامَة سَالم الشبشيرى فَكَانَ مَحَله مِنْهُ مَحل الْوَلَد من الْوَالِد وَكَانَ بَينهمَا محبَّة أكيدة ومداعبات لَطِيفَة وَتوفى فى حَيَاة شَيْخه فجزع عَلَيْهِ جزعا شَدِيدا بِحَيْثُ انه لم يعْقد بعده درسا الا ويترنم بِذكرِهِ وَيُشِير الى جلالة قدره واذا توقف أهل الدَّرْس فى مسئلة تأوه تأوه الحزين وَهُوَ يَقُول كالهائم أتعبنا موت سَالم وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الْبُرْهَان اللقانى والنوران الحلبى والاجهورى والشمسان الشوبرى والبابلى والشهاب القليوبى وَالشَّيْخ سُلْطَان والنور الشبراملسى وَعبد الْبر الاجهورى وخضر الشوبرى وعامر الشبراوى والشهاب الخفاجى وَهُوَ الْقَائِل فِيهِ ... لنُور الدّين فضل لَيْسَ يخفى ... تضئ بِهِ الليالى المدلهمه)
(يُرِيد الحاسدون ليطفئوه ... ويأبى الله الا أَن يتمه)
ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الطيبرسية وَكَانَ يقرئ الاصول بافريز الازهر شمالى قبْلَة الْحَنَفِيَّة فى الاشهر الثَّلَاثَة رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وَكَانَ مُنْقَطِعًا للاشتغال وَالْفَتْوَى وَكَانَ اذا أتم الدَّرْس يجلس بِبَاب دكان بِقرب بَاب الْجَامِع للْفَتْوَى وَكَانَ يصلى اماما بِصَحْنِ الْجَامِع الازهر اذا أذن الْمُؤَذّن دَائِما وَيتم الْفَرْض قبل أَن يفرغ الْمُؤَذّن من الاذان وَألف مؤلفات نافعة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمنْهَج اعتنى بهَا مَشَايِخ مصر وَغَيرهم من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة بِحَيْثُ انه لَا يقْرَأ مِنْهُم أحد شرح الْمنْهَج الا ويطالعها وَقد اشتهرت بركتها لمن طالعها وَله شرح على الْمُحَرر للرافعى يُوجد كثيرا بِبِلَاد الاكراد وَكَانَ يصدر عَنهُ كرامات مِنْهَا انه زار بعض أَقَاربه من النِّسَاء فَدخل عَلَيْهَا وهى تملأ من الْبِئْر مَاء فَلَمَّا رَأَتْهُ مُقبلا أسرعت اليه تقبل يَدَيْهِ فَسقط الدَّلْو فى الْبِئْر فانزعجت لذَلِك فَوقف على(3/196)
الْبِئْر وتناوله بِيَدِهِ من قَعْر الْبِئْر من غير انحناء وَلَا تكلّف وَأَعْطَاهَا اياه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس شهر ربيع الاول سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَدفن بِبَاب تربة المجاورين وَقد كَانَ البلقينى كتب لَهُ بِخَطِّهِ فى اجازته أَنا مَدِينَة الْعلم وعَلى بَابهَا وَكَانَ الامر كَذَلِك بعد مَوْتهمَا دفن البلقينى بالصدر والزيادى بِالْبَابِ والزيادى بِفَتْح الزاى وَتَشْديد الْيَاء نِسْبَة لمحلة زِيَاد بالبحيرة
على بن يحيى الخيوانى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال هُوَ من فُقَهَاء الزَّمَان وأعيان الاوان من بَيت رياسة من خيوان لَهُم منصب هُنَالك فَهُوَ من أَبنَاء الْوُجُوه المقدمين فى الْقَبَائِل وَلكنه منح الْحِكْمَة وَطلب الْعلم وَكَانَ أَيَّام السَّيِّد الْحسن بن الامام الْقَاسِم فى الْقصر بِصَنْعَاء هُنَالك فَقَرَأَ وَعرف فَضَائِل الْعلم وَأَهله وَكَانَ هما مَا ذكيا حفظه لَا يشق لَهُ غُبَار وَنور الله تَعَالَى قلبه بأنوار الْمحبَّة لآل مُحَمَّد
فَمَا عكف على غير علومهم ثمَّ دخل صعدة وَاسْتقر بهَا ودرس وَكَانَ فى الْفُرُوع نبيلا مُفِيدا وَله حَاشِيَة على الازهار وَلما فتحت صنعاء ايام الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم خرج اليها وحقق وَأعَاد شَيْئا من المسموعات على الْعَلامَة الْمُحَقق مُحَمَّد بن عز الدّين وَكَانَ أحد عُيُون حَضْرَة السَّيِّد فاستفاد وَزَاد علمه مَعَ انه كَانَ أَيَّام اقامته بصعدة من أعيانها وَكَانَ القاضى أَحْمد بن يحيى بن حَابِس يحضرهُ ويحضر الْعَلامَة على بن هادى الْقصار عِنْد جمعه للتكميل ويسألهم وَلَهُم ثَالِث كَانَ القاضى يستدينه ويسأله فَاتَ منى وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة مكفوف الْبَصَر وَلم يزل موفور النِّعْمَة صَالح الْحَال مُقبلا على الْعلم والادب حَتَّى اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ جواره وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء فى افراد سنة سِتِّينَ وَألف فِيمَا أَحسب
على بن يُوسُف الْمَعْرُوف بسنان بن حُسَيْن بن الياس بن حسن الاماسى الاصل أحد موالى الرّوم وفضلائها البارعين كَانَ من كبار الافاضل أَخذ عَن وَالِده الْعَلامَة الْمُحَقق سِنَان الدّين صَاحب الْحَاشِيَة على تَفْسِير البيضاوى ثمَّ انحاز الى السَّيِّد مُحَمَّد الْمَعْرُوف بمعلول أَمِير وتلقى عَنهُ كثيرا من الْمسَائِل ولازم مِنْهُ ودرس بمدارس قسطنطينية الى أَن وصل الى احدى الثمان ثمَّ ولى قَضَاء حلب فى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ ولى بعْدهَا قَضَاء دمشق فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ ثمَّ قَضَاء بروسه وانفصل عَنْهَا مُدَّة ثمَّ أُعِيد الى قَضَاء دمشق ثَانِيًا فى سنة احدى وَتِسْعين وَوَقع فى أَيَّام قَضَائِهِ قَضِيَّة ابْن خطاب مَعَ القابوجى وَقد تقدّمت فى حرف الْحَاء فى(3/197)
تَرْجَمَة حسن باشا وَكَانَ القاضى صَاحب التَّرْجَمَة متشددا على الفابوجى وصمم على قَتله فشنق وعد ذَلِك من صلابته فى دينه ثمَّ قَضَاء الشَّام ولى قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء العسكرين على التَّرْتِيب واشتهر صيته وذاع أمره فى الْفضل والرسوخ وَقد ذكره عبد الْكَرِيم المنشى فِيمَن ترْجم فَقَالَ فى حَقه سليل الْعَالم الطَّائِر صيت فَضله فى الاقطار وَمن غَدَتْ فى عقده أبكار الافكار الْمولى الْعَلامَة سِنَان لَا زَالَ مأنوس الجدث بملائكة الرضْوَان أحد صُدُور الْعَصْر السليمانى الذى جنى الْعَالم من روضه ثمار الامانى اشْتغل بِالْعلمِ واستضاء من أنوار وَالِده وفاز من نِصَاب الْفضل بطارفه وتالده
(ان السرى اذا سرى فبنفسه ... وَابْن السرى اذا سرى أسراهما)
ثمَّ أنْشد فى حَقه
(عَلَوْت اسْما ومقدارا وَمعنى ... فيالله من معنى جلى)
(كأنكم الثَّلَاثَة ضرب خيط ... على فى على فى على)
وَكَانَت وَفَاته بقسطنطينية فى سنة خمس بعد الالف وَدفن بجوار أَبِيه دَاخل سور قسطنطينية
على بن يُوسُف بن مُحَمَّد أَبُو الْحسن بن أَبى المحاسن الْقصرى الفاسى المالكى الامام الْعَلامَة الشهير فى أقطار الْمغرب الْجَامِع بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن أَخذ عَن وَالِده والسراج الحميدى والمنجور والعزومى وَعَن الْفَقِيه النوازلى أَبى رَاشد يَعْقُوب بن يحيى البدرى وَغَيرهم وَأدْركَ الشَّيْخ سيدى عبد الرَّحْمَن المجذوب وتبرك بِهِ ولقى كثيرا من السَّادة وَعنهُ أَخذ كَثِيرُونَ مِنْهُم وَلَده عَالم الْمغرب عبد الْقَادِر الفاسى الْمُقدم ذكره وَقد أفرد تَرْجَمته على حِدة حفيده عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر استوفى فِيهَا أَحْوَاله ومشايخه قَالَ وَلما حملت بِهِ أمه رأى بعض قرَابَته بفاس فى الْمَنَام أَن قِنْدِيلًا يضئ بصومعة العزوين فى غَايَة الِارْتفَاع على الْبِلَاد كلهَا وَالنَّاس ينظرُونَ الى طوله وظهوره وامتداد ضوئه ونوره وَكَأن قَائِلا يَقُول هَذَا قنديل سيدى على الفاسى وَكَانَ يَوْمئِذٍ نسَاء من قرَابَته حوامل فَلَمَّا ولدن سمين أَوْلَادهنَّ بعلى الفاسى قصدا ان يكون ذَلِك وَالله أعلم بِمَا يفعل والقنديل يعبر بِالْوَلَدِ فَظهر بعد ذَلِك صَاحب التَّرْجَمَة وَولد لَهُ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الذى طبق أَرض الغرب علما قَالَ وَكَانَت وَفَاته عصر يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس عشر من جُمَادَى الاولى سنة(3/198)
ثَلَاثِينَ وَألف
على المنعوت بِنور الدّين بن العظمة المصرى المجذوب الْمُسْتَغْرق ذكره المناوى فى طبقاته وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ أَبوهُ مقدم الجمالة بركب الْحَاج وَكَانَ فى دَائِرَة كَبِيرَة من المَال وَالرِّجَال وَالْجمال فَنَشَأَ وَلَده هَذَا على طَرِيقَته فَبَيْنَمَا هُوَ وَالشَّيْخ أَحْمد البهنسى فِي الجيزة فِي فلاة أَرض وَذَا بطَائفَة من الْفُقَرَاء السائرين الَّذين سخر لَهُم الْهَوَاء يَأْكُلُون تَمرا فدفعوا اليهما ثَلَاث تمرات فاكل الشَّيْخ أَحْمد ثِنْتَيْنِ فَثَبت وَأكل صَاحب التَّرْجَمَة وَاحِدَة فجذب وَنزع ثِيَابه وَصَارَ عُريَانا مُسْتَغْرقا متجردا عَن الثِّيَاب حَتَّى عَن سَاتِر عَوْرَته وَكَانَ بدنه أَحْمَر يلمع كالبلور وَلَيْسَ فى جسده وَلَا لحيته وَلَا رَأسه شَعْرَة وَاحِدَة وَكَانَ كَأَنَّهُ مدهون بِزَيْت من فرقه لقدمه شتاء وصيفا بِحَيْثُ اذا رَآهُ الجلف الغبى قطع بولايته وَكَانَ أهل الطَّرِيق يعْرفُونَ مقَامه حَتَّى ان بَعضهم لم يسْتَطع دُخُول مصر مُدَّة حَيَاته مهابة لَهُ وَكَانَ مَعَ استغراقه يَتْلُو الْقُرْآن وَيسلم على من شَاءَ وَله كرامات شَتَّى مِنْهَا مَا حَكَاهُ الشَّيْخ حشيش الحمصانى انه مر عَلَيْهِ فَجرى فى خاطره الانكار عَلَيْهِ لعدم ستره لعورته فَمَا تمّ الخاطر الا وَقد وجد نَفسه بَين اصبعين من أَصَابِعه يقلبه كَيفَ شَاءَ وَيَقُول لَهُ انْظُر الى قُلُوبهم لَا تنظر الى فروجهم وَذكر انه حج فَخرج عَلَيْهِ جمَاعَة فى ساقة الْحَج فضربوه وسلبوه ثِيَابه ومتاعه وَجلسَ وَهُوَ متحير فَمَا شعر الا وَقد اعتنقه ابْن العظمة من خَلفه وَهُوَ يلحسه وَيَقُول لَهُ قد كَانَ عَلَيْك بَقِيَّة فأخذناها وَكَانَت وَفَاته فى أَوَائِل هَذَا الْقرن وَدفن بزاوية عمرت لَهُ بِرَأْس سويقة السباعين بِخَط منَازِل آبَائِهِ وأجداده
على الغزى القاهرى الشافعى الملقب عَلَاء الدّين ذكره العرضى الْكَبِير فى تَارِيخه وَقَالَ فى حَقه الْعَالم الْمُحَقق ولد بغزة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا وَنَشَأ بهَا وَقَرَأَ على شَيخنَا الشَّمْس بن المشرقى ثمَّ رَحل الى مصر فَقَرَأَ على اللقانى يعْنى النَّاصِر الْقَدِيم وَأكْثر من مُلَازمَة الشَّيْخ نور الدّين الطندتائى ثمَّ من بعده لَازم الْخَطِيب الشربينى شَارِح الْمِنْهَاج ولازم الاستاذ البكرى والشهاب الرملى وَولده الشَّمْس والشهاب بن قَاسم والنجم الغيطى وَآخَرين وَصَارَ من فضلاء المصريين قدم حلب تَاجِرًا فى سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَسَأَلَ شَيخنَا ابْن الحنبلى عَن مسئلة أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى أَو عينه فَكتب شَيخنَا فى ذَلِك رسَالَته الْمُسَمَّاة فتح الْعين عَن الِاسْم غير أَو عين ثمَّ ان صَاحب العلائى اسْتشْكل عَلَيْهِ أَشْيَاء أبدع فِيهَا فَأجَاب عَنْهَا شَيخنَا(3/199)
وَسمعت الرسَالَة الْمَذْكُورَة على مؤلفها شَيخنَا بِقِرَاءَة الشهَاب أَحْمد بن المنلا ثمَّ ان الشَّيْخ عَلَاء الدّين قدم حلب مرّة أُخْرَى فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فاذا آثَار الشيخوخة ظَهرت عَلَيْهِ فَاجْتَمَعْنَا بِهِ فى الْجَامِع وفى منزله ومنزلنا فاذا هُوَ فَاضل عَجِيب ذُو ملكة حَسَنَة وقدرة على الْبَحْث وثبات للمصادمة ولسن لطيف حسن الروية تَامّ الصّلاح وَالتَّقوى جرى بَيْننَا وَبَينه مذاكرة فى أَنْوَاع من الْعُلُوم وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من محَاسِن الزَّمَان وأرانى فى خلال اجتماعنا بِهِ أَيْضا كراريس ألفها على تَفْسِير الجلالين أبدع فِيهَا وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى بعد الالف
على الطورى الْمصْرِيّ الحنفى الْعَالم الْمُقدم فى نتائج الْفضل كَانَ عَالما فَاضلا فَقِيها مطلعا على مسَائِل الْمَذْهَب ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن الشَّيْخ زين بن نجيم وَغَيره حَتَّى برع وتفنن وَألف مؤلفات ورسائل فى الْفِقْه كَثِيرَة وَكَانَ يُفْتى وفتاويه جَيِّدَة مَقْبُولَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ فى فقه الْحَنَفِيَّة الْجَامِع الْكَبِير لَهُ الشُّهْرَة التَّامَّة فى عصره والصيت الذائع وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى سنة أَربع بعد الالف
على دده البوسنوى الْمَعْرُوف بشيخ التربة ولد ببلدة موستار من مضافات لِوَاء هرسك من بِلَاد بوسنه وَقَرَأَ الْعُلُوم ثمَّ سلك الطَّرِيقَة عِنْد الشَّيْخ مصلح الدّين بن نور الدّين الخلوتى واجتهد عِنْده الى أَن صَار من جملَة خلفائه ثمَّ لما فتح السُّلْطَان سُلَيْمَان قلعة سكتوار من بِلَاد انكروس وَمَات بهَا عِنْد الْفَتْح ودفنوا أمعاءه عِنْد القلعة الْمَذْكُورَة وَجعلُوا عَلَيْهِ قبَّة وقفُوا عَلَيْهَا ضيَاعًا صَار بهَا شَيخا وَسكن بهَا الى آخر عمره وَبعد صيته وَكَانَ شَيخا جَلِيلًا توفى بقلعة صولنق فى سنة سبع بعد الالف
على الدفترى صَاحب الْكتب الْمَوْقُوفَة بِدِمَشْق ولى دفترية الشَّام مرَّتَيْنِ الاولى فى سنة سبع بعد الالف وَالثَّانيَِة فى سنة أَربع عشرَة وَحج فى السنتين المذكورتين وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة جَيِّدَة فى الْفُنُون وَله أَخذ بظواهر كَلَام الشَّيْخ الاكبر قدس الله سره واعتقاد تَامّ فِيهِ واحتفال بكتبه ووقف كتبه واستودعها بَيت الخطابة بِالْقربِ من الْمَقْصُورَة بالجامع الاموى وَلم تزل هُنَاكَ الى أَن ادّعى النظارة عَلَيْهَا بعض مفتى الشَّام واحتوى عَلَيْهَا وفيهَا نفائس الْكتب وَكَانَ على الْمَذْكُور محبا للْعُلَمَاء مكثرا من مجالستهم ومعاشرتهم وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس رَجَب سنة ثَمَان عشرَة بعد الالف(3/200)
على الْمَعْرُوف بالنجار الدمشقى الصالحى الشافعى القادرى الامام الْعَامِل العابد المعتقد كَانَ فى ابْتِدَاء أمره مُقيما بالصالحية وَكَانَ وَالِده نجارا ينْفق عَلَيْهِ وَهُوَ مشتغل بِطَلَب الْعلم من كَسبه أَخذ الْفَرَائِض عَن الشَّيْخ الامام مُحَمَّد بن ابراهيم التنورى الميدانى والمحدث الْكَبِير ابراهيم بن الاحدب ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة ولازم النُّور الزيادى والشهاب البلقينى وَقَرَأَ الْجَامِع الصَّغِير على الشَّيْخ مُحَمَّد حجازى الشعراوى وَأقَام بِمصْر سبع سِنِين حَتَّى أجَازه شُيُوخه ثمَّ رَجَعَ الى دمشق فَاجْتمع اليه خلق كثير من الطلاب للْقِرَاءَة وانتفعوا بِهِ وَكَانَ مُقبلا على المجاذيب وَكَانُوا هم يأوون اليه وَيعرف مَا يَقُولُونَ بالاشارة وَرُبمَا تكلم فى الحضرة عَنْهُم بِكَلِمَات تظهر فى وَقتهَا وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَهُوَ مَحل الِاعْتِقَاد لانقطاعه الى الله تَعَالَى ومثابرته على النَّفْع والافادة وَكتب حَاشِيَة على شرح الْقطر للفاكهى لم تشتهر وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَخمسين وَألف
على العزيزى البولاقى الشافعى كَانَ اماما فَقِيها مُحدثا حَافِظًا متقنا ذكيا سريع الْحِفْظ بعيد النسْيَان مواظبا على النّظر والتحصيل كثير التِّلَاوَة سريعها متودداً متواضعاً كثير الِاشْتِغَال بِالْعلمِ محباً لأَهله خُصُوصا أهل الحَدِيث حسن الْخلق والمحاضرة مشار اليه فى الْعلم شَارك النُّور الشبراملسى فى كثير من شُيُوخه وَأخذ عَنهُ واستفاد مِنْهُ وَكَانَ يلازمه فى دروسه الاصلية والفرعية وفنون الْعَرَبيَّة وَله مؤلفات كَثِيرَة نَقله فِيهَا يزِيد على تصرفه مِنْهَا شرح على الْجَامِع الصَّغِير للسيوطى فى مجلدات وحاشية على شرح التَّحْرِير للقاضى زَكَرِيَّا وحاشية على شرح الْغَايَة لِابْنِ قَاسم فى نَحْو سبعين كراسة وَأُخْرَى على شرحها للخطيب وَكَانَت وَفَاته ببولاق فِي سنة سبعين وَألف وَبهَا دفن والعزيزى بفتحة ومعجمتين مكسورتين بَينهمَا يَاء تحتية نِسْبَة للعزيزة من الشرقية بِمصْر
على الْبَصِير الحنفى الحموى مفتى طرابلس الشَّام الْفَقِيه البارع اللسن كَانَ آيَة باهرة فى الْحِفْظ والاتقان ولد بحماة وَقَرَأَ بهَا ثمَّ رَحل الى طرابلس وعمره أَرْبَعُونَ سنة وتوطنها وَولى الافتاء بهَا مُدَّة حَيَاته وَله تآليف كَثِيرَة فى الْفِقْه وَغَيره مِنْهَا شرح الْمُلْتَقى سَمَّاهُ قلائد الانحر ونظم الْغرَر فى القى بَيت ونظم العوامل الجرجانية ونظم قَوَاعِد الاعراب وَله كتاب منظوم فى الْغَاز الْفِقْه سَمَّاهُ الْحور الْعين يشْتَمل على ألف سُؤال وأجوبتها ومفتتحة(3/201)
(قَول على الحنفى الْمِسْكِين ... من بعد بِسم الله ذى التَّمْكِين)
(حمدا لمن فقهنا فى الدّين ... فقها باجمال مَعَ التَّبْيِين)
(ثمَّ صَلَاة بِسَلام تليت ... على النبى الْمُصْطَفى الامين)
(ثمَّ على الْآل وصحبته وَمن ... يتبعهُم بشرعه الْمُبين)
(وَبعد انى قد نظمت بعض مَا ... وجدت فى مَذْهَبنَا المنين)
(من الْمسَائِل الَّتِى تعسر عَن ... كل فَقِيه جَامع رزين)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى ذى الْحجَّة سنة تسعين وَألف وَدفن بجبانة الغرباء ظَاهر طرابلس رَحمَه الله تَعَالَى
على الْمحلى الشافعى كَانَ اماما فَقِيها مفتياً ذَاكِرًا للْمَذْهَب عَالما بدقائقه عُمْدَة الْفَتْوَى فى اقليم الغزبية بِمصْر كثيرا الْفَوَائِد حسن المحاضرة لذيذ المفاكهة جيد المناظرة مكرما لجليسه مؤنسا لَهُ وَعِنْده كياسة وحشمة وانسانية ومروءة وَكَانَ عَزِيز النَّفس لطيف الذَّوْق يَقُول الْحق وينكر الْمُنكر ويخاطب الْحُكَّام بالغلظة وامتحن بِسَبَب ذَلِك امتحانا كثيرا وَكَانَ كثير الْمُلَازمَة لبيته لَا يخرج الا لضَرُورَة محبا للغرباء محسنا اليهم مُعْتَقد الاهل الْخَيْر وَكَانَ فى الْفُنُون الْعَقْلِيَّة بحرا زاخرا وشاعت فَتَاوِيهِ فى الْآفَاق مَعَ التوقى الشَّديد فى سَائِر أَحْوَاله ولد بالمحلة وَبهَا نَشأ وَقدم مصر وَأخذ بهَا عَن النُّور الزيادى وَسَالم الشبشيرى وعَلى الحلبى وَمن عاصرهم من عُلَمَاء جَامع الازهر وَقَرَأَ على النُّور الشبراملسى ولازمه كثيرا مَعَ كَونه شَاركهُ فى كثير من شُيُوخه وَأَجَازَهُ شُيُوخ كَثِيرُونَ وَأذن لجَماعَة بمروياته وَحج مَرَّات ورحل الى الْيمن وَاجْتمعَ فِيهِ بالامام المتَوَكل على الله اسماعيل بن الْقَاسِم وحظى عِنْده وعظمت مكانته وأجزل صلته ثمَّ رَجَعَ الى بَلَده وَصَحب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى حسنا البدوى ولازمه وَله مَعَه وقائع كَثِيرَة وتصدر للتدريس وَأخذ عَنهُ جمع من الاكابر مِنْهُم الشهَاب البشبيشى وَكَانَ يتعاطى التِّجَارَة حَتَّى أثرى وَكثر مَاله وَجمع الله تَعَالَى لَهُ بَين سَعَادَة الدَّاريْنِ وانتهت اليه رياسة الشَّافِعِيَّة بِبَلَدِهِ وَتفرد بالمشيخة وَكَانَ عَارِفًا بالامور يَد يمن بِرَأْيهِ وَله حَظّ من الصَّلَاة وَالصِّيَام قَلِيل الوقيعة فى النَّاس حَافِظًا لِلِسَانِهِ مقتصدا فى ملبسه وعيشه وَمن الرِّوَايَة عَنهُ مَا أخبر بِهِ الشهَاب البشبيشى عَنهُ بِسَنَدِهِ الى لحافظ عبد الله مُحَمَّد بن أَبى بكر بن أَبى الدُّنْيَا حَدثنَا مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان الاسدى حَدثنَا أَبُو الاحوص عَن بنان عَن قيس بن أَبى حَازِم عَن أَبى(3/202)
هُرَيْرَة رضى الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله
لَان يحتطب أحدكُم على ظَهره فبقى بِهِ وَجهه خير من أَن يسْأَل رجلا أعطَاهُ أَو مَنعه قلت ويناسبه مَا رَأَيْته فى تَارِيخ النَّجْم الكواكبى فى تَرْجَمَة الفارضى المصرى أوحى الله تَعَالَى الى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن تدخل يدك فى فَم التنين خير من أَن تبسطها الى غنى قد نَشأ فى الْفقر وَمِمَّا اتّفق لصَاحب التَّرْجَمَة ان قَاضِيا شريفا فَاضلا تولى قَضَاء الْمحلة فَأرْسل اليه بعد قدومه اليها يطْلب مِنْهُ المناظرة ليتبين لَهُ حَاله لما بلغه مَا هُوَ عَلَيْهِ من كَمَال الْفضل فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ المناظرة مُنْتَهى مَقْصُود الْعلمَاء ودأبهم قَدِيما وحديثا فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة لَا بَأْس بذلك لَوْلَا أَنَّك شرِيف لقَوْله
قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها وَقد قَالَ بعض شرَّاح الحَدِيث فى مَعْنَاهُ أى لَا تغالبوها والمناظرة مغالبة وَقد نهينَا عَنْهَا مَعكُمْ فَاسْتحْسن القاضى جَوَابه وَسُرْعَة استحضاره وَتركهَا وَزَاد فى اجلاله وَكَانَت وَفَاته بالمحلة الْكُبْرَى فى سنة تسعين وَألف
الملا على الكوراتى الشافعى امام مَسْجِد النبى جرجيس عَلَيْهِ السَّلَام بِمَدِينَة الْموصل أحد أكَابِر الْمُحَقِّقين لَهُ مؤلفات حَسَنَة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الشمسية للقطب وحاشية على شرح عقائد النسفى للتفتازانى وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَتِسْعين وَألف بالموصل وَدفن بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور
عماد الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد العمادى مفتى الْحَنَفِيَّة بِالشَّام وَابْن مفتيها كَانَ فَاضلا وقورا سليم الصَّدْر نحيف الْجِسْم متواضعا صامتا صَادِق الود وثيق الْعَهْد طَاهِر الْفَم والذيل عَمَّا يشينه قَرَأَ على وَالِده وعَلى الْحسن البورينى وَالشَّيْخ تَاج الدّين القرعونى وَالشَّمْس مُحَمَّد بن محب الدّين وَأخذ عَن الشهابين العيثاوى والوفائى ولازم من الْمولى مصطفى بن عزمى ودرس أَولا بالشبلية فراغا من وَالِده لَهُ وَلما مَاتَ أَبوهُ أَرَادَ أَن يصير مفتيا مَكَانَهُ فَمَا قدرت لَهُ ووجهت الى مُحَمَّد بن قياد السكوتى الآتى ذكره ان شَاءَ الله ثمَّ بعد وَفَاة السكوتى وجهت اليه وعظمت حرمته وَأَقْبَلت عَلَيْهِ كبراء وقته وعظمته حكام الشَّام وأعيانها ونفذت كَلمته عِنْد الْخَاص وَالْعَام وخدمته الافاضل وَكَانَ مَعَ هَذَا لَا يرى لنَفسِهِ وجودا وَكَانَ لَهُ فى الصّلاح وَالتَّقوى قدم راسخة وَذكر لى والدى المرحوم انه سمع بعض المجاذيب بِمصْر يَقُول ان صَاحب التَّرْجَمَة لَهُ رُتْبَة بَين الاولياء وَهُوَ لَا يعرف نَفسه وَأقَام ثمانى عشرَة سنة(3/203)
مفتيا وفتاويه بأيدى النَّاس متداولة مَقْبُولَة مسددة وَكَانَ يصدر عَنهُ كرامات وأحوال كَثِيرَة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ صَدرا من صُدُور الشَّام وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع بعد الالف وَتوفى نَهَار الْخَمِيس خَامِس عشر رَجَب سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير عِنْد اسلافه
السَّيِّد عمار بن بَرَكَات بن جَعْفَر بن بَرَكَات بن أَبى نمى الْحسنى أحد اشراف مَكَّة الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ والادب وَحسن الشّعْر ذكره السَّيِّد ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه عمار أبنية الْمجد والمكارم وَرَافِع ألوية شرف آبَائِهِ الخضارم نسب فى السِّيَادَة كعمود الصُّبْح وَحسب تنزه بجده الْحسن عَن الْقبْح طلع فى أفق الْجَلالَة بَدْرًا وسما فى سَمَاء الابالة قدرا رَأَيْته فى حَضْرَة الْوَالِد بالديار الْهِنْدِيَّة وَقد تفيأ ظلال مكارمه الندية وَكَانَ قد دَخلهَا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف فَرَأَيْت فِيهِ الْفضل مصورا وجنيت بِهِ روض السِّرّ ورمنورا وَلَقَد كَانَ يجمعنى واياه مجْلِس والدى حسب الاقتراح وبيننا من المصافاة مَا بَين الراح وَالْمَاء القراح وَهُوَ كهل شبت بالظرف شمايله وهبت باللطف جنائبه وشمائله وَرُبمَا جمعتنَا حلبة أدهم وكميت أَو بَيت شعر لم تتحكم عَلَيْهِ لَو وَلَا لَيْت فننتقل من متن جواد الى شرح بَيت وَله شعر يفعل بالالباب فعل السحر أثبت مِنْهُ مَا هُوَ أحلى من جنى النَّحْل وأجدى من الْقطر فى الْبَلَد الْمحل فَمِنْهُ قَوْله مُخَاطبا الْوَالِد النظام أَحْمد بن مَعْصُوم
(زرت خلا صَبِيحَة فحبانى ... بسؤال أشفى وأرغم شانى)
(قَالَ لما نظرت نور محياه ونلت المنى وكل الامانى ... )
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا ... ينْبت الْحبّ فى قُلُوب الغوانى)
(فتحرجت أَن أفوه بِمَا قد ... كَانَ منى طبعا مدى الازمان)
(يَا أَخا الْمجد والمكارم وَالْفضل وَمن لَا أرى لَهُ الْيَوْم ثانى ... )
(أدْرك أدْرك متيما فى هواكم ... قبل تسطو بِهِ يَد الْحدثَان)
(وابق واسلم ممتعا فى سرُور ... مَا تغنت ورق على غُصْن بَان)
فَرَاجعه بقوله
(لَيْت شعرى مَتى يكون التدانى ... لبلاد بهَا الحسان الغوانى)
(وَبهَا الْكَرم مثمر والاقاحى ... ضحِكت عَن ثغور زهر لحانى)
(والبساتين فائحات بعطر ... يخجل العنبر الذكى اليمانى)(3/204)
(وطيور بهَا تجاوبن صبحا ... وعشيا كنغمة العيدان)
(وبألحانها تذيب ذوى اللب وتحيى مَيتا من الهجران)
(وتمشى بهَا الظباء الحوالى ... مائسات كناعم الأغصان)
(كل خود تسطو بلحظ حسام ... وتثن كماقنا المران)
(وَجههَا الصُّبْح لَكِن الْفَرْع مِنْهَا ... ليل صب من لوعة الْحبّ فان)
(غادة كَالنُّجُومِ عقد حلاها ... مَا اللآلى وَمَا حلى العقيان)
(ان ياقوت خدها أرخص الْيَاقُوت سعرا وَعَابَ بالمرجان ... )
(كل يَوْم يقْضى بِقرب لَدَيْهَا ... فَهُوَ يَوْم النوروز والمهرجان)
مِنْهَا
(تِلْكَ من فاقت الظباء افتتانا ... فَلِذَا وصفهَا أَتَى بافتنان)
(مالمضنى أُصِيب من أسْهم اللحظ نجاة من طَارق الْحدثَان ... )
(أذكرتنى أَيَّام تِلْكَ وعزت ... أعينى بالبكاء والهملان)
(نفثات كالسحر يصدعن فى قلب معنى من الْمَلَامَة عان)
وَمِنْهَا
(كَلِمَات لَكِنَّهَا كالدرارى ... وسطور حوت بديع الْمعَانى)
(اذ أَتَت من أَخ شَقِيق المعالى ... فائق الاصل غرَّة فى الزَّمَان)
(ضافي الود صافى الْقلب قرم ... كعبة قد علا على كيوان)
(ذَاكِرًا لى فِيهَا تزايد شوق ... وولوعا بِهِ مدى الازمان)
(ففهمت الذى نحاه وَلَكِن ... لَيْت شعرى يدرى بِمَا قد دهانى)
(أَنا قيس فى الْحبّ بل هُوَ دونى ... لَا جميل حالى وَلَا كَابْن هانى)
(يَا أَخا الْعَزْم قد سلمت ووجدى ... طافح زَائِد بِغَيْر توان)
(فلحتفى أَبْصرت من قد رمانى ... وعناء تصيد الغزلان)
(ان تشا شرح حَال صب كئيب ... فَلَقَد قَالَه بديع الْمعَانى)
(مرضى من مَرِيضَة الاجفان ... )
الى آخر الْبَيْت للشَّيْخ محيى الدّين بن عربى وَللسَّيِّد عمار مذيلا بَيت أَبى زَمعَة جد أُميَّة بن أَبى الصَّلْت ومادحا ابْن مَعْصُوم الْمَذْكُور
(اشرب هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفعا ... فى رَأس غمدان دَار مِنْك محلالا)
(تسْعَى اليك بهَا هيفاء غانية ... مياسة الْقد كحلا الطّرف مكسالا)
(اذا تثنت كغصن البان من ترف ... وان تجلت كبدر زَان تمثالا)(3/205)
(كَأَنَّهَا وأدام الله بهجتها ... ظبى رنا فسبى تيها وادلالا)
(وَكَيف لَا وهى أمست فِيهِ ساحبة ... بِخِدْمَة السَّيِّد المفضال اذيالا)
(ذَاك الذى جلّ عَن تنويه تَسْمِيَة ... شمس علت هَل ترى للبدر أَمْثَالًا)
(الباسم الثغر والابطال عابسة ... والباذل المَال لم يتبعهُ أَنْكَالًا)
(عَار من الْعَار كاس من محامده ... لَا يعرف الْخلف فى الاقوال ان قَالَا)
(ان قَالَ أفحم ندب الْقَوْم مقوله ... أَو صال أخجل لَيْث الغاب ان صالا)
(علابه النّسَب الوضاح منزلَة ... عَن أَن يماثل اعظاما واجلالا)
(خُذْهَا ربيبة فكر طالما حجبت ... لَوْلَا علاك وود قطّ مَا حَالا)
(واسمح بِفَضْلِك عَن تَقْصِير منشئها ... وَحسن بشرك لم يبرح لَهَا فالا)
(ثمَّ الصَّلَاة على أزكى الورى نسبا ... وَآله الغر تَفْصِيلًا واجمالا)
قَالَ السَّيِّد على لقد رَأَيْت هَذَا المادح ساحبا أذيال الْعِزّ والجلال بِحَضْرَة ممدوحه هَذَا السَّيِّد المفضال وَقد أنزلهُ بِأَعَز مَكَان وأحله عِنْده مَحل ابْن ذى يزن من رَأس غمدان حَتَّى وعده بوعد شام من وميض بارقه السعد فَلم يلبث أَن استوفى ملْء مكاليه وهتفت بِهِ دواعى آجاله فوافت الْمِسْكِين منيته قبل تقضى أمْنِيته وَهَكَذَا حلق الدَّهْر العرام وَكم حسرات فى نفوس الْكِرَام وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف
عمر بن ابراهيم بن مُحَمَّد المنعوت بسراج الدّين الشهير بِابْن تجيم الحنفى المصرى الْفَقِيه الْمُحَقق الرشيق الْعبارَة الْكَامِل الِاطِّلَاع كَانَ متجرا فى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة غواصا على الْمسَائِل الغريبة محققا الى الْغَايَة سيال اليراع نديه فى التَّحْرِير جَامعا لادوات التفرد فى حسن أسلوبه جم الْفَائِدَة وجيها عِنْد الْحُكَّام فى زَمَنه مُعظما عِنْد الْخَاص وَالْعَام أَخذ عَن أَخِيه الشَّيْخ زين صَاحب الْبَحْر وَألف كِتَابه الذى سَمَّاهُ بالنهر الْفَائِق شرح الْكَنْز ضاهى بِهِ كتاب أَخِيه الْبَحْر الرَّائِق لكنه أربى عَلَيْهِ فى حسن السبك للعبارات والتنقيح التَّام قَالَ فى أَوله بعد الْبَسْمَلَة أحمدك يَا من أظهر مَا شَاءَ لمن شَاءَ من كنوز هدايته وأطلع من أحب من دقائق الْحَقَائِق بفيض فَضله وعنايته وأصلى وَأسلم على نِهَايَة خُلَاصَة الاصفياء وذخيرة نخبة الْعلمَاء من الانبياء مُحَمَّد الْمُخْتَار من خِيَار الاخيار وعَلى آله وَصَحبه كرام الابرار مَا تكَرر اللَّيْل وَالنَّهَار وتراسلت قطرات الامطار فى الاقطار وتواصلت أبكار نفائس(3/206)
الافكار وَله فِيهِ مناقشات على شرح أَخِيه مِنْهَا قَوْله فى بَاب التَّيَمُّم بعد نقل كَلَام أَخِيه وَأَقُول هَذَا سَاقِط جدا وَله غَيره من الرسائل والتآليف وَكَانَت وَفَاته يَوْم الثُّلَاثَاء سادس شهر ربيع الاول سنة خمس بعد الالف بدرب الاتراك وَدفن عِنْد أَخِيه الشَّيْخ زين بجوار السيدة سكينَة تجاه مقلاة الحمص قيل مَاتَ مسموما من بعض النِّسَاء وَيدل على ذَلِك كَثْرَة تزَوجه وَعدم مَرضه
السَّيِّد عمر بن ابراهيم بن مُحَمَّد شجر القديمى الحسينى كَانَ سيدا كَبِير الْحَال عَظِيم الْمقَال لَهُ كرامات شهيرة وَكَانَ من الزّهْد فى الدُّنْيَا وَعدم النّظر اليها بِمَنْزِلَة علية وَكَانَ ينْفق جَمِيع مَا يَأْتِيهِ من الفتوحات وَالنُّذُور على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَله بجدة زَاوِيَة يجْتَمع فِيهَا النَّاس لذكر الله تَعَالَى وطاعته وكل من حضر مَعَهم يحصل لَهُ فتح اما دينى واما دنيوى وَكَانَ يجلس فى غَالب أوقاته بجدة على سَرِير لَهُ مَنْصُوب بِقرب بَاب صريف من الْجِهَة الشامية مِنْهَا وكل من لَهُ حَاجَة أَتَى اليه وتوسل بِهِ فى قَضَائهَا فتقضى باذن الله تَعَالَى وسريره الى الْآن مَنْصُوب بجدة فى مَكَانَهُ يتبرك النَّاس بمسه وَلَا يقدر أحد أَن يجلس عَلَيْهِ وَمن جلس عَلَيْهِ ضرب من يَوْمه وَقد جرب ذَلِك وَالنَّاس يتحاشون عَن الْجُلُوس عَلَيْهِ خوفًا من ذَلِك وَحكى السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر ابْن بَحر فى تَارِيخه الذى سَمَّاهُ تحفة الدهران صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ على جَانب عَظِيم من الْخيرَات يحب الْفُقَرَاء ويؤوى الْمَسَاكِين وَيكرم الوافدين وَيطْعم الهريسة فى أَيَّام منى لَا كثر أهل الْمَوْسِم على طَريقَة عَمه السَّيِّد الولى الْمَشْهُور أَبى الْغَيْث بن مُحَمَّد الشّجر الْمُقدم ذكره قَالَ وَحكى لى والدى أَن صَاحب التَّرْجَمَة ربى يَتِيما وَله وَالِدَة وَهُوَ بهَا بر كَانَت تضربه وتأمره بالامور فيأتمر حَتَّى كبر وَبلغ الْحِنْث وَكَانَ يحاول شَيْئا من أُمُور الدُّنْيَا فَلَا ينَال مِنْهَا وَكَانَ يضْحك الْقَوْم مِنْهُ لفقره وتغفله فحج وزار والنبى
فحصلت لَهُ عناية ربانية بِوَاسِطَة جده
فرزق الْقبُول التَّام حَتَّى استوطن مَكَّة وَأَقْبل عَلَيْهِ أَهلهَا وأمراء الاروام فَمَا دونهم وَكَانَ يزور الْيمن فَيقبل عَلَيْهِ النَّاس اقبالا تَاما وَمَا تفوه بِهِ أَئِمَّة الله تَعَالَى وَجَمِيع مَا يدْخل عَلَيْهِ يُنْفِقهُ فى سَبِيل الْخَيْر وَمَا زَالَ على هَذِه الْحَال حَتَّى توفى الى رَحْمَة الله تَعَالَى وغفرانه وَكَانَت وَفَاته فى سنة عشر بعد الالف بجدة وَبهَا دفن وَلَا عقب لَهُ
عمر بن ابراهيم بن على بن أَحْمد بن على السعدى الحموى الاصل الدمشقى المولد(3/207)
الْمَعْرُوف بِابْن كاسوحة الْمُقدم ذكر أَبِيه فى حرف الْهمزَة كَانَ وَالِده شَدِيدا الاعتناء بِهِ حَتَّى أشغله واجتهد على تَعْلِيمه وَدخل بِهِ الْقَاهِرَة غير مرّة وأحضره عِنْد الجلة من الْمَشَايِخ مِنْهُم الشَّمْس الرملى والنور بن غَانِم المقدسى وابراهيم العلقمى والشهاب الخانوتى والنور الزيادى والشهاب بن قَاسم والشهاب أَحْمد بن أَحْمد بن عبد الْحق وَالشَّيْخ صدر الدّين الحنفى والزين عبد الرَّحْمَن الْخَطِيب الشَّرّ بينى وَسمع مِنْهُم وأجاوزوه وَأخذ بِدِمَشْق عَن الشَّمْس الداودى ولازمه مُدَّة وَحضر مَعَ أَبِيه دروس الشهَاب العيثاوى ولازم الْبُرْهَان بن كسباى فى القراآت حَتَّى صَار أمثل جماعته ثمَّ تصدر للاقراء وَكَانَ حسن التِّلَاوَة متقنا مجودا خَالِيا من التَّكَلُّف والتعسف مَعَ انه لم يكن حسن الصَّوْت وَكَانَ قَلِيل الْحَظ من الدُّنْيَا ومعيشته أَكثر مَا كَانَت من كسب أَبِيه قَالَ النَّجْم الغزى قَرَأت بِخَطِّهِ ان مولده فى أَوَاخِر رَجَب سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى يَوْم الاحد عشرى جُمَادَى الاولى سنة سبع عشرَة وَألف بعلة الاسْتِسْقَاء وَدفن عِنْد أَبِيه بمقبرة بَاب الصَّغِير
السَّيِّد عمر بن أَحْمد بن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد منفز بن عبد الله بن مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ عبد الله باعلوى يعرف كسلفه بآل منفز أحد فحول الرِّجَال قَالَ الشلى فى تَرْجَمته كَانَ من الْمشَار اليهم بالزهد وَالصَّلَاح وَالْعِبَادَة وَحسن الطَّرِيقَة صحب الاكابر من الاولياء وَالْعُلَمَاء وَتخرج بهم فى سلوك الطَّرِيقَة ولقى أستاذ حَضرمَوْت الامام أَحْمد بن علوى باحجذب ولازم الامام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن عقيل صَاحب مد يحجّ وَكَانَ متمسكا بآداب الشَّرِيعَة مُحْتَرما عِنْد الْمُلُوك والاشراف وَكَانَ فى أقْصَى الْمُرُوءَة وَغَايَة التَّوَاضُع منقاد للخير جوادا سخيا يعظم أهل الدّين وَيكرم الْفُقَرَاء كثير الصَّدَقَة والاحسان اليهم عَظِيم الْبر مَعَ اقباله على طَريقَة أسلافه من الْعِبَادَة والتهجد وَقيام اللَّيْل كَانَ يقوم ربع اللَّيْل الاخير وَيخرج من مَسْجِد آل باعلوى وَيُقِيم كل من كَانَ نَائِما فِيهِ ذَلِك الْوَقْت وَرُبمَا ضرب من تكاسل عَن الْقيام وَكَانَ مستهينا بالدنيا وعروضها مجانبا كثير الدُّنْيَا محتقر الارباب الدولة وَمن يتَرَدَّد اليهم يُطلق لِسَانه على أهل الظُّلم والفسوق وَألقى الله هيبته ومحبته فِي الْقُلُوب وتزايد اعْتِقَاد النَّاس فِيهِ وَلما تولى السَّيِّد عبد الله بروم نظر أوقاف آل عبد الله باعلوى طلع صَاحب التَّرْجَمَة الى السُّلْطَان وَأَغْلظ عَلَيْهِ القَوْل وَكَانَ نظر اوقاف مَسْجِد آل باعلوى اليه وأوقف عَلَيْهِ أَمْوَالًا كَثِيرَة وَكَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَله كرامات(3/208)
وافضالات وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء لتسْع خلون من شَوَّال سنة عشْرين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل وقبره مَعْرُوف
السَّيِّد عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَبى بكر بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف يعرف كأبيه بالمساوى وَيعرف جده مُحَمَّد ببا مقلف ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته أحد الاعيان مُدبر الامور وَصَاحب الرأى الصائب ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين واشتهر بالعفة وجودة الرأى ووفور الهيبة وَكَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فى جودة الذكاء وانتفع بِهِ النَّاس فى الاصلاح بَينهم فى أُمُور لَا يتقنها غَيره مَعَ الصَّبْر على الامور الدِّينِيَّة كالاقامة بتجهيز الْمَيِّت ونزوله قبر واذا مر خطب دبره أحسن تَدْبِير وَكفى النَّاس أمره وَكَانَ حيسوبا سريع الْجَواب حسن الابتدار عَجِيب الحافظة جيد المحاضرة وَكَانَ صَدرا رَئِيسا مُعظما عِنْد الْخَاص وَالْعَام تقدمه جَمِيع الطوائف وَكَانَ أديبا فَاضلا ذكيا مداوماً على الْعِبَادَة وَالْجَمَاعَة والتهجد وزيارة الصَّالِحين وَغير ذَلِك من الصِّفَات الجميلة غير انه خدشها بتردد على السُّلْطَان فَلم يكن يعاب باشد من ركونه اليهم ثمَّ اخْتلفت الاحوال مَا بَين انخفاض وارتفاع ووشى بِهِ الى السُّلْطَان فاعتقله بالحصن فَأسلم الى من عاقبه وَعمل لَهُ قَمِيصًا من لِيف النّخل واحرق ذَلِك الليف ثمَّ صودر وَأخذ مِنْهُ جَمِيع مَا مَعَه من النَّقْدَيْنِ وَمَاله بايدى النَّاس وَمَا مَعَه من الامتعة والاوانى وَيُقَال ان مَجْمُوع مَا أَخذ مِنْهُ نَحْو عشرَة آلَاف وَكَانَ مَحْفُوظًا فِيمَا امتحن بِهِ مستسلما فِيمَا ابتلى بِهِ ثمَّ جد واجتهد فى الْعِبَادَة وَتوجه بِظَاهِرِهِ وباطنه الى الله تَعَالَى حَتَّى بلغ رُتْبَة الْكَمَال وعد من الفحول وَوصل الى الْمَرَاتِب الْعلية وَظَهَرت مِنْهُ كرامات وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَعظم أَسف النَّاس عَلَيْهِ وأثنوا عَلَيْهِ كثيرا وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا وَلم يخلف بعده مثله فى خصاله
السُّلْطَان عمر بن بدر بن عبد الله بن جَعْفَر الكثيرى سُلْطَان حَضرمَوْت بالشحر ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ حسن الشمايل وافر الْعقل كثير الْعدْل وَكَانَت سيرته مرضية وَله الْتِفَات تَامّ الى الرعايا حسن السياسة صَادِق الفراسة صَاحب أَخْلَاق حميدة قل ان ورد عَلَيْهِ أحد من الغرباء الا وَصدر يثنى عَلَيْهِ الثَّنَاء الْجَمِيل وَكَانَ شجاعا مقداماً ولعَبْد الصَّمد باكثير فِيهِ عدَّة مدائح وَكَانَت وَفَاته سنة احدى وَعشْرين وَألف وأرخ وَفَاته عبد الصَّمد الْمَذْكُور بقوله رضاك وَتَوَلَّى بعده(3/209)
ابْنه السُّلْطَان عبد الله وَكَانَ حسن الْخلق والخلق مهاب المنظر آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر ولى الْملك فاحسن الْقيام بِهِ وَأظْهر السطوة وقهر الْبَادِيَة وَغَيرهم فهابته النُّفُوس وَأمنت الْبِلَاد ثمَّ حصلت لَهُ جذبة ربانية فَلم يرض الا بالدرجة الْعليا وَخرج عَن أَهله وَمَاله وَقصد الْحرم الشريف واعرض عَن الْملك وَأقَام بِمَكَّة الى ان توفى فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالشبيكة
عمر بن حُسَيْن بن على بن مُحَمَّد فَقِيه بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ على امام الزَّمَان أحد الاساتذة الَّذين جعلهم الله تَعَالَى خلفاء على عباده وأمناء عَلَيْهِم من حَيْثُ التربية والتهيئة لفيوضات امداده قَالَ الشلى ولد بتريم وتفقه على جمَاعَة مِنْهُم القاضى أَحْمد ابْن حُسَيْن بلفقيه والقاضى أَحْمد بن عمر عيديد والفقيه فضل بن عبد الرَّحْمَن بَافضل وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث عَن الْعَلامَة أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب والتصوف والحقائق عَن تَاج العارفين الشَّيْخ زين العابدين وَالشَّيْخ علوى بن عبد الله العيدروس ثمَّ رَحل الى وادى دوعن وَأخذ عَن جمع مِنْهُم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الامام عبد الْقَادِر باعشن ورحل الى الْيمن وَدخل بندر عدن وَأخذ عَن كثيرين ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ أَحْمد بن ابراهيم بن عَلان وَالسَّيِّد الْجَلِيل أَحْمد بن الهادى وَأَجَازَهُ أَكثر مشايخه وَألبسهُ الْخِرْقَة جمع وأذنوا لَهُ فى الالباس وَلما رَجَعَ الى مَدِينَة تريم قَصده الْعلمَاء ولازموه وَتخرج بِهِ جمَاعَة وَوصل على يَده غير وَاحِد من الافاضل مِنْهُم السَّيِّد الْجَلِيل على بن عمر وَالسَّيِّد عمر بن عبد الله فَقِيه وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد شاطرى قَالَ الشلى وصحبته مديدة وأفادنى فَوَائِد وَكَانَ لَهُ اعتناء تَامّ بكتب الشَّيْخ الشعرانى وَله رسائل الى أَصْحَابه تشْتَمل على عِبَارَات رشيقة وَكَانَ بَينه وَبَين شَيخنَا الشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد العيدروس صُحْبَة أكيدة وَكَانَا فرسى رهان وَكَانَ كثيرا الصَّلَاة محافظا على سننها تقيا نقيا كريم الاخلاق يحب أهل الْعلم وَالدّين وَيكرهُ المتمشدقين وَكَانَ مرجعا فى الامور باذلا نصيحته لكل اُحْدُ وَكَانَت وَفَاته بتريم فى سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله
السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى الحسينى الشافعى نزيل مَكَّة المشرفة الامام الْمُحَقق أستاذ الاستاذين كَانَ فَقِيها عَارِفًا مربياً كَبِير الْقدر عالى الصيت حسن السِّيرَة كَامِل الْوَقار ذكره الشلى وَأطَال فى وَصفه بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أدْرك(3/210)
الامام الشَّمْس مُحَمَّد الرملى والشهاب أَحْمد بن قَاسم الْعِبَادَة وَأخذ عَنْهُمَا عدَّة عُلُوم وَقَرَأَ على الشَّيْخ بدر الدّين البرنبالى وَالشَّيْخ الشهَاب الهيثمى والمنلا عبد الله السندى وَالشَّيْخ على العصامى والقاضى على بن جَار الله وَالشَّيْخ عبد الرَّحِيم الحسائى وَالسَّيِّد الْجَلِيل مير بادشاه والمنلا نضر الله وَغَيرهم وفَاق فى الْفُنُون وأنجب تلامذة أفاضل وَألْحق الاواخر بالاوائل وَأخذ عَنهُ خلق كثير من أَجلهم الشَّيْخ عبد الله بن سعيد باقشير وَالشَّيْخ على بن الْجمال وزين العابدين وَأَخُوهُ على ابْنا الامام عبد الْقَادِر الطبرى وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطائفى وَالشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو الْجُود المزين وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وتر بى بِهِ وَلَده مُحَمَّد وَالسَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن كريشه السقاف وَالسَّيِّد الْفَقِيه مفتى الْحَنَفِيَّة السَّيِّد صَادِق بادشاه وَله كتابات حَسَنَة على هَامِش التُّحْفَة وعَلى شرح الالفية للسيوطى وَله فَتَاوَى مفيدة وَصَحب أكَابِر العارفين وَأخذ عَنْهُم عُلُوم التصوف والحقائق قَالَ وَرَأَيْت بِخَط شَيخنَا الشَّيْخ على بن الْجمال مانصه وَمن كراماته وهى أشهر من ان تذكر انه مَا كَانَ يسْبق لِسَانه الى كَلَام يقرره فى الدَّرْس الا وَهُوَ حق يتَعَيَّن الْمصير اليه وَمِنْهَا مَا وَقع للْفَقِير دَائِما انه اذا قرر كلَاما لم يفهمهُ فى مَجْلِسه فَلَا يبرز من دَاره الا وَقد فتح الله بِهِ وَمِنْهَا أَنه كثيرا مَا تشكل الْمسَائِل على كَاتبه الْفَقِير فبمجرد أَن يجلس بَين يَدَيْهِ يحصل الْفَتْح وَمِنْهَا أَن مَجْلِسه الشريف مَحْفُوظ من الْغَيْبَة وَمِنْهَا مَا أخبر بِهِ الثِّقَة تِلْمِيذه وَشَيخنَا الشَّيْخ أَحْمد الحكمى بعد وَفَاته بأسبوع انه رَآهُ فى الْمَنَام فَسَأَلَهُ يَا سيدى انكم انتقلتم فَقَالَ نعم واقرأ يَا فلَان مَا تيَسّر فَقَرَأَ من قَوْله تَعَالَى الَّذين {آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} فَلَمَّا وصل الى قَوْله عز وَجل {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} فَقَالَ لَهُ قف أَنا مِنْهُم ثمَّ قَالَ لَهُ يَا فلَان ان الله تَعَالَى تجلى على بعض قُلُوب أوليائه بِلَا وَاسِطَة وعَلى بَعْضهَا بِوَاسِطَة وارجو ان تكون مِنْهُم فَقَالَ لَهُ سيدى الشَّيْخ أَحْمد الحكمى يَا سيدى فَكيف الْعِيَال والاولاد فَقَالَ اما أَنا فقد استرحت وهم لَهُم الله تَعَالَى فانتبه وَأما عمله فناهيك بِهِ انه قد وصل لرتة الِاجْتِهَاد وانخرط فى سلك أَهله الامجاد وَلكنه مَعَ ذَلِك كَانَ متعبدا بِمذهب الامام الشافعى فى الْفَتْوَى والتدريس وَنشر الْعلم الى ان نَقله الله تَعَالَى لدار كرامته وَذكره ابْن مَعْصُوم فى السلافة فَقَالَ فِيهِ نَاصِر الشَّرِيعَة والطريقة وهاصر أفنان رياضها الوريقه المخبت الاواه الناطقة بفضله الالسن والافواه السالك مسالك الْقَوْم ذُو الشيمة الغالية والسوم جمع بَين(3/211)
الْعلم وَالْعَمَل وَبلغ من الْفضل مُنْتَهى الامل فرفل فى حلل الزّهْد والتقى ورقى من الشّرف أرفع مرتقى الى بلاغة وبراعه أرعف بهما مخاطم اليراعه وفصاحة ولسن أرهف بهما مخاذم الْكَلَام وَسن وَأنْشد لَهُ غَيره من شعره قَوْله فى التَّرْغِيب بفتوحات ابْن عربى
(يَا رائما قرع أَبْوَاب الْمُهِمَّات ... وشائما فى امتطاء الْحور زهرات)
(ان كنت ترغب فى نحج الكرامات ... فَالْزَمْ فديتك أَبْوَاب الفتوحات)
وَله رِسَالَة فى معنى قَول ابْن الفارض فى تائيته
(وَمَا الودق الا من تحلب أدمعى ... وَمَا الْبَرْق الا من تلهب زفرتى)
تدل على تمكنه فى التصوف وَكَانَت وَفَاته مَعَ أَذَان ظهر يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر وَقيل الثَّامِن وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثانى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة وَحكى الْعَلامَة عبد الله بن مُحَمَّد العباسى المكى انه حضر وَفَاته قَالَ وَكَانَ آخر كَلَام تكلم بِهِ قَول السودى
(وَقضى يَعْقُوب حَاجته ... وانْتهى زيد الى الوطر)
ثمَّ خرجت روحه
عمر بن عبد الصَّمد بن مُحَمَّد الغلمى وَتقدم تَمام النّسَب المقدسى الشَّيْخ الْبركَة الصَّالح المرشد كَانَ من خِيَار خلق الله تَعَالَى حسن الاخلاق صافى السريرة بشوشا سخيا وافرا الْحُرْمَة مَقْبُول الْكَلِمَة مجللا عِنْد خَاصَّة النَّاس وعامتهم وَكَانَ لَهُ صلابة فى دينه مُنْقَطِعًا الى الله تَعَالَى منزويا عَن النَّاس الا فى شَفَاعَة مَقْبُولَة أَو أَمر مَنْدُوب اليه وَكَانَ فَاضلا عَارِفًا بِكَلَام الصُّوفِيَّة جَارِيا على مناهجهم السوية أدْرك جده الاستاذ الْكَبِير وتلقن مِنْهُ وَصَارَ شَيخا مَكَانَهُ وعظمته النَّاس وتبركت بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فى عصرنا من بَرَكَات الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف
عمر بن عبد الْقَادِر المشرقى الغزى الْعَلامَة المفنن اشْتغل بِطَلَب الْعلم وجد زَمَانا بغزة وَأخذ عَن جمَاعَة من أَجلهم الشَّيْخ صَالح بن الشَّيْخ مُحَمَّد صَاحب التَّنْوِير أَخذ عَنهُ النَّحْو والمعانى وَالْبَيَان وَغَيرهَا غير الْفِقْه فانه كَانَ شافعى الْمَذْهَب أَخذ فقه الشافعى عَن الشَّيْخ حُسَيْن النخالى وَغَيره وَفضل وَصَارَ من أجلاء عُلَمَاء غَزَّة وَلما توفى الشَّيْخ صَالح ابْن صَاحب التَّنْوِير الْمُفْتى الحنفى بغزة بعد وَالِده صَار مفتيا بعده الشَّيْخ عمر بن عَلَاء الدّين الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى فَلَمَّا توفى الشَّيْخ عمر الْمَذْكُور فى سنة ثَمَان وَخمسين وَألف لم يُوجد بغزة من لَهُ شهرة بِفقه الْحَنَفِيَّة ليَكُون مفتيا فاتفق رأى(3/212)
حاكمها حُسَيْن باشا وأكابر الْبَلَد أَن يكون الشَّيْخ عمر المترجم مفتيا وانه ينْتَقل الى مَذْهَب الحنفى وألزموه بذلك لحاجتهم الى مفت حنفى فجَاء من غَزَّة الى الرملة هُوَ والرئيس مُحَمَّد بن الغصين وَمكث بهَا مُدَّة وَقَرَأَ على شيخ الحنفيه الشَّيْخ خير الدّين الرملى دروسا فى الْفِقْه من الْكَنْز وَغَيره وَأَجَازَهُ بالافتاء والتدريس وَمكث مفتيا حنفيا الى ان توفى وحمدت كِتَابَته على الْفَتَاوَى وَلم يعرف لَهُ هفوة لعلمه وتثبته فِيمَا يكْتب وَكَانَ من أهل الثروة مبجلا مُعظما وَله فصاحة كَامِلَة وَحسن انشاء حَتَّى انه كَانَ حَاكم غَزَّة اذا كَاتب أحد تكون مُكَاتبَته بِخَط المشرقى الْمَذْكُور وَبَينه وَبَين الْخَيْر الرملى وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة نقيب الشَّام مكاتبات عديدة وَمن مخاطبات الْخَيْر لَهُ فصيح الدَّهْر وبليغ الْعَصْر الذى يتقهقر عِنْد مَنْطِقه كل منطيق واذا سئم بليغ من مجاراته أجَاب بِلَا أُطِيق لَا أُطِيق عمر الزَّمَان وزهر الاوان
(من طلعت على الورى ذكاؤه ... فَقيل هَا أنوار شمس المشرقى)
(قلت وفى رَاحَة كفى رقمه ... سُبْحَانَ من يهدى لهَذَا الْمنطق)
وهى قصيدة ثَلَاثَة عشر بَيْتا وَكتب اليه فى صدر كتاب
(الى ذى المعالى والمعارف من بِهِ ... تتيه على الامصار غَزَّة هَاشم)
(وأعنى بِذَاكَ المشرقى الى سما ... على من سواهُ بالسخا والمكارم)
وَكتب الى الْخَيْر يسْأَله عَن مسئلة الامى اذا تعلم مَا تصح بِهِ صلَاته فَكتب اليه
(سحر ترى مَا أرى أم نسمَة سحرًا ... أم كَوْكَب غلبت أنواره القمرا)
(أم رَوْضَة أينعت أَغْصَانهَا فغدت ... تُعْطى المنى كل من قدسا مها نظرا)
(بهَا الَّذِي تشتهيه النَّفس من نعم ... يمِيل ميلًا لمن يجنى بهَا ثمرا)
(أم اللآلى ترى نورا اذا لمحت ... كَذَا ترى اذ صفت ألوانها الدررا)
(أم تِلْكَ يَا عمر شمس المشرقى بَدَت ... فجددت عهد فاروق القضا عمرا)
(نعم بِلَا شُبْهَة هَذَا الاخير هُوَ الذى وعيشك للانظار قد ظهرا ... )
(تالله يَا عمر الْعَصْر الجدير بِأَن ... نثنى عَلَيْك لقد فقت الذى غبرا)
(أَعْطَيْت خطا وحظا جَامعا بهما ... علما وحلما يردان الذى افتخرا)
(فصرت مرجع أهل الْفضل لَا بَرحت ... علومهم فى ازدياد تقتفى الاثرا)
(هَذَا وَقد جاءنى رق الْبَلَاغ فَمَا ... أبقى محلا لما جَاءَت بِهِ الشعرا)
(ففى الفصاحة شان لَا نَظِير لَهُ ... وفى البلاغة مَا ان مثله نظرا)(3/313)
(وَكم بِهِ معَان لَيْسَ يُدْرِكهَا ... الا ذوونا الالى شدوا لَهَا الازرا)
(وَلم أقلهَا لشئ أجتنيه وَمَا ... من عادتى فى مديحى اجتنى الكبرا)
(لَكِن علينا عهود الله قد أخذت ... لَا نغمط الْحق لَا سِيمَا اذا ذكرا)
(واننى والذى ينشى السَّحَاب كَمَا ... يَشَاء حبى لاهل الْعلم قد كبرا)
(فانهم هم مصابيح الْهدى فَمَتَى ... خلوا من النَّاس كَانُوا فى الظلام سرا)
(فَلَا خلا مِنْهُم عصر لانهم ... مثل النُّجُوم اذا غَابُوا بِهِ اعتكرا)
(أَقُول قولى هَذَا ثمَّ أعقبه ... جَوَاب مسئلة الامى مُخْتَصرا)
(اذا تعلم قُرْآنًا تصح بِهِ ... صلَاته خلف شخص قد درى وقرا)
(فِيهِ الْخلاف حكوا والاكثرون رَأَوْا ... فَسَادهَا اعْتِمَاد لَيْسَ فِيهِ مرا)
(لانه قَارِئ حكما بأوله ... حَقِيقَة بعده فاستوجب الغيرا)
(وَقد بنى كَامِلا وَالْحَال مَا ذكرا ... فِيهِ على نَاقص قد صَار مقتدرا)
(وَالْفرق فى الْقَارئ الاصلى أَن لَهُ ... مَحْض الْكَمَال على الْحَالين مؤتثرا)
(لَكِن أَبُو اللَّيْث مَوْلَانَا الْفَقِيه حكى ... فى عكس هَذَا اتِّفَاقًا بعد مسطرا)
(لانه قَارِئ فى الْحَالَتَيْنِ وَلَا ... فرق اذا مَا أعَاد النَّاظر النظرا)
(كَذَاك صَححهُ بعض وأيده ... لَكِن قواعدنا تقضى لمن كثرا)
(لَا سِيمَا ومتون الْفِقْه قاطبة ... قد أطلقت قَوْلهَا فى الاثنتى عشرا)
(وَتلك مَوْضُوعَة فِيمَا بدا أبدا ... تقضى وتفتى فَلَا تعدى اذا صَدرا)
وَكتب اليه أَيْضا
(الى عمر الْعُلُوم سَلام خل ... يَدُوم بَقَاؤُهُ أمد الدهور)
(فليت الِاجْتِمَاع أَقَامَ دهرا ... ليبقى الْقلب فى أَعلَى السرُور)
وَكَانَت وَفَاته بغزة نَهَار الاربعاء عَاشر شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَبَنُو المشرقى بَيت علم ومجد شهير بغزة من أهل بَيتهمْ الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد المشرقى أَخذ عَنهُ الشَّيْخ مُحَمَّد صَاحب التَّنْوِير وترجمه النَّجْم الغزى فى الْكَوَاكِب السائرة وَذكر انه أَخذ عَن القاضى زَكَرِيَّا وانه توفى سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة
عمر بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَبى بكر باشيبان بن مُحَمَّد أَسد الله بن حسن بن على بن الاستاذ الْفَقِيه الشهير كسلفه بباشيبان الامام الْمَشْهُور الحضرمى الاصل الهندى المولد أَخذ عَن جمَاعَة بِبِلَاد الْهِنْد ثمَّ رَحل الى(3/214)
تريم وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخَيْنِ الجليلين الشَّيْخ عبد الله بن شيخ وَولده زين العابدين وتفقه على القاضى عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَأخذ عُلُوم الدّين عَن الشَّيْخ أَبى بكر ابْن شهَاب وأخويه مُحَمَّد الْهَادِي وَأحمد شهَاب الدّين ثمَّ رَحل الى الْحَرَمَيْنِ وجاور بهما عدَّة سِنِين وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ أَحْمد بن ابراهيم عَلان وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْخَطِيب وَغَيرهم وَلبس الْخِرْقَة من أَكثر مشايخه وَأَجَازَهُ أَكْثَرهم ثمَّ عَاد الى تريم وَتزَوج بهَا ودرس ثمَّ رَحل الى الديار الْهِنْدِيَّة وَقصد شيخ الاسلام السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الله العيدروس ببندر سورت ولازمه وَتخرج بِهِ فى طَرِيق الْقَوْم وَأخذ عَنهُ عدَّة عُلُوم وَقصد الْوَزير الْملك عنبر وَأقَام عِنْده يدرس فى الْفُنُون الْعَرَبيَّة الى أَن انْتقل الْملك عنبر فَرَحل الى السُّلْطَان عَادل شاه وَحصل لَهُ عِنْده قبُول تَامّ وَأقَام بِمَدِينَة بيجافور عِنْده عدَّة أَعْوَام وأنعم عَلَيْهِ بخراج جرام بِالْقربِ من مَدِينَة بلقام ثمَّ اختبار التوطن بِمَدِينَة بلقام وتصدر للنفع واقتنى كتبا وأموالا كَثِيرَة وَكَانَ من قَصده من الطّلبَة يقوم بِنَفَقَتِهِ وَكسوته وَأخذ عَنهُ الجم الْغَفِير وَظَهَرت بركته وَكَانَ حسن الاخلاق عَظِيم الشهامة لم يدنس مِقْدَاره بذم قطّ وَلم يزل بِمَدِينَة بلقام الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وقبره بهَا مَعْرُوف
عمر بن عبد الْوَهَّاب بن ابراهيم بن مَحْمُود بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن العرضى الحلبى الشافعى القادرى الْمُحدث الْفَقِيه الْكَبِير مفتى حلب وواعظ تِلْكَ الدائرة كَانَ أوحد وقته فى فنون الحَدِيث وَالْفِقْه والادب وشهرته تغنى عَن الاطراء فى وَصفه اشْتغل بِالطَّلَبِ على وَالِده ثمَّ لزم الشَّيْخ الامام مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن حسن البابى الحلبى الْمَعْرُوف بِابْن البيلونى وَكَانَ عمره اذ ذَاك أَربع عشرَة سنة فَقَرَأَ عَلَيْهِ الجزرية ومقدمة التصريف العزية وتجويد الْقُرْآن وَقطعَة من تيسير الدانى ثمَّ انحاز الى المنلا ابرهيم بن مُحَمَّد البيانى الكردى ثمَّ الحلبى الشافعى فَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من الْفُنُون ثمَّ وصل الى الْعَالم الْكَبِير مُحَمَّد رضى الدّين بن الحنبلى فَقَرَأَ عَلَيْهِ وانتفع بِهِ وَتخرج عَلَيْهِ وَأخذ عَن الْعَالم الْعَلامَة مُحَمَّد بن الْمُسلم التنوسى الحصينى نِسْبَة الى بنى الْحصين طَائِفَة من الانصار المالكى نزيل حلب لَازمه سِنِين وانتفع بِعِلْمِهِ وَسمع من لَفظه صَحِيح البخارى تَمامًا مَرَّات عديدة وجانبا كَبِيرا من صَحِيح مُسلم بِقِرَاءَة وَلَده مُحَمَّد الْمَقْتُول وَمن لَفظه حِصَّة كَبِيرَة من الشِّفَاء(3/215)
للقاضى عِيَاض وَقَرَأَ عَلَيْهِ فى المطول من بحث أَحْوَال متعلقات الْفِعْل الى آخر الْكتاب وَكَانَ قَرَأَ من أَوله الى هَذَا الْمحل على شَيْخه المنلا ابراهيم الكردى الْمَذْكُور آنِفا وَسمع عَلَيْهِ بِقِرَاءَة غَيره فى شرح الالفية للمرادى وفى معنى اللبيب وفى شرح ابْن النَّاظِم على ألفية أَبِيه وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح العراقى على ألفيته بِتَمَامِهِ وَحِصَّة يسيرَة من شرح الْعَضُد على مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَشرح عَلَيْهِ فى قِرَاءَة الاصفهانى شرح طوالع البيضاوى فى بحث الالهيات فَقَرَأَ عَلَيْهِ درسين ثمَّ حم ابْن الْمُسلم وَمَات وَرِوَايَة ابْن الْمُسلم البخارى عَن الْبُرْهَان العمادى الحلبى وَأَسَانِيده مَعْرُوفَة وَعَن الفخرى عُثْمَان بن مَنْصُور الطرابلسى وَهُوَ يرويهِ عَن أَبى الْعَبَّاس أَحْمد الشاوى الحنفى والزين الهرهامى عَن الْحَافِظ العراقى بأسانيده وَيَرْوِيه وَسَائِر كتب السّنَن عَن قاضى الْجَمَاعَة بتونس سيدى أَحْمد السليطى سَمَاعا من لَفظه لصحيح البخارى واجازة لباقى كتب السّنَن وَأَجَازَهُ الْبَدْر الغزى من دمشق بالمكاتبة ودرس وَأفَاد وَصرف أوقاته فى الافادة وَلم يكن فى عصره وَاحِد مثله مجدا فى الِاشْتِغَال وافادة الطّلبَة لَازم الزاوية الحبشية المنسوبة الى بنى العشائر مُدَّة أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ أَكثر فضلاء زَمَانه تلامذته وأنبلهم الشَّمْس مُحَمَّد وَأَخُوهُ الْبُرْهَان ابراهيم ابْنا الشهَاب أَحْمد بن المنلا وَولده أَبُو الْوَفَاء العرضى وَنجم الدّين الخلفاوى وَغَيرهم من رُؤَسَاء الْعلم وَصَارَ مفتى الشَّافِعِيَّة بحلب وواعظها بجامعها يعظ النَّاس يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر وَاسْتمرّ على ذَلِك مُدَّة حَيَاته وَألف تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شرح شرح الجامى ابتدا فِيهِ من عِنْد قَوْله فالمفرد المنصرف الى المنصوبات وَلم تساعده الايام على اتمامه وَكَانَ شَدِيد الاعتناء بالجامى حَرِيصًا على مطالعته واقرائه وَفِيه يَقُول
(لله در امام طالما سطعت ... أنوار افضاله من علمه السامى)
(أَلْفَاظه أسكرت أسماعنا طَربا ... كَأَنَّهَا الْخمر تسقى من صفا الجامى)
واقتدى فى ذَلِك بشيخه ابْن الحنبلى فى قَوْله
(لكَافِيَة الاعراب شرح منقح ... ذَلُول الْمعَانى ذُو انتساب الى الجامى)
(مَعَانِيه تجلى حِين تثلى كَأَنَّهَا ... هى الْخمر يَبْدُو جرمها من صفا الجامى)
ولعَبْد الله الدنوشرى المصرى فِيهِ
(لله شرح بِهِ شرح الصُّدُور لنا ... كَأَنَّهُ الدَّار أَو أزهار اكمام)(3/216)
(قد أسكر السّمع اذ تتلى عجائبه ... وَالسكر لَا غرو مَعْرُوف من الجامى)
وَله شرح على رِسَالَة القشيرى وَشرح العقائد وَشرح الشفا فى حَدِيث الْمُصْطَفى أَرْبَعَة أسفار ضخمة كل سفر قدره أَرْبَعُونَ كراسا فى مسطرة أحد وَأَرْبَعين سطرا سَمَّاهُ فتح الْغفار بِمَا أكْرم الله بِهِ نبيه الْمُخْتَار صرف همته مُدَّة اثنتى عشرَة سنة فى تأليفه وأبرز فِيهِ علوماً جمة وشاع فى الْآفَاق واستكتبه عُلَمَاء الرّوم وَالْعرب وَكتب حَاشِيَة على تَفْسِير الْمولى أَبى السُّعُود فى سُورَة الاعراف وَأما رسائله فَلَا تحصر وأجوبته وفتاويه كَثِيرَة متواترة وَمن رسائله رِسَالَة سَمَّاهَا الدّرّ الثمين فى جَوَاز حبس المتهمين ورسالة مناهج أهل الوفا فِيمَا تضمنه من الْفَوَائِد اسْم الْمُصْطَفى رِسَالَة فى تَفْضِيل الصَّلَاة على البشير النذير ورسالة فى شرح قصيدة ابْن الفارض الدالية ورسالة أُخْرَى فى شرح التائية وَأُخْرَى فى شرح اليائية ورسالة على قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى رَبك} كَيفَ مد الظل وَغير ذَلِك من الرسائل وَمن تعليقاته جَوَابه عَن مقَالَة الاستاذ مُحَمَّد البكرى ان النبى
كَانَ يعلم جَمِيع علم الله تَعَالَى وَقد سُئِلَ عَنْهَا فى مجْلِس درس فَأجَاب بِأَن مقَالَة الشَّيْخ هَذِه صَحِيحَة وَلَا انكار عَلَيْهِ فِيهَا اذ يجوز أَن الله يَهبهُ علمه ويطلعه عَلَيْهِ وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يدْرك مُحَمَّد
مقَام الربوبية اذا الْعلم الْمَذْكُور ثَابت لله تَعَالَى بِذَاتِهِ وللمصطفى
بتعليم الله تَعَالَى اياه والى مثل ذَلِك أَشَارَ الابوصيرى بقوله
(فان من جودك الدُّنْيَا وضرتها ... وَمن علومك علم اللَّوْح والقلم)
وفى الحَدِيث قَالَ لى ربى لَيْلَة الاسراء فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى يَا مُحَمَّد قلت لَا أدرى فَوضع يَده بَين كتفى فَوجدت بردهَا فى ثديى فَعلمت علم الاولين والآخرين ثمَّ قَالَ فيمَ يخْتَصم الملا الاعلى فَقلت فى الْوضُوء على المكاره الى آخر الحَدِيث وَأورد فى تَارِيخه فى تَرْجَمَة شَيْخه ابْن مُسلم نَاقِلا عَن تَارِيخ شَيْخه ابْن الحنبلى انه قَالَ اجْتمعت بِهِ أى بِابْن مُسلم مرّة عِنْد مولاى الرشيد بن سُلْطَان تونس اذ دخل حلب فَجرى ذكر بنى أُميَّة فأوردت ان من الْمُفَسّرين من ذهب الى ان الشَّجَرَة الملعونة فى الْقُرْآن هى بَنو أُميَّة فَتغير ذَلِك فَقلت سُبْحَانَ الله قيل مَا قيل والعهدة على قَائِله فَطلب صَاحب الْمجْلس من النَّقْل فأظهرته من تَارِيخ الْمُحب بن الْوَلِيد بن الشّحْنَة قَالَ وَأَقُول ان هَذِه الْمقَالة لم يقلها عَالم مُعْتَبر وانما هى من ترهات الشِّيعَة لغلوهم فى بغض بنى أُميَّة والا فبنو أُميَّة مِنْهُم الْجيد والردئ فاذا يفعل قَائِل ذَلِك فى عُثْمَان الْمَشْهُود لَهُ بِالْجنَّةِ وذى النورين(3/217)
جَامع الْقُرْآن وَمَا يصنع فى عَمْرو بن الْعَاصِ وَولده عبد الله الناسك أحد العبادلة الاربعة وفى مُعَاوِيَة بن أَبى سُفْيَان وَغَيرهم من أكَابِر الصلحاء كعمر بن عبد الْعَزِيز وَمُعَاوِيَة الصَّغِير وَكَيف تكون بَنو أُميَّة شَجَرَة ملعونة وهم عنصر النبى
وَبَنُو عَمه وَابْن الشّحْنَة كَانَ رجلا غَايَته انه من فضلاء النَّاس وَلَيْسَ قَوْله بِحجَّة وَتَفْسِير الْقُرْآن لَا يحْتَج فِيهِ بِمثل ابْن الشحنه وَلَا بمقالته انْتهى وللعرض شعر قَلِيل أنْشد لَهُ بعض الادباء قَوْله وَهُوَ // (معنى حسن) //
(لم أكتحل فى صباح يَوْم ... أريق فِيهِ دم الْحُسَيْن)
(الالانى لفرط حزنى ... سودت فِيهِ بَيَاض عينى)
وَأَصله قَول بَعضهم
(وَقَائِل لم كحلت عينا ... يَوْم اسْتَبَّا حوادم الْحُسَيْن)
(فَقلت كفوا أَحَق شئ ... يلبس فِيهِ السوَاد عينى)
وَمثله لابى بكر الْعُمْرَى الدمشقى
(فى يَوْم عَاشُورَاء لم أكتحل ... وَلم أزين ناظرى بِالسَّوَادِ)
(لَكِن على من فِيهِ حينا قضى ... ألبست عينى ثِيَاب الْحداد)
وَكَانَت وِلَادَته بحلب بقاعة العشائرية الملاصقة لزاويتهم دَار الْقُرْآن شمالى جَامع حلب فى صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَجَاء تَارِيخ مولده شيخ حلب وَمَات يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر أَو سادس عشر شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَألف قَالَ الصّلاح الكورانى مؤرخا وَفَاته
(امام الْعُلُوم وزين الْعلَا ... سراج الْهدى عمر ذُو الوفا)
(تولى فأرخ سراج بهَا الْعُلُوم هدى فرقا فانطفى ... )
عمر بن عَلَاء الدّين بن عبيد بن حسن بن عمر الغزى الحنفى الْمَعْرُوف بِابْن عَلَاء الدّين أحد فضلاء الدَّهْر قَرَأَ بغزة على الشَّيْخ شرف الدّين بن حبيب الغزى وعَلى الشَّيْخ صَالح بن الشَّيْخ مُحَمَّد صَاحب التَّنْوِير الغزى ورحل الى الْقَاهِرَة فى سنة احدى وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن علمائها وَمكث بهَا الاخذ الْمعلم سِتّ سنوات وَولى افتاء غَزَّة من حُدُود الْخمسين الى أَن توفى وَله رِسَالَة فى قَوْله تَعَالَى ان رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ ورسالة فى قَوْله {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون} ورسالة فى قَوْله تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى جُمَادَى الاولى سنة ثَمَان وَخمسين وَألف(3/218)
السَّيِّد عمر بن على بن عبد الله بن على بن عمر بن سَالم بن مُحَمَّد بن عمر بن على بن عمر بن أَحْمد بن الشَّيْخ الاستاذ الاعظم مُحَمَّد بن على باعلوى الحضرمى ذكره الشلى وَقَالَ فى تَرْجَمته أحد الزهاد الْمَشْهُورين كَانَ على جَانب عَظِيم من القناعة وَالصَّبْر وَالتَّسْلِيم وَالرِّضَا ولد بظفار سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف وَنَشَأ فى حجر وَالِده وَكَانَ يجله ويخصه بأَشْيَاء من بَين أَوْلَاده وَصَحب ابْن عَمه السَّيِّد عقيل بن عمرَان باعمر علوى وَحضر دروسه وانتفع بِهِ ولازمه وَألبسهُ خرقَة التصوف وَهُوَ من أخص خَواص أَصْحَابه وَكَانَ السَّيِّد عمر يَقُول فى شَيْخه هَذَا اعتقادى فِيهِ انه قطب الْوَقْت انه وَارِث السِّرّ المحمدى وَذَلِكَ لامور شَاهدهَا فِيهِ وَلما توجه الى الْحَج اجْتمع بِجَمَاعَة من أكَابِر السَّادة من أَجلهم السَّيِّد عبد الله بن على صَاحب الوهط وَالسَّيِّد أَحْمد بن عمر العيدروس وَالسَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم البصرى وَالشَّيْخ أَحْمد بن ابراهيم عَلان وَغَيرهم وَكَانَ كثيرا الرُّؤْيَا للنبى
من ذَلِك أَنه رَآهُ بِالْمَدِينَةِ متوشحا بِثَوْب الْوَقار والانوار تغشاه فَقَالَ لَهُ يَا رَسُول الله بلغنَا عَن الثِّقَات ان الشَّيْخ أَبَا الْغَيْث بن جميل الْيُمْنَى أَب من لَا أَب لَهُ يَوْم الْقيمَة هَل ذَلِك صَحِيح أم لَا فَقَالَ لَهُ النبى
نعم صَحِيح ثمَّ قَالَ لَهُ يَا رَسُول الله وَنحن فَقَالَ وَأَنْتُم منا والينا أَو كَمَا قَالَ ثمَّ ان قصّ الرُّؤْيَا بعض عُلَمَاء الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ رُؤْيَاك صدق وَحقّ وَلَكِن ستفقد شَيْئا مَعَك وسيعوضك الله مَا هُوَ خير مِنْهُ وَأفضل سرا وَعَلَانِيَة وَكَانَ الامر كَمَا ذكر لى فعوضنى الله سُبْحَانَهُ مَا كنت أرجوه وأطلبه فحمدت الله تَعَالَى قَالَ وَلما قفلت من الْحَج والزيارة من طَرِيق الْيمن اجْتمعت بالسيد عبد الرَّحْمَن بن شيخ صَاحب تعز وَحصل لى مِنْهُ استمداد وألبسنى الْخِرْقَة ثمَّ أذن لى بِالسَّفرِ الى الوطن وَقَالَ لى عِنْد الْوَدَاع ستجتمع بالخضر فى طريقك قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا فى المرحلة الاخيرة الى الْحَج صلينَا الصُّبْح وَكُنَّا جمَاعَة الله فى الْقَافِلَة ثمَّ ركبت على الْجمل فحال ان استويت على ظَهره اذا بِرَجُل لم أعرفهُ غير ان لَهُ هَيْبَة ناولنى رغيفين حارين وَلم يره غيرى وَلم يكن بذلك الْموضع قَرْيَة وَلَا غَيرهَا ثمَّ غَابَ عَنى وَلم أره ثمَّ وجدت فى صدرى انشراحا وفرحا ومزيداً يمَان لاجتماعى بالخضر واتمام مَا وعد بِهِ السَّيِّد وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة لَهُ ذوق فى كتب الْقَوْم وَله كرامات كَثِيرَة مِنْهَا انه قَالَ مرّة لجَماعَة ان أَمِير الْبَلَد يقتل ويسحب بِرجلِهِ فَمَا مَضَت الا مُدَّة يسيرَة واذا بالامير الذى عناه قتل وَفعل بِهِ كَمَا ذكرْتُمْ سَافر الى الْهِنْد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَاجْتمعَ بالسيد أَبى بكر بن حُسَيْن(3/219)
بلفقيه وَألبسهُ الْخِرْقَة وَكَانَ ذَلِك بِبَلَدِهِ بيجافور فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة تِلْكَ السّنة ثمَّ مرض بهَا وَكَانَ لَهُ خَادِم يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن قشقاش قَالَ مُحَمَّد الْمَذْكُور كنت أرى من سيدى كرامات كَثِيرَة وَهُوَ يأمرنى بكتمها مِنْهَا انه قَالَ فى لَيْلَة وَفَاته اذا رَأَيْت شَيْئا فَلَا تفزع قَالَ مُحَمَّد فَلَمَّا كَانَ آخر تِلْكَ اللَّيْلَة رَأَيْت نورا سَطَعَ حَتَّى أَضَاء ذَلِك الْموضع الذى هُوَ فِيهِ فدخلنى من الهيبة والاقشعرار مَا شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ دَنَوْت مِنْهُ فاذا هُوَ ميت وَكَانَت وَفَاته فى شعْبَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف فَجهز وَحضر جنَازَته جمع كثير من السَّادة وَغَيرهم وَدفن بمقبرة السَّادة بنى علوى هُنَاكَ
عمر بن عمر الزهرى الدفرى الحنفى القاهرى الامام الْعَالم الْعَلامَة كَانَ اماما جَلِيلًا عَارِفًا نبيلا لَهُ المهارة الْكُلية فى فقه أَبى حنيفَة وَزِيَادَة اطلَاع على النقول ومشاركة جَيِّدَة فى عُلُوم الْعَرَبيَّة أَخذ الْفِقْه عَن الشَّمْس المحبى وَعبد الله النحريرى وَعبد الله المسيرى الشهير بِابْن الذيب وَعبد الْقَادِر الطورى وَبَقِيَّة الْعُلُوم عَن الْبُرْهَان اللقانى وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وتصدر للاقراء بِجَامِع الازهر وانتفع بِهِ خلق لَا يُحصونَ وَكَانَ مَشْهُورا بِالْبركَةِ لمن يقْرَأ عَلَيْهِ صَالحا عفيفا حسن المذاكرة حلوا الصُّحْبَة وَمن غَرِيب مَا انفق لَهُ انه كف بَصَره نَحْو عشْرين سنة ثمَّ من الله عَلَيْهِ بِعُود بَصَره اليه من غير علاج الى أَن توفاه الله تَعَالَى وَمن مؤلفاته الدرة المنيفة فى فقه أَبى حنيفَة وَشَرحهَا شرحا نفيساً فى مُجَلد أقرأه مَرَّات عديدة بِجَامِع الازهر وَعم النَّفْع بِهِ وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى سنة تسع وَسبعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ
عمر بن مُحَمَّد بن أَبى اللطف الملقب سراج الدّين بن الامام شمس الدّين اللطفى المقدسى الشافعى ثمَّ الحنفى رَئِيس عُلَمَاء الْقُدس فى عصره ومفتيها ومدرسها قَرَأَ على وَالِده وَغَيره ورحل الى مصر وَأخذ بهَا عَن الْحَافِظ شهَاب الدّين أَحْمد بن النجار الفتوحى وقرأت بِخَط الشَّيْخ عبد الْغفار المقدسى قَالَ أخبرنى انه لما قدم من الْقَاهِرَة قبل يَد وَالِده فَقَالَ لَهُ بأى هَدِيَّة قدمت الينا عَمَّن أخذت الحَدِيث فَقلت لَهُ عَن ابْن النجار فَحَمدَ الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ ان للاب أَن يَأْخُذ عَن الابْن وهى رِوَايَة الْآبَاء عَن الابناء فاستعفاه فألح وَقَرَأَ حِصَّة من صَحِيح البخارى فَأَجَازَهُ متأدبا وَهُوَ يطْلب مِنْهُ الْعَفو وسافر الى دمشق هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو بكر فقرآهما وَالشَّيْخ الامام شمس الدّين العجلونى الريمونى على الْبَدْر الغزى شرح جمع الْجَوَامِع للمحلى وَأخذُوا(3/220)
عَنهُ ثمَّ رَحل الاخوان الى الْقُدس وَأقَام عمر بهَا يدرس ويفتى وَعرض لَهُ فى آخر عمره صمم بِسَبَب كبر السن وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى بِبَيْت الْمُقَدّس فى سنة ثَلَاث بعد الالف
عمر بن مُحَمَّد بن أَبى بكر المصرى الشهير بالفارسكورى الْعَلامَة الاديب المفنن ذكره الخفاجى وَقَالَ فى حَقه فَاضل قلد جيد عصره من فضائله بحليها ونظم عقد محاسنه فى صدر ثديها جنى ثَمَرَات الْعُلُوم الرياضية مَعَ ان أنوارها لم تبرز من الاكمام واجتلى أبكارها وعونها وهى حور مقصورات فى الْخيام فَملك من ذَلِك الْفَنّ خمائله ورياضه وَكَثِيرًا مَا استنشقت عرف خَبره واجتلوت من الشقة الفارسكورية رحيق حبره فتكرر من كَمَاله مَا ثنى الاعجاب عطفه وحقق ان عمر علم فى الْمعرفَة ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله وَكتب بهَا الى ابْنة تقى الدّين مُحَمَّد الآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى فى حرف الْمِيم وَهُوَ بالروم
(شكل اشتياقى مَاله من حد ... ونقطة الصَّبْر محاها وجدى)
(وامتد خطّ الدمع من محاجرى ... بِلَا تناه فَوق سطح الخد)
(وهيئة الْجِسْم اضمحلت مذ نأى ... وانحصرت حباتها بالعد)
(وضاق صدرى حرجا لما استدارت حركاتى حول قطب الصد ... )
(وأصبحت كرات حظى مركزا ... مسكا فى وسط جرم الْجهد)
(وَمن قسى الهجر كم من أسْهم ... نحوى مَا شقَّتْ جُيُوب وجدى)
(والزمن القطاع قد ألف مَا ... بَين محاجرى وَبَين السهد)
وَذكره عبد الْبر الفيومى فى المنتزه وَقَالَ فى وَصفه عَالم نشرت ألوية فَضله عَن الْآفَاق وفاضل ظَهرت براعة علمه فتحلى بهَا فضلاء الحذاق لَهُ الْيَد الطُّولى فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية والراحة الْبَيْضَاء فى تعاطى أَنْوَاع الْفُنُون الرياضية وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عَالم متضلع وأستاذ قَامَ بالافادة وَهُوَ متربع وَقد انْتفع بِهِ كثير من الْعلمَاء وتصدر من طلبته بِمصْر جم غفير من العظماء ثمَّ ذكر لَهُ قصيدة قَالَهَا فى مدح شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّا ومطلعها
(بشر الصابر لَا يخْشَى الجنف ... فسعود الردف حلت فى الشّرف)
وهى طَوِيلَة فَلَا حَاجَة بِنَا الى ايرادها وَوجدت فى بعض المسودات لبَعض الْفُضَلَاء ذكره وَوَصفه بالتفوق وجلالة الْقدر قَالَ وَكَانَ شافعى الْمَذْهَب وَله من التآليف مَا لم(3/221)
يسمح بِمثلِهِ الْفلك الدوار مِنْهَا كتاب ناشئة اللَّيْل ونظم الارتشاف ورسائل شَتَّى فى علم الْهَيْئَة ونظم الْقطر فى علم النَّحْو وَسَماهُ بالنبات وَجعل أبياته على عدد لَفظه وَله كتاب جَوَامِع الاعراب وهوا مَعَ الْآدَاب فى الْعَرَبيَّة أَيْضا نظم فِيهِ جمع الْجَوَامِع وَشَرحه همع الهوامع للسيوطى واستوعب فِيهِ استيعابا زَائِدا وَقَالَ فى آخِره
(فرغته فى مبتدا ذى الْحجَّة ... لتسعة الاشهر من ذى الحجه)
(نظمت فِيهَا الْخَمْسَة الآلاف مَعَ ... خمس مئين بالثوانى والتبع)
(وَخَمْسَة المئين باقى العده ... فى نَحْو شهر قبل هذى المده)
(فكملت فى عشرَة شهور ... مبدلة المعسور بالميسور)
(فى عَام نظمية فَقلت مجمله ... الْحَمد لله على التَّيْسِير لَهُ)
وَقَوله فى عَام نظميه يعْنى انه فرغ مِنْهُ فى سنة خمس وَألف وَقَوله الْحَمد لله على التَّيْسِير لَهُ تَارِيخ ثَان فليتبه لَهُ وَمن فائق شعره قَوْله من قصيدة كتبهَا لوَلَده وَهُوَ بالروم
(الدَّار بعْدك لَا تروق لناظرى ... وَالرّبع بعْدك لَا يشق لخاطرى)
(قد كَانَ لى من ساكنيه أحبة ... كجآذر بَين العقيق وحاجر)
(فَتَفَرَّقُوا كنظيم عقد جَوَاهِر ... عبثت بِهِ يَد انفصام الناثر)
مِنْهَا
(فهجرت مذ هجر الحبيب معاهدا ... ووجدتنى عَنْهُن أنفر نافر)
(فطفقن يذرفن الدُّمُوع سواجما ... لمهاجر فارقنه ومهاجر)
وَمِنْهَا
(وازور عَنْهُن الحبيب وَلم يعج ... فى يقظة أَو طيف نوم زائر)
(بل غادر الاجفان يرقبن السهى ... وجفا لذيذ الغمض مقلة ساهر)
(مَا هَكَذَا الْبر التقى أراغب ... فى أَن يُبدل بالشقى الْفَاجِر)
(أَو أَن يُقَال شرى الضَّلَالَة بِالْهدى ... دَوْمًا لربح وهى صَفْقَة خاسر)
(أَو أَن يُقَال قضى الشبيبة عنة ... وصبت كهولته لنفثة سَاحر)
وَمِنْهَا أَيْضا
(أَمن البصيرة والعمى يغشى الْهدى ... حَتَّى يرى الاعمى بِصُورَة باصر)
(لَكِن أحذرك الزَّمَان وَأَهله ... من كائد أَو مَاكِرًا وغادر)
(أَو مظهر بالختل سنّ تَبَسم ... واذا اختبرت فناب ذِئْب كاسر)
(والدهر مغن عَن نصيحة واعظ ... يرْوى الغرائب خابرا عَن خابر)
(وَالله ملهمك الصَّوَاب لترعوى ... وتؤب أوبة صَابِرًا وشاكرا)(3/222)
(ان كَانَ ذَاك فحبذا ولربما ... كَانَ النهى للنَّفس أنهى زاجر)
(أَو كَانَت الاخرى فرفقة يُوسُف ... وبكاء يَعْقُوب الكئيب الصابر)
(وَالصَّبْر داعى الضّر مَا من صابر ... لكريهة الايغاث بناصر)
(والقهر للناسوت ضَرْبَة لازب ... وَالْحكم لله العلى القاهر)
وَمن مستحسن شعره قَوْله
(اذا كَانَت الافلاك وهى مُحِيطَة ... علينا قسيا والسهام المصائب)
(وراميها البارى فَأَيْنَ فرارنا ... وَسَهْم رَمَاه الله لَا شكّ صائب)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت سَابِع عشر شَوَّال سنة ثَمَان عشرَة وَألف بدمياط وَحمل الى بَلْدَة فارسكور فَدفن بهَا
عمر بن مُحَمَّد بن أَبى بكر مطير كَانَ مشاهير الْعلمَاء المطيريين واجلاء الْمَشَايِخ اليمنيين المنهمكين على خدمَة كتب السّنة والملازمين لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَانَ ذَا خلق عَظِيم وَخلق وسيم وجود عميم وطبع سليم حسن المحاضرة حُلْو الالفاظ مرضى الشيم صَاحب همة أَخذ عَن وَالِده وَغَيره من عُلَمَاء عصره وأجيز بالافتاء والتدريس وَنشر معالم الْعلم وَألف وصنف وَاسْتمرّ على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الصِّفَات حَتَّى وفى بِبَيْت الْفَقِيه الزيدية وَكَانَت وَفَاته فجر يَوْم الاربعاء عشرى رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف
عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد وَقيل عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن عِيسَى الملقب زين الدّين القارى الشافعى الدمشقى رَئِيس أجلاء الشُّيُوخ بِالشَّام وكبير الْعلمَاء وَصدر الصُّدُور كَانَ اماما مفننا بارعا وحيدا مُحدثا فَقِيها أصوليا حسن الرواء متواضعا خلوقا جم الْفَائِدَة والادب طَوِيل الباع حسن الْخط والتقرير قَرَأَ الْعَرَبيَّة والمعانى وَالْبَيَان على الْعِمَاد الحنفى والاصول على أَبى الْفِدَاء اسماعيل النابلسى وتفقه على جمَاعَة مِنْهُم النُّور النسفى وَأخذ الْحساب عَن الشَّيْخ مُحَمَّد التنورى الميدانى والهيئة عَن الشَّيْخ عبد الْملك البغدادى وتلقى الاجازة فى الحَدِيث من الْبَدْر الغزى والشهاب أَحْمد بن أَحْمد الطيبى وَكَانَ يعده أجل شُيُوخه وينقل عَنهُ كَرَامَة وَقعت لَهُ مَعَه قَالَ بَينا نَحن جُلُوس عِنْده فى خلوته الصَّغِيرَة يسَار الدَّاخِل من بَاب جيروان اذ أقبل رجل مُسلما على الشَّيْخ وَمَعَهُ هَدِيَّة لَهُ من هَدَايَا الرّوم وفيهَا امشاط فَأعْطى كل وَاحِد من الطّلبَة مشطا الا أَنا فَلم يعطنى فَقَالَ لَهُ بعض تلامذته مَالك يَا مولاى قد(3/223)
خصصت قوما ومنعت آخَرين فَصَعدَ النّظر الى نَاحيَة الشَّيْخ عمر وَكَانَ أجمل أهل زَمَانه فَرَأى لحيتة قد استوفت الْغَايَة وَكَانَ لَهُ ثَلَاث سنوات قد نبت الشّعْر بخديه فَأعْطَاهُ وساله عَن لحيته فَقَالَ لَهَا ثَلَاث سنوات قد طلعت وَكَانَ هَذِه الْمدَّة لَا يرفع رَأسه نَحوه وبرع فى فنون كَثِيرَة وانتفع بِهِ كثير من الْفُضَلَاء مِنْهُم أَحْمد بن شاهين واسمعيل النابلسى الصَّغِير وَعبد الْوَهَّاب الفرفورى وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة النَّقِيب وَغَيرهم ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الشامية الجوانية وَكَانَ لَهُ بقْعَة تدريس بالجامع الاموى وَكتب الْخط الْمَنْسُوب على الشَّيْخ مُحَمَّد الحرستانى نزيل دمشق ونال جاها وثروة بِسَبَب أوقاف انْتَقَلت اليه وانحصرت فِيهِ وَكَانَت دَاعِيَة لكلال طبعة فى الْجُمْلَة من الْجد والاشتغال الذى كَانَ فِيهِ ويحكي انه لما تشاغل بهَا كَانَ الْحسن البورينى يَقُول الْآن نلْت أمانى من الزَّمَان يُشِير الى أَنه طَالب التفوق عَلَيْهِ فى الشُّهْرَة وَكَانَ بَينهمَا مَا بَين الاقران من التنافر وفى نفس الامر لَو كَانَ بقى على جده لادرك مرتبَة غَايَة فى الشُّهْرَة على انه مَا قصر عَنْهَا وَكَانَ البورينى الْمَذْكُور يَقُول عَنهُ انه وجود بَين عدمين يُشِير الى أَن أَبَاهُ لم يكن من أهل الْعلم وَخرج ابْنه على على غير سمته فانه كَانَ من العسرك وَبِالْجُمْلَةِ ففضائل الشَّيْخ عمر أَكثر من أَن تعد وآثاره لَا تحصى وَلَا تحد وَكَانَ لَهُ مَعَ هَذِه الْكُلية شئ من النّظم فَمن ذَلِك مَا قرأته بِخَطِّهِ
(لَوْلَا ثَلَاث هن أقْصَى المُرَاد ... مَا اخْتَرْت ان أبقى بدار النفاد)
(تَهْذِيب نفسى بالعلوم الَّتِى ... بِهِ لقد نلْت جَمِيع المُرَاد)
(وَطَاعَة أَرْجُو باخلاصها ... نورا بِهِ تشرق أَرض الْفُؤَاد)
(كَذَاك عرفان الاله الذى ... لاجله كَانَ وجود الْعباد)
(فأسأل الرَّحْمَن بالمصطفى ... وَآله التَّوْفِيق فَهُوَ الْجواد)
وَمثله لبَعْضهِم ورايته بِخَطِّهِ فِيمَا أَظن
(لَوْلَا ثَلَاث خِصَال هن من أمْلى ... مَا كنت أَو ثران يَمْتَد بى أجلى)
(كسب الْعُلُوم الَّتِى من نور بهجتها ... يبين لى مسلكى فى القَوْل وَالْعَمَل)
(وجبر خاطر من قد ذل جَانِبه ... وَلم يجد مسعفا فى الْحَادِث الجلل)
(كَذَاك لله تسليمى ومرتجعى ... فَهَذِهِ جلّ مَا أرجوه من أمْلى)
(فيا اله الورى سهل مطالبها ... فَأَنت غوث لمن يَرْجُو النجَاة ولى)
وَمرض مرّة فَلم يعده ابْن شاهين فَلَمَّا نصل من مَرضه أرسل اليه رقْعَة يعتبه فِيهَا(3/224)
فَكتب اليه هَذِه الابيات وَكَانَ اتّفق مجئ الْعِيد
(يَا سيدا يفْدِيه عبد قد توجع سَيّده ... )
(اخْتَرْت أَمر عيادتى ... والعذر عَنهُ أشيده)
(مذ وَافق الافراق عيد مِنْك وافى جيده ... )
(قُلْنَا مقَالَة مخلص ... فى الود وَهُوَ يُؤَيّدهُ)
(نسعى اليه مهنئين نعوده ونعيده ... )
وَكَانَت وِلَادَته فى ثَالِث عشر ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الْخَمِيس ختام جُمَادَى الاولى سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الصَّغِير بِصِيغَة التصغير الدمشقى شيخ الادب بِالشَّام بعد شَيْخه أَبى بكر بن مَنْصُور الْعُمْرَى الْمُقدم ذكره الشَّاعِر كَانَ شَاعِرًا مطبوعا حسن التخيل وَله مُشَاركَة فى الادب جَيِّدَة قرا فى مبادى أمره الْعَرَبيَّة وبرع حَتَّى صَار قيم الادب وَلما مَاتَ الْعُمْرَى صَار مَكَانَهُ شيخ الادب وَكَانَ يَقُول بعد أَبى بكر عمر وَلم يتَزَوَّج فى عمره وَكَانَ لَهُ خبْرَة بالطب وأشعاره كَثِيرَة سائرة وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله معميا باسم خَالِد
(مذ رق مَاء للجمال بوجنة ... كالورد فِي الأغصان كلله الندى)
(ة تمثلت أهدابنا فِيهِ فظنوه ... العذار وَلَا عذار بهَا بدا)
وَقد أَخذ الْمَعْنى من قَول الْبَعْض
(أعد نظر فَمَا فِي الخد نبت ... حماه الله من ريب الْمنون)
( ... وَلَكِن رق مَاء الْحسن حَتَّى ... أَرَاك خيال أهداب الجفون)
وَأنْشد لَهُ البديعى فى ذكرى حبيب قَوْله
(أفدى الذى دخل الْحمام متزرا ... بأسود وبليل الشّعْر ملتحفا)
(دقوا بطاساتهم لما رَأَوْهُ بدا ... توهما ان بدر التم قد كسفا)
وَهُوَ // معنى حسن // تصرف فِيهِ وَأَصله مَا اشْتهر فى بِلَاد الْعَجم ان الْقَمَر اذا خسف يضْربُونَ على الطاسات وباقى النّحاس حَتَّى يرْتَفع الصَّوْت زاعمين بذلك انه يكون سَببا لجلاء الخسوف وَظُهُور الضَّوْء هَكَذَا قَالَه بعض الادباء والذى يعول عَلَيْهِ فى أَصله ان هلاكو ملك التتار لما قبض على النصير الطوسى وَأمر بقتْله لاخباره بِبَعْض المغيبات فَقَالَ لَهُ النصير فى اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة فى الْوَقْت الفلانى يخسف الْقَمَر(3/225)
فَقَالَ هلاكو احْبِسُوهُ ان صدق أطلقناه وأحسنا اليه وان كذب قَتَلْنَاهُ فحبس الى اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة فَخسفَ الْقَمَر خسوفا بَالغا وَاتفقَ ان هلاكو غلب عَلَيْهِ السكر تِلْكَ اللَّيْلَة فَنَامَ وَلم يَجْسُر أحد على انباهه فَقيل للنصير ذَلِك فَقَالَ ان لم ير الْقَمَر بعينة والا فَأصْبح مقتولا لَا محَالة وفكر سَاعَة ثمَّ قَالَ للمغل دقوا على الطاسات والا يذهب قمركم الى يَوْم الْقِيَامَة فشرع كل وَاحِد يدق على طاسة فعظمت الغوغاء فانتبه هلاكو بِهَذِهِ الْحِيلَة وَرَأى الْقَمَر قد خسف فَصدقهُ وبقى ذَلِك الى يَوْمنَا هَذَا وعَلى هَذَا فَمن ظريف مَا يحْكى ان شخصا من ظرفاء الْعَجم كَانَ جَالِسا مَعَ بعض كبرائهم على بركَة مَاء صَاف تحكى خيال مَا قابلها فَقَامَ سَاق جميل الْوَجْه يسقى فَتَنَاول مِنْهُ الطاس ليشْرب فَأَمْسكهَا حينا نَاظرا لخيال الساقى فى المَاء مشتغلا بذلك عَن اعادتها اليه فَفطن كَبِير الْمجْلس لذَلِك فحرك المَاء بقضيب كَانَ فى يَده فَعِنْدَ تحريكه ذهب خيال تِلْكَ الصُّورَة فَأخذ ذَلِك الشَّخْص الظريف يضْرب على الطاس فَسَأَلَهُ من كَانَ مَعَه عَن ذَلِك فَأجَاب بقوله هَذِه عَادَة بِلَادنَا اذا خسف الْقَمَر فاستظرف الْكَبِير والحاضرون مِنْهُ ذَلِك وَقد كَانَ شغلهمْ مَا شغله كَذَلِك قلت وَمن هَذَا الْبَاب بل أدق مِنْهُ تخيلا وأرق مسلكاً مَا قرأته فِي ديوَان أبي بكر الْعمريّ قَالَ وَمِمَّا اتّفق لي أَنِّي كنت مرّة جَالِسا بِالْمَكَانِ الْمعد لبيع القهوة الْمُسَمّى بالقهوة الجديدة تَحت قلعة دمشق والى جانبى الشَّمْس مُحَمَّد بن عين الْملك واذا بِغُلَام بديع الْجمال بارع فى الْحسن والكمال جلس بِالْقربِ منا فأخذنا نتأمله ونتواصف محاسنه ولطف شمايله واذا بِرَجُل طَوِيل من النَّاس غليظ يكَاد يكون جدارا فَجَلَسَ بازائنا وَحَال بَيْننَا وَبَين رُؤْيَة الْغُلَام فَحصل لنا غم شَدِيد فَقَالَ ابْن عين الْملك الْغُلَام هُوَ الْقَمَر وَهَذَا الغليظ هُوَ الخسوف لانه حجب عَنَّا رُؤْيَته فَبينا نَحن فى تِلْكَ المصاحبة واذا بِالرجلِ نزع عمَامَته فاذا هُوَ أَقرع وَكَانَ رَأسه قِطْعَة من النّحاس فَقلت للشمسنى مُحَمَّد الْآن صَحَّ تشبيهك فَقَالَ اذا يجوز ان تنظم هَذَا الْمَعْنى فَأخذت الْقَلَم وكتبت ارتجالا
(حجب الْبَدْر أَقرع عَن عيونى ... فغدا الطّرف خاسئا مطروفا)
(قَالَ لى اللائمون كف فناديت دعونى وأقصروا التعنيفا ... )
(عَادَة الْبَدْر ينجلى لَيْلَة الْخَسْف بدق النّحاس دقا عنيفا ... )
(وتراءيت طاسة فَجعلت الصفع دقا فَكَانَ عذرا لطيفا ... )
وَمن شعره الى الصَّغِيرَة قَوْله معميا فى علوان(3/226)
(فديت حبيبا ازارنى بعد صده ... وَمن رِيقه واللحظ مَعَ كاس قرقف)
(سقانى ثَلَاثًا يَا خليلى وانها ... شِفَاء لذى سقم وراحة مدنف)
وَله باسم سُلَيْمَان
(رأى عاذلى منيتى زار فى ... ازار فحيد عَن نهجها)
(وَقد لَام فى مثل عشقى لَهَا ... وَمَا شَاهد الْخَال فى وَجههَا)
وَله باسم سَالم
(يَا غزالا أَطَالَ بالمطل سهدى ... أنْجز الْوَعْد عله مِنْك يجدى)
(قَالَ مهلا وليل جعدى وقدى ... بعد خطّ العذار انجاز وعدى)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فى حُدُود سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
عمر بن نصوح الرومى أحد كبراء الدولة العثمانية وَهُوَ ابْن الْوَزير الاعظم نصوح باشا الْمَار طرف من خَبره فى تَرْجَمَة السُّلْطَان أَحْمد والآتى ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى فى حرف النُّون وَكَانَ عمر هَذَا من أَفْرَاد الدَّهْر فى المعارف وجودة الْخط النّسخ لم يكن فى عصره مثله وَجمع من خطوط الْمُتَقَدِّمين أَشْيَاء وافرة وَكَانَ ضنينا بِالْكِتَابَةِ لَا يسمح لَاحَدَّ مِنْهَا بشئ الا بعد جهد وَالنَّاس يتخالون فى خطه ويتفاخرون بِوُجُود شئ مِنْهُ عِنْدهم وَكَانَ قدم دمشق لجمع مَال الْعَوَارِض فى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَكَانَ الْوَزير مُحَمَّد باشا الْمَعْرُوف بِابْن الدفتر دَار نَائِب الشَّام فَكَانَ يجله ويعظمه وحدثنى بعض الاخوان انه طلب مِنْهُ كِتَابَة سُورَة الانعام فتباطأ فى كتَابَتهَا فاستدعاه يَوْمًا وَأَعْطَاهُ فَرْوَة من السمور وَخَمْسمِائة قِرْش وَعين رجلا من أخصائه يلازمه الى أَن يُتمهَا فأتمها فى شهر وجلدها وأرسلها الله اليه فَوَقَعت عِنْده الْموقع الْعَظِيم وَبعد رحيله من دمشق تقلبت بِهِ المناصب حَتَّى اسْتَقر نشانيا وسافر فى خدمَة الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل الى كريت فَمَاتَ بهَا وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَانِينَ وَألف والنشانى نِسْبَة الى النشان وَهُوَ الطرة الَّتِى ترسم فى أَعلَى الاوامر والبراآت السُّلْطَانِيَّة وَيُقَال لَهَا الطغرى أَيْضا وَالله تَعَالَى أعلم
عمر بن يحيى القاضى زين الدّين الشافعى الْمَعْرُوف بِابْن الدويك الدمشقى من أفاضل الزَّمن وأدبائه وَكَانَ عَارِفًا بفنون عديدة وَله فى الرياضيات خُصُوصا الْفلك والميقات مهارة تَامَّة وَكَانَ وقورا مهابا عَظِيم الْهَيْئَة ولى الْقَضَاء بمحكمة قناة العونى ثمَّ نقل الى محكمَة الْبَاب فى سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله شعر رائق مِنْهُ قَوْله من قصيدة رَاجع بهَا بعض الادباء ومطلعها
(جَازَت على تهز فى أردان ... هيفاء رمح قوامها أردانى)(3/227)
(تركية الا لحاظلا ان رنت ... نحوى بِطرف ناعس أصمانى)
(غرثى الوشاح ترنحت أعطافها ... من ذَا الذى عَن حبها ينهانى)
(فى خدها الوردى نَار أضرمن ... فعجبت للروضات فى النيرَان)
(لما انْثَنَتْ تختال فى حلل البها ... سجدت لقامتها غصون البان)
(جارت على ضعفى بعادل قدها ... عجبا فَهَل ضدان يَجْتَمِعَانِ)
(لَوْلَا جعيد الشّعْر مَعَ فرق لَهَا ... مَا كَانَ لى ليل وصبح ثَان)
(قسما بطلعتها ولفته جيدها ... وبثغرها وبقدها الريان)
(وبنون حاجبها رَوْضَة خدها ... وبلطفها وبحسنها الفتان)
(لم أنس لما ان أَتَت بملابس ... قد طرزت بمحاسن الاحسان)
(وافت وثوب اللَّيْل أسدل ستره ... حَتَّى غَدا كَالثَّوْبِ للعريان)
(فضممتها ورشفت برد الثغركى ... أطفى بذلك حرقة الاشجان)
(باتت تعاطينى كؤس حَدِيثهَا ... وتشنف الاسماع بالالحان)
(بتنا على رغم الحسود بغبطة ... وبفرحة ومسرة وأمان)
(حَتَّى دنا الْفجْر الْمُنِير فراعنى ... شيب بِرَأْس اللَّيْل نحوى دَان)
(قَامَت وَقد ألوت النحوى جيدها ... خوف النَّوَى وَالْقلب فى خفقان)
(ودعتها والدمع يجرى عِنْدَمَا ... فى الخد حَتَّى قرحت أجفانى)
(سقيا لَهَا من لَيْلَة قضيتها ... فى طيب عَيْش وَالسُّرُور مدان)
وَكتب اليه شَيخنَا عبد الْغنى بن اسمعيل النابلسى مداعبا وَبَينهمَا قرَابَة من جِهَة وَالِدَة شَيخنَا فانها مِنْهُم
(قلت وَقد أطرب نظمى الورى ... لحاسدى المغموم خفض عَلَيْك)
(لابدع أَن يطرب صوب الذى ... اتَّصَلت نسبته بالدويك)
وَكَانَت وَفَاته فى أَوَائِل شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
عمر الْمَعْرُوف بنفعى بن رومى عَالم الرّوم وشاعرها المتفوق وَكَانَ أحد أَعْيَان كتاب الدولة وَله شهرة طنانة وَهُوَ من بَلْدَة يُقَال لَهَا حسن قلعه سى بَينهَا وَبَين أرزن الرّوم خمس سَاعَات الى جِهَة القرص ولد بهَا ثمَّ قدم الى قسطنطينية وتعانى الْكِتَابَة والادب وَمهر فِيهَا وشعره غَايَة فى الملاحة سِيمَا مدائحه وَأما أهاجيه فَلم يصل أحد الى فحشها فِيمَا أعلم وَقد دونهَا ووسمها بسهام الْقَضَاء وَحكى انه لما تمّ(3/228)
جمعهَا وصل خَبَرهَا الى السُّلْطَان أَحْمد فطلبها وقرئت بِمحضر مِنْهُ فَمَاتَتْ قرَاءَتهَا الا وأرعدت السَّمَاء وأبرقت وَنزلت صَاعِقَة بِالْقربِ من مَكَان الْقِرَاءَة وَلِهَذَا شاع بَين النَّاس أَن قرَاءَتهَا تورث بلَاء مَا وَأدْركَ عهد السُّلْطَان مُرَاد وَكَانَ السُّلْطَان يُحِبهُ ويقربه وتعجبه مسامرته وَلما ولى الوزارة الْعُظْمَى بيرام باشا وَكَانَ طاعنا فى السن وَفِيه غَفلَة أمره السُّلْطَان بهجائه فَامْتنعَ من ذَلِك فألح عَلَيْهِ السُّلْطَان فَفعل قصيدة طَوِيلَة أفرط فِيهَا كل الافراط فبلغت الْوَزير فتألم وأكن لَهُ الْقَتْل ثمَّ دخل الْوَزير الى السُّلْطَان شاكيا مِنْهُ وَقَالَ لَهُ ان لم تقتل نفعى فقد اخْتَرْت أَن تقتلنى وأبرم على السُّلْطَان بذلك ففوض اليه أمره فَقتله هَكَذَا تلقيته من الافواه ثمَّ حكى بعض من لَهُ اطلَاع على أمره أَن الْوَزير لما بلغه هجوه اياه طلب نائلى الشَّاعِر الْمَشْهُور وَكَانَ مِمَّن تخرج على نفعى وَله بِهِ زِيَادَة اتِّصَال وَأمره بِأَن يهجو نفعى وَلَا زَالَ يبرم عَلَيْهِ حَتَّى هجاه بقصيدة وكتبها للوزير بِخَطِّهِ وَأَعْطَاهُ اياها فَطلب نفعى وَأَعْطَاهُ الورقة فَفطن للغرض وأخذته الحدة فَطرح الورقة قبالة الْوَزير بغيظ فحنق الْوَزير وَقَتله فى الْحَال وَكَانَ قَتله فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف قلت وقصة قَتله شَبيهَة بِقصَّة قتل ابْن الرومى وَقد حَكَاهَا كثير من المؤرخين وَذَلِكَ أَن الْفضل بن مَرْوَان وَزِير المعتصم العباسى دَعَا أُنَاسًا لوليمة صنعها وَلم يدع ابْن الرومى فافتكره فى آخر الْوَلِيمَة فَجهز خَلفه فَلَمَّا حضر أحضر طبق فِيهِ بيض مصبوغ سَبْعَة ألوان فَمد يَده ابْن الرومى وَأكل بَيْضَة حَمْرَاء وَتوجه فَصنعَ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وهما قَوْله
(وزيرنا أكْرم من حَاتِم ... أكلت فى دَعوته بيضه)
(قذ أدخلتها أمه فى استها ... وضمختها بِدَم الحيضه)
فَلَمَّا سمع المعتصم الْبَيْتَيْنِ ضحك ثمَّ نَادَى ابْن الرومى وَقَالَ لَهُ اهجنى فَقَالَ الله الله من ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ أهجو من مدحه الله وَرَسُوله فَقَالَ لَهُ المعتصم هَذَا على سَبِيل المداعبة لاجل خاطر الْوَزير لَا يغتاظ فَامْتنعَ من ذَلِك فالح عَلَيْهِ المعتصم فَقَالَ
(مُلُوك بنى الْعَبَّاس فى الارض سَبْعَة ... وَلم تأتنا عَن ثامن لَهُم كتب)
(كَذَلِك أهل الْكَهْف فى الْكَهْف سَبْعَة ... كرام اذا عدوا وثامنهم كلب)
فَضَحِك المعتصم وأسرها فى نَفسه وَقَالَ مَتى خرج من عندى أشهر عَنى الهجو فَلَمَّا حضر السماط أَخذ المعتصم سنبوسكة وشغلها بالسم وناولها لِابْنِ الرومى فَقَامَ وَأَخذهَا وَلم يشْعر بِمَا فِيهَا فَلَمَّا أكلهَا والسم فِيهَا قَامَ مستعجلا وَهُوَ ماسك قلبه(3/229)
فَقَالَ لَهُ المعتصم الى أَيْن فَقَالَ الى مَكَان بعثتنى اليه فَقَالَ والى أَيْن بَعَثْتُك قَالَ الى الْقَبْر فَقَالَ لَهُ المعتصم سلم أَبى هرون فَقَالَ مالى على جَهَنَّم طَرِيق قَالَ وَهل أَبى فى جَهَنَّم قَالَ نعم من تكون أَنْت وَلَده فَمَا يكون مَأْوَاه الا جَهَنَّم وأتى منزله وَمَات
الْملك عنبر شنبو سنجس خَان وَزِير الْهِنْد ومدبره ومرجع أَهله هُوَ فى الاصل حبشى من الامحره وَتسَمى قبيلته مايه وَيُقَال انه من عبيد القاضى حُسَيْن الْمَشْهُور بِمَكَّة ثمَّ اشْتَرَاهُ بعض التُّجَّار وجلبه الى الْهِنْد فَاشْتَرَاهُ الْوَزير سنجس خَان وَلما مَاتَ سنجس خَان تنقلت بِهِ الاحوال الى أَن صَار من عَسَاكِر عَادل شاه صَاحب بيجافور من اقليم الدكن وَكَانَ المَال الذى يعطاه لَا يَكْفِيهِ لِكَثْرَة سماحته وانفاقه فاستزاده من الْوَزير الاعظم فَلم يزده فَخرج الْملك عنبر من حِينه خَائفًا يترقب وَكَانَ السَّيِّد الْجَلِيل على حداد باعلوى قد وعده بِأَنَّهُ سيصير ملكا عَظِيما فَكَانَ لَهُ ظُهُور عَجِيب يحْتَاج الى تَارِيخ مُسْتَقل ولعذوبته ذكرته لكنى لخصته من ملخص مَا ذكره الشلى فى تَرْجَمته قَالَ وَحَاصِله انه خرج من عِنْد عَادل شاه سنة سِتّ بعد الالف وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُفلس وَخرج مَعَه السَّيِّد على ثمَّ وصل بِهِ الْحَال الى أَنه لم يقدر على نَفَقَة يَوْمه ثمَّ أعلم السَّيِّد عليا بِمَا هُوَ فِيهِ من ضيق الْحَال فَدَعَا الله تَعَالَى فوجدوا ركازا جاهليا فاتسع أمره وَأكْثر من العساكر والاتباع وَلَا زَالَ أمره يعظم الى ان ملك بلادا كَثِيرَة وَكَانَ كلما ملك بَلَدا أَو قَرْيَة أحسن الى الرعايا وَأظْهر الْعدْل والاحسان وَنصب قَاضِيا للاحكام وحاكما للسياسة ثمَّ استدعاه السُّلْطَان حُسَيْن نظام شاه من سلاطين الدكن فانحاز اليه وَهُوَ من أعظم سلاطين الْهِنْد لَكِن مذْهبه فى الِاعْتِقَاد مَذْهَب الرَّفْض وَكَانَ مقرّ سلطنته دولة آباد وَكَانَ وزيره الاعظم كَافِرًا شجاعا فاتكا صَاحب جيوش وأموال مستوليا على المملكة وَكَانَ الْملك عنبر يعجز عَن مقاومته فَصَارَ يداريه ويترصد لَهُ فرْصَة حَتَّى قَتله على حِين غَفلَة وَولى مَكَانَهُ الوزارة الْعُظْمَى وَرَأى السُّلْطَان محبته وجده فأمده واتفقت لَهُ وقائع كَثِيرَة وَفتح قلاعا ونفذت كَلمته واتسعت مَمْلَكَته وأخرب الْكَنَائِس وَعمر شَعَائِر الاسلام ثمَّ مَاتَ السُّلْطَان حُسَيْن نظام شاه وَكَانَ وَلَده برهَان صَغِيرا فعقد الْملك عنبر لَهُ الْبيعَة وَلم يكن لَهُ من السلطنة الا الِاسْم وَجَمِيع الامور بيد الْملك عنبر كَمَا كَانَ الْخُلَفَاء العباسيون بِبَغْدَاد ثمَّ استبد الْملك عنبر بالامور وَاسْتمرّ فى الْقِتَال والجلاد وأزال الْمَظَالِم من تِلْكَ الْجِهَة وعمرها وأخمد الْفِتْنَة والبدعة وَعمر الْمَسَاجِد والمآثر وَكَانَ(3/230)
مؤيدا فى حروبه ومغازيه مُسَددًا فى رَأْيه مسعودا فى أَحْوَاله وَكَانَ كثير الاحسان الى السَّادة وَأهل الْعلم وقصدته النَّاس من جَمِيع الْبلدَانِ فغمرهم باحسانه خُصُوصا أهل تريم من السادات وَكَانَ يحسن لمشايخ الطَّرِيق والصوفية وَكَانَ عصره أحسن الاعصار وزمانه أَنْضَرُ الازمنة وَكَانَ يحمل كل سنة الى حَضرمَوْت من الاموال والكسوات للسادة والمشايخ والفقراء مَا يقوم بهم سنة وَكَانَ لَهُ ديوَان مُرَتّب باسم أَرْبَاب الرسوم والقصاد ووقف ربعَة قُرْآن بمنية تريم ووقف بِمَكَّة وَالْمَدينَة مصحفين وَاشْترى فى الْحَرَمَيْنِ دورا ووقفها على من يقْرَأ فيهمَا ويهدى ثَوَاب الْقِرَاءَة اليه وَمن آثاره الْحَسَنَة أَنه عقم نهر الكركى وَهُوَ نهر عَظِيم يمر تَحت الْبِلَاد وَلَا تنْتَفع بِهِ وَسبب ذَلِك ان بعض وزراء عَادل شاه وَهُوَ المنلا مُحَمَّد الخراسانى استبعد وُقُوع ذَلِك لسعته وَكَثْرَة مَائه وَظن انه يحْتَاج الى عمل كثير لَا يقدر عَلَيْهِ أحد من الْمَخْلُوقَات وَغرم مَالا كثير الْملك عنبران قدر على ذَلِك فشرع فِيهِ وساعد الْقدر فكمل الْعَمَل فى خَمْسَة أشهر وَجعل لَهُ قنوات تجرى الى الْبَسَاتِين والزراعات وَكثر بِهِ النَّفْع وَجمع من فى ذَلِك الْمَكَان من السَّادة والاعيان وأنعم عَلَيْهِم وأجزل الصَّدقَات وَكَانَت عِمَارَته فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف واخترع الْفُضَلَاء لذَلِك تواريخ عديدة بِكُل لِسَان وَمن ألطف مَا قيل فِيهِ خير جارى وَأكْثر من شِرَاء الحبوش وَكَانَت التُّجَّار تجلبهم اليه يتغالون فى أثمانهم الى أَن كثر واجدا يُقَال ان جملَة مَا اشْتَرَاهُ من الذُّكُور نَحْو ألفى حبشى وَكَانَ الجلب أول مَا يَشْتَرِيهِ يُسلمهُ الى من يُعلمهُ الْقُرْآن والخط ثمَّ الى من يُعلمهُ الفروسية واللعب بِالسَّيْفِ وَالْعود والسهام الى أَن يتفرس فى أَنْوَاع الْحَرْب والحيل وَالْخداع ثمَّ يترقى وصاروا يترقون فى الْمَرَاتِب ويتفاضلون فى المناصب كل بِمِقْدَار سَعْيه واستحقاقه ومرتبته وَكَانَ لَهُم اعتناء باقامة الْجَمَاعَة وَأُمُور الدّين وَكَانَ لكل أَمِير مِنْهُم فَقِيه يتَعَلَّم مِنْهُ الْفِقْه وَأُمُور الدّين وامام يصلى بِهِ ومؤذن وَجَمَاعَة يتدارسون الْقُرْآن وَجَمَاعَة يذكرُونَ الله تَعَالَى لَيْلَة الْجُمُعَة والاثنين وَكَانَ لكل أَمِير سماط مَمْلُوء بأنواع الاطعمة الفاخرة وَبِالْجُمْلَةِ فانهم وان كَانُوا عبيدا حبشة فَلم تكن الْعَرَب تفوقهم الا بِالنّسَبِ وقصده جمَاعَة من مشاهير شعراء عصره من الْبِلَاد الشاسعة ومدحوه بِأَحْسَن المدائح وَكَانَ السُّلْطَان ابراهيم عَادل شاه أظهر لَهُ الْعَدَاوَة والحسد وَبلغ غَايَة جهده فى اضمحلال هَذَا الرجل وبذل أَمْوَالًا كَثِيرَة لمن يقْتله أَو يسمه فَلم يقدر لَهُ ذَلِك وَمن عداوته لَهُ انه عزم(3/231)
جهان كير أعظم سلاطين الْهِنْد لمقاتلته وعهد اليه أَن يبْذل لَهُ فى كل مرحلة مائَة ألف هن والهن بِضَم الْهَاء نحودينار ذَهَبا فَأرْسل جهان كير بعساكر وخيل وأفيال ضَاقَ عَنْهَا الفضاء وَجرى على مُرَاد الله الْقدر وَأَقْبل عَادل شاه بعساكر من الْجَانِب الثانى وأيقن كل من عِنْد الْملك عنبر بِالْهَلَاكِ فَجمع من عِنْده من السَّادة الاشراف وَالْعرب وَطلب مِنْهُم أَن يجتمعوا للدُّعَاء كل يَوْم وبذل الخزائن للعساكر وَأَقْبل بعساكره على الْقِتَال ثابتين ثبات الْجبَال وَحمل بِمن مَعَه فَقتلُوا خلائق لَا يُحصونَ وأسروا من وزراء جهان كير وعادل شاه وَأَرْبَعين أَو يزِيدُونَ وَرجع الْملك عنبر ظافرا منصورا ثمَّ بعد ذَلِك جَرَادًا الْحمام سَيْفه عَلَيْهِ ومزق جِلْبَاب ملكه وَتوفى فى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَأكْثر النَّاس والضعفاء والفقراء والارامل والايتام من الْبكاء حول جنَازَته وَيُقَال انه لم يعْهَد عِنْد أهل الْهِنْد مثل ذَلِك الْيَوْم وَدفن بالروضة وهى مَوضِع بِالْقربِ من دولة آباد وَعمل على قَبره قبَّة عَظِيمَة وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وتحترمه الْمُلُوك والسلاطين وَمن استجار بقبره لَا يقدر أحد أَن يَنَالهُ بمكروه ورثاه الشُّعَرَاء والفضلاء بِأَحْسَن المراثى وَعمل الادباء لعام وَفَاته تواريخ نظما ونثرا وَمن أحْسنهَا نثرا قَول بَعضهم الْجنَّة مثواه وَكَانَ مَوته بالسم وَبعد موت الْملك عنبر فوض السُّلْطَان برهَان نظام شَاة تَدْبِير مَمْلَكَته الى عبد الْعَزِيز فتح خَان أكبر أَوْلَاد الْملك عنبر وَجعله أَمِير الامراء وَكَانَ شجاعا مقداما كَبِيرا سخيا لكنه قَلِيل التَّدْبِير مبذر لَا يصغى لقَوْل مشير وارتكب الامر الفظيع فَكَانَ حجاج زَمَانه وَوَقع بِسَبَبِهِ فتن ثمَّ تضعضع الزَّمَان وَآل ذَلِك الى حصاد الْعلم وَالدّين الى ان رَمَاه الدَّهْر عَن قَوس وزارته ثمَّ خربَتْ تِلْكَ الديار وَذَهَبت بهجتها وخلقت ديباجتها قَالَ الشلى قلت وَقد تكَرر ذكر الدكن فى هَذِه التَّرْجَمَة وَقد يتشوف الى الْوُقُوف على مَعْرفَته من لاله معرفَة بحقيقته وتفاصيل أمره تحْتَاج الى تأليف كَبِير وَلَا يحْتَمل هَذَا الْمحل الا الْيَسِير فلنذكره بطرِيق الاجمال لضيق المجال ومجمل ذَلِك انه اقليم عَظِيم من أقاليم الْهِنْد الَّتِى هى أم الدُّنْيَا كثير الْحُصُون والقلاع حسن الْهَوَاء كثير الامطار والانهار والبساتين أعدل الاقطار وَفِيه حصون وقلاع فى غَايَة الاستحكام والاتقان وكل قصر شامخ لَهُ شرف فى السَّمَاء باذخ تحاكى الاهرام فى احكام الْبُنيان عالية الْبناء تسامى السَّمَاء وهى الرَّوْضَة المورقة والغيضة المونقة وقلاعها مشحونة بآلات الْحَرْب والمدافع الْكِبَار مَمْلُوءَة بالمكاحل الْكَثِيرَة حَصِينَة(3/232)
الْحصار وَأهل حرفه أحذق الفطناء وأفطن الحسذاق فَمَا من صَنْعَة الا وَمن مشربهم مطْلعهَا وَمَا من حِكْمَة الا وَعِنْدهم شرفها واليهم منزعها وَمَا من حِرْفَة تُوجد الا وَجدتهَا فيهم وَمَا من عمل يعرف الا اجتنى من مغانيهم وَمن أحسن بِلَاد الْهِنْد بَلْدَة بيجافور وفيهَا وقف على عَادل للسادة وَالْعرب أوقف عَلَيْهَا أراض تصرف غلقها للسادة وَالْعرب وفى هَذِه الْبَلدة وهى مَحل السلطنة مَكَان عَظِيم الشان مُحكم الْبُنيان تَحْتَهُ بركَة كَبِيرَة كَأَنَّمَا عناها الشَّاعِر بقوله
(وبركة للعيون تبدو ... فى غَايَة الْحسن والصفاء)
(كَأَنَّهَا اذ صفت وراقت ... فى الارض جُزْء من السَّمَاء)
خَفِيفَة المَاء العذب لَطِيفَة الْهَوَاء الرطب وبستان مَعْرُوف الاشجار مونق الثِّمَار وَهُوَ منتزه بديعى حسن بمحاسنه يذهب عَن الْقلب الْحزن
(عَلَيْهِ من بهاء الْبَدْر نور ... وَوصف الشَّمْس يكسوه الشعاعا)
وفى هَذَا الْمَكَان خزانَة من الْخشب وَعَلِيهِ ستور وداخل الخزانة قَبْضَة من ذهب فِيهَا من الْآثَار الشَّرِيفَة أعنى آثَار النَّبِي
شَعرَات من شعره وفى كل لَيْلَة جمعه وَلَيْلَة اثْنَيْنِ يَجْعَل للْعَرَب خبز وحلوى وَمن أعظم حصونه حصن دولة آباد الذى ضاهى ارْمِ ذَات الْعِمَاد وَهُوَ عَجِيب الْوَضع وَالْبناء بِحَيْثُ يزْعم النَّاظر اليه انه من وضع الْجِنّ لغرابه أمره وَمن عَادَة سلاطينها وملوكها ووزرائها انهم يعتنون بالليالى الفاضلة كليلة الْعِيدَيْنِ وَلَيْلَة عَاشُورَاء والمولد والمعراج وَالنّصف من شعْبَان وليالى رَمَضَان يحيونها بِالذكر وتلاوة الْقُرْآن وتنشد المدائح النَّبَوِيَّة السائر بهَا الركْبَان ويجتمع عِنْدهم فى تِلْكَ الليالى الْعلمَاء والصلحاء والقراء والكبراء والفقراء ويمدون لَهُم الاسمطة الْعَظِيمَة ويفرع على كواهلهم التشاريف الجسيمة وَقد سبقهمْ الى تَعْظِيم بعض هَذِه الليالى كثير من الْمُلُوك فقد ذكر المؤرخون ان الْملك المظفر صَاحب اربل كَانَ ينْفق لَيْلَة المولد النبوى ألف دِينَار وَقد قيل فى سماطه فى بعض المواليد فِيمَا حَكَاهُ سبط ابْن الجوزى فى مرْآة الزَّمَان خَمْسَة آلَاف راس غنم مشوى وَعشرَة آلَاف دجَاجَة وَمِائَة ألف زبدية حامضة وَثَلَاثُونَ ألف صحن حلوى ويخص أَعْيَان الْعلمَاء بِالْخلْعِ والكرامات وَيُطلق لَهُم عنان العطيات انْتهى ثمَّ حصل لهاتيك الديار تغير واضمحلال بِسَبَب انهم اتَّخذُوا رُؤَسَاء جهلاء وَالله أعلم(3/233)
عوض بن سَالم بن مُحَمَّد بن عبود بن مُحَمَّد مغفون بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن علوى ابْن أَحْمد ابْن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن علوى عَم الاستاذ الاعظم الحضرمى شيخ زَمَانه وعالمه وَكَانَ جَامعا بَين الْعلم وَالْعَمَل سالكا طَريقَة الْحق ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَسَار من صغره أحسن سيرة واشتغل بالتحصيل وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن سَالم خيله والعارف بِاللَّه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الشهير بامام السقاف وَسَار سيرته وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى زين بن حُسَيْن بَافضل ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس وَألبسهُ مشايخه الْخِرْقَة وَكَانَ لَا يصرف سَاعَة الا فى قربَة وَجمع نَفسه على أشتات الْفَضَائِل وَكَانَ من الْوَرع وَالدّين على سنَن قَوِيَّة وَكَانَ شَيْخه وَخَتنه الشيرخ زين بن حُسَيْن يتبجح بمكانه وَكَانَ عَارِفًا بِأَهْل زَمَانه حَافِظًا لِلِسَانِهِ يضْرب بِهِ الْمثل فى التَّقْوَى والديانة والورع وَكَانَ على غَايَة من الْعقل وَأخذ عَنهُ جمَاعَة التصوف وَالْفِقْه قَالَ الشلى وَكنت حضرت دروسه وَسمعت مِنْهُ أَحَادِيث وأخبارا ودعا لى بأدعية أَرْجُو أَن تكون مستجابة وَكَانَ يحب الْعُزْلَة عَن النَّاس وَكَانَت وَفَاته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل
عوض بن يُوسُف بن محيى الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الطباخ الدمشقى قاضى الْقُضَاة بِالْمَدِينَةِ المنورة كَانَ من فضلاء الزَّمَان جم الْفَائِدَة فصيح اللِّسَان وسيم الْهَيْئَة مَقْبُول الطلعة مشاركا فى عدَّة فنون وَكَانَ لَهُ بالطب المام تَامّ وَكَانَ فى ابْتِدَاء أمره قَرَأَ بِدِمَشْق على جمَاعَة مِنْهُم على بن النجار الْمَار ذكره وَصَارَ مُقَيّدا للصكوك فى محكمَة الْبَاب ثمَّ سَافر الى الرّوم ولازم على عَادَتهم ودرس وتنبل واشتهر بِمَعْرِِفَة الطِّبّ فَكَانُوا يراجعونه فى الداآت الصعبة فيعرفها ويعالجها وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه ابتلى بالاستسقاء وعولج فَلم يفد علاجه وَكَانَ استحكم فاقترح هُوَ دَوَاء لنَفسِهِ بِقُوَّة الحدس فَكَانَ يسْتَعْمل فى كل يَوْم قدرا وافرا من الخربز وينام فى الشَّمْس وداوم على ذَلِك أَيَّامًا حَتَّى حم فبرئ ثمَّ ولى الْقَضَاء بِمَدِينَة فلبه وبغداد وَالْمَدينَة المنورة وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع عشرَة وَألف وَمَات أَبوهُ وَأمه حَامِل بِهِ فَقيل فى تَارِيخ وِلَادَته عوض عَن أَبِيه بدا وَتوفى بقسطنطينية
السَّيِّد عيدروس بن عبد الله بن أَحْمد بن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ على الْيُمْنَى من أتقياء الْيمن وكرمائه ولد بقرية المكله من الديار اليمنية وَنَشَأ بهَا وَحفظ(3/234)
الْقُرْآن واشتغل بتحصيل الْفَضَائِل ودأب فِيهَا وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم علوى بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَلما مَاتَ علوى قَامَ صَاحب التَّرْجَمَة بمنصبهم الْقيام التَّام وقصده النَّاس وعولوا على كرمه وانتهت اليه مشيخة تِلْكَ الديار وَكَانَ لَهُ كرم أَخْلَاق محبا لمصاحبة أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح ملازما لاهل الطَّرِيقَة الحميدة واشتهر بالتصوف والمكاشفة وَكَانَ لَهُ أَحْوَال سامية وانتفع بِهِ كَثِيرُونَ وَكَانَت وَفَاته بالمكله فى سنة خمس وَألف
عِيسَى بن أَحْمد الزيلعى العقيلى كَانَ من المستغرقين فى حب الله تَعَالَى التاركين لما سواهُ المنهمكين على طاعاته والساعين فى رِضَاهُ وَكَانَ وَاسع الْحَال عَظِيم الْمقَال وَمِمَّنْ زهد فى الدُّنْيَا وفى شهواتها وَرغب فى الاخرة وجناتها وَعمل بِمَا علم فأورثه الله تَعَالَى علم مَا لم يعلم وَكَانَ علمه كَهَيئَةِ الْمكنون الذى لَا يعرفهُ الا من هم بِاللَّه عارفون وَكَانَ فى غيبوبته يسيح فى البرارى والقفار ويطلع الى الْجبَال وَلَا يقر لَهُ قَرَار وَنقل عَمَّن رَآهُ انه كَانَ يدْخل الى الغيضة وفيهَا الاسد وَيقرب مِنْهَا وَلَا تضره وَكَانَ يصدر عَنهُ مقالات عَظِيمَة يُشِير فِيهَا الى عُلُوم ربانية ومقامات صمدية وَمن زهده انه مَاتَ لَهُ أَخ وَكَانَ ذَا مَال كثير كَانَ من جملَة ورثته مَعَ اخوته فَأَعْطوهُ حَقه من الارث وَكَانَ عَظِيما ففرقه عَلَيْهِم وَلم يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا وَأما كراماته فشهيرة كَثِيرَة مِنْهَا انه كَانَ فى اللِّحْيَة عبد أسود مَعْرُوف كَبِير الْوَجْه والشفتين فَكَانَ يأتى اليه وَهُوَ جَالس بَين النَّاس وَيَقُول لَهُم كلَاما مَعْنَاهُ انه يتَوَلَّى عَلَيْكُم عبد يُشبههُ فى خلقه وتنفذ أُمُوره وَتَعْلُو كَلمته فَمَاتَ صَاحب التَّرْجَمَة وَقدم بعده النَّقِيب سعيد المجذ بى سنّ عبيد الْحسن بن الْقَاسِم مُتَوَلِّيًا اللِّحْيَة على مَا كَانَ يخبر بِهِ من مشابهته لَهُ فى خلقه وَكَانَت وَفَاته باللحية فى حُدُود سنة أَرْبَعِينَ وَألف
عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن أَبُو مهدى السكتانى المالكى الْمَذْهَب مفتى مراكش وقاضيها وعالمها الامام الْعَلامَة النظار خَاتِمَة الْعلمَاء الْكِبَار مُحَقّق الْمغرب الاقصى فى عصره وأوحد عُلَمَاء دهره لَهُ شهرة كَبِيرَة تغنى عَن التَّطْوِيل بِبَيَان فضائله وعلومه حَتَّى قَالَ بَعضهم انه مُجَدد أَمر دين هَذِه الامة وَقد ستر الله تَعَالَى على ضعفاء العقيدة مقَامه العالى بِقُوَّة ظُهُوره بِالْقضَاءِ والافتاء وانتهاء الرياسة اليه وَكَانَت لَهُ كرامات مَشْهُورَة ومناقب كَثِيرَة مأثورة ولد بمراكش وَبهَا نَشأ وَأخذ بالمغرب عَن شُيُوخ عِظَام وقادة أجلاء فخام مِنْهُم الْعَلامَة وحيد الزَّمَان(3/235)
أَبُو الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بالمنجور وَغَيره وَعنهُ خلق كثير بالمغرب مَشْهُورُونَ مِنْهُم الْعَلامَة مُحَمَّد بن سعيد والامام الْهمام مُحَمَّد بن سُلَيْمَان نزيل مَكَّة وَغَيرهمَا وَلم يكن فى زَمَانه من يُقَارِبه فى جَمِيع الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية بِبِلَاد الْمغرب الا الْعَلامَة أَحْمد ابْن عمرَان الفاسى وَكَانَ يقرئ التَّفْسِير فى فصل الشتَاء فيأتيه الْعلمَاء من جِهَات شَتَّى ويلازمون درسه وَكَانَ يملى من حفظه كَلَام الْمُفَسّرين مَعَ الْبَحْث مَعَهم وَالْجَوَاب عَمَّا يُورِدهُ الْفُضَلَاء بَين يَدَيْهِ فيأتى فى أثْنَاء تَقْرِيره بالعجب العجاب والامر الذى يحير الْعُقُول الالباب وَكَانَ يُقَال بعد انْقِضَاء طبقَة أشياخه عُلَمَاء الْمغرب ثَلَاثَة صَاحب التَّرْجَمَة وَأحمد بن عمرَان وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر بن على الفاسيان يعنون أهل الْمُشَاركَة فى الْعُلُوم وَالتَّحْقِيق والا فقد كَانَ من الْعلمَاء كثير مِمَّن طارت فتاويهم فى الاقطار وَسَار ذكرهم كل مسير وَله مؤلفات عَجِيبَة الاسلوب مِنْهَا حَاشِيَة على شرح أم الْبَرَاهِين للسنوسى وَغَيرهَا وَكَانَت وَفَاته بمراكش فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَقد ناف على الْمِائَة سنة ممتعا بحواسه لَوْلَا ضعف فى رجلَيْهِ على مَا أخبر بِهِ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور
السَّيِّد عِيسَى بن لطف الله بن المطهر بن الامام يحيى شرف الدّين قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه كَانَ هَذَا السَّيِّد أديبا لبيبا رَقِيق الْحَاشِيَة عذب الناشيه مفاكها ملاطفا حَافِظًا للآداب والامثال مجريا لَهَا فى مجاريها كَلِمَاته فى النَّاس مخارج الامثال بهَا يتَمَثَّل المتمثل وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ اللطافة وَحسن الملاطفة للنَّاس ويعم بذلك طبقاتهم مطلعا على التَّارِيخ لم يزل الْعَلامَة أَحْمد بن سعد الدّين يتعجب من اطِّلَاعه وَرِوَايَته وَله التَّارِيخ الْمَشْهُور الذى سَمَّاهُ روح الرّوح صنفه فى الظَّاهِر للاروام وَأفَاد فِيهِ أَيَّام سلفه وَكَانَ عَارِفًا بعدة عُلُوم وَغلب عَلَيْهِ علم النُّجُوم فَصَارَ أظهر مَا ينْسب اليه والا فَعنده عُلُوم أُخْرَى وَله قصيدة كتبهَا الى الامام الْقَاسِم يتنصل عَمَّا ينْسبهُ النَّاس اليه وَكَانَ توجيهها من كوكبان الى شهارة فى شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وهى
(مَا شاقنى سجع الحمامه ... سحرًا وَلَا برق الغمامه)
(كلا وَلَا أذكى الجوى ... ذكر العذيب وَذكر رامه)
(ودموع عينى مَا جرت ... شوقا الى لقيا أَمَامه)
(هَيْهَات قلبى لَا يمِيل الى مليح هز قامه ... )(3/236)
(مَا شاقنى الا الذى ... نفسى عَلَيْهِ مستهامه)
(بر كريم ماجد ... حَاز الْجَلالَة والشهامة)
(وحوى الفخار جَمِيعه ... حَتَّى غَدا فى الدَّهْر شامه)
(لبس الْفَضَائِل حلَّة ... فبدت لَهَا مِنْهُ وسامه)
(فَرد تفرد فى الْعلَا ... ولديه للعليا علامه)
(أعنى أَمِير الْمُؤمنِينَ مغيث أَرْبَاب الظلامه ... )
(الْقَاسِم الْمَنْصُور من ... زَان الْخلَافَة والامامه)
(ركن النُّبُوَّة شاده ... وَالْبَيْت ترفعه الدعامه)
(عرج بمربعه الْكَرِيم ترى بِهِ وَجه الكرامه)
(وَترى جوادا دونه ... فى الْجُود طَلْحَة وَابْن مامه)
(أعداؤه شهِدت لَهُ ... بِالْفَضْلِ طرا والزعامه)
(وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الاعداء لَا أهل الرحامه ... )
(أَحْيَا الْجِهَاد فكم لَهُ ... يَوْم حكى يَوْم اليمامه)
(واسأل بِذَاكَ سيوفه ... كم أذهبت فى الجو هامه)
(فطن يكنن بسلمه ... بَدْرًا فى الهيجا أسَامَه)
(مولاى يَا قمر الْهدى الْمَذْكُور فى وَقت الاقامه ... )
(يَا من أرى حبى لَهُ ... أَسْنَى الذَّخَائِر فى القيامه)
(وجهت نَحْوك سيدى ... عقدا أجزت بِهِ نظامه)
(عقدا من النّظم الذى ... سلبت خرائدة قدامه)
(يهدى اليك تحيتى ... ويزيل عَن سرى لثامه)
(أَيْضا ويوضح حجتى ... وَالْحق مسلكه امامه)
(لَا تأخذنى سيدى ... بمقالة حازت ذمامه)
(وَبقول واش قد خشى ... لضعيف فكرته اثامه)
(قد قَالَ انى قَائِل ... بنجوم سعد أَو شآمه)
(ونفيت صَنْعَة رَبنَا ... ووثقت عمدا بالنجامه)
(لَا والذى جعل النُّجُوم بليلها تجلو ظلامه ... )
(مَا قلت الا انها ... للنَّاس والانوا علامه)(3/237)
(وَلمن أَتَى مُسْتَغْفِرًا ... لله رجو فى السلامه)
(مولاى واسأل لائمى ... فَلَقَد تهور فى الملامه)
(مَا صير الْقَمَر التَّمام محقرا يحْكى القلامه ... )
(وَلم الخسوف يُصِيبهُ ... فى الضعْف ان وافى تَمَامه)
(وَالشَّمْس والافلاك توضح لى بهيئتها كَلَامه ... )
(فبها عرفت بِأَنَّهَا ... خلق الذى يحيى رمامه)
(وَعَلَيْك صلى خالقى ... وحبا ربوعك بالكرامه)
(واسلم وَدم فى نعْمَة ... يَا خير من رفع العمامه)
وَمن شعره قَوْله لما مر بِبَعْض آثَار جده المطهر
(قلت لما رَأَيْت مرتبع الْملك بسوح المطهر الْملك تجلى ... )
(أبدا تسترد مَا تهب الدُّنْيَا فيا لَيْت جودها كَانَ بخلا ... )
وَذكره السَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن حميد الدّين فى كِتَابه ترويح المشوق فَقَالَ الْعَلامَة المطلع فى سَمَاء بلاغته الشموس المرصدة بالثوانى والدقائق الْجَامِع لحقائق الْحَقَائِق ودقائق الدقائق الْمُتَصَرف فى الْقُلُوب بهزله وجده النَّازِلَة لطائف محاضرته فى بروج سعده روح الرّوح على الحقيقه وزينة الْمجَالِس الذى أَحْيَا الادب وَأقَام سوقه الصَّدْر فى صُدُور الكبرا البازى المنقض على محَاسِن الْكَلَام فان تكلم مُتَكَلم فى حَضرته قيل لَهُ اطرق كرى وَأورد من شعره قَوْله
(ظبى على ظبى سَطَا ... مِنْهُ الْمَعْنى خلطا)
(يَا هاجرى كن واصلى ... فواصل نجل العطا)
(نعيت بالصد وَلَا ... أَقُول نعى الخلطا)
(لما رأتك مقلتى ... قلت هِلَال هبطا)
(أردْت مِنْهُ وَصله ... ورمت أمرا فرطا)
(ورام صبرى عاذلى ... فَقلت رمت الشططا)
(قلبى عَلَيْهِ ذائب ... وَمِنْه مَا قد قنطا)
(اذا سلوت عشقه ... فسلوتى عين الخطا)
(أَقْسَمت مَا أتركه ... وَلَو بشيب وخطا)
(ولوالى الْمَوْت دَعَا ... حثثت فى السّير الخطا)(3/238)
(وربنا سُبْحَانَهُ ... يغْفر فى الْحبّ الخطا)
وَذكر القاضى حُسَيْن بن النَّاصِر المهلا فِيمَا كتبه الى صاحبنا الْفَاضِل الْكَامِل مصطفى بن فتح الله ان وَالِده وجده بَينهمَا وَبَين المترجم مكاتبات ورسائل بديعة نظما ونثرا قَالَ وَكَانَ نِهَايَة فى علم الْفلك وَله فِيهِ غرائب ونوادر وَرَأَيْت لوالدى أبياتا أجَاب بهَا عَلَيْهِ وَقد سَأَلَهُ عَن بيض السّمك وهى
(لعمرك مَا روم سمن الدَّجَاج ... بأعظم من روم بيض السّمك)
(وَمن رام من بحره مثل ذَا ... يضم الى الْفلك علم الْفلك)
(فيا من بنى مجده جده ... وَمن لسماء الْعلَا قد سمك)
(أَلا ترقب النسْر وَقت الطُّلُوع ... وَأَنت عليم وَذَا الْفَنّ لَك)
أَشَارَ الى أَن بيض السّمك يظْهر فى وَقت طُلُوع النسْر النَّجْم الْمَعْرُوف انْتهى وَلم أَقف على وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة لكنه قد علم انه من أهل هَذِه الْمِائَة من قَول ابْن حميد الدّين انه كتب القصيدة الْمُقدمَة الى الامام فى سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين الف
عِيسَى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن الْمَعْرُوف بِابْن سعد الدّين الجباوى الصوفى السعدى الدمشقى كَانَ من الاجواد الاسخياء وَلم يكن لابيه ابْن غَيره وَكَانَ عَزِيزًا عِنْده لَا يُخَالِفهُ فِيمَا يُريدهُ وَكَانَ يجْتَمع اليه أَصْحَابه فَيقدم لَهُم وَالِده مَا يكفيهم من نفائس الاطعمة وأنواع الاكرام بَالغا مَا بلغ واذا خرج للتنزه مَعَهم بعث اليهم مَا يكفيهم واذا رضى عِيسَى عَن أحد رضى أَبوهُ واذا سخط سخط ولننقم وَنَشَأ لاخى الشَّيْخ مُحَمَّد الشَّيْخ ابراهيم وَلَده كَمَال الدّين وَكَانَ على أَبِيه أعز من عِيسَى على أَبِيه وَكَانَا يتناظران ويتغايران وَيذكر كل مِنْهُمَا لابيه مَا يُوجب غيظه على ابْن أَخِيه ثمَّ سرى ذَلِك الى التغايظ بَين الاخوين فَوَقع بَينهمَا بعدان كَانَا أحسن أَخَوَيْنِ توافقا وتحاببا وتناصرا فتنافرا ثمَّ تقاطعا حَتَّى اسْتَقل الشَّيْخ مُحَمَّد بِأَمْر مشيخته وعزل أَخَاهُ الشَّيْخ ابراهيم من حلقته وعظمت حُرْمَة وَلَده عِيسَى وَسمعت كَلمته وَكَثُرت عشيرته وجماعته ثمَّ مَاتَت أم عِيسَى وَكَانَت من بَيت ابْن رَجَب من المزه فَتزَوج وَالِده بنت الجقوير الاربدى وَكَانَ لَهَا سَعَة من المَال فعنيت بالشيخ مُحَمَّد وعنى بهَا فَحصل عِنْد الشَّيْخ عِيسَى غيرَة وغيظ بِسَبَب ذَلِك وَكَانَ يناكد أَبَاهُ ويعازله فِيمَا يرَاهُ وَأَبوهُ مُقيم على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْمصرف عَلَيْهِ وعَلى جماعته وَهُوَ يتزايد حردا ثمَّ خرج حَاجا حردا على أَبِيه فَلم يدع لَهُ أَبوهُ حَاجَة من أَمر السّفر الا قَضَاهَا فجاور ذَلِك(3/239)
الْعَام وَهُوَ سنة احدى عشرَة بعد الالف بِمَكَّة ثمَّ جهز لَهُ أَبوهُ جمالا وتختروان وَزَادا وَبعث ذَلِك مَعَ أَخِيه الشَّيْخ سعد الدّين بِحَيْثُ انه كَانَ قد ختم بَاب التخت وَلم يركب فِيهِ أحد بل كَانَ يحملهُ بعيران فَارغًا حَتَّى رَجَعَ فِيهِ الشَّيْخ عِيسَى ثمَّ لم يمْكث عِنْد أَبِيه بُرْهَة حَتَّى سَافر الى مصر مغاضبا لابيه فتوفى بهَا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة تسع عشرَة وَألف عَن نَيف وَأَرْبَعين سنة
عِيسَى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَامر جَار الله أَبُو مَكْتُوم المغربى الجعفرى الثعالبى الهاشمى نزيل الْمَدِينَة المنورة ثمَّ مَكَّة المشرفة امام الْحَرَمَيْنِ وعالم المغربين والمشرقين الامام الْعَالم الْعَامِل الْوَرع الزَّاهِد المفنن فى كل الْعُلُوم الْكثير الاحاطة وَالتَّحْقِيق ولد بِمَدِينَة زواوة من أَرض الْمغرب وَبهَا نَشأ وَحفظ متونا فى الْعَرَبيَّة وَالْفِقْه والمنطق والاصلين وَغَيرهَا وَعرض محفوظاته على شُيُوخ بَلَده مِنْهُم الشَّيْخ عيد الصَّادِق وَعنهُ أَخذ الْفِقْه ثمَّ رَحل الى الجزائر وَأخذ بهَا عَن الْمُفْتى الْكَبِير الشهير الشَّيْخ سعيد قدورة وَحضر دروسه وروى عَنهُ الحَدِيث المسلسل بالأولية والضيافة على الاسودين المَاء وَالتَّمْر وتلقين الذّكر وَلبس الْخِرْقَة والمصافحة والمشابكة ولازم دروس الامام الشهير والصدر الْكَبِير أَبى الاضلاع على بن عبد الْوَاحِد الانصارى السجلماسى مُدَّة تزيد على عشر سِنِين فشارك ببركته فى فنون عديدة وَأخذ عَنهُ صَحِيح البخارى الى نَحْو الرّبع مِنْهُ على وَجه من الدِّرَايَة بديع الْتزم الْكَلَام فِيهِ على أستاذه يتعريف رِجَاله من ذكر سيرهم ومناقبهم ومواليدهم ووفياتهم وَمَا فى الاسناد من اللطائف من كَونه مكيا أَو مدنيا وَفِيه رِوَايَة الاكابر عَن الاصاغر والصحابى عَن الصحابى وَنَحْو ذَلِك وعَلى مَتنه بفسيره غَرِيب وَبَيَان مَحل الِاسْتِدْلَال مِنْهُ ومطابقته للتَّرْجَمَة وَمَا يحْتَاج اليه من اعراب وتصريف وَمَا فِيهِ من الْقَوَاعِد الاصولية وَمَا يبْنى عَلَيْهَا من الْفُرُوع والالماع بِمَا فِيهِ من الاشارات الصُّوفِيَّة وَغير ذَلِك مِمَّا يبهر الْعُقُول وَسمع عَلَيْهِ جَمِيع الصَّحِيح غير مرّة على طَرِيق مُخْتَصر بَين الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة وَسمع عَلَيْهِ طرفا من الشِّفَاء تفقها فِيهِ بمراجعته شروحه التلمسانى والدلجى والشمنى وَغَيرهم وَأخذ عَنهُ فى عُلُوم الحَدِيث الفية العراقى تفقها فِيهَا وَفِي شرحها للْمُصَنف وَشَيخ الاسلام وفى الْفِقْه جَمِيع مُخْتَصر خَلِيل تفقها فِيهِ بمطالعة شروحه بهْرَام والتتائى والمواق وَابْن غازى والحطاب وَغَيرهم والرسالة الى نَحْو النّصْف مِنْهَا تفقها فِيهَا كَذَلِك بمراجعة شروحها الجز ولى وأبى(3/240)
الْحسن وَغَيرهمَا ونبذة من تحفة الْحُكَّام فى نكت الْعُقُود والاحكام لِابْنِ عَاصِم وفى أصُول الْفِقْه جَمِيع جمع الْجَوَامِع للسبكى مرَّتَيْنِ قِرَاءَة بحث وطرفا من أصُول ابْن الْحَاجِب مَعَ نبذة من شَرحه للعقبانى وَشَرحه للقاضى عضد الدّين وحاشية الْمُحَقق التفتازنى عَلَيْهِ وفى أصُول الدّين أم الْبَرَاهِين بشرحها للسنوسى من قَوْله وَيجمع معانى هَذِه العقائد لَا اله إِلَّا الله الى آخِره وَجَمِيع الْمُقدمَات بشرحها لَهُ وطرفا من الْكُبْرَى لَهُ وطرفا من اخْتِصَار الطوالع للبيضاوى وفى النَّحْو الالفية لِابْنِ مَالك سَمَاعا من لَفظه من أَولهَا الى تَرْجَمَة الْكَلَام وَمَا يتألف مِنْهُ مَعَ الالماع بلطائف نكت واللامية من أَولهَا الى بَاب أبنية الْفِعْل الْمُجَرّد وتصاريفه وفى فن البلاغة جَمِيع تَلْخِيص الْمِفْتَاح بشرحه الْمُخْتَصر وفى الْمنطق جَمِيع الْجمل للخونجى مرَّتَيْنِ بمراجعة شروحه التلمسانى وَابْن مَرْزُوق الْحَفِيد وَابْن الْخَطِيب القسطينى وَجَمِيع مُخْتَصر السنوسى وَمن ايساغوجى من الْقيَاس الخ وَمن الْبردَة من أَولهَا الى قَوْله نَبينَا الْآمِر الناهى وَكَانَ يأتى فِيهَا بالعجائب والغرائب وَرُبمَا يمر عَلَيْهِ الايام فى الْبَيْت الْوَاحِد مِنْهَا بمراجعة شرحها لِابْنِ مَرْزُوق الْحَفِيد وَغَيره وفى التصوف المباحث الاصلية نظم ابْن الْبناء فى آدَاب السلوك وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى فى فنون شَتَّى كالرسم والضبط والبديع وَالْعرُوض والقوافى وَالتَّفْسِير وَأَجَازَهُ مَرَّات بل أنابه عَنهُ فى مُبَاشرَة وَظِيفَة تدريس لَهُ وزوجه ابْنَته واختص بِهِ وَلم بفارقه حَتَّى مَاتَ وَمَاتَتْ زَوجته فَرَحل عَن الجزائر وَتَبعهُ للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فى الْمنطق شَيخنَا الْعَلامَة الْمُحَقق المدقق يحيى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن أَبى البركات الشهير بالشاوى وَقَالَ انه سَار مَعَه نَحْو ثَمَان مراحل حَتَّى أكمل قِرَاءَته عَلَيْهِ وَدخل تونس وَأخذ عَمَّن بهَا من أجلائها كالشيخ زين العابدين وَغَيره وَلما دخل الى قسطينة أَخذ بهَا عَن الشَّيْخ المعمر عبد الْكَرِيم اللكونى وَلم يزل على ذَلِك كلما اجْتمع بِأحد من الْعلمَاء اسْتَفَادَ مِنْهُ وأفاده حَتَّى وصل الى مَكَّة المشرفة وَحج فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ألف وجاور بهَا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسكن بخلوة فى رِبَاط الداودية وَأخذ عَنهُ اذ ذَاك الشَّيْخ على باحاج وقرأعليه الصَّحِيحَيْنِ والموطأ ثمَّ رَحل الى مصر وَأخذ بهَا عَن أكَابِر علمائها كالنور على الا جهورى والقاضى الشهَاب أَحْمد الخفاجة وَالشَّمْس مُحَمَّد الشوبرى وأخيه الشهَاب والبرهان المأمونى وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى والنور الشبراملسى وَغَيرهم مِمَّن يطول ذكر أسمائهم وأجازوه بمروياتهم وأثنوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله بل(3/241)
اتّفق لَهُ مَعَ شيخ الشَّافِعِيَّة مُحَمَّد الشوبرى وأخيه شيخ الْحَنَفِيَّة أَحْمد انه اجْتمع بهما فى وَلِيمَة عِنْد بعض الكبراء فَقدم اليهما استدعاء بِخَطِّهِ فَلَمَّا رَآهُ الْكَبِير مِنْهُمَا وَهُوَ الشَّمْس مُحَمَّد قَالَ معتذرا عَن كِتَابَة الاجازة قد جَاءَ فى الحَدِيث ان الله كتب الاحسان عملى كل شئ الخ وانى لَا أحسن كِتَابَة اجازة تناسب هَذَا الاستدعاء الْحسن فَطلب من أَخِيه الْكِتَابَة عَلَيْهِ فَقَالَ أَنا على مَذْهَب الاخ وَكتب لَهُ الْبُرْهَان المأمونى فى اجازته انه مَا رأى مُنْذُ زمَان من يماثله بل من يُقَارِبه ورحل الى منية ابْن الخصيب وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ على المصرى وَهُوَ الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْوَرع الزَّاهِد الْمَشْهُور الْولَايَة الْعَظِيم الْقدر الْجَامِع بَين الشَّرِيعَة والحقيقة صَاحب التصانيف مِنْهَا تحفة الاكياس فى حسن الظَّن بِالنَّاسِ ورسالة الانوار ومشارق الانوار فى بَيَان فضل الْوَرع من السّنة وَكَلَام الاخيار وَغير ذَلِك ثمَّ رَحل الى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى وَأخذ بهَا عَن أجلائها كالقاضى تَاج الدّين المالكى والامام زين العابدين الطبرى وَالشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمى وَالشَّيْخ على بن الْجمال المكيين وأجازوه بمروياتهم ولازم بهَا خَاتِمَة الْمُحدثين الشَّمْس البابلى وَخرج لَهُ فهرستا بمقروآته واشتغل بالتدريس فى الْمَسْجِد الْحَرَام فى فنون كَثِيرَة وَكَانَ يزور النبى
فى أثْنَاء كل سنة ويتردد على الاستاذ الصفى أَحْمد القشاشى وَيَأْخُذ عَنهُ وَكَانَ يَقُول مَا رَأَيْت مثل سيدى الشَّيْخ أَحْمد يكْتب مَا أَرَادَ من غير احْتِيَاج الى تفكر قَالَ وَكَانَ شَيخنَا على بن عبد الْوَاحِد يَقُول مَا دَامَ الْقَلَم فى يدى ومدته فِيهِ كتبت بِهِ فاذا جف احتجت الى التَّأَمُّل والاستحضار وَأما سيدى الشَّيْخ أَحْمد فَلَا يقف وارده عِنْد جفاف قلمه وَمكث بِمَكَّة سِنِين عزبا ثمَّ ابتنى لَهُ دَارا وَاشْترى جَارِيَة رُومِية واستولدها وَحصل كتبا كَثِيرَة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم حَتَّى ان الْعَارِف بِاللَّه السَّيِّد مُحَمَّد بن علوى كَانَ يَقُول فى شَأْنه انه زَرُّوق زَمَانه وَكَانَ السَّيِّد عمر با حسن باعلوى يَقُول من أَرَادَ أَن ينظر الى شخص لَا يشك فى ولَايَته فَلْينْظر اليه وَكفى بذلك فخرا لَهُ وَمن شهد لَهُ خُزَيْمَة فَحسب وَقد شوهدت لَهُ كرامات وَكَانَت سَائِر أوقاته معمورة بأنواع الْعِبَادَة وانتفع بِهِ جمَاعَة من الْعلمَاء الْكِبَار مِنْهُم الاستاذ الْكَبِير ابراهيم بن حسن الكورانى وَشَيخنَا الْحسن بن على العجيمى وَشَيخنَا أَحْمد بن مُحَمَّد النخلى فسح الله تَعَالَى فى أجلهما وَالسَّيِّد مُحَمَّد الشلى باعلوى وَالسَّيِّد أَحْمد بن أَبى بكر شَيْخَانِ وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن شَيخنَا عمر شَيْخَانِ وَالشَّيْخ عبد الله الطَّاهِر العباسى وَغَيرهم وَله(3/242)
مؤلفات مِنْهَا مقاليد الاسانيد ذكر فِيهِ شُيُوخه المالكيين وَأَسْمَاء رُوَاة الامام أَبى حنيفَة وفهرست البابلى وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء لست بَقينَ من رَجَب سنة ثَمَانِينَ بعد الالف وَدفن بالحجون عِنْد قبر الاستاذ الْمَشْهُور الشَّيْخ مُحَمَّد بن عراق
عِيسَى بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن كنان الحنبلى الصالحى الدمشقى الخلوتى خَليفَة شَيخنَا وأستاذنا السَّيِّد مُحَمَّد بن مَحْمُود العباسى روح الله تَعَالَى روحه كَانَ من صلحاء الزَّمَان وفضلائه ورعا عابداً زاهدا فى الدُّنْيَا قانعا بِمَا قدر لَهُ سَاكِنا عَلَيْهِ سِيمَا الصّلاح ولد بصالحية دمشق وَبهَا نَشأ وَلما بلغ سبع سِنِين من عمره حفظ الْقُرْآن ثمَّ لما بلغ الْعشْر سَافر مَعَ وَالِده إِلَى مصر وَعَاد إِلَى دمشق ثمَّ سَافر اليها ثَانِيًا وَحده وَطلب الْعلم على مَشَايِخ أجلاء مِنْهُم الشَّيْخ مرعى البهوتى الغزى والنور الشبراملسى وَالشَّيْخ مُحَمَّد الخلوتى وَالشَّمْس البابلى والشهاب أَحْمد الشوبرى وَالشَّيْخ سُلْطَان وَغَيرهم وَكَانَ مغرما بزيارة الاولياء وَالصَّالِحِينَ سِيمَا الامام الشافعى وَكَانَ اذا جلس يقْرَأ عِنْده بَين الْقُرَّاء يتعجبون مِنْهُ لحسن تأديته وفصاحته مَعَ كَمَال لطفه وَجَمِيل سيرته وَحكى أَنه تردد مرّة فى آيَة وَهُوَ يقْرَأ عِنْده وَسكت فَفتح عَلَيْهِ الامام الشافعى من دَاخل الْقَبْر ثمَّ رَجَعَ الى دمشق فى سنة خمس وَخمسين وَألف وَاجْتمعَ بالشيخ الولى الشَّيْخ مَنْصُور الْمحلى الصابونى وقطن عِنْده بِجَامِع الصابونية يقْرَأ الْقُرْآن استظهارا وَكَانَ الشَّيْخ مَنْصُور يُحِبهُ محبَّة كُلية وَكَانَ فى بعض الاوقات يطرقه الْحَال والشوق فَيخرج هائما على وَجهه يذور فى البرارى والقفار يدْخل بيروت وصيدا ويزور جبل لبنان وَمَعَهُ ركوة وعكازة ومرقعة وَيَأْكُل من الْحَشِيش وَيشْرب من عُيُون الارض رُبمَا كَلمه بعض الوحوش ثمَّ يعود الى زَاوِيَة الشَّيْخ مَنْصُور وَحج مرَارًا على التَّجْرِيد مَاشِيا امام الْحَاج لَا يعول على مركوب وَلَا خيمة وَلَا يطْلب من أحد شَيْئا ان حصل لَهُ شئ أكل والا طوى وَكَانَ كثيرا مَا يرى النبى
وَقَالَ لَهُ مرّة مرْحَبًا مرْحَبًا بفلان باسمه وَلم يزل على هَذَا الْحَال بعد موت الشَّيْخ مَنْصُور حَتَّى وصل الى شَيخنَا الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى السَّيِّد مُحَمَّد العباسى فَأخذ عَلَيْهِ الطَّرِيق وَلم يزل عِنْده فى أَعلَى مكانة حَتَّى برع فى طَرِيق الْقَوْم وَأَشَارَ اليه بالخلافة بعده فوليها وَكَانَت تظهر لَهُ كرامات وأحوال مِنْهَا انه أخبر بِمَوْت انسان قيل مَوته بأيام فَكَانَ كَمَا قَالَ وَكَانَ لَهُ نزاهة وعفة وَاتفقَ ان رجلا أعطَاهُ مائَة قِرْش هبة وَأشْهد على ذَلِك ثمَّ بعد أَيَّام شحت نَفسه بهَا فطلبها مِنْهُ ففى الْحَال(3/243)
أعطَاهُ اياها من غير توقف وَأرْسل اليه الْوَزير حُسَيْن باشا يَطْلُبهُ للاجتماع بِهِ فَلم يجب فَأرْسل اليه بِثَلَاثِينَ قرشا فَأَعْطَاهَا للذى أرسلها مَعَه وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ بركَة الْوُجُود وَكَانَت وِلَادَته فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَمَات لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لَا ربع لَيَال بَقينَ من شَوَّال سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف بالصالحية وَكَانَ أوصى أَن يدْفن لصيق شَيْخه العباسى بمقبرة الفراديس وهيأ لَهُ قبراً ثمَّة قبل مَوته بِمدَّة يسيرَة فَدفن بِهِ وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا وأسف النَّاس عَلَيْهِ كثيرا رَحمَه الله تَعَالَى
عِيسَى بن مُسلم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَلِيل الصمادى الشافعى القادرى تقدم ذكر أَخِيه ابراهيم وَكَانَ الشَّيْخ فى شبيبته مَشْغُولًا باللذات وَكَانَ مُسْرِفًا فى الْمصرف ثمَّ تقلبت بِهِ الايام حَتَّى مَاتَ جسده وَأَبوهُ فولى المشيخة الصمادية بعد أَبِيه وَلما وَليهَا ترك مَا كَانَ عَلَيْهِ وأقلع عَنهُ وَقَامَ بالمشيخة أحسن قيام وَكَانَ حكام الشَّام يكرمونه حَتَّى انتدبه أَحْمد باشا الْحَافِظ للذهاب الى السردار مُرَاد باشا الى ديار بكر فى التَّخْفِيف فى النُّزُول فَذهب اليه وَقضى الامر وَسَار قبل ذَلِك الى مُرَاد باشا وَهُوَ فى حلب فى الانتقام من الامير على بن جانبولاذ مَعَ من سَار اليه من عُلَمَاء دمشق وأعيانها ثمَّ تقدم ونبل بعد موت الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين على سَائِر الصُّوفِيَّة حَتَّى انتهبته الْمنية قَالَ النَّجْم وجد بِخَط جده أَبى مُسلم أَن وِلَادَته كَانَت فى الثَّامِن وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سادس ذى الْحجَّة سنة احدى وَعشْرين وَألف وَدفن الى جَانب أَبِيه براويتهم الْمَعْرُوفَة دَاخل بَاب الشاغور رَحمَه الله تَعَالَى
حرف الْغَيْن الْمُعْجَمَة
غازى باشا ابْن شاهسوار الجركسى الاصل أحد وزراء الدولة العثمانية كَانَ من مشاهير فضلاء الوزراء مطلعا على كثير من الْمسَائِل والنكات عَارِفًا باللغات الْعَرَبيَّة والفارسية والتركية حَافِظًا لكثير من أشعارها كَانَ وَالِده من الامراء واقتفى هُوَ اثره فى طَلِيعَة عمره ثمَّ صَار أَمِير الامراء بِمَدِينَة قونية وَلما ولى الْوَزير البشير الوزارة الْعُظْمَى توجه من حلب قَاصِدا بِلَاد الرّوم وَمر على قونية فاستبدعاه وَوجه اليه نَبَات الشَّام فَقدم اليها فى نَهَار الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الاولى سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَكَانَ شَابًّا خَفِيف اللِّحْيَة جميل المنظر وَكَانَ مَعَ حَدَاثَة سنه ورقة طبعه معرضًا(3/244)
عَمَّا يَقْتَضِيهِ الشَّبَاب من غلوائه مُقبلا على محبَّة الْعلمَاء لَا يعرف لَهُ صبوة وَرُبمَا انه مَا نظر الى وَجه أَمْرَد وَحكى عَنهُ انه طلع يَوْمًا للتنزه فى الوادى التحتانى فَالتقى مَعَ جمَاعَة من أَرْبَاب الصَّنَائِع خَرجُوا للسير فأرسلوا لَهُ قهوة مَعَ شَاب مِنْهُم خالى العذار فَلم يَتَنَاوَلهَا مِنْهُ وَأمر بعض أَتْبَاعه من الكهول بمناولتها ثمَّ صرف عَن دمشق فى ثَالِث ذى الْقعدَة سنة خمس وَسِتِّينَ وجاءته رُتْبَة الوزارة وَهُوَ مُقيم بهَا ثمَّ رَحل الى الرّوم وَولى بعد مُدَّة مُحَافظَة مصر وَورد دمشق وَهُوَ مُتَوَجّه اليها وَذَلِكَ نَهَار الاربعاء عشرى ذى الْقعدَة سنة سبع وَسِتِّينَ وَاسْتمرّ بهَا حَاكما ثَلَاث سِنِين وَسيرَته فِيهَا الى الْآن مَذْكُورَة مشكورة ثمَّ عزل عَنْهَا وَأسْندَ اليه بعض أُمُور هُوَ برِئ مِنْهَا فحبس أَيَّامًا ثمَّ قتل وَدفن بالقرافة تجاه شباك الامام الشافعى رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَ قَتله فى سنة احدى وَسبعين وَألف وَمن لطائفه انه كتب اليه الاستاذ مُحَمَّد بن زين العابدين البكرى وَهُوَ فى السجْن رِسَالَة فى شَأْن مَال أَخذه مِنْهُ تَعَديا فى زمن تَوليته من جُمْلَتهَا ان كَانَ الذى أَخذ منا من المَال عَاد عَلَيْكُم فَأنْتم فِي حل مِنْهُ وان كَانَ عَاد الى الْغَيْر فَلَا بَأْس بالاعلام بِهِ لنسترجعه فَكتب اليه الْجَواب بَيْتا وَلم يزدْ عَلَيْهِ وَهُوَ
(شربنا وأهرقنا على الارض فضلَة ... وللارض من كأس الْكِرَام نصيب)
وَحكى انه لما قتل وجد فى جيبه كاغد مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذِه الابيات وَكَانَ فى السجْن كثيرا مَا ينشدها وهى
(تجنوا لى ذنوبا مَا جنتها ... يداى وَلَا أمرن وَلَا نهيت)
(وَلَا وَالله مَا أضمرت غدرا ... كَمَا قد أظهروه وَلَا نَوَيْت)
(وَيَوْم الْحَشْر موقفنا وتبدو ... صحيفَة مَا جنوه وَمَا جنيت)
(وَيحكم بَيْننَا الْمولى بِعدْل ... فويل للخصوم اذا ادعيت)
قلت وَقد تداولت النَّاس هَذِه الابيات كثيرا وخمسوها وأغلبهم يظنّ انها من نظمه وَلَيْسَ كَذَلِك فانها للامير اسامة بن منقذ ذكرهَا فى تَرْجَمته ابْن خلكان وَلها أَبْيَات أخر فى أَولهَا مثبتة فى ديوانه وَكَانَ كتبهَا لابيه جَوَابا عَن أَبْيَات كتبهَا أَبوهُ اليه وهى
(وَمَا أَشْكُو تلون أهل ودى ... وَلَو أَجدت شكيتهم شَكَوْت)
(مللت عتابهم ويئست مِنْهُم ... فَمَا أرجوهمو فِيمَن رَجَوْت)
(اذا أدمت قوارصهم فؤادى ... كظمت على أذاهم وانطويت)
(ورحت عليهمو طلق الْمحيا ... كانى مَا سَمِعت وَلَا رَأَيْت)(3/245)
تجنوا الى آخر الابيات
غرس الدّين بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن غرس الدّين بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن غرس بن مُحَمَّد بن ابراهيم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب ابْن عبد الفتاح بن عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الرَّحْمَن بن ابى سعيد سعد بن مَالك بن سِنَان بن ثَعْلَبَة بن عبيد بن الابجر خدرة بن عَوْف بن الْحَرْث بن الْخَزْرَج ابْن حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَامر بن امْرِئ الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الازد الخليلى ثمَّ المدنى الانصارى الشافعى الْمُحدث الْفَقِيه الاديب الْمَشْهُور صَاحب كتاب كشف الالتباس فِيمَا خفى على كثير من النَّاس أَلفه فى الاحاديث الْمَوْضُوعَة وَهُوَ كتاب جم الْفَائِدَة رَأَيْته ونقلت مِنْهُ أَشْيَاء من جُمْلَتهَا انه كَانَ
يَأْمر الاغنياء باتخاذ الْغنم وَيَأْمُر الْفُقَرَاء باتخاذ الدَّجَاج فَقَالَ // (لَا أصل لَهُ) // وَقد سبقه الى هَذَا الْوَضع جمَاعَة مِنْهُم الزركشى والسيوطى وَألف فِيهِ النَّجْم الغزى الدمشقى كِتَابه اتقان مَا يحسن فى الاحاديث الْجَارِيَة على الالسن لَكِن تأليف صَاحب التَّرْجَمَة أسهل مأخذا من الْجَمِيع وَله من التآليف أَيْضا نظم الْكَنْز ونظم مَرَاتِب الوحود للامام عبد الْقَادِر الجيلى فى رجز فى غَايَة الرقة والانسجام وَقد تولى شَرحه الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الله البوسنوى الرومى شَارِح الفصوص الْمَار ذكره لما كَانَ بَينهمَا من الْمَوَدَّة أَخذ بالقدس عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الدجانى وَالشَّيْخ يحبى بن قاضى الصَّلْت امام الْمَسْجِد الاقصى وقارىء الْحَدث بِهِ ثمَّ رَحل الى الْقَاهِرَة فى سنة سبع بعد الالف وَحضر بهَا دروس أَبى النجاسالم السنهورى فى البخارى والشفاء وَأخذ عَن الاستاذ زين العابدين البكرى والحافظ مُحَمَّد حجازى الْوَاعِظ وَرَأى فى مَنَامه وَهُوَ بِمصْر كَانَ النبى
أعطَاهُ رغيفا فَقص الرُّؤْيَا على سيدى ابى الاسعاد يُوسُف الوفائى فَأَشَارَ اليه بالذهاب الى الرّوم فَذهب اليها اذ ذَاك وَاجْتمعَ بالوزير الاعظم بِوَاسِطَة كتاب سيدى أَبى الاسعاد وَكَانَ تقدم لَهُ ولَايَة بِمصْر وَأَظنهُ بيرام باشا فَوجه لَهُ خطابة الْمَدِينَة وَعين لَهُ مَا يَكْفِيهِ فَهَاجَرَ الى الْمَدِينَة وسكنها وَتزَوج بهَا وَصَارَ بهَا منهلا للواردين لَا سِيمَا أهالى الْقُدس والخليل وأحبه أهل الْمَدِينَة وَعظم شَأْنه فِيمَا بَينهم وَوَقع لَهُم أَمر خطير فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف احتاجوا الى عرضه للسلطنة فَأَرْسلُوهُ الى السُّلْطَان وَمَعَهُ الشَّيْخ الْفَاضِل مُحَمَّد ميرزا السروجى الدمشقى نزيل الْمَدِينَة فوصلا الى دمشق صُحْبَة الركب الشامى وَكَانَ(3/246)
السُّلْطَان اذ ذَاك قد رَجَعَ من فتح بَغْدَاد وَوصل الى حلب فَخَرَجَا من دمشق ووصلا اليه وتمت الامور الَّتِى أرسلا لاجلها وَاجْتمعَ صَاحب التَّرْجَمَة بوزير السُّلْطَان الْمَذْكُور مصطفى باشا وَكتب اليه قصيدة يحثه فِيهَا على ازالة العبيد الخصيان من الْمَسْجِد النبوى وَالْقَصِيدَة هَذِه
(يَا مصطفى بالمصطفى العدنان ... وبآى قُرْآن عَظِيم الشان)
(لَا تجعلن على الْمَدِينَة أسودا ... شَيخا على حرم النبى العدنان)
(وَكَذَلِكَ الحبشان أَيْضا منهمو ... فهمو همو لَا خير فى الحبشان)
(بل جَاءَ فى خبر رَوَاهُ بَعضهم ... هَا لَفظه لَا خير فى الحبشان)
(قوم لَهُم طمع شَدِيد زَائِد ... لَا يشبعون من الحطام الفانى)
(لَوْلَا المخافة مِنْهُم لاتاكم ... شاكون من هم وَمن أحزان)
(واذا أردتم أَنكُمْ تتيقنوا ... أَحْوَالهم من غير مَا بهتان)
(فلتسألوا حنفى أفندى عَنْهُم ... يُخْبِركُمْ عَن خلسة الْغرْبَان)
(مَا كل مَا يدرى يُقَال وَأَنْتُم ... أدرى بطيش السَّادة الخصيان)
(يستنزلون لاخذ مَا قد جَاءَ من ... صدقَات خير للْفَقِير العانى)
(فَيُصِيب أهل الْفضل من صَدقَاتكُمْ ... مَا سَاءَ هم من أسْهم الحرمان)
(فَانْظُر لنا شَيخا تقيا صَالحا ... مستنزها عَن ذَا الحطام الفانى)
(ان لم يجز الاخصيا اسودا ... فاخصوا لنا شَيخا من البيضان)
(يَا وَيحكم ان لم تراعوا حَقنا ... يَوْم الْحساب بِحَضْرَة الديَّان)
(يَوْمًا تَكُونُوا مثلنَا مَا ان لكم ... فى النَّاس من أَمر وَمن سُلْطَان)
(هدى نصيحة غرسكم فى رَوْضَة الهادى الى الاسلام والايمان ... )
(يَدْعُو لسلطان الورى ولمصطفى ... سيف الاله وعاضد السُّلْطَان)
وَلما عَاد صَاحب التَّرْجَمَة أنزلهُ الْفَاضِل أَحْمد بن شاهين عِنْده وَأَقْبَلت عَلَيْهِ عُلَمَاء دمشق وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من أَهلهَا مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن على المكتبى وَذكره فى ثبته وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ وَمِمَّا اتّفق لَهُ انه نظم لنا الشمايل فى لَيْلَة وَاحِدَة فِيمَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء وَكتب عَنهُ أناشيد وأمالى لنَفسِهِ وَلغيره فَمن ذَلِك قَوْله
(انى لَا عجب مِمَّا ... صَار الزَّمَان اليه)
(اذا مَا بَكَيْت لدهر ... الا بَكَيْت عَلَيْهِ)(3/247)
وَقَوله
(اذا رَأَيْت وليا ... مغرى بحرص وبخل)
(فَلَيْسَ ذَاك وليا ... للرب بل عبد جهل)
وَقَوله فى العقد
(لقد قَالَ النبى مقَال صدق ... يرَاهُ بالبصيرة كل رائى)
(أَتَى مَعْنَاهُ منظوما بِشَطْر ... وَشطر مِنْهُ بالنظم السوَاء)
(وبعدى مَا تركت هُنَاكَ فتْنَة ... أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء)
وَكتب على كتاب من شعره
(هَذَا كتاب حَقه يشترى ... بِالذَّهَب المحبوب بَين الورى)
(تقدم الْعَالم اخباره ... ان أخر الْجَاهِل خلف الورى)
وَكتب الى بعض تلامذته من أهالى الْقُدس وَهُوَ الشَّيْخ يُوسُف العسيلى
(يَا من اليه تشوقى وتشوفى ... قلبى يحدثنى بأنك متلفى)
(هَل قد عرفت باننى لَك مصطفى ... روحى فدَاك عرفت ام لم تعرف)
(وَلَقَد أَقُول للائمى فى حبكم ... أيلام من يهوى الْجمال اليوسفى)
(ان جئتنى مصرا فقد أسعفتنى ... يَا خيبة الْمَسْعَى اذا لم تسعف)
(مَا حبنى بِالصّدقِ شخص غَيْركُمْ ... حَقًا وَكَيف يحب من لم يعرف)
(أَوْفوا لما واعدتمونى سرعَة ... كرما فانى ذَلِك الْخلّ الوفى)
(لَو قد وهبت مبشرى بقدومكم ... روحى وَحقّ جمالكم لم أنصف)
(وَلَقَد كلفت بحب أصلكم لذا ... كلفى بكم خلق بِغَيْر تكلّف)
وَله قصائد فى مدح الشريف زيد بن محسن شرِيف مَكَّة نظمها على حُرُوف المعجم من الالف الى الْيَاء كل قصيدة عشرَة أَبْيَات وقفت عَلَيْهَا وانتقيت مِنْهَا قصيدتين فَالْأولى مِنْهُمَا مطْلعهَا
(خليلى ان الْحبّ بالصب عابث ... فَكيف التسلى وَهُوَ فى الْقلب لابث)
(رَأَيْت ظباء قد تراءين فى الضُّحَى ... لعينى عني بالعيوب عوابث)
(وَلَو كَانَ رمحا وَاحِدًا لاتقيته ... وَلكنه رمح وثان وثالث)
(فَمن منقذى من وقذهن فاننى ... وقيذ فَهَل لى من وقيذيما غث)
(تطلبت غطريفاً عطوفا يجيرنى ... يكون لَهُ فى الْملك قدما توارث)
(فنوديت هَذَا وصف زيد بن محسن ... قمين بِهِ فَهُوَ الشجاع الشنابث)
(فطرت سُرُورًا وامتطيت طمرة ... تبارى هبوب الرّيح وَالرِّيح عابث)(3/248)
فَجئْت الى الْمولى الشريف أَبى الضَّعِيف لبّى ضَعِيفا وَهُوَ فى الْملك ماكث
(غَدَوْت عَلَيْهِ فاغتدوت بروحة ... ورحت وروح الْقُدس فى الروع نافث)
وَالثَّانيَِة أَولهَا
(وادى الاباطح بالعبير تأرجا ... أم عطر عزة فى الصَّباح توهجا)
(أم أشرقت شمس الْجَلالَة ضحية ... أم وَجه عزة بالجمال تبلجا)
(أم زيد الْمولى الشريف أَتَى الى الْحرم الشريف فَمن سناه أبلجا ... )
(لَا تعجبوا مِمَّا رَأَيْتُمْ انما ... نور النُّبُوَّة فى الْبُنُوَّة أبهجا)
(أَو مَا علمْتُم أَن نور مُحَمَّد ... فى نسل فَاطِمَة بدا متبلجا)
(فهم شموس للهدى وهم بحور للندى وهم بدور للدجا ... )
(وهم اذا كشف الغطاء رَأَيْتهمْ ... للْمُؤْمِنين بغبر مين زبرجا)
(مَاذَا يَقُول المادحون وربهم ... أثنى عَلَيْهِم فى الْكتاب المرتجى)
(أبقاهم الْمولى وَأبقى زيدهم ... فى ملكة كَيْمَا يؤم ويرتجى)
(مُتَمَتِّعا بمقامه ومقامه ... وذمامه اذبابه مَا أرتجا)
وَمن شعره قَوْله فى القهوة
(دع الصَّهْبَاء واشرب صرف قشر ... مشعشعة تَدور بكف بدر)
(وان شِئْت الشفا بَادر سَرِيعا ... الى حَان لَهَا قد حَان بدرى)
(فَمَا الْيَاقُوت فى لون نضير ... وَمَا لون النضار ولون تبر)
(دع الْفَارُوق ان رمت التداوى ... وخذها فهى للاسقام تبرى)
(كَانَ حبابها المنظوم عقد ... من الْيَاقُوت يجلى فَوق نحر)
(سأسعى نَحْو مروتها ألبى ... ليصفو بالصفا صدرى ونحرى)
(نَدِمت ندامة الكسعى عَلَيْهَا ... لما قد فَاتَ من أَيَّام عمرى)
(سأدمن شربهَا مَا دمت حَيا ... وَلَا أصغي إِلَى زيد وَعَمْرو)
(وأجلو عين أغيارى وهمى ... بصافيها سحيرا قبل فجر)
(فرأيى الْآن يَا من رام نصحى ... اذا شاهدتها فى الحان فَاجر)
(وَلم لَا وهى مشروب العوالى ... من السادات فى بَحر وبر)
(هى الراح المريح لكل روح ... وَلم تمزج وَلم تُوجد بعصر)
(وكل مُخَالف فِيهَا فانى ... أسفه قَوْله من أهل عصرى)(3/249)
(فَقل ان قَالَ سَاقيهَا المفدى ... جبا يَا مرْحَبًا واشكر بشكرى)
(وخذها من يَدَيْهِ فى حُضُور ... مَعَ الساقى الْمليح بِغَيْر سكر)
(فَلَا غول وَلَا تأثيم فِيهَا ... وَلَيْسَت مرّة بل طعم تمر)
(وان غالى الْمُحب وَقَالَ شهد ... أُجِيب نعم اذا مَا كَانَ تمرى)
(وَلَوْلَا مد حَتَّى للبن قبلا ... لعدت لَهُ بهجو ثمَّ هجر)
(لبئس طباعه وَسَوَاد قلب ... لَهُ فَهُوَ الحرى بِكُل هجر)
ونقلت من تذكرة القاضى أَحْمد بن عِيسَى المرشدى قَالَ ورد علينا فى أثْنَاء عَام خمس وَأَرْبَعين وَألف الشَّيْخ الاوحد الاكمل غرس الدّين الازهرى المقدسى الْخَطِيب والامام بالروضة المشرفة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلم يؤانسه أهل مَكَّة فَقَالَ معرضًا
(عُلَمَاء مَكَّة جاوزوا الافلاكا ... عزا وَحقّ لَهُم لعمرى ذَا كَا)
(لَوْلَا الرياسة فى رُؤْس نُفُوسهم ... كَانُوا وحقك كلهم أملاكا)
وَقَالَ أَيْضا
(جيران مَكَّة جيران الاله لذا ... لَا يعبأون بِمن قد غَابَ أَو حضرا)
(لَوْلَا الطبيعة عاقدتهم لَكَانَ لَهُم ... اسراء روح بسر السِّرّ قد ظفرا)
فَقَالَ بعض السَّادة الاشراف الْمُتَّصِل محتدهم الزاكى بالمغيرة بن عبد منَاف فَخر الشَّجَرَة الَّتِى أَصْلهَا ثَابت وفرعها فى السما أكْرم بِهِ نسبا ومنتمى على طَرِيق الْجَواب عَن المكيين
(لله دَرك من أديب بارع ... بذكائه مَا يعجزا الادراكا)
(أَحْسَنت اذ أتحفتنا ببدائع ... بهرت وان جَادَتْ فدون نداكا)
(فجها بذا الْبَيْت الْحَرَام مذيعة ... بأريج مدح من بديع ثناكا)
(وهم الحجاحج وَالَّذين سموا بِمن ... خرم السما واستخدام الاملاكا)
(لَا غروان جازوا الاثير بفضلهم ... وعلوا بِحَق جواره الافلاكا)
وَعَن الثانيين
(يَا مفلقا لم يزل فى كل غامضة ... يبدى بهَا فلقا بِالْحَقِّ قد ظهرا)
(وبحر علم تحلى من فرائده ... جيد البلاغة عقدا يفضح الدررا)
(أثنيت حَقًا وَعين الْفضل شاهدة ... وَأَنت انسانها الرائى بِغَيْر مرا)
(لَكِن اليك اعتذار مِنْهُم فذوو الافضال يعْذر من قد جَاءَ معتذرا ... )
(لم يتركوك لاهمال ومنقصة ... لَكِن حجبتهم فالذنب مِنْك يرى)
وأجابه أَيْضا القاضى الْفَاضِل تَاج الدّين المالكى(3/250)
(جيران مَكَّة غرس الدّين أينع فى ... قُلُوبهم باسقا يهدى الْهدى ثمرا)
(سقوه من أنهر الاخلاص صافيها ... فاخضل يطلع من أكمامها زهرا)
(وَمن يكن روض غرس الدّين مهجته ... أسرى وفاز بسر السرحين سرا)
(بِهِ قد اتحدوا اذ كَانَ بَينهم ... تواصل معنوى من أَلَسْت جرى)
(فَحَيْثُ دارت كؤس الِاتِّحَاد على الارواح مَا اعْتبر والاشباح والصورا ... )
فَأجَاب الشَّيْخ غرس الدّين معتذرا
(يَا شهم مَكَّة يَا تَاج الرؤس بهَا ... يَا شهم مَكَّة قد بَكت من عذرا)
(يَا حبر علم يُفِيد الطالبين بهَا ... يَا بَحر فهم بِهِ نستخرج الدررا)
(يَا رب حذق غَدا رب الْبَيَان لَهُ ... عبدا وَألقى عَصا التَّسْلِيم مفتقرا)
(يَا ألمعيا أَضَاءَت من لوامعه ... مَشَارِق الذِّهْن بالذوق الذى بهرا)
(يَا لوذعيا بلاعى يمازجه ... أعيا وأضخم كلا قَالَ أَو شعرًا)
(يَا رب ظرف ولطف كسرا خطأ ... أَغْصَان غرسى على بعد وَمَا شعرًا)
(هَل ترفين الذى أخلقت من حللى ... أَو تقبلن الذى يَأْتِيك معتذرا)
فَأَجَابَهُ القاضى بقوله
(كللت اكليل تاجى بالثنا دررا ... لما بعثت بِعقد الْمَدْح معتذرا)
(مضمخا طيب شكر عرف نفحته ... كروض غرسك حيته الصِّبَا سحرًا)
(غرس روى حِين روى الْفضل منبته ... للسمع نواره عَن طيبه خَبرا)
(غرس من المبدأ الْفَيَّاض قد سقيت ... أعراقه فسما يهدى الْهدى ثمرا)
(انى عقدت وَقد عرضت مُعْتَرضًا ... لعرض قوم ثناهم لم يزل عطرا)
(هَذَا الى مَا هُوَ الاحرى بناوبه ... اذا اقتفينا طَرِيق الْقَوْم والاثرا)
(فخرقة الْفقر ان لم يوف لَابسهَا ... بشرطها نَبَذته كاسيا بعرا)
(عودا لبدء فمم الِاعْتِذَار وَلم ... تقر اذ قلت بَكت الذى عذرا)
(وَقلت فى حق من جازى وَعرض لم ... يشْعر وأغصان غرسى مخطئا كسرا)
(قد حصحص الْحق فَاعْلَم أَنما كسرت ... أَغْصَان غرس الذى أخطا وَمَا شعرًا)
(أقرر بذنبك ثمَّ اطلب تجاوزهم ... عَنهُ فجحدك ذَنْب غير مَا غبرا)
(قضى بِمَا جرت الاقلام مِنْك بِمَا ... جرى بِهِ الْقَلَم المحتوم حِين جرى)
(يكبوا الْجواد وَمن يعثر يقل كرما ... فنسأل الله غفرانا لمن عثرا)(3/251)
ونقلت أَيْضا من التَّذْكِرَة الْمَذْكُورَة قَالَ القاضى أَحْمد كَانَ الشَّيْخ غرس الدّين كتب الى مَوْلَانَا القاضى تَاج الدّين أبياتا ذكرنى فِيهَا مُجَرّد داعن الناصب والجازم بِأَن قَالَ
(وَأحمد المرشدى فى ذَاك قد حضرا ... )
ثمَّ اعتذر منى فَكتبت اليه سِتَّة أَبْيَات وَأَرَدْت أكملها فأكمل عَلَيْهَا مَوْلَانَا السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود سِتَّة أُخْرَى وبعثتها اليه وهى
(غرسنا لغرس الدّين فى قلبنا الودا ... فَأطلع من أكمام أفواهنا الوردا)
(فعطر لما أَن جنته يَد الوفا ... وَضاع فأذكى عرفه العنبر الوردا)
(سقيناه من عذب التصافى زلاله ... وَمَا كدرت منا لَهُ جفوة ودا)
(رعى الله من يرْعَى أَخَاهُ اذا هفا ... ويوسعه عَن أَن يُقَابله حمدا)
(وَذَلِكَ غرس الدّين لَا زَالَ باسقا ... بروضة من يسقى غرائسه المبدا)
(وبذكر عهدا أحكمت فى قُلُوبنَا ... أَو اخيه ايدى الود أكْرم بِهِ عهدا)
(امام سما فَوق السماك بأخمص ... وجاوزه حَتَّى سما الابْن والحدا)
(وناظم أشتات الْعُلُوم بنثره ... فينظمه فى جيد أهل الحجا عقدا)
...
