وَمن شعر التَّاج قَوْله
(غنيت بحليه حسنها ... عَن لبس أَصْنَاف الْحلِيّ)
(وبذت بهيكلها البديع ... تَقول شَاهد واجتلى)
(تَجِد المحاسن كلهَا ... قد جمعت فِي هيكلي)
وَلما وقف عَلَيْهَا السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود شيد كل بَيت من أبياته قصرا وابتز ذَلِك الْمَعْنى باستحقاقه قسرا فَقَالَ
(لله ظَبْي سربه ... يزهو بِهِ فِي المحفل)
(قنص الْأسود بغالب ... قيد إِلَّا وأبد هيكلي)
(وَله الْجَوَارِي الْمُنْشَآت ... جوى الحشاشة للخلى)
(قد قَالَ فِي ظلمائه ... يَا أَيهَا اللَّيْل انجلى)
وحذا حذرهما القَاضِي أَحْمد المرشدي الْمَذْكُور فَقَالَ
(يَا ربة الْحسن الْجَلِيّ ... لمؤمل المستأمل)
(صَدْرِي ووجهي منية ... للمجتني والمجتلى)
(فالحظ بديع محاسني ... من تَحت أَنْوَاع الحلى)
(تَجِد الهياكل والحلي ... جمَالهَا من هيكلي)
وَكتب إِلَى بعض أصدقائه قَوْله
(من كَانَ بالوادي الَّذِي هُوَ غير ذِي ... زرع وَعز عَلَيْهِ مَا يهديه)
(فليهدين أَلْفَاظه الغر الَّتِي ... تحلوفوا كهها لكل نبيه)
وَله مليحة اسْمهَا غربية
(خَالَفت أهل الْعِشْق لما شرقوا ... فَجعلت نَحْو الغرب وحدي مذهبي)
(قَالُوا عدلت عَن الصَّوَاب وأنشدوا ... شتان بَين مشرق ومغرب)
(فأجبتهم هَذَا دليلي فانظروا ... للشمس هَل تسعي لغير الْمغرب)
وَكتب إِلَى صاحبين لَهُ استدعياه فَتعذر عَلَيْهِ الذّهاب إِلَيْهِمَا فَقَالَ
(يَا خليلي دمتما فِي سرُور ... ونعيم وَلَذَّة وتصافي)
(لم يكن تركي الْإِجَابَة لما ... أَن أَتَانِي رَسُولكُم عَن تجافي)
(كَيفَ والشوق فِي الحشاشة يقْضِي ... إِنَّنِي نحوكم أجوب الفيافي)
(غير أَن الزَّمَان للحظ مني ... لم يزل مُولَعا بِحكم خلافي)(1/462)
(عَارض الْمُقْتَضى من شوق بالمانع ... وَالْحكم عَنْكُم لَيْسَ خافي)
(فسلام عَلَيْكُم وعَلى من ... فزتما من ثماره باقتطاف)
وَله فِي الْمُفَاخَرَة بَين الإبرة المقص
(فاخرت إبرة مقصا فَقَالَت ... لي فضل عَلَيْك باد مُسلم)
(شَأْنك الْقطع يَا مقص وشأني ... وصل قطع شتان إِن كنت تعلم)
وَأَصله قَول بَعضهم
(إِن شَأْن المقص قطع وصال ... فَلهَذَا يضيع بَين الْجُلُوس)
(وَترى الإبرة الَّتِي توصل الْقطع ... بعز مغروسة فِي الرؤس)
وَكتب إِلَى الْفَاضِل مُحَمَّد بن درار يستدعيه
(رق النسميم وذيل الْغَيْم منسدل ... على الْوُجُود وطرف الدَّهْر قد طرفا)
(فاغنم معاقرة الْآدَاب واغن بهَا ... عَن المدام وَخذ من صفوها طرفا)
(وانزع إِلَيْنَا لتجني من خمائلها ... وردا ونجذب من مرط الوفا طرفا)
وَله أَيْضا يصف بركَة مَاء
(أَلا فانظروا هَذَا الصفاء لبركة ... تَقول لمن قد غَابَ عَنْهَا من الصحب)
(لَئِن غبت عَن عَيْني وكدرت مشربي ... تَأمل تَجِد تِمْثَال شخصك فِي قلبِي)
وَمثله قَول الإِمَام عَليّ الطَّبَرِيّ
(وبركة مَاء قد صفا سلسبيلها ... وَمن حولهَا روض تكلل بالزهر)
(تخال إِذا مَا لَاحَ رونق حسنها ... كبدر سَمَاء حف بالأنجم الزهر)
وَله فِي الفوارة
(وفوارة من مروة قَامَ مَاؤُهَا ... كبزبوز إبريق وَلَيْسَ لَهُ عروه)
(بدالي لما أَن وَردت صفاؤها ... وَلَا غرو أَن يَبْدُو الصفاء من المروه)
وَمثله قَول الْفَخر الخاتوني الْآتِي ذكره
(أَلا مل إِلَى روض بِهِ بركَة زهت ... بفوارة فِيهَا كفص مَا الماس)
(إِذا مَا أَتَاهَا زائر قَامَ مَاؤُهَا ... فأجلسه مِنْهَا على الْعين والراس)
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَول ابْن المعتز
(وقاذفه للْمَاء فِي وسط جنَّة ... قد التحفت كَمَا من الطل سجسجا)
(إِذا انبعثت بِالْمَاءِ ردته منصلا ... وعَلى عَلَيْهَا ذَلِك النصل هودجا)(1/463)
(تحاول إِدْرَاك النُّجُوم بقذفها ... كَأَن لَهَا قلبا على الجو محرجا)
(لَدَى رَوْضَة جاد السَّحَاب ربوعها ... فزخرفها بَين الرياض ودبجا)
(على نرجس غض يُلَاحظ سوسنا ... وآس ربيعي يناغي بنفسجا)
(كَانَ غصون الأقحوان زمرد ... تعمم بالكافور ثمَّ تتوجا)
(ونوار نسرين كَانَ شميمه ... من الْمسك فِي جو السَّمَاء تأرجا)
وَكَانَت وَفَاة التَّاج بِمَكَّة ثامن شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وأرخ وَفَاته الشَّيْخ محب الدّين بن منلا جامي بقوله
(لتاج الدّين أصبح كل حر ... حَزِين الْقلب باكي الطّرف أَواه)
(أَقَامَ يسوح بَاب الله حَتَّى ... دَعَاهُ إِلَيْهِ أقبل ثمَّ لباه)
(فتاريخ اللقا لما أناه ... جنان الْخلد منزلَة ومأواه)
الشَّيْخ تَاج الدّين بن زَكَرِيَّا بن سُلْطَان العثماني النقشبندي الْهِنْدِيّ شيخ الطَّرِيقَة النقشبندية ورابطة الْإِرْشَاد إِلَى الْمنَازل للسالكين فِي السلوك وواسطة الْإِمْدَاد للمواهب الرحمانية من ملك الْمُلُوك كَانَ شَيخا كَبِيرا مهابا حسن التربية وَالدّلَالَة على الْوُصُول إِلَى الله تَعَالَى صَحبه خلق كثير من المريدين وَمِمَّنْ صَحبه ولازمه الْأُسْتَاذ أَحْمد أَبُو الْوَفَاء الْعجل العجيل الْمُقدم ذكره وَولد أَحْمد الْمَذْكُور الشَّيْخ مُوسَى وَالشَّيْخ مُحَمَّد ميرزا والأمير يحيى بن عَليّ باشا وَغَيرهم وَألف كتبا مِنْهَا تعريب النفحات للعارف عبد الرَّحْمَن الجامي وتعريب الرشحات ورسالة فِي طَرِيق السَّادة النقشبندية جمع فِيهَا الْكَلِمَات القدسية المآثورة المروية عَن حَضْرَة الخوجه عبد الْخَالِق الغجدواني المبنى عَلَيْهَا الطَّرِيق وَشَرحهَا بِأَحْسَن بَيَان والصراط الْمُسْتَقيم والنفخات الإلهية فِي موعظة النَّفس الزكية وجامع الْفَوَائِد وَقد افرد تَرْجَمته تلميذة السَّيِّد مَحْمُود بن أسرف الحسني فِي رِسَالَة سَمَّاهَا تحفة السالكين فِي ذكر تَاج العارفين وَقَالَ فِيهَا سمعته يَقُول أَنه قبل أَن يصل إِلَى الشَّيْخ إِلَه بخش فِي بداية أمره فِي غَلَبَة الجذبات بعد توفيق التَّوْبَة بِوَاسِطَة الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إشتغاله غَالِبا بالسياحة فِي طلب الشَّيْخ وَكَانَ ألزم نَفسه الْأُمُور المقررة فِي كتب الْمَشَايِخ أَنه يَنْبَغِي للمريد أَن يَجْعَلهَا على نَفسه قبل وُصُوله إِلَى الشَّيْخ ثمَّ بعد وُصُوله إِلَيْهِ لَا يخْتَار إِلَّا مَا احتاره وَكَانَ تحضر لَهُ أَرْوَاح الْمَشَايِخ وَحصل لَهُ الْكَشْف فَلَمَّا وصل إِلَى بَلْدَة أجمير الَّتِي فِيهَا قبر قطب وقته الشَّيْخ معِين الدّين الجشني(1/464)
حضرت لَهُ روحه وَعلمه طَرِيق النَّفْي والاثبات على كَيْفيَّة مَخْصُوصَة فِي طَرِيق الجشتية يسمونها حفظ الأنفاس وَأمره أَن يجلس وَيسْتَعْمل الذّكر بِهَذِهِ الطَّرِيقَة فِي بَلْدَة باكور الَّتِي فِيهَا قبر الشَّيْخ حميد الدّين الباكوري وَهُوَ من أجل أَصْحَابه وَقَالَ أَنِّي مَا جِئْت إِلَّا الْيَوْم بعد مُدَّة مديدة لِأَجلِك وَإِلَّا فَأَنا بِمَكَّة لِكَثْرَة الْبدع الَّتِي يعملونها على قَبره فسافر بِمُوجب أمره إِلَى باكور وَجلسَ بهَا يشْتَغل بِالذكر الْمَذْكُور ويزور أَحْيَانًا قبر الشَّيْخ حميد الدّين ويعلمه آدَاب الطَّرِيق فَكَانَ تظهر عَلَيْهِ الْأَنْوَار والتجليات وَالْأَحْوَال على طبق سلوك الجشتية وَقَالَ إِنِّي فِي تِلْكَ السّنة كنت أَدخل فِي خلْوَة كَانَت دَاخل ثَلَاث بيُوت فِي لَيْلَة مظْلمَة وأصك الْأَبْوَاب كلهَا فَكَانَ يظْهر لي نور مثل الشَّمْس ثمَّ يزِيد ثمَّ يُحِيط بِالْبَيْتِ وَيصير ضوءه مثل ضوء النَّهَار فَكنت أَقرَأ الْقُرْآن فِي ذَلِك الضَّوْء فَحصل لي الْأنس بذلك النُّور حَتَّى أَنِّي يَوْمًا من الْأَيَّام كنت أَمر بِبَعْض الطّرق فَإِذا رجل عِنْده رِسَالَة مَكْتُوب فِيهَا أَن بعض النَّاس يحصل لَهُم فِي أَوَان الذّكر نور فيغترون بِهِ وَأخذ الرسَالَة وَغَابَ وَمَا رَأَيْته بعد فانتبهت وَزَاد تعلقي بِهِ ثمَّ يَوْمًا كنت جَالِسا عِنْد قبر الشَّيْخ حميد الدّين فَحَضَرت روحه وَأَرَادَ أَن يعطيني خرقَة الْإِجَازَة وَكَانَ مُرَاده أَن يَأْمر فِي النّوم والواقعة لبَعض من كَانُوا على سَنَده من الْخُلَفَاء ليعطيني الْخِرْقَة فَقلت لَا أُرِيد أَن تُعْطِينِي إِلَّا بِيَدِك فَقَالَ الشَّيْخ هَذَا خلاف سنة الله فاطلب مِنْهُ فاستأذنت مِنْهُ وَخرجت فِي طلب الشَّيْخ وَكنت أسيح فِي الْجبَال والبراري والأغوار والأنجاد وَكنت أصل إِلَى الْمَشَايِخ كثيرا فَلم يحصل إِلَى الِاعْتِقَاد لأحد مِنْهُم وَكَانَ وصل فِي هَذِه الْمدَّة إِلَى الشَّيْخ نظام الدّين الباكوري وَكَانَ من الْمَشَايِخ الجشتية فَأَرَادَ الشَّيْخ كثيرا أَن يجلس عِنْده فَمَا جلس عِنْده وَرَأى كثيرا من مَشَايِخ الْوَقْت حَتَّى وصل إِلَى الشَّيْخ اله بخش فَلَمَّا رَآهُ حصل لَهُ فِيهِ أقْصَى مَا يكون من الِاعْتِقَاد وَالشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ تَلقاهُ بِحسن الْقبُول وَأظْهر لَهُ أَنه كَانَ منتظرا لَهُ وَكَانَ من طَريقَة الشَّيْخ أَن لَا يلقن أحدا إِلَّا بعد إِدْخَاله فِي الخدمات والرياضيات الشاقة الَّتِي تنكسر بهَا النَّفس وَتحصل بهَا التَّزْكِيَة فن التَّزْكِيَة مُقَدّمَة على التصفية عِنْد أَكثر الْمَشَايِخ بِخِلَاف النقشبندية فَإِن طريقتهم على الْعَكْس قَالُوا بَعْدَمَا يتَوَجَّه الانسان إِلَى التصفية والتوجه الْحق بِالصّدقِ فَيحصل لَهُ من التَّزْكِيَة بإمداد جذبة من جذبات الرَّحْمَن فِي سَاعَة مَا لَا يحصل لغيره من الرياضات والسياسات(1/465)
فِي سِنِين بِنَاء على تقدم الجذبة عِنْدهم على السلوك فَإِن سلوكهم مستدير لَا مستطيل وَأَن أول قدمهم فِي الْحيرَة والفناء كَمَا قَالَه الخوجة بهاء الدّين النقشبندي بدايتنا نِهَايَة الطّرق الآخر وَقَالَ أَيْضا معرفَة الْحق حرَام على بهاء الدّين إِن لم تكن بدايته نِهَايَة أبي يزِيد البسطامي وَقَالَ الخوجة عبيد الله أَحْرَار أَن اعْتِقَاد السّلف قد يذهب بِالْبَعْضِ إِلَى إِنْكَار هَذَا الْكَلَام مَعَ أَنه لَا يُنَافِي أمرا من أُمُور الشَّرْع بل حَدِيث مثل امتي مثل الْمَطَر لَا يدْرِي أَوله خير أم آخِره يدل على خلاف ذَلِك رَجَعَ إِلَى تَتِمَّة الْكَلَام السَّابِق قَالَ تِلْمِيذه فِي رسَالَته فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ اله بخش فِي الْوَاقِعَة يَا شيخ تَاج طريقنا أَن لَا نلقن الذّكر أحدا حَتَّى يحمل الْحَطب وَالْمَاء فاشتغل أَنْت بِحمْل المَاء إِلَى المطبخ ثَلَاثَة أَيَّام قَالَ فَكَانَ يحمل فَوق طاقته وَكَانَ تظهر مِنْهُ الخوارق فِي تِلْكَ الْأَيَّام وأخبرت أَن أهل تِلْكَ الْبَلدة يَقُولُونَ أَن الشَّيْخ حِين كَانَ يحمل الجرة على رَأسه وَيَمْشي كُنَّا نرى الجرة مُنْفَصِلَة عَن رَأسه مِقْدَار ذِرَاع إِلَّا أنني سمعته يَقُول مَالِي علم بِهَذَا الْأَمر فبعدما تمّ لَهُ ثَلَاثَة أشهر قَالَ لَهُ الشَّيْخ آله بخش الْيَوْم قد تمّ أَمرك بِسم الله اشْتغل بِالذكر وَكَانَ أمره بِالْخدمَةِ الْمَذْكُورَة بالباطن وَقَالَ لَهُ هَذَا الْكَلَام بِالظَّاهِرِ فلقنه ذكر العشقية فاشتغل بهَا وَلَا زَالَ فِي خدمته حَتَّى وصل إِلَى الْكَمَال والتكميل ثمَّ قَالَ إِن سَيِّدي الشَّيْخ تَاج خدم سَيِّدي الشَّيْخ آله بخش عشر سِنِين خدمَة خَارِجَة عَن طوق الْبشر وَأَجَازَهُ بإرشاد المريدين وَمَا كَانَ يُنَادِيه إِلَّا بقوله يَا تَاج الدّين قَالَ سَيِّدي الشَّيْخ تَاج الدّين وَحصل لي مَا كَانَ بشرني بِهِ الشَّيْخ آله بخش إِلَّا أَن حُصُوله بالتدريج وَبعد أُمُور منتظرة قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين وَكَانَ خدمته أَنْفَع لي من الذّكر وَإِنِّي كلما وجدته من الْأَحْوَال وجدته من الْخدمَة ثمَّ قَالَ فصل فِي ذكر نبذة من خوارقه ومعارفه سَمِعت من غير وَاحِد من أَصْحَاب الشَّيْخ أَن سَيِّدي الشَّيْخ كَانَ جَالِسا يَوْمًا فِي بلدنا أمروهه بالمراقب فَرفع رَأسه فانفصل مِنْهُ نور وَقع على شَجَرَة زمَان فَبعد ذَلِك الْيَوْم كَانَت تِلْكَ الشَّجَرَة كلهَا ثَمَرهَا وورقها وخشبها درياقا مجربا للنَّاس يستشفون بِهِ وَكَانَت هَذِه الْكَرَامَة ظَاهِرَة حَتَّى فنيت تِلْكَ الشَّجَرَة وَسمعت أَيْضا مِنْهُم أَن الشَّيْخ دخل يَوْمًا فِي بَيت وَقت القيلولة فرقد على سَرِيره وَخرج الْأَصْحَاب ثمَّ رجعُوا وَلم يَجدوا الشَّيْخ مَكَانَهُ فتحيروا ثمَّ ظهر الشَّيْخ مَكَانَهُ على السرير وَقَامَ واشتغل بِالصَّلَاةِ وَمَا اسْتَطَاعَ أحد أَن يسْأَله عَن ذَلِك وَسمعت أَيْضا أَن بِنْتا صَغِيرَة للشَّيْخ كَانَت مَرِيضَة وَكَانَ(1/466)
الشَّيْخ يتَوَضَّأ فألهمها الله أَن شربت من غسالة رجلَيْهِ عِنْد الْوضُوء فشفيت بِإِذن الله وَسمعت أَيْضا وَاحِدًا من أَصْحَابنَا الصَّالِحين يذكر أَن الشَّيْخ كَانَ يَوْمًا جَالِسا فِي مَكَان يتَكَلَّم فِي المعارف والحقائق وَفِي أثْنَاء ذَلِك الْكَلَام يمزح مَعَ أَصْحَابه ويضحك فخطر لبَعْضهِم أَن مقَام المشيخة لَا يُنَاسب المزاح أَو نَحْو ذَلِك فَاطلع على خاطره وَقَالَ أَن المزاح من سنة سيد الْمُرْسلين فَإِنَّهُ كَانَ يمزح مَعَ أَصْحَابه وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا وَذكر قصَّة وُقُوع ابْن أم مَكْتُوم فِي حَضرته وَضحك الْأَصْحَاب فِي الصَّلَاة وَمِنْهَا أَن وَاحِدًا من المكاشفين كَانَ بشر بعض أَصْحَاب سَيِّدي الشَّيْخ بأَشْيَاء فَلَمَّا وصل إِلَى مَكَّة كَانَ مَعَ الشَّيْخ فخطر لَهُ أَن الْأُمُور الَّتِي كَانَ بشره بهَا ذَلِك المكاشف مَا ظَهرت أَسبَابهَا وَكَانَ يختلج فِي سره أَن لَيْسَ لقَوْل ذَلِك المكاشف أثر وَإِلَّا كَيفَ الْحَال ثمَّ توجه إِلَى نَحْو الشَّيْخ فَقَالَ لَهُ قبل أَن يظْهر شَيْئا أَن أحدا من أَوْلِيَاء الله لَو بشر أحدا بِشَيْء لَا بُد أَن يظْهر وَلَو بعد عشر سِنِين أَو اثْنَتَيْ عشرَة سنة ففهم وَحصل لَهُ السّكُون وَسمعت من الشَّيْخ أَنه خرج إِلَى سفر وَوصل إِلَى بَلْدَة وَكَانَ جَالِسا فِيهَا مَعَ أَصْحَابه بالمراقبة فَحَضَرَ فِي حلقته رجل لَا يعرفهُ فَقرب الرجل وَقبل يَده وَرجله وَقَالَ أَنِّي من الْجِنّ وَهَذَا مَكَان سكنانا وَأَنا بَعْدَمَا رَأينَا طريقتكم أحببناكم فَأُرِيد أَن آخذ مِنْكُم الطَّرِيق فلقنه الطَّرِيقَة النقشبندية وَكَانَ يحضر عِنْده فِي الْحلقَة وَكَانَ يرَاهُ وَلَا يرَاهُ أحد غَيره وَقَالَ للشَّيْخ كل وَقت أردتم أَن أحضر عنْدكُمْ فَاكْتُبُوا اسْمِي على ورقة وضعوها تَحت أَرْجُلكُم أحضر عنْدكُمْ تِلْكَ السَّاعَة وَسمعت أَيْضا مِنْهُ أَنه حِين سَافر إِلَى كشمير حضر عِنْده وَاحِد من الْجِنّ وَأخذ عَنهُ الطَّرِيقَة وَأَرَادَ أَن يعرض على الشَّيْخ كثيرا من خَواص النباتات فَلم يقبل الشَّيْخ مِنْهُ ذَلِك وَكَانَ يلازم صُحْبَة الشَّيْخ إِلَّا أَن الشَّيْخ قَالَ أَنه كَانَ يحصل لي النفرة من صحبته فَإِن الْجُزْء الناري غَالب على مزاجهم فَيحصل من صحبتهم الْأَوْصَاف الْغَيْر المرضية الَّتِي نشأت من الْجُزْء الناري من الْغَضَب وَالْكبر فَأَرَدْت أَن أفعل بِهِ حِيلَة تنفره مني فَسَأَلته أَن يزوجني بِوَاحِدَة مِنْهُم فَقَالَ إِن لي أُخْتا بديعة الْجمال عديمة الْمِثَال إِلَّا أَنِّي أعرض عَلَيْكُم أَولا حِكَايَة ثمَّ الرَّأْي رَأْيكُمْ فَإِن الألفة والأنس بَين الجني والإنسي متعسر فَإِن الْجِنّ يصدر مِنْهُم كَثِيره من الحركات الَّتِي لَا تعرف الانس حَقِيقَتهَا فَلَا يَسْتَطِيع الصَّبْر عَلَيْهَا قَالَ إِنَّه كَانَ هُنَا وَاحِد من الصَّالِحين زوجناه وَاحِدَة منا فولد لَهَا مِنْهُ ولد وَكَانَ يُوقد نَارا فرمت الجنية وَلَدهَا فِي النَّار فَصَبر الرجل(1/467)
ثمَّ ولد لَهَا ولد فَأَعْطَتْهُ الكلبة فأكلته فَصَبر الرجل ونسيت الثَّالِثَة فتعب الرجل وَمَا اسْتَطَاعَ الصَّبْر وَغَضب عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا أهلكت الْأَوْلَاد الثَّلَاثَة فأحضرت الثَّلَاثَة وَقَالَت كنت أَعطيتهم للتربية لإِخْوَانِنَا فَخذ أولادك من بعد الْيَوْم وَلَا أَجْلِس عنْدك وطارت من عِنْده ثمَّ سَافر الشَّيْخ من تِلْكَ الْبَلدة وَسمعت أَن الشَّيْخ كَانَ فِي أمروهة فمرضت امْرَأَة صَالِحَة من الْمشرق وَكَانَت معتقدة لَهُ فالتجأت إِلَيْهِ فَذهب إِلَيْهَا الشَّيْخ يعودها فَلَمَّا رأى حَالهَا أَخَذته الشَّفَقَة عَلَيْهَا وَالرَّحْمَة لَهَا وَكَانَت قد أشرفت على الْمَوْت فَأَخذهَا فِي ضمنه فبرأت كَأَن لم يكن بهَا شَيْء فَإِن الْأَخْذ فِي الضمن شَيْء مُقَرر عِنْد الأكابر النقشبندية إِلَّا أَنه لَا يتَصَوَّر إِلَّا قبل نزُول ملك الْمَوْت فَبعد نُزُوله لَا بُد من بدل كم أَن الخوجة الخاموش قدس الله سره كَانَ أَخذ وَاحِدًا من الْعلمَاء فِي ضمنه فشفي ساعتئذ وَقَالَ إِنِّي دَعَوْت الله سُبْحَانَهُ فِي وَقت لَا يرد بِثَلَاثَة أَشْيَاء وَقد استحببت أولاها أَن لَا يصل إِلَى أحد ضَرَر مني وَإِن غضِبت بِمُقْتَضى البشرية وَالثَّانِي أَن يَزُول مني الْكَشْف وَالثَّالِث أَن كل من اخذ الطَّرِيق مني تكون خاتمته خيرا أَو يَجعله الله مُنْكرا عَليّ ومعرضا عني ثمَّ يفعل الله بِهِ مَا يَشَاء انْتهى وَاعْلَم أَنه وَإِن دَعَا بِزَوَال الْكَشْف وَكَذَلِكَ يظْهر من كَلَامه فَإِنَّهُ يَقُول كثيرا للأصحاب أَن الشَّيْخ إِمَّا أَن يكون صَاحب كشف فَلَا يَنْبَغِي للمريد أَن يعرض عَلَيْهِ حَاله بل الْعرض عَلَيْهِ حِينَئِذٍ سوء أدب أَولا يكون صَاحب كشف فَيَنْبَغِي أَن يعرض عَلَيْهِ فيهم بسؤال احوال المريدين فيفهم مِنْهُ أَن يظْهر أَنه لَيْسَ يصاحب كشف إِلَّا أَن الظَّاهِر أَن لَهُ اطلاعا تَاما وإشراقا عَظِيما على الخواطر وَالْأَحْوَال فقد جرى لنا مَعَه أَحْوَال وَأُمُور كَثِيرَة وَكَانَ هَذَا من قسم الفراسة الَّتِي هِيَ أقوى وَأَرْفَع منزلَة من الْكَشْف وانْتهى وَاعْلَم أَنه قَرَأَ فِي فنون الْعلم كتبا كَثِيرَة كالكافية وَنَحْوهَا ثمَّ غلب عَلَيْهِ الجذب حَتَّى لم يبْق مِنْهُ أثر والآن لَيْسَ فن من فنون الْعلم إِلَّا وَهُوَ وَاقِف على دقائقه الَّتِي يتحير أَرْبَاب ذَلِك الْفَنّ فِي ادراكها وَلَيْسَ قسم من أَقسَام المدركات إِلَّا أدْركهُ على الْوَجْه الأتم والألطف وَله رِسَالَة فِي أَنْوَاع الْأَطْعِمَة وَكَيْفِيَّة طبخها ورسالة فِي كَيْفيَّة غرس الْأَشْجَار وَأُخْرَى فِي أَنْوَاع الطِّبّ وَدخل تَامّ فِي معرفَة أوضاع الْكِتَابَة وَغير ذَلِك وَدخل إِلَيْهِ أحد الأفاضل وَكَانَ لَهُ وقُوف تَامّ فِي الطِّبّ فَتكلم مَعَه بدقائق الْمنطق وَغَيره من الْعُلُوم حَتَّى صَار متحيرا وَكَانَ ذَلِك سَبَب سعادته ودخوله فِي الطَّرِيق وَمن مشايخه السَّيِّد عَليّ بن قوام الْهِنْدِيّ النقشبندي مولده ومسكنه ومدفنه(1/468)
جانبور من بِلَاد الْهِنْد شَرْقي دهلي على مسيرَة شهر مِنْهُ كَانَ من أكَابِر أَوْلِيَاء الله تَعَالَى صَاحب تَصَرُّفَات عَجِيبَة وجذب قوي قَالَ بعض الصَّالِحين مَا ظهر فِي الْأمة المحمدية على نبيها أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام من أحد بعد القطب الرباني الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني رَضِي الله عَنهُ من الخوارق والكرامات والتصرفات مثل مَا ظهر مِنْهُ حَدثنَا شَيخنَا قَالَ حَدثنِي رجل أَنه كَانَ من طَريقَة السَّيِّد أَن لَا يدْخل عَلَيْهِ أحد إِلَى وَقت الضُّحَى وَكَانَ فِي هَذَا الْوَقْت يغلب عَلَيْهِ الجذب وَالنَّاس كلهم قد عرفُوا هَذَا الْأَمر فَمَا كَانَ يدْخل عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْت أحد فجَاء وَاحِد من الْأَعْرَاب كَأَنَّهُ كَانَ من أَوْلَاد شيخ السَّيِّد قدس الله سره فَمَنعه الْخَادِم من الدُّخُول عَلَيْهِ فَلم يقبل قَوْله وَأَرَادَ أَن يدْخل فَلَمَّا قرب وَسمع السَّيِّد صَوته قَالَ من أَنْت قَالَ أَنا فلَان قَالَ اهرب إِلَى وَرَاء الشَّجَرَة وَكَانَ هُنَاكَ شَجَرَة كَبِيرَة وَإِلَّا احترقت فهرب الرجل واستتر بِالشَّجَرَةِ فَخرجت نَار من بَاطِن السَّيِّد أخذت الشَّجَرَة كلهَا فأحرقتها وَبَقِي أَصْلهَا وَسلم الرجل وَكفى بِهَذِهِ إِشَارَة إِلَى كَمَال تَصَرُّفَاته ثمَّ قَالَ صَاحب التَّرْجَمَة اعْلَم أَن شَيخنَا مجَاز من الشَّيْخ اله بخش بالطريقة العشقية وبالطريقة القادرية وبالجشية والدارية وَله بِحَسب الْبَاطِن اجازة من رَئِيس كل طَرِيق وَكَذَلِكَ سَمِعت مِنْهُ أَنه سلك طَرِيق الكبروية من روحانية الشَّيْخ نجم الدّين الْكُبْرَى فِي ربع النَّهَار وَأَجَازَهُ وَله رِسَالَة فِي بَيَان سلوكهم ذكر فِيهَا أَن سلوكهم يتم بِتمَام الأطوار السَّبْعَة فِي كل طور يطوى عشرَة آلَاف حجاب حَتَّى يطوي فِي تَمام الأطوار السَّبْعَة تَمام السّبْعين ويصل إِلَى الله تَعَالَى وَلِهَذَا تَفْصِيل إِلَّا أَنه لَيْسَ مُقَيّدا إِلَّا بالتسليك بسلوك النقشبندية فَإِنِّي رَأَيْت فِي مَكْتُوب لَهُ إِلَى بعض أَصْحَابه ينصحه أَن الأكابر النقشبندية هم أَرْبَاب الْغيرَة ثمَّ ذكر أَنِّي بعد مَا أجازني الخوجة وَرخّص لي واشتغلت بالتربية على طَرِيق الأكابر النقشبندية لَو كَانَ يأتيني طَالب يُرِيد الطَّرِيقَة العشقية أَو غَيرهَا ألقنه فِيهَا وأربيه حَتَّى أَن يَوْمًا حضرت روحانية الْغَوْث الْأَعْظَم الخوجة عبيد الله أَحْرَار للخوجة مُحَمَّد الْبَاقِي وَقَالَ لَهُ أَن الشَّيْخ تَاج يَأْكُل من مطبخنا ويشكر غَيرنَا فأخرجناه من النِّسْبَة فَقَالَ الخوجة مُحَمَّد الْبَاقِي اعْفُ عَنهُ هَذِه الْمرة حَتَّى أخبرهُ فَكتب إِلَى الخوجة مُحَمَّد الْبَاقِي هَذِه الْوَاقِعَة فَتركت كل مَا كَانَ غير هَذِه السلسلة وحصرت التربية والتلقين فِيهَا انْتهى كَلَامه فَلهُ طَرِيق النقشبندية من الخوجة مُحَمَّد الْبَاقِي وَله من الخوجة إِلَّا ملتكن وَله من مَوْلَانَا درويش مُحَمَّد وَله من مَوْلَانَا مُحَمَّد زاهد وَله من الْغَوْث الاعظم عبيد الله أَحْرَار وَله من الشَّيْخ يَعْقُوب الجرخي وَله من حَضْرَة الخوجة الْكَبِير بهاء الْحق وَالدّين الْمَعْرُوف بنقشبند وَله من أَمِير سيد كلال وَله من الخوجة عبد الْخَالِق الغجد وَإِنِّي وَله من قطب الاقطاب الخوجة مُحَمَّد بَابا السماسي وَله من حَضْرَة الخوجة على الرامتيني وَله من حَضْرَة الخوجة مُحَمَّد الجرنفوري وَله من الخوجة عَارِف ويوكري وَله من الشَّيْخ يَعْقُوب بن أَيُّوب الْهَمدَانِي وَله من الشَّيْخ أبي على الفارمدي وَله من الشَّيْخ أبي الْحسن الخرقاني وَمن سُلْطَان العارفين أبي يزِيد البسطامي وَله من الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق وَله من قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَمن سلمَان الْفَارِسِي وَمن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَمن سيد الكائنات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنِّسْبَة إِلَى الإِمَام جَعْفَر عَن أَبِيه إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه وَكَانَت وَفَاته قبل غرُوب يَوْم الاربعاء ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة خمسين وَألف وَدفن صبح يَوْم الْخَمِيس فِي تربته الَّتِي أعدهَا لَهُ فِي حَيَاته فِي سفح جبل قعيقان وضريحه ظَاهر يقْصد للزيارة وقعيقان كزعيفران جبل بِمَكَّة وَجهه إِلَى أبي قبيس لِأَن جرهم كَانَت تضع فِيهِ أسلحتها فتقعقع فِيهِ أَو لأَنهم لما تَحَارَبُوا قعقعوا بِالسِّلَاحِ وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ تَاج العارفين بن أَحْمد بن أَمِين الدّين بن عبد العال الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ الْعَلامَة الْمُفِيد الْمجِيد كَانَ بِمصْر صدر المدرسين رَئِيسا نبيلا روى عَن وَالِده ووالده روى عَن وَالِده وَهُوَ عَن وَالِده وَهُوَ عَن الْحَافِظ بن حجر الْعَسْقَلَانِي وَأَجَازَهُ شُيُوخ عصره بالافتاء والتدريس وتصدر للاقراء بِجَامِع الْأَزْهَر وَأفَاد الطّلبَة وأجاد وَألف مؤلفات عديدة ورسائل شهيرة فِي فقه الْحَنَفِيَّة وَلما سقط من الْبَيْت الشريف الْجِدَار الشَّامي بوجهيه وانجبذ مَعَه من الْجِدَار الشَّرْقِي إِلَى حد الْبَاب الشَّامي وَلم يبْقى سواهُ وَعَلِيهِ قوام الْبَاب من الْجِدَار الغربي من الْوَجْهَيْنِ نَحْو السُّدس وَمن الْوَجْه الظَّاهِر سقط مِنْهُ نَحْو الثُّلثَيْنِ وَبَعض السّقف وَهُوَ محاذ للجدار الشَّامي وَسَقَطت دَرَجَة السَّطْح وَكَانَ سُقُوطه كَذَلِك بعد عصر الْخَمِيس لعشرين من شعْبَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَنقل مَا فِيهَا من الْقَنَادِيل إِلَى بَيت السادن وعلق بَاقِي أخشاب سقفه خوفًا عَلَيْهِ من السُّقُوط جمع الشريف مَكَّة الشريف مَسْعُود عُلَمَاء الْبَلَد الْحَرَام وسألهم عَن حكم عمَارَة السَّاقِط وَلمن هِيَ وَمن أَي مَال تكون فَوَقع الْجَواب مِنْهُم بِأَنَّهَا تكون فرض كِفَايَة على سَائِر الْمُسلمين ولشريف الْبِلَاد النَّائِب عَن السُّلْطَان(1/469)
الْأَعْظَم ذَلِك وَأَنه يعمرها بِمَال حَلَال وَمِنْه مَال الْقَنَادِيل الَّتِي بهَا مِمَّا لم يعلم أَنَّهَا عينت من واقفها لغير الْعِمَارَة وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك الْعَلامَة مُحَمَّد بن عَلان الْمَكِّيّ وَأفْتى بِهِ وَألف رسائل حافلة فِي شَأْن ذَلِك ثمَّ ورد السُّؤَال من الديار المكية إِلَى الديار المصرية عَن ذَلِك وَعَلِيهِ خطوط السَّادة المكيين بِالْجَوَابِ عَن ذَلِك ليعرض على حَضْرَة السُّلْطَان ينظر قَاضِي مصر إِذْ ذَاك الْمولى أَحْمد المعيد الْمُقدم ذكره فَسَأَلَهُ أَن يكْتب أَيْضا رِسَالَة فِي شَأْن ذَلِك لتعرض مَعَ أجوبة المكيين تَقْوِيَة لَهُم فَأَجَابَهُ لذَلِك وَألف رِسَالَة سَمَّاهَا الزلف والقربه فِي تعمير مَا سقط من الْكَعْبَة وَقد أحسن فِيهَا كل الاحسان وأجاد كل الإجادة وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمن شعره مَا كتبه إِلَى الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي مفتي مَكَّة
(أذكرت ربعا من أُمَيْمَة أقفرا ... فأسلت دمعا ذَا شُعَاع أحمرا)
(أم شاقك الغادون عَنْك بسحرة ... لما سروا وتيمموا أم الْقرى)
(زموا الْمطِي وأعنقوا فِي سيرهم ... لله دمعي خَلفهم ياما جرى)
(مَا قطرت للسير أجمال لَهُم ... إِلَّا ودمعي فِي الركاب تقطرا)
(فَكَانَ ظهر الْبيض بطن صحيفَة ... وقطارها فِيهِ يحاكي الأسطرا)
(وَكَأَنَّهَا بهوادج قد رفعت ... سفن ودمع الصب يَحْكِي الأبحرا)
(رحلوا وَمَا عَادوا على مضناهم ... واها لحظي لَيْت كنت مُؤَخرا)
(أَن كَانَ جسمي فِي الديار مخلفا ... فالقلب مِنْهُم حَيْثُ قَالُوا اهجرا)
(أظهرت صبري عَنْهُم متجلدا ... وكتمت وجدي فيهم متسترا)
(وَغدا العذول يَقُول لي من بعدهمْ ... باد هَوَاك صبرت أم لم تصبرا)
(أَقْسَمت أَن جاد الزَّمَان بمطلبي ... وسلكت ربعا بالمناسك عمرا)
(وَشهِدت بدر الْحَيّ بعد أفوله ... مذلاح من أفق السَّعَادَة مقمرا)
(أدبت خدمَة سيد سَنَد غَدا ... مفتي الْأَنَام وراثة بَين الورى)
(هُوَ عَابِد الرَّحْمَن وَاحِد عصره ... فاسأل بذلك إِن شَككت مخبرا)
(هَذَا إِمَام عرفه فِينَا حكى ... عرف الرياض إِذا سرى متعطرا)
(ذُو همة تسمو على نسر السما ... فيشيف منهاها وَيَا متحدرا)
(وسكينة تَلقاهُ فِيهَا مُفردا ... مَعَ لطف جسم بالفضائل عمرا)
(وقريحة منقادة وقادة ... شبت كنار ثمَّ سَالَتْ أنهرا)(1/470)
(كم حلبة فِي الْبَحْث أظلم نقعها ... يمشي جواد الْفِكر فِيهَا الْقَهْقَرَى)
(آيَات فضلك مثل مجدك أحكمت ... وسنا سنائك نَفعه قد نورا)
(وجياد فكرك كالرياح كواعب ... وضيا كمالك نور قد أزهرا)
(من كنت أَنْت لَهُ ملاذا كَيفَ لَا ... يزهو بمدحك رفْعَة وتكبرا)
(فَاسْلَمْ وَدم فِي ظلّ عَيْش أرغد ... مَا اهتز غُصْن فِي الرياض ونورا)
وَكتب إِلَيْهِ فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف كتابا صورته
(الْيَوْم مثل الدَّهْر حَتَّى أرى ... وَجهك والساعة كالشهر)
إِن أبهى مَا تجملت بِهِ السطور والطروس وأشهى مَا استعذبته الألسن وطلبته النُّفُوس دُعَاء على ممر والدهور لَا يَنْقَضِي وابتهال بأكف الضراعة للإجابة مُقْتَضى أَن يديم على صفحات خدود الْوُجُود شامة دهرها وَوَاحِد وَقتهَا وعالم عصرها خَاتِمَة الْعلمَاء المتنوهين مَالك أزمة البراعة بفضله المتين شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين المستجمع لمكارم الْأَخْلَاق والشيم وَالْمُنْفَرد بمزاياها عِنْد الْخلق والأمم المشتهر عِنْد الْعَرَب والعجم بِأَنَّهُ ملك من الْعلم زمامه وَجعل العكوف عَلَيْهِ لزامه فانقاد إِلَيْهِ انقياد الْجواد وَجرى فِي ميدانه بِحسن السَّبق والفكر الْوَقَّاد عَالم الغرب والشرق ومزيل مَا تعَارض من الْمسَائِل بِحسن الحمع وَالْفرق الْجَامِع بَين رياستي الْعلم وَالْعَمَل وَالْمَانِع بإخلاص السريرة من لُحُوق عوارض الْعِلَل كنز الْعُلُوم والكشف بَحر الْهِدَايَة الَّذِي ارتوى مِنْهُ بالعب والرشف صرد الشَّرِيعَة الغرا وَشَيخ حرم الله بالإفتاء والأقرا من لَا يُمكن حصر وَصفه بالتفصيل فَإِن الْأَطْنَاب فِيهِ طَوِيل وَإِنَّمَا أُحِيل على مَا قيل
(أَنْت الَّذِي يقف الثَّنَاء بسوقه ... وَجرى الندى بعروقه قبل الدَّم)
فَالله سُبْحَانَهُ يمتع الْمُسلمين بِهَذِهِ الْأَخْلَاق ويديم فخار أهل الْجُود بِبَقَاء صَاحب هَذَا الِاسْتِحْقَاق وَلَا زَالَ مَذْهَب النُّعْمَان متحليا بعقوده متوشحا بطارفه وبروده هَذَا وَإِن الْتفت خاطره لتذكار ودوده والمخلص فِي دُعَائِهِ حَال رُكُوعه وَسُجُوده فَهُوَ بِخَير وعافية ونعمة وافرة وافيه نرجو من الله دوامها بدوام دعائكم إِذْ لَا شكّ أَنا من جملَة منسوبيكم وأنسابكم فَإنَّك الأَصْل فِي زكاء هَذَا الْفَرْع ونموه وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى اعتلائه وسموه بامور يشْهد بهَا الخاطر فَتشهد بِالْإِقْرَارِ بنعم الله فِي الْبَاطِن وَالظَّاهِر غير أَن الخاطر كُله عنْدكُمْ وَفِي التألم لبعدكم وَمَا حصل لَهُ الْعَام من فقدكم(1/472)
(رَوْضَة الْعلم قطبي بعد ضحك ... والبسي من بنفسج جلبابا)
(وهبي النائحات منثور دمع ... فشقيق النُّعْمَان بَان وغابا)
فَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجزل لكم الثَّوَاب ويعوضكم خيرا فِيمَا بقى من الأحباب وَالسَّلَام وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف
(ملكت سُورَة الرحيل عناني ... وأهاجت سواكن الأشجان)
(أَتَمَنَّى أسرى وَهل يملك السّير ... طريح الندى أَسِير التداني)
(يَا خليلي وَقْفَة بالمصلى ... عِنْد حمد السرى ودرك الْأَمَانِي)
(فاعطفا وانزلا وبثا سلامي ... لوجيه الْعلَا فريد الْمعَانِي)
(مرشد الْفضل وَابْنه من يضاهي ... عَالم الدّين عَابِد الرَّحْمَن)
(أناما بَين لوعة علم الله ... وشوق لَهُ بطول الزَّمَان)
(لَو تطِيق النياق شوقي لما ... جَفتْ خضوعا من تربها أجفاني)
(وبقلبي من الوجيب إِلَيْهِ ... مثل مَا بالنياق من ثهلان)
(فوعيش الصِّبَا وعهد التصابي ... وليالي الرِّضَا وَأنس التداني)
(إِن قصدي لقياك لَكِن قيادي ... بيد لَيْسَ لي بهَا من يدان)
فَرَاجعه
(يَا خليلي بالصفا أسعداني ... وبوصل من الْإِيَاس عداني)
بقوله
(واحملا بعض مَا أُلَاقِي وبثا ... حَال صب متيم الْقلب عاني)
(جِسْمه فِي جِيَاد وَالْقلب مِنْهُ ... فِي قرى مصر دَائِم الخفقان)
(لم يزل شيقا ولوعا دواما ... شاخص الطّرف ساهر الأجفان)
(يرقب النَّجْم ليله وَإِذا ... أصبح أضحى مناشد الركْبَان)
(هَل رَأَيْتُمْ وَهل سَمِعْتُمْ حَدِيثا ... عَن قديم الأخا عَظِيم الْمعَانِي)
(هُوَ تَاج للعارفين الَّذِي قد ... نَالَ ارثا عوارف الْعرْفَان)
(من غَدا مُفردا بِمصْر بل الْعَصْر ... فَلَا يسمح الزَّمَان بثاني)
(خص بِالْعلمِ والرياسة والود ... وهذي مواهب الرَّحْمَن)
(فَهُوَ كنز وجامع لعلوم ... قد حواها بغاية الإتقان)
(دَامَ فِينَا مبلغا مَا يُرْجَى ... من مُرَاد ورفعة وأماني)
(مَا تغنى على الرياض هزار ... وأجابته أَلفه بالأغاني)
وَله غير ذَلِك من الْآثَار وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود الْأَرْبَعين بعد الْألف(1/473)
السَّيِّد تَاج العارفين بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي القادري أحد صُدُور المشايح ورؤساء المحافل بِدِمَشْق وَكَانَ شَيخا موقرا عالي الهمة مَبْسُوط الْكَفّ حمولا صبورا مداوما على الْعِبَادَة لَا يفتر عَنْهَا وَلزِمَ مُدَّة حَيَاته التَّرَدُّد إِلَى الْجَامِع الْأمَوِي فِي السحر وَله نوبَة مَعَ أَخَوَيْهِ الاستاذ الْكَبِير الشَّيْخ صَالح والعالم الْعلم الشَّيْخ سلمَان فِي خدمَة مَزَار سَيِّدي الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره وَكَانَ هُوَ الْقَائِم بأعباء أُمُور أَخِيه ومتعلقاتهم وَله تصرف عَجِيب وعقل وافر وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من الرؤساء الأخيار وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف ووفاته فِي منتصف شهر ربيع الأول سنة تسع وَتِسْعين وَألف وَدفن بزاويتهم عِنْد أَبِيه وجده رَحمَه الله
الشَّيْخ تَاج العارفين بن مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو الْوَفَاء الْمصْرِيّ الشَّافِعِي أكبر أَوْلَاد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي سبط آل الْحسن كَانَ أَكْثَرهم مَالا وأوفرهم نعْمَة ذكره الْبكْرِيّ فِي تَارِيخه الَّذِي أَلفه فِي وُلَاة مصر فَقَالَ اشغل على أَبِيه وَغَيره من جَمَاهِير الْعلمَاء وتبحر فِي الْعَرَبيَّة وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول حَتَّى ألف تَفْسِير الْقُرْآن فِي أَربع مجلدات لم تبيض وَتَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام فِي مجلدين وَتَفْسِير سُورَة الْكَهْف فِي مُجَلد كَبِير وَتَفْسِير سُورَة الْفَتْح فِي مُجَلد مثله وَله رسائل عديدة وَشعر وَكَانَ فَاضلا كَامِلا وَله الْقدَم الراسخ فِي التصوف وَهُوَ أول من لقب بإفتاء السلطنة بِالْقَاهِرَةِ وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة فِي ذيل النَّجْم قَالَ عِنْدَمَا ذكره رَأَيْته بِمَكَّة سنة سبع وَألف فَرَأَيْت ملكا وحاله حَالَة الْمُلُوك لَا حَالَة الشُّيُوخ وسمته سمت الْأُمَرَاء لَا سمت الْعلمَاء وَإِن كَانَ فِي زيهم ومنخرطا فِي سلكهم فَإِنِّي رَأَيْته فِي حجرَة ينزلها أَهله عِنْد بَاب إِبْرَاهِيم وَرَأَيْت جدرانها مستورة بالرخوت المفضضة المطلية بِالذَّهَب وَالسُّيُوف المحلاة والتروس المكلفة وَرَأَيْت غلمانه الْحَبَش وَالتّرْك وكل وَاحِد عَلَيْهِ مَا يُسَاوِي المئات من الدَّنَانِير من لِبَاس الْحَرِير وَغَيره وَبَلغنِي أَن دائرته الَّتِي مَعَه فِي سفرته مائَة بعير وَمَا عَلَيْهَا ملكه غير الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وَكَانَ مَعَه أَخُوهُ أَبُو الْمَوَاهِب وَهُوَ يُقَارِبه فِي سمته وَأَخُوهُ عبد الرَّحِيم وَهُوَ رجل مجذوب مَاتَ بِمَكَّة فِي تِلْكَ السّنة قَالَ وَرجع تَاج العارفين من سفرته تِلْكَ فَأَدْرَكته الْمنية قبل وُصُول الْحَاج الْمصْرِيّ إِلَى مصر بيومين وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة مَيتا فِي أَوَائِل صفر سنة ثَمَان وَألف هَكَذَا ذكره النَّجْم والبكري ذكر أَن وَفَاته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثامن شهر ربيع الثَّانِي سنة سبع وَألف عَن(1/474)
سِتّ وَثَلَاثِينَ وَالله تَعَالَى أعلم أَي الْقَوْلَيْنِ الصَّوَاب
القَاضِي تَقِيّ الدّين بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي التقى أصل وَالِده من مَدِينَة حمص وَولد هُوَ وَنَشَأ بصالحية دمشق وَكَانَ من ذَوي المروآت والفضائل كَامِل الإداة سخي النَّفس دمث الْأَخْلَاق حسن المطارحة لَهُ حسن أدب ومداراة لزم فِي مبدأ أمره أَبَا الْبَقَاء الصَّالِحِي الْمُقدم ذكره ثمَّ صَار من طلبة حسام الدّين مفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وسافر إِلَى الْحَج فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَلم يَتَيَسَّر لَهُ الْحَج بل أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ المنورة ثمَّ صَار شيخ الطَّعَام بالعمارة السُّلْطَانِيَّة السليمانية وَكَانَ لَهُ خدمَة بالسليمية أَيْضا وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْأَعْيَان ويتعهدهم بالهدية وَولي النِّيَابَة بالصالحية زَمَانا طَويلا ثمَّ سلك طَرِيق عُلَمَاء الرّوم ولازم ودرس بِأَرْبَعِينَ عثمانيا على قاعدتهم وَحج فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين ثمَّ ولي قَضَاء الركب الشَّامي وَسَار إِلَى الْحَج فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَصَارَ قسام الْعَسْكَر بِدِمَشْق وناب فِي الْقَضَاء بمحكمة الْبَاب وبالمحكمة الْكُبْرَى والميدان وَصَارَ محاسب الْأَوْقَاف وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أَعْيَان أهل عصره وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع بعد الْألف وَتُوفِّي نَهَار الْأَرْبَعَاء ثامن شهر ربيع الأول سنة تسع وَخمسين وَألف وَدفن بسفح قاسيون وَكَانَ سَبَب مَوته التُّخمَة صَحبه قَاضِي دمشق الْمولى مصطفى بن جشمي قبل مَوته بِيَوْم إِلَى المنتزه الْمَعْرُوف بالسهرابية بالشرف القبلي من الْوَادي الْأَخْضَر فثقل من الطَّعَام وَفِي غَد ذَلِك الْيَوْم دخل إِلَى حمام الْمُقدم بالصالحية فَمَاتَ فِي دَاخله رَحمَه الله تَعَالَى
تَقِيّ الدّين بن يحيى بن اسماعيل بن عبد الرَّحْمَن بن مصطفى السنجاري الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ الْفَاضِل الأديب النَّبِيل النبيه تَرْجَمَة السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي سلافته فَقَالَ فِي وَصفه أديب قَامَ بِهِ أدبه المكتسب إِذْ قعد بِهِ موروث الْحسب وَالنّسب فَهُوَ ابْن نَفسه العصامية إِذْ عدت الْآبَاء والجدود والمنشد لِسَان حَاله عِنْد افتخار السَّيِّد على المسود
(مَا بقومي شرفت بل شرفوا بِي ... وبنفسي فخرت لَا بجدودي)
سمع قَول بعض الأدباء
(كن ابْن من شِئْت واكتسب أدبا ... يُغْنِيك مرورثه عَن الْحسب)
فأجهد نَفسه فِي تَحْصِيل الْأَدَب واكتسابه وغنى عَن شرف النّسَب بانتمائه إِلَيْهِ(1/475)
وانتسابه فتمثل فحرا على كل معرق غبي
(إِن الْفَتى من يَقُول هَا أَنا ذَا ... لَيْسَ الْفَتى من يَقُول كَانَ أبي)
قلت وَهَذِه التَّرْجَمَة كَانَت أعظم أَسبَاب التَّعَرُّض لسب السلافة وصاحبها فَإِن حفيد صَاحب التَّرْجَمَة صاحبنا الْفَاضِل الأديب عَليّ بن تَاج الدّين السنجاري لما رَآهَا استشاط غيظا وَعمل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وهما
(هَات اقر لي رَيْحَانَة ابْن خفاجة ... لأعطر بعد عروس لفظ مُحكم)
(واترك سلافة رَافِضِي مبعد ... إِن السلافة لَا تحل لمُسلم)
وَقَالَ أَيْضا
(قولا لنجل ابْن مَعْصُوم إِذا نظرت ... إِلَيْهِ عيناكما عني وَلَا تخفا)
(المزر أحسن من هذي السلافة إِذْ ... تديرها الْحَبَش فِي حيشانها غرفا)
(مَا زِدْت عَن إِن أفدت النَّاس قاطبة ... يَا رَافِضِي بِمَا أضمرت للخلفا)
وَقَالَ أَيْضا
(مَا أحسن الْحق حِين يَبْدُو ... رغما على من يرى خِلَافه)
(فَإِن للاسم والمسمى ... تنَاسبا عِنْد ذِي الظرافه)
(مَجْمُوعَة ابْن النظام لما ... حوت من الرجس كل آفه)
(وضمنت مدح قوم سوء ... روافض جاحدي الخلافه)
(مَا سهل الله أَن تسمى ... لما حوته غير السلافه)
وَمن ذَلِك كثر فِيهَا اللاغي والقادح وأهملت عَن الاعتناء بشأنها مَعَ أَنَّهَا أَحْرَى من كل حرى بِالْقبُولِ وَأَنت إِن اختبرتها عرفت لمؤلفها أغراضا قديمَة أَرَادَ بِهَذَا التَّأْلِيف تقييدها وَمن جملَة أغراضه أَنه إِذا ترْجم شِيعِيًّا يغالي فِي مدحه ويبالغ فِي تَعْظِيمه وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ وَإِذ إِذْ كرسنيا لَا يُعْطِيهِ حَقه بل ينكت عَلَيْهِ حَتَّى أَنه لما ترْجم السَّيِّد الْجَلِيل الْمجمع على جلالته وَكَمَال علمه عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ رَمَاه بسنان لِسَانه وَتكلم عَلَيْهِ بزوره وبهتانه وَبِالْجُمْلَةِ فَالله يسامحه على مَا ارْتَكَبهُ من الازدراء والامتهان فِيمَن تَرْجمهُ من الْفُضَلَاء والأعيان عود الْخَبَر صَاحب التَّرْجَمَة وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة فِي مَجْمُوع بِخَط الْأَخ الْفَاضِل الأديب مصطفى بن فتح الله وأغلب الِاحْتِمَال أَنَّهَا لَهُ قَالَ فِيهَا سَابق فرسَان الْإِحْسَان وَعين أَعْيَان الْبَيَان والتبيان رفع للعلوم رايه وَجمع فِيهَا بَين الرِّوَايَة والدراية وغاص فِي بَحر الْأَدَب فاستخرج درره وسما إِلَى مطالعه فاستجلى غرره فنظم اللآلئ والدراري ونثر وجدد مَا درس من مغاني الْمعَانِي ودثر ثمَّ أنْشد لَهُ من شعره قَوْله ملغزا فِي نَخْلَة وَكتب بهَا إِلَى القَاضِي(1/476)
تَاج الدّين الْمَالِكِي الْمُقدم ذكره
(أَيهَا المصقع الَّذِي شرف ... الدَّهْر وَأَحْيَا دوارس الْآدَاب)
(والهمام الَّذِي تسامى فخارا ... وتناهى فِي الْعلم والأحساب)
(والخطيب الَّذِي إِذا قَالَ أما ... بعد أشفى بوعظه المستطاب)
(وَالْإِمَام الَّذِي تهذب طفْلا ... وذكا فِي الْعُلُوم والأنساب)
(جِئْت أَرْجُو كشفا لشَيْء تناهى ... فِي العلى وَاكْتفى عَن الْحجاب)
(إِن تصحفه كَانَ فِيهِ شِفَاء ... وَبِه النَّص جَاءَنَا فِي الْكتاب)
(وَلَك الْفضل إِن تصحفه أَيْضا ... بالعطا لَا بَرحت سامي الرحاب)
(مُفْرد إِن حذفت مِنْهُ أخيرا ... صَار جمعاجنسا بِغَيْر ارتياب)
(أَو وصلت الْأَخير مِنْهُ بصدر ... كَانَ عدا بِرَأْي أهل الْحساب)
(أَو بثان إِن ضم تال إِلَيْهِ ... فَهُوَ خل من أعظم الْأَصْحَاب)
(وَإِذا مَا صحفته لذ للنَّفس ... مذاقا فِي مطعم وشراب)
(خل نصفا يحل عَنهُ وبادر ... قلع عين مَا إِن لَهَا من حِسَاب)
(قلع الله عين شانيك يَا من ... قدره قد سما عَن الأسهاب)
(وابق فِي نعْمَة وَعز منيع ... مَا حدا بالحجاز حادي الركاب)
فَأَجَابَهُ بقوله
(يَا إِمَامًا صلي وَسلم كل ... خَلفه من أَئِمَّة الْآدَاب)
(وخطيبا رقي فضمخ طيبا ... مِنْبَر الْوَعْظ مِنْهُ فصل الْخطاب)
(لم ينافس لدي التَّقَدُّم إِلَّا ... قَالَ محرابه هُوَ الأحرى بِي)
(أشرقت شمس فَضله لَا تَوَارَتْ ... عينهَا عَن عياننا بحجاب)
(وأتى روض فكره بعروس ... قد أمدت أنهارها من عباب)
(تَقْتَضِي مني الْجَواب وعذرى ... فِي جوابي حوشيت أَن الجوى بِي)
(شبه فِي حشاي فقد فتاة ... رحلت تمتطي متون الرّقاب)
(وانطوت بعد بَينهَا بسط بسطي ... وَانْقَضَت دولة الصِّبَا والتصابي)
(لَيْت شعري بِمن أهيم وشمسي ... مَا لَهَا فِي أفولها من أياب)
(كَيفَ أصبو ووردة كَانَ روض الْأنس ... يزهو بهَا ثوث فِي التُّرَاب)
(لَا وعيش مضى بهَا فِي نعيم ... لست أصبو من بعْدهَا لكعاب)
(هَات قل لي يَا ملعب السرب مَالِي ... لَا أرى فِيك ظَبْيَة الأتراب)(1/477)
(قَالَ سل حاسب الْكَوَاكِب عَمَّا ... حَار فِي دَفعه أولو الْأَلْبَاب)
(أَصبَحت من بَنَات نعش وَكَانَت ... بدر تمّ فَهَل ترى من جَوَاب)
(فابسط الْعذر يَا أَخا الْفضل فضلا ... أَن تجدني أَخْطَأت صوب الصَّوَاب)
(أتصيب الصَّوَاب فكرة صب ... يحتسي كأس فرقة الأحباب)
(وتطول وأسبل السّتْر صفحا ... فَهُوَ شَأْن الْخلّ الْمُحب المحابي)
(فِي جَوَاب عَن نَخْلَة قد أتتنا ... بجني النَّحْل فِي سطور الْكتاب)
(أتحفتنا باللغز فِي اسْم لاخت ... لَا بَينا خصت بذا الانتساب)
(وَكَسَاهَا الْمَرْوِيّ من شبه الْمُؤمن ... فضلا فِي سَائِر الأحقاب)
(وَهِي ترقي من غير سوء فطورا ... يسْتَحق الْجَانِي أَلِيم الْعَذَاب)
(ثمَّ طورا وَهُوَ الْكثير يرى ... الْجَانِي عَلَيْهَا من أفضل الْأَصْحَاب)
(وَلها أَن تشأ تصاحيف مِنْهَا ... مُفْرد فِيهِ غَايَة الأغراب)
(جَاءَ قلب اسْم جنسه وَهُوَ لحن ... لَا تنافيه صَنْعَة الْأَعْرَاب)
(ومسمى التَّصْحِيف هَذَا إِلَيْهِ الله ... أوحى سُبْحَانَهُ فِي الْكتاب)
(وهوذ شَوْكَة وجند عَظِيم ... خلف يعسو بِهِ بِغَيْر حِسَاب)
(ذُو دوِي فِي جحفل يمْلَأ الجو ... كرعد فِي مكفهر السَّحَاب)
(حَيَوَان وَإِن يصحف جماد ... مفصح عَن مُرَاد سامي الجناب)
(يَا خليلي بل يَا أَنا فِي اتِّحَاد ... بك عَيْني بدا بِغَيْر ارتياب)
(إِن صنعي فِي حلي اللغز ... باللغز بديع فَلَا تفه بعتابي)
(وابق فِي نعْمَة وَفِي جمع شَمل ... ببنيك الأفاضل الإنجاب)
(مَا سرت نفحة الأزاهر تروي ... ضحك الرَّوْض من بكاء السَّحَاب)
وأعقب ذَلِك بنثر صورته الْمولى الَّذِي إِذا أَخذ الْقَلَم وشي وَأرى غباره أَرْبَاب البلاغة والإنشا لَا يرى من رَمَاه الدَّهْر بسهمه ولعبت صوالج الأحزان بكرَة فهمه فمزج الْمَدْح بالرثاء وقابل النَّضر بالغثاء فقد بَان عذره واتضح فعل الزَّمَان بِهِ وغدره وَقد كنت قبل إدراج هَذَا الرثاء فِي اثناء الْجَواب أرقت ذَات لَيْلَة من تجرع صاب ذَلِك الْمُصَاب فنفثت القريحة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي كَاد أَن لَا يكون لَهَا صَبِيحَة
(لقد كَانَ روض الْأنس يزهو بوردة ... شذا كل عطر بعد نفحة طيبها)(1/478)
(فَمد إِلَيْهَا الْبَين كف اقتطافه ... وأمحل ذَاك الرَّوْض بعد مغيبها)
(وَلم يصف لي من بعْدهَا كأس لَذَّة ... وَكَيف تلذ النَّفس بعد حبيبها)
(فروى ثراها يَا سحائب أدمعي ... وَمن لي بِأَن تروى بسح صبيبها)
فقصدت أَن أثبتها فِي ذيل الْجَواب وأخرياته لما عَسى أَن تكون من محفوظات مَوْلَانَا ومروياته وَقد طَال هَذَا إلهذا وطغى الْقَلَم بِمَا هُوَ للعين قذا فلنحبس عنانه ونرح سمع الْمولى وعيانه وَكَانَت ولادَة صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة عشر بعد الْألف بِمَكَّة وَتُوفِّي بهَا فِي سنة سبع وَخمسين وَألف وَدفن بالمعلاة والسنجاري بِكَسْر السِّين نِسْبَة إِلَى الْبَلدة الْمَعْرُوفَة
القَاضِي تَقِيّ الدّين التَّمِيمِي الْغَزِّي الْحَنَفِيّ صَاحب الطَّبَقَات الْعَالم الْعلم الْفَاضِل الأديب لجم الْفَائِدَة المفنن أَخذ عَن عُلَمَاء كثيرين وجال فِي الْبِلَاد وَدخل الرّوم وَألف وصنف وَأحسن مَاله من التآليف طَبَقَات الْحَنَفِيَّة وقفت على حِصَّة مِنْهَا وَقد جمع فِيهَا جملَة من عُلَمَاء الرّوم وعظمائها وأكابر سارتها ورؤسائها وَذكره الخفاجي فِي ريحانته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر أَنه كَانَ فِي مبدأ أمره وإقبال طلائع عمره حرفته الزهاده وحانوته السجادة ثمَّ سَاقه الْقدر والقضا فَرضِي بِمَا قدره الله وَقضى بَعْدَمَا كَانَ يَقُول
(من تمنى القضا فَلَا تعطينه ... وَاجعَل الْمَوْت سَابِقًا للْقَضَاء)
وَقد قَالُوا أَن من تولى الْقَضَاء وَلم يفْتَقر فَهُوَ لص والآن قد افْتَقَرت اللُّصُوص لما سرقت الْأُمَرَاء من الْخَوَاتِم الفصوص وَالسَّارِق إِذا سرق من سَارِق فقد عَامله بِرَأْس مَاله وَقَالَ الرِّبْح والفائدة السَّلامَة من خسران وباله وَمَا يسلب قَاطع الطَّرِيق الْعُرْيَان بل يهديه للسبيل وَيُعْطِيه الْأمان وَأورد من شعره قَوْله وَقد لبس من الْقَضَاء خلع المذلة وحاكت لَهُ الأطماع من نصب المناصب حلّه
(أحبابنا نوب الزَّمَان كَثِيرَة ... وَأمر مِنْهَا رفْعَة السُّفَهَاء)
(فَمَتَى يفِيق الدَّهْر من سكراته ... وَأرى الْيَهُود بذلة الْفُقَهَاء)
وَله أَيْضا
(مَا أَبْصرت عين امْرِئ ... فِي الدَّهْر يَوْمًا مثلنَا)
(عشق وحرمان بِهِ ... أبدا تَرَانَا فِي عَنَّا)
(الدون لَا نرضى بِهِ ... والعال لَا يرضى بِنَا)
والعال بِمَعْنى العالي إِلَّا أَنَّهَا عامية مبتذلة وَقيل لِابْنِ المقفع لم لَا تَقول الشّعْر فَقَالَ(1/479)
لَا يَجِيء مَا نرضاه وَمَا نرضاه لَا يحيء وَله أَيْضا
(إِذا أَكثر العَبْد الذُّنُوب وَلم يكن ... لَهُ شَافِع من حسنه يُوجب العذرا)
(وأبصرت مَعَ مَوْلَاهُ الذَّنب ممهلا ... عَلَيْهِ فحقق أَن بَينهمَا أمرا)
وَله
(وَإِذا أَسَاءَ إِلَيْك خَادِم سيد ... وَأقرهُ فارحل وَلَا تتَوَقَّف)
(وَاعْلَم بأنك قد ثقلت وَأَنه ... أَعْطَاك إِذْنا بالرحيل فَخفف)
وَله
(لنا صديق لَهُ بالغانيات هوى ... وابره لَا يزَال الدَّهْر طراقا)
(كَأَنَّمَا هُوَ حرباء الهجير ضحى ... لَا يُرْسل السَّاق لَا ممسكا ساقا)
وَقد سبقه لهَذَا ابْن الْأَنْبَارِي الْمصْرِيّ فَقَالَ
(لَا يشغلنك شَيْء فِي زَمَانك عَن ... وصل الملاح وحاذر كل مَا عاقا)
(وَكن كَمَا قيل فِي الحرباء من فطن ... لَا يُرْسل السَّاق إِلَّا ممسكا ساقا)
وَهُوَ تضمين من قَول بعض شعراء الْجَاهِلِيَّة
(إِنِّي يتيح لَهُ حرباء تنضبة ... لَا يُرْسل السَّاق إِلَّا ممسكا ساقا)
والساق فِيهِ غُصْن الشَّجَرَة وَمن الْإِنْسَان مَعْرُوف وَبِه قَامَت التورية وضربه بعض الْعَرَب مثلا بألد الْخِصَام الَّذِي كلما انْقَضتْ حجَّة أَقَامَ لَهُ أُخْرَى والحرباء دويبة تسمى أم حبيرة تتلون ألوانا مَعَ الشَّمْس وتكنى أباقرة وَيُقَال حرباء تنضب كَمَا يُقَال ذِئْب غضا وَهُوَ شجر تتَّخذ مِنْهُ السِّهَام جمع تنضبة ويف الْمثل أحزم من حرباء لِأَنَّهُ مَعَ تقلبه مَعَ الشَّمْس لَا يُرْسل يَده من غُصْن حَتَّى يمسك آخر وَهُوَ الَّذِي عناه الشَّاعِر وضربه ابْن الرُّومِي مثلا للقبح فِي كَثْرَة التقلب انْتهى وَكَانَت وَفَاة التَّمِيمِي بِمصْر يَوْم السبت خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشر وَألف وَهُوَ فِي سنّ الكهولة رَحمَه الله تَعَالَى
المنلا توفيق بن مُحَمَّد الكيلاني نزيل قسطنطينية وَأحد الْمُحَقِّقين الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ الباهر والحذق التَّام والمعرفة فِي الْفُنُون الغربية كالحكميات والإلهيات والرياضيات حصل ودأب ببلاده ثمَّ قدم إِلَى آمد وَأقَام بهَا مُدَّة يدرس ويفيد فِي الْعُلُوم وَكَانَ إِذْ ذَاك المنلا عماد الْآمِدِيّ بهَا وَكَانَ يَقع بَينهمَا مناظرات ومحاورات وَلما ولي حسن باشا بن مُحَمَّد باشا حُكُومَة الشَّام سَافر فِي صحبته إِلَيْهَا وَأَقَامَا بهَا مُدَّة ثمَّ رَحل المنلا توفيق إِلَى الرّوم وانحاز إِلَى الْمولى سعد الدّين بن حسن جَان معلم السُّلْطَان فعينه معلما لأولاده واتخذه نديما ومصاحبا وبسببه طَنَّتْ صحاة فَضله واشتهر وَأعْطى مدرسة حرزي قَاسم باشا الَّتِي بِأَيُّوب على طَرِيق التقاعد(1/480)
هَكَذَا ذكر ابْن نوعى خَبره فِي ذيله التركي وَذكره البوريني فِي تَارِيخه وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ فِي تَرْجَمته كَانَت لَهُ مُعَارضَة مَعَ الْعِمَاد الْحَنَفِيّ السَّمرقَنْدِي الباياسوني النعماني وَكَانَ أهل النّظر لَا يرونه أَهلا لمعارضة الْعِمَاد وطالت بَينهمَا الْمُعَارضَة والمحاورة حَتَّى أَنَّهُمَا لم يجتمعا فِي مجْلِس لَكِن كَانَت السفار بَينهمَا غير مندفعة حَتَّى أَن المنلا توفيق لقب الْعِمَاد بقوله هُوَ كَيفَ الدّين لِأَنَّهُ كَانَ يتَنَاوَل شَيْئا من الأفيون فَأرْسل الْعِمَاد إِلَيْهِ قَائِلا الدّين مَاله كَيفَ بل لَهُ زائر وضيف فَأَنت يَا توفيق ضيف الدّين وَذَلِكَ لِأَنَّك كنت كيلانيا وَأهل كيلان زيديون وهم قسم من الشِّيعَة يرَوْنَ الْإِمَامَة لزيد بن الْحسن فَكَأَنَّهُ لما ترك تِلْكَ الْبِلَاد وَصَارَ حنفيا فِي بِلَاد آمد صَار ضيفا للدّين لِأَنَّهُ نزيل أهل السّنة وشاعت بَينهمَا أَمْثَال هَذِه الْأَقَاوِيل ثمَّ رَحل الْعِمَاد إِلَى دمشق ورحل توفيق إِلَى الرّوم فَتوفي بهَا فِي سنة عشر وَألف
(حرف الْجِيم)
جَار الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْقُدسِي الْمَعْرُوف بِابْن أبي اللطف الحصكفي الأَصْل مفتي الْحَنَفِيَّة ومدرس الْمدرسَة العثمانية بالقدس تولاها بعد موت عَمه عمر وَتوجه إِلَى الرّوم بعد موت عَمه الْمَذْكُور وتقرر فِي هَذِه المناصب وَله رحْلَة سَابِقَة إِلَى مصر أَخذ بهَا الْعَرَبيَّة وَالْفِقْه عَن عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر وَأخذ عَن عَمه شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد وَكَانَ يُحِبهُ جدا حَتَّى أَنه زوجه ابْنَته قَالَ الْحسن البوريني حكى لي ولد مُحَمَّد الْمَذْكُور وَهُوَ الشَّيْخ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن أبي اللطف الْآتِي ذكره أَن وَالِده كَانَ قد زعم أَن يُزَوّج ابْنَته الْمَذْكُورَة بِابْن أَخ آخر لَهُ فرأت امْرَأَة صَالِحَة فِي دَارهم وَالِد الشَّيْخ مُحَمَّد وَهُوَ شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد شمس الدّين وَهُوَ يَقُول هَذِه الْبِنْت لَا يُعْطِيهَا مُحَمَّد لفُلَان بل يُعْطِيهَا لِجَار الله وَهَكَذَا رأى هَذَا الْمَنَام بِعَيْنِه رجل صَالح ضَاعَ عني اسْمه فَلَزِمَ أَنه أَعْطَاهَا لِجَار الله كَمَا حكم وَالِده فِي الرُّؤْيَا وَأصَاب فِي ذَلِك فَإِن ابْن أَخِيه الآخر مَاتَ سَرِيعا وَلم ينْتج وأنتج جَار الله وَكَانَ عَالما فَاضلا سخيا طلق الْكَفّ طلق الْوَجْه مبذول الْقرى قَرَأت بِخَط الْعَلامَة مُحَمَّد بن نعْمَان الأيجي الدِّمَشْقِي فِي مَجْمُوع لَهُ ذكر فِيهِ بعض وفيات قَالَ توفّي جَار الله مفتي الْقُدس فِي أَوَائِل شعْبَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَورد خبر مَوته إِلَى دمشق فِي أواسط شعْبَان وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة من غير عِلّة وَسَيَأْتِي وَلَده على(1/481)
مفتي الْقُدس رَحمَه الله تَعَالَى
جَعْفَر الصادقبن بن عَليّ بن زين العابدين بن عبد الله بن شيخ بن عبيد الله بن شيخ ابْن الشَّيْخ عبد الله العيدروس اليمني الشَّافِعِي الشريف الْفَائِق الْأَجَل الْمولى الْعلي الْقدر ولد بِمَدِينَة تريم وَصَحب أَبَاهُ ولازمه مُدَّة فِي فنون عديدة وَحفظ الْقُرْآن وجوده وَحفظ الْإِرْشَاد والمحلة والقطر وَغَيرهَا وَأخذ عَن ابْن عَمه عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَالشَّيْخ زين بن حُسَيْن بَافضل وَأبي بكر الشلي باعلوي وبرع فِي التَّفْسِير وَالْفِقْه والْحَدِيث والتصوف والعربية والحساب والفلك والفرائض وَكَانَ ناضر الْعَيْش رخى البال وأتحفه الله بِحسن الْفَهم وجمال الصُّورَة وَكَمَال الْخلقَة ورزقه قبولا تَاما وَكَانَ بيغا فِي نظمه وإنشائه ثمَّ حج وَأخذ بالحرمين عَن جمَاعَة ثمَّ عَاد إِلَى تريم وَلم يدْخل إِلَى بلد إِلَّا وأكرمه واليها غَايَة الْإِكْرَام وَلما قرب من تريم خرج النَّاس للقائه وَدخل فِي جَمِيع لم يتَّفق لأحد من أهل بَيته وَكَثُرت مزاحمة الرِّجَال وأرباب الدفوف والشبابات بَين يَدَيْهِ والمداح تمدحه وَتثني عَلَيْهِ وَسبب ذَلِك أَن أَبَاهُ كَانَ مُتَوَلِّيًا أَمر الإشراف وَكَانَ لَهُ إِلَيْهِ محبَّة زَائِدَة وَأقَام بتريم مُدَّة ثمَّ رَحل إِلَى الْهِنْد لطلب الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة فَدخل بندر سورت للأخذ عَن عَمه الشريف مُحَمَّد ثمَّ قصد إقليم الدكن فاتصل ثمَّة بالوزير الْأَعْظَم الْملك عنبر فنظمه فِي سلك ندمائه وناظر الْعلمَاء بِحَضْرَتِهِ فَظهر عيهم ثمَّ تصدر للتدريس واعتنى بِلِسَان الْفرس فحصله فِي مُدَّة يسيرَة وَلما رأى بعض الْعَجم العقد النَّبَوِيّ لجده الامام شيخ بن عبد الله طلب مِنْهُ أَن يترجمه لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فترجمه بِأَحْسَن عبارَة وَلم يزل حَتَّى مَاتَ الْملك عنبر وأقيم وَلَده فتخ خَان مقَامه فَزَاد فِي إجلال صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى أَن قدر الله تَعَالَى على تِلْكَ الدولة مَا قدر من نفادها وتشتت أَرْبَابهَا فَعَاد الصَّادِق إِلَى بندر سورت وَقرر على مَا كَانَ عَلَيْهِ عَمه مُحَمَّد العيدروس من الْمَعْلُوم والغلال وزادوه كثيرا من الْأَرَاضِي فَكَانَ ينفقها على الْوَارِد وَألقى بالبندر عَصَاهُ واشتهر أمره وطنت حصاته وَكَانَ لَهُ من الْولَايَة نصيب وافر وَله كرامات ومكاشفات مِنْهَا مَا حدث بِهِ بعض الثِّقَات من أهل مَكَّة قَالَ أردْت السّفر لى وطني وَأَنا ببندر سورت فَدخلت عَلَيْهِ أودعهُ وأسأله الدُّعَاء بالوصول إِلَيْهَا سالما فَقَالَ لي تسْعَى بَين الصَّفَا والمروة فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْيَوْم قَالَ فَلَمَّا وصلتها بَيْنَمَا أَنا أسعى إِذْ سَأَلَني رجل عَن السَّيِّد الْمَذْكُور فتذكرت قَوْله لي وحسبت الْأَيَّام(1/482)
فَإِذا الْأَمر كَمَا قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خِيَار الْقَوْم وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن فِي مشْهد عَمه مُحَمَّد العبدروس وقبره مَعْرُوف يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
جَعْفَر أَبُو الْبَحْر بن مُحَمَّد بن حسن بن عَليّ بن نَاصِر بن عبد الإِمَام الشهير بالخطي البحراني الْعَبْدي أحد بني عبد الْقَيْس بن شقّ بن قصي بن دعمة بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان ذكره فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه ناهج طرق البلاغة والفصاحة الزاخر الباحة الرحيب الساحة البديع الْأَثر والعيان الْحَكِيم الشّعْر السَّاحر الْبَيَان ثقف بالبراعة قداحه وأدار على المسامع كؤسه وأقداحه فَأتى بِكُل مُبْتَدع مطرب ومخترع فِي جنسه مغرب وَمَعَ قرب عَهده قد بلغ ديوَان شعره من الشُّهْرَة الدى وَسَار بِهِ من لَا يسير مشمرا أَو غنى بِهِ من لَا يُغني مغردا وَكَانَ قد دخل الديار العجمية فقطن مِنْهَا بِفَارِس وَلم يزل وَهُوَ لرياض الْأَدَب جَان وغارس حَتَّى اختطفته أَيدي الْمنون فعرس بِفنَاء الفناء وخلد عرائس الْفُنُون وَلما دخل أَصْبَهَان اجْتمع بالشيخ بهاء الدّين مُحَمَّد العاملي وَعرض عَلَيْهِ أدبه فاقترح عَلَيْهِ مُعَارضَة قصيدته الَّتِي أَولهَا قَوْله
(سرى الْبَرْق من جد فهيج تذكاري ... عهودا بجدوى والعذيب وَذي قار)
فعارضه بقصيدة مطْلعهَا
(هِيَ الدَّار تستسقيك مد مَعَك الْجَارِي ... فسقيا وَخير الدمع مَا كَانَ للدَّار)
(وَلَا تستضع دمعا تريق مصونه ... لعزته مَا بَين نور أَحْجَار)
(فَأَنت امْرُؤ بالْأَمْس قد كنت جارها ... وللجار حق قد علمت على الْجَار)
(عشوت على اللَّذَّات فِيهَا على سنا ... سناء شموس مَا يغبن وأبكار)
(فَأَصْبَحت قد أنفقت أطيب مَا مضى ... من الْعُمر فِيهَا بَين عون وأقمار)
(نواصع بيض لَو أفضن على الدجى ... سناهن لاستغنى عَن الْكَوْكَب الساري)
(خرائد يبصرن الْأُصُول بأوجه ... تغص بأمواه النضارة أَحْرَار)
(معاطير لم تغمس يَد فِي لطيمة ... لَهُنَّ وَلَا استعبقن جونة عطار)
(أبحنك مَمْنُوع الْوِصَال نواز لَا ... على حكم ناه كَيفَ شَاءَ وأمار)
(أذابت تستقي الثغور مدامة ... أتتك فحيتك الخدود بأزهار)
(أموسم لذاتي وسوق مآربي ... ومجني لباناتي ومنهب أوطاري)(1/483)
(سقتك برغم الْمحل أخلاف مزنة ... تلف إِذا جَاشَتْ سهولا بأوعار)
(وفج كَمَا شَاءَ المجال خشوبه ... بعزمة عواد على الهول كرار)
(تمرس بالأسفار حَتَّى تركنه ... لدقته كالقدح أرهفه الْبَارِي)
(إِلَى ماجد يعزي إِذا انتسب الورى ... إِلَى معشر بيض أماجد أخيار)
(ومضطلع بِالْفَضْلِ زر قمصه ... على كنز آثَار وعيبة أسرار)
(سمى النَّبِي الْمُصْطَفى وأمينه ... على الدّين فِي إِيرَاد حكم وإصدار)
(بِهِ قَامَ بعد الْميل وانتصبت بِهِ ... دعائم قد كَانَت على جرف هار)
(فَلَمَّا أناخت بِي على بَاب دَاره ... مطاياي لم أذمم مغبة أسفاري)
(نزلت بمغمتي الرواقين دَاره ... مثابة طواف وكعبة زوار)
(فَكَانَ نزولي إِذْ نزلت بمغدق ... على الْمجد فضل الْبر عَار من الْعَار)
(أساغ على رغم الحواسد مشربي ... وأعذب ورد الْعَيْش لي بعد امرار)
(وأنقذني من قَبْضَة الدَّهْر بَعْدَمَا ... ألح بأنياب عَليّ وأظفار)
(جهلت على مَعْرُوف فضلى فَلم يكن ... سواهُ من الأقوام يعرف مقداري)
وَلما انْتهى إِلَى هَذَا الْبَيْت فِي الإنشاد قَالَ وَأَشَارَ إِلَى جمَاعَة من سادة البحريين وَهَؤُلَاء يعْرفُونَ مقدارك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(على أَنه لم يبْق فِيمَا أَظُنهُ ... من الأَرْض شبر لم تطبقه أخباري)
(وَلَا غرو فالأكسير أكبر شهرة ... وَمَا زَالَ من جهل بِهِ تَحت أَسْتَار)
(مَتى بل لي كف فلست بآسف ... على دِرْهَم إِن لم ينله ودينار)
(فيا ابْن الالى أثنى الْوَصِيّ عَلَيْهِم ... بِمَا لَيْسَ تثنى وَجهه يَد انكار)
(بصفين إِذْ لم يلفه من أوليائه ... وَقد عض نَاب للورى غير فرار)
(وَأبْصر مِنْهُم جن حَرْب تهافتوا ... على الْمَوْت اسراع الْفراش على النَّار)
(سرَاعًا إِلَى دَعْوَى الْمنون يرونها ... على شربهَا الْأَعْمَار مورد أَعمار)
(أطاروا غمود الْبيض واتكلوا على ... مفارق قوم فارقوا الْحق كفار)
(وأرسوا وَقد لاثوا على الركب الجنى ... بروكا كهدى أبركوه لجزار)
(فَقَالَ وَقد طابت هُنَالك نَفسه ... رضَا وأقروا عينه أَي إِقْرَار)
(فَلَو كنت بوابا على بَاب جنَّة ... كَمَا أفصحت عَنهُ صحيحات أَخْبَار)
يُشِير إِلَى هَمدَان وَهِي قَبيلَة من الْيمن يَنْتَهِي إِلَيْهِم نسب الممدوح وَكَانُوا قد أبلوا يَوْم(1/384)
صفّين بلَاء حسنا فروى أَنهم فِي بعض أَيَّامهَا حِين استجر الْقَتْل وَرَأَوا فرار النَّاس عَمدُوا إِلَى غمود سيوفهم فكسروها وعقلوا أنفسهم بعمائمهم وجثوا اللركب وبركوا للْقَتْل فَقَالَ فيهم أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ كرم الله وَجهه وَرَضي عَنهُ
(لهمدان أَخْلَاق وَدين يزينها ... وبأس إِذْ لاقوا وَحسن كَلَام)
(فَلَو كنت بوابا على بَاب جنَّة ... لَقلت لهمدان ادخُلُوا بِسَلام)
وَقَالَ فيهم يَوْم الْجمل لَو تمت عدتهمْ ألفا لعبد الله حق عِبَادَته وَكَانَ إِذا رَآهُمْ تمثل بقول الشَّاعِر
(ناديت هَمدَان والأبواب مغلقة ... وَمثل هَمدَان سني فَتْحة الْبَاب)
(كالهندواني لم تقلل مضار بِهِ ... وَجه جميل وقلب غير وجاب)
ذكره ابْن عبد ربه فِي العقد وهمدان بِسُكُون الْمِيم وَبعدهَا ذال مُهْملَة وَأما همذان بِفَتْح الْمِيم والذل الْمُعْجَمَة فبلد من بِلَاد الْعَجم وَهِي أول عراق الْعَجم وإليها ينْسب بديع الْجمال الهمذاني صَاحب المقامات الَّذِي اقتفى الحريري أَثَره فِيهَا وَتَمام القصيدة مَوْجُود فِي ديوَان صَاحب التَّرْجَمَة وَقد قرظ لَهُ عَلَيْهَا الشَّيْخ بهاء الدّين تقريظا حسنا ذكره فِي السلافة وَذكر لَهُ بعض أشعار أوردت مِنْهَا قِطْعَة فِي النفخة الَّتِي ذيلت بهَا على الريحانة ومطلعها
(عاطنيها قبل ابتسام الصَّباح)
وَكَانَت وَفَاته سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
جَعْفَر باشا الْوَزير الخطير صَاحب الْيمن ذكره الإِمَام الطَّبَرِيّ فِي تَارِيخه وَقَالَ سَمِعت من لفظ وَالِدي قَالَ تباحثت أَنا وإياه فِي خَمْسَة عُلُوم التَّفْسِير والْحَدِيث والمعاني وَالْبَيَان والقراآت فَوَجَدته فِي كل مِنْهَا كَامِلا وَذكر مُحَمَّد بن كاني الرُّومِي فِي تَارِيخه أَنه كَانَ حَاكم بِلَاد الْحَبَشَة فأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بِبِلَاد الْيمن فوصل إِلَى بندر الصليف من حُدُود الْيمن فِي تَاسِع عشر شهر ربيع الآخر سنة سِتّ عشرَة وَألف وَدخل مَدِينَة صنعاء فِي رَابِع عشرى شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ جَامعا بَين محَاسِن الْخِصَال ومراتب الْكَمَال وَكَانَ عَالما عَاملا وَفِيه من الدّيانَة والتهجد مَا هُوَ كثير على امثاله وَكَانَ خليقا بِكُل وصف حسن إِلَّا أَنه كَانَ يحب الْفَخر وَفِيه من التبه شَيْء لطيف وَمن نظر إِلَيْهِ فِي بعض مجَالِس أنسه وَكَثْرَة انبساطه ظن أَنه يَعْتَرِيه الجذب وَلَو أَمن من سفك الدِّمَاء فِي آخر مَجِيئه إِلَى الْيمن لَكَانَ مِمَّن ملك الْقُلُوب وَهُوَ مَعْذُور فِي هَذَا الْأَمر فَإِنَّهُ لما دخل صنعاء تصفح أَحْوَال الْبِلَاد فَرَأى أَن تقوى الإِمَام الْقَاسِم بمساعدة عبد الرَّحِيم بن المطهر وَذَلِكَ بِسَبَب عزم سِنَان باشا(1/485)
فَاسْتحْسن مصالحة الإِمَام فَصَالحه يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشري ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَألف على جِهَات مَعْلُومَة وَهِي بِلَاد الأهتوم وبلاد عَدو والقصمات ووادعة وبلاد برض وَشرط الإِمَام خُرُوج أَوْلَاده ومكالفه وَأَصْحَابه من حصن كوكبان فَأَطْلَقَهُمْ الْوَزير الْمَذْكُور وَأحسن إِلَيْهِم إِلَى وَلَده السَّيِّد مُحَمَّد وتوجهت العساكر على عبد الرَّحِيم فَأسرهُ وأرسله إِلَى العتبة السُّلْطَانِيَّة فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان عشرَة وَألف وواجهه أَخُوهُ الْأَمِير أَحْمد والأمير مُحَمَّد فأكرمهما بصنجقين وسلطانيين وَفتح بِلَاد حجَّة والشرف وبلاده وحصونه وَفتح بِلَاد نبوه وصاب وَشرع فِي نظام الْبِلَاد وَسَار سيرة مرضية فوصلت الْأَخْبَار إِلَى الْيمن أَنَّهَا تَوَجَّهت إِلَى ضَابِط الْجند الْوَزير إِبْرَاهِيم فَخرج الْوَزير جَعْفَر قَاصِدا إِلَى الْأَبْوَاب فِي حادي عشر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَوصل الْوَزير إِبْرَاهِيم إِلَى بندر الصليف فِي سلخ صفر وَخرج إِلَى الْبر غرَّة شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين فطلع من الْيمن مُتَوَجها إِلَى صنعاء فَمَال إِلَيْهِ الْأَمِير عبد الله كتخدا الْوَزير جَعْفَر وانضم إِلَيْهِ وَلم يرع لوَلِيّ نعْمَته حُرْمَة وَلَا راقب فِيهِ ذمَّة فعين الْوَزير إِبْرَاهِيم مَعَه عسكراً جراراً وعينه عَلَيْهِم وعَلى من بصنعا من العساكر أمره بالتقدم قبله إِلَى صنعاء فَتقدم ونهض الْوَزير إِبْرَاهِيم إِلَيْهَا فوصل إِلَى زمار وَهُوَ مَرِيض ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا فَلَمَّا وصل إِلَى منقذة وَهِي على مرحلة من زمارٍ مَاتَ وَفِي سَبَب مَوته أقاويل وَذَلِكَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشري جُمَادَى الأولى من السّنة وَقد كَانَ الْوَزير جَعْفَر وصل إِلَى زبيد وَاسْتقر بهَا لأجل تَكْمِيل مهمات يحْتَاج إِلَيْهَا فِي الطَّرِيق فوصلت إِلَيْهِ الْأَخْبَار بِمَوْت خَلفه فَرجع قَاصِدا صنعاء لما أرسل إِلَيْهِ أَعْيَان الْبِلَاد المجتمعون فِي مَدِينَة زمار خَارِجا عَمَّن كَانَ مَعَ الْأَمِير عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ وَزِير السُّلْطَان وَأولى النَّاس بِالْولَايَةِ لأجل الْحِفْظ حَتَّى يرى السُّلْطَان فِي ذَلِك بِرَأْيهِ فَلَمَّا بلغ الْأَمِير عبد الله رُجُوع الْوَزير جَعْفَر ضَاقَتْ نَفسه لجراءته وأحاطت بِهِ الأوهام فَاجْتمع الَّذين أساؤوا إِلَيْهِ من الْأُمَرَاء والجند فتشاجروا وتحاوروا على الْخلاف وَكَانَ الْأَمِير عبد الله يعدهم ويمنيهم بِالَّذِي يُوَافق أهويتهم فساعده بَقِيَّة الْعَسْكَر وَكَانَ فيهم من يُنكر فعلهم وَأظْهر الِاسْتِقْلَال بِالْأَمر الْأَمِير عبد الله وَلما وصل الْوَزير جَعْفَر إِلَى زمار أرسل إِلَيْهِ كتابا بالصفح وَالْعَفو فَتعذر بالعسكر الَّذين نصبوه كرها وحذره من الْوُصُول فَلَمَّا ترددت الرُّسُل مَا زَاد هُوَ وَمن مَعَه إِلَّا عُدْوانًا فعين الْوَزير كتخداه الْأَمِير حيدر سرداراً على الْعَسْكَر وأرسلهم فَلَمَّا تراآى(1/486)
الْجَمْعَانِ انْخَذَلَ بعض الْعَسْكَر وَجَاء إِلَى جَانب السردار وَثَبت بَعضهم لِلْقِتَالِ فَتقدم بِمن مَعَه عَلَيْهِم فَهَزَمَهُمْ وَلما بلغ عبد الله هزيمَة أعوانه تحصن فِي حصن صنعاء وَوصل السردار وَحط بِحَمْرَاء علب قرب صنعاء فَأرْسل إِلَى الْأُمَرَاء ووانسهم فطلبوا الْأمان فَأرْسل لَهُم بالأمان فَخَرجُوا إِلَى حَمْرَاء علب وتقدموا إِلَيْهِ فَمَا وسع الْأَمِير عبد الله إِلَّا النُّزُول إِلَيْهِ فَلَمَّا وصل شَاهد السردار أشقياء الْعَسْكَر يتزايدون ويتناقضون فِي الْكَلَام فحسم مواد الْفِتَن بِقطع رَأسه وخمدت نيران الْفِتْنَة وَذَلِكَ فِي أَوَائِل شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَوصل الْوَزير جَعْفَر إِلَى صنعاء وَكَانَ نُزُوله فِي الْبُسْتَان قبال بَاب السَّبي وَهُوَ أحد أَبْوَاب صنعاء فِي الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر وَصَامَ شهر رَمَضَان فِي قصر صنعاء وتتبع من كَانَ سَببا للفتن وساعد الْأَمِير عبد الله فَقطع دابرهم وَعَفا عَن بَعضهم وَكَانَ الإِمَام الْقَاسِم قد اغتنم الفرصة مُدَّة هَذِه الْفِتْنَة فَبسط يَده على أَكثر بِلَاد الْقبْلَة والمغارب وتقوت شوكته فَجمع الْوَزير جَعْفَر جَيْشًا وَعين كتخداه حيدر سرداراً عَلَيْهِم فَتوجه فظفر بالسيد الْحسن بن الْقَاسِم فِي عرة الأشمور فَقبض عَلَيْهِ وأرسله إِلَى الْوَزير ثمَّ كَانَت الْحَرْب بعد ذَلِك سجالاً وَفِي آخر الْأَمر حصل الْحَرْب الأكيد فَقتل من الْجَانِبَيْنِ عَالم كثير فِي أَمَاكِن مُتعَدِّدَة وبينت عَن قتل السَّيِّد عَليّ بن الْقَاسِم فَكَانَ سَببا لإطفاء نيران الْحَرْب من الطَّرفَيْنِ وَفِي خلال ذَلِك وصلت الْأَخْبَار بِأَن ولَايَة الْيمن قد تَوَجَّهت إِلَى الْوَزير حاجي مُحَمَّد باشا فَاخْتَارَ الصُّلْح لاشتغالهما بأنفسهما فانعقد الصُّلْح بَين الْوَزير جَعْفَر وَبَين الإِمَام الْقَاسِم بِأَن لكل مِنْهُمَا مَا تَحت يَده من الْبِلَاد وَالْخيَار لمُحَمد باشا بعد وُصُوله إِلَى صنعاء فِي تَمام الصُّلْح وَعَدَمه وَخرج الْوَزير جَعْفَر من صنعاء مُتَوَجها إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة يَوْم تَاسِع عشري شعْبَان سنة خمس وَعشْرين وَألف وَكَانَ أول دولته حَرْب وَنصر وأوسطها سلم وراحة وَآخِرهَا حَرْب وفتنة ومحنة وحقد انْتهى وَقد ذكر تَتِمَّة خَبره من هُنَا النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله فَقَالَ دخل دمشق مُنْفَصِلا عَن الْيمن يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة سبع وَعشْرين وَألف وَكَانَ دخل مصر وَأقَام بهَا مُدَّة قَالَ وَاجْتمعت بِهِ فِي الميدان الْأَخْضَر فَوَجَدته من أَفْرَاد الدَّهْر ينْطق بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ الفصيح وَهُوَ عَالم مُتَمَكن فِي الْعَرَبيَّة وَالتَّفْسِير إِمَام فِي علم الْكَلَام وَمَعْرِفَة مَذَاهِب الْفرق وَيحسن الرَّد عَلَيْهِم بالأدلة الْعَقْلِيَّة عَارِف بِالْخِلَافِ بَين الْمذَاهب شَدِيد التعصب على الْمُعْتَزلَة وَالرَّوَافِض(1/487)
والزيدية لَا يمل من الْبَحْث وَلَا يفتر عَنهُ حاذق الفكرة جيد الذكاء ثمَّ سَافر من دمشق هُوَ وقاضي قُضَاة مصر السَّيِّد مُحَمَّد الشريف فِي يَوْم السبت حادي عشر أَو ثَانِي عشر رَجَب ثمَّ عَاد من الرّوم إِلَى الشَّام فِي أَوَاخِر سنة سبع وَعشْرين وَألف مُتَوَلِّيًا نِيَابَة مصر قَالَ وَاجْتمعت بِهِ فرأيته على حَالَته لم يتَغَيَّر عَنْهَا ثمَّ سَافر إِلَى مصر وعزل عَنْهَا وَتُوفِّي بهَا مطعوناً فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف انْتهى وَوجدت فِي تَارِيخ الْبكْرِيّ الَّذِي أَلفه فِي الْخُلَفَاء والسلاطين وذيله بنواب مصر وقضاتها عِنْد ذكر جَعْفَر باشا أَنه كَانَت تَوليته لمصر فِي نَهَار الْأَرْبَعَاء تَاسِع ربيع الأول سنة ثَمَان وَعشْرين وعزل يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشري شعْبَان من هَذِه السّنة فَكَانَت مُدَّة استيلائه خَمْسَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا قَالَ وَكَانَ من أجلاء الْعلمَاء لَهُ الْيَد الطُّولى فِي غَالب الْعُلُوم خُصُوصا التَّفْسِير وَوَقع فِي زَمَنه الفناء الْعَظِيم فَكل من مَاتَ فِي زَمَنه وَله ولد أعْطى علوفته لوَلَده أَو أَبِيه فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَلَا أَب أعْطى ذَلِك لأقاربه مَعَ البشاشة وَكَانَ ابْتِدَاء الفناء فِي أَوَاخِر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَعشْرين وانتهاؤه فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ غَالب من يَمُوت فِيهِ عمره مَا بَين الْخَمْسَة عشر سنة إِلَى خمس وَعشْرين سنة وَحصر من توفّي مضبوطاً من الحوانيت يَوْمًا بِيَوْم فَكَانَ من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه مائَة ألف وخمساً وَثَلَاثِينَ ألفا هَذَا مَا أخرج من الحوانيت وَمَا عدا ذَلِك فَهُوَ كثير وَتُوفِّي جَعْفَر باشا فِي آخِره انْتهى قلت وَقد ولي الشَّام فِي جيلنا سميه الْوَزير جَعْفَر باشا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَوَقع فِي زَمَنه طاعون بِالشَّام لم يعْهَد مثله فِي الْكَثْرَة وَبلغ عدد الْجَنَائِز بِدِمَشْق يَوْمًا بِيَوْم ألفا وينوف وَاسْتمرّ سِتَّة أشهر وَإِنَّمَا ذكرت ذَلِك لمناسبة اسْم هذَيْن الوزيرين مَعَ أَن تَرْجَمَة هَذَا الثَّانِي مِمَّا يتَعَيَّن لكني لم أظفر بِخَبَر وَفَاته فَلهَذَا ذكرته بِهَذِهِ الْمُنَاسبَة واكتفيت بذلك عَن تَرْجَمته
الشَّيْخ جلال بن أدهم بن عبد الصَّمد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن أدهم وَلَيْسَ هُوَ إِبْرَاهِيم بن أدهم السُّلْطَان الْوَلِيّ الْمَشْهُور وَإِن كَانَ نسب جلال مُتَّصِلا بِهِ لَكِن لم أَقف على تَتِمَّة نسبه وأصل آبَائِهِ من التركمان وَسَكنُوا مَدِينَة عكار وَكَانَ لَهُم بهَا أَمْلَاك دارة ومريدون وزاوية ورد مِنْهُم عبد الصَّمد إِلَى دمشق قبل الْأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وتوطنها وَكَانَ مَعَه حكم سلطاني بإفتاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وتدريس التقوية فنفذ حكمه قَاضِي الْقُضَاة ولي الدّين بن الفرفور وصيره مفتياً ومدرساً بِالْمَدْرَسَةِ(1/488)
الْمَذْكُورَة وَكَانَ فَقِيها شَدِيد الْوَرع وَكَانَ يتَرَدَّد فِي السُّكْنَى بَين مدرستين فيسكن فِي الشتَاء بِالْمَدْرَسَةِ العادلية الْمُقَابلَة للظاهرية وَفِي الصَّيف بِالْمَدْرَسَةِ الجمالية بسفح قاسيون وطالت مدَّته وَهُوَ يُفْتِي إِلَى أَن مَاتَ نَهَار الْإِثْنَيْنِ ثامن رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَخَلفه ابْنه أدهم فدرس بالعادلية وَكَانَ صَالحا غير متكلف يلْبسهُ ومعيشته على أسلوب التركمان واتصل بالوزير الإعظم سِنَان باشا وَصَارَ لَهُ معلما ونال مِنْهُ خيرا كثيرا وَله مَعَه مكاشفات ووقائع سَيَأْتِي مِنْهَا شَيْء فِي تَرْجَمَة سِنَان باشا وَكَانَ بعد وَفَاته ولي سِنَان باشا حُكُومَة الشَّام بعد الوزارة الْعُظْمَى فصير ابْنه جلالا مُعْتَمدًا على جَامعه الَّذِي عمره خَارج بَاب الْجَابِيَة فاقتنى من ذَلِك أملاكا عَظِيمَة وأموالا جزيلا وَبنى بَيْتا خلف حمام العقيقي كَانَ حَماما مَوْقُوفا على أَمَاكِن كَثِيرَة مِنْهَا حِصَّة مَوْقُوفَة على أَئِمَّة الْجَامِع الْأمَوِي وَلم يهنأ عيشه بِهِ وَلَا اطْمَأَن خاطره فِيهِ وَبنى بالصالحية بَيْتا وقصرا وغرس بستانا لطيفا على نهر يزِيد قلت وَهُوَ الْقصر الْمَعْرُوف الْآن ببني عماد الدّين وَكَانَ جلال فَاضلا حسن الْعشْرَة وقصة توليهه بمملوكه مستفيضة وافتتانه فِيهِ شهيرة وَقد ذكرهَا البوريني فِي تَرْجَمته فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إيرادها وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْأَحَد ثامن رَجَب سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ جمال الدّين بن شمس الدّين مُحَمَّد الْمَشْهُور وَالِده بالعجمي الْقُدسِي الْوَاعِظ وَهُوَ وَالِد عبد الْغفار مفتي الْقُدس وأخيه الْحَافِظ القَاضِي الشَّاعِر الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ وَالِده مُحَمَّد رجلا واعظا ذكيا حضر مَعَ السُّلْطَان سُلَيْمَان بن عُثْمَان فتح رودس وَحصل لَهُ مِنْهُ إكرام ثمَّ قدم الْقُدس وَاسْتمرّ بهَا يعظ النَّاس إِلَى أَن توفّي وَدفن بماملا بقبته الَّتِي أَنْشَأَهَا بجوار البسطامية شمَالي الكبكبية وَلم تكمل الْقبَّة بل مَاتَ قبل إكمالها وَنَشَأ وَلَده جمال الدّين هَذَا ورحل إِلَى مصر وَصَحب الزين المرصفي ثمَّ عَاد إِلَى الْقُدس فِي حُدُود سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا وَلزِمَ شيخ الصلاحية الشَّيْخ عفيف الدّين بن جمَاعَة ثمَّ تقرر فِي قِرَاءَة المولد والمعراج بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَن الشَّيْخ أبي الْفَتْح بن فتيَان إِمَام الصَّخْرَة ثمَّ قرر فِي تدريس دَار الحَدِيث الَّتِي تجاه دَار الْقُرْآن السلامية وَشر فِي الْمدرسَة الظافرية وَكَانَت متهدمة فعمر بهَا عمَارَة وَجمع مجموعا لَهُ فِي الْوَعْظ رَأَيْت بِخَط الإِمَام الْمُحدث الشَّمْس مُحَمَّد الدَّاودِيّ الْمَقْدِسِي ثمَّ الدِّمَشْقِي فِي أوراق كتب فِيهَا تراجم(1/489)
بعض معاصريه وألحقها بِبَعْض وقائع قَالَ ذكر لنا وَلَده عبد الْغفار وَلما قدم إِلَى دمشق بعد وَفَاته أَنه يشْتَمل على ألف مجْلِس وَتُوفِّي فِي لَيْلَة الْأَحَد ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَألف وَكَانَ سنة ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَسنة وَخلف ثَلَاثَة أَوْلَاد ذُكُور وبنتين رحم الله الْجَمِيع برحمته وَالله أعلم
جمال الدّين بن مجب الدّين الْمَعْرُوف بالجنيد الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي وشهرة أَهله ببني الكوكية وَيَنْتَهِي نسبهم إِلَى مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وَكَانُوا بِدِمَشْق من انتحار المياسير وَلَهُم مآثر وخيرات وَلَهُم أقَارِب بِمَكَّة وهم أَيْضا أَصْحَاب إدرارات وشهرة وجمال الدّين هَذَا خرج من بَينهم كَامِل الأدوات حسن الْآدَاب لطيف المطارحة حُلْو الحَدِيث صَاحب نكات ونوادر وَرِوَايَة وَاسِعَة فِي الْأَخْبَار والأشعار وَالْأَحَادِيث وَعمر كثيرا وَلَقي أساطين الْعلمَاء وَجَالسهمْ والنقط من فوائدهم وروى عَنْهُم ولازم الذّكر والأوراد من ابْتِدَاء عمره واشتغل بِالْعبَادَة وَلذَلِك لقب بالجنيد وَفِيه يَقُول الأديب الباهر مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمي
(أَنْت يَا شيخ الطَّرِيقَة ... فِيك وَالله حقيقه)
(لم يفتها من مزايا ... جامعي الْفضل دقيقة)
(أَنْت وَالله جُنَيْد الْوَقْت ... فِي كل حقيقه)
(أَنْت من يرشد أَرْبَاب النهى ... خير طَرِيقه)
(لَك أَخْلَاق بتقريض ... المجيدين خليقه)
(لَو غَدا للفضل شخص ... فِي الورى كنت شقيقه)
(إِنَّمَا أَنْت بأخلاقك ... روض أَو حديقة)
(فلعمري أَنْت بدر ... فازمن كنت رَفِيقه)
وَكَانَ يَحْكِي عَن نَفسه إِنَّه لم يتَّفق لَهُ مُدَّة عمره صَلَاة من قعُود وَكَانَ مواظبا على السّنَن والرواتب وَله صدقَات سَرِيَّة وَكتب الْكثير من الْكتب بِخَطِّهِ وَكَانَ خطه حسنا وَضَبطه بَينا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من مُفْرَدَات وقته وحسنات عصره وَذكره وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَارِيخه وترجمته هُوَ شويخ نسر لُقْمَان عِنْده فريخ عمر إِلَى أَن فَاتَ حد الماية وَلَقي الْقرن بعد الْقرن والغاية بعد الْغَايَة وعاشر الوزراء ونادم الكبراء وَتردد إِلَى الْأَعْيَان وهام فِي الغيد الحسان حَتَّى صَار شيخ الغرام ونقيب الوجد والهيام فَهُوَ صَغِير كَبِير وكبير صَغِير إِذا خالط الْكِبَار يكبر(1/490)
وَإِذا خالط الصغار يصغر مَحْبُوب قُلُوب الْأَنَام لَهُ فِيهَا التَّصَرُّف التَّام لَا يرَاهُ أحد من النَّاس إِلَّا وَيَوَد أَن يكون لَهُ من الندماء والجلاس يحب التلاق وبكره الْفِرَاق لَا يودع مُسَافِرًا وَلَا يعود مَرِيضا وَلَا يشيع جَنَازَة إِلَّا نَادرا وَكَانَت أوقاته مستغرقة فِي النزهات وَكَانَ لَهُ بعض ثروة وَيتَعَاطَى صَنْعَة القماش وَحج مرَّتَيْنِ متتابعتين وسافر إِلَى الْقُدس وحلب وَكَانَ يُورد قصصا وحكايات كَثِيرَة وَرُبمَا شَاهد غالبها بِالْعينِ وَكَانَ فِي ذَلِك تَارِيخا برحلين وَكَانَ مُفْرد وقته فِي لعب الشطرنج وَلم يكن فِي عصره مثله فِي مَعْرفَته وَالنَّاس يضْربُونَ بِهِ الْمثل فَيَقُولُونَ لمن يحسن لعبه فلَان يلْعَب مثل الْجُنَيْد وَرُبمَا كَانَ يمازحه بَعضهم بِأَنَّهُ أدْرك وَاضعه لكبر سنه ومهارته فِيهِ وَمِمَّا قيل فِيهِ وَكَانَ كَمَا وصف أصفر اللِّحْيَة
(رب شخص بلحية نارنجي ... قَدمته نضيلة الشطرنج)
وَكَانَ يكتم سنه فَإِذا ألح عَلَيْهِ فِي السُّؤَال ملح لم يزده على أَن سني عظم ويتمثل كثيرا بقول أبي الْعَلَاء الْبَغْدَادِيّ
(احفظ لسَانك لَا تبح بِثَلَاثَة ... سنّ وَمَال مَا اسْتَطَعْت وَمذهب)
(فعلى الثَّلَاثَة تبتلى بِثَلَاثَة ... بمكفر وبفاضح ومكذب)
وَكَانَ يجْرِي لأدباء دمشق مَعَه مداعبات ومطارحات من أنفس مَا يسامر بِهِ فَمن ذَلِك مَا قَالَه فِيهِ الأديب إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأكرمي الْمُقدم ذكره وَكَانَ لَهُ رَفِيق يلقب بالقطب
(الشَّام أضحت أحوالها عجبا ... فِي دَهْرنَا والأمور أَسبَاب)
(القطب فِيهَا بالعشق مشتهر ... لَا يستحي والجنيد دباب)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا هَذِه الأبيات وفيهَا إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ فِيهِ من الشره فِي الْأكل وَيخرج مِنْهَا لفظ جُنَيْد بطرِيق النعمية
(وَذي شَره مغرم بِالطَّعَامِ ... يسير على بَطْنه أَي سير)
(ترَاهُ إِذا مد زاهي الطَّعَام ... وصف بأنواع لطف وَخير)
(يمد يداجن من قبلهَا ... ويخلط كل الطَّعَام بِغَيْر)
وَنقل عَنهُ أَنه حضر فِي ضِيَافَة عِنْد أحد الْأَعْيَان بِدِمَشْق فخلط فِي الطَّعَام على عَادَته فَأنْكر فعله بعض من كَانَ فِي الْمجْلس فَلَمَّا تنبه لإنكاره أنْشدهُ قَول الحريري
(سامح أَخَاك إِذا خلط ... )
فذيل لَهُ الْمُنكر هَذَا المصراع بقوله فِي الرز والزردا فَقَط والرز لُغَة فِي الْأرز وَيُقَال رز وأرز مثل كتب وزرنز وَحكى لي وَالِدي المرحوم أَنه(1/491)
حضر سماطا وإمامه الْجُنَيْد فَبَالغ فِي النهمة وَكَانَ فِي الْمجْلس بعض الأدباء فَأَنْشد قَول أبي مُحَمَّد الْقزْوِينِي الضَّرِير فِي رجل أكول
(وَصَاحب لي بَطْنه كالهاوية ... كَانَ فِي أمعائه مُعَاوِيَة)
قَالَ لي الْوَالِد وَهَذَا الْبَيْت قد ذكره الثعالبي فِي اليتيمية وإستجاد وجازه لَفظه وَوُقُوع الأمعاء إِلَى حنب مُعَاوِيَة لمزية ثَالِثَة وَهِي كَون الَّذِي أنْشد فِيهِ من نسل مُعَاوِيَة وَحضر لَيْلَة فِي دَعْوَة كَانَ فِيهَا حَافظ الْمغرب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري وَأحمد بن شاهين الْمُقدم ذكرهمَا فَلَمَّا قدم الطَّعَام قَامَ الْجُنَيْد وَتَوَضَّأ وَصلى بعض رَكْعَات فَقَالَ الْمقري مستجيزا
(قَامَ الْجُنَيْد يُصَلِّي ... وَنحن نَأْكُل عَنهُ)
فَأَجَابَهُ ابْن شاهين
(تقبل الله منا ... وَلَا تقبل مِنْهُ)
وقصيدة مُحَمَّد الكريمي الَّتِي قَالَهَا فِي هجائه مَشْهُورَة وَهِي طَوِيلَة فَنَذْكُر بَعْضًا مِنْهَا فَإِنَّهَا من رائق الْكَلَام وَسبب انشائها أَن بعض أدباء دمشق وَمِنْهُم الْجُنَيْد كَانُوا مُجْتَمعين فِي مَحل وَبَين يديهم رمان يَأْكُلُون فطلع عَلَيْهِم الكريمي فَقَامَ الْقَوْم كلهم إِلَّا الْجُنَيْد فَأَنْشَأَ الكريمي هَذِه القصيدة ومطلعها
(تزهو بشاشك أَو بِمَالك ... وَكِلَاهُمَا من حَظّ مَالك)
(فَم كم تنام وَفِي الْهوى ... مِنْهَا لكايا سوء حالك)
(كَيفَ الْقيام لناسك ... إِنِّي لَا عجب من محالك)
مِنْهَا
(إِن الْمُعظم نَفسه ... يَا شيخ فِي بَحر المهالك)
(يَا عير قَامَ الْقَوْم لي ... إِلَّا حمارا من مثالك)
(لَكِن عذرك وَاضح ... فالأكل من أقوى اشتغالك)
(هَذَا عتاب لاهجا ... وعظيم أَنْفك مَعَ سبالك)
(حررته مُسْتَغْفِرًا ... إِذْ كدت أَدخل فِي وبالك)
(هَذَا وَمَا عهد الْقيام ... من الجماد فدم بحالك)
وَمِنْهَا
(صدقت استاذي الْعِمَادِيّ ... فِي شَهَادَته بذلك)
(بقصيدة الْكرْدِي والأغنام ... فاجعلها ببالك)
(فاشكر صنيعي إِن عقلت ... وَإِن ترم خُذْهَا بفالك)
(إِنِّي رَأَيْتُك قد مقت ... بعيد زهوك واختيالك)
(واغتضت بالدنيا عَن الْأُخْرَى ... فراقب نَار مَالك)(1/492)
(ارْفُقْ بِنَفْسِك قد كَبرت ... وَزَاد هولك عَن مجالك)
(وَأعد صَلَاتك مَا اسنطعت ... وعد عَن ماضى دلالك)
(فَأَرَاك لَا تفرق ريالك ... فِي النَّجَاسَة من مبابك)
(وَالْحق أَنَّك جَاهِل ... وتعد نقصك من كمالك)
وَقَوله بقصيدة الْكرْدِي والأغنام إِشَارَة إِلَى أَن الأبيات الَّتِي نظمها فِيهِ الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي والشاهيني وَعبد اللَّطِيف بن المنقار من بَاب المساجلة بَينهم ومطلع هَذِه القصيدة
(عذرتك يَا حلا حل بالجنيد ... وَقلت لَهُ سماعك بالمعيدي)
وحلا حل هَذَا كَانَ رجلا كثير المجون واسْمه عَليّ وَسَيَأْتِي ذكره وَكَانَ كثير الْحَط على الْجُنَيْد شَدِيد الإزراء بِهِ وَله مَعَه نكايات ووقائع شَتَّى وَكَانَ الْجُنَيْد بِمُجَرَّد ذكره يتألم ويحنق لما كَانَ يلْحقهُ مِنْهُ من الأذية خُصُوصا فِي مجَالِس الْكِبَار والأعيان من الْعلمَاء وَغَيرهم وتتمة الأبيات
(لَهُ شال بشابه عارضيه ... صفارا فَوق وَجه كالقريد)
(ببادر للمآكل حِين يدعى ... ويشتم الروائح من بعيد)
(ترَاهُ يمصمص الأعظام جوعا ... كَانَ أَبَاهُ بغدادي زبيدي)
(ينكش سنه من شرب مَاء ... بإصبعه وطورا بالعويد)
(وَيُصْبِح هائشا يَبْغِي طَعَاما ... يطوف على الْمنَازل كالجعيدي)
(على الطَّحَّان يعتب كل آن ... وَيضْرب باليماني الهنيدمي)
(وَمثل النَّحْل بِأَكْل كل شَيْء ... ويجني اللسع مَعَ عدم الشَّهِيد)
(وتشكو ثقل فستقة حشاه ... ويزلط كل خرفان الكريدي)
(وينكح بنت شَهْوَته طَعَاما ... وَيُعْطى مهرهَا نحل النقيد)
(ويلبس فَرْوَة من جلد نمر ... يَقُول لبستها خوف الْبَرِيد)
(بِمَوْت قد تلقب فِي البرايا ... وَبَين النَّاس يدعى بالصميدي)
(على الْأَصْحَاب يطْرَح كل شاش ... بأَرْبعَة من الذَّهَب النقيدي)
(بِرَأْس المَال يُخْبِرهُمْ كذوبا ... ويفترس الْأَنَام كَمَا الفهيد)
(وَلما جِئْت مَا أهديت شَيْئا ... بعثت إِلَيْك هجوا من عنيدي)
(وَإِن تنكر قوافيها فسامح ... فَإِن الشّعْر من ملامجيد)
وملامجيد الْمَذْكُور كَانَ روميا نزل دمشق وقطن بهَا وَكَانَ ينظم أشعارا على(1/493)
على طَرِيق المجون وَكَانَ أدباء دمشق كالمولى أَحْمد بن زين الدّين المنطقي وَابْن شاهين والأمير المنجكي ينظمون الْأَشْعَار الهزلية على لِسَانه وينسبونها إِلَيْهِ من نَوَادِر الْجُنَيْد أَنه لما وَصله خير الأبيات من الكريمي اجْتمع بِهِ واستنشده أياها فَلَمَّا أتم قرَاءَتهَا نظر إِلَيْهِ ينظر المستهزئ بِهِ وَلم يزده على أَن قَالَ لَهُ أَيْن الْأُم المشفقة الَّتِي تبْكي عَلَيْك وَهَذِه كِتَابَة عَن سوء حَاله فَإِن الكريمي ورث من أَبِيه مَالا كثيرا فأتلفه فِي مُدَّة جزئية وساء حَاله بعد ذَلِك وَحكى عَن الكريمي أَنه قابلني بِكَلِمَة لَو صرفت عمري فِي هجوه مَا وفيت بهَا وللجنيد نكات مَقْبُولَة ومقولات رائقة فَمن ذَلِك قَوْله لَا تسمع غناء الْأَمْن فَم تشْتَهي أَن تقبله وَمن لطائفه تَسْمِيَة فرع الْأَمْرَد بعريشة الْحسن وَقد نظمها الْأَخ الْفَاضِل إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السّفر جلاني أبقاه الله تَعَالَى فِي مَقْطُوع فأجاد حَيْثُ قَالَ
(قَالَ صف فرعي الَّذِي قد تدلى ... فَوق خدي إِن كنت من واصفيه)
(قلت مَاذَا أَقُول فِي وصف روض ... قد تدلت عريشة الْحسن فِيهِ)
وَمن غرائب وقائعه الَّتِي تسند إِلَى حسن عشرته وتحمله وَتَقْدِيم النشاط على غَيره أَنه مَاتَ لَهُ ولدان وَجِيء إِلَيْهِ بخبرهما وَهُوَ مَعَ جمَاعَة فِي بُسْتَان بالصالحية يلْعَب بالشطرنج فَلم يشْعر أحدا وَقَامَ وَأعْطى الْمخبر دَرَاهِم وفوض إِلَيْهِ أَمر يجهيزهما وَعَاد إِلَى مَا كَانَ يه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من نَوَادِر الزَّمن وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْأَرْبَعَاء ثامن عشرى ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى وَقد أرخ بَعضهم وَفَاته بقوله
(مَا الدَّهْر دهر جَدِيد ... كَذَا تكون العبيد)
(وَمَا سوى الله فَإِن ... وَأَيْنَ من لَا يبيد)
(وَعمر هَذَا قصبر ... وَعمر هَذَا مديد)
(وللفريقين يَوْم ... لَا بُد يَأْتِي شَدِيد)
(أما سَمِعت المنايا ... تَقول مَاذَا يُفِيد)
(طير الفنا أَن تؤرخ ... صَحَّ مَاتَ مَاتَ الْجُنَيْد)
السَّيِّد جمال الدّين بن نور الدّين بن أبي الْحسن الْحُسَيْنِي الدِّمَشْقِي الأديب الشَّاعِر الذيق كَانَ ألطف أَبنَاء وقته دماثه خلق وَخلق حسن معاشر لطيف الصُّحْبَة سهي النُّكْتَة والنادرة قَرَأَ بِدِمَشْق وَحصل وَحضر مجَالِس الْعَلامَة السَّيِّد(1/494)
مُحَمَّد بن حَمْزَة نقيب الْأَشْرَاف فَأخذ عَنهُ من المعارف مَا تنافست عَلَيْهِ بِهِ الآراء ثمَّ هاحر إِلَى مَكَّة وَأَبوهُ ثمَّة فِي الْأَحْيَاء فجاور بهَا مُدَّة ثمَّ دخل الْيمن أَيَّام الإِمَام أَحْمد بن الْحسن فَعرف حَقه من الْفضل وراجت عِنْده بضاعته ومدحه بِهَذِهِ القصيدة
(خليلي عود إِلَى فيا حبذا المطل ... إِذا كَانَ يُرْجَى فِي عواقبه الْوَصْل)
(خليلي عودا وأسعد إِنِّي فأنتما ... أَحَق من الأهلين بل أَنْتُمَا الْأَهْل)
(فقد طَال سيري واضمحلت جوارحي ... وَقد سئمت فرط السرى العيس وَالْإِبِل)
(فعادا وَقَالا صَحَّ مَا بك من جوى ... وَفِي بعض مَا لاقيته شَاهد عدل)
(وَلَكِن طول السّير لَيْسَ بضائر ... وغايته كنز الندى أَحْمد الشبل)
مِنْهَا
(أبانت بِهِ الْأَيَّام كل عَجِيبَة ... يسير بهَا الركب الْيَمَانِيّ والقفل)
(فنيران بَأْس فِي بحار مَكَارِم ... وَمن فعله وصل وَفِي قَوْله فصل)
(أرانا عيَانًا ضعف أَضْعَاف سمعنَا ... وَعَن جودة قد صَحَّ بِالنّظرِ النَّقْل)
وَمِنْهَا
(أَقُول وَقد طفت الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... بلوتهم قولا يصدقهُ الْفِعْل)
(إِذا مَا جرى ذكر الْبِلَاد وحسنها ... فَتلك فروع وَالْغِرَاس هِيَ الأَصْل)
(وَإِن عد ذُو فضل ومجد مؤثل ... فَأَحْمَد من بَين الْأَنَام لَهُ الْفضل)
(فَلَا غروان قصرت طول مدائحي ... فَفِي الْبعد قصر الْفَرْض جَاءَ بِهِ النَّقْل)
(إِلَيْك صفي الدّين مني خريدة ... فريدة حسن لَا يصاب لَهَا مثل)
(وَأعظم مَا ترجو الْقبُول فَإِنَّمَا ... قبُول الثنا بَاب يتم بِهِ السُّؤَال)
(فحقق رجاها واحل عاطل جيدها ... بِمَا أَنْت يَا نجل الْكِرَام لَهُ أهل)
ثمَّ فَارق الْيمن وَدخل الْهِنْد فوصل إِلَى حيدر آباد وصاحبها يَوْمئِذٍ الْملك أَبُو الْحسن فاتخذه نديم مَجْلِسه وَأَقْبل عَلَيْهِ بكليته وَهَذَا الْملك كَمَا بَلغنِي فِي هَذَا الْعَصْر الْأَخير من أَفْرَاد الدُّنْيَا وفور كرم وميلا للأدب وَأَهله فَأَقَامَ عِنْده فِي بلهنية عَيْش وصفاء عشرَة حَتَّى طرقت أَبَا الْحسن النكباء من طرف سُلْطَان الْهِنْد الْأَعْظَم السُّلْطَان محيي الدّين مُحَمَّد الشهير بأورنك زيب وَقبض عَلَيْهِ وحبسه وأحسب أَنه الْآن لم يزل مَحْبُوسًا هُنَاكَ فَانْقَلَبَ الدَّهْر على السَّيِّد جمال الدّين فبقى مُدَّة فِي حيدر آباد وَقد ذهب أَنه إِلَى أَن مَاتَ بهَا فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف كَمَا أَخْبرنِي بذلك أَخُوهُ روح الْأَدَب السَّيِّد عَليّ بِمَكَّة المشرفة حرسها الله تَعَالَى(1/495)
الْأَمِير جَوْهَر سحرتي لبرهان نظام شاه الْمُوفق سُلْطَان الْهِنْد أحد أُمَرَاء الديار الْهِنْدِيَّة الْمَشْهُورين بِحسن السِّيرَة جلب إِلَى الْهِنْد وَهُوَ صَغِير هُوَ وَأَخ لَهُ فاشتراهما السُّلْطَان الْعَادِل برهَان نظام شاه وَسلم جوهرا لمن يُعلمهُ الْقُرْآن فتعلمه وَحفظه وَحفظ غَيره ثمَّ تعلم الفروسية واللعب بِالسَّيْفِ وَالرمْح والسهام إِلَى أَن مهر فِي ذَلِك ثمَّ ترقى إِلَى أَن صَار أَمِيرا على مِائَتي فَارس وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب سمع من جمَاعَة وَقَرَأَ كتبا كَثِيرَة وَصَحب الْمَشَايِخ وَلزِمَ الشَّيْخ الإِمَام شيخ بن عبد الله العيدروس وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة ذكره الشلي وَقَالَ اجْتمعت بِهِ فِي رحلتي إِلَى الْهِنْد وَعرفت فَضله ودرجته فِي الْعلم وَقَرَأَ عَليّ فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث فأقمت بُرْهَة أرتع فِي رياض فَضله وَكَانَ لَهُ من الْعِبَادَة شَيْء كثير لَا يفتر سَاعَة عَن تِلَاوَة أَو ذكر أَو صَلَاة على النَّبِي
وَكَانَ لَهُ مطالعة فِي كتب الدقائق وسير الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء وَكَانَ كثير الِاعْتِقَاد فِيمَن يثبت عِنْده صَلَاحه وَكَانَت لَهُ بشاشة وَجه وَكَانَ شجاعاً شهماً ذَا سياسة للرعايا كثير الْغَزْو وَالْجهَاد لقِتَال أهل الْكفْر ثمَّ رَمَاه الدَّهْر بسهمه فَفَارَقَ مَحل مَمْلَكَته وَتوجه إِلَى بيجافور فَمَاتَ بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة السَّادة وَالْعرب تَحت مَدِينَة بيجافور من أَرض الْهِنْد واعتنى السَّادة بتجهيزه وَكَانَ لَهُ مشْهد عَظِيم وَخلف وَلدين صغيرين فأقيما مقَامه رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الْحَاء الْمُهْملَة)
السَّيِّد حَاتِم بن أَحْمد بن مُوسَى بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَحْمد بن عمر بن أَحْمد بن عمر الأهدل اليمني الْحُسَيْنِي ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَالسَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي سلافته وتلميذه الشَّيْخ شيخ بن عبد الله العيدروس وصنف وَلَده الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن شيخ تَرْجَمته فِي الدّرّ الباسم من روض السَّيِّد حَاتِم وأثنوا عَلَيْهِ ثَنَاء لَيْسَ وَرَاءه غَايَة وَهُوَ وَاحِد الدَّهْر فِي جَمِيع أَنْوَاع الْعُلُوم والمعارف وَالنّظم والنثر رَحل إِلَى كثير من الْبلدَانِ وَأقَام بالحرمين ثمَّ توطن المخا وَحصل لَهُ بهَا شَأْن عَظِيم وَعم نَفعه بهَا وَفِيه يَقُول بَعضهم
(تاهت بكم أَرض المخا وتجملت ... فالبندر المحروس زهواً يرفل)
(لما طلعت بأفقه متهللاً ... أَمْسَى وظل بنوره يَتَهَلَّل)
وَكَانَ يدْخل المخا فِي أَيَّامه مراكب عديدة وكل من حل عَلَيْهِ نظره تبدلت أَحْوَاله(1/496)
السَّيئَة بِصِفَات محمودة وَحكى أَنه قَالَ ولاّني النَّبِي
هَذِه الْبَلدة أَو هَذَا الْقطر ثمَّ قَصده النَّاس فَتخرج بِهِ جمع كثير وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والفنون الْعَرَبيَّة لَكِن غلب عَلَيْهِ التصوف وَكَانَ الشَّيْخ عمر بن عبد الله العيدروس إِذا جَاءَتْهُ مسئلة فِي التصوف أرسلها إِلَيْهِ ليجيب عَنْهَا فيجيب بِأَحْسَن جَوَاب وَكَانَت الْعُلُوم نصب عَيْنَيْهِ وَكَانَ متقناً لعلم الْأَسْمَاء والحروف ودوائر الْأَوْلِيَاء ومقامات الموقنين وَعلم الْأَسْرَار ومدد الْأَذْكَار حَتَّى قيل إِنَّه يعرف الِاسْم الْأَعْظَم وَالْحجر المكرم وَكَانَ زاهداً فِي الدُّنْيَا وَكَانَت الوزراء والأمراء يطْلبُونَ الِاجْتِمَاع بِهِ فَيمْتَنع من زهده أَنه لم يتَعَلَّق فِي الدُّنْيَا بِسَبَب من أَسبَابهَا وَمَات وَلم يخلف شَيْئا وَبلغ من جَمِيع الصِّفَات الْكَامِلَة مَا لم يبلغهُ أحد وَكَانَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى السَّيِّد أَبُو بكر الْمَعْرُوف بصائم الدَّهْر يعظمه ويزوره إِلَى بَيته وَكَانَ يرى النَّبِي
وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي
كَأَنِّي أَنا وَالسَّيِّد عَليّ بِأَسْعَد بَين يَدَيْهِ فألبس النَّبِي
بِيَدِهِ الْمُبَارَكَة الشَّرِيفَة السَّيِّد عَليّ بِأَسْعَد طاقية وَأمره أَن يلبسني فألبسني إِيَّاهَا بِأَمْر النَّبِي
وَكَانَ لَهُ تصرف فِي الموجودات وَظَهَرت لَهُ كرامات مِنْهَا أَنه أخبر بعض أَصْحَابه بكائنة تحدث فِي سنة أَربع فَوَقع الْأَمر بعد أَن أخبر كَمَا ذكر وَأخْبر بواقعة الشَّيْخ الصّديق الْخَاص وَأَنه يقتل فَقتل الشَّيْخ الصّديق بعد انْتِقَال السَّيِّد حَاتِم بأعوام وصادر بعض الوزراء الظلمَة بعض السَّادة الْأَشْرَاف وَطلب مِنْهُ مَالا فَذكر ذَلِك للسَّيِّد حَاتِم فَقَالَ لَهُ أعْطه فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع أَخذه فَلَمَّا أعطَاهُ وتناوله ذَلِك الظَّالِم آلمه ألماً شَدِيدا فصاح وَتَركه وَذهب وَحكى أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْحرم الْمَكِّيّ وَعِنْده بعض مريديه فَجرى على خاطره أَن القطب يكون بِمَكَّة وَأَن يكون الْآن فَالْتَفت إِلَيْهِ السَّيِّد حَاتِم وَقَالَ لَهُ هُوَ الْآن على الْمِنْبَر فَقَامَ المريد إِلَى الْمِنْبَر فَوجدَ عَلَيْهِ تركياً طَوِيل الشَّوَارِب على هَيْئَة الجندي فَرجع إِلَى شَيْخه وَأخْبرهُ فَقَالَ أَتُرِيدُ أَن يَأْتِيك على صورته وَيَقُول لَك أَنا القطب فَرجع إِلَى الْمِنْبَر فَلم يجد أحدا وَمِنْهَا أَنه أَرَادَ السمر فَأمر بإحضار البخور والماورد فَقيل لَهُ فرغ الْعود فَأخْرج من تَحت الْبسَاط عوداً فاخر فَقَالَ تِلْمِيذه عَليّ الجازاني هَذَا الْعود من معدنه وَمِنْهَا أَن خادمه قَالَ لَهُ يَوْمًا لَيْسَ عندنَا مَا نشتري بِهِ الْقُوت فَأخْرج لَهُ دَرَاهِم من المنديل فَقَالَ لَهُ عهدي بالمنديل فَارغًا فَقَالَ لنا رخصَة فِي التَّصَرُّف بِقدر الْحَاجة مِمَّا يُبَاح لنا أَخذه وَحكى(1/497)
أَن السُّلْطَان فِي بعض السنين جدد السِّكَّة وَكَانَ بعض السَّادة من أهل زبيد رَأس مَاله كُله من الدَّرَاهِم الْقَدِيمَة فتضرر لذَلِك وَحكى حَاله للسَّيِّد حَاتِم فدله على بعض الْأَوْلِيَاء فِي زبيد فَذهب إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ السَّيِّد حَاتِم أقدر مني على قَضَاء حَاجَتك وَلَكِن اذْهَبْ إِلَى الْمَسْجِد الْفُلَانِيّ تَجِد فِيهِ شخصا يدلك فَذهب فَوجدَ الشَّخْص فَقَالَ لَهُ ادخل مَحل كَذَا حَيْثُ تَجِد رجلا يخرز النِّعَال الْقَدِيمَة فَدخل فَوَجَدَهُ كَذَلِك وَعِنْده إِنَاء فِيهِ مَاء متغير الرَّائِحَة من النِّعَال الَّتِي يخرزها فَجعل يدْخل النِّعَال فِي المَاء بِقُوَّة ليصيبه الرشاش فينفر عَنهُ فَأدْخل الرجل يَده فِي المَاء ورش على بدنه فَعرف الخراز أَنه لَا بُد لَهُ مِنْهُ فَأخذ الجراب الَّذِي فِيهِ الدَّرَاهِم وَجلسَ عَلَيْهِ سَاعَة ثمَّ أعطَاهُ إِيَّاه فَإِذا الدَّرَاهِم على السِّكَّة الجديدة ثمَّ قَالَ لَهُ الرجل الَّذِي لَقيته فِي الْمَسْجِد هُوَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام وَجعل يَقُول فضحوني وَمَات بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَمن كراماته اللطيفة أَنه وشى بِهِ إِلَى من يُحِبهُ بعض الوشاة فَلَمَّا علم بذلك قَالَ فِي موشح لَهُ على طَريقَة أهل الْيمن ياورنيسان يَا بهجة الدن والدان من علمك نقض العهود يبْلى بثعبان يلْدغ لِسَانه يَا فتان حَتَّى يصير فِي اللحود فسعت تِلْكَ اللَّيْلَة حَيَّة إِلَى لِسَان ذَلِك الواشي ولذعته ونفثت فِي فِيهِ سمها فَمَاتَ وَله كَلَام عَال فِي الْحَقَائِق والتصوف قَالَ بعض العارفين مَا رَأَيْت فِي شُيُوخنَا من اجْتمع لَهُ علم وَحَال غير حَاتِم إِذا رَأَيْت علمه رجحته على عمله وَإِذا رَأَيْت عمله رجحته على علمه وَله كتابات على أَبْيَات الْعَفِيف التلمساني الَّتِي أَولهَا قَوْله
(إِذا كنت بعد الصحو فِي المحو سيدا ... أما مَا مثنى النَّعْت بِالذَّاتِ مُفردا)
وَله كتابات على أَبْيَات الْعَفِيف الَّتِي أَولهَا
(منعتها الصِّفَات والأسماء ... أَن ترى دون برقع أَسمَاء)
وعَلى الأبيات الَّتِي أَولهَا
(إِذا كنت فِي توحيدك الْمُطلق الْوَصْف ... على ثِقَة من عَالم الذَّوْق والكشف)
وَمن نثره الْبَهِي قَوْله فِي بعض رسائله يقصر عَن جسم معاليك قَمِيص الثَّنَاء فَيفوت الرصاف وترفل زهواً إِذا فصلت لمعانيك حلل الْأَوْصَاف ويعترف بِالْعَجزِ سحبان إِذا سحبت ذيول الْبَيَان ويقر المعري بالتعري عَن لفظك الحريري الْمُشْتَمل على الْجَوَاهِر الحسان وَيلْحق القَاضِي الْفَاضِل النَّقْص فِي هَذَا الْمِيزَان ويزوي الْبَيَانِي عِنْد طُلُوع شمس معانيك البديعة التِّبْيَان وَمن شعره قَوْله مشطراً(1/498)
فائية ابْن الفارض
(قلبِي يحدثني بأنك متلفي ... عجل بِهِ وَلَك البقا وَتصرف)
(قد قلت حِين جهلتني وعرفتني ... روحي فدَاك عرفت أم لم تعرف)
(أَنْت الْقَتِيل بِأَيّ من أحببته ... فلك السَّعَادَة فِي الشَّهَادَة يَا وَفِي)
(وَلَقَد وصفت لَك الغرام وَأَهله ... فاختر لنَفسك فِي الْهوى من تصطفي)
وَقَوله مخمساً لقصيدة ابْن النبيه
(رقم العذول زخارفاً وتصنعاً ... وأشاع نقض الْعَهْد عَنْك وشنعا)
(فأجبته وَالنَّفس تقطر أدمعاً ... أفديه إِن حفظ الْهوى أَو ضيعا)
(ملك الْفُؤَاد فَمَا عَسى أَن أصنعا ... )
(حكم الغرام فلذبه وبحكمه ... واثبت على مَفْرُوض وَاجِب رسمه)
(واخضع لعدل الْحبّ فِيهِ وظلمه ... من لم يذقْ ظلم الحبيب وظلمه)
(حلواً فقد جهل الْمحبَّة وَادّعى ... )
(يَا من بلطف جماله قلبِي اقتنص ... صبري على الأعقاب من جلدي نكص)
(وثبات حملي حِين زمزمتم رقص ... يَا صَاحب الْوَجْه الْجَمِيل تدارك الصَّبْر)
(الْجَمِيل فقد عَفا وتضعضعا ... )
(وفرت من نبل اللواحظ أسهمي ... وَكلمت أحشائي وَلم أَتكَلّم)
(وهجرتني ظلما وَلم أتظلم ... مَا فِي فُؤَادك رَحْمَة لمتيم)
(ضمت جوانحه فؤاداً موجعا ... )
(قلبِي إِلَيْك مسائر لَك سَائِر ... كلي عَلَيْك مسامع ومناظر)
(وَإِذا شَككت بِأَصْل مَا أَنا ذَاكر ... فتش حشاي فَأَنت فِيهِ حَاضر)
(تَجِد الحسود بضد مَا فِيهِ سعى ... )
(إِنِّي اعْترفت بزلتي وجنايتي ... ورضاك مقصودي وَغَايَة غايتي)
(يَا من ضلالي فِيهِ عين هدايتي ... هَل من سَبِيل أَن أبث شكايتي)
(أَو أشتكي بلواي أَو أتضرعا ... )
(لي فِي حماك مسارح ومطامح ... كم بت للغزلان فِيهِ أطارح)
(يَا قلب أما الْيَوْم طيبك نازح ... يَا عين عذرك فِي حَبِيبك وَاضح)
(سحى لفرقته دَمًا أَو أدمعا ... )(1/499)
وَله نظم كثير جمع مِنْهُ بعض أَصْحَابه ديواناً حافلاً وَهُوَ متداول بني النَّاس وَكَانَ يَقُول وَقت الْوَارِد كتبُوا عني مَا أَقُول فيملى عَلَيْهِم وهم يَكْتُبُونَ وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْأَحَد سَابِع عشر الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَألف ببندر المخا وَدفن ببيته وَكَانَت مُدَّة إِقَامَته بالمخا سبعا وَثَلَاثِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
حَافظ الدّين بن مُحَمَّد الْمَقْدِسِي الْمَعْرُوف بالسروري من ولد غَانِم الْعَالم الْعلم الْأَفْضَل الأمجد كَانَ ذَا فضل باهر وشيم مرضية وَكَانَ عَلامَة فِي المنقولات خُصُوصا الْأُصُول فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ غَايَة لَا تدْرك وَكَانَ كَأَنَّهُ امتزج بِلَحْمِهِ وَدَمه قَرَأَ بِبَلَدِهِ وَضبط ثمَّ رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ عَن الشَّيْخ الإِمَام مُحَمَّد المحبي والشهاب أَحْمد أبي الْمَوَاهِب الشناوي وَأَجَازَهُ فِي الحَدِيث وَرجع إِلَى الْقُدس وَاسْتقر بهَا وانتفع بِهِ وَلَده مُحَمَّد الْآتِي ذكره وَغَيره من عُلَمَاء الْقُدس الْمُتَأَخِّرين وَغلب عَلَيْهِ فِي آخر أمره التصوف وَلزِمَ الِانْفِرَاد مَعَ الإفادة فِي بعض الْأَحَايِين لبَعض تلامذته وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بِبَاب الرَّحْمَة ظَاهر الْقُدس رَحمَه الله تَعَالَى
حبيب بن مَحْمُود النخجواني الأَصْل نزيل صالحية دمشق أحد الْكتاب الْمَشْهُورين بجودة الْخط وَكَانَ كل مَا يَكْتُبهُ قد استوفى أَقسَام الْحسن وَجمع أدوات الإجادة وَكَانَ يعرف اللُّغَات الثَّلَاث الْعَرَبيَّة والفارسية والتركية وأصل وَالِده من نخجوان ورد دمشق فِي فتْنَة قزلباش لما استولى على بِلَاد الْعَجم وَنزل صالحية دمشق عِنْد جسرها الْأَبْيَض وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان سُلَيْمَان زعامة والزعامة عبارَة عَن قرى يقطعهَا من أَعْطَاهَا وتخمن على الْأَقَل بِعشْرين ألف عثماني فِي كل سنة وَتزَوج بالصالحية وَولد لَهُ ولدان أَحدهمَا حبيب هَذَا وَالثَّانِي فروخ فَأَما حبيب هَذَا فَإِنَّهُ وصل مَعَ الزعامة إِلَى أَن صَار جاويش السُّلْطَان وَعلا أمره وَلما جَاءَ الْوَزير الْأَعْظَم مُرَاد باشا بعساكر الرّوم إِلَى حلب لإِزَالَة عَليّ بن جانبولاذ سَافر حبيب فِي ضمن العساكر الشامية فَمَاتَ بأنطاكية وَدفن عِنْد حَضْرَة حبيب النجار فَقَالَ النَّاس مَاتَ حبيب وَدفن عِنْد حبيب وَكَانَ ذَلِك فِي شهر رَجَب الْفَرد من سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
حبيب الله الشِّيرَازِيّ ثمَّ الْبَغْدَادِيّ ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي القادري قَالَ العرضي الْكَبِير فِي تَرْجَمته خرج من شيراز فَارًّا بِدِينِهِ مِمَّا كَانَ يطْرق سَمعه من سبّ أكَابِر(1/500)
الصَّحَابَة على رُؤُوس الأشهاد فحج ثمَّ قطن بِمصْر بِجَامِع الْأَزْهَر ملازماً درس شيخ الْإِسْلَام الشَّمْس الرَّمْلِيّ وتلميذه النُّور الزيَادي ففهم الْفِقْه مَعَ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم كالنحو وَالْكَلَام والمعاني والمنطق ثمَّ لزم الطَّرِيقَة القادرية وجاور فِي مشْهد الشَّيْخ عبد الْقَادِر بِبَغْدَاد بعد مُفَارقَة مصر وَمر بحلب فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا قَليلَة ثمَّ ارتحل إِلَى الْبَصْرَة لعدم رَاحَته فِي بَغْدَاد لِكَثْرَة الروافض فِيهَا وَقُوَّة شوكتهم فقطنها وَأعْطى بهَا جَزِيرَة كثر مِنْهَا رزقه وَأقَام ملازماً لِلْعِبَادَةِ وَالتَّقوى وَقِرَاءَة الدُّعَاء السيفي الْمُسَمّى بالحرز الْيَمَانِيّ وإكرام الضيفان وجبر خاطر القادمين عَلَيْهِ من الْفُقَرَاء والغرباء وَإِقَامَة حَلقَة الذّكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وملازمة الْجَمَاعَة وصيانة اللِّسَان والانتماء إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة أَربع عشرَة وَألف بِالْبَصْرَةِ رَحمَه الله تَعَالَى حبيب الدرويش الرُّومِي الْحَنَفِيّ المجاور بالخانقاه السميساطية بجوار الْجَامِع الموي الأقطع ذكره الْغَزِّي وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ طَوِيل الصمت لطيف الذَّات نظيف الأثواب متواضعاً صوفياً لَهُ ذوق فِي المعارف والحقائق وَله آدَاب وَكَانَ يمتهن نَفسه فِي الْخدمَة وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَ عَلَيْهِ نورانية ظَاهِرَة قَالَ وَأَخْبرنِي بعض أَصْحَابه أَنه كَانَ قلندري المشرب وَلم أر مِنْهُ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ ملازماً لِلْمَسْجِدِ الْجَامِع فِي أَوْقَات الصَّلَاة وَكَانَ إِذا فتح عَلَيْهِ بنفيس الطَّعَام أكل وَإِذا تيَسّر لَهُ خشن الْخبز وَقَلِيل الْأدم قنع وَأقَام بِدِمَشْق أَكثر من عشْرين سنة وَلم أر شَيْئا انتقده عَلَيْهِ لِأَنِّي كنت أخالطه كثيرا مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة عَاشر شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى حسام الدّين المنتشي الْحَنَفِيّ أحد عُلَمَاء الرّوم ذكره ابْن نَوْعي فِي طبقَة عُلَمَاء دولة السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث وَقَالَ فِي تَرْجَمته أَصله من بَلْدَة منتشى وَهِي بَلْدَة من نواحي قرمان وإليها ينْسب من الْعلمَاء الشاهدي صَاحب الْكتاب الْمَشْهُور ولازم ودرس فِي مَدِينَة أدرنة بمدرسة طاشلق بالجامع الْعَتِيق وَكَانَ فَاضلا صَاحب تحريرات مَقْبُولَة ألّف حَاشِيَة على صدر الشَّرِيعَة وَلما توجه السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى سفر أكرى عرضهَا على الْمولى سعد الدّين معلم السُّلْطَان الْمَذْكُور فقبلها وَأَجَازَهُ عَلَيْهَا وَكَانَت وَفَاته فِي ربيع الآخر سنة عشر بعد الْألف
حسام الدّين الرُّومِي مدرس السليمانية ومفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق كَانَ فَقِيها عَالما(1/501)
حسن الاستحضار وَكَانَ لَهُ بالطب إِلْمَام تَامّ وَكَانَ متكيفا إِلَّا أَنه حسن الْأَخْلَاق لطيف الذَّات يعرف قدر الْعلمَاء ويودهم وَتُوفِّي بِدِمَشْق يَوْم السبت سادس عشرى رَجَب سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله
الْحسن بن أبي بكر بن سَالم بن عبد الله بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف اليمني الْحَضَر موتِي الْوَلِيّ الصَّالح المربي المرشد كَانَ فَرد زَمَانه وَوَاحِد قطره ولد بعينات وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن إخوانه الْكِبَار وَأدْركَ أَبَاهُ وَهُوَ صَغِير واشتغل بالعلوم والمعارف وعني بالفقه والتصوف وَولي قَضَاء بَلَده وحمدت سيرته وانتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَ شَدِيد المجاهدة متواضعا قانعا باليسير كريم النَّفس كلما ملكه أنفقهُ محبوبا عِنْد النَّاس وَكَانَ عَظِيم المكاشفات والكرامات وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ بركَة من بَرَكَات عصره وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة عينات فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تمّ الْجُزْء الأول من خُلَاصَة الْأَثر ويليه الْجُزْء الثَّانِي أَوله الشريف حسن بن أبي نمى(1/502)
الشريف حسن بن أبي نمي مُحَمَّد بن بَرَكَات بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة ابْنه الشريف أبي طَالب ذكره الشهَاب فِي كِتَابيه وَأطَال الثَّنَاء فِي تَرْجَمته وَذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ ولد لسبع فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَأمه فَاطِمَة بنت سباط بن عنقًا بن وثير بن مُحَمَّد بن عاطف بن أبي نمي بن أبي سعيد ابْن عَليّ بن قَتَادَة حملت بِهِ سنة وَفَاة جده بَرَكَات وَنَشَأ فِي كَفَالَة وَالِده سعياً رَئِيسا حميدا وَلبس الخلعة الثَّانِيَة بعد وَفَاة أَخِيه أَحْمد وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ فوّض إِلَيْهِ وَالِده الْأَمر فَلبس الخلعة الْكُبْرَى الَّتِي لصَاحب مَكَّة وَلبس أَخُوهُ ثقبة الخلعة الثَّانِيَة وَاسْتمرّ مشاركاً لوالده فِي الإمرة إِلَى أَن انْتقل وَالِده يَوْم تاسوعاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فاستقل بسلطنة الْحجاز وَقَامَ بهَا أحسن قيام وَضبط الْأُمُور وَالْأَحْكَام على أحسن نظام وَأمنت الْبِلَاد واطمأنت الْعباد وَقطع دابر أهل الْفساد فَكَانَت القوافل والأحمال تسير بِكَثْرَة الْأَمْوَال مَعَ آحَاد(2/2)
الرِّجَال ولوفي المخاوف والمهالك وخافه كل مِقْدَام فاتك وَكَانَ عَظِيم الْقدر مفرط السخاء بَصيرًا بفصل الْأُمُور شجاعا مقداما حاذقا صَاحب فراسة عَجِيبَة حكى أَنه سرقت الفرضة السُّلْطَانِيَّة بجدة وَضاع مِنْهَا قماش لَهُ صُورَة وأموال كَثِيرَة وَلم يكسر بَابهَا وَلَا نقب جدارها وَلَا أثر يُحَال عَلَيْهِ معرفَة الْمَطْلُوب والطالب بل حَبل مسدول من بعض الجوانب فَلَمَّا عرض عَلَيْهِ طلب الْحَبل ثمَّ شمه ثمَّ قَالَ هَذَا حَبل عطار ثمَّ دَفعه إِلَى ثِقَة من خُدَّامه وَأمره أَن يَدُور على العطارين فَعرفهُ بَعضهم وَقَالَ هَذَا حَبل كَانَ عِنْدِي اشْتَرَاهُ مني فلَان ثمَّ نقل من رجل إِلَى رجل إِلَى أَن وصل لشخص من جمَاعَة أَمِير جدة ثمَّ وجدت السّرقَة بِعَينهَا فِي الْمحل الَّذِي ظَنّهَا فِيهِ وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ من هَذِه الصِّفَات كَانَ كل صَاحب فضل باهر وأدب غض ومحاضرة فائقة واستحضار غَرِيب حكى البديعي فِي كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي حيثية المتنبي وَسَماهُ الصُّبْح المنبي عَن حيثية المتنبي عَن بعض عُلَمَاء الْقَاهِرَة وَأَظنهُ احْمَد الفيومي قَالَ كنت فِي حرم الْبَيْت المنيف فدعاني إِلَى بعض الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة حسن الشريف وَسمع بِتِلْكَ الدعْوَة أحد بني عَمه الْكِرَام فسارع إِلَيْنَا مسارعة الْقطر من الْغَمَام وَاتفقَ أَن سقط من يَده الْكَرِيمَة خَاتم بِهِ حجر ثمين الْقيمَة فَقَالَ لَهُ لم لَا تقف على طلب ذَلِك الْخَاتم الثمين فَقَالَ لَهُ أَلَسْت من أَبنَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ فلمح الشريف إِلَى قَول أبي الطّيب شعر
(بليت بلَى الأطلال أَن لم أَقف بهَا ... وقُوف شحيح ضَاعَ فِي الترب خَاتمه)
ولمح ابْن عَمه إِلَى قَول المتنبي أَيْضا
(كَذَا الفاطميون الندى فِي أكفهم ... أعز انمحاء من خطوط الرواجب)
وَالْبَيْت الأول من قصيد للمتنبي كَثِيرَة الْعُيُوب وَذكر البديعي الْمَذْكُور عِنْد الْكَلَام على هَذَا الْبَيْت نُكْتَة أَو ردهَا وَلم يتَنَبَّه لمحذورها وَهِي سَأَلَ بَعضهم كم قدر مَا يقف الشحيح على طلب الْخَاتم فَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ قيل لَهُ وَمن أَيْن علمت ذَلِك قَالَ من سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام فَإِنَّهُ وقف على طلب الْخَاتم أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقيل لَهُ وَمن أَيْن علمت أَنه بخيل قَالَ من قَوْله تَعَالَى هَب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَن يهب الله لِعِبَادِهِ أَضْعَاف ملكه انْتهى وَهَذَا كَلَام كَمَا ترَاهُ صادر عَن قلَّة التدبر فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ينزه مقامهم عَن الْبُخْل المخل بنبوتهم وَمَا يتَوَهَّم فِيهِ من إِسْنَاد الْبُخْل إِلَى سُلَيْمَان قد دَفعه أَئِمَّة التَّفْسِير بأجوبة كَثِيرَة مِنْهَا أَن المُرَاد(2/3)
بقوله لَا يَنْبَغِي لأحد أَي أَن يسلبه مني فِي حَياتِي كَمَا فعل الشَّيْطَان الَّذِي لبس خَاتمه وَجلسَ على كرسيه وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى علم أَنه لَا يقوم غَيره من عباده بمصالح ذَلِك الْملك واقتضت حكمته تَخْصِيصه بِهِ فألهمه طلب تَخْصِيصه بِهِ وَمِنْهَا أَنه أَرَادَ بذلك ملكا عَظِيما فَعبر عَنهُ بِتِلْكَ الْعبارَة وَلم يقْصد بذلك الْأَعْظَم الْملك وسعته كَمَا تَقول لفُلَان مَا لَيْسَ لأحد من الْفضل أَو من المَال وتريد بذلك عظم فَضله أَو مَاله وَإِن كَانَ فِي النَّاس أَمْثَاله وَهَذَا كَلَام وَقع فِي الْبَين وقصدت إِيرَاده تطرية للسامع فَإِن الإنتقال من أسلوب إِلَى أسلوب آخر يحسن عِنْد ذَوي الآراء السليمة عودا إِلَى تَتِمَّة خبر الشريف حسن وَحكى بعض أهل الْأَدَب فِي مَجْمُوع ذكر فِيهِ بعض محاضرات أدبية أَن بعض بني عَم الشريف حسن ورد نَادِيه وَهُوَ يجر ذيلي التيه وَالْحمية الهاشمية فتصدر عَلَيْهِ بعض من حضر ذَلِك الْمجْلس فتجعدت أساريره وَظَهَرت حِدة طبعه فَلَمَّا فطن الشريف حسن لذَلِك قَالَ إِنَّه ليقودني للعجب ويهزمن عطف أريحيتي ساعد الطَّرب قصيدة أبي الطّيب الَّتِي أَولهَا شعر
(فُؤَاده مَا يسليه المدام ... وَعمر مثل مَا يهب اللئام)
فتسلى بذلك وَتَبَسم وَجهه بعد القطوب لِأَنَّهُ علم تلميحه إِلَى قَوْله فِيهَا شعر
(وَلَو أَن الْمقَام لَهُ علو ... تَعَالَى الْجَيْش وانحط القتام)
وَفِي سنة ثَمَان بعد الْألف أَمر أُمَرَاء الْحجَّاج أَن يلبسوا الخلعة الْكُبْرَى وَلَده أَبَا طَالب وَهُوَ يَوْمئِذٍ أكبر أَوْلَاده وَولي عَهده فِي بِلَاده والخلعة الثَّانِيَة لوَلَده عبد الْمطلب فلبسها أَيَّامًا ثمَّ جهز تَابعه بهْرَام بهدية سنية إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد وَالْتمس مِنْهُ تقريراً لوَلَده أبي طَالب فَرجع بهْرَام بِجَمِيعِ مَا التمسه الشريف وَلم يزل ينفذ الْأَحْكَام إِلَى أَن رمي بِسَهْم الْحمام شعر
(وَمَا هُوَ شخص قضى نحبه ... وَلكنه أمة قد خلت)
على أَنه لم يمت من بقيت مآثره ونشرت من بعد طوى مفاخره فَكيف بِمن خلف ذكرا حسنا من أَوْلَاد كرام وذرية فحام فأولاده الذُّكُور حُسَيْن وَأَبُو طَالب وباز وَسَالم وَأَبُو الْقَاسِم ومسعود وَعبد الْمطلب وَعبد الْكَرِيم وَإِدْرِيس وَعقيل وَعبد الله وَعبد المحسن وَعبد الْمُنعم وعدنان وفهيد وشبير والمرتضى وهزاع وَعبد الْعَزِيز وجود الله وَعبيد الله وبركات وَمُحَمّد الْحَارِث وقايتباي وآدَم وَالْبَنَات سَبْعَة عشر وَقد أفرد ذكره بِبَاب مُسْتَقل السَّيِّد الإِمَام الْعَلامَة عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ(2/4)
من أرجوزته الْمُسَمَّاة بِحسن السِّيرَة وَشَرحهَا الْمُسَمّى بِحسن السريرة فَقَالَ
(الْحسن الْملك الشريف بن أبي ... نمي بن بَرَكَات من حبي)
(بنسبه إِلَى النَّبِي الْعَرَبِيّ ... وَالشَّرْح يعطيك تَمام النّسَب)
وسرد نسبه فِي الشَّرْح على طبق مَا قدمْنَاهُ فِي تَرْجَمَة أبي طَالب شعر
(هُوَ الشريف من كلا جديه ... من صفوة الْملك انْتَهَت إِلَيْهِ)
(وَأمه بنت سباط فَاطِمَة ... أدنى الْإِلَه نَحْوهَا مراحمه)
(وَكَانَ عَام حمله فِي ظلا ... على حِسَاب أبجد قد حلا)
(أظهره الرَّحْمَن فِي ربيع ... يظل سوح الْحرم المنيع)
أَشَارَ إِلَى أَنه شرِيف من أمه أَيْضا كَمَا قدمْنَاهُ وَأَنَّهَا حملت بِهِ فِي عَام إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَهُوَ حِسَاب ظلا الَّذِي ذكره شعر
(فَلم يزل يصعد فِي الْمَعَالِي ... ويرتقي بصعدة العوالي)
(حَتَّى أَتَتْهُ صفوة الْخلَافَة ... منقادة طَوْعًا بِلَا خِلَافه)
(فِي عَام إِحْدَى بعد سِتِّينَ مَضَت ... من قبلهَا تسع مئين حفظت)
(فشارك الْوَالِد فِي الْملك إِلَى ... أَن أم بَدْء عَام حتف نزلا)
أَشَارَ بقوله إِلَى أَن أم إِلَى انْتِقَال وَالِده عَام اثْنَيْنِ وَتِسْعين كَمَا تقدم واستقلاله بعده بِجَمِيعِ الْأُمُور
(وذب عَن بَيت الْإِلَه بالاسل ... منزها عَن التواني والكسل)
(وأمّن السبل جَمِيعًا وَحمى ... كل المخاليف فأضحت حرما)
(فطالما قد شدّت الرّحال ... موقرة من فَوْقهَا الْأَمْوَال)
(من مَكَّة لبصرة وَنَحْوهَا ... قَاطِعَة لقفرها وبدوها)
(وَلم يكن مَعهَا سوى حاديها ... من حاضري الْبَلدة أَو باديها)
(فتصل الْمَقْصد وَهِي سَالِمَة ... ثمَّ تعود مثل ذَاك غانمة)
( ... وشاع هَذَا الْأَمر مِنْهُ واشتهر) معطراً بَاقِي الممالك الْأُخَر ...
(فَكل من حج إِلَى الْبَيْت الْحَرَام ... وَشَاهد الْأَمْن استخار فِي الْمقَام)
أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه لم يزل حامياً حوزة الْبَيْت الْمُعظم وذابا عَن سوحة المطهر المفخم حَتَّى أَنه من مزِيد أَمنه اخْتَلَط فِيهِ الْعَرَب والعجم ورعى الذِّئْب مَعَ الْغنم وَأمن السبل الحجازية ومهد الطّرق الحرمية فَكَانَت تشد الرّحال فِي سَائِر جهاته(2/5)
وَلَيْسَ مَعهَا خفير سوى الْأَجِير لَا يفقد مِنْهَا صواع وَلَا يختلس مِنْهَا وَلَا قدر صَاع وَرُبمَا ترك الْمَتَاع أَو الْمُنْقَطع فِي القفر السَّبَب ليؤتى لَهُ بِمَا يحمل عَلَيْهِ أَو يركب فيوجد سالما من الْآفَات وَلَو طَالَتْ الْأَوْقَات مَعَ كَثْرَة الطارقين لتِلْك الْمعَاهد والسالكين لهَذِهِ المواطن والمقاصد وَلم يعْهَد هَذَا إِلَّا فِي زمن هَذَا الْملك الْعَادِل وَلم ينْقل مثله عَن مثله من الْمُلُوك الْأَوَائِل فَلَقَد كَانَت هَذِه الطّرق فِي مبدأ ولَايَته مخوفه والمخاليف كلهَا غير مألوفة حَتَّى من أَرَادَ أَن يعزم من مَكَّة إِلَى التَّنْعِيم للاعتمار لَا بُد لَهُ أَن يَأْخُذ خفيرا من أَرْبَاب الدول الْكِبَار وَأَن لم يفعل ذَلِك يعطب فِي نَفسه وَمَاله وَلَا يرثي فِي أَخذ الثأر لحاله ولطالما نهبت الْأَمْوَال مَا بَين مَكَّة وعرفة لَيْلَة الصعُود إِلَيْهَا وسفكت الدِّمَاء فِي تِلْكَ المشاعر وجدلت الأجساد لَدَيْهَا وَإِذا سرق مَتَاع قل أَن يظفر بِهِ وَرُبمَا قتل صَاحبه عِنْد طلبه بسبسه وكل ذَلِك من الْعَرَب المحيطين بأطراف الْبِلَاد الساعين فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ فنبسط الله بِسَاط الْأمان بولايته ألزمهم بحراسة هَذِه المواطن وَغرم مَا يذهب للنَّاس فِي هَذِه الْأَمَاكِن وعاملهم بصنوف الْعقَاب وأنواع الْعَذَاب من الصلب وَقطع الْأَيْدِي وتكليف أحدهم بِالْقَتْلِ أَن لم يَدي إِلَى غير ذَلِك من أَصْنَاف الاجتهادات السياسية والآراء السُّلْطَانِيَّة المرضية حَتَّى صلح حَال الْعَالم غَايَة الْإِصْلَاح ونادى مُنَادِي الْأَمْن بالبشر والفلاح فاطمأنت النُّفُوس بِإِقَامَة هَذَا الناموس واعتدلت أَحْوَال الرعايا واتصل ذَلِك إِلَى علم الْمُلُوك البقايا فَشكر كل سَعْيه فِي هَذِه المآثر الحميدة وَحمد الله تَعَالَى فِي هَذِه المعدلة الظَّاهِرَة المجيدة وَكثر حجاج بَيت الله الْعَتِيق وضربوا إِلَيْهِ آباط الْإِبِل من كل فج عميق فيرون مَا كَانُوا يسمعُونَ بِهِ عيَانًا فيستخيرون الله فِي أَن تكون بَلَده لَهُم مسكنا وَأَهْلهَا إخْوَانًا شعر
(فَمن هُنَا مَكَّة صَارَت مصرا ... محشودة بالعالمين طرا)
(وَقبل هَذَا الْعَهْد لم يقم بهَا ... إِلَّا أنَاس شغفوا بحبها)
(نَحْو ذَوي الْبيُوت مِمَّن قطنوا ... دهراً بهَا واستوطنوا وَسَكنُوا)
(لذا انْتَهَت إِلَيْهِم الرياسة ... بطيبهم مناصب النفاسة)
(والغير يَدْعُو بمنادى الْملك ... يامن قصى حرَامه من نسك)
(ارجل إِلَى بلادك الْأَصْلِيَّة ... من يمن أوجهة شامية)
(فان هَذَا الْبَلَد الحراما ... وادبلا زرع يرى ولاما)(2/6)
(فيرحلون مَا عدا من ذكرا ... من أَهلهَا خلص من قد أمرا)
(فَإِنَّهُم شوكته القوية ... وخادمو حَضرته الْعلية)
(فَلم يزَالُوا هَكَذَا أَبَا بأب ... مقترين من أعالي ذَا النّسَب)
أَشَارَ إِلَى الْقَوَاعِد الْقَدِيمَة لولاة مَكَّة الْكَرِيمَة أَن يُنَادى بعد لتَمام الْحَج يَا أهل الشَّام شامكم وَيَا أهل الْيمن يمنكم فيرحل كل إِلَى بَلَده وَلَا يُقيم بِمَكَّة الأخواص أَهلهَا من ذَوي الْبيُوت الْقَدِيمَة فَلَمَّا تولى مَكَّة وشاع ذكره رغب كل أحد فِي الْمُجَاورَة بهَا وَصَارَت مصر من الْأَمْصَار
(فَعِنْدَ مَا قد أفضت الْخلَافَة ... لحسن وجاورت خلَافَة)
(ومهد المسالك المخو فَهُوَ ... وشيد الْمعَاهد المألوفة)
(وَكَثُرت بعدله الأرزاق ... وعمرت بأمنه الْأَسْوَاق)
(وفجر الله عُيُون الأَرْض ... بصيته الْبَاقِي ليَوْم الْعرض)
(أَقَامَ كل بفنا الْبَيْت الْعَتِيق ... وأملوه من ورا الْفَج العميق)
(ونال كل مِنْهُ مَا قد أمله ... لما أناه قَاصِدا وَأم لَهُ)
(وَالنَّاس فِي عَيْش بعدله خصيب ... وَقد حوى بفضله كل نصيب)
(أما أولو الْعلم ففازوا بِالنعَم ... ونشروا على رُؤْسهمْ علم)
(وتوجوا لَدَيْهِ بالوقار ... فَمَا رَآهُمْ قطّ باحتقار)
(لَا سِيمَا من مِنْهُم ينتسب ... إِلَيْهِ بالإخلاص وَهُوَ السَّبَب)
(ويخدم الخزانة المعمورة ... بِكُل آيَة لَهُ مسطورة)
(من كل تأليف عَظِيم المنقبة ... بِهِ اسْتحق نيل تِلْكَ الْمرتبَة)
(وهم لعمري فرقة كَبِيرَة ... وَمِنْهُم نالهم هذي السِّيرَة)
(فَإِنَّهُ فِي كل عَام شمسى ... يبدع تأليفا بديع الْأنس)
(الأصداف ... أسسها فِي ذرْوَة الْأَوْصَاف)
(كذاعبون لمسائل حوى ... من الْعُلُوم أَرْبَعِينَ بالسوا)
(وَشَرحه القصيدة الْمَقْصُورَة ... لِابْنِ دُرَيْد نِسْبَة شهيرة)
(وَشَرحه أَيْضا لحسن السِّيرَة ... بِمَالِه من حسن السريره)
(وغيرذا من غرر القصائد ... وكل نثرزينة الفرائد)
أَشَارَ إِلَى احتفاله بِالْعلمِ وَأَهله حَتَّى ألفوا لَهُ التصانيف اللطيفة(2/7)
(وَكم بِشعر فائق النّظم امتدح ... من كل قطر أمّ قصدا وامتنح)
(وكل هَذَا خدمَة للسَّيِّد ... الْحسن الشريف عالى المحتد)
(فَهُوَ الْحقيق دَائِما أَن يخدما ... وَأَن يكون مَالِكًا للعلما)
(لبرّه اليهم وَعطفه ... عَلَيْهِم ببشره ولطفه)
(يُجِيز بِالْألف على التَّأْلِيف ... وينصف الشَّخْص على التصنيف)
(ثمَّ إِذا قدّم تأليف لَهُ ... طالعه غالبه أَو كُله)
(وَأظْهر الرَّغْبَة فِيهِ جدّا ... وبالدعا لرَبه أمدا)
(وَزَاد فِي رفعته وَقدره ... ليعلم الْعَالم شَأْن فخره)
(قصد التَّرْغِيب الورى فِي الْعلم ... مشحذاً لفكرهم والفهم)
(وكل ذَا ابْتِغَاء وَجه الله ... من غير مَا شكّ وَلَا اشْتِبَاه)
(فَمن هُنَا تبادر النَّاس إِلَى ... درس الْعُلُوم بعد درس وبلى)
(فأنتجت مَكَّة بعد العقم ... أفاضلاً شَتَّى كأبنا أمّ)
(ملتحمين فِي الْعُلُوم وَالْأَدب ... كلحمة فِي سَبَب أَو فِي نسب)
(نالوا علو مَا جمة مرتبه ... علوا بهَا على الشُّيُوخ مرتبه)
(مَا ذَاك إِلَّا حَيْثُ كَانَ السَّيِّد ... ملتفتاً لما بنوا وشيدوا)
(وَلم يضع صنيعهم لَهُ سدى ... لَا زَالَ متصفاً بِحَق أيدا)
أَشَارَ إِلَى أَن الأفاضل كَانَت تتقرب إِلَى خدمته وَمِنْهُم الْعَلامَة خضر بن عَطاء الله الْموصِلِي ألف لَهُ الْإِسْعَاف فِي شرح شَوَاهِد القَاضِي والكشاف وَمِنْهُم النَّاظِم خدمَة بكتب مِنْهَا شرح القصيدة الدريدية وَأَجَازَهُ عَلَيْهَا بِأَلف دِينَار وَاتفقَ أَنه حكم تَارِيخه قَوْله
(أرخني مُؤَلَّفِي ... بِبَيْت شعر مَا ذهب)
(أَحْمد جود ماجد ... أجازني ألف ذهب)
فَلَمَّا قَرَأَ الْبَيْتَيْنِ قَالَ لَهُ وَالله إِن هَذَا لنزر جدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا التَّأْلِيف وَلَكِن حَيْثُ وَقع الِاقْتِصَار عيله فعلى الرَّأْس وَالْعين وَأَعْطَاهُ ذَلِك
(وَمَا أرى ذَا الْأَمر إِلَّا أثرا ... لطالع السَّيِّد حَيْثُ أثرا)
(فِي أهل عصره السعيد الأبدي ... فَإِنَّهُ آلَة فعل الْأَحَد)
(وَلَيْسَ بدعا فَلهَذَا السَّيِّد ... طالع سعد فالق للجلمد)
(فَمَا رَأَيْنَاهُ أناب أحدا ... إِلَّا وَكَانَ كَامِلا مسدّدا)(2/8)
(يَنْمُو كَمَا تنمو الثِّمَار بالعلل ... وَلم يزل دهراً مُجَانب الْعِلَل)
(ويرزق الْقبُول والمحبة ... فَكل من خالطه أحبه)
(وَلم يكن يبغض شخصا إِلَّا ... كَانَ لَدَى الْأَنَام رذلاً نذلا)
(يذبل دهراً ثمَّ يضمحل ... وَعِنْدنَا لكل قسم مثل)
(وَحِكْمَة التَّأْثِير عِنْد الْعَالم ... إِن المليك مثل قلب الْعَالم)
(فَلم يزل مؤثراً للبسط ... وَالْقَبْض شبه آلَة للرّبط)
يَنْبَغِي أَن يعلم أَن مَا تقدم من صَلَاح الزَّمَان وَأَهله فَهُوَ طالعه قَالَ الأبوصيري رَحمَه الله تَعَالَى
(وَإِذا سخر الْإِلَه أُنَاسًا ... لسَعِيد فَإِنَّهُم سعداء)
والمثل مَشْهُور فلأجل عين ألف عين تكرم وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى خطابا للنَّبِي
{وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} وَقد اتّفق الْعُقَلَاء من أهل التنجيم أَن للطالع تَأْثِيرا وكل ذَلِك بِمَنْزِلَة الشَّرْط والآلة وَإِلَّا فالتصرف للْفَاعِل الْمُخْتَار لَا لَهُ وَقد منحه الله بِأَنَّهُ مَا توجه لأحد بِالرِّضَا إِلَّا ونما فَمن ذَلِك الْمولى خضر بن عَطاء الله الْمَذْكُور فَإِنَّهُ ورد إِلَى الديار المكية بِحَالَة من الْفقر لَا تذكر فَحل عَلَيْهِ نظره فتقلب فِي النعم إِلَى أَن جنت يَده عَلَيْهِ ورمت بسهام الْغدر إِلَيْهِ وَورد من الْبَصْرَة رجل من أهل الْعلم يُسمى نجم الدّين حصلت لَهُ عِنْده حظوة فنال مِنْهُ خيرا عَظِيما حَتَّى وَقعت مِنْهُ زلَّة قدم ردته إِلَى الحضيض وَكَذَلِكَ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن ظهيرة فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَايَة من الإجلال وَنِهَايَة من الرِّعَايَة حَتَّى تجرأ بِسوء أدبه فعامله بمتعلقات السحر فِي نَفسه الجليلة وَأثر ذَلِك عِنْده مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى أطلعه الله ببركة طالعه على هَذَا الْعَمَل فتفحص عَنهُ وَسَأَلَ فَوقف على أَنه الصَّانِع لذَلِك فأدبه بِالضَّرْبِ ثمَّ تَركه وحاله ونبذه ظهريا إِذْ كَانَ بعواقب الْأُمُور غبيا وَبِهَذَا الْقدر يَكْتَفِي اللبيب الْعَاقِل وَلَا بدع فِيمَا ذكر فالملك ظلّ الله على عباده وَقد حكى أَن بعض الْمُلُوك توجه بِجمع قَلِيل على بعض الْبُغَاة وهم طَائِفَة كَبِيرَة فذرأوه وَأَسْلمُوا لَهُ الْبَلَد وَلم يقاتله مِنْهُم أحد فَقيل لَهُم فِي ذَلِك فَقَالُوا رَأينَا بَين يَدَيْهِ شَخْصَيْنِ امتلأنا مِنْهُمَا رعْبًا فَسئلَ بعض الْأَوْلِيَاء عَن ذَلِك فَقَالَ هَذَانِ الْخضر والقطب مَا زَالا يؤيدان كل ملك يقيمه الله ويختاره على عباده وناهيك أَن قلب الْملك بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الرَّحْمَن يقلبه كَيفَ يَشَاء وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْقلب للْعَالم فبسطه يسري إِلَيْهِم وَقَبضه ينشر عَلَيْهِم
(هَذَا وَمَا عَادَاهُ قطّ أحد ... إِلَّا وخاب خيبة لَا تجحد)(2/9)
(فكم نوى جَانِبه بالأسوا ... جمَاعَة فامتحنوا بالبلوى)
(وهلكوا فِي مُدَّة يسيرَة ... فليعتبر ذَا من لَهُ بَصِيرَة)
(وَعنهُ كَانَ كل من وَالَاهُ ... وكف عَنهُ كل من عَادَاهُ)
(فقد جرى لجدّه النبيّ ... هَذَا الولا وأبه عليّ)
وَمن كَمَال سعده أَنه مَا عَاده أحد إِلَّا وَعَاد بالخيبة وقبح الأوبة وَلَا نَوَاه أحد بِسوء إِلَّا ودارت عَلَيْهِ دائرته فَمن ذَلِك أَن الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا قَصده بالأذى وجهز العساكر الرومية إِلَى مَكَّة وصمم على إِيذَاء هَذِه الذُّرِّيَّة فَمَا زَالَ كل من فِي قلبه ذرة إِسْلَام يثبطه عَن هَذَا الْعَزْم فَلم يجد فِيهِ نفعا فَاجْتمع جمَاعَة من أهل الْخَيْر وقرؤوا الْفَاتِحَة وَقَالُوا إِن هَؤُلَاءِ أَوْلَاد النَّبِي
فنسأل الله بِحرْمَة جدهم وحرمتهم أَن يرينا فِي الْوَزير مَا يكون بِهِ عِبْرَة لمن اعْتبر فَمَا فارقوا مجلسهم إِلَّا وجاءهم خبر أَنه أُصِيب بالقولنج وَمَات لوقته فأوصلوا الْخَبَر للسُّلْطَان وقصوا عَلَيْهِ الْقِصَّة فَرجع عَن ذَلِك واستغفر الله وَمن ذَلِك أَن الشَّيْخ الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن المرشدي قصد السّفر إِلَى الْيمن فاستأذنه فَلم يَأْذَن لَهُ فَكَانَ مَنعه لَهُ عَن السّفر عين الْمصلحَة والنجاح فَإِن الْأَمر بعد ذَلِك أَسْفر عَن تغير قطر الْيمن وَانْقِطَاع سبله وَكَثْرَة الْخَوْف فِي طرقه بِمُوجب بعض الْفِتَن فَإِنَّهُ قَامَ ثمَّة قَائِم من أهل الْبَيْت يُسمى بالقاسم وَادّعى الْإِمَامَة وَظهر شَأْنه وقويت فِي الْجبَال دون تهَامَة شوكته وَالنَّاس إِذْ ذَاك فِي أَمر مريج وَقد عزم جمَاعَة إِلَى تِلْكَ الديار فعادوا مبادرين للفرار وَأَرَادَ الله للمذكور الرَّاحَة حَيْثُ اسْتَقر بِمَكَّة
(من أَنه ابْن مستجاب الدعْوَة ... وَمَا لَهُ فِي عمره من صبوة)
(وَكَيف لَا وَقد حمى الْبَيْت الْحَرَام ... بِنَفسِهِ خمْسا وَأَرْبَعين عَام)
(مؤيدا شرائع الْإِسْلَام ... مشيداً شَعَائِر الْإِحْرَام)
(مَعَ أَنه فِي زمن أيّ زمن ... مَظَنَّة لكل قَول وَفتن)
(وَقد حكى بعض الورى عَن السّلف ... وَذَاكَ مَحْفُوظ لَهُم عَن الْخلف)
(إنّ ولي مَكَّة يصير فِي ... مرتبَة القطب يَقِينا فاعرفِ)
(فأظهر الصّلاح فِي الرعايا ... وَفِي مُلُوك الدول البقايا)
قد اشْتهر عَنهُ أَنه مجاب الدعْوَة مِنْهَا أَنه كَانَ فِي عَام أَربع بعد الْألف فِي مَحل يُقَال لَهُ غَدِير وشحا فَأصَاب النَّاس غَايَة التَّعَب من الظما فورد إِلَيْهِ رعاء إبِله وتفاوضوا(2/10)
مَعَه فِي وُرُودهَا وَمن أَي مَحل ترد فعددت أَمَاكِن بعيدَة عَن منزلهم هَذَا فَمَا ارتضى ذَلِك وَتوجه إِلَى الله تَعَالَى قَائِلا اللَّهُمَّ اسقها فَمَا كَانَ بَينه وَبَين السقيا إِلَّا ليلتهم تِلْكَ فانهلت عَلَيْهِم السَّمَاء كأفواه الْقرب ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى إِن الْإِبِل صدرت منتهلة من مباركها واستمروا مُدَّة لَا يردون إِلَّا من مآثر دَعوته الْمُبَارَكَة وَمِنْهَا أَن النَّاس أرجفوا فِي سنة ثَلَاث وَألف بوصول عَزِيز أَحْمد باشا إِلَى مَكَّة فِي عدَّة من العساكر وَكَذَلِكَ وَزِير الْيمن حسن باشا فانزعجت لذَلِك الرّعية إِذْ صَحَّ عزمها لجِهَة مَكَّة فَتوجه بخاطره إِلَى الله تَعَالَى فصرف أُولَئِكَ عَن الْعَزْم وأشغلهم بِمَوْت السُّلْطَان مُرَاد بن سليم رَحمَه الله تَعَالَى
(وَقد حبى بِصَالح الذُّرِّيَّة ... ممتعاً بعيشة مرضية)
(أما البنون فهم عشرُون مَعَ ... أَرْبَعَة فخذهم مِمَّن جمع)
(لَاقَى الْإِلَه مِنْهُم ثَمَانِيَة ... إِذْ علمُوا الدُّنْيَا يَقِينا فانيه)
(من بعد أَن قد كملوا وسادوا ... وللمعالي أسسوا وشادوا)
(ثمَّ الْبَنَات وَبَنُو الْأَوْلَاد ... كثرتهم تنمو على التعداد)
(كَذَا الْأَقَارِب الَّذين وصلوا ... إِلَيْهِ أدلاهم جدود أول)
تقدم ذكر أَوْلَاده وَقد مَاتَ قبله مِنْهُم ثَمَانِيَة أَبُو الْقَاسِم وَالْحُسَيْن ومسعود وباز وَعقيل وهزاع وَعبد الْعَزِيز وَأَبُو طَالب
(إِن ركبُوا فِي موكب فَإِنَّهُم ... كواكب الجوزاء وَهُوَ بدرهم)
(لَا سِيمَا إِذْ يلبس التشريفا ... ثوبا سينياً فاخراً شريفا)
(يَأْتِيهِ من سلطنة الرّوم الْعِظَام ... فِي غَايَة من الْبَهَاء والنظام)
(مَا نَالَ من أسلافه مَا ناله ... من التشاريف ذَوي الْجَلالَة)
(فَإِنَّهُ قَارن فِي ذِي المدّة ... من الْمُلُوك الأكرمين عدّه)
(مِنْهُم سُلَيْمَان مليك الرّوم ... ثمَّ سليم صَاحب التكريم)
(ثمَّ مُرَاد ثمَّ ملك الْعَصْر ... مُحَمَّد لَا زَالَ رب النَّصْر)
(وَهُوَ لعمري قمن جدير ... بِكُل مَا قد صرح المنشور)
(فَمَا سمعناه مثل نشره الْأمان ... قاطبة وَلَا فِي سَابق الزَّمَان)
(وَمن رأى تَارِيخ مَكَّة أقرّ ... بِذَاكَ فَهِيَ الْآن أولى مستقرّ)
(يعين من يُقيم بِالْإِحْسَانِ ... فضلا بِلَا منّ وَلَا تواني)
(مَا أحد من الْمُلُوك صنعا ... صَنِيعه فَإِنَّهُ تبرّعا)(2/11)
(بِمَال بَيت المَال تقريراً لمن ... يحْتَاج طبق مَا مضى من الزَّمن)
(ومنذ دهر لم يقم ذَا الْوَاجِب ... وَلم يكن لبيت مَال راتب)
(حَتَّى أَتَى الله بمولانا الامام ... غيث بنى الآمال بل غوث الْأَنَام)
(فرتب المَال لذِي الْحَاجَات ... والعلما وخالصي النيات)
(منزهاً لنَفسِهِ عَن مَالهم ... وموصلاً لَهُم إِلَى آمالهم)
(أكْرم بهَا منقبة عظيمه ... ورتبة فاخرة فخيمه)
(مَا أحد يقْصد فِي أَرض الْحجاز ... حَقِيقَة سواهُ من غير مجَاز)
(لَهُ الكرامات الَّتِي لَا تحصر ... وَالْكَرم الَّذِي دهوراً يذكر)
(وَمَا غزا الأوفاز بالظفر ... وافتتح الْبلدَانِ فتحا اسْتمرّ)
(لَهُ مغاز فِي الْأَنَام عده ... حكى بهَا فِيهَا أبه وجده)
(أما سراياه فزادت كثره ... وَكلهَا مقرونة بالنصره)
(وَلم يكن مؤمراً فِيهَا سوى ... أَوْلَاده الْكِرَام أَرْبَاب اللوى)
(وَقل مَا أَمر غَيرهم على ... بعوثه وَالْكل مِنْهُم ذُو علا)
(وَحَاصِل الْأَمر بِأَن النصرا ... خادمه دهراً طَويلا عمرا)
(لم يتَّفق وربنا المشكور ... لَهُ إنكسار بل هُوَ الْمَنْصُور)
(كَأَنَّمَا ملائك الرَّحْمَن ... جُنُوده فِي سَائِر الْأَزْمَان)
(وَلَيْسَ بدعافهم فِي بدر ... كَانُوا جنود جده الْأَغَر)
سراياه كَثِيرَة شهيرة لم يُؤمر فِيهَا إِلَّا أَوْلَاده النجباء وَمِمَّنْ بَعثه مِنْهُم وَلَده الْحُسَيْن وَمِنْهُم أَبُو طَالب فقد أرْسلهُ غَيره مرّة وَمِنْهُم مَسْعُود عقيل وَمِنْهُم عقيل وَمِنْهُم عبد الْمطلب وَمِنْهُم عبد الله فَكَانَ بعزمه إصْلَاح جِهَات الْيمن
(فاق الْمُلُوك بالنهى والحدس ... كَمَا بِهِ يشْهد عدل الْحس)
(وَكم لَهُ قَضِيَّة شهيرة ... بَين الورى كَالشَّمْسِ فِي الظهيرة)
قد فاق الْمُلُوك بمزيد الفطنة وَله فِي ذَلِك قضايا مَشْهُورَة مِنْهَا أَنه اخْتصم عِنْده رجلَانِ مصري ويماني فِي جَارِيَة فَادّعى كل مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ وَأقَام بذلك بَيته فأجال فكرته الوقادة وَطلب قَلِيلا من الْحبّ وَقَالَ لَهَا مَا اسْم هَذَا فِي بِلَاد كم فَقَالَت بر فَحكم بهَا لليمني فَظهر بعد ذَلِك أَنَّهَا ملكه وَمن ذَلِك أَنه اخْتصم لَدَيْهِ رجلَانِ شَامي ومصري فِي جمل وَادّعى كل مِنْهُمَا أَنه لَهُ وَأقَام بذلك حجَّة ثمَّ قَالَ لَهما أَنِّي سأحكم بِحكم فَإِن(2/12)
ظهر لي أَن الْحق بيد أحد كَمَا غرمت الآخر ثمن الْجمل فَأمر بِذبح الْجمل فذبح وَأمر باستخراج مخه فاستخرج فَتَأَمّله وَقضى بالجمل للشامي وَأمر الْمصْرِيّ بِتَسْلِيم الْقيمَة فَقيل لَهُ فِي ذَلِك رَأَيْت مخه منعقدا فاستدليت بذلك فَإِن أهل الشَّام يعلفون دوابهم الكرسنة وَهِي تعقد المخ وَأهل مصر يعلفون الفول وَهُوَ يعْقد الشَّحْم دون المخ فَظهر بعد ذَلِك أَن الْحق كَمَا قَالَ وَمن ذَلِك أَن شخصا دفن مَالا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ شخص يرقبه فَلَمَّا قصد لنفر مِنْهَا إِلَى منى وجد المَال قد حفر عَنهُ وَأخذ وَلم يظفر بأثر من آثَار الْغَرِيم إِلَّا بعصا ملقاة فَأَخذهَا وَرفع شكواه إِلَيْهِ وَذكر لَهُ الْقِصَّة فَسَأَلَهُ هَل وجد من أثر فَقَالَ نعم وجدت عَصا ملقاة فطلبها مِنْهُ فأحضرها ثمَّ تأملها فَأمر بإحضار جمَاعَة مخصوصين من الْعَرَب فَحَضَرُوا فأشرفهم على الْعَصَا وسألهم هَل يعْرفُونَ صَاحبهَا فَقَالُوا نعم هِيَ عَصا فلَان فَأحْضرهُ وَسَأَلَهُ فَأنْكر فَشدد عَلَيْهِ فَأقر بِالْمَالِ وَمن ذَلِك أَن شخصا من سَادَات الْيمن وصل إِلَى مَكَّة بِجَارِيَة حسنا مِنْهَا نَحْو الْعشْر سنوات فتعصب عَلَيْهِ طَائِفَة نم الجبرت وَادّعى بَعضهم أَنَّهَا حرَّة الأَصْل وَأَنَّهَا بنت فلَان وَشهد مِنْهُم شاهدات من طلبة الْعلم بذلك واستخلصوها من يَد ذَلِك السَّيِّد قهرا فَرفع الْقَضِيَّة لَهُ فَطلب الشَّاهِدين وَأخذ يستدرجهما بمدحهما وأنهما من مشاهير من جاور بِمَكَّة من مُدَّة طَوِيلَة وَأَن شَهَادَتهمَا مَقْبُولَة ثمَّ سَأَلَهُمَا عَن الشَّهَادَة فأدياها كَمَا سبق وَأَنَّهَا بنت فلَان الجبرتي ولدت بِبَلَدِهِ وَنحن بهَا قبل وصولنا إِلَى مَكَّة فَقبل شَهَادَتهمَا ثمَّ سَأَلَهُمَا عَن مُدَّة أقامتهما بِمَكَّة وَهل خرجا بعد دخولهما فَذكر أَن الْمدَّة تنوف على ثَلَاثِينَ سنة وأنهما مَا خرجا مِنْهَا إِلَى بلدهما بعد أَن دخلا فشاغلهما بالْكلَام سَاعَة ثمَّ سَأَلَهُمَا عَن سنّ الْجَارِيَة فَقَالَا لَهُ نَحْو عشر سِنِين فَأخذ يسبهما وَيتَكَلَّم عَلَيْهِمَا حَيْثُ شهد بولادتها وهما ببلدها وَقصد اتلافهما وَأعَاد الْجَارِيَة إِلَى سَيِّدهَا وَكَانَت هَذِه الْحُكُومَة مِنْهُ حِكْمَة بَالِغَة فَإِنَّهُ قَصم بهَا طَائِفَة الجبرت عَن مثل ذَلِك فَإِنَّهُم سلكوا هَذَا المسلك مُدَّة واستخلصوا بِهِ أرقاء النَّاس من أَيْديهم
(هَذَا ومولانا رفيع الْعلم ... مِمَّن حظى بِسَيْفِهِ والقلم)
(فَإِنَّهُ إِن بالمداد رقا ... فَكل مَا أبداه كَانَ حكما)
(لَهُ الْكَلَام الْجَامِع الْمُهَذّب ... فِي فهمه لكل شخص مَذْهَب)
(وَكم لَهُ من حسن المحاضرة ... مَا فَاتَ الْعَرَب بِهِ والحاضرة)(2/13)
(قد ذقت من حَدِيثه حُلْو السمر ... كم لَيْلَة لذبها طول السهر)
(فلفظه الدَّار إِذا مَا نثرا ... على بِسَاط السّمع من غير مرا)
(كَأَنَّهُ من نفس النُّبُوَّة ... أجل لما فِيهِ من النُّبُوَّة)
(فطالما أوقرت مِنْهُ سمعا ... قد جمع الْحِكْمَة فِيهِ جمعا)
(وكل مَا فِيهِ أَنا من نعم ... فَأَنَّهُ آثَار تِلْكَ الحكم)
(فَالله يبقيها وَيبقى مددى ... مِنْهَا ويغنيني بهذ السيدا)
(دهرا طَويلا سالما من الْغَيْر ... وَلنْ يشوب صَفوه شوب الكدر)
(ممتعاله خُصُوصا بِالْقَوِيّ ... وناشرا لنصره ذَاك اللوا)
(وكافينه كل مَا أهمه ... من عين كل حَاسِد ملمه)
(يبيد بِالْقُدْرَةِ من عَادَاهُ ... بطالع السعد الَّذِي حواه)
(وَمن تولى نَصره الله فَمن ... يَخْذُلهُ وَذَاكَ مَوْلَانَا الْحسن)
(وَإِلَى عَلَيْهِ رَبنَا مكارمه ... مَوْصُولَة مِنْهُ بِحسن الخاتمة)
وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس لثلاث خلت من جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشرَة بعد الْألف فِي مَكَان يُقَال لَهُ الرفاعية بعد أَن توعك نَحْو يَوْمَيْنِ وَحمل إِلَى مَكَّة على محفة البغال وجهز فِي ليلته وَصلى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فِي محفل جمع من الْعلمَاء والأشراف والعامة وَدفن بالمعلاة وَبني عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة وَله من الْعُمر نَحْو تسع وَسبعين سنة واستقل بعده ابْنه الشريف أَبُو طَالب كَمَا ذكرتا فِي تَرْجَمته سَابِقًا وَأول من ولي مَكَّة من أجداده الشريف قَتَادَة بن الشريف إِدْرِيس أَخذهَا من مُلُوكهَا الهواشم فِي سنة سبع أَو ثَمَان أَو تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَاسْتمرّ ملكهم إِلَى هَذَا الْحِين أدامه الله تَعَالَى وَقد جمع الإِمَام مُحَمَّد الشلي بأعلوي الْحُسَيْنِي رِسَالَة فِيمَن ملك مِنْهُم من قَتَادَة إِلَى ملك زَمَانه وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ حسن بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم أَبَا شُعَيْب الْحَضْرَمِيّ الوَاسِطِيّ الشَّافِعِي الإِمَام الْمُؤلف الزَّاهِد العابد أَخذ عَن الشَّيْخ أبي بكر بن سَالم وَتخرج بِهِ وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين واشتغل بالعلوم الشَّرْعِيَّة حَتَّى حصل مِنْهَا طرفا صَالحا وَحج وَأخذ بالحرمين عَن غير وَاحِد مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو بكر الشبامي أَخذ عَنهُ الْفِقْه وَغَيره وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْعُلُوم والمعارف فِي بَلَده الْوَاسِطَة من أَعمال حضر موت وَكَانَ قدوة فِي القَوْل وَالْعَمَل وَأخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم الشَّيْخ زين العابدين العيدروس(2/14)
وَأَخُوهُ شيخ وَابْن أَخِيه سقاف وسيدي مُحَمَّد بن علوي وَأَبُو بكر الشلي والدا الْجمال المؤرخ وَعبد الرَّحْمَن الْمعلم وصنف كتبا كَثِيرَة مفيدة مِنْهَا كتاب سرُور السرائر وفسحة الْأَرْوَاح وراحة الْقُلُوب وَهُوَ كتاب مُفِيد جدا وَكتاب حَقِيقَة زبدة لبن الشَّرِيعَة بحركة مخض سلوك الطَّرِيقَة وَكتاب عَافِيَة الْبَاطِن وسلامة الدّين والصدق الصَّحِيح بِنَفْي كل مين ورين وَهُوَ شرح لأبياته وأوله الْحَمد لله الَّذِي كَون الْكَوْن وقط لَا يُشبههُ كَون وقصيدة السودي الَّتِي أَولهَا
(أغريب قد مطرَت بلادك ... )
وقصيدته الَّتِي أَولهَا
(شَاهد جمال محيا غَايَة الطّلب ... )
وَكَانَ حُلْو الْعبارَة لطيف الْإِشَارَة توفّي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بقريته الْوَاسِطَة وقبره بهَا مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حسن بن أَحْمد الدِّمَشْقِي المعروق بِابْن الحجار السَّيِّد الْأَجَل من أهل الْعلم والورع وأسلافه كلهم تجار وَكَانَ هُوَ فِي مبدأ أمره يعاني التِّجَارَة وَعدل عَنْهَا إِلَى طلب الْعلم فتفقه بالشمس مُحَمَّد الميداني وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة على المنلا حسن الْكرْدِي وتصدر للتدريس بِجَامِع بني أُميَّة ثمَّ بعد مُدَّة مَال إِلَى الظُّهُور فَتوجه إِلَى آمد لعرض أَحْوَال أهل دمشق وَمَا هم عَلَيْهِ من الحيف وَالظُّلم إِلَى الْوَزير الْأَعْظَم قره مصطفى باشا لما عَاد من بَغْدَاد وَكَانَ مَعَه الشَّيْخ الْعَلامَة رَمَضَان بن عبد الْحق العكاري خطيب جَامع السنانية بِدِمَشْق وَحصل لَهُ من الْوَزير الْمَذْكُور إقبال تَامّ وَأخذ الْمدرسَة الشامية الجوانية عَن الشَّمْس مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر الْقَارئ الْآتِي ذكره وَادّعى أَنَّهَا مَشْرُوطَة لأعْلم عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة وَأَن ابْن الْقَارئ صَار حنفيا فوجهت إِلَيْهِ وَتصرف بهَا مُدَّة ثمَّ قررت على ابْن الْقَارئ وَتوجه السَّيِّد حسن إِلَى الرّوم لأجل عرض مَادَّة الْعَوَارِض السُّلْطَانِيَّة بِدِمَشْق فَلَمَّا عرض ذَلِك على الْوَزير الْمَذْكُور آنِفا كَانَ ثَمَرَة ذَلِك أَنه عين مِنْهَا فِي كل سنة خمْسا وَعشْرين ألفا إِلَى خزينة السُّلْطَان وَلم يكن سبق ذَلِك وَأخذ مدرسة دَار الحَدِيث الأحمدية الكائنة بالمشهد الشَّرْقِي بِجَامِع بني أُميَّة عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن تَاج الدّين الْمُقدم ذكره وَبعد مُدَّة قررت عَليّ ابْن تَاج الدّين وَبَقِي السَّيِّد حسن بِلَا مدرسة إِلَّا أَن توفّي فِي حادي عشر الْمحرم سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الخالدية قبالة ضريح سَيِّدي الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة هَكَذَا رَأَيْته فِي بعض التَّعَالِيق فأدرجته كَمَا رَأَيْته وَالله تَعَالَى أعلم(2/15)
الْأَمِير حسن باشا بن أَحْمد بن رضوَان بن مصطفى وَتقدم ذكر أَبِيه الْغَزِّي المولد الْأَمِير الْكَبِير حَاكم غَزَّة وَكَانَ حسن السِّيرَة جواد ممدحا عَظِيم الْقدر وَكَانَ مغرما بِالنسَاء وَله فِي النِّكَاح حَظّ وافر وَجمع من الْخَطَايَا عددا كثيرا ورزق مِنْهُنَّ أَبنَاء كَثِيرَة نَحْو الْخَمْسَة وَثَمَانِينَ ولدا وينقل عَنهُ انه كَانَ إِذا حضر أحدهم لَدَيْهِ يسْأَله عَن اسْمه وَاتفقَ أَنه مَاتَ أحدهم فَلم يعرفهُ حَتَّى عرفوه لَهُ بوالدته وَقَالُوا لَهُ هَذَا ابْن فُلَانَة وَكَانَ عطاردى الطَّبْع يحسن غَالب الصَّنَائِع وجبب إِلَيْهِ الإنعزال عَن النَّاس فَكَانَ ينْفق أوقاته فِي أرغد عَيْش وأهناه وركبتة دُيُون كَثِيرَة لتبذير كَانَ فِيهِ وَعمر مَكَانا بغزة وتأنق فِيهِ جدا حَتَّى صيره أحسن منتزه فِي تِلْكَ الدائرة وَمَات وَلم يكمله وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ ممتعا فِي دُنْيَاهُ وَتُوفِّي سنة أَربع وَخمسين وَألف
حسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الأسطواني الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب وَتقدم أَبوهُ أَحْمد فِي حرف الْهمزَة وَكَانَ حسن هَذَا فَقِيها كَامِلا حسن الْحَظ وَفِيه مُرُوءَة وسخاء نَشأ وَحصل ثمَّ صَار كَاتبا بمحكمة الْبَاب ثمَّ بعد مُدَّة ولى رياستها وعلت همته ونفذت كَلمته وَكَانَ قُضَاة الْقُضَاة يعتمدون عَلَيْهِ ويفوضون إِلَيْهِ أُمُورهم وَمَا زَالَ يزْدَاد فِي الترقي حَتَّى ولي نِيَابَة الحكم بِدِمَشْق مرَّتَيْنِ وحظي من دنياة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُون الغائلة وَفِيه لطف طبع وَحسن سلوك وَاتفقَ أَنه زوج أبنا لَهُ وختن آخر فَبَالغ فِي الكلفة بِحَيْثُ اتّفق أهل دمشق على انه لم يتَّفق مَا فعله من التبسط وَالْمُبَالغَة فِي الضيافات لَا حد قبله وَمَات بعد ذَلِك بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ اتّفق لوالده أَنه مَاتَ بعد ضِيَافَة عرس ابْنه حسن الْمَذْكُور بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهَذَا من الإتفاق العجيب وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْخَمِيس ثَالِث عشرى جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحْمَة الله تَعَالَى
الْحسن بن أَحْمد اليمني الْمَعْرُوف بالحيمي تَرْجَمَة الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فِي مَجْمُوع لَهُ فَقَالَ فِي حَقه فائق أقرانه وسابق ميدانه وَأحد الْأَعْيَان الأفاضل الَّذين بداسنا الأقبال فِي سِيمَاهُمْ وأعرب مُبْتَدأ عمرهم عَن منتهاهم وَمِمَّنْ غَدا نجم سعادته سَابِقًا لائحا وَرَاح مسك شذاه عابقا فائحا كَانَ كَمَا أحبر بِهِ تِلْمِيذه الْعَلامَة صَالح بن الْمُهْتَدي المقيلي أما مَا فِي الْفِقْه مشاركاً فِيهِ مُشَاركَة تَامَّة وَكَانَ كَذَلِك فِي غَيره من الْعُلُوم صَاحب تَدْبِير ورياسة وَمَعْرِفَة فِي الْأُمُور المهمة مُعظما عِنْد(2/16)
الدولة مشارا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ أرْسلهُ الإِمَام المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم رَسُولا إِلَى الْحَبَشَة فِي أغراض مهمة قضيت بنظرة على أحسن حَال وَألف رِسَالَة فِي الْحَبَشَة لَطِيفَة وَهُوَ وَالِد القَاضِي مُحَمَّد وَيحيى الآتى ذكرهمَا وَله شعر حسن مِنْهُ قَوْله
(فؤاد على هجر الْأَحِبَّة لَا يقوى ... وَكَيف وَربع العامرية قد أقوى)
(وصبروا وَلَكِن غاله الهجر والنوى ... فَلَا نفع للمهجور وَفِيه وَلَا جدوى)
(ولكنني قد ذبت فِي الْوَصْل بالرجا وَكم ذِي لبانات تمتّع بالرجوى ... )
(فيايها الْخلّ الَّذِي أَنا صبه ... عَلَيْك بآداب الحَدِيث الَّذِي يرْوى)
(ومنّ علينا بالترسل أنني ... رَأَيْت حَدِيث المنّ أحلى من السلوى)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حسن بن أَحْمد الْجلَال اليمني الإِمَام الْعَلامَة الَّذِي بهر بتحقيقه واعترف الْفُضَلَاء بتدقيقه لَهُ المؤلفات الشهيرة والمحاسن السائرة المنيرة وَمن مصنفاته تَكْمِلَة الْكَشْف على الْكَشَّاف وَشرح على التَّهْذِيب والشمسية فِي الْمنطق وَشرح على الْفُصُول فِي الْأُصُول للسَّيِّد إِبْرَاهِيم بن الْوَزير وَشرح على الكافية فِي النَّحْو وَشرح على مُنْتَهى الشؤل لِابْنِ الْحَاجِب وَله مُخْتَصر فِي علم الْأُصُول شَرحه شرحا يدل على فَضله وَاخْتَارَ إختيارات مُخَالفَة لعلماء الْأُصُول وَله بديعية وَشَرحهَا شرحاً لطيفاً وَله شعر طيب النَّفس فِي فنون كَثِيرَة وَمن شعره قصيدته البائية وَله عَلَيْهَا شرح مُبين لمقاصدها وأولها
(الْعلم علم مُحَمَّد وصحابه ... يَا هائماً بقياسه وَكتابه)
(ولآله مِنْهُ الْخُلَاصَة كلهَا ... إِرْثا تنوسخ عَن هدى أصلابه)
(علمُوا بمحكم كل آي كِتَابهمْ ... فجنوا بِهِ الْإِيمَان بالمتشابه)
(مَا ضرّهم وَالْعلم كل فنونه ... لله غنيتهم بآمنا بِهِ)
(بلغ الْوُقُوف على طَرِيقَته بهم ... عين الْيَقِين فأسكروا بشرابه)
(وَرَأَوا حَقِيقَة أَمر آمُرهُم بِهِ ... فتجاهلوا ذلاً لعز جنابه)
(وتجنبوا فِي الدّين دَاء جدالهم ... حذرا لما علموه من أوصابه)
(وتبادر والأعمال حِين تيقنوا ... أَن النفيس أهم مَا يعْنى بِهِ)
(إِن أبهم الْقُرْآن حكما أبهموا ... حذر ابتداعٍ خوّفوا بعقابه)
(وبقوا على حكم الْأُصُول لفقده ... وكذاك مَا يجْرِي على آدابه)(2/17)
(قد كَانَ لَا أَدْرِي لَهُم فِي علمهمْ ... ثُلثَيْهِ أَو كَانَت عَمُود نصابه)
(بل آثروا حب الْكتاب لَهُم على ... ترك السُّؤَال تخوّفاً مِمَّا بِهِ)
(فالمرء يلْزم غير حكم نَفسه ... فَيكون حكما لاصقاً بثيابه)
(قد أبدع الرهبان رَهْبَانِيَّة ... باؤوا بشؤم بديعها ومصابه)
(وَأَبُو حنيفَة إِذْ رأى الْإِيجَاب فِي ... نفل فباشر من هُنَا أفتى بِهِ)
(تالله مَا عجزوا وَلَا من دونهم ... أَن يكتبوا إِلَّا لكتب خطابه)
(أَو يدعوا نقض النُّصُوص ليحبطوا ... فِي كل وسواس أَتَى بعجابه)
(فيفرّقوا دينا لأمة أحمدٍ ... كمذاهبٍ أشفت على إذهابه)
وَمِنْهَا
(وَعَن الحَدِيث نهى الْعَتِيق وَحمله ... كتبا محرّمها حذار كذابه)
(وَعَن ابْن مسعودٍ مقَالَة مقسط ... وَيطول بسط القَوْل فِي أطنابه)
(بِالِاجْتِهَادِ قضوا وَلَكِن رخصَة ... لمكلف يدريه عَن أَسبَابه)
وَهِي طَوِيلَة يَقُول فِيهَا
(يَا رَاكِبًا يهوى لقبر محمدٍ ... عرّج بِهِ متمسكاً بترابه)
(واقرَ السلامَ عَلَيْهِ من صبٍّ بِهِ ... يبلغ إِلَيْهِ الْقُدس فِي محرابه)
(وَقل ابْنك الْحسن الْجلَال مجانباً ... من قد غلا فِي الدّين من تلعابه)
(لَا عَاجِزا عَن مثل أَقْوَال الورى ... أَو خَائفًا فِي علمهمْ لصعابه)
(فالمشكلات شَوَاهِد لي أنني ... أشرقت كل مدقق بلعابه)
(لَوْلَا محبَّة قدوتي بِمُحَمد ... زاحمت رسطاليس فِي أبوابه)
(يَا سيد الرُّسُل الْكِرَام دُعَاء من ... أودى بِهِ الهجران من أحبابه)
(وَلَك الشَّفَاعَة والكرامة عِنْده ... فاشفع بجاهك مَا لَهُ منجا بِهِ)
(سل لي وراثة كنز علمك فالفتى ... يَبْغِي نَفِيس الْكَنْز فِي أعقابه)
(وَقد انْفَرَدت عَن الرِّجَال ومؤنسي ... قرب إِلَيْك أَعُود حلْس جنابه)
وَله غير ذَلِك من الْآثَار المرغوبة فِي بِلَادهمْ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من أَفْرَاد الْيمن وفور فضل وأدب وَكَثْرَة تأليف وتصنيف وَكَانَت وَفَاته فِي منزله بالخراف من أَعمال صنعاء سنة تسع وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حسن بن أَحْمد الرُّومِي الْمَشْهُور بأمي سِنَان زَاده القسطنطيني الخلوتي الشَّيْخ الْبركَة المعتقد كَانَ فَرد وقته فِي المعارف الإلهية وَلأَهل الرّوم فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم(2/18)
وَهُوَ مَحَله أَخْبرنِي بعض مر يَدَيْهِ أَنه ولد بقسطنطينية وَنَشَأ لَا يَأْكُل إِلَّا من كسب يَمِينه وَكَانَ يصنع الصابون المطيب ويبيعه ويتقوت بِثمنِهِ وَلم يتَّفق لَهُ أَنه تغوط خَارج دَاره وَلم ينم مُدَّة عمره إِلَّا هنيئة بَين صَلَاتي الْإِشْرَاق والضخى ويحكى أَن والدته كَانَت تَقول لم أرضعه إِلَّا على طَهَارَة كَامِلَة وَظَهَرت لَهُ خوارق ومكاشفات مِنْهَا أَن شخصا يعرف بشيخ زَاده وَكَانَ حسن الصَّوْت جدا عَارِفًا بالموسيقى والأغاني والضروب وَالنَّاس يتهافتون على سَماع صَوته وأغانيه فَأَرَادَ أَخذ الطَّرِيق عَن الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة فَشرط عَلَيْهِ أَن يَدْعُو الله بِأَن ينْزع مِنْهُ حسن الصَّوْت حَتَّى لَا يسْتَعْمل الْغناء فاستمر خمس عشرَة سنة بعد ذَلِك الدُّعَاء لَا يخرج لَهُ صَوت ثمَّ بعد أَن بلغ رشده دَعَا الله لَهُ فَانْطَلق صَوته وَحكى لَهُ مريده الْمَذْكُور وَلَا أَشك فِي صدقه أَنه فِي ابْتِدَاء تلمذته لَهُ كَانَ تولع بِغُلَام وَأَرَادَ أَن يعْمل بِهِ الْفَاحِشَة فَلَمَّا أَرَادَ الْمُبَاشرَة رَأْي الشَّيْخ وَاقِفًا أَمَامه وَهُوَ يوبخه ويلومه فأقلع وَلم يعد بعْدهَا إِلَى شَيْء من ذَلِك وَكَانَ لَهُ حَلقَة ذكر بتكيته بمحلة كور كجي باشي بِالْقربِ من طوب قبوسي وَكَانَ قَلِيل الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ وَلما توفّي الشَّيْخ مَحْمُود الْمَعْرُوف بغفوري خَليفَة الشَّيْخ مَحْمُود الأسكدراي وَكَانَ واعظا بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد فَوجه إِلَيْهِ الْوَعْظ مَكَانَهُ واشتهر أمره بعد ذَلِك وانكبت عَلَيْهِ النَّاس ثمَّ استدعاه السُّلْطَان مُحَمَّد سُلْطَان زَمَاننَا إِلَى أدرنة ليجتمع بِهِ فَتوجه إِلَيْهِ فَلَمَّا وَقع بَصَره عَلَيْهِ طلب السُّلْطَان الرُّجُوع إِلَى قسطنطينية وَكَانَ النَّاس قد أيسوا من ذكره إِيَّاهَا فضلا عَن التَّوَجُّه إِلَيْهَا فعدد ذَلِك من كرامات الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة وشاع أَنه لما خرج من قسطنطينية تفوه بِأَنَّهُ يجلب السُّلْطَان إِلَيْهَا وَأَخْبرنِي بعض الإخوان أَنه لما توجه السُّلْطَان إِلَى أدرنة فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف كَانَ ذَلِك بوفق صدر من رجل يُقَال لَهُ صاجلوشج مُحَمَّد وَأَن أهل أدرنة كَانُوا شكوا إِلَيْهِ حَالهم وَمَا هم فِيهِ من ضنك الْمَعيشَة وصنع لَهُم وفقا لمجيء السُّلْطَان ثمَّ قَالَ حكم هَذَا الوفق يَمْتَد إِلَى ثَمَان عشرَة سنة ثمَّ يَأْتِي رجل اسْمه حسن فَيكون سَببا لأبطاله وَأقَام بأدرنة ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ اسْتَأْذن فِي الرُّجُوع وَخرج وَلما دَخَلتهَا فِي ذَلِك الْأَثْنَاء رَأَيْته وَهُوَ يعظ النَّاس فِي جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد وَكَانَ حُلْو الْعبارَة متواضعا جدا أشاخص الْبَصَر إِلَى فَوق حَتَّى لَا يرى أحدا وَكَانَ هَذَا دأبه بِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ بَقِيَّة السّلف وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا قل أَن يَقع مثلهَا(2/19)
وَدفن بتكمينة ونسبته لامي سِنَان من جِهَة والدته وأظن أَنه قيل لي أَنه جدها لأَبِيهَا وَكَانَ أمى سِنَان الْمَذْكُور من صُدُور ومشايخ دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان وَقد ذكره ابْن نوعى فِي ذيل الشقائق وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر أَن لَهُ من الرسائل رِسَالَة فِي ذكر سلسلة مَشَايِخ السَّادة الخلوتية ورسالة فِي الدوران وَالسَّمَاع ذكر فِي تِلْكَ الرسَالَة أَن وَالِده حكى عَن أَبِيه الشَّيْخ الْأَجَل يَعْقُوب أَن الشيح الْأَجَل سنبل سِنَان كَانَ من أهل السماع وَكَانَ إِذا دخل إِلَى السماع فِي الْجَامِع ترْتَفع قبَّة الْجَامِع إِلَى الْهَوَاء حَتَّى يرى دوران الْمَلَائِكَة وَكَانَ فِي زَمَنه الْمولى عرب وَهُوَ من كبار عُلَمَاء الظَّاهِر فَأطَال لِسَانه فِي حَقه وَأكْثر الوقيعة بِهِ فافترق الْعلمَاء أذذاك فرْقَتَيْن لَكِن الْفرْقَة الْكَثِيرَة كَانَت فِي طرف الشَّيْخ سنبل سِنَان فَاجْتمعُوا يَوْمًا فِي جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد ودعوا الشَّيْخ إِلَيْهِم فَحَضَرَ هُوَ واتباعه وَتقدم حَتَّى جلس فِي الْمِحْرَاب وَنظر عَن جانبيه ثمَّ قَالَ مَا أحسن جمعتكم مَا كَانَ الذاعي إِلَيْهَا فَأَجَابَهُ الْمولى صارى كرز وَكَانَ قَاضِي قسطنطينية أذذاك وَفِيه غلاظة أَن أتباعك يذكرُونَ الله بالدوران وَالسَّمَاع فَمَا دَلِيل جَوَاز ذَلِك يبنوه لنا وَإِلَّا فامتنعوا من ذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ إِذا لم يكن الْمَرْء صَاحب اخْتِيَار مَاذَا يحكم عَلَيْهِ شرعا فَقَالَ القَاضِي أتزعم أَن هَؤُلَاءِ يسلبون الأختيار إِذا ذكرُوا فَقَالَ فيهم من هُوَ كَذَلِك فَقَالَ القَاضِي إِذا فرضناهم كَذَلِك فَمن سلب إختياره أتراه يسلب عقله أَو يجذب فَقَط فَقَالَ الشَّيْخ هَؤُلَاءِ عقلهم كَامِل فَقَالَ القَاضِي يَا الله الْعجب يسلب إختيارهم وتبعتى عُقُولهمْ هَذَا الْكَلَام من أَي مقولة هُوَ وفقال الشَّيْخ هلا أخذتك الْحمى قَالَ بلَى فَقَالَ لأي شَيْء كنت ترتعد أَتَرَى عقلك لم يكن فِي رَأسك فسلب الِاخْتِيَار لَا يُوجب زَوَال الْعقل فتفطن إِن كنت عَاقِلا فأفحم القَاضِي ثمَّ الْتفت إِلَى الْجَمَاعَة وخاطب كلاًّ بِمَا أبهته فَلم يَجدوا بعْدهَا جَوَابا وَختم الْمجْلس بقوله هَذِه أغراض نفسانية لَا مُحَصل لَهَا ثمَّ صعد الْمِنْبَر وَأبْدى فِي الْحَقَائِق أَشْيَاء تحير الأذهان وَوَقع اعْتِقَاده فِي صُدُور غَالب الْقَوْم وَأخذُوا عَنهُ الطَّرِيق فِي ذَلِك الْوَقْت وأذعنوا لَهُ وَمِمَّا يرْوى من مناقبه أَنه كَانَ وَقع بَينه وَبَين الْمولى أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ صَاحب التَّفْسِير فِي مسئلة فحنق عَلَيْهِ الْمولى أَبُو السُّعُود وَحلف أَنه إِن مَاتَ الشَّيْخ سِنَان قبله لَا يحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ خفض عَلَيْك لَا يُصَلِّي عليّ إِمَامًا إِلَّا أَنْت وَلَيْسَ لَك محيد عَن ذَلِك فاتفق أَنه يَوْم موت الشَّيْخ سِنَان توفيت ابْنة السُّلْطَان سُلَيْمَان وأحضرت الْجِنَازَة فِي الْجَامِع ودعي أَبُو السُّعُود(2/20)
للصَّلَاة عَلَيْهِمَا وَكَانَ لم يبلغهُ وَفَاة الشَّيْخ فَقدم للصَّلَاة على الجنازتين وَلما أتم الصَّلَاة سَأَلَ فَقيل لَهُ هَذَا الشَّيْخ سنبل سِنَان فَكفر عَن يَمِينه وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا طَرَأَ ذكره يعظمه وَيذكر أَحْوَاله والنما ذكرته وَلَيْسَ على شَرط كتابي ليعلم نِسْبَة الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة وَلما فِي ذكر هَؤُلَاءِ السَّادة من الْفَائِدَة التَّامَّة رَحِمهم الله تَعَالَى
الشَّيْخ حسن بن زَاهِر الْمَقْدِسِي العاروري الْأنْصَارِيّ الشَّيْخ الصَّالح الْجواد المربي كَانَ من خِيَار النَّاس وَله صَلَاح وانعكاف على الْعِبَادَة وَلأَهل دائرته فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من عباد الله الصَّالِحين وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْخَمِيس بعد الظّهْر سادس عشر صفر سنة تسع وَسبعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الْمَذْكُور بعد الْعَصْر وَدفن بمدفنه الَّذِي عمره دَاخل جَامعه الَّذِي بناه بقرية السيلة من أَعمال اللجون وَحضر جنَازَته غَالب أهالي الْقرى الَّتِي حولهَا وَجَمَاعَة من أهل جينين والعاروري نِسْبَة إِلَى عارورا بَلْدَة بضواحي بَيت الْمُقَدّس وَسِيلَة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة قَرْيَة من عمل اللجون وَفِي نَاحيَة نابلس سيلة أُخْرَى غير هَذِه وَالله أعلم
حسن بن زين الدّين الشَّهِيد العاملي الشهير بالشامي نزيل مصر من حَسَنَات الزَّمَان وأفراده ذكره الخفاجي فِي ريحانته وَقَالَ فِي وَصفه مَا جد صِيغ من مَعْدن السماح وابتسمت فِي جَبينه غرَّة الصَّباح إِلَى آخر مَا قَالَه وَذكر من شعر قَوْله
(مصر تفوق على الْبِلَاد بحسنها ... وبنيلها الزاهي ورقة ناسها)
(من كَانَ يُنكر فالتحكم بَيْننَا ... فِي رَوْضَة وَالْجمع فِي مقياسها)
وَهُوَ يقرب من قَول الْقَائِل
(أَن مصرا لَا طيب الأَرْض عِنْدِي ... لَيْسَ فِي حسنها البديع قِيَاس)
(فأذاقتها بِأَرْض سوااها ... كَانَ بيني وَبَيْنك المقياس)
وَذكره ابْن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه شيخ الْمَشَايِخ الجلة وَرَئِيس الْمَذْهَب وَالْملَّة الْوَاضِح الطَّرِيق وَالسّنَن الموضح الْفُرُوض وَالسّنَن يم الْعلم الَّذِي يُفِيد وَيفِيض وخضم الْفضل الَّذِي لَا ينضب وَلَا يغيض الْمُحَقق الَّذِي لَا يراع لَهُ يراع والمدقق الَّذِي راق فَضله وراع المتفنن فِي جَمِيع الْفُنُون والمفتخر بِهِ الْآبَاء والبنون قَامَ مقَام وَالِده فِي تمهيد قَوَاعِد الشَّرَائِع وَشرح الصُّدُور بتصنيفه الرَّائِق وتأليفه الرائع فنشر للفضائل حلا مطرزة الأكمام واماط عَن مباسم أزهار الْعُلُوم لثام(2/21)
الأكمام وشنف الإسماع بفرائد الْفَوَائِد وَعَاد على الطلاب بالصلات والعوائد وَأما الْأَدَب فَهُوَ روضه الأريض وَمَالك زِمَام السجع مِنْهُ والقريض والناظم لقلائده وعقوده والمميز عروضه من نقوده وسأثبت مِنْهُ مَا يزدهيك احسانه وتصيبك خرائده وحسانه وَمن مصنفاته كتاب منتقى الجمان فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح والحسان وَكتاب المعالم والأثني عشرِيَّة ومنسك الْحَج وَغير ذَلِك وَمن شعره قَوْله
(طول اغترابي بفرط الشوق وأضناني ... والبين فِي غَمَرَات الوجد ألقاني)
(يَا بارقا من نواحي الْحَيّ عارضني ... إِلَيْك عني فقد هيجت أشجاني)
(فَمَا رَأَيْتُك فِي الْآفَاق مُعْتَرضًا ... أَلا وذكرتني أَهلِي وأوطاني)
(وَلَا سَمِعت شجا الورقاء نائحة ... فِي الأيك أَلا وشبت مِنْهُ نيراني)
(كم لَيْلَة من ليَالِي الْبَين بت بهَا ... أرعى النُّجُوم بطرفي وَهِي ترعاني)
(كَانَ أَيدي خطوب الدَّهْر مُنْذُ نأوا ... عَن ناظري كحلت بالسهد أجفاني)
(وَيَا نسيما سرى من حيهم سحرًا ... فِي طيه نشر ذَاك الرند والبان)
(أَحييت مَيتا بِأَرْض الشَّام مهجته ... وَفِي الْعرَاق لَهُ تخييل جثمان)
(وَكم حييت وَكم قدمت من شجن ... مَا ذَاك أول إحْيَاء وَلَا الثَّانِي)
(شابت نواصي من وجدي فوا أسفي ... على الشَّبَاب فشيبي قبل أباني)
(يالائمى كم بِهَذَا اللوم تزعجني ... ) دَعْنِي فلومك قد وَالله أغراني ...
