بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
يَا من أحصى بِلُطْفِهِ الْخَلَائق عددا وجعلهم بمشيئته طرائق قددا كل يعْمل على شاكلته فِي عاجلته لأجلته صلى على صفوتك من أنبيائك الْوَاقِف على سر حَقِيقَة أنبائك سيدنَا مُحَمَّد خَاتم رِسَالَة الرسَالَة الْمُنْتَخب من أكْرم عنصر وَأطيب سلاله وعَلى آله الجامعين لمكارم الْأَخْلَاق وَصَحبه الحائزين من الْفضل مرتبَة الِاسْتِحْقَاق مَا تزينت الطروس بسطور مدائح ذوى المفاخر وتعطرت حدائق الأوراق بنشر أزاهر المآثر (وَبعد) فَإِنِّي من مُنْذُ عرفت الْيَمين من الشمَال وميزت بَين الرشد والضلال لم أزل ولوعا بمطالعة كتب الْأَخْبَار مغرى بالبحث عَن أَحْوَال الكمل الْإِخْبَار وَكنت شَدِيد الْحِرْص على خبر أسمعهُ أَو على شعر تفرق شَمله فأجمعه خُصُوصا لمتأخري أهل الزَّمن المالكين لَازِمَة الفصاحة واللسن من كل ملك تتلى سُورَة فخره بِفَم كل زمَان وأمير لم تَبْرَح صُورَة ذكره تجلى على نَاظر كل مَكَان وأمام لم تنجب أم اللَّيَالِي بمثاله وأديب(1/2)
تهتز معاطف البلاغة عِنْد سَماع فَضله وكماله حَتَّى اجْتمع عِنْدِي مَا طَالب وراق وزين بمحاسن لطائفة الأقلام والأوراق فاقتصرت مِنْهُ على أَخْبَار أهل الْمِائَة الَّتِي أنافها وطرحت مَا يُخَالِفهَا من أخيار من تقدمها وينافيها حرصا على جمع مَا لم يجمع وَتَقْيِيد شَيْء مَا قبل إِلَّا ليسمع وَوَقع اخْتِيَاري على إِضَافَة كل أثر إِلَى تَرْجَمَة من أسْند إِلَيْهِ حَسْبَمَا يعول من لَهُ مساس فِي بَاب التَّارِيخ عَلَيْهِ فَصَارَ تَارِيخ رجال وَأي رجال يضيق عِنْد سرد مآثرهم من الدفاتر المجال وَقد وجد عِنْدِي مِمَّا أحتاج إِلَيْهِ من المعونة والْآثَار الْمُتَعَلّقَة بِهَذِهِ الْمُؤْنَة ذيل النَّجْم الغزى وطبقات الصُّوفِيَّة للمناوي وتاريخ الْحسن البوريني وذيله لوالدي المرحوم وخبايا الزوايا والريحانة للخفاجى وذكرى حبيب للبديعي ومنتزه الْعُيُون والألباب لعبد الْبر الفيومي هَذَا مَا عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات وَكَانَ بقى على بعض أَخْبَار الْيمن والبحرين والحجاز وَقد تعسر على فِي طَرِيق تطلب حَقِيقَتهَا الْمجَاز فَلَمَّا من الله على وَله الْمِنَّة والمنحة الَّتِي لَا يشوبها كدر المحنة بالمجاورة فِي بَيته الْمُعظم والالتقاط من بحار أهليه الدّرّ المنظم تلقيت من الأفواه تراجم لِأُنَاس يسيره كَانَت فِي التَّحْصِيل على عسيرة وهم وَإِن كَانُوا قليلين فِي الْعدَد فأنهم كَثِيرُونَ بِسَبَب أَنهم ذَرِيعَة للمدد فِي كل المدد وَقد يُقَال أَن أعداد الْكِبَار الشم الأنوف رُبمَا عدلت عشراتها بالمئين ومثوها بالألوف ثمَّ وقفت فِي أثْنَاء السّنة على ذيل الجمالي مُحَمَّد الشلبي الْمَكِّيّ الَّذِي ذيل بِهِ على النُّور السافر فِي أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر للشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن الشَّيْخ العيدروس والمشرع الروي فِي أَخْبَار آل باعلوى لَهُ أَيْضا وعَلى تراجم منقولة من تَارِيخ ألفة الصفي بن أبي الرِّجَال الْيُمْنَى فِي أهل الْيمن فأجلت فكرى فِي مجالها وألحقتها بِحَسب ترتيبها فِي محالها وَكَانَ وصلني خبر الْكتاب الَّذِي أنشأه السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم ذيلا على الريحانة ووسمه بسلافة الْعَصْر فِي شعراء أهل الْعَصْر فَلم أزل حَتَّى حصلته وَقطعت بِهِ أَمر الطّلب ووصلته وأتحفني بعض الأفاضل بذيل الشقائق الَّذِي أَلفه ابْن نَوْعي بالتركية وَضَمنَهُ مُعظم أهل الدولة العثمانية ووصلني بعض الأخوان بِقِطْعَة من تَارِيخ أنشأ الشَّيْخ مَدين القوصوني الْمصْرِيّ ذكر فِيهِ تراجم كبرا الْعلمَاء من أهل القاهر وزين طروس سطورة بمآثرهم الباهرة فكانتا عِنْدِي فاكهتين باكورتين وتحفتين(1/3)
بِلِسَان البراعة مشكورتين فَجمعت الْجَمِيع على نِيَّة التَّرْتِيب مستعينا فِي خصوصة بالفياض الْمُجيب وأضفت إِلَى تِلْكَ الْأَخْبَار المواليد والوفيات حَسْبَمَا حيرته من التَّعَالِيق الَّتِي هِيَ بِهَذَا الْغَرَض وافيات وَمَا أقدمني على هَذَا الشَّأْن إِلَّا تخلف أَبنَاء الزَّمَان عَن إِحْرَاز خصل الْفضل فِي هَذَا الميدان شعر
(لعمر أَبِيك مَا نسب الْمُعَلَّى ... إِلَى كرم وَفِي الدُّنْيَا كريم)
(وَلَكِن الْبِلَاد إِذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعى الهشيم)
فَإنَّا ذَلِك الهشيم الَّذِي سد مسد الْكَرِيم كَيفَ وَقد نجم نجم الْجَهْل وصوح نبث بَث الْفضل وصدئت الْقُلُوب وَضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب وَرُبمَا يظنّ أَن مَا تَخَالَجَ فِي صَدْرِي وهجس لرعونة أوجبهَا الْفَرَاغ والهوس كلا بل ذَلِك لأمر يستحنه اللبيب وَيحسن موقعه لَدَى كل أريب لما فِيهِ من بَقَاء ذكر أنَاس شنفت مآثرهم الإسماع وَجمع أشتات فَضَائِل حكم الدَّهْر عَلَيْهَا بالضياع وَلَيْسَ غرضي إِلَّا أَدَاء حَقهم المفترض وَأَبْرَأ إِلَى الله من تُهْمَة الْغَرَض وَإِنِّي وَإِن قصرت فأقصرت وَإِن طولت فاتطولت وَغَايَة البليغ فِي هَذَا الْمِضْمَار الخطير أَن يعْتَرف بالقصور ويلتزم بالتقصير فَإِن الْمَرْء ول بلغ جهده فاللاحاطة فِي هَذَا الشَّأْن لله وَحده وقصدي أَن أُسَمِّهِ (بخلاصة الْأَثر فِي أَعْيَان الْقرن الْحَادِي عشر) وَإِلَى الله أتضرع فِي سد حللي وَستر زللي وَدفن عيبي ورثق فتق جيبي أَنه الْجواد الْكَرِيم وَمِنْه الْهِدَايَة إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَاعْلَم أَن مصطلحي فِي هَذَا الْكتاب إِنِّي رتبته على حُرُوف المعجم ليسهل لمطالعة مَا غم عَلَيْهِ واستعجم وأقدم أَولا الِاسْم الَّذِي أَوله همزَة ممدودة ثمَّ مَا كَانَ أَوله ألف وأقدم من ذَلِك مَا شَاركهُ أَبوهُ فِي اسْمه فَإِذا اتعدد ذَلِك قدمت الاسبق وَفَاة ارْجع فاذكر من بعد حرف الْهمزَة الْحُرُوف الْمُعْجَمَة من أَولهَا إِلَى آخرهَا وأذكر فِي كل حرف مَا فِيهِ من الْأَسْمَاء مقدما مَا كَانَ فِيهِ ثَانِي الِاسْم من الْحُرُوف الْمُقدمَة وَهَكَذَا افْعَل فِي أَسمَاء الأباء فَإِذا انْتهى من وصلني اسْم أَبِيه ذكرت من لم أعرف اسْم أَبِيه مراعيا سبق الْوَفَاة وأكتفي بِذكر الكنية أَو اللقب إِذا اشْتهر صَاحب التَّرْجَمَة بِأَحَدِهِمَا وَلم يرو لَهُ اسْم وأذكر ذَلِك فِي ضمن الْأَسْمَاء وأبتدئ مِنْهَا بِالِاسْمِ ثمَّ باللقب ان اتّفق ثمَّ بالكنية وأذكر ذَلِك النِّسْبَة إِلَى الْبَلَد ثمَّ الأَصْل ثمَّ الذَّهَب غَالِبا وَلَا أورد من أَحْوَال الرجل إِلَّا مَا تلقيته عَن هَذِه التواريخ أَو سمعته من ثِقَة(1/4)
أَو ضَبطه عَن عيان ومشاهدة وَلَا أثبت من الكرامات إِلَّا مَا تحققته وَلَا أعتقد أَنِّي وفيت بِالْمَقْصُودِ وَلَو أُوتيت علم ذَلِك النَّجْم المرصود بل كل مَا آمل من هَذَا المُرَاد نيل سَعَادَة ثَوَاب فِي المبدأ والمعاد فقد ذكر الْحَافِظ عبد الْعَزِيز بن عمر بن فَهد الْمَكِّيّ الْهَاشِمِي فِي تَذكرته الَّتِي سَمَّاهَا نزهة الإبصار لما تألف من الأفكار مَا نَصه مِمَّا نَقله الْوَالِد من مجاميع الميورقي سَمِعت مِمَّن أَثِق بِدِينِهِ وَعَمله بقول أَن الِاشْتِغَال بنشر أَخْبَار فضلاء الْعَصْر وَلَو بتواريخهم من عَلَامَات سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة اذهم شُهُود الله تَعَالَى فِي أرضه وَهَذَا أَوَان الشُّرُوع فِيمَا أردته وَالله مسددي فِيمَا أوردته.(1/5)
(حرف الْهمزَة وَالْألف)
آدم الرُّومِي الأنطالي الْحَنَفِيّ الْأُسْتَاذ الشهير أحد خلفاء طَريقَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى جلال الدّين الرُّومِي الْمَعْرُوف بمنلا خداوند كار وَكَانَ شيخ زاويتهم الْمَعْرُوفَة بِمَدِينَة الغلطة وَليهَا فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ لَهُ الحظوة التَّامَّة عِنْد اركان دولة بني عُثْمَان سلاطين زَمَاننَا نَصرهم الله تَعَالَى لَا يزَال مَجْلِسه غاصاً بأعيانهم وَهُوَ من بَيت كَبِير بأنطالية على وزن أنطاكية بَلْدَة كَبِيرَة بأراضي قرمان على سَاحل الْبَحْر الرُّومِي وطاؤها فِي نطق الْعَوام تبدل ضاداً ويحذفون نونها فَيَقُولُونَ اضالية ولبيتهم فِيهَا أَمْلَاك وتعلقات جمة وَكَانَ مائلاً إِلَى الترفة والاحتشام الزَّائِد وَكَانَ إِذا ركب مَشى فِي ركابه مَا يُقَارب الْمِائَة رجل من حفدته ومريديه وَكَانَ للنَّاس عَلَيْهِ إقبال زَائِد وَمَعَ ذَلِك كَانَ ملازماً على الْعِبَادَة والوعظ وَكَانَ يحل المثنوي حلا جيدا وَكَانَ فِي أَوَائِل أمره مفرط السخا لَا تكَاد عطيته تنقص عَن مائَة دِينَار وَحكى بعض الأفاضل مِمَّن يعرفهُ أَنه كَانَ فِي عهد السُّلْطَان مُرَاد ظهر شخص يتقن ضرب الطنبور فشغف بِهِ السُّلْطَان وَطَلَبه لَيْلَة فَوجدَ عِنْد آدم هَذَا فَأتوا بِهِ فَقَالَ لَهُ كم كَانَت جائزتك فَقَالَ هَا هِيَ بيَدي وَكَانَت مائَة دِينَار وَكَانَ الْمَشَايِخ الغلطة فِي ذَلِك الْعَهْد مِيقَات فِي دَاخل حرم السلطنة فِي كل شهر لَيْلَة يُقِيمُونَ فِيهَا السماع بِحَضْرَة السُّلْطَان بِأَن ينقص معلومهم بمسمع من آدم وَقَالَ لجماعته قُولُوا لَهُ العطايا مهما كثرت لَا تبلغ عطيته فَكف عَن ذَلِك الْعَهْد كَفه عَن الإفراط وَاقْتصر على مَا هُوَ مُتَعَارَف عِنْد الدولة وسافر آخر أمره إِلَى الْقَاهِرَة من طَرِيق الْبَحْر بنية الْحَج فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف فَمَرض بِمصْر(1/3)
مُدَّة وَتُوفِّي بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم بن حسن بن عَليّ بن عَليّ بن عَليّ بن عبد القدوس ابْن الْوَلِيّ الشهير مُحَمَّد بن هَارُون المترجم فِي طَبَقَات الشعراني وَهُوَ الَّذِي كَانَ يقوم لوالد سَيِّدي إِبْرَاهِيم الدسوقي إِذا مر عَلَيْهِ وَيَقُول فِي ظَهره ولي يبلغ صيته الْمغرب والمشرق وَهَذَا الْمَذْكُور هُوَ الإِمَام أَبُو الأمداد الملقب برهَان الدّين اللَّقَّانِيّ الْمَالِكِي أحد الْأَعْلَام الْمشَار إِلَيْهِم بسعة الِاطِّلَاع فِي علم الحَدِيث والدراية والتبحر فِي الْكَلَام وَكَانَ إِلَيْهِ الْمرجع فِي المشكلات والفتاوي فِي وقته بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ قوي النَّفس عَظِيم الهيبة تخضع لَهُ الدولة ويقبلون شَفَاعَته وَهُوَ مُنْقَطع عَن التَّرَدُّد إِلَى وَاحِد من النَّاس يصرف وقته فِي الدَّرْس والإفادة وَله نِسْبَة هُوَ وقبيلته إِلَى الشّرف لكنه لَا يظهره تواضعاً مِنْهُ وَكَانَ جَامعا بَين الشَّرِيعَة والحقيقة لَهُ كرامات خارقة ومزايا باهرة حكى الشهَاب البشبيشي قَالَ وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَن الشَّيْخ الْعَلامَة حجازي الْوَاعِظ وقف يَوْمًا على درسه فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة تذهبون أَو تجلسون فَقَالَ لَهُ اصبر سَاعَة ثمَّ قَالَ وَالله يَا إِبْرَاهِيم مَا وقفت على درسك إِلَّا وَقد رَأَيْت رَسُول الله
وَاقِفًا عَلَيْهِ وَهُوَ يسمعك حَتَّى ذهب
وَألف التآليف النافعة وَرغب النَّاس فِي استكتابها وقراءتها وأنفع تأليف لَهُ منظومته فِي علم العقائد الَّتِي سَمَّاهَا بجوهرة التَّوْحِيد أَنْشَأَهَا فِي لَيْلَة بِإِشَارَة شَيْخه فِي التربية والتصوف صَاحب المكاشفات وخوارق الْعَادَات الشَّيْخ الشرنوبي ثمَّ إِنَّه بعد فَرَاغه مِنْهَا عرضهَا على شَيْخه الْمَذْكُور فحمده ودعا لَهُ وَلمن يشْتَغل بهَا بمزيد النَّفْع وأوصاه شَيْخه الْمَذْكُور أَن لَا يعْتَذر لأحد عَن ذَنْب أَو عيب بلغه عَنهُ بل يعْتَرف لَهُ بِهِ وَيظْهر لَهُ التَّصْدِيق على سَبِيل التورية كالتزكية النَّفس فَمَا خَالفه بعد ذَلِك أبدا وَحكى أَنه كَانَ شرع فِي إقراء الْمَنْظُومَة الْمَذْكُورَة فَكتب مِنْهَا فِي يَوْم وَاحِد خَمْسمِائَة نُسْخَة والف عَلَيْهَا ثَلَاثَة شُرُوح والأوسط مِنْهَا لم يحرره فَلم يظْهر وَله توضيح الْأَلْفَاظ إِلَّا جرومية وَقَضَاء الوطر من نزهة النّظر فِي توضيح نخبة الْأَثر لِلْحَافِظِ ابْن حجر وإجمال الْوَسَائِل وبهجة المحافل بالتعريف برواة الشمايل ومنار أصُول الْفَتْوَى وقواعد الْإِفْتَاء بالأقوى وَعقد الجمان فِي مسَائِل الضَّمَان ونصيحة الإخوان باجتناب شرب الدُّخان وَقد عارضها معاصره الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد الأَجْهُورِيّ(1/6)
الْمَالِكِي برسالة أولى وثانية أثبت فيهمَا القَوْل بِحل شربه مَا لم يضر وَله حَاشِيَة على مُخْتَصر خَلِيل وَكتاب تحفة درية على أبهلول بأسانيد جَوَامِع أَحَادِيث الرَّسُول هَذِه مؤلفاته الَّتِي كملت وَأما الَّتِي لم تكمل فَمِنْهَا تَعْلِيق الْفَوَائِد على شرح العقائد للسعد وَشرح تصريف الْعُزَّى للسعد أَيْضا سَمَّاهُ خُلَاصَة التَّعْرِيف بدقائق شرح التصريف وحاشية على جمع الْجَوَامِع سَمَّاهَا بالبدور اللوامع من خدور جمع الْجَوَامِع وَجمع جُزْءا فِي مشيخته سَمَّاهُ نثر المآثر فِيمَن أدْرك من الْقرن الْعَاشِر ذكر فِيهِ كثيرا من مشايخه من اجلهم عَلامَة الْإِسْلَام شمس الْملَّة وَالدّين مُحَمَّد الْبكْرِيّ الصديقي وَالشَّيْخ الإِمَام مُحَمَّد الرَّمْلِيّ شَارِح الْمِنْهَاج والعلامة أَحْمد بن قَاسم صَاحب الْآيَات الْبَينَات وَغَيرهم من الشافعيه وَشَيخ الْإِسْلَام عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَالشَّمْس مُحَمَّد التحريري وَالشَّيْخ عمر بن نجيم من الْحَنَفِيَّة وَالشَّيْخ مُحَمَّد السنهوري وَالشَّيْخ طه وَالشَّيْخ أَحْمد المنياوي وَعبد الْكَرِيم البرموني مؤلف الْحَاشِيَة على مُخْتَصر خَلِيل وَغَيرهم من الْمَالِكِيَّة وَمن مشايخه فِي الطَّرِيق الشَّيْخ أَحْمد البُلْقِينِيّ الوزيري وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن الترجمان وَجَمَاعَة كَثِيرَة غَيرهم وَذكر أَنه لم يكثر عَن أحد مِنْهُم مثل مَا أَكثر عَن الإِمَام الْهمام أبي النجا سَالم السنهوري ويليه الشَّيْخ مُحَمَّد البهنسي لِأَنَّهُ كَانَ يخْتم فِي كل ثَلَاث سِنِين كتابا من أُمَّهَات الحَدِيث فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان لَيْلًا وَنَهَارًا ويليه الشَّيْخ يحيى الْقَرَافِيّ الْمَالِكِي إِمَام النَّاس فِي الحَدِيث تحريراً وإتقاناً شيخ رواق ابْن معمر بِجَامِع الْأَزْهَر هَكَذَا ذكر الشَّيْخ الإِمَام أَحْمد بن احْمَد العجمي الْمصْرِيّ الْآتِي ذكره فِي تَرْجَمَة اللَّقَّانِيّ من مشيخته لَكِن أَطَالَ فِي تعداد مشايخه أَكثر مِمَّا ذكرته وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُتَّفق على جلالته وعلو شَأْنه وَأخذ عَنهُ كثير من الأجلاء مِنْهُم وَلَده عبد السَّلَام وَالشَّمْس البابلي والْعَلَاء الشبراملسي ويوسف الفيشي وَيس الْحِمصِي وحسين النماوي وحسين الخفاجي وَأحمد العجمي وَمُحَمّد الْخَرشِيّ الْمَالِكِي وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَلم يكن أحد من عُلَمَاء عصره أَكثر تلامذه مِنْهُ وَكَانَ كثير الْفَوَائِد وينقل عَنهُ مِنْهَا أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا أَن من قَرَأَ على الْمَوْلُود وَيَد القارىء على رَأس الْمَوْلُود لَيْلَة وِلَادَته سُورَة الْقدر لم يزن فِي عمره أبدا وبخطه أَيْضا المنجيات على طَريقَة
(يس تنجي من دُخان الْوَاقِعَة ... وَالْملك وَالْإِنْسَان نعم الشافعه)
(ثمَّ البروج لَهَا انْشِرَاح هَذِه ... سبع وَهن المنجيات النافعة)(1/7)
وعَلى طَريقَة أُخْرَى
(جرز وَيس الَّتِي قد فصلت ... تنجي الموحد من دُخان الْوَاقِعَة)
(وَتَمام سبع المنجيات بحشرها ... وَالْملك فاحفظها فَنعم الشافعه)
(والمنقذات السَّبع سُورَة كوثر ... متتاليات ثمَّ سِتّ تَابعه)
(والمهلكات السَّبع قل مزمل ... ثمَّ البروج وطارع هِيَ قاطعه)
(ثمَّ الضُّحَى وَالشَّرْح مَعَ قدر ... لئيلاف لَا هَلَاك الْعَدو مسارعه)
وَنقل فِي شَرحه على الْجَوْهَرَة قَالَ لَيْسَ للشدائد والغموم مِمَّا جربه المعتنون مثل التوسل بِهِ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَمِمَّا جرب فِي ذَلِك قصيدتي المقلبة بكشف الكروب بملاحات الحبيب والتوسل بالمحبوب الَّتِي أنشأتها بِإِشَارَة وَردت على لِسَان الخاطر الرحماني عِنْد نزُول بعض الملمات فَانْكَشَفَتْ بِإِذن خَالق الأَرْض وَالسَّمَوَات وَكَاشف الْمُهِمَّات لَا إِلَه غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره وَهِي
(يَا أكْرم الْخلق قد ضَاقَتْ بِي السبل ... ودق عظمي وَغَابَتْ عني الْحِيَل)
(وَلم أجد من عَزِيز أستجير بِهِ ... سوى رَحِيم بِهِ تستشفع الرُّسُل)
(مشمر السَّاق يحمي من يلوذ بِهِ ... يَوْم الْبلَاء إِذا مَا لم يكن بَلل)
(غوث المحاويج إِن مَحل ألم بهم ... كَهْف الضِّعَاف إِذا مَا عَمها الوجل)
(مُؤَمل البائس الْمَتْرُوك نصرته ... مكرم حِين يَعْلُو سره الخجل)
(كنز الْفَقِير وَعز الْجُود من خضعت ... لَهُ الْمُلُوك وَمن تحيا بِهِ الْمحل)
(من لِلْيَتَامَى بِمَال يَوْم أزمتهم ... وللأرامل ستر سابغ خضل)
(لَيْث الْكَتَائِب يَوْم الْحَرْب إِن حميت ... وطيسها واستحد الْبيض والأسل)
(من ترتجي فِي مقَام الهول نصرته ... وَمن بِهِ تكشف الغماء والغلل)
(مُحَمَّد ابْن عبد الله ملجاؤنا ... يَوْم التنادي إِذا مَا عمنَا الوهل)
(الفاتح الْخَاتم الميمون طَائِره ... بَحر الْعَطاء وكنز نَفعه شَمل)
(الله أكبر جَاءَ النَّصْر وانكشفت ... عَنَّا الغموم وَولي الضّيق وَالْمحل)
(بعزمة من رَسُول الله صَادِقَة ... وهمة يمتطها الحازم البطل)
(أغث أغث سيد الكونين قد نزلت ... بِنَا الرزايا وَغَابَ الْخلّ والأخل)
(ولاح شيبي وَولي الْعُمر مُنْهَزِمًا ... بعسكر الذَّنب لَا يلوى بِهِ عجل)
(كن للمعنى مغيثاً عِنْد وحدته ... وَكن شَفِيعًا لَهُ إِن زلت النَّعْل)(1/8)
(فجملة القَوْل أَنِّي مذنب وَجل ... وَأَنت غوث لمن ضَاقَتْ بِهِ السبل)
(صلى عَلَيْك إلهي دَائِما أبدا ... مَا إِن تعاقبت الضحواء وَالْأَصْل)
(وآلك الغر والصحب الْكِرَام كَذَا ... مُسلما وَالسَّلَام الطّيب الحفل)
وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ رَاجع من الْحَج سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بِالْقربِ من عقبَة أَيْلَة بطرِيق الركب الْمصْرِيّ وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري الْمَالِكِي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ فيهمَا الْمُصْطَفى ابْن محب الدّين الدِّمَشْقِي يرثيهما شعر
(مضى الْمقري أثر اللَّقَّانِيّ لاحقاً ... أمامان مَا للدهر بعدهمَا خلف)
(فبدر الدجى أجْرى على الخد دمعة ... فأثر ذَاك الدمع مَا فِيهِ من كلف)
واللقاني بِفَتْح اللَّام ثمَّ قَاف وَألف وَنون نسبته إِلَى لقانة قَرْيَة من قرى مصر وأيلة بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة من تَحت وَلَام وهاء وَهِي كَانَت مَدِينَة صَغِيرَة وَكَانَ بهَا زرع يسير وَهِي مَدِينَة الْيَهُود الَّذين جعل مِنْهُم القردة والخنازير وعَلى سَاحل بَحر القلزم وَهِي فِي زَمَاننَا برج وَبهَا وَال من مصر وَلَيْسَ بهَا مزدرع وَكَانَ لَهَا قلعة فِي الْبَحْر فأبطلت وَنقل الْوَالِي إِلَى البرج فِي السَّاحِل كَذَا فِي تَقْوِيم الْبَلَد إِن للْملك الْمُؤَيد اسماعيل صَاحب حماه
إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن إِسْمَاعِيل الدنابي الْعَوْفِيّ نسبته إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ الدِّمَشْقِي الصَّالِحِي الأَصْل الْمصْرِيّ المولد والوفاة كَانَ من أَعْيَان الأفاضل لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْفَرَائِض والحساب مَعَ التبحر فِي الْفِقْه وَغَيره من الْعُلُوم الدِّينِيَّة وَهُوَ حنبلي الْمَذْهَب نَشأ بِمصْر وَأخذ الْفِقْه عَن الْعَلامَة مَنْصُور البهوتي والْحَدِيث عَن جمع من شُيُوخ الْأَزْهَر وَأَجَازَهُ غَالب شُيُوخه وَألف مؤلفات مِنْهَا شرح على مُنْتَهى الارادات فِي فقه مذْهبه فِي مجلدات ومناسك الْحَج فِي مجلدين ورسائل كَثِيرَة فِي الْفَرَائِض والحساب وَكَانَ لطيف المذاكرة حسن المحاضرة قوي الفكرة وَاسع الْعقل وَكَانَ فِيهِ رياسة وحشمة موفورة ومروءة وَكَانَ من محَاسِن مصرفي كَمَال أدواته وعلومه مَعَ الْكَرم المفرط وَالْإِحْسَان إِلَى أهل الْعلم والمترددين إِلَيْهِ وَكَانَ حسن الْخلق والأخلاق وَكَانَ يرجع إِلَيْهِ فِي المشكلات الدُّنْيَوِيَّة لِكَثْرَة تدبره فِي الْأُمُور ومنازلته لَهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ حَسَنَة من حَسَنَات الزَّمَان وَكَانَت وِلَادَته بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي بهَا فَجْأَة ظهر يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر(1/9)
من ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ ضحى يَوْم الثُّلَاثَاء وَدفن بتربة الطَّوِيل عِنْد وَالِده رحمهمَا الله تَعَالَى
إِبْرَاهِيم بن أبي الْيمن بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن أَحْمد البتروني الأَصْل الْحلَبِي المولد الْحَنَفِيّ الْفَاضِل الأديب الْمَشْهُور صدر قطر حلب بعد أَبِيه اشْتغل فِي عنفوان عمره وسلك طَرِيق الْقَضَاء وَتَوَلَّى مناصب عديدة مِنْهَا حماة ثمَّ ترك وَعَكَفَ على دفاتره وتشييد مفاخره وتفرغ لَهُ أَبوهُ عَمَّا كَانَ بِيَدِهِ من مدارس وجهات وَبقيت فِي يَده سوى إفناء الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهَا وجهت إِلَى غَيره وَكَانَ حسن المحاضرة شَاعِرًا مطبوعاً وشعره كثير الْملح والنكت حسن الديباجة أنْشد لَهُ البديعي فِي ذكرى حبيب قَوْله فِي فتح الله بن النّحاس الشَّاعِر الْمَشْهُور الْآتِي ذكره وَكَانَ يمِيل إِلَيْهِ قَالَ وَكَانَ فتح الله مَعَ تفرده بالْحسنِ ولوعاً بالتجني وَسُوء الظَّن بَصيرًا بِأَسْبَاب العتب يبيت على سلم وَيَغْدُو على حَرْب كم من متيم فِي حبه رعى النَّجْم فرقا من الهجر لَو رعاه زهادة لَا دَرك لَيْلَة الْقدر بَخِيلًا بنزر الْكَلَام يضن حَتَّى برد السَّلَام شعر
(مهلك العشاق مهلا ... فِيك لي مِنْك انتقام)
(بشعيرات كمسك ... هن للمسك ختام)
وَله فِيهِ أَيْضا من أَبْيَات
(بيني وَبَيْنك مُدَّة فَإِذا انْقَضتْ ... كنت الجدير بِأَن تعزى فِي الورى)
(رفقا بقلب أَنْت فِيهِ سَاكن ... إِن الْحَيَاة إِذا قضى لَا تشترى)
(فاردد على طرفِي الْمَنَام لَعَلَّه ... يلقى خيالاً مِنْك فِي سنة الْكرَى)
(واسأل عيُونا لَا تمل من البكا ... عَن حالتي بنبيك دمعي مَا جرى)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا وَقد عشق مليحاً اسْمه مُوسَى فتجنى عَلَيْهِ
(كل فِرْعَوْن لَهُ مُوسَى وَذَا ... فِي الْهوى موساك يوليك النكد)
(فَكَمَا أكمدت من يهواك بالصد ... مت صدا وذق طعم الكمد)
وَمن شعره قَوْله من قصيدة فِي الْأَمِير مُحَمَّد بن سَيْفا مطْلعهَا
(أربى على شجو الْحمام الغرد ... وشداً فبرح بالحسان الحرد)
(شاد يشاد بِهِ السرُور لمعشر ... عمر ومجالس أنسهم بالصرخد)
(فِي مجْلِس قَامَ الصفاء بِهِ على ... سَاق وشمر للمسرة عَن يَد)
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا(1/10)
(وَلَقَد شَكَوْت لَهُ الْهوى ليرق لي ... فنأى عَن المضنى بلقب جلمد)
(وَأبي سوى رقى فَقلت لَهُ اتئد ... إِنِّي رَفِيق للأمير مُحَمَّد)
وَله غير ذَلِك من محَاسِن الشّعْر وعيونه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف عَن نَحْو أَربع وَسبعين سنة وَدفن بِجَانِب وَالِده بالصالحية والببتروني بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة ثمَّ رَاء وواو وَنون نِسْبَة إِلَى البترون بليدَة بِالْقربِ من طرابلس الشَّام خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء وَأول من دخل حلب من بَيت البتروني هَؤُلَاءِ عبد الرَّحْمَن جد إِبْرَاهِيم هَذَا دَخلهَا فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وتوطنها وَسَنذكر من هَذَا الْبَيْت عدَّة رجال أنجبت بهم الشَّهْبَاء
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن يُوسُف بن حُسَيْن بن يُوسُف بن مُوسَى الحصكفي الأَصْل الْحلَبِي المولد العباسي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن المنلا وَسَيَأْتِي وَالِده أَحْمد شَارِح مُغنِي اللبيب وَأَخُوهُ مُحَمَّد فقد أفرد فِي ظلّ أَبِيه وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم وَتخرج عَلَيْهِ فِي الْأَدَب وَأخذ عَن الْبَدْر مَحْمُود البيلوني وَعَن الشَّيْخ عمر العرضي وَكتب إِلَيْهِ جدي القَاضِي محب الدّين بِالْإِجَازَةِ من دمشق فِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَحج بعد الْألف وَرجع إِلَى حلب وانعزل عَن النَّاس وَلزِمَ المطالعة وَالْكِتَابَة والتلاوة لِلْقُرْآنِ كثيرا وَكَانَ صافي السريرة لَا تعهد لَهُ زلَّة ونطم الدُّرَر وَالْغرر فِي فقه الْحَنَفِيَّة من بَحر الرجز وَدلّ على ملكته الراسخة فَإِن الْعَادة فِيمَا ينظم أَن يكون مُخْتَصرا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يغلب على طبعه الْأَدَب وَكَانَ لَهُ حسن محاضرة وَله شعر قَلِيل منقح مِنْهُ قَوْله
(وَلما انطوت بِالْقربِ شقة بَيْننَا ... وَغَابَتْ وشَاة دُوننَا وعيون)
(بسطت لَهَا والوجد يعبث بالحشا ... شجون حَدِيث والْحَدِيث شجون)
الحَدِيث شجون مثل من أَمْثَال الْعَرَب وَأَصله ذُو شجون أَي ذُو طرق وَالْوَاحد شجن بِسُكُون الْجِيم وَقد نظم أَبُو بكر الْقُهسْتَانِيّ هَذَا الْمثل ومثلاً آخر فِي بَيت وَاحِد وَأحسن مَا شَاءَ وَهُوَ قَوْله
(تذكر نجداً والْحَدِيث شجون ... فجن اشتياقاً وَالْجُنُون فنون)
وَلابْن المنلا من قصيدة قرظ بهَا شعرًا ليوسف بن عمرَان الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور
(أطرسك هَذَا أم لجين مَذْهَب ... ونظمك أم خمر لهمى مَذْهَب)
(وَتلك سطور أم عُقُود جَوَاهِر ... وزهر سَمَاء أم هُوَ الرَّوْض مخصب)
(وَتلك معَان أم غوان تروق ... للعيون وباللحن المسامع تطرب)(1/11)
(فيا حبذا هذي القوافي الَّتِي بِمن ... يعارضها ظفر الْمنية ينشب)
(لقد أحكمتها فكرة ألمعية ... فكدت لَهَا من رقة النّظم أشْرب)
(فَمن غزل كم هز ذَا صبوة إِلَى التصابي ... فأضحى بالغزال يشبب)
(فيا بَحر فضل فائض بلآلىء ... لَهَا فكرك الْوَقَّاد مَا زَالَ يثقب)
(ظَنَنْت بأنى للخطوب مؤهل ... فأرسلته شعرًا لنظمي يخْطب)
(فعذراً فَإِن الْفِكر فِي مشتت ... وعقلي بأيدي حَادث الدَّهْر ينهب)
فَقَوله فكدت لَهَا من رقة النّظم أشْرب حسن وَالْأَحْسَن أَن ينْسب الشّرْب إِلَى السّمع كَمَا قَالَ الآخر فِي وصف قصيدة تكَاد من عذوبة الْأَلْفَاظ تشربها مسامع الْحفاظ وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بعد الثَّلَاثِينَ وَألف بِقَلِيل والحصكفي بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْكَاف وَفِي آخرهَا الْفَاء هَذِه النِّسْبَة إِلَى حصن كيفا وَهِي من ديار بكر قَالَ فِي الْمُشْتَرك وحصن كيفا على دجلة بَين جَزِيرَة ابْن عمر وميا فارقين وَكَانَ الْقيَاس أَن ينسبوا إِلَيْهِ الحصنى وَقد نسبوا إِلَيْهِ أَيْضا كَذَلِك لَكِن إِذا نسبوا إِلَى اسْمَيْنِ أضيف أَحدهمَا إِلَى الآخر ركبُوا من مَجْمُوع الاسمين اسْما وَاحِدًا ونسبوا إِلَيْهِ كَمَا فعلوا هُنَا وَكَذَلِكَ نسبوا إِلَى رَأس عين رسعني وَالِي عبد الله وَعبد شمس وَعبد الدَّار عبدلي وعبشمي وعبدري وَكَذَلِكَ كل مَا هُوَ نَظِير هَذَا والعباسي نِسْبَة إِلَى الْعَبَّاس عَم النَّبِي