(وَكَاشف ليل الْجَهْل من صبح علمه ... بشمس فتكسوه أشعتها بردا)
(أتيت بِفضل فاستحقيت شَاهدا ... لاحمد فاستوليت عَنى بن مجدا)
(وأظهرت بالافضال مَا كنت مضمرا ... فَكنت بِهِ أَحْرَى وَكنت بِهِ أجدى)
(وَلَا عجب سبق الْجِيَاد لانها ... معودة بِالسَّبقِ ان كلفت شدا)
فأجابهما بقوله
(أَقُول وَقد غلبت خير كَمَا جدا ... وَقَاعِدَة التغليب مَعْرُوفَة جدا)
(حمدت الهى أَن غرست لنا الودا ... أيا أَحْمد السامى سماك السما حمدا)
(فأينع غرسى بَعْدَمَا كَانَ ذاويا ... وأطلع عَن أكمامه الزهر والوردا)
(وان دَامَت السقيا لَهُ من وصالكم ... سيثمر فى روض الرَّسُول لكم ودا)
(هَنِيئًا لغرس صَار أَحْمد ساقيا ... لَهُ من عُيُون الود كأس الصَّفَا وردا)
(فظل يُرَاعى عَهده فى مغيبه ... ويبنى لَهُ فى بَيت مدحته عقدا)
(وَذكره عهدا أَو اخيه أحكمت ... يَد الود فى أَرْوَاحنَا العقد والشدا)
(وعذرا لانى قادم وتراهم ... يَقُولُونَ فى الامثال وَالْحق لَا يعدى)
(لكل غَرِيب قادم دهشة اللقا ... بهَا يدأ الحذاق عَن رَبهَا الحدا)
(وهبنا تجاوزنا الْحُدُود ألستم ... تقيلون من أخطا وَمن قد جنى عمدا)(3/252)
(اذا لم تَكُونُوا هَكَذَا فتخلقوا ... بأخلاق مولى يملك الغى والرشدا)
(لعمرى لَو كنت البليغ خطابة ... وأخطبت من قس الايادى من عدا)
(ورمت بِأَن أحصى فَضَائِل أَحْمد ... لما استوعبت نفسى فضائله عدا)
(هُوَ ابْن الرَّسُول الْمُصْطَفى وذوى الصَّفَا ... بنى حسن الْحسنى الَّذين سموا مجدا)
(مُلُوك مُلُوك الارض رق ولائهم ... وحبهم أنجى وبغضهم أردى)
(لَهُم حُرْمَة يعنوا لَهَا كل مُسلم ... بهَا أخذا الْمولى علينا لَهُم عهدا)
(فَللَّه آدَاب بِغَيْر تطبع ... وَلَكِن من سر الرَّسُول بهَا مدا)
(وأد بنى ربى لَهُ مِنْهُ قسْمَة ... بِفَرْض وبالعصيب من ارثه مدا)
(وَللَّه شعر جَاوز الشّعْر رقة ... وَجَاوَزَ للشعرى العبور بِمَا أبدى)
(وَلَا عجب من ذَاك عندى وربه ... بعزته قد جَاوز الاين والحدا)
(وناظم عقد المكرمات بكفه ... وينثره جودا فيحيى بِهِ فقدا)
(وَكَاشف ليل الكرب عَن عرش عزمه ... بعزم كَانَ الْكَوْن من أيده مدا)
(وَقد كَانَ مِنْك الْفضل قدما مقدما ... بسابقة تستوجب السعى والعودا)
(فأظهرت بالابيات مَا كَانَ مدغما ... ويممت بالاخفاء بَيْتا حوى عودا)
(فشمت بِهِ تاجا على الرَّأْس مشرقا ... فعانقته حبا وهمت بِهِ وجدا)
(وداخلنى مِنْهُ حَيَاء ودهشة ... لما كَانَ من وهم فأورثنا حقدا)
(وقابلته بالرحب والبشر فرحة ... وَلم نر مِنْهُ حِين حَان اللقا صدا)
(وَلَا عجب سبق الْجِيَاد فانها ... معودة بِالسَّبقِ مَا كلفت شدا)
(وَلست بحمصى كَمَا قَالَ باهت ... وَلَكِن خليلى تميمى استهدى)
(وجدى من الْآبَاء فِيمَا روى أَبُو ... سعيد هُوَ الخدرى وَأكْرم بِهِ جدا)
(وَذَاكَ من الانصار أنصار جدكم ... رَسُول بِهِ نلنا علا الْجد والجدا)
(عَلَيْهِ صَلَاة الله ثمَّ سَلَامه ... وَآل وَصَحب والمحب لَهُم جدا)
(أجدك هَذَا الْقدح فِيمَن يحبكم ... ويحمدكم مدحا ويمدحكم حمدا)
(وَمَا أصلتت كَفاك يَا مُطلقًا على الاعادى سَيْفا باترا مَاضِيا حدا ... )
(فحسبى علم الله وَالله عدتى ... وَذمَّة خير الرُّسُل تكفى من استعدى)
وَقد ذكره الفيومى فى المنتزه والدى رَحمَه الله تَعَالَى فى تَارِيخه بِالْجُمْلَةِ ففضائله وآثاره كَثِيرَة معجبة وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَخمسين والف وَدفن الى جَانب(3/253)
الخيارى والى جانبهما الشَّيْخ مَنْصُور السطوحى الْمحلى نزيل دمشق
غياث السَّيِّد الشريف الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو الْغَيْث الشجرى الْيُمْنَى نزيل مَكَّة كَانَ من خير خلق الله عز وَجل وَله فى الْكَشْف وَالْولَايَة قدم راسخة وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعتقادا زَائِد ذكره النَّجْم الغزى فى الذيل وَقَالَ فى تَرْجَمته رَأَيْته بِمَكَّة وَوجدت مِنْهُ كشفا عَظِيما وَكَانَ يحب الطّيب وَيحيى بِهِ زوار فَكَانَ يتَصَرَّف فى سلاطين مَكَّة وَيَأْخُذ مِنْهُم مَا شَاءَ ثمَّ يصل بِمَا أَخذه الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَكَانَ تَارَة يلبس لِبَاس الْمُلُوك وَتارَة يَنْزعهُ ويبيعه ويطعمه للْفُقَرَاء ويلبس لِبَاس الْفُقَرَاء وَكَانَت تِجَارَة الْيمن وَغَيرهم يستغيثون بِهِ فى شَدَائِد الْبَحْر ومضايق الْبر فيجدون بركَة الاستغاثة بِهِ وينذرون لَهُ أَشْيَاء يرسلون بهَا اليه اذا تمّ غرضهم وَكَانَ يعْمل الموالد بِالْحرم أَيَّام الْمَوْسِم وَغَيرهَا على طَريقَة اليمنيين ويلحن الحانهم بِنَفسِهِ وَكَانَ لَهُ رياضة واجتهاد فى الْعِبَادَة وَكَانَت آثَار الصّلاح فِيهِ ظَاهِرَة وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فى الْمحرم سنة أَربع عشرَة بعد الالف وَدفن بِالشعبِ الا علا من بَاب المعلاة بِالْقربِ من ضريح أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة الْكُبْرَى رضى الله تَعَالَى عَنْهَا
حرف الْفَاء
فَايِد المصرى الولى الصَّالح العابد تقدم طرف من خَيره فى تَرْجَمَة الامام خير الدّين الرملى وَكَانَت اقامته بِبَاب جَامع الازهر وَكَانَت كبار الْعلمَاء تعتقده وتحترمه واذا جَاءَهُ أحد مِنْهُم يقف بَين يَدَيْهِ فان أَشَارَ اليه بِالْجُلُوسِ جلس والا وقف الى أَن يَقُول لَهُ انْصَرف أَو ينْصَرف هُوَ من ذَاته وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت الوزراء بِمصْر يأْتونَ لتقبيل يَده والتبرك بِهِ فَلَا يلْتَفت اليهم وَحكى الْخَيْر الرملى انه كَانَ يَوْمًا جَالِسا عِنْده فَجَاءَهُ الْوَزير قَالَ فَأَرَدْت الْقيام فمنعنى وَقَالَ اجْلِسْ فَجَلَست عِنْده الى أَن ذهب الْوَزير وَكَانَ مواخيا للنور الزيادى وَكَانَ كل مِنْهُمَا يعْتَقد الآخر وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ فَايِد فى حُدُود سنة سِتّ عشرَة بعد الالف
فتح الله بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحسن الحلبى الْعُمْرَى الانصارى الْمَعْرُوف بالبيلونى الشافعى الْفَقِيه الاديب الْمَشْهُور كَانَ أوحد أهل عصره فى فنون الادب وعلو الْمنزلَة وشهرته تغنى عَن الاكثار فى تَعْرِيفه أخد عَن وَالِده الْبَدْر مَحْمُود الآتى ذكره وسافر عَن حلب الى الرّوم صُحْبَة الْوَزير نصوح وَكَانَ صَار معلما لَهُ فَحصل على(3/254)
جاه عريض ثمَّ انحط عِنْده فولى افتاء الشَّافِعِيَّة بالقدس وَهُوَ من المكثرين فى الرحلة دخل بلادا كَثِيرَة مِنْهَا مَكَّة وَالْمَدينَة والقدس ودمشق وطرابلس وبلاد الرّوم وَألف تآليف فائقة مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير البيضاوى وَالْفَتْح المسوى شرح عقيدة الشَّيْخ علوان الحموى وَله الْكتاب الذى سَمَّاهُ خُلَاصَة مَا يعول عَلَيْهِ الساعون فى أدوية دفع الوبا والطاعون وَهُوَ مَشْهُور وَله مجاميع اشْتَمَلت على تعاليق غَرِيبَة وَأخذ عَنهُ خلق كثير وَله شعر كثير مِنْهُ مَا قرأته فى الْجَوَاهِر الثمينة للسَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بكبريت المدنى قَالَ أنشدنى اجازة لنَفسِهِ بحلب الشَّيْخ فتح الله البيلونى قَوْله
(السبت والاثنين والاربعا ... تجنب المرضى بهَا أَن تزار)
(بِطيبَة يعرف هَذَا فَلَا ... تغفل فان الْعرف عالى الْمنَار)
قلت هَذَا عرف مَشْهُور لَكِن ورد فى السّنة مَا يرد السبت مِنْهُ فقد روى أَن النبى
كَانَ يفقد أهل قبا يَوْم الْجُمُعَة فَيسْأَل عَن الْمَفْقُود فَيُقَال لَهُ انه مَرِيض فَيذْهب يَوْم السبت لزيارته وَمن كَلَام صَاحب التَّرْجَمَة فى صدر تأليف لَهُ وَلما كَانَت الْهَدَايَا تزرع الْحبّ وتضاعفه وتعضد الشُّكْر وتساعفه أَحْبَبْت أَن أهْدى اليه هَدِيَّة فائقة تكون فى سوق فضائله نافقه فَلم أجد الا الْعلم الذى شغفه حبا وَالْحكم الَّتِى لم يزل بهَا صبا والادب الذى اتَّخذهُ كسبا وَرَأَيْت فاذا التصانيف فى كل فن لَا تحصى والامالى من سطور الْعلمَاء وطروس الحكما أوسع دَائِرَة من أَن تستقصى الا أَن التأنق فى التحبير من قبيل ابراز الْحَقَائِق فى الصُّور وَمن هُنَا قيل لكل جَدِيد لَذَّة وَلَا خلاف فى ذَلِك عِنْد أهل النّظر وَذكر السَّيِّد مُحَمَّد كبريت الْمَذْكُور آنِفا فى كِتَابه نصر من الله وَفتح قريب انه أخبرهُ انه قَالَ لَهُ عَمه أَبُو الثَّنَاء مُحَمَّد بن مَحْمُود البيلونى لَا تباحث من هُوَ أَعلَى مِنْك مرتبَة لانه رُبمَا انجر الْكَلَام الى مسئلة مَعْلُومَة عنْدك لم يطلع عَلَيْهَا الشَّيْخ فيحمر وَجهه ثمَّ لَا تكَاد تفلح ان رَأَيْت فى نَفسك شَيْئا لذَلِك وَلَا من هُوَ مثلك فانه لَا يسلم لَك كَمَا انك لَا تسلم لَهُ فَيفْسد عَلَيْك عقلك وتفسد عَلَيْهِ عقله والمعاصر لَا يناصر وَعَلَيْك بِمن هُوَ دُونك فانه يَسْتَفِيد مِنْك بِغَيْر انكار وتستفيد أَنْت بافادته فقد روى عَن أَبى حنيفَة من أحب أَن يظْهر الخطا فى وَجه مباحثه فقد أَخطَأ هُوَ لرضاه بالخطا وانما يعرف حَال أهل الْعلم من جال فى ميدانهم بِنور الانصاف كَانَ السَّيِّد تلميذا لسعد يَسْتَفِيد مِنْهُ كل يَوْم(3/255)
أَربع مسَائِل ويفيده ثَمَانِيَة مسَائِل وَكَانَ عمره عشْرين سنة وَعمر شَيْخه ثَمَانِينَ فَقيل لَهُ فى ذَلِك فَقَالَ أما الاربع فأضمها الى الثَّمَانِية فَتكون اثنى عشر وَأما الثَّمَانِية الَّتِى أفيدها فَعدم افادتها لَا يزِيد فِيمَا لَدَى وَمَا أحسن قَول من قَالَ
(أفدا الْعلم وَلَا تبخل بِهِ ... والى علمك علما فاستزد)
(من يفده يجزه الله بِهِ ... وسيغنى الله عَمَّن لم يفد)
وَقَالَ ابْن المعتز
(لَا تمنعن الْعلم طَالبه ... فسواك أَيْضا عِنْده خبر)
(كم من رياض لَا أنيس بهَا ... هجرت لَان طريقها وعر)
وَقد وقفت على أَرْبَعَة كراريس جمعهَا ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن فضل الله من نتفه الَّتِى لم تصل الى حد القصيدة وغالبها فى النصائح وَالْحكم والاستغاثة فَمن ذَلِك قَوْله
(يَقُولُونَ دَار الْخصم تظفر بوده ... فَذَلِك درياق من الغل فى الْقلب)
(فَمَا ازْدَادَ مذ داريته غير جفوة ... لَان قديم الدَّاء مستصعب الطِّبّ)
وَقَوله
(بِبَاب الله لذفى كل قصد ... وغض الطّرف عَن نفع الصحاب)
(فماء الارض لَا يرْوى ثراها ... اذا لم ترو من مَاء السَّحَاب)
وَقَوله وينسبان لفتح الله بن النّحاس وَالصَّوَاب انهما لفتح الله هَذَا
(يَقُولُونَ وَافق أَو فَنَافَقَ مرافقا ... على مثل ذَا فى الْعَصْر كل لقد درج)
(فَقلت وَأمر ثَالِث وَهُوَ قَول أَو ... فَفَارَقَ وَهَذَا الامر أدفَع للْحَرج)
وَقَالَ مضمنا
(لَا تجزعن لحادث ... وبصدق عزمك فانفذ)
(فالصبر أمنع جنَّة ... وَالله أعظم منقذ)
(فالجأ لعز جنابه ... وَمن الهموم تعوذ)
(واصرف تصاريف الامور الى ورائك وانبذ ... )
(ان الْمُقدر كَائِن ... وَلَك الامان من الذى)
وَمِمَّا قَالَه عَاقد الما روى عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا
(وَقَالَ ابْن عَبَّاس ثَلَاث جَزَاء من ... حبانى بهَا لَا يُسْتَطَاع فيحصر)
(سَماع لتحدثى وقصدى لحَاجَة ... وتوسيعه لى مَجْلِسا حِين أحضر)
وَلَقَد أَجَاد فى قَوْله
(الْمَرْء مَا دَامَ فى عز وفى جدة ... فَكل خل لَهُ بِالصّدقِ متصف)
(لَا عرف الله عبدا صدق صَاحبه ... فانه بانكشاف الْحَال ينْكَشف)(3/256)
وَقَوله
(هَذَا مِثَال جرى فافطن لباطنه ... فعارف الْوَقْت من للْوَقْت قد عرفا)
(اذا ابْتليت بسُلْطَان يرى حسنا ... عبَادَة الْعجل قدم نَحوه العلفا)
وَقَوله
(توق من الْعَدَاوَة للادانى ... فَكيف بِمن اذا مَا شَاءَ كادك)
(تبيت لرفعة تبغى وُجُوهًا ... وَلَا تدرى بِمَاذَا قد أرادك)
وأصابه رمد وَهُوَ بِالْقَاهِرَةِ فَكتب لبَعض أحبابه
(أَيهَا الشهم قد ملكت فؤادى ... بوداد مَا شيب قطّ بمينك)
(ان عينى شكت لبعدك عَنْهَا ... لَا أَرَاك الا لَهُ سوأ بِعَيْنِك)
وَمن مجونه المستملح
(لَا أرتضى المرد وَلَا أبتغى ... الا لقا الحسنا لسر بطن)
(فَقل لمن نَافق فى حبها ... ان من الايمان حب الوطن)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله فى الْعُيُون ويعبر عَنْهَا بالنظارة الَّتِى تستعملها النَّاس لتقوية الْبَصَر
(رب صديق عَابَ نظارة ... يقوى بهَا النَّاظر من ضعفه)
(وَعَن قَلِيل صَار فى أسرها ... يحملهَا رغما على أَنفه)
وَقَالَ متوسلا قبل دُخُول مَكَّة فى ذى الْحجَّة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف
(أبقنا مِنْك بالعصيان جهلا ... وَأَنت دَعوتنَا حلما وَمنا)
(فقابل بِالرِّضَا يَا رب واغفر ... بمحض الْفضل مَا قد كَانَ منا)
وَهَذَا مَا وَقع اختيارى عَلَيْهِ من أشعاره وفيهَا كِفَايَة وَكَانَت وِلَادَته فى شهر رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف بحلب وَدفن بزاوية آبَائِهِ والبيلونى بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ مثناة تحيته وَلَام وواو وَنون نِسْبَة للبيلون وَهُوَ نوع من الطين يسْتَعْمل فى الْحمام وَأهل مصر تسميه طفْلا قَالَ الخفاجى وَكِلَاهُمَا لُغَة عامية لَا أعرف أَصْلهَا كَذَا ذكر وفى الصِّحَاح الطِّفْل بِالْفَتْح الناعم يُقَال جَارِيَة طفلة أى ناعمة انْتهى وَلَعَلَّه سمى بِهِ هَذَا النَّوْع من الطين لنعومته لانه كالصابون تغسل بِهِ الابدان سِيمَا فى الْحمام
فتح الله الْمَعْرُوف بِابْن النّحاس الحلبى الشَّاعِر الْمَشْهُور فَرد وقته فى رقة النّظم والنثر وانسجام الالفاظ لم يكن أحد يوازيه فى أسلوبه أَو يوازنه فى مقاصده وَكثير من أدباء الْعَصْر يناضل فى المفاضلة بَينه وَبَين الامير منجك ويدعى أرجحيته مُطلقًا وعندى ان أرجحيته انما هى من جِهَة حسن تراكيبه وحلاوة تعبيراته وَأما(3/257)
ارجحية الامير فَمن جِهَة مَعَانِيه المبتكرة أَو المفرغة فى قالب الاجادة وَنحن لم نطلع لفتح الله على معنى يشبه قَول الامير من الرباعيات
(مَا مر تذكر الْكرَى فى بالى ... الا دَفعته رَاحَة البلبال)
(أشفقت من الجفون لمسا يُؤْذى ... أَقْدَام خيالك الْعَزِيز الغالى)
وَلَا قَوْله
(لَو لم يكن راعها فكر تصورها ... من واله وثنتها مقلة الامل)
(مَا قابلت نصف بدر بِابْن ليلته ... وَأَلْقَتْ الزهر فَوق الشَّمْس من خجل)
فهذان مِمَّا لَا قدرَة لمثل الْفَتْح على طرق بابهما وَبِالْجُمْلَةِ فهما شَاعِر الزَّمَان ولعمرى ان زَمَانا جاد بهما السنحى جدا وَكَانَ فتح الله فى حداثته من أحسن النَّاس منْظرًا وأبهاهم صباحة ورشاقة وَكَانَ أَبنَاء الغرام يَوْمئِذٍ يفدونه وَهُوَ يعرض عَنْهُم ويجافيهم حَتَّى تبدلت محاسنه فعطف عَلَيْهِم يستمد ودادهم وَكَانَت النُّفُوس قد أنفت مِنْهُ فرمته فى زَاوِيَة الهجران وفى ذَلِك يَقُول وَقد رأى اعراضا من صديق لَهُ كَانَ يألفه
(انى أَنا الْفَتْح سَمِعْتُمْ بِهِ ... مَا همه حَرْب وَلَا صلح)
(من عدلى ذَنبا قلانى بِهِ ... فانما ذنبى لَهُ النصح)
(قُولُوا لَهُ يغلق أبوابه ... فانما حاربه الْفَتْح)
ثمَّ اندرج فى مقولة الكيف وتزيا بزى الزهاد وَاتخذ من الشّعْر صدارة حدادا على وَفَاة حسنه ووفاة جماله وَمَا زَالَ يرثى أَيَّام حسنه وينعى مَا يتعاطاه من الكيف وَله فى ذَلِك محَاسِن ونوادر مِنْهَا قَوْله فى قصيدته الَّتِى أَولهَا
(من يدْخل الافيون بَيت لهاته ... فليلق بَين يَدَيْهِ نقد حَيَاته)
(لَو يابثين رَأَيْت صبك قبل مَا الافيون أنحله وَحل بِذَاتِهِ)
(فى مثل عمر الْبَدْر يرتع فى رياض الزهر مثل الظبى فى لفتاته ... )
(من فَوق خُذ الدَّهْر يسحب ذيله ... مناه أَنى شَاءَ وَهُوَ مواته)
(وتراه ان عَبث النسيم بقده ... ينْقد سرُور الرَّوْض فى حركاته)
(واذا مَشى تيها على عشاقه ... تتفطر الْآجَال من خطراته)
(يرنو فيفعل مَا يَشَاء كَأَنَّمَا ... ملك الْمنية صَار من لحظاته)
(لرأيت شخص الْحسن فى مرآته ... وَدفعت بدر التم عَن عتبانه)
وَقَالَ من قصيدة أُخْرَى
(يَا هَذِه ان أَنْت لم تدر الْهوى ... لَا تجحديه فللهوى استحكام)(3/258)
(وَأَبِيك كنت أحد مِنْك نواظرا ... وَبِكُل قلب من جفاى كَلَام)
(وَالسحر الا فى لسانى منطق ... وَالْحسن الا فى يدى ختام)
(لدن الْقَوْم مصونة أعطافه ... عَن أَن تمد يدا لَهَا الاوهام)
(متمنعا لَا الْوَعْد يدنى وَصله ... يَوْمًا وَلَا لخياله المام)
(حَتَّى خلفت السقم فِيهِ بنظرة ... وَلَقَد يلاقى ظلمه الظلام)
(وتنوعت أدواؤه فبطرفه ... شكل الرَّقِيب وفى الصماخ ملام)
(ألف التجنب فى هَوَاك فقربه ... للنَّاس بعْدك خطْوَة وَسَلام)
ثمَّ مل الاقامة بَين عشيرته فَخرج من حلب وَطَاف الْبِلَاد وَكَانَ كثير التنقل لَا يسْتَقرّ بمَكَان الا جدد لآخر عزما وفى ذَلِك يَقُول وَقد أحسن كلا الاحسان
(أَنا التارك الاوطان والنازح الذى ... تتبع ركب الْعِشْق فى زى قائف)
(وَمَا زلت أطوى نفنفا بعد نفنف ... كأنى مَخْلُوق لطى النفانف)
(فَلَا تعذلونى ان رَأَيْتُمْ كتابتى ... بِكُل مَكَان حلّه كل طائف)
(لَعَلَّ الذى باينت عيشى لبينه ... وأفنيت فِيهِ تالدى ثمَّ طارفى)
(تكلفه الايام أَرضًا حللتها ... أَلا انما الايام طرق التكالف)
(فيملى عَلَيْهِ الدَّهْر مَا قد كتبته ... فيعطف نحوى غُصْن تِلْكَ المعاطف)
وَدخل دمشق مَرَّات وَأقَام بهَا مُدَّة وَاتفقَ عِنْد دُخُوله الاول جمَاعَة من الادباء المجيدين وَكَانَ لَهُم مجَالِس تجرى بَينهم فِيهَا مفاكهات ومحاورات يروق سماعهَا فاختلوا بِهِ وَعمِلُوا لَهُ دعوات وَكَانُوا يَجْتَمعُونَ على أرغد عَيْش وَجَرت لَهُم محافل سطرت عَنْهُم وَلَوْلَا خوف التَّطْوِيل لذكرت بَعْضهَا ثمَّ سَافر الى الْقَاهِرَة وَهَاجَر الى الْحَرَمَيْنِ وَاسْتقر آخر بِالْمَدِينَةِ وَله فى مطافه القصائد والرسائل الرائقة يمدح بهَا أَعْيَان عصره وَمن أرقها قَوْله يُعَاتب
(غرست لكم فى الْمَدْح مَا اخضر عوده ... وَأَلْقَتْ اليه الزهر عقدا من الزهر)
(وَصَارَت عُيُون المنصفين قلائدا ... عَلَيْهِ وَعين الحقد تنظر عَن شزر)
(وَقلت ستندى بالثمار أناملى ... فَمَا كَانَ الا أَن قبضت على جمر)
(وعدت كَمَا عَاد المسئ مذمما ... أغص بشكرى وَهُوَ يحْسب من وزرى)
(وَمَا سَاءَ حظا كالذى اجتلب الْهوى ... وأسلمه مَحْض الوداد الى الهجر)
وَمن نثرها عهدى بالشيخ جبلا آوى اليه وَحمى أحوم حوله وعمادا اعْتمد بعد الله(3/259)
عَلَيْهِ فَمَا بَال الْجَبَل لم يؤو والحمى لم يحم والعماد لم يحو وَمَا باله فى مسراته وَأَنا فى ليل الهموم أتوقع تنفس صبحها وأبتهل الى الله تَعَالَى فى طُلُوع شمسها فَعِنْدَ مَا حلت أكف الابتهال عرى الدجى ولاح من تنفس صبح الْوِصَال أشعة الشَّمْس المنى حَال بَين طرفى وسناها قذاة الْعين وأصبحت مصاباً بِعَين أعوذ بِاللَّه من أَن يلهى الشَّيْخ بزخرف المتمشدق أَو تستميله أقاويل المتملق والزخرف عتبَة التلاشى والتمشدق بَاب الهول والاقاويل مَطِيَّة الْكَذِب والدخيل قذال يَد الرَّد والتملق مزراب النِّفَاق ولى فى محبته الود الثَّابِت وَالْقلب الصابر وَاللِّسَان الرطب والفم الشاكر وَله منى الوداد الْمَحْض والقصائد الغر ولى مِنْهُ أنة المتوجع ولوعة الْمُصَاب وحرقة المهجور وخشية المرتاب وَمَا أرَاهُ من اقتفائه اثر المتلبس عَلَيْهِم الامر فى كسر زجاجة ودادى من زيد وَعَمْرو وَلَا غرو قد يدمي الجبين اكليله وتهجر الحسام قيونه وَكَثِيرًا مَا يضل المدلج دَلِيله وتخطى المؤمل ظنونه وَكَانَ مَعَ ظُهُوره بزى الْفُقَرَاء من الدراويش كثير الانفة زَائِد الْكِبْرِيَاء وَالْعجب وَمن هُنَا حرم لذات المعاشرة واستعرض أكدار المذمة وَهَذَا عندى من الْحمق الْعَظِيم مَعَ انه يُنَافِيهِ جودة تخيله فى الشّعْر وَقد يُقَال ان الشّعْر موهبة لَا يتَوَقَّف أمره على وجود الصِّفَات الْكَامِلَة بأسرها وَأما أَمر التَّنَاقُض فى الاحوال فكثير من يبتلى بهَا وهى وصمة لاراد لِلطَّعْنِ فِيهَا بِحَال وَمِمَّا يحسن ايراده فى هَذَا الشان مَا يرْوى عَن الاسكندر انه رأى رجلا عَلَيْهِ ثِيَاب حَسَنَة وَهُوَ يتَكَلَّم بِكَلَام وضيع قَبِيح فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا اما ان تَتَكَلَّم بِمثل قدر ثبابك أَو تلبس ثيابًا على قدر كلامك وَقَوْلهمْ نَحن تشاكل بعضك أَصله أَن سكرانا مر وَهُوَ يهلل فَقيل لَهُ ذَلِك انْتهى واشعار فتح الله كَثِيرَة مطبوعة مرغوبة فَمن جيدها قصيدته للامية الَّتِى مطْلعهَا
(غير وَفَاء الحسان يحْتَمل ... وفى سوى الصَّبْر يحسن الامل)
(فَخَل مَا الْقلب فِيهِ مطرب ... لبعده والمزاج منفعل)
(وعد عَن نظرة رميت بهَا ... فَغير جرح اللحاظ يندمل)
(سَمِعت بالوصل ثمَّ هَمت بِهِ ... أكل صب قبل الْهوى غفل)
(دَنَوْت من منهل على ظمأ ... ودونه الْبيض دونهَا الاسل)
(فَمن زلال الْوِصَال خُذ بَدَلا ... فَمَا لمثلى اذا قضى بدل)(3/260)
(هم الظباء الَّذين ان بعدوا ... قتلت شوقا وان دنوا قتلوا)
(السالبون الْبَقَاء ان رحموا ... السافكون الدِّمَاء ان عدلوا)
(لَا هون لَا يستخفهم حزن ... عَلَيْك مستحسنون مَا فعلوا)
(وَلَا لقتلى لحاظهم عدد ... وَلَا لاطراف بيضها فلل)
(هم حرمونا الخدود نلثمها ... وكل وَقت يَمَسهَا الخجل)
(وحرموا الْعَطف قسوة وهم الغصون والغصن شَأْنه الْميل ... )
(أولُوا الثنايا البرود سلسلها ... والمقل المنتمى لَهَا النجل)
(من فرق السحر فيهم اجْتمعت ... أَسمَاء مِنْهَا الرضاب والكحل)
(من جعلُوا الْورْد يستظل بِهِ الطّلع وَأَعلاهُ نرجس خضل ... )
(هى الامانى المبيد موردها ... وَرب ورد من دونهَا الاجل)
(ولى فؤاد أطَاع ناظره ... كِلَاهُمَا بالمشيب مشتعل)
(فالطرف فِيمَا عناه مُتَّهم ... وَذَا بِمَا لَا يعنيه مشتغل)
(وذبت عشقا لم أدر أم سقما ... بل فى مَا أعظمى لَهُ سبل)
(لكل عُضْو اذا وضعت يدى ... يصدها من صبابتى شعل)
(أود آها وَلَيْسَ تنفعنى ... وكتمها فَوق علتى علل)
(لَا الرشد عندى وَلَا الْفُؤَاد وَلَا الْعقل وَلَا الصَّبْر لى وَلَا الْحول ... )
(أَنا الذى فى الانام حيره الْحبّ فَمَا الاهتداء مَا الْحِيَل ... )
(فَمن لطرفى أَو من لقلبى فى الْحبّ وَذَا هائم وَذَا ثمل ... )
(خلقت صبا كَأَنَّمَا خلقت ... لَهُ الْعُيُون الفواتك النَّحْل)
(يودع أحشاه من كنائنها ... ودائعا مَا اهْتَدَى لَهَا ثقل)
(كمكرمات الاستاذ تودعه الْجُود وَلَا يهتدى لَهَا الْبُخْل ... )
وهى قصيدة طَوِيلَة وفى هَذَا الْقدر مِنْهَا كِفَايَة وأرق مِنْهَا وأشهى قصيدته الدالية الَّتِى مدح بهَا ابا الاسعاد الوفائى وأخاه ومطلعها
(قد نفدت ذخائر الْفُؤَاد ... فكم أر بى الدمع للسهاد)
(فؤاد من يحب مثل دمعه ... ودمعة وظنة النَّفاذ)
(اذا هدا اللَّيْل فطفل مقلتى ... يبيت بالنزيف غير هادى)
(وَمن بَكَى من النَّوَى فقد رأى ... بِعَيْنِه تقطع الاكباد)(3/261)
(تمايلوا على الْجمال مَيْلَة ... فعلموها مشْيَة التهادى)
(وَمَا سَمِعت بالغصون قبلهم ... مشت بهَا أكثبة البوادى)
(فان تَجِد يدى على ترائبى ... فَلَا تقل لغيبة الْفُؤَاد)
(وانما رفعتها لانها ... كَانَت لَهُم حمائل الاجياد)
(حمر الخدود ان تغب فشكلها ... بناظرى دَاخل السوَاد)
(لاجل ذَا الدمع جرى بشوقها ... فنظم الْيَاقُوت فى نجادى)
(لَا وأبى وَمن يقل لاوابى ... فقد تلى ألية الامجاد)
(مَا عثر الغمض بذيل ناظرى ... وَلَا انْثَنَتْ لطيفهم وسادى)
(وهب رشاش مقلتى حبائلا ... فَأَيْنَ مِنْهَا زلق الرقاد)
(آه وآه ان تكن ملْء فمى ... فانها مضمضة الصوادى)
(قد نفض السّمع كَلَام غَيرهم ... كَمَا نفضت الصَّبْر من مزادى)
(أعاذ لى فللهوى غواية ... بِعْت بهَا كَمَا ترى رشادى)
(ولعت بى وشعلتى كمينة ... بقادح يعبث فى زنادى)
(دع الْهوى يعبث بى وان تشا ... فعدنى من عذبات وَاد)
(مَا لحق اللوم غُبَار عاشق ... حدابه من النسيب حاد)
(أما ترى الاقاح حول لمتى ... حكى ابتسام الْبَرْق فى البوادى)
(بشرنى طلوعه بِأَن لى ... صبح وصال لدجى بعادى)
(وَلم أقل مناصل تجردت ... وأركزت بِجَانِب الاغماد)
(كَانَ شيب الشعرات ألسن ... على ضيَاع ورنقى تنادى)
(لبست مَا أضاعنى فأسوتى ... كأسوة الْجَمْرَة فى الرماد)
(وحاك فى الرَّأْس ضياه خيمة ... ذَات طنا بَين الى الافواد)
(كَأَنَّهَا عِمَامَة لبستها ... من يَد مولاى أَبى الاسعاد)
(مُجَرّد الْعَزْم فرنده التقى ... وغمده تَبَسم الاجياد)
(مَا عَرك الجدب أَدِيم أرضه ... وَمن يَدَيْهِ فَوْقهَا غواد)
(أما وَلَو بِبَابِهِ احتمى الدجا ... لما اختشى خطب صباح عَاد)
(أَو دخل النَّهَار تَحت ذيله ... مَا زحف اللَّيْل على الْعباد)
(لَقيته وَمن رأى بنى الوفا ... فقد رأى أَهله الاعياد)(3/262)
(الضار بَين رفرفا على العلى ... الواضحين غرر الرشاد)
(هم البحور ان حبوا أَو احتبوا ... قلت الحبى دارت على أطواد)
(تميزوا فى الاولياء مثل مَا ... تميز الْمُلُوك فى الاجناد)
(هم الَّذين فرعوا خَصَائِص الْمُلُوك من خصَاصَة الزهاد)
(قد نقد الْمجد لَهُم صفاتهم ... نقد فتاة الْحسن للجياد)
(وَقد رَأَيْت فرقدى بنى الوفا ... كِلَاهُمَا لمن يضل هاد)
(كِلَاهُمَا منبع فضل وَهدى ... يكرع فِيهِ حَاضر وباد)
(فيا مفيض البركات ذكره ... ان نفدت راحلتى وزادى)
(أرسلنى الْحبّ اليك قَاصِدا ... وأرتجى كَرَامَة القصاد)
(وفى يدى من المديح تحفة ... قَليلَة لمثلهَا الايادى)
(وباثنتين مِنْك ان أجزتنى ... غنيت عَن جوائز الانشاد)
( ... بنظرة جالبة الوداد ... ودعوة قامعة الْفساد)
(آه وَيَا رب عَسى عناية ... وتستقال عَثْرَة الْجواد)
(وتستقر مقلتى بِمَائِهَا ... وَاكْتفى من الورى جهادى)
(كم أزرع الشُّكْر وَمَا لزرعه ... اذا أَتَى الا بَان من حصاد)
(وأتبع الْهوى بِكُل غادر ... لَيْسَ هَوَاهُ فى سوى عنادى)
(فأنفث الرقى على مخبل ... وأطلب الحراك من جماد)
(ولى حظوظ لَا تفِيد جملَة ... كَمَا يخط الطِّفْل بالمداد)
(تشعبت من الصِّبَا وناصبت ... على السرى مخارم الْبِلَاد)
(بَين هوى لخاتل ومدحة ... لباخل وفرقه لعاد)
(نفرت من قصائدى لانها ... الى الْكثير سلم التعادى)
(لَا أسفا على ذَوَات أسطر ... فانها مراود الاحقاد)
(أليسة لَوْلَا هوى بنى الوفا ... منزل منزلَة اعتقادى)
(وان تكون مِنْهُم التفاتة ... تثبت فى شهرة السداد)
(لما نظمت قَوْله لقولة ... من القوافى الصعبة القياد)
(لكننى ادخرتها وَسِيلَة ... وَنعم مَا ادخرت من عباد)
وَمن عُقُود الزاهية سلسلته الَّتِى نظم بهَا قلائد الاجادة وهى فى مدح الاستاذ أَبى(3/263)
الْمَوَاهِب البكرى ومستهلها
(يَا مُبْتَدع العذل ان عذلك اشراك ... عذرا لعذار رميت مِنْهُ بأشراك)
(للنَّاس غرام يَا عاذلى وغرامى ... من سرب ظبا النقا بألعس مضحاك)
(تسبيك بديباج خَدّه شَعرَات ... قد نمنمها السحر وَالْجمال لَهَا حاك)
(تالله وَمَا الْحسن غير حسن عذار ... فَانْظُرْهُ وسلنى فقد تريبك عَيْنَاك)
(مَا خطّ عذاره سوى حَسَنَات ... يَا رب وأرجوا بذى الصَّحِيفَة أَلْقَاك)
(يَا بدر كَمَا جِئْت للحسان ختاما ... الْمسك ختاما أَتَى لحسن محياك)
(أَقْسَمت بسطر كاللازورد بخد ... كالعسجد حلته وجنتاك فحلاك)
(مَا فِيك سوى نقضك العهود معيب ... وَافْعل ففؤادى على فعالك يهواتك)
(أَنْعَمت صباحا يَا من بدا كصباح ... وَاللَّيْل بِخَير من الذوائب مساك)
(مَا شِئْت فزدنى أسى أزدك ودادا ... مَا أَجْهَل من يدعى هَوَاك ويشناك)
(قد كنت وَكُنَّا وَأَنت بدر دجانا ... وَالْيَوْم فَلم يَا هِلَال نحرم رُؤْيَاك)
(هَل كَانَ من الرشد أَن تقاطع مثلى ... يَا حب وتنقاد مَعَ غواية نهاك)
(هَب ان رقيبى عَلَيْك مثلى مضنى ... من صدرك عَنى أَنا وحثك فى ذَاك)
(بليت غليل الحسود فِيك وظنى ... مَا كَانَ ليشفى من التنغص لولاك)
(أودعتك غرس الْهوى ليثمر ودا ... مَا كَانَ رجائى ان العدواة مجناك)
(ان كَانَ عِقَاب الذى يحبك هَذَا ... أفديك فَقل لى فَمَا تركت لاعداك)
(أجفى وَأَنا العندليب فِيك وعار ... تصغى لصدى عاذلى وتطرب أذناك)
(لَا تصغ لدعوى السوى فَلَيْسَ سَوَاء ... مغريك وتزوير مَا ادَّعَاهُ ومغراك)
(لَو انك أنصفت لاعتلمت بأنى ... مضناك وَكلهمْ لكيدى مضناك)
(يَا غُصْن وان دمت لم تكن لعتابى ... لَا غرو لى الْعذر فى اذاعة شكواك)
(أشكوك لمن تطلب الْمُلُوك رِضَاهُ ... من فاق جَمِيع الورى بعنصره الزاك)
(من نسل أَبى بكر الامام امام ... للسود ذُو الْفضل الْولَايَة ملاك)
(ذُو الرّفْعَة أعنى أَبَا الْمَوَاهِب من لى ... بالبشر مدى الدَّهْر والسماحة يلقاك)
(يممه تَجِد من يَدَيْهِ فائض بَحر ... لَا تنضب سحب البنان مِنْهُ بامساك)
(واستدر بِهِ واعتقد وخذه حساما ... عَن كل حسام أَبُو الْمَوَاهِب أَغْنَاك)
(ان تأت لَهُ خَائفًا وَأَنت محب ... لابد وَأسد العرين مَا تتوقاك)(3/264)
(يَا بَحر لآل وَيَا غمام نوال ... طُوبَى لموال دنا اليك ووالاك)
(مولاى أقل عثرتى فَلَيْسَ مقيل ... وَالْحب جفانى وَقل صبرى الاك)
(من مثلك يَا ابْن الْكِرَام طبت نجارا ... وازددت فخارا فزد يزيدك مَوْلَاك)
(قد أطلعك الله بَين قَوْمك بداراً ... لَا زلت منيرا بهم وهم لَك أفلاك)
(يَهْتَز على الْحَالَتَيْنِ مِنْك حسام ... بَدَلا وخصاما كسيف جدك فتاك)
(يَا عترة ذَاك الامام فاق وفقتم ... ان قصر مدحى لكم فعجزى ادراك)
(مَا الْمَدْح بمجد سوى الْوُصُول اليكم ... أَنْتُم دُرَر الْكَوْن والمدائح اسلاك)
(لَا زَالَ على سيد الورى وَعَلَيْكُم ... أزكى صلوَات من السَّلَام باملاك)
(ماجاور سر الْهوى فؤاد محب ... فى النَّاس وَمَا ذل فى الْمحبَّة املاك)
وَكتب الى الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن العمادى مفتى دمشق وَقد أَصَابَهُ رمد
(فدا لعينيك دون النَّاس عينائى ... وكل عُضْو فدَاه كل أعضائى)
(نود لَو كَانَ مودوعا بِأَنْفُسِنَا ... مَا تشتكيه بِعَين مِنْك رمداء)
(نظارة لكتاب الله قد ملئت ... خوف الْمعَاد باشفاق واغضاء)
(وَأَنت لَا عَن حجاب كنت ناظرنا ... فارفع حجابك وَانْظُر للاحباء)
وَكتب الى ابْنه ابراهيم يهنئه بمولود
(أَتَانَا بشير الْوَلِيد الْجَدِيد ... فساق الينا حَيَاة وبشرى)
(فَلَا زلت مولاى حَتَّى ترى ... هلالك مثلك قد صَار بَدْرًا)
وَقَالَ يُخَاطب بعض الصُّدُور وَكَانَ الْفَتْح قدم من الْحَج فأهداه تَمرا
(أحسن مَا يهديه أمثالنا ... من طيبَة من عِنْد خير الانام)
(بعض تُمَيْرَات اذا أمكنت ... اهداؤها ثمَّ الدعا وَالسَّلَام)
وَمن رباعياتة قَوْله
(لَا تبد لمن تحبه مَا أبدى ... واصبر فَلَعَلَّ الصَّبْر يَوْمًا يجدى)
(اظهار محبتى لمن أعشقه ... صَارَت سَببا لطول عمر الصد)
وَقَوله أَيْضا
(زروا جلّ لمسمعى كؤس اللَّفْظ ... وَاجعَل كبدى غمدا لسيف الْحَظ)
(بل زروا هجر وَلَا تخف مظلمتى ... مَا أوردنى الْبلَاء الاحظى)
وَقَوله
(من أرقى قد استلذ الارقا ... ويلاه وَمن أعشقه قد عشقا)
(من ينقذنى مِنْهُ وَمن ينقذه ... أفنى حرقا فِيهِ ويفنى حرقا)(3/265)
وَمن نوادره قَوْله فى مدح الامير مُحَمَّد بن فروخ
(عجبا لسيف لحاظ من أحببته ... يزْدَاد صقلا مَعَ طراوة حسنه)
(ويظل يفتك فى الاسود كَأَنَّهُ ... سيف ابْن فروخ بدا من جفْنه)
وأنفس نفائسه تَضْمِينه الْمَشْهُور لمصراع الرئيس ابْن سينا
(لَا يدعى قمر لوجهك نِسْبَة ... فَأَخَاف أَن يسود وَجه الْمُدعى)
(فالشمس لَو علمت بأنك دونهَا ... هَبَطت اليك من الْمحل الارفع)
وَمن روائعه قَوْله
(أيا رب جعلت متاعى القريض ... وَقد كَانَ قدما يعد السنينا)
(فَلم لَا وَقد درست سوقه ... كاطلال أَصْحَابه الاقدمينا)
(ولابد للشعر من رزقه ... فيا وَيْح من يقْصد الباخلينا)
(أأقطف من روض شعرى لَهُم ... فأنثر وردا على نائمينا)
(فها أَنا ذَا شَاعِر وَاقِف ... ببابك يَا أكرام الاكرمينا)
ومحاسنه كَثِيرَة وفى هَذَا الْقدر كِفَايَة وَكَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ المنورة لَيْلَة الْخَمِيس لثمان بَقينَ من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَدفن ببقيع الْغَرْقَد
فَخر الدّين بن زَكَرِيَّا بن ابراهيم بن عبد الْعَظِيم بن أَحْمد القدسى الْمَعْرُوف المعرى الحنفى تقدم أَبوهُ زَكَرِيَّا وَكَانَ فَخر الدّين هَذَا عَالما فَقِيها نبيلا رَحل الى الْقَاهِرَة وَأقَام بالجامع الازهر مُدَّة وتفقه بالشهاب الشوبرى وَأخذ الحَدِيث عَن أَبى الْحسن بن عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد الْخَطِيب الشربينى الشَّافِعِي بعد قِرَاءَته عَلَيْهِ شرح النخبة فى المصطلح وَأخذ علم الاصول وَالْفُرُوع عَن أَبى الاخلاص حسن الشرنبلالى وَرجع الى الْقُدس وَانْقطع فى آخر أمره للتدريس والافادة بحجرة بِالْمَسْجِدِ الاقصى بِقرب رواق الشَّيْخ مَنْصُور فاشتهرت الْآن بخلوة المعرى وَصَارَ اماما بالسلطانية بِالْمَسْجِدِ الاقصى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبعين بعد الالف وَلم يعقب
(الامير فَخر الدّين بن قرقاس بن معن الدرزى الامير الْمَشْهُور من طَائِفَة كلهم أُمَرَاء ومسكنهم بِلَاد الشّرف وَلَهُم عراقة قديمَة ويزعمون ان نسبتهم الى معن بن زَائِدَة وَلم يثبت وَكَانَ بعض حفدة فَخر الدّين حكى لى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول أصل آبَائِنَا من الاكراد سكنوا هَذِه الْبِلَاد فَأطلق عَلَيْهِم الدروز بِاعْتِبَار الْمُجَاورَة لَا أَنهم مِنْهُم وَهَذَا أَيْضا غير ثَابت فانهم منشأ زندقة هَذِه الْفرْقَة وكثرتهم وفخر الدّين هَذَا ولى امارة(3/266)
الشّرف من جَانب السلطنة بعد موت أَبِيه وَعلا شَأْنه وتدرج الى أَن جمع جمعا كَبِيرا من السكبان وَاسْتولى على بِلَاد كَثِيرَة مِنْهَا صيدا وصفد وبيروت ومافي تِلْكَ الدائرة من أقطاع كالشقيف وكسروان والمتن والغرب والجرد وَخرج عَن طَاعَة السلطنة وَلما وصل خَبره إِلَى مسامع الدولة بعثوا لمحاربته أَحْمد باشا الْحَافِظ نَائِب الشَّام وَكَثِيرًا من أُمَرَاء هَذِه النواحي فَلم يقابلهم وهرب إِلَى بِلَاد الفرنج وَأقَام بهَا سبع سِنِين إِلَى أَن عزل الْحَافِظ عَن نِيَابَة الشَّام فطلع إِلَى مستقره فِي شَوَّال سنة سبع وَعشْرين وَألف وَزَاد بعد ذَلِك فِي الطغيان والاستيلاء على الْبِلَاد بلغت أَتْبَاعه إِلَى نَحْو مائَة وَألف من الدروز والسكبان وَاسْتولى على عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب وسليمة بِالْجُمْلَةِ فانه سرى حكمه من بِلَاد صفد الى انطاكية وتنبل وَلَده الامير على وَولى حُكُومَة صفد وَكَانَ وَقع بَين فَخر الدّين وَبَين بنى سَيْفا حكام طرابلس الشَّام حروب شَدِيدَة ودهمهم مرّة فنهب طرابلس وأباد كثيرا من ضواحيها وَكَانَ سَببا لخراب هاتيك الْبِلَاد ثمَّ صاهر بنى سَيْفا هُوَ وَابْنه وتزوجا مِنْهُم وَجَاء هما أَوْلَاد وَلما ولى نِيَابَة الشَّام الْوَزير مصطفى باشا بعد عَزله عَن مصر فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ قَصده بعسكر الشَّام وَكَانَ الشاميون قد خامروا عَلَيْهِ فَلَمَّا وَقع المصاف بَين الْفَرِيقَيْنِ بِالْقربِ من عنجر ولى الْعَسْكَر الشامى هربا فانكسر مصطفى باشا كسرة مُنكرَة وَقبض عَلَيْهِ ابْن معن وَأَخذه بعلبك مُقَيّدا فى الْبَاطِن مطلوقا فى الظَّاهِر وبقى عِنْده الى أَن وصل الْخَبَر الى دمشق فَاجْتمع علماؤها وكبراؤها وذهبوا الى ابْن معن ورجوا مِنْهُ فكاكه فَأطلق سَبيله وَقدم دمشق فانتقم مِمَّن كَانَ السَّبَب لَهُ فى الرّكُوب وَرجع فَخر الدّين الى بِلَاده وَلم يَزْدَدْ بعد ذَلِك الا عتوا وكبرا وَبَلغت شهرته الْآفَاق حَتَّى قَصده الشُّعَرَاء من كل نَاحيَة ومدحوه وَرَأَيْت مدائحه مدونة فى كتاب يبلغ مائَة ورقة وأكثرها قصائد مُطَوَّلَة وَأما المقاطيع فَلم أستحسن مِنْهَا الا هَذَا الْمَقْطُوع أنْشدهُ اياه عَطاء الله السلمونى المصرى يخاطبه بِهِ
(يراعك ان أبكيته ضحك الندى ... وعضبك ان أضحكته بَكت العدا)
(فسيمة هذاك اعْتدى قطّ رَأسه ... وسيمة هَذَا قطّ رَأس من اعْتدى)
وَلما تحقق السُّلْطَان مُرَاد مُخَالفَته وتعديه بعث لمقاتلته الْوَزير الْمَعْرُوف بالكوجك الْمُقدم ذكره وَعين مَعَه أُمَرَاء وعساكر كَثِيرَة فَركب عَلَيْهِ وَقتل أَولا(3/267)
ابْنه الامير عليا ثمَّ قبض آخرا عَلَيْهِ وجهزه الى طرف السلطنة فَقتله السُّلْطَان وَقد تقدم تَفْصِيل ذَلِك فى تَرْجَمَة الكوجك وَكَانَ قَتله فى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَأنْشد بعض الادباء فى ذَلِك
(ابْن معن مَا كَانَ الا خبالا ... ضعضع الْكَوْن واستمال ومالا)
(مكن الله مِنْهُ أَحْمد باشا ... وَكفى الله الْمُؤمنِينَ القتالا)
وَرَأَيْت فى الْمَجْمُوع الذى جمعت فِيهِ مدائحه أَن وِلَادَته كَانَت فى سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقيل فى تَارِيخ وِلَادَته خطابا لوالده
(يَا أَمِير الْجُود هنئت بِمن ... آنس الْكَوْن وَحيا الاهلا)
(قد غَدا الدّين بِهِ مفتخرا ... أرخوه فَخر دين هلا)
والدرزية طَائِفَة كَبِيرَة ينتسبون الى رجل من مولدى الاتراك يعرف بالدرزى وَقد ظهر فى زمن الْحَاكِم بِأَمْر الله العبيدى هُوَ وَرجل أعجمى يُقَال لَهُ حَمْزَة وَكَانَ الْحَاكِم لَعنه الله يدعى الالهية وَيُصَرح بالحلول والتناسخ وَيحمل النَّاس على القَوْل بذلك وَكَانَ حَمْزَة والدرزى مِمَّن وافقوه وأظهروا الدعْوَة الى عِبَادَته وَالْقَوْل بِأَن الاله حل فِيهِ وَاجْتمعَ عَلَيْهِمَا جمَاعَة كَثِيرَة من غلاة الاسماعيلية فثار عَلَيْهِم عوام المصريين فَقتلُوا أَكْثَرهم وَفرقُوا جمعهم وَذكر صَاحب مرْآة الزَّمَان أَن الدرزى الْمَذْكُور كَانَ من الباطنية مصرا على ادِّعَاء الربوبية للْحَاكِم لعنهما الله تَعَالَى وصنف لَهُ كتابا ذكر فِيهِ أَن الاله حل فى على وان روح على انْتَقَلت الى أَوْلَاده وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى انْتَقَلت الى الْحَاكِم وَتقدم بذلك عِنْد الْحَاكِم وفوض اليه الامور بِمصْر ليطيعه النَّاس فى الدعْوَة وَأَنه أظهر الْكتاب فثار عَلَيْهَا الْمُسلمُونَ وَقتلُوا جماعته وَأَرَادَ واقتله فهرب مِنْهُم واختفى عِنْد الْحَاكِم فَأعْطَاهُ مَالا عَظِيما وَقَالَ لَهُ اخْرُج الى الشَّام وانشر الدعْوَة هُنَاكَ وَفرق المَال على من أجَاب الدعْوَة فَخرج الى الشَّام وَنزل بوادى تيم الله بن ثَعْلَبَة غربى دمشق من أَعمال بانياس فَقَرَأَ الْكتاب على أَهله واستمالهم الى الْحَاكِم وَأَعْطَاهُمْ المَال وَقرر فى نُفُوسهم التناسخ وأباح لَهُم الْخمر وَالزِّنَا وَأخذ يُبِيح لَهُم الْمُحرمَات الى أَن هلك لَعنه الله تَعَالَى فَهَذَا أصل وجود الدروز والتيامنة فى هَذِه الْبِلَاد وَأما القَوْل فيهم من جِهَة الِاعْتِقَاد فهم والنصيرية والاسماعيلية على حد سَوَاء والجميع زنادقة وملاحدة وَقد صرح قاضى الْقُضَاة ابْن الْعِزّ وَالشَّيْخ برهَان الدّين بن عبد الْحق من الْحَنَفِيَّة(3/268)
وَالشَّيْخ صدر الدّين بن الزملكانى وَالشَّيْخ البلاطنسى وَالشَّيْخ جمال الدّين الشربينى من الشَّافِعِيَّة وَالشَّيْخ صدر الدّين بن الْوَكِيل من الْمَالِكِيَّة وَالشَّيْخ تقى الدّين بن تَيْمِية من الْحَنَابِلَة فى فتاويهم وَغَيرهم ان كفر هَؤُلَاءِ الطوائف مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وان من شكّ فى كفرهم فَهُوَ كَافِر مثلهم وانهم أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لانهم لَا تحل مناكحتهم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم بِخِلَاف أهل الْكتاب وانهم لَا يجوز اقرارهم فى ديار الاسلام بجزية وَلَا بِغَيْر جِزْيَة وَلَا فى حصون الْمُسلمين وَجزم الشَّيْخ ابْن تَيْمِية بِأَنَّهُم زنادقة وانهم أَشد كفرا من الْمُرْتَدين لانهم يَعْتَقِدُونَ تناسخ الارواح وحلول الاله فى على وَالْحَاكِم وَمن طالع كتبهمْ عرف حقيقتهم الخبيثة فان فِيهَا مَا يستبشع جدا وَمن جملَة معتقداتهم ان الالهية لَا تزَال تظهر فى شخص بعد شخص كَمَا ظَهرت فى على وشمعون ويوسف وفى غَيرهم بِأَنَّهَا ظَهرت بعد ذَلِك فى الْحَاكِم وَأَن كل دور يظْهر فِيهِ اله وَيَقُولُونَ هُوَ الْآن ظَاهر فى مشايخهم الَّذين يسمونهم العقال ويجحدون وجوب الصَّلَاة وَصَوْم شهر رَمَضَان وَالْحج ويسمون الصَّلَوَات الْخمس بأسماء غَيرهَا ويوالون من تَركهَا ويجعلون أَيَّام شهر رَمَضَان أَسمَاء ثَلَاثِينَ رجلا ولياليه أَسمَاء ثَلَاثِينَ امْرَأَة وَهَكَذَا يَقُولُونَ فى سَائِر الشَّرِيعَة المطهرة وَيُنْكِرُونَ قيام السَّاعَة وَخُرُوج النَّاس من قُبُورهم وَأمر الْمعَاد وَيَقُولُونَ بتناسخ الاروح وانتقالها الى أبدان الْحَيَوَانَات وان من ولد فى تِلْكَ اللَّيْلَة انْتَقَلت روح من مَاتَ فِيهَا اليه وَيَقُولُونَ ان الْعَالم أَرْوَاح تدفع وَأَرْض تبلع وَبِالْجُمْلَةِ نعتقدهم ضلال كُله وانما ذكرت حَالهم وأطلت فِيهِ لِكَثْرَة تشعب الآراء فيهم فَهَذَا يُقرر مَا هم عَلَيْهِ فى الاذهان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق والشقيف بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ فَاء وَيعرف بشقيف أرنون بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء الْمُهْملَة وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون فى الْآخِرَة قَالَ فى الْمُشْتَرك وَهُوَ اسْم رجل أضيف الشقيف اليه وَيعرف أَيْضا بالشقيف الْكَبِير وَهُوَ حصن بَين دمشق والساحل بعضه مغارة منحوتة فى الصخر وَبَعضه لَهُ سور وَهُوَ فى غَايَة الحصانة وعَلى الْقرب مِنْهُ شقيف آخر يعرف بشقيف تبرون بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق وَسُكُون الْبَاء وَضم الرَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَنون فى الْآخِرَة وهى قلعة حَصِينَة من جِهَة الاردن على مسيرَة يَوْم من صفد فى سمت الشمَال قَالَ فى مسالك الابصار وَلَيْسَت من بِلَاد صفد وَأهل هَذَا الْعَمَل رافضة وَالله أعلم(3/269)
فَخر الدّين بن مُحَمَّد الخاتونى المكى الْكَاتِب الشَّاعِر تَرْجمهُ الاخ الْفَاضِل مصطفى ابْن فتح الله فَقَالَ فى وَصفه كَاتب ماهر وشاعر قلد الطروس من نظمه عُقُود الْجَوَاهِر جرى فى ميدان القريض ملْء عنانة فاجتبى من زهرات رياضه واقتطف ورد جنانه ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ على طَريقَة حَسَنَة وَأخذ عَن شُيُوخ عصره علوما عديدة وبرع فى الادب وَبِه اشْتهر وَكَانَ عَظِيم الْهَيْئَة حسن الصُّورَة وضئ الْوَجْه نير اللِّحْيَة يغلب عَلَيْهِ صفاء الْقلب ورقة الطَّبْع والانطباع لعامة النَّاس والتغابى عَمَّا لَا يرضى من أَحْوَالهم وَمن شعره قَوْله فى مليحة اسْمهَا غربية
(رب سمراء كالمثقف لما ... خطرت فى الغلائل السندسيه)
(غادة تسلب الْعُقُول وَلَا بدع وأعمال طرفها سحريه ... )
(جبلت ذَاتهَا من المندل الرطب ففاقت على الرياض الذكيه ... )
(مَالهَا فى الغصون ند وَلَيْسَ الند الا من ذَاتهَا المسكيه ... )
مِنْهَا
(هى للقلب منيه وَلكم من ... صدها الصعب ذاق طعم المنيه)
(ذَات لحظ وَسنَان يفعل مَا لم ... يفعل السَّيْف فى قُلُوب الرعيه)
(ومحيا من دونه يخسف الْبَدْر اذا لَاحَ فى الليالى البهيه ... )
(حوت الْحسن كُله فهى مِمَّا ... أبدع الله صنعه فى البريه)
(شبهوها عِنْد التلفت بالظبى وهيهات مَا هما بالسويه ... )
(كل شئ يخفى اذا مَا تبدت ... وهى كَالشَّمْسِ لَا تزَال مضيه)
(لَيْت شعرى وأى شمس بشرق ... لَك تبقى اذا بَدَت غربية)
وَقَوله يرثى السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود
(على فقد بَدْرًا لتم أَحْمد فلتجد ... لعظم الاسى من كل ندب شؤنه)
(والا فَمن يَا لَيْت شعرى بعده ... اذا هى لم تسمح تسمح جفونه)
(فَتى كَانَ والايام للجدب كلح ... اذا أمه العافى اضاء جَبينه)
(فتبصر بَدْرًا مِنْهُ قد تمّ حسنه ... وتنشق روضا قد تناهت فنونه)
(تجود وان أودى الزَّمَان يسَاره ... بِمَا قد حوت من كل وفر يَمِينه)
(فَقل للذى قد جد فى طلب الندى ... رويدك ان الْجُود سَارَتْ ظعونه)
(وَقد غَابَ من أفق الْكَمَال منيره ... كَمَا غَار من بَحر النوال معينه)
(وَأصْبح وَجه المزن للحزن كالحا ... كَأَن لم تكن من قبل قرت عيونه)(3/270)
(سأبكيه والآداب أجمعها معى ... بدمع تود السحب يَوْمًا تكونه)
(وَلم لَا عَلَيْهِ الْفَخر يبكى تأسفا ... وَقد حق مِنْهُ الْبَين وَهُوَ خدينه)
(فَذَاك الذى فى مثله يقبح العزا ... وَيحسن الا من هَوَاهُ سكونه)
(عَلَيْهِ من الله التَّحِيَّة مَا وفت ... بفرقته من كل حى منونه)
(وَرَحمته مَا حن أَو ناح واله ... نأى عَنهُ من بعد الندانى قرينه)
وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَخمسين وَألف
الامير فروخ بن عبد الله أَمِير الْحَاج الجركسى البطل المتفوق الثَّابِت الْقلب هُوَ فى الاصل من مماليك الامير بهْرَام بن مصطفى باشا أخى الامير رضوَان حَاكم غَزَّة الْمَشْهُور ثمَّ بعد وَفَاة سَيّده تنبل وشاع أمره بالشجاعة والسخاء والمروءة حَتَّى ولى حُكُومَة نابلس وامارة الْحَاج وَتصرف فى هَذَا المنصب تَصرفا عجيبا وَصرف جهده فى حراسة الركب كَانَ من المعمرين الصَّالِحين شجاعا جوادا مُدبرا عَاقِلا حازما لَهُ خبْرَة بالامور معززا مكرما وَلم يزل فى هَذَا المنصب الى أَن مَاتَ بِمَكَّة المشرفة فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بجوار الله تَعَالَى
فضل بن عبد الله الطبرى المكى مفتى الشَّافِعِيَّة بِالْبَلَدِ الْحَرَام وامام مقَام ابراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذكره السَّيِّد ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه خلف ذَلِك السّلف والمعيد من عهد مجدهم مَا سلف الْفضل اسْمه وسمته النافحة بأرجه نسمته رفع عماد ذَلِك الْبَيْت فَأقر عين الْحَيّ مِنْهُم وَالْمَيِّت وَهُوَ الان مفتي الشَّافِعِيَّة بِالْبَلَدِ الْحَرَام والملحوظ بِعَين الاجلال والاحترام يشنف السطور بفرائده ويفوق الطروس بفوائده مَعَ انافته فى الادب بمكانه شيد من ربعهَا المشيد أَرْكَانه فاجتلى بهَا نُجُوم لياليه واقتنى مِنْهَا منظوم لآليه ثمَّ قَالَ وَلَا يحضرنى من شعره غير قَوْله فى التَّفْضِيل بَين مسمعين يعرف أَحدهمَا بِرُكْن الآخر بالقصبى
(تخَالف النَّاس فى ركن فقدمه ... قوم وَقوم عَلَيْهِ قدمُوا القصبى)
(وَقَائِل الْحق والانصاف قَالَ مَتى ... أسمعهما ألق أستاذا وألق صبى)
وَذكره غَيره فَقَالَ ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر الشُّيُوخ وَله شعر كثير مِنْهُ قَوْله
(لَا تضيع سَبَهْلَلا فرس الْعُمر بِلَا طَاعَة وَلَا تتعلم ... )
(سَوف يدرى الجهول عِنْد انقضا الْعُمر سدى كَيفَ ضَاعَ مِنْهُ فيندم ... )
وَقَوله مؤرخا للسيل الْوَاقِع بِمَكَّة فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف(3/271)
(سُئِلت عَن سيل أَتَى ... وَالْبَيْت مِنْهُ قد سقط)
(مَتى أَتَى قلت لَهُم ... مَجِيئه كَانَ غلط)
وَمن مؤلفاته التبجيل لشان فَوَائِد التسهيل فى الْعرُوض وَله من قصيدة يمدح بهَا الشريف زيد بن محسن
(يَا مى حَيا الحيا أَحْيَا محياك ... هلا باعتاب عتبى فَاه لى فَاك)
(من لى اليك وَقد أودى صدودك بى ... وَلَا تزالين طوعى لى أفاك)
(يَا هَذِه لم أزل من بعْدهَا ودنو السقم من بعْدهَا موثوق أشراك ... )
(تيهى أطيلى التجنى والجفاء وَمَا ... أردْت فاقضيه بى فالحسن ولاك)
(رفقا رويدا كأنى بالعذول على ... تطاول الصدفى ذَا الصب عزاك)
مِنْهَا
(حسبى دَلِيلا على شوقى المبرح بى ... انى لثمت عذولى حِين سماك)
(والجفن فى أرق وَالْقلب فى حرق ... وَالْعين فى غرق انسانها باك)
(يَا مهجة الصب غير الصَّبْر لَيْسَ وَقد ... جنت عَلَيْك بِمَا لاقيت عَيْنَاك)
مِنْهَا
(وأجملى الود واخشى عدل ذى الشّرف الْمُؤَيد الْعِزّ مولائى ومولاك ... )
(زيد بن محسن سُلْطَان الانام امام الحضرتين أَمَان الْخَائِف الباكى ... )
مِنْهَا
(يَهْتَز للعفو من حلم وَلَا طرب الشُّمُول من شمس شماس وبتراك ... )
(وَذكره أرج الارجاء شاسعة ... فطيب عرف الصِّبَا من عرفه الذاكى)
(يَا نفس آمله بِشِرَاك بِشِرَاك ... فَلَو قضيت باذن الله أحياك)
مِنْهَا
(لَو كَانَ فى عصره بعد النُّبُوَّة مَبْعُوث لَكَانَ بِلَا دفع واشراك ... )
(لَو طرزت باسمه الرَّايَات مَا حذرت ... أَصْحَابهَا غلبا أَو حطم دهاك)
مِنْهَا
(قد زَاد فى شرف الْبَطْحَاء انك فى ... جِيرَانهَا خير فعال وتراك)
(مولى الْجَمِيل ومنجاة الدخيل ومنحاة الخذيل سرى عين املاك ... )
قَوْله فى مطلع القصيدة فَاه لى فَاك جرى فِيهِ على اللُّغَة الضعيفة وَهُوَ لُزُوم الالف للاسماء الْخَمْسَة فى جَمِيع الْحَالَات كَقَوْلِه ان أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة فى رَابِع عشرى شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة
فضل الله بن شهَاب الدّين بن عبد الرَّحْمَن العمادى الدمشقى الحنفى تقدم جده وَأَبوهُ وعماه ابراهيم وعماد الدّين وَكَانَ فضل الله هَذَا من فضلاء الْوَقْت وبلغائه وَهُوَ من المتنبلين فى الاخذ باطراف الْفَضَائِل والاشتمال على كرم الشَّمَائِل وَيرجع(3/272)
مَعَ ذَلِك الى شعر باهر ونثر معجب وَكَانَ من حِين نشاته الى مماته متفيئا ظلال النِّعْمَة آخِذا من التنعم حَظه وجاهه فى دولة آبَائِهِ يحل فرق الفراقد ويزاحم منَاط الثوابت وَكَانَ معتنيا بالاشتغال من طَلِيعَة عمره فَقَرَأَ فنون الادب على شَيخنَا الْمُحَقق ابراهيم الفتال وَالشَّيْخ مُحَمَّد العيثى وَتخرج بِأَبِيهِ وعميه حَتَّى تفوق وَبلغ من الْفضل مَا بلغ وَكَانَ والدى رَحمَه الله تَعَالَى يفضله ويرجحه على كل من عداهُ من أقرانه وَيَقُول انه مِمَّا يهزنى الى الطَّرب حسن مَنْطِقه ولطف محادثته وأعهده ينشد فى حَقه هَذِه الابيات غير مرّة وهى
(صاحبته فَرَأَيْت الْبَدْر كلمنى ... وجنته فَرَأَيْت الْبَحْر ينهمل)
(فيا رعى الله مخدوما نسامره ... وَقد تناسب فِيهِ الْمَدْح والغزل)
(قد حَاز باكورة الافضال وَهُوَ لَدَى ... باكورة السن لَا زَالَت لَهُ الدول)
وَكَانَ وَالِده فرغ لَهُ عَن الْمدرسَة الشبلية فدرس بهَا وَلما أَنَاخَ الدَّهْر على بَيتهمْ بكلكه ووجهت عَنْهُم الْفتيا انزوى مَعَ أَبِيه فى زَاوِيَة الْوحدَة مُدَّة الى أَن ولى الْمولى مُحَمَّد بن مَحْمُود الْمَعْرُوف بمفتش الاوقاف وَهُوَ الذى صَار آخرا مفتى التخت العثمانى قَضَاء الشَّام ظهر ظُهُور الْكَنْز المخفى وَكَانَ قاضى الْقُضَاة الْمَذْكُور أَقرَأ التَّفْسِير فَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يحضر درسه ويبدى أبحاثا فائقة فاشتهر فَضله وسما قدره ثمَّ بعد مُدَّة من عزل الْمولى الْمَذْكُور عَن قَضَاء الشَّام سَافر المترجم الى الرّوم وَاجْتمعَ بشيخ الاسلام يحيى المنقارى فَأقبل عَلَيْهِ وَوجه اليه رُتْبَة الدَّاخِل وَرجع الى دمشق وَلما توفى والدى أعْطى مَكَانَهُ قَضَاء بيروت على طَرِيق التَّأْبِيد وَلم تبْق عَلَيْهِ كثيرا وَكَانَ وَرَاء للزِّيَادَة مواعد ماطله الزَّمَان بهَا فَارْتَبَطَ فى دَاخل دَاره لادب يقتبسه أَو كتاب يطالعه وَكَانَ مُولَعا بالآداب الغضة يهصر أَغْصَانهَا ويفصد دنانها وَكنت لما رجعت من الرّوم أنست بمجلسه أَيَّامًا فَوَجَدته يرجع الى اتقان فى الادب وذكاء فى الخاطر وحذق فى البلاغة وَتوسع فى البضاعة وعثرت بنبذ من أشعاره البهية النقية فى بعض المجاميع فصرفت وَجه الهمة الى أَخَوَات لَهَا فَمن ذَلِك قَوْله
(مذ مَال خرت لَهُ الأقمار سَاجِدَة ... خوط بِهِ من رحيق الثغر اسكار)
(حط اللثام فَغَاب الْبَدْر من خجل ... وَقد بدا اللدجى فى الصُّبْح اسفار)
(أضحى كجسمى مِنْهُ الخصر لَيْسَ يرى ... ومنطقته من العشاق أبصار)
(وشاحه مثل قلبى خافق أبدا ... ولخطه الفاتن الفتاك سحار)(3/273)
(كَأَنَّمَا شَعْرَة فى خَال وجنته ... دُخان قِطْعَة ند تحتهَا نَار)
وَهَذَا // معنى لطيف // وَقد سبق اليه فَمِنْهُ قَول ابْن سناء الْملك
(سمراء قد أزرت بِكُل أسمر ... بلونها ولينها وقدها)
(أنفاسها دُخان ندخالها ... وريقها من مَاء ورد خدها)
وَقَول السَّيِّد مُحَمَّد العرضى الحلبى
(على وجناته خَال عَلَيْهِ ... تبدت شَعْرَة زادته لطفا)
(كقطعة عنبر من فَوق نَار ... بدا مِنْهَا دُخان طَابَ عرفا)
وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة
(ومدير لنا المدام بكاس ... مثل عقد حبابه منظوم)
(هُوَ بدر وفى الْيَمين هِلَال ... فِيهِ شمس وَقد علتها النُّجُوم)
(من دنادنه يشم عبيرا ... من شذاه رحيقه مختوم)
(حى يَا صَاح بالفلاح عَلَيْهَا ... واصطحبها تنفك عَنْك الهموم)
(ودع الْعُمر ينقضى بالتصابى ... وكذاك الوشاة دعهم يلوموا)
قَوْله هُوَ بدر قد أحسن فى هَذَا الْجمع لَكِن تَشْبِيه الكاس بالهلال مَحل نظر والمتعارف تشبيهه بالبدر لتَمام استدارته كَمَا فى قَول الاستاذ ابْن الفارض
(لَهَا الْبَدْر كأس وهى شمس يديرها ... هِلَال وَكم يَبْدُو اذا مزجت نجم)
الا أَن يكون قصد الزورق فانه شبه بِهِ الْهلَال كَمَا فى قَول ابْن المعتز
(وَانْظُر اليه كزورق من فضَّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر)
فعكس التَّشْبِيه وَقد وَقع لى فى حل بَيت فارسى سُئِلت تعريبه فَقلت
(وَلما أدَار الشَّمْس بدر لَا نجم ... بأفق الهنا بَين الهلالين فى الغسق)
(عجبت لَهُ يبدى لنا الصُّبْح جيده ... وَمَا غَابَ عَنَّا بعد فى كَفه الشَّفق)
فالهلالان هُنَا الباهم والمسبحة اذا قبضا على الكاس كَمَا يَفْعَله الاعاجم والاروام فى مناولة اناء المشروب وَقد اقتفى أَثَرهم فِيهِ أهل بِلَادنَا فينشأ مِنْهُ صُورَة هلالين من كل مِنْهُمَا هِلَال فَهُوَ تَشْبِيه بِلَا شَبيه وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة
(اطار الْهوى من جمر خديه جذوة ... فأصلى بهَا قلبى الذى ضم أضلعى)
(وَصعد من بعد مَا قد أذاقه ... وقطره من مقلتى در أدمعى)
وَأحسن مِنْهُ قَول كَمَال الدّين بن النبيه(3/274)
(تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمى مَا بِعَيْنيهِ من سقم)
(فَصَعدت أنفاسى وقطرت أدمعى ... فصح من التقطير تصفيرة الْجِسْم)
وَله
(فديتك رابنى الاعراض عَنى ... وَلم أعرف لَهُ سَببا وحقك)
(سوى انى الْمُقِيم على ودادى ... وانى يَا حبيبى عبد رقك)
وَله
(بى ظبى أنس لَاحَ فى قرطق ... قد فَضَح الدرسنى ثغره)
(مَا فِيهِ من عيب سوى أَنه ... أشبه جسمى بالضنى خصره)
وَله
(دائى الْحبّ والامانى طبيبيى ... والنوى والفراق من عوادى)
(ودوائى ذكر اللوا وسميرى ... ضيف طيف مُوكل بسوادى)
وَله
(ودعنى من نَوَاه أودعنى ... شوقا يزِيد الْفُؤَاد نيرانا)
(وَقَالَ لى والبكاء يغلبه ... يَا لَيْت يَوْم الْفِرَاق لَا كَانَا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَتوفى قبيل الظّهْر بِمِقْدَار سَاعَة من يَوْم الاربعاء خَامِس عشرى رَجَب سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر بالجامع الاموى وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَمن غَرِيب مَا اتّفق لى فى هَذَا التَّارِيخ اننى لما بيضت مِنْهُ التبييض الاول كنت وصلت فى تبييضه الى هَذَا الْمحل وشغلتنى الْعَوَائِق أَيَّامًا عَن تبييض شئ مِنْهُ مَعَ انه لم يعْهَد لى ذَلِك حَتَّى مَاتَ صَاحب التَّرْجَمَة فأدرجته فى مَحَله الذى يذكر فِيهِ وَأغْرب من ذَلِك توافقه مَعَ والدى رَحمَه الله تَعَالَى فى أَشْيَاء كَثِيرَة يعرفهَا من طالع الترجمتين وَالثَّانيَِة تاتى قَرِيبا وَمن جملَة الموافقات موافقتهما فى الِاسْم والعمر وَالْفضل وَكَانَ ذَلِك هُوَ الْبَاعِث لى على رثائه بِهَذِهِ الابيات وهى
(لهفى على الْفضل وحيد دهره ... قضى فَكل لاهج بِذكرِهِ)
(ندب بِهِ الايام قد تشرفت ... عزفهان الدَّهْر عِنْد قدره)
(حكى أَبى فى كل وصف ناضر ... مَا الْمسك الا شمة من عطره)
(بكيته حَتَّى استحالت عبرتى ... دَمًا وهذى مهجتى فى اثره)
(وَكَيف لَا أبكى مُوَافقا أَبى ... فى فَضله وفى اسْمه وعمره)
فضل الله بن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الاسطوانى الدمشقى الحنفى رَئِيس الْكتاب بمحكمة قاضى الْقُضَاة أحد أفاضل الكتبة الا كَامِل وَهُوَ ابْن خالتى وختنى وَكَانَ من أَفْرَاد الْعَصْر فى الْمعرفَة والصلف وافر التنعم سخيا متوددا معاشرا لزم فِيمَا عهدته(3/275)
شَيخنَا الشَّيْخ عبد الحى بن الْعِمَاد العكرى الْمُقدم ذكره فَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا واغتنمت فى صحبته مَعَه ليالى وأياما مَا زلت أذكرها ثمَّ بعد وَفَاة شَيخنَا الْمَذْكُور لزم شَيخنَا الشَّيْخ رَمَضَان العطيفي فَقَرَأَ عَلَيْهِ الدُّرَر وَالْغرر وَمَات شَيخنَا وَلم يكمله فشرع فى تتميمه على شَيخنَا الشَّيْخ ابراهيم الفتال ثمَّ بعد وَفَاة الفتال قَرَأَ دروسا مِنْهُ على شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الهادى ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الخاتونية والمقدمية وهى مَشْرُوطَة لَهُم وسافر الى الرّوم وَحج وَجمع من نفائس الْكتب والذخائر مَا لم يجْتَمع عِنْد أحد من أَبنَاء عصره وَولى رياسة الْكتاب ثمَّ مرض وَطَالَ مَرضه مُدَّة الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى أَوَائِل ذى الْحجَّة سنة مائَة وَألف عَن سِتّ وَخمسين سنة وَدفن بمقبرة الفراديس الْمَعْرُوفَة بتربة الغرباء عِنْد أسلافه بنى الاسطوانى
فضل الله بن عِيسَى البوسنوى الحنفى نزيل دمشق الامام المفنن الاستاذ الشهير كَانَ أحد أَعْيَان الْعلمَاء معرفَة واتقانا وحفظا وضبطا للفقه وتفهما فى علله مُمَيّزا لصحيح الاقوال من سقيمها مستحضر الْكثير من الْفُرُوع على تشعبها وَكَانَ عَارِفًا بالاصلين والْحَدِيث وفنون الادب حق الْمعرفَة نظارا كثير الِاشْتِغَال حسن العقيدة فى الصلحاء قَرَأَ فى بلدته بوسنة الْكثير وَحصل ثمَّ ولى الافتاء ببلدة بلغراد وَتعين بهَا كل التعين ثمَّ خرج مِنْهَا بنية الْحَج وَدخل دمشق فى سنة عشْرين وَألف وَحج من طريقها فى تِلْكَ السّنة وَلما رَجَعَ الى دمشق توطنها واقتنى دَارا دَاخل بَاب الْجَابِيَة بمحلة الشَّيْخ عَمُود ودرس أَولا بِالْمَدْرَسَةِ الامينية ثمَّ أَخذ الْمدرسَة التقوية عَن الشهَاب العيثاوى فى شهر رَمَضَان سنة احدى وَعشْرين وَألف ووجهت اليه الْحُجْرَة الَّتِى فى المشهد الشرقى الْمَعْرُوف بمشهد الْمحيا بالجامع الاموى واتخذها محلا لدروسه الْخَاصَّة وَقَرَأَ عَلَيْهِ غَالب أَعْيَان الْفُضَلَاء فى الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية وَكَانَ يقررها أحسن تَقْرِير وَكَانَ اليه الْغَايَة فى الْقِرَاءَة والتفهيم وَأفْتى مُدَّة طَوِيلَة بِدِمَشْق وَكَانَت فَتَاوِيهِ مرغوبة مَقْبُولَة وَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ أَحْمد العسالى الخلوتى الْمُقدم ذكره وَصَارَ خَليفَة وَكَانَ يلازم حَلقَة ميعاده وَيدخل مَعَه الْخلْوَة وَبنى مَسْجِدا بمحلة الحسودية خَارج دمشق بِالْقربِ من جَامع يلبغا ورتب فِيهِ مبرات ووقف عَلَيْهِ حوانيت بسوق الرصيف قرب الْمدرسَة الامينية احتكرها من وقف الْمدرسَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ على مَا مكن لَهُ من الطول الطائل والتوسع فى الدُّنْيَا ممسكا جدا خَبِيرا بِأَمْر المعاش وَحكى عَنهُ انه كَانَ يَقُول(3/276)
ينبغى أَن يكون حطب الْبَيْت قطعا كبار الئلا يحصل اسراف فى وقدها وَكَانَ مغرما بمعاملة الفلاحين وَاتفقَ لَهُ انه ادّعى عَلَيْهِ لَدَى قاضى الْقُضَاة الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسى الْمُقدم ذكره بمبلغ أَخذه زَائِدا فأهانه قاضى الْقُضَاة اهانة بليغة وَلم يكن عهد لَهُ انه أهين مُدَّة عمره فانه كَانَ موقرا مُحْتَرما عِنْد كبار الوزراء والاعيان وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من صُدُور الْعلمَاء وَكَانَت وِلَادَته ببوسنة سراى فى صفر سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى نَهَار الْخَمِيس ثانى عشرى صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من حَضْرَة بِلَال الحبشى رضى الله عَنهُ
فضل الله بن محب الله بن مُحَمَّد محب الدّين بن أَبى بكر تقى الدّين والدى المرحوم الدمشقى المولد والوفاة أزكن فضلاء الْوَقْت البارعين وبلغائه المعروفين وَكَانَ حسن الْمعرفَة بفنون الادب يجمع تفاريق الكمالات وَيرجع مَعهَا الى خطّ مَنْسُوب وَلَفظ عذب وَمَعْرِفَة باللغتين الفارسية والتركية واستكثر فى أَوَائِله من الْقِرَاءَة على الشَّيْخ أَحْمد بن شمس الدّين الصفوري الْمُقدم ذكره فَأخذ عَنهُ الفصاحة وتفتحت لَهُ أَبْوَاب الشّعْر ثمَّ لزم الشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى فَأخذ عَنهُ الْفِقْه وسما فى حَدَاثَة سنة الى مَرَاتِب أَعْيَان الادباء الَّتِى لَا تدْرك الا مَعَ الِانْتِهَاء وَكَانَ قوى البديهة حسن الْمُنَاسبَة حكى لى من لَفظه قَالَ كنت وانا فى سنّ ثَلَاث عشرَة سنة معتنيا بالقلم التَّعْلِيق فَحَضَرت مَجْلِسا للْمولى أَحْمد بن المنلا زين الدّين المنطقى وَهُوَ قاضى الْقُضَاة بِالشَّام وَمَعَهُ أَعْيَان عُلَمَاء دمشق فى دَعْوَة لوالدى فَطلب من والدى أَن يرى خطى فَكتبت لَهُ فى قرطاس هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(ألزمت شكرك منطقى وأناملى ... وأقمت فكرى بِالْوَفَاءِ زعيما)
(وَمَتى أقوم بشكر نِعْمَتك الَّتِى ... عقدت على من الخطوب تميما)
فَلَمَّا وقف على مَا كتبته أَعْجَبته مناسبته غَايَة الاعجاب فَوَقع تَحْتَهُ قَول الشَّيْخ الامام التقى السبكى فى ابْنه
(أرى ولدى قد زَاده الله بسطة ... وكمله فى الْفضل وَالْعلم مذ نشا)
(سأحمد ربى حَيْثُ أُوتيت مثله ... وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشا)
وَحكى لى أَيْضا أَن وَالِده دعى الى وَلِيمَة وَكَانَ فصل القيظ قد اشْتَدَّ فَحَضَرَ وفى يَده مروحة وَكَانَ الاديب أَحْمد بن شاهين أحد من حضر فَقَالَ جَاءَنَا المحبى بمروحتين يعْنى المروحة الْحَقِيقِيَّة وَكبر اللِّحْيَة وَكَانَ الشاهينى أَحول فَلَمَّا بلغ والدى مقَالَته(3/277)
قَالَ هُوَ رَآهَا ثِنْتَيْنِ وهى فى نفس الامر وَاحِدَة وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وَكَانَ يحب المداعبة ويستعملها اذا خلا مَعَ بعض خلانه وأذكر لَيْلَة خرج النَّاس بالجامع ينظرُونَ هِلَال شهر رَمَضَان فَرَآهُ رجل من جيراننا وَحده وَلم يزل يُومِئ اليه حَتَّى رَآهُ مَعَه غَيره وعاينوه ثمَّ جَاءَ الى الْوَالِد مهنيا وَهُوَ مفتخر بِرُؤْيَة الْهلَال وَحده فَقَالَ لَهُ أخْشَى على بَصرك من تحديقك فِيهِ ان لَا ترَاهُ لَيْلَة عيد الْفطر وَهَذَا سحر الْكَلَام وَمَات أَبوهُ وسنه سِتّ عشرَة سنة فاتصل بِخِدْمَة الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن العمادى الْمُفْتى وَتخرج بالاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وراض طبعه على أَخذ نمطه فى الانشاء فَصَارَ منشئا بِحقِّهِ وَصدقه متجرا فى ترسله وشعره وان كَانَ جيدا الا أَن نثره أَجود وألطف موقعا وأبدع صَنْعَة وانا بِحَمْد الله تَعَالَى قد أخذت الانشاء عَنهُ وتلقيت أساليبه مِنْهُ كَمَا قلت فى تَرْجَمته فى كتابى النفحة حَتَّى خصنى بتعليم مَا تفرد بِهِ من الانشاء وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَكَانَ أَخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الغزى وَأَجَازَهُ اجازة عَامَّة فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف ثمَّ قصد سلوك طَرِيق عُلَمَاء الرّوم فسعى على الْمُلَازمَة من شيخ الاسلام الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا وسافر لاجلها الى حلب لما قدم اليها الْمولى يحيى فى خدمَة السُّلْطَان مُرَاد فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَألف فى سفرته هَذِه رحلته الجلية وَفرغ لَهُ أَبوهُ عَن الْمدرسَة الدرويشية ودرس آخر بالامينية مُضَافَة اليها ثمَّ سَافر الى الرّوم فى سنة احدى وَخمسين وَألف رحلته الرومية وَأقَام بهَا مِقْدَار سنة وانفصل عَن مدرسة الاربعين ثمَّ رَجَعَ الى دمشق وَأقَام مشتغلا فِيهَا بالتأليف وَمن مؤلفاته شَرحه على الْآجر ومية أَطَالَ الْكَلَام فِيهِ وَذكر أَشْيَاء لَطِيفَة ثمَّ رَحل الى مصر فى سنة تسع وَخمسين فى خدمَة قاضيها الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البورسوى وناب عَنهُ فى محكمَة الصالحية وَكَانَ ممتعا بالتفاته وحظى عِنْده كثيرا ثمَّ ورد مورد الشهَاب الخفاجى للتلقى مِنْهُ وَكَانَ البورسوى يبغض الشهَاب فَوجدَ بعض حَاشِيَته مسلكا لذمه وَقَالُوا انما كَانَ اجتماعه مَعَه ليذمك عِنْده ويهجوك فانحرف عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك وغض عَنهُ طرفَة فَلم يعد بعْدهَا الى مَجْلِسه وَلما عزل البورسرى اسْتَقر هُوَ بِالْقَاهِرَةِ وَلم يزل مُدَّة اقامته مشتغلا بِأخذ الْعلم على كبراء الْجَامِع الازهر مِنْهُم النوران على الاجهورى وعَلى الشبراملسى والشهاب الشوبرى وَغَيرهم مِمَّن ذكره فى رحلته المصرية ثمَّ قدم الى وَطنه وَهُوَ مَرِيض واسترسل بِهِ الْمَرَض حَتَّى استغرق عمره فتخلى للتأليف(3/278)
وَجمع كتابا من مُفْرَدَات الابيات يحتاجها المنشئ فى ترسلاته ورتبها على أَبْوَاب وَكَانَ كثيرا المطالعة لكتب الطِّبّ والمراجعة للاطباء حَتَّى تمهر فى علم الطِّبّ جدا وَكَانَ ملازم الحمية وَسمعت من لَفظه قبيل مَوته بأشهر أَنه من مُنْذُ سبع عشرَة سنة لم يَأْكُل المشمش وَالْعِنَب وَكَانَ شَدِيد التَّوَهُّم فى أَمر المزاج يتَوَهَّم أَشْيَاء بعيدَة ويبنى عَلَيْهَا وَاسْتمرّ مُجَانب الِاخْتِلَاط مَعَ النَّاس مُدَّة الى أَن ولى أستاذى المرحوم شيخ مُحَمَّد العزتى قَضَاء الشَّام فنبه حَظه من سنة الْغَفْلَة وراسل شيخ الاسلام أَبَا سعيد فى الشَّفَاعَة لَهُ برتبة قَضَاء آمد فَأحْسن بهَا اليه ثمَّ بعد مُدَّة سَافر الى الرّوم وَذَلِكَ فى تَاسِع الْمحرم سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَأقَام بهَا أَربع سنوات وَلما توجه تركني وَأَنا ابْن احدى عشر سنة وَكنت ختمت الْقُرْآن فابتدأت فى الِاشْتِغَال من ذَلِك الْعَهْد وتعانيت نظم الشّعْر وَأول شعر قلته هَذِه الابيات كتبت بهَا اليه فى صدر رِسَالَة
(أتراه يسرنى بتلاقى ... ونواه قد لج فى احراقى)
(كَيفَ أسلو عهوده وغرامى ... فِيهِ أضحى وَقفا على الاشواق)
(يَا لَك الله من فؤاد معنى ... كم يلاقى من الجوى مَا يلاقى)
(قد تصبرت بِالضَّرُورَةِ حتما ... وَأرى الصَّبْر عَنهُ مر المذاق)
(فَلَعَلَّ الزَّمَان يقْضى بِجمع ... لى من بعد طول هَذَا الْفِرَاق)
فَكتب الى من جملَة رِسَالَة وَقد قَرَأت الابيات القافية الَّتِى هى باكورة شعرك وعنوان نجابتك ان شَاءَ الله تَعَالَى وعلو قدرك فاياك من الشّعْر فانه كاسد السّعر ويشغل الْفِكر وَعَلَيْك بالاشتغال لتبلغ دَرَجَة الفحول من الرِّجَال وَالله سُبْحَانَهُ يبقيك وَمن كل سوء يقيك ويقر عين أَبِيك فِيك وفى أَخِيك وَكَانَ لى أَخ أَصْغَر منى وَهُوَ الذى ذكره وَكَانَ اسْمه فيض الله مَاتَ فى غيبته فَلَمَّا بلغه مَوته كتب الى ولدى وواحدى أَطَالَ الله لَهُ الْبَقَاء وأدام لَهُ الْعِزّ والارتقاء يعرض عَلَيْهِ وَالِده بعد عرض السَّلَام انه لما قدم فلَان وَسَأَلته عَن أَحْوَال الشَّام
(وَمن يسْأَل الركْبَان عَن كل غَائِب ... فلابد أَن يلقى بشيرا وناعيا)
فَأخْبر عَن فقد شقيقك من مُدَّة وشهور عدَّة فغدا الْقلب دهشا والبنان مرتعشا والجفن بدمعه غرق وَالْقلب محترق وَقد أظلمت فى وجهى ديار الرّوم وعمت على قلبى غيوم الغموم فياله من خبر فتت الاكباد وَمنع الْعين الرقاد كدر الْعَيْش وجلب الطيش(3/279)
(وَكَانَ النَّوَى يكفى لتشتيت شملنا ... فَكيف اذا كَانَ النَّوَى والنوائب)
وَكنت أَرْجُو بقاه لاحظى بعد طول هَذِه الْفرْقَة بلقاه وَهَذِه حسرة الى الابد وجمرة لَا تكَاد تخمد فَلَا حِيلَة الا التَّسْلِيم والرضى وانا لله وانا اليه رَاجِعُون بِمَا قدر بِهِ وَقضى فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يلهمنا جميل الصَّبْر ويعظم لنا جزيل الاجر وَأَن يَجْعَل ذَلِك خَاتِمَة الكروب وقافية بَيت الخطوب وَمَا نقص من عمره وانكسف من بدره زِيَادَة فى عمر أَخِيه رَأس المَال ونتيجة جَمِيع الآمال ففى بَقَائِهِ عوض عَن كل ذَاهِب وَخلف عَن كل غارب واذا دَعَوْت الله أَن يمتعنى بسمعى وَبصرى عنيته واذا قلت اجعلهما الْوَارِث منى فَهُوَ الذى أردته لذَلِك وارتضيته وَوَقع لَهُ فى بِلَاد الرّوم مَا جريات وأشعار وترسلات أثبت مِنْهَا كثيرا فى رحلته الاخيرة وهى أحسن آثاره وَكَانَ لَهُ أَمَان من الدَّهْر ماطله بقضائها حَتَّى مل الاقامة ويئس من الطّلب فَأَشَارَ اليه بعض اخوانه بِعَمَل قصيدة للوزير أَحْمد باشا الْفَاضِل فنظم قصيدته الرائية الَّتِى مطْلعهَا
(طيف يمثله الغرام بفكره ... وَرَجا يحار بطيه وبنشره)
حكى لى مرَارًا أَنه لما دخل بهَا عَلَيْهِ تنَاول قرطاسها من يَده وَشرع فى قرَاءَتهَا الى أَن وصل الى قَوْله فِيهَا
(وألفت صرف الدَّهْر حَتَّى انه ... سيان عندى عسره مَعَ يسره)
فأعجبه الْبَيْت ثمَّ سَأَلَهُ عَن مطلبه فأنشده بَيت الطغرائى
(أُرِيد بسطة كف أستعين بهَا ... على قَضَاء حُقُوق للعلى قبلى)
فَزَاد عجابا بمناسبته ووعده مواعيد أنجزت وَلكنهَا تخلفت أَيَّامًا فَأَخَذته شدَّة القلق وَالْغَم لتأخرها وَمِمَّا اتّفق لَهُ انه كَانَ فى ذَلِك الاثناء مارا فى بعض أَزِقَّة دَار الْملك وَهُوَ فى غَايَة ضيق الصَّدْر فَسمع رجلا من الرّوم يَقُول بِلَفْظ عربى فصيح
(وَلَا بُد فى الاوقات وَقت مبارك ... )
فَفرج عَنهُ وَأخذ فأله مِنْهُ فَلم يمض أَيَّام قَليلَة الا ونالته شَفَاعَة الْوَزير بِقَضَاء بيروت وَلم تطل مُدَّة مقَامه بعد ذَلِك بالروم فَتوجه تِلْقَاء الشَّام ودخلها فى يَوْم الاحد غرَّة الْمحرم سنة سبع وَسبعين وَألف وَأقَام بهَا ثَلَاثَة أشهر ثمَّ توجه الى بيروت وصحبنى مَعَه وأقمنا بهَا مِقْدَار سنة ثمَّ رَجعْنَا الى الوطن وعدنا اليها مرّة أُخْرَى وأقمنا بهَا مِقْدَار عشرَة أشهر ثمَّ رَجعْنَا أَيْضا الى الشَّام تفرغ للتاريخ الذى جمعه وذيل بِهِ على تَارِيخ الْحسن البورينى وَالْتزم فِيهِ التسجيع وَهُوَ أحد مَادَّة(3/280)
تاريخى هَذَا وَجمع ديوَان شعره ومنشآته وَهَا أَنا مُجَرّد لَك قِطْعَة من شعره يبتهج بهَا الخاطر فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(رعى الله أَيَّام الشبيبة من عصر ... وهز نسيم الْعَيْش رَيْحَانَة الْعُمر)
(وَحيا بقاعا تنْبت الْحسن تربها ... وتبدى لنا الاقمار من فلك الخدر)
(حللت بهَا والدهر أَبيض مقبل ... وعيشى مُقيم فى خمائله الْخضر)
(تحوط بى الغيد الحسان أوانسا ... كَمَا اشتبكت زهر النُّجُوم على الْبَدْر)
وَقَوله من أُخْرَى
(عميد قلبه يجب ... بوجد الْخلّ يضطرب)
(اذا عنت لَهُ الذكرى ... بِنَار الشوق يلتهب)
(فَلَا وعد يعلله ... وَلَا وصل فيرتقب)
(فليلى كُله فكر ... ويومى كُله تَعب)
(فَحَيَّا ربع كاظمة ... وَلَا زَالَت بِهِ السحب)
(وعيشا مر لى رغدا ... عَلَيْهِ الصب ينتحب)
(بِبَيْت الطّرف فى دعة ... بِمن يهواه يصطحب)
(هِلَال بالبها تعنو ... لَهُ الاقمار والشهب)
(يروم الريم يحكيه ... وَلَكِن فَاتَهُ الشنب)
(يمِيل بِغُصْن قامته ... اذا مَا هزه الطَّرب)
(بدا والكاس فى يَده ... زها باللؤلؤا الحبب)
(فمسكنه غَدا قلبى ... وَعَن عينى يحتجب)
(فَمن أفتاه فى تلفى ... ترى للهجر مَا السَّبَب)
(ولوم لوائمى لؤم ... وعذل عواذلى عجب)
(لَعَلَّ لياليا تصفو ... ودهرى للمنى يهب)
(فتسعدنى وتمنحنى ... بمولى صَدره رحب)
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(غزال با سياف اللحاظ يصول ... لَهُ فرع حسن قد نما وأصول)
(يطول على اللَّيْل من فرط هجره ... وَلَا غر وليل العاشقين يطول)
(أسائل من شوقى لَهُ نسمَة الصِّبَا ... اذا ازاد وجدى والمحب سؤول)(3/281)
(أرَاهُ بِعَين الْقلب فى كل سَاعَة ... قَرِيبا وَلَكِن مَا اليه وُصُول)
(أكل محب بالجفاء معذب ... وكل حبيب بِالْوَفَاءِ بخيل)
(فكم أندب الاطلال منى جَهَالَة ... وهيهات أَن يسلى العميد طلول)