(لَا يسكن الوجد مَا دَامَ الشَّبَاب وَلَا ... تصفو المشارب لي إِلَّا بلبنان)
(فِي ربع أنسى الَّذِي حل الشَّبَاب بِهِ ... تما ئمى وَبِه صحبي وخلاني)
(كم قد عهِدت بهاتيك الْمعَاهد من ... أَخَوان صدق لعمري أَي إخْوَان)
(وَكم تقضت لنا بالحي آونة ... على المسرة فِي كرم وبستان)
(لم أدر حَال النَّوَى حَتَّى علقت بِهِ ... فغمرتني من وقوعي قبل عرفاني)
(حتام دهري على ذَا الْهون تمسكني ... هلا جنحت لتسريح بِإِحْسَان)
(أَقْسَمت لَوْلَا رَجَاء الْقرب يسعفني ... فَكلما مت بالأشواق أحياني)
(لكدت أَقْْضِي بهَا نحبي وَلَا عجب ... كم اهلك الوجد من شيب وشبان)
(يَا جيرة الْحَيّ قلبِي بعد بعد كم ... فِي حيرة بَين أوصاب وأحزان)
(يمْضِي الزَّمَان عَلَيْهِ وَهُوَ مُلْتَزم ... بحبكم لم يدنسه بسلوان)
(بَاقٍ على الْعَهْد رَاع للذمام فَمَا ... يشوب عهدكم يَوْمًا بنيسان)(2/22)
(فَإِن براني سقامي أَو نأى رشدي ... فلاعج الشوق أوهاني وألهاني)
(وَإِن بَكت مقلتي بعد الْفِرَاق دَمًا ... فَمن تذكركم يَا خير جيران)
وَقَوله وَهِي من محَاسِن شعره
(فُؤَادِي ذِي ظاعن أثر النياق ... وجسمي قاطن أَرض الْعرَاق)
(وَمن عجب الزَّمَان حَيَاة شخص ... ترحل بعضه وَالْبَعْض بَاقِي)
(وَحل السقم فِي بدني وَأمسى ... لَهُ ليل النَّوَى ليل المحاق)
(وصبري راحل عَمَّا قَلِيل ... لشدَّة لوعتي ولظى اشتياقي)
(وفرط الشوق أصبح بِي خليعا ... وَلما يتوفى فِي الدُّنْيَا فراقي)
(وتعبث ناره فِي الرّوح حينا ... فيوشك أَن تبلغها التراقي)
(وأظماني النَّوَى وأراق دمعي ... فَلَا أروى وَلَا دمعي براقي)
(وقيدني على حَال شَدِيد فَمَا حرز الرقي مِنْهُ براقي ... )
(أَبى الله الْمُهَيْمِن أَن تراني ... عُيُون الْخلق محلول الوثاق)
(أَبيت مدى الزَّمَان بِنَار وجدي ... على جمر يزِيد بِهِ احتراقي)
(وَمَا عَيْش امْرِئ فِي بَحر غم ... يضاهي كربه كرب السِّيَاق)
(يود من الزَّمَان صفاء يَوْم ... يلوذ بظله مِمَّا يلاقي)
(سقتني نائبات الدَّهْر كأسا مريرا من أَبَارِيق الْفِرَاق ... )
(وَلم يخْطر ببالي قبل هَذَا لفرط الْجَهْل إِن الدَّهْر ساقي ... )
(وفاض الكأس بعد الْبَين حَتَّى ... لعمري قد جرت مِنْهُ سواقي)
(فَلَيْسَ لداء مَا ألْقى دَوَاء ... يؤمل نَفعه إِلَّا التلاقي)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة أَربع وَخمسين وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا فَإِنِّي رَأَيْت فِي تَارِيخ الشلي إِن وَالِده مَاتَ فِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك اثْنَتَيْ عشرَة سنة فَيكون مولده على هَذَا فِي سنة أَربع وَخمسين كَمَا ذكرته وَتُوفِّي فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَالله تَعَالَى أعلم
السَّيِّد حسن بن شدقم الْمدنِي الْحُسَيْنِي الْفَاضِل الأديب الْكَامِل ذكره ابْن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي حَقه وَاحِد السَّادة وأوحد الساسة وَثَانِي الوسادة فِي دست الرياسة الْقدر عَليّ والحسيني والخلق كالأسم حسن وَالنّسب حسيني جمع إِلَى شرف الْعلم وَعز الجاه ونال من خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مرتجاه(2/23)
وَكَانَ قد دخل الديار الْهِنْدِيَّة فِي عنفوان شبابه فصدره الشّرف فِي مجْلِس أَهله وأربابه وَمَا زَالَ يورق فِي رياض الإقبال عوده حَتَّى أسفرت فِي سَمَاء الأسعاد سعوده فأملكه أحد ملوكه ابْنَته وَرفع فِي مَرَاتِب العلياء مرتبته فاجتلى عرائس آماله فِي منصات تيلها واستطلع أقمار سعده فِي نواشي لَيْلهَا واقتعد الرُّتْبَة القعا وَأصْبح وَهُوَ رَئِيس الرؤسا وَكَانَ من أحسن مَا قدر من عزمه وَدبره وحرره فِي صفحات غرسه وحبره إرْسَاله فِي كل عَام إِلَى بَلْدَة جملَة وافرة من طريف مَاله وتلده فاصفيت لَهُ بِهِ الحدائق الزاهية وشيدت لَهُ الْقُصُور الْعَالِيَة وَلما هلك الْملك أَبُو زوجه وَهوى قرحياته من أوجه انْقَلب بأَهْله إِلَى وَطنه مَسْرُورا وتقلت فِي تِلْكَ الحدائق والقصور بهجة وسرورا أَلا أَن الرياسة الَّتِي انتشى فِي تِلْكَ الرياض بكؤسها والمكانة الَّتِي تميز بعلوها بَين رئيسها ومرؤسها لم يجد عَنْهُمَا فِي وَطنه خلفا وَلم ترض أنفته أَن يرى فِي وَجه جلالته كلفا فأنثنى عاطفا عنانه وثانيه وَدخل الديار الْهِنْدِيَّة مرّة ثَانِيَة فَعَاد إِلَى أبهة عَظمته الفاخرة وَبهَا انْتقل من دَار الدُّنْيَا إِلَى دَار الْآخِرَة وَله شعر بديع فائق كَأَنَّمَا اقتطفه من أزهار تِلْكَ الحدائق فَمِنْهُ قَوْله حِين أنف من مقَامه فِي وَطنه بَين أَهله وأقوامه بِعَدَد عوده من الديار الْهِنْدِيَّة والإنتقال من ظلال عزه الندية
(وَلَيْسَ غَرِيبا من نأى عَن دياره ... إِذا كَانَ ذَا مَال وينسب للفضل)
د
(وَأَنِّي غَرِيب بَين سكان طيبَة ... وَإِن كنت ذَا مَال وَعلم وَفِي أَهلِي)
وَهُوَ من قَول البستي رَحمَه الله
(وَإِنِّي غَرِيب بَين بست وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا جيرتي وَبهَا أَهلِي)
(وَلَيْسَ ذهَاب الرّوح يَوْمًا منية ... وَلَكِن ذهَاب الرّوح فِي عدم الشكل)
(وَمَا غربَة الْإِنْسَان فِي شقة النَّوَى ... وَلكنهَا وَالله فِي عدم الشكل)
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(لَا بدّ للْإنْسَان من صَاحب ... يُبْدِي لَهُ الْمكنون من سربّه)
(فاصحب كريم الأَصْل ذاعفة ... تأمن وَإِن عاداك من شرّه)
وَله غَيْرك ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي شَوَّال سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف رَحْمَة الله تَعَالَى
حسن باشا بن عبد الله الْأمين الْكَبِير الْمَعْرُوف بشورة حسن أحد صُدُور دمشق وأعيانها الَّذِي كَانَ يرجع إِلَيْهِم فِي الْمُهِمَّات ويعول عَلَيْهِم فِي الْأُمُور وَكَانَ(2/24)
كَامِل الْعقل حسن التَّدْبِير صافي المزاح وَكَانَ يعْتَمد الْعلمَاء والصلحاء ويتردد إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم فيكرمهم ويعظمهم وتقلبت بهَا الدُّنْيَا بَين نعيم وبؤس حَتَّى اسْتَقر فِي مركزه وَبلغ من الْعِزّ والجاه مبلغا لَيْسَ وَرَاءه غَايَة واحتوى على أَمْلَاك وعقارات كَثِيرَة وَعمر الخان الْمَعْرُوف بسوق جقمق وَوَقفه مَعَ جملَة من عقاراته على ذُريَّته وَكَانَ فِي مبدأ أمره من آحَاد جند الشَّام ثمَّ ترقى حَتَّى صَار كتخد أهم وَضرب وَاحِدًا مِنْهُم حَتَّى هلك فَقَامُوا عَلَيْهِ وَأَجْمعُوا على قَتله فخلص مِنْهُم وصولحوا بعزله فَاخْتَارَ فريقة التيمار حَتَّى صَار جاويش السُّلْطَان وسافر إِلَى قسطنطينية مرَارًا وَكَانَ إِذا سَافر إِلَيْهَا استنهضه النَّاس فِي قَضَاء مهامهم فيقضيها على أحسن وَجه ويسامح غالبهم بِمَا يذهب عَلَيْهَا من الخرج وَيَأْتِي كل نوبَة بحسنة إِلَى بعض الْمُسْتَحقّين من الْعلمَاء والصلحاء إِمَّا وَظِيفَة وَإِمَّا صَدَقَة وَكَانَ يحنو على الْأَيْتَام وحضن كثيرا مِنْهُم مِمَّن لَا ولي لَهُ ونمى أَمْوَالهم وَكَانَ منتميا إِلَى الْوَزير الْأَعْظَم سياغوش باشا فَدفع إِلَيْهِ مَالا وَأمره أَن يَبْنِي لَهُ مَسْجِدا بِدِمَشْق ويرتب فِيهِ من يقوم بشعائره فَبنى الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بالسياغوشية بِالْقربِ من دَاره بحارة القصاعين دَاخل بَاب الْجَابِيَة وَأحسن بناءها وَكَذَلِكَ فعل مَعَه الْوَزير الْأَعْظَم مُرَاد باشا فعمر لَهُ سوق المرادية بِبَاب الْبَرِيد والخان وسوق الذِّرَاع وَجعله وَقفا على الْحَرَمَيْنِ وَولى وقف البيمارستان النوري فَأَقَامَ شعائره بعد أَن كَانَت اضمحلت وَعمر أوقافه وأتى فِيهِ من حسن التنمية بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ فاستدعاه الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بكوجك قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق لولاية البيمارستان القيمرى فَأبى حَتَّى أبرم عَلَيْهِ هُوَ وَرَئِيس الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق الشَّيْخ شرف الدّين لاضمحلال حَاله ثمَّ قبله على شريطة أَن لَا يتَنَاوَل فِيهِ رَئِيس الْأَطِبَّاء بعض أَشْيَاء عينهَا وَلَا يخالطه من أُمُوره بسوي قبض الْقدر الْفُلَانِيّ من علوفته فَأَنَّهُ بِسَبَب تجاوزه وَتجَاوز أَمْثَاله خرب الْوَقْف فَقبل القَاضِي والرئيس شَرطه وعمره ونمى وَقفه وَولى تَوْلِيَة الْجَامِع الْأمَوِي بعد أَن كَانَ وَقفه يذهب فبذل جهده فِي ضَبطه وتنميته وَقد تقدم طرف من خبر تَوليته فِي تَرْجَمَة إِسْمَاعِيل بن عبد الْوَهَّاب العجمي فَارْجِع إِلَيْهِ هُنَاكَ وَعمر حمام البزورية وقف دَار الحَدِيث النورية بِأَمْر الْوَزير أَحْمد باشا الْحَافِظ وَصرف من مَاله مبلغا واستوفاه من أجوره ثمَّ سلمه لمتوليه بعد الِاسْتِيفَاء وترقى فِي المناصب بعد ذَلِك حَتَّى تقاعد عَن حُكُومَة قرمان وَكَانَ أَكثر قُضَاة الشَّام إِذا ولوا دمشق فَوضُوا إِلَيْهِ أُمُورهم حَتَّى يحضروا وَولي(2/25)
مُحَافظَة الشَّام فَقتل طَائِفَة من المناحيس وَلم تطل مُدَّة محافظته وَصَارَ مُسْتَوفى دمشق فاجتهد فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة وشدد على كتاب الخزينة والأمناء فاضمر بعض الْكتاب لَهُ السوء فَلَمَّا عزل أخرجُوا عَلَيْهِ أَشْيَاء انتقدوها عَلَيْهِ ووشوا بِهِ إِلَى الْوَزير الْحَافِظ الْمَذْكُور فكلفه مَا خرج عَلَيْهِ من المَال فَقبض مِنْهُ الْبَعْض وَسكت عَن الْبَعْض لما رأى من انقياده إِلَيْهِ وَلما قدم مُحَمَّد باشا السلحدار حَاكما بِالشَّام انتقد عَلَيْهِ مَا سكت عَنهُ الْحَافِظ وَعرض فِيهِ إِلَى بَاب السلطنة فَجَاءَت فِيهِ مناشير سلطانية وحوالة وَأخذ مِنْهُ مَا بَقِي عَلَيْهِ وَكَانَت دخلت عَلَيْهِ أَوْهَام من الْوَزير الْأَعْظَم نصوح باشا وَغَيره فلحقته الْأَمْرَاض والأسقام وَآل أمره إِلَى أَن يدافيه الفالح فأسرع فِي بعض أَعْضَائِهِ ثمَّ لما قدم مُحَمَّد باشا جوقدار السُّلْطَان أَحْمد قدم إِلَيْهِ سرادقاً عَظِيما وخدمة بِخِدْمَة عَظِيمَة فَالْتَفت إِلَيْهِ وقربه من مَجْلِسه وَلم تطل مدَّته بعد ذَلِك حَتَّى مَاتَ فِي زَمَنه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من صُدُور أَعْيَان عصره وَكَانَ لَهُ محَاسِن ومساوئ إِلَّا أَن محاسنه كَانَت أَكثر وتراكمت عَلَيْهِ المحن فِي آخر أمره إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت ثامن عشر ربيع الثَّانِي سنة سبع وَعشْرين وَألف وَقَالَ النَّجْم الْغَزِّي يرثيه وَذكرهَا فِي ذيله
(عجبت والدهر أعيتني أعاجيبه ... من عجمة لم تبن عَنْهَا تعاريبه)
(أما رَأَيْت رحاه وَهِي دَائِرَة ... فِي النَّاس قد لعبت فيهم دواليبه)
(وَالْمَوْت مَا زَالَ أخاذ الَّذِي نفس ... لَكِن قد اخْتلفت فيهم أساليبه)
(مَا خَاصم الْخصم إِلَّا وَهُوَ خاصمه ... غلب الرِّجَال وَإِن جلت مغاليبه)
(أما نظرت إِلَى شوربزهم حسن ... وَكَانَ كالسبع أدهتهم أراعيبه)
(لَهُ محَاسِن لَا تحصى لكثرتها ... فطالما هطلت خيرا شآبيبه)
(يحب تعمير أوقاف الْمَسَاجِد لَا ... يألو وَقد حسنت فِيهَا تراتيبه)
(وَكَانَ يحسن للأيتام يحضنهم ... تجْرِي على مستوى فيهم أنابيبه)
(لكنه كَانَ ذَا جاه وَذَا جرد ... وجرأة عظمت مِنْهَا تراهيبه)
(عنت دمشق وَمن فِيهَا لَهُ وَغدا ... تجرهم غير آبَاء مجاذبية)
(وَرُبمَا مس مِنْهُ الظُّلم بَعضهم ... وعاث فِي النَّاس تؤذيهم يعاسيبه)
(يُبَادر النَّاس بالترهاب يوهمهم ... مِمَّا يبلغهُ عَنْهُم دياديبه)
(أخلت منيته مِنْهُ الديار فقد ... أمست خلاء وتبكيه شناحيبه)(2/26)
(من بعد مَا أفلجت مِنْهُ مفاصله ... وَمَا نفت عَنهُ أسقا مَا تقاربيه)
(كَانَت تسوّم فِي عرض مراكبه ... فَصَارَ للْأَرْض وانفكت تراكيبه)
(فليعتبر كل جَبَّار بميتته ... مَا خيله خلدت كلا وَلَا نيبه)
(يَا طالما أبْصر الْآيَات ظَاهِرَة وَالْقلب مَا فعلت فِيهِ تقاليبه ... )
(وَمَا اعْتبرنَا بِمَا التاطت وَمَا نشبت ... فِي ذَا الزَّمَان باهليه مخاليبه)
(نجرّب الدَّهْر تارات فتعرف مَا ... يجر بِهِ لم تلونا عَنهُ تجاريبه)
(طُوبَى لمن لم يكن بالدهر مخدعاً وَلم تمله عَن التَّقْوَى محاببه ... )
(بِالْخَيرِ يذكر أَو بالشرّ كل فَتى ... قضى فَلَا ليثه يخْشَى وَلَا ذيبه)
حسن بن عُثْمَان الرُّومِي الْحَنَفِيّ نزيل دمشق الْمَعْرُوف باوزون حسن أَي الطَّوِيل قدم فِي شيبته إِلَى قسطنطينية وخدم شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا بن بيرام مفتي التخت العثماني ولازم مِنْهُ ثمَّ لما توفّي الْمُفْتِي الْمَذْكُور بَقِي هُوَ فِي خدمَة ابْن استاذه شيخ الْإِسْلَام يحيى وَورد بخدمته إِلَى حلب ودمشق والقاهرة لما ولي قضاءها وَلما عزل عَن مصر وَدخل دمشق رَاجعا مِنْهَا كَانَ مَعَه أَيْضا فاستقر بِدِمَشْق وَتزَوج واقتنى دَار تجاه دَار الحَدِيث الأشرفية بِالْقربِ من بَاب القلعة قلت وَهُوَ الْآن بيد بني الْأَصْفَر ودرس بِالْمَدْرَسَةِ القصاعية الْحَنَفِيَّة والدرويشية وَولى تَوْلِيَة الْجَامِع الْأمَوِي ونظارته وتولية الدرويشية وَكَانَ الموَالِي قُضَاة الشَّام يرسلون يستنبيونه فِي قَضَائهَا مُدَّة إِلَى حِين وصولهم وَكَذَلِكَ قُضَاة العاكر يفوضون إِلَيْهِ الْقِسْمَة العسكرية وَصَارَ أحد كبراء دمشق وانعقدت عَلَيْهِ صدارتها وَكَانَ مهابا موقرا مُعظما سالكا مَسْلَك السّلف مُخْتَصرا فِي أُمُوره وَله عفة ونزاهة ومدحه الأديب ابراهيم الأكرمي الصَّالِحِي الْمُقدم ذكره بقصيده مطْلعهَا
(مَا راقه بعد رامة وَطن ... وَكَيف وَهِي الغرام والشجن)
وَهِي مَذْكُورَة فِي ديوَان الأكرمي فَلَا نطيل بذكرها وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
الْمولى حسن بن عَليّ بن أَمر الله وَقيل اسرافيل القسطنطيني المولد الْمَعْرُوف بِابْن الحنائي صَاحب التَّذْكِرَة الَّتِي ألفها فِي شعراء الرّوم وَهِي لَهُم كدمية الْقصر للباخرزي تحتوي على لطائف المنثور ومنتخبات الْأَشْعَار وَذكر فِيهَا مُعظم شعرائهم من ابْتِدَاء الدولة العثمانية سلاطين زَمَاننَا إِلَى زَمَانه وَألف حَاشِيَة على(2/27)
الدُّرَر وَالْغرر مَقْبُولَة وَله غَيرهَا من التصانيف المقبولة بِلِسَان التركي وترسلات شائعة متداولة وَكَانَ جيد الْعبارَة لطيف الطَّبْع صَاحب نَوَادِر وتحف وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أحد أَفْرَاد الدَّهْر ومحاسن الْعَصْر ولد سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ وَالِده إِذْ ذَاك ببروسة مدرس مدرسة حَمْزَة بيك وَأخذ عَن نَاظر زَاده مدرس عَليّ باشا الْجَدِيد وقاضي زَاده الْمَعْزُول عَن قَضَاء حلب ثمَّ وصل إِلَى مقَام شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ وَصَارَ من طلبته المختصين بِهِ وَحصل ودأب ولازم من الْمولى الْمَذْكُور ثمَّ درس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولى مِنْهَا قَضَاء حلب فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ ولى قَضَاء الْقَاهِرَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَألف ثمَّ ولى قَضَاء أدرنة فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع بعد الْألف ثمَّ ولى مصر ثَانِيًا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَألف ثمَّ قَضَاء بروسة فِي شَوَّال سنة سبع وَألف ثمَّ عزل وَعين لَهُ قَضَاء أيدنجك على وَجه التقاعد ثمَّ أعْطى قَضَاء كليبولي وَنقل مِنْهَا إِلَى قَضَاء أَيُّوب وَفِي صفر سنة إِحْدَى عشرَة وَألف أعْطى قَضَاء اسكى زغرة على طَرِيق التَّأْبِيد فاستولت عَلَيْهِ بهَا أمراض بلغمية منعته من الْحَرَكَة الأنادرا فَطلب قَضَاء رشيد من نواحي مصر فأعطيها بِقَيْد الْحَيَاة وَتوجه إِلَيْهَا وَتُوفِّي بهَا هَكَذَا ذكر ابْن نوعى فِي تَرْجَمته وَرَأَيْت فِي بعض أوراق بِخَط إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف برامي الدِّمَشْقِي أَنه بعد عَزله من أدرنة أَدْرَكته حِرْفَة الْأَدَب وولعت بِهِ فحطه الدَّهْر من علياء قدره بعد الرّفْعَة الْعَظِيمَة وتفرق شَمل حَاله من فقد رياشه وضيق معاشه وَوجدت فِي بعض المجاميع لبَعض فضلاء الرّوم أَنه كَانَ عِنْدَمَا ولع الزَّمَان بِهِ قد أغرى بإنشاد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لَا يجِف لِسَانه من ترديدهما فِي أَكثر أوقاته وأحواله وَلست أَدْرِي انهما لَهُ أَو لغيره وهما قَوْله
(من كَانَ يَرْجُو أَن يعِيش فإنني ... أَصبَحت أَرْجُو أَن أَمُوت فأعتقا)
(فِي الْمَوْت ألف فَضِيلَة لَو أَنَّهَا ... عرفت لَكَانَ سَبيله أَن يعشقا)
ثمَّ رَأَيْت الْبَيْتَيْنِ منسوبين لِأَحْمَد بن أبي بكر الْكَاتِب وَقد اقْتدى فيهمَا بِابْن الرُّومِي فِي قَوْله
(قد قلت مذ مدحوا الْحَيَاة وأسرفوا ... فِي الْمَوْت ألف فَضِيلَة لَا تعرف)
(مِنْهَا أَمَان لِقَائِه بلقائه ... وفراق كل معاند لَا ينصف)
وَهُوَ أول من فتح هَذَا الْبَاب انْتهى قَالَ رامي وَلم يزل صَاحب التَّرْجَمَة يعاني الحرمان كَمَا ذكر حَتَّى ولى قَضَاء رشيد فَتوفي بهَا فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف(2/28)
الإِمَام حسن بن عَليّ بن دَاوُد بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد المؤيدي قَامَ بِالْيمن فِي نصف شهر رَمَضَان سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقَامَ مَعَه الشِّيعَة فِي صعدة فَخرج مِنْهَا إِلَى جبل الأهنوم فاشتعلت الأَرْض نَارا وَفتح جملَة قرى وَأرْسل رسله بالرسائل وَكتب إِلَى لطف الله بن المطهر فَلم يجبهُ واضطربت عَلَيْهِ الْبِلَاد وَكتب إِلَى مُحَمَّد بن شمس الدّين بِمثل ذَلِك فَلم يجبهُ أَيْضا وَكتب إِلَى يحيى بن المطهر فكاد أَنه يُجيب وغره أحد إخْوَان الإِمَام فَأجَاب وَسلم إِلَيْهِ بعض الْحُصُون فَوجه لطف الله عبد الله بن أَحْمد بن شمس الدّين والنقيب مرجان فَخَرجُوا إِلَى الْخشب وفتحوا مَا قد خَالف ثمَّ خرج الْأَمِير سِنَان أعانة لَهُم من قبل مُرَاد باشا فهزموا أَصْحَاب الإِمَام وسكنت بِلَاد زمرمر وَعَاد سِنَان إِلَى صنعا ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توجه سِنَان الْمَذْكُور لِحَرْب الإِمَام الْحسن إِلَى الأهنوم وَاسْتولى سِنَان على أَكثر بِلَاد الإِمَام وضايقه فِي شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فتح سِنَان جَمِيع بِلَاد الأهنوم وانحصر الإِمَام الْحسن فِي مَحل يُقَال لَهُ الصاب فنجح إِلَى السّلم وَخرج إِلَى يَد الْأَمِير سِنَان فِي سادس عشر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق أَنه دعى بِالْإِمَامَةِ فِي النّصْف من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأسر فِي النّصْف مِنْهُ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَوصل الإِمَام الْحسن صُحْبَة الْأَمِير سِنَان إِلَى الْوَزير آخر يَوْم من شهر رَمَضَان فأودعه الْحِفْظ وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر شَوَّال مِنْهَا وَجه الْوَزير الْأَمِير سِنَان بِالْإِمَامِ الْحسن وبأولاد المطهر لطف الله وَعلي وَيحيى وَحفظ الله وَإِبْرَاهِيم وَعبد الله وَجَمَاعَة آخَرين إِلَى الرّوم فَسَار بهم إِلَى المخا وأركبهم السَّفِينَة وَعَاد فَمَاتَ أَوْلَاد المطهر بالروم وَاحِدًا بعد وَاحِد وَتُوفِّي الإِمَام الْحسن بالروم أَيْضا فِي رَجَب سنة أَربع وَعشْرين وَألف رَحمَه الله
حسن بن عَليّ بن حسن بن أَحْمد بن مَحْمُود العاملي الكونيني الشهير بالحانيني من أهل الْفضل وَالْأَدب جم الْفَائِدَة كَانَ شَاعِرًا مطبوعا كثير النّظم لَهُ فِيهِ الباع الطَّوِيل وَكَانَ مُقيما بِبَلَدِهِ بَيت حانيني من ضواحي صفد وَأفْتى مرّة فِي حَيَاة الشهَاب أَحْمد الخالدي الْمُقدم ذكره وَقد وقفت لَهُ على أشعار كَثِيرَة فِي مَجْمُوع جمع صَاحبه فِيهِ المدائح الَّتِي مدح بهَا الْأَمِير فَخر الدّين بن معن فانتقيت بَعْضًا مِنْهَا من ذَلِك قَوْله من قصيدة مدح بهَا الْأَمِير الْمَذْكُور ومطلعها
(لنا فِي هوى ذَات الوشاح مَقَاصِد ... وَفِي خالها للعاشقين مراصد)(2/29)
(على حبها نحيا ونحشر فِي الْهوى ... وَنحن على ميثاقها نتعاهد)
(يقد قُلُوب الْأسد مائس قدها ... وللصيد مِنْهَا فِي الجفون مصايد)
(أعارت شريد الريم حسن تلفت ... كَمَا قد أعارتها الْعُيُون إِلَّا وأبد)
(موردة الْخَدين دعجاء طفلة ... برهرهة خمصانة الْبَطن ناهد)
(غريرة حسن هام عِنْد جمَالهَا ... وَطيب شذاها مُسْتَقِيم وفاسد)
(تعلمت الْبيض البواتر فتكها ... وَمن لينها سمر الرماج موايد)
(أسَال دم العشاق سيف لحاظها ... على وجنتيها والغرام مساعد)
(أذاب على الْخَدين ورد شقائق ... بأكنافه ذوب الشبيبة جامد)
(مهاة مَتى أَلْقَت عقارب صدغها ... تشكل مِنْهَا فِي الْقُلُوب أساود)
(فتاة كَانَ الصُّبْح فَوق جبينها ... وَبدر الدجى من جيبها متصاعد)
(كَانَ هلالي الصَّوْم وَاضح طوقها ... وَمن خَلفه نظم النُّجُوم قلائد)
(كَانَ خفوق الْبَرْق قلب عشيقها ... إِذا لامه بَين المحافل زاهد)
(كَانَ سنا أوصافها مدح كَامِل ... وَبسط ثناه والأنام شَوَاهِد)
وَهِي طَوِيلَة جدا فلنكتف مِنْهَا بِهَذَا الْمِقْدَار وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف
الْحسن بن عَليّ بن جَابر الهبل اليمني ذكره ابْن أبي الرِّجَال فَقَالَ فِي وَصفه بديع الزَّمَان وقريع الأوان من لَا عيب فِيهِ سوى بعد بِلَاده وَقرب ميلاده فالمندل الرطب فِي أوطانه خشب أما صغر الميلاد فَللَّه در أَبى الطّيب حَيْثُ يَقُول
(لَيْسَ الحداثة من حلم بمانعة ... قد يُوجد فِي الشبَّان والشيب)
وَأما بعد الْبِلَاد فَأمر لَا يعتبره الحذاق وَإِن قَالُوا الْقرب المفرط مَانع لَا دراك الأحداق وَقَالَ بعض النَّاس
(عذيري من عصبَة بالعراق ... قُلُوبهم بالجفا قلب)
(يرَوْنَ العجيب كَلَام الْغَرِيب ... وَأما الْقَرِيب فَلَا يطرب)
(وَعذرهمْ عِنْد توبيخهم ... مغنية الْحَيّ لَا تطرب)
لَكِن الْعَاقِل الْفَاضِل لَا ينجح إِلَى التَّقْلِيد حَتَّى فِي تَفْضِيل الْحَصْبَاء على لآلئ الْجيد وَأَن الْإِنْصَاف من أجمل الْأَوْصَاف ولد بصنعا وَبهَا نَشأ على الْعِبَادَة والزهادة ومودة لعترة الطّيبَة السَّادة واشتغل بالعلوم والآداب حَتَّى برع على الشُّيُوخ(2/30)
فضلا عَن الأتراب وَله ديوَان شعر فائق وسحر حَلَال رائق فِي كل معنى مليح نهيج مناهج الأدباء وجاراهم فِي رقيقهم وجزلهم وجدهم وهزلهم وَهُوَ مَعَ ذَلِك السَّابِق المجلي وَلَقَد رَأَيْت لَهُ مقاطيع باهرة وقصائد فاخرة وَنَفسه أشبه بِشعر الْحُسَيْن ابْن حجاج غيرانه مصون عَن الإقذاع وَأَنَّهَا هُوَ فِي الفصاحة والنصاعة وجودة السبك والصناعة وَقد كَانَ يُقَال أَن ابْن حجاج نَفسه يشبه نفس امْرِئ الْقَيْس ابْن حجر وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة قَوْله فِي الوعظيات
(أَيْن اسْتَقر السّفر الأول ... عَمَّا قريب بهم ننزل)
(مروا سرَاعًا نَحْو دَار البقا ... وَنحن فِي آثَارهم نرحل)
(مَا هَذِه الدُّنْيَا لنا منزلا ... وَإِنَّمَا الْآخِرَة الْمنزل)
(قد حذرتنا من تصاريفها ... لَو أننا نسْمع أَو نعقل)
(يُطِيل فِيهَا الْمَرْء آماله ... وَالْمَوْت من دون الَّذِي يأمل)
(بحلوله مَا مر من عيشها ... ودونه لَو عقل الحنظل)
(ألهته عَن طَاعَة خلاقه ... وَالله لَا يلهو وَلَا يغْفل)
(يَا صَاح مَا لَذَّة عَيْش بهَا ... وَالْمَوْت مَا تَدْرِي مَتى ينزل)
(يَدْعُو لي الأحباب من بَيْننَا ... يجِيبه الأول فَالْأول)
(يَا جَاهِلا بِجهْد فِي كسبها ... أغرك المشرب والمأكل)
(وَيَا أَخا الْحِرْص على جمعهَا ... مهلا فعنها فِي قد تسئل)
(لَا تتعبن فِيهَا وَلَا تأسفن ... لما مضى فَالْأَمْر مُسْتَقْبل)
(مَا قَوْلنَا بَين يَدي حَاكم ... يعدل فِي الحكم وَلَا يعْزل)
(مَا قَوْلنَا لله فِي موقف ... يخرس فِيهِ المصقع الْمَقُول)
(وَإِن سئلنا فِيهِ عَن كل مَا ... نقُول فِي الدُّنْيَا وَمَا نَفْعل)
(مَا الْفَوْز للْعَالم فِي علمه ... وَإِنَّمَا الْفَوْز لمن يعْمل)
وَقَوله
(لَا تعْتَبر ضعف حَالي وَاعْتبر أدبي ... وغض عَن رث أطماري وأسمالي)
(فَمَا طلابي للدنيا بممتنع ... لَكِن رَأَيْت طلاب الْمجد أسمى لي)
وَقَوله فِي العفاف
(مَا زلت من درن الدنا يَا صائنا ... عرضا غَدا كالجوهر الشفاف)
(وَإِذا جرى مرجا بميدان الصِّبَا ... مهر الْهوى ألحمته بعفاف)(2/31)
(وأذاهم وصفوا محَاسِن شادن ... مُسْتَكْمل لمحاسن الاوصاف)
(أبديت فِيهِ من النسيب غرائبا ... ووصفت فِيهِ مَا عدا الأرداف)
وَقَوله قَرِيبا من هَذَا الْمَعْنى
(تغزلت حَتَّى قيل أَنِّي أَخُو الْهوى ... وشببت حَتَّى قيل فَاقِد الأوطان)
(وَمَا بِي من عشق وشوق وَإِنَّمَا ... أتيت من الشّعْر البديع بإفنان)
وَقَوله من قصيدة
(حتام عَن جهل تلوم ... مهلا فَإِن اللوم لوم)
(طرفِي الَّذِي يشكو السها ... دو قلبِي المضنى الكليم)
(إِن الشقا فِي الْحبّ عِنْد ... العاشقين هُوَ النَّعيم)
(مَا الْحبّ إِلَّا مقلة ... عبراء أَو جسم سقيم)
(يَا من أكتم حبه ... وَالله بِي وَبِه عليم)
(وبلابل بَين الجوانح ... لَا تنام وَلَا تنيم)
(مَالِي وَمَا للوائمى ... أعليك ذُو عقل يلوم)
(يَا هَل ترَاهُ يعود لي ... بك ذَلِك الزَّمن الْقَدِيم)
(وهنى عَيْش باللوى ... لَو أَن عَيْش هُنَا يَدُوم)
(وبرامة إِذْ نلْت من ... وصل الْأَحِبَّة مَا أروم)
(يَا حبذا تِلْكَ الربوع ... وحبذا تِلْكَ الرسوم)
(يَا تاركين بمهجتي ... شررا يذوب بهَا الْجَحِيم)
(طَال المطال وَلم تهب ... لصدق وَعدكُم نسيم)
(مطل الْغَرِيم غَرِيمه ... حاشا كم خلق ذميم)
وَقَوله أَيْضا
(ملكتم فاعدلوا فِي الصب أَو جوروا ... ذَنْب الْأَحِبَّة فِي العشاق مغْفُور)
(وَقد تقرر فِي قلبِي مقركم ... دون الورى فأقيموا فِيهِ أَو سِيرُوا)
(يَا مخربي ربع صبري بالجفا عَبَثا ... الْحَمد لله ربع الود معمور)
(وَيَا مطول هجراني بِلَا سَبَب ... أما بدالك فِي الهجران تَقْصِير)
(ومنكرا مَا أُلَاقِي من محبته ... حبي كطرفك بَين النَّاس مَشْهُور)
(أَنا الكئيب الْمَعْنى فِي هَوَاك وَإِن ... اظهرت أَنِّي بِمَا أَلْقَاهُ مسرور)(2/32)
(الْإِخْلَاص لقلبي من صبابته ... فَإِنَّهُ فِي تعَاطِي الْحبّ مغرور)
(كم ذَا أكابد ملوم أيسره بالطوردك لَهُ من ثقله الطّور ... )
(وَكم أرى طاويا كشحى على شجن ... ونار قلبِي لَهَا فِي الْقلب تسعير)
(وَكم أراقب سارى الطّرف يطرقني ... وَإِنَّمَا الطيف تخييل وتزوير)
(يَا للحمى كم على واديه طل دمى ... وكمم فؤاد محب ثمَّ مأسور)
(وَفِي مليك جمال سيف مقلته ... مظفر بقلوب النَّاس مَنْصُور)
(تبى حبي حسن لَهُ من روض وجنته ... جنَّات عدن وَمن ألحاظه حور)
وَقَوله وَفِيه إبداع
(يَا من أَطَالَ التجني ... مِنْك الصدود ومني)
(مولَايَ إِن طَال هَذَا ... عَليّ فَاعْلَم بِأَنِّي)
(أفديك قل لي ... مَاذَا الَّذِي يدالك مني)
(تَرَكتنِي متهاما ... حيران أَقرع سني)
(أَشْكُو إِلَيْك الَّذِي بِي ... وَأَنت تعرض عني)
(وَلم ترق لحالي ... وَلَا رثيت لحزني)
(أصخ لشكيتي وارفق ... بجسم فِيك قد نحلا)
(وَقل لي من أحل دمي ... وَمن ذَا حرم القبلا)
(وَإِن تنكر ضني جَسَدِي ... وَلم تعطف عَليّ وَلَا)
(فَكف النبل من عَيْنَيْك ... يَكْفِي بعض مَا فعلا)
(وَلَا تطلع لنا خداك وردر ياضها الحضلا ... )
وَقَوله وَفِيه الجناس الْكَامِل
(رويدك من كسب الذُّنُوب فَأَنت لَا ... تطِيق على نَار الْجَحِيم وَلَا تقوى)
(أترضى بِأَن تلقى الْمُهَيْمِن فِي غَد ... وَأَنت بِلَا علم لديك وَلَا تقوى)
وَقَوله
(أفزع إِلَى الْبَارِي وَكن ... مِمَّا جنيت على وَجل)
(وأرج الْإِلَه فَلم يخب ... راجي الْإِلَه علا وَجل)
قد سبق إِلَى هَذَا فِي قَول الْقَائِل
(كن من مدبرك الْحَكِيم ... علا وَجل على وَجل)
وَقَوله فِي الثِّقَة بِاللَّه وَفِيه الجناس الْكَامِل
(ثق بِالَّذِي خلق الورى ... ودع الْبَريَّة عَن كمل)(2/33)
(إنّ الصّديق إِذا اكْتفى ... وَرَأى غناء عَنْك مل)
وَقَالَ وَقدر أَي شَعْرَة بَيْضَاء فِي رَأسه وَفِيهِمَا التورية والاكتفاء
(شباب غير مَذْمُوم تولى ... وشيب قد أَتَى أَهلا وسهلا)
(مضى عمري الطَّوِيل وَمر عيشي ... كَأَنِّي لم أعش فِي الدَّهْر إِلَّا)
وَقَوله
(أذن الندى عَن نِدَاء الشّعْر صماء ... فَلَيْسَ يجديك إنشاد وإنشاء)
(يَا قالة الشّعْر مهلا لَا أبالكم ... رويدكم مَا لهَذَا الْقدح إيراء)
(أَنا لفي زمن ود الفصيح بِهِ ... لَو أَنه ألكن فِي القَوْل فأفاء)
(كم تمدحون وَلَا تعطون جَائِزَة ... كَأَنَّمَا مدحكم بِالْمَنْعِ إغراء)
(قل للْمَسَاكِين أهل الشّعْر يَا تَعب ... الأفكار إِن لم يصيبهم مِنْهُ إثراء)
(هذي الْمُلُوك مُلُوك الأَرْض هَل أحد ... مِنْهُم على سنَن المعروق مشاء)
(كم قد مَدْحنَا فَمَا أَجدت مدائحنا ... لأَنهم إِنَّمَا يُعْطون من شاؤا)
(مَا للقوافي إِذا أقوت معاهدها ... أَفِي زَمَانك يوهي الشّعْر إقواء)
(من ذَا الَّذِي من مقَام الَّذِي ينهضها ... إِن نالها بنعال الذل إيطاء)
(أُفٍّ لَهَا خطة يشقى ملابسها ... ضَاقَتْ بصاحبها للْأَرْض أرزاء)
(وحرفة أزجيت فِينَا بضاعتها ... فربح صَاحبهَا فقروا كداء)
(أَيهَا أغث مستغيثا أَنْت قطّ ... لَهُ المرجوان مَسّه بَأْس وضراء)
وَله غير ذَلِك مِمَّا أوردت مِنْهُ كثيرا فِي كتابي النفحة وَكَانَت وَفَاته بصنعا فِي صفر سنة تسع وَسبعين وَألف وَدفن غربي الْقصر السعيد
السَّيِّد حسن بن عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن مُحَمَّد بن عِيسَى النعمي الحسني من فضلاء الزَّمن وأدبائه وعلمائه وشعرائه ولد بصنعا وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن وَأخذ عَن وَالِده علو مَا جمة وقويت فِي طلب الْعُلُوم همته وَله نظم فاخر مِنْهُ مَا كتبه إِلَى القَاضِي النَّاصِر بن عبد الخفيظ المهلا نَائِيا عَن السَّيِّد جمال الْإِسْلَام مُحَمَّد بن صَلَاح يتشوق إِلَيْهِ بقوله
(أَلا بِاللَّه يَا نفس الخيال ... اعدلي ذكر سالفة اللَّيَالِي)
(وأتحفني بِذكر أهيل نجد ... وَمَا قد مر فِي تِلْكَ الْخلال)
(فَأَنِّي إِن ذكرت زمَان وَصلى ... وَمَا قد مر من حسن اتصالي)
(بِمن أهواه فِي عَيْش خصيب ... وَأَيَّام حلالها قد حلالي)(2/34)
(أكاد أذوب من ولهي عَلَيْهِ ... وأضرب بِالْيَمِينِ على الشمَال)
(واصبو للربوع وساكنيها ... وَأبقى فِي افتكار واشتغال)
(وَأَرْجُو الله يجمعنا قَرِيبا ... بِذَات النَّفس لَا طيف الخيال)
(ونقضي للصبابة والتصابي ... لبانات التواصل والوصال)
(وَبعد فَحَث يَا حادي المطايا ... قلوصك باهتمام واحتفال)
(وسر عجلا هديت وَلَا تأني ... وجوزها الحضيض مَعَ الرمال)
(وأطلعها إِلَى الْجَبَل امتثالا ... وَحط الرحل فِي بلد بهالي)
(أخلاء وأحباب وَأهل ... وَأَصْحَاب علوا رتب الْكَمَال)
(وَفِيهِمْ نَاصِر الدّين المرجى ... لحل المشكلات من السُّؤَال)
(ترَاهُ مذ نسا كلفا بِجمع ... لآثار النَّبِي وَخير آل)
(وَإِن أمْلى تدفق مثل بَحر ... تدفق بالجواهر واللآلئ)
(فَفِي الْمَعْنى وَفِي المغنى عَظِيم ... جليل فِي الْمقَال وَفِي الفعال)
(حباه الله مِنْهُ بِكُل خير ... وفضله على كل الرِّجَال)
(وَأَرْجُو الله يجبوني قَرِيبا ... بِأَن أضحى وعزمته قبالي)
وَمن شعره أَيْضا قَوْله يُخَاطب السَّيِّد مساعد الْحسنى وَقد قدم من مَكَّة واليا على عتود وبيش وأعمالها بِأَمْر الشريف زيد بن محسن
(شمس المحاسن قد لاحت من الْحجب ... فأشرق الْكَوْن نورا غير محتجب)
(وَقد بِسمن ثغور الشّعب من عجب ... وماست القضب فَوق الكثب من طرب)
(وغنت الْوَرق فِي أفنانها طَربا ... والزهر يفتر عَن طلع وَعَن حبب)
(نسل الَّذين سما فِي الْمجد مفخرهم ... حَتَّى علا فَوق هام السَّبْعَة الشهب)
(مساعد الِاسْم مَيْمُون الصِّفَات وَمن ... بسقن أعراقه من مغرس الْأَدَب)
(صافي النضار وَمَيْمُون الفخار وعلوي ... النجار وسامي النَّفس والرتب)
(لم يعرف الْمجد إِلَّا من أبوته ... مورثا مَا حواه عَن أَب فأب)
(أَهلا وسهلا أقرّ الْعين مقدمكم ... ومرحبا يَا سليل السَّادة النجب)
(تعطرت أَرْضنَا واخضر يابسها ... وافتر مبسمها عَن لُؤْلُؤ شنب)
(وماس مخلافنا فِي روضه وزها ... تيها عَن الغوطة الغراء مَعَ حلب)
(وفاح مِنْهُ شميم الْورْد وابتهجت ... مِنْهُ النُّفُوس لمرأى الْبَدْر فِي الكثب)(2/35)
(وافيت للعدل فِيمَا قد ندبت لَهُ لله منتدبا من خير منتدب ... )
(مَا كَانَ ذَا الْملك الْمَنْصُور منتضيا ... من غمد دولته إِلَّا لذى شطب)
(لَا يبرح الْيمن والتوفيق خادمه ... وَلَا بَرحت لجمع الشمل وَالنّسب)
(وفقت فِي كل مَا قد رمت مرتفيا ... مَرَاتِب الْعِزّ والعلياء والحسب)
(واسلم وَدم فِي نعيم لَا يكدره ... صرف الزَّمَان بِمَا يُبْدِي من النوب)
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فِي مستهل الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بالشبيكة بِالْقربِ من تربة السَّيِّد العيدروس والنعمي نِسْبَة إِلَى جدلهم اسْمه نعْمَة وَهَؤُلَاء سادة أَشْرَاف بَيت علم وَفضل وأدب وهم من ذُرِّيَّة الْحسن الْمثنى ومقامهم بِجِهَة صَبيا وَالْمَشْهُور مِنْهُم الْآن آل مُحَمَّد بن عِيسَى وَآل اخيه أَحْمد بن عِيسَى وَصَاحب التَّرْجَمَة من ذُرِّيَّة مُحَمَّد بن عِيسَى وَأما هَذَا الَّذِي يجي بعده وَأَخُوهُ مُحَمَّد فهما من ذُرِّيَّة أَحْمد بن عِيسَى وَالله تَعَالَى أعلم
السَّيِّد حسن بن عَليّ بن حفظ الله بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن عَليّ بن أَحْمد بن عِيسَى النعمي الحسني السَّيِّد الْعَلامَة ابْن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن سَالم بن يحيى ابْن مهنا بن سرُور بن نعْمَة بن فلتية بن حُسَيْن بن يُوسُف بن نعْمَة بن عَليّ بن دَاوُد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض ابْن الْحسن الْمثنى بِابْن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه والمحامد السامية والمكارم الْعَالِيَة بدر المحاسن الصاعدة الْعلية ومصباح العترة النَّبَوِيَّة وَحجَّة الأسرة من الْعِصَابَة الفاطمية من انحطت لمعاليه المشيدة طوالع الشهب وَقصرت على أياديه المديدة هوامع السحب ونطقت بمفاخرة العديدة الْآثَار والكتب وَاحِد الكملاء الْفُضَلَاء الَّذين تبوؤا من الطَّاعَات دَارا وَاتَّخذُوا رَوْضَة الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات سكنا وقرارا وَجعلُوا أردية الْفضل وأبنية الْكَرم والبذل شعارا ودثارا ولد سنة تسع وَعشْرين وَألف بالدهنا من أَعمال صَبيا وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن السَّيِّد الْعَلامَة عَليّ بن الْحسن النعمي وغيرة وبرع فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والمحاضرات الأدبية وَله أشعار رائقة بديعة مِنْهَا مَا كتبه لعَلي بن الْهَادِي المنسكي معتذرا إِلَيْهِ فِي إبطاء كتبه عَنهُ وَهُوَ قَوْله من كتاب
(مَا بعد كتبي عَن الأحباب نِسْيَان ... وَقطع وَصلى لَهُم وَالله سلوان)
(أَو سلوة بسواهم لَا وحقهم ... إِنِّي على عَهدهم بَاقٍ وَأَن بانوا)
(وَكَيف أسلو وَفِي الأحشاء منزلهم ... وَالْقلب ربع لَهُم والجسم أوطان)(2/36)
(وَمن إِذا شمت برقا نَحْو ربعهم ... بلت من الدمع أجفان وأردان)
(وَمن إِذا الطيف مِنْهُم زارني عجلا ... يشب فِي مهجتي جمر ونيران)
وَكتب إِلَيْهِ من فصل وَقد جَاءَ تلقائه الْكتاب الْكَرِيم الشافي وَوصل من نَحوه الْمِثَال الفخيم الوافي جلت طوالعه المهنئة حنادس الهموم وحلت نوارعه فوارس البالاغة فِي يَوْم مشهود لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مَعْلُوم فَمَا تنزل بِهِ روح لمعانيه من بَيَان سَمَاء البلاغه إِلَّا لشفاء أوامي وَلَا تدلى أَمِين يراعته على بَيَان بلاغته إِلَّا لبرئ أسقامي فَمَا أحلى مَا شربت من زلاله الْمعِين شافيا وَمَا أَلد مَا ارتويت من برد غَيره المغيث صافيا وَمَا أنور مَا تَبَسم بِهِ ثغره عَن لُؤْلُؤ عتاب كريم وَمَا أعطر مَا تنسم بِهِ فجره عَن غفران من الْمولى وَسَلام قولا من رب رَحِيم وَكتب إِلَى القَاضِي الْفَاضِل الْحُسَيْن ابْن النَّاصِر المهلى الشرفي فِي قَوْله متشوقا إِلَيْهِ
(لانت لمدلهم الْأَمر بدر ... يضيء وشمس معرفَة وبحر)
(وطود مَكَارِم وسبيل حق لِليْل دجى من الشُّبُهَات فجر ... )
(وَنور هدى لمن يعروه جهل ... ويم ندى لمن وافاه فقر)
(وفضلك شاع فِي الْعلمَاء حَتَّى ... تداول ذكره شام ومصر)
(بيُوت علاك شامخة طوال ... ووروض هَوَاك ناضره يسر)
(وفضلك جَاءَنِي فاهتز عطف ... لَهُ منى وطاب بِذَاكَ صدر)
(علومك أَصبَحت عسلا مصفى ... وَفِي أَنهَار هالين وخمر)
(وخور حسانها متبخترات ... تَدور بشأنها ولهنّ نشر)
(واشبه بالنسيم الرطب شَيْئا ... عتاب فِيهِ للمعتوب عذر)
(لتأخير الرسائل مِنْك عني ... وَذَلِكَ بَين أهل الودّ فَخر)
(وَأَنت حميت نور سَواد عَيْني ... ورق ولاي تَحت ولاك حجر)
(فَإِن لكم لَدَى بني المهلى ... وداد أَلا يحول وَلَا يُفَسر)
(فجدلى يَا حُسَيْن بِحسن صفج فَمن يعْفُو لَهُ فضل وَأجر ... )
(عَلَيْك تَحِيَّة وَسَلام رب ... رَحِيم مَا أنار وضاء بدر)
وَمِمَّا كتب إِلَيْهِ أَيْضا يتشوق بمروره بمحله
(منتظر الْقلب مَتى وصلكم ... فحالنا شقّ بِهِ الأنتظار)
(والشوق منا لم يزل صالبا ... جوانح الْقلب يجمر ونار)(2/37)
(وربعنا تهتز أكنافه ... شوقا إِلَيْكُم يَا خِيَار الخبار)
(لَا زلتم للحق قَوَّامَة ... وَفِي الْمَعَالِي قادة والفخار)
(وَقد جعلت النَّاصِر المرتضى ... أَبَاك اذذاك الصفى النضار)
(معتصما من هجركم سَابِقًا ... وملجأ من مثله مستجار)
فَرَاجعه القَاضِي بقوله
(يَا بدر أفق فِي اللَّيَالِي أنار ... وَمن لَا فلاك الْمَعَالِي أدَار)
(يَا رَافعا دَار العلافي المَال ... فداره أضحى رفيع الْمنَار)
(وساكنا أَرضًا فأضحت بِهِ ... غراء بَيْضَاء كشمس النَّهَار)
(ومنبع السودد وَالْمجد فِي ... دَار لَهُ صارية خير دَار)
(وافى إِلَيْنَا النّظم كَاللُّؤْلُؤِ المنظوم ... فِي حور فِيهَا يحار)
(فَهُوَ لقلبي وفؤادي شفا ... وليميني ويساري يسَار)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي رَجَب سنة تسع وَسبعين وَألف
الشَّيْخ حسن بن عمار بن عَليّ أَبُو الْإِخْلَاص الْمصْرِيّ الشَّرّ نبلالي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الوفائي كَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء وفضلاء عصره من سَار ذكره فانتشر أمره وَهُوَ أحسن الْمُتَأَخِّرين ملكة فِي الْفِقْه وأعرفهم كبصوصة وقواعده وأنداهم قَلما فِي التَّحْرِير والتصنيف وَكَانَ الْمعول عَلَيْهِ فِي الفتاوي فِي عصره قَرَأَ فِي صباه على الشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المسيري وتفقه على الإِمَام عبد الله التحريري والعلامة مُحَمَّد المحيي وَسَنَده فِي الْفِقْه عَن هذَيْن الْإِمَامَيْنِ وَعَن الشَّيْخ الإِمَام عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي مَشْهُور مستفيض ودرس بِجَامِع الْأَزْهَر وَتعين بِالْقَاهِرَةِ وَتقدم عِنْد أَرْبَاب الدولة واشتغل عَلَيْهِ خلق كثير وانتفعوا بِهِ مِنْهُم الْعَلامَة أَحْمد العجمي وَالسَّيِّد السَّنَد أَحْمد الحموى وَالشَّيْخ شاهين الأرمناوي وَغَيرهم من المصريين والعلامة اسماعيل النابلسي من الشاميين وَاجْتمعَ بِهِ وَالِدي المرحوم فِي متصرفه إِلَى مصر وَذكره فِي رحلته فَقَالَ فِي حَقه وَالشَّيْخ الْعُمْدَة الْحسن الشُّرُنْبُلَالِيّ مِصْبَاح الْأَزْهَر وكوكبه الْمُنِير المتلالي لورآه صَاحب السراج الْوَهَّاج لاقتبس من نوره أَو صَاحب الظهيرة لاختفى عِنْد ظُهُوره أَو ابْن الْحسن لأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ أَو أَبُو يُوسُف لأَجله وَلم يأسف على غَيره وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ عُمْدَة أَرْبَاب الْخلاف وعدة أَصْحَاب الإختلاف صَاحب التحريرات والرسائل الَّتِي فاقت أَنْفَع الْوَسَائِل مبدى(2/38)
الْفَضَائِل بإيضاح تَقْرِيره ومحيي ذَوي الإفهام بدر رغرر تحريره نقال الْمسَائِل الدِّينِيَّة وموضح المعضلات اليقينية صَاحب خلق حسن وفصاحة ولسن وَكَانَ أحسن فُقَهَاء زَمَانه وصنف كتبا كَثِيرَة فِي الْمَذْهَب وأجلها حَاشِيَته على كتاب الدُّرَر وَالْغرر لمنلا خسروا واشتهرت فِي حَيَاته وانتفع النَّاس بهَا وَهِي أكبر دَلِيل على ملكته الراسخة وتجره وَشرح منظومة ابْن وهبان فِي مجلدين وَله متن فِي الْفِقْه ورسائل وتحريرات وافرة متداولة وَكَانَ لَهُ فِي علم الْقَوْم بَاعَ طَوِيل وَكَانَ مُعْتَقدًا للصالحين والمجاذيب وَله مَعَهم إشارات ووقائع أَحْوَال مِنْهَا أَن بَعضهم قَالَ لَهُ يَا حسن من هَذَا الْيَوْم لَا تشتر لَك وَلَا لأهْلك وأولادك كسْوَة فَكَانَت تَأتيه الْكسْوَة الفاخرة وَلم يشتر بعْدهَا شَيْئا من ذَلِك وَقدم الْمَسْجِد الْأَقْصَى فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف صَحبه الْأُسْتَاذ أبي الإسعاد يُوسُف بن وفا وَكَانَ خصيصا بِهِ فِي حَيَاته وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة بعد صَلَاة الْعَصْر حادي عشرى شهر رَمَضَان سنة تِسْعَة وَسِتِّينَ وَألف عَن نَحْو خمس وَسبعين سنة وَدفن بتربة المجاورين والشرنبلالي بِضَم الشين الْمُثَلَّثَة مَعَ الرَّاء وَسُكُون النُّون وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ لَام ألف وَبعدهَا لَام نِسْبَة لشبرا بلولة وَهَذِه النِّسْبَة على غير قِيَاس وَالْأَصْل شبْرًا بلولى نِسْبَة كبلده تجاه منوف الْعليا بإقليم المنوفية بسواد مصر جَاءَ بِهِ وَالِده مِنْهَا إِلَى مصر وسنه يقرب من سِتَّة سِنِين فحفظ الْقُرْآن وَأخذ فِيهِ الإشتغال رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حسن بن الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ من مُلُوك الْيمن الَّذين تسنموا من الْفَخر عالى الذرى ووسع جودهم عَامَّة الورى أما الْعلم فَهُوَ من أفاضل جيله وَأما الْحلم فَهُوَ الناهج لسبيله وَأما الحماسة فَمَا إشتقاق الحمس إِلَّا من حماسته وَلَا السماحة الأ من فائض سماحته وَهُوَ الَّذِي فتح الْيمن وَأَخذه لأخويه مُحَمَّد وَإِسْمَاعِيل من الأتراك وأخرجهم مِنْهُ وَكَانَ مَعَ شجاعته ذَا سياسة وتدبير عَظِيم ومرجع الدولة فِي عصره إِلَيْهِ وَالْكل من بنى الْقَاسِم لَا يصدرون إِلَّا عَن رَأْيه ويعولون فِي جَمِيع الْأُمُور عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَ إشتغاله بالحروب وقيامه بِأَمْر الْملك على ضروب يَهْتَز الشّعْر هز النشوان وَلَا يشْغلهُ شاغل عَن المذاكرة فِي كل أَوَان فَلَو رَآهُ ابْن الرُّومِي لما قَالَ شعر
(ذهب الَّذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المرّان)
وَكَانَ يبين بجودة دهنه الْوَقَّاد الْجواد والمقصر فِي ميدان الأنشاد وَكَانَ عَظِيم الْعَطاء(2/39)
كثير الْمَعْرُوف محبا لفعل الْخَيْر وَكَانَ يجل أَوْلَاد الْأَوْلِيَاء وَالْعُلَمَاء يعرف لَهُم حَقهم وَلذَلِك تمّ لَهُ الدست وَكَانَ سعيدا فِي حروبه وَمَا اتّفق أَنه ركب فِي جَيش الأوعاد منصوراً وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ حَسَنَة فِي بني الْقَاسِم على وَجه الزَّمَان وَلَا يدانيه فِي شجاعته مِنْهُم مدان وَأما مَا قيل فِيهِ من المدائح فَيطول ذكره وَهُوَ الَّذِي اختط الْجَبَل الْمُسَمّى بضوران بضاد مُعْجمَة مَضْمُومَة فَبنى بِهِ حصناً مشيداً واختط بِهِ مَدِينَة عَظِيمَة وَأَحْيَا بِهِ أَرضًا دَائِرَة وغرس بهَا فواكه فَصَارَت مَدِينَة عَظِيمَة بأسواقها وحماماتها ومساجدها وَأمر كل أَمِير من أمرائه أَن يَبْنِي بهَا بَيْتا فاتبعوا أمره وَعمر مَا حول الْمَدِينَة من الْقرى وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت ثَانِي شَوَّال سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف بِمَرَض ذَات الْجنب وَحصل بِمَوْتِهِ التَّعَب الشَّديد لعُمُوم نَفعه ورياسته وشجاعته وَحسن أخلاقه حَتَّى أَنه لما انتصر على الأروام فِي زبيد كَانَ يغريه المجالسون بالايقاع بهم لما صدر مِنْهُم من حربه فَلم يُؤثر فِيهِ العذل بل عَفا عَنْهُم وكساهم وَأحسن إِلَيْهِم وَكَانَت مُدَّة إمارته بعد خُرُوجه من صنعاء نَحْو خَمْسَة عشر عَاما وَدفن بضوران وَبنى عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة إِلَى جَانب مَسْجده الَّذِي أسسه وتممه وَلَده مُحَمَّد وأجرى الْمِيَاه هُنَالك إِلَيْهِ وَجَاء تَارِيخ وَفَاته حسن المخلد فِي الْجنان رَحمَه الله تَعَالَى
حسن باشا ابْن مُحَمَّد باشا الْوَزير نَائِب الشَّام قد تقدم طرف من خَبره فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان أَحْمد وعلينا أَن نفصل أمره هُنَا فَنَقُول ولى فِي مبدا أمره كَفَالَة حلب ودخلها وَلم يلتح أَو لم تكمل لحيته ثمَّ ولى بعْدهَا كَفَالَة الشَّام فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وعزل عَنْهَا وَولي ولَايَة أَنا طولي ثمَّ ولَايَة أرزن الرّوم وَكَانَ الْوَزير الْأَعْظَم فرهاد باشا سر دَار أَعلَى العساكر العثمانية لغزاة ولَايَة الْعَجم فَاجْتمع بِهِ فِي ولَايَته الْمَذْكُورَة وَوَقع بَينهمَا أُمُور طَوِيلَة بِسَبَب أَن فرهاد باشا كَانَ بني بعض القلاع فِي ديار الشرق وَرفع حِسَاب كلفته عَلَيْهَا فِي دفتر وَطلب من بَقِيَّة الْأُمَرَاء إِمْضَاء ذَلِك الدفتر فَمنهمْ من أَمْضَاهُ وَمِنْهُم من رده وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة مِمَّن رده وَعرض إِلَى السُّلْطَان أَنا الْمبلغ الَّذِي رفع حسابه فرهاد باشا لَيْسَ كَمَا ذكر بل زَاد على جناب السلطنة شَيْئا كثيرا فنما إِلَيْهِ الْخَبَر وَكَانَ مُقيما بأرزن الرّوم حِينَئِذٍ فَأرْسل إِلَيْهِ وعاتبه على مَا بلغه عَنهُ فدار بَينهمَا كَلَام فِي أثْنَاء المعاتبة أدّى إِلَى نكايات وصمم كل مِنْهُمَا على قتل الآخر بالمواجهة فَدخل من كَانَ فِي الْمجْلس بَينهمَا بَادر صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى الرحيل فَرَحل من حِينه إِلَى طرف دَار السلطنة وَكَانَ(2/40)
يُقَال أَنه اشْترى تفتيش السردار الْمَذْكُور بأحمال من الذَّهَب فوصل الْخَبَر إِلَى السردار فَقبل ذَلِك خوفًا من التفتيش وَحدث بعض الثِّقَات أَنه قبله وُصُوله إِلَى قسطنطينية رأى رجل من قواد السلطنة وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة الْوَزير مُحَمَّد باشا فِي النّوم فَقَالَ لَهُ الْوَزير اذْهَبْ إِلَى جَمِيع أَرْكَان الدولة وأوصهم بِحسن وَلَدي وَقل لَهُم أَنِّي أوصيهم بِهِ فَقَامَ ذَلِك الْقَائِد مُتَعَجِّبا وَدَار على أَرْبَاب الدولة وَذكر لَهُم الْوَاقِعَة فتعجبوا وَلم يعلمُوا السَّبَب فِي الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة لأَنهم لَا علم لَهُم بِمَا صدر بَين حسن باشا وفرهاد ونما خبر الرُّؤْيَا حَتَّى وصل إِلَى السُّلْطَان مُرَاد بن سليم وَلما وصل حسن باشا ماجب لقدومه الدولة واضطر بت وَعلم النَّاس أَن وَالِده كَانَ من أَصْحَاب الْأَحْوَال وَأَقْبل السُّلْطَان عَلَيْهِ وولاه نِيَابَة الشَّام ثَانِيًا وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَاسْتمرّ بهَا حَاكما مُدَّة تزيد على سنتَيْن وَسَار بهَا سيرة حَسَنَة وَوَقع فِي زَمَنه فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين ثلوج عَظِيمَة بِدِمَشْق ودامت نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسقط مِنْهَا بيُوت كَثِيرَة على أَقوام هَلَكُوا تَحت الرَّدْم فَأمر أَن لَا يكْشف على أحد مِنْهُم ونادى أَن كل من مَاتَ عِنْده أحد تَحت الْهدم يدفنه وَلَا يشاور عَلَيْهِ ثمَّ عزل وأعيد ثَالِثا وَلم يسْبق لأحد غَيره من أُمَرَاء آل عُثْمَان أَن يتَوَلَّى الشَّام ثَلَاث مَرَّات وَمن عَجِيب مَا وَقع فِي أَيَّامه حَادِثَة مَحْمُود لابواب الْمَعْرُوف بتكرى بلمزاي الَّذِي لَا يعرف الرب وَهَذَا الْحَادِثَة شهيرة وَلم يبْق أحد من المؤرخين وَأَصْحَاب المجاميع إِلَّا سَاقهَا وفيهَا طول وملخصها أَن شخصا يُقَال لَهُ مَحْمُود بن يُونُس بن شاهين الْأَعْوَر كَانَ قد هلك فِي ذِي الْقعدَة لسنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِدِمَشْق وَاتفقَ أَن شخصا يُقَال لَهُ يُوسُف السقا من الأجناد الدمشقيين تزوج بِزَوْجَة الْأَعْوَر وَذهب إِلَى الديار الرومية وأنهى عَن الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن خطاب وَولده القَاضِي كَمَال الدّين الْمَالِكِي خَليفَة الحكم بِدِمَشْق وَالْقَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد الرجيحي الْحَنْبَلِيّ وعلاء الدّين ابْن الخشاب الترجمان أَنهم أخذُوا جَمِيع مَال مَحْمُود الْأَعْوَر وَجُمْلَة مَا خَلفه بعد مَوته ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار ذَهَبا واقتسموه وَقد كَانَ حق بَيت المَال لمَوْته عَن غير وَارِث وَقرر أَنهم أثبتوا لَهُ ولدا صلياً لَا أصل لَهُ فعين بِمُجَرَّد انهائه مَحْمُود البواب الْمَذْكُور وَجَاء وصحبته يُوسُف السقا الْمَذْكُور وَقبض على الْقُضَاة الْمَذْكُورين بعد أَن هرب شمس الدّين الْخطابِيّ إِلَى طرابلس الشَّام وَأقَام فِي بَيت رجل من أَصْحَابه فَسَار البواب وَقبض عَلَيْهِ وأتى بِهِ إِلَى دمشق وعَلى رَأسه قلنسوة(2/41)
نَصْرَانِيّ وَفِي رجلَيْهِ الْقُيُود وَفِي عُنُقه الغل وَدخل بِهِ على هَذِه الْهَيْئَة وَالنَّاس ترمقه وَأما القَاضِي الرجيحي فَإِنَّهُ هرب إِلَى مصر وَأقَام بهَا مستخفياً وَوضع الَّذين قبض عَلَيْهِم من هَؤُلَاءِ فِي الزناجير والقيود وَأَخذهم مكبلين بالحديد إِلَى ديار الرّوم غير أَنه لم يدْخل بهم دَار السلطنة خشيَة من مفتيها لِئَلَّا يسْعَى فِي خلاصهم ثمَّ قفل بهم جَمِيعًا إِلَى دمشق والزناجير فِي رقابهم على مَلأ الأشهاد وَشرع يَأْخُذ جَمِيع مَا يملكونه من الأقمشة وَالْأَمْوَال وَالْعَقار والغلمان حَتَّى سلبهم الْجَمِيع وعاقبهم معاقبة بَالِغَة وَقبض فِي أثْنَاء مَا فعل على غَالب أَعْيَان دمشق وشيوخها مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام إِسْمَاعِيل النابلسي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْحِجَازِي وَمن رُؤَسَاء الصُّوفِيَّة الشَّيْخ أَبُو الوفا العقيبي الْعمريّ واغتصب من تجارها الْمَشَاهِير وَبَعض أَهلهَا الضُّعَفَاء مَالا جزيلاً أناف على مِائَتي ألف دِينَار وَمن التحف والأقمشة مَا لَا يُحْصى ثمَّ قبض على نائبي الحكم الْعَزِيز بالمحكمة الْكُبْرَى القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن جَانِبك الشَّافِعِي وَالْقَاضِي عبد الله ابْن الرَّمْلِيّ الْمَالِكِي وَضم مَعَهُمَا القَاضِي نجم الدّين بن أبي الْفضل الشَّافِعِي وَابْن عُمَيْر الصَّالِحِي وأصر على التَّعَدِّي وأضرار النَّاس مُدَّة تِسْعَة أشهر وطفق يتعاطى الْمُنْكَرَات وتوارى مِنْهُ عُلَمَاء دمشق وأعيانها خيفة مِنْهُ فَكتب جدي القَاضِي محب الدّين رسالتين وقصيدتين وَأرْسل كلا مِنْهُمَا وَاحِدَة إِلَى الْمُفْتى الْأَعْظَم الْمولى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الياس بن جوى وَالْأُخْرَى إِلَى الْمولى سعد الدّين معلم السُّلْطَان مُرَاد بِمَا فعل البواب مفصلا فعرضت الرسالتان على السُّلْطَان مُرَاد بِوَاسِطَة الْوَزير الْأَعْظَم سياغوش باشا فَخرج الحكم بقتْله بعد الاثبات عَلَيْهِ وَورد الحكم إِلَى دمشق ونائبها صَاحب التَّرْجَمَة وقاضي الْقُضَاة بهَا الْمولى على بن الْمولى سِنَان فَجمع الْوَزير أَعْيَان الشَّام بأسرهم وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة بِالْمَجْلِسِ وأخرجوا من كَانَ فِي حبس البواب على صورتهم بالقيود والأغلال فِي أَعْنَاقهم وَلما أحضر البواب إِلَى الدِّيوَان الْمَزْبُور أَمر الْوَزير بِنَزْع كسْوَة السُّلْطَان عَنهُ وألبس قلنسوة نَصْرَانِيّ وأوقف فِي حَاشِيَة الدِّيوَان وَادّعى عَلَيْهِ بعض المحبوسين من الْقُضَاة وأرباب المناصب وَقَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة بتحقير الْعلمَاء وازدرائهم فَحكم عَلَيْهِ القَاضِي بِالْقَتْلِ لثُبُوت الرِّدَّة عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك فِي بعض أَيَّام التَّشْرِيق والأرجوحة مركبة على بَاب دَار الْإِمَارَة على قَاعِدَة الأروام فِي تركيبها أَيَّام الْعِيد فأنزلوه فَلَمَّا تحقق أَنه مقتول لَا محَالة طلب المهلة إِلَى أَن يغْتَسل كَأَنَّهُ كَانَ جنبا فأمهلوه حَتَّى اغْتسل فِي مَسْجِد(2/42)
عِيسَى باشا الَّذِي على بَاب دَار الْإِمَارَة وَصلى رَكْعَتَيْنِ وصلبوه فِي خشب الأرجوحة وَكثر سرُور النَّاس بقتْله ولشعراء ذَلِك الْعَصْر فِي هَذِه الْحَادِثَة قصائد وتواريخ لَو ذكرتها مستوفاة لبلغت إِلَى مجلدة وَلما عزل صَاحب التَّرْجَمَة عَن الشَّام فِي هَذِه الْمرة سَافر إِلَى دَار السلطنة وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن صَار حَاكما فِي بِلَاد الرّوم وَاسْتمرّ هُنَاكَ ونسبوا إِلَيْهِ فِي حكومته أمورا لَا أصل لَهَا فورد حكم سلطاني بقتْله فَلم يُسلمهُ الْعَسْكَر للْقَتْل ثمَّ حضر بعد ذَلِك إِلَى طرف السلطنة وَبحث عَن أصل الحكم الَّذِي ورد بقتْله فَلم يجد لَهُ أصلا وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوب إِلَى صنع بعض النِّسَاء وَلم يزل يطْلب التفلت من قسطنطينية حَتَّى أعطي ولَايَة بَغْدَاد وَمَا يَليهَا من بِلَاد عراق الْعَرَب فَذهب إِلَيْهَا بعسكر جرار ودخلها بعنوان عَجِيب وأطهر فِيهَا من الْحجاب مَالا يعْهَد لمثله وَلم يزل بهَا حَاكما حَتَّى حدثته نَفسه بِحَفر نهر أَخذه من دجلة فأجراه يسْقِي أَمَاكِن كَثِيرَة قيل أَن محصولها يزِيد فِي السّنة على عشْرين ألف دِينَار ذَهَبا وَحدث بَينه وَبَين الْعَسْكَر الْعِرَاقِيّ أُمُور أدَّت إِلَى أَن عرضهمْ على الحضرة السُّلْطَانِيَّة فأمروه بِالْخرُوجِ من بَغْدَاد فَخرج مِنْهُ خَائفًا من شقّ الْعَصَا وَأقَام بالموصل أَيَّامًا ثمَّ نازلهم منازلة الْمُحَارب إِلَى أَن جَاءَهُ الْأَمر بالانفصال بعد أَن نهبت جماعته فَتوجه إِلَى ديار بكر فَبَيْنَمَا هُوَ فِيهَا وَإِذا بِالْأَمر السلطاني جَاءَهُ أَن يصير أصفهلارا على العساكر وَيذْهب لقِتَال عبد الْحَلِيم اليازجي الْبَاغِي الناجم فِي نواحي سيواس هُوَ والطائفة السكيانية فتوقف فِي نواحي ديار بكر إِلَى أَن اجْتمع عَلَيْهِ العساكر من كل نَاحيَة وَلما تحقق قدومهم إِلَى نواحي الْفُرَات تقدم هُوَ أَيْضا وَاجْتمعَ بهم فِي مَدِينَة عينتاب وَهُنَاكَ عرض العساكر كلهَا واستدعى الشاميين وَكَانَ أَمِيرهمْ إِذْ ذَاك السَّيِّد مُحَمَّد الْأَصْفَهَانِي ورجفوا إِلَى جَانب الْخَارِجِي فورد الْخَبَر بِأَن حاجي إِبْرَاهِيم باشا ورد بالعساكر الرومية وَأَنه بَادر بهم إِلَى لِقَاء عبد الْحَلِيم وكسره عبد الْحَلِيم كسرة شنيعة وغنمه جَمِيعه فاستقبح النَّاس مبادرته إِلَى ذَلِك قبل استكمال العساكر وطمع الْعَدو وَكَانَ عبد الْحَلِيم يَقُول بَقِي علينا لِقَاء هَذِه الْقَافِلَة يُشِير إِلَى حسن باشا وعساكره وَلم يزل الْعَسْكَر السلطاني يتَقرَّب قَلِيلا قَلِيلا واليازجي يقابلهم إِلَى أَن التقى الجيشان فِي مَكَان من نواحي سيواس يُقَال لَهُ الْبُسْتَان فاستند اليازجي إِلَى ذيل جبل وَوضع المدافع الْكَبِيرَة الَّتِي كَانَ أَخذهَا من عَسْكَر إِبْرَاهِيم باشا حِين كَسره وصف رِجَاله وَضرب المدافع فِي وَجه الْعَسْكَر(2/43)
فَلم تصب أحدا وصدم عَسْكَر الأكراد وعسكرا رزن الرّوم وَأَن إِلَى أَن أرجعهم إِلَى مواقفهم وَحسن باشا وَاقِف والألوية تخفق فَوق رَأسه وَكَانَ الْأَمر قد سبق لعسكر الشَّام بِأَن يتواقفوا فِي لِقَاء الْخَارِجِي ويكونوا كمينا فَلَمَّا تراجعت العساكر السُّلْطَانِيَّة بَادر الشاميون بِالتَّكْبِيرِ ودهموا عَسْكَر اليازجي فردوهم على أَعْقَابهم وَوَضَعُوا فيهم السَّيْف فَمَا مَضَت لَحْظَة من النَّهَار إِلَّا وَقد انْكَسَرَ عَسْكَر الْعَدو وولوا وَلم يزل عبد الْحَلِيم هَارِبا إِلَى أَن اسْتَقر بجبال جَانِبك واقصر العساكر عَن طلبه واجتمعوا على السردار فِي نواحي قونية وَلما تحققوا مَكَان عبد الْحَلِيم عطفوا السّير نَحوه وسارت وَرَاءه العساكر كلهَا الأشرذمة من عَسْكَر الشَّام وَلما قرب السردار من مقرّ عبد الْحَلِيم أرسل إِلَيْهِ عسكرا كثيفا فلحقوه فِي بعض الْجبَال فواقعهم وَكَانَ السردار عَلَيْهِم حِينَئِذٍ عُثْمَان باشا ابْن بَاقِي بيك التبريزي الأَصْل وَهُوَ من أقَارِب شيخ الْإِسْلَام الْمولى سعد الدّين معلم السُّلْطَان فَتقدم إِلَى أَن توَسط هاتيك الْجبَال فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الصَّباح وَإِذا بِقوم قد وَقع بَينهم وَمَا عرفهم فتحقق الْحَال فَإِذا هم جمَاعَة عبد الْحَلِيم فقبضوا عَلَيْهِ وأخذوه أَسِير إِلَى عبد الْحَلِيم فَأكْرمه وجلا مَا كَانَ فِيهِ من الْوَهم وَاسْتمرّ عِنْده مِقْدَار أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُقيما حَتَّى شيعه إِلَى جَانب السردار وَلما قدم وَاجْتمعَ بِهِ أظهر لَهُ الْعَدَاوَة وآلمه بالْكلَام ظنا مِنْهُ أَن ذَهَابه إِلَى عبد الْحَلِيم كَانَ بصنعه وصعب ذَلِك على عُثْمَان باشا فَخرج فِي لَيْلَة مستخفيا من الْعَسْكَر إِلَى طرف السلطنة يسير اللَّيْل وَالنَّهَار وَحَتَّى وصل إِلَى بَاب الدولة واختفى عِنْد قدومه حَتَّى طلبه السُّلْطَان وَسَأَلَهُ عَن اليازجي فَقَالَ يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان أما اليازجي فَإِنَّهُ أقسم عَليّ بأنني إِذا وَقعت فِي أعتابكم أَقُول لكم يطْلب أَن يعْطى منصبا فِي ولَايَة الرّوم ويتكفل بجهاد الْكَافرين وَيُعْطى أَخُوهُ حسن صنجق جروم فِي بِلَاد سيواس وَأما أَنا فَالَّذِي أعلمهُ من حَاله أَنه خائن لَا يثبت على قَول وَأَنه يقْصد بِمَا ذكره من الطّلب أَن يرفع عَنهُ السردار وَيعود إِلَى الْعِصْيَان فَعِنْدَ ذَلِك صدق السُّلْطَان كَلَامه وَأرْسل إِلَى السردار رجلا من خواصه المقربين يُقَال لَهُ قيطاس كتخذا وَأرْسل مَعَه من جَانب السُّلْطَان تجملات ورسالة بِخَط يَد السُّلْطَان فِي بَقَائِهِ على السردارية وَفِي أثْنَاء ذَلِك مَاتَ عبد الْحَلِيم فِي قَصَبَة ساميسون وَاجْتمعَ الْبُغَاة بعده على أَخِيه حسن وَجَاء إِلَى محاربة الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة على حِين غَفلَة لَيْلَة عيد الْأَضْحَى إِلَى توقات بعد أَن كَانَ نهب أَسبَابه وتجملاته القادمة عَلَيْهِ(2/44)
من آمد وَكَانَ أرسل خَمْسمِائَة رجل من جماعته ليأتوا إِلَيْهِ بهَا فَخرج عَلَيْهِم حسن ونهبهم وَقتل الْجَمَاعَة المعينين وَكَانَ مَعَهم حظاياه وجواريه فَلم يتَعَرَّض لَهُنَّ بل جهزهن إِلَيْهِ بالأمانة والصيانة وَطَلَبه للمقابلة فَخرج إِلَيْهِ حسن باشا وَمن مَعَه من العساكر فَمَا ثبتوا أَقْدَام الْبُغَاة لَحْظَة حَتَّى كسروا وهرب حسن باشا إِلَى قلعة توقات ورفعوه إِلَيْهِ بالحبال وهجم الْعَدو وَجُنُوده يحفها وَمَا زَالَ على منازلتها حَتَّى قتل حسن باشا دَاخل القلعة على غير يَده فَسَار حسن إِلَى قره حِصَار وَتَمام قصَّته وَمَوته ذكرته فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان أَحْمد فَارْجِع إِلَيْهِ هُنَاكَ وَكَانَ سَبَب قتل حسن باشا صَبيا من جماعته يُقَال لَهُ درى كَانَ قد نَالَ مِنْهُ مقَاما فَضرب صبيان من صبيان خزينة حسن باشا فَنزل الصَّبِي الْمَضْرُوب إِلَى الْمَدِينَة وخالط الْبُغَاة إِلَى أَن امتزج بهم وَحكى لَهُم مَا صدر من درى فِي ضربه لَهُ وَأَنه جَاءَ مصادقا لَهُم فَقَالُوا لَهُ إِن كنت صَادِقا فِي مقالك فَأَيْنَ يجلس الْوَزير من القلعة فَقَالَ لَهُم إِنَّه يجلس دَائِما فِي هاتيك الغرفة وَرَاء ذَلِك الدفوف فجَاء رجل من الْبُغَاة وَجلسَ تَحت تِلْكَ الغرفة الَّتِي عينهَا لَهُ الصَّبِي وَفِي يَده بندقية فِيهَا رصاصتان فَضرب بهَا فَجَاءَت للْقَضَاء الْمُقدر تَحت إبط حسن باشا فَمَاتَ لساعته وَاسْتمرّ مُسْتَندا إِلَى الْجِدَار لَا يعلم أحد حَاله من الصَّباح إِلَى الظّهْر وَالنَّاس يظنون أَنه حَيّ سَاكِت فَبعد ذَلِك أشرفوا عَلَيْهِ فوجدوه قد مَاتَ وَهُوَ يَابِس جَالس فغسلوه ودفنوه وَكَانَ ذَلِك فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير حسن بن مُحَمَّد الْأَمِير الْجَلِيل أَبُو الفوارس الْمَعْرُوف بِابْن الأعوج أَمِير حماة أوحد أُمَرَاء الدَّهْر وَعين باصرة الْأَدَب وشمس فلك الْمجد قد جمع الله لَهُ بَين أدوات المحاسن ورقاه إِلَى أَعلَى ذرْوَة والمفاخر مَعَ أدب بارع وَحسب تارع وَطيب أرومة وزكاء جرثومة وَكَانَ فِي الْكَرم غَايَة لَا تدْرك وَمِمَّا قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء
(حوى قصبات السَّبق فِي حومة الْعلَا ... نعم هُوَ للسباق مَا زَالَ يسْبق)
(مَتى تبرز الْأَيَّام مثل وجوده ... جوادا بِمَا فِي كَفه يتَصَدَّق)
(لقد زين الدُّنْيَا جمالا كَمَاله ... فَمِنْهُ على وَجه البسيطة ونق)
ولد بحماة وَنَشَأ بهَا وَهُوَ من بَيت أصيل الرياسة عريق النّسَب من الْجِهَتَيْنِ أما من جِهَة أَبِيه فَهُوَ أَمِير ابْن أَمِير ورث السِّيَادَة كَابِرًا عَن كَابر وَأما من جِهَة والدته فَهِيَ ابْنة شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد بن سُلْطَان العارفين الشَّيْخ علوان الْحَمَوِيّ صَاحب الْكَشْف(2/45)
والكرامات وَنَشَأ هُوَ فِي صدر الْعِزّ بنعم جزيلة فَمَال طبعه نَحْو الْكَمَال فَقَرَأَ على عُلَمَاء بَلَده عُلُوم الْعَرَبيَّة والفنون الأدبية وعاشر الأدباء وجالس الشُّعَرَاء وَلما شاع خَبره شدّ الرّحال إِلَيْهِ الأدباء من الأقطار وَاجْتمعَ عِنْده مِنْهُم مَا لم يجْتَمع عِنْد أحد من أُمَرَاء عصره وسافر إِلَى الرّوم فِي أَيَّام السُّلْطَان مُرَاد بن سليم شاه وَاجْتمعَ بمعلمه الْمولى سعد الدّين بن حسن جَان ومدحه بعدة قصائد فَأكْرمه ومدحه للسُّلْطَان وَجمعه بِهِ فولاه ولَايَة حماة وَرجع إِلَيْهَا فَأقبل عَلَيْهِ الشُّعَرَاء من كل مَكَان وَأقَام حَاكما بهَا ثَلَاث سِنِين ثمَّ عزل وَأقَام بمنزله ثمَّ بعد مُدَّة ولى إِمَارَة معرة النُّعْمَان وَتوجه إِلَيْهَا بعشائره وتكرر لَهُ الْعَزْل عَنْهَا وَعَن حماة وَالتَّوْلِيَة لَهما وعانده الدَّهْر فِي بعض الأحيان وَكَانَ صبورا على نوائبه وَكَانَ فِي جَمِيع حالاته مشتغلا بالأدب وَكَانَ ينظم الشّعْر فَيَأْتِي فِيهِ بِكُل معنى رائق وَلَفظ شائق مِمَّا يَلِيق أَن يعلق تَمِيمَة فِي جيد الزَّمَان وينظم فريدة فِي عقد الْحسن وَالْإِحْسَان فَمن ذَلِك قَوْله فِي الْعَزْل
(آه من لي بظبية فتانة ... وَهِي تلهو ومهجتي ولهانه)
(ذَات ثغر كَأَنَّهُ اللُّؤْلُؤ ... الرطب حكى كفها وحاكت بنانه)
(هِيَ فِي الْقد غُصْن بَان وَلَكِن ... من رأى الْقد قَالَ ذِي رمانه)
(يَا عجيبا مِنْهَا تظن سلوا ... من فُؤَادِي وتشتكى سلوانه)
(يَا عجيبا إِنِّي أُرِيد رِضَاهَا ... وَهِي فِي حَالَة الرضى غضبانه)
(لست أخْشَى فِي حبها من عذول ... فَدَعوهُ فِينَا يُطِيل لِسَانه)
(حَاصِل الْأَمر أَن يُقَال فلَان ... طَار صيتًا بحبه لفلانه)
(أناصب بحبها مستهام ... ملك الْحبّ سره وعيانه)
(لست أنسى لما مضى ورقيبي ... عينه من يَد الْكرَى ملآنه)
(وقضينا الْوِصَال رشفا وضما ... بقلوب هيمانة حيرانه)
(وَأَرَادَ الجموح طرف التصابي ... فلوينا عَمَّا أَرَادَ عنانه)
(وملكنا نفوسنا بِرِضَاهَا ... وزجرنا بعفة شَيْطَانه)
(فدع العاذلين ينقلن عني ... آه من لي بظبية فتانه)
وَمن شعره قَوْله من جملَة قصيدة يتشكى فِيهَا من الزَّمَان وَمَا لَاقَى من الْأَلَم فِي وَطنه
(حادي العيس سر بِغَيْر ارتياب ... ففؤادي قد حن للاغتراب)
(لَا أُرِيد الأوطان والذل فِيهَا ... وَاضع طوقه بِأَعْلَى الرّقاب)(2/46)
(وَلَو أَنِّي قضيت فِيهَا سُرُورًا ... فِي شَبَابِي لم اكتئب لمصابي)
(بل تولت نضارة الْعِزّ مني ... بَين عَيْش ضنك وفرط اكتئاب)
(فالفرار الْفِرَار من دَار هون ... تَرَكتنِي أَشْكُو زمَان الشَّبَاب)
(وَإِذا الضيم مَا أَقَامَ فأحبب ... بجياد تمرمر السَّحَاب)
(لَو يكن فِي مقَام ذِي اللب فضل ... قطع السَّيْف وَهُوَ ضمن القراب)
(أدْرك الْمسك بالتنقل شانا ... وَهُوَ فِي أرضه دوين التُّرَاب)
(فالفتى الشهم من إِذا شام ضيما ... لَا يُبَالِي بفرقة الأحباب)
(كَيفَ مكثى مَا بَين أظهر قوم ... عَهدهم فِي ثباته كسراب)
(جارهم إِن غَدا عَزِيز عَلَيْهِم ... كَانَ كالشاة فِي مقيل الذئاب)
(هم إِذا صادروا أسود شِرَاء ... وَإِذا حَاربُوا فدون الْكلاب)
(كم إناس من دَارهم أخرجوهم ... ليسومونهم بِسوء الْعَذَاب)
(إِن فِرْعَوْن ثمَّ نمْرُود كَانَا ... دونهم فِي اختراع شُؤْم الْعقَاب)
(ومساويهم الَّتِي مثل هَذَا ... عدد الرمل والحصى وَالتُّرَاب)
(رب يامن أباد عَاد وأودي ... بثمود ذَوي النُّفُوس الصعاب)
(لَا تذر مِنْهُم على الأَرْض شخصا ... أَنهم جاحدون نَص الْكتاب)
(وانتقم مسرعا وَعجل عَلَيْهِم ... لَيْسَ فِينَا صَبر ليَوْم الْحساب)
وَرَأَيْت بِخَط الأديب إِبْرَاهِيم رامي كثيرا من أشعار صَاحب التَّرْجَمَة وَذكر فِي بعض أوراقه وَمن محَاسِن مَا اتّفق لَهُ فِي الشّعْر وَذَلِكَ أَن الْأَمِير مُوسَى بن الحرفوش أَمِير بعلبك عزم على الْحَرْب مَعَ الْأَمِير عَليّ بن سَيْفا فِي نَاحيَة غرير وَقتل ابْن سَيْفا جمَاعَة الْأَمِير مُوسَى فَكتب للأمير مُوسَى فِي ابْتِدَاء الْقِتَال هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مَعَ كتاب أرْسلهُ أليه يستحثه على الْقِتَال فَقَالَ
(غرير طور ونار الْحَرْب موقدة ... وَأَنت مُوسَى وَهَذَا الْيَوْم مِيقَات)
(ألق الْعَصَا تتلقف كل مَا صَنَعُوا ... وَلَا تخف مَا حبال الْقَوْم حيات)
قلت وَقد رَأَيْت الْبَيْتَيْنِ فِي تَارِيخ الصّلاح الصَّفَدِي فِي تَرْجَمَة الْأَشْرَف منسوبين للكمال ابْن النبيه ونظمهما عِنْد مَا نَازل مُوسَى الْأَشْرَف دمياط وصدرهما هَكَذَا دمياط طور إِلَى آخر الْبَيْتَيْنِ وللأمير حسن وَكتب بِهَذِهِ الأبيات إِلَى جدي القَاضِي محب الدّين فِي صدر كتاب وَكَانَ سمع بوفاة الْمولى سعد الدّين بن حسن جَان(2/47)
الْمَذْكُور آنِفا
(فَجئْت بنعي لَو أبثك بعضه ... لأيقنت أَن الدَّهْر قد عدم الرشدا)
(وَلَيْسَ يقر الْمَرْء عِنْد سَمَاعه ... وَلَو كَانَ قلب السَّامع الْحجر الصلدا)
(وَلَو أَنه قد مر يَوْمًا بيذبل ... ورضوى لهَذَا الرزءد كهماهدا)
(أَظُنك ذقت الْحزن مِمَّا سمعته ... فَإِنِّي لم آلوك فِي كشفه جهدا)
(على أنني أَرْجُو بَقَاء مُحَمَّد ... وأسعد إِن غال الزَّمَان لنا سَعْدا)
وَقَوله فِي حلاق سيء الْخلقَة
(الأرب حلاق بليت بشره ... فأثر فِي رَأْسِي الْجراحَة والبؤسا)
(أنامله كالطور من فَوق جبهتي ... ورأسي كليم كلما حرك الموسا)
وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ بعض ندمائه الأدباء بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(على الْبَاب الْمُعظم عبد رق ... بأنواع اللقا مِنْكُم يفوز)
(يجوز الْبَاب عَن إِذن كريم ... وَإِلَّا فَهُوَ شَيْء لَا يجوز)
فأنفذ إِلَيْهِ الْجَواب بهدية سنية
(نحيط بعلمكم أَنا نشاوى ... وَقد جليت لنا بكر عَجُوز)
(فَإِن جوزتم مَا نَحن فِيهِ ... وَإِلَّا فَهُوَ شَيْء لَا يجوز)
وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ أَنه كَانَ من أقربائه شَاب يُسمى الْأَمِير يحيى وَكَانَ بارع الْجمال بعيد المنال وَكَانَ الْأَمِير حسن يُحِبهُ محبَّة شَدِيدَة بِمَنْزِلَة وَلَده وَكَانَ من المنسوبين إِلَيْهِ رجل من طلبة الْعلم كردِي الأَصْل يُسمى يحيى أَيْضا وَكَانَ عينه معلما للأمير يحيى الْمَذْكُور يقرئه الْعلم ويعلمه الْأَدَب فواظب على إقرائه دهرا طَويلا وَكَانَ الْأَمِير يحيى سَاكِنا فِي دَار مُسْتَقْبلَة قبالة دَار الْأَمِير حسن وَكَانَ يَتِيما فاتفق أَن الْأَمِير حسن بنى دَارا عَظِيمَة وَصرف عَلَيْهَا مَالا جزيلا وَلما تمت عمارتها وفرش مساكنها صنع وَلِيمَة عَظِيمَة ودعا أَعْيَان بلدته وَكَانَت الْوَلِيمَة لَيْلَة الْجُمُعَة فَاجْتمع أكَابِر الْبَلدة وَكَانَ الْأَمِير يحيى من جملَة الْقَوْم فسهروا قَرِيبا من ثلث اللَّيْل الْأَخير وباركوا للأمير بِالدَّار وَتَفَرَّقُوا فَتوجه الْأَمِير يحيى إِلَى منزله ونام واستغرق من تَعب السهر فَلَمَّا أصبح الصَّباح جَاءَ الشَّيْخ يحيى الْكرْدِي ودق الْبَاب عَلَيْهِ فَخرجت الْجَارِيَة فَقَالَ لَهَا نَادِي لي الْأَمِير لاقرئه الدَّرْس لِأَن لي حَاجَة مهمة أُرِيد الْمسير إِلَيْهَا فتعجبت الْجَارِيَة من مَجِيئه فِي ذَلِك الْوَقْت وَقَالَت لَهُ أَن الْأَمِير أَطَالَ السهر فِي هَذِه اللَّيْلَة وَهُوَ(2/48)
نَائِم وَأَن الْيَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَمن عادتكم ترك الْقِرَاءَة فِي الْجمع فَقَالَ لَهَا لي حَاجَة مهمة أَخَاف من التعويق بِسَبَبِهَا عَن درس غَد فَرَجَعت الْجَارِيَة إِلَى الدَّار ونبهت الْأَمِير يحيى فَخرج مسرعا إِلَى الشَّيْخ وتلقاه وَسلم عَلَيْهِ وَتوجه هُوَ إِلَى قَضَاء الْحَاجة فَلَمَّا دخل بَيت الرَّاحَة تبعه الشَّيْخ وَأشهر سكينا ومسكه بعنف وَطَرحه على الأَرْض وذبحه وَخرج من الدَّار هَارِبا يُرِيد الْخَلَاص وَلم يكن فِي الدَّار إِلَّا الْجَارِيَة ففطنت للأمير وَخرجت خَلفه إِلَى الطَّرِيق وَنَادَتْ بِأَعْلَى صَوتهَا يَا قوم الشَّيْخ ذبح الْأَمِير يحيى فأدركوه من جَمِيع الْجِهَات وَأَحَاطُوا بِهِ فقاتل مَعَ النَّاس قتالا شَدِيدا وَقتل ثَلَاثَة رجال ثمَّ ضربه رجل من الْعَوام بِحجر كَبِير على ظَهره فَسقط مغشيا عَلَيْهِ فمسكوه ثمَّ أحضروه بَين يَدي الْأَمِير حسن فَسَأَلَهُ عَن سَبَب ذَلِك فَلم ينْطق بِحرف فَأمر بإحراقه فَجمعُوا حطبا وأوقدوه ثمَّ ألقوه فِي النَّار فَاحْتَرَقَ وَعجل بِرُوحِهِ إِلَى النَّار وَالَّذِي يظْهر أَن قَتله لَهُ إِنَّمَا كَانَ عَن ولوع وهيام وَرَأى أَنه إِذا قَتله يقتل بِهِ فيخلص مِمَّا كَانَ فِيهِ من الْمَشَقَّة والألم ونظم الْأَمِير حسن هَذِه الْوَاقِعَة فِي قصيدة يرثي بهَا الْأَمِير يحيى وأثبتها برمتها لغرابتها فِي بَابهَا وتضمنها مثل هَذِه الْوَاقِعَة العجيبة وَهِي قَوْله
(عجبت لمن أَمْسَى يؤهل أَن يحيى ... بصفو وَربع الْأنس قد هده يحيى)
(هِلَال قبيل التم وافى محاقه ... وَسَار إِلَى الْأُخْرَى فأظلمت الدُّنْيَا)
(وغصن ذَوي من قبل أَن يُثمر المنى ... كَأَن الْأَمَانِي قاطعات على المنيا)
(وَأصْبح روض الْعَيْش أغبر يَابسا ... وَعوض قبر بعد دوحته الْعليا)
(أَتَاهُ الردى مِمَّن تربى بفضله ... فقد لح فِي كفران نعْمَته بغيا)
(أقيم عَلَيْهِ حارسا رَاعيا لَهُ ... وَقَالُوا لَهُ رعيا فَقَالَ لَهُم نعيا)
(وَمن وضع الْإِحْسَان فِي غير أَهله ... فَمن كَفه فِي عُنُقه وضع المديا)
(وَمن يَجْعَل السرحان للظبي رَاعيا ... فَلَا يلم السرحان أَن قتل الظبيا)
(وَمَا هَذِه الْأَمْثَال إِلَّا وَسِيلَة ... أسلى بهَا قلبا سلاه الجوى سليا)
(وَإِلَّا الْقَضَاء الحتم إِن حل بالورى ... فأبصرهم أعمى وأحذقهم أعيا)
(وَمَا لم يكن من جَانب الله حَافظ ... فَلَا ترج بالأشياء أَن تحفظ الأشيا)
(فقد يشرق الرِّيق الْفَتى وَهُوَ عونه ... ويبري الحسام العضب صَاحبه بريا)
(وَقد يفجأ الْمَوْت الْفَتى وَهُوَ آمن ... أينجو ونار الْحَرْب قد صليت صليا)
(وَيدْرك عِنْد الْيَأْس مَا العَبْد طَالب ... وَيحرم عِنْد الرشد مِمَّا لَهُ غيا)(2/49)
(ألم تَرَ من سموهُ يحيى تفاؤلا ... سَيبقى غَدا فِي الْحَال رهن أبي يجيى)
(فويل امهِ الثكلى لَو أنّ مصابها ... برضوى دحاء الْخطب فِي أرضه دحيا)
(تصوّره حَيا لفرط ذهولها ... وتسأل مِنْهُ أَن يرّد لَهُ هَديا)
(تعانقه والعنق يجْرِي لَهَا دَمًا ... أظننت خلوقا حَيْثُ لم تملك الوعيا)
(بَكَى لبكاها الجوّ وانهل دمعه ... بتموز شاهدنا يذرى الحياذر يَا)
(وضج جَمِيع النَّاس ضجة وَاحِد ... لَهُ وَاحِد من فقد واظب النعيا)
(فَلَو أَنه يفْدي فدته نفوسنا ... وسبقت لَهُ الْأَرْوَاح فِي حبه هَديا)
(ولكنما الأقدار إخفاء سرّها ... لقد أذهل الأفكار وَالْعقل والرأيا)
(فَإِن نَاب خطب سلم الْأَمر للَّذي ... بِحِكْمَتِهِ قد أحكم الْأَمر والنهيا)
(وصبرا فَمَا الدُّنْيَا بدار إِقَامَة ... كَأَنَّك بالأحياء قد فاقوا الأحيا)
(ألم يَك فِي قتل الْحُسَيْن مواعظ ... لمن رام انصافا من الدَّهْر أَو بقيا)
(فَلَو تمّ شَيْء كَانَ آل نَبينَا ... أَحَق بِهِ من سَائِر النَّاس فِي الدُّنْيَا)
(وَلكنهَا دَار الإهانة والعنا ... فتعسا لأَهْلهَا وخزيا لَهُم خزيا)
(تبدّدهم فتكا وَلَا يتركونها ... وتسقيمهمو سما يَظُنُّونَهُ ريا)
(تسرهم كَيْمَا تعنّ بِفِعْلِهَا ... وتلهيهمو نزرا وتفريهمو فريا)
وَقد أطلنا الْكَلَام وَلَوْلَا خوف السَّآمَة لذكرت من محَاسِن هَذَا الْأَمِير ونوادره وأشعاره شَيْئا كثيرا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ زِينَة أُمَرَاء عصره وَمَعَ شهرته التَّامَّة وأدبه الغض لم يذكرهُ أحد من المؤرخين وَلم أظفر بِشَيْء من خَبره إِلَّا فِي وريقات بِخَط إِبْرَاهِيم رامى وَهَذَا من أعجب الْعجب وَقد ذكر إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور أَن وَفَاته لَيْلَة النّصْف من شعْبَان سنة تسع عشرَة وَألف وَدفن أَمَام دَاره بِجَامِع المرابد عِنْد وَالِده وأجداده قَالَ إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور واخبرني بعض أفاضل حماة مِمَّن كَانَ ينخرط فِي سلك ندماء الْأَمِير حسن بن الأعوج قَالَ دخلت عَلَيْهِ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَعِنْدَ دخولي أقبل بريد من الْبَاب العالي وبشره بإمارة حماة وَكَانَ لَهُ مُدَّة لم يتولها وناوله من يَده منشور الْحُكُومَة فَالْتَفت إِلَى الْبَرِيد وَقد أغر ورقت عينه بالدموع وتنفس الصعداء وَقَالَ بِصَوْت ضَعِيف قضى الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان قَالَ فدعوت لَهُ بطول الْعُمر وسليته عَمَّا كَانَ فِيهِ من الأضطراب والألم فتلهف وتفجع وَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ مسك يَدي وَقَالَ أرى الْأَمر قد آن وَقرب الإرتحال وَلَا أرى لي مخلصا بعد مَا أناقيه من شدَّة(2/50)
الْمَرَض ثمَّ أنْشد بديها لنَفسِهِ
(لَا يحْسب الْإِنْسَان بعد ذَهَابه ... مكث الأسى فِي عشرَة وقرين)
(فِي الْحَال يعتاضون عَنهُ بِغَيْرِهِ ... وَيعود رب الْحزن غير حَزِين ... )
(العندليب الْورْد كَانَ أَمَامه ... لما قضي غَنِي على النسرين)
ثمَّ فارقته فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة قضى نحبه وَلَقي لرَبه رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حسن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حسن بن عمر بن عبد الرَّحْمَن الصفوري الأَصْل الدِّمَشْقِي الملقب بدر الدّين البوريني الشَّافِعِي ذكره كثير من المؤرخين وأرباب الْآدَاب وأثنوا عَلَيْهِ وَكَانَ فَرد وقته فِي الْفُنُون كلهَا وَكَانَ يحفظ من الشّعْر والْآثَار وَالْأَخْبَار وَالْأَحَادِيث المسنده والأنساب مَا لم يرقط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذَلِك من عُلُوم أخر مِنْهَا اللُّغَة والنحو وَالسير والمغازي وَمن آلَة المنادمة شَيْئا كثيرا وَألف التآليف البديعة مِنْهَا تحريراته على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وحاشية على المطول وَشرح ديوَان ابْن الفارض وَهُوَ أشهر تآليفه والتاريخ الَّذِي هُوَ أحد مآخذ تاريخي هَذَا وَقد سبق ذكر ذَلِك فِي الديباجة وَله رحْلَة حلبية وَأُخْرَى طرابلسية وَسبع مجاميع بِخَطِّهِ وسمهم بالسبع السيارة وَله رسائل كَثِيرَة ومنشآت عديدة وَجمع ديوانا من شعره وَهُوَ سَائِر متداول فِي أَيدي النَّاس وَكَانَ عَالما محققا ذكي الطَّبْع فصيح الْعبارَة طليق اللِّسَان متين الْحِفْظ حسن الْفَهم عذب المفاكهة وَكَانَ أَبوهُ فِي مبدأ أَمر منجدا ثمَّ صَار عطارا ثمَّ انْقَطع عَن الحرفة وَلزِمَ وَلَده وَكَانَت أمه من صفورية وَأَبوهُ من بورين وَولد هُوَ ببورين ثمَّ هَاجر بِهِ أَبوهُ فِي سنة ثَلَاث أَو أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ عمره أحدى أَو اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَنزل بصالحية دمشق بِالْقربِ من الْمدرسَة العمرية وأخذله حجرَة بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة وَشرع فِي الإشتغال فَقَرَأَ النَّحْو والفرائض والحساب على الْبُرْهَان إِبْرَاهِيم بن الأحدب الْمُقدم ذكره وعَلى الشَّيْخ أبي بكر الذباح وَالشَّيْخ غَانِم الْمَقْدِسِي الضَّرِير نزيل دمشق وَلَا زَالَ فِي الإشتغال إِلَى سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة فَحصل بِدِمَشْق قحط فارتحل مَعَ وَالِده إِلَى بَيت الْمُقَدّس فاشتغل بهَا على شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد بن أبي اللطف إِلَى حُدُود سنة تسع وَسبعين ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَنزل مَعَ أَبِيه وَأمه بميدان الْحَصَى ودأب فِي التَّحْصِيل وَأخذ عَن الجلة من الْعلمَاء مِنْهُم الشهَاب الطَّيِّبِيّ الْكَبِير وَولده الشهَاب الطَّيِّبِيّ الْأَوْسَط وَعَن الشَّيْخ الْإِسْلَام الْبَدْر الغزى وَولده الشهَاب أَحْمد(2/51)
وَقَرَأَ المعقولات على جدى الْعَلامَة أبي الفدا إِسْمَاعِيل النابلسي والعماد الْحَنَفِيّ وَالشَّمْس مُحَمَّد بن المنقار والنجم مُحَمَّد بن البهنسي خطيب دمشق وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّمْس مُحَمَّد الدَّاودِيّ والشهاب أَحْمد العيثاوي وساد على أهل عصره وتصدر للتدريس وأملى على التَّفْسِير للبيضاوي والكشاف وَالْمولى أبي السُّعُود وَحج قَاضِيا بالركب الشَّامي سنة عشْرين وَألف ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية الجوانية والشامية البرانية والعادلية الصُّغْرَى والفارسية والمدرسة الكلاسة وَكَانَ لَهُ بقْعَة تدريس بالجامع الْأمَوِي وَوعظ بِجَامِع السُّلْطَان سُلَيْمَان بِدِمَشْق واشتهر فَضله وشاع ذكره وَلما ورد دمشق الْحَافِظ الْحُسَيْن التبريزي الْمَعْرُوف بِابْن الكربلالي فِي حُدُود سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة صَحبه وَتعلم مِنْهُ اللُّغَة الفارسية حَتَّى صَار يتَكَلَّم بهَا كَأَنَّهُ أعجمي وَفِي ذَلِك يَقُول
(تعلمت لفظ الأعجمي وإنني ... من الْعَرَب العرباء لَا أتكتم)
(وَمَا كَانَ قصدي غير صون حديثكم ... إِذا صرت من شوقي بِهِ أترنم)
(وَإِن كنت بَين المعجمين فمعرب ... وَإِن كنت بَين المعربين فعجم)
(فأغدوا بأشواقي إِلَيْكُم مترجما ... وسركم فِي خاطري لَيْسَ يعلم)
ثمَّ تعلم فِي آخر حَالَة التركية وَكَانَ فِي الفارسية أبرع ونظم ونثر وَكَانَ من عَادَته الأطراء فِي مديحه فَإِذا كتب على شَيْء أَطَالَ جدا وَذكر النَّجْم الْغَزِّي قَالَ كنت مرّة عِنْد شَيخنَا القَاضِي محب الدّين يَعْنِي جدي فَدخل عَلَيْهِ سَالم العواد وَمَعَهُ محضربخط العناياتي وَقد قرظ عَلَيْهِ البوريني فَأطَال وأوسع فَلَمَّا تَأمله شَيخنَا قَالَ سُبْحَانَ الله مَا ترك البوريني فِي البراني شرابًا ولمح لما اشْتهر عَنهُ من نسبته إِلَى شرب الراح وَلم يكْتب عَلَيْهِ شَيخنَا وَوَقع لقَاضِي الْقُضَاة بِمصْر الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا أَن البوريني لما عمل مجْلِس الحَدِيث بعد صَلَاة الْمغرب بالجامع الْأمَوِي وَكَانَ يتَكَلَّم على الشفا وَيُوضَع لَهُ الفانوس تقليداً للبكريين بِمصْر وَطلب البوريني من الْمولى يحيى حُضُور مَجْلِسه فحضره مرّة فَلَمَّا دَار الْكَلَام عِنْد الْمولى يحيى فِي تدريس البوريني قَالَ هُوَ بكري دمشق موريا فِي لفظ بكري فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة التركية مدمن الشَّرَاب وَإِنَّمَا أشاع النَّاس ذَلِك عَنهُ لِأَنَّهُ كَانَ يعاشر الدولة كثيرا ويبيت عِنْدهم فَرُبمَا ذكر عَنهُ جَمَاعَتهمْ مثل ذَلِك وَذكره البديعي فِي ذكرَاهُ وَقَالَ فِي وَصفه حَسَنَة ازدان بهَا الدَّهْر ازديان الوجنات بالحبات وتاهت بِهِ الْأَيَّام إِذْ كَانَ لَهَا من الْحَسَنَات ومذ رأى(2/52)
الشَّبَاب يتأهب والشيب يتلهب شنف الأسماع بجواهر وعظه فليّن الْقُلُوب القاسية وأبرز خرائد حفظه فَذكر النُّفُوس الناسية بَعْدَمَا كَانَ يخرج فِي الْعشْرَة عَن القشرة فِي أَيَّامه الْمَاضِيَة وَمِمَّا وقفت عَلَيْهِ من آثاره هَذِه الرسَالَة جَوَابا عَن رِسَالَة أرسلها إِلَيْهِ بعض أحبابه موشحة بعتابه يذكرهُ تراضع الكاس فِي أَيَّام الإيناس فَأَجَابَهُ بقوله
(مَضَت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان فِي الأجفان يزدحمان)
(مَا أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودّعين وَلَيْسَ لي قلبان)
وَردت رِسَالَتك الآمرة بالطيش المحسنة للانطلاق إِلَى نهب طيب الْعَيْش
(فَقلت لَهَا أَهلا وسهلا ومرحبا ... بلطف حبيب زار عَن غير موعد)
على أَنَّهَا وَردت رامزة إِلَى الْغَفْلَة عَن الإخوان مشيرة إِلَى نِسْيَان الْأَحِبَّة والخلان فكلا ثمَّ كلا وَالله مَا تبِعت فِي نِسْيَان الْأَحِبَّة الْهوى وَبِاللَّهِ إِنِّي صَاحبكُم وَمَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى
(تجنوني ذنوباً مَا جنتها ... يداي وَلَا أمرت وَلَا نهيت)
وَمَعَ ذَلِك
(فَلَو كَانَ هَذَا مَوضِع العتب لاشتفى ... فُؤَادِي وَلَكِن للعتاب مَوَاضِع)
وَلَئِن حصل فِي مُدَّة الْأَجَل انفساح لنعملنّ بقول الصّلاح
(لَزِمت بَيْتِي كلزوم الْبَنَّا ... للْفِعْل والحرف على الأَصْل)
(وَاسْتَوْحَشْت نَفسِي حَتَّى لقد ... تنفر لَو أمكن من ظِلِّي)
وَهَذَا مُجمل يعسر تَفْصِيله وَحكم يصعب تَعْلِيله وَأما مَا أشرتم إِلَيْهِ بِمَا قَالَ أَبُو نواس وَالْعَمَل بقوله من ارتضاع الكأس فقبول لَو كَانَت منَازِل الشَّبَاب آهلة وأوقات الْهوى لصفاء الْعَيْش قَابِلَة وَلَكِن بعد نزُول الشيب والإنذار من عَالم الْغَيْب لَا مجَال لمصافحة بنت الدنان وَلَو أَنَّهَا بمشافهة الصفاح والسنان
(صَحا الْقلب عَن سلمى وأقصر باطله ... وعرّى أَفْرَاس الصِّبَا ورواحله)
نعم قد جلت فِي أَيَّام الشَّبَاب بميدان الصِّبَا فَمَا عثر طرفِي فِي قَضَاء وطر وَلَا كبا
(وَلَقَد نهزت مَعَ الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح الطّرق حَيْثُ أساموا)
(وَبَلغت مَا بلغ امْرُؤ بشبابه ... فَإِذا عصارة كل ذَاك أثام)
وَأما الْآن فَإِنِّي أَقُول(2/53)
(فَمَا شاقتني ذكرى حبيب ومنزل ... وَلَا راقني للساجعات ترنم)
(وَلَا أطرب الْحَادِي بترجيع لحنه ... وَلَا فاح من نشر الرياض مشمم)
وَلَا يختاج ببالك أَن كلامنا هَذَا بِاللِّسَانِ من غير مُطَابقَة الْجنان فَإِنِّي أقسم بالوفا وَالْكَرم وَالْبَيْت وَالْحرم أَن ظَاهر هَذَا الْأَمر وباطنه سيان وَلَو أطلعت على الضَّمِير لَا زددت علما على مَا نطق بِهِ اللِّسَان وَلَو كنت مائلا إِلَى مَا أَشرت إِلَيْهِ وعولت فِي عبارتك عَلَيْهِ مَا كَانَت أجد مثلك من نديم كَفه كريم وخاطره سليم يفهم الْكَلَام بِالْإِشَارَةِ ويستغني عَن مَفْهُوم الْعبارَة
(إِن كَانَ لَا بدّ من عَيْش وَمن سمر ... فَحَيْثُ آمن من خلى ويأمتني)
نعم إِن مَالَتْ نَفسك إِلَى مجاذبة أَطْرَاف الْآدَاب والمحادثة عَمَّا مضى من وقائع الأحباب فَإنَّك وَالله أعز الإخوان وإنسان عين الخلان مَا رَأينَا مِنْك سوى مَا يسر الْقُلُوب وَيكون عين الْمَقْصُود وَالْمَطْلُوب فَأَنت الْمَقْصُود بقول الشَّاعِر
(بروحي من نادمته فَوَجَدته ... أرق من الشكوى وأصفى من الدمع)
(يوافقني فِي الجدّ والهزل دَائِما ... فَينْظر من عَيْني وَيسمع من سَمْعِي)
هَذَا هُوَ الْجَواب مَعَ الإختصار وَعند مثلكُمْ يقبل الإعتذار انْتهى وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ إِنَّه كَانَ فِي مبدأ أمره وَلَا يتكيف وَلَا يَأْكُل من المكيفات شَيْئا حَتَّى قَالَ الشَّاعِر لما رأى إنكباب النَّاس على البرش وَهُوَ قَوْله
(عمّ البلا يَأْكُل البرش فانتفعت ... مخايل النَّاس فِي خلق وأخلاق)
(وَلَو تصوّر هَذَا الدَّهْر فِي رجل ... لأبصرته الورى فِي زِيّ درياق)
ثمَّ ابتلى بِأَكْلِهِ حَتَّى ظهر فِي فعله وهيئته وحركته إِلَّا أَنه لم يُغير ذكاءه ونوادره ولطائفه كَثِيرَة فَمن ذَلِك مَا رَأَيْته بِخَطِّهِ أَنه سُئِلَ عَن الْحبّ هَل هُوَ بِالْكَسْرِ أَو بِالضَّمِّ فَقَالَ هُوَ بِالْكَسْرِ ويستحسن فِيهِ الضَّم وَعَن الجفن أهوَ بِالْكَسْرِ أَو بِالْفَتْح فَقَالَ هُوَ بِالْفَتْح ويستحسن فِيهِ الْكسر وَهَذَانِ الجوابان شبيهان بِجَوَاب الزَّمَخْشَرِيّ وَقد سُئِلَ عَن العثير أهوَ بِالْفَتْح أَو بِالْكَسْرِ فَقَالَ بِالْكَسْرِ وَلَا تفتح فِيهِ الْعين وَسُئِلَ الْمولى أَبُو السُّعُود الْمُفَسّر عَن الخزانة والقصعة فَقَالَ لَا تفتح الخزانة وتكسر الْقَصعَة وَمِمَّا يستظرف من مناسباته أَنه كَانَ يمِيل إِلَى غُلَام يتَخَلَّص برامى فجفاه مرّة ثمَّ جَاءَهُ معتذرا بِإِشَارَة خُفْيَة من جفنيه فأنشده بديهة قَول ابْن القارض
(رمى فَأثْبت سَهْما من لواحظه ... فِي وسط قلبِي فوا شوقي إِلَى الرَّامِي)(2/54)
وَكَانَ بَينه وَبَين أَحْمد بن شاهين مَوَدَّة أكيدة ومشيخة وتلمذة لِأَن الشاهيني تلميذ البوريني فَوَقع بَينه وَبَينه بِسَبَب أَن الشاهيني كَانَ نظم قصيدة مدح بهَا صنع الله المفعي لما ورد الشَّام مطْلعهَا
(حَيّ الْمنَازل بالنقا فزرود ... فالرقمتين فعهدنا الْمَعْهُود)
فنسبه البويني فِيهَا إِلَى الإنتحال وَجرى بذلك بَينهمَا شَحْنَاء وتقاطع وخاطبه الشاهيني بقصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(قف بِي فلى أثر الحدوج حنين ... وَمن الصبابة طَاهِر وكمين)
وأعقبها برسالة من انشائه المعجب ذكرهمَا البوريني فِي تَرْجَمته واجتمعا يَوْمًا فِي مجْلِس فَقَالَ لَهُ الشاهيني القصيدة المنحولة صدرت عَن طبع نَشأ فِي الرياض بَين لَا كمام لَا عَن طبع نَشأ فِي الْقرى بَين الآكام واجتمعا مرّة أُخْرَى فَنَاوَلَهُ الشاهيني لغزا صنعه فِي سكين فَلَمَّا فطن لَهُ قَالَ قد صَعب عَليّ استخراجه وَمن مقولاتهم الْمَعْنى فِي بطن الشَّاعِر وَكَانَ غَالب أَعْيَان الشَّام من الْعلمَاء يَغُضُّونَ من البوريني الإنطلاق لِسَانه ورربما أوقعوه فِي مكروهات من القَوْل وَالْفِعْل وازدروا بِهِ وَسعوا فِي توهِينه وَكَانَ كثير التيقظ لمكايدهم حكى أَن بعض وزراء الشَّام أقبل عَلَيْهِ واتخذه نديم مَجْلِسه وَكَانَ يُبَالغ فِي توقيره وتعظيمه فقصدوا توهِينه عِنْده فَاجْتمعُوا يَوْمًا فِي دَار الْحُكُومَة البوريني مَعَهم فأرسلوا إِلَى وَالِده يتطلبوه إِلَى الْوَزير بِنَاء على أَن الْوَزير استدعاء وَكَانَ رث الْهَيْئَة فِي زِيّ عوام السوقة كَمَا سلف فَلم يشْعر البوريني إِلَّا وَأَبوهُ مقبل فَنَهَضَ من مَقْعَده مسرعا واستقبله وَقبل يَده ثمَّ جَاءَ إِلَى الْوَزير وَقَالَ لَهُ حلت عَلَيْكُم الْبركَة بقدوم وَالِدي فَإِنَّهُ بركَة هَذَا الْوَقْت الصوام القوام الكذا والكذا فَنَهَضَ الْوَزير وَقبل يَده وَأَجْلسهُ وَبَالغ فِي تَعْظِيمه فَانْقَلَبَ أَعْيَان أُولَئِكَ وَلم يعودوا إِلَى مثلهَا وَهَكَذَا كَانَ البوريني صَاحب بذرقة فِي تعبيراته وأشعاره كَثِيرَة أخرجت مِنْهَا محاسنها وأثبتها هُنَا وَمَا محَاسِن شَيْء كُله حسن فَمن ذَلِك قَوْله وَقد تبع فِيهِ الشُّعَرَاء الأقدمين
(وَكُنَّا كغصني بانة قد تألفا ... على دوحة حَتَّى استطالا وأينعا)
(يغنيهما صدح الْحمام مرجعا ... ويسقيهما كأس السحائب مترعا)
(سليمين من خطب الزَّمَان إِذا سَطَا ... خليين من قَول الحسود إِذا سعى)
(ففارقني من غير ذَنْب جئيته ... وَأبقى بقلبي حرقة وتوجعا)(2/55)
(عَفا الله عَنهُ ماجناه فانني ... حفظت لَهُ الْعَهْد الْقَدِيم وضيعا)
(وَلَكِن سيدري ود من كَانَ مخلصا ... صَدُوقًا يدْرِي من يكون مصنعا)
وَالْأَصْل فِي هَذَا مَا فِي أمالي القالي عَن أبي الْفضل الربعِي عَن أبي السمراء قَالَ دخلت منزل نخاس فِي شِرَاء جَارِيَة فَسمِعت صَوت جَارِيَة تَقول
(وَكُنَّا كَزَوج من قطافي مفازة ... لَدَى خفض عَيْش معجب مونق رغد)
(أصابهما ريب الزَّمَان فافردا ... وَلم نر شَيْئا قطّ أوحش من فَرد)
قَالَ فَقلت للنخاس أعرض على هَذِه المنشدة فَقَالَ إِنَّهَا شعثة حزينة فَقلت وَلم ذَلِك قَالَ اشْتَرَيْتهَا من مِيرَاث وَهِي باكية على مَوْلَاهَا وَتقول
(وَكُنَّا كغصنى بانة وسط رَوْضَة ... نَشُمُّ جنى الروضات فِي عيشة رغد)
(فأفرد ذَاك الْغُصْن من ذَاك قَاطع ... فيا فردة باتت تحن إِلَى فَرد)
قَالَ أَبُو السمراء فَكتبت إِلَى عبد الله بن طَاهِر أخبرهُ بخبرها فَكتب إِلَى أَن ألق هَذَا الْبَيْت عَلَيْهَا فَإِن أجازته فاشترها وَلَو بخراج خُرَاسَان وَالْبَيْت هُوَ هَذَا
(بعيد وصل قريب جهد ... جعلته مِنْهُ لي ملاذا)
فألقيته غليها فَقَالَت بِسُرْعَة
(فعاتبوه فذاب شوقاً ... وَمَات عشقاً فَكَانَ مَاذَا)
قَالَ أَبُو السمراء فاشتريتها بِأَلف دِينَار وحملتها إِلَيْهِ فَمَاتَتْ فِي الطَّرِيق فَكَانَت إِحْدَى الحسرات انْتهى وَفِي الحماسة الطائية لصفية الباهلية
(كُنَّا كغصنين فِي جرثومة سميا ... حينا بِأَحْسَن مَا تسمو بِهِ الشّجر)
(حَتَّى إِذا قيل قد طَالَتْ فروعهما ... وطاب فيؤهما واستنضر الثَّمر)
(أخنى على وَاحِد ريب الزَّمَان وَمَا ... يبْقى الزَّمَان على شَيْء وَلَا يذر)
(كُنَّا كأنجم ليل بَيْننَا قمر ... يجلو الدجى فهوى من بَيْننَا الْقَمَر)
وللبوريني وَهُوَ من مستجاداته
(يَقُولُونَ فِي الصُّبْح الدُّعَاء مُؤثر ... فَقلت نعم لَو كَانَ ليلِي لَهُ صبح)
وَقد ترْجم هَذَا الْمَعْنى من الفارسية وَأَصله لشاعر الْعَجم وحشى سبكه فِي قالب حسن وَمثله قَول البها زُهَيْر
(جعل الرقاد لكَي يواصل موعدا ... من أَيْن لي فِي حبه أَن أرقدا)
وَقَول الباخرزي(2/56)
(قَالَت وَقد فتشت عَنْهَا كل من ... لاقيته من حَاضر أَو بَادِي)
(أَنا فِي فُؤَادك فارم طرفك نَحوه ... ترنى فَقلت لَهَا وَأَيْنَ فُؤَادِي)
والأدباء يستحسنونه وَلم يعرفوا أَنه من قَول عبد الله بن شبيب
(هوى صَاحِبي ريح الشمَال إِذا جرت ... وأهوى لنَفْسي أَن تهب جنوب)
(يَقُولُونَ لَو عذبت قَلْبك لارعوى ... فَقلت وَهل للعاشقين قُلُوب)
وَتَابعه عُرْوَة بن أذينة
(قَالَت وأودعتها سري فبحت بِهِ ... قد كنت عِنْدِي تحب السّتْر فاستتر)
(أَلَسْت تبصر من حَولي فَقلت لَهَا ... غطى هَوَاك وَمَا ألْقى على بَصرِي)
وذيل البوريني بَيته الْمُفْرد بِأَبْيَات وَهِي
(فيا عجبا مني أر يَد لقاءه ... وَفِي جفْنه سيف وَفِي قدره رمح)
(وإنسان عَيْني كَيفَ ينجو وَقد غَدا ... يطول لَهُ فِي لج مدمعه سبح)
(وَإِن كَانَ يَوْم الْبَين يسود فحمه ... فَمن مهجتي نَار وَمن نَفسِي قدح)
(وَلَيْسَ عجيبا أَن دمعي أَحْمَر ... وَفِي مهجتي جرح وَفِي مقلتي قرح)
وَلَو تَركه مُفردا لَكَانَ أصوب وَمن شعره
(أَحول وَجْهي حِين يقبل عَامِدًا ... مَخَافَة واش بَيْننَا ورقيب)
(وَفِي باطني وَالله يعلم أعين ... تلاحظه من أضلع وَقُلُوب)
وَالْمعْنَى حسن وَأحسن مِنْهُ قَول الخفاجي
(تنَازع فِيهِ الشوق قلبِي وناظري ... فأثر فِيهِ الطّرف وَالْقلب نَائِب)
(وتنظره من قلبِي الصب أعين ... عَلَيْهَا المحنى الضلوع حواجب)
لَكِن أَخذه الشهَاب وَنَقله عَن مَعْنَاهُ المُرَاد من قَول الْقَائِل
(خلقنَا بأطراف القنا فِي ظُهُورهمْ ... عيُونا لَهَا وَقع السيوف حواجب)
قَالَ الحريري من سرق ورق فقد اسْتحق وَله فِي تَرْجَمَة من الفارسية
(ورق الغصون إِذا نظرت دفاتر ... مشحونة بأدلة التَّوْحِيد)
وَمثله لِلشِّهَابِ من ذَوَات أَمْثَاله
(باح بنشر الرَّوْض خفاق الصِّبَا ... وأسكر الْغَيْث النَّبَات فِي الرِّبَا)
(أما ترى فِي روضه إِلَّا وراقا ... رطب لِسَان يشْكر الخلاقا)
(وَتلك للتوحيد كالدفاتر ... تقرؤها الطُّيُور فِي المنابر)(2/57)
وللبوريني
(أيا قمرا قد بت فِي ليل هِجْرَة ... أراقب سيار الْكَوَاكِب حيرانا)
(خبأتك فِي عَيْني لتخفى عَن الورى ... وَمَا كنت أَدْرِي أَن فِي الْعين إنْسَانا)
وللخفاجي
(خبأتك فِي الْعين خوف الوشاة ... وَكم شرف الدَّار سكانها)
(وَمن غيرَة خفت أَن يفطنوا ... إِذا قيل فِي الْعين إلنسانها)
وللبوريني
(تعشقت مِنْهُ حَالَة لست قَادِرًا ... على وصفهَا إِن لم يذقها سوى قلبِي)
وَله
(أَتَرَى علمت بحالتي ... يَا من تغافل عَن شؤوني)
(هلا رحمت مدامعا ... سَالَتْ عيُونا من عيوني)
وَله من قصيدة يصف فِيهَا الغدير
(يُجَاوب أسيحاع الْحمام خريره ... فتصغى لَهُ الورقاء من فَوق أيكة)
وَتبع فِي ذَلِك أَبَا الحكم فِي قَوْله
(وتحدث المَاء الزلَال مَعَ الصَّفَا ... فَجرى النسيم عَلَيْهِ يسمع مَا جرى)
وللبوريني
(أتنكر مني رفع صوتي بالبكا ... لبسين حبيب عز مِنْهُ معاد)
(أَلَسْت ترى الثَّوْب الْجَدِيد وَقد غَدا ... يَصِيح لَدَى التَّفْرِيق وَهُوَ جماد)
وَقَرِيب مِنْهُ قَول الْقَائِل
(لَا غر وَمن جزعي لبينهم ... يَوْم النَّوَى وَأَنا أخوالهم)
(فالقوس من خشب يَئِن إِذا ... مَا كلفوه فرقة السهْم)
وَله
(عمامتي لعبت أَيدي الزَّمَان بهَا ... كَأَنَّهَا نسجت من عهد حَوَّاء)
(أُرِيد أغسلها وَالْخَوْف يَمْنعنِي ... من أَن ترى نزلت يَوْمًا مَعَ المَاء)
وَهُوَ من قَول الْقَائِل
(ولي ثِيَاب رقاق لست أغسلها ... أَخَاف أعصرها تجْرِي مَعَ المَاء)
وَمن مَشْهُور شعره قَوْله فِي نصيحة
(أوصيك أوصيك فاسمع مَا أقرره ... فقد نَصَحْتُك خلي نصح مُعْتَبر)
(لأتركن إِلَى من لَيْسَ تعرفه ... وَمن عرفت فَكُن مِنْهُ على حذر)
أَخذ من قَول ابْن فَارس
(اسْمَع مقَالَة نَاصح ... جمع النَّصِيحَة والمقه)
(إياك وَاحْذَرْ أَن تكون ... من الثِّقَات على ثِقَة)
وَله
(يَا ساكنين الْجزع لي بعدكم ... طرف مدى الْأَيَّام لَيْسَ بناظر)(2/58)
(مَا زار إنساني سواكم بعدكم ... إِلَّا وَألقى سترد مَعَ سَاتِر)
مَأْخُوذ من قَول الأرجاني
(لي بعد آلا فِي الَّذين رحلوا ... وخلفوا صبري كَلْبِي منتهب)
(إِنْسَان عين لم يزره غَيرهم ... إِلَّا وَألقى سترد مَعَ فاحتجب)
وَله يعْتَذر عَن أَمر نقل عَنهُ
(الله يعلم أَن ساحة خاطري ... مِمَّا رقمت صحيفَة بَيْضَاء)
(وسنلتقي يَوْم الْقيام بموقف ... فِي ضمنه تتبين الْأَشْيَاء)
وَاتفقَ لَهُ انه سَار إِلَى بعض غِيَاض دمشق وَأَرَادَ استدعاء بعض أحبابه فَلم يجد قَلما وَلَا دَوَاة وَكَانَ أَيَّام التوت الْأسود فَكتب بمائه بديها
(يَا طَائِر البان خُذ مني مُكَاتبَة ... ضعها لدي منزل الظبي الَّذِي سخا)
(هِيَ الشكاية من دَاء الْفِرَاق وَقد ... كتبتها بِدَم الْقلب الَّذِي جرحا)
وَله
(وتنفسي الصعداء لَيْسَ شكاية ... مني لهجرك يَا ضِيَاء النَّاظر)
(لَكِن بقلبي من جفاك تألم ... فَأرى بذلك رَاحَة للخاظر)
وَله
(قَالَ لي عاذلي تسل قَلِيلا ... بمسير عَن الْحمى والربوع)
(قلت يَا عاذلي تَأَخَّرت عني ... كَانَ هَذَا الْكَلَام قبل وقوعي)
وَله
(مرادي من الدُّنْيَا مُرَاد أريده ... من الْحبّ وَالْإِنْسَان قد يتَخَيَّر)
(سوى وَقْفَة فِيهَا أسائل مَا الَّذِي ... يقدم غَيْرِي أَو لماذا أؤخر)
وَله
(بِحَق الَّذِي أَعْطَاك حسنا ودولة ... ولطفا بِهِ للضد مَا زلت تقهر)
(لماذا رعاك الله غَيْرِي مقدم ... ومثلي على صدق الوداد مُؤخر)
وَله
(مَا رمت ترك الظُّلم مِنْهُ تبرما ... من حمل أثقال القطيعة والجفا)
(لَكِن خشيت عَلَيْهِ عُقبى فعله ... فِي يَوْم يلقى الْمَرْء مَا قد أسلفا)
وَله
(وَكم قَائِل مَالِي أَرَاك مجانبا ... غرام مليح كالغزال المشرد)
(فَقلت دعوا هَذَا الملام فائتني ... ختمت رسالات الْهوى بِمُحَمد)
وَله غير ذَلِك من عُيُون الْأَشْعَار وَالْأَخْبَار مالوا ستقصيته لجاء فِي كتاب مُسْتَقل وَكَانَت وِلَادَته فِي قَرْيَة صفورية نَهَار الْجُمُعَة منتصف شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي بعد الظّهْر نَهَار الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالجامع الْأمَوِي من الْيَوْم الثَّانِي وَدفن بمقبرة(2/59)
الفراديس وَكَانَ قبل مَوته بلحظة أَمر بعض من حضر عِنْده بِقِرَاءَة سُورَة يس فقرؤها وَكَانَ هُوَ فِي حَالَة النزع يُحَرك شفته مَعَهم إِلَى أَن وصلوا إِلَى قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون فَمد السبابَة إِشَارَة إِلَى الشَّهَادَة وَخرجت روحه وَرَآهُ بعض الثِّقَات لَيْلَة مَوته وَجَمَاعَة ينشدون هَذِه الْمقَالة ويذكرون أَن البوريني نظمها وَأوصى أَن ينشدونها أَمَام جنَازَته وَهِي للقاء الله باسم الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله كنت أمس بَين أحبابي وأصحابي وأترابي فدعاني نَحوه رَبِّي ألف أَهلا وَألف باسم الله وَرَآهُ بعض الْفُضَلَاء بعد مَوته فِي مَنَامه كَأَنَّهُ على كرْسِي عَظِيم فِي رَوْضَة غناء وَعَلِيهِ هَيْبَة وَإِلَى جَانِبه رجل وَهُوَ يعلم أَنه مَاتَ فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي كَيفَ حالك وَمَا فعل الله بك فَقَالَ إِنِّي جعلت بَيْتَيْنِ يعلم مِنْهُمَا مَا فعل الله بِي ثمَّ أنْشد قَوْله
(وَفِي لي من أَهْوى وآنس وحشتي ... وداوى فُؤَادِي بالتداني وبالقرب)
(فَظن بِهِ خيرا وَإِن كنت مذنبا ... فَمَا خَابَ عبد أحسن الظَّن بالرب)
ونظم هَذِه الرّبَاعِيّة قبل مَوته وَأوصى أَن تكْتب على قَبره وَهِي قَوْله
(يَا رب تبِعت سيد الْأَبْرَار ... واخترت سَبِيل صُحْبَة الأخيار)
(وَالْيَوْم فَلَيْسَ لي سوى لطفك بِي ... يَا رب فوقني عَذَاب النَّار)
ورثاه جمَاعَة من فضلاء زَمَانه مِنْهُم الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وَكَانَ مِمَّن أَخذ عَنهُ وتلمذ لَهُ مُدَّة وقصيدته أحسن مَا قيل فِيهِ من المراثي وَهِي مَشْهُورَة متداولة مطْلعهَا قَوْله
(زلزل الْكَوْن والقتام علا ... وَهوى الْبَدْر بَعْدَمَا كلا)
ويعجبني مِنْهَا قَوْله
(كم لَهُ من فَوَائِد وفدت ... قد غَدا ركنهن مرتحلا)
(والبلاغات بعد مَا بلغت ... حَدهَا مِنْهُ دَانَتْ الأجلا)
(فِي اللسانين فَارس بَطل ... فاللسان بعده بطلا)
(راق روض النهى بِهِ زَمنا فِي دمشق وَبعده ذبلا ... )
(نَدم الدَّهْر حَيْثُ جادبه ... غلطة بعد طول مَا بخلا)
(عقد در فِي السلك قد عبثت ... مِنْهُ أَيدي الْمنون فانفصلا)
(كَانَ للدهر بهجة وسنا ... مِنْهُ أما إِذا غَابَ عَنهُ فَلَا)
(قل لمن شَاءَ أَن يؤرخه ... بدر علم فِي الشَّام قد أَفلا)
وَمن غَرِيب مَا وَقع بعد مَوته أَنه كَانَ فِي مَرضه تفرغ عَن الْمدرسَة الشامية البرانية لِلشِّهَابِ أَحْمد العيثاوي فَلم يقبل قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق الْمولى مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف(2/60)
بجوى زَاده ووجهها لعبد الْحَيّ بن يُوسُف وَعوض العيثاوي بالوعظ فِي السليمانية وَوجه الناصرية الجوانية لمنلا عبد الرَّحْمَن بن أويس الْكرْدِي والعادلية الصُّغْرَى للْقَاضِي عبد اللَّطِيف بن الجابي والبقعة بالكلاسة للشَّيْخ أَحْمد بن محب الدّين الْحَنَفِيّ والبقعة بالجامع الْأمَوِي لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيم البوريني وَقِرَاءَة الحَدِيث بالجامع الْأمَوِي لعبد الرَّحِيم بن محَاسِن سبط البوريني فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت سادس عشر جُمَادَى الأولى اجْتمع جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن شاهين وَأحمد بن زين الدّين المنطقي الْمُقدم ذكرهمَا وحسين بن عبد النَّبِي الشعال ورمضان بن عبد الْحق العكاري والكمال ابْن مرعي العيثاوي وَسليمَان الْحِمصِي وَشرف الدّين الدِّمَشْقِي وَمُحَمّد بن نعْمَان الأيجي وَإِبْرَاهِيم الْعِمَادِيّ الْوَاعِظ وَأحمد العرعاني وَكَانَ اجْتِمَاعهم بالجامع الْأمَوِي ثمَّ أحاطوا بالشمس الميداني ورأسوه عَلَيْهِم وَقَالُوا نَجْتَمِع وَنَذْهَب إِلَى القَاضِي والباشا ونطلب توزيع وظائف البوريني علينا ثمَّ ذهب مِنْهُم طَائِفَة إِلَى العيثاوي وسألوه أَن يذهبوا فِي خدمته إِلَى القَاضِي فَقَالَ لَهُم لَا تلِيق هَذِه الجمعية وَلَكِنِّي أذهب إِلَى القَاضِي وأنصحه فَذهب إِلَيْهِ وَتكلم مَعَه أَن يعْطى الحَدِيث لِابْنِ الأيجي وَتَكون الناصرية مُشْتَركَة بَين الملا عبد الرَّحْمَن الْكرْدِي وَآخر فَأَجَابَهُ القَاضِي إِلَى مَا قَالَ فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ انْدفع الْقَوْم وَمَعَهُمْ آخَرُونَ فَدَخَلُوا على القَاضِي وجلبوا عَلَيْهِ فبادر القَاضِي وَقَالَ لَهُم اجلسوا واقتسموا الْوَظَائِف فجلسوا خَارج الْمجْلس يقتسمون وَالْكَاتِب يكْتب مَا يتفقون عَلَيْهِ ثمَّ خَرجُوا من عِنْده بِنَاء على أَن تكْتب التقارير على مَا رتبوه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشر الشَّهْر الْمَذْكُور جمع القَاضِي إِلَيْهِ العيثاوي ومنلا عبد الْحَيّ بن يُوسُف والخطيب يحيى بن مُحَمَّد البهنسي وَولده أَحْمد وَالْقَاضِي أَبُو الْبَقَاء الصَّالِحِي وَذهب بهم إِلَى نَائِب الشَّام إِذْ ذَاك مُحَمَّد باشا الجركسي وصور الدَّعْوَى عِنْد القَاضِي بن مغيزل قسام العسكري بِدِمَشْق وَكَانَ حَاضرا بالديوان بِإِذن الباشا على الْجَمَاعَة بالهجوم وَقلة الْأَدَب مَعَه وَأثبت ذَلِك عَلَيْهِم وَكتب بذلك صك فَتقدم مثلا زين الدّين وَالِد أَحْمد المنطقي وَتكلم مَعَ القَاضِي بِكَلِمَات فَاحِشَة وسجل عَلَيْهِم كل ذَلِك إِلَّا ابْن شاهين فَإِنَّهُ اسْتثْنى من الْكِتَابَة سرا لمكانة أَبِيه ثمَّ شفع العيثاوي وَمن مَعَه عِنْد القَاضِي فِي الْعَفو عَنْهُم من التعزيز بِالضَّرْبِ وانفصل الْمجْلس على ذَلِك ونظم النَّجْم الْغَزِّي هَذِه الْحَادِثَة فِي قصيدة طَوِيلَة ذكرهَا فِي ذيله ومطلعها قَوْله(2/61)
(رويدك أَن الْفضل للمرء نَافِع ... وَلَكِن على قدر الْعُقُول الْمَنَافِع)
(مَتى ضل عقل الْمَرْء ضل طَرِيقه ... وَلَيْسَ لَهُ عَن وهدة الْجَهْل مَانع)
(ألم تَرَ رهطا حاولوا رفع قدرهم ... بِأَنْفسِهِم وَالله مَا شَاءَ صانع)
(سعوا نَحْو قَاضِي الشَّام صين جنابه ... وَكَانَ امْرِئ غاد وللنفس بَائِع)
... قضى الْحسن الْعَلامَة النّدب فاغتدوا ... وكل لَهُ بالاشتغال تنَازع)
(يَقُولُونَ وجهت الْجِهَات لغيرنا ... أَبى الله معط من يَشَاء ومانع)
(وَعَن أدب زاحوا فراحوا بنقمة ... وَقد ذل بَين النَّاس من هُوَ طامع)
(وَقد كَاد لَوْلَا عَفوه وسماحه ... تماسهم مِنْهُ الْعَصَا والمقارع)
(وَقد عزروا وافي مشْهد ثمَّ اسمعوا ... لما كَرهُوا وَالْقَوْل للمرء رادع)
(أيجمل مِنْهُم مَا أَتَوا وتهوروا ... هُنَالك أَن الْعقل للمرء وازع)
مِنْهَا
(إِذا قارع الضرغام جدي لجهله ... بصولته فالليث للجدي قارع)
(إِذا ركب الْإِنْسَان فِي غير سَرْجه ... أتيح لَهُ عَن ذَلِك السرج صارع)
(وَمن لم تؤدبه الْعُلُوم وخف فِي ... هَوَاهُ نَهَاهُ أدبته الوقائع)
(وَمن لم يكن فِي فورة الْأَمر نَاظرا ... عواقبه ينْدَم وللسن قارع)
(وَقد هد مِنْهُ عَرْشه وَهُوَ نَاظر ... وَقد قد مِنْهُ عرضه وَهُوَ سامع)
(تعجبت من تِلْكَ الْقَضِيَّة أَنَّهَا ... لعمري وعظ وَهِي للقلب صادع)
(جرت بعد ألف ثمَّ عشْرين حجَّة ... بذا الْعَام حَيْثُ الْعَام من بعد رَابِع)
(تَأمل رعاك الله أَفعَال رَبنَا ... فَلَيْسَ لما يَقْضِيه فِي الْكَوْن دَافع)
(وَلَا ترج إِلَّا الله فِي كل مقصد ... تبَارك أَن الْفضل مِنْهُ لواسع)
(وَبعد فَإِن الله جلّ جَلَاله ... لكل الورى يَوْم الْقِيَامَة جَامع)
الشَّيْخ حسن بن مُحَمَّد بن أبي الْفضل ابْن بَرَكَات بن أبي الوفا الملقب بدر الدّين الدِّمَشْقِي الميداني الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالموصلي الشَّيْبَانِيّ قَاضِي الشَّافِعِيَّة بِبَاب قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق وَاحِد أَعْيَان الْفُضَلَاء وَكَانَ عَالما فَقِيها نحويا بارعا وَفِيه أَنَاة وحلم وَمَكَارِم أَخْلَاق قَرَأَ بِدِمَشْق على جدي القَاضِي محب الدّين وجدي إِسْمَاعِيل النابلسي والعماد الْحَنَفِيّ والأسد بن معِين الدّين التبريزي وتفوق وَلزِمَ إِفَادَة الطّلبَة بالجامع الْأمَوِي مُدَّة وَلما انْحَلَّت إِمَامَة الشَّافِعِيَّة الأولى بالجامع عَن الشَّيْخ مُوسَى الجوسي فِي زمن قَاضِي دمشق الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بالكوجك اجْتمع عُلَمَاء الْبَلدة(2/62)
وطلبوها للمذكور وَكَانَ القَاضِي وَجههَا لِابْنِ أبي البقا فعارضوه وَذكروا أحقية الْمَذْكُور فَقَالَ انْظُرُوا ثَالِثا مِمَّن يَسْتَحِقهَا فَقَامَ الشَّمْس مُحَمَّد الميداني الْآتِي ذكره فِي الْمجْلس وَقَالَ أَنا الثَّالِث وطلبها فوجهها القَاضِي إِلَيْهِ وَخرج الْجَمَاعَة من عِنْد القَاضِي حنقين عَلَيْهِ ثمَّ سعى بعض أكابرهم فِي اتيان بَرَاءَة للبدر الْمَذْكُور فَلَمَّا قدم الْمولى مصطفى بن حسن قَاضِيا بِدِمَشْق ترافعا إِلَيْهِ بِمحضر من الْعلمَاء وكل مِنْهُمَا قدم بَرَاءَته فَاقْتضى رَأْي القَاضِي وَالْجَمَاعَة أَن تشطر بَينهمَا وداما على ذَلِك وَولي الْبَدْر بعد ذَلِك قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِطَلَب عُلَمَاء دمشق وحمدت سيرته فِيهَا وَلم يزل قَاضِيا حَتَّى توفّي فِي سنة ثَلَاث أَو أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِقرب مَسْجِد النارنج رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حسن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْكرْدِي الصهراني النورديني الشَّافِعِي الْمُحَقق الفهامة الْمُؤلف الْأُسْتَاذ كَانَ من أجلاء عُلَمَاء الأكراد وَله الباع الطَّوِيل فِي حل الغوامض والغوص على الْمعَانِي قدم إِلَى دمشق فِي حُدُود سنة خمس وَسبعين وَألف واختص أَولا بالملا أبي بكر ابْن منلا جامي الْمُقدم ذكره فاستنابه فِي تدريس الْمدرسَة السليمية لسوء مزاج كَانَ اعتراه وَعقد حَلقَة تدريس بالجامع الْأمَوِي عِنْد مقَام الْخضر وعاينته هُنَاكَ وَهُوَ يُقرر أَشْيَاء دقيقة المرمى تدل على نظر دَقِيق وَتَحْقِيق زَائِد وَأَخْبرنِي صاحبنا الملا مُحَمَّد بن رستم الصهراني وَهُوَ من أَقَاربه أَنه قَرَأَ بصهران على الْمولى رَسُول الصهراني وَأخذ بِبِلَاد ديار بكر عَن الْمولى قره قَاسم وَالْمولى عمر بن الْجَلِيّ صَاحب شرح البهائية فِي الْحساب والحاشية على ميزاب الْفَتْح فِي الْآدَاب وَحكى لي أَنه كَانَ يفضل الْجَلِيّ على جَمِيع من رَآهُ من أساتذته وَألف بِدِمَشْق شرحا على البهائية فِي غَايَة الدقة وَله رِسَالَة فِي سُورَة المطففين وَكَانَ شرع فِي تَحْرِير شرح على الْقطر لِابْنِ هِشَام على أسلوب عَجِيب من الدقة وَكتب مِنْهُ حِصَّة وافرة وَلم يكمله وَكَانَ فِي الزّهْد والورع غَايَة لَا تدْرك وَوَقع لَهُ أَحْوَال تدل على علو كَعبه فِي الْولَايَة حكى لي الملا مُحَمَّد الْمَذْكُور وَقَالَ أَخْبرنِي الملا حسن يَعْنِي صَاحب التَّرْجَمَة انه كَانَ فِي موطنه يكْتب مُصحفا فَجَلَسَ يَوْمًا للكتابة فَرَأى الدواة قد فاضت بالحبر حَتَّى امْتَلَأَ مَا حوله فَنَهَضَ مذعورا وركض مَسَافَة عشر خطوَات ثمَّ الْتفت فَرَأى خَلفه بحرا من حبر ثمَّ غاض فَرجع إِلَى مَكَانَهُ وَشرع يكْتب وحَدثني عَنهُ من هَذَا الأسلوب بأَشْيَاء كَثِيرَة وَلما مَاتَ الملا أَبُو بكر الْمَذْكُور فِي التَّارِيخ الَّذِي ذكرته فِي تَرْجَمته(2/63)
سَافر إِلَى الرّوم فِي طلب جهاته فأدركه أَجله بعد مُدَّة من وُصُوله وَكَانَت وَفَاته بأدرنة سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَهُوَ فِي سنّ الْأَرْبَعين
السَّيِّد حسن بن مُحَمَّد بن عَليّ السَّيِّد الْأَجَل الحسنيني الْمَعْرُوف بالمنير الْحَمَوِيّ الأَصْل الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الشَّافِعِي خُلَاصَة الخلاصات من السَّادة الكمل الأخيار كَانَ عَالما فَقِيها ورعا زاهدا تَارِكًا لَا يُغْنِيه لَا يصرف أوقاته فِي عَبث بل كل أوقاته معمورة بالفائدة من مذاكرة علم أَو قِرَاءَة قُرْآن أَو عمل خير وَكَانَ فِي هَذَا الْعَصْر الْأَخير من أَفْرَاده جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل وَكَانَ فِيهِ نفع عَظِيم للنَّاس لَا زَالَ يقرىء الدُّرُوس بِجَامِع الدرويشية والسيبائية وَتخرج عَلَيْهِ خلق كثير من طلبة الْعلم من الشَّافِعِيَّة وَبِه تفقهوا وانتفعوا وَكَانَ النَّاس يعظمونه ويهابون ساحته وَإِذا أقبل من بعيد فِي سوق أَو زقاق تبَادرُوا إِلَى تَقْبِيل يَده وَطلب دُعَائِهِ وَكَانَ مرشداً متواضعاً سليم الصَّدْر بشوشاً إِلَى الْغَايَة لم نسْمع أَن أحد أتأذى مِنْهُ مده عمره فِي قَول أَو فعل ويحكى عَنهُ كرامات وأحوال هُوَ فِي أَعْلَاهَا ذرْوَة وأسماها منقبة وَبِالْجُمْلَةِ ففضائله مِمَّا لَا مُنَازع فِيهَا وَكَانَت وَفَاته عقيب الظّهْر بهنيئة من يَوْم الْأَحَد سادس عشرى شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من سَيِّدي نصر الْمَقْدِسِي وَسَيَأْتِي أَبوهُ مُحَمَّد فِي حرف الْمِيم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الشَّيْخ حسن بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن عطيف الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ كَانَ فَاضلا سَاكِنا لَهُ حسن مطارحة وانعطاف وَكَانَ لطيف الصَّوْت قَارِئًا مجوداً قَرَأَ الْعَرَبيَّة على مصطفى بن محب الدّين وَغَيره وتفقه على وَالِده وعَلى الإِمَام رَمَضَان بن عبد الْحق العكاري وبرع فِي الْفُنُون وَتَوَلَّى الخطابة بِجَامِع العداس خَارج دمشق بمحلة القنوات ولازم الِاشْتِغَال هُوَ وَشَيخنَا أَخُوهُ الْعَلامَة رَمَضَان الْآتِي ذكره مُدَّة حياتهما وَكَانَا لَا يملان المذاكرة وَحُضُور الدُّرُوس وَلَا يكَاد أَن يفترقان لَحْظَة وَاحِدَة وَعرض لحسن فِي آخر عمره وَمرض الفالج فَانْقَطع عَن النَّاس سبع سِنِين وَمَا كَانَ يفهم مِنْهُ إِلَّا لفظ الله الله وَاسْتمرّ مفلوجاً إِلَى أَن توفّي نَهَار الثَّلَاث ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير قرب مَسْجِد النارنج وَأَخْبرنِي أَخُوهُ شَيخنَا الْمَذْكُور أَن وِلَادَته فِي سنة عشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ الْحسن بن النَّاصِر بن عبد الحفيظ المهلا الشرفي الْعَلامَة الَّذِي تفرد فِي وقته(2/64)
الْفضل وَالْعلم والورع والزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الْآخِرَة وَكَانَ كثير الصَّدَقَة على ذَوي الْفَاقَة حَرِيصًا على فعل الْخَيْر وَالْمَعْرُوف أَخذ عَن أَبِيه وجده وَسمع على أَخِيه الْحُسَيْن كثيرا من الْعُلُوم مَعَ كَونه أسن مِنْهُ بِنَحْوِ سبع سِنِين وَكَانَ لَهُ الْخط الْحسن الرَّائِق المضبوط وَالنّظم والنثر الفائقان ولقى جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء وَأخذ عَنْهُم كثيرا وحوى علما غزيرا وَله ارتحالات كَثِيرَة من جُمْلَتهَا ارتجاله مَعَ أَخَوَيْهِ إِلَى شهارة أَمَام دَعْوَة الْقَاسِم بن الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد وَأَقَامُوا بهَا ثَلَاثَة أشهر بداره الميمونة بالناصرة من شهارة فِي خلال الْإِقَامَة شَارك السَّيِّد أَحْمد بن الإِمَام المتَوَكل فِي قِرَاءَة التَّيْسِير للديبع وَغَيره من الْكتب الحديثية وَكَانَ فِي زمن حداثته مجدا فِي الِاشْتِغَال بِالْعلمِ وَطَلَبه على أَبِيه وجده مَعَ مُشَاركَة أَخِيه الْحُسَيْن وَكَانَ إِذا قَرَأَ شَيْئا فِي غيبَة أَخِيه الْحُسَيْن تتأثر نفس الْحُسَيْن فيعاتبه فِي ذَلِك فيعتذر صَاحب التَّرْجَمَة إِلَيْهِ وَيُعِيد مَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ فِي ذَلِك صنوه الْحُسَيْن أبياتا رائية معاتبا لَهُ وَجعل أول كل بَيت حرفا من حُرُوف الْعَجم وأولها قَوْله
(أذاب فُؤَادِي بارق الْغَوْر إِذْ سرى ... بنفحة مسك من حدائقها تترى)
(بحقك خبرني عَن الغورانة ... حَدِيث صَحِيح لَيْسَ فِي القَوْل مُنْكرا)
(تَأمل بِهِ تِلْكَ المغاني تلق لي ... لطائف فاقت فِي المحاسن مخبرا)
(ثملت وَقد دارت رحيقة وَصفَة ... فأنهلنا التسنيم من تِلْكَ مُسكرا)
(جرى ذكر أحبابي بروضة قدسها ... وَقد كُسِيت بردا من الوشي أخضرا)
(حووا من مليح الْوَصْف كل غَرِيبَة ... كزهر سَمَاء الأَرْض فِي حسنها ترى)
(خليلي مَا واف بعهدي أَنْتُمَا ... إِذا لم تقصا وصفهَا لي وتخبرا)
(دعوتكما كي تفهماني حَقِيقَة ... الْأَحِبَّة فِيمَا مفرقين وتحضرا)
(ذكرت لَهُم ذكر الصِّفَات فهاج بِي ... من الشوق مَا ألفيته متذكرا)
(رَأينَا بهَا مَا يمْلَأ الْعين قُرَّة ... فروحت الْأَرْوَاح من حسن مَا ترى)
(زيارتهم فِيهَا لقلبي مَسَرَّة ... غَدَتْ مورد للصالحات ومصدرا)
(سلى إِن أردْت الْيَوْم عني وعنهم ... ترى مَا يسر الْأَوْلِيَاء بِلَا مرا)
(شفتنا وأولتنا فَوَائِد عِنْدهَا ... تسهل للأحباب مَا قد تعسرا)
(صفت عندنَا تِلْكَ الصِّفَات الَّتِي علت ... وفاقت وراقت للقلوب بِلَا أمترا)
(طوينا لذى الأحباب كل مقلة ... وَقد كَانَ فِي نَفسِي مقَال تكثرا)
(ظفرنا بِمَا نرجو من الْحسن الَّذِي ... يفيدك أَن أقرا الْفَوَائِد أوقرا)(2/65)
(عليم بأعقاب الْأُمُور كَأَنَّمَا ... لما فِي غَد من قبل يَأْتِيهِ أبصرا)
(غَدَوْت عَلَيْهِ عاتبا تباحين أهمل ... الْأُخوة لما ينتظرني ويدكرا)
(فواعجبا من فعله حِين غبت عَن ... محاملة هلا لحقي آثرا)
(قَرَأت حماك الله لم تنْتَظر لنا ... وعذرى أَن السحب بالغيث أمطرا)
(كفى حجَّة برهانها مشرق بِمَا ... فعلت على إهمال حقى بماهرا)
(لويت عنان الْوَعْد عَنى عَامِدًا ... وأنسيت حَقًا للإخاء مؤثرا)
(محلك فَوق الشَّمْس عِنْدِي وإنني ... لَا بنى لَهُ فَوق المجرة معمرا)
(نخوتكم لما تقشع سحبها ... وسرت إِلَى سوح الْمَعَالِي مبكرا)
(وَقد لَاحَ فِي الصُّبْح الثريا كَمَا ترى ... كعنقود ملاحية حِين نورا)
(هُوَ الصنع أَن تعدل فَخير وَإِن بَدَت ... بِعُذْر فكم ريت بِهِ عَاد أكبرا)
(لأعظ من أولى ووالى صَنِيعه ... وَحَازَ من الْخيرَات سَهْما موفرا)
(يَقُول لَك الْقلب الَّذِي ترك الْهدى ... إِذا أَنْت راعيت الإخاء المقررا)
(أَلَسْت من الْقَوْم الَّذين وليدهم ... يُرْجَى لإقراء الْعُلُوم وللقرى)
(بلغنَا السما مجدا وَعزا وسؤددا ... وَأَنا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا)
(تجرد لأخذ الْعلم عَنْهُم فَإِنَّهُم ... أئمته فارحل إِلَيْهِم مثمرا)
(ثباتهم فِيهِ عَظِيم رسوخه ... وذكراء قد يُولى الثَّنَاء مُعْتَبرا)
(جزى الله آبَائِي عَن الْكل خَيره ... وأبقاهم مَا قيل نظم وسيرا)
(حما بعواليهم حمى الدّين واستووا ... على فلك العلياء لما نتوّرا)
(عَلَيْك سَلام الله مَا انهلت السما ... بودق على روض أريض فأزهرا)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّرْجَمَة بقوله
(أسرد إِذا خففت فِي الْقَوْم معشرا ... وتكثر أتراحي إِذا كَانَ أكثرا)
(بِنَاء على أَن أمرأ باد عموه ... إِذا كَانَ فِي غير الْعُلُوم مكثرا)
(تبينت أَن الْعِزّ فِي الْعلم والعلا ... وَأَن تجار الْعلم هم خيرة الورى)
(ثنائي عَلَيْهِم لأعلى كل مهمل ... بجانبهم مِمَّن عتا وتكبرا)
(جنوا ثمرا من كل روض فنونه ... وَأَعْطَاهُمْ الرَّحْمَن حظا موفرا)
(حريون بالتقديم أَقْدَامهم على الثريا ... وَأهل الْجَهْل فِي أَسْفَل الثرى)
(خلا من غَدا فِي دهره متعلما ومستمعا مَا فاق درا وجوهرا ... )(2/66)
(دنا مِنْهُم فازداد مجدا وَرَفعه ... وعاش حميدا فِي الورى منتصرا)
(ذكرت خلالاً للحسين فسرني ... بِأَن أخي للْعلم أضحى مثمرا)
(رضيت لَهُ هَذَا طَرِيقا ومسلكا ... وَصَاحبه فَوق النُّجُوم كَمَا ترى)
(زِيَادَة مَا فَوق البسيطة لم تكن ... من الْعلم نُقْصَان وخسر بِلَا مرا)
(سما من لَهُ الْعلم الشريف وَسِيلَة ... وَمَا فَازَ ذُو جهل وخاب من افترى)
(شرى نَفسه يَبْغِي الرضى من الهه ... فيا فوزه بِالرِّبْحِ من خير مَا شرى)
(صبور على درس الدقاتر مقبل ... سرىّ سرى وَالصُّبْح قد يحمد السرى)
(طَوِيل عَلَيْهِ اللَّيْل أَن بَات مهملا ... قصير إِذا للدّرس بَات مؤثرا)
(ضجيج كتاب لَا يُفَارِقهُ وَلَا ... يُوَافق إِلَّا عَالما متجرا)
(ظَفرت بِمَا أمّلت فاشكر وَلَا تكن ... ملولا فَإِن الصَّيْد فِي بَاطِن اكفرا)
(على أَنه وافى نظامك عاتبا ... علينا ومنظوما نظاما محبرا)
(غَدَوْت بِهِ فِي نعْمَة لبلاغة ... حواها وألفاظ لَهَا قد تخيرا)
(فواعجبا من عَاتب كَانَ حَقه ... بِأَن يبتدي بالعتب فِيمَا تحرّرا)
(قوافيك والتنا محَاسِن عقدهَا ... تَقول وَقد خاطبت من كَانَ قصرا)
(كَأَنَّك لم تعلم بِمن سَار أشهرا ... ليحظى بِعلم ثمَّ عَاد مطهرا)
(لَهُ رحْلَة مَعْرُوفَة أَنْت أَهلهَا ... فواصل دروسا درسها لَك يسرا)
(مدى الدَّهْر لَا تَبْرَح على الدس عاكفاً ... فَمَا الْعلم فِي الْأَسْوَاق بِالْمَالِ يشرتي)
(نبيك لم يتْرك سوى الْعلم فاغتنم ... وراثته بالدرس عَن سيد الورى)
(وَأَنت بِحَمْد الله قد صرت عَالما ... وَلَكِن نظمنا مَا ترَاهُ مذكرا)
(هداك إِلَه الْخلق نهجا مبلغا ... إِلَى جنَّة الفردوس فضلا يسرا)
(يُرِيد أخي قلبِي العتاب فَقل لَهُ ... يحِق لمثلي أَن يغض ويصبرا)
(لَئِن كنت ترعى للحقوق فأنني ... لارعى لَهَا فاسأل بذلك من درى)
(إِذا أَنا لم أحمل على النَّفس ضيمها ... سددت طَرِيقا للثناء منورّا)
(بدالي عذر الصنو بعد حفائه ... وَذَلِكَ أنّ السحب دَامَ وأمطرا)
(توالت بذا الْأُسْبُوع فضلا ونعمة ... فرام لهَذَا أَن يُقَال ويعذرا)
(ثَلَاثًا هجرتم ثمَّ زدتم كمثلها ... لَك الله أَرْجُو أَن يقبل ويغفرا)
(جرى مَا جرى مِنْكُم من الهجر والقلى ... وَفَوق ثَلَاث حرم الطُّهْر مَا جرا)(2/67)
(عَلَيْك سَلام الله مَا ذَر شارق ... وآثر ذُو عزم لعلم وَمَا سرى)
وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة نظم التَّلْقِين والوظائف المروية عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ
(تتبع يَا فَتى طرق السَّعَادَة ... فَتلك إِذا وصلت هِيَ السِّيَادَة)
(وجنب نَفسك الشُّبُهَات وأصبر ... وَفِيمَا حل فالزمها الزهادة)
(وَحب الله آثره وَأحسن ... وَثمّ بالواجبات من الْعِبَادَة)
(تفكر فِي خلائقه وحاذر ... تصوّر ذَاته واعرف مُرَاده)
(وقم بحوائج الإخوان فِيهِ ... لتحرز فَضله وَارْحَمْ عباده)
(ولازم ذكره والجأ إِلَيْهِ ... تنَلْ مِنْهُ مَعَ الْحسنى زِيَادَة)
(وَعظم أمره تَعْظِيم عبد ... تَيَقّن رحْلَة فأعدّ زَاده)
(وَلَا تفرح بِمَا أُوتيت واندم ... على التَّفْرِيط عَن طلب السَّعَادَة)
(وأبق بشكره النعماء وَاجعَل ... تدبرها لنَفسك كالقلادة)
(تجنب مَا نهاك الله عَنهُ ... وَمَا يَعْنِيك لَا تهدم مشاده)
(تَأمل عَاجل الْأَحْوَال وَانْظُر ... عواقبها على حسب الْإِرَادَة)
(تصوّر بعد موتك مَا تلاقى ... فبدى الْأَمر تمكنه الْإِعَادَة ... )
(وجنب نَفسك الدُّنْيَا فَمن لم ... يحاذرها فقد ملكت قياده)
(وَمهما آذَنت بصلاح أَمر ... ترَاهُ صَالحا فاحذر فَسَاده)
(ورج الْخَيْر فِي الْأَحْوَال إِلَّا ... لذِي ذَنْب فخف واقدح زناده)
(وأخلص نِيَّة فِي كل فعل ... لعالم غيب أَمرك وَالشَّهَادَة)
(وحاذر عدّ نَفسك ذَات فضل ... وَأَنَّك بَالغ رتب السَّعَادَة)
(فَتتْرك مَا بِهِ كلفت إِذْ قد ... وصلت كزعم أَرْبَاب البلاده)
(أتأمن من لَهَا بالسوء أَمر ... بِهِ تعمي لذى لب فُؤَاده)
(حذار الْجَبْر والتشبيه وَاحْذَرْ ... من الألحاد يَا علم الإفادة)
(وحاذر من أُمُور زينوها ... بهَا حرمُوا ثَوَاب ذَوي الْعِبَادَة)
(فَمَا قَالُوهُ من هَذَا ضلال ... تنزه عَنهُ أَرْبَاب السِّيَادَة)
(وَمهما أمكنتك خِصَال خير ... فآثرها تفز وحز الإجادة)
وَكَانَت وَفَاته سَابِع عشر ربيع الأول سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف بِمَدِينَة صنعا
حسن باشا الْمَعْرُوف ببالجي المدفون بالجنينة الحمدانية تَحت قلعة دمشق على(2/68)
حافة نهر بردى ويليها من جِهَة شرقها الْمدرسَة الأيدغمشية كَانَ حسن باشا أَمِير بِلَاد صفد سكن الشَّام مُدَّة ثمَّ ولى حُكُومَة طرابلس الشَّام ثمَّ القرص وَكَانَ من أنصف الْحُكَّام توفّي بالقرص سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف وَحمل مِنْهَا فِي صندوق فِي محفة إِلَى دمشق وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ الْوَزير مُرَاد باشا نَائِب الشَّام والدفتري وَالسَّيِّد معرفَة الله مفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَدفن فِي تربته الْمَذْكُورَة وَكَانَ أَنْشَأَهَا فِي حَيَاته قلت وَكَانَ يسكن فِي مُقَابلَة التربة الْمَذْكُورَة من جِهَة الْقبْلَة وَله ربعَة أَجزَاء فِي التربة تقْرَأ بعد الظّهْر والمتكلم على وقف هَذِه التربة الْآن أمْرَأَة من بَيت بَاقِي بيك وهم يدعونَ أَنه وقف أهلى وَالله أعلم والقرص بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَبعدهَا صَاد مُهْملَة بَلْدَة بِالْقربِ من أرزن الرّوم بيد مُلُوك آل عُثْمَان وَهِي الْحَد الْفَاصِل بَين مملكتهم ومملكة الْعَجم
حسن باشا الطواشي الْوَزير الْأَعْظَم أحد وزراء دولة السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد كَانَ فِي ابْتِدَاء أَمر خزينه دَار السُّلْطَان ثمَّ ولي مصر فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وعزل عَنْهَا وَلما وصل إِلَى قسطنطينية فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين حُوسِبَ فَخرج عَلَيْهِ مَال كثير وَوضع فِي حبس يَدي قلَّة ثمَّ أعْطى حُكُومَة شرْوَان ثمَّ صَار وزيرا رَابِعا فِي سفراكرى حَافظ الْبَلدة الْمَذْكُورَة فَأعْطى ختم الوزارة الْعُظْمَى وَكَانَ ظَالِما جبارا مرتشيا تَرْجمهُ منشى الرّوم عبد الْكَرِيم بن اسكندر القَاضِي فَقَالَ فِي حَقه تحلى بحلى الوزارة وتملى بعروسها وراج سَكرَان فِي مجْلِس الْمجد برشف كؤوسها حل الدَّهْر عقد طالعه وَعقد لِوَاء ولائه فَأصْبح العقد والحل مفوضا إِلَى آرائه وَصفا مورد عيشه حَتَّى غَار نهر المجرة من صِفَاته
(تمسى الْأَمَانِي صرعى دون مبلغه ... فَمَا يَقُول لشَيْء لَيْت ذَلِك لي)
أقبل عَلَيْهِ السعد بِرجلِهِ وخيله وَقطع بمرافقة السرُور مَسَافَة يَوْمه وليله وَهُوَ منتصب على ذَلِك الْحَال يجر ذيل الْعِزّ والسعد والإقبال فَلم يشْكر نعم الله عَلَيْهِ وَلم يتوسل ببدائع الْخَيْر إِلَيْهِ بل هم بتوسيع بَاب الأرتشا وَأخذ بِالْأَخْذِ من النَّاس كَيفَ يشا رمى غَرَض الرشا فَأصَاب وَدعَاهُ دَاعِي البغى فَأجَاب وَجمع من شتيت الطمع مَا جمع وَنسخ حَدِيث أشعب من كتاب الطمع يجول حول مائَة وَهُوَ بَين الْورْد والصدر وَلَا يُبَالِي أكاس النَّاس صفو أم فِيهَا كدر فأجل مناه أَخذ أَمْوَال النَّاس وَقَاعِدَة ارتشائه كتضمين الْعَرَب على غير قِيَاس مَعَ أَن الْغَنِيّ رُبمَا كَانَ(2/69)
(سَببا للعنا يجني الْغنى للشام لَو عقلوا ... مَا لَيْسَ يجني عَلَيْهِم الْعَدَم)
مَا من منصب إِلَّا وَبَاعه لغير أَهله وَلم يجْتَهد فِي ايقاع تَقْلِيده فِي مَحَله إِلَّا مَا صَادف فِيهِ قسر الْإِيرَاد وَلَا يتصوّر فِيهِ راد فطاوعه مطاوعة السفن للتيار على رغم أَنفه وقاسي فِيهِ مقاساة تُرِيدُ على حتفه حَتَّى أَنه لما ذوت أَغْصَان رياض ابْن بُسْتَان وانتقل من هَذِه الديار إِلَى روضات الجنات هم بِصَرْف الْإِفْتَاء عَمَّن تحلت بِهِ الْمَرَاتِب وتوجت باسمه نواصي المناصب السَّيِّد السعد الَّذِي تمّ بِهِ الشّرف وَصَارَت تحف الْأَيَّام بمعاليه تحف وَسبب نزاعه لَهُ الْحَسَد الَّذِي امْتَلَأَ بِهِ إِنَاء الْجَسَد فَأَنْشد لِسَان الزَّمَان لمن عاداهم من السَّادة الْأَعْيَان
(اصبر على مضض الحسود فَإِن صبرك قَاتله ... )
(فَالنَّار تَأْكُل بَعْضهَا ... إِن لم تَجِد مَا تَأْكُله)
وَكَانَ ذَلِك سَببا لتأخيره وتدبير الدَّهْر فِي تدميره كَيفَ لَا وَهُوَ لَا يزَال فِي مجَالِس جود ومقام الْعِبَادَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود رَجَعَ إِلَى بعض أَوْصَافه من قلَّة مبالاته وَعدم انصافه فَلم يزل على هَذَا الأسلوب غافلا عَمَّا نَوَاه الدَّهْر من الخطوب يتَنَاوَل كؤوس الْفساد كالمغرم الهائم وَلَا يُبَالِي بعذل عاذل وَلَا لوم لائم لَا يُقَابل خَالص النصح بالإنتصاح وَقد غَدا فِي سَمعه أضيع من مِصْبَاح فِي الصَّباح
(يقْضِي على الْمَرْء فِي أَيَّام دولته ... حَتَّى يرى حسنا مَا لَيْسَ بالْحسنِ)
إِلَى أَن أَرَادَت دوحة غُصْن السلطنة الْأَزْهَر ومعدن الْخلَافَة الَّذِي حلى جيد الزَّمَان بذلك الْجَوْهَر رَافِعَة أَعْلَام الْخيرَات والناصبة لَهَا على طرق المبرات لَا زَالَت من حوادث الدَّهْر خليه وَمن أكدار الزَّمن صَفيه وضع أساس جَامع وَهُوَ لكل شرف وَأجر جَامع المؤسس الْبُنيان على تقوى من الله ورضوان فَاجْتمع هَالك أَعْيَان الدولة وَكثير من النَّاس ليؤخذ برأيهم الْكَشَّاف للمشكل فِي الأساس فوصل المترجم إِلَى ذَلِك الْمجْلس وَهُوَ فِي فلك الْعِزّ قمر لَا يخْشَى السرَار ويأبى لنَفسِهِ غير الأبدار وَنزل عَن جَوَاده ودوران الْفلك على قدر مُرَاده فبادر عُظَمَاء الدولة إِلَى استقباله وأدوا فَرَائض توقيره وإجلاله فَسلم عَلَيْهِم يَمِينا وَشمَالًا وَاسْتقر فِي الصَّدْر وعزه يهزأ بالبدر كمالا وَهُوَ يترنح من نشوة قهوة الْمجد سكرا وَينظر إِلَى كبراء الدولة شزرا فشرع فِي قطع الْأُمُور وَوَصلهَا وَأخذ فِي عقدهَا وحلها وهم لأَمره سامعون وبلسان الْحَال قَائِلُونَ(2/70)
(مرنا بِأَمْر فَإنَّا لَا نخالفه ... وحدّ حدّا فَإنَّا عِنْده نقف)
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبل بعض خدمَة السلطنة لأخذ ختم الوزارة مِنْهُ وحبسه وَجعله غَرضا لسهام الدَّهْر هُوَ الْجَانِي على نَفسه وَمَعَهُ كتاب سلطاني بمحو حُرُوف الْمَظَالِم وَنسخ وجود كل ظَالِم مَا زبر حرف ولمح طرف وَلما دنا من الْمجْلس الَّذِي هُوَ فِيهِ والنادي الَّذِي يحويه قبل الْكتاب وَبَالغ فِي إجلاله وناوله إِيَّاه وَقد أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فبادر إِلَى فض خَتمه بعد تقبيله ولثمه فَإِذا هُوَ سطر عنبري كَأَنَّهُ من رماح الْخط فَكَلمهُ روحه قبل جِسْمه وَأبْدى السخط
(جراحات السنان لَهَا التيام ... وَلَا يلتام مَا جرح اللِّسَان)
فأثر تَأْثِير الرماح فِي اتلاف الْأَرْوَاح فأجال فِيهِ النّظر فكاد وَجهه يسفر عَن دم ويصبغ أديمه بعض الْبيَاض بصبغ عندم فَنَهَضَ من مَجْلِسه دهشاً وَمَشى خطوَات مرتعشاً فالتف من الْخَوْف سَاقه بساقه وَكَيف وَيَد الحنف أخذت بأطواقه فَأخذ من ذَلِك الْمقَام وأودع فِي السجْن بعض أَيَّام والدهر يسدد إِلَيْهِ سِهَام الْحمام إِلَى أَن برز الْأَمر بسلب سلب حَيَاته والباس لِبَاس مماته فسارعوا إِلَى السجْن حسب وُرُود الْأَمر فِي أمره وهبوا إِلَيْهِ كَالرِّيحِ لاطفاء سراج عمره وَقد صادفوه فِي ليل نابغي بهيم ووجدوه فِي ليل السَّلِيم غير سليم وَهُوَ مُفْرد قد جمع من الهموم أَنْوَاعهَا وأجناسها وتوحش من الْوحدَة وَهُوَ يذكر من أَيَّام السعد إيناسها لَا يرى أحد على بَابه وَلَا يظْهر حَاجِب من حجابه قد خلا مقَامه عَن خربه وأقفر مَجْلِسه عَن صَحبه مُنْفَردا عَن خدمَة وقارعاً سنّ ندمه وخائفاً من زلَّة قدمه وموقناً بإراقة دَمه وَهُوَ يتحزن فِي بَيت الوحشة وَحده ويتذكر فِي حمى الْإِنْسَان عَهده وَقَلبه من الْحَسْرَة على نيران الغضى ولسان حَاله ينشد متأسفاً على مَا مضى
(قل لجيران الغضى آها على ... طيب عَيْش بالغضى لَو كَانَ داما)
فأوتر لَهُ من الْحمام حنيه وَاتخذ غَرضا لسهام المنيه
(شهى إِلَى النَّاس النَّجَاء من الردى ... وَلَا جيد إِلَّا وَهُوَ فِي فتر خانق)
ومدت حبال الْمَوْت فالتوت على جيده التواء الأراقم وأحاطت بِهِ إحاطة السوار بالمعاصم فغربت شمس حَيَاته واستراح الْملك من كِتَابه سيئاته
(وَإِنَّمَا الْمَرْء حَدِيث بعده ... فَكُن حَدِيثا حسنا لمن وعى)
فَدفن فِي جَانب مدرسته المبنية فِي دَار السلطنة الْعلية وَسبب بنائِهِ لَهَا أَن لَهُ معلما(2/71)
أَرَادَ أَن يكون فِي سلك المدرسين منتظما لاندراجه فِي خدمته فَمَا تيَسّر لَهُ ذَلِك لعدم أَهْلِيَّته فَلَمَّا عجز عَن هَذِه الْقَضِيَّة أَخَذته الحمية الْجَاهِلِيَّة فَبنى لَهُ تِلْكَ الْمدرسَة ليَكُون مدرسا بهَا لدروس الدُّرُوس وإمضاء للغيرة المقررة فِي النُّفُوس وفيهَا سِقَايَة للسبيل يرْوى بِمَائِهَا الغليل انْتهى قلت وَكَانَ مَقْتَله فِي سنة سِتّ بعد الْألف
حسن باشا الشهير بميشجي هُوَ كَالَّذي قبله كَانَ أحد الوزراء فِي عهد السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد وَكَانَ فِي مبدئه من جمَاعَة السُّلْطَان فِي الدَّاخِل ثمَّ خرج ضابطا للجند الْجَدِيد وعزل ثمَّ أُعِيد ثمَّ أعْطى حُكُومَة شرْوَان ثمَّ عزل وَصَارَ وزيرا رَابِعا وَأعْطى التفتيش على السِّكَّة الجديدة وَالْأَمْوَال فِي شهر ربيع الأول سنة تسع بعد الْألف فَشَكَرت خدمته فَصَارَ قَائِم مقَام الْوَزير فِي شعْبَان من هَذِه السّنة ثمَّ أعْطى ختم الوزارة الْعُظْمَى فِي سادس عشرى محرم سنة عشرَة وَألف وَكَانَ جبارا خَبِيث الطَّبْع عنيدا وَقد تَرْجمهُ المنشي الْمَذْكُور آنِفا فأفرط فِي سبه حَيْثُ قَالَ فِي وَصفه قذاة عين الدّين وكمد قُلُوب الْمُوَحِّدين ضعف تركيب الْإِسْلَام وَقُوَّة عَبدة الْأَصْنَام من نبذ كتاب الله وَرَاء ظَهره وَلم يطع مَا أوجبه من نَهْيه وَأمره غَدا الفسادية مشدود الأزر ولعمري إِن وزارته مَأْخُوذَة من الْوزر كَانَ أسدا فِي السّلم وَفِي الْحَرْب نعاما وَلم يزل يتبع الْمعاصِي كالندامى لم يُمَيّز بَين الصُّوف والخز وَلم يفرق بَين العباءة والجز
(وَمَا انْتِفَاع أخي الدُّنْيَا بناظره ... إِذا اسْتَوَت عِنْده الْأَنْوَار وَالظُّلم)
إِلَيْهِ بِالْجَهْلِ يومي مثل حمَار الطَّبِيب توما لَكِن جَهله مركب لَو أنصفوه لَكَانَ مركب
(لَو كَانَ خفَّة عقله فِي رجله ... سبق الغزال بهَا وصاد الأرنبا)
غَدَتْ لَهُ عروس الوزارة الْعُظْمَى متدانيه وقطفت ثمار وَصلهَا يَده الجانية جازي من كَانَ السَّبَب فِي إفَاضَة تِلْكَ النِّعْمَة عَلَيْهِ بالكفران وَجعله غَرضا للنوائب وخانه فِي مُعَامَلَته وَالله لَا يحب كل خوان اسْتَعَانَ بنعمته على كفران نعْمَته وَجعل تِلْكَ السَّيئَة عنوان صحيفَة سيئته سل عَلَيْهِ سَيْفا يَده صقلته وَشرع عَلَيْهِ رمحا كَفه قومته عَامله بِمَا جبلت عَلَيْهِ سفالة سجيته وَلَا تَثْرِيب عَلَيْهِ إِذْ كل يعْمل على شاكلته لم يتَفَرَّع على مَا رتبه من مُقَدمَات الْغدر إِلَّا نتيجة قَتله كَيفَ لَا وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله لم يؤد الْأَمَانَة إِلَى أَهلهَا وَلم يزف الْعَرُوس إِلَى بَعْلهَا وَلم يدْفع الصَّحِيفَة إِلَى(2/72)
قاريها وَلم يُعْط الْقوس باريها
(وَوضع الندى فِي مَوضِع السَّيْف بالفتى ... مُضر كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندى)
فاستبد برياسة الأجناد فأحدقت بِهِ من سَائِر أطرافها الْآفَات والأنكاد اعتزلت عروس الْفَتْح فِي عَهده بِوَجْه عَابس وَلَا بدع فَإِنَّهُ كَانَ أشأم من طويس وداحس وَلم يطَأ جِسْرًا بشؤم أقدامه إِلَّا وَقد انْكَسَرَ كَمَا انْكَسَرَ ظهر الدّين فِي أَيَّامه قد استولى الْكفْر على بعض الْحُصُون الإسلامية من سخافة رَأْيه فاتخذت مساجدها كنائسا وأقيمت بهَا نواميس النواقيس فَأصْبح بِهَذَا السَّبَب ربع الْجِهَاد دارسا والعدا فِي أَيَّامه آمِنَة الثغور وباسمة الثغور وَلما عَاد غير مَحْمُود انْقَطع جلب الزَّاد واتصل الغلا وبعدت الرَّاحَة من الْعَسْكَر بِقرب الْأَعْدَاء والغزاة لم يستطيعوا مناما وَلم يَذُوقُوا طَعَاما وَكم واحدد من تِلْكَ الْجَمَاعَة قضى نحبه من المجاعة فَلَمَّا وصل إِلَى دَار السلطنة الْعلية رَاضِيا من الْغَنِيمَة بالأياب وَقد هلك من الْجند أَكثر من الْحَصَى وَالتُّرَاب فَعرف بزلة قدمه وأيقن بإراقة دَمه فَاسْتَجَارَ ببذل الْأَمْوَال من عصبَة بعصبة آملا مِنْهُم أَن يقيلوا عثاره وذنبه فتعصب لَهُ ذَلِك الحزب ليخلصه من شباك الْحِين فنكصوا على أَعْقَابهم وإنخذلت إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَظَهَرت الْعَدَاوَة والبغضاء وَلم يلتئم إِلَى الْآن شَمل الفئتين فاستقر فِي دست الوزارة وَأصْبح ساحباً ذيل الصدارة فَأخذ فِي إبعاد من تقرب إِلَى حَضْرَة السلطنة من الوزراء والحواشي من كل من هُوَ الدخيل فِي ذَلِك الْفَنّ والناشي زعما من سخيف عقله على أَن يسْتَقلّ بالوزارة على حكم الإنحصار وَلم يعلم بِأَن الْأَيَّام قد نهضت على قَوَائِم الهمة لأخذ الثأر حَتَّى قد سَوَّلت لَهُ نَفسه التَّفْرِيق بَين غُصْن الدولة ودوحته وَأصْبح هَذَا الْأَمر فِي صَدره أحل أمْنِيته فَعلم مَا أَرَادَ وَمَا شرع فِيهِ من الْمَكْر وَالْفساد فبادره الْعَزْل فاستمر عدَّة أَيَّام خَارج السُّور كالمحبوس وَقد نفضت النَّاس بِهَذَا السَّبَب غُبَار النكد والبؤس إِلَى أَن برز الْأَمر فِيهِ بتطهير الْعَالم من ذَلِك الْخبث الَّذِي هُوَ لنقض وضوء الْإِسْلَام حدث فغدا جيده فِي فتر خانق فاستراح مِمَّا ألم بِهِ من الْقلب الخافق فاتفقت مواراة سوأته بِقرب من قبله حسن باشا باسكدار وَمَا أبْغض الْجَار إِلَى الْجَار انْتهى قلت وَكَانَ قَتله فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وَالله أعلم
حسن باشا الْوَزير صَاحب الْيمن كَانَ من أَعْيَان الوزراء أرْسلهُ السُّلْطَان مُرَاد(2/73)
ابْن سليم إِلَى الْيمن فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَدخل إِلَى صنعا عَاشر الْمحرم سنة تسع وَثَمَانِينَ وَكَانَ ذَلِك الْوَقْت جبال الْيمن وحصونها فِي أَيدي الْحُكَّام من الْأَشْرَاف الْآتِي ذكرهم كَانَ حصن ثلا وحصن مُدع وحصن نسور وبلادهم تَحت حكم السَّيِّد عَليّ بن يحيى بن المطهر ابْن الإِمَام شرف الدّين وَكَانَ حصن ذِي مرمر وبلاده وبلاد الشرق تَحت حكم السَّيِّد لطف الله بن المطهر وَكَانَ حصن غفار وبلاده فِي حكم السَّيِّد غوث الدّين بن المطهر وحصن مُبين وبلاد حجَّة فِي يَد السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن المطهر وحصن ظفار وبلاد الطَّاهِر فِي يَد السَّيِّد مُحَمَّد بن النَّاصِر الْجونِي وصعدة وبلادها فِي يَد الإِمَام الْحسن بن عَليّ المؤيدي الْقَائِم فِي زمن مُرَاد باشا وحصن كحلان وبلاده فِي يَد السَّيِّد حسن بن شرف الدّين وَكَانَ الْوَزير الْمَذْكُور كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(إِن المكارم وَالْمَعْرُوف أَوديَة ... أحله الله مِنْهَا حَيْثُ تَجْتَمِع)
وَكَانَ عادلا وقورا عَارِفًا خيرا راجحا مشكورا مها بايحت الْأَشْرَاف وينصفهم وَمن أعجب الْأُمُور أَنه كَانَ بعض أَعدَاء آل المطهر حسن لَهُ التقبيح إِلَيْهِم فَقَالَ لَا أغير شَيْئا لآل الرَّسُول وَلَا أرميهم بالنَّار رِعَايَة لجدهم
وَفِي دُخُوله إِلَى صنعا فكر ودبر فِي أَحْوَال الْيمن وشاور الْعُقَلَاء وجالس ذَوي الفطن ثمَّ نَهَضَ لِحَرْب مُلُوك الْيمن وَنحن نذْكر من فتوحاته نبذة على جِهَة الِاخْتِصَار فعين على العساكر كتخداه الْأَمِير سِنَان وَفتح حصن ظفار فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقبض على حاكمه السَّيِّد مُحَمَّد بن النَّاصِر الْجونِي وَفتح حصن عمرَان فِي سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وحصن مُدع فِي صفر وحصن ذِي مرمر فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَخرج إِلَى يَده حَاكم الْحصن السَّيِّد لطف الله بن المطهر وَفتح صعدة وبلادها فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَقتل حاكمها السَّيِّد أَحْمد بن الْحُسَيْن المؤيدي وَسلم الْفَقِيه عبد الله بن الْمعَافى حصن السودة طَاعَة للسُّلْطَان فكافئوه بالصنجق السلطاني وقررت بِلَاد السودة تَحت يَده وَهِي الْآن تَحت يَد أَوْلَاده فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَفتح حصن ثلا فِي جُمَادَى الْآخِرَة نة ثَلَاث وَتِسْعين وَخرج إِلَى يَده السَّيِّد عَليّ بن يحيى بن المطهر وَقبض على الإِمَام الْحسن بن عَليّ المؤيدي وَفتح بِلَاده فِي شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة من الصأب بجبل أهنوم من جبال الأهنوم وَفتح حصن غفار فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَخرج إِلَى يَده حاكمه السَّيِّد غوث الدّين بن المطهر وَفتح بِلَاد الصاب فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَقبض الْوَزير(2/74)
حسن على أَوْلَاد المطهر الْمَذْكُورين لأَنهم بعد طاعتهم لَهُ لم يسكتوا عَن إثارة الْفِتَن وَأرْسل لَهُم إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَتِسْعين وهم الإِمَام الْحسن بن عَليّ المؤيدي وَعلي يحيى ولطف الله وغوث الدّين وَحفظ الله وَمُحَمّد ابْن الْهَادِي الْجَمِيع آل المطهر وَعين الْوَزير حسن باشا لفتح بِلَاد يافع كتخداه الْأَمِير ستان سردارا على العساكر فَتقدم على بِلَاد يافع فِي الْعشْر الْأَوْسَط من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فَلم يزل الْأَمِير سِنَان يغاديهم ويراوحهم بِالْحَرْبِ فَكَانَ بَينه وَبينهمْ ثَلَاثمِائَة وقْعَة سجالا تَارَة لَهُم وَتارَة عَلَيْهِم فَأعْطَاهُ الله النَّصْر عَلَيْهِم وَفتح بِلَاد يافع فِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَفتح أحور حصن الْغُرَاب وَرجع سالما غانماً فِي شعْبَان سنة تسع ة تسعين وَقد فتح الْيمن بأسرها وَلما استولى حسن باشا عَلَيْهَا وسكنت عَنهُ الْفِتَن وساعدته الأقدار ودانت لَهُ الأقطار ونامت عَنهُ عُيُون الْحَوَادِث استكثر العساكر فشرع فِي تقليلهم فَظهر فِي بِلَاد الشرق الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ وَادّعى الْإِمَامَة فِي سَابِع عشرَة الْمحرم سنة سِتّ بعد الْألف فأطبق اكثر أهل جبال الْيمن على طَاعَته وسارعوا إِلَى إجَابَته وصاروا من جملَة جماعته فاشتعلت نَار الْفِتَن وَضَاقَتْ أَحْوَال الْوَزير من تردد أَصْحَاب الإِمَام إِلَى صنعا وَقَامَ عَلَيْهِ الْأَعْلَى والأدنى وحاربه من كَانَ لَدَيْهِ فِي الْمحل الْأَسْنَى وَلم يبْق مُسْتَقِيمًا على الطَّاعَة إِلَّا الْأَمِير شمس الدّين أَحْمد بيك ابْن مُحَمَّد بيك ابْن شمس الدّين بن الْأَمَام شرف الدّين الْحَاكِم بمحروسة كوكبان فَإِنَّهُ لزم مَا الْتَزمهُ وَالِده للأمير مُحَمَّد من الطَّاعَة للسلطنة حَسْبَمَا تقرر بَينه وَبَين الْوَزير الْأَعْظَم سِنَان باشا فبذل النَّفس والنفيس فِي إشادة نصرها حَتَّى نَالَ بذلك مَا نَالَ وفاز فوزا عَظِيما وَقَفاهُ على فعله ولداه الْأَمِير أَحْمد والأمير إِسْمَاعِيل وتلاهما الْأَمِير جمال الدّين عَليّ بن شمس الدّين وولداه الْأَمِير وجيه الدّين وَعبد الرب فشيدا من الخدم السُّلْطَانِيَّة مَا فاقا بِهِ غَيرهمَا فَنَهَضَ حسن باشا وَجمع أهل النجدة من الرِّجَال وبذل الْأَمْوَال وَعين كتخداه الامير سِنَان سردار على العساكر وأمده بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَال وَطلب حَاكم الْحَبَشَة عَليّ باشا الجزائري فوصل وَكَانَ لوصوله تَأْثِير فِي تسكين الْفِتَن من بِلَاد الْيمن الْأَسْفَل ثمَّ توجه إِلَى بِلَاد يُنَوّه فاستشهد بهَا فِي ثَلَاث سنة ثَمَان وَألف وانضافت خزائنه بالعساكر إِلَى جَانب الْوَزير حسن باشا وَتوجه السردار الْأَمِير سِنَان إِلَى جِهَة كوكبان فَاجْتمع هُوَ والأمير أَحْمد بن شمس الدّين بن شرف الدّين فافتتحا بِلَاد كوكبان(2/75)
جَمِيعهَا بعد اسْتِيلَاء أَصْحَاب الإِمَام عَلَيْهَا ثمَّ توجه السردار على سَائِر الْبِلَاد فَفتح بِلَاد ثلا وحصنها وبلاد عمرَان وحصن مُدع وحصن غفار وحصن بِلَاد الطَّاهِر وبلاد حُضُور وبلاد الحمية وبلاد سحان وبلاد مغرب أنس وذمار وبلاد تريم وبلاد جبل اللوز وبلاد خولان ثمَّ عطف على بِلَاد الطَّاهِر فاستقر بِخَمْر والصرارة وهما بلدان يتوسطان بِلَاد الزيدية فوصل إِلَيْهِ الْأَمِير عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن المطهر وَكَانَ مواليا للسلطنة فحصره الإِمَام الْقَاسِم فِي حصن مُبين بِبِلَاد حجَّة فاستولى الإِمَام على بِلَاده فَخرج من حصن مُبين إِلَى عِنْد الإِمَام بالأمان فَأخذ عَلَيْهِ الْعَهْد مِنْهُ واليه وأرسله لِحَرْب السلطنة فَكَانَ طَرِيقه من عِنْد الإِمَام إِلَى عِنْد السردار فَاسْتَفْتَحَ بِلَاد حجَّة وألزمه السردار باستفتاح بِلَاد الشرق فاستفتحها فَلَمَّا شَاهد الْوَزير حسن باشا علو همته ومناصحته لجَانب السلطنة انْعمْ عَلَيْهِ بِبِلَاد الشرق وَقَررهُ على بِلَاد حجَّة وَكَانَت لَهُ إنعامات من السلطنة كَثِيرَة فَلم يرع حُقُوقهَا فِي آخر مدَّته بل طَغى وَسَنذكر مَا آل أمره إِلَيْهِ فِيمَا بعد وَاسْتولى الإِمَام على بِلَاد صعدة فَقَامَ على سَاق الْحَرْب الْأَمِير مصطفي وانتقل بالوفاة قُم قَامَ مقَامه الْأَمِير مُحَمَّد الْكرْدِي فاتفق الصُّلْح بَينه وَبَين الْأَمِير مُحَمَّد المؤيدي فَحصل الْفَتْح وأنعم عَلَيْهِم بالصنجق السلطاني ونال من السلطنة مَا رغم بِهِ أنف أعدائه وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة سبع وَألف وضعفت شَوْكَة الْقَاسِم وَلم يبْق فِي يَده إِلَّا حصن شهارة فِي بِلَاد الأهنوم فتحصن بِهِ فعين الْأَمِير سِنَان عَلَيْهِ فأحدق بِهِ فَخرج وهرب من الْحصن متنكرا وَلم يشْعر بِهِ أحد وَبَقِي وَلَده السَّيِّد مُحَمَّد متحصنا مَكَانَهُ فَضَاقَ حَاله فَخرج بالأمان وَإِن يكون مقره عِنْد صَاحب كوكبان فَأعْطَاهُ الْأمان على ذَلِك وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سِتّ عشرَة وَألف وَلما طَالَتْ مُدَّة صَاحب التَّرْجَمَة بِالْيمن عزل عَنهُ وَخرج على وَجه مستحسن فَتوجه إِلَى الرّوم فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَولى بعده كتخداه سِنَان باشا ثمَّ توفّي صَاحب التَّرْجَمَة بقسطنطينية سادس عشر رَجَب سنة سِتّ عشرَة وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حسن المجذوب المعتقد الْمَعْرُوف بالغريق نزيل دمشق أَصله من قَرْيَة من ضواحي نابلس قيل أَن اسْمهَا زيتا قدم إِلَى دمشق وجاور بالجامع الْأمَوِي عِنْد رواق اليمانية وَكَانَ يكثر الْكَلَام فِي الْجَامِع بالصوت العالي ثمَّ خرج من الْجَامِع وَسكن فِي جَامع يلبغا وَاتفقَ أَن رجلا مُؤذنًا قتل هرة فِي الْجَامِع الْمَذْكُور ثمَّ نَام فَقَامَ(2/76)
إِلَيْهِ السَّيِّد حسن وَألقى على رَأسه صَخْرَة عَظِيمَة فَقتله وَعرض على حسن باشا بن مُحَمَّد باشا الْمُقدم ذكره وَكَانَ نَائِب الشَّام حِينَئِذٍ فَسَأَلَهُ لم قتلت هَذَا فَقَالَ لِأَنَّهُ قتل قطى فَأَطْلقهُ لجذبه ثمَّ انْتقل بعد هَذِه الْحَادِثَة إِلَى بُسْتَان بِأَرْض أرزة من الْمزَارِع فقطن بِهِ نَحْو خمس سِنِين لَا يُفَارق الْبُسْتَان فِي الْفُصُول الْأَرْبَعَة وَكَانَ الثَّلج ينزل عَلَيْهِ يطمه وَهُوَ جَالس لَا يبرح وَقيل أَنه كَانَ لَا يُصِيبهُ الثَّلج إِذا وَقع وَلَا يُصِيب الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ وَكَانَ لَا يتَضَرَّر من حر وَلَا برد صيفا وشتاء وَكَانَت النَّاس تقصده بالزيارة هُنَاكَ ويأتون إِلَيْهِ بِالطَّعَامِ وَالشرَاب وَرُبمَا يرَوْنَ مِنْهُ مكاشفات غَرِيبَة ثمَّ انْتقل إِلَى سفح قاسيون وَأقَام بمغارة الشياح بَين مغارة الدَّم وكهف جِبْرِيل وانضم إِلَيْهِ الشَّيْخ حُسَيْن الرُّومِي وَكَانَ يتعبد بذلك الْوَادي قبله بسنين فتجاورا وبالمغارة الْمَذْكُورَة وَتردد النَّاس إِلَيْهِمَا كثيرا وَكَانَ حسن مجذوبا كثير الْكَلَام عِنْد زِيَارَة الزائرين فَيَأْخُذ كل أحد من كَلَامه حِصَّة لنَفسِهِ تناسب مقْصده فاشتهر بالمكاشفة وَوَقع عَلَيْهِ أهل دمشق خُصُوصا النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كن يترددن إِلَيْهِ كثيرا وَكَانَ يجْتَمع عِنْده مِنْهُنَّ فِي الْوَقْت الْوَاحِد مَا يزِيد عَن مائَة امْرَأَة وَكَانَ حُسَيْن عَليّ الرُّومِي عَاقِلا يعرف الْكَلَام وَكَانَ من الْعجب فِي كَونه قيد السَّيِّد حسن الْمَذْكُور فِي ذَلِك الْمَكَان وَكَانَ يطعمهُ ويسقيه ثمَّ إِن حُسَيْنًا تزوج بِامْرَأَة من نسَاء الصالحية وَنزلا من المغارة إِلَى بَيت الْمَرْأَة فِي الْجَبَل وَكَانَ النَّاس يقصدونه أَيْضا فِي بَيت الْمَرْأَة ويزورونه ويهدون إِلَيْهِ الْهَدَايَا الجليلة وَلم يزل هُوَ وحسين مقيمين على هَذَا الْحَال إِلَى أَن وَقع سيل عَظِيم فِي دمشق هلك فِيهِ أَكثر من مائَة نفس وَكَانَ مِنْهُم السَّيِّد حسن ورفيقه حُسَيْن وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر صفر سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَكَانَ ثامن أيار فَجَاءَت قبيل الْعَصْر سَحَابَة فِيهَا ريَاح عواصف ورعود شَدِيدَة وبروق متواترة ثمَّ تراكم غمامها وَجَاء برد شَدِيد كَبِير بِقدر البندق فِي ثَلَاث نوب أَو أَربع وَوَقع غالبه على الصالحية والجبل ومعظمه كَانَ بالجانب الغربي مِنْهَا وَكثير مِنْهُ على مَدِينَة دمشق حَتَّى امْتَلَأت مِنْهُ الأقنية والطرقات ثمَّ سَالَتْ أَوديَة الصالحية خُصُوصا الْوَادي الَّذِي فِيهِ مغارة الشياح فَأخذ السَّيْل دورا وقبورا وَفتح فِي تِلْكَ الأَرْض مَعَ صلابتها خنادق عَظِيمَة عميقة وأطلع صخورا عَظِيمَة واستخرج السَّيِّد حسن صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشر صفر من هَذِه السّنة وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من الرِّجَال وَالنِّسَاء ثمَّ فِي آخر ذَلِك الْيَوْم نبش الدرويش حُسَيْن وَأخرج وَدفن من الْغدر رحمهمَا الله تَعَالَى(2/77)
الشَّيْخ حسن الدَّيْر عطاني من دير عَطِيَّة قَرْيَة من قرى دمشق تَابع نَاحيَة جُبَّة عَسَّال بِالْقربِ من النبك المجذوب ورد إِلَى دمشق وجاور بالجامع الْأمَوِي وَكَانَ لَا يخرج مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا وَكَانَ يُنكر على السوقة بيعهم المآكل الطّيبَة وَيَقُول أَنهم يكدرون على الْفُقَرَاء عيشهم ويؤذونهم وَكَانَ لَا يقتات إِلَّا بالْخبر الخشن ويتأدم بالخل وَالزَّيْتُون أَو نَحْوهمَا وَكَانَ لَا يقبل من أحد شَيْئا إِلَّا من بعض جمَاعَة مخصوصين وَيظْهر لامتناعه فِي الْغَالِب حِكْمَة من كَون مَا يدْفع إِلَيْهِ فِيهِ شُبْهَة أَو عدم إخلاص وَكَانَ لَهُ مكاشفات ظَاهِرَة وَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى قَمِيص أَزْرَق يلْبسهُ صيفا وشتاء وينام فِي الْجَامِع وَهُوَ نظيف الثَّوْب وَالْبدن وَإِذا كَانَ رَمَضَان ذهب إِلَى أَهله فصَام هُنَاكَ وَترك الْجَامِع لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهِ وَكَثْرَة لغطهم وَذكر عَنهُ الإِمَام الْحجَّة الشهَاب أَحْمد بن أبي الوفا المفلحي الْمُقدم ذكره أَنه سَمعه قبل حَادِثَة ابْن جانبولاذ وَهُوَ يَقُول أظلم ظلمُوا أظلم ظلمُوا قَالَ فَقلت لَهُ عَمَّن تَقول قَالَ عَن هَؤُلَاءِ الظلمَة يُشِير إِلَى جند الشَّام سَوف ترى كَيفَ يُسَلط عَلَيْهِم عَليّ بن جانبولاذ فَلَمَّا تلاقوا مَعَه لم يصبروا حَتَّى انكسروا وهربوا مِنْهُ وتشتتوا فِي الْبِلَاد وَله غير ذَلِك من الْأَحْوَال الباهرة وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد تَاسِع شعْبَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف تشكي يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ من غير انْقِطَاع وَلَا اضطجاع وَلما كَانَ الْيَوْم الْمَذْكُور أَرَادَ الْخُرُوج من الْجَامِع وَقت الضُّحَى والواعظ يعظ فَسقط قبل أَن يصل إِلَى بَاب العنبرانيين مَيتا وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الْعِمَادِيّ الشَّيْخ حسن الْكرْدِي الْعِمَادِيّ الشَّافِعِي نزيل دمشق أحد الْمُحَقِّقين فِي الْعلم الْمَشْهُود لَهُم بالتبحر فِي العقليات قدم دمشق فِي حُدُود سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَتزَوج بهَا وتملك دَارا بِالْقربِ من الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة ودرس بِدِمَشْق فَانْتَفع بِهِ غَالب طلبة عصره من أَبنَاء دمشق وَكَانَ سريع الْكِتَابَة صَحِيح الضَّبْط كتب بِخَطِّهِ الْكثير من الْكتب من جملَة ذَلِك حَاشِيَة شَيْخي زَاده وقف جَمِيع كتبه على طلبة الْعلم بِدِمَشْق قلت وَهَذِه الْكتب مَوْضُوعَة عِنْد بني السعسعاني هِيَ وَكتب الدفتري وَهِي محتوية على نفائس الْكتب وَأعْطى المنلا حسن آخرا تدريس دَار الحَدِيث الأحمدية فدرس بهَا مُدَّة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أَفْرَاد وقته علما وكمالا وَكَانَت وَفَاته سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الْخَارِجِي حسن باشا الناجم على الدولة فِي عهد السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم كَانَ فِي ابْتِدَاء(2/78)