فقد ذكر أَن جده كَانَ مَنْسُوبا إِلَيْهِ واشتهر بَيتهمْ فِي حلب بِبَيْت المنلا لِأَن جد وَالِد ابراهيم هَذَا كَانَ يعرف بمنلا حاجي وَكَانَ قَاضِي قُضَاة تبريز وَله شرح على الْمُحَرر فِي فقه الشَّافِعِي للرافعي وحاشية على شرح العقائد للتفتازاني سَمَّاهَا تحفة الْفَوَائِد لشرح العقائد وحشى شرح الطوالع وَشرح الشاطبية وفصوص ابْن عَرَبِيّ وَكتب على الجغميني فِي الْهَيْئَة شَيْئا
الْمولى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد الكواكبي الْحلَبِي قَاضِي مَكَّة من أجلاء الْعلمَاء قَرَأَ فِي مبادي عمره على الشَّيْخ الإِمَام عمر العرضي وعَلى وَالِده فِي مقذمات الْعُلُوم حَتَّى حصل ملكة ثمَّ توجه إِلَى دَار الْخلَافَة وسلك طرق الموَالِي وَقَرَأَ على بعض أفاضل الرّوم حَتَّى صَارَت لَهُ الملكة التَّامَّة ثمَّ من الله عَلَيْهِ فَتزَوج بابنة الْمولى عبد الْبَاقِي بن طورسون واستصحبه مَعَه لما ولى قَضَاء مصر إِلَيْهَا فَحصل لَهُ مَالا جزيلاً ثمَّ رَجَعَ فِي خدمته إِلَى قسطنطينية فَمَاتَ ابْن طورسون ثمَّ مَاتَت الزَّوْجَة وتصرم المَال وَقصر فِي النهوض فَأخذ بعد اللتيا وَالَّتِي مدرسة أيا صوفية ثمَّ لم يطْلب عزل(1/12)
نَفسه عَن الْمدرسَة فَلَا يوافقونه حَتَّى تَركهَا شاغرة من غير أَخذ مَعْلُوم وَلَا إِلْقَاء درس أصلا وَكَانَ أَيَّام الِانْفِصَال الْكَبِير ورد حلب ووالداه حَيَّان فَنزل عِنْد وَالِده فشكت أمه إِلَيْهِ من أَبِيه مَا يصنع بهَا فَتَشَاجَرَ هُوَ وَأَبوهُ وتقضايا ورحل عَن دَار وَالِده وَصَارَ كل يسب الآخر فاسترضى العرضي الْمَذْكُور وَجَمَاعَة من الْعلمَاء الابْن ثمَّ أَخَذُوهُ إِلَى وَالِده فَقبل يَده وتباريا من الطَّرفَيْنِ وَآخر الْأَمر أعْطى قَضَاء مَكَّة فَسَار من مصر بحراً ثمَّ أَرَادَ أَن ينْقل ابْنه من سفينة صَغِيرَة إِلَى مركب مَخَافَة عَلَيْهِ وَحمله إِلَى الْمركب فَسقط إِلَى الْبَحْر وغرق وَتَنَاول بعض الْخدمَة الْوَلَد فنجا وَلَك حِين توجهه عِنْد جده فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَ عمره نَحْو سبعين سنة وَبَنُو الكواكبي بحلب طَائِفَة كَبِيرَة سَيَأْتِي مِنْهُم فِي كتَابنَا هَذَا جمَاعَة وَكلهمْ عُلَمَاء وصوفية وَأول من اشْتهر مِنْهُم مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمُتَوفَّى سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ذكره ابْن الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه قَالَ وَدفن بجوار الْجَامِع الْمَعْرُوف الْآن بِجَامِع الكواكبي بمحلة الجلوم بِمَدِينَة حلب وعمرت عَلَيْهِ قبَّة من مَال كافل حلب سيباي الجركسي وَكَانَت طَرِيقَته أردبيلية وَإِنَّمَا قيل لَهُ الكواكبي لِأَنَّهُ كَانَ فِي مبدأ أمره حدّاداً يعْمل المسامير الكواكبية ثمَّ فتح الله عَلَيْهِ وحصلت لَهُ الشُّهْرَة الزَّائِدَة
السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُرَاد بن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم بن بايزيد ابْن مُحَمَّد بن مُرَاد بن مُحَمَّد بن بلدرم بايزيد بن مُرَاد بن أورخان بن عُثْمَان بن أرطغرل ابْن سُلَيْمَان شاه السُّلْطَان الْأَعْظَم أحد مُلُوك آل عُثْمَان المطوق بِعقد مفاخرهم جيد الزَّمَان قد تقرر أَن أصل بَيتهمْ من التركمان النزالة الرحالة من طَائِفَة التاتار وَيَنْتَهِي نسبهم إِلَى يافث بن نوح وَهُوَ الجدّ السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ للسُّلْطَان إِبْرَاهِيم وَلما كَانَت أَسمَاؤُهُم أَعْجَمِيَّة أضربت عَن ذكرهَا لطولها واستعجامها وَرُبمَا يَقع فِيهَا التَّصْحِيف والتحريف إِن لم يضْبط شَيْء مِنْهَا وَلَا حَاجَة إِلَى الْإِحَاطَة فِيهَا بِلَا فَائِدَة فَإِنَّهَا مَذْكُورَة فِي التواريخ التركية وَأما ذكر مبدأ ظُهُورهمْ فَهُوَ شَائِع مَشْهُور وَقد تكفل بِهِ غير وَاحِد من المؤرخين فَلَا نطيل بِذكرِهِ وَنَرْجِع إِلَى مَا هُوَ الْغَرَض من تَرْجَمَة السُّلْطَان إِبْرَاهِيم فَنَقُول تولى السلطنة بعد موت أَخِيه السُّلْطَان مُرَاد فِي تَاسِع شَوَّال سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَقيل فِي تَارِيخه على لِسَانه استعنت بِاللَّه وَكَانَ ملكا مُعظما حسن المنظر سمح الْكَفّ وَكَانَ زَمَانه أَنْضَرُ الْأَزْمَان وعصره أحسن العصور وأطاعته جَمِيع الممالك وسكنت بيمن دولته الْفِتَن واعتدل بِهِ الزَّمن وَفِيه يَقُول(1/13)
الْأَمِير منجك بن مُحَمَّد المنجكي الدِّمَشْقِي قصيدته الَّتِي مدحه بهَا وَهِي من غرر القصائد ومطلعها
(لَو كنت أطمع بالمنام توهماً ... لسألت طيفك أَن يزور تكرما)
(حاشا صدودك أَن تذم فَإِنَّهَا ... تحلو لديّ وَإِن أسيغت علقما)
(فاهجر فهجرك لي الْتِفَات مَوَدَّة ... أَلْقَاهُ مِنْك تحنناً وترحما)
(عذب فُؤَادِي بِالَّذِي تختاره ... لَو كنت منسياً تركت وَإِنَّمَا)
(لَو لم تكن بغبار طرفك أكحلت ... عين الغزالة صدّها وَجه الدما)
وَمن جُمْلَتهَا وَهُوَ مَحل الشَّاهِد
(ملك من الْإِيمَان جرّد صَارِمًا ... بِالْحَقِّ حَتَّى الْكفْر أصبح مُسلما)
(لَو شَاهد المطرود سطوة بأسه ... فِي صلب آدم للسُّجُود تقدّما)
(الْعدْل أخرس كَانَ قبل زَمَانه ... أَذِنت لَهُ الْأَيَّام أَن يتكلما)
(لم تخط آساد الفلا فِي عَهده ... بَين الشقائق خيفة أَن تتهما)
(عقد المثار على العداة سحائباً ... لَوْلَا الحيا لَقِي العدا مِنْهَا دَمًا)
(ودعت ظباه الطير حَتَّى أَنه ... قد كَاد يسْقط فرخه نسر السما)
وَكَانَ صَاحب طالع سعيد مَا جهز جَيْشًا إِلَى نَاحيَة إِلَّا انتصر وَلَا قصد فتح بلد إِلَّا ظفر وَمن الفتوحات الَّتِي وَقعت فِي عَهده فتح قلعة ازاق وَكَانَ أهل دائرتها من الْكفَّار أظهرُوا الشقاق فَجهز إِلَيْهِم جَيْشًا فافتتحوها فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَمِنْهَا فتح خَانِية أحد الْبِلَاد الْمَشْهُورَة بِجَزِيرَة اقريطش بِفَتْح الْألف وَسُكُون الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة من تَحت وَكسر الطَّاء الْمُهْملَة وَفِي آخرهَا شين مُعْجمَة وتعرف الْآن بِجَزِيرَة كريت وَكَانَت الْمُلُوك الفرنج المعروفين بالبندقية وَهَذِه الجزيرة من أعظم الجزائر وأكبرها تشْتَمل على بلادورساتيق كَثِيرَة وَذكر بعض من دَخلهَا أَن بهَا من الْقرى أَرْبعا وَعشْرين ألف قَرْيَة وَأَن دورها ثلثمِائة وَخَمْسُونَ ميلًا وَذكر فِي كتاب الْفرس أَن دورها مسيرَة خَمْسَة عشر يَوْمًا وَهِي ذَات رياض نَضرة وَبهَا أَنْوَاع الْفَوَاكِه وَالثِّمَار وخيراتها وافرة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا من أحاسن الجزائر وَكَانَ السُّلْطَان إِبْرَاهِيم أرسل إِلَيْهَا عساكره بالسفن الْكَثِيرَة وَقدم عَلَيْهِم حَاكم الْبَحْر يُوسُف باشا الْوَزير فَدخل الجزيرة وحاصر قلعة خَانِية وافتتحها وَكَانَ ذَلِك فِي عشري جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخمسين وَألف ثمَّ قدم بَعْدَمَا قدم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة قَتله السُّلْطَان لأمر نقمة عَلَيْهِ وَأمر مَكَانَهُ الْوَزير الْكَبِير حُسَيْن باشا الْمَعْرُوف بدالي(1/14)
حُسَيْن وجهز مَعَه عدَّة من وزرائه وأمرائه إِلَى فتح الجزيرة بِتَمَامِهَا فوصل إِلَيْهَا ونازل قلعة رتمو واستعان عَلَيْهَا باللغم حَتَّى أهلك خلقا كثيرا من الفرنج بِسَبَب ذَلِك وَفتحهَا وَاسْتولى على جَمِيع قرى الجزيرة وَلم يبْق مِنْهَا مِمَّا خرج عَن ملك آل عُثْمَان فِي تِلْكَ الجزيرة إِلَّا قلعة قندية وَطَالَ أمرهَا مُدَّة مديدة حَتَّى فتحت فِي زمن سُلْطَان زَمَاننَا السُّلْطَان مُحَمَّد كَمَا سنذكر تَفْصِيل فتحهَا فِي تَرْجَمَة الْوَزير أَحْمد باشا الْفَاضِل وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور كَانَ مَيْمُون النقيبة مَنْصُور الكتيبة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف وخلع عَن الْملك فِي نَهَار الْخَمِيس سادس عشر رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَذكر سَبَب خلعه يحْتَاج إِلَى تَفْصِيل مُمل أعرضنا عَنهُ لشهرته ومحصله أَنه كَانَ ارْتكب بعض أُمُور تتَعَلَّق بهوى النَّفس وَأطَال فِي تعاطيها حَتَّى مِلَّته أَرْكَان دولته ثمَّ اجْتَمعُوا وخلعوه من السلطنة وسلطنوا مَكَانَهُ وَلَده السُّلْطَان مُحَمَّد وَفِي ثَالِث يَوْم من خلعه قَتَلُوهُ وَدفن فِي مدفن عَمه الصَّالح السُّلْطَان مصطفى إِلَى جَانِبه بِجَامِع أياصوفيا وَمِمَّا اتّفق لَهُ وَلم يتَّفق لغيره من السلاطين فِيمَا أعلم أَنه رأى سلطنة أَبِيه وَعَمه وأخويه وَولده وَوجدت فِي بعض المجاميع الْقَدِيمَة فَائِدَة غَرِيبَة يُنَاسب إيرادها هُنَا محصلها أَنه استقرى من ولي السلطنة وَكَانَ اسْمه إِبْرَاهِيم فوجدوا لم يتم لأَحَدهم أمرهَا إِلَّا قتل وَقَالَ الرَّاغِب فِي محاضراته قَالَ أَبُو عَليّ النطاح كَانَ الْمهْدي يحب ابْنه إِبْرَاهِيم فَقَالَت لَهُ شكْلَة أم إِبْرَاهِيم أَلا ترَاهُ يَلِي الْخلَافَة فَقَالَ لَا وَلَا يَليهَا من اسْمه إِبْرَاهِيم إِن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل أول نَبِي عذب بالنَّار وَإِن إِبْرَاهِيم بن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لم يَعش وبويع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَلم يتم لَهُ الْأَمر وَأحكم إِبْرَاهِيم الإِمَام أَمر الْملك فَقتل وَتمّ لغيره وَطلب الْخلَافَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحُسَيْن فَمَا تمت لَهُ على جلالته وَكَثْرَة جَيْشه وَقد بَايع المتَوَكل لِابْنِهِ إِبْرَاهِيم الْمُؤَيد فَلم يتم لَهُ وَقتل وَمَا ذكر من اللغم هُوَ شَيْء غَرِيب يَنْبَغِي التعرّض للْكَلَام عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مستحدث وَهُوَ فِي الأَصْل من عمل الفرنج اصطنعوه فِي محاصرة بعض الْحُصُون فِي أَوَائِل الْقرن التَّاسِع على عهد السُّلْطَان سليم الْأَكْبَر واشتهر عِنْد مُلُوك الرّوم حَتَّى فاقوا فِيهِ على الفرنج وَكَيْفِيَّة عمله على مَا تلقيته من الأفواه ثمَّ وجدته فِي بعض المجاميع بِخَط بعض الأدباء أَنه إِذا حوصرت قلعة أَو حصن وتعسر تملكه لصعوبته يسوقون أَمَامه تَلا عَظِيما من التُّرَاب ثمَّ يحفرون من تَحت ذَلِك التُّرَاب سرداباً عَظِيما إِلَى أَن يصلوا إِلَى الأساس ثمَّ يجوّفون قَعْر(1/15)
الأساس مِقْدَار مَا يُرِيدُونَ بِحَيْثُ أَنهم لم يخرجُوا من تَحت الْجِدَار أبدا فَإِن خَرجُوا بَطل جَمِيع الْعَمَل وينقلون التُّرَاب من السرداب إِلَى خَارج خفيه ليخلو مَا تَحْتَهُ ثمَّ يملؤونه بالنفط والبارود طولا وعرضاً ويضعون فَتِيلَة ثخينة من الْقطن مِقْدَار شبرين فيحرقون أطرافها بالنَّار فِي الْخَارِج ويضعون فَتِيلَة أُخْرَى على قدرهَا ثمَّ يَأْخُذُونَ بالساعة مِقْدَار زمَان احتراقها ليعلموا فِي أَي وَقت تصل نَار الفتيلة إِلَى البارود تَحت الأَرْض ثمَّ إِن الْعَسْكَر يَأْخُذُونَ الأهبة للهجوم ويسدّون بَاب اللغم سدّاً محكماً خوفًا من رُجُوع البارود إِلَى خلف وَعند احتراق البارود يَنْقَلِب مَا فَوْقه من جِدَار أَو سور أَو غير ذَلِك فيهجم الْعَسْكَر دفْعَة وَاحِدَة ويملكون القلعة بِهَذِهِ الْحِيلَة وَهَذَا مَا انْتهى إليّ من خَبره على هَذَا التَّفْصِيل وَالله أعلم
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الرَّمْلِيّ الْفَقِيه الحنيفي الْمَعْرُوف بالتشبيلي كَانَ أحد الْفُقَهَاء الأخيار عَالما بالفرائض حق الْعلم وَله مُشَاركَة جَيِّدَة فِي فنون الْأَدَب وَغَيرهَا وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق لين العريكة وَفِيه تواضع وانعطاف ولد بالرملة وَنَشَأ بهَا ورحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن الإِمَام رَئِيس الْحَنَفِيَّة فِي وقته أَحْمد بن أَمِين الدّين ابْن عبد العال والعلامة عبد الله البحراوي الْحَنَفِيّ وَرجع إِلَى بَلَده وَأقَام بهَا يدرّس ويفيد إِلَى أَن مَاتَ وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وانتفع بِهِ الشَّيْخ محيي الدّين بن شيخ الْإِسْلَام خير الدّين الرَّمْلِيّ وَالسَّيِّد مُحَمَّد الْأَشْعَرِيّ مفتي الشَّافِعِيَّة بالقدس وَغَيرهمَا وَكَانَت وَفَاته بالرملة فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن تيمورخان بن حَمْزَة بن مُحَمَّد الرُّومِي الْحَنَفِيّ نزيل الْقَاهِرَة الْمَعْرُوف بالقزاز الْأُسْتَاذ الْكَبِير شيخ الطَّائِفَة الْمَعْرُوفَة بالبيرامية كَانَ صَاحب شَأْن عَال وكلمات فِي التصوف مستعذبة وَألف رسائل فِي عُلُوم الْقَوْم مِنْهَا رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا محرقة الْقُلُوب فِي الشوق لعلام الغيوب وَغَيرهَا وَأَصله من بوسنة ولد بهَا وَنَشَأ متعبداً متزهداً ثمَّ طَاف الْبِلَاد وَلَقي الْأَوْلِيَاء الْكِبَار وجدّ واجتهد وَصَارَ لَهُ فِي كل بلد اسْم يعرف بِهِ فاسمه فِي ديار الرّوم عليّ وَفِي مَكَّة حسن وَفِي الْمَدِينَة مُحَمَّد وَفِي مصر إِبْرَاهِيم وَأخذ الطَّرِيقَة البيرامية الكيلانية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الرُّومِي عَن السَّيِّد جَعْفَر عَن أَمِير سكين عَن السُّلْطَان بيرام وَأقَام بالحرمين مُدَّة ثمَّ استقرّ بِمصْر فَأَقَامَ بِجَامِع الزَّاهِد مُدَّة ثمَّ بِجَامِع قوصون ثمَّ بالبرقوقية ثمَّ قطن بقلعة الْجَبَل فسكن بمسكن قرب سَارِيَة وَجلسَ بحانوت بالقلعة يعْقد فِيهَا الْحَرِير وَكَانَ لَهُ أَحْوَال عَجِيبَة ووقائع(1/16)
غَرِيبَة وحبب إِلَيْهِ الانجماع والانفراد وَكَانَ فِي أَكثر أوقاته يأوي إِلَى الْمَقَابِر بِظَاهِر القلعة وَبَاب الْوَزير والقرافتين وَإِذا غلب عَلَيْهِ الْحَال جال كالأسد المتوحش وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي
وَعلي المرتضى بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول يَا عَليّ اكْتُبْ السَّلامَة وَالصِّحَّة فِي الْعُزْلَة وكرّر ذَلِك فَمن حبب إِلَيْهِ ذَلِك وَكَانَ يخبر أَنه ولد لَهُ ولد فَلَمَّا أذن الْمُؤَذّن بالعشاء نطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ فِي المهد وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَعشْرين بعد الْألف وَدفن عِنْد أَوْلَاده بتربة بَاب الْوَزير تجاه النظامية هَكَذَا ذكره الإِمَام عبد الرؤف الْمَنَاوِيّ فِي طبقاته الْكَوَاكِب الدرية فِي تراجم السَّادة الصُّوفِيَّة وَمَا حررته هُنَا مِنْهَا مَعَ بعض تَلْخِيص وتغيير والقرافة بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء المخففة وَبعد الْألف فَاء فهاء قرافتان الْكُبْرَى مِنْهُمَا ظَاهر ومصر وَالصُّغْرَى ظَاهر الْقَاهِرَة وَبهَا قبر الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَبَنُو قرافة فَخذ من المعافر بن يعفر نزلُوا بِهَذَيْنِ المكانين فنسبا إِلَيْهِم ولهاتين ثَالِثَة وَهِي محلّة بالإسكندرية مُسَمَّاة بالقبيلة قَالَه ياقوت رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْمُشْتَرك
الْمولى إِبْرَاهِيم بن حسام الدّين الكرمياني المتخلص بِسَيِّد شريفي ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيل الشقائق وَوَصفه بالتركية فَوق الْوَصْف وَكَانَ على مَا يفهم مِنْهُ فِي غَايَة من الْفضل والكمال مَشْهُورا بفنون شَتَّى معدوداً من أَفْرَاد الْعلمَاء قَالَ وَقد ولد فِي سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن وَالِده ثمَّ قدم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فاتصل بِخِدْمَة الْمولى سعد الدّين بن حسن جَان معلم السُّلْطَان ولازم مِنْهُ على عَادَة عُلَمَاء الرّوم وَهَذِه الْمُلَازمَة مُلَازمَة عرفية اعتبارية وَهِي الْمدْخل عِنْدهم لطريق التدريس وَالْقَضَاء ثمَّ درس بمدارس الرّوم إِلَى أَن وصل إِلَى مدرسة مُحَمَّد باشا الْمَعْرُوفَة بالفتحية وَتُوفِّي وَهُوَ مدرس بهَا وَله تآليف مِنْهَا تَكْمِلَة تَغْيِير الْمِفْتَاح الَّذِي أَلفه ابْن الْكَمَال ونظم الْفِقْه الْأَكْبَر وَالشَّافِعِيَّة وشرحهما وَله من طرف والدته سيادة وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف بعلة الاسْتِسْقَاء وَدفن بحوطة مَسْجِد شريفة خاتون بِالْقربِ من جَامع مُحَمَّد آغا دَاخل سور قسطنيطينية
الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن حسن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي الطالوي الارتقي الْأَمِير الْجَلِيل فَرد وقته فِي الْكَرم والعهد الثَّابِت وَوصل فِي الشجَاعَة إِلَى رُتْبَة يقصر عَنْهَا أَبنَاء زَمَانه وَفِيه يَقُول قَرِيبه أَبُو الْمَعَالِي درويش مُحَمَّد الطالوي فِي قصيدته الرائية الَّتِي أرسلها من الرّوم يذكر فِيهَا أَعْيَان الشَّام(1/17)
(مِنْهُم جناب الطالوي ... سليل ارتق ذِي السرير)
(فِي السّلم كالغيث المطير ... وَالْحَرب كالليث الهصور)
(محيى مَكَارِم حَاتِم ... بَين الْأَنَام بِلَا نَكِير)
ولد بِدِمَشْق بدارهم الْمَعْرُوفَة بهم بمحلة التَّعْدِيل وَنَشَأ فِي تربية أَبِيه ثمَّ أَنه خدم أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بشمسي نَائِب الشَّام وَهُوَ الَّذِي بنى التكية بِالْقربِ من سور الأروام وَلما عزل عَن نِيَابَة الشَّام صَحبه إِلَى دَار السلطنة وَاسْتمرّ فِي خدمته كلما ولي ولَايَة كَانَ مَعَه ثمَّ صَار أحد الْحجاب بِالْبَابِ العالي فِي زمن السُّلْطَان سُلَيْمَان وَأعْطى قرى وأقطاعاً كَثِيرَة وسافر الْأَسْفَار السُّلْطَانِيَّة وترامت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى دمشق فِي أَيَّام منازلة جَزِيرَة قبرس فِي عهد السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان وَجمع ذخائر العساكر من بِلَاد الشَّام وَأَخذهَا فِي المراكب من جَانب طرابلس إِلَى قبرس وَكَانَ رَأس العساكر إِذْ ذَاك الْوَزير مصطفى باشا صَاحب الخان الْكَبِير وَالْحمام الَّذِي فِي سوق السروجية بِدِمَشْق وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن تولى السُّلْطَان مُرَاد بن سليم السلطنة فصير الْأَمِير إِبْرَاهِيم رَأس العساكر بِدِمَشْق وسافر بهم إِلَى فتح ديار الْعَجم مَرَّات عديدة وَكَانَ فِي ذَلِك مَحْمُود السِّيرَة وَبعد ذَلِك تولى الْإِمَارَة فِي مَدِينَة نابلس سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَاسْتمرّ بهَا حَاكما نَحْو سنتَيْن وانفصل عَنْهَا ثمَّ أُعِيدَت إِلَيْهِ وَفِي هَذِه الْمرة عينه أَمِير الْأُمَرَاء بِالشَّام مُحَمَّد باشا ابْن الْوَزير الْأَعْظَم سِنَان باشا لاستقبال ركب الْحَاج على عَادَتهم فحرس الركب من تَبُوك إِلَى دمشق حراسة عَظِيمَة ثمَّ عزل عَن حُكُومَة نابلس وَطَرحه الدَّهْر فِي زَاوِيَة الخمول حَتَّى أنفد غَالب مَا كَانَ يملك وَتَفَرَّقَتْ عَنهُ حفدته وسافر إِلَى طرف السلطنة فِي سنة سبع بعد الْألف وَاسْتمرّ زَمَانا طَويلا ملازماً وَعَاد وَلم يحصل على طائل وَلما قدم الْوَزير السَّيِّد مُحَمَّد باشا الْأَصْفَهَانِي الأَصْل نَائِبا إِلَى الشَّام عرض حَاله عَلَيْهِ فرق لَهُ وَعين لَهُ من الْتِزَام السمسارية فِي كل سنة أَرْبَعمِائَة دِينَار على سَبِيل التقاعد وَأقَام على تِلْكَ الْحَالة متقنعاً بالكفاف إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف والارتقي بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوْقهَا وَبعدهَا قَاف نِسْبَة إِلَى أرتق بن أكسب جد الْمُلُوك الأرتقية وَله فِي تَارِيخ ابْن خلكان تَرْجَمَة مختصرة مفيدة وَنسبَة بني طالو إِلَيْهِ مستفيضة الْأَلْسِنَة
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن حسن الإحسائي الْحَنَفِيّ من أكَابِر الْعلمَاء الْأَئِمَّة المتحلين(1/18)
بالقناعة المتخلين للطاعة كَانَ فَقِيها نحوياً متفنناً فِي عُلُوم كَثِيرَة قَرَأَ ببلاده على شُيُوخ كَثِيرَة وَأخذ بِمَكَّة عَن مفتيها عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي وَكتب لَهُ إجَازَة حافلة أَشَارَ فِيهَا إِلَى تمكنه فِي الْعُلُوم وَأخذ الطَّرِيق عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى إِلَى الشَّيْخ تَاج الدّين الْهِنْدِيّ حِين قدم الإحساء وَعنهُ الْأَمِير يحيى بن عَليّ باشا حَاكم الإحساء وَكَانَ يثني عَلَيْهِ ويخبر عَنهُ بأخبار عَجِيبَة وَله مؤلفات كَثِيرَة فِي فنون عديدة مِنْهَا شرح نظم الأجرومية للعمريطي ورسالة سَمَّاهَا دفع الأسى فِي إذكار الصُّبْح والمسا وَشَرحهَا لَهُ أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله شعر
(وَلَا تَكُ فِي الدُّنْيَا مُضَافا وَكن بهَا ... مُضَافا إِن قدرت عَلَيْهِ)
(فَكل مُضَاف للعوامل عرضة ... وَقد خص بالخفض الْمُضَاف إِلَيْهِ)
وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم السَّابِع من شَوَّال سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف بِمَدِينَة الإحساء والإحساء جمع حسى وَهُوَ المَاء ترشفه الأَرْض من الرمل فَإِذا صَار إِلَى صلابة أمسكته فتحفر عَنهُ الْعَرَب وتستخرجه وَهُوَ علم لسِتَّة مَوَاضِع من بِلَاد الْعَرَب الأول أحساء بني سعد بحذاء هجر بلد وَهِي دَار القرامطة بِالْبَحْرَيْنِ وَمن أجل مدنها وَنسبَة إِبْرَاهِيم هَذَا إِلَى الإحساء وَهَذِه وَقيل أحساء بني سعد غير أحساء القرامطة الثَّانِي أحساء حرشاف بالبيضاء من بِلَاد جذيمة عل سيف الْبَحْرين الثَّالِث الإحساء ماءة لجديلة طي بأجأ الرَّابِع أحساء بني وهب بني القرعاء وواقصة تِسْعَة آبار كبار على طَرِيق الْحَاج الْخَامِس الإحساء مَاء لغنى السَّادِس مَاء بِالْيَمَامَةِ بِالْقربِ من برقة الروحان
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن حُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن بيري مفتي مَكَّة أحد أكَابِر فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة وعلمائهم الْمَشْهُورين وَمن تبحر فِي الْعُلُوم وتحري فِي نقل الْأَحْكَام وحرر الْمسَائِل وَانْفَرَدَ فِي الْحَرَمَيْنِ بِعلم الْفَتْوَى وجدد من مآثر الْعلم مَا دثر لَهُ الهمة الْعلية فِي الانهماك على مطالعة الْكتب الْفِقْهِيَّة وَصرف الْأَوْقَات فِي الِاشْتِغَال وَمَعْرِفَة الْفرق وَالْجمع بَين الْمسَائِل سَارَتْ بِذكرِهِ الركْبَان بِحَيْثُ أَن عُلَمَاء كل إقليم يشيرون إِلَى جلالته أَخذ عَن عَمه الْعَلامَة مُحَمَّد بن بيري وَشَيخ الْإِسْلَام عبد الرَّحْمَن المرشدي وَغَيرهمَا وَقَرَأَ فِي الْعَرَبيَّة على عَليّ بن الْجمال وَأخذ الحَدِيث عَن ابْن عَلان وَأَجَازَهُ كثير من الْمَشَايِخ وَكتب لَهُ بِالْإِجَازَةِ جمع من شُيُوخ الْحَنَفِيَّة بِمصْر واجتهد حَتَّى صَار فريد عصره فِي الْفِقْه وانتهت إِلَيْهِ فِيهِ الرياسة وَأَجَازَ كثيرا(1/19)
من الْعلمَاء مِنْهُم شَيخنَا الْحسن بن عَليّ العجيمي وتاج الدّين الدهان وَسليمَان حنو وَكَثِيرًا من الوافدين إِلَى مَكَّة وَولي إفتاءها سِنِين ثمَّ عزل عَنْهَا لما تولى شرافة مَكَّة الشريف بَرَكَات لما كَانَ بَين المترجم وَبَين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي من عدم الألفة وَكَانَت أُمُور الْحَرَمَيْنِ فِي أول دولة الشريف بَرَكَات منوطة بِهِ والشريف بِمَنْزِلَة الصفر الْحَافِظ لمرتبة الْعدَد وَكَانَ لَهُ ولد نجيب مَاتَ فِي حَيَاته وَانْقطع بعد ذَلِك عَن النَّاس وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ مجد فِي الِاشْتِغَال بالمطالعة والتحرير وَله مؤلفات ورسائل كَثِيرَة تنيف على سبعين مِنْهَا حَاشِيَة على الْأَشْبَاه والنظائر سَمَّاهَا عُمْدَة ذَوي البصائر وَشرح الْمُوَطَّأ راوية مُحَمَّد بن الْحسن فِي جلدين وَشرح تَصْحِيح الْقَدُورِيّ للشَّيْخ قَاسم وَشرح المنسك الصَّغِير للملا رَحْمَة الله وَشرح منظومة ابْن الشّحْنَة فِي العقائد ورسالة فِي جَوَاز الْعمرَة فِي أشهر الْحَج وَالسيف المسلول فِي دفع الصَّدَقَة لآل الرَّسُول ورسالة فِي الْمسك والزباد وَأُخْرَى فِي جَمْرَة الْعقبَة ورسالة فِي بيض الصَّيْد إِذا أَدخل الْحرم وَأُخْرَى فِي الْإِشَارَة فِي التَّشَهُّد ورسالة جليلة فِي عدم جَوَاز التلفيق رد فِيهَا على عصريه مكي فروخ وقرظ لَهُ عَلَيْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام يحيى بن عمر المنقاري والشهاب أَحْمد الشَّوْبَرِيّ وَله غير ذَلِك من التآليف والتحريرات وَكَانَت وِلَادَته فِي الْمَدِينَة المنورة فِي نَيف وَعشْرين وَألف وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد سادس عشر شَوَّال سنة تسع وَتِسْعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ عصر يَوْمه بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَدفن بالمعلاة بِقرب تربة السيدة خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَ قلقاً من الْمَوْت فَرَأى النَّبِي
قبل وَفَاته بليلة فِي الْمَنَام وَهُوَ يَقُول لَهُ يَا إِبْرَاهِيم مت فَإِن لَك بِي أُسْوَة حَسَنَة فَقَالَ يَا رَسُول الله على شَرط أَن يكْتب لي ثَوَاب الْحَج فِي كل سنة فَقَالَ
لَك ذَلِك أَو كلا مَا مَعْنَاهُ هَذَا
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن رَمَضَان الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بالسقاء الْوَاعِظ الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره يسْقِي المَاء دَاخل قلعة دمشق ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم وَقَرَأَ الْقُرْآن وجوده واشتغل فِي غَيره من الْعُلُوم على الْمولى يُوسُف بن أبي الْفَتْح أَمَام السُّلْطَان وَلَزِمَه حَتَّى صَار لَهُ ملكة فِي القراآت والوعظ وَحفظ فروعاً من الْعِبَادَات كَثِيرَة وَأعْطى إِمَامَة مَسْجِد فِي مَدِينَة أبي أَيُّوب وَأقَام بالروم مِقْدَار أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ إِنَّه ترك الْإِمَامَة وَأخذ الْمدرسَة الجوزية بِدِمَشْق وَقدم إِلَيْهَا وَانْقطع بَقِيَّة عمره بالجامع الْأمَوِي وأضر فِي عَيْنَيْهِ وَيَديه وَرجلَيْهِ وَكَانَ دَائِم الإفادة والنصيحة وَقَرَأَ عَلَيْهِ(1/20)
جمَاعَة من أهل دمشق وَكنت أَنا فِي حَالَة صغرى جودت عَلَيْهِ حِصَّة من الْقُرْآن وَكَانَ أهل الرّوم الَّذين يردون إِلَى دمشق يميلون إِلَيْهِ ويعتقدونه وَكَانَ يَعِظهُمْ تَارَة على كرْسِي وَتارَة وَهُوَ جَالس مَكَان تدريسه ويبالغ فِي التهديد والزجر وَكَانَ لَا يَخْلُو من تعصب وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ نفع مُتَعَدٍّ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة تسع وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