(فها مهجتى وتف عَلَيْهِ محبس ... وقلبى رهين والفؤاد كَفِيل)
(عساه بِأَن يشفى فؤادى بزورة ... فانى من دَاء الْفِرَاق عليل)
(وعل زمانى بالامانى يجود لى ... فان جواد الْحَظ مِنْهُ جفول)
(فآها على أَوْقَات قرب تقدّمت ... وساعات سعد مَا لَهُنَّ مثيل)
(زمَان بِهِ غُصْن الشبيبة يَانِع ... وَوجه زمانى بالسرور جميل)
(سقى الله هاتيك الْمنَازل والربى ... وربعا بِهِ أهل الحبيب نزُول)
(وَحيا على رغم النَّوَى كل لَيْلَة ... تولت وطر فى بالرقاد كحيل)
(وَأَيَّام أنس لَا يكدر صفوها ... بلوم وَلم يعذل هُنَاكَ عذول)
(فَمَا ملت يَوْمًا بعْدهَا لشمائل ... وَلَا حركتنى للغرام شُمُول)
وَقَوله من أُخْرَى
(حَدِيث غرامى فى هَوَاك صَحِيح ... وقلبى كأقوال الوشاة جريح)
(وشوقى الى لقياك شوق حمامة ... لَهَا فَوق أفنان الغصول صدوح)
(فتندب اطلالا لَهَا ومعاهدا ... وَتظهر أشجانا بهَا وتصيح)
(فَلَا مؤنس فى الدَّار لى غير صَوتهَا ... اذا هاج وجدى والدموع تسيح)
(كِلَانَا غَرِيب يشتكى الهجر والنوى ... فيبكى على الف لَهُ وينوح)
(فقلبى وجفنى ذَا يذوب صبَابَة ... حَزينًا وَهَذَا بالدموع قريح)
(ومهجة صب مستهام متيم ... بهَا صَار من دَاء الغرام قُرُوح)
(أهيم غراما حِين أذكر جلقا ... ودمعى بسفح القاسيون سفوح)
(وَلَو كَانَ طرفى فى يدى عنانه ... سعيت وَلَكِن عَن مناي جموح)
وَقَوله من أُخْرَى
(ومصون عَلَيْهِ عِبْرَة حسن ... حَجَبته عَن أعين الاوهام)
(حبه فى الْقُلُوب سر خفى ... كخفاء الارواح فى الاجسام)
(ملك لم يدع من الْحسن شَيْئا ... لسواه يرَاهُ فى الاحلام)
وَمن مقاطيعه قَوْله(3/282)
(وَقد كنت أخْشَى الْبعد والشمل جَامع ... بأحبابنا وَالْقلب دَار وداد)
(فقد صرت فى ذَا الْآن أبعد طَالب ... وأقنع من رؤياهم بمداد)
وَقَالَ من الرباعيات
(يَا قلب دنت خيام سعدى فلج ... وانعم سحرًا بِطيب ذَاك الارج)
(واصبر جلدا وَلَا تكن فى حرج ... فالصبر غَدا مِفْتَاح بَاب الْفرج)
وَله
(يَا قلب ان كنت قلبِي ... فِي الْحبّ لَا تتقلب)
(لَعَلَّ من بعد بعد ... يدنو الحبيب فتطرب)
وَله فى صدر مُكَاتبَة
(ان كتبى الى جنابك تبدى ... بعض مَا بى من كَثْرَة الاشواق)
(وفؤادى أضحى عليل اشتياقى ... لَيْسَ يشفيه مِنْك الا التلاقى)
لَهُ غير ذَلِك وَأما منشآته فكثيرة جدا وَلما كَانَت هى الْمَقْصُودَة بِالذَّاتِ من آثاره ذكرت فصولا مِنْهَا ليتم الْغَرَض فَمن ذَلِك قَوْله من فصل كتب بِهِ الى قَاض نقل اليه عَنهُ انه يزدريه مولاى حرس الله تَعَالَى مَجْلِسه وَشرح صَدره وأدام أنسه ان الاعداء مَا زَالُوا يترقبون فرْصَة ويرتادون وسيله ليتوصلوا بهَا فى الْقدح بى لَدَى هاتيك الحضرة الجليلة حَتَّى غفل البواب وَفتح لَهُم الْبَاب رتبوا شباك الْغدر ونصبوا حبائل الْمَكْر واستفرغوا فى السّعَايَة جهدهمْ وأخرجوا أقْصَى مَا عِنْدهم وسلكوا فى الافتراء طَرِيقا عجبا وَكَانُوا يتمنون لذَلِك سَببا
(وَأصْبح أَقوام يَقُولُونَ مَا اشتهوا ... وَغَابَ أَبُو عَمْرو وَغَابَتْ رواحله)
وَلَو رَأَيْت مَا افتروه فى الْمَنَام لتحققت أَنه أضغاث أَحْلَام وتعوذت بِاللَّه من شَرّ منامى وَسَأَلته سُبْحَانَهُ الْعَافِيَة من طوارق أحلامى
(لَو كَانَت الاحلام ناجتنى بِمَا ... أَلْقَاهُ يقظان لأصمانى الردى)
ولظننت ان تِلْكَ الرُّؤْيَا نتيجة فكر ردى وبخار خلط سوداوى وانما دفعت فى منامى الى هَذَا التَّخْلِيط لَا كل الباذنجان والقنبيط فَبِحَق حياتك العزيزة عندى وَشرف طبعك الذى اسْتَأْثر بِمَجْمُوع شكرى وحمدى ان مَا قيل من مَحْض الاباطيل وَدَعوى من غير دَلِيل وَالله على مَا نقُول وَكيل اللَّهُمَّ انا نَسْأَلك عقلا يعقلنا عَن مثل تِلْكَ الحماقات ورشدا يمنعنا عَن تِلْكَ الدَّعَاوَى الباطلات(3/283)
(والدعاوى مَا لم يقيموا عَلَيْهَا ... بَيِّنَات أبناؤها أدعياء)
فالباطل يصغر من حَيْثُ يكبر ويقل من حَيْثُ يكثر والسعاية سلَاح من لَا سلَاح لَهُ وَالْكذب كيد من لَا كيد لَهُ فَمن جبل على الكدر لَا يصفو أبدا والذى خبث لَا يخرج الا نكدا وَمن فصل آخر كتب بِهِ الى صديق لَهُ عزل عَن منصب وَبدل بشخص دنى يعز على أَن أنظر الى ذَلِك الصَّدْر وَقد جلس فِيهِ غير ذَلِك الْبَدْر وانى لاستحى لعينى ان أفتحها على الصَّغِير وقسد جلس مجْلِس الْكَبِير فانى لذَلِك ضيق ساحة الصَّدْر قريب غر وَالصَّبْر كثير المباراة قَلِيل المداراة فَمَا أسْرع الايام على الْكَرِيم فِيمَا يضرّهُ وعَلى اللَّئِيم فِيمَا يسره فَترفع كل وغد خسيس وتخفض كل حر نَفِيس فَمَا هى الا الْبَحْر تسفل فِيهِ الْجَوَاهِر النفيسة وتطفو فَوْقه الجيفة وكالميزان يرفع من الكفة مَا يمِيل الى الخفة ويخفض مَا يفى بالرجحان وَيبعد من النُّقْصَان وَلَا بدع فهى علامه على قيام القيامه وَهَذَا الْخُرُوج مُقَدّمَة يَأْجُوج وَمَأْجُوج
(يَا ضَيْعَة الاعمار فى طلب العلى ... بِالْعلمِ وَالنّسب الذى بالشين)
على أَن المنصب يشرف بِصَاحِبِهِ والمركب يجل براكبه فالصغير مِنْهُ بالكبير كَبِير وَالْكَبِير مِنْهُ بالصغير صَغِير
(أَنْت الْكَبِير الذى لَا الْعَزْل ينقصهُ ... قدرا وَلَا المنصب العالى بشرفه)
وهى جلْسَة خطيب وسحابة صيف تقشع عَن قريب وَمن فَرح النَّفس مَا يقتل وَقد تهافت تهافت الْفراش بالشهاب وولغ ولوغ الذُّبَاب فى الشَّرَاب وَلَو أَن الدَّهْر يُجيب من خاطبه وَيَعْتِبُ من عاتبه لاستدركت هَذِه الْغَفْلَة عَلَيْهِ وفوقت سِهَام الملام اليه لكنه أَصمّ عَن الْكَلَام صبور على وَقع سِهَام الملام فَمن عَمُود الى عَمُود فرج وَكم صَبر يشم مِنْهُ طيب الارج وَله من فصل آخر كتب بِهِ الى بعض أحبابه يعْتَذر عَن عدم الْمُكَاتبَة أُرِيد أَن أقدم على المعذرة فأحجم وأكاد أَن أعرب عَن الشوق فأعجم كَيفَ لَا وشوقى مَالا تسعه عباره وذنب تقصيرى لَيْسَ لَهُ غير الْعَفو كفاره
(وَمَا الْفضل الا خَاتم أَنْت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم بِهِ عذرى)
وَله من فصل آخر فى توقع أُمْنِية لَا يعزب عَن علم الْمولى بلغه الله تَعَالَى أمله ان أفضل الصَّدَقَة أَن تعين بجاهك على من لَا جاه لَهُ وشفاعة اللِّسَان أفضل زَكَاة(3/284)
الانسان وَلَا يخفى قَوْلهم زَكَاة الجاه رفد المستعين وَقد وَردت من أَنهَار فضلك كل معِين فَمن طلب الرى من الْفُرَات لم يخْش الظمأ فى ورده وَمن قصد الْكَرِيم برجائه لم يخب فى قَصده فَلَيْسَ يُنجى من هَذِه الآلام والشدائد الَّتِى تعجز عَن وصفهَا السّنة الاقلام الا لمحة من لمحات فضلك وَلَا يجْبر هَذَا الْكسر الا نفحة من نفحات عدلك وَمَا عسر وعد أَنْت مستنجزه وَلَا بعد أَمر أَنْت منتهزه وَمَا خَابَ من أَنْت رائش نبله وواصل حبله والثقة وَاقعَة بك على كل حَال والمثوبة مُحَققَة من الْكَرِيم المتعال وَمن آخر يُعَاتب فِيهِ على قطع المراسلة تَأَخّر عَنى كتاب سيدى متع الله الادب بطول بَقَائِهِ وَصرف السوء عَن شرِيف حوبائه حَتَّى كدت أنسى أَيَّام المراسلة وصرت أرى فى الْمَنَام أَوْقَات الْمُكَاتبَة والمواصلة ثمَّ انى راجعت ظنى فَوجدت الذَّنب مقسوما بَينه وبينى فتحملت حِصَّة مِنْهُ ثمَّ انْفَرَدت بِجَمِيعِهِ عَنهُ فها أَنا الْآن أبدى عَن ذَلِك عذرا مَعَ اعترافى بالتقصير كلما ضَاقَ الامر صَدرا أوسعته صبرا
(وَمَا كَانَ قطع الْكتب عَنى ملالة ... وحاشا لمثلى أَن يُقَال ملول)
(وَلَكِن أُمُور قد عرت وحوادث ... ألمت وَشرح الحادثات يطول)
فالمحجوج بِكُل شئ ينْطق والغريق بِكُل خبل مُتَعَلق وَلَقَد عققت الود وظلمت الْعَهْد وَكنت منتظرا لعساكر العتاب فَلم يرد على الى هَذَا الْيَوْم من ذَلِك الجناب خطاب وَلَا كتاب فَكتبت هَذِه الاحرف أَخطب بهَا مودتى الْقَدِيمَة وَصدق ولائى من تِلْكَ الحضرة الْكَرِيمَة وَأَنا الْآن بِكِتَاب سيدى اذا ورد على أَشد سُرُورًا من المشتاق الى التلاق بعد طول الْفِرَاق وَقد مددت الى الطَّرِيق عينى وَأخذت أعد الخطا بَينه وبينى أَحسب كل انسان رَسُولا وكل شخص كتابا الى مَحْمُولا وَمن رِسَالَة لَهُ أرسلها الى مَنْصُور الطَّبِيب العيسوى
(أَنا أَصبَحت لَا أُطِيق حراكا ... كَيفَ أَصبَحت أَنْت يَا مَنْصُور)
قد طَالَتْ الْعلَّة وَطَابَتْ الْعُزْلَة فَلَيْسَ فى الْحَرَكَة هَذَا الْآن بركه والانقطاع أربح مَتَاع والاجتماع جالب للصداع والاختلاط محرك للاخلاط والوحشة استئناس وَأجْمع للحواس
(خلت الديار فَلَا كريم يرتجى ... مِنْهُ النوال وَلَا مليح يعشق)
فَهُوَ زمَان السُّكُوت وملازمة الْبيُوت وَأَوَان القناعة بالقسوت وَذَلِكَ قوت من(3/285)
لَا يَمُوت
(فالحرحر وان مَسّه الضّر فوطؤه خَفِيف وضالته رغيف ... )
(لُزُوم الْبَيْت أروج فى زمَان ... عد منافيه فَائِدَة البروز)
(فَلَا السُّلْطَان يرفع من محلى ... وَلست على الرّعية بالعزيز)
(وَلست بواجد حرا كَرِيمًا ... أكون لَدَيْهِ فى حرز حريز)
وَهَذَا مَا وَقع اختيارى عَلَيْهِ من منشآته لاثباته فى تَرْجَمته ووراءه أَشْيَاء أخر تمتّع كل مطالع أَعرَضت عَنْهَا حذرا من التَّطْوِيل وَبِالْجُمْلَةِ فنثره كَمَا ترَاهُ مفرغ فى قالب السلاسه خَال من وصمة التعقيد وَفِيه معَان عذبة وألفاظ رائعة وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الاربعاء سَابِع عشر الْمحرم سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوفى نَهَار الثُّلَاثَاء قبيل الظّهْر بِمِقْدَار سَاعَة ثَالِث عشرى جُمَادَى الثَّانِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر بِجَامِع بنى أُميَّة وَدفن بمدفننا الْخَاص قبالة جَامع جراح فى قبر جده ووالده
الشَّيْخ فضل الله بن مُحَمَّد الرومى البركلى وَأَبوهُ الشَّيْخ الْعَالم الْعلم صَاحب كتاب الطَّرِيقَة المحمدية أَخذ الْعُلُوم عَن وَالِده وَقدم الى قسطنطينية فى حُدُود سنة عشْرين وَألف وَأقَام بهَا واشتهر صيت علمه وَأعْطى وظائف الْوَعْظ والتذكير من ذَلِك وعظ جَامع السُّلْطَان سليم وَكَانَ ينْقل فِيهِ التَّفْسِير ثمَّ أعْطى وعظ جَامع السُّلْطَان بايزيد وَكَانَ عَالما فصيح اللِّسَان حسن الْبَيَان باهر الشان وَكَانَ للنَّاس عَلَيْهِ اقبال تَامّ وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاثِينَ بعد الالف وَصَارَ مَكَانَهُ واعظ الْعَالم الشهير بقاضى زَاده الرومى صَاحب الطَّرِيقَة الْمَشْهُورَة فى التقشف والصلابة فى الدّين وَكَانَ صَار مَكَانَهُ أَيْضا واعظا بِجَامِع السُّلْطَان سليم وسيأتى ابْنه مُحَمَّد الْمَعْرُوف بعصمتى ان شَاءَ الله تَعَالَى
فضل الله باشا الْوَزير نَائِب الْيمن وَليهَا بعد مُحَمَّد باشا فَكَانَ وُصُوله الى بندر الصليف فى ثانى شهر ربيع الاول سنة احدى وَثَلَاثِينَ وَألف وَدخل صنعاء فى رَجَب من هَذِه السّنة وَكَانَ يغلب على ظَاهر أَحْوَاله الجذب من سرعَة حركاته وَهُوَ فى جَمِيع أَحْوَاله من أهل الحزم والدهاء وَكَانَ يخَاف من الله تَعَالَى ويلوذ بالصالحين وَكَانَ كثير الصَّدقَات للْعُلَمَاء والسادة والفقراء وَكَانَ يَدُور فى اللَّيْل بِنَفسِهِ على بيُوت الاشراف وَيحسن اليهم وَكَانَ مجدا فى الامر بالصلوات فى الْجَمَاعَات وَمن تَأَخّر عاقبه وبرزت أوامره الى سَائِر الْوُلَاة بِأَن يأمروا كَافَّة أهل الاسلام بِحُضُور(3/286)
الْجَمَاعَات حَتَّى عمرت الْمَسَاجِد فى زَمَنه ونسى اسْم الْخمر وَكَانَ يسْعَى على قدمه الى الْجَوَامِع للصلوات وَكَانَ زَمَانه زمَان خصب وَخير رخصت فِيهِ الاسعار وَكَثُرت الامطار وَحصل الامن فى الطرقات وَلما وصل الْخَبَر اليه ان بِلَاد الْيمن قد وجهت للوزير حيدر باشا نَهَضَ قبل مَجِيئه بسبعة أشهر خوفًا أَن يَقع فى جَانِبه كَمَا وَقع على من تقدمه من الْحُكَّام وَخَافَ من عَاقِبَة هَذَا الامر أَن يكون سَببا لخراب الْبِلَاد فَلم يملك نَفسه فى التَّرَبُّص والتوقف مَعَ علو صيته وبطشه فى الحروب حِين كَانَ فى الْيمن بل شمر ونهض مُعْلنا انه يُرِيد أَن يطوف فى ولَايَة الْيمن وَقد فعل قبل ذَلِك ليَكُون سَبِيلا لمثل ذَلِك وان مُرَاده اظهار الْعدْل والانصاف ولاجل قمع شَوْكَة الفرنج الَّذين تسلطوا على المراكب فى الْبَحْر وَكَانَ خليقا بِهَذَا الامر لَوْلَا استعجاله بالنهوض وباطنه بِخِلَاف مَا أظهر فانه أضمر فى نَفسه الخلوص من الْيمن قبل أَن يحصل لَهُ فتْنَة فَكَانَ خُرُوجه من صنعاء فى حادى عشرى شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف فوصل الى أَبى عريس وهى انْتِهَاء حد ولَايَة الْيمن وَذَلِكَ فى شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة فانتقل الى رَحْمَة الله تَعَالَى فَلَمَّا صَارَت الْبِلَاد خَالِيَة مِمَّن يدعى الْملك نَهَضَ الامير مُحَمَّد بن سِنَان باشا وَقد أدْركهُ الْعجب بحب الرياسة وَالْملك اعْتِمَادًا مِنْهُ على أَحْوَاله بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَة وَأظْهر أَنه يُرِيد حفظ الخزانة الَّتِى خلفهَا الْمَذْكُور وَقد رَجَعَ كتخدا الْوَزير فضلى باشا بالخزينة والعساكر حِين وصل اليه الْمقر الْكَرِيم الامير خضر لاجل ازعاجهم مِمَّن هُوَ قَائِم بالامر فحين الْتَقَوْا فى مرجعهم بالامير مُحَمَّد قبض على الخزائن وَنكل السكتخدا الْمَذْكُور وَسَائِر أَتبَاع الْوَزير بأشد النكال وصادرهم وَكَاد يبوح بالاستقلال فَلَمَّا ركب فى غير سَرْجه ودرج فى غير برجه أحاطت بِهِ النحوس من كل جَانب وَلما اسْتَقر فى مَدِينَة زبيد فى جمع عَظِيم وَقد اشْتهر من الاراجيف ان الْحَاكِم الْمُتَعَيّن لليمن حصل عَلَيْهِ أَمر فى الْبَحْر ووردت بعد ذَلِك اخبار وُصُوله الى بندر جدة مَعَ رجل من أَتْبَاعه فَحِينَئِذٍ ظن الامير أَن خُرُوج صَاحب الامر من بندر الْبقْعَة يقرب زبيد وتطايرت الاخبار الى الْوَزير بِبَعْض حركته فَعدل الى طَرِيق بندر المخا فَكَانَ خُرُوجه الى البنرد الْمَذْكُور يَوْم الْجُمُعَة غرَّة شهر ذى الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف فحين خرج من الْبَحْر أرسل الى الامير أَن يصل اليه فَلَمَّا وصل قابله فِيمَا طلبه من الاسعاف فَلَمَّا تمكن أَمر بِقطع رَأسه فَقطع فى يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف(3/287)
الشريف فهيد بن الْحسن بن أَبى نمى أحد أَشْرَاف مَكَّة كَانَ من أمره أَنه شَارك أَخَاهُ الشريف ادريس وَابْن أَخِيه الشريف محسن بن حُسَيْن بِالربعِ فى جَمِيع أقطار الْحجاز الدَّاخِلَة تَحت حكم صَاحب مَكَّة فكثرت أَتْبَاعه من الاشراف وَغَيرهم بِحَيْثُ صَار موكبه يضاهى موكب الْملك وَكَانَ اذا جلس وقفت التّرْك عَن يَمِينه وشماله وَاتخذ رُمَاة للبندق نَحْو مِائَتَيْنِ أَو أَكثر وَلم يحفظ أَتْبَاعه وعبيده من النهب وَالسَّرِقَة فَكثر ضَرَره على النَّاس وَعجز عَن مداراته الشريف ادريس وَلما اشْتَدَّ أمره أَخذ بِجَانِب أكمل الدّين القطبى وَأَرَادَ أَن يصيره مفتيا فَلم يرض الشريف ادريس وَوَقع بَينهمَا فَأرْسل الشريف ادريس لِابْنِ أَخِيه الشريف محسن وَكَانَ اذ ذَاك فى الْيمن بِأَن يأتى بِجَمِيعِ من مَعَه من الاشراف والقواد وَالْعرب فَحَضَرَ وَمَعَهُ أَمِير حلى مُحَمَّد بن بَرَكَات الحرامى ونودى فى مَكَّة بِأَن الْبِلَاد لله وللسلطان وللشريف ادريس والشريف محسن وخلع الشريف فهيد من الذّكر وَمنع من الرّبع وَلم يخْطب لَهُ وَكَانَ يَوْمئِذٍ بِمَكَّة فى بَيته وجموعه وافرة فاستعد أَصْحَابه لِلْقِتَالِ وَأَشَارَ اليه أعيانهم بِالْحَرْبِ فَامْتنعَ من ذَلِك وَطلب من الشريف ادريس مِقْدَار شهر مهله ليتأهب لِلْخُرُوجِ من مَكَّة وَيتَوَجَّهُ الى حَيْثُ أَرَادَ فَخرج من مَكَّة فى سنة تسع عشرَة وَألف وَطلب من أَخِيه الشريف ادريس أَن يُمكنهُ من سُكْنى مَكَّة بِغَيْر ربع فَامْتنعَ فانضم الى بعض أكَابِر الْحَاج المصرى وسافر الى مصر وتاريخ قدومه مصر قدومكم خير ثمَّ توجه الى الديار الرومية وَاجْتمعَ بالسلطان أَحْمد فَيُقَال انه أنعم عَلَيْهِ بأماره مَكَّة فعاجلته الْمنية وَمَات هُنَاكَ فى سنة عشْرين بعد الالف وَقيل فى تَارِيخ مَوته مَاتَ بالروم فهيد بن الْحسن
فيض الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْقَاف الرومى قاضى الْعَسْكَر أحد مشاهير فضلاء الرّوم كَانَ فَاضلا أديبا فصيح اللهجة هدار الشقشقة طنان الصيت وَله تَقْرِير وتحرير وأشعار بِالْعَرَبِيَّةِ حَسَنَة التأدية ولى فى ابْتِدَائه قَضَاء حلب وَلما دَخلهَا أنْشد لنَفسِهِ قصيدة طَوِيلَة فى مدحها ومستهلها
(الْحَمد لله منجينا من الكرب ... جِئْنَا الى حلب الشهبا بِلَا تَعب)
(مصر جَلِيلًا خَلِيل الله عمره ... طُوبَى لساكن مصر قد بناه نبى)
(وَلَيْسَ قصدى سوى دفع الْمَظَالِم عَن ... ذِي حَاجَة عَاجز يَدْعُو وَلم يجب)
ثمَّ بعد مُدَّة من عَزله عَن قَضَائهَا وَجه اليه قَضَاء الشَّام وَذَلِكَ فى سنة تسع وَتِسْعين(3/288)
وَتِسْعمِائَة ومدحه الْجمال يُوسُف بن العلموى بقصيدة طَوِيلَة لم أَقف عَلَيْهَا وَكَانَ طلب من عُلَمَاء دمشق أَن يقرظوا لَهُ عَلَيْهَا فَكتب عَلَيْهَا مِنْهُم جمَاعَة مِنْهُم جدى القاضى وَالشَّمْس ابْن المنقار وَالْحسن البورينى وَلما وقف القاضى الْمَذْكُور على القصيدة والتقاريظ عمل أبياتا يمتدح بهَا أهل دمشق وَيُشِير الى أَسمَاء بعض من قرظ والابيات هى هَذِه
(عموا واسلموا يَا أهل جلق بالبشر ... صباحا وفى عَيْش رغيد مدى الدَّهْر)
(وَلَا نالكم ضيم وَلَا مسكم أَذَى ... من القاسطين الجائرين ذوى الْجَبْر)
(أَضَاءَت شموس الْعلم فاضت بحوره ... فآضت دمشق الشَّام تعبق بالنشر)
(مشايخهم فى عَالم الْقُدس وجدهم ... وأنفاسهم قدسية مجْلِس الذّكر)
(وكل مُرِيد الْخَيْر وَالْبر والتقى ... وكل محب الدّين ذُو الْفضل وَالْقدر)
(هم حسنوا الاخلاق قد طَابَ شملهم ... وأقوالهم أقوى لَهُم صدقهَا يجرى)
(وَكم قَارِئ بَاب الْفَضَائِل قارع ... وَكم شَاعِر يسبى الْعُقُول من السحر)
(أتوى بقريض فى المديح كَأَنَّهُ ... جَوَاهِر قدرا قد علت أنجم الزهر)
(فألفاظه قطر الندا مَوضِع الصدا ... على انه قد فاض حَتَّى على الْبَحْر)
(أاشراق شمس أم سنا الْبَدْر قد بدا ... وسمط لآل أم عُقُود من الثغر)
(أينثر من بَحر الْمعَانى لآلئا ... فينظمها فى سلك جيد من الْفِكر)
(وَكم لاقط من درفيه جواهرا ... فرائد تغنى النَّحْر عَن دُرَر الْبَحْر)
(وانى وان أبديت للْعلم بهجة ... وأعليته حَتَّى سما رُتْبَة الْبَدْر)
(وانى وان جَاهد فى الله قَائِما ... بنصر التقى فى الدّين خيرا من النَّضر)
(وانى وان أصلحت سرى مخلصا ... لربى حَتَّى فزت بِالْحَقِّ فى السِّرّ)
(وَلَكِن ظُهُور الْحق صَعب واننى ... على الذَّنب وَالتَّقْصِير مُسْتَوفى الْعذر)
(ونيتنا اجراء شرع نَبينَا ... عَلَيْهِ سَلام الله فى السِّرّ والجهر)
(فَكُن عون فيض الله يَا سيد الورى ... بامداد أهل الْعَجز والضعف والفقر)
وَلما عزل عَن دمشق رَحل الى الرّوم وَأقَام مُدَّة ثمَّ ولى قَضَاء الغلطة فى سنة اثْنَتَيْنِ بعد الالف ثمَّ لم يزل يتَوَلَّى بعد ذَلِك منصبا بعد منصب حَتَّى ولى قَضَاء العسكرين وانتقل بالوفاة وَمن مَشْهُور شعره قصيدته الَّتِى مدح بهَا السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان سليم وَيذكر فتح عُثْمَان باشا لمدينة تبريز وَذَلِكَ فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة(3/289)
ومطلعها
(لله درجيوش الرّوم اذ ظَهَرُوا ... على الروافض قد صَارَت بهم عبر)
(كم أبدعوا بدعا سبا ومظلمة ... لَهُم قُلُوب يحاكى لينها الْحجر)
(فَالنَّاس تجأر للرحمن من يدهم ... وَالله يسمع مِنْهُم كلما جأروا)
(أَتَت اليهم جيوش الرّوم يقدمهَا ... من بأسها المنذران الْخَوْف والحذر)
(وعندما اقْترب الْجَيْش العرمرم من ... تبريز ثمَّ بدا فى ذاتهم خور)
(فشجعوا أنفسا مِنْهُم قد امتلئت ... جبنا وَقد طاشت الاحلام والفكر)
(ظنُّوا بِأَن الليالى نحوهم نظرت ... فَأَخْطَأَ الظَّن لما أَخطَأ النّظر)
(وأملوا سحرًا من ليل كربهم ... فَلم يكن لدجى أوصابهم سحر)
(لما رأى بأسنا حمر الرؤس اذا ... فروا كَمَا فر من أَسد الشرى الْحمر)
(قُلُوبهم خشيت أَبْصَارهم عميت ... شَاهَت وُجُوههم خوفًا وَقد خسروا)
(سطوا بهم فتراهم ذَا يَغْزُو ذَا ... عان أَسِير وَذَا فى الترب منعفر)
(وَالنَّقْع ليل بهيم لَا نُجُوم بِهِ ... تلوح للعين الا الْبيض والسمر)
(فالبيض فى يدهم صَارَت صوالجة ... والارؤس الْحمر فِيمَا بَينهم أكر)
(كَأَنَّمَا السمر مغناطيس أنفسهم ... فَحَيْثُ مَالَتْ ترى الارواح تنتثر)
(ذوت رياض أمانيهم فَلَا ثَمَر ... يلوح فِيهَا وَلَا فى دوحها ثَمَر)
(وللفرار الى الاقطار قد نفروا ... وَمَا لَهُم معشر فِيهَا وَلَا نفر)
(فَأَصْبحُوا لَا ترى الا مساكنهم ... وَقد خلت مَا بهَا عين وَلَا أثر)
(وتخت تبريز نَادَى وَهُوَ مبتهج ... هَذَا الزَّمَان الذى قد كنت أنْتَظر)
(فيا مليكا لَهُ كل الْمُلُوك غَدَتْ ... تدين طَوْعًا وتأتى وهى تعتذر)
(سروا ملك الارض وَالدُّنْيَا فَأَنت اذا ... اسكندر الْعَصْر قد وافى بِهِ الْخضر)
(فيا لَهَا نعْمَة آثَار مفخرها ... كَانَت لدولته الغراء تدخر)
(ظلّ الا لَهُ مُرَاد الله قد شرفت ... بِهِ المنابر والتيجان والسرر)
(أجل من وطئ الغبراء من ملك ... بأَمْره سَائِر الاملاك تأتمر)
(بداله فى سَمَاء الْمجد نور هدى ... من دونه النيرَان وَالشَّمْس وَالْقَمَر)
(بعزمه ظهر الْفَتْح الذى عجزت ... عَنهُ السلاطين قد أفنتهم الْعَصْر)
(وَأصْبح الْملك محروس الجناب وَقد ... وافى بِهِ المسعدان الْقدر وَالْقدر)
(لوفاخرته مُلُوك الارض قاطبة ... مَا نالهم من معانى فخره الْعشْر)(3/290)
(هَل يستوى الشَّمْس والمصباح جنح دجى ... ويستوى الجاريان الْبَحْر وَالنّهر)
(عطفا على العَبْد فيض الله ناظمه ... وَقَلبه من صروف الدَّهْر منكسر)
(لَا زَالَ ملكك دورى السُّعُود فَلَا ... يرى لَهُ آخر فى الدَّهْر ينْتَظر)
(بدولة تخلق الايام جدَّتهَا ... مَا لَاحَ جنح الدياجى الانجم الزهر)
وَكَانَ أبوالمعالى الطالوى وَهُوَ بالروم أحد ندمائه وَله فى مدحه قصائد كَثِيرَة وَله مَعَه مداعبات فَمن ذَلِك مَا كتبه اليه فى لَيْلَة شَاتِيَة يطْلب مِنْهُ ولنسة وفيهَا لُزُوم مَا لَا يلْزم
(قل لفيض الله مَوْلَانَا أدام الله أنسه ... )
(ان نوع الْبرد هَذَا ... مَا رَأينَا قطّ جنسه)
(هجم الدَّار وفيهَا ... عقل الظَّالِم عنسه)
(وجد الْمنزل خَال ... قد أَجَاد العَبْد كنسه)
(فثوى بَين ضلوع ... لقِيت مَا لَيْسَ أنسه)
(سَمِعت بالروم مِنْهُ ... اننى أهل بلنسه)
(فأغثنى يَا غياثى ... من يَدَيْهِ بولنسه)
وقرأت فى كتاب السانحات قَالَ كنت أغشى فى زمَان عَزله كل وَقت دَاره وحماه وَأَجْعَل سميرى فى ليل ذَلِك الْعَزْل قمر محياه وَهُوَ يعد ويمنى بِحُصُول بعض المطالب والمآرب اذا ولى منصبا من بعض المناصب فَلَمَّا ولى قَضَاء الغلطه صَارَت تِلْكَ المواعيد كَأَنَّهَا مغلطه وَأما تَوليته قَضَاء اسلامبول فقد خَابَ فِيهَا الامل وَخيَّب المأمول فَكتبت اليه وَلم أعول عَلَيْهِ
(لى صَاحب فى الْعَزْل يبصر دَائِما ... مَا لَيْسَ فى الاجسام يدْرك بالبصر)
(فيكاد يحكم عِنْد رُؤْيَته على ... طوق الْحَمَامَة ثمَّ ألوان أخر)
(ولربما نظر النُّجُوم لوامعا ... وَقت الضُّحَى وَرَأى السهى مثل الْقَمَر)
(بصر حَدِيد فى الْحَدِيد نُفُوذه ... كنفوذ أضواء الاشعة فى الاكر)
(فَكَانَ زرقاء الْيَمَامَة كحلت ... جفنيه من كحل لَدَيْهَا مدخر)
(مَا زلت أنهله مياه مودتى ... وأعل مِنْهُ الصفو خَال من كدر)
(لَا صَبر لى عَنهُ نَهَارا كَامِلا ... وكذاك عَنى لَيْسَ فِيهِ مصطبر)
(واذا جرى ذكر لَهُ فى مجْلِس ... جادلت عَنهُ بِالْخُصُومَةِ من حضر)
(أما الصداقة والعلاقة بَيْننَا ... فحديثها بَين الانام قد اشْتهر)(3/291)
(حَتَّى اذا ولى الْقَضَاء رَأَيْته ... أعمى البصيرة فِيهِ مكفوف النّظر)
(لَا يهتدى سبل الرشاد بقائد ... كم حذروه مِنْهُ لَو نفع الحذر)
(لوشام بارق دِرْهَم لِجَهَنَّم ... أَهْوى ليأخذه دولو كَانَت سقر)
(فَغَدَوْت مِنْهُ مثل همزَة وَاصل ... أوراء وَاصل حِين لفظتها هجر)
(لَكِن أَقمت على التباعد عذره ... والدهر فِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر)
(وَرَأَيْت أحسن مَا يُقَال لمثله ... يَوْمًا اذا جَاءَ القضا عمى الْبَصَر)
انْتهى وَكَانَت وِلَادَته فى سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى سلخ جُمَادَى الاولى سنة عشْرين وَألف
حرف الْقَاف
المنلا قَاسم بن أَحْمد الكردى نزيل دمشق من أفاضل الاكراد ورد الى دمشق وَأقَام بِالْمَدْرَسَةِ الاحمدية قبالة قلعة دمشق وأقرأ بعض الطّلبَة وَسكن دمشق وَأَنْشَأَ دَارا بِالْقربِ من جَامع الدرويشية وَلما قدم محافظ الشَّام الْوَزير أَحْمد باشا الكوجك جعله اماما لَهُ وَحصل أَمْوَالًا كَثِيرَة وَصَارَ خَادِمًا لمزار سيدنَا يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلما عمر مخدومه الْمَذْكُور عِمَارَته بِدِمَشْق شَرط لَهُ النّظر عَلَيْهَا فَلَمَّا مَاتَ أَحْمد باشا اسْتَأْجر وَقفه ببعلبك وَصرف جهده فى تنمية الْوَقْف وَبعده اضمحل أمره وَخَربَتْ قراه وَمن عَجِيب أمره أَنه كَانَ سخيا الى الْغَايَة والسخاء فى الاكراد أعجب العجيب وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاحد سادس الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بالقلندرية بمقبرة بَاب الصَّغِير
قَاسم بن عبد المنان الكردى الاصل نزيل دمشق نَاظر وقف سِنَان باشا بِالشَّام وَأحد الكبراء الصُّدُور هُوَ فى الاصل من عتقى الْوَزير الاعظم سِنَان باشا الْمَذْكُور خدمه فى صغره ثمَّ خدم ابْنه مُحَمَّد باشا وَهُوَ نَائِب حلب وَكَانَ وَكيل خرجه وَغَضب عَلَيْهِ آخر أمره بِسَبَب ان سوقة حلب طالبوه بِمَا لَهُم عِنْده من الْمصرف وَكَانَ مِقْدَاره تِسْعَة آلَاف قِرْش فَطَلَبه من مخدومه فطرده وألزمه باعطاء الْمبلغ من مَاله فَأعْطَاهُ وَلم يبْق عِنْده بعد ذَلِك الا ثِيَاب بدنه وَخرج من حلب إِلَى دمشق وَأقَام عِنْد يُوسُف أغانا نَاظر وقف السنانية وَاتفقَ أَن مخدومه ولى نِيَابَة الشَّام فصيره أَيْضا وَكيل خرجه وَفعل مَعَه فعلته الاولى فبقى بعده بِدِمَشْق وَلما مَاتَ يُوسُف أغا الْمَذْكُور ولى النظارة مَكَانَهُ ونجحت آماله وَأخذ فى تنمية الْوَقْف وَعمارَة مسقفاته وشاع أمره(3/292)
وتملك دَار الْعدْل الْمَنْسُوب تعميرها الى السُّلْطَان نور الدّين الشَّهِيد بِالْقربِ من بَاب السَّعَادَة وعمرها عمَارَة متقنة ثمَّ سَافر الى الرّوم فى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَحج مرَّتَيْنِ وَصَارَ وَكيلا عَن نواب الشَّام مَرَّات وَعمر ضريح سيدى سعد بن عبَادَة الصحابى رضى الله تَعَالَى عَنهُ بقرية المنيحة تَابع وقف السنانية وَبنى عَلَيْهِ قبَّة لَطِيفَة وأحدث الى جَانِبه مَسْجِدا وَبِالْجُمْلَةِ فقد صَار من ألطف المنتزهات وَله غير ذَلِك من المآثر الدَّالَّة على متانة رَأْيه وَحسن تصرفه وَالْحَاصِل انه كَانَ كَبِير الجاه وَالْعقل وَله التَّصَرُّف التَّام فى الامور وَكَانَت وَفَاته نَهَار الاحد ثانى وعشرى شهر ربيع الاول سنة سبع وَخمسين بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وسيأتى ابْنه مصطفى فى حرف الْمِيم ان شَاءَ الله تَعَالَى
الامام الْقَاسِم الملقب بالمنصور بِاللَّه بن مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن على بن الرشيد صَاحب الْيمن وَتقدم ذكر بَقِيَّة نسبه فى تَرْجَمَة ابْنه الامام اسمعيل المتَوَكل على الله قَالَ السَّيِّد روح الله عِيسَى بن لطف الله بن المطهر فى كِتَابه الانفاس اليمنية فى الدولة المحمدية اعْلَم أَن هَذَا الامام يعْنى الْقَاسِم مَا لِآبَائِهِ وأجداده فى الرياسة الَّتِى هى قَود الْجنُود وخفق البنود قدم وَلَا قدم وَلَا كَانَ لسلفه عَلامَة وَلَا علم وَكَانَ أَبوهُ من عَسْكَر والدنا المطهر بن شرف الدّين وَله رزق يجرى عَلَيْهِ من جملَة الْعَسْكَر الَّذين هم غير مرابطين وَشهد مَعَ والدنا الْحَرْب الَّتِى جرت بَينه وَبَين الْوَزير الاعظم سِنَان باشا وَذَلِكَ فى قاع خوجان وَكَانَ مولد الْقَاسِم فى سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَلما بلغ سنّ الِاحْتِلَام قَرَأَ الْقُرْآن وَكَانَ فِيهِ فطنة وَقُوَّة ولازم الامام الْحسن الذى أدخلهُ الْوَزير حسن باشا الرّوم وَأقَام عِنْده فى بِلَاد الاهنوم وَبعد سفر الامام الْحسن فَارق تِلْكَ الْبِلَاد وَمَا برح ينْتَقل فى الْبلدَانِ وَيطْلب الْعلم وَلما أدْرك طرفا من الْعُلُوم دَعَتْهُ نَفسه الى أَن ينْهض على فَتْرَة من الْفِتَن وَذَلِكَ انه علم أَن الْبِلَاد كَانَت لوالدى لطف الله بن المطهر قد خلت عَن واليها وتعطلت من كاليها فَدَعَا وَقَامَ لثلاث بَقينَ من الْمحرم سنة سِتّ وَألف فى مَحل يُقَال لَهُ جَدِيد قاره من أَعمال شام الشرق فاتقدت عِنْد ذَلِك الْجَمْرَة وبزغ نجم الْفِتَن انْتهى كَلَامه وَقَالَ غَيره كَانَ من أمره أَنه لما توفى المتَوَكل عبد الله بن على بن الْحُسَيْن بن عز الدّين بن الْحسن بن على الْمُؤَيد فى سنة سِتّ عشرَة وَألف ظهر الامام الْقَاسِم فى الْيمن وكاتبه الامير عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن مطهر مكاتبات اتفقَا عَلَيْهَا مِنْهَا فتح الْحَرْب عَن السلطنة(3/293)
وَبث الامام الرسائل على كَافَّة الْقَبَائِل على جارى عَادَته فَأَجَابُوهُ وَقَامَت الْحَرْب على سَاقهَا فَوجه الْوَزير سِنَان باشا المحاط على الامام وَعبد الرَّحِيم فضعف الامام الْقَاسِم عَن المقاومة فعطفت العساكر على عبد الرَّحِيم وَحين رأى الامام اشْتِغَال العساكر بِعَبْد الرَّحِيم نَهَضَ على حصن شهارة وتحصن بِهِ ثمَّ وصلت الاخبار للوزير سِنَان باشا بِأَن السُّلْطَان أنعم بِالْيمن على جَعْفَر باشا فَتوجه من صنعاء الى الابواب السُّلْطَانِيَّة فَأَتَاهُ الاجل وألحد بالمخا وَسبب مَوته انه لما نزل من صنعاء أَرَادَ الِاجْتِمَاع بِجَعْفَر باشا وَهُوَ بتعز فَأكْثر النَّاس الاراجيف وأرهبوا جَعْفَر باشا من لِقَاء سِنَان باشا وَفهم الامراء مِنْهُ ذَلِك فألجؤه الى الْمُرُور فى أوعر المسالك فَلَمَّا وصل الى المخامات فى شعْبَان من سنة سِتّ عشرَة وَألف وَدفن على جنب قبر الشَّيْخ الامام على ابْن عمر الشاذلى وَكَانَ يحب الْعلمَاء والفقراء وآثار خيراته كَثِيرَة وَوصل جَعْفَر باشا الى صنعاء فى شَوَّال وَلما دَخلهَا رأى تقوى الامام الْقَاسِم بمساعدة عبد الرَّحِيم فَصَالح الامام فى ذى الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَألف على جِهَات مَعْلُومَة وَفك أَوْلَاده من حصن كوكبان فَأَطْلَقَهُمْ الْوَزير وَأحسن اليهم وَوجه العساكر على عبد الرَّحِيم فَأسرهُ وأرسله الى الابواب السُّلْطَانِيَّة ثمَّ اسْتمرّ الامام الْقَاسِم واليا الى أَن حاربه الباشا وحصره فى حصن شهارة فَخرج مِنْهُ متنكرا وَلم يشْعر بِهِ أحد وبقى وَلَده مُحَمَّد الْمُؤَيد الى أَن عجز وضاق حَاله فَخرج بالامان على أَن يكون قراره عِنْد صَاحب كوكبان وَخرج باخوانه وَأَهله وَقبض الباشا حصن شهارة ثمَّ مَاتَ بأجله لَيْلَة الثلاثا خَامِس عشر شهر ربيع الاول سنة تسع وَعشْرين وَألف وَخلف عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم مُحَمَّد وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَهُوَ أعلمهم وَأحمد المخلوع واسمعيل فَقَامَ من بَينهم مُحَمَّد بعد أَبِيه وجدد للصلح بَينه وَبَين الْوَزير مُحَمَّد باشا على مَا كَانَ عَلَيْهِ فى زمن وَالِده ثمَّ اجْتمعت كلمة الْيمن اليه وَأخرج الاتراك بأسرهم من الْيمن وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الامام ابْن الامام مُحَمَّد الداعى بعد موت عَمه الامام اسمعيل المتَوَكل دَعَا فَأَجَابَهُ جم غفير من عُلَمَاء الْيمن وَأَقْبلُوا اليه من كل حدب وخطب لَهُ على مَنَابِر شهارة والا هنوم والشرفين وَحجَّة والتهائم وَغَيرهَا وأجابه السَّيِّد مُحَمَّد بن الامام المهدى أَحْمد بن الْحسن وخطب لَهُ على مَنَابِر المنصورة وحيس وزبيد وَقد كَانَ دَعَا بعد وَفَاة الامام اسمعيل ابْن عَمه المهدى الْمَذْكُور فَتقدم الى جِهَات شهارة لطلب الِاجْتِمَاع بالقاسم وَاتفقَ رَأْيهمْ على تعْيين أكَابِر الْعلمَاء من الْجَانِبَيْنِ فعين من جِهَة الْقَاسِم جمَاعَة مِنْهُم(3/294)
الْحُسَيْن بن نَاصِر المهلا وَالسَّيِّد يحيى بن أَحْمد والسيدان اسمعيل وَيحيى ابْنا ابراهيم بن حجاف والقاضى مُحَمَّد بن قدس وَالسَّيِّد على بن صَلَاح الصلعى وَغَيرهم وَمن جَانب المهدى القاضى على بن جَابر الهبل والقاضى يحيى بن اسمعيل الحادى وَالسَّيِّد مُحَمَّد الكبيسى وَغَيرهم واجتمعوا فى الرحبة من أَعمال شهارة للنَّظَر فى التَّرْجِيح بَين الامامين وفى خلال هَذَا كتب السَّيِّد يحيى بن أَحْمد الشرفى رِسَالَة أَولهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أما بعد حمد الله كَمَا يسْتَحق أَن يحمد وكما ينبغى لكريم وَجهه وجلال سُلْطَانه وَأشْهد أَن لَا اله الا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة صادرة عَن الْحق الْيَقِين وعيانه وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمُؤَيد بباهر المعجز ونير برهانه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ وعَلى آله الَّذين شعشعوا أنوار الْحق وشادوا رفيع بُنْيَانه وعَلى أَصْحَابه الرَّاشِدين المرشدين وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ باحسان فأحيوا شرائع احسانه فَيَقُول العَبْد الْفَقِير الى الله الْغنى بِهِ عَمَّن سواهُ يحيى بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشرفى تجَاوز الله عَنهُ وَعَافَاهُ وتلقاه برحمته اذا توفاه انه لما اخْتَار الله وَله الْخيرَة واليه يرجع الامر كُله لمولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل على الله رب الْعَالمين اسمعيل ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ قدس الله روحه مَا لَدَيْهِ من الْكَرَامَة وألحقه بآبائه الطاهرين الَّذين رفع درجاتهم فى دَار الكرامه وَجب النّظر فِيمَن يخلفه فى منصبه الْجَلِيل وَيقوم مقَامه وَكَانَ المؤهل لذَلِك الشَّأْن الْعَظِيم والمنظور اليه والمؤمل لتحمل الاعباء الثَّقِيلَة والمعول عَلَيْهِ هُوَ مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد بِاللَّه أيده الله لما أَتَاهُ الله وَخَصه بِهِ من أَوْصَاف الْكَمَال فى الدّين وَالدُّنْيَا وَكَمَال الاوصاف الَّتِى يلغى بهَا فى محاسنه الى الْغَايَة القصوى من الْعلم والحلم وَالتَّقوى والورع وَالْكَرم والسخاء والتواضع والايثار المراضى ربه فى كل حَال وَحسن الاخلاق الَّتِى هى وَاسِطَة عقد شرائف الْخِصَال وطهارة المنشا وخصائص الكرامات الَّتِى يخص الله بهَا من عباده من يَشَأْ فَلم تتق نَفسه الى تَحْصِيل دنيا دنية وَلَا زاحم عَلَيْهَا أحدا من الْخلق بل اطرحها وأبت الِالْتِفَات اليها نَفسه الابية وهمته الْعلية وَقصر همه فى ليله ونهاره على الِاشْتِغَال بِمَا يزلفه عِنْد بارئ الْبَريَّة حَتَّى فاض عَلَيْهِ من مجَال الْكَرَامَة من ربه وَغَشيتهُ أنوار التَّوْفِيق الالهية فَألْقى الله عَلَيْهِ محبَّة فى قُلُوب عباده وعمرها بعظمته وغمرها بوداده وأبرز فِيهِ السِّرّ الْمُقَدّس الذى أودعهُ فى آبَائِهِ وأجداده فوفقه لاقتفاء(3/295)
آثَارهم وَالْقِيَام بعهاده وَبعث همته الى الدعْوَة للامام على سَبِيل ربه وَأظْهر حجَّته فى جَمِيع بِلَاده فوردت الينا دَعوته الميمونة فى يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَهُوَ الْيَوْم الثَّالِث من وَفَاة مَوْلَانَا المتَوَكل على الله الى كتاب الله وَسنة رَسُوله والى الرِّضَا عَن آل مُحَمَّد وَكَانَ سبق علمنَا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من تِلْكَ الاوصاف الحميدة والكمالات العديدة واختصاصه بهَا من بَين أهل هَذَا الْبَيْت واعترافهم لَهُ بهَا كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الينا عَنْهُم الاخبار المفيدة للْعلم وتصريح من صرح مِنْهُم بِأَنَّهُ الاولى بِهَذِهِ الخطة الشَّرِيفَة ان احْتِيجَ الى من يقوم بهَا فَعلمنَا وجوب اجابة دَعوته وجوبا مضيقا ولزمنا فَرضهَا لُزُوما مَا محققا وانه الرضى الذى تجب اجابته اذ أَقَمْنَا على مَا قُلْنَاهُ برهانا مُصدقا وبادرنا الى مَا أوجب الله علينا من وجوب اجابته خوفًا من وَعبد الله على التراخى وَالله أَحَق أَن يتقى ثمَّ بعد ثَمَانِيَة أَيَّام من وُرُود هَذِه الدعْوَة الشَّرِيفَة وَردت الينا دَعْوَة من صفى الاسلام أَحْمد بن الْحسن ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ حفظه الله مثل ذَلِك فى كَونهَا الى الرضى من آل مُحَمَّد فالدعوتان عِنْد التَّحْقِيق وَاحِدَة اذا الرضى هُوَ الْمَدْعُو اليه فى كلتيهما فأجبنا عَلَيْهِ بِأَنا قد أجبنا الدعْوَة الى الرضى وان مَا قَضَت بِهِ الادلة من ذَلِك الحكم الْمضيق قد فرغ مِنْهُ وانقضى وَبينا لَهُ الْوُجُوه الَّتِى ثَبت بهَا على كل من عَلَيْهَا ذَلِك القضا من الْفَضَائِل الَّتِى اخْتصَّ بهَا من تقدّمت اجابتنا لَهُ وَعَلَيْهَا بنى الامر فى هَذِه المسئلة من عُلَمَاء الاسلام جَمِيع من مضى فتكررت كتبه اليه بعد ذَلِك قاضية بِأَنَّهُ غير مُوَافق على مَا قُلْنَاهُ وكاشفة بِأَنَّهُ يُرِيد بالرضى نَفسه وان ذَلِك مَقْصُود وَمَعْنَاهُ فَظهر حِينَئِذٍ تخَالف القصدين وَصَارَ المهم هُوَ النّظر فى أهْدى النجدين وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ سَابِقًا من الْفَضَائِل الظَّاهِرَة والمحاسن المتكاثرة لمولانا الْقَاسِم واختصاصه مَا يقْضى برجحان اسْتِحْقَاقه لذَلِك المنصب الْجَلِيل وَوُجُوب الحكم باستحقاقه لخلافة النُّبُوَّة أَن يُخَاطب بِمَا قبل
(أَتَت الامام الذى نرجو بِظَاهِرِهِ ... يَوْم النشور من الرَّحْمَن رضوانا)
(أوضحت من ديننَا مَا كَانَ ملتبسا ... جَزَاك رَبك عَنَّا فِيهَا احسانا)
فالذى أدين الله بِهِ وأشهده على اعتقادى لَهُ أَن امام هَذَا الْعَصْر المفترض الطَّاعَة على الْمُسلمين هُوَ مَوْلَانَا الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن امير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد بِاللَّه عَن نظر صَحِيح وأدلة يسطع مِنْهَا للمنصف نور الْحق الصَّرِيح وَأَسْتَغْفِر الله لى وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين(3/296)
وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه العلى الْعَظِيم انْتهى وَبعد أُمُور يطول شرحها اتّفقت الْكَلِمَة على امامة المهدى الْمُقدم ذكره وَلم يزل الْقَاسِم الْمَذْكُور ناشرا للمكارم الحسان مَقْصُودا من جَمِيع الْبلدَانِ منصفا للوافدين مُعظما للْعُلَمَاء العاملين وَله كرامات شهيرة مِنْهَا مَا اشْتهر أَيَّام دَعوته من ظُهُور اسْمه وَاسم أَبِيه مَكْتُوبًا على الْجَرَاد الْحَاصِلَة فى الْيمن فى ذَلِك الزَّمن ظهورا شهيرا فى الانام الى غير ذَلِك من الْفَضَائِل الَّتِى علمهَا الْخَاص وَالْعَام وَله السماعات الْكَثِيرَة فى الْفِقْه والاصلين والنحو وَالتَّفْسِير مَعَ الْحِرْص على التدريس والافادة فى ذَلِك الْخطب الْكَبِير ومولده فى ذى الْحجَّة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف
قَاسم الخوارزمى أَصله من بُخَارى من قَرْيَة فشلان جوبان رَحل الى خوارزم وسلك عِنْد الشَّيْخ حُسَيْن الخوارزمى النقشبندى ولازم عِنْده مُدَّة وَصَارَ من جملَة خلفائه فَلَمَّا دخل شَيْخه الى الشَّام نقل هُوَ أَيْضا الى بُخَارى وتوطن بهَا مشتغلا بارشاد الطالبين الى أَن توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس بعد الالف قلت وَالشَّيْخ حُسَيْن الخوارزمى الْمَذْكُور هُوَ المدفون فى الحديقة قرب تربة الصُّوفِيَّة بالوادى المغربى وَله فى الْكَوَاكِب السائرة للغزى تَرْجَمَة فَليرْجع اليها ثمَّة فى الطَّبَقَة الثَّالِثَة
قانصوه باشا نَائِب الْيمن قدمهَا فى ثانى وعشرى الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف من الديار المصرية ثمَّ الى مَكَّة فى عَسْكَر عَظِيم وَصَحبه من الامراء والكبراء مَا يجل عَن الْوَصْف من مشاهيرهم الامير مُوسَى بن الْخَبِير من عرب مصر فى نَحْو ثلثمِائة فَارس أَو يزِيدُونَ والامير سُلَيْمَان بعد أَن كَانَ عزم الى مصر لخدمة الْوَزير عابدين بِمَال جزيل ليجهز لَهُ عسكرا فَلَمَّا بلغ الى مصر بلغه تجهيز قانصوه فساعده وَوصل صحبته وَتَوَلَّى تَدْبِير ملك الْمَذْكُور وَكَانَ مُتَّهمًا بنحوسة لسوء تَدْبيره حَتَّى عاجله الْقَضَاء الْمَقْدُور على يَد قانصوه الْمَذْكُور فى سنة أَرْبَعِينَ وَألف وصحبته حَمْزَة أغا وادريس أغا فى ثَلَاثَة آلَاف من الاسباهية من الابواب السُّلْطَانِيَّة وَنَحْو ألف من المغاربة وألفين من أهل الشَّام وَأَرْبَعَة آلَاف من مصر وألفين من مَكَّة فَحصل بَينه وَبَين الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب مُنَافَسَة فَقبض عَلَيْهِ وَقَتله وَأقَام مَكَانَهُ مَسْعُود بن ادريس وَأقَام بجدة وَاحِدًا من جماعته اسْمه مصطفى ثمَّ أَخذ من مَكَّة أَمْوَالًا جمة وَوجد مَعَ الشريف خَزَائِن كَثِيرَة وخيولا ونجائب وعجائب ثمَّ توجه من مَكَّة برا والمراكب بالخزائن والجنود تمشى محاذية لَهُ بحرا فَقدم أول عسكره مورا وَفِيهِمْ(3/297)
الامير ابْن خَبِير وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ عَاشر شهر ربيع الآخر فَلَمَّا علم بورودهم التقى بن ابراهيم انحاز بجُنُوده الى ربوع أَذْرع شرقى بَيت الْفَقِيه الزيدية وَكَذَلِكَ الشريف هَاشم انحاز الى جَانب اصاب وَكَذَلِكَ الامير سنبل قَامَ من حيس الى شرقية وَكَانَ عزم السَّيِّد هَاشم لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر شهر ربيع الآخر وفى لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّامِن عشر مِنْهُ مر يُوسُف الكتخذا فى مائتى حصان فى المراوعة الى بَيت الْفَقِيه ثمَّ الى زبيد وَذَلِكَ صبح الثلاثا فَتوجه الى المخا عصر ذَلِك الْيَوْم فورد يَوْم الاربعاء الى المخا ضحوة فَقبض على عابدين باشا وحبسه وَقَتله صبرا بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَقبض خزائنه وَجعل عِيَاله فى مَكَان عِيَال الشريف أَبى الْقَاسِم الشّجر وسمعوا الْبكاء عَلَيْهِ كَمَا سمع الْبكاء مِنْهُم على الْمشَار اليه وَأما قانصوه فورد بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل صبح الْجُمُعَة الحادى وَالْعِشْرين من شهر ربيع الآخر فَقبض على الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر العجيل وحبسه وَأخذ مِنْهُ مَالا جزيلا وصلبه فى صبح الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين وَعظم الْمُصَاب وأهدم بَيت الْفَقِيه ونهبت جملَة من بيُوت وأموال لانه كَانَ عينا فِي بَيت الْفَقِيه رَئِيسا مَقْبُولًا عِنْد السَّيِّد هَاشم فحسده أعداؤه ونسبوا اليه المكايد وَكَانَ هُوَ السَّبَب فى دُخُول الوهن على قانصوه لانه لما فعل بِهِ مَا فعل نفرت قُلُوب النَّاس مِنْهُ وخصوصا حَيْثُ انه كره شَفَاعَة السَّيِّد الطَّاهِر بن بَحر وَلم يقبل مشورته فى الْعَفو عَن اساءة النَّاس ووعظه بوصول الْوَزير سِنَان وعفوه فَأبى واستكبر لامر يُريدهُ الله تَعَالَى ثمَّ توجه من بَيت الْفَقِيه الى زبيد صبح الثلاثا خَامِس عشرى الشَّهْر بالجند الموفور فواجهه بهَا الامراء والكبراء والمشايخ والسادات وَورد اليه يُوسُف الكتخدا فى جملَة من عَسْكَر المخا فَدخل المحطة دخلة عَظِيمَة وَلما اسْتَقر بهَا أَمر بتجهيز الْوَزير حيدر وفكه من الْحَبْس الشَّديد فجهزوه الى سواكن هُوَ وَبَعض مماليكه ثمَّ دخل الى مصر فالى الرّوم وَحصل لَهُ مقَام كَامِل عِنْد السُّلْطَان وَأمر الامير مُوسَى بن الْخَبِير بِالْمَسِيرِ الى حيس فَدَخلَهَا بِجَيْش كَبِير فشرع الوباء فى الْجنُود وَمَات ابْن الْخَبِير الْمَذْكُور وَابْن أَخِيه وَأكْثر جَمَاعَتهمْ وَلم يبْق مِنْهُم الا الْيَسِير وَمَات بزبيد الامير أَحْمد وعالم كثير حَتَّى كل الحفارون عَن الْحفر والغالون عَن التغسيل فَأَقَامَ نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ توجه الى حيس وَأقَام بهَا فَعظم الوباء وَمَات من جماعته عَالم كثير وَهَلَكت الْجمال الَّتِى وصلت من الشَّام وَكَانَت نَحْو عشرَة آلَاف أَو أَزِيد وَكَانَ من أَرَادَ جملا أَخذه لمَوْت الجمالين ومعظم الْخَيل ثمَّ توجه الى المخا فحط(3/298)
بظاهرها وَبنى بهَا قلعة عَظِيمَة وفى عشر الْحجَّة حصل مهادنة بَين قانصوه وَبَين الامام الى سنة أَرْبَعِينَ بعد الالف وَأرْسل اليه مُحَمَّد ولى وَجَمَاعَة من أعيانه فكساهم وأنعم عَلَيْهِم ثمَّ رجعُوا الى المخا وفى أَربع عشر الْحجَّة طلب قانصوه يُوسُف الكتخدا فَأمر بِضَرْب عُنُقه فى الدِّيوَان فَقَامَ عَلَيْهِ الْعَسْكَر وحصروه فى القلعة نَحْو خَمْسَة عشر يَوْمًا فَصَالحهُمْ بِزِيَادَة فى علائفهم وشرطوا عَلَيْهِ قبض سَبْعَة أَنْفَار من جماعته اثْنَان قتلوهما وَأَرْبَعَة أودعوهم كران وَالسَّابِع فر بِنَفسِهِ وَنَجَا ثمَّ حصل بَينه وَبَين الْعَسْكَر مُنَافَسَة فأحاطوا بِهِ ورسموا عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام وحبسوا أكَابِر الامراء بالمخا ثمَّ اتّفق الصُّلْح بَينهم على زِيَادَة فى علائفهم ثمَّ كَانَ فى كل شهر يحدث بَينه وَبَين الْعَسْكَر حوادث حَتَّى اسْتَحَالَ جمَاعَة مِنْهُم الى الزيدية وعزم من عزم مِنْهُم الى الشَّام وَلم تزل الشحناء بَينهم ثمَّ فى سنة خمس وَأَرْبَعين حصلت وقْعَة بَين قانصوه وَبَين الْحسن وَقتل جمَاعَة من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ فى شهر ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة خرج قانصوه الى الْحسن وَدخل تَحت طَاعَته وَصَارَ من أَتْبَاعه ثمَّ جهزه الْحسن يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث جُمَادَى الاولى وَأَعْطَاهُ نَحْو خمسين حصانا بسلاحها وعددها وَنَحْو خمسين جملا باحمالها وَجُمْلَة من الاموال وجهز مَعَه جمَاعَة وَجعل صحبتهم السَّيِّد التقى بن ابراهيم الى مَكَّة فوصل اليها وَمكث بهَا أَيَّامًا ثمَّ توجه الى الرّوم وَمَات بهَا وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَسِتِّينَ وَألف
حرف الْكَاف
كَمَال بن مرعى العيثاوى الدمشقى الْفَقِيه الشافعى كَانَ من الْفُقَهَاء الاجلاء درس بِجَامِع دمشق وانتفع بِهِ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَكَانَ متقشفا صلبا فى دينه كثير الصلف مخالطا للْعُلَمَاء منخرطا فى سلكهم يُرَاجِعهُ النَّاس فى مهامهم وَكَانَ وافر الْحُرْمَة مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْد الْعَوام وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف
كيوان بن عبد الله أحد كبراء أجناد الشَّام كَانَ فى الاصل مَمْلُوكا لرضوان باشا نَائِب غَزَّة ثمَّ صَار من الْجند الشامى وسرداراً عِنْد صوباشى الصالحية فَنزع الى التعدى وَأخذ النَّاس بالتهمة وتطاول الى أَخذ أملاكهم حَتَّى استولى على أَكثر بساتين الربوة والمزة وَضم بَعْضهَا الى بعض وَكَانَ اذا أَخذ حِصَّة فى مَكَان احتال على الشُّرَكَاء فِيهِ حَتَّى يَأْخُذ أشقاصهم طَوْعًا أَو كرها وَكَانَ يساعده على ذَلِك نواب محكمَة الْبَاب(3/299)
وأعيان شهودها ويبالغون فى نصيحته فى كِتَابَة التمسكات يعلمونه الْحِيلَة وَهُوَ يُبَالغ فى اكرامهم وَمن غَرِيب خَبره أَنه كَانَ مُسْتَأْجرًا لبستان من بساتين وقف بنى العنبرى قرب المزة وَكَانَ ملاصقا لبساتين بِيَدِهِ فَطلب من نَاظر الْوَقْف أَن يَأْذَن لَهُ بِقطع الْغِرَاس ويحكره أَرض الْبُسْتَان فَلم يفعل وَوَقع بَينه وَبَينه مشاجرة فَأدى طغيان كيوان الى أَن جمع جمعا من الفلاحين وأتى بهم إِلَى الْبُسْتَان لَيْلًا وَأمرهمْ بِقطع جَمِيع غراسه الْكَبِير فَفَعَلُوا وغرسوا مَكَانَهُ غراسا لطيفا وحرثوا الارض وغيروا حُدُود الْبُسْتَان وبابه وأضافوه الى بساتينه ثمَّ استدعى قاضى الْقُضَاة بِالشَّام للكشف عَلَيْهِ وأحضر أَوْلَاد العنبرى فَادعوا أَن الْبُسْتَان دَاخل فى وقفهم وأبرزوا كتاب الْوَقْف فقرئ بالمحضر الْعَام فَلم توَافق الْحُدُود والغراسات فَمَنعهُمْ القاضى وسلط يَد كيوان على الْبُسْتَان وبقى كيوان يترقب لِابْنِ العنبرى النَّاظر فرْصَة ليوقعه فى هَلَاك حَتَّى قدم نَائِب الشَّام مُحَمَّد باشا فى سنة احدى بعد الالف فتقرب مِنْهُ كيوان وأطعمه بجريمة عَظِيمَة فى أَن يُوقع بِابْن العنبرى فعلا فَأمر مناديا يُنَادى على الخواجا مُحَمَّد بن العنبرى بِأَن من لَهُ عِنْده من جِهَة بُسْتَان أَو مُعَاملَة أَو ظلمه أَو زور عَلَيْهِ فليحضر فى غَد بعد صَلَاة الْجُمُعَة الى الحجاجية وَهُوَ بُسْتَان بِالْقربِ من القنوات كَانَ قد ادّعى الْمَذْكُور أَنه اشْترى نصفه من رجل وأبرز تمسكات تشهد بذلك فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعد صَلَاة الْجُمُعَة صلى الباشا فى السنانية وَأرْسل خلف الشَّيْخَيْنِ الشَّيْخ مُحَمَّد وأخيه الشَّيْخ ابراهيم ابنى سعد الدّين فَخَرَجَا من الْجَامِع بالفقراء وانضم اليهما من رعاع النَّاس من لَا يحصر وَأرْسل الباشا الى القاضى فَحَضَرَ وَأمر باحضار ابْن العنبرى فأحضر وَعقد لَهُ مجْلِس بالبستان وَادّعى عَلَيْهِ السَّيِّد مُحَمَّد الجعفرى بِأَن من الجارى فى وقف السَّبع النورى الْبُسْتَان الْمَعْرُوف بالحجاجية وان الخواجا مُحَمَّد الْمَذْكُور وضع عَلَيْهِ يَده بِغَيْر طَرِيق فَسئلَ عَن ذَلِك فَأجَاب بِأَن نصفه بِيَدِهِ بطرِيق الاجارة وَالنّصف الآخر بطرِيق الشِّرَاء من فلَان وأبرز من يَده تمسكات تشهد لَهُ بطبق جَوَابه فأبرز الجعفرى مَا يدل على أَن جَمِيع الْبُسْتَان وقف السَّبع النورى فَقَالَ لَهُ القاضى يَا رجل هَذَا ظهر بِهِ كتاب وقف يشْهد بوقفيته فَكيف تشترى مَا هُوَ وقف فَقَالَ لم أعلم بِكَوْنِهِ وَقفا وانما اشْتَرَيْته على كَونه ملكا كَمَا يشْهد لى بذلك هَذِه التمسكات على أَنى لما اطَّلَعت على كَونه وَقفا خرجت عَنهُ وأعدته وَقفا كَمَا كَانَ وَأظْهر تمسكا يشْهد باعادته وَقفا كَمَا كَانَ فَقَالَ لَهُ(3/300)
القاضى يلزمك ريع مُدَّة وضع يدك عَلَيْهِ فَقَالَ ان لزمنى شئ دَفعته فَقَالَ لَهُ القاضى ألزمتك بِمِائَة قبرصى بدل ريعه الذى اسْتَوْفَيْته مِنْهُ فَقَالَ نعم أدفَع ذَلِك فَلَمَّا لم يظْهر فى هَذِه الدَّعْوَى نتيجة كَبِيرَة قَالَ الجعفرى لِلشَّيْخَيْنِ وَمن مَعَهُمَا يَا مَشَايِخنَا وَيَا سَادَاتنَا مَاذَا تَقولُونَ فى هَذَا الرجل وفى سيرته فَقَالَ الشَّيْخَانِ نشْهد أَنه رجل مزور مُفسد ورموه بِأُمُور وأجابهم النَّاس من كل جَانب هَذَا مزور مُفسد وَاجِب الْقَتْل وأمثال هَذَا حَتَّى صَار لِلْخلقِ ضجة عَظِيمَة فَأمر برده الى القلعة وَالنَّاس خَلفه يضجون عَلَيْهِ قيل كَانَ هيأ هم لذَلِك كيوان وَوَقع بعد ذَلِك ان الباشا أَمر بدمع الخواجا مُحَمَّد بن العنبرى فدمغ بالنَّار فى جَبهته وَأَنْفه وَوَجهه وأركب حمارا مقلوبا وكشف رَأسه وعرى حَتَّى صَار بالقميص وطيف بِهِ فى أسواق دمشق وشوارعها هَذَا جَزَاء من يزور على أوقاف نور الدّين الشَّهِيد ثمَّ بعد التطواف بِهِ أُعِيد الى القلعة وحزن النَّاس عَلَيْهِ حزنا عَظِيما وكل ذَلِك كَانَ بتدبير كيوان لعداوته لَهُ ثمَّ عظم أَمر كيوان وانتقل الى سردارية دمشق وَأخذ أكَابِر أَهلهَا بالحيلة وعوامهم بالرهبة وَكَانَ لَهُ كتخدا يُقَال لَهُ ابراهيم بن البيطار وَكَانَ من أَخبث النَّاس وأسعاهم فى الاذية وَكَانَ من جملَة خيانته أَنه يحتال بنسوة عِنْده بِأخذ الْمَرْأَة مِنْهُنَّ حليا أَو حَاجَة من نسَاء الاكابرا اما على سَبِيل الْعرض على البيع أَو على سَبِيل الْعَارِية وتأتيه بِهِ فَيَأْخذهُ فى كمه وَيذْهب الى ولى تِلْكَ الْمَرْأَة وَهُوَ مظهر لحزنه وهمه ثمَّ يطلعه على مَا يكون مَعَه سر اَوْ يَقُول لَهُ قد دفعت الْيَوْم عَنْك شرا فان صَاحِبَة هَذَا الْمَتَاع أَخذهَا البارحة جمَاعَة العسس فى جمعية فَخفت عَلَيْك من عائلة هَذِه الْقِصَّة فَقلت هَذَا الْمَتَاع لبنتى أَو لاختى خُذ هَذَا الْمَتَاع واكتم هَذَا السِّرّ وَقد وزنت عَنْك لكيوان كَذَا وَكَذَا فَمَا يسع الرجل الا أَن يدْفع اليه المَال ويتحمل منته وَلم يزل كيوان على تجريه حَتَّى وَقع بَينه وَبَين الْجند فتْنَة عَظِيمَة وصمموا على قَتله وَقتل كتخداه ابْن البيطار فاختفيا ثمَّ هرب ابْن البيطار فلحق بالدروز ثمَّ نزل فى الْبَحْر وسافر الى مصر وضبطت أَمْوَاله واصطلح كيوان مَعَ الْجند بعد أُمُور جرت وَبقيت الضغينة فى قلبه لَهُم وَلما كَانَت فتْنَة الامير على بن جانبولاذ تعين لمحاربته الامير يُوسُف بن سَيْفا كَمَا تقدم وَمَعَهُ أُمَرَاء الشَّام فبعثوا كيوان الى أَحْمد باشا أَمِير غَزَّة ليأتى بِهِ فَوَافَقَ وُصُوله موت أَمِير غَزَّة وَكَانَ ابْن سَيْفا والعساكر تلاقوا مَعَ ابْن جانبولاذ وكسروا فوصل خبر الكسرة الى غَزَّة فَرجع كيوان مِنْهَا الى ابْن معن وَحمله(3/301)
على معاونة ابْن جانبولاذ واغتنم الفرصة وَمَا زَالَ بِابْن معن حَتَّى قوى رَأس ابْن جانبولاذ على الْمسير الى دمشق وانْتهى حرمتهَا وانتهبوا مَا أمكنهم نهبه من خَارِجهَا ثمَّ ان السُّلْطَان عين الْوَزير مُرَاد باشا لمقاتلة ابْن جانبولاذ فَلَمَّا وصل الى حلب قَاتله وفتك فِيهِ وفى أعوانه من السكبانية حَتَّى كَاد يَسْتَأْصِلهُمْ فَذهب أهل الشَّام اليه للشكاية على ابْن معن فَتوجه كيوان الى جَانب الْوَزير وخدعه بِمَال كثير كَانَ مَعَه من ابْن معن فَترك الْوَزير ابْن معن على حَاله ثمَّ رَجَعَ كيوان الى دمشق بالاموال السُّلْطَانِيَّة من عِنْد ابْن معن وَاسْتقر قَلِيلا ثمَّ عَاد الى الْفِتَن وَرجع ابْن معن الى التمرد على حكام الشَّام حَتَّى وَليهَا الْحَافِظ أَحْمد باشا الْوَزير فكاتب فى شَأْنه الى عتبَة السُّلْطَان فَجهز اليه العساكر من أول ولَايَة أَنا طولى الى أَرض دمشق ثمَّ خرج الى ابْن معن فَحصل لَهُ ولكيوان رعب شَدِيد وَاقْتضى رأيهما آخرا الى أَن نزلا الْبَحْر ولحقا بِبِلَاد الفرنج واستقرا هُنَاكَ الى ان عزل الْحَافِظ عَن ولَايَة الشَّام فَخرج كيوان من صيدا وَحده وَترك ابْن معن فى بِلَاد الفرنج ليكشف لَهُ الْحَال فَرَأى مُحَمَّد باشا الْوَزير قد صَار سرداراً على الْعَجم وَنزل حلب وَأَرَادَ تَصْحِيح أَمر الشَّام فَخرج اليه الامير يُونُس بن الحرفوش أَمِير بعلبك وكيوان وتوافقا مَعَه على أَن يهدما قلعة الشقيف وقلعة بانياس ويسلما اليه مَالا وتعطى الْبِلَاد لِابْنِهِ الامير على وطلبا الامان للامير فَخر الدّين فجَاء من بِلَاد الفرنج وَكَانَ كيوان قد اسْتَقر بِدِمَشْق فأظهر أَنه انْفَرد عَن ابْن معن واستقل بأَمْره فى الشَّام ثمَّ ذهب الى مَكَّة وَرجع وَقد أظهر كثيرا من عمل الْخَيْر وسمى نَفسه الْحَاج كيوان وَأمْسك عَن قبُول هَدِيَّة النَّاس وبقى فى انْفِرَاده وصدارته الى أَن تحرّك ابْن معن على الْبِقَاع وَخرج لمقاتلته الْوَزير مصطفى باشا الخناق نَائِب الشَّام وَكَانَ كيوان مِمَّن سارع الى ابْن معن لمعاونته وَلما انْكَسَرَ عَسْكَر الخناق وَقبض ابْن معن عَلَيْهِ وَقعت الْفِتْنَة بَين ابْن معن وكيوان بِسَبَب ذَلِك وَآل الامر بَينهمَا الى أَن ضرب ابْن معن كيوان بخنجره فى راسه فَقتله وَكَانَ قَتله فى صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن عِنْد بَاب دمشق من أَبْوَاب بعلبك وَقيل فى تَارِيخ قَتله
(قَالَ لى صاحبى وَقد مَاتَ كيوان هلا كَا وَمن لَهُ الذّكر يُتْلَى ... )
(كَيفَ رَاح الْخَبيث ناديت أرخ ... علم الله رَاح كيوان قتلا)
وأرخه أَبُو بكر الْعُمْرَى شيخ الادب أَيْضا بقوله(3/302)
(وَلما طَغى كيوان فى الشَّام واعتدى ... وأرجف أهليها وللظلم فصلا)
(فَقلت لَهُم قزوا عيُونا وأرخوا ... ففى بعلبك قتل كيوان أصلا)
وَذهب دَمه هدرا وَالله تَعَالَى أعلم
حرف اللَّام
لطف الله بن زَكَرِيَّا بن بيرام الرومى وَالِد أستاذى وَاحِد الدَّهْر عزتى روح الله تَعَالَى روحهما فَرد الزَّمَان فى التفضل وَالْجمع لاشتات النعم والتمول لَازم من شيخ الاسلام سعد الدّين بن حسن جَان وَولى بعض المناصب ثمَّ أعْطى قَضَاء قلبه بالمولوية فَأَقَامَ بهَا واستوطنها واقتنى بهَا دورا وأتباعا وعبيدا وتملك عقارات وبساتين وحوانيت وحمامات تفوت الْحصْر وَجمع من الحواشى والمواشى مَا تقصر عَنهُ احاطة الْحساب وَعمر بهَا جَامعا وَجعل لَهُ وَقفا ورتب بِهِ خيرات كَثِيرَة وَاسْتمرّ بهَا قَاضِيا نَحْو خَمْسَة وَأَرْبَعين عَاما لم يعْزل الا مرَّتَيْنِ مَا تجاوزت مدتهما العامين بِكَثِير وَعوض عَنْهَا فى احداهما بِقَضَاء أَيُّوب وَوَقع لَهُ فى الثَّانِيَة أَنه صَار مَكَانَهُ الْمولى عبد الله الشهير ببلبل زَاده وَكَانَ من أخصاء أَخِيه شيخ الاسلام يحيى فاجتمعا فى وَلِيمَة عرس أَو ختان وَكَانَ بِهِ بعض أَرْبَاب الملاعب فَأَرَادَ بلبل زَاده اظهار التكرم على المترجم فَأمر بعض أَتْبَاعه بِأَن يعْطى الملاعب مائَة قِرْش فَانْتدبَ صَاحب التَّرْجَمَة وَأمر بِخَمْسِمِائَة قِرْش وَقَالَ لبلبل زَاده أَنا بعناية الله تَعَالَى فى قدرتى أَن أعْطى أَمْثَال هَذَا فى كل لَيْلَة هَذَا الْمِقْدَار فمثلى لَا يُقَابل باظهار مثل هَذَا التكرم مَعَ الْعلم بِعَدَمِ المسكنة ثمَّ أُعِيد الى قَضَائهَا وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بانا طولى ثمَّ بروم ايلى وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف تَقْرِيبًا وَعين أَخُوهُ لضبط مخلفاته الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البورسوى فَأَقَامَ فى ضَبطهَا ثَلَاث سنوات
لطف الله بن مُحَمَّد الغياث بن الشجاع بن الْكَمَال بن دَاوُد الظفيرى قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال فى تَارِيخه شيخ الشُّيُوخ وامام أهل الرسوخ الحرى بِأَن يُسمى أستاذ الْبشر وَالْعقل الحادى عشر بهاء الدّين وسلطان الْمُحَقِّقين الى آخر مَا وَصفه بِهِ مِمَّا لَا مزِيد عَلَيْهِ قَالَ وَلَقَد صَار مفخرة لليمن على سَائِر الْبِلَاد وَنقل أهل الاقاليم الشاسعة أَقْوَاله وَمَا وَضعه من الْكتب هُوَ ومرجع الطالبين فى الْيمن مِنْهَا المناهل الصافية على الشافية كالمختصر للرضى أبرز فِيهَا الْفَوَائِد من الرضى فى صُورَة تعشقها الافهام(3/303)
وأتى للمنتهى والقاصر بِمَا يُريدهُ حَتَّى لم يفتح الطالبون بعْدهَا كتابا فى الْفَنّ الا المتوسع المتبحر وَقد صَارَت الشُّرُوح كالمنسوخة بالمناهل وَكَانَ الْعَلامَة أَحْمد بن يحيى بن حَابِس أَرَادَ التَّقْرِيب لنجم الائمة على أفهام الطّلبَة فَلَمَّا رأى هَذَا الْكتاب أعرض عَن ذَلِك وَقَالَ اذا جَاءَ نهر الله بَطل نهر معقل وَله عَلَيْهَا حَاشِيَة وولع بِهَذَا الْكتاب من رَآهُ وَلَقَد جعله شَيخنَا القيروانى من فَوَائِد سَفَره الى الْيمن واعتنى بتملكه وَله شرح على الكافية لكنه مَا تمّ لَهُ وَمن أعجب كتبه الايجاز فى علمي الْمعَانى وَالْبَيَان شَرحه شرحا مُفِيدا أَتَى فِيهِ بزبد المقالات لاهل الْفَنّ وَله الْحَاشِيَة المفيدة على شرح التَّلْخِيص الْمُخْتَصر للسعد وهى حَاشِيَة مفيدة مَا تناقل النَّاس بعْدهَا غَيرهَا وَكَانَت حَاشِيَة الْعَلامَة الخطائى كَثِيرَة الدوران وان لم تكن كَامِلَة فألقاها النَّاس وحاشية حفيد الشَّارِح وَغَيرهمَا وَلم يسمهَا الشَّيْخ باسم فسماها السَّيِّد الامام صَلَاح بن أَحْمد بن المهدى المؤيدى بالوشاح على عروس الافراح وَالسَّيِّد اخْتَار هَذَا الِاسْم بِنَاء مِنْهُ على أَن الشَّرْح الصَّغِير يُسمى بعروس الافراح وَهُوَ كَذَلِك شَائِع فى الطّلبَة وَلَيْسَ كَذَلِك انما عروس الافراح شرح السبكى وَنِعما هُوَ فانه شرح مُفِيد جدا وَله أَيْضا شرح على الْفُصُول اللؤلؤية لم يتم لَهُ بلغ فِيهِ الى الْعُمُوم وَهُوَ كتاب منقح مُفِيد وَكَانَ قد اشْتغل بِكِتَاب يفك فِيهِ الْعبارَات المبهمة فى الازهار وَلم يكن قد علم بِالْفَتْح لانه كَانَ يَوْمئِذٍ بِالطَّائِف فَلَمَّا وصل الى الْيمن اطلع على كتاب يحيى ابْن حميد الْمُسَمّى بِفَتْح الْغفار وَشَرحه الْمُسَمّى بالشموس والاقمار فَاكْتفى بذلك لموافقته لما أَرَادَ وَله فى الطِّبّ ملكة عَظِيمَة كَانَ الامام الْقَاسِم وَهُوَ من عُلَمَاء هَذَا الْفَنّ يَقُول الشَّيْخ بلطف الله طَبِيب ماهر وَمَعَ ذَلِك لم يتظهر بِهَذَا الْفَنّ ورعا وَله فى علم الجفر والزيجات وَغَيرهَا ادراك كَامِل وَكَانَ قد أَرَادَ القاء شئ الى تِلْمِيذه السَّيِّد الْحُسَيْن بن الامام الْقَاسِم فانه أرسل اليه قبل وَفَاته أَن يبْعَث اليه بالقاضى الْعَلامَة أَحْمد بن صَالح العنيسى ليستودعه شَيْئا من مَكْنُون علمه فوصل القاضى وَقد نَقله الله الى جواره وَله أرجوزة مثل الارجوزة الْمُسَمَّاة برياضة الصّبيان وَكَانَ كَابْن الهائم فى الْفَرَائِض والحساب اليه النِّهَايَة فى هَذَا الْعلم وَكتب جَعْفَر بن وبير العنقاوى الْحسنى أَيَّام اقامته بِمَكَّة فانه أسلف فى مَكَّة أَيَّامًا غرا وَاخْتَلَطَ بالفضلاء واختلطوا بِهِ وَكَانَ مجللا مكرما اليه كتابا يلْتَمس مِنْهُ تأليف كتاب فى الْفَرَائِض وَالْفِقْه وَلَفظه(3/304)
(أيا شيخ لطف الله الى لقَائِل ... وَلَا شكّ من سماك فَهُوَ مُصِيب)
(لانى رَأَيْت اللطف فِيك سجية ... وَللَّه فى كل الامور حبيب)
(سَأَلتك سفرا أستعين بهَا على ... عبَادَة ربى لابرحت تجيب)
(فتوضح لى يَا شَيخنَا مَا أقوله ... فَأَنت لداء الْجَاهِلين طَبِيب)
(وَأَنت لنا فى الدّين عون وقدرة ... بقيت على مر الزَّمَان تصيب)
فنظم لَهُ أرجوزة فى الْفَرَائِض وكتابا يتَعَلَّق بِربع الْعِبَادَات ككتاب أَبى شُجَاع فى فقه الشَّافِعِيَّة وَلم يخرجَا الى الْيمن وأجابه بقوله
(أمولاى يَا من فاق مجدا وسوددا ... وَمَا ان لَهُ فى الْخَافِقين ضريب)
(أتانى عقد يخجل الدّرّ نظمه ... ويعجز عَنهُ أَحْمد وحبِيب)
(معَان وألفاظ زكتْ وتناسقت ... فَكل لكل فى الْبَيَان نسيب)
(وَمَا كَانَ قدرى يقتضى أَن أُجِيبهُ ... ومثلى لذاك الْملك لَيْسَ يُجيب)
(وقلتم بِأَن اسمى يُشِير بِأَن لى ... نَصِيبا وكلا لَيْسَ فِيهِ نصيب)
(أتحسب مَا أَعْطَيْت من لطف شِيمَة ... تقصر عَنْهَا شمأل وجنوب)
(تعدى الى مثلى وأنى وَكَيف ذَا ... وانى من أدنى الْكَمَال سليب)
(وَلَكِن حويت اللطف أَنْت جَمِيعه ... فَقلت على ذَا النَّاس أَنْت عَجِيب)
(وأمركم مَاض وحظى قبولكم ... وانى على قدر الْقُصُور مُجيب)
وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة فى سكناهُ مَكَّة وَأَهْلهَا معلقون بأَشْيَاء قد استنكرها الْعَلامَة ابْن حجر وصنف للزجر عَنْهَا كتابا سَمَّاهُ كف الرعاع عَن تعاطى اللَّهْو وَالسَّمَاع وَقل من يسلم من ذَلِك الا من توفرت أَسبَاب تقواه كالشيخ فانه كَانَ أعف خلق الله عَن كل رِيبَة وَحكى أَنه مرض مَرضا آل بِهِ الى السكتة وَتغَير الْحس فَقَالَ بعض مهرَة الاطباء انه يفِيدهُ السماع فَقَالَ المعتنى بشأن الشَّيْخ انه لَا يرضى بذلك فَقَالَ افعلوا مَعَ غَفلَة حسه فَفَعَلُوا فَتحَرك ثمَّ استمروا فميز فَلم يكن المهم لَهُ غير تسكيتهم وَله شرح على خطْبَة الاساس للامام الْقَاسِم وأجوبة مسَائِل منقحة وَكَانَت وَفَاته بظفير حجَّة فى رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله
لطفى بن مُحَمَّد بن يُونُس الْكَاتِب الدمشقى الاديب البليغ الْفَائِق الْمَعْرُوف بالبصير كَانَ فى الذكاء وَقُوَّة الحافظة مِمَّا يقْضى مِنْهُ بالعجب وَلم يكن فى زَمَنه من يماثله فى الحذق وَقُوَّة البراعة وَسُرْعَة الِانْتِقَال والبديهة وَشدَّة الْحِفْظ ولد بِدِمَشْق(3/305)
وَنَشَأ بهَا فى نعْمَة أَبِيه وَكَانَ أَبوهُ كَاتبا فى الْعِمَارَة السليمانية بالميدان الاخضر وَكَانَ ذَا ثروة عَظِيمَة يضْرب بِهِ الْمثل فى كَثْرَة المَال وجده يُونُس رومى ورد فى خدمَة السُّلْطَان سليم لما جَاءَ الى دمشق واستخلصها من أيدى مُلُوك الجراكسة وَأما لطفى هَذَا فان وَالِده مَاتَ وَهُوَ فى سنّ خمس وَعشْرين تَقْرِيبًا وَخلف لَهُ مَا ينيف على عشْرين ألف دِينَارا وَمن الملبوس الفاخر والاملاك شَيْئا كثيرا فسلك أَولا طَرِيق الْعلم فَقَرَأَ ودأب وَأخذ الصّرْف والنحو والمعانى عَن الْعَلامَة الْكَبِير عَلَاء الدّين بن عماد الدّين الاحدب وَأخذ الْفِقْه والاصول عَن عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر والْحَدِيث وَالتَّفْسِير عَن الْبَدْر الغزى وأتقن فنونا كَثِيرَة وتأدب كثيرا ونقلت من خطّ الْحسن البورينى أَنه رافقه فى الْقِرَاءَة على فَاضل الشرق الْعِمَاد السمرقندى لما ورد دمشق صُحْبَة الْوَزير حسن باشا ابْن مُحَمَّد باشا قَالَ وقرأنا عَلَيْهِ المعقولات فتشاركا فى هِدَايَة الْحِكْمَة والمنطق والهيئة وَكُنَّا كل يَوْم نَقْرَأ عَلَيْهِ فى درس وَاحِد وَذَلِكَ فى فن وَاحِد لَا غير وفى يَوْم آخر نَقْرَأ دروسا فى غير ذَلِك وَكَانَ ذَلِك الدَّرْس الْوَاحِد يطول من كَثْرَة التحقيقات من مطلع الشَّمْس الى وسط النَّهَار وَكَانَ الْعِمَاد الْمَذْكُور فى المعقولات كالسعد التفتازانى فى عصره فاستمرت قراءتنا عَلَيْهِ فى تِلْكَ الْفُنُون الثَّلَاثَة مُدَّة ثَلَاث سِنِين انْتهى ثمَّ بعد ذَلِك تنقلت بلطفى الاحوال وابتلى فى بَصَره من كَثْرَة الرمد والوجع فَقل نظره جدا من تراكم الوجع على عَيْنَيْهِ فَكَانَ لَهُ شوق لحفظ كَلَام الله تَعَالَى قيل انه اشْترى جَارِيَة حسناء وَكَانَت تقْرَأ الْقُرْآن أحسن قِرَاءَة فحفظه مِنْهَا أتم حفظ وَكَانَ لَهُ طلبة يطالعون لَهُ الْكتب بِأُجْرَة وَهُوَ يحفظ مَا يسمع من الْعبارَات من قراءتهم حَتَّى حفظ كتبا كَثِيرَة فى سَائِر الْفُنُون فَصَارَ آيَة عَظِيمَة فى جَمِيع الْفُنُون خُصُوصا فى فنون الادب برمتها وَكَانَ اذا أَرَادَ ايراد شئ من هَذِه الْفُنُون يملى الْعبارَات كَمَا هى من حفظه ثمَّ ترك الْقِرَاءَة واشتغل بهوى نَفسه وعاشر الْقَيْنَات والغلمان وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه تعشق وَلدين للشرفى يحيى بن شاهين الصالحى أَحدهمَا يدعى ابراهيم وَالْآخر درويشا وَكَانَا بارعين فى الْجمال وَصرف عَلَيْهِمَا جَمِيع مَا اقتناه من تراث أَبِيه وَكَانَ يُوقد بحضرتهما فى مجْلِس المدام ثَلَاث شمعات من الشمع العسلى وَيَضَع فى كل وَاحِدَة مَا يزِيد على خمسين دِينَارا فَكلما ذاب مِنْهَا شئ يسْقط دِينَار فيتنا وَله أحد الغلامين ودام على هَذَا زَمَانا حَتَّى فقد مِنْهُ المَال وأثرى ابراهيم وَصَارَ ذَا دَائِرَة وَاسِعَة وبقى هُوَ صفر الْيَدَيْنِ وَآل أمراه الى بيع(3/306)
جَمِيع مَا تَركه لَهُ وَالِده من الاملاك ثمَّ تنْقَلب بِهِ الاحوال الى أَن صَار فى آخر عمره يقف فى بعض أسواق دمشق ويستجدى وَبلغ من الْفقر والخصاصة الى حَالَة فظيعة وفقد الملبوس وَمِمَّا يرْوى لَهُ من الشّعْر قَوْله وَبعث بهَا الى معشوقه ابراهيم بعد خصاصته
(بروحى الدى عَنى غَدا متمنعا ... وَكنت بِهِ دون الورى مُتَمَتِّعا)
(وَكَانَت ليالى السعد تسعدنى بِهِ ... وَكُنَّا كَمَا شَاءَ الْهوى دَائِما مَعًا)
(رعى الله هاتيك الليالى فانها ... لَيَال بهَا غرس الْهوى لى أينعا)
(لَيَال كَانَ الدَّهْر طوع يدى بهَا ... وَكَانَ الذى أهواه لى مِنْهُ أطوعا)
وَكتب الى صديق لَهُ يطْلب مِنْهُ حبرًا
(أيا من تضوع افكاره ... كمسك فيخجل عطاره)
(تصدق على بمقلوب ضد تَصْحِيف قولى خبت ناره)
وقرأت بِخَط عبد الْكَرِيم الطارانى وَمِمَّا أنشدنى لطفى الْبَصِير من محفوظه بيتان من شعر الْعَلامَة الْعِمَاد الحنفى كَانَ نظمهما مؤرخا بهما قناة بناها وَالِد لطفى مُحَمَّد بِالْقربِ من دَاره بَاطِن دمشق بمحلة بَين الطوالع بِالْقربِ من مدرسة الْعَادِل بن أَيُّوب وَأتم بناءها فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة ونقشهما فى بلاطة من الرخام ركبهَا فى أَعلَى الْقَنَاة وهى يَوْمئِذٍ مَوْجُودَة وهما
(مُحَمَّد قد بنى سَبِيلا ... للخير يَرْجُو بِهِ سَبِيلا)
(فجَاء تَارِيخه شرابى ... حلا طهُورا وسلسبيلا)
وَكَانَت وَفَاة لطفى فى سنة خمس بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
حرف الْمِيم
ماجد بن هَاشم بن على بن المرتضى بن على بن ماجد أَبُو على الحسينى البحرانى من أجل فضلاء الْبَحْرين وأدبائها ذكره السَّيِّد بن مَعْصُوم فى السلافة فَقَالَ فى وَصفه هُوَ أكبر من أَن يفى بوصفه قَول وَأعظم من أَن يُقَاس بفضله طول نسب يؤل الى النبى وَحسب يذل لَهُ الابى وَشرف يَنْطَح النُّجُوم وكرم يفضح الْغَيْث السجوم بِهِ أَحْيَا الله الْفضل بعد اندراسه ورد غَرِيبه الى مسْقط راسه شفع شرف الْعلم بِطرف الادب وبادر الى حوز الْكَمَال وانتدب فَملك للْبَيَان عنانا وهصر من فنونه أفنانا فنظمه منظوم الْعُقُود ونثره منثور الرَّوْض الْمَعْهُود وَمِمَّا يسطر من(3/307)
مناقبه الفاخرة الشاهدة بفضله فى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَنه كَانَ قد أَصَابَته فى صغره عين ذهبت من حواسه الشَّرِيفَة بِعَين فَرَأى وَالِده النبى
فى مَنَامه فَقَالَ ان أَخذ بَصَره فقد أعْطى بصيرته ولد وَنَشَأ بِالْبَحْرَيْنِ فَكَانَ لَهما ثَالِثا وَأصْبح للفضل وَالْعلم حارثا وَارِثا وَولى بهَا القضا فشرف الحكم وأمضى ثمَّ انْتقل مِنْهَا الى شيراز فطالت بِهِ على الْعرَاق والحجاز وتقلد بهَا الامامة والخطابة فشرفت بِهِ المنابر وَنشر حبر فضائله المستطابة فتاهت بِهِ المحابر ثمَّ أنْشد من شعره قَوْله
(حسناء ساءت صنيعا فى متيمها ... يَا ليتها سفعت حسنا باحسان)
(دنت اليه وَمَا أدنت مودتها ... فَمَا انْتِفَاع امْرِئ بالباخل الدانى)
وَقَوله فى مليح قَارِئ
(وتال لآى الذّكر قد وقفت بِنَا ... تِلَاوَته بَين الضَّلَالَة والرشد)
(بِلَفْظ يَسُوق الزاهدين الى الْخَنَا ... وَمعنى يشوق العاشقين الى الزّهْد)
وَقَوله
(وذى هيف مَا الْورْد يَوْمًا ببالغ ... صدى وجنتيه فى احمرار وَلَا نشر)
(يرينا من العلياء ان سيم وَصله ... علينا بِمَا فَوق النُّفُوس وَلَا نشرى)
وَكَانَت وَفَاته بشيراز فى سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف
محب الله بن مُحَمَّد محب الدّين بن أَبى بكر تقى الدّين بن دَاوُد جدى وَالِد والدى صدر الشَّام فى زَمَنه ومرجع خاصتها وعامتها وَقد أوصله الله تَعَالَى بَين عُلَمَاء دمشق الى مرتبَة لم يصل اليها أحد فِيمَا تقدمه مِنْهُم وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا اقبالا عَظِيما وتوفرت لَهُ دواعى المعالى وَملك فَمن الذَّخَائِر والتحف مَالا يضْبط بالاحصاء ورزق الابناء الْكثير مَاتَ مِنْهُم عَن ثَمَانِيَة وَولى المناصب الْعَالِيَة والمدارس السامية وَاتفقَ لَهُ أَنه تصرف فى نِيَابَة الشَّام وقسمتها العسكرية جمعا بَينهمَا سِتّ عشرَة سنة لم يعْزل فِيهَا الا ثَلَاث مَرَّات أَو أَربع مَرَّات وَلما حج قاضى الشَّام الْمولى شعْبَان بن ولى الدّين كَانَ أرسل الى طرف الدولة يسْتَأْذن بِالْحَجِّ فَأذن لَهُ وفوضت النِّيَابَة بِأَمْر سلطانى لجدى المترجم وَلما مَاتَ وَالِده كَانَ عمره سِتّ عشرَة سنة فوجهت اليه عَن وَالِده الْمدرسَة الناصرية البرانية واشتغل بِطَلَب الْعلم فَقَرَأَ على أَكثر تلامذة وَالِده مِنْهُم الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن العمادى وَغَيره وسما من ذَلِك الْعَهْد فَطلب معالى الامور وسافر الى الرّوم ولازم من شيخ الاسلام يحيى زَكَرِيَّا(3/308)