أمره حَاكم التركمان ثمَّ ولى كَفَالَة حلب وَخرج بهَا عَن الطَّاعَة وفتك فِي تِلْكَ النواحي وانضم إِلَيْهِ بعض أُمَرَاء ورعاع من طَائِفَة السبكان وقويت شوكته وَلما تعين نَائِب الشَّام أَحْمد باشا ابْن الطيار إِلَى سفر السُّلْطَان فِي أواسط شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف خرج من الشَّام وَمَعَهُ خَمْسمِائَة نفر من جندها فَلَقِيَهُمْ حسن باشا فِي أَطْرَاف أنطاكية وضمهم إِلَيْهِ وَأرْسل إِلَى جَانب السلطنة يَقُول إِنَّه لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِم أَلا أَن يقتلُوا الْوَزير الْأَعْظَم فَلم يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِك وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ ليَأْتِي إِلَيْهِم فَلم يفعل وَمَا زَالَ ينهب ويفتك إِلَى أَن وصل إِلَى بروسة ثمَّ عَاد وعسكر الشَّام مَعَه فعين السُّلْطَان لقتاله الْوَزير مرتضى مَعَ عدَّة أُمَرَاء وعساكر فتقابل الجيشان وانكسر مرتضى ونهبت أَمْوَاله ثمَّ خرج عَنهُ عَسْكَر الشَّام بأَمْره وَرَجَعُوا إِلَى دمشق وَبلغ السُّلْطَان مَا فعل فازداد غَضَبه عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى الْوَزير مرتضى وَمن مَعَه من العساكر يَقُول لَهُم أَنهم يدْخلُونَ حلب وأضاف إِلَيْهِم عَسَاكِر أحر وَأمر مرتضى باشا عَلَيْهِم وَكَانَ من جملَة أُولَئِكَ قدري باشا نَائِب الشَّام فَلَمَّا دخلُوا إِلَى حلب جَاءَ حسن باشا إِلَى كلس فَدخل بَين الْفَرِيقَيْنِ بعض أُمَرَاء تِلْكَ النَّاحِيَة بِالصُّلْحِ وَكَانَت حِيلَة من مرتضى باشا على أَن يَأْتِي حسن باشا إِلَى عِنْد مرتضى باشا فَإِذا اجْتمعَا حصلت المصافاة وَاتبع حسن باشا أَمر السُّلْطَان فِي الْمسير مَعَ مرتضى باشا إِلَى طرف السلطنة ورتب مرتضى باشا لحسن باشا ضِيَافَة وكل من أُمَرَاء مرتضى باشا أضَاف وَاحِدًا من جمَاعَة حسن باشا المتعينين بِأَمْر مرتضى باشا حَتَّى صَار كل وَاحِد من أُولَئِكَ عِنْد من عين لَهُ وأوقعوا بهم المكيدة وَقتلُوا حسن باشا وأعيان جماعته وتفرق عسكره ونهبت أَمْوَاله وَكَانَ ذَلِك فِي آخر جُمَادَى الأولى سنة تسع وَسِتِّينَ ألف
حسن الصَّفَدِي العيلبوني الشَّاعِر اللبيب الْفَائِق وَيُقَال فِيهِ أَنه درزي كَانَ حسن المطارحة طيب الْعشْرَة رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الشَّمْس البابلي وَالشَّيْخ سُلْطَان والنور والشبراملسي وَغَيرهم وَدخل دمشق وجاور بهَا مُدَّة بالخانقاه السمياسطية وَله شعر كثير مِنْهُ قصيدة نونية هجا بهَا الدروز وَهِي طَوِيلَة تبلغ ثلثمِائة بَيت يذكر فِيهَا مَذْهَبهم الْفَاسِد وضلالاتهم وَله غير ذَلِك وأجود مَا ظَفرت بِهِ من شعره قَوْله
(حكى دُخان سما من فَوق وجنة من ... قد مص غليونه أذ هزه الطَّرب)(2/79)
(غيما على بدرتم قد تقطع من ... أَيدي النسيم فولى وَهُوَ ينسحب)
(فَقلت وَالنَّار فِي قلبِي لَهَا لَهب ... لقد حكيت وَلَكِن فاتك الشنب)
ثمَّ ارتحل من دمشق إِلَى عكة وَأقَام بهَا مُدَّة بهَا وَتُوفِّي وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف والعيلبوني بِفَتْح الْعين ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة فلام فموحدة مَضْمُومَة بعْدهَا وَاو ثمَّ نون نِسْبَة إِلَى عيلبون قَرْيَة من أَعمال صفد والدرزي سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي تَرْجَمَة فَخر الدّين بن معن فِي حرف الْفَاء إِن شَاءَ الله
الشَّيْخ حُسَيْن بن أبي بكر بن سَالم بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف اليمني العناتي الشَّيْخ الْكَبِير الْعَارِف كَانَ أحد أجواد زَمَانه وَله أَحْوَال باهرة وكرامات شائعة ولد بِمَدِينَة عينات وَقَرَأَ الْقُرْآن وَصَحب أَبَاهُ وَكَانَت الْولَايَة لائحة عَلَيْهِ من صغره وَظهر برهانها عَلَيْهِ فِي كبره واشتغل بالعلوم الشَّرْعِيَّة والتصوف وَلزِمَ مطالعة كتب الْغَزالِيّ وَصَحب أَعْيَان عصره وَأخذ عَنْهُم وَلما مَاتَ أَبوهُ قَامَ مقَامه وشاع أمره وَصَارَت إِلَيْهِ الرحلة فِي وقته وَكَانَت لَهُ حفدة كَثِيرُونَ وَكَانَت العربان تفد اليه من أقطار الأَرْض وترفع أمورها إِلَيْهِ وَكَانَ محسنا إِلَى الْفُقَرَاء وَيكرهُ لَهُم التفعل فِي طلب المقامات وَيَأْمُرهُمْ بإخلاص الْعَمَل وَيَقُول لَا تَتَّخِذُوا الْأَعْمَال وَسَائِل لمقاصد النُّفُوس تُحشرُوا مَعَ الخاسرين وَكَانَ يكره الْجَبَابِرَة وَلَا ينظر إِلَيْهِم الأشزرا وَإِذا جاءهوا أحدهم مَشى الهوينا وَلما كتب إِمَام الزيدية إِلَى أهل الْبِلَاد والخضرمية يستدعيهم إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَته فَلم يرد لَهُم جَوَابا وَقَالَ حقيق لمن لم يدع إِلَى مَا يُرْجَى فِيهِ الثَّوَاب أَن يَنْقَلِب صَاحبه بِغَيْر جَوَاب وَكَانَ شَدِيد الْإِنْكَار على من يشرب التبغ واعتنى بإزالته من تِلْكَ الديار فتم لَهُ وَنُودِيَ فِي الْأَسْوَاق وصنف لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد عَليّ بن عَلان الْمَكِّيّ فِي حرمته مصنفين وَتَبعهُ بعض الْحَنَفِيَّة فِي تَحْرِيمه وَالَّذِي أفتى بِهِ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ عبد الله بن سعيد باقشير من شافعية الْحجاز وَعدم الْحُرْمَة إِلَّا لمن حصل لَهُ بِهِ ضَرَر قلت وَظُهُور التنباك الْمُسَمّى بالتبغ وبالتتن بِجِهَة الغرب والحجاز واليمن وحضرموت كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف كَمَا وجدته بِخَط بعض المكيين وتاريخه بغى وَأما ظُهُوره فِي بِلَادنَا الشامية فَلَا أتيقنه لكنه قريب من هَذَا التَّارِيخ انْتهى وَلما حصل على السُّلْطَان عبد الله بن عمر الكثيري مَا حصل خَافَ من الْقَبْض والأسرة التجأ إِلَيْهِ فَنَجَّاهُ مِمَّا حل بِهِ وَلم يَقع فِي الْبِلَاد اختلال ومحصل القَوْل أَنه كَانَ من صلحاء وقته(2/80)
وَكَانَت وَفَاته سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة عينات بِالْقربِ من وَالِده رَحمَه الله تَعَالَى
الأديب حُسَيْن بن أَحْمد بن حُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الْجَزرِي الشَّاعِر الْمَشْهُور الْحلَبِي أحد المجيدين جمع فِي شعره بَين الصِّنَاعَة والرقة نَشأ بحلب وَأخذ بهَا الْأَدَب عَن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن المنلا وَالْقَاضِي نصر الدّين مُحَمَّد الحلفا وشغف بتَعَلُّم الشّعْر صَغِيرا وَحفظ قصائد عديدة وفحص عَن مَعَانِيهَا وَأكْثر من مطالعة كتب الْأَدَب واللغة حَتَّى صَار لَهُ رسوخ ثمَّ أَخذ يمدح الْأَعْيَان وَكَانَ إِذا تكلم لَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان يعرف شَيْئا وَكَانَ لَهُ خطّ نسخي فِي غَايَة الْحسن إِلَّا أَنه كَانَ سيء الْأَخْلَاق وَلما تنبل اقتعد غارب الأغتراب فَرَحل إِلَى الشَّام وَالْعراق وَدخل الرّوم فِي سنة أَربع عشرَة وَألف وَقَرَأَ فِيهَا على مُحَمَّد بن قَاسم القاسمي الْحلَبِي حِصَّة من هِدَايَة الْفِقْه وَفِي ذَلِك بقول فِي قصيدته البائية يمدح بهَا القاسمي الْمَذْكُور وَهِي
(لقد آن أعراضي عَن الغي جانبا ... وَأَن أتصدّى للهداية طَالبا)
وَهِي مَذْكُورَة فِي ديوانه فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكرهَا عَاد إِلَى حلب وَاسْتقر بهَا وَكَانَ أَحْيَانًا يتَرَدَّد لبنى سَيْفا أُمَرَاء طرابلس وَله فيهم المدائح الْكَثِيرَة جمع لَهُ ديوانا وَهُوَ مَوْجُود بإيدي النَّاس وَكَانَ مغرما بِشعر أبي الْعلَا المعري كثيرا الْأَخْذ مِنْهُ وَأخْبر أَنه رَآهُ فِي مَنَامه وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ اللُّزُوم وَفهم من تَقْرِيره فِي تِلْكَ الرُّؤْيَا الْخَيْر كل الْخَيْر فِيمَا أكرهت النَّفس الطبيعية عَلَيْهِ وَالشَّر كل الشَّرّ فِيمَا أكرهتك النَّفس الطبيعية عَلَيْهِ وَكتب على ديوانه اللُّزُوم قَوْله
(إِن كنت متخذا لجرحك مرهما ... فكتاب رب الْعَالمين المرهم)
(أوكنت مصطحبا حبيبا سالكا ... سبل الْهدى فلزوم مَا لم يلْزم)
وَمن شعره فِي الْغَزل قَوْله
(مَا عِشْت من ألم الْفِرَاق ... لَو لم أطل أمل التلاقي)
(فأظل كالملسوع من ... أَفْعَى النَّوَى ورجاي راقي)
(يَا ثَالِث القمرين إِلَّا ... فِي الْكُسُوف وَفِي المحاق)
(حتام دمعي فِيك لَا ... يرقا وروحي فِي التراقي)
... وَالأُم يَسْتَسْقِي الْفُؤَاد ... ظما وأجفاني سواقي)
(وغريق دمع الْعين لَا تَلقاهُ إِلَّا فِي احتراق ... )(2/81)
(وَالْحب مَا أورى الضلوع ... جوى وَمَا أروى المآقي)
(فعساك إِن تجزي محبيك ... الْمحبَّة بالوفاق)
(وَقد لقِيت هَوَاك ... أعظم مَا لقِيت وَمَا أُلَاقِي)
(وَصَبَرت فِيك عَن العدا ... صَبر الْأَسير على الوثاق)
(وَعلمت أَن الصَّبْر يَا ... عذب اللمى مرّ المذاق)
(فَأَعْرض عَن الْأَعْرَاض ... أعراضي لديك عَن النِّفَاق)
(وأرفق وَلَو بالألتفات ... عَليّ مَا بَين الرفاقّ)
(فَلَقَد يكون تلفت الْأَعْنَاق ... دَاع للعناق)
(واستبق مني باللقاء ... بواقيا لَيست بواقي)
(أَعْضَاء صب مَاله ... ألاك من عَيْنَاك واقي)
(فالبيض سود عيونها ... وأمضى من الْبيض الرقَاق)
(وَقد ودهنّ واشق ... فِي الطعْن كالسمر الرشاق)
(وَإِذا بليت بحبهنّ ... بليت بالدمع المراق)
وَقَوله من قصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(منهل دمع الْمُحب من دَمه ... فارفق بمغري الْفُؤَاد مغرمه)
(أبكيته والبكاء شَاهد مَا ... يذوب من لَحْمه وأعظمه)
(كَأَنَّهُ فِي الْفراش من سقم ... معنى رَقِيق يجول فِي فَمه)
(يَا قمراً فَرعه الظلام على ... غُصْن النقابا سما بأنجمه)
(أَي ظلوم سواك ينصره ... لم يخف الله فِي تظلمه)
(والصب بيَدي أَلِيم صبوته للحب فِي الْحبّ من تألمه ... )
وَمن سَائِر شعره قَوْله متغزلا
(ننقدّاك ساقياً قد كساك الْحسن ... من فرقك المضيء لساقك)
(تشرق الشَّمْس من يَديك وَمن فِيك ... الثريا والبدر من أطواقك)
(أوليس العجيب كونك بَدْرًا ... كَامِلا والمحاق فِي عشاقك)
(فتنه أَنْت أذمتيت وتخمي ... بتلاقيك من تشاو فراقك)
(لست من هَذِه الخليقة بل ... أنست مليك أرْسلت من خلاقك)
وَقَوله
(يَا لَيْلَة جمعتنَا وَالسُّرُور مَعًا ... لَا ورّعتها دوالي الْأُفق بالفلق)(2/82)
(لَو استطعنا وَقد شابت مفارقها ... صنعا لَهَا من سَواد الْقلب والحدق)
(بكيتها وشباب الْعَيْش فِي دعة ... منا وغافل طرف الدَّهْر وَلم يفق)
(علما بِأَن اللَّيَالِي غير بَاقِيَة ... وكل مُجْتَمع يَرْمِي بمفترق)
وَله وَهُوَ معنى غَرِيب
(وَبِي مضاضة عَيْش مهنى لغب ... مِنْهَا وساورني فِي سورها سغب)
(حَتَّى تصوّر لي مِنْهَا على ظمأ ... أَن الْمنية فِي ثغر المنى شنب)
وَله
(أحجب من أهواه خوف وشاته ... وأقصيه عني والمزار قريب)
(وَلم أر فِي الدُّنْيَا أشدّ مضاضة ... على الْقلب من حب عَلَيْهِ رَقِيب)
وَقَوله وهما من ملحه
(قديم محبَّة وَحَدِيث عهد ... مقرّهما فؤاد أَخ حميم)
(وَأَن خلتم سواكم لي خَلِيلًا ... فَإِن الْحبّ للخل الْقَدِيم)
وَقَالَ وَهُوَ بِدِمَشْق فِي غُلَام رمدت عينه
(وَمَا رمد فِي عين حبي لعِلَّة ... وَلَكِنِّي أنبيكم بِوُجُودِهِ)
(أَرَادَ يرى مَا فِي محياه من سنا ... فأثر فِيهِ جرم شمس خدوده)
وَقَالَ يمدح فصل الرّبيع
(قابلتنا أَيدي الرّبيع بِوَجْه ... حسن فِيهِ للمحاسن شَاهد)
(ولنعم الزَّمَان مِنْهُ منحنا ... فضل فصل الرّبيع لَو كَانَ خَالِد)
وَقَالَ
(يَا خير من محوه يُرْجَى ... لزلة أَثْبَتَت بسهو)
(إِنِّي أهل لكل ذَنْب ... وَأَنت أهل لكل عَفْو)
وَمن مفرداته قَوْله
(عَسى شمس هَذَا الدَّهْر تَأتي يوفق مَا ... نرجى وَسعد الوفق فِي شرف الشَّمْس)
وَقَوله
(تغافلت عَن أَشْيَاء مِنْهُ وَرُبمَا ... يَسُرك فِي بعض الْأُمُور التغافل)
وَقَوله
(نأسو برؤياك مَا أَسَاءَ بِنَا ... لَا يصلح الْجرْح غير مرهمه)
(فَإِن هَذَا الزَّمَان محسنة ... كَفَّارَة عَن ذنُوب مجرمه)
وَقَوله
(وأجاد وليل كَانَ الصُّبْح فِيهِ مآرب ... نؤمل أَن تقضي وخل نصادقه)
وَسَار فرفى آخر عمره إِلَى حماة الرَّجَاء عَن لَهُ بهَا فَرَأى لَيْلَة سيره كَأَنَّهُ يودع أَهله فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ ينشد(2/83)
(قومِي أحسني مِنْك وداعي فَمَا ... بعْدك حسنا يَا ابْنة الْقَوْم)
(وزوّدي جفني طيف الكري ... فَلَيْسَ بعد الْيَوْم من نوم)
فَلَمَّا دَخلهَا توفّي ابْن أميرها الْأَمِير عَليّ بن الأعوج واسْمه روحي فَقَالَ
(لَا تعجبوا أَن سَالَ دمعي دَمًا ... واشتعلت نَارا تباريحي)
(فلست من يبكي على غَيره ... وَإِنَّمَا أبكى على روحي)
وَبعد مُدَّة توفّي وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف هَكَذَا ذكر البديعي وَفَاته فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ رَأَيْت فِي نُسْخَة من ديوَان ابْن الْجَزرِي بِخَط بعض الدمشقيين ذكرانه أخبرهُ الْأَمِير عَليّ بن الأعوج أَن الْجَزرِي مَاتَ بعد إنشاد الْبَيْتَيْنِ المذكوريين بِثَلَاثَة أَيَّام وَلم يقل بعدهمَا شعرًا وَأَن وَفَاته كَانَت فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وناقض أَبُو الْوَفَاء العرضي فِي وَفَاته فذكرانها فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَلست أَدْرِي أَي المقولات أصح وَزَاد العرضي أَنه توفّي غَرِيبا بحماة كَمَا توفّي وَالِده بِالْبَصْرَةِ غَرِيبا وعمره نَحْو الْخمس وَالثَّلَاثِينَ وَدفن بالتربة الْمَعْرُوفَة بالعليليات والجزري نِسْبَة إِلَى جَزِيرَة ابْن عمر من بِلَاد الأكراد بهَا كَانَ أجداده وَلَهُم فِيهَا المكانة والجاه كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي بعض قصائده
(أنّ الجزيرة لَا عدا ... جوديها الْغَيْث الهتون)
(خلقُوا بهَا آباي ... آساد الشرى وَهِي العرين)
(وَلَهُم بهَا الْبَيْت المؤثل فِي قَوَاعِده المكين ... )
(وبركنه الْمجد المتين ... وظله الْمجد الْمُبين)
(ولنابهم نسب على الدُّنْيَا لَهُ شرف وَدين ... )
وَهَذِه القصيدة من غرر وقصائده وَهِي طَوِيلَة فتكتفي مِنْهَا بِهَذَا الْمِقْدَار فَفِيهِ كِفَايَة
حُسَيْن باشا بن جانبولاذ الْكرْدِي أَمِير الْأُمَرَاء بحلب كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره من المتفرقة ثمَّ تولى إِمَارَة كلس منصب وَالِده وعزله عَنهُ أَخُوهُ الْأَمِير حبيب وشبت الْعَدَاوَة بَينهمَا ثمَّ استمرّا بتعاذلان فَتَوَلّى ديو سُلَيْمَان كلس فَاحْتَاجَ إِلَى جمع السكبانية وَكَانَ ابْتِدَاء كثرتهم وَظُهُور قوانينهم من عبد الْحَلِيم اليازجي أحد أَتبَاع المسكور وولما سجن صَاحب التَّرْجَمَة بحلب وَيبْعَث جَمِيع أَسبَابه وعقاراته بأبخس الْأَثْمَان لمَال سلطاني كَانَ عَلَيْهِ تولى كلس بعد ذَلِك وصمم على الإمتناع من تَسْلِيمهَا أَن عَزله أحد فَكَانَ إِذا عزل من جَانب السلطنة سعى فِي الْعود من غير تَسْلِيم الْمُتَوَلِي(2/84)
الْجَدِيد فلعلم أكَابِر الدولة أَنهم إِذا صمموا على عَزله شقّ العصافير فَتَرَكُوهُ وارتضوا بِالْمَالِ فكثرت أجناده وأمواله وَكَانَ لَهُ مُرُوءَة وفتوة ومحبة للْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ إِلَّا أَنه كَانَ ظَالِما لاحتياجه إِلَى علوفات السبكانية وَكَانَ لَهُ فَضِيلَة فِي علم المفلك والرايرجا والتقويمات والرمل وَصرف أَكثر عمره فِي ذَلِك وَلما توجه مُحَمَّد باشا الْوَزير ابْن سِنَان باشا الْوَزير الْأَعْظَم سردارا على حُسَيْن باشا أَمِير لِوَاء الْحَبَشَة وَكَانَ خرج عَن الطَّاعَة وشق الْعَصَا وَسَببه أَنه لما تولى إِمَارَة الْحَبَشَة أَخذ مِنْهُ أكَابِر الدولة مَالا جزيلاً اسْتَدَانَ غالبه ثمَّ عزلوه سَرِيعا فشق الْعَصَا مغاصباً لَهُم فَتوجه صَاحب التَّرْجَمَة لحربه صُحْبَة السردار فَقدم إِلَى كاس خارجي من السبكانية يُقَال لَهُ رستم وَمَعَهُ من الْبُغَاة أجناد كَثِيرَة وَكَانَ ضَابِط كاس عَزِيز كتخدا من جمَاعَة صَاحب التَّرْجَمَة فَبعث واستنجد بعساكر حلب مِنْهُم الْعَسْكَر الْجَدِيد فَخَرجُوا لنصرته واجتمعوا جَمِيعًا فتقابلت الأجناد وَقَامَ بَينهم سوق الْحَرْب والطعن وَالضَّرْب فانتصر عَسْكَر رستم على عَسْكَر كاس وحلب وَقتل عَزِيز كتخدا وَقتل من العسكرين مَا لَا يُحْصى وولوا منهزمين فنهب الْخَارِجِي كلس وصادر أَعْيَان أهل الْقرى وَلما تولى نصوح باشا كَفَالَة حلب وَكَانَ عَسَاكِر دمشق تغلبُوا على حلب ونواحيها وَأمره السُّلْطَان أَحْمد بإخراجهم وَعجز عَن ذَلِك فاستعان بِصَاحِب التَّرْجَمَة فَبعث ابْن أَخِيه الْأَمِير عَليّ بعسكر عَظِيم فَأصْبح نصوح باشا وَقد أَخذ القلعة وَوضع متاريس تَحت قلعة حلب واستعدت جماعته فَكَانُوا نَحْو سِتّمائَة فَأخذت العساكر الدمشقية بَاب بانقوسا واستعدوا وجمعوا عساكرهم نَحْو الْأَلفَيْنِ وهم لَا يعلمُونَ أَن صَاحب التَّرْجَمَة بعث عَسَاكِر فَاحْضُرْ نصوح باشا إِلَيْهِ كنعان سردار الدمشقيين وَأخْبرهُ أَن السُّلْطَان رفعهم من الِاسْتِخْدَام وَأمر بإخراجهم من حلب بعيالهم فامتنعوا ثمَّ تواردت الْأَخْبَار أَن الْأَمِير عَليّ بن جَانِبه ولاذ وصل إِلَى قَرْيَة حيلان بعساكر لَا تحصى فَخَرجُوا فِي الظلام وَلم يبْق مِنْهُم اُحْدُ وَفِي الْيَوْم الثَّانِي دخل الْأَمِير على العساكر المتكاثقة فَتَبِعهُمْ نصوح باشا وَمَعَهُ الْأَمِير عَليّ إِلَى قَرْيَة كفر طَابَ فَوَقع بَينهم محاربه فَانْهَزَمَ الدمشقيون بعد مَا قتل مِنْهُم جم غفير فصادر نوح باشا أقاربهم وأتباعهم وَفعل حُسَيْن باشا مَعَ نصوح باشا هَذَا الْفِعْل فَأخذ نصوح باشا يتَكَلَّم بَين النَّاس أَنه يُرِيد قتل حُسَيْن باشا فَسمع الْخَبَر فَأخذ فِي جمع العساكر وَبعث جمَاعَة إِلَى السردار جارسنان باشا ابْن جغاله الَّذِي أرْسلهُ السُّلْطَان لقِتَال الشاه فَبلغ ذَلِك نصوح باشا فاشتدت(2/85)
عداونه فعزم على المفاجأة بِالْقِتَالِ لكَون كلس قريبَة من حلب فَخرج فِي عساكره مجدا حَتَّى وَصلهَا فِي يَوْم وَاحِد فقابل حُسَيْن باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح باشا وَقتل أَكثر عسكره وَدخل حلب مُنْهَزِمًا ثمَّ فِي الْيَوْم الثَّانِي أَخذ فِي جمع الأجناد وبذل الْأَمْوَال لتكثير الْعدَد والأعداد ظنا مِنْهُ أَن صبح سعده أَسْفر ثمَّ جَاءَ رَسُول من السردار سِنَان باشا ابْن جغاله يُخبرهُ بالأوامر السردارية أَنه قد صَار حُسَيْن باشا كافل الممالك الحلبية وعزل نصوح باشا مِنْهَا فَلبس نصوح باشا جلد النمر وَامْتنع من تَسْلِيم حلب لحسين باشا وَقَالَ إِذا ولوا حلب لعبد أسود أطيع ذَلِك إِلَّا ابْن جانبولاذ فَمَا مضى أُسْبُوع إِلَّا وَقد أَقبلت عَسَاكِر حُسَيْن باشا بجموعها إِلَى قَرْيَة حيلان فَاسْتَقْبَلَهُمْ نصوح باشا بِالْحَرْبِ ثَانِيًا فانكسر ثَانِيًا فَنزل حُسَيْن باشا بعساكره فِي محلات حلب خَارج السُّور وأغلق نصوح باشا أَبْوَاب الْمَدِينَة وسدها بالأحجار وَفتح بَاب قنسرين وحرسه بعساكر أوقفهم هُنَاكَ وَقطع حُسَيْن باشا المَاء عَن حلب وَمنع الْميرَة وَالطَّعَام عَن دَاخل الْمَدِينَة وَنصب حُسَيْن باشا متاريس على أسوار الْمَدِينَة وصف عساكره على الأسوار مَعَ المكاحل وَقَامَت بَينهم حَرْب البسوس وَأخذ حُسَيْن باشا فِي حفر اللغوم والاحتيال على أَخذ الْبَلدة ونصوح باشا فِي حفر السراديب لدفع اللغوم وَعم الحلبيين الْبلَاء من الْمبيت على الأسوار وحفر السراديب ومصادرة الْفُقَرَاء والأغنياء كل يَوْم وَلَيْلَة لطعام السبكانية وعلوفاتهم وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات وَحرقت الأخشاب للطعام والقهوة بِسَبَب قطع حُسَيْن باشا الْميرَة حَتَّى الْخشب والحطب وَنزل الْبلَاء من جَانب السَّمَاء على حلب فَبيع مكوك الْحِنْطَة بِمِائَة قِرْش ريال وجرة الشيرج بِثمَانِيَة عشر قرشا ورطل لحم الْخَيل الكديش بِنصْف قِرْش والتنية الْوَاحِدَة بِقِطْعَة وأوقية بزر الْبِطِّيخ بِأَرْبَع قطع وَأعظم من فِي الْبَلدة يجد أكل البصل والخل من أحسن الْأَطْعِمَة وَكَانَ بَعضهم يَأْخُذ الشمع الشحمى ويضعه فِي طَعَام الْأرز والبرغل وَكَانَ العساكر لَا يَجدونَ التِّبْن بل يَأْخُذُونَ الْحصْر وينقعونها فِي المَاء ويقطعونها ويطعمونها للخيل بَدَلا من التِّبْن وكل فَقير يغرم فِي الْيَوْم قرشين والمتوسط عشرَة والغنى عشْرين وَاسْتمرّ الْحصار نَحْو أَرْبَعَة أشهر وأياماً ثمَّ قدم السَّيِّد مُحَمَّد الْمَشْهُور بشريف قَاضِيا بحلب فَنزل خَارج الْمَدِينَة وَأخذ يسْعَى فِي الصُّلْح ثمَّ عقد الصُّلْح وَلم يرض نصوح باشا إِلَّا أيمانات السبانية وعهودهم فَإِن لَهُم عهودا وَثِيقَة فحلفهم بِالسَّيْفِ أَن يكون(2/86)
آمنا على نَفسه وأمواله وَأَنه إِذا تعرضه حُسَيْن باشا يقاتلونه مَعَه ثمَّ أَمر الشريف نصوح باشا أَن يذهب بِنَفسِهِ إِلَى حُسَيْن باشا ويصالحه لكَون نصوح باشا كَانَ ضرب بنت حُسَيْن باشا وَأخذ أموالها فَذهب وَمَعَهُ شاطر وَاحِد إِلَى منزل حُسَيْن باشا فَأكْرمه وسقاه شربة سكر بَعْدَمَا امْتنع نصوح باشا فَشرب حُسَيْن باشا من الْإِنَاء قبله فاقتدى بِهِ وَشرب وَلما ذهب كَانَ لابسا درعا تَحت الثَّوْب وَظن النَّاس خُرُوج نصوح باشا خُفْيَة لَيْلًا خوفًا من حُسَيْن باشا وعساكره فَلم يكن الْأَمر كَذَلِك بل خرج بعساكره وطبوله وزموره وَقت الْغَدَاة فودعه حُسَيْن باشا وَاسْتولى على الديار الحلبية وشحنها من السكان وصادر الْأَغْنِيَاء والفقراء لأجل علوفة السكان ثمَّ أَمر سِنَان باشا حُسَيْن باشا بالتوجه إِلَيْهِ لقِتَال الشاه فَقدم رجلا وَأخر أُخْرَى وتثاقل عَن السّفر حَتَّى حصلت الكسرة بِبِلَاد الْعَجم للعساكر العثمانية فِي وقْعَة مَشْهُورَة قتل فِيهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَكَانَت فِي سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة وَألف فَلَمَّا رَجَعَ الْوَزير سِنَان باشا ابْن جغالة أدْركهُ حُسَيْن باشا فِي رجعته بِمَدِينَة وَأَن فَقتله لتأخره فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ يُرِيد جعل ابْن أَخِيه الْأَمِير عليا قَائِما مقَامه بحلب فَلَمَّا بلغه قتل عَمه تملك حلب وَخرج بهَا على السلطنة وتولدت من ذَلِك فتن عَظِيمَة سنذكرها فِي تَرْجَمَة الْأَمِير عَليّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الشَّيْخ حُسَيْن بن حسن بن أَحْمد بن سُلَيْمَان أَبُو مُحَمَّد الغريفي البحراني فَقِيه الْبَحْرين وعالمها المشارة إِلَيْهِ فِي عصره ذكره السَّيِّد عَليّ فِي السلافة فَقَالَ فِي حَقه ذونب يضاهي الصُّبْح عموده وَحسب أَوْرَق بالمكرمات عوده وناهيك بِمن ينتمي إِلَى النَّبِي
فِي الأنتما وغصن شَجَرَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السما وَهُوَ بَحر علم تدفقت مِنْهُ الْعُلُوم أَنهَارًا وَبدر فضل عادبه ليل الْفَضَائِل نَهَارا شب فِي الْعلم واكتهل وهمي صيب فَضله واستهل فَجرى فِي ميدانه انه طلق عنانه وجنى من رياض فنونه أزهار أفنانه إِلَّا أَن الْفِقْه كَانَ أشهر علومه وَأكْثر مَفْهُومه ومعلومه عَنهُ تقتبس أنواره وَمِنْه يقتطف ثمره ونواره وَكَانَ بِالْبَحْرَيْنِ إمامها الَّذِي لَا يباريه مبار وهمامها الَّذِي يصدق خَبره الاختبار مَعَ سجايا تستمد مِنْهَا المكارم ومزايا تستهدي محاسنها الأكارم وَله نظم كثيرا مَا يمده بالفخر وكأنما نقره من صَخْر فَمِنْهُ قَوْله
(قل للَّذي عَابَ فعاب الَّذِي ... قلت وَقلت السِّرّ مني ضرّ وَمن)(2/87)
(لَا تمتحنها فمتحن أَنَّهَا ... ولية قد وليت عَن مروس)
(بل وقناتي صعدة صعبة ... تخبر أَنِّي الهبزري الشموس)
قلت لَو كَانَ لي أَمر السلافة مَا رضيت لَهَا هَذَا العكر وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى بعد الْألف وَلما بلغ نعيه الشَّيْخ دَاوُد بن أبي شاقين البحراني اسْترْجع وَأنْشد بديها
(هلك الصَّقْر يَا حمام فغنى ... طَربا أعالي الغصون)
ورثاه الشَّيْخ جَعْفَر بن مُحَمَّد الخطي البحراني بقصيدة مِنْهَا قَوْله
(جد الردى سلب الْإِسْلَام فانجذما ... وهد شامخ طود الدّين فانهدما)
(وسام طرف الْعلَا غمضا فأغمضه ... وفل غرب حسام الْمجد فانثلما)
(الله أكبر مَا أدهاك من زمن ... قصمت ظهر التقى وَالَّذين فانقصما)
حُسَيْن باشا ابْن حسن بن أَحْمد بن رضوَان بن مصطفى الْغَزِّي المولد حَاكم عزة كَانَ نبيه الْقدر كَبِير الهمة حسن الشكل وَله آدَاب ومآثر مأثورة يحسن بِمَالِه وجاهه إِلَى قصاده وَكَانَ أُمِّيا ويحاكي الخطوط الْحَسَنَة من مهرَة الْكتاب ولي فِي حَيَاة أَبِيه إِمَارَة نابلس وإمارة الْحَاج سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَلما توفّي أَبوهُ صَار مَكَانَهُ حَاكم غَزَّة وَكَانَ لَهُ حزم وَسعد فكبرت دولته وأطاعته العربان وَصَارَ ركنا ركيناً ثمَّ انتشأ لَهُ ولد اسْمه إِبْرَاهِيم فولي حُكُومَة الْقُدس ثمَّ نزل لَهُ أَبوهُ عَن حُكُومَة غَزَّة وَصَارَ هُوَ حَاكم نابلس وأمير الْحَاج وسافر إِلَى الْحَج سنتَيْن وَلما مَاتَ وَلَده الْمَذْكُور فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف بالبقاع العزيزي وَقد كَانَ تعين للسَّفر على الدروز فِي خدمَة الْوَزير أَحْمد باشا عَاد حُسَيْن باشا إِلَى حُكُومَة غَزَّة بعده ووشى بِهِ إِلَى جَانب السلطنة بِسَبَب أُمُور يرجع أَكْثَرهَا إِلَى عدم تقيده بِأَمْر الْحجَّاج وحراستهم فَأتى بِهِ من المزيريب إِلَى قلعة دمشق وضبطت أَمْوَاله وَأقَام مُدَّة مسجوناً بالقلعة وَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير المنجكي يسليه بِهَذِهِ الأبيات
(جفن الحسام ترى أم مربض الْأسد ... سجن حللت بِهِ يَا خير مُعْتَمد)
(أم شمس ذاتك عَن عين الغبى غَدَتْ ... محجوبة وَهِي فِي الْإِشْرَاق لِلْأَبَد)
(وَقدر جاهك فِي الْآفَاق مُرْتَفع ... مَا حط يَوْمًا وَإِن لم يخل من حسد)
ثمَّ أَخذ إِلَى الْبَاب السلطاني مُقَيّدا وأحاطت بِهِ المكاره فسجن ثمَّ قتل فِي السجْن وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وأنشدني صاحبنا المرحوم عبد الْبَاقِي بن أَحْمد السمان الدِّمَشْقِي هَذِه الأبيات لنَفسِهِ قَالَهَا فِي رثائه حِين بلغه قَتله وَكَانَ إِذْ ذَاك(2/88)
بِمصْر قَالَ وَكنت لما مَرَرْت على غَزَّة فِي سنة إِحْدَى وَسبعين قَاصِدا مصر أسدى إِلَيّ مَعْرُوفا وأنعاماً فَقلت أرثيه
(أسفي على بَحر النوال وَمن لَهُ ... بَأْس الْمُلُوك وعفة الزهاد)
(لَو أَن بعض صِفَاته اقتسم الورى ... لرأيت أَدْنَاهُم كذي الأعواد)
(لم يجن ذَنبا غير أَن زَمَانه ... قد فوض الْأَحْكَام للحساد)
(هابوه وَهُوَ مُقَيّد فِي سجنه ... وَكَذَا السيوف تهاب فِي الأغماد)
(ذهب السرُور بفقده فَكَأَنَّمَا ... أَرْوَاحنَا غَضبى على الأجساد)
(يَا ثَالِث الحسنين عاجلك الردى ... والحتف قد يسرى إِلَى الأطواد)
(لَك بالكواكب والسحائب أُسْوَة ... فَاذْهَبْ كَمَا ذهب السَّحَاب الغادي)
(فسقى ثراءك مِنْهُ صيب رَحْمَة ... مَا أطرب الركْبَان صَوت الْحَادِي)
حُسَيْن باشا بن رستم الْمَعْرُوف بباشا زَاده الرُّومِي نزيل مصر وَاحِد الدَّهْر على الْإِطْلَاق الْمُحَقق الفهامة رَأس الْفُضَلَاء فِي وقته رَأَيْت خَبره فِي كثير من التحريرات والمجاميع وَذكره الشَّيْخ مَدين القوصوني وَقَالَ فِي تَرْجَمته مولده ببلغراد فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر شَوَّال وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل فصل الخريف من سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَقدم إِلَى مصر فِي سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَحج مِنْهَا إِلَى بَيت الله الْحَرَام ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْبِلَاد الرومية وَعَاد إِلَى مصر ثَانِيًا وَأقَام بهَا وَكَانَ وَالِده من موَالِي السُّلْطَان سُلَيْمَان ثمَّ إِنَّه لم يزل يتنقل فِي الولايات حَتَّى صَار أَمِير الْأُمَرَاء بطمشوار وبودين وَكَانَت وَفَاته بهَا وَأما والدته فَهِيَ بنت إِيَاس باشا الَّذِي كَانَ رَأس الوزراء فِي دولة السطان سليم وَكَانَ من موَالِي السُّلْطَان بايزيد بن مُحَمَّد وَأخذ صَاحب التَّرْجَمَة عَن جمَاعَة من الموَالِي الْعِظَام بالديار الرومية مِنْهُم الْمولى يحيى الَّذِي كَانَ متقاعداً عَن إِحْدَى الْمدَارِس الثمان وَكَانَ أَخا للسُّلْطَان سُلَيْمَان من الرَّضَاع وَكَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور يعظمه ويزوره أَحْيَانًا وَيقبل شَفَاعَته وَمِنْهُم لمولى عبد الْغَنِيّ وَمِنْهُم الْمولى محمدبن بُسْتَان الْمُفْتِي وَمِنْهُم الْمولى فُضَيْل بن الْمُفْتِي عَلَاء الدّين الحمالي وَمِنْهُم الْمولى مُحَمَّد ابْن أخي وَمِنْهُم الْمولى أَبُو السُّعُود الْمُفْتِي الْعِمَادِيّ صَاحب التَّفْسِير وَصَارَ ملازما بمدرسة السُّلْطَان سليم الأول بقسطنطينية ثمَّ ترك ذَلِك وعزم على الْإِقَامَة بِمصْر وَطلب من السُّلْطَان أَن يعين لَهُ من بَيت المَال مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمن مَعَه من الْعِيَال من الدَّرَاهِم والغلال فعين لَهُ ذَلِك ثمَّ قدم إِلَى مصر وَأقَام بهَا بِالْعِزَّةِ والاحترام(2/89)
مَعَ الْإِحْسَان والشفاعات فِي العلوفات والجرايات للخاص وَالْعَام وَأَنْشَأَ بَيْتا متسعا مطلا على بركَة الْفِيل جعله محلا للجلوس يفه للواردين عَلَيْهِ انْتهى وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة فِي بعض المجاميع وأظنها من إنْشَاء بعض المصريين قَالَ فِيهِ بعد ذكر اسْمه وشهرته غرَّة جبهة الزَّمَان وواسطة عقد الْفَضَائِل المزري بعقود الجمان جر على هَامة المجرة ذيله وأنار بقمر فَضله ليله فاصبح وَهُوَ عَزِيز مصره والفاخر ذُو التَّاج المحجب فِي قصره أجْرى بِمصْر نيله فأخجل نيلها وَمَا زَالَ مانح الْفَضَائِل والفواضل وميلها وَأما أدبه فمادة البراعة وَالْإِحْسَان الْقَاصِر عَن نظمه ونثره سحبان وَحسان وَمَا بَرحت كواكب فَضله مشرقة لائحة وسوا كب أفضاله غادية رَائِحَة حَتَّى وافته بأجله وَفَاته وعفت آثاره وبكت عَلَيْهِ عفاته وَأثبت لَهُ من شعره مَا كتب بِهِ إِلَى القَاضِي مُحَمَّد بن دراز الْمَكِّيّ قَوْله
(على ألمعي شاقني بخياله ... سَلام يحاكى مِنْهُ طيب خصاله)
(عشقت وَمَا أبصرته غيرانني ... سَمِعت من الحاكين وصف كَمَاله)
وَكتب إِلَى الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي
(عِنْدِي لودك فَاعْلَم ذَاك مِيثَاق ... وللتملي بمرأى مِنْك أشتاق)
(وللحلول بِأَرْض أَنْت ساكنها ... قلبِي بحادي الجوى والوجد ينساق)
وظفرت لَهُ بقصيدة اثبتها لَهُ فِي تَرْجَمته فِي كتابي النفحة ومطلعها ... أَرَاك تروم الْمجد ثمَّ تساهل ... وزاملة الْعُمر الْيَسِير تناقل)
وَهِي قصيدة لَا بَأْس بهَا فَارْجِع إِلَيْهَا فِي الْكتاب الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي آخر يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث رَجَب سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَدفن يَوْم السبت بِالْقربِ من قبر القَاضِي بكار رَحمَه الله تَعَالَى
الأديب حُسَيْن بن شهَاب الدّين حُسَيْن بن جاندار البقاعي الكركي الأديب الشَّاعِر العائق كَانَ أديبا شَاعِرًا مطبوعا مقتدرا على الشّعْر جيد القريحة سهل اللَّفْظ حسن الإبداع للمعاني ذكره البديعي فِي كِتَابه ذكرى حبيب وَقَالَ فِيهِ هُوَ ثَانِي أبي الْفضل البديع الْهَمدَانِي وثالث ابْن الْحجَّاج والواساني وَقد دون مدائحه وسماها كنز اللآل وَجمع أهاجيه ووسمها بالسلاسل والأغلال فَمن حسن شعره وشعره كُله حسن قَوْله من جملَة قصيدة مطْلعهَا
(هُوَ الْحبّ لَا قرب يَدُوم وَلَا بعد ... وَقد دق معنى أَن يُحِيط بِهِ حد)(2/90)
(يحار أولو الْأَلْبَاب فِي كنه ذَاته ... فَمن جده هزل وَمن هزله جد)
(لَك الله قلبِي كم نجن لواعجا ... يذوب لَا دنى حرهَا الْحجر الصلد)
(نَصَحْتُك جهدي لَو قبلت نصيحتي ... فَعدل الْهوى جور وحر الْهوى عبد)
(لقد عالج الْحبّ المحبون قبلنَا ... فَمَا نالهم إِلَّا القطيعة والصد)
(فَإِن قَالَ قوم أَن الْحبّ لَذَّة ... فَمَا اتصفوا هَذَا خلاف الَّذِي يَبْدُو)
(نعيم هُوَ الْبلوى ورى هُوَ الظما ... وَذَاكَ فنَاء الْجِسْم يجلبه الوجد)
(على أنني جربته وبلوته ... إِذا أَنه كالصاب ديف بِهِ الشهد)
(وَمَا قلت جهلا بالغرام وَإِنَّمَا ... يصدق قولي من لَهُ بالهوى عهد)
(لعا العثارى كم أحث عزائمي ... وَهل لنهوضي فِي طلاب العلى حد)
(أما آن أَن أنضو الركائب بالثرى ... وَإِن مسني مِمَّا أكايده جهد)
(وَإِن عايناي عناي بَان طويلع ... فبشراك يَا قلبِي ألم بك السعد)
(ولاحت لنا تِلْكَ الْمعَاهد من قبا ... وَبَانَتْ قباب البان وَالْعلم الْفَرد)
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(مَا صَاح صاحي الْوَرق فِي أفنانه ... إِلَّا وأسكره بديع بَيَانه)
(وَإِذا تنازعه اللوا ثمَّ فِي الْهوى ... ذكر العقيق فسح من أجفانه)
(كلف إِذا هبت بِهِ نجدية ... يذكو بهَا مَا أَبَاحَ من أجفانه)
(معري بِذكر العامرية مغرم ... ظام إِلَى عذب العذيب وبانه)
(يخفى جوى لَو مس يذبل بعضه ... دكت هضاب الشم من أَرْكَانه)
(ويروم أَعْضَاء الجفون على القذى ... فرقا فيعرب شانه عَن شانه)
(يالائمى فِي حب أهيف لَو بدا ... للبدر لم تعدده من أقرانه)
(متمنع يرنو بناظر جؤذر ... ويلاي من وسنانه وسانه)
(أأذاد عَن مضمار حلبة حبه ... وَأَنا المجلى ويك خيل ورهانه)
(أيلوم من أودي بمهجته الْهوى ... من لم يذقْ فِي الدَّهْر طعم طعانه)
(حسبي بِمَا أَلْقَاهُ من ألم الجوى ... مَا قد ترى والعمر فِي ريعانه)
(لَو أَن بالفلك الْمُحِيط ذبالة ... من حرقتي ألهته عَن دورانه)
(أوحل وجدي بالكواكب لَا نبري ... بهرامها يشكو إِلَى كيوانه)
(أوغال رضوى بعض مَا قد غالني ... لرأينه كالعهن قبل أَوَانه)(2/91)
(أَو كَانَ يسعدني على قدر الْهوى ... دمعي لعم الأَرْض من طوفانه)
(وَلَقَد سلكت الْحبّ لَا غرا بِهِ ... وَعرفت كنه خفيه وعيانه)
(وَعلمت إِذْ ذقت الغرام بأنني ... حاس بكأس جميله وحسانه)
وَقَوله من قصيدة مطْلعهَا
(مَا لَاحَ برق من رَبِّي حاجر ... إِلَّا اسْتهلّ الدمع من ناظري)
(وَلَا تذكرت عهود الْحمى ... إِلَّا وَسَار الْقلب عَن سائري)
(أوّاه كم أحمل جور الْهوى ... مَا أشبه الأوّل بِالْآخرِ)
(يَا هَل ترى يدْرِي نؤوم الضُّحَى ... بِحَال ساه فِي الدجى ساهر)
(تهب إِن هبت يَمَانِية ... أشواقه للرّشأ النافر)
(يضْرب فِي الْآفَاق لَا يأتلي ... فِي جوبها مثل السائر)
(طوراً تهامياً وطوراً لَهُ ... شوق إِلَى من حل فِي الحائر)
(كأنّ مِمَّا رابه قلبه ... علق فِي قادمتي طَائِر)
أصل هَذَا الْمَعْنى لعروة بن حرَام
(كَأَن قطاة علقت بجناحها ... على كَبِدِي من شدّة الخفقان)
وَذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي حَقه طودرسي فِي مقرّ الْعلم ورسخ وَنسخ خطة الْجَهْل بِمَا خطّ وَنسخ رَأَيْته فَرَأَيْت مِنْهُ فَردا فِي الْعُلُوم وحيداً وكاملاً لَا يجد الْكَمَال عَنهُ محيداً تحل لَهُ الحبى وتعقد عَلَيْهِ الخناصر أوفى على من قبله واعترف بفضله المعاصر يستوعب شَوَاهِد الْعلم حفظا بَين مقروء ومسموع وَيجمع شوارد الْفضل جمعا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُنْتَهى الجموع حَتَّى لم ير مثله فِي الْجد على نشر الْعلم وإحياء مواته وحرصه على جمع أَسبَابه وَتَحْصِيل أدواته وَقد كتب بِخَطِّهِ مايكل لِسَان الْقَلَم عَن ضَبطه واشتغل بِعلم الطِّبّ فِي آخر عمره فتحكم بالأرواح والأجسام نهية وَأمره غير أَنه كَانَ فِيهِ كثير الدَّعْوَى قَلِيل الْفَائِدَة والجدوى لَا تزَال سِهَام رَأْيه فِيهِ طائشة عَن الْغَرَض وَإِن أَصَابَت فَلَا تخطىء نفوس أولى الْمَرَض فكم عليل ذهب وَلم يلف لَدَيْهِ فرج فَأَنْشد أَنا الْقَتِيل بِلَا إِثْم وَلَا حرج
(النَّاس يلحون الطَّبِيب وَإِنَّمَا ... غلط الطَّبِيب أصابة الْمَقْدُور)
وَمَعَ ذَلِك فقد طوى أديمه من الْأَدَب على أغر رديمه وَمَتى هَتَفت لهاة قَالَه بالشعر(2/92)
أرخص من عُقُود اللآلي كل غالي السّعر إِلَى ظرف شيم وشمايل تطيب بأنفاسها الصِّبَا وَالشَّمَائِل والمام بنوادر المجون يحلى حَدِيثه والْحَدِيث شجون وَلم يزل يتنقل فِي الْبِلَاد ويتقلب حَتَّى قدم على وَالِده قدوم أخي الْعَرَب على آل الْمُهلب وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين وَألف فأحله الْوَالِد لَدَيْهِ محلا عقد فِيهِ نواصي الآمال بَين يَدَيْهِ وأمطره سحائب جوده وَكَرمه ورد شباب أمله بعد هرمه فَأَقَامَ بِحَضْرَتِهِ بَين خير وَخير وَتقدم مَا شَاءَ مَا شابه تَأْخِير إِلَى أَن خوى من أفق الْحَيَاة طالعه وأدجت بأفول عمره مطالعه وَمن مصنفاته شرح نهج البلاغة وعقود الدُّرَر فِي حل أَبْيَات المطول والمختصر وهداية الْأَبْرَار فِي أصُول الدّين ومختصر الأغاني والاسعاف وَغير ذَلِك وَأنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(لَك الْخَيْر لَا زيد يَدُوم وَلَا عَمْرو ... وَلَا مَاء يبْقى فِي الدنان وَلَا خمر)
(فبادر إِلَى اللَّذَّات غير مراقب ... فمالك أَن قصرت فِي نيلها عذر)
(فَإِن قيل فِي الشيب الْوَقار لأَهله ... فَذَاك كَلَام عَنهُ فِي مسمعي وقر)
(وَقَالُوا نَذِير الشيب جَاءَ كَمَا ترى ... فَقلت لَهُم هَيْهَات أَن تغني النّذر)
(لَئِن كَانَ رَأْسِي غير الشيب لَونه ... فرقة طبعي لَا يغيرها الدَّهْر)
(يَقُولُونَ دع عَنْك الغواني فَإِنَّمَا ... قصاراك لحظ الْعين وَالنَّظَر الشزر)
(وَهل فِيك للغيد الحسان بَقِيَّة ... وَقد ظهر الْمكنون وارتفع السّتْر)
(وَمَا للغواني وَابْن سبعين حجَّة ... وحلم الْهوى جهل ومعروفه نكر)
(فَقلت دَعونِي فالهوى ذَلِك الْهوى ... وَمَا الْعُمر إِلَّا الْعَام وَالْيَوْم والشهر)
(نشأت أحب الغيد طفْلا ويافعا ... وكهلا وَلَو أوفي على الْمِائَة الْعُمر)
(وَهن وَإِن أعرضن عني حبائي ... لَهُنَّ عَليّ الحكم والنهى وَالْأَمر)
(أحاشيك بِي مِنْهُم من لَو تعرضت ... لنوء الثريا لاستهل لَهَا الْقطر)
(ترقرق مَاء الْحسن فِي نَار خدها ... فماء وَلَا مَاء وجمر وَلَا جمر)
(فيا بعد مَا بَين الحسان وَبَينهَا ... لَهُنَّ جَمِيعًا شطرها وَلها الشّطْر)
(برهرهة صفر الوشاح إِذا مشت ... تجاذب مِنْهَا الردف والعطف والخصر)
(من الْبيض لم تغمس يدا فِي لطيمة ... وَقد مَلأ الْآفَاق من طيبها نشر)
(تَخِر لَهَا زهر الْكَوَاكِب سجدا ... وتعنو لَهَا الشَّمْس المنيرة والبدر)
(تخال بجفنيها من النّوم لوثة ... وتحسبها سكرى وَلَيْسَ بهَا سكر)(2/93)
(وَقَالُوا إِلَى هاروت ينْسب سحرها ... أَبى الله بل عَن لحظها يُؤْخَذ السحر)
(تخَالف حَالي فِي الغرام وحالها ... لَهَا مَحْض ودي فِي الْهوى ولي الهجر)
قلت وَهَذِه القصيدة من أمتن شعره وأغلاه وَقد تَرْجَمته فِي كتابي النفحة وَذكرت لَهُ أَشْيَاء من شعره مَا عَلَيْهَا غُبَار وَبِالْجُمْلَةِ فَكل شعره لطيف السبك وَكَانَت وَفَاته على مَا ذكره ابْن مَعْصُوم يَوْم الِاثْنَيْنِ لإحدى عشرَة بقيت من صفر سنة سِتّ وَسبعين وَألف عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
حُسَيْن بن عبد الله بن شيخ بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس الْحَضْرَمِيّ السَّيِّد الْأَجَل أحد أسخياء الْعَالم ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ ولد بتريم فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة واجتهدوا تبع السّنة النَّبَوِيَّة وَتخرج بوالده وَأخذ عَن أَخِيه شيخ وَغَيره من الْعلمَاء العاملين والأولياء الصَّالِحين وَلبس الْخِرْقَة الشَّرِيفَة مِنْهُم وأجازوه فِي الألباس وانتفع بِهِ كثير من النَّاس وَقصد من الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَكَانَ يكرم الوافدين وَيحسن للْفُقَرَاء وَله كرامات ظَاهِرَة وَله جاه عَظِيم عِنْد الأكابر لَا سِيمَا أَرْبَاب السَّيْف يقابلونه بالتعظيم وَكَانَ مَشْغُولًا بِذكر الله حَتَّى مَاتَ فِي سنة ثَمَان بعد الْألف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الْكَرِيم بن عبد الله الملقب زين الدّين الغزى الْمَعْرُوف بِابْن النخالة الشَّافِعِي مفتي الشَّافِعِيَّة بغزة الْفَقِيه البارع لمتمكن من بَيت ولَايَة وورع وتقوى وَحده عبد الله نطق لَهُ الْحمار كَمَا قراته فِي بعض إجازات حُسَيْن صَاحب التَّرْجَمَة من الشَّيْخ عَامر العزيزي الْآتِي ذكره وَنَشَأ حُسَيْن هَذَا فِي غَزَّة وَقَرَأَ بهَا ثمَّ رَحل إِلَى مصر فِي حُدُود سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ بهَا عَن إِمَام الْفَرَائِض فِي زَمَنه عبد الله الشنشوري الشَّافِعِي الْخَطِيب بِجَامِع الْأَزْهَر وَعَن الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ والنور عَليّ الزيَادي وَأبي بكر بن إِسْمَاعِيل الشنواني وَيحيى ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى الهيتمي الأَصْل الأنبابي وَالشَّمْس مُحَمَّد التَّمْر تاشي صَاحب التَّنْوِير والشهاب أَحْمد بن زين الدّين الْخَطِيب الشربيني الشَّافِعِي وَالشَّيْخ عَامر ابْن عبد الله العزيزي الشَّافِعِي وَالشَّيْخ عَليّ بن عمر بن شيخ البير الْغَزِّي وَالشَّيْخ عَليّ ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد أبي العزاين أَحْمد الْعزي الشَّافِعِي الْأنْصَارِيّ الْأَزْهَرِي وَرجع إِلَى عزة وانكب على الإفادة وشاع ذكره واشتهر فَضله وَكَانَ عَالما جَلِيلًا متضلعا من الْعُلُوم وَإِن غلب عَلَيْهِ علم الْفَرَائِض وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف(2/94)
الشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمملوك نزيل دمشق أحد الْأَفْرَاد الْمجمع على جلالته وتبحره فِي الْعُلُوم وتمكنه فِي التصوف والمعارف الألهية وَالْأَدب وَكَانَ عَالما متجرا زاهدا ورعا عابدا منتسكا متجردا عَن المَال والأهل مُنْفَرد فِي زَوَايَا التَّوَاضُع والمسكنة حكى عَن نَفسه مرَارًا أَنه كَانَ فِي مبدأ أمره رَقِيقا لرجل من أَعْيَان التُّجَّار بِمَدِينَة حلب بمحلة البياضة يُقَال لَهُ قرابكر وَاسْتمرّ مَوْلَاهُ يربيه كولده الَّذِي من صلبه ويعلمه الكمالات ويقرئه بإجتهاد وَطَلَبه من عهد حداثته وَأَيَّام شبابه حَتَّى مَال طبعه إِلَى الْكَمَال وَقَرَأَ على مَشَايِخ حلب مِنْهُم الشَّيْخ عمر العرضي وتلميذه الشَّمْس الْعِمَادِيّ الْعُلُوم الْعَرَبيَّة والفنون الأدبية وَلم يزل حَتَّى حصل شَيْئا وافراً من الْعُلُوم وَأخذ طَرِيق الْقَوْم عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْعِمَادِيّ وَالِد الشَّمْس وَكَانَ لَهُ قدرَة على تأليف مقامات الصُّوفِيَّة بالألحان الطبية وينشد كَلَام الْقَوْم فِي حَلقَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْعِمَادِيّ الْمَذْكُور ويقرئ الطّلبَة فِي مُقَدمَات الْعُلُوم وَكَانَ أعْتقهُ مَوْلَاهُ من رقّه وَأحسن إِلَيْهِ وَبَالغ فِي إكرامه وَسلم إِلَيْهِ جَمِيع مَاله وَصَارَ يُرْسِلهُ إِلَى الْبِلَاد بأسفار التِّجَارَة ويلاحظه السعد فِي أَسْفَاره إِلَى أَن حصل لسَيِّده شَيْئا كثيرا من المَال ثمَّ توفّي سَيّده بحلب فتجرد من قَيده فِي التِّجَارَة وَفَارق حلب ورحل إِلَى مصر وجاور فِي جَامع الْأَزْهَر وَقَرَأَ على مَشَايِخ ذَلِك الْعَصْر واجتهد فِي التَّحْصِيل إِلَى أَن صَار من أكَابِر الْعلمَاء وصناديد الْفُضَلَاء وَحج وجاور سِنِين وَقدم دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سَافر إِلَى حلب وَأخذ الْعَهْد من طريف الخلوتية وتجرد وَترك صُحْبَة النَّاس ومعاشرتهم وَالْتزم السلوك فِي طَرِيق الْحَقِيقَة على دأب مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وبرع فِي الزّهْد وَالصَّلَاح وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب حَظّ وافر وَله التفوق فِي دقائق الألغاز والمعميات ونظم الشّعْر البديع وَجمع لنَفسِهِ فِي آخر أمره ديوانا من شعره وَأحسن فِي جمعه وَضَبطه وَكَذَلِكَ جَمِيع ديوانا من ألغازه ورتبه على حُرُوف المعجم ووسمه بتشحيذ الحجا بألغاز حُرُوف الهجاء وَشرح ألغاز الْأُسْتَاذ عمر بن الفارض فِي نمط بديع وأسلوب عَجِيب وَألف رسائل كَثِيرَة فِي فنون عديدة وَمن شعره قصيدته النونية فِي مدح النَّبِي
ومطلعها
(لَاحَ برق من بروق الأربقين ... أم سنا من نور أهل الرقمتين)
(حارت الْأَلْبَاب فِي مَعْنَاهُمَا ... وَمعنى الْوَصْل لَا يدْرِي لاين)
(بعد الطَّالِب وَالْمَطْلُوب هَل ... تَنْفَع الشكوى بعيد الهجرتين)(2/95)
(لَيْسَ يُدْنِيه معِين إِذْ غَدا ... قاصي الدَّار معبن المقلتين)
(فَدَعَاهُ بعد بعد رَحمَه ... هَاتِف الْغَيْب لمجلي الحضرتين)
(ثمَّ نَادَى بِلِسَان طلق ... صَادِقا فِي قَوْله من غير مين)
(يَا أَخا الْعَزْم بحزم حَازِم ... وبقلب يقظ مَا فِيهِ رين)
(قدّم الْقلب وَأخر قالباً ... وألزم التَّقْوَى بِصدق الْقَدَمَيْنِ)
(واطلب الشَّرْع ولازم عَرْشه ... مجمع الْبَحْرين جمع الجسّين)
(وابق بالأخيار واجمع فَوْقهم ... وَكن ابْن الْوَقْت وأنف العدمين)
(أَن ترم ترقى على هام العلى ... سامياً فَوق سَمَاء الفرقدين)
(فأت من أَبْوَابهَا بوّابها ... وتوسل برَسُول الثقلَيْن)
(أَحْمد الْمُخْتَار كننز الأتقيا ... بهجة الكونين نور المشرقين)
(قامع الْكفَّار مَا حَيّ شركهم ... جَامع الْأَنْصَار حامي البلدتين)
(فاتح الْأَمْصَار بِالسَّيْفِ سوى ... يمن الْيمن بهَا قرّة عين)
(بِكِتَاب أسلمت واستسلمت ... عدن الْخَيْر وصنعا وعدين)
(لم يكن لَوْلَا وجود الْمُصْطَفى ... جود غفران وجود الْعَالمين)
(فجزاه الله أَعلَى مَا جزى ... من بني حَاتِم فياض الْيَدَيْنِ)
(يَا رَسُول الله يَا سؤل الورى ... يَا جميل الْوَجْه أبهى القمرين)
(يَا خطيب الْحق لِلْخلقِ وَيَا ... جَامع الصدْق أَمَام الْقبْلَتَيْنِ)
(يرتجي الْحسنى حُسَيْن سَيِّدي ... يَا أَبَا الْإِحْسَان جدّ الحسنين)
(كن لَهُ يَا ذَا الْمَعَالِي شافعاَ ... فِي عماد يَا عماد النشأتين)
(وأعنه حَيْثُ يَأْتِيهِ القضا ... وأغثه من سُؤال الْملكَيْنِ)
(وَتقبل سَعْيه يَا من بِهِ ... شرع الْحَج ومسعى المروتين)
(فعلى ذاتك من رب السَّمَاء ... صَلَاة وَسلَامًا دائمين)
(وعَلى الْآل مَعَ الْأَصْحَاب مَا ... ذكر الْبَدْر ببدر وحنين)
وقرأت بِخَطِّهِ على هامشها مَا صورته هَذِه القصيدة عرضت على النَّبِي
أَخْبرنِي بِهِ قطب وقته السَّيِّد صبغة الله القاطن بِالْمَدِينَةِ المنورة والعهدة عَلَيْهِ وقرأت بِخَط بعض النَّاس نقلا عَن صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ ورد سُؤال إِلَى الْجَامِع الْأَزْهَر بِمصْر مُشْتَمل على بَيْتَيْنِ قيل أَنَّهُمَا للشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي الْحسن(2/96)
الشاذلي وهما
(عينان عينان لم ترقأ دموعهما ... لكل عين من الْعَينَيْنِ نونان)
(نوناّن نوناّن لم يخططهما قلم ... لكل نون من النونين عنان)
فَأجَاب من أجَاب عَنهُ بِمَا ناسب قدره لكنه ضل فِي غيهب ليل فكرة وَمَا صَادِق قدره وألهمني الله عَنهُ مَا يقرب من الْجَواب فَلَعَلَّهُ أَن يكون قَاضِيا بِهِ لَا قاصيا عَن الصَّوَاب فَقلت
(جَوَابه سُورَة الرَّحْمَن ناطفة ... بِهِ أيا روح ذاتي عين إنساني)
(فَكل عين لَهَا نون عَلَيْك بهَا ... لَكِنَّهَا بإعتبار الْبسط نونان)
(هَذَا ونونان أَن تطلب بيانهما ... فأسماهما مِنْهُمَا لَا رسم قُرْآن)
(فاسم على سمك وأسم على ملك ... يرى لكل من الأسمين عنان)
(هاك الْبَيَان بتقرير اللِّسَان بِهِ ... تَحْرِير سر جناه كنز عرفان)
وَمن شعره قَوْله مقتبسا
(كم من جهول فِي الْغَنِيّ سارح ... وَمن عليم فِي عناء مُقيم)
(قد حارت الْأَلْبَاب فِي سرذا ... وطاشت النَّاس فَقَالَ الْحَكِيم)
(لَا يسئل الخلاق عَن فعله ... ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم)
وَقَوله
(يَا رَاضِيا بِعُلُومِهِ بَين الورى ... إياك فيا أَن يشينك قَادِح)
(لتَكون مرضياً بهَا عِنْد الندى ... يأيها الْإِنْسَان أَنَّك كَادِح)
وَقَوله
(يَا من يروم إِلَى الْحَقَائِق مسلكاً ... إِن شِئْت فِيهَا أَن تصبر بَصيرًا)
(فَعَلَيْك بالهادي النصير كِفَايَة ... وَكفى بِرَبِّك هادياً ونصيراً)
وَقَوله
(ألهي تناجيك السَّمَاء وَأَهْلهَا ... وترجوك أهل الأَرْض حَقًا وتقصد)
(تَبَارَكت يَا رَحْمَن أَنْت رحيمنا ... وَمَالك يَوْم الدّين أياك نعْبد)
وَبِالْجُمْلَةِ فَلهُ آثَار كَثِيرَة وَاسْتقر آخر أمره بِدِمَشْق وَسكن فِي الْمدرسَة الكلاسة فِي حجرَة صَغِيرَة تجاه الْجَامِع الْأمَوِي فِي جوَار مرقد السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن أَيُّوب وَقَرَأَ عَلَيْهِ الجم الْغَفِير من أهل دمشق أَنْوَاع الْعُلُوم وَبِه انتفعوا فِي فنون الْأَدَب وَفِي حل الْكَلَام ابْن الفارض وَكَانَ عيشه بِدِمَشْق أمرا غَرِيبا لَا يعرف لَهُ أحد وَجه معاش وَكَانَ لَا يقبل من أحد شَيْئا مَا وَلَو كَانَ على سَبِيل الْهَدِيَّة وَكَانَ لَا يعاشر بِلَا الْفُقَرَاء وأرباب الطَّرِيق من الصُّوفِيَّة وَكَانَ ملازما لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء ومشايخ الْعلم مِمَّن لَهُم مَرَاتِب مَعْلُومَة وَكَانَ فِي أَكثر أوقاته يُوجد منتزها فِي بساتين(2/97)
دمشق وغياضها وَيجْلس على جَانب الْأَنْهَار مَعَ طلبة الْعلم والفقراء المترددين إِلَيْهِ وَعمر كثيرا حَتَّى بلغ رُتْبَة الثَّمَانِينَ وحظى فِي زَمَانه بشرف صُحْبَة أَئِمَّة كبار جالسهم وعاشرهم وَأخذ الْعلم عَن أساطين عالية الْمَقَادِير وساح كثيرا فِي الْبِلَاد حَتَّى انْتَهَت سياحته إِلَى استقراره بِدِمَشْق وَبهَا توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَ مَرضه الاسهال وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَقَالَ أَبُو بكر الْعمريّ شيخ الْأَدَب الْمُقدم ذكره فِي تَارِيخ وَفَاته
(مذ عَالم عصره أَمَام التَّوْحِيد ... قد حل برمسه غَرِيبا ووحيد)
(قَالُوا أشهادة لَهُ قد حصلت ... أرخت بلَى حُسَيْن قد مَاتَ شَهِيد)
الشَّيْخ حُسَيْن بن عبد النَّبِي بن عمر الْحلَبِي الأَصْل الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن الشعال أَمَام السُّلْطَان الْعَالم الْمَشْهُور وَكَانَ أَبوهُ عبد النَّبِي خَادِم نَبِي الله يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام وكبير الشعالين بِجَامِع مَعَ بني أُميَّة وَنَشَأ حُسَيْن هَذَا وَلزِمَ الِاشْتِغَال حَتَّى برع فِي الْفُنُون خُصُوصا القرآت وَكَانَت قِرَاءَته جَيِّدَة وصوته حسنا وَكَانَ رجل رومي ورد إِلَى دمشق فأحدث لَهُ بعض قُضَاة الشَّام إِمَامَة بِجَامِع بني أُميَّة فَكَانَ يقْرَأ الْفَاتِحَة وَيَقُول وَلَا الضَّالّين بِفَتْح اللَّام على صِيغَة التَّثْنِيَة وَكَانَ يَقُول أَيْضا غير المغضوب بِفَتْح الضَّاد وَسُكُون الْوَاو فَأنْكر النَّاس عَلَيْهِ ففرغ لحسين هَذَا عَن وَظِيفَة الْإِمَامَة الْمَذْكُورَة وباشر هامدة وَكَانَ إِذْ ذَاك مَعَ حَدَاثَة سنه متصنعاً فِي أسلوبه متعظماً جدا وَله دَعْوَى عريضة وَدخُول فِي أَبْوَاب لم يحم حولهَا وَمِنْهَا الشّعْر حَتَّى نظم قصيدته الْمَشْهُورَة فِي مدح السَّيِّد الشريف مُحَمَّد بن السَّيِّد برهَان الدّين قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام وَهِي من أعجب مَا سمع من القَوْل وتعرف فِي هَذِه الْبِلَاد بالقصيدة القرمحشدية وأثبتها هُنَا لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْعجب العجاب وَهِي قَوْله مُحَمَّد قرم حشد مُحدث نجل حبر طهر حدث جزر مصدر الحكم مسبار سطاع سعدك سلع سماك سمحك شرح سكال سرك سهم سماط سحلك مدرار نجاف نجدك نجح نطاف نسلك نهر نجار نهجك نور نقاط نجلك مكثار نقاب نعتك نشر نُحَاس نجرك نقع نبال مدحك نظم نِفَاس مدحك مدكار شعاب شرك شقص شمال شهمك شرح شعار شجك شكد شقاب شهدك ممهار صدار صمدك صوف صنار صبرك صدع صِرَاط صدقك صنم صِحَاب صفقك مِقْدَار مُطَاع مرضك مَحْض مَخَاض معقك مخض ملاك ملكك ملك ملاع محرك مضمار(2/98)
دنار دينك دنس دلاض دبرك دفح دعاف دبسك دبل دثار دبرك مِسْمَار مهار معرك نتك ملاط مرحك ملح معاس معدك مهد ملاح مصرك معشار دوَام دولك درس ديار دبرك دعض دوَام درسك درد دلاس دهنك معطار جَراد جزلك جزر جماع جلك جفل جيار حرسك حَبل جراب حلبك مهدار وَهَذَا آخرهَا وَالْحَمْد لله على التَّمام وَقد شرحها الأديب أَبُو بكر الْعمريّ الْمُقدم ذكره شرحا مُسْتَوْفيا لخرافات ابتدعها وَقَالَ فِي ديباجة الشَّرْح الْحَمد لله الَّذِي خلق الْعقل وأودعه من أحب من هَذَا الْحَيَوَان النَّاطِق وَجعله زِينَة للنوع الإنساني وميز بِهِ الصاهل والناهق إِلَى آخر مَا قَالَه ثمَّ أَخذ فِي شرح الأبيات وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شرح غَرِيب الْوَضع وَاسْتمرّ صَاحب التَّرْجَمَة مُقيما بِدِمَشْق إِلَى أَن وَقعت لَهُ مَعَ جملَة من فضلاء دمشق قصَّة جِهَات الْحسن البوريني لما مَاتَ كَمَا أسلفته فِي تَرْجَمته فَرَحل بعْدهَا إِلَى الرّوم وتوطنها وَأَرَادَ أَن يسْلك طَرِيق الموَالِي فَلم يَتَيَسَّر لَهُ فَصَارَ إِمَامًا ثَانِيًا فِي جَامع السُّلْطَان أَحْمد ثمَّ صَار خَطِيبًا بالسليمانية وَاسْتمرّ مُدَّة مديدة إِلَى أَن توفّي الْمولى يُوسُف بن أبي الْفَتْح الدِّمَشْقِي إِمَام الحضرة السُّلْطَانِيَّة فَصَارَ مَكَانَهُ إِمَامًا وَكَانَ ذَلِك فِي عهد السُّلْطَان إِبْرَاهِيم وسما حَظه ونما شَأْنه إِلَى أَن صَارَت لَهُ رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بروم إيلي وَكَانَ أَرْبَاب الدولة يجلونه ويعظمونه واشتغل عَلَيْهِ خلق كثير خُصُوصا من أهل الْحرم السلطاني وَكَانَ مغرما بالكيماء وَأنْفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا جمة وَكَانَت وَفَاته فِي ثَالِث جُمَادَى الأولى سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله
الْحُسَيْن بن عَليّ الْوَادي اليمني من شعراء الْيمن الفائقين وَكَانَ أديباً شَاعِرًا لطيف الطَّبْع كثير الْإِحْسَان فِي شعره رَأَيْت خَبره فِي مَجْمُوع بِخَط الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله وَقد أثنى على فضائله وَذكر لَهُ من شعره هَذِه القصيدة ومطلعها
(نسيم الصِّبَا فِي سوحنا يتبختر ... لَك الله مَا هَذَا إِلَّا ريح المعنبر)
(أَأَنْت رَسُول يَا نسيم الصباء عَن ... حُلُول الْحمى أم أَنْت عَنْهُم مُبشر)
(فهمت الَّذِي أودعته غير أنني ... أحب حَدِيثا مِنْهُم يتكرّر)
(لما ألفته النَّفس مِنْهُم وعوّدت ... وَإِلَّا فَعلم الْغَيْب لَا يتقدّر)
(فكرّر على سَمْعِي أَحَادِيث ذكرهم ... عَسى تنطفي نَار بأحشاي تسعر)
(هم استصحبوك السرّ بيني وَبينهمْ ... لِأَنَّك أبدى بالجميل وأبدر)
(ومثلي هداك الله يَا ساري الصِّبَا ... يَسُرك وَالْمَعْرُوف أجدى وأجدر)(2/99)
(وأبلج أمّا الخدّ مِنْهُ فأحمر ... وأمّا قوام الْقد مِنْهُ فأسمر)
(وأمّا ثنايا ثغره حِين تجتلى ... فكأس جمانٍ فِيهِ خمرٌ وكوثرُ)
(تغازل عَن عَيْني مهاة وشادن ... يلاحظنا مِنْهَا سِهَام وأبتر)
(هِيَ الْبيض إِلَّا أَنَّهَا حندسية ... هِيَ النبل إِلَّا أَنَّهَا تتكسر)
(هِيَ السحر إِلَّا أنّ فِيهَا خصائصاً ... بهَا عَالم السحر الصناعي يسحر)
(وَفِي خدّه خَال يَقُولُونَ إِنَّه ... بِلَال لَهُ فِي جَامع الْحسن مِنْبَر)
(بلَى ذَلِك الْخَال الصَّرِيح إِشَارَة ... عديمة مثل لَا بِلَال وَعَنْبَر)
(شَكَوْت لَهُ من فَتْرَة فِي جفونه ... لشدّة مَا ألْقى بهَا حِين تفتر)
(وَمَا أَنا فِيهِ من هوى وصبابة ... تبيت بهَا الأحشاء تطوى وتنشر)
(وأفصح عَن لفظ توهمت أَنه ... جمان من الثغر الجمانيّ يبهر)
(وَقَالَ نعم هَذَا لعَيْنِي مَذْهَب ... وفتنة نفس الْمَرْء شَيْء مُقَدّر)
(بروحي جوّار اللحاظ وقدّه ... يُحَقّق فِينَا عدله حِين يخْطر)
(أَلا إِن عدل الْقد أكبر شَاهد ... عَلَيْك بجور الحكم وَالله أكبر)
(ورقة هَذَا الْجِسْم مِنْك بأنني ... رَقِيق هوى والمثل بِالْمثلِ ينظر)
(فَللَّه أزمان تواصل يَوْمهَا ... بليلتها والعمر كالعيش أَخْضَر)
(وليل عهدناه وَإِن كَانَ أسوداً ... كشعر الصِّبَا يشكو سواداً فيشكر)
(وأحباب قلب لَيْسَ إلاّهم المنى ... صفاء ودادي فيهم لَا يكدر)
(دَلَائِل عشقي فِي هواهم صَرِيحَة ... ومعرفتي فِي حبهم لَيْسَ تنكر)
(ربحت هواهم فِي زمَان شبيبتي ... وشبت فَلَنْ أرْضى بِأَنِّي أخسر)
(فَلَا تنكروا أَن أرسل الجفن دمعه ... وَقد جَاءَ فِي رَأْسِي من الشيب مُنْذر)
(وَيَعْقُوب أحزاني ويوسف فتنتي ... وَصَالح أعمالي عساني أوجر)
(خليليّ عهد الله إِن جزتما الْحمى ... وعاينتما قلبِي ببيداه يجأر)
(فدلا عَلَيْهِ جيرة الْحَيّ واذكرا ... لَهُم من حَدِيث الصب مَا يَتَيَسَّر)
وَمن شعره قَوْله وهما آخر شعر قَالَه
(وَقد مَاتَ شيطاني وَلَكِن تَائِبًا ... عَن الغِي حَتَّى الشّعْر فَالله يرحمه)
(وخلفت دين الصادرين إلَيْكُمَا ... يكفر ذَنبا للقريض ويختمه)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَسبعين وَألف بالجبى بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ يَاء(2/100)
نسب اسْم لحصن عَظِيم عَال من بِلَاد ريحة وَبَينه وَبَين السَّيِّد مُحَمَّد بن المطهر الجرموزي مراسلات لَطِيفَة ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته
الْأَمِير حسن بن فياض الحياري أَمِير الْعَرَب كَانَ من أمره أَنه لما مَاتَ أَبوهُ ظن أَنه ولي عَهده فِي الْإِمَارَة فَوضع يَدَيْهِ على خَزَائِن وَالِده واحتفت بِهِ الْعَرَب وَإِذا بِابْن عَمه الْكَبِير الْأَمِير مُدْلِج بن الْأَمِير ظَاهر قدم بِجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وحولوا حُسَيْن عَن الْإِمَارَة وَعَن خَزَائِن وَالِده وحاولوا قَتله فهرب فانعقدت الْإِمَارَة لمدلج لكَونه أكبر مِنْهُ وأوجه وَأقرب إِلَى سلسلة الْإِمَارَة ولكونه كَانَ شريك وَالِده فِي قتل الْأَمِير شَدِيدا ابْن عَمهمَا الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ أَمِيرا وَكَانَ الْأَمِير فياض عاهده على أَنه إِذا مَاتَ تكون الْإِمَارَة من بعده لَهُ ثمَّ نزل حُسَيْن على بعض الكبراء واستظل بظله حَتَّى أصلح بَينه وَبَين مُدْلِج وَجعل لَهُ جانبا من الْولَايَة قَلِيلا ثمَّ وَقع فِي بَغْدَاد ونواحيها ثلج عَظِيم وَكَانَ لم يعْهَد وُقُوع الثَّلج قبل ذَلِك بِبَغْدَاد وحسين هُنَاكَ ومدلج بعيد عَنهُ فأمن مُدْلِج بِسَبَب ذَلِك فَركب حُسَيْن فِي الثَّلج وَذهب بعد أَيَّام إِلَى منَازِل مُدْلِج وَنزل خُفْيَة حَتَّى يدْرك اللَّيْل وَيدخل إِلَى نِسَائِهِ وَكَانَت زَوْجَة مُدْلِج بنت شَدِيد تساهر النِّسَاء وَكَانَ مُدْلِج يدْخل ثملا من الْخمر فَلبس حُسَيْن لِبَاس النِّسَاء وَدخل بَينهُنَّ وَأطَال الْجُلُوس حَتَّى يجد فرْصَة فِي قتل ابْن عَمه وَكَانَت بنت شَدِيد زَوْجَة لوالد حُسَيْن فبالفراسة عَرفته وتحيرت بَين أَن تسكت فَيقْتل زَوجهَا وَبَين أَن تَتَكَلَّم فَيقْتل ابْن زَوجهَا وَإِن قَالَت لَهُ اهرب تخَاف أَن يسمع زَوجهَا فَقَالَت فِي مُؤخر كَلَامهَا بمناسبة لَا يَنْبَغِي المخاطرة فِي الْأُمُور وَيَنْبَغِي الاحتفاظ على النَّفس من الْقَتْل فَلَمَّا علم حُسَيْن أَنَّهَا اطَّلَعت عَلَيْهِ خرج من بَين النِّسَاء هَارِبا ثمَّ وَقع فِي خاطرها أَنه رُبمَا يقتل زَوجهَا خَارج دارها فَصَبَرت سَاعَة ثمَّ بعثت لزَوجهَا إِنَّنِي رَأَيْت بَين النِّسَاء من يشبه الْحُسَيْن وَمَا تحققت هَذَا الْأَمر فاحتفظ على نَفسك فَعِنْدَ ذَلِك بعث مُدْلِج جماعته فوجدوا الْحُسَيْن ركب فرسه وَانْهَزَمَ فَاتبعهُ بالعساكر فَمَا أدركوه ثمَّ بعد ذَلِك كثر اتِّبَاع حُسَيْن من الْعَرَب وواعده طَائِفَة من الْعَرَب الَّذين عَن مُدْلِج أَن يتابعوه ويشايعوه فَأَشَارَ عَلَيْهِ قوم بِأَن يَأْخُذ من مُرَاد باشا حَاكم حلب عرضا فِي الْإِمَارَة ليتقوى من جَانب السلطنة بعد مَا قَالَ لَهُ بعض الْعَرَب الأروام لَا وَفَاء لَهُم بالعهود فَلم يسمع وَجَاء إِلَى حلب وَقدم الْهَدَايَا إِلَى الباشا ووعده وَكتب الْوَزير إِلَى مُدْلِج يطْلب مِنْهُ خَمْسَة وَعشْرين ألفا ليقْتل لَهُ الْحُسَيْن فوعده فغدر مُرَاد باشا بِحُسَيْن(2/101)
وَوَضعه فِي سجن القلعة حَتَّى جَاءَ المَال فخنقه ثمَّ بعث عساكره لنهب أَمْوَاله وجماعته فقاتلوهم فَانْهَزَمَ اتِّبَاع مُرَاد باشا وَأخذ عرب حُسَيْن جَمِيع مَا كَانَ بيد جمَاعَة مُرَاد باشا حَتَّى نزعوا ثِيَابهمْ وأدخلوهم إِلَى بِلَاد أرِيحَا عُرَاة حُفَاة كَأَنَّهُمْ وردوا الْحساب ثمَّ إِن الله سلط الْوَزير الْحَافِظ حَتَّى قتل مُرَاد باشا
حُسَيْن بن قَاسم بن أَحْمد بن مُحَمَّد الملقب حسام الدّين المغربي الجويزي الْمَالِكِي العتيقي الدرعي يُقَال الدروي الأديب الشَّاعِر المفلق ذكره الشهَاب الخفاجي فِي كِتَابيه فِي قسم المغاربة والنجم الْغَزِّي فِي ذيله وَقَالَ قدم دمشق فِي سنة خمس بعد الْألف وَكَانَ قدومه إِلَيْهَا من بِلَاد الرّوم صُحْبَة منلا مُحَمَّد أَمِين العجمي السابقي دفتري دمشق بعد أَن أَقَامَ بهَا مِقْدَار نصف سنة وَكَانَ مُحَمَّد أَمِين يعظمه ويصفه بالفضيلة وَكَانَ فِي نفس الْأَمر عَلامَة يعرف الْعَرَبيَّة بأنواعها ويحيط كثيرا وَيذكر أَخْبَار عُلَمَاء الغرب من أقرانه فَمن قبلهم ويستحضر وقائعهم وَوجدت بِخَط القَاضِي عبد الْكَرِيم الطَّبَرَانِيّ فِي بعض مجاميعه أَنه اجْتمع بِهِ وَسَأَلَهُ عَن مولده ونسبته ومشايخه فَذكر أَن مولده فِي أَوَائِل صفر سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة بوادي درا ونسبته إِلَى الْعَتِيق الإِمَام أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَأما مشايخه فَمنهمْ الشَّيْخ الإِمَام الْمَعْرُوف بالنجوري وَالْإِمَام الْحميدِي والزفوري والقدومي قَالَ وَأما شَيْخي الَّذِي عَلَيْهِ قَرَأت عدَّة فنون وَهِي الْفَرَائِض والحساب وَالْعرُوض وَالْفِقْه فَهُوَ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة وحيد تِلْكَ الديار الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الْمَشْهُور بِابْن القَاضِي طالما أرضعني أفاويق در الْآدَاب وَألقى إِلَيّ علوما أجلهَا الْفَرَائِض والحساب قَالَ وَسَأَلته عَن سَبَب تغربه فَقَالَ هُوَ أَمر قدره الله وَكَانَ فِي نَفسِي مُشَاهدَة أفاضل الديار الدمشقية والتعبد بالجامع الْأمَوِي حَتَّى بَلغنِي الله الأمل وأملى كثيرا من شعر أهل الْمغرب وَله من أَبْيَات كتب بهَا إِلَى مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي كَاتب الْإِنْشَاء الشريف بالحضرة المراكشية معاتبا
(عَلَيْك أَخَاف يَا مولى الْكِتَابَة ... ودادا بالصدود سددت بَابه)
(وَمَا ذَنْب الْمغرب مَعَك حَتَّى ... تضاع ذمامه بجفا أرابه)
قَالَ فَكتب إِلَيّ جَوَابا وَهُوَ قَوْله
(أعيدك من ظنون واسترابه ... بنيت قبابها فَوق الضبابه)
(بروق تَحت راعدة بصيف ... تثير سحابها ريح الْكِتَابَة)(2/102)
(تهدد من أَخِيك بري عيب ... يفر إِلَى السرُور من الكآبة)
(وَعند الله مجمع كل حق ... وَمَا كل الدُّعَاء بِذِي استجابة)
وَذكره الفيومي فِي فهتزهه وَأنْشد لَهُ قَوْله
(ولي صَاحب قد هذبته يَد الصِّبَا ... مودته فِي غية وعيان)
(وَلَكِن هَوَاهُ مَعَ هواي تخالفا ... تخَالف رُؤْيا السجْن للفتيان)
(فيهوى بني نجد ولين خصورهم ... وأهوى بَنَات الْغَوْر طول زماني)
(تذكرني حَالي وإياه قَوْله ... رفيقك قيسي وَأَنت يماني)
قَالَ النَّجْم الْغَزِّي ثمَّ خرج من دمشق حَاجا وقطن بِمَدِينَة العلافي طَرِيق الْمَدِينَة من الشَّام وأحبه أَهلهَا وَأَقْبلُوا عَلَيْهِ وجعلوه لَهُم إِمَامًا وخطيبا ومعلما لأطفالهم ومفتيا لَهُم على مَذْهَب مَالك لأَنهم مالكيون ثمَّ إِنَّه خرجت عِنْدهم عين مَاء قريبَة من الْبَلدة فَخرج إِلَيْهَا حُسَيْن فَوَجَدَهَا مُمكنَة الْوُصُول إِلَى مَدِينَة الْعلَا فساعده أَهلهَا حَتَّى أجروها إِلَى أَرض هُنَاكَ وخصوه بهَا وَرَأَوا أَن ذَلِك من بركته قَالَ وَلما حججْت فِي سنة سبع بعد الْألف زارني وحَدثني بِحَدِيث الْعين وَسَأَلته عَنْهَا فَأَخْبرنِي أَنَّهَا تبلغ مجْرى من المَاء بِحَيْثُ تستقل وتغني وَأَنه أَحْيَا بهَا أَرَاضِي كَثِيرَة قَالَ وحَدثني فِي تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة أَو عشرِيَّة بالمنزلة الْمَذْكُورَة قَالَ حَدثنِي الشَّيْخ مُحَمَّد بن العجيمي النجاري قَاضِي جبلة وزبيد بِالْيمن قَالَ سَأَلت ولي الله مُحَمَّد بن عجيل اليمني فَقلت لَهُ قد تزايد ظلم الأروام وَتجَاوز فَقَالَ قلت للبرهمتوشي يَعْنِي الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد البرهمتوشي الْحَنَفِيّ عَلامَة مصر مِثْلَمَا قلت لي فَقَالَ أنْكرت ذَلِك فَذَهَبت إِلَى الدفتر دَار فَكتبت سَائِر الْمَظَالِم وسافرت إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان فَبَيْنَمَا أَنا فِي حلب إِذْ سَمِعت هاتفا جَالِسا فِي الْهَوَاء على كرْسِي فَقَالَ لي
(إِذا نَحن شِئْنَا لَا يدبر ملكنا ... سوانا وَلم نحتج لشخص يدبر)
(فَقل للَّذي قد رام مَا لَا نريده ... وحاول أَمر أدونه يتَعَذَّر)
(لعمرك مَا التَّدْبِير إِلَّا لوَاحِد ... وَلَو شَاءَ لم يظْهر بِمَكَّة مُنكر)
قَالَ فَرَجَعت وسلمت الْأَمر إِلَى الله تَعَالَى قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ
(أرى غَارة الأقدار وللمرء لاحقه ... وَلَو فر منهارا كبا متن شاهقه)
(وَمَا خطّ فِي أم الْكتاب تسوقه ... إِلَيْهِ الْمَقَادِير الَّتِي هِيَ سابقه)
(فَلَا ذاق من صاب التغرب من بَكَى ... على مغربي ضَاعَ بَين مشارقه)(2/103)
فعاتبته على ذَلِك وَقلت لَهُ مَا ضعت بَين المشارقة بل شاع ذكرك وَضاع نشْرك وسما قدرك فَمَا أنصفت فِيمَا قلت فاعترف بذلك من حَيْثُ لَا يَسعهُ الْإِنْكَار وَقَالَ إِنَّهَا نفثة مصدور على وَجه الِاعْتِذَار ثمَّ أدمج القَوْل بِأَنَّهُ وَإِن حصل فِي الْعلَا تَمام النِّعْمَة إِلَّا إِنَّه فِي بَلْدَة صَغِيرَة لَيْسَ بهَا عَالم يعرف قدره ثمَّ أَنْشدني مقَالَة العتابي يُشِير إِلَى ذَلِك
(الْمَرْء فِي سوق الزَّمَان سلْعَة ... يرخص أَو يغلو بِقدر الْبقْعَة)
(وَهَا أَنا بوادي درعة رخيص ... وَلَيْسَ لي عَمَّا قضى الله محيص)
(يَا من يَلُومن على سكني درى فَلَا تقل لما جرى كَيفَ جرى ... )
وَهَذِه الأبيات تدل على أَنه يُقَال للمكان درعة بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَبعدهَا عين مُهْملَة ودرى وَالرَّاء مَفْتُوحَة إِلَّا أَنه سكنها ضَرُورَة ولغة فِي درعة وَمن هُنَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا درعى ودرى وَقَالَ ثمَّ اجْتَمَعنَا بِهِ فِي الرّجْعَة فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة ثَمَان فأنس بِنَا وانسنا بِهِ وَلما عدت إِلَى الْحَج فِي سنة عشرَة رَأَيْته قد سَافر إِلَى الرّوم وعدت إِلَى الْحَج فِي سنة إِحْدَى عشرَة فَلَمَّا كُنَّا بِمَكَّة المشرفة فِي أواسط ذِي الْحجَّة بلغنَا أَنه غرق فِي بَحر جدة فِي الْمركب الْمَعْرُوف بالخاصكية فِي الشَّهْر الَّذِي قبله لحقته غَارة الأقدار وساقت إِلَيْهِ الْمَقَادِير مَا خطّ فِي أم الْكتاب رَحمَه الله تَعَالَى
الْحُسَيْن بن الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ قَالَ القَاضِي الْحُسَيْن المهلا فِي حَقه إِمَام عُلُوم مُحَمَّد الَّذِي اعْترف أولو التَّحْقِيق بتحقيقه وأذعن أَرْبَاب التدقيق لتدقيقه واشتهر فِي جَمِيع الأقطار اليمنية بالعلوم السّنيَّة أَخذ عَن وَالِده الإِمَام الْمَنْصُور الْقَاسِم ولازمه حَتَّى برع وترعرع وَأخذ عَن الإِمَام الْعَلامَة لطف الله بن مُحَمَّد بن الغياث المظفري وجدي الْمُجْتَهد عبد الله المهلا وَلَقي كثيرا من شُيُوخ عصره وَله التصانيف الشهيرة كغاية السول فِي علم الْأُصُول وَشَرحه هِدَايَة الْعُقُول وَكتاب فِي آدَاب الْعلمَاء والمتعلمين اخْتَصَرَهُ من كتاب جَوَاهِر الْعقْدَيْنِ للسَّيِّد السمهودي وَكَانَ لَهُ الْخط الْحسن الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَمن شعره البديع قَوْله
(مولَايَ جد بوصال صب مدنف ... وتلافه قبل التلاف بموقف)
(وَارْحَمْ فديت قَتِيل سيف مرهف ... من مقلتيك طعين قد مر هف)
(فَامْنُنْ بحقك يَا حبيب بزورة ... تحيي بهَا الْقلب القريح فيشتفي)
(أعلمت أَن الصد أتلف مهجتي ... والصد للعشاق أعظم متْلف)(2/104)
(عجبا لعطفك كَيفَ رنح وانثنى ... متأودا وعَلى لم يتعطف)
(أَنا عَبدك الملهوف فارث لذلتي ... وارفق فديتك بِي لطول تلهفي)
(عَرفتنِي بهواك ثمَّ هجرتني ... يَا لَيْتَني بهواك لم أتعرف)
(حَملتنِي مَالا أُطِيق من الْهوى ... وأذقتني سم الْفِرَاق المدلف)
(يَا مهجتي ذوبي وَيَا روحي اذهبي ... من صده عني وَيَا عَيْني اذرفي)
(هَل من معِين لي على طول البكا ... أَو راحمي أَو ناصري أَو منصفي)
(وَإِلَيْك عاذل عَن ملامة مغرم ... لَا يرعوى عَمَّا يروم وَلَا يَفِي)
(حاشاي أَن أسلو وانسي عهد من ... أحببته إِنِّي أَنا الْخلّ الوفي)
(قل مَا تشَاء فانني يَا عاذلي ... لَا أَنْتَهِي لَا أنثني عَن متلفي)
(أَنا عَبده لَا أكتفي عَن مالكي ... وَالْعَبْد عَن ملاكه لَا يَكْتَفِي)
(يَا قلبه القاسي أما ترثي لمن ... قَاس هَوَاك جوى وَطول تأسف)
(اعطف على قلب سلبت فُؤَاده ... واستبق مِنْهُ بِالنَّبِيِّ الْأَشْرَف)
وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشرى شهر ربيع الآخر سنة خمسين وَألف بِمَدِينَة ذمار وَبهَا دفن رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حُسَيْن بن كَمَال الدّين بن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حَمْزَة الْحَرَّانِي ابْن مُحَمَّد بن نَاصِر الدّين بن عَليّ بن الْحُسَيْن المحترف ابْن إِسْمَاعِيل بن الْحُسَيْن النتيف ابْن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الثَّانِي ابْن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَعْرَج ابْن الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق ابْن الإِمَام مُحَمَّد الباقر ابْن الإِمَام عَليّ زين العابدين ابْن الإِمَام السَّيِّد الْحُسَيْن بن الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ هَذَا نسب بني حَمْزَة نقباء الشَّام وكبرائها أَبَا عَن جد وَسَيَأْتِي فِي كتَابنَا هَذَا مِنْهُم أنَاس تشرف بهم هَذَا الْعَصْر وَالسَّيِّد حُسَيْن هَذَا وَأَخُوهُ السَّيِّد مُحَمَّد روح الله تَعَالَى روحهما فرقد أَسمَاء هَذَا الْبَيْت ونير فلكه وكل مِنْهُمَا بارع فِي الْفُنُون كَبِير الشَّأْن وَسَيَأْتِي السَّيِّد مُحَمَّد كَمَا ذكرنَا واما السَّيِّد حُسَيْن فَإِنَّهُ اشْتغل وبرع وسما قدره إِلَى معالي الْأُمُور فسافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا زَمَانا طَويلا وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن قدم إِلَى دمشق وَرَأس فِيهَا وَصَارَ نَائِبا بالمحكمة الْكُبْرَى وقساما للعسكر ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الفارسية برتبة الدَّاخِل وَكَانَ فَاضلا كَامِلا وجيها حسن المصاحبة لطيف الْعشْرَة أديبا مطبوعا رَأَيْت من آثاره كتابا جمعه وَسَماهُ بالتذكرة الحسينية ذكر(2/105)
فِيهِ شعراء متقدمين كالشريف الرضي وَمن نحا نَحوه وختمه يذكر بعض معاصريه من الشُّعَرَاء ثمَّ ذكر فِي آخِره حِصَّة وافية من نظمه فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة يمدح بهَا رُؤَسَاء الرّوم ومطلعها
(خفض عَلَيْك أَخا الظباء الغيد ... وَارْحَمْ مدامع جفني المسهود)
(كم ذَا أعلل بالأماني تَارَة ... قلبِي وطورا بانتظار وعود)
(وَلكم أَبيت بليلة الملسوع فِي ... اذني سميع فِي الْتِفَات رصيد)
(يَا مُسْرِفًا فِي هِجْرَة لمتيم ... هجرت محاجره لذيذ هجود)
(أَهْون برغبتك القلى والجهد فِي ... تَعْذِيب شلو فُؤَادِي المفؤود)
(لم يبْق هجرك فِي قلباً خافقا ... لسرور وغد أَو لخوف وَعِيد)
(وغدوت من فعل السقام كأنني ... أَوْهَام فكر فِي خيال بليد)
(أدنيتني حَتَّى ملكت حشاشتي ... وتركتني وَقفا على التنكيد)
وَقَوله من أُخْرَى
(معَاذ الْهوى إِن الصريع بِهِ يصحو ... ليعقل مَا يملى على سَمعه النصح)
(وَكَيف ترجى مِنْهُ يَوْمًا إفاقة ة ... وَزيد الْهوى فِي عقله عظم الْقدح)
(دع الْقلب يشقى فِي طَرِيق ضلاله ... فَفِي رَأْيه أَن الْوُصُول بهَا نحج)
(تؤمل آمالا مدى الْعُمر دونهَا ... كَانَ مطايا النائبات بِهِ جمح)
(يكتم أسرار الغرام فُؤَاده ... ويفضحه من مزن مقلته السح)
(لقد ألفت عَيناهُ أَن تنضح الرما ... وَتلك دمالب بِهِ أحكم الجرج)
(يعاف الْكرَى مِنْهُ المحاجر كَارِهًا ... نزُول جراح جرحها شَأْنه الرشح)
(لَهُ فِي انْتِظَار لطيف جفن مؤرق ... تفيئه من شدَّة الأرق الْقرح)
(وَلم يدر أَن الطيف يحذر ان يرى ... نزيل بيُوت دأب أَبْوَابهَا الْفَتْح)
(غَدا دهره بالهجر لَيْلًا جَمِيعه ... وحسبك دهر بالنوى كُله جنح)
(كَانَ نُجُوم الْأُفق فِيهِ تنصرت ... فَلَيْسَتْ لغير الشرق وجهتها تنحو)
(كَانَ الثريا والنسور تخاصما ... وظلا على جد بجانبه المزح)
(كَانَ بِهِ الشهب الثواقب تنبري ... مَرَاسِيل ذَات الْبَين يُرْجَى بهَا الصُّلْح)
(كَانَ بِهِ خيط المجرة جدول ... توارده الحبشان وازدحم التَّرَحِ)
(كَانَ ظلام اللَّيْل فِي الجو عثير ... تغشى صُفُوف الْجَيْش من جونه قبح)(2/106)
(كَانَ بِهِ العيوق ملك مبجل ... كَانَ اخضرار الْفجْر فِي أفقه صرح)
وَقَوله من أُخْرَى
(خفض عَلَيْك أَخا الظباء الرتع ... انت الشَّرِيك بِمَا رميت بِهِ معي)
(أرْسلت من أجفان لحظك أسهما ... مد فوقت لم تحظ قلب مروع)
(قد ظلّ موقعها الْفُؤَاد وإنني ... لم ألق غَيْرك ثمَّ فِي ذَا الْموضع)
(كلفت بحبات الْقُلُوب كَأَنَّمَا ... تبغي الْوُقُوف على الضَّمِير الْمُودع)
(يَا من غَدا يَسْطُو عَليّ بهجره ... أَو مَا رحمت نحيب صب مولع)
(شَيْئَانِ تنصدع الجوانح مِنْهُمَا ... تغريد ساجعة وأنة موجع)
(كم رمت أُخْفِي عَن سواك صبابتي ... وَبهَا ينم على شَاهد أدمعي)
(يهفو لغي فِيك قلبِي ثمَّ لَا ... يصغى لغش بالرشاد مقنع)
(قل للعذول عَلَيْك يتْرك غشه ... بالنصح لي فلذاك أدنى لَا تعي)
(لم تخف قطّ بشاشة لؤم الْفَتى ... فالطبع يفضح حَالَة المتطبع)
(إِن الملام وَحقّ وَجهك فِي الْهوى ... مَا زَاد غير تولهي وتولعي)
(قد زَاد فِيك تالفي بتألمي ... وتفكري فِيك انْتهى لتمتعي)
قَوْله خفض إِلَى آخر الأبيات الثَّلَاثَة من المطلع هُوَ مَضْمُون قَول مهيار فِي أبياته
(أودع فُؤَادِي حرقا أودع ... ذَا تَكُ تؤذي أَنْت فِي أضلعي)
(امسك سِهَام اللحظ أَو فارمها ... أَنْت بِمَا ترمي مصاب معي)
(موقعها الْقلب وانت الَّذِي ... مَسْكَنه فِي ذَلِك الْموضع)
وَمن شعره قَوْله من قصيدة أُخْرَى
(أَرَانِي الزَّمَان فعالا خسيسا ... وخطبا يُبدل نعماه بوسا)
مِنْهَا
(ومذ أسكرتني صروف الزَّمَان ... نسيت بهَا الكاس والخندر يسا)
(وألزمت نَفسِي حَال الخمول ... وعفت المنى وهجرت الجليسا)
(فقد يمْكث السَّيْف فِي غمده ... حصونا ويستوطن اللَّيْث خيسا)
وَمِنْهَا فِي المديح
(بعزم ترَاهُ إِذا مَا بدا ... بمعضل امْر يفل الخميسا)
(وَلَا تملك الْقلب مِنْهُ الرداح ... وَلَو أشبه الْوَجْه مِنْهَا الشموسا)
(وَلَو تَكُ لَو تمس مَا اهتدت ... عصون الرياض إِلَى أَن تميسا)(2/107)
وَقَوله مضمنا بَيت الأرجاني مرتجلا
(لست أنسى لياليا قد تقضت ... بوصال وَطيب عَيْش بمغنى)
(كم قضينا بهَا لبانة أنس ... وظفرنا بِكُل مَا نتمنى)
(حَيْثُ غُصْن الشَّبَاب رَيَّان ... من مَاء صباه مَعَ الْهوى يتثنى)
(قد أَتَت بَغْتَة وَوَلَّتْ سرَاعًا ... كطروق الخيال مذ زار وَهنا)
(أَتَرَى هَل تعود لي بالتداني ... ومحال جمعي بهَا أونثني)
(غير أَنِّي اعلل النَّفس عَنْهَا ... بالاماني الْكذَّاب وهما ووهنا)
(أَتَمَنَّى تِلْكَ اللَّيَالِي المنيرات ... وَجهد الْمُحب أَن يتَمَنَّى)
وَهَذَا مَا وَقع اخْتِيَاري عَلَيْهِ للإثبات هُنَا من شعره وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي فِي أَوَائِل شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بتربة الايجية فِي سفح قاسيون رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حُسَيْن بن مُحَمَّد البيمارستاني نقيب الاشراف بحلب وَكَانَ يكْتب الْحُسَيْنِي تولى نقابة حلب بعد موت وَالِده ونازعه الشَّمْس الرامحمداني فَإِنَّهُ كَانَ نَقِيبًا قبل وَالِد السَّيِّد حُسَيْن فتقرب السَّيِّد حُسَيْن إِلَى الْمولى يحيى بن سِنَان بالهدايا حَتَّى قررها عَلَيْهِ وَعرض لَهُ بهَا وَكَانَ صَاحب أَمْوَال جزيلة حصلها من التِّجَارَات والمداينات وَأخذ أمرا بالتقاعد عَن دفتر دارية حلب وَكَانَ لَا يَأْخُذ من الاشراف مَالا وَلَا يصادرهم بل كَانَ يبْذل لَهُم الْقرى وَيَقْضِي مهمات مصالحهم بِخِلَاف غَيره من النُّقَبَاء وَلما استولى خداوردي أحد جند الشَّام على حلب ونواحيها وامتدت يَده زوج ابْنَته لِابْنِ خداوردي كَمَا زوج الشَّيْخ أَبُو الْجُود ابْنَته لخداوردي تقربا إِلَى جاهه وَلما تولى الْوَزير نصوح كَفَالَة حلب وَفهم الشَّيْخ أَبُو الجودانة يُرِيد الانتقام من خداوردي وَبَقِيَّة أجناد دمشق المستولين على حلب فر قبل وَقع الْفِتْنَة إِلَى دمشق وَالسَّيِّد حُسَيْن ثَبت وَكَانَ يُدَارِي الباشا وَهُوَ فِي الْبَاطِن يبغضه وَيَنْوِي لَهُ السوء والأمير درويش بن مطاف أحد مُتَفَرِّقَة حلب مَقْبُول الباشا كثير البغض للسَّيِّد حُسَيْن بِوَاسِطَة أَخِيه السَّيِّد لطفي فَإِنَّهُ كَانَ عدوا للسَّيِّد حُسَيْن مَعَ كَونه أَخَاهُ فَكَانَ السَّيِّد لطفي يثلب أَخَاهُ بِحُضُور الْأَمِير درويش والأمير درويش ينْقل ذَلِك للباشا حَتَّى وَقع الْحَرْب بَين نصوح باشا وحسين باشا ابْن جانه ولاذ كَمَا ذَكرْنَاهُ سَابِقًا وانكسر نصوح باشا وَعَاد إِلَى حلب مقهور افوشي السَّيِّد لطفي أَن أَخَاهُ فَرح بِكَسْر(2/108)
عَسْكَر الباشا وَأَنه قَرَأَ مولدا فِي هَذِه اللَّيْلَة للفرح فَذهب الباشا لَيْلًا إِلَى دَار السَّيِّد حُسَيْن فَسمع ضرب الدفوف وأصوات الغواني وأمارات السرُور وَكَانَ سَببه أَن بنت السَّيِّد حُسَيْن ولدت ولدا ذكرا فِي تِلْكَ الْأَيَّام فاجتمعت النِّسَاء للفرح فَفِي الْيَوْم الثَّانِي طلب الباشا السَّيِّد حُسَيْن فَأخذ مَعَه شريفا من بَيت ضِعَاف الْحَبْس ورجلا يُقَال لَهُ مَنْصُور بن حلاوة فَدخل الثَّلَاثَة إِلَى دَار السَّعَادَة فَأمر الباشا بخنقهم خُفْيَة فخنقوا وألقيت أَجْسَادهم فِي الخَنْدَق بِحَيْثُ لَا يشْعر بهم أحد وَضبط الباشا أَمْوَال السَّيِّد حُسَيْن وهرب السَّيِّد لطفي لما قيل لَهُ الباشا يقتلك أَيْضا وليوهم النَّاس أنني مَا سعيت فِي قتل أخي وَقد كَانَ السَّيِّد لطفي يحلف الإيمانات الْعَظِيمَة أَن أَخَاهُ يشرب الْخمر ويلبس لبوس النصاري وَيذكر ذَلِك للباشا وَكَانَ قَتله فِي سنة ثَلَاث عشرَة بعد الأ " لف وعمره نَحْو سبعين سنة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد مولى عبد يدا الْحَضْرَمِيّ الشَّيْخ الْمُفْتِي الْعلم الْكَبِير قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره واعتنى بكشف المشكلات وَصَحب العارفين الأساتذة وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن حُسَيْن بافقيه وَالشَّيْخ زين العابدين بن عبد الله العيدروس وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس واعتنى بِالْمذهبِ فاحكم أُصُوله وفروعه ثمَّ سعى الشَّيْخ زين العابدين فِي تَقْلِيده الْقَضَاء لواقعة وَقعت بَينه وَبَين أَخِيه شيخ بن عبد الله العيدروس سَيَأْتِي ذكرهَا فِي تَرْجَمَة زين العابدين فتقلد صَاحب التَّرْجَمَة الْقَضَاء فحمدت أَحْكَامه لكَمَال عقله وعلو همته وَلم تطل مدَّته ففصل عَنهُ وَأقَام مكباً على دروسه وفتاويه وَكَانَ كثيرا الْعِبَادَة معتنيا بالإصلاح كثير الْخُشُوع والورع وَكَانَت لَهُ عِنْد الْمُلُوك الْمنزلَة الْعليا قَالَ الشلي رَأَيْته فِي تريم وَقد وقف على ثنية الْوَدَاع وهمت أَرْكَان حَيَاته بالإنصداع وَلم يزل فِي عز محروس الدّين وَالنَّفس إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف بِمَدِينَة تريم رَحمَه الله تَعَالَى
الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد بن نور الله بن يُوسُف الْمَعْرُوف بأخي زَاده مفتي دَار السلطنة وَأحد أَفْرَاد الْعَالم فِي الْفضل والذكا والمعرفة وَكَانَ أعجوبة وقته فِي التبحر فِي الْفُنُون وَمَعْرِفَة الْعَرَبيَّة وشاع ذكره واشتهر فَضله وَله تحريرات ورسائل تدل على دقة نظرة وتفوقه وأشعاره بالتركية كَثِيرَة وَكَانَ يتَخَلَّص بهدابي وَأما شعره الْعَرَبِيّ فَلم أَقف لَهُ الْأَعْلَى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وهما قَوْله(2/109)
(أَيهَا المبتلي عَلَيْك بِخَمْر ... إِنَّهَا للعليل خير علاج)
(ثمَّ لَا تشر بن الأبمزج ... أول الْوَاجِبَات أَمر المزاج)
مولده بقسطنطينة وَبهَا نشأته ودأب فِي التَّحْصِيل حَتَّى فاق أهل عصره وَمَا زَالَ يترقى فِي المناصب إِلَى أَن ولى قَضَاء قسطنطينة فِي سنة سبع عشرَة وَألف وَليهَا ثَانِيًا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف بعد أَن كَانَ ولى قَضَاء الْعَسْكَر بانا طولى ثمَّ ولي قَضَاء أَنا طولى مرّة ثَانِيَة فِي سنة خمس وَعشْرين وَولي بعد ذَلِك قَضَاء روم أيلي مرَّتَيْنِ عزل فِي الْمرة الْأَخِيرَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَكَانَ قبل ذَلِك لما مَاتَ شيخ الْإِسْلَام الْمولى أسعد وحاول فَتْوَى الممالك الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْغَنِيّ أرسل صَاحب التَّرْجَمَة يَقُول للسُّلْطَان كل من وقف على قَدَمَيْهِ بحضوركم وَرفعت إِلَيْهِ ثلثمِائة مسئلة وَكتب جَوَاب الْمِائَتَيْنِ من غير مُرَاجعَة فليعط الْفَتْوَى فَلم يضع إِلَى هَذَا ووجعت الْفَتْوَى للْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا فَيُقَال أَنه فَرح بذلك لكَونه أكبر مِنْهُ وأقدم فِي المناصب وَإِنَّمَا غضب لَو أَخذهَا ابْن عبد الْغَنِيّ وَحين كَانَ قَاضِيا بعساكر الرّوم أيلي وَكَانَ الْوَزير الْأَعْظَم مره حُسَيْن باشا وَكَانَت العساكر متغلبة على الدولة بِسَبَب قتل السُّلْطَان عُثْمَان وَنسب الْقُضَاة والمدرسون إِلَى الْوَزير الْأَعْظَم أَنه قَالَ عَن صَاحب الرسَالَة
أَن من مَاتَ من ألف سنة كَيفَ كَلَامه يعْتَبر وَقد صَار عظما رميما فسعى صَاحب التَّرْجَمَة فِي قَتله وعزل عَن الوزارة الْعُظْمَى وَقدم حُسَيْن باشا لضرب عُنُقه فَضَح العساكر فِي الدِّيوَان وَقَالُوا لَا تقتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى حَتَّى نقتلكم فَلم يبال صَاحب التَّرْجَمَة بل صعق بِصَوْت هائل وَقَالَ للجلاد اضْرِب عنق هَذَا اللغين فَضرب الجلاد عُنُقه فِي الْحَال ثمَّ بعد ذَلِك سعى فِي الْفَتْوَى وعزل الْمولى يحيى والعسكر متغلبون وَالسُّلْطَان مُرَاد ضَعِيف مَعَهم فَدخل عيد شهر رَمَضَان فَصنعَ العساكر الأراجيح وَفرقُوا الشمع على جَمِيع أكَابِر الرّوم وَكَانُوا يَقُولُونَ فلَان يعْطى مائَة قِرْش وَفُلَان يُعْطي ألف قِرْش حَتَّى فرقوا الشمع على جماعات من أهل السَّرَايَا وأعطوا الشمع للمفتي الْمَذْكُور فَرده ردا عنيفاً وأحضر أَخا لكبير أُمَرَاء السباهية وَقَالَ أَنا أعرف أَخَاك حِين كَانَ أَمْرَد معشوقاً لفُلَان واستطال عَلَيْهِ بالْكلَام فخضع لَهُ الْمَذْكُور ثمَّ إِن صَاحب التَّرْجَمَة قوى جنان السُّلْطَان مُرَاد حَتَّى جمع السُّلْطَان جمعية على السباهية زعزع أَرْكَان دولتهم وَجلسَ السُّلْطَان على سَرِير جلالته الْقَدِيمَة وَقتل الْوَزير الْأَعْظَم وَهُوَ رَجَب باشا الَّذِي كَانَ مستظلاً(2/110)
بِظِل العساكر ثمَّ إِن السُّلْطَان مُرَاد بَعْدَمَا قتل صَنَادِيد الأجناد أَخذ يقتل بعض أَعْيَان الْقُضَاة من الموَالِي وَغير الموَالِي وَكَانَ من عَادَة بني عُثْمَان لَا يقتلُون الْعلمَاء فَفِي أثْنَاء ذَلِك توجه السُّلْطَان إِلَى بروسة فَاجْتمع جمَاعَة من الموَالِي وَشَكوا فِيمَا بَينهم من السُّلْطَان وَأَنه خَالف قانون أجداده فِي قتل الْعلمَاء ثمَّ إِن صَاحب التَّرْجَمَة كتب ورقة لحضرة وَالِدَة السُّلْطَان متضمنة أَن قوانين السلاطين أَن لَا يقتلُوا الْعلمَاء وَإِذا حصل مِنْهُم ظلم طردوهم إِلَى بِلَاد بعيدَة وَنحن من الداعين لابنك حَضْرَة السُّلْطَان فنؤمل إِذا قدم بِالصِّحَّةِ من السّفر تذكرين لَهُ ذَلِك بِحسن عبارَة ليترك هَذَا الْأَمر فَلَمَّا وصلت الورقة إِلَيْهَا فَكَأَنَّهُ وشى المفسدون أَن الْمُفْتِي وَالْعُلَمَاء يُرِيدُونَ الِاجْتِمَاع على خلع السُّلْطَان فَكتبت إِلَى السُّلْطَان ورقة بذلك وَبعثت بِوَرَقَة الْمُفْتِي فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَيْهِ بَادر بالمجيء من بروسة على أَجْنِحَة السرعة وَدخل قسطنطينية وأحضر الْمُفْتِي وخنقه فِي الْحَال وَذَلِكَ فِي خَارج قسطنطينية فِي قَرْيَة بساحل الْبَحْر وَدَفنه فِي مَكَان لَا يعلم قَبره وَبعث بِابْنِهِ إِلَى قبر قدس فاختل عقل ابْنه وَمَات فِي غُضُون ذَلِك وَولى الْفَتْوَى الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا وَكَانَ قَتله فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن فرفرة الدِّمَشْقِي المجذوب الصَّالح المكاشف كَانَ فِي مبدأ أمره من آحَاد الْجند الشَّامي وَتعين مُدَّة فِي بَاب قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق وَكَانَ يحضر من يطْلب إِحْضَاره للمخاصمة فاتفق أَنه عينه بعض أَرْبَاب الْحُقُوق إِلَى قَرْيَة عين ترما من قرى دمشق لاحضار رجل من أهاليها فَسَار إِلَى أَن وصل إِلَى قرب الْقرْيَة الْمَذْكُورَة فصادفته الْعِنَايَة الربانية فسلب فِي ذَلِك الْمَكَان وساح فِي تِلْكَ الدائرة مُدَّة وَظَهَرت لَهُ أَحْوَال باهرة ثمَّ سكن حَاله وَاسْتقر فِي المنارة الغربية أحد المنارات الثَّلَاث بِجَامِع بني أُميَّة واتخذها دَار مبيته وَحفظ الْقُرْآن فِي مُدَّة قَليلَة وَكَانَ يدارس بِهِ فِي السَّبع بَين العشاءين بالجامع الْمَذْكُور وَيُؤذن بالمنارة الْمَذْكُورَة للأوقات الْخَمْسَة وَكَانَ قواما بِاللَّيْلِ يقْضِي ليله فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وَالذكر والتوحيد وَإِذا جَاءَ وَقت الثُّلُث الْأَخير يَصِيح بِصَوْت شجي وَيَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله الْملك الْحق الْمُبين مُحَمَّد رَسُول الله الصَّادِق الْوَعْد الْأمين ويكررها إِلَى أَن يطلع المؤذنون إِلَى المنارة ويبدؤون بالتسبيح والتهليل ثمَّ يُؤذن مَعَهم أَذَان الصُّبْح وَيذْهب بعد طُلُوع الشَّمْس إِلَى مَزَار بعض الصَّالِحين تَحت القلعة بِالْقربِ من جَامع يلبغا فيمكث وَحده هُنَاكَ(2/111)
ثمَّ يعود إِلَى المنارة الْمَذْكُورَة وَكَانَ فِي بعض الْأَحَايِين يتركع بعد الْعشَاء أَو قبلهَا فِي محراب الْحَنَابِلَة رَكْعَات كثيرات غير معتدلة وَكَانَ لَهُ نزاهة وإعراض عَن الدُّنْيَا وَرُبمَا يُعْطِيهِ بعض النَّاس شَيْئا فَيَأْخُذ مِنْهُ وَيُعْطِيه على الْفَوْر لمن يسْتَحقّهُ وَكَانَ لطيف البداهة عذب المخاطبة وَكَلَامه أَكْثَره جَوَاب وَكَانَت تعتريه أَحْوَال عَجِيبَة وحركات غَرِيبَة وَله مَنَاقِب مَشْهُورَة ومكاشفات مأثورة حدث بعض الثِّقَات عَن الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ مفتي دمشق قَالَ لما قدم الشَّيْخ يُوسُف بن أبي الْفَتْح إِلَى دمشق بعد وَفَاة السُّلْطَان عُثْمَان وَرَأس فِي دمشق كَانَ يبلغنِي عَنهُ التَّعَرُّض إِلَيّ بِبَعْض الْمَكْرُوه فَذكرت ذَلِك للسَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بالمنير وَكَانَ من المعمر بن الصَّالِحين فَقَالَ لي الْوَقْت لحسين بن فرفرة تذكر لَهُ ذَلِك فَعرض ذَلِك عَلَيْهِ فجَاء حُسَيْن بعد يَوْمَيْنِ إِلَى درس الْمَذْكُور بالجامع الْأمَوِي والفتحي جَالس يلقِي الدَّرْس فِي الشفا للْقَاضِي عِيَاض وَمَعَهُ حرَام ملأَهُ أوخام من كناسَة الْجَامِع فَدخل ونفض مَا فِيهِ على الدَّرْس الْمَذْكُور ثمَّ خرج فَبعد شهر جَاءَ بريد يَطْلُبهُ لأمامة السُّلْطَان مُرَاد وَكَانَ أَمَامه الْمَعْرُوف بمنلا أوليا قد توفّي فِي روان فَذكر بعض خدمَة السلطنة ابْن أبي الْفَتْح وَأَنه كَانَ أَمَام الحضرة السُّلْطَانِيَّة فَأخذ من دمشق بالإكرام التَّام ثمَّ أَن الْعِمَادِيّ الْمَذْكُور قَالَ للسَّيِّد الْمُنِير ذهب الفتحي لَكِن مَا ذهبت صولته فَقَالَ لَهُ أَن الْمَقْصُود كَانَ ذَهَابه من هَذِه الْبَلدة على أَي حَالَة كَانَت وَهَذَا الأبعاد عَن الديار المقدسة إِلَى الْأَبَد وَهَكَذَا أوقع فَإِن الفتحي لم يعد بعْدهَا إِلَى دمشق وَمَات بالروم وَاتفقَ لصَاحب التَّرْجَمَة من الكرامات مَا اشْتهر انه أَتَى لدرس النَّجْم الغزى مفتي الشَّافِعِيَّة مُحدث الشَّام فِي عصره على الْإِطْلَاق وَكَانَ يقرئ صَحِيح البُخَارِيّ تَحت قبَّة النسْر من جَامع بني أُميَّة فَأخذ يُورد كلَاما خَالِيا عَن الضَّبْط وَيسْأل سُؤَالَات خَارِجَة عَن الْمَقْصُود فَقَالَ لَهُ النَّجْم اسْكُتْ فَقَالَ لَهُ بل أَنْت اسْكُتْ وَقَامَ مغضبا من مجْلِس الدَّرْس فاتفق أَن النَّجْم مرض بعد أَيَّام واعتراه طرف من الفالج فأسكت وَحضر الدَّرْس نَحْو سِتَّة أَعْوَام وَهُوَ سَاكِت ثمَّ تقرب إِلَى خاطر صَاحب التَّرْجَمَة فَانْطَلق لِسَانه بعد ذَلِك وَكَانَ يقبل يَد الْحُسَيْن وَيعْتَذر إِلَيْهِ بعْدهَا يوده وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من أَرْبَاب الْقُلُوب وَالْأَحْوَال وَمَا زَالَ على حَالَته لَا يتَغَيَّر فِي طوره من الأطوار إِلَى أَن توجه إِلَى الْحَج فانتقل بالوفاة إِلَى رَحمَه الله تَعَالَى فِي الطَّرِيق وَدفن بِمَنْزِلَة تَبُوك وقبره ظَاهر يزوره الْحجَّاج ويتبر كَون بِهِ وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسِتِّينَ ألف(2/112)
حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر بن مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بالقاري الْفَاضِل الأديب الْكَامِل نَشأ فِي كنف أَخِيه أَحْمد واشتغل على شَيخنَا عَلامَة الْعَصْر إِبْرَاهِيم ابْن مَنْصُور الفتال وعَلى غَيره وَحصل فَضِيلَة باهرة وَكَانَ يكْتب الْخط التَّعْلِيق المعجب ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الجهاركسية بصالحية دمشق واشتهرت نجابته وَكَانَ لطيف الشكل حسن الْخطاب جميل المنظر طلق اللِّسَان عالي الهمة على صغر سنه وطراوة عوده ونظم الشّعْر إِلَّا أَن شعره قَلِيل وَقل أَن يُوجد فِيهِ نادرة أَنْشدني لَهُ بعض الأخلاء قَوْله مضمنا
(بِاللَّه سل طرفِي السهران هَل هجعاً ... وَمَا بِهِ الْعِشْق والتبريح قد صنعا)
(قد حدّث النَّاس عَن مضني الْهوى دنفا ... وَمَا أَصَابُوا وَلَكِن شنعوا شنعاً)
(يَا ابْن الْكِرَام أَلا تَدْنُو فتبصر مَا ... قد حدثوك فَمَا رَاء كمن سمعا)
وَقَوله من الرباعيات
(أَن جزت بحيً منيتي حبيه ... وَأخْبرهُ عَن الْمُحب مَا يرضيه)
(أَن زار فقد حييت فِي زورته ... أَو صدّفانّ مهجتي تفديه)
وأنشدني قَوْله أَيْضا
(أنادي إِذا نَام الهجيع تأسفاً ... وقلبي من بَين الضلوع كليم)
(هَنِيئًا لطرف فِيك لَا يعرف الْكرَى ... وتباً لقلب لَيْسَ لافيك يهيم)
وَقَوله
(أفديه ظَبْيًا بِالشرابِ مُولَعا ... يترشف الأقداح وهوالاً كيس)
(فَكَأَنَّهُ الْبَدْر الْمُنِير إِذا بدا ... من نور طلعته أَضَاء الْمجْلس)
وَقَوله
(زارو هُنَا مرنح الأعطاف ... بعد أَن كَانَ مائلاً للْخلاف)
(كم بأصداغه وَرَاح لماه ... رحت نشوان سالف وسلاف)
(صدّ ظلما وَلم يكن فيّ ذَنْب ... غير دمعي أذاع مَا هُوَ خافي)
(أَيهَا العاذل الجهول تأمّل ... فِي محياه ثمَّ قل بِخِلَاف)
وَفِي هَذَا الْقدر من أشعاره كِفَايَة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَسبعين وَألف عَن سبع وَعشْرين سنة وَدفن بمقبرة بَاب الضغير وَمن نوادره أَنه دخل عَلَيْهِ السَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة نقيب الْأَشْرَاف بِالشَّام فِي مرض مَوته يعودهُ وَكَانَ وصل إِلَى التلاف فَقَالَ للنقيب شرفتمونا تَارِيخ لعيادتكم هَذِه فَحسب فَوجدَ كَمَا قَالَ وَهَذَا من كَمَال فطنته
الشَّيْخ حُسَيْن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَقِيه ابْن أَحْمد الشَّهِيد بن الشَّيْخ(2/113)
الْمَشْهُور الْفَقِيه الْعَلامَة عبد الله بِأَفْضَل بلحاح الْحَضْرَمِيّ مؤلف الْمُخْتَصر الَّذِي شَرحه الشهَاب ابْن حجر ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه أبي بكر ابْن مُحَمَّد بلحاح ابْن عبد الرَّحْمَن بن القيه عبد الله بن يحيى بن القَاضِي أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن الْفَقِيه وظل ابْن مُحَمَّد ابْن عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد هَذَا مَا وجد من نسب آل أبي فضل وَلم يعلم إِلَى أَيْن يرجعُونَ وَفِي الظَّن أَنهم يرجعُونَ إِلَى قحطان لِأَن غَالب عرب الْيمن من قحطان وَنقل الثِّقَة عَن الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه فضل بن عبد الله صَاحب الشحر أَنهم يتصلون بِسَعْد الْعَشِيرَة وَنسب سعد الْعَشِيرَة مَذْكُور فِي سيرة ابْن هِشَام وَغَيرهَا من كتب السِّيرَة والتواريخ وَالنّسب فِي طرفَة الْأَصْحَاب فِي معرفَة الْأَنْسَاب للْملك الغساني سعد الْعَشِيرَة وَهُوَ ابْن مذْحج بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة ابْن أدد بن زيد بن عمر وبن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشحب بن يعرب بن قحطان بن هود عَلَيْهِ السَّلَام ابْن شالخ بن أزفحشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام ابْن ملك بن متوشلح بن أخونخ بن أنوش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِمَا السَّلَام ومذحج هم الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله
مذْحج هَامة الْعَرَب وغلصمتها وَقيل أَن آل أبي الْفضل ينسبون إِلَى بني هِلَال انْتهى والفقيه خسين الْمَذْكُور ولديندر الشحر فِي سنة تسع عشرَة وَقَرَأَ الْقُرْآن على عَمه الْفَقِيه أَحْمد بن إِبْرَاهِيم وتفقه على جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد شيخ بن الْجفْرِي قَاضِي الشحر وَقَرَأَ النَّحْو ثمَّ رَحل إِلَى الْيمن وَدخل عدنا وزبد أَو رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ فِي هَذِه الْبِلَاد عَن جمَاعَة وبرع فِي التصوف وَكَانَ رُبمَا تكلم بِكَلَام انتقد عَلَيْهِ ثمَّ عَاد إِلَى الشحر وَصَحب الشَّيْخ الْجَلِيل السَّيِّد أَحْمد بن نَاصِر وَالسَّيِّد حسن با عمر ورحل إِلَى الْهِنْد فَأخذ عَن السَّيِّد جَعْفَر بن عَليّ زين العابدين بن العيدروس وَعَن جمَاعَة وَعَاد إِلَى مَكَّة وَحج وَأخذ عَن ابْن عَم أَبِيه الشَّيْخ سَالم با فضل وَعَن السَّيِّد سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَصَحب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن با وَزِير وَكَانَ يتَرَدَّد بَين المخبا وَمَكَّة كل سنة يتجر فِي البن والقماش وزار النَّبِي
وَأخذ عَن الصفى القشاسي وَالشَّيْخ زين بن عبد الله بِأَحْسَن وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن علوي وَرَأى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف فِي مَنَامه كَانَ ملكا نزل من السَّمَاء فَقطع رجلَيْهِ قَالَ فجصل لي بذلك الْقطع لَذَّة عَظِيمَة وتأولها الْإِقَامَة بِمَكَّة وَكَانَ كَذَلِك وسافر إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا من سنة سِتّ وَسِتِّينَ إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ كثير المطالعة للفتوحات المكية وَيحل مشكلاتها وَكَذَلِكَ غَيرهَا من كتب ابْن عَرَبِيّ وَالْإِنْسَان الْكَامِل وَكَانَ لَا يَقُول بِعلم غير هَذَا(2/114)
الْعلم وَكَانَ مُعْتَقد اللصوفية مُصدقا بِجَمِيعِ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَقد قَالَ الْجُنَيْد التَّصْدِيق بعلمنا هَذَا ولَايَة وَقَالَ إِذا رَأَيْتُمْ الرجل مُعْتَقد اللصوفية فَاطْلُبُوا مِنْهُ الدُّعَاء فَإِنَّهُ مجاب الدعْوَة وَكفى بِأبي الْقسم شَاهد حق وَصدق وَكَانَ قَائِلا بوحدة الْوُجُود الَّتِي عَلَيْهَا أَكثر الْمُحَقِّقين وَكَانَ يحضر درس الشَّمْس البابلي وَالشَّيْخ عِيسَى المغربي ثمَّ تجرد لِلْعِبَادَةِ ولازم الْمكتب الشَّرْعِيَّة حَتَّى صَار من أكَابِر العارفين المرشدين ولازم التِّلَاوَة وَالذكر وَله نظم حسن وَكَانَ ذَا ذوق وَفهم وَله تعلق بالأدب حفظ كثيرا من المقامات الحريرية وانتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَلما حج السَّيِّد عبد الله بن علوي الْحداد فِي سنة تسع وَسبعين قَامَ فِي خدمته وأكرمه إِكْرَاما عَظِيما وأنزله فِي دَاره وَقَامَ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَة مريديه وزار مَعَه النَّبِي
ولازمه وَمرض بِالْمَدِينَةِ مَرضا شَدِيدا فكشف للسَّيِّد عبد الله أَن مدَّته قد انْقَضتْ فاستوهب لَهُ من جماعنه بعض أعمارهم فوهبوه وَتشفع بِالنَّبِيِّ
فِي ذَلِك فَقبل وعاش بقد مَا وهبوه لَهُ وَمن نظمه قَوْله
(لمعت لنا أنوار ليلى واعتلت ... ثمَّ انْثَنَتْ تدنوا إِلَيْنَا واختفت)
وَمِنْه أَيْضا
(بدالي سنا نجد فغابت نجومه ... فأفنى وجودي فِي شموس همومه)
(وأبقاني الْوَصْف الشهودي فانياً ... وَأَحْكَام رسمي قد محته رسومه)
(إِذا أَن لَا أفني وَلم أك بِالَّذِي ... أحَاط بِهِ الْمَعْنى فَأنى عديمه)
(مَعَانِيه فِي المجلى تعاظم قدرهَا ... ويحظى بهَا من كَانَ حَقًا عظيمه)
(شُهُودًا وَعرفا ناتراً كم فيضه ... على من سقَاهُ الوجد كأساً يقيمه)
(شراب قديم ذُو نعيم معجل ... وساقيه قد أسْقى الندامة نعيمه)
(هُوَ الذَّوْق للمشروب فَأعلمهُ يَا فَتى ... فَمن ذاق ذَاك الشّرْب فَهُوَ عليمه)
(بِعلم قديم وَهُوَ فِي الْخلق حَادث ... وَمن حَضْرَة الْأَسْمَاء كَانَت علومه)
(عُلُوم لَهَا فِي كل روح سرَايَة ... كنوز أَضَاءَت فِي الدياجي نجومه)
(هُوَ الشَّمْس للأكوان وَالشَّمْس بدره ... بل الرّوح للأرواح طَابَ شميمه)
ونظم تائية حَسَنَة على طَريقَة ابْن الفارض مطْلعهَا
(بعثت غرامي حاد للأحبة ... يحثهم شوقاً لعزة عزة)
وَمِنْهَا قَوْله
(مظَاهر أَعْيَان الكيان تصورت ... وجود بلاعين على العدمية)
(وَمن عجب أَنِّي أرى الْكَوْن ظَاهرا ... وَلَيْسَ لَهُ عين سوى المظهرية)(2/115)
(فَفِي طيه قد كَانَ فِي الْعلم مُجملا ... وَفِي نشره وافي بِكُل عَجِيبَة)
(وَمن عجب الْأَشْيَاء عَليّ بِأَنَّهُ ... كصورة مَاء فِي سراب بقيعة)
(فَمَا غير شمس أشرقت فِي مغيبها ... وَمَغْرِبهَا قد غَابَ فِي المشرقية)
وَهِي طَوِيلَة وَكتب على المشكلات فِيهَا ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا فامر ببلها فبلوها فَعُوفِيَ وَمن فراسته أَن معلم أَوْلَاده عَليّ بأحداد رأى فِي مَنَامه أَنه يمشي فِي عقبه وَصَاحب التَّرْجَمَة يمشي خَلفه ثمَّ تقدم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة يدل ذَلِك على أَن ميلادك قبل ميلادي وَأَنا أَمُوت قبلك فبحث عَن ذَلِك فَوجدَ صَاحب التَّرْجَمَة ولد فِي سنة تسع عشرَة والفقيه ولد سنة ثَمَان عشرَة وَتُوفِّي والفقيه بَاقٍ وَكَانَت وَفَاته نَهَار الِاثْنَيْنِ آخر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بمقبرة الشويكة بِالْقربِ من قبر الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الله بن مُحَمَّد بافقيه رَحمَه الله تَعَالَى
القَاضِي حُسَيْن بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن مُوسَى الْعَدوي الزوكاري الصَّالِحِي القَاضِي الْفَقِيه الأديب الشَّافِعِي الْمَذْهَب كَانَ أمثل الْفُضَلَاء والأدباء جيد الْفَهم عَجِيب المطارحة رَقِيق الطَّبْع اشْتغل فِي مباديه بِدِمَشْق على وَالِده وَأخذ عَن الشَّمْس الميداني والنجم الْغَزِّي ورحل إِلَى الْقَاهِرَة بعد الثَّلَاثِينَ وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأبي الْعَبَّاس الْمقري وَالشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي صَاحب السِّيرَة وَالشَّمْس البابلي والعلا الأَجْهُورِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ وَالشَّيْخ عَامر الشبراوي وَحج وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الشَّيْخ غرس الدّين الخليلي نزيل الْمَدِينَة المنورة بِمَكَّة عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَلان الصديقي واقرأ بِدِمَشْق وَأفَاد وَضبط الْكثير وَولي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بمحكمة الميدان والمحكمة الْكُبْرَى سِنِين وَأفْتى على مَذْهَبهم مُدَّة وَكَانَ معاشر اللكبراء لحلاوة ومصاحبته وسكونه وَله شعر كثير من جيده قَوْله
(أرى كل إِنْسَان يرى أَن حِينه ... من الْخطب خَال أَن ذَاك لمغرور)
(وَكَيف وأصل البنية المَاء وَالثَّرَى ... وسوف إِلَى ترب الْقُبُور تصير)
(فَلَا تعتبن خلا إِذا جَار أَو جَفا ... فَأَنت وَرب الْعَالمين كدور)
(فَإِن جنحت مِنْك الظنون لحادث ... فميلك للتوحيد يَا صَاح مبرور)
(فَإِن بَقَاء الْعِزّ فِي وحدة الْفَتى ... كَمَا إِن كثار التَّرَدُّد مَحْذُور)
(وَمَا مذهبي إِنِّي ملول لرفقتي ... وَلَكِن مسلوب الكفاء مَعْذُور)
(أجل إِن أَبنَاء الزَّمَان مَا تفاوتت ... فَمنهمْ خَبِير بالأمور وتحرير)(2/116)
(وَبِالْجُمْلَةِ التَّحْقِيق فالأنس موحش ... وَعَما سوى الخلاق شغلك مدحور)
(فيا رب جد بِالْعَفو والصفح وَالرِّضَا ... ففعلي مَذْمُوم فعلك مشكور)
وَقَوله
(وليل أدرنا فضل قاسون بَيْننَا ... فَكَادَتْ قُلُوب السامعين تطير)
(فَلم ندر إِلَّا الْفجْر صَار دليلنا ... إِلَى سفحه السفح فِيهِ نغير)
(وَفينَا هداة للطريق وقادة ... لَهُم كل فضل فِي الورى وصدور)
(فسرنا فَلَا وَالله لم ندر مَا الَّذِي ... قطعناه بعد الْمَشْي كَيفَ يصير)
(فَلَمَّا وصلنا المستغاث أغاثنا ... بِهِ الْغَيْث حَتَّى غوثنا لمطير)
(فزرنا وكل نَالَ مَا كَانَ نَاوِيا ... وفزنا بِوَقْت حسنه لشهير)
(وَمِنْه ركبنَا الجو حَتَّى كأننا ... نُجُوم سَمَاء والسحاب ثبير)
(إِلَى أَن هبطنا قبَّة الْملك الَّتِي ... تسمى بنصر مذ أعَان نصير)
(رَأينَا بهَا عقد الثريا مُعَلّقا ... وَعين الدراري النيرات تُشِير)
(فَلم تَرَ برجا قبلهَا حل منزلا ... يسير إِلَيْهِ النَّاس وَهُوَ يسير)
(وأعجب شَيْء أَن ترَاهَا مُقِيمَة ... وتمشي كَمَا يمشي الْفَتى ويفور)
(وأعجب من هَذَا ترَاهَا عقيمة ... تربي بَنَات النعش وَهِي سَرِير)
(وعدنا فحيانا حَيا فضل سحبها ... بِرِبْح لَهُ وَقع الْغَمَام صرير)
(إِلَى أَن رمتنا بعد عالي مَكَاننَا ... على مغر فِيهَا الْمقَام غرور)
(وَجِئْنَا حمانا مُطْمَئِنين أنفسا ... ععلى أَن مر فِي المكرمات عسير)
وَدخل على شَيخنَا إِبْرَاهِيم بن الخياري الْمدنِي حِين دخل الشَّام زائر بعد انْقِطَاع فانشده معتذرا
(وَمَا عاقني عَن لثم أذيال فَضلكُمْ ... سوى أَن عَيْني مُنْذُ فارقتكم رمدا)
(فعاتبتها حَتَّى كَأَنِّي حبيبها ... فأبدت كلَاما كَانَ قلبِي لَهُ غمدا)
(وَقَالَت لقد كحلت طرفِي برفه ... فأفتحها سَهوا وأغمضها عمدا)
وَهَذَا معنى مبتكر جيد إِلَى الْغَايَة ثمَّ رَاجعه الخياري عَنهُ بقوله
(أيا فَاضلا أبدي لنا فِي نظامه ... لطيف اعتذار سكن الشوق والوجدا)
(وأشفى بلقياه مَرِيض بعاده ... وَقد كَانَ أشفى للبعاد وَمَا أودى)
(فصان لَهُ الْعَرْش مقلته الَّتِي ... ترى كل معنى دق عَن فهمنا جدا)
(لَئِن كحلت بالظرف قد أسكرت بِمَا ... أدارته من مقلوب أحداقها شَهدا)(2/117)
(فَإِن ترني أشتاق خمرة قرقف ... فأطلبها سَهوا وأتركها عمدا)
وَكنت فِي أَيَّام الصِّبَا تلقيت عَنهُ بعض مَعْلُومَات لاتصال شَدِيد كَانَ بَينه وَبَين وَالِدي رحمهمَا الله تَعَالَى واستجزته فأجازني بمروياته وَأَخْبرنِي أَن وِلَادَته كَانَت فِي سنة ثَمَانِي عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي نَهَار الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَتِسْعين وَألف وَدفن بسفح قاسيون
حُسَيْن بن مشيخ الْمَعْرُوف بالقاطر وَمَعْنَاهُ الْبَغْل نزيل دمشق وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا بِأُمُور النَّاس صَاحب دربة وَكَانَ يعرف اللِّسَان الْفَارِسِي والتركي والبوسنوي وَلما ورد دمشق وتوطنها تعلم اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَأقَام بِدِمَشْق مُدَّة عمره وَتزَوج بِإِحْدَى ابْنَتي أبي الْمَعَالِي درويش مُحَمَّد الطالوي مفتي دمشق وَسكن فِي قاعته بمحلة التَّعْدِيل هُوَ وعديله على الشاطر وَفِيهِمَا يَقُول الْحسن البوريني يُخَاطب القاعة الْمَذْكُورَة
(يَا قاعة لَيْسَ لَهَا من شبه ... يجلى بهَا النَّاظر والخاطر)
(فَارقهَا من كَانَ أَهلا لَهَا ... وحلها الشاطر والقاطر)
وَولي حُسَيْن النِّيَابَة بِدِمَشْق وحمدت سيرته وَكَانَت وَفَاته فِي خَامِس عشرى ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَخلف مَالا كثيرا وولدين أَحدهمَا زَكَرِيَّا وَالْآخر درويش مُحَمَّد وَسَيَأْتِي كل مِنْهُمَا فِي مَحَله
حُسَيْن أَفَنْدِي بن مصطفى بن حسن الْمَعْرُوف بِابْن قرنق الدِّمَشْقِي مُفْرد وقته فِي محَاسِن الشيم وكرم الطَّبْع والمهارة فِي الْعُلُوم الغريبة مثل الطلسمات والنيرنجيات والأعمال العجيبة وَأخذ هَذِه الْعُلُوم عَن الشَّيْخ المفنن سيف الدّين الصّباغ وَكَانَ سيف الدّين الْمَذْكُور أحد أَعَاجِيب الدُّنْيَا فِي هَذِه الْعُلُوم وَإِلَيْهِ النِّهَايَة فِيهَا وحَدثني بعض من لَقيته عَن حسن أَنه كَانَ يَقُول كَانَ أستاذي يَعْنِي الشَّيْخ سيف الدّين الْمَذْكُور أَشَارَ إِلَيّ بِطَلَب الإستخدام وَأَمرَنِي برياضة أَرْبَعِينَ شهرا وخلوة أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمَّا أكملتها خرجت إِلَى حَيَّة عَظِيمَة فابتلعتني وَأَنا أتلو الْأَسْمَاء حَتَّى وصلت فِي جوفها إِلَى عِنْد فِي فَعندهَا ضَاقَ فِي نَفسِي فَتركت الْأَسْمَاء فأخرجتني ثمَّ ظَهرت لي فِي صُورَة امْرَأَة حسناء وشرعت فِي توبيخي على تركي الْأَسْمَاء وَحصل لي مِنْهَا ضَرَر عَظِيم مَنَعَنِي النُّطْق وَأدّى إِلَى اختلال وَجْهي وَفِي فَحَضَرَ عِنْدِي الْأُسْتَاذ وَأصْلح مني مَا كَانَ اخْتَلَّ وَكَانَ يلومني بعد ذَلِك على تركي الْأَسْمَاء وَكَانَ كثير الاعتناء بشيخة الْمَذْكُور بِنَقْل عَنهُ احوالا غَرِيبَة ووقائع عَجِيبَة وَمِمَّا حدث بِهِ عَنهُ(2/118)
فِي بعض محاضراته أَن الشَّيْخ سيف الدّين قصد يَوْمًا التَّنَزُّه فصحبه هُوَ ورفيقان من طلبته حَتَّى انْتَهوا إِلَى جَامع يلبغا فتفقدوا بعض دَرَاهِم لأجل نَفَقَة الْيَوْم فَلم يَجدوا مَعَهم شَيْئا فَلَمَّا فطن الشَّيْخ بهم قَالَ لحسين أَنا أُعْطِيك نَفَقَة الْيَوْم ثمَّ جَاءَ إِلَى رخامة فِي الْجَامِع وَخط عَلَيْهَا دَائِرَة ثمَّ قَالَ لَهُ اسحب فسحب شريطا من ذهب حَتَّى انْتهى إِلَى مِقْدَار ثمَّ قطعه وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ بِعْهُ وأتنا بِثمنِهِ قَالَ فَذَهَبت ووزنتته فجَاء وَزنه تِسْعَة مَثَاقِيل فأنقدت ثمنه ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ لي اصرف مِنْهُ مِقْدَار كفايتنا وَالْبَاقِي دَعه مَعَك تنْتَفع لَهُ وَحدث أَن الشَّيْخ سيف الدّين كَانَ مستخدما كَمَا سلف قَالَ وَكنت يَوْمًا جَالِسا فَجَاءَنِي مِنْهُ رَسُول يناديني إِلَيْهِ فصحبته وَأَنا ذَاهِب فِي الطَّرِيق وَكنت إِذْ ذَاك مشتغلا بِتِلَاوَة الْأَسْمَاء فشرعت فِي تلاوتها فرأيته يتباعد عني فناديته وتكررت التِّلَاوَة مني والتباعد مِنْهُ فَقلت لَهُ مَالك تتباعد عي فَقَالَ لَا أقدر على الْقرب مِنْك وَأَنت تتلو هَذِه الْأَسْمَاء ففطنت بِهِ قَالَ وَلما اجْتمعت بالشيخ قلت أما كَانَ عنْدك رَسُول من الْأنس حى أرْسلت لي هَذَا فَأَجَابَنِي أَو تعرف إِن لي خدمَة غير هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْجِنّ وَبعد وَفَاة شَيْخه الْمَذْكُور انْفَرد هُوَ بِدِمَشْق بِمَعْرِِفَة هَذَا الْفَنّ وامتحن مَرَّات وَكَانَ من جملَة ذخائره فِي هَذِه الصِّنَاعَة مرْآة إِذا أبهم عَلَيْهِ أَمر يُعْطِيهَا لآحد جُلَسَائِهِ ينظر فِيهَا وَيَتْلُو هُوَ إسما فَيرى النَّاظر فِيهَا الْمَطْلُوب على كَيْفيَّة تنْتج مَعْرفَته حَتَّى يبْقى كَأَنَّهُ مشَاهد فيخبره بِهِ النَّاظر فيشرع فِي تَحْصِيله وَمن أغرب مَا سمعته عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب أحد قُضَاة دمشق كَانَ لَهُ أَخ فِي الرّوم وكا بهَا أحد الصُّدُور فَغَضب عَلَيْهِ السُّلْطَان وعزله عَن منصبه ونفاه عَن دَار السلطنة فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى أَخِيه قَاضِي دمشق ظن أَنه قتل وَحصل لَهُ من الْأَلَم مَا مَنعه الهجوع فاستدعى صَاحب التَّرْجَمَة وَطلب مِنْهُ النّظر فِي حَال أَخِيه فَظهر فِي الْمرْآة مَكَانَهُ وهيئته وَذكر أَنه مُرْسل إِلَى أَخِيه القَاضِي مَكْتُوبًا وَبَين عدد أسطره وَيَوْم وُصُوله فَطلب مِنْهُ قِرَاءَته فَكَانَ النَّاظر فِي الْمرْآة يملي عَلَيْهِ وَهُوَ يكْتب إِلَى أَن انْتهى وَاتفقَ مَجِيء الْمَكْتُوب فِي الْيَوْم الَّذِي عينه فقوبل على النُّسْخَة الَّتِي كتبت فَلم يزود وَلم ينقص وَهَذِه الْوَاقِعَة من أغرب مَا سمعته وَقد رزق من الْحَظ والإقبال فِي أُمُوره نَصِيبا وافرا وَتَوَلَّى المناصب السامية وانعقدت عَلَيْهِ صدارة دمشق وتملك الْأَمْلَاك الْكَثِيرَة وَعمر الْأَمَاكِن البهية من جُمْلَتهَا قصره وقاعته بالصالحية وَهُوَ أبهى مَكَان بهَا وَقد قَالَ فِيهِ مفتي الشَّام الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد بن المهمندار مؤرخا عَام بنائِهِ بقوله(2/119)
(لقد شيد الشهم الْحُسَيْن الَّذِي لَهُ ... مآثر مجد لَا يُحِيط بهَا عد)
(بِنَاء إِلَى أعلا السماكين أَرخُوا ... هِيَ القاعة الحسنا لطالعها السعد)
وَذَلِكَ سنة سبع وَسبعين والف وَولي بِدِمَشْق منصب الْمُقَابلَة والمحاسبة وتولية الْحَرَمَيْنِ المصريين والسليمانية والسليمية والصابونية وَالْجَامِع الْأمَوِي وكوجك أَحْمد باشا وَبَلغت سفراته إِلَى الرّوم الْعشْرين وَحج فِي سنة خمس وَخمسين وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَتُوفِّي فِي تِلْكَ السّنة أَمِير الْحَاج يُوسُف باشا فِي الطَّرِيق فاختاره أَعْيَان الْحجَّاج أَن يكون أَمِيرا فباشرها وسلك مسلكا حسنا وسافر إِلَى الرّوم بعد ذَلِك وَأَخذه مقاطعة بعلبك واقتنى من العبيد والجواري والأحفاد مَا لَا يحصر وَبلغ من الْعِزّ والرفعة مبلغا عَظِيما ثمَّ تنزل فِي آخر أمره وَفرع عَن جَهَالَة وَبَاعَ بعض عقاراته وابتلى بأمراض مهولة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى إِن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي الْمحرم سنة تسعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
المنلا حُسَيْن بن نَاصِر بن حسن بن مُحَمَّد بن نَاصِر بن الشَّيْخ القطب الرباني شهَاب الدّين الْأَشْقَر الْعقيلِيّ الْحَمَوِيّ جد صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله لامه وَكَانَ عَالما فهامة جَامعا لأنواع الْفُنُون ولد بحماة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر شيوخها كالسيد عمر بن عَسْكَر وَالشَّيْخ نجم الدّين الْحِجَازِي وَغَيرهمَا من الائمة الْأَعْلَام وَأَجَازَهُ شُيُوخه وَتَوَلَّى بحماة الْمدرسَة الجلدكية واشتهر بِالْعلمِ وَالْفضل ثمَّ رَحل بأَهْله إِلَى دمشق وتوطنها وَأخذ بهَا عَن أكَابِر الْأَعْيَان كالنجم الْعزي وَغَيره ورحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَغَيره وَكَانَ حسن الْخلق والخلق جميل الذّكر صافي الْقلب والفكر صَالحا خيرا متواضعا عَالما عَاملا مشتغلا بِالْعلمِ والإفادة مكبا على المطالعة ملازما للطاعات وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة وَجمع مجاميع لَطِيفَة وَله أشعار بديعة وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس بِالْقربِ من قبر أبي شامة رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير حُسَيْن بن يُوسُف بن سَيْفا الْأَمِير بن الْأَمِير ولي فِي حَيَاة وَالِده كَفَالَة طرابلس الشَّام ثمَّ عزل عَنْهَا ثمَّ ولي كَفَالَة الرها ثمَّ تَركهَا من غير عزل وَقدم حلب وكافلها مُحَمَّد باشا قُرَّة قاش فَحَضَرَ الْأَمِير حُسَيْن لَدَيْهِ مُسلما عَلَيْهِ فَأكْرمه واحترمه ثمَّ دَعَاهُ إِلَى وَلِيمَة فجَاء مَعَ جمَاعَة قَليلَة فاحتاطت بِهِ جمَاعَة قُرَّة قاش وَأمرهمْ أستاذهم بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فمسكوه ورفعوه إِلَى القلعة مسجونا وَوضع فِي مَسْجِد الْمقَام(2/120)
يحْتَاط بِهِ الحرسة فَبعث قره قاش إِلَى السُّلْطَان يُخبرهُ بذلك وَبلغ وَالِده الْخَبَر فَبعث جماعته ووعد السُّلْطَان بِمِائَة ألف قِرْش إِن عَفا عَنهُ فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَبعث أمرا بقتْله فجَاء الجلاد فَقَالَ بقلب جرى وجنان قوي أيليق أَن أكون من الباشوات ويقتلني الجلاد ثمَّ إِنَّه أَشَارَ ألى رجل مُعظم من أَتبَاع قُرَّة قاش أَن يقْتله وَقَالَ لَهُ اصبر عَليّ حَتَّى أكتب مَكْتُوبًا إِلَى وَالِدي وأوصيه بعض وَصَايَا فَكتب ورقة أوصاه بأولاده وَعَزاهُ فِي نَفسه ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ واستغفر الله وَقَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي وعملت سوءا بِجَهَالَة فتب عَليّ أَنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم وَوضع مُحرمَة نَفسه فِي عُنُقه وَأمر ذَلِك الرجل بخنقه وَبكى عَلَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة لحسنه وَكَونه شَابًّا وَكَانَ شجاعا بطلا إِلَّا أَنه كَانَ يُبَالغ فِي ظلم الْعباد ثمَّ أخرجت أمعاؤه ودفنت بتربة القلعيين وَصَبَرت جثته وَأرْسلت إِلَى وَالِده فَاسْتَقْبلهَا النِّسَاء وَالرِّجَال بالبكاء والصراخ وَالْوَيْل وَالثُّبُور وَصَارَ يَوْم دُخُوله كَيَوْم مقتل الْحُسَيْن وَقَالَت الغواني فِيهِ المراثي يضر بن وَقت إنشاد إِشْعَار مَقْتَله بالدف بِصَوْت خزين حكى قره قاش إِنِّي كنت فِي خدمَة السُّلْطَان أَحْمد وَقد خرج إِلَى الصَّيْد فعرضوا عَلَيْهِ طيور الصَّيْد ثمَّ جاؤه بطير عَظِيم لَا نَظِير لَهُ فتعجب مِنْهُ وَقَالَ من بعث هَذَا قَالُوا عَبدك حُسَيْن باشا ابْن سَيْفا أَمِير الامراء بطرابلس فَقَالَ السُّلْطَان آه آه آه من خِيَانَة مماليكي الْأَمر لله إِلَى هَذَا الْحِين هَذَا الْكَافِر بِالْحَيَاةِ فأسرها قره قاش فِي نَفسه وصاده بطيره وَكَانَ قَتله فِي أَربع عشرى شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وعمره قريب من الثَّلَاثِينَ رَحمَه الله تَعَالَى
حُسَيْن الكفوي أحد موَالِي الرّوم الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ والبراعة ذكره ابْن نَوْعي واثنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ قدم إِلَى قسطنطينية وَلزِمَ دَاوُد زَاده قَاضِي الْمَدِينَة ولازم مِنْهُ ودرس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السلمانية ثمَّ ولى مِنْهَا قَضَاء الْقُدس فِي شعْبَان سنة سبع بعد الْألف ثمَّ وَجه إِلَيْهِ قَضَاء مَكَّة فِي شَوَّال سنة ثَمَان بعد الْألف ثمَّ عزل فِي صفر من سنة عشرَة وَكَانَ صَاحب لطائف وفضائل وَهُوَ أنبل ارباب المعارف فِي عصره لم تزل لطائفه متداولة وأشعاره وآثاره شائعة وَمن تأليفاته الجليلة تعليقاته على البُخَارِيّ وَمُسلم وَشرح الكلستان بالتركية يتَعَرَّض فِيهِ لشارحيه سروري وشمعي وَله كتاب قَالَ نامه يذكر فِيهِ غرائب وقائع وَقعت لمن تفائل بِالْقُرْآنِ وديوان حَافظ وَغَيرهمَا وَهُوَ أثر لطيف رَأَيْته وطالعته ونقلت مِنْهُ أَشْيَاء(2/121)
فَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ عَن قطب العارفين يَعْقُوب الجرخي انه ذكر فِي بعض مصنفاته أَن الْعِنَايَة الإلهية ساقته إِلَى خذمة الخوجة بهاء الدّين نقشبند قَالَ فَرَأَيْت من كرمه إِلَيْهِم غَايَة الِالْتِفَات وَظهر لي انه من خَواص الْأَوْلِيَاء وَأَنه كَامِل مكمل فتفاءلت فِي شَأْنه من الْمُصحف فورد قَوْله تَعَالَى اولئك الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده وَحكى انه لما توفّي الْمولى سِنَان محشي الْبَيْضَاوِيّ وَالْهِدَايَة أَخذ بعض أَرْبَاب الْقُلُوب الْمُصحف وتفاءل فِيهِ على حسب مَال الْمولى سِنَان فورد قَوْله تَعَالَى وَلَقَد اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين وَحكى عَن نَفسه قَالَ كنت عزمت على الرحلة من بلدتي الكفة فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ أَنا ووالدتي لَكِن ترددت هَل اذْهَبْ بحرا أَو برا وتشعبت فِي المخيلة وساوس الْخَوْف من الْغَرق أَو كَثْرَة التَّعَب فتفاءلت من الْقُرْآن فورد قَوْله تَعَالَى قَالَ لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا اسْمَع وَأرى ثمَّ أعقبت ذَلِك بتفاؤل آخر فورد ألم تَرَ أَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره فتيمنت بالفال وركبنا الْبَحْر فوصلنا سَالِمين بعون الله تَعَالَى وَحكى أَن الْمولى مَعْرُوف أحد الموَالِي الْعِظَام الأخيار قَالَ رَأَيْت لَيْلَة رُؤْيا عَظِيمَة سررت بهَا كثيرا فَلَمَّا استيقظت أخذت أفكر فِيهَا هَل هِيَ من قبل الرَّحْمَن أَو من جَانب الشَّيْطَان فتفاءلت فِي الْجَامِع الصَّغِير للسيوطي فورد قَوْله
رُؤْيا الْمُؤمن الصَّالح بشرى من الله وَهِي جُزْء من خمسين جُزْءا من النُّبُوَّة انْتهى وَكَانَ وَقع بَينه وَبَين نكسارى زَاده محاورى ألف فِيهَا رِسَالَة وَطعن عَلَيْهِ فِيهَا وَكَانَ فِي علم الموسيقى نِهَايَة وَله أغان ربطها مَقْبُولَة متداولة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حُسَيْن الْحُسَيْنِي الخلخالي أحد مشاهير الْمُحَقِّقين وَالْعُلَمَاء العاملين أَخذ عَن الْعَلامَة حبيب الله الشهير بمرزاجان الشيزاري وَكثير وَعنهُ أَخذ عبد الْكَرِيم بن سُلَيْمَان بن عبد الْوَهَّاب الكوراني وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا إِثْبَات الْوَاجِب وحاشية على حَاشِيَة العصام عَليّ الْبَيْضَاوِيّ توفّي فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف من تحريرات الْأُسْتَاذ الباهر امام التَّحْقِيق الملا إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي نزيل الْمَدِينَة المنورة رَحمَه الله تَعَالَى
الْمولى حُسَيْن الشهير بالجنجي قَاضِي الْعَسْكَر فِي دولة السُّلْطَان إِبْرَاهِيم ولد بِمَدِينَة بور لي الزَّعْفَرَان وَكَانَ أَبوهُ من آحَاد الْمَشَايِخ بهَا فاخذ عَنهُ بعض عزائم وأدعية وَدخل قسطنطينية وتلمذ بهَا للْمولى شيخ مُحَمَّد الْمَعْرُوف حسن زَاده وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره تبدو(2/122)
مِنْهُ بَوَادِر بِأَنَّهُ سيصير صَاحب مرتبَة وجاه فيعجب مِنْهُ من يسمعهُ وَرُبمَا سخر وامنه وَاتفقَ أَن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم طلب أَن يرْزق ولدا فَكَانَ يستدعى من مَشَايِخ وقته وأطبائه أدعيتهم ومعالجاتهم وَلِهَذَا كَانَ كل من عرف شخصا يتوسم فِيهِ الصّلاح أَو معرفَة الطِّبّ أَو العزائم يَسُوقهُ إِلَى طرف السلطنة وَكَانَت وَالِدَة صَاحب التَّرْجَمَة تعرف رجلا من مقربي السُّلْطَان فَذكرت لَهُ أَنه يعرف بعض العزائم فَلَمَّا بلغ خَبره إِلَى السُّلْطَان استحضره فَقَرَأَ شَيْئا من عَزَائِمه الَّتِي يعرفهَا فاعتدل مزاج السُّلْطَان وحملت بعض جواريه فَأقبل على صَاحب التَّرْجَمَة وَعين لَهُ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَوجه إِلَيْهِ مدرسة الْخَارِج والداخل والصحن دفْعَة ثمَّ وَجه إِلَيْهِ فِي مُدَّة قَليلَة قَضَاء الغلطة فتملك دَارا بِالْقربِ من جَامع مَحْمُود باشا وبناها بِنَاء عَظِيما وَصدر الْأَمر السلطاني للْمولى مَحْمُود بن قره جلبي أَن يُزَوجهُ ابْنَته فَزَوجهُ إِيَّاهَا وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدولى بخيلها ورجلها ثمَّ ولي قَضَاء عَسْكَر أَنا طولي وَأطلق عَلَيْهِ معلم السُّلْطَان وَحصل أَمْوَالًا عَظِيمَة وجاها بالغاوبني فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة ابنية جليلة وخانا وحماما وَحكى أَنه دفن فِي جدران ابنيته أَمْوَالًا كَثِيرَة فَلَمَّا خلع السُّلْطَان إِبْرَاهِيم أخرج من دفائنه نَحْو ثَلَاثَة آلَاف كيس كلهَا نقد ثمَّ حبس ثمَّ بعث بِهِ إِلَى قَصَبَة ميخاليج فَقتل بهَا وَكَانَ قَتله فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَخمسين وَألف رَحمَه الله
حُسَيْن باشا الْمَعْرُوف بدالي حُسَيْن نديم السُّلْطَان مُرَاد وَأحد الوزاراء الْكِبَار أَصله من قَصَبَة بيكشهر من نَاحيَة قرمان رَحل فِي مبدأ أمره إِلَى قسطنطينية وخدم فِي حرم السلطنة وَصَارَ بهَا من طَائِفَة اليلطجية وَقدم دمشق فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف قَاصد الْحَج وَعَلِيهِ خدمَة السِّقَايَة فِي طَرِيق الْحَج ثمَّ ترقى بعد ذَلِك إِلَى أَن صَار محافظ مصر وَقدم دمشق فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَتوجه إِلَيْهَا وَكَانَت أَحْكَامه فِيهَا معتدلة ثمَّ عزل عَنْهَا وَسَار إِلَى درا السلطنة وَلما اجْتمع بالسلطان مُرَاد أوصله دفترا بِجَمِيعِ مَا حصله فِي مصر من مَال وَأَسْبَاب وأمتعة وَقَالَ لَهُ هَذَا جَمِيع مَا أملكهُ فِي دولة الْملك فانعم عَلَيْهِ وقربه وَجعله من أخصائه وندمائه وَصَحبه مَعَه فِي سفر بَغْدَاد وَبعد وَفَاة السُّلْطَان مُرَاد ولي حُكُومَة بَغْدَاد وَهُوَ ثَالِث حَاكم بهَا بعد فتحهَا الْأَخير ثمَّ ولي بودين وَولي وزارة الْبَحْر ثمَّ عين فِي زمن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم إِلَى حزيرة كريت فَسَار إِلَيْهَا وَأقَام بهَا سَبْعَة عشر سنة فِي محاربة وَفتح أَكثر بلادها وقراها وَلم يبْق بهَا إِلَّا قلعة قندية كَمَا أسلفته فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان إِبْرَاهِيم ثمَّ أرسل إِلَيْهِ ختم الوزارة الْعُظْمَى(2/123)
وَبَقِي لوصوله إِلَيْهِ مَسَافَة أَربع سَاعَات فاسترد وَكَانَت الوزارة فوضت إِلَى غَيره ثمَّ طلب هُوَ إِلَى تخت السلطة وَدخل إِلَى أدرنة بموكب حافل وَاجْتمعَ بالسلطان مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيم فَأقبل عَلَيْهِ ثمَّ أرْسلهُ إِلَى قسطنطينة وَأمر بِوَضْعِهِ فِي الْمَكَان الْمَعْرُوف بيَدي قله وَبعد أَيَّام أَمر بقتْله فَقتل وَدفن فِي دَاخل الْمَكَان الْمَذْكُور وقبره ظَاهر ثمَّة ولقتله خبر مطول مخلصه إِسْنَاد بعض حَسَدْته إِلَيْهِ التهاون فِي أَمر قندية وَأَنه كَانَ فَاجر مَعَ الْكفَّار فِي محاصرتها واستفتى مفتي الدولة فِي قَتله فَامْتنعَ ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى بَرَاءَته من ذَلِك فعزل ذَلِك الْمُفْتِي وَولي مَكَانَهُ رجل أفتى بقتْله فَقتل وَكَانَ قَتله سنة اثنيتين وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
حُسَيْن باشا الْوَزير الْمَعْرُوف بصاري حُسَيْن أَي الْأَصْغَر وَهُوَ أَخُو سياغوش باشا الْوَزير الْأَعْظَم كَانَ من مشاهير الوزراء لَهُ الصولة الباهرة والهيبة الْعَظِيمَة وَكَانَ فِيهِ تلطف بالرعايا وانتقام من ذَوي الْكبر والمناصب ولي حلب مُدَّة ثمَّ نقل مِنْهَا إِلَى نِيَابَة الشَّام فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وعينه السُّلْطَان وَهُوَ نائبها السّفر قمنيجة من بِلَاد الليه فَتوجه إِلَيْهَا وَفِي خدمته العساكر الشامية وَتعين هُوَ وَبَعض الوزراء للمحاربة فَكَسرهُ وَهُوَ ورفقاؤه وشاع أَن الكسرة كَانَت بِسوء تَدْبِير مِنْهُ فَغَضب عَلَيْهِ السُّلْطَان وعزله عَن حُكُومَة الشَّام وَرفع مِنْهُ رُتْبَة الوزارة وَأمره بالإعتزال فِي دَاره بقسطنطينة فَأَقَامَ مُدَّة منعزلا حَتَّى لم يبْق فِيهِ رَمق ثمَّ عطفت عَلَيْهِ وَالِدَة السُّلْطَان وشفعت لَهُ بِمنْصب التفتيش بِولَايَة أَنا طولي فَوَلِيه وَظهر سَعْيه فِيهِ لطرف السلطنة فجوزى على ذَلِك بحكومة الشَّام ثَانِي مرّة فَقَدمهَا ومهد أمورها بعد إختلال كَانَ أَصَابَهَا من حكامها وساس الرّعية سياسة عَجِيبَة وَلزِمَ كل أحد حَده فِي عَهده وَعمر الْقصر الْمَعْرُوف بِهِ الْآن فِي طرف الشّرف بالميدان الْأَخْضَر من دمشق وَكَانَ مَكَانَهُ يعرف قَدِيما بالخانوتية وتأنق فِي وَضعه وغرس فِيهِ أَنْوَاع الْأَشْجَار من كل صنف وَعز عَلَيْهِ بِدِمَشْق بعض أَنْوَاع الْفَاكِهَة فجلب من أَمَاكِن بعيدَة وَالْحَاصِل أَنه أثر أثرا حسنا وَفِي أَيَّامه وَقع الْجَرَاد بِدِمَشْق ثَلَاث سِنِين مُتَوَالِيَات فَبعث رجلَيْنِ من أهل دمشق إِلَى أنقره ليأتيا بِمَاء السمرمر الَّذِي يُقَال أَنه إِذا كَانَ فِي بَلْدَة يطرد الْجَرَاد عَنْهَا وَكَانَ وصولهما إِلَى دمشق فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف فَأمر حُسَيْن باشا بِخُرُوج الصُّوفِيَّة بالإعلام وَعَامة النَّاس بالتهليل إِلَى لِقَائِه فَدَخَلُوا بِهِ على سفح قاسيون من نَاحيَة القابون حَتَّى وضعُوا مِنْهُ حِصَّة عَليّ(2/124)
رَأس المنارة الغربية بالجامع الْأمَوِي وَحِصَّة على مَنَارَة جَامع الْمصلى قلت وَمَاء السمرمر هَذَا قد ذكره غير وَاحِد مِنْهُم ابْن الوردي فِي خريدة الْعَجَائِب فِي فصل عجائب الْعُيُون والآبار قَالَ عين سرم وَهِي بَين أصفهان وشيراز بهَا مياه مَشْهُورَة وَهِي من عجائب الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَن الْجَرَاد إِذا نزلت وَوَقعت بِأَرْض يحمل إِلَيْهَا من تِلْكَ الْعين مَاء فِي ظرف أَو غَيره فَيتبع ذَلِك المَاء طيور سود تسمى السمرمر وَيُقَال لَهَا السوادية بِحَيْثُ أَن حَامِل المَاء لَا يَضَعهُ الأَرْض وَلَا يلْتَفت وَرَاءه فَتبقى تِلْكَ الطُّيُور على رَأس حَامِل ذَلِك المَاء كالسحابة السَّوْدَاء إِلَى أَن يصل إِلَى الأَرْض الَّتِي بهَا الْجَرَاد فَتُصْبِح الطُّيُور عَلَيْهَا وتقتلها فَلَا ترى من الْجَرَاد متحر كابل يموتون من أجل تِلْكَ الطُّيُور انْتهى وَذكر ابْن الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه أَن من شَرطه أَن يكون الْوَارِد بِهِ من أهل الصّلاح وَلَا يمر بِهِ تَحت سقف وَقَالَ الصّلاح الصَّفَدِي فِي الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ من تَذكرته قَالَ الشَّيْخ شمس الدّين أَبُو الثنا مَحْمُود الْأَصْبَهَانِيّ أَن بِمَدِينَة قشمير مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام عَن أَصْبَهَان عين مَاء سارحة بَرزَة يُسمى مَاؤُهَا بِمَاء الْجَرَاد لَهُ خاصية أَن من حمل من مَائِهَا فِي إِنَاء إِلَى الأَرْض الَّتِي أَتَاهَا الْجَرَاد فيعلق ذلمك الْإِنَاء فِي تِلْكَ الأَرْض فيقصدها مَا لَا يحصر من طير يُقَال لَهُ سَار يَأْكُل مَا فِيهَا من الْجَرَاد حَتَّى يفنى وَشرط هَذَا الْإِنَاء أَن لَا يمس الأَرْض فِي طَرِيقه وَلَا فِي مَكَان تَعْلِيقه انْتهى ثمَّ أَمر حُسَيْن باشا بِالسَّفرِ إِلَى محاصرة قلعة بتيج من بِلَاد الأنكروس فسافر إِلَيْهَا وَمَعَهُ عَسْكَر الشَّام وَكَانَ الْوَزير الْأَعْظَم قُرَّة مصطفى باشا قد سبقهمْ إِلَى بلغراد وَجعلهَا مجمع العساكر جَمِيعهَا وَلما تَكَامل جمع الجموع رَحل بهم إِلَيْهَا ونازلوها وَكَاد أَن يفتحوها عنْوَة قدر الله تَعَالَى مَا قدر من مَجِيء جَيش كَبِير من الْكفَّار وكسروا عَسْكَر الْمُسلمين وفرقوهم فِي تِلْكَ النواحي كَمَا سنفصله فِي تَرْجَمَة الْوَزير مصطفى باشا الْمَذْكُور وَنسب الْوَزير هَذِه الكسرة إِلَى فشل بعض الوزراء وَمِنْهُم حُسَيْن باشا صَاحب التَّرْجَمَة فَأَرَادَ قَتله فَكَانَت منينه أسبق فتوفى فِي غُضُون ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي شهر رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد حَمْزَة بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن حَمْزَة الْحُسَيْنِي الدِّمَشْقِي المولد الْحَنَفِيّ السَّيِّد الْأَجَل الأديب الْفَاضِل كَانَ رَئِيسا نبيه الْقدر وافر الْحُرْمَة جليل الْقدر سَاكِنا وقورا نَشأ وَقَرَأَ على عُلَمَاء زَمَانه حَتَّى حصل فَضِيلَة مقبوله واشتهر بدماثة الْأَخْلَاق وَطيب الْعشْرَة وكرم النَّفس وَكَانَ حسن الْحَظ صَحِيح الإملا وَكتب كثيرا(2/125)
من الْكتب وخطه مَرْغُوب فِيهِ لضبطه وَحسنه وسافر إِلَى الرّوم فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف ولازم من نقيب الدولة السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد برهَان الدّين الْمَعْرُوف بشيخي وولاة نقابة الشَّام عَن أَخِيه الْأَكْبَر السَّيِّد كَمَال الدّين وَعَاد إِلَى دمشق وَأقَام بمنزله فِي مهابة وإنكفاف عَن مُخَالطَة الْأُمُور وَبعد مُدَّة عزل عَن النقابة وأعيدت إِلَى أَخِيه الْمَذْكُور ثمَّ وَليهَا عَنهُ مرّة ثَانِيَة وَصَارَ نَائِبا بمحكمة الْبَاب فِي زمن قَاضِي الْقُضَاة الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بِابْن مرطلوس وَاسْتمرّ نَائِبا مدَّته كلهَا وانتظم حَاله بعد إختلال ثمَّ عزل عَن النقابة وأعيد إِلَيْهَا مرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ للنيابة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الحافظية بصالحية دمشق وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة تسع وَألف وَتُوفِّي فِي ثَالِث ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ حنيف الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى بن مرشد الْعمريّ الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ الْمُفْتِي الْحَنَفِيَّة بالديار الحجازية وَالْمَدينَة وَابْن مفتيها الْعَالم الْعلم الْفَقِيه الباهر كَانَ عَالما دينا عفيفا ملازما لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ يَصُوم رَجَب وَشَعْبَان وَالْأَيَّام الْبيض وَأخذ عَن وَالِده وَعبد الْعَزِيز الزمزمي وَأبي الْعَبَّاس الْمقري وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَالشَّيْخ خَالِد الْمَالِكِي وَغَيرهم وَولى بعد موت وَالِده خطابة الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام والتدريس خلف مقَام الْحَنَفِيَّة وتدريس مدرسة مُحَمَّد باشا وَغير ذَلِك ثمَّ ولي الْإِفْتَاء السلطاني بالديار الحجازية فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وانتفع بِهِ خلق كَثِيرُونَ مِنْهُم وَلَده عبد الرَّحْمَن وَالشَّيْخ أَحْمد أوليا وَأَوْلَاد عَمه أَحْمد وهم عِيسَى ومرشد وَإِمَام الدّين ومصدر الدّين وقاسم سنجق دَار وَأحمد المنلا وصنف عدَّة كتب مِنْهَا شرح مَنَاسِك الْوَسِيط للمنلا على مَذْهَب الْحَنَفِيّ وَشرح على المنسك الصَّغِير للملا أَيْضا وَكتاب سَمَّاهُ بغيه السالك الناسك فِيمَا يتَعَلَّق بآداب السّفر وأدعية الْمَنَاسِك وشفاء الصَّدْر بِبَيَان لَيْلَة الْقدر وَالْقَوْل الْمُفِيد بِبَيَان فضل الْجُمُعَة الْيَوْم الْمَزِيد وَالْقَوْل الْمُحَقق فِي بَيَان التَّدْبِير الْمُطلق والمقيد وَالْمُعَلّق ورسالة فِي استبدال الْوَقْف سَمَّاهَا السَّيْف الشهير على من جوز استبدال الْوَقْف بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير وَله نظم مستعذب وترجمه ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فِي حَقه فَاضل نبيه قَامَ مقَام أَبِيه فتقلد منصب الْفتيا بعده واجتلى فِي مطالع الإقبال سعده فَجلى بسناه الظُّلم وَمن يشابه أبه فَمَا ظلم
(شَبيه أَبِيه خلقَة وخليقة ... كَمَا حذيت يَوْمًا على أُخْتهَا النَّعْل)
وَبَلغنِي أَنه كَانَ يُنكر على أَبِيه عشرَة قضايا من فَتَاوِيهِ ثَبت لَدَيْهِ بصلانها وَلم ينص(2/126)
بِصِحَّتِهَا برهانها وَكَانَ يَقُول لَوْلَا خطة أخافها لأشتهر عني خلَافهَا وَله فِي الْأَدَب مَحل لَا ينْقض أبرامه وَلَا يحل ملك بِهِ زِمَام السجع والقريض وميز بِهِ بَين الصَّحِيح وَالْمَرِيض فَمن نظمه مَا كتبه إِلَى بعض الْأَعْيَان مراجعا عَن لِسَان وَالِده
(تبدّي لنا برق بافق رَبِّي نجد ... فأذكرني عهدا وناهيك من عهد)
(وهيمني شوقاً وَزَاد بِي الأسى ... وأضرم بِي نَار الصبابة والوجد)
(وجددّ لي ذكر اللَّيَالِي الَّتِي خلت ... وَطيب زمَان بالحمى طيب الْورْد)
(زَمَانا جلاذ وَالْحسن شمس جماله ... علينا فشاهدنا بِهِ الشَّمْس فِي برد)
(وأيدت لنا ذَات الْجمال جبينها ... فأخجل بدر الْأُفق فِي طالع السعد)
(هِيَ الرَّوْض تبدو للأنام بوجهها ... فنقطف زهر الْورْد من خدّها الوردي)
(وفاع لنا نشر الخزامي بروضة ... شدت وَرقهَا شوقاً على الأغصن الملد)
(تعنت على غُصْن الْأَرَاك بمدح من ... علا قدره السَّامِي على ذرْوَة الْمجد)
(جمال أهالي الْعَصْر أوحد وقته ... مشيد ربع الْمجد بالسعد والجدم)
(كَمَال قُضَاة الْمُسلمين أمامهم ... وموضح منهاج الرشاد لَدَى الرشد)
(عَلَيْهِ مدى الْأَيَّام منى تَحِيَّة ... تفوق فتيت الْمسك وَالْعود والند)
وَقَالَ فِي مثل هَذَا الْغَرَض
(غنت الْوَرق فِي المسا والبكور ... ساجعات على غصون الزهور)
(وتبدت من كلة الْحسن خود ... تخجل الشَّمْس من سناء البدور)
(قد تحلت من الجمان بِعقد ... جلّ فِي الْحسن والبها عَن تظير)
(فاقتطفنا من خدّها زهر ورد ... فاق نشر النسرين والمنثور)
(وارتشفنا من ثغرها العذب شَهدا ... فانتشونا لَا نشوة المخمور)
(برّدت بالوصال قلب كئيب ... كَانَ فِيهِ للهجر نَار السعير)
(يَا لَهَا عذبة الثنايا رادحاً ... قد تبدّت فِي زِيّ طبي غرير)
(قد أتتنا من عَالم الْعَصْر مولى ... قد تسامى على السهى والأثير)
(الإِمَام الْهمام رب الْمَعَالِي ... الْفَقِيه البليغ فِي التَّقْرِير)
(ظلّ دَوْمًا بِمصْر مفتي البرايا ... أوحد الْعَصْر ذِي الْمقَام الخطير)
(قد أَتَانِي مولَايَ مِنْك كتاب ... ذُو نظام حكى عُقُود النحور)
(ففضضت الختام عَن كنز علم ... حَاز مِنْهُ الْغناء كل فَقير)(2/127)
(وتأملت فِي رياض حماه ... وتنسمت مَا بِهِ من عبير)
(فَبَدَا نظم طرسه مَعَ نثر ... ذِي بَيَان فسر مِنْهُ ضميري)
(دمت يَا أوحد الزَّمَان فريدا ... فِي أَمَان بِحِفْظ رب خَبِير)
(وَصَلَاة الْإِلَه تترى دواماً ... مَعَ سَلام على البشير النذير)
وَمن شعره على مَا رَأَيْته مَنْسُوبا إِلَيْهِ قَوْله
(أَمْسَى وَأصْبح من تدكاركم وصبا ... يرثى لي المشفقان الْأَهْل وَالْولد)
(قد خدّد الدمع خدّي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد)
(وَغَابَ عَن مقلتي نومي لغيبتكم وخانني المسعدان الصَّبْر وَالْجَلد ... )
(لاغر وللدّمع أَن تجْرِي غوار بِهِ ... وَتَحْته المظلمان الْقلب والكبد)
(كَأَنَّمَا مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذِّئْب والأسد)
(لم يبْق غير خفيّ الرّوح فِي جَسَدِي ... فدى لَك الباقيان الرّوح والجسد)
وَكَانَت وِلَادَته بِمَكَّة وَقت الْعشَاء من لَيْلَة الْأَحَد منتصف صفر سنة أَربع عشرَة بعد الأف وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة خلون من شعْبَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ وَدفن ببقيع الْغَرْقَد وَقيل فِي تَارِيخ وَفَاته
(حنيف الدّين فِي الجنات راقى ... )
الْمولى حيدر بن إِبْرَاهِيم المنعوت بتاج الدّين الصَّغِير ابْن عبد الله الْحميدِي الْأَصْلِيّ أحد موَالِي الرّوم وَهُوَ أَخُو الْمولى عبد الْوَهَّاب قَاضِي الشَّام الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى أصل وَالِده من بَلْدَة حميد قدم إِلَى قسطنطينة وتوطن بهَا وَهُوَ من عُلَمَاء دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان وَله حَاشِيَة على صدر الشَّرِيعَة يرد فِيهَا إعتراضات ابْن الْكَمَال على صدر الشَّرِيعَة وَولد ابْنه حيدر هَذَا بقسطنطينة وَنَشَأ ودأب بهَا حَتَّى تميز بِالْفَضْلِ الباهر وَله من الْآثَار تعليقات على الدُّرَر وَالْغرر ولازم من ابْن جوى ودرس بمدرسة أون قباني ثمَّ أعْطى مدرسة برغوس وَلما تمت مدرسة عَليّ باشا القبودان بطوبخانة فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة أعطيها وَهُوَ أول مدرس بهَا ثمَّ فِي سنة ألف نقل إِلَى مدرسة قلندرخانه ثمَّ نقل إِلَى إِحْدَى الثمان ثمَّ إِلَى مدرسة الشهزاده ثمَّ إِلَى السليمانية ثمَّ ولي قَضَاء حلب فأسكدار ثمَّ بروسة ثمَّ الْقَاهِرَة وَتوجه إِلَيْهَا بحراً فَفِي معبر الْإسْكَنْدَريَّة غرق الْمركب الَّذِي كَانَ فِيهِ وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الْخَاء الْمُعْجَمَة)(2/128)
الشَّيْخ خَالِد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَالِكِي الْجَعْفَرِي المغربي ثمَّ الْمَكِّيّ صدر المدرسين فِي عصره بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وناشر لِوَاء سنة النَّبِي
والمرجع فِي التَّمْيِيز بَين الْحَلَال وَالْحرَام وَالْحَاوِي شَرّ فِي الْعلم وَالنّسب وَالْجَامِع بَين طرفِي الْكَمَال الغزيزي والمكتسب قَرَأَ فِي الغرب على أجلاء شُيُوخ عارفين وأئمة محققين ورحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا الحَدِيث عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَالْفِقْه والْحَدِيث والعربية عَن الْعَلامَة سَالم السنهوري الْمَالِكِي وَغَيرهمَا ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة وجاور بهَا وتصدر للإفادة وَعنهُ أَخذ جمع من الْعلمَاء وَبِه تخْرجُوا كالعلامة مُحَمَّد عَليّ بن عَلان وَالْقَاضِي الْفَاضِل تَاج الدّين الْمَالِكِي وَغَيرهمَا وَلم يزل قَائِما بأعباء الْعلم وَالْعَمَل حَتَّى دَعَاهُ الله تَعَالَى إِلَيْهِ فَمَاتَ لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشر رَجَب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف ونقلت من تَارِيخ الإِمَام عَليّ بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ أَنه اتّفق فِي عَام اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف أَن وصلت تذكرة من وَزِير مصر أذذاك بإمامة الْمقَام الْمَالِكِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام لعَلي بن خَالِد يَعْنِي صَاحب التَّرْجَمَة فباشرها فِي موسم تِلْكَ السّنة مَعَ شركائه فألزمه المترجم بِالْمُبَاشرَةِ فِي نوته فِي جَمِيع السّنة وألزم شُرَكَاء بذلك فَوَافَقُوا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن توفّي فَترك الْمُبَاشرَة بعد وَالِده فِي جَمِيع السّنة إِلَّا فِي الصبخ وَأَيَّام الْمَوْسِم وَصَلَاة التَّرَاوِيح على الْمُعْتَاد
خداوردي بن عبد الله الطاغية أحد كبراء جند الشَّام وَكَانَ متميزا فيهم بالبأس والجراءة والتوسع فِي الدُّنْيَا ونال حظا عَظِيما واشتهرت صولته واستتبع رعاعا وجهالا استخفهم فأطاعوه وَولى سردارية حلب ففتك فِيهَا وَنهب وتعدى واستلب حَتَّى ضجر مِنْهُ أهاليها وحكامها حِين قَامَت الْحَرْب بَينه وَبَين نصوح باشا وَبَينه وَبَين ابْن جانبولاذ وَكَانَ هُوَ وأحفاده قد عاثوا فِي الْبِلَاد وفتنوها وَمِنْه كَانَت نشأة فَسَاد الْعَسْكَر الشَّامي وطغيانهم وَمَا زَالَ بَينهم نَافِذا القَوْل مَقْبُول السمعة إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي بضع عشرَة وَألف
الشَّيْخ خضر بن حُسَيْن المارديني سبط الْهِنْدِيّ شَارِح الكافية ذكره أَبُو الْوَفَاء العرضي فِي الْمَعَادِن وَقَالَ كَانَ حسن المطارحة لطيف المسامرة عذب الْبَيَان رطب اللِّسَان تدرج فِي دَرَجَات الْكَمَال وترقى فِي معارج الْمجد والإجلال كمن فِي أحناء الْعليا ومعاطف الإرتقا وبطون فحاج الدولة حَتَّى امْتَدَّ بضبعيه على الْجَلالَة والصوله فَصَارَ للحضرة النصوحية مثوى أسرارها وموطن مطالبها(2/129)
وأوطارها وسويداء أجفانها وَنور إنسانها وروح جسمانها وَحل أرقى مَحل فَصَارَ رابطة العقد والحل فحين زَادَت الرنعة على آمادها انعكست عَلَيْهِ الدَّوَائِر بأضدادها فافترسه نَاب النوب وَلَفظه الدَّهْر فِي هوة سوء المنقلب قدم حلب سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف وَكَانَ يعرف الألسن الثَّلَاثَة وَله فِيهَا إنْشَاء حسن ونظم وإطلاع على فَضَائِل الْعُلُوم فَسَأَلَ من الْوَالِد يَعْنِي الشَّيْخ عمر العرضي أَن يقرىء أحد تلامذته شرح الكافية للرضى ليسمع فَأمر الْوَالِد الشَّيْخ عبد الْحَيّ القوق سبط البيلوني فَكَانَ يسمع ويتقن تِلْكَ الدُّرُوس ويحتفل بهَا وَيسمع لاخى شرح الْمِفْتَاح للشريف وللفقير فِي شرح الطوالع للأصفهاني وتقرب للوزير نصوح حِين تولى كَفَالَة حلب حَتَّى أحبه وولاه قَائِما بمقام الدفتري وَلما تولى الْوَزير الْمَذْكُور كَفَالَة ديار بكر ثمَّ مَاتَ الْوَزير الْأَعْظَم مُرَاد باشا بهَا وجاءته الوزارة الْعُظْمَى بَعثه الْوَزير نصوح رَسُولا إِلَى بِلَاد الْعَجم للصلح بَين السُّلْطَان أَحْمد والشاه عَبَّاس وَكَانَ من جملَة مَا قَالَ خضر للشاه أهل السّنة يعترضون عَلَيْكُم بكونكم تحرمون طَعَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَعَ كَونه مُخَالفا للنَّص قَالَ تَعَالَى {وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم} فَأمر الشاه الشَّيْخ بهَا الدّين العاملي بِالْجَوَابِ فَكتب رِسَالَة صدرها باسم الشاه وَقَالَ عَنهُ فِي أثْنَاء الْمَدْح شاه عَبَّاس الصفوي الموسوي الْحُسَيْنِي أَرَادَ الْمَنْسُوب إِلَى الشَّيْخ صفي الدّين والى مُوسَى الكاظم وَإِلَى الْحُسَيْن أما نِسْبَة الشاه إِلَى الشَّيْخ صفي الدّين فَلَا شكّ فِيهَا وَأما نسبته إِلَى الْحُسَيْن فَلم تعهد وَذكر أَن استحاق فِي الْأَمَام المرتضى للخلافة وتقدمه على جَمِيع الْآل وَالْأَصْحَاب فَمَا لَا يشك فِيهِ أولو الْأَلْبَاب وَأما تَحْرِيم طَعَام أهل الْكتاب فَأخذ يُجيب بأجوبة كلهَا واهية ثمَّ جَاءَ خضر برَسُول الصُّلْح من جَانب الشاه وَعقد الصُّلْح وَلما توجه الْوَزير نصوح إِلَى قسطنطينة وَصَارَ صَاحب الْحل وَالْعقد عِنْده خضر الْمَذْكُور قيل عَنهُ أَنه قَالَ لبَعض خدام السلطنة أَنا بتدبيري عقدت الصُّلْح وَلَو أسمع كَلَام الْوَزير وتدبيره مَا صَار الصُّلْح فَإِنَّهُ لَا معرفَة لَهُ بِالتَّدْبِيرِ فأسرها فِي نَفسه الْوَزير وولاه دفتر دارية وَأَن وَأخرجه فِي الْحَال من قسطنطينية وَبعث فِي الطَّرِيق وخنقه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ عَالما كَامِلا عَار فَإِذا خطّ حسن وإنشاء مستحسن قَالَ العرضي وَقد أسمعني بعض أشعار لَهُ فِي الطَّرِيق على نمط تائية ابْن الفارض وَذكر لي أَنه نظم الشافية لِابْنِ الْحَاجِب فِي التصريف وَكَانَ قَتله فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى(2/130)
الشَّيْخ خضر بن عَطاء الله الْموصِلِي نزيل مَكَّة الْعَالم الأديب الْمَشْهُور كَانَ إِمَامًا فِي الْعَرَبيَّة واللغة ومعاني الْأَشْعَار حَافِظًا لكثير مِنْهَا كثير الْعِنَايَة بهَا حسن الضَّبْط مَشْهُورا بمعرفتها وإتقانها هَاجر إِلَى مَكَّة فقطن بهَا وانتظم فِي سلك علمائها وَألف فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة باسم السَّيِّد حسن بن أبي نمى أَمِير مَكَّة كِتَابه الْإِسْعَاف بشرح أَبْيَات القَاضِي والكشاف وَهُوَ كتاب لم تكتحل عين الدَّهْر لَهُ بنظير وَلَا احتوى على مثل أزهار أَلْفَاظه وثمار مَعَانِيه روض نضير وَأَجَازَهُ عَلَيْهِ من المَال ألف دِينَار وَألف باسمه أَيْضا أرجوزة طَوِيلَة فِي فضل أهل الْبَيْت ووقائعهم وَلم يزل مُقيما فِي الْحرم واردا مناهل الْفضل وَالْكَرم حَتَّى رَمَاه عِنْد الشريف وزيره ابْن عَتيق بِأَنَّهُ ينْسب إِلَيْهِ الْمَظَالِم وَيكْتب بذلك إِلَى الرّوم والعجم وَهُوَ مَقْبُول القَوْل عِنْدهم فَأذن لَهُ الشريف فِي إجلائه عَن الْبَلَد الْحَرَام وألزمه بِالْخرُوجِ للْحَال فَخرج مُتَوَجها إِلَى مَدِينَة الرَّسُول وَقد ترنق ورد حَيَاته المغول وَمَا أبعد عَن مَكَّة مرحلَتَيْنِ حَتَّى استولى الْوَزير على دَاره وَنهب جَمِيع مَا فِيهَا ونادى عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاق كَمَا يُنَادي على تركات الْأَمْوَات فَبَلغهُ الْخَبَر فِي أثْنَاء الطَّرِيق فَأصْبح وَهُوَ فِي يم الْهم غريق وفاجأه أَجله قبل وُصُوله إِلَى الْمَدِينَة وَقد ذكره الخفاجي فِي كِتَابيه وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَأنْشد لَهُ من شعره قَوْله مضمنا فِي البرش
(تبدل عَن البرش المبلد بالطلا ... فعالم أهل البرش غمر وجاهر)
(فَمَا البرش أَن فتشت عَن كنهه سوى ... دويهية تصفر مِنْهَا الأنامل)
قَالَ وَمِمَّا مدحته بِهِ فِي شبيبتي قبل نوم سيارة همتي وخمود نَار شرتي
(وصبا من كؤس ذكرك سكرى ... لَك حملتها ثَنَاء وشكرا)
(ولوجدي رقت كطبعك لطفا ... واستعارت من طيب ذكرك نشرا)
(مَعَك الْقلب حَيْثُمَا سرت يسرى ... فاسألنه عَن فَذَلِك أدرى)
(من أولي الْعَزْم لي فؤاد كليم ... فِي الْهوى لَا يزَال يتبع خضرًا)
قلت وَرَأَيْت لَهُ من شعره هَذِه القصيدة مدح بهَا الشريف حسن الْمَذْكُور ومطلعها
(بدر الْمُلُوك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو ... عَليّ الْحسنى السَّامِي بِهِ ساموا)
(خَليفَة الله من دَانَتْ بنصرته ... وَمَا يَشَاء من الأفلاك أجرام)
(فِي كل نَاد لَهُ صيت يهتم بِهِ ... فِي كل وَاد عداهُ خشيَة هاموا)
(لَو سَابق الدَّهْر لاستدراك فَائِتَة ... لرد مِمَّا حواه الدَّهْر أَعْوَام)(2/131)
(قل للخوارج موتوا فِي ضلالتكم ... فَإِنَّمَا الدّين عِنْد الله إِسْلَام)
(هَذَا ابْن بنت رَسُول الله طَاعَته ... فرض وَفِيه لَا نف الدّين إرغام)
(يطيعه من أطَاع الله متقيا ... وَمن عَصَاهُ عَلَيْهِ النَّص إِلْزَام)
(وَفِي أولى الْأَمر قَول الله حجتنا ... وهم أَئِمَّتنَا بِالْحَقِّ قد قَامُوا)
(يَا حجَّة الله وَالْحَبل المتين وَمن ... فِي غير مرضاته الطَّاعَات آثام)
(أَن يمل نَابِغَة الْجِنّ القريض فلي ... فِي نظم مدحك من جِبْرِيل إلهام)
(فها كها درة بل بَحر فَائِدَة ... لَدَى الْعُقُول ببذل الرّوح تستام)
(تبقى وَتذهب أشعار ملفقة ... كغرة فِي جباه الدَّهْر أَو شام)
(وَأسلم وَدم فِي سرُور بل وَفِي دعة ... مَا قَامَ بِالروحِ بل بِاللَّه أجسام)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف
خَليفَة بن أبي الْفرج الزمزمي الْبَيْضَاوِيّ الأَصْل الْمَكِّيّ المولد والمنشأ الشَّافِعِي كَانَ فَاضلا أديبا ذكيا أريبا باهرا فِي الْأَدَب وفنونه قَرَأَ على الإِمَام مُحَمَّد بن عبد الله الطَّبَرِيّ وَالْإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ ومنم عاصرهما من المكيين وَمن مؤلفاته رونق الحسان فِي فَضَائِل الحبشان وَمن شعره قَوْله
(زارت معذبتي لَيْلًا وَفِي يَدهَا ... كاس من الراح تسقيني وأسقيها)
(ريم بقد كَمثل الْغُصْن قامتها ... مَا الظبي مَا الْبَدْر لَا شَيْء يحاكيها)
(والوصل مِنْهَا عز يزقل نائله ... هَيْهَات مطلبها عزت مراميها)
(دَامَت على الصد والهجران مذ نشأت ... ذل الْمحبَّة عز فِي مراقيها)
وَكَانَت وَفَاته فِي ينف وَسِتِّينَ وَألف بِمَكَّة
خَلِيل بن زين الدّين بن خَلِيل بن مَحْمُود بن برهَان الدّين الْمَعْرُوف بالاخنائي الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الشَّافِعِي من ذَوي الْبيُوت الْقَدِيمَة بِدِمَشْق وَيُقَال هم أقدم بَيت بهَا لأَنهم من نسل مُعَاوِيَة واتصلوا من عَهده وتفرعوا وأجداده غالبهم قُضَاة الْقُضَاة وصدور الصُّدُور وَلَهُم بِدِمَشْق آثَار كَثِيرَة وأوقاف وتعلقات وخليل هَذَا ولد بِدِمَشْق وَنَشَأ فِي جد واهتمام بتحصيل الْعلم وَقَرَأَ الْكثير وَضبط وَقيد وَأخذ عَن النَّجْم الْغَزِّي وَغَيره وَكَانَ فَاضلا كَامِلا سَاكِنا وقورا وَله مطارحة جَيِّدَة وَرُبمَا نظم الشّعْر لَكِن شعره لَيْسَ بالجيد وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة وَهُوَ فِي الضَّبْط غَايَة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى(2/132)