إِبْرَاهِيم بن المنلا زين الدّين الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بالجمل كَانَ أَبوهُ زين الدّين من أهل نخجوان من بِلَاد الْعَجم ورد دمشق وتديرها وَولد لَهَا بهَا ثَلَاثَة أَوْلَاد أَحْمد وَمُحَمّد وَإِبْرَاهِيم هَذَا فَأَما أَحْمد وَمُحَمّد فستأتي ترجمتاهما خاصتين وَأما إِبْرَاهِيم هَذَا فَإِنَّهُ نَشأ وَقَرَأَ فِي بعض الْعُلُوم واشتهر فِي معرفَة الطِّبّ وَتَوَلَّى آخرا رياسة الْأَطِبَّاء وناب فِي محاكم دمشق وَكَانَ فِيهِ دعابة ومزاح وَكَانَ يجْرِي بَينه وَبَين القَاضِي مُحَمَّد بن حُسَيْن ابْن عين الْملك الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالقاق منافسات ووقائع كَثِيرَة وَكَانَ القاق مُغْرِي بهجائه وثلبه وَاتفقَ لَهُ أَنه أوقع بِهِ مكيدة أَرَادَ فضيحته بهَا وفطن بهَا إِبْرَاهِيم فتخاصم هُوَ وإياه وتشاتما وهجره إِبْرَاهِيم بعد ذَلِك فَقَالَ فِيهَا الأديب إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأكرمي الْآتِي ذكره شعر
(انْظُر إِلَى حَال الزَّمَان ... وَمَا اعتراه من الْخلَل)
(القاق مد جنَاحه ... شرطا ليصطاد الْجمل)
(فَجرى بذلك بَينهم ... حَرْب وَلَا حَرْب الْجمل)
وَلما ولي أَخُوهُ أَحْمد قَضَاء دمشق مَاتَ فِي زَمَنه المنلا عَليّ الْكرْدِي وَكَانَ مدرس التقوية فَوجه تدريسها إِلَيْهِ فَقَالَ فِيهِ الأكرمي الْمَذْكُور شعر
(يَا أَيهَا الْجمل الَّذِي ... غَدَتْ الربوع بِهِ دوارس)
(قد كنت ترجد فِي الحقول ... فصرت ترجد فِي الْمدَارِس)
(فابعر وكل واشرب وبل ... وارتع فَمَا للروض حارس)
ثمَّ بعد موت أَخِيه الْمَذْكُور وجهت الْمدرسَة عَنهُ واختل بعد ذَلِك عقله وتكدر عيشه وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس بعد الْألف وَتُوفِّي فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس بِالْقربِ من قبر أبي شامة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ابْن أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم بن جعمان بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة(1/21)
ابْن يحيى بن عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن الشونيش بن عَليّ بن وهب بن عَليّ بن صريف بن ذوال بن سنوة بن ثَوْبَان بن عِيسَى بن سحارة بن غَالب بن عبد الله بن عك ابْن عدنان العكي العدناني الصريفي الذوالي اليمني الزبيدِيّ الشَّافِعِي الإِمَام الْعَالم الْعَامِل كَانَ جَامعا للفنون خَاشِعًا متواضعاً متورعاً محافظاً على الذّكر لَا يخلي وقتا من الذّكر وَالْخَيْر ملازماً لِلْمَسْجِدِ ملاطفاً أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم عَمه الْعَلامَة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وتوطن بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل وانتهت إِلَيْهِ فِيهَا الرياسة فِي عُلُوم الدّين وَله فَتَاوَى كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة ورسالة منظومة فِي الْعرُوض سَمَّاهَا آيَة الحائر إِلَى الفك من أحرف الدَّوَائِر وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم الشَّيْخ الْفَاضِل عبد الله بن عِيسَى الْغَزِّي وَكَانَ يحب الطّلبَة ويبالغ فِي ملاطفتهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَأَجَازَ كل من قَرَأَ عَلَيْهِ وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره فِي الإلهيات شعر
(قصدي رضاك بِكُل وَجه أمكنا ... فَامْنُنْ عَليّ بِذَاكَ من قبل الفنا)
(وَلَئِن رضيت فَذَاك غَايَة مطلبي ... وَالْقَصْد كل الْقَصْد بل كل المنى)
(لَو أبذلن روحي فدى لرأيتها ... أمرا حَقِيرًا فِي جنابك هُنَا)
(وَبقيت من خجل كَعبد قد جنى ... وَالْكل ملككم فَمَا مني أَنا)
(وَلَقَد تفضلتم بإيجادي كَذَا ... أنعمتم أَيْضا بكوني مُؤمنا)
(لَوْلَا تطولكم عَليّ وفضلكم ... مَا كنت مَوْجُودا وَلَا مني ثَنَا)
(من ذَا الَّذِي يسْعَى ويشكر فَضلكُمْ ... لَو عمر الأبدين يشْكر مُعْلنا)
(وَأَنا المسيكين الَّذِي قد جَاءَكُم ... للعفو مِنْكُم طَالبا وَلَقَد جنى)
(فباسمكم وبعزكم وبجاهكم ... منوا عَليّ وأذهبوا عني العنا)
وَكَانَت وَفَاته بِبَيْت الْفَقِيه ابْن عجيل فجر يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَبَنُو جمعان قَبيلَة من صريف بن ذوال بَيت علم وَصَلَاح وورع وفلاح قَالَ الإِمَام الشرجي فِي طبقاته كل أهل بَيت فيهم الغث والسمين إِلَّا بني جمعان فَإِنَّهُم كلهم سمين يَعْنِي صالحين وَبِالْجُمْلَةِ فهم قوم أصفياء غالبهم أهل صَلَاح وتعقل وَقل من يدانيهم فِي منصب الْعلم لكَوْنهم عُمْدَة أهل الْيمن وَسَنذكر مِنْهُم إِبْرَاهِيم جد إِبْرَاهِيم هَذَا وَابْنه إِسْحَاق عَم هَذَا
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن أبي الْفضل بن بَرَكَات بن أبي الْوَفَاء بن عبد الله(1/22)
ابْن مُحَمَّد بن نَاصِر الدّين الميداني الصُّوفِي الْمَعْرُوف بالموصلي يَنْتَهِي نسبه إِلَى الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي بكر الشَّيْبَانِيّ كَانَ فَقِيها شَافِعِيّ الْمَذْهَب فرضياً حسن الْخلق جم الطول مبذول النعم وَله ثروة وافرة وأملاك وعقارات وَكَانَ مبجلاً بَين النَّاس مُعظما وَله حفدة ومريدون يرجعُونَ إِلَى نعْمَته الدارة وخيراته القارة وَهُوَ وَالِد مَوْلَانَا الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْموصِلِي الصُّوفِي الأديب الَّذِي بهر واشتهر وفَاق على أهل عصره بالأدب كروض أطل على نهر وَكَانَت وَفَاة إِبْرَاهِيم هَذَا فِي الْمحرم سنة أَربع وَخمسين وَألف بِالْمَدِينَةِ المنورة عقب مُنْصَرفه من الْحَج وَدفن ببقيع الْغَرْقَد وَبلغ من الْعُمر خمْسا وَسبعين سنة
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عماد الدّين بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عماد الدّين بن محب الدّين بن كَمَال الدّين بن نَاصِر الدّين بن عماد الدّين الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الْعِمَادِيّ أحد بلغاء الشَّام الْمَذْكُورين وفضلائها الْمَشْهُورين وَكَانَ لمحاسن الْأَدَب وبدائع النثر ولطائف النّظم كالروح للحياة والينبوع للْمَاء وَيجْرِي مَعهَا إِلَى طبع سليم وَخلق دمث ومحاورة سارة وَكَانَ قوي البادرة كثير المحفوظات لذيذ الْعشْرَة مَقْبُول الْهَيْئَة عَظِيم الهيبة نَشأ فِي نعْمَة أَبِيه مشمولاً بعناية مكفولاً برأفته وَهُوَ أَصْغَر أَوْلَاده الثَّلَاثَة الَّذين رزقهم تيجاناً للمعالي وحسنات للأيام والليالي وهم عماد الدّين وشهاب الدّين وَإِبْرَاهِيم وَكَانَ إِبْرَاهِيم أحبهم إِلَيْهِ وأقربهم لخاطره على أَن كلا مِنْهُم نَسِيج وَحده وطلاع ثنايا مجده وَقد سُئِلَ وَالِدي المرحوم عَن التَّمْيِيز بَينهم فَقَالَ أكبرهم أحلمهم وأوسطهم أكتبهم وأصغرهم أفضلهم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن تفوق إِبْرَاهِيم مستفيض مُسلم لَا مشاحة فِيهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره اشْتغل على وَالِده عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد البوريني فِي أَنْوَاع الْعُلُوم وَعَلَيْهِمَا تخرج فِي الْأَدَب وَأخذ الحَدِيث عَن الشهب الثَّلَاثَة النيرة أَحْمد العيثاوي الشَّافِعِي وَأحمد الوفائي الْحَنْبَلِيّ وَأحمد الْمقري الْمَالِكِي وبرع حَتَّى أعَاد لوالده فِي تَفْسِير الْكَشَّاف ولازم من الْمولى عبد الله بن مَحْمُود العباسي ودرس بِالْمَدْرَسَةِ النورية الْكُبْرَى برتبة الدَّاخِل المتعارفة بَين أهالي الديار الشامية تبعا لبلاد الرّوم وَحج مرَّتَيْنِ ثانيتهما قَاضِيا بالركب الشَّامي وسافر إِلَى الرّوم عقيب موت وَالِده هُوَ وَأَخُوهُ الْأَوْسَط وَكَانَ لَهُ فِي صناعَة الشّعْر فضل لَا يرد وإحسان لَا يعد وَمن جيد شعره قَوْله
(إِن يكن زَاد فِي الحسان جمال ... أكد الْحسن فيهم تَأْكِيدًا)(1/23)
(فَلَقَد أسس العذار بخدي ... منيتي رونقاً ولطفا مزيدا)
(وَهُوَ عمري لَا شكّ أشهى وأبهى ... حَيْثُمَا قد أَفَادَ معنى جَدِيدا)
وَقَوله مضمناً
(لقد وعدت زيارتنا سليمى ... وَقد قل التصبر والقرار)
(فوافت بعد حِين وَهِي سكرى ... يرنحها الشبيبة وَالْوَقار)
(فريعت من تبلج صبي شيبي ... وَقَالَت لَا أَزور وَلَا أزار)
(فَقلت لَهَا وَكم تعدين صبا ... كئيباً قد براه الِانْتِظَار)
(فغضت طرفها عني وَقَالَت ... كَلَام اللَّيْل يمحوه النَّهَار)
وَمِمَّا أنْشدهُ لنَفسِهِ قَوْله
(لَا تخش من شدَّة وَلَا نصب ... وثق بِفضل الْإِلَه وابتهج)
(وارج إِذا اشتدهم نازلة ... فآخر الْهم أول الْفرج)
وَقَوله وَقد ركب فِي الرّوم زورقاً فِي الْبَحْر
(لما ركبنَا ببحر ... وَكَاد من خَافَ يتْلف)
(على الْكَرِيم اعتمدنا ... حاشاه أَن يتَخَلَّف)
وَكتب إِلَى وَالِدي وَقد عزم على السّفر من قسطنيطينية وَبَقِي وَالِدي بهَا قَوْله
(إِلَيْك أخي نصيحة ذِي اختبار ... لَهُ خرم وزند فِيهِ وَأرى)
(إِذا جَار الزَّمَان وكل دهر ... على أحراره مَا زَالَ جاري)
(وأكسبك اغتراباً وانتزاحاً ... فَكُن متغرباً فِي أسكدار)
(ترى فِيهَا ظباء سارحات ... بألحاظ يصدن بهَا الضواري)
(وطوراً تلتقي غصناً رطيباً ... علاهُ حديقة من جلنار)
(فقض الْعُمر فِيهَا فِي سرُور ... وصل ليل التواصل بِالنَّهَارِ)
(وخل الْأَهْل عَنْك وَقل سَلام ... على الأوطان مني والديار)
فَأَجَابَهُ بقوله
(أتلك نصيحة من رب فضل ... إِمَام فِي الْفَضَائِل والفخار)
(لَهُ فِي كل علم طيب مجنى ... وَفعل زانه كرم النجار)
(ونظم يعجز البلغاء لفظا ... وَلَفظ كاللآلي والدراري)
(يَقُول وَقَوله لَا شكّ صدق ... عَلَيْك إِذا اغتربت باسكدار)
(نعم هِيَ جنَّة حفت بحور ... وولدان حكت شمس النَّهَار)
(وَلَكِن لم أجد فِيهَا خَلِيلًا ... يعين أَخا الغرام على اصطبار)
(يساعدني على كَافِي بريم ... يعذب عاشقيه بالنفار)(1/24)
(لَهُ لحظ يصول بِهِ دلالاً ... فيفتن رب نسك ذَا وقار)
(وَقد إِن تثنى فَهُوَ غُصْن ... تحرّك من هوى نائي الديار)
(فَمَالِي والقرار بهَا وَأَنِّي ... يطيب لي الْقَرار بِلَا قَرَار)
(قَضَاء من الهي لي يجْرِي ... على قدر الْإِرَادَة باختياري)
وَله غير ذَلِك من محَاسِن القَوْل وأحاسنه وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف ولحقه الفالج فِي آخر عمره فاستقر مَرِيضا بِهِ مُدَّة سنة وَنصف وَتُوفِّي نَهَار السبت عشرى شهر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير فِي قبر وَالِده الَّذِي دفن بِهِ رحمهمَا الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُوسَى بن خضر الخياري الْمدنِي الشَّافِعِي أحد الْمَشَاهِير بالبراعة فِي الحَدِيث والمعارف وفنون الْأَدَب والتاريخ وَكَانَ وَاسع المحفوظات حُلْو الْعبارَة لطيف الطَّبْع كَأَنَّمَا امتزج مَعَ الصَّهْبَاء وَحلق من رقة المَاء وَله الْأَشْعَار الرائقة والرسائل الفائقة اشْتغل على أَبِيه فِي الْفُنُون وَأخذ عَنهُ وَلزِمَ السَّيِّد ميرماه البُخَارِيّ الْمدنِي الحسني وانتفع بِهِ فِي كتب ابْن عَرَبِيّ وَغَيره وَأخذ عَن الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلي حِين مجاورته بِالْمَدِينَةِ وَحضر دروس قَاضِي الْحَرَمَيْنِ الْعَلامَة مُحَمَّد الرُّومِي الْمَعْرُوف بالملغري فِي تَفْسِير القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ من أول جُزْء عَم إِلَى ختام سُورَة الطارق مَعَ مطالعة الْموَاد وَأَجَازَ لَهُ وَكَانَ أَكثر اشْتِغَاله على الشَّيْخ الإِمَام عِيسَى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَامر المغربي الْجَعْفَرِي الْمدنِي ثمَّ الْمَكِّيّ لَازمه كثيرا وَأخذ عَنهُ وَكَانَ الشَّيْخ عِيسَى رَحل إِلَى مصر فِي حُدُود سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف فاستخاز للخياري من كل من أَخذ عَنهُ من كبار الْعلمَاء الْمَوْجُودين إِذْ ذَاك بِالْقَاهِرَةِ وسأذكرهم فِي تَرْجَمته وَكَانَ الخياري كثير اللهج بِهِ دَائِم الثَّنَاء عَلَيْهِ وَإِنَّمَا برع بالتلقي عَنهُ وخطب بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ وَألف وَله من التآليف رِسَالَة فِي عمل المولد الشريف سَمَّاهَا خُلَاصَة الأبحاث والنقول فِي الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى {لقد جَاءَكُم رَسُول} ودرس بِبَعْض الْمدَارِس بعد وَفَاة أَبِيه وسعى بعض المتغلبين من الْعلمَاء الواردين على الْمَدِينَة فَأَخذهَا مِنْهُ وَكَانَ ذَلِك سَببا لمفارقته الْمَدِينَة ودخوله الرّوم حَتَّى قرر الْمدرسَة عَلَيْهِ وَألف فِي مُنْصَرفه رحْلَة سَمَّاهَا تحفة الأدباء وسلوة الغرباء تشْتَمل على مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين من محَاسِن الْأَخْبَار ولطائف الْآدَاب وَدخل دمشق مَعَ الركب الشَّامي فِي ثَمَان وعشرى(1/25)
صفر سنة ثَمَانِينَ وَألف فَعظم بهَا قدره وانتشر ذكره وَأَقْبل عَلَيْهِ أَهلهَا وبدلوا فِي إكرامه الْجهد وَوَقع بَينه وَبَين أدبائها محاورات ومطارحات كَثِيرَة ذكرهَا فِي رحلته وَمِنْهَا مَا أنْشدهُ لَهُ الْعَلامَة السَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة نقيب الشَّام عِنْدَمَا وصل وَقد جَاءَهُ للسلام عَلَيْهِ قَوْله
(وَكنت أسائل الركْبَان عَمَّن ... أَقَامَ بمهجتي ونأت ربوعه)
(فَلَمَّا ذَر شارقه منيرا ... بأفق الطّرف عاوده هجوعه)
فَأَجَابَهُ بقوله
(أيا رب الموَالِي والمعالي ... وَمن بِالرّقِّ لباه مطيعه)
(لقد كملت فِي خلق وَخلق ... بأعظم مَا تخيله سميعه)
(وشرفت الرَّقِيق بِرَفْع ذكر ... علمت بأنني حَقًا وضيعه)
(فدمت ضِيَاء أفق الشَّام حَقًا ... بلَى أفق الْوُجُود إِذا جَمِيعه)
(ومذ قرت بمرآكم عيوني ... جريح الطّرف عاوده هجوعه)
وَكتب إِلَيْهِ السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن السَّيِّد مُحَمَّد النَّقِيب الْمَذْكُور قَوْله
(أيا سيدا حَاز المكارم واللطفا ... وَمن شأوه فِي حلبة الْفضل لَا يخفى)
(لمثلك يعنو القَوْل نظمت عقده ... وقرطت آذان الحسان بِهِ شنفا)
(وَكم لَك فِي طرق البلاغة من يَد ... هصرت بهَا غُصْن الْكَمَال مَعَ الأكفا)
(لذَلِك قد أَقرَرت بِالْفَضْلِ أعينا ... فشارف ذرى العلياء وامدد لَهَا كفا)
(ستحظى بهَا نعمى عَلَيْك مفاضة ... وترشف معسول الْأَمَانِي بهَا رشفا)
(وهاك بهَا إِنْسَان عين أولى النهى ... ألوكة أشواق من المخلص الأصفى)
(تهاديكم عرف الرياض تَحِيَّة ... وتنشر من صفو الوداد لكم صحفا)
فَأَجَابَهُ بقوله شعر
(أيا سيداً مَا زلت أسأله عطفا ... وَيَا ماجداً لم ألق حقاله أكفا)
(تفضلت لما أَن بعثت برقعة ... هِيَ الرَّوْضَة الْغناء والديمة الوطفا)
(تنزهت فِيهَا واجتليت محاسنا ... وحليت سَمْعِي من لآلئها شنقا)
(أشدت بهَا ذكرى وَقد كَانَ خاملاً ... فهزت معاليها الحسان لي العطفا)
(وَلكنهَا أومت لوحي إِشَارَة ... فَكنت إِلَى فهم لَهَا الأسبق الأوفى)
(لعمرك للعلياء أدْركْت يافعاً ... وَقد خطبتني مَا مددت لَهَا كفا)(1/26)
(وَإِنِّي لمن سباق حلبتها إِذا ... تجار وافكم خلفت من سَابق خلفا)
(وَكم فزت من غادات خدر مسجف ... بغيداء جيد قد أَبَاحَتْ لي الرشفا)
(وَردت بهَا من مورد الْفضل موردا ... حلالي فَكَانَ المورد الأعذب الأصفى)
(فهاك وحيد الدَّهْر عين زَمَانه ... ألوكة صب نازح فَاقِد الألفا)
(وقابل حلاها بِالْقبُولِ فَإِنَّهَا ... غَرِيبَة شكل فِيك أغربت الوصفا)
(فَإِن يَك غَيْرِي جاد بِالْفَضْلِ مبتدا ... فإنى إِبْرَاهِيم وَهُوَ الَّذِي وَفِي)
وَأقَام بِدِمَشْق ثَمَان عشرَة يَوْمًا وَأخذ بهَا عَن الْمُحدث الْكَبِير المعمر شَيخنَا مُحَمَّد بن بدر الدّين البلباني الصَّالِحِي الْحَنْبَلِيّ والعلامة الْمُحَقق عبد الْقَادِر بن مصطفى الصفوري وارتحل إِلَى الرّوم فَدَخلَهَا وَكَانَ ملك الزَّمَان السُّلْطَان مُحَمَّد إِذْ ذَاك ببلدة ينكي شهر فوصل إِلَيْهَا وَاجْتمعَ بالمفتي الْأَعْظَم الْمُحَقق الْكَبِير يحيى بن عمر المنقاري وَقَرَأَ عَلَيْهِ محلا من تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَأَجَازَ لَهُ وَقرر الْمدرسَة عَلَيْهِ وناله من قَائِم مقَام الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا الَّذِي صَار آخرا وزيراً أعظم نعْمَة طائلة وَوجه إِلَيْهِ جرايتين وَثَلَاثِينَ عثمانياً من خزينة مصر فِي كل يَوْم وَعَاد إِلَى قسطنطينية وَأخذ بهَا عَن قطب التَّحْقِيق أبي السُّعُود بن عبد الرَّحِيم الشعراني الْآتِي ذكره ثمَّ قدم دمشق واعتنى بِهِ أَهلهَا كاعتنائهم بِهِ فِي قِيمَته الأولى وَخذ عَنهُ من أَهلهَا خلق كثير وَاجْتمعت أَنا بِهِ مرَارًا وأسمعته من أَوَائِل الْجَامِع الصَّحِيح للْبُخَارِيّ وَسمعت مِنْهُ وأجازني بِجَمِيعِ مروياته وَكتب لي إجَازَة بِخَطِّهِ فِي الْيَوْم الثَّانِي من رَجَب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف ورحل إِلَى مصر وَنزل الرملة وَهُوَ مُتَوَجّه وَأخذ بهَا عَن خَاتِمَة الْعلمَاء خير الدّين بن أَحْمد الرَّمْلِيّ الْحَنَفِيّ وَوصل إِلَى الْقُدس والخليل وغزة وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ الإِمَام عبد الْقَادِر بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الفصين ثمَّ دخل الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن عَالم الرّبع العامر الْعَلَاء الشبراملسي وَالشَّيْخ الإِمَام مُحَمَّد ابْن عبد الله الْخَرشِيّ الْمَالِكِي وَالشَّيْخ يحيى بن أبي السُّعُود الشهاوي الْحَنَفِيّ وَالسَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن السَّيِّد مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالحموي وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ إِلَى الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال ثمَّ رَحل مَعَ الركب الْمصْرِيّ إِلَى الْمَدِينَة فَدَخلَهَا فِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَعَكَفَ على التَّحْرِير والقاء الدُّرُوس وَلم تطل مدَّته حَتَّى مَاتَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أَفْرَاد الدَّهْر وَكَانَت وِلَادَته سحر لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثَالِث شهر شَوَّال سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب سنة(1/27)
ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ فَجْأَة قيل سَبَب مَوته أَن شيخ الْحرم الْمدنِي ألزم أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وخطباءهم أَن يسروا فِي الصَّلَوَات بالبسملة كالحنفية فَلم يمتثل الخيارى وَقَالَ هَذَا الْأَمر لَيْسَ إِلَيْك فَدس إِلَيْهِ من سقَاهُ السم وَدفن بِالبَقِيعِ
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالسؤالاتي الأديب الشَّاعِر الْجيد الطَّرِيقَة الْحسن البديهة كَانَ فِي ريعان عمره وعنفوان أمره يشْتَغل بصناعة النّظم فيبدي كل معنى نَادِر ويخترع كل مثل سَائِر كَقَوْلِه
(تقمص ثوب اللاذ من فَوق لُؤْلُؤ ... ورصع بالدر الجمان بديدا)
(والبسني مرط النحول مخلقا ... وَأعد مني برد الشَّبَاب جَدِيدا)
(غزال كناس لَو رَأَتْهُ من السما ... كواكبها خرت إِلَيْهِ سجودا)
وَقَوله
(إِن الغزال الَّذِي فِي طرفه حور ... فِي مرشفيه سلاف الراح والحبب)
(حارت لرُؤْيَته الْأَبْصَار حِين بدا ... غُصْن الْجمال حلاه اللطف وَالْأَدب)
(مَا مَال من هيف مياس قامته ... إِلَّا عَلَيْهِ فؤاد الصب يضطرب)
(دارت إِلَيْهِ قُلُوب الْعَالمين فَمَا ... قلب لغير هَوَاهُ الْيَوْم يَنْقَلِب)
وَقَوله
(حتام يَا ظَبْي النقا ... عني تحجب فِي كناسك)
(لَا تنأ عَن عَيْني وتهجرني ... قلى من دون ناسك)
(أَنا عبد رقك أرتجيك ... وأختشي سطوات باسك)
(لَا تَبْغِ بالأعراض قَتْلَى ... واسقني بحياة راسك)
وَقَوله
(بِي أغيد تشخص الْأَبْصَار حِين بدا ... فِي طلعة جلّ من بالْحسنِ عدلها)
(كَأَنَّمَا الْحسن لما زَان صورته ... قد قَالَ لِلْحسنِ كن وَجها فَكَانَ لَهَا)
وتلاعبت بِهِ الأقدار يمنة ويسرة وقاسى من ضنك الْعَيْش وَسُوء المنقلب أحوالاً وأهوالاً وصبر على ألم المحنة صبرا لم يعْهَد مثله وَفِي ذَلِك يَقُول
(تصبر فَفِي اللأواء قد يحمد الصَّبْر ... وَلَوْلَا صروف الدَّهْر لم يعرف الْحر)
(وَإِن الَّذِي أبلى هُوَ العون فَانْتدبَ ... جميل الرضى يبْقى لَك الذّكر وَالْأَجْر)
(وثق بِالَّذِي أعْطى ولاتك جازعاً ... فَلَيْسَ بحزم أَن يروعك الضّر)
(فَلَا نعم تبقى وَلَا نقم وَلَا ... يَدُوم كلا الْحَالين عسر وَلَا يسر)
(تقلب هَذَا الْأَمر لَيْسَ بدائم ... لَدَيْهِ مَعَ الْأَيَّام حُلْو وَلَا مر)
وسافر آخرا إِلَى الرّوم وَجرى لَهُ مَعَ أدبائها محاورات مَقْبُولَة كَانَ كثيرا مَا يلهج(1/28)
بهَا وَبَعْدَمَا رَجَعَ إِلَى دمشق استبد بِكِتَابَة الأسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتوى للمفتي الْحَنَفِيّ وبهر فِيهَا حَتَّى بلغ مرتبَة لم يصل إِلَيْهَا أحد من أَبنَاء الْعَصْر وَكَانَ لَهُ الاستحضار الْغَرِيب لفروع الْمَذْهَب واستخراجها من محالها بسهولة مَعَ التبحر فِي الْفِقْه وَكَثْرَة الِاطِّلَاع وَكَانَ أَحْيَانًا يتعانى الشّعْر فيتكلف لَهُ لغَلَبَة الْفِقْه على طبعه وأجود مَا وقفت لَهُ من شعره الَّذِي نظمه آخرا قصيدته الَّتِي أرسلها للخيارى الْمَذْكُور قبله واستحسنت مننها هَذَا الْقدر الَّذِي كتبته ومطلعها
(حَيا الحيا بسابق الغوادي ... سكان ذَاك الْحَيّ من فُؤَادِي)
(وحاك فيهم وشيمة منمنما ... ربيع قطر معلم الأبراد)
(وَلَا عدا الخصب منازلاً بهم ... منَازِل الإقبال والإسعاد)
(وَلَا جَفا صوب العهاد عَهدهم ... وَلَا الندى خبت بِذَاكَ النادي)
(هم خيموا بَين الضلوع والحشا ... مني مَحل الرّوح والسواد)
(فلست أخْشَى بعد ذَاك عاديا ... من زمني المعتاب والمعادي)
(وَلم أقل سقام جسمي عرض ... بِهِ يشان جَوْهَر اعتقادي)
وَكَانَ حَرِيصًا على جمع الْكتب واقتنى مِنْهَا أَشْيَاء كَثِيرَة فِي كل فن ووقفها آخرا على بنت لَهُ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء حادي عشرى شهر ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَقد جَاوز السِّتين وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان وَكَانَ ابتلى بِمَرَض عالجه مُدَّة مديدة وَأنْفق عَلَيْهِ أَمْوَالًا جمة وَلم يخلص مِنْهُ حَتَّى استحكم فِيهِ فَمَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى
إِبْرَاهِيم باشا بن عبد المنان الْمَعْرُوف بالدفتر دَار نزيل دمشق وَاحِد كبرائها صَاحب شَأْن رفيع كَانَ وقوراً متواضعاً سَاكِنا كثير الْعِبَادَة ملازماً على أَدَاء الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا مَعَ الْجَمَاعَة فِي الْجَامِع الْأمَوِي ويحضر مجَالِس الأوراد والأذكار وَيُحب الْعلمَاء والصلحاء ويذاكر فِي الْعُلُوم وَجمع كتبا وَكَانَ لَهُ اطلَاع على كثير من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وروى الحَدِيث وَالتَّفْسِير والمسلسل بالأولية عَن الشَّيْخ الإِمَام فتح الله بن مَحْمُود البيلوني الْحلَبِي وقفت على إِجَازَته لَهُ بِخَطِّهِ وتاريخ الْإِجَازَة فِي السَّادِس من رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف بالقدس والبيلوني الْمَذْكُور يَوْمئِذٍ مفتي الشَّافِعِيَّة بهَا وَذكره وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته هُوَ برسوي المولد قدم إِلَى دمشق أَولا فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وَحج ثمَّ عَاد إِلَيْهَا ثَانِيًا فِي سنة(1/29)
إِحْدَى وَعشْرين كتخد الدفتر بِالشَّام وَهَذِه الْخدمَة تتَعَلَّق بأرباب الزعامات والتيمار ثمَّ عزل ثمَّ وردهَا ثَالِثا دفتر يابها فِي سنة خمس وَعشْرين وتوطنها وانعقدت عَلَيْهِ رياستها وَصَارَ أَمِير الركب الشَّامي فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ثمَّ عزل بعد أَن حج بالركب فِي تِلْكَ السّنة وَأقَام دفتريا وَبنى فِي دَاره قصراً مطلاً على الْجَامِع الْأمَوِي وَلزِمَ أَنه نقب جِدَار الْجَامِع القبلي لأجل الْبَاب فَقَالَ الأديب عمر بن الصَّغِير فِي تَارِيخه بني نقب الْقبْلَة إِبْرَاهِيم وَهدم الْقصر الْمَذْكُور عقيب قَتله وَبنى حَماما بِالْقربِ من تربة السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ولصيق دَاره الَّتِي كَانَ يسكنهَا وَوَقفه وَجُمْلَة من أملاكه على تدريس فقه وأجزاء رتبها فِي التربة الْمَذْكُورَة فَقَالَ شيخ الْأَدَب أَبُو بكر الْعمريّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَارِيخه
(بنى وأوقف إِبْرَاهِيم دَامَ لَهُ ... منجز الصّلاح الدّين حَماما)
قلت وَهَذَا من التواريخ البديعة فَإِنَّهُ بَين فِيهِ المُرَاد من غير حَشْو قَالَ وَلما قدم الْوَزير أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بالكوجك حَاكما بِدِمَشْق صدر بَينه وَبَين صَاحب التَّرْجَمَة مُنَافَسَة أدَّت إِلَى أَنه عرض فِيهِ إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فَجَاءَهُ الْأَمر بالتفتيش عَلَيْهِ فَجمع اعيان دمشق وأحضره وَأمر مُرَاد باشا ابْن الشريطي الْآتِي ذكره بمحاسبته وَكَانَ ابْن الشريطي يبغض إِبْرَاهِيم باشا فَأطلع فِي ذمَّته أَمْوَالًا كَثِيرَة بِسَبَب غَرَضه وَكتب بذلك حجَّة وحبسه فِي قلعة دمشق مُدَّة وَقبض على جَمِيع مَا يملكهُ فَبَاعَهُ ثمَّ أَمر بقتْله سرا فغمي بِالْمَاءِ وَقيل عصرت مذاكيره وَقيل وضع على رَأسه الوسادة حَتَّى مَاتَ وَحكى بعض من شَاهد قَتله أَنه كَانَ يَقُول فِي تِلْكَ الْحَالة إِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَفِي ثَانِي يَوْم قتلته أشيع أَنه مَاتَ فَجْأَة وَكتب بذلك حجَّة وَكَانَ قَتله يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بتربة صَلَاح الدّين بِوَصِيَّة مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى
إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن كيوان أحد أَعْيَان دمشق الْمَشْهُورين بِالرَّأْيِ الصائب وَالنعْمَة الطائلة وَكَانَ لَهُ دراية فِي الْأُمُور ومحبة للْعُلَمَاء وَكَانَ لَهُ شَأْن عَال عِنْد أَرْكَان الدولة نَافِذ الْكَلِمَة فِي مهامة مُعظما عِنْد النَّاس موقراً بَينهم وَله خيرات وصدقات دارة ورتب أَجزَاء فِي الْجَامِع الْأمَوِي واشتهر بِابْن كيوان لِأَن وَالِده كَانَ ربيب كيوان الطاغية الْمَشْهُور الْآتِي ذكره وَنَشَأ فِي دولة أَبِيه وَصَارَ أَولا من الْجند ثمَّ صَار يياباشيا وَلما رأى أَحْوَال الْجند آيلة إِلَى الشقاق وتفرق الْكَلِمَة تفرغ(1/30)