وَهُوَ قاضى الْعَسْكَر بروم ايلى وبوسيلته والتقرب مِنْهُ نَالَ مَا نَالَ وَصَارَ قاضى الْحَج وقاضى الْعَسْكَر فى صُحْبَة أَحْمد باشا الْوَزير الْمَعْرُوف بالكوجك لما سَافر على بن معن ودرس بالدرويشية برتبة الدَّاخِل الْمَعْرُوفَة الْآن ثمَّ أعْطى رُتْبَة قَضَاء الْقُدس وَعظم قدره جدا وأثرى وَبِالْجُمْلَةِ فقد نَالَ أمانيه من الزَّمَان على وفْق المقترح وَلم يخدشه الدَّهْر بخدشة الا أَنه لم يعمر كثيرا وَكَانَت وِلَادَته فى سنة احدى وَألف وأرخ العمادى الْمُفْتى وِلَادَته بقوله على لِسَان وَالِده ذَا ولدى طالعه أسعد وَتوفى لَيْلَة الْجُمُعَة سلخ شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن على أَبِيه بالمدفن الْخَاص بِنَا قرب جَامع جراح
الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن أَبى نمى سُلْطَان الْحَرَمَيْنِ كَانَ من أمره أَنه نَشأ فى كَفَالَة أَبِيه وجده وَكَانَ جده يُنَوّه بِقَدرِهِ ويقدمه لنباهته ونجابته وَظُهُور آثَار الرياسة عَلَيْهِ فى صغره وَكَانَ يقدمهُ فى الحروب فَيرجع مظفرا منصورا وعدوه مخذولا مقهورا جبل على مَكَارِم الاخلاق وطار صيته فى الْآفَاق وَلما تولى عَمه أَبُو طَالب امارة مَكَّة أحله مَحل وَلَده الى أَن مَاتَ أَبُو طَالب فشارك عَمه الشريف ادريس فى امارة مَكَّة وَلبس الخلعة الثَّانِيَة ودعى لَهُ فى الْخطْبَة وَعقد لَهُ لِوَاء الامارة وَضربت لَهُ النّوبَة الرومية فى بَيته ووردت الاوامر السُّلْطَانِيَّة برسمه وَأَتَتْ المراسيم اليه مَعَ عَمه وَاسْتمرّ شريكان بِالربعِ الى أَن أذن الله لَهُ بالاستقلال بِولَايَة الْحجاز فَجرى بَينه وَبَين عَمه حَال أدّى الى قِيَامه عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ جَمِيع الاشراف على ذَلِك فَخلع عَمه الشريف ادريس واستقل بالامر يَوْم الْجُمُعَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وفى سادس شهور ربيع الاول من هَذِه السّنة وَردت اليه من صَاحب مصر الْخلْع وفى شعْبَان خرج الى الْمَبْعُوث وَأَقْبَلت اليه الْوُفُود من كل النواحى ثمَّ دخل مَكَّة فى شَوَّال فى موكب عَظِيم وَدخل الْمَسْجِد وَنصب لشيخ الاسلام عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدى منبرا بِالْحَطِيمِ وَقَرَأَ المرسوم السلطانى وَبعد تَمام قِرَاءَته قلد الشريف محسن بِسيف مجوهر ثمَّ ألبس الخلعة السُّلْطَانِيَّة ثمَّ فتح لَهُ الْبَيْت الْعَتِيق فَطَافَ والخلعة عَلَيْهِ ثمَّ توجه الى منزله فجِئ لَهُ بخلعة صَاحب مصر فلبسها ثمَّ نشر الْعدْل وانتظم بِهِ الْحَال واطمأنت الرّعية وَكثر الدُّعَاء لَهُ وَدخل فى سلك طَاعَته سَائِر الْفرق العاصية ثمَّ توجه الى الْمَبْعُوث سائرا الى بجيلة ونواحيها وناصره فى جَيش جرار فَلَمَّا علمُوا بمجيئه جَاءَتْهُ مَشَايِخ بجيلة ووجوه أَهلهَا مُطِيعِينَ لامره(3/309)
وطلبوا الْعَفو والمسامحة بِمَا صدر مِنْهُم من الْعِصْيَان فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ توجه الى ناصرة وَنزل بمَكَان يُقَال لَهُ ميسَان من وادى مخرا وَأمر الْجند بخراب دِيَارهمْ لامتناعهم من الدُّخُول تَحت طَاعَته فأخربوا بعض الْقرى وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو خَمْسَة وَأَرْبَعين رجلا ثمَّ رَجَعَ عَنْهُم وَلما فَارقه السَّيِّد مَسْعُود وَعبد الْكَرِيم ابْنا ادريس وَغَيرهمَا جمعُوا من أَعْرَاب نجد بعض الْقَبَائِل من سبيع ومطير وعدوان فَكَانَ سَبَب خُرُوج الشريف محسن اليهم فَالْتَقوا بِمحل مَعْرُوف فَطرح الشريف مَسْعُود ضربه الشريف محسن بِالسَّيْفِ فأطار السَّيْف من يَد مَسْعُود وَطَرحه فاستنخاه فَمن عَلَيْهِ الشريف محسن وَأطْلقهُ وَقيل ضرب مَسْعُود حَتَّى ملئ جِرَاحَة وتهبر وَلم يعرض عَنهُ الا بعد أَن لم يشك فى مَوته وَانْهَزَمَ من كَانَ مَعَه وبقى هُوَ وَتَفَرَّقَتْ جموعهم ثمَّ أَخذ الشريف مَسْعُود وعولج فقطبت جراحاته وجبر مَا تكسر مِنْهُ فعوفى وعاش الى أَن ولاه مَكَّة قانصوه باشا بعد قَتله للشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وَلما كَانَ فى آخر صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وصل الْوَزير أَحْمد باشا مُتَوَلِّيًا الْجِهَات اليمنية فَلَمَّا وصل الى محاذاة جدة بِحَيْثُ يَرَاهَا انْكَسَرت سفينته وغرقت أَمْوَاله فَنزل الى جدة وَأرْسل اليه الشريف محسن بهدية ثمَّ نزل اليه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدى بمكاتيب مِنْهُ وَأقَام عِنْده أَيَّامًا ثمَّ طلب الاعانة من الشريف محسن فشرع فى تَدْبِير مَال لَهُ فَلَمَّا أَن كَانَ فى أثْنَاء ذَلِك وصل الْخَبَر الى مَكَّة أَن أَحْمد باشا الْمَذْكُور سجن الْقَائِد رَاجِح بن ملحم الدويدار حَاكم جدة وَمُحَمّد بن بهْرَام الشريفى أحد خدام الشريف محسن وَكَانَ أرْسلهُ الشريف الى جدة بمكاتيب اليه فَأرْسل الشريف حِينَئِذٍ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن قره باش الْوَاعِظ الرومى الى جدة لينْظر فى هَذَا الامر فَلم ينْتج شَيْئا فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة غرَّة شهر ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة وصل الْخَبَر بِأَنَّهُ صلب رَاجِح الْمَذْكُور وَأَنه ولى السَّيِّد أَحْمد بن عبد الْمطلب وَكَانَ فى هَذِه الْمدَّة يتَرَدَّد اليه فَحصل حِينَئِذٍ اضْطِرَاب وَقَالَ وَقيل فَبعد مُدَّة وصل خبر وَفَاة أَحْمد باشا وَأَنه نودى بجدة للشريف محسن ففرح النَّاس بذلك كثيرا ففى ثانى يَوْم ورد الْخَبَر بِأَن الامر عَاد الى مَا كَانَ وَأَنه نودى للشريف أَحْمد بجدة فَبعد مُدَّة برز الشريف محسن بعساكره وَجُنُوده وَنزل بومح اسْم مَاء بِقرب جدة وَوَقعت هُنَاكَ فتْنَة بِمُوجب أَن الاتراك خَرجُوا لاخذ غنم ترعى فى تِلْكَ الْجِهَات فوصل الْخَبَر للشريف محسن فَركب وَمَعَهُ الاشراف والاجناد فَوَقَعت ملحمة عَظِيمَة قتل(3/310)
فِيهَا من الاتراك جَانب وَمن الاشراف السَّيِّد ظفر بن سرُور بن أَبى نمى وَالسَّيِّد أَبُو الْقَاسِم بن جازان وَغَيرهمَا ثمَّ بعد مُدَّة وصل الشريف محسن الى الْبَلَد وَأقَام بهَا وَجعل هُنَاكَ رُتْبَة وَأقَام عَلَيْهَا السيدة قايتباى بن سعيد بن بَرَكَات فَلَمَّا كَانَ آخر شعْبَان وصل الْخَبَر بِأَن الشريف أَحْمد برز هُوَ والعساكر الى جِهَة مَكَّة فَلم يزل يسير أَيَّام عديدة وَكَانَ وُصُوله على جِهَة وادى مر فَلَمَّا كَانَ يَوْم سادس عشر شهر رَمَضَان وصل الْخَبَر بِأَنَّهُم قاربوا مَكَّة فبرز الشريف محسن بِمن مَعَه من الاشراف والعساكر بعد صَلَاة عشَاء لَيْلَة السَّابِع عشر من شهر رَمَضَان فَالْتَقوا بِالْقربِ من التَّنْعِيم فى صبيحتها فَوَقَعت معركة وَأطلق المكاحل وَضربت البنادق فَتوجه الشريف محسن والاشراف الى جِهَة الحسينية وَدخل الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب الى مَكَّة ضحى ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ السَّابِع عشر من شهر رَمَضَان والمنادى بَين يَدَيْهِ وَكَانَ دُخُوله من الْحجُون فاضطربت الافكار وتعب النَّاس فَأول مَا بَدَأَ بِهِ دُخُول الْمَسْجِد من بَاب السَّلَام وَفتحت لَهُ الْكَعْبَة المشرفة فَدَخلَهَا ثمَّ عزم الى الْمحل الذى أَرَادَ السُّكْنَى بِهِ فَوَقع الْهَرج والمرج وتسلط الْعَسْكَر على بيُوت النَّاس وَحصل الْخَوْف وَذهب صَاحب التَّرْجَمَة الى بيشه بِكَسْر الْبَاء وَأقَام بهَا وَنزل وَلَده زيد على القنفده وَنهب مِنْهَا أَمْوَالًا جمة وَكَاتب الامام مُحَمَّد بن الْقَاسِم فعضده بِابْن لُقْمَان فَجهز اليهم ابْن عبد الْمطلب جَيْشًا من جدة الى القنفده فَالتقى الْجَمْعَانِ هُنَاكَ فكسرهم وشتت جموعهم مَرَّات ثمَّ أَقَامَ ابْن لُقْمَان فى عنود هُوَ وَزيد وَأَصْحَاب ابْن عبد الْمطلب فى القنفده وَتوجه الشريف محسن الى الامام فَلَمَّا ورد اليه أكْرمه أحسن اليه وَأقَام عِنْده أَيَّامًا ثمَّ توجه الى صنعاء يُرِيد التَّنَزُّه بهَا فاخترمته الْمنية بِمحل يُسمى غربان وَحمل الى صنعاء وَدفن بهَا وَكَانَت وَفَاته فى خَامِس شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَيُقَال انه مَاتَ مسموما وَكَانَت مُدَّة ولَايَته ثَلَاث سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَنصف ولعلماء عصره وشعرائه فِيهِ مدائح كَثِيرَة يتناقلها أدباء مَكَّة
مُحَمَّد بن ابراهيم الْمَدْعُو ببديع الزَّمَان الفاسى كَانَ فَاضلا لسنا فصيحا وشاعرا عَرَبيا لَهُ نظم رائق ونثر فائق مُشْتَمل على الْمعَانى الْحَسَنَة والنكات البديعة وَكَانَ حسن الايراد مَقْبُول الانشاد مَعَ مَا فِيهِ من رقة الحضارة ودقة البداوه رَحل من الْمغرب الى الْمشرق وجال فى الْبِلَاد وَدخل قسطنطينية الرّوم فى سنة احدى وَألف وَاجْتمعَ بعلمائها وَقد ذكره أَبُو المعالى الطالوى فى ساعاته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر(3/311)
مراجعات وَقعت بَينه وَبَينه فَمن ذَلِك مَا كتبه اليه صَاحب التَّرْجَمَة
(لدمعى بعد بَينهم انهمال ... فكم عَن حفظ عهد الصب مالوا)
(وحلوا الْقلب دَارا وَاسْتَحَلُّوا ... دمى عمدا وَعَن ودى استحالوا)
(وَقَالَ الْقلب مَعَ صبرى وعقلى ... وأفراحى لنا عَنْك ارتحال)
(وحان الْحِين حِين البان بَانَتْ ... مطاياهم وأعلاها الرّحال)
(وأبقت لى النَّوَى جسما كأنى ... لفرط السقم حَال أَو محَال)
(أفديهم بأموالى ونفسى ... وَهل لى فى الْهوى نفس وَمَال)
(أأسلوهم مدى الدُّنْيَا سلوهم ... وَلَو أصلوا فؤادى ثمَّ صالوا)
(شعارى حبهم والمدح دينى ... لمولى الْفضل درويش بن طالو)
(هُوَ النحربر بَحر الْعلم مهما ... أهم الامر أَو أعيا السُّؤَال)
(ذكى ألمعى لوذعى ... سرى مَاله حَقًا مِثَال)
(لَهُ علم حنيفى مُحِيط ... وحلم أحنفى وَاحْتِمَال)
(وفكر عِنْد ذى التَّحْقِيق ذكر ... بشكر الله مغرى لَا يزَال)
(حوى كل الْمعَانى والمعالى ... بعقل مَاله عَنهُ انعقال)
(لَهُ نظم كدر فى نحور الغوانى دونه السحر الْحَلَال ... )
(فريد فى العلى من غير ند ... فدع مَا قيل أَو مَا قد يُقَال)
(فيمم دَاره وَانْزِلْ حماه ... اذا جَار الاعادى واستطالوا)
(وَقل للْمُدَّعى هَل حزت أصلا ... لَهُ بالطالويين اتِّصَال)
(لقيناه باسلا مبول لما ... عد منافيه حرا يستمال)
(فوالانا وأولانا بشاشا ... وبشرا دونه العذب الزلَال)
(وأنسانا بايناس أُنَاسًا ... لَهُم فى الْقلب حل وارتحال)
(أَلا يَا ابْن الالى قد خرت فخرا ... لَهُ فى وجنة الْبَدْر انتعال)
(وسدت الْيَوْم أهل الارض فاهنأ ... بعز مَاله عَنْك انْتِقَال)
(فَخذهَا مثل خلق مِنْك سهل ... على الاعداء صَعب لَا ينَال)
(كساها مدحك الْمَحْمُود حسنا ... لَهَا فِيهِ ازدهاء واختيال)
(فتبدى تَارَة دلا لديكم ... ويعروها على الدُّنْيَا دلال)
(ترجى أَن تنيلوها قبولا ... عَسى يَبْدُو لَهَا مِنْك احتفال)(3/312)
(فان أَحْسَنت كَانَ الامر بدعا ... والا مِنْكُم يُرْجَى الْكَمَال)
ثمَّ أعقب هَذَا النّظم بنثر وَهُوَ رضى الله عَنْك وأرضاك وأخصب فى مرابع المحامد مرعاك سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله سَلاما يَتَّخِذهُ الْبَدْر برق محياه وَقَامَ لاجلاله سنا شمس الضُّحَى وحياه وافتك حَاسِرَة حسيره ونزهة يسيره يشرفها ذكرك ويكرمها شكرك والعذر وَاضح وتفسر الْوَاضِح فاضح فان لى خاطر امتى تفكر تفطر وان رَاجع وتدبر الْقدر تصبر وَالْحر خل عاذر واللئيم خب غادر وَمثلك يغض وَلَا يغضى وحلمك لاشك الى الرِّضَا يفضى وَكتب الْمُحب الاكبر وَالْفَقِير الاصغر النائى عَن الاخوان مُحَمَّد الْمَدْعُو ببديع بل بشنيع الزَّمَان وَحكى الطالوى انه حن يَوْمًا الى وَطنه حنين الْفَحْل الى عطنه والمهجور الى سكنه وَقد ذكر مسْقط راسه ومشتعل نبراسه وهى الْبَلدة الْبَيْضَاء أعنى فاس فتصاعدت مِنْهُ لغدقتها الانفاس حَتَّى ذرفت عَيناهُ بالدموع شوقا الى تِلْكَ الْمنَازل والربوع فَلَمَّا رأى الْحَاضِرُونَ حَاله رق كل لَهُ ورثى لَهُ قَالَ فَقلت على لِسَان حَاله وَقد توجه لمنزله ببلباله قِطْعَة سبقته الى النادى وَكَانَت عِنْده كبعض الايادي مَعَ لغز فى اسْم بَلْدَة مراكش وَكَانَ قد جرى شئ من ذكرهَا فنظم ذَلِك فى اثرها
(ربعت على تِلْكَ الربوع هتون ... وطفاء فِيهَا للبروق حنين)
(مسفوحة العبرات سفح مدامعى ... نَحْو الديار كأنهن عُيُون)
(فسقى معالم فاس حَيْثُ صبابتى ... وصباى فِيهَا صَاحب وخدين)
(فارقتها وَأَنا الضنين وَرُبمَا ... يسخو الْفَتى بِالروحِ وَهُوَ ضنين)
(فعلى معالمها تَحِيَّة مغرم ... فى قلبه لهوى الديار شجون)
وَأما اللغز فَهُوَ
(وَمَا اسْم خماسى مُسَمَّاهُ بَلْدَة ... تركب من شكين وَهُوَ يَقِين)
(فَشك ترَاهُ الْعين باد بِلَا مرا ... وَشك بقلب لَا ترَاهُ عُيُون)
فَكتب اليه بسرعه لما وصلت اليه الرقعة وَمَا زَالَ العَبْد من حِين مفارقتكم لَا يقر لَهُ قَرَار الى ان ورد شذا انظمكم المعطار فَقَالَ طَالبا للقبول على استعجال من الرَّسُول
(مولاى لَا زلت فَردا فى المكارم يَا ... أَبَا المعالى فى أرفع الدرج)(3/313)
(ألبست فاسا وأهليها ثِيَاب على ... قد نمقتها يدا تقريظك البهج)
(لما جرى ذكرهَا فى رحب خاطركم ... أنشدتها قَول صب بالهوى لهج)
(لتهن يَا فاس واخلع مَا عَلَيْك فقد ... ذكرت ثمَّ على مَا فِيك من عوج)
وَأما لغزكم السهل الْمُمْتَنع فَهُوَ فى بَلْدَة هى لقلب الصب الحبيب الْمُمْتَنع وعاجلنى الرَّسُول على نظم بعض الفضول وَلَكِن ان شَاءَ الله فى غَد يَقع الاتمام عَالما ومقرا ان لى بِسَاحَة اقتداركم المام فَكتب اليه ثَانِيًا
(مَا ذَات عود لَهَا لحن من الهزج ... باتت تغنى بِهِ فى روضها البهج)
(لَهَا بدعوة نوح طوق غانية ... على وشاح من الازهار منتسج)
(مخضوبة الْكَفّ لَا من عندم خضبت ... ذَاك البنان وَلَكِن من دم المهج)
(مدت قوادم ليل فِيهِ لَاحَ لنا ... بيض الخوافى كصبح مِنْهُ منبلج)
(يَوْمًا بِأَحْسَن من مرأى نظام فَتى ... بِذكر فاس ومغنى ربعهَا لهج)
ثمَّ انه سَافر الى مصر وَبهَا توفى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ بعد الالف
مُحَمَّد بن ابراهيم الفرضى الميدانى المنعوت شمس الدّين التنورى الشافعى أحد مشاهير مَشَايِخ دمشق فى علم الْفَرَائِض والحساب وَكَانَ اليه النِّهَايَة فى هذَيْن العلمين مَعَ مُشَاركَة فى غَيرهمَا وَكَانَ صَالحا ورعا حسن الِاعْتِقَاد وَبِالْجُمْلَةِ فانه بركَة من بَرَكَات عصره أَخذ الْفَرَائِض عَن الشَّيْخ مُحَمَّد النجدى نزيل الْمدرسَة العمرية بصالحية دمشق وَكَانَ يسكن محلّة ميدان الْحَصَا فَيذْهب مِنْهَا فى كل يَوْم الى الصالحية وَيقْرَأ عَلَيْهِ وخدمه كثيرا حَتَّى مهر وقصده الطّلبَة من الاطراف وانتفعوا بِهِ وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الْحسن البورينى وَالشَّيْخ عمر القارى والبدر الموصلى وَغَيرهم وَسكن مُدَّة دَاخل دمشق فى سوق البزوريين وَصَاحب آخرا رجلا مصريا يُقَال لَهُ الشَّيْخ يحيى وَكَانَ يعرف الْعُلُوم الغريبة كالزايرجا والسيميا والكيميا وَكَانَ الشَّيْخ يحيى قد رَحل الى الْبِقَاع العزيزى فَكَانَ التنورى يَأْخُذ مَعَه نفائس المأكولات ويسافر الى الْبِقَاع بِقصد الشَّيْخ يحيى وَيطْلب مِنْهُ التَّعْلِيم فَمَا سمح لَهُ بشئ سوى بعض مبادى الكيميا فأتلف مَا كَانَ يملكهُ وَلم يحصل مِنْهَا على شئ وَعمر كثيرا وَمَات بمحلة ميدان الْحَصَا فى أَوَائِل شهر ربيع الاول سنة سبع بعد الالف قَالَ البورينى فى تَرْجَمته وأخبرنى وَلَده الشَّيْخ مُحَمَّد أَنه عَاشَ سِتا وَسبعين سنة وَدفن بتربة الجوزة بمحلة الميدان
مُحَمَّد بن ابراهيم بن عمر بن ابراهيم بن مُحَمَّد الاكمل بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُفْلِح(3/314)
القاضى أكمل الدّين بن برهَان الدّين بن قاضى الْقُضَاة نجم الدّين بن مُفْلِح الرامينى الْمُحدث الرحلة المورخ أَخذ عَن مَشَايِخ عصره واستجاز لَهُ أَبوهُ من شيخ الاسلام السَّيِّد كَمَال الدّين مُحَمَّد بن حَمْزَة مفتى دَار الْعدْل وتعانى فى مبدا أمره الشَّهَادَة بالمحكمة ثمَّ سَافر الى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة وَقَرَأَ على الْعَلامَة عز الدّين خَلِيل الحلبى الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب نزيل قسطنطينية وَولى قَضَاء بعلبك وصيدا ثمَّ اسْتَقر بِدِمَشْق وَكَانَ أَكثر مقَامه بقصره الشامخ بصالحية دمشق قبالة دَار الحَدِيث الاشرفية الْمَعْرُوف الْآن بقصر بنى كريم الدّين وبقاعته قرب الْمدرسَة المقدمية بَاطِن دمشق وَكَانَ لَهُ يَد طولى فى علم التَّارِيخ وَكتب تَارِيخا ترْجم فِيهِ معاصريه وَكَانَ يكْتب الْخط الْحسن الْمَنْسُوب وَفِيه يَقُول الْحسن البورينى
(لَا كمل مَوْلَانَا خطوط كَأَنَّهَا ... خطوط عذار زينت صفحة الخد)
(اذا مَا امتطى مِنْهُ اليراع أناملا ... أَرَاك سطور الْمجد فى فلك السعد)
(فَهَذَا لعمرى مُفْلِح وَابْن مُفْلِح ... فناهيك مولى فاق بالجد وَالْجد)
وَكَانَ مَعَ كَثْرَة أدبه واطلاعه لم ينظم شعرًا سوى مَا رَأَيْته فى بعض المجاميع انه روى لَهُ هَذَا الْبَيْت وَلم يتَّفق لَهُ غَيره وَهُوَ قَوْله
(أَلَيْسَ عجيبا ان حظى نَاقص ... وغيرى لَهُ حَظّ وانى لَا كمل)
وَكَانَ كثير الْفَوَائِد وَرَأَيْت بِخَطِّهِ مجاميع كَثِيرَة ونقلت مِنْهَا أَشْيَاء مستظرفة فَمن ذَلِك هَذِه الْفَائِدَة فِيمَا تَقوله الْعَرَب انه أحد الشَّيْئَيْنِ حسن شعر الْمَرْأَة أحد الْوَجْهَيْنِ والقلم أحد اللسانين وَحسن المرافقة أحد النفقتين ونشيد الهجاء أحد الهجاءين والعزل عَن الْمَرْأَة أحد الوأدين والادب أحد الحسبين والجنوب أحد المطرين وَحسن الْمَنْع أحد البذلين وَالسُّؤَال عَن الصّديق أحد اللقاءين والتثبت أحد العزمين وَالْقَرْض أحد الهبتين والتلطف فى الْحَاجة أحد الشافعين واللطافة أحد الحضتين وَحسن الْخط أحد البلاغتين واليأس أحد الراحتين والطمع أحد المعرتين وَسُوء الْخلق أحد المصيبتين وَمن ذَلِك هَذِه العجيبة قَالَ أخبرنى شَيخنَا شيخ الاسلام أَبُو الْفَتْح المالكى ابْن عبد السَّلَام أَنه لما توجه فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة الى دَار السلطنة قسطنطينية نزل بِمَدِينَة قونيه فَرَأى بهَا رجلا بلحية كَبِيرَة سَائِلَة الى صَدره وَهُوَ يتعاطى المتجر فَتحَرَّر أمره أَنه امْرَأَة وَله فرج أُنْثَى وكشف عَلَيْهِ حَاكم تِلْكَ الْمَدِينَة فَوَجَدَهُ أُنْثَى بفرج فحلق لحيته وَأمره بالسترة(3/315)
وبلغنى بعد ذَلِك انها تزوجت وَولدت من فرجهَا قلت وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا نَقله المقريزى أَنه فى أول الْمحرم سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَقع بِمصْر أَن الامير شرف الدّين بن عِيسَى بن بَاب جكر والى الاشمونين كَانَت لَهُ بنت فَلَمَّا بلغت من الْعُمر خمس عشرَة سنة استد فرجهَا وَنبت لَهَا ذكر وأنثيان واحتلمت كَمَا يَحْتَلِم الرِّجَال واشتهر ذَلِك بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى بلغ الامير منجك فاستدعى بهَا ووقف على حَقِيقَة خَبَرهَا فَأمر بِنَزْع ثِيَاب النِّسَاء عَنْهَا وألبسها ثِيَاب الرِّجَال من الاجناد وسماها مُحَمَّدًا وَجعله فى جملَة خدمه وأنعم عَلَيْهِ باقطاع وَشَاهد ذَلِك كل أحد وَرَأَيْت فى الكشكول تأليف الْبَهَاء الحارثى نقلا عَن حَيَاة الْحَيَوَان عَن ابْن الاثير فى كَامِل التَّارِيخ فى حوادث سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة قَالَ كَانَ لنا جَار لَهُ بنت اسْمهَا صَفِيَّة فَلَمَّا صَار عمرها خمس عشرَة سنة نبت لَهَا ذكر وَخرج لَهَا لحية قَالَ الْبَهَاء وَنَظِير هَذَا مَا أوردهُ حمد الله الْمُسْتَوْفى فى كتاب نزهة الْقُلُوب وَأوردهُ بعض المؤرخين أَيْضا أَن بِنْتا كَانَت فى قميشة وهى من ولايات اصفهان فزوجت فَحصل لَهَا لَيْلَة الزفاف حكة فى عانتها ثمَّ خرج لَهَا تِلْكَ اللَّيْلَة ذكر وأنثيان وَصَارَت رجلا وَكَانَ ذَلِك فى زمَان السُّلْطَان الجانبولاذ خدا بنده وَذكر الاكمل أَنه يعرف قصَّة وَقعت بِدِمَشْق فى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ أَنه كَانَ بمحلة القيمرية شَاب أَمْرَد أسمر اللَّوْن يُسمى على بن الرفاعى وَكَانَ يجلد الْكتب ويهواه شخص يُسمى عبد الرَّحْمَن بن الظنى فَوَقع لَهُ مَعَه وَاقعَة أفْضى أمرهَا للوقوف بَين يدى القاضى كَمَال الدّين الْعَدْوى الشافعى البقاعى الْحَاكِم خلَافَة بمحكمة الميدان فترجح عِنْده أَن عليا الْمَذْكُور خُنْثَى وانه للانوثة أميل فَأمر الاطباء بالكشف عَلَيْهِ فوجدوا لَهُ فرجا لَهُ حلمة صَغِيرَة فَوْقهَا ثَلَاثَة أبخاش صغَار فأزالوا ذَلِك بِالْقطعِ فَظهر تَحت الْمحل الْمَذْكُور فرج أُنْثَى فَعِنْدَ ذَلِك حكم الْحَاكِم الشافعى بأنوثته وسموه عليا وزوجوها بعاشقها عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فَدخل عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا بكرا وأزال بَكَارَتهَا وحملت مِنْهُ وضعت أَوْلَادًا مُتعَدِّدَة شَاهد ذَلِك وتحققه غَالب أهل دمشق انْتهى وَكَانَت ولادَة الاكمل فى يَوْم الْجُمُعَة ثانى عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الاربعاء وَقت الضحوة الْكُبْرَى سَابِع عشر ذى الْحجَّة سنة احدى عشرَة بعد الالف وَدفن بمقبرة سفح قاسيون فى قبر وَالِده
مُحَمَّد بن ابراهيم الملقب بسرى الدّين الدرورى المصرى الحنفى الْمَعْرُوف بِابْن(3/316)
الصَّائِغ السرى وَمَا أَدْرَاك مَا السرى أنموذج المعارف ونكتة مَسْأَلَة التَّحْقِيق كَانَ من الْفضل وَالتَّحْقِيق فى أسمى منزلَة وَأَعْلَى هضبة وَمَا رَأَيْت فِيمَن رَأَيْت الا من يصفه بِالْفَضْلِ الباهر ويبالغ فى الثَّنَاء عَلَيْهِ وَقَالَ والدى فى تَرْجَمته لم أر فى مصر أحسن من شكله وملبوسه وعمامته وَلَا ألطف من مصاحبته ومنادمته وَأما فَضله فاليه النِّهَايَة وَلَيْسَ وَرَاءه غَايَة وَلم يكن فِيهِ عيب سوى الشُّح وَكَانَ وَالِده من أكَابِر التُّجَّار المياسير خلف لَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَة ثمَّ اشْتغل بِقِرَاءَة الْعُلُوم فَقَرَأَ على أَبى بكر الشنوانى ثمَّ لزم الْمولى حُسَيْن الْمَعْرُوف بباشا زَاده نزيل مصر واختص بِهِ وَبِه تفوق على نظرائه وَكَانَ يعرف اللُّغَة الفارسية والتركية حق الْمعرفَة بِحَيْثُ انه اذا تكلم بهما يظنّ أَنه من أهلهما ودرس بِمصْر فى الْمدرسَة السليمانية والمدرسة الصرغتمشية وَكَانَ يكْتب الْخط المدهش وَألف حَاشِيَة على شرح الْهِدَايَة للاكمل وحاشية على شرح الْمِفْتَاح الشريفى وحاشية على البيضاوى ورسالة فى المشاكلة وَكلهَا ممتعة نفيسة جَارِيَة على الدقة وَالنَّظَر الصَّحِيح وانتفع بِهِ جمَاعَة وسافر الى الرّوم بِطَلَب من شيخ الاسلام أَحْمد بن يُوسُف المعيد مفتى السلطنة ورزق مِنْهُ قبولا تَاما وَوجه اليه رُتْبَة قَضَاء الْقُدس وَدخل دمشق ذَهَابًا وايابا وَأخذ عَنهُ بهَا الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد العيثى ووالدى وَعرض عَلَيْهِ رحلته الرومية الاولى فَكتب عَلَيْهَا الْحَمد لله الذى تفضل على من شَاءَ من عباده فَكَانَ لَهُ محبا وشغفه بالكمال فَكَانَ بِهِ ولوعا وصبا وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أشرف الانام الذى ترقى فى حضرات الْقُدس وَشَاهد الانس دنوا وقربا وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين لم يَجْعَل لَهُم فى سوى اقتفاء آثاره حَاجَة وقربى وَبعد فقد بعث الى من وادى الادب الْمُقَدّس هَدِيَّة سنية وسفر أَسْفر عَن بَدَائِع عبقريه حيرتنى فلست أدرى أروض دبجته أيدى الْغَمَام أم عسجدية حسنتها فَارس بأنواع التصاوير والارقام بيد أَنَّهَا أعربت عَن سمو همة مبدعها بالاقتداء فى الْهِجْرَة بِالْآبَاءِ الْكِرَام فَسَار مسير الْهلَال فى منَازِل التَّحْصِيل ثمَّ الترقى الى أوج التَّمام فَالله تَعَالَى يكثر من أَمْثَاله اذ لم نر لَهُ مثلا فضلا عَن أَمْثَال ويبقيه صَدرا للافادة ومحتدا للفضل والافضال وَأورد لَهُ والدى رَحمَه الله فى تَرْجَمته قصيدة من نظمه فى غَايَة السلاسة واللطافة وَذكر أَنه مدح بهَا قاضى مصر الْمولى عبد الْكَرِيم المنشى ومستهلها
(رعى الله عصر بالغرام تقدما ... أرَاهُ بِثَوْب الدَّهْر وشيا منمما)(3/317)
(وَحيا الحيا منى ديار أحبتى ... وان كَانَ ربع الود مِنْهُم تهدما)
(وان كَانَ ودا فى الْحَقِيقَة غير أَن ... عشقت وأوهمت الحجى فتوهما)
(الى كم أضيع الْعُمر فى أَيْن هم غدوا ... وحتام يسلينى لَعَلَّ وأينما)
(أطالب دهرى أَن يجود بقربهم ... فَمَا زَاد بِالْبُطْلَانِ الا تبرما)
(وَنَاشَدْته الا مقاسمة الاذى ... وصفو الليالى فاستقال وأقسما)
(وَمَا ضرهم لَو أَن برق التقائهم ... أَضَاء اذا ليل الْحَقِيقَة أضرّ مَا)
(تبدت لى الايام فى زى بأسهم ... وسلت بكف الْغدر للْقَتْل مخذما)
(وَضحك مشيبى أَن عصر شبيبتى ... يودع جسما مَا أرَاهُ مُسلما)
(هبطنا الى أَرض المذلة بالذى ... تخذت لصرح الْعِزّ مرقى وسلما)
(وَمِمَّا دهانى أَن بليت بأغيد ... اذا شَاءَ اسكار الْعُقُول تبسما)
(وان مارنا واهتز غُصْن قوامه ... فويل المهى مِنْهُ وتعسا على الدما)
(تمايل وَسنَان الجفون وَمَا احتسى ... مداما وأصمانا وَمَا راش أسهما)
(وولاه سُلْطَان الْجمال نفوسنا ... أَلَسْت ترى ديباج خديه معلما)
(وَمَا هُوَ الا ان تعطفه الحجى ... فيسمح لى فى زورة ثمَّ يندما)
(زرعت بلحظى الْورْد فى روض خَدّه ... أما آن أَن يجنى بفى أما أما)
(وهبه حمى ورديه بعذاره ... فَمنع فَم العشاق ذَاك اللمى لما)
(مللت البقا الا بِمن قد صحبته ... أعانقه لَيْلًا اذا الطيف أحجما)
(وَذَاكَ لِقَاء المغرد الْكَامِل الَّذِي ... غَدا الدَّهْر فى ترتيل مدحته فَمَا)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن ابراهيم بن الْمفضل بن ابراهيم بن على بن الامام يحيى شرف الدّين قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال هُوَ بَحر الْعلم الخافق فى الْخَافِقين وَبدر الدّين الذى أنار فى المشرقين امام المعقولات والمنقولات والمبرهن على حُدُودهَا وبراهينها والمقولات صدر السَّادة وَبدر القادة كَانَ قدس الله تَعَالَى سره نَسِيج وَحده وفريد وقته وانسان زَمَانه الْكَامِل القاضى فى الْعُلُوم على كل فَاضل وَالْحَاكِم الذى لبه رزين والواسطة الَّتِى بجواهر العقد تزين وَكَانَ ربانى عصره معمور الْبَاطِن وَالظّهْر مسعودا فى حالاته ملحوظا اليه بِعَين التكريم أَيْنَمَا توجه مَعَ كَمَال فى سمته وجلالة باهرة حَتَّى قَالَ بعض الْفُضَلَاء أَحسب أَنه لَو اجْتمع الْخلق فى الْحَشْر(3/318)
وَخرج السَّيِّد مُحَمَّد بَينهم علم كل أحد انه عَالم وَكَانَ مَعَ تِلْكَ الْخلال وَذَلِكَ الْجلَال سهل الاخلاق غير مترفع وَلَا ينقص ذَلِك من مِقْدَار شَيْئا وَكَانَت لَهُ فكرة سليمَة كَمَا قَالَ شَيْخه الْوَجِيه عبد الرَّحْمَن الحيمى فى صفته انه مُسْتَغْرق الفكرة بِاللَّه تَعَالَى وَهُوَ مَعَ النَّاس ظَاهرا هَكَذَا ذكره لى شَيخنَا مشافهة أَيَّام قِرَاءَته عَلَيْهِ فى الْكَشَّاف وَكَانَت أَحْوَاله أَحْوَال الامراء وَصيته أَعلَى من ذَلِك لما حواه من هَذِه الكمالات وَلما لَهُ من النّسَب الشريف الذى لَا يسامى وَكَانَ فى أهل بَيته الْكِرَام كالبدر بَين النُّجُوم ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَلم يزل مواظبا على الْعلم من صغره الى كبره يَسْتَفِيد مِنْهُ الطالبون ويراجعه الْفُضَلَاء بالكتب من الْآفَاق ويستمطرون دِيمَة آدابه ويفجرون معِين علمه فيأتيهم من قبله كل عَجِيب غَرِيب وَقَرَأَ فى الْفُنُون بِمَدِينَة صنعاء وبلدة كوكبان وشيام ورحل الى الطَّوِيلَة لقِرَاءَة شئ من كتب أصُول الْفِقْه على السَّيِّد الْعَلامَة عز الدّين بن ذريب وَأكْثر مَا تعلق بِهِ فى صنعاء علم الادوات وَالتَّفْسِير وَأما الحَدِيث فَأكْثر قِرَاءَته على شُيُوخ وردوا اليه الى مَحَله الْمُبَارك فَقَرَأَ من كل فن وُجُوه كتبه وهيمن على غرائبها وَكَانَ وَاسع الْحِفْظ نادرة فى ذَلِك سيال الذِّهْن وَلَا يلقى الْمسَائِل الا على جِهَة الاجابة واستوطن فى آخر أَيَّامه وادى ظهر وَأنس بِهِ النَّاس هُنَالك وازداد الوادى بِهِ بهجة وعلق بِهِ من لَا علاقَة لَهُ بِهِ وَكَانَ استشارنى لمَكَان الْمَوَدَّة فى انزال أَهله الى الوادى فَمَا رجح لى وَظهر لَهُ الرجحان فَكَانَ الصَّوَاب رَأْيه والحرى بذلك وَله من التآليف نظم الورقات لامام الْحَرَمَيْنِ الجوينى فى غَايَة الْحسن وَكَانَ شَيخنَا الْوَجِيه يتعجب من حسنه وَيسر الله تَعَالَى فى أَيَّام الْقِرَاءَة شرحها بشرح مُفِيد وَلكنه لم يظْهر وَغَابَ بَين كتبه وَشَرحهَا رجل من بنى النزيلى وَكَانَت وَفَاته نَهَار الِاثْنَيْنِ غرَّة رَجَب سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف بِمَنْزِلَة شيام وَكَانَ لمَوْته موقع عَظِيم عِنْد الْعلمَاء وَغَيرهم وَمَا أحقه بقول الزمخشرى فى الامام ابْن سمْعَان
(مَاتَ الامام ابْن سمْعَان فَلَا نظرت ... عين الْبَصِير اذا ضنت بأدمعها)
(وأى حوباء لَا صمت وَلَا عميت ... وَلَا استفادت بمرآها ومسمعها)
(أَيْن الذى ان شريناه لما أخذت ... بِبَعْضِه هَذِه الدُّنْيَا بأجمعها)
(أَيْن الذى الْفِقْه والآداب ان ذكرت ... فَهُوَ ابْن ادريسها وَهُوَ ابْن أصمعها)
(من للامامة ضَاعَت عِنْد قيمتهَا ... من للبلاغة غيث عِنْد مصقعها)(3/319)
(من للاحاديث يُمْلِيهَا ويسمعها ... بعد ابْن سمْعَان ممليها ومسمعها)
(سرد الاسانيد كَانَت فِيهِ لهجته ... ككف دَاوُد فى تسريد أدرعها)
(خلى الائمة خيرا فقد أعلمها ... على اتِّفَاق وأوذكاها وأورعها)
وَعمر عَلَيْهِ تربة ورثاه من يعرفهُ وَمن لَا يعرفهُ وَمن جملَة من رثاه القاضى مُحَمَّد بن الْحسن الحيمى وَجَمَاعَة من بِلَاد كوكبان أَجَاد وَالشَّيْخ البليغ ابراهيم الهندى والقاضى على بن صَالح بن أَبى الرِّجَال وَلم يحضرنى من هَذِه المراثى غير مَا يسره الله تَعَالَى لى وَلست بكامل الصَّنْعَة فى الشّعْر وهى قولى
(الله أكبر فلك الصَّالِحَات رسا ... الله أكبر راد الافق عَاد مَا)
(وَالْمجد هدت على رغم قَوَاعِده ... كم معلم بعد عز الْملَّة اندرسا)
(ومسمع الْمجد والعليا بِهِ صمم ... ونطقه عَن فصيحات اللغى خرسا)
(هى الْمُصِيبَة عَمت كل نَاحيَة ... يَا أَيهَا النَّاس هَذَا الْبَدْر قد طمسا)
(فابكوا جَمِيعًا فَهَذَا الهول عمكم ... هد القوى من رجال مِنْكُم ونسا)
(من ذَا لعلم رَسُول الله ينشره ... يحييه يمليه يبدى مِنْهُ مَا التبسا)
(من للاصولين من ذَا للفروع وَمن ... بالْمَنْطق الْفَصْل يُمْلِيهَا لمن درسا)
(لهفى عَلَيْهَا وَمَا لهفى شفا كمد ... شوى فؤادى وأورى فى الحشا قبسا)
( ... آه وَمَا هى فى خطبى بنافعة ... وان رثى لى مِنْهَا الضِّدّ والجلسا)
(مُصِيبَة قد دهت من قد قصاودنا ... وَأعظم النَّاس خطبا معشر الرؤسا)
(قد كَانَ فِينَا كشمس الرَّاد مشرقة ... مَا ان نَخَاف ظلا مَا أَو نرى غلسا)
(وَكَانَ فِينَا كثهلان نلوذ بِهِ ... اذا الزَّمَان علينا بالخطوب أسا)
(وَكَانَ فِينَا فراتا مرويا فاذا ... يدنس الدّين أَمر طهر الدنسا)
(مَاذَا أَقُول وقولى فِيهِ ذُو قصر ... ومنطقى بعد افصاحى قد انحبسا)
الى أَن يَقُول
(مالى سولى الصَّبْر فى خطبى ألوذ بِهِ ... عَسى يُخَفف من قلبى الهموم عَسى)
(يَا من نأى عَن فؤادى وَهُوَ موطنه ... وفى سويداه حب مِنْهُ قد غرسا)
(نأيت عَنَّا الى الجنات منتعما ... مَعَ الاحبة من آل وَأهل كسا)
(وَنحن نبكى كَمَا تبكى مولعة ... بنجلها اذ رَأَتْهُ صَار مفترسا)
(لكننا قد رَضِينَا حكم خالقنا ... وان يجرع كل من نواك حسا)(3/320)
(وسوف نفزع فى ذَا الْخطب نحواسا ... كم بردت من حرارات الْقُلُوب أسى)
مُحَمَّد بن ابراهيم الملقب شمس الدّين الحمصى الشافعى الْمَعْرُوف بِابْن الْقصير بِالتَّصْغِيرِ وَاحِد قطره فى الْفُنُون وَكَانَ فَاضلا حسن التَّحْرِير ندى الْقَلَم أفتى بحمص على مَذْهَب الشافعى نَحْو سَبْعَة وَأَرْبَعين سنة وَله تآليف حَسَنَة مِنْهَا شرح على منظومة الشَّيْخ أَبى بكر القارى فى العقائد وَشرح الْغَايَة فى الْفِقْه وَله أجوبة عَن أسئلة سُئِلَ عَنْهَا فى التَّفْسِير وَالْفِقْه بحلب ودمشق رَأَيْتهَا وانتخبت مِنْهَا أَشْيَاء نفيسة وَكَانَت وِلَادَته فى شهر ربيع الآخر سنة احدى عشرَة بعد الالف وَتوفى بِدِمَشْق نَهَار الثلاثا ثَالِث عشر شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان
مُحَمَّد بن أَبى بكر الشَّيْخ الْعَارِف الْمَعْرُوف باليتيم الدمشقى العاتكى الصوفى كَانَ أحد الرِّجَال الاتقياء أَرْبَاب المكاشفات كَانَ فى أول أمره يتكسب بِبيع القهوة بالسويقة المحروقة وَكَانَت قهوته مجمع الصَّالِحين وَكَانَ الى جَانِبه حوش يجمع بَنَات الخطا فاستأجره وأخرجهن مِنْهُ وَاتخذ فِيهِ مَسْجِدا وَكَانَ اذا أذن الْمُؤَذّن دَعَا النَّاس الى صَلَاة الْجَمَاعَة فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَكَان الذى بنيت فِيهِ المرادية وَيُقَال انه دَاخل حرمهَا بناها مرا د باشا نَائِب الشَّام فى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ الشَّيْخ الْيَتِيم يتَرَدَّد الى مَسْجِد المرادية وَيُحِبهُ الى الْمَمَات وَكَانَ أَخذ الطَّرِيق عَن الشَّيْخ مُوسَى الكناوى وَعَن الشَّيْخ سعد الدّين الجباوى وَأخذ علم التَّوْحِيد والتصوف عَن سيدى أَحْمد الميناوى المغربى وَاجْتمعَ بالاستاذ مُحَمَّد البكرى بالقدس وَأخذ عَنهُ وَصَحب الشَّيْخ مَنْصُور السقيفى وَالشَّيْخ محيى الدّين الذهبى وَكَانَ الذهبى يتهم بِعلم الكيميا وَحكى عَنهُ بعض الاخيار أَنه قَالَ خطر لى أَن أذهب اليه وأسأله أَن يعلنى اياها قَالَ ثمَّ قلت فى نفسى رُبمَا لَا يعلمك فَلَو تَوَجَّهت الى روحانية النبى
وَطلبت ذَلِك مِنْهُ قَالَ وَكَانَ من عادتى اذا ذهبت الى زِيَارَة الشَّيْخ محيى الدّين بدكانه الَّتِى يدق فِيهَا الذَّهَب بسوق القيمرية تجاه الْمدرسَة القيمرية فبمجرد مَا أشرف على دكانه من بعيد يفتح لى بَاب طَاقَة الدّكان قَالَ فَلَمَّا أَصبَحت من تِلْكَ اللَّيْلَة ذهبت اليه فَلَمَّا أشرفت عَلَيْهِ لم يفتح بَاب الطَّاقَة على عَادَته وَلما دخلت عَلَيْهِ وَجَلَست عِنْده قَالَ لى يَا مُحَمَّد النبى
يمد الْكَوْن بأنواع السعادات ويليق مِنْك أَن تطلب مِنْهُ الا مداد بالدنيا الفانية هلا طلبت مِنْهُ أَن يمدك بالعارف ثمَّ(3/321)
انْقَطع فى بَيته بمحلة قبر عَاتِكَة وَكَانَ يتَرَدَّد اليه الزوار وَكَانَ مَجْلِسه غاصا باللطائف والمعارف وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ آيَة من آيَات الله تعلى قَالَ الغزى فى تَرْجَمته صحبته نَحْو خمس سِنِين وَكنت أَقُول مَا على من صحب هَذَا الشَّيْخ اذا فَاتَتْهُ الصُّحْبَة مَعَ الْمُتَقَدِّمين وَكَانَت وَفَاته فى نَهَار السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس بعد الالف وَكَانَت جنَازَته حافلة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من سيدى نصر المقدسى رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى بكر بن دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْخَالِق بن عبد الرَّحْمَن الملقب محب الدّين بن تقى الدّين أَبُو الْفضل العلوانى الحموى الدمشقى الحنفى جد أَبى شامة الشَّام وفرد الزَّمَان وانسان حدقة الْعلم وروح جسم الْفضل وفريدة عقد الادب ودرة تَاج الشّعْر وَكَانَ مِمَّن توَحد فى عصره بِمَعْرِِفَة الْفُنُون خُصُوصا التَّفْسِير وَالْفِقْه والنحو والمعانى والفرائض والحساب والمنطق وَالْحكمَة والفنون الغريبة كالزايرجا والرمل وَغير ذَلِك وفَاق من عداهُ فى لطف النثر وعذوبة اللَّفْظ وجودة الْمَعْنى وغرابة الْمَقْصد وانسجام التراكيب وَأما خطه فاليه النِّهَايَة فى الْحسن والضبط وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ بِحَيْثُ لَو حسب عمره والذى كتبه لبلغ كل يَوْم كراسا بالكامل هَذَا مَعَ كَثْرَة الاسفار وتزاحم الاشغال والارتباط للْقَضَاء وَالْفَتْوَى والتأليف وَألف المؤلفات العجيبة السائغة مِنْهَا حَوَاشِيه على التَّفْسِير وَالْهِدَايَة والدرر وَالْغرر ومنظومته فى الْفِقْه الَّتِى سَارَتْ مسير الشَّمْس سَمَّاهَا عُمْدَة الْحُكَّام وَقد احتوت على غرائب الْمسَائِل واعتنى بشرحها أجلاء الْفُضَلَاء مِنْهُم الامام يُوسُف بن أَبى الْفَتْح امام السُّلْطَان وَالشَّيْخ اسماعيل النابلسى وَابْنه شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْغنى وَله شرح شَوَاهِد الْكَشَّاف سَمَّاهُ تَنْزِيل الْآيَات على الشواهد من الابيات وَشرح منظومة القاضى محب الدّين بن الشّحْنَة فى الْمعَانى وَالْبَيَان وَكَانَ سنه اذ ذَاك سِتّ عشرَة سنة وَله الرحلة المصرية والرومية والتبريزية والسهم الْمُعْتَرض وَالرَّدّ على من فجر وَله عشرُون رِسَالَة مَجْمُوعَة فى دفتر وترسلاته كَثِيرَة جدا جمع والدى مِنْهَا حصتة فَجَاءَت فى مِقْدَار أَرْبَعِينَ كراسا وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَكثر أَبنَاء عصره احاطة وأجلهم فَائِدَة وَقد ولد بحماة وَنَشَأ بهَا وَقَرَأَ على وَالِده الى أَن تنبل وَكَانَ أَبوهُ قد بلغت بِهِ السن الى الْعَجز عَن الاقراء فَبَعثه الى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبى الوفا ابْن ولى الله الشَّيْخ علوان وَكتب اليه مَعَه هَذِه الابيات من نظمه(3/322)
وَكَانَ هُوَ أَيْضا مِمَّن أَخذ عَن الشَّيْخ أَبى الوفا
(لما على اعْتدى دهرى وأحرمنى ... تَقْبِيل أعتابكم والرشف من ديم)
(والغرف من أبحر الْعرْفَان مَعَ حكم ... جَاءَت كدر مَعَ العقيان مُنْتَظم)
(أرْسلت فرعى عَنى نَائِبا أبدا ... فعده سيدى من جملَة الخدم)
فَلَزِمَهُ يُنْفِقهُ عَلَيْهِ على مَذْهَب الشافعى الى أَن وصل الى قِرَاءَة شرح الْبَهْجَة ثمَّ تحول حنفيا وَكَانَ أَكثر تعبده على مَذْهَب الشافعى الى أَن مَاتَ وَقَرَأَ من أول البخارى الى بَاب الْقِرَاءَة فى الْمقْبرَة على الْمسند أَبى بكر تقى الدّين بن أَحْمد الشهير بِابْن البقا بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَاف الْمُشَدّدَة خَليفَة الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشَّيْخ علوان الاربلى ثمَّ الحموى وَهُوَ أَخذ عَن شيخ الاسلام الْعَلامَة أَحْمد بن عُمَيْس الحموى بِحَق اجازته عَن ابْن حجر العسقلانى وَهَذَا أَعلَى سَنَد لَهُ وَكَانَت وَفَاة ابْن البقا فى حُدُود السّبْعين وَتِسْعمِائَة وتاريخ الْقِرَاءَة فى أَوَاخِر رَمَضَان سنة احدى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَأَجَازَهُ بباقى البخارى ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ فى أَوَاخِر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ثمَّ قدم الى حماة الشَّيْخ أَحْمد بن على الْيُمْنَى وَكَانَ من المتبحرين فى جَمِيع الْعُلُوم فأسكنه دَارا جوَار دَاره وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح الكافية للمنلا جامى وَشرح العقائد الخيالى وَشرح الشمسية والمطول وغالب شرح الْمِفْتَاح وجانبا من تَفْسِير البيضاوى وَسمع عَلَيْهِ جانبا من شرح المواقف بِقِرَاءَة المرحوم منلا أَبى الْهدى العنتابى ولازمه عدَّة سِنِين وَكَانَ الْيُمْنَى هَذَا مَعَ تضلعه من الْعُلُوم لَهُ الْقدَم الراسخة فى الْكَشْف وَالْولَايَة وَله وقائع تدل على علو كَعبه مِنْهَا أَنه خرج هُوَ واياه وَجَمَاعَة يَوْمًا الى أحد منتزهات حماه وَاسْتمرّ بهم النشاط الى أَن قرب وَقت الْغُرُوب وهم خَارج الْبَلدة فخافوا من تسكير بَاب الْمَدِينَة فَذكرُوا ذَلِك للشَّيْخ فَدَعَا الله تَعَالَى بِأَن يُوقف الشَّمْس حَتَّى يدخلُوا الْمَدِينَة فوقفت الشَّمْس مِقْدَار سَاعَة الى أَن دخلُوا وَبعد وَفَاة مشايخه الْمَذْكُورين رَحل الى حلب وَأخذ عَن علمائها مِنْهُم الرضى مُحَمَّد بن الحنبلى الحنفى كَذَا ذكره النَّجْم فى تَارِيخه فى تَرْجَمَة ابْن الحنبلى وناقضه فى تَرْجَمَة الْجد فى الذيل بانه لم يلْحق ابْن الحنبلى وَهَذَا أغرب الْغَرِيب مِنْهُ فان لُحُوقه لِابْنِ الحنبلى لَا شُبْهَة فِيهِ أبدا وَأما أَخذه عَنهُ فَمَا أعرف حَقِيقَته على أَن ابْن الحنبلى قرظ لَهُ على شَرحه لمنظومه ابْن الشّحْنَة أرسل الشَّرْح اليه من حماة فقرظ عَلَيْهِ وَذكر فى التقريظ نسبته لِابْنِ الشّحْنَة وان جد وَالِده الْبُرْهَان لامه وَكَانَ الْجد لم يطلع على نسبته اليه فَخَجِلَ من التطفل على الشَّرْح مَعَ(3/323)
وجود ابْن الحنبلى فَأرْسل اليه رِسَالَة يعْتَذر فِيهَا عَن ذَلِك وَكَانَ الشَّمْس مُحَمَّد بن المنقار مِمَّن أَخذ عَن ابْن الحنبلى وَكَانَ يفاخر بالاخذ عَنهُ فاذا تَذَاكر هُوَ وَالْجد فى الاخذ عَن عُلَمَاء حلب بقول لَهُ أَنْت لم تقْرَأ على ابْن الحنبلى فَيَقُول لَهُ هُوَ قرظ على مؤلف لى وَأخذ بحمص عَن الشهَاب أَحْمد الاطاسى ثمَّ دخل الرّوم وَاخْتَلَطَ مَعَ كبرائها ومدحهم بالقصائد الفائقة ووجهت اليه الْمدرسَة القصاعية بِالشَّام فورد اليها وَأخذ بهَا عَن شيخ الاسلام الْبَدْر الغزى الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَغَيرهمَا وَكتب اليه مسائلا
(أَلا يَا امام الْفضل يَا من ببدره ... يضئ لنا وَجه الزَّمَان ويقمر)
(وان أشكلت فى الْوَاقِعَات مسَائِل ... جلاها بايضاح مَعَانِيه تنور)
(بِصِيغَة تَعْلِيق الطَّلَاق وَنَحْوه ... كعتق بِشَرْط عبدكم يتفكر)
(على ان الانشا يَا امام الْعُلُوم لَا ... يسوغ لنا التَّعْلِيق فِيهِ وَيظْهر)
(فَهَل يَقع التَّطْلِيق فى الْحَال سيدى ... وتعليقه يَا أوحد الدَّهْر يهدر)
(فمنوا بابداء الْجَواب تكرما ... وَمن بِمَا فِيهِ يُقَال ويزبر)
(وأنعم على هَذَا الْمُحب لذاتكم ... بِمَا يرفع الاشكال فِيهِ وحرروا)
(فَلَا زلت فى عز منيع ورفعة ... وَلَا بَرحت أنوار بدرك تزهر)
فاتفق أَن جَاءَهُ السُّؤَال وَقد عرض لَهُ سوء مزاج فَأجَاب وَلَده الْعَلامَة الشهَاب أَحْمد عَن السُّؤَال وأبياته هى
(أَلا يَا محب الدّين من شاع فَضله ... وَعنهُ بِكُل المكرمات يخبر)
(لَئِن كَانَ نور الْبَدْر عَم ضياؤه ... فطورا لَدَى السارى الشهَاب ينور)
(وَمن فرعها الاشجار تجنى ثمارها ... وَتَحْقِيق مجناها عَن الاصل يُؤثر)
(فانشاء تَعْلِيق يجوز وُقُوعه ... وَتَعْلِيق انشاء بِهِ المتسع يصدر)
(فبعتك ان شَاءَ الْمقَال مصحح ... وان شِئْت بيعا بِعْتُك اللَّفْظ يهدر)
(ووكلت زيدا فى طَلَاق سعادان ... تشأ جَازَ ذَا التَّعْلِيق فِيمَا يحرر)
(وقولك ان شَاءَت سعاد طَلاقهَا ... فزيد وكيلى فِيهِ كاللغو يذكر)
(وقائله الغزى أَحْمد يرتجى ... من الله فى أخراه يعْفُو وَيغْفر)
ثمَّ تدير دمشق وصاهر الْعَلامَة أَبَا الفدا اسمعيل النابلسى الْكَبِير على بنتين مَاتَت احداهما قبل أَن يبتنى بهَا والاخرى دخل بهَا وَولدت لَهُ جدى محب الله الْمُقدم ذكره وَلما قدم قاضى الْقُضَاة بِالشَّام شيخ الاسلام مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الياس الشهير بجوى زَاده(3/324)
كَانَ مَعَه فَلَمَّا أعْطى قَضَاء مصر من الشَّام صَحبه مَعَه وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة الْمَذْكُور أَمر بالتفتيش على كَنِيسَة فى الْقُدس وَعين مَعَه الصَّدْر أَحْمد بن عبد الله الْمَعْرُوف بفورى مفتى الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَكَانَ اتَّصل بمسامع الدولة أَن النَّصَارَى جددوا شَيْئا فى الْكَنِيسَة فَخَرجُوا من دمشق فى يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشر شعْبَان سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة فوجدوا وَالنَّصَارَى قد أَحْدَثُوا أوضاعا مُنكرَة ووجدوا الى جَانب الْكَنِيسَة مَسْجِدا قَدِيما هدم الْكفَّار جدرانه وحولوا وَضعه الْقَدِيم وجددوا بُنْيَانه فَأمر قاضى الْقُضَاة بهدم مَا جددوه فهدمه الْمُسلمُونَ وأعلنوا بِالتَّكْبِيرِ وأقيمت صَلَاة الْجَمَاعَة فى عصر ذَلِك الْيَوْم فى الْمَسْجِد الْمَذْكُور وَصلى قاضى الْقُضَاة الْمشَار اليه اماماا بِالنَّاسِ ثمَّ زاروا بعض الْمشَاهد ورحل القاضى وفى خدمته صَاحب التَّرْجَمَة الى الْقَاهِرَة وَرجع فورى الى دمشق فوصلوا الْقَاهِرَة فى نَهَار الاربعاء سادس عشرى شهر رَمَضَان وَاجْتمعَ صَاحب التَّرْجَمَة بالاستاذ سيدى مُحَمَّد البكرى وَوَقع بَينهمَا محاورات ومراسلات أورد صَاحب التَّرْجَمَة كثيرا مِنْهَا فى رحلته مِنْهَا أَنه حضر الاستاذ للسلام على قاضى الْقُضَاة وَكَانَ أول اجتماعه بِهِ قَالَ فتقدمت وَقبلت يَده وَقلت لَهُ يَا مَوْلَانَا هَذَا السَّلَام المجازى يُرِيد أَن سلامى عَلَيْكُم هُنَا مجازى للملاقاة وَأما السَّلَام الحقيقى فَهُوَ أَن أحضر الى خدمتكم فَلَمَّا ذهبت الى بَيته رآنى مُقبلا فَلَمَّا صافحته قَالَ لى هَذَا السَّلَام الحقيقى فلمح الى قَول أَبى الْعَلَاء وَمن بالعراق قَالَ وَأهْديت اليه هَدِيَّة من قلب الفستق واللوز والصنوبر وكتبت اليه
(لما تملك قلبى حبكم فغدا ... مُجَردا فِيهِ قلبا رق واستعرا)
(حررته فغدا طَوْعًا لخدمتكم ... محررا خَادِمًا وافاك معتذرا)
(فعاملوه بجبر حَيْثُ جَاءَكُم ... مُجَردا بمزيد الْحبّ منكسرا)
يقبل الْيَد الشَّرِيفَة ويلثم الرَّاحَة اللطيفة وَينْهى انه أهْدى مَا يُنَاسب اهداؤه لارباب الْقُلُوب ويلائم ارساله لاصحاب الغيوب فَقدم العَبْد رجلا وَأخر أُخْرَى فى أَن يهدى الى جنابكم الشريف مِنْهُ قدرا علما مِنْهُ بِأَنَّهُ شئ حقير لَا يوازى مقامكم الخطير وَقد توارى بالحجاب حَيْثُ وافاكم وَهُوَ حسير وَمَا مثل من يهدى مثله الى ذَلِك الجناب الا كالبحر يمطره السَّحَاب ثمَّ انه تهجم باهداء هَذَا الْقدر الْيَسِير فان وَقع فى حيّز الْقبُول انجبر الْقلب الكسير وَلَا يعزب عَن علم مَوْلَانَا بلغه الله أملا النَّمْل يعْذر فى الْقدر الذى حملا قَالَ ثمَّ اجْتمعت بعد ذَلِك(3/325)
بجنابه فَقَالَ لى مَا يَقُول الانسان فى هَدِيَّة كلهَا قلب وأنشدنى بديها
(بحم أقسم أَنى امْرُؤ ... صديق حميم بقلبى محب)
وَأخذ بِالْقَاهِرَةِ عَن الْمسند الْحَافِظ النَّجْم الغيطى صَاحب الْمِعْرَاج وَالشَّيْخ الامام أَبى النَّصْر الطبلاوى والامام الْعَلامَة على بن غَانِم المقدسى والحافظ الْكَبِير الْجمال يُوسُف بن القاضى زَكَرِيَّا وَغَيرهم وَصَحب القاضى بدر الدّين القرافى المالكى وَالشَّمْس مُحَمَّد الفارضى وَله مَعَهُمَا مفاوضات أدبية أَو ردهَا فى رحلته وَكَانَ بَينه وَبَين السرى ابْن الصَّائِغ رَأس الاطباء بِمصْر مَوَدَّة أكيدة وَوَقع بَينهمَا محاورات مِنْهَا أَنه كَانَ حصل لصَاحب التَّرْجَمَة دمل احْتَاجَ الى العلاج فَكتب الى السرى أَيهَا الرئيس البارع والبدر الذى فى أفق البلاغة طالع ذُو الْحِكْمَة الَّتِى أعيابها جالينوس والحذاقة الَّتِى حَار فِيهَا أبقراط ويطليموس أَشْكُو اليك دملا أَبْطَأَ فجره وآلم ضره وأضمره عَامله لَا على شريطة التَّفْسِير وَحصل مِنْهُ ألم كثير فتفضلوا بِمَا يبرز مَا استكن فِيهِ على عجل وَبِمَا ركب علاجا التَّنَازُع مَا فِيهِ من الْعَمَل بِحَيْثُ يصير هَذَا الْمُضمر مَبْنِيا على الْفَتْح لتنطق الالسنة بِالدُّعَاءِ وتعرب عَن أَفعَال الْمَدْح فَأرْسل اليه شَيْئا يلائم ذَلِك وَكتب جَوَابه هَل لَك أَيهَا الممتزج بِالروحِ امتزاج المَاء بِالرَّاحِ المهدى الى النواظر التَّنَزُّه والى النُّفُوس الارتياح الداعى برسالته المعجزة الالفاط الى جنَّة ناضرة المبرز بدلالته وُجُوه الْمعَانى الناضرة الى عُيُون الْبَيَان الناظرة لَا زَالَت أزمة الرغبات منقادة منا اليك ونواصى البلاغات معقودة أعنتها بيديك والفصاحة لَا تمد سرا دقاتها وَلَا تقصر مقصوراتها الا عَلَيْك
(ودمت الى كل الْقُلُوب محببا ... وفى كل عين شاهدتك حبيبها)
فى بِنَاء ذَلِك الدمل العاصى عَن الِانْدِمَال على الْفَتْح وَنصب ثَنَاء الْعَامِل من الادوية على الْمَدْح وَالدُّخُول على جمع مادته بِصُورَة التكسير وتصريفها بالتحويل الى وضعيات التَّغْيِير وارخاء الشد كَيْلا يكف الدَّوَاء وَلَا يلغى عَامله وتقوية الْمَعْمُول بالتجلد على التَّأْثِير الذى ارْتَفع فَاعله فبذلك ان شَاءَ الله تَعَالَى تفتر ثغوره وينبسط على جلد الْجلد غوره وَالله يديم معاهد الْفضل بك آهله والفضلاء من مناهلك ناهله والنبلاء فى ظلال ظلك قَائِله لتَكون السنتهم بأحامد المحامد فِيك قَائِله آمين وَأقَام صَاحب التَّرْجَمَة بِمصْر مُدَّة وَولى بهَا قَضَاء فره ثمَّ رَحل الى الرّوم(3/326)
وَولى قَضَاء حمص وحصن الاكراد ومعرة النُّعْمَان ومعرة نسرين وكلس وعزاز ثمَّ اسْتَقر بِدِمَشْق فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتَوَلَّى النِّيَابَة الْكُبْرَى سِنِين عديدة وَقَضَاء الْعَسْكَر بهَا وَقَضَاء الركب الشامى ودرس بعد القصاعية بالناصرية البرانية والشامية البرانية والسلطانية السليمية وَأفْتى مُدَّة طَوِيلَة بالامر السلطانى واشتهرت فَتَاوِيهِ بالآفاق وَكَانَ عَلامَة نِهَايَة محققا مدققا غواصا على الْمسَائِل طَوِيل الباع الْمَنْقُول قوى الساعد فى الْمَعْقُول وَكَانَ مستحضراً لمسائل الْفِقْه حَافِظًا لعبارات الْمُتُون مواظبا على التدريس والافتاء ويدرس فى تَفْسِير القاضى مَعَ مطالعة الْكَشَّاف والحواشى وانتفع بِهِ أفاضل الطّلبَة الْمشَار اليهم مِنْهُم التَّاج الْقطَّان والشموس الْخمس مُحَمَّد الميدانى وَمُحَمّد الجوخى وَمُحَمّد الايجى وَمُحَمّد الحمامى وَمُحَمّد الحادى والبدر حسن الموصلى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى والنجم مُحَمَّد الغزى وَأَخُوهُ أَبُو الطّيب والتقى الزهيرى والشهاب أَحْمد بن قولا قسز وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَالشَّيْخ أَبُو بكر المغربى مفتى الْمَالِكِيَّة وَالشَّيْخ أَيُّوب الخلوتى وَأخذ عَنهُ بالاجازة الشَّمْس مُحَمَّد والبرهان ابراهيم ابْنا أَحْمد المنلا الحلبى وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَكَانَت لَهُ شهرة طنانة وَذكره جمَاعَة من المؤرخين والادباء وأثنوا عَلَيْهِ كثيرا مِنْهُم البورينى والعرضى والغزى والخفاجى والبديعى قَالَ البديعى فى وَصفه عَلامَة ورد دمشق فأخجل وردهَا بمنثوره ومنظومه وفهامة ضاهى أنهارها بغزارة علومه جعلته مفتيها وَهَمَّام حفلها وامام فَرضهَا ونفلها وَمَا زَالَ فلك الْفَتْوَى مشرقا بمعلوماته الى أَن غاض بَحر فَضله وأفل كَوْكَب حَيَاته وَمن أَجود شعره قَوْله
(حكت قامتى لَا مَا وقامة منيتى ... حكت ألفا للوصل قلت مسائلا)
(اذا اجْتمعت لامى مَعَ الالف الَّتِى ... حكتك قواما مَا يصير فَقَالَ لَا)
وَأهْدى لبَعْضهِم سكرا وَكتب مَعَه
(هَذَا الذى أهداه عبد جنابكم ... من صَار مَعْرُوفا بكم بَين الورى)
(هُوَ شكرا احسان حلا تكريره ... مستعذبا حَتَّى تصحف سكرا)
وَكتب لبَعض الموالى طَالبا مِنْهُ كتاب الصِّحَاح عَارِية
(مولاى ان وافيت بابك طَالبا ... مِنْك الصِّحَاح فَلَيْسَ ذَاك بمنكر)
(الْبَحْر أَنْت وَهل يلام فَتى سعى ... للبحر كى يلقى صِحَاح الجوهرى)
وَكتب لبَعض أصدقائه(3/327)
(سَلام على من لم أزل تَحت ظله ... وَتَحْت أياديه الحسان وبره)
(سَلام محب مخلص لَك فى الولا ... يعطر أنفاس النسيم بشكره)
وَمن فَوَائده أَنه سُئِلَ عَن بيتى أَبى اسحاق الغزى
(وخزالا سنة والخضوع النَّاقِص ... أَمر ان عِنْد ذوى النهى مران)
(والرأى أَن نَخْتَار فِيمَا دونه المر ان وخز أسنة المران ... )
وَكَانَ فى مجْلِس أحد الموالى فَتكلم بعض الْحَاضِرين على مَا يتَعَلَّق بالبيتين من جِهَة الْمَعْنى وَبَيَان الاعراب فَكتب عَلَيْهِمَا رِسَالَة ملخصها ان الوخز الطعْن بِالرُّمْحِ وَغَيره لَا يكون نَافِذا والاسنة جمع سِنَان وَهُوَ نصل الرمْح والمران آخر الْبَيْت الاخير قَالَ صَاحب الْقَامُوس هُوَ كرمان الرماح اللدنة انْتهى أَقُول لَا يخفى على الْفَاضِل النبيه انه أصَاب لما قصد الْقلب عِنْد هَذَا التَّشْبِيه وَلَا يخفى أَن تعدد وصف الْخَبَر هُنَا على حد قَوْلهم حُلْو حامض أى مز وَالْمعْنَى أَنَّهَا حَالَة متوسطة بَين الصلابة واللين وَبَقِيَّة أَلْفَاظ الْبَيْت ظَاهِرَة لَا تحْتَاج الى تَبْيِين ثمَّ اضافة وخز الى الاسنة معنوية بِمَعْنى اللَّام أى وخز للاسنة وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره أَمْرَانِ واعراب الْبَيْتَيْنِ ظَاهر لَا يحْتَاج الى بَيَان وَلَا يخفى مَا فى الْبَيْت الاول من الصِّنَاعَة البديعة وَهُوَ شبه الِاشْتِقَاق نَحْو فأقم وَجهك للدّين الْقيم وَالْجمع وَذَلِكَ أَن تجمع بَين مُتَعَدد فى حكم وفى ذَلِك قَوْله تَعَالَى {المَال والبنون زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَقَوله الرأى أَن نَخْتَار الى آخِره الظَّاهِر ان مَا فى قَوْله فِيمَا دونه مَوْصُولَة وتحتمل الموصوفة وصلتها مُتَعَلق الظّرْف وعائدها الضَّمِير البارز والمران فَاعل الظّرْف لاعتماده على الْمَوْصُول أَو الْمَوْصُوف وَالتَّقْدِير والرأى أَن نَخْتَار فِيمَا اسْتَقر دونه المران أى عِنْده أَو امامه وخز أسنة المران يعْنى اذا اجْتمع الامران المران وخز الاسنة والخضوع لناقص فالرأى أَن نَخْتَار وخز الاسنة على الخضوع يعْنى أَن الدون فى جَانب الخضوع مُتَحَقق بِأَن يكون لَهُ مَرَاتِب مُتَفَاوِتَة بَعْضهَا دون بعض وَأما وخز الاسنة فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ هَذَا الْمَعْنى فَنَقُول يُمكن أَن يغلب الخضوع أَو يَجْعَل لوخز الاسنة مَرَاتِب مُتَفَاوِتَة لَهُ أَيْضا تَقْديرا لَا تَحْقِيقا وَلَا يخفى مَا فى الْبَيْت من الجناس التَّام هَذَا وَلَا مَانع من أَن تجْعَل دون من قبيل قَوْلهم هَذَا دونه أى أقرب مِنْهُ كَمَا هُوَ أحد مَعَانِيهَا ويغلب الخضوع على وخز الاسنة من حَيْثُ الْمَعْنى أَو يقدر الدون فى جَانب وخز الاسنة وَحِينَئِذٍ يظْهر لَهُ وَجه دَقِيق وبالقبول حقيق وَله تَحْرِير على الْمثل الْمَشْهُور وَهُوَ من حفظ حجَّة على(3/328)
من لم يحفظ وَكَانَ سَبَب تحريره لَهُ أَنه اجْتمع هُوَ وَجَمَاعَة فى مجْلِس بعض الاعيان فدار الْكَلَام بَينهم فِيهِ من جِهَة الاعراب فَاخْتَارَ بَعضهم رفع الْحجَّة وَبَعْضهمْ نصبها فَكتب مَا ملخصة من اسْم مَوْصُول مَرْفُوع الْمحل على الِابْتِدَاء وَجُمْلَة حفظ صلَة لَا مَحل لَهَا من الاعراب والعائد الضَّمِير الْمُسْتَتر فى حفظ وَحجَّة خبر الْمُبْتَدَأ أعنى الْمَوْصُول وَهُوَ من وعَلى ظرف لغولان عَامله من الافعال الْخَاصَّة الَّتِى لَا يتَضَمَّن الظّرْف لَهُ لَا مَحل لَهُ من الاعراب وَهُوَ مُتَعَلق بِحجَّة وعَلى حرف جر مَعْنَاهُ الاستعلاء وَهُوَ هُنَا معنوى وَلم حرف نفى وَجزم ويحفظ فعل مضارع مجزوم بلم وَجُمْلَة لم يحفظ صلَة من الثَّانِيَة المجرورة الْمحل بعلى وعائدها الضَّمِير الْمُسْتَتر فى يحفظ وَجُمْلَة من حفظ حجَّة على من لم يحفظ استئنافية فان قلت هَل يَصح نصب الْحجَّة على أَنه مفعول حفظ وَجعل على فعلا مَاضِيا والموصول بعده مَفْعُوله مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض على الْحَذف والايصال وَالتَّقْدِير من حفظ حجَّة علا على من لم يحفظ ثمَّ حذفت على وباشر الْفِعْل الْمَنْصُوب فنصبه على حد قَول الطغرائى
(وان علانى من دونى فَلَا عجب ... لى أُسْوَة بانحطاط الشَّمْس عَن زحل)
قلت التَّقْدِير لَا يروج عِنْد الناقدين الا للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة هُنَا على أَن رسم الْخط لَا يساعده أَيْضا فانه لَو كَانَ فعلا مَاضِيا لكتب بالالف الْمَوْجُود بِصُورَة الْيَاء فان قلت يُمكن أَن يرجح نصب الْحجَّة بِأَنَّهُ يلْزم من عَدمه بَقَاء حفظ بِلَا مفعول على أَنه من الْأَفْعَال المتعدية قلت مثل هَذَا غير عَزِيز فِي كَلَامهم فانه قد تقرر فِي فن الْمعَانِي أَنه قد يكون الْغَرَض من الْفِعْل المتعدى اثباته لفَاعِله أَو نَفْيه عَنهُ مُطلقًا من غير اعْتِبَار تعلقه بِمن وَقع عَلَيْهِ فَينزل منزلَة اللَّازِم فان قلت فَمَا ذكرته مُرَجّح لرفع الْحجَّة وَحِينَئِذٍ فَكيف يَصح حملهَا على الْمَوْصُول الذى هُوَ عبارَة عَن الشَّخْص قلت هُوَ من بَاب الْمجَاز الْمُرْسل من قبيل اطلاق الْحَال وارادة الْمحل أَو اطلاق الْمُسَبّب وارادة السَّبَب وَأَمْثَاله أَكثر من أَن تحصى وَلِهَذَا الْكَلَام تَتِمَّة أَعرَضت عَنْهَا لعدم تعلقهَا بالغرض ومنشآته وآثاره كَثِيرَة وَأما لطائفة ونكاته فمما اشْتهر وبهر وَمَا أحقها بِأَن تدون ويسامر بهَا وَمن نادرها أَنه خرج هُوَ وَجَمَاعَة من الْعلمَاء الى توديع بعض قُضَاة الشَّام كَانَ عزل عَنْهَا لنسبة الْجَهْل اليه وَأعْطى بعْدهَا قَضَاء حلب فَلَمَّا وَدعوهُ قَالَ ان كَانَ لكم فى الْحَلب بالتعريف حَاجَة فاذكروها لنا حَتَّى نرسلها لكم الى شام بدوم تَعْرِيف فَقَالَ لَهُ المترجم لَيْسَ لنا حَاجَة ثمَّة الا الا لف وَاللَّام الذاهبتان(3/329)
من شام فلتنعموا بارسالهما وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى أواسط شهر رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى سحر يَوْم الاحد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة سِتّ عشرَة بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ ظهر الْيَوْم الْمَذْكُور بالجامع الاموى وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ قاضى الْقُضَاة بِالشَّام الْمولى ابراهيم بن على الازنبقى وَحمل فى جنَازَته وتأسف على اخلاقه الْعلمَاء وَدفن بالمدفن قبالة الْجَانِب المحاذى لجامع جراح خَارج بَاب الشاغور وَكَانَ آخر درس أقرأه أَو وقف عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ أَنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها} وأرخ عَام وَفَاته بعض الْفُضَلَاء بقوله آها آها مَاتَ الْمُفْتى ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى نظم فى رثائه قصيدة بليغة مطْلعهَا
(قَامَت قِيَامَة مفتينا وقاضينا ... لَا بل قِيَامَة دانينا وقاصينا)
(مصاب علم أضاع الْقلب منصدعا ... ورزء مجد أطار الْعقل مفتونا)
(قدفت من عضد الْعليا وقلص من ... ظلالها بعد مَا مدت لنا حينا)
(بادرت فِيهِ الى الانكار مذ طرقت ... سمعى أَحَادِيثه شكا وتخمينا)
(حَتَّى اذا صدع الشَّك الْيَقِين بِهِ ... وَصَحَّ مَا كَانَ عِنْد الصب مظنونا)
(وَصَارَ لَا طعن لى فِيهِ أحاوله ... رجعت من نصله فى الْقلب مطعونا)
(أَوْهَى عماد القوى زلزال صدمته ... وصادفت من خلو الْقلب تمكينا)
(تبت يدات ذَا الردى أودى لنا بندى ... كف تكف العدا عَنَّا وتكفينا)
(فليت كل محب دولة وغبى ... فدا محب فنون الْعلم وَالدُّنْيَا)
(أمات حساده من قل موتته ... وَهَكَذَا دَائِما تلفى العرانينا)
(فَحل لبكر الْمعَانى الْعين مفترع ... قد عنت بعد مهما تلقى عنينا)
(يَا طَالبا للندى والعز خب أملا ... من بعده قد لَزِمت الْعَدَم والهونا)
(مضى الْجواد الذى كَانَت مكارمه ... تريشنا اذ صروف الدَّهْر تبرينا)
(صرنا معاشر أهل الشَّام سائبة ... مُبَاحَة غَابَ راعينا وحامينا)
(أما الْعُلُوم وأهلوها فقد درست ... مَاتَ الذى كَانَ يحيها ويحيينا)
(من للبلاغة ان عنت لطائفها ... من للفتاوى اذا مَا احتجن تَبينا)
(حماسة مِنْهُ شابتها لطافته ... وَمَا زج الْعِزّ مِنْهُ الْحلم واللينا)
(أهكذا يستر الْبَدْر الْمُنِير ترى ... وصبح الْبَحْر تَحت الترب مَدْفُونا)(3/330)
(ظنوه صور من مجد وَنور هدى ... فمذ أُعِيد بِأَرْض حققوا الطينا)
(لم أنس وقفتنا تِلْقَاء روضته ... واذ نحيى بهَا من لَا يحيينا)
مِنْهَا
(يَا سيدا كنت مَسْرُورا بِهِ زَمنا ... تركتنى بعد طول الْعُمر مَحْزُونا)
(ألزمت قلبى تحريكا عَلَيْك أسى ... وَعَن جَمِيع أمانى الدَّهْر تسكينا)
(قد كَانَ لى مِنْك ركن شامخ وَأب ... فقد فقدت عمادى مِنْك ذَا الحينا)
(فَقل لنا من لنا ان نَاب نائبة ... نأوى اليه ونشكوها فيشكينا)
(أعزز علينا بِأَن الصَّدْر مِنْك خلا ... فى مجْلِس كنت فِيهِ مِنْك تدنينا)
(بفقدك الْعلم ثمَّ الْمجد قد نكست ... أَعْلَامه وَغدا بالذل مَقْرُونا)
(ان خص شخصك بطن الارض مستترا ... فَذكر فضلك عَم البيد والبينا)
(كَانَ ذاتك لم تملأ فضائلها ... دمشق من كل مَعْرُوف أفانينا)
(فَضَائِل ان يكن أودى الْمنون بهَا ... فان أجرك فِيهَا لَيْسَ ممنونا)
(سقاك مَوْلَاك من صوب الرِّضَا ديماً ... منهلة المزن ملقاة العرى جونا)
(ودمت تسكن فى الفردوس مرتبعا ... رحبا تعاين فِيهِ الخرد العينا)
(ترى الانيس بِهِ الْمولى وَرَحمته ... والصالحات وعلما مِنْك مخزونا)
(تقرا فترقى بِهِ أَعلَى الْجنان كَمَا ... فرويه وَعدا لاهل الْعلم مَضْمُونا)
(فى نعْمَة من جوَار الله فقت بهَا ... على سلاطين فى الدُّنْيَا أساطينا)
(ودام مِمَّن بَيْتك السامى نرى خلفا ... أولادك الكمل الغر الميامينا)
(لَا زَالَ مِنْهُم رَئِيس فى دمشق لنا ... مَكَان وَالِده عَنهُ يسلينا)
(وَلَا يزالون فى لطف يعم وفى ... حب من الله طول الدَّهْر باقينا)
(مَا جددت سنَن الاسلاف بعدهمْ ... أخلافهم حذوهم فى الْخَيْر يحذونا)
(وَالله تَحت ظلال الْعَرْش يجمعنا ... مَعَ المحبين فَوق الْعَفو آمينا)
مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عفيف بن الهادى بن أَبى حجربه بِتَقْدِيم الْجِيم مَعَ الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُتَأَخِّرَة ابْن أَبى الْقَاسِم بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الشريعى بِضَم الشين وَفتح الرَّاء ابْن أَبى بكر بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى بكر بن على الاهدل كَانَ على قدم عَظِيم من الْعِبَادَة والزهادة عاكفا فى مَقْصُورَة من مقاصير الْجَامِع الظافرى بزبيد لَا يخرج مِنْهُ الا لحَاجَة وَكَانَ عَالما وعاملا ورعا زاهداً مَقْصُود للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فى الْفِقْه غَالِبا لحقه السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْبَحْر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض(3/331)
الْمِنْهَاج وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ السَّيِّد أَبُو بكر بن أَبى الْقَاسِم الاهدل وَكَانَت وَفَاته فى شهر ربيع الاول سنة ثَلَاث وَعشْرين وَترك وَألف جملَة كتب وَقفهَا هُوَ وَكتب ذَلِك على أَكْثَرهَا بِخَطِّهِ
مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن على بن عقيل بن أَحْمد بن أَبى بكر بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف الحضرمى المصوفى ذكره الشلى وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده السَّيِّد زين العابدين وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل ثمَّ تدير الْبَلدة الْمُسَمَّاة بالقارة وهى قريبَة من بَلْدَة تريم وَصَحب الامام الْعَارِف بِاللَّه أَحْمد بن عبد الله الحبشى ولازمه وَأخذ عَنهُ التصوف وَقَرَأَ عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة وصاهره بابنته وَحج وَأخذ بالحرمين عَن جمَاعَة وَصَحب كثيرين مِنْهُم عَم أَبِيه السَّيِّد علوى بن على بن عقيل وَكَانَ يُحِبهُ ويثنى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بدعوات ظَهرت عَلَيْهِ آثارها ثمَّ رَجَعَ الى القارة وَأقَام بهَا ملْجأ للوافدين وَكَانَ مبذول النِّعْمَة حسن الاخلاق لين العريكة سليم الصَّدْر ومتواضعا حَافظ لِلِسَانِهِ ثمَّ طلبه وَلَده السَّيِّد أَبُو بكر لما حصل لَهُ مرض شَدِيد الى مَكَّة فَرَحل اليها وجاور بهَا وَصَحب بهَا الامام الْعَارِف مُحَمَّد بن علوى وَحصل بَينهمَا اتِّحَاد وصحبة شَدِيدَة وَصَحب الشَّيْخ الْجَلِيل السَّيِّد عبد الرَّحْمَن المغربى وَكَانَ يُحِبهُ ويثنى عَلَيْهِ ثمَّ رَحل الى الْمَدِينَة وَأخذ بهَا عَن غير وَاحِد مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشى وَرجع الى مَكَّة بنية الرُّجُوع الى وَطنه وحاوله أَصْحَابه بِأَن يُقيم بِمَكَّة لكبر سنه وَالْتزم لَهُ وَلَده بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجهُ فَلم يقبل فَلَمَّا صمم على الارتحال أدْركهُ الْمَوْت فتوفى بِمَكَّة لخمس خلون من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالزهيرى الدمشقى الشافعى الْفَاضِل النَّبِيل الاصيل مَاتَ أَبوهُ التقى وَهُوَ طِفْل فَنَشَأَ فى تربية عَمه القاضى نجم الدّين واعتنى بِهِ فألزمه بالاشتغال فاشتغل على الشّرف الدمشقى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَأخذ عَن النَّجْم الغزى وَلزِمَ دروسه زَمَانا طَويلا وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع الْمُعَلق ومعيد الدُّرُوس الْمدرسَة الشامية البرانية وَألف وصنف وَمن تآليفه شرح لامية ابْن الوردى وطالعته فرأيته يشْتَمل على أَشْيَاء نفيسة وَشرح ديوَان ابْن الفارض وَأَظنهُ لم يكلمهُ وَقد نظم الْكثير وَقد رَأَيْت لَهُ شعر الا باس بِهِ فَمِنْهُ هَذِه القصيدة نظمها(3/332)
فى النَّصِيحَة وهى طَوِيلَة ذكرت بَعْضهَا هُنَا ومستهلها
(أَلا خل الاصاغر والاكابر ... خليلى ذَا الزَّمَان وَلَا تكابر)
(وجانب جانبا عَن كل صدر ... رحيب الصَّدْر لَو خرت المفاخر)
(وَلَا تركن لذى جاه وجيه ... وَمن بِالْمَالِ فى الدُّنْيَا يفاخر)
(وَلَا يغررك صدق من صديق ... وَلَا تظهر لَهُ مِنْك السرائر)
(وَلَا تركن الى من تأمننه ... وَلَو طابت بِهِ مِنْك المخابر)
(فكم قلب تقلب بعد صدق ... فعادى وَهُوَ أدرى بالمضارر)
(وَكم من صَاحب وأضحى صخيبا ... وَكم خل يوافى وَهُوَ ماكر)
(اذا كشفت حَقِيقَته عيَانًا ... ترَاهُ فى حَقِيقَته مغادر)
(فاخوان الزَّمَان بِكُل حَال ... جواسيس الْعُيُوب لكل باصر)
مِنْهَا
(وَلَا تجزم بِأَمْر من أُمُور ... اذا لم تحسب العقبى وشاور)
(وشاور عَاقِلا شهما نصُوحًا ... سليم الْفِكر برا غير فَاجر)
(فَلَيْسَ يخيب شخص مستشير ... وربى للنبى بِذَاكَ آمُر)
(فَمن يحْفر قليبا كَانَ فِيهِ ... قَرِيبا وَاقعا فِيمَا يُغَادر)
(وسامح من أَسَاءَ اليك واحسن ... وَكن للذنب عفوا مِنْك سَاتِر)
(وان والاك من مَوْلَاك عسر ... فان الْيُسْر بعد الْعسر صادر)
(وَلَا تضجر وَلَو فقر تناهى ... وَلَا تَشْكُو وَكن لله شَاكر)
(فكم حر بضنك الْعَيْش رَاض ... وَكم عبد يمتع بالحرائر)
(وَكم شهم تجرع كل وَقت ... كؤسا لَا تسوغ لَهَا المرائر)
(وَكم نذل تقدم فى البرايا ... وَمَال الى الميامن والمياسر)
(وحر الْوَجْه لَا تبذله يَوْمًا ... لمن يزريك لَو بذل الْجَوَاهِر)
(وحاذر أَن تعيش بذل نفس ... وهون فى العوالم للاصاغر)
(فموت الشَّخْص خير من حَيَاة ... لَهُ فِيهَا المذلة وَهُوَ صاغر)
(وان وافاك ذمّ من بغيض ... فبالا حسان قابله وغاير)
وَمِنْهَا
(وَلَا تجْلِس مَعَ الْجُهَّال يَوْمًا ... وَلَا مَعَ غير جنسك فى المحاضر)
(وَلَا تحلل محلا لَيْسَ فِيهِ ... لاهل الْفضل حمد أَو مآثر)
(وجانب بَلْدَة لَا حق فِيهَا ... ومصرا لَا تُقَام بِهِ الشعائر)(3/333)
(وَلَا تمكث بذل فى مقَام ... وَأَرْض الله وَاسِعَة المحاضر)
(فَمن يرض المذلة دون عز ... وَلَو فى جنَّة الفردوس خاسر)
(وَلَا تحقر لشيخ ذى وقار ... وَقدم للكبير وَأَنت صاغر)
(وعرضك صنه عَن فعل مريب ... وَمَا فِيهِ اشْتِبَاه كن محاذر)
(فَمن حول الْحمى قد حام يَوْمًا ... فيوشك وقعه فِيمَا يباصر)
(وَلَا تصْحَب سوى شخص نصوح ... يكن فى أَمر أخراه مذاكر)
وَمِنْهَا
(وفكر فى ذنوبك واجتنبها ... وَلَا تيأس فان الله غَافِر)
(ولازم للتقى وَالدّين دَوْمًا ... فتقوى الله ربح للمتاجر)
(وَبِاللَّهِ استعذ من شَرّ نفس ... وَشَيْطَان يضلك وَهُوَ سَاحر)
(وَكن مستنصرا بِاللَّه حَقًا ... فَمَا خَابَ الذى مَوْلَاهُ نَاصِر)
(وَبِاللَّهِ اسْتَعِنْ فى كل أَمر ... وَسلم للْقَضَاء وللاوامر)
وَله غير ذَلِك وَكَانَ فى آخر عمره أُصِيب بِولد نجيب حزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا وَضَاقَتْ اخلاقه بعد ذَلِك وتغيرت مُعَامَلَته مَعَ النَّاس وابتلى بِاسْتِعْمَال الافيون وَكَانَ مُتَّهمًا بِالْكَذِبِ وَفِيه يَقُول بعض الظرفاء
(سَأَلت عَن الشَّيْخ الزهيرى وفضله ... فَقيل شويخ الْكَذِب حدث عَن الْبَحْر)
وَله أَخْبَار ووقائع طَوِيلَة الذيل أَعرَضت عَن ذكرهَا لشهرتها وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى بكر مطير أحد أجلاء عُلَمَاء الْيمن الَّذين لازموا تقوى الله وجمعوا بَين الْعلم وَالْعَمَل وتحروا فى تَحْقِيق مسَائِل الْعلم واشتهر ذكرهم شهرة القمرين وجمعوا بَين الشرفين أَخذ عَن وَالِده وَعَمه عبد الله بن ابراهيم وَغَيرهمَا من أهل ذَلِك الاقليم حَتَّى برع واشتهر وَألف وصنف وَله من الاشعار الصَّالِحَة مَا هُوَ مَشْهُور فَمن ذَلِك قَوْله يمدح الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ذهل بن ابراهيم حشيبر صَاحب الزيدية
(مالى أَرَاك كثير الْهم والحزن ... ولهان من شدَّة الاهوال والمحن)
(وَذَا هلا هائما وَالْقلب مِنْك غَدا ... خَال من الْعقل وَالتَّدْبِير فى الزَّمن)
(كَانَت مضاجعهم بِاللَّيْلِ عَن جنب ... لَا يسأمون خطاب الله فى الدجن)
(وسرت تقفو بعيد الدَّار عَن وَهن ... وَالْقَوْم قد أدلجوا وَالله بالرسن)
(هم سادة النَّاس فى الاحوال أجمعها ... وهم غيات الدنى بِالْفَضْلِ فاستبن)(3/334)
(لَكِن اذا رمت نجما أَو بُلُوغ منى ... فانهض الى مَعْدن الاسرار والمنن)
(هَذَا الولى الْكَبِير القطب من شهِدت ... لَهُ الاكابر بالتصريف فى الزَّمن)
(وَصَارَ بالذهل الْمَشْهُور بلدته ... بهَا الرِّضَا والهنا للصابر الفطن)
(بَحر المعارف مَشْهُور فمعدنها ... عين الرِّجَال وفحل الْقَوْم فى السّنَن)
(من سَاءَ فى سوحه جَاءَت منيته ... اليه تفجؤه فى السِّرّ والعلن)
(من حل روضته قد نَالَ بغيته ... بِكُل خير بِحسن الظَّن ذَاك غنى)
(فاعكف بتربته والزم بعروته ... واستبق ذَا دَائِما مَا دمت فى المكن)
(يوليك كل العطا من جود منحته ... وَأَنت فى مأمن من كل ذى احن)
(بِاللَّه يازائرا قبرا لَهُ شرفا ... أخْلص فُؤَادك لَا تأتى على دخن)
(فالفصل شيمته والنصر خادمه ... والغوث سيرته وَالله فى المحن)
(مطالع السعد لَا تخفى شواهدها ... فالسعد ساعده كَالرِّيحِ للسفن)
(وَكم ظهرن لَهُ فى كل معضلة ... آيَات حق على الاعداء بالعلن)
(أبادهم جمعهم فى سَاعَة علنا ... بالطعن وَالضَّرْب لَا يرجعن عَن جبن)
(ان الْعِنَايَة فى علم لَهُ سبقت ... من الاله على التَّقْدِير بالْحسنِ)
(آل الحشيبر من عدنان انهم ... نُجُوم أهل الثرى للعارف الفطن)
(بِاللَّه يَا نَسْله كونُوا على نهج ... من الشَّرِيعَة وَالتَّقوى مدى الزَّمن)
(يَا سيدى الشَّيْخ يَا غوثى ومعتمدى ... عبيدكم قَاصد للفضل غير غنى)
(فَقُمْ بِنَا مسرعا وانهض بحجتنا ... فالعلم قد ضَاعَ فى شام وفى يمن)
(طَريقَة الْحق لَا تمشى لعزتها ... وَصَاحب الْجَهْل قد أضحى على فنن)
(انا قصدناك فى أَمر أضربنا ... فى الدّين وَالْمَال والارواح واغبنى)
(فانعش لغربتنا وَافْتَحْ بصائرنا ... واكبت لحاسدنا فى كل ذى وَطن)
(واطمس عيُونا لَهُ تبقى على عَمه ... هَذَا جزا من بقى بِالْخَيرِ لم يبن)
(انا لجير انكم وَالْجَار حرمته ... قديمَة ذكرت فى الذّكر وَالسّنَن)
(أرعو الناذ مِمَّا كَانَت لنا قدما ... من أجل سالفنا فى سالف الزَّمن)
(لَا تهملونا جَمِيعًا من اعانتكم ... عطفا علينا عبيد بالمطير كنى)
(آل المطير لَهُم فى حقكم نجم ... أهيل علم سموا فى أرفع القنن)
(بِالْعلمِ وَالدّين وَالتَّحْقِيق مَا برحوا ... فى خدمَة الشَّرْع والاديان وَالسّنَن)(3/335)
(وعندكم سيدى عقد لسالفنا ... على الامانة أدوه لكل بنى)
(وَنحن أبناؤكم وَالْكل يطلبكم ... مَا عنْدكُمْ من عَظِيم الْفضل والمنن)
(من كَانَ فى سوحكم من كل ذى نفس ... فحقه وَاجِب فاحموه من عطن)
(وسامحوه على مَا كَانَ من خطا ... فبحركم وَاسع وَالْكل لَيْسَ غنى)
(عَن مُنْتَهى جودكم فى كل حَادِثَة ... فَالله أولاكم من كل ذى حسن)