خَلِيل بن عبد الرَّحِيم مفتي الشَّام الشهير بالسعساني لكَون وَالِده كَانَ إِمَامًا بسعسع وَأَصله من بَلْدَة علائية من بِلَاد قرمان وأظن أَن صَاحب التَّرْجَمَة ولد بسعسع وَنَشَأ بِدِمَشْق وَقَرَأَ وساد من حِين شبيبته فسافر إِلَى الرّوم ولازم على قاعدتهم وَلم يزل يسمو بِهِ حَظه إِلَى أَن ولي قَضَاء طرابلس الشَّام مرَّتَيْنِ وَولي قَضَاء قيصرية ثمَّ بعد ذَلِك ولي إِفْتَاء الشَّام وَأعْطى رُتْبَة قَضَاء الْقُدس وَكَانَ مهابا جليل الْقدر عالي الهمة نبيه الذّكر وَفِيه مُرُوءَة وسخاء ومعروف ومتانة وتغلب وعزل عَن الْإِفْتَاء فاستقل بِمنْصب بعلبك على طَرِيق التَّأْبِيد وَلم يزل فِي عز وجاه إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
خَلِيل باشا ابْن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن كيوان أَمِير الْحَاج الشَّامي وَهُوَ أَخُو إِبْرَاهِيم الْمُقدم ذكره فِي حرف الْهمزَة كَانَ من صُدُور دمشق وأعيانها الْمَشْهُود لَهُم بِالرَّأْيِ الصائب والدولة الباهرة وتخول فِي نعم ورفاهية عَيْش وتملك الْأَمْلَاك الْكَثِيرَة وانقاد لَهُ الزَّمن وأحبه أَرْكَان الدولة وملأ صيته بر الشَّام حَتَّى هابه عربانها وَغَيرهم وَكَانُوا يراجعونه فِي مهماتهم وينقادون لأَمره وَلَا يخالفونه فِي حَال من الْأَحْوَال وَقد أسلفنا فِي تَرْجَمَة أَخِيه إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ تفرغ عَن منصبه فِي الْعَسْكَر لِأَخِيهِ خَلِيل هَذَا وَكَانَ لَك ابْتِدَاء ظُهُوره وسافر إِلَى فتح إيوار فِي خدمَة الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الْفَاضِل سنة خمس وَسبعين وَألف واتصل بِهِ فَأَحبهُ وقربه وَعَاد إِلَى دمشق وَقد رَأس ثمَّ فرغ عَن منصبه لِابْنِ أَخِيه حُسَيْن وَهُوَ على الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وتقاعد هُوَ بعلوفة فِي خزينة الشَّام مُدَّة إِلَى أَن حدث من الْأَمِير حمد ابْن رشيد أَمِير بادية الشَّام فِي حق الْحجَّاج مَا حدث من النهب والغارة وَفعل الْأَمِير مُوسَى بن تركمان حسن الْآتِي ذكره مَا فعل من الْقَتْل وَاسْتمرّ فِي غيه وضلاله وَأمر الْحَاج فِي اختلال مُدَّة سِنِين وَلم يتَّفق اصلاحه بِحَال حَتَّى عرض ذَلِك على أَرْكَان الدولة فَرَأَوْا من الصَّوَاب تَوْلِيَة خَلِيل باشا هَذَا أَمر الْحَاج فولي الأمرية وَظَهَرت فِيهَا كِفَايَته وأطاعته جَمِيع العربان وَاسْتمرّ ثَلَاث سِنِين وَالْحجاج فِي أَيَّامه مطمئنون فِي بلهنية من الْعَيْش ورخاء وراحة إِلَى أَن توفّي وَهُوَ مُتَوَجّه بهم فِي أول السّنة الرَّابِعَة من تَوليته تمرض يَوْم طلعة الْمحمل وَيُقَال أَن نَائِب الشَّام سقَاهُ سما فَخرج مَعَ الْمحمل وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ فأدركه أَجله بالضمين وَحمل إِلَى المزيريب وَكَانَت(2/133)
وَفَاته أَوَاخِر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وقبره بالمزيريب ظَاهر وَأَظنهُ مَا جَاوز عمره السِّتين بِكَثِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ خير الدّين بن أَحْمد بن نور الدّين عَليّ بن زين الدّين بن عبد الْوَهَّاب الأيوبي العليمي الفاروقي الرَّمْلِيّ الإِمَام الْمُفَسّر الْمُحدث الْفَقِيه اللّغَوِيّ الصرفي النَّحْوِيّ الْبَيَانِي الْعَرُوضِي المعمر شيخ الْحَنَفِيَّة فِي عصره وَصَاحب الفتاوي السائرة وَله غَيرهَا من التآليف النافعة فِي الْفِقْه مِنْهَا حَوَاشِيه على منح الْغفار رد فِيهَا غَالب اعتراضاته على الْكَنْز وحواشيه على شرح الْكَنْز للعيني وعَلى الْأَشْبَاه والنظائر وَله كتابات على الْبَحْر الرَّائِق والزيلعي وجامع الْفُصُولَيْنِ وَله رِسَالَة سَمَّاهَا مَسْلَك الْإِنْصَاف فِي عدم الْفرق بَين مسئلتي السُّبْكِيّ والخصاف الَّتِي فِي الْأَشْبَاه فِي الْقَوَاعِد ورسالة سَمَّاهَا الْفَوْز وَالْغنم فِي مسئلة الشّرف من الام ورسالة فِيمَن قَالَ إِن فعلت كَذَا فَأَنا كَافِر كَانَ أرسل يسْأَله عَنْهَا شيخ الْإِسْلَام يحيى المنقاري مفتي السلطنة الْعلية وَله ديوَان شعر مُرَتّب على حُرُوف المعجم رَأَيْته وانتخبت مِنْهُ بعض مستحسنات من أشعاره فَمن ذَلِك قَوْله فِي الزنبق الَّذِي يُوجد فِي سواحل الْبَحْر الشَّامي وهيئة نواره الْأَبْيَض قِطْعَة وَاحِدَة وَلَيْسَ مُتَفَرقًا كَهَيئَةِ الزنبق الْمُتَعَارف
(وزنبقة قد أشبهت كاس فضَّة ... بِرَأْس قضيب من زمردة عجب)
(سداسي شكل كل زَاوِيَة بِهِ ... على رَأسهَا الْأَعْلَى هِلَال من الذَّهَب)
وَقَوله وَهُوَ من بدائعه
(من شَارك الْإِنْسَان فِي اسْمه ... فحقه قطعا عَلَيْهِ وَجب)
(لذاك من سمى من خلقه ... مُحَمَّدًا فَازَ بِهَذَا السَّبَب)
وَقَوله متغزلا فِي الْخَال وَقد ذكره فِي مجموعته الَّتِي سَمَّاهَا بمطلب الْأَدَب وَغَايَة الأرب الْمُشْتَملَة على أحد عشر بَابا
(بالخد مِنْهُ شَقِيق جلّ وَاضعه ... أعيا الورى فهم شامات بحمرته)
(أَقُول هَذَا ولاعي وَلَا عجب ... قلب الشَّقِيق الَّذِي فِي وسط جنته)
وَسمع قَول أبي الْعَلَاء المعري
(إِذا مَا سمعنَا آدما وفعاله ... وتزويجه ابنيه بنتيه فِي الْخَنَا)
(علمنَا بِأَن الْخلق من نسل فاحر ... وان جَمِيع النَّاس من عنصر الزِّنَا)(2/134)
وَجَوَاب بَعضهم فِي رده بقوله
(لعمرك أما القَوْل فِيك فصادق ... وَتكذب فِي البَاقِينَ من شط أَو دنا)
(كَذَلِك اقرار الْفَتى لَازم لَهُ ... وَفِي غَيره لَغْو كَذَا جَاءَ شرعنا)
فَكتب عَلَيْهِ لَا يخفى على الجدلي فَسَادًا كَلَام هَذَا الرَّاد الَّذِي يَأْخُذ بخناقه وَيَقْضِي بسماحة أخلاقه قولي فِي الرَّد عَلَيْهِ
(كذبت بِإِجْمَاع الْأَنَام جَمِيعهم ... لَا فكك فِيمَا تدعيه من الْخَنَا)
(وَكَيف وَقد فاض الدَّلِيل بحله ... فَأَنِّي يكون النَّاس من عنصر الزِّنَا)
وَمن شعره قَوْله فِي العذار
(عِنْدَمَا جدّ بالحبيب عذار ... أظهرت لامه لفتك البريه)
(قَالَت النَّاس عِنْد ذَلِك فِيهِ ... قمر تِلْكَ لأمه القمرية)
وقولا متغزلا
(مهفهف الْقد مذ كواني ... بحمرة الخدّ مِنْهُ فِي الْحَيّ)
(فَقلت بِي أَنْت داوني ... قَالَ آخر الطِّبّ عندنَا الكي)
وَقَالَ متغزلا
(أَمن ذكر جَار بِذَات السّلم ... أرقت دموعاً جرت كالعنم)
(وَأم هَاجَتْ الرّيح من جَانب ... بِهِ شادن أهيف قد ألم)
(أتحسب أَن الْهوى مختف ... ودمعك مِنْهُ جرى وانسجم)
(عجبت لخصر لَهُ ناحل ... على حمل رد فِيهِ أَنِّي التأم)
(إِذا مارنا بإهتزاز فقد ... رنا عِنْده هيجان الْأَلَم)
(وَإِن لَاحَ كالظبي لي نافراً ... فقد جر قلبِي بواو الْقسم)
(فَلَا عجب أَن نأى معرضًا ... لِأَن الظبا لم تزل فِيهِ لم)
(وأدعى فصيحاً لَدَى عِتْرَتِي ... وأدعى لَدَيْهِ بداء إِلَيْكُم)
(ترفق بقلب غَدا فِي يَديك ... رَقِيقا وفوّق بِتِلْكَ الشيم)
(وضاهيت خضرًا لَهُ ناحلاً ... وَلَا زمني فِي هَوَاء السقم)
(فذب يَا فُؤَادِي بِنَار الجوى ... فكم قد نهيتك عَن ذَا فَلم)
(أما آن أَن يقْضِي ذَا القلا ... وَمَا آن مِنْك أَوَان الْكَرم)
وَله غير ذَلِك فنكتفي بِهَذَا الْمِقْدَار وأوقفني صاحبنا الْفَاضِل الأديب إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان الجينيني الْحَنَفِيّ نزيل دمشق على كراسة ترْجم فِيهَا شَيْخه صَاحب التَّرْجَمَة فَمَا أذكرهُ ملخص مِنْهَا قَالَ سلمه الله تَعَالَى كَانَ مولد شَيخنَا بالرملة وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن(2/135)
ثمَّ جوده على الشَّيْخ الْقدْوَة مُوسَى بن حسن الغبي الشَّافِعِي الرَّمْلِيّ وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من أبي شُجَاع فِي فقه الشَّافِعِي ولازمه فِي صغره وانتفع بِهِ وشملته بركته ثمَّ رَحل إِلَى مصر صُحْبَة أَخِيه الْكَبِير عبد النَّبِي فِي سنة سبع بعد الْألف وَكَانَ أَخُوهُ الْعَلامَة شمس الدّين تقدمه لمصر لطلب الْعلم وَكَانَ أسن مِنْهُ وَخير الدّين أَصْغَرهم قَالَ وَكَانَ يحدثنا أَنه فِي لَيْلَة دُخُوله إِلَى مصر أحس بالإحتلام فَلَمَّا أصبح طلب من أَخِيه عبد النَّبِي أَن يدْخلهُ الْحمام فَأدْخلهُ ثمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى جَامع الْأَزْهَر وَكَانَ بالجامع من الْأَوْلِيَاء الْمَشْهُورين الشَّيْخ فأيد وَكَانَ مقره دَائِما بِبَاب الْجَامِع وَكَانَ مُعْتَقدًا أهل مصر فِي وقته قَالَ وَعند دُخُول شَيخنَا الْجَامِع أَرَادَ أَن يقبل يَد الشَّيْخ فَايِد فقطب وَجهه فِيهِ وَقَالَ لَهُ رحَ عني وَلم يُمكنهُ من تَقْبِيل يَده فَدخل وخاطره منكسر من ذَلِك وَمكث أَيَّامًا فِي الْجَامِع فَفِي بعض الْأَيَّام كَانَ مارا وَإِذا بالشيخ فَايِد يَقُول تعال يَا شيخ الْإِسْلَام تعال يَا شيخ الْإِسْلَام بِهَذَا اللَّفْظ قَالَ فَمَا عرفت لمن النداء وَإِذا بِهِ يُشِير إِلَيّ فَجئْت إِلَيْهِ وَقبلت يَده فهش لي وَكَانَ بعْدهَا إِذا جِئْت إِلَيْهِ استقبلني وأجلسني وأستنشدني من كَلَام الْقَوْم حَتَّى كنت إِذا أردْت الْقيام لَا يمكنني إِلَّا بعد الْجهد وحصلت لي بركته وَكَانَ يحلق للنَّاس لوجه الله تَعَالَى وَعَلمنِي الحلاقة ووهبني موسين وَحجر مسن وهم عِنْدِي ثمَّ أَرَادَ الِاشْتِغَال بِفقه الشَّافِعِي واشتغل بِهِ أَيَّامًا فشق ذَلِك على أَخِيه وَعَلِيهِ لكَونه كَانَ خَالِي العذار وَلم يرض أَن يُوَافق أَخَاهُ فِي الِانْتِقَال لمَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَلم يرض أَخُوهُ أَن يُوَافقهُ فِي الِاشْتِغَال بِفقه الشَّافِعِي فَشَاور فِي ذَلِك بعض أكَابِر عُلَمَاء الْجَامِع قَالَ فَأَشَارَ لشَيْخِنَا بِأَن يكْتب رقْعَة بواقعة الْحَال ويلقي الرقعة على قبر الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَأَن يجلس هُنَاكَ فَكتب رقْعَة وَتوجه بهَا فألقاها وَجلسَ فَأَخَذته سنة من النّوم فرآى الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَهُوَ يَقُول كلنا على هدى فجَاء وَأخْبر الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بذلك فَقَالَ لَهُ هَذِه إجَازَة من الإِمَام بِأَن توَافق أَخَاك فِي الْقِرَاءَة على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَوَافَقَ أَخَاهُ وجد واجتهد ودأب فِي تَحْصِيل الْعُلُوم وَأَخذهَا عَن أَهلهَا وفَاق أَخَاهُ ولازم الشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد النحريري الْحَنَفِيّ علام الْأَزْهَر فِي فقه الْحَنَفِيَّة وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح الْكَنْز للعيني مرّة وَأُخْرَى لم تتمّ وغالب صدر الشَّرِيعَة وَمثله الْأَشْبَاه والنظائر وَجُمْلَة من شرح الْقطر للْمُصَنف وَجُمْلَة كَبِيرَة من تَبْيِين الْحَقَائِق وَالِاخْتِيَار شرح الْمُخْتَار وَابْن ملك على الْمجمع والسراجية مَعَ شرحها للسَّيِّد وَشرح الرحبية(2/136)
للشنشوري وَغَيرهَا من الْكتب وَكَانَ أخص مشايخه ولازمه مُدَّة إِقَامَته بِمصْر حَتَّى إِن النحريري كَانَ لَهُ خلْوَة بالبرقوقية فأنزله هُوَ وأخاه فِيهَا وَكَانَ يَأْتِي إِلَيْهِمَا بهَا كثيرا وَكَانَ يَجْعَل لَهما درسا خَاصّا غير درسه الْعَام الَّذِي بِجَامِع الْأَزْهَر وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ من أجلاء الْعلمَاء الجنفية الْعَلامَة مُحَمَّد بن مُحَمَّد سراج الدّين الحانوتي صَاحب الفتاوي الْمَشْهُورَة قَرَأَ عَلَيْهِ دروسا من كنز الدقائق وَأَجَازَهُ فِي أواسط الْمحرم سنة تسع بعد الْألف وَقَرَأَ على الشَّيْخ الإِمَام أَحْمد بن مُحَمَّد أَمِين الدّين بن عبد العال فِي تَقْسِيم شرح الْكَنْز للزيلعي وَكتب لَهُ إِجَارَة بِخَطِّهِ وَهُوَ يروي الحَدِيث عَنهُ وَهُوَ عَن وَالِده عَن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا عَن الْحَافِظ ابْن حجر وَقَرَأَ الْأُصُول على الْعَلامَة مُحَمَّد ابْن بنت مُحَمَّد وَقَرَأَ على الشَّيْخ مُحَمَّد بن بنت الشلبي والْحَدِيث عَن الْعَالم الْجَلِيل أبي النجا سَالم السنهوري مُحدث الْأَزْهَر والقراآت على مقري زَمَانه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن البهني وَأخذ النَّحْو عَن نادرة زمانة أبي بكر الشنواني وَعَن الشَّيْخ سُلَيْمَان ابْن عبد الدَّائِم البابلي وَكَانَ الشَّيْخ إِبْرَاهِيم اللَّقَّانِيّ رفيقهم على الشنواني إِذا فرغ من قِرَاءَته عَلَيْهِ عمل لَهُ درسا فيحضره أَيْضا وَأقَام بِمصْر بالجامع الْأَزْهَر فِي أَخذ الْعلم سِتّ سِنِين وَحصل كتبا بِخَطِّهِ وَكتب لغيره وَأفْتى وَهُوَ بِجَامِع الْأَزْهَر وَكتب لَهُ أجَازه الشَّيْخ التحريري وَشَيْخه ابْن عبد العال عِنْد توجهه فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَقدم بَلْدَة الرملة فِي ذِي الْحجَّة أَوَاخِر هَذِه السّنة وَاجْتمعَ فِي عودة بعلماء غَزَّة وبحاكمها الْأَمِير أَحْمد بن رضوَان فَأكْرمه وَحصل لَهُ مِنْهُ أنعام واعتنى بِهِ وَأقَام بِبَلَدِهِ ثمَّ أَخذ فِي الْأَقْرَاء والتعليم والإفتاء والتدريس وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر واشتهر علمه وَبعد صيته وشاعت فَتَاوَاهُ فِي الْآفَاق ووردت إِلَيْهِ الأسئلة من كل جانت حَتَّى إِنَّه كَانَ لَا يكَاد يفرغ من الأشغال بالفتوى لِكَثْرَة مَا يرد عَلَيْهِ فِيهَا الْجَوْدَة كِتَابَته عَلَيْهَا وَأخذ فِي غرس الكروم ومباشرتها بِيَدِهِ حَتَّى أَنه غرس ألوفا من الْأَشْجَار الْمُخْتَلفَة من الْفَوَاكِه والتين وَالزَّيْتُون وَحصل أملاكا وعقارات غالبها من بنائِهِ وَكَانَ يَأْكُل مِنْهَا وَكَسبه من حل وَلم يتَعَرَّض من الْجِهَات والأوقاف لشَيْء وَفِي ذَلِك يَقُول
(بورك لي فِي المرّ والمسحاة ... فَمَا هُوَ الملجئ للجهات)
(وَهِي إِذا قَامَ عَلَيْهَا صَدَقَة ... وللذي فرط نَار محرقة)
وَكَانَت خبراته عَامَّة على أَهله واتباعه وجيرانه بل على أهل بَلَده وانتفعوا بِهِ دينا(2/137)
وَدُنْيا ورمم كثيرا من جوامعها ومساجدها ومدافن الْأَوْلِيَاء وَحصل من الْكتب شَيْئا كثيرا مَا ينوف عَن ألف ومئتي مُجَلد غالبها من نفائس الْكتب ومشاهيرها من كل علم وَكَانَ عِنْده مِنْهَا نسخ مكررة وانتفع بِهِ خلق لَا يُحصونَ وَكَانَت الوزراء والأمراء والموالي وَالْعُلَمَاء والمشايخ يسعون إِلَيْهِ وعظمت بركته وَعم نَفعه وَكثر أَخذ النَّاس عَنهُ وغالب من أَخذ عَنهُ اكابر النَّاس وأجلاؤهم مِنْهُم الموَالِي وَالْعُلَمَاء الْكِبَار والمفتون والمدرسون وَأَصْحَاب التآليف والمشاهير وقصده النَّاس من الأقطار الشاسعة للأخذ عَنهُ وَطلب الْإِجَازَة مِنْهُ فَمن أَخذ عَنهُ وَلَده الْعَلامَة محيي الدّين الْآتِي ذكره وَمَات فِي حَيَاة وَالِده وَالسَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد الْأَشْعَرِيّ مفتي الشَّافِعِيَّة بالقدس وَمن أهل الْقُدس الْعَلامَة السَّيِّد عبد الرَّحِيم بن أبي اللطف مفتي الْحَنَفِيَّة بهَا والعلامة مُحَمَّد بن حَافظ الدّين السروري والفاضل يُوسُف بن الشَّيْخ رَضِي الدّين اللطفي خطيب الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَمن أهل غَزَّة الْعَلامَة عمر المشرقي مفتي الْحَنَفِيَّة بهَا وَالشَّيْخ عَليّ مفتي الشَّافِعِيَّة وَأخذ عَنهُ غَالب عُلَمَاء دمشق مِنْهُم من رَحل إِلَيْهِ وَمِنْهُم من استدعاه مِنْهُم الْعَالم الْهمام السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد كَمَال الدّين بن حَمْزَة النَّقِيب وَأَوْلَاده الثَّلَاثَة السَّيِّد عب الرَّحْمَن وَالسَّيِّد عبد الْكَرِيم وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم رحم الله مِنْهُم ماضين أولين وَأبقى آخَرين آخَرين والعلامة الْفَقِيه مُحَمَّد عَلَاء الدّين ابْن عَليّ الحصكفي مفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق والعلامة السَّيِّد مُحَمَّد بن عجلَان النَّقِيب وَغَيرهم وَمن أهل الْحَرَمَيْنِ الْعَالم الْعُمْدَة عِيسَى بن مُحَمَّد الثعالبي المغربي نزيل مَكَّة والعلامة الْمُحَقق الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السُّوسِي المغربي نزيل مَكَّة وَفَارِس حلبة البراعة إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الخياري الْمدنِي وَغَيرهم وَمن أهل الرّوم الْفَاضِل الْمَشْهُور اللوذعي مصطفى باشا ابْن المرحوم الْوَزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا الكوبري وَطلب الْإِجَازَة مِنْهُ لِأَخِيهِ الصَّدْر الْأَعْظَم أَحْمد باشا عِنْد مروره بالرملة فِي شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَمِنْهُم ابْن عَمه الْفَاضِل والمحقق حُسَيْن جلبي وَمن كَانَ فِي صحبتهم من الْفُضَلَاء وقرأوا عَلَيْهِ دروسا فِي الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول وَأَجَازَ الْجَمِيع وَأخذ عَنهُ من المغاربة الشَّيْخ الإِمَام الْعُمْدَة الرحلة الْمُفَسّر الْمُحدث النَّحْوِيّ صَاحب التصانيف يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عِيسَى بن أبي البركات شَارِح خَلِيل الجزائري الشاوي المغربي حَال توجهه إِلَى الرّوم وَهُوَ آخر من أجَازه موفيهم الْعَالم الْعَامِل سَيِّدي عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر العياشي والفاضل الْكَامِل(2/138)
سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بن سَيِّدي مُحَمَّد العياشي الْوَلِيّ الْمَشْهُور سُلْطَان الغرب وَغَيرهم وانتفع بهم نَاس فَألْحق الأصاغر بالأكابر والأحفاد بالأجداد وَكَانَ سَمحا بِالْإِجَازَةِ مَا طلبَهَا أحد مِنْهُ ورده بل كل من طلبَهَا مِنْهُ يُجِيزهُ أما بِالْكِتَابَةِ وَأما بِاللِّسَانِ حَتَّى أَنه أجَاز أهل عصره وَكَانَ حَرِيصًا على إِفَادَة النَّاس وجبر خواطرهم مكرم للْعُلَمَاء وطلبة الْعلم غيورا عَلَيْهِم ناصراً لَهُم دافعا عَنْهُم مَا اسْتَطَاعَ وَكَانَ معتدل الطول شثن الْأَعْضَاء والأنامل أَبيض بياضه مشرب بحمرة ذَا شيبَة حَسَنَة وهيئة مستحسنة لم ير النَّاظر أبهى مِنْهُ وَجها من اجْتمع بِهِ لَا يكَاد ينساه لِكَثْرَة تواضعه ولين جَانِبه وَحسن مصاحبته وَكَثْرَة فَوَائده وفصاحة مَنْطِقه وإكرامه للوارد عَلَيْهِ ومجلسه مَحْفُوظ من الْفُحْش والغيبة لَا يخلى أوقاته من الْكِتَابَة أَو الإفادة أة الْمُرَاجَعَة للمسائل وتحريرها صَادِق اللهجة ذَا فراسة إيمانية وَحِكْمَة لقمانية متين الدّين عَظِيم الهيبة تهابه الْحُكَّام من الْقُضَاة وَأهل السياسة وَكَانَت الرملة فِي زَمَنه أعدل الْبِلَاد وللشرع بهَا ناموس عَظِيم وَكَذَا فِي غَالب الْبِلَاد الْقَرِيبَة مِنْهَا فَإِنَّهُ كَانَ إِذا حكم على إِنْسَان بِغَيْر وَجه شَرْعِي جَاءَهُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِصُورَة حجَّة القَاضِي قيفتيه بِبُطْلَانِهِ فنتقذ فتواه وَقل أَن تقع وَاقعَة مشكلة فِي دمشق أَو فِي غَيرهَا من المدن الْكِبَار إِلَّا ويستفتي فِيهَا مَعَ كَثْرَة الْعلمَاء والمفتين وَكَانَت أَعْرَاب الْبَوَادِي إِذا وصلت إِلَيْهِم فتواه لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا مَعَ أَنهم لَا يعْملُونَ بِالشَّرْعِ فِي غَالب أُمُورهم وَالْحَاصِل أَنه حاتمة الْعلمَاء الْكِبَار وَمَا ذكر من أَحْوَاله بِالنِّسْبَةِ إِلَى جلالة قدره وعلو شَأْنه قَطْرَة من بَحر وشذرة من عقد وَكَانَت وِلَادَته فِي أَوَائِل شهر رَمَضَان الْمُعظم من شهور سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد قريب الْفجْر السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمَكَان بمحلة الباشقردي قَرِيبا من مدفن الشَّيْخ ابْن عبد الله مُحَمَّد البطايحي رَحمَه الله تَعَالَى من جِهَة الْقبْلَة بِوَصِيَّة كَانَت صدرت مِنْهُ وَبني عَلَيْهِ وَلَده نجم الدّين قبَّة والعليمي بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء وَكسر الْمِيم هَذِه النِّسْبَة إِلَى سَيِّدي عَليّ بن عليم الْوَلِيّ الْمَشْهُور والفاروقي نِسْبَة إِلَى الْفَارُوق أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ صَحَّ نِسْبَة ابْن عليم إِلَيْهِ والأيوبي نِسْبَة إِلَى بعض أجداده دون ابْن عليم رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الدَّال الْمُهْملَة)(2/139)
السَّيِّد دَاوُد بن سُلَيْمَان بن علوان بن نور الدّين بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن ولي بن عبد الْوَهَّاب بن عَليّ بن الْوَلِيّ الْعَارِف السَّيِّد نَفِيس الرحماني ابْن مُحَمَّد بن حيدر بن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن بن مُحَمَّد الأشتر ابْن عبد الله الثَّالِث ابْن عَليّ أبي الْحسن الْأَكْبَر ابْن عبد الله الْأَصْغَر الثَّانِي ابْن عَليّ الصَّالح ابْن عبد الله الْأَعْرَج ابْن الْحُسَيْن بن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِم الرحماني الشَّافِعِي الْمصْرِيّ السَّيِّد الْفَاضِل الْعلم الْعَامِل كَانَ من أجلاء الْمَشَايِخ الملازمين لإقراء الْعلم والإفتاء والتدريس بالجامع الْأَزْهَر وَمن الْمَشْهُورين بِالدّينِ المتين والورع وَالْعقل الرصين أَخذ عَن الشَّمْس مُحَمَّد الشَّوْبَرِيّ وعامر الشبراوي وسلطان المزاحي وَعلي الشبراملسي وَمُحَمّد البابلي وَغَيرهم وبرع فِي سَائِر الْفُنُون وَأَجَازَهُ شُيُوخه وَألف كتبا عديدة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْجلَال الْمحلي وحاشية على شرح التَّحْرِير وحاشية على شرح أبي شُجَاع لِابْنِ قَاسم الغزى وحاشية على شرح الشذور وحاشية على شرح الْقطر لِابْنِ هِشَام وحاشية على شرح السنوسية وَله كتاب تحفة أولي الْأَلْبَاب والجواهر السّنيَّة فِي أصُول طَريقَة الصُّوفِيَّة وتحفة السّمع وَالْبَصَر بصادق الْخَبَر ومناسك وَغير ذَلِك من الرسائل والكتب وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين والرحماني نِسْبَة إِلَى محلّة عبد الرَّحْمَن بالبحيرة من قرى مصر وَالله تَعَالَى أعلم
الْحَكِيم دَاوُد بن عمر البصيراد نطاكي نزيل الْقَاهِرَة الْحَكِيم الطَّبِيب الْمَشْهُور رَأس الْأَطِبَّاء فِي زَمَانه وَشَيخ الْعُلُوم الْحكمِيَّة وأعجوبة الدَّهْر ذكره أَبُو الْمَعَالِي الطالوي فِي سانحانه وَأطَال فِي توصيفه ثمَّ قَالَ وَقد سَأَلته عَن مسْقط رَأسه ومشتعل نبراسه فَأخْبر أَنه ولد بانطاكية بِهَذَا الْعَارِض وَلم يكن لَهُ بعد الْولادَة بِعَارِض قَالَ ثمَّ إِنِّي بلغت من السن عدد سيارة النُّجُوم وَأَنا لَا أقدر على أَن أنهض وَلَا أقوم لعارص ريح تحكم فِي الأعصاب منع قوائمي من حَرَكَة الإنتصاب وَكَانَ وَالِدي رَئِيس قَرْيَة سَيِّدي حبيب النجار لَهُ كرم وخيم وَطيب نجار فَاتخذ قرب مَزَار سَيِّدي حبيب رِبَاطًا للواردين وَبني فِيهِ حجرات للْفُقَرَاء والمجاورين ورتب لَهَا فِي كل صباج من الطَّعَام مَا يحملهُ إِلَيْهَا بعض الخدام وَكنت أحمل فِي كل يَوْم إِلَى صحن الرِّبَاط فأقيم فِيهِ سَحَابَة يويمي ويعاد بِي إِلَى منزل وَالِدي عِنْد نومي وَكنت أذذاك قد حفظت الْقُرْآن ولقنت مُقَدمَات تثقيف اللِّسَان(2/140)
وَأَنا لَا أفتر فِي تِلْكَ الْحَال عَن مُنَاجَاة قيم الْعَالم فِي سري ومبدع الْكل فِيمَا إِلَيْهِ تؤول عَاقِبَة أَمْرِي فَبينا أَنا كَذَلِك إِذا بِرَجُل جَاءَ من أقْصَى الْمَدِينَة يسْعَى كَأَنَّهُ ينشد ضَالَّة أَو أضلّ الْمَسْعَى فَنزل من الرِّبَاط بساحته وَقضى فِيهِ أَثوَاب سياحته فَإِذا هُوَ من أفاضل الْعَجم ذُو قدر منيف يدعى بِمُحَمد شرِيف فَبعد أَن ألْقى فِيهِ عَصا التسيار وَكَانَ لَا يألف منزلا كَالْقَمَرِ السيار استأذنه بعض المجاورين فِي الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وابتدأ فِي بعض الْعُلُوم الإلهية فَكنت أسابقه إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى مَا رأى مني استخبر مِمَّن هُنَالك عني فأجبته وَلم يَك غير الدمع سَائِلًا ومجيبا فَعِنْدَ ذَلِك اصْطنع لي دهنا مسدني بِهِ فِي حر الشَّمْس ولفني بلفافة من فرقي إِلَى قدمي حَتَّى كذت أفقد عَن الْحس وتكرر مِنْهُ ذَلِك مرَارًا من غير فَاضل فمشت الْحَرَارَة الغريزية فِي كالحميا فِي المفاصل فبعدها شدّ من وثاقي وفصدني من عضدي وساقي فَقُمْت بقدرة لوَاحِد الْأَحَد بنفسي لَا بمعونة أحد وَدخلت الْمنزل على وَالِدي فَلم يَتَمَالَك سُرُورًا وانقلب إِلَى أَهله فَرحا مَسْرُورا فضمني إِلَى صَدره وسألني عَن حَالي فَحَدَّثته بِحَقِيقَة مَا جرى لي فَمشى من وقته إِلَى الْأُسْتَاذ وَدخل حجرته وشكر سَعْيه وأجزل عطيته فَقبل مِنْهُ شكره واستعفاه بره وَقَالَ إِنَّمَا فعلت ذَلِك لما رَأَيْت فِيهِ من الْهَيْئَة الاستعدادية لقبُول مَا يلقى إِلَيْهِ من الْعُلُوم الْحَقِيقِيَّة فابتدأت عَلَيْهِ بِقِرَاءَة الْمنطق ثمَّ اتبعته بالرياضي فَلَمَّا تمّ شرعت فِي الطبيعي فَلَمَّا أكملت شَرّ أَبَت نَفسِي لتعلم اللُّغَة الفارسية فَقَالَ يَا بني إِنَّهَا سهلة لكل أحد وَلَكِنِّي أفيدك اللُّغَة اليوناينة فَإِنِّي لَا أعلم الْآن على وَجه الأَرْض من يعرفهَا أحد غَيْرِي فأخذتها عَنهُ وَأَنا بِحَمْد الله الْآن فِيهَا كَهُوَ إِذْ ذَاك ثمَّ مَا برح أَن سَار كالبدر يطوي الْمنَازل لدياره وانقطعت عَنى بعد ذَلِك سيارة أخباره ثمَّ جرت الأقدار بِمَا جرت وخلت الديار من أَهلهَا وأقفرت بتنكرها عَليّ لانتقال وَالِدي واعتقال مَا أحرزته من طريفي وتالدي فَكَانَ ذَلِك دَاعِيَة المهاجرة لديار مصر والقاهرة فَخرجت عَن الوطن فِي رفْقَة كرام لؤم بعض المدن من سواحل الشَّام حَتَّى إِذا صرت فِي بعض ثغورها المحمية دعتني همة علية أَو علوِيَّة أَن أصعد مِنْهُ جبل عَامله فصعدته مَنْصُوبًا على الْمَدْح وَكنت عَامله وَأخذت عَن مشايخها مَا أخذت وبحثت مَعَ فضلائها فِيمَا بحثت ثمَّ ساقتني الْعِنَايَة الإلهية إِلَى أَنِّي دخلت حمى دمشق المحمية فاجتمعت بِبَعْض علمائها من مَشَايِخ الْإِسْلَام كَأبي الْفَتْح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن(2/141)
عبد السَّلَام وكشمس علومها الْبَدْر الْغَزِّي العامري ذَلِك الإِمَام وَالشَّيْخ عَلَاء الدّين الْعِمَادِيّ ثمَّ لم ألبث أَن هَبَطت مصر هبوط آدم من الْجنَّة لما وَجدتهَا كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب ملاعب جنه فَكَأَنَّهَا مغاني الشّعب وَأَنا المعني فِيهَا بقوله
(وَلَكِن الْفَتى الْعَرَبِيّ فِيهَا ... غَرِيب الْوَجْه وَالْيَد وَاللِّسَان)
تنبو عَن قبُول الْحِكْمَة فِيهَا طباع الرِّجَال نبو قيناتهم الحسان لحى شيب القذال ترى نفرة أحدهم عَن كمالهم السرمد نفرة الظلام رأى الظلام فجود ثمَّ تمثل بقول الْقَائِل
(مَا مقَامي بِأَرْض نحلة إِلَّا ... كمقام الْمَسِيح بَين الْيَهُود)
(أَنا فِي أمة تداركها ... الله غَرِيب كصالح فِي ثَمُود)
هَذَا مَا طارحني بِهِ فِي بعض مطارحاته وحَدثني فِي جملَة مسامراته وَكَانَ فِيهِ دعابة يؤنس بهَا جليسه كَيْلا يعرف الوحشة أنيسه إِلَى حسن سجايا كالرياض بكتها الأمطار فَضَحكت ثغور أقاحها عَن باسم الْأَنْوَار وكرم نجار وَطيب وخيم تعرف فِي وَجهه نَضرة النَّعيم وَأما فرقه من الْمعَاد وخشيته من رب الْعباد فَلم ير لغير من أهل هَذَا الطَّرِيق وَأَصْحَاب أُولَئِكَ الْفَرِيق وَكَثِيرًا مَا يتَمَثَّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وهما لعبد الله طَاهِر بن الْحُسَيْن
(الْأُم تطيلي العتب فِي كل سَاعَة ... فَلم لَا تملين القطيعة والهجرا)
(رويدك إِن الدَّهْر فِيهِ كِفَايَة ... لتفريق ذَات الْبَين فانتظري الدهرا)
وَكَانَ إِذا سُئِلَ عَن شَيْء من الْفُنُون الْحكمِيَّة والطبيعية والرياضية أمْلى السَّائِل فِي ذَلِك مَا يبلغ الكراسة والكراستين كَمَا هُوَ مَشْهُور مثل ذَلِك عَن الشَّيْخ الرئيس أبي عَليّ بن الْحُسَيْن فَمن ذَلِك مَا شاهدته وَهُوَ بحجرته الظَّاهِرِيَّة وَقد سَأَلَهُ رجل عَن حَقِيقَة النَّفس الإنسانية فأملى على السَّائِل رِسَالَة عَظِيمَة فِي ذَلِك وعرضها عَلَيْهِ وَله من التآليف والرسائل والإشعار المزرية بروض الخمائل مَا هُوَ بأيدي النَّاس مألوف عِنْد أربابه من الْفُضَلَاء مَعْرُوف فَمن ذَلِك الْكتاب الَّذِي صنفه وَسَماهُ بتذكرة أولي الْأَلْبَاب وَالْجَامِع للعجب العجاب جمع فِيهَا الطِّبّ وَالْحكمَة وَهِي بأيدي النَّاس شهيرة ثمَّ احتصرها لقُصُور الهمم فِي مُجَلد وَله كتاب الْبَهْجَة فِي جلد والدرة المنتخبة فِيمَا صَحَّ من الْأَدْوِيَة المجربة وَله رِسَالَة فِي الْحمام ألفها باسم الْأُسْتَاذ الْبكْرِيّ وَشرح قصيدة النَّفس الْمَشْهُورَة للشَّيْخ الرئيس ابْن سينا وَهُوَ(2/142)
شرح فصل فِيهِ حَقِيقَة النَّفس وجوهرها النفيس يُرْضِي السَّائِل وان كَانَ هُوَ الشَّيْخ الرئيس وَله قِطْعَة منظومة فِي هَذَا الْمَعْنى تشعر باعتراض فِيهَا على الشَّيْخ وَهِي
(من بَحر أنوار الْيَقِين بحسنها ... فلوصل اَوْ فصل تنوب كَمَا ادّعى)
(أَو للكمال فهيكل لَا ترتضى ... للمطلق الثَّانِي يَصح لأَرْبَع)
(هبه يَصح فقدره من أوج مَا ... قدست يكمل بالحضيض البلقع)
(تالله مَا هَبَطت وَلَكِن أهبطت ... فبقسر أَو بِالِاخْتِيَارِ لمن يعي)
(وَعَلَيْهِمَا تتبدد الأحيان أَو ... تفنى فَتدخل فِي الْمحل المفقع)
وَكَانَت قصيدة الْحَكِيم الْفَاضِل والفيلسوف الْكَامِل أبي عَليّ الْحُسَيْن ابْن سطر الْبَغْدَادِيّ الَّتِي خَاطب بهَا الْفلك وتشتمل على مبَاحث الْحِكْمَة وَأكْثر مسَائِل الفلسفة وَهِي أبدع الشّعْر وأعذبه وأبلغ النّظم ومستعذبه كثيرا مَا يلهج يإيرادها ويعتني فِي غَالب أوقاته بإنشادها وَهِي
(بِرَبِّك أَيهَا الْفلك الْمدَار ... أتصد ذَا الْمسير أم اضطرار)
(مسيرك قل لنا فِي أَي شَيْء ... فَفِي أفهامنا مِنْك انبهار)
(وفيك نرى الْقَضَاء فَهَل فضاء ... سوى هَذَا الفضاء بِهِ تدار)
(وعندك ترتع الْأَرْوَاح أم هَل ... مَعَ الأجساد يُدْرِكهَا الْبَوَار)
(وموج ذَا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع لَهُ أوار)
(وفيك الشَّمْس رَافِعَة شعاعا ... بأجنحة قوادمها قصار)
(وطوق فِي النَّحْو من اللَّيَالِي ... هِلَال أم يَد فِيهَا سوار)
(وشهب ذِي الخواطف أم ذبال ... عَلَيْهَا المرخ يقْدَح والعفار)
(وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بَينه للحجيج الغزار)
(تمر بواديا لَيْلًا وتطوي ... نَهَارا أمثل مَا طوى النَّهَار)
(فكم بصفائها صدأ البرايا ... وَمَا يصد لَهَا أبدا غرار)
(تباري ثمَّ تحسر راجعات ... وتكنس مثل مَا كنس الصوار)
(فَبينا الشرق يقذفها صعُودًا ... تلقاها من الغرب انحدارا)
(عَليّ ذَا مَا مضى وَعَلِيهِ تمْضِي ... طوال مني وآجال قصار)
(وَأَيَّام تعرفنا مداها ... لَهَا أنفاسنا أبدا شفار)
(ودهر ينثر الْأَعْمَار نثرا ... كَمَا للغصن بالورق انتثار)(2/143)
(وَدُنْيا كلما وضعت جَنِينا ... عداهُ من نوائبها ظؤار)
(هِيَ العشواء مَا خبطت هشيم ... هِيَ العجماء مَا جرحت جَبَّار)
(فَمن يَوْم بِلَا أمس ليَوْم ... بِغَيْر غَد إِلَيْهِ مَا يسَار)
(وَمن نفين فِي أخدُود ... لروح الْمَرْء فِي الْجِسْم انتشار)
وَكَانَ كثير التمثل بقول الشَّيْخ الرئيس أبي عَليّ بن سينا
(عُطَارِد قد وَالله طَال ترددى ... مسَاء وصبحاً كي أَرَاك فأغنما)
(فها أَنا فامدد لي قوى أدْرك المنى ... بهَا والعلوم الغامضات تكرّماً)
(ووقني الْمَحْذُور والشركله ... بِأَمْر مليك خَالق الأَرْض والسما)
قلت وَله فِي التَّذْكِرَة فصل عقده لدَعْوَة الْكَوَاكِب وَهُوَ الَّذِي فتح عَلَيْهِ بَاب الوقيعة حَتَّى استهدفه كثير من النَّاس بسهام الذَّم يذكر مُنَاجَاة الْكَوَاكِب وَالسُّجُود لَهَا فان وَقع فِي وهمك شَيْء من الْإِنْكَار فطالع ذَلِك الْفَصْل من أوّله تَجدهُ قد قَالَ وَمِنْهُم من يتَوَصَّل إِلَى خطاب الْأَرْوَاح بدعوات الْكَوَاكِب ودخنها وَفِيه إخلال بنواميس شرعنا لَا يملكهَا إِلَّا من يخرقه وحاشا أَن مثل هَذَا الْأُسْتَاذ يرضى لنَفسِهِ خرق الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا ذكر مثل هَذَا فِي كِتَابه ليَكُون مُشْتَمِلًا على فنون شَتَّى نعم قد رَأَيْت مَدين القوصوني قد تَرْجمهُ وَجزم بِأَنَّهُ شيعي وَعبارَته فِي حَقه هَكَذَا وَكَانَ شِيعِيًّا مُخَالفا لعقيدة الأشعرية وهم الَّذين يثبتون لله صِفَات قديمَة ويثبتون الْإِمَامَة بالإتفاق وَالنَّص وموافقا لعقيدة الشِّيعَة وهم الَّذين بَايعُوا عليا وَقَالُوا بإمامته نصا وَوَصِيَّة وَالْحق أَحَق أَن يتبع فِي بَيَان مُعْتَقد الْإِنْسَان وَمَا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ فقد قَالَ الإِمَام السُّبْكِيّ فِي أول طبقاته وَهَذَا شَيخنَا الذَّهَبِيّ من هَذَا الْقَبِيل لَهُ علم وديانة وَعِنْده على أهل السّنة تحمل مفرط فَلَا يجوز أَن يعْتَمد عَلَيْهِ وَهُوَ شَيخنَا ومعلمنا غير أَن الْحق أَحَق أَن يتبع وَقد وصل من التعصب المفرط إِلَى حد يستحيا مِنْهُ وَأَنا أخْشَى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة من غَالب عُلَمَاء الْمُسلمين وأئمتهم الَّذين حملُوا لنا الشَّرِيعَة النَّبَوِيَّة فَإِن غالبهم أشاعرة وَهُوَ إِذا وَقع بأشعري لَا يبْقى وَلَا يذر وَالَّذِي أعتقده أَنهم خصماؤه يَوْم الْقِيَامَة فَالله الْمَسْئُول أَن يُخَفف عَنهُ وَأَن يشفعهم فِيهِ انْتهى وَصَاحب التَّرْجَمَة من هَذَا الْقَبِيل فكم لَهُ من إعتقادات فَاسِدَة وأقاويل كَاذِبَة بَاطِلَة مِنْهَا قَوْله فِي شرح منظومة الشَّيْخ ابْن سينا الَّتِي أَولهَا هَبَطت اليك من الْمحل الأرفع فِيمَا يتَعَلَّق بخرق الأفلاك مَا نَصه أَن جَوَاز الْخرق محَال لَا يُقَال يلْزم عَلَيْهِ تَكْذِيب صَاحب(2/144)
الشَّرْع فِي دَعْوَى الْمِعْرَاج لعدم جَوَازه بِدُونِ ذَلِك لانا نقُول هَذَا شَيْء تَقول بِهِ سخفاء الْعُقُول من المتشرعين فَإِن الْمِعْرَاج إِن لم يكن مَشْرُوطًا بِعَدَمِ جَوَاز الْخرق لم يكن إعجاز إِذا المعجز الخارق للْعَادَة والصعود إِلَى السَّمَاء يسْتَلْزم الْخرق فَلَو كَانَ جَائِزا لم يكن لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مزية على غَيره وَقد فرضناه مُنْفَردا عَن بني آدم كَافَّة بذلك هَذَا خلف انْتهى قلت قَالَ النَّسَفِيّ والمعراج برَسُول الله
فِي الْيَقَظَة بشخصه إِلَى السَّمَاء ثمَّ إِلَى مَا شَاءَ الله تَعَالَى من الْعلَا حَتَّى قَالَ السعد التَّفْتَازَانِيّ أَي ثَابت بالْخبر الْمَشْهُور حَتَّى إِن منكره يكون مبتدعا وإنكاره وإدعاء استحالته إِنَّمَا يتبنى على أصُول الفلاسفة وَإِلَّا فالخرق والالتئام على السَّمَوَات جَائِز والأجسام متماثلة يَصح على كل مَا يَصح على الآخر وَالله تَعَالَى قَادر على الممكنات كلهَا انْتهى هَذَا وَمَا يَقُوله هَذَا الزاعم فِي قَوْله تَعَالَى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا بل رَفعه الله إِلَيْهِ فِي حق سيدنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمَا يَقُول أَيْضا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي أخرجه القَاضِي عِيَاض فِي الشفا وَالْإِمَام مُسلم فِي صَحِيحه وَغَيرهمَا بالسند الْمُتَّصِل عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله
قَالَ ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل من قَالَ جِبْرِيل قيل وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد قيل وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ قد بعث إِلَيْهِ فَفتح لنا فَإِذا أَنا بِابْني الْخَالَة عِيسَى بن مَرْيَم وَيحيى بن زَكَرِيَّا فَعلم بِمَا ذكره فِي النَّص من كتاب الله تَعَالَى بِرَفْع سيدنَا عِيسَى وَالنَّص من حَدِيث رَسُول الله
إِنَّه وجده فِي السَّمَاء الثَّانِيَة فقد قَالَ الإِمَام النَّسَفِيّ ورد النُّصُوص كفر وَمِنْهَا قَوْله أَيْضا بعد مَا يطول ذكره نَاقِلا مَا فِي التَّنْزِيل عَن سيدنَا مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون فَقَالَ اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَهَذَا قَالَ يَعْنِي النَّبِي
لسيدنا عَليّ أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى فالمشاورة المشرفة للتَّخْيِير على مقامات النُّبُوَّة خلية عَن الْوَحْي الملكي لَا للتَّخْيِير فنبي أَمن من الْخَطَأ يحرض على الْإِصْلَاح ووصى لم ير عصمته إِلَّا الْخَواص يشاور على الرضى بأعمال الْأَنْبِيَاء هَل هَذَا الْأَمر الْأسر جلبته الْخلَافَة وحققته الألوهية إِذا كَانَ الْكفْر خِلَافه انْتهى فَانْظُر إِلَى هَذَا الِاعْتِقَاد الظَّاهِر الْفساد الَّذِي أوجب لَهُ مَا أوجبه لغيره الْمُخَالفين لَهُ وهم أهل السّنة مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة على خلَافَة أبي بكر وَكَيف وَقد قَالَ السعد التَّفْتَازَانِيّ بعد قَول الإِمَام النَّسَفِيّ وخلافتهم ثَابِتَة على هَذَا التَّرْتِيب يَعْنِي أَن الْخلَافَة بعد رَسُول الله
لأبي بكر ثمَّ لعمر ثمَّ لعُثْمَان ثمَّ(2/145)
لعَلي رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَذَلِكَ لِأَن الصَّحَابَة قد احجتوا يَوْم توفّي رَسُول الله
فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة وَاسْتقر رَأْيهمْ بعد الْمُشَاورَة والمنازعة على خلَافَة أبي بكر واجمعوا على ذَلِك وَبَايَعَهُ على على رُؤْس الْإِشْهَاد بعد توقف كَانَ مِنْهُ وَلَو لم تكن الْخلَافَة حَقًا لما اتّفق عَلَيْهَا لبصحابة ولنازعه عَليّ كَمَا نَازع مُعَاوِيَة ولاحتج عَلَيْهِم لَو كَانَ فِي حَقه نَص كَمَا زعمت الشِّيعَة فَكيف يتَصَوَّر فِي حق أَصْحَاب رَسُول الله
الإتفاق على الْبَاطِل أَو ترك الْعَمَل بِالنَّصِّ الْوَارِد انْتهى كَلَام السعد هَذَا وَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة أَيْضا فِي الشَّرْح الْمَذْكُور لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار وَلَا فَتى إِلَّا على قَامَ الْحصْر دَلِيلا على الْقصر كَانَ قصر قلب فَصَارَ كشف كرب إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي فَقَالَ أخلفني فَلَا خلاف فِي الْخلَافَة إِثْبَاتًا والنبوة محوا وَقَالَ لعمَّار إِلَى كم تَأْكُل الْخَبَر وتشرب المَاء فَقَالَ أهوَ الْيَوْم فَقَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ فبرز فَكَانَ مَا كَانَ وَكَذَلِكَ خرج لَيْلَة ابْن ملجم فِي السحر ينظر إِلَى السَّمَاء تلذذا بِمَا خصص بِهِ وَطَاعَة وَإجَابَة فَأكْثر من ذَلِك ثمَّ نهى عَن ردع إِلَّا وزة وَقَالَ هِيَ صوايح يتلوهن النوايح كَيفَ يزْدَاد يَقِينا من جَمِيع المسئلة وَالْجَوَاب وأحاط بِكُل شَيْء علما فَهُوَ وَالله الْكتاب وَتَعيهَا إِذن وَاعِيَة فَآمن مَعَه وَصلى لَا ثَالِث لَهما فَجَاءَت الْخلَافَة عَن ثَلَاث فَكَانَ هُوَ الرَّابِع أخرج الْخَطِيب عَن عبد بن حميد فِي التوريريات يَا عَليّ من لم يقل أَنَّك رَابِع الْخُلَفَاء فَعَلَيهِ لعنة الله لِأَن الله قَالَ لآدَم إِنِّي جاعلك فِي الأَرْض خَليفَة يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون أخلفني فِي قومِي ثمَّ قَالَ لَهُ يَوْم تَبُوك كن على مَا أَنا عَلَيْهِ حَتَّى أرجع فَقَالَ أَعلَى الصّبيان وَالنِّسَاء فَقَالَ أما ترْضى أَن تكون منى بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى الحَدِيث وَفِيه طول انْتهى وَهَذَا بعض مَا ذكره من الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام وَالله أعلم وَالسَّلَام فَتَأمل مَا فِيهِ عَن الْفساد وَالله لطيف بالعباد وَله من المؤلفات الشَّرْح الْمَذْكُور سَمَّاهُ الْكحل النفيس لجلاء عين الرئيس وَله غَايَة المرام فِي تَحْرِير الْمنطق وَالْكَلَام وَهَذَا الإسم للْإِمَام الْآمِدِيّ لَهُ كتاب سَمَّاهُ غَايَة المرام فِي علم الْكَلَام وَله نزهة الأذهان فِي إصْلَاح الْأَبدَان وَله زِينَة الطروس فِي أَحْكَام الْعُقُول والنفوس وَله الفية فِي الطِّبّ وَله نظم قانونجك وَله شرح على النّظم الْمَذْكُور وَله شرع على أَبْيَات السهروردي الَّتِي أَولهَا
(خلعت هيا كلهَا بجرعاء الْحمى ... وصبت لمغناها الْقَدِيم تشوّقاً)(2/146)
وَله مُخْتَصر أسواق الأشواق للبقاعي سَمَّاهُ تَزْيِين الْأَسْوَاق وَله رِسَالَة فِي الْهَيْئَة وَله كِفَايَة الْمُحْتَاج فِي علم العلاج قلت وَهَذِه زِيَادَة على تأليفه الَّتِي ذكرهَا الطالوي وَقد ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب فَقَالَ فِي وَصفه ضَرِير مَاله فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة نَظِير وطبيب مَاله فِي الْأَزْمِنَة الغابرة ضريب حَكِيم صفت من قذى الْخَطَأ موارد أنظاره وَصحت عَن غمام الأوهام آفَاق أفكاره حل عقد المشكلات بِمَا قَيده وبيض وَجه الْعُلُوم الرياضية بِمَا سوده بآثار تَقْتَضِي إِثْبَات محاسنه بالتخليد وَتَقْيِيد مآثره للتأبيد وَكَانَ ملازما لكتاب اخوان الصَّفَا وخلان الوفا للمجريطي ولكتابيه رُتْبَة الْحَكِيم وَغَايَة الْحَكِيم وَمن كتب الشَّيْخ القانون والشفا والنجاة وَالْحكمَة الشرقية والتعليقات ورسالة الأجرام السماوية والإشارات مَعَ شَرحه لنصير الدّين الطوسي وَللْإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ والمحاكمات بَينهمَا لقطب الدّين الرَّازِيّ وحواشيه للسَّيِّد وَمن كتب السهروردي الْمَشَارِق والمطارحات وَكتاب التلويحات وَشَرحه لهبة الله الْبَغْدَادِيّ وَكَانَ شرِيف مَكَّة يلهج بتذكاره ويستهدي من الْحجَّاج تفاريق أخباره وهزه الشوق على أَن استقدمه عَلَيْهِ واستحضره إِلَيْهِ ليجعل السماع عيَانًا وَالْخَبَر برهانا فَلَمَّا مثل بساحته طامعا فِي تَقْبِيل رَاحَته أَمر أَن يعرض عَلَيْهِ أحد حاضري مجْلِس أنسه ليختبر بذلك قُوَّة حدسه فمذ صافحت يَده يَد ذَلِك الجليس قَالَ هَذِه يَد دعى خسيس لَا يضوع مِنْهَا أرج النُّبُوَّة وَلَا يستنشق عرف الفتوة ثمَّ أَمر بعرضه على الْقَوْم وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى وصل إِلَى الشريف فَقبل يَده تَقْبِيل الْمُحب الْوَاجِد وأعجب من ذَلِك مَا أَخْبرنِي بِهِ من أَثِق بِهِ بِالْقَاهِرَةِ المعزية قَالَ كَانَ لَهُ حجرَة بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة اتخذها لإجتماعه بِالنَّاسِ ومداواة أَصْحَاب الباس فورد عَلَيْهِ فِي بعض الْأَيَّام رجل من الِاجْتِهَاد مجهر بِالسَّلَامِ فمذ سمع سَلَامه عرف مرامه وَقَالَ اذْهَبْ فَلَا شفى الله لَك عِلّة وَلَا برد الله لَك غله تشرب الْخمر وَتفعل لَك الْأَمر حَتَّى يحدثا لَك هَذَا الدَّاء وَتَأْتِي الضَّرِير تروم مِنْهُ الأدواء ثمَّ استتابه وشفاه من دائه بعد مَا أشفاه وَمَا فهم كنه علته الْأَمْن تحرّك شفته وعجائبه فِي هَذَا الْبَاب لَا تحصى وغرائبه لَا تستقصى وَقَالَ الشلي فِي تَارِيخه العقد عِنْدَمَا ذكره أَنه استدعاه الشريف حسن لبَعض نِسَائِهِ فَلَمَّا دخل قادته جَارِيَة وَلما خرجت بِهِ قَالَ للشريف إِن الْجَارِيَة لما دخلت بِي كَانَت بكرا وَلما خرجت بِي صَارَت(2/147)
ثَيِّبًا فَسَأَلَهَا الشريف وَأَعْطَاهَا الْأمان من المعاقبة فَأَخْبَرته أَن فلَانا استفضها قهرا فَسَأَلَهُ فاعترف بذلك وَحكى الشَّمْس البابلي الْمصْرِيّ أَن الْحَكِيم دَاوُد مر بِبَعْض الحارات الَّتِي يسكنهَا الضُّعَفَاء والفقراء فَسمع صَوت مَوْلُود حَال وِلَادَته فَقَالَ هَذَا صَوت بكري فتفحصوا عَن ذَلِك فوجدوه كَمَا قَالَ وَإِن بعض البكريين تزوج ببنت فَقير خُفْيَة وَوَافَقَ مُرُور صَاحب التَّرْجَمَة حَال وِلَادَتهَا بِالْوَلَدِ قلت وَمِمَّا ينْقل من غَرَائِبه وَلَا أَدعِي صِحَّته أَنه ورد إِلَى مَكَّة طَبِيب وَمَعَهُ حب قَابض فَرغب النَّاس فِيهِ واشتهر أمره فوصل خَبره إِلَى دَاوُد فجَاء إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن تركيب الْحبّ الْمَذْكُور فَأَجَابَهُ أَن شهرتك فِي الحذق تنبو عَن هَذَا السُّؤَال وَيَنْبَغِي لمثلك أَن يخبر بأجزائه إِذا أذاقه فَقَالَ لَهُ إِذا أَخْبَرتك هَل تصدقني وَلَا تخَالف على فِي شَيْء فأقسم لَهُ أَنه لايخالف عَلَيْهِ فِي شيئ فَقَالَ لَهُ كم عدد أَجْزَائِهِ فَقَالَ ثَلَاثُونَ فذاقه ثمَّ أَخذ يذكر الْأَجْزَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد والطبيب يصدقهُ على مَا يَقُول إِلَى أَن بَقِي جُزْء وَاحِد فاظهر الْعَجز عَن مَعْرفَته فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب لَا بُد وَأَن تمعن النّظر فِيهِ وتظهره فذاق حَبَّة وَتوقف حِصَّة ثمَّ قَالَ لَهُ أَن كَانَ وَلَا بُد فَهَذَا الْجُزْء مِمَّا لَا طعم لَهُ وَلَا رَائِحَة وَهُوَ الكهربا وَهِي مُبَالغَة بَالِغَة إِلَى إفراط وَلَوْلَا شهرتها عَنهُ كثيرا فِي الْأَلْسِنَة مَا ذكرتها نعم حكوا عَنهُ مَا هُوَ ألطف موقعا من هَذِه وَهِي أَن رجلا دخل عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَي شَيْء يقوم مقَام اللَّحْم فَقَالَ الْبيض فَغَاب عَنهُ سنة وجاءه فَرَآهُ منهمكا فِي تركيب يجمع أجزاءه فَقَالَ لَهُ بِأَيّ شَيْء يقلى فَقَالَ بالسمن وَهَذِه شَبيهَة بِقصَّة أبي الْعَلَاء المعري مَعَ المنازي لما أنْشدهُ بِالشَّام أبياتا فَقَالَ أَنْت أشعر من بِالشَّام ثمَّ اتّفق اجْتِمَاعهمَا بالعراق بعد سبع سِنِين فَأَنْشد المنازي أبياتا أخر فَقَالَ لَهُ وَمن بالعراق قريب من هَذِه مَا يحْكى ى عَن أبي الْعَلَاء أَيْضا أَنه كَانَ سَافر مَعَ رَفِيق لَهُ إِلَى جِهَة فمرا فِي طريقهما بشجرة فَلَمَّا قربا مِنْهَا قَالَ لَهُ رَفِيقه إياك وشجرة أمامك فا نَحن حَتَّى تجاوزها فَلَمَّا رَجَعَ من ذَلِك الطَّرِيق أَيْضا انحنى أَبُو الْعَلَاء لما قرب من مَكَان الشَّجَرَة ورفيقه ينظر إِلَيْهِ وَقد تجاوزنا الْحَد فِي الإطالة فلنرجع إِلَى تَتِمَّة الشَّيْخ دَاوُد فَنَقُول وَله شعر كثير لَكِن لم يذكرله الَّذين ترجموه إِلَّا أبياته الْمَشْهُورَة وَهِي
(من طول أبعاد ودهر جَائِر ... ومسيس حاجات وَقلة منصف)
(ومغيب ألف لَا اعتياض بِغَيْرِهِ ... شط الزَّمَان بِهِ فَلَيْسَ بمسعف)
(أوّاه لَو حلت لي الصَّهْبَاء كي ... أُنْثَى فأذهل عَن غرام متْلف)(2/148)
وَقد فحصت لَهُ عَن غير هَذِه الأبيات العينية الْمُتَقَدّمَة فَلم أظفر بِشَيْء وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من نَوَادِر الزَّمَان وأعاجيب الدوران وَكَانَت إِقَامَته بِمَكَّة دون السّنة وَمَات بهَا فِي سنة ثَمَان بعد الْألف هَكَذَا ذكره الشلي وَكَانَ مرض مَوته الإسهال عَن تنَاول عِنَب وَبَعْضهمْ يزْعم أَنه سم وَالله أعلم
درويش مُحَمَّد بن أَحْمد وَقيل مُحَمَّد أَبُو الْمَعَالِي الطالوي الأرتقي الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ أحد أَفْرَاد الدَّهْر ومحاسن الْعَصْر وَكَانَ ماهرا فِي كل فن من الْفُنُون مفرط الذكاء فصيح الْعبارَة منشئا بليغا حسن التَّصَرُّف فِي النّظم والنثر وَله كتاب سانحات دمى الْقصر جمع فِيهَا أشعاره وترسلاته وَهُوَ كتاب حسن الْوَضع متداول فِي أَيدي النَّاس ووالده رومي المحتد قدم إِلَى دمشق فِي صُحْبَة السُّلْطَان سليم وَكَانَ خَادِمًا لبَعض أَتْبَاعه فَتزَوج أم درويش مُحَمَّد وَهِي عنقًا بنت الْأَمِير عَليّ بن طالو وقطن مَعهَا بمحلة التَّعْدِيل من دمشق ثمَّ إِنَّه انْكَسَرَ عَلَيْهِ بعض مَال من ضَمَان أَمَانَة أقطاع كَانَت عَلَيْهِ فسارعن دمشق فَنَشَأَ وَلَده درويش مُحَمَّد فريدا وَأعْطى من أقطاع وَالِده حِصَّة يسيرَة وَفرغ عَنْهَا الآخر وَلزِمَ صَنْعَة السُّرُوج وَلم يطلّ مكثه بهَا حَتَّى جذبه الشهَاب أَحْمد بن الْبَدْر الْعزي إِلَيْهِ وَكَانَ توسم فِيهِ قابلية الْعلم وحبب إِلَيْهِ الطّلب وَلما ذاق حلاوة الْعلم أَشَارَ إِلَيْهِ بترك زِيّ الْجند وَلبس زِيّ الْعلمَاء ثمَّ صحب الْعَلامَة أَبَا الْفَتْح مُحَمَّد الْمَالِكِي فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَدَب والرياضي والمنطق وَالْحكمَة والتصوف وَغَيرهَا وَلَزِمَه مُدَّة مديدة وَأخذ عَن جمَاعَة من فضلاء الْعَجم الواردين إِلَى دمشق مِنْهُم الْمولى مُحَمَّد بن حسن المغاني وَلما أنزلهُ فِي مدرسة جده لأمه الْأَمِير عَليّ الْمَذْكُور وَقَرَأَ عَلَيْهِ حَاشِيَة الْمطَالع ومنلا زَاده فِي الْحِكْمَة وَغير ذَلِك وَأخذ التصوف عَن منلا غياث الدّين الشهير بمير مخدوم اللألائي التبريزي قَرَأَ عَلَيْهِ بِدِمَشْق مُقَدمَات الفصوص للشَّيْخ دَاوُد القيصري وَشرح الرباعيات للْمولى عبد الرَّحْمَن الجامي وَأخذ عَن الشَّيْخ سراج الدّين التبريزي نزيل مَكَّة المشرفة وَصَحبه بُرْهَة لما قدم من مَكَّة إِلَى دمشق فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ فرقة التصوف عَن الشَّيْخ مُحَمَّد النَّاشِرِيّ نزيل الْمَدِينَة المنورة وَإِمَام مَسْجِد قبَاء ثمَّ قَرَأَ الْفِقْه بعد وَفَاة شَيْخه أبي الْفَتْح على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على الشَّيْخ نجم الدّين مُحَمَّد البهنسي خطيب دمشق ومفتيها والمعاني وَالْبَيَان على الْعِمَاد الْحَنَفِيّ وَحضر مجَالِس التَّفْسِير عَليّ الْبَدْر الْعزي فِي تَفْسِيره بالتقوية وَالْجَامِع الْأمَوِي(2/149)
مَعَ مُلَازمَة وَلَده الشهَاب ثمَّ ولي تدريس الْمدرسَة الخانوتية دَاخل دمشق ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة قَاضِي الْقُضَاة الْمولى مُحَمَّد بن بُسْتَان حِين كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق فلازم خدمته وناب عَنهُ وَله فِيهِ مدائح كَثِيرَة ثمَّ ارتحل مَعَه إِلَى الرّوم وناب عَنهُ بهَا حِين ولي قضاءها وَلما ولي قَضَاء الْعَسْكَر بِأَنا طولي بَعثه إِلَى الشَّام قاما ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرّوم وَولي بهَا عدَّة مدارس ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَصَحب بهَا جمَاعَة من أَصْحَابه القدماء وَكَانَ يجْرِي بَينه وَبينهمْ مطارحات وترسلات فَمَا دَار بَينه وَبَين الْحسن البوريني أَن الْحسن نقل عَن الشَّيْخ الطَّيِّبِيّ بَيته الْمَشْهُور وَهُوَ
(وَلَا تضف شهر اللَّفْظ شهر ... إِلَّا الَّذِي أوّله رافادر)
فَمر بهم فِي المطالعة فِي حَوَاشِي الْكَشَّاف للسعد أَن إِضَافَة لفظ شهر إِلَى رَجَب مُمْتَنع فَقَالَ الطالوي يَنْبَغِي أَن يسْتَثْنى ذَلِك مِمَّا يَقْتَضِيهِ كَلَام الطَّيِّبِيّ فَقَالَ لَهُ البوريني بَادرُوا إِلَى ذَلِك فَقَالَ إِلَّا الْأَصَم فَهُوَ فِيهِ مُمْتَنع فَقَالَ الْحسن مجيزا لِأَنَّهُ فِيمَا رَوَوْهُ مَا سمع وَبِهَذَا عالي السعد الْمَنْع وَكتب إِلَيْهِ البوريني عقب مقاطعة صدرت بَينهمَا قَوْله
(يَا نَاسِيا من لم يزل ... فِي النَّاس يَتْلُو مننك)
(يَا حسنا أَفعاله ... كَيفَ تسوء حسنك)
فَرَاجعه بقوله
(ماسؤب يَوْمًا حسنى ... فِي النَّاس يَتْلُو منني)
(وَإِن تسؤ أَفعاله ... قابلتها بالْحسنِ)
وَوَقع لَهُ فِي ذَلِك الْأَثْنَاء وَهُوَ بِدِمَشْق أَن ابْن خَالَته الْأَمِير إِبْرَاهِيم الطالوي تولى الْإِمَارَة بِولَايَة نابلس فَتوجه مَعَه وَأَعْطَاهُ الْأَمِير خيلاً وَمَا لَا وزوده وودعه فنوجه إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر بهَا نَحْو سنة وَأخذ بهَا عَن الْعَلامَة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ وَالشَّمْس مُحَمَّد النحراوي الْبَصِير الْحَنَفِيّ وَشَيخ الشَّافِعِيَّة فِي عصره الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وَغَيرهم مِمَّن ذكره فِي كِتَابه السانحات وَعَاد من مصر إِلَى دمشق ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم واتصل بالمولى سعد بن حسن جَان معلم السُّلْطَان مُحَمَّد فَأكْرم مثواه بِنَاء على معرفَة حُقُوق أَبنَاء النِّعْمَة وأغنياء الْأَصَالَة خُصُوصا الجامعين إِلَى شرف النّسَب شرف الْأَدَب وامتدحه وولديه مُحَمَّدًا وأسعد بقصائد كَثِيرَة وَولي بعنايته مدارس عديدة بالروم إِلَى أَن وصل إِلَى مدرسة خير الدّين باشا بِخَمْسِينَ عثمانيا ثمَّ أعْطى مِنْهَا الْمدرسَة السليمانية بِدِمَشْق والإفتاء بهَا فورد إِلَى دمشق وَاسْتقر بهَا إِلَى(2/150)
أَن مَاتَ وَكَانَ على تماسك حَاله شاكيا لدهره مستزيدا الْقُدْرَة وَكَانَت أحلاقه متفاوته فَمَا مدح أحدا إِلَّا هجاه وَله فِي ذَلِك أَعَاجِيب كَثِيرَة وَهُوَ فِي كل أسلوب من أساليب الشّعْر كثير الْملح كَأَنَّمَا يصدر شعره عَن طباع المفلقين من الشُّعَرَاء وَله القصيدة الَّتِي سَارَتْ فِي الْبِلَاد وطارت فِي الْآفَاق لحسن ديباجتها وَكَثْرَة وفقها وَكَانَ أرسلها من الرّوم إِلَى أَصْحَابه الْعلمَاء والأمراء المقيمين بِدِمَشْق أَولهَا
(أنسيمة الرَّوْض المطير ... بالعهد من زمن السرُور)
ولطولها وشهرتها لم اذْكُرْهَا وعَلى نمطها وَقعت قصائد كَثِيرَة جَاهِلِيَّة وإسلاما ومحدثة فَمِنْهَا للشريف الرضي الموسوي
(نطق اللِّسَان عَن الضَّمِير ... والبشر عنوان الضَّمِير)
وَلأبي بكر الْخَوَارِزْمِيّ
(إِن الالئ خلف الْخُدُور ... هم فِي الضمائر والصدرو)
وَمن هَذَا الْعرُوض قصيدة المنحل لمعظم بن الْحَارِث الْيَشْكُرِي كَمَا فِي حماسة أبي تَمام ومطلعها
(إِن كنت عاذلتي فَيرى ... نَحْو الْحجاز وَلَا تجوري)
ولإبراهيم بن المدير قصيدة فِي مدح المتَوَكل على هَذَا المنوال مِنْهَا
(يَوْم أَتَانَا بالسرور ... وَالْحَمْد لله الْكَبِير)
(أخلصت فِيهِ شكره ... ووفيت فِيهِ بالنذور)
مِنْهَا
(الْبَدْر ينْطق بَيْننَا ... أم جَعْفَر فَوق السريرد)
(فَإِذا تواردت العظائم ... ثمَّ كنت مُنْقَطع النظير)
وللطالوي يَسْتَدْعِي بعض أصدقائه إِلَى منتزه فِي بعض الْأَيَّام
(قد غازل النسرين لحظ النرجس ... فِي مجْلِس سقى الحيا من مجْلِس)
(يرنو إِلَيْهِ كَمَا رنت من خشيَة ... المراقباء غيد عَن لحاظ نعس)
(والورد أخجله الحيا فَكَأَنَّهُ ... خد تورد من لهيب تنفس)
(فِي فتية نشرت حدائق بردهَا ... فزهت على زهر الْجَوَارِي الكنس)
(دارت سلاف الذّكر مِنْك عَلَيْهِم ... فغدت تمايل كالغصون الميس)
(ترجو قدومك كي يتم سرورها ... وتقر عينا يَا حَيَاة الْأَنْفس)
(لَا زَالَ وردك يانعا فِي رَوْضَة ... وشبابك الفتان زاهي الملبس)(2/151)
(مَا غرّدت ورق بِأَعْلَى أيكة ... فِي رَوْضَة كُسِيت مطارق سندس)
وَله من قصيدة قَالَهَا وَهُوَ بالروم يتشوق فِيهَا لوطنه فِي قَوْله
(على الشَّام مني كلما هبت الصِّبَا ... سَلام كنشر الرَّوْض طَابَ لَهُ نشر)
(بِلَاد كأنفاس الشُّمُول شمالها ... وتربتها مسك وحصباؤها در)
(سَقَاهَا وحياها الْإِلَه معاهداً ... سَحَاب دنوا الْعَهْد وافي بِهِ الْبشر)
(فيا حبها زِدْنِي جوي كل لَيْلَة ... وَيَا سلوة الأحزان موعدك الْحَشْر)
وَله من قصيدة تشْتَمل على وصف السِّرّ والسفينة مطْلعهَا
(سرنا يَا سلامبول نبغي نزهة ... دعت الْفُؤَاد إِلَى الفضاء الْمُطلق)
(ثمَّ امتطينا الْبَحْر فِي نوحية ... تجْرِي بِنَا فِي لج موج مطبق)
(نشرت قوادم طَائِر ومشت بِهِ ... فِيهِ كنسر فِي السَّمَاء محلق)
(بارت عِقَاب الجوّاذ طارت بِهِ ... بمثال قادمتي جنَاح العقعق)
(فَكَأَنَّهَا باز وَنحن بمتنها ... تهوي بِنَا طوراً وطوراً ترتقي)
(حَتَّى رست فِي شاطئ ورمت بِنَا ... تِلْكَ المذانب وسط روض مونق)
(فَإِذا بِأَرْض فِي الصفاء كعسجد ... والمندل الشحري فِي المتنشق)
(حفت بسرو كالقيان تلفعت ... خضر الملا وكشفن عَن سَاق نقي)
هَذَا ينظر إِلَى قَول أَحْمد بن سُلَيْمَان بن وهب
(حفت بسرو كالقيان تلبست ... خضر الْحَرِير على قوام معتدل)
(فَكَأَنَّهَا وَالرِّيح تخطر بَينهَا ... تنوي التعانق ثمَّ يمْنَعهَا الخجل)
وَقَالَ الصنوبري من أَبْيَات مطْلعهَا
(يَا ريم قومِي الْآن وَيحك فانظري ... مَا للحدائق أظهرت إعْجَابهَا)
(والسر وَشبه عرائس مجلوّة ... قد شمرت عَن سوقها أثوابها)
وَقَالَ ابْن طَبَاطَبَا وَنقل عَن الصاحب أَنه كَانَ يعجب بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وينشدهما إِذا دخل بُسْتَان دَاره
(يَا حسن بُسْتَان دَاري ... والورد يقطف طله)
(والسرو قد مدّفيه ... على الرياحين ظله)
وَقَالَ ابْن المعتز
(والسرو مثل قضب الزبرجد ... قد استمدّ المَاء من ترب ندى)(2/152)
رَجَعَ إِلَى القصيدة مِنْهَا
(والغيم فِي وسط السَّمَاء كَأَنَّهُ ... قطع اللجين على بِسَاط أَزْرَق)
أَخذه من قَول ابْن المعتز
(والبدر فِي أفق السَّمَاء كدهم ... مقلى على ديباجة زرقاء)
وَذكره الخفاجي فِي كِتَابيه وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر قصيدته الَّتِي راسله بهَا ومطلعها
(قبلت مصطجا شفَاه الاكؤس ... وَالصُّبْح يبسم لي بثغر ألعس)
وَجَوَاب الطالوي عَنْهَا بقوله
(خد تورد من لهيب تنفس ... أم قد معسول المراشف ألعس)
ثمَّ قَالَ فِي تَرْجَمته وَرَأى نبلوفرة صَارَت صد فاللآلئ السَّحَاب وحقة لدر الندى الْمُذَاب كَأَنَّهَا بوتقة أذاب فِيهَا الجو نضارة أَو كأس فِي يَد مصطج يداوي خماره أَو مقلة صب كئيب فاجأه على الْغَفْلَة الرَّقِيب بَعْدَمَا امْتَلَأت بدمع الجوي فتردد فِيهِ الدمع من صرة النَّوَى وَقد طفا المَاء الزلَال فَبلغ حافاتها وَمَا سَالَ بل تشبث بأهداب أوراقها خشيَة فراقها فَقَالَ
(ونوفرة كعين الصب سكرى ... نجم المَاء خشيَة أَن يراقا)
(ذكرت لَهَا النَّوَى يَوْمًا فَفَاضَتْ ... وَصَارَت كلهَا للدمع ماقا)
قلت ضمن فِيهِ قَول المتنبي
(نظرت إِلَيْهِم وَالْعين سكرى ... فَصَارَت كلهَا للدمع ماقا)
وَمن غَرِيب مَا وَقع أَنه لما توجه من دمشق إِلَى الرّوم اجتاز بثغر صيدا وحاكمها إِذْ ذَاك الْأَمِير فَخر الدّين الْمَعْنى وَكَانَ مَعَه لَهُ مَكْتُوب بالتوصية فِيهِ من محافظ الديار الشامية الْوَزير شرِيف باشا فأوصله إِيَّاه مَعَ قصيدة مدحه بهَا مطْلعهَا
(قل لمجرى الْجِيَاد قب الْبُطُون ... وأمير الْبِلَاد فَخر الدّين)
وَكَانَ مَعَه غُلَام كالبدر لَوْلَا أفوله والغصن لَوْلَا ذبوله لَو رَآهُ الفرزدق سلا نوار بأحداقه الَّتِي تستوقف الْأَبْصَار فاغتصبه مِنْهُ فأسف على يوسفه أَسف يَعْقُوب وأمل النُّصْرَة على الدَّهْر فَأصْبح المغلوب فَكتب إِلَى الشريف الْوَزير يستعديه على ذَلِك الْأَمِير قصيدة أَولهَا
(بِاللَّه يَا نشر العبير ... سيرى بروضات العرى)
إِلَى أَن قَالَ(2/153)
(إِن جِئْت ربع الشَّام فاقصد ... ساحة الشّرف الْعلي)
(أَعنِي الشريف ابْن الشريف ... ابْن الشريف الموسوي)
(متحملاً مني السَّلَام ... كمسك دارين الذكى)
(لجنات مَوْلَانَا الْوَزير ... وليّ مَوْلَانَا على)
(ثمَّ اشرحن من حَال مَوْلَاهُ ... الْمُحب الطالوي)
(مَاذَا ألْقى فِي ثغر صيدا ... من دروزي غوى)
(دين التناسخ دينه ... لابل يدين بِكُل غي)
(وَيرى الطبائع أَنَّهَا ... فعالة فِي كل شَيْء)
(وافي بمكتوب الشَّرّ بف ... إِلَيْهِ من بلد قصى)
(بوصيه فِيهِ كَأَنَّمَا ... يوصيه فِي أَخذ الصَّبِي)
(فَسَقَاهُ يَوْم فِرَاقه ... لَا كَانَ بالكأس الروى)
(وغد الحشا من بعده ... يبكي بدمع عِنْد مي)
(فِي غربَة لَا يشتكي ... فِيهَا إِلَى خل وَفِي)
(لَا جَار يحميه وَلَا ... يأوى إِلَى ركن قوى)
(إِلَّا إِلَى ركن الشريف ... الطَّاهِر الشيم الزكي)
(حامي حمى الشَّام الشريف ... بِكُل أَبيض مخذمي)
(مولَايَ سمعا أَن لي ... حَقًا لديك بِغَيْر لي)
(بولاء حيدرة الْوَصِيّ ... أخي النبيّ الْهَاشِمِي)
(لأتهملن فِي أَخذ ثاري ... من كفور بِالنَّبِيِّ)
(وَابعث إليّ مقانباً ... فِيهَا الكمى على الكمى)
(لَو حَارَبت جند القضا ... ثنت سراه عَن مُضِيّ)
(جرافة لم تبْق فِي ... أطلاله غير النؤى)
(وأشيعت ينعي الديار مَعَ ... ابْن دأبة فِي النعى)
قلت والدروزية تقدم الْكَلَام فِي تَرْجَمَة حسن العيلبوني أننا سنتكام عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَة الْأَمِير فَخر الدّين بن معن فِي حرف الْفَاء إِن شَاءَ الله تَعَالَى والنؤى فِي قَوْله جرافة إِلَى آخر الْبَيْت هُوَ الحفير حول الْخيام وأشبعت مُصَغرًا الوتد شج رَأسه وَابْن دَابَّة الْغُرَاب وَهُوَ علم جنس لَهُ مَمْنُوع من الصّرْف قيل سمي بِهِ لِأَن انثاه إِذا طارت من(2/154)
بيضها حضنها الذّكر فَيكون كالداية للْأُنْثَى وَمن عُقُود جمان الطالوي فصل من نثره شوقي إِلَى لِقَاء سَيِّدي عمر الله يذكرهُ رباع الْفضل كَمَا عمر طلاب الْعُلُوم نائله الجزل شوق الوامق لعذراه وَعُرْوَة إِلَى عفراه فصل وَهَا أَنا مذ سرت عَن حَضرته الجليلة مَا نسيت أيادية الجميلة وَهل ينسى المدلج قمر لَيْلَة وَسَاكن الْيمن مطلع سهيلة فصل وَإِن أَفْوَاه الحمائم أَو بروق الغمائم لَا تقدر أَن تصف مَا أجنه من الأرتياح لقُرْبه والإنضمام إِلَى معاشره وَحزبه فقد شهِدت أَنَّهَا أبلغ من سحبان وأفصح من صعصعة بن صوحا فصل أما الشوق فقد اشتعل ضراما وَكَاد عَذَابه إِن يكون غراماً حَتَّى قَالَ فَم الجفن بِلِسَان الدمع يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا فَإِنِّي ألْقى إِلَيّ كتاب كريم فاح مِنْهُ شميم عرار نجد وَمَا بعد العشية من شميم فتمتعت بِمَا هُوَ أحلى من الْوَصْل بعد الهجر وَمن الْأَمْن بعد الْخَوْف وَمن الْبُرْء بعد السقم وَلم أدر أطيف مَنَام أَو زائر أَحْلَام أم قرب نوى بعد البعاد أم حبيب يَأْتِي بِلَا ميعاد وَمن آخر أسأَل الله وهاب الصُّور خلاق الْقوي وَالْقدر فياض المعارف ذراف العوارف أَن يهب اقترابا صافيا من الكدر مغنيا عَن ورد الْمُكَاتبَة والصدر انْتهى وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كَمَا قَالَ البديعي فِي وَصفه مقضى الأرب من أدوات الْأَدَب وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْأَرْبَعَاء ختام شهر رَمَضَان سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَذكر البوريني فِي تَرْجَمته أَنه كَانَ قبل مَوته بأيام عمر فِي دَاخل بَيته بمحلة التَّعْدِيل بَيْتا صَغِيرا وَكَانَ يَقُول هَذَا الْبَيْت بَيت الفتاوي وَمَوْضِع الْكتب وَمن الْعجب أَنه نقل كتبه إِلَى الْبَيْت الْمَذْكُور فَكَانَ يصفها ويرتبها وَينظر فِيهَا ويقلبها وَهُوَ ينشد هَذَا الْبَيْت وَأَظنهُ من نظمه ونتائج فهمه وَهُوَ
(أقلبها حفظا لَهَا وصيانة ... فيا لَيْت شعري من يقلبها بعدِي)
فَمَاتَ بعد ذَلِك بِعشْرين يَوْمًا رَحمَه الله تَعَالَى درويش مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مسيح الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن القاطر الْمُقدم ذكر وَالِده والموعود بِذكرِهِ وَهُوَ سبط أبي الْمَعَالِي الطالوي الْمَذْكُور قبله وَرُبمَا أطلق عَلَيْهِ الطالوي أَيْضا كَانَ فَاضلا كَامِلا جيد الْخط منسوبه بلغ الشُّهْرَة التَّامَّة فِي قبُول خطه والتنافس فِيهِ وَكتب الْكثير وَكَانَ حسن المطارحة لطيف المذاكرة حُلْو الشكل طوَالًا وَكَانَ يعرف الموسيقى حد الْمعرفَة وَله شهرة بِهَذِهِ(2/155)
الْمعرفَة عِنْد أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ الحاذقين فِيهِ فَإِذا حَضَرُوا مَعَه مَجْلِسا عظموه وتراخوا فِي الْعَمَل حَتَّى يُشِير إِلَيْهِم وَكَانَ يعرف اللُّغَة التركية وَأَظنهُ يعرف الفارسية أَيْضا وَله فِي حل المعميات والألغاز الْيَد الطولي وَكَانَ فَقِيرا متقنعا باليسير من الرزق وَلما توفّي أَخُوهُ زَكَرِيَّا الْآتِي ذكره اتحصر ارثه فِيهِ فأثرى واعتدل حَاله إِلَّا أَنه لم تطل مدَّته فَتوفي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
درويش مُحَمَّد بن رَمَضَان سبط القَاضِي تَاج الدّين الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ كَانَ من الْفُضَلَاء الأذكياء لَهُ لطف طبع ومنادمة مَقْبُولَة وَكَانَ عطاردي الطَّبْع يحن غَالب الصناعات وَكَانَ يتقن اللُّغَة الفارسية والتركية وَله إنْشَاء بالتركية مستعذب ودراية فِي الْأَشْعَار وَاسِعَة قَرَأَ بِدِمَشْق على الشّرف الدِّمَشْقِي وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقي والعلامة فضل الله بن عِيسَى البوسنوي نزيل دمشق وسافر مَعَ أَبِيه إِلَى الرّوم ولازم من قَاضِي الْعَسْكَر الْمولى مُحَمَّد بن قره جلبي وَرجع إِلَى دمشق وناب فِي بعض محاكمها ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم فِي خدمَة شفيق أستاذه الْمَذْكُور الْمولى عبد الْعَزِيز وَأَرَادَ سلوك طَرِيق الْقَضَاء مثل وَالِده فَمَا تيَسّر لَهُ وَاتفقَ لَهُ أَنه كَانَ على أَبِيه دين لرجل من المتمولين فرغبه الدَّائِن فِي أَن يُعْطِيهِ مبلغا آخر ويضمه إِلَى الْمبلغ المستقر فِي ذمَّة وَالِده فَيكون المبلغان لازمين لَهُ فَرغب فِي ذَلِك وَلما أحضرهُ لَدَى القَاضِي لأجل صك الْإِقْرَار واعترف بالمبلغ السَّابِق ألزم بِهِ وَحبس وَبَقِي أَيَّامًا فِي الْحَبْس ثمَّ أطلق فَخلع عَنهُ اللبَاس واخذ طَرِيق المولوية وساح فِي بِلَاد الرّوم حَتَّى وصل إِلَى بَلْدَة كليبولي وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ قدم إِلَى دمشق وجاور مُدَّة فِي تكية المولوية ثمَّ انْتقل إِلَى دَاره وتغيرت أطواره وَولي تدريس البادرائية ونظارة وقف أجداده وَلبس الْعِمَامَة وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى مجَالِس الْقُضَاة بِدِمَشْق وينادمهم وَكَانَ حُلْو الحَدِيث عَارِفًا بطرِيق المنادمة ثمَّ بعد مُدَّة عزم على الْحَج وجاور بِالْمَدِينَةِ وَبهَا توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وقرأت بِخَط وَالِدي أَن وِلَادَته كَانَت فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ درويش بن سُلَيْمَان بن الشَّيْخ الْكَبِير الْفَقِيه الثبت الرحلة مُحَمَّد ابْن القطب الْكَبِير أَحْمد الدجاني الشَّافِعِي الْمُقَدّس الشَّيْخ الصَّالح الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا الْعَفِيف كَانَ يحفظ الْكتاب الْعَزِيز ويدارس بِهِ وتفقه على الشَّيْخ مَنْصُور بن عَليّ(2/156)
الْمحلى نزيل الْقُدس ثمَّ دمشق الْمَعْرُوف فِي دمشق بالصابوني وَسَيَأْتِي ذكره وَعَلِيهِ اشْتغل بالتصوف ولازمه مُدَّة إِقَامَته بالقدس ثمَّ بعد ارتحاله إِلَى دمشق أرسل لَهُ إجَازَة بالمشيخة على الْفُقَرَاء لصلاحه وديانته وَكَانَت وَفَاته فِي عشر ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير درويش الْمَعْرُوف بدالي درويش الجركسي الأَصْل نزيل دمشق الشجاع البطل الْمَشْهُور قدم إِلَى دمشق فِي خدمَة الْوَزير الخناق وَلما عزل مخدومه عَن نِيَابَة دمشق أَقَامَ هُوَ بهَا وتديرها وَصَارَ من أجنادها وسافر إِلَى روان ومروان وَأسر بِبِلَاد الْعَجم وشاع خبر مَقْتَله فضبطت أملاكه وأسبابه لطرف بَيت المَال ثمَّ ظهر بعد مُدَّة واستخلص مَا كَانَ ضبط من أَمْوَاله وسافر إِلَى بَغْدَاد عَام فتحهَا وَبعد مَا عَاد كَبرت دولته واشتهر صيته وَولي حُكُومَة تدمر وَظَهَرت شجاعته وَكَانَ يُغير على العربان وينهبهم ويأسر مِنْهُم وَيدخل إِلَى دمشق بالمواكب الحافلة ثمَّ ولي حُكُومَة حمص وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ عزل عَنْهَا وَولي لِوَاء عجلون وَتوجه إِلَيْهَا فثار بَينه وَبَين أَهلهَا حروب كَثِيرَة وكسره وَأخذُوا غَالب أَسبَابه وخيوله فَعَاد إِلَى دمشق واشتكى إِلَى السدة الْعلية فَجَاءَهُ أوَامِر شريفة بركوب نَائِب الشَّام عَلَيْهِم وَأخذ مَا ذهب لَهُ فَلم يُفْسِدهُ ذَلِك شَيْئا وَأقَام منزويا بداره وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف
درويش مُحَمَّد باشا الْوَزير الْأَعْظَم الْمَشْهُور هُوَ جركسي الأَصْل وَكَانَ أَولا من خدمَة المرحوم مصطفى أغا ضَابِط الْحرم السلطاني فِي عهد السُّلْطَان أَحْمد ثمَّ خدم الْوَزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا الْمَعْرُوف بمنبسط الْقدَم وَكَانَ السُّلْطَان عُثْمَان يُحِبهُ لفروسيته وشجاعته وسافر فِي خدمَة الْوَزير الْمَذْكُور إِلَى مصر لما صَار محافظا بهَا وَكَانَ يقدمهُ على جَمِيع حفدته وولاه الخدمات السامية حَتَّى صيره كتخداله وَلما ولي الوزارة الْعُظْمَى قتل فِي زَمَنه أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بالكوحك وَكَانَ نَائِب الشَّام فولاه نيابتها وَكَانَ ذَلِك فِي أواسط سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وقدمها وَكَانَ ظَالِما جبارا ففتك فِي أَهلهَا وَتجَاوز فِي ظلمهم الْحَد وَفِي آخر أَيَّامه اجْتمع الْعَامَّة على القَاضِي واشتكوا من الظُّلم وبالغوا فِي التوسل بِهِ فَلَمَّا بلغه ركب وَكَانَ فِي الْوَادي الْأَخْضَر مخيما وأتى مغضبا وَسَفك فِي بَعضهم وَقتل رجلا صباغا من الصلحاء ثمَّ عزل وَصَارَ أَمِير الْأُمَرَاء بطرابلس الشَّام وَبعد ذَلِك ولي حُكُومَة بَغْدَاد(2/157)
وتنقل فِي النيابات حَتَّى ولي فِي آخر أمره الوزارة الْعُظْمَى فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَمَات وَهُوَ فِي الصدارة فِي شهر ربيع الأول سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بقسطنطينية بِالْقربِ من مدرسة عَليّ باشا الجديدة فِي طَرِيق الدِّيوَان
(حرف الذَّال الْمُعْجَمَة)
ذهل بن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الله بن الذهل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عمر بن حشيبر الْعَارِف الْمَشْهُور بالغيثي نِسْبَة لسيدي أبي الْغَيْث بن جميل لِأَنَّهُ كَانَ تلميذة وَقَالَ لَهُ فِي بعض وقائعه أَنه حشي بر فَلذَلِك اشْتهر بحشيبر الحشبيري العدناني وَبَنُو حشبير هَؤُلَاءِ قوم يسكنون الزيدية عُلَمَاء أخيار قل من يدانيهم فِي الْعلم وَالْعَمَل وَالصَّلَاح وَذهل هَذَا رئيسهم وَكَانَ إِمَام أهل الْعرْفَان الْمشَار إِلَيْهِ بالبنان ولد فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف بِمَدِينَة الزيدية وَأخذ الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا من فنون الْعُلُوم عَن الْعَلامَة مُحَمَّد بن أَحْمد صَاحب الْخَال ولازم الْعَلامَة الْمُحَقق الملا مُحَمَّد شرِيف الكوراني الصديقي حِين قدم الزيدية فِي رحلته لليمن وبرع فِي جملَة من الْعُلُوم وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وأمروه بالتدريس ونفع النَّاس فتصدر وفَاق أقرانه وَألف مؤلفات عديدة مِنْهَا حَاشِيَة على الْمِنْهَاج سَمَّاهَا إِفَادَة الْمُحْتَاج على الْمِنْهَاج ومنظومة فِي العقائد سَمَّاهَا جَوَاهِر الْعُلُوم وأرجوزة فِي علم التَّصَرُّف سَمَّاهَا هِدَايَة السالك إِلَى رَضِي الْمَالِك وَشَرحهَا إِيضَاح المسالك وَله شعر كَثِيرَة مِنْهُ قَوْله يمدح النَّبِي
(حنّ قلبِي شوقاً إِلَى لقياكا وتذكرت طيبَة وحماكاً)
... وقباها ومنبراً وصريحاً ( ... جَمِيع النُّور والبها أذحواكا)
(وخلعت العذار عَن كل واش ... وتهتكت رَغْبَة فِي هواكا)
(لست أصغى للأثم وعذول ... فمناي وبغيتي رؤياكا)
(فَعَسَى أَن تجود بالوصل يَوْمًا ... وَيَزُول البعاد مِنْك عساكا)
(وَمَتى ألثم الضريح وأسعى ... بَين تِلْكَ الرياض والشباكا)
(وَأَقُول السَّلَام يَا سيد الرُّسُل ... جهار بالصوت مني علاكا)
(يَا رَسُول الْإِلَه أَنْت المرجى ... زادك الله رفْعَة وحباكا)
(يَا رَسُول الْإِلَه هَب لي نورا ... وسنا أستضيئه من سناكا)(2/158)
(يَا نَبِي الْهدى أَغِثْنِي سَرِيعا ... وأقلني من عثرتي بدعاكا)
(كن نصيري على الخطوب جَمِيعًا ... وأجرني من جورد هرتشاكا)
(أَنْت سر الْوُجُود لولاك مَا ... كَون الْكَوْن سَيِّدي لولاك)
(خصك الله بِالْبُرَاقِ وبالإسرا ... ورؤياه جهرة قد حباكا)
(بت ترقى فِي لَيْلَة بفخار ... طَابَ فِيهَا إِلَى العلى مسراكا)
(كَانَ جِبْرِيل خَادِمًا وسفيرا ... ولسبع الطباق قد راقاكا)
(جزت حجبا وَكم عَلَوْت بساطا ... مَا علاهُ من الْأَنَام سواكا)
(وصرير الأقلام من مستوى قد ... سمعته حَقًا كَذَا أذناكا)
(وأتاك الندا من مَالك الْملك ... أدن مني وسل تقز بمتاكا)
(وتجلى الْجَبَّار جلّ علاهُ ... وتدلى إِلَيْك بل واصطفاكا)
(وتلذذت بِالْخِطَابِ عيَانًا ... وَلَقَاب للقوس قد ادناكا)
(وتلاشيت فِي الغيوب بِلَا أبن ... فَمن ثمَّ لم تزل قدماكا)
(وتولاك إِذْ هداك وولاك ... عَطاء وَيَا لجمال كساكا)
(جمع الله فِيك كل فخار ... بل وأعطاك كل مَا أرضاكا)
(خَاتم الرُّسُل سيد الْخلق طرا ... كلهم فِي الْمعَاد تَحت لواكا)
(فَعَلَيْك الصَّلَاة تترى دواما ... وعَلى الْآل وَالتَّابِعِينَ هداكا)
(وعَلى الصحب من حموك وآووا ... بل وَفِي الله جاهدوا أعداكا)
(وعَلى كل تَابع وموال ... مقتف أَثَرهم يُرِيد رضاكا)
(عد خلق الْإِلَه مني لترضى ... وليرضى الْإِلَه عني بذاكا)
قَوْله متغزلا
(يَا هِنْد جودي بوصال وَلَو ... مِقْدَار رد الطّرف إِذْ يطرف)
(وروحي روحي برؤياك يَا ... سؤلي فَمَا غَيْرك بِي يلطف)
(فقد فني صبري وَطَالَ المدى ... وحبذا وصل بِهِ تعطف)
(راقت ورقت فِي العلى ... ونورها كالبرق قد يخطف)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي
(حرف الرَّاء)
ربيع النباطي نزيل مَكَّة كَانَ من عُظَمَاء الْعلمَاء السالكين مَنْهَج الرشاد وَهُوَ من(2/159)
الْمَشَاهِير فِي ذَلِك الْقطر بعلو الْقدر فِي الْعلم وَالْعِبَادَة ومدحه كبار الْفُضَلَاء وأثنوا عَلَيْهِ وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَ مَوْصُوفا بالسخاء والمكارم وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الشهَاب أَحْمد الخفاجي فَإِنَّهُ رثاه مؤرخا وَفَاته بقوله
(صَاح هَل نَافِع وَهل عَاصِم من ... نشر وجد أَمْسَى بطي الضلوع)
(غير صَبر قد مرا ذمر من كَانَ ... ربيعا لكل غيث مربع)
(كَامِل وافر رمانا زمَان ... فِيهِ بالبعد بعد فقد سريع)
(هُوَ بر وَفِي المكارم بَحر ... من أصُول تزهو بِخلق بديع)
(قد فَقدنَا فِيهِ اصطبار فارخ ... كل صَبر محرم فِي ربيع)
ورثاه الشَّيْخ حسن الشَّامي مؤرخا
(صبري تنَاقض لازدياد دموعي ... مِمَّا حوته من الْفِرَاق ضلوعي)
(ذهب الَّذِي كُنَّا لَهُ جمعا بِهِ ... وفراق جمعي قد أضرّ جميعي)
(يَا قلب إِن لم تستطع صبرا فنى ... رفقا بِنَا حل جسمي الموجوع)
(وَإِذا ذكرت ربيع أَيَّام مَضَت ... أرخ بشوال فِرَاق الرّبيع)
رَجَب بن حجازي الْحِمصِي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْمَعْرُوف بالحريري الشَّاعِر الرِّجَال كَانَ صَحِيح التخيل فِي الْأَشْيَاء إِلَّا أَنه يغلب عَلَيْهِ جَانب الهجو فِي تخيله والأزراء حَتَّى بِنَفسِهِ جيد النَّقْد فِي الشّعْر مَعَ أَنه لَا يعرف الْعَرَبيَّة وزانا بالطبع وَإِن عرف شَيْئا من الْعرُوض وأميل مَا كَانَ فِي أَقسَام الشّعْر إِلَى الهجاء وَله فِيهِ نَوَادِر عَجِيبَة وَله كثير من الأزجال والرباعيات والمواليا والموشحات والتواريخ والأحاجي وكل ذَلِك كَانَ يَقع لَهُ من غير تكلّف روية بِحَيْثُ أَنه فِي سَاعَة وَاحِدَة ينظم مائَة بَيت وَمثلهَا قِطْعَة أَو قطعتين من الزجل والموشح وَقس على ذَلِك الْبَوَاقِي وَكَانَ قَلِيل الْحَظ كثير السياحة لم يَسعهُ مَكَان وَلم يقر لَهُ قَرَار وَكَانَت سياحته مَقْصُورَة على حلب ومصر ودائرة الشَّام وَحج وجاور بالحرمين سنتَيْن وَلم يزل شاكيا من دهره باكيا على سوء بخته وَرَأَيْت لَهُ أشعارا كَثِيرَة غالها شكاية وهجورا مَا غزله فقليل من أعذبه قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(فيض المدامع نَار وجدي مَا طفا ... بل زِدْت مِنْهُ تلهبا وتلهقا)
(وجوى أذاب جوارحي وجوانحي ... وَهوى على السلوان صال وألفا)(2/160)
(وَمن النَّوَى بِي لوعة لَو بَعْضهَا ... فِي يذبل أَمْسَى رغاماً أَو عَفا)
(زق الصِّبَا لصبابتي وَبكى على ... حَالي الْحمام وَلِأَن لي قلب الصَّفَا)
(والسقم وأمل مهجتي لفراق من ... أحببته لَو عادلي عَاد الشفا)
(من راحمي من مسعفي من مسعدي ... أفديك مَالك مهجتي زر مدنفاً)
(يَا من بطلعته وسحر جفونه ... بهر الغزالة والغزال إِلَّا وطفاً)
(بشمايل فَوق الشُّمُول لطاقة ... مِنْهَا ثملت وَمَا شربت القرقفا)
(وبورد خد فَوق بانة قامة ... يجميه نرجس نَاظر أَن يقطفا)
(وبراحة بَين العقيق ولؤلؤ ... اسمح وَدعنِي كأسها أَن أرشفا)
(أرْفق بصب قد أذبت فُؤَاده ... ودع التجنب والتجني والجفا)
(ونباكر الرَّوْض الأريض فقد حكى ... طيب الْجنان نضارة وتزخرفا)
(والمزن أضحكه ونضر وَجهه ... وكساه بردا بالزهور مفوفا)
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى مستهلها
(أبي الْقلب الأغراما ووجدا ... وطرفي الإبكاء وسهدا)
(فَلم يبرح الصب تبريحه ... وَلَا الدمع راق وَلم يطف وقدا)
(فلولا النَّوَى مَا ألفت البكا ... وَلَا كَانَ بِالسقمِ جمسي تردى)
(وَلَا بت أرعى نُجُوم الدجى ... وَلَا كَانَ عني مَنَامِي تعدى)
(فأوّاه صبري مُضِيّ لم يعد ... وَأما اشتياقي فَلم يحص عدا)
(وَمَالِي معي سوى أدمعي ... وَقلت لصدا الْهوى مَا تصدا)
(فَلَو بالكواكب مَا بِي هوت ... وَإِلَّا على يذبل كَانَ هدّا)
(يذكرنِي ساجعات الرياض ... حبيبا وربعا ربيعا وودا)
(وَمَا كنت أنسى وَلَكِن تزيد ... ولوعي قرباً وصبري بعدا)
(رعى الله ربعا نعمنا بِهِ ... وعهداً ألفناه حَيَّاهُ عهدا)
(فَمَا راقني بعده منزل وَلَا ... طَابَ عَيْشًا وَلَا راق وردا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بحلب فِي صفر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
رَجَب بن حُسَيْن بن علوان الْحَمَوِيّ الأَصْل الدِّمَشْقِي الميداني الشَّافِعِي الفرضي الفلكي أعجوبة الزَّمَان فِي الْعُلُوم الغربية وَكَانَ لَدَيْهِ مِنْهَا فنون عديدة وأمهر مَا كَانَ فِي الْعُلُوم الرياضية كالهيئة والحساب والفلك والموسيقى وَيعرف الْفَرَائِض حق(2/161)
الْمعرفَة وَأما فِي الموسيقى عل إختلاف أَنْوَاعه فَهُوَ فِيهِ أعرف من أدركناه وَسَمعنَا بِهِ وَله فِيهِ أغان صنعها على طَريقَة أساتذة هَذَا الْفَنّ لكنه كَانَ ردي الصَّوْت جَريا على الْعَادة فِي الْغَالِب من أَنه لَا يجْتَمع حسن الصَّوْت مَعَ المهارة الْكُلية فِي فن الموسيقى كَمَا امتحناه كثيرا فِي أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ وَكَانَ رَحل فِي أول أمره إِلَى الْقَاهِرَة واستفاد هَذِه المعارف من أَرْبَابهَا الْمَشْهُود لَهُم فِيهَا بالتفوق وَقدم دمشق وانتفع بِهِ خلق كثير من فضلاء دمشق فِي هَذِه الْفُنُون من أَجلهم الشَّيْخ عبد الْحَيّ ابْن الْعِمَاد العكاري الصَّالِحِي الْآتِي ذكره وَكَانَ لَهُ ثروة ويتجر وَله بعض ايثارات وَكَانَ حسن الذَّات خلوقا كَامِل الصِّفَات ملازم الْعِبَادَة منغزلا عَن النَّاس ودودا متواضعا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من الكملاء المعروفين والفضلاء الموصوفين وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف
رَجَب بن عماد الدّين المنلا العجمي الْكَاتِب ذكره النَّجْم فِي الذيل وَقَالَ فِي تَرْجَمته دخل دمشق فِي حُدُود الْألف وانتفع بِهِ خلق كثر فِي الْكِتَابَة عَلَيْهِ وَكَانَ حسن الْخط جدا وَله مُشَاركَة فِي بعض الْعُلُوم وَكَانَ يدعى معرفَة الموسيقى مَعَ أَنه لَا صَوت لَهُ وَيَزْعُم أَنه أحسن النَّاس صَوتا وَكَانَ يغلب على طبعه التغفل مَعَ دَعْوَى الفطانة وَكَانَت وَفَاته فِي لَيْلَة الْأَحَد حادي عشر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف
رَحْمَة الله بن عُثْمَان قَاضِي الْقُضَاة الينكيشري المولد أحد فضلاء الزَّمَان المتمكنين من المعارف والعلوم قدم من بَلْدَة قسطنطينية واشتغل بهَا إِلَى أَن برع ولازم من الْمولى عبد الْعَزِيز بن الْمولى سعد الدّين ثمَّ وصل إِلَى خدمه الْمولى حُسَيْن ابْن أخي الْمُقدم ذكره فصيره نَائِبه وَهُوَ قَاضِي الْعَسْكَر بروم إيلي وَلما ولي الْإِفْتَاء وَجه إِلَيْهِ أَمَانَة الْفَتْوَى ودرس بمدارس الرّوم إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء حلب ثمَّ قَضَاء مصر وَلم تطل مدَّته بهَا وَنقل إِلَى قَضَاء الشَّام فِي غَزَّة جُمَادَى الأولى سنة سبع وَخمسين وَألف ودخلها فِي ثَالِث عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَكَانَ فِي غَايَة من الإعتدال فِي حكومته متشرعاً مراعياً القانون السّلف فَفِيهَا متضلعاً حسن الْعبارَة وَكَانَ يكْتب إِمْضَاء الصكوك بإنشاء عَجِيب مستحسن وَلَقَد وقفت لَهُ من ذَلِك على إمضاآت كَثِيرَة فَمن ذَلِك قَوْله بذلت الوسع فِي إِيضَاح مَا تكنه صُدُور سطور الرّقّ وَلم آل جهدا فِي تَحْقِيق الْحق وفحصا عَن كل مَا جلّ مِنْهُ ودق حَتَّى أَسْفر فجر الْحَقِيقَة على مَا سطر فِيهِ من النسق فحكمت بِكَوْن(2/162)
الْحمام والمزرعة وَقفا على الْمدرسَة وقضيت بذلك حكما جزما وَقَضَاء حتما لما ظهر الْحق ظُهُور الشَّمْس بالحجج القاطعة على مَا نطق بِهِ الْكتاب من الْأَحَادِيث الصِّحَاح القاطعة وَمن ذَلِك مُطَالبَة هَؤُلَاءِ بمراسم ظلم عَظِيم يجب على الْحُكَّام مَنعه ومنكر يجب على الْوُلَاة نَهْيه وَرَفعه يلْزم على كل من كَانَ نَافِذ الْأَمر جَائِز الحكم قصر الْأَيْدِي المتطاولة الجاذبة وَقطع الأطماع الْفَاسِدَة الكاذبة فمنعته عَن هَذَا ابْتِغَاء لمرضاة الله وطلبا لثوابه وهربا من عِقَابه وأليم عَذَابه وَمن ذَلِك مَا كتبه على صك إِعْتَاق جَارِيَة لَهُ مَا نسب إِلَى فِي هَذَا الرّقّ من إِعْتَاق جاريتي فُلَانَة حق وَصدق أعتقتها ابْتِغَاء لمرضاة الله تَعَالَى وثوابه وهربا من عَظِيم عِقَابه وأليم عَذَابه عَسى الله أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا وجزانا رَبنَا خيرا الْجَزَاء عَنْهَا انْتهى قلت وَهَذَا أسلوب لطيف جرى عَلَيْهِ كثير من قُضَاة الرّوم وتكلفه بَعضهم مِمَّن لَا يعرف أساليب الْإِنْشَاء الْعَرَبِيّ فجَاء سمجا مضحكا وَالْعجب المعجب مِنْهُ إمضاآت الْمولى مُحَمَّد بن حسن الَّذِي كَانَ ولي قَضَاء حلب ودمشق وَقد رَأَيْت جدي القَاضِي رَحمَه الله تَعَالَى جمع مِنْهَا حِصَّة وافرة فِي مَجْمُوع لَهُ وتعقبها بِكَلِمَات أظهرت زيفها فَأَرَدْت إِيرَاد نبذة مِنْهَا ليعلم الْفرق بَين مَا أوردته أَولا وَبَينهَا فَمن ذَلِك مَا كتبه على صدَاق اسْتَقر الصَدَاق بوكالة من أَئِمَّة الْآفَاق فقررت الصَدَاق كتبه عبد الخلاق قَالَ الْجد سُبْحَانَ الخلاق وَمِنْه مَا كتبه على صدَاق أَيْضا لامس هَذَا الأطلس كف العَبْد الأنجس وَمِنْه مَا كتبه على نظارة وقف قررت النّظر وَسَأَلت الْأَبْيَض والأحمر فَشَهِدُوا بالمحضر رجال عدُول مِنْهُم الْمُفْتِي الْأَكْبَر قَالَ الله أكبر وَمِنْه مَا كتبه على كتاب وقف الْجَامِع الْأمَوِي هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ أَنا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَيَوْم نبعث من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا مَا عرج حول الْكتاب مِمَّا يقوم فِي ذيل ذَلِك الْبَاب من الإنشاد وَالْإِشْهَاد صَادف مَحَله وحاد مخله ثمَّ أمله وأجله متشبثا بذيل ذَوي الْإِحْسَان أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان مُحَمَّد بن حسن القَاضِي بِدِمَشْق خير الْأَمَاكِن فِي اللِّسَان عَفا عَنْهُمَا رب الْإِحْسَان وَالله أعلم عودا على بَدْء وَوَقع لصَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ قَاضِي دمشق أَن بعض أَرْبَاب فن الزايرجا استخرج لَهُ الْعود إِلَى قَضَاء مصر بِهَذَا الْبَيْت وَهُوَ
(وَلَا بُد من عود إِلَى مصر ثَانِيًا ... تنفذ أحكاما بِأَمْر مبجلا)(2/163)
فاتفق لَهُ أَنه وَليهَا بعد ذَلِك فِي تَاسِع عشر شعْبَان سنة ثَمَان وَخمسين وَبعدهَا ولي قَضَاء قسطنطينية وَتُوفِّي بعد ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف والينكيشهري بِفَتْح الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون النُّون وَكسر الْكَاف الفارسية وياء أُخْرَى وَفتح الشين وَسُكُون الْهَاء وَالرَّاء نِسْبَة إِلَى بَلْدَة فِي بِلَاد الرّوم بِالْقربِ من سلانيك وَهِي بَلْدَة كَبِيرَة من مشاهير الْبِلَاد وَمعنى ينكي شهر الْبَلَد الْجَدِيد وَالله أعلم
مولَايَ رشيد بن عَليّ الْملك الْمُؤَيد الشريف الْحسنى ملك الْمغرب السُّلْطَان الْعَظِيم الْقدر السعيد الحركات المظفر الْكَامِل كَانَ من أمره أَنه تسلطن أَولا فِي بِلَاد تاقيلات ثمَّ وثب على مولَايَ مُحَمَّد الْحَاج ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر سُلْطَان فاس ومكناس وَالْقصر وَمَا والاها من أَرض الدلا وسلا وَغَيرهَا من أَرض الْمغرب وَكَانَ لَهُ فِي الْملك أَرْبَعُونَ سنة فانتزعه مِنْهُ وحبسه إِلَى أَن مَاتَ مسجونا وَخرب مدينتهم الْمَعْرُوفَة بالزاوية سميت بذلك لِأَن وَالِد مُحَمَّد الْحَاج وَهُوَ مُحَمَّد بن أبي بكر بنى بهَا زَاوِيَة عَظِيمَة وَكَانَت مأوى لمن يفد يطعم بهَا الطَّعَام للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين ورحل شيعَة الْحَاج خوفًا مِنْهُ إِلَى تلمسان وَهِي كَمَا تقدم من بِلَاد العثامنة سلاطين بِلَادنَا أعز الله تَعَالَى نَصرهم ثمَّ قويت شَوْكَة مولَايَ رشيد وَرغب النَّاس فِي خدمته وَكثر جمعه وعظمت دولته وساس الرّعية سياسة لم يروها فِي عهد سُلْطَان من سلاطينهم وَمَا زَالَ يتَمَلَّك بَلَدا بعد بلد حَتَّى دخل بِلَاد السودَان وتملك مِنْهَا جانبا عَظِيما وَلم يبْق بِجَمِيعِ أقطار الْمغرب من الْبَحْر الْمُحِيط إِلَى أَطْرَاف تلمسان إِلَّا مَا هُوَ فِي طَاعَته وداخل فِي ولَايَته إِلَى غير ذَلِك وَتقدم فِي تَرْجَمَة مولَايَ أَحْمد الْمَنْصُور أَنه كَانَ قسم الولايات بَين بنيه وَكَانَ بَقِي الْأَمر على ذَلِك حَتَّى ظهر مولَايَ رشيد فَجَعلهَا ملكا وَاحِدًا وَكَانَ ملكا معتدلا هاشميا محسنا محبا للْعُلَمَاء واستقام فِي السلطنة سبع سنوات وَتُوفِّي فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَأَخْبرنِي بعض المغاربة فِي سَبَب مَوته أَنه أَصَابَهُ فِي مَا يَلِي أُذُنه عود من شَجَرَة فِي بُسْتَان لَهُ كَانَ يرْكض جَوَاده فِيهِ فنفذ الْعود وَوَقع مولَايَ رشيد مَيتا رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير رضوَان بن عبد الله الْغِفَارِيّ أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ الكرجي الأَصْل كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره من مماليك ذِي الفقار أحد أُمَرَاء مصر الْمَشْهُورين بالشأن الْعَظِيم والدولة الباهرة اشْتَرَاهُ صَغِيرا واعتنى بتربيته وَلما مَاتَ مَوْلَاهُ الْمَذْكُور رق حَاله(2/164)
ثمَّ اسْتغنى وَنبهَ قدره وَكَانَ وقوراً مهيباً وَله سُكُون وديانة ورياسة واشتهر صيته وعظمت دائرته حَتَّى صَار أَرْبَعَة من مماليكه مثله أَصْحَاب لِوَاء وَعلم مَعَ مَا يتبعهُم من الْجند والكشاف والملتزمين وَله الْآثَار الْحَسَنَة فِي طَرِيق الْحَاج الْمصْرِيّ والحرمين وَكَانَ حسن السِّيرَة خُصُوصا فِي بر الْحجاز فَكَانَ معتنيا بأَهْله يُرْسل صرهم من حِين وُصُوله إِلَى يَنْبع إِلَى مَكَّة ويقسمه عَلَيْهِم قبل وُصُول الْحَاج وكل من لَهُ حَاجَة مِنْهُم بِمصْر قَضَاهَا لَهُ بأيسر حَال وَمكث نيفا وَعشْرين سنة أَمِير على الْحَاج وَفِي أثْنَاء ذَلِك وَقع لَهُ محنة فِي زمن مُحَمَّد باشا سبط رستم باشا الْآتِي ذكره وَكَانَ أذذاك محافظ مصر بِسَبَب أَمر افترى عَلَيْهِ فَعرض فِيهِ الْوَزير الْمَذْكُور إِلَى بَاب السُّلْطَان فجَاء الْأَمر الشريف بعزله عَن إِمَارَة الْحَاج فَلَمَّا بلغه توجه للأعتاب الْعَالِيَة هَارِبا وَاجْتمعَ بالسلطان مُرَاد فحبسه وَأمر بِبيع جَمِيع أملاكه وعقاراته فَبَقيَ مَحْبُوسًا مُدَّة وتكرر اجتماعه بالسلطان مُرَاد فَلم يَأْذَن الله تَعَالَى بإنطلاقه إِلَّا بعد موت السُّلْطَان الْمَذْكُور وتولية أَخِيه السُّلْطَان إِبْرَاهِيم السلطنة ثمَّ أطلق فَعَاد إِلَى مصر وَأخذ جَمِيع مَا ذهب لَهُ بعضه هبة وَبَعضه شِرَاء وانعقدت عَلَيْهِ رياسة مصر وَوَقع لَهُ محنة أُخْرَى فِي زمن أَحْمد باشا فَإِن الْأَمِير رضوَان سعى فِي نقص أَمر الْوَزير الْمَذْكُور وتغييره من مُحَافظَة مصر وفاوض جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي ذَلِك فَلم يُوَافقهُ الْجند على ذَلِك وَتوجه الْأَمِير رضوَان إِلَى الْحَج والمنافرة وَاقعَة فراسل الْوَزير الْأَمِير على حَاكم جرجا وَأَلْقَتْ بَينه وَبَين الْأَمِير رضوَان الْعَدَاوَة ونصبه أَمِير الْحَاج مَكَانَهُ وَوجه جرجا لأحد مماليك الْأَمِير عَليّ وَقدم الْأَمِير عَليّ من جرجا إِلَى مصر وَلما قرب قدوم الْحَاج اسْتَشَارَ الْأَمِير على بعض أَصْحَابه فِي اسْتِقْبَال الْأَمِير رضوَان فأشاروا عَلَيْهِ بِأَن يفعل إِلَّا قَلِيلا من الأخصاء فَإِنَّهُم أنكروه فتبع رَأْي الأول وصمم على الإستقبال وَخرج بجمعية عَظِيمَة وَلما اجْتمع هُوَ والأمير رضوَان تسالما وَلم يبد من أَحدهمَا مَا يُغير خاطر الآخر وَكَانَ كل مِنْهُمَا يجل الآخر وَيعرف حَقه وَأَقَامَا يومهما والأمير رضوَان مفكر فِي أَمر الإجتماع بالوزير وَفِيمَا ينجر إِلَيْهِ حَاله فَقَامَ من الْمجْلس وَبَقِي جَمِيع الْأُمَرَاء والأعيان وطلع إِلَى جَانب وَوضع مجنا تَحت رَأسه وَأخذ يفكر فاتفق أَنه جَاءَ فِي ذَلِك الْوَقْت خبر عزل الْوَزير عَن مصر وَأَنه صَار مَكَانَهُ عبد الرَّحْمَن باشا الْخصي وَمر متسلمه على العادلية وَسَار إِلَى مصر فجَاء رجلَانِ إِلَى الْبركَة مَحل نزُول الْحَاج وهما فِي قصد الْأَمِير رضوَان ليبشراه فَلَمَّا أخبرا بمكانه أَسْرعَا إِلَيْهِ(2/165)
وإيقظاه وأخبراه بذلك فَكَانَ ذَلِك لَهُ من بَاب الْفرج بعد الشدَّة فَأتى المخيم وَالْقَوْم كلهم جُلُوس وَلما اسْتَقر بِهِ الْجُلُوس الْتفت إِلَى الْأَمِير مصطفى الدفتري بِمصْر وَأخْبرهُ جهارا بِالْخَيرِ فتعجب الْجَمِيع من ذَلِك وظنوا أَنه رأى مناما ثمَّ أخْبرهُم بِحَقِيقَة الْأَمر فصدقوا وَدخل مصر فَلم يتَّفق لَهُ اجْتِمَاع بالوزير واصطلح هُوَ والأمير على صلحا لافساد بعده وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن هذَيْن الأميرين كَانَا من الْأَفْرَاد وهما زِينَة ملك آل عُثْمَان وَكَانَت وَفَاة الْأَمِير رضوَان فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف
رَضِي الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن الشهَاب أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حجر الهيثمي بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة نِسْبَة لمحلة أبي الْهَيْثَم من أقاليم مصر السَّعْدِيّ نِسْبَة لبني سعد الْمَوْجُودين بِمصْر وَسبب شهرة جسده بِحجر أَنه كَانَ ملازما للصمت فِي جَمِيع أَحْوَاله لَا ينْطق إِلَّا لضَرُورَة فَسُمي حجرا أحد أفاضل المكيين ووجوه الشَّافِعِيَّة وَكَانَ فَاضلا بارعا متقنا شَدِيدا فِي الدّين مشتغلا بِمَا يعنيه أَخذ عَن وَالِده وَعَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ وَأحمد بن أبي الْفَتْح الْحكمِي وَعبد الْملك العصامي وَعبد الْعَزِيز الزمزمي وَأَجَازَهُ إجَازَة حافلة سَمَّاهَا لَهُ شَيْخه أَحْمد الْحكمِي فتح الرِّضَا فِي نشر الْعلم والإهتداء قَالَ فِيهَا لازمني زَاد الله فِي توفيقه وسلك بِهِ أقوم طَرِيقه من عَام ثَمَانِيَة عشر وَألف وَحضر دروسي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام الَّذِي هُوَ أجل الْمَسَاجِد وأشرف وَسمع على كتاب الصَّوْم وَالْحج من تحفة الْمُحْتَاج لشرح الْمِنْهَاج لجدي وجده وغالب الرّبع الأول من مُؤَلفه فتح الْجواد مَعَ مطالعته للتحفة والإمداد وَالرّبع الأول من شرح الرَّوْض وغالب شرح الْمنْهَج لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا وَقطعَة من شرح الْقطر لِابْنِ هِشَام وَقَرَأَ على قراء خَاصَّة من أول كتاب البيع إِلَى كتاب الْوَقْف من شرح الْمنْهَج مَعَ مطالعة التُّحْفَة وَلم يزل ملازما للْقِرَاءَة والحضور ويبدي من الْفَوَائِد العجيبة والدقائق الغريبة والأبحاث الدقيقة فِي حقائق الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم والإشكالات الْوَثِيقَة المستنبط لَهَا من مدارك الْعُلُوم مَا يدل على غزارة فَضله وَأَحْكَام علمه وَنَقله وَلَا غرواذ هُوَ فرع ذَلِك الأَصْل الزكي والعنصر الطّيب الرضى ويحق أَن ينشد لِسَان حَالَة ويبدي فَإِن المَاء مَاء أبي وحدي إِلَى آخر مَا ذكره وَأخذ عَن سيدنَا أَحْمد القشاشي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف وَأَجَازَهُ بمروياته ولقنه الذّكر وَلما قدم إِلَى مَكَّة يَوْم السبت تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة سنة أَرْبَعِينَ وَألف السَّيِّد الْجَلِيل الْعَارِف الراسخ مُحَمَّد بن علوي بن(2/166)
عقيل قَرَأَ عَلَيْهِ طرفا من الشِّفَاء ثمَّ طلب مِنْهُ السَّيِّد عبد الرَّحِيم السمهودي وَأحمد ابْن عراق أَن يحضرا مَعَه فأجابهما السَّيِّد لذَلِك ثمَّ أخبرهُ أَن النَّبِي
حَاضر حَال قِرَاءَته وَهَذِه منحة عظمى وَألبسهُ الْخِرْقَة وأرخى لَهُ العذبة ولقنه الذّكر وَألبسهُ عمَامَته وَألف صَاحب التَّرْجَمَة مؤلفات مِنْهَا حَاشِيَة على التُّحْفَة لجده رد بهَا اعتراضات الْعَلامَة ابْن قَاسم الْعَبَّادِيّ وَاخْتصرَ أَسْنَى المطالب فِي صلَة الْأَقَارِب اختصارا عجيبا وَالْفَتْح الْمُبين فِي شرح الْأَرْبَعين وَالْقَوْل الْمُخْتَصر فِي عَلَامَات الْمهْدي المنتظر لجده أَيْضا وَله رِسَالَة فِي الشَّيْخ الْأَكْبَر محيي الدّين بن عَرَبِيّ سَمَّاهَا شذرة من ذهب من تَرْجَمَة سيد طي الْعَرَب وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالمعلاة بِقرب تربة جده شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر رَحمَه الله تَعَالَى
رَمَضَان بن عبد الْحق الْمَعْرُوف بالعكاري الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كَانَ عَالما بالفقه والعربية متجرا فيهمَا مقدما فِي معرفتهما وإتقانهما وَكَانَ النَّاس يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ ويقتبسون مِنْهُ وَكَانَ غَايَة فِي جودة التَّعْلِيم وَحسن التفهيم وَله إطلاع زَائِد على فروع الْمَذْهَب مَعَ إتقان أُصُوله وَهُوَ وَإِن اشْتهر بِهَذَيْنِ العلمين فشهرته فيهمَا شهرة تفرد وَهُوَ قيمًا عداهما من الْعُلُوم كَامِل الأدوات عديم القرين أَخذ الحَدِيث بِدِمَشْق عَن الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن دَاوُد الْمَقْدِسِي نزيل دمشق وَعَن الإِمَام الْفَقِيه مُحَمَّد بن عَليّ الْمَقْدِسِي ثمَّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بالعلمي شيخ الْحَنَفِيَّة فِي وقته وَقَرَأَ المعقولات والعربية على المنلا أبي بكر السندي نزيل دمشق وعَلى غَيره وبرع وَولي خطابة جَامع سِنَان باشا خَارج بَاب الْجَابِيَة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة الْكُبْرَى وَرَأس آخر أمره بِدِمَشْق فَكَانَ يُفْتِي فِي حَيَاة الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وَلما مَاتَ الْعَلامَة مُحَمَّد ابْن قباد الْمَعْرُوف بالسكوتي وَكَانَ مفتي الشَّام أَرَادَ نَائِب دمشق أَن يعرض لَهُ بالفتوى فَمَا قبل القَاضِي الْقُضَاة الْمولى دَاوُد بن بايزيد وَعرض بهَا للشَّيْخ عماد الدّين ابْن الْعِمَادِيّ ووجهت لَهُ من طرف السلطنة أَيْضا وَأقَام صَاحب التَّرْجَمَة على وجاهته وتقيده بنشر المعارف والعلوم وَكَانَ يكْتب الْخط الْمَنْسُوب الْحسن وَيعرف اللُّغَة التركية معرفَة تَامَّة وَلَقَد سَمِعت كثيرا مِمَّن أدْركهُ تَرْجِيحه فِي الْفضل على أهل عصر فَلَمَّا اجْتمع فِيهِ مَا لم يجْتَمع فِي غَيره وحَدثني بعض الْعلمَاء نَاقِلا عَنهُ أَنه أخبرهُ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَنه لما حج اجْتمع بِرَجُل فِي الْحرم الْمَكِّيّ فَقَالَ لَهُ أَنْت إِمَام(2/167)
الْعَصْر قَالَ ثمَّ غَابَ عني فِي مَحَله فَتبين لي أَنه الْخضر وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ بَين الْفضل مَشْهُور الْمعرفَة وَكَانَ لَهُ همة عالية وإقدام فِي الْأُمُور وَله إنْشَاء بِالْعَرَبِيَّةِ وَشعر قَلِيل لَا يحضرني مِنْهُ إِلَّا مَا قرأته بِخَط الإِمَام المتجر مُحَمَّد بن عَليّ الحرفوشي الحريري شَارِح الفاكهي فِي مَجْمُوع لَهُ قَالَ كتبت إِلَى الْأَخ الْعَلامَة رَمَضَان العكاري محاجيا فِي اسْمه وَنحن بقصر القرماني بالجسر الابيض من صالحية دمشق قولي
(يَا زاكيا نجاره ... وَمن تسامى قدما)
(مَاذَا يُسَاوِي قَول من ... حاجيته اقصد غنما)
فَأجَاب بقوله
(يَا فَاضلا مَا مثله ... من مَا جد تكرما)
(أحجية تَضَمَّنت ... شهر الصّيام وأسلما)
وَحج مرَّتَيْنِ ثَانِيهمَا فِي سنة خمس وَخمسين وَرجع متوعك المزاج وَمكث فِي دَاره يزار إِلَى لَيْلَة الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَخمسين وَألف فانتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَدفن بتربة بَاب الصَّغِير وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَذكر وَالِدي المرحوم فِي تَرْجَمته أَنه أخبرهُ الشَّيْخ الْفَاضِل تِلْمِيذه وسميه رَمَضَان بن مُوسَى بن عطيف الْآتِي ذكره بعده فِي منزله بِدِمَشْق أَنه رأى صَاحب التَّرْجَمَة فِي الْمَنَام بعد وَفَاته جَالِسا بمحراب جَامع السنانية فَنظر إِلَيْهِ وَأنْشد بِلَفْظ عريض
(مضى عصر الصِّبَا لَا فِي انْشِرَاح ... وَلَا وصل يلذ مَعَ الصَّباح)
(وَلَا فِي خدمَة الْمولى تَعَالَى ... فَفِيهَا كل أَنْوَاع الْفَلاح)
(وَكنت أَظن يصلحني مشيبي ... فشبت فَأَيْنَ آثَار الصّلاح)
قلت وَسَأَلت أَنا شَيخنَا العطيفي عَن هَذِه الأبيات هَل يعرف أَنَّهَا من نظمه أَو من نظم غَيره فتوقف ثمَّ بعد ذَلِك لَا زلت أفحص عَنْهَا حَتَّى وَجدتهَا منسوبة لبَعض بني السُّبْكِيّ وَأَظنهُ الشَّيْخ الإِمَام
رَمَضَان بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن عطيف الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ شَيخنَا الْأَجَل صَاحب الْفُنُون والآداب الْفَقِيه النَّحْوِيّ الْفَائِق البارع أحد أجلاء الْمَشَايِخ بِدِمَشْق فِي عصره كَانَ لطيف الطَّبْع حسن المعاشرة منطر حاوله منادمة تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب يتَصَرَّف فِيهَا تَصرفا عجيبا وَله رِوَايَة فِي الشّعْر وَأَيَّام الْعَرَب(2/168)
وأخبار الْمُلُوك وَالشعرَاء قل أَن تُوجد فِي أحد من أَبنَاء الْعَصْر قَرَأَ بِدِمَشْق عَن الجلة من الْمَشَايِخ مِنْهُم العكارى الْمَذْكُور قبله والعمادي الْمُفْتِي وَالشَّيْخ مصطفى بن محب الدّين وَغَيرهم وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الْغَزِّي وَالشَّيْخ غرس الدّين الخليلي الْمدنِي وَله مَشَايِخ كَثِيرُونَ غَيرهم وتصدر للأقراء مُدَّة حَيَاته فِي جَامع السنانية والدرويشية وانتفع بِهِ خلق كثير وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَجمع نفائس الْكتب من كل فن وَرَأَيْت لَهُ تعليقات ورسائل كَثِيرَة وَذكره شَيخنَا الخياري الْمدنِي فِي رحلته وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ بيني وَبَينه قبل اللِّقَاء مكاتبات فائقة ومراسلات شائقة تدل على غزارة علمه وفضله وتقضي للظمآن بورود نهله فَكنت أتعشقه على السماع ورؤيا الْآثَار وَأَرْجُو من الله حُصُول الإجتماع وتملى الْأَبْصَار حَتَّى كَانَ بِالشَّام وَكنت أتمناه بِمَدِينَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فأنشدني من لَفظه أول مَا لَقِيَنِي للسلام وَأخْبر أَنه بديهة قَالَه فِي ذَلِك الْمقَام
(أودّ زَمَانا أَن أَرَاكُم بمقلتي ... وأقضي فروضاً قد تعلقن ذِمَّتِي)
(إِلَى أَن قضى الله اجتماعاً بوصلكم ... وَقد كَانَ هَذَا الْوَصْل فِي يَوْم جُمُعَة)
قَالَ فأجبته بعد أَيَّام بِقَوْلِي
(أيا سيدا سرّ الْفُؤَاد بِأَنَّهُ ... يُلَاحظ عبدا فِي حُضُور وغيبة)
(وَقد علم الْمولى تَأَكد شوقنا ... فيسره بِالشَّام أنزه بقْعَة)
(على أَنَّهَا فاقت بِمَا انْفَرَدت بِهِ ... من الْحسن من مَاء معِين وربوة)
قَالَ وَكَانَ كتب إِلَى الْمشَار إِلَيْهِ من الشَّام وَأَنا بِالْمَدِينَةِ يطْلب مني تَرْجَمَة السَّيِّد مُحَمَّد جمال الدّين الْمَشْهُور بكبريت الْمدنِي
(يَا خَطِيبًا بِأَرْض طيبَة أضحى ... أفْصح الْعَرَب عِنْده سكيتاً)
(جد على العَبْد سَيِّدي بمناه ... وَهُوَ مَا ترجموا بِهِ كبريتاً)
فأجبته وَقد رقمت لَهُ من تَرْجَمته مَا سمح بِهِ الخاطر
(عين أهل الشَّام يَا وَاحِد الْعَصْر ... وَمن حَاز فِي الْمَعَالِي صيتًا)
(دمت فِينَا زناد فضلك وار ... لست تحْتَاج للذكا كبريتاً)
قَالَ وَكتب إِلَيّ
(أشيخ الْوَقْت إِبْرَاهِيم يَا من ... عَلَوْت على الورى هام الدراري)
(لأَنْت بِطيبَة من خير قوم ... خِيَار من خِيَار من خِيَار)(2/169)
وَلما رَأَيْت العطيفي تلاعب وتداعب باللقب أَجَبْته بذلك مراعيا فِي القافية لقبه أَيْضا غائصا بحره فَقلت
(أيا مولى سَمَّاهُ شهر صَوْم ... يجل الْوَصْف عَن كم وَكَيف)
(عطفت بوصل أَسبَاب التداني ... وَذَلِكَ لَيْسَ بدعا من عطيف)
انْتهى وَمِمَّا رَأَيْته من آثَار قلمه هَذِه الْقطعَة من الْإِنْشَاء والأبيات كتب بهَا إِلَى بعض الْفُضَلَاء جَوَابا عَن لغز كتبه إِلَيْهِ فِي قرنفل يَا من زين سَمَاء الدُّنْيَا بزهر النُّجُوم وزين الأَرْض بزهرها المنثور والمنظوم نحمدك على مَا أبدعت حكمتك فِي هَذِه الْأَعْصَار من زاهي الأزهار وَنُصَلِّي ونسلم على نبيك الْمُخْتَار وَآله الأخيرا مَا اخْتلف اللَّيْل والهار عدد تنوع النَّهَار أما بعد فَإِن رَقِيق الْكَلَام ورشيق النظام مِمَّا يسحر الْأَلْبَاب وينسج مَا بَين الأحباب وَلَا يدع فقد قَالَ سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام أَن من الْبَيَان سحر أَوَان من الشّعْر حِكْمَة هَذَا وَقد أَخذ رائق كلامكم وفائق نظامكم بِهَذَا الصب أَخذ الأحباب الْأَرْوَاح وَلعب بِهِ وَلَا كتلعاب الراح كَيفَ لَا وَقد كسى حلل إلبها وَالْجمال وانتظم وَلَا كانتظام اللآل رق فاسترق الْأَحْرَار وحلي فتحلي بِهِ أهل الشعار وراق مَعْنَاهُ فأشرق مغناه وَحسن أتساقه فحلا مذاقه وفاج أرج القرنفل من رياضه وهبت نسمات الْجنان من غياضه فَللَّه دَرك ودر مَا ألغزت وَمَا أحسن مَا أبعدت وَقربت فقد أبدعت فاعبدت وأغربت فأرغبت لغز كالغزل فِي نشر طيه حلل من طول فِي مدحه فقد قصر وَمَا عَسى أَن يمدح الْبَحْر والجوهر وَلَكِن نعتذر إِلَيْكُم من هَذِه الشقشقات الَّتِي أوردناها على سَبِيل البديه وكل ينْفق مِمَّا عِنْده ويبديه وَحين ملت طَربا من ميل تِلْكَ اللامات قلت هَذِه الأبيات
(أَتَانِي نظام مِنْك يزري بحسنه ... فقانبك من ذكرى حبيب ومنزل)
(وأشممني مِنْهُ أريجا كَأَنَّهُ ... نسيم الصِّبَا جَاءَت بريا القرنفل)
(فيا وَاحِد الدُّنْيَا وَلَيْسَ مدافع ... وَيَا من غَدا مدحي لَهُ من تغزل)
(بعثت لنا عقدا ثميناً فَلَو رأى ... جواهره النظام ولى بمعزل)
(وَلَو أَن رَآهُ امْرُؤ الْقَيْس لم يقل ... أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا انجلى)
(فَمن بك نظاما فمثلك فَلْيَكُن ... فصاحة أَلْفَاظ بِمَعْنى مكمل)
(رَقِيق لطيف رائق متحبب ... إِلَى كل نفس وَهُوَ فِي الْعين كالحلي)(2/170)
(يفوح عبير الْمسك من طي نشره ... فَكيف وَقد ألغزته فِي القرنفل)
(فَلَا زلت تحبونا بِكُل فَضِيلَة ... وَلَا زلت تحبينا بِعلم مفضل)
(وَلَا زلت للدنيا إِمَامًا وَسَيِّدًا ... وعلمك يرْوى كالحديث المسلسل)
(فيا من غَدا جبرا لكل كسيرة ... وَيَا من غَدا خيرا عَلَيْك معولي)
(وَيَا من غَدا حبرًا لكل دقيقة ... وَيَا من غَدا بحرا لكل مُؤَمل)
(بقيت بِخَير سالما وممتعا ... وقدرك فِي الدُّنْيَا يزِيد ويعتلي)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي شهر رَمَضَان سنة تسع عشرَة والف كَذَا سمعته من لَفظه وكتبته عَنهُ وَتُوفِّي نَهَار الْخَمِيس عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير فِي مَسْجِد النارنج رَحمَه الله
روح الله بن مُحَمَّد أَمِين بن صدر الدّين الشرواني الأَصْل قَاضِي الْقُضَاة الْفَاضِل البارع الأديب كَانَ أحد أجلاء الموَالِي لَهُ جاه عريض وحشمة وافرة وَتثبت فِي الْأُمُور ودأب فِي الإشتغال حَتَّى تنبل ولازم من شيخ الْإِسْلَام الْمولى أسعد ودرس بمدارس قسطنطينية إِلَى أَن وصل إِلَى أحدى الْمدَارِس السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء الْقُدس ثمَّ ولب وحلب ومصر وأدرنة وقسطنطينية وَكَانَ ينظم الشّعْر بالتركية ومخلصه على طريقتهم روحي وَله التَّارِيخ الْمَشْهُور قَالَه لما تسلطن السُّلْطَان وَهُوَ قَوْله خلد الله ملك إِبْرَاهِيم وَكَانَ بَينه وَبَين وَالِدي المرحوم مَوَدَّة ومراسلات كَثِيرَة ويعجبني مِنْهَا مَا كتبه وَالِدي إِلَيْهِ فِي صدر كتاب متمثلا وَهُوَ بالقدس
(يَا نسمَة البان بل يَا نسمَة الرّيح ... إِن رحت يَوْمًا إِلَى من عِنْدهم روحي)
(خذي لَهُم من ثنائي عنبرا عبقا ... وأوقديه بِنَا من تباريحي)
أَقَامَ الله دعائم الْفضل وَشرح صدر الدّين بصدر الشَّرِيعَة وَالْعدْل بِبَقَاء روح الْقُدس وموطن الْأَمْن والأنس وحيد دهره وروح عصره وَمن آخر كتبه إِلَيْهِ وَهُوَ قَاض بحلب وَعِنْدِي من الأشواق مَا لَا تحمله متون الأوراق وَمن الغرام مَا لَا تشرحه أَلْسِنَة الأقلام فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يمن علينا بمنة الاقتراب وَيحسن لشامنا بشريف ذَلِك الجناب لنرتع فِي روض دولته الوريفة ونتمتع بمشاهدة حَضرته الشَّرِيفَة وَتَكون أيامنا بجانبه أعياد الدَّهْر وليالينا بِهِ كلهَا لَيْلَة الْقدر ونعد ذَلِك مِنْهُ تَعَالَى نعْمَة وَأي نعمه لنؤدي بعض مَا يجب من أَدَاء(2/171)
لَوَازِم الْخدمَة وطالما طمعت الآمال بذلك مرَارًا وَلَو مرورا وَرُبمَا خطر ذَلِك فِي الْقلب فملأه ذَلِك الخاطر سُرُورًا على أننا لم نيأس من روح الله أَن يمن بلقائه وَأَن يكحل الْعين باثمد بهائه انْتهى وَكَانَ فِي آخر أمره ولع بِعلم النُّجُوم واستخراج بعض المغيبات الْمُتَعَلّقَة بامور السلطنة هُوَ وَبَعض أخذان لَهُ كَانَ يأنس بهم من جُمْلَتهمْ عبد الْبَاقِي بن مصطفى المتخلص بوجدي الشَّاعِر الْمَشْهُور فِي الرّوم فوصل خبرهم إِلَى الْوَزير الكوبري فسعى فِي قَتلهمْ فَقتلُوا فِي رَابِع شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف والشرواني بِكَسْر الشين وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف وَنون نِسْبَة إِلَى بَلْدَة بالعجم خرج مِنْهَا عُلَمَاء وفضلاء من أَجلهم وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة وَسَتَأْتِي تَرْجَمته إِن شَاءَ الله تَعَالَى
روحي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ الْمَشْهُور كَانَ من أَعَاجِيب الدُّنْيَا فِي صَنْعَة الشّعْر التركي لَهُ التخيلات اللطيفة والألفاظ الرشيقة وديوانه مَشْهُور يُوجد كثيرا بأيدي النَّاس وَكَانَ على أسلوب السياح وَله فِي سياحته ماجريات ووقائع كَثِيرَة وَاسْتقر آخر أمره بِدِمَشْق وَكنت سَمِعت خبْرَة قَدِيما من المرحوم الدرويش عِيسَى العينتابي نزيل دمشق وَكَانَ كثيرا مَا يلهج بأخباره ويورد ماجرياته وينشد أشعاره واظنه لم يُدْرِكهُ الإسنا لَا اجتماعه فروايته لأخباره عَن سَماع وَذكر أَن وَفَاته كَانَت سنة أَربع عشرَة بعد الْألف بِدِمَشْق
ريحَان بن عبد الله الحبشي الأحمدي الشَّافِعِي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ مجاورا بالحجرة شمَالي مَسْجِد قبَاء ذكره النَّجْم فِي ذيله وَقَالَ كَانَ وَاضح الْكَشْف مجلو الْمرْآة ناقد البصيرة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَ القَاضِي عبد الرَّحْمَن قَاضِي الْمَدِينَة عمر لَهُ مَسْجِدا قَدِيما خَارج بَاب الْمصْرِيّ وَعمر لَهُ فِي جَانِبه بَيْتا لطيفا فسكن بِهِ وَتزَوج قَالَ زرته أَنا وَوَلَدي بدر الدّين واستأجزت لَهُ فَأَجَازَهُ وَألبسهُ الْخِرْقَة الأحمدية بحضوري وَصَارَ بَيْننَا مؤاخاة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله
(حرف الزَّاي)
زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَظِيم بن أَحْمد أَبُو يحيى المعري الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ الإِمَام الْقدْوَة الْمُعْتَبر رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا التَّفْسِير والْحَدِيث عَن الشَّيْخ مَنْصُور سبط الطبلاوي الشَّافِعِي وَكَانَ فَقِيها مُفَسرًا لَهُ بَاعَ طَوِيل فِي كثير من الْفُنُون وَولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بالقدس ودرس وَأفَاد وانتفع بِهِ خلق كثير فِي الْفِقْه(2/172)
وَغَيره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ ألف
زَكَرِيَّا بن بيرام مفتي الممالك الإسلامية علم الْعلمَاء المتجرين فِي جَمِيع الْعُلُوم وَكَانَ إِلَيْهِ الهاية فِي التَّحْقِيق وَهُوَ أَمِير أهل عصره فِي الْفِقْه وَالْأُصُول أَصله من أنقرة وَبهَا ولد وَنَشَأ ثمَّ قدم إِلَى قسطنطينة واشتغل بهَا على الْمولى عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بعرب زَاده ثمَّ وصل إِلَى خدمَة مَعْلُول أَمِير فصحبه مَعَه إِلَى الْقَاهِرَة فِي سنة خمسين وَألف وشارك الْعَلامَة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي فِي الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَلما وصل إِلَى قَضَاء أَنا طولي صيره حَافظ التذاكر ولازم مِنْهُ وأحاط بِكَثِير من الْعُلُوم إحاطة تَامَّة وَألف تآليف شاهدة بدقة نظره وتمكنه مِنْهَا حَوَاشِيه على أكمل الدّين وعَلى صدر الشَّرِيعَة وَغير ذَلِك وَله نظم ونثر بِالْعَرَبِيَّةِ مسبوكان فِي قالب الْجَوْدَة فَمن ذَلِك مَا قرظ بِهِ طَبَقَات القَاضِي تقى الدّين التَّمِيمِي الْمُقدم ذكره
(هَذَا كتاب فاق فِي أقرانه ... يسبي الْعُقُول بكشفه وَبَيَانه)
(سفر جليل عبقري ماجد ... سحر حَلَال جَاءَ من سحبانه)
(أوراقه أَشجَار روض زَاهِر ... قد تجتني الثمرات من أفنانه)
(لله در مؤلف فاق الورى ... بفرائد فغدا فريد زَمَانه)
(فجزاه رب الْعَالمين بِلُطْفِهِ ... طَبَقَات عز فِي فسيح جنانه)
لما تعمقت فِي لجج هَذَا الْبَحْر الزاخر صادفت أصداف أَصْنَاف الدُّرَر الكامنة النَّوَادِر وألفيته رَوْضَة غناء زاهرة أزهارها وزهرة زهراء ناضرة أنوارها وجنات شقائقها محمرة وجنات حدائقها فخصرة تذكرة لعارف تقى وتبصرة المتبصر عَن الرذائل نقى جَاوز الشعرى بِشعرِهِ الْفَائِق وفَاق النثرة بنثره الرَّائِق قد استضاء بجواهره المضيئة تَاج تراجم الْأَعْيَان فَصَارَ كَأَنَّهُ مرْآة انعكس فِيهَا صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزَّمَان اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْننَا وَبينهمْ فِي غرف عدن وطبقات الْجنان وَمن شعره قَوْله
(أخف عليّ من منن الرِّجَال ... من الدُّنْيَا الدنية ارتحالى)
(لَئِن ساءت بِسوء الْجَار حَالي ... أحوّل بَلْدَة أُخْرَى رحالي)
وَقَوله أَيْضا
(إِذا مَا كنت مرضيّ السجايا ... وعاش النَّاس مِنْك على أَمَان)
(فعش فِي الدَّهْر ذَا أَمن ويمن ... ويوصلك الْإِلَه إِلَى الْأَمَانِي)(2/173)
وَمن غزلياته قَوْله
(قد قتل العشاق من لحظه ... دِمَاؤُهُمْ سَالَتْ على الأودية)
(يَا عجبا من قَاتل أَنه ... لَيْسَ عَلَيْهِ قَود أَوديَة)
وَله غير ذَلِك وَكَانَ درس بمدارس قسطنطينية حَتَّى وصل إِلَى السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء حلب فِي سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ الشَّيْخ عمر العرضي وَلما قدمهَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مُسلمين عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ رجل فَاضل لَهُ استحضار حسن فِي فقه أبي حنيفَة وَكم جرى بَيْننَا وَبَينه من الأبحاث الَّتِي تدل على حسن استحضاره وسألني ذَات يَوْم عَن قَول بعض كتب الْحَنَفِيَّة لَو ادّعى رجلَانِ على إمرأة أَنَّهَا زَوْجَة كل مِنْهُمَا أَحدهمَا زيد وَالْآخر عمر فَقَالَت فِي الحواب تزوجت زيدا بعد عمر وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة لزيد لَكِن لَو قَالَ لَهَا القَاضِي روجه من أَنْت فَقَالَت تزوجت زيدا بعد عمر وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة عمر وفقال لي مَا الْفرق بَينهمَا فبحثنا مَعَه على قدر الْإِمْكَان ثمَّ أَنه أظهر جَوَابا حسنا من الْخُلَاصَة فَأخذت الْجَواب وكتبت عَلَيْهِ رِسَالَة لَطِيفَة وَقعت عِنْده فِي حيّز الْقبُول ثمَّ إِنِّي كتبت لَهُ رِسَالَة تشْتَمل على ثَلَاثِينَ سؤالا من اثْنَيْنِ وَعشْرين علما أَرَادَ أَن يلْتَزم الْجَواب عَنْهَا فَأجَاب عَن بعض أسئلتها ثمَّ اعتذر بِكَثْرَة اشْتِغَاله بالحكومات وَغَيرهَا ثمَّ ترقى فِي المناصب إِلَى أَن صَار قَاضِي العساكر بانا طولي ثمَّ عزل وَدخل دمشق بعد عَزله فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مُتَوَجها مِنْهَا إِلَى الْحَج وصحبته ولداه الْمولى يحيى الَّذِي صَار آخرا مفتي الدولة وَالْمولى لطف الله الْآتِي ذكرهمَا وَقعد مَا أَدّوا فَرِيضَة الْحَج عَادوا إِلَى الرّوم فولى صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء الْعَسْكَر بروم إيلي وَوَقع بَينه وَبَين سِنَان باشا الْوَزير الْأَعْظَم فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فعزل ثمَّ ولي الْإِفْتَاء فِي رَجَب سنة إِحْدَى بعد الْألف وَأنْشد فِي تَوليته ابْن نوعى صَاحب ذيل الشقائق التركي بيتنا بالتركية استحسنته جدا فعربته فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ومنهما يعلم مَعْنَاهُ وهما قَوْله
(فِي رَأس كل مائَة يَجِيء من ... يجدد الدّين بِحسن الْوَصْف)
(وَمثل ذَا مُجَدد الدّين لَا ... يَجِيء إِلَّا وَاحِد فِي الْألف)
وَلم تطل مدَّته فَتوفي فِي شَوَّال من هَذِه السّنة وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة دخل إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث وَاجْتمعَ بِهِ وَألبسهُ خلعة سنية فحال خُرُوجه سقط مَيتا وروى عَنهُ أَنه قبل وَفَاته بليلة وَاحِدَة رأى فِي مَنَامه كَأَن النَّبِي(2/174)
يَقُول لَهُ فِي غَد تَجْتَمِع بالسلطان وتلبس خلعة وَتَكون عندنَا فانتبه وَهُوَ متعجب وَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَدفن فِي أحد مدرستيه اللَّتَيْنِ بناهما بقسطنطينية بِقرب جَامع السُّلْطَان سليم وحمامه رَحمَه الله تَعَالَى
زَكَرِيَّاء بن حُسَيْن بن مسيح البوسنوي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد تقدم أَبوهُ حُسَيْن وَأَخُوهُ درويش مُحَمَّد وَنَشَأ هُوَ فِي كنف أَبِيه على صون ونزاهة واشتغل بِطَلَب الْعلم وَكَانَ فِي عنوان عمره جميلا غَايَة وَلم يكن فِي عصره من يُقَارِبه فِي الْحسن وَكَانَ تولع فِيهِ قوم من الأدباء والشعرء مِنْهُم الْأَمِير منجك المنجكي وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ
(كلما رحت ذَاكِرًا زَكَرِيَّا ... عَاد قلبِي من الغرام مَلِيًّا)
(رشأ كالمهاة جيدا ولحظا ... وقضيب يقل بَدْرًا سنيا)
(أَتَرَى هَل أرَاهُ وَاللَّيْل داج ... طالعا بَين بردئي مضيا)
(أجتني مَا اسْتَطَعْت من ورد ... خديه بأيدي اللحاظ وردا جنيا)
(وأبل الأوام من رِيقه العذب ... وأسقى من فِيهِ رَاحا شهيا)
(ثكلتني أم الصبابة إِن كنت ... أرى ساليا لَهُ أَو نسيا)
وَقَالَ فِيهِ وَقد رَآهُ لابسا عِمَامَة وَهُوَ يقْرَأ فِي أحد دروس مَشَايِخ دمشق
(وقارىء بمعن فِي درسه ... نفس المحبين فدا نَفسه)
(معمم يشبه بدر الدجى ... مكوّر الشَّمْس على رَأسه)
(غُصْن فُؤَادِي صَار روضاً لَهُ ... قد أبدع الغارس فِي غرسه)
وَهَذَا الْأَمِير مَعَ ميله الزَّائِد إِلَى الحسان كَانَ نزيه النَّفس سليم النَّاحِيَة رفيع الهمة وَهُوَ الْقَائِل وَقد رأى إعْرَاضًا من معشوق لَهُ
(قد أَبَت عبرتي بِأَن فُؤَادِي ... يصطفى من بِغَيْر طرفِي يشام)
(أَنا لَا أَسْتَطِيع مَا يحمل النَّاس ... وَعِنْدِي بعض الْكَلَام كَلَام)
(فَإِذا مَا الحبيب أعرض عني ... فعلى الْحبّ والحبيب السَّلَام)
عودا إِلَى تَرْجَمَة زَكَرِيَّا وَبَعْدَمَا طلع عذاره نسخت آيَة جماله وكسفت صُورَة هلاله وَفِيه يَقُول أَحْمد بن شاهين بيتيه الْمَشْهُورين
(ومذ بدا الشّعْر على وَجهه ... بدّلت الْحمرَة بالاصفرار)
(كَأَنَّمَا الْعَارِض لما بدا ... قد صَار لِلْحسنِ جنَاحا فطار)
ثمَّ بعد ذَلِك ولى النيبابات بمحاكم دمشق وسافر فِي خدمَة الْمولى شعْبَان بن ولي الدّين(2/175)
لما نقل من قَضَاء دمشق إِلَى قَضَاء مصر فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وصيره ثمَّة قساماً ونائباً بالصالحية ثمَّ عَاد فِي خدمته إِلَى دمشق وسافر إِلَى الْحَج فِي سنة خمس وَخمسين ولازم من الْمولى الْمَذْكُور وَلما ولي الْمَذْكُور قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَجه إِلَيْهِ الْقِسْمَة العسكرية بِدِمَشْق وَولي بقْعَة تدريس بِجَامِع بني أُميَّة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة الْكُبْرَى وَكَانَ يحسن اللُّغَة الفارسية والتركية والبوسنوية والعربية لِسَانه وَكَانَ يكْتب الْخط الْمليح وَله فَضِيلَة وَحسن منادمة ومطارحة وَله خلاعة ومجون وَكَانَ بَينه وَبَين أبي مودّة أكيدة وصحبة بَالِغَة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من تحف الدَّهْر وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَعشْرين تَقْرِيبًا وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
زَكَرِيَّاء ابْن خضر البقاعي العينتيتي الْفَقِيه الشَّافِعِي ورد دمشق فِي حُدُود سنة خمس أَو سِتّ أَو سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأقَام مُدَّة بِجَامِع منجك خَارج دمشق بمحلة مَسْجِد الأقصاب وَقَرَأَ كثيرا وتفقه بالشهاب أَحْمد بن أَحْمد الطَّيِّبِيّ الْأَوْسَط ثمَّ لزم الْحسن البوريني فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبيَّة والأصلين وشيئاً من الْمنطق وَتوجه إِلَى الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على النُّور الزيَادي وَأَجَازَهُ بالفتوى والتدريس ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق وَولى إِعَادَة الناصرية الجوانية وتدريس الْمدرسَة النحاسية قرب مرج الدحداح وَكَانَ فَاضلا كَامِلا توفّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سادس عشر شهر رَمَضَان سنة عشْرين وَألف والعينتيتي بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة وياء مثناة من أَسْفَل وَنون سَاكِنة وتاء مثناة من فَوق مَكْسُورَة يعقبها يَاء مثناة من أَسْفَل ثمَّ تَاء مثناة من فَوق نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى شوف الحراذين من جبل لبنان
الشريف زيد بن محسن بن حُسَيْن بن حسن بن أبي نمي شرِيف مَكَّة الحسني وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة عَم أَبِيه الشريف أبي طَالب فَليرْجع إِلَيْهِ ثمَّة كَانَ من أَمر زيد أَنه ولد بِمَكَّة فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وتربى فِي حجر وَالِده وسافر مَعَه إِلَى الْيمن وَلما توفّي أَبوهُ بِصَنْعَاء رَجَعَ إِلَى الْحجاز وَكَانَ قَامَ بِأَمْر الْحجاز الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب الْمُقدم ذكره فَلَمَّا قتل ولي مَكَانَهُ الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس ابْن حسن وولوه الْإِمَارَة وَكَانَ مَرِيضا بِمَرَض الدق فَمَاتَ بعد سنة وشهرين وَذَلِكَ فِي ثامن عشري شهر ربيع الثَّانِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف فَاجْتمع الْأَشْرَاف على الشريف عبد الله بن حسن وولوه الْإِمَارَة وَاسْتمرّ نَحْو سنة ثمَّ خلع نَفسه وقلد(2/176)
الْإِمَارَة وَلَده مُحَمَّدًا وأشرك مَعَه فِي الرّبع الشريف زيدا هَذَا فَبَقيَ أَمرهم على هَذَا الِاتِّفَاق مُدَّة قَليلَة فَدخل القنفدة فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف بعض عَسْكَر الْيمن الَّذين طردهم حاكمها قانصوه فأرسلوا إِلَى الشريف مُحَمَّد الْمَذْكُور أَنا نُرِيد مصر وقصدنا الْإِقَامَة بِمَكَّة أَيَّامًا لنتهياً لللسفر فَأبى خوفًا من الْفِتْنَة وَالْفساد فَلَمَّا وصلهم الْخَبَر أجمع رَأْيهمْ على دُخُول مَكَّة وولوا الشريف نامي بن عبد الْمطلب وأشركوا مَعَه الشريف عبد الْعَزِيز بن إِدْرِيس فِي الرّبع بِلَا شعار وأرسلوه إِلَى أَمِير جدة ليسلمها إِلَيْهِم فَأبى وَقتل الرُّسُل فتجهزوا وحاصروهم يَوْمَيْنِ ثمَّ دخلُوا جدة ونهبوها وَاسْتمرّ الشريف نامي يصادر أهل مَكَّة وَنهب عسكره الْبِلَاد واستباحوا الْمُحرمَات وَكَانَ الشريف زيد هرب إِلَى الْمَدِينَة وَكتب عرُوضا وأرسلها إِلَى صَاحب مصر مَعَ السَّيِّد عَليّ بن هيزع حِوَالَة مَكَّة بِمصْر وَلما وصل خبرهم لصَاحب مصر أرسل إِلَيْهِم سَبْعَة من الْأُمَرَاء وَأرْسل بخلع سلطانية للشريف زيد وبلغهم أَن الشريف زيدا بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلُوا وخلعوا عَلَيْهِ بِملك الْحجاز فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَتوجه إِلَى الْعَسْكَر وَأتوا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة وَلما وصلت العساكر إِلَى مر الظهْرَان خرجت الْخَوَارِج إِلَى جِهَة الشرق وَحج باالناس الشريف زيد سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَلما فرغوا من الْمَنَاسِك توجهوا إِلَى مسك الْخَوَارِج فَلَمَّا بَلغهُمْ قصد الْعَسْكَر إِلَيْهِم تحَصَّنُوا بحصن تربة فحاصرتهم العساكر السُّلْطَانِيَّة وَكَانَت الْخَوَارِج فرْقَتَيْن فرقة رئيسهم يُقَال لَهُ الْأَمِير عَليّ وَالثَّانيَِة رئيسهم يُقَال لَهُ الْأَمِير مَحْمُود فَاسْتَمْسك الْأَمِير على نَفسه من أُمَرَاء مصر أَن يسلموه من الْقَتْل وَالْتزم لَهُم بالأمير مَحْمُود فقبلوا ذَلِك ومسكوا الْأَمِير مَحْمُود بحيلة دبروها وأتى بِهِ إِلَى مَكَّة وطيف بِهِ على جمل معذباً بالنَّار ثمَّ صلب حَيا بالمعلاة إِلَى أَن مَاتَ وأخذته الْعَامَّة وأحرقته فِي شُعْبَة العفاريت وَرجعت وَكَانَت الْخَوَارِج أَقَامَت الشريف نامي كَمَا تقدم وَكَانَ لَهُ اسْم الْأَمر فَقَط فَلَمَّا فرغوا من أَمر الْخَوَارِج قبضوا على الشريف نامي كَمَا تقدم وَكَانَ لَهُ اسْم الامر فَقَط فَلَمَّا فرغوا من أَمر الْخَوَارِج قبضوا على الشريف نامى وأخيه السَّيِّد وحبسوهما واستفتوا فيهمَا الْعلمَاء فأفتوا بِقَتْلِهِمَا فَقَتَلُوهُمَا وصلبوهما بجانبي رَأس الرَّدْم الْمُسَمّى الْآن بالمدعى وتمت الْولَايَة للشريف زيد وَكَانَ عادلاً مشفقاً على الرّعية وأزال فِي زَمَانه كثيرا من الْمُنْكَرَات وأبطل مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة وَأمنت(2/177)
فِي أَيَّامه الرعايا وَعمر عمائر مستحسنة من جُمْلَتهَا سَبِيل وحنفية بِمَكَّة وَفِي تَارِيخه يَقُول القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي
(لله تأسيس نما خَيره ... وفاز بالتطهير من أمّ لَهُ)
(بِهِ سَبِيل وحنيفية ... وسلسسبيل فارتشف سلسله)
(لَهُ نبا فِي الْفَيْض مهما روى ... حَدِيثه أروى بِمَا سلسله)
(سَالَتْ عطاياه لجيناً فَمن ... رام نداه نَالَ مَا أمّله)
(وَحَيْثُ لم يكتف سُؤَاله ... فَلَا يكف الْبَذْل أَن أرْسلهُ)
(لأنّ من أسس بُنْيَانه ... غيث الورى فِي السّنة الممحلة)
(من نَفسه يَوْم عطاه ترى ... أَن وهب الدُّنْيَا فقد قلله)
(توجّه الله بتاج زها ... بجوهر الْمجد الَّذِي كلله)
(وَالله من وافر إحسانه ... أجْرى لَهُ الْأجر الَّذِي أجزله)
(فَإِن تسل عَن ضبط تَارِيخه ... فَخذ جَوَابا يُوضح المسئله)
(أسسه سُلْطَان أم الْقرى ... زيد يَدُوم والعز والسعد لَهُ)
وَفِي أَيَّامه وَقع بِمَكَّة سيل مرَّتَيْنِ مرّة فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة بَقينَ من شَوَّال سنة خمس وَخمسين وَألف وَخرب دوراً وأبنية وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَعلا على عتبَة بَاب الْكَعْبَة مِقْدَار ذِرَاع وأتلف مَا فِي قبَّة الفراشين من الْمَصَاحِف والرباع والكتب وامتلأ الْمَسْجِد بِالتُّرَابِ والقمامات فتصدى الشريف زيد ونادى على الْعَامَّة بتنظيف الْمَسْجِد وَحضر بِنَفسِهِ وساعده شيخ الْحرم الْأَمِير مصطفى صَاحب جدة وبذل من مَاله مَالا جزيلاً وَاسْتمرّ الْعَمَل فِيهِ إِلَى النّصْف من ذِي الْقعدَة فتم تنظيفه من سَائِر جهاته وَمرَّة فِي يَوْم السبت بعد الظّهْر سَابِع شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَكَانَ حصل مطر شَدِيد وسالت أَوديَة مَكَّة وَأخذ السَّيْل جملَة من الْأَبْنِيَة والعشش والدور وَزَاد المَاء فِي الرّفْعَة والعلو وَكلما مر على حَيَوَان أَو عشة حمله واقتلع مَا مر عَلَيْهِ من خيمة أَو مَكَان وَلما وصل بَاب أجياد تمانع هُوَ وسيل أجياد فِي السّير فغلب سيل أجياد وَدخل من سَائِر الْأَبْوَاب فَامْتَلَأَ صحن الْمَسْجِد وَاسْتمرّ الْمَطَر نَحْو ثَلَاثِينَ دَرَجَة وَبلغ قفل الْكَعْبَة وأتلف مَا فِي خلْوَة الفراشين وَمَا فِي الخلاوي الْقَرِيبَة من الْمَسْجِد من الْمَصَاحِف والكتب وامتلأ الْمَسْجِد من التُّرَاب والقمامات وأتلف أَمْوَالًا كَثِيرَة فِي الْبيُوت الْقَرِيبَة من المجرى وَخرب دوراً كَثِيرَة وغرق(2/178)
فِيهِ سِتَّة أنفس وتعطل الْمَسْجِد عَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة فِي خَمْسَة أَوْقَات من الظّهْر فتقيد الشريف زيد فِي تنظيف الْمَسْجِد وَحضر بِنَفسِهِ ونادى على الْعَامَّة وَكَذَلِكَ صَاحب جدة الْأَمِير سُلَيْمَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ شيخ الْحرم الْمَكِّيّ وَعمل الْعلمَاء والمدرسون والخطباء والأشراف بِأَيْدِيهِم وبذل الشريف والأمير مَالا جزيلاً وأعملوا همتهم فتم تنظيفه فِي سَبْعَة أَيَّام وَكَانَ مسعوداً فِي سَائِر حركاته وَلم يَقْصِدهُ أَرْكَان الدولة بِسوء إِلَّا خيبهم الله تَعَالَى وَاتفقَ فِي زَمَانه أَن صَاحب جدة الْأَمِير مصطفى عظمت شوكته ونفذت كَلمته وَظَهَرت مِنْهُ أطوار لَا تلِيق بشأن الشريف زيد وَلم يزل كَذَلِك والشريف صابر عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ أَوَائِل سنة سبع وَخمسين طلع الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَى الطَّائِف للزيارة وطلع مَعَه بشير الحبشي غُلَام السُّلْطَان مُرَاد وَهَذَا فِي مَجِيئه الثَّانِي مُتَوَلِّيًا مشيخة الْحرم النَّبَوِيّ فَأَقَامَ مَا شَاءَ الله أَن يُقيم فَلَمَّا أَن كَانَ نازلاً إِلَى مَكَّة طالعاً فِي الْمحل الَّذِي يُقَال لَهُ النقب الْأَحْمَر وَجه جبر كرا مِمَّا يَلِي الطَّائِف وَقد تَفَرَّقت عساكره خلفا وأماماً وَلم يبْق مَعَه سوى السايس وحامل كوز المَاء اعْتَرَضَهُ رجل عَرَبِيّ كَانَ يتعهده بِالْإِحْسَانِ يُقَال لَهُ الْجَعْفَرِي فَضَربهُ وَهُوَ متجرد للْإِحْرَام بجنبية أنفذها إِلَى أحشائه وَذهب فَلم يدر مَحَله قيل أَن السايس أَرَادَ ضرب الْقَاتِل فَوَقع السَّيْف فِي مُؤخر الحصان فقمص فَسقط عَنهُ الْأَمِير فتلاحقت العساكر فَلم يلبث إِلَّا نَحْو ساعتين وَتُوفِّي وَكَانَ قَتله يَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَأدْخل إِلَى مَكَّة فِي التخت قَتِيلا غرَّة رَجَب مِنْهَا وَدفن بالمعلاة أَمَام قبَّة السيدة خَدِيجَة وَكَانَ الشريف زيد فِي تِلْكَ السّنة قد توجه إِلَى جِهَة الشرق فأبعد حَتَّى وصل قَرِيبا من الخرج وَكَانَ الْقَائِم مقَامه لحفظ مَكَّة السَّيِّد إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن بن أبي نمى فاستدنى السَّيِّد إِبْرَاهِيم غَالب عَسْكَر الْأَمِير وأنزلهم فِي مَحل يسعهم بأجياد وأجرى عَلَيْهِم العلوفات وَأمر كتخدا الْعَسْكَر دلاور بالنزول لجدة لحفظ البندر فَامْتنعَ ثمَّ بعد لَيَال نزل دلاور بعد هزيع من اللَّيْل قَاصِدا جدة خلسة فشعر بِهِ السَّيِّد إِبْرَاهِيم وأرصد لَهُ جمَاعَة فمسكوه وَأتوا بِهِ إِلَيْهِ فحبسه ثمَّ اختلس بعض الْعَسْكَر نَفسه وَذهب إِلَى بشير بِالطَّائِف وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فَأتى بشير إِلَى مَكَّة وَنزل بمدرسة بهْرَام بالمسعى فتردد السَّيِّد إِبْرَاهِيم فِي الذّهاب إِلَيْهِ وَعَدَمه لاخْتِلَاف المشير ثمَّ جزم فَتَلقاهُ بِمَا هُوَ الْوَاجِب ثمَّ قَالَ لَهُ بعد اسْتِقْرَار الْمجْلس لم حبس دلاور فَقَالَ حَبسته خشيَة إضراره فَإنَّا ألزمناه مرَارًا(2/179)
بالذهاب إِلَى جدة فَامْتنعَ فارتبنا بذهابه خُفْيَة فَقَالَ بشيراً طلقه فَقَالَ لَا أطلقهُ حى يصل الشريف زيد ثمَّ قَامَ السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي نزل بشير إِلَى القَاضِي واستدعى السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَحكم عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلقهُ ثمَّ بعد يَوْمَانِ عزم السَّيِّد إِبْرَهِيمُ والقائد رشيد حَاكم مَكَّة إِلَى نَحْو بركَة ماجن للتنزه فاستجر بشير الْعَسْكَر وَوَعدهمْ فحملوا أثقالهم وأدخلوها من بَاب الْمَسْجِد وَخَرجُوا بهَا من بَاب ابْن عَتيق ثمَّ خَرجُوا بعد الْعَصْر حازبين مارين على دَار السَّعَادَة ثمَّ على السُّوق ثمَّ على سويقة إِلَى أَن وصلوا إِلَى بَيت بشير وَكَانَ نازلاً بالباسطية فوصل الْخَبَر للسَّيِّد إِبْرَاهِيم فجَاء إِلَى الْبَلَد وَقَالَ لبشير مَا هَذَا الْفِعْل فَقَالَ بشير مجالسه نعم عَسْكَر السُّلْطَان لَهُم فِي التربية أَعْوَام فتأخذهم فِي خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ فِي عَسْكَرهمْ شخص كثير الْفساد فَأمر السَّيِّد إِبْرَاهِيم بقتْله أَيْنَمَا وجد فَوجدَ سكراناً على الخريق فتناوله عَسْكَر الشريف فقطعوه فثارت الْفِتْنَة وترامت العسكران بالرصاص وَقتل شخص من النَّاس خلف الْمقَام الْمَالِكِي وَقتل كتخذا بشير وَلم يزل مطروحاً عِنْد بَاب ابْن عَتيق من دَاخل الْمَسْجِد إِلَى اللَّيْل حَتَّى رَفعه بعض النَّاس ثمَّ سعى القَاضِي أَحْمد قره باش وَغَيره بِالصُّلْحِ وَأَن لَا يصل أحد إِلَى أحد بِسوء من الْجَانِبَيْنِ وَلَا تخرج جمَاعَة بشير إِلَى السُّوق إِلَّا ثَلَاثَة أشخاص معينون لقَضَاء حَوَائِجه من السُّوق وسكنت الْفِتْنَة حَتَّى وصل الشريف زيد إِلَى مَكَّة فَاسْتحْسن جَمِيع مَا فعله السَّيِّد إِبْرَهِيمُ ثمَّ ظفر الله تَعَالَى الشريف زيدا على الْجَمِيع وَنَصره عَلَيْهِم وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه زار النَّبِي
عَام تسع وَخمسين وَكَانَ دُخُوله إِلَى الْمَدِينَة من شعْبَان فَنزل بالقاضية خَارج السُّور ثمَّ فِي فجر الْيَوْم الْعَاشِر من الشَّهْر الْمَذْكُور نزل القَاضِي زفر قَاضِي الْمَدِينَة إِذْ ذَاك رَاكِبًا وَمَعَهُ ثَلَاثَة من الخدام فَلَمَّا كَانَ عِنْد الدفتر داريه وَثَبت عَلَيْهِ شخص فَضَربهُ بِالْحَدِّ فِي ظَهره وضربة أنفذها من صَدره فأكب على قربوس الْفرس وَلم تزل دَاخِلَة بِهِ إِلَى محراب سيدنَا عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَإِمَام الشَّافِعِيَّة قَائِم يُصَلِّي الْفجْر فَقَامَ بعض النَّاس إِلَيْهِ وأنزلوه بآخر رَمق وَهُوَ يَقُول يَا رَسُول الله يَا رَسُول الله وضع إِمَام الْوَجْه الشريف فَبعد لَحْظَة قضى عَلَيْهِ فحشدت عَسَاكِر الْمَدِينَة واجتمعوا وَأَغْلقُوا أَبْوَاب الْمَدِينَة وَتَفَرَّقُوا فِي نَوَاحِيهَا وأسوارها ووجهوا المدافع إِلَى جِهَة الشريف وَنَادَوْا اخْرُج عَنَّا الْآن وبدا مِنْهُم مَا لَا يَلِيق فَلم يزل الشريف بهم حَتَّى أعمل الْحِيلَة وَدخل من بَاب هُوَ وعسكر بعد(2/180)
أَن نصب قَاضِيا واستدعى وُجُوههم لينْظر فِي قتلة القَاضِي ويبحث عَنْهُم فَأتوا إِلَيْهِ ثمَّ لم يزل يقبضهم وَاحِدًا بعد وَاحِد ففك بَعضهم بشفاعة وَذهب بالباقين مقيدين وأمربإبقاء بَعضهم فِي يَنْبع فاستمروا إِلَى مَجِيء الْحَاج فاستشفعوا بأميره فَأتى بهم إِلَى مَكَّة متشفعاً فيهم فَقبل الشريف شَفَاعَته وَعَفا عَنْهُم ثمَّ لم نزل بعد سفر الْحَاج قيطاس أَمِير جدة من مَكَّة إِلَى جدة مغاضباً للشريف زيد نزلُوا مَعَه وَكَتَبُوا أنفسهم من عسكره وَسبب غَضَبه الناشىء عَن الْحَرْب الْآتِي ذكره فِي سنة سِتِّينَ وَألف أُمُور مِنْهَا أَنه ورد إِلَى مَكَّة بعض تجار من الصعائدة وشخص عجمي يُسمى أَسد خَان من جِهَة الْيمن بِتِجَارَة ونزلوا من الْبَحْر إِلَى بندر القنفدة ووصلوا إِلَى مَكَّة وَلم يدخلُوا بندر جدة وَكَانَ قيطاس بِمَكَّة وَقد وصل لِلْحَجِّ فاحتال على الصعيدي وحبسه وَكَانَ الصعيدي ملتجئاً إِلَى السَّيِّد هَاشم بن عبد الله فألزم الشريف زيدا باطلاقه فوعده ثمَّ أَخَذته الحمية فَركب إِلَى الشريف ثَانِيًا ثمَّ نزل من عِنْده قَاصِدا بَيت قيطاس لفك الرجل من الْحَبْس فَنَادَى الشريف وَهُوَ قَائِم من روشته وَرَاء الرجل فَلَمَّا أقبل على بَيت قيطاس وجد الْمَحْبُوس مُنْطَلقًا فَرجع بِهِ وَمِنْهَا انجاء أُولَئِكَ النَّفر من عَسْكَر الْمَدِينَة ونسبتهم قتل القَاضِي إِلَيْهِ وَمِنْهَا تردد السَّيِّد عبد الْعَزِيز بن ادريس إِلَيْهِ ومواطأته وعده اسعافه بِمَا يأبي الله الا خلَافَة فَقبل أَن يُسَافر الْحَاج من مَكَّة نزل قيطاس للسَّيِّد عبد الْعَزِيز إِلَى مَكَّة وَنُودِيَ لَهُ بالبلاد وَأقَام حَاكما فِيهَا نَاصِر ابْن سعيد عَتيق مصطفى السيورى وأجرى الاحكام العجرفيه وَظن أَنَّهَا تكون أحمدية وَأَقْبل قيطاس وَمَعَهُ السَّيِّد الْمَذْكُور بِمن مَعَه وَمن اجْتمع عَلَيْهِ من عَسْكَر الْمَدِينَة وَخرج الشريف زيد وَكَانَ الْموقف فَوق التَّنْعِيم وَكَانَ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَرْث مُتَقَدما فِي الميمنة بجماعته وَمن يَلِيهِ وَكَانَ فِي الميسرة كَذَلِك مُتَقَدما قَلِيلا السَّيِّد مبارك ابْن شبير بجماعته وَمن يَلِيهِ والشريف زيد بِمن مَعَه فِي الْقلب والعروج مَلَأت السهول والوعور وتراموا بالرصاص والمدافع وَكلما هم الاشراف بِالْجُمْلَةِ يَقُول لَهُم الشريف زيد مَعكُمْ مَعكُمْ كِنَايَة عَن التثبت والتأني وارتفع النَّهَار وحميت الشَّمْس فركض من الاشراف جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد وبيربن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَالسَّيِّد بشر بن سُلَيْمَان وَالسَّيِّد أَبُو الْقَاسِم فأصيب السَّيِّد وبير بالبندق فَسقط بَين الجمعين وَأُصِيب جمَاعَة من الْجَانِبَيْنِ وَحين اشْتَدَّ الْحَال على السَّيِّد عبد الْعَزِيز وَمن مَعَه فر إِلَى جمع السَّيِّد مبارك ابْن شبير دَاخِلا عَلَيْهِ(2/181)
طَالبا الْأمان لَهُ ولقيطاس وَمن مَعَه من الشريف زيد فجَاء بِهِ إِلَى الشريف زيد فآمنه وَوَقع الصُّلْح ونصبت للشريف خيمة فَنزل بهَا يستظل وَسَأَلَ السَّيِّد عبد الْعَزِيز من الشريف زيد أَن يُوصل قيطاس إِلَى مأمنه لِأَنَّهُ أشْفق من نهب العربان لَهُ فأصحبه الشريف خمسين رجلا من الْعَسْكَر فَذهب إِلَى جدة رَاجعا خائباً وَجَاء بعد أشهر عَزله فَذهب إِلَى يَنْبع وواجه الْحَاج وَبهَا وَمكث بهَا إِلَى عود الْحَاج من مَكَّة إِلَيْهَا فَتوجه مَعَهم إِلَى مصر وَتوجه مَعَه السَّيِّد عبد الْعَزِيز فاستمر قيطاس بِمصْر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَجَاء فِي موسمها أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ فَلَمَّا خرج الشريف زيد لملاقاته للخلعة السُّلْطَانِيَّة على الْعَادة لم يكن بَينهمَا مناكبة على الْمُعْتَاد بل مد لَهُ الشريف يَده فصافحها وَمن عامئذ تركت مناكبة شرِيف مَكَّة لأمراء الحجيج وَبَالغ الْأَمِير فِي تَعْظِيم الشريف وَلم يظفر عَلَيْهِ فِي أمرما وَأقَام السَّيِّد عبد الْعَزِيز بِمصْر نَحْو سنتَيْن ثمَّ جَاءَ خبر وَفَاته فِي السّنة الثَّالِثَة شَهِيدا بالطاعون وانْتهى وَبِالْجُمْلَةِ فأحوال الشريف زيد طَوِيلَة وأخباره كَثِيرَة وَلَو بسط القَوْل فِي وقائعه وغزواته وسعوداته وموافقات الأقدار لمراداته لطال الْكَلَام وَقد مدح بالقصائد الطنانة النفيسة وقصدته الشُّعَرَاء من الْبِلَاد الْبَعِيدَة فَمن وَفد إِلَيْهِم مِنْهُم ومدحه بالقصيدة الفائقة فِي بَابهَا السَّيِّد أَحْمد الأنسي اليمني ومستهل قصيدته
(سلوا آل نعم بَعدنَا أَيهَا السّفر ... أعندهم علم بِمَا صيع الدَّهْر)
(تصدى لشت الشمل بيني وَبَينهَا ... فنزلها البطحا ومنزلي الْقصر)
(رَآنِي وَنِعما لاهيين فغالنا ... فشلت يَد الدَّهْر الخؤن وَلَا عذر)
(فوَاللَّه مَا مكر الْعَدو كمكره ... وَلَكِن مكراً صاغه فَهُوَ الْمَكْر)
(فقولا لأحداث اللَّيَالِي تمهلى ... وَيَا أيهذا الدَّهْر موعدك الْحَشْر)
(سَلام على ذَاك الزَّمَان وطيبه ... وعيش تفضى لي وَمَا نبت الشّعْر)
(فَتلك الرياض الباسمات كَأَنَّمَا ... عواتقها من سندس حلل خضر)
(تنضد فِيهَا الأقحوان ونرجس ... كأعين نعم إِذْ يقابلها الثغر)
(كَأَن غصون الْورْد قضب زبرجد ... تخال من الْيَاقُوت أعلامها الْحمر)
(إِذا خطرت فِي الرَّوْض نعم عَشِيَّة ... تفاوح من فضلات أردانها الْعطر)
(وَإِن سحبت أذيالها خلت حَيَّة ... إِلَى المَاء تسْعَى مَالا خمصها أثر)
(كساها الْجمال اليوسفي ملابسا ... فأهون ملبوس لَهَا التيه وَالْكبر)(2/182)
(فكم تخجل الأغصان مِنْهَا إِذا انْثَنَتْ ... وتغضى حَيَاء من لواحظها البتر)
(لَهَا طرة تكسو الظلام دياجياً ... على غرَّة إِن أسفرت طلع الْفجْر)
(وجيد من البلور أَبيض ناعم ... كعنق غزال قد تكنفها الذعر)
(وَنحر يَقُول الدّرّ أَن بِهِ غنى ... عَن الحلى لَكِن بِي إِلَى مثله نقر)
(وحقان كالكافور ناف علاهما ... من الند مِثْقَال فندبه الصَّبْر)
(رويدك يَا كافور إِن قُلُوبنَا ... ضِعَاف وَمَا كل الْبِلَاد هِيَ الْمصر)
(بدا الْقد غصنا باسقا متأودا ... على تقوى رمل يطوف بِهِ نهر)
(يكَاد يدق الخصر من هيف بِهِ ... روادفها لَوْلَا الثقافة والخصر)
(لَهَا بشر مثل الْحَرِير ومنطق ... رخيم الْحَوَاشِي لَا هراء وَلَا نزر)
(رأتني سقيمانا حلا والها بهَا ... فأدنت لَهَا عود أناملها الْعشْر)
(وغنت بِبَيْت يلبث الركب عِنْده ... حيارى بِصَوْت عِنْده يرقص الْبر)
(إِذا كنت مطبوباً فَلَا زلت هَكَذَا ... وَإِن كنت مسحوراً أَفلا برىء السحر)
(فَقلت لَهَا وَالله يَا ابْنة مَالك ... لما شفني إِلَّا القطيعة والهجر)
(رمتني الْعُيُون البابليات أسهما ... فأقصدني مِنْهَا سهامكم الْحمر)
(فَقَالَت وَأَلْقَتْ فِي الحشا من كَلَامهَا ... تأجج نَار أَنْت من ملكنا حر)
(فوَاللَّه مَا أنسى وَقد بكرت لنا ... بإبريقها تسْعَى بِهِ القنة الْبكر)
(تَدور بكاسات الْعقار كأنجم ... إِذا طلعت من برجها أفل الْبَدْر)
(نداماي نعم والرباب وَزَيْنَب ... ثَلَاث شخوص بَيْننَا النّظم والنثر)
(على الناي وَالْعود الرخيم وقهوة ... يذكرهَا ذَنبا لأقدامنا الْعَصْر)
(فتقتص من ألبابنا وعقولنا ... فَلم ندر هَل ذَاك النعاس أم السكر)
(مُعتقة من عهد عَاد وجرهم ... ومودعها الأدنان لُقْمَان والنسر)
(مشعشعة صفراً كَأَن حبابها ... على فرش من عسجد ينثر الدّرّ)
(إِذا أفرغت فِي الكاس نعم وَأُخْتهَا ... تشابه من ثغريهما الرِّيق وَالْخمر)
(خلا أَن ريق الثغر أشفى لمهجتي ... إِذا ذاقه قلبِي الشجي برد الْجَمْر)
(وأنفع درياق لمن قتل الْهوى ... فهات ارتشاف الثغران سمح الثغر)
(بِهَذَا عرفنَا الْفرق مَا بَين كأسها ... وَبَين مدام الظُّلم إِن أشكل الْأَمر)
(فوَاللَّه مَا أسلو هَواهَا على النَّوَى ... بلَى إِن سلا بذل الندى الْملك لقسر)(2/183)
(أَبُو حسن زيد الْمَعَالِي والتقى ... لَهُ دون أَمْلَاك الورى الْمجد وَالْفَخْر)
(إِذا مَا مَشى بَين الصُّفُوف تزلزلت ... لهيبته الْأَمْلَاك والعسكر المجر)
(وترجف ذَات الصدع خوفًا لِبَأْسِهِ ... فتندك أطواد الممالك والقفر)
(فَلَو قَالَ للبحر المحي أئت طَائِعا ... أَتَاهُ بِإِذن الله فِي السَّاعَة الْبَحْر)
(كريم مَتى تنزل بأعتاب دَاره ... تَجِد ملكا يزهو بِهِ النهى وَالْأَمر)
(تَجِد ملكا يُغني الْوُفُود وينجز الوعود ... وَأدنى بذله الدهم والشقر)
(على جوده من وَجهه وَلسَانه ... دليلان للوفد البشاشة والبشر)
(فَمَا أحنف حلماً وَمَا حَاتِم بِذِي ... وَمَا عنتر يَوْم الْحَقِيقَة مَا عَمْرو)
(هُوَ الْملك الضَّحَّاك يَوْم نزاله ... إِذا مَا الجبان الْوَجْه قطبه السكر)
(لقد قر طرف الدَّهْر مِنْهُ لِأَنَّهُ ... لَدَيْهِ النوال الحلو والقضب المر)
(حَيَاة وَمَوْت للموالي وللعدا ... لقد جمعا فِي كَفه الْجَبْر وَالْكَسْر)
(أنخ عِنْده يَا طَالب الرزق فَالَّذِي ... حواه أنوشر وَإِن فِي عينه النزر)
(وَلَا تصغ للعذال أذناوان وفوا ... بأحسابهم مِنْهُم فَمَا العَبْد وَالْحر)
(وَهل يَسْتَوِي عذب فرات مروق ... وملح أجاج لَا وَلَا التِّبْن والتبر)
(فَلَو سَمِعت أذن العداة لمجده ... مزاياه لاستحيت وَلَكِن بهَا وقر)
(مليك إِلَيْهِ الِانْتِهَاء وَقَيْصَر ... يقصر عَنهُ بل وكسرى بِهِ كسر)
(مليك لَهُ عِنْد الاله مكانة ... تبوأها من قبله الْيَأْس وَالْخضر)
(مليك لَهُ سر خَفِي كَأَنَّمَا يناجيه بِالْغَيْبِ ابْن دَاوُد والحبر ... )
(فَإِن كذبُوا أَعدَاء زيد فحسبه ... من الشَّاهِد المقبول قصَّته الْبكر)
(ليَالِي إِذْ جَاءَ الخصى وَأَكْثرُوا ... أقاويل غي ضَاقَ ذرعا بهَا الصَّدْر)
(فأيقظه من نَومه بعد هجعة ... من اللَّيْل بَيت زَاد فخراً بِهِ الشّعْر)
(كَأَن لم يكن أَمر وَإِن كَانَ كَائِن ... لَكَانَ بِهِ أَمر نفا ذَلِك الْأَمر)
(وَفِي طي هَذَا عِبْرَة لَا ولى النهى ... وذكرى لمن كَانَت لَهُ فطنة نفر)
(فيا زيد قل للحاسدين تحفظُوا ... بغيظكم أَن لَا يطيعكم الصَّبْر)
(فجدي كَمَا قد تعلمُونَ مؤثل ... وكل حمام الْبر يقنصها الصَّقْر)
(من الْقَوْم أَرْبَاب المكارم والعلى ... ميامين فِي أَيْديهم الْعسر واليسر)
(مساميح فِي الأولى مصابيح فِي الدجى ... تصالح فِي معناهم الْخَيْر وَالشَّر)(2/184)
(أسنتهم فِي كل شَرق ومغرب ... إِذا وَردت زرق وَإِن صدرت حمر)
(مساعير حَرْب والقنا متشاجر ... وَيَوْم الندى تبدو حجاججة غر)
(وليدهم دَان الْمُلُوك لأَمره ... تَقول لبدر التم مَا أنصف الشَّهْر)
(بنى حسن لَا أبعد الله داركم ... وَلَا زَالَ منهلاً بأرجائها الْقطر)
(وَلَا زَالَ صدر الدست منشر حابكم ... فعنكم وُلَاة الْبَيْت ينشرح الصَّدْر)
(وَصلى على الْمُخْتَار والآل رَبنَا ... وَسلم مَا لَاحَ السما كَانَ والنسر)
قلت وَهَذِه قصيدة معمورة وَقد ذكرهَا ابْن مَعْصُوم فِي تَرْجَمَة الأنسي فَقَالَ أجَازه الشريف زيد عَلَيْهَا جَائِزَة سنية النّيل قلت كَانَت الْجَائِزَة على مَا سمعته ألف ذهب وعبداً وفرسا وَالذَّهَب الْوَاحِد عِنْدهم بِمَثَابَة ثلث القرش فِي بِلَادنَا وَقعد تعقبها ابْن مَعْصُوم وَأَنا قد ذكرت فِي النفحة أجوبة التعقبات الَّتِي تعقبها فَارْجِع إِلَيْهَا ثمَّة وَقَول الأنسي فِيهَا
(كَأَن لم يكن أَمر وَإِن كَانَ كَائِن ... لَكَانَ بِهِ أَمر نفى ذَلِك الْأَمر)
لهَذَا الْبَيْت قصَّة محلهَا هُنَا وَهُوَ أَنه لما كَانَ أثْنَاء سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وصل بشير الحبشي الطواشي الْمَار الذّكر فِي قدمة أولى لَهُ إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ أوَامِر سلطانية من السُّلْطَان مُرَاد بِأَنَّهُ مُطلق التَّصَرُّف وَكَانَ فِي ظَنّه أَن يعْزل الشريف زيدا من منصبه ويولى غَيره فورد الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان مُرَاد فشاع الْخَبَر بينبع ثمَّ كتمه بشير ليتم لَهُ مَا أَرَادَ وَكَانَ الشريف زيد هيأ لبشير عدَّة أَمَاكِن من الْمدَارِس والبيوت وَأمر بفرشها وَكَانَ نِيَّته مواجهته إِلَى مر وَأرْسل بعض خُدَّامه لينبع ليرى من مَعَ بشير من الْخَيل وَالرِّجَال فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا سمع هَذَا الْخَبَر وتحققه فَرجع مسرعاً مجداً إِلَى الشريف زيد فَلَمَّا تحقق صِحَة الْخَبَر أَمر بتحويل الْفرش الَّتِي فرشت فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن وغلق بَعْضهَا ثمَّ لما قَارب بشير مَكَّة خرج إِلَيْهِ الشريف زيد ولاقاه فِي سَبِيل الجوخى مَحل ملاقاة أَمِير الْحَاج فَلَمَّا قابله وَفِي ظن بشير أَن الْخَبَر لم يبلغهُ وَأَنه يتم لَهُ مَا أَرَادَ فَلَمَّا تقاربا ركض الشريف زيد بفرسه مُقبلا على بشير قَائِلا لَهُ رحم الله مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد فأسقط فِي يَد بشير وَبَقِي كالأسير وَكَانَ الشريف زيد قد رأى فِي الْمَنَام كَأَن شخصا ينشده هَذَا الْبَيْت كَانَ لم يكن إِلَى آخر الْبَيْت فانتبه وَكتبه بِالسِّوَاكِ على رمل فِي صحن نُحَاس خشيَة النسْيَان وَكَانَت هَذِه الرُّؤْيَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي أَسْفر صياحها عَن هَذَا الْخَبَر فنظم السَّيِّد أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه القصيدة(2/185)
وأدرج فِيهَا هَذَا الْبَيْت انْتهى وَكَانَت وَفَاة الشريف زيد فِي يَوْم الثلاثا لثلاث خلون من محرم سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بالمعلاة فِي قبَّة عَم وَالِده الشريف أبي طَالب وأسف النَّاس عيه وَقَامَ بعده أَصْغَر أَوْلَاده الشريف سعد كَمَا ذكرنَا ذَلِك مفصلا فِي تَرْجَمَة الشريف بَرَكَات فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِعَادَة وَكَانَت مُدَّة ولَايَة صَاحب التَّرْجَمَة خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وشهراً وأياماً وَكَانَ متخلقا بالأخلاق الحميدة متصفاً بِالصِّفَاتِ الجميلة كثير الْحلم وَالصَّبْر والشفقة وَلم يضْبط عَلَيْهِ أَنه قتل شخصا بِغَيْر حق فِي هَذِه الْمدَّة وَكَانَت الأقطار فِي زَمَنه آمِنَة مطمئنة وَكَانَ أهل مَكَّة ينذرون لَهُ النذور يأْتونَ بهَا إِلَيْهِ خُصُوصا بعد وَفَاته فَإِن العقيدة فِيهِ أَكثر وَظهر أمره فِي الْعَالم وَقد رَآهُ بعض الصَّالِحين الثِّقَات فِي الْمَنَام بعد وَفَاته وَهُوَ قَائِم على بعض آبار مَكَّة وَبِيَدِهِ دلو عَظِيم يملؤه من تِلْكَ الْبِئْر ويصبه فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي مَا هَذَا أَنا أَحَق بِهِ مِنْك فَقَالَ لَهُ مَا تقدر على ذَلِك أما ترى إِلَى هَذِه النَّار وَأَنا أطفيها وَرَآهُ بَعضهم أَيْضا فِي بُسْتَان كَبِير وَهُوَ جَالس متكىء وأمامه من الْجِهَة الْأُخْرَى بَحر عَظِيم وَهُوَ فِي غَايَة الصِّحَّة فَتقدم إِلَيْهِ وَقبل يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي خاطرك مَعَ أولادك وَمَعَ الرّعية فَقَالَ لَهُ أما أَوْلَادِي فَالله وَرَسُوله مَعَهم وَمَا كَانَ من الرّعية فهم راضون عَنْهُم وَكَانَ لَهُ من الْوَلَد سَبْعَة من الذُّكُور أَحْمد وحسين وناصر مَاتُوا فِي حَيَاته وَورثه أَرْبَعَة حسن وَمُحَمّد يحيى وَأحمد وَسعد مرتبتهم فِي السن كرتبتهم فِي الذّكر وَمن الاناث عدَّة وأرخ وَفَاته الشَّيْخ أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الحلى بقوله
(مَاتَ كَهْف الورى مليك مُلُوك ... الأَرْض من لم يزل مدى الدَّهْر محسن)
(فالمعالي قَالَت لنا أرخوه ... قد ثوى فِي الْجنان زيد بن محسن)
زين بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِجعْل اللَّيْل صَاحب الْمَدِينَة المنورة أحد الْمَشَاهِير بِالْكَرمِ والباع الطَّوِيل فِي الْمعرفَة وَالْيَقِين ولد بِمَدِينَة روغة وَنَشَأ بهَا ورباه جده السَّيِّد الْكَبِير عقيل بن مُحَمَّد باحسن وألزمه أحسن الطَّرِيقَة وَصَحب الْعلمَاء وغاص مَعَهم ثمَّ رَحل إِلَى تريم وَأخذ عَن جمَاعَة ثمَّ ارتحل إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة فَدخل بندر سورت وَأخذ بِهِ عَن شمس الشموس مُحَمَّد ابْن عبد الله العيدروس ثمَّ حج سنة سبع عشرَة بعد الْألف وَعَاد إِلَى تِلْكَ الديار ثمَّ لما مَاتَ شَيْخه العيدروس اجْتمع هُوَ بالوزير الْأَشْهر الْملك عنبر فقابله بالاكرام وحظى عِنْده كثيرا وأحبه بعض الوزراء ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَصَحب بهما جمَاعَة وَأخذ(2/186)