عَمَّا بِيَدِهِ لِأَخِيهِ خَلِيل الْآتِي ذكره وَاخْتَارَ إقطاعاً يعبر عَنْهَا بالزعامة ثمَّ صَار مُتَفَرِّقَة بِالْبَابِ العالي وَأقَام على صِيَانة أملاكه وانعزل عَن النَّاس وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إحد وَألف وَتُوفِّي فِي ثَانِي عشرى جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عَطاء بن عَليّ بن مُحَمَّد الشَّافِعِي المرحومي إِمَام الْجَامِع الْأَزْهَر الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الملازم لطاعته كَانَ منهمكاً على بَث الْعلم سالكاً سَبِيل السَّلامَة والنجاة مراقباً لله عَالما بِمَا يَنْفَعهُ فِي دُنْيَاهُ وآخرته مُجْتَهدا فِي الْعِبَادَة متمسكاً بالأسباب القوية من التَّقْوَى قَائِما مِنْهَا بمالاً يطيقه سواهُ حَتَّى أَنه إِن إِذا مر فِي السُّوق يسد أُذُنَيْهِ حَتَّى لَا يسمع كَلَام من بجانبيه ويسرع فِي مشيته مطرقاً من خوف الله وخشيته حذرا من تَفْوِيت وقته فِي غير عباده وَطَاعَة رَحل من بَلَده إِلَى الْجَامِع الْأَزْهَر وَأخذ عَمَّن بِهِ من أكَابِر عُلَمَاء عصره كالشيخ سُلْطَان وَغَيره وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه بالافتاء والتدريس فتصدر للإقراء واشتهر بِالْبركَةِ لمن يقْرَأ عَلَيْهِ وانهمك طلاب الْعلم عَلَيْهِ ففازوا مِنْهُ بأوفر نصيب وَألف حَاشِيَة على شرح الْغَايَة للخطيب وَاسْتمرّ سالكاً طَرِيق الاسْتقَامَة حَتَّى آن أَوَان حمامه وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ألف وَتُوفِّي يمصر فِي أَوَائِل صفر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين والمرحومي نِسْبَة لمحلة المرحوم من منوفية مصر رَحمَه الله تَعَالَى
إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ السَّعْدِيّ الشَّافِعِي الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن كاسوحة نزيل دمشق صَاحب الْورْد الْهَمدَانِي الَّذِي يقْرَأ بعد صَلَاة الْفجْر عِنْد المنارة الشرقية بِجَامِع دمشق وَيعرف هَذَا الْورْد الْآن بالورد الدَّاودِيّ كَانَ من المعمرين الصَّالِحين عَلَيْهِ سِيمَا الْعِبَادَة وَالصَّلَاح وَكَانَ يَأْكُل من كسب يَمِينه ويتردد إِلَى الْقَاهِرَة للتِّجَارَة وَلَقي بهَا الجلة من الْعلمَاء مثل النَّجْم الغيطي صَاحب الْمِعْرَاج والاستاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَالشَّمْس الرَّمْلِيّ والبنوفري وَأخذ عَنْهُم وَحضر دروس الْبَدْر الْغَزِّي بِدِمَشْق وَصَحب ابْنه الشهَاب وتفقه بالشهاب العيثاوي وَكَانَت وَفَاته نَهَار الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وَقد قَارب سنه الثَّمَانِينَ رَحمَه الله تَعَالَى
الْمولى إِبْرَاهِيم بن عَليّ الأزنبقي أحد موَالِي الرّوم قَاضِي قُضَاة الشَّام ولي قضاءها مرَّتَيْنِ ودخلها فِي الْمرة الْأَخِيرَة فِي أواسط شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس عشرَة بعد(1/31)
الْألف وَكَانَ فِي قَضَائِهِ حسن السِّيرَة وَله إكرام للْعُلَمَاء واحترام لَهُم جدا وَفِي أَيَّام قَضَائِهِ كَانَت فتْنَة ابْن جانبولاذ ومحاصرته دمشق كَمَا سأشرحه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته وَكَانَ القَاضِي الْمَذْكُور أحد من قَامَ بأعباء الصُّلْح بَين ابْن جانبولاذ وَبَين عَسَاكِر الشَّام تلافى الْفِتْنَة حَتَّى رَحل ابْن جانبولاذ عَن دمشق دَافع عَن أهل الشَّام بعض مَا كلفوا بِهِ من الْوَزير مُرَاد باشا حِين جَاءَ إِلَى حلب لقِتَال ابْن جانبولاذ وانفصل عَن قَضَاء الشَّام فِي أَوَاخِر سنة سبع عشرَة بعد الْألف ورحل إِلَى بلدته ازنيق وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف هَكَذَا ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله لطف الله بِهِ
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ الْمَشْهُور بِأبي سَلمَة كَانَ إِمَامًا فَقِيها مطلعا على فروع الْمَذْهَب صارفا وقته فِي بَث الْعلم وَكَانَ متحريا فِي الْفَتْوَى دينا خيرا مولده مَكَّة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن الْعَلامَة إِبْرَاهِيم الدهان وَبِه تخرج وانتفع وَحضر قبله دروس السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي الْبَقَاء الْأنْصَارِيّ وَأخذ الْفَرَائِض والحساب عَن السَّيِّد صَادِق والْحَدِيث وَالتَّفْسِير عَن الإِمَام الْكَبِير مُحَمَّد بن عَلان وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من أهل مَكَّة من علمائها الْمَوْجُودين الْآن بهَا مِنْهُم صاحبنا الْفَاضِل الْفَقِيه الفرضي صَالح بن يَعْقُوب الزنجاني الْحَنَفِيّ ودرس كثيرا وانتفع واشتهر بتقوى الله تَعَالَى والإنهماك فِي طَاعَته وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فِي الرَّابِع عشر من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَدفن بالمعلاة
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن محيي الدّين بن عَلَاء الدّين بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن سراج الدّين بن صفي الدّين بن عمر عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الطباخ أصل وَالِده من بَلْدَة الْخَلِيل وَإِبْرَاهِيم هَذَا ولد بِدِمَشْق وَبهَا نَشأ واشتغل فِي بداية أمره ثمَّ لحق بقاضي الْقُضَاة السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول ولازم مِنْهُ وَولى عِنْده بعض النيابات وسافر إِلَى قسطنطينية ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فِي حُدُود سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأخْبر بِأَنَّهُ تقاعد عَن درس بِأَرْبَعِينَ عثمانيا وَأقَام بِدِمَشْق وسعى فِي دولة سِنَان باشا الْوَزير بِدِمَشْق على شَيْء من علوفة الْعلمَاء بخزينة الشَّام فَحصل لَهُ فِي كل يَوْم مَا يقرب من سِتِّينَ عثمانيا قِطْعَة ودرس بالسليمية بصالحية دمشق وَكَانَ ملازما على الْعِبَادَة بالجامع الْأمَوِي مُدَّة طَوِيلَة لَا يبرح مِنْهُ وَكَانَ شَدِيد التعصب دَائِم المخاطبة للْعُلَمَاء(1/32)
وَيظْهر ذَلِك فِي صُورَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فاتفق أَنه سمع النَّجْم الْغَزِّي وَهُوَ يملي تَفْسِير وَالِده الْبَدْر المنظوم فَأنْكر عَلَيْهِ وَكَانَ يُنَادي فِي الْجَامِع الْأمَوِي على رُؤْس الأشهاد بِأَعْلَى صَوته يَا معشر الْمُسلمين مَتى سَمِعْتُمْ بِأَن كَلَام الله تَعَالَى ينظم من بَحر الرجز وَكَيف ينزه الله تَعَالَى نبيه
عَن الشّعْر وَيَأْتِي رجل من عُلَمَاء أمته يدْخل كَلَامه فِي الشّعْر فتصدى لمعارضته جدي المرحوم القَاضِي محب الدّين وَألف رِسَالَة فِي الرَّد عَلَيْهِ سَمَّاهَا السهْم الْمُعْتَرض فِي قلب الْمُعْتَرض وَلما وصلت إِلَيْهِ الرسَالَة شرع فِي تصنيف رِسَالَة لرد مَا رد بِهِ عَلَيْهِ وَنسب فِيهَا إِلَى الْحمق وَلَقَد وقفت عَلَيْهَا وطالعتها من أَولهَا إِلَى آخرهَا فرأيتها من هذيان الْكَلَام لِأَن غَايَته فِيهَا أَن ينْقل قَول الْمُعْتَرض ثمَّ يَقُول تَارَة من عرف مَا قلته لم يعْتَبر هَذَا القَوْل وَتارَة من عرف مَقَالَتي عَامل بالإنصاف الَّذِي هُوَ شَأْنه وَهَكَذَا لما شاعت الرسَالَة ألف الْجد رِسَالَة ثَانِيَة وسماها بِالرَّدِّ على من فجر ونبح الْبَدْر بالقامه الْحجر وَأطَال فِيهَا وَبَين زيف رِسَالَة إِبْرَاهِيم بِوُجُوه متنوعة وَكَانَ الْعَلامَة شهَاب أَحْمد العيثاوي ألف رِسَالَة أُخْرَى فِي الرَّد عَلَيْهِ والتصدي لنصرة الْبَدْر وسماها بالصمصامة المتصدية لرد الطَّائِفَة المتعدية فشاعت الرسائل بَين عُلَمَاء الشَّام ونظم الأديب أَبُو بكر بن مَنْصُور الْعمريّ أرجوزة فِي معنى اعْتِرَاض إِبْرَاهِيم على نظم الْبَدْر التَّفْسِير وَمن جملَة أبياتها يُخَاطب إِبْرَاهِيم وَيُشِير إِلَى أَنه كَانَ طباخاً لشهرته بِابْن الطباخ قَوْله
(فعد عَن مبَاحث التَّفْسِير ... وعد كَمَا كنت إِلَى الْقُدُور)
وَاتفقَ أَنه لم تطل مدَّته بعد ذَلِك حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي شعْبَان سنة سِتّ بعد الْألف وَكَانَ أوصى أَن يدْفن فِي مَقَابِر الصُّوفِيَّة وَعين موضعا لدفنه فنفذ أَخُوهُ مُحَمَّد وَصيته وَدَفنه فِي الْمَقَابِر الْمَذْكُورَة فِي طرف الطَّرِيق على جَانب الشمَال للذاهب إِلَى جِهَة المزة فِي مُقَابلَة نهر بانياس عفى عَنهُ
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ الأكحل بن مُحَمَّد شمس الدّين بن سعد الدّين الجباوي الشَّافِعِي الدِّمَشْقِي القبيباتي أحد بني سعد الدّين كَانَ من أصلح النَّاس وَأكْرمهمْ وَكَانَ لَهُ أَخْلَاق حميده وإنعامات عديدة وَكَانَ نَشأ فِي تربية أَبِيه وَكَانَ يختصه من بَين إخْوَته بالالتفات التَّام وَالْحب الشَّامِل وَلما حانت وَفَاة وَالِده أوصى لَهُ بِالذكر فِي حلقتهم بالجامع الْأمَوِي يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة وَأوصى لِابْنِهِ مُحَمَّد بِالْجُلُوسِ على سجادة الطَّرِيق بزاويتهم الْمَعْرُوفَة بهم(1/33)
بمحلة القبيبات وَاسْتمرّ الإخوان على ذَلِك مُدَّة مديدة إِلَى أَن دخل بَينهمَا الْغَرَض فأداهما إِلَى الْمُخَاصمَة والمحاكمة وَطَالَ ذَلِك بَينهمَا حَتَّى أوجب تفريقهما فَرَحل إِبْرَاهِيم من محلّة القبيبات إِلَى دَاخل دمشق إِلَى أَن رَحل الحجيج فَسَار بأَهْله وحفدته إِلَى مَكَّة المكرمة وجاور بهَا وَصرف فِي مجاورته مَالا كثيرا ثمَّ رَجَعَ فِي الْعَام الثَّانِي مَعَ الركب الشَّامي وَسكن فِي بَيته وَترك التَّرَدُّد إِلَى النَّاس ثمَّ تصالح هُوَ وَأَخُوهُ وَبعد مُدَّة قَليلَة مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان بعد الْألف وَكَانَ آخر كَلَامه شَهَادَة الاخلاص وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا وَدفن عِنْد أسلافه فِي تربة القبيبات خَارج بَاب الله وَبَنُو سعد الدّين طَائِفَة بِالشَّام معروفون بالصلاح وَقد خرج مِنْهُم جمَاعَة وَمن الْمَشْهُور من طريقهم أَنهم يبرئون من الْجُنُون بِإِذن الله تَعَالَى بنشر يخطون يه خُطُوطًا كَيفَ مَا اتّفق فيشفى بهَا العليل ويحتمي لشر بهَا عَن كل مَا فِيهِ روح ثمَّ يَكْتُبُونَ للمبتلي عِنْد فَرَاغه من شرب النشر حِجَابا وَفِي الْغَالِب يحصل الشِّفَاء على أَيْديهم وَحكى النَّجْم الْغَزِّي عَن بعض الأصدقاء أَنهم يقصدون بِتِلْكَ الخطوط الَّتِي يكتبونها فِي نشرهم وحجبهم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وهم يتلفظون بهَا حَال الْكِتَابَة وأصل هَذِه الخاصية الَّتِي لَهُم أَن جدهم سعد الدّين لما فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ وكوشف بِالنَّبِيِّ
وَأبي بكر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ قبل ذَلِك من قطاع الطَّرِيق فَأمر النَّبِي
عليا رَضِي الله عَنهُ أَن يطعمهُ فاطعمه تمرات فَأُغْمِيَ على الشَّيْخ سعد الدّين أَيَّامًا ثمَّ لم يفق إِلَّا وَقد تَابَ الله عَلَيْهِ وَفتح عَلَيْهِ ثمَّ كشف لَهُ عَن كَبِير الْجِنّ أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد بذلك وَرَأَيْت فِي بعض الأوراق أَن الشَّيْخ سعد الدّين كَانَ فِي زمن أَبِيه الشَّيْخ يُونُس الشَّيْبَانِيّ وَقد ند عَن طَاعَته واشتغل بلهوه وبطالته وَخرج إِلَى أَرض حوران وَأقَام بهَا يقطع الطَّرِيق بُرْهَة من الزَّمَان فَسمع وَالِده الشَّيْخ يُونُس بِفعل وَلَده فاهتم لذَلِك ودعا إِلَى الله تَعَالَى فِي أَمريْن إِمَّا إِصْلَاحه وَإِمَّا أَخذه فِي وقته فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِي إِصْلَاحه فَبَيْنَمَا هُوَ على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذْ رأى نَفرا ثَلَاثَة فصوب إِلَيْهِم لأخذ مَا عَلَيْهِم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم الْتفت إِلَيْهِ أحدهم وَقَالَ مُخَاطبا لَهُ ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله فَأَخذه الوجد والهيام والبكاء والنحيب حَتَّى سقط عَن فرسه وَعَاد ملقى وَمَا فِيهِ غير نَفسه فَأَتَاهُ أحدهم وَضرب بِيَدِهِ على صَدره وَقَالَ لَهُ اسْتغْفر الله فَاسْتَغْفر مِمَّا وَقع من سالف أمره فَلَمَّا أَفَاق من سكره وَشَرَابه وهدأت نَفسه من تحريكه واضطرابه قَالَ أحدهم بعد أَن(1/34)
أَخذ تمرات من جيبه وَأَعْطَاهَا لرَسُول الله
وَأمين غيبه وَقَالَ اسْقِهِ يَا رَسُول الله فتفل عَلَيْهَا وناوله إِيَّاهَا فَأَخذهَا الشَّيْخ وحظي بِمَا لَدَيْهَا وَقَالَ لَهُ الرَّسُول الْمُعظم خُذْهَا لَك ولذريتك فقبلها الشَّيْخ وعظمها وَرجع وَقد عمر الله تَعَالَى ظَاهره وباطنه وانجذب إِلَى مَوْلَاهُ وفاز بِمَا أعطَاهُ وسلسلة طريقهم عَن إِبْرَاهِيم وأخيه مُحَمَّد عَن والدهما مُحَمَّد عَن سعد الدّين عَن وَالِده القطب حُسَيْن عَن وَالِده حسن عَن أَبِيه القطب مُحَمَّد عَن وَالِده القطب أبي بكر عَن وَالِده القطب الأوحد على الأكحل عَن وَالِده القطب الْغَوْث سَيِّدي سعد الدّين عَن وَالِده الْبَحْر الْمُحِيط الشَّيْخ يُونُس عَن شيخ الشُّيُوخ أبي البركات عَن شيخ الشُّيُوخ أبي الْفضل الْبَغْدَادِيّ عَن الشَّيْخ أَحْمد الْغَزالِيّ عَن الشَّيْخ أبي البركات خير النساج عَن الشَّيْخ أبي الْقَاسِم الْجِرْجَانِيّ عَن الشَّيْخ أبي عُثْمَان المغربي عَن الشَّيْخ أبي عَليّ الْكَاتِب عَن الشَّيْخ عَليّ الروذبادي عَن سيد الطَّائِفَة الْجيد عَن أستاذه وخاله السّري السَّقطِي عَن شَيْخه مَعْرُوف الْكَرْخِي عَن الإِمَام عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا عَن وَالِده الإِمَام مُوسَى الكاظم عَن وَالِده الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق عَن وَالِده الإِمَام مُحَمَّد الباقر عَن وَالِده الإِمَام عَليّ زين العابدين عَن وَالِده الْحُسَيْن بن بنت رَسُول الله
عَن وَالِده الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم عَن النَّبِي
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْعِمَادِيّ الملقب برهَان الدّين ابْن كسبائي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي الْمقري الْمجِيد الْمُحدث شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق فِي وقته ولد بِدِمَشْق وَأخذ القراآت الْعشْر من طَرِيق النشر وَغَيره عَن شيخ الْإِسْلَام الْبَدْر الْغَزِّي وَأخذ عَنهُ غير ذَلِك من الْعُلُوم وَقَرَأَ على شيخ الْقُرَّاء بِالشَّام أَحْمد بن بدر الطَّيِّبِيّ للسبع وَالْعشر وعَلى الإِمَام الشهَاب أَحْمد الفلوجي ختمة كَامِلَة لعاصم وَالْكسَائِيّ وَمن اوله إِلَى الْمَائِدَة لأبي عَمْرو وَابْن عَامر وعَلى الْعَلامَة السَّيِّد الشريف عماد الدّين عَليّ بن عماد الدّين مَحْمُود بن نجم الدّين بن عَليّ القارىء الْبَحْر أبادي أصلا الْجِرْجَانِيّ منشأ ثمَّ الْقزْوِينِي قَرَأَ عَلَيْهِ بِدِمَشْق إِلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ هم المفلحون} للعشرة وَقَرَأَ عَليّ المقرىء الْمسند المعمر بدر الدّين حسن بن مُحَمَّد بن نصر الله الصلتي الشَّافِعِي للسبعة جمعا ثمَّ للعشرة إِلَى قَوْله تَعَالَى {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات} فِي الْبَقَرَة وعَلى الإِمَام الْعَلامَة شرف الدّين يحيى بن مُحَمَّد بن حَامِد الصَّفَدِي إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر} من طَرِيق الشاطبية وَقَرَأَ النشر والشاطبية والدرة والمقدمة وَغير ذَلِك على الطَّيِّبِيّ(1/35)
ورحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن النَّجْم الغيطي وَغَيره وَكَانَ يعرف الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا وَله شعر أَكْثَره منحول من أشعار الْمُتَقَدِّمين مَعَ تَغْيِير يسير بِمَا أخل بِالْوَزْنِ وَكَانَ لَهُ بقْعَة بالجامع الْأمَوِي وَولي تدريس الأتابكيه عَن الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد بن دَاوُد الْمَقْدِسِي نزيل دمشق الْآتِي ذكره فِي حَيَاته ثمَّ أُعِيدَت إِلَى الدَّاودِيّ ودرس بالعادلية الْكُبْرَى بطرِيق الْفَرَاغ من حسن البوريني لما درس بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية الجوانية وخطب مُدَّة طَوِيلَة بِجَامِع سيبائي خَارج دمشق بِقرب بَاب الْجَابِيَة وَكَانَ يعسر عَلَيْهِ تأدية الْخطْبَة ويطيل فِيهَا وَكَانَ فِيهِ دعابة ومزاح ويغلب عَلَيْهِ التغفل قَالَ النَّجْم فِي ذيله قَرَأت بِخَطِّهِ نقلا عَن خطّ وَالِده أَن مولده لَيْلَة السبت خَامِس عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ختام ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان بعد الْألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير قبالة الْمدرسَة الصابوينه
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الأحدب الزبداني الأَصْل الْمُحدث الفرضي الشَّافِعِي الْمَذْهَب الرحلة المعمر نزيل صالحية دمشق قدم دمشق وَنزل بصالحيتها وَأخذ الْفَرَائِض والحساب عَن الْعَلامَة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم النجدي الَّذِي كَانَ مُقيما بِالْمَدْرَسَةِ العمرية بصالحية دمشق وَكَانَ يلْحق بِابْن الهائم فِي هذَيْن الفنين وَأخذ الحَدِيث عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَالشَّمْس مُحَمَّد بن طولون الْحَنَفِيّ إِمَام السليمية والشرف مُوسَى الحجاوي الْحَنْبَلِيّ والشهاب أَحْمد الطَّيِّبِيّ وَالشَّيْخ مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن محب الدّين والبرهان النسيلي الشَّافِعِي والشهاب أَحْمد بن حجر الْمَكِّيّ السَّعْدِيّ وَصَارَ معلما للأطفال فِي مكتب قبالة الْمدرسَة العمرية ثمَّ لَازم آخر أمره السليمية يقرى النَّاس فِي الْفُنُون وانتفع بِهِ خلق كثير من أَجلهم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَيُّوب بن أَحْمد الخلوتي الصَّالِحِي والعلامة عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بقبردي وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع لبَعض العصريين أَنه كَانَ ينظم الشّعْر وَأنْشد لَهُ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وهما
(يَا سادتي أهل الوفا ... من عزكم أَرْجُو وفاه)
(إِن غبت عَنْكُم سَاعَة ... عدمت نَفسِي والحياة)
وَكَانَت وَفَاته سنة عشرَة بعد الْألف هَكَذَا رَأَيْته فِي تَارِيخ البوريني ثمَّ راجعت ذيل النَّجْم فرأيته ذكر أَن وَفَاته كَانَت فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وترجح عِنْدِي هَذَا أَولا ثمَّ رَأَيْت بعض تراجم بِخَط الشَّيْخ مُحَمَّد المرزناتي الصَّالِحِي الأدهمي وَهُوَ من معاصري ابْن الأحدب ذكر أَن وَفَاته كَانَت نَهَار الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر شهر رَجَب سنة(1/36)
عشرَة بعد الْألف وَذكر يَعْنِي المترجم أَن وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة والزبداني بِفَتْح الزَّاي وَالْمُوَحَّدَة وَالدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف بعد هانون وياء نِسْبَة إِلَى نَاحيَة من نواحي دمشق سميت باسم أحد قراها وَمِنْهَا خرج صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ أَهله بهَا من مشاهير تِلْكَ الدائرة وَهَذِه النَّاحِيَة مَشْهُورَة بِطيب الْهَوَاء والتربة مِنْهَا يجلب التفاح الزبداني وَمن أَمْثَال المولدين من عَاشر الزبداني فاحت عَلَيْهِ روائحه يعنون تفاحها أَو أَهلهَا وَالْإِضَافَة لأدنى مُلَابسَة وَالله تَعَالَى أعلم
الأديب إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مشعل العبدني السالمي الأديب الشَّاعِر برهَان الدّين الْمَكِّيّ كَانَ شَاعِرًا ماهرا حسن النّظم لطيف الطَّبْع رَقِيق الجلباب لَهُ القصائد الطَّوِيلَة يمتدح بهَا الشريف حسن بن أبي نمى شرِيف مَكَّة وَغَيره من الْأَشْرَاف الحسنيين وَغَيرهم ورزق قبولا وَمن شعره قَوْله فِي النسيب
(كم مهجة بالغرام منسبيه ... وَمَا لمن يقتل الغرام ديه)
(فليحذر الْحبّ كل محترش ... بِهِ فَفِيهِ الحتوف منطويه)
(وَفِي رَبًّا شعب عَامر رشأ ... لَهُ عُيُون بِالسحرِ ممتليه)
(فِي حسنه وَالْجمال منتهياً ... وعشقتي فِيهِ غير منتهيه)
(كم شمس حسن عَلَيْهِ مشرقة ... مِنْهَا بدور الْجمال مختفيه)
(إِذا بدا مُقبلا ولاح ليه ... جعلت مِنْهُ الجبين قبلتيه)
(مَا قلت فِيهِ انتهب صبابتيه ... إِلَّا وعادت إِلَى مبتديه)
(لي مهجة غرها بغرته ... آهاله من صياد غرتيه)
(وَمَا هَدَانِي بصبح طلعته ... إِلَّا بلَيْل الشُّعُور ضلنيه)
(فحبذا ذَلِك الضلال بِهِ ... لمهجة بالضلال مهتديه)
(أهم بالإنثناء عَنهُ إِلَى ... أَن تبدلي معطفاه منثنيه)
(فيرج الوجد لي بأجمعه ... أضلّ فِي صبوتي وحيرتيه)
(وأغيد ذبت من محبته ... وَنَفسه بالجمال ملتهية)
(محسن الْخلق أحور ترف ... خلقته بالكمال مستويه)
(عيونه بالحلى مكحلة ... وذاته بالجمال مكتسيه)
(قد اغتني بالبها وروحي عَن ... وصاله الحلو غير مغتنيه)
(لِلْحسنِ فِي وجنتيه كل حلا ... مَاء ونار أحار فكرتيه)(1/37)
(فَلم أنل مَاء ورد وجنته ... وَمن لظاها حشاي ملتظيه)
(لَا تعجبوا إِن فنيت فِيهِ الْهوى ... فذاته بالغرام مقتضيه)
(ووجنة بالبهاء زاهرة ... بنرجس المقلتين محتمية)
(وَرب خدر طرقت بيضته ... وَاللَّيْل ظلماه غير منجلية)
(وحولها من حماتها أَسد ... على اضطرام الحروب مجترية)
(فانتبهت من لذيذ نومتها ... تَقول من ذَا يحل حوزتيه)
(فَقلت صب أذبت مهجته ... بالْحسنِ يَا بغيتي ومنيتيه)
(قَالَت لقد رمت مطلبا خطرا ... من دونه الْمَوْت يَا متيميه)
(أما رَأَيْت الْأسود رابضة ... أما رَأَيْت السوف منتصيه)
(فَقلت إِن الْمُحب مهجته ... بِالْمَوْتِ فِيمَن يحب مرتضيه)
(وحبذا يَا ابْنة الْكِرَام إِذا ... بلغت فِي منيتي منيتيه)
(فيا حَيَاة النُّفُوس إِنِّي من ... أعشق بالغانيات ميتتيه)
(فَقَالَت أَهلا ومرحبا بفتى ... يعشق للْمَوْت فِي محبتيه)
(وأرشفتني رحيق ريقتها ... وَالنَّفس مني لذاك مشتهية)
(فرحت نشوان من مقبلها ... وريقها مَا ألذ سكرتيه)
(وَفِي ثنايا نقي مبسمها ... شهد عَلَيْهِ النُّفُوس مجتويه)
(وَمَا أجتني الشهد قطّ من برد ... غَيْرِي فيا مَا ألذ جنيتيه)
(فَعِنْدَ ذَا أَنْعَمت وَمَا بخلت ... بوصلها وَهِي غير مستحية)
وَله هَذِه الأبيات وَهِي من أَجود شعره
(لَا أرق الله من بِالسقمِ أرقني ... وَلَا شفى السقم لحظ مِنْهُ أسقمني)
(وَلَا طفا جمر خد مِنْهُ ملتهبا ... وَإِن يكن بالجفا والصد أحرقني)
(وَزَاد فِي ضيق خصر مِنْهُ ضقت بِي ... ذرعا وأنحله إِذْ كَانَ أنحلني)
(وَلَا عدا اللعس هاتيك الشفاه لمى ... وَإِن حمى رشفها عني وأعطشني)
(وَلَا اختفت من ثناياه بوارقها ... وَإِن بَكَيْت لَهَا بالعارض الهتن)
(وَشد أقواس تِلْكَ الحاجبين وَإِن ... غَدَتْ بنبل الْعُيُون السود ترشقني)
(وَلم تزل شمس ذَاك الْحسن مشرقة ... فِي وَجهه لَو بدمع الْعين شرقني)
(ودام أهيف ذَاك الْقد فِي ميد ... وَلَو أطار الحشا إِذْ صَار كالغصن)(1/38)
(وضاعف الله ذَاك الْحسن أجمعه ... وَلَو رماني بِضعْف الضّر فِي بدني)
(ابقاه فِي دولة بالْحسنِ زاهرة ... وَلَو جميل أصطباري عَن لقاه فني)
(وَزَاد ذَاك الْمحيا بهجة وسنا ... وَإِن حمى عَن جفوني لَذَّة ألوسن)
(يَا من جَمِيع مَعَانِيه فتنت بهَا ... لَا أَحْمد الله مَا تبدي من الْفِتَن)
(أحسن بِوَجْهِك فالإحسان أجمعه ... يَلِيق لَا غَيره من وَجهك الْحسن)
وَله قَوْله
(شمس الطلا بَدْرِي غَدا ... لم يَصح من تعليلها)
(فالراح قتلة قاتلي ... وَأَنا قَتِيل قتيلها)
وَمثله قَول مُحَمَّد الْبونِي الْمَكِّيّ وسبكه فِي قالب آخر وأجاد
(يالقومي إِنِّي قَتِيل ببدر ... هُوَ أضحى قَتِيل شمس الْعقار)
(علم الله أَن قَتْلَى حرَام ... فاشغلنه بهَا لتاخذ ثاري)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِالطَّائِف فِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَقد جَاوز السّبْعين رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم جعمان حد إِبْرَاهِيم الْمُقدم ذكره اليمني مفتي زبيد على مَذْهَب الشَّافِعِي كَانَ على جَانب عَظِيم من نشر الْعلم والتدريس وإكرام الدرسة والوافدين وَكَانَ حَافظ للْمَذْهَب مُحدثا نقادا يكَاد يتوقد ذكاء وَكَانَت إِلَيْهِ رياسة مَدِينَة زبيد وَكَانَ مسموع الْكَلِمَة مَقْبُول الشَّفَاعَة عديم النظير فِي زَمَانه أَخذ عَن شُيُوخ كثيرين وَعنهُ السَّيِّد أَبُو بكر بن أبي الْقَاسِم الأهدل وَأَخُوهُ سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن عمر حشيبير وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر بن بَحر والفقيه مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطوى وَكم من نجباء انتفعوا بِهِ وَكَانَ هُوَ الْعُمْدَة فِي عصره فِي الْفَتْوَى بزبيد والمعول عَلَيْهِ فِي حل المشكلات وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب سِهَام وبموته حصل النَّقْص بِمَدِينَة زبيد وَخرب أَكْثَرهَا
الأديب إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالأكرمي الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور فَرد وقته فِي رقة الْكَلَام وجزالته وعذوبة اللَّفْظ وسهولته ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَقَالَ فِي وَصفه فَاضل كثير المزايا كريم الشيم والسجايا رَيَّان من مَاء الطلاقة نشوان من صهباء اللباقة لَهُ محاضرة تَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب كَأَنَّمَا اقتبس ألفاظها من ريق الْجنُوب وديوان شعره سَمَّاهُ مقَام إِبْرَاهِيم أَكْثَره فِي وصف المدامة والنديم وخمرياته تجْعَل الزَّاهِد عَاصِيا وغزلياته تصير العاطل(1/39)
من الوجد حاليا وَقد أَكثر فِيهِ قَوْله آه فَسئلَ عَن السَّبَب فَقَالَ أَن إِبْرَاهِيم لَا واه قلت وَهُوَ مِمَّن أَخذ الْأَدَب عَن أبي الْمَعَالِي الطالوي وَعبد الْحق الْحِجَازِي وَعَلَيْهِمَا تخرج وَبِهِمَا برع وَهُوَ وآباؤه خدام بَاب الشَّيْخ الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ وكل مَا هُوَ فِيهِ من الرونق الَّذِي على شعره مستمد من رونق ذَلِك الْبَاب وغايته فِي الشّعْر قل من يضاهيه فِيهَا وَفِيمَا أوردهُ لَك من كَلَامه كِفَايَة عَن الإطراء فِي وَصفه فَمن جيده قَوْله من الخمريات
(اسقنيها قبل ارْتِفَاع النَّهَار ... إِن طيب المدام فِي الأسحار)
(هِيَ بكر فَاشْرَبْ ويومك بكر ... لم بشبه الْأَنَام بالأكدار)
(الصبوح الصبوح فِي جدة الْيَوْم ... فَإِن الصبوح روح الْعقار)
(يَا فدتك النُّفُوس هِيَ قَلِيل ... من نديم سهل الطباع مداري)
مِنْهَا فِي وصف الرياض
(ذَات أَرض توشمت بربيع ... ذهبت وشمها يَد الأزهار)
(يستفيق المخمور إِن مر فِيهَا ... من هَوَاء صَاف وَمَاء جاري)
مَأْخُوذ من قَول الْوَاو الدِّمَشْقِي
(سقى الله لَيْلًا طَابَ إِذْ زار طيفه ... فأفنيته حَتَّى الصَّباح عنَاقًا)
(بِطيب نسيم فِيهِ يستجلب الْكرَى ... فَلَو رقد المخمور فِيهَا أَفَاق)
فِي الْبَيْت الثَّانِي مَا يُوهم التَّنَاقُض وَالْوَاو أَخذه من الْفَتْح بن خاقَان فِي وصف جَارِيَة لَهُ وَهُوَ مَا نقل ابْن حمدون قَالَ كَانَ الْفَتْح بن خاقَان يأنس بِي فَقَالَ لي مرّة شَعرت يَا أَبَا عبد الله أَنِّي انصرفت البارحة من مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا دخلت منزلي استقبلتني فُلَانَة فَلم أتمالك أَن أقبلها فَوجدت فِيمَا بَين شفتيها هَوَاء لَو رقد المخمور فِيهِ لصحا وَمِنْه قَول شرف الدّين القابوسي
(قابلني لَيْلَة قبلته ... ظَبْيًا من الْبَدْر غَدا أملحا)
(طيب نسيم بَين أَسْنَانه ... لَو رقد المخمور فِيهِ صَحا)
وللأكرمي من خمرية
(وَيَوْم فاختي الْجور طب ... يكَاد من الفضاره أَن يسيلا)
(نعمت بِهِ وندماني أديب ... وقور فِي تعاطيه الشمولا)
(قَطعنَا صبحه وَالظّهْر شربا ... وجاوزنا العشية والأصيلا)(1/40)
(لَدَى روض عميم النبت يزهى ... يَا زهار زهت عرضا وطولاً)