(عَلَيْكُم من اله الْعَرْش رَحمته ... تغشى ضريحكم كالوابل الهتن)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار من مُضر ... مُحَمَّد الْمُصْطَفى الْمَبْعُوث من عدن)
(والآل والصحب والازواج كلهم ... وَالتَّابِعِينَ لَهُم ماش على السّنَن)
وَكَانَت وَفَاته فى ثَالِث عشر شَوَّال سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف بِمَدِينَة الزيدية رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى بكر بن أَحْمد بن أَبى بكر بن عبد الله بن أَبى بكر بن علوى بن عبد الله ابْن على بن عبد الله بن علوى بن الاستاذ الاعظم الملقب جمال الدّين أَبُو علوى الشلى الحضرمى نزيل مَكَّة المشرفة صَاحب التاريخين اللَّذين أنقل عَنْهُمَا كثيرا تقدم أَبوهُ وَقد ذكرت تَتِمَّة نسبه فى تَرْجَمته فَارْجِع اليها ثمَّة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة من الْعلمَاء الاجلاء أَصْحَاب التصنيف وَقد ترْجم نَفسه فى تَارِيخه نفائس الدُّرَر فَقَالَ كَانَ مولدى منتصف شعْبَان سنة ثَلَاثِينَ وَألف وضبطها بعض الادباء بحروف جد برضاك وسمانى والدى مُحَمَّد ولقبنى جمَاعَة من الْمَشَايِخ جمال الدّين وَكَنَّانِي بعض العارفين بأبى علوى وَهُوَ أول أولادى وحفظت الْقُرْآن الْعَظِيم على الْمعلم الاديب عبد الله بن عمر با غَرِيب وختمته وَأَنا ابْن عشر سِنِين وحفظت العقيدة الغزالية والاربعين النووية والاجرومية والقطر والملحة والارشاد وَعرضت محفوظاتى على مشايخى ثمَّ من الله تَعَالَى بالاشتغال ووفقنى لسَمَاع الحَدِيث من المسندين وَقِرَاءَة مَا تيَسّر من كتبه الْمُعْتَبرَة مَعَ الْمُلَازمَة على تَحْصِيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والفنون الآلية والقوانين الْعَرَبيَّة لَا سِيمَا علم الْفِقْه والتصوف فَأخذت هَذِه الْعُلُوم عَن الْعلمَاء العارفين مِنْهُم سيدى الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى أخذت عَنهُ التَّفْسِير والْحَدِيث والتصوف والنحو وَمِنْهُم وَمِنْهُم الشَّيْخ فَخر الدّين أَبُو بكر بن شهَاب الدّين أخذت عَنهُ التَّفْسِير والْحَدِيث والاصول والعربية بقراءتى وَسَمَاع قِرَاءَة غيرى عَلَيْهِ وَمِنْهُم شَيخنَا السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن علوى الْفَقِيه أخذت عَنهُ الْفِقْه(3/336)
الاصول والعربية وَجل انتفاعى بِهِ وَمِنْهُم شَيخنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بارضوان الشهير بعقلان أخذت عَنهُ الْفِقْه والتصوف وَمِنْهُم شَيخنَا القاضى السَّيِّد أَحْمد بن عمر عيديد أخذت عَنهُ الْفِقْه والنحو وَمِنْهُم شَيخنَا الشَّيْخ السَّيِّد عقيل بن عمرَان باعمر أخذت عَنهُ الْفِقْه والتصوف بِمَدِينَة ضمار وَمِنْهُم شَيخنَا عمر بن عبد الرَّحِيم بارجا الْمَشْهُور بالخطيب بظفار أَيْضا فَهَؤُلَاءِ أشهر مشايخى بِتِلْكَ الديار ثمَّ ارتحلت الى الديار الْهِنْدِيَّة وَأخذت عَن جمَاعَة ثمَّ ارتحلت مِنْهَا الى الْحَرَمَيْنِ وقضيت النُّسُكَيْنِ وتشرفت بزيارة النبى
وألفيت بهما من الْمُحدثين جمَاعَة أجلاء فلزمتهم للأخذ عَنْهُم مِنْهُم الاستاذ الْكَبِير شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلى أسمعنى الحَدِيث المسلسل بالاولية والمسلسل بِسُورَة الصَّفّ وَسمعت عَلَيْهِ البخارى مرَّتَيْنِ والمسلسل بقول وَأَنا أحبك وَحَدِيث المصافحة وَأخذت عَنهُ بقراءتى وبقراءة غيرى الحَدِيث رِوَايَة ودراية وَالْفِقْه أصولا وفروعا وَكَذَلِكَ التَّفْسِير والمعانى وَالْبَيَان والبديع والنحو وَالصرْف واللغة والمنطق وأصول الدّين ولازمته فى دروسه كلهَا وَكَانَ يدرس وَقت الضُّحَى وَبعد الْعَصْر وَبعد الْمغرب وَبعد الْعشَاء وأجازنى بِجَمِيعِ مروياته ولقننى الذّكر وَمِنْهُم الشَّيْخ خَاتِمَة الْحفاظ أَبُو مهدى عِيسَى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الثعالبى الجعفرى المغربى ولازمته مُدَّة اقامته بِمَكَّة فَأخذت عَنهُ جَمِيع الْعُلُوم الْمَذْكُورَة الا الْفِقْه فأرويه عَنهُ بالاجازة وَسمعت مِنْهُ الحَدِيث المسلسل بالاولية وَسورَة الصَّفّ ومسند الصُّحْبَة وألبسنى الْخِرْقَة الشَّرِيفَة ولقننى الذّكر وأجازنى بِجَمِيعِ مروياته وَمِنْهُم الْعَالم الْعَامِل المربى المكمل صفى الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد المدنى الشهير بالقشاشى قَرَأت عَلَيْهِ بعض الْجَامِع الصَّغِير وناولنيه بِيَدِهِ وأجازنى بِجَمِيعِ مؤلفاته ومروياته ولقننى الذّكر وألبسنى الْخِرْقَة وصافحنى وَمِنْهُم شيخ الاسلام عبد الْعَزِيز الزمزمى أخذت عَنهُ الْفِقْه وصافحنى وأجازنى بِجَمِيعِ مروياته ومؤلفاته وقرأت علم الْفَرَائِض والحساب على الْأَوَّلين من الثَّلَاثَة وقرأت علم الْمِيقَات والحساب بِسَنَد الْخِرْقَة والصحبة على شَيخنَا خَاتِمَة الْمُحَقِّقين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربى وأجازنى وأطعمنى الاسودين بِسَنَدِهِ الى سيد الْمُرْسلين وَمِنْهُم السيدان المشهوران فى الْحَرَمَيْنِ اماما المشرقين والمغربين الشَّيْخ مُحَمَّد بن علوى وَالسَّيِّد زين باحسن أخذت عَنْهُمَا علم التصوف وصحبتهما وألبسانى الْخِرْقَة الشَّرِيفَة وحكمانى وصافحانى ولقنانى الذّكر وَقد جمعت مروياتى عَن(3/337)
الْمَشَايِخ الاربعة الاولين فى مُعْجم صَغِير وأجازنى غير وَاحِد من مشايخى بالافتاء والتدريس وَلما توفى شَيخنَا على بن الْجمال أمرنى جمَاعَة من مشايخنى مِنْهُم الشَّيْخ الْجَلِيل عبد الله باقشير بِالْجُلُوسِ فى مَحَله بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فاعتذرت بامور مِنْهَا اشتغالى بِالطَّلَبِ على الْمَشَايِخ اغتناماً بملازمتهم قبل حُلُول وفاتهم وَذَلِكَ عندى أهم من التدريس فَلم يقبلُوا وألحوا على فى ذَلِك فَجَلَست فى الْمَسْجِد الْحَرَام عدَّة أَعْوَام ثمَّ انْقَطَعت عَنهُ لمَرض شَدِيد وَطلب منى جمَاعَة الْقِرَاءَة فى الدَّار وَكنت أستشفى بذلك واستمريت عَلَيْهِ ثمَّ طلبُوا الْعود الى الْمَسْجِد الْحَرَام فَلم ينشرح صدرى اليه وَطلب منى جمَاعَة ان اؤلف فى علم الْمِيقَات فألفت رِسَالَة فى علم الْمُجيب وانتفع بهَا الطّلبَة ثمَّ شرحتها شرحا وانتفع بهَا وَكتبه كَثِيرُونَ من أهل مصر واليمن والهند وألفت رسالتين مطولتين فى علم الْمِيقَات بِلَا آلَة ورسالة فى معرفَة ظلّ الزَّوَال كل يَوْم لعرض مَكَّة ورسالة فى معرفَة اتِّفَاق الْمطَالع واختلافها ورسالة فى المقنطرة ورسالة فى الاصطرلاب وألفت شرحا على مُخْتَصر الايضاح للشَّيْخ ابْن حجر جمعت فِيهِ مَا فى الْكتب المتداولة فجَاء فى جلدين كبيرين وَلما قَرَأنَا التسهيل على شَيخنَا الشَّيْخ عِيسَى المغربى جمعت من شروحه مسودات ثمَّ عَن لى ان أجعلها شرحا لجمع الْجَوَامِع النحوى للجبلال السيوطى فشرحته وَلكنه لم يتم الْآن وشرحت منطق السيوطى وَهُوَ الْآن مسودة وشرحت مُخْتَصر الرحبية الْمُسَمّى بالتحفة القدسية نظم الامام بن الْقَاسِم سميته بالمنحة المكية وجمعت ذيلا على نور السافر فى أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر للشَّيْخ عبد الْقَادِر بن شيخ العيدروس فجَاء فى مُجَلد كَبِير وجمعت تَارِيخا فى أَخْبَار الْقرن الحادى عشر كتبت مِنْهُ مجلدا وَأخذ عَنى خلق كثير فى عدَّة عُلُوم وطلبوا الاجازة فأجرتهم وَلبس منى الْخِرْقَة كَثِيرُونَ ومدحنى جمَاعَة من أشياخى وَغَيرهم بقصائد ظريفة مَا استحسنت ذكرهَا واخترت الاستيطان فى حرم الله هَذَا مَا ترْجم بِهِ نَفسه وَلم أطلع لَهُ على أَزِيد من هَذَا الْقدر وَهُوَ مَشْهُور الصيت وَله عقب بِمَكَّة الْآن وَكَانَت وَفَاته فى آخر ذى الْحجَّة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى السرُور بن مُحَمَّد سُلْطَان البهوتى الحنبلى المصرى الْفَاضِل الاوحد كَانَ من أجلاء الْفُقَهَاء الْحَنَابِلَة بِمصْر لَهُ فى الْفِقْه والعلوم المتداولة الْيَد الطُّولى قَرَأَ على الامامين عبد الرَّحْمَن وَمَنْصُور البهوتيين الحنبليين وعَلى غَيرهمَا وشيوخه(3/338)
كَثِيرُونَ ودرس وَأفَاد وانتفع بِهِ خلق من أهل مصر وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر رَجَب سنة مائَة بعد الالف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَبى الصَّفَا بن مَحْمُود بن أَبى الصَّفَا الاسطوانى الدمشقى الحنفى أحد أفاضل الشَّام المعروفين ونبلائها الموصوفين وَهُوَ خالى وَله على حق تربية وَتَعْلِيم وَكَانَ آيَة من آيَات الله تَعَالَى فى الْكَمَال والمعرفة والتضلع من الادب وَحسن الْخط بأنواعه نَشأ على نزاهة وَطَاعَة وَلم يعْهَد لَهُ صبوة مُدَّة عمره واشتغل ودأب وَأخذ الْعلم عَن الشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَالشَّيْخ رَمَضَان العكارى وَالشَّيْخ مُحَمَّد المحاسنى ولازم من الامام الْهمام يُوسُف بن أَبى الْفَتْح امام السُّلْطَان لما كَانَ بَينه وَبَين وَالِده من الْمَوَدَّة وَكَانَ وَكيلا عَنهُ بِدِمَشْق ثمَّ ولى الْقِسْمَة البلدية فى زمن قاضى الْقُضَاة مُحَمَّد الْمَعْرُوف بعصمتى وصيرة كَاتب عرضه وَمهر فى صَنْعَة الانشاء العربى والتركى ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة الْكُبْرَى وَصَارَ كَاتبا فى وقف سِنَان باشا بعد أَبِيه واشتهر بالمعرفة حَتَّى كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فى ذَلِك وَكَانَ سَاكِنا صامتا حُلْو الْعبارَة حسن الْعشْرَة وَكَانَ خطه متنوعا متناسبا فى التظرف وَرُبمَا لَا يُوجد فِيهِ كشط أبدا وَكَانَت بَينه وَبَين والدى مَوَدَّة أكيدة ومدحه بقصائد وفى بَعْضهَا يَقُول فى وَصفه
(فى الْمفضل والافضال بَحر كَامِل ... وَعَلِيهِ من حلل الْوَقار سُكُون)
(فاق ابْن مقلة فى الْكِتَابَة والنهى ... وَابْن العميد ودره الْمكنون)
(أدب كزهر الرَّوْض باكره الحيا ... تصبو اليه أنفس وعيون)
(مدحى لَهُ فرض على محتم ... عندى ومدحى غَيره مسنون)
(فَلهُ يحركنى رسيس صبَابَة ... ولبعده عَنى الرقاد شطون)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَتوفى فجاءة فى سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
مُحَمَّد بن أَبى الْقسم بن مُحَمَّد السَّيِّد الْجَلِيل لَهُ مُشَاركَة فى الْعُلُوم والانساب وفى السعى بِالْخَيرِ بَين الْعَرَب والولاة وَلَهُم فِيهِ مُعْتَقد عَظِيم وبيتهم بَيت رياسة لَهُم الجاه المكين عِنْد الامراء وَالْعرب خُصُوصا أَوْلَاد الشريف بن جَابر فان لَهُم عَلَيْهِ الْيَد المستطيلة بِفضل الله تَعَالَى وعَلى الْفَخر وعَلى المهادلة وَشهر بَين مهادلة الدُّنْيَا أَن كل من قتل قَتِيلا وَركب على تربيتهم وتربه سيدنَا أَبى بكر بن على الاصم عفى عَنهُ وَلم يُؤْخَذ مِنْهُ دِيَة وَلَا قَود ومسكنهم المنيرة وهم قائمون بِالْجمعَةِ وَالْجَمَاعَة وامتحنوا فى أَيَّام فضل(3/339)
الله باشا بمغالطة نسبت اليهم وهى على الْعَرَب بنى صليل فاستشهد مِنْهُم جمَاعَة لسعادة سيقت وأظن أَن زَوَال دولة الاروام من الْيمن بسببهم لَان السَّيِّد عبد الله بن أَبى الْقَاسِم لما قتلوا وَلَده وأسروه وَجعل صرخة الى النبى
وَسلم مَحْفُوظَة وَقَالَ فِيهَا فنظلمهم وبجورهم انْزِلْ بهم ذكره السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر بن الْبَحْر وَكَانَت وَفَاته بعد أَخِيه عبد الله فى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَخَلفه وَلَده السَّيِّد الْجَلِيل الْعَلامَة الْمُحدث أَبُو الْقَاسِم وَقَامَ بزاويتهم بعد أَبِيه وَعَمه
مُحَمَّد بن أَحْمد القدسى الخريشى الحنبلى تَرْجمهُ الشَّمْس الداودى وَقَالَ فى تَرْجَمته كَانَ وَالِده بِنَاء وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن وَرُبمَا نَاب عَن وَلَده فى الامامة فى بعض الاحيان ورحل هُوَ الى الْقَاهِرَة واشتغل بالجامع الازهر وَغَيره وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى برع وتميز وتأهل للتدريس وَالْفَتْوَى وأجيز بذلك من شُيُوخه المصريين ثمَّ قدم الى الْقُدس وَأقَام بهَا ملازما على الدُّرُوس وَكَانَ عَالما عَاملا خَاشِعًا ناسكا متقللا من الدُّنْيَا قانعا باليسير طَوِيل التَّعَبُّد كثير التَّهَجُّد ملازما على تِلَاوَة الْقُرْآن وَتَعْلِيم الْعلم انْتفع بِهِ أهل الْقُدس انتفاعا ظَاهرا وَكثير من أهل نابلس وخصوصا فى الْعَرَبيَّة وَكَانَ لَا يجْتَمع بالامراء وَلَا بالقضاة مَعَ حرصهم على الِاجْتِمَاع بِهِ وَكَانَ امام الْحَنَابِلَة بالمجمع الذى تَحت الْمدرسَة القايتبائية ومفتيهم وَكَانَ يعظ النَّاس وَيذكرهُمْ وَحصل بَينه وَبَين صاحبنا الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن شَيخنَا الشَّمْس مُحَمَّد بن أَبى اللطف وَحْشَة أدَّت الى ترك ذَلِك قيل سَببهَا أَن الخريشى وقف على حكم العذبة والتلحى واستحباب ذَلِك فَأرْخى لَهُ عذبة ثمَّ تلحى وَكَانَ لَهُ طلبة ومحبون يعتقدونه فَأخذُوا بالاقتداء بِهِ فى ذَلِك وَكثر متعاطو ذَلِك حَتَّى من أَوْلَاد الْمَشَايِخ وَصَارَ بعض النَّاس يَضْحَكُونَ مِنْهُ وَمِنْهُم ويأمرونهم بترك ذَلِك وَهُوَ يحملهم على الْمُلَازمَة وَترك الِالْتِفَات الى قَول المنكرين فَأدى ذَلِك أَن أفتى الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور بِأَن التحلى بِدعَة وَيُعَزر متعاطيه فتسلط السُّفَهَاء على المتلحين يؤذونهم ويؤذون الشَّيْخ الْمَذْكُور الذى أَمرهم بذلك وَيَقُولُونَ هُوَ مُبْتَدع وَسعوا فى مَنعه من الْوَعْظ فَترك ذَلِك وَتحمل الاذى وصبر فَلم تمض الا مُدَّة قَليلَة حَتَّى مَاتَ الشَّيْخ اللطفى مسكوتا فَصَارَ النَّاس يَقُولُونَ هَذَا من بركَة الخريشى وانكاره على السّنة وَكَانَت وَفَاة الخريشى فى لَيْلَة الاحد ثَالِث عشر ربيع الثانى سنة احدى بعد الالف والخريشى بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة والشين الْمُعْجَمَة مُصَغرًا نِسْبَة الى قَرْيَة فى جبل نابلس رَحمَه الله تَعَالَى(3/340)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن شهَاب الدّين الملقب شمس الدّين بن هِلَال الحمصى الاصل الدمشقى الْفَقِيه الحنفى الْمَشْهُور أَخذ الْفِقْه عَن القطب بن سُلْطَان وَالشَّمْس بن طولون وَالشَّيْخ عبد الصَّمد العكارى وَقَرَأَ المعقولات على الْعَلَاء بن عماد الدّين وَلزِمَ فِيهَا أَبَا الْفَتْح الشبسترى وَأخذ الادب عَن أَبى الْفَتْح المالكى وَقَرَأَ على الْمولى على ابْن أَمر الله الحتاتى قاضى الْقُضَاة بِالشَّام وبرع فى الْفِقْه وشارك فى غَيره وَولى امامة السليمانية وَكَانَ يكْتب رقاع الافتاء وَأكْثر مَا يكْتب لمفتية الْحَنَفِيَّة من الرّوم وَكَانَ هُوَ الْمُفْتى فى نفس الامر وَلم يكن بِدِمَشْق فى زَمَانه أعلم بالفقه وأقوال الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة مِنْهُ وَكَانَ لَهُ قدرَة تَامَّة على اسْتِخْرَاج النقول من محالها وَفِيه يَقُول شَيْخه أَبُو الْفَتْح المالكى
(ان الْكِتَابَة للفتاوى لم تَجِد ... أحدا سواك يحل من اشكالها)
(حَملتك مقلتها فيا انسانها ... أَنْت ابْن مقلتها وَابْن هلالها)
قلت وَلَقَد ظرف فى هَذَا القَوْل وَابْن مقلة هُوَ أول من نقل الْخط الكوفى الى العربى وخطه يضْرب مثلا فى الْحسن لانه أحسن خطوط الدُّنْيَا وَفِيه يَقُول أَبُو مَنْصُور الثعالبى
(خطّ ابْن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لَو حولت مقلا)
(فالبدر يصفر لاستحسانه حسدا ... والنور يحمر من نواره خجلا)
وَقيل انه كتب كتاب هدنة بَين الْمُسلمين وَالروم فوضعوه فى كَنِيسَة قسطنطينية وَكَانُوا يبرزونه فى الاعياد ويجعلونه من جملَة تزايينهم فى أخص بيُوت الْعِبَادَات ويعجب النَّاس من حسنه وَمن خَبره أَنه تقلبت بِهِ أَحْوَال ومحن أدَّت الى قطع يَده وَمن نكد الدُّنْيَا أَن مثل تِلْكَ الْيَد النفيسه تقطع وَمن عجائبه أَنه كتب باليسرى بعد الْقطع وَأما ابْن هِلَال فهوا أَبُو على الْحسن بن هِلَال الْمَعْرُوف بِابْن البواب وَهُوَ الذى جَاءَ بعد ابْن مقلة وَزَاد فى تعريب الْخط ثمَّ جَاءَ ياقوت المستعصمى وَختم فن الْخط وأكمله وأدرج فى بَيت جَمِيع قوانينه فَقَالَ
(أصُول وتركيب كراس وَنسبَة ... صعُود وتشمير نزُول وارمال)
وفى الْقَامُوس ان أول من وضع الْخط العربى مرامر بن مرّة وَأسلم بن سِدْرَة ثمَّ تعلموه أهل الانبار فتعلمه حَرْب بن أُميَّة ابْن أُخْت أَبى سُفْيَان فتعلمه جمَاعَة من أهل مَكَّة فَلذَلِك لَك كثر من يكْتب من قُرَيْش انْتهى وَلابْن هِلَال صَاحب التَّرْجَمَة أشعار(3/341)
ومنشآت فَمن شعره يرثى شَيْخه الْعَلَاء
(لقد فَارَقت نفسى وانبعاثى ... الى أَيَّام حزنى وانبعاثى)
(لتكرارى نواحى فى النواحى ... وتجديد القوافى والمرائى)
(على من كَانَ فى الدُّنْيَا ملاذى ... وملجأ غربتى وَيَد انبعاثى)
وَكتب مقرظا على شرح الْعَلَاء الطرابلسى الذى وَضعه فى فَرَائض ملتقى الابحر نزهت طرفى فى رياض هَذَا الشَّرْح البديع وأجريت طرفى فى ميدان مَا أبداه من حسن الصَّنِيع فَأَلْفَيْته سَابِقًا فى حلبة التَّأْلِيف لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من حسن الترصيع والترصيف أغْنى بِهِ من كَانَ طَالبا لعلم الْفَرَائِض وراض بعباراته الرائقة كل رَاغِب رائض بَين بفصاحته النِّسْبَة مَا بَين الرؤس والسهام وَعين ببلاغته مَا يسْتَحقّهُ الْوَارِث والملحق بِهِ من ذوى الْحُقُوق والاقسام فأخفى بساطع أنواره ضوء السراج وأبطل بلامع برهانه شهَاب الفنارى فَلم يبْق الى غَيره مفتقر وَلَا مُحْتَاج فَللَّه در هَذَا الْهمام على مَا أبرز من زهرات الاكمام فَلَقَد أَحْيَا الْموَات بسكب الانهر وَشرح الصُّدُور بشرح فَرَائض ملتقى الابحر وَلم يسْبقهُ أحد الى ذَلِك وَلَا يلْحقهُ من سلك تِلْكَ المسالك وَكَانَ تناظر هُوَ وَبَعض الْمُفْتِينَ بِدِمَشْق فى مسئلة فقهية وَظهر الْحق فى جَانِبه فألف رِسَالَة رد بهَا على الْمُفْتى وَبعث بهَا الى جدى القاضى محب الدّين فَكتب لَهُ عَلَيْهَا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(أصبت يَا ابْن هِلَال فى الردود على ... من صَار فى جَهله نَارا على علم)
(جردت سَيْفا لجرح فى مقاتله ... مرصعا بيواقيت من الْكَلم)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وَتوفى فى الْمحرم سنة أَربع بعد الالف
مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمْزَة الملقب شمس الدّين بن شهَاب الدّين الرملى المنوفى المصرى الانصارى الشهير بالشافعى الصَّغِير وَذهب جمَاعَة من الْعلمَاء الى أَنه مُجَدد الْقرن الْعَاشِر وَوَقع الِاتِّفَاق على المغالاة بمدحه وَهُوَ أستاذ الاستاذين وَأحد أساطين الْعلمَاء وأعلام نحاريرهم محيى السّنة وعمدة الْفُقَهَاء فى الْآفَاق وَفِيه يَقُول الشهَاب الخفاجى وَهُوَ أحد من أَخذ عَنهُ
(فضائله عد الرّحال فَمن يطق ... ليحوى معشار الذى فِيهِ من فضل)
(فَقل لغبى رام احصاء فَضله ... تربت استرح من جهد عدك للرمل)
اشْتغل على أَبِيه فى الْفِقْه وَالتَّفْسِير والنحو وَالصرْف والمعانى وَالْبَيَان والتاريخ(3/342)
وَبِه اسْتغنى عَن التَّرَدُّد الى غَيره وَحكى عَن وَالِده انه قَالَ تركت مُحَمَّدًا بِحَمْد الله تَعَالَى لَا يحْتَاج الى أحد من عُلَمَاء عصره الا فى النَّادِر وَكَانَت بدايته بنهاية وَالِده وَحفظ الْقُرْآن والبهجة وَغَيرهمَا وَأخذ عَن شيخ الاسلام القاضى زَكَرِيَّا وَالشَّيْخ الامام برهَان الدّين بن أَبى شرِيف رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ رَأَيْت الشَّيْخ زَكَرِيَّا كالالف فى الانتصاب وَرَأَيْت برهَان الدّين وَهُوَ قَاعد الى هَيْئَة السُّجُود أقرب من الْهَرم فَقلت لوالدى مَا بَال الشَّيْخ زَكَرِيَّا مَعَ كَونه أسن من الشَّيْخ برهَان الدّين أصح جسما ومنتصب الْقَامَة فَقَالَ كَانَ الشَّيْخ برهَان الدّين يكثر الْجِمَاع حدا فأسرع اليه الْهَرم وَأما الشَّيْخ زَكَرِيَّا فَكَانَ معرضًا عَن ذَلِك جدا انْتهى وَذكر النَّجْم الغزى فى تَرْجَمته أَن لَهُ رِوَايَة عَن شيخ الاسلام أَحْمد بن النجار الْحَنْبَلِيّ وَشَيخ الاسلام يحيى الدَّمِيرِيّ الْمَالِكِي وَشَيخ الاسلام الطرابلسى الحنفى وَالشَّيْخ سعد الدّين الذهبى الشافعى وَكَانَ عَجِيب الْفَهم جمع الله تَعَالَى لَهُ بَين الْحِفْظ والفهم وَالْعلم وَالْعَمَل وَكَانَ مَوْصُوفا بمحاسن الاوصاف وَذكره الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعرانى فى طبقاته الْوُسْطَى فَقَالَ صحبته من حِين كنت أحملهُ على كتفى الى وقتنا هَذَا فَمَا رَأَيْت عَلَيْهِ مَا يشينه فى دينه وَلَا كَانَ يلْعَب فى صغر مَعَ الاطفال بل نَشأ على الدّين وَالتَّقوى والصيانة وَحفظ الْجَوَارِح ونقاء الْعرض رباه وَالِده فَأحْسن تَرْبِيَته وَلما كنت أحملهُ وَأَنا أَقرَأ على وَالِده فى الْمدرسَة الناصرية كنت أرى عَلَيْهِ لوائح الصّلاح والتوفيق فحقق الله رجائى فِيهِ وَأقر عين المحبين بِهِ فانه الْآن مرجع أهل مصر فى تَحْرِير الْفَتَاوَى وَأَجْمعُوا على دينه وورعه وَحسن خلقه وكرم نَفسه وَلم يزل بِحَمْد الله فى زِيَادَة من ذَلِك انْتهى وَجلسَ بعد وَفَاة وَالِده للتدريس فأقرأ التَّفْسِير والْحَدِيث والاصول وَالْفُرُوع والنحو والمعانى وَالْبَيَان وبرع فى الْعُلُوم النقلية والعقلية وَحضر درسه أَكثر تلامذة وَالِده وَمِمَّنْ حَضَره الشَّيْخ نَاصِر الدّين الطبلاوى الذى كَانَ من مُفْرَدَات الْعَالم مَعَ أَنه فى مقَام أبنائه فليم على ذَلِك وَسُئِلَ عَن الداعى الى ملازمته فَقَالَ لَا داعى لَهَا الا أَنى أستفيد مِنْهُ مَا لم يكن لى بِهِ علم ولازمه تلميذ أَبِيه الشهَاب أَحْمد بن قَاسم وَلم يُفَارِقهُ أصلا وَسُئِلَ ابْن قَاسم مرّة أَن يعْقد مجْلِس الْفِقْه فَقَالَ مَعَ وجود الشَّيْخ شمس الدّين الرملى لَا يَلِيق وطار صيته فى الْآفَاق وَولى عدَّة مدارس وَولى منصب افتاء الشَّافِعِيَّة وَألف التآليف النافعة مِنْهَا شرح الْمِنْهَاج أَتَى فِيهِ بالعجب العجاب وَشرح الْبَهْجَة الوردية وَشرح الطَّرِيق(3/343)
الْوَاضِح للشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد سَمَّاهُ عُمْدَة الرابح وَشرح الْعباب لكنه لم يتم وَشرح الزّبد وَهُوَ غير شرح وَالِده وَشرح الايضاح منسك النووى وَشرح الْمَنَاسِك الدلجية وَشرح منظومة ابْن الْعِمَاد فى الْعدَد وَشرح الْعُقُود فى النَّحْو وَشرح رِسَالَة وَالِده فى شُرُوط الْمَأْمُوم والامام سَمَّاهُ غَايَة المرام وَشرح مُخْتَصر الشَّيْخ عبد الله بَافضل الصَّغِير وَشرح الاجرومية وَله حَاشِيَة على شرح التَّحْرِير لشيخ الاسلام وحاشية على الْعباب وَغير ذَلِك واشتهرت كتبه فى جَمِيع الاقطار وَأخذ عَنهُ أَكثر الشَّافِعِيَّة من أهل مصر وَرَجَعُوا اليه وَأجل تلاميذه النُّور الزيادى وَالشَّيْخ سَالم الشبشيرى وَغَيرهمَا وَمن الشاميين الشَّمْس مُحَمَّد الميدانى وَالشَّيْخ نعْمَان الحبراصى وَالشَّيْخ عمر بن الكاسوحة وَأخذ عَنهُ أَبُو الطّيب الغزى قَالَ الشلى وَالظَّاهِر انه مُجَدد الْقرن الْعَاشِر لانه لم يشْتَهر الِانْتِفَاع بِأحد مِمَّن انْقَضى الْقرن وَهُوَ مَوْجُود مثل اشتهاره واحتياج النَّاس لكتبه لَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالعلوم الشَّرْعِيَّة قَالَ النبى
ان الله يبْعَث لهَذِهِ الامة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا أَمر دينهَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره وَاخْتلف فى رَأس الْمِائَة هَل يعْتَبر من المولد النبوى أَو الْبعْثَة أَو الْهِجْرَة أَو الْوَفَاة وَلَو قيل بأقربية الثانى لم يبعد لَكِن صَنِيع السبكى وَغَيره مُصَرح بِأَن المُرَاد الثَّالِث وَقد ذكر الْحَافِظ السيوطى المجددين فى أرجوزة سَمَّاهَا تحفة المهتدين بأخبار المجددين وهى
(الْحَمد لله الْعَظِيم المنه ... المانح الْفضل لاهل السنه)
(ثمَّ الصَّلَاة وَالسَّلَام نلتمس ... على نَبِي دينه لَا يندرس)
(لقد أَتَى فى خبر مشتهر ... رَوَاهُ كل حَافظ مُعْتَبر)
(بِأَنَّهُ فى رَأس كل مائَة ... يبْعَث رَبنَا الهذى الامة)
(منا عَلَيْهَا عَالما يجدد ... دين الْهدى لانه مُجَدد)
(فَكَانَ عِنْد الْمِائَة الاولى عمر ... خَليفَة الْعدْل باجماع وقر)
(والشافعى كَانَ عِنْد الثَّانِيَة ... لمَاله من الْعُلُوم الساريه)
(وَابْن سريح ثَالِث الائمة ... والاشعرى عده من أمه)
(والباقلانى رَابِع أَو سهل أَو ... الاسفراينى خلف قد حكوا)
(وَالْخَامِس الحبر هُوَ الغزالى ... وعده مَا فِيهِ من جِدَال)
(وَالسَّادِس الْفَخر الامام الرازى ... والرافعى مثل يوازى)(3/344)
(وَالسَّابِع الراقى الى المراقى ... ابْن دَقِيق الْعِيد بِاتِّفَاق)
(وَالثَّامِن الحبر هُوَ البلقينى ... أَو حَافظ الانام زين الدّين)
(وعد سبط الميلق الصوفيه ... لَو وجدت مائته وَفِيه)
(وَالشّرط فى ذَلِك أَن تمضى المائه ... وَهُوَ على حَيَاته بَين الفئه)
(يشار بِالْعلمِ الى مقَامه ... وينصر السّنة فى كَلَامه)
(وَأَن يكون جَامعا لكل فن ... وَأَن يعم علمه أهل الزَّمن)
(وَأَن يكون فى حَدِيث قد روى ... من آل بَيت الْمُصْطَفى وَهُوَ قوى)
(وَكَونه فَردا هُوَ الْمَشْهُور ... قد نطق الحَدِيث وَالْجُمْهُور)
(وَهَذِه تاسعة المئين قد ... أَتَت وَلَا يخلف مَا الهادى وعد)
(وَقد رَجَوْت أننى المجدد ... فِيهَا ففضل الله لَيْسَ يجْحَد)
(وَآخر المئين فِيهَا ياتى ... عِيسَى نبى الله ذُو الْآيَات)
(يجدد الدّين لهذى الامه ... وفى الصَّلَاة بَعْضنَا قد أمه)
(مقررا لشرعنا وَيحكم ... بحكمنا وفى السَّمَاء يعلم)
(وَبعده لم يبْقى من مُجَدد ... وَيرْفَع الْقُرْآن مثل مَا بدى)
(وتكثر الاشرار والاضاعه ... من رَفعه الى قيام الساعه)
(وَأحمد الله على مَا علما ... وَمَا جلا من الخفا وأنعما)
(مُصَليا على نَبِي الرحمه ... والآل مَعَ أَصْحَابه المكرمه)
انْتَهَت الارجوزة قَالَ الْحَافِظ عماد الدّين بن كثير قد ادّعى كل قوم فى امامهم أَنه المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث وَالظَّاهِر أَنه يعم حَملَة الْعلم من كل طَائِفَة وكل صنف من أَصْنَاف الْعلمَاء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة ولغويين انْتهى وَقَالَ فى جَامع الاصول تكلمُوا فى تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث وكل أَشَارَ الى الْقَائِم الذى هُوَ من مذْهبه وَحمل الحَدِيث عَلَيْهِ والاولى الْعُمُوم فان من تقع على الْوَاحِد وَالْجمع وَلَا يخْتَص أَيْضا بالفقهاء فان انتقاع الامة يكون أَيْضا بِأولى الامر وَأَصْحَاب الحَدِيث والقراء والوعاظ لَكِن الْمَبْعُوث ينبغى كَونه مشارا اليه فى كل من هَذِه الْفُنُون ففى رَأس الاولى من أولى الامر عمر بن عبد الْعَزِيز وَمن الْفُقَهَاء مُحَمَّد الباقر وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَغَيرهم من طبقتهم وَمن الْقُرَّاء ابْن كثير وَمن الْمُحدثين الزهرى وفى رَأس الثَّانِيَة من أولى الامر الْمَأْمُون وَمن(3/345)
الْفُقَهَاء الشافعى واللؤلؤى من أَصْحَاب أَبى حنيفَة وَأَشْهَب من أَصْحَاب مَالك وَمن الامامية على بن مُوسَى الرِّضَا وَمن الْقُرَّاء الحضرمى وَمن الْمُحدثين ابْن معِين وَمن الزهاد الكرخى وفى الثَّالِثَة من أولى الامر المقتدر وَمن الْفُقَهَاء ابْن سريح الشافعى والطحاوى الحنفى والخلال الحنبلى وَمن الْمُتَكَلِّمين الاشعرى وَمن الْمُحدثين النسائى وفى الرَّابِعَة من أولى الامر الْقَادِر بِاللَّه وَمن الْفُقَهَاء الاسفراينى الشافعى والخوارزمى الحنفى وَعبد الْوَهَّاب المالكى وَالْحُسَيْن الحنبلى وَمن الْمُتَكَلِّمين الباقلانى وَابْن فورك وَمن الْمُحدثين الْحَاكِم وَمن الزهاد الثورى وَهَكَذَا يُقَال فى بَقِيَّة الْقُرُون وَقَالَ فى الْفَتْح نبه بعض الائمة على أَنه لَا يلْزم أَن يكون فى رَأس كل قرن وَاحِد فَقَط بل الامر فِيهِ كَمَا ذكره النووى فى حَدِيث لَا تزَال طَائِفَة من أمتى ظَاهِرين على الْحق من أَنه يجوز أَن تكون الطَّائِفَة جمَاعَة مُتعَدِّدَة من أَنْوَاع الْمُؤمنِينَ مَا بَين شُجَاع وبصير بِالْحَرْبِ وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالامر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر وزاهد وعابد وَلَا يلْزم اجْتِمَاعهم بِبَلَد وَاحِد بل يجوز اجْتِمَاعهم فى قطر وَاحِد وتفرقهم فى الاقطار وَيجوز اجْتِمَاعهم بِبَلَد وَأَن يَكُونُوا فى بعض دون بعض وَيجوز اخلاء الارض كلهَا من بَعضهم أَولا فأولا الى أَن لَا يبْقى الا فرقة وَاحِد بِبَلَد وَاحِد فاذا انقرضوا أَتَى أَمر الله وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين العراقى فى أول تَخْرِيج أَحَادِيث الاحياء فى تَرْجَمَة الغزالى بعد أَن ذكر نَحْو مَا مر وانما قلت من تعْيين من ذكرت على رَأس كل مائَة بِالظَّنِّ وَالظَّن يُخطئ ويصيب وَالله أعلم بِمن أرد نبيه
وَلَكِن لما جزم أَحْمد بن حَنْبَل فى الْمِائَتَيْنِ الاوليين بعمر بن عبد الْعَزِيز والشافعى تجاسر من بعده بِابْن سُرَيج والصعلوكى وَسبب الظَّن فى ذَلِك شهرة من ذكر بِالِانْتِفَاعِ بِأَصْحَابِهِ ومصنفاته وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الانبياء وَكَذَلِكَ من ذكر أَنه مظنون فى الْمِائَة الثَّامِنَة فَعلمه الى الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى يبْقى الْعلمَاء ويديم النَّفْع بهم الى أزمان متطاولة وَلَكِن لم تزل الصَّحَابَة يظنون قرب الامر حَتَّى قَالَ بَعضهم فى الرجل الذى يخرج الى الدَّجَّال ويقتله فَكُنَّا نرى أَنه عمر بن الْخطاب حَتَّى مضى لسبيله وَلَا انكار فى اقتراب السَّاعَة فقد قَالَ الله تَعَالَى فقد جَاءَ أشراطها انْتهى قَالَ الْعَلامَة عبد الله بن عمر بامخرمة وَيقرب عندى أَن المجدد للمائة الْعَاشِرَة القاضى زَكَرِيَّا الشُّهْرَة الِانْتِفَاع بِهِ وتصانيفه واحتياج غَالب النَّاس اليها لَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالفقه وتحرير الْمَذْهَب بِخِلَاف كتب السيوطى فانها(3/346)
وان كَانَت كَثِيرَة فَلَيْسَتْ بِهَذِهِ المثابة على أَن كثيرا مِنْهَا مُجَرّد جمع بِلَا تَحْرِير وأكثرها فى الحَدِيث من غير تميز الطّيب من غَيره بل كَأَنَّهُ حَاطِب ليل وساحب ذيل وَالله تَعَالَى يرحم الْجَمِيع وَيُعِيد علينا من بركاتهم قَالَ وَلَا ندرى من يكون على رَأس الْعَاشِرَة فان الْجَهْل عَم وأفق الْعلم أظلم بل قد انمى رسمه وَلم يبْق الا اسْمه وَصَارَ الْمَعْرُوف مُنْكرا وَالْمُنكر مشتهرا وَعَاد الدّين غَرِيبا وَصَارَ الْحَال عريبا انْتهى قَالَ المناوى فى شرح الْجَامِع الصَّغِير وَهنا تَنْبِيه ينبغى التفطن لَهُ وَهُوَ أَن كل من تكلم على حَدِيث ان الله يبْعَث انما يقرره بِنَاء على الْمَبْعُوث على رَأس الْقرن يكون مَوته على رَأسه وَأَنت خَبِير بِأَن الْمُتَبَادر من الحَدِيث انما هُوَ الْبَعْث وَهُوَ الارسال يكون على رَأس الْقرن أى أَوله وَمعنى ارسال الْعَالم تأهله للتصدى لنفع الانام وانتصابه لنشر الاحكام وَمَوته على رَأس الْقرن أَخذ لَا بعث فتدير بالانصاف ثمَّ رَأَيْت الطيبى قَالَ المُرَاد بِالْبَعْثِ من انْقَضتْ الْمِائَة وَهُوَ حى عَالم يشار اليه والكرمانى قَالَ قد قَالَ قبيل كل مائَة أَيْضا من يصحح وَيقوم بِأَمْر الدّين وانما المُرَاد من انْقَضتْ الْمدَّة وَهُوَ حى عَالم مشار اليه وَلما كَانَ رُبمَا يتَوَهَّم متوهم من تَخْصِيص الْبَعْث بِرَأْس الْقرن أَن الْمقَام بِالْحجَّةِ لَا يُوجد الا عِنْده أرْدف ذَلِك بِمَا يبين أَنه قد يكون فى أثْنَاء الْمِائَة من هُوَ كَذَلِك بل قد يكون أفضل من الْمَبْعُوث على الرَّأْس وان تَخْصِيص الرَّأْس انما هُوَ لكَونه مظنه انخرام علمائه غَالِبا وَظُهُور الْبدع ونجوم الدجالين قَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد وَهنا دقيقة نبه عَلَيْهَا تَاج الَّذين السبكى على رِوَايَة رجل من أهل بيتى وهى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز والشافعى قرشيان تصدق عَلَيْهِمَا الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة وَبِذَلِك يتَعَيَّن عندى أَن يكون المجدد بعد الشافعى شافعى الْمَذْهَب فانه هُوَ الذى من أهل بَيت النبيى
قَالَ بَعضهم وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِكَوْنِهِ من أهل الْبَيْت بِالنّسَبِ المعنوى كَمَا ورد فى الْخَبَر سلمَان منا أهل الْبَيْت وَزعم الْجمال مُحَمَّد بن عبد السَّلَام النزيلى أَن المجدد فى الْعَاشِر الشَّيْخ على بن مطير وَقَالَ السَّيِّد عبد الْقَادِر بن شيخ وَالظَّاهِر أَنه عبد الْملك ابْن دعسين وَيحْتَمل أَنه الشَّيْخ مُحَمَّد الهنى قلت ايْنَ هَؤُلَاءِ من الرملى صَاحب التَّرْجَمَة وشهرته كَافِيَة فى هَذَا الْبَاب وَكَانَت وِلَادَته سلخ جُمَادَى الاولى سنة تسع عشر وَتِسْعمِائَة بِمصْر وَتُوفِّي نَهَار الْأَحَد ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى سنة أَربع بعد الالف والرملى نِسْبَة الى رَملَة قَرْيَة صَغِيرَة قَرِيبا من الْبَحْر بِالْقربِ من منية(3/347)
الْعَطَّار تجاه مَسْجِد الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام بالمنوفية قَالَه الشعرانى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن حُسَيْن بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس الولى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الحضرمى قَالَ الشلى فى تَرْجَمته كَانَ مَشْهُورا بِالْولَايَةِ التَّامَّة وَفِيه نفع عَظِيم وارشاد وَله بِمَدِينَة تريم وَأخذ عَن وَالِده امام الطَّرِيقَة وَصَحب تَاج الدّين وَشَيخ العارفين مُحَمَّد بن علوى باجحذب وجد فى الِاجْتِهَاد حَتَّى فاق أقرانه وَسَار ذكره فى الْآفَاق وقصده النَّاس من كل مَكَان وَصَحبه خلق كثير ولبسوا مِنْهُ خرقَة التصوف وَكَانَ كَبِير الْقدر وَاسع الصَّدْر وَله كرامات مَشْهُورَة وَحج هُوَ وَأَخُوهُ الشَّيْخ عبد الله ورجعا الى وطنهما تريم وَلم يزل صَاحب التَّرْجَمَة على حَالَته المرضية حَتَّى توفى الى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فى سنة سِتّ بعد الالف وَدفن بمقبرة زنبل بِقرب مشْهد جده الشَّيْخ عبد الله العيدروس وقبره ظَاهر يزار رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن المنلا شمس الدّين بن شهَاب الدّين شَارِح المغنى الْمُتَقَدّم ذكره الحصكفى الاصل الحلبى الشافعى ذكره العرضى الْكَبِير فى تَارِيخه وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ نَشأ فى حجر أَبِيه وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح الشذور لِابْنِ هِشَام قَالَ وَدخلت يَوْمًا الى زِيَارَة أَبِيه وَكَانَ صاحبنا فرأيته يقرئه فى بحث المبنى وَهُوَ يتعتع فى فهم الْكَلَام وتفهيمه لوَلَده لاكثار من المطالعة وَالنَّظَر فأغنيته عَن تَقْرِير ذَلِك الدَّرْس ووضحت للْوَلَد المبحث وركز حبنا فى قلب الْوَلَد فَأتى الينا باذن أَبِيه وَطلب منى الاقراء فأقرأته شرح الكافية للجامى من أَوله الى آخِره فَلم يخْتم الْكتاب الا وَقد صَار ذَا ملكة ثمَّ مَشى مَعنا فى مغنى اللبيب ثمَّ فى المطول وَشرح آدَاب الْبَحْث للمسعودى وفى الاصفهانى وَمتْن الجغمينى فى الْهَيْئَة وَشرح ابْن المُصَنّف على ألفية ابيه ابْن مَالك وفى ارشاد ابْن المقرى وَشرح الْمنْهَج للقاضى زَكَرِيَّا وَسمع من لفظى صحيحى البخارى وَمُسلم ورفيقه فى مُعظم ذَلِك أَخُوهُ الْبُرْهَان ثمَّ ان مُحَمَّدًا تصدر للتأليف فَكتب تاريخنا لحلب تعرض فِيهِ لمن حكم فِيهَا من حِين فتحهَا الصَّحَابَة الى زمن ابراهيم باشا الملقب بالحاج ابراهيم أَجَاد فِيهِ وأنبأ عَن اطلَاع عَظِيم وَكتب حِصَّة على صَحِيح مُسلم ورسالة حَسَنَة فى اسلام أبوى رَسُول الله
// (ونظم الشّعْر الْحسن) // وامتدحنى بقصائد جمة مَعَ كَثْرَة عبَادَة وتلاوة لِلْقُرْآنِ وَصَلَاة حَسَنَة يُصليهَا عِنْد دُخُول الْوَقْت مَعَ الْجَمَاعَة وَيكثر فِيهَا من تِلَاوَة الْقُرْآن وكرم وافر واحسان للمحبين واجزال الضيافات ومحبة النَّاس(3/348)
والتواضع والتمسك بِالسنةِ مَعَ الْفَضِيلَة التَّامَّة وبغض الزَّنَادِقَة وَذكره الشهَاب مَعَ أَخِيه الْبُرْهَان وَكَذَا البديعى ووصفاهما بأوصاف حَسَنَة وَأورد الشهَاب من شعر مُحَمَّد قَوْله فى التَّرْجَمَة من الفارسية هَذَا الرباعى
(فى اللَّيْل وفى النَّهَار حرا كبدى ... مقتول ضنى بجائر لَيْسَ يدى)
(تنثر عينى جَوَاهِر الدمع على ... لقيَاهُ تظن أَنَّهَا طوع يدى)
وَقَالَ ولصاحبنا القاسمى مثله
(لقياك سرُور قلبى المحزون ... فالوحشة من نواك لَا تعدونى)
(يَا وَيْح دموعى خشيت شقوتها ... منى فَأَتَت بدرها ترشينى)
(وَقَرِيب مِنْهُ قَول ابْن الرومى
(وهبت لَهُ عينى الهجوعا ... فأثابها مِنْهُ الدموعا)
(وَمن البلية أننى ... علقت مَمْنُوعًا منوعا)
وللارجانى
(لَوْلَا طروق خيال مِنْك منتظر ... يلم بى رَاقِدًا مَا ساءنى سهرى)
(كَانَ جفنى اكراما لزورته ... أَمْسَى على قَدَمَيْهِ ناثر الدُّرَر)
وَأنْشد لَهُ البديعى قَوْله
(مَا أقل الاصحاب ان حسم أَمر ... فى عَظِيم وَمَا أقل المساعد)
(وبلاء لابد للمرء مِنْهُ ... أَن يرى رَاغِبًا بآخر زاهد)
وَقَوله
(سيلحق من سره موتنا ... بِنَا مثل من سرنا مَوته)
فِيهِ زِيَادَة على قَول الآخر
(فَقل للشامتين بِنَا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كَمَا لَقينَا)
وَله
(قلت لما تنكرت أَمر شيبى ... وأبت دون شَرحه فى التراضى)
(كَانَ لي فى الزَّمَان بعض حِسَاب ... أخرجته على كيد الممنق)
وَله
(سامرته فى لَيْلَة وصباحها ... يتكايدان أيدى النَّوَى للبياض)
(فالليل يظْهر لى بقلب أسود ... وَالصُّبْح ينظرنى بِطرف أَزْرَق)
وَله
(أَلا لَيْت شعرى هلى زارنى ... حبيبى وَلَيْسَ رقيبى قريب)
(وَهل علم الدَّهْر أَنى امْرُؤ ... كثير لَدَى قَلِيل الحبيب)
قَالَ العرضى وأصابته حمى الرّبع فطالت بِهِ فوصف لَهُ بعض مبغضيه أَن يكتوى(3/349)
فى ظَهره فكواه رجل زنديق من قَرْيَة كفر حَابِس وَلَا يخفى أَن أَهلهَا مختلفوا العقائد فى سلسلة ظَهره وصادفه مجئ الشتَاء فَحصل لَهُ الكزاز مرض ردئ فَمَاتَ بِهِ فى سنة عشر وَألف رَحمَه الله تَعَالَى وَدفن فى تربة جده الخواجا اسكندر فى محلّة الجبيلة بحلب
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْعجل بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن ابراهيم ابْن الامام القطب الْغَوْث الْفَرد الْجَامِع الْفَقِيه أَبى اللقيف أَحْمد بن مُوسَى بن على ابْن عمر العجيل بن مُحَمَّد بن حَامِد بن زُرَيْق بن وليد بن زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن حامدين مغرب بن عِيسَى بن مُحَمَّد الفارسى ابْن زيدين دوال بن شبوه بن ثَوْبَان بن عِيسَى بن شحاده بن غَالب بن عبد الله بن عك بن عدنان أَبُو الغوائر صَاحب بَيت الْفَقِيه الْيُمْنَى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى صَاحب الاحوال الباهرة والكرامات الخارقه الظاهره والانفاس الطاهره الذى تَوَاتر حَدِيث فَضله وجلالته وَأجْمع النَّاس على ولَايَته وعمت بركاته الْحَاضِر والباد فى كل وَاد وناد وَكَانَ نفع الله بِهِ امام أهل الْعرْفَان الْمشَار اليه بالبنان وقطب دَائِرَة الْيمن الفخيم ومركز مُحِيط ذَلِك الاقليم متخلقا بالاخلاق النبويه متصفا بِالصِّفَاتِ الربانية امام المرشدين فى عصره وأستاذ الاستاذين فى دهره جُنَيْد الطَّرِيقَة فى زَمَانه غزالى الرفيعة لامكانه ابْن عربى الْحَقِيقَة بشانه وَمن أَرْبَاب الاحوال السّنيَّة بل المقامات العليه بهر بجميل جماله أطواد الْعُقُول وأثلج بِبرد لطفه المناكب والصدور ونال مِنْهُ تلامذته الْوُصُول وَكَانَ لَهُ بِبَيْت الْفَقِيه الظُّهُور الْكَبِير العجيب والجاه الطَّوِيل العريض الْغَرِيب قلد أَعْنَاق الرِّجَال بِالْيمن المنن ودانت لَهُ النُّفُوس وان خَالف السِّرّ العلن وامتد فى المقامات والاحوال بَاعه وعمرت بالاقبال رباعه وقصده النَّاس الغادى والرائح وخدمته القرائح بالمدائح وَكَانَ رضى الله عَنهُ حَرِيصًا على سلوك الطَّرِيق من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مواظبا على الْخَيْر لَا يصرف أوقاته فى غير طاعه حَافِظًا لازمانه وأوقاته مُقبلا على طاعات ربه وعباداته حسن السمت والسيره نير الْقلب والسريره مَعَ كرامات أشهر من الشَّمْس فى رَابِعَة النَّهَار وخوارق اشتهرت فى سَائِر الاقطار وَرَأَيْت بِخَطِّهِ نفع الله بِهِ مَا نَصه أخبرنى الشَّيْخ الصَّالح نجم الدّين بن أَحْمد الفيومى المصرى أَنه رأى فى خيال سنته يَوْم عيد الْفطر سنة سبع وَألف كَانَ البنى
فى مَحل(3/350)
قَبره الْكَرِيم بارز والنور يخرج من سَائِر أَجْزَائِهِ وَيخرج من صَدره الْكَرِيم نور لَهُ جرم وَحلق السبابَة والابهام وَقَالَ مِقْدَار هَذَا قَالَ وَرَأَيْت ذَلِك ممتداً من مَحَله حَتَّى اتَّصل بسيدى مُحَمَّد الْعجل وَهُوَ اذ ذَاك فى حَال قِرَاءَة المولد وَالذكر بمسجده وَصَارَ النُّور يدْخل فى صَدره مستمرا على ذَلِك وَرَأَيْت جمعا من الاولياء ينالهم نور من ذَلِك لكنه صَغِير الجرم وَمثله الرائى بالخيط فى مُقْتَضى الْحس قَالَ واستيقظت وَالْحَال على مَا هى عَلَيْهِ من اتِّصَال نور النبى
بصدر سيدى الْفَقِيه مُحَمَّد ودخوله فِيهِ وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم انْتهى وَيُقَال ان صَاحب التَّرْجَمَة اسْتمرّ نَحْو سنتَيْن مَرِيضا فَكَانَ فى النَّهَار يذهب الى الهيجاء ويأتى بِاللَّيْلِ الى تربة جده سيدى الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى حَتَّى ظهر لَهُ فى لَيْلَة وَأَعْطَاهُ اصبعه فمصها وَأمره بِالرُّجُوعِ الى الْبَلَد للتربية والارشاد وَيُقَال أَيْضا انه أَتَاهُ آتٍ فى مَنَامه وَقَالَ لَهُ لَازم مطالعة كتب الشَّيْخ الاكبر ابْن عربى وَنحن ندافع عَنْك بِالسَّيْفِ والترس أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا من الْعُلُوم الدِّينِيَّة عَن مُحدث الْيمن وحافظه عبد الرَّحْمَن الديبع صَاحب التَّيْسِير وَأَجَازَهُ اجازة عَامَّة بمروياته وَأخذ الطَّرِيق عَن السَّيِّد الولى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبى الْقَاسِم بن على صَاحب الضُّحَى وَغَيرهمَا من شُيُوخ عصره وَعنهُ وَلَده الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد أَبُو الْوَفَاء الْعجل وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله فى القات
(لاندية الخلان صَاحب تجمل ... بوجدان قات زانها وتهلل)
(فيا حسنه ان رق يَوْمًا الْمحْضر ... وحف بألطاف لَهَا الْفضل يجمل)
(فيا سادة قَامُوا على قدم الصَّفَا ... اذ القات واخاكم فَقومُوا وهللوا)
(وَقُولُوا بِلَفْظ الْجمع وَالْفرق خلفوا ... لَان سوى البارى خيال مُبْطل)
(وَحكم ارتباط عادمى غير مُنكر ... واحكامه فى الشَّرْع حَقًا تبطل)
(وَلكنه سُبْحَانَهُ جلّ قدره ... لَهُ مَعَ جَمِيع الكائنات تفضل)
(بهَا خصهم فضلا وَمنا عَطِيَّة ... وَلَيْسَ لَهُم بِالْكَسْبِ فِيهَا مُحَصل)
(فَلَا تنكرن يَا صَاح قَول مفضل ... أَتَى عَن معانى الْقرب يحْكى وينقل)
(فَسلم لتسلم فالسلام مُسلم ... لمن كَانَ أَسبَاب النجَاة يحصل)
(ولازم على التَّسْلِيم فى كل حَالَة ... تنَلْ كل مَا ترجو وَمَا أَنْت تَأمل)
(ودع كل خب فى الْمقَال مخرق ... يروع أهل الْحق ثمَّ يضلل)(3/351)
(فكم عَالم بِاللَّه يَأْكُل قاتنا ... وَمَا هُوَ عَن طرق الْهِدَايَة يعدل)
(فيا نعم قوت الصَّالِحين وقاتهم ... ينشط معوانا لَهُم لَا يكسل)
(فأجمع أهل الله من أهل قطرنا ... وَمِمَّنْ لَهُم نور الْهِدَايَة يكمل)
(يَقُولُونَ مَا فى القات ضرّ وَلَا أَذَى ... ولامس جن للمساوى يخيل)
(واما رَأَيْت القات وقتا بِحَضْرَة ... اليها يَقِينا للكرامة يحمل)
(فقابله يَا ذَا الود بالرحب والهنا ... وَقبل رغام الارض اذ هُوَ يُوصل)
(وَمَا ذَاك الا أَن فِيهِ لنا الى ... معَان عليات الْمقَام توصل)
(فأهلا بِهِ ألفا وسهلا ومرحبا ... لاجل الذى فِيهِ من السِّرّ يُوكل)
(وبادر الى ذكر الاله قبيله ... وذكرك باسم الله للخير يُوصل)
(فآكله هاد منيف ومهتد ... محب ومحبوب الى الرشد موصل)
(فحاشا وكلا أَن يكون رَفِيقه ... وَقد رافق الاخيار غيا يحصل)
(فمدح كرام الحى أعظم شَاهد ... على جمع أسرار حواها وَأَعْدل)
(وراها أنَاس بالكشوفات قالهم ... رجال عَلَيْهِم فى الامور الْمعول)
(فَمن بَعْضهَا جذب حُضُور لذاكر ... وَفِيهِمْ أموران خلا لَيْسَ تحصل)
(وَلَكِن أخى لَا ينْتج القات ان خلا ... عَن النِّيَّة الْعُظْمَى فانك تهمل)
(وَيَكْفِيك قَول الْمُصْطَفى فى امتداحها ... عَظِيم حَدِيث فى الرسائل أول)
(فأحرص على القات الشريف بحبه ... وقارنه بِالنِّيَّاتِ ان أَنْت تَأْكُل)
(تشاهد أمورا من غَرِيب معارف ... من الحضرة العلياء تَأْتِيك ترمل)
(بحلة لفظ من نقوش فمنم)
لَهُ ترجمان الْقلب يرْوى مفصل)
وَلم تزل نفحات نسماته عاطرة الارج وزجاجات وارداته ظَاهِرَة الرهج الى أَن أحب الله لقاءه فَأجَاب داعيه ودرج وبروحه اللطيفة اليه عرج وَكَانَت وَفَاته ظهر يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر شهر ربيع الثانى سنة احدى عشرَة بعد الالف وَدفن بِبَيْت الْفَقِيه ابْن عجيل وَبنى عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة بناها الْوَزير حسن باشا حَاكم الْيمن وَكَانَ ختم بنائها نَهَار الْخَمِيس رَابِع عشر شهر شَوَّال سنة اثنتى عشرَة وَألف وقبره درياق مجرب الْقَضَاء الْحَوَائِج رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد المنعوت محب الدّين الحصنى الدمشقى الشافعى السَّيِّد الْعَالم الْعلم الْجواد المربى كَانَ غَايَة فى الْوَرع والتقشف والتصلب فى أَمر الدّين دينا(3/352)
خيرا ناجحا ملازما للاعتكاف بِمَسْجِد الحصنية بمحلة المزاز من الشاغور البرانى بِدِمَشْق وَكَانَ محافظا على عمَارَة مطبخ آبَائِهِ بخان الكشك الْمُقَابل لخان ذى النُّون خَارج دمشق باصلاح الْحَلْوَى وَالطَّعَام والتفرقة على الْحجَّاج ذَهَابًا وايابا وَكَانَ سخيا لَا يمسك شَيْئا وَله حفدة ومريدون كلهم عائلة عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت حادى عشر شهر رَمَضَان سنة احدى عشرَة بعد الالف وَقيل فى تَارِيخه
(ان الشريف مُحَمَّد القطب الذى ... يدعى محب الدّين للاخرى انْتقل)
(ان تسألونى أَيْن حل فأرخوا ... فى وسط جنَّات النَّعيم قد نزل)
وَبَنُو الحصنى بِالشَّام أشهر من كل مَشْهُور وهم بَيت بَارك الله فيهم من قواد مُهِمّ الى خوافيهم وجدهم التقى شيخ شافعية الشَّام فى عصره وأوحد زهاد زَمَنه الْمَشْهُور بسمو قدره تميز بهم الْفَاضِل من الْمَفْضُول فالتعرض لشرح أَحْوَالهم ضرب من الفضول
مُحَمَّد بن أَحْمد بن على القاضى شمس الدّين الْمَعْرُوف بِابْن المغربى المالكى الدمشقى مفتى الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وقاضى الْبَاب أحد الاذكياء الْفُضَلَاء حفظ الْقُرْآن فى ابْتِدَاء أمره وَصَارَ مُؤذنًا بالجامع الاموى وَكَانَ حسن الصَّوْت وَأخذ الْفِقْه عَن القاضى عَلَاء الدّين بن الْمرجل البعلى وسافر الى مصر وَأخذ عَن علمائها كالبنوفرى وَغَيره وَحج وجار وَأخذ عَن مَشَايِخ مَكَّة وَقَرَأَ بِدِمَشْق على مَشَايِخ الاسلام أَبى الْفِدَاء اسمعيل النابلسى والعماد الحنفى وَالْجد القاضى الْمُحب وَالشَّمْس ابْن المنقار وناب بمحكمة قناة العونى ثمَّ بِالْبَابِ بعد سفر شَيْخه القاضى عَلَاء الدّين الى الْحَج وَكَانَ يدرس بالجامع الاموى ويفتى واستقرت لَهُ الْفَتْوَى مُنْفَردا بهَا بعد شَيْخه وَكَانَت سيرته فى الْقَضَاء حَسَنَة وَكَانَ لطيف المعاشرة وَصَارَ اماما بالجامع الاموى وَكَانَ يتعاقب على الْقَضَاء هُوَ والقاضى كَمَال الدّين بن خطاب وَاسْتقر الامر آخرا لِابْنِ خطاب وَكَانَ اذا عزل يحصل لَهُ قهر عَظِيم وَلما طَال عَزله آخر الامر مرض وَطَالَ مَرضه وَلما دخل ابْن جانبولاذ دمشق وَمَعَهُ السكبانية والدروز دخلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فى بَيته بحارة قصر حجاج خَارج بَاب الْجَابِيَة وانتهبوه وأهانوه فَزَاد قهره وَاسْتمرّ متضعفا يشكو حَتَّى توفى يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ربيع الاول سنة سِتّ عشرَة وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بوحيى زَاده الرومى شَارِح مغنى اللبيب أَصله من(3/353)
بَلْدَة ازنيق وجده على بيك مَذْكُور فى تذكرة الشُّعَرَاء وَقد أكمل صَاحب التَّرْجَمَة طَرِيق الصُّوفِيَّة على بعض الْمَشَايِخ وَجلسَ على سحاده الذّكر والوعظ الى أَن مَاتَ الشَّيْخ وَسنة فى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ مدرس دَار الحَدِيث المنسوبة لوالدة السُّلْطَان بِمَدِينَة اسكدار فوجهت اليه مَعَ وعظ الْجَامِع الْمَنْسُوب اليها وَكَانَ بَحر فياضاً فى الْعُلُوم خُصُوصا الْعَرَبيَّة متفننا فى غَيرهَا وَمن آثاره الجليلة شرح مغنى اللبيب فى مجلدين وَهُوَ شرح حافل مُفِيد يدل على سَعَة اطِّلَاعه وَله على التَّفْسِير تعليقات وَكَانَ وِلَادَته فى سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى سنة ثَمَان عشرَة بعد الالف وَكَانَ عمره لما مَاتَ تسعا وَسبعين سنة كَذَا قَالَه ابْن نوعى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن اسمعيل بن مُحَمَّد المنعوت شمس الدّين بن الاكرم الْحَنَفِيّ وَيعرف بقطا الْبر كَمَا أَن أَبَاهُ كَانَ يعرف بقطا الْبَحْر أحد فضلاء دمشق وأصلائها وَكَانَ فَاضلا مخشوشنا متقشفا قَرَأَ فى أول أمره ثمَّ وصل الى خدمَة الْبَدْر الغزى فَقَرَأَ عَلَيْهِ فى الاحياء وَلما مَاتَ أَبوهُ فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة سَافر الى الرّوم وَولى تدريس الْمدرسَة المقدمية وَرجع من الرّوم فى شكل عَجِيب على أسلوب موالى الرّوم من الاثواب الطَّوِيلَة بالاكمام الواسعة ولقب نَفسه بشيخ الاسلام وَكَانَ يجمع الْفُقَرَاء على الذّكر عِنْده بِالْمَدْرَسَةِ ويتردد اليه بعض المنشدين وَرُبمَا يكسوهم وَيطْعم الْفُقَرَاء وَكَانَ يتظاهر بانكار بعض المناكر وَكَانَ يمر على تخت الْقمَار بمحلة تَحت القلعة فيأمر بتكسيره وَضرب المقامرين وَكَانَ قَلِيل الْحَظ من الدُّنْيَا مَعَ السخاء الزَّائِد وَكَانَت وَفَاته بداء الْبَطن فى وَقت الْغَدَاء من يَوْم الثلاثا ثَالِث عشر ذى الْحجَّة سنة عشرَة بعد الالف عَن خمس وَخمسين سنة وَدفن عِنْد أَبِيه بمقبرة الفراديس وَبَنُو الاكرم بِدِمَشْق طَائِفَة كَبِيرَة مِنْهُم مُحَمَّد وَهُوَ جد مُحَمَّد هَذَا وَالِد وَالِده كَانَ فى آخر دولة الجراكسة أَمِيرا من أمرائهم فَلَمَّا ذهبت دولة الجراكسة وَجَاءَت دولة آل عُثْمَان أعطَاهُ السُّلْطَان سليم الفاتح زعامة دولة الجراكسة وَجَاءَت دولة آل عُثْمَان أعطَاهُ السُّلْطَان سليم المفاتح زعامة بِأَرْبَعِينَ ألف عثمانى فاستمر مبَاشر الزعامة الى أَن عينوه خَادِمًا للسلطنة فى جمع أَمْوَال الْعَرَب فَكتب الى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ علوان الحموى كتابا ولوح فِيهِ الى مَا هُوَ مبتلى بِهِ من خدمَة السلطنة وَأَشَارَ الى استفهامه عَن هَذِه الاحوال هَل تخلص صَاحبهَا عِنْد الله تَعَالَى فَكتب اليه الشَّيْخ علوان كتاب يَقُول فِيهِ وَلَا بَأْس بِخِدْمَة السُّلْطَان اذا كَانَت على طَرِيق الاسْتقَامَة وَأَيْضًا فان الرأى أَن تكون(3/354)
حَيْثُ أنزلك حَتَّى يكون الله عَنهُ نقلك وَأَيْضًا فان الله لَو لم يرد لَك هَذَا الامر الذى أَنْت فِيهِ مَا سهله لَك وسَاق من ذَلِك فَصَارَ وَكتب بعده فى حَاشِيَة الْمَكْتُوب وَمَعَ ذَلِك أَقُول
(سجنو الطّيب لغاتهم ... يَا ليتهم كَانُوا صموت)
(موت النُّفُوس حَيَاتهَا ... من رام أَن يحيا يَمُوت)
فَلَمَّا وقف على هذَيْن الْبَيْتَيْنِ علم الاشارة فَنزع ثِيَابه كلهَا وَعتق مماليكه وَدخل فى عدل ثخين وَجلسَ فى محلّة العنابة فى مَسْجِد الْعين ثَلَاثَة أَيَّام لَا يكلم أحدا وَلَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَترك الزعامة والدولة وَاسْتمرّ فى بَيته بمحلة العنابة جَالِسا متفردا عَن النَّاس لابسا ثِيَاب الصُّوفِيَّة الى أَن مَاتَ فانتقل وَلَده أَحْمد الى محلّة القيمرية وَسكن فى بيُوت ابْن الحارة ثمَّ أثبت الْمدرسَة المقدمية وانه من ذُرِّيَّة واقفها وَأظْهر على مَا ادَّعَاهُ عدَّة تمسكات وانتقل اليها وسكنها ثمَّ سكنها بعده ابْنه صَاحب التَّرْجَمَة كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَاسْتمرّ بِيَدِهِ تدريسها وتوليتها وَهَذِه الْمدرسَة منسوبة الى من هم منتسبون اليه وَهُوَ أَمِير الامراء شمس الدّين الْمُقدم الذى كَانَ من كبار الامراء فى زمن الْملك الْعَادِل نور الدّين الشَّهِيد ثمَّ صَار من كبار الامراء الصلاحية وَحج فَوَقع بَينه وَبَين أَمِير الْحَاج العراقى طاشتكين فَضرب ابْن الْمُقدم بِسَهْم وَقع فى عينه فَمَاتَ من غده ذكره ذَلِك ابْن خلكان فى تَارِيخه وَغَيره من المؤرخين
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ادريس المنعوت بشمس الدّين الحلبى ثمَّ الدمشقى الْمَعْرُوف بِابْن قولا قسز وَقد تقدم ابْنه أَحْمد وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا فَاضلا بارعا فَقِيها لَهُ اطلَاع على مسَائِل فقه الامام الاعظم أَبى حنيفَة قَرَأَ بحلب على عالمها الامام النَّجْم بن الحنبلى الاصول وَالْفِقْه والْحَدِيث وَأخذ عَن منلا أَحْمد القزوينى الْمعَانى وَالْبَيَان وَالتَّفْسِير ثمَّ رَحل الى دمشق وَأخذ بهَا الْفِقْه عَن خطيب الشَّام وفقيهها النَّجْم والبهنسى والْحَدِيث عَن شيخ الاسلام الْبَدْر الغزى وَقَرَأَ البخارى عَن النُّور النسفى وَأخذ الْفَرَائِض عَن الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الحنفى والقراآت عَن الطيبى والمنطق عَن منلا ابراهيم الكردى القزوينى الحلبى وَبِه تفقه وَلَده أَحْمد وَكَانَ يحب الْعُزْلَة والانجماع عَن النَّاس وَلم يكن لَهُ وَظِيفَة وَلَا مدرسة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من خِيَار الافاضل وَكَانَت وِلَادَته فى خَامِس عشرى شهر ربيع الاول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتوفى نَهَار الاحد رَابِع عشرى شهر ربيع الاول سنة احدى وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى(3/355)
مُحَمَّد بن أَحْمد الدجانى القدسى الشَّيْخ المعمر الْبركَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مفتى الشَّافِعِيَّة بالقدس الشريف رَحل الى مصر واشتغل بهَا وبرع ثمَّ رَجَعَ الى وَطنه وَشرح ألفية ابْن مَالك والرحيبة وَأفْتى على مَذْهَب الشافعى وَصَامَ الدَّهْر أَزِيد من خمسين عَاما وَكَانَ منزويا عَن النَّاس قَلِيل الِاجْتِمَاع بهم غير متصنع فى هَيئته وَلَا مباهيا بملبسة قَلِيل الْكَلَام مجذوبا وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وَفَاته صَبِيحَة نَهَار الاربعاء سَابِع عشرى ذى الْحجَّة سنة سِتّ وَعشْرين وَألف بدير صهيون وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الاقصى بعد الْعَصْر وَدفن فى فسقية أَبِيه وَحضر جنَازَته الْخَاص والعالم وتبرك النَّاس بِحمْل جنَازَته وَقد تجَاوز الثَّمَانِينَ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد المرداوى الحنبلى نزيل مصر وَشَيخ الْحَنَابِلَة فى عصره بهَا أَخذ على التقى الفتوحى وَعَن عبد الله الشنشورى الفرضى وَعنهُ أَخذ مرعى القدسى وَمَنْصُور البهوتيان وَعُثْمَان الفتوحى الحنبليون وَالشَّمْس مُحَمَّد الشوبرى وَأَخُوهُ الشهَاب أَحْمد وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحى وَكثير وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَدفن بتربة المجاورين بِالْقربِ من السراج الْهِنْدِيّ رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مصطفى بن خَلِيل الْمولى كَمَال الدّين بن عِصَام الدّين المشتهر بطاشكبرى زَاده قاضى العساكر فَرد الدَّهْر الْمجمع على فَضله وبراعته وَكَانَ فى الْعلم طوداشا مخالم ير نَظِيره فِي طَلَاقه الْعبارَة والتضلع من الْعَرَبيَّة قَالَ النَّجْم الغزى فى تَرْجَمته لم أر روميا أفْصح مِنْهُ بِاللِّسَانِ العربى وَكتب اليه شيخ الاسلام أسعد بن سعد الدّين يمدحه بقوله
(الْعِزّ من الْمجد هما نَحْوك مَالا ... يَا مفخرنا كاسمك لَا زلت كمالا)
(ان كَانَ على حبك لى معذرة ... كم من ألف مالى الى اللَّام كمالا)
أَخذه عَن وَالِده الْعَالم الْمَشْهُور صَاحب الشقائق النعمانية فى عُلَمَاء الدولة العثمانية وَعَن شيخ الاسلام أَبى السُّعُود العمادى ودرس بمدارس قسطنطينية ثمَّ صَار قَاضِيا بحلب وَنقل مِنْهَا الى دمشق فَدَخلَهَا فى أَوَائِل الْمحرم سنة خمس بعد الالف وَأَقْبل على أَهلهَا وعاملهم بالاكرام التَّام حَتَّى سحر عقول علمائها برعايته واقباله ثمَّ طلب مِنْهُم محضرا فى الثَّنَاء عَلَيْهِ بعد شهر فَكَتَبُوا لَهُ محضراً أثنوا عَلَيْهِ بِمَا شاهدوه مِنْهُ ثمَّ لم تتمّ كِتَابَة الْمحْضر حَتَّى انْقَلب عَن أخلاقه وتظاهر بطمع لم ير نَظِيره وَأكْثر(3/356)
من الرِّشْوَة وَاتفقَ انه جَاءَ فى زَمَنه أَمر الْعَوَارِض بثلثمائة عثمانى فنفذه وَكَانَ قبل ذَلِك لم تكلّف النَّاس فى الْعَوَارِض مِقْدَار ذَلِك فَحَضَرَ الى الْجَامِع يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشرى شهر رَمَضَان من سنة خمس صَبِيحَة الى الشَّيْخ الْعَارِف أَحْمد بن سُلَيْمَان الصوفى فَلَمَّا فرغت الصبيحة دَعَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وأخاه الشَّيْخ ابراهيم وأراهما الامر فَذكر لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد فقر النَّاس وعجزهم عَنْهَا فَلم يقبل فَضَجَّ النَّاس واجتمعوا عَلَيْهِ وَأخذُوا فى شَتمه واظهار الشكاية مِنْهُ وَمن طلمه وتتابع النَّاس من أرجاء الْجَامِع وَأَكْثرُوا من سبه وأطلقوا الالسنة فِيهِ وفى الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وأخيه ونسبوهما الى التَّقْصِير فى ذَلِك ثمَّ خرج القاضى هَارِبا من بَاب العنبرانيين وَتَبعهُ أَكثر النَّاس بَعضهم يَرْجُمهُ بِلِسَانِهِ وَبَعْضهمْ بِيَدِهِ حَتَّى ان بَعضهم ضربه ببيضة فَانْكَسَرت على ثَوْبه فالتجأ الى بعض الدّور حَتَّى رَجَعَ النَّاس عَنهُ وَأما الشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وَأَخُوهُ فانهما خرجا من بَاب جيرون وتبعهما جمَاعَة يصيحون فردهم النُّقَبَاء والفقراء عَنْهُمَا وَقَالُوا لَهُم الحقوا القاضى ثمَّ لما أصبح القاضى أَمر بِكِتَابَة عرض ومحضر فى تَخْفيف الْعَوَارِض وَجَمعهَا دِينَارا وَاحِدًا وَأظْهر ارادة الْعدْل وَفِيه عمل أَبُو المعالى درويش مُحَمَّد الطالوى قصيدته السائرة يُشِير فِيهَا الى حادثته هَذِه ومطلعها
(ان الْكَمَال على زِيَادَة نَقصه ... مولى يجود بِنَفسِهِ للمجتدى)
(فاذا أَتَاكُم فَاسق فَتَبَيَّنُوا ... من حَاله وَالله يجزى المعتدى)
(يقعى جُلُوسًا وسط مجْلِس حكمه ... كَيْمَا يسكن حكة فى المقعد)
(واذا مَشى أدلى بواسير استه ... من خَلفه تحكى أفاعى مربد)
(مثل الرشاء طَوِيلَة أذنابها ... مَا بَين ذى ذَنْب أحد وَأورد)
(تنساب فَوق نقى يُبَاح صريمه ... سيان فِيهِ رائح أَو مغتد)
(مكمدة ألوانها مسودة ... حمر الرؤس لَهَا لِسَان مبرد)
(قد أثخنت فِيهِ الْجراح وجرحت ... مِنْهُ الفقاح فسبرها بالمرود)
(تلتف فى شعر تدَاخل بعصه ... فى بعضه جَعدًا وَغير مجعد)
(فَكَانَ عر فجة هُنَاكَ تفرعت ... وأصولها ساخت بِأَرْض قردد)
(نسقى بِمَاء آسن فَكَأَنَّهَا ... مطروقة عين ببرقة ثهمد)
(وعَلى الْمحيا اذ يحيى مسحة ... من سَام أبرص خَافَ لسع الاسود)(3/357)
(فاصفر بل قَالُوا دَنَانِير الرشا ... من أكلهَا صبغته لون العسجد)
(من أجل ذَا حكوه وَهُوَ نبهرج ... بمحك أَحْجَار كوقع مهند)
(بَينا تدار عَلَيْهِ كاسا الرشا ... وَقد انتشى مِنْهَا براحات الدَّد)
(فى مجْلِس حاشاه من قَول العدا ... مَا فِيهِ غير مجسم أَو ملحد)
(فاجاه عزل فاغتدى عَن جلق ... عجلَان ذَا زَاد وَغير مزود)
(من بَعْدَمَا عرضت أُمُور أوجبت ... مَا أوجبت وسل الْعَوَارِض تشهد)
(اذ رَاح يمشى الخيز لى من عجبه ... للجامع الاموى مَشى الخرد)
(وَالنَّاس مستنون يتبع بَعضهم ... بَعْضًا وَقد قعد الْحمام بِمَرْصَد)
(مَا بَين منتعل وحاف خَلفه ... يعد ويمرو كالسهام محدد)
(حَتَّى رمى فى دَار قوم نَفسه ... وَأقَام فِيهَا خَائِف الضُّحَى الْغَد)
(للباب مستبقا وَقد قَمِيصه ... يَا صَاح من دبر فج بالمقصد)
(وهلاك رب الْعَرْش من ظلم الورى ... ان لما يفاج الْيَوْم فاجا فى غَد)
(هَا قد كشفت لكم حَقِيقَة حَاله ... يَا قوم فَاسْتَمعُوا مقَالَة مرشد)
(مذ ذاق طعم الْعَزْل رَاح بحسرة ... رطب العجان وكفه كالجلد)
(كالاقحوانة بعد فعلى ناجر ... جَفتْ أعاليها واسفلها ند)
(لَا زَالَ حادى النَّجْم يهوى خَلفه ... وسقاه نوء الرَّجْم مَوْصُول الْيَد)
(مَا فرخت يَوْمًا عوارض خانة ... وأهين قَاض خَان شرع مُحَمَّد)
ثمَّ ورد عَزله فى أواسط ذى الْقعدَة وَأعْطى قَضَاء حلب فَسَار اليها ثمَّ ترقى بعْدهَا فى المناصب حَتَّى ولى قَضَاء العسكرين وَكَانَ كثير الْآثَار وَله نظم ونثر فَمن نظمه مَا كتبه لشيخ الاسلام مُحَمَّد بن سعد الدّين من أَبْيَات
(عاصف الحادثات أفنانى ... صَرْصَر الدَّهْر بُد أفنانى)
(كمدى آدنى وأعيانى ... ارحوا سادتى أعيانى)
قَالَ البورينى فى تَرْجَمته وَكَانَ وَهُوَ قاضى بِدِمَشْق وَجه الى بقْعَة تدريس عَن الشَّمْس ابْن المنقار وَلما عزل عَن دمشق وَتوجه الى حلب بلغنى انه أعْطى يحيى بن الشَّمْس الْمَذْكُور عرضا فى الْبقْعَة الْمَذْكُورَة فَكتب اليه كتابا عتب عَلَيْهِ فِيهِ بِسَبَب ذَلِك وَكَانَ مَا بلغنى بَاطِلا كذبا فَكتب الى من انشائه وَذكر رِسَالَة طولة استحسنت مِنْهَا هَذَا الْمحل فَذَكرته هُنَا وَهُوَ وَالْعجب مِنْكُم انكم صَدقْتُمْ مثل هَذَا الْخَبَر(3/358)
وادعيتم فِيهِ التَّوَاتُر كَأَنَّهُ حَدِيث أَو أثر وَمَا تقرر عنْدكُمْ مَا شاهدتم من محبتنا الراسخة الْبُنيان وَقد قيل فى الامثال لَيْسَ الْخَبَر كالعيان وَكَانَ الْوَاجِب أَن لَا تلتفتوا الى مثل هَذِه الخرافات
(وشاهدى فى ادِّعَاء الْحبّ خاطركم ... وَهُوَ المزكى فقولى لَا تردوه)
(كفى بقلبى مَا يلقى ببعدكم ... لَا تحرقُوهُ بِنَار الهجر خلوه)
وَكتب أَيْضا فى غُضُون رسَالَته
(وَمَا أَنا حفظ الوفا متصنعا ... وَلَا أَنا للزور الْقَبِيح منمق)
(وَأَنت فتدرى مَا اقتضته جبلتى ... فَمَا أدعى الا وَأَنت مُصدق)
(وَلَكِن دهرا قد بلينا بأَهْله ... أَبَا حوابه ثوب النِّفَاق ونفقوا)
فو الذى يعلم سرى وعلن فى جَمِيع حالى لم يصدر عَنى ذَلِك الامر وَلَا خطر ببالى وَهل يَلِيق بى ان أدنس الْعرض بِمثل ذَلِك الْعرض وأحشر فى زمرة الْكَاذِبين بَين يَوْم الْعرض
(وودى أَنْت تعلمه يَقِينا ... صَحِيحا لَا يكدر بالجفاء)
(فَلَا تسمع لما نقل الاعادى ... وَمَا قد نمقوه من افتراء)
وَله غير ذَلِك مِمَّا يعذب وَبِالْجُمْلَةِ فقد وصفناه من الْكَمَال بِمَا فِيهِ مقنع وَلم يكن فِيهِ مِمَّا يشينه الا الطمع وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَقَالَ الْفَاضِل الاديب ابراهيم بن عبد الرَّحْمَن العمادى الدمشقى فى تَارِيخ وَفَاته
(أَلا انما الدُّنْيَا غرور نعيمها ... ينغصه أكدارها وزوالها)
(قضى الله للْمولى الْكَمَال بِأَن قضى ... فأرخ ديار الرّوم مَاتَ كمالها)
مُحَمَّد بن أَحْمد المنوفى المصرى الشافعى نزيل مَكَّة أحد الْفُضَلَاء الاعيان كَانَ فَاضلا أديبا صَاحب ثروة وَكَانَ لَهُ ايثار وبسطة يَد وَلم يزل يعانى التِّجَارَة ثمَّ لحقه ضيق يَد فسافر الى الرّوم وَصَحب مَعَه مِفْتَاح الْكَعْبَة الشَّرِيفَة قَاصِدا اعطاءه للسُّلْطَان مُرَاد وَورد دمشق وَعقد حَلقَة تدريس فى جَامعهَا الاموى بعد صَلَاة صبح الحنفى من أول رَجَب وأقرأ صَحِيح مُسلم فَاجْتمع عَلَيْهِ خلق كثير حَتَّى رفع كرسى الْوَعْظ أَيَّامًا قَليلَة وضجت الْعَالم من احداث مَا لم يكن وَمِمَّا اتّفق لَهُ انه سُئِلَ هَل كَانَ النبى
يعلم السحر ويعرفه على التَّعْمِيم فَأجَاب عَنهُ انه كَانَ يعلم كل شئ مِنْهُ وَمن غَيره من غير شكّ فَنقل جَوَابه الى النَّجْم الغزى فَغَضب غَايَة الْغَضَب وَكذبه وَقَالَ انه افتراها وَأخذ النَّجْم يُقيم عَلَيْهِ الْحُدُود فى درسه كل لَيْلَة وَيَقُول انه ان أصر(3/359)
على ذَلِك كفر وتطلب من أقرانه عمل رِسَالَة على وفْق مُرَاده فامتنعوا من ذَلِك وَقَالُوا انه أَخطَأ حَيْثُ قَالَهَا للعوام وَمِنْهُم من أحجم وَلم يتَكَلَّم وَقَالَ قد وَقع فِيهَا خلاف وَمَا رجحوا مِنْهَا قولا لَا ينْقل وَطَالَ التنقيب على هَذِه المسئلة حَتَّى ألف الشَّيْخ أَيُّوب الخلوتى الْمُقدم ذكره فى ذَلِك رِسَالَة سَمَّاهَا السك الموفى على رَقَبَة المنوفى وهى رِسَالَة جَامِعَة لكل منثور ومنظوم فَكف بعد المنوفى عَن الدَّرْس وَأقَام الى عيد الْفطر ثمَّ رَحل الى نَاحيَة الرّوم وَالسُّلْطَان مُرَاد فى نواحى حلب قَاصد الْمسير الى روان فصحب الْعَسْكَر الى بَغْدَاد وأنجحت سفرته ونال أمانيه ثمَّ بعد فتح روان رَجَعَ الى دمشق فَابْتلى بِمَرَض الامعاء وقاسى آلاما شديده وَكَانَ سَبَب مَوته هَذَا خُلَاصَة مَا نقلته من ثَبت الشَّيْخ مُحَمَّد بن على المكتبى الدمشقى وَرَأَيْت للمترجم تَرْجَمَة فى السلافة وَصَاحب السلافة سبطه قَالَ فى تَرْجَمته هُوَ جدى لامى وَمن مَلَأت بِهِ من عريق النّسَب كمى امام الائمة الشَّافِعِيَّة وَرب الفطنة الالمعية ملك الْعُلُوم زماما وَتقدم فى مقَام الْفضل اماما فصلت الافاضل خَلفه وظلت الْفَضَائِل حلفه لَا يشق لَهُ غُبَار فى مضمار سباق وَلَا يباريه مبار فى اصطباح واغتباق وَلَا سوى الْفضل والادب صبوح وغبوق وَهُوَ السَّابِق فيهمَا وَمن عداهُ مَسْبُوق وَكَانَ قد شدّ لرحلة الرّوم ركابه وابله
(يُرِيد بسطة كف يَسْتَعِين بهَا ... على قَضَاء حُقُوق للعلى قبله)
فأسفرت سفرته عَن وُجُوه آماله وَأهب عَلَيْهِ الاقبال نسائم قبُوله وشماله فَتَلقاهُ ملكهَا بِأَهْل ومرحب وأنزله من ألطافه واسعافه أفسح منزل وأرحب ونفحه بنفحات عنايته المسكية حَتَّى قَلّدهُ أَكثر المناصب المكية فَلَمَّا عَاد الى وَطنه بِقَضَاء أمله ووطره نصبت لَهُ الْمنون أشراكها فى طَرِيقه وأغصته اذ ساغت لَهُ أمانيه بريقه ثمَّ قَالَ وَلَا يحضرنى الْآن من شعره غير مَا رَأَيْته مَنْسُوبا اليه بِخَط سيدى الْوَالِد وَهُوَ
(عتبت على دهرى بأفعاله الَّتِى ... أضاق بهَا صدرى وأضنى بهَا جسمى)
(فَقَالَ ألم تعلم بِأَن حوادثى ... اذا أشكلت ردَّتْ لمن كَانَ ذَا علم)
قَالَ وَهَذَانِ بيتان لَا يشيد مثلهمَا الا من شاد ربوع الادب وسارع لاقتناص شوارد القريض وانتدب وهما أنموذج براعته وبلاغته واقتداره على سبك ابريز الْكَلَام وصياغته وَقد صدرتهما وعجزتهما فَقلت(3/360)
(عتبت على دهرى بأفعاله الَّتِى ... برانى بهَا بَرى السِّهَام من الْهم)
(ليصرف عَنى فادحات نوائبى ... أضاق بهَا صدرى وأضنى بهَا جسمى)
(فَقَالَ ألم تعلم بِأَن حوادثى ... وأخطارها اللاتى تلم بذى فهم)
(يضيق بهَا ذُو الْجَهْل ذرعا وانما ... اذا أشكلت ردَّتْ لمن كَانَ ذَا علم)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد حَكِيم الْملك بِضَم الْمِيم وَسُكُون اللَّام الفارسى أصلا ومحتدا والمكى منشأ ومولدا أديب الْحجاز وشاعره وبليغه ذكره السَّيِّد مَعْصُوم فَقَالَ فى وَصفه فَاضل تأزر بِالْفَضْلِ وارتدى وسلك سَبِيل المكرمات واهتدى سَام فى فنون الْعلم وَصرح وأوضح متون الادب وَشرح وَهُوَ من بَيت رياسة وجلاله وَقوم لم يرثوا الْمجد عَن كلاله وَكَانَ لسلفه عِنْد مُلُوك الْهِنْد التيموريه مَحل تتضوع الْمَرَاتِب ريه وتستسقى المناصب ريه وَلما وَفد جده على السَّادة الاشراف الْمُلُوك من بنى حسن قابلوه مُقَابلَة الجفن للوسن فاكرموا نزله وقلدوا بأيادى منتهم بزله وَولد صَاحب التَّرْجَمَة بِمَكَّة فَنَشَأَ فى حجر الْفضل وَالْمجد وانتشق عرف خزامى تهَامَة وشميم عرار نجد فَجمع بَين تليد الْمجد وطارفه ورفل فى فضفاض الادب فى أبهى مطارفه وَلم يزل مُتبعا تِلْكَ الدَّار مَحْمُود الايراد والاصدار مَعَ تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقى الَّتِى لَا تنفصم وحلوله لَدَيْهِ بالمكانة الَّتِى مَا حلهَا ابْن أَبى دؤاد عِنْد المعتصم حَتَّى حصل عَلَيْهِ من الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب مَا حصل لما انحل عقد ولَايَة الشريف محسن مِنْهَا وانفصل فَكَانَ مِمَّن نهب الشريف دَاره وَمَاله وَقطع من الامان أمانيه وآماله فالتجأ مستأمنا الى بعض الاشراف فَأَمنهُ على نَفسه بعد مُشَاهدَة الْوُقُوف على الْهَلَاك والاشراف ثمَّ سَار مختفيا الى الْيمن وَاسْتمرّ حَتَّى قتل الشريف أَحْمد فَلم ير من شرِيف مَكَّة الشريف مَسْعُود مَا كَانَ يؤمله قبل فَتوجه الى الْهِنْد فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف فَألْقى بهَا عَصَاهُ الى أَن بلغ من الْعُمر أقصاه ثمَّ ذكر لَهُ قصيدته الدالية الَّتِى عَارض بهَا قصيدة أَحْمد الرشدى الْمُقدم ذكرهَا ومطلع قصيدته
(صوادح البان وَهنا شجوها بادى ... فَمن معِين فَتى فى فت أكباد)
(صب اذا غنت الورقاء أرقه ... تذكيرها نغمات الشادن الشادى)
(فَبَاتَ يرعف من جفنيه تحسبه ... يرجرج المدمع الوكاف بالجادى)(3/361)
(جافى الْمضَاجِع الف السهد ساوره ... سم الاساود أَو أَنْيَاب آساد)
(لَهُ اذا اللَّيْل واراه نشيج شج ... وجذوة فى حشاه ذَات ايقاد)
(سماره حِين يضنيه توحشه ... فيستريب الى تأسيس عواد)
(وجدوهم وأشجان وبرح جوى ... ولوعة تتلظى والاسى سادى)
(أضناه تَفْرِيق شَمل ظلّ مجتمعا ... وضن بِالْعودِ دهر خطبه عادى)
(فالعمر مَا بَين ضن ينقضى وضنى ... والدهر مَا بَين ايعاد وابعاد)
(لَا وصل سلمى وَذَات الْخَال يرقبه ... وَلَا يؤمل من سعدى لَا سعاد)
(أضنى فؤادى واستوهى قوى جلدى ... اقوا ملاعب بَين الهضب والوادى)
(عفت محاسنها الايام فاندرست ... واستبدلت وَحْشَة من أُنْسُهَا البادى)
(وعطلتها الرزايا وهى حَالية ... بساكنيها ورواد ووراد)
(وعاث صرف الليالى فى معالمها ... فَمَا يُجيب الصدا فِيهَا سوى الصادى)
(دوارج المورمارت فى معاهدها ... فغادرتها عَفا الساحات والنادى)
(وناعب الْمَوْت نَادَى بالشتات بهَا ... فأهلها بَين أغوار وأنجاد)
(وصوحت بالبلى أطلالها وخلت ... رحابها الفسيح من هيد وَمن هاد)
(أضحت قفارا تجر الرامسات بهَا ... ريحًا جنوب وَشَمل رِيحهَا الجادى)
(كَأَنَّهَا لم تكن يَوْمًا لبيض مهى ... مرا تعاقد خلت فِيهِنَّ من هاد)
(وَلم تحل مغانيها بغانية ... تغنى اذا ماردى من بدرها رادى)
(وَلَا عطا نبتها ريح وَلَا طلعت ... بهَا بَدو ردجى فى برج مصطاد)
(وَلَا تثنت بهَا لمياء ساحبة ... ذيل النَّعيم دلالا بَين انداد)
(فارقتها وكأنى لم أظل بهَا ... فى ظلّ عَيْش يجلى عذر حساد)
(أجنى قطوف فكاهات محاضرة ... طورا وطورا أناغى ربة الهادى)
(هيفاء يزرى اذا ماست تمايلها ... بأملد من غصون البان مياد)
(بِجَانِب الْجيد يهوى القرط مرتعدا ... مهواه جد سحيق فَوق أكتاد)
(شفاهها بَين حق الدّرّ قد خزنت ... ذخيرة الْفَحْل ممزوجا بهَا الجادى)
(اذا نضت عَن محياها النقاب صبا ... مستهترا كل سجاد وَعباد)
(وان تجلت فَفِيمَا قد جلته دجى ... لنابه فى الدآدى أَيّمَا هادى)
(وميض برق ثناياها اذا ابتسمت ... يُعَارض الدمع من مهجورها حادى)(3/362)
(وناظران لَهَا يرْتَد طرفهما ... مهما رنت عَن قَتِيل مَا لَهُ وادى)
(وصبح غرتها فى ليل طرتها ... يوماى من وَصلهَا أَو هجرها العادى)