عَنهُ جمَاعَة وَطَابَتْ لَهُ طيبَة فاستوطنها ودانت لَهُ أهاليها وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق معرضًا عَن الاكتراث بمفاخر الدُّنْيَا حَلِيمًا إِلَى الْغَايَة أجمع أَصْحَابه أَنه لم يغْضب وَلَا دَعَا على أحد وَإِن تكلم فِيهِ بقدح أَو سبه وَمِمَّا يحْكى عَنهُ أَنه كَانَ عَادَته الِاغْتِسَال للصبح كل يَوْم من إبريق معد لذَلِك فاتفق أَنه كثر فِي بعض اللَّيَالِي مرق العشاق فطرحه غُلَامه فِي ذَلِك الإبريق فَلَمَّا أصبح نَاوَلَهُ الإبريق فاغتسل بِهِ فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَقَالَ الْغُلَام أَنا الَّذِي طرحته فِي الإبريق فَلم يغْضب وَلم يُعَاقب الْغُلَام وَكَانَ كثير الْبَذْل والولائم وَكَانَ لَا يتَمَيَّز بِشَيْء عَن ضيفانه ويساوي نَفسه بخدمه وَكَانَ كَثِيرُونَ يحْضرُون وليمته وَلَا يعْرفُونَ صورته وَإِذا اجْتمع الْفُقَرَاء تَحت دَاره قسم الطَّعَام عَلَيْهِم بِيَدِهِ وَلَا يُمكن من ذَلِك أحدا من عبيده وَمن تواضعه أَن جمَاعَة من مشايخه أذنوا لَهُ فِي التَّحْكِيم والالباس فَلم يفعل ذَلِك إِلَّا نَادرا وَبِالْجُمْلَةِ فقد عَمت بركته أهل عصره وَكَانَ مَعَ كَثْرَة مَا يُنْفِقهُ من الْأَمْوَال لَا يعرف لَهُ مَعْلُوم وَلَا جِهَة ظَاهِرَة فَكَانَ ينْفق من الْغَيْب وَكَانَ يتستر بالسلف وَالدّين وَلما سمع ذَلِك بعض وزراء الْهِنْد من محبيه أرسل لَهُ مركبا مشحوناً لقَضَاء الدّين الَّذِي عَلَيْهِ وَوصل الْمركب بندر جدة فَكَانَ فِي يَوْم وُصُوله قد استوفى أَجله فتوفى وَكَانَت وَفَاته فِي سادس ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ بِالْقربِ من قبه أهل الْبَيْت وقبره مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي بن مُحَمَّد ابْن حسن الطَّوِيل ابْن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن علوي بن مُحَمَّد صَاحب مرباط اليمني الإِمَام الْعَالم الْعلم أحد فصحاء الْعلمَاء ولد بِمَدِينَة تريم سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَحفظ الْقُرْآن والجزرية والعقيدة الغزالية وَالْأَرْبَعِينَ النووية والإرشاد والقطر والملحة وَغير ذَلِك وَكَانَ فِي الْحِفْظ آيَة غَرِيب الضَّبْط للألفاظ قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته وَكَانَ رفيقي فِي الطّلب أَخذ الْفِقْه عَن شَيخنَا عبد الله بن أبي بكر الْخَطِيب وَشَيخنَا عبد الله بن زين بافقيه وَأخذ الْعَرَبيَّة عَنْهُم وَقَرَأَ الحَدِيث على شَيخنَا أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَشَيخنَا أَحْمد بن عمر البيتي وَلَكِن غلب عَلَيْهِ الْفِقْه وَكَانَ لَهُ عناية تَامَّة بالإرشاد ثمَّ ارتحل إِلَى الْهِنْد وَاجْتمعَ فِيهَا بخال كَانَ لَهُ هُنَاكَ فَأكْرمه وَلما مَاتَ خَاله تَعب تعباً شَدِيدا فِي الغربة فَرجع قَافِلًا إِلَى وَطنه فَلم يجد حَظه فَخرج من ديار حَضرمَوْت إِلَى الْيمن وتدبر بندر المخاو ورد علينا(2/187)
بِمَكَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف فَوَجَدته محافظاً عل الصُّحْبَة وَلم يزل سالكاً سَبِيل النجَاة حَتَّى توفّي بالمخا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن مُحَمَّد بن عَليّ بن زين بن عَليّ بن علوي خرد ابْن مُحَمَّد حميدان ابْن عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْوَلِيّ عبد الله باعلوي السَّيِّد الامام الْفَاضِل صَاحب الشَّأْن الرفعي ذكره الشلي وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب أكَابِر الْقَوْم مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل مديحيج وَالسَّيِّد الْكَبِير أَبُو بكر بن على معلم خردو السَّيِّد لكبير عبد الرَّحْمَن بن عقيل السقاف قَرَأَ من الققه ربع الْعِبَادَات واعتنى بِعلم التصوف وَأحكم علم الْبَاطِن والحقائق وَله كَلَام فِي علم الْحَقَائِق وَكَانَ مُنْقَطع القرين فِي الزّهْد ومعاملات الْقُلُوب مجاب الدُّعَاء كَبِيرا لقدر كثيرا الذّكر والفكر كَامِل الْعِنَايَة حسن السمت وافر الْعقل خيرا رَقِيق الْقلب سريع الدمعة مَاشِيا على طَريقَة السّلف من خشونة الْعَيْش واللباس وَترك التَّكَلُّف سليم الصَّدْر حَلِيمًا صبوراً وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرَة من العارفين وَصَحبه جمع قَالَ وَهُوَ شَيْخي فِي زمن الشَّبَاب وَلم يزل مواظباً على حسن طَرِيقَته إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن مُحَمَّد بن أَحْمد الوترية ابْن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي وتتمة النّسَب مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة زين بن عمر الْمَذْكُور قبل الَّذِي قبل هَذِه الشَّيْخ الْكَامِل الْفَائِق الْأَوْصَاف ذكره الشلي أَيْضا وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن واشتغل حَتَّى برع فِي علم النَّحْو والتصريف وَأخذ بوطنه عَن خلق كثير من أَجلهم الشَّيْخ الْكَبِير عبد الله بن أَحْمد العيدروس ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وَصَحب وَالِده مُحَمَّد بن أَحْمد الشلي الْكَبِير وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد إِمَام السقاف ثمَّ رَحل إِلَى كثير من الأقطار وَدخل بندر عدن وَأخذ عَن جمَاعَة من العارفين ورحل إِلَى الوهط وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه عبد الله بن عَليّ وَحج وَأخذ بِمَكَّة عَن الزمزمي وَعبد الله بن سعيد باقشير وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطَّائِفِي وَأخذ الطَّرِيقَة عَن الشَّيْخ عبد الْهَادِي باليل وبالمدينة عَن القشاشي وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَأخذ عَن الشَّيْخ زين بن عبد الله باحسن وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن علوي وَلبس الْخِرْقَة مِنْهُ أَيْضا وَمن الشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد العيدروس ورحل إِلَى الْهِنْد فَأخذ عَن السَّيِّد(2/188)
جَعْفَر الصَّادِق وَعَن جمَاعَة من الْحفاظ واعتنى وَتقدم بِحسن ذكائه وذوقه وَلحق دَرَجَة من هُوَ فَوْقه وَكَانَ لَهُ اعتناء بِعلم النَّحْو واللغة وَضبط الْأَلْفَاظ وَكَانَ كَرِيمًا حسن الْأَخْلَاق صبوراً مُحْتملا للأذى محكماً أَمر دينه ودنياه ذَا رَأْي رصين وعقل وافر وانتفع بِهِ جمَاعَة من أهل عصره وَلم يشْتَهر أحد من أقرانه اشتهاره وَكَانَت وَفَاته ببندر المحاسنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف
زين الدّين بن أَحْمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ الشَّافِعِي الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالأشعافي نزيل دمشق الْفَاضِل الأديب الْعَرُوضِي السائر ذكره ولد بحلب وَنَشَأ بهَا وَأخذ عَن جمَاعَة وَلما دخل الْبَهَاء الْحَارِثِيّ العاملي حلب أَخذ عَنهُ وبرع فِي عدَّة فنون وَألف وصنف وَمن جملَة تأليفاته شرح عَليّ الشفا وَله رسائل فِي الْعرُوض كَثِيرَة مِنْهَا بل الْقَلِيل فِي علم الْخَلِيل وعمدة النَّبِيل ورسالة بَين فِيهَا عرُوض أَبْيَات من شَوَاهِد النَّحْو سَهَا فِيهَا الْعَلامَة الْعَيْنِيّ فِي مُخْتَصر شرح الشواهد سَمَّاهَا التَّنْبِيهَات الزينية على الغفلات العينية قَالَ فِي ديباجتها وَكنت أَولا أنسب ذَلِك إِلَى تَحْرِيف النساخ إِلَى أَن وقفت على نُسْخَة قُرِئت عَلَيْهِ وَكتب خطه فِي مَوَاضِع مِنْهَا وَفِي آخرهَا إجَازَة بِخَطِّهِ فتصفحتها فَإِذا هِيَ مُشْتَمِلَة على مَا فِي النّسخ مِمَّا هُوَ خلاف الصَّوَاب وَولي نظر الْمدرسَة الطرنطائية دَاخل بَاب الْملك بحلب وتعرف الْآن بالأويسية لسكن الطَّائِفَة الاويسية بهَا ثمَّ خرج إِلَى الرّوم وَمكث بهَا ثمَّ دخل دمشق وَاسْتقر بهَا وانتفع بِهِ كثير من أَهلهَا فِي الْعرُوض وَغَيره وَذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَقَالَ فِي وَصفه وَكَانَ لَهُ مذاكرة تَأْخُذ بلب الصاحب ومحاضرات ترغب عَن محاضرات الرَّاغِب ورقة طبع تملك زِمَام قياده لكل ريم وتهيمه لكل وليديراه هيمانه بنسيم وَله شعر نضير مِنْهُ قَوْله
(كتبت وأفكاري بحقك مزقت ... كَمَا قد بَدَت فِي الْحبّ كل ممزق)
(وَلَو حم لي التَّوْفِيق كنت تركته ... ولكنني أَصبَحت غير موفق)
(إِذا قيل أَشْقَى النَّاس من بَات ذَا هوى ... فَلَا تنكرن هَذَا الْمقَال وَصدق)
وَهَذَا كَقَوْل الآخر
(سَأَلتهَا عَن فُؤَادِي أَيْن مَسْكَنه ... فَإِنَّهُ ضل عني عِنْد مسراها)
(قَالَت لدي قُلُوب جمة جمعت ... فأيها أَنْت تبغي قلت أشقاها)
وَكتب لبَعض أَصْحَابه يعزيه عَن نعل لَهُ ضَاعَت(2/189)
(تعز أخي إِن كنت مِمَّن لَهُ عقل ... وَلَا تبد أحزانا إِذا ذهبت نعل)
(وَلَا تعتب الدَّهْر الخؤون فدأبه ... لعقد اجْتِمَاع الشمل دون الورى حل)
(لحى الله دهرا لَا يزَال مُولَعا ... بتكدير صفو الْعَيْش مِمَّن لَهُ فضل)
(يفرق حَتَّى شَمل رجل ونعلها ... أَشد فِرَاق لَا يرى بعده شَمل)
(فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ مَا اللبيب بجازع ... وَلَا تَارِك صفوا وَلَو زلت النَّعْل)
(بحقك قُم نسعى إِلَى الراح سحرة ... نجدد أفراجا لكل صدا تجلو)
(إِلَى دَار لذات وَروض مَسَرَّة ... لرحب فناها من غصون المنى ظلّ)
وَقد أورد لَهُ هَذِه الأبيات الخفاجي فِي تَرْجَمته وَذكره معارضات وَقعت لَهَا فِي هَذَا الْخُصُوص وَقد تَرْجمهُ الشهَاب تَرْجَمَة لَطِيفَة وَكَانَ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف مَوْجُود فِي الْحَيَاة فَأَنِّي قَرَأت بِخَطِّهِ فِي آخر رِسَالَة التَّنْبِيهَات أَنه فرغ من كاتبها يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشرى صفر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ أَخْبرنِي بعض الحلبيين مِمَّن يعرفهُ أَنه توفّي فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَأَرْبَعين بعد الْألف وَالله أعلم
زين الدّين بن حُسَيْن بن الْفَقِيه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَاج با فضل التريمي قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته شيخ مَشَايِخنَا الإِمَام الْمَشْهُور ذُو الْأَحْوَال الشهيرة ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره واشتغل فِي أَنْوَاع الْعُلُوم أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن إِسْمَعِيل با فضل وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغَيرهمَا وتصوف على وَالِده حُسَيْن وَسمع مِنْهُ ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن عبد الله العيدروس وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وجد فِي الإشتغال حَتَّى صَار أوحد زَمَانه وانتصب للأقراء والتدريس وإنتفاع النَّاس وبرع فِي الْعُلُوم وتميز وطار اسْمه واشتهر ورحل النَّاس إِلَيْهِ للأخذ عَنهُ وَأثْنى عَلَيْهِ فضلاء عصره طبقَة بعد طبقَة وَمِمَّنْ انْتفع بِهِ الإِمَام زين العابدين وَالسَّيِّد علوي بن عبد الله وَشَيخنَا شقاف بن مُحَمَّد العيدروسيون وسيدي الْوَالِد الْوَالِد وَشَيخنَا أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغير هَؤُلَاءِ وَأكْثر عُلَمَاء تريم الَّذين أدركناهم بهَا من طلبته وَكَانَت سيرته أحسن سيرة قَوِيا من عنف لينًا من ضعف لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم مهابا أمره كُله جد لَا يكَاد يرى لَيْلًا أَو نَهَارا فِي غير عمل صَالح وَهُوَ لعمري جدير بِكُل نعت جميل وثناء حسن ومناقبه مَشْهُورَة وترجمته تِلْمِيذه السَّيِّد شيخ بن عبد الله العيدروس فِي السلسلة وَقَالَ كَانَ متفننا فِي جَمِيع الْعُلُوم مستشارا فِي المعضلات وَاحِد عصره(2/190)
وأوانه وَكَانَ فِيهِ خمس خلال مَعَ خمس قل أَن تَجْتَمِع فِي أحد تواضع مَعَ شرف وهمة مَعَ فقر وفور عقل مَعَ سَلامَة صدر وَفقه مَعَ تصوف ورقة طبع مَعَ صلابة دين وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وعمره نَحْو السّبْعين
زين الدّين بن مُحَمَّد بن حسن بن زين الدّين الشَّهِيد الشَّامي العاملي تقدم ذكر جده وزين الدّين هَذَا أحد فضلاء الزَّمَان ذكره صَاحب السلافة وَقَالَ فِي تَرْجَمته زين الْأَئِمَّة وفاضل الْأمة وملث غمام الْفضل وَكَاشف الْغُمَّة شرح الله صَدره للعلوم شرحا وَبنى لَهُ من رفيع الذّكر فِي الدَّاريْنِ صرحا إِلَى زهد أسس بُنْيَانه على تقوى وَصَلَاح آهل بِهِ ربعه فَمَا أقوى وآداب تحمر خدود الْورْد من أنفاسها خجلا وشيم أوضح بهَا غوامض مَكَارِم الْأَخْلَاق وجلا رَأَيْته بِمَكَّة والفلاح يشرق من محياه وَطيب الأعراق يفوح من نشر رياه وَمَا طَالَتْ مجاورته بهَا حَتَّى وافاه الْأَجَل وانتقل من جوَار حرم الله إِلَى جوَار الله عز وَجل وَله شعر خلب بِهِ الْعُقُول وسحر وحسدت رقته أنفاس نسيم السحر ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة فِي الْمَدْح مطْلعهَا
(شام برقا لَاحَ بالأبرق وَهنا ... فصبا شوقا إِلَى لجزع وحنا)
(وَجرى ذكر أثيلات النقا ... فَشكى من لاعج الوجد وَأَنا)
(دنف قد عاقه صرف الردى ... وخطوب الدَّهْر عَمَّا يتَمَنَّى)
(شفه الشوق إِلَى بَان اللوى ... فغدا منهمل الدمع معنى)
(أسلمته للردى أَيدي الأسى ... عِنْد مَا أحسن بِالْأَيَّامِ ظنا)
(طالما أمل المام الْكرَى ... طَمَعا فِي زورة الطيف وأنى)
(كلما جن الدجى حن إِلَى ... زمن الْوَصْل بأبدى مَا أجنا)
(واذاهب نسيم من رَبًّا ... حاجر أهْدى لَهُ سقما وحزنا)
(يَا عريبا بالحمى لولاكم ... مَا صبا قلبِي إِلَى ربع ومغنى)
(كَانَ لي صَبر فأوهاه النَّوَى ... بعدكم يَا جيرة الْحَيّ وأفنى)
(قَاتل الله النَّوَى كم قرحت ... كبدا من ألم الشوق وجفنا)
(كدّرت مورد لذاتي وَمَا ... تركت لي من جميل الصَّبْر ركنا)
( ... قطعت أفلاذ قلبِي والحشا ... وكستني من جليل السقم وَهنا)
(فالي كم أشتكي جور الْهوى ... وأقاسي من هوى ليلى ولبنى)(2/191)
(قد صَحا قلبِي من سكر الْهوى ... بعد مَا أزعجه السكر وعبى)
(ونهاني عَن هوى الغيد النهى ... وحباني الشيب إحسانا وحسنا)
(وتفرغت إِلَى مدح فَتى ... سنة الْمَعْرُوف والأفضال سنا)
وَله من قصيدة أُخْرَى مستهلها
(سئمت لفرط تنقلي الْبَيْدَاء ... وَشَكتْ لعظم ترحلي الأنضاء)
(مَا إِن أرى فِي الدَّهْر غير مُودع ... خلا وتوديع الْخَلِيل عناء)
(أبلى النَّوَى جلدي وأوقد فِي الحشا ... نيران وجد مَالهَا إطفاء)
(فقدت لطول الْبَين عَيْني ماءها ... فبكاؤها بدل الدُّمُوع دِمَاء)
(فَارَقت أوطاني وَأهل مودتي ... وحبائبا غيدا لَهُنَّ وَفَاء)
(من كل مائسة القوام إِذْ أبدت ... لجمال بهجتها تغار ذكاء)
(مَا أسفرت وَاللَّيْل مرخ ستره ... أَلا تهتك دونهَا الظلماء)
(ترمي الْقُلُوب بأسهم تصمى وَمَا ... لجراحهن سوى الْوِصَال دَوَاء)
(شمس تغار لَهَا الشموس مضيئة ... وَلها قُلُوب العاشقين سَمَاء)
(هيفاء تختلس الْعُقُول إِذا رنت ... فَكَأَنَّمَا لحظاتها الصَّهْبَاء)
(ومعاشر ماشان صدق ولائهم ... نقض العهود وَلَا الوداد مراء)
(مَا كنت أَحسب قبل يَوْم فراقهم ... أَن سَوف يقْضِي بعد ذَاك بَقَاء)
(فسقى رَبِّي وَادي دمشق وجادها ... من هاطل المزن الملث حَيَاء)
(فِيهَا أهيل مودتي وبتربها ... لجليل وجدي والسقام شِفَاء)
(ورعى ليالينا الَّتِي فِي ظلها ... سلفت ومقلة دَهْرنَا عمياء)
(أَتَرَى الزَّمَان يجود لي بايابها ... وَيُبَاح لي بعد البعاد لِقَاء)
(فَإلَى مَتى يَا دهر تصدع بالنوى ... أعشار قلب مَا لَهُنَّ قواء)
(وتسومني فِيك الْمقَام بذلة ... ولهمتي عَمَّا تسوم إباء)
(فَأَجَابَنِي لَوْلَا التغرب مَا ارْتقى ... رتب الْمَعَالِي قبلك الْآبَاء)
(فاصبر على مر الخطوب فَإِنَّمَا ... من دون كل مَسَرَّة ضراء)
(واترك تذكرك الشآم فَإِنَّمَا ... دون الشآم وَأَهْلهَا بيداء)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاعِر متفوق وشعره يدل على قُوَّة طبعه وصمادة فكره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف(2/192)
زين العابدين بن أبي الْجُود الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره مِمَّن جد واجتهد فِي التَّحْصِيل حَتَّى برع وَقَرَأَ الْكثير وَضبط أَكثر تخرجه بالشيخ مُحَمَّد بن على الحرفوشي الحريري وَكَانَ يصاحبه ويطارحه كثيرا وَجمع كتبا كَثِيرَة وَكَانَ لَهُ رِوَايَة وَاسِعَة فِي أَخْبَار السّلف وَمَا جرياتهم لَكِن رُبمَا نسب فِي بَعْضهَا إِلَى الْكَذِب وَغلب عَلَيْهِ فِي آخر عمره الكيف حَتَّى استغرق وَرُبمَا كَانَ يمر فِي طَرِيق من الطرقات فيغلب عَلَيْهِ نُعَاس الكيف فينام وَهُوَ قَائِم على قَدَمَيْهِ فَلَا يفِيق إِلَّا بعد زمَان طَوِيل وَكَانَ كثير من السراق يترقبون نعسته وَهُوَ فِي مَكَان مُنْفَرد فَيَأْخُذُونَ شَيْئا من ملبسه وَكَانَ فِيهِ تساهل فِي أَمر الدّين وَسمعت من لَفظه مرَارًا وَقد ذكر لَهُ صديق كَانَ يألفه وَكَانَ من أهل الْأَهْوَاء ثمَّ سُئِلَ عَن سَبَب الِاتِّحَاد بَينهمَا فَقَالَ لم يكن ثمَّة عِلّة إِلَّا الْإِلْحَاد وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ ابْن وقته يتَصَرَّف فِي مَجْلِسه كَيفَ شَاءَ وَعمر ونادم أَعْيَان الْفُضَلَاء والكبراء وَصلح حَاله آخرا بعض الصّلاح وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف عَن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس
زين العابدين بن زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مفرج الْغَزِّي العامري الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الفرضي الشَّافِعِي وَقد تقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة عَمه أبي الطّيب وَكَانَ زين العابدين هَذَا من فضلاء وقته وَله التفوق فِي علمي الْفَرَائِض والحساب أَخذ عَن عَمه النَّجْم الْغَزِّي وَعَن غَيره وَكَانَ عَمه الْمَذْكُور مَعَ تبحره فِي الْعُلُوم ومكانته الَّتِي ظَهرت فِيهَا كثيرا لمراجعة لَهُ فِيمَا يتَعَلَّق بالفرائض وَلما مَاتَ وَالِد زَكَرِيَّا كَانَ إِمَامًا بالجامع الْأمَوِي فوجهت إِلَيْهِ وَهِي الْآن بَاقِيَة فِي أَوْلَاده وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد وَهُوَ مَحَله لما كَانَ فِيهِ من الصّلاح وَاجْتنَاب مَا لَا يعنيه واعتنائه بِأُمُور الشَّرِيعَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ بَيت مبارك وَكلهمْ صلحاء أتقياء وَهَذَا من وُجُوههم وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي فِي خَامِس رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة أجداده بني الْغَزِّي فِي تربة الشَّيْخ أرسلان رَحمَه الله تَعَالَى
زين العابدين بن عبد الرؤوف بن تَاج العارفين بن عَليّ بن زين العابدين بن يحيى ابْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مخلوف بن عبد السَّلَام الحدادي ثمَّ الْمَنَاوِيّ القاهري الشَّافِعِي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الاستاذ الْكَبِير ولد الإِمَام الْكَبِير الْمَنَاوِيّ(2/193)
شَارِح الْجَامِع الصَّغِير الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ زين العابدين هَذَا عَالما متعبداً ورعاً خَاشِعًا نَشأ فِي حجر وَالِده وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وعدة متون وَهُوَ ابْن عشر مِنْهَا الزّبد لِابْنِ أرسلان والتحفة الوردية فِي النَّحْو وَكتاب الْإِرْشَاد فِي النَّحْو للسعد التَّفْتَازَانِيّ وَغَيرهَا وعرضها على مَشَايِخ عصره كَالشَّمْسِ مُحَمَّد الرَّمْلِيّ ثمَّ بعد وَفَاة الرَّمْلِيّ انْتقل إِلَى الشهَاب أَحْمد الشربيني الْخَطِيب وَالشَّيْخ حراز الغمري واشتغل بِعلم الْعَرَبيَّة على الشَّيْخ عبد الْكَرِيم البولاقي وبالأصول على الشَّمْس مُحَمَّد المأموني وألتى برمق وعرب زَاده قَاضِي مصر وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث والجفر والمواليد والحساب والهندسة عَن الْعَلامَة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي والْحَدِيث عَن الحافظين أبي النحا سَالم السنهوري والشهاب أَحْمد المتبولي وَعَن القَاضِي بدر الدّين الْقَرَافِيّ الْمَالِكِي وَأَجَازَهُ كل مِنْهُم بمروياته ثمَّ سلك طَرِيق التصوف فَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ صَالح مُحَمَّد تركي الخلوتي وَشَيخ الطَّرِيق أَحْمد العجمي وَالشَّيْخ خطر الخواطري العجمي وَالشَّيْخ عبد الله الرُّومِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد اليوناني وَالشَّيْخ محرم الرُّومِي وَغَيرهم ثمَّ لَازم الْخلْوَة واشتغل حَتَّى صَار لَا يرى إِلَّا مُصَليا أَو ذَاكِرًا وَيقوم اللَّيْل كُله حَتَّى ظَهرت عَلَيْهِ خوارق وأحوال كَثِيرَة وانتفع بِهِ على صغر سنه جمَاعَة وَكَانَ من اللين وسعة الصَّدْر وَالِاحْتِمَال على جَانب عَظِيم وَكَانَ يرى النَّبِي
وَهُوَ جَالس فِي ورده وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره أرْسلهُ وَالِده لمصْلحَة وَهُوَ مراهق فَمر بِابْن العظمة الْآتِي ذكره وَهُوَ لَا يعرفهُ فناداه يَا زين العابدين فَتقدم إِلَيْهِ فَوضع فِي فِيهِ قلب خس وَقَالَ اذْهَبْ فقد خصصناك وَكَانَت الْأَرْوَاح تألفه والأولياء تعرفه ويدخلون عَلَيْهِ لَيْلًا فِي مَحَله من خلال الشبابيك ويجلسون مَعَه ويخبرونه بِأُمُور لَا تتخلف من جُمْلَتهمْ الشَّيْخ شاه ولي العجمي كَانَ يدْخل عَلَيْهِ كثيرا من الشباك ويتعشى مَعَه وَاجْتمعَ بالقطب مرَارًا وَكَانَ فِي ابداء أمره يرى أنوارا وَيسمع كلَاما وأخبارا فَتَارَة يرى كنور الْقَمَر وَتارَة كنور الشَّمْس وَتارَة فتائل وقناديل ورؤس شمع موقودة بِهِ تسْقط عَلَيْهِ وَيرى منامات عالية الْمِقْدَار وَمن خوارقه أَن الإِمَام الشَّافِعِي كَانَ يخاطبه من قَبره وَكَانَ فِي بعض الأحيان يخرج يَده من الْقَبْر وَيَضَع لَهُ فِي يَده شَيْئا قَالَ وَمَا زرته يَوْمًا إِلَّا وَرَأَيْت عِنْد قُبَّته نهرين على أَحدهمَا حمامة بَيْضَاء وعَلى الآخر حمامة خضراء وَكَانَ يرى جده الشّرف يحيى الْمَنَاوِيّ وَهُوَ جَالس فِي قَبره وَعَلِيهِ ثِيَاب سود وَهُوَ(2/194)
يكلمهُ ويباسطه وَيَدْعُو لَهُ وَحدث الحمصاني وَهُوَ أحد الْمَشَايِخ قَالَ رَأَيْت طعيمة الصعيدي الْمصْرِيّ وَهُوَ من كبار الْأَوْلِيَاء فِي عَالم الْأَرْوَاح وأمامه إِنْسَان كالنور أَو نور كالإنسان قلت مَا هَذَا قَالَ زين العابدين الْمَنَاوِيّ قد وكل بِأَهْل البرزخ وَله تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شرح على تائية ابْن الفارض وَشرح الْمشَاهد لِابْنِ عَرَبِيّ وَله حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للجلال الْمحلي وَشرح على الأزهرية وَجمع فتاوي جده شيخ الْإِسْلَام يحيى الْمَنَاوِيّ وجرد حَاشِيَة جده الْمَذْكُور على شرح الْبَهْجَة للعراقي وحاشيته على الرَّوْض الْأنف لِلسُّهَيْلِي وَله عدَّة رسائل مِنْهَا مَا كمل وَمِنْهَا مَا لم يكمل وأخباره وكراماته كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَلم يمرض بل شكى بعد تنَاول الطَّعَام وَدخل فرَاشه إِلَى الْفجْر ثمَّ تَوَضَّأ وَصلى فَقضى عَلَيْهِ وَصلى عَلَيْهِ جمع حافل بِجَامِع الْأَزْهَر يَوْم الْأَرْبَعَاء وَدفن بَين الوليين العارفين الشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد وَالشَّيْخ مَدين الأشموني وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ العاملي أحد عدُول محكمَة بَاب الشعرية فِي تَارِيخ وَفَاته
(مَاتَ الإِمَام الْعَالم المتقي ... العابد الزَّاهِد عين الزَّمَان)
(من كَانَ زين العابدين الَّذِي ... حَاز الْمعَانِي ببديع الْبَيَان)
(فرحمه الله على روحه ... وذاته مَا أشرق النيرَان)
(ومذ توفّي صَحَّ تَارِيخه ... أَمْسَى الْمَنَاوِيّ خَالِدا بالجنان)
وَقَالَ أَيْضا
(لقد توفّي الحبر بَحر التقى ... اللوذعي الْعُمْدَة الْفَاضِل)
(لما توفّي جَاءَ تَارِيخه ... مَاتَ الْوَلِيّ الْعَارِف الْكَامِل)
والحدادي والمناوي سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي تَرْجَمَة وَالِده عبد الرؤوف
زين العابدين بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي الْمَكِّيّ الشَّافِعِي إِمَام الْمقَام الإبراهيمي الإِمَام ابْن الإِمَام مولده بِمَكَّة لَيْلَة ثامن عشر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف كَمَا وجد ذَلِك بِخَط وَالِده وَنَشَأ وَحفظ القرأن وَأخذ عَن وَالِده وَعَن أكَابِر شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الحصاري المعمر الَّذِي ولد فِي مستهل رَجَب سنة عشر وَتِسْعمِائَة وَأَجَازَ صَاحب التَّرْجَمَة مشافهة بِمَكَّة ختام عَام إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وَعنهُ أَخذ السَّيِّد مُحَمَّد الشلي باعلوي وَشَيخنَا الْحسن ابْن عَليّ العجيمي الْمَكِّيّ فسح الله فِي أَجله وَغَيرهمَا من الأفاضل وَله شعر لطيف(2/195)
مِنْهُ قَوْله
(غارت بدور التم من كاعب ... هام بهَا المفستون بَين الْأَنَام)
(رنت بِطرف فاتر ناعس ... يرشق من ألحاظه بِالسِّهَامِ)
(بديعة الشكل وَلكنهَا ... بعيدَة الْوَصْل على المستهام)
(يود لوزار حماها على ... رغم العدا مختفياً فِي الظلام)
(هَذَا ورؤياه إِلَى وَجههَا ... غَايَة مَا يحظى بِهِ وَالسَّلَام)
وَله معومى فِي حسام
(وسَاق كبدر التم فِي غسق الدجى ... يَدُور بأكواب ويرقص كالغصن)
(فأفديه من سَاق سما فِي سما البها ... عَلَيْهِ إِذا مَا دَار تَاج من الْحسن)
وَبَينه وَبَين القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي الْمُقدم ذكره وَغَيره من أفاضل المكيين مطارحات يطول ذكرهَا وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة بعد شروق يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بعد صَلَاة الْعَصْر بالمعلاة فِي تربة آبَائِهِ وَنسب بني الطَّبَرِيّ وشرفهم وَقد بَيتهمْ سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَة وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة الإِمَام عبد الْقَادِر إِذْ هُوَ أشهر هَذَا الْبَيْت من أبنائه الْمَذْكُورين فِي كتَابنَا هَذَا والشهرة تَقْتَضِي مزِيد الإعتناء والأفكار تنساق لنَحْو الْمَشْهُور كثيرا وَلم يتَقَدَّم مِنْهُم مَعنا إِلَّا زين العابدين هَذَا وَهُوَ لبس من الشُّهْرَة بِمحل وَالِده وَالله أعلم
زين العابدين بن مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ الصديقي القاهري الشَّافِعِي الْأُسْتَاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى قَامَ مقَام أَبِيه من بعده ودرس وَأفْتى وَأفَاد وَكَانَ فِي مصر مَالك أزمة الوجاهة وسالك رُتْبَة البراعة واليراعة وَألف التآليف الْحَسَنَة الْوَضع وَأشهر مَاله من المؤلفات رِسَالَة إِلَّا ترج وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو السرُور الْمُقدم ذكره من الْعلمَاء إِلَّا أَنه لم يبلغ دَرَجَة زين العابدين فِي التصوف والتكلم بِلِسَان الْمعرفَة وروى أَن والدهما الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم لما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لخادمة لَهُ نَادَى لي زين العابدين فَذَهَبت وَنَادَتْ ابا السرُور فَقَالَ لَهَا بعد أَن خرج نَادِي لي زين العابدين فأنك إِذا ناديتيه وَلم تنادى أحدا غَيره فَأَنت حرَّة فَذَهَبت وَنَادَتْ زين العابدين قَالَت فَلَمَّا دخل على وَالِدَة قَالَ لَهُ اجْلِسْ وأملى عَلَيْهِ شيثا ثمَّ قَالَ لَهُ فهمت فهمت قَالَ نعم قَالَ قُم الْآن فَلَمَّا توفّي وَالِده ظهر بِمَا ظهر بِهِ من المعارف والحقائق وَذهب كثير من أهل مصر وَغَيرهم إِلَى أَن بدايته كَانَت نِهَايَة أَبِيه وَقد أَخذ الْعلم عَن وَالِده وَغَيره وَشَيْخه الْمُخْتَص(2/196)
بتعليمه الشَّيْخ بدر الدّين البرديني وتأخرت وَفَاته عَنهُ وانتهت إِلَيْهِ الرياسة بِالِاسْتِحْقَاقِ الذاتي وَكَانَ عَالما بارعا فِي الْعَرَبيَّة وَالتَّفْسِير وعلوم البلاغة وَله شعر لطيف سَائِغ فَمِنْهُ قَوْله
(محب لحر الْوَجْه فِي الترب مرغا ... وصب من الأجفان حَقًا تفرغا)
(أماط الْهوى عَنهُ نقاب سلوه ... وأرخى عَلَيْهِ السّتْر لَيْلًا وأسبغا)
(فيا حاد يَا ركب الملاح ترفقا ... وقصا نباه عِنْد سعدى وبلغا)
(وقولا رَأينَا من تعد ضلوعه ... غراما وَمن نَالَ الضنى مِنْهُ مبلغا)
وَقَوله
(ومجلس لَذَّة أَمْسَى وجيها ... يضيء كَأَنَّهُ بدر مُنِير)
(تجمع فِيهِ مشموم وَرَاح ... وأوتار وولدان وحور)
(تجمعت الْحَواس الْخمس فِيهِ ... بِخمْس يستتم بهَا السرُور)
(فَكَانَ الضَّم قسم اللَّمْس فِيهِ ... وَقسم الذَّوْق كاسات تَدور)
(وللسمع الأغاني والغواني ... لاعيننا وللشم البخور)
وَقَوله فِي القهوة
(أَن تشرب القهوة فِي حانها ... فاللطف قد حف بندمانها)
(حَان حكى الْجنَّة فِي بسطها ... برقة الْعَيْش وإخوانها)
(بِمَائِهَا نغسل أكدارنا ... ونحرق الْهم بنيرانها)
(لاهم يبْقى لَا وَلَا غم إِذْ ... قابلك الساقي بفنجانها)
(يَقُول من أبْصر كَانُوا بهَا ... أُفٍّ على الْخمر وادنانها)
(شراب أهل الله فِيهَا الشفا ... جَوَاب من يسْأَل عَن شانها)
وَقَوله فِيهَا أَيْضا
(اسقنا قهوة غدافية اللَّوْن ... حَلَالا تفرج الْهم عَنَّا)
(وأدرها من خَالص اللَّبن صرفا ... لَا تشب حسنها بِغَيْر فتنا)
(وَاتبع قَول أِشرف الرُّسُل حَقًا ... قَالَ قولا من غَشنَا لَيْسَ منا)
وَذكره الخفاجي فَقَالَ فِي وَصفه تعَاطِي حِرْفَة الزهاده وَفتح حَانُوت السجادة وَادّعى الكرامات وقص منامات لَهَا الْكرَى مَاتَ وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَن النَّاس خَرجُوا للدُّعَاء بالاستسقا وَقدر رعى الْقَحْط الْبِلَاد فَلم يدع ثمرا وَلَا وَرقا والجو بالغمام مطبق وجفن السحب بدمع الْقطر مغرق فَلَمَّا دَعَا تجلى وَعَبس وَتَوَلَّى فَقُمْت(2/197)
على سَاق الارتجال وأنشدت أَصْحَابِي فِي الْحَال
(وَولي قطب لرب السَّمَاء ... أسْرع الصحو إِذْ دَعَا بِالْمَاءِ)
(فِي صُرَاخ وأدمع هُوَ يُغني ... عَن رعو منهلة الأنواء)
(فَكَأَن السَّحَاب كَانَ مَرِيضا ... مَاتَ لما دَعَا بالاستسقا)
انْتهى قلت ذكره بِهَذَا الاسلوب من الشهَاب اسمج السمج وَالْحَامِل لَهُ على ذَلِك الْحَسَد لتصور مَا كَانَ عَلَيْهِ المترجم من الاقبال وَإِلَّا فالشهاب لَيْسَ من أقرانه بِحَسب الْوُجُود أما فِي حَيَاة المترجم فمعلوم ضَرُورَة أَن الخفاجي كَانَ إِذا ذَاك فِي ابْتِدَاء طلوعه وغضارته وَلَيْسَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي أَمر وَأما بعد مَوته فَإِنَّهُ وَإِن ولي قَضَاء مصر لكنه لم يبلغ بعض مَا بلغ ذَاك من الْحُرْمَة والهيبة وأنى لَهُ وَلَو سلم هَذَا فَمَا الْمُقْتَضى لحسد رجل فَاتَ وولعت بِهِ أَيدي الْآفَات وَمَا ذكره وَقع قَرِيبا فِي بَلْدَتنَا دمشق مَا يُشبههُ وَذَلِكَ أَنهم خَرجُوا يستسقون فَلم يسقوا وَاتفقَ فِي ذَلِك الْيَوْم مجئ مظْلمَة سلطانية فَقَالَ فِي ذَلِك شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْغَنِيّ النابلسي
(خَرجُوا ليستسقوا الْغَدَاة فأمطروا ... سحب الجرائم من سما الْحُكَّام)
(ودعوا فحين تصدعت أنفاسهم ... ردّت منكسة من الآثام)
(وَلَو استقاموا فِي الْأُمُور تَتَابَعَت ... نعم الْإِلَه ومنة الْإِسْلَام)
(إِن السِّهَام إِذا تعوّج نصلها ... عَادَتْ فأثر عودهَا بالرامي)
عودا وَبلغ صَاحب التَّرْجَمَة فِي آخر أمره من الْجَلالَة ونفوذ الْكَلِمَة مبلغا لَيْسَ لَا حد وَرَاءه مطمع حَتَّى خشيَة حكام مصر وَكَانُوا يدارونه ويتوقعون رِضَاهُ إِلَى أَن ولي قَضَاء مصر الْمولى عبد الْوَهَّاب الْآتِي ذكره فَوَقع بَينهمَا فِي شَيْء فَعرض فِيهِ إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَالِث شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَألف طلع إِلَى إِبْرَاهِيم باشا بعد الْعَصْر على عَادَته فأحضر السماط ثمَّ القهوة فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا خر زين العابدين مغشيا عَلَيْهِ وَحمل إِلَى بَيته فَمَاتَ هَذَا هُوَ المستفيض على أَلْسِنَة المؤرخين وروى بَعضهم أَن مَوته كَانَ خنقا أَو غَيره وَأَنه طرح على بَاب قلعة الْجَبَل واشتهر ذَلِك فِي دمشق فَبنى عبد الْحق بن مُحَمَّد الْحِجَازِي الدِّمَشْقِي قَوْله فِي رثائه عَلَيْهِ وأبياته هِيَ هَذِه
(لم يهدموا أَرْكَان مصر وَإِنَّمَا ... هدموا بقتلك قبَّة الْإِسْلَام)
(وتناوشتك يَد الْكلاب وطالما ... خضعت لغزك صولة الضرغام)(2/198)
(فسقى ثراك سَحَابَة قدسية ... تهمى عَلَيْك برحمة وَسَلام)
وَلم يبْق إِبْرَاهِيم باشا بعده إِلَّا أَيَّامًا قَليلَة حَتَّى وَقع بَينه وَبَين عَسَاكِر مصر فَقَتَلُوهُ وحملوا رَأسه على رمح وطوفوا بِهِ مصر كَمَا تقدم فِي تَرْجَمته وعوقب بذلك على الجراءة على قتلة صَاحب التَّرْجَمَة الله أعلم
زين العابدين بن محيي الدّين بن ولي الدّين بن جمال الدّين يُوسُف بن زَكَرِيَّا أبي يحيى بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ السنيكي الشَّافِعِي الإِمَام الْفَاضِل الْعَالم الْعَامِل كَانَ أحد عباد الله تَعَالَى الصَّالِحين والإجلاء المعتقدين المخصوصين بالأخلاق الرضية والشمايل البهية المرضية ولد بِمصْر ضحى يَوْم الْخَمِيس خَامِس شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَألف وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وتلاه بالتجويد واعتنى بِهِ قِرَاءَة وفهما وَكِتَابَة ورسما واشتغل فِي عنفوان شبابه بِالطَّلَبِ وَأخذ عَن وَالِده ولازم أكَابِر شُيُوخ عصره وشارك الشبراملسي فِي كثير من شُيُوخه ثمَّ لَازمه مُلَازمَة الجفن للعين وَكَانَ الشبراملسي يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ ويعظمه فِي جَمِيع شؤونه حَتَّى توفّي فِي حَيَاة الشبراملسي فجزع عَلَيْهِ وَكَاد أَن يشق ثَوْبه عَلَيْهِ لكَونه خدنه وَصديقه وخليله ورفيقه وَقد ألف مؤلفات كَثِيرَة شهيرة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الجزرية لجده شيخ الْإِسْلَام القَاضِي زَكَرِيَّا فِي نَحْو عشْرين كراسة وَشرح على رِسَالَة جده الْمَذْكُور الْمُسَمَّاة بالفتوحات الآلهية سَمَّاهُ الْمنح الربانية وَكَانَت وَفَاته فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف بِمصْر وَدفن بالقرافة بِالْقربِ من تربة الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على أَبِيه وجده والسبكي بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة وَآخر الْحُرُوف كَاف نِسْبَة لسنيكة بتاء التَّأْنِيث بليدَة من شَرْقي مصر ولد بهَا جده القَاضِي زَكَرِيَّا رَحمَه الله تَعَالَى
زين العابدين الصَّفَدِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كَانَ من فضلاء زَمَانه قدم دمشق فِي عنفوان عمره واشتغل بهَا على عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر وَحصل فضلا باهراً ثمَّ رَحل إِلَى بلدته صفد وَأقَام بهَا وَولى افتاء الْحَنَفِيَّة مُدَّة ودرس وَأفَاد واشتهر صيته وَكَانَ ذَا همة عالية وَمَكَارِم أَخْلَاق وَأَصله من قَرْيَة كفر مندا من ضواحي صفد وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف تَقْرِيبًا
(حرف السِّين الْمُهْملَة)
السَّيِّد سَالم بن أبي بكر بن سَالم بن أَحْمد بن شَيْخَانِ بن عَليّ بن أبي بكر بن عبد(2/199)
الرَّحْمَن بن عبد الله عبود بن عَليّ بن مُحَمَّد مولى الدويلة السَّيِّد الصفي الْحُسَيْنِي تقدم أَبوهُ أَبُو بكر وَيَأْتِي جده بعده وَهَذَا ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بفنون الْعُلُوم وَأخذ عَن وَالِده شَيْئا كثيرا ولازم الشَّيْخ عَليّ ابْن الْجمال وَعبد الله ابْن سعيد باقشير وَالسَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن أبي بكر الشلي باعلوي وَالشَّيْخ عبد الله ابْن الظَّاهِر العباسي وَغَيرهم وَأَجَازَهُ عَامَّة شُيُوخه وَأخذ عَن الوافدين إِلَى مَكَّة كَالشَّمْسِ البابلي وَمَنْصُور الطوخي وَغَيرهمَا وَله أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله من قصيدة عَارض بهَا كَافِيَة الْبَهَاء الْحَارِثِيّ
(فاح عرف الشميم من ناديك ... يَا زعيما على الْأَنَام مليك)
(كل يَوْم وَفِي الْقُلُوب لظى ... من تجنيك هَل ترى يرضيك)
(يَا رعى الله جَمعنَا وَسَقَى ... منزل اللَّهْو والخلاعة فِيك)
(يَوْم عَيْش الشَّبَاب لي نضر ... وزماني سمح فَلَا نشكيك)
(أَي صَبر يكون لي وَلَقَد ... عيل صبري بمهجتي أفديك)
(فَإلَى الله أشتكي أبدا ... سحر عَيْنَيْك إِنَّهَا الفتيك)
(وقواما كَأَنَّهُ غُصْن بَان ... سالب عقل نَاظر نسيك)
(وحديثا كَأَنَّهُ نثر زهر ... قد أَتَانِي معطرا من فِيك)
(صَاح هَات المدام إِن لَهَا ... يبْقين على الهموم دليك)
(واسقنيها ممزوجة بلمى ... ثغر حب وَلَا تقل بكفيك)
(واسقنيها حَمْرَاء قد لبست ... شفق اللَّيْل أَو كعرف الديك)
(واسقنيها فإنني شغف ... باحتساها معاند ناهيك)
(وَتعطف على الحبيب عَسى ... يسمح الدَّهْر باللقا لأخيك)
(وابق واسلم مَا الصب ينشدنا ... فاح عرف الشميم من ناديك)
وَكَانَت وَفَاته فِي حَيَاة وَالِده وَهُوَ شَاب ظهر يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشرى الْمحرم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر وَالِده إِمَامًا بِالنَّاسِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي مشْهد عَظِيم وَدفن بحويطتهم بالمعلاة
السَّيِّد سَالم بن أَحْمد بن شَيْخَانِ جد الَّذِي قبله وَالِد وَالِده الْأُسْتَاذ الباهر الطَّرِيقَة الْعَالم الْكَامِل نادرة الزَّمَان أفرد لَهُ وَالِده الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو بكر تَرْجَمَة فِي رِسَالَة قَالَ ولد فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس(2/200)
وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ تَارِيخ ظُهُوره فيض الْجمال وَنَشَأ فِي طلب واجتهاد حَتَّى حصل وَقَرَأَ كتاب الْأَحْيَاء ثَلَاث مَرَّات على الشَّيْخ سعيد بابقي الْعَالم الوليالآتي ذكره وَصَحب الشَّيْخ أَحْمد الشناوي وَأخذ عَنهُ علوماً جمة وَالطَّرِيق المسلسل وَنشر كثيرا من الْعُلُوم والمعارف وانتفع بِهِ كثير من أَرْبَاب الذَّوْق وصنف فِي فنون الْعلم الْكتب والرسائل فَمِنْهَا فِي علم التَّحْقِيق بلغَة المريد وبغية المستفيد وتمشية أهل الْيَقِين على ذائقة التَّمْكِين وَهِي رِسَالَة مفيدة للشَّيْخ عبد الْكَرِيم الجيلي وَالْإِعْرَاب التَّام المسدد الْجَامِع لتوحد قيام مُحَمَّد الشافع وَشرح أَبْيَات للعفيف التلمساني الْبَيْت الأول مِنْهَا قَوْله
(إِذا كنت بعد الصحو فِي المحو سيدا ... إِمَامًا مُبين النَّعْت بِالذَّاتِ مُفردا)
وَشرح الْجَوْهَر الرَّابِع وَالْخَامِس من كتاب الْجَوَاهِر الْخمس للسَّيِّد مُحَمَّد غوث الله ابْن خطير الدّين أتم بِهِ شرح شَيْخه الشَّيْخ أَحْمد الشناوي فَإِنَّهُ شرح الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث فَقَط وَاتفقَ لَهُ أَنه قَرَأَ هَذَا الْكتاب أَعنِي الْجَوَاهِر على شَيْخه الْمَذْكُور سبع مَرَّات وَمن مصنفاته جَوَامِع كلم الْعُلُوم فِي الصَّلَاة على مداوي المكلوم وَنشر الإفادة بِذكر كلمتي الشَّهَادَة وَالسّفر المستور للدراية فِي الذّكر المنشور للولاية وَالْأَخْبَار والأنباء بشعار ذَوي الْقُرْبَى الألباء وجبر الْكَلِمَة القاصمة بِذكر الْكَلِمَة العاصمة والمقاصد العندية بمشاهد النقشبندية وشق الجيب فِي معرفَة أهل الشَّهَادَة والغيب وَمن مصنفاته فِي غَرِيب الْعُلُوم مِصْبَاح السِّرّ اللامع بمفتاح الجفر الْجَامِع وغرر الْبَيَان عَن عمر الزَّمَان والمشروط الأسمى الْأَسْنَى فِي شُرُوط الْأَسْمَاء الْحسنى وَالْعقد المنظوم فِي بعض مَا تحتوي عَلَيْهِ الْحُرُوف من الْخَواص والعلوم وإيوان المقعد الْحرفِي وديوان المشهد الوصفي يتَضَمَّن مَا يتَعَلَّق بالوفق المثلث ومرهم الْعَطف وَدِرْهَم الصّرْف وأسفار الحالك فِي الْعَمَل بِوتْر ابْن مَالك وموائد الْفضل الجامعة لبابا فِي موارد الرمل النافعة احبابا وَالْمَاء السلسال الرَّحِيق الأصفى فِي التَّعَلُّق بالأسماء الَّتِي اقْتَضَت بوبيتا تخليق الموجودات الامكانية وَمَالهَا منزلَة وحرفا وَجل الْمغنم فِي حل الطلسم والبرهان الْمَعْرُوف فِي مَوَازِين الْحُرُوف ومنتهى الطّلب فِي قسْمَة حُرُوف الرتب على الْكَوَاكِب السَّبْعَة وَالرَّأْس والذنب والجدول العذب الاهني من مشرب الْأَسْمَاء الْحسنى وَعقد الحكم فِي ورد الِاسْم وَعقد اللآلي الفخام فِي ورد اللَّيَالِي(2/201)
وَالْأَيَّام والتحصينات الْمَوَانِع بالدعوات الْجَوَامِع والتحبير فِي التسخير وَله غير ذَلِك من المؤلفات مِمَّا يطول ذكره قلت وَقد تيَسّر لي بِحَمْد الله تَعَالَى رِوَايَة جَمِيع مَاله من تأليف وَأثر ينْقل عَنهُ رِوَايَة عَامَّة عَن وَلَده سيدنَا ومولانا الاستاذ الْكَبِير الْعَظِيم الشَّأْن المعمر الْبركَة رونق قطر الْحجاز السَّيِّد عمر أجازني بذلك مشافهة أَيَّام مجاورتي فِي أواسط سنة مائَة وَألف وَللسَّيِّد سَالم أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قصيدته الَّتِي قَالَهَا فِي مدح النَّبِي
مطْلعهَا
(لَك ذَات الْعُلُوم والأسماء ... يَا نَبيا نوابه الْأَنْبِيَاء)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(ترا آي بديع الْحسن فِي صنع خلقه ... جميلاً فَظن الْمظهر النَّاظر القذى)
(وَمَا هُوَ إِلَّا الله بالصنع بارز ... على صِيغ التخليق فِي الظَّاهِر الَّذِي)
وَقَوله
(رمى العَبْد سهم الْوَهم من قَوس حكمه ... فأدمى خيالا فِي منصاته السَّبع)
(وَلَيْسَ إِذا حققت رام سوى الَّذِي ... أَتَاك بطي النشر فِي الطَّبْع والوضع)
وَقَوله
(كن ممسكاً بِالصَّوْمِ عَن كل السوى ... وَاذْكُر بفطرك من أَتَى معروفه)
(وبفاطر عَن رُؤْيَة الأغيار صم ... من صَامَ عِنْد الله طَابَ خلوفه)
وَله دَار الصَّفَا من بَحر الشفا وَهِي الوترية فِي مدخ خير الْبَريَّة وَله صلوَات على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَله غير ذَلِك ومحصل الْكَلَام أَنه أَكثر أهل عصره فَائِدَة ونفعا وَكَانَت وَفَاته ضحوة يَوْم الْأَحَد تَاسِع ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن فِي عشيته على أَبِيه وجده بالمعلاة وَلما دفن تمثل الْوَلِيّ الْعَارِف الشريف الْعلوِي الحبشي بِبَيْت من الشّعْر وَهُوَ
(حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر)
وَجَاء تَارِيخ وَفَاته صَار إِلَى رَحْمَة الله
سَالم بن حسن الشبشيري نزيل مصر الشَّافِعِي الإِمَام الْحجَّة شيخ وقته وَأعلم أهل عصره كَانَ فِي الْفِقْه بَحر الإيجاري وَفِي بَقِيَّة الْعُلُوم قدره مَشْهُور أَخذ الْفِقْه عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَغَيره من أكَابِر عصره وتكمل بِالنورِ الزيَادي ولازمه سِنِين عديدة وَكَانَ من أجل طلبته وَمِمَّنْ فنى فِي محبته وَكَانَ يطالع لجَماعَة الزيَادي درسه على عَادَة مَشَايِخ الأزهران أفضل الطّلبَة يطالع لطلبة الشَّيْخ درسه مطالعة بحث وَتَحْقِيق(2/202)
حَتَّى يَأْتُوا إِلَى الشَّيْخ وهم متهيؤن لما يلقيه وَكَانَت جمَاعَة الزيَادي مَعَ مَا هم عَلَيْهِ من الْعلم والفهم الثاقب ملازمين لدروسه الفرعية وَمِمَّنْ لَازمه مِنْهُم الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ والنور الْحلَبِي والشهاب القليوبي وعامر الشبراوي وخضر الشَّوْبَرِيّ وَعبد الْبر الاجهوري وَمُحَمّد البابلي والنور الشبراملسي وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحي وَكَانَ يُسَمِّيه وتد درسه ويفضله على شَيْخه الزيَادي وَيَقُول مَا رَأَيْت أفقه مِنْهُ وَكَانَ آيَة من آيَات الله تَعَالَى فِي استحضار مسَائِل الْفِقْه وتصويرها وَمَعْرِفَة الْفرق وَالْجمع بَينهمَا والاطلاع على النقول والإحاطة بالفروع وَالْأُصُول وَكَانَ مَعَ كَونه فَقِيها خَالِصا من أكَابِر الْأَوْلِيَاء لَهُ كرامات خارقة وأحوال باهرة مِنْهَا مَا حَكَاهُ النُّور الشبراملسي فِي درسه أَنه طالع كتاب الْغرُور من الْأَحْيَاء للغزالي فَلَمَّا رأى مَا قَالَه الْغَزالِيّ فِي عُلَمَاء عصره وَمَا هم فِيهِ من الْغرُور مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل ذَلِك الْعَصْر من الْخَيْر أضمر فِي نَفسه أَن يتخلى لِلْعِبَادَةِ وَالصَّوْم وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَأَن يتْرك الْقِرَاءَة على الشُّيُوخ وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب لِأَنَّهُ قد حصل مَا يَكْفِيهِ فِي إِقَامَة دينه ودنياه وَكَانَ إِذْ ذَاك يحضر درس صاحبا لترجمة فجَاء ذَلِك الْيَوْم إِلَى الدَّرْس بِغَيْر مطالعة واشتغل سرا بِقِرَاءَة الْقُرْآن بِحَيْثُ لَا يسمع أحدا من الْحَاضِرين وَلم يُخْبِرهُمْ بِمَا أضمره فِي نَفسه وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى الدَّرْس مُرَاعَاة لخاطر الشَّيْخ لِئَلَّا يفتقده فَيسْأَل عَنهُ أَو يَأْتِي إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة شفاها يَا عَليّ مَالك الْيَوْم سَاكِت فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي مَا طالعت فَقَالَ لَهُ يَا عَليّ الْغَزالِيّ مَا ألف الْمُسْتَصْفى مَا ألف الْوَجِيز مَا ألف كَذَا مَا ألف كَذَا وعد مؤلفاته فَقَالَ لَهُ نعم يَا سَيِّدي فَقَالَ لَهُ كَأَنَّك اغتريت بِكِتَاب الْغرُور من الْأَحْيَاء لَا بقيت تفعل هَذَا واطلب الْعلم وَاتَّقِ الله مَا اسْتَطَعْت عَسى الله أَن يجعلك من المخلصين قَالَ الشبراملسي فَلَمَّا كاشفني بذلك رجعت لما كنت عَلَيْهِ من طلب الْعلم والاشتغال بِهِ وَصرف أوقاتي فِي المطالعة وَتركت مَا كنت أضمرته فِي نَفسِي وأنبأني الشَّيْخ عَنهُ حَتَّى كَانَ من أَمر الله مَا كَانَ وَالْحَمْد لله وَحده وَلم يزل صَاحب التَّرْجَمَة منهمكا على بَث الْعلم ونشره حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم السبت سَابِع عشرى ذِي الْحجَّة سنة تسع عشرَة وَألف وَحكى البشبيشي عَن شَيْخه الشَّيْخ سُلْطَان أَنه توفّي فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الْأَزْهَر وَكَانَ الإِمَام بِالنَّاسِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ شَيْخه النُّور الزيَادي وَلم يجزع عُلَمَاء مصر على أحد من الْعلمَاء مَا جزعوا عَلَيْهِ رَحمَه الله(2/203)
سَالم بن مُحَمَّد عز الدّين بن مُحَمَّد نَاصِر الدّين ابْن عز الدّين بن نَاصِر الدّين بن عز الْعَرَب أَبُو النجا السنهوري الْمصْرِيّ الْمَالِكِي الإِمَام الْكَبِير الْمُحدث الْحجَّة الثبت خَاتِمَة الخفاظ وَكَانَ أجل أهل عصره من غير مدافع وَهُوَ مفتي الْمَالِكِيَّة وَرَئِيسهمْ وَإِلَيْهِ الرحلة من الْآفَاق فِي وقته وَاجْتمعَ فِيهِ من الْعُلُوم مَا لم يجْتَمع فِي غَيره مولده بسنهور وَقدم إِلَى مصر وعمره إِحْدَى عشرَة سنة وَأخذ عَن الإِمَام الْمسند النَّجْم مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن أبي بكر الغيطي الإسكندري ثمَّ الْمصْرِيّ صَاحب الْمِعْرَاج وَعَن الإِمَام الْكَبِير الْحجَّة الشَّمْس مُحَمَّد النوفري الْمَالِكِي وَأدْركَ النَّاصِر اللَّقَّانِيّ وَأخذ عَنهُ الجم الْغَفِير الَّذين لَا يُحصونَ من أهل مصر وَالشَّام والحرمين مِنْهُم الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ والنور الأَجْهُورِيّ وَالْخَيْر الرَّمْلِيّ وَالشَّمْس البابلي وَالشَّيْخ سُلَيْمَان البابلي وَمِمَّنْ لَازمه وَسمع مِنْهُ الْأُمَّهَات السِّت كملا الشَّيْخ عَامر الشبرواي وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل فِي الْفِقْه وَهِي عزيزة الْوُجُود لقلَّة اشتهارها وانتشارها ورسالة فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَغَيرهمَا وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس عشرَة بعد الْألف وَدفن بمقبرة المجاورين وَبلغ من الْعُمر نَحْو السّبْعين وأرخ بَعضهم وَفَاته بقوله
(مَاتَ شيخ الحَدِيث بل كل علم ... سَالم ذُو الْكَمَال أفضل حبر)
(قلت من غير غَايَة لبكاء ... أرخوه قد مَاتَ عَالم مصر)
سرُور بن الْحُسَيْن بن سِنِين الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ أحد أَفْرَاد الزَّمَان فِي النّظم وَله شعر بديع الصَّنْعَة مليح الأسلوب مفرغ فِي قالب الْحسن والجودة وَلما فَارق وَطنه بحلب وسارع إِلَى طرابلس الشَّام لمدح أمرائها بني سَيْفا والأمير مُحَمَّد بَينهم إِذْ ذَاك مقصد كل شَاعِر وممدوح كل نَاطِق أكْرم مثواه وَأحسن قراه فبغضه شعراء الْأَمِير الموجودون عِنْده والمقربون إِلَيْهِ وَذَلِكَ لأقبال الْأَمِير عَلَيْهِ وركبوا كل صَعب وَذَلُول فِي سبه حَتَّى خَاطب الْأَمِير حُسَيْن بن الْجَزرِي الْمُقدم ذكره بقوله معرضًا بسرور
(وحقك مَا تركتك عَن ملال ... وبغض أَيهَا الْمولى الْأَمِير)
(وَلَكِن مذ ألفت الْحزن قدما ... انفت مواطنا فِيهَا سرُور)
وَلم يزل فِي تِلْكَ الغربة إِلَى أَن قضى وَمَا قضى وطره ومدائحه فِي بني سَيْفا غَايَة وَمن جيدها قصيدته الرائية الَّتِي قَالَهَا فِي مدح الْأَمِير مُحَمَّد ومستهلها(2/204)
(خلا ربع أنسى بعدكم فَهُوَ مقفر ... وأعوزني حَتَّى البكا والتبصر)
(وَقد كنت عَمَّا يسهر الْعين غافلا ... فعلمني حبيكم كَيفَ أسهر)
(وَوَاللَّه رَبِّي مَا تَغَيَّرت بعدكم ... وَإِن رابكم جسماني الْمُتَغَيّر)
(عدمت اخْتِيَاري والحوادث جمة ... وَهل بيد الْإِنْسَان مَا يتَخَيَّر)
(تذكرتكم وَالْعين تهمى دموعها ... وَأي دموع لم يهجها التَّذَكُّر)
(وَلَيْسَت كَمَا ظن الغبي مدامعا ... وَلكنهَا نفس تذوب فتقظر)
أَخذ الْأَخير من قَول بشار
(وَلَيْسَ الَّذِي يجْرِي من الْعين مَاؤُهَا ... وَلكنهَا روح تذوب فتقظر)
وَقد أَخذه المتنبي فحسنه بقوله
(أشاروا بِتَسْلِيم فجدنا بأنفس ... تسيل من الآماق والسم أدمع)
وَقد تداول الشُّعَرَاء هَذَا الْمَعْنى كثيرا وَلَو جمعت مَا قيل فِيهِ لناف على خَمْسمِائَة بَيت تَتِمَّة الرائية
(لَعَلَّ ليل سامحتني بقربكم ... تُعَاد فتنهى فِي البعاد وتأمر)
(هُنَالك أجزى الدَّهْر عَن حسن فعله ... وَاصْفَحْ عَن ذَنْب الزَّمَان وأغفر)
(بكم روّضت دَاري وعزت وأشرقت ... فَأنْتم لَهَا بَحر وَبدر وقور)
(بجيث التصابي كَانَ سهلاً جنا بِهِ ... بكم وشبابي أَبيض الْعَيْش أَخْضَر)
وَمِنْهَا فِي المديح
(أءكفر إِحْسَان ابْن سَيْفا مُحَمَّد ... فَذَلِك ذَنْب لَيْسَ عَنهُ مكفر)
(مَتى وَردت جدوى الْأَمِير بِنَا المنى ... شربنا ببحر صَفوه لَا يكدر)
(كثير سخاء الْكَفّ تحسب جنَّة ... تفجر فِيهَا من عطاياه كوثر)
(وَمن نعْمَة قد أودعت قلب حَاسِد ... تفوح كَمَا يستودع الْعود مجمر)
(وَإِن جدّ أمضى فِي الْأُمُور عَزِيمَة ... يحيض دَمًا مِنْهَا الحسام الْمُذكر)
(يدبر أَمر الْجَيْش مِنْهُ ابْن حرَّة ... بَصِير بتدبير الْأُمُور مُدبر)
(حسام لَهُ من حلية الْفضل جَوْهَر ... يروق كَمَا راق الحسام المجوهر)
(وينتاش شلوا الْمجد من ثوب الردى ... وَقد نشبت فِيهِ نيوب وأظفر)
(وَإِن زارت الْخَيل السوابق خيله ... أَتَى الطير من قبل اللِّقَاء يبشر)
(تفدّيه بِالشُّهُبِ الصوافن ضمر ... عَلَيْهَا أسود من بني الْحَرْب ضمر)(2/205)
(خلفت عليا يَا ابْنه فِي خلائق ... تَسَاوِي بهَا فرع زكي وعنصر)
قلت هَذَا الْقدر هُوَ الْمَقْصُود مِمَّا نَحن فِيهِ وَهَذَا الشّعْر هُوَ السحر الْحَلَال فَللَّه دره مَا أسلس قياده وأعذب أَلْفَاظه وَأحسن سبكه وألطف مقاصده وَمن ملحه قَوْله
(نزلنَا بِحكم الراح عنْدك منزلا ... نهبنا بِهِ الأفراح فِي ظله نهبا)
(تدير علينا من حَدِيثك خمرة ... وَأُخْرَى من الراح الْمُعتقَة الصهبا)
(فرحت فَلَا وَالله أعلم مَا الَّذِي ... تعاطيت رَاحا كَانَ أم لفظك العذبا)
(كَانَ إِذا اشعشعتها أكفنا ... نقلب من كاساتها أنجما شهبا)
وَمن غزليانه قَوْله
(وَلكم بكرت إِلَى الرياض للذة ... فِي فتية بيض الْوُجُوه صباحها)
(تهتز فِي ورق الشَّبَاب قدودهم ... كغصونها وثغورهم كاقاحها)
(حَتَّى إِذا عَادوا لوصلي عاودت ... أَرْوَاح لذاتي إِلَى أشباحها)
وَمن مطرباته الَّتِي استوفت أَقسَام الظّرْف قَوْله
(بدا فَكَأَنَّمَا قمر ... على أطواقه ظهرا)
(يعز إِذا خضعت لَهُ ... وَإِن دانبته نَفرا)
(وَلم أر قبل مبسمه ... ثمين الدّرّ مَا صغرا)
(يظل بِهِ على خطر ... فُؤَادِي كلما خطرا)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله
(صب جَفا فِي فراقك الرفقا ... جَار عَلَيْهِ الْهوى وَمَا رفقا)
(يَكْفِيهِ من حالتيه أَن لَهُ ... فَمَا صموتا وناظرا قلقا)
(ودمع عين يَبْدُو فاكتمه ... منحبسا تَارَة ومنطلقا)
(وقفت أستنطق الربوع لَهُ ... لَو أَن ربعا لسائل نطقا)
(عين ترى أَن تراك لَا سكبت ... للبين دمعا وَلَا اشتكت أرقا)
(هَل فِيك من رَحْمَة تعين بهَا ... إِنْسَان عين أحرقته غرقا)
(وغصن بَان مَشى فعلمني ... لما تثني وشاحه القلقا)
أحسن مِنْهُ قَوْله أبي تَمام
(وَإِذا مشت تركت بقلبك ضعف مَا ... يحليها من كَثْرَة الوسواس)
رَجَعَ
(أَوْرَق بالْحسنِ نبت عَارضه ... وَأحسن الْغُصْن مَا اكتسى الورقا)(2/206)
(يمدلي من عذاره مُشْركًا ... يطول فِيهِ عَذَاب من علقا)
(وَيحمل الصُّبْح تَحت ليل دجى ... فَوق قضيب على كثيب نقا)
(أخذت بِالْمذهبِ الصَّحِيح وَقد ... تفرق النَّاس فِي الْهوى فرقا)
(مقسمين الحظوظ بَينهم ... فِي الْحبّ قسمى سَعَادَة وشقا)
وَله من قصيدة يذكر فِيهَا منتزهات حلب
(أَلا لَيْت مَا بيني وَبَيْنك من بعد ... على الْقرب مابين الْقُلُوب من الود)
(غرامي غرامي والهوى ذَلِك الْهوى ... قَدِيما ووجدي فِي محبتكم وجدي)
(وَوَاللَّه مَا تَغَيَّرت بعدكم ... لبين فَهَل أَنْتُم تغيرتم بعدِي)
(تذكرت أيامي وعودي بمائه ... وعيشي بكم لَو دَامَ فِي جنَّة الْخلد)
(وَقلت تديموني على الْقرب دَائِما ... فخالفتموني واتفقتم على الْبعد)
(وَلَيْلَة غاظ الْبَدْر فِيهَا اجتماعنا ... فَكُنَّا نرى فِي وَجهه أثر الحقد)
(وملتقطات من فُؤَادِي تجتنى ... أَحَادِيث أحلى مجتنى من جنى الشهد)
(ألذ من المَاء القراح على الظما ... وأعذب من طيب الْكرَى عقب السهد)
(وبالبقعة الْغناء من سفح جوشن ... فَتلك الربى فالسفح من جوشن الْفَرد)
(كَانَا على شاطىء مجر قويقها ... وَقد أشرف السعدى بكم أنجم السعد)
(تَجِد بِنَا أهواؤنا فحلو منا ... موفرة فِيهَا على الْهزْل وَالْجد)
(وَكم بردت للتل عين قريرة ... سُرُورًا بِنَا والشمل مُنْتَظم العقد)
(لبسنا لَهَا وَاللَّيْل يعثر بالصبا ... بَقِيَّة قطع من دجى اللَّيْل مسود)
(مَنَارَة قطر لابس الْقطر نورها ... فألبسها مِمَّا ينيل وَمَا يسدى)
(رياض حكى الْبرد الْيَمَانِيّ وشيها ... وشاطىء غَدِير مثل حَاشِيَة الْبرد)
(تحرى بهَا النوروز فصل اعتداله ... فَعدل فِيهَا قسْمَة الْحر وَالْبرد)
(وَمن ورق للورد يصقله الندى ... فَيجْرِي يجاري الدمع من حمرَة الخد)
(فيا نعْمَة أغفلتها فتصرمت ... مَضَت لم أقيدها بشكر وَلَا حمد)
وَقد تضمن أَكثر شعره مدح الشَّهْبَاء تبعا للْمُتَقَدِّمين كَقَوْل البحتري
(أَقَامَ كل ملث الودق رجاس ... على ديار بعلو الشَّام أدراس)
(فِيهَا العلوة مصطاف ومرتبع ... من بانقوسا وبابلي وبطياس)
(منَازِل أنكرتها بعد معرفَة ... وأوحشت من هوانا بعد إيناس)(2/207)
(يَا علو لَو شِئْت أبدلت الصدود لنا ... وصلا ولان لصب قَلْبك القاسي)
(هَل لي سَبِيل إِلَى الطهران من حلب ... ونشوة بَين ذَاك الْورْد والآسى)
وكقول ابْن الخفاجي
(وَحل عُقُود المزن فِي حجراته ... نسيم بأدواء الْقُلُوب خَبِير)
(فَمَا ذكرته النَّفس إِلَّا تبادرت ... مدامع لَا يخفى لَهُنَّ ضمير)
وكقول أبي فراس
(الشَّام لَا بلد الجزيرة لذتي ... وقويق لَا مَاء الْفُرَات منائي)
(وأبيت مُرْتَهن الْفُؤَاد بمنيح ... الزَّوْرَاء لَا بالرقة الْبَيْضَاء)
وكقول الْمُهَذّب عِيسَى الْحلَبِي
(يَا حبذا التلعات الْخضر من حلب ... وحبذا طلل بالسفح من طلل)
(يَا سَاكِني الْبَلَد الْأَقْصَى عَسى نفس ... من سفح جوشن يطفى لاعج الغلل)
وكقول أبي بكر الصنوبري
(قويق على الصَّفْرَاء ركب مَتنه ... رباه بِهَذَا شَاهد وحدائقه)
(فَإِن جد جد الصَّيف غادر جِسْمه ... ضيئلاً وَلَكِن الشتَاء يُوَافقهُ)
وَهَذَا الْبَاب وَاسع جدا فلنقتصر مِنْهُ على هَذَا الْمِقْدَار فَفِيهِ غنية وجوشن اسْم مَوضِع بحلب وقويق بِضَم الْقَاف على فعيل مصغر أنهر صَغِير بِظَاهِر حلب يجْرِي فِي الشتَاء وَالربيع وَيَنْقَطِع فِي الصَّيف وَقد ذكرته الشُّعَرَاء فِي أشعارهم كثيرا وبطياس بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَبعد الْألف سين مُهْملَة وَهِي قَرْيَة كَانَت بِظَاهِر حلب ودثرت وَلم يبْق مِنْهَا الْيَوْم أثر وبانقوسا وبابلي مكانان معروفان بحلب انْتهى ووفاة سرُور كَانَت فِي حُدُود الْعشْرين بعد الْألف بالتقريب كَمَا يرشد إِلَى ذَلِك مدائحه فِي بني سَيْفا وَالله أعلم
سعد الدّين بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن وَتقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة أَخِيه إِبْرَهِيمُ الشَّيْخ الْجواد المربي الدِّمَشْقِي القبيباتي الجباوي الشَّافِعِي أحد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة بِدِمَشْق تولى مشيخة بَيتهمْ بعد أَخِيه مُحَمَّد وتصدى لتلقي الصُّوفِيَّة وَالزُّوَّارِ بزاويتهم الْمَعْرُوفَة بهم بمجلة القبيبات وَكَانَ يُقيم ميعاد الذّكر يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الْأمَوِي وعلت كَلمته وعظمت حرمته وَأَنْشَأَ أملاكاً وعقارات كَثِيرَة وَحج فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف فَتوفي بمنى وَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة عِنْد العرابي وَكَانَت(2/308)
وَفَاته فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة
سعودي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْغَزِّي العامري الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي مفتي الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق وَابْن مفتيها وَابْن ابْن مفتيها رُؤَسَاء الْعلم بِالشَّام وكبراؤه وشهرة بَيتهمْ لَا تحْتَاج إِلَى بَيَان وَكَانَ سعودي هَذَا فَاضلا وجيهاً رَقِيق الطَّبْع متساوي الْأَطْرَاف أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث عَن جده لأمه الشهَاب أَحْمد العيثاوي الْمُقدم ذكره وَعَن وَالِده النَّجْم وسافر فِي خدمته إِلَى الْحَج فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَإِلَى الرّوم فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَلما حج وَالِده فِي سنة سبع وَأَرْبَعين أَقَامَهُ مقَامه فِي خدمَة فَتْوَى الشَّافِعِيَّة فباشرها وَظَهَرت كِفَايَته وحمدت سيرته ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فِي سنة سِتِّينَ فاستقل بهَا وَأعْطى عَنهُ الْمدرسَة الشامية البرانية ودرس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر من جَامع بني أُميَّة وابتدأ من مَحل انْتهى إِلَيْهِ درس وَالِده فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ وقف فِي آخر درس قَرَأَهُ على بَاب الْبكاء على الْمَيِّت وَاسْتمرّ مُدَّة يُفْتِي ويدرس وَله الْقبُول التَّام والتقدم بَين أَبنَاء نَوعه وَكَانَ حسن المطارحة وَالْأَدب وينسب إِلَيْهِ من الشّعْر شَيْء قَلِيل فَمن ذَلِك مَا رَأَيْته مَنْسُوبا إِلَيْهِ فِي بعض المجاميع وَلَا أتحققه وَذَلِكَ قَوْله فِي صَاحب لَهُ
(لي صَاحب فِي نَقله مَا حكى ... للكذب عَن آبَائِهِ وَارِث)
(فَكل مَا يَنْقُلهُ مثل مَا ... قَالَ الحريري حكى الْحَارِث)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي أواسط ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة آبَائِهِ بتربة الشَّيْخ أرسلان قدس الله تَعَالَى سره الْعَزِيز
سعيد بن عبد الرَّحْمَن بابقي الْحَضْرَمِيّ القيدوني بَلَدا الدوعني جِهَة الشَّيْبَانِيّ نسبا ثمَّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الإِمَام الرباني والعارف الصمداني كَانَ من العارفين بِاللَّه تَعَالَى الواقفين مَعَ الْكتاب وَالسّنة وَكَانَ يتَكَلَّم عَن طَرِيق الصُّوفِيَّة بِمَا يبهر الْأَلْبَاب وَيحل مشكلات الْمُحَقِّقين على الْوَجْه الصَّوَاب مَعَ كَثْرَة الْعِبَادَة والتلاوة لِلْقُرْآنِ والتوجه إِلَى الله تَعَالَى فِي سره وعلانيته ولد كَمَا أخبر هُوَ بِهِ بعض تلامذته يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بِالْعلمِ على كثيرين من الحضارمة واليمنيين وساح مُدَّة مديدة فِي الْيمن وَدخل الْهِنْد وجال فِي بِلَاده ثمَّ رَجَعَ إِلَى عدن ورحل مِنْهَا إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأقَام بِمَكَّة وَأخذ بهَا عَن الْأُسْتَاذ(2/309)
الشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ واشتهر ذكره واعتقده النَّاس وخضعت لَهُ الْعلمَاء الْأَعْلَام وَأخذ عَن جمع من أكَابِر الْعلمَاء الْأَعْيَان كالسيد الْجَلِيل سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وكراماته أشهر من أَن تذكر وَأعظم من أَن تحصر وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر محرم سنة سبع عشرَة وَألف بِمَكَّة وَدفن ببيته بجبل أبي قبيس وقبره درياق مجرّب لقَضَاء الْحَوَائِج
سقر بن عمر اليفاوي الْمصْرِيّ الْوَلِيّ الصَّالح المجذوب ذكره الإِمَام عبد الرؤوف الْمَنَاوِيّ فِي طَبَقَات الْأَوْلِيَاء وَقَالَ كَانَ لَهُ الْقدَم الراسخة فِي الْولَايَة والكرامات الخارقة الَّتِي لَا يشك فِيهَا وَمِمَّا ذكر عَنهُ من أطواره أَنه كَانَ إِذا قرىء بِحَضْرَتِهِ الْقُرْآن خشع وَإِذا تلِي عَلَيْهِ كَلَام الْقَوْم هام وَخرج قَالَ وَوَقع لي مَعَه أُمُور غَرِيبَة وسمعته يقْرَأ الْقُرْآن بِقِرَاءَة مرتلة عَظِيمَة مَعَ أَنه لم يكن قارياً وَلَا مِمَّن حضر حَافِظًا وَكَانَت وَفَاته فِي أواسط سنة سِتّ وَعشْرين وَألف غريقاً بالخليج سقط بِنَفسِهِ وَدفن بِالْقربِ من عبد الْقَادِر الدشطوطي بِخَط بَاب الشعرية قَالَ ورأيته بعد مَوته حَيا وَهُوَ يَقُول سترى يَا فلَان فِيمَن فعلوا بِنَا رَحمَه الله تَعَالَى
سُلْطَان بن أَحْمد بن سَلامَة بن إِسْمَاعِيل أَبُو العزائم المزاحي الْمصْرِيّ الْأَزْهَرِي الشَّافِعِي إِمَام الْأَئِمَّة وبحر الْعُلُوم وَسيد الْفُقَهَاء وخاتمة الْحفاظ والقراء فريد الْعَصْر وقدوة الْأَنَام وعلامة الزَّمَان الْوَرع العابد الزَّاهِد الناسك الصوام القوام قَرَأَ بالروايات على الشَّيْخ الإِمَام المقرىء سيف الدّين بن عَطاء الله الفضالي بِفَتْح الْفَاء الْبَصِير وَأخذ الْعُلُوم الدِّينِيَّة عَن النُّور الزيَادي وَسَالم الشبشيربي وَأحمد بن خَلِيل السُّبْكِيّ وحجازي الْوَاعِظ وَمُحَمّد القصري تلميذ الشَّمْس مُحَمَّد الشربيني الْخَطِيب واشتغل بالعلوم الْعَقْلِيَّة على شُيُوخ كثيرين ينيفون على ثَلَاثِينَ وأجيز بالإفتاء والتدريس سنة ثَمَان بعد الْألف وتصدر بالأزهر للتدريس فَكَانَ يجلس فِي كل يَوْم مَجْلِسا يقرى فِيهِ الْفِقْه إِلَى قبيل الظّهْر وَبَقِيَّة أوقاته موزعة لقِرَاءَة غَيره من الْعُلُوم وانتفع النَّاس بمجلسه وبركة دُعَائِهِ وطهارة أنفاسه وَصدق نِيَّته وصفاء ظَاهره وباطنه وموافقة قَوْله لعمله وَأخذ عَنهُ جمع كثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين مِنْهُم الشَّمْس البابلي والعلامة الشبراملسي وَعبد الْقَادِر الصفوري وَمُحَمّد الخباز البطنيني الدمشقيان وَمَنْصُور الطوخي وَمُحَمّد البقري وَمُحَمّد بن خَليفَة الشَّوْبَرِيّ وَإِبْرَاهِيم المرحومي وَالسَّيِّد أَحْمد الْحَمَوِيّ وَعُثْمَان النحراوي وشاهين الأرمناوي(2/210)
وَمُحَمّد البهوتي الْحَنْبَلِيّ وَعبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ الْمَالِكِي وَمِنْهُم أَحْمد البشبيشي وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَجَمِيع فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة بِمصْر فِي عصرنا لم يَأْخُذُوا الْفِقْه إِلَّا عَنهُ وَكَانَ يَقُول من أَرَادَ أَن يصير عَالما فليحضر درسي لِأَنَّهُ كَانَ فِي كل سنة يخْتم نَحْو عشرَة كتب فِي عُلُوم عديدة يقْرؤهَا قِرَاءَة مفيدة وَكَانَ بَيته بَعيدا من الْجَامِع الْأَزْهَر بِقرب بَاب زويلة وَمَعَ ذَلِك يَأْتِي إِلَى الْأَزْهَر من أول ثلث اللَّيْل الْأَخير فيستمر يُصَلِّي إِلَى طُلُوع الْفجْر ثمَّ يُصَلِّي الصُّبْح إِمَامًا بِالنَّاسِ وَيجْلس بعد صَلَاة الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس لإقراء الْقُرْآن من طَرِيق الشاطبية والطيبة والدرة ثمَّ يذهب إِلَى فسقية الْجَامِع فيتوضأ وَيُصلي وَيجْلس للتدريس إِلَى قرب الظّهْر هَذَا دأبه كل يَوْم وَلم يره أحد يُصَلِّي قَاعِدا مَعَ كبر سنه وَضَعفه وَألف تآليف نافعة مِنْهَا حَاشِيَته على شرح الْمنْهَج للْقَاضِي زَكَرِيَّا فِي فقه الشَّافِعِي كَانَت بقيت فِي نسخته فجردها تِلْمِيذه الشَّيْخ مُطَاوع وَله مؤلف فِي القراآت الْأَرْبَع الزَّائِدَة على الْعشْر من طَرِيق القباقبي وَذكره الْعَلامَة أَحْمد العجمي الْمُقدم ذكره فِي مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم وَأطَال فِي تَرْجَمته وَذكره الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى فِي رحلته فَقَالَ فِي وَصفه شيخ الْقُرَّاء بِالْقَاهِرَةِ على الْإِطْلَاق ومرجع الْفُقَهَاء بالِاتِّفَاقِ رَافع لِوَاء مَذْهَب الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْهمام من حَظه فِي الْعُلُوم موفور وسعيه فِيهَا مشكور ومعوّل عَلَيْهِ فِي منقولها ومطلع على فروعها وأصولها مَنْهَج الطلاب وقدوة أَرْبَاب الْفَرَائِض والحساب لم يُغَادر من قَوَاعِده كَبِيرَة وَلَا صَغِيرَة إِلَّا أحصاها وَلم يدع من مسَائِله جليلة وَلَا حقيرة إِلَّا استولى عَلَيْهَا وحواها قد رَجَعَ عُلَمَاء الْعَصْر إِلَى مقاله وعالهم بموائد فَوَائده فَأَصْبحُوا فِي هَذَا الْفَنّ من عِيَاله وَلَا غرو فَإِنَّهُ الْآن لعلماء الْأَزْهَر سُلْطَان وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسبعين وَألف وَتقدم للصَّلَاة عَلَيْهِ الشَّمْس البابلي وَدفن بتربة المجاورين وَقيل فِي تَارِيخ وَفَاته
(شَافِعِيّ الْعَصْر ولي ... وَله فِي مصر سُلْطَان)
(فِي جُمَادَى أرخوه ... فِي نعيم الْخلد سُلْطَان)
والمزاحي بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الزَّاي وَبعدهَا ألف وحاء مُهْملَة نِسْبَة إِلَى منية مزاح قَرْيَة بِمصْر
سُلَيْمَان بن أبي الْهدى الدَّاودِيّ الْمَقْدِسِي كَانَ قَاضِي الشَّافِعِيَّة بمحكمة الْقُدس(2/211)
وَله علم وَمَعْرِفَة وَكَانَ مَأْمُون الغائلة ثمَّ فِي آخِره ترك المحكمة واختلى لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ فِي آخر النّصْف الْأَخير من اللَّيْل يخْدم كتب الْعلم كِتَابَة وإصلاحاً وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بمأمن الله رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد سُلَيْمَان بن حسن بن عبيد الله اشْتهر جده عبد الله بباقيه وبالنساخ واشتهر هُوَ بطير الله الْمَشْهُور بالتواضع والمصافاة والموافقة والمراعاة ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَصَحب جمَاعَة من السَّادة العارفين وَغَيرهم من الْعلمَاء العاملين ثمَّ حبب إِلَيْهِ الارتحال فسافر إِلَى كثير من الْبلدَانِ وَلَقي جمَاعَة من أكَابِر الرِّجَال وَلزِمَ الطَّاعَات وَأكْثر من الْعِبَادَات وجانب المخالفات وَكَانَ متمسكاً بِالسَّبَبِ الْأَقْوَى من التَّقْوَى ملازماً للأذكار إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة تسع بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
سُلَيْمَان بن عَليّ اليساري أحد ظرفاء المصريين ولطفاء الفاضلين ولد بِمصْر وَنَشَأ بهَا وَتعلم الْأَدَب ونظم الشّعْر وَحج مرَارًا وجاور بِمَكَّة سنة ألف ومدح أَشْرَاف مَكَّة وأجازوه بِأَحْسَن الجوائز وطارح الأدباء الَّذين بهَا قَالَ الأديب أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّاهِد اجْتمعت بِهِ فِي مجاورته بِمَكَّة وَجَاءَنِي يَوْمًا وَهُوَ فِي غَايَة القلق وَنِهَايَة التَّعَب والأرق شاكياً من شَيْئَيْنِ متعبين أَحدهمَا أَنه فَارق من يحب وَالْآخر أَنه قدم قصيدة إِلَى بعض الأكابر فَلم يجزه عَلَيْهَا بِشَيْء وَكنت أداعبه كثيرا فَقلت لَهُ يَا فلَان كَأَن لِسَان حالك فِي فِرَاق من هويت يتَمَثَّل بمحبوبك عَنْك حَيْثُ يَقُول
(كفى حزنا أَنِّي مُقيم ببلدة ... وَأَنت بِأُخْرَى مَا إِلَيْك وُصُول)
(إِذا لم يكن بيني وَبَيْنك مُرْسل ... فريح الصِّبَا مني إِلَيْك رَسُول)
وَفِي الثَّانِي بقول الثَّانِي
(وَإِن مُلُوك الأَرْض لم يحظ عِنْدهم ... من النَّاس إِلَّا من يَقُود ويصفح)
فاحمد الله تَعَالَى لَا أَنْت وَلَا أَنْت فتسلى سَاعَة وَكَانَ من الظرفاء قلت وَهَذَا اليساري لم يَتَيَسَّر لي من شعره شَيْء حَتَّى أثْبته لَهُ غير أَنه من المعروفين فِي الْقَاهِرَة بصنعة الشّعْر وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف كَذَا رَأَيْته فِي بعض المجاميع رَحمَه الله تَعَالَى
سُلَيْمَان البابلي الْمصْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمَشْهُور بِكَثْرَة الْإِحَاطَة والتضلع من الْفِقْه وَكَانَ كَبِير الشَّأْن عالي الْقدر كَامِل الأدوات مَقْبُول الْخِصَال تفقه بالشيخ عبد الرَّحْمَن بن الْخَطِيب الشربيني وَالشَّيْخ سَالم الشبشيري الْمُقدم ذكره وَأخذ(2/212)
عَن النُّور الزيَادي وَرَأس فِي الْفتيا بعد وَفَاة شَيْخه الزيَادي فَكَانَ معول النَّاس عَلَيْهِ وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم ابْن أُخْته الشَّمْس مُحَمَّد البابلي الْبَصِير وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف بِالْقَاهِرَةِ وَوصل الْخَبَر بِمَوْتِهِ إِلَى دمشق فِي عشري جُمَادَى الأولى مِنْهَا
سُلَيْمَان باشا الْوَزير نَائِب الشَّام كَانَ أَمِيرا خور السُّلْطَان وَولي مِنْهَا نِيَابَة الشَّاب ثمَّ جَاءَتْهُ الوزارة وَهُوَ بهَا دخل دمشق فِي أواسط شهر ربيع الثَّانِي سنة تسع وَعشْرين وَألف وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ فصيحاً ويعظم الْعلمَاء ويحترمهم وَوَقع بَينه وَبَين الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسي حِين كَانَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق وَكَانَ لَهُ شدَّة وتهور حَتَّى كتب لَهُ رقْعَة شَتمه فِيهَا فَصَبر عَلَيْهِ وعامله بالحلم وتعب النَّاس فِي الصُّلْح بَينهمَا ثمَّ عزل القَاضِي وعزل هُوَ بعده فولي كَفَالَة ديار بكر وَمَات بهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
سُلَيْمَان البوسنوي نزيل قسطنطينية الْمَشْهُور بمذاقى أحد بلغاء شعراء الرّوم وأذكيائهم وَكَانَ نديم الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الْفَاضِل وَمن خواصه وجلسائه الْمُتَقَدِّمين عِنْده وَلم يزل مكيناً لَدَيْهِ حظياً بالتفاته يُفْضِي إِلَيْهِ بسره ويأمنه على أخباره وَصَارَ كَاتب ديوانه وَلم يزل عِنْد أَرْبَاب الدولة فِي المكانة الْعلية لاستعداد ذاتي فِيهِ يقْضِي بتبجيله ولقربه من الْوَزير وَكَانَ قبل اتِّصَاله بِهِ جاب الْبِلَاد وساح الْآفَاق وَهُوَ على سمة الدراويش ولديه معارف وَعِنْده فَضَائِل وَدخل آخر أمره مصر وحاكمها أَيُّوب باشا فقربه وَأَدْنَاهُ وَعرف مكانته فَجعله كَاتب ديوانه وَصَاحب حلّه وعقده وَكَانَ شَدِيد التولع بالكيميا لَا يزَال يفحص عَنْهَا من كل من يجْتَمع بِهِ وَصرف عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وبسببها اجْتمع بِكَثِير من أَرْبَاب الْمعرفَة والتقط من فوائدهم وحَدثني بعض أَصْحَابه عَنهُ أَنه اجْتمع فِي مصر بكنعان الكرجي الَّذِي اخترع البادزهر العملي الْمَعْرُوف بالكنعاني وَكَانَ ينْقل عَنهُ أَنه ابتدعه جربه لأمور كَثِيرَة مرَارًا وَصحت تجربته وَمن أفضل خواصه دفع السمُوم والآن قد اشْتهر أَمر هَذَا البادزهر وَرغب النَّاس فِيهِ وهم يتغالون فِي ثمنه وَذكر لي هَذَا النَّاقِل أَن صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ يعرف كَيْفيَّة عمله وَكَانَ لَدَيْهِ معارف كَثِيرَة وَكنت وَأَنا بالروم أسمع خَبره وحرصت على الِاجْتِمَاع بِهِ فَلم يقدر لي وَتُوفِّي بعد ذَلِك بقسطنيطينية وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف(2/213)
سهل بن أَحْمد بن سهل بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بجمل اللَّيَالِي اليمني القَاضِي الْمُفْتِي الْمدرس أحد مشاهير الْعلمَاء بِالْيمن ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد والملحة وتفقه بالشيخ عبد الرَّحْمَن بن علوي بافقيه وَأخذ الْأُصُول وَالْفِقْه والعربية عَن الشَّيْخ أَحْمد بن عمر عيديد والتصوف عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بسقاف العيدروس ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وَأذن لَهُ غير وَاحِد بالإفتاء والتدريس وَكَانَ جيد الْفَهم حسن الْحِفْظ وانتفع بِهِ كَثِيرُونَ وَأخذ عَنهُ الْجمال مُحَمَّد بن أبي بكر الشلي باعلوي وَطلب لقَضَاء تريم فَامْتنعَ حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ شَيْخه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن سقاف بِالْقبُولِ فَقبل وَلم يحفظ عَنهُ هفوة فِي إِفْتَاء أَو قَضَاء وَله كَلَام حسن الْموقع وَكَانَ وسيع البال يمِيل إِلَى الخمول وَبلغ من التَّوَاضُع مَا لَا يُوصف مَعَ البشاشة والشفقة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَسبعين وَألف بِمَدِينَة تريم وَدفن بمقبرة زنبل
سِنَان باشا الْوَزير الْأَعْظَم صَاحب الْآثَار الْعَظِيمَة فِي الْبِلَاد من جُمْلَتهَا الْجَامِع بِدِمَشْق خَارج بَاب الْجَابِيَة وَالْحمام والسوق الْمُتَّفق على حسن وضعهم ودقة صنعتهم وَله مثل ذَلِك فِي كل من القطيفة وسعسع وعيون التُّجَّار وعكة مَعَ خانات ينزلها المسافرون وَله ببولاق جَامع عَظِيم وَمثله بِالْيمن وقسطنطينية وَغَيرهَا من الْبِلَاد جَوَامِع ومساجد ومدارس وخانات وحمامات تنوف على الْمِائَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَكثر وزراء آل عُثْمَان آثاراً وأعظمهم نفعا للنَّاس وَكَانَ وزيراً عالي الْقدر رفيع الهمة ولي الْحُكُومَة بِمصْر فِي زمن سلطنة السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان وَمن غَرِيب مَا وَقع لَهُ وَهُوَ حَاكم بهَا أَنه لما تعين الْوَزير لالا مصطفى باشا إِلَى فتح الْيمن سَار إِلَى مصر وتقاعس بهَا عَن السّير رَجَاء أَن تضم لَهُ إِمَارَة الْأُمَرَاء بِمصْر إِلَى سردارية العساكر الْمعينَة لليمن فاتفق مَعَ بعض خواصه أَن يضيف سِنَان باشا وَيَضَع لَهُ السم فِي المشروب ثمَّ دَعَاهُ فَأجَاب وَكَانَ الشَّيْخ أدهم بن عبد الصَّمد العكاري الْمُقدم طرف من أخباره فِي تَرْجَمَة ابْن جلال من معتقدي سِنَان باشا وَهُوَ عِنْده بِمَنْزِلَة مرشده ومربيه وَلَا يصدر فِي الْأُمُور إِلَّا عَن رَأْيه فاستدعاه وَقَالَ لَهُ قُم نَذْهَب إِلَى الضِّيَافَة فَقَالَ لَهُ وَالله مَا أَنا بذاهب مَعَك وَلَكِن احْتَرز أَنْت على نَفسك فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك وَالْقَوْم عازمون على أَن يضروك فَلَمَّا قدمُوا إِلَيْهِ الْإِنَاء المسموم فِي مَاء الشّعير الْمحلى بالسكر لم يتَنَاوَل مِنْهُ شَيْئا ودعا بعض الْأُمَرَاء الْحَاضِرين إِلَى شربه فَقَالَ لَهُ من(2/214)
دَعَاهُ أما أَنا فَلَا أشْرب من هَذَا الْإِنَاء فازداد وهمه فَقَالَ رجل وَاقِف للْخدمَة إِلَى مَتى تتوقفون فِي شربه وتناوله ليشربه فَلَمَّا وَضعه بَين شَفَتَيْه تناثر لحم فَمه فِي الْحَال وَوَقع مقدم أَسْنَانه وَسقط شعر لحيته فَألْقى الكاس من يَده وَعلم الْحَاضِرُونَ بالقصة فَقَامَ سِنَان باشا وَهُوَ يقْرَأ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله ونادى بفرسه فركبها وَذهب ثمَّ عينه السُّلْطَان إِلَى الْيمن وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن إقليم الْيمن من صنعاء إِلَى عدن كَانَ دَاخِلا فِي حوزة سلاطيننا العثمانيين فِي أَيَّام السُّلْطَان سُلَيْمَان وَكَانَ لَهُ نَائِب وَاحِد وَاسْتمرّ زَمَانا إِلَى أَن فوضت حكومته لاثْنَيْنِ وَعين لكل مِنْهُمَا مَا حدّ من الْبِلَاد فَكَانَ ذَلِك باعث الِاخْتِلَاف والجدال وَكَانَ مطهر بن شرف الدّين يحيى الزيدي لعب الشَّيْطَان بعقله وسولت لَهُ نَفسه الْعِصْيَان فصادف انقسام المملكة وُصُول خبر وَفَاة السُّلْطَان سُلَيْمَان فَقطع الطَّرِيق وحاصر تعز وصنعا وسلب كثيرا من أُمَرَاء فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى السلطنة عينوا مصطفى باشا كَمَا تقدم ثمَّ عزلوه وعينوا مَكَانَهُ سِنَان باشا سردار على العساكر فَتوجه وَأصْلح مَا كَانَ اخْتَلَّ واستنقذ مَا كَانَ مطهر أَخذه بعد وقائع وَأُمُور يطول شرحها وَهِي مَذْكُورَة فِي تَارِيخ القطب الْمَكِّيّ وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم من أَبْيَات
(وَمَا يمن إِلَّا ممالك تبع ... وناهيك من ملك قديم وَمن فَخر)
(تَملكهَا من آل عُثْمَان إِذْ مَضَت ... بَنو طَاهِر أهل الشآمة وَالذكر)
(فَهَل يطْمع الزيدي فِي ملك تبعٍ ... وَيَأْخُذهُ من آل عُثْمَان بالمكر)
(أَبى الله وَالْإِسْلَام وَالسيف والقنا ... وسر أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي بكر)
ثمَّ إِنَّه بعد تمهيد هَذَا الْأَمر عَاد فَدخل مَكَّة المشرفة وَحج حجَّة الْإِسْلَام وصادف الْحَج فَلم يفته وَأَنْشَأَ بِمَكَّة آثاراً حَسَنَة مِنْهَا تعمير حَاشِيَة المطاف دَائِرَة حوله مفروشة بالحصى يَدُور بهَا دور حِجَارَة منحوتة مَبْنِيَّة حول الْحَاشِيَة كالإفريز لَهَا فَأمر أَن تفرش هَذِه الْحَاشِيَة بِالْحجرِ الصوان المنحوت ففرشت بِهِ فِي أَيَّام الْمَوْسِم وَصَارَ محلا لطيفاً دائراً بالمطاف من بعد أساطينه وَصَارَ مَا بعد ذَلِك مفروشاً بالحصى الصغار كَسَائِر الْمَسْجِد الْحَرَام وَهَذَا الْأَثر خَاص بِهِ وَمِنْهَا تعميره سَبِيل التَّنْعِيم أنشأه وَأمر بإجراء المَاء إِلَيْهِ من بِئْر بعيدَة يجْرِي المَاء مِنْهَا إِلَى السَّبِيل فِي ساقية مَبْنِيَّة فِيمَا بَينهمَا بالحصى والنورة وَعين لَهَا خَادِمًا يَسْتَقِي من الْبِئْر وَيصب فِي الساقية فيصل المَاء إِلَى السَّبِيل ليشْرب مِنْهُ وَيتَوَضَّأ المعتمرون وَعين لمصارف ذَلِك من ريع أوقاف لَهُ بِمصْر(2/215)
وَمِنْهَا آبار حفرهَا بِقرب الْمَدِينَة المنورة لقوافل الزوار فِي وَادي مُفَرع وَغَيرهَا كَثِيرَة النَّفْع جدا وَمِنْهَا قِرَاءَة ختمة شريفة فِي كل يَوْم يقْرؤهَا ثَلَاثُونَ نَفرا بِمَكَّة وَأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ ثمَّ بعد أَن قدم إِلَى تخت السلطنة عينه السُّلْطَان سليم إِلَى فتح حلق الْوَادي بِبِلَاد تونس الغرب وَكَانَ النَّصَارَى استولوا عَلَيْهَا بِسَبَب الِاخْتِلَاف الْوَاقِع بَين سلاطين الغرب من آل حَفْص فَصَارَ بَعضهم يقوى على بعض بالفرنج وأطمعوهم فِي بِلَاد الْمُسلمين فاستولوا عَلَيْهَا وتمكنوا مِنْهَا وحصنوا الْحُصُون وأحكموا المقلاع بِحَيْثُ أيس الْمُسلمُونَ من فتحهَا وصاروا تَحت حكم الفرنج وَأخذُوا مملكة تونس وَوَضَعُوا السَّيْف فِي أَهلهَا فَقتلُوا الرِّجَال وَسبوا النِّسَاء وَالْأَوْلَاد فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان سليم ذَلِك أرسل مِائَتي غراب مشحونة بالأبطال والمدافع وَآلَة الْحَرْب وَعين مَعَهم سِنَان باشا وقلج عَليّ باشا وَكَانَت غَزْوَة مَشْهُورَة من أعظم غزوات بني عُثْمَان يحْتَاج إِلَى تفصيلها الْمُؤلف فنقتصر مِنْهَا على خلاصتها وَهُوَ أَن الْمُسلمين انتصروا على الْكفَّار وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو عشرَة آلَاف مَعَ الْحصار المديد والقتال وَمن الْعجب أَن الفرنج كَانَت بنت هُنَاكَ حصاراً حصيناً وقلعة منيعة أَقَامُوا فِي استحكامها وإتقان بنائها ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة فافتتحها سِنَان باشا فِي ثَلَاث وَأَرْبَعين يَوْمًا من أَيَّام محاصرتها وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ خرب الْوَزير القلاع والحصون فَلم يبْق لَهَا رسم ثمَّ توجه سِنَان باشا إِلَى دَار السلطنة فولى بعد مُدَّة الوزارة الْعُظْمَى وَذَلِكَ فِي زمن السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ عزل عَنْهَا وَولي بعْدهَا نِيَابَة الشَّام وَشرع فِي عمَارَة الْجَامِع الْمَذْكُور أَولا ثمَّ ولي الوزارة الْعُظْمَى بعد ذَلِك أَربع مَرَّات عزل من الثَّالِثَة فِي شهر ربيع الأول سنة أَربع بعد الْألف وَصَارَ مَكَانَهُ لالا مُحَمَّد باشا فَبعد ثَلَاثَة أَيَّام توفّي مُحَمَّد باشا فأعيد إِلَى مَكَانَهُ وَلم تطل مدَّته فَتوفي فِي شعْبَان من تِلْكَ السّنة وَكَانَ فِي أحد تولياته الوزارة تعين لمحاربة الْكفَّار المعروفين بالنمسة ووقفت على تَرْجَمَة لَهُ تَرْجَمَة بهَا منشيء الدِّيوَان عبد الْكَرِيم بن سِنَان ذكر فِيهَا غَزوه مَعَ الْكَفَرَة وَمن زبدتها قَوْله مَلأ بقتلاهم الهضب وَالْبِقَاع وَأخذ مِنْهُم القلاع وَالْبِقَاع وجبر قُلُوب الْإِسْلَام بِكَسْر الصلبان والأصنام وَمن غَرِيب فتوحاته تسخيراً لحصن الموسوم بيانق وَهُوَ على مَا يُقَال لسماك السَّمَاء معانق أحكمت يَد الدَّهْر بُنْيَانه وَقد أزرى بالهرم فِي الحصانه وَأَهله يقطفون(2/216)
بِأَيْدِيهِم نرجس الْكَوَاكِب ويثقبون بأسنتهم دراري الثواقب
(يزر عَلَيْهِ الجو جيب غمامه ... ويلبسها من رونق الأنجم الزهر)
وَقد أحاطت بِهِ الْأَنْهَار إحاطة الهالات بالأقمار وَكم ورد فِيهَا لحياض الْمنية من ورد وَلبس من حبكها المنسوج بيد الشمَال زرداً على زرد
(فبالله من عجب دلاص ... يردّ بِهِ الْحمام غَدَتْ حَماما)
وتيسر فَتحه فِي نَحْو سبعين يَوْمًا وجفون الْغُزَاة لم تكتحل بِغَيْر نقع الهيجاء وَلم تذق نوماً وَقد تثبتوا فِي الْحَرْب تثبت الْجبَال علما بِأَنَّهَا بَين الرِّجَال سِجَال فهناك باحت أغماد السيوف بأسرارها فطارت غربان البنادق من أوكارها وَكم قَتِيل غَدا بألسنة الأسنة مكلماً وأصبحت درعه تبْكي عَلَيْهِ بِأَلف عين دَمًا والأعداء كَأَنَّمَا أَجْسَادهم جرائر يحملهَا من الدِّمَاء السَّيْل وكأنما رؤوسهم أكر تلعب بهَا صوالج الْأَيْدِي والأرجل من الْخَيل شكرا لله مساعيه الراضية وأحله فِي قُصُور الْجنان الْعَالِيَة انْتهى
سِنَان باشا الْوَزير حَاكم الْيمن كَانَ كتخدا حسن باشا صَاحب الْيمن الْمُقدم ذكره وَلما طَالَتْ مُدَّة الْوَزير حسن باشا فِي الْيمن وَأَرَادُوا عَزله مِنْهُ وَخُرُوجه على وَجه مستحسن أنعم السُّلْطَان بِبِلَاد الْيمن لكتخدانه سِنَان باشا الْمَذْكُور فَتوجه حسن باشا إِلَى الْأَبْوَاب الْعلية فِي حادي عشري صفر سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف وَكَانَ سِنَان باشا الْمَذْكُور على مَا قَالَ الشَّاعِر
(ملك سِنَان قناته وبنانه ... يتباريان دَمًا وَعرفا ساكبا)
وَلما اسْتَقر فِي الْيمن وَظهر من شيخ البدو عَليّ بن فلاح تعدو وأخاف الطرقات وهم قَبيلَة وَاسِعَة بِلَادهمْ مَا بَين بِلَاد ذمار وسنحان مسيرَة يَوْم وَاحِد من صنعاء أرسل عَلَيْهِم جَيْشًا جراراً فمزقهم كل ممزق فأطاعوا وسلموا رهاين فأنعم عَلَيْهِم بِالْعَفو وَكَانَ عقيب ذَلِك ظُهُور الإِمَام الْقَاسِم من بِلَاد الشرق من برض إِلَى بِلَاد وَادعَة إِلَى جِهَة الظَّاهِر وَقد دارت بَينه وَبَين الْأَمِير عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن المطهر حَاكم بِلَاد حجَّة والشرق مكاتبات على اتِّحَاد الْحَال بَينهمَا بِفَتْح الْحَرْب على السلطنة ووثب الإِمَام على سَائِر الْقَبَائِل بجاري عَادَته الأولى فَأَجَابُوهُ وَقَامَت الْحَرْب على سَاقهَا فَوجه الْوَزير سِنَان المحاط إِلَى جِهَة عبد الرَّحِيم وَلم يزل على الْحَرْب حَتَّى ضعفت أَحْوَال الإِمَام الْقَاسِم عَن مُقَابلَة مَا لديهم من العساكر وَعطف بِأَكْثَرَ العساكر(2/217)
على عبد الرَّحِيم وتكاثروا عَلَيْهِ ولحقه التَّعَب وَكَاد يشرف على العطب فحين رأى الإِمَام اشْتِغَال الْعَسْكَر بِعَبْد الرَّحِيم نَهَضَ على حصن شهاره وَسكن الإِمَام فِي شهاره والعساكر محدقون بِعَبْد الرَّحِيم فوصلت الْأَخْبَار أَن السُّلْطَان أنعم بِبِلَاد الْيمن على الْوَزير جَعْفَر باشا حَاكم بِلَاد الْحَبَشَة الْمُقدم ذكره فَخرج الْوَزير سِنَان من صنعا مُتَوَجها إِلَى الْأَبْوَاب الْعلية فِي رَجَب سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف فَلَمَّا وصل إِلَى بندر المخا انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَدفن إِلَى جَانب قبر القطب الشَّيْخ عَليّ بن عمر الشاذلي الْقرشِي نفع الله تَعَالَى بِهِ وَذَلِكَ فِي الْيَوْم الْخَامِس من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ يحب الْعلمَاء والفقراء والصلحاء وَكَانَ محسناً جواداً وَكَانَ مَعَ ذَلِك سفاكاً وَمَضَت أَيَّامه بالفتن وآثار خيراته أَكثر من أَن تذكر وَمن الْعجب أَن حسن باشا مَاتَ فِي رَجَب وَسنَان باشا فِي شعْبَان وَكَانَا تمَكنا من الْيمن نَحْو ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَكَانَت أيامهما زهرَة الْأَيَّام فِي الْيمن وَلما بلغ جَعْفَر باشا وَفَاته أرسل لضبط خزائنه عمر كتخداء فوصل إِلَى المخا وَاسْتولى عَلَيْهَا
سِنَان باشا الْمَعْرُوف بكوجك سِنَان نَائِب الشَّام هُوَ فِي الأَصْل من مماليك مَحْمُود باشا الْمَقْتُول فِي مصر سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة وتاريخ قَتله ظلمه وَكَانَ من جملَة خدمته أَيْضا مُرَاد باشا الَّذِي صَار آخرا وَزِير أعظم فِي دولة السُّلْطَان مُحَمَّد وَكَانَ هُوَ وَسنَان باشا فِي وَقت خدمتهما لمحمود باشا يتحابان وَبَينهمَا مَوَدَّة أكيدة وافترقا فَأَقَامَ سِنَان باشا فِي مصر وَذهب مُرَاد باشا إِلَى الرّوم وسما بِهِ حَظه حَتَّى ولي الوزارة الْعُظْمَى فَأرْسل إِلَى سِنَان باشا فِي مصر وَطَلَبه فورد إِلَيْهِ فِي حلب وَهُوَ مخيم هُنَاكَ وَكَانَ معينا لقِتَال الْخَوَارِج فَجعله بِمُجَرَّد قدومه أَمِير الْأُمَرَاء فِي بِلَاد قرمان وَذكر الْحسن البوريني فِي تَرْجَمته أَنه لما سَافر يَعْنِي البوريني من دمشق إِلَى حلب ورد إِلَى الْوَزير فِي مخيمه خَارج حلب فَرَأى سِنَان باشا ملازماً لَهُ فِي غَالب أوقاته قَالَ وَلما اجْتمعت بِهِ تذاكرت مَعَه السّفر إِلَى جَانب الْأَعْدَاء فَقلت لَهُ مَا نيتكم بعد كسر الْبُغَاة فَقَالَ نيتي أَن أَسِير إِلَى مصر لِأَن وطني بهَا وَشرع يذكر مَا لَهُ بِمصْر من العلائق وَالْأَمْوَال والعقارات وَالدَّوَاب والخيول وَيَقُول أَنا لي بِمصْر ملاذ ونعيم لَا يكون إِلَّا للسلاطين فَقلت لَهُ إِنَّمَا تسير من هُنَا إِلَى دمشق حَاكما بهَا فَأخذ يبعد ذَلِك وَيَقُول مَا خطر لي هَذَا وَلَا ترقبت إِلَيْهِ همتي وَأَنا لَا أَحْلف لَهُ أَنه لَا بدّ أَن يردّ إِلَى دمشق حَاكما بهَا فَعِنْدَ ذَلِك سكت ومدّ يَده إليّ وَقَالَ عاهدني على الْأُخوة الْكَامِلَة(2/218)
الصادقة فمددت يَدي إِلَيْهِ وعاهدته وَكَانَ دَاعِيَة مَا صممت عَلَيْهِ من القَوْل أَنِّي قد رَأَيْت فِي الْمَنَام وَأَنا بحلب أَن بَاب دمشق قد أغلق وَأَن سِنَان باشا قد أَخذ مفاتحه بِيَدِهِ وَورد إِلَى الْبَاب وفتحه وَدخل رَاكِبًا إِلَى الْمَدِينَة وَمَعَهُ جمَاعَة مستكثرة ثمَّ فارقته وَتوجه هُوَ فِي خدمَة الْوَزير إِلَى توقات فولاه نِيَابَة دمشق ودخلها فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشري شهر رَمَضَان سنة سبع عشرَة وَألف وَوَقع فِي زمن تَوليته أَن فرقة من عرب آل جَبَّار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من الْعرَاق بعد موت أَمِيرهمْ الْأَمِير أَحْمد بن أبي ريشة فوصلوا إِلَى نواحي تدمر وانضم إِلَيْهِم قوم من طَائِفَة السكبانية الَّذين هربوا من وقْعَة الْأَمِير عَليّ بن جانبولاذ فعاثوا فِي تِلْكَ الْبِلَاد وَقَطعُوا الطَّرِيق وَلما ورد من حلب الْعَسْكَر الْمصْرِيّ الَّذِي كَانَ قد طلب لقِتَال كَبِير السكبانية مُحَمَّد بن قلندر وَالْأسود سعيد فَوَرَدُوا إِلَى حلب ثمَّ إِلَى بِلَاد السوَاد فَكَانَ الْوَزير مُرَاد باشا رَأس العساكر السُّلْطَانِيَّة فَالتقى جَيش السُّلْطَان مَعَ جَيش الْبُغَاة فغلب عَسْكَر السُّلْطَان وهرب مِنْهُم جمع وَمن جملَة الهاربين بَين الْجَمَاعَة الْمَذْكُورين وَكَانُوا فِي الْعدَد نَحْو أَرْبَعمِائَة سكباني فَلَمَّا انضموا إِلَى الْعَرَب الْمَذْكُورين كَانَ السكبان يضْربُونَ بالبندق وَالْعرب يضْربُونَ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوف وَأخذُوا قلعة القسطل وقلعة القطيفة ونهبوا المعصرة وَقتلُوا بهَا من الرِّجَال وَالنِّسَاء مَا يزِيد على عشرَة أشخاص فَلَمَّا بالغوا بِالْقَتْلِ والنهب والغارة والعدوان قصدهم سِنَان باشا وَمَعَهُ الْعَسْكَر الشَّامي وانضم إِلَيْهِم عرب المفارجة وَكَبِيرهمْ عَمْرو بن جبر فأدركوا الْعَرَب والسكبان فِي نواحي قلعة القطراني فَقتلُوا من السكبان نَحْو ثلثمِائة رجل وأمسكوا مِنْهُم نَحْو خمسين رجلا ودخلوا بهم إِلَى دمشق راكبين للجمال وعَلى كتف كل وَاحِد مِنْهُم خَشَبَة طَوِيلَة هِيَ خازوق لَهُ وَفِي الْيَوْم الثَّانِي أتلفوهم وَفرقُوا أَجْسَادهم على المحلات بِدِمَشْق وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن سِنَان باشا هَذَا أعْطى من السعد فِي أُمُوره مَا لم يُعْط لأحد من الْحُكَّام وَبعد عَزله من دمشق أعْطى كَفَالَة حلب وَتُوفِّي بعد ذَلِك وَلم يذكر البوريني فِي تَارِيخه وَفَاته وَالظَّاهِر من فحوى كَلَامه أَن وَفَاته لم تتجاوز الْعشْرين من هَذَا الْقرن بِكَثِير وَالله أعلم
سِنَان باشا ابْن مَحْمُود نزيل دمشق ومتولى الْجَامِع الْأمَوِي بهَا أَمِير الْأُمَرَاء وَصدر أَعْيَان الشَّام فِي وقته أَصله من قَرْيَة دورلى بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَبعدهَا وَاو مَكْسُورَة وَرَاء سَاكِنة وَلَام مَكْسُورَة من ضواحي قرمان ورد إِلَى دمشق فِي خدمَة(2/219)
الْوَزير مصطفى باشا الخناق نَائِب الشَّام فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَبَعْدَمَا عزل مخدومه أَقَامَ هُوَ بِدِمَشْق وَصَارَ من جندها وَصَارَ زعيم دمشق مَرَّات وسرداراً بِخِدْمَة المحكمة وَصَارَ محتسباً مُدَّة طَوِيلَة وأحدث بهَا ثَمَان عشرَة بِدعَة بَاقِيَة إِلَى يَوْمنَا ثمَّ ترقى حَتَّى صَار باشجاويش وَحج سنتَيْن وَعمر دَارا قبالة البيمارستان النوري تعرف قَدِيما بدار الصَّابُونِي والصابوني هَذَا هُوَ صَاحب جَامع الصابونية وَبعد مُدَّة صَار كتخدا الْجند وسلك سلوكاً غَرِيبا حَتَّى فاق من قبله وأتعب من بعده وَكَانَ سخياً إِلَى الْغَايَة وَله بذل وعطايا وقرى ثمَّ صَار أَمِير الْحَاج وَأعْطى حُكُومَة نابلس فحج بِالنَّاسِ سنتَيْن وَذَلِكَ سنة تسع وَخمسين وَسنة سِتِّينَ ثمَّ عزل ورق حَاله وَلم يتَغَيَّر عَن كرمه ثمَّ سعى لَهُ بعض الْأَعْيَان وصيره أَمِير الْأُمَرَاء بالقدس وَبَعْدَمَا عزل عَنْهَا عَاد مديوناً وتضعضع حَاله وَكثر عَلَيْهِ الدّين حَتَّى بَاعَ أملاكه وسافر إِلَى الرّوم فَلم يحصل لَهُ منصب بل صَارَت لَهُ علوفة فِي خزينة دمشق على سَبِيل التقاعد وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ ثمَّ صَار مُتَوَلِّي أوقاف الْجَامِع الْأمَوِي وَلما قدم الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل جعله كتخدا الدفتر بِدِمَشْق وَهَذِه الْخدمَة تتَعَلَّق بأرباب التيمار وَأهل الزعامات وَمن يتولاها يكون ضابطاً لَهُم فانتظم حَاله وتنبه من رقدة الخمول قَالَ وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته وَبَعْدَمَا ناهز الثَّمَانِينَ ابتلى بمحبة غُلَام كَانَ عِنْده من الخدام وَلم يكن عهد فِي طبعه الرقة وَلَا عرف للغرام حَقه وَبَعْدَمَا تحكم عشقه فِيهِ نفر عَنهُ وَقصد تجافيه وخدم عِنْد الْوَزير قبلان نَائِب الشَّام وعسر عَلَيْهِ خلاصه من يَده واجتهد فِي تَحْصِيله غَايَة الِاجْتِهَاد فَلم يظفر مِنْهُ بِمُرَاد وَلم يزل يعاني فِيهِ الْغصَص ويتوقع مواقع الفرص إِلَى أَن مَاتَ وَمَا مَاتَت حسرته وخلفت أمْنِيته منيته وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْإِثْنَيْنِ ثَانِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من مَزَار بِلَال الحبشي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
سيف الدّين أَبُو الْفَتْح ابْن عَطاء الله الوفائي الفضالي الْمقري الشَّافِعِي الْبَصِير شيخ الْقُرَّاء بِمصْر فِي عصره قَالَ بعض الْفُضَلَاء فِي حَقه فَاضل جني فواكه جنية من عُلُوم الْقُرْآن وَتقدم فِي علومه على الأقران قَرَأَ بالروايات على الشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ شحادة اليمني وَأحمد بن عبد الْحق وَبِهِمَا تخرج وَأخذ عَنهُ جمع من أكَابِر الشُّيُوخ مِنْهُم الشَّيْخ سُلْطَان المزاحي وَمُحَمّد بن عَلَاء الدّين البابلي وَله مؤلفات مفيدة نافعة مِنْهَا شرح بديع على الجزرية فِي التجويد ورسائل كَثِيرَة فِي القراآت وَكَانَت وَفَاته بِمصْر(2/220)
بِمصْر يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة عشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الشين الْمُعْجَمَة)
شاهين بن مَنْصُور بن عَامر الأرمناوي الْحَنَفِيّ أفقه الْحَنَفِيَّة فِي عصرنا الْأَخير بِالْقَاهِرَةِ اشْتهر صيته وسارت فَتَاوَاهُ فِي الْبِلَاد وَولد بِبَلَدِهِ وَحفظ الْقُرْآن والكنز والألفية والشاطبية والرحبية وَغَيرهَا ورحل إِلَى الْأَزْهَر فَقَرَأَ بالروايات على الشَّيْخ الْعَلامَة المقرى عبد الرَّحْمَن اليمني ولازم فِي الْفِقْه الإِمَام الشهَاب الشَّوْبَرِيّ وَأحمد المنشاوي وَأحمد الرِّفَاعِي وَحسن الشُّرُنْبُلَالِيّ وَفِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد الأحمدي الشهير بسيبويه تلميذ الْعَلامَة ابْن قَاسم الْعَبَّادِيّ ولازمه كثيرا وبشره بأَشْيَاء حصلت لَهُ وَأخذ عَن الْعَلامَة سري الدّين الدروري والنور الشبراملسي وسلطان المزاحي وَالشَّمْس البابلي وَيس الْحِمصِي وَمُحَمّد المنزلاوي وَعمر الدفري والشهاب القليوبي وَعبد السَّلَام اللَّقَّانِيّ وَإِبْرَاهِيم المأموني وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وتصدّر للإقراء فِي الْأَزْهَر فِي فنون عديدة كالفقه والفرائض والحساب والنحو وَغَيرهَا وَعنهُ أَخذ جمع من أَعْيَان الأفاضل وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاثِينَ بعد الْألف وَتُوفِّي بِمصْر فِي سنة مائَة وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
شحادة بن إِبْرَاهِيم الْحلَبِي الشَّافِعِي نزيل الْقَاهِرَة قَالَ بعض الأفاضل فِي وَصفه عَلامَة الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَشَيخ أهل الْفُرُوع وَالْأُصُول ووحيد عصره وعميد مصره وَشَيخ الْجَامِع الْأَزْهَر ومشكاة مصباحه الأنور وَلَيْث الْعلم الَّذِي لَا يجارى وغيب الْفضل الَّذِي لَا يُبَارى ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وجدّ فِي الِاشْتِغَال بِالْعلمِ حَتَّى بلغ الْغَايَة القصوى وشدّت إِلَيْهِ الرّحال وَأخذ عَنهُ أكَابِر الرِّجَال وأدار عَلَيْهِ من أبحاثه بسلاف لَفظه الرَّقِيق مَا يقوم مقَام الرحق وَمن شُيُوخه خَاتِمَة الْفُقَهَاء الشهَاب أَحْمد الرَّمْلِيّ وخاتمة الْمُحدثين النَّجْم مُحَمَّد الغيطي وخاتمة الْمُحَقِّقين الشهَاب أَحْمد بن قَاسم الْعَبَّادِيّ وَغَيرهم وَعنهُ أَخذ كثير كالشيخ الْعَلامَة إِبْرَاهِيم المأموني والشهاب القليوبي والأديب الْفَاضِل درويش مُحَمَّد أَبُو الْمَعَالِي الطالوي وَذكره فِي سانحاته وَأثْنى عَلَيْهِ وَقدره بَين عُلَمَاء الْقَاهِرَة ممتاز مُسلم وَلم يشْتَهر لَهُ تأليف سوى رِسَالَة لَطِيفَة قرظ بهَا على رِسَالَة فِي نسب بني طالو لتلميذه أبي الْمَعَالِي وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشري جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشرَة وَألف بِالْقَاهِرَةِ وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ(2/221)
الْأَمِير شَدِيد بن احْمَد الْأَمِير حَاكم الْعَرَب وَهُوَ من آل جَبَّار حكام الْعَرَب أَبَا عَن جد يُقَال أَنهم من ذُرِّيَّة جَعْفَر الْبَرْمَكِي ومقام هَؤُلَاءِ فِي بِلَاد سلمية وعانا والحديثة وَمن عَادَتهم أَن من استولى مِنْهُم على خيمة المَال وَالسِّلَاح يكون حَاكما على الْعَرَب جَمِيعهم وَذَلِكَ أَن لَهُم خيمة من الشّعْر كَبِيرَة جدا وَلها نواطير وحرس بالنوبة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة وَكلهَا صناديق مقفلة بالأقفال الْحَدِيد المحكمة والصناديق مَمْلُوءَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة والجوهر وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك من نفائس الْأَشْيَاء النفيسة وَكَانَ شَدِيد استولى عَلَيْهَا بعد أَبِيه أَحْمد وَكَانَ ظَالِما جباراً عنيداً متكبراً خسيساً قَبِيح المنظر وَالْفِعْل وَالْوَصْف غير محسن فِي شَيْء من الْأَشْيَاء وَلم يزل حَاكما إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَاتفقَ فِي هلكه عَجِيبَة أَنه كَانَ فِي خيمة فِي بعض صحارى حلب وَكَانَ ابْن عَمه مُدْلِج بن ظَاهر مَعَه فِي الْخَيْمَة وَكَانَ شَدِيد يلْعَب بالشطرنج مَعَ بعض أَقَاربه وَلم يكن عِنْده من إخْوَته أحد فاختلس مُدْلِج الفرصة فِي خلو الْأَمِير فناداه وَهُوَ يلْعَب يَا شَدِيد يَا شَدِيد فَقَالَ نعم فَمَا أتم قَوْله نعم إِلَّا ومدلج قد ضربه بخنجر فِي بَطْنه خرج من ظَهره وَلم يحْتَج فِي إِخْرَاج روحه إِلَى ضَرْبَة أُخْرَى وَلَقَد أرسل الْأَمِير فَخر الدّين بن معن مَكْتُوبًا يخبر فِيهِ عَن قتل شَدِيد وَقَالَ فِي مكتوبه إِن تَارِيخ قَتله قد اتّفق فِي هَذِه الْكَلِمَات وَهِي قَوْله مُدْلِج قتل شَدِيد ولد أَحْمد وَمن الْعجب أَن وَالِد شَدِيد أَحْمد كَانَ قتل ظَاهرا وَالِد مُدْلِج فِي بَيته وَهُوَ ضيف عِنْده فَقدر الله أَن ولد الْمَقْتُول قتل ولد الْقَاتِل قلت وَهَذَا ظَاهر هُوَ ابْن مُدْلِج المترجم فِي الْكَوَاكِب السائرة وَهُوَ ظَاهر بن عساف بن عجل بن مظين بن قدموس كَانَ أَمِير عرب الشَّام وَله قُوَّة وبطش بِحَيْثُ يمسك الدِّرْهَم من الْفضة بِأُصْبُعَيْهِ ويفركه فَيذْهب نقشه ويفتت الْحِنْطَة بَين أصبعيه وَمن عَجِيب أمره أَنه دخل عَلَيْهِ وَلَده قرموش وَهُوَ مَرِيض ليَقْتُلهُ فَضَربهُ بِسيف فَقتله وَشرب شخص لَبَنًا حليباً وَكَانَ بيد امْرَأَة فشكته إِلَيْهِ فاستخبره فَأنْكر وَحلف بحياته أَنه لم يشربه فطعنه بِرُمْح كَانَ بِيَدِهِ فَإِذا اللَّبن خَارج من جَوْفه فَأمر الْمَرْأَة بِأخذ بعير من بعرانه عوض لَبنهَا وَمَات على فرَاشه وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة انْتهى
شرف الدّين بن زين العابدين بن محيي الدّين بن ولي الدّين بن جمال الدّين بن القَاضِي زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ السنيكي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي وَتقدم أَبوهُ الإِمَام الْجَلِيل كَانَ صَدرا من صُدُور زَمَنه مُعظما عِنْد الْعلمَاء مَقْبُول الشَّفَاعَة(2/222)
متقشفاً ورعاً دينا أَخذ الحَدِيث وَالْفِقْه وَغَيرهمَا عَن جمع مِنْهُم وَالِده وَأخذ عَن الشَّمْس شَوْبَرِيّ والنور الشبراملسي وَأَجَازَهُ شُيُوخه وتصدر للإقراء وَأفَاد وانتفع بِهِ خلق كثير وَألف مؤلفات عديدة مِنْهَا الطَّبَقَات ذكر فِيهَا شُيُوخه وعلماء عصره وَكَانَ لَهُ اعتناء تَامّ بِالْأَسَانِيدِ وَمَعْرِفَة الشُّيُوخ ومواليدهم ووفياتهم وَكَانَ الشبراملسي مَعَ جلالته يعظمه كثيرا وأقعد فِي آخر عمره وَانْقطع فِي بَيته فَكَانَت الطّلبَة تَأتيه وَتَأْخُذ عَنهُ وَكَانَت كتبه كَثِيرَة بِحَيْثُ أَنه اجْتمع عِنْده كتب جده شيخ الْإِسْلَام وَمن بعده من أسلافه على كثرتها وأضاف إِلَيْهَا مثلهَا شِرَاء واستكتاباً فَكَانَ إِذا أَتَاهُ أحد بِكِتَاب أَي كتاب للْبيع لَا يُخرجهُ من بَيته وَلَو بِزِيَادَة على ثمن مثله وَكَانَ حَرِيصًا على خطوط الْعلمَاء ضنيناً بهَا وَرَأَيْت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى ابْن فتح الله أَنه أخبرهُ أَن عِنْده من طَبَقَات السُّبْكِيّ الْكُبْرَى ثَمَانِيَة عشر نُسْخَة وَثَمَانِية وَعشْرين شرحاً على البُخَارِيّ وَأَرْبَعين تَفْسِيرا إِلَى غير ذَلِك وَلما مَاتَ تَفَرَّقت كتبه شذر مذر وَكَانَت تبَاع بالرتبيل بعد أَن كَانَ يشح بِوَرَقَة مِنْهَا قَالَ وَاتفقَ أَن شَيخنَا الْعَلامَة إِبْرَاهِيم الكوراني الْمدنِي أَرَادَ تَحْصِيل رِسَالَة لِلْحَافِظِ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِيمَا علق الشَّافِعِي القَوْل بِهِ على الصِّحَّة وَكَانَت مَوْجُودَة عِنْده فعول على لما تَوَجَّهت إِلَى مصر فِي استعارتها مِنْهُ وكتابتها فلازمته لأَجلهَا نَحْو شَهْرَيْن وَهُوَ يعْتَذر إليّ وَلم يُمكن تَحْصِيلهَا مِنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من الْعلمَاء النزهين وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف تَقْرِيبًا وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى بِقرب تربة الإِمَام الشَّافِعِي عِنْد قبر جده القَاضِي زَكَرِيَّا فِي قبَّة جدوده المعروفين
شرف الدّين بن عبد الْقَادِر بن بَرَكَات بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن حبيب الْغَزِّي الْحَنَفِيّ أحد الْعلمَاء الأجلاء من أهل التَّحْرِير والإتقان وَكَانَ فَقِيها مُتَمَكنًا مُفَسرًا نحوياً كَبِير الشَّأْن عالي الهمة وَله تآليف شائعة مِنْهَا حَاشِيَته الْمَشْهُورَة على الْأَشْبَاه والنظار لِابْنِ نجيم سَمَّاهَا تنوير البصائر وَرَأَيْت بِخَطِّهِ كثيرا من التحريرات على الدُّرَر وَالْغرر فِي الْفِقْه وَله كتاب محَاسِن الْفَضَائِل بِجمع الرسائل وَهُوَ ثَلَاث رسائل ثِنْتَانِ لَهُ وَوَاحِدَة لِلْحسنِ البوريني الدِّمَشْقِي رَأَيْتهَا وطالعتها جَمِيعًا وَسبب جمعهَا أَن الْحسن كَانَ أرسل إِلَى الْأَمِير أَحْمد بن رضوَان حَاكم غَزَّة رِسَالَة وَفِي ضمنهَا سُؤال عَن عبارَة للْمولى أبي السُّعُود وَقعت فِي تَفْسِيره فِي سُورَة الْفرْقَان عِنْد قَوْله(2/223)
تَعَالَى لَهُم فِيهَا مَا يشاؤن خَالِدين حَيْثُ قَالَ حَال من الضَّمِير المستكن فِي الْجَار وَالْمَجْرُور لاعتماده على الْمُبْتَدَأ وَقيل من فَاعل يشاؤون انْتهى وَطلب البوريني الْجَواب من شرف الدّين فألف رسَالَته الأولى وَقَالَ فِي ديباجتها بعد الحمدلة وَسبب التَّأْلِيف فاشتغلت بايتارقوس الْبَيَان وشرعت فِي الْجَواب مستمدا العون من الْملك الديَّان وكتبت فِي ذَلِك رِسَالَة سميتها ارواء الصادي فِي الْجَواب عَن أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ وأرسلتها إِلَى الْفَاضِل الْحسن البوريني ذِي الأيادي فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ وتأملها بفكره اعْترف بِصِحَّة بَعْضهَا وَاعْترض على آخر بنكره فَكتبت لَهُ الْجَواب عَن إِيرَاده وَأَنه دَافع لمراده فَأَحْبَبْت أَن أجمع هَذِه الرسائل فِي كتاب مُفْرد وأجعله خدمَة لسدة مَوْلَانَا الْأَمِير الأمجد إِلَى أَن قَالَ وَسميت هَذَا الْكتاب محَاسِن الْفَضَائِل بِجمع الرسائل ورتبته على حسب الْوَاقِع فِي الزَّمَان فَقدمت رِسَالَة إرواء الصادي وثنيت برسالة الْحسن البوريني وثلثت برسالتنا الموسومة بأرج العهري والجادي فِي الدّفع عَن إرواس الصادي وَحَاصِل مَا أجَاب بِهِ أَن مَا مَوْصُولَة وَاقعَة على فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النَّعيم وَمن جملَة الْمَذْكُور الْحور والولدان وَغَيرهمَا من بني آدم وَبنَاته وَمَا الموصولة يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذكر والمؤنث والمثنى وَالْجمع وَالْغَالِب اسْتِعْمَالهَا فِيمَا لَا يعلم وَقد تسْتَعْمل فيهمَا وَيجوز فِي ضميرها مُرَاعَاة اللَّفْظ وَالْمعْنَى فرجوع الضَّمِير مجموعاً بِاعْتِبَار معنى مَا وَهَذَا جَوَاب عَن أحد الْوَجْهَيْنِ وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي وَهُوَ جمعه جمع الْعُقَلَاء أَن هَذَا من بَاب التغليب فغلب من يعقل من الْحور وَنَحْوهَا على مَا لَا يعقل من أَنْوَاع النَّعيم لِأَن كلمة مَا مَوْضُوعَة للْكُلّ أَو لارادة الْوَصْف كَمَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى ويعبدون من دون الله مَا أُرِيد مَا يعم الْعُقَلَاء وَغَيره أما لِأَن كلمة مَا مَوْضُوعَة للْكُلّ أَو لِأَنَّهُ أَرَادَ الْوَصْف لَا الذَّات كَأَنَّهُ قيل ومعبودهم أَو اعْتِبَار الْغَلَبَة عبدتها فَهِيَ على هَذَا حَال حَقِيقَة أَو ذَلِك بِاعْتِبَار مُلَابسَة بَين النَّعيم الْمعبر عَنهُ بماو بَين أَصْحَابه فصح كَون خَالِدين حَالا من الضَّمِير فِي الْخَبَر سَبَبِيَّة أَي خَالِدين أَهله فِيهِ ففاعل الْوَصْف يرجع إِلَى الْمُتَّقِينَ كَمَا فِي قَوْلك مَرَرْت بِالدَّار قَائِما سكانها كَمَا صرح بِهِ النحويون وَلَا يرد عَلَيْهِ عدم بروز الضَّمِير لِأَن هَذَا على مَذْهَب الْكُوفِي وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك لوروده كثيرا وَالْأول أولى كَمَا لَا يخفى انْتهى قلت وَقد تجاززت الْحَد الْمَضْرُوب للتاريخ وَلَكِن رُبمَا حسن هَذَا الاستطراد عِنْد قوم وَبِالْجُمْلَةِ فالمقصود الْفَائِدَة وَلَعَلَّ كتَابنَا هَذَا(2/224)
لَا يَخْلُو عَنْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة
شرف الدّين الْمَعْرُوف بالدمشقي الشَّافِعِي أحد أفاضل الشَّام الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ التَّام وَكَانَ متجراً ذَا فنون كَثِيرَة قَرَأَ الْكثير وَضبط وَقيد وَجلسَ مجْلِس التدريس ونفع كثيرا من الأفاضل أخذُوا عَنهُ وانتفعوا بِهِ وَصَارَ معيد درس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر وَشَيْخه إِذْ ذَاك الشَّمْس مُحَمَّد الميداني وَكَانَ الشَّمْس يجله كثيرا ويعظمه وَمرض مرّة سَبْعَة أَيَّام فَترك الدَّرْس لأَجله وَكَانَ لَهُ حَلقَة تدريس بِمَسْجِد هِشَام فِي سوق جقمق يقري بِهِ دروساً خَاصَّة وَعَن غَرِيب أمره أَنه كَانَ فِي علم الْعرُوض ثَانِي الْخَلِيل إِلَّا أَنه لم يتَّفق لَهُ نظم بَيت وَكَانَ إِذا قَرَأَ الشّعْر قَرَأَ على طَريقَة المجودين بمراعاة الْإِظْهَار والإدغام والإخفاء وَغير ذَلِك فَيَقَع سَمحا بَارِدًا وَكَانَ شَيخنَا النَّجْم الفرضي يثني على تَحْقِيقه وَحسن تفهيمه وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَنهُ ونحا نَحوه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من كبار الْعلمَاء الَّذين ظنت حَصَاة فَضلهمْ فِي الْآفَاق وَكَانَت وَفَاته بعد عصر الْأَرْبَعَاء ختام شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
شرف الدّين العسيلي الْقُدسِي كَانَ من الأدباء أهل النادرة وَكَانَ يعرف علم الرمل والزايرجا وَاتفقَ لَهُ أَنه سَافر إِلَى الرّوم وَالْمولى عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد الَّذِي صَار آخر أمره مفتياً فِي الدولة العثمانية قَاضِي العساكر باناطولي فاستخرج لَهُ أَنه فِي شهر كَذَا يُرْسل الْملك خليفه ويوليه الافتاء وَأخْبرهمْ بذلك فَلَمَّا وَقع لَهُ مَا قَالَه أحسن إِلَيْهِ وقربه وولاه قَضَاء شبشير من أقليم مصر فَذهب إِلَيْهَا وَعَاد إِلَى الرّوم فَأعْطَاهُ قَضَاء الْمنزلَة فاختر مِنْهُ الْمنية قبل ضَبطهَا وَكَانَ لَهُ شعر رَأَيْت لَهُ هَذِه القصيدة كتبت بهَا إِلَى مفتي الْحَنَفِيَّة بالقدس الشَّيْخ هبة الله بن عبد الْغفار العجمي ملغزاً وَهِي قَوْله
(سليل الْمَعَالِي فرع أصل الفواضل ... وَبدر الْعلي يَا شمس أفق الأفاضل)
(وَيَا وَاحِدًا فِي الدَّهْر مَا بَين أَهله ... وإنسان عين الْفضل روح الْكَامِل)
(وَيَا هبة الله الْجَلِيل جماله ... وواسطة العقد الفريد المماثل)
(أفدني رفيع الشان يَا وَاحِد العلى ... منيع الذرى قطبا بصدر المحافل)
(فيا اسْم بِهِ شَيْء لطيف مصحف ... كَذَا فِيهِ معنى الْقرب يَبْدُو لواصل)
(تصرف بقلب ثمَّ حرف مُصحفا ... ترى صنعتي ضدا حوتها معاولي)
(وَفِيه بقلب اسْم فَاضل عصره ... وثانيه وردي من ثغور المناهل)(2/225)
(نتيجة هَذَا الِاسْم روحي فداؤها ... هِيَ الشَّمْس إِن تبدو ضحى فِي الأصائل)
(غرامي بِهِ نَام وَإِن دَامَ هاجري ... بصد وَبعد فَهُوَ لَا شكّ قاتلي)
(تصرف وَبَين يَا بديع بدائعي ... وميز بِحَال مِنْك نعت العوامل)
(فَلَا زلت كشافا لكل عويصة ... همام الْمَعَالِي قرم صدر الجحافل)
(مدى الدَّهْر مَا صاغ العسيلي قلائدا ... من الدّرّ يبديها كشكل الْمسَائِل)
فَأَجَابَهُ بقوله
(أروض حوى الأزهار رطب الخمائل ... أم الغادة الْحَسْنَاء حلت منازلي)
(أم الأغيد الْوَسْنَان وفى بعهده ... وأنعم لي بعد القلى بالتواصل)
(وَمَا ذَاك الأنظم مُفْرد عصره ... هُوَ الشّرف المفضال رب الْفَضَائِل)
(بلاغته فِي النّظم لَا شَيْء فَوْقهَا ... فَصَاحَته أزرت بسحبان وَائِل)
(فيافذ هَذَا الدَّهْر قد جَاءَ مِنْكُم ... إِلَى نحونا لغز رفيع الْمنَازل)
(فسحبان نصف اللغز ياهين أَهله ... وتاليه وردى من ثغور المناهل)
(نتيجته أَنِّي أعيذ محبه ... بِيُوسُف وَالْإِخْلَاص من كل عاذل)
(فسامح ضَعِيف النّظم مولَايَ أَنه ... إِذا رامه يلقاه صَعب التَّنَاوُل)
(فَلَا زلت بالآداب تتحف صاحبا ... وتبدى اللآلي فِي نظام الرسائل)
شعْبَان بن ولي الدّين البوسنوي التوسيلي نزيل قسطنطينية قَاضِي العساكر الصَّدْر الْكَبِير النبيه الْقدر كَانَ فَاضلا كَامِلا وَاسع الصَّدْر مَبْسُوط الرَّاحَة قدم إِلَى قسطنطينية فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَهُوَ رَقِيق الْحَال وَكَانَ إِذا حدث بمبدأ حَاله يذكر قصَّة وَقعت لَهُ مَعَ رمال كَانَ رَآهُ واستخبر مِنْهُ عَن طالعه فَنظر الرمال فِيمَا خطه مرّة بعد أُخْرَى وَقَالَ لَهُ أَن صدق هَذَا الرمل فَصَاحب هَذَا الطالع يصير صَدرا وَتَكون لَهُ رفْعَة زَائِدَة بِحَيْثُ أَنه يصير قَاضِي الْعَسْكَر قَالَ وَكنت أعجب من ذَلِك ثمَّ بعد مُدَّة صَار من طلبة الْمولى أبي سعيد بن أسعد الْمُقدم ذكره وَهُوَ مدرس بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية ثمَّ لَازم من الْمولى يحيى قَاضِي الْعَسْكَر باناطولي ودرس وَذكر وَالِدي المروحوم فِي تَرْجَمته قَالَ أَخْبرنِي من لَفظه على أغا الطَّوِيل لما ورد دمشق لِلْحَجِّ فِي سنة ثَمَان وَخمسين أَنه لما ولي الْمولى مُحَمَّد البهائي قَضَاء سلانيك كَانَ الصَّدْر الْكَبِير إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بالروزنامة حَيّ شفيعه فترجى عِنْد النِّيَابَة لصَاحب التَّرْجَمَة فَمَا أمكنه ذَلِك ثمَّ صَار الْمولى إِبْرَاهِيم بن كَمَال الدّين الطاشكبري بعده قَاضِيا(2/226)
فصيره نَائِبا لَهُ وأنعم عَلَيْهِ وسما حَظه عِنْد ذَلِك فصيره الْمولى حُسَيْن ابْن أخي مفتي الدولة مدرساً بمدرسة جده الْعَلامَة سعدى الْمحشِي فَترك النِّيَابَة قبل الْعَزْل مِنْهَا وَقدم إِلَى قسطنطينية وَاخْتَلَطَ بأكابر الدولة وَاتفقَ بعد مُدَّة طُلُوع الْوَزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا المنبسط الْقدَم إِلَى سفر الْعَجم وَكَانَ الروزنامة جي الْمُقدم ذكره عِنْده فِي نِهَايَة الخطوط فَقرب صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى خاطر الْوَزير فصيره قَاضِيا ينظر الْأَحْكَام فِي الْعَسْكَر الْمعِين مَعَه فَسَار بِخِدْمَة الْوَزير وَصَارَ لَهُ فِي الطَّرِيق رُتْبَة الدَّاخِل ورتبة الصحن ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بِقَضَاء أمد مَعَ بَقَائِهِ فِي الْخدمَة الْمَذْكُورَة وَلما قدم السُّلْطَان مُرَاد إِلَى أَخذ روان وعزل الْمولى أَحْمد بن زين الدّين الْمَعْرُوف بالمنطقي عَن قَضَاء دمشق سعى لَهُ الْوَزير مصطفى باشا السلاحدار نديم السُّلْطَان وَكَانَ إِذْ ذذاك نَائِب الشَّام فأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بهَا وقدمها وَأظْهر عفة وَمَكَارِم أَخْلَاق وَنِعما لم تعهد من قَاض قبله وَله فِي هَذَا الْبَاب مَنَاقِب غَرِيبَة أورد مِنْهَا وَالِدي المرحوم أَشْيَاء ومدحه شعراء ذَلِك الْعَصْر بالقصائد الطنانة مِنْهُم أَحْمد بن شاهين فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ هَذِه القصيدة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة دَعَاهُ إِلَى مَجْلِسه فتمارض وَامْتنع من الْمَجِيء وَكتب إِلَيْهِ يعْتَذر بقوله
(مولَايَ يَا من لَهُ فِي كل جارحة ... مني لِسَان يُؤَدِّي شكرماوجبا)
(وَمن إِذا مَا ذكرنَا حسن عشرته ... وَطيب أخلاقه طرنا بِهِ طَربا)
(وَمن لَهُ فِي فُؤَادِي من محبته ... منَازِل بلغت فِي أفقها الشهبا)
مِنْهَا
(أَنْت الَّذِي مارأينا مثله أبدا ... فضلا وبذلا وخلقا مِنْهُ منتخبا)
(كَأَنَّهُ من معد فِي خلائقه ... وَلَيْسَ مِنْهُ إِذا مَا قَالَ لي نسبا)
(وَلَيْسَ فضل الْفَتى فِي فضل نسبته ... إِن الْفَتى من يعد الْمجد والحسبا)
(أَتَى كتابك فِي أَمر بذلت لَهُ ... وَجها لأمرك فَوق الترب منسحبا)
(موشحا فِي كل أَمر راق مسمعه ... كَأَنَّهُ الدّرّ بكرا لَيْسَ منثقبا)
(وَبت ألثمه حبا وتكرمة ... وَبَات يزعجني قلبا إِلَيْك صبا)
(لَكِن عُذْري بعد عَن ذراك وَذَا ... باد وَعذر مَتى للْعَبد قد وجبا)
(وَلست وَالله إِلَّا عبد تكرمة ... لَا عبد مَخْمَصَة إِن رحب منتسبا)
(فَلَا تظن على مَا فِي من أنف ... أَو انقباض بَان أدعى فاحتجبا)
(وَالله يعلم إِن لم يبْق لي زمن ... فِي أَمر جمعية مَعَ غَيْركُمْ أربا)(2/227)
(واعذر فديتك وَاصْفَحْ عَن مؤاخذتي ... فَمن لعبد إِذا وافاك أَو هربا)
(واسلم على كل حَال أَنْت طالبها ... فَلَا يسر الْفَتى إِلَّا بِمَا طلبا)
وَمِنْهُم الْأَمِير المنجكي فَإِنَّهُ قَالَ فِي مدحه قصيدته الفائية الْمَشْهُورَة ومطلعها
(صَبر الْفُؤَاد على فعال الجافي ... نعم الْكَفِيل لكل أَمر كَافِي)
(فاحمل على النَّفس الصعاب مؤملا ... من فضل رَبك وَاسع الألطاف)
(أَو لست من قوم إِذا ذكر العلى ... كَانُوا لَهُ من أشرف الأخلاف)
(شادوا الْمَسَاجِد والقصور فَهَذِهِ ... للعابدين وَتلك للأضياف)
(إِنِّي وَإِن كنت الْقَلِيل ثراؤه ... لست المقصر عَن ندى أسلافي)
(كَانَ الزَّمَان لَهُم مُطيعًا خاضعاً ... وَأرَاهُ منتصباً لفعل خلافي)
(لم تبْق لي الْأَيَّام إِلَّا من لَهُ ... أسعى بِخَير وَهُوَ فِي اتلافي)
(أَو محرقاً قلبِي بهجر عتابه ... وَعَلِيهِ من نعماي ظلّ ضافي)
(أَو لَيْسَ من إِحْدَى الْأُمُور تخلفي ... عَن مجْلِس الْمولى بِغَيْر خلاف)
(اقضي قُضَاة الْمُسلمين وقامع الْقَوْم ... الْبُغَاة بصارم الأنصاف)
(كشاف أسرار البلاغة من غَدا ... للنَّاس من دَاء الْجَهَالَة شافي)
(بَحر الْعُلُوم الزاخر الطود الَّذِي ... أمنت دمشق بِهِ من الأرجاف)
(من لَيْسَ تبلغ بعض أيسر وَصفه ... إِن أسهبت أَو أطنبت أوصافي)
(مولَايَ شعْبَان الْمُعظم قدره ... أَنْت الرَّجَاء لكل راج عافي)
(عذاراً لعبد لَيْسَ يبلغ بعض مَا ... هُوَ وَاجِب من حق قدرك وافي)
(وَيرى صفاتك فِي النظام قد اغتدت ... بَين الورى كالدر فِي الأصداف)
(إِن الْمقَال لحَال من هُوَ موثق ... بعقال أرجاف الزَّمَان منافي)
(لكنما الورقاء أصدح مَا ترى ... عِنْد افتقاد الرَّوْض والألاف)
(وَأَنا الَّذِي لَك مَا حييت لِسَانه ... رطب بأنواع الثَّنَاء موافي)
(أبقاك رَبك للعباد فَلم تزل ... لتلافهم بيد الندى متلافي)
(واسلم على مر الدهور ملاحظا ... بالعون والإسعاد والإسعاف)
وَكتب إِلَيْهِ الأديب أَبُو بكر الْعمريّ هَذِه الأبيات وَيخرج من الْبَيْت الأول اسْم شعْبَان بطرِيق النعمية وَهِي قَوْله
(غرَّة الشَّام أَصبَحت شمس فضل ... لَاحَ مِنْهَا فِي الشَّام أَي شُعَاع)(2/228)
(هُوَ قَاضِي الْقُضَاة عين الْمُسَمّى ... فِي المعمى يدريه رب اطلَاع)
(أيهذا الْعَزِيز بَيته إِنِّي ... لَك دَاع وَلَا كمثلى دَاعِي)
(ولعمري أظهرت فِي الشَّام عدلا ... قد رَوَاهُ توَافق الْإِجْمَاع)
(زادك الله رفْعَة وعلوما ... وعلوا مَا طَاف بِالْبَيْتِ ساعي)
وَاتفقَ أَنه توجه إِلَى الْحَج وَهُوَ مولى بعد أَن اسْتَأْذن من طرف السلطنة بذلك وَأَن يكون جدي محب الله قَائِما مقَامه فَجَاءَهُ أَمر شرِيف بِالْإِذْنِ وَمَعَهُ حجر من الألماس محفوف بأحجار مُخْتَلفَة مَكْفُوفَة بصفائح الْفضة وَالذَّهَب أرْسلهُ الْوَزير السلاحدار الْمَذْكُور ليوضع تَحت الحجرين الْمَشْهُورين بالحجرة النَّبَوِيَّة اللَّذين كَانَ أرسلهما السُّلْطَان أَحْمد كَمَا سلف فِي تَرْجَمته فَوَضعه صَاحب التَّرْجَمَة فِي جِدَار الضريح فَزَاد بِهِ شعار الاسلام جمالاً واكتسب هُوَ بِهَذِهِ لخدمة فَضِيلَة وإجلالاً وَقد قَالَ فِيهِ السَّيِّد مُحَمَّد جمال الدّين الْمَعْرُوف بكبريت الْمدنِي الْآتِي ذكره مُشِيرا لذَلِك بِهَذِهِ الأبيات
(زار خير الْأَنَام حبر همام ... قد تسمى شعْبَان وَهُوَ ربيع)
(عَم جيران أَحْمد بنوال ... دون ذَاك النوال خصب مريع)
(جَاءَ بالجوهر الثمين لطه ... من وَزِير هُوَ الجناب المنيع)
(مصطفى الْمجد والندى والمعالي ... وسلحدار نعْمَة لَا تضيع)
(يَا لَهُ جوهراً تسامى وسامى ... بمقام فِيهِ الثَّنَاء يضوع)
(عتد وَجه النَّبِي قد وضعوه ... فغدا وَهُوَ مشرق ولموع)
(كَانَ هَذَا فِي عَام سبع وَألف ... وَتَمام النظام فِيهِ بديع)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْحجر الميمون مِمَّا زَاد وزان وَصَارَ أثرا حسنا يبْقى إِن شَاءَ الله تَعَالَى على ممر الْأَزْمَان كَمَا قيل
(إِذا الدّرّ زَان حسن وُجُوه ... كَانَ للدر حسن وَجهك زينا)
(وتزيدين أطيب الطّيب حسنا ... أَن تمسيه أَيْن مثلك أَيّنَا)
وكما قَالَ الآخر
(أَقُول والدر على جيدها ... يزهو بِمَا فِيهَا من الزين)
(مَا علق الْجَوْهَر فِي نحرها ... إِلَّا لما يخْشَى من الْعين)
وَقَالَ ابْن حجر فِي الْجَوْهَر المنظم تجاه الْوَجْه الشريف فِي الْجِدَار مِسْمَار من فضَّة(2/229)
مموه بِالذَّهَب فِي رخامة حَمْرَاء من استقبله كَانَ مُسْتَقْبل الْوَجْه الشريف حَتَّى كَانَ فِي أَيَّام السُّلْطَان أَحْمد خَان فَجعل عَلَيْهِ حجرين من الألماس مكفتين بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَب فهما من آثاره وَلَيْسَ لَهما قيمَة بِالنِّسْبَةِ لمن أرسلا إِلَى حجرته فَللَّه در الْقَائِل حَيْثُ يَقُول
(الْكَوْكَب الدُّرِّي من شَأْنه ... يخفى لَدَى وَجه السراج الْمُنِير)
(فكثروا الْجَوْهَر أَو قللُوا ... فالجوهر الْفَرد عديم النظير)
انْتهى وَلما عَاد صَاحب التَّرْجَمَة من الْحَج أهْدى الْهَدَايَا السّنيَّة لغالب أهالي دمشق ثمَّ نقل بعد ذَلِك إِلَى قَضَاء مصر وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ عزل فَتوجه إِلَى قسطنطينية واقتنى دَارا بِالْقربِ من جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد ثمَّ صَار قَاضِيا بأدرنة وَبعدهَا صَارَت لَهُ رُتْبَة قَضَاء قسطنطينية ثمَّ صَار قَاضِي الْعَسْكَر بأناطولي فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ ثمَّ صَار صدر ابروم إيلي فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وعزل فَصَارَ لَهُ بعض القصبات على التَّأْبِيد وَأقَام فِي دَاره صَدرا مبجلاً موقراً إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسبعين وَألف عَن ثَمَان وَسبعين سنة والنوسيلي بِفَتْح النُّون وَالْوَاو وَكسر السِّين وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَبعدهَا لَام بَلْدَة بِالْقربِ من بوسنة
شعْبَان بن الدمرداشي الْمصْرِيّ نزيل غَزَّة هَاشم الْمَعْرُوف بِأبي الْقُرُون كَانَ وَالِده من أُمَرَاء الجراكسة بِمصْر وَصَارَ أَولا هُوَ من جندها ثمَّ أَخذ طَرِيق الأحمدية عَن الشَّيْخ أَحْمد الجركسي خَليفَة سَيِّدي أَحْمد البدوي وَصَارَ من الكمل فِي الْعُلُوم الظَّاهِرَة والباطنة ثمَّ ساح فورد دمشق فِي حُدُود سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَنزل أَولا بزاوية الأحمدية دَاخل بَاب النَّصْر ثمَّ انْتقل إِلَى الْمدرسَة اليدغمشية بِخَط تَحت القلعة وَأقَام بهَا مُدَّة وَظهر لَهُ بعض مكاشفات وأحوال ثمَّ قصد الْحَج وَأخْبر أَنه فِي الْعود يُؤمر بالذهاب إِلَى غَزَّة هَاشم لِأَن حاكمها الباطني يَمُوت وَيُوجه مقَامه إِلَيْهِ وَكَانَ يَقُول أَن حُكُومَة غَزَّة الباطنية لَهَا رُتْبَة عالية عِنْد أهل الْبَاطِن لكَونهَا آخر الْبِلَاد المقدسة وَلما عَاد من الْحَج وَقع لَهُ مَا كَانَ يَقُوله فَتوجه إِلَى غَزَّة وَأقَام بهَا مُدَّة حَيَاته وَكَانَ لَهُ أَحْوَال عَجِيبَة من جُمْلَتهَا تسخير بعض الْهَوَام لَهُ وانقيادها إِلَيْهِ حَدثنِي بعض من أعْتَمد عَلَيْهِ عَن كثير مِمَّن لَقِيَهُمْ أَنه كَانَ عِنْده حَيَّة عَظِيمَة ألفته وَكَانَ سَمَّاهَا باسم فَكَانَ إِذا ناداها بذلك الِاسْم جَاءَتْهُ مسرعة وَقَعَدت على ركبته ثمَّ إِذا أَرَادَ ذهابها ناداها باسمها أَن اذهبي فتذهب وَمن غَرِيب حَاله أَنه كَانَ يمِيل(2/230)
إِلَى سَماع الْآلَات ويطرب لَهَا وَذكر لي كثير من النَّاس أَنه لما قربت وَفَاته أوصى بِأَن يغسل على السماع فنفذ مريدوه وَصيته وَكَانَ لَهُ مريدون وحفدة وَبِالْجُمْلَةِ فعامة من لقيناه معتقدون ولَايَته وصلاحه وَالله أعلم بِحَالهِ وَكَانَت وَفَاته بِذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بغزة
شعْبَان الفيومي الْأَزْهَرِي الشَّافِعِي الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الْفَقِيه المتضلع من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة شيخ الْأَزْهَر نفع الله بِعِلْمِهِ فَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا انْتفع بِهِ وحصلت لَهُ بركته ولد بالفيوم فِي سنة خمس عشرَة وَألف تَقْرِيبًا وَحفظ الْقُرْآن ورحل إِلَى مصر وَأخذ عَن من بهَا من أكَابِر الْعلمَاء كالشهاب القليوبي وَحضر الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ وَكَانَ ملازماً لَهما سِنِين عديدة وَكَانَ مُسْتَغْرقا أوقاته فِي إقراء الْعلم والتدريس فِي الْعُلُوم النافعة وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ اسْتِقْلَالا كل يَوْم مَا ينيف على مائَة طَالب وَله فِي كل يَوْم ثَلَاثَة دروس حافلة وَاحِدهَا بعد الْفجْر إِلَى قريب طُلُوع الشَّمْس وَالثَّانِي بعد الظّهْر وَالثَّالِث بعد الْعَصْر هَذَا دأبه دَائِما وَكَانَ يجْتَمع فِيهَا من طلبة الْعلم خلق كثير وَكَانَ محافظاً على الْجُلُوس فِي الْأَزْهَر لَا يخرج مِنْهُ إِلَّا لحَاجَة وَكَانَ يستحضر غَالب كتب الْفِقْه المتداولة بَين المصريين وَتخرج بِهِ كثير من الْعلمَاء مِنْهُم الْعَلامَة مَنْصُور الطوخي وَإِبْرَاهِيم الْبرمَاوِيّ وعطية الشَّوْبَرِيّ وَغَيرهم وَكَانَ قَلِيل الْكَلَام كثير الاحتشام لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد مُعظما عِنْد الْعلمَاء مَشْهُورا بالورع وَكَانَ إِذا قَرَأَ الْقُرْآن يكَاد يغيب عَن حواسه وَكَانَ كثير الدُّعَاء لمن يقْرَأ عَلَيْهِ وَلَا يسمع مِنْهُ كَلَام إِلَّا فِي تَقْرِير مسَائِل الْعلم وَكَانَ إِذا مر فِي السُّوق يمر مسرعاً مطرق الرَّأْس وَله كرامات علية مِنْهَا أَن رجلا تسلط عَلَيْهِ فَكَانَ إِذا مر مطرقاً يحاكيه ويمثل بِهِ ويطرق رَأسه مثله فَأتى إِلَيْهِ ذَات يَوْم وَهُوَ مطرق فَفعل مثله وأطرق رَأسه فَلم يقدر على رَفعه وَلَا تحريكه يَمِينا وَلَا شمالاً ثمَّ أَتَى إِلَيْهِ وَاعْتذر وَتَابَ من ذَنبه فَعَفَا عَنهُ ودعا لَهُ فعافاه الله تَعَالَى ببركته وَمِنْهَا الاسْتقَامَة فِي جَمِيع الْأَحْوَال الَّتِي هِيَ أوفى كَرَامَة وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
شهَاب الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْعِمَادِيّ الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ وَقد تقدم أَخُوهُ إِبْرَاهِيم أحد الصُّدُور الْفُضَلَاء وَكَانَ فَاضلا نبيلاً حسن الْفَهم أديباً شَاعِرًا منشياً وَله خطّ بديع وَسُرْعَة كِتَابَة وَضبط وَكَانَ وَاسِطَة عقد بَيت الْعِمَادِيّ وَإِلَيْهِ يرجع حلّه وعقده وَكَانَ وَالِده وشقيقاه منقادين إِلَى تَدْبيره لَا يسعهم خِلَافه بِحَال(2/231)
وَكَانَ لَهُ شهامة ودراية بالأمور تربى فِي حجر وَالِده واشتغل فِي مبدأ أمره على الْحسن البوريني والعلامتين الشهابين أَحْمد العيثاوي وَأحمد الوفائي وَعلي وَالِده وَأخذ عَن أبي الْعَبَّاس الْمقري ولازم من الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن السَّيِّد مَحْمُود الْحميدِي الْمَعْرُوف بشريف قَاضِي الْعَسْكَر ونقيب الممالك العثمانية ودرس وَولي قَضَاء الركب الشَّامي وَحج وَفِي صحبته وَالِده ووالدته وَعَمَّته وأخواه وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف ودرس بعدة مدارس مِنْهَا الْمدرسَة النورية الْكُبْرَى والناصرية الجوانية برتبة الدَّاخِل وَلما انْتقل وَالِده بالوفاة سَافر هُوَ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم إِلَى الرّوم وتطلب فَتْوَى الشَّام فَلم يَتَيَسَّر لَهُ وَعَاد إِلَى دمشق ثمَّ فرغ لَهُ أَخُوهُ عماد الدّين الْآتِي ذكره عَن الْمدرسَة الشبلية وَبعد ذَلِك ولي تدريس السليمية وَلما مَاتَ أَخُوهُ عماد الدّين الْمَذْكُور كَانَ مفتيا فوجهت إِلَيْهِ الْفتيا بتقرير قَاضِي دمشق واختير من طرف السلطنة خَلِيل السعسعاني الْمُقدم ذكره ثمَّ فِي سنة ثَلَاث وَسبعين صَار مفتيا بعد عبد الْوَهَّاب الفرفوري وَأخذ الْفَتْوَى عَنهُ قَرِيبا الْعَلَاء الحصكفي وَأقَام هُوَ بدارهم لَا يخالط أحدا وَلم يزل منغص الْعَيْش شاكيا لدهره متلهفا على ماضي عزه ومنصبه وَرَأَيْت لَهُ ترسلات وأشعارا كَثِيرَة يتظلم فِيهَا من الزَّمَان فَمن ذَلِك قَوْله من رِسَالَة إِلَى مفتي الدولة وَالْعلم الشريف مُحِيط بمظلوميتنا الَّتِي هِيَ أبين من فلق الصُّبْح وأوضح من الضح من عزلنا ظلما وغدرا عَن خدمتنا الموروثة لنا عَن الْآبَاء من سالف الإعصار وَتَقْدِيم غير الْأَهْل بالأجبار من غير مُوجب يَقْتَضِيهِ العقوق بعد الْحُقُوق إِلَّا الْجد وَالِاجْتِهَاد بالاضطرار فِي مداراة من تحار فِي مرضاته الأفكار وَمَا هُوَ إِلَّا الدَّهْر جَار فحار برقه خلب وَهُوَ أشعب فَلذَلِك أعضب وأشعب وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وصنع الله أغلب
(رفعت إِلَى رحماك مولَايَ قصتي ... بنفثة مصدور وَلست ألام)
(فَأَنت الَّذِي قد شاع فِي الدَّهْر عدله ... وجود لَهُ كالجود وَهُوَ سجام)
(إِذا لم تكن أَنْت الْمعِين فَلَيْسَ لي ... سواك معِين يرتجى ويرام)
(فضع مِنْك لي هَذَا الْجَمِيل تفضلا ... فَلَيْسَ سوى صنع الْإِلَه مرام)
(وشيد عمادي واغتنم دَعْوَة الورى ... فَهَذَا رجائي وَالدُّعَاء ختام)
(فَلَا زلت فِي الْفَتْوَى وَلَا زلت ملْجأ ... لِأَنَّك للدّين القويم عِصَام)
(مدى الدَّهْر مَا حق أُعِيد لأَهله ... وَمَا ضاء نجم واستحال ظلام)(2/232)
وَلما عزل فِي الْمرة الْأَخِيرَة نظم هَذِه الأبيات وَهِي
(رب فَتْوَى ضلت إِلَى غير أهل ... كَانَ توجيهها بِغَيْر صَوَاب)
(أَن حَقًا أضاعه بعض قوم ... أسأَل الله ردّه لِلشِّهَابِ)
(هوارث عَن وَالِد وأخيه ... حق للسيف ردّة للقراب)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ من الشّعْر قَوْله
(أيا دير مَرْوَان سقاك غرام ... تروح وتغد وعينهن سَلام)
(وحياك من دير وَحيا معاهدا ... بمغناك مَا ناع الزَّمَان حمام)
(وقفت على ربع بِهِ رَاح دارسا ... وَقد فاع من عرف الرياض خزام)
(فَقلت ولي فِيهِ رسيس صبَابَة ... وَفِي الْقلب مني لوعة وغرام)
(كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا ... أنيس وَلم تهرق هُنَاكَ مدام)
وَقَوله فِي الْغَزل
(بروحي فتانا بلحظيه فاتك ... يرينا المنايا الْحمر بالأعين النجل)
(يمِيل بقدّ أخجل الْغُصْن والقنا ... يجد على قتل المحبين بِالْهَزْلِ)
(عجبت لهَذَا الْحبّ ترْضى فعاله ... وَأَن هُوَ بعد الْعِزّ بدل بالذل)
وَكتب إِلَى وَالِدي فِي صدر رِسَالَة أرسلها إِلَيْهِ إِلَى الرّوم تَتَضَمَّن عتابا
(أمولاي فضل الله دَامَ لَك الْفضل ... ودمت بِهِ تزهو وَأَنت لَهُ أهل)
(يبعد مني الْقلب مَا عج لغوة ... بجلق حَتَّى مجه الْعقل وَالنَّقْل)
(فَلَا تغضبن أَن الشهَاب لواثق ... بِرُكْن عماد شاده الْمجد وَالْفضل)
(وَأَنت لَا دري بِي وداداً وخلة ... وَأَن لَيْسَ يلوي الْقلب عَن حبكم عذل)
(فقلي قلبِي مثل مَا قد عهدته ... وقلبك فِيمَا أدّعى شَاهد عدل)
وَمن نثره المتحف قَوْله من تقريظ قرظ بِهِ رحْلَة وَالِدي المرحوم الأولى إِلَى الرّوم حمدا لَك يَا من جعل لنا الأَرْض ذلولا لنمشي فِي مناكبها وسخر لنا الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره ولنمطتي كَاهِل مراكبنا وأمرنا بالسعي ابْتِغَاء فَضله ولطف بِنَا فِي تيسير التسيير فِي بره وبحره وحزنه وسهله وَصَلَاة وَسلَامًا على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم الْأَنْبِيَاء الْكِرَام وحاتم الْكَرم الْقَائِل سَافر واتغنموا وَالْمُسَافر من حرم إِلَى حرم وعَلى آله وَصَحبه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ لَهُم مَا دَار الْفلك الدوار وَبعد فقد وقفنا على هَذِه الرحلة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال وتعجز عَن بكر فكر منشيها(2/233)
فحول الرِّجَال وسرحنا طرف الطّرف فِي روضها النَّضِير وشرحنا الصَّدْر بلذيذ أنباء الْخَبَر المعرب عَن ضمير مُقْتَضى الْحَال وَلَا ينبئك مثل خَبِير وأمعنا النّظر فِي مجَاز حسن مَعَانِيهَا وإعجاز مُبَالغَة تراكيب قصَص مغانيها فَلم نجد لَهَا فِي الْحَقِيقَة من نَظِير وعرفنا بهَا عرف ذَلِك الْفضل الْمَوْرُوث عَن طيب الأَصْل فَلم نعبرعنه بسوى العبير نجنى طورا من ذَلِك اليانع ثمار الْأَخْبَار عَن كتب وآونة ترتع فِي روض أريض من الْأَدَب لما أودع فِيهِ محرره من لطائف النكات وأبدع فِيهِ من ظرائف الأبيات الأبيات مَا يطرب كل سامع ويعجب كل مطالع ويغرب بِمَا يعرب عَن بدور الْمنَازل بِحَسب الطالع بِحَيْثُ صَار ذَلِك أنسا للحاضر المحاضر وَزَاد للحامل الْمُسَافِر وَقد حذا فِي ذَلِك حَذْو جده الْعَلامَة فنثر ونظم وَمن يشابه أَبَاهُ فَمَا ظلم واقتفى أَثَره فِي سيره ففاته بمراحل من رحلته المشحونة بأدبه فَكَانَ الْمُشبه أبلغ من الْمُشبه بِهِ وجد بجده فورى بِمَا روى قدح زنده وَلَا بدع فَهُوَ لَيْسَ يدعى فِيمَا يدعى وَقد تلمذ للْمولى المرحوم شيخ الْإِسْلَام الْوَالِد الْمَاجِد مده وفاز فِيهِ بِمَا أجَازه وأمده وَورث الْفضل وَالْأَدب عَن جد وَأب فضلا عَمَّا منح بِهِ من الْقبُول فَحسب
(إِذا قيل من أضحى بجلق مدهشا ... بتبريزه فِي الْفضل وَالْعلم مذ نشا)
(فَقل وَاحِد كالألف فِي كل مجمع ... وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشا)
هَذَا بعد مَا طالعنا رحْلَة جده شيح الْإِسْلَام المرحوم الْمُشْتَملَة على مراحل مصر وَالروم وأطلعنا على مَا حفت بِهِ من أرقام الأعقام وخطوط الخطوط المنسوبة إِلَى الْعلمَاء الْأَعْلَام فَكَانَ مِمَّن انتظم فِي سمطها والتحف بمرطها وأجاد وجد المرحوم الْعَلامَة عماد الدّين الْعِمَادِيّ الْجد فقد نثر فِي طرسها جَوَاهِر كَلمه ووشى بِمَا أنشأ فِي طرازها من نقش قلمه فثار عِنْد ذَلِك منا الْعِمَاد ودعانا دَاعِي الْفضل فِي اقتفاء أثر الأجداد فَلَا جرم حِينَئِذٍ أَن تحذو الْفُرُوع حَذْو الْأُصُول وَإِن لم يدْرك الضالع شأو الضليع فِي الْفضل فَفِي الفضول مَعَ الِاعْتِرَاف بالبضاعة المزجاه مرتجين من فَضله سُبْحَانَهُ حسن الْقبُول وَمَا خَابَ من رجاه فجزى الله الْمُؤلف على هَذَا التَّأْلِيف من أَنْوَاع الألطاف آلافا وضاعف جَزَاء هَذَا التصنيف من خير الدَّاريْنِ أضعافا وأدام بكتابه الِانْتِفَاع ولجنابه الِارْتفَاع ولأحبابه الِاتِّبَاع مَا نفحت رياض الْآدَاب فرنحت الْقُلُوب والألباب وَمَا طويت شقة(2/234)
بَين إغتراب وقفل غَرِيب إِلَى وَطنه وآب انْتهى وَقد رَأَيْت من آثاره كتابا صَغِير الحجم جمعه من بعض تعليقات لَهُ على مَوَاطِن من التَّفْسِير وَالْفِقْه ورسائل من منشآته وتقريظات وَرَأَيْت لَهُ أَيْضا مجموعا جمع فِيهِ مدائحه الَّتِي مدح بهَا وَهِي حِصَّة وافرة بِالْجُمْلَةِ فأخباره وآثاره شهية لَطِيفَة الْموقع وَقد تَرْجَمته فِي كتابي النفحة وَذكرت لَهُ أَشْيَاء مستعذبة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع بعد الْألف وَتُوفِّي نَهَار الْجُمُعَة حادي عشرى رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير تَحت قدمي وَالِديهِ
شيخ بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن شيخ بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن السقاف الشهير وَالِده بالضعيف الشَّيْخ الْعَظِيم الْقدر أحد الْمَشَايِخ العارفين الزهاد الورعين ذكره الشلي وَقَالَ فِي وَصفه ولد بِمَدِينَة قسم وَحفظ الْقُرْآن بالتجويد واشتغل واعتنى بعلوم الصُّوفِيَّة وشارك فِي الْفِقْه والنحو وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين مِنْهُم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو بكر بن سَالم وَولده عمر المحضار والمعلم عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم قسم وَغَيرهم وانتفع بِهِ غير وَاحِد وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ شدَّة التَّوَاضُع كأبيه وَكَانَ فِي معاشرته لطيفاً يحب الْعلمَاء ويحترمهم وَيرْحَم الضُّعَفَاء وَلم يزل إِلَى أَن مَاتَ بِمَدِينَة قسم فِي سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله
شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العبدروس اليمني الْأُسْتَاذ الْكَبِير الْمُحدث الصُّوفِي الْفَقِيه ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره واشتغل على وَالِده أَخذ عَنهُ علوماً كَثِيرَة وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وتفقه بالفقيه فضل بن عبد الرَّحْمَن با فضل وَالشَّيْخ زين باحسين بَافضل وَأخذ عَن القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغَيرهم ورحل إِلَى الشحر واليمن والحرمين فِي سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف وَأخذ عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الطيار وَله مَعَه مناظرات ومفاكهات وَأخذ عَن الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ صَاحب أكمة سعيف وَهِي قَرْيَة قريب الجندر وَحج فِي هَذِه السّنة وَأخذ بالحرمين عَن جمَاعَة وَأخذ فِي رُجُوعه من الْحجاز عَن السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه عبد الله ابْن عَليّ صَاحب الوهط وَالسَّيِّد الإِمَام أَحْمد بن عمر العيدروس بعدن وَالشَّيْخ عبد الْمَانِع وَألبسهُ خرقَة التصوف أَكثر مشايخه وَأخذ بِالْيمن عَن كثيرين مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد الحشيبري وَالسَّيِّد جَعْفَر بن رفيع الدّين وَالشَّيْخ مُوسَى بن جَعْفَر الكشميري وَالسَّيِّد عَليّ الأهدل وَسمع خلقا كثيرا ولازم الِاشْتِغَال وَالتَّقوى ثمَّ رَحل إِلَى(2/235)
الْهِنْد فَدَخلَهَا فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن عَمه الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن شيخ وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وبشره ببشارات وَألبسهُ الْخِرْقَة وَحكمه وَكتب لَهُ إجَازَة مُطلقَة فِي أَحْكَام التَّحْكِيم ثمَّ قصد إقليم الدكن وَاجْتمعَ بالوزير الْأَعْظَم عنبر وبسلطانه برهَان نظام شاه وَحصل لَهُ عِنْدهمَا جاه عَظِيم وَأخذ عَنهُ جمَاعَة ثمَّ سعى بعض المردة بالنميمة فأفسدوا أَمر تِلْكَ الدائرة ففارقهم صَاحب التَّرْجَمَة وَقصد السُّلْطَان إِبْرَاهِيم عَادل شاه فَأَجله وعظمه وتبجح السُّلْطَان بمجيئه إِلَيْهِ وَعظم أمره فِي بِلَاده وَكَانَ لَا يصدر إِلَّا عَن رَأْيه وَسبب إقباله الزَّائِد عَلَيْهِ أَنه وَقع لَهُ حَال اجتماعه بِهِ كَرَامَة وَهِي أَن السُّلْطَان كَانَت إِصَابَته فِي مقعدته جِرَاحَة منعته الرَّاحَة وَالْجُلُوس وعجزت عَن علاجه حذاق الْأَطِبَّاء وَكَانَ سَببهَا أَن السَّيِّد الْجَلِيل عَليّ ابْن علو دَعَا عَلَيْهِ بِجرح لَا يبرأ فَلَمَّا أقبل صَاحب التَّرْجَمَة وَرَآهُ على حَالَته أمره أَن يجلس مستوياً فَجَلَسَ من حِينَئِذٍ وبرأ مِنْهَا وَكَانَ السُّلْطَان إِبْرَاهِيم رَافِضِيًّا فَلم يزل بِهِ حَتَّى أدخلهُ فِي عداد أهل السّنة فَلَمَّا رأى أهل تِلْكَ المملكة انقياد السُّلْطَان إِلَيْهِ أَقبلُوا عَلَيْهِ وهابوه وَحصل كتبا نفيسة وَاجْتمعَ لَهُ من الْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَكَانَ عزم أَن يعمر فِي حَضرمَوْت عمَارَة عالية ويغرس حدائق وَعين عدّة أوقاف تصرف على الْأَشْرَاف فَلم يُمكنهُ الزَّمَان وغرق جَمِيع مَا أرْسلهُ من الدَّرَاهِم فِي الْبَحْر وَله مصنفات عديدة مِنْهَا كتاب فِي الْخِرْقَة الشَّرِيفَة سَمَّاهُ السلسلة وَهُوَ غَرِيب الأسلوب وَلم يزل مُقيما عِنْد السُّلْطَان إِبْرَاهِيم عَادل شاه حَتَّى مَاتَ السُّلْطَان فَرَحل صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى دولت آباد وَكَانَ بهَا الْوَزير الْأَعْظَم فتح خَان ابْن الْملك عنبر فقربه وَأَدْنَاهُ وَأقَام عِنْده فِي أخصب عَيْش وأرغده إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالروضة الْمَعْرُوفَة بِقرب دولت آباد وقبره ظَاهر يزار وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة رَحمَه الله تَعَالَى
شيخ بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله بن علوي بن أبي بكر بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم عرف كسلفه بالجفري بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْفَاء ثمَّ بعْدهَا رَاء المفضال الْكَامِل الْمَاجِد القَاضِي الْأَجَل الْمُحْتَرَم كَانَ من رُؤَسَاء الْعلم جليل الْمِقْدَار ذائع الذّكر مَقْبُول السمعة وافر الْحُرْمَة ولد بقرية تريس بِالسِّين الْمُهْملَة وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن جمَاعَة من العارفين ثمَّ دخل بِلَاد الْهِنْد(2/236)
والسواحل وَأخذ عَن أجلاء لَقِيَهُمْ من الْعلمَاء الْأَعْلَام وَضبط وَقيد ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وفَاق فِي الْعُلُوم النقلية والعقلية ثمَّ تدير بندر الشحر فاشتهر بهَا وَعلا صيته وَأَقْبل عَلَيْهِ أَهلهَا وعظموه وأجلوه وَولى بهَا مشيخة التدريس بِالْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّة فدرس فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَأفَاد وانتفع بِهِ خلق كثير وَولى خطابة الْجَامِع ثمَّ ولي الْقَضَاء وَجمع بَين أَطْرَاف الرياسة والمراتب وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من صُدُور الْعلمَاء الْأَعْلَام وَكَانَت وَفَاته ببندر الشحر فِي صفر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف
(حرف الصَّاد الْمُهْملَة)
السَّيِّد صَادِق بن أَحْمد بن مُحَمَّد مير بادشاه الْحَنَفِيّ مفتي مَكَّة الْعَالم الْعَلامَة كَانَ من أجلاء فضلاء الدَّهْر ذَا فنون كَثِيرَة أَخذ بِمَكَّة عَن عُلَمَاء عصره وَله أجازة من الإِمَام مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر النَّحْوِيّ يرى الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ وَولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بِمَكَّة وذاع فَضله وسما قدره وجده مير بادشاه الْمَذْكُور صَاحب الْحَاشِيَة على الْبَيْضَاوِيّ من كبار أهل التَّحْقِيق وَكَانَت وَفَاة السَّيِّد صَادِق يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شعْبَان سنة تسع وَسبعين وَألف وَتُوفِّي ذَلِك الْيَوْم مَعَه من الْأَعْيَان الشَّيْخ المجذوب عَلان بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عَلان الصديقي الشَّافِعِي وَالسَّيِّد مُحَمَّد هَاشم بن علوي المهدلي
صَالح بن أَحْمد الشَّيْخ الإِمَام الْمَعْرُوف بالبلقيني الْمصْرِيّ شيخ الْمحيا بِالْقَاهِرَةِ وَابْن شَيْخه الشهَاب الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى علاّمة الْمُحَقِّقين كَانَ من كبار الْعلمَاء والزهاد وَله الْقدَم الراسخة فِي التصوف وَفقه الشَّافِعِي والمعقولات بأسرها أَخذ عَن أَبِيه وَغَيره وشاع أمره وقصده النَّاس للتلقي عَنهُ وَكَانَ يقرىء شرح القطب وحواشيه من الْمنطق وَهُوَ فِي شكل عُرْيَان الرَّأْس فِي غَالب الْأَوْقَات وَلم يزل فِي إِفَادَة واجتهاد بِالْعبَادَة إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي إِحْدَى الجمادين سنة خمس عشرَة بعد الْألف عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة والبلقيني بِضَم أَوله نِسْبَة لبلقينة من غربية مصر
صَالح بن إِسْحَاق الشرواني الأَصْل القسطنطيني الْمَعْرُوف بظهوري وَإِسْحَاق زَاده قَاضِي قُضَاة مصر وَأحد فضلاء الْعَصْر الَّذِي اتّفقت على فَضله كلمة الكملة وَكَانَ من حَسَنَات الرّوم وأدبائها لم يخرج مِنْهَا فِي عصرنا هَذَا من يعادله فِي الْفضل ورقة الطَّبْع وحلاوة الْمنطق ونزاهة النَّفس إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ من شفوف طبعه مغرماً بمنادمة الْأَصْحَاب ومذاكرة الْأَدَب ومناقلة الْأَخْبَار وَكَانَ عَالما بأيام النَّاس والأنساب والتواريخ وَكَانَ يحفظ من الشّعْر وَالْأَخْبَار شَيْئا كثيرا وَله مصنفات(2/237)
حَسَنَة الأسلوب تدل على زِيَادَة تبحره مِنْهَا بعض تعليقات على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَله رسائل كَثِيرَة لم يبيض مِنْهَا شَيْئا من سَواد مسوداته وأشعاره بالتركية ومنشآته سائرة مرغوبة وَكَانَ مغرماً بالكيمياء وعملها وَله مهارة كُلية فِي تَحْقِيق علمهَا وَألف فِيهَا مؤلفات وأتلف عَلَيْهَا مَالا كثيرا وَكَانَ أَكثر اشْتِغَاله فِي الْعُلُوم على الْمولى مُحَمَّد الْكرْدِي الشهير بمنلا جلبي قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى ولازم من الْمولى عبد الله بن عمر معلم السُّلْطَان عُثْمَان أَبوهُ الْآتِي ذكره أَيْضا وَحج فِي صُحْبَة وَالِده لما ولي قَضَاء مَكَّة فِي سنة خمسين وَألف ثمَّ عَاد إِلَى الرّوم ودرس بمدارس قسطنطينية إِلَى أَن ولي الْمولى شيخ الْإِسْلَام يحيى بن عمر المنقاري الْفتيا وراجت فِي زَمَنه بضَاعَة الأفاضل وَصدر مِنْهُ الامتحان للمدرسين فَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة مِمَّن ظَهرت فضيلته وَبَانَتْ مزيته وَشهد لَهُ بِالْفَضْلِ فصيره مدرساً بمدرسة أياصوفية ثمَّ ولاه الْمدرسَة السليمانية وَأعْطى رُتْبَة دَار الحَدِيث وَمِنْهَا صَار قَاضِيا بينكى شهر برتبة قَضَاء الشَّام ثمَّ ولي قَضَاء بروسة ثمَّ مصر وَبهَا توفّي وَهُوَ قَاض وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف عَن اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة رَحمَه الله تَعَالَى
صَالح بن عبد الْقَادِر الخلوتي الكبيسي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي ثمَّ الْحَنَفِيّ كَانَ فَاضلا صَالحا أَخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن سَالم الْمُقدم ذكره وَلزِمَ الْعِبَادَة والأوراد وَحصل فِي التصوف معرفَة ونظم الشّعْر لَكِن لم أَقف من نظمه على شَيْء حَتَّى أثْبته لَهُ وَكَانَت وِلَادَته فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة ختام شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
صَالح بن عَليّ الصَّفَدِي الْحَنَفِيّ مفتي الْحَنَفِيَّة بصفد كَانَ فَقِيها فَاضلا حسن التَّحْرِير رَحل فِي مبدأ أمره إِلَى الْقُدس وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد العلمي ثمَّ رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على الْحسن الشُّرُنْبُلَالِيّ والشهاب الشَّوْبَرِيّ الْمُقدم ذكرهمَا وَأخذ الحَدِيث وَغَيره عَن الشَّيْخ سُلْطَان وَالشَّمْس البابلي وَغَيرهمَا وَرجع إِلَى وَطنه فدرس وَأفَاد وَألف وَله من التآليف الشهيرة كِتَابه بغية المبتدى فِي اخْتِصَار متن الْكَنْز ثمَّ سكن عكة وَكَانَ يُفْتِي بهَا إِلَى أَن مَاتَ ابْن عَمه أَبُو الْهدى فِي سنة خمس وَخمسين وَألف وَكَانَ مفتي الْحَنَفِيَّة بصفد فوجهت الْفَتْوَى بهَا إِلَيْهِ وانتقل إِلَيْهَا وسكنها وَلم يزل مفتياً بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى(2/238)
القَاضِي صَالح بن عمر بن القَاضِي سعد الدّين بن الْعلم أَخُو الشَّيْخ مُحَمَّد العلمي الصُّوفِي الْمَشْهُور الْآتِي ذكره كَانَ قدم إِلَى دمشق وَولي بهَا نِيَابَة قَضَاء الْمَالِكِيَّة بمحكمة الميدان حِين كَانَ عَمه القَاضِي فَخر الدّين عُثْمَان بِدِمَشْق متخلياً عَن نِيَابَة الحكم بمحكمة الْبَاب وَشرع فِي طَرِيق الزعماء فسعى لِابْنِ أَخِيه الْمَذْكُور فِي نِيَابَة الْمَالِكِيَّة بمحكمة السويقة الْمَذْكُورَة وَكَانَ لَهُم تعلقات بالقدس فَلم يقدر على الْإِقَامَة بِدِمَشْق فَكَانَ يتوطن بالقدس وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الشَّام لزيارة أَخِيه الشَّيْخ مُحَمَّد وخاله الْعَلامَة مُحَمَّد بن عَليّ مدرس الشبلية الْآتِي ذكرهمَا وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد القلعي الْقُدسِي نزاع بِسَبَب وقف سَيِّدي أَحْمد الثَّوْريّ فاتفق أَن مَاتَ ذَاك فِي شعْبَان غَرِيبا فِي قَرْيَة من قرى سَيِّدي عَليّ بن عليل وَمَات هَذَا فِي رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف غَرِيبا فِي الرملة
صَالح بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد الْخَطِيب ابْن مُحَمَّد الْخَطِيب ابْن مُحَمَّد الْخَطِيب ابْن إِبْرَاهِيم الْخَطِيب التُّمُرْتَاشِيّ الْغَزِّي الْحَنَفِيّ ابْن الإِمَام الْكَبِير صَاحب التَّنْوِير فِي الْفِقْه الْآتِي ذكره الإِمَام ابْن الإِمَام كَانَ فَاضلا متبحراً بحاثاً وَله إحاطة بِفُرُوع الْمَذْهَب أَخذ عَن وَالِده ورحل إِلَى مصر وَأخذ عَن علمائها وتصدر فِي ذَلِك الْقطر بعد وَفَاة أَبِيه ونفع النَّاس فِي الْفَتَاوَى وَألف التآليف النافعة فِي الْفِقْه وَغَيره مِنْهَا حَاشِيَة على الْأَشْبَاه والنظائر الَّتِي سَمَّاهَا زواهر الْجَوَاهِر وَله منظومة فِي الْفِقْه وَشرح تحفة الْمُلُوك وَشرح ألفية وَلَده مُحَمَّد الْآتِي ذكره فِي النَّحْو الَّتِي أَولهَا
(قَالَ مُحَمَّد هُوَ ابْن صَالح ... أَحْمد رَبِّي الله خير فاتح)
وَله شرح النقاية سَمَّاهُ الْعِنَايَة وَشرح تَارِيخ شيخ الْإِسْلَام سعدي المحشى وَله رسائل كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة فِي سيدنَا مُحَمَّد وأخيه هَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام ورسالة فِي علم الْوَضع وترسلاته وأشعاره وافرة مطبوعة وقفت لَهُ على هَذِه الأبيات كتب بهَا إِلَى الْخَيْر الرَّمْلِيّ فِي صدر رِسَالَة وَقد استحسنتها فأثبتها لَهُ وَهِي قَوْله
(إِن جزت عَن رَملَة لي ثمَّ إِنْسَان ... حبر همام لَهُ علم وإحسان)
(فِي الْعلم نعمانه فِي الْجُود حاتمه ... وَمَاله فيهمَا ضد وأفران)
(وَالْخَيْر أَوله وَالْخَيْر شيمته ... وَالدّين قيد لَهُ فِي الْعلم إِمْكَان)
(قَالُوا هُوَ الْبَحْر قلت الْبَحْر ذُو غرق ... قَالُوا هُوَ الْبَدْر لَا يعروه نُقْصَان)
(قَالُوا هُوَ اللَّيْث قلت اللَّيْث ذُو حمق ... قَالُوا هُوَ الشَّمْس قلت الشَّمْس ميزَان)(2/239)
(قَالُوا هُوَ السَّيْف قلت السَّيْف ذُو كلل ... وَرُبمَا جَاءَ مِنْهُ صَاح عدوات)
(قَالُوا فَمَا هُوَ قل لي قلت قد جمعت ... فِيهِ الْخِصَال وزادت فِيهِ عرفان)