(يَدُور بِهِ سوار الرَّوْض طوراً ... كَمَا يتعانق الْخلّ الخليلاً)
قَوْله وَيَوْم فاختى الجو يظْهر مَعْنَاهُ قَول ابْن المعتز
(يَوْم كَانَ سماءه ... حجبت بأجنحة الفواخت)
(وَكَانَ قطر نثاره ... در على الأغصان نابت)
(يَوْم يطيب بِهِ الصبوح ... وَقد نأت عَنهُ الشوامت)
(فاربع بِهِ وبمثله ... لأتأسفن لقوت فَائت)
وَله أَبْيَات عَارض بهَا ابْن الْحجَّاج وَهِي قَوْله
(كم جلونا فِي لَيْلَة الْفطر والأضحى ... على قاسيون بنت الدنان)
(وشربنا فِي ليل النّصْف من شعْبَان ... صرفا وَفِي دجى رَمَضَان)
(ونهار الْخَمِيس عصرا وَفِي الْجُمُعَة ... قبل الصَّلَاة بعد الآذان)
(وَسَقَانَا ظَبْي غزير وغني ... ظَبْي أنس يسبيك بالألحان)
(وسبحنا فِي غمرة اللَّهْو والقصف ... على طَاعَة الْهوى والأماني)
(ولعمري لقد سئمنا من الغي ... وعفنا من كَثْرَة الْعِصْيَان)
(لم نَدع مُدَّة الصِّبَا والتصابي ... من طَرِيق مهجورة أَو مَكَان)
(قد قَطعنَا غي الشَّبَاب بِجَهْل ... فَاعْفُ عَنَّا يَا وَاسع الغفران)
وقصيدة ابْن الْحجَّاج مطْلعهَا من دواعي الصبوح والمهرجان قَول فِيهَا
(اسقياني بَين الدنان إِلَى أَن ... ترياني كبعض تِلْكَ الدنان)
(اسقياني فَقدر رَأَيْت بعيني ... فِي قَرَار الْجَحِيم أَيْن مَكَاني)
وَهِي مَشْهُورَة وَكلهَا على هَذَا النسق وَكَانَ الأكرمي كثير الْمُرَاجَعَة لشعر بن الْحجَّاج هَذَا وَفِيه يَقُول وَكتب بهَا على المجلدة الثَّالِثَة من ديوانه
(قَالَ لي ناظم هَذَا ... ولسان الْحَال مبدي)
(أَنا فِي شعري سَفِيه ... وخبيث متعدي)
(كَيفَ لَا أَخبث وَالْحجاج ... حاوي الْخبث جدي)
قَالَ وَكنت أَشك فِي هَذَا حَتَّى رَأَيْت فِي قافية الْفَاء مِنْهَا قَوْله
(هَذَا لِأَن الْحجَّاج جدي ... أَخبث من جَاءَ من ثَقِيف)
وَله فِي الْغَزل قَوْله(1/41)
(مهلا لقد أسرعت فِي مقتلي ... إِن كَانَ لَا بُد فَلَا تعجل)
(أنجزت اتلافي بِلَا عِلّة ... الله فِي حمل دم المثقل)
(لم يبْق لي فِيك سوى مهجة ... بِاللَّه فِي استدراكها أجمل)
(إِن كنت لَا بُد جوى قاتلي ... فاستخر الله وَلَا تفعل)
(رفقا بِمَا أبقيت من مدنف ... لَيْسَ لَهُ دُونك من معقل)
(يكَاد من رقته جِسْمه ... يسيل من مدمعه المسبل)
(مَالك فِي اتلافه طائل ... فارع لَهُ الْعَهْد وَلَا تهمل)
(كم من قَتِيل فِي سَبِيل الْهوى ... مثلي بِلَا ذَنْب جنى فَابْتلى)
(أول مقتول جوى لم أكن ... قَاتله جَار وَلم يعدل)
(يَا مانعي الصَّبْر وَطيب الْكرَى ... عَن حالتي بعْدك لَا تسْأَل)
(قد صرت من أَجلك حيران لَا ... أعلم مَاذَا بِي وَلم أَجْهَل)
(أغص من دمعي ادكاراً لما ... فارقته من ريقك السلسل)
وَله
(سقى الله ليلاتي على السفح باللوى ... وعهد الصِّبَا مَا كَانَ احلاه من عهد)
(فواها لَهُ بل آه مِمَّا تصرمت ... وَلَو أَن آهى بعْدهَا أبدا تجدى)
(زمَان لنا بالصالحية كُله ... ربيع وَأَيَّام لنا فِيهِ كالورد)
وَله غير ذَلِك
(من كل معنى تكَاد البهم تفهمه ... حسنا ويعشقه القرطاس والقلم)
وَكَانَ شعره جمع بَين جزالة الْأَلْفَاظ وعذوبة الْمعَانِي وَفِيمَا أعتقده أَنه أحسن شعراء هَذَا التَّارِيخ لطول بَاعه فِي فنون الشّعْر بأجمعها وَحسن انسجام كَلِمَاته ورونقها وَهَذَا مَا ظهر لي بِحَسب رَأْي السقيم وَأَرْجُو أَن يوافقني عَلَيْهِ من عرف مقَام إِبْرَاهِيم وَكَانَت وَفَاته فِي شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بسفح قاسيون
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي الْحرم بن أَحْمد الصبيبي الْمدنِي وَاحِد الْمَدِينَة المنورة فِي زَمَانه علما وبراعة وَكَانَ يعرف فنوناً تفرد بهَا وَكَانَ سالكاً طَرِيق من سلف حسن الشكل لين الْجَانِب كثير الْإِحْسَان للطلبة معلما ناصحاً ومفيداً صَالحا يقرب الضَّعِيف من الإخوان ويحرص على إِيصَال الْفَائِدَة للبليد المستهان وَكَانَ رُبمَا ذكر عِنْده المبتدى الْفَائِدَة المطروقة فيصغى إِلَيْهَا كَأَنَّهُ لم يسْمعهَا جبرا لخاطره وَكَانَ جمالِيًّا فِي سَائِر شئونه يحب الْجمال بالطبع وَكَانَ مثابراً على إِيصَال الْبر وَالْخَبَر لكل مُحْتَاج ولد بِالْمَدِينَةِ وَأخذ عَن وَالِده وَعَن شُيُوخ وَلزِمَ(1/42)
التدريس وَأخذ عَنهُ جمع وَكَانَ ينظم الشّعْر السهل اللَّطِيف وَمن شعره قَوْله فِيمَن لبس بَيَاضًا
(لما بدا مبيضاً ... وَالْقلب مشتاق إِلَيْهِ)
(ناديت هَذَا قاتلي ... والراية البيضا عَلَيْهِ)
وَقَوله
(صادفته يجلو فاحشوه ... شهد وَورد وعتيق المدام)
(فَقلت يَا مولَايَ هَل مشرب ... من ريقك العذب الْحر الغرام)
(فَقَالَ جور مِنْك أَنْت الَّذِي ... تدعى بإبراهيم طول الدَّوَام)
(وَالنَّار بردا وَسلَامًا غَدَتْ ... عَلَيْك يَا ذَا الْحر قلت السَّلَام)
وَقَوله
(جَاءَ يسْعَى إِلَى الصَّلَاة مليح ... يخجل الْبَدْر فِي ليَالِي السُّعُود)
(فتمنيت أَن وَجْهي أَرض ... حِين أومى بِوَجْهِهِ للسُّجُود)
قلت تذكرت هُنَا مَا يحْكى عَن بعض الظرفاء أَنه مر بِغُلَام جميل فَعَثَرَتْ فرس فِي طين أصَاب وَجه الْغُلَام مِنْهُ نزر فَقَالَ الظريف يَا لَيْتَني كنت تُرَابا فَقَالَ بعض المارين للغلام مَا يَقُول هَذَا فَقَالَ وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا وَقد ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي سلافته فَقَالَ فِي حَقه فَاضل ملْء أهابه عَارِف بإيجاز الْأَدَب واطنا بِهِ إِلَى وقار ورجاحة وصفاء سريرة اقْتضى لآمله نجاحه وَهُوَ للفضل خَلِيل وَمحله فِي الْعلم جليل نَص عرائس المحاسن وحلاها وَلبس أَثوَاب الْعُمر حَتَّى أبلاها وَله نظم حسن أبان بِهِ عَن بلاغة ولسن فنه قَوْله فِي تَارِيخ الْمَدِينَة للسمهودي الْمُسَمّى بخلاصة الوفا
(من رام يستقصي معالم طيبَة ... ويشاهد الْمَعْدُوم بالموجود)
(فَعَلَيهِ باستقصاء تَارِيخ الوفا ... تأليف عَالم طيبَة السمهودي)
والسمهودي هَذَا على نور الدّين أَبُو الْحسن بن عبد الله السمهودي كَانَ عَالم الْمَدِينَة توفّي آخر سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَقَالَ السَّيِّد مُحَمَّد كبريت فِي نصر من الله وَفتح قريب فِي معرض كَلَام جرت عَادَة الفعال لما يُرِيد فِي خلقه أَن كل بَلْدَة فِي الْغَالِب تكون عوناً لغريبها حَتَّى على ساكنها على الْخُصُوص الْمَدِينَة المنورة وَكَانَ المرحوم الْعَلامَة الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن أبي الْحرم يَقُول لَيْسَ من الرَّأْي تَعْظِيم الْوَارِد إِلَى هَذِه الدَّار إِلَّا بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْحَال فَإِنَّهُ بتعظيمه يطَأ غَيره ثمَّ يتمرد على معظمه فيطؤه كَذَلِك وَتَكون إساءته عَلَيْهِ أَكثر وعَلى الْخُصُوص من لفظته الْقرى وَألف النوال والقرى وَقد اتّفق لي شَيْء من ذَلِك فَكتب إِلَى بعض أَصْحَابِي من(1/43)
خُصُوص هَذَا الْمَعْنى
(يَا أهل طيبَة لَا زَالَت شمايلكم ... بلطفها فِي الورى مَأْمُونَة العتب)
(لَكِن رعايتكم للغرب تحملهم ... على تجاوزهم للحد فِي الْأَدَب)
فَكَانَ الْجَواب عَن ذَلِك بِلِسَان الْحَال
(مولَايَ إِن صروف الدَّهْر قد حكمت ... وأعوزت أَن يدل الرَّأْس للذنب)
(كم من مقبل كف لَو تمكن من ... قطع لَهَا كَانَ مِمَّن فَازَ بالأرب)
وَكَانَت وَفَاة ابْن أبي الْحرم رَحمَه الله تَعَالَى يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر صفر سنة سِتّ وَخمسين وَألف بِالْمَدِينَةِ وَدفن بِالبَقِيعِ
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السُّوسِي الأنسي الْمَالِكِي من أكَابِر الأفاضل جَامع للفنون والعلوم الرياضية وَله معرفَة بِعلم الاوفاق والزايرجا والرمل وَله فِي فن الدعْوَة والاسماء براعة وَقُوَّة نظم رِسَالَة الْمرْجَانِي فِي الوفق الخماسي الخالى الْوسط وَشَرحهَا شرحا عجيبا اشْتغل بِبِلَاد سوس من الْمغرب الاقصى ثمَّ تنقل فِي بِلَاد الغرب فَرَحل إِلَى مراكش واخذ عَن مفتها مُحَمَّد بن سعيد وَغَيره من علمائها وَدخل فاس وَأخذ بهَا عَن جمع وَأقَام بالزاوية من أَرض الدلاء مديدة وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة مِنْهُم سَيِّدي مُحَمَّد المرابط ومشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم لَا يُحصونَ جمع مِنْهُم من اسْمه مُحَمَّد فبلغوا نَحْو سبعين شَيخا وَدخل مصر فِي سنة خمس وَسبعين ولف وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة ثمَّ وصل إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَله نظم ونثر فِي غَايَة الرقة والانسجام فَمن شعره قَوْله
(يَا من رماني بِسَهْم اللحظ فِي مضى ... أوحشتني وحشوت الْقلب نَار غضا)
(كسرت جفني بتكسير الجفون كَمَا ... نصبت حَالي لاسهام الجفا غَرضا)
(فكم نصبت لَك الأشراك فِي حلم ... لَعَلَّ طيفك وَهنا فِي الْكرَى عرضا)
(وأضرم النَّار بالذكرى على علم ... من مهجتي يَهْتَدِي للنار حَيْثُ أضا)
(إِن قست قدك بالبدر الْمُنِير على ... غُصْن على كثب الجرعاء ذَات أضا)
(لله ظبى حَشا بِالسحرِ مقلته ... فكم جليت بِهِ أستاره حرضا)
(فِي فِيهِ عين وَعين فِيهِ جَوْهَرَة ... من الْحَيَاة وبرق للمنى ومضا)
وَبَينه وَبَين صاحبنا الْفَاضِل الأديب مصطفى بن فتح الله الشَّامي نزيل مَكَّة مَوَدَّة أكيدة ومراسلات عديدة مدحه صاحبنا الْمَذْكُور بِأَبْيَات فَكتب لَهُ بهَا رِسَالَة(1/44)
نَحْو كراسة سَمَّاهَا الرَّائِحَة الوطفا فِي راحية مصطفى مُشْتَمِلَة على قصيدة عَجِيبَة ونثر حسن وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(لَا غرو إِن كنت تجفو الْأنس يَا رشأ ... فَمن خِصَال الظبا أَن تنفر البشرا)
(يَا لَيْتَني كنت وحشياً أردد فِي ... مفتون وَجهك فِي سقط اللوى نظرا)
وَكتب إِلَيْهِ بعض الأدباء وَهُوَ بالزاوية من أَرض الدلاء يَقُول
(يَا أَبَا إِسْحَاق قل لي موجزا ... أَي شَيْء مبرد حر النَّوَى)
(قد أَبَت الإسهادا مقلتي ... وانسكاب الدمع شوقاً للوي)
فَأَجَابَهُ بقوله
(زار فِي روض بهي سحرًا ... جَامع بَين رواء وروى)
(تتهادى فِي الحشا نفحته ... طلبت مني دوا دَاء النَّوَى)
(قلت عَن طب وَمَا يعزى لمن ... جرب الْأَمر عليم بالدوا)
(عرق وصل ونبات الدّرّ من ... مَاء ثغر أشنب كل سوا)
(فاسحقنها فِي مهاريس اللوى ... واشربنها بكؤوس من هوى)
(فَهُوَ درياق لأمراض النَّوَى ... مطفىء بَين الحشا جمر الجوى)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تعال
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الملقب برهَان الدّين الْمَيْمُونِيّ الإِمَام الْعَلامَة الفهامة الْمُحَقق المدقق خَاتِمَة الأساتذة المتبحرين كَانَ آيَة ظَاهِرَة فِي عُلُوم التَّفْسِير والعربية أعجوبة باهرة فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية حَافِظًا متفنناً متضلعاً من الْفُنُون مَشْهُورا خُصُوصا عِنْد الْقُضَاة وأرباب الدولة وأبلغ مَا كَانَ مَشْهُورا فِيهِ علم الْمعَانِي وَالْبَيَان حَتَّى قل من يناظره فيهمَا وَسُئِلَ بعض أهل التَّحْقِيق من قُضَاة مصر عَنهُ فَقَالَ هُوَ رجل لَو سُئِلَ عَن مسئلة فِي الْمعَانِي وَالْبَيَان لأملي عَلَيْهَا كرريس عديدة وَكَانَ مترفهاً فِي عيشه كريم النَّفس رَقِيق الطَّبْع حسن الْخلق فصيح اللِّسَان وجيهاً مجللاً عِنْد عَامَّة النَّاس وخاصتهم مسموع الْكَلِمَة وَإِذا حضر مَجْلِسا فِيهِ عُلَمَاء يكون هُوَ الْمُتَكَلّم من بَينهم والمشار إِلَيْهِ فيهم وَاجْتمعَ فِيهِ حسن التَّقْرِير وتحبير التَّأْلِيف والتحرير لَازم وَالِده سِنِين وَكَانَ يحضر مَعَه وَهُوَ صَغِير درس الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَأَجَازَ بمروياته وَأخذ عَن أبي بكر الشنواني وَمَنْصُور الطبلاوي وَأحمد الغنيمي وَغَيرهم من عُلَمَاء عصره وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه عَنهُ أَخذ أَحْمد بن أَحْمد العجمي عبد الْقَادِر الْبَغْدَادِيّ وشاهين الْحَنَفِيّ وَكَانَ لَهُ ولد برع بالتلقي عَنهُ وَمَات قبل(1/45)
أَبِيه بِنَحْوِ ثَلَاثَة أشهر فَحزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا وَلما عزي بِهِ أنْشد بَيت المتنبي
(لَوْلَا مُفَارقَة الأحباب مَا وجدت ... لَهَا المنايا إِلَى أَرْوَاحنَا سبلا)
وَاجْتمعَ بِهِ وَالِدي فِي مُنْصَرفه إِلَى الْقَاهِرَة وَذكره فِي رحلته وَأَطْنَبَ فِي وَصفه جدا وَذكر عراقته وتبحره فِي الْعُلُوم بأسرها وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ مِمَّا اتّفقت كلمة الْكل على تفرده فِي عصره وتوحده فِي وقته وتصانيفه كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على الْمُخْتَصر وحاشية على الْمَوَاهِب اللدنية وحاشية على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَله مِعْرَاج فِي مُجَلد ضخم وَبَعض تعليقات على شرح التَّلْخِيص للْمولى عِصَام الدّين الْمُسَمّى بالأطول وتحريرات على حَاشِيَة الجامي لَهُ أَيْضا وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر شهر رَمَضَان سنة تسع وَسبعين وَألف وَكَانَ لَهُ مشْهد عَظِيم وَدفن بتربة المجاورين ذكر هَذَا أَحْمد العجمي الْمَذْكُور فِي ثبته والميموني نِسْبَة للميمون من الصَّعِيد وَسَيَأْتِي أَبوهُ مُحَمَّد بن عِيسَى
القَاضِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي بكر الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالغزال الأديب الشَّاعِر ولد وَنَشَأ بصالحية دمشق وَقَرَأَ ودأب وَأخذ الحَدِيث عَن الشهَاب أَحْمد الوفائي وتأدب بالشيخ أَيُّوب الخلوتي قَرَأَ عَلَيْهِ ديوَان ابْن الفارض وَأخذ عَن غَيرهمَا وتعانى كِتَابَة الصكوك فِي محكمَة الصالحية ثمَّ ترك الْكِتَابَة وناب فِي الْقَضَاء بمحكمة الصالحية والعونية والميدان وَكَانَ شَاعِرًا حسن المطارحة لذيذ المصاحبة كثير المجون والمداعبة صَاحب نَوَادِر عَجِيبَة وحكايات مطربة وَلم يكن فِي عصره أَكثر رِوَايَة مِنْهُ للشعر وَلَا أحفظ مِنْهُ للوقائع وَقد وَصفته فَقلت فِي حَقه فَتى مداعبة ومجون طبعه بالخلاعة معجون إِذا تكلم ينت شفة فَهِيَ فِي حَقه سفه لَا يستفزه قيل وَقَالَ وكل عَثْرَة مِنْهُ تقال وَله جامعية بنان وَبَيَان هُوَ فِيهَا سفينة نوح أَو جَامع سُفْيَان إِلَّا أَنه كَانَ فِي شعره متكلفاً وَعَن أهل طبقته مُتَخَلِّفًا لِأَنَّهُ ينبو عَن السهل الْقَرِيب وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا المتنافر الْغَرِيب وَرُبمَا ندرت لَهُ أَبْيَات فِي مدام فَكَانَت كرمية من غير رام أسْتَغْفر الله نعم هُوَ فِي هجائه مجيد وَلَو بازدراء حجائه لعوب حَتَّى بيأسه ورجائه يطلع هزله جدّاً ويرهف حديدته حدّاً فمما استخرجته من حلوه وحامضه وألمعت فِيهِ بِأَمْر واضحه وغامضه قَوْله
(أضحى التصبر حبله مَقْطُوعًا ... لما رَأَيْت معذبي مَمْنُوعًا)
(وَحَدِيث وجدي مُسْندًا ومعنعناً ... أضحى لَدَيْهِ مُعَللا مَوْضُوعا)(1/46)
(وفقدت قلبِي عِنْده وَأَظنهُ ... لبليتي قد سَاءَ فِيهِ صنيعا)
(فَغَدَوْت أنْشد واللهيب بمهجتي ... والبين جرّعني الأسى تجريعا)
(بِاللَّه يَا أهل الْهوى وبحقه ... لَا زَالَ قدركم بِهِ مَرْفُوعا)
(قُولُوا لمن سلب الْفُؤَاد مصحمحاً ... يمنن عليّ بردّه مصدوعا)
وَقَوله من الرباعيات
(يَا من ملكوا جوانحي مَعَ لبي ... مَا اعْتدت شكاية فحالي ينبي)
(لَا زلت مشاهداً بحالي تلفا ... إِن كَانَ سواكم ثوى فِي قلبِي)
وَقَوله أَيْضا
(الْقلب إِلَى سواكم مَا مَالا ... والدمع لغير بعدكم مَا سالا)
(إِن كَانَ حسودنا أَتَاكُم ووشى ... بِاللَّه بلطفكم دعوا مَا قَالَا)
وَمن أهاجيه الَّتِي هِيَ فروع أفاعيه قَوْله فِي إِسْمَاعِيل بن الجرشِي
(بِاللَّه قل لغليظ الطَّبْع مني مَا ... أنكرته من فلَان كي ترى عجبا)
(فَلم تَجِد غير أَنِّي لم أنكه لما ... قد عفته مِنْهُ قدماً كَانَ ذَا سَببا)
(وَلَو أجشمه أيري وأمنحه ... إِيَّاه مَا عدّ لي ذَنبا وَمَا رفبا)
(لكنني الْآن أكوي قرح فقحته ... بِنَار أيري وأرقى عِنْده الرتبا)
(أكلف النَّفس تغييراً لمذهبها ... قبلي كثير لهَذَا الْأَمر قد ذَهَبا)
(لَا سامح الله مأبوناً يكلفني ... بِغَيْر طبعي ويبغي غاسقاً وقبا)
(يَا أير قُمْ وادّرع وادخل حشاشته ... غازٍ وهات لنا أمعاءه سلبا)
(أوسعه رهزاً وإرجافاً بباطنه ... وَإِن عجزت فعوّض غَيْرك الخشبا)
(وَاحْذَرْ يفاجيك من جعص لَهُ بخر ... والطخه فِي وَجهه إِن دَار وانقلبا)
(فَعَنْهُ قد حدّثونا أَن عَادَته ... يخرى على الأير لَا حييى وَلَا ندبا)
وَأنْشد لَهُ بعض الأدباء قَوْله فِي إِسْمَاعِيل هَذَا
(يزْعم أَنِّي بالهجو أذكرهُ ... تعصباً مِنْهُ سَاعَة الْغَضَب)
(لكنني وَالطَّلَاق يلْزَمنِي ... مَا ملت فِيهِ يَوْمًا إِلَى اكذب)
(نكت ابْنه وَأُخْته وخالته ... ونكت قدماً أَخَاهُ وَهُوَ صبي)
(ناك أبي أمه وجدّته ... وعمتيه لله درّ أبي)
(فَنحْن فِي بَيت على دعة ... النيك مَا بَيْننَا إِلَى الركب)
ثمَّ ظَفرت بِهَذِهِ الأبيات فِي مَجْمُوع منسوبة لِابْنِ أبي الْأصْبع وَالظَّاهِر أَن الْغَزالِيّ كَانَ(1/47)
يتَمَثَّل بهَا فنسبوها إِلَيْهِ وَقَالَ يهجو إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور وَكَانَ مُؤذنًا
(إِن الْجمال الجرشِي ... مثل الْمُغنِي الْقرشِي)
(يودّ من يسمعهُ ... لَو ابتلى بالطرش)
الْمُغنِي الْقرشِي مَعْرُوف يضْرب بِهِ الْمثل فِي رداءة الصَّوْت وَفِيه يَقُول المهلبي
(إِذا غناني الْقرشِي ... دَعَوْت الله بالطرش)
(وان أَبْصرت طلعته ... فيالهفي على العمش)
وَلابْن العميد فِيهِ
(اذا غناني الْقرشِي يَوْمًا ... وعناني بِرُؤْيَتِهِ وضربه)
(وددت لَو أَن أُذُنِي مثل عَيْني ... هُنَاكَ وَأَنِّي عَيْني مثل قلبه)
ولبعضهم فِي مُؤذن اسْمه قَاسم قَبِيح الصَّوْت هُوَ معنى جيد
(إِذا مَا صَاح قَاسم فِي الْمنَار ... بِصَوْت مُنكر شبه الْحمار)
(فكم سبابة فِي كل أذن ... وَكم سبابة فِي كل دَار)
وَكَانَت ولادَة الْغَزالِيّ فِي سنة ثَمَان بعد الْألف وَتُوفِّي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالسفح
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مُسلم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَلِيل بن عَليّ بن عِيسَى بن أَحْمد بن صَالح ابْن خَمِيس بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن دَاوُد بن مُسلم القادري الشَّافِعِي الْمَذْهَب الْمَعْرُوف بالصمادي السَّيِّد الْأَجَل الحوراني الأَصْل الدِّمَشْقِي بَقِيَّة السّلف الْبركَة المعمر الْوَلِيّ الْمُجَاهِد كَانَ من سَادَات الصُّوفِيَّة بِدِمَشْق وكبرائهم جمع من كل فن من علم وَعمل وزهد وورع وَعبادَة وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق لطيف الذَّات وَالصِّفَات وافر الْأَدَب وَالْعقل دَائِم الْبشر مخفوض الْجنَاح كثير الْحيَاء متمسكاً بآداب الشَّرِيعَة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم نَشأ بِدِمَشْق واشتغل فِي مبدأ أمره بهَا على الشَّيْخ الإِمَام الشهَاب أَحْمد العيثاوي بِفقه الشَّافِعِي فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمِنْهَاج بِتَمَامِهِ واجازه أَبوهُ مُسلم بطريقتهم وَلما مَاتَ أَخُوهُ عِيسَى جلس مَكَانَهُ على سجادة الذّكر بزاويتهم الْمَعْرُوفَة بهم دَاخل بَاب الشاغور أحد أَبْوَاب دمشق وبناها بعد مدّة بِنَاء حينا وسافر إِلَى الرّوم مرّات عديدة وناله من أَعْيَان الدولة وعلمائها إنعامات طائلة وَحج فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين ألف ورزق قبولاً عَظِيما وَاتفقَ النَّاس على تجليله واعتقاده وَكَانَ يَدْعُو الله تَعَالَى أَن يرزقه أَرْبَعَة أَوْلَاد ليَكُون كل وَاحِد مِنْهُم على مَذْهَب من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فولد لَهُ أَرْبَعَة أَوْلَاد وهم مُسلم وَكَانَ مالكياً وَعبد الله وَكَانَ حنبلياً ومُوسَى(1/48)
وَكَانَ شافعياً وَمُحَمّد وَكَانَ حنفياً وَكَانَت تصدر عَنهُ كرامات وأحوال عَجِيبَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَقيل فِي تَارِيخ مَوته رَحمَه الله مَاتَ قطب العارفين الأمجد وَلِهَذَا السَّيِّد قريب معاصر لَهُ اسْمه كاسمه
إِبْرَاهِيم وَيعرف كَمَا يعرف هُوَ بالصمادي إِلَّا أَن اسْم أَبِيه أَحْمد بن دَاوُد بن مُسلم بن مُحَمَّد ويتميز عَن هَذَا بِإِطْلَاق لفظ الْوَاعِظ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذكرته هُنَا دفعا لهَذَا الِاشْتِبَاه من أوّل وهلة وَلِأَن الشُّهْرَة للمذكور هُنَا دون ذَاك وَكَانَ إِمَام الْجَامِع الْأمَوِي بالمقصورة على مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ عَالما فَقِيها واعظاً ناصحاً وَكَانَ وعظه مؤثراً يَفِ الْقُلُوب يخشع لَهُ السَّامع وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره قَرَأَ على الشَّمْس الميداني وَكَانَ يلازم دروسه وَلما مَاتَ الشَّمْس لزم النَّجْم الْغَزِّي وروى عَنْهُمَا الحَدِيث وَالْفِقْه وَأَجَازَهُ النَّجْم بالإفتاء فَكَانَ يُفْتِي وَقَامَ فِي النَّفْع مُدَّة وَأخذ عَنهُ كثير مِمَّن لحقه وَكَانَ صَالحا جدا وَله مَنَاقِب سامية مِنْهَا مَا حَكَاهُ الشَّيْخ مُحَمَّد الميداني نزيل الخانقاه السميساطية وَهُوَ قريب الْعَهْد وَكَانَ من أصلح خلق الله أَنه كَانَ يقْرَأ على الصمادي الْمَذْكُور فِي الْمِنْهَاج وَكَانَ غُلَام وسيم الْوَجْه يقْرَأ عَلَيْهِ أَيْضا فِي الْفِقْه وعَلى الميداني فِي التجويد قَالَ فَرَأَيْت الصمادي يَوْمًا فِي الْجَامِع صَادف الْغُلَام فعبث بخدّه فأنكرت عَلَيْهِ وانقطعت عَن درسه فرأيته فِي الْمَنَام قد أحاطت بِهِ جمَاعَة من الْعلمَاء كَثِيرُونَ وَهُوَ رَاكب فدنوت لأقبل يَده فَقَالَ لي عد عَن اعتراضك على أَوْلِيَاء الله تَعَالَى فَفِي ثَانِي يَوْم تَوَجَّهت إِلَيْهِ فَأول مَا قابلني بشّ فِي وَجْهي وَقَالَ لَعَلَّك تركت الِاعْتِرَاض وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من عباد الله الأخيار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير والصمادي بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ مِيم بعْدهَا ألف ثمَّ دَال مُهْملَة نِسْبَة إِلَى صماد قَرْيَة من قرى حوران بهَا أجدادهم وَلَهُم نِسْبَة سيادة من جِهَة الْأَب أظهروها فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَذكروا أَنَّهَا كَانَت عِنْد بعض بَنَات عمهم بِمَدِينَة نابلس وَأَنَّهُمْ لم يطلعوا عَلَيْهَا إِلَّا بعد وفاتها وأثبتوا نسبهم بِدِمَشْق على بعض قضاتها وَوَضَعُوا الْعَلامَة الخضراء على رؤوسهم وَبَعْضهمْ لبس العمائم الْخضر وَكَانَ قَرِيبا مِنْهُم وَأثبت نسبهم بَنو الدسوقي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ذكر ذَلِك الشَّمْس الدَّاودِيّ الْمَقْدِسِي نزيل دمشق وَشَيخ محدثيها فِي أوراق ظَفرت فِيهَا بِخَطِّهِ ذكر فِيهَا وقائع كَثِيرَة وَقعت بِالشَّام وأمما نِسْبَة(1/49)
الصماديين من جِهَة الْأُم إِلَى سعيد بن جُبَير فمستفيضة وَمِنْهُم مُسلم الْكَبِير مَذْكُور فِي نسبهم وَهُوَ صَاحب الطبل المستقر عِنْدهم من نُحَاس أصفر كَانَ مَعَه فِي فتح عكة يضْربُونَ بِهِ عِنْد سماعهم ووجدهم وَقد سُئِلَ كثير من الْعلمَاء عَنهُ فَأفْتى الْبَدْر الْغَزِّي وَالشَّمْس بن حَامِد وَالتَّقوى بن قَاضِي عجلون بإباحته فِي الْمَسْجِد وَغَيره قِيَاسا على طبول الْجِهَاد والحجيج لِأَنَّهَا محركة للقلوب إِلَى الرَّغْبَة فِي سلوك الطَّرِيق وَهِي بعيدَة الأسلوب عَن طَريقَة أهل الْفسق وَالشرب والصوفية معروفون وَكَثِيرًا مَا كَانَ يختلج فِي صَدْرِي السُّؤَال عَن لفظ الصُّوفِي لماذا ينْسب حَتَّى رَأَيْت رِسَالَة للسنباطي الْخَطِيب الشَّافِعِي المَسْعُودِيّ ذكر فِيهَا نقلا عَن ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه تفليس إِبْلِيس أَن أوّل من انْفَرد بِخِدْمَة الله تَعَالَى عِنْد الْبَيْت الْحَرَام رجل يُقَال لَهُ صوفة واسْمه الْغَوْث بن مر فنسبوا إِلَيْهِ لمشابهتهم إِيَّاه فِي الِانْقِطَاع إِلَى الله تَعَالَى وروى بِسَنَدِهِ إِلَى أبي مُحَمَّد عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْحَافِظ قَالَ سَأَلت وليد بن قَاسم إِلَى أَي شَيْء ينْسب الصُّوفِيَّة فَقَالَ كَانَ قوم فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُم صوفة انقطوا إِلَى الله تَعَالَى وقطنوا عِنْد الْكَعْبَة فَمن تشبه بهم فَهُوَ الصُّوفِي وَقيل على الأول إِنَّمَا سمى لغوث بن مر صوفة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يعِيش لأمه ولد فنذرت لَئِن عَاشَ لتعلقنه بِرَأْسِهِ ولتجعلنه ربيطاً بِالْكَعْبَةِ فَفعلت فَقيل لَهُ صوفة ولولده من بعده ثمَّ رَأَيْت الشهَاب الخفاجي قد تعرض للصوفية فَزَاد وُجُوهًا فِي النِّسْبَة استطردتها فنقلتها حَيْثُ قَالَ والمتصوفة والصوفية واحدهم صوفي وَيُقَال تصوف إِذا انْقَطع لله تَعَالَى كَمَا يُقَال قيسي إِذا انتسب إِلَى قيس وَهَذَا لفظ مولد واصطلاح حدث بعد الْقرن الأول فَقَالَ بَعضهم الصُّوفِي هُوَ الْمُنْقَطع بهمته إِلَى ربه وهم مقتدون بِأَهْل الصّفة وَهِي سَقِيفَة اتخذها ضعفاء الصَّحَابَة فِي مَسْجِد النَّبِي
وَكَانَ قبل الْإِسْلَام حيّ يُقَال لَهُم صوفة يخدمون الْكَعْبَة فَقيل الصُّوفِي نِسْبَة لَهُم وَقيل أَنهم تجمعُوا كَمَا يتجمع الصُّوف وَقيل إِنَّهُم لخشوعهم كصوفة مطروحة على الأَرْض أَو هم منسوبون للصوفة للينهم وسهولة أَخْلَاقهم أَو للبسهم الصُّوف لاختيارهم الْفقر وَهَذَا أظهر الْوُجُوه لفظا وَمعنى وَقيل منسوبون لصفة وَقيل الأَصْل صفي فأبدل أحد حرفي التَّضْعِيف لينًا وَقيل إِنَّه من صفاء فَفِيهِ قلب وَصحح هَذَا بَعضهم لقَوْل البستي
(تخَالف النَّاس فِي الصُّوفِي وَاخْتلفُوا ... جهلا فظنوه مشتقاً من الصُّوف)(1/50)
(وَلست أنحل هَذَا الِاسْم غير فَتى ... صافى فصوفي حَتَّى سمى الصُّوفِي)
وَلَا شَاهد فِيهِ لِأَنَّهُ على مَذْهَب الشُّعَرَاء وَقد بَين المُصَنّف معنى الصُّوفِي انْتهى
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مصطفى الرُّومِي زَاده الْمَعْرُوف بلوح خوان أَصله من بَلْدَة برغمة وَأَبوهُ من خلفاء الشَّيْخ بُسْتَان اشْتغل فِي أَوَائِله حَتَّى فاق وَدخل قسطنطينية فَصَارَ معيد الدَّرْس الْمولى أبي اللَّيْث وَهُوَ مدرس أيا صوفية ثمَّ لَازم مِنْهُ ودرس بعدة مدارس فِي قسطنطينية وأدرنة ثمَّ نقل آخر إِلَى مدرسة السُّلْطَان مُرَاد ببلدة مغنيسا وَولي فِيهَا قَضَاء بورسة فِي جُلُوس السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث فِي جُمَادَى الأولى من سنة ثَلَاث بعد الْألف ثمَّ بعْدهَا عَزله مِنْهَا وَأعْطى دَار الحَدِيث الَّتِي بناها سِنَان باشا فاستمر بهَا عشر سِنِين يدرس ويفيد إِلَى أَن توفّي وَله من التآليف نظم الفرائد فِي سلك مجمع العقائد وَهُوَ متن فِي علم الْكَلَام ثمَّ شَرحه شرحاً جيدا وَله على التَّفْسِير رسائل وتعليقات كَثِيرَة تدل على تبحره وعَلى الْجُمْلَة فقد كَانَ بحراً زاخراً عَالما بالتفسير والْحَدِيث وَالْكَلَام وَغَيرهَا متورعاً عابداً عفيفاً نزهاً صلباً لَهُ صدق وَصَلَاح وَفِيه فوز وفلاح وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع عشرَة بعد الْألف