(تِلْكَ الربوع الَّتِى كَانَت ملاعبها ... أخنى عَلَيْهَا الذى أخنى على عَاد)
(الى ملاعب غزلان الصريم بهَا ... يحن قلب الْمَعْنى مَا شدا شاد)
(بعد الدَّهْر رمانى بالفراق بهَا ... وَلَا سقى كنفيه الرَّائِح الغادى)
(عمرى لَئِن عظمت تِلْكَ القوادح من ... خطوبه وتعدت حد تعدادى)
(لقد نسيت وأنستنى يواثقه ... تِلْكَ الَّتِى دهدهت أصلاد أطواد)
(مصَارِع لبنى الزهرا وَأحمد قد ... أذكرن فخا وَمن أردى بِهِ الهادى)
(لفقدهم وعَلى المطلول من دمهم ... تبكى السَّمَاء بمزن رائح غادى)
(وشق جيب الْغَمَام الْبَرْق من حزن ... عَلَيْهِم لَا على أَبنَاء عباد)
(كَانُوا كعقد بجيد الدَّهْر قد قرظت ... من ذَاك وَاسِطَة أودى بتبدادى)
(وَهُوَ المليك الذى للْملك كَانَ حمى ... مذماس من برده فى خزأ براد)
(كَانَت لجيران بَيت الله دولته ... مهاد أَمن بسرح الحيف ذواد)
(وَكَانَ طود الدست الْملك مُحْتَبِيًا ... ولاقتناص المعالى أى نهاد)
(ثوى بصنعا فيا الله مَا اشْتَمَلت ... عَلَيْهِ من مجده فى ضيق ألحادى)
(فقد حويت بِهِ صنعاء من شرف ... كَمَا حوت صعدة بالسيد الهادى)
(فحبذا أَنْت يَا صنعاء من بلد ... وَلَا تغشى زيادا وكف رعاد)
(مصابه كَانَ رزأ لَا يوازنه ... رزء ومفتاح ارزاء واسآد)
(وَكَانَ رَأْسا على الاشراف مُنْذُ هوى ... تتابعوا اثره عَن شبه ميعاد)
(لهف الْمُضَاف اذا مَا أزمة أويت ... من قطب نائبة للمتن هداد)
(لهف الْمُضَاف اذا مَا أقلحت سنة ... يضن فى محلهَا الطائى بالزاد)
(لهف الْمُضَاف اذ كرّ الْجِيَاد لَدَى ... حر الجلاد أثار النَّقْع بالوادى)
(لهف الْمُضَاف اذا مَا يستباح حمى ... لفقد حام بورد الْكر عواد)
(لهف الْمُضَاف اذا جلى بِهِ نزلت ... وَلم يجد كاشفا مِنْهَا بمرصاد)
(لهف الْمُضَاف اذا حمل المغارم فى ... نيل العلى أثقل الاعناق كالطاد)
(لهف الْمُضَاف اذا نَادَى الصَّرِيخ وَلم ... يجد لَهُ مصرخا كالليث للصادى)
(لهف الْمُضَاف اذا الدَّهْر العصوف سَطَا ... بضيم جَار لنزل الْعِزّ مقداد)(3/363)
(بل لهف كل ذوى الآمال قاطبة ... عَلَيْهِم خير مرتاد لمرتاد)
(كَانَت بهم تزدهى فى السّلم اندية ... وفى الوغى كل قداد وهناد)
(على الارائك أقمار تضئ وَمن ... تَحت الترائك آساد لمساد)
(تَشكوا عداهم اذا شاكى السِّلَاح بدا ... شكّ القناما ضفا من نسج ابراد)
(الى النحور وَمَا تحوى الصُّدُور وَمَا ... وارته فى جنحها ظلمات أجساد)
(بادوا فباد من الدُّنْيَا بأجمعها ... من كَانَ فكاك أصفاد باصفاد)
(وَقد ذوت زهرَة الدُّنْيَا لفقدهم ... وألبست بعدهمْ أَثوَاب احداد)
(واجتث غرس الامانى من فجيعتهم ... وَأنْشد الدَّهْر تقنيطا لرواد)
(يَا ضيف أقفر بَيت المكرمات فَخذ ... فى جمع رحلك واجمع فضلَة الزَّاد)
(يَا قلب لَا تبتئس من هول مصرعهم ... وَعز نَفسك فى بوس وانكاد)
(بِمن غَدا خلفا يَا حبذا خلف ... فى الْملك عَن خير آبَاء واجداد)
(بحائز ارثهم حاو مغافرهم ... كَمَا حوى الالف من آحَاد أعداد)
(وَذَاكَ زيد أدام الله دولته ... وزاده مِنْهُ تأييدا بامداد)
(سمابه النّسَب الوضاح حَيْثُ غَدا ... طريفه جَامعا أشتات أتلاد)
(لقد حوى من رفيعات المكارم مَا ... يكفى المثخن أحداد وأحفاد)
(أَلَيْسَ قد نَالَ ملكا فى شبيبته ... مَا ناله من سعى أَعمار آباد)
(أَلَيْسَ فى وهج الهيجا مواقفه ... مشكورة بَين أَعدَاء واضداد)
(أَلَيْسَ أسج بِالتَّنْعِيمِ سابحه ... لج المنايا ليحيا قبل أجناد)
(أَلَيْسَ يثبت يَوْم اللَّيْث أَن لَهُ ... وثبات لَيْث يزجى ذود نقاد)
(أَلَيْسَ يَوْم العطا تحكى أنامله ... خلجان بَحر بفيض التبر مداد)
(أَلَيْسَ قد لَاحَ فى تأسيس دولته ... من جده الْمُصْطَفى رمز بارشاد)
(دَامَت معاليه والنعمى بِذَاكَ لَهُ ... مصونها وَهُوَ ملحوظ باسعاد)
(مَا لَاحَ برق وَمَا غنت على فنن ... صوادح البان وَهنا شجوها بادى)
قَوْله أَلَيْسَ قد لَاحَ فى تأسيس دولته يُشِير بِهِ الى مَا وَقع للشريف زيد فانه لما وَردت الاوامر السُّلْطَانِيَّة بولايته الْحَرَمَيْنِ وَكَانَ اذ ذَاك بِالْمَدِينَةِ المنورة قصد زِيَارَة النبى
فَأَرَادَ الخدم ان يفتحوا لَهُ الْبَاب فوجدوه مَفْتُوحًا وَكَانُوا قد أغلقوه من قبل فَعلم النَّاس انه اشارة الى الْفَتْح وَالظفر وَكَانَ الامر كَذَلِك وَكتب(3/364)
الى القاضى تَاج الدّين المالكى
(سقى الدمع مغنى الوابلية الْحمى ... سواجم تغنى جانبيه عَن الوبل)
(وَلَا بَرحت عينى تنوب عَن الحيا ... بدمع على تِلْكَ المناهل منهل)
(مغانى الغوانى والشبيبة وَالصبَا ... ومأوى الموالى وَالْعشيرَة والاهل)
وَقَالَ
(سَقَاهَا الحيا من أَربع وطلول ... حكت دنفى من بعدهمْ ونحولى)
وَقَالَ
(سقى صوب الحياد منا ... بجرعاء اللوا درسا)
(وَزَاد محلك المأنوس يَا دَار الْهوى أنسا ... )
(لَئِن درست ربوعك فالهوى العذرى مَا درسا ... )
وَقَالَ
(سقى بالصفا الربعى ربعابه الصِّبَا ... وجاد بأجياد ثرى مِنْهُ ثروتى)
(مخيم لذاتى وسوق مآربى ... وقبلة آمالى وموطن صبوتى)
انما الْمُحَافظَة على الرسوم والآداب والملاحظة للعوائد المألوفة فى افْتِتَاح الْخطاب لمن يملك أمره اذا اعتراه ذكر زَيْنَب والرباب وَلم تخل عقال عقله يدا لنوى والاغتراب وَلَيْسَت لمن كلما لَاحَ بارق ببرقة ثهمد فَكَانهُ أخوجنة مِمَّا يقوم وَيقْعد تتقاذفه أمواج الاحزان وتترامى بِهِ طوائح الهواجس الى كل مَكَان فَهُوَ وان كَانَ فِيمَا ترى الْعين قاطنا بحى من الاحياء
(يَوْمًا بحزوى وَيَوْما بالعقيق وبالعذيب يَوْمًا وَيَوْما بالخليصاء ... )
لَا يأتلى مقسم العزمات منفصم عرى العزيمات لَا يقر قراره وَلَا يُرْجَى اصطباره ان روح الْقلب بُد كرّ المنحنى أَقَامَ الحنين حنايا ضلوعه أَو استروح روح الْفرج من ذكر الْخيف يمنى أَو مَضَت بوارق زفراته تحدو بِعَارِض دُمُوعه
(من تمنى مَالا وَحسن منال ... فمناى منى واقصى مرادى)
فيا لَهُ من قلب لَا يهد أخفوقه ولاتنى لامعة بروقة وَلَا يبرح من شُمُول الاحزان صبوحه وغبوقه يساور همواماً فَمَا مساورة ضئيلة من الرقش ويناجى احزانا لَوْلَا بس بَعْضهَا الصخر الاصم لَا نهش ويركب من أخطار الوحشة أهوالا دونهَا ركُوب النعش يحن الى مَوَاضِع ايناسه ويرتاح الى مراتع غزلان صريمه وكاية وَينْدب أَيَّامًا يستثمر الطَّرب من أفنان اغراسه
(أَيَّام لَا الواشى بعد ضَلَالَة ... ولهى عَلَيْهِ وَلَا العذول يؤنب)
غَيره
(أَيَّام ليى ترينى الشَّمْس طلعتها ... بعد الْغُرُوب بَدَت فى افق ازرار)(3/365)
غَيره
(أَيَّام شرخ شبابى رَوْضَة أنف ... ماريع مِنْهُ بروع الشيب ويعانى)
(أَيَّام غصنى لدن من غضارته ... أصبو الى غير جاراتى وخلانى)
غَيره
(ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ السنون وَأَهْلهَا ... فَكَأَنَّهَا وكانهم أَحْلَام)
غَيره
(لم يبْق مِنْهَا مشتاق اذا ذكرا ... الا لواعج فكر تبْعَث الفكرا)
غَيره
(وَلم يبْق منى الشوق الا تفكرى ... فَلَو شِئْت أَن أبكى بَكَيْت تفكرا)
لم أكن على مُفَارقَة الاحباب جلدا فَأَقُول وهى جلدى وانما وهى تجلدى مِمَّا حملت النوائب على كندى وفتت صرف الْبَين المشت من أفلاذ كبدى
(جربت من صرف دهرى كل نائبة ... أَمر من فرقة الاحباب لم أجد)
غَيره
(فراقا قضى أَن لَا تأسى بَعْدَمَا ... مضى منجدا صبرى وأوغلت مُتَّهمًا)
(وفجعه بَين مثل صرعة مَالك ... ويقبح بى أَن لَا أكون متمما)
(خليلى ان لم تسعدانى على البكا ... فَلَا أَنْتُمَا منى وَلَا أَنا مِنْكُمَا)
(وحسنتما لى سلوة وتناسيا ... وَلم تذكرا كَيفَ السَّبِيل اليهما)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِالْهِنْدِ فى سنة خمسين وَألف
مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالحتاتى المصرى الاديب الشَّاعِر الْكَاتِب الْمَشْهُور كَانَ من أَعْيَان الْفُضَلَاء وبلغاء الشُّعَرَاء وَله شعر رَقِيق فى نِهَايَة الْحسن والجودة وَكَانَ ظريف الطَّبْع خليعا طروبا وَله فى الطِّبّ بَاعَ طَوِيل أَخذ عَن عُلَمَاء مصر ثمَّ دخل الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة وَولى قَضَاء أسيوط والجيزة فى نواحى مصر وَذكره الخفاجى فى الخبايا فَقَالَ فى حَقه أديب فَاضل رَقِيق شملة الشَّمَائِل جم المناقب صنو درارى الْكَوَاكِب ان كَانَ الادب روضا فَهُوَ ونواره أَو الْفضل يدا وساعد فَهُوَ سواره قطف ثَمَر الْمجد غض الجنا وكل من عجل الْغِرَاس اجتنى وَهُوَ مَعَ أَن ربع الْكَرم هشيم الحاطم مجذب روض رَبِيعه وسلسال معاليه مغدق مخصب وَله فى الطِّبّ يَد كَثِيرَة الايادى وطبع مُفِيد العناصر والمبادى وبدائع مجريات شهِدت لَهَا الاسباب والعلامات وفكر ألمعى لم يلم بِهِ ألم عى وموثق خطّ يسند وَحَدِيث مجد الى المعالى مُسْند وَشعر رَقِيق ونثر هُوَ الْمسك الفتيق وأدب يجل وَلَا يمل كتنفس الريحان اذا بَكَى الطل يتَغَنَّى بِهِ كل حاد وملاح ونثر يترقرق ترقرق الدُّمُوع فى خدود الملاح وَكَانَ فى صباه بِمصْر لَا زَالَت السحب تحط بحماه أثقالها مجدا فى كسب المحامد والمعالى لَا ترد سؤالها ثمَّ أتهم وأنجد وديباجة حَاله(3/366)
بالرحيل تتجدد وَلم يزل مغربا ومشرقا حَتَّى اتخذ الرّوم لشمسه أفقا فنعمت فِيهَا باجتناء فواكه محاوراته أزرف من زهر الْعُلُوم مونقه فطوقنى قلادة من مدائحه وعقدا من مطارحاته أكسد سوق الدّرّ مَا ينمقه مَا بَين جد أسكر ابْنة الزرجون وهزل اغتبقت واصطبحت مِنْهُ بسلافة المجون
(هُوَ الضَّيْف سمعى لَهُ منزل ... وقلبى فرش وحبى قرا)
ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة طَوِيلَة
(أسترجع الله أحلا مَا مضين لنا ... فى غَفلَة الدَّهْر أَو فى يقظة الْعُمر)
(حَيْثُ التصابى مَعْقُود اللِّوَاء على ... جَيش من اللَّهْو بَين الا من وَالظفر)
(أَيَّام كَانَت شموس الصفو تلمع من ... أفق الاسارير والكاسات والثغر)
(والانس تطفح عندى صفحتاه وان ... طَغى رقيبى رَمَاه الكاس بالشرر)
(كأننى كنت فى دَار النَّعيم مَتى ... مَا جال للنَّفس سؤل لَاحَ للنَّظَر)
(لَا غول فِيهَا وَلَا لَغوا وَلَا كدر ... سوى السلاف وَصَوت الناى وَالْقصر)
(فكم لَيَال كست بدر الدجى شرفا ... تمنت الشَّمْس فِيهِ رُتْبَة الْقدر)
(أهْدى لنا ضوأه لحفا بطائنها ... ريح الصِّبَا وافترشنا زهرَة الزهر)
(وَكم ركبنَا بهَا دهما قلائدها ... شهب النُّجُوم على الاحجال وَالْغرر)
(نبيت فِيهَا نشاوى خمرة وصبا ... غرقى الممرات فى ورد وفى صدر)
(لَا نَعْرِف الحقد الا للصباح وَقد ... أضحت تنم علينا غفوة السحر)
(وَكَانَ يرقب ليلاتى ويسبقها ... على المجر وان لم تمض لم يسر)
(تِلْكَ الليالى الَّتِى لَو أنصفت وصلت ... بِالروحِ بعد سُوَيْد الْقلب وَالْبَصَر)
(مَضَت سرَاعًا بأحباب عرفت بهم ... حَال المُرَاد اذا حَالَتْ عَن الصُّور)
(واسود وَجه شبابى بعد نضرته ... بأبيض الشهب لَا باللؤم والخور)
(أرى حداد الليالى بعد بَينهم ... شبيبتى وحدادى أَبيض الشّعْر)
(أبكى ويبكيهم دَوْمًا اذا ذكرُوا ... بأعين النَّجْم دمع الهاطل الْمَطَر)
(فَلم تعض عَنْهُم نجم وَلَا قمر ... وَلَا شموس وَلَا زاك من الْبشر)
(سوى الشهَاب أَبى الْعَبَّاس سيدنَا ... الْمولى المفدى بِأَهْل البدو والحضر)
(يحيا بِهِ دارس للْعلم حِين غَدا ... مُجَدد الدّين والآداب والفقر)
(لوعا صر الاربع الاوتاد لَا نعقد الاجماع مِنْهُم على آرائه الْغرَر ... )(3/367)
(شَقِيق نعْمَان لَوْلَا ورد بهجته ... ثانى الشَّقِيق وحمر الخاطر الْعطر)
(يعطيك مَا هية الاشيا ويسلبها ... سحر الْمجَاز بِمَعْنى فِيهِ مبتكر)
(لم ألق فى الْمَلأ الادنى وفى الْمَلأ الْأَعْلَى شَبِيها لَهُ فاستجل واختبر ... )
(عَلامَة الدَّهْر فى كل الْعُلُوم لَدَى ... كل العصور وَلَيْسَ الْخَبَر كالخبر)
(عَرفته سيدا مولى أصُول بِهِ ... على الزَّمَان وأغد وَخير منتصر)
(ايه نَصَحْتُك قلبى فَهُوَ عروتك الوثقى تمسك بِهِ فى الْخطب وَاقْتصر ... )
(وناد نَفسك ان جَاشَتْ لنائبة ... واستبدلت لعلاها الْيَأْس بالوطر)
(لَا يذهب الصَّبْر مَا لاقيت واعتمدى ... على معاليه بعد الله وَالْقدر)
(واستقبلى الْمجد من علياء همته ... فانها فى مضاء الصارم الذّكر)
(طلق الجبين بِهِ اسْتغنى زَمَانك عَن ... شمس الضُّحَى وأبى اسحق وَالْقَمَر)
(واستوكفى سَبَب كفيه يفيك بِمَا ... مِنْهُ البحور تمنت زِينَة الْمَطَر)
ثمَّ قَالَ وَكنت نظمت بِالشَّام قصيدة طَوِيلَة طائبة أَولهَا
(نثار نور دوح قد تمطى ... وَألقى برده صبح تغطى)
(وَقد عطس الصَّباح فشمتته ... حمائم قد كساها الْخَزّ مِرْطًا)
فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا أعجب بهَا وعارضها بقصيدة بديعة وأرسلها الى وهى هَذِه
(كسا الرَّوْض من رياه ريح الصِّبَا مِرْطًا ... فَأَثْقَله واعتل فاعتمد الابطا)
(أرى الدوح مفتون النسيم فراقص ... يصفق ان وافى ويطرق ان شطا)
(يمد لَهُ من حليه وثيابه ... وتيجانه من تَحت أَخْمُصُهُ بسطا)
(وَكم من أياد للنسيم على الربى ... فيرقدها شطا ويوقظا نشطا)
(يهذبها بالغيث تَهْذِيب مصحف ... فيعر بهَا شكلا ويعجمها نقطا)
(لذاك نَبَات الرَّوْض شقَّتْ على الْهوى ... جيوبا وحلت عقد أزرارها شرطا)
(لتلثمه خدا وترشفه فَمَا ... وتنشقه مَا الْمسك عَن عرفه انحطا)
(وَمن قبل شَرط العقد بَث أريجها ... وَشرط الْهوى أَن الجزا يسْبق الشرطا)
(كَانَ الغصون الْعرس وَالرِّيح بَعْلهَا ... اذا اعتلقا اهتزا وأوراقها تلطا)
(وان أَعرَضت عَنْهَا ثناها بفرعها ... اليه وَأَدْنَاهَا وأضجعها ضغطا)
(تجاذب ذَات الطوق لَكِن تهزها ... وتسمعها هزا قلائدها لقطا)
(ومذ صَار خلخالاً لَهَا النَّهر لم ينم ... وَمن شطه بالسق دَار وَمَا غطا)(3/368)
(وهم زَعَمُوا أَن الْكَوَاكِب جديها ... يهيم وَلم يرقد فَمَا باله غطا)
(رعى الله لَيْلًا بَات للنهر والهوى ... وللحب أَرضًا قد عشقت بهَا السخطا)
(أردْت بِلَا شط أرَاهُ وَمن يبت ... على النَّهر مِمَّن يشتهيه يرى الشطا)
(غزال بِفِيهِ الْمسك والشهد والطلا ... فَلَو ذقتها استبشعت قَوْلهم اسفنطا)
(رشا شعره لما بدا من خلاله ... وميض الطلا وانساب كالحية الرقطا)
(طَوِيل دجوجى لحظ عميده ... وَلَيْلَته ان غَابَ أَو منع الوأطا)
(لحاجبه المجذوب رَاء ممانع ... ومقلته ترمى فتجذبنا قمطا)
(يلاط بمغناطيسها الْقلب والنهى الْحَدِيد فان تفككه عَنهُ بِهِ لطا ... )
(بثغر يُعِيد اللَّيْل صبحا كَأَنَّمَا ... حباه شهَاب الدّين من شعره سمطا)
(مليك العلى ان كنت تعرف مَا العلى ... والافجر الْفضل ان كنت مشتطا)
(همام لَهُ سبق الاوائل آخرا ... ورحل العلى وَالْعلم فى بَابه حطا)
(مجيد كَانَ الْفضل عكس أشعة اختياراته اللاتى غَدَتْ خلقا سبطا ... )
(فقس لَدَيْهِ بَاقِل وقدامه ... اذا مَا رَآهُ امتاز من دره لقطا)
(كَذَلِك كَعْب وامرؤ الْقَيْس لَو درى ... طَرِيقَته المثلى لما ندب السقطا)
(وَلَو حذوه يحذو الامام أَبُو الْعلَا ... لَا ورى لَهُ الزند الْكَوَاكِب لَا السقطا)
(لَئِن عَلقُوا بِالْبَيْتِ شعرًا فشعره ... تعلّقت الافلاك فى بَيته ربطا)
(وَلَو كَانَ عقد الدَّهْر جيد شعرهم ... لكَانَتْ بِهِ أشعاره الدرة الْوُسْطَى)
(هى التَّاج والاكليل فى مفرق العلى ... وفى أذن الايام أعرفهَا قرطا)
(وَمن لى بِأَن أحصى ثَنَاء وَقد غَدا ... كَمَال الورى من عشر أَوْصَافه قسطا)
(أمولاى ان الشّعْر عبد ملكته ... ففى مَذْهَب الْآدَاب تحرزه ضبطا)
(لمجدك حمد من معَان وهبتها البلاغة لم ترض النُّجُوم لَهَا رهطا ... )
(يَصِيح على الكندى يَا لخفاجة ... ويسحب سحبان على وَجهه مِرْطًا)
(وعذرا وحيد النسج ان بمهجتى ... ضنى من أسى الايام أحرقها خمطا)
(فؤاد كبيت العنكبوت مُقَلِّب ... على الْجَمْر محزون بِسيف القلا قطا)
(وبى من صروف الدَّهْر مَا الْمَوْت دونه ... وَمَا الْمَوْت عَن خطب وَلَو هان منحطا)
(زمَان لَهُ حقد الْقَدِير فباطش ... بِنَا لَا يرى شَيخا وَلَا لحية شُمْطًا)
(فَمَا الرجل المكتوف ملقى بزاخر ... خضم وَلم يقْض مُضْطَر باخيطا)(3/369)
(بأنكس من حالى وَقد ظلّ مطلبى ... رهين لئيم يملك الْمَنْع والاعطا)
(يدافعنى عَنهُ مدافعة النَّوَى ... وَلَو أمكنته فرْصَة غالنى سرطا)
(وَمَا سابح فى بَحر بيداء موجها الهجير صدى لم يُصَادف بهَا وقطا ... )
(على فرق ان سَار أَو عَاد أَو ثوى ... وحيدا بهَا والوحش فى صُحْبَة غطا)
(بأحير منى بَين قوم أبرهم ... تضيع حُقُوق الْفضل من عده عمطا)
(عِصَابَة سوء بَين جهل مشيد المبانى ولؤم حط قدر العلى حطا ... )
(وَقد قرؤا أَن لَا تؤدوى مَكَان أَن ... تُؤَدُّوا وَقَالُوا ان لَا حذفت خطا)
(فَلَو أنصفوا غبا ودع عَنْك عدلهم ... لما ضقت ذرعا اذ أَتَى جَوْرهمْ فرطا)
(فان خذلوا فَالله بالنصر مدرك ... وَقد تهب الايام فى قبضهَا بسطا)
(وَلست بِمن يبكى على حلم يرى ... ويمضى وَقد أبقى لَهُ الْوزر والوهطا)
(يموه وَجه الذل بالعز خدعة ... وَمن قبل مَا أعطَاهُ يَأْخُذ مَا أعْطى)
(فَمن عرف الدُّنْيَا اطْمَأَن لنأيها ... وَذُو الْعقل لم يُنكر دنوا وَلَا شحطا)
(وعفوا فدتك النَّفس يَا خير سيد ... وَيَا عَالما والى النَّبِيين والسبطا)
(فَمَا نفثه المصدور مِمَّا تعافه الْكِرَام وَلَو ألوت على وَجهه أرطا ... )
(وَدم بَاقِيا للنظم والنثر والندى ... فلولاك للآداب غيثا قَضَت قحطا)
(تَدور رحى الافلاك دهر بِمَا ترى ... وَمَا تشْتَهى ان كَانَ رفعا وان حطا)
(وعمرت أَعمار النسور على رضَا ... وَبَلغت حسن الْخَتْم مَا قلم خطا)
وَلما أنفذها الى كتبت اليه
(أيا بَحر فضل من اللطف يصفو ... حلا بِفَم السّمع لى مِنْهُ رشف)
(لقد حكت شعرًا رَقِيق المبانى ... دَقِيق الْمعَانى عَلَيْهِ يشف)
(عروس أحلّت نِكَاح الشّغَار ... بِغَيْر مُهُور الينا تزف)
(وَقد رسب الدّرّ من خجلة ... لَهُ اذ رأى فَوْقه الدّرّ يطفو)
(بطبك يشفى مزاج الوداد ... بِغَيْر علاج وَمَا فِيهِ ضعف)
(وَمَا اعتل ريح الصِّبَا مذ غَدا ... رسولى لكنه فِيهِ لطف)
(لبحرك ورد حلا للنهى ... عَلَيْهِ الْقُلُوب طيور ترف)
(فيا خدن روحى وَمن شكره ... يقصر عَنهُ نعوت وَوصف)
(لانت حياتى وَلكنهَا ... تبدل مِنْهَا على الْيَأْس حرف)(3/370)
(وَقد جدت لى بنضار القريض ... وللفكر نقد وللدهر صرف)
(ترنم فِيهِ هزار الْمعَانى ... وأقفاصه فى سطور تصف)
(وَشعر بِشعر رَبًّا لم يجز ... وَلَكِن مولاى للفضل يعْفُو)
(فقابل رياحينه بِالْقبُولِ ... كَمَا سنّ مَا طَابَ للشكر عرف)
(فَلَا زلت روضا بِهِ أنيعت ... ثمار الامانى ولى مِنْهُ قطف)
فَأجَاب
(أعذب نمير من الود يصفو ... عَلَيْهِ مُنِير من الدّرّ يطفو
(أشعر لَهُ نشوة الْخمر مِنْهُ ... لقلبى ولبى بأذنى رشف)
(أم الرَّوْض وشته سحب والا ... على وجنه الْورْد للطل لطف)
(أصب صبا أم مشت جنَّة الْخلد أم أعين الْعين حور ووطف)
(حسان سبت سحرها روتها ... لَهَا كل قلب أَسِير والف)
(أنظم بدا أم عُقُود اللآل ... وصفو الليالى وهيهات تصفو)
(أفى قالب الشّعْر قد أفرغ الْحسن أم صَار وَجها لَهُ الشّعْر طرف ... )
(أم السَّبْعَة الشهب أمست قريضا ... والا أتتنا من الشَّمْس صحف)
(والا أَتَانَا من الْعَرْش شعر ... والا اصطفانا من الوحى صنف)
(تحدى الْعُقُول باعجاز شعر ... زها لم يُعَارضهُ شرع وَعرف)
(أأنفاس عِيسَى وآيات مُوسَى ... أم الطّور والنور معنى وحرف)
(متين الْمعَانى رصيف المبانى ... عَلَيْهِ من الْمجد ثوب يشف)
(بِهِ الرّوح حى فأهدى حياتى ... وَمِنْه حبائى علاهُ محف)
(وَلَا بدع أَن تولنى حبوة ... يدمنه حازت فؤادا يرف)
(مليك على الْفَخر مَا من كَمَال ... لَدَى النَّاس الا لعلياه وصف)
(بليغ بأشعاره تنطق الْبكم لَكِن لَدَيْهِ لَهَا الْعَرَب غلف ... )
(فصيح تداوى بألفاظه الصم وَالْمَيِّت يحييه من فِيهِ هتف ... )
(فَلَو شَاءَ بالشعر انبات روض ... على اليم أضحى ولى مِنْهُ قطف)
(وَلم تلق كُفؤًا بَنَات براها ... لَهَا الشَّمْس أيد بهَا الْبَدْر وقف)
(فكم من فحول أنابت لَدَيْهَا ... وَكم من مليك لَدَيْهَا مسف)
(وَأهل الْمعَانى كَأَهل الغوانى ... اذا مس قحط لعنين زفوا)
(أمولاى من للموالى عماد ... وللفخر وَالْمجد نجد وكهف)(3/371)
(رَأينَا بك الشّعْر فَوق الثريا ... فَلم يدننا مِنْهُ وزن وزحف)
(وأرصدت مِنْهُ عَلَيْهَا شهابا ... فَلم يستقم للشياطين خطف)
(وَلَو أدْركْت عين فكرى ثراه ... فهيهات مِنْهَا وللدهر عنف)
(وَلَو ساجلتنا حروب لَدَيْهِ ... وَلَكِن علينا اذا رق ضعف)
(ولولاك مَا فهت بالشعر كلا ... وَلَا كَانَ قلبى الى النّظم يهفو)
(ولكننى قد شممت ابتصارا ... بعلياك انى لعلياك حلف)
(يناجيك قلبى فتجلود جاه ... وللخطب بالبيض ان يدج كشف)
(ولاحت بفكرى معانيك بيضًا ... كَمَا لَاحَ للبرق فى اللَّيْل سجف)
(أمولاى مالان للدهر عطف ... أما آن مِنْهُ على الْمجد عطف)
(وَقبل تمنى ذووا الْفضل مِنْهُ ... جنونا فَقَالُوا عَسى الدَّهْر يصفو)
(أَبى الْعدْل وزنا وَأولى صروفا ... ولى مِنْهُ صدع وَمنع وَصرف)
(وذنبى لَدَيْهِ لِسَان قؤل ... وَأما ضميرى فوَاللَّه عف)
(وأشنا من الدَّهْر أهلوه غدرا ... ندير هَوَاهُ وفى الْخَبَر حتف)
(فكم من مشير على الْحبّ يعْصى ... وَكم من قَبِيح على الْحسن يجفو)
(فَمَعْنَى صديق عَدو مداج ... وَمعنى رَفِيق حنين وخف)
(وَمعنى كَبِير دنئ وَكبر ... ففى المَاء است وفى الاوج أنف)
(وَمعنى عَظِيم طويس بغاء ... لَهُ اذ يرى الا يرغشى ونزف)
(وَمعنى عليم جواد وطى ... وتيس لَدَيْهِ كتاب وَعرف)
(سقى الله عصرا تسنمت فِيهِ ... نُجُوم الامانى بِوَطْء يخف)
(وليلا تمتعت فِيهِ بصحب ... كصبح لَهَا اللطف وَالْمجد ظرف)
(وحور وَعين ودهر معِين ... بِنَجْم وَبدر وشمس تزف)
(زمَان كَمَا شِئْت طلق الْمحيا ... وريعان عمر على الصفو وقف)
(فعوضت عَن أنسه وَحْشَة ... فَمَا تنتهى بجوى وَلَا يكف)
(فرعيا وسقيا لَهُ من زمَان ... تبكيه عينى دمالا يجِف)
(فيا حسرتى هَل لماضيه عود ... وَيَا لهف قلبى وَلم يجد لهف)
(مضى فابق لى عَنهُ دهرا وفيا ... وَمولى صفيا يفْدِيه ألف)
(اماما على النثر وَالنّظم برا ... وبحرا لنا من أياديه غرف)(3/372)
(وَدم تكس شعرى بمدحك حليا ... وان أجن ذَنبا فَلَا زلت تَعْفُو)
(وَلَا زلت تَغْدُو بديع الْمعَانى ... بَيَانا وَيَغْدُو لَهَا مِنْك لطف)
وَذكره البديعى فى ذكرى حبيب وَقَالَ فى وَصفه كَاتب كَأَنَّمَا اقتبس نَفسه من مقل الغوانى وشاعر كَلِمَاته أوقع فى الاسماع من ايقاع المثالث والمثانى بِأَلْفَاظ كأيام الشَّبَاب وَمَعَان كمذاكرة الاحباب وَلم يزل الى أَن أثخته سِهَام المنيه قَائِلا تَحت ظلال الدوحة الاكشمية وَقد ابتدع فى هَذَا الْبَاب من النَّوَادِر مَا اسْتوْجبَ ان يكون لَهُ قَول الشَّاعِر
(وَكنت فَتى من جند ابليس فارتمت ... بى الْحَال حَتَّى صَار ابليس من جندى)
ثمَّ أنْشد لَهُ من شعره الزاهى قَوْله من قصيدة
(اليك بعثت الرّوح رقاء تصدح ... لتعرب متن الشوق عَنى وتشرح)
(رمانى النَّوَى والبعد عَنْكُم بأسهم ... لَهَا كل أعضائى قُلُوب تشرح)
(بعينى ظما للبارد العذب قربكم ... وانسانها فى مُطلق الدمع يسبح)
(فان تَكُ عَن عينى القريحة نَائِيا ... فَأَنت بروض الْفِكر وَالْقلب تمرح)
(سقى الله وَدَار بِعْهُ سفح مهجتى ... وعهدا على حقيه أَمْسَى وَأصْبح)
(وَحيا ادكاراً بِالصديقِ وان يكن ... بِسيف تنائيه دم الْقلب يسفح)
(لَئِن صرف الاحباب وَجه ودادهم ... فَوجه ودادى عَنْهُم لَيْسَ يبرح)
(وان جنحوا للحرب عزا وجفوة ... فلست لغير الذل وَالسّلم أجنح)
(وان سمحوا لى باللقا فبتر بهم ... لغير جفونى حُرْمَة لست أَمسَح)
(وان غضبوا صالحتهم وخضعت فى ... رضاهم فان الْكبر بالحب يقْدَح)
(يذموننى والذنب هم ومحبتى ... على أننى لَا أَبْرَح الدَّهْر أمدح)
(ففى الْقرب والابعاد نشر تَحِيَّة ... تحفهم من روض قلبى وتمنح)
وَمن // جيد شعره // قَوْله
(نظرت إِلَيْهَا ثمَّ للشمس فى الضُّحَى ... ليظْهر وَجه الْفرق فى الْوَجْه وَالْفرق)
(فلاحت كَمَا يَبْدُو سواهَا لمن رأى ... سناها وهمت بِالرُّجُوعِ الى الشرق)
(تأثر مِنْهَا وَجههَا مثل مَا بهَا ... تأثر وَجه السافرين على الطّرق)
وَقَوله فى الْغَزل
(أجل الله اعطاف الحبيب ... وأينع قامة الْغُصْن الرطيب)(3/373)
(وَأنْبت وردهَا غضا طريا ... وسيجه بريحان الْقُلُوب)
(وَلَا زَالَت شمائله نشاوى ... مرنحة كغصن فى كثيب)
(وعطفها نسيم الشوق حَتَّى ... تميل الى معانقة الكئيب)
(وروى أرْضهَا سَحا مطيرا ... بغيث من سما جفن نحيب)
وَقَوله
(أَرَاك طروبا عِنْد وَقع النوائب ... ضحوكاً كوجه السَّيْف فى كف قاطب)
(لعوبا بعقل الصب توعده المنى ... بخوض المنايا فى مبارى السباسب)
(فريدا وَشَمل الْمجد مِنْك اجتماعه ... جليدا على فقد المنى والحبائب)
(مرود الْجَيْش الْخطب حَربًا لسلمه ... كَأَنَّك ضد الدَّهْر حلف النوائب)
وَمِمَّا ادَّعَاهُ لنَفسِهِ
(شوقى اليك وَقد تناءت دَارنَا ... شوق الْغَرِيب الى ملاعب تربه)
(أَو شوق ظمآن ألم بمنهل ... منعته أَطْرَاف القنا عَن شربه)
وَله فى ضمن مُكَاتبَة
(نعم أتتك فَلَا خضاب الْموعد ... متنصل بندى اعتذار المجتدى)
(جاءتك تدرع السُّعُود كَأَنَّهَا ... غُصْن من الْيَاقُوت تَحت زبرجد)
وَله على لِسَان جَامع مهجور
(واحسرتا والذل حِين يمر بى ... وَيُقَال هَذَا جَامع مهجور)
(لَو كنت فى أيدى النَّصَارَى بيعَة ... لبكى على القس والسابور)
وَله فى الاقتباس
(أَقُول لذات حسن قد تَوَارَتْ ... مَخَافَة كاشح فى الحى كامن)
(أرينى وَجهك الوضاح قَالَت ... ألم تؤمن فَقلت بلَى وَلَكِن)
وَله معمى فى اسْم مُوسَى
(أَقُول لمالحى عذولى ... ولوم من هام لَيْسَ يجدى)
(بالثغر والصدغ والثنايا ... وَمَا بلحظ الحبيب وجدى)
وَله الابيات الْمَشْهُورَة الَّتِى قَالَهَا فى مرجة دمشق فى قَدمته اليها مدرسا بالشامية البرانية فى سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف والابيات هى هَذِه
(بصبا المرجة المبلل ذيله ... علل الْقلب عل يبرد ويله)
(وَاد كرّ يَوْمنَا بيومى حبيب ... سلفا والسلاف تركض خيله)(3/374)
(ونديم وَقت حَوَاشِيه لطفا ... وبحكم الْهوى تحجب نيله)
(جِئْت من تَحت ذيله مستجيرا ... والتجنى على يسحب ذيله)
وَله غير ذَلِك مِمَّا يروق ويشوق وَكَانَت وَفَاته بالجيزة وَهُوَ قَاض بهَا فى سنة احدى وَخمسين ألف مُحَمَّد بن أَحْمد بن سَلامَة الاحمدى الشافعى الْبَصِير الشهير بسيبويه كَانَ عَالما تحريرا محققا عَارِفًا بِجَمِيعِ الْعُلُوم النقلية والعقلية متقنا لَهَا وَلكنه اشْتهر بِالْعَرَبِيَّةِ لغلبتها عَلَيْهِ وَكَثْرَة اقرائه لَهَا وَكَانَ مرجعا لحل المشكلات العلمية واذا قرر الْمسَائِل تظهر للطلبة بِأَدْنَى اشارة وتنطبع فى قُلُوبهم وَذَلِكَ لانه جمع الله تَعَالَى لَهُ بَين الْعلم وَالْولَايَة وكل من قَرَأَ عَلَيْهِ نَفعه الله تَعَالَى وكل من خدمه خدمَة مَا أسعده الله تَعَالَى دينا وَدُنْيا وَمَا بشر أحدا بشئ الا ناله الْبَتَّةَ وَكَانَ عزباً لَا يخرج من جَامع الازهر الا اذا تعطلت فسقيه الْجَامِع فَيخرج لاقرب مَكَان لقَضَاء الْحَاجة وَكَانَ ملبسه فى الصَّيف والشتاء جُبَّة حَمْرَاء وَكَانَ من الزّهْد فى الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذ من أحد شَيْئا الا بِقدر الضَّرُورَة وَيَأْكُل من مُرَتّب الْجَامِع ظهرا وعصرا وَكَانَ يَعْتَرِيه فى بعض أوقاته سكُوت فَلَا يقدر أحد أَن يبتدئه بِكَلَام حَتَّى يكون هُوَ البادى وكل من بدأه بِكَلَام مُتَعَمدا حصلت لَهُ متعبة دنيوية بالتجربة وَعرف ذَلِك عِنْد غَالب النَّاس وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْجمال لَا يرى متكدرا بل منشرح الصَّدْر متبلجا مداعبا وَلَا تذكر الدُّنْيَا عِنْده بِحَال لَا يعرفهَا وَلَا يعرف أَحْوَال أَهلهَا وَالْغَالِب عَلَيْهِ سَلامَة الصَّدْر فَلَا يظنّ بِالنَّاسِ الا خيرا واذا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد وَلَو درسا وَاحِدًا يسْأَله عَن اسْمه وَاسم أَبِيه وَلَا يزَال يذكرهُ وَيسْأل عَنهُ واذا غَابَ عَنهُ سِنِين وَجَاء اليه يعرفهُ بِمُجَرَّد تكَلمه مَعَه وَلَا يغيب عَنهُ ذهنه وَكَانَ اذا فرغ من الدَّرْس يشْتَغل بِتِلَاوَة الْقُرْآن وَلم يتَخَلَّف فى سَائِر الاوقات عَن صَلَاة الْجَمَاعَة فى الصَّفّ الاول بالازهر وَيقوم فِيهِ من النّصْف الآخر وَلَا يزَال يتهجد حَتَّى يصلى الصُّبْح مَعَ الْجَمَاعَة وَبعدهَا يقْرَأ النَّاس عَلَيْهِ فى القراآت الى طُلُوع الشَّمْس فَيذْهب حِينَئِذٍ الى فسقية الْجَامِع وَيتَوَضَّأ وَيجْلس للتدريس الى قبيل الظّهْر هَذَا دأبه طول عمره الى أَن نَقله الله الى دَار كرامته قَرَأَ فى بدايته على شُيُوخ كثيرين مِنْهُم الْعَلامَة الشهَاب أَحْمد بن قَاسم العبادى وَأَبُو بكر الشنوانى وَعنهُ أَخذ أكَابِر الشُّيُوخ كَالشَّمْسِ البابلى والنور الشبراملسى وَيس بن زين الحمصى وشاهين الارمناوى وَيحيى الشهاوى وَمُحَمّد(3/375)
المنزلاوى وَمَنْصُور الطوخى مُحَمَّد بن عَتيق الحمصى وَغَيرهم وَلم يمت أحد أَخذ عَنهُ الا بِخَير وكراماته كَثِيرَة شهيرة وَكَانَت وَفَاته فى نَيف وَخمسين وَألف وَلم يخلف درهما وَلَا دِينَارا الا ثِيَابه الَّتِى عَلَيْهِ وَدفن بتربة المجاورين وَلما مَاتَ سمع النَّاس قَائِلا يَقُول وهم فى جنَازَته مَاتَ الْعلم الْخَالِص لوجه الله تَعَالَى وَذهب الزّهْد فِيمَا بَين النَّاس بعد مُحَمَّد انا لله وانا اليه رَاجِعُون فَضَجَّ النَّاس وصاحوا وَبكوا ذكره البابلى فَقَالَ مَا رَأينَا فى شُيُوخنَا أثبت قدما فى الزّهْد مِنْهُ وَجَمِيع مَا نَحن فِيهِ من بركته وَقَالَ بعض الشُّيُوخ انه أمة قد خلت رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ
السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عز الدّين بن الْحُسَيْن بن عز الدّين بن الامام الْحسن بن الامام عز الدّين قَالَ ابْن أَبى الرِّجَال هُوَ الْمَعْرُوف فى ألسن الْعَامَّة بِابْن العنزلان أمه مَاتَت وَهُوَ يرضع فعطف الله تَعَالَى عَلَيْهِ عَنْزًا كَانَت عِنْد حَاجته تنفرد عَن الْغنم من المرعى وتجرى حَتَّى تدخل عَلَيْهِ ثمَّ تنفجح لَهُ حَتَّى يُمكنهُ الارتضاع كَانَ من عباد الله الصَّالِحين وَأهل التَّقْوَى وَالْعقد على طَريقَة أهل الطَّرِيقَة كثير الصمت قَلِيل الضحك لم تسمع لَهُ قهقهة وَكَانَ فى أَيَّام شبيبته يعتزل النِّسَاء ويمضى فى الشعاب وَالْجِبَال متخليا متعبدا ثمَّ يعود الى مَسْكَنه بربيع وَكَانَ لَهُ أَصْحَاب صَالِحُونَ يتبركون بخدمته ولقائه ويصفون عَنهُ تمَكنا فى علم الاسماء وَأَنه كَانَ يأتى من الْمَسْجِد فيغلق مَكَانَهُ على سَبِيل الممازحة سويعة ثمَّ يَفْتَحهُ وَهُوَ متبسم وَلَا يعرف الفاتح وَلَا المغلق وَلَا يرى ويروى عَنهُ أَنه تمكن من الصَّنْعَة وَأَنه اسْتَأْجر حَاجا لابيه وَأَعْطَاهُ أُجْرَة من الْفضة الْخَالِصَة المعدنية وَكَانَت لَهُ فكرة عَجِيبَة فى كل شئ وَعمل ناظورا يدْرك بِهِ الْبعيد فأبصر بِهِ من صعدة الى ربيع أَو من ربيع الى صعدة وَالْحكم وَاحِد مولده بِبَيْت الوادى ربيع من أَعمال صعدة فى ثانى ذى الْقعدَة سنة ألف من الْهِجْرَة وَشرح قصيدة الإِمَام الْهَادِي عز الدّين بن الْحُسَيْن الرائية وفيهَا معرفَة الْمَوَاقِيت تكلم على مواد نافعة من علم الْفلك وَمَا يحققونه من الْكُسُوف غير متعرض للاحكام صانه الله عَنْهَا وأعمال الرّبع الْمُجيب وَكَانَت وَفَاته بِهِجْرَة قلله مُسْتَقر سلفه فى رَابِع عشرى ذى الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَدفن فى قبَّة جده الامام عز الدّين بن الْحسن الى جنب السَّيِّد الْحسن بن يحيى بن الامام الْحسن الى جِهَة الْيَمين رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن قَاسم الشهير بالقاسمى الحلبى الْفَاضِل الاديب الْمَشْهُور نادرة(3/376)
الزَّمَان وفريد الْعَصْر كَانَ غزير الْفضل لطيف الطَّبْع فاق على أهل عصره بصنعة النّظم والنثر ذكره الخفاجى فى الريحانة والخبايا وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر مَا جرى بَينه وَبَينه من المراسلة وَقَالَ البديعى فى وَصفه مَعْدن الْملح والطرف وينبوع النكت والتحف وجاحظ زَمَانه وحافظ أَوَانه وَلَا يخفى طول بَاعه فى فنون الادب وأنواعه فأسرار البلاغة لَا تُؤْخَذ الا مِنْهُ وَدَلَائِل الاعجاز لَا تروى الا عَنهُ مَعَ دماثة أَخْلَاق تعيد ذَاهِب الصِّبَا ورقة دعابة كَأَنَّمَا انتسخها من صحيفَة الصِّبَا ومنطق يسوغ فى الاسماع سلافه يلفظ كَأَنَّهُ اللُّؤْلُؤ والآذان أصدافه وَقَالَ الفيومى فى تَرْجَمته كَانَت وِلَادَته بحلب ثمَّ قدم الرّوم وَصَارَ بهَا من كبار المدرسين ثمَّ كف بَصَره فتقاعد برزق عين لَهُ من قبل السُّلْطَان فانزوى فى بَيته وهرعت اليه الافاضل من كل جَانب فاشتهر فَضله وانتشر علمه فاستمر يقرئ أَنْوَاع الْعُلُوم من كلا مَنْطُوق وَمَفْهُوم ومباد ومقاصد لكل طَالب وقاصد فَانْتَفع بِهِ كثير من الطّلبَة قَالَ وَلما قدمت الرّوم وفدت عَلَيْهِ فَرَأَيْت الْفَضَائِل انقادت اليه فحضرته مجَالِس فى المطول وسيرة ابْن هِشَام فَرَأَيْت مِنْهُ رُتْبَة لَا تنَال بالاهتمام وَمَات وَأَنا بالروم وَدفن بدار الْخلَافَة وَكَانَت لَهُ رُتْبَة فى الادب هى من أَعلَى الرتب وشعره غَايَة فى بَابه لَهُ فِيهِ التشبيهات العجيبة والمضامين الغريبة مَا يكْتب بِمَاء الْوَجْه على الحدق لَا بالحبر على الْوَرق كَقَوْلِه من قصيدة
(قد دَعَاهُ الْهوى وداعى التصابى ... لادكار الاوطان والاحباب)
(فَأَتَت دون صبره من أَلِيم الوجد نَار شَدِيدَة الالتهاب ... )
(فذوى غصنه الرطيب وجفت ... من رياض الصِّبَا مياه الشَّبَاب)
(شعر الْمَرْء نُسْخَة الْعُمر والايام فِيهَا من أصدق الْكتاب ... )
(فاذا تمّ مِنْهُ مَا كتبته ... تربته من شيبَة بِتُرَاب)
هَذَا معنى بديع ذكر انه لم يسْبق اليه قَالَ الشهَاب وَقد اتّفق لى مثله فى قولى
(لعمرى لقد خطّ المشيب بمفرقى ... رسائل تَدْعُو كل حى الى البلى ... )
(أرى نُسْخَة للعمر سودها الصِّبَا ... وَمَا بيضت بالشيب الا لتنقلا)
رَجَعَ
(لست آسى على الصِّبَا انما أذكر حَقًا لاقدم الاصحاب ... )
(قد سقتنى عهوده الْعَيْش صفوا ... وكستنيه مونق الجلباب)
وَمِنْهَا فى المديح(3/377)
(بَحر فضل لَو قيس بالبحر كَانَ الْبَحْر فى جنبه كَلمعِ سراب ... )
(واذا قيل خلقه الرَّوْض أضحى الرَّوْض طلقا بذلك الانتساب ... )
(مزج الْفضل بالغمام كَمَا مازج مَاء الْغَمَام صفو الشّرْب ... )
(مَا عَسى أَن أعد من مكرمات ... ضَبطهَا قد أَبى على الْحساب)
(واذا مَا الافكار أمعن فِيهَا ... غرقت من بحورها فى عباب)
(أَنْت من نَاظر الزَّمَان سَواد الْعين وَالنَّاس مِنْهُ بالاهداب ... )
وَقَوله
(قَالَ لى العاذلون لم ملت عَمَّن ... بمحياه يخجل الانوارا)
(قلت كَانَ الْفُؤَاد عشا لَهُ اذ ... كَانَ فرخا وَحين ريش طارا)
قَالَ الشهَاب أنشدنى لَهُ فى مليح مصفر العذار كَأَنَّمَا قيدت الابصار مِنْهُ بسلاسل النضار كَأَنَّمَا ملك من الْحسن كَمَا لَهُ فَهد من الذَّهَب لشكاة الغرام سلسلة العداله
(لما التحى تمت محَاسِن وَجهه وصفت طباعه ... )
(وَغدا بلطف عذاره ... قمرا أحَاط بِهِ شعاعه)
قَالَ الفيومى قلت فى اثباته الشعاع للقمر نقد فانه مُضَاف للشمس كَمَا ان الْمُضَاف للقمر النُّور وَأَيْضًا فان الشعاع والنور انما يحسن استعمالهما فى صفة الشيب لَا فى صفة العذار وفى قَوْله تَعَالَى واشتعل الرَّأْس شيبا تَأْكِيد لهَذَا الْمَعْنى وَله
(كَانَ صدغيه فى احمرارهما ... قد صبغا من مدام وجنته)
وَله
(مَا احمر وَجه حبيبى ان وجنته ... سقته من صبغها خمرًا وَلَا خجلا)
(وَإِنَّمَا لفحت خديه من كَبِدِي ... نَار فدبت إِلَى صدغيه فاشتعلا)
وَله
(صب على الشنب المعسول ذاب أسى ... وَبَات من حر نَار الشوق فى شغل)
(كالشمع يبكى وَلَا يدرى أعبرته ... من صُحْبَة النَّار أم من فرقة الْعَسَل)
هَذَا الْبَيْت الْأَخير لأبي اسحاق الغزى وَقَبله
(اني لأشكو خطوباً لَا أعينها ... ليبرأ النَّاس من لومي وَمن عذلي)
كالشمع الى آخر الْبَيْت قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فى الخريدة عِنْد ذكره رَوَاهُ بَعضهم من حرقة النَّار أَو من فرقة الْعَسَل مُحَافظَة على التَّجْنِيس اللفظى وانا أرويه من صُحْبَة النَّار للتطبيق المعنوى وللقاسمى
(قد كنت أبكى على من مَاتَ من سلفى ... وَأهل ودى جَمِيعًا غير أشتات)
(وَالْيَوْم اذ فرقت بينى وَبينهمْ ... نُوق بَكَيْت على أهل المودات)(3/378)
(فَمَا حَيَاة امْرِئ أضحت مدامعه ... مقسومة بَين أَحيَاء وأموات)
وَله من الرباعيات
(باربع سقاك كل مزن غادى ... قد كنت مَحل أنسنا الْمُعْتَاد
(هَل يلحظنى الزَّمَان بالاسعاد ... يَوْمًا فتعود فِيك لى أعيادى)
وَله من قصيدة فى تهنئة بختان
(أعلامة الْوَقْت مولى الموالى ... وقرة عين العلى والكمال)
(تبوأ من الْمجد أَعلَى مقَام ... وضع نعل مسعاك فَوق الْهَلَاك)
(فقد أَيقَن الْمجد أَن المجئ بمثلك للدهر عين الْمحَال ... )
(فبشرى لكم بالختان الذى ... بِهِ لبس الدَّهْر ثوب الْجمال)
(هُوَ الشمع ان قطّ لَا غر وَأَن ... أنارت بِهِ حالكات الليالى)
هَذَا من قَول ابْن فضل الله فى ختان الْملك النَّاصِر
(لم يروع لَهُ الْخِتَان جنَانًا ... قد أصَاب الْحَدِيد مِنْهُ حديدا)
(مثل مَا تنقص المصابيح بالقط فتزداد بالضياء وقودا ... )
رَجَعَ
(وظفر بتقليمه لَا تزَال ... أكف المكارم مِنْهُ حوالى)
(وتشمير ذيل لَدَى الاستباق ... لنيل الامانى وَكسب المعالى)
(وَمَا لليراع اذا لم يقط ... فضل يعد على كل حَال)
(وَمن بعد بَرى الغصون ازدهت ... عَلَيْهَا الاسنة سمر العوالى)
(فَلَا بَرحت من مزاياكم ... يجيد الزَّمَان عُقُود اللآلى)
قَوْله وظفر الى آخِره أَصله قَول الغزى
(نما لَك ودى حِين قلمت رَأسه ... قِيَاسا على الاقلام والشمع وَالظفر)
وَمثل مَا لليراع قَول الصنوبرى
(أرى طهرا سيثمر بعد عرسا ... كَمَا قد تثمر الطَّرب المدامه)
(وَمَا قلم بمغن عَنْك الا ... اذا مَا ألقيت عَنهُ القلامه)
وللقاضى الْفَاضِل الْحَمد لله الذى أطلعه ثنيات الْكَمَال وبلغه غَايَة الْجمال ويسره لدرجات الْجلَال وَنَقله تنقل الْهلَال وشذب مِنْهُ تشذيب الاغصان وهذبه تَهْذِيب الشجعان وأجرى فِيهِ سنة سنّ لَهَا الْحَدِيد فنقصه للزِّيَادَة واستخلصه للسياده ودربه للاصطبار وأدبه للانتصار وَألقى عَنهُ فضلَة فى اطراحها الفضيله(3/379)
وَقطع عَنهُ علقَة حق مثلهَا أَن لَا تكون بِمثلِهِ موصوله فَلم يزل التقليم منوها بالاغصان ومنبها للثمر الْوَسْنَان وَمُبشرا بالنما وميسرا لنشور الانتشا وَلابْن مطروح
(لقد سرت البشائر والتهانى ... الى الثقلَيْن من انس وجان)
(ويصغر كل مبتهج اذا مَا ... نسبناه الى هَذَا الْخِتَان)
(تود الزهرة الزهراء فِيهَا ... لَو اتَّخذت لَهَا احدى القيان)
(وان الْبَدْر طَار فى يَديهَا ... وان مراسليها الفرقدان)
(وتستملى من الافلاك لحنا ... فَمَا قدر المثالث والمثانى)
(وتسقى بِالثُّرَيَّا فِيهِ كاسا ... وَلَا أرْضى لَهَا بنت الدنان)
(وَلَكِن من رحيق سلسبيل ... بأيدى عبقريات حسان)
(ويصغر خَادِمًا بهْرَام فِيهِ ... على مَا فِيهِ من بَأْس الْجنان)
(فلولا أَنه فرض علينا ... لما مدت لخاتنه يدان)
(وقط الشمع يكسبه ضِيَاء ... وقط الظفر أزين للبنان)
ولابى الْقَاسِم الزمخشرى من قصيدة يهنى بهَا بعض الرؤساء بختان بنيه
(فى عصرنا لبنيك فضل باهر ... مَا نَالَ أيسره بَنو أَيَّامه)
(طهرتم فرعا كَمَا طهرتهم ... أصلا فحازوا طهرهم بِتَمَامِهِ)
(وأخو الْكِتَابَة لَا يجود خطه ... حَتَّى ينَال القط من أقلامه)
(وَالْكَرم لَيْسَ يبين حسن نموه ... الاعلى التَّنْقِيح من كرامه)
(والورد لَيْسَ يفوح طيب رِيحه ... الا اذا انفصمت عرى اكمامه)
(وكتابك الْمَخْتُوم لَيْسَ بواضح ... مَعْنَاهُ الا بعد فض ختامه)
(وأخو اللطام عَن الذِّرَاع مشمر ... فالكم يشْغلهُ أَوَان لطامه)
(وَابْن الوغى مَا لم يسل حسامه ... عَن غمده لم ينْتَفع بحسامه)
وللقاسمى
(ويلى من المعرض لَا قسوة ... لَكِن لاقوال العدا والوشاة)
(مَا لَاحَ للعين سنا وَجهه ... الا وفيهَا من رَقِيب قذاة)
وفى مَعْنَاهُ قَول بَعضهم
(لم ترد مَاء وَجهه الْعين الا ... شَرقَتْ قبل ريها برقيب)
وَله من رِسَالَة
(مَا كنت أَحسب أَن يكون كَذَا تفرقنا سَرِيعا ... )
(قد كنت أنْتَظر الوضال فصرت أنْتَظر الرجوعا(3/380)
قُرَّة عينى مَا أسْرع مَا طلع نجم التَّفَرُّق فى الْبَين وهجمت على ائتلافنا قواطع الْبَين هلا امْتَدَّ زمَان الاقتراب حَتَّى تتأكد الاسباب وتأخرت أَيَّام الْفِرَاق حَتَّى يتم مِيقَات الِاتِّفَاق واهاً لايام قرب مَا وفت بِمَا فى الضَّمِير وَلَا ساعدت على بَقَائِهَا الْمَقَادِير والى الله أَشْكُو فى الصَّدْر حَاجَة تمر بهَا الاوقات وهى كَمَا هيا وَأقسم بِاللَّه الْعَظِيم انهم عِنْدَمَا قَالُوا الرحيل فَمَا شَككت بأنهار وحى عَن الدُّنْيَا تُرِيدُ رحيلا فيا لَيْت شعرى هَل تحس بفقدى أتذكرنى من بعدى ان فعلت فَمَا أحقك بالاحسان وان نسيت فَمن شيم الانسان النسْيَان وَأما أَنا فانى
(أروح وَقد ختمت على فؤادى ... بحبك أَن يحل بِهِ سواكا)
(وَلَو أَنى اسْتَطَعْت خفضت طرفى ... فَلم أبْصر بِهِ حَتَّى أراكا)
وَله
(ورد الْكتاب مبشرا بقدوم من ... مَلأ النُّفُوس مَسَرَّة بقدومه)
(فطربت بالاسماع من منثوره ... وثملت بالجريال من منظومه)
(وسجدت شكرا عِنْد مورده على ... اسعاد هَذَا العَبْد من مخدومه)
وَله من فصل من التَّحِيَّة عندى مَا يستعير الرَّوْض من رياه ويستنير الصُّبْح من محياه وَمن الود مَالا ينقضى يَوْمه وَلَا غده وَمن الشوق مَا أحر نَار الْجَحِيم أبرده وأناله ببلوغ الا وطار وعلو الْمنَار على أبلغ مَا يكون حقق الله تَعَالَى فِيهِ كَمَال مَا أرتجيه وسرنى سَرِيعا بتلاقيه وَمن شعره قَوْله
(ودعتكم وَرجعت عَنْكُم والنوى ... سلبت جَمِيع تصبرى وقرارى)
(والجفن يقذف بالدموع وَلم أكن ... لولاه أنجو من لهيب النَّار)
وَقَوله
(وَمن يغتمد بالبشر مِنْك فانه ... جهول بادراك الغوامض مغرور)
(فانك مثل السَّيْف يخْشَى مضاؤه ... اذا لمعت فى صفحتيه الاسارير)
وَقَوله
(نبت عَنْهُم حد الضباب كَأَنَّهَا ... لِكَثْرَة مَا هَانَتْ عَلَيْهِم صوالج)
(وحلوا بهَا أعداءهم فَكَأَنَّهَا ... قلائد فى أَعْنَاقهم ودمالج)
وَمن // جيد شعره // قَوْله من قصيدة
(من شفيعى الى الثنايا الْعَذَاب ... من عذيرى من الغصون الرطاب)
(من مجيرى مِمَّا أقاسى من الايام من فرط لوعة واكتئاب ... )
(من نصيرى على الليالى الَّتِى مَا ... زَالَ مِنْهَا مَا بَين ظفر وناب)
(أترجى مِنْهَا الْخَلَاص فَألْقى ... من أذاها مَا لم يكن فى حسابى)(3/381)
(صَار مِنْهَا قلبى كقرطاس رام ... مزقته مواقع النشاب)
(أهوَ الْبَين أشتكيه وَقد عاندنى فى الديار والاحباب ... )
(وكسانى المشيب من قبل أَن أعرف مِقْدَار حق الشَّبَاب ... )
(أم هُوَ الْخطب خطّ مَا جنت الايام من طول محنتى واغترابى ... )
(ومقامى على الهوان بِأَرْض ... أَنا فِيهَا مقوض الاطناب)
(أصطلى جَمْرَة الهجير فان رمت شرا بألم ألق غير سراب ... )
(لَيْسَ لى من اذا عرضت عَلَيْهِ ... شرح حالى يرق يَوْمًا لما بى)
(بخستنى الايام حقى ظلما ... ورمتنى بالحادث المنتاب)
(وأضاعت بَين الصُّدُور بطرق الْفضل سعيى وجيئتى وذهابى ... )
(لَيْت شعرى مَا كَانَ ذنبى الى الايام حَتَّى قد بالغت فى عقابى ... )
(وجفتنى حَتَّى لقد صرت من كل مرام مقطع الاسباب ... )
) وَقَوله من أُخْرَى أحسن فى غزلها كل الاحسان
(مهلا أبثك بعض مَا أَنا وَاجِد ... دمع مقرّ بالذى أَنا جَاحد)
(قد كَانَ يخفى مَا تكن ضمائرى ... لَوْلَا الشؤن على الشجون شَوَاهِد)
(ولطالما خفيت سطور الوجد من ... حالى فضل بهَا وَغَابَ النَّاقِد)
(لَيْت الذى لم يبْق لى من مسعد ... فِيمَا ألاقى من هَوَاهُ مساعد)
(لَو لم يحل بينى وَبَين تصبرى ... مَا بَان مَا أَشْقَى بِهِ وأكابد)
(حَال كَمَا شاهدت عقل واله ... وجوانح حرا وَوجد زَائِد)
(لله مَا أَشْقَى أَخا حب لَهُ ... مَعَ وجده الْيَقظَان حَظّ رَاقِد)
(يورى زناد الشوق ذكرَاهُ لَهُم ... فتشب من بَين الضلوع مواقد)
وآثاره كَثِيرَة وَلَوْلَا خوف الاطالة لَا السَّآمَة لَا وَردت لَهُ جلّ شعره فان مثل هَذَا الشّعْر لَا يهمل ذكره وَمن وقف عَلَيْهِ عرف كَيفَ يكون الشّعْر وَكَانَت وَفَاته بدار الْخلَافَة فى سنة أَربع أَو خمس وَخمسين وَألف وَقد تقدم ذكر ابْنه عبد الله
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن جميل الْمَعْرُوف بالكلبى المصرى شيخ الْمحيا بِجَامِع الازهر الامام الْمُفِيد الْحجَّة الْوَرع الزَّاهِد الْمَشْهُور أَخذ الْعلم عَن أَبِيه وَغَيره من مَشَايِخ الْقَاهِرَة وأجازوه وبرع وفَاق وَجلسَ فى مجْلِس الْمحيا بعد وَالِده وَهُوَ بعد الشَّيْخ الصَّالح مُحَمَّد البلقينى وَهُوَ بعد وَالِده الْعَالم الربانى والعارف الصمدانى صَالح وَهُوَ بعد(3/382)
وَالِده شيخ الاسلام شهَاب الدّين البلقينى وَهُوَ بعد الشَّيْخ بركَة الْوُجُود نور الدّين الشونى عَن اذن من النبى
وَكَانَ مُحَمَّد صَاحب التَّرْجَمَة حسن الاخلاق كَرِيمًا سخيا كثير الاحسان لَا سِيمَا للْفُقَرَاء لَا يفتر عَن الصَّلَاة على النبى
وَكَانَ ذكيا محصلا لِلْعِبَادَةِ كثير النَّوَافِل وَالطَّاعَة مواظبا على الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَكَانَ نَاظرا على وقف الامامين بالقرافة وَسَار فى ذَلِك أحسن سير مَعَ الاحسان لخدمة المكانين وَكَانَت وَفَاته نَهَار الثُّلَاثَاء سَابِع ذى الْحجَّة سنة سبع وَخمسين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالازهر وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى والكلبى نِسْبَة الى دحْيَة الكلبى الصحابى رضى الله عَنهُ لانه من ذُريَّته ودحية بِكَسْر الدَّال وَيجوز فتحهَا كَمَا نقل عَن الاصمعى وَالْمَشْهُور الأول وَهُوَ دحْيَة بن خَليفَة كَانَ من أجمل النَّاس صُورَة وَلذَا كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يتَمَثَّل فى صورته أَحْيَانًا اذا جَاءَ للنبى
كَمَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَمعنى دحْيَة رَئِيس الْجند كَمَا قَالَه أَئِمَّة اللُّغَة
مُحَمَّد بن أَحْمد الاسدى العريشى الْيُمْنَى المكى شيخ الْعُلُوم والمعارف وَمَالك زمامها من تليد وطارف أربى على الْعُمر الطبيعى وَهُوَ ممتع بحواسه من بَيت علم وَصَلَاح مقيمين على تقوى وفلاح رَاض بالكفاف من الرزق الْحَلَال الارغد ناصب النساخة حبلا لصيد معيشته كَمَا عَلَيْهِ السّلف الطَّاهِر الامجد اشْتغل بالفقه وبرع وأعرب فى النَّحْو قبل ان بترعرع وَأخذ من الْعُلُوم بتصيب وافر ولازم الْعلمَاء الائمة الاكابر كالسيد عمر البصرى وَالشَّيْخ خَالِد الْمَالِكِي وَعبد الْملك العصامى وَعنهُ وَلَده الْعَلامَة أَحْمد والقاضى على العصامى وَعبد الله العباسى وَغَيرهم وَألف مؤلفات عديدة مفيدة مِنْهَا شرح الكافى فى علمى الْعرُوض والقوافى فى نَحْو عشرَة كراريس وَمِنْهَا اخْتِصَار الْمِنْهَاج للنووى وَمِنْهَا شرح على الاجرومية مُخْتَصر وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فى سنة سِتِّينَ وَألف وَدفن بالشبيكة
مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن اسمعيل بن شعْبَان الرئيس الْكَبِير الْمَعْرُوف بِابْن الغصين الغزى كَانَ رَئِيسا جليل الْقدر وَاسع الْكَرم لم يصل الى غَزَّة أحد من الواردين عَلَيْهَا الا وبادر الى زيارته وَحمل اليه مَا يَلِيق بِحَالهِ وتقرب الى قلبه بِكُل طَرِيق وبالخصوص أهل الْعلم والادب وَهُوَ الذى قَالَ فِيهِ حَافظ الْمغرب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المقرى بيتيه الْمَشْهُورين وَكَانَ مرعلى غَزَّة عِنْد رحلته الى الشَّام فبذل فى اكرامه جهده فَقَالَ فِيهِ(3/383)
(يَا سائلى عَن غَزَّة ... وَمن بهَا من الانام ... )
(أَجَبْتهم مرتجلا ... ابْن الغصين وَالسَّلَام)
وَحكى لى صاحبنا الاديب ابراهيم بن سُلَيْمَان الجنينى نزيل دمشق أَن شيخ الاسلام خير الدّين الرملى كَانَ توجه الى غَزَّة فى بعض السنين لامر اقْتضى قَالَ وَكنت مَعَه فَنزل عِنْد الرئيس مُحَمَّد بن الغصين الْمَذْكُور فَرَأى بيتى المقرى مكتوبين على جِدَار الْمَكَان الْمعد للاضياف فَكتب تحتهما ارتجالا
(دَار الغصين محط كل مُسَافر ... وتكية لِابْنِ السَّبِيل العابر)
(وَبهَا المكارم والمفاخرة التقى ... يَا رب فاعمرها ليَوْم الآخر)
وعَلى الْجُمْلَة فان مُحَمَّدًا صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ من أفرادالكرام والرؤساء وَله مَنَاقِب فى الْكَرم لَا تعد ومزايا لَا تُوصَف وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاحد عشرى الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بغزة وَلم يخلف مثله فى الْكَرم والنباهة رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن الامام الْحسن بن دَاوُد بن الْحسن ابْن الامام النَّاصِر ابْن الامام عز الدّين بن الْحسن بن على بن الْمُؤَيد بن جِبْرِيل بن مُحَمَّد بن على بن الامام الداعى يحيى بن المحسن بن يحيى بن يحيى بن النَّاصِر بن الْحسن بن الامير الْعَالم المعتضد بِاللَّه عبد الله بن الامام الْمُنْتَصر لدين الله مُحَمَّد بن الامام الْمُخْتَار لدين الله الْقسم ابْن الامام النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن الامام الهادى الى الْحق يحيى بن الْحُسَيْن ابْن الْقسم السَّيِّد الباسل الشجاع الْحَلِيم عين الزَّمَان وبهجة المحافل صَاحب الآراء الثاقبة والمحامد الواسعة نَشأ على الْعلم وَالصَّلَاح بعد موت أَبِيه وصبر على مشاق الْوَقْت وقاسى فى عنفوان شبابه أمورا صَبر لَهَا حَتَّى أفضت بِهِ الى مَحل من الْخَيْر لَا يدْرك وَقَرَأَ بِصَنْعَاء وصعدة وَكَانَ كثير المذاكرة وحضرته معمورة بالفضلاء وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ يَقُود المقانب ويشارك فى الْمُهِمَّات كَأحد أَوْلَاد الْقسم بن مُحَمَّد وَكَانَ لَا يعد نَفسه الا مِنْهُم وَلَا يعدونه هم الامن الا من أجلائهم وَلم يزل مَعَ السَّيِّد الْحسن بن الامام الْقسم فى جَمِيع الْمشَاهد ثمَّ ولاه العدين وَهُوَ اقليم متسع فحسنت حَاله واستقامت حَال خلائق مَعَه وَعلا صيته فى الْعلم والجاه والرياسة ثمَّ كَانَ أحد أَعْيَان دولة الامام المتَوَكل على الله اسماعيل بن الامام الْقسم وَكَانَ بَينهمَا ود أكيد وَتَوَلَّى فى أَيَّامه مَعَ العدين حيس من تهَامَة وبندر المخا وَحِينَئِذٍ أَلْقَت اليه الدُّنْيَا أفلاذ(3/384)
كَبِدهَا وعاش حميدا وَلم يشْتَغل بتكلفة وَشرح كَافِيَة ابْن الْحَاجِب وَشرح الْهِدَايَة فى الْفِقْه وَكَانَ يحب الادب وَأَهله وَله نظم رائق مِنْهُ قَوْله
(طرب يهيج اليعملان سبانى ... وجوى بأطباق الْفُؤَاد ذوانى)
(وتعللى بخلت بِهِ ريق الصِّبَا ... وتصبرى كرمت بِهِ أجفانى)
(ان الحبيب وَقد تناءت دَاره ... أغرى فؤاد الصب بالاحزان)
(لَو زار فى طيف الْكرَى متفضلا ... بجماله وَحَدِيثه اشفانى)
(أَو لَو تفضل بالوصال تكرما ... أَصبَحت من قتلاه بالاحسان)
(يَا عاذلى عَنى فلست بمر هُوَ ... عذل العدى ضرب من الهذيان)
(لَوْلَا طُلُوع الشَّمْس فى كبد السما ... خلناه أشرف من علا كيوان)
(فَكَأَنَّهُ السفاح مَنْصُور اللوا ... جَاءَت صوارمه على مَرْوَان)
(وكانه الهادى بِنور جَبينه ... وكاننى المهدى فى اذعان)
(وَكَانَ نور جَبينه من يُوسُف ... فَأَنا الرشيد بِهِ الى الايمان)
(يَا أَيهَا الْمَأْمُون عِنْد الهه ... والمتبع الاحسان بالاحسان)
(والحاشر الماحى المؤمل للورى ... تَحت اللوا ذخْرا الى الرَّحْمَن)
(الْمُصْطَفى الهادى النبى أجل من ... وطئ الثرى وحباه الْقُرْآن)
(الْجَار وَالرحم الذى أوصى بِهِ ... رب السما ودعاك بالاعلان)
(فَالله فى أَبَا شبير وشبر ... كى لَا أَخَاف طوارق الْحدثَان)
وَلما كَانَ الْحَج الْكَبِير الذى اجْتمع فِيهِ أَعْيَان من آل القمم وَغَيرهم من جُمْلَتهمْ السَّيِّد أَحْمد بن الْحسن وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْقسم وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقَاسِم وَكَانَ مَعَهم أَعْيَان كالقاضى أَحْمد بن سعد الدّين وَأَظنهُ عَام ثَلَاث وَخمسين جعل الامام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقسم أَمِير هَؤُلَاءِ جَمِيعهم صَاحب التَّرْجَمَة وَبِالْجُمْلَةِ فمحاسنه وفضائله كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء ثامن عشر ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف ببندر المخا وَنقل الى حيس فَدفن بهَا فى التربة الَّتِى أعدهَا لَهَا بِوَصِيَّة مِنْهُ
مُحَمَّد بن أَحْمد الملقب بشمس الدّين الْخَطِيب الشوبرى الشافعى المصرى الامام المتقن الثبت الْحجَّة شيخ الشَّافِعِيَّة فى وقته وَرَأس أهل التَّحْقِيق والتدريس والافتاء فى جَامع الازهر وَكَانَ فَقِيها اليه النِّهَايَة ثَابت الْفَهم دَقِيق النّظر متثبتا(3/385)
فى النَّقْل متأدبا مَعَ الْعلمَاء مُعْتَقد اللصوفية حسن الْخلق والخلق مهابا ملازما للعبادات وحظى حظوة فى الْفِقْه لم يحظها أحد فى عصره بِحَيْثُ ان جَمِيع معاصريه كَانُوا يرجعُونَ اليه فى الْمسَائِل المشكلة وَكَانَ يلقب بشافعى الزَّمَان حضر الشَّمْس الرملى ثَمَان سِنِين وَأَجَازَهُ بالافتاء والتدريس سنة ألف وَلزِمَ النُّور الزيادى وَأخذ الحَدِيث عَن أَبى النجا سَالم السنهورى وابراهيم العلقمى والعلوم الْعَقْلِيَّة عَن الشَّيْخ مَنْصُور الطبلاوى وَعبد الْمُنعم الانماطى وَأَجَازَهُ شُيُوخه وشهدوا لَهُ بِالْفَضْلِ التَّام واشتهر بِالْعلمِ وَالْجَلالَة وَكَانَ يقرى مُخْتَصر المزنى وَشرح الرَّوْض والعباب وَغَيرهَا من الْكتب الْقَدِيمَة المطولة وَكَانَ يمِيل اليها وَهُوَ آخر من قَرَأَ بِجَامِع الازهر شرح الرَّوْض والمختصر والعباب وانتفع بِهِ كثير من الْعلمَاء مِنْهُم النُّور الشبراملسى وَالشَّمْس البابلى وَيس الحمصى وَغَيرهم وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمنْهَج وحاشية على شرح التَّحْرِير وحاشية على شرح الاربعين لِابْنِ حجر وحاشية على الْعباب وَله فَتَاوَى مفيدة وَكَانَت وِلَادَته فى حادى عشرى شهر رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتوفى لَيْلَة الثُّلَاثَاء سادس عشرى جُمَادَى الاولى سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بتربة المجاورين والشوبرى تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فى تَرْجَمَة أَخِيه أَحْمد
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بالاسطوانى الدمشقى الحنفى الْفَقِيه الْوَاعِظ الاخبارى أعجوبة الزَّمَان ونادرة الْوَقْت كَانَ من منن الله تَعَالَى على عباده لم يزل يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر وَكَانَ ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا كثير العبوس فى وُجُوه النَّاس لما يكرههُ مِنْهُم شَدِيد الانكار عَلَيْهِم فِيمَا يُخَالف الشَّرْع لَا يقنع فى أَمر الله بِغَيْر اظهاره وَكَانَ مطبوعا على الالتذاذ بذلك متحملا للاذى من النَّاس بِسَبَبِهِ وَبلغ القَوْل فِيهِ الى أَنه حرم البقلاوة وأمثالها لما كَانَ يحرم الْحَرَام وَكَانَ أحد أَعَاجِيب الدُّنْيَا فى حلاوة الْمنطق وَحسن التأدية وَمَعْرِفَة أساليب الْكَلَام لَا يمل حَدِيثه بِحَال بل كلما طَال طَابَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلم ير نَظِيره فى هَذَا الدّور وَلم يسمع بِمثلِهِ فى أَوْصَافه كَانَ فى الاصل على مَذْهَب أسلافه حنبليا ثمَّ انْتقل الى مَذْهَب الشافعى وَقَرَأَ الْفِقْه على مَشَايِخ عصره مِنْهُم الشَّمْس الميدانى والنجم الغزى وَغَيرهمَا وَأخذ الْعَرَبيَّة والمعقولات عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى وَالشَّيْخ عمر القارى والامام يُوسُف بن أَبى(3/386)
الْفَتْح وَأخذ الحَدِيث عَن أَبى الْعَبَّاس المقرى فى قَدمته لدمشق ودرس بالجامع الاموى ثمَّ رَحل الى مصر وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللقانى والنور على الحلبى وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْيُمْنَى وَالشَّمْس البابلى وَقدم الى دمشق فى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف ودرس بهَا وَأفَاد وَوَقع بَينه وَبَين شَيْخه النَّجْم الغزى فى مسئلة فسافر الى الرّوم بحرا فأسرته الفرنج ثمَّ خلص بعد مُدَّة قَليلَة وَوصل الى دَار الْخلَافَة فَأَقَامَ بهَا وَحسن حَاله وَحصل جِهَات وعلوفات وَتزَوج وجاءه أَوْلَاد ثمَّ تحنف وَصَارَ اماما بِجَامِع السُّلْطَان أَحْمد ولازم على عَادَة موالى الرّوم ثمَّ قدم الى دمشق حَاجا فى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَعَاد الى الرّوم فَصَارَ واعظا بِجَامِع السُّلْطَان أَبى الْفَتْح مُحَمَّد خَان واشتهر بِحسن الْوَعْظ ولطافة التَّعْبِير فانكيت عَلَيْهِ النَّاس وَلَزِمَه جمَاعَة قاضى زَاده الرومى وَعظم حزبه فَبَالغ فى النهى عَن أَشْيَاء كَانَ غَنِيا عَنْهَا فكاد أَن يُوقع فتْنَة فعزل عَن وَظِيفَة الْوَعْظ وَنفى الى جَزِيرَة قبرس ثمَّ أَمر بِالْمَسِيرِ الى دمشق فوردها فى سنة سبع وَسِتِّينَ وَأقَام بهَا وَلزِمَ الدَّرْس تَحت قبَّة النسْر بالجامع الاموى بَين العشاءين وَبعد الظّهْر وَنشر عليم القراآت والمواعظ وَأقر أشرح الهمزية وَرغب النَّاس فى حُضُور دروسه من عُلَمَاء وعوام لحسن تَقْرِيره وعذوبة تفهيمه ولطافة مناسباته وَسمعت والدى رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول ان درسه كَانَ يَلِيق أَن يرحل اليه من بلد الى بلد وانه قرر أَشْيَاء لم يسْمعهَا من أهالى دمشق أحد وَفِيه يَقُول الامير المنجكى
(ان سمع الْعُقُول يصغى لقَوْل الاسطوانى والقلوب لَدَيْهِ ... )
(جمع الْفضل والمكارم حَتَّى ... كل حسنى تعزى وتنمى اليه)
(رجل جَاءَ فى الزَّمَان أخيرا ... يحْسد الاول الاخير عَلَيْهِ) 5 وَكَانَ بِدِمَشْق بعض مناكر فتقيد بازالتها أَو تخفيفها وَمن جُمْلَتهَا لبس السوَاد خلف الْمَيِّت وَرفع الصَّوْت بالولولة وأعهده يَوْمًا فى جَنَازَة بعض أَقَاربه وأقاربى أَمر جماعته بِحمْل عصى تَحت أصوافهم فَلَمَّا خرجت الْجِنَازَة من بَاب السلسلة وباشر النِّسَاء الولولة أَشَارَ الى جماعته بضربهن فضربوهن وَلم يدعهن يخْرجن الى الْمقْبرَة وَله غير ذَلِك مِمَّا يحْمَدُوا الى هَذَا أَشَارَ الامير المنجكى أَيْضا فى مدحه
(جوزيت من رب الْهدى عَن خلقه ... مَاذَا تشا وكفيت شَرّ الْحَسَد)
(أبعدتهم عَن كل لَهو مرشدا ... حَتَّى اهْتَدَى من لم يكن بالمهتدى)(3/387)
(وَصحت بك الدُّنْيَا فَلَيْسَ يرى بهَا ... من مُسكر الالحاظ الخرد)
ثمَّ وجهت اليه الْمدرسَة السليمية بِدِمَشْق وَكَانَ بَعضهم يزْعم انه يطعن فى سُلْطَان الْعلمَاء والاولياء الشَّيْخ محيى الدّين الاكبر بن عربى قدس الله تَعَالَى سره الْعَزِيز فَلَمَّا ولى الْمدرسَة ظَهرت محبته لَهُ وَأثبت نسبه الى الشَّيْخ حسن القيمرى وَأخذ توليه البيمارستان بالصالحية وَجمع عقارات وأملاكا كَثِيرَة وَلم أسمع انه ألف أَو قَالَ شعرًا غير أَنى ظَفرت لَهُ بتحريرات على عِبَارَات فى التَّفْسِير وَالْفِقْه وَكَانَ فِيمَا يمليه مُسْتَوْفيا أَقسَام الْمُنَاسبَة وَمن املائه لمُحَمد بن الْحَنَفِيَّة كل عزلا يوطده علم فالى ذل مصيره وَمِنْه لَو كشف الغطاء لما اختير غير الْوَاقِع من عرف الله أَزَال التهمه وَقَالَ كل فعله بالحكمة وَمِنْه قوام الدُّنْيَا بِأَرْبَع السُّلْطَان وجنده وَالْعُلَمَاء والصوفية والتجار وأرباب الصَّنَائِع وَغَيرهم من قبيل الاشراء والهمل قَالَ وَأوصى عبد الْمطلب قبل وَفَاته أَبَا طَالب بنبينا مُحَمَّد
وَقَالَ فِيمَا أوصى بِهِ
(أوصى ابا طَالب بعدى بذى رحم ... مُحَمَّد وَهُوَ فى ذَا النَّاس مَحْمُود)
(هَذَا الذى تزْعم الاحبار ان لَهُ ... أمرا سيظهره نصر وتأييد)
(فى كتب مُوسَى وَعِيسَى مِنْهُ بَيِّنَة ... كَمَا يحدثنى القوام العبابيد)
(فاحذر عَلَيْهِ شرار النَّاس كلهم ... والحاسدين فان الْخَيْر مَحْسُود)
وَمِنْه اللُّغَة أَرض وَبَقِيَّة الْعُلُوم غراساتها وَمن املائه للبحترى
(الجاهلان اثْنَان من دون الورى ... فافطن أخى وان هما لم يفطنا)
(من قَالَ مَا بِالنَّاسِ عَنى من غنى ... من جَهله أَو قَالَ بى عَنْهُم غنى)
وَلما انْحَلَّت بقْعَة درس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر بِجَامِع بنى أُميَّة عَن الشَّيْخ سعودى الغزى مفتى الشَّافِعِيَّة الْمُقدم ذكره طلها الاسطوانى من قاضى الْقُضَاة وَاجْتمعَ هُوَ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن تَاج الدّين المحاسنى فى مجْلِس القاضى وَكَانَ الآخر طَالبا لَهَا فَوَقع بَينهمَا مقاولة ومخاصمة وَقيل انهما تشاتما بِأَلْفَاظ قبيحة ثمَّ وجهت الْبقْعَة للمحاسنى وَمرض الاسطوانى من يَوْمه وَبعد أسبوعين توفى وَلم تطل مُدَّة الآخر حَتَّى توفى بعده وقرأت بِخَط الاسطوانى ان وِلَادَته كَانَت لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر الْمحرم سنة سِتّ عشرَة بعد الالف وَتوفى قبيل الظّهْر من يَوْم الاربعاء سادس وعشرى الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف بالحمى المحرقة وَدفن بمقبرة الفراديس الْمَعْرُوفَة بالغرباء وَقَالَ شَيخنَا عبد الْغنى النابلسى فى تَارِيخ وَفَاته(3/388)
(قدمات حاوى الْعُلُوم طرا ... مُحَمَّد كعبة الْوُفُود)
(الاسطوانى طود علم ... وَمن تسامى بفرط جود)
(فضر كل الانام أرخ ... ممات عَلامَة الْوُجُود)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر حماده الحمادى الشافعى الْكَاتِب الاديب الْفَاضِل كَانَ من رُؤَسَاء الْكتاب بديوان دجرجا قَصَبَة صَعِيد مصرا الْعُظْمَى قدم مصر وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ سُلْطَان المزاحى ومعاصريه وَكَانَ قَرَأَ بِبَلَدِهِ على شُيُوخ كثيرين وَله رِوَايَات عالية فى الحَدِيث وَكَانَ عذب اللِّسَان قوى الْجنان لَهُ معرفَة جَيِّدَة بعلوم الطَّرِيق وَألف فِيهِ رسائل وَله مِعْرَاج على أسلوب غَرِيب وَهُوَ انه جرد سؤالا من نَفسه فى حَقِيقَة الْخمْرَة الَّتِى يتغزل بهَا العارفون واليها يشيرون وعنها يخبرون ويصفونها بالسكر والغيبة وفى كَيْفيَّة الِاتِّصَال الى تِلْكَ الْمرتبَة وَمَتى يتَقرَّب اليها من اجتباه تَعَالَى وقربه وَأجَاب عَنهُ وَله أشعار كَثِيرَة وَلم يحفظ لَهُ الا هَذَا الْبَيْت من قصيدة وَهُوَ
(وسرت الى مَا أحجم الْعقل دونه ... ونلت أمورا لَا يُحِيط بهَا فكرى)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف يدجرجاً وَبهَا دفن رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد أَبى عصبَة بن الهادى من ذُرِّيَّة الشَّيْخ اسماعيل الحضرمى موقف الشَّمْس المدفون ببلدة الضُّحَى بِقرب بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل واشتهر بالعبادى نِسْبَة لجده لامه الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد البكرى العبادى نِسْبَة الى عبَادَة قَرْيَة بِمصْر وَكَانَ جده الْمَذْكُور من أكَابِر الاولياء الآخذين عَن الشَّيْخ القطب بدر الدّين العادلى الْمَشْهُور قَبره بِمَكَّة ولد صَاحب التَّرْجَمَة بِمَكَّة سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف تَقْرِيبًا وَنَشَأ فى حجر وَالِده أُمِّيا وَظَهَرت لَهُ فى أَوَاخِر عمره خوارق عادات عَجِيبَة مَعَ انه كَانَ سالكا طَرِيق الملامتية فى تخريب الظَّاهِر بِأَكْل الْحَشِيش والاكثار مِنْهُ الا أَن كثيرا مِمَّن تعاطى شربه عِنْده أخبر بِأَنَّهُ مَا أثر فِيهِ مَعَ انه أَكثر مِنْهُ جدا واستبدل بذلك على انقلاب عينه أَو بطلَان ضَرَره وَمن كراماته مَا أخبر بِهِ ثِقَة ان جمَاعَة وفدوا عَلَيْهِ للزيارة فَأمره أَن يصب لَهُم قهوة من اناء معِين وَقد تحقق الْمَأْمُور خلوه من القهوة وَلم يسْتَطع أَن يواجه أمره بالاباء عَن صب القهوة فَأمره ثَانِيًا فامتثل أمره فَتَنَاولهَا ليصب مِنْهَا فَوَجَدَهَا ملآنة قهوة فصب لَهُم مِنْهَا مَا كفاهم وَبقيت بِحَالِهَا وَمِنْهَا أَن شخصا صَادِقا أخبر انه يطير فى الْهَوَاء وَمِنْهَا ان(3/389)
كثيرين شاهدوا مِنْهُ الصّرْف من الْغَيْب فِيمَا يُنْفِقهُ فى بعض أوقاته وَمِنْهَا ان شخصا كَانَ يحب آخر لغَرَض فَاسد فَذهب مَعَه لمحل ليختلى بِهِ فَمر من تَحت بَيت المترجم فَرَآهُ فناداه فطلع اليه فَأمره بِالْجُلُوسِ مَعَ صَاحبه بَقِيَّة يَوْمه ومنعهما من الذّهاب وجلسا عِنْده فى ذَلِك الْيَوْم الى آخر النَّهَار فَأَمرهمَا بالانصراف وَقَالَ للمحب يَا فلَان ذهب عَنْك الْحَال الذى كنت فِيهِ الْيَوْم قَالَ فَزَالَ وَالله من ذَلِك الْوَقْت عَنى جَمِيع مَا كنت أَجِدهُ من تِلْكَ الْمحبَّة الْمَذْكُورَة وتبت الى الله تَوْبَة خَالِصَة وَله من هَذَا الْقَبِيل كرامات كَثِيرَة لَا يُمكن استقصاؤها لكثرتها وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ ان ثَلَاثَة من أَصْحَابه زاروه يَوْمًا سنة مَوته فتذاكروا الْمَوْت فَقَالُوا لَهُم على سَبِيل المداعبة قد قربت وفاتى جدا وَأَنت يَا فلَان تلحقنى بِسُرْعَة ثمَّ فلَان ثمَّ فلَان فصاحوا عَلَيْهِ وَقَالُوا مَا كَانَ لنا حَاجَة بِهَذَا الْكَلَام فَقَالَ لابد من ذَلِك فَمَا مَضَت أَيَّام قَليلَة حَتَّى مَاتَ ولحقه المذكورون كَمَا ذكر وَاحِدًا بعد وَاحِد وَكَانَت وَفَاته فى يَوْم الاربعاء ثَالِث وعشرى شهر ربيع الثانى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن ببيته الذى كَانَ يسكنهُ ملاصقا لقبر أَبِيه وجده لامه بِقرب جبل شظا على طَرِيق الذَّاهِب الى المعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن أَحْمد بن على البهوتى الحنبلى الشهير بالخلوتى المصرى الْعَالم الْعلم امام الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول الْمُفْتى الْمدرس ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ الْفِقْه عَن الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن البهوتى الحنبلى تلميذ الشَّمْس مُحَمَّد الشامى صَاحب السِّيرَة ولازم الْعَلامَة مَنْصُور البهوتى الحنبلى وَأخذ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة عَن الشهَاب الغنيمى وَبِه تخرج وانتفع واختص بعده بِالنورِ الشبراملسى ولازمه فَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فى دروسه من الْعُلُوم النظرية وَكَانَ يجرى بَينهمَا الدَّرْس محاورات ونكات دقيقة لَا يعرفهَا من الْحَاضِرين الا من كَانَ من أكَابِر الْمُحَقِّقين وَكَانَ الشبراملسى يجله ويثنى عَلَيْهِ ويعظمه ويحترمه وَلَا يخاطبه الا بغاية التَّعْظِيم لما هُوَ عَلَيْهِ من الْفضل ولكونه رَفِيقه فى الطّلب وَلم يزل ملازما لَهُ حَتَّى مَاتَ وَكتب كثيرا من التحريرات مِنْهَا تحريراته على الاقناع وعَلى الْمُنْتَهى جردت بعد مَوته من هَامِش نُسْخَة فبلغت حَاشِيَة الاقناع اثنى عشر كراسا وحاشية الْمُنْتَهى أَرْبَعِينَ كراسا وَله شعر مِنْهُ قَوْله
(سمحت بعد قَوْلهَا لفؤادى ... ذب أسى يَا فُؤَاده وتفتت)
(وَنَجَا الْقلب من حبائل هجر ... نصبتها لصيده ثمَّ حلت)(3/390)
وَقَوله
(كَانَ الدَّهْر فى خفض الاعالى ... وفى رفع الاسافلة اللئام)
(فَقِيه عِنْده الاخبار صحت ... بتفضيل السُّجُود على الْقيام)
يُشِير الى أَن كَثْرَة السُّجُود أفضل من الْقيام بِنَاء على مَذْهَب الْحَنَابِلَة وَكَانَت وَفَاته بِمصْر بعد نصف لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشر ذى الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف
السَّيِّد مُحَمَّد يحيى بن الامير أَحْمد نظام الدّين بن مَعْصُوم الحسينى أَخُو السَّيِّد على صَاحب السلافة قَالَ أَخُوهُ فى وَصفه أخى وشقيقى وَابْن أَبى وصديقى وَمن لَا أرى غَيره بى أَحَق اذا حصحص الْحق لَا كَمَا قَالَ مهيار
(سَأَلتك بالمودة يَا ابْن ودى ... فانك بى من ابْن أَبى أَحَق)
ماجد ثبتَتْ فى الْمجد وثائقه وفاضل تشبثت بِالْفَضْلِ علائقه أحرز من الادب النَّصِيب الاوفر وَتمسك مِنْهُ بِمَا أخجل طيب نشره بالمسك الاذفر الى دماثة شيم واخلاق مَا شان قشيب أبرادها اخلاق وَصدق صداقة وَصفا وَحسن مَوَدَّة ووفا أبرم بهما عقد اخائه وهب بذكائهما نسيم رخائه وَله شعر تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب طرائقه وَيملك مسامع أولى الاشواق شائقه ورائقه فَمِنْهُ قَوْله
(تذكرت أَيَّام الحجيج فأسبلت ... جفونى بِمَاء واستجد بى الوجد)
(وأيامنا بالمشعرين الَّتِى مَضَت ... وبالخيف اذ حادى الركاب بِنَا يَحْدُو)
وَقَوله مُخَاطبا لى
(وَمَا شوق مقصوص الجناحين مقْعد ... على الضيم لم يقْعد عَن الطيران)
(بِأَكْثَرَ من شوقى اليك وانما ... رمانى بِهَذَا الْبعد مِنْك زمانى)
وَقَوله أَيْضا
(أَلا لاسقى الله البعاد وجوره ... فان قَلِيلا مِنْهُ عَنْك خطير)
(وَوَاللَّه لَو كَانَ التباعد سَاعَة ... وَأَنت بعيدانه لكثير)
وَقَوله أَيْضا
(أَلا يَا زَمَانا طَال فِيهِ تباعدى ... أما رَحْمَة تَدْنُو بهَا وتجود)
(لألقى الذى فَارَقت انسى اذ نأى ... فها أَنا مسلوب الْفُؤَاد فريد)
وَكتب الى مادحا وعَلى فنن البلاغة صادحا وَذكر لَهُ قصيدة انتخبت مِنْهَا هَذَا الْمِقْدَار ومطلعها
(أفق أيهذا الْقلب عَمَّا تحاوله ... فانك مهما زِدْت زَاد تَشَاغُله)(3/391)
(دع الدَّهْر يفعل كَيفَ شَاءَ فقلما ... يروم امْرُؤ شَيْئا وَلَيْسَ يواصله)
(وَمَا الدَّهْر الا قلب فى أُمُوره ... فَلَا يغترر فى الْحَالَتَيْنِ معامله)
(وَيَا طالما طَابَ الزَّمَان لواجد ... فسر وَقد ساءت لَدَيْهِ أَوَائِله)
(سقى ورعى الله الْحجاز وَأَهله ... ملثا تعم الارض سقيا هُوَ اطله)
(فان بِهِ دارى وَدَار عزيزة ... على وَمهما أشغل الْقلب شاغله)
(وَلَكِن لى شوقا الى خلتى الَّتِى ... مَتى ذكرت للقلب هَاجَتْ بِلَا بله)
(أَبيت ولى مِنْهَا حنين كأننى ... طريح طعان قد أُصِيبَت مقاتله)
(هوى لَك مَا أَلْقَاهُ يَا عذبة اللمى ... والا فصعب مَا أَنا الْيَوْم حامله)
(أكابد فِيك الشوق والشوق قاتلى ... وأسأل عَمَّن لم يجب من يسائله)
(تقى الله فى قتل امْرِئ طَال سقمه ... والا فان الهجر لَا شكّ قَاتله)
(صليه فقد طَال الصدود فقلما ... يعِيش امْرُؤ والصد مِمَّن يقاتله)
(حَزِين لما يلقاه فِيك من الجوى ... فها هُوَ مضنى مدنف الْجِسْم ناحله)
(بلَى ان يكن لى من على وعزمه ... معِين فانى كلما شِئْت نائله)
فَرَاجعه عَنْهَا بقوله
(اليك فقلبى لَا تقر بلابله ... اذا مَا شدت فَوق الغصون بلابله)
(تهيج لى ذكرى حبيب مفارق ... زر ود وخروى والعقيق مَنَازِله)
(سقاهن صوب الدمع منى ووبله ... منَازِل لَا صوب الْغَمَام ووابله)
(يحل بهَا من لَا أصرح باسمه ... غزال على بعد المزارا غازله)
(تقسمه لِلْحسنِ عبل ودقة ... فرن وشاحاه وَصمت خلاخله)
(وَمَا أَنا بالناسى ليالى بالحمى ... تقضت وَورد الْعَيْش صفو مناهله)
(ليالى لَا ظبى الصريم مصارم ... وَلَا ضَاقَ ذرعا بالصدود مواصله)
(وَكم عاذل قلبى وَقد لج فى الْهوى ... وَمَا عَادل فى شرعة الْحبّ عاذله)
(يلوموه جهلا بالغرام وانما ... لَهُ وَعَلِيهِ بره وغوائله)
(فَللَّه قلب قد تَمَادى صبَابَة ... على اللوم لَا تنفك تغلى مراجله)
(وبالحلة الفيحاء من أبرق الْحمى ... رداح حماها من قِنَا الْخط ذابله)
(تميس كَمَا مَاس الردينى مائدا ... وتهتز عجبا مثل مَا اهتز عَامله)
(مهفهفة الكشحين طاوية الحشا ... فَمَا مائد الْغُصْن الرطيب ومائله)(3/392)
(تعلقتها عصر الشبيبة وَالصبَا ... وَمَا علقت بِي من زمانى حبائله)
(حذرت عَلَيْهَا آجل الْبعد والنوى ... فعاجلنى من فادح الْبَين عاجله)
(الى الله يَا أَسمَاء نفسا تقطعت ... عَلَيْك غراما لَا أَزَال أزاوله)
(وخطب بعاد كلما قلت هَذِه ... أواخره كرت على أَوَائِله)