(أَخُوهُ شمس بِهِ ضاءت مَنَازِله ... وصدره بعلوم الله رَيَّان)
(ليثان حبران فِي آجام معرفَة ... يروي بانداهما للْعلم ظمآن)
( ... قد جَاءَ للرملة البيضا وَقد درست ... فِيهَا الْعُلُوم وفيهَا لَاحَ طغيان)
(فجدد الْعلم فِيهَا واستنار بِهِ ... عرش الْعُلُوم وفيهَا زَاد إِيمَان)
وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من أجلاء الْعلمَاء وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة خمس وَخمسين بعد الْألف
صَالح بن مُحَمَّد بن صَالح بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن يس الدجاني الْمَقْدِسِي كَانَ من أهل الْفضل وَالْأَدب وبيتهم بالقدس بَيت علم وتصوف خرج مِنْهَا نامر كثير من الْمَشَاهِير وجدهم أَحْمد بن عَليّ أحد أَصْحَاب سَيِّدي عَليّ بن مَيْمُون وَصَاحب سَيِّدي مُحَمَّد بن عراق وَكَانَ من كبار الصُّوفِيَّة فِي زَمَنه وَله تَرْجَمَة وَاسِعَة فِي الْكَوَاكِب السائرة للنجم الْغَزِّي ذكر فِيهَا أَشْيَاء من مناقبه وأحواله وَصَالح هَذَا ولد بالقدس وَنَشَأ بهَا وَقَرَأَ على أَبِيه مُحَمَّد الْآتِي ذكره فِي أَنْوَاع الْعُلُوم ونظم ونثر وَكَانَ مَقْبُول الشيمة لطيف الطَّبْع حسن الْعشْرَة خلوقا متوددا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَخمسين وَألف
صَالح بن نصر الله وَيعرف بِابْن سلوم بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْحلَبِي رَئِيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم سيد الْأَطِبَّاء والحكماء وَوَاحِد الظرفاء والندماء أظهر فِي فنون الطِّبّ كل معنى غَرِيب وركها بمقدمات حسه كل تركيب عَجِيب فأنتج اسْتِخْرَاج الْأَمْرَاض من أوكارها وَكَانَ كل طَبِيب يعجز عَن إظهارها كَانَ للطفة إِذا جس نبضا يُعْطِيهِ روح الْأَرْوَاح وَيفْعل لرقته فِي النُّفُوس ماذ تَفْعَلهُ الراح وَهَذَا التَّعْرِيف لغيري احتجته فَفِي مَحَله أدرجته ولد بحلب وَنَشَأ بهَا وَأخذ عَن أكَابِر شيوخها واشتغل بالعلوم الْعَقْلِيَّة وجد فِي تَحْصِيلهَا حَتَّى برع وَغلب عَلَيْهِ علم الطِّبّ وَكَانَ حسن الصَّوْت عَارِفًا بالموسيقى صارفا أوقاته فِي الملاذ ومسالمة أَبنَاء الْوَقْت ثمَّ تولى مشيخة الْأَطِبَّاء بحلب وَلم يزل على تِلْكَ الْحَالة حَتَّى رَحل إِلَى الرّوم واختلظ بكبرائها واشتهر أمره بَينهم ونما حَظه حَتَّى وصل خَبره إِلَى السُّلْطَان فاستدعاه وَأَعْجَبهُ لطف طبعه فصيره رَئِيس الْأَطِبَّاء وَأَعْطَاهُ رُتْبَة قَضَاء قسطنطينية وقربه وَأَدْنَاهُ وَبلغ من الإقبال(2/240)
ونفوذ الْكَلِمَة مبلغا رفيعا وَكَانَ فِي حد ذَاته أعجب من رؤى وَسمع فِي لطف البداهة والنكتة والنادرة وَله رِوَايَة فِي الشّعْر وَالْأَخْبَار وَاسِعَة وَكَانَ ينظم الشّعْر وَلم أر لَهُ الا هَذَا الْمَقْطُوع وَقد جَاءَ فِيهِ بمضمون لطيف وَهُوَ
(سقاني من أَهْوى كلون خدوده ... مدا مَا يرى سر الْقُلُوب مذاعا)
(ومذ شَبَّبَ الإبريق فِي كأس حاننا ... أَقَامَت دراويش الْحباب سَمَاعا)
وَألف فِي الطِّبّ تأليفا لطيفا سَمَّاهُ برْء سَاعَة وسمت همته فِي اقتناص شوارد المكرمات حَتَّى نفع بجاهه كثيرا من أهل دائرته ومدحه شعراء الْعَصْر وَأحسن مَا رَأَيْت من مدائحه قصيدة مدحه بهَا صاحبنا المرحوم عبد الْبَاقِي بن أَحْمد السمان الدِّمَشْقِي مستهلها
(بذكرك بعد الله يستفتح الذّكر ... فَمَا لسواك الْآن نهى وَلَا أَمر)
(وباسمك يسترقى السقيم فيشتفى ... بِهِ ويسح الْغَيْث أَو يبطل السحر)
(وَلَو لقن الشَّيْخ المريد حُرُوفه ... تجلت لَهُ الْأَنْوَار وانكشف السّتْر)
(ولور قموافي راية الْجَيْش رسمه ... لجاء على آثارها الْفَتْح والنصر)
(وَمَا الْمجد إِلَّا صُورَة أَنْت روحها ... كَمَا أَنْت معنى لَفظه الْكَوْن والدهر)
(وَمَا الْخَيْر إِلَّا مِنْك أوفيك أَو لَدَى ... جنابك أَو من شِئْت واليمن واليسر)
(جنابك مَسْعُود وبابك كعبة ... تَطوف بهَا الآمال تسبيحها الشُّكْر)
(تكَاد ترى خلق الفعال حَقِيقَة ... إِذا عدت ذَا سقم فعادلة الْعُمر)
(إِذا جدت بالدنيا جَمِيعًا لآمل ... تَقول لَهُ عد ثَانِيًا وَلَك الْعذر)
(إِذا مَا تَلا أوصافك الغر مادح ... يُقَال أفيمن همه الْحَمد وَالْأَجْر)
(وَقد حزت مجدا يحسر الطّرف دونه ... وتعنو لَهُ الأفلاك أَو تسْجد الزهر)
(وسعدا مكينا الوحوى الْبَدْر بعضه ... تنْزع عَن نقص وَلم يكسف الْبَدْر)
(وَأُوتِيت مَا لم يُؤْت لُقْمَان بعضه ... فَأَنت بِجمع الْفضل بَين الورى وتر)
(وجودا يكَاد الْبَحْر يشبه فيضه ... وهيهات أَن يحْكى مواهبك الْبَحْر)
مِنْهَا
(أمولاي إقبالا لعبد تَوَجَّهت ... إِلَيْك بِهِ الآمال وصلته الشُّكْر)
(إِذا مَا جرى ذكراك فِي مجْلِس غَدا ... يمِيل كَمَا النشوان مَالَتْ بِهِ الْخمر)
(وَيبْخَل بالتصريح بِاسْمِك غيرَة ... وحبا وإجلالا وَإِن علم الْأَمر)
(وَهل تختفي الشَّمْس المنيرة فِي الضُّحَى ... ويكتم نور الْبَدْر أَو يستر الْفجْر)(2/241)
وَكَانَت وَفَاته بينكي شهر وَهُوَ فِي خدمَة السُّلْطَان فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف
صَالح الرُّومِي الْمَعْرُوف بدرس عَام القسطنطيني الْمُحَقق الشهير أحد من أَدْرَكته فَرَأَيْت الْفضل مُشْتَمِلًا بِهِ وَهُوَ أحد نَوَادِر الدَّهْر فِي الْفضل والإتقان وَتَحْقِيق الْعُلُوم والفضلاء الرّوم تهافت بَالغ على الْوُصُول إِلَيْهِ والإقتباس مِمَّا لَدَيْهِ وَهُوَ فِي نفس الْأَمر عَجِيب الصَّنْعَة فِي تَقْرِيره وتفهيمه جَار على طَريقَة محققي الْعَجم والأكراد فِي مُرَاعَاة آدَاب الْبَحْث وَكَانَت لَهُ فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة مهارة كُلية بِحَيْثُ لَا يشق فِيهَا غباره وَقد ولد بقسطنطينية وَبَلغنِي أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره مزيناً ثمَّ حبب إِلَيْهِ الطّلب فجد واجتهد وَصرف شطرا عَظِيما من عمره فِي الِاشْتِغَال حَتَّى بهر وَمهر وَجلسَ مجْلِس التدريس فأكبت عَلَيْهِ الطّلبَة وَمَا برحوا فِي زِيَادَة واعتناء بِهِ ثمَّ سلك طَرِيق الموَالِي فدرس بعدة مدارس وَلما قدمت قسطنطينية من أدرنة فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ صادفته مدرساً بِإِحْدَى مدرستي زَكَرِيَّاء برتبة موصلة الصُّحُف وَكَانَ إِذْ ذَاك يقرى كتاب مُغنِي اللبيب لِابْنِ هِشَام فيحضره جمع كثير من الأفاضل ثمَّ انْتقل إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس الثمان فدرس فِيهَا شرح المواقف على مُقْتَضى شَرط واقفها وَكَانَ لَهُ فِي بَيته دروس خَاصَّة وَتُوفِّي وَهُوَ مدرس إِحْدَى الثمان وَكَانَت وَفَاته يَوْم الاربعاء رَابِع عشر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف
صَالح باشا الموستاري نَائِب الشَّام كَانَ فِي الأَصْل من خدمَة الْوَزير مصطفى باشا الْمَعْرُوف بالفراري ورد فِي خدمته إِلَى دمشق وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى مصر حَاكما بهَا ثمَّ بعد أَن عزل مخدومه عَن مصر صَحبه إِلَى الرّوم وَصَارَ ضَابِط الْجند الشَّامي وَورد إِلَى دمشق فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَلم يحصل لَهُ حَظّ تَامّ لوُجُود صولة الْجند فِي ذَلِك الْوَقْت ثمَّ بعد زَوَال بَعضهم نفذت كَلمته وَلما ولي الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل نِيَابَة الشَّام جعله قَائِما مقَامه إِلَى أَن قدم إِلَيْهَا فصيره كتنداه وَلما ولي الوزارة الْعُظْمَى جعله أَمِيرا خور السُّلْطَان ثمَّ جعله ضَابِط الْجند بقسطنطينية وسافر فِي خدمَة الْوَزير إِلَى سفر إيران فاتفق أَنه اسْتشْهد نَائِب الشَّام الْوَزير مصطفى باشا القليلي فَوجه إِلَيْهِ مَكَانَهُ وَأرْسل متسلماً من قبله وَأقَام هُوَ فِي السّفر السلطاني وَأمر بعمارة خَان حسية ووكل فِي الْعِمَارَة وَالصرْف جمَاعَة من أهل دمشق فعمروه ووسعوه ثمَّ أَمر بعمارة خَان السبك فعمروه عمَارَة لَطِيفَة وقلدوا فِي بُنْيَانه ببنيان عمَارَة(2/242)
القطيفة من السُّوق وَالْجَامِع وَالْحمام والعمارة وَوَقع هَذَا الخان فِي موقعه وَاتفقَ لَهُ تواريخ عديدة بِالْعَرَبِيَّةِ والتركية وأجودها التَّارِيخ الَّذِي صنعه الْأَمِير المنجكي رَحمَه الله تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْله
(صَالح للخير لما أَن بني ... مخلصا خَانا بِفعل متقن)
(وَهُوَ وَالِي الشَّام من أضحى لَهُ ... حسن ذكر فِي جَمِيع الألسن)
(قَالَ دَاعِي الْبر بشرى أَرخُوا ... فِي سَبِيل الله خَان قد بنى)
وَكَانَ ذَلِك فِي سنة خمس وَسبعين وَألف ثمَّ عمر واله بأَمْره الْحمام خَارج بَاب الْجَابِيَة بِملَّة القماحين ورتب عشرَة أَجزَاء بالجامع الْأمَوِي تجاه رَوْضَة سيدنَا يحيى عَلَيْهِ السَّلَام وَشرط نظارة وَفقه لمفتي دمشق وَكَانَ يحب الْعلمَاء ويجالس الصلحاء وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة صوفية فِي سنة سِتّ وَسبعين وَألف والموستاري بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَالسِّين الْمُهْملَة وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق وَألف وَرَاء نِسْبَة إِلَى بَلْدَة مَشْهُورَة فِي دَائِرَة بوسنة
السَّيِّد صبغة الله بن روح الله بن جمال الله البروجي الشريف الْحُسَيْنِي النقشبندي نزيل الْمَدِينَة المنورة الْأُسْتَاذ الْكَبِير الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ أحد أَفْرَاد الزَّمَان فِي المعارف الإلهية وَله الْيَد الطُّولى فِي أَنْوَاع الْفُنُون وَله الْحَاشِيَة الْمَشْهُورَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَهِي مَشْهُورَة فِي بِلَاد الرّوم وَله مصنفات غَيرهَا مِنْهَا كتاب بَاب الْوحدَة ورسالة إراءة الدقائق فِي شرح مرْآة الْحَقَائِق ورسالتان فِي الصَّنْعَة الجابرية ورسالة فِي الجفر وَمَا لَا يسع المريد تَركه كل يَوْم من سنَن الْقَوْم وتعريب جَوَاهِر الْغَوْث ولد بِمَدِينَة بروج بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو ثمَّ جِيم مَدِينَة بِالْهِنْدِ وَأَصله من أصفهان انْتقل جده مِنْهَا إِلَى الْهِنْد وَسكن بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وَأخذ فِي الْهِنْد عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى وجيه الدّين الْعلوِي الْهِنْدِيّ تلميذ الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَوْث البسطامي وتأدب بِهِ وأكمل عِنْده الطَّرِيق وَأَجَازَهُ للإرشاد فَأقبل عَلَيْهِ النَّاس وَبعد صيته وَعظم أمره عِنْد مُلُوك الْهِنْد إِلَى الْغَايَة لما شاهدوه من غزير علمه وزهده وورعه مَعَ عدم تردده إِلَى أحد من أعيانها وَعدم قبُوله الْعَطاء من السُّلْطَان وَغَيره إِلَّا نَادرا ثمَّ رَحل إِلَى الْحجاز وَحج فِي سنة خمس بعد الْألف وَأقَام بِالْمَدِينَةِ يدرس للطلبة ويربي المريدين وانتفع بِهِ الجم الْغَفِير أَجلهم السَّيِّد الأمجد ميرزا توفّي بِالْمَدِينَةِ فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن(2/243)
بِالبَقِيعِ وَالسَّيِّد أسعد الْبَلْخِي وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوي الْمُقدم ذكرهمَا وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم الْهِنْدِيّ توفّي بِالْهِنْدِ وَالشَّيْخ محيي الدّين الْمصْرِيّ والملا شيخ بن الياس الْكرْدِي نزيل الْمَدِينَة والملا نظام الدّين السندي نزيل دمشق وَجَمَاعَة لَا يُمكن ضبطهم وَكَانَ مشتغلا بالتدريس والتحرير ويلازم الصَّلَوَات الْخمس بِالْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ عِنْد الشباك الشَّرْقِي من الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَكَانَ لَهُ شهامة وسخاء مفرط فَرُبمَا أرسل إِلَيْهِ من أقاصي الْبِلَاد وأدانيها فِي دور السّنة مِقْدَار مائَة ألف قِرْش فَلَا يبْقى مِنْهَا شَيْئا ويصرفها على الْفُقَرَاء وَكَانَ لَهُ أَحْوَال وخوارق فِي بَاب الْولَايَة عَجِيبَة جدا حكى عَنهُ تِلْمِيذه الملا نظام الدّين الْمَذْكُور قَالَ لما كنت فِي خدمته تذكرت لَيْلَة وطني وَأَهلي فغلبني الْبكاء والنحيب فَفطن بِي الْأُسْتَاذ فَقَالَ لي مَا يبكيك فَقلت قد طَالَتْ شقة النَّوَى وَزَاد بِي الشوق إِلَى الوطن والأهل وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة الْعشَاء بهنيئة فَقَالَ لي ادن مني فدنوت من السجادة الَّتِي يجلس عَلَيْهَا فَرَفعهَا فتراءت لي بلدتي وسكني ثمَّ لم أشعر إِلَّا وَأَنا ثمَّة وَالنَّاس قد خَرجُوا من صَلَاة الْعشَاء فَسلمت وَدخلت إِلَى دَاري وَاجْتمعت بأهلي تِلْكَ اللَّيْلَة وأقمت عِنْدهم إِلَى أَن صليت مَعَهم الصُّبْح ثمَّ وجدت نَفسِي بَين يَدي الْأُسْتَاذ انْتهى ويروى عَنهُ أَحْوَال غير هَذِه وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كَبِير الشَّأْن سامي الْقدر مَشْهُور بِالْولَايَةِ وَكَانَت وَفَاته فِي سادس عشري جُمَادَى الأولى سنة خمس عشرَة بعد الْألف وَدفن ببقيع الْغَرْقَد وقبره ظَاهر يزار ويتبرك بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى
الملاصفي الدّين بن مُحَمَّد الكيلاني نزيل مَكَّة المشرفة الشَّافِعِي الأديب الطَّبِيب فريد عصره كَانَ أعجوبة فِي الذكاء والفهم اشْتغل بِالطَّلَبِ حَتَّى أتقن الْعُلُوم الْعَرَبيَّة والمنطق ثمَّ تعانى الطِّبّ حَتَّى رَأس فِيهِ وَأخذ بِمَكَّة عَن عبد الرؤوف الْمَكِّيّ عدَّة عُلُوم وروى عَنهُ كثيرا وَله مؤلفات عديدة فِي الطِّبّ وَغَيره وَشرح القصيدة الخمرية لِابْنِ الفارض شرحاً حسنا وَجعله باسم الشريف حسن بن أبي نمي وَأَجَازَهُ عَلَيْهِ إجَازَة عَظِيمَة وَكَانَ يحسن إِلَيْهِ وانتفع بِهِ جمَاعَة فِي الطِّبّ وَغَيره ويحكى عَنهُ فِي الطِّبّ غرائب مِنْهَا أَنه مر عَلَيْهِ بِجنَازَة بعض الطرحاء الْفُقَرَاء فَدَعَا بِهِ وَأخذ من دكان بعض العطارين شَيْئا نفخه فِي أنف الطريح فَجَلَسَ وعاش مُدَّة فتعجب النَّاس من ذَلِك وَسَأَلَهُ بعض أَصْحَابه عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت أقدامه واقفة فَعلمت أَنه حَيّ وَمِنْهَا أَن بعض التُّجَّار كَانَ يطعن فِيهِ وَيتَكَلَّم عَلَيْهِ فَلَمَّا بلغه أرسل بعض(2/244)
الْفُقَرَاء بِغُصْن من نَبَات لَهُ رَائِحَة طيبَة فَلَمَّا شمه التَّاجِر انتفخ بَطْنه وَعجز الْأَطِبَّاء الموجودون عَن علاجه فاضطر إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة فَأرْسل إِلَيْهِ واستعطفه فَأعْطَاهُ سفوفاً من ذَلِك النَّبَات فَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ وَنَظِير ذَلِك مَا وَقع لِابْنِ البيطار الْمَشْهُور أَن بعض معاصريه امتحنه عِنْد السُّلْطَان فجَاء للسُّلْطَان بنبات وَقَالَ إِذا طلع إِلَيْك ابْن البيطار مره أَن يشم من هَذَا الْمحل يتَبَيَّن لَك مَعْرفَته وجهله فَلَمَّا طلع إِلَيْهِ أمره أَن يشمه من الْمحل الْمعِين فشمه مِنْهُ فرعف لوقته رعافاً شَدِيدا فقلبه وَشمه من الْجَانِب الآخر فسكن رعافه لوقته ثمَّ قَالَ للسُّلْطَان مر الَّذِي جَاءَ بِهِ أَن يشمه من الْموضع الأول فَإِن عرف أَن فِيهِ الْفَائِدَة الْأُخْرَى فَهُوَ طَبِيب وَإِلَّا فَهُوَ متشيع بِمَا لم يُعْط فَلَمَّا طلع أمره بشمه من الْموضع فرعف رعافاً شَدِيدا فَقَالَ لَهُ اقطعه فعجز وحار فِي أمره وَكَاد أَن يهْلك فَأمره أَن يقلبه ويشمه فَفعل فَانْقَطع رعافه فَمن يَوْمئِذٍ زَادَت مكانة ابْن البيطار عِنْد السُّلْطَان وَمِنْهَا أَن بعض أَوْلَاد الشريف حسن أَصَابَته عِلّة فَأمر صفي الدّين أَن يعْمل لَهُ كوفية من العنبر فَفعل لَهُ فَزَالَتْ الْعلَّة وأصابت تِلْكَ الْعلَّة بعض الرّعية فَفعل لَهُ كوفية من ضفع الْبَقر فَعُوفِيَ فَقيل لَهُ أَلَيْسَ عِلّة الرجلَيْن وَاحِدَة فَقَالَ نعم وَلَكِن ولد الشريف نَشأ على الرَّائِحَة الطّيبَة فَلَو عملت لَهُ من الضفع لزادت علته وَالْآخر بعكسه فداوينا كلا بِمَا يُنَاسِبه وَكَانَ يَأْمر من مرض أَن يخرج من مَكَّة ولوالي المنحنى لِأَن هَوَاء مَكَّة فِي غَايَة الِاعْتِدَال لَكِن رَائِحَة البالوعات تفسده وَلِهَذَا بنى بَيْتا بالمحصب يسكنهُ من بِهِ مرض وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من أَعَاجِيب الدُّنْيَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة عشر بعد الْألف
السَّيِّد صَلَاح بن أَحْمد بن عز الدّين بن الْحُسَيْن بن عز الدّين بن الإِمَام الْحسن ابْن الإِمَام عز الدّين بن الْحسن بن عَليّ بن الْمُؤَيد بن جِبْرِيل بن الْمُؤَيد بن أَحْمد بن يحيى ابْن أَحْمد بن يحيى بن يحيى بن النَّاصِر بن الْحسن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن النَّاصِر بن أَحْمد بن الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ ابْن أبي الرِّجَال نَشأ هَذَا السَّيِّد على الْأَدَب والبلاغة وَكَانَ صَدرا فِي مجَالِس الكبراء مقدّماً حسن التَّعْبِير مولده فِي خَامِس شهر ربيع الأول سنة خمس عشرَة وَألف بدار الإِمَام شرف الدّين بِصَنْعَاء الْيمن الْمُسَمّى بدار الْعلف عِنْد مَسْجِد مَحْمُود لِأَنَّهُ قد كَانَ ملكه السَّادة من أَخْوَاله الْأُمَرَاء آل المؤيدي وَله من الْأَشْعَار فِي كل معنى مِنْهَا قَوْله(2/245)
يمدح السَّيِّد مُحَمَّد بن الْحسن بن الإِمَام الْقَاسِم
(بنفسي وَمَالِي خير ملك من الورى ... وأقومهم بِالْحَقِّ فِي كل موقف)
(رأى حزن يَعْقُوب يساور مهجتي ... فَأعْطى لَهُ من حسنه حسن يُوسُف)
(فَإِن منحته شكر دَاوُد همتي ... فَمَا منحت من وَاجِب فعل منصف)
(فَمن حلم إِبْرَاهِيم حلم مُحَمَّد ... وَمن طبع إِسْمَاعِيل علم أَن يَفِي)
(صبور كأيوب خطيب كَأَنَّهُ ... شُعَيْب أَخُو القَوْل الْبَهِي المفوق)
(كريم كيحيى لم يهم بريبة ... طَبِيب كعيسى كم بِهِ مدنف شفي)
(كإدريس صدّيق عَزِيز كصالح ... برهط كرام دافعي كل مُسْرِف)
(فيا رب ذِي الْخلق الْعَظِيم مُحَمَّد ... بِهِ وبهم نج المليك وَشرف)
(وزد فِي بَقَاء عمر نوح وأوله ... كملك سُلَيْمَان لجان ومعتفي)
(وصل على من قد ذَكرْنَاهُ أَنهم ... هم خير هاد فِي البرايا ومقتفي)
وَرَأَيْت فِي بعض أَخْبَار عُلَمَاء الْيمن أَن لصَاحب التَّرْجَمَة مؤلفات مفيدة وأجوبة شهيرة مِنْهَا شرح الْفُصُول فِي علم الْأُصُول للسَّيِّد الْعَلامَة صارم الدّين إِبْرَاهِيم بن الْوَزير وَهُوَ من أَقَاربه يَعْنِي أَن صَاحب التَّرْجَمَة من أَقَاربه قَالَ القَاضِي الْحُسَيْن المهلا فِي وَصفه أَنه من أصدقاء وَالِدي وَأهل مودته وَأرْسل وَهُوَ بجبل رازح من أَعمال صعدة كتابا إِلَى صَاحب لَهُ بِأبي عَرِيش يُسمى بصديق ابْن مُحَمَّد وافتتحه بقول أبي مُحَمَّد بن سارة
(يَا من تعرض دونه شحط النَّوَى ... فاستشرفت لحديثه أسماعي)
(لم تطوك الْأَيَّام عني إِنَّمَا ... نقلتك من عَيْني إِلَى أضلاعي)
فَأَجَابَهُ وَالِدي النَّاصِر نِيَابَة عَن صديق بقوله
(وافى المشرف رائق الإبداع ... من سيد ندب كريم مساعي)
(أضحى لأشتات الْفَضَائِل جَامعا ... حَتَّى اجْتَمعْنَ لَدَيْهِ بِالْإِجْمَاع)
(يجْرِي بميدان الطروس أَعِنَّة الأقلام ... بالتكميل للإبداع)
(أيلم بِي سقم الْفِرَاق وَكتبه ... فِيهَا نسيم الْبُرْء للأوجاع)
(وَصديقه صدّيق ابْن مُحَمَّد ... يكبو إِذا مَا همّ بالإسراع)
(مَا ابْن اللَّبُون يصول صولة بازل ... فِيهِ قُصُور عَن طَوِيل الباع)
(فانعم وَدم مُتَمَكنًا متملكاً ... لشوارد الْأَشْعَار والأسجاع)(2/246)
(من ذَاك للود الْقَدِيم وَحفظه ... كصلاح الشهم الْجَلِيل يُرَاعِي)
(لَا زلت فِي غرف العلى متوئا ... مِنْهَا على أَمَاكِن وبقاع)
(تهدي إِلَى الْأَبْصَار أَزْهَر خطكم ... وجواهر الْأَلْفَاظ للإسماع)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّرْجَمَة بقوله
(أسرعت فِي نيل الصَّوَاب وَلم تزل ... مذ لَاحَ شخصك فِيهِ ذَا إسراع)
(وسبقت أهل الشّعْر لما قُمْت فِي ... حصل السباق بِهِ طَوِيل الباع)
(وبهرت أَرْبَاب القريض فَصَارَ كالتمتام ... من فِي النُّطْق كالقعقاع)
(وكشفت من سر البلاغة أوجها ... كَانَت من قبيل لقاك خلف قناع)
(وأجبت شعرًا قلته متمثلا ... بجوابك الشافي لَا إِلَّا قناعي)
(أودعته نكت البديع فحارت ... الأفكار فِي الإبداع والإيداع)
(صدّقت أَرْبَاب البلاغة إِذْ أَتَت ... وحفظت إِذْ نسيب وَكنت الواعي)
(وجمعت يَا صدّيق كل لَطِيفَة ... حَتَّى لطفت وفزت بِالْإِجْمَاع)
(وَنزلت من أهل الْفَضَائِل كلهم ... بمنازل الْأَبْصَار والإسماع)
(هَذَا لديك النَّاصِر الأواه وَالْهَادِي ... بن عُثْمَان أَبُو الإسجاع)
(قد أرصداً من سحر شعرهما لمن ... يهواك كل براعة ويراع)
(فَإذْ حباك الدّرّ بِالْوَزْنِ امْرُؤ ... كالوا لَهُ عَن درّهم بالصاع)
(وَإِذا دنا شبْرًا إِلَيْك مواصل ... منحوه من لقياك ألف ذِرَاع)
(فضلا حباك بِهِ الْإِلَه ونعمة ... وَالله يحبو من يشا ويراعي)
(وإليكما عَمَّن يوزع قلبه ... البرحا فَخُذُوا سمع عَن الْأَوْزَاعِيّ)
(قد كنت عقت الشّعْر ثمَّ أَتَيْته ... وأجبته إِذْ كنت أَنْت الدَّاعِي)
(ليلوح عنْدك صدق قولي إِنَّمَا ... نقلتك من عَيْني إِلَى أضلاعي)
فَأَجَابَهُ النَّاصِر الْمَذْكُور عَنْهَا بقوله
(انطق فعندك للقريض دواعي ... قد جَاءَ من شعر الْهمام دواعي)
(وسعى صَلَاح فِي صَلَاح قريحتي ... وجزى بِعشر الصَّاع ألف صَاع)
(قد كَانَ بِي ألم لنصف اسْمِي فمذ ... وافي أَتَى بالضدّ من أوجاعي)
(أَعنِي الْكتاب مطرزاً بجواهر ... يقْضِي على الْأَيَّام بالإقلاع)
(لافض فَور جلّ جليل قَالَهَا ... لفتى قَلِيل بضَاعَة ومتاع)(2/247)
(مَا كَانَ من ثدى الفصاحة راضعاً ... لَكِن تعاطاها بِغَيْر رضَاع)
(فَلِذَا يرى وَقت السباق مقصراً ... فاعذر فَتى فِيهَا قصير الباع)
(قد شاع سابغ نعْمَة الله الَّتِي ... أسدى لكم فِي الْآل والأشياع)
(ونظمت يَا بَحر الغلوم فرائداً ... نظمت لكم سحبان فِي الأتباع)
(واستعبد الْملك ابْن حجر شعركم ... لَو عَاشَ لم يقدر على مصراع)
(واقرّ كتاب الْأَنَام بأهم ... رق لرق رائق الأسجاع)
(من آل أَحْمد لم يزل يوليهم ... الْخيرَات فِي جبل سما وبقاع)
(فلذاك عز الدّين وانتشر الْهدى ... إِذْ كَانَ عز الدّين أكْرم ساعي)
(أبدى صلاحاً لَاحَ من أثوابه ... نور بدا فِي عَارض هماع)
(أَحْيَا بِهِ الأرباء والأدبا مَعًا ... من كل دَان أَو بعيد بقاع)
(لَا سِيمَا الْهَادِي الْأَجَل وَمن لَهُ ... ود أكيد والمحب الدَّاعِي)
(فَأَبُو عَرِيش فاق بلدان الورى ... إِذْ صرت راقماً اسْمه برقاعي)
(شرفتموه إِذْ مدحتم أَهله ... بمدائح عَن خاطر مطواع)
(ونعتم صدّيقه بصديقكم ... عطفا وتأكيداً بِغَيْر نزاع)
(من لم يكن عَن ودّكم بدل لَهُ ... فلرفعه قد صَار بِالْإِجْمَاع)
(يَكْفِيهِ فجرا مَا جرى من مدح من ... فاق الورى لطفاً وَحسن طباع)
(لَا منّ أَن أَحْبَبْت آل مُحَمَّد ... فهم الْأمان لنا من الأفزاع)
وَمِمَّا قَالَه صَاحب التَّرْجَمَة يُخَاطب القَاضِي الْعَلامَة مطهر بن عَليّ الضمدي وَقد طلب عَارِية كتاب إِيثَار الْحق على الْخلق
(آثرونا يَا صَاح بالإيثار ... كي يكون الْبلُوغ للأوطار)
(عجلوا عجلوا جزيتم بِخَير ... فَلهَذَا الْكتاب طَال انتظاري)
وَهِي من أَبْيَات وَأجَاب القَاضِي عَنْهَا بِأَبْيَات رائقة مطْلعهَا
(قسما بالعقول والإنظار ... وَبِمَا ضمنت من الْأَسْرَار)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة سبعين وَألف
القَاضِي صَلَاح الدّين بن زين العابدين القَاضِي الصَّالح الباعوني كَانَ من الْفُضَلَاء المعروفين والكملاء الموصوفين وَكَانَ صَاحب أَخْلَاق حَسَنَة وشمائل رائقة وَكَانَ مُقيما بصالحية دمشق وَولي نيابتها مدّة مستطيلة وَكَانَ وَالِده زين(2/248)
العابدين الْمَذْكُور جمانا فِي المحكمة عِنْده وَكَانَ لَهُ حديقة بالصالحية يُقيم فِيهَا ويجتمع عِنْده شعراء ذَلِك الْعَصْر ويتذاكرون الْأَدَب مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأكرمي الْمُقدم ذكره فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَله فِيهِ مدائح مِنْهَا قَوْله وَقد نظم هَذِه الأبيات فِي حديقته الْمَذْكُورَة وَهِي قَوْله
(لم أنس مجمع أنسنا ... فِي رَوْضَة القَاضِي الصّلاح)
(رب العوارف واللطائف ... والمكارم والسماح)
(مولى طليق الْوَجْه عِنْد الْعَالمين ... سموح رَاح)
(لله حسن مقامنا ... إِذْ نَحن فِي الْبسط السراح)
(تتفاوض السحر الْحَلَال ... ونعتفي جد المزاح)
(ونفوسنا سكرى التنعم ... وَالسُّرُور بِغَيْر رَاح)
(فِي ظلّ روض عَمه ... نفح الازاهر والأقاح)
(حَيْثُ النسيم الرطب قد ... أرسى على المَاء الفراح)
(وَالطير تشدو فِي الغصون ... بِطيب ألحان صِحَاح)
(وفواكة الأغصان تنثر فِيهِ ... من كل النواحي)
(حييت يَا يَوْم الجنينة ... كل غادية وَرَاح)
(من يَوْم أنس لم يكدر ... صَفوه واش ولاحي)
(مَا أنسى لَا أنسى اجتماعي ... فِيك بالغر الصَّباح)
(تَغْدُو علينا الطَّيِّبَات من ... الغدو إِلَى الرواح)
(لَا زَالَ صاحبنا الصّلاح ... يؤم فِي حَال الصّلاح)
(وَبَقِي مدى الْأَيَّام فِي ... حرز السَّلامَة والنجاح)
(مَا غردت ورق الحمائم ... فِي الْمسَاء وَفِي الصَّباح)
وَكَانَت وَفَاة القَاضِي صَلَاح الدّين فِي ثَالِث عشر محرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بسفح قاسيون
السَّيِّد صَلَاح الدّين بن عبد الْخَالِق بن يحيى بن الْمهْدي بن إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي الحجاف القاسمي الحسني الحبوري الإِمَام الْعَلامَة الْجَلِيل الشَّأْن كَانَ مفننا فِي عُلُوم كَثِيرَة وَله تآليف مَشْهُورَة مِنْهَا شرح تَكْمِلَة الْأَحْكَام فِي علم الطَّرِيقَة وأجوبة مسَائِل مَشْهُورَة ونظمه أَسِير من مثل فِي بِلَاد الْيمن وَله ديوَان شعر مدون(2/249)
تلقيت خَبره من مَجْمُوع الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله سلمه الله تَعَالَى وَأنْشد لَهُ من شعره قَوْله يمدح الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن عَليّ
(بأفعاله يسمو الْكَرِيم ويشرف ... وَيذكر مَا بَين الْأَنَام وَيعرف)
(وَقد يسْعد الله امْرأ مَعَ هَذِه ... بأسلاف صدق بالمكارم تُوصَف)
(فيجتمع الْمجد التليد وطارف ... فَلَا الأَصْل مَذْمُوم وَلَا الْفَرْع مقرف)
(ألم تَرَ أَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد ... بنى شرفا يحظى بِنَبِيِّهِ ويزلف)
(فَلم يكنف الْمولى الْمُؤَيد بِالَّذِي ... بنى بل بنى مجدا يزِيد ويضعف)
(أَلَيْسَ لَهُ أَيَّام وَالِده من المواقف ... مَا لم يحكها قطّ موقف)
(بِهن اسْتَفَادَ الدّين رونق وَجهه ... وَكَانَ تبدي وَجهه وَهُوَ أكاف)
(عَشِيَّة جلّ الْخطب وَالْأَرْض أظلمت ... وأضحت قُلُوب النَّاس وَهِي ترجف)
(وخان الرِّجَال الصَّادِقين ثِيَابهمْ ... وَقل امْرُؤ من وصمة الذل يأنف)
(وأرعشت الْأَيْدِي فَلم يغن صارم ... وَلم ينك قطّ السمهري المثقف)
(وَقد شَمل النَّاس الْبلَاء فلاحق ... بِأَرْض ومستدن لما يتخوف)
(ومدت إِلَى الله الأكف عواتق ... لطمن خدودا والمدامع ذرف)
(هُنَالك رد الله فِي الدّين روحه ... بِهِ وتلافاه وَقد كَاد يتْلف)
(وأرسى بِهِ الدُّنْيَا وَمَا فَوق ظهرهَا ... وَكَانَت بِمن فِيهَا تميد وترجف)
(إِلَى غير هَذَا من مواقفه الَّتِي ... بهَا الدّين أضحى شَمله يتألف)
(وَقَامَ بِأَمْر الْمُسلمين فَأحْسن ... الْخلَافَة إِذْ لَا مثله قطّ يخلف)
(فَبَايعهُ مِمَّن يشار إِلَيْهِم ... يحار إِذا استنزفتها لَيْسَ تنزف)
(نحارير لَو شاؤا وَقد شَاءَ بَعضهم ... لقد ألفوا فِي كل فن وصنفوا)
(فَمَا فاتنا من قَاسم غير وَجهه ... وَلم يفتنا نائل وَتعطف)
(ورفق وبر وانطلاق وَرَحْمَة ... وَبشر وتقريب لنا وتلطف)
(وَعلم وإنصاف وحلم على أَذَى ... ممض يخلي عِنْده الْحلم أحنف)
(ثمال الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين لم يزل ... أبالهم يحنو عَلَيْهِم ويرأف)
(لَهُم قطرت غلظ لَهُ من صَنِيعه ... إِلَيْهِم وَشعر فِي الرؤس مسرهف)
(مجالسه عاف يفاد وعالم ... يُفِيد وَسيف فِي القراب ومصحف)(2/250)
(ونهمته استنباط حكم دَلِيله ... قَضِيَّة عقل أَو قِيَاس مؤلف)
(أَو السّمع لَا التَّقْلِيد أذذاك منهو ... وَكَانَ بنيق بَين قطريه تفنف)
(وَمَا زَالَ للعافي غياثاً وملجأ ... ومنتجعاً يؤوي إِلَيْهِ ويؤلف)
(أمولاي يَا من وَصفه فَاتَ قدرتي ... وَقصر عَنهُ ذَا النظام المؤف)
(أهنيك بالعيد الْأَغَر الَّذِي لَهُ ... خَصَائِص لَا تحصي بهَا أَنْت أعرف)
(وفيت بِمَا وَفِي الْخَلِيل بهَا لمن ... براك فَأَنت المخبت المتحنف)
(وأحييت مَعْلُومَات شهرك بِالَّذِي ... يسن ومعدوداته لَا تكلّف)
(وَصليت قربت النسائك خَالِصا ... لمولاك لَا تزهى وَلَا تتغطوف)
(فشاركت إِذْ وفيت للعيد حَقه ... رجَالًا أهلوا محرمين وعرّفوا)
(يباهي بهم رب السَّمَاء جمَاعَة الملائك ... بعد الْعَصْر سَاعَة وقفُوا)
(لَهُم دعوات لَا تردّ وَرَنَّة ... مذكرة بالنحل حِين يرفرف)
(سَأَلت الْعَظِيم الأيد وَالْملك الَّذِي ... لَهُ قطعُوا عرض الفلاة وأوجفوا)
(بِمن فيهم من صَالح وَبِمَا دعوا ... وَمَا مسحوا الْأَركان تِلْكَ وطوّفوا)
(يهينك مَا أولاك تنفك سالما ... إِلَيْك خطوب الدَّهْر لَا تتطرف)
(ويحميك مَا هَب النسيم وغردت ... أصيلاً حمامات على الأيك هتف)
(وَإِنِّي وأصحابي مَعًا بعد هَذِه ... سيجمعنا ذَاك الجناب المشرف)
(نوافي إِلَيْهِ بعد لأي كأننا ... رذايا عقيب الواردات تخلف)
(وننشدك الْبَيْتَيْنِ لَا ناظرين فِي ... عوامل علم النَّحْو كَيفَ تصرف)
(وَلَكِن لما قد جَاءَ أخوة يُوسُف ... إِلَيْهِ فَأَنت الْيَوْم لَا شكّ يُوسُف)
(إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ رمت بِنَا ... خطوب المنى والهرجل المتعسف)
(ومض زمَان يَا ابْن مَرْوَان لم يدع ... من المَال إِلَّا مسحة أَو مخلف)
(وهاك نظاما زانه وصفك الَّذِي ... يكرم شعرًا حازه ويشرف)
(يميزه الذَّوْق السَّلِيم وَحسنه ... يدق على فهم الغبي ويلطف)
(فكم ناقد للشعر مبلغ علمه ... هُوَ الْوَزْن وَاللَّفْظ الْكثير المرصف)
(وَلم يدر مَا الْمَعْنى البليغ لجهله ... وَلَا الْمَقْصد الغث الركيك المزيف)
(وَمَا السِّرّ إِلَّا فِي معَان مصونة ... عليهنّ ستر لم يزحزحه مغدف)
(وَمثل أَمِير الْمُؤمنِينَ مُمَيّز ... مطل على تِلْكَ الْمَقَاصِد مشرف)(2/251)
(فَيعرف للعلق النفيس فَضِيلَة ... بهَا يزدري القَوْل اللَّطِيف الملفلف)
(فدونك يَا مولَايَ مَا هُوَ خَالِد ... وَمَا دونه فَإِن من المَال متْلف)
(يسير مسير الْبَدْر والبدر قَاصِر ... وينقله بَحر ورعن وصفصف)
(ويسطر بالأقلام فِي كل دفتر ... بِهِ يتحف السمار لَيْلًا ويطرف)
(مقَال امرىء مَا قَالَ فِي غير قَاسم ... ونجليه مدحاً والأمور تكشف)
(وَمَا قلت فِي سُلْطَان جور قصيدة ... أَبى الله ينهاني التقى وَالتَّعَفُّف)
(وَقد صان وَجْهي الله عَن قصد غَيرهم ... إِذا سَأَلَ السُّؤَال يَوْمًا فألحفوا)
وَهَذَا آخرهَا وَكَانَت وَفَاة السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف بجبرو من أَرض الْيمن رَحمَه الله تَعَالَى
القَاضِي صَلَاح الدّين الْمَعْرُوف بالكوراني الْحلَبِي مولداً وتربة شيخ الْأَدَب ومركز دائرته بقطر الشَّهْبَاء وَكَانَ رَئِيس الْكتاب بمحكمة قَاضِي قضاتها وَله أَخ اسْمه تَاج الدّين كَانَ يتَوَلَّى النِّيَابَة بهَا وَالْقَاضِي صَلَاح الدّين هَذَا من مشاهير الأدباء لَهُ شعر مطبوع ونظم مَصْنُوع مَعَ مُشَاركَة فِي فنون عديدة وخبرة بمفاهيم عَجِيبَة وَهُوَ من المكثرين فِي الشّعْر فَلَيْسَ لأحد من أَبنَاء عصره عشر مَاله من الشّعْر وناهيك بِمن لم يخل بَيَاض يَوْم وَلَا سَواد لَيْلَة من تبييض وتسويد وَلم يبْق أحد يتوسم فِيهِ النجابة إِلَّا مدحه أَو راسله أَو طارحه إِلَى أَن صعد درج الثَّمَانِينَ ورقى التسعين وَذكره البديعي فَقَالَ فِي وَصفه شَاعِر إِن ذكر المجيدون فَهُوَ الْوَاحِد الْكَامِل ونائران وصف المنتمون إِلَى الْآدَاب فَهُوَ القَاضِي الْفَاضِل وَمن محَاسِن إنشائه مَا كتبه إِلَى السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب الْحلَبِي الْمُقدم ذكره ملغزا فِي اسْم عندليب وَهُوَ أَيهَا الشريف الْفَاضِل واللطيف الْكَامِل قد تمسكت الأحباء بأرج أعتابك وَتمسك الألباء بأهداب آدابك وخلصت المشكلات بالتلخيص ولخصت المعضلات بالتخليص وملكت الاستعارات فأعرت مَا ملكت وسبكت الْكِنَايَات فأنكيت بِمَا سبكت وانعقدت على عفتك الخناصر وَقيل للخائن إِلَى الخناصر وَكَيف تَنْصَرِف عَن سَلامَة الطَّبْع وَالصّفة وفيك اجْتمع الْوَزْن والمعرفة وَقد ارْتَاحَ الصّلاح إِلَى خفض الْجنَاح لديك وعول عَلَيْك وَطلب أَن يعْذر وَيُقَال فِيمَا أَطَالَ وَقَالَ مَا اسْم بالظرف مَوْصُوف على أَنه بعض الأحيان مظروف وَإِن قلت ظرف مَكَان فَهُوَ فِي حيّز الْإِمْكَان ويضاف إِلَيْهِ ظرف الزَّمَان على أَنه(2/252)
من وصف الآرام اللَّاتِي هم المرام أَو على أَنه أنالك كَمَا لي أَن أعرف كمالك وتصحيف شطره الأول وَالثَّانِي جيد لَا غيد وَإِن قلت أَسد فَهُوَ للإيضاح لَيْث أَسد وَإِن شِئْت قلت مَوضِع لبث القلائد من الصُّدُور أَو مَا اسْترق من رمل الصخور وَإِن أردْت الْمجَاز فالخمر من صروفه وَإِن أردْت الْحَقِيقَة فظرفه من مظروفه وَكَيف يخفى وأوله اسْم سَنَام الْأَنْعَام وثانيه حَيَوَان فِي الْبَحْر الْعَام وثالثه اسْم امْرَأَة ذَات سمن من ورابعه شجر ذوفين وخامسه اسْم نَاحيَة من نواحي الْبِقَاع وسادسه اسْم رجل كثير الوقاع على أَن أَوله وَالثَّالِث وَالرَّابِع ينبي عَن قلب سقط الزند الْوَاقِع وَالثَّانِي وَالثَّالِث عَن أطيب الْعرف نافت وَهُوَ نديم الْمُلُوك فِي الْقُصُور وخديم ربات الشنوف فِي الْخُدُور حقير المقدرا جليل الِاعْتِبَار وأقواله مُؤثرَة فِي مثل قلب عنتر مَعَ أَنه صَغِير ضَعِيف الجثمانية مغتر فَهَل يخفى بعد شرح هَذِه الْأُمُور وَلَكِن الخفاء فِي شدَّة الظُّهُور فجد مجيباً مجيداً لَا بَرحت مُفِيدا سعيداً فَأَجَابَهُ ملغزاله فِي بازي بقوله راسلتني لأبرح عِنْد عندليب الفصاحة صادحاً على رياض مراسلتك وقمر البراغة لائحاً من أفق أفلاك عبارتك وَحمى الْفضل محمياً بسمهري أقلامك وجيد الْأَدَب محلى بدر وعقود نظامك وَإِن لي قريحة قريحة بصروف حوادث الزَّمن وفكرة جريحة من معاناة خطوب هَذِه المحن وأدرت على سَمْعِي من سلاف ألفاظك مَا هُوَ عِنْدِي أرق من نسيم الصِّبَا وَأهْديت إِلَى فكرتي من نفائس صنائعك مَا ذَكرتني بِهِ زمَان اللَّهْو وَالصبَا وأتحفتني ببدائع مَا احمر الْورْد إِلَّا خجلاً من بهجتها وَلَا اصْفَرَّتْ الصَّهْبَاء إِلَّا حسداً لما شاهدته من استيلائها على الْعقل وسطوتها لَا غرو أَنَّهَا صدرت من قس الفصاحة وقاضيها الْفَاضِل وَأَتَتْ من رَئِيس هَذِه الصِّنَاعَة وأمامها الْمشَار إِلَيْهِ بالأنامل فادخرتها تحفة للوارد والصادر ورقتا بقلم الْفِكر على لوحة الخاطر فأماطت النقاب وأزالت الْحجاب عَن اسْم مطرب مَا زَالَ يغرد فِي الرياض بَين الأفنان ويحرك بِصَوْتِهِ الشجي مَا سكن فِي خاطر الولهان ويتعشق الْوُرُود لشبهها بخدود الملاح ويراقبها مراقبة المهجور فِي الاغتياق والاصطباح طالما جنى عَلَيْهِ لِسَانه فحبسوه وضيقوا عَلَيْهِ وَمن عجب أمره أَنه لم يحبس إِلَّا لزِيَادَة حبه وَشدَّة الْميل إِلَيْهِ صحف النّصْف الأول مِنْهُ تَجدهُ عبدا عَن الْخدمَة لَا يحول وَإِذا شِئْت قلت عيد بالمسرة والهناء مَوْصُول(2/253)
وَرُبمَا أظهر لَك غيداء ممنعة الْحجاب وَأبْدى لَك بقلب بعضه عذب الرضاب واحذف ثلثا مِنْهُ نجده عِنْدِي مَوْجُودا كَمَا أَن ذَلِك الثُّلُث الْمَحْذُوف مَا زَالَ مني فِي هوى الحسان مفقوداً وَإِن صحفت ثلثه وقلبته قلب كل أرتك لديعاً بعقرب السالف أَو قلبتها قلب بعض أبدت لَك اسْم شَاعِر من شعراء الزَّمن السالف وَإِن صحفت نصفه الْأَخير قلت ليته من هَذَا التَّصْحِيف خَالص فَإِنَّهُ يظْهر لَك ليثاً ترتعد مِنْهُ الفرائص وَرُبمَا ظهر لَك بأوله ورابعه وخامسه أَنه على الْمقَام وبثانيه وثالثه وخامسه ندى عرف يحسن مِنْهُ الختام فأجبر جَابر هَذِه كسر هَذَا الْجَواب وألق عَلَيْهِ من أكسير قبولك مَا يرفع بِهِ عِنْد بني الْآدَاب وَلَقَد عَن لي أَن أعول على جنابك وأسأل من شرِيف أعتابك عَن اسْم يعرف بالشجاعة تقر لَهُ أَبنَاء جنسه بِالطَّاعَةِ تخدمه الْمُلُوك والأعيان وتتبعه فِي المهامه الفرسان وموضوع وَهُوَ مَحْمُول وعزيز مَعَ أَنه مُقَيّد مغلول طالما سَطَا على عدوه فَأوردهُ الْحمام ونال من أراقة دَمه المرام وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ يُؤثر بِمَا لَدَيْهِ وَهُوَ جَائِع وَيفْعل وَلَا يَقُول وَهَذَا من اشرف الطبائع رباعي مَعَ أَن نصفه حرف من حُرُوف الهجاء وَإِن صحف كَانَ حرفا يسْتَعْمل عِنْد الطّلب والرجاء وَإِن حذفت أخيره وصحفت الْبَاقِي ظهر لَك أَنه أحد العناصر وبتصحيف آخر من غير حذف يَبْدُو لَك أحد أَسمَاء الْقَادِر القاهر مظلوم مَعَ أَنه إِن لوحظ نصفه الْأَخير كَانَ فِي زِيّ ظَالِم وَرُبمَا أشعر بتصحيفه وَحذف ثَانِيه أَنه برىء من جَمِيع الْمَظَالِم فبالذي شيد بك دعائم الْأَدَب والكمال وجلى بفكرك فنهب كل اشكال إِلَّا مَا أوضحت مشكله وبينت خفيه ومقفله لَا بَرحت بَنو الْآدَاب ترد حِيَاض آدابك الدافقة ويجنون من أزاهر رياض فضائلك الفائقة مَا ترنم عندليب على فنن وحرك بشجوه من كل مغرم مَا سكن انْتهى قَالَ السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب الْمَذْكُور فِي تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ بِالْقربِ من ضريح المرحوم يَعْنِي وَالِده السَّيِّد مُحَمَّد عدَّة أَشجَار من الْعنَّاب فشاهدت يَوْمًا أَغْصَانهَا المخضرة تزهو بثمارها المحمرة فأتبعت الْحَسْرَة بالحسرة وَلم أملك سوابق الْعبْرَة وجادت الطبيعة بِأَبْيَات على البديهة وَهِي
(وقائلة والدمع فِي صحن خدها ... يفِيض كهطال من السحب قد همى)
(أرى شجر الْعنَّاب فِي الْبقْعَة الَّتِي ... بهَا جدث ضم الشريف المعظما)
(لَهُ خضرَة المرتاح حَتَّى كَأَنَّهُ ... على فَقده مَا إِن أحس تألما)(2/254)
(وأغصانه فِيهَا ثمار كَأَنَّهَا ... بحمرتها تبدي السرُور تلوما)
(وَلَو أنصفت كَانَت لعظم مصابه ... ذوت واكفهرت حيرة وتندما)
(فَقلت لَهَا مَا كَانَ ذَاك تهاونا ... بِمَا نالنا من رزئه وتهضما)
(وَلكنهَا لما وَضعنَا بِأَصْلِهِ ... غديراً بأنواع الْفَضَائِل مفعما)
(بَدَت خضرَة مِنْهُ تروق وحزنه ... كمين فَلَا تستفظعيه توهما)
(وَمَا احْمَرَّتْ الأثمار إِلَّا لأننا ... سقيناه دمعاً كَانَ أَكْثَره دَمًا)
فَوقف الكوراني على ذَلِك فَقَالَ أبياتاً مِنْهَا
(فيا شجر الْعنَّاب مَالك مثمر ... سُرُورًا وَلم تجزع على سيد الْحمى)
(على رمسه أورقت تهتز فرحة ... وتدلى إِلَيْهِ كل غُصْن تمنما)
(أهذي أَمَارَات المسرة قد بَدَت ... أما لحزن قد أبكاك من دونه دَمًا)
وَمِنْهَا على لِسَان الْعنَّاب
(نعم فرحتي أَنِّي مجاور سيد ... نما حسبا فِي عصره وتكرما)
(وحضرته روض من الْجنَّة الَّتِي ... زهت بضجيع كَانَ بِالْعلمِ مغرما)
(أتعجب بِي إِذْ كنت فِي جنب رَوْضَة ... وحقي فِيهَا أَن أقيم والزما)
(كعادة أَشجَار الرياض فَإِنَّهَا ... تمكن فِيهَا الأَصْل وَالْفرع قد نما)
(وَقد قيل فِي الأسماع إِن كنت سَامِعًا ... خُذ الْجَار قبل الدَّار إِذْ كنت مُسلما)
(أما سَار من دَار الفناء إِلَى البقا ... وَأبقى ثَنَاء بالجميل مُعظما)
(وَمن كَانَ بعد الْمَوْت يذكر بالعلى ... فبالذكر يحيا ثَانِيًا حَيْثُ يمما)
(فَقلت لَهُ يهنيك طيب جوره ... وحياك وسمى الْغَمَام إِذا همى)
(لتسقط أثماراً على جنب قَبره ... ليلقطها من زَارَهُ وترحما)
(فواعجباً حَتَّى النَّبَات زها بِهِ ... فَحق لنا عَن فَضله أَن نترجما)
(فَلَا زَالَت الأنواء مغدقة على ... ثرى قَبره مَا ناح طير وزمزما)
وَمِمَّا اشْتهر لَهُ قَوْله فِي دُخان التبغ
(لقد عنفونا بالدخان وشربه ... فَقلت دعوا التعنيف فَالْأَمْر أحوجا)
(أَلا إِن صل الْغم فِي غَار صدرنا ... عصانا قد خنا عَلَيْهِ ليخرجا)
الصل الْحَيَّة السَّوْدَاء وَمن شَأْنهَا أَنَّهَا إِذا عصيت فِي وَكرها دخن عَلَيْهَا التخرج وللصلاح أَيْضا وَفِيه وَهُوَ معنى حسن(2/255)
(لَو لم تكن أَيدي إِلَّا كارم لجة ... مَا كَانَ فِي أطرافها الغليون)
والغليون أطلق على سفينة معهودة بَين الْعَوام وعَلى آلَة يوضع فِيهَا ورق التبغ وَيشْرب وَكِلَاهُمَا غير لغَوِيّ وَهُوَ فِي اللُّغَة اسْم للقدر وَفِيه يَقُول عبد الْبر الفيومي صَاحب المنتزه مَعَ احْتِمَال الغليون للمعنى اللّغَوِيّ
(غليوننا لقد غلا ... مَا فِيهِ وَالْمَاء يفور)
(فِي مهجتي ومقلتي ... دخانه أضحى يَدُور)
وللصلاح معمي باسم أَحْمد وَهُوَ قَوْله
(فُؤَادِي محا عَن لوح خاطره الْهوى ... فأثبته صدغ لَهُ قد تسلسلا)
وَله باسم عمر
(تساقط در من سَحَاب مسيره ... إِلَى تَاج روض قل وَمَا كَانَ مُنْقَطع)
وَله باسم يُوسُف
(إِذا صَحَّ تَقْبِيل على خَال خدّه ... أحاول شَيْئا مِنْهُ فِي دَاخل الشفه)
وَمن غرامياته قَوْله
(أَيْن فصل الرّبيع أَيْن الشَّبَاب ... يئست من رُجُوعه الأحباب)
(غادرته مواقع أعدمته ... فشارب الرّبيع رغماً سراب)
(خرس العندليب فِيهِ وأضحى ... صَاحب النُّطْق فِي رباه الْغُرَاب)
(لَو علمنَا أَن الزَّمَان خؤون ... فِيهِ تنأى عَن اللقا الْأَصْحَاب)
(لشفينا من اللِّقَاء قلوباً ... لم يرعها من الزَّمَان انقلاب)
(لَكِن الْمَرْء لَا يزَال غفولاً ... بَين هَذَا وَبَين ذَاك حجاب)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بحلب فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف
صنع الله بن جَعْفَر شيخ الْإِسْلَام ومفتي التخت العثماني فِي عهد السُّلْطَان مُحَمَّد وَولده السُّلْطَان أَحْمد الإِمَام الْكَبِير الْفَقِيه الْحجَّة الْخَيْر كَانَ فِي وقته إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الْفِقْه والإطلاع على مسَائِله وأصوله وفتاواه مدونه شهيرة خُصُوصا فِي بِلَاد الرّوم يعتمدون عَلَيْهَا ويراجعون مسائها فِي الوقائع وَكلهمْ متفقون على ديانته وتوثيقه واحترامه وَقد درس بالمدارس الْعلية حَتَّى انْتهى أمره إِلَى أَن صَار قَاضِي قسطنطينية فِي رَجَب سنة ألف وَنقل بعد أَيَّام قَليلَة فِي الشَّهْر الْمَذْكُور إِلَى قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَبَقِي فِيهِ إِلَى شَوَّال سنة إِحْدَى وَألف فَنقل إِلَى قَضَاء(2/256)
روم إيلي ثمَّ فِي أثنا جُلُوس السُّلْطَان مُحَمَّد تقاعد بوظيفة أَمْثَاله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث بعد الْألف ثمَّ ولي الْإِفْتَاء بعد وَفَاة الْمولى سعد الدّين بن حسن جَان فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَألف وعزل فِي صفة سنة عشر وَألف ثمَّ أُعِيد ثَانِيًا فِي ثَانِي عشري رَجَب سنة إِحْدَى عشرَة وعزل بعد إِحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ أُعِيد ثَالِثا فِي عَاشر الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وعزل فِي ربيع الآخر سنة خمس عشرَة ثمَّ أُعِيد رَابِعا فِي رَجَب من هَذِه السّنة وعزل فِي صفر سنة سبع عشرَة وَاتفقَ لَهُ فِي إِحْدَى هَاتين الْأَخِيرَتَيْنِ أَن وَالِدَة السُّلْطَان كَانَت رجت من ابْنهَا تَوْجِيه الْفتيا للْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين فَأخذ الْقَلَم وَكتب التَّوْجِيه وَدفعه إِلَيْهَا فرأته كتب مَكَان الِاسْم صنع الله فراجعته ثَلَاث مَرَّات وَفِي الْجَمِيع يجْرِي الْقَلَم بصنع الله وَهُوَ يعْتَذر عَن ذَلِك بِأَنَّهُ عَن غير قصد فَفِي الثَّالِثَة قَالَت لَهُ اعْتمد على مَا كتبت وَليكن الموجه إِلَيْهِ صنع الله فَأرْسل الْخط الشريف إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة وصيره مفتياً وَهَذِه الاتفاقية غَرِيبَة جدّاً وَحكى أَنه مرّة وجهت الْفَتْوَى إِلَى رجل أَبَاهُ الْقَوْم فأشاروا إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة بِأَن يطْلبهَا لنَفسِهِ فَقَالَ كَيفَ يكون ذَلِك فَقَالُوا تبْعَث إِلَى السُّلْطَان تطلب مِنْهُ ذَلِك فَقَالَ لَا حَاجَة بِنَا إِلَى أَن نرسل أحدا ونطلب ذَلِك بالواسطة ونطلب وَنحن مستقرون فِي مَكَاننَا فَلم تمض هنيئة إِلَّا وسلحدار السُّلْطَان جَاءَهُ بالتقليد وَلما عزل فِي الْمرة الْأَخِيرَة أَرَادَ الْحَج فورد الشَّام يَوْم الْأَرْبَعَاء مستهل شهر رَمَضَان سنة تسع عشرَة وَكَانَ منزوياً قل أَن يجْتَمع بِأحد وَكَانَ إِمَام الْمَقْصُورَة الشَّافِعِي يُصَلِّي الْعشَاء فِي أول الْوَقْت وَيُصلي بعده الإِمَام الْحَنَفِيّ فَقَالَ يُصَلِّي الْحَنَفِيّ أَولا لِأَنَّهُ على مَذْهَب السُّلْطَان وروجع فِي ذَلِك فَلم يفعل فصلى إِمَام الْحَنَفِيَّة أَولا ثمَّ إِمَام الشَّافِعِيَّة فِي لَيْلَة الْجُمُعَة لَيْلَة عيد الْفطر وَكَانَ قدم مَعَه صهره زوج ابْنَته قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام نوح بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ فأبرم ذَلِك وَبَقِي الْأَمر على ذَلِك مُدَّة ثمَّ بَطل الشَّافِعِي الْمُرَتّب من صَلَاة الْعشَاء وَبَقِي الْحَنَفِيّ وَحده وَأهل جيلنا لم يدركوا إِلَّا الْحَنَفِيّ وَحده وَكَانَ أَحْمد بن شاهين مدح صَاحب التَّرْجَمَة بقصيدة تقدم طرف من خَبَرهَا فِي تَرْجَمَة البوريني وَذكرنَا مطْلعهَا وَهُوَ
(حيّ الْمنَازل بالنقافز رَود ... فالرقمتين فعهدنا الْمَعْهُود)
فَعَن لي أَن أثبت مِنْهَا هُنَا بعض أبياتها لحسنها وَبعد المطلع
(وَأنزل فَإِن ثرى معافرة الْهوى ... ليجل عَن وَطْء المهاري الْقود)(2/257)
(واحبس مطيك دون منعرج اللوى ... سطراً صَحِيفَته بَيَاض البيد)
(وأفض فديتك فِي الحَدِيث كَأَنَّهُ ... نظم الْعُقُود فَأَنت جيد عقيد)
(واستفت غادية الصِّبَا هَل صافحت ... حوذان أفنية المهاة الرود)
(وتحرشت بالأقحوان يَنُوب عَن ... برد بفيها كالخباب برود)
(وتلطفت حَتَّى انبرت بخبائها ... وَهنا تسر لبانة المعمود)
(وسرت بلَيْل بَين أتراب لَهَا ... كَالْعَيْنِ من سرب الظباء الغيد)
(فتناوشت طرزاً وبثت عنبراً ... وتلاعبت بذوائب وقدود)
(من كل سَاحِرَة الْعُيُون لحاظها ... يسبين كل متيم مجهود)
(أسفرن بَين ذوائب أسبلنها ... كالزهر تشرق فِي اللَّيَالِي السود)
(لم أُنْسُهَا من بَينهُنَّ وَقد أَتَت ... سدراء فِي حلى لَهَا وبرود)
(تختال من شرخ الشبيبة وَالصبَا ... زهواً كخود البانة الأملود)
(ونضت كَمَا شَاءَت وَشاء لي الْهوى ... عَن رَوْضَة من نرجس وورود)
(فَنَهَضت مسلوب الحشاشة مقسمًا ... إِلَّا وطِئت محاجري وخدودي)
(بتنا وأثلثنا العفاف وبيننا ... عتب كمبسمها ونظم عقودي)
(سامرتها وَاللَّيْل شَاب عذاره ... كبياض خطّ شيب بالتسويد)
(تَشْكُو صبابتها وأشكو صبوتي ... شكوى العميد من الْهوى لعميد)
(حَتَّى بدا فلق الصَّباح كَأَنَّهُ ... من وَجه صنع الله بَحر الْجُود)
(مفتي الْأَنَام وَسيد الْعلمَاء من ... أَلْقَت إِلَيْهِ أزمة التَّقْلِيد)
(الْمُفْرد الْعلم الَّذِي أَوْصَافه ... جلت عَن التَّعْرِيف والتحديد)
(باهت دمشق الرّوم مُنْذُ تشرفت ... بورود هَذَا الطالع المسعود)
(كل الموَالِي ثمَّ كالأيام إِذْ ... أضحى هُنَا مِنْهَا كَيَوْم الْعِيد)
(مولى الموَالِي دَعْوَة من خَادِم ... دَاع لعز علاك بالتخليد)
(أجريت فِي مسراك بحراً زاخراً ... غصت بفائضه عراص البيد)
(وحملت نوحًا فِي سفينة شَرعه ... حَتَّى اسْتَوَت بِدِمَشْق فَوق الجودي)
(فجلا ظلام الظُّلم عَنْهَا واكتست ... أنوار صبح الْعدْل والتوحيد)
من جُمْلَتهَا
(مَاذَا أَقُول وَأَنت صنع الله من ... قد خص فِي الآراء بالتسديد)
(إِن الَّذِي يَرْجُو لفضلك غَايَة ... ليروم شَيْئا لَيْسَ بالموجود)(2/258)
(وَلَئِن مدحتك بِالَّذِي هُوَ مُمكن ... من طَاقَة الْمَخْلُوق يَا ذَا الْجُود)
(فَلَقَد رسفت بفكرة قد أوشكت ... تثنى عَلَيْك لشاعر مَعْدُود)
(وإليكها عذراء مل يَد المنى ... تصف البراعة وَهِي بكر قصيد)
مِنْهَا
(فِي كل بَيت من بديع بَيَانهَا ... غرر لديك على الحسود شُهُود)
(إِن يصدح الْبَازِي على عذباتها ... فخراً فَبِي لَا عَن أبي وجدودي)
(هِيَ جنَّة المأوى بمدحك سَيِّدي ... تزدان لَا بشقائقٍ وورود)
(لَا زلت قطب مدَار أفلاك العلى ... فِي أنعم ومسرة وسعود)
(مَا حبرت وشياً يراعة بارعٍ ... وجنى ثمار الْمَدْح فكر مجيد)
ثمَّ حج وَرجع من طَرِيق الشَّام أَيْضا إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا وَلم يل منصباً إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف بعلة البرسام رَحمَه الله تَعَالَى
صنع الله بن محب الله بن مُحَمَّد محب الدّين بن أبي بكر تَقِيّ الدّين بن دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْخَالِق بن عبد الرَّحْمَن المحبي الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ عمي شَقِيق وَالِدي وَكَانَ لي مَكَان وَالِدي فَإِن أبي سَافر إِلَى بِلَاد الرّوم وعمري إِحْدَى عشرَة سنة فتقيد بِي ورباني وأقدمني على الطّلب وَجعل أهم أمره أَمْرِي وَكَانَ جزاه الله تَعَالَى عني خيرا برا بِي شفوقاً عَليّ مرِيدا لي كل خير عَاجل وآجل وَمَا عَاهَدت مِنْهُ لَحْظَة مَا إساءة أَو مقتاً بل كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى يألم لما آلم مِنْهُ وينشرح لما أنشرح لَهُ بل يغْضب لغضبي ويرضى لرضائي وعَلى كثير من مناهجه فِي التودد نهجت وعَلى آدابه وَحسن طويته درجت وَكَانَ بل الله ثراه بوابل الغفران لطيف الطَّبْع حمولاً فَاضلا كَامِلا طارحاً للتكلف حسن الْعشْرَة متودداً وَكَانَ أَبوهُ فيحياته يُحِبهُ كثيرا فربى عَزِيزًا مكرماً وَلما مَاتَ أَبوهُ كَانَ عمره عشر سِنِين فرباه أبي وتقيد بِهِ وَكَانَ لَهُ إِلَيْهِ محبَّة لم أرها من أحد وَلم أسمع بِمِثْلِهَا وَكَانَ هُوَ كَذَلِك وَكَثِيرًا مَا كنت أسمعهُ يَقُول أَرْجُو الله تَعَالَى أَن لَا يريني يَوْم موت أخي وأكون أَنا السَّابِق عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ حَتَّى قدر الله أَنه مَا رأى يَوْم مَوته لَكِن لَا لمَوْته قبله بل لِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا فِي بِلَاد الرّوم وَقد اشْتغل بِالْعلمِ كثيرا فِي مباديه فَقَرَأَ على الشَّيْخ أَحْمد القلعي وعَلى شَيخنَا النَّجْم الفرضي وعَلى غَيرهمَا وناب فِي الْقَضَاء بمحاكم دمشق كالكبرى وَالْقِسْمَة والميدان والعونية وَصَارَ نَائِبا بالقدس فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف ثمَّ إِنَّه سَافر إِلَى الرّوم وَصَارَ قَاضِيا بحمص وَرجع إِلَى الشَّام وَكَانَ بِالشَّام إِذْ ذَاك شيخ(2/259)
الْإِسْلَام مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البرسوي وَقد رَجَعَ من الْحَج فَجَاءَهُ قَضَاء الْقُدس فَتوجه مَعَه وخدمه فِي نِيَابَة غَزَّة ثمَّ قدم فِي خدمته إِلَى الشَّام بعد أَن عزل وَكَانَ أَمر بالتوجه إِلَى وَطنه بروسه فصحبه إِلَى الرّوم وسافرت أَنا مَعَهم ودخلنا بروسة فِي خدمَة الْمولى الْمَذْكُور ثمَّ فارقناه وتوجهنا بحراً إِلَى نَاحيَة أدرنة والدولة إِذْ ذَاك بهَا فوصلناها وأقمنا بهَا مُدَّة ثمَّ لما توجه السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى قسطنطينية جِئْت أَنا وإياه إِلَيْهَا فولي بهَا قَضَاء معرة المصريين وَتوجه إِلَيْهَا وضبطها وَرجع إِلَى الرّوم وَأَنا مُقيم بهَا ثمَّ أعْطى قَضَاء معرة المصريين ثَانِيًا وسافر إِلَيْهَا فصحبته فِي الطَّرِيق إِلَى أَن وصلنا إِلَى أنطاكية ثمَّ افترقنا وَلم يقدر الله تَعَالَى بعد ذَلِك اجتماعاً فَإِنِّي قدمت إِلَى دمشق وألقيت بهَا عَصا الترحال وَوصل هُوَ إِلَى قَضَائِهِ وَضبط المنصب وعزل عَنهُ ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم وَولي قَضَاء سرمين وَوصل إِلَيْهَا فَتوفي بهَا وَهُوَ قَاض وَكَانَت وَفَاته فِي ثامن شهر رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين وَألف عَن سِتِّينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الضَّاد الْمُعْجَمَة خَالِي)
(حرف الطَّاء الْمُهْملَة المشالة)
طعيمة الصعيدي الْمصْرِيّ الصُّوفِي الْكَبِير كَانَ مؤدب الْأَطْفَال بأشمون الصَّعِيد نظر فِي الْعُلُوم وَتكلم فِي الْكَلَام واشتغل بِمذهب الشَّافِعِي على جهابذة الْعلمَاء وَطَاف الْبِلَاد وَغلب عَلَيْهِ الْحَال وَعَكَفَ على التصوف وَلَقي من الْقَوْم رجَالًا وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الْأَعْيَان ونوه بِذكرِهِ بعض عُلَمَاء وقته وَصَارَ كالشيخ مُحَمَّد بن الترجمان الْآتِي ذكره فِي طَائِفَة من معتقديه ومتبعيه وَمن كراماته مَا ذكره بَعضهم أَنه كَانَ يتهجد بِالْقُرْآنِ وَيمْكث اللَّيَالِي وَالْأَيَّام يَأْكُل وَيشْرب وَلَا يحْتَاج للتوجه للبراز وَلم يزل على هَذَا الْحَال إِلَى أَن توجه لزيارة الْقُدس فَقتله بعض أَرْبَاب الْحَال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس بعد الْألف قلت كثيرا مَا يذكر المؤرخون أَن فلَانا قتل بِالْحَال وَشبهه وَفِي سُؤال مَشْهُور فِي كتب الشَّافِعِيَّة أَنه هَل يجوز الْقَتْل بِالْحَال وَهل فِيهِ قصاص أم لَا فِي التُّحْفَة لِابْنِ حجر تَفْصِيله وَأما عُلَمَاؤُنَا الْحَنَفِيَّة فَلم أر لَهُم فِيهِ شَيْئا وَالله أعلم
طه بن صَالح بن يحيى بن قَاضِي الْقُضَاة وَشَيخ الْإِسْلَام نجم الدّين أبي البركات مُحَمَّد المكنى بِأبي الرِّضَا الديري الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ أَخذ الْعلم عَن مَشَايِخ عدَّة أَجلهم الشَّيْخ رَضِي الدّين اللطفي مُفَسّر الْقُرْآن وَكَانَ معيداً لدرسه التَّفْسِير بِالْبَابِ القبلي فِي الصَّخْرَة وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي علم الْأُصُول والنحو وَالتَّفْسِير وَولي نِيَابَة الحكم وَكِتَابَة الصكوك بالقدس من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَحج(2/260)
وَولي نِيَابَة الحكم بِمَكَّة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأخذ الحَدِيث بِمَكَّة عَن مُحَمَّد بن عَلان الْبكْرِيّ الصديقي الشَّافِعِي وَكتب لَهُ إجَازَة مؤرخة بأواخر شهر رَمَضَان سنة أَربع وَأَرْبَعين ثمَّ عَاد إِلَى الْقُدس وانعكف بِمحل سكنه الْمدرسَة الفارسية بِطرف الْمَسْجِد الْأَقْصَى من الْجِهَة الشمالية يُفِيد السَّائِلين وَيقْرَأ الدُّرُوس بِالْمَدْرَسَةِ الفارسية كالهداية وَغَيرهَا من كتب الْفِقْه وأقرأ آخر أمره البُخَارِيّ فِي كل يَوْم بالصخرة الشَّرِيفَة بعد صَلَاة الْعَصْر نَحوا من سبع سِنِين وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بعد صَلَاة الْعشَاء حادي عشر شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بتربة مأمن الله مُقَابلا لقبر الإِمَام الْكَمَال بن أبي شرِيف وَكَانَ لَهُ مشْهد حافل رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الظَّاء الْمُعْجَمَة)
طَاهِر الشَّافِعِي مفتي عانة والخرث من أَرض الْعرَاق كَانَ فَقِيها مشاركا فِي عدَّة فنون ورد دمشق وَحج مِنْهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَاده فَتوفي بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي بضع عشرَة بعد الْألف
ظهير الدّين الْحلَبِي القَاضِي الأديب الشَّاعِر الْفَائِق قَالَ البديعي فِي وَصفه أديب فَضله ظهير وفاضل مورد أدبه نمير تردد مرَارًا إِلَى الرّوم ونثل كَائِن المنثور والمنظوم وَاجْتمعَ بِهِ الشهَاب الخفاجي وَهُوَ بالروم وَذكر أَنه أنْشدهُ قَوْله من قصيدة نبوية
(نسيم الصِّبَا من لعلع ونواحيه ... سرت فأزالت صَبرنَا من صياصيه)
(وَمن بارق شام المتيم بارقا ... بدا فتداعى شوقه من أقاصيه)
(وَمن ذكر أَيَّام العذيب تكدرت ... مشارب صب قل عَنهُ مناجيه)
(إِذا قفل الْحجَّاج زَاد ولوعه ... وَأرْسل دمعا قانيا من مآقيه)
(وَبِي من غَدا يختال فِيهَا بعجبه ... وطلعته سَكرَان من خمرة التيه)
(وَفِي الْقرب أخشاه وَفِي الْبعد قاتلي ... فوا حَربًا من بعده وتدانيه)
(يفوق من جفنيه للحرب أسهما ... بأوهنها يَرْمِي الكمى فيصميه)
(بذلت لَهُ روحي فَأَعْرض معجبا ... وَقَالَ أملكي عَاد ملكك تهديه)
(وبالشعب من وَادي النقا خير جيرة ... غَدَتْ بغيتي وَالله من غير تمويه)
(إِذا ذكرُوا يرتاح قلبِي كَأَنَّمَا ... أَتَت نَحوه تنقاد قسرا أمانيه)(2/261)
وَأنْشد لَهُ التقى الفارسكوري فِي كِتَابه المدائح قصيدة مدح بهَا شيخ الْإِسْلَام يحيى ابْن زَكَرِيَّا ومطلعها
(أيا عَالما فَضله كَامِل ... وإحسانه للورى شَامِل)
(وَمن هُوَ للْعلم فِي ذرْوَة ... يقصر عَن نيلها الْفَاضِل)
(أُعِيذك من أَن يرى فَاضل ... بدولتكم ذكره خامل)
وَكَانَ قَاضِيا من قُضَاة القصبات بِبِلَاد أناطولي وَولي مناصب عديدة ونسبته ومولده ووفاته لم أطلع عَلَيْهَا مَعَ السُّؤَال إِلَّا أَن هَذِه القصيدة الْأَخِيرَة تدل على أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف فَإِنَّهُ ترجى فِيهَا منصبا من ممدوحه الْمَذْكُور وَهُوَ قَاضِي أناطولي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور
(حرف الْعين الْمُهْملَة)
عَامر بن شرف الدّين الْمَعْرُوف بالشبراوي الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الإِمَام الْهمام الْعَالم الْكَبِير الرحلة كَانَ فِي عصره من الْمشَار إِلَيْهِم بِالْفَضْلِ التَّام وَله بَين عُلَمَاء الْأَزْهَر الْموقع الْعَظِيم لَا يزَال مُحْتَرما موقراً جليل الشَّأْن وَهُوَ من جِهَة وَالِده عريق فِي الْفضل وَمن جِهَة والدته أصيل فِي الْولَايَة فَإِن والدته فَاطِمَة بنت خَدِيجَة بنت الشَّيْخ القطب مُحَمَّد الشناوي أَتَت بِهِ وَهُوَ صَغِير إِلَى الْأُسْتَاذ الْكَبِير عبد الْوَهَّاب الشعراني وَقَالَت لَهُ ادْع لَهُ فَدَعَا لَهُ وَغسل لَهُ يَدَيْهِ بِنَفسِهِ نفع الله تَعَالَى بِهِ روى الْفِقْه عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والنور الزيَادي وَسَالم الشبشيري وَأخذ الحَدِيث عَن أبي النجا سَالم السنهوري وَسمع عَلَيْهِ الْكتب السِّتَّة كملاً وَكَانَ يفتخر بذلك على أقرانه من مَشَايِخ مصر ولازم فِي عُلُوم الْعَرَبيَّة أَبَا بكر الشنواني فِي نَحْو عشْرين سنة وَهُوَ من أجل تلامذته وَأَجَازَهُ شُيُوخه وبرع فِي كثير من الْعُلُوم وَصَارَ أوحد وقته فِي الْفتيا والمرجع فِي القضايا المشكلة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح واستجابة الدُّعَاء وَكَانَ كثير الْعِبَادَة ملازماً للسيرة النَّبَوِيَّة مواظباً على الدُّرُوس والإفتاء وَكَانَ غَايَة فِي الْحِفْظ والاستحضار والإتقان وروى عَنهُ أَنه قَالَ أحفظ أَرْبَعَة عشر ألفية فِي فنون الْعُلُوم وكف بَصَره آخر عمره وَاسْتمرّ على بَث الْعلم ونشره وَاجْتمعَ بِهِ وَالِدي فِي رحلته إِلَى مصر وترجمه بالشيخ الْكَامِل والعالم الْفَاضِل حائز للعلوم والعرفان وفائز بالقدح الْمُعَلَّى من التَّحْقِيق والإتقان علم الْعلم وَالْهَدْي ومنار الْفضل والتقى بِيَدِهِ عنان الفواضل فيمنح بهَا كل مُحْتَاج وَمَالك أزمة الْفَضَائِل فينشرها(2/262)
على كل لائذ وراج زبدة الْعلمَاء الراسخين الأخيار وعمدة الجهابذة المتورعين الْأَبْرَار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بتربة المجاورين هَكَذَا رَأَيْته بِخَط بعض الأفاضل ثمَّ رَأَيْت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل إِبْرَاهِيم الجنيني أَن وَفَاته كَانَت فِي غرَّة الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ثمَّ تحرر عِنْدِي من تَارِيخ الشلي ووفيات الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله أَنه توفّي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فاعتمدت عَلَيْهِ لكَون من تحرر عَنْهُمَا أمس النَّاس بأحوال وفيات عُلَمَاء مصر وَالله أعلم
عَامر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الرشيد بن أَحْمد بن الْأَمِير الْحُسَيْن بن الْأَمِير عَليّ بن يحيى الْعَالم الْبر بن مُحَمَّد الْعَالم التقي بن يُوسُف الأشل بن الدَّاعِي الإِمَام يُوسُف الْأَكْبَر ابْن الإِمَام الْمَنْصُور يحيى ابْن الإِمَام النَّاصِر أَحْمد وَبَقِيَّة النّسَب مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة الإِمَام إِسْمَاعِيل المتَوَكل صَاحب الْيمن ذكره القَاضِي أَحْمد بن صَالح بن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه مطلع البدور وَمجمع البحور فَقَالَ السَّيِّد الشَّهِيد الْعَالم الفريد الْأَمِير الْكَبِير كَانَ فَاضلا رَئِيسا سرياً عالي الهمة عَارِفًا نَهَضَ مَعَ ابْن أَخِيه الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد فنازل الْمُلُوك وطارح الْكِبَار وفل الشَّوْكَة وَعلا صيته وَكَانَت لَهُ مشَاهد عَظِيمَة مَعَ الْأُمَرَاء أهل كوكبان وجنود الأروام وأفضى أمره إِلَى السَّعَادَة على نهج سلفه الْكِرَام غير أَنه زَاد بالمثلة فَإِنَّهُ سلخ جلده وذر عَلَيْهِ الْملح وَلم يزل كل يَوْم يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء حَتَّى انْتهى وقبره بِخَمْر وَكَانَ مَا وصفناه من الْمثلَة بحمومة من أَعمال خمر وَيُقَال إِن رَأسه بِصَنْعَاء وَقد بنى عَلَيْهِ وَلَده عبد الله قبَّة وَله تَرْجَمَة وَضعهَا شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن سعد الدّين وترجمه بعض أحفاده فَذكر شَيْئا من جميل حَاله وَقَالَ مولده سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ على السِّيَادَة وَالطَّهَارَة وَطلب الْعلم وَقَرَأَ على القَاضِي الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن بمحرفة هَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن وَلم يكن مر بسمعي فَائِدَة فَائِدَة أُخْرَى وَقَرَأَ كتب النَّحْو وَالْأَدب والكشاف على السَّيِّد الْفَاضِل عُثْمَان بن عَليّ ابْن الإِمَام شرف الدّين بشبام قبل دَعْوَة الإِمَام الْقَاسِم وَسكن بأَهْله هُنَاكَ يطْلب الْعلم وَلما دَعَا الإِمَام بِبِلَاد قاره كتب إِلَيْهِ فوصل إِلَى شوذة شظب وَتوجه بجُنُوده فَافْتتحَ من بلَاء الْأُمَرَاء آل شمس الدّين كثيرا وَكَانُوا أعضاد الْوَزير الْحسن والكتخدا سِنَان فَمَا زَالَ كَذَلِك من سنة سِتّ وَألف إِلَى سنة ثَمَان وَألف ثمَّ عَابَ فِيهِ جمَاعَة من أهل قاعة وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة هُنَالك وتفرّق(2/263)
عَنهُ أَصْحَابه وَلم يبْق إِلَّا هُوَ وقصده جمَاعَة من الأتراك فأحاطوا بِهِ ثمَّ أسروه وأدخلوه شبام فطافوا بِهِ فِي كوكبان وشبام وأمير كوكبان يَوْمئِذٍ عَليّ بن شمس الدّين ثمَّ إِن عليا بن شمس الدّين أرسل بِهِ مَعَ جمَاعَة من التّرْك إِلَى حمومة من بني صويم إِلَى الكتخدا سِنَان فَأمر أَن يمثل بِهِ فسلخ جلده قَالَ الإِمَام الْقَاسِم وصبر فَلم يسمع لَهُ أَنِين وَلَا شكوى إِلَّا قِرَاءَة قل هُوَ الله أحد وَكَانَ سلخ جلده يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب سنة ثَمَان بعد الْألف ثمَّ إِن سِنَان مَلأ جلده تبناً وَأرْسل بِهِ على جمل إِلَى صنعاء إِلَى الْوَزير حسن فشهر جلده على الدهابر على ميمنة بَاب الْيمن مِمَّا يَلِي الشرق وَسَائِر جسده دفن فحمومة ثمَّ نقل إِلَى خمر بِأَمْر الإِمَام الْقَاسِم وقبره مَشْهُور مزور لَهُ التعظيمات وَالنُّذُور ثمَّ احتال بعض النَّاس فِي الْجلد فأسقطه إِلَى تَحت الداير وَدَفنه على خُفْيَة وَعَلِيهِ ضريح وقبة على يسَار الْخَارِج من بَاب الْيمن وَقد ترْجم لَهُ الإِمَام الْقَاسِم تَرْجَمَة بِخَطِّهِ فِي نُسْخَة الْبَحْر الَّتِي للْإِمَام وَترْجم لَهُ السَّيِّد الْعَلامَة صدر الْعلمَاء أَحْمد بن مُحَمَّد الشرفي وَالْقَاضِي الْعَلامَة أَحْمد بن سعد الدّين ورثاه بقصيدة مِنْهَا
(أزائر هَذَا الْقَبْر حييت زَائِرًا ... ونلت بِهِ سَهْما من الْأجر قامرا)
(وأدّيت حق الْمُصْطَفى ووصيه ... فهنيت لما زرت فِي الله عَامِرًا)
(سليل الْكِرَام الشم من آل أَحْمد ... وَمن كَانَ للدّين الحنيفي عَامِرًا)
(وَعم الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد ... إِمَام الْهدى من قَامَ لله ناصرا)
(وَمن شدّ أزراً مِنْهُ حِين دَعَا إِلَى ... رضى ربه أكْرم بذلك آزرا)
(فقلده الْمَنْصُور سَيْفا مهنداً ... وَكَانَ لَهُ فِي وَجه أعداه شاهرا)
(وَكَانَ لَهُ من موقف شهِدت لَهُ ... أعاديه أَن فاق الْأَوَائِل آخرا)
عَامر بن مُحَمَّد الصباحي نِسْبَة إِلَى بيضًا صباح قَرْيَة مَشْهُورَة فِي مشارف الْيمن تغرب من قرن الْمَنْسُوب إِلَيْهَا أَو بس الْقَرنِي على نَحْو مرحلَتَيْنِ ذكره ابْن أبي الرِّجَال أَيْضا فِي تَارِيخه الْمَذْكُور فَقَالَ القَاضِي الْعَلامَة المذاكر شيخ الْأَئِمَّة ولسان الْفِقْه وإنسان عينه كَانَ وحيد وقته فريد عصره إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي تَحْقِيق الفروغ ينْقل عَنهُ النَّاس ويقررون عَنهُ قَوَاعِد الْمَذْهَب رَحل فِي مبادى أمره إِلَى ذمار وَلَقي شيوخها الْمُحَقِّقين وَحصل على قشف فِي الْعَيْش وَشدَّة فِي الْأَمر يرْوى عَنهُ أَنه كَانَ لَا يملك غير فرو من جُلُود الضَّأْن وَكَانَ إِذا احْتَلَمَ غسله للتطهير ثمَّ يلْبسهُ أَخْضَر(2/264)
لِأَنَّهُ لَا يجد غَيره وَكَانَ مواظباً على الْعلم أَشد الْمُوَاظبَة أَيَّام هَذِه الشدَّة الْمَذْكُورَة وَكَانَ أَبوهُ من أهل الثروة وَالْمَال لكنه حبس وأوذي فِي الله تَعَالَى من قبل الأتراك لموالاته أهل الْبَيْت ثمَّ رَحل القَاضِي إِلَى صنعاء وَأقَام بهَا ودرس ورحل إِلَى شيخ الزيدية إِمَام الْفُرُوع وَالْأُصُول إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود الْحِمْيَرِي إِلَى الظهرين وَكَانَ إِذْ ذَاك بَقِيَّة الْعلمَاء وَله بالتذكرة خُصُوصا فرط الْفِقْه فَطلب القَاضِي عَامر أَن يقرئه فِيهَا فَأَجَابَهُ وَلم يستعد لتدريسه لظَنّه أَنه من عَامَّة الطّلبَة فَلَمَّا اجْتمعَا للْقِرَاءَة رأى فِي القَاضِي عَامر حضارة وحافظية وَمَعْرِفَة كَامِلَة فَقَالَ لَهُ يَا وَلَدي لست بصاحبك الْيَوْم فاترك الْقِرَاءَة فَتَركهَا ثمَّ استعد لَهَا فاستخرج ببحثه من جَوَاهِر علم القَاضِي نفائس وذخائر وعلق بِهِ ثمَّ إِنَّه عاوده بالرحلة إِلَيْهِ للزيارة فَأكْرمه الْفَقِيه صارم الدّين وَأمر النَّاس بإكرامه ورحل إِلَيْهِ من صنعاء لمسئلة وَاحِدَة أشكلت عَلَيْهِ غَابَتْ عني مَعَ معرفتي لَهَا لَوْلَا طول الْعَهْد رُوِيَ أَنَّهَا أشكلت عَلَيْهِ فَلم يبت إِلَّا فِي الطَّرِيق قَاصِدا إِلَى حجه ورحل القَاضِي إِلَى صعدة فَقَرَأَ الحَدِيث على شَيْخه الْوَجِيه عبد الْعَزِيز الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف ببهران وَلَقي الإِمَام الْحسن وَصَحبه وَمَا زَالَ حلفا للصالحات مواظباً على الْخيرَات وَلما دَعَا الإِمَام الْقَاسِم الْمَنْصُور بِاللَّه وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِصَنْعَاء فَخرج إِلَيْهِ وَصَحبه وَقَرَأَ عَلَيْهِ الإِمَام كتاب الشِّفَاء ثمَّ ولي الْقَضَاء بِولَايَة يعز نظيرها فَإِنَّهُ كَانَ من الْحلم والأناة وَالْوَفَاء بِمحل لَا يلْحق وَكَانَ وحيداً فِي الْعلم وصادقاً فِي كل عَزِيمَة قولية أَو فعلية فزاده الله تَعَالَى الْجَلالَة والمهابة فِي المصدور إِذا برز فِي الْجَامِع خضع النَّاس شاخصين إِلَيْهِ مَعَ كَمَال صورته وَطول قامته وَكَانَ لذَلِك الْجلَال الرحماني لَا يحْتَاج للأعوان بل يبرز للْقَضَاء وَإِذا أَرَادَ حبس أحد من أجلاء الرِّجَال وأعيان الدولة الْتفت إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهِ كَائِنا من كَانَ فَأمره بِالْمَسِيرِ بِهِ إِلَى الْحَبْس فَلَا يَسْتَطِيع أحد الِامْتِنَاع عَن أمره وَهُوَ الَّذِي قوى أعضاد الدولة المؤيدية وَكَانَ الصَّدْر يَوْمئِذٍ غير مدافع وَاسْتقر بِحَضْرَة الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُدَّة ثمَّ نَهَضَ إِلَى جِهَة خولان الْعَالِيَة فاستوطن وَادي عَاشر وابتنى بهَا دَارا عَظِيمَة من أحسن الْمنَازل تولى بناءها وَلَده الْعَلامَة الْأَمِير شرف الدّين الْحسن بن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بن عَامر فهيأها للضيوف على قدر ههمته وَكَانَ مضيافاً كَرِيمًا وَلما اسْتَقر القَاضِي بعاشر انْتفع بِهِ الْعَامَّة والخاصة ورحل إِلَيْهِ الْفُضَلَاء للْقِرَاءَة كَالْقَاضِي الْمُحَقق مُحَمَّد بن نَاصِر بن دعيش وَكَانَ أحد رُوَاة أخباره قَالَ وَكَانَ لَا يتْرك الْأَشْرَاف على التَّذْكِرَة فِي الْفِقْه كل يَوْم(2/265)
يطالع فِيهَا وَمن رُوَاة أخباره تِلْمِيذه أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَإِنَّهُ الَّذِي تولى تهذيبه وَكَانَ مُولَعا بِهِ ويخصصه بمزايا حَتَّى إِنَّه كَانَ لَا يقبل فِي مجْلِس الْقِرَاءَة أُمُور يعتادها الطّلبَة إِلَّا من الامام فَكَانَ يقبلهَا مِنْهُ لِكَثْرَة محبته إِلَيْهِ وتنويره وَكَانَ يتَوَلَّى عظائم الْأُمُور ورحل إِلَى صنعاء لعقد عقده بَين الأروام وَالْإِمَام واستنهض الإِمَام لِحَرْب الأروام وَلما كثرت كتب خولان الْعَالِيَة والحدا وَمن قابلهم من قبائل الزيدية إِلَى القَاضِي عَامر يستنهضونه لاستنهاض الإِمَام لِلْخُرُوجِ على التّرْك وَكَانَ الإِمَام قد فعل لكنه احْتَاجَ إِلَى الكتم حَتَّى من القَاضِي على جلالته فَدخل يَوْمًا إِلَيْهِ وعنف الإِمَام فَأخْبرهُ بِأَن أخوته قد خَرجُوا مِنْهُم من جَاءَ من الْمغرب وَهُوَ الْحُسَيْن وَمِنْهُم من جَاءَ من الْمشرق وَهُوَ الْحسن وَمِنْهُم الْمُتَوَسّط بَينهمَا وَهُوَ أَحْمد قَامَ القَاضِي على وقاره وَكبر سنه فحجل كَمَا فعل جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أحد السّنَن المأثورة وَلم يكن بَين وَفَاته وَبَين وَفَاة وَلَده أَحْمد إِلَّا أَيَّام قَليلَة وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن ينْقل وَإِن كَانَ بترجمة وَلَده أَحْمد أليق لكنه اقْتضى الْحَال كِتَابَته هُنَا وَهُوَ أَن أَحْمد بن عَامر لما تمّ لَهُ الْحُضُور مَعَ أَبنَاء الإِمَام فِي حروب زبيد اسْتَأْذن الْحسن بن الْقَاسِم فِي زِيَارَة وَالِده فَقَالَ لَهُ ابْن الإِمَام قد عزمنا على الطُّلُوع جَمِيعًا فَتَأَخر لَهُ يويمات فَرَأى القَاضِي أَحْمد فِي الْمَنَام رجلَيْنِ يَقُول أَحدهمَا للْآخر اقبض روحه فَيَقُول الآخر لَا أَقبض روحه فَإِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا قد سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه إِيَّاه فَلَا أَقبض روحه حَتَّى يصل إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَقر هَذَا فِي ذهنه دخل إِلَى الْحسن وألح عَلَيْهِ فِي الْفَسْخ وَلَعَلَّه أسره بذلك فَأذن لَهُ فطلع حَتَّى وصل إِلَى ذمار وَكَانَ هُنَالك صفي الدّين أَحْمد ابْن الإِمَام فَأكْرمه وعظمه وعول عَلَيْهِ فِي الْإِقَامَة عِنْده أَيَّامًا ليتصحح وَيَزُول عَنهُ وعثاء السّفر وَكثر عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَرَأى القَاضِي الرجلَيْن الْأَوَّلين يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه اقبض روحه فَإِنَّهُ أَبْطَأَ وتراخى وَلم يبْق لَهُ فِي الْأَجَل سَعَة فَأَجَابَهُ الآخر بِمَا أَجَابَهُ بِهِ أَولا فتيقظ القَاضِي لنَفسِهِ وعزم على الْمُبَادرَة فَلَمَّا وصل إِلَى هِجْرَة مشوكان وَهِي بِالْقربِ من وَادي عَاشر مسكن وَالِده فوصل إِلَيْهِ الْقَبَائِل والشيوخ فَإِنَّهُ كَانَ صدر آمن الصُّدُور فصدوه عَن زِيَارَة وَالِده فَرَأى الرجلَيْن فَقَالَ أَحدهمَا مَا قَالَ أَولا وَذكر أَن القَاضِي ترَاخى فَأَجَابَهُ الآخر أجَاب ثمَّ قَالَ يكون لَهُ مهلة حَتَّى يزور وَالِده وَيبقى خَمْسَة أَيَّام ثمَّ نقبض روحه فَتوجه القَاضِي مبادراً إِلَى حَضْرَة وَالِده فَتَلقاهُ(2/266)
وَحصل بِهِ الْأنس ثمَّ أوصى وَصِيَّة عَظِيمَة وَهُوَ كَامِل الْحَواس وَلما كَانَ الْيَوْم الْخَامِس أشعر وَالِده وودعه ثمَّ قبض الله تَعَالَى روحه فَتَوَلّى وَالِده أَعماله وَدَفنه بَقِيَّة هُنَاكَ وَقَامَ كالخطيب فِي النَّاس ووعظهم وَذكرهمْ حَتَّى بَكَى الْحَاضِرُونَ وَكَانَ القَاضِي عَامر لَا يتْرك كل يَوْم وَلَيْلَة ثَلَاثَة أَجزَاء من الْقُرْآن على الإستمرار وَيَدْعُو بِدُعَاء الصَّحِيفَة وَيَقُول أَنا أستحي من الدُّعَاء بِهِ لما فِيهِ من التذلل وَذكر الْبكاء والنحول ولسنا كذالك بتصاغر كَمَا جرت عَادَة الْفُضَلَاء وروى عَنهُ أَنه كَانَ لَهُ راتب لَا سم من أَسمَاء الله تَعَالَى الْحسنى فَحَضَرَ عِنْده خَادِم الأسم فَقَالَ مَا تُرِيدُ مني فَقَالَ مَا أُرِيد مِنْك شَيْئا فَقَالَ هَذَا الْعدَد الَّذِي صرت ترتبه من هَذَا الإسم يَسْتَدْعِي حضوري فَإِن كنت لَا تُرِيدُ إِلَّا الذّكر فزد على هَذَا الْعدَد أَو انقص وَكَانَت وَفَاته فِي حادي عشر شهر رَمَضَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وقبر فِي الْقبَّة الَّتِي قبر فِيهَا عبد الْقَادِر التهامي وقبر فِيهَا وَلَده أَحْمد بن عَامر من أَعمال عَاشر من جِهَة خولان الْعَالِيَة
الشاه عَبَّاس بن سُلْطَان مُحَمَّد خدابنده ابْن طهماسب بن شاه اسمعيل بن سُلْطَان حيدر بن سُلْطَان شيخ جُنَيْد بن سُلْطَان شيخ صدر الدّين إِبْرَاهِيم بن سُلْطَان خواجه عَليّ بن شيخ صدر الدّين مُوسَى بن سُلْطَان شيخ صفي الدّين أبي إِسْحَق بن شيخ أَمِين الدّين جِبْرِيل بن السَّيِّد صَالح بن السَّيِّد قطب الدّين أَحْمد بن السَّيِّد صَلَاح الدّين رشيد بن السَّيِّد مُحَمَّد الْحَافِظ كَلَام الله بن السَّيِّد عوض الْخَواص بن السَّيِّد فَيْرُوز شاه درين كلاه بن مُحَمَّد شرف شاه بن مُحَمَّد بن أبي حسن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر ابْن مُحَمَّد بن إِسْمَعِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْعِرَاقِيّ بن مُحَمَّد قَاسم بن أبي الْقسم حَمْزَة بن الإِمَام مُوسَى الكاظم بن الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق بن الإِمَام مُحَمَّد الباقر ببن الإِمَام عَليّ زين العابدين بن الإِمَام الْحُسَيْن ابْن الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم هَذَا نسب سلاطين الْعَجم الَّذين مِنْهُم صَاحب التَّرْجَمَة وَأول من بَالغ فِي التَّشَيُّع وأظهره سُلْطَان حيدر وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سِتّ وَتِسْعمِائَة وَقيل فِي تَارِيخه مَذْهَبنَا حق ويروي أَن بعض أهل السّنة سمع هَذَا التَّارِيخ فَقَالَ مَذْهَب نَا حق على النَّفْي فَإِن نَا فِي الْفَارِسِي أَدَاة نفي وَمن ذَلِك الْعَهْد هَاجر كثير من أهل السّنة الَّذين فِي بِلَادهمْ إِلَى كثير من الْبِلَاد وتغلبت سلاطين بِلَادنَا العثامنة على مُلُوكهمْ من عهد السُّلْطَان سليم الأول فَإِنَّهُ ركب على شاه إِسْمَعِيل وَأخذ مِنْهُ بِلَاد أوقهرة وَكَذَلِكَ فعل السُّلْطَان سليم الثَّانِي فَأَنَّهُ جهز عَلَيْهِم جَيْشًا فَأخذُوا مِنْهُم تبريز وشروان وكيلان(2/267)
وروان وَكَثِيرًا من القصبات والولايات واستمروا مغلوبين إِلَى أَن ظهر شاه عَبَّاس صَاحب التَّرْجَمَة فولى السلطنة بخراسان فِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مَكَان وَالِده فِي حَيَاته وَكَانَ جُلُوسه بقزوين لكَون وَالِده كَانَ أعمى وَقد استولت فِي أَيَّامه أُمَرَاء قزلباش على الدولة واتخذوها حصصاً فسفك فيهم واستقل بِالْأَمر وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره يدارى طرف آل عُثْمَان وَيُرْسل ابْن أَخِيه حيدر بالهدايا والتحف إِلَى أَن مَاتَ ملك الأوزبك أوزبك خَان وَولده عبد الْمُؤمن فِي سنة عشر بعد الْألف وَكَانَ مُلُوك الأوزبك أخذُوا من خُرَاسَان بلاداً فاستخلصها وَاحِدَة بعد وَاحِدَة ثمَّ قصد جِدَال عُثْمَان لما كَانَ وَقع من الاختلال بِسَبَب الجلالية الَّذين ظَهَرُوا فِي زمن السُّلْطَان أَحْمد وَنقض الْعَهْد الَّذِي بَينه وَبينهمْ وحاصر مملكة تبريز وروان وَاسْتولى عَلَيْهِمَا ثمَّ أَخذ قندهار من بِلَاد الْهِنْد وَاسْتولى على خوارزم وكيلان وسجستان ثَلَاثَة وَأَرْبَعين سنة وَكَانَ سُلْطَانا صَاحب جاش وَقُوَّة مكر غداراً محتالاً فاسترد بعض الْبِلَاد وتقوى فِي الْعَسْكَر وَالْعدة فَأخذ بَغْدَاد من يَد آل عُثْمَان وَقد قدمنَا سَبَب أَخذه لَهَا وَإنَّهُ كَانَ الْفَاعِل لذَلِك بكر كَبِير عسكرها وَإِن الشاه دَخلهَا بمخامرة مِنْهُ وَمن ابْنه مُحَمَّد وَفعل مَا فعل فِيهَا وَفِي أَهلهَا وَكَانَ أَخذه لَهَا فِي ثَالِث شهر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف واستمرت فِي يَده إِلَى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين فَأَخذهَا من يَده السُّلْطَان مُرَاد وَسَنذكر خبر أَخذهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان مُرَاد الْمَذْكُور وَمن ذَلِك الْعَهْد لزم شاه عَبَّاس حَدهمْ الْأَصْلِيّ الَّذِي كَانَ فِي زمن الشاه اسماعيل وَلم يتجاوزه لَا هُوَ وَلَا أبناؤه إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَطَالَ عمره فِي السلطنة وَبلغ من الْعِزَّة وَالْحُرْمَة نِهَايَة أمانيه وخدمه أجلاء الْعلمَاء فِي مناصبه مِنْهُم الشَّيْخ الاستاذ مُحَمَّد بهاء الدّين بن حُسَيْن الْحَارِثِيّ الْهَمدَانِي الشَّامي فَإِنَّهُ كَانَ مفتيه ومشيد أَرْكَان دولته وباسمه ألف كثيرا من كتبه ورسائله ونوه بِهِ وَقد رَأَيْت فِي بعض كتبه غَرِيبَة حَكَاهَا فِي سِيَاق ذكره قَالَ إِن سُلْطَان زَمَاننَا خلد الله ملكه وأجرى فِي بحار التَّأْبِيد فلكه عرض لَهُ يَوْمًا فِي مصيده خِنْزِير عَظِيم الجثة طَوِيل السن الْخَارِج فَضَربهُ بِالسَّيْفِ ضربه نصفه بهَا نِصْفَيْنِ ثمَّ أَمر بقلع سنه والاتيان بهَا إِلَيْهِ فَوجدَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا لفظ الْجَلالَة بِخَط بَين مُثبت ناتىء مِنْهَا فَحصل لَهُ وَلنَا وَلمن حضر المصيدة من الْعَسْكَر الْمَنْصُور نِهَايَة الْعجب فَإِن ذَلِك من أغرب الغرائب وَلما أرانيها أدام الله نَصره وتأييده قَالَ لي كَيفَ يجْتَمع هَذَا مَعَ نَجَاسَة(2/268)
الْخِنْزِير فَقلت لَهُ إِن السَّيِّد المرتضى قَائِل بِطَهَارَة مَا لَا تحله الْحَيَاة من نجس الْعين وَوُجُود هَذَا الْخط على هَذَا السن رُبمَا يُؤَيّد كَلَامه طَابَ ثراه فَإِن السن مِمَّا لَا تحله الْحَيَاة انْتهى وَمن المقربين إِلَيْهِ من الحذاق الْحَكِيم شفائي وَكَانَ حكيمه وطبيبه ونديمه الْخَاص وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعاً مليح التخيل وَكَانَ عِنْد الشاه فِي المكانة المكينة ثمَّ غضب عَلَيْهِ فحمى ميلًا حديداً وكحله بِهِ فأعماه وأبعده عَن مَجْلِسه وأحواله وأموره غَرِيبَة جدا وَمِمَّا يحْكى عَنهُ فِي بَاب اللطائف والنكات مِمَّا يستظرف وأبدعها مَا كَانَ يَقع لَهُ مَعَ الرَّسُول الْمُرْسل إِلَيْهِ من طرف سلطاننا السُّلْطَان مُرَاد الْمُسَمّى بإنجيلي جاويش وَكَانَ طلق اللِّسَان حَاضر الْجَواب نِهَايَة فِي اللطائف والأعاجيب وَكَانَ الشاه يبتدره بمخترع من الْفِعْل أَو القَوْل ويقصد بذلك الأزراء بِجَانِب سلطاننا فَيُجِيبهُ عَنهُ بِأَحْسَن جَوَاب يدْفع بِهِ ذَلِك الأزراء وَرُبمَا قلت عيانه فأزرى بِطرف الشاه وَكَانَ الشاه يعجب من تيقظه وينتقل مَعَه انتقالات عَجِيبَة خَارِجَة عَن هَذَا الأزراء وَمن جُمْلَتهَا أَنه جلس الشاه يَوْمًا على حرف جبل فِي الصَّحرَاء والجاويش الْمَذْكُور عِنْده فَقَالَ لَهُ الشاه أتحبني فَقَالَ لَهُ نعم فَقَالَ إِن كنت تحبني فارم بِنَفْسِك من هَذَا الْجَبَل إِلَى تَحت فَقَامَ وَمَشى مَسَافَة بعيدَة إِلَى ظهر الْجَبَل ثمَّ رَجَعَ وَهُوَ يرْكض حد الركض حَتَّى انْتهى إِلَى طرف الْجَبَل ثمَّ وقف فَقَالَ لَهُ الشاه مَالك فَقَالَ محبتي لَك انْتَهَت إِلَى هَذَا الْمحل وأراها لَا تتجاوز وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وللشاه عَبَّاس فِي سياسة الرّعية وَالرِّعَايَة لجانبهم والذب عَنْهُم وإكرام التُّجَّار الواردين إِلَى بِلَاده من أهل السّنة أَحْوَال مستفيضة شائعة وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يَجِيء من سلسلتهم مثله وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف بدار ملكه مَدِينَة أصفهان وَدفن بأردبيل فِي تربة الشَّيْخ صفي الدّين وَكَانَ عمره ينيف عَن السّبْعين
عبد الْأَحَد الشَّيْخ الْبركَة نزل قسطنطينية هُوَ رومي الأَصْل وَلَا أَدْرِي نسبته إِلَى أَي بَلْدَة وَكَانَ خلوتي الطَّرِيقَة وَهُوَ وَالشَّيْخ عبد الْمجِيد السيواسي رَفِيقًا عنان فِي الصّلاح والزهد والمعرفة والإتقان وَكَانَ عبد الْوَاحِد من أَفْرَاد الْعباد مُعْتَقدًا مُعظما مبجلاً وَكَانَ لَهُ مريدون وأذكار وَوعظ ونصيحة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خِيَار الْخِيَار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف بِمَدِينَة قسطنطينية
عبد الْبَارِي بن مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن حسن بن عمر بن(2/269)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن أَحْمد بن عمر بن الشَّيْخ عَليّ الأهدل اليمني السَّيِّد الْجَلِيل الْوَلِيّ كَانَ من الكملاء الْمَشْهُورين جواداً مبذول النِّعْمَة وافر السخاء وَله فَضَائِل عديدة وأفعال حميدة وَصيته بِبِلَاد الْيمن شَائِع ذائع بِالْفَضْلِ وَالْكَرم وَكَانَت وَفَاته فِي حادي عشري ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف بقرية المراوعة وَدفن بهَا عِنْد أجداده بن الأهدل وَحصل عَلَيْهِ الأسف الْعَظِيم رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن السمان الدِّمَشْقِي نزيل قسطنطينية صاحبنا الْفَاضِل الأديب الألمعي البارع كَانَ مفرط الذكاء قوي الحافظة وَله الِاطِّلَاع التَّام على أشعار الْعَرَب الخلص وأيامهم وأمثالهم وَكَانَ يحفظ مِنْهَا شَيْئا كثيرا وَقد عاينته مَرَّات وَهُوَ يسْرد من أشعارهم ألف بَيت أَو أَكثر من غير أَن يزِيغ عَن نهجه أَو يشرق بريقه وَكَانَت فكرته جَيِّدَة فِي النَّقْد والغوص على الْمعَانِي وَحسن التَّأْدِيب وَله تصانيف كَثِيرَة لم يكمل مِنْهَا إِلَّا شرح الْأَسْمَاء الْحسنى وَشرح شَوَاهِد الجامي ومختصر التَّهْذِيب فِي الْمنطق وَكَانَ شرع فِي كتاب سَمَّاهُ سرقات الشُّعَرَاء كتب مِنْهُ حِصَّة يسيرَة وَلَو تمّ لجاء كتابا عجيباً وَجمع سَبْعَة مجاميع بِخَطِّهِ تحتوي على كل تَحْقِيق وأدب وَشرع قريب مَوته فِي الْجَمِيع بَين الصَّحِيحَيْنِ البُخَارِيّ وَمُسلم وَمَات وَلم يكمله وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فِي التآليف وَاقِفًا تَحت قَول المتنبي
(وَلَيْسَ بِأول ذِي همة ... دَعَتْهُ لما لَيْسَ بالنائل)
وَكَانَ فِي أول أمره قَرَأَ النَّحْو وَالْفِقْه بِدِمَشْق على الْفَقِيه الْمَشْهُور أَحْمد القلعي ثمَّ فَارق دمشق وَهُوَ غض الحداثة مقتبل الشبيبة وَدخل الْقَاهِرَة فِي حُدُود سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف واشتغل بهَا على الشَّيْخ عبد الْبَاقِي بن غَانِم الْمَقْدِسِي الْآتِي ذكره وعَلى السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَمَوِيّ الْمصْرِيّ وَعَلِيهِ تخرج فِي الْأَدَب وبرع ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى الرّوم وتصرفت بِهِ أَحْوَال كَثِيرَة وأسفار عديدة وَلم يبْق بَلْدَة من أُمَّهَات بِلَاد الرّوم حَتَّى دَخلهَا وَوصل إِلَى جَزِيرَة كريد والوزير الْفَاضِل منازلها فمدحه بقصيدة ومطلعها
(أخف النَّوَى مَا سهلته الرسائل ... وَأحلى الْهوى مَا كررته العواذل)
يَقُول فِيهَا
(يعيرني قومِي بقومي ومحتدي ... كَمَا عيب بالعضب الصَّقِيل الحمائل)
(أجل حسدوني حَيْثُ فضلت دونهم ... وَكم حسدت فِي النَّاس قبلي الأفاضل)(2/270)
(وَمَا الْفَخر بالأجسام وَالْمَال والعلى ... وَلَكِن بأنواع الْكَمَال التَّفَاضُل)
(وَمن يَك أعمى الْقلب يلْزم بقوله ... كَمَا يحذر الْأَعْمَى الْعَصَا إِذْ يُقَاتل)
(وَمَا يصنع الْإِنْسَان يَوْمًا بنوره ... إِذا عادلت فِيهِ النُّجُوم الجنادل)
(وفيم نضيع الْعُمر فِي غير طائل ... إِذا مَا اسْتَوَى فِي النَّاس قس وباقل)
(وأصعب مَا حاولت تثقيف أَعْوَج ... وأثقل شَيْء جَاهِل متعاقل)
(إِذا جَاءَ نقاد الرِّجَال من الوغى ... تميز عَن أهل الْكَمَال الأراذل)
(عنيت الْوَزير بن الْوَزير الَّذِي بِهِ ... تذل وتعنوا للشعوب الْقَبَائِل)
ومدح أَخَاهُ الْفَاضِل مصطفى بقصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(بِالنَّفسِ يسمح من أَرَادَ نفيسا ... وَالْحب أول مَا يكون رسيسا)
وكلا القصيدتين قد ذكرتهما فِي تَرْجَمته فِي كتابي النفحة فَلَا نطيل هُنَا الْكَلَام بهما فَأَنا نذْكر لَهُ هُنَا غَيرهمَا وكل جَدِيد لَهُ لَذَّة وأجيز على هَاتين جَائِزَة سنية وَوصل من الجزيرة الْمَذْكُورَة إِلَى سلانيك ويكى شهر وَالسُّلْطَان مُحَمَّد ثمَّة فَكَانَ خَاتِمَة مطافه أَن بلغ خَبره السُّلْطَان فاتخذه نديماً وفاز مُدَّة بعطاياه الطائلة وَلم يطلّ أمره فِي المنادمة فَأعْطى مدرسة بقسطنطينية وَأبْعد عَن الدولة إِلَيْهَا فَألْقى رَحْله بهَا واتخذها دَار قراره وَمجمع أَسبَابه وأحبه كبراؤها ومالوا إِلَيْهِ خُصُوصا المرحوم الْأُسْتَاذ عزتي قَاضِي الْعَسْكَر فَإِنَّهُ أقبل عَلَيْهِ بكليته وَكَانَ يمده بعطاياه وافرة وَلما دخلت قسطنطينية فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف رَأَيْته وَهُوَ مدرس الفتحية برتبة مَوْصُولَة الصحن فاتحدت مَعهَا اتحاداً لم يتَّفق لي مَعَ أحد غَيره لما كنت أشاهد مِنْهُ من الْمحبَّة والصدق الَّذِي لَا مزِيد عَلَيْهِ وَأَنا مُنْذُ توفّي إِلَى الْآن أذكر صنائعه من الْمَعْرُوف معي فَلَا أعرف نهايتها وأقصر عَن أَدَاء حَقّهَا بيد أَنِّي أَرْجُو الله أَن يجْزِيه عَن حسن محبته لي أحسن جَزَاء وأعظمه وَاتفقَ لي مَعَه محاورات ومخاطبات كَثِيرَة فَمن ذَلِك أَنِّي أنشدته يَوْمًا قولي
(ومقرطق ترف الْأَدِيم تخاله ... كالغصن قد لعب النسيم بقده)
(ويكاد أَن شرب المدامة أَن يرى ... مَا مر مِنْهَا تَحت أَحْمَر خَدّه)
فأنشدني مرتجلاً قَوْله
(ومهفهف لَوْلَا جفون عيونه ... خلنا دم الوجنات من ألحاظه)
(وتكاد تقْرَأ من صفاء خدوده ... مَا مر خلف الخد من أَلْفَاظه)(2/271)
وَسَأَلته عَن نُكْتَة تَخْصِيص الْمُؤمن فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله فَأجَاب مرتجلاً
(الْجِسْم بَيت وقنديل الْفُؤَاد بِهِ ... والقبة الرَّأْس فِيهَا المقلة الْجَام)
(فَإِن غَدا فِيهِ نور الْحق متقداً ... أَضَاء أَرْكَانه والجام نمام)
(فالعارفون بِنور الله إِذْ نظرُوا ... صحت فراستهم وَالنَّاس أَقسَام)
وَركبت مَعَه الْبَحْر يَوْمًا فِي زورق وتوجهنا إِلَى الْمَكَان الْمَعْرُوف ببشكطاش فَأَنْشَدته بالمناسبة قَول ابْن ملطية
(وزورق أبصرته عائماً ... وَقد تمطى ظهر دأماء)
(كَأَنَّهُ فِي شكله طَائِر ... مدّ جناحيه على المَاء)
ثمَّ انجرت المصاحبة إِلَى تعداد أَنْوَاع السفن وأسمائها حَتَّى ذكر الْغُرَاب وَهُوَ الْمركب الطَّوِيل الَّذِي يسير بالمجاديف فَأَنْشد فِيهِ قَول ابْن الساعاتي
(وَلَقَد ركبت الْبَحْر وَهُوَ كحلبة ... وَالْمَوْت تحسبه جياداً تركض)
(كم من غراب للقطيعة أسود ... فِيهِ يطير بِهِ جنَاح أَبيض)
ثمَّ ذكر لي أَن بعض النَّاس توهم أَن تَسْمِيَة هَذَا النَّوْع من السفن بالغراب مترجم عَن اسْمه بالتركية لِأَن اسْمهَا عِنْدهم تادرغة فظنها قارغة وَهُوَ بالتركية الْغُرَاب قَالَ وَأقَام المتوهم النكير على المترجم من كَونه وهم لتقارب الْأَلْفَاظ اتِّفَاقًا وَلم يدر أَن مَا قَالَه هُوَ الْوَهم بل وَجه الْمُنَاسبَة فِي التَّسْمِيَة أَنَّهَا شبهت بالغراب لسوادها وَشبه المجاديف بالأجنحة وَهُوَ حسن ثمَّ رَأَيْت هَذَا الْكَلَام لِلشِّهَابِ الخفاجي فِي كِتَابه طراز الْمجَالِس فَرَاجعه إِن شِئْت وَكتب إليّ هَذِه الأبيات مداعباً فِي أَيَّام برد الْعَجُوز
(بفض بكر وَبشر الْعَجُوز ... يدْفع بعض النَّاس برد الْعَجُوز)
(وَنحن قوم مَا لنا ثروة ... وَلَا نرى فِي الشَّرْع مَا لَا يجوز)
(قهوتنا قهوة بن زكتْ ... تعيد أَيَّام الصِّبَا للعجوز)
(وَعِنْدنَا كانون جمر لقد ... أعَاد فِي كانون قيظا تموز)
(وصحبة طوع يدا للهولا ... تفرقهم أَن خلطوا بالعنوز)
(فانهض إِلَيْنَا نغتنم صُحْبَة ... فالزمن الْجَانِي سريع النُّشُوز)
(وَأعرف النَّاس بِهِ عَاقل ... بلذة قبل التقضي يفوز)(2/272)
(لَا يرتضي الْعَاقِل عَن فرْصَة ... من فرص الدَّهْر بملء الْكُنُوز)
(لَو لم يجنّ الدَّهْر مَا علقت ... عَلَيْهِ فِي رَأس الْهلَال الحروز)
(من غير مَأْمُور وَدم سالما ... لدفع خطب ولحل الرموز)
فَحَضَرت إِلَيْهِ وَكَانَ بمجلسه أحد أَبنَاء الرّوم مِمَّن يَدعِي الْأَدَب فَأخذ فِي بحث أَيَّام الْعَجُوز وَلم سميت بِهَذَا الِاسْم حَتَّى تحرر لنا وَجه التَّسْمِيَة من كتاب لِابْنِ قَاضِي شُهْبَة سَمَّاهُ تطريف الْمجَالِس بِذكر الْفَوَائِد والنفائس وَمُلَخَّص مَا قَالَ فيهم أَنهم زَعَمُوا أَن عجوزاً دهرية كاهنة من الْعَرَب كَانَت تخبر قَومهَا بِبرد يَقع فِي آخر الشتَاء يسوء أَثَره على الْمَوَاشِي فَلم يكترثوا بقولِهَا وجزوا أغنامهم واثقين بإقبال الرّبيع فَإِذا هم بِبرد شَدِيد أهلك الزَّرْع والضرع فَقيل أَيَّام الْعَجُوز وَبرد الْعَجُوز وَقيل هِيَ عَجُوز كَانَ لَهَا سبع بَنِينَ وسألتهم أَن يزوجوها وألحت فَقَالُوا ابرزي للهواء سبع لَيَال حَتَّى نُزَوِّجك فَفعلت وَالزَّمَان شتاء فَمَاتَتْ فِي السَّابِعَة فنسبت إِلَيْهَا الْأَيَّام وَقيل هِيَ الْأَيَّام السَّبْعَة الَّتِي أهلكت فِيهَا عَاد وَلَكِن تِلْكَ ثَمَانِيَة بِنَصّ الْكتاب وَقيل أَيَّام الْعَجز وَهِي آخر الشتَاء وَالله أعلم وكتبت إِلَيْهِ بعد أَيَّام أَدْعُوهُ إِلَى متنزه فِي يَوْم النوروز وأشير إِلَى مَضْمُون أبياته
(أنقذتنا مواسم النوروز ... من عَذَاب الشتا وَبرد الْعَجُوز)
(ألبس الأَرْض من غلائله الْخضر ... فجرت ذيولها فِي الخزوز)
(وَإِذا أشرقت ذكاء حَسبنَا الأَرْض ... أبدت مَا تحتهَا من كنوز)
(فاتركاني من ضرب زيد لعَمْرو ... وَبَيَان الْمَقْصُور والمهموز)
(وَقفا بِي على الرياض قَلِيلا ... لنرى قدرَة الْحَكِيم الْعَزِيز)
(فَكَأَن الْحباب وَالْمَاء فِيهَا ... فضَّة تَحت لُؤْلُؤ مغروز)
(أَيهَا الْفَاضِل الَّذِي يفصل الْبَحْث ... وَلَو طَال بالْكلَام الْوَجِيز)
(لَو جهلناه مَا علمنَا يَقِينا ... محكمات التَّحْرِيم والتجويز)
(أَو رَآهُ الزُّهْرِيّ وَابْن معِين ... أسْند الْعلم عَنهُ كالمستجيز)
(جد بإنجاز مَا وعدت فَلَيْسَ المطل ... عِنْد الْكِرَام كالتنجيز)
(فلدينا من يسحر اللب وَالْعقل ... إِذا مَا شدا من النيريز)
(فاتر الطّرف لَو رَأَتْهُ زليخا ... نسيت ذكر يُوسُف والعزيز)
(حسدت منزلي عَلَيْهِ بقاع الأَرْض ... من جلق إِلَى تبريز)(2/273)
(لَا تكلّف فكري بَيَانا فَلَا ... يُمكن وصف الْجمال بالأرجوز)
(فتعجل فالوقت كالسيف والعاقل ... يدْرِي مَا تَحت ذيل الرموز)
وَلما كنت بأدرنة ورد مِنْهُ كتاب لبَعض أخدانه وَأمره بتبليغ السَّلَام إليّ بِاللِّسَانِ وَاعْتذر عَن عدم إرْسَال كتاب مُسْتَقل إِلَيّ فَكتبت إِلَيْهِ قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(بنفسي من خدره الْمغرب ... هِلَال عَن الْقلب لَا يغرب)
(وَمَا أَنا فِي حبه ثَابت ... تباخل بالكتب أَو يكْتب)
(وَمن لَو وزنت بعشاقه ... رحجتهم والهوى مُتْعب)
(وقيدني الْجُود فِي وده ... فَمَالِي عَن حبه مَذْهَب)
(أَرْجَى لِقَاء رَجَاء الْحَيَاة ... والنجم من قربه أقرب)
(وَيَا من تعجب من رقتي ... حَيَاة قَتِيل النَّوَى أعجب)
(لقد ودعوني فَسَار السرُور ... وَمَا لذلي بعدهمْ مشرب)
(وَلم أر من بعد أنوارهم ... نَهَارا وَلَو أقلع الغيهب)
(وَمَا كنت أَحسب صبري يخون ... ويخدعني برقه الْحَلب)
(وَلَو كنت أملك قلبِي صنعت ... كَمَا صَنَعُوا والهوى أغلب)
وأنشدني يَوْمًا قصيدة غزلية نظمها لم يعلق مِنْهَا فِي خاطري إِلَّا بَيت المطلع وَهُوَ هَذَا
(غُصْن رنحه سكر الدَّلال ... ينثني رَيَّان من مَاء الْجمال)
واقترح عَليّ أَن أنظم على وَزنهَا ورويها قصيدة فنظمت هَذِه القصيدة وعرضتها عَلَيْهِ وَهِي قولي
(شاقني غُصْن نقا تَحت هِلَال ... ينثني نشوان من خمر الدَّلال)
(كل لحظ مِنْهُ نهاب النهى ... يسحر الْأَلْبَاب بِالسحرِ الْحَلَال)
(ترتع الأحداق من طلعته ... فِي رياض بَين حسن وجمال)
(خَدّه كالورد غشاه الحيا ... عرقا كالدر يزرى بالغوالي)
(من عذيري من خَلِيل غادر ... الْجِسْم من سلوته رق الْخلال)
(يعد الْوَصْل وبقضيني الجفا ... ويمنيني ويرضى بالمحال)
(حمل الْقلب من الأعباء مَا ... لَو أقلت صدعت صم الْجبَال)
(يَا بقومي قامة مِنْهُ وَيَا ... خجلة الأغصان مِنْهَا والعوالي)
(ومحيا يفتك النساك حسنا ... ويستعبد ربات الحجال)(2/274)
(ولحاظ دونهَا فتك الظبا ... تنهب الْأَعْمَار من غَيره قتال)
(وقسى تصدع اللب إِذا ... فوّقت انفذ من زرق النصال)
(ولمى يفتر عَنهُ مبسم ... من عقيق فَوق درّ كاللآلى)
(ترق الْجِسْم يكَاد القدّ ينقدّ ... أَن رنحه سكر الدَّلال)
(وشجاني صادح فِي فنن ... كلما أشكوله الشوق شكالي)
(يَا لَك الله كِلَانَا وَاحِد ... يشتكي بعد حبيب وطلال)
(كلنا يبكي على غُصْن لَهُ ... نازح الأحباب منبت الحبال)
(يَا خليليّ وسلطان الْهوى ... يَقْتَضِي حكم الموَالِي فِي الموَالِي)
(لَا تلوماني على جهد البلا ... فالهوى ضرب من الدَّاء العضال)
(يبْعَث الْعَاقِل للحسين القضا ... ويغص الْمَرْء بِالْمَاءِ الزلَال)
(أَي خليّ الْقلب عني أنني ... لست بالمختار فِي هَذَا النكال)
(لَو يكن فِي الْحبّ رأى لم تَجِد ... أَسد الغابة فِي أسر الغزال)
(خل إرشادي وذق طعم الْهوى ... أنني قد بِعْت رشدي بالضلال)
(لَا تلم من ذل فِي نيل المنى ... أَن عز الْحبّ فِي ذل السُّؤَال)
(كم أداري مهجة ذَابَتْ أسى ... بَين أطماع ووعد ومطال)
(تلفت روحي وَمَا من عجب ... تلف الْأَرْوَاح من دون الْوِصَال)
(مَا الَّذِي ضرّ جميل الْوَجْه لَو ... كَانَ أفديه جميلاً فِي الفعال)
(آثر الْجور على الْعدْل وَلم ... يدر أَن الْجور من شَرّ الْخِصَال)
(يَا أحباي وَفِي آثَاركُم ... فرج الْقلب وَحل من عقال)
(عللوا روحي بأرواح الصِّبَا ... وابعثوا أخباركم لي فِي الشمَال)
(واسعفوا المضني بتنجيز المنى ... أَن تتجيز المنى خير النوال)
(وَإِذا لم تنعموا لي باللقا ... فاحسنوا إِلَى إِذْ أذنتم بالخيال)
(لَيْت شعري والهوى كم فِيهِ من ... عجب والصب مُغْرِي بالجدال)
(أقصير اللَّيْل يدْرِي حالتي ... فِي ليَالِي هجره السود الطوَال)
(يشتكي من قصر اللَّيْل إِذا ... مَا اشْتَكَى الخالون من طول الليال)
وَأهْدى أَلِي مرّة شاشا فَكتبت إِلَيْهِ
(روحي فدَاء لَا غرّ سما ... بسودد كالشامخ الراسي)(2/275)
(ذُو خلق يَحْكِي شذا رَوْضَة ... قد أحدقت بالورد والآسى)
(فالربيع الطلق وشى الربى ... بردا وَمَا السلسل فِي الكماس)
(ألطف من نسمَة أخلاقه ... عرفتها من طيب أنفاس)
(نزلت فِي دوحته معدما ... فَلم يدع برئي وإيناسي)
(يَا سيدا أنطقني فَضله ... بشكره من بعد إخراسي)
(أَرَاك رَأس النَّاس لامرية ... لذاك تهدى حلَّة الراس)
وجمعني وإياه مجْلِس لأحد الْكِبَار فلعب بالشطرنج وَكَانَ إِذا لعب ظهر مِنْهُ بعض الطيش وَالدَّعْوَى وَكَانَ بِالْمَجْلِسِ بعض الْعلمَاء فأبدى التَّعَجُّب من أطواره فَأَنْشد بديهاً
(لَئِن أمسيت أدنى الْقَوْم سنا ... فعد فضائلي لَا يُسْتَطَاع)
(كشطرنج ترى الْأَلْبَاب فِيهِ ... حيارى وَهُوَ رقعته ذِرَاع)
قلت وَكَانَ مُفردا فِي لعب الشطرنج وَله فِيهِ محنة زَائِدَة وتفرغ أَيَّامًا لحساب حَبَّة الْقَمْح الَّتِي اقترحها وَاضع الشطرنج وَهُوَ صصه بن داهر الْهِنْدِيّ على الْملك الَّذِي وَضعه باسمه وَهُوَ شهرام وَأَرَادَ أَن يسْتَخْرج الْعدَد وصنع جد وَلَا عَظِيما وَأَظنهُ استخرجه وَأَنا قد رَأَيْت بعض الْحساب اعتنى بذلك وَضَبطه ضبطاً قَوِيا وَجعله فِي مصراع من بَيت وَهُوَ قَوْله
(إِن رمت تَضْعِيف شطرنج فجملته ... هَا واه طعجز مدز ودوحا)
وَجُمْلَة ذَلِك ثَمَانِيَة عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف سِتّ مَرَّات وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ ألف ألف ألف ألف ألف خمس مَرَّات وَسَبْعمائة وَأَرْبَعُونَ ألف ألف ألف ألف أَربع مَرَّات وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ألف ألف ألف ثَلَاث مَرَّات وَسَبْعمائة وَتِسْعَة آلَاف ألف ألف مرَّتَيْنِ وَخَمْسمِائة وَاحِد وَخَمْسُونَ ألف وسِتمِائَة وَخَمْسَة عشر وأقلع آخر عَن صبوته فَترك مَحْض أشعاره فِي الْغَزل وقص قوادمها وخوافيها بأشعار فِي الزّهْد وَالْحكم وأبلغ مَا أَنْشدني فِي ذَلِك المعرض هَذِه القصيدة الغراء عَارض بهَا معلقَة امرىء الْقَيْس وقصيدته تلِيق أَن تعلق تَمِيمَة فِي جيد الزَّمَان لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْأَمْثَال وَالْحكم والسلاسة وَقد أوردتها برمتها حرصاً على كَثْرَة فائدتها وتعرضت لبَعض إبضاحاتها وَهِي
(توكل على الرَّحْمَن حق التَّوَكُّل ... فَلَيْسَ لما فِي علمه من مبدل)
(لعمر مَا يدْرِي المنجم مَا غَدا ... يكون وَعلم الْحَال عِنْد المحول)(2/276)
(وَأَنا فَلَا تعجب لفي غَفلَة بِمَا ... يُرَاد بِنَا فِي عَاجل أَو مُؤَجل)
(نسير وَلَا نَدْرِي كركب سفينة ... وَعمر الْفَتى كالفيء جم التنقل)
(ويرشقنا قَوس الخطوب بأسهم ... على أسْهم كالطل يتبعهُ الْوَلِيّ)
(وَنحن نَبَات والزما حصادنا ... أَلَيْسَ بوافي كل شهر بمنجل)
تَشْبِيه الْهلَال بالمنجل مُسْتَعْمل فِي أشعار الْعَرَب كثيرا وَمن أحسن مَا مر لي فِيهِ قَول الشهَاب
(رَأَيْت هِلَال الشَّهْر منجل حاصد ... لَا عمارنا وَهِي الهشيم المحطم)
(وَمَا سلخت تِلْكَ الشُّهُور وَإِنَّمَا ... دياجي الْأَمَانِي الْجلد والشفق الدَّم)
(وآمالنا تزداد فِي كل سَاعَة ... وَمن أضيع الْأَشْيَاء عمر المؤمل)
(إِلَى الله نشكو مَا بِنَا من جَهَالَة ... وَمن تتعبده المطامع يجهل)
(وَمن لم يكن فِي أمره ذَا بَصِيرَة ... يكن هدفاً للنائبات وَيقتل)
(وهم الورى كل على قدر عقله ... وَمَا فَازَ باللذات غير الْمُغَفَّل)
(وَلَا عجب أَن فاوت الْحَظ بَيْننَا ... فَمن رامح نجم السَّمَاء وأعزل)
(ألم تَرَ أَن الطير يرتع شَرها ... وَيحبس فِي أقفاصه كل بلبل)
(وَإِنِّي من الْقَوْم الْكِرَام أولى الوفا ... إِذا بخلت مزن السما لم تبخل)
(وَإِن نَدع عِنْد الجدب نسمح بجهدنا ... وَإِن نَدع يَوْم الْبَأْس لم نتعلل)
(ونرحل بعد النَّاس من كل منزل ... ونصدر قبل النَّاس من كل منهل)
(ويمنعنا فرط الْحيَاء عَن الْخَنَا ... وَإِن كَانَ فينارقة المتغزل)
(ووهابة الأحزان نهابة النهى ... منعمة الْأَطْرَاف عذب الْمقبل)
(رقيقَة خصر لَا ترق لمغرم ... قسية قلب لَا تلين لمبتلى)
(يرى وَجهه فِي وَجههَا من يضمها ... كمرآة هندي براحة صيقل)
(تخادع أَرْبَاب النهى عَن عُقُولهمْ ... وتسحر لب الناسك المتبتل)
(إِذا التفتت نَحْو الخلى بطرفها ... سرى حبها كَالْخمرِ فِي كل مفصل)
(تحوم رماح الْخط حول خبائها ... كَمَا حاطت الْأَهْدَاب مقلة اكحل)
(فكم فِي حماها من سليم مسهد ... وحول خباها من صريع مجندل)
(صرفت الْهوى عَنْهُن لَا خشيَة الردى ... وَذُو الرَّأْي مهما يَأْمر الْقلب يفعل)
(وَربع وقفت العيس فِيهِ فَلم أجد ... بأرجائه غير الْغُرَاب المكبل)(2/277)
(عهِدت بِهِ الْبيض الدمى فَوَجَدته ... من الْأَهْل كالجيد الْأَغَر الْمُعَطل)
(وَبَات سميري فِيهِ ضار غضنفر ... لَهُ منظر وعر وناب كمعول)
(وعينان كلما وتين توقدا ... ظلاماً فَلم نحتج إِلَى ضوء مشتعل)
(وسَاق شَدِيد الْبَطْش عبل مفتل ... كحبل الْجَوَارِي الْمُنْشَآت المجدل)
(كَأَن عِظَام الْوَحْش حول عرينه ... بقايا بِنَاء ألقيت حول هيكل)
(أَتَانِي فَلم يبصر فؤاداً مروّعاً ... فَقَامَ مقَام السَّائِل المتطفل)
(فَقلت لَهُ عذرا أُسَامَة إِنَّنِي ... أرى جمل زادي قادحاً فِي التَّوَكُّل)
(أقِم فَلَعَلَّ الله يرزقنا مَعًا ... فَإِن لنا رزقا على المتَوَكل)
(فعنّ لَهُ سرب كأنّ نعاجه ... غوان تهادى فِي الحلى حول جدول)
(فثار فَلَمَّا أبصرته تلاحقت ... كَمَا انْسَلَّ در من نظام مفصل)
(فناديته صبرا وللضيف حُرْمَة ... فَلَا تتكلف هم قوت ومأكل)
(وَقمت إِلَيْهَا طَالبا فَوق ضامر ... كَمَا انقض صقر أجدل فَوق أجدل)
(وفوّقت سَهْما مصمياً نَحْو بَعْضهَا ... وَمن وعد الضَّيْف الْقرى فليعجل)
(وقاسمته زادي وَبَات مقابلي ... كَمَا قَابل المقرور نَارا ليصطلي)
(وأوسعني شكرا وَمَا كَانَ ناطقاً ... وَلَكِن لِسَان الْحَال أصدق مقول)
(وسرت وسرا الصُّبْح فِي خاطر الدجى ... وَنجم السما يرنو بمقلة أَحول)
(وَإِنِّي مُقيم للصديق على الوفا ... سريع إِذا سَاءَ الْجوَار ترحلي)
(وَلَيْسَ ارتحالي عَن ملالٍ وَإِنَّمَا ... رَأَيْت مَكَان الذل أَسْوَأ منزل)
(وَمن كَانَ ذَا صَبر على الْجور والجفا ... فَإِنِّي مجدّ فِي خلاف السمندل)
(أَلا فِي سَبِيل الله ود صرفته ... لمن خَان ميثاقي وأشمت عذلي)
(جَزَاء سنمار جزاني على الْهوى ... وَكَانَ يمنيني وَفَاء السموأل)
سنمار رجل رومي بنى الخورنق الَّذِي بِظهْر الْكُوفَة للنعمان بن امرىء الْقَيْس فَلَمَّا فرغ مِنْهُ أَلْقَاهُ من أَعْلَاهُ فخرّ مَيتا وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِئَلَّا يبْنى مثله لغيره فَضربت الْعَرَب بِهِ الْمثل لمن يجزى بِالْإِحْسَانِ الْإِسَاءَة قَالَ الشَّاعِر
(جزتنا بَنو سعد بِحسن فعالنا ... جَزَاء سنمار وَمَا كَانَ ذَا ذَنْب)
وَيُقَال هُوَ الَّذِي بنى أطماً لأحيحة بن الجلاح فَلَمَّا فرغ مِنْهُ قَالَ لَهُ أحيحة لقد أحكمته فَقَالَ إِنِّي لأعرف فِيهِ حجرا لَو نزع لتقوّض من آخِره فَسَأَلَهُ عَن الْحجر فَأرَاهُ(2/278)
مَوْضِعه فَدفعهُ أحيحة من الأطم فَخر مَيتا والسموأل بِفَتْح السِّين وَالْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَبعدهَا همزَة ثمَّ لَام ابْن حَيَّان بن عاديا الْيَهُودِيّ كَانَ من وفائه أَن امْرأ الْقَيْس لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى قَيْصر استودع السموأل دروعاً وأحيحة بن الجلاح أَيْضا دروعاً فَلَمَّا مَاتَ امْرُؤ الْقَيْس غزاه ملك من مُلُوك الشَّام فتحرز مِنْهُ السموأل فَأخذ الْملك ابْنا لَهُ وَكَانَ خَارِجا من الْحصن فصاح الْملك بالسموأل فَأَشْرَف فَقَالَ هَذَا ابْنك فِي يَدي وَقد علمت أَن امْرأ الْقَيْس ابْن عمي وَمن عشيرتي وَأَنا أَحَق بميراثه فَإِن دفعت إليّ الدروع وَإِلَّا ذبحت ابْنك فَقَالَ أجلني فَأَجله فَجمع أهل بَيته ونساءه فشاورهم فَكل أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يدْفع الدروع ويستنقذ ابْنه فَلَمَّا أصبح أشرف عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ إِلَى دفع الدروع سَبِيل فَاصْنَعْ مَا أَنْت صانع فذبح الْملك ابْنه وَهُوَ مشرف ينظر إِلَيْهِ ثمَّ انْصَرف الْملك بالخيبة
(فَمن مبلغ الإخوان عني رِسَالَة ... عليّ يُدِير القَوْل من خير مُرْسل)
(مقَالَة من يجزى على الْفِعْل مثله ... وَلَا يظلم المجزيّ حَبَّة خَرْدَل)
(مقَالَة من تخشى بوادره وَمن ... تساوى لَدَيْهِ طعم شهد وحنظل)
(مقَالَة من لَا يختشي ذمّ جارح ... وَلَا يرتجي فِي النصح حمد المعوّل)
(دعوا الْبَغي أَن الْبَغي يصرع أَهله ... ويوقع فِي دَاء من الْخطب معضل)
(وَلَا تجحدوا حق المحق فَإِنَّهُ ... سيبدو ظُهُور النَّار من فَوق يذبل)
(وَلَا تظهروا شَيْئا وَفِي النَّفس غيرَة ... بِوَجْه ضحوك فَوق قلب كمرجل)
(وَهل يختفي عَن حافظين وَشَاهد ... رَقِيب عَلَيْكُم بالقلوب مُوكل)
(وَمن كَانَ ذَا رَأْي سديد وفطنة ... رأى مَا نأى عَنهُ بِأَدْنَى تأصل)
(أسرّة وَجه الْمَرْء عِنْد كَلَامه ... تفصل من أسراره كل مُجمل)
(وأسرع شَيْء يضمحل وجوده ... تصنع كَذَّاب وصولة مُبْطل)
(وَلَا تنقضوا الْمِيثَاق فَالله سَائل ... عَن الْعَهْد فِي يَوْم الْجَزَاء الْمُؤَجل)
(وَلَا تحقروا كيد الضَّعِيف فَرُبمَا ... يساعده الدَّهْر الْكثير التحوّل)
(وَكم خادمٍ أضحى لمَوْلَاهُ سيداً ... وأسدى إِلَيْهِ مِنْهُ المتفضل)
(أحبتنا رفقا علينا ورقة ... فزينة لب الْمَرْء حسن الترسل)
(تحملت مِنْكُم مَا يذوب بِهِ الصَّفَا ... وَقد يهْلك الْإِنْسَان فرط التَّحَمُّل)
(أَفِي كل يَوْم أختشي سبق جَاهِل ... كجلمود صَخْر حطه السَّيْل من عل)(2/279)
(إِذا قدموهم ثمَّ أَقبلت أخروا ... وَيبْطل نهر الله جدول معقل)
نهر معقل بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ معقل بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ معقل بن يسَار الْمُزنِيّ الصَّحَابِيّ وينسب إِلَيْهِ التَّمْر المعقلي وَفِي الْمثل إِذا جَاءَ نهر الله بَطل نهر معقل وَالْمرَاد بنهر الله مَا يَقع عِنْد الْمَدّ فَإِنَّهُ يطم على الْأَنْهَار كلهَا
(وَمن قاسني بالحاسدين فَضِيلَة ... كمن قَاس فِي السَّبق المجلى بفسكل)
الفسكل هُوَ من خيل السباق الْعشْرَة وَهُوَ الَّذِي فِي آخر الحلبة آخر الْخَيل وَيُقَال لَهُ القاسور والسكيت أَيْضا هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي قَالَ ابْن الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه بعد كَلَام ذكره وَلم أجد للقاسور ذكرا فِيمَا أنْشدهُ الصَّفَدِي فِي تَارِيخه لِابْنِ مَالك النَّحْوِيّ جَامعا لأسماء خيل السباق الْعشْرَة فِي قَوْله
(خيل السباق مجل يقتفيه مصل ... والمسلى وتال قبل مرتاح)
(وعاطف وخطّي والمؤمل واللطيم ... والفسكل السّكيت يَا صَاح)
وَكَأَنَّهُ تَركه لِأَنَّهُ والفسكل والسكيت وَاحِد كَمَا عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي
(سأرتكب الْخطب الْعَظِيم مخاطراً ... وأخلع عَن عطفي برد التجمل)
(وأبذلها إِمَّا على النَّفس أَولهَا ... وَمن يطْلب الغايات للنَّفس يبْذل)
(فَإِن عِشْت أدْركْت الْأَمَانِي وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوّل)
(وأنبئت أَن ابْن اللئيمة سبني ... وَلَيْسَ على عهد الدمى من معوّل)
(وَقَالَ لمن أَحْوَاله وَهُوَ صَادِق ... أَلسنا صُدُور النَّاس فِي كل محفل)
(ورثت العلى عَن كابرٍ بعد كَابر ... وسوّدت بالمجد الرفيع المؤثل)
(نعم مَا بنوا من مجدهم قد هدمته ... وأصبحت فيهم وَاو عَمْرو المذيل)
(لَئِن نلْت مَا أملته من حُكُومَة ... لتنشر فِيهَا شرع حَاكم جبل)
جبل بِفَتْح الْجِيم وَضم الْبَاء الْمُشَدّدَة بلد بشاطىء دجلة وقاضي جبل يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْجَهْل فَيُقَال أَجْهَل من قَاضِي جبل يُقَال أَنه قضى لخصم جَاءَهُ وَحده ثمَّ نقض حكمه لما جَاءَ الْخصم الآخر وَفِيه يَقُول مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات
(قضى لمخاصم يَوْمًا فَلَمَّا ... أَتَاهُ خَصمه نقض الْقَضَاء)
(دنا مِنْك العدوّ وغبت عَنهُ ... فَقَالَ بِحكمِهِ مَا كَانَ شَاءَ)
وَمن ظريف مَا يحْكى عَنهُ أَن الْمَأْمُون لما خرج إِلَى فَم الصُّلْح للابتناء ببوران إِذا جمَاعَة على الشط وَفِيهِمْ رجل يُنَادي بِأَعْلَى صَوته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نعم القَاضِي قَاضِي(2/280)
جبل جزاه الله عَنَّا أفضل مَا جزى بِهِ أحدا من الْقُضَاة فَهُوَ الْعَفِيف النَّظِيف الناصح الحبيب الْمَأْمُون الْعَيْب وَكَانَ القَاضِي يحيى بن أَكْثَم يعرف قَاضِي جبل وَهُوَ الَّذِي ولاه وَأَشَارَ بِهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الَّذِي يُنَادي ويثني على القَاضِي هُوَ القَاضِي نَفسه فاستضحك الْمَأْمُون واستظرفه وَأقرهُ على الْقَضَاء وَقد كَانَ أهل جبل وَقَعُوا عَلَيْهِ وَذكروا أَنه سَفِيه حَدِيد يعَض رُؤُوس الْخُصُوم
(سيندم قوم حاربوني وَإِنَّهُم ... ستطرقهم من جَانِبي أم قسطل)
أم قسطل الداهية
(وَإِن لساني مبضع أَي مبضع ... وَفِي كل عُضْو مِنْهُم عرق أكحل)
(وَأقسم لَوْلَا خشيَة الله والحيا ... نسخت بِهِ ذكرى جرير وجرول)
(بأسهم لفظ كالصواعق أرْسلت ... وأنصل معنى كالقضاء الْمنزل)
(وقافية تزداد حسنا وَجدّة ... وَتبقى بَقَاء الْوَحْي فِي صم جندل)
(قلائد مَا مرت بفكر مرقش ... وَلَا خطرت يَوْمًا ببال المهلهل)
(فَكُن حذرا فالحزم ينفع أَهله ... وَإِن كنت مِمَّن يجهل الْأَمر فاسأل)
وَقد أطلنا تَرْجَمته حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَحَاصِله أَنه كَانَ فريد زَمَانه ووحيد أَوَانه وَمَا أَدْرِي بِأَيّ عبارَة أصف محاسنه وأذكر صنائعه وَكَانَ قبل مَوته بأيام نَهَضَ حَظه نهضة عَجِيبَة وَذَلِكَ لإقبال الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا الْمَقْتُول عَلَيْهِ وأدرّ عَلَيْهِ إدرارات كَثِيرَة وشفع لَهُ عِنْد الْمُفْتِي فولاه إِحْدَى الْمدَارِس الثمان ثمَّ بعد أشهر ولاه مدرسة زَالَ باشا الَّتِي بِأَيُّوب وَفَرح فَرحا شَدِيدا وَاتفقَ لي أَنِّي كنت عِنْده فَجَاءَهُ للتهنئة الْمولى رفقي الْمدرس بمدرسة إِبْرَاهِيم باشا بِمَدِينَة الغلطة فهناه ثمَّ ذكر لَهُ أَن هَذِه الْمدرسَة مَشْهُورَة بِالْيمن وَمن جملَة يمنها أَنه لم يَقع لأحد من مدرسيها أَنه مَاتَ وَهِي عَلَيْهَا فعجبت من هَذَا وَوَقع فِي وهمي أَن يكون مبدأ لمَوْت بعض مدرسيها وانفصل الْمجْلس ثمَّ فِي ثَانِي يَوْم رَأَيْت قرطاساً فِي وسط دواته فتأملت فِيهَا فرأيته قد شرع فِي عمل قصيدة وَكتب قوافيها وَلم يكْتب مِنْهَا إِلَّا المطلع وَهُوَ هَذَا
(ألم تَرَ أَن الْهم قد زَالَ بزالا ... وَأحسن آمالنا وَلنَا ومآلا)
فاستحكمت الطَّيرَة فِي وهمي من لَفْظَة زَالَ وفارقته عَشِيَّة النَّهَار وَهُوَ فِي لب الصِّحَّة فَفِي الصَّباح جَاءَنِي خَادِم لَهُ يدعوني إِلَيْهِ وَذكر لي الْخَادِم بِأَنَّهُ طعن بِاللَّيْلِ فأسرعت إِلَيْهِ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رَأَيْته قد انْعَقَد لِسَانه وأشرف على الْمَوْت وَبَقِي(2/281)
إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة فَقضى نحبه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ عمره أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة فَإِن مولده على مَا أَخْبرنِي بِهِ فِي سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن خَارج بَاب أدرنة على يمنة الطَّرِيق الْآخِذ إِلَى مَدِينَة أَيُّوب وَقلت أرثيه بِهَذِهِ الأبيات
(كل حَيّ على البسيطة فَانِي ... غير وَجه الْمُهَيْمِن الرَّحْمَن)
(وشراب الْمنون فِي النَّاس يسرى ... سريان الْأَرْوَاح فِي الْأَبدَان)
(عَم حكم الفناء فِي الْخلق حَتَّى ... سَوف يرقى الردى إِلَى كيوان)
(وفناء الأقران شَاهد عدل ... وَدَلِيل على فَنًّا الأقران)
(لَو نجا من يَد الردى ذُو فخار ... خلد الْعدْل صَاحب الإيوان)
(إِن فِي الْمَوْت عِبْرَة للبيب ... لم تعقه علائق الجثمان)
(وَالسَّفِيه السَّفِيه من صرف الْعُمر ... بِشرب الطلا وَقرب الغواني)
(وَالَّذِي يَشْتَرِي جَهَنَّم باللذات ... أولى التُّجَّار بالخسران)
(فاغتنم فرْصَة الْحَيَاة فَمَا التسويف ... إِلَّا مَطِيَّة الحرمان)
(كل نفس تجزى بِمَا قدّمته ... وَجَزَاء الْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ)
(كَيفَ نرجو من الزَّمَان بَقَاء ... والمنايا تحول دون الْأَمَانِي)
(والورى وَالثَّرَى حباب وَمَاء ... ينطفي وَاحِد ويطفو الثَّانِي)
(أَيْن روح الزَّمَان من كنت فِي حِين ... وإياه كحلتي حلوان)
(كَانَ فِينَا كالورد فِي وجنات الغيد ... وَالسحر فِي عُيُون الحسان)
(عَاجل الدَّهْر نير الْفضل بالكسف ... وَبدر الْكَمَال بِالنُّقْصَانِ)
(رَجَعَ الْجَوْهَر النفيس إِلَى الأَصْل ... وأضحى مقره فِي الْجنان)
(لَيْت شعري وَلَيْسَ يجدي أَمن عمدٍ ... رمته الخطوب أم نِسْيَان)
(كَيفَ دكيت أَيهَا الحتف رضوى ... ونقلت الهضاب من ثهلان)
(جَادَتْ السحب قَبره من فَقِيه ... كَانَ فِي الْفِقْه وَارِث النُّعْمَان)
(وَحَكِيم يكَاد ينْطق عَن ... وَحي نَبِي أَو عَن نبا لُقْمَان)
(وأديب يغار من نثره الدّرّ ... وَمن نظمه عُقُود الجمان)
(وجوادٍ كَانَ فِي كَفه عَيْني ... محب أَو ملتقى عمان)
(كَانَ نفعا وَلم يزل وأحق النَّاس ... بِالْحَمْد دَائِم الْإِحْسَان)(2/282)
(هوّن الدَّهْر بعده كل خطب ... فترانا من حربه فِي أَمَان)
(يَا صديقي تَرَكتنِي لخطوب ... يَنْقَضِي قبلهَا زمَان الزَّمَان)
(لست أرْضى عَلَيْك حكم لبيد ... مذهبي فِي الْوَفَاء حكم ابْن هاني)
(عيل صبري وَإِنَّمَا أتأسى ... بِعُمُوم الْمُصَاب فِي الْأَعْيَان)
(أسعد الصاحبين من مَاتَ من قبل ... وَأبقى الصّديق للأحزان)
(إِنَّمَا هَذِه مراحل تطوى ... والبرايا تساق كالركبان)
(كنت أخْشَى الورى لِرَبِّك خوفًا ... وَلمن خَافَ ربه جنتان)
(وَلَك السَّبق فِي جَمِيع الْمَعَالِي ... فتمتع بِالروحِ وَالريحَان)
عبد الْبَاقِي بن الشَّيْخ الْوَلِيّ الزين المزجاجي التحيتي بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَة إِلَى التحيتة خَارج زبيد الزبيدِيّ الشَّيْخ القطب الْفَرد الْجَامِع الْغَوْث الإلهي الصُّوفِي الْعَارِف بِاللَّه وَالدَّال عَلَيْهِ الإِمَام الْمجمع على تحَققه بالحقائق الغيبية ولد بالتحيتة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين بِالْيمن وَأخذ طَرِيق النقشبندية عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى تَاج الدّين الْهِنْدِيّ وَبِه تخرج وَصَارَ خَلِيفَته من بعده فِي طَرِيق النقشبندية وَأخذ عَنهُ خلق لَا يُحصونَ مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد الْبَنَّا الدمياطي رَحل إِلَيْهِ ولازمه مُدَّة مديدة وَبِه تخرج وَلم يزل ينفع النَّاس حَتَّى نَقله الله تَعَالَى إِلَى دَار كرامته وَكَانَت وَفَاته فِي شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَسبعين وَألف بِبَلَدِهِ التحيتة وَبهَا دفن وَآل المزجاجي قوم صَالِحُونَ لَهُم شهرة وسيادة بِالْيمن والمزجاجي بِكَسْر ثمَّ معجمات نِسْبَة إِلَى المزجاجية مَوضِع يصنع فِيهِ المزجاج بِالْقربِ من زبيد
عبد الْبَاقِي بن عبد الْبَاقِي بن عبد الْقَادِر بن عبد الْبَاقِي بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن مُحَمَّد الْحَنْبَلِيّ البعلي الْأَزْهَرِي الدِّمَشْقِي المحدّث الْمقري الأثري الشهير بِابْن الْبَدْر ثمَّ بِابْن فَقِيه فصة وَهِي بفاء مَكْسُورَة ومهملة قَرْيَة ببعلبك من جِهَة دمشق نَحْو فَرسَخ وَكَانَ أحد أجداده يتَوَجَّه ويخطب فِيهَا فَلذَلِك اشْتهر بهَا وأجداده كلهم حنابلة وَقد ولد هُوَ ببعلبك وَقَرَأَ أَولا على وَالِده الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ ارتحل إِلَى دمشق وَأخذ بهَا الْفِقْه عَن القَاضِي مَحْمُود بن عبد الحميد الْحَنْبَلِيّ خَليفَة الحكم الْعَزِيز بِدِمَشْق حفيد الشَّيْخ مُوسَى الحجاوي صَاحب الْإِقْنَاع وَعَن الشَّيْخ الْعَالم المحدّث أَحْمد بن أبي الوفا المفلحي المقدّم ذكره وَأخذ طَرِيق الصُّوفِيَّة عَن ابْن عَمه الشَّيْخ نور الدّين البعلي خَليفَة الشَّيْخ مُحَمَّد العلمي الْقُدسِي ولقنه الذّكر وَأَجَازَهُ الشَّيْخ العلمي(2/283)
الْمَذْكُور فِي الْقُدس بالبداءة فِي الأوراد والأذكار والمحيا ورحل إِلَى مصر فِي سنة تسع وَعشْرين وَألف وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ مَنْصُور وَالشَّيْخ مرعي البهوتيين وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر الدنوشري وَالشَّيْخ يُوسُف الفتوحي سبط ابْن النجار وَأخذ القراآت عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني والْحَدِيث عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأبي الْعَبَّاس الْمقري والفرائض عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الشمريسي وَالشَّيْخ زين العابدين أبي دري الْمَالِكِي وَالشَّيْخ عبد الْجواد الجنبلاطي وَالْعرُوض عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ وَحِصَّة من الْمنطق والعربية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد البابلي وَحضر دروسه ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَقَرَأَ على الْعَلامَة عمر القارىء فِي النَّحْو والمعاني والْحَدِيث وَالْأُصُول وَحج فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأَجَازَهُ عُلَمَاء مَكَّة كالشيخ مُحَمَّد بن عَلان الصديقي وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي الْحَنَفِيّ مفتي مَكَّة وَأخذ عَن أهل الْمَدِينَة كالشيخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَكَذَلِكَ عَن عُلَمَاء بَيت الْمُقَدّس وَأَعْلَى سَنَد لَهُ فِي الحَدِيث مرويات الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي جَمِيع كتب الحَدِيث عَن الشَّيْخ حجازي الْوَاعِظ عَن ابْن أركماس من أهل غيط الْعدة بِمصْر عَن الْحَافِظ ابْن حجر وَحضر دروس الحَدِيث بالجامع الْأمَوِي عِنْد الشَّمْس الميداني والنجم الْغَزِّي ودروس التَّفْسِير عِنْد الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وتصدر للإقراء بالجامع الْمَذْكُور فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف بكرَة النَّهَار وَبَين العشاءين فَقَرَأَ الْجَامِع الصَّغِير فِي الحَدِيث مرَّتَيْنِ وَتَفْسِير الجلالين مرَّتَيْنِ وَقَرَأَ صَحِيح البُخَارِيّ بِتَمَامِهِ وَمُسلم والشفا والمواهب وَالتَّرْغِيب والترهيب والتذكرة للقرطبي وَشرح البرءة والمنفرجة والشمايل والإحياء جَمِيع ذَلِك فِيهِ نظر ولازم ذَلِك مُلَازمَة كُلية بمحراب الْحَنَابِلَة أَولا ثمَّ بمحراب الشَّافِعِيَّة وَلم ينْفَصل عَن ذَلِك شتاء وَلَا صيفاً وَلَا لَيْلَة عيد حَتَّى أَنه لما زوج ولديه حضر تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ فِيهِ نفع عَظِيم وَأخذ عَنهُ خلق كثير أَجلهم الْأُسْتَاذ الْكَبِير وَاحِد الدُّنْيَا فِي المعارف إِبْرَاهِيم الكوراني نزيل الْمَدِينَة وَالسَّيِّد الْعَالم مُحَمَّد بن عبد الرَّسُول البرزنجي وَمِنْهُم وَلَده الْعَالم الْعلم الدّين الْخَيْر أَبُو الْمَوَاهِب مفتي الْحَنَابِلَة الْآن أبقى الله وجوده ونفع بِهِ وَشَيخنَا المرحوم عبد الْحَيّ العكري الْآتِي ذكره وَغَيرهم وَله مؤلفات مِنْهَا شرح على البُخَارِيّ لم يكمله ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العادلية الصُّغْرَى وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع منجك الَّذِي يعرف بِمَسْجِد الأقصاب خَارج دمشق وَكَانَ شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق ونظم الشّعْر إِلَّا أَن شعره شعر الْعلمَاء وَلَقَد رَأَيْت من شعره الْكثير فَلم أر فِيهِ(2/284)
مَا يصلح للإيراد وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي ذكر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْعُلُوم والأوصاف الفائقة مَا يُغني عَن الشّعْر وأشباهه وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة السبت ثامن شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس بعد الْألف وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سَابِع عشري ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بتربة الغربا من مَقْبرَة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن خَلِيل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن غَانِم بن عَليّ بن حسن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز بن سعيد بن سعد ابْن عبَادَة سيد الْخَزْرَج الْمَقْدِسِي الأَصْل الْمصْرِيّ إِمَام الأشرفية بِمصْر هَكَذَا رَأَيْت نسب جده إِمَام الْمُحَقِّقين الْآتِي ذكره فِي غَالب الْيَقِين أَن فِيهِ نقصا كَانَ صَاحب هَذِه التَّرْجَمَة من مشاهير الأفاضل لَهُ انهماك على تَحْصِيل الْعُلُوم وَتَقْيِيد الْفَوَائِد الغريبة وَكَانَ يحفظ مِنْهَا كثيرا وَحصل بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة جدا فِي فنون وَكَانَ ملازماً لِلْعِبَادَةِ والاستفادة مترفعاً عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد إِلَّا فِي خير وَكَانَ نير الْوَجْه جمالِيًّا سمح النَّفس حسن الصِّفَات شرِيف الطباع مَشْهُورا بِقِيَام اللَّيْل وإحياء اللَّيَالِي الفاضلة قَرَأَ فِي الْفِقْه على الشَّمْس مُحَمَّد المحبي وَمُحَمّد الشلبي والشهاب أَحْمد الشَّوْبَرِيّ وَحسن الشُّرُنْبُلَالِيّ الحنفيين وَغَيرهم وَأخذ بَقِيَّة الْعُلُوم عَن كثيرين مِنْهُم الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ وَيس الْحِمصِي والنور الشبراملسي وسلطان المزاحي وَمُحَمّد البابلي وَعبد الْجواد الخوانكي وسري الدّين الدروري وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم صاحبنا المرحوم عبد الْبَاقِي بن أَحْمد السمان وصاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله وَكَانَ صاحبنا الأول يثني عَلَيْهِ ثَنَاء بليغاً ويفضله على جَمِيع من عاصره من عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة وَحكى لي أَنه كَانَ مَعَ مَا اجْتمع فِيهِ من المهابة شَدِيد الْبسط كثير الدعابة والغزل وَطرح التسمت مليح الحَدِيث لَا يمل وَإِن طَال وَله تآليف كَثِيرَة من أجلهَا شَرحه على الْكَنْز فِي الْفِقْه سَمَّاهُ الرَّمْز وَالسُّيُوف الصقال فِي رَقَبَة من يُنكر كرامات الْأَوْلِيَاء بعد الِانْتِقَال وَله تذكرة فِي أَربع مجلدات جمع فِيهَا فأوعى وقفت عَلَيْهَا شكرا لله سَعْيه وَقد سَمَّاهَا رَوْضَة الْآدَاب وفيهَا يَقُول ابْن السمان الْمَذْكُور مادحاً لَهَا ولمؤلفها
(مَا عروس بَدَت بِغَيْر حجاب ... وكؤوس جلت صدا الْأَلْبَاب)
(ورحيق مزاجه سلسبيل ... روّقته السقاة فِي الأكواب)
(وربيب إِذا رَأَتْ وَجهه الشَّمْس ... تَوَارَتْ من وَقتهَا بالحجاب)(2/285)
(ذُو لحاظ ترمي سِهَام المنيات ... بهَا من كنائن الْأَهْدَاب)
(تَحت فرع كَأَنَّهُ ظلمَة الْبعد ... وَفرق كالوصل والاقتراب)
(فَإِذا مَا شدا بِصَوْت رخيم ... ذكر الناسكين عهد التصابي)
(كثمار من الْفَوَائِد فِي أَغْصَان ... علم بروضة الْآدَاب)
(أبدعتها أَيدي إِمَام الْهدى وَالْعصر ... بَحر الندا مُبين الصعاب)
(عَالم الْوَقْت منبع الشَّرْع وَالدّين ... يفضل النهى وَفصل الْخطاب)
(من بألفاظه لقد شرف الْمِنْبَر ... وازداد رونق الْمِحْرَاب)
(هُوَ كالبحر كل صَاد تروى ... من نداه وَغَيره كالسراب)
(دَامَ فَردا فِي الْفضل جَامع علم ... مَا صبا مغرم لعهد الشَّبَاب)
وَأَخْبرنِي أَنه كَانَ هُوَ وإياه فِي مجْلِس حافل فَدخل عَلَيْهِم رجل وَأنْشد قصيدة فِي مديح الْمَقْدِسِي منحطة الرُّتْبَة وَاعْتذر فِيهَا عَن قصوره قَالَ فأنشدت بديها هَذِه الأبيات على الْوَزْن والقافية
(قصرت فِي مدح الإِمَام الْمَقْدِسِي ... وحوادث الْأَيَّام عذر الْمُفلس)
(عَلامَة الْأَعْلَام والغصن الَّذِي ... بِالْفَضْلِ يعرف فِيهِ طيب المغرس)
(سَعْدا لكَمَال وَسيد الْعلمَاء من ... بِوُجُودِهِ نعفو عَن الزَّمن المسي)
(حبر إِذا اجْتمع الصُّدُور بِمَجْلِس ... يَوْم التفاخر فَهُوَ صدر الْمجْلس)
(شدّت بأوتار النُّجُوم خيامه ... مَضْرُوبَة فَوق الْأَثِير الأطلس)
(أفكاره تجلو الخطوب عَن الورى ... وضياؤه يجلو ظلام الحندس)
(قد مثل الله الْعُلُوم لَهُ كَمَا ... لنَبيه تَمْثِيل بَيت الْمُقَدّس)
(فَإِذا مدحت أولي الْفَضَائِل والنهى ... فالبس من الْآدَاب أَفْخَر ملبس)
(فالمدح بالشعر الضَّعِيف لمثله ... كالهجو تكرههُ كرام الْأَنْفس)
وَحكى لي الْأَخ الشَّيْخ مصطفى أَنه حضر دروسه فِي الْجَامِع الصَّغِير للسيوطي بالأشرفية قَالَ وَاتفقَ أَنِّي دخلت عَلَيْهِ يَوْم عيد فِي بَيته أُعِيدهُ وأعوده وَهُوَ مَرِيض مرض الْمَوْت وَكَانَ لَهُ ولد صَغِير فَلَمَّا خرجت من عِنْده أَعْطيته شَيْئا من الدَّرَاهِم فَرجع إِلَى وَالِده فَأخْبرهُ فناداني وَقَالَ لي فِي الْجنَّة بَاب يدْخل مِنْهُ مفرحو الْأَطْفَال أَرْجُو الله تَعَالَى أَن تكون مِنْهُم قَالَ وَرَأَيْت بِخَطِّهِ من شعره قَوْله
(صادني خشف ربيب ... فاتن بالْحسنِ يسمو)(2/286)
(ظن عذالي سلوى ... إِن بعض الظَّن إِثْم)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن يُوسُف بن أَحْمد شهَاب الدّين بن مُحَمَّد بن علوان الزّرْقَانِيّ الْمَالِكِي الْعَلامَة الإِمَام الْحجَّة شرف الْعلمَاء ومرجع الْمَالِكِيَّة وَكَانَ عَالما نبيلاً فَقِيها متبحراً لطيف الْعبارَة ولد بِمصْر فِي سنة عشْرين وَألف وَبهَا نَشأ وَلزِمَ النُّور الأَجْهُورِيّ سِنِين عديدة وَشهد لَهُ بِالْفَضْلِ وَأخذ عُلُوم الْعَرَبيَّة عَن الْعَلامَة يس الْحِمصِي والنور الشبراملسي وَحضر الشَّمْس البابلي فِي دروسه الحَدِيث وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأَزْهَر وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح على مُخْتَصر خَلِيل تشد إِلَيْهِ الرّحال وَشرح على العزية وَغير ذَلِك وَكَانَ رَقِيق الطَّبْع حسن الْخلق جميل المحاورة لطيف التأدية للْكَلَام وَكَانَت وَفَاته ضحى يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشري شهر رَمَضَان سنة تسع وَتِسْعين وَألف بِمصْر وَدفن بتربة المجورين
عبد الْبَاقِي شَاعِر الرّوم وحسانها الأديب الشَّاعِر الْفَائِق الشهير بباقي كَانَ أوحد أهل عصره فِي الْفضل وَالْأَدب وَله الشُّهْرَة الطنانة فِي الشّعْر البليغ وَأهل الرّوم يطلقون عَلَيْهِ سُلْطَان الشُّعَرَاء فِيمَا بَينهم وَذكر مبدأه أَنه كَانَ يتعانى حِرْفَة السُّرُوج ثمَّ تَركهَا وتشبث بأذيال الْعُلُوم واشتغل على كثير من عُلَمَاء وقته وَوصل آخرا إِلَى شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ فواظب على درسه وفاز مِنْهُ بالملازمة الْعُرْفِيَّة وَمَا زَالَ صيته يسمو بِحسن الشّعْر حَتَّى وصل إِلَى مسامع السُّلْطَان سُلَيْمَان فَالْتَفت إِلَيْهِ وصيره مدرساً وَلم يزل يترقى فِي الْمدَارِس إِلَى أَن وصل إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس السليمانية ثمَّ عزل عَنْهَا بِلَا مُوجب وأدركته حِرْفَة الْأَدَب ثمَّ بعد مُدَّة ولي الْمدرسَة السليمية بدار السلطنة وَولي مِنْهَا قَضَاء مَكَّة المشرفة ثمَّ نقل إِلَى قَضَاء الْمَدِينَة المنورة وعزل عَنْهَا فَأَقَامَ معزولاً عدَّة سِنِين ثمَّ استقضى بدار السلطنة ونال بعد ذَلِك قَضَاء العسكرين مرّة بعد مرّة وَقد ذكره الْمولى عبد الْكَرِيم بن سِنَان فِي تراجمه فَقَالَ فِي وَصفه كَانَ ذَا بَيَان عذب ولسان عضب حل عقد الفصاحة بِمَا قَيده وبيض وَجه البلاغة بِمَا سوده نفث فِي عقول الْبَحْر بسحره وطار إِلَى الأقطار هزار شعره لَهُ منظوم أرق من الدمع ومنثور يقتطف ببنان السّمع
(بِكُل لفظ كَأَنَّهُ نفس ... غير مُمل لطول ترديد)
حلى جيد الزَّمَان بفرائد قلائده وَمَا الدَّهْر إِلَّا من رُوَاة قصائده سَارَتْ بأشعاره(2/287)
الصِّبَا وَالْقَبُول وصادفت من النَّاس مواقع الْقبُول كَأَنَّهَا نفس الريحان وأزهاره تمزجه صبا الأصائل من أنفاس نواره فَكَأَن مداد دواته من غاليه إِذْ أَصبَحت أسعار أشعاره غَالِيَة أَلْفَاظ كَمَا نورت الْأَشْجَار وَمَعَان كَمَا تنفست الأسحار إِذا ألبس قلمه ثوب المداد عرى من الفصاحة قس إياد وَلَو حاراه الْكُمَيْت فِي حلبة البلاغة لَكَانَ قصاراه التَّقْصِير وَلَو ناظره ابْن برد لقيل لَهُ هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير فيا لَهُ من شعر سَار مسير الْأَمْثَال وَبلغ مَا بلغ الصِّبَا وَالشمَال يكَاد يخرج من حدّ الشّعْر إِلَى حد السحر شفت ظروف حُرُوف مبانيه فَنمت على سلافة لطافة مَعَانِيه كَمَا نمّ الزّجاج على الرَّحِيق والنسيم على شذا الرَّوْض الأنيق وَكَانَ ذَا نفس أَبِيه وهمة وحميه يُجَاهر فِي سبّ أَعْيَان زَمَانه من أضرابه وأقرانه بل كَانَ لَا يسلم من عضب لِسَانه أحد وَلَا يدْرك لَهُ غَايَة وَلَا حد فَرُبمَا أصبح كَذَلِك وَهُوَ بِإِحْرَام الحرمان مُشْتَمل أشبعتهم سباً وفازوا بِالْإِبِلِ وَكَانَت صحبته أحلى من قبْلَة الحبيب وغفلة الرَّقِيب انْتهى قلت وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ نادرة الزَّمَان وَوَاحِد الرّوم فِي الشّعْر وَمَعَ كَثْرَة شعره بالتركية والفارسية لم أظفر لَهُ من شعره الْعَرَبِيّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ التوأمين وهما قَوْله
(لم يبْق منا غير آثارنا ... وتنمحي من بعد أَخْلَاق)
(وكلنَا مرجعنا للفنا ... وَإِنَّمَا الله هُوَ الْبَاقِي)
ثمَّ وقفت لَهُ على هَذَا الْبَيْت الْفَذ قَالَه فِي هجاء ابْن بُسْتَان الرُّومِي وَهُوَ قَوْله
(وَإِذا أَشرت إِلَى كذوب مفتر ... فَإلَى ابْن بُسْتَان بِكَذَّابٍ أشر)
وَكَانَ يجْرِي لَهُ مَعَ أدباء عصره مطارحات ومنادمات يتداولها إِلَى الْآن أدباء الرّوم فِي مجَالِسهمْ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنهُ بنكات كَانَت تصدر عَنهُ من ألطف مَا يكون وَمن أحْسنهَا موقعاً مَا اشْتهر عَنهُ أَنه كَانَ نظم قِطْعَة من الشّعْر فِي غُلَام مَشْهُور بالجمال فَلَمَّا سمع الْغُلَام الْقطعَة أعجبه مَا فِيهَا من التخيل وَأقسم أَنه يقبل رجله إِذا رَآهُ فاتفق أَنه صادفه فِي بعض أسواق قسطنطينية وَبَاقِي رَاكب وجماعته فِي خدمته فَدخل الْغُلَام وَأَرَادَ يقبل رجله فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ مَا حملك على هَذَا أَلَك حَاجَة فَقَالَ لَا وَأخْبرهُ بِالْيَمِينِ الَّذِي حلفه فَقَالَ لَهُ أَنا نظمت الشّعْر بفمي وَلم أنظمه برجلي فَخَجِلَ الْغُلَام وَانْصَرف وَوجدت فِي ديوَان أبي بكر الْعمريّ ذكر هَذِه الْوَاقِعَة وَقد نظمها فِي أَبْيَات ثَلَاثَة وَهِي(2/288)
(قَالَ لما وَصفته ببديع الْحسن ... ظَبْي يجل عَن وصف مثلي)
(مكن العَبْد أَن يقبل رجلا ... لَك كَيْمَا يُجِيز فضلا بِفضل)
(قلت أنصف فدتك روحي فَإِنِّي ... بفمي قد نظمته لَا برجلي)
وَقَرِيب من هَذَا قَول الصاحب ابْن عباد
(وشادن جماله ... تقصر عَنهُ صِفَتي)
(أَهْوى لتقبيل يَدي ... فَقلت لَا بل شفتي)
وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة من هَذَا النَّوْع لطائف كَثِيرَة والعنوان يدل على مَا فِي الصَّحِيفَة وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان بعد الْألف
عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بالإسحاقي المنوفي الأديب الشَّاعِر الْفَائِق كَانَ قَاضِيا فَاضلا عَالما مؤرخاً كثير النّظم للشعر صَحِيح الفكرة وَله تَارِيخ لطيف ورسائل كَثِيرَة قَرَأَ بِبَلَدِهِ على شُيُوخ كثيرين وَكَانَ يتردّد إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن أكَابِر علمائها وَمن شعره الغض الْبَهِي قَوْله
(تمشت لنا تخجل الكوكبا ... فناديتها مرْحَبًا مرْحَبًا)
(غزالة أنس لَهَا طلعة ... إِذا خالها الصب حَقًا صبا)
(أدارت بحضرتنا قهوة ... وطافت بكأس الطلا مذهبا)
(رنت ورمتني بألحاظها ... وَقد أذكرتني عهد الصِّبَا)
(فَلَو أنّ نظرتها كالظبا ... لهان وَلَكِن كحدّ الظبا)
(وغنت لنا فطربنا لَهَا ... فيا حسن ذَاك الَّذِي أطربا)
(غزالية آنست صبها ... وَأَنت محبتها زينبا)
(فهمنا فهمنا غراماً بهَا ... وَعَن حالتي حبها أعربا)
(وصبّرت قلباً غَدا هائماً ... وَقد كَاد فِي الْحبّ أَن يذهبا)
(فَفِيهَا مديحي عذب يرى ... وَفِي غَيرهَا الْمَدْح لن يعذبا)
(سأجعل فِي وصفهَا نبذة ... وأركب فِي حبها أشهبا)
(مدحت فقصر قلبِي المديح ... وَكَانَ مرادي أستوعبا)
(وَإِنِّي فِي وَصلهَا سَيِّدي ... تراني بَين الورى أشعبا)
(فبالله يَا نسمَة البان أَن ... حففت على حَيّ ذَاك الرِّبَا)
(وجزت رياضاً بهَا غادتي ... فهات لنا عَن حلاها نبا)(2/289)
(أيا عاذلي فِي هَواهَا اتئد ... حَدِيثك عِنْدِي مثل الهبا)
(سقى الله روضاً بِهِ سادتي ... من الوبل غيثاً بِهِ صيّبا)
(لِأَنِّي بَاقٍ على عَهدهم ... أرى حبهم مذهبا مذهبا)
وَمن مطرياته هَذِه الخمرية وَهِي قَوْله
(أمل لي كأساً تَمامًا ... واسقني جَاما فجاما)
(وَاجعَل الدرة كأساً ... وَخذ التبر مداما)
(تمم الكاس فَإِن الكاس ... مَا كَانَ تَمامًا)
(واتخذها سلما للهو ... يسمو أَن يساما)
(وتوهم أَنَّهَا الْحل ... وَإِن كَانَت حَرَامًا)
(ثمَّ أزهى مَوضِع فِي الرَّوْض ... فاختره مقَاما)
(وَإِذا مَا شِئْت أَن تسكر ... فاستدع النداما)
(وَليكن خمرك عاديا ... وساقيك غُلَاما)
(يمْلَأ الكاسات والألحان ... برأَ وسقاما)
(يمْلَأ الْقلب سُرُورًا ... وانبساطاً وغراما)
(عابثاً بالغصن أعطافاً ... وبالزهر ابتساما)
(ومحلى بالطلا جيدا ... وبالعارض لاما)
(وَترى مِنْهُ القوام الْغُصْن ... والغصن القواما)
(وَترى الأغصان إجلالاً لَهُ ... هيباً قيَاما)
(وَترى الشَّمْس وَبدر التم ... نَارا ثمَّ راما)
(فَهُوَ الْمَطْلُوب للمجلس رَأْسا ... وَأما مَا)
(اسْقِنِي بالكوب والكاس ... فُرَادَى وتؤاما)
(ثمَّ بالطاس إِلَى أَن ... تتراءى الْهَام هاما)
(ثمَّ بالجرّّة فالجرّة ... حَتَّى أترامى)
(اسْقِنِي حِينَئِذٍ بالزق ... حَتَّى لَا كلَاما)
(ثمَّ بالدن فَتلك الْغَايَة ... القصوى تَمامًا)
(ثمَّ خُذ عني مَا شِئْت ... وَلَا تخش أثاما)
(والتقط مني الجمان ... الْفَرد نثراً ونظاما)(2/290)
(وَإِذا لم يكن الطافح ... بالكاس هماما)
(فاغد واعذر وَإِذا رام ... خطابا قل سَلاما)
ويستحسن مِنْهُ قَوْله
(أذكرت أيتها الْحَمَامَة غيدا ... ومعاهداً سلفت لنا وعهودا)
(وصدحت فَوق أراكة فتصدّعت ... قلباً وَحين صعدت ذَا الأملودا)
(أذكرت أشجاناً لنا ومعاهداً ... وَصفا تقضّى طارفاً وتليدا)
(هَذَا على أَن الغرام إِذا زكى ... ظلّ الشجى يتَوَقَّع التغريدا)
(لله أَيَّام نعمت بهَا وَقد ... عقد الْغَمَام على الغصون نهودا)
(حَيْثُ الشجى طوراً يخمش كاعباً ... وَمن الجوى طوراً بجمش رودا)
(حَيْثُ الشمَال يُحَرك العذبات إِذْ ... يخطو ويخطر والرياض وبيدا)
(حَيْثُ المثاني والمثالث هَذِه ... ترنو وَذي بشجى تحرّك عودا)
(هَذَا وَمَعَ أَنا وَلَو طفحت كؤوس ... الراح واشتعل المدام وقودا)
(مَا حركت منا المدام سوى الرؤوس ... كَذَا الشمَال تحرّك الأملودا)
(أتؤوب هاتيك اللويلات الَّتِي ... فِيهَا نظمت لآلئاً وعقودا)
(ولرب خل حَاز أَنْوَاع الذكا ... وَلذَا غَدا فِي المكرمات فريدا)
(سامرته وجنوت من أَلْفَاظه ... مَا يخجل الصَّهْبَاء والعنقودا)
(وجلا عليّ عرائساً من فكره ... حسنت طلاً ومعاطفاً وقدودا)
(وأفادني وأفدته والخل يحمد ... أَن يفاد معانياً ويفيدا)
(فالعقل نَام والعفاف بِحَالهِ ... ومجيد فكرتنا استمرّ مجيدا)
(يَا عبد فابق على اصطباحك واغتباقك ... واصحبن الْعَهْد والمعهودا)
وَقد ذكرته فِي كتابي النفحة وَذكرت لَهُ من غزلياته قدرا زَائِدا على هَذَا وَالْحق أَن شعره مَا عَلَيْهِ غُبَار وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف ببلدة منوف
عبد الْبر بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زين الفيومي الْعَوْفِيّ الْحَنَفِيّ أحد أدباء الزَّمَان المتفوقين وفضلائه البارعين كَانَ كثير الْفضل جم الْفَائِدَة شَاعِرًا مطبوعاً مقتدراً على الشّعْر قريب المأخذ سهل اللَّفْظ حسن الإبداع للمعاني مخالطاً لكبار الْعلمَاء والأدباء معدوداً من جُمْلَتهمْ أَخذ الْعلم بِمصْر عَن الشَّيْخ أَحْمد الوارثي الصديقي وَالْأَدب عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ والقراآت عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني(2/291)
وَفَارق موطنه فحج أَولا وَأخذ بِمَكَّة عَن ابْن عَلان الصديقي وَكتب لَهُ إجَازَة مؤرخة بأواخر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف ثمَّ دخل دمشق وحلب فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأخذ بحلب عَن النَّجْم الحلفاوي الْأنْصَارِيّ وَلَزِمَه للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فِي شرح الدُّرَر فِي الْفِقْه مَعَ حَاشِيَة الوافي وَشرح ابْن ملك على الْمنَار مَعَ حَوَاشِيه الثَّلَاث عزمي زَاده وقرا كَمَال والرضي بن الْحَنْبَلِيّ الْحلَبِي وَشرح الجامي مَعَ حَاشِيَته لعبد الغفور ومختصر الْمعَانِي مَعَ حَاشِيَته للخطائي ثمَّ خرج إِلَى الرّوم فورد مورد الْعَلامَة أبي السُّعُود الشعراني وَقَرَأَ عِنْده جَامع الْأُصُول للربيع اليمني وَهُوَ فِي تَحْرِير الْأَحَادِيث وَشرح الهمزية لِابْنِ حجر بِتَمَامِهِ وَنصف سيرة الْخَمِيس أَو قَرِيبا مِنْهُ وجانباً من فتاوي قَاضِي خَان وَبَعض فَرَائض السِّرَاجِيَّة وَكَثِيرًا من مبَاحث التَّفْسِير وَأَجَازَهُ وَلزِمَ الشهَاب الخفاجي فَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض شرح الْمِفْتَاح للتفتازاني وَبَعض شرح نَفسه على الشفا وَكتب لَهُ خطه على هَامِش الْكِتَابَيْنِ وَلما ولي قَضَاء مصر استصحبه مَعَه إِلَى صلَة رَحمَه واستنابه بَين بَابي الْفَتْح والنصر وصيره معيداً لدرسه فِي حَاشِيَته على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَفِي شرح صَحِيح مُسلم للنووي وَأخذ بالروم عَن الْمولى يُوسُف بن أبي الْفَتْح الدِّمَشْقِي إِمَام السُّلْطَان وَولي من المناصب إِفْتَاء الشَّافِعِيَّة بالقدس مَعَ الْمدرسَة الصلاحية وَدخل دمشق وَأقَام بهَا فِي حجرَة بِجَامِع المرادية نَحْو سنتَيْن وَلم يقدر على الدُّخُول إِلَى الْقُدس خوفًا من الشَّيْخ عمر بن أبي اللطف مفتي الشَّافِعِيَّة قبله ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ عمر ترحل إِلَيْهَا وَمكث بهَا أَيَّامًا وَلما لم ينل حَظه من أَهلهَا ترك الْفَتْوَى والتدريس وَرَأى الْمصلحَة فِي الرُّجُوع إِلَى الرّوم فانتقل إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ انتظم فِي سلك الموَالِي فولي بعض مناصب وَمَات وَهُوَ مَعْزُول عَن ساقز وَله تآليف كَثِيرَة حَسَنَة الْوَضع أشهرها كِتَابه منتزه الْعُيُون والألباب فِي بعض الْمُتَأَخِّرين من أهل الْآدَاب جعله على طَريقَة الريحانة إِلَّا أَنه رتبه على حُرُوف المعجم وَجمع فِيهِ بَين شعراء الريحانة وشعراء المدائح الَّذِي أَلفه التقي الفارسكوري وَزَاد من عِنْده بعض متقدميه وَبَعض عصريين وَهُوَ مَجْمُوع لطيف وَفِيه يَقُول الأديب يُوسُف البديعي
(كتاب ذِي الْفضل عبد الْبر منتزه الْعُيُون ... أحسن تأليف وَمُنْتَخب)
(حوى محَاسِن أَقوام كَلَامهم ... فِي النّظم والنثر يلفى زبدة الْأَدَب)
(رأى البديعي مَا فِيهِ فحقق أَن ... مَا مثل رونقه فِي سَائِر الْكتب)(2/292)
وَله حَاشِيَة على شرح الْهمزَة لِابْنِ حجر صَغِيرَة الحجم وَكتاب بُلُوغ الأرب والسول بالتشرف بِذكر نسب الرَّسُول وَكتاب اللطائف المنيفة فِي فضل الْحَرَمَيْنِ وَمَا حولهما من الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة وَكتاب حسن الصَّنِيع فِي علم البديع وَله بديعية على حرف النُّون وَشَرحهَا ومطلعها
(لما تذكرت سفح الْخيف والبان ... أهلّ دمعي وروّى رَوْضَة البان)
وَقد عَارض فِيهِ بديعية شَيْخه الْحَمَوِيّ ومطلع قصيدته
(هجري على ولي وصل بأحياني ... أماتني الهجر جَاءَ الْوَصْل أحياني)
وَله رِسَالَة فِي التوشيع سَمَّاهَا إرشاد الْمُطِيع ورسالة سَمَّاهَا مشكاة الاستنارة فِي معنى حَدِيث الاستخارة ورسالة فِي الْقَلَم وَأُخْرَى فِي السَّيْف وَله شعر كثير غالبه مسبوك فِي قالب الإجادة وَعَلِيهِ رونق الانسجام والبلاغة فَمن ذَلِك قَوْله
(تبدّى مليك الْحسن فِي مجْلِس الْبسط ... بقدٍّ كغصن البان أَو ألف الْخط)
(وَأبْدى على شَرط الْمحبَّة حجَّة ... مسلمة أَحْكَامهَا قطّ مَا تخطي)
(وَمن شَرطه فِي الخدّ قبْلَة عاشق ... فَكَانَ مداد الْحسن فِي ذَلِك الشَّرْط)
اختلسه من قَول ابْن حجَّة فِي قصيدته الَّتِي قَالَهَا فِي مدح حماه
(وَقد جَاءَ شَرط الْبَين أَنِّي أغيب عَن ... حماها لقد أدْمى فُؤَادِي بِالشّرطِ)
وَمن تشبيهاته
(رَأَيْت يَوْمًا عجبا ... فيا لَهُ من عجب)
(النُّور مبيضّاً على ... محمر لون القضب)
(كخيمة من فضَّة ... على عَمُود ذهب)
وَمن ذَلِك قَوْله
(انْظُر إِلَى الزهر النَّضِير العسجدي ... يَدْعُو إِلَى لَهو كوجه الأغيد)
(فالورد فِي الروضات محمرّ على ... أغصانه الْخضر الحسان الميد)
(ملاءة من ذهب منشورة ... من تحتهَا قَوَائِم الزبرجد)
وَله فِي الدولاب
(إِنَّمَا الدولاب فِي دوره ... يهيم من شوق وأشجان)
(ينوح حزنا وَيرى باكياً ... بأعين تهمى على البان)
وَقَرِيب مِنْهُ قَول أَحْمد بن عبد السَّلَام الْمصْرِيّ
(وروضة دولابها دائر ... موله من فرط أشجانه)
(فكله من وجده أعين ... تبْكي على فرقة أغصانه)
وَالْأَصْل فِيهِ قَول ابْن تَمِيم(2/293)
(ودولاب روض كَانَ من قبل أغصنا ... تميس فَلَمَّا غيرتها يَد الدَّهْر)
(تذكر عهدا بالرياض فكله ... عُيُون على أَيَّام عهد الصِّبَا تجْرِي)
ولعَبْد الْبر فِي دولاب الْعِيد الَّذِي يَدُور بالأولاد
(إِنَّمَا الْولدَان فِي عيدهم ... من فَوق دولاب بهم دَارا)
(قد أدركوا الْعِشْق وأحواله ... فالعقل قد دَارا وَمَا دَارا)
وَله فِيهِ أَيْضا
(دولاب عيد دَار بالمنحنى ... لطلعة قامتها ناضرة)
(يروي لنا عَن فلك دائر ... وَالشَّمْس مَا زَالَت بِهِ دَائِرَة)
قَالَ وَلما وَردت بروسة وَرَأَيْت الْحمام الخلقي الَّذِي يُقَال لَهُ قبلجة وَهُوَ مَاء حَار يخرج من تَحت جبل عَال قلت
(وَمَاء لَهُ طبع الْحَرَارَة خلقَة ... من الْجَبَل الصلد الْعَظِيم لقد سلك)
(إِلَى كل حَوْض مستدير موسع ... ترَاهُ مدَار المَاء ملعبه السّمك)
(تَدور بِهِ الْولدَان طالعة وَقد ... تغيب كشأن النيرين من الْفلك)
وَقلت فِيهِ أَيْضا وَهُوَ معنى حسن
(وحوض كَبِير مستدير وماؤه ... حرارته بالطبع للبرد دافعه)
(أحاطت بِهِ الأقمار من كل جَانب ... وَمن أفقه شمس المحاسن طالعه)
وَمن لطائف شعره قَوْله فِي الْغَزل
(لي حبيب قد سالماه ... عذباً وطرفاه سالماه)
(فيا خليلاي عذر صب ... جواداً وَإِلَّا فسالماه)
(فالطرف هام من التَّجَافِي ... طول اللَّيَالِي قد سَالَ ماه)
(وَسَاكن الْقلب مذرآه ... يهيم بالوجد سَالَ مَا هُوَ)
الأول سَاءَ بِالْهَمْزَةِ مَقْصُور للشعر ولمى أَي الرِّيق فَاعل وإساءته مَنعه لوارده وَالثَّانِي مَاض وَالْألف للتثنية وَالثَّالِث أَمر لاثْنَيْنِ وَالرَّابِع من الإسالة وَالْمَاء قصر للضَّرُورَة وَالْخَامِس من السُّؤَال سهلت الْهمزَة ضَرُورَة وَمَا سُؤال على سَبِيل تجاهل الْعَارِف وَقد حذا فِي هَذَا حَذْو أَحْمد النَّسَفِيّ الْمَعْرُوف بقعود وَزَاد عَلَيْهِ بالتصريع وأبيات النَّسَفِيّ هِيَ هَذِه
(يَا صاحبيّ اتركا معنى ... أَو فاعذلاه وعارضاه)(2/294)
(فَمَا تطيقان رشد غاو ... بِمَا يلاقي وعارضاه)
(سبى حشاه وَالْعقل مِنْهُ ... عينا غزال وعارضاه)
(يَا جمع من صير التصابي ... فِي الْحسن عاراً بالعارضا هَوَاهُ)
وَمن شعر الفيومي قَوْله فِي الْغَزل
(حبيب لَهُ جسمي وقلبي رَاغِب ... ولي مِنْهُ هجر وَهُوَ للوصل رَاهِب)
(لَهُ من غرامي فِي فُؤَادِي أعين ... ولي من جفاه والتباعد حَاجِب)
(نزيل الحشا لم يرع مثوى بِهِ نشا ... وَكَيف انتشى والوجد للصب ناصب)
(وَلم طبعه لم يكْسب الْخَفْض بُرْهَة ... من الجفن والولهان للكسر كاسب)
(لَهُ فِي عيوني من رقيبي حارس ... وَمن خاطري خل وفيّ وَصَاحب)
وَله من فصل فِي
(غُضُون شكاية من الزَّمن ... قد كَانَ الْفضل فِي المراقي)
من نصل عُيُون الدَّهْر هُوَ الراقي والترقي فِي الْأَدَب بِهِ التوقي من النصب والوصب وكل هَذَا ذهب وانحصر الدَّوَاء فِي الْفضة وَالذَّهَب فالمفلحون فِي خبايا النُّقُود قعُود والمفلسون فِي زَوَايَا الخمول رقود فدع فضل الْعلم والحسب وَاسع أَن يكون لَك من المَال خير نشب فقد كَانَ الْأَدَب وَدِيعَة واسترد وَصَارَ الدِّرْهَم مرهماً ولبرء سَاعَة استعد وَمن هَذَا الْقَبِيل قَول زين الدّين بن الْجَزرِي من مقامة لَهُ قد كَانَ شراب الْأُصُول يداوي العليل والآن لَيْسَ فِي غير الديناء شِفَاء للغليل ألم تسمع أَن الدَّرَاهِم لجروح الْعَدَم مراهم وَقد استردّت الْأَيَّام ودائع المكارم والكرام يحسن فِي هَذَا الْمقَام قَول ابْن أبي الْفَتْح الإِمَام السلطاني
(أهل الْعُلُوم ذَهَبُوا ... وَلَيْسَ إِلَّا الذَّاهِب)
ولعَبْد الْبر وَهُوَ معنى مليح
(فكري وعقلي عنْدكُمْ وبكم ... قد صرت فِي شغل وَفِي سكر)
(فاعجب لمن كتبت أنامله ... خطا بِلَا عقل وَلَا فكر)
وَله
(قَالَ لي شخص رَأَيْت العجبا ... صدر الْجُهَّال فَوق الأدبا)
(قلت شَأْن الدَّهْر لَا يهوى فَتى ... فَاضلا حَاز الْهدى والأدبا)
(كَيفَ حَال الصب مَعَ حجاجهم ... حَيْثُ أرْضى عجمهم والعربا)
وَهَذَا الْمَعْنى مطروق من أشهره قَول عبد الرَّحِيم العباسي
(أرى الدَّهْر يمنح جَهَالَة ... فأعظم قدرا بِهِ الْجَاهِل)(2/295)
(وَانْظُر حظي بِهِ نَاقِصا ... أيحسبني أنني فَاضل)
وَمن شعره قَوْله فِي جناس التَّصْحِيف
(لعقرب صُدْغه حَال عَجِيب ... أديرت فِي حراسة مسك خَاله)
(وَلَكِن أهملته للدغ قلب ... تقلب فِي لظى فاعجب لحاله)
ألطف مِنْهُ قَول ابْن الحنائي الرُّومِي
(أرى من صدغك المعوج دَالا ... وَلَكِن نقطت من مسك خَالك)
(فَأصْبح داله بالنقط ذالاً ... فها أَنا هَالك من أجل ذَلِك)
وَمن شعره قَوْله فِي الحكم
(إِذا مَا رَأَيْت لَهُم شدَّة ... لبست لدهري ثوب النمر)
(وَإِن هم من اللطف فِي حلَّة ... لبست لِبَاس اللَّطِيف السمر)
(فراع الزَّمَان وأحواله ... وَحَال اللَّطِيف وَحَال الأشر)
وَقَوله فِي مِثَال النَّعْل الشريف
(لمثل نعل الْمُصْطَفى شرف ... وفوائد زَادَت على العدّ)
(فكأنّما هُوَ دارتا قمر ... يهدي الْأَنَام وَلَو على بعد)
(قبلتها وَجعلت صورتهَا ... فَوق الجبين عَلامَة السعد)
(لَو كَانَ يحسن أَن أشركها ... جلدي جعلت شراكها خدي)
وَالْبَيْت الْأَخير مضمن من بَيْتَيْنِ لأبي الْعَتَاهِيَة وَقد أهْدى إِلَى الْفضل بن الرّبيع نعلا وكتبهما مَعهَا وهما
(نعل بعثت بهَا لتلبسها ... قدم بهَا تسْعَى إِلَى الْمجد)
لَو كَانَ يحسن إِلَى آخر الْبَيْت وَله مضمناً فِي النَّصِيحَة وَحسن الصُّحْبَة
(صديقك إِن أخْفى عيوباً لنَفسِهِ ... وَأظْهر عَيْبا فِيك وَهُوَ يُصَرح)
(فَخذ غَيره واترك مناهج وده ... فَكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ ينضح)
أَصله مَا فِي تَارِيخ ابْن خلكان قَالَ الشَّيْخ نصر الله بن مجلى وَكَانَ من ثِقَات أهل السّنة رَأَيْت فِي الْمَنَام عَليّ بن أبي طَالب فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تفتحون مَكَّة فتقولون من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ثمَّ يتم على ولدك الْحُسَيْن يَوْم الطف مَا تمّ فَقَالَ لي أما سَمِعت أَبْيَات ابْن الصيفي فِي هَذَا فَقلت لَا فَقَالَ اسمعها مِنْهُ ثمَّ استيقظت فبادرت إِلَى دَار حيص بيص فَخرج إِلَيّ فَذكرت لَهُ الرُّؤْيَا فشهق وأجهش بالبكاء(2/296)
وَحلف بِاللَّه إِن كَانَت خرجت من فمي أَو خطي إِلَى أحد وَإِن كنت نظمتها إِلَّا فِي لَيْلَتي هَذِه ثمَّ أَنْشدني
(ملكنا فَكَانَ الْعَفو منا سجية ... فَلَمَّا ملكتم سَالَ بِالدَّمِ أبطح)
(وحللتم قتل الْأُسَارَى وطالما ... غدونا عَن الأسرى نعف ونصفح)
(وحسبكم هَذَا التَّفَاوُت بَيْننَا ... وكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ ينضح)
ولعَبْد الْبر وَهُوَ معنى بديع
(قد قيل أَن المَال عقل الْفَتى ... بِهِ لَهُ التصريف فِي النَّقْل)
(فَقلت لَا تعجب فكم فِي الورى ... من عَاقل أضحى بِلَا عقل)
وَله من مَقْصُورَة عَارض بهَا مَقْصُورَة ابْن دُرَيْد الْمَشْهُورَة ومطلع مقصورته
(أيا مهاة قد رعت بالمنحنى ... حشاشة الرَّاعِي بِأَكْنَافِ اللوى)
(هَل وَقْفَة وَلَو قَلِيل بَعْدَمَا ... جرت على الصب تباريح الجوى)
(فَتى كئيب والهوى أَحْكَامه ... عجسة إِن كَانَ سخطًا أَو رضى)
(محاه حب الغيد محواً فانبرى ... وَلَا يرى إِلَّا المنايا فِي المنى)
وَله فِي بعض المحتجبين
(أتيت بَاب كَبِير عِنْد نائبة ... وجدته مغلقاً قلت الْفَتى فطن)
(فَقَالَ لي صَاحِبي الرَّأْي قلت لَهُ ... رأى ابْن عَبدُوس رَأْي كَامِل حسن)
وَلابْن الْخِصَال مثله
(جئْنَاك للْحَاجة الممطول صَاحبهَا ... ) وَأَنت تنعم والإخوان فِي بوس ...