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن مَنْصُور الْمَعْرُوف بالفتال الدِّمَشْقِي شَيخنَا الْعَالم الْعلم الباهر الماهر الْمُحَقق المدقق هُوَ كَمَا قلته فِي وَصفه أستاذ الأساتذة ومعترفهم وبحر الْعلمَاء ومغترفهم أما الْعلم فَمِنْهُ وَإِلَيْهِ ومعول أَرْبَاب الصَّنْعَة عَلَيْهِ وَأما الْأَدَب فنقطة من حَوْضه وزهرة من زهرات روضه وَله الْمنطق الَّذِي يقوم شَاهدا بِفضل لِسَان الْعَرَب وَيفتح على البلغاء أَبْوَاب الْعَجز ويسد عَلَيْهِم صُدُور الْخطب فَإِن أوجز أعجز وَإِن أَطَالَ كاثر الْغَيْث الهطال مَعَ مطارحة تذْهب الاستفادة مَذْهَب الحكم وأخلاق تحدث عَن لطف الزهر غب الديم وَمَا أَنا فِي ترنمي بِذكرِهِ وتعطري بنشر حَمده وشكره إِلَّا النسيم نم بمسراه على الحدائق وَالصُّبْح بشر بِنور الشَّمْس الشارق
(ولي فِيهِ مَا لم يقل شَاعِر ... وَمَا لم يسر قمر حَيْثُ سارا)
(وَهن إِذا سرن من مقولي ... وَثَبت الْجبَال وخضن البحارا)
على أَن ذَلِك دون اسْتِحْقَاقه بِالنِّسْبَةِ لما منحني بِهِ من كرم أخلاقه فَإِنَّهُ الَّذِي روج بضاعتي المزجاه وشملني بالحب والأناة ونوه بِي وأشاع أدبي وَكَانَ لي مَكَان أبي وَلم أترو من زلال الْمعرفَة إِلَّا بر شحات أقلامه وَلم أملأ سَمْعِي در الأصداف إِلَّا(1/51)
بتقرطي ببدائع كَلَامه وَكَانَ يتحفني بِبَعْض أَقْوَاله ويشنف سَمْعِي بمجرباته وأحوال فيغنيني بحلاوة تَقْرِيره عَن الْمُشَاهدَة والعيان وتنتهي عِنْدِي مِنْهُ دقائق الْمعَانِي وَالْبَيَان وَكَانَ رَحمَه الله من الْفضل فِي مَحل ذروته وَمن الْحلم فِي مرتبَة سنامه وَكَانَ وقوراً حسن الْهَيْئَة مطبوع الْعشْرَة لطيف النادرة وَله حذق وفراسة يقْضِي مِنْهَا بالعجب وَكَانَ فِي أول أمره فقثراً ثمَّ أثرى وَنَشَأ فِي جد واجتهاد وَقَرَأَ على عُلَمَاء عصره مِنْهُم الملا مَحْمُود الْكرْدِي وَأخذ عَن عبد الْوَهَّاب الفرفوري وَأحمد بن مُحَمَّد القلعي وَحضر دروس النَّجْم الْغَزِّي وتصدر اللاقراء فِي ابْتِدَاء أمره واشتهر بِحسن التأدية والتفهم فأكبت عَلَيْهِ الطّلبَة وَلَزِمتهُ وانتفع بِهِ من الْفُضَلَاء مَالا يُحْصى وَجَمِيع من نعرفه الْآن بِدِمَشْق المتعينين بِالْفَضْلِ الْمشَار إِلَيْهِم من الجلة تلاميذه يباهون بِهِ ويشكرون صَنِيعه وَمَا أَظن أحد اتلمذ لَهُ إِلَّا أحبه محبَّة أَب لِابْنِهِ وأمثل من أَخذ عَنهُ وتفوق وبرع مَوْلَانَا أَبُو الصفاء وَأَخُوهُ أَبُو الأسعاد ابْنا أَيُّوب والمرحوم فضل الله الْعِمَادِيّ وَابْن عَمه سيدنَا عَليّ وَأَخُوهُ مُحَمَّد والمرحوم الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عبد الْهَادِي وَشَيخنَا عُثْمَان المعيد وَشَيخنَا اسماعيل بن الحائك وَشَيخنَا وقريبنا وبركتنا الشَّيْخ عبد الْغَنِيّ النابلسي وَأَخُوهُ الشَّيْخ يُوسُف وَالشَّيْخ أَبُو الْمَوَاهِب الْحَنْبَلِيّ وَالشَّيْخ درويش الْحلْوانِي والمرحوم الشَّيْخ أَبُو السُّعُود بن تَاج الدّين وَغَيرهم مِمَّن يطول سردهم وَأَنا مِمَّن تشرفت بالتلمذة لَهُ وَقد لَزِمته من سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وغفرانه فَقَرَأت عَلَيْهِ مَوَاطِن من التَّفْسِير وَأخذت عَنهُ الحَدِيث وَالْفِقْه والنحو والمعاني وَالْبَيَان والمنطق والأصلين وشيئاً من التصوف وَالْأَدب وَأول مَا أَدْرَكته يعْقد حَلقَة التديس بَين الْمَقْصُورَة وَبَاب الخطابة من الْجَامِع الْأمَوِي ثمَّ تحول إِلَى دَار الحَدِيث الأحمدية بالمشهد الشَّرْقِي وَكَانَ أَيَّام الصَّيف يدرس فِي الرواق الشَّرْقِي مِمَّا يَلِي بَاب جيرون ثمَّ لزم دَاره بالكلاسة غَالِبا ودرس من الدُّرُوس فِي مُغنِي اللبيب وَتَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَالْبُخَارِيّ وَالْهِدَايَة وَشرح الْأَرْبَعين لِابْنِ حجر وَشرح الطوالع للأصبهاني ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الإقبالية تدريس وَظِيفَة وَكَانَ عَلَيْهِ وظائف قَليلَة جدا فَلهَذَا كَانَ يقْتَصر على بعض تِجَارَة واشتهر فِي آخر أمره وطِئت حَصَاة فَضله وَأَقْبَلت عَلَيْهِ النَّاس وَكَانَ يحب الْعُزْلَة إِلَّا أَنه لَا يتَمَكَّن مِنْهَا وَله تعليقات تشهد بدقة نظره مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْقطر للفاكهي وَله تحريرات على مَوَاطِن من التَّفْسِير وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمَا رويت لَهُ قَوْله يتوسل(1/52)
بِصَاحِب الشَّفَاعَة مُحَمَّد
ويمدحه
(كلنا سَيِّدي إِلَيْك نؤوب ... مَا لنا لَا نعي اللقا ونتوب)
(إِن عمر الشَّبَاب ولى وَأبقى ... مَا جناه فِيهِ وَذَاكَ ذنُوب)
(فَإلَى كم هَذَا التواني وَقد جَاءَ ... نَذِير الْحمام وَهُوَ المشيب)
(ندعي الْحبّ فِرْيَة إِنَّمَا الْحبّ ... حرى بِأَن يطاع الحبيب)
(لَيْسَ هَذَا دأب المحبين لَكِن ... قد نحاه مشتت مَحْجُوب)
(إِن أعداءنا توالت علينا ... نفسنا والهوى وعقل مريب)
(كَيفَ يَرْجُو الْخَلَاص مِنْهُم معنى ... فِي عماه مكبل مجبوب)
(من يُرْجَى لدفع دَاء عضال ... غير خير الورى وَذَاكَ الطَّبِيب)
(سيد الْمُرْسلين خيرني ... شَافِع الْخلق يَوْم تتلى الْعُيُوب)
(مبدأ الْكَوْن ختم كل نَبِي ... قد حباه الحيا قريب مُجيب)
(عله أَن يَقُول فِي الْحَشْر عني ... إِن هَذَا لجاهنا مَنْسُوب)
(وَله عندنَا وداد قديم ... وعلينا يَوْم الندا مَحْسُوب)
(من لهَذَا الحقير غَيْرِي نصير ... أَو شَفِيع دعاءه يستجيب)
(أَنا عون لَهُ ويكفيه عوناً ... من سواي ولي فنَاء رحيب)
(يُلَبِّي الْهدى وغوث البرايا ... ووحيداً وَلَيْسَ فِي ذَا عَجِيب)
(خصك الله بالمراحم جمعا ... ويعي ذَاك عَاقل ولبيب)
(كل فضل مصباحه أَنْت حَقًا ... إِن هَذَا فِي المكرمات غَرِيب)
(كل من لم ير اقتراض هواكم ... فَهُوَ فِي النَّار حَقه التعذيب)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(مَا نلْت شَيْئا إِذا كنت المقصر فِي ... تَحْصِيل أَسبَاب توفيقي وإسعادي)
(إِلَّا ضيَاع نجاتي وَهِي نافعتي ... يَا رب هَل لي يَوْم الْحَشْر إنجادي)
وَله
(إِن كَانَ ذَنبي فِي الشدائد موقعي ... وَبِه لقد لاقيت مَا أَنا فِيهِ)
(فالعفو مِنْك يزِيل ذَاك تكرما ... كَالشَّمْسِ إِن أَتَت الدجى تجليه)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف وَقد ناهز السّبْعين وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الأديب إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بالمهتار الْمَكِّيّ الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور فِي الْحجاز(1/53)
ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي تَرْجَمته شويعر بِذِي اللِّسَان كثير لاساءة قَلِيل الْإِحْسَان شعر وَمَا شعر فهذر وَلم يذر سمينه غث وجديده رث لَا يلتقي من مختاره طرفاه وَلَا يسمع رويته سامع إِلَّا قَالَ فض الله فَاه لم يزل يقذف الْأَعْرَاض بهجوه ويلفظ فوه بِمثل مَا تلفظ وجفاؤه من نجوه حَتَّى ألبسهُ الردى رِدَاءَهُ وطهر الله الْوُجُود من تِلْكَ الخباثة والرداءة وَلما هلك بَقِي يَوْمَيْنِ فِي بَيته لَا يعلم أحد بِمَوْتِهِ حَتَّى دلّ عَلَيْهِ نَتن رِيحه وَهُوَ جيفة فِي ضريحه وَلَقَد تصفحت ديوانه الَّذِي جمعه وليت من واراه التُّرَاب وَأرَاهُ مَعَه فَلم أر فِيهِ إِلَّا مَا تمجه الأسماع وتحقر أَلْفَاظه ومعانيه عَن السماع إِلَّا كَلِمَات كَادَت أَن تصفو من الشوائب وَمَعَ الخواطىء سهم صائب فَمِنْهُ قَوْله من قصيدة
(قف بالمعاهد من بشاء ملحوب ... شقي كاظمة فالجذع فاللوب)
(واستملح الْبَرْق أَن تخفى لوامعه ... على النقا إِن سقى حَيّ الأعاريب)
(يَا حبذا إِذْ بدا يفتر مُبْتَسِمًا ... أَعلَى التَّثْنِيَة من شم الشناخيب)
(والجو مضطرم الأحشاء تحسبه ... بردا أُصِيبَت حَوَاشِيه بألهوب)
(يَا بارقاً لَاحَ وَهنا من دِيَارهمْ ... كَأَنَّهُ حِين يلهو قلب مرعوب)
(أذكرتني معهداً كُنَّا بجيرته ... نستقصر الدَّهْر من حسن وَمن طيب)
(لم أنس بالنلعات الجون موقفنا ... وألحى مَا بَين تقويض وتطنييب)
(وَقد بدا الْعُيُون الصحب سرب ظبا ... حفت بظبى ببيض الْهِنْد مَحْجُوب)
(لم تبد تِلْكَ الدمى إِلَّا لسفك دمي ... وَلَا الْعَذَاب اللمى إِلَّا لتعذيبي)
وَقَوله من أُخْرَى
(أذكى بقلبي لاعج الأشجان ... برق أَضَاء على ربى نعْمَان)
(أجْرى مدامع مقلتي أورى زناد ... صبابتي أشجى فُؤَادِي العاني)
(مَا شاقتي إِلَّا لكَون وميضه ... بربى الْهوى ومعاهد الخلان)
(يَا برق جد بالدمع فِي أطلالهم ... عني فسح الدمع قد أعياني)
(لم أسأَل الأجفان سقى ربوعهم ... إِلَّا وجادت لي بأحمر قاني)
(واهالأيام العذيب إِذْ اللوى ... وطني وسكان الْحَيّ جيراني)
(اذ كنت طَوْعًا للهوى واللهوفى ... ظلّ الشبيبة ساحب الأردان)
(تشجيني الورقاء إِن صدحت على ... تِلْكَ الغصون بنغمة الألحان)(1/54)
(ويشوقني بِأَن النقا وحلول واديه ... وَحسن الدَّار بالسكان)
وخمرياته مِنْهَا قَوْله
(أرح فُؤَادِي من الْعَذَاب ... بِالرَّاحِ والخرد الْعَذَاب)
(وعاطنيها عروس دن ... كالنار والعسجد الْمُذَاب)
(من كف لمياء إِن تبدت ... تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب)
(دعجاء بلجاء ذَات حسن ... لكل أهل الْعُقُول سابى)
(على رياض مدبجات ... حاكت رداها يَد السَّحَاب)
(بهَا القمارى مغردات ... على الأفانين والروابي)
(فبادر الْأنس يَا نديمي ... وقم إِلَى اللَّهْو والتصابي)
(أعْط رمان الشَّبَاب حظا ... فلذة الْعَيْش فِي الشَّبَاب)
(واجسر وَلَا تيأسن يَوْمًا ... من رَحْمَة الله فِي الْحساب)
وَقَوله
(قُم إِلَى بنت الكروم ... واسقنيها يَا نديمي)
(مَا ترى اللَّيْل تولى ... وانطفى ضوء النُّجُوم)
(وأضاء الصُّبْح مَا بَين ... تصاريف الغيوم)
(وبدا الطل على الأغصان ... كالعقد النظيم)
(وشدت قمرية الايك ... على الْغُصْن القويم)
(وسرت ريح الخزامى ... من ربى ظَبْي الصريم)
(فأدرها خمرة تنبي ... عَن الْعَصْر الْقَدِيم)
(واسقنيها لنزيل الْيَوْم ... عَن قلبِي همومي)
(هَاتِهَا إِلَى قهوة من ... عهد لُقْمَان الْحَكِيم)
(واملأ الكاسات إِنِّي ... فِي الصِّبَا غير ملوم)
(أَيهَا النَّفس تصابى ... ثمَّ فِي الْعِصْيَان هيمي)
(وَعَن الذل تولى ... ولى الْعِزّ أقيمى)
(واكثري الذَّنب فربي ... غَافِر الذَّنب الْعَظِيم)
وَله موجهاً بأسماء الْأَنْغَام
(سَلام الله من صب مشوق ... جريح الْقلب باكي المقلتين)
(على من حل قلبِي السويدا ... لعزته وَحل سَواد عَيْني)(1/55)
(نأى بِالصبرِ لما بَان عني ... وخلفني سمير الفرقدين)
(فليت الركب قد وقفُوا قَلِيلا ... على العشاق يَوْم نوى الْحُسَيْن)
وَله من مقطوعاته قَوْله
(طِفْل من الْعَرَب أحوى ... خدن الصِّبَا والبطالة)
(بدا بِوَجْه كبدر ... فِي جيده الطوق هاله)
وَله مقتبسا فِي مليح فَقير الْحَال
(تصد وَكم تصدى مِنْك كف ... لمن لم يدر قدرك يَا مفدى)
(وصدك عَن أولى أدب وَأما ... من اسْتغنى فَأَنت لَهُ تصدى)
وَله قَوْله
(أسأَل الرَّحْمَن ذَا الْفضل ... لَهُ الْعَرْش رَبِّي)
(حسن نظم الأرجاني ... ثمَّ حَظّ المتنبي)
وَقَالَ مؤرخا أَيَّام ولَايَة الشريف نامي بن عبد الْمطلب
(تَأمل لدنياك الَّتِي بصروفها ... أبادت على ملك توطد سامي)
(بدا فأضا ثمَّ اعْتدى الْحق فانقضي ... فمده نامي مثل مُدَّة نامي)
قلت ونامي هَذَا ولي شرافة مَكَّة بالتغلب وَلم يقم إِلَّا مِقْدَار عدد حُرُوف اسْمه مائَة يَوْم وَيَوْم وشنق عصر يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس من ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَسَتَأْتِي تَرْجَمته وواقعته مفصلة وَله
(أَلا لَا تصحبن لمن تَعَالَى ... وَلَا تبد الوداد لمن جفاكا)
(وَلَا تَرَ للرِّجَال عَلَيْك حَقًا ... إِذا هم لم يرَوا لَك مثل ذاكا)
وَله
(كم ذَا أغمض عَيْني ثمَّ أفتحها ... والدهر مَا زَالَ وَالدُّنْيَا بحالتها)
(فليت شعري مَا معنى مقالتهم ... مَا بَين غمضة عين وانتباهتها)
وَله مضمنا
(وظبي رماني عَن قسى حواجب ... بأسهم لحظ جرحها فِي الْهوى غنم)
(على نَفسه فليبك من ضَاعَ عمره ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْهَا نصيب وَلَا سهم)
قلت وشعره كَمَا رَأَيْت إِلَى الْإِحْسَان أقرب فَمَا أدرى أَي شَيْء أبعده وَلَيْسَ الدَّاعِي إِلَى مَا قَالَه ابْن مَعْصُوم إِلَّا التحامل وَالْغَرَض وَنحن نَنْظُر إِلَى الْجَوْهَر ونترك الْعرض وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ أَكثر المكيين شعرًا وَكَانَ مطلعا على أَمْثَال وأخبار كَثِيرَة وَرَأَيْت بِخَطِّهِ مجاميع كَثِيرَة تدل على وفرة معلوماته وَكَانَ أدباء الْحجاز دَائِما يداعبونه ويمازحونه وَسبب خمول قدره فِيمَا بَينهم كَون أَبِيه مَمْلُوكا وَمِمَّا يستظرف فِي هَذَا المعرض(1/56)
مَا حكى إِنَّه كَانَ فِي بعض الْمجَالِس فَدخل بعض الشُّعَرَاء الْكِبَار فَقَالَ المهتار جَاءَ امْرُؤ الْقَيْس بن حجر الْكِنْدِيّ فَقَالَ ذَلِك الشَّاعِر بديهة يلثم أَيدي طرفَة بن العَبْد وَمِمَّا رَأَيْته بِخَطِّهِ وَقد نسبه إِلَى نَفسه فِي تَشْبِيه الْحجر الْأسود قَوْله
(الْحجر الْأسود شبهته ... خالاً نجد الْبَيْت زَاد سناه)
(أَو أَنه بعض موَالِي بني الْعَبَّاس ... بواب لباب الْإِلَه)
وَله فِي قناديل المطاف
(تراءت قناديل المطاف لنا ظرى ... على الْبعد والظلماء ذَات تناهى)
(كدائرة من خَالص التبر وَسطهَا ... فتيتة مسك وَهِي بَيت الهي)
وَله فِي المناير فِي ليَالِي رَمَضَان
(كَأَن المناير إِذْ أسرجت ... قناديلها فِي دياجي الظلام)
(عرائس قَامَت عَلَيْهَا الحلى ... لتنظر بَيت إِلَه الْأَنَام)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بعد الْأَرْبَعين وَألف بِقَلِيل وَالله تَعَالَى أعلم
إِبْرَاهِيم باشا الْمَعْرُوف بدالي إِبْرَاهِيم أحد وزراء دولة السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث ذكره الْحسن البوريني فِي تَارِيخه فَقَالَ فِي تَرْجَمته هُوَ على مَا بَلغنِي فِي الأَصْل من طَائِفَة الأرمن وَدخل هُوَ وَأَخُوهُ وَأُخْته إِلَى دَار السلطنة فخدموا وَأَخُوهُ اسْمه مَحْمُود وَلم يزل إِبْرَاهِيم من لدن دُخُوله فِي خدمَة السلطنة يتقلب فِي الولايات حَتَّى صَار أَمِير الْأُمَرَاء فِي ديار بكر بأسرها ففتك فِيهَا وظلم أَهلهَا وَأظْهر من أَنْوَاع الظُّلم أَشْيَاء مستكرهة جدا مِنْهَا أَنه كلما سمع بِامْرَأَة حسناء اجْتهد على الِاجْتِمَاع بهَا بِأَيّ طَرِيق أمكن وَكَانَ لَهُ فِي ديار بكر رجل يُقَال لَهُ رَجَب وَكَانَ من التُّجَّار كثير الْأَمْوَال إِلَى الْغَايَة فَجعله أَبَاهُ وَهُوَ ابْنه فَبَيْنَمَا رَجَب فِي بَيته إِذْ بقائل يَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم باشا على الْبَاب يُرِيد الدُّخُول وَكَانَ ذَلِك لَيْلًا فارتعدت فرائصه لذَلِك فَخرج إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ قد اقتحم الْبَيْت فبهت رَجَب لذَلِك فَقَالَ يَا أَبَت أُرِيد أَن أنظر أخواتي يَعْنِي بَنَاته وَأُرِيد أَن تجْعَل لي حِصَّة من مَالك كَمَا جعلت لبَقيَّة إخوتي فَلم يزل يلاطفه حَتَّى أرضاه بِنَحْوِ خَمْسَة آلَاف من الذَّهَب الْأَحْمَر وَلم يزل بِهِ بعد ذَلِك حَتَّى قَتله وقطعه أَربع قطع وَفعل فِي ديار بكر الأفاعيل الْعَظِيمَة فَذهب غَالب أعيانها واشتكوا عَلَيْهِ للسُّلْطَان مُرَاد فَأمر أَن يُؤْتى بِهِ مُقَيّدا فَأتوا بِهِ كَذَلِك وَلما حضر إِلَى السدّة السُّلْطَانِيَّة أَمر السُّلْطَان أخصامه أَن يقفوا مَعَه فِي مجْلِس الشَّرْع فَمَا أطَاق أحد(1/57)
أَن يشْهد عَلَيْهِ وَلَا قدر القَاضِي أَن يدقق عَلَيْهِ فِي سَماع الدَّعْوَى لأنّ أُخْته كَانَت عِنْد السُّلْطَان مُرَاد مَقْبُولَة جدّاً وَانْصَرف خصماؤه وَقَررهُ السُّلْطَان فِي ديار بكر فَذهب إِلَيْهَا نَاوِيا على إهلاك كل من اشْتَكَى عَلَيْهِ وَمِنْهُم ملك أَحْمد باشا وعماد الدّين بيك فَإِنَّهُ أهلكهما تَحت الْعَذَاب وَوصل إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ أهل الْبَلَد وَقَامُوا عَلَيْهِ قومة رجل وَاحِد فتحصن فِي القلعة وَصَارَ يضْرب على أهل الْمَدِينَة المدافع الْكِبَار حَتَّى قتل مِنْهُم خلقا كثيرا وَكَانَ إِذْ ذَاك السُّلْطَان مُحَمَّد بن السُّلْطَان مُرَاد ولي عهد أَبِيه مُقيما فِي بَلْدَة مغنيسا فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم باشا يستشفع عِنْده فِي الرعايا عُمُوما وَفِي ملك أَحْمد باشا الْمَذْكُور خُصُوصا فَقَالَ أما الْآن مَاله حكم مَعَ وجود وَالِده وَإِذا صَار سُلْطَانا يفعل بِي مَا أَرَادَ فَنَذر السُّلْطَان مُحَمَّد قَتله يَوْم يصير سُلْطَانا فَلَمَّا منّ الله تَعَالَى عَلَيْهِ بالسلطنة وَحضر إِلَى مقرّ تخته سَأَلَ عَن إِبْرَاهِيم باشا الْمَذْكُور فَقيل لَهُ إِنَّه مَحْبُوس بِحَبْس والدك فَأمر بقتْله فَقتل صبرا من غير تَأْخِير قَالَ البوريني وَأَخْبرنِي بعض من شَاهد قَتله أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْحَبْس بعد صَلَاة الْعشَاء فَدخل عَلَيْهِ كَبِير من خَواص خدم الدِّيوَان وَمَعَهُ جمَاعَة من الجلادين مغيرين صورهم حَتَّى لَا يرتاب مِنْهُم وَجلسَ ذَلِك الْكَبِير يصاحبه فِي أُمُور مموّهة وأقدم عَلَيْهِ الجلادون من خَلفه وَوَضَعُوا فِي عُنُقه حبلاً وَقَالُوا أَمر بذلك السُّلْطَان قَالَ فرأيته رفع مسبحته مُشِيرا بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا مَاتَ ألقوه فِي الْبَحْر ثمَّ شفعت فِيهِ أُخْته فدفنوه وَصَارَ عِبْرَة للمعتبرين انْتهى مَا قَالَه البوريني فِي تَرْجَمته وَرَأَيْت فِي التراجم الَّتِي أَنْشَأَهَا منشيء الرّوم عبد الْكَرِيم بن سِنَان قَاضِي الْقُضَاة بِمصْر ذكر إِبْرَاهِيم باشا الْمَذْكُور فَأَحْبَبْت ذكر مَا قَالَه لتوشية الْكتاب بذلك النسيج قَالَ لما تلألأت أنوار السلطنة المحمدية من هَالة سريرها وأصبحت الدُّنْيَا بِتِلْكَ الْأَنْوَار مشرقة بحذافيرها بَدَأَ أحسن الله مبدأه وختامه وأغمد فِي رِقَاب الحاسدين حسامه بقتل إِبْرَاهِيم باشا مَنْ عَمّ المعالم ظلمه وَفَشَا عرف بأخوّة مُدبرَة الْحرم السلطاني لَا زَالَ مخدوماً بالأمان والأماني وَهُوَ الَّذِي سعى فِي أَرض الله بِالْفَسَادِ وَخرب الْبِلَاد وأباد الْعباد مَا من بلد تولاه إِلَّا وأمست بيوته خاوية واشتعلت فِيهِ من الْمَظَالِم نَار حامية لم يتول مصرا من الْأَمْصَار إِلَّا وَأصْبح فِيهَا إعصار فِيهِ نَار تسابقت فِي حلبة الْجور أَفْرَاس مظالمه وجرّد سيف الحتف على محاربه ومسالمه أورى زناد الْفساد وشب نَار الْمَظَالِم وَلَقَد كَانَ أعدى مُعْتَد وأظلم ظَالِم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ انْفَرد بقبائح لَا يُوجد لَهُ فِيهَا عديل وَأظْهر(1/58)
سَنَام اعوجاج من الظُّلم لَا يُمكن لَهُ تَقْوِيم وَلَا تَعْدِيل عَاد وَلم يحمد عود ولَايَته إِلَى ديار بكر فصوّب نَحْو أَهلهَا أسنة الْقَهْر وَالْمَكْر وَأخذ يشتت شَمل أَحْوَالهم بِأخذ مَا لَهُم من مَالهم لم يُغَادر لَهُم نَقْدا وَلَا بضَاعَة وَقد صَافح مَالهم بيد الإضاعة فَصَرفهُ فِي وُجُوه الْفساد وأضاعه فتح بَاب المصادرة كي يصل إِلَى مَطْلُوبه وَأصْبح جَامعا للشرور ومنار الْجور يَعْلُو بِهِ وَالْحَال أَن مَا أبقاه لَهُم جوره المقدّم كفضلة صَبر فِي فؤاد متيم وَلم يقنع مِنْهُم بِأخذ الْأَمْوَال والأملاك بل أوقعهم بعد إذاقة الضَّرْب فِي شباك الْهَلَاك فَلَمَّا غصت شوارع دَار السلطنة بشكاته وَكثر الباكون من موافاة آفاته حَبسه سُلَيْمَان الزَّمَان إِذْ ذَاك كَمَا تحبس المردة وَأحرقهُ بِنَار كمد موقده فاستمرّ فِي الْحَبْس إِلَى أَن تشرف سَرِير السلطنة بسُلْطَان الْعَالم الْمُفْرد الْجَامِع لكَمَال بني آدم فَلَمَّا رأى أَنه حبس مرَارًا واستوطن الْحَبْس دَارا وَكَانَ يَقُول إِذا تكرّر الدَّوَاء لَا ينفع وَإِذا طَال مكث السَّيْف فِي غمده لَا يقطع أَزَال أبقاه الله بِإِزَالَة هَذَا الْكَلْب غمَّة عَن الْمُسلمين وَأظْهر بقتْله همة تظل تملي صحف محامدها إِلَى يَوْم الدّين ألفاه نجس الْعين فقذفه فِي اليم ولعمري أَنه لَا يطهر وَلَو بالبحر الخضم فاستقرّ جِسْمه فِي المَاء وروحه فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَقد أصبح قَرَار الْبَحْر لجثمانه مَحل الْقَرار وأرسله إِلَى نَار هِيَ أعظم من نَار إِبْرَاهِيم وصير المَاء خير رَفِيق وحميم وَكَانَ عدوّاً لعلماء الْملَّة الغراء والشريعة الشَّرِيفَة الزهراء حَتَّى أَنه لما كَانَ بديار بكر هجم أَتْبَاعه بأَمْره على قاضيها وَالْمولى لاحكام أَحْكَام الشَّرِيعَة فِيهَا فسحبوه عَارِيا من ثِيَابه كالسيف المجرّد من قرَابه إهانة للشَّرْع وَصَاحبه واستخفافاً بالطراز الْمَذْهَب من مذاهبه وَلم أقصد بِذكر هَذِه المعايب وتسطير هَذِه القبائح والمثالب بغض مُسلم فَاتَ واقتنصته يَد الْآفَات وحاشا أَن أكون مِمَّن يصدر ذَلِك من فِيهِ وَلَكِن عملا بقَوْلهمْ أذكر الْفَاسِق بِمَا فِيهِ
(وَمَا ذمّ أهل الظُّلم شَيْء قصدته ... وَلكنه من يزحم اليم يغرق)
قلت وَكَانَت قتلته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
إِبْرَاهِيم باشا الْوَزير الْأَعْظَم أحد وزراء السُّلْطَان مُرَاد بن سليم من أَصْحَاب الشَّأْن العالي والرأي السديد وَكَانَ ذَا حلم وَاسع وأناة ونهض بِهِ الْحَظ كَمَا قَالَ فِيهِ منشيء الرّوم المارّ ذكره وَقد ذكره ساعدته الْأَيَّام والليالي فغدا مقدما فِي الْعِزّ وَغَيره التَّالِي رمقته عين الْعِزَّة فَأصْبح عَزِيزًا بِالْقَاهِرَةِ المعزية فطفحت كأس(1/59)
أمانيه وَهِي من الأقذاء صَفِيَّة تزينت حلل تِلْكَ الْبِلَاد بوشي أَحْكَامه وتفيأت أَهلهَا فِي ظلال بنوده وأعلامه ثمَّ خلعت السلطنة المرادية عَلَيْهِ خلعة الصهاره وفاز مرّة بعد أُخْرَى بِخَتْم الوزارة آلت إِلَيْهِ رِسَالَة الْكَتَائِب الإسلامية وقطف ثمار رُؤْس الْأَعْدَاء من رياض الفتوحات الجنية فغدا جيده حالياً بهَا عدَّة سِنِين وَفتح ثغراً فابتسم بِهِ الدّين الْمُبين وَكَانَ يعْقد عرائس المناصب من غير كفاءة لكل خَاطب ويفرّقها بعد اسْتِيفَاء مدّتها ويزفها لآخرين دون انْقِضَاء عدتهَا وَكَانَ أَكثر مواعيده منجزة بسيول هباته لَكِنَّهَا وساوس تنشأ من خطراته حَتَّى غَدَتْ عِنْده أكياس الدَّرَاهِم أخلى من قدر الْبَخِيل ومعدة الصَّائِم
(أفنى ندى كفيه أَمْوَاله ... كَأَنَّمَا الأكياس أكفان)
وَقد عَامل النَّاس بلين الْجَانِب من الأخصاء والأجانب وَلَا يدرى مَا فِي قُلُوبهم لَهُ من النِّيَّة كَمَا كمن فِي حدّ الحسام الْمنية واستمرّ حَاله بِتِلْكَ القلادة حالياً إِلَى أَن صوّبت الْمنية نَحوه أسهماً وعوالياً فأحدقت بِهِ دَائِرَة السقام حَتَّى ذاق من كاس الْمَرَض جرعة الْحمام
(أَلا إِنَّمَا الْأَحْيَاء شرب وَبينهمْ ... كؤس المنايا لَا تزَال تَدور)
(فَمنهمْ سريع السكر فِي الْحَال ينتشي ... وَمِنْهُم على الشّرْب الْكثير قدير)
وَذكره البوريني فَقَالَ كَانَ أوّلاً من جمَاعَة الْحرم السلطاني فِي عهد السُّلْطَان مُرَاد وَلما ظهر مِنْهُ صَار ضَابِط الْجند الْجَدِيد بقسطنطينية وضبطهم احسن ضبط واستمرّ حَاكما عَلَيْهِم مدّة طَوِيلَة ثمَّ إِن السُّلْطَان مُرَاد أَرَادَ أَن يزوّجه ابْنَته فَأرْسلهُ إِلَى بِلَاد مصر حَاكما وَكَانَ كَرِيمًا حسن الْخلق إِلَى الْغَايَة وَأَرَادَ أَن يهدم بِنَاء الأهرام الَّذِي بِمصْر لما بلغه أَن فِيهَا دفائن للسلاطين المتقدّمين فحذروه من ذَلِك وَقَالُوا لَهُ أَن الْمَأْمُون العباسي أَرَادَ هدمها فَمَا قدر على ذَلِك وَقَالُوا رُبمَا يكون الأهرام طلسماً للرمل ولبعض مَنَافِع فَإِنَّهَا مَا وضعت إِلَّا بطرِيق الْحِكْمَة فَعدل عَن هدمها ثمَّ إِنَّه أَقَامَ بِمصْر أَمِيرا يحكم فِيهَا عوضا عَنهُ وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَة ثمَّ خرج من مصر بأموال عَظِيمَة وتحف كَثِيرَة مِنْهَا أَنه جعل للسُّلْطَان مُرَاد تختاً من الذَّهَب مرصعاً بالجواهر الْعَظِيمَة وَرجع وَمَعَهُ عَسَاكِر مصر وَجمع عَسَاكِر الشَّام وحاكمها إِذْ ذَاك أويس باشا وكبس جبل الشوف من ضواحي دمشق على طرف الْبَحْر من الْجَانِب الغربي وَبِه قوم من الدروز الباطنية وهم لَا يدينون بِملَّة وَلَا يرجعُونَ إِلَى عقيدة يرَوْنَ للشرائع(1/60)
بَاطِنا غير مَا هُوَ ظَاهر فَقتل وَنهب وَأخذ مِنْهُم أَمْوَالًا جمة وحاصرهم محاصرة عَظِيمَة حَتَّى أَن أَمِيرهمْ قرقماس بن معن مَاتَ قهرا ثمَّ سَار إِلَى قسطنطينية من طَرِيق الْبَحْر فِي المراكب الْعَظِيمَة وَدخل على ابْنة السُّلْطَان وَأعْطى الوزارة الْعُظْمَى ثمَّ عينه السُّلْطَان لمقاتلة النَّصَارَى فِي دَاخل بِلَاد الرّوم وَوَقع بَينه وَبينهمْ مقتلة عَظِيمَة وَثَبت ثباتاً عَظِيما وانتصر عَلَيْهِم بعد أَن كَادَت النَّصَارَى تكسر عَسَاكِر الْإِسْلَام فَلم يزل هُوَ وَعَسْكَره يقتلُون فِي النَّصَارَى حَتَّى أفنوهم قتلا وأسراً وفتحوا ثغراً من ثغورهم الْمَعْرُوفَة وَكَانَ للْمُسلمين رَئِيس عَسْكَر آخر يُقَال لَهُ مَحْمُود باشا فانتصر هُوَ أَيْضا وَخذ الله الْمُشْركين قَالَه الْحسن البوريني ثمَّ ورد الْخَبَر بِمَوْت إِبْرَاهِيم باشا الْمَذْكُور فِي الْمحرم سنة عشرَة بعد الْألف وَأَنه مَاتَ وَهُوَ مرابط زَاد المنشى ونقلت جنَازَته إِلَى قسطنطينية وَدفن بهَا فِي مدفن خَاص بِهِ
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم القسطموني نزيل الْمَدِينَة المنورة أحد الْعباد الزهاد ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيل الشقائق وَقَالَ فِي حَقه كَانَ من الْفقر وَالرِّضَا والكفاف فِي منزلَة الْأَفْرَاد أَخذ عَن الشَّيْخ الْبركَة حسن شيخ زَاوِيَة مصطفى باشا وأكمل عَلَيْهِ آدَاب الطَّرِيق ثمَّ حج وجاور بِالْمَدِينَةِ المنورة وَكَانَ عابداً زاهداً مرتاضاً مُجَاهدًا مُنْقَطِعًا إِلَى الله تَعَالَى عَفا عَمَّا فِي أَيدي النَّاس حكى عَنهُ أَنه كَانَ فِي أثْنَاء مجاورته لَا يقبل من أحد صَدَقَة وَلَا هَدِيَّة سوى أَن شَيْخه الْمَذْكُور كَانَ يُرْسل لَهُ فِي كل ثَلَاث سِنِين قَمِيصًا وَاحِدًا فَكَانَ لِبَاسه منحصراً فِيهِ وَمَعَ هَذَا فقد كَانَت صلَاته للْفُقَرَاء وعوائده للأرامل واليتامى مُتَّصِلَة وَفِي يَوْم مَوته شوهد حَالَة عَجِيبَة من الْفُقَرَاء وَكَانُوا حول نعشه بِكَثْرَة وهم يصيحون يَا أَبَا الْفُقَرَاء يَا ملْجأ الضُّعَفَاء فَسئلَ مِنْهُم عَن سَبَب ذَلِك فَقَالُوا كَانَ يُعْطِينَا فِي كل سنة مِقْدَار كفايتنا وَكَانَ وَجه معاشناً وَنَفَقَة عيالنا مِنْهُ وَهَذَا مَعَ مَا ذكر من صفته لَيْسَ إِلَّا إنفاقاً من الْغَيْب وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَدفن بِالبَقِيعِ بِالْقربِ من قبَّة الْعَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