(لَئِن حَار دهر بالتفرق واعتدى ... وغال التدانى من دهى الْبَين غائله)
(فانى لارجو نيل مَا قد أملته ... كَمَا نَالَ من يحيى الرغائب آمله)
(من النَّفر الغر الَّذين بمجدهم ... تأطد ركن الْمجد وَاشْتَدَّ كَاهِله)
(لقد ألبست نفس المعالى بروده ... وزرت على شخص الْكَمَال غلائله)
وَكَانَت وِلَادَته فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَجَاء تَارِيخ مولده لبَعْضهِم من أَبْيَات
(ان قلت مَا تَارِيخ مولده فَقل ... حبر الزَّمَان بدى بأشرف طالع)
وَذهب الى وَالِده بِالْهِنْدِ وَأقَام الى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته بهَا فى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْعُمْرَى الْمَعْرُوف بِابْن عبد الهادى الدمشقى الصوفى الشَّيْخ الْبركَة المعمر بَقِيَّة السّلف كَانَ من خير خلق الله مهاب الشكل عَلَيْهِ نور الْولَايَة وَالصَّلَاح وَكَانَ عَالما بالعقائد والتصوف وَكَلَام الْقَوْم حسن الْفَهم مداوما على الدَّرْس والافادة وانتفع بِهِ خلق وَكَانَ لطيف الطَّبْع حُلْو الْعبارَة متواضعاخلوقا وَلم يكن أَصْبِر مِنْهُ على الْفَاقَة وَحكى لى بعض من أعْتَمد عَلَيْهِ انه سَمعه مرّة يَقُول أَنا من مُنْذُ ثَلَاث سنوات لم أر فى يدى شَيْئا من الْمُعَامَلَة وَلَيْسَ ذَلِك تورعا وانما هُوَ لعدم دخل شئ وَكَانَ طَرِيقه المتَوَكل التَّام أخبرنى هَذَا الْمخبر انه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ كتابا الغزالى وصل فِيهِ الى التَّوَكُّل قَالَ فقرر لى فى التَّوَكُّل أَشْيَاء متداولة وَلم يزدْ قَالَ فَقلت لَهُ أُرِيد مَا يعرفنى حَقِيقَة التَّوَكُّل فَقَالَ فى غَد اتينى الى الْجَامِع الاموى وَلَا تصْحَب مَعَك شَيْئا من الدَّرَاهِم وصل الصُّبْح عِنْد محراب الْمَالِكِيَّة ثمَّ انتظرنى ثمَّة قَالَ فَفعلت مَا قَالَ لى فَلَمَّا فَرغْنَا من صَلَاة الصُّبْح أَخذ بيدى وَمَشى فتبعته حَتَّى انتهينا الى ميدان الْحَصَا وَكنت بلغت الْجهد من الْجُوع وفقد القهوة قَالَ فَدَعَانَا شخص الى دَاره فسرنا فَقدم لنا مائدة عَظِيمَة فأكلنا وَأمره الشَّيْخ بِأَن يسقينى قهوة ثمَّ مضينا فَدَعَانَا آخر فى القبيبات ثمَّ خرجنَا الى خَارج بَاب الله فَوقف الشَّيْخ يقْرَأ الْفَاتِحَة للشَّيْخ الحصنى قَالَ وَكَانَ التَّعَب أمضنى وخشيت أَن يذهب بى الشَّيْخ الى(3/393)
قَرْيَة من الْقرى وَلَا أقدر على المشى قَالَ فَنحْن واقفون اذا بِرَجُل مكارى رَاكب على حمَار وَهُوَ يسحب بغلين فَقَالَ لنا ان أردتم التَّوَجُّه الى سبينه فاركبا هذَيْن البغلين قَالَ فَرَكبْنَا ومضينا الى سبينة فطلع أَهلهَا الى لِقَاء الشَّيْخ وأنزلوه فنزلنا وَحصل لنا اكرام زَائِد وبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة هُنَاكَ ثمَّ خرجنَا فى الصَّباح وَمَا زلنا سَبْعَة أَيَّام وَنحن طائفون على قرى ومتنعمون بولائم حَتَّى جِئْنَا الى دمشق قَالَ فَقَالَ لى الشَّيْخ أَرَأَيْت حَقِيقَة التَّوَكُّل قلت بلَى وَله وقائع وكرامات كَثِيرَة جدا وَكَانَ يستسقى بِهِ الْغَيْث وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَهُوَ مَحل الِاعْتِقَاد وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ بعد الالف وَتوفى نَهَار الاحد سَابِع صفر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف قبيل الْغُرُوب بهنيئة وفى ثانى يَوْم صلى عَلَيْهِ فى الْجَامِع الاموى وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس وَكَانَ تمرض مُدَّة طَوِيلَة وأخبرنى بعض الاخوان انه قبل أَن يَمُوت بيومين أسكت فَلم يتَكَلَّم بشئ الا صَبِيحَة وَفَاته فَسَمعهُ ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد يَقُول ديننَا حق ودينكم شكّ قَالَ فَقَالَ لَهُ يَا سيدى أَلَسْت عَن رَبك براض فَقَالَ بلَى وَكَانَ هَذَا آخر كَلَام قَالَه وَاتفقَ يَوْم دَفنه وُصُول الْعَالم الربانى الشَّيْخ مُرَاد الازبكى الى دمشق من الرّوم وَحكى أستاذنا الْعَلامَة المنلا عبد الرَّحِيم الهندى الكابلى نزيل دمشق وَكَانَ خرج الى اسْتِقْبَال الشَّيْخ مُرَاد الى القطيفة قَالَ قصد الشَّيْخ الرحيل مِنْهَا قبل رفقائه بِنَحْوِ أَربع سَاعَات قَالَ فَقلت لَهُ ان الطَّرِيق مخوف وَلَا يُمكن التَّوَجُّه الا مَعَ الرّفْقَة قَالَ فَقَالَ لى عرضت مهمة وَلَا يُمكن التَّخَلُّف عَنْهَا وَقَامَ وَركب فى التخت ثمَّ توجه وتوجهنا مَعَه فَلم يمض الاحصة حَتَّى نزل من التخت وَركب فرسا وأسرع فى السّير فنكا لَا نقدر على اللحاق بِهِ من شدَّة المشى حَتَّى وصلنا الى دومة فَقيل لنا ان الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الهادى قد مَاتَ فوصلنا الى دمشق وَلم ينزل الشَّيْخ مُرَاد الا فى الْجَامِع الاموى وَحضر الصَّلَاة على الشَّيْخ مُحَمَّد ثمَّ توجه الى الْمَكَان الذى هيئ لَهُ وَهَذِه من أجل الكرامات للرجلين
مُحَمَّد صَاحب الْخَال ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن مُوسَى بن أَبى بكر صَاحب الْخَال الاكبر وَقد تقدم ذكر بَقِيَّة النّسَب لصَاحب الْخَال الاكبر جد صَاحب التَّرْجَمَة الامام الْعَلامَة الْفَقِيه قاضى اللِّحْيَة وَشَيخ الشَّافِعِيَّة بديار الْيمن وأعلمهم بالحلال وَالْحرَام مَعَ التَّقْوَى والتحرى والاحاطة والزهد والقناعة والانكفاف عَن النَّاس الى خلق عَظِيم وطبع لطيف وجلالة قدر ونفوذ(3/394)
كلمة ولد بِمَدِينَة اللِّحْيَة فى سنة أَربع عشرَة وَألف وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن والارشاد والملحة والرحبيبة وَغَيرهَا وَأخذ عَن وَالِده وتأدب بأدبه ولازم الْعَلامَة الشهير جمال الدّين مُحَمَّد بن عمر حشيبر وَالشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبَا بكر بن مُحَمَّد القمرى وَالشَّيْخ الْعَالم مُحَمَّد باوزير الحضرمى وَالشَّيْخ الْجَلِيل مُحَمَّد بن الطَّاهِر فجم وَقدم مَكَّة سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَأخذ بالحرمين عَن السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد الهادى باعلوى والحافظ الْمُحدث مُحَمَّد على بن عَلان والفقيه مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطائفى وَالشَّيْخ الْعَلامَة اسمعيل بن مُحَمَّد بن عمر حشيبر والفاضل ذهل بن على الحشيبرى وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ لَيْلَة السبت سادس وعشرى صفر سنة مائَة وَألف وَصلى عَلَيْهِ غَائِبَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام يَوْم الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى الاولى من السّنة الْمَذْكُورَة
مُحَمَّد بن اسمعيل الْفَتى الزبيدى كَانَ من عُلَمَاء الظَّاهِر أَولا فحصلت لَهُ جذبة بعد الاربعين وسلك عِنْد بعض الْمَشَايِخ حَتَّى وصل الى غَايَة مَا يتمناه وَهُوَ مُسْتَغْرق منجمع عَن النَّاس وَله كرامات ظَاهِرَة وأحوال سنية يُقَال انه غوث هَذَا الْعَصْر وَمن جملَة حَاله انه كَانَ يكْشف أَحْوَال الرِّجَال الَّذين يزورونه بِمُجَرَّد مَا يراهم قَالَ الْمولى فروخ المكى وصلت الى خدمته سنة أَربع بعد الالف وأقمت عِنْده مُدَّة ثمَّ قلت لَهُ يَا سيدى أُرِيد السّفر الى الْيمن لازور الْمَشَايِخ فَقَالَ الذى تُرِيدُ من الْمَشَايِخ عندنَا مَوْجُود وَلَا ينبغى لنا أَن يكون محبنا مُحْتَاجا الى آخر فَقلت لابد من الرواح فَقَالَ تروح وَلَكِن تتعب كثيرا قَالَ فَكَانَ كَمَا قَالَ قَالَ أَيْضا وَقلت لَهُ عِنْد الْمُفَارقَة يَا سيدى قد أنست بك والآن أذهب الى الْحَرَمَيْنِ فَكيف يكون حالى بهما اذا غلب على الشوق الى لقائك قَالَ يُمكن أَن ترانى تَحت الْمِيزَاب أَو عِنْد الْمُلْتَزم قلت أَنا أُرِيد الارتحال الى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة قَالَ وَأَنا أصلى بهَا الْعَصْر يَوْم الْخَمِيس واشتغل بِالصَّلَاةِ على النبى
من الْعَصْر الى آخر النَّهَار عِنْد بَاب السَّلَام
مُحَمَّد بن اسماعيل بَافضل الحضرمى التريمى الامام الْفَقِيه الشافعى أحد الْعلمَاء الْمَشْهُورين ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن والارشاد وَعرضه على مشايخه وتفقه بالشيخ حُسَيْن بن عبد الله بَافضل وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن حسن وَأخذ عَن شهَاب الدّين وَحج وَأخذ الْفِقْه عَن الشهَاب أَحْمد بن حجر الهيفى ولازمه فى دروسه الْفِقْهِيَّة وَغَيرهَا وَأخذ عَن تِلْمِيذه الشَّيْخ عبد الرؤف وَسمع بِمَكَّة من خلق كثيرين(3/395)
وَأذن لَهُ بالافتاء والتدريس غير وَاحِد من مشايخه وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة من الاولياء وَكَانَ لَهُ ذهن ثاقب وحافظة ضابطة وقريحة وقادة وفكر قويم مَعَ عقل وافر وأدب ظَاهر وَكَمَال مُرُوءَة وَحسب وفتوة ودرس وَأفْتى وَتَقْرِيره أمتن من كِتَابَته واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وتفقه بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُم القاضى أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن مُحَمَّد بافقيه صَاحب قيدون وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بافقيه وَبَنُو عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغير هَؤُلَاءِ وَله فَتَاوَى كَثِيرَة لَكِنَّهَا غير مَجْمُوعَة وهى مفيدة جدا وَكَانَ من أورع أهل زمانة متقللا من الدُّنْيَا زاهدا فِيهَا وفى مناصبها وَكَانَ متقشفا فى مأكله وملبسه ومسكنه وَكَانَ لَهُ خطّ حسن وَيضْرب بِهِ الْمثل فى الصِّحَّة وَكتب بِخَطِّهِ عدَّة كتب وَجمع بَين الْعلم وَالْعِبَادَة والمجاهدة والزهادة وَكَانَ أعجوبة الدَّهْر فى الانابة واشتهر فى الديار الحضرمية بِانْفِرَادِهِ بتحقيق الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة تريم فى سنة سِتّ بعد الالف وَدفن بمقبرة الفويط والمنيرة وحزن النَّاس لفقده رَحمَه الله تَعَالَى
الامام مُحَمَّد بن الامام اسمعيل المتَوَكل على الله بن الامام الْقسم بن مُحَمَّد بن على الامام الْمُؤَيد بِاللَّه كَانَ اماما جَلِيلًا عَالما عَاملا كثير الْخَوْف من الله سُبْحَانَهُ محبا للْفُقَرَاء صارفا بَيت المَال لمصارفة نَشأ على طَاعَة الله تَعَالَى من صغره لم يعْهَد لَهُ صبوة وَتَوَلَّى الاعمال المهمة فى زمن وَالِده وَولى صنعاء مُدَّة مديدة وكل بلد تولاها رفع عَنْهَا المكوس والمظالم قَرَأَ فى بدايته على القاضى أَحْمد بن سعد الدّين وعَلى السَّيِّد الْعَلامَة الْحسن بن المطهر الجرموزى وَأخذ الحَدِيث عَن مُحدث الشَّافِعِيَّة بِالْيمن الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الْمُفْتى وَأخذ عَن الشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن عمر الحبيشى وَغَيرهم وَحج فى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وزار النبى
وعمره نَحْو سبع عشرَة سنة وَمَعَهُ جمَاعَة من الاعيان وَأخذ عَن عُلَمَاء الْحَرَمَيْنِ وَلما توفى وَالِده عرضت عَلَيْهِ الامامة فأباها وتولاها الامام أَحْمد بن الْحسن الْمُقدم ذكره فَلَمَّا توفى أَحْمد بن الْحسن أجمع الائمة وَالْعُلَمَاء وَالنَّاس عَلَيْهِ وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ أحد فتولاها وَسَار سيرة الائمة الهادين وَعم النَّاس بِظِل عدله وَأمر باحياء الْعُلُوم والمدارس وَقرب الْعلمَاء وتعهد أَحْوَال الْفُضَلَاء وَأدّى حُقُوق الضُّعَفَاء وَأمر بِرَفْع الْمَظَالِم وَلَكِن لِكَثْرَة علمه وَعدم بطشه وتوقفه عَن الاقدام على الفتك لم تمتثل أمره بَاطِنا الائمة من بنى الْقَاسِم من اخوانه وَبنى عَمه فَكَانَ اذا أَمر بِرَفْع الْمَظَالِم وَأرْسل(3/396)
أحدا فى شَأْنه يمتثلون أمره ظَاهرا فاذا رَجَعَ مأموره رجعُوا لما هم عَلَيْهِ من الظُّلم وكل مِنْهُم بسط يَده على بِلَاد فكثرت الْفِتَن بِسَبَب ذَلِك وَكَانَ مُرَاده أَخذهم بالحيلة والسياسة فَلم تطل مدَّته وَتوفى وَكَانَت وَفَاته فى ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَتِسْعين وَألف وَتَوَلَّى بعده الامامة مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن وَبَايَعَهُ غَالب الائمة والاعيان ودانت لَهُ الْبِلَاد وَالنَّاس أشهرا فَلَمَّا لم تحمد سيرته لعدم ترويه فى الامور قَامَ عَلَيْهِ وَلَده عبد الله مَعَ جملَة من اخوانه وَمن بنى الامام المتَوَكل اسماعيل وخلعوه من الامامة وولوا الامامة يُوسُف بن المتَوَكل وَبَايَعَهُ النَّاس وغالب الائمة وَبسط عماله يدهم على الْبِلَاد وجهز الجيوش على الامام مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَذْكُور فحصروه بقلعة الْحصن الْمَشْهُور بالمنصورة ثمَّ قويت شوكته وَقَامَ ثَانِيًا ودانت لَهُ الْيمن واستقل بالامر وَبَايَعَهُ غَالب النَّاس طَوْعًا أوكرها
مُحَمَّد بن الياس المدنى الْخَطِيب قَالَ بعض الْفُضَلَاء فى حَقه أحد الْفُضَلَاء الاكياس المثرين من نقود الادب الفائقة على نقود الاكياس طابت أنفاسه بِأَنْفَاسِ طابه وملأ من نفائس الْآدَاب والفضائل وطابه فَهُوَ اذا خطب خطب عرائس الافكار وَأجِيب اليها ونصت عَلَيْهِ فى أرائك البلاغة فَبنى علينا واذا كتب كبت الْعَدو والحسود وَأقر بفضله السَّيِّد والمسود لم يزل فى جوَار رَسُول الله حَتَّى انْتقل الى جوَار الله فَمن شعره مَا كتب بِهِ مجيبا للقاضى تَاج الدّين المالكى وَقد أرسل اليه بهدية قَوْله
(مولاى قدرك أَعلَى ... من كل شئ وأغلى)
(وَقد بعثت بِمَا ان ... ينمى لقدرك قلا)
(وَلَا أرَاهُ يوازى ... بِذَاكَ حاشا وكلا)
(من ذَا يُبَارى كَرِيمًا ... فى الْجُود حَاز الْمُعَلَّى)
(أم من يجارى جوادا ... فى حلبة الْفضل جلى)
(فاقبل لتشفع فضلا ... بِهِ تطولت فضلا)
فَأَجَابَهُ القاضى تَاج الدّين بقوله
(يَا سيدا واماما ... قد طَابَ فرعا وأصلا)
(خرت المكارم قدما ... وطبت قولا وفعلا)
(غمرت بالجود عبدا ... لَا زلت للفضل أَهلا)(3/397)
(ودمت مولى كَرِيمًا ... فَأَنت أَحْرَى وَأولى)
وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاحد ثانى شهر ربيع الثانى سنة سِتّ وَسبعين وَألف بِالْمَدِينَةِ وَدفن بِالبَقِيعِ قلت وَلِهَذَا الاديب أَخ اسْمه عبد الله ذكره ابْن مَعْصُوم لَكِن لم يذكر وَفَاته وَأَنا لم أَقف عَلَيْهَا فَأَرَدْت أَن أذكرهُ هُنَا لِئَلَّا يَخْلُو كابى من ذكره فَأَقُول قَالَ ابْن مَعْصُوم فى تَرْجَمته أديب يرفل فى حلل الْجمال ويرتع فى رياض الْكَمَال الى شمائل لرقة الشُّمُول ناسخة وآداب فى مقرّ الاحسان راسخة رَأَيْته فَرَأَيْت الْبشر مجلوا فى صورته والظرف متلوا من سورته وَله نثر ونظم يملكَانِ المسامع لطفا ويشبهان قائلهما رقة وظرفا فَمن شعره قَوْله فى الْعرُوض
(ان الْعرُوض لبحر ... تعوم فِيهِ الخواطر)
(وكل من عَام فِيهِ ... دارت عَلَيْهِ الدَّوَائِر)
وقرأت بِخَط السَّيِّد مُحَمَّد كبريت مَا نَصه أنشدنى اجازة لنَفسِهِ سيدى الْعَفِيف عبد الله بن الْخَطِيب الياس سلما من الْمَكْرُوه والباس
(يَا سيدى قُم لى وَلَا ... تخشى بحرمتك الْعِنَب)
(كَيْلا يُقَال مقصر ... فَأَكُون فِيهِ أَنا السَّبَب)
فَقلت وان لم يبلغ الظالع شأو الظليع
(لم لَا أقوم لسيدى ... من غير أَن أخْشَى العتب)
(وَهُوَ الذى قَامَت لَهُ ... بثنائها عليا الرتب)
قَالَ وَقلت فى الْمَعْنى
(أقوم على الرَّأْس لما بدا ... جمالك لَا لاجتناب العتب)
(وَلم لَا أقوم وَأَنت الذى ... لعلياه قَامَت كرام الرتب)
ولبعضهم فى الْمَعْنى
(قيامى للعزيز على فرض ... وَترك الْفَرْض مَالا يَسْتَقِيم)
(فَهَل أحد لَهُ عقل ولب ... وَمَعْرِفَة يراك وَلَا يقوم)
وَمَا ألطف قَول بَعضهم معتذرا عَن عدم الْقيام
(عِلّة سميت ثَمَانِينَ عَاما ... منعتنى للاصدقاء القياما)
(فاذا عمروا تمهد عذرى ... عِنْدهم بالذى ذكرت وقاما)
ذكرت بِهَذَا مَا حَكَاهُ أَرْبَاب السّير عَن الصاحب اسماعيل بن عباد انه لما كَانَ(3/398)
بِبَغْدَاد قصد القاضى أَبَا السَّائِب عَتبه بن عبيد لقَضَاء حَقه فتثاقل فى الْقيام لَهُ وتحقر تحقرا أرَاهُ بِهِ ضعف حركته وقصور نهضته فَأخذ الصاحب بضبعه وَقَالَ نعين القاضى على حُقُوق اخوانه فَخَجِلَ القاضى واعتذار اليه وَرَأَيْت بِخَط السَّيِّد مُحَمَّد كبريت الى سدته الْعلية أعنى الْخَطِيب الْمَذْكُور
(يأيها الْمولى الذى فاق الورى ... بِبَيَان مَنْطِقه البديع الزين)
(هَات افتنا فى زيد المخفوض فى ... مَا قَامَ الا زيد الْمِسْكِين)
فَكتب مجيبا
(يَا من بشمس علومه زَالَ المرا ... فغدا بمصباح الْهدى كَالْعَيْنِ)
(انى أَقُول جوابكم وبى الجوى ... فى فَرد بَيت زَان فى الْعَينَيْنِ)
(زيد تصور جَرّه باضافة ... للال وَهُوَ الْعَهْد للاثنين)
حاكته أيدى الوداد بأنامل الاخلاص وسبكتها فى قوالب الِاتِّحَاد فَمَا حاكتها سبائك الْخَلَاص الى الحضرة الَّتِى يحِق لى أَن أحن اليها وأشتاق ويليق لى أَن أطير مَعَ حمائم البطائق لأفد عَلَيْهَا لَو أَن ذَلِك مِمَّا يُطَاق تهدلت أَغْصَان دوحة رياسته وتهللت جباه جلالته ونفاسته حب موثوق بالعرى وقلب منبوذ بالعرا
(أأتخذ الْعرَاق هوى ودارا ... وَمن أهواه فى أَرض الشآم)
بيد أَن لَهُ فى سَعَة الْفضل رجا وفى اجْتِمَاع الشمل مَا تحار فِيهِ عقول أولى الحجا وَلَا يزَال بتذكر سويعات مرت مَا كَانَ أحلاها وأويقات لَيْسَ فى يَده الا أَنه يتمناها
(فياما كَانَ أحْسنه زَمَانا ... وياما كَانَ أطيبه وياما)
وَبعد كل حَال فسلامة الْمولى هى مُنْتَهى الطّلب اذا كَانَ فى صِحَة فَمَا أَنا الا فِيهَا أتقلب
مُحَمَّد بن أَيُّوب بن أَحْمد بن أَيُّوب الخلوتى الحنفى الدمشقى تقدم ذكر وَالِده وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا من فضلاء وقته أديبا مطبوع الطَّبْع حسن المعاشرة خَفِيف الرّوح مَعَ صَلَاح وتقوى وَعبادَة أَخذ الْعلم عَن وَالِده وَغَيره من عُلَمَاء عصره وَلزِمَ الشَّيْخ أَحْمد ابْن على العسالى مَعَ وَالِده فى طَرِيق الخلوتية وَكَانَ ينظم الشّعْر وَلم أَقف لَهُ الا على هَذَا الْمَقْطُوع فى ذمّ العذار وَهُوَ
(يَا صَاح ان الشّعْر يزرى بذى الْحسن وان كَانَ بهى الْجمال ... )
(أما ترى الانفس من شَعْرَة ... تعاف للْمَاء الْفُرَات الزلَال)(3/399)
وَهَذَا معنى تداولته الشُّعَرَاء وَالسَّابِق اليه أَبُو اسحق الغزى فى قَوْله
(يَقُولُونَ مَاء الْحسن تَحت عذاره ... على الْحَالة الاولى وَذَاكَ غرور)
(أَلسنا نعاف الشّرْب من أجل شَعْرَة ... اذا وَقعت فى المَاء وَهُوَ نمير)
وَكَانَ مغرما بالجمال وَله مجون مستعذب يُؤثر عَنهُ الْكثير مِنْهُ حكى لى بعض الاخوان قَالَ دخل دمشق شخص من أهالى حلب وَكَانَ ذَا مَال وافر وَلكنه جَاهِل فأنزله وَالِد المترجم عِنْده وَكَانَ يعتنى بالتمشدق فى الالفاظ يظنّ أَنه يجريها على قَاعِدَة الاعراب فَرُبمَا قَالَ فى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ بِكَسْر النُّون وَكَانَ الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة يكرههُ فاتفق انه دَعَا جمَاعَة وَمَعَهُمْ غُلَام كَانَ يهواه فَدخل عَلَيْهِم الحلبى وَثقل عَلَيْهِم وَبدل صُورَة مجلسهم بِذكر مَا مَعَه من المَال فَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد سُبْحَانَ الله الرجل يملك مائَة ألف قِرْش وَيَقُول سُبْحَانَهُ بِكَسْر النُّون ويتطفل وَأَنا أقولها صَحِيحَة وَلَا أتطفل وَمَا معى وَلَا الدِّرْهَم الْفَرد وَله من هَذَا النَّوْع أَشْيَاء أخر وَلما مَاتَ وَالِده صَار شَيخا بعده وَأقَام ميعادهم بالجامع لكنه لم تطل مدَّته وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من الْفُضَلَاء أهل الذَّوْق وَكَانَت وِلَادَته فى سنة سِتّ عشرَة بعد الالف وَتوفى فى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن عِنْد وَالِده بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن بدر الدّين الملقب محيى الدّين الشهير بالمنشى الرومى الاقحصارى الحنفى الْمُفَسّر كَانَ من أجلاء الْعلمَاء الْمُحَقِّقين صنف تَفْسِيره الْمَشْهُور وَاقْتصر فِيهِ على قِرَاءَة حَفْص وَشرع فى تأليفه ببلدته اقحصار من أَعمال صَار وخان فى مستهل شهر رَمَضَان سنة احدى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَله فى هَذَا التَّفْسِير لطائف كَثِيرَة مِنْهَا انه استخرج معميين أَحدهمَا اسْم مُحَمَّد استخرجه من أول سُورَة الْحَمد وَأول سُورَة الْبَقَرَة وَفِيه عمل عَجِيب وحله سهل مُمْتَنع اذ استخراجه على أَن تكون ألف وَلَام الْحَمد ميما والثانى فى اسْم هود واستخرجه من سُورَة هود من قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة الا هُوَ آخذ بناصيتها} واشارته ظَاهِرَة قلت قَوْله تَعَالَى {مَا فرطنا فى الْكتاب من شئ} يرشد الى أَمْثَال هَذَا الاستخراج على الْوَجْه الذى لَا يبعد عَن الطَّبْع من غير احْتِيَاج الى مَعُونَة خارجية على ان بَعضهم استخرج اسْم هَاشم من قَوْله تَعَالَى {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} بِالْعَمَلِ العددى وَهُوَ ان عدد قمر ثلثمِائة وَأَرْبَعُونَ وهى عدد تَلَاهَا فَهُوَ هَاشم وَهَذَا الاستخراج قريب الى الِاسْتِحْسَان لَا كاستخراج اسْم شهَاب من قَوْله تَعَالَى(3/400)
{وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا} على أَن يُرَاد من لَفْظَة ليل مرادفه الفارسى وَهُوَ شب غشى هَا فَهَذَا وان كَانَ صَحِيحا الا ان اسْتِعْمَال الفارسى فِيهِ بعد وَالْفَقِير وقفت على تَفْسِير المنشى هَذَا فَرَأَيْت لَهُ عِبَارَات لَطِيفَة مستحسنة وَقد قرظ لَهُ عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم شيخ الاسلام مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الياس الْمَعْرُوف بجوى زَاده فَقَالَ فِيهِ
(أكْرم بتفسير كروض ناضر ... لم يمل حبر مثله بمحابر)
(حاو لكل فَوَائِد كقلائد ... وبدائع خطرت ببال عاطر)
(بِعِبَارَة قد أحكمت وبراعة ... قد ابكمت لسن البليغ الماهر)
(شمس المعارف والفضائل أشرقت ... يهدى سناها كل قلب حائر)
(مولَايَ محيى الدّين دمت منولا ... من يم فضلك كل در فاخر)
وَمِمَّا ينْسب الى المنشى من الشّعْر قَوْله يمدح البيضاوى
(أولُوا الالباب لم يألوا ... بكشف قناع مَا يُتْلَى)
(وَلَكِن فِيهِ للقاضى ... يَد بَيْضَاء لن تبلى)
وَكَانَ صَار شيخ الْحرم النبوى فى آخر الربيعين من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ورحل الى الْمَدِينَة وسكنها وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ بِالْحرم المكى فى سنة احدى بعد الالف
مُحَمَّد بن بدر الدّين بن بلبان البعلى الاصل الدمشقى الصالحى الْفَقِيه الْمُحدث الحنبلى الْمَذْهَب المعمر أحد الائمة الزهاد من كبار أَصْحَاب الشهَاب بن أَبى الْوَفَاء الوفائى الحنبلى الْمُقدم ذكره فى الحَدِيث وَالْفِقْه ثمَّ زَاد عَلَيْهِ فى معرفَة فقه الْمذَاهب زِيَادَة على مذْهبه وَكَانَ يقرى فى الْمذَاهب الاربعة وَسمع ببعلبك وبدمشق على الشهَاب العيثاوى وَالشَّمْس الميدانى وَأفْتى مُدَّة عمره وانتهت اليه رياسة الْعلم بالصحالية بعد وَفَاة الشَّيْخ على القبودى وَكَانَ عَالما ورعا عابدا قطع أوقاته فى الْعِبَادَة وَالْعلم وَالْكِتَابَة والدرس والطلب حَتَّى مكن الله تَعَالَى مَنْزِلَته من الْقُلُوب وأحبه الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ دينا صَالحا حسن الْخلق والصحبة متواضعا حُلْو الْعبارَة كثير التحرى فى أَمر الدّين وَالدُّنْيَا مُنْقَطِعًا الى الله تَعَالَى وَكَانَ كثيرا مَا يُورد كَلَام الْحَافِظ أَبى الْحسن على بن أَحْمد الزيدى نِسْبَة لزيد بن على بن الْحُسَيْن لانه من ذُريَّته ويستحسنه وَهُوَ قَوْله اجعلوا النَّوَافِل كالفرائض والمعاصى كالكفر والشهوات كالسم ومخالطة النَّاس كالنار والغذاء كالدواء وَكَانَ فى أَحْوَاله(3/401)
مُسْتَقِيمًا على أسلوب وَاحِد مُنْذُ عرف فَكَانَ يأتى من بَيته الى الْمدرسَة العمرية فى الصَّباح فيجلس فِيهَا وأوقاته منقسمة الى أَقسَام اما صَلَاة أَو قِرَاءَة قُرْآن أَو كِتَابَة أَو اقراء وانتفع بِهِ خلق كثير وَأخذ عَنهُ الحَدِيث جمع من أَعْيَان الْعلمَاء مِنْهُم الامام الْمُحَقق مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربى والوزير الْكَبِير مصطفى باشا بن مُحَمَّد باشا الكوبرى وَابْن عَمه حُسَيْن الْفَاضِل وأشياخنا الثَّلَاثَة أَبُو الْمَوَاهِب الحنبلى وَعبد القادرين عبد الهادى وَعبد الحى العكرى وَغَيرهم وحضرته أَنا وقرأت عَلَيْهِ فى الحَدِيث وَاتفقَ أهل عصرنا على تفضيله وتقديمه وَله من التآليف مُخْتَصر فى مذْهبه صَغِير الحجم كثير الْفَائِدَة وَله محَاسِن ولطائف مَعَ الْعلمَاء وَولى خطابة الْجَامِع المظفرى الْمَعْرُوف بِجَامِع الْحَنَابِلَة وَكَانَ النَّاس يقصدون الْجَامِع الْمَذْكُور للصَّلَاة وللتبرك بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ بَقِيَّة السّلف وبركة الْخلف وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالسفح وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن بَرَكَات أبي الوفا الشَّيْخ الصَّالح القانت مربى المريدين أَبُو الْفضل الموصلى الاصل الشيبانى الدمشقى الميدانى الشافعى الصوفى القادرى كَانَ كأبيه جوادا سخيا حسن الاخلاق لَهُ صَبر على جماعته وَكَانَ يتَرَدَّد اليه كأبيه أكَابِر النَّاس وعلماؤهم وَكَانُوا يعظمونه وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ مِمَّن تجمل بِهِ وقته وَكَانَ بَيته موردا للواردين ومنزلا للوافدين ورزق الْحَظ فى الجاه وَالْولد والعمر وَأكْثر أَوْلَاده أَسْبَاط فَقِيه الشَّام فى وقته الشّرف يُونُس العيثاوى وَهُوَ وَالِد القاضى بدر الدّين حسن الموصلى الْمُقدم ذكره وَكَانَت وَفَاته فى آخر لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشرى شعْبَان سنة ثَمَان بعد الالف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع متجك بميدان الْحَصَا وَدفن بتربتهم جوَار مَسْجِد النارنج الملاصق للمصلى عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة أَو يزِيد عَلَيْهَا وتأسف النَّاس عَلَيْهِ كثيرا رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن بَرَكَات بن مُحَمَّد المنعوت كَمَال الدّين بن الكيال الدمشقى الْكَاتِب البارع أحد الافراد فى جودة الْخط وَحسن الضَّبْط وَكَانَ خطه فى وقته أغْلى قيمَة من الْجَوْهَر وَكَانَ يكْتب أَنْوَاع الاقلام على اختلافها وَهُوَ فى كل مِنْهَا محسن مجيد واستاذ وحيد وَكتب كتبا كَثِيرَة وتغالى النَّاس فى أثمانها وَحكى انه كتب مرّة تَفْسِير شيخ الاسلام أَبى السُّعُود العمادى وَبَاعه وَتوجه بِثمنِهِ الى الْقُسْطَنْطِينِيَّة ودخلها فى أَيَّام السُّلْطَان مُرَاد بن سليم وانتسب الى شيخ الاسلام سعد الدّين بن حسن جَان معلم(3/402)
السُّلْطَان الْمَذْكُور فأسكنه عِنْده فى دَاره وهيأ لَهُ لوازمه وأسبابه وَأَعْطَاهُ نَفَقَة كَثِيرَة وَكتب لَهُ تَفْسِير أَبى السُّعُود الْمَذْكُور فى مُدَّة سنتَيْن وَهُوَ مُقيم عِنْده وَقد كَانَ تأنق فى كِتَابَته جهده فَلَمَّا رَآهُ السعد مَال اليه بكليته وَأَعْطَاهُ مَالا فَوق مَا يتمناه وانتظم حَاله ثمَّ بعد مُدَّة مل الغربة فهرب وَقدم الى دمشق وفطن بِهِ السعد فتألم لغيبته وَأقَام بعد ذَلِك بِدِمَشْق وَتزَوج بهَا وَكَانَ لَا يفتر عَن كِتَابَة الْكتب مُدَّة حَيَاته وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ من الْمشَار اليهم فى الْكِتَابَة وانْتهى اليه الظّرْف فى حسن التناسق وَجمع من خطوط أساتذة الْكتاب من الْعَجم وَالروم مَا لم يجمعه غَيره وَكَانَ مَعَ ذَلِك حسن الاخلاق لطيف الطَّبْع لين الْجَانِب كثير الْفَوَائِد وَكَانَت وَفَاته فى سنة سبع وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَاتفقَ مَوته لَيْلَة النوروز وَهُوَ انْتِقَال الشَّمْس الى برج الْحمل فَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن العمادى مؤرخا وَفَاته بقوله
(لقد نسخ الْكَمَال بِلَا مِثَال ... عَشِيَّة قيل للشمس انْتِقَال)
(تعجب لاتِّفَاقهمَا وأرخ ... لبرج الْجنَّة انْتقل الْكَمَال)
قلت وَقد أجْرى التَّاء المربوطة هَاء فليتنه لَهُ وَهَذَا من التواريخ اللطيفة
مُحَمَّد بن بَرَكَات بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ابراهيم بن عبد الرَّحْمَن السقاف الحضرمى الْمَعْرُوف جده بكريشة أحد أَوْلِيَاء زَمَنه وأصفياء وقته وَله الكرامات الجمه والمناقب الْعَظِيمَة ذكره الشلى فى تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين وَقَالَ فى تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين ثمَّ حصلت لَهُ جذبة وَرُبمَا حصلت مِنْهُ أُمُور مَمْنُوعَة فى ظَاهر الشَّرْع كاتلاف الاموال بالنَّار ورميها فى الْبَحْر بِلَا سَبَب ظَاهر وَكَانَ لَا يُقيم بِبَلَد سنة كَامِلَة بل ينْتَقل فى الْبلدَانِ فَرَحل الى الْهِنْد والحبشة والسواحل واليمن والحجاز وَكَانَ يتَرَدَّد الى مَكَّة وَكَانَ قاضيها ورئيسها القاضى حُسَيْن الْمَشْهُور وَكَانَ يُحِبهُ ويعتقده وأملكه على ابْنَته وَكَانَ كلما دخل بَلْدَة تصرف فى أَهلهَا لَا سِيمَا ولاتها وحكامها تصرف الْملاك وَكَانَ كل حَاكم يأتى الى الْيمن يكون تَحت أمره الْمُطلق والمقيد ويستبد بالامر على خدمه وخاصته وَكَانُوا يعطونه من الاموال والجواهر والملابس الفاخرة وَالْخَيْل والامتعة مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَكَانَ كثير الانفاق على أَصْحَابه لَا سِيمَا اذا خرج الى حَضرمَوْت وَكَانَ لَا ينَام الا قَلِيلا وَكَانَ عَظِيم الهيبة على جماعته وَرُبمَا أنكر عَلَيْهِ انه اذا جَاءَ وَقت الصَّلَاة أَمرهم بهَا وَلَا يصلى بل يغيب عَنْهُم وكل من أنكر عَلَيْهِ حَاله اذا اجْتمع بِهِ زَالَ عَنهُ ذَلِك وَكَانَ لَا يجمتع(3/403)
الا بآحاد النَّاس وَكَانَ قَلِيل الشطح وَكَانَت الْمُلُوك والسلاطين تعتقده وتعظمه واذا كتب لَاحَدَّ فى شئ لَا يُسْتَطَاع رده وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من عجائب الدُّنْيَا وَله كرامات خارقة كَمَا أخبر من شَاهدهَا من الثِّقَات مِنْهَا انه كَانَ يَأْخُذ من التُّرَاب والمدر وَالْحجر وَيُعْطِيه من يَشَاء من أَصْحَابه فيجده نَقْدا أَو سكرا أَو حلوى على حسب مَا طلبه مِنْهُ ذَلِك الشَّخْص قَالَ الشلى وَهَذِه الْكَرَامَة سَمعتهَا من جمَاعَة من أهل مَكَّة وَمن أهل حَضرمَوْت شاهدوها وَمِنْهَا ان حَاكم الْيمن أَتَى الى بَيته لزيارته بخيله فأكرمهم وَقَالَ لَهُ خادمه لَيْسَ عِنْد نَاشِئ من البخور فَأدْخل يَده تَحت ثِيَابه وَأخرج قِطْعَة عنبر وَقَالَ بخرهم بِهَذَا وَمِنْهَا انه اشْترى بقرة وَلم يكن عِنْده شئ من ثمنهَا فاستمهل صَاحبهَا فَامْتنعَ فَضرب صَاحب التَّرْجَمَة قرن الْبَقَرَة ضربات على عدد ثمن الْبَقَرَة فَتَنَاثَرَ مِنْهَا قدر ثمنهَا أخبرنى بِهَاتَيْنِ الكرامتين السَّيِّد عيدروس بن حُسَيْن الْبَار وَمِنْهَا مَا أخبرنى خادمه عبد الله بن كُلَيْب قَالَ أرسلنى السَّيِّد الى السُّلْطَان عبد الله بن عمر الكثيرى يستشفع فى رجل فَامْتنعَ وَقَالَ هَذَا رجل لنا عَلَيْهِ أَمْوَال وَفعل أفعالا قبيحة قَالَ فَأخْبرت سيدى فَسكت واذا بالسلطان يدق الْبَاب فَفتح لَهُ فَاعْتَذر واستغفر وَقَالَ أصابتنى ريح فى بطنى كَادَت أَن تهلكنى فَمسح بِيَدِهِ على بَطْنه فَعُوفِيَ لوقته وَمِنْهَا انه لما سَافر الى الْمَدِينَة نزل خَارِجهَا وَلم يدخلهَا وَخرج لَهُ أكابرها وَوَقع فى نفس شيخ الْحَرَام شئ على السَّيِّد من عدم دُخُوله وساء ظَنّه بِهِ فَدخل تِلْكَ اللَّيْلَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة فَوجدَ صَاحب التَّرْجَمَة عِنْد الْقَبْر الشريف دَاخل الْحُجْرَة فبهت واستعظم ذَلِك فَلَمَّا أصبح خرج اليه معتذر فكاشفه السَّيِّد وَقَالَ أتظن ان هَذِه الجدران تحجبنا وَله غير ذَلِك من الكرامات ثمَّ رَحل الى بندر المخا وَاسْتقر فِيهِ الى ان مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن خَارج الْعمرَان وَعمل على قَبره عَرِيش من القضبان وقبره مَعْرُوف يزار ويتبرك بِهِ وَمن أَسَاءَ الادب عِنْده عوجل بالعقوبة الا أَن يُبَادر بالاستغفار وَالتَّوْبَة وَوَقع لبَعض الْعَجم انه أَسَاءَ الادب فى حَضرته فَنَهَاهُ الْخَادِم فَلم ينْتَه فتزحلقت رجله وَصَارَ يَتَحَرَّك كالطير الْمَذْبُوح وَمَات لوقته
مُحَمَّد بن بَرَكَات بن مفرج الشهير بالكوافى الحمصى الدمشقى الشَّافِعِي كَانَ من الْعلمَاء الصلحاء قدم الى دمشق فى أَيَّام كهولته وقطن بِالْمَدْرَسَةِ الطبية بمحلة القيمرية مُدَّة أَرْبَعِينَ سنة وَأخذ عَن أجلاء الْعلمَاء واشتغل على جمَاعَة من أهل الْعلم مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الله الخباز الْمَعْرُوف بالبطنينى فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالْفِقْه وَغَيرهمَا(3/404)
ورحل الى مصر خمس مَرَّات وَأخذ عَن علمائها وَكَانَ صوفى المشرب قادري الطَّرِيقَة وَكَانَ أَعْيَان دمشق يذهبون اليه ويقصدون زيارته والتبرك بِهِ وَاسْتمرّ مُقيما بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة هَذِه الْمدَّة لَا يخرج الا لصَلَاة الْجُمُعَة أَو أَمر مُهِمّ وَكَانَ يقرئ الْقُرْآن والنحو وَغَيرهمَا وَكتب بِخَطِّهِ الْكثير من الْكتب هُوَ وتلاميذه وَاتفقَ لَهُ من الْعَجَائِب انه أَقرَأ النَّحْو وَسمع الْقُرْآن وَكتب الْفِقْه فى آن وَاحِد وَمن عجائبه انه كَانَ يكْتب صحيفَة من الْوَرق بغطة قلم وَاحِدَة وَختم الْقُرْآن ختمتين وَثمن ختمة فى يَوْم وَاحِد وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمن شعره قَوْله فى التوسل
(رباه رباه أَنْت الله معتمدى ... فى كل حَال اذ حَالَتْ بى الْحَال)
(يَا وَاسع اللطف قد قدمت معذرتى ... ان كَانَ يغنى عَن التَّفْصِيل اجمال)
(مَاذَا أَقُول وَمنى كل مَعْصِيّة ... ومنك يَا سيدى حلم وامهال)
(وَمَا أكون وَمَا قدرى وَمَا عملى ... فى يَوْم تُوضَع فى الْمِيزَان أَعمال)
وَكتب الى بعض اصحابه
(وفوض لمولاك كل الامور ... فتفويض أَمرك خلق حسن)
(وان جَاءَ يَوْم بِهِ شدَّة ... فَلَا تجزعن وَلَا تيأسن)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة خمس بعد الالف وَتوفى بعد عشَاء لَيْلَة الاحد السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان
السَّيِّد مُحَمَّد بن برهَان الدّين الشهير بشريف الحميدى نقيب السَّادة الطالبية بممالك آل عُثْمَان أحد فصحاء الرّوم وبلغائهم وَكَانَ عَالما فَاضلا مَشْهُورا بالذكاء والتبحر فى الْعُلُوم لَازم من شيخ الاسلام زَكَرِيَّا بن بيرام وَكَانَ فى خدمَة نيابته بحلب لما كَانَ قَاضِيا بهَا وَلما صَار قاضى الْعَسْكَر أعطَاهُ خدمَة التذاكر ثمَّ زوجه ابْنَته وتنقل فى الْمدَارِس ثمَّ ولى قَضَاء الشَّام فى سنة ثَمَان عشرَة وَألف ودخلها وَأحسن فى قَضَاءَهُ ومدحه شعراؤها بالقصائد والمقطعات وَلم أسمع بقاض فى دمشق مدح بِمِقْدَار مَا مدح بِهِ هَذَا وَكَانَ محبا للادباء مقربا لَهُم متهافتا على التَّلَذُّذ بمجالستهم وقرأت فى أَخْبَار الاديب عبد اللَّطِيف بن يحيى المنقارى انه كَانَ نديم مَجْلِسه وَكَانَ يقربهُ ويدنيه وَمرض أَبوهُ فى أَيَّام قَضَائِهِ فَأَرَادَ وَلَده أَن يستفرغه عَن وظائفه فتمنع ثمَّ انه لما أحس بِالْمَوْتِ أَرَادَ الْفَرَاغ فَمَا أمكنه فَذَهَبت الْوَظَائِف وَلم يحصل لَهُ مِنْهَا الا الْقَلِيل وَكَانَ بِيَدِهِ تدريس العزية الَّتِى بالشرف الاعلى بِجَانِب دمشق الغربى(3/405)
فَأَخذه الْجمال يُوسُف ابْن كريم الدّين كَاتب المحكمة وَعجز المنقارى عَن أَخذه لقرب الكريمى من القاضى فَكتب المنقارى الى قاضى الْقُضَاة السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه الابيات معاتبة على تَوْجِيه مدرسة أَبِيه للكريمى وهى أَبْيَات لَطِيفَة وغالبها تضمين من شعر الْغَيْر
(غيرت يَا دهر من ودى غَدا لَهُم ... ملازما فنأت عَنى لَهُم نعم)
(قد كنت أَرْجُو وجودا الْجُود مَعَ شرف ... أسمو بِهِ فَوق أقرانى اذا حكمُوا)
(فَصَارَ جودهم للْغَيْر وانخفضت ... مَرَاتِب شأوها الاخلاص عِنْدهم)
(وفى فؤادى من عكس الردى حرق ... قد أضرمتها ريَاح شابها الالم)
(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ ... تجرى الرِّيَاح بِمَا لَا يشتهى الارم)
(لَعَلَّهَا تنطفى من برد حكمته ... ويشتقى الْقلب من نَار لَهَا ضرم)
(فان عكس الرجا مر مذاقته ... على كئيب عرته فى الورى نعم)
(مولاى يَا من غَدا سر الْوُجُود وَمن ... سواهُ عندى وان أولى الجفا عدم)
(لأَنْت انسان عين الرّوم حزت على ... مَا نالها قطّ لَا عرب وَلَا عجم)
(وفقت غَيْرك فى حكم ومعدلة ... وشدت ربعا وَمن سكانه الْكَرم)
(طلعت فى أفقنا بَدْرًا وَلَيْسَ يرى ... لِليْل جهل وظلم فى الملا ظلم)
(لَكِن مَوضِع رحلى أسود وفمى ... فِيهِ لهيب الظما دون الورى وَدم)
(سقيت جرعة عَيْش كُله كدر ... ووردهم من نداك السلسل الشبم)
(تعلّقت بحبال الشَّمْس مِنْك يدى ... ثمَّ انْثَنَتْ وهى صفر ملؤُهَا نَدم)
(هَل فى الْقَضِيَّة يَا من فضل دولته ... وَعدل سيرته بَين الورى علم)
(يضيع وَاجِب حقى بعد مَا شهِدت ... بِهِ النَّصِيحَة والاخلاص والخدم)
(وَلم أقصر لَدَى حفظ الوداد وَلَا ... جرت الى نَحْو اخلاصى لَك التهم)
(وَمَا ظننتك تنسى حق معرفتى ... ان المعارف فى أهل النهى ذمم)
(وَلم أضيع عهودا مِنْك لى سلفت ... وَمَا غدرت فَلم للود احترم)
(حرمت مَا كنت أَرْجُو من ودادك لى ... مَا الرزق الا الذى تجرى بِهِ الْقسم)
(بِاللَّه يَا ابْن الالى سَارُوا الى رتب ... مَا نالها أحد فى الْخلق غَيرهم)
(مَا مر يَوْمًا بفكرى مَا يريبكم ... ولاسعت بى الى مَا سَاءَ كم فدم)
(أحببتكم لخلال كنت أعرفهَا ... وانما تعشق الاخلاق والشيم)(3/406)
(اذا محاسنى اللاتى أدل بهَا ... كَانَت ذنوبا فوصلى مِنْك منصرم)
(مَعَ ذَا فَأَنت منى قلبى فلست الى ... سواك ان عبس التبريح أبتسم)
(وَبعد لَو قيل لى مَاذَا تحب وَمَا ... هَوَاك من زِينَة الدُّنْيَا لَقلت هم)
(وَمَا سخطت بعادى اذ رضيت بِهِ ... فَكل جرح اذا أرضاك ملتئم)
(فَاسْلَمْ على أَي حَال شِئْت يَا أمْلى ... وَأَنت ذُو حِكْمَة بَين الورى حكم)
(مدى الزَّمَان وَمَا أبدى كئيب أسى ... شكاية من شرِيف دَاره حرم)
وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة ينظم الشّعْر العربى وَمن نظمه مَا قَالَه لما ولى الْحَافِظ أَحْمد حُكُومَة الشَّام وقدمها وَكَانَ ظَالِما عاتيا وَكَانَ تقدمه حَاكم أَلين مِنْهُ فَقَالَ
(أرسل السُّلْطَان بِالْعَدْلِ الْمُبين ... حَاكما وافى لقمع الظَّالِمين)
(أَحْمد وافى دمشقا حَافِظًا ... بَيْضَة الاسلام بالرأى الرزين)
(دَامَ فى عدل واقبال وفى ... عزة من لطف رب الْعَالمين)
(مذر أوه لَيْسَ من جنس الذى ... قد خلا من قبله فى الْحَاكِمين)
(قَالَ أهل الظُّلم مِنْهُ رهبة ... لَيْسَ هَذَا الكعك من ذَاك الْعَجِين)
وعارض هَذِه جمَاعَة من الادباء وَلَيْسَ فى ايراد معارضاتهم كَبِير فَائِدَة الا تضمين هَذَا الْمثل فَلِذَا أَعرَضت عَن ذكرهَا ثمَّ عزل السَّيِّد مُحَمَّد عَن قَضَاء الشَّام وَولى قَضَاء مصر وقسطنطينية ثمَّ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولى مرَّتَيْنِ نقل فى ثانيتهما الى نقابة الاشراف وَذَلِكَ فى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَهُوَ حادى عشر نَقِيبًا ولى فى الدولة العثمانية فانه من عهد السُّلْطَان عُثْمَان الْكَبِير الى عهد السُّلْطَان يلدرم بايزيد لم يتَعَيَّن نقيب للاشراف ثمَّ ان أَمِير سُلْطَان كَانَ صحب مَعَه الى بروسه لما دَخلهَا السَّيِّد على النطاع وَهُوَ جد عاشق حلبى فعين نَاظرا على الاشراف وَلما مَاتَ ولى مَكَانَهُ وَلَده زين العابدين فى زمن السُّلْطَان مُرَاد وَالسُّلْطَان مُحَمَّد الاولين فَلَمَّا مَاتَ بقى هَذَا المنصب خَالِيا الى أَوَائِل عصر السُّلْطَان بايزيد فَقدم فى زَمَانه السَّيِّد مَحْمُود الْمَعْرُوف بأمير مخلص وَكَانَ ساح فى الْعَرَب والعجم وَكَانَ قدومه الى الرّوم فى أَوَائِل الْقرن التَّاسِع فَوَقع من بعض الاشراف أَمر اقْتضى تأديبه من أَجله فعين السَّيِّد مَحْمُود الْمَذْكُور لنظارة الاشراف بِاخْتِيَار الْجُمْهُور وَكَانَ يعرف أَن فى بِلَاد الْعَرَب يُطلق على هَذَا النَّاظر نقيب الاشراف فَأَشَارَ أَن يكْتب فى منشوره هَذَا اللَّفْظ وابتدأوا وظيفته أَولا بِعشْرين عثمانيا ثمَّ ترقت الى أَن(3/407)
صَارَت سبعين وَلَا زَالَ السَّيِّد مُحَمَّد شرِيف نَقِيبًا الى أَن توفى فى سنة أَرْبَعِينَ وَألف تَقْرِيبًا وَدفن بقسطنطينية
مُحَمَّد بن تَاج الدّين بن أَحْمد المحاسنى الدمشقى الحنفى الْخَطِيب بِجَامِع دمشق تقدم أَبوهُ وَأَخُوهُ عبد الرَّحِيم وَهَذَا أشهر آل بَيته وأفضلهم وَكَانَ فَاضلا كَامِلا أديبا لبيبا لطيف الشكل وَجها سَاكِنا جَامعا لمحاسن الاخلاق حسن الصَّوْت نَشأ فى نعْمَة وافرة وَكَانَ أَبوهُ ذَا ثروة عَظِيمَة فَكَانَ يصله بِكُل مَا يحْتَاج اليه من مَال ومتاع وَقَرَأَ على عُلَمَاء عصره مِنْهُم الشّرف الدمشقى وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقى والعمادى الْمُفْتى وَالْجمال الفتحى امام السُّلْطَان وَأخذ عَن الشَّيْخ عمر القارى والنجم الغزى وأبى الْعَبَّاس المقرى وسافر الى الرّوم صُحْبَة وَالِده وَأخذ عَن علمائها مِنْهُم الشَّمْس مُحَمَّد المحبى ثمَّ رَجَعَ وَأعْطى بقْعَة تدريس بالجامع الاموى عَن شَيْخه الشّرف لما مَاتَ ولازم من الْمولى مُحَمَّد بن أَبى السُّعُود ولى خطابه جَامع السُّلْطَان سليم بصالحية دمشق واشتهر بِحسن الحطابة ثمَّ صَار اماما بِجَامِع بنى أُميَّة وَلما توجه شَيْخه الفتحى الى الرّوم وَكَانَ عين لامامة السُّلْطَان مُرَاد فوض اليه أَمر حِصَّته فى الخطابة بِجَامِع دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الجوهرية وَكَانَ يدرس فى الْجَامِع فى غَالب الايام والليالى سِيمَا فى الاشهر الثَّلَاثَة رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وأقرأ صَحِيح مُسلم وَكتب عَلَيْهِ بعض تعاليق وَسكن أَولا فى دَار جده لامه الْحسن البوريتى ثمَّ وقف عَلَيْهِ رجل يعرف بالصنجقدار بَيْتا قبالة الْمدرسَة العادلية الْكُبْرَى فسكن فِيهِ وسافر الى الرّوم فى سنة خمسين وَأخذ تَوْلِيَة الْجَامِع الاموى وَولى قسْمَة الْعَسْكَر مرَّتَيْنِ ثمَّ بعد وَفَاة وَالِده سكن بداره قرب بَاب الفراديس وَفرغ لَهُ الشهَاب أَحْمد البهنسى عَن نصف الخطابة بالجامع الاموى ثمَّ لما مَاتَ شَيْخه الفتحى اسْتَقل بِجَمِيعِ الخطابة أَصَالَة وبقى الى أَن ولى على الْقصير دفتريه الشَّام فَادّعى أَن الخطابة الَّتِى للفتحى كَانَت فى السَّابِق نظارة للسلطانة وَأحسن بهَا اليه السُّلْطَان عُثْمَان وَجعلهَا خطابة مَكَان النظارة وَأظْهر صُورَة التَّوْجِيه فَرفع يَده عَنْهَا وَبقيت فى يَده الحطابة الاصلية الَّتِى فرغ لَهُ عَنْهَا البهنسى وَلما توفى الشَّيْخ سعودى الغزى وَجه اليه درس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر من جَامع دمشق كَمَا أسلفته فى تَرْجَمَة مُحَمَّد بن أَحْمد الاسطوانى قَرِيبا وَهَذَا الدَّرْس وَظِيفَة حَادِثَة بعد الْخمسين وَألف رتبها بهْرَام أغاكتخدا وَالِدَة السُّلْطَان ابراهيم وَبنى السُّوق الْجَدِيد والخان(3/408)
قرب بَاب الْجَابِيَة لاجلها وَعين للمدرس سِتِّينَ قرشا وللمعيد ثَلَاثِينَ ولقارئ الْعشْر عشرَة قروش ودرس المحاسنى وَكَانَ فصيح الْعبارَة وانتفع بِهِ خلق من عُلَمَاء دمشق مِنْهُم شَيخنَا الْعلَا مُحَمَّد بن على الحصكفى مفتى الشَّام وَشَيخنَا الْمُحَقق ابراهيم بن مَنْصُور الفتال وَغَيرهمَا وَله تحريرات تدل على علمه وَله شعر حسن مطبوع فَمِنْهُ قَوْله من قصيدة
(يَا سَقَاهَا مرابعا للتلاقى ... كل سَار من الحيا غيداق)
(حَيْثُ تبدو قَالَه تخجل الْغُصْن ... وَوجه يزِيد فى الاشراق)
(ورعى الله عهدنا بالمصلى ... حَيْثُ ذَات اللمى على الْمِيثَاق)
(حَيْثُ أَشْكُو لَهَا الغرام ووجدا ... قد أسَال الدُّمُوع من أماقى)
(يَا حداة المطى رفقا بقلبى ... ان طعم الْفِرَاق مر المذاق)
(جبلت طينتى على محنة الْحبّ فحسبى من الْهوى مَا ألاقى ... )
(كل يَوْم قطيعة وبعاد ... واكتئاب وفيض دمع مآقى)
(شَاب فودى يَتْلُو مشيب فؤادى ... فأمانا من هول يَوْم الْفِرَاق)
(لست شعرى مَتى تعيد الليالى ... مَا أتاحت من صفو عَيْش التلاقى)
(مَا أَظن الايام تحكم الا ... بامتناع الارفاق للارفاق)
وَمن // جيد شعره // قَوْله
(وتنفسى الصعداء لَيْسَ شكاية ... مِمَّا قضته سوابق الاقدار)
(لَكِن بقلبى جملَة تفصيلها ... صَعب لَدَى الْعُقَلَاء والاحرار)
(فَجعلت مَوضِع كل ذَلِك أَنه ... ضمنت مرادى من عَطاء البارى)
وَكتب الى بعض أَصْحَابه بِدِمَشْق وَهُوَ بِمصْر
(لَو كنت بمرأى من خليط نزحا ... مَا كَانَ دخيل الوحد منى وضحا)
(لَكِن بعدوا فَصَارَ سرى عليا ... من بعدهمْ وَصَارَ كأسى قدحا)
وَمن ملحه هَذَا الموشح نظمه على أسلوب موشح لبِنْت العرندس الشيعى ومطلع موشحه
(أهواه مهفهفا من الْولدَان ... ساجى الحدق)
(قد فر من الْجنان من رضوَان ... تَحت الغسق)
(من ريقته سكرت لَا من راحى ... كم جدد لى رحيقها أفراحى)
(كم أسكرنى بخمرها يَا صَاح ... كم أرقنى بطرفه الْوَسْنَان)(3/409)
حَتَّى الفلق
(لَو عَامله بعدله ذَا الجانى ... أطفا حرقى)
(من باهر حسنه يغار الْقَمَر ... فى روض جماله يحار النّظر)
(قد عز لَدَى ان بدا المصطبر ... مَا اهتز يمِيل مَيْلَة الاغصان)
للمعتنق
(الا وأتاح للمحب العانى ... كل القلق)
(يَا وَيْح محبه اذا مَا خطرا ... كالبدر يلوح فى الدياجى قمرا)
(ان أقض وَلم يقْض لقلبى وطرا ... فالويل اذ المغرم ولهان)
فى الْحبّ شقى
(قد حمل الْعِشْق من الهجران ... مَا لم يطق)
(الْقدر شيق مثل خوط البان ... واللحظ كَيفَ الْهِنْد فى الاجفان)
(وَالْخَال شَقِيق الْمسك فى الالوان ... والخد مورد أسيل قانى)
شبه الشَّفق
(والعارض قد سلسل كالريحان ... للورد يقى)
(يَا عاذل لَو أَبْصرت من أهواه ... ناديت تبَارك الذى سواهُ)
(قد أحسن خلقه وَقد نماه ... اذ كمله وَخص بِالنُّقْصَانِ)
بدر الافق
(قد أفرغه فى قالب الاحسان ... زاكى الْخلق)
(المصبر على هَوَاهُ مثل الصَّبْر ... وَالْقلب غَدا من هجره فى جمر)
(مَا ألطفه فى وَصله والهجر ... لم ألق لَهُ فى وَصله من ثانى)
حُلْو الملق
(مَا وَاصل بعد بعده أجفانى ... غير الارق)
ومطلع موشح بنت العرندس هُوَ هَذَا
(مَا رنحت الصِّبَا غصون البان ... بَين الْوَرق)
(الا وشجى الْهوى لقلبى العانى ... نَار الحرق)
(مَا هَب صبا ... لنحوك الْقلب صبا ... لَاقَى وصبا ... يَا بدر سما ... سما على بدر سما ... للنَّاس سبا ... صلنى فَعَسَى ... تنَال منى ذَهَبا ... عقلى ذَهَبا(3/410)
وَالْقلب منى مواقد النيرَان نامى القلق والناظر قد أسَال من أجفانى مَاء الغدق)
وَمن شعر المحاسنى قَوْله
(أودعكم وأودعكم جنانى ... وأنثر أدمعى مثل الجمان)
(وَلَو نعطى الْخِيَار لما افترقنا ... وَلَكِن لَا خِيَار مَعَ الزَّمَان)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فى سنة اثنتى عشرَة وَألف وَتوفى عَشِيَّة الاربعاء غرَّة شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس بِالْقربِ من جده لامه الْحسن البورينى ورثاه شَيخنَا عبد الْغنى بن اسماعيل النابلسى بقصيدة مطْلعهَا
(لتهن رعاع النَّاس وليفرح الْجَهْل ... فبعدك لَا يَرْجُو البقا من لَهُ عقل)
(أيا جنَّة قرت عُيُون أولى النهى ... بهازمنا حَتَّى تداركها الْمحل)
وهى قصيدة // جَيِّدَة // غَايَة وَلَوْلَا طولهَا لذكرتها برمتها
مُحَمَّد بن تَاج الدّين بن مُحَمَّد المقدسى الاصل الرملى المولد والمنشأ الحنفى مفتى الرملة الامام الْعَالم الصَّالح التقى الْخَيْر نادرة الزَّمَان وَهُوَ ابْن ابْن أُخْت شيخ الاسلام خير الدّين الرملى أَخذ بِبَلَدِهِ عَن خَال أَبِيه وَابْنه الشَّيْخ محيى الدّين ثمَّ رَحل الى مصر فى حُدُود سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَأقَام بهَا الى سنة سبعين وَقَرَأَ بالروايات على الشَّيْخ سُلْطَان المزاحى جَمِيع الْقُرْآن للسبعة ثمَّ ختمة أُخْرَى للعشرة من طَرِيق الدرة وَأخذ عَنهُ الحَدِيث وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح ألفية ابْن الهائم للشَّيْخ زَكَرِيَّا فى الْفَرَائِض وَأَجَازَهُ بمروياته وَأخذ الحَدِيث أَيْضا عَن الشَّمْس البابلى قَرَأَ عَلَيْهِ شرح ألفية العراقى للشَّيْخ زَكَرِيَّا وَسمع عَلَيْهِ بعض البخارى وَبَعض سيرة ابْن سيد النَّاس وَشرح عقيدة شَيْخه اللقانى فى العقائد وَأخذ أَيْضا الحَدِيث عَن الْمُحدث عبد السَّلَام اللقانى ولازم النُّور الشبراملسى فى شرح ألفية العراقى للشَّيْخ زَكَرِيَّا وفى الْمُخْتَصر للسعد مَعَ حاشيتيه للحفيد وَابْن قَاسم وَقَرَأَ عَلَيْهِ بالروايات من طَرِيق السَّبْعَة وَأَجَازَهُ بمروياته وَأخذ الْفِقْه عَن فَقِيه الْحَنَفِيَّة بِمصْر حسن الشرنبلالى قَرَأَ عَلَيْهِ الدُّرَر بحاشيته عَلَيْهِ وَكَانَ معيد درسه وَعَن الشهَاب الشوبرى قَرَأَ عَلَيْهِ من أول الْهِدَايَة الى بَاب الْعتْق فَقَرَأَ الشَّيْخ حِينَئِذٍ الْفَاتِحَة ثَلَاثًا قَائِلا بعْدهَا اللَّهُمَّ اعْتِقْ رقابنا من النَّار وَكَانَ ذَلِك آخر قِرَاءَته وَمكث أَيَّامًا قَليلَة وَمَات وَقَرَأَ على الشَّيْخ عبد الباقى حفيد شيخ الاسلام بن غَانِم شرح الْكَنْز المنظوم لِابْنِ الفصيح وَأَجَازَهُ جلّ(3/411)
شُيُوخه وَرجع الى بَلَده ولازم خَال وَالِده زِيَادَة على عشر سِنِين ولحظه بنظره وَأَجَازَهُ بمروياته ثمَّ نزل لَهُ عَن افتاء الرملة وَكتب الى شيخ الاسلام يحيى المنقارى مفتى الرّوم يطْلب مِنْهُ الاجازة لَهُ بالفتوى وَأَن يكون بدله فِيهَا لاهليه لذَلِك فَأَجَابَهُ الى طلبته وَصَارَ هُوَ الْمُفْتى فى زمَان أستاذه الْمَذْكُور وَلم يزل ملازما لَهُ الى أَن مَاتَ فَانْفَرد بعده بالرياسة وَصَارَ هُوَ الْعُمْدَة فى تِلْكَ الخطة وَأخذ عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربى نزيل مَكَّة لما مر على الرملة وَأَجَازَهُ بمروياته وَلما مر شَيخنَا الشَّيْخ يحيى المغربى أَيْضا على الرملة سمع مِنْهُ الحَدِيث المسلسل بالاولية وَقَرَأَ عَلَيْهِ طرفا من الْكَشَّاف وَغَيره وَأَجَازَهُ بمروياته وَمن اجازته لَهُ ولولده
(أجزت أخانا الْفَاضِل الْعلم الذى ... تسمى بِمن فى النَّاس فى الْحَشْر يشفع)
(ونجلا لَهُ وَالله ينجح قَصده ... أَبَا للهدى والشخص بِالِاسْمِ يرفع)
(وَقَالَ بذا يحيى ونجل مُحَمَّد ... وَمن مغرب الاوطان وَالله ينفع)
وَكَانَت وَفَاته عقب الْحَج وَهُوَ رَاجع الى بَلَده صُحْبَة الركب المصرى عَاشر الْمحرم افْتِتَاح سنة سبع وَتِسْعين وَألف بالينبع وَدفن بهَا
مُحَمَّد بن جمال الدّين بن أَحْمد الملقب حَافظ الدّين العجمى القدسى الحنفى القاضى الاجل الْفَاضِل الاديب كَانَ من أَفْرَاد الزَّمَان فى الْفضل وَكَثْرَة الاحاطة باللغة والآداب قَرَأَ بِبَلَدِهِ وَحصل وتفوق وسافر مرَارًا الى الرّوم ولازم من شيخ الاسلام مُحَمَّد بن سعد الدّين وَولى الْقَضَاء فى اقليم مصر وَتصرف بعدة مناصب الى ان انْفَصل عَن قَضَاء المنصورة ثمَّ صَار مفتيا بالقدس ومدرسا بِالْمَدْرَسَةِ العثمانية بهَا وَقدم اليها فَلم يمتزج مَعَ أَهلهَا لطول غيبته عَنْهُم فَترك المنصب وَورد الى الشَّام وَأقَام بهَا مُدَّة فى محلّة القنوات ثمَّ بمحلة بنى كريم الدّين وَتزَوج بابنة القاضى برهَان الدّين البهنسى الْمُقدم ذكره بعد مُدَّة قَليلَة طَلقهَا وتنازع هُوَ وأبوها وَطَالَ بَينهمَا النزاع وَكَانَ عِنْده غُلَام جميل يدعى بخندان لم ير نَظِيره فى الْخلق والخلق وَكَانَ مَمْلُوكا مَالِكًا فَوَقع بَينه وَبَينه منافرة فهرب الْغُلَام وأعياه تطلبه فَتوجه الى القاضى وشكا اليه حَاله وَكَانَ لَهُ بِهِ علاقَة قلبية وَأظْهر مَا كَانَ يضمره من شغفه فَكثر عَلَيْهِ الِاعْتِرَاض وَبعد أَيَّام ظهر الْغُلَام وَجَاء اليه فعطف عَلَيْهِ وتغاضى عَمَّا أسلفه ثمَّ لم يقر لَهُ بِدِمَشْق قَرَار فسافر الى الرّوم وَأقَام بهَا ثمَّ أعْطى قَضَاء طرابلس الشَّام وَبَعْدَمَا عزل عَنْهَا ورد الى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة وَكَانَ ذَلِك فى سنة(3/412)
أَربع وَأَرْبَعين وَألف ثمَّ سَار الى دَار الْخلَافَة وَولى الْقَضَاء ببوسنه وصوفيه وَكَانَ كثير الْآثَار وَرَأَيْت لَهُ أشعارا كَثِيرَة فَمِنْهَا هَذِه القصيدة مدح بهَا شيخ الاسلام يحيى ابْن زَكَرِيَّا ومطلعها
(كل لَهُ فى طَرِيق الْمجد أَسبَاب ... وكل حكم لَهُ أهل وأرباب)
(وَأَنت لى سَبَب مَا فَوْقه سَبَب ... ان عددت فى طَرِيق السعى أَسبَاب)
(وَأَنت لى سَنَد مَا مثله سَنَد ... وَأَنت قطبى الذى والته أقطاب)
(لولاك ضَاعَت حُقُوق النَّاس قاطبة ... وَكَانَ يغلب رب الْعلم حطاب)
(لولاك مَا قفل البواب مُنْهَزِمًا ... كلا وَلَا فتحت للفضل أَبْوَاب)
(كسرت بالجبر أَنْيَاب النوائب اذ ... أدمت فؤادى فَلم ينْبت لَهَا نَاب)
(لبيْك لبيْك يَا لب اللّبَاب وَمن ... مِنْهُ استضاءت لحسن الرأى ألباب)
(سرادق الشّعْر فى أَبْوَاب عزتها ... لَهَا على حيك الْمَرْفُوع أطناب)
(جلبت من بَحر فكرى كل لؤلؤة ... مَا كل من جلب المنظوم جلاب)
(هَذَا وَكم جَوْهَر لى فِيك مُنْتَظم ... فى اللَّوْن والشكل للرائين غلاب)
(كل غَدا موجزا فى شكر سَيّده ... ان الْمُحب لَهُ فى الشُّكْر اطناب)
(مَا كل من كَانَ فَوق النَّجْم مَسْكَنه ... كمن لَهُ تَحت وَجه الارض سرداب)
(جَزَاك مَوْلَاك خيرا عَن فقيرك اذ ... فى عَالم الْغَيْب ردَّتْ عَنهُ أحزاب)
(هابوك لما رَأَوْا بِالْقَلْبِ ميلك لى ... وَالْعَبْد عبد وَكم للْعَبد أحباب)
(مَا ثمَّ يرفع شان الْعلم غَيْرك يَا رفيع مجدله فى الْمجد أَنْسَاب ... )
(أيدعى الْعلم من فى الْبَاب يعرفهُ ... طِفْل وكهل وجمال وتراب)
(فى ذَلِك الْبَيْت كل الْكتب تعرفنى ... وخدمتى فِيهِ تَحْرِير ومحراب)
(من قَاس بالشمس فى أوج العلى رجلا ... فَذَاك من فقه نور الْعين مرتاب)
(لَو لم يكن يَوْم حشر النَّاس مقتربا ... مَا عارص الْحَافِظ القدسى بواب)
(لَو كَانَ يعلم علما كَانَ أظهره ... حَتَّى يُقَال لَهُ علم وآداب)
(الْمُدعى لَا ببرهان تكذبه ... شَوَاهِد الْحسن والكذاب كَذَّاب)
(من نَازل الْحَرْب لَا يَنْفَكّ فى يَده ... لاجل طَاعَته قَوس ونشاب)
(وقوس عبدكم علم يحرره ... وقوس دى الْجَهْل والنشاب أخشاب)
(مَا كل من نقل الاقوال يعرفهَا ... كم مُعرب مَاله فى الْبَحْث اعراب)(3/413)
(مَا كل عين لَهَا نور تنير وَلَا ... كل الجفون لَهَا كحل وأهداب)
(الْفضل كَالشَّمْسِ لَا يخفى وَصَاحبه ... كالبدر لَيْسَ لَهُ ستر وجلباب)
(الى مَتى الدَّهْر يبدى من متاعبه ... مَا آن أَن ينقضى للدهر اتعاب)
(أما درى أَن مَوْلَانَا وَسَيِّدنَا ... لى فى مدائحه العلياء اسهاب)
(أَنا الذى نلْت آمالى بدولته ... وَكم توالت على داعيه آرَاب)
(كل لَهُ سيدى عمر يؤب لَهُ ... وَالْعَبْد مَا عَاشَ للابواب أواب)
(قد تبت عَن غير بَاب الْجُود أقصده ... وَالْحق من بعد كسب الذَّنب تواب)
وَله غير ذَلِك وفى هَذَا الْقدر من شعره غنى وَكَانَت وَفَاته فى سنة خمس وَخمسين وَألف
مُحَمَّد بن حَافظ الدّين بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالسرورى المقدسى الحنفى الْبَصِير من أَوْلَاد غَانِم الْفَاضِل النبيه كَانَ محققا بارعا حَدِيد الذِّهْن قوى الادراك مشاركا فى عدَّة فنون وَكَانَ لطيف الطَّبْع حُلْو المكالمة لَا يمل الخاطر من تحفه ونوادره ولد بِبَيْت الْمُقَدّس وَنَشَأ فى حجر وَالِده وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم وَكَذَلِكَ أَخذ بِبَلَدِهِ عَن الشَّيْخ مَنْصُور السطوحى الْمحلى المقرى حِين اقامته بهَا ورحل الى مصر مرَّتَيْنِ وَأخذ عَن علمائها مِنْهُم الشَّيْخ حسن الشرنبلالى وَأَجَازَهُ بالافتاء والتدريس وَمن مشايخه الشهَاب أَحْمد وَأَخُوهُ الشَّمْس مُحَمَّد الشوبريان والنور الشبراملسى وَالشَّيْخ يس الحمصى وبرع وَتوجه الى الرّوم مرَّتَيْنِ فلقى من أَعْيَان علمائها قبولا وَكَانَ الْمُفْتى الاعظم يحيى بن عمر المنقارى يعظمه ويجله وَحكى أَنه كَانَ وَهُوَ بالروم تأتى اليه الْجِنّ وَقت الِاضْطِجَاع تَأْخُذ عَنهُ الْعلم فأقلقوه فَذكر أمره للْمولى أَبى السُّعُود الشعرانى فَأمره أَن يطْلب مِنْهُم شَيْئا من أَمر الدُّنْيَا فَلَمَّا فعل ذَلِك انكفوا عَنهُ وَلم يعودوا اليه وَولى بالقدس مدرستين وهما التذكيرية والمأمونية وَرجع من الْمرة الثَّانِيَة فى سنة احدى وَثَمَانِينَ وَألف وَدخل دمشق وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من أَهلهَا ثمَّ رَحل الى الْقُدس وَانْقطع للتدريس فدرس الْكَنْز مرَّتَيْنِ وَالْهِدَايَة من أَولهَا الى الْبيُوع والدرر بطرفيها وَقَرَأَ متن التَّلْخِيص وَكَانَ يقْرَأ فى الْحرم بَين العشاءين المغنى وَلم يتمه وأقرأ متن الْمنَار وَكتاب ابْن الصّلاح فى المصطلح ومختصره للنووى وَشرع فى اقراء البخارى فعاجلته الْمنية وَكَانَ يحفظ كثيرا من الاشعار والشواهد والامثال خُصُوصا ديوَان المتنبى وَيعرف مَا أوخذ بِهِ المتنبى ويجيب عَن كثير وَكَانَ شيخ الاسلام خير الدّين الرملى يعرف حَقه ويصفه بِالْفَضْلِ التَّام(3/414)
وَيَقُول مَا فى بَيت الْمُقَدّس أفضل مِنْهُ وَذكر صاحبنا الْفَاضِل ابراهيم الجينينى انه قَرَأَ عَلَيْهِ فى أَوَائِل الْهِدَايَة مَعَ ولد الشَّيْخ خير الدّين الشَّيْخ محيى الدّين وَكَانَ يبْحَث مَعَه كثيرا فى الابحاث الدقيقة من الْفِقْه وَغَيره وابتدأه الْمَرَض فى رَجَب سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف فبقى مَرِيضا الى لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فَمَاتَ الى رَحمَه الله تَعَالَى
مُحَمَّد بن حجازى بن أَحْمد بن مُحَمَّد الرقباوى بِفَتْح الرَّاء وَالْقَاف الانبابى أحد شعراء الْعَصْر وأدباء الدَّهْر ولد بانبابه وَنَشَأ بِمصْر واشتغل بُرْهَة من الزَّمَان بعلوم الادب حَتَّى فاق أقرانه فنظم ونثر ورحل الى الْحَرَمَيْنِ وتوطنها مُدَّة ومدح الشريف زيد بن محسن بمدائح كَثِيرَة بليغة وَكَانَ يُعْطِيهِ العطايا الجمة وَجعل لَهُ فى كل سنة مُرَتبا ومعلوما ثمَّ توجه الى الْيمن فمدح الائمة بنى الْقَاسِم وانثالت عَلَيْهِ جوائزهم وَكَانَ لَهُ اخْتِصَاص بِمُحَمد بن الْحسن وَله فِيهِ مدائح كَثِيرَة وَله بِالْيمن شهرة عَظِيمَة وَمن شعره الشَّائِع قصيدته الَّتِى عَارض بهَا حائية ابْن النّحاس الَّتِى مطْلعهَا
(بَات ساجى الطّرف والشوق يلح ... والدجى ان يمض جنح يَأْتِ جنح) 5 مدح بهَا الشريف زيد بن محسن ومستهلها
(كل صب مَاله فى الخد سفح ... لم يرق فى عينه نجد وسفح)
(وَمَتى يَعْلُو بشأن فى الْهوى ... وَله شَأْن بِهِ فِيهِ يشح)
(انما الدمع دَلِيل ظَاهر ... ان يكن للحب متن فَهُوَ شرح)
(والذى يصبو لاغصان النقا ... لم يكن عَنْهَا بِغَيْر الطّرف يصحو)
(يستحى من أَن يوافيها الحيا ... وَهُوَ اوفى منَّة والغيم يمحو)
(كَيفَ يستسقى لَهَا مَاء السما ... وَله جفن مَتى شَاءَ يسح)
(رَوْضَة للغيد كَانَت ملعبا ... وهى فى لبة جيد الشرق وضح)
(كلما نقطها قطر الندى ... رشف الطل بهَا رند وطلح)
(واذا مرت بهَا ريح الصِّبَا ... سحرًا أرجها بالمسك نفح)
(وتغنت فَوْقهَا ورق الْحمى ... ولداعى بلبل الاشواق صدح)
(رب ريم ذَات لحظ فاتن ... فاتك بِالْكَسْرِ والسقم يَصح)
(كنست فى ظلّ ذياك النقا ... وأذابت كل قلب فِيهِ جرح)
(طنبت فى مهجتى واستحكمت ... فى قطعا ليتها بالوصل تنحو)(3/415)
(أتراها استعذبت يَوْم النَّوَى ... لعذابى كاس بَين وَهُوَ ملح)
(مَا لَهَا لاعبث الدَّهْر بهَا ... لَا ترى الهجران كَاف وَهُوَ ذبح)
(كنت أَشْكُو صدها من قبل أَن ... تنتوى والآن عندى فِيهِ شح)
(يَا نوار اصطنعينى باللقا ... فلكم قاليت من فى الْعِشْق يلحو)
(ان تكونى شمت فى ليل الصِّبَا ... بارقا فَهُوَ لروض الْحلم فتح)
(كم جليت الشَّمْس فى غربيه ... وسمحتى وَجَنَاح الفود جنح)
(فاجعليه شافعا فِيمَا بدا ... أى ليل مَاله يَا بدر صبح)
(وَلَقَد أعلم حَقًا لم يكن ... مِنْك عَن ذَنْب ظُهُور الشيب صفح)
(غير أَنى أرتجى مِنْك الوفا ... وَهُوَ فى شرع ذَوَات الْحسن قبح)
(كم أدارى فِيك عذالى وَكم ... ساءنى فِيك على التبريح كشح)
(واذا فعل الغوانى هَكَذَا ... كل ذى سكر بهم لاشك يصحو)
(سأذودن فُؤَادِي رَاغِبًا ... عَن هوى من جده بِالصّدقِ مزح)
(يَا خليلي اعذرانى ان لى ... نَار وجد مَالهَا بالعشق لفح)
(خليانى والذى القا مِمَّن ... زند شوقى مَاله بالغيد قدح)
(أَنا عَن ألحاظهم فى معزل ... وحديثى ظَاهر وَهُوَ الاصح)
(قد نَسِينَا مَا حفظنا مِنْهُم ... ورأينا أَن بعض العذل نصح)
(لَا أرى الْعَيْش صفا مَا لم أعش ... وفؤادى من حُرُوف اللَّهْو ممحو)
(وَعَن التشبيب مَا أغْنى ولى ... فى علا زيد الْعلَا شكر ومدح)
(سيد السادات سُلْطَان الملا ... فَارس الخيلين يَوْم الروع سمح)
(قامع الاقران فى يَوْم الوغى ... تَحت ظلّ السمر وَالْحَرب يفح)
(أَبيض الْوَجْه اذا النَّقْع دجا ... وَاضح الْبشر اذا الفرسان كلح)
(كم لَهُ يَوْم فخار منتمى ... ولوقع الْبيض بالهامات رضح)
(صبح الاقيال حَربًا وَلكم ... شَرقَتْ من خيله حَرْب وَصلح)
(يَوْم أورى بقديح المصطلى ... قدح زند وريه بالفوز قدح)
(وعَلى الْعمرَة أربت يَده ... وَله فى يَوْمهَا عَفْو وصفح)
(أذكر الصِّنْفَيْنِ اذ ذَاك بهَا ... يَوْم صفّين وللخيلين ضبح)
(ولغا عَنى ضلال بَعْدَمَا ... طاش من تصحيفه فى فِيهِ صمح)(3/416)
(وَلَكِن سارع بِالْخَيْلِ على ... حرم الله وللاعمار دلح)
(مَانع الْجَار فَلَو لَاذَ الدجا ... بعواليه لما جلاه صبح)
(وَلَو ان الشَّمْس تحكى نوره ... مَا علاها فى ظلام اللَّيْل جنح)
(واهب الارواح فى يَوْم الوغى ... لاعاديه الالى بِالْمَالِ شحوا)
(وَلَقَد كَانَ ابوه هَكَذَا ... ولماء الْورْد بعد الْورْد نضح)
(أشغلت هيبته فكر العدا ... فهم فى غمرة الاشفاق طرح)
(لَو رَأَوْهُ فى الْكرَى لانتبهوا ... وَلَهُم من خَوفه بِالرُّعْبِ قزَح)
(واذا شاموا بروقا أيقنوا ... أَن أَعْنَاقهم بالبيض مسح)
(وان انْقَضتْ نُجُوم فى الْهوى ... زَعَمُوا أَن مطار الشهب رزح)
(بأبى أفديك يَا بَحر الندى ... يَا مضئ الرأى ان أظلم قدح)
(يَا عتيد الْخَيل يَوْم الْمُلْتَقى ... يَا شَدِيد الْبَأْس والاقران طلح)
(يَا عريض الجاه يَا حامى الْحمى ... يَا ملاذ الْكَوْن ان لم يغن كدح)
(يَا جميم الْفضل وَالسيف لَهُ ... بغدادين الطلى حصد وَمسح)
(خُذ حديثى واستمع قولى فَمَا ... كل من قَالَ قريضا فِيهِ صَحَّ)
(انت أولى النَّاس بالمدح وَلَو ... لم يكن للبحر عَن وصفك نزح)
(هاك نظم الدّرّ من معدنه ... رائق الْمَعْنى لَهُ بالمدح مزح)
(وَاجعَل الابكار فى نور الوفا ... واختبرها فهى بالعرفان فصح)
(ضمن الدَّهْر لَهَا التخليد فى ... صفحات الْكَوْن والايام فسح)
(وهى كالجرد السلاهيب لَهَا ... بمجال الشُّكْر فى علياك مرح)
(حاصرت مَا شاد فتح قبلهَا ... وتلت نصر من الله وَفتح)
(أحرز السَّبق وَلَكِن فقته ... بك يَا ابْن الطُّهْر والآيات وضح)
(لَا يروق الْمَدْح الا فى الالى ... لَهُم الانساب كالاحساب رجح)
(أَيْن من جداه طه الْمُصْطَفى ... وعَلى المرتضى مِمَّن يزح)
(برز الفال بهَا من منطقى ... لَك بالايراد والاسعاد سنح)
(وَأَنا مِنْك أيا غوث الورى ... لم يكن صوتى كَمَا قيل أبح)
(وَلَقَد أغنيتنى عَن مطلبى ... مِنْك بدا ونظيرى لَا يلح)
(لَو درى النّحاس انى بعده ... أصنع الابريز لم يمسسه قرح)(3/417)
(لَا أرى الغربة ألوت ساعدى ... ولباعى بنداك الجم سبح)
(طالعى بالسعد وضاح الحجى ... بك فى برج الهنا والرجو ضح)
(وَلَقَد بلغتنى كل المنى ... بِأَحَادِيث لَهَا فى النَّفس سرح)
(نعْمَة مِنْك علينا لم تزل ... يقتفى آثَار هافوز وَربح)
(دمت يَا شمس الْهدى مَا ابتسمت ... بك أَفْوَاه الدجا وافتر صبح)
(مَا هَمت عين الغوادى وبدا ... بك فى وَجه الزَّمَان الغض رشح)
وَكَانَت وَفَاته فى سنة ثَمَان وَسبعين وَألف بِمَدِينَة أَبى عَرِيش من الْيمن والانبانى بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون ثمَّ مُوَحدَة بعْدهَا ألف فموحدة نِسْبَة لانبابة قَرْيَة من بحرى جيزة مصر على شاطئ النّيل انتسب اليها جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين وَمن أشهر المنسوبين اليها الاستاذ الشَّيْخ اسمعيل بن يُوسُف بن اسمعيل وَرُبمَا قيل لَهَا أنبوبة على وزن أفعولة وَكَأَنَّهُ لما يزرع فِيهَا من الْقصب فالانبوبة مَا بَين كل عقدتين من الْقصب
مُحَمَّد بن حسن جَان الْمَدْعُو سعد الدّين بن حسن جَان التبريزى الاصل القسطنطينى المولد والمنشأ والوفاة مفتى الدولة ومعلم السُّلْطَان مُرَاد بن سليم أستاذ الاستاذين ورونق عُلَمَاء الدُّنْيَا واكليل تَاج السَّعَادَة كَانَ من الْعلم فى مرتبَة يعز الْوُصُول اليها وَقد وَقع الِاتِّفَاق على تفرده بأنواع الْفُنُون وَأَعْطَاهُ الله من الْعِزَّة وَالْحُرْمَة والاقبال مالم يُعْطه لأحد من عصره ومدح بالمدائح السيارة ورزق الابناء الَّذين هم تَاج مفرق الايام وَقد بلغُوا فى حَيَاته الرتب الَّتِى قصر غَيرهم عَنْهَا وَلم يخلف أحد من الكبراء أمثالهم فى نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلوهممهم ودانت لَهُم الْعلمَاء وولوا أرفع المناصب وَحكى انه قيل لوالدتهم بِمَاذَا لقى أبناؤك هَذِه الْعِزَّة فَقَالَت كنت لَا أرضع أحدا مِنْهُم الا على طَهَارَة كَامِلَة وَكنت أذبح عَن كل وَاحِد فى كل جُمُعَة قربانا وَبِالْجُمْلَةِ فهم فَخر بِلَاد الرّوم وَقد تقدم فى تَرْجَمَة أَبى سعيد أسعد بن سعد الدّين هَذَا ان أول من قدم مِنْهُم الى الرّوم هُوَ حسن جَان وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة ونبغ وَلَده سعد الدّين هَذَا وَقَرَأَ ودأب وَلزِمَ درس الْمولى شيخ الاسلام أَبى السُّعُود العمادى وَأخذ عَنهُ وانتفع بِهِ ولازم مِنْهُ ثمَّ ترقى فى الْمدَارِس وطنت حَصَاة فَضله فنصبه السُّلْطَان مُرَاد معلما لنَفسِهِ وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بكليتهما وَلم يبْقى أحد الانقاد اليه وعول عَلَيْهِ فى أمره وَلما توفى السُّلْطَان مُرَاد تسلطن(3/418)
بعده ابْنه السُّلْطَان مُحَمَّد فأبقاه معلما لنَفسِهِ أَيْضا ثمَّ ولاده الافتاء وَذكره الاديب عبد الْكَرِيم المنشى فَقَالَ فى وَصفه مولده دَار الْخلَافَة العليه لَا زَالَت كاساتها من قذى الاكدار صَفيه نَشأ بهَا فى ظلال نوال وَالِده مترددا بَين مصَادر الْعلم وموارده وَبعد مَا تحلى جيده بقلائد الْعُلُوم وعقدت فى عقده عرائس الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم تحرّك على الرَّسْم العادى حَتَّى ورد الى منهل الْمولى المرحوم أَبى السُّعُود العمادى فأدار عَلَيْهِ على عاداته كاسات افاداته وَلم يزل مُتَقَلِّدًا فى الدُّرُوس بعقود خطابه الى أَن فَازَ بشرف الْمُلَازمَة من جنابه وَمَا بَرحت الْمدَارِس تتحلى بآثار ملكاته حَتَّى غَدَتْ احدى الثمان صدفا للآلى كَلِمَاته وَبعد ذَلِك عينه اسْتِحْقَاقه للسلطنة المرادية معلما وَأصْبح طراز ملك الدولة بوشى آرائه معلما فَلَمَّا تشرف بهَا سَرِير الخلافه وانتشى الدَّهْر اذ أدَار عَلَيْهِ السِّرّ ورسلامه ألْقى اليه الْمجد قياده وَأصْبح جموح الدَّهْر منقاده وَدلّ عَلَيْهِ لفظ الْمجد صَرَاحَة وكناية وَنزلت فِيهِ سُورَة السودد آيَة فآيه الى أَن قَالَ وَكَانَ فى عَهده شَمل الْفضل ملتئما وثغر الْعلم مُبْتَسِمًا وَكَانَ الْعَالم مستنيرا من شموس علومه وآدابه كَيفَ لَا وَلَا ينظم شَمل الْفضل الا بِهِ وَكَانَ كَرِيمًا على الاحسان مثابرا وحكيما لكسير اكسير الْقلب جَابِرا تحلت الاجياد بقلائد وده وولائه وواظبت الالسنة على سور فَضله وعلائه تقصرهمم الافكار عَن بُلُوغ أدنى فواضله وتعجز سوابق الْبَيَان عَن الْوُصُول الى أَوَائِل فضائله وَبِالْجُمْلَةِ لَا تصاد عنقاء وَصفه بحبائل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَلَو تعدى الواصف الاعجاب وَبلغ الاعجاز وَلما أشرقت أنوار السلطنة المحمدية من فلك سريرها وَرفعت فى الْخَافِقين ألوية سرورها رأى ان الْكفْر قد احْتَاجَ الى ذوقة من كأسه وحرقة من جمرات بأسه فَرفعت راياته خافقة كقلوب أعدائه عالية كهمم أوليائه وَهُوَ يلازمه مُلَازمَة الشَّمْس لاشراقها والحمائم ثمَّ لَا طواقها وفلك الامور يَدُور على محور رَأْيه وترتيب نتائج الْفَتْح على مُقَدمَات سَعْيه وَلما أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يُنَبه لحاظ سيوف الاسلام من جفونها ويوفى للنصرة مَا وَجب على الايام من ديونها وتقابل الملكات والاعدام والنور والظلام فاستوت الصُّفُوف وجردت السيوف وأطلقت أَعِنَّة أَفْرَاس الحتوف وَحمى الْوَطِيس واستوى المرؤس والرئيس وَقَامَت قِيَامَة الْحَرْب على سَاقهَا وأحدق الْكفْر بالاسلام احداق الجفون بأحداقها فى موقف فِيهِ ينسى الْوَالِد الْوَلَد توجه الى قبْلَة الثَّبَات وَثَبت(3/419)
ثبات الْجبَال الراسيات وَلَو لم تكن فى ذَلِك الْوَقْت وثباته وثباته وتحريضه على الْحَرْب وفتكاته لما تورد بِدَم الْكفْر خد الاسلام وَلما شفى غليل صُدُور الْمُسلمين من عَبدة الصلبان والاصنام فَللَّه دره قد عَم الْعَالمين خَيره وَسَار بالجميل ذكره فعادوا بِالْفَتْح الْجَلِيل الى دَار السلطنة الْعلية وَالْعود أَحْمد ونظموا عُقُود الاسلام بَعْدَمَا تناثر وتبدد فوزع سَاعَات أوقاته الى الْعلم والعباده وتحلى جيده بقلادتى السِّيَادَة والسعاده الى أَن تفيأت الْفَتْوَى فى ظلال أقلامه وتزينت صُدُور الطروس بعقود أرقامه الى أَن أفل من سَمَاء الدُّنْيَا كَوْكَب عمره وأودع ذَلِك السَّيْف فى غمد قَبره انْتهى قلت وَلم أر لَهُ من الْآثَار الا هَذِه الابيات قرظ بهَا على رِسَالَة للشَّيْخ مُحَمَّد الشهير بمجنكزى الصوفى
(مجلة قد حوت مَعنا حلا وَصفا ... من رام وَصفا يَرَاهَا فَوق مَا وَصفا)
(فِيهَا التصوف والعرفان مندرج ... كم من زَوَايَا الزوايا وصفهَا كشفا)
(تَعْبِيره كعبير والاداء لَهُ ... حلاوة الشهد فِيهِ للقلوب شفا)
(من مشرب قادرى قد بَدَت وهدت ... قلبا غَدا عَن طَرِيق الْحق منحرفا)
(فِيهَا رموز من الاسرار أظهرها ... نشر اسمى لشيخ السَّادة العرفا)
(أذاع فِيهَا من الاسرار مَا خفيت ... كَأَنَّمَا هَاتِف فى اذنه هتفا)
ثمَّ رَأَيْت لَهُ هَذِه الابيات من تقريظ لطبقات تقى الدّين التميمى
(كتاب طَابَ تعبيرا يحاكى ... عبيرا فائحا فى الرّوح سَار)
(كنشر الْقطر عطر كل قطر ... وكالدارى فاح بِكُل دَار)
(بيمن دَار مِنْهُ على تَمِيم ... يَلِيق بِأَن يكون تَمِيم دارى)
وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ مفت فَجْأَة فى ربيع الاول سنة ثَمَان بعد الالف وَدفن بِالْقربِ من أَبى أَيُّوب الانصارى رضى الله عَنهُ
مُحَمَّد بن حسن الملقب جمال الدّين بن دراز المكى الاديب المنشى الشَّاعِر الْمَشْهُور ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فى حَقه جمال الْعُلُوم والمعارف المتفيء ظَلِيل ظلها الوارف أشرقت بِالْفَضْلِ أقماره وشموسه وزخر بِالْعلمِ عبابه وقاموسه فدوخ صيته الاقطار وطار ذكره فى مناكب الارض واستطار وتهادت أخباره الركْبَان وَظهر فى كل صقع فَضله وَبَان وَله الادب الذى مَا قَامَ بِهِ مضطلع وَلَا ظهر على مكنونه مطلع استنزل عصم البلاغة من صياصيها واستذل صعاب البراعة فسفع بنواصيها(3/420)