(وَقد وقفنا طَويلا عِنْد بَابَكُمْ ... ثمَّ انصرفنا على رَأْي ابْن عَبدُوس)
ولمحمد بن بدر الدّين القوصوني مثله من فصل الرَّأْي الصَّوَاب فِي التواري بالحجاب
(رأى ابْن عَبدُوس ... وَمَا سواهُ رأى منحوس)
(بل عَذَاب وبوس ... )
وَرَأى ابْن عَبدُوس قَوْله
(لنا قَاض لَهُ خلق ... أقل ذميمة النزق)
(إِذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق)
وَله فِي الخضوع
(يَا من لَهُ مهجتي رق ولي شرف ... بأنني عَبده جهري وإسراري)
(عتقت قلبِي من زيغ وَمن زلل ... وَعتق ذِي سفه فِيمَا بَقِي ساري)
(مننت باللطف فِي الأولى وَلَا عجب ... أَن تعْتق الْجِسْم فِي الْأُخْرَى من النَّار)(2/297)
مِنْهُ قَول الْبَدْر الْقَرَافِيّ
(مِنْك الْبدَاءَة بِالْإِحْسَانِ حَاصِلَة ... ملكتني الرّقّ فضلا مِنْك لي ساري)
(ألهمتني بعده عتقا لتكرمني ... فاختم بِخَير بِهِ عتقي من النَّار)
وللحافظ ابْن حجر
(يَا رب أَعْضَاء السُّجُود عتقتها ... من فضلك الوافي وَأَنت الواقي)
(وَالْعِتْق يسري فِي الْفَتى يَا ذَا الْغنى ... فَامْنُنْ على الفاني بِعِتْق الْبَاقِي)
وَالْأَصْل فِيهِ قَول ذِي الرمة قَالَ الشريشي هُوَ آخر شعر قَالَه
(يَا رب قد أسرفت نَفسِي وَقد علمت ... علما يَقِينا لقد أحصيت آثاري)
(يَا مخرج الرّوح من نَفسِي إِذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عَن النَّار)
وَله قصيدة ميمية عَارض بهَا ميمية شَيخا الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ الَّتِي مطْلعهَا
(أبعد سليمى مطلب ومرام ... وَغير هَواهَا لوعة وغرام)
ومطلع قصيدته هُوَ هَذَا
(أهيل النقا هَل بالديار مقَام ... وَهل حَيّ سلمى مسكن ومقام)
وَهِي طَوِيلَة تنوف على ثَمَانِينَ بَيْتا وَقد تَضَمَّنت حكما كَثِيرَة وَلَوْلَا طولهَا لذكرتها كلهَا وَقد ختم كِتَابه المنتزه بهَا وَلم يذكر بعْدهَا إِلَّا تَارِيخ ابْتِدَاء إنشائه لهَذَا الْكتاب وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر صفر سنة خمس وَخمسين وتاريخ الْفَرَاغ من تبييضه كُله وَهُوَ يَوْم الْأَحَد حادي عشري الْمحرم سنة سِتِّينَ وَألف وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف بقسطنطينية والفيومي نِسْبَة إِلَى الفيوم وَهِي بَلْدَة مَشْهُورَة فِي إقليم مصر وَأَبوهُ عبد الْقَادِر سَيَأْتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
عبد الْبر الأَجْهُورِيّ الشَّافِعِي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْفَقِيه الْحجَّة الفهامة ذُو التصانيف العديدة والفوائد الجزيلة قَرَأَ الْفِقْه على الإِمَام النُّور الزيَادي وَمهر فِيهِ حَتَّى صَار فَقِيه عصره والمشار إِلَيْهِ فِي مصره وَأخذ بَقِيَّة الْعُلُوم عَن شُيُوخ كثيرين من شُيُوخ جَامع الْأَزْهَر وَألف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للمحلى وحاشية على شرح الْمنْهَج وحاشية على شرح التَّحْرِير وحاشية على شرح الْغَايَة لِابْنِ قَاسم وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي سنة والأجهوري بِضَم الْهمزَة نِسْبَة لأجهور الْكُبْرَى بساحل الْبَحْر من عمل القليوبية
عبد الْجَامِع بن أبي بكر بارجاء الْحَضْرَمِيّ الزَّاهِد ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ(2/298)
فِي وَصفه كَانَ فِي غَايَة التقشف والورع والزهد وميلاده بسيوون وَنَشَأ بهَا ولازم خَاله عبد الرَّحْمَن بأرجاء وَأخذ عَنهُ ورباه أحسن تربية ورحل إِلَى تريم وَأخذ عَن ساداتها وَلَقي بهَا الأكابر مِنْهُم وَالسَّيِّد زين العابدين وَأحمد بن عبد الله وَالسَّيِّد سقاف العبدروسيين وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن شهَاب الدّين وَأَخُوهُ الْهَادِي وشهاب الدّين أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَغَيرهم وَأخذ عَن السَّيِّد حُسَيْن بن الشَّيْخ أبي بكر ابْن سَالم بعينات وَحصل لَهُ مزِيد عناية وَعَن أَخِيه الْحسن وارتحل إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا ولازم السَّيِّد أَحْمد بن الْهَادِي فِي دروسه وَالسَّيِّد مُحَمَّد با علوي وَألبسهُ الْخِرْقَة ولقنه الذّكر جمَاعَة وَحصل لَهُ مِنْهُم مدد عَظِيم وَلزِمَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي فِي درسه الفقهي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الطَّائِفِي ودروس الشَّمْس البابلي وَأخذ عَن الوافدين إِلَى مَكَّة من أهل مصر واليمن وَكَانَ ملازماً لِلْعِبَادَةِ وزار الْقَبْر الشريف مرَارًا وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَصَحب السَّيِّد زين باحسن ولازم صُحْبَة السَّيِّد عيدروس ابْن حُسَيْن الْبَار مُدَّة مديدة وَكَانَ السَّيِّد عيدروس قَائِما بِمَا يَحْتَاجهُ من كسْوَة وَنَفَقَة وَغير ذَلِك ولازمه فِي زياراته كلهَا وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله الجبرتي وَلم يتَزَوَّج أبدا وَكَانَ مُعْتَقدًا جدا لَا سِيمَا عِنْد أهل الطَّائِف وَأهل الْهِنْد لَهُم فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وَفَاته فِي سادس ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بمقبرة الشبيكة تَحت الظلة وَحضر جنَازَته عَالم كثير تركت الدُّرُوس ذَلِك الْيَوْم وَلم يخلف شَيْئا من الدُّنْيَا سوى ثِيَابه الَّتِي كَانَ يلبسهَا وفراشه رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْجَلِيل بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالشامي الدِّمَشْقِي المولد والمنشأ الْحَنَفِيّ كَانَ من أهل الْفضل والمعرفة وَالْأَدب مطبوع الْخلال لطيف الذَّات جميل الشكل حسن الصَّوْت وَفِيه حلم وأناة وَله مطارحة نفيسة وذكاء دأب فِي التَّحْصِيل من طَلِيعَة عمره حَتَّى برع واشتهر فَضله بَين فضلاء وقته وَكَانَ اشْتِغَاله فِي الْفُنُون على الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وعَلى الإِمَام يُوسُف بن أبي الْفَتْح ورمضان بن عبد الْحق العكاري وَعبد اللَّطِيف بن حسن الجالقي الْمَعْرُوف بالقزديري وَمُحَمّد الحزرمي الْبَصِير وَفرغ لَهُ وَالِده عَن إِمَامَة الْجَامِع الْأمَوِي وخطابة الْجَامِع السلطاني السليمي بصالحية دمشق وباشرهما وَهُوَ خَالِي العذار واستكثر عَلَيْهِ ذَلِك وَفِي ذَلِك يَقُول عمر بن الصَّغِير مؤرخاً
(عبد الْجَلِيل ذُو الْكَمَال والعلى ... الْعَالم الأوحد وَالْبَحْر الْعباب)(2/299)
(أولاه مَوْلَاهُ الْكَرِيم رُتْبَة ... أنضت بأعداه إِلَى حسر الثِّيَاب)
(مَعَ الْعُلُوم الباهرات أَرخُوا ... زَاد الْجَلِيل عَبده فصل الْخطاب)
وَكَانَ ذَلِك فِي سنة أَرْبَعِينَ بعد الْألف وتصدر للتدريس والإفادة وَلَزِمَه جمَاعَة من طلبة وقته وانتفعوا بِهِ فِي بعض الْفُنُون وَلما جَاءَ السُّلْطَان مُرَاد لحلب بنية السّفر إِلَى بَغْدَاد سَافر عبد الْجَلِيل من دمشق إِلَى حلب لأجل الاجتاع بشيخه الفتحي وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان وترجى مِنْهُ بعض أَمَان لَهُ فخاب ظَنّه فِيهِ وَرجع من حلب فاحترمته الْمنية فِي منزلَة القطيفة قبل أَي يدْخل إِلَى دمشق وَأدْخل إِلَيْهَا مَيتا وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره الْعَزِيز وَكَانَ عمره خمْسا وَعشْرين سنة فَإِن وِلَادَته فِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَخلف ولدا رضيعاً اسْمه مُحَمَّد ووجهت لَهُ الْإِمَامَة بالجامع الْأمَوِي ثمَّ بعد مُدَّة استقرغ وَصِيّه عَنْهَا للشَّيْخ زين الدّين بن مُحَمَّد النابلسي خطيب السليمانية بِدِمَشْق وَأخذ الْوَصِيّ مِنْهُ مبلغا من الدَّرَاهِم فِي مُقَابلَة الْفَرَاغ لأجل الْقَاصِر قلت وَهَذَا الْقَاصِر الْآن فِي الْأَحْيَاء وَهُوَ من الْفُضَلَاء البارعين كثر الله تَعَالَى من أَمْثَاله
عبد الْجَلِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَقِيّ الدّين أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن عبد الْهَادِي الْعمريّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الصُّوفِي الْفَاضِل المتفوق الذيق كَانَ من نبلاء وقته ولطائفه مستعذف الْخَلِيفَة حُلْو المفاكهة وَله فِي أَنْوَاع الْفُنُون خبْرَة تَامَّة وقريحة متوقدة أَخذ العقاد والتصوف عَن وَالِده الاستاذ بركَة الشَّام وَقَرَأَ فنون الْأَدَب والمنطق على شَيخنَا عَلامَة الزَّمَان إِبْرَاهِيم الفتال وَشَيخنَا الْمُحَقق ابْن عَمه عبد الْقَادِر بن بهاء الدّين الْعمريّ وَأخذ الْعُلُوم الرياضية عَن الشَّيْخ رَجَب بن حُسَيْن الْمُقدم ذكره والْحَدِيث عَن الشَّيْخ الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي ورحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن النُّور الشبراملسي وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأمَوِي مُدَّة وانتفع بِهِ جمَاعَة وَألف تآليف فائقة مِنْهَا شرح الجزرية سَمَّاهُ الدرة السّنيَّة وَشرح رِسَالَة الشَّيْخ أرسلان فِي التصوف وَله الرّبع الْجَامِع فِي الْفلك فِي أَعمال اللَّيْل وَالنَّهَار ورسالة سَمَّاهَا الدّرّ اللامع فِي الْعَمَل بِالربعِ الْجَامِع ورسالة فِي الرّبع المقنطر ورسالة فِي الهندسة ورسالة فِي الرمل سَمَّاهَا الْمُمْتَنع السهل فِي علم الرمل وَمن كَلِمَاته فِي الْحَقِيقَة لَا تزَال فِي ربقة الْأَمَانِي مَا دَامَت فِي ساحة المباني الْبَقَاء مرْآة التحلي والفناء منهل التخلي وَالْجمع منصة التحلي الرّكُوب للْغَيْر قطيعة(2/300)
فِي السّير الزّهْد فِي الظَّاهِر رَغْبَة فِي الْمظَاهر اتقان الْحَواس وَظِيفَة الإفلاس ورؤية الايناس مَظَنَّة الوسواس حَرَكَة الشوق عَصا السُّوق وَله شعر مستحلى مِنْهُ قَوْله وَفِيه اقتباس واكتفاء وتورية
(يَا لقومي من غزال ... خنس الأعطاف ألمى)
(إِذْ تَلا سُورَة حسن ... وَجهه وَالْحسن عَمَّا)
(سَأَلُوا عَن مُحكم الْأَوْصَاف فِيهِ قَالَ عَمَّا ... )
وَقَوله فِي العذار
(نسج الْفضل عَلَيْهِ ... حلَّة تنمو وقارا)
(فِي المجياحين حلت ... رقم الْحسن عذارا)
وَقَوله فِي الْخَال
(خَال الحبيب بدا فِي الخد مبتهجا ... وَالْقلب من شغف للخال قد جنحا)
(قد عَمه الْحسن يَا من خَاله حسن ... وَالْعم فِي خدمَة للخال مَا برحا)
وَقَوله
(يَا رب إِن فؤاد الصب فِي قلق ... وَالْخَال من ذَا المفدى زَاده قلقا)
(يَبْدُو على الْجيد فِي صفحات منظره ... كحب مسك عَلَاء الْحسن فاتفقا)
وَقَوله
(يَا خَاله لما بدا ... فِي عرش خد واستوى)
(أوحى لصدغ آيَة ... تَدْعُو كرا مَا للهوى)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وَألف وَتُوفِّي يَوْم السبت الثَّانِي عشر من الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ المنورة وَدفن بِالبَقِيعِ
عبد الْجواد بن شُعَيْب بن أَحْمد بن عباد بن شُعَيْب القنائي الأَصْل الخوانكي المولد والمنشأ ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الْأنْصَارِيّ القضائي الوفائي من عُلَمَاء مصر وأدبائها صوفي المشرب إِذا حدث أعجب وأبدع وَأغْرب وَكَانَ كثير الْحِفْظ للأشعار ونوادر الْأَخْبَار ذَا نظر فِي الْعلم دَقِيق وَزِيَادَة حذق وَتَحْقِيق وتقوى ظَاهره وَمظَاهر باهره أَخذ عَن النُّور الزيَادي وَمن فِي طبقته وَعنهُ أَخذ جمَاعَة وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة بديعة فِي الاستعارات سَمَّاهَا القهوة المدارة فِي تَقْسِيم الِاسْتِعَارَة ونظم الورقات والنسيم العاطر فِي تَقْسِيم الخاطر والعظة الوفية فِي يقظة الصُّوفِيَّة وكشف الريب عَن مَاء الْغَيْب شرح الأبيات الثَّلَاثَة وَهِي(2/301)
(تَوَضَّأ بِمَاء الْغَيْب إِن كنت ذَا سر ... والا تيَمّم بالصعيد وبالصخر)
(وَقدم إِمَامًا كنت أَنْت إِمَامه ... وصل صَلَاة الْعَصْر فِي أول الْفجْر)
(فهذي صَلَاة العارفين برَبهمْ ... فَإِن كنت مِنْهُم فامزج الْبر بالبحر)
وَمن شعره قَوْله فِي ضَابِط همز الْوَصْل وهمز الْقطع
(زد همزَة الْوَصْل لماض كاغندى ... وَالْأَمر والمصدر مِنْهُ وَإِذا)
(أمرت من نَحْو اخش واغز وارم ... وَفِي ابنم وَابْن وَفِي است وَاسم)
(واثنين واثنتين وَايْم وامرىء ... وَامْرَأَة وهمز أل كالنبأ)
(وهمز كرام وَنَحْو اقْطَعْ ... وَفعل ذِي تكلم كادعي)
(وَصفَة قد شبهت وَفِي ندا ... جلالة حَرَّره مُعْتَمدًا)
(عبد الْجواد بن شُعَيْب فَادع لَهُ ... كي يلهم الْجَواب عِنْد المسئلة)
وَله ضَابِط مَا يجوز فِيهِ عود الضَّمِير على مُتَأَخّر لفظا ورتبة
(فِي سنة أخر ضميراً لفظا ... ورتبة واحرص عَلَيْهَا حفظا)
(الْأَمر والشان وَرب وَالْبدل ... نعم وَبئسَ مَعَ تنَازع الْعَمَل)
وَله ضَابِط مَا يعلق بِهِ الْعَامِل
(يعلق فعل الْقلب مَا ثمَّ لَا وان ... لنفي وَلَام الِابْتِدَاء مَعَ الْقسم)
(كَذَلِك الِاسْتِفْهَام بالحرف دَائِما ... أَو الِاسْم فاعرف أَيهَا الْمُفْرد الْعلم)
وَمن غزلياته قَوْله
(مَا اصْطفى قلبِي إِلَّا مصطفى ... هُوَ حسبي من حبيب وَكفى)
(أسعد الله تَعَالَى طالعاً ... حل فِيهِ وَأرَاهُ الشرفا)
(مَا عَلَيْهِ لَو سقاني رِيقه ... إِنَّه الشهد وَفِي الشهد شفا)
(إِن وفى الدَّهْر بِهِ فِي لَيْلَة ... فَهُوَ عِنْدِي دَائِما أهل الوفا)
وَمن مدائحه قَوْله
(حسبي الَّذِي لم يخب من احتسبه ... من الْمَعَالِي إِلَيْهِ منتسبه)
(أكْرم من أكْرم العفاة وَمن ... أسدى إِلَى مرتجيه مطلبه)
(أكمل من تجتني فَوَائده ... أَفْئِدَة الوافدين والطلبه)
(أسمح من يمنح الجزيل وَمَا ... يطْلب شكرا جَزَاء مَا وهبه)
(يبصر من خلف ستر هيكله ... كناظر والزجاج مَا حجبه)(2/302)
(ينقش فِي لوح سره صوراً ... عَن غَيره فِي الْوُجُود محتجبه)
(فيصدر الْأَمر عَن حَقِيقَته ... متسق الْحسن بادياً حببه)
قدم مَكَّة حَاجا وجاور بهَا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَأخذ عَنهُ بهَا كثير من فضلائها وَرجع إِلَى بَلَده وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
عبد الْجواد بن مُحَمَّد بن أَحْمد المنوفي الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الأديب اللوذعي كَانَ فَاضلا أديباً حسن المذاكرة أَخذ بِمَكَّة عَن علمائها وَولي بهَا مدرسة ورزق بعض مَعْلُوم من الرّوم فتعصب عَلَيْهِ جمَاعَة ومنعوه من ذَلِك فَرَحل إِلَى مصر وَأقَام بهَا وَكَانَ أَبوهُ حَيا وَكَانَ لَهُ فِي مبدأ أمره ثروة وغناء فتضايق وَلم يقر لَهُ بِمصْر قَرَار دون أَن سَافر إِلَى الرّوم فصحبه وَلَده هَذَا ثمَّ رجعا فَمَاتَ وَالِده بِالشَّام فتكدّر حَاله ثمَّ لحق بِالْحرم الْمَكِّيّ فتقدّم عِنْد الشريف وَبلغ رُتْبَة عالية وَقد ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه جواد علم لَا يكبو وحسام فضل لَا ينبو سبق فِي ميدان الْفضل أقرانه واجتلى من سعد جده ومجده قرانه وَولى الْقَضَاء مرّة بعد أُخْرَى فكسى بمنصبه شرفاً وفخراً ثمَّ تقلد منصب الْفَتْوَى فبرز فِيهَا إِلَى الْغَايَة القصوى مَعَ تحليه بِالْإِمَامَةِ والخطابة والهمة الَّتِي مَلأ بهَا من الثَّنَاء وطابه وَكَانَت لَهُ عِنْد شرِيف مَكَّة الْمنزلَة الْعليا والمكانة الَّتِي لَا تنافسه فِيهَا الدُّنْيَا إِلَى أَن دَعَاهُ ربه فَقضى نحبه قَالَ وَقد وقفت لَهُ على رِسَالَة فِي شرح الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين وهما
(من قصر اللَّيْل إِذا زرتني ... أَشْكُو وتشكين من الطول)
(عدوّ شانيك وشانيهما ... أصبح مَشْغُولًا بمشغول)
أبدع فِيهَا وَأغْرب ثمَّ أورد لَهُ من شعره قَوْله
(أتزعم أَنَّك الخدن المفدّى ... وَأَنت مصادق أعداي حَقًا)
(إليّ إليّ فَاجْعَلْنِي صديقا ... وصادق من أصادقه محقا)
(وجانب من أعاديه إِذا مَا ... أردْت تكون لي خدناً وَتبقى)
وَهُوَ ينظر إِلَى قَول الآخر
(إِذا صافي صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانفصل الْكَلَام)
وَبَينه وَبَين أهل عصره من المكيين وَغَيرهم مطارحات ومراسلات كَثِيرَة وَله فِي الْأَشْرَاف الحسنيين مُلُوك مَكَّة مدائح خطيرة أَعرَضت عَنْهَا لطولها انْتهى وَذكر عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه أَن لَهُ تآليف مِنْهَا شرح على الأجرومية وتحريراته(2/303)
ومنشآته كَثِيرَة وَله شعر فائق مِنْهُ قَوْله من قصيدة مدح بهَا الْأَمِير مُحَمَّد بن فروخ أَمِير الْحَاج الشَّامي فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف يتشكى من جور الزَّمَان ويلتجي إِلَيْهِ مِمَّا نابه ومطلعها
(لأيّ كَمَال مِنْك مَالك أذكر ... وأيّ جميل من جميلك أشكر)
(جمعت كمالاً فِي سواك مفرّقاً ... وَأَنت بِهِ فَرد وجمعك أَكثر)
وَمِنْهَا وَهُوَ مَحل الشَّاهِد
(فيا أَيهَا الشهم الهزبر الَّذِي إِذا ... دَعَاهُ امْرُؤ أغناه إِذْ هُوَ مفقر)
(إليّ فَمَا لي غير سوحك منجد ... أمس بوجهي بَابه وأغفر)
(وَقد ضَاقَتْ الدُّنْيَا عليّ بأسرها ... وضقت بهَا ذرعاً وقفري مقفر)
(وَأَنت لنا غيث إِذا شح ماطر ... وماسح يرْوى الممطرين ويمطر)
(وَأَنت الَّذِي قد عَم وكف أكفه ... بِوَزْن نضار لَا بمزن يدرّر)
(وسائله نيلاً وسائله تراى ... مَقَاصِد عَمَّن رامها لَيْسَ تقصر)
(إليّ وَفرج مَا انطوى فِي جوانحي ... من الْهم حَتَّى بعد لَا أتأمر)
(فكم لَك فِي يَوْم الوغى من مفارج ... وَمن فرج فرجتها حِين تنصر)
(وَكم لَك فِي الْحجَّاج آي جميلَة ... يقصر عَنْهَا فِي منى الْفضل قَيْصر)
(وَكم لَك فِينَا أهل مَكَّة من يَد ... وَمن حَسَنَات فَضلهَا لَيْسَ يحصر)
(وماذا عَسى أحصى صفاتك والورى ... بأجمعهم عَن وصف فضلك تقصر)
وَكَانَ بَينه وَبَين عبد الْبر الْمَذْكُور مَوَدَّة وصداقة صُحْبَة زمن إِقَامَته بِمصْر وَقد أثنى عَلَيْهِ كثيرا قَالَ وَقد سَأَلَني عَن معنى بَيْتَيْنِ للنواجي وهما
(جثثت القوافي فِي طَرِيق رضائه ... بتأسيس نظم مَا نحاه خَلِيل)
(فأطنب ردف فِي الْخُرُوج بوصله ... وأوجز خصر فِي الْوَفَاء دخيل)
وضمنها قصيدة لَهُ طَوِيلَة يسْأَل فِيهَا عَن مَعْنَاهُمَا مطْلعهَا
(شُرُوح متون الْمَدْح فِيك تطول ... فَكيف مقالي وَالْمقَام طَوِيل)
(وَكَيف اقتفائي فِي الثَّنَاء عروضكم ... وقفر القوافي فِي مَا إِلَيْهِ وُصُول)
(وَكَيف اقتطافي زهر روض مديحكم ... وجسم انتحالي فِي القريض نحيل)
قَالَ فأجبته بقصيدة تَتَضَمَّن مَعْنَاهُمَا مطْلعهَا
(ترفق دليلي فالطريق طَوِيل ... وحادي ركاب الظاعنين مطيل)(2/304)
(عَسى يقتفي من قد تخلف إثرهم ... وَيهْدِي بهم من للرشاد يمِيل)
(فطبع الموَالِي يكرمون نَزِيلهُمْ ... ويولونه الْإِحْسَان وَهُوَ نزيل)
(وَأَنِّي وَإِن كَانَ الطَّرِيق مجندلاً ... فلي بِاتِّبَاع السَّابِقين وُصُول)
وَذَلِكَ ضمن رِسَالَة مَشْهُورَة سميتها الذكاء المسكي فِي جَوَاب الْفَاضِل الْمَكِّيّ قَالَ وَأرْسلت لَهُ مَكْتُوبًا وَأَنا بالروم إِلَى مَكَّة مَعَ بعض الْحجَّاج عنونته ببيتين وهما
(لم أنس عهدي بكم وَالطير ساجعة ... وَالرَّوْض زاه وَربع الْحَيّ مأنوس)
(وَإِن بعدتم فَإِن الْقلب عنْدكُمْ ... والجسم بالروم دون الْعود مأيوس)
وَكَانَت وَفَاته خَامِس شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف بِالطَّائِف وَدفن بِقرب تربة ابْن عَبَّاس
عبد الْجواد بن نور الدّين الْبُرُلُّسِيّ الْمصْرِيّ خطيب جَامع الْأَزْهَر الإِمَام الْجَلِيل الَّذِي فَضله أعظم من أَن يذكر وَأشهر من أَن يشهر أَخذ عَن وَالِده وَبِه تخرج وبرع وتفنن فِي عُلُوم كَثِيرَة وانتفع بِهِ جمع وَكَانَ لَهُ وجاهة ونباهة ونظم الشّعْر الْفَائِق واشتغل بُرْهَة بعلوم الرَّقَائِق وَكَانَ خَطِيبًا مصقعاً وَمن لطيف شعره قَوْله من رِسَالَة
(أودى إِلَى أعتاب عزتك الْعليا ... سَلاما سعى بالودّ نحوكم سعيا)
(وأنهى إِلَى ذَاك الْوَجِيه مدائحاً ... وأدعية فِي أَزْهَر الْعلم والمحيا)
(وَأبْدى لَهُ وجدي وفرط تشوّقي ... رعى الله عهدا قد تقضى بِهِ رعيا)
(وأنشدكم بِاللَّه عطفا على فَتى ... لبعدكم لم يلف صبرا وَلَا عيا)
(فَأَنت وجيه الدّين غَايَة مقصدي ... لبعدك باشرت المتاعب والإعيا)
(بقيت لنفع النَّاس فِي خير موطن ... تعطر أرجاء الأباطح بالفتيا)
وَمن مدائحه قَوْله مهنئاً بعض قُضَاة مصر بإبلال من مرض
(يَا سيداً بفضله ... يرقى لهامات القمم)
(لَا زلت فِي عافيةٍ ... والضدّ فِي كل وغم)
(فِي صِحَة دائمةٍ ... يَا ذَا الْكَمَال والهمم)
(برؤك يَا كنز الْهدى ... بِهِ السرُور قد ألم)
(تَارِيخه مَعَ عجل ... بَرِئت من كل سقم)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته خَامِس عشري شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف بِمصْر والبرلسي بِضَم الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَاللَّام مَعَ تشديدها نِسْبَة إِلَى البرلس ثغر عَظِيم(2/305)
من سواحل مصر
عبد الْجواد الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الصَّالح المجذوب نزيل دمشق ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ يعلم الْأَطْفَال بالبقاع وَغَيره من أَعمال دمشق ثمَّ قطن دمشق وَقَرَأَ بهَا وَحفظ بعض الْمسَائِل ثمَّ غلب عَلَيْهِ الوسواس حَتَّى وصل إِلَى أُمُور عَجِيبَة وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الجذب وَكَانَ يكره التَّسْمِيَة بِعَبْد الْجواد وَيَقُول مَا أسمى نَفسِي إِلَّا مُحَمَّد الْمُؤَيد الْمَنْصُور وَيعْتَذر عَن ذَلِك بِأَن الْعَامَّة تشدد الْوَاو فَتكون تَسْمِيَته سَببا لتغيير اسْم الله تَعَالَى وكف بَصَره فِي آخر الْأَمر وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك كشف رَأسه عِنْد الْوضُوء وَكَثْرَة صب المَاء عَلَيْهِ ثمَّ مَاتَ بعلة الاسْتِسْقَاء فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة سبع عشرَة بعد الْألف
عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا الهدوي الشرفي قَالَ حفيده الْحُسَيْن حرسه الله من الْغَيْن فِي وَصفه كَانَ إِمَامًا فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد لَهُ فَضَائِل أذعنت لَهَا أَرْبَاب التَّحْقِيق فِي كل الْبِلَاد وَكَانَ يملي من التَّحْقِيق فِي جَمِيع الْعُلُوم مَا تَنْشَرِح لَهُ صُدُور الأمجاد ويحفظ فِي جَمِيع الْعُلُوم مؤلفات عديدة مَعَ شروحها بِحَيْثُ كَانَ لَا يمر فِي طَرِيق أَو غَيرهَا إِلَّا وَهُوَ يملي عَليّ من صَحبه من فوائدها وينبه على مباحثها سهل الْإِمْلَاء عَظِيم الِاطِّلَاع لطيف الشَّمَائِل وَكَانَ لَا يمر فِي علم التَّفْسِير وَالْفِقْه والْحَدِيث والنحو وَالصرْف والمعاني وَالْبَيَان وَالْعرُوض وَسَائِر الْعُلُوم راو إِلَّا وأملى أَحْوَاله وأخباره ونظمه ونثره وَسيرَته ووفاته وَمَا يتَعَلَّق بذلك من جرح وتعديل وَضبط وَحفظ وَلَا بِبَيْت شعر إِلَّا وأملى مَا بعده وَمَا قبله وقائله وأخباره وَسبب نظمه وَكَانَ من الملكة فِي الْأَصْلَيْنِ بِأَعْلَى الْمَرَاتِب وَمن سَائِر الْعُلُوم بِالْمحل الَّذِي لَا يخفى على أحد أَخذ عَن وَالِده وَسمع عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة من كتب الْفُرُوع مِنْهَا الأزهار للْإِمَام الْمهْدي وَشَرحه لِابْنِ مِفْتَاح والتذكرة للفقيه حسن وَالْكَوَاكِب عَلَيْهَا وَالْأَحْكَام للهادي إِلَى الْحق يحيى بن الْحُسَيْن وَشرح القَاضِي زيد إِلَّا الرّبع الْأَخير وَالْبَيَان لِابْنِ مظفر والتبيان لَهُ والبستان وَالْبَحْر الزخار للْإِمَام الْمهْدي وَشَرحه للْإِمَام عز الدّين وَابْن مرسم والأثمار للْإِمَام شرف الدّين وَشرح ابْن بهران عَلَيْهِ وَتَخْرِيج أَحَادِيث الْبَحْر لَهُ وَغير ذَلِك من كتب الْفِقْه وَسمع كثيرا من أصُول الْفِقْه المعيار وَشَرحه الْمِنْهَاج للْإِمَام الْمهْدي والفصول وحواشيه ومختصر الْمُنْتَهى لِابْنِ الْحَاجِب وَشَرحه للعضد مَعَ حَاشِيَة التَّفْتَازَانِيّ عَلَيْهِ والرفو للنيسابوري والكافل لِابْنِ بهران وَمن(2/306)
كتب النَّحْو الكافية لِابْنِ الْحَاجِب وَشَرحهَا للرضي وَابْن تياح والرصاص وحاشية السَّيِّد الْمُفْتِي عَلَيْهَا والخبيصي والطاهرية وشروحها والفصل وشروحها المتداولة وَمن التصريف الشافية وَشَرحهَا للرضي وركن الدّين وَمن الْمعَانِي التَّلْخِيص وشروحه المطول والمختصر ومفتاح السكاكي وَشَرحه للسَّيِّد وَمن كتب اللُّغَة كِفَايَة المتحفظ وضياء الحلوم والقاموس الْمُحِيط وديوان الْأَدَب ونظام الْغَرِيب والمقامات للحريري وَشَرحهَا للمسعودي وَغَيرهَا من كتب الْفَرَائِض الْمِفْتَاح للضنفري والشاطري عَلَيْهَا وَشرح الخالدي إِلَّا الضَّرْب آخِره والوسيط للْقَاضِي أَحْمد بن نسر وَشرح الْأَعْرَج على الْمِفْتَاح وَمن كتب التَّفْسِير الْكَشَّاف والثمرات للفقيه يُوسُف وَتَجْرِيد الْكَشَّاف والاتقان للسيوطي وَشرح الْخَمْسمِائَةِ للتحري وتهذيب الْحَاكِم وَالْبَغوِيّ والبيضاوي وَمن كتب الْمنطق ايساغوجي وَشَرحه للكاتي والشمسية وَشَرحهَا للقطب والتهذيب للسعد وَشَرحه للشيرازي واليزدي وَمن كتب الْعرُوض الْمُخْتَصر الشافي لِابْنِ بهران وَغَيره وَمن كتب الطَّرِيقَة تصفية الامام يحيى والإرشاد للعبسي وكنز الرشاد للْإِمَام عز الدّين وَكتاب الْبركَة للحبيشي وَغَيرهَا وَفِي أصُول الدّين المعيار للنجري والمنهاج للقرشي وَشَرحه للْإِمَام عز الدّين وَشرح الْأُصُول الْخمس للسَّيِّد مانكديم وَشرح قَوَاعِد النَّسَفِيّ للتفتازاني وَسمع عَلَيْهِ سيرة ابْن هِشَام وبهجة العامري وَشَرحهَا لمُحَمد بن أبي بكر الأشخر وتاريخ ابْن خلكان وتاريخ الرّبيع والبائية وَشَرحهَا للرصيف وَمن كتب الحَدِيث أصُول الْأَحْكَام للْإِمَام أَحْمد بن سُلَيْمَان وشفاء الْأَمِير الْحُسَيْن وتتمته للسَّيِّد صَلَاح بن الْحَلَال وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَتَجْرِيد الْأُصُول لهبة الله الْبَارِزِيّ وَغَيرهَا وَأَجَازَ لَهُ سَائِر مسموعاته على كثرتها وأماما سَمعه على غَيره فكثير فَسمع الأساس على مُؤَلفه الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بداره بحصن شهاره وَأَجَازَهُ بِهِ وبمرورياته وَسمع طرفا من عُلُوم أهل الْبَيْت على الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد بن الإِمَام الْقَاسِم وَسمع غَايَة السول على مُؤَلفه السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقَاسِم مَعَ إملاء مَا تيَسّر من شَرحه مَعَ المعاونة بِالنّظرِ فِي المباحث وَسمع المطول والمختصر للسعد على السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن صَلَاح وعَلى القَاضِي الْعَلامَة الْحسن بن سعيد الفيرري وَسمع ايساغوجي وَشَرحه على السَّيِّد النَّاصِر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن بنت النَّاصِر بِصَنْعَاء وَأخذ الْعرُوض عَن الْفَقِيه الأديب مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْعَرُوضِي وَسمع الْقُرْآن لنافع وراوييه على الْفَقِيه(2/307)
الْمقري الْمهْدي الْبَصِير بِصَنْعَاء وعَلى الْفَقِيه صَلَاح الْوَاسِع كَذَلِك فِي مَسْجِد دَاوُد بِصَنْعَاء وعَلى الْفَقِيه مُحَمَّد بن صَالح الأصابي الْمَكِّيّ وَسمع بزييد صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَالْجَامِع الصَّغِير وذيله للسيوطي وتمييز الطّيب من الْخَبيث فِي علم الحَدِيث للديبع والتيسير الْجَامِع للأمهات السِّت البُخَارِيّ وَمُسلم والموطأ وَسنَن أبي دَاوُد وجامع التِّرْمِذِيّ وَسنَن النَّسَائِيّ على الإِمَام الْعَلامَة الْمُحدث مُحَمَّد بن الصّديق الْخَاص السراج الخنفي سنة تسع وَأَرْبَعين وَبَعضه فِي سنة خمسين وَأَجَازَهُ بمرورياته بِإِجَازَة كتبهَا لَهُ سنة خمسين وَألف وَسمع أَيْضا صَحِيح البُخَارِيّ على الْفَقِيه الْعَلامَة عَليّ بن أَحْمد الحشيبري وَسمع على الْفَقِيه الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن مطير جمع الْجَوَامِع للسبكي وصحيح البُخَارِيّ وَتَفْسِير الْبَغَوِيّ فِي بَيت الْفَقِيه الزيدية وَفِي مَدِينَة زبيد وَسمع صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا على الْفَقِيه الْعَلامَة عبد الْوَهَّاب بن الصّديق الْخَاص الزبيدِيّ وَسمع الْجَامِع الصَّغِير وصحيح مُسلم على الْفَقِيه الْعَلامَة مُحَمَّد بن عمر حشيبر الْحَافِظ الْمُحدث فِي بَيت الْفَقِيه الزيدية وَكَانَ يحضر فِي قِرَاءَة هَذِه الْكتب مَا يتَعَلَّق بهَا من المصنفات فِي عُلُوم الحَدِيث وَرِجَاله وَتَفْسِير غَرِيبَة وَأَجَازَهُ مشايخه المذكورون بِسَائِر مسموعاتهم ومجازاتهم وَذكر لَهُ عدَّة أَسَانِيد أَعرَضت عَنْهَا لطولها وَبِمَا ذكر تعرف جلالة قدره وَطول بَاعه فِي جَمِيع الْعُلُوم وَله أجوبة على مسَائِل كَثِيرَة وَردت عَلَيْهِ من عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان ورسائل بليغة وخطب رائقة وأشعار فائقة وَلما أنْشد بعض من حضر مجْلِس سَمَاعه فِي الحَدِيث بزبيد المحروسة على شَيْخه مُحَمَّد الْخَاص الحني بَيْتِي ابْن حزم الظَّاهِرِيّ وهما
(إِن كنت كَاذِبَة الَّتِي حَدَّثتنِي ... فَعَلَيْك إِثْم أبي حنيفَة أوزفر)
(الواثبين على الْقيَاس تمردا ... والراغبين عَن التَّمَسُّك بالأثر)
أَخذ الشَّيْخ فِي ذمّ ابْن حزم لَا جلهما فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة بديهة
(مَا كَانَ يحسن يَا ابْن حزم ذمّ من ... حَاز الْعُلُوم وفَاق فضلا واشتهر)
(فَأَبُو حنيفَة فَضله متواتر ... وَنَظِيره فِي الْفضل صَاحبه زفر)
(أَن لم تكن قد تبت من هَذَا فَفِي ... ظَنِّي بأنك لَا تبَاعد عَن سفر)
(لَيْسَ الْقيَاس مَعَ وجود أَدِلَّة ... للْحكم من نَص الْكتاب أَو الْخَبَر)
(لكنّ مَعَ عدم تقاس أَدِلَّة ... وبذاك قدوصي معَاذ إِذْ أَمر)
فأعجب الْحَاضِرُونَ بذلك وكتبوه عَنهُ فِي الْحَال وَحضر مجْلِس التدريس فِي بعض(2/308)
الْأَيَّام وَهُوَ فِي قَمِيص أَزْرَق اللَّوْن وَوَجهه يتلألأ كَالْقَمَرِ فَأَنْشد وَلَده النَّاصِر فِي الْحَال
(أَبَد ربداً فِي لون زرقاء أَخْضَر ... تضوّع من طيبين مسك وَعَنْبَر)
(قد انتعل الْجَوْز مجداً ورفعة ... كَمَا أَنه للجود وَالْحَمْد مُشْتَرِي)
(بني عرشة فَوق السماك علومه ... سرى هديها فِي كل واع ومبصر)
(ويملي لنا من كل فنّ دقائقاً ... يضن بهَا عَن أَن تبَاع بجوهر)
(فَللَّه من قَامُوس علم وبحره ... مُحِيط بأنباء صِحَاح لجوهري)
(وَعلم حَدِيث والأصولين أَنَّهَا ... لمن بعض مَا يملي ويقري وأيسر)
(حقيق بِمَا قد قَالَه خير نَاظر ... خَبِير بأرباب المكارم أشهر)
(فَمَا خلقت إِلَّا لطرس أكفه ... وأقدامه إِلَّا لسرج ومنبر)
وَله من الْفَضَائِل والفواضل وَالتَّحْقِيق فِي الْعُلُوم ولطائف النّظم والنثر مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس سلح شهر ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَألف وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ عَالم كثير من جَمِيع الْجِهَات وقبره بالإشغاف من عمل الشجعة مَشْهُور ورثاء عُلَمَاء الْعَصْر بمراث بليغة كَثِيرَة مِنْهَا قَول السَّيِّد جمال الدّين مُحَمَّد بن صَلَاح بن الْهَادِي الوشلي قصيدة مِنْهَا
(الله أكبر كل خطب هَين ... الْأَعْلَى عبد الحفيظ فيكبر)
(حبر الْأَنَام وَحجَّة الْإِسْلَام أَن ... أَمر عرى وَالْعَاقِب المتبصر)
(أعْطى الْجِهَاد حُقُوقه وسمت بِهِ ... للِاجْتِهَاد عوارف لَا تنكر)
وَمِنْهُم الْعَلامَة عَليّ بن مُحَمَّد بن سَلامَة عَالم صنعاء رثاه بقصيدة مطْلعهَا
(مادت جبال بالتهائم والشرف ... وذوت غصون للفضائل والشرف)
(وتضعضعت أَرْكَان مجد شامخ ... للفضل فِي الْعلم الشريف لمن عرف)
ورثاء السَّيِّد يحيى بن أَحْمد الشَّرّ فِي نظما ونثرا من ذَلِك قَوْله أول قصيدة
(قَضَاء لَا يرد وَلَا يعاب ... وَحكم من مدبره صَوَاب)
ورثاه القَاضِي حفظ الله بن مُحَمَّد بن سُهَيْل
(هَل قد دحي الْبَحْر الْمُحِيط نضوبه ... أم ذِي الْجبَال الراسيات تسير)
(أوآن مِنْهَا كسفا أم دكت ... الأرضون أَن هذي السما تتفظر)
(أم مَاتَ ذُو الْفضل الشهير وَمن لَهُ ... بَين الْخَلَائق مفخر لَا يُنكر)
(عبد الحفيظ الْعَالم الْعَلامَة النّدب ... الذكي الْعَارِف المتجر)(2/309)
(ذُو الِاجْتِهَاد وَذُو الْجِهَاد فمنهما ... يحمى العثار بِهِ ويحمى العثير)
ورثاه حفيده القَاضِي حُسَيْن بن النَّاصِر بمراث طَوِيلَة مِنْهَا قصيدة أَولهَا
(الأَرْض ترجف والسحائب تمطر ... لوفاة بحرٍ بالفضائل يزخر)
مِنْهَا
(عضد لأرباب الْأُصُول وَغَايَة ... مِنْهَا الشموس بَدَت لنا والأقمر)
(وبفكره الصافي تحصل للورى ... علم بِهِ تَصْدِيقه يتصوّر)
(وغدت قضاياها موجهة بِمَا ... يدرى بغامض أمرهَا من يبصر)
وَمِنْهَا
(فالمجد مَرْفُوع بِذَاكَ ومرسل ... وَكَأَنَّهُ يَا حبذا مَا يهمر)
(لم يَنْقَطِع عَن فَضله ذُو فطنة ... فَيُقَال مَتْرُوك هُنَاكَ ومنكر)
(لم يبْق للموضوع فِي أَيَّامه ... أصل يشاد وَلَا طَرِيق يظْهر)
عبد الْحق بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْحِمصِي الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الملقب زين الدّين الْحِجَازِي الْفَاضِل الأديب الْمَشْهُور ذكره كثير من المنشئين وَأَصْحَاب التواريخ والمجاميع وأثنوا عَلَيْهِ وَكَانَ معمور الْأَطْرَاف كَامِل الأدوات أديباً مُتَمَكنًا من فنون كَثِيرَة جيد الفكرة لطيف المعاشرة وَكَانَ اشْتِغَاله على وَالِده وغلبت عَلَيْهِ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة مَعَ إحاطة تَامَّة بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُول وَصَحب الشَّيْخ مُحَمَّد بن عمر بن فواز الْآتِي ذكره وَكَانَ يَسْتَفِيد مِنْهُ فِي صُورَة المذاكرة وَأكْثر انتفاعه بِهِ وَله مَعَه مطارحات مَقْبُولَة مِنْهَا مَا كتبه الْحِجَازِي إِلَيْهِ وَقد انْقَطع عَنهُ مجافياً
(يَا غَائِبا والذنب ذَنْبك ... متعتباً الله حَسبك)
(لَا تبعدن فَإِنَّمَا ... أملي من الْأَيَّام قربك)
(فلأصبرن وأرضين ... بِمَا قَضَاهُ الله رَبك)
وَكَانَ خرج فِي شبيبته إِلَى حلب مغاضباً لوالده فَبعث إِلَيْهِ من رده وَرجع بِهِ واستمرت الشحناء بَينهمَا مُدَّة حياتهما وَكَانَ يجفو أَبَاهُ ويهجره وَهُوَ يُقَابله بالمحبة وَلم يزل على مجافاته حَتَّى سَافر إِلَى الرّوم فِي سنة أَربع بعد الْألف وَأخذ عَن أَبِيه الْمدرسَة التقوية وَدَار الحَدِيث الأشرفية وبقيتا عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتَ ودرس ببقعة فِي الْجَامِع الْأمَوِي وَكَانَ لَهُ حجرَة بالجامع القلعي فِي سوق جقمق وَكَانَت الطّلبَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ بهَا وَيَأْخُذُونَ عَنهُ وَكَانَ كثير الْفَائِدَة طَوِيل الباع فِي النّظم والنثر وَله شعر كُله نَفِيس حسن التخيل متين التَّرْكِيب فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(بَين جنبيّ للتفرق نَار ... وبخديّ للبكا أَنهَار)(2/310)
(وبقلبي لواعج من شجون ... هيجتها الأطلال والْآثَار)
(أَربع كنّ للأوانس مرعى ... فَهِيَ الْآن للكوانس دَار)
(نهبتها أَيدي الروامس نهباً ... مِثْلَمَا تنهب الْعُقُول الْعقار)
(جللتها ثوب العفاء السَّوَارِي ... ومحتها الرِّيَاح والأمطار)
(طلل حلّه الأوابد لما ... نعبت فِيهِ للنوى أطيار)
(كنت والدور بالدمى آهلات ... جزعاً كَيفَ أَنْت وَهِي قفار)
(أدلجوا للسرى وَسَارُوا سرَاعًا ... وخلت أَربع لَهُم وديار)
(أوحشوا ربعهم فليت العوادي ... ساعدتهم وليتهم مَا سَارُوا)
(وتراموا بِكُل خرق مخوف ... صيخد لَا يرى بهَا سفار)
(هُوَ جلّ تتْرك العباهل صرعى ... وَبهَا للردى يخاض غمار)
(وَكَأن الْأَعْلَام إِذْ تتراآى ... شامخات الذرى غُبَار مثار)
(والفيافي كأنهن طروس ... وكأنّ الركائب الأسطار)
(ورياح الجداء فِيهِنَّ تزجى ... سفن عبس لَهَا السراب بحار)
(وكأنّ الأحداج أكمام طلع ... وَلها الْبيض والدمى أزهار)
(قاصرات عين أوانس غيد ... عَن هواهن لَيْسَ لي أقصار)
(بِفُرُوع كأنهن الدياجي ... ووجوه كَأَنَّهَا الأقمار)
(وَلكم راعني لئيم بلؤم ... هُوَ مِنْهُ سفاهة واغترار)
(كَيفَ أسلو عَن منهل طَابَ ريا ... لي مِنْهُ الْإِيرَاد والإصدار)
(وخيال ألم الركب ساه ... وكؤوس الْكرَى عَلَيْهِم تدار)
(قلت لما طوى القفار ووافى ... وأضاءت لزوره الأقطار)
(بدر أفق أنار أم لمع برق ... يتلالى أم كَوْكَب أم نَار)
(أم سليمى إِذْ جنني اللَّيْل زارت ... فغدا وَهُوَ من سناها نَهَار)
(ساورتني الأحزان واقتسمتني ... فِي هَواهَا الهموم والأكدار)
(مثل مَا اجتازت الْحَوَادِث جَاءَت ... وسطت فيّ لَا كَمَا أخْتَار)
(وكذاك الْأَيَّام تسطو بِذِي الْفضل ... وللدهر غفوة واعتذار)
(هَل مجير من حادثات اللَّيَالِي ... لَيْسَ شخص على الخطوب يجار)
(مصلت صارمي عناد وبغي ... زمن لَيْسَ مِنْهُ يدْرك ثار)(2/311)
(ألبستني لَهُ سوابغ بَأْس ... عَزمَات لم يثنها أضجار)
وَهِي طَوِيلَة وَمَا أوردناه مِنْهَا كَاف فِي الدّلَالَة على حسن انسجامها ومتانة لَفظهَا وَله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(أعرت خدود الغيد من مهجتي جمرا ... وعلقن فِي الأجياد من مدمعي درا)
(ومعرك حَرْب فِي فُؤَادِي أثاره ... من الشوق جَيش لَا يُحِيط بِهِ خَبرا)
(على هدف الأحشاء وَقع سهامه ... يفوّقها للقلب فتاكة عذرا)
(وَقَالُوا تصبر قلت شَيْء جهلته ... وَكَيف يُطيق الصَّبْر من يجهل الصبرا)
(خليليّ عوجا بَارك الله فيكما ... وحثا المطايا واقصدا الرند والسدرا)
(فلي فِيهِ خود بالصدود تسربلت ... وَقد تخذت سمر الرماح لَهَا خدرا)
(ربيبة ألوت بعزم تجلدي ... وأذكت على الأحشاء من نأيها جمرا)
(أَبى الْقلب إِلَّا أَن يكون بهَا مغرى ... ومذ أيقنت سوق العدا أخذت حذرا)
(وَكم حذرتني فِي هَواهَا عواذلي ... وَلَا أَحسب التحذير إِلَّا بهَا أغرا)
(أَلا أَيهَا الْقلب الَّذِي لج فِي الْهوى ... إلام الوفا والغيد أزمعت الغدرا)
(وهذي دواعي الشيب تَدْعُو إِلَى الْهدى ... وَقد زجرتني عَن دواعي الصِّبَا زجرا)
(وَقد شَاب كَبِدِي قبل رَأْسِي ولمتي ... فحتام قلبِي لَا يفِيق بهم سكرا)
(وَمَا كَانَ شيبي من تطاول أزمني ... ولكنني لاقيت من دهري النكرا)
أَخذ هَذَا من قَول بَعضهم
(وَمَا شَاب رَأْسِي من سِنِين تَتَابَعَت ... عليّ وَلَكِن شيبتني الوقائع)
وَمن جيد شعره قَوْله
(وَحقّ الْهوى إِن الْهوى فِيك لم يزل ... لنا قسما لَا حنث فِيهِ عَظِيما)
(لقد هجت بالألطاف لي مِنْك لوعة ... وجدّدت وجدا فِي الْفُؤَاد قَدِيما)
(ومزقت صبرا كنت قدماً تخذته ... ظهيراً بِهِ ألْقى الْهوى ورحيما)
(فَأَصْبَحت فِيك الْآن لَا أملك الجوى ... وَلَا أرتضي إِلَّا هَوَاك نديما)
وَكَانَ بَينه وَبَين مُحَمَّد الصَّالِحِي الملقب أَمِين الدّين الْآتِي ذكره مَوَدَّة أكيدة واجتماع كثير ثمَّ انْقَطع أَمِين الدّين عَنهُ فسير إِلَيْهِ يعتبه لانقطاعه عَنهُ قَوْله
(طَالَتْ الأشواق وازداد العنا ... وَتَمَادَى الْبَين فِيمَا بَيْننَا)
(فامنحوا الْقرب محباً مخلصاً ... فَلَعَلَّ الْقرب يشفي مَا سنا)(2/312)
(لَيْسَ فِي هَذَا عَلَيْكُم كلفة ... إِنَّمَا نطلب شَيْئا هُنَا)
فَكتب إِلَيْهِ من نظمه
(أَنا فِي الْقرب وَفِي الْبعد أَنا ... لَيْسَ فِي الْحَالين لي عَنْكُم غنا)
(أفضل الْأَشْيَاء عِنْدِي حبكم ... وَهُوَ فِي وسط فُؤَادِي مكنا)
(لَكِن الْأَيَّام أشكوها لكم ... جورها قد أورث الْجِسْم الضنا)
فَرَاجعه الْحِجَازِي بقوله
(قد عناني من جفاكم مَا عَنَّا ... إِذْ جعلتم هجركم لي ديدنا)
(لَا أُطِيق الصَّبْر عَنْكُم سَاعَة ... أَنْتُم دون الورى عِنْدِي المنى)
(لَا وَلَا يشفى غليلي قَوْلكُم ... أَنا فِي الْقرب وَفِي الْبعد أَنا)
وَجمعه مجْلِس صُحْبَة أخدان لَهُ فِي بلهنية شبابه فَقَالَ هَذِه الأبيات يمدحهم بهَا
(فديت معاشرا كالزهر أربت ... وُجُوههم على زهر النُّجُوم)
(أحاسن من أكارم صيرتهم ... يَد الْإِحْسَان كالدر النظيم)
(جلونا من محياهم حميا ... تجلى ظلمَة اللَّيْل البهيم)
(جَوَاهِر زينت سلك الْمَعَالِي ... وأعلت راية الْحبّ الْكَرِيم)
(رياض بنفسج وَهنا نفوس ... وكشف كرائب ودجا هموم)
(وألطاف إِذا شملت شجيا ... جلت عَن قلبه كرب الهموم)
(بهم نفس العلى وَالْمجد طابت ... وقرت بالهنا عين الْعُلُوم)
(واصبح عقد جيد الْفضل يزهو ... بدر نظمته يَد الفهوم)
(يعير الْحسن أجياد الغواني ... وَيهْدِي السحر للطرف السقيم)
(ألذ من الصِّبَا لَا خي التصابي ... وألطف من مطارحة النسيم)
وَكتب لبَعض أحبابه فِي صدر رِسَالَة
(أحبتنا مَاذَا نُؤَدِّي رِسَالَة ... وَهل تحصر الأوراق بعض بتاريحي)
(ولكنني أهدي إِلَيْكُم تَحِيَّة ... مَعَ البارق النجدي لَا نسمَة الرّيح)
(فَتلك سراها بالهوينا تعللا ... ولطا لِأَنِّي مُرْسل مَعهَا روحي)
(وَذَلِكَ يهدي لي السَّلَام بلمحة ... فَفرج عَن قلب من الْبَين مَجْرُوح)
وَكَانَ الْحسن البوريني سَافر إِلَى ترابلس الشَّام فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان بعد الْألف فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى دمشق حضر علماؤها للسلام عَلَيْهِ وَتَأَخر صَاحب التَّرْجَمَة لمَرض كَانَ(2/313)
عرض لَهُ فَكتب إِلَيْهِ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(أعدتم إِلَيْنَا بهمة أدبية ... بهَا افتر ثغر الْفضل وَالْعود أَحْمد)
(وأحييتم وَادي دمشق بعودة ... أضاعبها فِيهِ مصلى وَمَسْجِد)
وَمن غرائب حكيمياته قَوْله
(نقل الطباع عَن الْإِنْسَان مُمْتَنع ... صَعب إِذا رامه من لَيْسَ من أربه)
(يُرِيد شَيْئا وتأباه طبائعه ... والطبع أملك للْإنْسَان من أدبه)
وَقَوله
(أَلا رب من تحنو عَلَيْهِ وَلَو ترى ... طويته سَاءَ تَكُ تِلْكَ الضمائر)
(فَلَا تأمن خلا وَلَا تغترر بِهِ ... إِذا لم تطب مِنْهُ لديك المخابر)
وَقَوله
(يزين الْبَذْل كل أخي كَمَال ... ويزري الْبُخْل بِالرجلِ البجال)
(وَلَو عقل الْبَخِيل الْبُخْل يَوْمًا ... لما علقت أنامله بِمَال)
وَذكره الشهَاب الخفاجي فِي كِتَابه وَقَالَ فِي تَرْجَمته رَأَيْت لَهُ جَوَابا عَن سُؤال رفع إِلَيْهِ فِي الْفرق بَين هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَأيهمَا أبدع وأبلغ وهما قَول ابْن نباتة السَّعْدِيّ فِي قصيدته الَّتِي أَولهَا
(رَضِينَا وَمَا ترْضى السيوف القواضب ... نجاذبها عَن هامكم وتجاذب)
(خلقنَا بأطراف القنافي ظُهُورهمْ ... عيُونا لَهَا وَقع السيوف حواجب)
وَقَول أبي إِسْحَاق الْغَزِّي
(خلقنَا لَهُم فِي كل عين وحاجب ... بسمر القنا وَالْبيض عينا وحاجباً)
فَادّعى أَن بَيت الْغَزِّي أبدع لما فِيهِ من الصَّنَائِع كالطباق بَين السمر وَالْبيض ورد الْعَجز على الصَّدْر واللف والنشر ومراعاة النظير وَادّعى أَنه يجوز أَن يُرَاد بِالْعينِ فِيهِ الرئيس وبالحاجب من تبعه وحجابه وَالْمعْنَى رماحنا وسيوفنا نَالَتْ الْحَاجِب والمحجوب والرئيس والمرؤوس وَهُوَ مُشْتَمل على التورية والإستعارة أَيْضا وَهَذَا مِمَّا خلا عَنهُ الْبَيْت الأول مَعَ مَا فِيهِ من الإفتخار بِقِتَال أعدائهم الثابتين لَا المنهزمين فَإِنَّهُ لَا يفتخر بِمثلِهِ وَلذَا يعاب الْبَيْت الأول وَإِن ذكر صَاحب إِيضَاح الْمعَانِي أَنه أبلغ لإشتماله على زِيَادَة معنى وَهُوَ الْإِشَارَة إِلَى انهزامه وَأطَال وأسهب وَبعد وَقرب وَالْحق مَا ذهب إِلَيْهِ صَاحب الْإِيضَاح خطيب الْمعَانِي فَإِن بَيت النباتي أحلى لما فِيهِ من التَّشْبِيه البديع لجعل أثر الطعنة المستدير عَنَّا وشطبة السَّيْف فَوْقهَا حاجبا والإغراب بِجعْل الظّهْر مَحل الْعين والحاجب وَأما(2/314)
انهزامهم فَلَا يدل على عدم شحاعتهم حَتَّى يخل بالفخر فَإِن الشجاع ينهزم مِمَّن هُوَ أَشْجَع مِنْهُ وَلذَا قيل الْفِرَار مِمَّا لَا يُطَاق من سنَن الْأَنْبِيَاء كَمَا فر مُوسَى حِين هم بِهِ القبط وَأما ماذكره من معنى الْعين والحاجب فسخيف وتخيل ضَعِيف على أَن جعل الْعين والحاجب بِمَعْنى الرئيس والمرؤوس فَمن الْعَجَائِب وَمَا ذكره من النَّقْد عَلَيْهِ نَقله ابْن الشّحْنَة فِي أَمَالِيهِ عَن الشريف المرتضى وَقَالَ إِنَّه عيب عَلَيْهِ قَوْله فِي ظُهُورهمْ وَقَالَ لَو قَالَ فِي صُدُورهمْ كَانَ أمدح لِأَن الطعْن وَالضَّرْب فِي الصَّدْر أدل على الْإِقْدَام والشجاعة للطاعن والضارب والمطعون والمضروب لِأَن الرجل إِذا وصف قرينه بالإقدام مَعَ ظُهُوره عَلَيْهِ كَانَ أمدح من وَصفه بالانهزام فَلِذَا قَالَ أَبُو تَمام
(حرَام على أرماحنا طعن مُدبر ... وتندق فِي أعلا الصُّدُور صدورها)
وَقد عرفت جَوَابه مِمَّا تقدم فَتذكر انْتهى وأخبار عبد الْحق وآثاره كَثِيرَة وَفِي الَّذِي أوردناه لَهُ كِفَايَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وأقعد بالفالج نَحْو سنتَيْن ثمَّ توفّي نَهَار الاحد خَامِس عشر شهر رَمَضَان وَقت الْغَدَاة من سنة عشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير عِنْد قبر أَبِيه وَوضع على قَبره تَابُوت من دون قبر أَبِيه وَبَينه وَبَين وَالِده فِي الْوَفَاة أحد وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَقَالَ وَلَده القَاضِي إِسْمَاعِيل الْمُقدم ذكره يرثيه بِهَذِهِ الأبيات وفيهَا تاريح وَفَاته
(طرف تقرح من دم متدفق ... وحشا تجرح من جوى وَتحرق)
(وأسى تجمع لم يكن بمجمع ... لشتات شَمل لم يكن بمفرق)
(خطب لقد صدع الجفا مِنْهُ وَمن ... بَين أُتِي من غير وعد مطبق)
(ذهب الَّذِي كَانَت سحائب فَضله ... تهمى بروض بالعلوم معبق)
(مولى مكارمه إِذا مَا جمعت ... فاقت على سح السَّحَاب المغدق)
(وَإِذا غَدا ليل المباحث مظلما ... كَالشَّمْسِ صيره بفهم مخرق)
(وَإِذا تعقد مُشكل لَك حلّه ... بيَدي إِمَام فِي الْعُلُوم مُحَقّق)
(قد حَاز فضلا فِي ميادين العلى ... وَالْعلم حَتَّى إِنَّه لم يسْبق)
(جاد الزَّمَان بِهِ فَعَاد بجوده ... بخلا وَكَانَ كبارق متألق)
(هَيْهَات أَن يَأْتِي الزَّمَان بعالم ... يحكيه فِي حسن الصِّفَات مدقق)
(مَا حيلتي والدهر لم يَك مسعفي ... وَقضى عَليّ بلوعة وتفرق)(2/315)
(يَا لَيْت يَوْمًا كَانَ فِيهِ ذَهَابه ... لَا كَانَ بل لَيْت النَّوَى لم يخلق)
(بل لَيْت بدر الْأُفق لم يَك طالعاً ... وَكَذَا الغزالة ليتها لم تشرق)
(كُنَّا نصول بِهِ على كبد العدا ... وَيكون ذخر للشدائد لَو بقى)
(لكنه حم القضا وتقطعت ... أَيدي الرجا مناببين موبق)
(فيحق للعيني تبْكي بعده ... بِدَم غزير لَا بدمع مُطلق)
(ويحق للقلب السَّلِيم بِأَنَّهُ ... يفنى عَلَيْهِ من الْفِرَاق المقلق)
(ويحق للدهر الخؤون بكاؤه ... ويحق للشبان شيب المفرق)
(قد كَانَ غصناً بالتهاني مورقا ... فذوي وَفَاتَ كَأَنَّهُ لم يورق)
(أَعماله كالمسك قَامَ عبيرها ... ختمت برضوان الاله المعيق)
(لما تفوي بالرضى أرخته ... قد مَاتَ قطب عَالم فِي جلق)
عبد الْحق بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد بن عمر بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْفَرد فِي زَمَانه الشَّيْخ محيى الدّين بن سيف بن علم الدّين سُلَيْمَان بن عبد الرَّزَّاق بن قيس شَاكر بن سُوَيْد بن عفيف الدّين بن سعيد بن عَليّ الهائم بن مَنْصُور الموله بن تَاج الدّين ثَوْبَان بن الْأَمِير الْكَبِير إِسْحَاق بن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن الأدهم الأدهمي الْحَنْبَلِيّ الصُّوفِي القادري الْمَعْرُوف بالمرزباني كَانَ من مشاهير صوفية الشَّام لَهُ الْوَقار والهيبة وَعِنْده المام بمعارف كَثِيرَة وَكَانَ مَعَ ذَلِك أديبا يارعاً حسن المحاضرة وَله اطلَاع كثير على الْأَشْعَار والنوادر وَرَأَيْت بِخَطِّهِ مجموعاً فِيهِ كل معنى نَادِر وحكاية مستلذة وَكَانَ رَحل إِلَى الرّوم فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف ونال بعض جِهَات فِي الشَّام ثمَّ قدم إِلَى دمشق وَأقَام بداره بالصالحية وَكَانَ مخالطاً للأدباء وَله كرم وإيثار لَا يزَال مَجْلِسه غاصاً بِأَهْل الْأَدَب والمعرفة وَكَانَ يجْرِي بَينه وَبينهمْ محاورات وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره مستحسن فَمن مَشْهُور مَاله قَوْله وَكتب بِهِ إِلَى فتح الله بن النّحاس الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور يستدعيه إِلَى مَحَله
(أَن اغلق الْأَعْدَاء أَبْوَابهم ... عني وَلم يصغوا إِلَى نصحي)
(وزرتني يَوْمًا وَلَو سَاعَة ... فِي الدَّهْر تبغي بَينهم نحجي)
(علمت أَن الْحق من لطفه ... قد خصني بالنصر وَالْفَتْح)
(لَا زلت فِي عز مدى الدَّهْر مَا ... غردت الأطيار فِي الصُّبْح)
فَرَاجعه بقوله(2/316)
(مولَايَ يَا من خصّه ربه ... بَين الورى بالنصر وَالْفَتْح)
(فِي الظّهْر وَالْعصر إِلَى بَابَكُمْ ... أسعى وَفِي الْمغرب وَالصُّبْح)
(وَكَيف لَا أسعى إِلَى بَاب من ... فِي وَجهه دَاع إِلَى النجح)
(لَا زلت من قدح العدا سالما ... وَلَا خلا زندك من قدح)
وقرأت بِخَطِّهِ هَذِه الأبيات نَسَبهَا لنَفسِهِ وَهِي
(وَلَقَد ذكرتك حِين قابلت العدا ... وَالسيف يحصدها مُهِمّ كالمنجل)
(وَالرمْح مياس كقدك طَاعن ... قلب الشجاع وكل قرن مقبل)
(والجو صَاف من العجاج كَأَنَّهُ ... ليل وَذَاكَ اللَّيْل لَيْسَ بمنجل)
(والأسد عابسة كَأَن قد راعها ... يَوْم الوغى وَالْأَمر لَيْسَ بمشكل)
(فترى الشجاع كَأَن رنة سَيْفه ... أشهى إِلَيْهِ من صفير البلبل)
(وَكَأَنَّهُ فِي رَوْضَة قد فوقت ... بشقائق وشذاه عرف قرنفل)
(وَترى الجبان كَأَنَّهُ من خَوفه ... يلوى عنان جَوَاده بتهرول)
(فهناك ناديت الْأَحِبَّة ليتهم ... نظرُوا بِعَين برحم وتعقل)
(هَل كَانَ لي فِي الْقلب غير هواهم ... بَاقٍ على طول المدى المسترسل)
(لَا وَالَّذِي خلق الْخَلَائق كلهم ... وَقضى بطول تسهدي وتململي)
(مَا خُنْت يَوْمًا عَهدهم بتغافل ... عَنْهُم وَلَا بمقال زور العذل)
وَهَذَا الأسلوب قد أَكثر فِيهِ الشُّعَرَاء قَدِيما وحديثاً وَمن جيده قَول ابْن مطروح
(وَلَقَد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية سَطَعَ)
(وعَلى مكافحة الْعَدو فَفِي الحشا ... شوق إِلَيْك تضيق عَنهُ الأضلع)
(وَمن الصِّبَا وهلم جراشيمتي ... حفظ الوداد فَكيف عَنهُ أرجع)
وَقَول ابْن رَشِيق
(وَلَقَد ذكرتك فِي السَّفِينَة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواج)
(والجو يهطل والرياح عواصف ... وَاللَّيْل مسود الذوائب داج)
(وعَلى السواحل اللاعادي عَسْكَر ... يتوقعون لغارة وَهياج)
(وعلت لأَصْحَاب السَّفِينَة ضجة ... وَأَنا وذكرك فِي ألذ تناجي)
وَقَول أبي السنا مَحْمُود
(وَلَقَد ذكرتك وَالسُّيُوف لوامع ... وَالْمَوْت يرقت تَحت حصن المرقب)(2/317)
(والحصن من شفق الدروع تخاله ... حسناء ترفل فِي رِدَاء مَذْهَب)
(سامي السماك فَمن تطاول نَحوه ... للسمع مستمعاً رَمَاه بكوكب)
(وَالْمَوْت يلْعَب بالنفوس وخاطري ... يلهو بِطيب ذكرك المستعذب)
وَقَول الصفي الْحلِيّ
(وَلَقَد ذكرتك والعجاج كَأَنَّهُ ... مطل الغنيّ وَسُوء عَيْش الْمُعسر)
(والشرس بَين مجدل فِي جندل ... مناوبين معفر فِي مغفر)
(فَظَنَنْت أَنِّي فِي صباح مُسْفِر ... بضياء وَجهك أَو سَمَاء مقمر)
(وتعطرت أَرض الكفاح كَأَنَّمَا ... فتقت لنا أَرض الجلاد بعنبر)
والفاتح لهَذَا الْبَاب عنترة الْعَبْسِي فِي قَوْله
(وَلَقَد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الْهِنْد تقطر من دمي)
(فوددت تَقْبِيل السيوف لِأَنَّهَا ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم)
ولعَبْد الْحق أَشْيَاء أخر غير مَا أثْبته لَهُ وَفِي الَّذِي ذكر مقنع وقرأت بِخَطِّهِ أَن وِلَادَته كَانَت أول سَاعَة من نَهَار الْخَمِيس ثامن ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة سبعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالجامع المظفري وَدفن بروضة السفح ونسبته إِلَى سُلْطَان الْأَوْلِيَاء إِبْرَاهِيم بن أدهم مستفيضة مَشْهُورَة وَقد وقفت على كتابات لعلماء دمشق على هَذِه النِّسْبَة كَثِيرَة والمرزباني نِسْبَة إِلَى أحد أجدادهم وَهُوَ الشَّيْخ محيي الدّين المرزباني سمي بذلك لانقياد السبَاع وإطاعتها لَهُ وَأَصله الْمَرْزُبَان وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ السُّلْطَان
الملا عبد الْحَكِيم بن شمس الدّين الْهِنْدِيّ السلكوتي عَلامَة الْهِنْد وَإِمَام الْعُلُوم وترجمان المظنون فِيهَا والمعلوم كَانَ من كبار الْعلمَاء وخيارهم مُسْتَقِيم العقيدة صَحِيح الطَّرِيقَة صادعاً بِالْحَقِّ مجاهراً بِهِ الْأُمَرَاء الْأَعْيَان وَكَانَ رَئِيس الْعلمَاء عِنْد سُلْطَان الْهِنْد خرم شاه جهان لَا يصدر إِلَّا عَن رَأْيه وَلم يبلغ أحد من عُلَمَاء الْهِنْد فِي وقته مَا بلغ من الشَّأْن والرفعة وَلَا انْتهى وَاحِد مِنْهُم إِلَى مَا انْتهى إِلَيْهِ جمع الْفَضَائِل عَن يَد وَحَازَ الْعُلُوم وَانْفَرَدَ وأفنى كهولته وشيخوخته فِي الانهماك على الْعُلُوم وَحل دقائقها وَمضى من جليها وغامضها على حقائقها وَألف مؤلفات عديدة مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ على بعض سُورَة الْبَقَرَة رَأَيْتهَا وطالعت فِيهَا أبحاثاً دقيقة وَله حَاشِيَة على مطول السعد ومختصره وحاشية على شرح(2/318)
العقائد النسفية للسعد وحاشية على شرح تصريف الْعُزَّى للسعد أَيْضا وَله غير ذَلِك وفضله أشهر من أَن يُزَاد فِي وَصفه وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْحَلِيم بن برهَان الدّين بن مُحَمَّد البهنسي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن شقلبها الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب أنبل آل بَيته فِي عصرنا كَانَ من الْفُضَلَاء المتضلعين من فنون شَتَّى لَكِن غلب اشتهاره بالفقه نَشأ بِدِمَشْق وَقَرَأَ بهَا على مَشَايِخ كثيرين وَتقدم أَن وَالِده كَانَ ذَا ثروة عَظِيمَة وَجمع كتبا كَثِيرَة فتمتع عبد الْحَلِيم بهَا وَلما مَاتَ أَبوهُ وضع يَده على مخلفاته وأتلفها فِي مُدَّة قَليلَة على أهواء مُتَفَرِّقَة يرجع أَكْثَرهَا إِلَى حب الرياسة وَمَا نَالَ من ذَلِك إِلَّا الخسران وَقلت ذَات يَده فانزوى مُدَّة فِي بَيته لَا يدرى عَنهُ إِلَّا بمحض الْوُجُود ثمَّ ظهر بعض الظُّهُور أَيَّام كَانَ الْعلَا الحصكفي مفتي الشَّام وَأخذ يُفْتِي فِي بعض وقائع فَمَنعه قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق عَن الْفَتْوَى لما يتفرغ على ذَلِك من كَثْرَة اللَّغط وَمُخَالفَة أَمر السُّلْطَان فِي أَن الْمُفْتِي الْحَنَفِيّ لَا يكون إِلَّا وَاحِدًا فَلم يلبث أَن رَحل إِلَى مصر وَكَانَ قاضيها عامئذٍ الْمولى مصطفى ختن المنقاري الْمُفْتِي فتقرّب إِلَيْهِ وَصَارَ من جملَة نوابه ثمَّ لما عزل صَحبه إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة وَقد اجْتمعت بِهِ فِيهَا كثيرا وَكَانَ شرع فِي نظم مُغنِي اللبيب لِابْنِ هِشَام فنظم مِنْهُ مِقْدَارًا وافراً وَكتب على ألفية ابْن مَالك شرحاً وَمَات وَلم يكمله فَبَقيَ فِي مسوّداته وَكَانَ على مَا شاهدته من أطواره أحد عجائب الْمَخْلُوقَات لَا يسْتَقرّ فِي أَمر المشرب على حَال وَكَانَ ينظم الشّعْر إِلَّا أَن شعره فِي غَايَة القلاقة والتعقيد وَلم أر لَهُ مَا يحسن إِيرَاده وَكَانَ ولاه مخدومه الْمَذْكُور نِيَابَة قَضَائِهِ كليبولى فَتوجه إِلَيْهَا وَمَات بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة تسعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْحَلِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بأخي زادة القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة أحد أَفْرَاد الدولة العثمانية وسراة علمائها كَانَ نَسِيج وَحده فِي ثقوب الذِّهْن وَصِحَّة الْإِدْرَاك والتضلع من الْفُنُون نَشأ بكنف وَالِده مشاراً إِلَيْهِ فِي التبريز بميدان الْفضل وركوب السوابق فِي حلبة المعلومات وَكَانَ أَبوهُ متقاعداً عَن قَضَاء عَسْكَر أناطولي وجده لأمه شيخ الْإِسْلَام سعدي الْمحشِي قَالَ ابْن نَوْعي فِي تَرْجَمته أَخذ بأدرنة وابوه قَاض بهَا فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة عَن حسام الدّين بن قره جلبي مدرس طاشلق وَعَن عبد الرؤوف الشهير بعرب زَاده مدرس أوج شرفلي ثمَّ أَخذ(2/319)
عَن صَالح الملا مدرس السُّلْطَان بايزيد وخواجكي زَاده أَفَنْدِي مدرس السُّلْطَان سليم بقسطنطينية ثمَّ وصل إِلَى خدمَة فُضَيْل الجمالي وَلَزِمَه ثمَّ وصل إِلَى خدمَة شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ ولازم مِنْهُ فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ ثمَّ درس فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بمدرسة إِبْرَاهِيم باشا الْجَدِيد ابْتِدَاء وَلم يزل ينْتَقل من مدرسة إِلَى مدرسة حَتَّى وصل إِلَى مدرسة الوالدة باسكدار فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَولي مِنْهَا قَضَاء بروسة فِي رَمَضَان سنة ألف وَنقل مِنْهَا إِلَى أدرنة فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَألف وعزل مِنْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي منتصف رَجَب سنة أَربع وَنقل مِنْهَا إِلَى صدارة أناطولي فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وعزل مِنْهَا فِي صفر سنة سبع وتقاعد بوظيفة أَمْثَاله ثمَّ أُعِيد إِلَيْهَا فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وتقاعد عَنْهَا فِي شهر رَمَضَان سنة تسع ثمَّ صَار قَاضِي عَسْكَر روم إيلي فِي صفر سنة عشر وَألف وتقاعد فِي ذِي الْحجَّة وَله تآليف كَثِيرَة رائقة مِنْهَا شرح على الْهِدَايَة وتعليقات على شُرُوح الْمِفْتَاح وجامع الفصوليين والدرر وَالْغرر والأشباه والنظائر وَله رِسَالَة تفسيرية فِي امتحان كَانَ صدر وَأما مَاله من الْآثَار غير ذَلِك فَمَا لَا يعدّ وَلَا يُحْصى وعَلى الْخُصُوص فِيمَا يتَعَلَّق بالصكوك والحجج والتمسكات وَله تَرْجَمَة شَوَاهِد النُّبُوَّة تركي وَله شعر مَرْغُوب بالتركية ومخلصه على دأبهم حليمى انْتهى وَذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء بليغاً وَقَالَ وحَدثني شَيخنَا القَاضِي محب الدّين الْحَنَفِيّ على رَأس الْألف قَالَ اتّفق أهل الرّوم قاطبة على أَن استانبول لَيْسَ من نَشأ فِيهَا الْآن من أَوْلَاد الْعلمَاء وَغَيرهم أفضل من رجلَيْنِ شابين أَحدهمَا عبد الْحَلِيم هَذَا وَالثَّانِي أسعد بن الْمولى سعد الدّين ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَيهمَا أفضل قَالَ وَبَلغنِي أَن عبد الْحَلِيم كَانَ أفقه وأسعد كَانَ أعلم بالمعقولات وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن فضل عبد الْحَلِيم مُسلم عِنْد أهل الرّوم وَلَيْسَ فيهم من يُنكره وَذكره الطالوي فِي كِتَابه السانحات فِي مَوَاضِع مِنْهَا وَبَالغ فِي وَصفه وَأورد قصائد قَالَهَا فِي مدحه ثمَّ ذكر مَجْلِسا ضمه هُوَ وإياه فِي نَادِيه قَالَ فَأقبل عليّ بمؤانسته وقرّبني مِنْهُ فِي مُجَالَسَته وَلم يزل ينثر على سَمْعِي لآليء من فقره ويجلو عليّ من أبكار فكره مَا يحار اللبيب فِي وَصفه ويغار الأديب من نسقه ورصفه فَمن جملَة مَا شنّف بِهِ سَمْعِي وَجَعَلته سمير ضمير جمعي مَا قرظ بِهِ كتاب بعض الْكتاب من حسن سجع تغار مِنْهُ ألحان السواجع ويودّ البادي لَو كَانَ فِيهَا المراجع إِلَى زواهر فقر تخجل در الأسلاك(2/320)
وتزرى بدرى الأفلاك لَو رَآهَا صَاحب الْيَتِيمَة اتخذها لكتابة تَمِيمَة أَو الْعِمَاد الْكَاتِب تسلى عَن خريدة الكاعب وَهُوَ نظرت فِي هَذَا الْكتاب المنطوي على بَدَائِع صنائع الْكتاب المحتوي على لطائف الإيجاز والإطناب الْخَالِي عَن شوائب معايب الْإِخْلَال والإسهاب المسبوك فِي قالب بديع تميل إِلَيْهِ الْقُلُوب المنسوج على أحسن منوال وأبهى أسلوب فَوَجَدته بحراً زاخراً متلاطم الأمواج ودراً زاهراً سلب الشَّمْس عَن رُتْبَة الابتهاج فيا لَهُ من كَاتب طوى منشور الخطباء بإيجازه وكوى صُدُور البلغاء بمحاسن حَقِيقَته ومجازه حقيق لِأَن تسير بِذكرِهِ الركْبَان وخليق لِأَن يُرْسل هَدِيَّة إِلَى فصحاء فطحان إِذْ وقف فرسَان البلاغة عَن الجري فِي مضماره وَاتفقَ شجعان البراعة على أَنه لَا يصطلى بناره تضمن دُرَر عِبَارَات مَا اسْتوْدعت أصداف الآذان إِلَى الْآن أَمْثَال تِلْكَ اللآل فِي الْأَزْمِنَة الخوال وَمَا طلع فِي أفق سَواد الْعين مذ أمدت بِالنورِ وَمثل ذَلِك هِلَال واختوى جَوْهَر أَلْفَاظ أخلب للقلوب من غمزات الألحاظ وأسحر للعقول من فترات مراض الأجفان مَعَ معَان هِيَ أحسن من أَيَّام محسن معَان وأبهج من نيل أَمَان فِي ظلّ صِحَة وأمان ولعمري أَن هَذَا الْكتاب أضحى لما فِيهِ من الْفَضَائِل مصداق قَول الْقَائِل
(وخريدة برزت لنا من خدرها ... كالبدر يَبْدُو من رَقِيق غمام)
(عرضت على كل الْأَنَام جمَالهَا ... كي تستميل قُلُوبهم بِتمَام)
(تسبي من الْعَرَب الْعُقُول بأسرها ... وَتَطير لب الرّوم والأعجام)
فَللَّه در الأديب الأريب المتعاطي لهَذَا الْجمع وَالتَّرْتِيب الْآتِي بِهَذَا الْإِنْشَاء والاختراع الَّذِي لَا يُمكن الْخُرُوج من عُهْدَة مدحه وإطرائه بِاللِّسَانِ واليراع بلغه الله تَعَالَى وطره وجزاه الْحسنى وَزِيَادَة بِمَا سطره حَيْثُ أذرج فِيهِ لطائف تنجلي لخطابها كالعروس وأدمج نفائس تتبادر إِلَيْهَا الْأَرْوَاح والنفوس وضع فِيهِ مآرب تَغْدُو إِلَى الرّوح وَأَشَارَ إِلَى نكات سَرِيَّة كالورد الطري تفوح فَأتي بِمَا لم تستطعه الْأَوَائِل وَعجز عَن الْإِتْيَان بِهِ سحبان وَائِل انْتهى ونظم الطالوي فِيهِ قصيدة طَوِيلَة قريب ذَلِك وَأَشَارَ بهَا إِلَى حسن هَذِه الْقطعَة بقوله
(لله مَا فقر فِي الطرس تحسبها ... وسط الْبيَاض سَواد الْعين وَالْبَصَر)
(أَو كالرياض كستها السحب سَارِيَة ... مطارف الوشي أَو موشية الحبر)(2/321)
(مثل الْكَوَاكِب لَيْلًا قد طلعن على ... نهر المجرة وكالروض ذِي الزهر)
(تود لَو حلت الجوزاء من شغف ... فِيهَا النطاق وَلَو أمست على خطر)
(كَأَن در يَوَاقِيت الحسبان بِهِ ... قد رصعت فِي الْحَوَاشِي مَوضِع الْفقر)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف وَدفن فِي تربتهم قبالة دَارهم الْمَعْرُوفَة بقسطنطينية قرب مدرسة الوالدة
عبد الْحَلِيم الْبَاغِي الْمَعْرُوف باليازجي أحد الطغاة الَّذين خَرجُوا على السلطنة فِي زمن السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث وَقد تقدم طرف من خبْرَة فِي تَرْجَمَة حسن باشا ابْن الْوَزير مُحَمَّد باشا وَكَانَ فِي مبدأ أمره من الطَّائِفَة السكبانية وَكَانَ نَازل الرُّتْبَة حَتَّى صحب الْأَمِير درويش الرُّومِي حَاكم صفد فقربه وَأَدْنَاهُ وصيره رَأس جماعته وَلما عزل الْأَمِير درويش عَن حُكُومَة صفد ولي مَكَانَهُ الْأَمِير عَليّ الجركسي فَذهب ليتسلم الْولَايَة فَقَالَ عبد الْحَلِيم للأمير درويش لَا تسلم الْولَايَة للأمير عَليّ وَأَنا أمْنَعهُ عَنْك بِالْحَرْبِ والمقاتلة فَمَال إِلَى كَلَامه وَلم يسلم وَلما شاع أباؤه عَن التَّسْلِيم أرسل إِلَيْهِ نَائِب الشَّام خسرو باشا كتخذاه مَعَ طَائِفَة من عَسْكَر الشَّام إِلَى ولَايَة صفد لِيخْرجُوا الْأَمِير درويش عَنْهَا ويسلموها للأمير عَليّ فَلَمَّا وصلوا إِلَى نواحي صفد خرج إِلَيْهِم الْأَمِير درويش وَفِي صحبته عبد الْحَلِيم وَمن مَعَهم فقابلوهم وقاتلوهم ومنعوهم من الدُّخُول إِلَى صفد ودام الْقِتَال بَينهم أَيَّامًا إِلَى أَن تجرد عَسْكَر الشَّام لِلْقِتَالِ وبرزوا لِلطَّعْنِ وَالضَّرْب وَنزل عبد الْحَلِيم مَعَ جماعته إِلَى السهل فَقطعُوا سرداق الْأَمِير عَليّ ونهبوا مَا فِيهِ ثمَّ أَدْرَكته الحمية فقاتل السكبان حَتَّى قتل مِنْهُم عشرَة أَنْفَار وَكسر نُفُوسهم وَدخل عَلَيْهِم اللَّيْل ثمَّ بعد ذَلِك لم يزَالُوا فِي قتال ومحاربة إِلَى أَن أَشَارَ الْعُقَلَاء على الْأَمِير درويش بِالْخرُوجِ مَعَ من كَانَ عِنْده من الْعَسْكَر ويكف عَن المبارزة فَخرج من الْمَدِينَة وَخرج مَعَه عبد الْحَلِيم مَعَ أَصْحَابه وَسَارُوا على طَرِيق صيدا من جِهَة الشقيف فَوَرَدُوا على الْأَمِير فَخر الدّين بن معن فزودهم وسيرهم فَسَار الْأَمِير درويش إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة وَذَهَبت وَرَاءه المحاضر والشكايات من أهل بِلَاد صفد فَعرض الْوَزير أمره على السُّلْطَان فَأمر بصلبه فصلب بثيابه وَكَانَ عبد الْحَلِيم وَأَصْحَاب درويش سَارُوا على سَاحل الْبَحْر إِلَى ترابلس الشَّام ثمَّ إِلَى جَانب حلب ثمَّ دخلُوا(2/322)
مَدِينَة كلز بِإِشَارَة من أميرها الْأَمِير حُسَيْن بن جانبولاذ ثمَّ شرعوا فِي الْفساد فَتنبه لَهُم نَائِب حلب وَأرْسل إِلَيْهِم جَيْشًا لمحاربتهم فتقابلوا على بَاب كلز وَكَانَت النُّصْرَة لعسكر حلب وَقتلُوا من أَصْحَاب عبد الْحَلِيم مقتلة عَظِيمَة وَخرج عبد الْحَلِيم بِمن بَقِي مَعَه من أَصْحَابه مكسورين وَسَار إِلَى حصن سميساط فقاتله صَاحب الْحصن وتواقعا ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى مَدِينَة الرها واحتال على أَن جَاءَتْهُ أَحْكَام سلطانية بِأَن يكون محافظاً بهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك خرج عَن ربقة الطَّاعَة حُسَيْن باشا الَّذِي كَانَ أَمِير الْأُمَرَاء بِولَايَة الْحَبَشَة وَوصل إِلَى مَدِينَة أركله من بِلَاد قرمان فثار إِلَيْهِ أَهلهَا ليردوه فسطا عَلَيْهِم ونما خَبره إِلَى السُّلْطَان فَأرْسل إِلَيْهِ عسكراً عَظِيما فخاف من هولهم وفر قَاصِدا أَن يخرج إِلَى بِلَاد الْعَرَب فَمَنعه العبور جسر جيحان فعطف على جِهَة الشرق حَتَّى وصل إِلَى الرها فَالتقى بِعَبْد الْحَلِيم وأوهمه أَنه ناصره وَلم تمض أَيَّام قَليلَة إِلَّا وَمُحَمّد باشا ابْن المرحوم سِنَان باشا قصد الْبَلَد الْمَذْكُور بجماهير من العساكر تسد الفضاء وَمن جُمْلَتهَا عَسْكَر الشَّام فنازلوا الرها ودام محاصرتهم لَهَا وَالْحَرب بَين الْفَرِيقَيْنِ وَاقع إِلَى أَن لَاحَ لعبد الْحَلِيم أَنه مَأْخُوذ لِأَنَّهُ مَحْصُور فشرع فِي طلب الْأمان من الْوَزير على شَرط أَن يسلم إِلَيْهِم حُسَيْن باشا وَيكون هُوَ ناجياً مِنْهُم وَكَانَ حُسَيْن شجاعاً بطلاً باسلاً لكنه كَانَ عاطلاً من الخديعة فَوَقع فِي شَرط عبد الْحَلِيم فَأنْزل عبد الْحَلِيم أَخَاهُ حسنا بالأمان بعد أَن استرهن عِنْده جمَاعَة من الْعَسْكَر السلطاني وترددت الرسائل بَينهم وحسين يظنّ أَن أَصْحَابه مَعَه وهم عَلَيْهِ فانعقد الْمقَال وَأخرج حُسَيْن من مَوْضِعه وَلما تحقق المكيدة قَالَ لعبد الْحَلِيم مُخَاطبا هَكَذَا تكون عهود الشجعان وتسلمه عَسْكَر الشَّام وَأَعْطوهُ للوزير وَبَات الْوَزير تِلْكَ اللَّيْلَة وَهُوَ يؤلمه بالْكلَام الموجع وَهُوَ يعْتَذر بأعذار غير مَقْبُولَة ثمَّ أرْسلهُ الْوَزير إِلَى بَاب السُّلْطَان فَلَمَّا وصل أحضر إِلَى الدِّيوَان فَنَادَى بشعار الشَّرْع فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا أَرَادَ وحققوا عَلَيْهِ الْفساد والطغيان فَحكم القَاضِي بقتْله وصلب فِي وقته وَكَانَ بعد تَسْلِيم عبد الْحَلِيم لحسين ارتحل عَسْكَر الشَّام سَرِيعا لهجوم الشتَاء وَلم يمْكث الْوَزير بعدهمْ إِلَّا أَيَّامًا قَليلَة ورحل إِلَى جَانب حلب وَاسْتمرّ عبد الْحَلِيم مُدَّة الشتَاء مُقيما فِي الرها وثار فِي الرّبيع إِلَى عينتاب فَغَضب السُّلْطَان لبَقَائه فِي الْحَيَاة وَأرْسل لقتاله عسكراً وَجعل الْمُقدم على العساكر كلهَا حسن باشا ابْن الْوَزير مُحَمَّد باشا وَأرْسل من جَانب بَابه العالي أَيْضا(2/323)
الْوَزير إِبْرَاهِيم باشا الَّذِي كَانَ نَائِبا بحلب مقدما على عشرَة آلَاف عسكري من جَانب عَسْكَر بَاب السُّلْطَان وَعين نَائِب الشَّام مُحَمَّد باشا الْأَصْفَهَانِي وَفِي خدمته عَسَاكِر الشَّام فَمشى السِّرّ دَار الْكَبِير من جَانب بَغْدَاد إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة آمد وَجمع العساكر هُنَاكَ ورحل بِمن مَعَه من العساكر إِلَى أَن وصلوا إِلَى مرحلة الْبُسْتَان فنزلوا بهَا وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ نزولهم فِي مُقَابلَة جبل فِيهِ مَكَان أهل الْكَهْف على أصح الْأَقْوَال فَبَيْنَمَا هم على الصَّباح إِذا بعسكر عبد الْحَلِيم قد أقبل من جَانب الشرق وتصادم الْفَرِيقَانِ سَاعَة وَإِذا بعسكر عبد الْحَلِيم قد عبر على عَسْكَر السُّلْطَان فَالْتَقوا بِهِ وصدموه صدمة أزالته عَن منزله فولى هَارِبا فتبعوه وَوَضَعُوا السَّيْف فِي أَصْحَابه فَقتلُوا مِنْهُم فِي ذَلِك الْيَوْم مَا يزِيد على أَرْبَعَة آلَاف رجل وهرب عبد الْحَلِيم واستمرّ هَارِبا إِلَى أَن دخل إِلَى ساميسون على سَاحل الْبَحْر وَدخل الشتَاء فشتى حسن باشا فِي مَدِينَة توقات وَمَات عبد الْحَلِيم فِي أثْنَاء ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف وافترقت أَصْحَابه فرْقَتَيْن وَاحِدَة طلبت الْأمان من السردار الْمَذْكُور وَأُخْرَى ذهبت مَعَ أخي عبد الْحَلِيم حسن إِلَى رستم العَاصِي الْمُقِيم بملطية وَبَقِيَّة خبر حسن مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة حسن باشا الْمَذْكُور فِي حرف الْحَاء فَارْجِع إِلَيْهِ ثمَّة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم والسكبانية طَائِفَة مَعْرُوفَة ونسبتهم إِلَى سكبان فَارسي مركب من سك وَهُوَ الْكَلْب وَبَان وَهُوَ الحامي فَمَعْنَاه حامي الْكَلْب وأصل موضوعهم لقود الْكلاب أَمَام الكبراء والأمراء حِين يَسِيرُونَ إِلَى الصَّيْد وسميساط بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْمُثَنَّاة من تَحت وسين ثَانِيَة مُهْملَة وَألف وطاء مُهْملَة مشالة فِي الآخر بَلْدَة بالفرات بِالْقربِ من حصن مَنْصُور واركله بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء وَسُكُون الْكَاف الفارسية وَفتح اللَّام ثمَّ هَاء قَصَبَة من أَعمال قرمان على طَرِيق قسطنطينية حَسَنَة التربة لَطِيفَة الْهَوَاء وَهِي وقف على الْحَرَمَيْنِ الشريفين وفيهَا من الْأَعَاجِيب فِي مَحل قريب مِنْهَا فوار مَاء يخرج مِنْهُ المَاء سيالاً فَإِذا وصل إِلَى الأَرْض جمد وَصَارَ كالرخام الْأَبْيَض لَا يتكسر إِلَّا بالحديد دون غَيره وَلَا ينماع وَإِن حمى على النَّار وللحجر الْمَذْكُور صلابة زَائِدَة وساميسون بَلْدَة مَشْهُورَة فِي بِلَاد التّرْك بِالْقربِ من طرابزون والعامة تَقول صاميصون بالصَّاد
عبد الْحَلِيم المتخلص بحليمي أحد شعراء الرّوم وشهرته بمعجم زَاده كَانَ من حفدة(2/324)
الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول وَكَانَ مشاركاً فِي فنون عديدة ورد إِلَى الشَّام وَهُوَ فِي خدمَة مخدومه ابْن مَعْلُول الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرّوم وَمكث سِنِين ثمَّ دخل دمشق قبل الْألف وَسكن بهَا فِي الْمدرسَة البلخية جوَار الْمدرسَة الصادرية وَعين لَهُ من الجوالي مَا يَكْفِيهِ وَولي تدريس الجقمقية بعد الشَّيْخ شرف الدّين رَئِيس الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى قُضَاة الْقُضَاة والأكابر فيكرمونه لعلو سنه واتصاله بالمتقدمين من أكَابِر الْعلمَاء بالروم وَكَانَ لَهُ مطارحة جَيِّدَة ويحفظ وقائع كَثِيرَة وَمَا زَالَ بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف عَن نَحْو مائَة سنة وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الحميد ابْن أَحْمد بن يحيى بن عَمْرو بن الْمعَافي اليمني ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه فَقَالَ كَانَ من عُيُون الزَّمَان وأفراد الْوَقْت بليغا منطيقا ناظما ناثرا من بَيت معمور بِالْفَضْلِ والكمال من بني عبد المدان كَمَا صرح بِهِ النسابون وَصرح بِهِ ابْن عقبَة وَذكر هَذَا الْعَلامَة فِي منظومة لَهُ وَفِيهِمْ الْعلم والرياسة واستمرت لَهُ الْإِمَارَة وعلو الْكَلِمَة مَعَ الْأَئِمَّة فَكَانُوا عُلَمَاء أُمَرَاء تنفذ أحكامهم بجهتهم وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى تولى مِنْهُم الْأَمِير عبد الله بن الْمعَافي للأروام وَزَاد فِي عتوة وَبَالغ فِيمَا لَا يَلِيق بمنصبه فَكَانَ أَمِير الْأُمَرَاء مَعَ التّرْك ولى أَكثر ذَلِك الأقليم إِلَى نواحي الأهنوم ووادعة وعذرين وَغير ذَلِك فمالت بِهِ شهواته حَتَّى غَازِي الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَكَانَ مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة وَلما جاؤا بِرَأْسِهِ إِلَى الإِمَام قَالَ لَو جئْتُمْ بِهِ أَسِيرًا ولوح إِلَى أَنه كَانَ يُرِيد مكافأته على سَابِقَة لَهُ مَعَ الإِمَام وَهِي أَنه وصل بعض الطغاة وَبِيَدِهِ خطى فهزه من خلف الإِمَام وهم بطعنه من خَلفه غدروا والأمير عبد الله مُقَابل لَهُ فَأمْسك على لحيته يُشِير إِلَى أَن الْغدر غير لَائِق وَكَيف يقْتله وَهُوَ فِي أَمن من قبله فَكف عَنهُ وَبَعض خَاصَّة الإِمَام المحبين لَهُ يُشَاهد ذَلِك فَذكره للْإِمَام فَأَرَادَ مكافأته على ذَلِك ثمَّ أَن الْأَمِير ذكر للْإِمَام أَن الأتراك قد أحاطوا بالبلاد وَأَشَارَ بالتقدم على تِلْكَ الْبِلَاد الَّتِي قد أحاطوا بهَا وَبعث مَعَه من الرِّجَال من يركن إِلَيْهِ حَتَّى انْفَصل عَن بِلَاد السودة ثمَّ كَانَ من أمره مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة فِي الْحَرْب الْمَشْهُور هُنَالك فتضاءل منصب الْقُضَاة الْمَذْكُورين على جلالتهم وَفِيهِمْ بَقِيَّة صَالِحَة وَأَحْيَا مآثرهم صَاحب التَّرْجَمَة فَإِنَّهُ كَانَ أحد الْعلمَاء سِيمَا فِي الْعَرَبيَّة شرح الملحة وَكتب حَوَاشِي وأجوبة مفيدة النَّحْو وَشرح الْهِدَايَة فِي(2/325)
الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول وَكَانَ مشاركا فِي فنون عديدة ورد إِلَى الشَّام وَهُوَ فِي خدمَة مخدومة ابْن مَعْلُول الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرّوم وَمكث سِنِين ثمَّ دخل دمشق قبل الْألف وَسكن بهَا فِي الْمدرسَة البلخية جوَار الْمدرسَة الصادرية وَعين لَهُ من الجوالي مَا يَكْفِيهِ وَولي تدريس الجقمقية بعد الشَّيْخ شرف الدّين رَئِيس الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى قُضَاة الْقُضَاة والأكابر فيكرمونه لعلو سنه واتصاله بالمتقدمين من أكَابِر الْعلمَاء بالروم وَكَانَ لَهُ مطارحة جَيِّدَة ويحفظ وقائع كَثِيرَة وَمَا زَالَ بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف عَن نَحْو مائَة سنة وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الحميد ابْن أَحْمد بن يحيى بن عَمْرو بن الْمعَافي اليمني ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه فَقَالَ كَانَ فِي عُيُون الزَّمَان وإفراد الْوَقْت بليغاً منطيقاً ناظماً ناثراً من بَيت معمور بِالْفَضْلِ والكمال من بني عبد المدان كَمَا صرح بِهِ النسابون وَصرح بِهِ ابْن عقبَة وَذكر هَذَا الْعَلامَة فِي منظومة لَهُ وَفِيهِمْ الْعلم والرياسة واستمرت لَهُ الْإِمَارَة وعلو الْكَلِمَة مَعَ الْأَئِمَّة فَكَانُوا عُلَمَاء أُمَرَاء تنفذ أحكامهم بجهتهم وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى تولى مِنْهُم الْأَمِير عبد الله بن الْمعَافي للأروام وَزَاد فِي عتوه وَبَالغ فِيمَا لَا يَلِيق بمنصبه فَكَانَ أَمِير الْأُمَرَاء مَعَ التّرْك ولي أَكثر ذَلِك الإقليم إِلَى نواحي الأهنوم ووادعة وعذرين وَغير ذَلِك فمالت بِهِ شهواته حَتَّى غازى الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَكَانَ مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة وَلما جاؤوا بِرَأْسِهِ إِلَى الإِمَام قَالَ لَو جئْتُمْ بِهِ أَسِيرًا ولوح إِلَى أَنه كَانَ يُرِيد مكافأته على سَابِقَة لَهُ مَعَ الإِمَام وَهِي أَنه وصل بعض الطغاة وَبِيَدِهِ خطى فهزه من خلف الإِمَام وهم بطعنه من خَلفه غدرا والأمير عبد الله مُقَابل لَهُ فَأمْسك على لحيته يُشِير إِلَى أَن الْغدر غير لَائِق وَكَيف يقْتله وَهُوَ فِي أَمن من قبله فَكف عَنهُ وَبَعض خَاصَّة الامام المحبين لَهُ يُشَاهد ذَلِك فَذكره للْإِمَام فَأَرَادَ مكافأته على ذَلِك ثمَّ إِن الْأَمِير ذكر للْإِمَام أَن الأتراك قد أحاطوا بالبلاد وَأَشَارَ بالتقدم عَن تِلْكَ الْبِلَاد الَّتِي قد أحاطوا بهَا وَبعث مَعَه من الرِّجَال من يركن إِلَيْهِ حَتَّى انْفَصل عَن بِلَاد السودة ثمَّ كَانَ من أمره مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة فِي الْحَرْب الْمَشْهُور هُنَالك فتضاءل منصب الْقُضَاة الْمَذْكُورين على جلالتهم وَفِيهِمْ بَقِيَّة صَالِحَة وَأَحْيَا مآثرهم صَاحب التَّرْجَمَة فَإِنَّهُ كَانَ أَخذ الْعلمَاء سِيمَا فِي الْعَرَبيَّة شرح الملحة وَكتب حَوَاشِي وأجوبة مفيدة فِي النَّحْو وَشرح الْهِدَايَة فِي(2/325)
الْفِقْه وَلَا أعرف هَل تيَسّر لَهُ الْإِتْمَام أَولا وَشرح الازهار بشرح اعتنى فِيهِ بموافقة إِعْرَاب الأزهار فَإِن شرح ابْن مِفْتَاح قد لَا يتناسب فِيهِ إِعْرَاب الْمَتْن مَعَ الشَّرْح إِلَى بتحويل للمتن من رفع إِلَى نصب وَنَحْو ذَلِك وَله شعر حسن وَخط جيد وَكَانَ يتأنى فِي الْكِتَابَة فيجيد فِي الْإِنْشَاء كثيرا وَله تخميس قصيدة الصفي الْحلِيّ فيروزدج الصُّبْح أم ياقوتة الشَّفق وَمن شعره فِي راية للْإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه ابْن الْقَاسِم
(أيا راية أَصبَحت فِي الْحسن آيَة ... وفَاق على الْأَعْلَام حسنك عَن يَد)
(قرنت بنصر الله حِين صنعت للْإِمَام ... أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد)
(أَمَام حلى جيد الْكَمَال بجوده ... مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد)
وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه لما مَاتَ السَّيِّد الْعَلامَة إِبْرَاهِيم ابْن الإِمَام المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل وَكَانَ من حَسَنَات الْأَيَّام حفظه قد ألم بِكُل غَرِيبَة من عُلُوم القراآت والنحو وأشعار الْحِكْمَة والأدعية وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ من أوعية الْعلم مَعَ كَونه أكمه وَكَانَ من أصلح النَّاس على صغر سنه وَكَانَ من جملَة من اتَّصل بِهِ الْفَقِيه الْعَلامَة صَلَاح الذنوبي وغذاه بالفوائد فَإِنَّهُ كَانَ وحيداً فَلَمَّا مَاتَ عظم الْخطب فَكتبت أَنا إِلَى الإِمَام أَبْيَات الإِمَام شرف الدّين الَّتِي أَولهَا
(حمدت الله رَبِّي يأبنيا ... على علم نعيت بِهِ اليا)
(نغصت حشاشتي وَالروح لما ... نفضت تُرَاب قبرك من يديا)
(وَلما أَن ختمت الذّكر غيباً ... قدمت بِهِ على الْبَارِي صَبيا)
(وَكُنَّا فِي زفاف الْخَتْم نسعى ... وَقَالَ الرب زفته اليا)
(لإحدى عشرَة مَعَ نصف عَام ... وطِئت بهمة هام الثريا)
(وَكنت قد امْتَلَأت من الْمَعَالِي ... وَلم تتْرك من الْإِحْسَان شيا)
وَمِنْهَا
(يَقُول الصَّبْر للزفرات مهلا ... وَقَالَ اللاعج الأسفيّ هيا)
(وَلما لم أجد لي عَنهُ بدا ... صبرت تكلفاً بعد اللتيا)
(ومالتيا بتصغير لَهَا من ... رزية هَالك أَحْرَى لتيا)
(وَمهما رام قلبِي الصَّبْر كَيْمَا ... أناب كواه عِنْد الوجد كيا)
(فَكيف يلام ذِي حزن على من ... بميز فِي الصِّبَا رشدا وغيا)
(وَكم يَوْم مَلَأت بِمَا أرى من ... مخايل فِيك صَالِحَة يديا)
(فَلَا زَالَت ركاب الشُّكْر تطوى ... الْقَضَاء لله ذِي الملكوت طيا)(2/326)
(وأولها يحط لَدَيْهِ وقرا ... وَآخِرهَا تحمل من لديا)
ثمَّ لم أشعر إِلَّا بِكِتَاب إِلَى الإِمَام من عبد الحميد المترجم بالأبيات فعجبت من توارد الخاطر على التمثل ثمَّ ذكرت قَضيته لهَذِهِ الأبيات وَهِي أَنه لما مَاتَ ابْن الإِمَام شرف الدّين الْمُسَمّى بِعَبْد القيوم وَكَانَ من سَادَات العترة وَلم يبلغ عمره إِلَّا إِحْدَى عشرَة سنة وَنصفا وَقد كَانَ يجاري الْعلمَاء وقبره فِي الْقبَّة قبلى الحراف من أَعمال صنعاء مَشْهُور مزور وَمِمَّا يرْوى أَنه حضر فِي مَسْجِد الحسحوش بالحراف وَالْعُلَمَاء يَخُوضُونَ فِي مسئلة الْبَهَائِم إِذا تمّ سؤالها وحسابها أَيْن تصير فَذكرُوا المقالات وَلم يذكرُوا أشهرها وأحسنها وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يخلق لَهُنَّ رحبة فِي الْجنَّة فَلَمَّا كثر الْخَوْض قَالَ السَّيِّد عبد القيوم وَمَا يشكل عَلَيْكُم من أمرهن لَعَلَّ الله يخلق لَهُنَّ رحبة يتنعمن فِيهَا فأعجب الْحَاضِرُونَ بذلك وكتبوه عَنهُ وَلما مَاتَ عبد القيوم الْمَذْكُور أنْشد وَالِده هَذِه القصيدة وأكثرها من شعر الْأَمِير صَلَاح الدّين الأربلي وفيهَا بَيت مَشْهُور مُتَقَدم على الْأَمِير صَلَاح الدّين وَهُوَ
(حمدت الله رَبِّي يَا بنيا ... )
فَإِن أَصله
(حمدت الله رَبِّي يَا عليا ... )
مِمَّا قَالَه بعض النَّاس فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهَذِه الْألف فِي قَوْله يَا عليا ألف الندبة فَلَمَّا أخرج الْأَمِير القصيدة أخرج السَّيِّد الْعَلامَة عبد الله بن الْقَاسِم الْعلوِي القصيدة أَيْضا فاتفقت خواطرهما وَذَلِكَ من الْعَجَائِب انْتهى كَلَامه وَلم يذكر وَفَاة عبد الحميد بل ذكر أَنه مدفون بالسودة عِنْد بَابهَا القبلي لَكِن سِيَاق كَلَامه يَقْتَضِي أَن وَفَاته تَأَخَّرت إِلَى مَا بعد الْخمسين وَألف
عبد الحميد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم السندي الفاروقي الْحَنَفِيّ نزيل مَكَّة المكرمة الشَّيْخ الْجَلِيل الحميد الْخِصَال الْجَمِيل الفعال كَانَ صَاحب معارف وفنون أَصله من أَرض السَّنَد الإقليم الشهير وَنَشَأ فِيهِ على فضل عَظِيم ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَصَحب كثيرا من الْعلمَاء الأفاضل وَأخذ عَن جمع مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن أَبُو الْفضل زين الدّين تلميذ الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي وَمِنْهُم أَخُوهُ وَكَانَ وافر الصّلاح وَحصل لَهُ بِمَكَّة جاه وَاسع وصيت شاسع وَكَانَ صوفي الْأَخْلَاق كثير الْخَوْف خشن الْعَيْش حسن الْعشْرَة وَلم يزل بِمَكَّة إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته سنة تسع بعد الْألف وعمره نَحْو تسعين سنة وَدفن بالمعلاة بِجنب قبر أَخِيه وَمُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة تسع سِنِين(2/327)
عبد الْحَيّ بن أبي بكر الْمَعْرُوف بطرز الريحان البعلي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْحَنَفِيّ الأديب الشَّاعِر الْجيد الطَّرِيقَة كَانَ فِي عصرنا هَذَا الْأَخير من أرق من عَرفْنَاهُ طبعا وألطفهم شعرًا وَله قريحة سيالة وفكرة نقادة وَكَانَ عشاقا ولوعا بالجمال يتفانى صبَابَة وعشقا وتأخذه حيرة الغرام فيسكر وجدا وشغفا وَكَانَ سهل الْأَلْفَاظ فِي شعر رَشِيق التأدية قَرَأَ على أَبِيهِم وعَلى قريبهم الشَّيْخ مُحَمَّد السليمي وَأخذ عَن عبد الباقي الْحَنْبَلِيّ وَأحمد القلعي وتأدب بِأبي بكر الْقطَّان الْمَشْهُور بغصين البان وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَكَانَ حسن الْخط صَحِيح الضَّبْط وَكَانَ يحفظ بعض مقامات الحريري وَبهَا تقوى على ضبط اللُّغَة وَكَانَ بعرف اللُّغَة معرفَة جَيِّدَة وَحفظ من الْأَشْعَار شَيْئا كثيرا وتجرد مُدَّة على هَيئته وَدخل فِي هَيْئَة الدراويش السواح فَطَافَ الْبِلَاد وَدخل الرّوم ومصر وحلب وَاسْتقر بِدِمَشْق آخرا وَتزَوج بهَا ثمَّ انْعَزل فِي خلْوَة بِالْمَدْرَسَةِ العزيزية وَقد عاشرته مُدَّة فرأيته من أكمل النَّاس يمشي فِي الْعشْرَة على قدم وَاحِدَة يتودد وَيحسن المجاملة وَكَانَ مَعَ خلاعته وتولعه بالحب عف الأزار دين مثابرا على الطَّاعَة وَله تهجدات وأوراد وخشية من الله تَعَالَى وَحج آخر عمره فَرجع متنسكا تَارِكًا للدنيا متقشفا وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى من خلص الأقوام وَقد جمع لنَفسِهِ ديوانا رَأَيْته بِخَطِّهِ وانتقيت مِنْهُ أطايبه فَمن ذَلِك قصيدته الَّتِي عَارض بهَا قصيدة أبي فراس الحمداني الَّتِي أَولهَا
(يَا حسرة مَا أكاد أحملها ... آخرهَا مزعج وأولها)
ومستهل قصيدته هَذَا
(نفس أمانيها تعللها ... تعلها تَارَة وتنهلها)
(ولوعة فِي الضلوع أصعب مَا ... يذيب صلد الحجار أسهلها)
(غَدَاة بانوا فَلَا وَرَبك مَا ... ظننتني فِي الركاب أثقلها)
(رفقا بهَا حادي المطى فَفِي ... خلب فُؤَادِي تدوس أرجلها)
(وَفِي سَبِيل الغرام لي كبد ... تبيت أَيدي النَّوَى تململها)
(تعلة للمنون قائدة ... آخرهَا كَاذِب وأولها)
(أساور النَّجْم أبتغى قصرا ... لليلتي والجوى يطولها)
(وليت ساجي اللحا طير حم من ... يبيت من أجلهَا يدملها)
(الله فِي ذمَّة أضعت وَفِي ... حشاشة من لَهَا معلمها)(2/328)
(أما وجفنيك والفتور وَمَا ... أورث جسمي ضني مذبلها)
(وأسهم قد أراشاها حور ... تقصد حب الْقُلُوب أنصلها)
(لمهجتي فِي هَوَاك تكبر أَن ... يصدّها مَا يَقُول عذلها)
(الْأُم تقضي وَفِي الحشا حرق ... لَا تَسْتَطِيع الْجبَال تحملهَا)
(صبَابَة إِن أردْت أجملها ... لديك ذل الْهوى يفصلها)
(أَو جسم تالله مذ أَرَاك فقد ... أعجز عَن كلمة أحصلها)
(ومنطقي فِيك عَن فَصَاحَته ... يعود سحبان وَهُوَ باقلها)
(وَهَذِه حَالَة الكئيب وَلَو ... حجدتها مَا أَظن تجهلها)
(تَرَكتنِي واستعضت عني من ... أخف أَلْفَاظه أثاقلها)
(أعدمني الله فِي الْهوى فِئَة ... ثناك عَن وصلتي تقوّلها)
(هم أشربوا طبعك القساوة هَل ... نرَاك يَوْمًا للْعَطْف تبدلها)
(أما عرفت العفاف من دنف ... مدَاخِل السوء لَيْسَ يدخلهَا)
(يأنف بالطبع كل فَاحِشَة ... مَذَاهِب الشَّرْع لَيْسَ تقبلهَا)
(غذي لبان الْهوى على صغر ... فَهُوَ لاهل الشجون موثلها)
(أَن رَاح يَحْكِي صبَابَة خضعت ... لَهُ القوافي ودان مشكلها)
(يعلم النوح كل ساجعة ... فَهُوَ صدا دوحها وبلبلها)
(وَيْح قُلُوب المتيمين إِذا ... تصرمت فِي الْهوى حبائلها)
(أفديك يَا قاتلي بِلَا سَبَب ... قتلة مضناك من يحللها)
(أَصبَحت شيخ الغرام فِيك وَمَا ... رِوَايَة أدمعي تسلسلها)
(وفيك حُلْو الشَّبَاب مرّ وَلم ... أفز بأمنية أؤملها)
(تِلْكَ لعمر الْهوى رضاك فان ... غز فيا خيبة أنازلها)
(تالله لَو شاهدت عيونك مَا ... أَلْقَاهُ سحت وجاد وابلها)
(عساك تحنو لمن مطامعه ... عَلَيْك دون الورى معوّلها)
(وَكم لَيَال سهرتهن ولي ... رامحها سامر وأعزلها)
(ومفرشي وسط كل مسبعَة ... قتيادها والوساد فنقلها)
(وَلَيْسَ الأهواك يؤنسني ... بِصُورَة مِنْك لي يمثلها)
(أما كفى يَا ظلوم مَا فعلت ... غزَاة جفنيك بِي وغزلها)(2/329)
(وَلست أشكوك بل يلذ لمن ... تولهت نَفسه تذللها)
(فَأَنت عِنْدِي وَلَو هدرت دمي ... خير وُلَاة الورى وأعدلها)
(وَإِن تَوَارَتْ شموس حسنك عَن ... نواظري فالفؤاد عاقلها)
(وَإِن تناءت ركائبي وَدنت ... رسائلي فالرياح تنقلها)
(فَاسْلَمْ وَلَا تكترث بحرفة ذِي ... نفس أمانيها تعللها)
وَمن رائق نظمه قصيدته الدالية الْمَشْهُورَة الَّتِي مطْلعهَا
(لحظات لَا تحامي القودا ... قد تناهبن الحشا والكبدا)
(بلحاظ تستلذ فتكها ... لَا عدمنا لحظك المجردا)
(دُونك الصبرا حطمي جُنُوده ... واجعلي شَمل السلو بددا)
(وامنعي وردا وَورد اللحيا ... والحياة من جنى أَو وردا)
(يَا مهز الْغُصْن من عطفيه مل ... واعتدل لم تلق من قَالَ اعْتدي)
(يَا منَاط القرطمن نغنغه ... قد تركت الظبي يجْرِي فِي الكدا)
(كَيفَ للظبي بفرع فَاحم ... زَان بالتصفيف جيدا أجيدا)
(مذ غَدا الْمِحْرَاب من حَاجِبه ... قبْلَة خرّت جفوني سجدا)
(هَكَذَا الْحبّ يعز شَأْنه ... صبغة الله تَعَالَى موجدا)
(مالكي بالْحسنِ وَالْحسن احتكم ... حق أَن تضحى لمثلي سيدا)
(إِن من كنت لَهُ مولى فقد ... عَاشَ يَا مولَايَ عَيْش السعدا)
(صبح الله بِكُل الْخَيْر من ... كَانَ مرآك لعينيه ابتدا)
(أَنْت روحي فَإِذا مَا غبت عَن ... ناظري فَارق روحي الجسدا)
وَله من قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي مدح بهَا الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ بِالْقَاهِرَةِ ومطلعها
(بعثت لَهُ الذكرى شجن ... فصبا وحنّ إِلَى الوطن)
(دنف إِذا ابتسم الخليّ غشاه ... تعبيس الْحزن)
(قلق الركائب مَا اسْتَقر ... بِهِ السرى إِلَّا ظعن)
(والبين أصعب مَا يرَاهُ ... أَخُو الشدائد والمحن)
(من مبلغ تِلْكَ المرابع ... والمراتع والدمن)
(أشواقي اللَّاتِي زحمن ... الرّوح فِي مثوى الْبدن)
(فِي ذمَّة الله الَّذين هم ... فروضي وَالسّنَن)(2/330)
(بِي مِنْهُم الرشأ الغضيض الطّرف ... نهاب الوسن)
(متناسق الْأَعْضَاء أَيَّامًا ... لحظت بِهِ فتن)
(ملح تعلم عاشقيه ... بِهِ التغزل والفنن)
(فَكَأَنَّهَا من روض مدح ... بني أبي بكر فنن)
(الضاربين على الفخار ... سرادقاً من كل فن)
(السَّادة الْبيض المآثر ... فِي العلى غرر الزَّمن)
(ومقلدي أَعْنَاق هَذَا الدَّهْر ... أطواق المنن)
(بوراثة نبوية ... مهلا أَتَتْهُ على سنَن)
(حَتَّى اسْتَقل بهَا الإِمَام ... ابْن الإِمَام المؤتمن)
(قطب الْعُلُوم مُحَمَّد ... ذُو الْخلق والخلق الْحسن)
مِنْهَا
(يَا سَيِّدي وَلَئِن قبلت ... تعبدي فلأفخرن)
(عطفا على قلبِي الْكَبِير ... بنظرة فلأجبرن)
(إِنِّي أنخت مطيتي ... بمصيف مجدك فاقبلن)
(مولَايَ دَعْوَة موثق ... بيد القطيعة مُرْتَهن)
(متصبر وَالصَّبْر أولى ... مَا تداوى الممتحن)
(لَكِن يعاير بالجراح ... مفرّط ألْقى الْمِجَن)
(ومديح علياكم بني الصّديق ... جنَّة ذِي الشجن)
(وبحبكم تشفى الْقُلُوب ... وتنجلي ظلم الشحن)
(هَذَا هُوَ الْفَخر الْعلي ... وَمَا سواهُ فممتهن)
(من جَاءَ يفخر عنْدكُمْ ... قُولُوا لَهُ أَنْت ابْن من)
وَمن غزلياته قَوْله
(مل فَإِنِّي لميلك المستميل ... متلق على مراح الْقبُول)
(وَعَجِيب ميل الغصوب إِلَى نَحْو ... مهب الْهوى بِغَيْر مميل)
(لَكِن الْميل بانجذاب هوى النَّفس ... أبيّ الزَّوَال والتحويل)
(حبذا مَيْلَة خلست بهَا الْقلب ... اختلاس الشُّمُول حر الْعُقُول)
(معطف عاطف وجيد مجاد ... والتفات يسبى بِطرف كحيل)
(وطلا وَاضح وَلَفظ خلوب ... ينفث السحر فِي خلال الْمَقُول)(2/331)
(وبروحي إِذا تغضبت والمبسم ... يفترّ عَن رضى فِي نُكُول)
(لعب فِي تأدبّ وتجنّ ... ضمن عطف ومنعة فِي حُصُول)
(هَكَذَا هَكَذَا تبَارك من ... أودع فِي ذَا الْجمال كل جميل)
قَالَ وَمن الْوَاقِعَات فِي بعض الروعات
(بروحي الَّذِي أَشْقَى الْعُيُون ارتقابه ... وَأخرج عَن حد التعادل أحوالي)
(تمثله الأشواق لي فَإِذا أرى ... مليحاً على بعد تظناه بلبالي)
(فأقصده قصد العطاش توهمت ... سراباً فَلَمَّا حَان إِذْ هِيَ بالآل)
(فصرت بِحَال لَو أرَاهُ حَقِيقَة ... نكرت على عَيْني وكذبت آمالي)
وَقَالَ مجيباً لمن عَابَ عَلَيْهِ كتمان الْحبّ وآثر الشُّهْرَة وَقَالَ بِأَن كتم الْحبّ من الْجُبْن
(لَيْسَ جبنا أَنِّي أموّه فِي الْحبّ ... وأخفي وأستشين البيانا)
(غير أَنِّي أجل مَالك رقي ... إنّ مثلي يشدو بِهِ إعلانا)
(فَإِذا مَا فخرت أَفْخَر بِالصبرِ ... وألفى لسره صوّانا)
(وَإِذا مَا شَكَوْت فلتك شكواي ... إِلَيْهِ عساه أَن يتدانا)
(فشجاع الْهوى الصبور على جرح ... مباريه صَارِمًا وسنانا)
(لَا الَّذِي إِن تشكه بادرة الطّرف ... ترَاهُ يقرع الأسنانا)
(أَنا من قسم الْفُؤَاد فَأعْطى ... مِنْهُ كلاكما يَلِيق مَكَانا)
(ومراح الغزال فِيهِ مصان ... عَن سواهُ وَحقه أَن يصانا)
وَقَالَ
(مَا الَّذِي أوجب صدّك ... وَلما أخلفت وَعدك)
(ألشغل دنيويّ ... أم عَذَابي كَانَ قصدك)
(أم دلال أم تجنّ ... أم قرين السوء صدّك)
(وعَلى أَيَّة حَال ... أسعد الغفران جدّك)
(بِالَّذِي ولاك رقي ... سَيِّدي لَا تنس عَبدك)
(أَنا فِي قرب وَبعد ... حَافظ تالله عَهْدك)
(وفؤادي حَيْثُمَا كنت ... وَايْم الله عنْدك)
(لطفك الْمَعْهُود خلاني ... أَسِيرًا لَك وَحدك)
(هَل من الْإِنْصَاف إقصاد ... الَّذِي ينظم قصدك)
(حاش ألطافك من أَن ... تمنع الظمآن وردك)(2/332)
(أَنا من شاد كَمَا شَاءَ ... التقى والصون ودّك)
(كم خلونا والمروءات ... وشت بردى وبردك)
(وعفاف الذيل قد طوّق ... جيد الصب زندك)
(هَكَذَا نَحن فَظن الْخَيْر ... يَا سَائل جهدك)
(أَنا من يتبع غيّ الْحبّ ... فَاتبع أَنْت رشدك)
وَقَالَ مودعاً بعض إخوانه
(حياك عهد الحبيب عهد ... أَوْطَفُ جفن السَّحَاب ورد)
(بعْدك مَا جف من جفوني ... دمع وَلم يجفهن سهد)
(كَأَنَّمَا كَانَ لليالي ... دُيُون بَين وحان وعد)
(يَا لَيْت مذ فرضت بعاداً ... سنت وداعاً غَدَاة شدوا)
(أستودع الله من جفاني ... ضَرُورَة وَهُوَ لي بودّ)
(سَار بقلبي حماه رَبِّي ... وَلم يقل كَيفَ بعد تَغْدُو)
(حداه أَنِّي أنتحي فلاح ... وقاده للنجاح رشد)
(وَمَا عَلَيْهِ بِذَاكَ عتب ... إِرَادَة الله لَا تردّ)
وَقَالَ أَيْضا
(خلياني ولوعتي ونحيبي ... لَيْسَ الإصاب بدمع صبيب)
(وابكياني فإنّ من جرح اللحظ ... قَتِيل وَمَاله من طَبِيب)
(أَي صب سمعتما علقته ... أعين الغيد فَهُوَ غير سليب)
(يَأْبَى معرضًا أُلُوف نفار ... ذَا اخْتِلَاق تعنتاً للذنوب)
(فعله كُله حبائل فتك ... قد أعدّت لصيد كل الْقُلُوب)
(تتحرى مقَاتل الصب عَيناهُ ... برشق النبال فِي التصويب)
(ذُو وقار أهابه أَن أحييه ... إِذا مَا بدا بِلَفْظ حَبِيبِي)
(فَهُوَ لم أدر جَاهِل خبر حَالي ... أم يريني تجاهلاً كمريب)
(أبدا دأبه ودأبي هَذَا ... وكلانا فِي الْحَال غير مُصِيب)
(ليته لَو أقرّ قلبِي على الْحبّ ... بِلَا رِيبَة وَوجه قطوب)
(وَإِذا شَاءَ بعد ذَاك تجنى ... لَذَّة الْحبّ غُصَّة التعذيب)
(مَا يُبَالِي من اسْتهلّ عَلَيْهِ ... من سَمَاء الغرام غيث اللغوب)(2/333)
(جاب كل الْبِلَاد يحْسب أَن الْحَظ ... شَيْء يعْطى لكل غَرِيب)
وَقَالَ
(أَطَالَت وَقَالَت من تصبر يظفر ... فديتك لَكِن مدّة الْعُمر تقصر)
(فَفِي كل قطر غربَة وتشتت ... وَفِي كل عصر حرقة وتحسر)
(يخيل لي فِي كل قفراء إِنَّمَا ... بهَا الْآل أشراك الهوان فأنفر)
(أَهجر مِنْهَا حَيْثُ تستعر الْحَصَى ... وتصخب حرباء الهجير وتزفر)
(وَحَتَّى إِذا شمس الْأَصِيل تقنعت ... حداداً على فقد النَّهَار أشمر)
(فأختبط الظلماء أَحسب أَنَّهَا ... مَسَافَة خطّ بالخطا تتقصر)
(وَلَو أنّ لي مِنْك الْتِفَات مودّة ... لما كنت أطوي فِي الْبِلَاد وأنشر)
وَقَالَ مضمناً بَيت المنجكى فِي ثقيل
(عجبت من طالع الْمُحب وَمن ... سرعَة أكذاب يأسه الأملا)
(أَن زَارَهُ من يحب عَن غلط ... أناه كابوس يقظة عجلاً)
(كَأَنَّهُ طَارق الْمنون فَلَا ... حِيلَة فِي دَفعه إِذا نزلا)
(أَو الْغَرِيم الْملح فِي زمن الْعسر ... أَو الدَّاء صَادف الأجلا)
(نثيل روح يزور فِي زمن ... لَو زار فِيهِ الحبيب مَا قبلا)
(يَقُول أيه وَقد وجمت وَمن ... ينْطق أَو من يُطيق مُحْتملا)
(يسْأَل مَا تَشْتَكِي فَقلت لَهُ ... دَاء عراني فَقَالَ لَا وصلا)
(فَقلت آمين يَا مُجيب أزل ... مَا نشتكيه فَإِن يدم قتلا)
(يَا لَيْت لَو أَنه اسْتُجِيبَ لنا ... دَعوتنَا تِلْكَ وَالْمَكَان خلا)
(لم يحل بل ضَاعَ وقتنا هدرا ... وملّ منا الحبيب وارتحلا)
وَكَانَ يهوى غُلَاما فاتفق أَنه مر عَلَيْهِ والغلام يلْعَب بالنرد فِي أحد بيُوت القهوة فَلم يكترث بِهِ وتشاغل باللعب فنظم فِيهِ هَذِه الأبيات وَهِي من محاسنه
(أنكرتني ذَات السوار الصموت ... عجبا مَا لعرفتي من ثُبُوت)
(لَا بل العانبات يعددن من أمسك ... من وصلهن حَيا كمبت)
(ومريد من الغزاني وَفَاء ... منْدَل بشعرة العنكبوت)
(لَا رعى الله مهجة علقتهن ... وَلَا أسعفت بِفضل القوب)
(حقرت هِنْد ذِمَّتِي واستعاضت ... عَن صدوح الرياض بالعفريت)
(لست أنسى يومي بمجتمع اللَّهْو ... وفكري يجيد فِيهَا نعوتي)(2/334)
(اذبدت فِي غلالة النِّيَّة وَالْعجب ... وَبرد الْجلَال والجبروت)
(تتهادى فِي السرب حَتَّى إِذا مَا ... وصلت حوزتي أرتني موتِي)
(بتغاض مَعَ الْتِفَات إِلَى الدون ... ومقت وَلست بالممقوت)
(ويحها لم تحيني بَين جمعي ... لَو تحسي قُلْنَا لَهَا حييت)
(وتلاهت بالنرد فِي ذَلِك الْمجْلس ... خوف اتهامها بِالسُّكُوتِ)
(ثمَّ ولت وخلقتني أعض الْكَفّ ... مُسْتَدْرك القضا بعد فَوت)
(هِنْد قلي من التجني فلسنا ... من يرضيه فَضله مِمَّن فتيت)
(لست لأثنين أَو ثَلَاث فنأسى ... أَن تخصى بَعْضًا وبعضا تفوتي)
(أَنْت وقف على الْعباد وَمن يطْمع ... فِي الْوَقْف وَاجِب التكيت)
(أتظنين أَن لي بك شغلاً ... لي قلبِي إِن شِئْت ذَا أَو أبيتي)
(إِنَّنِي عفت بَيت حسنك مأهولاً ... فَإِنِّي وَمَا بِهِ غير بَيت)
(لَيْسَ عِنْدِي بعد احتقارك قدري ... لَك كفؤ غير الطَّلَاق البتوت)
(لَا أسوفا على جمالك أَن بدل ... قبحاً وَمر طعم الشتيت)
(غير إِنِّي أسفت أَن ضَاعَ شعري ... فِيك مكن مَا باختباري حبيتي)
(إِذْ بلائي بمبتلاك دَعَا الْفِكر ... لِأَن شاد فِيك بعض بيُوت)
(آه من صُحْبَة الْعباد وواها ... لزمان يمرّ فِي تشتيت)
(صدق الْقَائِل السَّلامَة فِي الصمت كَذَا الْخَيْر فِي لُزُوم الْبيُوت ... )
(طالما مَا قد جررت ذيل التصابي ... وتناسيت عضة التفويت)
(لَا يظنّ عَاقل بِي ميلًا ... لمليح من آنس أَو مقوت)
(رفضت نفيسي الْهوى خيفة الذل ... وَأَن تبتلي برق فليب)
(وهجرت المدام مِمَّا يُؤَدِّي لأفتضاح ... القؤول والسكيت)
(واختلاط بِغَيْر مرضِي عقل ... وانطراح مَعَ كل ذِي تنكيت)
(فَإِذا مَا ذكرت أَيَّام الْهوى ... قلت أَيَّام ذلتي لَا سقيت)
(لَذَّة الْحرفِي اكْتِسَاب الْمَعَالِي ... لَا افتراش الدمى وحسو الْكُمَيْت ... وَأَخْبرنِي فِي أَنه رأى مَا ذكره ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة ابْن الْعَتَاهِيَة أَنه لما ترك قَول الشّعْر حَبسه الْمهْدي فِي حبس الجرائم فَلَمَّا دخله رأى كهلا حسن الْبرة وَالْوَجْه عَلَيْهِ سِيمَا الْخَيْر فقصده وَجلسَ من غير سَلام عَلَيْهِ لما هُوَ فِيهِ من الْجزع والحيرة والفكر(2/335)
فَمَكثَ كَذَلِك فَإِذا الرجل ينشد
(تعودت مس الضّر حَتَّى ألفته ... وأسلمي حسن العزاء إِلَى الصَّبْر)
(وصيرني يأسي من النَّاس واثقا ... بِحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي)
فَاسْتحْسن أَبُو الْعَتَاهِيَة الْبَيْتَيْنِ وتبرك بهما قَالَ وثاب عَقْلِي إِلَيّ فَقلت لَهُ تفضل بإعادتهما فَقَالَ مَا أَسْوَأ أدبك دخلت فَلم تسلم ثمَّ لما سَمِعت مني بَيْتَيْنِ من الشّعْر الَّذِي لم يَجْعَل الله فِيك خيرا وَلَا أدبا وَلَا معاشا غَيره طفقت تستنشدني مبتديا كَأَن بَيْننَا أنسا وسالف مَوَدَّة توجب بسط الْقَبْض فَقلت اعذرني فَقَالَ وفيم أَنْت تركت الشّعْر الَّذِي هُوَ جاهك عِنْدهم وسببك إِلَيْهِم وَلَا بُد أَن تَقوله فَتطلق وَأَنا يدعى بِي فأطلب بِعِيسَى بن زيد بن رَسُول الله
فَإِن دللت عَلَيْهِ لقِيت الله تَعَالَى بدمه وَكَانَ رَسُول الله
خصمي فِيهِ وَإِلَّا قتلت فَأَنا أولى بِالْحيرَةِ مِنْك وَهَا أَنْت ترى صبري واحتسابي ثمَّ أعَاد لي الْبَيْتَيْنِ حَتَّى حفظهما ثمَّ دعى بِي وَبِه فَقلت لَهُ من أَنْت فَقَالَ أَنا حَاضر صَاحب عِيسَى بن زيد فأدخلنا على الْمهْدي فَقَالَ للرجل أَيْن عِيسَى فَقَالَ وَمَا يدريني تطلبته فهرب مِنْك فِي الْبِلَاد وحبستني فَمن أَيْن أَقف على خَبره قَالَ لَهُ مَتى كَانَ متواريا وَأَيْنَ آخر عَهْدك بِهِ وَعند من ليقته قَالَ مَا لَقيته مُنْذُ توارى وَلَا عرفت لَهُ خَبرا قَالَ وَالله للتدلن عَلَيْهِ أَولا أضربن عُنُقك السَّاعَة فَقَالَ اصْنَع مَا بدا لَك فوَاللَّه لَا أدلك على ابْن رَسُول الله وَألقى الله وَرَسُوله بدمه وَلَو كَانَ بَين ثوبي وجلدي مَا كشفت لَك عَنهُ قَالَ اضربوا عُنُقه فَأمر بِهِ فَضربت عُنُقه ثمَّ دَعَا بِي وَقَالَ أَتَقول الشّعْر أَو ألحقك بِهِ قلت بل أَقُول قَالَ أَطْلقُوهُ فأطلقت وَقد روى أَبُو عَليّ التنوخي فِي الْبَيْتَيْنِ زِيَادَة بَيت ثَالِث وَهُوَ
(إِذا أَنا لم أقنع من الدَّهْر بِالَّذِي ... تكرهت مِنْهُ طَال عتبي على الدَّهْر)
انْتهى قَالَ المترجم فاستحسنت هَذِه الأبيات وذيلت عَلَيْهَا بِقَوْلِي
(وَفِي صرفه شغل عَن العتب صَارف ... كشغل غريق الْبَحْر عَن دُرَر الْبَحْر)
(وَمَا الدَّهْر وَالْأَيَّام وَالْوَقْت والورى ... سوى الْفَاعِل الْمُخْتَار رجل عَن الْحصْر)
(وَعَن حِكْمَة تجْرِي مقادير عَالم ... لموقع نفع العَبْد من موقع الضّر)
(وَأَنت إِذا حققت إِن كنت عَارِفًا ... شغلت مَكَان العتب بِالْحَمْد وَالشُّكْر)
(فعتبك للأيام غير مصادف ... محلا إِذْ الْأَيَّام أَنْت وَلَا تَدْرِي)
(فَكُن ذَا سكُوت فِي مجاري الْقَضَاء أَو ... تأسف فَإِن الْكل فِي قَبْضَة الْأَمر)(2/336)
(وَمَا الطيش مغن عَنْك فِي حل عقلة الوثاق ... سوى التَّشْدِيد فِي عقدَة الْأسر)
وَمن نَوَادِر أسماره ومحاسن أخباره أَنه كَانَ فِي غُضُون الصِّبَا يهوى حبيبا كَأَنَّمَا تكون من رقة الصِّبَا وَكَانَ يَذُوق من تقلباته مَا يحر فِيهِ الْوَهم ويعجز عَن حمل بعضه الطود الأشم على أَن مَا قاساه من البلايا والمحن لم يكن بمستحقها وَلَكِن يرى حسنا مَا لَيْسَ بالْحسنِ فَجَلَسَ يَوْمًا الإقراء تلميذ لَهُ وَكَانَ مِمَّن تسْجد لطلعته الأقمار ويلعب بالعقول لعب الْعقار بالأفكار فَحَدَّثته نَفسه بِأَن يتَخَلَّص من ذَلِك الشّرك وينقل الرّوح من أٍ سر ذَلِك المارد إِلَى هَذَا الْملك فَعرض لَهُ طائف من عَالم الخيال وهبت عَلَيْهِ نفحة من برزخ الْمِثَال فَرَأى شكل حَبِيبه الَّذِي شب بِهِ ضرام الجوى ينظر إِلَيْهِ شررا وَهُوَ مار فِي الْهوى وَهُوَ يومي إِلَيْهِ كالمعاتب ويلومه بِلِسَان الْحَال كَمَا يلام الْقَادِر الْكَاذِب فَحصل لَهُ من الْحيَاء والحجاب مَا أوقعه فِي أعظم مصاب وَعطف على الْقلب اللجوج وَقد أطرق إطراق المحجوج فَبَيْنَمَا هُوَ لَا يُدِير لحظا وَلَا يحير لفظا إِذا بِرَجُل أعظم مَا يكون مد يَده إِلَى فُؤَاده واختطفه بِسُرْعَة عزمه وَقُوَّة سداده وألقاه إِلَى ذَلِك الْمِثَال فَأَخذه وَولي من حَيْثُ جَاءَ فِي عَالم الخيال فَاسْتَيْقَظَ وَقد أضلّ قلبه وضيع صبره وليه وَعقد التَّوْبَة عَمَّا جنى فِي شرع الْهوى من الذُّنُوب وَفِي كل عين مِنْهُ أحفان وَيَعْقُوب وَمن أناشده لنَفسِهِ مَا تلقيته عَنهُ من فِيهِ فِي أحد مجالسي مَعَه قَوْله
(سقتك الغر يَا عهد الشبيبة ... ترنح مِنْك أغصانا عسيبة)
(وَإِلَّا فالنواقع من جفوني ... وَإِن تَكُ لأرواء وَلَا عذوبة)
(فكم لي فِي ظلالك من مقيل ... حسون بِهِ الْهوى كأسا وكوبه)
(بِكُل ندى جسم كنت أظمى ... النواظر عَنهُ خشيَة أَن تذيبه)
(كَانَ بِكُل عُضْو مِنْهُ بَدْرًا ... منيرا أَو مدبجة خصيبة)
(وكل مرنح الأعطاف يخطو ... فيكتسب الصِّبَا مِنْهُ هبوبه)
(إِذا مَا رام يعبث بِي دلالا ... يقطب والرضى يمحو قطوبه)
(فَمن لَك بالسلامة أَن تثني ... وهز قناة عطفيه الرطيبة)
(وأبلج مستدير الشكل أبدت ... بِهِ الأصداغ أشكالا عَجِيبَة)
(تريك بسيمياء الْحسن روضا ... حذارا مِنْهُ أَن تصلى لهيبة)(2/337)
(وفاحم طرة شكرا لأيدي ... الرعونة كم لَهَا أمست لعوبه)
(تبدّدها كذوب الْمسك طوراً ... على غُصْن تجسد من رطوبه)
(وطوراً يظْهر الشربوش مِنْهَا ... كأطراف البنان غَدَتْ خضيبه)
(وآونة يرى مِنْهَا زباناً ... يموج وَكم بِهِ كبد لسيبه)
(فَأَنِّي يطْرق السلوان قلباً ... حمته جيوش خضراء الكتيبة)
(وَلَا كنواعس أرشقن قلبِي ... صوائب غادرته أَخا مصيبه)
(شهرن ظبا وقلن أَلا صيود ... فَكَانَت مهجتي أولى مجيبه)
(لحالها الله أيّ عَنَّا تلقت ... تقمص مِنْهُ جثماني شحوبه)
(وَلم أك ألحها إِلَّا أضطراراً ... فَلم تَكُ بِالَّذِي فعلت معيبه)
(هِيَ الأحداق مَا مستك إِلَّا ... وفزت من الشَّهَادَة بالمثوبه)
(جرى قلم الْقَضَاء لنا بِهَذَا ... وَلَا يعدو امْرُؤ أبدا نصِيبه)
وَمِمَّا نقلته من خطه قَوْله
(تولى زماني بالتلاعب وانقضى ... وحبل شَبَابِي بالمشيب تنقضا)
(أراقب لمحا من سُهَيْل مطالبي ... وأرصد برقاً من أمانيّ أَو مضا)
(يخيل لي أنّ الدجا وَجه باخل ... وكف الثريا للسؤال تعرّضا)
(فآنف من نيل الْغنى بمذلة ... وألوي عنان الْقَصْد عَنهُ مفوّضاً)
(وأعيا طلابي من زماني صاحباً ... يكون لحالي بِالْوَفَاءِ منهضاً)
(فأيقنت أنّ الْخلّ أفقد ثَالِث ... مَعَ الغول والعنقاء فِي قَول من مُضِيّ)
(وَقد صَحَّ عِنْدِي إِنَّمَا الْخلّ خلة ... أروم لَهَا سد الكفاف مَعَ الرِّضَا)
(إِذا قطع الْإِنْسَان أطماع نَفسه ... من النَّاس كَانَ الْيَأْس أهنى معوّضاً)
(هُنَاكَ يكون الْمَرْء بِاللَّه مُقبلا ... على شَأْنه مَا أَن يكل لَهُ مضا)
(فذالك الَّذِي بِالْعقلِ صَحَّ اتصافه ... وَمن لَا فَلَا وَالله بَالغ مَا قضى)
ونقلت أَيْضا من خطه قَوْله
(لَا تتْرك الْجد فِي جمع الْكَمَال لِأَن ... بارت تِجَارَة سوق الْفضل فِي الزَّمن)
(لَا بدّ أَن ترغم الْجُهَّال حَاجتهم ... إِلَى كمالك أَن يرضوك فِي الثّمن)
(وحسبك الله إِن لم تلق مُشْتَريا ... عَن الغبي بعرف الْعرف أَنْت غَنِي)
وَمن مقطوعاته قَوْله(2/338)
(إِذا كَانَ فقر الْمَرْء يزري كَمَاله ... فتنفر مِنْهُ الأصدقاء بِلَا عذر)
(فيا ضَيْعَة الْحسنى وَيَا خيبة الرجا ... وَيَا موت زرانّ الْحَيَاة على خسر)
وَقَوله
(رَأَيْت التواني أنكح الْعَجز بنته ... وسَاق إِلَيْهَا حِين زفت لَهُ مهْرا)
(فراشا وطياً ثمَّ قَالَ لَهَا اتكي ... فَلَا بدّ للزوجين أَن يلدا فقرا)
وَهَذَانِ البيتان قديمان وَإِن أثبتهما فِي ديوانه وَمن مقاطيعه قَوْله
(عني إِلَيْكُم بني هَذَا الزَّمَان فقد ... عَاهَدت قلبِي أَن لَا رام ودّكم)
(أَبَا حكم بَيت ودّ كَانَ تصدية ... صَلَاتكُمْ عِنْده فَالْآن صدّكم)
وَقَوله
(إياك يَا ابْن أبي عني نصيحة من ... يَد التجارب قَامَت عَنهُ بالأود)
(إياك صُحْبَة غير الْجِنْس مَا بشر ... يقوى لِأَن يجمع الضدّين فِي جَسَد)
وَقَوله
(نَفسِي لتؤثر أَن تفنى بمحنتهم ... لِأَنَّهَا لسوى الأحباب لم تكن)
(الْمَرْء يُرْجَى لضرّ أَو لمَنْفَعَة ... وَمَا خلقت لغير الْحبّ والشجن)
وَقَوله
(الأهم الأهم إِن كَانَ لَا بدّ ... فَإِن الزَّمَان فِينَا قصير)
(لَا تضع فرْصَة الحيا فَمَا للعمر ... حَيْثُ انْتهى مداه معير)
وَاتفقَ لي مَعَه يَوْم من أطيب الْأَيَّام فِي رَوْضَة غشيت بنسيج يَد الْغَمَام لبست خضر المطارف وتزينت بأنواع الزخارف وصحبتنا من السَّادة الأفاضل زمرة قد تألفت طباعهم بالفرح والمسرة فأخذني من النشاط مَا بَعَثَنِي على مدحهم بِأَبْيَات فَقلت وَأَنا معترف فِي وَصفهم بِضيق المجال فِي الْعبارَات والأبيات هِيَ هَذِه
(فديت خلا بِصدق عشرته ... هذب نَفسِي إِذْ جَاءَ يرشدها)
(عرّفني مَا جهلته زَمنا ... من شُبُهَات لِلْخلقِ توجدها)
(حَتَّى إِذا مَا أنْكرت فعلهم ... وتوبتي تمّ فِيهِ موعدها)
(فاوضني فِي هواي مختبراً ... وَكله حِكْمَة يزوّدها)
(فَقَالَ أَي الذوات تعشقها ... قلت كريم الأمجاد سَيِّدهَا)
(فَقَالَ أَي الأوتار تؤثره ... قلت صرير اليراع أَجودهَا)
(فَقلت كَيفَ الرياض قلت لَهُ ... عِنْد طباع الْكِرَام أجحدها)
(فَقَالَ وَالطّيب قلت عرف ثَنَا ... خلائق لَا أَزَال أحمدها)
(فَقَالَ وَالنَّقْل كَيفَ قلت وَهل ... ذَاك سوى الْأَشْعَار ننشدها)(2/339)
(فَقَالَ أَي الندمان أَنْت لَهُ ... تبذل نفسا تضيق حسدها)
(فَقلت لي سادة بهم عذبت ... مناهلي حَيْثُ طَابَ موردها)
(فَكل وَقت يمرّ لي بهم ... أشرف كل الْأَوْقَات أسعدها)
(داموا ودامت لنا فضائلهم ... نَأْخُذ عَنْهَا وَلَيْسَ نفقدها)
وَقد أطلنا حسب الْمُقْتَضى وَلَوْلَا خوف الْخُرُوج عَن الِاعْتِدَال لذكرت من أشعار المترجم شَيْئا كثيرا وَلَكِن فِي هَذَا الْقدر كِفَايَة وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين وَألف عَن خمس وَسِتِّينَ سنة وَدفن بمقبرة الفراديس والسليمى نِسْبَة لبني سليم من الْعَرَب العاربة وشهرته بطرز الريحان لموشح قَالَه فِي أَيَّام صبوته مطلعه
(طرز الريحان حلَّة الْورْد ... )
فاشتهر بِهِ
عبد الْحَيّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْعِمَاد أَبُو الْفَلاح العكري الصَّالِحِي الْحَنْبَلِيّ شَيخنَا الْعَالم الْهمام المُصَنّف الأديب المفنن الطرفة الإخباري العجيب الشَّأْن فِي التَّحَوُّل فِي المذاكرة ومداخلة الْأَعْيَان والتمتع بالخزائن العلمية وَتَقْيِيد الشوارد من كل فن وَكَانَ من آدب النَّاس وأعرفهم بالفنون المتكاثرة وأغزرهم إحاطة بالآثار وأجودهم مساجلة وأقدرهم على الْكِتَابَة والتحرير وَله من التصانيف شَرحه على متن الْمُنْتَهى فِي فقه الْحَنَابِلَة حَرَّره تحريراً أنيقاً وَله التَّارِيخ الَّذِي صنفه وَسَماهُ شذرات الذَّهَب فِي أَخْبَار من ذهب وَله غير ذَلِك من رسائل وتحريرات وَكَانَ أَخذ عَن الْأَعْلَام الْأَشْيَاخ بِدِمَشْق من أَجلهم الْأُسْتَاذ الشَّيْخ أَيُّوب وَالشَّيْخ عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن بدر الدّين البلباني الصَّالِحِي وأجازوه ثمَّ رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة للأخذ عَن علمائها وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ سُلْطَان المزاحي والنور الشبراملسي وَالشَّمْس البابلي والشهاب القليوبي وَغَيرهم ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق وَلزِمَ الإفادة والتدريس وانتفع بِهِ كثير من أهل الْعَصْر وَكَانَ لَا يمل وَلَا يفتر عَن المذاكرة والاشتغال وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَكَانَ خطه حسنا بَين الضَّبْط حُلْو الأسلوب وَكَانَ مَعَ كَثْرَة امتزاجه بالأدب وأربابه مائل الطَّبْع إِلَى نظم الشّعْر إِلَّا أَنه لم يتَّفق لَهُ نظم شَيْء فِيمَا عَلمته مِنْهُ ثمَّ أَخْبرنِي بعض الإخوان أَنه ذكر لَهُ أَنه رأى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ ينشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَ وأظن أَنَّهُمَا لَهُ وهما
(كنت فِي لجة الْمعاصِي غريقاً ... لم تصلني يَد تروم خلاصي)(2/340)
(أنقذتني يَد الْعِنَايَة مِنْهَا ... بعد ظَنِّي أَن لات حِين مناص)
ثمَّ وقفت لَهُ على أَبْيَات بناها على لغز فِي طَرِيق وَهِي
(مَا اسْم رباعي الْحُرُوف تخاله ... لمناط أَمر المنزلين سَبِيلا)
(وتراه متضحاً جلياً ظَاهرا ... ولطالما حاولت فِيهِ دَلِيلا)
(وَله صِفَات تبَاين وتناقض ... فَيرى قَصِيرا تَارَة وطويلا)
(ومقوّماً ومعوّجاً ومسهلا ... ومصعداً ومحزناً وسهولا)
(وَالْخَيْر وَالشَّر الْقَبِيح كِلَاهُمَا ... لَا تلق عَنهُ فيهمَا تحويلا)
(سعدت بِهِ أهل التصوّف إِذْ بِهِ امتازوا ... فَلَا يبغوا بِهِ تبديلا)
(تصحيفه وصف لطيف إِن بِهِ ... جملت أوصافاً تنَال قبولا)
(وَإِذا تصحف بعد حذف الرّبع مِنْهُ ... تَجدهُ حرفا فابغه تَأْوِيلا)
(أَو ظرفا أَو فعلا لشخص قد غَدا ... فِي وَجهه بَاب الرجا مقفولا)
(وبقلبه وَزِيَادَة فِي قلبه ... لبَيَان قدر النَّقْص صَار كَفِيلا)
(وبحذف ثالثه وقلب حُرُوفه ... كم راقت الحسنا بِهِ تجميلا)
(فَأَبِنْ معماه بقيت مُعظما ... تزداد بَين أولى الحجى تكميلا)
وَكنت فِي عنفوان عمري تلمذت لَهُ وَأخذت عَنهُ وَكنت أرى لَقيته فَائِدَة اكتسبها وَجُمْلَة فَخر لَا أتعداها فَلَزِمته حَتَّى قَرَأت عَلَيْهِ الصّرْف والحساب وَكَانَ يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها عَليّ وحباني الدَّهْر مُدَّة بمجالسته فَلم يزل يتَرَدَّد إِلَيّ تردد الآسي إِلَى الْمَرِيض حَتَّى قدر الله تَعَالَى لي الرحلة عَن وطني إِلَى ديار الرّوم وطالت مُدَّة غيبتي وَأَنا أشوق إِلَيْهِ من كل شيق حَتَّى ورد عَليّ خبر مَوته وَأَنا بهَا فتجددت لوعتي أسفا على ماضي عهوده وحزناً على فقد فضائله وآدابه وَكَانَ قد حج فَمَاتَ بِمَكَّة وَكَانَت وَفَاته سادس عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة وَكَانَ عمره ثَمَانِي وَخمسين سنة فَإِنِّي قَرَأت بِخَط بعض الْأَصْحَاب أَن وِلَادَته كَانَت نَهَار الْأَرْبَعَاء ثامن رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
عبد الْحَيّ بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد محب الدّين بن أبي بكر تَقِيّ الدّين بن دَاوُد المحبي الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي ابْن عَم أبي الْفَاضِل الْكَامِل كَانَ من لطف الطَّبْع وسلامة النَّاحِيَة على جَانب عَظِيم وَكَانَ مَقْبُول الْعشْرَة حسن الْخلق والخلق سخياً متودداً نَشأ فِي دولة أَبِيه الباهرة وَكَانَ أَبوهُ ذَا ثروة عَظِيمَة فَإِنَّهُ حصلا أَمْوَالًا وافرة وتملك أملاكاً جليلة(2/341)
ورزق وَلدين عبد الْحَيّ هَذَا ومحمداً وَسَيَأْتِي ذكره وَهُوَ أَخُو جدي لِأَبِيهِ وَأم عبد الْحَيّ أُخْته لأمه وَهِي بنت الشَّيْخ الإِمَام عبد الصَّمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد العكاري الْمُتَوفَّى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وجده عبد الصَّمد مفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَرَئِيس علمائها كَانَ وَكَانَ اسْمهَا بعديعة الزَّمَان وَكَانَت من الْعلم والمعرفة ونظم الشّعْر فِي مَحل سَام اشتغلت الْكثير على جدي القَاضِي محب الدّين وَأخذت عَنهُ الْفِقْه والعربية وَقَرَأَ عَلَيْهَا ابْنهَا عبد الْحَيّ هَذَا وَأَخُوهُ ثمَّ لزم عبد الْحَيّ الِاشْتِغَال فَقَرَأَ على عُلَمَاء عصره مِنْهُم الْعِمَاد الْمُفْتِي وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقي ونبل ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف فِيمَا أَحسب ونفدت أَمْوَاله فِي مُدَّة يسيرَة فضمه وأخاه جدي محب الله إِلَيْهِ وأمدهما بإمداداته الدارة وميزهما على أقرانهما فبلغا رفْعَة وشأناً عَظِيما واستبد عبد الْحَيّ بتولية نيابات المحاكم بِدِمَشْق فولى الميدان والعونية ودرس بمدرسة دَار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق ثمَّ ورد إِلَى دمشق قَاض للْحَاج فاتحد بِهِ وألفه وفوض إِلَيْهِ أَمر نيابته فِي الطَّرِيق فصحبه فَمَاتَ فِي الطَّرِيق بِمَنْزِلَة عسفان وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
عبد الْحَيّ بن فيض الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْقَاف القسطنطيني المولد والمنشأ المتخلص بفائضي شَاعِر الرّوم وظريفها كَانَ فريد دهره أدباً وفضلاً وكرماً ومجداً وبلاغة وبراعة ولطافة وظرافة وديوان شعره مَشْهُور سَائِر بَين الْحسن والجودة والجزالة والعذوبة وَمَعَهُ رواء الطَّبْع وشيمة الظّرْف وَهُوَ من بَيت بالروم لَهُم الصدارة والتقدم وَأَبوهُ فيض الله سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَنَشَأ هُوَ ودأب فِي التَّحْصِيل حَتَّى برع وسما قدره من حِين شبيبته وَكَانَ كبار الْعلمَاء والأدباء يميزونه ويأنسون بِهِ وَكَانَ بَينه بَين نفعي الشَّاعِر الْمَشْهُور وقائع وحروب كَثِيرَة وهجاه نفعي بأهاج مفرطة فِي المذمة مَذْكُورَة فِي كِتَابه سِهَام الْقَضَاء وَقد درس بمدارس مُتعَدِّدَة وَولي قَضَاء سلانيك فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَوَافَقَ تَارِيخ تَوليته لَهُ نَفسه قَضَاء عبد الْحَيّ وعزل عَنْهَا فَأَقَامَ معزولاً إِلَى أَن مَاتَ وَلم ينل غَيرهَا وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بقسطنطينية
عبد الْحَيّ بن مَحْمُود الْحلَبِي الأَصْل الْحِمصِي المولد الدمشق الدَّار الْحَنَفِيّ الصُّوفِي كَانَ من أجلاء الْفُضَلَاء طَوِيل الباع فِي المعارف وانتفع بِهِ خلق بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ ذكره النَّجْم الْغَزِّي وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ فِي مبدأ أمره من فُقَرَاء الشَّيْخ أبي الْوَفَاء بن الشَّيْخ(2/342)
علوان وَكَانَ كثيرا مَا يخرج من حمص إِلَى حماة لزيارته فخطر لَهُ خاطر فِي طلب الْعلم فاسشار أَبَاهُ فَقَالَ لَهُ أَبوهُ اذْهَبْ إِلَى شيخك سَيِّدي أبي الْوَفَاء وَانْظُر إِلَى مَا يُشِير بِهِ عَلَيْك وَأي مَدِينَة يَأْمُرك بِالسَّفرِ إِلَيْهَا وَطلب الْعلم بهَا فسافر إِلَى الشَّيْخ وقص لَهُ قصَّته وَمَا قَالَ لَهُ أَبوهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء اذْهَبْ موقف حماة فهناك مجذوب قف أَمَامه وَقل لَهُ إِن وَفَاء بن علوان يُقْرِئك السَّلَام وَلَا تزد على ذَلِك وَانْظُر مَاذَا يجيبك بِهِ قَالَ فمضيت إِلَيْهِ ووقفت أَمَامه فَلَمَّا أحس بِي رفع إِلَيّ رَأسه فَقلت لَهُ إِن الشَّيْخ وَفَاء ابْن الشَّيْخ علوان يُقْرِئك السَّلَام فَقَالَ حَيَّاهُ الله عَلَيْك وَعَلِيهِ السَّلَام ثمَّ انتصب قَائِما وصفق بيدَيْهِ ونادى بِأَعْلَى صَوته حَيا الله بِلَاد الشَّام فِيهَا الخوخ وَالرُّمَّان فِيهَا زقزق العصفور فِيهَا شيخ بِلَا طرطور وَكرر ذَلِك مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا قَالَ فَرَجَعت وأخبرت الشَّيْخ فَقَالَ لي يَا عبد الْحَيّ اذْهَبْ إِلَى دمشق يحصل لَك الْعلم وَالدُّنْيَا وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ فَقبل إِشَارَة شَيْخه وسافر إِلَى دمشق وَقَرَأَ بهَا على الْعَلامَة الْعلَا بن عماد الدّين والشهاب أَحْمد الطَّيِّبِيّ ثمَّ لزم أَبَا الْفِدَاء اسماعيل النابلسي ورفيقه الْعِمَاد الْحَنَفِيّ حَتَّى برع ودرس بِالْعَرَبِيَّةِ والتركية وَكَانَ يعرف اللُّغَة التركية معرفَة متقنة وَكَانَ يحب الصَّالِحين ويتردد إِلَيْهِم وسافر إِلَى الرّوم وَكَانَ مِمَّن أَخذ عَنهُ الْمولى يحيى ابْن زَكَرِيَّاء وَلما ولي قَضَاء الشَّام أَجله وَاتفقَ لَهُ أَنه كَانَ مدرساً بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة فَأخذ توليتها القَاضِي مُحَمَّد بن الكيال وَكَانَ بالروم انْتَمَى إِلَى الْمولى يحيى الْمَذْكُور وَعَاد فِي خدمته إِلَى دمشق فَوَقع بَينه وَبَين صَاحب التَّرْجَمَة بِسَبَب التَّوْلِيَة وتشاتما ثمَّ ترافعا إِلَى القَاضِي وكل مِنْهُمَا يعْتَمد مَاله عَلَيْهِ من النّظر فَلم ينصف عبد الْحَيّ واشار عَلَيْهِمَا بِالصُّلْحِ فَلَمَّا قَامَ من الْمجْلس دخل على شَيخنَا القَاضِي محب الدّين فاحتشم لَهُ وَغَضب من أَجله ثمَّ التمس شَيخنَا الشهَاب العيثاوي وَبَقِيَّة أهل الْعلم وَتَشَاوَرُوا فِي ذَلِك فَاقْتضى الرَّأْي أَن يجتمعوا فِي الْيَوْم الثَّانِي ويذهبوا إِلَى القَاضِي ويطلبوا مِنْهُ الْخُرُوج من حق ابْن الكيال بالتعزيز فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي اجْتَمَعنَا فَلَمَّا حضر الشَّيْخ عبد الْحَيّ تشكر من الْحَاضِرين وقص علينا رُؤْيا أَنه رأى الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن حبيب الصَّفَدِي فِي الْمَنَام وَهُوَ فِي بُسْتَان عَظِيم قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فشكوت إِلَيْهِ فَقَالَ لي يَا عبد الْحَيّ أما قَرَأت تأتين فَقلت نعم فَقَالَ أما قَرَأت قولي فِيهَا
(إِن لم تَجِد منصفا للحق كُله إِلَى ... مولى البرايا وخلاق السَّمَوَات)
قَالَ فَاسْتَيْقَظت وخاطري متبلخ واستخرت الله عَن الِانْتِصَار فجزاكم الله تَعَالَى(2/243)
عَنَّا خيرا وشكر سعيكم ثمَّ صرف الْقَوْم قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد سادس شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف وَدفن بمقبرة الفراديس وَرَأَيْت بِخَط مُحَمَّد المرزناتي الصَّالِحِي أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس بَين الأذانين بعد أَن تسحر ثَالِث عشر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
عبد الْحَيّ بن يُوسُف الْكرْدِي نزيل دمشق أحد أَعْيَان الْعلمَاء كَانَ لَهُ بَاعَ طائل فِي المعقولات اتَّصل أَولا بِخِدْمَة أَو يس باشا وَلما ولى مصر كَانَ مَعَه وَجعله قَاضِي الحضرة وَحصل بهَا مَالا كثيرا ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق فَلَزِمَ بَيته لَا يخرج لجمعة وَلَا جمَاعَة إِلَّا نَادرا وَكَانَ فِي الأَصْل شافعياً ثمَّ صَار حنفياً وَولي تدريس الْمدرس المعينية وَكَانَ لَهُ مُرَتّب فِي جوالي بَيت المَال وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْقُضَاة والولاة وَصَحب أَحْمد باشا الْحَافِظ لما كَانَ فحافظ الديار الشامية وعلت كَلمته عِنْده وَلم يعْهَد مِنْهُ ضَرَر لأحد من النَّاس وَلما مَاتَ الْحسن البوريني وَجه إِلَيْهِ قَاضِي دمشق عَنهُ الْمدرسَة الشامية البرانية فَبَقيت فِي يَده أشهراً ثمَّ وجهت من طرف السلطنة إِلَى الشهَاب العيثاوي بَقِي عبد الْحَيّ على عزلته وانزوائه إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَعشْرين وَألف
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْعلم ابْن إِبْرَاهِيم بن عمر بن عبد الله وطب بن مُحَمَّد النَّضر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ عبد الله باعلوي الْمَعْرُوف كسلفة بالمعلم أوحد الزَّمَان وباقعة الدَّهْر إِمَام العارفين وقدوة الصُّوفِيَّة ولد بِمَدِينَة قسم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بالعلوم والمعارف وَأكْثر الْأَخْذ عَن عُلَمَاء عصره وَصَحب أكَابِر العارفين وانتفع وَأخذ بِبَلَدِهِ عَن الإِمَام الْعَارِف الأديب خسن بن إِبْرَاهِيم باشعيب وَعَن أَوْلَاد الشَّيْخ أبي بكر بن سَالم وَدخل مَدِينَة تريم وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده تَاج العارفين عَليّ زين العابدين وحفيده عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد وَالْقَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَأَوْلَاده الْمَشْهُورين وَرجل إِلَى الواديين الْمَشْهُورين وَادي دوعن ووادي عمد وَأخذ بهما عَن أجلاء أكَابِر مِنْهُم الشَّيْخ الْعَارِف أَحْمد بن عبد الْقَادِر الشهير بباعشن وَجَمَاعَة من العموديين ثمَّ رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري والصفي القشاشي وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوي وَغَيرهم وتفنن فِي فنون كَثِيرَة لَكِن غلب عَلَيْهِ علم التصوف والحقائق(2/344)
وازدهت بِهِ بَلَده وَاتَّفَقُوا على تَقْدِيمه وإمامته وَكَانَ أول أمره يعلم الْقُرْآن وَلما رَحل قَامَ أَخُوهُ مقَامه وَلما عَاد نصب نَفسه لتدريس الْعُلُوم وَكَانَ لَهُ غوص على دقائق السلوك وَله فِي لبس خرقَة التصوف طرق متبوعة وأجيز بالإرشاد والإلباس والتربية وَبلغ الْغَايَة القصوى وعد من الفحول وَوصل بِصُحْبَتِهِ كَثِيرُونَ إِلَى الْمَرَاتِب الْعلية فظهرت لَهُم مِنْهُ آيَات عالية قَالَ الشلي وصحبته مُدَّة مديدة وَحَضَرت لَهُ مجَالِس وَكَانَ يخبو على حنو الْوَالِد وأتحفنى بفوائد كَثِيرَة وَله فِي التصوف رسائل مفيدة وَأَشْيَاء لَطِيفَة وَكَانَ لَهُ حسن خلق وسمت كثيرا لوقار لم تسمع مِنْهُ كلمة مجون متواضعا متقشفا محبوبا عِنْد النَّاس مُعْتَقدًا عِنْدهم مَقْبُول القَوْل لديهم زاهدا فِيمَا بِأَيْدِيهِم مغتنما لوقته مشتغلا بِنَفسِهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَخمسين وَألف بقرية قسم وَدفن بتربتها الْمَشْهُورَة بالمصف وقبره مَشْهُور يزار
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْكرْدِي الصهري الشَّافِعِي نزيل ديار بكر الْعَلامَة الْمُحَقق أَخذ عَن ملاجلبي الْجَزرِي الْكرْدِي وَبِه تخرج وَمن مؤلفاته رِسَالَة فِي سُورَة يس وحاشية على حَاشِيَة عِصَام على الْجُزْء الْأَخير من الْقُرْآن وَله مَا ينيف على أَرْبَعِينَ رِسَالَة وَله رباعي فَارسي ذكر فِيهِ ابْتِدَاء تَحْصِيله للعلوم وَهُوَ قَوْله
(شدّ هزار وبيست بنج از هجرت خير الْأَنَام ... كشت ازان بس بنده مر استاد صرفي راغلام)
(شهر ثَانِي از شهور جَار وَجل بعد ازهزار ... دروى آمد شكر لله صدر تدر يسم مقَام)
وَكَانَت تَأتيه النَّاس من الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر للأخذ عَنهُ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع أَو خمس وَسِتِّينَ وَألف بِمَدِينَة ديار بكر والصهري بِضَم الصَّاد وَسُكُون الْهَاء نِسْبَة إِلَى صهران
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن المزور الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ نزيل قسطنطينية وخاطب جَامع السُّلْطَان أَحْمد بهَا وَكَانَ إِمَامه أَيْضا وَكَانَ من خِيَار الْعلمَاء مشاركاً فِي عُلُوم شَتَّى وَكَانَ صَالحا حسن السمت لَهُ تواضع ومسكنة وَكَانَ عَالما بالقراآت وانتفع بِهِ خلق كثير من أهالي الرّوم وَذكره شَيخنَا الخياري فِي رحلته وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ وَحج مرَارًا وجاور بِالْمَدِينَةِ أشهراً وَاتفقَ لَهُ أَمر لم يتَّفق لغيره من أهل الأقطار وَذَلِكَ أَنه لما وصل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة كَانَ شيخ الْحرم إِذْ ذَاك بهَا من قبل السُّلْطَان المرحوم(2/345)
عبد الْكَرِيم أغا وَكَانَ تلميذاً لعبد الرَّحْمَن فَطلب لَهُ من خطباء ذَلِك الْمقَام الْمُبَاشرَة فِي نوبَته نِيَابَة عَنهُ طلبا للتشرف فوافقه على ذَلِك فباشر خطْبَة بذلك الْمِنْبَر الشريف وَكَانَ كثير الافتخار بذلك على سَائِر خطباء الْأَمْصَار وَوَجهه أَنه لم يعْهَد مُبَاشرَة الْخطْبَة بالمنبر الشريف لمن لَيْسَ لَهُ نوبَة من خطبائه وَكَانَ وَهُوَ بالروم اخترع أَدَاء مولداً بَين وضع التّرْك وَالْعرب وَقد عمر كثيرا حَتَّى قَارب الْمِائَة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف بقسطنطينية
عبد الرَّحْمَن بن أبي الْفضل بن بَرَكَات الْموصِلِي الميداني الشَّافِعِي كَانَ شيخ زَاوِيَة الموصليين بمحلة ميدان الْحَصَى وَلما اسْتَخْلَفَهُ وَالِده فِي حَيَاته ذكر أَنهم كَانَ لَهُم حَلقَة يَوْم الْجُمُعَة فِي الْجَامِع الْأمَوِي قد تركت من زمَان قديم فَأذن لوَلَده الْمَذْكُور فَعمِلت لَهُم حَلقَة غربي بَاب السنجق دَاخل الْجَامِع فِي حُدُود الْألف وَكَانَ عبد الرَّحْمَن أسن إخْوَته وَكَانَ صافي المشرب لين العريكة وَكَانَت وَفَاته أول وَقت الظّهْر ليَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر ربيع الثَّانِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف وَدفن لصيق وَالِده فِي تربتهم الملاصقة لمَسْجِد النارنج وَمَسْجِد الْمصلى وَجلسَ مَكَانَهُ بعده أَخُوهُ الشَّيْخ بدر الدّين فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر شهر ربيع الثَّانِي بِإِجَازَة عَمه الشَّيْخ الصَّالح تَقِيّ الدّين
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الْبيض بن عبد الرَّحْمَن بن حُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم الملقب وجيه السَّيِّد الْهمام الْعلي الْقدر والهمة أحد أَشْرَاف بني علوي الْمَشْهُورين ولد ببندر الشحر وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بتحصيل الْعلم حَتَّى حصل طرفا صَالحا مِنْهُ ثمَّ رَحل إِلَى تريم وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة من العارفين ثمَّ قصد عينات لزيارة الشَّيْخ الْكَبِير أبي بكر بن سَالم فلازمه مُلَازمَة تَامَّة حَتَّى تخرج بِهِ وَألبسهُ خرقَة التصوف وَحكمه واعتنى بِعلم التصوف والْحَدِيث وَالْأَدب وَله نظم حسن ومدح شَيْخه الشَّيْخ أَبَا بكر الْمَذْكُور وَغَيره بقصائد كَثِيرَة ونظمه متداول وَكَانَ ظَاهر الْفضل باهر الْعقل مَعَ الذكاء العجيب والفهم الْغَرِيب والمكارم الْعلية والأخلاق اللطيفة واقتنى كتبا كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته لست خلون من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَألف وَدفن بمقبرة بندر الشحر وقبره مَعْرُوف يزار
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الإدريسي المكناسي الحسني المغربي نزيل مَكَّة السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى قطب زَمَانه كَانَ من كبار الْأَوْلِيَاء لَهُ الْكَشْف الصَّرِيح وَالْأَحْوَال الباهرة وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الأديب مُحَمَّد بن الدرا(2/346)
الدِّمَشْقِي فِي أَيَّام مجاورته بِمَكَّة المشرفة
(فِي ظلّ حمى السَّيِّد عبد الرَّحْمَن ... خيم لتفوز بالرضى والغفران)
(واحفظ نجواك عِنْده والإعلان ... كي تَنْشَق عرف عَرَفَات الْإِحْسَان)
ولد بمكناسة الزَّيْتُون من أَرض الْمغرب الْأَقْصَى فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف ورحل فِي ابْتِدَائه من الْمغرب فَدخل مصر وَالشَّام وبلاد الرّوم وَاجْتمعَ بالسلطان مُرَاد وَوَقع لَهُ كرامات خارقة وَحج سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وجاور بِمَكَّة ثمَّ رَحل إِلَى الْيمن لزيارة من بهَا من الْأَوْلِيَاء فَاجْتمع بكثيرين من أكَابِر الْمَشَايِخ مِنْهُم السَّيِّد عبد الرَّحْمَن ابْن عقيل صَاحب المخا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة وتديرها وَصَارَ مرجعاً لأَهْلهَا والواردين إِلَيْهَا وَكَانَ فِي الْكَرم غَايَة لَا تدْرك وَكَانَ يعْمل الولائم الْعَظِيمَة للخاص وَالْعَام وَكَانَت النذور تَأتيه من الْمغرب والهند وَالشَّام ومصر ويصرفها للْفُقَرَاء وَكَانَ مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْد جَمِيع النَّاس وَإِذا جَاءَهُ الْمَدِين الْمُفلس ليشفع لَهُ عِنْد دائنه فبمجرد أَنه يكلمهُ فِي ذَلِك يمتثل أمره بِطيب نفس وَرُبمَا أَبرَأَهُ من دينه وَإِذا جَار أحد من السَّادة على عبد أَو أمة وَدخل عَلَيْهِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بأغلى ثمن وَأعْتقهُ حَتَّى أعتق أرقاء كثيرا ووقف عَلَيْهِم دوراً وَكَانَ حسن الْعشْرَة إِذا اجْتمع بِهِ أحد لم يرد مُفَارقَته وَكَانَ كثير الشفاعات وَكَانَ يحب الْعلمَاء ويكرمهم وَيحسن للْفُقَرَاء ويتفقدهم بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَة الْعَظِيمَة وَكَانَ يَدْعُو الله تَعَالَى بِحَالهِ ومقاله وَكَانَ لَا يلبس إِلَّا ثوبا وَاحِدًا صيفاً وشتاءً وقلنسوة وعَلى رَأسه يلبس سروالاً وَكَانَ يحث من يجْتَمع بِهِ على مُلَازمَة مَا يُنَاسِبه من صنوف الْخَيْر من تِلَاوَة قُرْآن وَصَلَاة على النَّبِي
وَكَثْرَة اسْتِغْفَار وأوراد حسان ويحض من رَأْي فِيهِ عَلامَة خير على اعْتِقَاد الصُّوفِيَّة والتصديق بكلامهم وعلومهم وأحوالهم وخصوصاً الشَّيْخ الْأَكْبَر فَإِنَّهُ كَانَ يعظمه كثيرا وَيَأْمُر بتعظيمه حكى لي الْأَخ الْفَاضِل الْكَامِل الشَّيْخ مصطفى بن فتح الله قَالَ دخلت عَلَيْهِ فِي بَيته بِمَكَّة مَعَ الشَّيْخ الْعَارِف حُسَيْن بن مُحَمَّد با فضل وَكنت لم أَدخل عَلَيْهِ قبل ذَلِك وَكَانَ لَا يخْطر ببالي ذكر الصُّوفِيَّة وَلَا أَحْوَالهم فحين اجتماعي بِهِ قَالَ لي مَا تَقول فِي الصُّوفِيَّة فَسكت لعدم معرفتي بِشَيْء من ذَلِك فَذكر الإِمَام الْغَزالِيّ وَمَا وَقع للْقَاضِي عِيَاض بِسَبَب إِنْكَاره عَلَيْهِ وَحَرقه كتاب الْأَحْيَاء فِي قصَّة طَوِيلَة عَجِيبَة ثمَّ ذكر الشَّيْخ الْأَكْبَر محيي الدّين بن عَرَبِيّ وأحواله ومؤلفاته وَأطَال فِي وَصفه وَأَنه الْخَتْم الإلهي وَأَمرَنِي أمرا جَازِمًا باعتقاد الصُّوفِيَّة(2/347)
ومطالعة كتبهمْ وَالتَّسْلِيم لَهُم والتصديق بعلومهم وأحوالهم قَالَ فَكَأَنَّمَا طبع الله كَلَامه فِي قلبِي فَمن ذَلِك الْوَقْت وَللَّه الْحَمد ملئت اعتقادا ومحبة فيهم وَإِن لم أكن على سُنَنهمْ وَأَرْجُو من الله سُبْحَانَهُ أَن يحشرني مَعَهم وَفِي حزبهم ولقنني رَضِي الله عَنهُ الذّكر لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وألبسني الْخِرْقَة الشَّرِيفَة وَكَانَ يَدْعُو لي كثيرا وَكَانَ لَهُ الكرامات الْعَظِيمَة مِنْهَا مَا حَكَاهُ السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن سَالم شَيْخَانِ يَا علوي أَنه سَافر مَعَه إِلَى الْيمن وَكَانَ مَعَهُمَا الشَّيْخ الْفَاضِل عبد الله بن مُحَمَّد الطَّاهِر العباسي الْمَكِّيّ فهاج عَلَيْهِم الْبَحْر وكادوا يشرفون على الْهَلَاك فَقَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي انْظُر إِلَى مَا نَحن فِيهِ من الْحَال ادْع الله لنا أَن يفرج عَنَّا فَقَالَ للبحر اسكن بِإِذن الله فسكن من حِينه ووقف الرّيح فَقَالَ للريس سر على بركَة الله تَعَالَى فَقَالَ يَا سَيِّدي كَيفَ أسافر بِلَا ريح فَقَالَ لَهُ سر يَأْتِي الله بِالرِّيحِ فَسَار فأتتهم ريح طيبَة وصلوا فِيهَا إِلَى مقصودهم وَزَالَ عَنْهُم مَا كَانُوا يجدونه من الْخَوْف ببركته وَمِنْهَا أَيْضا مَا أخبر بِهِ السَّيِّد الْمَذْكُور أَنه لما ذهب نفع الله تَعَالَى بِهِ إِلَى زِيَارَة سَيِّدي الشَّيْخ أَحْمد بن علوان بِمَدِينَة يغْرس أَتَى الشَّيْخ خادمه فِي الْمَنَام قبل وُصُول السَّيِّد بليلة وَقَالَ لَهُ فِي غَد يصبح عَلَيْك رجل صفته كَذَا وَكَذَا فأفعل لَهُ ضِيَافَة عَظِيمَة وَبَالغ فِي تَعْظِيمه وَأكْرم نزله ومثواه فَإِنَّهُ من أكَابِر أهل الله فامتثل الْخَادِم أَمر الشَّيْخ وَفعل مَا أمره بِهِ وانتظره فِي الْوَقْت الَّذِي ذكره لَهُ فَلم يجده فَذهب خَارج الْبَلَد لَعَلَّه يجده فَلم ير لَهُ أثرا وَلَا خَبرا فَرجع وَقد أيس من وُصُوله وَدخل مقَام الشَّيْخ فَوَجَدَهُ فِيهِ بِصفتِهِ وَكَانَت الْأَبْوَاب مصكوكة ففتحت لَهُ ومفاتيحها بيد الْخَادِم فَعرفهُ وَقبل يَدَيْهِ وَذكر لَهُ مَا أمره بِهِ الشَّيْخ وَذهب بِهِ إِلَى مَكَان الضِّيَافَة وَبَالغ فِي إكرامه وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ السَّيِّد الْمَذْكُور أَنه كَانَ ببندر المخا وَكَانَ رجلَانِ من أَصْحَابه متوجهين إِلَى الْهِنْد فَأتيَا إِلَيْهِ يودعانه ويطلبان مِنْهُ الدُّعَاء فَقَالَ لأَحَدهمَا يحصل لَك مشقة كَبِيرَة فِي الْبَحْر وَلَكِن عَاقبَتهَا سليمَة فَكَانَ كَمَا قَالَ وَقَالَ للْآخر إِذا رَأَيْتنِي فِي الْهِنْد فَلَا تكلمني فَلَمَّا وصل إِلَى الْهِنْد وَتوجه إِلَى دهلي جهان آباد سَرِير السُّلْطَان فَجَلَسَ يَوْمًا على بَاب دَاره فَإِذا أَبَا السَّيِّد مقبل وَعَلِيهِ سلهامة سَوْدَاء فَعرفهُ وَقَالَ لبَعض أَصْحَابه هَذَا السَّيِّد عبد الرَّحْمَن وركض ليقبل يَدَيْهِ فشزره بِعَيْنيهِ فَتذكر كَلَامه فَرجع وأغشى عَلَيْهِ وَحصل لَهُ حَال عَظِيم فَلَمَّا أَفَاق لم يره نفع الله بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة الْأَوْلِيَاء فِي عصره وَقد تقدم ذكر وِلَادَته وَأما وَفَاته فقد كَانَت نَهَار الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن(2/348)
بزاوية السَّيِّد سَالم شَيْخَانِ اشْتَرَاهَا من أَوْلَاده وَأوصى أَن يدْفن فِيهَا رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل الخلي اليمني الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي القحطاني وجيه الدّين وَأحد الْقُضَاة الْعدْل بِالْيمن الميمون ولد بِبَلَدِهِ الجديدة فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر الشُّيُوخ بِالْيمن وأجيز بالإفتاء والتدريس وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة وَولي الْقَضَاء الْأَكْبَر بِبَلَدِهِ وَسَار فِيهِ أحسن سيرة ونفذت كَلمته وَأَحْكَامه حَتَّى أَن أَئِمَّة الدّين لَا تنقض حكمه إِذا قضى فِي مسئلة وَلَو كَانَت مُخَالفَة لما هم عَلَيْهِ وَبَالغ النَّاس فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ بالتقوى وَالدّين وَزِيَادَة الْعلم والتمكين حَتَّى قَالَ بَعضهم لَيْسَ فِي تهَامَة الْيمن الْآن مثله وَله من شعر الْعلمَاء مَا يقبل فَمن ذَلِك مَا كتبه إِلَى ابْن عَمه الْفَاضِل أَحْمد الخلي فِي صدر رِسَالَة
(سَلام على الْوَلَد الْفَاضِل ... سليل الْكِرَام الْوَلِيّ الْكَامِل)
(وَمن حبه صَار فِي مهجتي ... مُقيما بهَا لَيْسَ بالراحل)
(على الْعلم الْفَرد عالي الذرى ... وَمن مجده لَيْسَ بالزائل)
(هُوَ الْعلم الْمَاجِد المرتضى ... حَلِيف التقى ذُو الْمقَام الْعلي)
(على أَحْمد خير مولى لقد ... تسامى بِفضل وفخر جلى)
(فَتى أَحْمد خير أفرانه ... هُوَ ابْن مُحَمَّد أَبوهُ على)
(فَتى عمر الْخَيْر خليهم ... وَمن فَضله قطّ لم يجهل)
(أَمَام تسلسل من سادة ... حووا الْعلم فِي الزَّمن الأوّل)
(وأنصار دين إِلَه الورى ... وَمن يجهل الْقدر فليسأل)
(وشهرتهم تغنى عَن وَصفهم ... وَذَا غير خَافَ على الْفَاضِل)
(وَذَا أَحْمد نجلهم قد غَدا ... كشمس الضُّحَى فاعتمد مقولي)
(وَبعد وصلني الْكتاب الَّذِي ... لَهُ يشْرَح الصَّدْر للمجتلي)
(قَرَأت لَهُ بعد تقبيله ... وَوضع على الرَّأْس والكاهل)
(تضمن لفظا عَزِيزًا غَدا ... كدر يجيد لذات الْحلِيّ)
(وحسناً لَهَا رُتْبَة فِي الملا ... بقدّ قويم وَوجه جلى)
(هِيَ السؤل يَا سَيِّدي والمنى ... أدام صفاه إِلَى الموئل)
(وَإِعْرَابه عَن صفا حالكم ... بِهِ حصل الْقَصْد للآمل)(2/349)
(وَلَا زلتم فِي الصَّفَا والوفا ... بِحَق رَسُول الاله الْوَلِيّ)
(وشوقي لكم قد غَدا زَائِدا ... ووجدي بكم سَيِّدي مذهلي)
(سَأَلت إلهي اللقا عَاجلا ... بكم قبل سيري للمنزل)
(بِحَق الرَّسُول النَّبِي الْمُجْتَبى ... مُحَمَّد خير الورى الْأَفْضَل)
(وبالآل والصحب أهل التقى ... نُجُوم الْهدى السَّادة الكمل)
فَرَاجعه بقوله
(أما آن للموعد الماطل ... يجود بوصل على السَّائِل)
(جرى مَا كفى بل كفى مَا جرى ... من المدمع الفائض السَّائِل)
(بروحي من علمتني الْهوى ... محَاسِن وَجه لَهُ كَامِل)
(وَقد كنت من قبله فَارغًا ... فَأَصْبَحت فِي شغل شاغل)
(إِلَى الله أَشْكُو غرامي بِهِ ... ووجدي الَّذِي لَيْسَ بالزائل)
(وتقريح جفن طما مَاؤُهُ ... فأغنى عَن الْعَارِض الهاطل)
(وشرخ الشَّبَاب الَّذِي لم يزل ... يمر ويمضي بِلَا طائل)
(وَطول اشتغالي بِمَا لم يفد ... وَكَثْرَة ممشاي فِي الْبَاطِل)
(فيا نفس لَا تطلبي عَاجلا ... يَزُول قَرِيبا عَن الآجل)
(وخل الدنا وخيالاتها ... فَلَيْسَتْ تخيل على عَاقل)
(أَلَيْسَ قصارى مُقيم بهَا ... رحيل فَمَا الشّغل بالراحل)
(فهيىء لقد طَال نومك فِي البطالة ... من حظك الخامل)
(فَإِن البطالة قتالة ... وَمَا نَام فِيهَا سوى جَاهِل)
(فقومي بجد وجدي السرى ... فَمن جد يلْحق بالواصل)
(وَلَا تتراخي إِلَى قَابل ... فكم قد مضى لَك من قَابل)
(عَسى نفحة من جناب الْوَجِيه ... خلنا الْعَالم الْعَامِل)
(نفك عَن العَبْد أغلاله ... وَتكشف عَن قلبه الغافل)
(وتغسل أدرانه قبل أَن ... يَمُوت ويعرض للغاسل)
(فيا غيث بريعم الورى ... وبحر عُلُوم بِلَا سَاحل)
(أَتَانِي كتابك من بعد أَن ... تَمَادى المطال على الآمل)
(وكدت أقطع حَبل الرجا ... وأرضى وأقنع بالحاصل)
(فَلَمَّا فضضت ختام الْكتاب ... سكرت بريحانه الذابل)(2/350)
(ونزهت طرفِي فِي حسنه ... وأدهشت من سحره البابلي)
(وأيقنت بِالْفَتْح من سَاعَتِي ... وَقلت قد انْفَتح الْبَاب لي)
(فشكراً لما خولتني يداك ... فَمَا ذَاك مِنْك ابتدا نائل)
(فكم مِنْك لاحت عُقُود الثنا ... قَدِيما على جيدي العاطل)
(وألبستني من فنون المديح ... بروداً بهَا الزهو قد طَابَ لي)
(وحملتني ممناً جمة ... وحقك قد أثقلت كاهلي)
(فَلَا زلت يَا نجم بَادِي السنا ... تلوح لنا لست بالآفل)
وللمترجم غير مَا أوردته لَهُ من الْآثَار وَقد اكتفيت عَنْهَا بِهَذِهِ الْقطعَة المثبتة لشرف الْقَائِل وَكَانَت وَفَاته فِي عَاشر الْمحرم سنة خمس وَتِسْعين وَألف والخلى بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام الْمُشَدّدَة نِسْبَة إِلَى الْخلّ الْمَعْرُوف نسب إِلَيْهِ لكرامة صدرت من بعض أسلافه بقلب المَاء خلا وَكثير من النَّاس بِكَسْر الْخَاء ويهم فِي ذَلِك وَمَا ذكرته فِي سَبَب النِّسْبَة هُوَ المتلقى عَنْهُم فَلَا عدُول عَنهُ إِلَى أَن تكون النِّسْبَة إِلَى الْخلّ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة قرب مرحح وَلَا إِلَى الْخلّ منزل فِي طَرِيق وَاسِط إِلَى مَكَّة قرب لينَة وَلَا إِلَى خلة بِزِيَادَة الْهَاء قَرْيَة بِالْيمن قرب عدن وَبَنُو الخلى قوم صَالِحُونَ يتوارثون الْعلم وموطنهم من الْيمن بَيت مرجل فِيهِ جمَاعَة مِنْهُم ومسكن صَاحب التَّرْجَمَة الحديدة وَهِي بساحل الْبَحْر بِالْقربِ من بَيت الْفَقِيه أَحْمد بن عجيل
عبد الرَّحْمَن بن أويس الْكرْدِي الأَصْل الشَّافِعِي الْمَذْهَب نزيل دمشق الْفَاضِل الْوَرع الْخَيْر قدم إِلَى دمشق وَصَارَ معلما لأَوْلَاد الْوَزير حسن باشا بن سِنَان باشا واستوطن دمشق وَسكن بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية وَلما مَاتَ الْحسن البوريني كَانَ مدرساً بهَا فوجهت إِلَيْهِ وَبقيت فِي يَده ثمَّ أخذت عَنهُ وَبعد ذَلِك شطرت بَينه وَبَين شهَاب الدّين الْعِمَادِيّ الْمُقدم ذكره وَحج صَاحب التَّرْجَمَة وسافر إِلَى مصر مرَارًا وَحفظ فِي آخر عمره الْقُرْآن ولازم على تِلَاوَته واشتهر بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَلم يزل بِدِمَشْق إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الرَّحْمَن بن حسان الدّين الْمَعْرُوف بحسام زَاده الرُّومِي مفتي الدولة العثمانية وَوَاحِد الدَّهْر الَّذِي باهت بفضله الْأَيَّام وتاهت بمعارفه الْأَزْمَان وَكَانَ عَالما متجراً(2/351)
كثير الْإِحَاطَة بمواد التَّفْسِير والعربية جم الْفَائِدَة ممدحاً كَبِير الشَّأْن وكل من رَأَيْته من الْفُضَلَاء يغلو فِي تَقْدِيمه وَحفظ محاسنه وَيَقُول إِنَّه لم تخرج الرّوم مثله فِي الْجمع بَين أفانين المعلومات العجيبة والألفاظ المزخرفة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أشهر الْمُتَأَخِّرين من عُلَمَاء الرّوم فِي ديار الْعَرَب وأكبرهم شَأْنًا وَسبب شهرته الزَّائِدَة طول تردده إِلَى هَذِه الْبِلَاد وَكَثْرَة مدح شعرائها لَهُ والمغالاة فِي وَصفه وشيوع خَبره بِالْكَرمِ والعطايا الجزيلة وَكَانَ حسن الْخط إِلَى الْغَايَة وَالنَّاس يضْربُونَ بجودة خطه الْمثل لمتانته وَحسن أسلوبه وَكَانَ حسن النادرة كثير اللطائف وَمن لطائفه أَنه سُئِلَ عَن الحَدِيث الصَّدَقَة تدفع الْبلَاء مالمراد بالبلاء فَأجَاب بِمَا قيل فِيهِ ثمَّ قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون الْبلَاء هُوَ السَّائِل نَفسه فالصدقة تَدْفَعهُ بِمَعْنى تدفع ثقله وَقد نَشأ على التَّحْصِيل حَتَّى فاق ولازم من الْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية وسافر مَعَ أَبِيه من الْبَحْر على طَرِيق مصر إِلَى الْقُدس فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ بهَا الحَدِيث عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد الدجاني وتلقن كلمة التَّوْحِيد فِي ضريح سيدنَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ عزل وَالِده عَن الْقُدس وَعوض عَنْهَا بِالْمَدِينَةِ المنورة ثمَّ عَاد فِي خدمَة وَالِده إِلَى وَطنه فولى تفتيش الْأَوْقَاف وباشره أحسن مُبَاشرَة فاشتهر بالعفة حَتَّى نما خَبره إِلَى السُّلْطَان مُرَاد فاتصل بجانبه وَبَلغنِي أَن الْعلَّة فِي تقربه إِلَيْهِ إتقانه للرمي بِالسِّهَامِ وَمِنْه تعلمه السُّلْطَان الْمَذْكُور وأتقنه وَلم يزل مشمولاً بعنايته وَهُوَ يترقى فِي الْمدَارِس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء حلب فَقدم إِلَيْهَا وَسيرَته بهَا مَذْكُورَة مَشْهُورَة ولأدبائها فِيهِ مدائح كَثِيرَة وَكَانَ الأديب يُوسُف البديعي الدِّمَشْقِي نزيل حلب إِذْ ذَاك من خواصه وندماء مَجْلِسه وباسمه ألف كِتَابيه ذكرى حبيب وَالصُّبْح المنبي عَن حيثية المتنبي وترجمة بترجمة مُسْتَقلَّة وَذكر أَنه كَانَ بَينه وَبَين النَّجْم الحلفاوي مودّة أكيدة وَلم يتَّفق لَهُ نظم شَيْء من الشّعْر إِلَّا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قالهما فِي حق النَّجْم الْمَذْكُور وهما
(عَلَيْك بِنَجْم الدّين فالزمه إِنَّه ... سيهدي إِلَى جنس الْعُلُوم بِلَا فصل)
(بِنور اسْمه السَّامِي هدى كل عَارِف ... أَلا إِنَّه شمس المعارف وَالْفضل)
قَالَ وَلما أنشدهما قلت بديهة مُخَاطبا شَيخنَا الحلفاوي بِقَوْلِي
(كَفاك افتخاراً أَيهَا النَّجْم إِن ذَا المآثر ... بدر الْمجد شمس ضحى الْعدْل)(2/352)
(حَلِيف العلى نجل الحسام الْمُهَذّب الَّذِي ... عزمه مَا زَالَ أمضى من النصل)
(وَمن أشرقت شهباؤنا بِعُلُومِهِ ... وزحزح عَنْهَا ظلمَة الظُّلم وَالْجهل)
(حباك ببيتي سودد بل بدرّتي ... فحار على أهل المآثر وَالْفضل)
ثمَّ نقل من قَضَاء حلب إِلَى قَضَاء الشَّام وقدمها فِي منتصف شعْبَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَله فِيهَا مآثر مَا زَالَت تتداولها الشفاه وتتناقلها الروَاة وَلما وردهَا صَحبه البديعي الْمَذْكُور فصيره نَائِبا بالمحكمة العونية وَكَانَ فِي خدمته أَيْضا الأديب الْفَائِق الْمَشْهُور مصطفى بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بالبابي وَهُوَ الْقَائِل فِيهِ من قصيدة مستهلها
(هُوَ الشوق حَتَّى يَسْتَوِي الْقرب والبعد ... وَصدق الوفا حَتَّى كانّ القلى ودّ)
يَقُول من جُمْلَتهَا فِي مدحه
(همام تناجينا مخايل عزمه ... بأنّ إِلَيْهِ يرجع الْحل وَالْعقد)
(وأنّ على أعتابه تقصر العلى ... وأنّ إِلَى آرائه يَنْتَهِي الْجد)
(هَمت راحتاه للعدا وعفاته ... فَمن هَذِه سم وَمن هَذِه شهد)
(من الْقَوْم قد صانوا حمى حوزة العلى ... طريفاً وصانتهم معاليهم التلد)
(هُنَالك ألْقى رَحْله الْبَأْس والندى ... وَألقى عَصا التسيار واستوطن الْمجد)
(حديقة فضل لَا يصوّح نبتها ... ونهر عَطاء مَا لسائله رد)
(ورقة أَخْلَاق يسير بهَا الصِّبَا ... وبأس لَهُ ترى فرائسها الْأسد)
(قطفنا جنى جدواه جينا وَلم يزل ... علينا لَهُ ظلّ من السّير ممتد)
(وَغَابَ وَعِنْدِي من أياديه شَاهد ... وواعجبا من أَيْن لي بعْدهَا عِنْد)
(وآب فلاد ورد البشاشة ناضب ... لَدَيْهِ وَلَا بَاب المكارم منسد)
(فيا أوبة ذَابَتْ لَهَا كبد النَّوَى ... لأَنْت برغم الْبعد فِي كَبِدِي برد)
(وَفَاء بِلَا وعد من الدَّهْر حَيْثُ لم ... يكن قبل قسطنطينة باللقا وعد)
(أروض اللقا وَالله يبقيك أخضراً ... أبن لي هَل آس نباتك أم ورد)
(هَنِيئًا بالقسطنطينة الرّوم قد قَضَت ... لبانتها واسترجع المنضل الغمد)
(أرانيه فِيهِ الله والدهر لائذ ... بأعتابه مَا الْوَفْد يزحمه الْوَفْد)
وَهِي قصيدة لَطِيفَة المسلك وَسَتَأْتِي تَتِمَّة غزلها فِي تَرْجَمَة البابي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَت أَيَّام ابْن الحسام بالشأم شامة فِي وَجه الدَّهْر هِيَ مواسم الْأَدَاء وأعياد(2/353)
الْفُضَلَاء وَمَا اتّفق فِي زَمَنه من نفاق سوق الْأَدَب ورواق سعر الشّعْر لم يتَّفق فِي زمن غَيره من الْقُضَاة وَكَانَ أدباء ذَلِك الْحِين كالشاهيني والأمير المنجكي لَا ينفكون عَن مَجْلِسه إِلَّا نَادرا وَيَقَع بَينهم محاورات ومطارحات وَلَهُم فِيهِ مدائح لَو أفردت بالتدوين لجاءت فِي مجلدة فَمن ذَلِك مَا قَالَه الشاهيني فِيهِ
(يَا سيدا فَوق مَا قَالُوا وَمَا كتبُوا ... وَفَوق مَا وصفوا دهراً وَمَا نسبوا)
(وَيَا وحيداً رأى الشَّام الشريف بِهِ ... أَضْعَاف مَا قد رَأَتْ من عدله حلب)
(وَيَا مجيداً وَصفنَا بعض سؤدده ... وفاتنا مِنْهُ مِقْدَار الَّذِي يجب)
(وَيَا كَرِيمًا رَأينَا من بدائعه ... مَا قصرت دونه الْأَخْبَار والكتب)
(سعيت نَحْوك شوقاً طَالبا أدباً ... يَا من لَدَيْهِ يصاب الْعلم وَالْأَدب)
(فصدّني عَنْك حظى والحجاب بِهِ ... وَلَيْسَ نور ذكاء تمنع الْحجب)
(فَعَاد عَنْك بِطرف مطرق رمد ... وَقد تذكر بَيْتا صوغه عجب)
(لَيْسَ الْحجاب بمقص عَنْك لي أملاً ... إنّ السَّمَاء ترجى حِين تحتجب)
(وَاعْلَم بِأَنِّي محب لَا لشائبة ... وَلَيْسَ من رِيبَة تخشى فتجتنب)
(وإنني بك رَاض فِي معاملتي ... لأَنْت يَا سَيِّدي قَاض ومحتسب)
(واسلم فإنّ دُعَاء بتّ أرْسلهُ ... إِلَيْك حَقًا نَظِير الْغَيْث ينسكب)
وللأمير المنجكي فِيهِ من جملَة مدائح مَذْكُورَة فِي ديوانه
(آلى الزَّمَان عَلَيْهِ أَن يواليكا ... يثني عَلَيْك وَلَا يَأْتِي بشانيكا)
(فَإِن سَطَا فبأحكام تنفذها ... وَإِن سخا فبفضل من مساعيكا)
(لِيهن ذَا الْعِيد حَظّ مِنْك حِين غَدَتْ ... علاهُ ثمَّ حلاه من أياديكا)
(مُجملا بأياد مِنْك فائقة ... معطراً بغوال من غواليكا)
(وافى يهنى بك الدُّنْيَا وَنحن بِهِ ... يَا بهجة الدّين وَالدُّنْيَا نهنيكا)
(من ذَا يضاهيك فِيمَا حزت من شرف ... وَمن يدانيك فِي حكم ويحكيكا)
(فالشمس مهما ترقت فَهِيَ قَاصِرَة ... عَن بعض أيسر شَيْء من مراقيكا)
(والبدر طود تسامى فَهُوَ محتقر ... إِذا بَدَت وهذي من دراريكا)
(وكل مجد فَمن علياك مكتسب ... وكل فَخر نرَاهُ من حواشيكا)
(وَمَا حكى السّلف الْمَاضِي وحدّثنا ... من السجايا بِهِ إِحْدَى الَّتِي فيكا)
(تعنوا لَرَفَعَتْك الزهاد مذعنة ... ويحسد الْفلك الْأَعْلَى مغانيكا)(2/354)
(يَا ابْن الحسام الَّذِي للدّين نصرته ... أَنْت المفدى فَكل النَّاس تفديكا)
(أعيادنا كلهَا يَوْم نرَاك بِهِ ... وَلَيْلَة الْقدر وَقت من لياليكا)
وَله أَيْضا فِي يَوْم نوروز
(النَّاس كلهم شِرَاء عطائه ... والعيد والنوروز من آلائه)
(يختال ذَا بالحلي من عليائه ... شرفا وَذَا بالوشي من نعمائه)
(قرت بِهِ عين الغزالة واعتدت ... مكحولة فِي أفقها بضيائه)
(مَا أنبت الأدواح بعد ذيولها ... إِلَّا سُقُوط الطل من أنوائه)
(سلسالها ونسيمها من لطفه ... وعبيرها من بعض طيب ثنائه)
(مولى أقل هباته الدُّنْيَا فَقل ... مَا شِئْت فِي معروفه وسخائه)
(عدل لَهُ مَا زَالَ يورق عوده ... حَتَّى استظل النَّاس فِي أفيائه)
(غيث أغاث بِهِ الْمُهَيْمِن خلقه ... متفضلا وَقضى لَهُم بِقَضَائِهِ)
(نجل لذِي الأفضال من كفائه ... وحسام دين الله من أَسْمَائِهِ)
(السعد من خُدَّامه والعز من ... أَتْبَاعه وَالْمجد من ندمائه)
(تسْعَى المواسم كلهَا الرحابة ... إِذْ لَا بهاء لَهَا بِغَيْر بهائه)
وَله أَيْضا فِيهِ هَذِه الْقطعَة
(فَضَح الشَّمْس بالضياء بهاؤه ... بدر عدل أفق السداد سماؤه)
(من لَهُ المكرمات والجود وَالْفضل ... صِفَات تسمو بهَا أسماؤه)
(الْوَلِيّ الْوَلِيّ من غادر الدَّهْر ... رياضا تغيثها أنداؤه)
(استمالت قُلُوبنَا واسترقت ... لذراه رقابنا آلاؤه)
(لوسها عَن ثَنَا علاهُ لِسَان ... لرأي مج حمله أعضاؤه)
(من يرَاهُ وَلَو بلمحة طرف ... فسعيد صباحه ومساؤه)
وَأهْدى إِلَيْهِ المنجكي طرفا وَكتب مَعَه هَذِه الأبيات
(يَا من إِذا وهب الدُّنْيَا فيحسبها ... بخلا وحاشا علاهُ فَهُوَ مفضال)
(أهديك طرفا وَمن نعماك كم أخذت ... مثلي وَمثل الَّذِي أهديت سُؤال)
(لَكِن عَبدك يخْشَى أَن يُقَال لَهُ ... لَا خيل عنْدك تهديها وَلَا مَال)
(قبولك الْمِنَّة الْعُظْمَى عَليّ ولي ... بهَا من الدَّهْر إكرام وإجلال)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء دمشق وأنشده النَّجْم الْغَزِّي ارتجالا يَوْم وُصُول خبر عَزله قَوْله(2/355)
(عزلك يَا ابْن الحسام مَا تمّ ... وَمن يجي بعد كم فَمَا تمّ)
وسافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مدّة معزولا ثمَّ صَار قَاضِي دَار السلطنة وَكَانَ ذَلِك فِي حَيَاة وَالِده وَكَانَ وَالِده معزولا عَن قَضَائهَا فساواه فِي الرُّتْبَة وَهَذَا من أغرب مَا وَقع بَين موَالِي الرّوم وَقد اتّفق لَهُ أَيْضا أَنه لما انْتقل وَالِده بالوفاة فِي صفر سنة أَربع وَخمسين وَألف وَجه إِلَيْهِ مَا بِيَدِهِ من وَظِيفَة وَقَضَاء تأبيدا ثمَّ بعد مُدَّة صَار قَاضِيا بعسكر أناطولي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَخمسين فَقَالَ ابْن عَم وَالِدي الأديب مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي المحبي القَاضِي فِي تَارِيخ تَوليته وَكَانَ أذذاك بقسطنطينة
(لما تولى الْعَالم ابْن الحسام ... قَاضِي العساكر أوحد الْأَعْلَام)
(صدر الموَالِي الحبر والكثز الَّذِي ... كَأبي حنيفَة مَا هد الْأَحْكَام)
(فَهُوَ الَّذِي افتخر الزَّمَان بعد لَهُ ... وبحكمه بالروم غب الشَّام)
(فلذاك عَام السعد قَالَ مؤرخاً ... بشرى الورى بالعادل ابْن حسام)
ثمَّ صَار قَاضِيا بِولَايَة الرّوم فِي ثَانِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَلما وَقعت فتْنَة الْوَزير الْأَعْظَم ابشير عزل الْمُفْتِي أَبُو سعيد بن أسعد فصيرا بن الحسام صَاحب التَّرْجَمَة مفتيا مَكَانَهُ وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ ثمَّ عزل فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأعْطى قَضَاء الْقُدس وَصَارَ مفتيا مَكَانَهُ الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بممك زَاده نصف لَيْلَة وَفِي ثَانِي يَوْم قَامَ الْعَسْكَر فِي الصَّباح وعزلوه وأرسلوه إِلَى حلب وَمَات بهَا ورحل ابْن الحسام من الرّوم فورد دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة وَبدل عَن قَضَاء الْقُدس بِقَضَاء طرابلس الشَّام وَأرْسل إِلَيْهَا نَائِبا وَاسْتقر هُوَ بِدِمَشْق وَفِي أَيَّام استقراره هَذَا أَشَارَ إِلَى وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى بِجمع ديوَان الْأَمِير المنجكي فَجمع أَكثر شعره وعنونه باسم ابْن الحسام وَهُوَ المتداول الْآن فِي أَيدي النَّاس وَكَانَ لصَاحب التَّرْجَمَة ولد اسْمه أسعد بَقِي فِي الرّوم وَكَانَ من مدرسي إِحْدَى الْمدَارِس الثمان فورد عَلَيْهِ خبر مَوته وَهُوَ بِدِمَشْق فَحزن لمَوْته حزنا عَظِيما وَكَانَ وَلَده هَذَا من الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين والأدباء الْمَذْكُورين وَحكى لي وَالِدي روح الله تَعَالَى روحه قَالَ بَلغنِي أَنه لما مَاتَ رثاه الْفَاضِل مصطفى البابي بقصيدة فائية قَالَ وأنشدتها فَلم يعلق فِي فكري مِنْهَا شَيْء فَبعد إِتْمَامهَا بأيام رَآهُ البابي فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ مَا فعل الله بك فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْبَيْت وَهُوَ من بَحر القصيدة ورويها
(لقد لطف الْمولى بِنَا فأراحنا ... وأغلب ظَنِّي أَنه بك يلطف)(2/356)
ثمَّ بعد ذَلِك عزل المترجم عَن قَضَاء طرابلس وَأمر بالتوجه إِلَى مصر وَأعْطى قَضَاء الجيزة فَرَحل من دمشق إل مصر وَأقَام بهَا مُدَّة حَيَاته مُعظما مبجلا وَكَانَ كبراء مصر وعلماؤها يهرعون إِلَيْهِ ويعظمون حَضرته التَّعْظِيم البليغ ويقبلون شَفَاعَته وَكَانَ يدرس فِي بَيته التَّفْسِير فيحضره الْفُضَلَاء المشهورون من فضلاء مصر وَكَانَ كثير الاعتناء بالكشاف دَائِم المطالعة فِيهِ ويحفظ أَكثر أبحاثه عَن ظهر قلب وَبِالْجُمْلَةِ ففضائله وأحواله مِمَّا يطرز بهَا كم الْمجد وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف وَتُوفِّي بِمصْر فِي أواسط جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف
عبد الرَّحْمَن بن حسن بن شيخ بن حسن بن شيخ بن عَليّ بن شيخ بن عَليّ بن مُحَمَّد مولى الدويلة الشَّيْخ الْجَلِيل الْكَبِير أحد عُلَمَاء الْيمن وكبرائها ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بِطَلَب الْعلم واجتهد فِي التصوف وَأخذ عَن عُلَمَاء كثيرين وَصَحب جمَاعَة وواظب على مصاحبة أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَلزِمَ الطَّرِيقَة الحميدة ورحل إِلَى الْيمن وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة وَأقَام فِي بندر المخا وَحصل لَهُ بِهِ قبُول تَامّ وانتشر ذكره وَاسْتمرّ هُنَاكَ إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف
عبد الرَّحْمَن بن زين العابدين بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي سبط آل الْحسن القاهري الاستاذ الشهير السَّامِي الْقدر الجم الْفَضَائِل كَانَ من كبار الْعلمَاء وأرباب الْأَحْوَال وَهُوَ الْأَوْسَط من أَوْلَاد الاستاذ الْأَعْظَم زين العابدين وهم أَحْمد وَقد تقدم ذكره وَعبد الرَّحْمَن هَذَا والاستاذ مُحَمَّد وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد رَأَيْت لعبد الرَّحْمَن هَذَا تَرْجَمَة بِخَط الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ فِيهَا هُوَ شيخ الْمَشَايِخ السَّادة الجلة الْعِظَام وَرَئِيس رُؤَسَاء القادة الفخام يم الْفضل الَّذِي يُفِيد وَيفِيض وجم الْفضل الَّذِي لَا ينضب وَلَا يغيض الْمُحَقق الَّذِي لَا يراع لَهُ يراع والمدقق الَّذِي راق فَضله وراع المفنن فِي جَمِيع الْفُنُون والمفتخر بِهِ الْآبَاء والبنون قَرَأَ على أَخِيه أَحْمد وَبِه تخرج وبرع وتفوق وَأخذ عَن الْعَلامَة جودة الضَّرِير الْمَالِكِي عُلُوم الْعَرَبيَّة وَقَامَ بعد أَخِيه الْمَذْكُور مقَامه فِي التدريس فنشر للفضل حللاً مطرزة الأكمام وماط عَن مباسم أزهار الْعُلُوم لثام الاختتام وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله
(بِاللَّه أَي فَتى مثلي بكم فتنا ... يبكي فيبكى حَماما فِي الدجى شجنا)
(أنفاسه كلهيب الْبَرْق وامضة ... وَقَلبه برعود الشوق ماسكنا)(2/357)
(كَأَنَّمَا جفْنه سحب الشتَاء إِذا ... كانونها بهمير الدمع قد هتنا)
(قد صَار من شغف فِيكُم من أَسف ... حَلِيف وجد وأشجان بكم وضنى)
(وَأَن يُنَادي مُنَاد كل نَاحيَة ... من عذب الْحبّ والهجران قلت أَنا)
(وَالله مَا ملت عَنْكُم بعدكم أبدا ... وَلَا مللت سهاداً أحرم الوسنا)
(وإنني عَابِد الرَّحْمَن منتسب ... إِلَى صديق نَبِي أوضح السننا)
(أبي هُوَ القطب زين العابدين وَمن ... فِي سبل أهل الْمَعَالِي اقتفى السننا)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْخَمِيس خَامِس شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف من غير مرض وَدفن يَوْم الْجمع بالقرافة الْكُبْرَى بتربة أسلافه
عبد الرَّحْمَن بن شحاذة الْمَعْرُوف باليمني الشَّافِعِي شيخ الْقُرَّاء وَإِمَام المجودين فِي زَمَانه وفقيه عصره وشهرته تغنى عَن الْأَطْنَاب فِي وَصفه ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ بالروايات السَّبع على وَالِده من أول الْقُرْآن إِلَى قَوْله تَعَالَى فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد إِلَى آخر الْآيَة ثمَّ توفّي وَالِده فاستأنف الْقِرَاءَة جمعا للسبعة ثمَّ للعشرة على تلميذ وَالِده الشهَاب أَحْمد بن عبد الْحق السنباطي وَحضر دروس الشَّمْس الرَّمْلِيّ فِي الْفِقْه مُدَّة ولازم بعده النُّور والزيادي وَبِه تخرج وَأخذ عُلُوم الْأَدَب عَن كثيرين حَتَّى بلغ الْغَايَة فِي الْعُلُوم وانتهت إِلَيْهِ رياسة علم القراآت وَكَانَ شَيخا مهاباً عَظِيم الْهَيْئَة حسن الْوَجْه والحلية جليل الْمِقْدَار عِنْد عَامَّة النَّاس وخاصتهم وَكَانَ يقْرَأ فِي كل سنة كتابا من كتب الْفِقْه الْمُعْتَبرَة وَكَانَ النُّور الشبراملسي من ملازمي دروسه الْفِقْهِيَّة وَغَيرهَا وَكَانَ لَا يفتر عَن الثَّنَاء عَلَيْهِ فِي مجالسه وَكَانَ هُوَ شَدِيد الْمحبَّة للشبراملسي وَاتفقَ للشبراملسي أَنه حضر بعض معاصريه فِي شرح التَّلْخِيص للسعد فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ لَهُ لما أَتَى إِلَى الدَّرْس بَلغنِي أَنَّك تحضر فلَانا وَإنَّك وَالله أفضل مِنْهُ وَحلف عَلَيْهِ بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَن لَا يحضر دروسه فِيمَا بعد فامتثل أمره وَكَانَ يتعاطى التِّجَارَة وَله أَمْوَال كَثِيرَة زَائِدَة الْوَصْف وَكَانَ كثير الْبر لطلبة الْعلم والفقراء وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أهل الْخَيْر وَالدّين وأكابر أَوْلِيَاء الله تَعَالَى العارفين وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ بالروايات الشبراملسي الْمَذْكُور وَالشَّيْخ عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم اللَّقَّانِيّ وَالشَّيْخ عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ الدِّمَشْقِي وَمُحَمّد البقري وشاهين الأرمناوي وغالب قراء جِهَات الْحجاز وَالشَّام ومصر أخذُوا عَنهُ هَذَا الْعلم وانتفعوا بِهِ وَعم نفعهم ببركته وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة(2/358)
وَتُوفِّي فَجَاءَهُ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ خَامِس عشرى شَوَّال سنة خمسين وَألف
عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر بن السقاف الْحَضْرَمِيّ مفتي الشَّافِعِيَّة بديار حَضرمَوْت الشَّيْخ الْعَالم الْعلم قَاضِي الْقُضَاة ذكره الشلي وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ ولد بِمَدِينَة تريم فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد والقطر والملحة وَغَيرهَا واشتغل بالتحصيل وَأخذ الْعُلُوم الشهيرة عَن مَشَايِخ كثيرين من أَجلهم الْمُحدث مُحَمَّد بن عَليّ خرد وَالْقَاضِي مُحَمَّد بن حسن بن الشَّيْخ عَليّ وَالشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله بَافضل وارتحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بهما عَن جمَاعَة من المجاورين وبرع فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والعربية وَأَجَازَهُ جمَاعَة من مشايخه بالإفتاء والتدريس وَلبس الْخِرْقَة من مشايخه الْمَذْكُورين وَحكمه غير وَاحِد وأذنوا لَهُ فِي الإلباس والتحكيم وَجلسَ للدروس وَأَقْبل عَلَيْهِ الطلاب وانتفع بِهِ خلق كثير وَتخرج بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَوْلَاده والشلّي الْكَبِير وَالِد المؤرخ وَعبد الله بن عمر بن سَالم بَافضل وَمُحَمّد الْخَطِيب القطب ثمَّ ولي الْقَضَاء بتريم فسلك أحسن السلوك وَلم يشْغلهُ الْقَضَاء عَن التدريس والإفتاء وَكَانَ حسن الْعبارَة وَله فَتَاوَى مفيدة قَالَ الشلّي وَهُوَ شيخ مَشَايِخنَا الَّذين عَادَتْ علينا بَرَكَات أنفاسهم واستضأنا من ضِيَاء نبراسهم وَكَانَ مَحْفُوظ الْأَوْقَات مواظباً على قيام اللَّيْل وَالذكر والتلاوة وَجمع من الْكتب النفيسة مَا لم يجمعه أحد من أهل عصره ووقفها على طلبة الْعلم الشريف بِمَدِينَة تريم وَقَالَ الشلي فِي تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين تَرْجمهُ تِلْمِيذه شيخ عبد الله فِي السلسلة قَالَ وَكَانَ ذَا سخاء ومروءة وَعلم وفتوة ثمَّ قرب بانتقاله حصلت لَهُ جذبة من جذبات الْحق اندهش بهَا عقله وَأخذ عَن نَفسه فَكَانَ يقوم إِلَى الصَّلَاة بطرِيق الْعَادة وَهُوَ مَأْخُوذ عَن نَفسه وَرُبمَا صلى إِلَى غير الْقبْلَة وَذَلِكَ لما استولى عَلَيْهِ من سُلْطَان الْحَقِيقَة فتلاشت عنديته وَنُودِيَ بِفنَاء الفناء من عَالم الْبَقَاء وَرفعت عَنهُ الْجِهَات لما تحقق بِحَقِيقَة الإبصار وأشرق فِيهِ نور حَضْرَة الْبَهَاء وَشَاهد سره الْمُعظم إِلَّا على حكم سر قَوْله تَعَالَى فأينما توَلّوا فثم وَجه الله وَصَارَت لَهُ جَمِيع الْجِهَات مصلى وَمكث كَذَلِك أشهراً إِلَى أَن مَاتَ قَالَ الشلي وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة أَربع عشرَة وَألف بِمَدِينَة تريم وَدفن بمقبرة زنيل وَحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ جم غفير وَصلى عَلَيْهِ إِمَامًا بِالنَّاسِ الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس(2/359)
بِوَصِيَّة مِنْهُ بقوله السَّيِّد عبد الله أولى بِي حَيا وَمَيتًا
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عَليّ بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الله بن دعيش بن عيثان بن مُحَمَّد الشّعبِيّ ثمَّ الْخَولَانِيّ ثمَّ الْحرَازِي ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي حَقه الْعَلامَة المحدّث الْمُجْتَهد العابد السائح المتأله شيخ الشُّيُوخ وَإِمَام الرسوخ صَاحب الْعِبَادَة والزهادة والسياحة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَكَانَ لَا يلْحق فِي علم الْكَلَام إِمَامًا فِي الْعَرَبيَّة مُفَسرًا لِلْقُرْآنِ صنف تَفْسِيرا وَكتبه فِي مصحف جمع فِيهِ صناعات الْمَصَاحِف وصيره إِمَامًا يقْتَدى بِهِ واستقصى على مَا فِي الْمُصحف العثماني وَجمع فِيهِ مَا لَا يُوجد بِغَيْرِهِ واصطنع الكاغد بِيَدِهِ ليَكُون طَاهِرا بِالْإِجْمَاع والحبر وخدمه خدمَة فائقة وَهُوَ مرجع قد كتب عَلَيْهِ بعض الْعلمَاء مُصحفا وَأمر الإِمَام بِكِتَابَة مصحف أَيْضا يجمع مَا فِيهِ وَلم أتيقن تَمام ذَلِك وَصَارَ هَذَا الْمُصحف بيد السَّيِّد صفيّ الدّين أَحْمد بن الإِمَام الْقَاسِم استهداه من ابْنة الْعَلامَة الْمَذْكُور فَإِنَّهَا عاشت مدّة مواظبة على الْعِبَادَة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يسيح فِي الْبِلَاد ويمضي فِي مَوَاقِف الْعلمَاء والهجر ويصحح النّسخ ويحشى عَلَيْهَا إِذا مر بخزانة كتب فِي بعض الهجر أَقَامَ حَتَّى يمر عَلَيْهَا ويصحح مَا فِيهَا مَعَ اطِّلَاعه فَكل كتاب قد مر عَلَيْهِ فَهُوَ إِمَام غير مُحْتَاج إِلَى أستاذ وَكَانَ يلبس الخشن وَيحمل مَعَه آلَة النجارة وَيصْلح بهَا أَبْوَاب الْمَسَاجِد وَنَحْوهَا وَلَعَلَّه يسترزق مِنْهَا وَكَانَ فِي الحَدِيث إِمَامًا جَلِيلًا وَكَانَ شَيخنَا الْوَجِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بثنى عَلَيْهِ إِلَّا أَنه زعم أَنه حفظ الْمُتُون حفظا عَظِيما وَلم يطلع على شُرُوح الحَدِيث وَله كتب نافعة من مشهورها رِسَالَة فِي نظر الْأَجْنَبِيَّة وتضعيف الرِّوَايَة عَن الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة بِجَوَاز ذَلِك وَاسْتظْهر بالأدلة وبأقوال الْفَرِيقَيْنِ وَأحسن مَا شَاءَ وَلَا جرم أَن تِلْكَ الرِّوَايَة غلط مِنْهُم وَقد حرّر الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم سؤالاً إِلَى شيخ الشَّافِعِيَّة مُحَمَّد بن الْخَالِص بن عنقاء فَأَجَابَهُ بِجَوَاب بسيط حَاصله مَا ذَكرْنَاهُ وَإِن لم أطلع عَلَيْهِ لكنه أفادنيه شَيْخي شمس الدّين وَصَاحب التَّرْجَمَة شيخ الإِمَام الْقَاسِم وَشَيخ الْعَلامَة عبد الْهَادِي الحسوسة وَكَانَت وَفَاته فِي ثَالِث عشر شَوَّال سنة ثَلَاث بعد الْألف وقبره بحدبة الرَّوْض وَهُوَ يلتبس برجلَيْن من الحيمة أَحدهمَا القَاضِي الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْآتِي ذكره والعلامة الْكَبِير عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد شيخ الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَكَانَ حَافِظًا وَإِن لم يكن لَهُ قُوَّة وَإِدْرَاك(2/360)
فِي النَّقْد والاستنباط وَتعلق بكتب الأشاعرة وَحفظ مِنْهَا كثيرا قَرَأنَا عَلَيْهِ فَهُوَ أحد شُيُوخنَا فِي الْمُنْتَهى والعضد إِلَى الْمَقَاصِد وَفِي كتاب شرح الكافية لنجم الْأَئِمَّة إِلَى التوابع وَالْمُغني إِلَى اللَّام والألفية لِلْحَافِظِ الْعِرَاقِيّ والألفية للسيوطي وَكَانَ وَالِده مُحَمَّد فِيمَا حَكَاهُ سيدنَا سعد الدّين وَالِد القَاضِي أَحْمد من صالحي الْعلمَاء وَمن أهل الْمَوَدَّة لعترة رَسُول الله
قَرَأَ عَلَيْهِ سيدنَا سعد الدّين فِي الْفَرَائِض
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عَتيق الْحَضْرَمِيّ الأَصْل الْمَكِّيّ المولد والمنشأ وَزِير الشريف حسن بن أبي نمى صَاحب مَكَّة تزوج وَالِده بنت الشَّيْخ مُحَمَّد جَار الله بن أَمِين الظهيري فَجَاءَت مِنْهُ بِصَاحِب التَّرْجَمَة وأخيه أبي بكر فخدم الشريف حسن ابْن أبي نمى سنة ثَلَاث بعد الْألف وأفهمه النصح فِي الْخدمَة وسحره إِلَى أَن تمكن مِنْهُ غَايَة التَّمَكُّن وَبَقِي حَاله كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(أَمرك مَرْدُود إِلَى أمره ... وَأمره لَيْسَ لَهُ رد)
فتسلط على جَمِيع المملكة وَتصرف فِيهَا كَيفَ شَاءَ وَبَقِي كل من يَمُوت من أهل الْبَلَد أَو من الْحجَّاج يستأصل مَاله بِحَيْثُ لَا يتْرك لوَارِثه شَيْئا فَإِذا تكلم الْوَارِث ظهر لَهُ حجَّة أَن مُوَرِثه كَانَ قد اقْترض مِنْهُ فِي الزَّمن الْفُلَانِيّ كَذَا كَذَا ألف دِينَار وَيَقُول هَذَا الَّذِي أَخَذته دون حَقي وَبَقِي لي كَذَا وَكَذَا وَطَرِيق كِتَابَته لهَذِهِ الْحجَّة وأمثالها أَن كتبة المحكمة تَحت أمره وقهره فيأمرهم بِكِتَابَة الْحجَّة فيكتبونها وَعِنْده أَكثر من مائَة مهر للقضاة والنواب السَّابِقين فيمهرها وَيَأْمُر عبد الرَّحْمَن المحالبي أَن يكْتب إِمْضَاء القَاضِي الَّذِي قد مهر الْحجَّة بمهره وَيكْتب خَاله الشَّيْخ على ابْن جَار الله وَعبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن جَار الله شَهَادَتهمَا وَيكْتب الشَّيْخ عَليّ أَيْضا عَلَيْهَا مَا نَصه تَأَمَّلت هَذِه الْحجَّة فَوَجَدتهَا مسددة وَشهد بذلك مُحَمَّد بن عبد الْمُعْطِي الظهيري وَابْن عَمه صَلَاح الدّين بن أبي السعادات الظميري وَأحمد بن عبد الله الْحَنْبَلِيّ الظهيري وَغَيرهم ثمَّ إِنَّه يظْهر الْحجَّة ويقرؤها بَين النَّاس وجميعهم يعرف أَنَّهَا زور وَلَا أصل لَهَا وَلَا يقدرُونَ أَن يتكلموا بِكَلِمَة وَاحِدَة خوفًا من شَره وَقُوَّة قهره وَاسْتولى بِهَذَا الأسلوب على مَا أَرَادَ كَمَا أَرَادَ وَإِذا شكى إِلَى الشريف حسن يَقُول هَذِه حجَّة شَرْعِيَّة وشهودها مثل هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة الإجلاء فنفرت قُلُوب النَّاس من ابْن عَتيق وضجوا وضجروا وكل من أمكنه السّفر سَافر وَمَا تَأَخّر إِلَّا الْعَاجِز وَكَانَ(2/361)