إِبْرَاهِيم باشا الْوَزير نَائِب مصر ذكره النَّجْم وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ لَهُ مُشَاركَة فِي الْعلم وسلك أَولا مَسْلَك الْقُضَاة ثمَّ صَار دفترداراً بِالشَّام ثمَّ عزل وَرجع إِلَى الرّوم فسلك طَرِيق الْأُمَرَاء الْكِبَار ثمَّ صَار وزيراً ولي مصر وَكَانَ ممدوح السِّيرَة فِي ولَايَته وَله حسن معاشرة إِلَّا أَنه امتحن بِقصَّة الْأُسْتَاذ زين العابدين الْبكْرِيّ دخل إِلَيْهِ بقلعة الْجَبَل بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ خرج من عِنْده مَيتا وأشاع أَنه مَاتَ فَجْأَة ثمَّ ترجح أَنه خنقه أَو سمّه(1/61)
بِأَمْر سلطاني وَلم يبْق بعده إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة حَتَّى قتلته عَسَاكِر مصر لما أَرَادَ التفتيش عَلَيْهِم وأظهروا أَنهم قَتَلُوهُ حمية للشَّيْخ زين العابدين وحملوا رَأسه وطافوا بِهِ فِي مصر وَكَانَ ذَلِك فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم النبتيتي نزيل الْقَاهِرَة المجذوب صَاحب الكرامات وَالْأَحْوَال الباهرة ذكره الْمَنَاوِيّ فِي طَبَقَات الصُّوفِيَّة وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ أَولا حائكاً فِي نبتيت فأجنب يَوْمًا فَدخل مَكَانا فِيهِ ضريح بعض الْأَوْلِيَاء ليغتسل فِيهِ فَجَذَبَهُ فَخرج هائماً وَترك أَوْلَاده وَأَهله وَقدم مصر فَأَقَامَ بِجَامِع اسكندر باشا بِبَاب الْخرق نَحْو عشْرين سنة وَبَعْضهمْ يسبه وَبَعْضهمْ يستقله وَبَعْضهمْ يُخرجهُ لما يرى مِنْهُ من تقذير الْمَسْجِد ثمَّ تحوّل لمَسْجِد الْمرة بِقرب تَحت الرّبع ثمَّ تحوّل إِلَى بَلَده نبتيت فسكنها إِلَى أَن مَاتَ وَقيل لَهُ لم خرجت من مصر قَالَ لم أدخلها إِلَّا بِإِذن صَاحبهَا إِذْ لم يكن لفقير دُخُول بِدُونِ إِذن أَهلهَا وَمن فعل حل بِهِ العطب فَلَمَّا استقرّيت بهَا قدم زين العابدين الْمَنَاوِيّ فَلم يَأْذَن لي بِالْجُلُوسِ فتركته وَإِيَّاهَا فَمَا كَانَ لفقير يدخلهَا أَو يسكنهَا إِلَّا بِإِذن مِنْهُ خَاص وَكَانَ لَهُ خوارق ومكاشفات أخبر عَنهُ الشَّيْخ الْعُمْدَة عَليّ الحمصاني أَنه كَانَ لِابْنِ أُخْته زَوْجَة وَله مِنْهَا ولد فَقَعَدت يَوْمًا تلاعبه بسطح الْجَامِع وَهُوَ صَحِيح سليم فَقَالَ لَهَا أتحبيه قَالَت لَهُ مَالك وَذَاكَ قَالَ ودّعيه فَإِنَّهُ بعد غَد وَقت الْعَصْر يَمُوت وَكَانَ كَذَلِك وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَدفن بِبَلَدِهِ وَعمل لَهُ أحد وزراء مصر قبَّة عَظِيمَة والنبتيتي بنُون مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَبعدهَا مثناة من تَحت ثمَّ مثناة من فَوق نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من أَعمال الشرقية بنواحي الخانقاه السرياقوسية
إِبْرَاهِيم آغا مُتَوَلِّي جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق وَأحد أعيانها ذكره البوريني وَقَالَ هُوَ من مماليك سلاطين زَمَاننَا آل عُثْمَان وَكَانَ يخْدم فِي دَاخل حرم السُّلْطَان وَكَانَت خدمته هُنَاكَ إقراء المماليك الصغار الَّذين يخدمون فِي دَاخل حرم السلطنة وَكَانَ خدم الْعلم بُرْهَة من الزَّمَان فعلق فِي ذكره شَيْء من الْمسَائِل والدلائل فكثيراً مَا كَانَ يحضر مجَالِس الْعلمَاء فيبحث ويناظر وَلما ورد إِلَى دمشق وصل إِلَيْهَا فِي سنة ألف فسكن فِي جَانب سوق البزورية بزقاق هُنَاكَ وَكَانَ على سمت الصّلاح فَسَار فِي خدمَة الْجَامِع الْأمَوِي أحسن سيرة وَعمر الْحُجْرَة الْمُقَابلَة لحجرة السَّاعَات فِي جِهَة بَاب جيرون وَكَانَت مهجورة لَا يمِيل إِلَيْهَا أحد ويزعمون أَن بهَا حَيَّة عَظِيمَة وَكَانَت بيد رجل(1/62)
يُقَال لَهُ رَمَضَان المرداوي فَلَمَّا مَاتَ لم يرغب فِي أَخذهَا أحد بعده حَتَّى قدم إِبْرَاهِيم هَذَا فأزال مَا بداخلها من الْبناء فَصَارَ لَهَا صُورَة قَابِلَة للْبِنَاء وقاس المعمار طَرِيق المَاء فَوَجَدَهُ قَابلا لِأَن يدْخل إِلَيْهَا فشرع فِي عمارتها وَأخذ بالعمارة إجَازَة من بعض قُضَاة الشَّام فَلم يزل يتوسع فِي تعميرها حَتَّى صَارَت من ألطف الْأَبْنِيَة وَفتح لَهَا فِي حَائِط الْجَامِع شباكاً وأضاف إِلَيْهَا حانوتاً كَانَ وَرَاءَهَا فِي جِهَة سوق الذهبيين وَجعله فِيهَا مطبخاً وَكَانَ شاع بَين النَّاس أَنه يُرِيد أَن يَجْعَل هُنَاكَ مستراحاً فخمنوا مَوضِع المستراح فوجدوه يَقع تَحت الْمِحْرَاب الْمَنْسُوب إِلَى حَضْرَة الإِمَام زين العابدين ابْن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا فَغَضب لذَلِك نقيب الْأَشْرَاف بِدِمَشْق وَهُوَ زين العابدين ابْن حُسَيْن بن كَمَال الدّين بن حَمْزَة وَذهب مستشيطاً بالغيظ إِلَى الْوَزير السَّيِّد مُحَمَّد الْأَصْفَهَانِي أَمِير الْأُمَرَاء بِدِمَشْق واشتكى من قَاضِي الْقُضَاة الْمولى عبد الرَّحْمَن الْآمِر بذلك فَغَضب الْوَزير لذَلِك ثمَّ كتب ورقة إِلَى القَاضِي يلومه على مَا وَقع مِنْهُ وَأرْسل الورقة مَعَ النَّقِيب وَضم إِلَيْهِ رَسُولا من خدمَة الدِّيوَان فَلَمَّا قَرَأَ الورقة علم أَن الوشاية من النَّقِيب فتألم مِنْهُ ثمَّ قَالَ لَهُ قُم واكشف أَنْت على الْموضع فَذهب إِلَى الْمَكَان فَلم يجد شَيْئا مِمَّا أنهى إِلَى الْوَزير فَرجع إِلَى القَاضِي وَأخْبرهُ فاستشاط القَاضِي مِنْهُ غيظاً وَوَقع لَهُ بِسَبَب ذَلِك حقارة عَظِيمَة وَقيل إِنَّهَا كَانَت سَبَب مَوته كَمَا ستذكره فِي تَرْجَمته واستقرّ إِبْرَاهِيم فِي الْحُجْرَة وَكَانَت سكنه إِلَى أَن توفّي قَالَ الْغَزِّي وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد سادس صفر سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الميرزا إِبْرَاهِيم الْهَمدَانِي أحد عُلَمَاء الْعَجم الْكِبَار الَّذين فاقوا وامتازوا وَقد ذكره ابْن مَعْصُوم فِي سلافته قَالَ فِي تَرْجَمته جَامع شَمل الْعُلُوم المقتني بنفائس جوهرها والمجتنى أزاهر بواطنها وظواهرها ملك أَعِنَّة الْفَضَائِل وَتصرف وَبَين غوامض الْمسَائِل فأفهم وَعرف وَكَانَ الشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد بهاء الدّين بن حُسَيْن العاملي يشْهد بفضله ويعترف بِمِقْدَار سموّه ونبله وَاتفقَ أَن سُلْطَان الْعَجم عَبَّاس شاه قصد زيارته فَرَأى بَين يَدَيْهِ من الْكتب مَا ينوف على الألوف فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان هَل فِي الْعَالم عَالم يحفظ جَمِيع مَا فِي هَذِه الْكتب فَقَالَ لَهُ لَا وَإِن يكن فَهُوَ الميرزا إِبْرَاهِيم وَمن إنشائه قَوْله نسْأَل الله فتح أَبْوَاب السرُور بِقطع علائق عَالم الزُّور وحسم عوائق دَار الْغرُور وتبديل الأصدقاء الْمُحَاربين بالأخلاء الروحانيين والانزواء فِي زَاوِيَة الْعُزْلَة والانفراد عَن مجَالِس السوء والمذلة وَصرف الْأَوْقَات فِي تلافي مَا فَاتَ وإعداد(1/6)
الزَّاد ليَوْم الْمعَاد فَإِن ذَلِك أعظم الْمَقَاصِد وأ " علاها وأهم المطالب وأولاها وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف
الشَّيْخ أَبُو بكر بن أبي الْقَاسِم صَائِم الدَّهْر صَاحب الْقبَّة المنيرة بِبَيْت الْفَقِيه الزيدية يَنْتَهِي نسبه إِلَى إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد النجيب أخي أبي بكر الملقب بالعربادي ابْن عَليّ بن مُحَمَّد النجيب بن حسن بن يُوسُف بن حسن بن يحيى بن سَالم بن عبد الله بن حُسَيْن بن آدم بن إِدْرِيس بن حُسَيْن بن مُحَمَّد النقي الْجواد بن عَليّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن عَليّ زين العابدين ابْن الْحُسَيْن بن عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ كَانَ شَيخا من مَشَايِخ الطَّرِيقَة صَاحب كرامات مَشْهُورَة وأحوال مَذْكُورَة روى عَنهُ أَنه قَالَ من رَآنِي ورأيته دخل الْجنَّة وأموت مَتى شِئْت بِإِذن الله تَعَالَى وَإِن شِئْت أكلت الطَّعَام وَإِن شِئْت تركته عصمَة من الله تَعَالَى روى عَنهُ السَّيِّد طَاهِر بن الْبَحْر وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف
الشَّيْخ أَبُو بكر بن أبي الْقَاسِم بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن أبي بكر بن أبي الْقَاسِم خزانَة الْأَسْرَار بن أبي بكر المعمر بن أبي الْقَاسِم بن عمر بن عَليّ الأهدل بن عمر بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبيد بن عِيسَى بن علوي بن حمحام بن عون بن الْحسن بن الْحُسَيْن مُصَغرًا بن عَليّ بن زين العابدين وَفِي مَوضِع آخر وَهُوَ الظَّاهِر عون ابْن مُوسَى الكاظم ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن عَليّ زين العابدين ابْن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كَذَا ذكر نسب بني الأهدل جمَاعَة وجزموا بِهِ مِنْهُم السَّيِّد حُسَيْن بن الصّديق الأهدل وَمُحَمّد بن الطَّاهِر بن حُسَيْن الأهدل فِي كِتَابه بغية الطَّالِب فِي ذكر أَوْلَاد عَليّ بن أبي طَالب حَيْثُ قَالَ بعد ذكر مُوسَى الكاظم وَكَونه خلف من الْوَلَد نَحْو ثَلَاثِينَ مَا بَين ذكر وَأُنْثَى وَمن أَوْلَاده عون وَإِلَيْهِ يرجع نسب سيدنَا الشَّيْخ الْكَبِير صَاحب الكرامات الظَّاهِرَة أبي الْحسن عَليّ الأهدل لِأَنَّهُ عَليّ بن عمر الح صَاحب المراوعة وَأمه خَدِيجَة بنت مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن زين العابدين بن مُحَمَّد بن سلميان وَفِي مُحَمَّد هَذَا اجْتمع مَعَ وَالِده السَّيِّد الْجَلِيل الْفَرد صَاحب الْمَرَاتِب الْعلية والعلوم الواسعة والأحلام الراسخة والطباع السليمة والمكارم الفائضة كَانَ فِي عصره مُنْقَطع القرين سَابِقًا فِي عُلُوم الدّين وعَلى جَانب عَظِيم من الْعِبَادَة والورع والزهد وَالْعلم وَالْعَمَل وَكَانَت أوقاته معمورة بِالذكر وَالْعِبَادَة وَنشر الْعلم وتوزيع الْوَقْت على الْأَعْمَال الصَّالِحَة من التدريس وَالْفَتْوَى(1/64)
وَغير ذَلِك وَكَانَت لوائح الْعلم ظَاهِرَة عَلَيْهِ من صغره حَتَّى إِن عَم والدته السَّيِّد الْوَلِيّ الشهير أَحْمد بن عمر الأهدل كَانَ يلقبه بالفقيه الْعَالم يُشبههُ بجده الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي بكر بن أبي الْقَاسِم وسكنه المحط من أَعمال رمع وَله بهَا الزاوية الْمَشْهُورَة ترْجم نَفسه فِي كِتَابه نفحة المندل فَقَالَ كَانَ مولدِي لنَحْو أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا بقرية صَغِيرَة بَين المراوعة والحوطة وَغَرْبِيٌّ القطيع تعرف بالحلة بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام وَهِي غير حلَّة بصل بِفَتْح الْمُوَحدَة والمهملة إِذْ هما حلتان هُنَاكَ والمنسوبة لبصل هِيَ اليمانية والمولد بالشامية وَهُنَاكَ قُبُور أجدادي ثمَّ انْتقل بِنَا الْوَالِد مِنْهَا فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة إِلَى قَرْيَة السَّلامَة الْمَعْرُوفَة قبلي التربية فتعلمت بهَا الْقُرْآن الْعَظِيم وحفظت على يَد الشَّيْخ الصَّالح أَحْمد بن إِبْرَاهِيم المزجاجي الْمَعْرُوف بِالْخَيرِ وَلما أكملت تعلم الْقُرْآن أَمرنِي الْوَالِد بتعليم إخوتي فاشتغلت بتعليمهم مَعَ غَيرهم فِي عَرِيش عِنْد مَسْجِدنَا مُدَّة مواظباً على تَرْتِيب قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد كل يَوْم بعد صَلَاة الصُّبْح إِلَى الْإِشْرَاق وكل لَيْلَة جُمُعَة أَنا وَمن حضر عِنْدِي بِإِشَارَة الْوَالِد أَيْضا وملاحظته إِذْ كَانَ لَهُ رَغْبَة قَوِيَّة وهمة علية فِي ذَلِك وَغَيره من أَعمال الْبر وَكَثِيرًا مَا كَانَ يجلس فِي حَلقَة الْقِرَاءَة وَالذكر فِي مَسْجِد مَعَ أُميَّة حَتَّى عمل مسبحة ألفية يهلل فِيهَا هُوَ وَمن حضر مِمَّن لَا يقْرَأ لَيْلَة الْجُمُعَة وألهمت كِتَابَة مَا وَقع فِي يَدي من نَحْو الْقَصَص والقصائد حَتَّى اتسقام خطي وَصلح للتحصيل ثمَّ أدخلني وَالِدي مَدِينَة زبيد لطلب الْعلم فَكَانَ أول طلبي فِي الْفِقْه على الْفَقِيه مُحَمَّد ابْن الْعَبَّاس الْمُهَذّب وَفِي النَّحْو على مُحَمَّد بن يحيى المطيب ثمَّ إِن الْوَالِد أَرَادَ تزويجي فَلم يمكني إِلَّا مساعدته مَعَ مَا ذقته من لَذَّة الْعلم فَلَمَّا تزوجت اشْتغل خاطري بِأَمْر الزَّوْجَة ومراعاة حُقُوقهَا الْوَاجِبَة إِذْ لم أكف أمرهَا وَلَا أَمر الْإِقَامَة للطلب بزبيد كَمَا كنت قبل التَّزْوِيج فاشتغلت عَن الطّلب نَحْو سِتّ سِنِين لكني فِي هَذِه الْمدَّة لم أترك التَّحْصِيل وَالتَّعْلِيق والمطالعة ومذاكرة من أَلْقَاهُ من الطّلبَة لما قد تمكن فِي قلبِي من محبَّة الْعلم وَكَانَ تزويجي فِي سنة ألف ثمَّ أخدت بناصيتي إِلَى تَجْدِيد الطّلب بباعث رباني فَقَرَأت على مُحَمَّد بن برهَان الْمحلي ثمَّ قصدت زبيد أَيْضا للْقِرَاءَة فَقَرَأت على عَليّ بن الْعَبَّاس المطيب صنو شَيخنَا الْمُقدم ذكره وعَلى أَحْمد النَّاشِرِيّ وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد جعمان وعَلى الصّديق بن مُحَمَّد الْخَاص الْحَنَفِيّ وَأحمد بن شَيخنَا الْجمال مُحَمَّد المطيب وَعبد الْبَاقِي بن عبد الله الْعَدنِي وَعلي الزين بن الصّديق(1/65)
المزجاجي ولبست الْخِرْقَة من السَّيِّد عابدين حُسَيْن الْحُسَيْنِي الكشميري وَمن الشَّيْخ زين بن الصّديق المزجاجي وقرأت على السَّيِّد مُحَمَّد بن أبي بكر الأهدل صَاحب الْمَقْصُورَة وعَلى عبد الله بن أَحْمد الضجاعي وَالسَّيِّد المقبول بن الْمَشْهُور الأهدل وَمُحَمّد الْعلوِي وَعبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْهِنْدِيّ وَعبد الفتاح الصَّابُونِي وَآخَرين ذكرهم وَذكر مقروآته عَلَيْهِم وَمِنْهُم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى تَاج الدّين النقشبندي وَأَجَازَهُ غَالب شُيُوخه كِتَابَة ولفظا وَله إجازات من شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ وَحصل بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة وطالع من كتب الْقَوْم مَالا يُمكن حصره وَله تأليف كَثِيرَة مِنْهَا نظم التَّحْرِير فِي الْفِقْه ونظم الورقات ونظم النخبة واصطلاحات الصُّوفِيَّة ومنظومة فِي السِّوَاك وَالتَّعْلِيق المضبوط فِيمَا للْوُضُوء كالغسل من الشُّرُوط وَالْبَيَان والإعلام بمهمات أَحْكَام أَرْكَان الْإِسْلَام وشرحان على قصيدة ابْن بنت الميلق الَّتِي أَولهَا
(من ذاق طعم شراب الْقَوْم يدريه ... صَغِير وكبير والأحساب الْعلية فِي الْأَنْسَاب)
الأهدلية أرجوزة سَمَّاهَا الدرة الباهرة فِي التحدث بِشَيْء من نعم الله الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة ذكر فِيهَا نبذة من فَوَائِد التصنيف وَكَثِيرًا من مؤلفاته نظما ونثرا وَقد استوفى عدتهَا فِي كِتَابه نفحة المندل وَله أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله
(وَفِي كتب الْعُلُوم الطيف معنى ... أمضى فِي تطلبه حَياتِي)
(وأعمل مقلتي ويدي وقلبي ... وأضبطه على الْقَوْم الثِّقَات)
(لعَلي أَن أفوز بغفر ذَنبي ... وأظفر بِالَّذِي فِيهِ نجاتي)
(وَصلى الله رَبِّي كل حِين ... على أزكى الورى خير الهداة)
وَله من أَبْيَات
(إِن كنت تطلب فِي الدَّاريْنِ تَفْضِيلًا ... وتبتغي من مليك الْكَوْن تكميلا)
(داوم على الْعلم وَالْفِعْل الْجَمِيل تنَلْ ... ذكرا جميلا وتكميلا وتوصيلا)
(فاطلبه وادأب على تَحْصِيله أبدا ... وقم بتأليفه إِن حزت تأهيلا)
(وَأنْفق الْعُمر فِي تَحْقِيق حَاصله ... واعمر بِهِ الدَّهْر وتدوينا وتحصيلا)
وَقَوله
(وَكم لله من فضل علينا ... وإفضال يحِيل الْعقل عده)
(وَمَا زَالَت إياديه إِلَيْنَا ... تغيض هباتها وتطيب مجده)
(فنشكره وَلَا نحصي ثَنَاء ... عَلَيْهِ ونلزم الآناء حَمده)
وَكَانَت وَفَاته منتصف نَهَار الْأَحَد ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف(1/66)
بقرية المحط وَبهَا دفن والأهدل بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْمُهْملَة آخِره لَام كَمَا ضبط بعض ذَلِك اليافعي فِي شرح المحاسن ويكني بِأبي الأشبال وَمعنى الأهدل كَمَا قَالَ بعض العارفين الْأَدْنَى الْأَقْرَب يُقَال هدل الْغُصْن إِذا دنا وَقرب ولان بثمرته وَفِيه يماء إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّيْخ نفع الله تَعَالَى بِهِ من كَمَال التَّوَاضُع لله تَعَالَى ولعباده الناشىء عَن كَمَال مَعْرفَته وَقَالَ بَعضهم لقب بالأهدل لِأَنَّهُ على الْإِلَه دلّ انْتهى وَفِي كتاب نظام الْجَوَاهِر النقية فِي بَيَان اسناب الْعِصَابَة الأهدلية حِكَايَة عَن بعض أهل الْمعرفَة مَا لَفظه أصل هَذِه الْكَلِمَة أَعنِي الأهدل على الاله دلّ كلمتان فَصَارَت لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال كلمة وَاحِدَة كَأَنَّهُ يُقَال على الاله دلّ فاستثقلت الْكَلِمَة الثَّانِيَة وأدرج بَعْضهَا فِي بعض لخفة النُّطْق فَقيل على الأهدل كَمَا قيل فِي النّسَب إِلَى عبد شمس عبشمي وَإِلَى عبد الدَّار عبدري انْتهى بِحُرُوفِهِ وَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة فِي كِتَابه نفحة المندل سَمِعت من بعض فضلاء الْأَهْل أَنه يُقَال فِي سَبَب تلقيب الشَّيْخ بالأهدل أَنه فِي حَال صغره علقت أرجوحة بسدرة فهدلت أَي تدلت عَلَيْهِ أَغْصَانهَا لتقيه من حر الشَّمْس وَنَحْوه انْتهى وسيادة بني الأهدل مَشْهُورَة قَالَ ابْن الأشحر فِي رسَالَته الَّتِي ألفها فِي أَنْسَاب أَشْرَاف وَادي سردد أَقُول طَرِيق الانصاف القَوْل بشرف الأهدليين فقد تَوَاتَرَتْ بذلك المصنفات واشتهر ذكر نسبهم فِي كثير من مؤلفات وعَلى أَلْسِنَة جمَاعَة من الْمُسلمين يُؤمن تواطؤهم على الْكَذِب فقد ذكر بدر الدّين حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الأهدل فِي تحفة الزَّمن والشرجي فِي الطَّبَقَات وَصَاحب العقد الثمين وَصَاحب النفحة العنبرية فَقَالَ بعد أَن ذكر نسب الشريف عبد الرَّحْمَن بن سَالم بن عِيسَى بن أَحْمد بن بدر الدّين بن مُوسَى بن حُسَيْن بن هَارُون ابْن مُحَمَّد الْكَامِل ابْن أَحْمد بن جَعْفَر بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق الْمَشْهُور فِي سلسلة نسب الحسينيين وَمن وَلَده أَيْضا بَنو الأهدل يسكنون بالمراوعة مَشْهُورُونَ بِبَيْت التصوف وَالْفِقْه قيل وَأول من تظاهر مِنْهُم بالتصوف وأخفى اسْم الشّرف عَنهُ مُحَمَّد الْكَامِل ابْن تَقِيّ لأجل قبض الزَّكَاة فَإِن الْعَرَب إِذا سمعُوا بشريف منعُوهُ الزَّكَاة وَلَيْسَ لَهُم مُرُوءَة أُخْرَى وَكَانَ قد خرج من الْعرَاق وَلم أعرف صُورَة اتِّصَال أبي عبد الله مُحَمَّد الأهدل بالشريف أَحْمد بن سَالم انْتهى بِمَعْنَاهُ وَذكر الشرجي فِي الطَّبَقَات أَن سَبَب اخفاء شرفهم أَن جدهم كَانَ إِذا سُئِلَ عَن نسبه انتسب إِلَى الْفِقْه وَنَحْوه فِي تحفة الزَّمن وَأفَاد فِيهَا أَن مِنْهُم بني مطيرة بِضَم الْمِيم وَفتح الْمُهْملَة وَإِنَّمَا(1/67)
نبهت على ذَلِك لِأَن كثيرا من الأهدليين الَّذين لَا خبْرَة لَهُم يُنكرُونَ نسبهم إِلَى الأهدل وَمِمَّا يدل على شرفهم قَول الْوَلِيّ الشهير الْفَقِيه الْمُحدث الصُّوفِي بدر الدّين حُسَيْن بن الصّديق بن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الأهدل فِي بعض قصائده
(فَإِن غصني من أَغْصَان دوحتكم ... فَالله فِي رحمي فالرحم مَوْصُول)
والمراوعة بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْوَاو الْقرْيَة الْمَشْهُورَة على مرحلة قبلي بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل وَأول من توطنها مِنْهُم مُحَمَّد بن سُلَيْمَان فَإِنَّهُ قدم من الْعرَاق هُوَ وجد السَّادة آل باعلوي أَحْمد بن عِيسَى فِي حُدُود سنة أَرْبَعِينَ وثلثمائة فأقاما عِنْد يني عَمهمَا من النّسَب أَشْرَاف الحسنية الْبَلدة الَّتِي إِلَى الْيمن على قدم التصوف بوادي سردد بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وبدالين مهملتين الأولى مِنْهُمَا تضم وتفتح وَهُوَ مَشْهُور بِالْيمن ثمَّ بعد ذَلِك انْتقل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور إِلَى وَادي سِهَام وتوطن بالمراوعة وَذهب ابْن عَمه أَحْمد بن عِيسَى إِلَى حَضرمَوْت فاستوطنها وَحصل لكل مِنْهُمَا شهرة طنانة وذرية طيبَة وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب من أولادهما جمَاعَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الأديب أَبُو بكر بن أَحْمد بن عَلَاء الدّين بن مُحَمَّد بن عمر بن نَاصِر الدّين بن عَليّ البهرامبادي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن الْجَوْهَرِي الأديب الشَّاعِر المطبوع أحد المجيدين فِي صناعَة الشّعْر نَشأ بِدِمَشْق وَكَانَ أَبوهُ مَاتَ وَهُوَ صَغِير فتعاني الإشتغال بالعلوم وَقَرَأَ على مَشَايِخ عصره مِنْهُم الْحسن البوريني أَخذ عَنهُ الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا وَتردد إِلَى مصر كثير للتِّجَارَة وَأخذ عَن علمائها وَكتب كثيرا بِخَطِّهِ وَحفظ وروى وَكَانَ حصل مَالا كثيرا من مِيرَاث آل إِلَيْهِ فصدمه الزَّمَان فِيهِ حَتَّى أتْلفه وَكَانَ ينظم الشّعْر الفصيح وَجمع لَهُ ديوانا رَأَيْته وانتخبت مِنْهُ هَذَا الْقدر الَّذِي أوردته وَمن أحْسنه أبياته الْمَشْهُورَة وفيهَا التَّفْرِيع وَهِي
(وَمَا أم أفراخ تمزقن بالفلا ... بسطوة نسر كاسر بالمخالب)
(وَقد منعت من أَن تراهن واغتدت ... تنوح وتبكي من صروف النوائب)
(بأوجع مني عِنْد وَشك رحيلنا ... وحث المطايا فِي الْعلَا بالحبائب)
وَله من قصيدة عَارض بهَا قصيدة الْملك الأمجد بهْرَام شاه الأيوبي الَّتِي مطْلعهَا
(عهد الصِّبَا ومعاهد الأحباب ... درست كَمَا درست رسوم كتابي)
وأبياته هَذِه(1/68)
(أَمن النَّوَى أم فرقة الأحباب ... هطلت دموعك مثل هطل سَحَاب)
(وَلَقَد وقفت على الربوع مسائلاً ... يَوْمًا فَلم تسمح برد جَوَاب)
(عَن جيرةٍ كَانُوا بهَا فَأَجَابَنِي ... هام يناغي ناعقات غراب)
(سفها رَجَوْت بِأَن أرد ليالياً ... سلفت لنا أَيَّام عصر شَبَابِي)
(فأسلت دمع الْعين من آماقها ... فَجرى كودق الْعَارِض السكاب)
(وَذكرت أَيَّام الشَّبَاب وملعبي ... بَين القباب وَمجمع الأتراب)
(ومقامنا بالأجرعين وبالنقا ... مثوى الحبائب زَيْنَب ورباب)
(فَأجَاب نطق الْحَال عَنْهُم معرباً ... والعمر قد ولى بِحَثِّ ركاب)
(تبغي دنو الدَّار بعد بعادها ... هَيْهَات أَن ترتد بعد ذهَاب)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(خيالك فِي عَيْني يلوح وَكلما ... ذكرتك دمع الْعين يجْرِي على الخد)
(وَمَا كَانَ ظَنِّي بالتفرق بَيْننَا ... إِذا حكم الْمولى فَمَا حِيلَة العَبْد)
وَقَوله أَيْضا
(إِن الْغَرِيب إِذا تذكر أَهله ... فاضت مدامعه من الآماق)
(لعب الغرام بِقَلْبِه فغدا على ... الجدران يشكو كَثْرَة الأشواق)
وَقَوله
(يَا منزلا بفراديس الشآم سقى ... ربى مغانيك هطال يروّيها)
(فلي بمنزلك السَّامِي أَخُو ثِقَة ... فدته روحي من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)
وَذكره الخفاجي فِي كِتَابه فَقَالَ فِي حَقه شَاعِر عذب الْكَلِمَات حسن الذَّات والسمات عرائس أفكاره صباح وجوهري نفثاته صِحَاح ورد إِلَى مصر مرتدياً حلل الشَّبَاب المطرزة بطراز املحاسن والآداب وَقد سلم لدهره فِي التِّجَارَة نقد عمره
(إِذا كَانَ رَأس المَال عمرك فاحترس ... عَلَيْهِ من الْإِنْفَاق فِي غير وَاجِب)
وَأنْشد لَهُ فِي رَقِيب اسْمه عَمْرو ومليح يهواه اسْمه دَاوُد قَوْله
(أفدي غزالاً لَهُ خَال بوجنته ... مَعَ عَارض شبه وَاو الْعَطف مَمْدُود)
(كَأَنَّمَا الْخَال فَوق الخد يَحْرُسهُ ... حذار سَرقَة عمروٍ وأو دَاوُد)
وَمِمَّا قلته فِي معنى مَا قَالَه
(وحاسد يرسم فِي صحفه ... فضلى ويخفي الذّكر إِذْ يطرا)
(فاسمى لَدَيْهِ وَاو عَمْرو لذا ... تكْتب فِي الْخط وَلَا تقْرَأ)(1/69)
وَأَصله قَول أبي نواس
(أَيهَا الْمُدَّعِي سليما سفاهاً ... لست مِنْهَا وَلَا قلامة ظفر)
(إِنَّمَا أَنْت من سليم كواو ... ألحقت فِي الهجاء ظلما بِعَمْرو)
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من أحاسن زَمَانه وَكَانَت وِلَادَته فِي غرَّة شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي بعد الثَّلَاثِينَ وَألف بِقَلِيل فِيمَا أَظن وَبَنُو الْجَوْهَرِي هَؤُلَاءِ بَيت كَبِير بِدِمَشْق خرج مِنْهُ خلق من النجباء وَكَانَ جدهم الْأَعْلَى على فِي بداية أمره صدر عِنْد أحد مُلُوك الْعَجم والصدر عبارَة عَن قَاضِي الْعَسْكَر وَكَانَ جليل الشَّأْن عليّ الْقدر ثمَّ إِنَّه رمى المنصب وَانْقطع إِلَى الله تَعَالَى مشتغلاً بِالْعبَادَة فِي زَاوِيَة بهْرَام آباد قَرْيَة من قرى أصفهان إِلَى أَن توفّي وَأول من ورد مِنْهُم إِلَى دمشق مُحَمَّد نَاصِر الدّين ابْن عَليّ الْمَذْكُور وَكَانَ قدومه إِلَيْهَا فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ صحب مَعَه جَوَاهِر ومعادن فَمن ثمَّ اشْتهر الْبَيْت كُله بِبَيْت الْجَوْهَرِي وَفِي دمشق محلّة بِالْقربِ من البيمارستان النوري تسمى محلّة حجر الذَّهَب سكها وَعمر بهَا بُيُوتًا كَثِيرَة وتناسلت ذُريَّته إِلَى عَلَاء الدّين جدّ أبي بكر فَنَشَأَ عَلَاء الدّين هَذَا فِي نعْمَة طائلة وتزوّج بابنة الْمولى بدر الدّين حسن بن حسام التبريزي وَيُقَال لَهُ الْجَوْهَرِي أَيْضا الْمَشْهُور فِي دمشق وَهُوَ الَّذِي صنع القمارى الثَّلَاث العظيمات الَّتِي فَوق محراب الْحَنَفِيَّة بمقصورة الْجَامِع الْأمَوِي وَلما دخل السُّلْطَان سليم إِلَى الشَّام استقبله الْجَوْهَرِي الْمَذْكُور وَكَانَت لَهُ عِنْده الرّفْعَة التَّامَّة وللحسن الْمَذْكُور بيُوت بِدِمَشْق وعمارات لَطِيفَة وَمَسْجِد بِالْقربِ من البيمارستان النوري عَلَيْهِ أوقاف دارة وجدت فِي بعض المجاميع أَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْمولى عبد الرَّحْمَن الجامي ورد دمشق حَاجا فأنزله الْحسن الْمَذْكُور فِي بَيت وأكرمه وَأحمد وَالِد أبي بكر هَذَا من بنت الْحسن الْمَذْكُور وَكَانَ صَاحب كرامات ومكاشفات وأحوال باهرة وَكَانَ موسوماً بِعلم الكيميا فِيمَا يُقَال رَحمَه الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَبُو بكر بن أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الله بن شيخ بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس صَاحب دولة آباد أحد أجواد الدُّنْيَا الْوَرع العابد الناسك اليمني التريمي ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره من كتب ورسائل وَصَحب أَبَاهُ وحذا حذوه ثمَّ سَافر إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة وَأقَام بهَا فِي أَنْضَرُ عَيْش وَاجْتمعَ بأعظم سلاطين تِلْكَ الديار فِي ذَلِك الزَّمَان وَهُوَ الْمُسَمّى بخرم شاهجان فأنعم عَلَيْهِ وَقرر لَهُ(1/70)
مُؤْنَته كل يَوْم من ملبوس ومطعوم ترادفت عَلَيْهِ الفتوحات الظَّاهِرَة والباطنة ثمَّ قطن بِمَدِينَة دولة آباد وَصَارَ بهَا ملْجأ للوافدين وَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وقبره هُنَاكَ مَعْرُوف يزار