الشريف أَبُو طَالب بن حسن كلما سمع شَيْئا من هَذِه الْأُمُور تألم غَايَة التألم فأوّل مَا اسْتَقل بالشرافة أرسل من الْمَبْعُوث قبل وُصُوله إِلَى مَكَّة رسله بمسك ابْن عَتيق فمسك يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس يَوْم السبت والأحد فَلَمَّا وصل الشريف أَبُو طَالب إِلَى مَكَّة وَتَوَلَّى أَمر وَالِده الشريف حسن وَدَفنه استدعى ابْن عَتيق وَسَأَلَهُ عَن أَحْوَاله فَقَالَ قد فعلت جَمِيع ذَلِك ثمَّ ردّه إِلَى الْحَبْس فَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ أَخذ ابْن عَتيق جنبية العَبْد الوصيف المرسم عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فَاسْتَيْقَظَ العَبْد وخلصها مِنْهُ فَأخْبر سَيّده الشريف أَبَا طَالب بذلك فَأعْطَاهُ جنبية وَقَالَ لَهُ خُذ هَذِه وَقل لَهُ لَا تسرق الجنبية بِاللَّيْلِ وأسرع بإرسالها إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير فَأخْبرهُ الوصيف بِمَا قَالَه الشريف فَأَخذهَا مِنْهُ وَأدْخل مِنْهَا فِي بَطْنه نَحْو أصْبع ثمَّ أخرجهَا ثمَّ أَعَادَهَا وَأدْخل مِنْهَا ضعف الأول ثمَّ أدخلها جَمِيعًا ثمَّ أخرجهَا وَقَالَ وامالي وَاسْتمرّ ذَلِك الْيَوْم إِلَى ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشر وَألف فَمَاتَ وَكَانَ يتبجح وَيَقُول الشَّرْع مَا نريده وأبطل فِي أَيَّامه عدَّة من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة كالوصايا وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَبَاعَ أُمَّهَات الْأَوْلَاد بأولادهن وَرمى بِهِ فِي درب جدة فِي حُفْرَة صَغِيرَة بِلَا غسل وَلَا صَلَاة وَلَا كفن ورمت عَلَيْهِ الْعَامَّة الْحِجَارَة وعملت الْفُضَلَاء فِيهِ تواريخ فَمِنْهَا قَول بَعضهم
(أَشْقَى النُّفُوس الباغية ... ابْن عَتيق الطاغية)
(نَار الْجَحِيم استعوذت ... مِنْهُ وَقَالَت مَا ليه)
(لما أَتَى تَارِيخه ... أجب لظى والهاوية)
ذكر ذَلِك عبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبي فِي تَارِيخه الَّذِي ذكر فِيهِ بعض وقائع مَكَّة
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد كريشه بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن السقاف اشْتهر جده الْأَعْلَى بكريشة أحد الْعلمَاء الأجلاء الزَّاهِد العابد الْوَرع ولد بِمَكَّة فِي سنة أَربع عشرَة وَألف وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل على خَاله عمر بن عبد الرَّحِيم وتأدب بِهِ وَصَحبه من صغره ولازمه فِي دروسه واقتدى بِهِ فِي أَحْوَاله وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وَأَجَازَهُ بمروياته وَأذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء والتدريس وَأَرَادَ أَن ينزل لَهُ عَن وَظِيفَة التدريس فَأبى وَقَالَ أَنا رجل مَشْغُول بِالتِّجَارَة وانتفع بِهِ جمَاعَة من أَصْحَابه وَكَانَ لَهُ نفع عَام وَنظر دَقِيق حَرِيصًا على سلوك مسالك أهل السّنة(2/362)
وَالْجَمَاعَة مواظباً على الْخَيْر مَعَ أدب باهر وَمَات وَهُوَ فِي حد الاكتهال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَخمسين وَألف وعمره يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سنة وَدفن بالمعلاة بمقبرة بني علوي وقبره مَعْرُوف يزار
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن صَلَاح بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد ابْن عَليّ القَاضِي الْعَلامَة الْمُفِيد كَانَ فَقِيها عَارِفًا ولي الْقَضَاء بِجِهَة الحيمة من الْيمن للْإِمَام الْمُؤَيد وأخيه الإِمَام المتَوَكل وَكَانَ نبيلاً فَاضلا حسن التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم مُؤديا لَهُ تأدية حَسَنَة ويلتقي نسبه وَنسب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله شيخ الإِمَام الْقَاسِم فِي دَاوُد بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وجدّهما سُلَيْمَان الْمَذْكُور يجمع نسبهم وَنسب فُقَهَاء حصيان وفقهاء العيانة ومشايخ سماة بني النجار وفقهاء الرَّجْم هَكَذَا قَالَه المترجم قَالَ بعض اليمينيين وبنوا النوار فِيمَا أَحسب ينسبون أنفسهم إِلَى غير هَذَا النّسَب وَالله أعلم وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف وَاخْتَلَطَ فِي آخر عمره
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ بن هرون بن حسن بن عَليّ بن الشَّيْخ مُحَمَّد حمل اللَّيْل الإِمَام الْعَالم الفصيح الزَّاهِد النَّاصِر للشريعة الْمُجَاهِد ذكره الشلي وَوَصفه وَصفا بليغاً من جنس هَذَا الْوَصْف ثمَّ قَالَ ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ اشْتغل بتحصيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وفنون الْأَدَب فتفقه على القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن وَالشَّيْخ أَحْمد بن عمر عيديد وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن علوي بافقيه وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد الْهَادِي بن شهَاب وأخيه الشَّيْخ أبي بكر ابْن شهَاب وَغَيرهم وَحفظ عدّة متون وعرضها على مشايخه ثمَّ دخل الْهِنْد وَاجْتمعَ بِجَمَاعَة من علمائها وأحبه بعض أمرائها الْكِبَار ثمَّ حج وَعَاد إِلَى تريم وَأخذ عَمَّن بهَا ودرس وَأخذ عَنهُ جمع طَرِيق الْقَوْم ثمَّ عَاد إِلَى الْهِنْد ودرس بهَا وَأخذ عَنهُ جمع كثير ودرس فِي الحَدِيث قَالَ الشلي وَاجْتمعت بِهِ هُنَاكَ ولازمته مُدَّة يسيرَة واستفدت مِنْهُ فَوَائِد غزيرة وَكَانَ مُقيما عِنْد بعض الوزراء ونال مِنْهُ كثيرا من الْأَمْتِعَة ثمَّ ورد إِلَى وَطنه وَأقَام بهَا مُجْتَهدا فِي الطَّاعَة وَطلب للْقَضَاء فَأبى فعاودوه حَتَّى قبله وَمَشى على طَرِيق الْقُضَاة قبله فحمدت أَفعاله وَلم يشْغلهُ الْقَضَاء عَن الإفادة وَالِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة وَتُوفِّي فِي سنة سبعين وَألف وَقد أناف على السِّتين وَدفن بمقبرة زنبل(2/363)
عبد الرَّحْمَن بن عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زوقا بن مُوسَى بن أَحْمد السُّلْطَان بِمَدِينَة تونس فِي عصر الشَّيْخ أبي مَدين بن السُّلْطَان سعيد بن السُّلْطَان فاشين ابْن السُّلْطَان يحيى ابْن السُّلْطَان زوقا الشعراوي وَيُقَال الشعراني أَيْضا الْمصْرِيّ الْأُسْتَاذ الْعَام الصَّالح ابْن الإِمَام الْكَبِير العابد الزَّاهِد صَاحب التآليف الْكَثِيرَة السائرة وَيَنْتَهِي نسبهم إِلَى الإِمَام مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا لطيف الذَّات حسن الْخلال وَلما مَاتَ وَالِده فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة قَامَ بعده بزاويته الْمَعْرُوفَة بَين السورين فَقَامَ عَلَيْهِ أَوْلَاد عَمه ومقدمهم الشَّيْخ عبد اللَّطِيف وسلك سَبِيل عَمه وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة فِي الْكَرم والبذل والإيثار حَتَّى بملبوسه فضلا عَن طَعَامه وَكَانَ عبد الرَّحْمَن يرْمى بالإمساك فَمَال فُقَرَاء الزاوية عَلَيْهِ مَعَ عبد اللَّطِيف فترافعوا للحكام غير مرّة وَكَاد أَمرهم يتم فَلم يلبث عبد اللَّطِيف أَن مَاتَ وَاسْتقر الْأَمر لصَاحب التَّرْجَمَة فَصَارَ مُعظما عِنْد الْحُكَّام وانتظم أَمر الزاوية لكنه أقبل على جمع المَال ثمَّ ترك الْمدرسَة وتحوّل بعياله فسكن على بركَة الْفِيل وَصَارَ لَا يَأْتِي إِلَى الزاوية إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة غَالِبا فتلاشت أحوالها جدا حَتَّى صَار مجْلِس لَيْلَة الْجُمُعَة يجلس فِيهِ نَحْو اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة أول اللَّيْل ثمَّ يغلب عَلَيْهِم النّوم وَكَانَ فِي زمن وَالِده يصعد المؤذنون من نَحْو نصف اللَّيْل فَيحصل من إيقاظ النيام والاشتغال بِالذكر والتهجد وَالْقِيَام والأنس التَّام مَا يثلج الصُّدُور ويحث على فعل الحبور وَبِالْجُمْلَةِ فبيتهم مبارك لَا يزَال مُتَّصِل المدد وَفِيه الْخَيْر وَالْبركَة وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَدفن بزاوية وَالِده بِبَاب الشعرية والشعراوي تقدّم الْكَلَام عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَة قريبَة أبي السُّعُود بن عبد الرَّحِيم الشعراني القَاضِي
عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن أَحْمد بن الشَّيْخ عَليّ اليمني شيخ مَشَايِخ الطَّرِيقَة المربي الْكَامِل مُلْحق الأصاغر بالأكابر قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَطلب الْعلم خُصُوصا التصوف وَأكْثر من قِرَاءَة الْأَحْيَاء والعوارف وَصَحب أكَابِر العارفين وَلبس الْخِرْقَة فَمن مشايخه بتريم السَّيِّد عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين والفقيه الإِمَام السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل بَافضل ثمَّ فَارق ديار حَضرمَوْت ورحل إِلَى الْيمن وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه الْوَلِيّ عبد الله بن(2/364)
عَليّ وَالسَّيِّد حَاتِم المهدلي وَحج حجَّة الْإِسْلَام وَاجْتمعَ فِي الْحَرَمَيْنِ بِجَمَاعَة ثمَّ دخل بِلَاد الْهِنْد وَأخذ بهَا عَن غير وَاحِد وَقَامَ بخدمته بعض الوزراء ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن وَدخل بندر عدن وساح وَأخذ عَن جمَاعَة ثمَّ دخل بندر المخا وَاسْتقر بِهِ وَاجْتمعَ بالشيخ صندل المجذوب وانتفع بِصُحْبَتِهِ وشاع ذكره ثمَّة واجتهد فِي الْعِبَادَة وَنشر الْعلم وَكَانَ آيَة فِي الْفَهم وَالْحِفْظ وَغلب عَلَيْهِ التصوف وَله فِيهِ كَلَام مَقْبُول قَالَ الشلي وَفِي ثَمَان وَخمسين وَألف قدمت عَلَيْهِ وَأخذت عَنهُ وَكَانَ من الطَّائِفَة الَّذين يخفون أَكثر محاسنهم ويبالغون فِي نفي رُؤْيَة المخلوقين وَكَانَ لَهُ غيرَة على الدّين مصمماً فِي الْحق صادعاً بِالشَّرْعِ وَكَانَ لَهُ جاه عَظِيم تَأتيه النذور من كل مَكَان وَاجْتمعَ عِنْده مَال جسيم وَكَانَ لَا يدرى مِمَّن تِلْكَ الأنذار بل كَانَت ترمى فِي نَاحيَة من دَاره وَرُبمَا أكل الصُّوف العث والأرضة وَلم يزل مراقباً لله فِي سره ونجواه إِلَى أَن انْقَضتْ مُدَّة حَيَاته فَتوفي ببندر المخا ثَانِي عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وَخمسين وَألف وَدفن بِجنب قبر السَّيِّد مُحَمَّد بن بَرَكَات كريشة وقبره مَعْرُوف يزار
عبد الرَّحْمَن بن علوي بن أَحْمد بن علوي بن مُحَمَّد مولى عيديد يعرف كسلفه ببافقيه الْمُحدث الصُّوفِي الْفَقِيه الإِمَام قَالَ الشلي كَانَ مُقيما بِمَدِينَة حَضرمَوْت ومولده تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَأكْثر الْمِنْهَاج واعتنى بالفقه وَأكْثر انتفاعه بالشيخ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَالْقَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَأخذ التصوف عَنْهُمَا وَعَن السَّيِّد سَالم بن أبي بكر الْكَاف وَالسَّيِّد الْفَقِيه مُحَمَّد بن الْفَقِيه عَليّ بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهم واجتهد فِي الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة وشارك فِي الْأَصْلَيْنِ وَلبس الْخِرْقَة من جمَاعَة وَأَجَازَهُ غير وَاحِد بالإفتاء والتدريس وَكَانَ منعزلاً عَن النَّاس زاهداً فِي الدُّنْيَا مواظباً على الْجَمَاعَة وأنواع الْخَيْر وانتفع بِهِ كثير وَنشر الْعلم بعد اندراسه وَلَزِمتهُ الطّلبَة وَكَانَ متين المناظرة حسن الْعبارَة لطيف الْإِشَارَة قوي الحافظة إِذا قَالَ فِي المسئلة لَا أحفظ فِيهَا شَيْئا لَا تكَاد تُوجد فِي كتب الْأَصْحَاب وَكَانَ لَا يتوسع فِي الْعبارَة بل يقْتَصر على مسئلة الْكتاب وَمن تكلم عَلَيْهَا وَكَانَ مبارك التدريس يحْكى عَن جمَاعَة مِمَّن قرؤوا عَلَيْهِ أَنهم قَالُوا مَا وجدنَا عِنْد اُحْدُ مِمَّن قَرَأنَا عَلَيْهِ مَا وجدنَا عِنْده وغالب عُلَمَاء الْعَصْر أخذُوا عَنهُ قَالَ الشلي وَهُوَ شَيْخي الَّذِي أخذت عَنهُ فِي الْبِدَايَة واشتغلت عَلَيْهِ فِي عُلُوم الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة وقرأت عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة وَسمعت مِنْهُ بِقِرَاءَة غَيْرِي الْكثير مِنْهَا التَّفْسِير الْكَبِير وإحياء عُلُوم الدّين بِقِرَاءَة شَيخنَا عمر الهندوان وَكَانَ(2/365)
لَا يَقُول بالمحاباة فيزيف كَلَام الْغَيْر إِذا لم يرضه وَلَو كَانَ أَبَاهُ وَإِذا خَاضَ فِي عُلُوم الصُّوفِيَّة أَنْكَرُوا وَكَانَ شَدِيد الْإِنْكَار على النَّاس فِيمَا يُخَالف الشَّرْع لَا سِيمَا مَا أجمع على حظره أَو ترجح الْإِنْكَار فِي نظره لَا يقنع فِي أَمر الْحق بِغَيْر إِظْهَاره مطبوعاً على الالتذاذ بِهِ متحملاً للأذى من النَّاس بِسَبَبِهِ يدافع ذَلِك بِيَدِهِ وَلسَانه بِحَسب وَسعه وَإِذا لم يسْتَطع الدّفع تأثر بِهِ شَدِيدا وَرُبمَا أَصَابَته الْحمى وَقد ورد فِي الحَدِيث أَنه
قَالَ يَأْتِي على النَّاس زمَان يذوب قلب الْمُؤمن كَمَا يذوب الْملح قيل يَا رَسُول الله مِم ذَلِك قَالَ مِمَّا يرى من الْمُنكر لَا يَسْتَطِيع تَغْيِيره وَكَانَ لصدقه وَحسن نِيَّته تهابه أَرْبَاب الْفسق ويهربون مِنْهُ وَرُبمَا إِذا أحس بِهِ الصّبيان تركُوا اللّعب هَيْبَة مِنْهُ وَكَانَ فِي جَمِيع أَحْوَاله ملازماً للأدب زاهداً فِي الدُّنْيَا وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء بَلْدَة تريم فَلم يقبل وَكَانَ ملازماً للتلاوة وَالِاعْتِكَاف وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من محَاسِن عصره وتحائف دهره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنَّات بشار رَحمَه الله
عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي بن مُحَمَّد بن حسن الطَّوِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن علوي بن مُحَمَّد صَاحب مرباط عرف كسلفه بباحسن الحديلي صَاحب القاره أحد فضلاء الْيمن الْمَشْهُورين قَالَ الشلي ولد بِمَدِينَة تريم وتفقه بهَا وَأخذ التصوف عَن جمَاعَة وغلبت عَلَيْهِ فنون الْأَدَب فَكَانَ لَا يشار بهَا إِلَّا إِلَيْهِ وَكَانَ جيد البديهة حُلْو النادرة سريع الْجَواب وَهُوَ فِي ذَلِك من الْعَجَائِب وَكَانَ يسْأَل عَن الْمسَائِل المعمية فَيكْتب الْجَواب بِاللَّفْظِ الفصيح والسجع اللَّطِيف قَالَ وَكنت وقفت على بعض أجوبته فِي الصغر وَلم أظفر الْآن بِشَيْء مِنْهَا وَلَا أحفظ الْآن من تِلْكَ الْأَجْوِبَة إِلَّا قَوْله لجَعْفَر الصَّادِق لما قَالَ نصف اسْمِي فِي ثَلَاثَة أَرْبَاعه رَجَعَ وَله رسائل فائقة وأشعار مستعذبة وانتفع بِهِ كثير وَكَانَ لَهُ اعتناء بنظم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ عمر بن عبد بامخرمة فَجمع مِنْهُ مجلدات وَكَانَ يُوضح مشكلاته وَيبين مَا دق مِنْهُ وَكَانَ هُوَ وَإِمَام الْعُلُوم السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد بروم فِي ذَلِك الزَّمَان فرسي رهان فَكَانَا عَيْني ذَلِك الْعَصْر وَأقَام بالقرية الْمُسَمَّاة بالقاره وصدقاته دارّة على الْفُقَرَاء وَكَانَ كثير الْإِحْسَان جم النوال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بقرية القارة رَحمَه الله تَعَالَى(2/366)
عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُوسَى بن خضر الخياري الشَّافِعِي نزيل الْمَدِينَة المنورة وخطيبها ومحدثها الإِمَام الْكَبِير الْجَلِيل الشَّأْن الْمَشْهُور فِي الْآفَاق أَخذ بِمصْر عَن الجلة من الْمَشَايِخ وشيوخه كَثِيرُونَ مِنْهُم النُّور الزيَادي وَهُوَ أَجلهم وَمِنْهُم أَبُو بكر الشنواني وَأحمد الغنيمي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الخفاجي وَمن فِي طبقتهم من عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر وأجازوه وشهدوا لَهُ بِالْفَضْلِ وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأَزْهَر ولازمه جمع من أكَابِر الشُّيُوخ وَأخذُوا عَنهُ الْعلم مِنْهُم النُّور الشبراملسي وَكَانَ يثني عَلَيْهِ كثيرا ويطرز درسه بِذكرِهِ وَيُشِير إِلَى جلالة قدره وَكَانَ هُوَ وَالشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي صَاحب السِّيرَة كفرسي رهان وفارسي ميدان وَكَانَا إِذا مرا فِي الْأَزْهَر يُقَال أقبل السعد وَالسَّيِّد ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة المنورة وسكنها بِإِذن من النَّبِي
حكى ذَلِك الشهَاب البشبيشي وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا فِي أواسط الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَألف وانتفع بِهِ أَهلهَا للأخذ عَنهُ والتلقي مِنْهُ وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي جَمِيع الْفُنُون مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَيُقَال إِنَّه كَانَ يرى رَسُول الله
عيَانًا وَاتفقَ لَهُ أَن ختم كتابا فِي الحَدِيث وَشرع فِي الدُّعَاء ثمَّ وقف منتصباً رَافعا يَدَيْهِ كالمؤمّن على الدُّعَاء فَقَامَ أهل الدَّرْس من طلبة وَغَيرهم ثمَّ طَال وُقُوفه بِحَيْثُ أَن بَعضهم تَعب من الْوُقُوف وَذهب وَبَقِي الواقفون متعجبون مِنْهُ وَهُوَ مطرق وَكَأَنَّهُ فِي غير شُعُور فَبعد خَتمه الدُّعَاء قَالَ لَهُ بعض أخصائه من تلامذته مَا هَذَا الْوُقُوف يَا سَيِّدي فَإِنَّهُ لم يعْهَد لَك مثله فَقَالَ وَالله مَا وقفت إِلَّا وَقد رَأَيْت رَسُول الله
وَاقِفًا يَدْعُو لنا فاستمريت منتظراً حَتَّى فرغ من دُعَائِهِ وَهَذِه من كراماته وَذكره الخفاجي فِي كِتَابه الخبايا فَقَالَ فِي وَصفه دوحة الزَّمَان بسام طليق وَعوده بُسْتَان وريق فَاضل جمع الْفضل فَهُوَ مُنْتَهى الجموع وكامل كَمَاله كثمار الْجنَّة غير مَقْطُوع وَلَا مَمْنُوع شَقِيق روحي وصديقها وَرَيْحَان مسرتي وشقيقها
(وَنَفس بأعقاب الْأُمُور بَصِيرَة ... لَهَا من طباع الْغَيْب حاد وقائد)
يلوح من بشره نور الْفَلاح وَمن سكينته وقار الصّلاح كأنّ الله جمع لَهُ المناقب فَاخْتَارَ مِنْهَا وانتقى وَرَأى أَن أحْسنهَا وَأَكْرمهَا التقى لَهُ فِي الْفُنُون يَد بَيْضَاء وَفِي الْأَدَب سجية سَمْحَة خضراء وَلما علم أَن الله أوصى بالجار رَحل لطيبة الطّيبَة وَسكن فِي جوَار النَّبِي الْمُخْتَار فَدخل رَوْضَة من رياض الْجنَّة فِي جناته وَإِذا أنعم الله بِنِعْمَة على عَبده فِي حَيَاته لَا يسلبها إِلَّا بعد مماته فَكتبت لَهُ متشوقاً للقائه(2/367)
وملتمساً لصالح دُعَائِهِ
(يَا نسيماً من نَحْو طيبَة ساري ... مهدياً عطر رندها والعرار)
(من رَبًّا نشره بعنبر شحر ... فِي حَشا جونة الْفَتى الْعَطَّار)
(خُذ فُؤَادِي فَذَاك مجمر شوق ... وغرامي بمضمر الوجد دَاري)
(موقد فِيهِ عنبر من مديحي ... لحبيب الْمُهَيْمِن الْمُخْتَار)
(لمقام بِمُقْتَضَاهُ بليغ ... لَا يُوفى بلاغة الْأَسْرَار)
(وَلمن فِي ذراه من كل جَار ... حَاز خفضاً لعيشه بالجوار)
(فهم خزرجي وأوسي وَإِن لم ... يسعف الدَّهْر بالمنى أَنْصَارِي)
(سِيمَا صنوى الشَّقِيق وروحي ... وَهُوَ عبد الرَّحْمَن حامي الذمار)
(قد تملى بروضة حَاز فِيهَا ... مثمر السعد مظهر الْأَنْوَار)
(بَاعَ دنيا دنت بِأُخْرَى تسامت ... فغدا فِي بَيْعه بِالْخِيَارِ)
(فعساه يمنّ لي بِدُعَاء ... مستجاب فِي ليله وَالنَّهَار)
(ليحوز الشهَاب أعظم سؤل ... وأمان من مطلع الْأَنْوَار)
(وَصَلَاة الْإِلَه فِي كل حِين ... لَك تهدى يَا سيد الْأَبْرَار)
فَأَجَابَهُ بقوله
(بعد اهدا أَسْنَى السَّلَام الساري ... من رَبًّا طيبه مقَام الْخِيَار)
(فائقاً طيبه شذا كل مسك ... فاتقاً نوره دجى الأسحار)
(لحبيب فِي الله خل وفيّ ... طيب الأَصْل ذِي الثَّنَاء الساري)
(أَحْمد الْفِعْل والشهاب المرجى ... كاشف المشكلات كنز الفخار)
(دَامَ فِي نعْمَة وَعز ولطف ... من إِلَه الورى الْكَرِيم الْبَارِي)
(محيياً سنة الألى سَبَقُوهُ ... بِاتِّبَاع الألى وَحسن الْوَقار)
(وَصَلَاة مَعَ السَّلَام دواماً ... للنبيّ الممجد الْمُخْتَار)
(ولآل وَصَحبه مَا اضمحلت ... ظلم الظُّلم لاجتلا الْأَنْوَار)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خِيَار الْخِيَار وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَدفن ببقيع الْغَرْقَد وَقَالَ وَلَده شَيخنَا الإِمَام الْعَالم إِبْرَاهِيم فِي تَارِيخ مَوته
(إِذا مَا قيل لي فِي أيّ عَام ... وَفَاة الحبر والدك الخيارى)(2/368)
(أَقُول وَقد تدرعت اصطباراً ... نؤرخه أحلّ بِخَير دَار)
عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى بن مرشد أَبُو الوجاهة الْعمريّ الْمَعْرُوف بالمرشدي الْحَنَفِيّ مفتي الْحرم الْمَكِّيّ وعالم قطر الْحجاز وأوحد أَهله فِي الْفضل والمعرفة وَالْأَدب وَهُوَ من بَيت الْعلم وَالْفضل والديانة ذكر السخاوي فِي الضَّوْء اللامع والتقي التَّمِيمِي فِي طَبَقَات الْحَنَفِيَّة جمَاعَة من آل بَيته وَكَانَ هُوَ من كبار الْعلمَاء الأجلاء انْعَقَدت عَلَيْهِ صدارة الْحجاز نَشأ بِمَكَّة وَحفظ الْقُرْآن وَصلى بِهِ التَّرَاوِيح إِمَامًا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَحفظ الألفية وَالْأَرْبَعِينَ للنووي وكنز الدقائق إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُ والجزرية وَغَيرهَا وَشرع فِي الِاشْتِغَال من سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فلازم الشَّيْخ عبد الرَّحِيم بن حسان وَأخذ عَن الشَّيْخ عَليّ بن جَار الله بن ظهيرة والمنلا عبد الله الْكرْدِي وَالسَّيِّد غضنفر وَالشَّيْخ عبد السَّلَام وَزِير السلار وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ الركروك الجزائري وروى الحَدِيث عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَعَن الشَّيْخ المعمر المنلا حميد السندي وَالشَّيْخ أَحْمد الشربيني وَالشَّمْس النحراوي وَأخذ القراآت عَن الملا عَليّ الْقَارِي الْهَرَوِيّ وَولي تدريس مدرسة المرحوم مُحَمَّد باشا فِي حُدُود سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فدرس بهَا صَحِيح البُخَارِيّ وأملى عَلَيْهِ شرحاً بلغ فِيهِ إِلَى بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل فعزل عَنْهَا ووليها مدرسها الأول ونظم منظومة فِي علم التصريف عدّتها خَمْسمِائَة بَيت من بَحر الرجز سَمَّاهَا ترصيف التصريف وَشَرحهَا شرحاً نفيساً سَمَّاهُ فتح اللَّطِيف وَشرح كتاب الْكَافِي فِي علمي الْعرُوض والقوافي سَمَّاهُ الوافي فِي شرح الْكَافِي وَألف رِسَالَة بديعة سَمَّاهَا براعة الاستهلال فِيمَا يتَعَلَّق بالشهر والهلال ونظم رِسَالَة مُتَعَلقَة بمنازل الْقَمَر موسومة بمناهل السمر وَشَرحهَا شرحاً لطيفاً وَألف رِسَالَة تتَعَلَّق بتفسير آيَة الْكُرْسِيّ معنونة بِالْفَتْح الْقُدسِي وَكتب قِطْعَة على الخزرجية فِي علم الْعرُوض وَولي التدريس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي سنة خمس وَألف وَشرع فِي كِتَابَة شرح الْكَنْز فِي سنة ثَمَان وَسُئِلَ عَن عبارَة وَقعت فِي تَفْسِير آخر سُورَة الْمَائِدَة من تَفْسِير الجلالين فَكتب عَلَيْهَا رِسَالَة موسومة بتعميم الْفَائِدَة بتتميم سُورَة الْمَائِدَة وتعاطى الْفَتْوَى على مَذْهَب أبي حنيفَة عَام وَفَاة شَيْخه القَاضِي عَليّ بن جَار الله وَهُوَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وباشر ذَلِك وَشَيْخه فِي قيد الْحَيَاة استفتى فِي مسئلة فِي الْوَقْف فَأفْتى فِيهَا بِمَا هُوَ الْمُخْتَار للْفَتْوَى فِيهِ وَهُوَ قَول أبي يُوسُف من أَن الْوَقْف يتم بِمُجَرَّد التَّلَفُّظ بِهِ كَغَيْرِهِ من الْعُقُود من(2/369)
غير حَاجَة إِلَى حكم حَاكم أَو تَسْلِيم إِلَى متول وبدخول أَوْلَاد الْبَنَات فِي الْوَقْف على الذُّرِّيَّة فخالفه فِي ذَلِك بعض الْقُضَاة فألف رِسَالَة فِي ذَلِك سَمَّاهَا وقف الْهمام الْمنصف عِنْد قَول الإِمَام أبي يُوسُف وأرسلها إِلَى مصر فأيده علماؤها وَكَتَبُوا على جَوَابه وصوبوه وخطؤوا قَول الْمُخَالف لَهُ فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَشرح عُقُود الجمان فِي الْمعَانِي للأسيوطي شرحاً حافلاً مزج فِيهِ عبارَة النّظم فِي الشَّرْح فاق على شرح مؤلفها بِكَثِير وَجرى فِي مجْلِس قَاضِي مَكَّة ذكر المسئلة الَّتِي ذكرهَا قَاضِي خَان فِي فَتَاوِيهِ وَهِي مَا لَو قَالَ قَائِل إِن كَانَ الله يعذب الْمُشْركين فامرأتي طَالِق قَالُوا إِنَّهَا لَا تطلق فألف فِيهَا رِسَالَة سَمَّاهَا الْجَواب المكين عَن مسئلة إِن كَانَ يعذب الْمُشْركين وَولي إِمَامَة الْمَسْجِد الْحَرَام وخطابته والإفتاء السلطاني فِي سنة عشْرين وَألف فباشر جَمِيع ذَلِك وَكَانَت مُبَاشَرَته للْإِمَامَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم النوروز السلطاني وَكَانَ أوّل فرض صَلَاة بمقام الْحَنَفِيَّة ظهر الْيَوْم الْمَذْكُور اقْتِدَاء برَسُول الله
حَيْثُ كَانَ أول صَلَاة صلاهَا بعد الافتراض هِيَ الظّهْر وباشر الخطابة فِي السَّابِع عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور وَمَشى الْأَعْيَان بَين يَدَيْهِ ذَهَابًا وإياباً وأفاض عَلَيْهِ سُلْطَان مَكَّة حِينَئِذٍ وَهُوَ الشريف إِدْرِيس تَشْرِيفًا سلطانياً بعد فَرَاغه من الْخطْبَة وَالصَّلَاة ووردت إِلَيْهِ فِي آخر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف الخلعة السُّلْطَانِيَّة المحمولة لمفتي مَكَّة فِي كل عَام صُحْبَة أَمِير الركب الْمصْرِيّ فلبسها من الْمحل الْمُعْتَاد الَّذِي يلبس مِنْهُ شرِيف مَكَّة وَكَانَ ذَلِك بعد انقطاعها نَحوا من خمس سِنِين بِمُوجب حكم سلطاني ورد إِلَى صَاحب مصر يتَضَمَّن الْأَمر بتجهيزها على الأسلوب السَّابِق وإفاضتها عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّابِع من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ تولى تدريس الْمدرسَة السليمانية الْحَنَفِيَّة الَّتِي أَنْشَأَهَا المرحوم السُّلْطَان سُلَيْمَان جوَار الْمَسْجِد الْحَرَام برسم عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَكَانَت هَذِه الْمدرسَة أسست برسم الْحَنَفِيَّة وَكَانَ أوّل من وَليهَا مِنْهُم ودرس بهَا مفتي مَكَّة القطب الْمَكِّيّ النهرواني الْحَنَفِيّ ثمَّ وَليهَا بعد وَفَاته خير الدّين الرُّومِي الْحَنَفِيّ ثمَّ قررها بعده شرِيف مَكَّة الشريف حسن للقضاي عَليّ بن جَار الله الْحَنَفِيّ ثمَّ ورد فِيهَا مصلح الدّين الرُّومِي الْحَنَفِيّ ثمَّ بعد وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث عشرَة وَألف تقرّر فِيهَا القَاضِي يحيى بن أبي السعادات ابْن ظهيرة خطيب مَكَّة وغفل عَن كَونهَا مَشْرُوطَة للحنفية فَعِنْدَ وَفَاته فِي خَامِس(2/370)
رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَألف أَعَادَهَا الله لأصلها فقرّرها شرِيف مَكَّة الشريف إِدْرِيس لصَاحب التَّرْجَمَة وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وباشر الدَّرْس فِيهَا سادس شعْبَان مِنْهَا وافتتح الدَّرْس فِي تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ من قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ} وَحضر مَجْلِسه فِيهَا يَوْمئِذٍ جَمِيع الْعلمَاء والأعيان وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَورد إِلَيْهِ فِي غرَّة ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف تَفْوِيض النّظر فِي قَضَاء مَكَّة وأعمالها من لدن قاضيها يَوْمئِذٍ الْمولى رضوَان بن عُثْمَان الْمُنْفَصِل عَن قَضَاء مصر لتخلفه عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة ففوض إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة النّظر فِي ذَلِك فباشره وَأقَام أَخَاهُ القَاضِي أَحْمد نَائِبا بِمَكَّة ووقف بالحجيج تِلْكَ السّنة وَوَافَقَ يَوْم عَرَفَة يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ هُوَ خطيب التَّرويَة أَيْضا فِي تِلْكَ السّنة وخطيب الْجُمُعَة فِي شهر ذِي الْحجَّة وَكَانَ اتّفق لَهُ نَظِير ذَلِك فِي سنة عشْرين وَألف حِين تولى قَضَاء مَكَّة الْمولى صَالح بن الْمولى سعد الدّين إِلَّا أَنه لم يتَّفق لَهُ فِي ذَلِك الْعَام الْوُقُوف بالحجاج لانفصاله عَن النّظر فِي الْقَضَاء بالمولى أَحْمد الإياشي وَمِمَّا اتّفق لَهُ فِي هَذِه الْولَايَة الثَّانِيَة أَنه ورد من ابْن سُلْطَان الْهِنْد خرم شاه بن سليم شاه بن جلال الدّين الْأَكْبَر صَدَقَة إِلَى فُقَرَاء مَكَّة وَالْمَدينَة فأنيط توزيعها بنظره فوزعها بَين الْأَعْيَان والفقراء ذُكُورا وإناثاً واستوعبهم استيعاباً شَامِلًا وخطب بِمَسْجِد نمرة بِعَرَفَة وَالْحَاصِل أَنه لَقِي من سمو الشَّأْن وعلو الرُّتْبَة مَا لم يلقه أحد من معاصريه بالحجاز وَقد ذكره جمَاعَة من المؤرخين والمنشئين فَمِمَّنْ ذكره الْحسن البوريني وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء عَظِيما قَالَ وَاجْتمعت بِهِ فِي مَكَّة واختبرته فَرَأَيْت عربيته متينة وحركته فِي فهم الْعبارَات جَيِّدَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ الْآن عين مَكَّة وعالمها وَإِلَيْهِ يرجع عاميها وحاكمها انْتهى وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع مَنْقُولًا من خطّ أبي الْعَبَّاس المقرى قَالَ ذكر الشَّيْخ أَبُو الْمَوَاهِب الْبكْرِيّ أَنه تمثل للشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي الْمَذْكُور بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي أثْنَاء مكالمة وهما
(عرضنَا أَنْفُسنَا عزت علينا ... عَلَيْكُم فاستخف بهَا الهوان)
(وَلَو أَنا حفظناها لعزت ... وَلَكِن كل معروض يهان)
قَالَ فَأَجَابَنِي
(نفوسكم وحقكم لدينا ... نفيسات تعز وَلَا تهان)
(وَتلك جَوَاهِر فلأجل هَذَا ... غَدَتْ معروضة بقيت تصان)(2/371)
وَقد وقفت لَهُ على قصيدة عَجِيبَة فِي بَابهَا مدح بهَا الشريف حسن وَابْنه أَبَا طَالب مهنئاً لَهما بظفر الثَّانِي مِنْهُمَا بِأَهْل شمر وَهُوَ جبل بِنَجْد وَهِي
(نقع العجاج لَدَى هياج العثير ... أذكى لدينا من دُخان العنبر)
(وصليل تَجْرِيد الحسام ووقعه ... فِي الْهَام أشدى نَغمَة من جؤذر)
(وسنا الأسنة لامعاً فِي قسطل ... أَسْنَى وأسمى من محيا مُسْفِر)
(وتسربل فِي سابغات مزرد ... أبهى علينا من قبَاء عبقري)
(وتتوج بقوانس مصقولة ... أزهى علينا من سدوس أَخْضَر)
(وكذاك صهوة سابح ومطهم ... أشهى إِلَيْنَا من أريكة أحور)
(ولقا الكمى مدرعاً فِي مغفر ... كلقا الغرير بمقنع وبمخمر)
(ألفت أسنتنا الْوُرُود بمنهل ... علقت بِهِ علق النجيع الْأَحْمَر)
(وسيوفنا هجرت جوَار غمودها ... شوقاً لهامة كل أصيد أصعر)
(فتخالها لما تجرد عِنْدَمَا ... هام القتام بوارقاً بكنهور)
(وصهيل جرد الْخَيل خيل كَأَنَّهُ ... رعد يزمجر فِي الجدى المتعنجر)
(وَدم العدى متقاطراً متدفقاً ... كالوبل كالسيل الجراف الْجور)
(ورؤوسهم تجْرِي بِهِ كجنادل ... قذفت بِهِ موج السُّيُول الهمر)
(غشيتهم فِي الْعَام منا فرقة ... تركت فريقهم كسبسب مقفر)
(أودتهم قتلا وأجلتهم إِلَى ... أَن حطم الْهِنْدِيّ ظهر الْمُدبر)
(تركت صحاراهم مَوَائِد ضمنت ... أشلاء كل مسود وغضنفر)
(ودعت ضيوف الْوَحْش تقريها بِمَا ... أفنى المهند والوشيج السمهري)
(فأجابها من كل غيل زمرة ... تحدو منار عملس أَو قسور)
(وأظلها ظلل نشاص سحابها المركوم ... أَجْنِحَة البزاة الأنسر)
(فبراثن الآساد تضنب فِي الكلى ... ومخالب العقبان تنشب فِي المرى)
(شكرت صَنِيع المشرفية والقنا ... إِذْ لم تضفها الهبر غير مهبر)
(فغدت قُبُورهم بطُون الْوَحْش مِنْهَا ... يبعثون إِذا دعوا للمحشر)
(وخلت دِيَارهمْ وَأقوى ربعهم ... وسرى السرى مشمراً عَن شمر)
(أنفت من استقصاء قتل شريدهم ... كَيْمَا يخبر قَائِلا من مخبري)
(فثنت أَعِنَّة خَيْلنَا أجيادها ... عَن قتل كل مزند وخزور)(2/372)
(حَتَّى إِذا حَان القطاف ليانع ... من أرؤس تركت وَلما تؤبر)
(عصفت بهَا ريب الْمنون فألقحت ... وتحركت بزعازع من صَرْصَر)
(فدعَتْ سراة كماتنا لقطافها ... بأنامل الْقصب الْأَصَم الأسمر)
(فتجهزت لحصادها فِي فيلق ... لَو يسبحون بزاخر لم يزخر)
(مَلأ تتوق إِلَى الكفاح نُفُوسهم ... توقانها اللقا الرداح المعصر)
(يغشون أبطال الْوَطِيس بواسما ... كالليث أَن يلق الفريسة يكثر)
(وتخالهم فَوق الْجِيَاد لوابسا ... سداً يموج من الْحَرِير الْأَخْضَر)
(فَإِذا هم ازدحموا بجزع وانثنوا ... أورى زناد دروعهم نَارا ترى)
(جَيش طلائعه الأوابد إِن تصخ ... لَو جيبه من قيد شهر تنفر)
(يقتاده الْملك المشيخ كَأَنَّهُ ... بَين العوالي ضيغم فِي مزأر)
(ملك تدرع بالبسالة فاغتنى ... يَوْم الوغى عَن سابغ وسنور)
(ملك تتوج بالمهابة فَاكْتفى ... عِنْد الطعان لقرنه ععن مغفر)
(ملك تذكرنا مواقع حَده ... فِي الْهَام وقْعَة جده فِي خَيْبَر)
(ملك إِذا مَا جال يَوْم كريهة ... لم تلق غير مجدل ومعفر)
(ملك يُجهز من جحافل رَأْيه ... قبل الوقيعة جحفلاً لم ينظر)
(ملك تُسنم ذرْوَة الْمجد الَّتِي ... من دونهَا المريخ بل وَالْمُشْتَرِي)
(ملك نداه الْبَحْر إِلَّا أَنه ... عذب أَهَذا الْبَحْر نهر الْكَوْثَر)
(ملك إِذا مَا جاد حدث مُسْندًا ... عَن جوده جود الْغَمَام الممطر)
(الْأَشْرَف الشهم الَّذِي خضعت لَهُ ... شم الأنوف وكل حججاج سرى)
(الْأَفْضَل السَّنَد الَّذِي أَوْصَافه ... أنست سما الوضاح وَابْن الْمُنْذر)
(الأكرم المفضال من إحسانه ... أربى على كسْرَى الْمُلُوك وَقَيْصَر)
(ذُو الهمة الْعليا الَّذِي قد نَالَ مَا ... عَنهُ تقصر همة الاسكندر)
(شرفاً تَقَاعَسَتْ الْكَوَاكِب دونه ... لَو لم تمد بنوره لم تزهر)
(هبها بمنطقة البروج مقرها ... أمنا هز هَذَا بنوة حيدر)
(كلا فَكيف بِمن حواها جَامعا ... نسبا سما بابوة المدثر)
(أعظم بهَا من نِسْبَة نبوية ... علوِيَّة تنمي لأصل أطهر)
(قد شَرقَتْ بَدَأَ بأشرف مُرْسل ... وَنِهَايَة بالسيد الْحسن السّري)(2/373)
(فَخر الْخَلَائق درة التَّاج الَّذِي ... بسواه هام ذَوي العلى لم يفخر)
(بشر وَلَكِن فِي صِفَات ملائك ... جليت لنا أخلاقه فاستبصر)
(لم تلقه يومي وغى وعطا سوى ... طلق الْمحيا فِي حلى المستبشر)
(يلقى العفاة وَقد تلألأ وَجهه ... بسنا السرُور وَذَاكَ أَنْضَرُ منظر)
(يعْفُو عَن الذَّنب الْعَظِيم مجازياً ... جازيه بِالْحُسْنَى كَأَن لم يؤزر)
(يَا سيد السادات دُونك مِدْحَة ... نفحت بعرف من ثناك معطر)
(قد فصلت بلآلىء الْمَدْح الَّتِي ... يقف ابْن أَوْس دونهَا والبحتري)
(وافتك ترفل فِي برود بلاغة ... وبراعة ببرود صنعا تزدري)
(صاغت حلاها فكرة قد صانها ... شمم الإباء عَن امتداح مقصر)
(مَا شَأْنهَا نظم القريض تكسبا ... لَوْلَا مقامك ذُو العلى لم تشعر)
(فوردت منهلها الروى فَلم أجد ... أجداً فنلت صفاء غير مكدر)
(فنهلت مِنْهُ وعلني بنميره ... وطفقت وارده وَلما أصدر)
(وطفقت فِيهِ غائصا للآلي ... فِي غير نظم مديحكم لم تنثر)
(لَا تدعني الْعليا رَضِيع لبانها ... إِن كنت فِي تِلْكَ الْمقَالة مفترى)
(خُذْهَا عقيلة كسر خدر فصاحة ... سفرت نقاباً عَن محيا مُسْفِر)
(جمعت بلاغة منطق الْإِعْرَاب مَعَ ... حسن الْبَيَان ورقة المستحضر)
(لوسامها قس لما سَمِعت بِهِ ... بعكاظ يَوْمًا خطْبَة فِي مِنْبَر)
(شرفت على من عارضته بمدح من ... أضحى القريض بِهِ كعقد جوهري)
(فاستجلها وافت تهنى بِالَّذِي ... نفحت بشائره بمسك أذفر)
(نصر تهز بنوده ريح الصِّبَا ... خَفَقت على هام الأشم الخرمر)
(هُوَ نجلك الْمَنْصُور دَامَ مؤيداً ... بك أَيْنَمَا يلق الغريمة يظفر)
(لَا زلتما فِي ظلّ مَالك باذخ ... وجنود ملككم مُلُوك الأعصر)
(مستمسكين بهدى جدكم الَّذِي ... بِالرُّعْبِ ينصر من مَسَافَة أشهر)
(أهْدى الآله صلَاته وَسَلَامه ... لجنابه فِي طي نشر العهر)
(ولآله وصحابه وَالتَّابِعِينَ ... لَهُم بِإِحْسَان ليَوْم الْمَحْشَر)
(مَا استنشق الْأَبْطَال فِي يَوْم الوغى ... نقع العجاج لَدَى هياج العثير)
قلت تبَارك الله على هَذِه الطبيعة المطيعة وَمن مثل هَذِه القصيدة يعرف متانة(2/374)
الشّعْر وَقُوَّة الطَّبْع على النّظم وَله منشآت كَثِيرَة أغلبها مَجْمُوع فِي سفر وَلأَهل مَكَّة على إنشائه تهافت وَبِالْجُمْلَةِ فَكل آثاره مستحسنة وَذكره السَّيِّد عَليّ فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه عَلامَة الْقطر الْحِجَازِي ومفتيه وَمولى مَعْرُوف المعارف ومؤتيه وبحر الْعلم الَّذِي لَا يدْرك ساحله وبره الَّذِي لَا تطوى مراحله أشرقت فِي سَمَاء الْفضل ذكاء ذكائه وخرس بِهِ نَاطِق الْجَهْل بعد تصديته ومكائه فَأصْبح وَهُوَ للْعلم وَالْجهل مُثبت وماحق وَسبق إِلَى غايات الْفضل وَمَا للْوَجْه لَاحق حَتَّى طَار صيته فِي الْآفَاق وانعقد على فَضله الْوِفَاق وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْعلم بِالْبَلَدِ الْأمين فتصدر وَهُوَ منتجع الوافدين والآمين مِنْهُ تقتبس أنوار أَنْوَاع الْفُنُون وَعنهُ تُؤْخَذ أَحْكَام الْمَفْرُوض والمسنون تشد الرّحال إِلَى لِقَائِه ويستنشق أرج الْفضل من تلقائه وتصانيفه فِي أَقسَام الْعلم صنوف وتآليفه فِي مسامع الدَّهْر أقراط وشنوف أَن نثر فَمَا أزاهر الرياض غب المزن الهاطل أَو نظم فَمَا جَوَاهِر الْعُقُود تحلت بِهِ الغيد العواطل وَهَا أَنا أقص عَلَيْك من خَبره مَا يزدهيك وشى حبره وأتلو عَلَيْك من تَفْصِيل حَاله مَا يروقك خصبه وتأسف على إمحاله ثمَّ أثبت من منظومه بعد منثوره مَا يطرب الأسماع بِحسن مأثوره وَلم يزل ممتطياً صهوة الْعِزّ المكين راقياً ذرْوَة طود الجاه الركين لَا يُقَاس بِهِ قرين وَلَا تطَأ آساد الشرى لَهُ عرين إِلَى أَن تولى الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب مَكَّة المشرفة ورفل فِي حلل ولايتها المفوفة وَكَانَ فِي نَفسه من الشَّيْخ الْمشَار إِلَيْهِ ضغن حل بصميم مهجته وَمَا طعن فَأمر أَولا بِنَهْب دَاره وخفض مَحَله ومقداره ثمَّ قبض عَلَيْهِ قبض الْمُعْتَمد على ابْن عمار وجزاه الدَّهْر على يَدَيْهِ جَزَاء سنمار إِلَّا أَن الْمُعْتَمد أغص ابْن عمار بالحسام الْأَبْيَض وَهَذَا طوقه هلالاً بزغ من أنامل عبد أسود فجرعه كأس الْمَوْت الْأَحْمَر وَكَانَ قد أبقاه فِي حَبسه إِلَى لَيْلَة عَرَفَة ثمَّ خشى أَن يسْعَى فِي خلاصه من أكَابِر الرّوم من عرفه فَوجه إِلَيْهِ بزنجي أشوه خلق الله خلقا وَتقدم إِلَيْهِ بقتْله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خنقاً فامتثل أمره فِيهِ وجلله من برد الْهَلَاك بضافيه فأقفرت لمَوْته الْمدَارِس وأصبحت ربوع الْفضل وَهِي دوارس وَذَلِكَ فِي عَام سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَمن الِاتِّفَاق أَن الشريف الْمَذْكُور قتل هَذِه القتلة بِعَينهَا حِين تقاضت مِنْهُ اللَّيَالِي مَا أسلفت من دينهَا وَفِي الْأَثر كَمَا تدين تدان وَهَذَا حَال الدَّهْر مَعَ كل قاص ودان انْتهى قلت وَقد قدمت خبر مَقْتَله فِي تَرْجَمَة الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب(2/375)
فِي حرف الْهمزَة فَارْجِع إِلَيْهِ هُنَاكَ وَكَانَت ولادَة المرشدي بِمَكَّة لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة ولقب شرف الدّين وَقتل لَيْلَة الْجُمُعَة لأحدى عشرَة خلون من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَفِي الْمَشْهُور أَن سَبَب قَتله تَوليته ديوَان الْإِنْشَاء فِي ولَايَة الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف فَلَمَّا توفّي الشريف محسن وَولي مَكَانَهُ الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب قبض على المرشدي فِي أَوَاخِر شهر رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسجنه وَنهب دَاره وَكتبه وَطَلَبه يَوْمًا إِلَى مَجْلِسه وَهُوَ غاص بأَهْله وعاتبه أَشد عتاب فَأَجَابَهُ بِأَحْسَن جَوَاب ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى السجْن وَقَالَ للحاضرين وَالله إِنِّي أعلم وأعتقد أَنه من أفضل عُلَمَاء زَمَانه وَأتقى أهل عصره وَاسْتمرّ فِي السجْن إِلَى يَوْم النَّحْر فَأمر بخنقه وَغسل وَصلى عَلَيْهِ وَدفن بالشبيكة بِالْقربِ من ضريح سيدنَا الْمسَاوِي وقبره بهَا مَعْرُوف يزار وَوجدت فِي رِسَالَة بِخَط الْعَالم عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ مفتي الشَّام كتب بهَا إِلَى أبي الْعَبَّاس الْمقري يذكر فِيهَا قتلة المرشدي ويعزيه من جُمْلَتهَا وَأما مُصِيبَة من كَانَ وليي وَسمي ومنجدي الشَّهِيد السعيد الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي فَإِنَّهَا وَإِن أَصَابَت منا ومنكم الْأَخَوَيْنِ فقد عَمت الْحَرَمَيْنِ بل طمت الثقلَيْن وَلَقَد عد مصابه فِي الْإِسْلَام ثلمة وفقد مِنْهُ فِي حرم الله من كَانَ يدعى للملمة وَلم يبْق بعده من يدعى إِذا يحاس الحيس وَيسْتَحق أَن ينشد فِي حَقه وَإِن لم يقس بِهِ قيس
( ... وَمَا كَانَ قيس هلكه هلك وَاحِد ... )
وَلَكِن بُنيان قوم تهدما وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة كل مِنْهُم تسمى عبد الرَّحْمَن وهم عبد الرَّحْمَن اليمني بِمصْر وَعبد الرَّحْمَن الخياري بِالْمَدِينَةِ وَعبد الرَّحْمَن المرشدي بِمَكَّة وَقد تقدمُوا ثَلَاثَتهمْ على هَذَا التَّرْتِيب وَعبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ بِالشَّام وَسَيَأْتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أربعتهم عمد الدّين وَقد جمعهم عصر وَاحِد فتشرف بهم وَأَنا أَحْمد الله تَعَالَى على تشرف كتابي بذكرهم
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْحميدِي الْمصْرِيّ شيخ أهل الوراقة بِمصْر الأديب الشَّاعِر الْفَائِق ذكره الشهَاب الخفاجي فِي كِتَابيه وَقَالَ فِي وَصفه كَانَ أديباً تفتحت بصبا اللطف أنوار شمائله ورقت على دوح أدبه خطباء بلابله إِذا صدحت بلابل مَعَانِيه وتبرجت حدائق معاليه جلبن الْهوى من حَيْثُ أدرى وَلَا أَدْرِي نظم فِي جيد الدَّهْر جمانه وَسلم إِلَى يَد الشّرف عنانه خاطراً فِي رِدَاء مجد ذِي حواش وبطانه(2/376)
ناشراً فرائد بَيَان ينثرها اللِّسَان فتودع حقاق الآذان وَله فِي الطِّبّ يَد مسيحية تحيى ميت الْأَمْرَاض وتبدل جَوَاهِر الْجَوَاهِر بالأعراض
(مبارك الطلغة ميمونها ... لَكِن على الحفار والغاسل)
وديوان شعره شَائِع وذائع إِلَّا أَنِّي استودعته النسْيَان وَلَا بُد أَن ترد الودائع وَلما نظم البديعية مُعَارضا لِابْنِ حجَّة وَشَرحهَا نظرت فِيهَا فِي أَوَان الصِّبَا فَرَأَيْت مِنْهَا مَوَاضِع لَا تَخْلُو من الخطا فنبهته لذَلِك فَأطَال لِسَانه لانحرافه وَزعم أَنه هجاني بِبَعْض أَوْصَافه فَكتبت إِلَيْهِ متهكماً مَا صورته مولَايَ أسرفت فِي الامتنان وأسأت لنا قبل الْإِحْسَان وعاقبت من غير جِنَايَة سَابِقَة وَحرمت من لَيْسَ لَهُ فِيك آمال رائقة فَكَانَت حَالي مَعَك كَمَا قيل إِنَّه هبت ريح شَدِيدَة فصاح النَّاس الْقِيَامَة الْقِيَامَة فَقَالَ بعض المجان مَا هَذِه الْقِيَامَة على الرِّيق أَيْن الدَّجَّال وَالْمهْدِي وأشراطها فِي ذَلِك أَقُول
(أسرفت فِي الصد فخف خَالِقًا ... لَا يرتضي أسراف مَخْلُوق)
(يَا هاجراً من لم يذقْ وَصله ... جرعته الصَّبْر على الرِّيق)
انْتهى وَكَانَت وَفَاة الْحميدِي سَابِع عشر الْمحرم سنة خمس بعد الْألف
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي القاهري أحد أَوْلَاد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ كَانَ من أَرْبَاب الْأَحْوَال لَهُ الْكَشْف الصَّرِيح والإنابة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي الذيل وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة فِي حادي أَو ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة سنة سبع بعد الْألف وصلينا عَلَيْهِ فِي الْحرم الْمَكِّيّ فِي وَجه الْكَعْبَة المنورة قَالَ وَأَخْبرنِي صاحبنا الْعَلامَة ولي الله سَيِّدي مُحَمَّد التكروري أَنه أَشَارَ إِلَيْهِ بِقرب الْأَجَل وَإنَّهُ لَا يخرج من مَكَّة وَمَات بعد أَن كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة بِالطّوافِ فَشكى من قلبه ثمَّ حمل إِلَى منزلهم عِنْد بَاب إِبْرَاهِيم فَمَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عقيل بن أَحْمد بن الشَّيْخ عَليّ الْحَضْرَمِيّ الْمَعْرُوف بالسقاف أحد أَرْكَان الطَّرِيقَة السَّيِّد المفضال كَانَ حسن الصِّفَات عالي الهمة ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره من الْمنون واشتغل بالعلوم وَصَحب أكَابِر العارفين واعتنى بِعلم التصوف والكتب الغزالية وجد فِيهَا حَتَّى طَال بَاعه وَأخذ(2/377)
عَن الإِمَام الْعَالم السَّيِّد أبي بكر سَالم وَمن مشايخه السَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن وَالْإِمَام السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَأذن لَهُ غير وَاحِد فِي التدريس وَلبس الْخِرْقَة من كثيرين وأدنوا لَهُ فِي الالباس والتحكيم وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وتخرجوا عَلَيْهِ مِنْهُم وَلَده السَّيِّد عقيل وَالشَّيْخ أَبُو بكر الشلي وَالِد الْجمال المؤرخ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَأخذ عَنهُ السَّيِّد أَبُو بكر بن عَليّ معلم وَهُوَ أَخذ عَنهُ أَيْضا وَكَانَ آيَة فِي الْفَهم عَاملا بِعِلْمِهِ كثيرا السخاء وَكَانَت لَهُ هَيْبَة فِي الْقُلُوب وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وتسمائة وَتُوفِّي سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وَدفن بجنان بشار
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المنعوت زين الدّين بن شمس الدّين الْخَطِيب الشربيني الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الإِمَام الْعُمْدَة ابْن الإِمَام الْعُمْدَة كَانَ من أهل الْعلم والبراعة فِي فنون كَثِيرَة حسن الْأَخْلَاق كثير التَّوَاضُع أَخذ عَن وَالِده وَغَيره وَكَانَ كثيرا مَا يحجّ ويجاور بِمَكَّة وَاجْتمعَ بِهِ النَّجْم الْغَزِّي بِالْمَدِينَةِ فِي أواسط الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف قَالَ فَسَأَلته كم حججتم فَقَالَ أَرْبعا وَعشْرين مرّة فَقلت لَهُ أَنْتُم يَا مَوْلَانَا معاشر عُلَمَاء مصر يحجّ الْوَاحِد مِنْكُم مَرَّات وَأما أهل الشَّام فَلَا يكَاد الْوَاحِد مِنْهُم يحجّ إِلَّا مرّة فَأنْتم أَرغب فِي الْخَيْر منا فَقَالَ لي يَا مَوْلَانَا الْوَاحِد منا يسْتَأْجر بَعِيرًا بِعشْرَة ذَهَبا وَيحمل تَحْتَهُ القريقشات ويحج وَأَنْتُم إِذا حج أحدكُم يتَكَلَّف كلفة زَائِدَة تَكْفِي عدَّة منا وطريقكم أَشد من طريقنا وَالْأَجْر يكون على قدر النصب وَالنَّفقَة كَمَا فِي الحَدِيث فحجة الْوَاحِد مِنْكُم تعدل حجات الْوَاحِد منا وَهَذَا دَلِيل على إنصافه وَحسن نظره قَالَ وَوصل خبر مَوته إِلَى دمشق فِي أَوَائِل جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَحَجَجْت فِي تِلْكَ السّنة وحررت وَفَاته عَن بعض فضلاء مَكَّة أَنَّهَا كَانَت فِي صفر سنة أَربع عشرَة الْمَذْكُورَة
عبد الرَّحْمَن أَبُو الْعِزّ بن مُحَمَّد القصري الفاسي كَانَ إِمَامًا عُمْدَة فِي الْعلم وَالْعَمَل الظَّاهِر وَالْبَاطِن قَرَأَ على أَخِيه أبي المحاسن يُوسُف الفاسي وَعلي الْفَقِيه الْمُفْتِي الْخَطِيب أبي زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد السراج وَالْقَاضِي الْفَقِيه الْخَطِيب بن مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَالْإِمَام المفنن الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور وَالْإِمَام الْأُسْتَاذ النَّحْوِيّ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم الْعَزْرَمِي وَالْإِمَام الْمُحَقق النظار أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقَيْسِي الْقصار وَالْإِمَام الْمقري المنجور أبي مُحَمَّد الْحسن(2/378)
ابْن مُحَمَّد الدراوي وَعنهُ خلق لَا يُحصونَ مِنْهُم وَارثه الأول المكمل أَبُو النصائح مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن عبد الله معن ووارثه الثَّانِي وَابْن ابْن أَخِيه الْعَلامَة عبد الْقَادِر الفاسي وَقد أفرد تَرْجَمته وترجمة شُيُوخه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَادِر الفاسي فِي مُجَلد حافل وَله مؤلفات مِنْهَا حَاشِيَة على البُخَارِيّ وحاشية على شرح الصُّغْرَى للسنوسي وكراماته كَثِيرَة شهيرة وَكَانَ بعض النَّاس فِي عصره يلازم تَنْبِيه الْأَنَام كثيرا فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ انْظُرُوا هَل أنتج لَهُ شَيْء من كَثْرَة صلَاته على النَّبِي
وَإِلَّا فاعلموا أَن بَاطِنه مشوب فَدلَّ كَلَامه على أَن الطَّاعَات وَلَا سِيمَا الصَّلَاة على الْوَسِيلَة الْعُظْمَى
الَّذِي هُوَ أصل كل خير إِذا صادفت محلا طَاهِرا أشرقت فِيهِ أنوارها ولاحت عَلَيْهِ أسرارها وَإِنَّمَا يَدْفَعهَا عدم القابلية كَالثَّوْبِ الكدر لَا يشتعل وَكَانَ نفع الله تَعَالَى بِهِ يَقُول إِنَّمَا يصحب النَّاس الْمَشَايِخ ليعرفوهم أَنهم عبيد الله فيرضوا بِمَا يصدر لَا ليدافعوا مَا يصدر مِنْهُم وَكَانَت وِلَادَته فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السقاف السَّيِّد الإِمَام الْحَافِظ المجدث الْجَامِع بَين الرِّوَايَة والدراية قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ الْعُلُوم عَن الكمل من الْعلمَاء وَصَحب الْأَئِمَّة ولازم الشَّيْخ أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَأخذ عَنهُ التَّفْسِير والْحَدِيث والأصلين والتصوف والعربية واشتهر وتفوق وَكَانَ فِي الْفَهم آيَة باهرة وَفِي الْحِفْظ نِهَايَة وَجلسَ للتدريس فِي الْفُنُون وَكَانَ شَدِيد الانقباض عَن النَّاس حَافِظًا لِلِسَانِهِ وقف نَفسه على الْعُلُوم مَعَ عقل وأدب وخفة روح وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الطلاب وَظَهَرت بركاته قَالَ الشلي وَهُوَ من أعظم مشايخي الَّذين أخذت عَنْهُم وانتفعت بهم لازمت حَضرته واغتنمت بركته واقتبست من فَوَائده واستمتعت بفرائده فَقَرَأت عَلَيْهِ الْبِدَايَة والتبيان قِرَاءَة تَحْقِيق وَبَيَان وَسمعت الْأَحْيَاء بِقِرَاءَة غَيْرِي وانتفع بِهِ جَمِيع من الْخَلَائق وصاروا بِهِ من أهل الْحَقَائِق وَكَانَ من سَادَات الصُّوفِيَّة الزهاد ورؤس الْأَوْلِيَاء الْعباد حَرِيصًا على فعل الْخَيْر لَا يَخُوض فِيمَا لَا يعنيه وَكَانَ عَارِفًا بمذاهب الْعلمَاء نير الْقلب صافي السريرة فاق أقرانه وَلم ير الرؤان فِي زَمَانه مثله(2/379)
وَكَانَ قَلِيل الْكَلَام جدا من غير إعياء وَلَا خلل وَكَانَ لَهُ خطّ حسن مَرْغُوب فِيهِ وَكَانَ أضبط يكْتب بكلتا يَدَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من الكمل فِي زَمَانه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنان بشار
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن شرف الدّين الحجافي اليمني الْعَالم البارع كَانَ عَلامَة يضْرب بِهِ الْمثل فِي الذكاء وَكَانَ يشبه بجده من قبل الْأُمَّهَات السَّيِّد عبد الرَّحْمَن وَكَانَ محققاً فِي الْأُصُول والمنطق واشتغل فِي التَّفْسِير فِي آخر أمره وَله شرح على غَايَة السول للسَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقَاسِم أَجَاد فِيهِ كل الإجادة وَكَانَ مُتَوَلِّيًا لأعمال حفاش ثمَّ اسْتَقر بِصَنْعَاء وَكَانَ لَا يطْمع فِي شَيْء من زِينَة الدُّنْيَا وَلَا هم لَهُ بِغَيْر الْعلم توفّي بالحشيشة من مخارف صنعاء فِي نَيف وَخمسين بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عماد الدّين بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عماد الدّين الْعِمَادِيّ الحني الدِّمَشْقِي أحد أَفْرَاد الدَّهْر وأعيان الْعلم وأعلام الْفضل وَهُوَ الْمُفْتِي بِالشَّام بعد أَن كَانَ أَبوهُ بهَا حينا مرجع النَّاس للْفَتْوَى حَتَّى استغرق علمه وَاسْتحق مكانته وَكَانَ فِي عصره مِمَّن يباهي بالتردد إِلَيْهِ والاكتساب من معلوماته وحوى من الصِّفَات الْحَسَنَة والأخلاق الرائقة مَا انْفَرد بِهِ دون مُنَازع واختص بِهِ من غير مشارك وَكَانَ كثير الْفضل جم الْفَائِدَة وَله محاضرة تستفز الحلوم وفطنه تسحر الْعُقُول وَألف حَاشِيَة على بعض تَفْسِير الْكَشَّاف بقيت فِي مسوداته وَله المنسك الْمَشْهُور الَّذِي سَمَّاهُ بالمستطاع من الزَّاد وَكتاب الْهَدِيَّة فِي عبادات الْفِقْه وَالرَّوْضَة الريا فِيمَن دفن بداريا وَله رسائل كَثِيرَة فِي سَائِر الْفُنُون ومنشآت وأشعار أَكْثَرهَا لطيف المسلك حسن الْموقع وَنَشَأ فِي مطلع عمره يَتِيما فَإِن وَالِده مَاتَ وَله من الْعُمر سبع سِنِين وَكَانَ كثيرا مَا ينشد فِي ذَلِك كنت ابْن سبع حِين مَاتَ أبي واجتهد فِي التَّحْصِيل أَولا على الْحسن البوريني وعَلى ابْن خَالَته الشَّيْخ مُحَمَّد بن محب الدّين الْحَنَفِيّ ثمَّ لزم جدي القَاضِي محب الدّين وَأخذ عَنهُ مُعظم الْفُنُون وَأخذ عَن الشَّمْس ابْن المنقار والمنلا مُحَمَّد بن عبد الْملك الْبَغْدَادِيّ وبرع البراعة التَّامَّة وتفوق وَحج فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن السَّيِّد صبغة الله بن روح الله الْمُقدم ذكره طَرِيق النقشبندية وَكَانَ الْجد القَاضِي الْمَذْكُور فِي تِلْكَ السّنة قَاضِيا بالركب وَجرى للعمادي أَنه لما أَرَادَ الدُّخُول إِلَى الْبَيْت المشرف وَقع فانصدعت رجله من شدَّة الزحام وعالجها فبرأت وَلَكِن بَقِي أثر الانصداع فَكَانَ يعرج شَيْئا مَا(2/380)
مِنْهَا وَمن المعجب مَا كتبه الْجد فِي شَأْنه هَذَا إِلَى تِلْمِيذه الأديب الذيق الألمعي أبي الطّيب الْغَزِّي الْمُقدم ذكره وَكَانَ أرسل إِلَيْهِ كتابا مَعَ نجاب الشَّام وَكتب إِلَيْهِ فِي حَاشِيَته مَا نَصه وَأما أخوكم الْعَلامَة ولدنَا الْعِمَادِيّ فَإِنَّهُ فِي الصِّحَّة والسلامة وَالنعْمَة والكرامة وَهُوَ يسلم عَلَيْكُم ويعرض وافر شوقه إِلَيْكُم فانتقد أَبُو الطّيب من تَعْبِيره بِلَفْظ الْعَلامَة المستفيض إِطْلَاقه على الزَّمَخْشَرِيّ مَا جنح إِلَيْهِ وَحكم عَلَيْهِ بِقُوَّة حدسه وَبعد مَا رَجَعَ إِلَى دمشق تخلص للإقراء والإفادة وَولي تدريس الْمدرسَة الشبلية فِي سنة سبع عشرَة وَألف ثمَّ ولي بعْدهَا الْمدرسَة السليمية فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَلما ورد دمشق الْمولى أسعد بن سعد الدّين قَاصِدا الْحَج راجت لَدَيْهِ فضائله وَظَهَرت لَهُ مزيته فَأقبل عَلَيْهِ بكليته وَلما عَاد إِلَى الرّوم وَولي الْإِفْتَاء صيره ملازماً على قاعدتهم وَكَانَ قبل ذَلِك بِمدَّة أَخذ عَنهُ الْمولى أَحْمد بن زين الدّين المنطقي الْمُقدم ذكره الْمدرسَة السليمية فَصنعَ الْعِمَادِيّ قصيدة فِي مدح الْمولى أسعد الْمَذْكُور يتطلب فِيهَا إِعَادَة الْمدرسَة إِلَيْهِ ويتظلم من الدَّهْر ومطلعها
(بك أسعد الرّوم ابْن سعد الدّين ... يسمو عماد الْعلم ثمَّ الدّين)
وَمن جُمْلَتهَا وَهُوَ مَحل الْغَرَض
(لَك أشتكي مولَايَ أفظع وصمة ... كَادَت لشدَّة قهرها تصميني)
(يَا ضَيْعَة الإعمار فِي طلب العلى ... بِالْعلمِ وَالنّسب الَّذِي بالشين)
(أَمن الْمُرُوءَة وَهِي أسمى رُتْبَة ... أَنى أعادل بِابْن زين الدّين)
(لَا بل يرجح ثمَّ يغصب منصبي ... وأعود مِنْهُ بصفقة المغبون)
(لَو كنت مَعَ كفو قرنت لهان لي ... لكنه بئس القرين قريني)
(أَو كَانَ ثمَّ تعادل لهضمته ... فَانْظُر إِلَى دهري بِمن يبلوني)
فقرر عَلَيْهِ الْمدرسَة وَله فِيهِ قصيدة بديعة يشْكر صَنِيعه فِيهَا مطْلعهَا
(إِلَّا هَكَذَا فليسعد العَبْد سيد ... فَلَا زلت فِي سعد ومولاي أسعد)
وَهِي طَوِيلَة ثمَّ ولي بعد ذَلِك الْمدرسَة السليمانية والإفتاء بِالشَّام فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوجه إِلَى الْحَج وَهُوَ مفت فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَكبر صيته بعد ذَلِك واشتهر وَسلم لَهُ عُلَمَاء عصره وَمِمَّا يرْوى أَنه رفع مِنْهُ لشيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا فَتْوَى وَعَلَيْهَا جَوَابه فَكتب ابْن زَكَرِيَّا عَلَيْهَا إِلَى جَانِبه الْجَواب كَمَا بِهِ أخونا الْعَلامَة أجَاب وَهَذِه غَايَة فِي المدحة وعلو الرُّتْبَة وَقد مدحه أَكثر الشُّعَرَاء عصره من الأدباء(2/381)
بالقصائد السائرة وخلدوا مدائحه فِي صفحات آثَارهم وَبِالْجُمْلَةِ فأخباره وفضائله مَلَأت كل محفل ووقفت لَهُ على تحريرات أدبية كَثِيرَة وَمن ألطفها جَوَابه عَن سُؤال رَفعه إِلَيْهِ بعض الأدباء فِي الأغاليط الَّتِي ذكرهَا صَاحب الْقَامُوس عِنْدَمَا ذكر الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين وهما
(لَا در در إناس خَابَ سَعْيهمْ ... يستمطرون لَدَى الْأَزْمَان بالعشر)
(أجاعل أَنْت بيقورا مسلعة ... ذَرِيعَة لَك بَين الله والمطر)
فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَيْت الثَّانِي تِسْعَة أغلاط فَأجَاب بِمَا نَصه أَقُول قد لَاحَ لي فِي هَذِه الْأَلْفَاظ تِسْعَة وُجُوه خطرت بالبال وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال الأول ادخال الْهمزَة على غير مَحل الْإِنْكَار وَهُوَ جَاعل وَالْوَاجِب إدخالها على السّلْعَة لِأَنَّهَا مَحل الْإِنْكَار الثَّانِي تَقْدِيم الْمسند الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل فَلَا يرتكب إِلَّا لسَبَب فَكَانَ الْوَاجِب تَقْدِيم المسلعة وَإِدْخَال الْهمزَة عَلَيْهَا بِأَن يُقَال أمسلعة أَنْت تجْعَل ذَرِيعَة الثَّالِث أَن تَرْتِيب هَذَا الْبَيْت على مَا قبله يَقْتَضِي أَنه قصد الِالْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب قطعا وَأَنه بعد أَن حكى عَنْهُم حالتهم الشنيعة الْتفت إِلَى خطابهم بالإنكار ومواجهتهم بالتوبيخ حَتَّى كَأَنَّهُمْ حاضرون يَسْتَمِعُون وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ أَنه أَخطَأ فِي إِيرَاد أحد اللَّفْظَيْنِ بِالْجمعِ وَالْآخر بِالْإِفْرَادِ وَلَا شكّ أَن شَرط الِالْتِفَات الِاتِّحَاد الرَّابِع أَن الجاعلين هم الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة الَّذين حكى عَنْهُم فِي الْبَيْت الأول فَلَا وَجه لتخصيص الْوَاحِد مِنْهُم بالإنكار عَلَيْهِ دون الْبَقِيَّة لَا يُقَال هَذَا الْوَجْه دَاخل فِي الَّذِي قبله لأَنا نقُول هَذَا وَارِد بِقطع النّظر عَن كَون الْكَلَام التفاتاً أَو غير الْتِفَات من حَيْثُ أَنه نسب أمرا إِلَى جمَاعَة ثمَّ خصص وَاحِدًا بالإنكار من غير الْتِفَات إِلَى الِالْتِفَات أصلا الْخَامِس تنكير الْمسند إِذْ لَا وَجه لَهُ مَعَ تقدّم الْعَهْد حَيْثُ علم أَن مُرَاده بالجاعل هم الأناس المذكورون فِي الْبَيْت الأول فَكيف يُنكر الْمَعْهُود فَكَانَ حق الْكَلَام أَن يُقَال أمسلعة أَنْتُم الجاعلون السَّادِس البيقور اسْم جمع كَمَا فِي الْقَامُوس وَاسم الْجمع وَإِن كَانَ يذكر وَيُؤَنث لَكِن قَالَ الرضي فِي بحث الْعدَد مَا محصله أَن اسْم الْجمع وَإِن كَانَ مُخْتَصًّا بِجمع الْمُذكر كالرهط والنفر وَالْقَوْم فَإِنَّهَا بِمَعْنى الرِّجَال فيعطي حكم الْمُذكر فِي التَّذْكِير فَيُقَال تِسْعَة رَهْط وَلَا يُقَال تسع رَهْط كَمَا تَقول تِسْعَة رجال وَلَا تَقول تسع رجال وَإِن كَانَ مُخْتَصًّا بالمؤنث فَيعْطى حكم جمع الْإِنَاث نَحْو ثَلَاث من الْمَخَاض لِأَنَّهَا بِمَعْنى حوامل النوق وَإِن احتملها كالخيل(2/382)
وَالْإِبِل وَالْغنم لِأَنَّهَا تقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث فَإِن نصت على أحد المحتملين فَإِن الِاعْتِبَار بذلك النَّص انْتهى فقد صرح بِأَنَّهَا إِن اسْتعْملت مرَادا بهَا الذُّكُور تُعْطى حكم الذُّكُور وَقد نَص صَاحب الْقَامُوس وَغَيره على أَنهم كَانُوا يعلقون السّلع على الثيران كَمَا تقدم فَبِهَذَا الِاعْتِبَار لَا يسوغ وصف البقور بالمسلعة السَّابِع إِيرَاد المسلعة صفة جَارِيَة على مَوْصُوف مَذْكُور وَالَّذِي يظْهر من عبارَة صَاحب الصِّحَاح أَنَّهَا اسْم للبقر الَّتِي يعلق عَلَيْهَا السّلع للاستمطار لَا صفة مَحْضَة حَيْثُ قَالَ وَمِنْه المسلعة إِلَى آخِره وَلم يقل وَمِنْه الْبَقر المسلعة وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي نقلا عَن أَئِمَّة اللُّغَة أَن المسلعة ثيران وَحش علق فِيهَا السّلع وَحِينَئِذٍ فَلَا تجْرِي على مَوْصُوف كَمَا أَن لفظ الركب اسْم لركبان الْإِبِل مُشْتَقّ من الرّكُوب وَلم يسْتَعْمل جَارِيا على مَوْصُوف فَلَا يُقَال جَاءَ رجال ركب بل جَاءَ ركب الثَّامِن أَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي كتب اللُّغَة أَن الذريعة بِمَعْنى الْوَسِيلَة لَا غير وَأَن الْوَسِيلَة مستعملة فِي التَّعْدِيَة بإلى فاستعمال الذريعة هُنَا بِدُونِ إِلَى مَعَ لَفْظَة بَين مُخَالف لوضعها واستعمالها الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَأما اللَّام فِي لَك فَإِنَّهَا للاختصاص فَلَا دخل لَهَا فِي التَّعْدِيَة كَمَا يُقَال اجْعَل هَذَا الْكتاب تحفة لَك التَّاسِع قَوْله بَين الله والمطر لَا معنى لَهُ وَالصَّوَاب بَيْنك وَبَين الله لأجل الْمَطَر وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يشعلون النيرَان فِي السّلع وَالْعشر الْمُعَلقَة على الثيران ليرحمها الله تَعَالَى وَينزل الْمَطَر لإطفاء النَّار عَنْهَا كَمَا تقدم وَالله أعلم أَقُول لَا يخفى أَن مَا استخرجه لَا يُسمى أغلبة أغاليط فأجل فكرك فِيمَا هُنَالك تصب المحز والسلع بِفتْحَتَيْنِ وَالْعشر بضمة ففتحة ضَرْبَان من الشّجر كَانَت الْعَرَب إِذا أَرَادوا الاسْتِسْقَاء فِي سنة الجدب عقدوها فِي أَذْنَاب الْبَقر وَبَين عراقيبها وأطلقوا فِيهَا النَّار وصعدوا بهَا الْجبَال وَرفعُوا أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ وَهَذِه النَّار أحد نيران الْعَرَب وَهِي أَرْبَعَة عشر نَار الْمزْدَلِفَة توقد حَتَّى يَرَاهَا من دفع من عَرَفَة وأوّل من أوقدها قصي بن كلاب وَهَذِه ونار التَّحَالُف لَا يعقدون الْحلف إِلَّا عَلَيْهَا يطرحون فِيهَا الْملك والكبريت فَإِذا استشاطت قَالُوا هَذِه النَّار قد تهددتك ونار الْغدر كَانُوا إِذا غدر الرجل بجاره أوقدوا لَهُ نَارا بمنى أَيَّام الْحَج ثمَّ صاحوا هَذِه غدرة فلَان فيفتضح الغادر دنيا وَأُخْرَى فينصب لَهُ لِوَاء يَوْم الْمَحْشَر وينادى عَلَيْهِ على رُؤُوس الأشهاد هَذِه غدرة فلَان بن فلَان ثمَّ يلقى فِي النَّار ونار السَّلامَة توقد للقادم من سَفَره سالما غانماً ونار الزائر وَالْمُسَافر وَذَلِكَ أَنهم(2/383)
إِذا لم يُحِبُّوا الزائر وَلَا الْمُسَافِر أَن يرجعا أوقدوا خَلفه نَارا وَقَالُوا أبعده الله وأسحقه ونار الْحَرْب وَتسَمى نَار الأهبة يوقدونها على يفاع إعلاماً لمن بعد مِنْهُم ونار الصَّيْد يوقدونها للظباء لتعشى أَبْصَارهم ونار الْأسد يوقدونها إِذا خافوه لِأَنَّهُ إِذا رَآهَا حدّق إِلَيْهَا وتأملها ونار السَّلِيم توقد للملدوغ إِذا سهر والمجروح إِذا نزف وَمن الْكَلْب الْكَلْب يوقدونها حَتَّى لَا يَنَامُوا ونار الْفِدَاء كَانَت مُلُوكهمْ إِذا سبوا قَبيلَة وَطلب مِنْهَا الْفِدَاء كَرهُوا أَن يعرضُوا النِّسَاء نَهَارا لِئَلَّا يفتضحن ونار الوسم الَّتِي يسمون بهَا الْإِبِل لتعرف إبل الْمُلُوك فَترد المَاء أَولا ونار الْقرى وَهِي أعظم النيرَان ونار الحرمز وَهِي النَّار الَّتِي أطفأها الله لخَالِد بن سِنَان الْعَبْسِي احتفروا لَهُ بِئْرا ثمَّ أَدخل فِيهَا وَالنَّاس يرونه ثمَّ اقتحمها وَخرج مِنْهَا انْتهى عوداً إِلَى مَا نَحن بصدده وللعمادي من لطائف الْأَشْعَار مَا رقّ وراق فَمن ذَلِك قَوْله فِي الْغَزل
(أكفكف دمع الْعين خوفًا وأكتم ... عَن النَّاس والمخفي فِي الْقلب أعظم)
(وهبني كتمت الدمع عَنْهُم تجلداً ... على حر نَار فِي الحشا تتضرم)
(أيخفى نحول الْجِسْم عَن عين نَاظر ... وَهل ذلة النَّفس العزيزة تكْتم)
(لقد شهد العدلان فِيمَا كتمته ... وهيهات أَن يخفى الْمُحب المتيم)
(كلفت ببدر مَا تجلى بِوَجْهِهِ ... لبدر الدجى إِلَّا انجلى وَهُوَ مظلم)
(وَيسْتر فِي أوراقه الْغُصْن خجله ... إِذا مَا بدا مِنْهُ قوام مقوّم)
(وَكم من وشَاة نازعوا فِي جماله ... فَلَمَّا تبدّى يخجل الشَّمْس سلمُوا)
(إِذا لَام يَوْمًا عاذلي فِيهِ أنني ... أَصمّ وَسمع اللوم عِنْدِي محرّم)
(وَقد كنت أَهْوى الْحسن فِي كل صُورَة ... فقنعني هَذَا الحبيب المعمم)
قَوْله فقنعني من القناعة وَفِيه إِيهَام الْمُقَابلَة بَين الْمقنع وَهُوَ المستور وَيخْتَص بِالنسَاء والمعمم وَيُقَال على الذكران من الحسان وَمن التعبيرات قَوْلهم فلَان على طَريقَة ابْن أَكْثَم من الْإِعْرَاض عَن الحبيب الْمقنع والميل إِلَى المعمم وَيحسن فِي هَذَا الْمحل قَول أبي الْعَلَاء المعري
(أفق إِنَّمَا الْبَدْر الْمقنع رَأسه ... ضلال وبغي مثل بدر الْمقنع)
وَوَقع فِي شعر ابْن سناء الْملك
(رويداً فَمَا بدر الْمقنع طالعاً ... بأفتك من ألحاظي بَدْرِي المعمم)
وَكِلَاهُمَا إِشَارَة إِلَى بدر وأظهره رجل سحار فِي بِلَاد الشرق واسْمه عَطاء الْخُرَاسَانِي(2/384)
وَجعله دَلِيلا على ربوبيته وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْمقنع لِأَنَّهُ كَانَ يقنع رَأسه لِأَنَّهُ كَانَ قَبِيح الْوَجْه جدّاً وَكَانَ من خَبره أَنه كَانَ أوّل أمره قصاراً من أهل مرو وَكَانَ يعرف شَيْئا من السحر والنيرنجيات فادّعى الربوبية من طَرِيق المناسخة وَقَالَ لأشياعه أَن الله تَعَالَى تحوّل إِلَى صُورَة آدم فَلذَلِك قَالَ للْمَلَائكَة اسجدوا لَهُ فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس فَاسْتحقَّ بذلك السخط ثمَّ تحول من صُورَة آدم إِلَى صُورَة نوح وَهَكَذَا إِلَى صور الْأَنْبِيَاء والحكماء حَتَّى حصل فِي صُورَة أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي ثمَّ زعم أَنه انْتقل إِلَيْهِ فَقبل قوم دَعْوَاهُ وعبدوه وقاتلوا دونه مَعَ مَا عاينوا من عَظِيم ادعائه وقبح صورته لِأَنَّهُ كَانَ مُشَوه الْخلق أَعور لَكِن إِنَّمَا غلب على عُقُولهمْ بالتمويهات الَّتِي أظهرها لَهُم بِالسحرِ والنيرنجيات وَكَانَ فِي جملَة مَا أظهر لَهُم صُورَة بدر يطلع فيراه النَّاس من مَسَافَة شَهْرَيْن من مَوْضِعه ثمَّ يغيب فَعظم اعْتِقَادهم فِيهِ وَلما اشْتهر أمره ثار عَلَيْهِ النَّاس وقصدوه فِي قلعته الَّتِي كَانَ قد اعْتصمَ بهَا وحصروه فَلَمَّا أَيقَن بِالْهَلَاكِ جمع نِسَاءَهُ وسقاهن سما فمتن مِنْهُ ثمَّ تنَاول شربة من ذَلِك السم فَمَاتَ وَدخل الْمُسلمُونَ فَقتلُوا من فِيهَا من أشياعه وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة انْتهى وللعمادي
(صب تحكم فِي حشاه وَجَسَده ... إِن جَار متلفه عَلَيْهِ فعبده)
(يَا من جَفا جفني لذيذ مَنَامه ... لما تصدّى لي جفاه وصدّه)
(أستعذب التعذيب فِيك وكل مَا ... ترضاه لي وَلَو أَن روحي ضدّه)
(أَحْبَبْت تسهيدي فرحت أحبه ... وَأَرَدْت إتلافي فلست أردّه)
(وجفوتني فجفوت نَفسِي رَاضِيا ... لَا يَنْبَغِي من لَا تودّ أودّه)
وَهَذِه الأبيات أجراها على أسلوب أَبْيَات أبي الشيص الْمَشْهُورَة وَهِي
(وقف الْهوى بِي حَيْثُ أَنْت فَلَيْسَ لي ... مُتَأَخّر عَنهُ وَلَا متقدّم)
(أجد الْمَلَامَة فِي هَوَاك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم)
(أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إِذا كَانَ حظي مِنْك حظي مِنْهُم)
(وأهنتني فأهنت نَفسِي صاغراً ... مَا من يهون عَلَيْك مِمَّن يكرم)
وَمن مقطوعاته قَوْله مضمناً قَول أبي تَمام
(واوات أصداغه للْعَطْف بالأرب ... وَسيف ألحاظه ينبي عَن العطب)
(وَالنَّفس بَينهمَا حارت فَقلت لَهَا ... السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب)
وَمن لطائفه قَوْله فِي مدح آل الْبَيْت وَبَيت الصّديق(2/385)
(صَحَّ عِنْدِي فِي بَيت آل حَبِيبِي ... ثمَّ آل الصدّيق قَول حبيب)
(كل شعب حلوا بِهِ حَيْثُ كَانُوا ... فَهُوَ شعبي وَشعب كل أديب)
(أنّ قلبِي لَهُم لكالكبد الحرّا ... وقلبي لغَيرهم كالقلوب)
والبيتان الأخيران لأبي تَمام فِي مدح سُلَيْمَان وأخيه الْحسن ابْني وهب لَكِن تصرف فيهمَا بعض تصرف وَالَّذِي حمله على تضمينهما مَا قَالَه ابْن خلكان عَن بعض الأفاضل أَنه لما سمع هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَ لَو كَانَا فِي آل رَسُول الله
كَانَ أليق فَمَا يسْتَحق ذَلِك القَوْل إِلَّا هم وَله فِي الْغَزل وَهُوَ حسن
(أضحى هلالاً مذ تعذر بدرنا ... ثمَّ التحى فمحا الْهلَال محاق)
(عهدي بلام الخد خطا فانثنت ... وَلها بجملة وَجهه استغراق)
وَله
(لَا تعذلوني فِي غرامي بِهِ ... وَفِي سقامي من تجافيه)
(فإنني من مُنْذُ أبصرته ... علمت أَنِّي ميت فِيهِ)
وَكتب إِلَيْهِ الأديب مُحَمَّد بن محيي الدّين الْحَادِي الصَّيْدَاوِيُّ قصيدة من نظمه أَرَادَ مُرَاجعَته بهَا فوصلته وَهُوَ مَرِيض فَكتب إِلَيْهِ
(قد أَتَانِي مِنْك القريض وفكري ... من مدى السقم فِي الطَّوِيل العريض)
(وَأَرَدْت الْجَواب بالنظم فِي الْحَال ... فحال الجريض دون القريض)
الجريض الغصة من الجرض وَهُوَ الرِّيق يغص بِهِ والقريض الشّعْر وَحَال الجريض مثل قَالَه شوشن الْكلابِي حِين مَنعه أَبوهُ من الشّعْر فَمَرض حزنا حَتَّى أشرف على الْهَلَاك فَأذن لَهُ أَبوهُ فِي قَول الشّعْر فَقَالَ هَذَا القَوْل وَكتب إِلَى البوريني وَكَانَ أَعَارَهُ مجموعاً
(مولَايَ مجموعاي عنْدك دَائِما ... فاحفظهما وَلَك الْبَقَاء السرمد)
(فاقر الَّذِي لَا يَسْتَطِيع تجلداً ... بتعطف واقرا الَّذِي يتجلد)
فَكتب إِلَيْهِ
(الْقلب مني لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي ... أبوابكم ملقى وربي يشْهد)
(مجموعكم مولَايَ عِنْدِي لم يزل ... وسط الْفُؤَاد بِعَين قلبِي يشْهد)
وَله غير ذَلِك وَذكره البوريني فِي تَارِيخه وَلم يوفه حَقه وَذكره وَالِدي فَأطَال فِي تَرْجَمته وأطاب كَيفَ وَهُوَ أحد مشايخه الَّذين افتخر بهم وتميز بالانتماء إِلَيْهِم وَقد تمثل فِي حَقه بقول بعض الأدباء(2/386)
(أَصبَحت من بَيت الْعِمَاد بجلق ... أروي رِوَايَات الثنا الْمَشْهُور)
... فلقاه فِيهَا نَافِع وحماه فِيهَا عَاصِم (ونوا لَهُ ابْن كثير ... )
هَذَانِ من المؤرخين وَأما أَرْبَاب الإنشاد فقد ذكره مِنْهُم الخفاجي فِي كِتَابيه وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَمَا أحسن مَا تمثل فِي حَقه بقول الشهَاب المنصوري
(أَرَأَيْتُم فِي النَّاس ذَات لطيف ... تشرح الصَّدْر مثل ذَات الْعِمَاد)
(حسبها من لطافة أَنَّهَا لم ... يخلق الله مثلهَا فِي الْبِلَاد)
وَذكره عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه والبديعي فِي ذكرى حبيب وَعبارَته فِي حَقه هَذِه مفتي الديار الشامية وَصَاحب الإفادة بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية سيداً استعبد الْمجد وَالنَّاس من ذَلِك أَحْرَار وَظَهَرت فِي الْخَافِقين فضائله كَمَا ظهر النَّهَار جبلت رَاحَته على الإنعام كَمَا جبل اللِّسَان على الْكَلَام وَقد أنْفق عمره على اجتلاء فرائد التَّفْسِير إِلَى أَن لحق بجوار ربه اللَّطِيف الْخَبِير وَقد أورث مجده أبناءه الَّذين إِذا دجت الخطوب فأراعم كَالنُّجُومِ العوائم
(ثَلَاثَة أَرْكَان وَمَا انهد سودد ... إِذا اثبتت فِيهِ ثَلَاث دعائم)
ثمَّ أورد بعض أشعار ومنشآت لَهُ من جُمْلَتهَا أبياته الْمَشْهُورَة الَّتِي مستهلها
(سأطمس آثَار هواي أثارها ... وأنفض من ذيل الْفُؤَاد غبارها)
(لقد آن صحوي من سلاف صبَابَة ... فقد طالما خامرت جهلا خمارها)
(هجرت الْهوى والزهو حَتَّى اشتياقه ... وَطيب لَيَال اللَّهْو حَتَّى ادّكارها)
(وعفيت سبل الْهزْل بالجدّ مقلعاً ... وعفت مسرّات جنيت ثمارها)
(أثام كفيت الْيَوْم بِالتّرْكِ شرّها ... لعَلي غَدا فِي الْحَشْر أكفى شِرَارهَا)
(قطفت أزاهير الصبابة فِي الصِّبَا ... وَقد صَار عاراً أَن أَشمّ عرارها)
(فَلَو صائدات الْقلب أقبلن كالمها ... وقبلن رَأْسِي مَا قبلت مزارها)
(وَقد كنت أودعت الحجا فاستردّه ... إِلَى النَّفس شيب قد أعَاد وقارها)
(وَكَانَ شَبَابِي شب نَار صبابتي ... فمذ لَاحَ نور الشيب أخمد نارها)
(ترى شيبتي مَا عذرها لشبيتي ... وَقد سبقت قبل الْكَمَال عذارها)
(تَبَسم ثغر الشّعْر فِيهَا تَعَجبا ... لَهَا إِذْ رأى ليل السبال نَهَارهَا)
(فَمَا زار وكر الشّعْر فِيهَا غرابة ... وَلَا دَار حَتَّى استوطن الباز دارها)
(عَسى الْآن عَمَّا قد عثرت إنابة ... يقيل بهَا للنَّفس رَبِّي عثارها)(2/387)
(عَسى رَحْمَة أَو نظرة أَو عناية ... يتم سعودي فِي صعودي منارها)
(عَسى نفحة من نور نور معارف ... تهب فتختار الْفُؤَاد قَرَارهَا)
(ويشرح صَدْرِي نور علم مقدس ... يريني أسرار الْعُلُوم جهارها)
(وأمنح ألطافاً من الْأنس أَبْتَغِي ... خفاها ويأبى الوجد إِلَّا اشتهارها)
(ويكشف عَن عَيْني البصيرة حجبها ... بأنوار عرفان تزيح استتارها)
(فَيظْهر لي سر الْحَقِيقَة مشرقاً ... على ظلم الْكَوْن الَّتِي قد أنارها)
(فأحظى بحالات من الْقرب أَبْتَغِي ... بدنيا وَأُخْرَى فَضلهَا وفخارها)
(ولطف إلهي قطب دَائِرَة المنى ... فَإِن عَلَيْهِ فِي الْعَطاء مدارها)
وَلما طعن فِي السنّ ورقى درج السّبْعين نظم هَذِه الأبيات وَهِي متداولة فِي أَيدي النَّاس وَهِي
(قد شَاب فودي حِين ثاب فُؤَادِي ... فَكَأَنَّمَا كَانَا على ميعاد)
(حسن الْخَوَاتِم أرتجي من محسن ... قد منّ لي قدماً بِحسن ميادي)
(وعمادي التَّوْحِيد فَهُوَ وسيلتي ... فِي نيل مَا أرجوه عِنْد معادي)
(أَن قيل أيّ سفينة تجْرِي بِلَا ... مَاء وَلَيْسَ لأَهْلهَا من زَاد)
(قل رَحْمَة الرَّحْمَن من أَنا عَبده ... تسع الْعباد فَمن هُوَ ابْن عماد)
وأشعاره كَثِيرَة جدا وشهرتها كَافِيَة عَن الإطناب بذكرها وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد سَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَدفن إِلَى جَانب وَالِده بمقبرة بَاب الصَّغِير وَأَخْبرنِي بعض من أَثِق بِهِ أَنه لَيْلَة وَفَاته كَانَ ماراً على دَاره فَرَأى يقظة كوكبا من السَّمَاء كَبِيرا انقض من الْأُفق وَهوى إِلَى سطح دَار الْعِمَادِيّ فَلم يمض إِلَّا والصياح قد قَامَ وشاع مَوته ورؤيت لَهُ منامات صَالِحَة بعد مَوته وَاتفقَ لَهُ أَنه وقف فِي آخر درس من دروسه التفسيرية فِي الْمدرسَة السليمانية على قَوْله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَكَانَ اتّفق لَهُ وَهُوَ يقْرَأ على الشَّمْس بن المنقار فِي تَفْسِير الْكَشَّاف أَنه وقف على قَوْله تَعَالَى {إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} ورثاه جمَاعَة من كبراء شعراء عصره مِنْهُم أَحْمد بن شاهين ومطلع مرثيته
(خلت الديار فَلَا أنيس داني ... وتضعضعت بتضعضع الْأَركان)
(ووهى عماد علومها وحلومها ... وَهوى بِنَا أَرْكَانهَا لهوان)
( ... )
( ... )(2/388)
(وغدت دمشق وليدة مسنامة ... للمفلسين بأبخس الْأَثْمَان)
(وتبدّلت مِنْهَا المحاسن فاغتدت ... ثَكْلَى تعط الجيب للأردان)
(أثرت حَقًا يَا زمَان بجلق ... وسلبتها إِحْسَان ذِي إِحْسَان)
(ومحوت أنس سرورها فتبدّلت ... جَهرا بظلمة وَحْشَة الأحزان)
(يَا موحشاً أهل الْحَيَاة بفقده ... آنست فِي الْمَوْتَى حمى رضوَان)
(يَا رَاقِدًا ثقل الرقاد بجفنه ... أنعم عليّ بيقظة الْوَسْنَان)
(يَا مفتياً طَال السُّؤَال لقبره ... وَجَوَابه مُتَعَذر الْإِمْكَان)
(هلا أجبْت سؤالنا ولطالما ... كنت الْمُجيب لنا عَن الْقُرْآن)
(أَواه والهفاً لأعظم طَارق ... وافى فأدهشنا من الْحدثَان)
(فلك هوى مَا كَانَ أحراه بِأَن ... يبْقى وتهوى قبتا كيوان)
(شمس بِنور الْعلم ضاءت بُرْهَة ... فكست نُجُوم الأَرْض باللمعان)
مِنْهَا
(كَيفَ اسْتَوَى الْبَحْر الخضم بحفرة ... أم كَيفَ حل الْكَنْز فِي هميان)
(يَا عبد رَحْمَن السَّمَوَات العلى ... أبشر برحمة رَبك الرَّحْمَن)
وَهِي طَوِيلَة وَفِيمَا أوردناه مِنْهَا غنية
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الشهير بسقاف الإِمَام الْجَلِيل قطب الْمُحَقِّقين قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن على الشَّيْخ الأديب الْمعلم عمر بن عبد الله الْخَطِيب وجوّده وَأخذ علم القراآت الْعشْر إفراداً وجمعاً على الْمقري الْكَبِير الشَّيْخ مُحَمَّد بن حكم باقشير وَأخذ عَن القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وجدّه شيخ الْإِسْلَام عبد الله بن شيخ العيدروس وَعَمه إِمَام العارفين عَليّ زين العابدين وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل با فضل وَغَيرهم واعتنى بِفُرُوع الْفِقْه وأصوله وبرع فِي مَفْهُومه ومنقوله وَحفظ الْإِرْشَاد ولاحظته الْعِنَايَة بالإسعاد والإمداد وبرع فِي الْعُلُوم شرعيها وعقليها وعربيها وخاض فِي بحار عُلُوم الصُّوفِيَّة قيل كَانَ يعلم علما متقناً أَرْبَعَة عشر فَنًّا وَأذن لَهُ غير وَاحِد من مشايخه فِي التدريس فدرس وَتخرج بِهِ كَثِيرُونَ وَلما توفّي عَمه إِمَام العارفين الشَّيْخ عَليّ زين العابدين قَامَ بمنصبهم أتمّ قيام وسلك مَسْلَك آبَائِهِ الْكِرَام ثمَّ جلس مجْلِس عَمه للتدريس الْعَام وَاسْتقر فِي ذرْوَة المنصب حَيْثُ يمتطى السنام وَكَانَ يجلس كل يَوْم من أول النَّهَار إِلَى آخر الضُّحَى(2/389)
الْأَعْلَى وَالنَّاس يَغْدُونَ عَلَيْهِ ويردون من فَضله الغل والنهل وَحضر هَذَا الدَّرْس عُلَمَاء أَعْلَام ومشايخ إِسْلَام قَالَ الشلي وحضرته مَرَّات ودعا لي بدعوات وَكَانَت عباداته أَكْثَرهَا قلبية وَكَانَ ملازماً لقِيَام الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل هُوَ وَالْإِمَام الشَّيْخ مُحَمَّد باعيشة يقرآن الْقُرْآن كل ختمة لشيخ من الْقُرَّاء السَّبْعَة وَيسْتَعْمل السّنة فِي مدخله ومخرجه بل فِي جَمِيع أُمُوره وَألبسهُ الله رِدَاء جميلاً وكل من رَآهُ انْتفع بِرُؤْيَتِهِ قبل كَلَام يتَكَلَّم بِهِ وَإِذا تكلم كَانَ الْبَهَاء والنور على أَلْفَاظه قَالَ بعض عُلَمَاء وقته لقد طفت كثيرا من الْبِلَاد وَرَأَيْت الْأَئِمَّة والزهاد فَمَا رَأَيْت أكمل مِنْهُ نعتاً وَلَا أحسن وَصفا وَبِالْجُمْلَةِ فأقواله مفيدة وأفعاله حميدة وَإِذا كَانَ أَعْيَان زَمَانه قصيدة فَهُوَ بَيتهَا وَإِن انتظموا عقدا كَانَ هُوَ واسطته وَمَعَ تبحره فِي الْعُلُوم العديدة لم يسمع أَنه ألف رِسَالَة وَلَا نظم شعرًا وَلَا قصيدة وَلم يزل يترقى فِي المقامات وَالْأَحْوَال حَتَّى نَالَ غَايَة الآمال وَدعَاهُ دَاعِي الِانْتِقَال وَكَانَ انْتِقَاله فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وفيهَا مَاتَ جمَاعَة من أهل الْأَحْوَال فَلِذَا أرخها بَعضهم بقوله غَابَ الْوُجُود وَدفن بقبة جده وقبره مَشْهُور عِنْد النَّاس وَمن استجار بِهِ أَمن من كل باس رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد كَمَال الدّين بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحُسَيْنِي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب وَقد تقدم تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة عَمه السَّيِّد حُسَيْن وَكَانَ السَّيِّد الْمَذْكُور نادرة وقته فِي الْفضل وَالْأَدب والذكاء وجودة القريحة وَحسن التخيل وَكَانَ مطلعاً على اللُّغَة وَالشعر وأنواعه الِاطِّلَاع التَّام وفضله أشهر من أَن ينوّه بِهِ أَو ينيبه عَلَيْهِ تخرج بوالده وَغَيره من فضلاء الْعَصْر حَتَّى برع وأتقن فنوناً ثمَّ تعانى الْإِنْشَاء ونظم الشّعْر فِي طَلِيعَة عمره فَأحْسن فيهمَا كل الْإِحْسَان وَضرب فيهمَا بالقدح الْمُعَلَّى وَكَانَ يتخيل التخيلات الْبَعِيدَة البديعة فِي التشابيه العجيبة والنكات المتقنة والمعميات العويصة وَكَلَامه كَمَا ترَاهُ يجمع بَين الجزالة وَحسن التَّرْكِيب فِي لطائف الصَّنْعَة وتملك رق الإتقان والإبداع ويعرب عَمَّا وَرَاءه من أدب كثير وَحفظ غزير وقريحة غير قريحة وطبع غير طبع وَقد وقفت لَهُ على أَشْيَاء يحْسد الأول الْأَخير عَلَيْهَا فَمن ذَلِك رقْعَة بِخَطِّهِ كتبهَا إِلَى صاحبنا المرحوم زين الدّين بن أَحْمد البصراوي يستدعيه وَيطْلب مِنْهُ رَيْحَانَة الشهَاب يَقُول فِيهَا
(يَا أديباً يُبْدِي من الْأَدَب الغض ... رياضاً موشية الديباج)(2/390)
(قد نمتها سحب الحيا وسقاها الطل ... قبل الصَّباح وعذب المزاج)
(إنّ فصل الرّبيع وافى بورد ... مُنْذُ أضحت نفوسنا فِي ابتهاج)
(ولغض الريحان مَعَ يَانِع الْورْد ... ازدواج فِي قُوَّة الامتزاج)
(فتفتضل مَعَ الرَّسُول إِذا شِئْت ... بريحانة الشهَاب الخفاجي)
هَذَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا تَعْلِيق مَا يَقع عَلَيْهِ الِاخْتِيَار مِمَّا يصلح لحاجتي من بَدَائِع الْأَشْعَار والكف عَن التَّطْوِيل بِمَا لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل وَقد اتّفق لي بالصالحية من يوميات ربيعية من بَاب تجريب الخاطر وَهِي
(بكر الرَّوْض بالنسيم الواني ... وتجلى الرّبيع فِي ألوان)
(وأملت حمائم الدوح ألحاناً ... أمالت معاطف الأغصان)
(وبدا الْورْد فِي خدود دوَام ... للعذارى من القطوف الدواني)
(وانجلى الصُّبْح عَن مواليد مزن ... أودعتها ضمائر الأفنان)
(مَا ألذ الرّبيع فِي زمن الْورْد ... وَأحلى الشَّبَاب فِي العنفوان)
وَقلت فِي أَيَّام الرّبيع
(حبانا لذيذ الْعَيْش آذار واغتدت ... أزاهره تهدي لنا الطّيب والعرفا)
(ووافت بواكير الرّبيع بجدة ... تزف عروس الرَّوْض من خدرها زفا)
(وهب النسيم اللدن من جَانب الربى ... يلين لَهَا عطفا ويسألها عطفا)
(إِذا ضمهَا عرف الكمائم ضمخت ... صباه وسامته معاطفها اللطفا)
(محبان فِي وسط الرياض تألفا ... أجنت لَهُ سرّ الغرام بِمَا أخْفى)
(وجمشها حَتَّى زها شمس نورها ... فعبس وَجه النَّهر واختطف الشنفا)
وأحدث الخاطر معمى فِي اسْم مُحَمَّد وَهُوَ
(رب ظَبْي مقرطق قد تبدّى ... خلت بَدْرًا من فَوْقه قد تلالا)
(لَاحَ فِي الثغر جَوْهَر من ثناياه ... فأبدى فِي الخدّ خالا بِلَالًا)
وَقلت بعده فِي هانىء
(حِين بَان الخليط وازداد وجدي ... قلت والدمع فِي الخدود يسيل)
(يَا رَسُولي إِلَيْهِ روحي خُذْهَا ... منجداً إثره بهَا يَا رَسُول)
وَقلت بعده فِي سُلَيْمَان
(لقد سقاني الحبيب كأساً ... لم أرو مِنْهَا ورمت أُخْرَى)(2/391)
(فَقَالَ خُذ مَا بَقِي بكاسي ... سؤراً وَأحسن بِذَاكَ سؤرا)
(فَعِنْدَ مَا جادلي بِمَا فِي ... أَوَاخِر الكاس مت سكرا)
هَذَا مَا قرأته بِخَطِّهِ وَمن معمياته العويصة قَوْله فِي سليم وعَلى مَعَ اخْتِلَاف الْأَعْمَال
(وَرْقَاء قلبِي قد أضحت مرفرفة ... على قوامك يَا من طرفه عجمي)
(وَأَنَّهَا هَبَطت مِنْهُ على غُصْن ... فغض طرفك وارسله إِلَى الْقدَم)
أرادها من أَنَّهَا بِعَمَل التَّحْلِيل وَهِي بِسِتَّة وبالعجمية شش فَإِذا هَبَطت صَارَت سينا والغصن الْألف وَهِي يَك وَلها اللَّام بِالْعدَدِ الحسابي من أبجد وغض مرادفه كف وَهِي بِمِائَة فَإِذا هَبَطت لَهَا الْيَاء وَالْمِيم من الْغَايَة وَأما طَريقَة اسْتِخْرَاج على فَإِنَّهُ أَرَادَ قلت وَقد أَكثر فِي أشعاره من المعميات وَكَانَ شَدِيد الاعتناء بِهَذَا النَّوْع جدا وَهَذَا من الْأَنْوَاع اللطيفة المسلك وَقد أدرجه بعض الْمُتَأَخِّرين فِي فنون البديع وعدّه من المحسنات وَاعْترض بِأَن مُلَاحظَة المحسن إِنَّمَا هِيَ بعد رِعَايَة الفصاحة البلاغة والبلاغة مَشْرُوطَة بِعَدَمِ التعقيد لفظا وَمعنى وَكِلَاهُمَا وجود فِي المعمى فَهُوَ خَارج عَنهُ وَقد يُجَاب بِأَن محققي هَذَا الْفَنّ شرطُوا لصِحَّته وجود الْمَعْنى الشعري فِيهِ وَإِذا لم يكن مَوْجُودا فَلَيْسَ بمعتد بِهِ فَعَلَيهِ يكون دَاخِلا فِي المحسنات قطعا وَإِن كَانَ بعض مُتَقَدِّمي علمائه لم يشْتَرط ذَلِك لصِحَّته وَهُوَ مِمَّا لَا اعْتِدَاد بِهِ وَمن غَرِيب مَا وَقع لي مَعَ بعض أدباء الرّوم وَقد ذكر المعمى فَقَالَ أَبنَاء الْعَرَب لَا يعْرفُونَ المعمى فأوردت لَهُ أَشْيَاء مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فاعترف بِأَن الْمُتَأَخِّرين مَشوا على نهج الْأَعَاجِم والأروام فِيهِ لِكَثْرَة اختلاطهم بهم وَأما المتقدمون فَلَا يعرفونه فأخرجت لَهُ دفتراً من جمعياتي نقلت فِيهِ عَن ابْن قُتَيْبَة اللّغَوِيّ قَالَ إِن هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة وَهِي الأحاجي واللغز والمعميات من خَصَائِص الْعَرَب وكل من نظم فِيهَا من أَبنَاء فَارس وَأَبْنَاء الرّوم إِنَّمَا أَخذ ذَلِك عَنْهُم وتطفل على موائدهم وَانْظُر إِلَى تَسْمِيَة هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة هَل هِيَ عَرَبِيَّة أَو فارسية فالمعمى من التعمية وَهِي التغطية والأحجية من الحجا وَهُوَ الْعقل كَأَنَّهُ يختبر فِيهَا الْعقل واللغز الْإخْفَاء انْتهى مَا قَالَه وَلَكِن مَعَ هَذَا فَالْحق أَحَق أَن يتبع أَن تطفل الْفرس وَالروم وعَلى الْعَرَب فِي هَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَ وَاقعا لكِنهمْ لجودة أفكارهم تصرّفوا فِيهِ تصرّف الْملاك فاستحقوا أَن يوصفوا بالتفرد بِهِ وَلَقَد وقفت فِي الرّوم على رِسَالَة للسَّيِّد شرِيف(2/392)
فِي المعمى ذكر فِيهَا أَنه صنع بَيْتا وَاحِدًا يخرج مِنْهُ ألف اسْم بطرِيق التعمية مَعَ الْتِزَام تعدّد الْإِيهَام فِي كل اسْم وَهَذِه الْأَنْوَاع وَإِن انْفَرد كل وَاحِد مِنْهَا بأسلوب يَخُصُّهُ إِلَّا أَنَّهَا ترجع إِلَى أصل وَاحِد هُوَ إبراز الْكَلَام على خلاف مُقْتَضى الْعبارَة فالأحجية أَن يُؤْتى بِلَفْظ مركب وَيطْلب مَعْنَاهُ من تَحْلِيل لفظ مُفْرد كَقَوْلِك هدهداي ارْجع ارْجع وَأما المعمى فَهُوَ قَول يسْتَخْرج مِنْهُ كلمة فَأكْثر بطرِيق الرَّمْز والإيماء بِحَيْثُ يقبله الذَّوْق السَّلِيم واللغز مثله إِلَّا أَنه يَجِيء على طَريقَة السُّؤَال وَالْفرق بَينه وَبَين المعمى أَن الْكَلَام إِذا دلّ على ذَات شَيْء من الْأَشْيَاء بِذكر صِفَات لَهُ تميزه عَمَّا عداهُ كَانَ ذَلِك لغزاً وَإِذا دلّ على اسْم خَاص بملاحظة كَونه لفظا بِدلَالَة مرموزه سمى ذَلِك معمى فَالْكَلَام الدَّال على بعض الْأَسْمَاء يكون معمى من حَيْثُ أَن مَدْلُوله ذَات من الذوات لَا بملاحظة أوصافها فعلى هَذَا يكون قَول الْقَائِل فِي اسْم كَون
(يَا أَيهَا الْعَطَّار أعرب لنا ... عَن اسْم شَيْء قل فِي سومك)
(تنظره بِالْعينِ فِي يقظة ... كَمَا ترى بِالْقَلْبِ فِي نومك)
صَالحا لِأَن يكون فِي اصطلاحهم معمى بِاعْتِبَار دلَالَته على اسْم بطرِيق الرَّمْز وَمثل ذَلِك كثير فِي أشعار الْعَرَب فَلَا حَاجَة إِلَى تَكْثِير الْأَمْثِلَة وَاعْلَم أَن أَرْبَاب المعمى لم يشترطوا فِي اسْتِخْرَاج الْكَلِمَة بطرِيق التعمية حُصُولهَا بحركاتها وسكناتها بل يَكْفِي حُصُول حُرُوف الْكَلِمَة من غير مُلَاحظَة هيئتها الْخَاصَّة فَإِن وَقع التَّعَرُّض للحركات والسكنات أَيْضا كَانَ ذَلِك من المحسنات ويسمون هَذَا عملا تذييلياً وَقد خرجنَا عَن الصدد الَّذِي نَحن فِيهِ فلعلك لَا تسأم وقرأت بِخَط بعض الأدباء نَاقِلا عَن خطّ السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ أنْشد الْعَلامَة نَسِيج وحدة المرحوم الشَّيْخ أَحْمد الْمقري المغربي فِي كِتَابه أزهار الرياض فِي أَخْبَار عِيَاض فِي جملَة مَا أوردهُ من شعر ابْن زمرك الأندلسي من كتاب ذكر أَنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الْأَحْمَر وَهُوَ حفيد ابْن الْأَحْمَر المخلوع سُلْطَان الأندلس الَّذِي كتب إِلَيْهِ ابْن زمرك بعد ابْن الْخَطِيب قَالَ وَهُوَ سفر ضخم سَمَّاهُ بالبقية والمدرك من شعر ابْن زمرك لَيْسَ فِيهِ إِلَّا نظمه فَقَط فَقَالَ وَمن وَصفه فِي زهر القرنفل الصعب الاجتناء بجبل الْفَتْح وَقد وَقع لَهُ مَوْلَانَا المستعين بِاللَّه بذلك فارتجل قطعا مِنْهَا
(أَتَوْنِي بنوّار يروق نضاره ... كخدّ الَّذِي أَهْوى وَطيب تنفسه)
(وجاؤوا بِهِ من شَاهِق متمنع ... تمنع ذَاك الظبي فِي ظلّ مكنسه)(2/393)
(رعى الله مِنْهُ عَاشِقًا متقنعاً ... بزهر حكى فِي الْحسن خدّ مؤنسه)
(وَإِن هَب خفاق النسيم بنفحه ... حكت عرفه طيبا يَفِي بتأنسه)
قَالَ وَكنت من أَعمال الْفِكر فِي عدَّة تماثيل أصفه بهَا تكون من هَذَا الزهر على حَالَة تحْشر لَهَا النَّفس بتحريك نَازع الاقتدار وَتصرف عَنْهَا الخاطر كبارًا لِأَن أكون فاتح هَذَا الْبَاب من غير وَطْأَة ثَابِتَة فِي اسْمه ومنتهاه حَتَّى رَأَيْت فِي ذكر معزاه مَا ترى فَقلت فِيهِ عدّة مقاطيع مِنْهَا
(وجنّى من القرنفل يُبْدِي ... لَك عرفا من نشره بابتسام)
(فَوق سوق كَأَنَّهَا من أَبَارِيق ... الحميا مساكب للمدام)
(وسدت فَوْقهَا السقاة خدوداً ... داميات مِنْهَا مَكَان الْفِدَام)
وَمِنْهَا
(قُم بِنَا يَا نديم فالطير غرّد ... لمدام كؤوسه تتوقد)
(فلدينا قرنفل قد نماه ... جبل الْفَتْح نشره قد تصعد)
(بَين سوق عوج الرّقاب لطاف ... شَعرَات من لينها تتجعد)
وَمِنْهَا
(أهْدى لنا الرَّوْض من قرنفله ... عبير مسك لَدَيْهِ مغتوت)
(كَأَنَّمَا سوقه وَمَا حملت ... من حسن زهر بالطيب منعوت)
(صوالج من زبرجد خرطت ... لَهَا الغوادي كرات ياقوت)
وَمِنْهَا
(أرى زهر القرنفل قد جلته ... قدود ترجحن بِهِ قيام)
(أخال لَو أَنَّهَا أَعْنَاق طير ... نهضن بِهِ لَقلت هِيَ النعام)
(توقد زهرَة جمرا لدينا ... وَتلك لَهَا من الْجَمْر التقام)
وَمِنْهَا فِي الْأَبْيَض مِنْهُ من أَبْيَات
(مَا ترى ناصع القرنفل وافى ... بتحايا الشميم بَين الزهور)
(قضب من زبرجد حاملات ... قطعا فَككت من الكافور)
هَذَا مَا وجدته مَنْقُولًا عَنهُ وَرَأَيْت فِي شعر من تقدمه تَشْبِيه الْمُسْتَعْمل فَمن اسْتَعْملهُ من المدركين أَبُو مُفْلِح البيلوني الْحلَبِي فِي مَقْصُورَة لَهُ مُقَدّمَة التَّارِيخ حَيْثُ قَالَ
(قرنفل الرَّوْض شفَاه ضمهَا ... لعسا لكَي يلثم ناشقادنا)
وَاسْتعْمل قبله الْكَمَال مُحَمَّد بن أبي اللطف الْمَقْدِسِي الْمُتَوفَّى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف فِي قَوْله
(حكى القرنفل محمراً على قضب ... خضر لَهَا صَار بالتفضيل منعوتا)(2/394)
(كفا على معصم نقش بِهِ خضر ... غَدا لَهُ كَافِر العذال مبهوتا)
(أبدته خود وَقد ضمت أناملها ... كأساً تشعر لطفاً صِيغ ياقوتا)
وَالَّذِي حَاز فِي تشبيهه قصب السَّبق فِيمَا أعلم الشهَاب أَحْمد بن خلوف الأندلسي أحد الْمَشَاهِير المجيدين حَيْثُ قَالَ من قصيدة
(وللقرنفل راحات مخضبة ... على معاصم خضر فتْنَة الرَّائِي)
(كأنجم من عقيق فِي ذرى فلك ... من الزّجاج أرت أشطان لألاء)
وَكَانَ السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة لما أنشأ هَذِه المقاطيع الَّتِي تقدّمت اشْتهر أمرهَا فحذا حذوها فِي بَابهَا جمَاعَة من أدباء الشَّام ونظموا فِيهِ تشابيه متنوعة فَمنهمْ الْأَمِير المنجكي حَيْثُ قَالَ
(قرنفلنا العطري لونا كَأَنَّهُ ... رُؤُوس العذارى ضمخت بعبير)
(مداهن ياقوت بأعلا زبرجد ... لقد أحكمت صنعا بِأَمْر قدير)
وَمِنْهُم شَيخنَا الْمولى أَحْمد المهمنداري مفتي الشَّام أبقى الله وجوده حلية للفضائل والآداب حَيْثُ قَالَ
(قرنفل فِي الرياض هَيئته ... تحكي وَقد مدّ للسحاب يدا)
(فوّارة من زبرجد فتقت ... ففار مِنْهَا العقيق وانحمدا)
وَقَالَ أَيْضا
(هَذَا القرنفل قد بدا ... فِي لَونه القانيّ يحمد)
(فَكَانَ مرآه الأنيق لَدَى ... الرياض إِذا تنهد)
(قطع العقيق تناثرت ... فتخطفته يَد الزبرجد)
وَمِنْهُم شَيخنَا الْأُسْتَاذ الباهر الطَّرِيقَة عبد الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل النابلسي فِي قَوْله
(كَأَن قرنفلاً فِي الرَّوْض يسبى ... شذا رياه منتشق الأنوف)
(سواعد من زبرجد قائمات ... بِلَا بدن مخضبة الكفوف)
وَقَالَ أَيْضا
(قُم يَا نديمي لداعي اللَّهْو منشرحاً ... فقد ترنمت الورقاء فِي الْوَرق)
(وَانْظُر إِلَى حسن باقات القرنفل مَا ... بَين الربى نفحت كالمندل العبق)
(أطفا النسيم لهيباً من مشاعلها ... فِي ظلة الرَّوْض حَتَّى جمرهنّ بقى)
وَقَالَ
(بَين الحدائق أعطاف القرنفل فِي ... زهو برِيح الصِّبَا الزاكي وتمييل)
(مثل العرائس فِي خضر الملابس قد ... لاشت على وَجههَا حمر المناديل)
وَقَالَ فِي القرنفل الْأَبْيَض(2/395)
(هيا بِنَا فالطير صَاح مغرّدا ... مَا إِن يُقَاس لَدَى الورى بمغرّد)
(وَالرَّوْض مدّمن القرنفل للندى ... كاسات در فِي زنود زبرجد)
وَقَالَ فِي القرنفل المشرب بخمرة
(وزهر قرنفل فِي الرَّوْض يحْكى ... قُصُور دم على صفحات مَاء)
(رأى وجنات من أَهْوى فأغضى ... فَبَان بِوَجْهِهِ أثر الْحيَاء)
وَقد تطفلت على هَؤُلَاءِ السَّادة بِهَذَا الْمَقْطُوع فَقلت
(وافى القرنفل معجباً ... فِينَا بمنظره الأنيق)
(يُبْدِي زنود زبرجد ... حملت تروساً من عقيق)
وَهَذَا مَا وصل إليّ من التشابيه الَّتِي قيلت فِي القرنفل وَإِن ظَفرت بِشَيْء زَائِد يصلح للإلحاق ألحقته فِي الْهَامِش بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وإذنه وقرأت بِخَط السَّيِّد أَنه كَانَ أَصَابَهُ رمد فنظم فِيهِ قَوْله
(مذ رأى عَيْني وَقد رمدت ... لون خدّيه من الْأَلَم)
(رام يبكيها ورقّ لَهَا ... فاتقته من دم بِدَم)
قلت لقد أبدع فِي النَّقْل من قَول الْمَأْمُون لما طلب الدُّخُول على بوران بنت الْحسن ابْن سهل فدافعوه لعذر بهَا فَلم ينْدَفع فَلَمَّا زفت إِلَيْهِ وجدهَا حَائِضًا فَتَركهَا فَلَمَّا قعد للنَّاس من الْغَد دخل عَلَيْهِ أَحْمد بن يُوسُف الْكَاتِب وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هُنَاكَ الله بِمَا أخذت من الْأَمر بِالْيمن وَالْبركَة وَشدَّة الْحَرَكَة وَالظفر بالمعركة فَأَنْشد الْمَأْمُون
(فَارس مَاض بحربته ... صَادِق بالطعن فِي الظُّلم)
(رام أَن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بِدَم)
وَهُوَ من لطيف الْكِنَايَات وَنَقله ألطف وَاتفقَ لصَاحب التَّرْجَمَة أَنه رأى نَفسه فِي عَالم الخيال هُوَ وَبَعض أدباء دمشق فِي روض فاقترح عَلَيْهِ نظم بَيْتَيْنِ من الْغَزل فنظم هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وانتبه وَهُوَ ينشدهما وهما
(جَاءَ الحبيب بطيبه ... ونأى الرَّقِيب بِكُل واشي)
(الْمَتْن لَا تهوى سواهُ ... ودع معاناة الْحَوَاشِي)
وأوقفني شقيقه فِي الْفضل وَالْأَدب سيد السادات بِالشَّام السَّيِّد عبد الْكَرِيم النَّقِيب حرس الله وجوده من الْغَيْر وَجعل سيرته أحسن السّير على قِطْعَة نظمها يذكر فِيهَا الندماء وأرباب الْغناء من الْمَشَاهِير فَذَكرتهَا مُشِيرا لتعريف من(2/396)
ذكره فِي أثْنَاء النّظم على طَرِيق الِاخْتِصَار وَأَنا جازم إِن شَاءَ الله تَعَالَى بعد توفيتي هَذَا الْكتاب على أَن أشرحها شرحاً مفصلا لما فِيهَا من الْفَائِدَة فَإِنَّهَا وَحدهَا عبارَة عَن طَبَقَات هَؤُلَاءِ وَالْحَاجة عِنْد اللطفاء ماسة إِلَى معرفتهم والاطلاع عَلَيْهِم والقطعة هِيَ هَذِه
(كلما جدّد الشجى ادكاره ... ازعج الشوق قلبه واستطاره)
(لَيْت شعري أَيْن اسْتَقل عَن اللَّهْو ... بنوه وَكَيف أخلوا مزاره)
(بَعْدَمَا راوحتهم صفوة الْعَيْش ... ونالوا وفْق الْهوى أوطاره)
(وجروا فِي مطارد الْأنس طلقاً ... واجتلوا من زمانهم أبكاره)
(بَين كاس وروضة وغدير ... وَسَمَاع وَلَذَّة وغضاره)
(أَيْن حلوا فعشب ومقيل ... أَو أناخوا فوردة وبهاره)
(من مليك زفت بِحَضْرَتِهِ الكاس ... قيان يعزفن خلف الستاره)
(ووزير يرقد بَات يسترق اللَّذَّات ... وَهنا وَاللَّيْل مرخ إزَاره)
(وأمير ممنطق بنداماه ... وكاس الطلا لديهم مَدَاره)
(كم فَتى من بني أُميَّة أَمْسَى ... وخيول الْهوى بِهِ مستطاره)
(كيزيد وشأنه مَعَ أبي قيس ... وَمَا قد عراه فِي عماره)
أَبُو قيس قرد يزِيد كَانَ ينادمه فَكَانَ إِذا رَآهُ قَالَ شيخ من بني إِسْرَائِيل أَصَابَته خَطِيئَة فمسخه الله تَعَالَى فَصَارَ قرداً وَله مَعَه أَخْبَار وَله يَقُول
(نديمي أَبُو قيس أخف مُؤنَة ... وأحلم مَا غَابَ حلم المنادم)
وَعمارَة أُخْت الْغَرِيض وَكَانَت من أحسن النَّاس وَجها وغناء أخذت الْغناء عَن أَخِيهَا وَعَن ابْن سُرَيج وَابْن مُحرز وليزيد فِيهَا خبر طَوِيل وفيهَا يَقُول بعض فتيَان الْمَدِينَة
(لَو تمنيت مَا اشْتهيت لكَانَتْ ... غَايَة النَّفس فِي الْهوى عماره)
(بِأبي وَجههَا الْجَمِيل الَّذِي يزْدَاد ... حسنا وبهجةً ونضاره)
(ونداماه كَابْن جعدة والأخطل ... إِذْ عاقراه صفوا عقاره)
ابْن جعدة هُوَ قدامَة بن جعدة بن هُبَيْرَة الخزرجي من ندمائه والأخطل هُوَ الشَّاعِر الْمَشْهُور النَّصْرَانِي
(وَقضى لَيْلَة مَعَ ابْن زِيَاد ... وقتيب بن مُسلم ونهاره)(2/397)
ابْن زِيَاد هُوَ مُسلم بن زِيَاد وَكَانَ نديماً ليزِيد وقتيب بن مُسلم هُوَ قُتَيْبَة الْبَاهِلِيّ وَكَانَ نديماً لَهُ وَكَانَ أَبوهُ مُسلم كَبِير الْقدر عِنْد يزِيد
(وكمروان وَابْنه حِين واسى ... بلذاذات عيسه سماره)
مَرْوَان هُوَ مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ غليظاً وَابْنه هُوَ عبد الْملك بن مَرْوَان
(نادمته أَبنَاء يالية اللائي ... قضى فِي ربوعهم أسحاره)
أَبنَاء يالية هم أَبنَاء يالية بن هرم بن رَوَاحَة وَكَانَ يغشى مَنَازِلهمْ لَيْلًا وينادمهم وَفِيهِمْ يَقُول من شعر
(يَا خَبرا دَار بني ياليه ... إِنِّي أرى ليلتهم لاهيه)
(وكمثل الْوَلِيد ذِي القصف إِذْ كَانَ ... يغب اصطباحه وابتكاره)
(ولديه الْغَرِيض وَابْن سُرَيج ... أظهرا كل صَنْعَة مختاره)
(من غناء ألذ من نشوة الكاس ... وأشهى من صبوة مستثاره)
الْغَرِيض أحد المغنين اسْمه عبد الْملك وكنيته أَبُو زيد وَقيل أَبُو مَرْوَان ذكر صَاحب الأغاني أَنه كَانَ يضْرب بِالْيَدِ وينقر بالدف ويوقع بالقضيب أَخذ الْغناء فِي أول أمره عَن ابْن سُرَيج وَهُوَ أَبُو يحيى عبد الله بن سُرَيج أحد المغنين ذكر صَاحب الأغاني أَنه كَانَ أحسن النَّاس غناء وَكَانَ يُغني مرتجلاً ويوقع بالقضيب
(وَسليمَان ذِي العتوّ لنَحْو الذلفاء ... يُبْدِي حنينه وافتراره)
سُلَيْمَان بن عبد الْملك والدلفاء جَارِيَة كَانَت لِأَخِيهِ شراؤها عَلَيْهِ ألف ألف دِرْهَم ثمَّ صَارَت إِلَى سُلَيْمَان وَهِي الَّتِي يَقُول فِيهَا الشَّاعِر
(إِنَّمَا الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان)
(وَيزِيد بن خَالِد وَأَبُو يزِيد ... يجيدان فِي الندام سراره)
(إِذْ بمغني سِنَان كَانَ يغالي ... ويجلي بشدوه أكداره)
يزِيد هُوَ ابْن خَالِد التَّيْمِيّ وَكَانَ سُلَيْمَان يَخُصُّهُ وينادمه سرا قبل أَن يُبَاشر الشَّرَاب وَأَبُو زيد هُوَ أَبُو زيد الْأَسدي وَكَانَ خَاصّا بِهِ يجالسه وينادمه وَسنَان مغن لَهُ كَانَ يأنس بِهِ ويسكن إِلَيْهِ وَيكثر الْخلْوَة مَعَه ويستمتع بحَديثه وغنائه
(وَابْن عبد الْعَزِيز إِذْ راوح الكاس ... ووالاه فِي زمَان الإماره)
(وَيزِيد المعمود إِذْ خامرته ... نشوة الراح ليله ونهاره)
(وسبت لبه حبابة واستهوته ... حَتَّى أَبَاحَ فِيهَا اشتهاره)(2/398)
حبابة جَارِيَة كَانَت لِابْنِ سينا تسمى الْعَالِيَة أخذت عَن ابْن سُرَيج وَكَانَت مَدَنِيَّة
(واستمالت بِهِ سَلامَة حَتَّى ... أقلق الوجد فكره وأثاره)
سَلامَة جَارِيَة شريت ليزِيد من الْمَدِينَة بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَكَانَت حَسَنَة الْوَجْه والغناء
(إِذْ يناجيه لحن معبد ... بالشجو كَمَا شَاءَ معملا أَو تَارَة)
(وَلكم ألف الْغناء لَدَيْهِ ... ضرب عواده على زماره)
معبد هُوَ معبد بن وهب أحد المغنين الْمَشْهُورين وَخَبره فِي الأغاني
(وَهِشَام إِذا استبد اخْتِيَارا ... بالرساطون واستلذ اختباره)
(من شراب ظلت أفاوية ... الْعطر بِهِ ذَات نفحة سيارة)
الرساطون شراب كَانَ يصنع لَهُ يَعْنِي لهشام تسميه أهل الشَّام الرساطون يطْبخ بأفاويه كَثِيرَة فَيَجِيء طيب الرَّائِحَة قَوِيا صلبا وَفِي جَامع التَّقْرِير الرساطون شراب يتَّخذ من الْخمر وَالْعَسَل أَعْجَمِيَّة لِأَن فعالون من أبنية كَلَامهم
(والوليد المليك إِذْ وَاصل ... الكاسات وَاللَّهْو جهده واقتداره)
(واغتدى فِي تهتك ومجون ... كَانَ يجني قطوفه وثماره)
(ومناه ذكري سليمى لوجد ... ظلّ يذكي لهيبه واستعاره)
(إِذا يُغْنِيه مَالك بن أبي السَّمْح ... وَعمر والوافي فينفي وقاره)
سليمى هِيَ سليمى بنت سعيد بن خَالِد أُخْت أم عبد الْملك الَّتِي كَانَت تَحْتَهُ وَله فِيهَا خبر طَوِيل وَملك هُوَ مَالك بن أبي السَّمْح الطَّائِي قَالَ صَاحب العقد أَخذ الْغناء عَن معبد وَكَانَ لَا يضْرب بِعُود إِنَّمَا يُغني مرتجلا
(وَلكم خفف ابْن عَائِشَة اللّحن ... لَهُ فاستخفه واستطاره)
ابْن عَائِشَة هُوَ مُحَمَّد بن عَائِشَة ويكنى أَبَا جَعْفَر أَخذ عَن معبد وَمَالك وابتداؤه بِالْغنَاءِ كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل
(وَابْن ميادة بن ابرد ... وَالقَاسِم كَانَا يحثحثان عقاره)
(بندام ألذ من زورة الْحبّ ... وأبهى من رَوْضَة فِي قراره)
ابْن ميادة اسْمه الرماح ابْن أبرد من بني غطفان كَانَ ينادمه ويحدثه حَدِيث الْإِعْرَاب وَالقَاسِم هُوَ الْقَاسِم الطَّوِيل الْعَبَّادِيّ وَكَانَ أقرب ندمائه إِلَيْهِ وأخصهم بِهِ
(وبذيح أَتَى بِأَمْر عُجاب ... إِذْ تولى على القرود والإمارة)
بذيح هُوَ مولى عبد الله بن جَعْفَر ملهيه(2/399)
(وَيزِيد المليك إِذْ كَانَ يهوى ... صَوت حدو الحداة فِي كل تَارَة)
(وتغنى الركْبَان إِذْ كَانَ منشاه الْبَوَادِي ... حَتَّى اعترته الحضارة)
(وكمر وَإِن الفتوة إِذْ كَانَ ... يوالي فِي عبطة أَسْفَاره)
مَرْوَان ذِي الفتوة كَانَ منشأه بالبادية فِي كلب ففصح لِسَانه
(فَيرى اللَّهْو وَالسَّمَاع مناه ... وَيرى الْحَرْب قطبه ومداره)
(وكآل الْعَبَّاس إِذْ كَانَ عبد الله ... يقْضِي طوع المنى أوطاره)
(كم غذا لَيْلَة الثُّلَاثَاء والسبت ... يوالي الغبوق بالقرقارة)
(وَابْن صَفْوَان فِي الندامى يعاطيه ... كؤوس الحَدِيث خلف الستارة)
(ولديهم أَبُو دلامة طورا ... يصطفيه ويجتلي أشعاره)
ابْن صَفْوَان هُوَ خَالِد بن صَفْوَان كَانَ من أقرب النَّاس منزلَة عِنْد أبي الْعَبَّاس ينادمه ويسامره لطول لِسَانه وبلاغته وَكَثْرَة رِوَايَته وَأَبُو دلامة اسْمه زيد بن الْحَارِث وَكَانَ مولى لبني أَسد ظريفا فصيحا كثير النَّوَادِر باحثا خليعا مدمنا للشراب راوية للْأَخْبَار والأشعار
(وتحيي منصورهم من ورا النّسك ... رَاحا وَإِلَى عَلَيْهَا استتاره)
(حل مِنْهُ ابْن جَعْفَر فِي نداماه ... محلا إِذْ كَانَ يبلو اعتشاره)
(فيراه فيهم ظريفا أديبا ... لسنا حاذقا لطيف الْإِشَارَة)
ابْن جَعْفَر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ يأنس بِهِ ويلتذ بِهِ وبمحادثته ويأنس بِهِ خَالِيا وَكَانَ كَمَا ذكر
(ثمَّ كَانَ الْمهْدي يجلس للأنس ... فيصفي لشربه أَو طاره)
(وفليح بن العورا يشد ولديه ... فينسى حنينه وادكاره)
(ولديه ترب الْغناء أَبُو إِسْحَاق ... يشدو بصنع ومهاره)
قَالَ إِسْحَاق كَانَ الْمهْدي فِي أول أمره يساتر بِالشرابِ حَتَّى قدم عَلَيْهِ فليح ابْن العوراء الْمُغنِي فَكَانَ يُغْنِيه فِيمَا مدح بِهِ من الشّعْر وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ إِبْرَاهِيم الْموصِلِي الْمَشْهُور بِالْغنَاءِ
(ثمَّ كَانَ الْهَادِي إِذا حاول الشّرْب ... وغنى ابْن جَامع نختاره)
(يتَوَلَّى الندام عِيسَى بن دَاب ... عِنْده والطلا لَدَيْهِ مَدَاره)
(وكذاك ابْن مُصعب والعزيزي ... أَنا خايدا إنيان اخْتِيَاره)(2/400)
ابْن جَامع من المغنين الْمَشْهُورين وَكَانَ أحلاهم نَغمَة وَعِيسَى بن دأب كَانَ أديباً وأحلاهم ألفاظا وَابْن مُصعب هُوَ عبد الله بن مُصعب الزبيدِيّ يخْتَص بمنادمة الْهَادِي
(وتحمى الرشيد فِي دير مرّان ... على كل تلعة وقراره)
(من مدام حكت رهابنة الدَّيْر ... بهَا فِي بهارة جلناره)
(وعَلى ضرب زلزل كَانَ برصوما ... لَدَيْهِ مواصلا مزماره)
قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ دير مران هُوَ بِنَاحِيَة من دمشق على ثلة من قرى ومزارع وغدران ورياض وزلزل كَانَ يضْرب فَقَط واسْمه مَنْصُور وَكَانَ فِي الطَّبَقَة الأولى وبرصوما كَانَ زامر فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة فطرب مِنْهُ الرشيد يَوْمًا فرفعه إِلَى الطَّبَقَة الأولى
(ثمَّ كَانَ الْأَمِير يمرح فِي اللَّذَّات ... مَا شَاءَ ساحباً أوزاره)
(وترامى بحب كوثر حَتَّى ... سكن الْحبّ قلبه واستخاره)
(ولديه مُخَارق فِي المعنين ... وبذل الْكَبِيرَة المهتارة)
(وَالْحُسَيْن الخليع كَانَ يعاطيه ... مداماً كالعقد تنوي انتشاره)
(ثمَّ يجلو أَبُو نواس على السّمع ... كؤساً من الْهوى مستعاره)
كوثر خادمه وَكَانَ يهواه حَتَّى قَالَ فِيهِ من شعر
(كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي ... )
ومخارق كَانَ مَمْلُوكا لأمرأة من أهل الْكُوفَة فَاشْتَرَاهُ مِنْهَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فَأَخذه الرشيد مِنْهُ وبذل الْكَبِيرَة جَارِيَة كَانَت لجَعْفَر بن مُوسَى الْهَادِي وَالْحُسَيْن الخليع صريع الغواني وَأَبُو نواس الْحسن بن هَانِئ الشَّاعِر الْمَشْهُور
(وأدار الْمَأْمُون للراح كاساً ... شعشع الْبَيْت نورها واستناره)
(حَيْثُ علوِيَّة الْمُغنِي وَإِسْحَاق ... يزفان فِي الدجى أقماره)
(حَيْثُ يحيى بن أَكْثَم يتَوَلَّى ... بَسطه وَابْن طَاهِر أسماره)
(وعريب مَعَ القيان تفنيه ... بِصَوْت تخيرت أشعاره)
علوِيَّة من المغنين للرشيد وَهُوَ من الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَإِسْحَاق اشْتهر بِهِ وحظى عِنْده وعريب جَارِيَة عبد الله بن إِسْمَاعِيل صَاحب المراكب كَانَت أحسن النَّاس وَجها وأظرفهم طبعا وَأَحْسَنهمْ غناء
(وَابْن هرون كَانَ يألف إِبْرَاهِيم ... شوقاً ويستلذ اعتشاره)
إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن الْمهْدي الْخَلِيفَة الْمَذْكُور(2/401)
(واغتدى الواثق الْمُقدم فِي الشّعْر ... على الكاس معملاً أدواره)
(إِذْ تولى بأَمْره مهج الْخَادِم ... عِنْد اصطحابه وابتكاره)
(واغتدى أَحْمد النديم على ... شَرط بني اللَّهْو وناشر أخباره)
(وانثنى الْفَتْح ينتحي من ... أَحَادِيث الْهوى ممتعاته وقصاره)
(فتنته فريدة وعَلى قدر ... الْهوى يخلع الْمُحب وقاره)
مهج خادمه الَّذِي كَانَ يأنس بِهِ ويهواه وَله فِيهِ أشعار كَثِيرَة حَسَنَة وَالْفَتْح هُوَ الْفَتْح ابْن خاقَان وفريدة هِيَ جَارِيَة كَانَ أهدا هاله عَمْرو بن بانة فحظيت عِنْده وَكَانَت من الموصوفات بالجمال الْفَائِق والغناء الرَّائِق
(وَأَبُو الْفضل كَانَ يَغْدُو إِلَّا الراح ... مبيداً الْجنَّة ونضاره)
(حَيْثُ كَانَ الكشحي يَأْخُذ عرض ... القَوْل فِيمَا أحبه وَاخْتَارَهُ)
(وزنام بالدف يعزف طوراً ... وبنان بِالْعودِ يضْرب تَارَة)
(ويغني عَمْرو بن بانة والطبل ... عَلَيْهِ سلمَان يُبْدِي اقتداره)
الكشحي أَبُو بَحر كَانَ من أطيب النَّاس وَأَكْثَرهم نَوَادِر وَكَانَ المتَوَكل لإيكاد يصبر عَنهُ وَلَا يكون لَهُ مجْلِس إِلَّا بِهِ وَعَمْرو بن بانة من المغنين وسلمان طبال ماهر
(وَأَبُو جَعْفَر أزاح اغتناما ... مَعَ يزِيد المهلبي استشاره)
يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي مدحه ونادمه حَتَّى اشْتهر بِهِ
(وَغدا المستعين يحرق للندمان ... بالمن نده وصواره)
(ثمَّ هام المعتز بِابْن بغاء ... عِنْدَمَا شام وَجهه وعذاره)
ابْن بغاء هُوَ يُونُس غُلَامه وَكَانَ يفرط فِي الشغف بِهِ وَهُوَ مَذْكُور فِي شعر البحتري
(وانثنى ابْن الْقصار طوراً ... يفنيه بطنبوره فيوقد ناره)
ابْن الْقصار طنبوري كَانَ من المهرة فِي زَمَانه
(وبدا الْمُهْتَدي فَكَانَ اصطناع ... الْعرف والجود سمته وشعاره)
(وأناخ ابْن جَعْفَر فِي مدَار العزف ... والقصف نافياً أكداره)
(ومناه فِي الشد وَشد وعريب ... كَمَا اعتاده الْهوى واستثاره)
عريب هِيَ عريب المأمونية وَكَانَ معجبا بغنائها
(واحتسى درة الكروم أَبُو الْعَبَّاس ... والدن يستدر قطاره)
أَبُو الْعَبَّاس هُوَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُعْتَمد(2/402)
(نادمته أَبنَاء حمدون واستهواه ... بدر حِين اجتلى ابداره)
بدر هُوَ بدر الجلنار غُلَامه
(ورذاذ موقع بغناء ... لَيْسَ يَخْلُو من صَنْعَة مختاره)
(واغتذى المكتفي يمرح والصولي ... يروي محاضراً أشعاره)
(وَأَبُو الْفضل كَانَ يرتع من روق ... صباه فِي جدة ونضاره)
(حرق الندّ والكبا الرطب والعنبر ... مُتَمَتِّعا بِهِ وأثاره)
(وَأقَام الراضي يفرق مَا بَين ... الندامى فِي كل وَقت نثاره)
(رب كاس لَهُ بَقِيَّة نشوان ... وَفِي حجرَة الرخام أداره)
(ونعيم وَالَاهُ فِي حجرَة الأترج ... وَالْمَاء قد أثار بخاره)
(لَيْت شعري أَيْن اسْتَقل بَنو برمك ... من بعد مَا توَلّوا الوزاره)
(حِين كَانَت أيامهم غرر الْعَيْش ... وَكَانَت أكفهم مدراره)
(والوزير المهلبي وَمَا نول ... وَابْن العميد ترب الصداره)
(وَكَذَا الصاحب بن عباد حَيَّاهُ ... وَحيا نظامه ونثاره)
(بل وَأَيْنَ السراة من آل حمدَان ... وَمَا قد تخولوا فِي الإماره)
(أَيْن من بَات رَافعا لبني اللَّهْو ... الملمين بالتحايا عماره)
(أَيْن من رَاح والمجاسد تزدان ... عَلَيْهِ بأعين النظاره)
(طوّقته المخانق البرمكيات ... فَكَانَت بَين الظراف شعاره)
(وتردّت من الْعَوَاتِق بالمنديل ... مذ رَاح عاقداً زناره)
(وعَلى رَأسه أكاليل آس ... كللت أدمع الندى أقطاره)
(وعَلى الْإِذْن مِنْهُ رَيْحَانَة من ... أذريون كمن يروم سراره)
(أَيْن من كَانَ جَانب الزهر مناساً ... لَدَيْهِ والعيش يندى غضاره)
(ينتحي منتحى المروآت طلقا ... فِي لذاذاته ويبدي افتراره)
(وَترى عِنْده مزملة المَاء ... وخيش النسيم يَعْلُو جِدَاره)
(وسحاب البخور يهطل مِنْهُ ... مَاء ورد يزجي النسيم قطاره)
(أَيْن من كَانَ فِي فضاء من الغوطة ... يجلى من قبلنَا أبصاره)
(أَيْن من بَات نَاعِمًا فِي مغاني ... شعب بوّان ناشقاً أزهاره)
(أَيْن من أطلق النواظر فِي صغد ... سَمَرْقَنْد واجتلى أنواره)(2/403)
(أَيْن من حل بالأبلة قدماً ... وجلى فِي رياضها أفكاره)
(أَيْن من بَات بالسماوة فِي منَاف ... روض يبثه أسراره)
(بنسيم يحل فِي غلس الأسحار ... عَن جيب نوره أزراره)
(حَيْثُ تندى مباسم الزهر فِيهِ ... وتحيى أنفاسه زوّاره)
(فسقت عهد من مضى أدمع المزن ... وجادت بصوبها آثاره)
(مَا سرت نسمَة الصَّباح بروض ... كحلاهم فهيجت أطياره)
وَهَذَا آخرهَا وَله آثَار كَثِيرَة غَيرهَا أوردت لَهُ كثيرا مِنْهَا فِي كتابي النفحة وَكَانَت وِلَادَته فِي ثامن عشري شهر ربيع سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَتُوفِّي مطعوناً نَهَار الِاثْنَيْنِ ثامن شهر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن مُحَمَّد الملاح الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ النَّاظِم الناثر الْكَاتِب الشَّاعِر أوحد أهل زَمَانه والمتميز بِالْفَضْلِ على أقرانه كَانَ أديباً فَاضلا شَاعِرًا مجيداً زاحم بمنكبه صُدُور الأماجد ونظم مَعَ بلغاء عصره ذَوي المحامد لَهُ نظم أرق من النسيم ونثر أحلى من التسنيم وَكَانَ لَهُ حظوة تَامَّة عِنْد الْأُسْتَاذ الشَّيْخ زين العابدين بن مُحَمَّد الْبكْرِيّ ثمَّ لَازم بعده أَخَاهُ أَبَا الْمَوَاهِب ثمَّ لَازم الشَّيْخ أَحْمد بن زين العابدين وَكَانَ كَاتب يَد الْجَمِيع إِلَى أَن اخترمته الْمنية وَمن شعره قَوْله من قصيدة
(مَا لحاوي الْجمال فِي الْحسن ثَانِي ... وفؤادي مَا مَال عَنهُ لثاني)
(ذِي جمال بطلعة كهلال ... حَار فِي حسنه البديع لساني)
(رشأ راشق فُؤَادِي بقدٍّ ... إِن تثنى يَا خجلة الأغصان)
(نَاسخ حقق الْمحبَّة عِنْدِي ... بعذار وسالف ريحاني)
(مَاس غصناً رنا غزالاً وظبياً ... لَاحَ بَدْرًا علا على غُصْن بَان)
(بخدود لبهجة الْورْد تروى ... ونهود رَوَت عَن الرمات)
(يَا بديع الْجمال يَا نور عَيْني ... أَنْت وَالله فاضح الغزلان)
(لَا تعذب قلبِي بصدّ وَبَين ... وبعاد يَا سَاحر الأجفان)
(لَا تُطِع يَا مليح كل عذول ... عذله والملام قد أذياني)
(وَاتَّقِ الله فِي حشاشة قلبِي ... لَا تذقها حرارة الهجران)
(يَا كحيل الْعُيُون يَكْفِي بعاد ... بتثني قوامك الفتّان)
(أَنْت قصدي من الملاح وحسبي ... لَك دَاعِي الغرام قد ألواني)(2/404)
(لَا تذقني صدّاً وبعداً وسهدا ... وَتغَير يَا منيتي ألواني)
(يَا عذولي على غرام مليح ... كَامِل الظّرْف من حسان الْجنان)
(هَل حَبِيبِي شمس والإهلال ... أم من الْحور أم من الْولدَان)
(هُوَ لَا شكّ مُفْرد الْحسن حَقًا ... وَأرَاهُ قد فرّ من رضوَان)
(قسما يَا مليح مَالك ثَانِي ... لَا وَلَا مثل فضل عُثْمَان ثَانِي)
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر شعْبَان سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف بِمصْر وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الْأَزْهَر فِي مشْهد عَظِيم لم ير مثله حَضَره أكَابِر الْعلمَاء رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف بن عَليّ الملقب زين الدّين بن القَاضِي جمال الدّين بن الشَّيْخ نور الدّين البهوتي الْحَنْبَلِيّ الْمصْرِيّ خَاتِمَة المعمرين الْبركَة الْعُمْدَة ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْكتب السِّتَّة وَغَيرهَا من كتب الحَدِيث وروى المسلسل بالأولية عَن الْجمال يُوسُف بن القَاضِي زَكَرِيَّا وعلوم الحَدِيث عَن الشَّمْس الشَّامي صَاحب السِّيرَة تلميذ السُّيُوطِيّ وَمن مشايخه فِي فقه مذْهبه وَالِده وجده والتقى الفتوحي الْحَنْبَلِيّ صَاحب مُنْتَهى الارادات وَأَخُوهُ عبد الرَّحْمَن ابْنا شيخ الْإِسْلَام الشهَاب أَحْمد بن النجار الفتوحي وَالشَّيْخ شهَاب الدّين البهوتي الْحَنْبَلِيّ وَغَيرهم وَفِي فقه الإِمَام مَالك الشَّيْخ زين الجيزي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الفيشي وَالشَّيْخ أَبُو الْفَتْح الدَّمِيرِيّ شَارِح الْمُخْتَصر وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْخطاب المالكيون وَفِي فقه أبي حنيفَة الشَّيْخ شمس الدّين البرهمتوشي وَأَبُو الْفَيْض السّلمِيّ وَأمين الدّين بن عبد العال وعَلى بن غَانِم الْمَقْدِسِي الحنفيون وَفِي فقه الشَّافِعِي الشَّمْس الْخَطِيب الشربيني وَالشَّمْس العلقمي شَارِح الْجَامِع الصَّغِير وَالشَّيْخ ولي الدّين الضَّرِير شَارِح التَّنْبِيه فِي أَربع مجلدات وَعنهُ أَخذ جمع مِنْهُم مَنْصُور بن يُونُس البهوتي وَعبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ الدِّمَشْقِي وَكَانَ فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف مَوْجُودا فِي الْأَحْيَاء
عبد الرَّحْمَن الْمحلي الشَّافِعِي نزيل دميا الشَّيْخ الْمُحَقق التَّحْرِير مُحَرر الْعبارَات الفهامة الدَّقِيق النّظر الْقوي التَّرْجِيح والفكرة كَانَ غَايَة فِي لطافة الْأَخْلَاق وَحسن الْعشْرَة والمحاورة
(يكَاد من رقة الْأَلْفَاظ يحملهُ ... روح النسيم وبرق السّمع يخطفه)
(قدر حَتَّى إِذا الوحل من أدب ... فِي طرف ذِي رمد مَا كَانَ يطرفه)(2/405)
مولده الْمحلة الْكُبْرَى وَهِي قَصَبَة الغربية من مصر وَقدم الْقَاهِرَة واشتغل بِالْعلمِ وجد فِيهِ وَأخذ عَن الزين عبد الرَّحْمَن اليمني ومحيى الدّين بن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّاء والنور على الْحلَبِي وَالشَّمْس مُحَمَّد الشَّوْبَرِيّ وَصَحب النُّور الشبراملسي وَاقْتصر عَلَيْهِ من بَين شُيُوخه ولازمه وَصَارَ الشبراملسي لَا يصدر إِلَّا عَن رَأْيه وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ مَعَه أَن الشبراملسي كَانَ يحضر دروس الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ لكَونه أسن مِنْهُ وَكَانَ الشَّمْس الْمَذْكُور يعْتَقد زِيَادَة فضل الشبراملسي وَيكثر المطالعة لأَجله ويمعن النّظر فِي تَحْرِير الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة وَكَانَ مَعَ مزِيد جلالته إِذا توقف فِي أثْنَاء مطالعته فِي شَيْء وَلم يظْهر الْجَواب عَنهُ يكْتب عَلَيْهِ ويعرضه على الشبراملسي فَيُجِيبهُ عَنهُ وَكَانَ الشبراملسي من دقة النّظر بمَكَان فَلَمَّا رأى الْمحلى ذَلِك منع الشبراملسي من حُضُور درس الشَّوْبَرِيّ وَحلف عَلَيْهِ بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَنه لَا يحضرهُ فحاول أَن يخلصه من الْيَمين فَلم يقدر وَلم تطب نَفسه أَن يتكدر مِنْهُ خاطره لما تقدم من شدَّة انقياده إِلَيْهِ فَترك حُضُور الدَّرْس وَبلغ ذَلِك الشَّوْبَرِيّ فتألم غَايَة التألم وَظهر مِنْهُ التَّغَيُّر الشَّديد على الْمحلى ودعا عَلَيْهِ بدعوات مِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ يقطعهُ عَن جَامع الْأَزْهَر كَمَا قطع الشبراملسي عَن حُضُور درسه فَاسْتَجَاب الله سُبْحَانَهُ دعاءه وَهَاجَر من الْجَامِع الْأَزْهَر بِغَيْر سَبَب وَلم يطب لَهُ الْمكْث فِي مصر وَتوجه إِلَى دمياط وَأقَام بهَا وَلم يرْزق فِيهَا حظاً فِي دروسه مَعَ أَنه أفضل من فِيهَا من علمائها وَله مؤلفات ورسائل كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَكَانَت وَفَاته بدمياط فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف كَذَا رَأَيْته بِخَط الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله
عبد الرَّحِيم بن أبي بكر بن حسان الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ الإِمَام الْعَالم الْفَقِيه المفنن كَانَ محمدثاً فَقِيها نَحْو يَا مشاركاً فِي عُلُوم كَثِيرَة ورعًا تقياً مثابراً على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ محباً لأَهله طَاهِر النَّفس سريع التَّأْثِير فِي طبائع التلامذة قريب الإنتاج لَهُم بِحَيْثُ أَن علمه يلقح الطّلع كَمَا يلقح الطّلع وَكَانَ نفع الله تَعَالَى بِهِ لَا يحضر المحافل وَلَا يفنى وَعِنْده انجماع عَن النَّاس وَعدم معرفَة بِأُمُور الدُّنْيَا بمعزل عَن طلب الرياسة وَالدُّخُول فِي المناصب مُقبلا على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ونفع النَّاس ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم سِيبَوَيْهٍ زَمَانه عبد الله الفاكهي والعلامة أَحْمد بن حجر الهيثمي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن فَهد وَغَيرهم وَعنهُ الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَعبد الرَّحْمَن المرشدي وَغَيرهمَا وَمن فَوَائده أَنه سُئِلَ عَن إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى(2/406)
وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله إِن مَا مَوْصُول اسْمِي وَمَا بعده صلَة وَلَا عَائِد يربطها بالموصول لَا لفظا وَهُوَ ظَاهر وَلَا تَقْديرا لِأَن ذَلِك الْعَائِد إِمَّا أَن يقدر ضميراً مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا وَلَا سَبِيل إِلَى الأول لمرجوحية اتِّصَال ضميري النصب إِذا اتحدا رُتْبَة وَاخْتلفَا لفظا كَقَوْلِه إِنَّا لَهما قفوا كرم وَالِد وَلَا إِلَى الثَّانِي لِأَن الْعَائِد الْمَنْصُوب لَا يحذف إِذا كَانَ ضميراً مُنْفَصِلا فَأجَاب بقوله الْعَائِد إِلَى مَا الموصولة ضمير مَحْذُوف يقدر مُنْفَصِلا مُؤَخرا عَن عَامله أَي بِالَّذِي آتَاهُم الله إِيَّاه وَقَول السَّائِل لِأَن الْعَائِد الْمَنْصُوب لَا يحذف إِذا كَانَ ضميراً مُنْفَصِلا لَيْسَ على إِطْلَاقه انْتهى وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن إسكندر أحد الموَالِي الرومية كَانَ عَالما حسن الْأَخْلَاق ورد الشَّام قَدِيما مَعَ بعض قضاتها وَأخذ بهَا عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَحضر دروسه ثمَّ ولي قَضَاء الشَّام فِي سنة تسع بعد الْألف وَقدم إِلَيْهَا وَكَانَ دينا عفيفاً جميل السِّيرَة وَفِيه تعطف ومحبة للْعُلَمَاء والصلحاء وَلم يقم بِدِمَشْق إِلَّا شهرا وَاحِدًا ثمَّ انْفَصل عَنْهَا وسافر فِي شهر ربيع الأول وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الثَّانِي وَهُوَ ذَاهِب فِي الطَّرِيق بِمَدِينَة أركله رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن تَاج الدّين بن أَحْمد بن محَاسِن الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ تقدّم أَبوهُ فِي حرف التَّاء وَعبد الرَّحِيم هَذَا ولد بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا ودأب فِي التَّحْصِيل حَتَّى تفوّق فِي عنفوان عمره وَكَانَ فَاضلا أديباً ذكياً قوي الحافظة يحتوي على فنون وَكَانَ فِي الْحسن إِلَيْهِ النِّهَايَة ورحل بِهِ أَبوهُ إِلَى الْقَاهِرَة فَأخذ بهَا الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الطوري مفتي الْحَنَفِيَّة وَالشَّيْخ مُحَمَّد المحبي الْحَنَفِيّ حكى لي أَخُوهُ الشَّيْخ الإِمَام إِسْمَاعِيل الْخَطِيب بِجَامِع دمشق قَالَ كَانَ إِذا جَاءَ إِلَى حَلقَة المحبي يَأْمُرهُ أَن يجلس خَلفه ويدير ظَهره إِلَى ظَهره وَيَقُول المحبي إِنَّمَا أفعل ذَلِك صِيَانة لوجهه عَن أَن يرَاهُ أحد قلت وَمثل هَذَا يرْوى عَن الإِمَام أبي حنيفَة مَعَ الإِمَام مُحَمَّد وَحكى لي أَيْضا أَنه كَانَ يحفظ كتبا عدّة من جُمْلَتهَا تَارِيخ ابْن خلكان وامتحن فِيهِ مَرَّات فَظهر أَنه متقن حفظه وَكَانَ يكْتب الْخط الْحسن وَيَرْمِي بِالسِّهَامِ رمياً جيدا ويعوم وَله معرفَة باللغة الفارسية وَبلغ مَا بلغ من هَذِه الغايات وَسنة لم يبلغ الْعشْرين وَحكى لي أَخُوهُ الْمَذْكُور قَالَ كَانَ إِذا فرغ من دروسه جَاءَ إِلَى الْمنزل وَأخذ يلْعَب لعب الصّبيان الْمَعْرُوف(2/407)
فَكَانَ عَمه أَبُو الصَّفَا يَقُول لَهُ أيجمل بك هَذَا وَأَنت فِي هَذِه المثابة من الِاشْتِغَال فَكَانَ يَقُول أَنا قصدي أَن أوفي الصباوة حَقّهَا قلت وَمثل هَذَا يحْكى عَن الرئيس أبي عَليّ بن سيناء وَرَأَيْت بِخَط عبد الرَّحِيم المترجم مجموعاً مُشْتَمِلًا على قصائد ومقطعات من بواكير طبعه فاخترت مِنْهَا اللَّائِق بكتابي هَذَا فَمن ذَلِك قَوْله فِي الْغَزل
(ملت العذال من عذلي وَمَا ... ملّ جفناك من الفتك بقلبي)
(لَو رآك النَّاس بِالْعينِ الَّتِي ... أَنا رائيك بهَا مَا ازْدَادَ كربي)
(واستراح الْقلب من عذلهم ... إِن طول العذل دَاء للمحب)
(بل وَلَو كَانَ بهم مثل الَّذِي ... بفؤادي لم يمت شخص بنحب)
وَقَوله
(لي فؤاد على المودّة بَاقِي ... لم يزغ عَن تذكر الْمِيثَاق)
(غير أَن البعاد جَار عَلَيْهِ ... فبراه وَلم يدع مِنْهُ بَاقِي)
(وجفون جَفتْ لذيذ كراها ... واستفاضت بمدمع غيداق)
(كلما طَال عهدها طَال مِنْهَا ... مدمع يرتقي وَلَيْسَ براقي)
(إِن درّاً أودعتموه بأذني ... درّ مذ بنتم من الآماق)
معنى الْبَيْت الْأَخير مطروق وَمِمَّا استحسنته من شعره قَوْله
(تطاولت الْخمر اختباراً لعقلنا ... فَقَالَت لنا إِنِّي كجفنية أكسر)
(فبادرها الْإِنْكَار منا لقولها ... على أننا بِالْحَقِّ وَالله ننكر)
(فرقت لنعفو واستحت فلأجل ذَا ... نرى وَجههَا يبود لنا وَهُوَ أَحْمَر)
وعَلى ذكر استحياء الْخمر تذكرت لَطِيفَة وَهِي أَن بعض الظرفاء كَانَ يسْتَعْمل الشَّرَاب سرا وَكَانَ عَلَيْهِ حجر من وَالِده فَمَا زَالَ وَالِده يتبعهُ إِلَى أَن لقِيه يَوْمًا وَمَعَهُ قنينة خمر فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا قَالَ لبن قَالَ وَيحك اللَّبن أَبيض وَهَذَا أَحْمَر قَالَ صدقت لما رآك خجل واستحى واحمرّ وقبح الله من لَا يستحي فَخَجِلَ وَانْصَرف وخلاه وَمن مقاطيعه قَوْله
(أَسِير وقلبي عنْدكُمْ لست عَالما ... بِمَا فِيهِ هاتيك اللواحظ تصنع)
(وَمَا زلت مشتاقاً لطيف خيالكم ... وَأَنِّي من الدُّنْيَا بذلك أقنع)
وَقَوله على أسلوب أَبْيَات الحريري يَا خَاطب الدُّنْيَا الدنيه وَفِيه التَّصْرِيح
(يَا من نأى متجبراً يَا جاني ... صيرتني متحيراً فِي شاني)
(هلا وَقد أبعدتني وقليتني ... أرْسلت طيفك فِي الْكرَى يلقاني)
(أمْطرت مني عِبْرَة هِيَ عِبْرَة ... فضحت هوى متستراً بجناني)(2/408)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله
(قَالَ العذول دع الَّذِي فِي حبه ... عَيْنَاك قد سمحت بدمع هامع)
(فأجبته إِن كنت لست بناظر ... هَذَا الغزال فلست مِنْك بسامع)
ونقلت من خطه قَالَ رَأَيْت فِي آخر الكلستان للشَّيْخ سعدي مَا مَعْنَاهُ سُئِلَ بَعضهم عَن الْيَد الْيُمْنَى مَا بالها مَعَ فَضلهَا الجزيل وكراماتها الْمَعْلُومَة لم يوضع فِيهَا الْخَاتم وَوضع فِي الشمَال قَالَ فنظمت هَذَا الْمَعْنى فِي بَيْتَيْنِ
(إِن الْفَتى الْعَالم مَعَ علمه ... ترَاهُ محروماً من الْعَالم)
(مثل الْيَد الْيُمْنَى لفضل بهَا ... قد منعت من زِينَة الْخَاتم)
ثمَّ ناقضته بِقَوْلِي
(تالله مَا ذَاك مخل بهَا ... بل شرفت من وَاحِد رَاحِم)
(وَإِنَّمَا الْفضل لَهَا زِينَة ... بِهِ اغتنت عَن زِينَة الْخَاتم)
قلت والتختم باليسرى إِنَّمَا حدث فِي وقْعَة صفّين حِين خطب عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَ أَلا أَنِّي خلعت الْخلَافَة من عَليّ كخلع خَاتمِي هَذَا من يَمِيني وجعلتها فِي مُعَاوِيَة كَمَا جعلت هَذَا فِي يساري فَبَقيت سنة عَمْرو بَين الْعَامَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَأما النَّبِي
وَكَذَا الْخُلَفَاء الراشدون بعده فَكَانُوا يتختمون بِالْيَمِينِ وَقد ذكر فقهاؤنا مِنْهُم الْبر جندي فِي الرَّهْن منكشف الْبَزْدَوِيّ أَنه يتختم باليسرى وَقيل باليمني إِلَّا أَنه شعار الروافض فَيجب التَّحَرُّز عَنهُ قَالَ شَيخنَا الْعلَا الحصفكي فِي شرح الْمُلْتَقى وَلَا شُعُور لنا بِهَذَا الشعار فِي هَذِه الْأَمْصَار فنتبع أَمر الْمُخْتَار يَعْنِي فِي الحَدِيث أَفعَلهَا فِي يَمِينك إِذْ ثَبت الْخِيَار كَمَا جزم بِهِ بعض الأخيار وَالَّذِي رَأَيْته فِي الكلستان أَن أول من وضع الْخَاتم فِي الْيَد جمشيد الْملك فَقيل لَهُ لم وَضعته فِي الشمَال وَلم تضعه فِي الْيَمين فَقَالَ أما الْيَمين فزينتها كَونهَا يَمِينا فَقيل لأي شَيْء وَضعته فِي الْخِنْصر فَقَالَ جبرا لَهَا لِأَن مَا عَداهَا كبرهاز ينقلها وَقيل لبَعْضهِم لماذا حرمت الْيَمين من الْخَاتم فَقَالَ أهل الْفضل محرومون وَمَا أحسن قَول الشَّيْخ أبي عَامر الْفضل التَّمِيمِي الْجِرْجَانِيّ
(تختم فِي الْيَسَار فلست تلقى ... طراز الْكمّ إِلَّا فِي الْيَسَار)
(وَمَا نَقَصُوا الْيَمين بِهِ وَلَكِن ... لِبَاس الزين أولى بالصغار)
(لذاك ترى إِلَّا بأهم عاطلات ... وَهن على الأكف من الْكِبَار)
وَقد عرفت الحَدِيث فَكل هَذَا غَفلَة عَنهُ وَكَانَت ولادَة عبد الرَّحِيم هَذَا بِدِمَشْق فِي سنة عشر بعد الْألف وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ مطعونا فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف(2/409)
رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن عبد المحسن بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ الشعراني الْمصْرِيّ نزيل قسطنطينية وَهُوَ وَالِد قَاضِي الْقُضَاة أبي السُّعُود الْمُقدم ذكره وَكَانَ من أجلاء عُلَمَاء عصره ولد بِمصْر وَقَرَأَ وَحصل بهَا وَأجل أشياخه قَرِيبه القطب الرباني الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراني صَاحب العهود وَغَيرهَا وَصَحب الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَكَانَ كثير الْمُلَازمَة لَهُ شَدِيد الإتصال بِهِ وَكَانَ يَقع لَهُ مَعَه أَحْوَال ومكاشفات حدث بِكَثِير مِنْهَا ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم وتوطنها وَولي قَضَاء الْحَرَمَيْنِ ثمَّ تقاعد بمدرسة السُّلْطَان أَحْمد وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن وَله حافظة قَوِيَّة فِي أَنْوَاع الْفُنُون وَله تآليف مِنْهَا رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا أيقاظ الْوَسْنَان من سنته فِي بَيَان آل الْمَوْصُول وصلته نَحْو ثَلَاثَة كراريس وَله شعر قَلِيل مِنْهُ قَوْله
(يَا سيد الرُّسُل وَمن جوده ... لكل خلق الله مسترسل)
(أَنْت الَّذِي خصك رَبِّي بِمَا ... لم يحصر المزبر وَالْمقول)
(وإنني عَبدك من جرمه ... لفكر ذِي اللب الذكي يذهل)
(قد جِئْت أبغي تَوْبَة ينمحي ... عني بهَا الْوزر الَّذِي يثقل)
(والستر فِي ديني وَأَهلي وَمن ... يحويه ببيتي أَو بِهِ ينزل)
(فَأَنت بَاب الله أَي امْرِئ ... أَتَاهُ من غَيْرك لَا يدْخل)
وَقد ضمن الْبَيْت الْأَخير من قصيدة الْأُسْتَاذ الْبكْرِيّ الْمَذْكُور الَّتِي أَولهَا
(مَا أرسل الرَّحْمَن أَو يُرْسل ... من رَحْمَة تصعد أَو تنزل)
وَرَأَيْت بِخَط السَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ الْقُدسِي الدِّمَشْقِي قَالَ أَنْشدني الْعَلامَة عبد الرَّحِيم الشعراني هَذِه الأبيات وَلست أَدْرِي أَهِي لَهُ أم لغيره وَهِي
(كَاتب فِي السَّابِق كسْرَى قَيْصر ... بِمَا استقام ملككم وَالظفر)
(فَقَالَ قد دَامَ لنا الْوَلَاء ... بِخَمْسَة طَابَ بهَا الهناء)
(إِن استشرنا فذوي الْعُقُول ... وَإِن تولى فذوي الْأُصُول)
(وَلَيْسَ فِي وعد وَلَا وَعِيد ... تخَالف القَوْل على التَّأْبِيد)
(وَإِن نعاقب فعلى قدر السَّبَب ... من الذُّنُوب لَا على قدر الْغَضَب)
(وَلَا نقدم الشَّبَاب مُطلقًا ... على الشُّيُوخ فِي وَلَاء أطلقا)
وَكَانَت وَفَاته فِي الثُّلُث الأول من اللَّيْل بعد فَرَاغه من صَلَاة الْعشَاء بعد أَن قَرَأَ(2/410)
سُورَة الْملك فِي لَيْلَة الْأَحَد حادي عشرى رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف بقسطنطينية الرّوم
عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد مفتي الدولة العثمانية الْمُحَقق الشهير أحد أَعْيَان عُلَمَاء الزَّمَان الَّذين ابتهجت بهم الْأَوْقَات وتزينت بحلى مآثرهم الْأَيَّام رَحل فِي مبدأ أمره من بَلَده ادنه إِلَى بِلَاد الأراد وَقَرَأَ بهَا الْعُلُوم الْحكمِيَّة والرياضية والطبيعية والإلهية على الْمولى أَحْمد المنجلي وَالْمولى حُسَيْن الخلخالي وَالْمولى مُحَمَّد أَمِين بن صدر الدّين الشرواني وفَاق فِي الْمعرفَة والاتقان ثمَّ اعتني بتتميم الْمَادَّة حَتَّى اجْتمع فِيهِ من الْفُنُون مَا لم يجْتَمع فِيمَا سواهُ مِمَّن عاصره وَكَانَ فِي جَمِيع أجواله مثابراً على التَّحْصِيل لَا يمل وَلَا يفتر وَحكى لي بعض من لَقيته من عُلَمَاء الرّوم قَالَ كَانَ كثيرا مَا ينْقل أمرا عجيباً وَقع لَهُ فِي إبان طلبه ويعجب مِنْهُ وَذَلِكَ أَن أحد أساتذته كَانَ امتحنه بِعِبَارَة وَأَظنهُ قَالَ إِنَّهَا فِي التَّفْسِير وَقَالَ لي اذْهَبْ هَذِه اللَّيْلَة إِلَى حجرتك ودقق النّظر فِي هَذَا الْمحل وَفِي غَد أَتكَلّم مَعَك فِيهِ قَالَ فَذَهَبت إِلَى حُجْرَتي وَكَانَ رجل من سكان الْمدرسَة الَّتِي كَانَ مسكني فِيهَا يتَرَدَّد إِلَيّ ويخدمني فَوضعت الكاغد قدامي وَجَلَست أنظر فِيهِ وَكَانَ ذَلِك الرجل يأتيني بالمأكل وَالْمشْرَب فأستعمل مِنْهُ وحررت على ذَلِك الْمحل رِسَالَة من أنفس مَا يكون ثمَّ جَاءَنِي الرجل وَقَالَ لي حَسبك من هَذَا النّظر فَسَأَلته عَن الْوَقْت فَقَالَ لي الْيَوْم كَذَا وَأَنت لَك الْآن عشرَة أَيَّام على هَذِه الْحَالة قَالَ فَقُمْت وَأَنا متعجب فِي ذَلِك وفكرت فِيمَا قَالَه فرأيته حَقًا وَمثل هَذَا لَا يستبعد عَن مثله وَبعد مَا برع رَحل إِلَى الرّوم وَحكى وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته قَالَ لما وردهَا لم يجد بهَا من يعرفهُ فاضطرب ثمَّ ذهب إِلَى جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد فَرَأى رجلا من سكان الْمدَارِس الثمان فَأنى بِهِ ثمَّ دَعَاهُ الرجل إِلَى حجرته وَبَات عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة وانجر مَعَه فِي أثْنَاء المكالمة إِلَى ذكر مَا وَقع لَهُ من الوحشة وشكى إِلَيْهِ رقة حَاله فسلاه ثمَّ قَالَ لَهُ إِنِّي كنت الْيَوْم عِنْد الْمولى عبد الْعَزِيز بن الْمولى سعد الدّين فَذكر أَن وَلَده مُحَمَّد البهائي قد تهَيَّأ للمذاكرة واستعد للْقِرَاءَة وَطلب مني استاذاً فلعلك تكون ذَلِك فانجلى عَن صَاحب التَّرْجَمَة مَا كَانَ يجده من الْغم وَلما أصبحا توجه الرجل إِلَى الْمولى الْمَذْكُور وأصحب صَاحب التَّرْجَمَة مَعَه وَعرف بِحَالهِ ونوه فصيره الْمولى عبد الْعَزِيز معلما لوَلَده الْمَذْكُور فاهتم بتعليمه الْفُنُون حَتَّى نبل وساد ثمَّ بعد مُدَّة لَازم على قاعدتهم من الْمولى الْمشَار إِلَيْهِ وَحج فِي خدمته سنة(2/411)
خمس وَعشْرين وَألف ودرس بعد ذَلِك بمدارس الطَّرِيق وَأخذ عَنهُ الجم الْغَفِير مِنْهُم الْمُحَقق الْكَبِير الْمولى مصطفى البولوي والعلامة المتقن يحيى المنقاري المفتيان ونما بِهِ حَظه فوصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء ينكى شهر ثمَّ تقاعد بعد ذَلِك عَن الْقَضَاء وَاخْتَارَ التدريس فوجهت إِلَيْهِ مدرسة السُّلْطَان أَحْمد برتبة قَضَاء قسطنطينية ثمَّ ولي قضاءها اسْتِقْلَالا وَنقل مِنْهَا إِلَى قَضَاء الْعَسْكَر باباطولي فِي سنة خمس وَألف وَلما عزل عَنْهَا أَمر بالتوجه إِلَى بَلَده ادنه بِالْأَمر السلطاني ثمَّ عَاد مِنْهَا بِطَلَب من جَانب السلطنة وَولي قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلي فِي شَوَّال سنة خمس وَخمسين ثمَّ صَار مفتي الدولة فِي سنة سبع وَخمسين وتمكنت قَوَاعِد جاهه فِي الْفتيا واستقل بِأَمْر الدولة حَتَّى كَانَ بِرَأْيهِ قتل السُّلْطَان إِبْرَاهِيم وَقد قَامَ بذلك الْأَمر أتم الْقيام وَأفْتى بقتْله بِنَاء على أَنه انتهك بعض الحرمات وانجر أمره فِي ذَلِك إِلَى غصب بعض نسَاء ذَوَات أَزوَاج ونقم عَلَيْهِ أُمُور غير ذَلِك كلهَا خَارِجَة عَن جادة الشَّرِيعَة فخلعه صَاحب التَّرْجَمَة من السلطنة وَأفْتى بقتْله فَقتل كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته وعلت حُرْمَة المترجم بعد ذَلِك وهابه الْخلق ثمَّ عزل عَن الْفتيا وَأمر بالتوجه إِلَى الْحَج فَسَار من الْبَحْر إِلَى مصر وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَخمسين ثمَّ بعد مَا حج عَاد من الطَّرِيق الشَّامي وَنزل بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية وَوجه إِلَيْهِ قَضَاء الْقُدس فَتوجه إِلَيْهَا وأزال مِنْهَا بعض أُمُوره مُنكرَة ثمَّ وَجه إِلَيْهِ قَضَاء بلغراد وإفتاؤها فسافر إِلَيْهَا وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله
عبد الرؤف بن تَاج العارفين بن عَليّ بن زين العابدين الملقب زين الدّين الحدادي ثمَّ الْمَنَاوِيّ القاهري الشَّافِعِي وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة ابْنة زين العابدين الإِمَام الْكَبِير الْحجَّة الثبت الْقدْوَة صَاحب التصانيف السائرة وَأجل أهل عصره من غير ارتياب وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا زاهداً عابداً قَانِتًا لله خَاشِعًا لَهُ كثير النَّفْع وَكَانَ متقرباً بِحسن الْعَمَل مثابراً على التَّسْبِيح والإذكار صَابِرًا صَادِقا وَكَانَ يقْتَصر يَوْمه وَلَيْلَته على أَكلَة وَاحِدَة من الطَّعَام وَقد جمع من الْعُلُوم والمعارف على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وتباين أقسامها مَا لم يجْتَمع فِي أحد مِمَّن عاصره نَشأ فِي حجر وَالِده وَحفظ الْقُرْآن قبل بُلُوغه ثمَّ حفظ الْبَهْجَة وَغَيرهَا من متون الشَّافِعِيَّة وألفية ابْن مَالك وألفية سيرة الْعِرَاقِيّ وألفية الحَدِيث لَهُ أَيْضا وَعرض ذَلِك على مَشَايِخ عصره(2/412)
فِي حَيَاة وَالِده ثمَّ أقبل على الِاشْتِغَال فَقَرَأَ على وَالِده عُلُوم الْعَرَبيَّة وتفقه بالشمس الرَّمْلِيّ وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْأَدب عَن النُّور عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَحضر دروس الاستاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ فِي التَّفْسِير والتصوف وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الغيطي وَالشَّيْخ قَاسم وَالشَّيْخ حمدَان الْفَقِيه وَالشَّيْخ الطبلاوي لَكِن كَانَ أَكثر اخْتِصَاصه بالشمس الرَّمْلِيّ وَبِه برع وَأخذ التصوف عَن جَمِيع وتلقن الذّكر من قطب زَمَانه الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراوي ثمَّ أَخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد المناخلي أخى عبد الله وأخلاه مرَارًا ثمَّ عَن الشَّيْخ محرم الرُّومِي حِين قدم مصر بِقصد الْحَج وَطَرِيق البيرامية عَن الشَّيْخ حُسَيْن الرُّومِي المنتشوى وَطَرِيق الشاذلية عَن الشَّيْخ مَنْصُور الغيطي وَطَرِيق النقشبندية عَن السَّيِّد الحسيب النسيب مَسْعُود الطاشكندي وَغَيرهم من مَشَايِخ عصره وتقلد النِّيَابَة الشَّافِعِيَّة بِبَعْض الْمجَالِس فسلك فِيهَا الطَّرِيقَة الحميدة وَكَانَ لَا يتَنَاوَل مِنْهَا شَيْئا ثمَّ رفع نَفسه عَنْهَا وَانْقطع عَن مُخَالطَة النَّاس وانعزل فِي منزله وَأَقْبل على التَّأْلِيف فصنف فِي غَالب الْعُلُوم ثمَّ ولي تدريس الْمدرسَة الصالحية فحسده أهل عصره وَكَانُوا لَا يعْرفُونَ مزية عمله لانزوائه عَنْهُم وَلما حضر الدَّرْس فِيهَا ورد عَلَيْهِ من كل مَذْهَب فضلاؤه منتقدين عَلَيْهِ وَشرع فِي إقراء مُخْتَصر الْمُزنِيّ وَنصب الجدل فِي الْمذَاهب وَأتي فِي تَقْرِيره بِمَا لم يسمع من غَيره فأذعنوا لفضله وَصَارَ إجلاء الْعلمَاء يبادرون لحضوره وَأخذ عَنهُ مِنْهُم خلق كثير مِنْهُم الشَّيْخ سُلَيْمَان البابلي وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم الطاشكندي وَالشَّيْخ عَليّ الأَجْهُورِيّ وَالْوَلِيّ المعتقد أَحْمد الْكَلْبِيّ وَولده الشَّيْخ مُحَمَّد وَغَيرهم وَكَانَ مَعَ ذَلِك لم يخل من طَاعن وحاسد حَتَّى دس عَلَيْهِ السم فتوالي عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك نقص فِي أَطْرَافه وبدنه من كَثْرَة التَّدَاوِي وَلما عجز صَار وَلَده تَاج الدّين مُحَمَّد يستملي مِنْهُ التآليف ويسطرها وتآليفه كَثِيرَة مِنْهَا تَفْسِيره على سُورَة الْفَاتِحَة وَبَعض سُورَة الْبَقَرَة وَشرح على شرح العقائد للسعد التَّفْتَازَانِيّ سَمَّاهُ غَايَة الْأَمَانِي لم يكمل وَشرح على نظم العقائد لِابْنِ أبي شرِيف وَشرح على الْفَنّ الأول من كتاب النقاية للجلال السُّيُوطِيّ وَكتاب سَمَّاهُ أَعْلَام الْأَعْلَام بأصول فني الْمنطق وَالْكَلَام وَشرح على متن النخبة كَبِير سَمَّاهُ نتيجة الْفِكر وَآخر صَغِير وَشرح على شرح النخبة سَمَّاهُ اليواقيت والدرر وَشرح عَليّ الْجَامِع الصَّغِير ثمَّ اخْتَصَرَهُ فِي أقل من ثلث حجمه وَسَماهُ التَّيْسِير وَشرح قِطْعَة من زَوَائِد الْجَامِع الصَّغِير وَسَماهُ مِفْتَاح السَّعَادَة(2/413)
بشرح الزياد وَله كتاب جمع فِيهِ ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث وَبَين مَا فِيهِ من الزِّيَادَة على الْجَامِع الْكَبِير وعقب كل حَدِيث بِبَيَان رتبته وَسَماهُ الْجَامِع الْأَزْهَر من حَدِيث النَّبِي الأنور وَكتاب آخر فِي الْأَحَادِيث الْقصار عقب كل حَدِيث بِبَيَان رتبته سَمَّاهُ الْمَجْمُوع الْفَائِق من حَدِيث خَاتِمَة رسل الْخَلَائق وَكتاب انتقاه من لِسَان الْمِيزَان وَبَين فِيهِ الْمَوْضُوع وَالْمُنكر والمتروك والضعيف ورتبه كالجامع الصَّغِير وَكتاب فِي الْأَحَادِيث الْقصار جمع فِيهِ عشرَة آلَاف حَدِيث فِي عشر كراريس كل كراسة ألف حَدِيث كل حَدِيث فِي نصف سطر يقْرَأ طرداً وعكساً سَمَّاهُ كنز الْحَقَائِق فِي حَدِيث خير الْخَلَائق وَشرح على نبذة شيخ الْإِسْلَام الْبكْرِيّ فِي فضل لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَكتاب فِي فضل لَيْلَة الْقدر سَمَّاهُ أسفار الْبَدْر عَن لَيْلَة الْقدر وَشرح على الْأَرْبَعين النووية ورتب كتاب الشهَاب الْقُضَاعِي وَشَرحه وَسَماهُ إمعان الطلاب بشرح تَرْتِيب الشهَاب وَله كتاب فِي الْأَحَادِيث القدسية وَشرح الْكتاب الْمَذْكُور وَشرح الْبَاب الأول من الشفا وَشرح الشمايل لِلتِّرْمِذِي شرحين أَحدهمَا مزج وَالْآخر قولات لكنه لم يكمل وَشرح ألفية السِّيرَة لجده الْعِرَاقِيّ شرحين أَحدهمَا قولات وَالْآخر مزج سَمَّاهُ الفتوحات السبحانية فِي شرح نظم الدُّرَر السّنيَّة فِي السِّيرَة الزكية وَشرح الخصائص الصُّغْرَى للجلال السُّيُوطِيّ شرحين صَغِير سَمَّاهُ فتح الرؤف الْمُجيب بشرح خَصَائِص الحبيب وَشرح كَبِير سَمَّاهُ توضيح فتح الرؤف الْمُجيب وَاخْتصرَ شمائل التِّرْمِذِيّ وَزَاد عَلَيْهِ أَكثر من النّصْف وَسَماهُ الرَّوْض الباسم فِي شمايل الْمُصْطَفى أبي الْقَاسِم وَخرج أَحَادِيث القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ وَكتاب الْأَدْعِيَة المأثورة بالأحاديث المأثورة وَكتاب آخر سَمَّاهُ بالمطالب الْعلية فِي الْأَدْعِيَة الزهية وَكتاب فِي اصْطِلَاح الحَدِيث سَمَّاهُ بغية الطالبين لمعْرِفَة اصْطِلَاح الْمُحدثين وَشرح على وَرَقَات إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَآخر على وَرَقَات شيخ الْإِسْلَام ابْن أبي شرِيف وَاخْتصرَ التَّمْهِيد للأسنوي لكنه لم يكمله وَله كتاب فِي الْأَوْقَاف سَمَّاهُ تيسير الْوُقُوف على غوامض احكام الْوُقُوف وَهُوَ كتاب لم يسْبق إِلَى مثله وَشرح زبد ابْن أرسلان الَّتِي نظم فِيهَا أَرْبَعَة عُلُوم أصُول الدّين وأصول الْفِقْه وَالْفِقْه والتصوف وَسَماهُ فتح الرؤف الصَّمد بشرح صفوة الزّبد وَشرح التَّحْرِير لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا سَمَّاهُ إِحْسَان التَّقْرِير بشرح التَّحْرِير ثمَّ شرح نظمه للعمريطي بالتماس بعض الْأَوْلِيَاء وَسَماهُ فتح الرؤف(2/414)
الْخَبِير بشرح كتاب التَّيْسِير نظم التَّحْرِير وصل فِيهِ إِلَى كتاب الْفَرَائِض وكمله ابْنه تَاج الدّين مُحَمَّد وَشرح على عماد الرضي فِي آدَاب الْقَضَاء سَمَّاهُ فتح الرؤف الْقَادِر لعَبْدِهِ هَذَا الْعَاجِز الْقَاصِر وَشرح على الْعباب سَمَّاهُ اتحاف الطلاب بشرح كتاب الْعباب انْتهى فِيهِ إِلَى كتاب النِّكَاح وحاشية عَلَيْهِ لكنه لم يكملها وَشرح على الْمنْهَج انْتهى فِيهِ إِلَى الضَّمَان وحاشية على شرح الْمنْهَج لم تكمل وَكتاب فِي أَحْكَام الْمَسَاجِد سَمَّاهُ تَهْذِيب التسهيل وَكتاب فِي مَنَاسِك الْحَج على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة سَمَّاهُ اتحاف الناسك بِأَحْكَام الْمَنَاسِك وَشرح على الْبَهْجَة الوردية سَمَّاهُ الْفَتْح السماوي بشرح بهجة الطَّحَاوِيّ ثمَّ اخْتَصَرَهُ فِي نَحْو ثلث حجمه وَكِلَاهُمَا لم يكمل وَكتاب فِي أَحْكَام الْحمام الشَّرْعِيَّة والطبية سَمَّاهُ النزهة الزهية فِي أَحْكَام الْحمام الشَّرْعِيَّة والطبية وَشرح على هَدِيَّة الناصح للشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد لكنه لم يكمل وَشرح على تَصْحِيح الْمِنْهَاج سَمَّاهُ الدّرّ المصون فِي تَصْحِيح القَاضِي ابْن عجلون لكنه لم يكمل وَشرح على مُخْتَصر الْمُزنِيّ لم يكمل وَاخْتصرَ الْعباب وَسَماهُ جمع الْجَوَامِع وَلم يكمل وَكتاب فِي الألغاز والحيل سَمَّاهُ بُلُوغ الأمل بِمَعْرِِفَة الألغاز والحيل وَكتاب فِي الْفَرَائِض وَشرح على الشمعة المضية فِي علم الْعَرَبيَّة للسيوطي سَمَّاهُ المحاضر الوضية فِي الشمعة المضية وَكتاب جمع فِيهِ عشرَة عُلُوم أصُول الدّين وأصول الْفِقْه والفرائض والنحو والتشريح والطب والهيئة وَأَحْكَام النُّجُوم والتصوف وَكتاب فِي فضل الْعلم وَأَهله وَكتاب اختصر فِيهِ الْجُزْء الأول من الْمُبَاح فِي علم الْمِنْهَاج للجلدكي وَشرح على الْقَامُوس انْتهى فِيهِ إِلَى حرف الذَّال وَاخْتصرَ الأساس ورتبه كالقاموس وَسَماهُ أَحْكَام الأساس وَكتاب الْأَمْثَال وَكتاب سَمَّاهُ عماد البلاغة وَكتاب فِي أَسمَاء الْبلدَانِ وَكتاب فِي التعاريف سَمَّاهُ التَّوْقِيف على مهمات التعاريف وَكتاب فِي أَسمَاء الْحَيَوَان سَمَّاهُ قُرَّة عين الْإِنْسَان بِذكر أَسمَاء الْحَيَوَان وَكتاب فِي أَحْكَام الْحَيَوَان سَمَّاهُ الْإِحْسَان بِبَيَان أَحْكَام الْحَيَوَان وَكتاب فِي الْأَشْجَار سَمَّاهُ غَايَة الْإِرْشَاد إِلَى معرفَة أَحْكَام الْحَيَوَان والنبات والجماد وَكتاب فِي التَّفْصِيل بَين الْملك وَالْإِنْسَان وَكتاب الْأَنْبِيَاء سَمَّاهُ فردوس الْجنان فِي مَنَاقِب الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن وَكتاب الطَّبَقَات الْكُبْرَى سَمَّاهُ الْكَوَاكِب الدرية فِي تراجم السَّادة الصُّوفِيَّة وَكتاب الصفوة بمناقب بَيت آل النُّبُوَّة وأفرد السيدة فَاطِمَة بترجمة وَالْإِمَام الشَّافِعِي بترجمة وَكَذَا(2/415)
الشَّيْخ عَليّ الْخَواص شيخ الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراني وَله شرح على منَازِل السائرين وَحكم ابْن عَطاء الله وترتيب الحكم للشَّيْخ على التقى سَمَّاهُ فتح الحكم بشرح تَرْتِيب الحكم لكنه لم يكمل وَشرح على رِسَالَة ابْن سينا فِي التصوف سَمَّاهُ إرْسَال أهل التَّعْرِيف وَشرح قصيدة العينية وَله شرح على المواقف التقوية لم يكمل وَشرح على رِسَالَة الشَّيْخ ابْن علوان فِي التصوف وَكتاب منحة الطالبين لمعْرِفَة أسرار الطواعين وَكتاب فِي التشريح وَالروح وَمَا بِهِ من صَلَاح الْإِنْسَان وفساده وَكتاب فِي دَلَائِل خلق الْإِنْسَان وَشرح على ألفية ابْن الوردي فِي المنامات وَشرح على منظومة ابْن الْعِمَاد فِي آدَاب الْأكل سَمَّاهُ فتح الرؤف الْجواد وَهُوَ أول كتاب شَرحه فِي الْآدَاب وَكتاب فِي آدَاب الْمُلُوك سَمَّاهُ الْجَوَاهِر المضية فِي بَيَان الْآدَاب السُّلْطَانِيَّة وَكتاب فِي الطِّبّ سَمَّاهُ بغية الْمُحْتَاج إِلَى معرفَة أصُول الطِّبّ والعلاج وَكتاب سَمَّاهُ الدّرّ المنضود فِي ذمّ الْبُخْل ومدح الْجُود وَكتاب فِي تَارِيخ الْخُلَفَاء وَتَذْكِرَة فِيهَا رسائل عَظِيمَة النَّفْع يَنْبَغِي أَن يفرد كل مِنْهَا بالتأليف وَله مؤلفات أخر غير هَذِه وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أعظم عُلَمَاء هَذَا التَّارِيخ آثارا ومؤلفاته غالبها متداولة كَثِيرَة النَّفْع وَلِلنَّاسِ عَلَيْهَا تهافت زَائِد ويتغالون فِي أثمانها وأشهرها شرحاه على الْجَامِع الصَّغِير وَشرح السِّيرَة الْمَنْظُومَة للعراقي وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الْأَزْهَر يَوْم الْجُمُعَة وَدفن بِجَانِب زاويته الَّتِي أَنْشَأَهَا بِخَط الْمقسم الْمُبَارك فِيمَا بَين زاويتي سَيِّدي الشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد وَالشَّيْخ مَدين الأشموني وَقيل فِي تَارِيخ مَوته مَاتَ شَافِعِيّ الزَّمَان رَحمَه الله تَعَالَى
عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم اللَّقَّانِيّ الْمصْرِيّ الْمَالِكِي الْحَافِظ المتقن الفهامة شيخ الْمَالِكِيَّة فِي وقته بِالْقَاهِرَةِ كَانَ فِي مبدأ أمره على مَا حكى من أهل الْأَهْوَاء المارقين وَلم يتَّفق أَنه رؤى بِمصْر فِي مَكَان إِلَّا فِي درس وَالِده الْبُرْهَان وَكَانَ إِذا انْتهى الدَّرْس ينفقد فَلَا يُوجد ويمضي لما كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَبوهُ فتصدر فِي مَكَانَهُ بِجَامِع الْأَزْهَر للتدريس وَنزع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَيَّام شبابه وَظهر مِنْهُ مَا لَا يخمن فِيهِ من الْعلم وَالتَّحْقِيق وَلَزِمَه غَالب الْجَمَاعَة الَّذين كَانُوا يحْضرُون درس وَالِده وانتفع بِهِ خلق كثير وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا مُحدثا باهرا أصوليا إِلَيْهِ النِّهَايَة وَله تآليف حَسَنَة الْوَضع مِنْهَا شرح الْمَنْظُومَة الجزائرية فِي العقائد وَله ثَلَاثَة(2/416)
شُرُوح على عقيدة وَالِده الْجَوْهَرَة وَكَانَ ذَا شهامة ونفسانية كثير الْخط على عُلَمَاء عصره وَكَانَت لَهُ شدَّة وهيبة لَا سِيمَا فِي دروسه فَكَانَ لَا يقدر أحد من الْحَاضِرين أَن يسْأَله أَو يرد عَلَيْهِ هَيْبَة لَهُ وَكَانَ كبار الْمَشَايِخ من أهل وقته يحترمون ساحته وينقادون لرأيه وَسمعت بعض الْأَشْيَاخ المصريين يَقُول أَنه لَو كَانَ على وتيرة وَالِده من الأكباب على الإفادة لفاته بمراحل على أَنه كَانَ فِي طبقته فضلا ومهابة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْجُمُعَة خَامِس عشرى شَوَّال سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَحكى شَيخنَا الإِمَام الْعَلامَة يحيى الشاوي المغربي روح الله تَعَالَى روحه أَنه رَآهُ بعد مَوته فِي الْمَنَام فأنشده
(حَدثنِي ذَا الْمُصْطَفى ... من لَفظه ألف حَدِيث)
(وقصده بحفظها ... سيري إِلَيْهِ بالحثيث)
عبد السَّلَام بن عبد النَّبِي المرعشي المولد نزيل دمشق وَأحد أَعْيَان الْجند بِالشَّام كَانَ وَالِده فِي الأَصْل من البوابين بالأبواب السُّلْطَانِيَّة قدم إِلَى دمشق وَصَارَ بهَا رَئِيس المحاضر وتديرها وَلما مَاتَ خلف أَوْلَادًا كَثِيرَة وَكَانَ عبد السَّلَام أكبرهم فانحاز إِلَى خدمَة الْأَمِير فروخ أَمِير الْحَاج الشَّامي وَصَارَ كَاتبا عِنْده وَاسْتمرّ فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْأَمِير الْمَذْكُور بِمَكَّة فأقيم مكانة أَمِيرا وَقدم بالركب إِلَى دمشق ثمَّ قطنها وَصَارَ من الْجند واقتنى دَارا بدرب الْوَزير وَكَانَ فِي بعض الْأَحَايِين يتَرَدَّد إِلَى نابلس لعلاقة كَانَت لَهُ بهَا ثمَّ سَافر إِلَى مصر فِي خدمَة حاكمها دالي حُسَيْن باشا وتقرب إِلَيْهِ فَأَحبهُ وَأَدْنَاهُ وَلما عزل أَصْحَبهُ مَعَه إِلَى الرّوم وسافر مَعَه إِلَى روان وبغداد وَعَاد إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا على أوقاف السُّلْطَان سليم وَصَارَ بعد ذَلِك باش جاويش وَتوجه بِهَذِهِ الْخدمَة إِلَى الْحَج عدَّة سِنِين ثمَّ صَار كتخدا الْجند وتنقل فِي مناصبهم كثيرا حَتَّى اسْتَقر آخرا يياباشيا وَكَبرت دولته وَعلا صيته وانعقد على صدارته الْإِجْمَاع وَلم يكن أحد تعين تعينه فَإِنَّهُ انحصرت فِيهِ أُمُور الشَّام بأجمعها وَتصرف تَصرفا فاعجيبا عَاما بِحَيْثُ لم يُخَالف فِي رَأْي يقترحه وَأنْشد فِيهِ بعض الأدباء هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مغيرا لَهما عَن أَصلهمَا وهما
(يَا سائلي عَن جلق ... وَمن بهَا من الْأَنَام)
(هاك الْجَواب عَاجلا ... عبد السَّلَام وَالسَّلَام)
والبيتان أَصلهمَا للشَّيْخ أَحْمد الْمقري قالهما فِي بني الفصين كبراء غَزَّة وَسَيَأْتِي(2/417)
خبرهما فِي تَرْجَمَة الرئيس مُحَمَّد بن الفصين وَكَانَ عبد السَّلَام لما وجهت نِيَابَة الشَّام لمرتضى باشا الكرحي ثَانِيًا فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَتصرف بهَا متسلمه اضْطربَ لذَلِك اضطرابا شَدِيدا لما كَانَ وَقع لَهُ مَعَه من المعاداة فِي تَوليته الأولى فَأخذ يدبر أَشْيَاء لمدافعته ثمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى أَن جمع جمعا عَظِيما بالجامع الْأمَوِي وأحضر أَكثر أهل الْبَلدة وَذكر لَهُم ظلمه وَأَشَارَ عَلَيْهِم بِأَن لَا يرضوه حَاكما عَلَيْهِم وَكَانَ نَائِب الشَّام السَّابِق الْمَعْرُوف بالسلاحدار لم يخرج بعد من دمشق وَكَانَ مُقيما بالميدان الْأَخْضَر فَذهب الْقَوْم إِلَيْهِ وأبرموا عَلَيْهِ بِأَن يبْقى نَائِبا وَكَتَبُوا فِي هَذَا الشَّأْن عرُوضا ومحاضر وأرسلوها إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة وَخرج متسلم مرتضى باشا هَارِبا وَلما وصل إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الطَّرِيق أرسل إِلَى الْبَاب السلطاني يعلمهُمْ بِمَا وَقع فقرر فِي نِيَابَة الشَّام بِخَط شرِيف فَلم يمكنوه وأظهروا الممانعة وجمعوا جمعا عَظِيما من أوباش الشَّام وعزموا على محاربته وطلعوا إِلَى قَرْيَة دَوْمًا وهم فِي جَيش عَرَمْرَم وَكَانَ مرتضى باشا وصل إِلَى القطيفة فَلَمَّا بلغه خبرهم ولى رَاجعا وَسَار إِلَى أَن وصل إِلَى أدنة وَعَاد الْجمع فِي صَبِيحَة توجههم إِلَى دمشق ثمَّ بعد مُدَّة وجهت نِيَابَة الشَّام إِلَى أَحْمد باشا ابْن الطيار وَأعْطى مرتضى باشا كَفَالَة ديار بكر مَكَانَهُ وَتعين ابْن الطيار إِلَى السّفر السلطاني وَأمر الْعَسْكَر الشَّامي بِالسَّفرِ مَعَه وَكَانَ عبد السَّلَام أحد من تعين للسَّفر فَأرْسل بَدَلا عَنهُ وَلم يُسَافر بِنَفسِهِ خوفًا من إِيقَاع المكيدة بِهِ وانحاز ابْن الطيار إِلَى حسن باشا الْخَارِج على الدولة الْمُقدم ذكره فعزل عَن نِيَابَة الشَّام وَولي مَكَانَهُ عبد الْقَادِر باشا وَقدم إِلَى دمشق وَكَانَ عبد السَّلَام وأحزابه فِي قلق عَظِيم من طرف السلطنة لما فَعَلُوهُ فأرسلوا من جانبهم جمَاعَة لاستعطاف خاطر الدولة عَلَيْهِم وَكَانَ الْأَمر تشدد عَلَيْهِم كثيرا فبرز أَمر السُّلْطَان بقتل عبد السَّلَام ورفيقه عبد الْبَاقِي بن إِسْمَاعِيل كَاتب الْجند وَجَمَاعَة كَثِيرَة من أحزابهما وَورد الْأَمر إِلَى عبد الْقَادِر باشا فَقَتلهُمْ وَضبط جَمِيع أملاكهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ الَّذِي ضبط شَيْئا كثيرا وخمدت نَار الْفِتْنَة بِقَتْلِهِم وَكَانَ مقتلهم فِي صَبِيحَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن عبد السَّلَام وَعبد الْبَاقِي بمقبرة بَاب الصَّغِير وألحقوا بعد مُدَّة أَيَّام بِجَمَاعَة أُخْرَى قتلوا وَالله أعلم
عبد الصَّمد بن عبد الله با كثير اليمني خَاتِمَة مفلقي الشُّعَرَاء بِالْيمن ونابغة الْعَصْر وباقعة الزَّمن يَنْتَهِي نسبه إِلَى كِنْدَة وَهُوَ نسب تقف الفصاحة قَدِيما وحديثا(2/418)
عِنْده وَكَانَ كَاتب الْإِنْشَاء للسُّلْطَان عمر بن بدر ملك الشحر وشاعره الَّذِي تنفث فِي مدائحه سحر الْبَيَان وَبَيَان السحر وَله ترسل وإنشاء تصرف فِي إعجازهما كَيفَ شَاءَ وديوان شعره مَشْهُور تتلو محاسنه ألسن الْأَيَّام والشهور وَلم يزل كَاتبا للسطان الْمَذْكُور فِي عَهده ثمَّ لوَلَده عبد الله بن عمر من بعده حَتَّى انْقَضى أَجله وعمره وَهوى من أفق الْحَيَاة قمره فَمن شعره قَوْله من قصيدة
(رعيا لأيام تقضت بالحمى ... فرنا بهَا ووشاتنا غفلاء)
(جاد الزَّمَان بهَا وأسعفنا بِمن ... نهوى وَلم تشعر بِنَا الرقباء)
(وَمنا دمى يدر على غُصْن على ... حقف لَهُ قلبِي العميد خباء)
(عذب الْمقبل عاطر الأنفاس درياق ... النُّفُوس شفاهه اللعساء)
(متبسم عَن أشنب شنب لَهُ ... مهما تَبَسم فِي الدجى لألاء)
(مَا مسك دارين بأطيب نكهة ... مِنْهُ وَقد ضَاعَت لَهُ رِيَاء)
(عبر النسيم يجر فضل رِدَائه ... فحبته من كافورها الأنداء)
(فتعطرت من طيب فائح نشره ... أَرْوَاحنَا وسرت لَهُ السَّرَّاء)
(فسقى الْإِلَه مراتع الغزلان من ... وَادي النقا وهمت بهَا الأنواء)
(وتهللت برياضها سحب الحيا ... وسرت عَلَيْهَا دِيمَة وطفاء)
(حَتَّى يَرَاهَا الطّرف ابهج رَوْضَة ... فيروقها الأصباح والأمساء)
(وَالطير عاكفة بِكُل حديقة ... فَكَأَنَّهَا بلحونها قراء)
(وَالرَّوْض مبتهج الحيا فَكَأَنَّمَا ... وَأرَاهُ من غمر الندى داماء)
وَقَوله من أُخْرَى
(هذي المرابع والكثيب إِلَّا وعس ... وظبا الْخيام الآنسات الكنس)
(قف بِي عَلَيْهَا سَاعَة فَلَعَلَّ أَن ... يَبْدُو لي الخشف الأغن إِلَّا لعس)
(فلطالما عفت الْكرَى عَن ناظري ... شوقا إِلَيْهِ ومدمعي يتحبس)
(ينهل سَحا مثل منهمر الحيا ... فَوق المحاجر مُطلقًا لَا يحبس)
(وأغن ناعس طرفه سلب الْكرَى ... عَنى فطرفي ساهر لَا يَنْعس)
(أشتاقه مَا لَاحَ صبح مُسْفِر ... فِي أفقه أَو جن ليل حندس)
مِنْهَا
(يَا عاذلي دَعْنِي وشأني أَن لي ... قلبا بِغَيْر الْحبّ لَا يسْتَأْنس)
(لَك قدرَة أَن لَا تلوم وَلَيْسَ لي ... صَبر بِهِ دون الورى أتلبس)(2/419)
(كَيفَ السلو عَن الْأَحِبَّة بَعْدَمَا ... دارت عَليّ من الصبابة أكؤس)
(نقل الصِّبَا نشر الحبيب وحبذا ... نشربه ريح الصِّبَا تتنفس)
(آها وَلَا يجدي التأوه والأسى ... فالصبر أجمل والتحمل أَكيس)
وَقَوله أَيْضا
(جاد الْغَمَام مراتع الغزلان ... ومرابع الرشا الأغن الغاني)
(وسرى عَلَيْهَا كل أسحم هاطل ... غدق يسح بوابل هتان)
(يحيى ربوعا طالما لعبت بهَا الغيد ... الحسان نواعس الأجفان)
(من كل فاتنة اللحاظ إِذا رنت ... سلبت بِسحر اللحظ كل جنان)
(فَكَأَنَّهَا الأقمار تطلع فِي دجى ... ليل من المسترسل الغثيان)
(وكأنما تِلْكَ القدود إِذا انْثَنَتْ ... قضب تمايل فِي ربى الكثبان)
(وبمهجتي خشف أغن مهفهف ... أصمي فُؤَادِي إذر نافر ماني)
(ظَبْي من الْأَعْرَاب فِي وجناته ... قوت الْقُلُوب وسلوة الأحزان)
(بِاللَّه مَا طالعت طلعة وَجهه ... إِلَّا ورحت براحة النشوان)
(مَاء الشبيبة فَوق ورد خدوده ... يجْرِي على متلهب النيرَان)
(ذَابَتْ عَلَيْهِ حشاشتي وجدابه ... وصبابة وجفا الْكرَى أجفان)
(لم أنس أَيَّام التواصل واللقا ... والشمل مُجْتَمع بوادي البان)
(ومنادمي من قد هويت وبيننا الصّرْف ... الْكُمَيْت تدار فِي الأدنان)
(شمس مطالعها سعود كؤسها ... بَين الندامى فِي بروج تهاني)
(فِي رَوْضَة مفروشة أرجاؤها ... بالورد والمنثور وَالريحَان)
(يتراقص الندماء من طرب بهَا ... بتراجع النغمات والعيدان)
(لم لَا يواصلنا السرُور وَنحن فِي ... الفردوس بَين الْحور والولدان)
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(أشتاق من سَاكِني ذَاك الْحمى خيما ... لأَجلهَا زَاد شوقي فِي الحشا ونما)
(ولاعج الشوق والتبريح من كمد ... أجْرى من الْعين مَعًا يخجل الديما)
(مَا جن ليلِي إِلَّا بت من كلف ... أرعى النُّجُوم بِطرف يستهل دَمًا)
(لَوْلَا هوى شادن فِي الْقلب مرتعه ... مَا اشْتقت وَادي النقا واليان والعلما)
(نَفسِي الْفِدَاء لظبي وَجهه قمر ... وبرجه فِي سما قلبِي العميد سما)
(يصمي فُؤَادِي بنبل من لواحظه ... عَن قَوس حَاجِبه مهما رنا وَرمى)(2/420)
(فِي ثغره الدّرّ منظوماً فيا لَك من ... ثغر شنيب يُرِيك الدّرّ منتظماً)
(جلّ الَّذِي صاغه بَدْرًا على غُصْن ... على كثيب بأبداه لنا صنما)
(لم يكسه الْحسن ثوبا من مطارفه ... إِلَّا كسا جَسَدِي من عشقه سقماً)
وَقَوله من أُخْرَى مستهلها
(عاذل فِي الغرام مهلا فقلبي ... حَملته الأحباب مَا لَا يُطيق)
(كَيفَ يصغي إِلَى اللوائم صب ... فِي حشاه من الْفِرَاق حريق)
(سلبته اللواحظ البابليات ... وأردى بِهِ القوام الرشيق)
(وسباه أغن أحوى رداح ... ينشد الْعِشْق حسنه المعشوق)
(قد كَفاهُ عَن المهند لحظ ... وَعَن الرمْح قدة الممشوق)
(روض خديه جنَّة لَاحَ فِيهَا ... جلنار وسوسن وشقيق)
(وَله مبسم يضيء سناه ... عَن شنيب حَكَاهُ درنسيق)
وَكَانَت وَفَاته بالشحر فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَقد عمر طَويلا
عبد الصَّمد بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة ابْن عَمه أَحْمد بن صَالح العلمي الْقُدسِي ابْن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد العلمي الْأُسْتَاذ الشهير كَانَ مَعَ وَالِده بِدِمَشْق لما كَانَ قاطنا بهَا واستخلفه أَبوهُ بعد الْألف وَكَانَ يجلس فِي حلقه الذّكر وَحده أَو مَعَ أَبِيه وَهُوَ غض الحداثة بارع الْحسن وَعَلِيهِ وقار الْأَشْيَاخ وَلما حج وَالِده فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف حج مَعَه وجاور أَبوهُ وَرجع هُوَ ثمَّ رَجَعَ أَبوهُ فِي السّنة الثَّانِيَة وَلم يلبثا بِدِمَشْق بل رحلا إِلَى بَيت الْمُقَدّس وتوطنا بهَا وَتُوفِّي عبد الصَّمد فِي حَيَاة وَالِده وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْعَزِيز بن حسام الدّين الْمَعْرُوف بقره حَلَبِيّ زَاده الرُّومِي أحد مفتي التخت العثماني وَهُوَ من بَيت كَبِير فِي الرّوم أسلافه كلهم صُدُور أجلاء وَكَانَ هُوَ من كبار الْعلمَاء حسن الأرومة طيب الْعرق عذب الشمايل عالي الْقدر كثير التنعم والترفه وَكَانَ مثريا جدا وَله خيرات ومبرات كَثِيرَة خُصُوصا بِمَدِينَة بروسه وَكَانَ معتنيا بالتآليف وَله من الْآثَار المرغوية كتاب الألغاز فِي فقه الْحَنَفِيَّة وَألف تَارِيخا مُخْتَصرا وَآخر مطبولا فِي الدولة العثمانية كِلَاهُمَا بالتركية يحتويان على ضروب من حسن الْإِنْشَاء والترصيع وجعلهما برسم خزانَة السُّلْطَان مُرَاد وَكَانَ ينظم الشّعْر التركي وَله إنْشَاء مشتعذب وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من مشاهير عُلَمَاء الرّوم نَشأ فِي(2/421)
كنف أَبِيه ولازم من شيخ الْإِسْلَام صنع الله بن جَعْفَر الْمُفْتِي ثمَّ درس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء ينكى شهر فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ ولي قَضَاء مَكَّة المشرفة فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَقدم إِلَى دمشق وَبَعْدَمَا عزل وردهَا قَافِلًا وَأقَام بهَا مُدَّة وَتوجه إِلَى الْقُدس لزيارة معاهدها فاعترضه قطاع الطَّرِيق قريب الْمنية وَأخذُوا لَهُ بعض أَسبَاب فَعَاد إِلَى دمشق وَلم يحصل على الزِّيَارَة وَكَانَت مُدَّة إِقَامَته بِدِمَشْق مختلطا بأدبائها مُقبلا عَلَيْهِم وَله لديهم منائج وَلَهُم فِيهِ مدائح فَمنهمْ الشاهيني فَإِنَّهُ مدحه بقصيدة حَسَنَة فِي أسلوبها ومستهلها
(اقتضبنا المديح وَهُوَ عَزِيز ... حَيْثُ معنى النسيب لَيْسَ يجوز)
(ونظمنا من الْكَلَام عقودا ... در مَعْنَاهُ فِي النهى مكنوز)
(ونسجنا من القريض برودا ... طرزها لَا يزينه التطريز)
(ورغبنا عَن كل مدح مشوب ... بنسيب فمدحنا إبريز)
(واجتبينا من بَين كل الموَالِي ... أوحدا يملك العلى ويحوز)
(عَالما كل مَا يحوز لَدَيْهِ ... هُوَ شرع وَغَيره لَا يجوز)
(حَاز ضدين فِي الْكَلَام فَمَعْنَى ... مسهب وَاسع وَلَفظ وجيز)
(قد أذلّ الصعاب من كل معنى ... فلذاك اسْمه الْكَرِيم الْعَزِيز)
(لم يعزز بثالث فِي نداه ... بعزيز لحاتم تعزيز)
(لَيْلَة الْقدر لَيْلَة فِي حماه ... قد تقضت ويومه نوروز)
(هجر الْمَنْع فِي الْكَلَام فمهما ... رام نطقا فَمَنعه تَنْجِيز)
(كل أوصافك الحسان العوالي ... عوذ تحفظ العلى وحروز)
(أَي نفس غَدَتْ من الْخَيْر صفرا ... تِلْكَ نفس بطوعكم لَا تفوز)
(فإليك الَّتِي تحاول كُفؤًا ... وَلها عَن حمى سواك نشوز)
(كل معنى يجْرِي بأبلغ وَجه ... فَهُوَ عقد لمدحكم محروز)
(قد نماها من ابْن شاهين باز ... عَلمته صيد القوافي بؤز)
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ قصيدة جَيِّدَة أَو ردتها برمتها اللطافة نسيجها وسلاسة تغزلها ومطلعها
(من لقلب مَا بَين سمر وبيض ... من قوام لدن وطرف مَرِيض)
(من لمن صادم الْهوى من نصير ... فإليه إِذا سَطَا تفويضي)(2/422)
(زارني فِي الدجى فَكَانَ كبدر ... التم قد لَاحَ فِي اللَّيَالِي الْبيض)
(شادن لَو يُقَابل الشَّمْس والبدر ... لكانا فِي رُتْبَة المستفيض)
(سلب الْعقل والفؤاد وخلاني ... لهجرانه الطَّوِيل العريض)
(فنهاري نَهَار منتظر فِيهِ وليلى ... لَا ذقت ليل الْمَرِيض)
(عاقني عَن شكايتي مَا أُلَاقِي ... عَن سوى مدحك امْتنَاع القريض)
(سنَن النسيب كُنَّا نرَاهَا ... سَقَطت لاشتغالنا بالفروض)
(هُوَ مولى سما السماكين فضلا ... وعداه من الثرى فِي حضيض)
(وانجلت عِنْد فَضله مشكلات ... للمعاني فمالها من غموض)
(قَوْله فِي الْعُلُوم يرْوى صَحِيحا ... وسواه بِصِيغَة التمريض)
(جمعت ذَاته المكارم حَتَّى ... مَالهَا غير كَفه من مفيض)
(وَاسْتحق الْعليا فَإِن أصف الْغَيْر ... بعليا يكن بِهِ تعريضي)
(قعدت حاسدوه عَن شأ وعلياه ... قصورا فمالها من نهوض)
(وابتني فِي ذرى العلى غرف الْمجد ... وماذا الْبناء بالمنقوض)
(جاد طبعا فَعنده اللوم فِي الْجُود ... كحث عَلَيْهِ أَو تحريض)
(رام لَو شاطر العميد لذيذ النّوم ... لَو كَانَ مُمكن التَّبْعِيض)
(مَا عَزِيز بِمصْر عنْدك يلفي ... بعزيز بل إِنَّه كالنقيض)
(فالعزيز الَّذِي يعز بِهِ الْغَيْر ... كمولاي مِنْهُ عزقر يضي)
(غرر فاقت الثريا نظاما ... فَهِيَ تزري بِكُل روض أريض)
(وقواف كَأَنَّهَا الشهب لاحت ... فِي سما الْمَدْح من بروج الْعرُوض)
(هِيَ لي بنت لَيْلَة وَهِي ترضي ... من قبُول بمهرها الْمَقْبُوض)
(مَالهَا غير أَن تبقى رَجَاء ... هَل لصافي الْحَيَاة من تعويض)
(خاطري أَو جز المديح ولولاك ... لما جَاءَ برقه بالوميض)
(لَك عِنْدِي مدى الزَّمَان ثَنَاء ... وثناء عددته من فروضي)
ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَكَانَ السُّلْطَان مُرَاد سَافر فِي أَيَّام قَضَاءَهُ إِلَى أدرنة فأشيع عَنهُ فِي قَضَائِهِ بعض أُمُور ونما خَبَرهَا إِلَى السُّلْطَان فَعَزله ونفاه إِلَى جزير قبرس وَبَقِي بهَا مُدَّة منطرحا وَذكر وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى أَنه وقف لَهُ على قصيدة بالتركية يتظلم فِيهَا الْوُلَاة الْأَمر(2/423)
من الزَّمَان وَيطْلب عوده إِلَى موطنه وضمنها الْمثل الْمَشْهُور وَهُوَ قَوْلهم ارحموا عَزِيز قوم ذل فشفع فِيهِ أحد أَرْكَان الدولة فأعبدو بعد مُدَّة صَار لَهُ رُتْبَة قَضَاء العسكرين وَلما وَقع مقتل السُّلْطَان إِبْرَاهِيم أظهر نَفسه فِي ذَلِك الغضون وسعى فَصَارَ قَاضِي الْعَسْكَر بروم إيلي وَأعْطى رُتْبَة الْفَتْوَى وَلم يسمع أَنَّهَا صَارَت لَا حد قبله ثمَّ صَار مفتيا فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَبَقِي مفتيا أَرْبَعَة أشهر ثمَّ عزل فِي ثَانِي عشر شهر رَمَضَان وَنفي إِلَى بروسه وَأعْطِي قَضَاء جَزِيرَة ساقز فَأَقَامَ ببروسه إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبعين وَألف تَقْرِيبًا
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن يحيى بهران التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ ثمَّ الصعدي ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي حَقه القَاضِي الْعَلامَة كَانَ متضلعا من كل الْعُلُوم قَالَ شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن يحيى حَابِس أَنه كَانَ يعرف جَمِيع عُلُوم الإجتهاد علم إتقان لكنه لَا يستنبط الْأَحْكَام وَهُوَ شيخ الشيوح فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَمن كراماته أَنه كَانَ فِي آخر عمره لَا يستضيء إِلَّا الْعلم حكى تِلْمِيذه السَّيِّد دَاوُد بن الْهَادِي أَنه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي الزّبد بصعد فَكَانَ يَوْمئِذٍ ينظر فِي حَوَاشِي فِي الْكتاب لَا يميزها إِلَّا حاد الْبَصَر وَأدْركَ ذَلِك ثمَّ خرجا فَأصَاب جملا يحمل لَحْمًا أَو حطبا فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ مقسمًا مَا ميزته وَله فِي الْفِقْه قدم رامخة وَهُوَ الَّذِي أجْرى القوانين فِي آبار صعدة فِي المساقي وَقدر الأحباب الْمَعْرُوفَة من المَاء وَجعل المغارم تَابِعَة للعروض أَيْضا وَذَلِكَ أَنه عرف جَمِيع الصَّنَائِع تَحْقِيقا وذرع المَاء على الطين ثمَّ أَنه كتب شَيْئا من الْحجَج فمدحه ابْن عمر الضمدي بقوله
(لله دَرك يَا عبد الْعَزِيز لقد ... وضعت هَذَا الدوا فِي مَوضِع الوجع)
بعد أَن كَانَ ابْن عمر مَنعه من المناظرة وَمِمَّا يروي عَنهُ أَنه تشارع إِلَيْهِ بعض العتاة أهل السطوة فَلَمَّا أَرَادَ الحكم على ذَلِك الطاغي أَشَارَ إِلَيْهِ أَنه سيعيد إِلَيْهِ عنبه إِذا حكم قَالَ القَاضِي أخروا الحكم ثمَّ طلب بعض النَّاس وَبَاعَ مِنْهُ الْعِنَب جَمِيعه وَطلب الْخصم وَحكم عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْعِنَب قد بعناه من فلَان لَا تغلظ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن رَجَب سنة عشرَة وَألف بِمَدِينَة صعدة
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد سعد الدّين بن حسن جَان التبريزي الأَصْل القسطنطيني أحد صُدُور الرّوم وعلمائها وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد البهائي الْمُفْتِي الْمَشْهُور الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ من كبار رُؤَسَاء الْعلمَاء لَهُ الصدارة والتقدم والشهامة التَّامَّة ولي قَضَاء(2/424)