السَّيِّد أَبُو بكر بن أَحْمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله ابْن عَليّ بن الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن عَليّ بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه مُحَمَّد الْمُقدم ابْن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن علوي بن مُحَمَّد بن علوي بن عبيد الله بالتصغر ابْن أَحْمد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ العريضي ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب باعلوي الشلي السَّيِّد الْأَجَل الشَّافِعِي الْمَذْهَب قَالَ وَلَده مُحَمَّد فِي مشرعه الروى سَيِّدي الْوَالِد حاوي الْفَضَائِل الخالد مِنْهَا والتالد المتدرع جِلْبَاب الْهدى والتقى المتورع الَّذِي حل مَحل النَّجْم وارتقى إِلَى آخر مَا قَالَ وَبسط الْمقَال ثمَّ قَالَ ولد بتريم فِي سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن على الْمعلم الآديب عمر بن عبد الله الْخَطِيب ورباه وَالِده وأدبه معلمه بِأَحْسَن تربية وَمَات أَبوهُ وهودون الأحتلام فَقَامَ بتربيته شَيْخه شيخ الْإِسْلَام عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين ثمَّ اشْتغل بتحصيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فَقَرَأَ الْفِقْه على شَيْخه الْمَذْكُور وَقَرَأَ عَلَيْهِ فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير والتصوف والعربية وَأخذ ذَلِك عَن غَيره مِنْهُم السَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عقيل السقاف والعارف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو بكر بن عَليّ الْمعلم وَأدْركَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن عقيل مديحج وَصَحب الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس ولازمه فِي دروسه وَألبسهُ الْخِرْقَة كل هَؤُلَاءِ وأذنوا لَهُ فِي ألباسها ثمَّ سَافر إِلَى الواديين وَادي دوعن ووادي عمد الْمَشْهُورين وَأخذ بهما عَن جمَاعَة من العارفين ثمَّ أشيع فِي تريم بِأَنَّهُ يُرِيد الْحَج فِي ذَلِك الْعَام وكتبت لَهُ والدته وَبَعض مشايخه يعتبونه فِي عدم استشارتهم فَعلم أَنه نُودي حَيْثُ لم يخْطر بِهِ الْحَج فحج على قدم التَّجْرِيد وزار جده سيد الْمُرْسلين وجاور بِالْمَدِينَةِ أَربع سِنِين وَأخذ بالحرمين عَن جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَأحمد بن عَلان وَالشَّيْخ أَحْمد الْخَطِيب وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد المنوفي وَالشَّيْخ أَبُو الْفَتْح بن حجر وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن عبد الْملك العصامي ودأب فِي تَحْصِيل الْفَضَائِل إِلَى أَن أحَاط علما بالمهم من الْفُرُوع وَالْأُصُول ثمَّ ساح فوصل إِلَى بندر عدن وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ أَحْمد بن عمر العيدروس ولازم صُحْبَة(1/71)
كثيرا ثمَّ نوى الرحلة إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة فَلَمَّا اسْتَشَارَ شَيْخه صرفه عَن هَذِه النِّيَّة وَأخذ لَهُ من نَائِب الْيمن مَرَاسِيل إِلَى وَإِلَى مَدِينَة تريم فِي أُمُور تتَعَلَّق بخويصة نَفسه فتمت لَهُ وَلما وصل إِلَى بَلَده وَذَلِكَ سنة أَربع عشرَة وَألف تزوج ولازم الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَكثر من مائَة كتاب من الْكتب الْمَشْهُورَة وَهِي فِي مُعْجَمه مَذْكُورَة مِنْهَا الْأُمَّهَات السِّت ومحاسن أسفار التصوف وَلما مَاتَ شَيْخه أَبُو بكر على الْمعلم أمره جمَاعَة من الْمَشَايِخ بِالْجُلُوسِ للدرس فِي مَحَله فِي مَسْجِد آل با علوي الدَّرْس الْعَام بعد الْعشَاء فتوقف لكَون هَذَا الدَّرْس يحضرهُ جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء وكثيرون من الأدباء والفضلاء إِلَى أَن رأى الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الشَّيْخ الْوَلِيّ عبد الله با علوي يَأْمُرهُ بِالْجُلُوسِ فانشرح صَدره وَلما درس حَضَره الإجلاء وَكَانَ من أحسن أهل زَمَانه قِرَاءَة وبيانا وَفتح الله تَعَالَى مَا استغلق على كثير ولازمه جمَاعَة فِي منزله لقِرَاءَة بعض الْفُنُون وَكَانَ فِي الْغَالِب من السنين يخْتم إحْيَاء عُلُوم الدّين وَأخذ عَنهُ خلق ولبسوا مِنْهُ الْخِرْقَة وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ السَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن عقيل بن عبد الله بن عقيل مديحج وَابْن عَمه السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله بن عقيل وَالشَّيْخ جَعْفَر الصَّادِق ابْن زين الدّين العيدروس قبل رحلته إِلَى الْهِنْد وَالسَّيِّد عبد الله بن حُسَيْن بافقيه صَاحب كنور قبل سَفَره من تريم وَبَينه وَبَين هَذَا الْأَخيرينِ مكاتبات وَكَانَ لَهُ مَعَ أدباء عصره مجَالِس وتنزهات وَيُقَال أَن بعض أَصْحَابه جمعهَا فِي ديوَان وَكَانَ فائقا فِي الظّرْف وَالْملح حَافِظًا للسيرة النَّبَوِيَّة وتراجم السّلف وَالصَّالِحِينَ وتواريخ الْمُتَقَدِّمين متقنا لما يعرفهُ ثبتا فِيمَا يَنْقُلهُ لَهُ يَد طولى فِي علم الْأَدَب وصنف عدَّة كتب ورسائل ومختصرات مِنْهَا كتاب فِي فضل رَمَضَان وَالصِّيَام وَكَانَ يقْرَأ مِنْهُ كل لَيْلَة من ليَالِي رَمَضَان بعد التَّرَاوِيح وَاخْتصرَ كتاب الْغرَر للسَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ خرد وَله تعليقات على الْأَحْيَاء والعوارف ورسائل ابْن عباد وَله فِي أَلْفَاظ غَرِيبَة فِي اللُّغَة على تَرْتِيب نِهَايَة ابْن الْأَثِير وَله مَجْمُوع جمع فِيهِ مقروآته ومسموعاته ومشايخه وتاريخ وفيات الْأَعْيَان من أهل الزَّمَان وَشرع فِي جمع تَارِيخ عَام لأهل عصره وَمَا جريات دهره وَلكنه لم يتم وَله نظم حسن لكنه قَلِيل بل قيل أَنه بله قبل مَوته وَكَانَ كثير المطالعة للكتب لَهُ جلد عَظِيم على قرَاءَتهَا فَرُبمَا استوعب المجلد الضخم فِي يَوْم أَو لَيْلَة وَيُقَال أَنه قَرَأَ الْأَحْيَاء فِي عشرَة أَيَّام وَهَذَا أَمر عَجِيب بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل هَذَا الزَّمن وَأَنه كَانَ حكى(1/72)
عَن بعض الْحفاظ مَا هُوَ أعظم من هَذَا فقد قَرَأَ مجد الدّين الفيروز أبادي صَحِيح مُسلم فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَذكر الْقُسْطَلَانِيّ أَنه قَرَأَ البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مجَالِس وَبَعض مجْلِس وَذكر الذَّهَبِيّ أَن الْحَافِظ أَبَا بكر الْخَطِيب قَرَأَ البُخَارِيّ فِي ثَلَاثَة مجَالِس قَالَ وَهَذَا شَيْء لَا أعلم أحدا فِي زَمَاننَا يستطيعه وَالَّذِي فِي تَرْجَمته أَنه قَرَأَهُ فِي خَمْسَة أَيَّام وَأَظنهُ الصَّوَاب انْتهى وَذكر السخاروي أَن شَيْخه الْحَافِظ ابْن حجر قَرَأَ سنَن ابْن مَاجَه فِي أَرْبَعَة مجَالِس وصحيح مُسلم فِي أَرْبَعَة مجَالِس وَكتاب النساي الْكَبِير فِي عشرَة مجَالِس كل مجْلِس نَحْو أَربع سَاعَات وَمجمع الطَّبَرَانِيّ الصَّغِير فِي مجْلِس وَاحِد بَين الظّهْر وَالْعصر وَهَذَا أسْرع مَا وَقع لَهُ وَفِي تَارِيخ الْخَطِيب أَن إِسْمَاعِيل ابْن أَحْمد النَّيْسَابُورِي قَرَأَ البُخَارِيّ فِي ثَلَاثَة مجَالِس يبتدي من الْمغرب وَيقطع القرأءة وَقت الْفجْر وَمن الضُّحَى إِلَى الْمغرب وَالثَّالِث من الْمغرب إِلَى الْفجْر وَحكى أَن حَافظ الْمغرب العبدوسي قَرَأَ البُخَارِيّ بِلَفْظِهِ أَيَّام الإستسقاء فِي يَوْم وَاحِد قَالَ وَكَانَ الْوَالِد يجمع جمَاعَة يسبحون ألف تَسْبِيحَة يهديها لبَعض الْأَمْوَات ويهللون سبعين ألف تَهْلِيلَة يهديها لبَعْضهِم وَكَانَ أهل تريم يعتنون بِهَذَا ويوصي بَعضهم بِمَال لذَلِك وَكَانَ هُوَ المتصدي لذَلِك والقائم بِهِ وَهَذَا الْمَذْكُور تداوله الصُّوفِيَّة قَدِيما وحديثا وَأوصى بَعضهم بالمحافظة عَلَيْهِ وَذكروا الله تَعَالَى يعْتق بِهِ رَقَبَة من أهْدى لَهُ وَأَنه ورد فِي الحَدِيث وَذكر الإِمَام الرَّافِعِيّ أَن شَابًّا كَانَ من أهل الْكَشْف مَاتَت أمه فَبكى وَصَاح فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ أَن أُمِّي ذَهَبُوا بهَا إِلَى النَّار وَكَانَ بعض الإخوان حَاضرا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قد هللت سبعين ألف تَهْلِيلَة وَإِنِّي أشهدك إِنِّي قد أَهْدَيْتهَا الْأُم هَذَا الشَّاب فَقَالَ أخرجُوا أُمِّي من النَّار وأدخلوها الْجنَّة قَالَ الْمهْدي الْمَذْكُور فَحصل لي صدق الْخَبَر وَصدق كشف الشَّاب وَلَكِن قَالَ ابْن حجر أَن الْخَبَر الْمَذْكُور وَهُوَ من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سبعين ألفا فقد اشْترى نَفسه من النَّار بَاطِل مَوْضُوع قَالَ الْحَافِظ النَّجْم الغيطي لَكِن يَنْبَغِي للشَّخْص أَن يفعل ذَلِك اقْتِدَاء بالسادة الصُّوفِيَّة وامتثالا لأقوال من أوصى بِهِ وتبركا بأفعالهم وَقد ذكره الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عراق فِي بعض رسائله قَالَ وَكَانَ شَيْخه يَأْمر بِهِ وَإِن بعض إخوانه يهلل السّبْعين ألف مَا بَين الْفجْر وطلوع الشَّمْس قَالَ وَهَذِه كَرَامَة من الله تَعَالَى وَأما التَّسْبِيح فَلهُ أصل فقد أخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط والخرائطي عَن ابْن عَبَّاس أَنه
قَالَ من قَالَ إِذا أصبح سُبْحَانَ الله(1/73)
وَبِحَمْدِهِ ألف مرّة فقد اشْترى نَفسه من الله وَكَانَ آخر يَوْمه عَتيق الله قَالَ النَّجْم الغيطي وَهَذِه فَائِدَة عَظِيمَة فَيَنْبَغِي أَن يحافظ عَلَيْهَا قَالَ وَكَانَ الْوَالِد لَهُ اعتناء تَامّ بِالذكر لَا سِيمَا راءة الْقُرْآن وَكَانَ يتهجد وَيُصلي الْوتر مَعَ مقدمته كل لَيْلَة ثَلَاث عشرَة رَكْعَة وَكَانَ يحث أَصْحَابه على التَّهَجُّد وَكَانَ يَقُول تعود الْقيام آخر اللَّيْل وَلَو أَنَّك تلعب وَكَانَ يعسر عَلَيْهِ الصَّوْم فَلَا يَصُوم إِلَّا رَمَضَان وَرُبمَا صَامَ سِتا من شَوَّال قَالَ بعض الْعلمَاء وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا لحدة ذهنه فَكَانَ لَا يُطيق الصَّوْم وَكَانَ يجتزي باليسير من الْغذَاء وَمن الملبس وَمن الملاذ الدُّنْيَوِيَّة كثير التقشف طارحاً للتكلف كثير الِاحْتِمَال وَكَانَ يُؤثر الْعُزْلَة على الِاجْتِمَاع وَكَانَ كثير الشَّفَقَة على أَصْحَابه كثير الاعتناء بأقاربه مبالغاً فِي تَعْظِيم الْعلمَاء والأولياء وَكَانَ يكره الْمَدْح فِي المراسلات والمكاتبات وَكَانَ لَا يحب إِظْهَار الكرامات ويتأذى من خرق الْعَادَات وَكَانَ إِذا دَعَا لأحد بِشَيْء اسْتَجَابَ الله دعاءه وَإِذا توسل بِهِ أحد مِمَّن يَعْتَقِدهُ إِلَى الله تَعَالَى حصل لَهُ مُرَاده وَمَا عَادَاهُ أحد إِلَّا رَجَعَ وَاعْتذر إِلَيْهِ وَمَا مكر بِهِ أحد إِلَّا رَجَعَ مكره عَلَيْهِ قَالَ وَلَده وَمِمَّا وَقع لي مَعَه أَنِّي كنت أرى أَنه يطلع على مَا يصدر مني حَال غيبتي عَنهُ فَإِذا اشتغلت بِطَاعَة قابلني بِوَجْه مسرور وَإِذا اشتغلت بلعب قابلني بضد الْمَذْكُور وَلما شاورته فِي السّفر إِلَى الْهِنْد قَالَ أرى أَن الْمدَّة قرب انقضاؤها وَكنت أود أَنَّك تحضر وفاتي فَقلت أَتَخَلَّف عَن السّفر فَقَالَ سَافر فَأَنت فِي وَدِيعَة الله تَعَالَى وَمَا أَرَادَهُ سَيكون وَكَانَ الْأَمر كَمَا ذكر فَكَانَ انْتِقَاله لخمس بَقينَ من صفر سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَقبض وَهُوَ جَالس محتب بالحبوة فِي دهليز ذاره الَّتِي بِالْقربِ من مَسْجِد بني علوي من غير مرض ظَاهر بل كَانَ يشتكي صَدره فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه مِمَّن لَهُ اعتناء بالطب دواك كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ هَذَا دَاء عضال مشْعر بالارتحال وانتقل قبل الْعَصْر وَشَكوا فِي مَوته فبيتوه فِي دَاره وَبَات النَّاس يقرؤن عَلَيْهِ وصلوا صبح ثَانِي يَوْم فِي الْجَبانَة وَدفن بمقبرة زنبل فِي الْقَبْر الملاصق لوالده رَحمَه الله تَعَالَى وَآل باعلوي منسوبون إِلَى علوي وَهَذِه النِّسْبَة وَإِن لم تكن من وضع الْعَرَبيَّة لَكِنَّهَا مَعْرُوفَة لأهل الديار الحضرموتية فَإِنَّهُم يلزمون الكنية الْألف بِكُل حَال على لُغَة الْقصر فَيَقُولُونَ لبني علوي باعلوي ولبني حسن باحسن ولبني حُسَيْن باحسين وعلوي هُوَ ابْن عبيد الله بن أَحْمد بن عِيسَى فَإِنَّهُ جدهم الْأَكْبَر الْجَامِع لنسبهم ونسبهم مجمع عَلَيْهِ أهل التَّحْقِيق وَقد اعتنى ببيانه جمع كثير من الْعلمَاء(1/74)
وَذكر بَعضهم أَن السَّادة بني علوي لما اسْتَقر وابحضرموت أَرَادَ بعض أَئِمَّة ذَلِك الزَّمَان أَن يُؤَكد تِلْكَ النِّسْبَة المحمدية فَطلب مِنْهُم تَصْحِيح نسبهم بِحجَّة شَرْعِيَّة فسافر الإِمَام الْحَافِظ الْمُجْتَهد أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن جَدِيد إِلَى الْعرَاق وَأثبت نسبهم وَأشْهد على ذَلِك نَحْو مائَة عدل مِمَّن يُرِيد الْحَج ثمَّ أثبت ذَلِك بِمَكَّة وَأشْهد على ذَلِك جَمِيع من حج من أهل حَضرمَوْت فَقدم هَؤُلَاءِ الشُّهُود فِي يَوْم مشهود وشهدوا بِثُبُوت نسبهم فَعِنْدَ ذَلِك انقشعت سحب الأوهام وتبلجت غرَّة الشّرف وأميط عَنْهَا عَنْهَا اللثام وَلَقَد أحسن من قَالَ
(وجحود من جحد الصَّباح إِذا بدا ... من بعد مَا انتشرت لَهُ الأضواء)
(مَا ذَاك أَن الشَّمْس لَيْسَ بطالع ... بل أَن عَنَّا أنْكرت عمياء)
وجديد الْمَذْكُور بِفَتْح الْجِيم ودالين مهملتين بَينهمَا تحتية أَخُو علوي الْمَذْكُور وَله أَخ آخر شَقِيق اسْمه بصرى كَانَا إمامين عَالمين أفرد ترجمتهما بالتأليف وَلَهُمَا ذُرِّيَّة اشْتهر مِنْهُم جمَاعَة بالعلوم وَتُوفِّي الثَّلَاثَة بقرية سمل بِضَم الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَهِي على نَحْو سِتَّة أَمْيَال من مَدِينَة تريم سميت باسم الَّذِي اختطها وَلَا يعرف الْآن إِلَّا قبر علوي وَقيل إِن جَدِيدا انْتقل بِبَيْت جُبَير وَكَانَت رياسة الْعلم وَالْفضل لبني بصرى ثمَّ انقرضوا فِي أثْنَاء الْقرن السَّادِس وانتقلت الرياسة لبني جَدِيد بن عبد الله ثمَّ انقرضوا على رَأس السَّادِسَة واختص الذّكر المخلد ببني علوي فطبقوا الأَرْض وَعم نفعهم الطول وَالْعرض ذكرهم بَاقٍ على صفحات الزَّمَان مَعْلُوم عِنْد القاصي والدان وتوطنهم حَضرمَوْت إِن الله تَعَالَى لما أَرَادَ بِأَهْلِهَا خير أهْدى إِلَيْهِم السَّيِّد الْمَذْكُور فاستقر بهَا هُوَ وَأَهله ومواليه قاطبة وتدبرها وَكَانَ سَبَب هِجْرَة جدهم أَحْمد بن عِيسَى من الْبَصْرَة وَمَا والاها من الْبِلَاد مَا حصل بهَا من الْفِتَن والأهوال حَتَّى وَجَبت الْهِجْرَة مِنْهَا فَهَاجَرَ مِنْهَا سنة سبع عشرَة وثلثمائة وسافر مَعَه وَلَده عبد الله لصغره وتخلف وَلَده مُحَمَّد على أَمْوَاله وَاسْتمرّ مُحَمَّد بِالْبَصْرَةِ إِلَى أَن توفّي بهَا وارتحل مَعَ الإِمَام أَحْمد من بني عَمه اثْنَان أَحدهمَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبيد بن عِيسَى ابْن علوي بن مُحَمَّد حمحام بن عون بن مُوسَى الكاظم جد السَّادة بني الأهدل وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِم وَالثَّانِي جد السَّادة بني قديم بِضَم الْقَاف مُصَغرًا وَسَيَأْتِي ذكر جمَاعَة مِنْهُم وتوطن جد السَّادة المهادلة السَّيِّد الْكَبِير جد بني قديم بوادي سردد بِضَم الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَضم الدَّال الْمُهْملَة المكررة وَهَذَانِ الواديان مشهوران بِالْيمن خرج(1/75)
مِنْهَا كَثِيرُونَ اشتهروا بِالْفَضْلِ وَالْولَايَة وَقد ألف الشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد بن أبي بكر الأشحر رِسَالَة سَمَّاهَا در السمطين فِيمَن بوادي سردد من ذُرِّيَّة السبطين فَقَالَ جملَة آيَات ثمَّ قدم يَعْنِي أَحْمد بن عِيسَى الْمَدِينَة وَأقَام بهَا ذَلِك الْعَام وَفِي هَذِه السّنة دخل أَبُو طَاهِر بن أبي سعيد القرمطي مَكَّة بعسكره يَوْم التَّرويَة وَالنَّاس حول الْكَعْبَة مَا بَين مصل وطائف ومشاهد فَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام بفرسه وركض بِسَيْفِهِ وَهُوَ سَكرَان وَوضع هُوَ وجماعته السَّيْف وَقتلُوا فِي المطاف ألفا وَسَبْعمائة ورموا بهم فِي بِئْر زَمْزَم وَقتلُوا خَارج الْمَسْجِد أَكثر من ثَلَاثِينَ ألفا وملؤا بهم الْآبَار والحفر ونهبوا الديار وَسبوا الصغار وَأخذُوا خزانَة الْكَعْبَة وَمَا فِيهَا من الْقَنَادِيل وَالْكِسْوَة وَالْبَاب وَقسم ذَلِك بَين أَصْحَابه وطلع على الْبَاب وَأنْشد
(أَنا بِاللَّه وَبِاللَّهِ أَنا ... يخلق الْخلق وأفنيهم أَنا)
وَلم يسلم إِلَّا من اختفى فِي الْجبَال وَلم يقف بِعَرَفَة ذَلِك الْعَام إِلَّا قَلِيل وَأمر بقلع الْمِيزَاب فطلع الْكَعْبَة رجل فأصيب بِسَهْم من أبي قبيس فَخر مَيتا وطلع آخر فَسقط مَيتا فهابوا فَقَالَ أَبُو طَاهِر اتركوه حَتَّى يَأْتِي صَاحبه يَعْنِي الْمهْدي الَّذِي يزْعم أَنه مِنْهُم وَأَرَادَ أَخذ الْمقَام فَلم يظفر بِهِ لِأَن سدنته غيبوه ف يبعض الشعاب وَصَارَ بزندقته يَقُول
(فَلَو كَانَ هَذَا الْبَيْت لله رَبنَا ... لصب علينا من النَّار من فَوْقنَا صبا)
(لانا حجَجنَا حجَّة جَاهِلِيَّة ... مُجَللَة لم تبْق شرقاً وَلَا غربا)
(وَإِنَّا تركنَا بَين زَمْزَم والصفا ... جنائز لَا تبغي سوى رَبهَا رَبًّا)
وَيُقَال إِن عسكره سَبْعمِائة نفس فَلم يطق أحد رده خذلاناً من الله تَعَالَى وَحمل الْحجر الْأسود مَعَه يُرِيد أَن يحول الْحَج إِلَى بَيت بناه فِي هجر وخطب لعبد الله الْمهْدي أول الْخُلَفَاء العبيديين الفاطميين وَكَانَ أول ظُهُوره وَكتب بذلك إِلَى عبد الله فَكتب جَوَابه أَن أعجب الْعجب إرسالك بكتبك إِلَيْنَا ممتناً بِمَا ارتكبت فِي بلد الله الْأمين من انتهاك حُرْمَة بَيت الله الْحَرَام الَّذِي لم يزل مُحْتَرما فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وسفكت فِيهَا دِمَاء الْمُسلمين وفتكت بالحجاج والمعتمرين وتجرأت على بَيت الله تَعَالَى وقلعت الْجَرّ الْأسود الَّذِي هُوَ يَمِين الله فِي أرضه يُصَافح بِهِ عباده وَحَمَلته إِلَى مَنْزِلك ورجوت أَن أشكرك على ذَلِك فلعنك الله ثمَّ لعنك الله وَالسَّلَام على من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده وَقدم فِي يَوْمه مَا ينجو بِهِ فِي غده فَلَمَّا وصل إِلَى القرمطي انحرف عَن طَاعَته وَبعد عود القرمطي إِلَى هجر رَمَاه الله فِي جسده بداء حَتَّى(1/76)
تقطعت أوصاله وتناثر الدُّود من لَحْمه وَطَالَ عَذَابه وَاسْتمرّ الْحجر عِنْدهم نَحْو عشْرين سنة طَمَعا أَن يتَحَوَّل الْحَج إِلَى بلدهم وبذل لَهُم يحكم التركي مُدبر الْخلَافَة خمسين ألف دِينَار فِي ردّ الْحجر فَأَبَوا وَكَذَلِكَ أرسل الْمَنْصُور بن الْقَائِم بن الْمهْدي العبيدي إِلَى أَحْمد بن سعيد أخي طَاهِر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار ليَرُدهُ فَلم يفعل وَلما أَيِست القرامطة من تَحْويل الْحَج إِلَى بلدهم ردُّوهُ وَحَمَلُوهُ على جمل هزيل فسمن وَلما ذَهَبُوا بِهِ إِلَى بلدهم مَاتَ تَحْتَهُ أَرْبَعُونَ جملا وَقَالُوا أخذناه بِأَمْر ورددناه بِأَمْر وَقد طَال الْكَلَام وَهُوَ وَإِن كَانَ خَارِجا عَن الْمَقْصُود فَفِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر واتعاظ بِحَال من مضى وغبر ولنعد لما نَحن بصدده وَفِي سنة ثَمَانِي عشرَة وثلثمائة حج الإِمَام أَحْمد بن عِيسَى وَمن مَعَه من بني عَمه ومواليه وَلم يَتَيَسَّر لَهُم التوطن بِأحد الْحَرَمَيْنِ وسألوا الله أَن يخْتَار لَهُم مَا يرضاه من الْبِلَاد ثمَّ رَأَوْا أَن إقليم الْيمن سَالم من المحن والفتن فِي ذَلِك الزَّمن مَعَ مَا ورد فِيهِ من الْأَحَادِيث كَقَوْلِه
عَلَيْكُم بِالْيمن إِذا هَاجَتْ الْفِتَن فَإِن قومه رَجَاء وأرضه مباركة وللعبادة فِيهِ أجر كَبِير
وَأول مَدِينَة أَقَامَ بهَا مَدِينَة الهجرين وَهِي من مَدِينَة تريم على نَحْو مرحلَتَيْنِ ثمَّ سكن قارة بني جشير بِضَم الْجِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ثمَّ يَاء تحتية ثمَّ رَاء تَصْغِير جشر بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الرجل الْغَرِيب وَلم تطب لَهُ فَرَحل عَنْهَا الى الحسيسة بِضَم الْحَاء وَفتح السينين الْمُهْمَلَتَيْنِ بَينهمَا تحتية مُشَدّدَة مَكْسُورَة وَهِي قَرْيَة على نصف مرحلة من تريم واستوطنها وَأقَام بنصرة السّنة حَتَّى استقامت بعد الاضمحلال وطلعت شمسها بعد الزَّوَال وَأظْهر أُمَامَة الامام الشَّافِعِي بنشر مذْهبه وأقعد النّسَب الْهَاشِمِي فِي أَعلَى رتبه وَتَابَ على يَدَيْهِ خلق كثير وَرجع عَن الْبِدْعَة إِلَى السّنة جمع غفير وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى مَاتَ بالحسيسة ثمَّ خربَتْ الحسيسة واستوطن أَوْلَاده سمل واشتروا بهَا أَمْوَالًا ثمَّ بعد بُرْهَة من الزَّمَان ارتحلوا عَنْهَا وَسَكنُوا بَيت جُبَير بجيم مَضْمُومَة فموحدة مَفْتُوحَة فمهملة تَصْغِير جبر ثمَّ توطنوا مَدِينَة تريم وَكَانَ جلوسهم بهَا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَأول من سكنها مِنْهُم السَّيِّد عَليّ بن علوي الشهير بخالع قسم وَأَخُوهُ سَالم وَمن فِي طبقتهما من بني بصرى وجديد وَهِي بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة فراء فتحتية وَآخِرهَا مِيم بِوَزْن عَظِيم سميت باسم الْملك الَّذِي اختطها وَهُوَ تريم بن حَضرمَوْت وَقيل إِن الَّذِي اختطها الْكَامِل وَمن أسمائها الْغناء بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة سميت بذلك لِكَثْرَة أشجارها وأنهارها وَتسَمى مَدِينَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ لِأَن عَامله زِيَاد بن لبيد الْأنْصَارِيّ لما عَاد لبيعة(1/77)
الصّديق أول من أَجَابَهُ أهل تريم وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ أحد مِنْهُم وَبعث للصديق بذلك فَدَعَا الله بِثَلَاث دعوات أَن تكون معمورة وَأَن يُبَارك فِي مَائِهَا وَأَن يكثر فِيهَا الصالحون وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر باعباد يَقُول إِن الصّديق يشفع لأهل تريم خَاصَّة وَكَانَ إِذا ذكرت عِنْده يَقُول سعد أَهلهَا وَأعظم خَصَائِص هَذِه الْمَدِينَة الْعَظِيمَة هِيَ الذُّرِّيَّة السّنيَّة الْكَرِيمَة فَلَقَد شرفت بهم وسمت واتسمت من الْفَضَائِل بِمَا اتسمت فَهِيَ بهم كالعروس تتهادى بَين أقمار وشموس وَمن ثمَّ قَالَ بعض الصُّوفِيَّة أَنهم المعنيون بقوله
أَنِّي لأجد نفس الرَّحْمَن من قبل الْيمن فَأكْرم بهَا من بَلْدَة زكتْ بأطيب النِّعَال وشرفت بِأَهْل الْكَمَال مَا مدحت الديار إِلَّا لكَونهَا محلا للأخيار وَقد تكلم على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا مُحَمَّد الشلي بن أبي بكر صَاحب التَّرْجَمَة فِي كِتَابه المشرع الْمَرْوِيّ وَبَين أَخْبَارهَا كل الْبَيَان وَأحسن كل الْإِحْسَان فليراجعه من أَرَادَ الْوُقُوف على ذَلِك
أَبُو بكر بن أَحْمد قعُود النَّسَفِيّ الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ الرِّفَاعِي الطَّرِيقَة المنجم الْمَشْهُور وَصَاحب الأوفاق والأعمال العجيبة كَانَ من أكَابِر عُلَمَاء الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَله فِي علم الْحَرْف والجفر والأسماء الملكة التَّامَّة وَكَانَ مَشْهُور الْبركَة بِمصْر فِي التمائم والعزائم وأشباهها وَله معرفَة تَامَّة فِي علم الأوفاق وَكَانَت الوزراء والأمراء بِمصْر يأْتونَ إِلَيْهِ للتبرك بِهِ وجلالته أشهر من أَن تذكر ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ على وَالِده وعَلى الشَّمْس الرَّمْلِيّ والنور الزيَادي وعَلى بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَمن فِي طبقتهم وجاور بالحرمين ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَأخذ بهَا عُلُوم الطَّرِيق عَن السَّيِّد صبغة الله السندي وعَلى تِلْمِيذه أَحْمد الشناوي الخامي وَأَجَازَهُ كِتَابَة ولفظاً وَكَانَ بَينه وَبَين السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن الشَّيْخ أبي بكر بن سَالم صَاحب عينات محبَّة أكيدة بِحَيْثُ لَا يُفَارق كل مِنْهُمَا الآخر فِي غَالب الْأَوْقَات وَأخذ كل مِنْهُمَا عَن الآخر ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر وَأقَام بهَا وَقدم إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَأخذ بهَا طَرِيق الرفاعية عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد العلمي وَدخل دمشق مَرَّات وسافر إِلَى قسطنطينية وَكَانَ آخر دخلاته إِلَى دمشق فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَكَانَ الْوَزير مُحَمَّد باشا سبط رستم باشا الْوَزير الْأَعْظَم محافظاً بهَا وَبَالغ فِي إكرامه وَكَانَ وَهُوَ بالروم بشره بالوزارة الْعُظْمَى ومجيء الْخَتْم السلطاني لَهُ إِلَى دمشق وَعين الْيَوْم الَّذِي يَجِيء فِيهِ فَلَمَّا جَاءَهُ خبر ذَلِك استحضره وَقَالَ لَهُ جَاءَنَا خبر من طرف السلطنة بِالْعودِ إِلَى مُحَافظَة(1/78)
مصر فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لَهُ ختم الوزارة دخل إِلَى حُدُود دمشق فصادف مَجِيئه فِي ثَانِي يَوْم وسافر الْوَزير وَأقَام هُوَ بِدِمَشْق ثمَّ سَار أَثَره إِلَى اروم فَأكْرمه وَحصل لَهُ من جَانِبه مَال طائل وَجعل لَهُ من الجرايات بِمصْر مَا يقوم بِهِ وَكَانَ لَهُ من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا أَنه كَانَ فِي مجْلِس بعض الوزراء بِمصْر فمسك لَهُ كتابا كَبِيرا وقسمه شطرين وَقَالَ لَهُ مَا مِقْدَار كل وَاحِد من الشطرين فاستخرجه فِي الْحَال وَذكر فِي بعض محاضراته أَن ثَلَاثَة أشخاص من المهرة فِي علم الْحَرْف قصدُوا مَكَّة وحداناً فنفد مَا مَعَهم من المَاء والزاد وهم فِي بَريَّة قفراء فَقَالَ أحدهم أَنا نخدم هَذَا الْعلم هَذِه السنين وَهَذَا مَحل اتلاف النُّفُوس فليعمل كل منا وفقاً لأجل المَاء والمأكل والمركب فَنزل كل مِنْهُم وفقاً فَلم تمض هنيهة إِلَّا وَقد ظهر لَهُم فِي الْمَكَان الَّذِي كَانُوا نزولاً فِيهِ عين مَاء عذبة وجمال يَقُود ثَلَاثَة جمال وَرَأَوا فِي بعض ذَلِك الْجَبَل قَرْيَة عامرة لم يَكُونُوا رأوها قبل ذَلِك فحمدوا الله تَعَالَى بجميل أَسْمَائِهِ وأثنوا على جزيل نعمائه قَالَ وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى وَقد اجْتمعت بِهِ فِي دمشق والقاهرة وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف بِمصْر وَدفن بتربة المجاورين
الشَّيْخ أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل ابْن القطب الرباني شهَاب الدّين الشنواني وجده الْأَعْلَى ابْن عَم سَيِّدي على وَفَاء الشريف الوفائي التّونسِيّ امام الْعَلامَة الْأُسْتَاذ عَلامَة عصره فِي جَمِيع الْفُنُون كَانَ فِي عصره إِمَام النُّحَاة تشد إِلَيْهِ الرّحال للأخذ عَنهُ والتلقي مِنْهُ مولده شنوان وَهِي بَلْدَة بالمنوفية وَتخرج فِي الْقَاهِرَة بِابْن قَاسم الْعَبَّادِيّ وَمُحَمّد الخفاجي وَالِد الشهَاب وَأخذ عَن الشهَاب أَحْمد بن حجر الْمَكِّيّ وجمال الدّين يُوسُف ابْن زَكَرِيَّا وَإِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن العلقمي وَالشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وتفوق وَكَانَ كثير الِاطِّلَاع على اللُّغَة ومعاني الْأَشْعَار حَافِظًا لمذاهب النُّحَاة والشواهد كثير الْعِنَايَة بهَا حسن الضَّبْط أَخذ النَّاس عَنهُ كثيرا وَعَلِيهِ تخْرجُوا وانتهت إِلَيْهِ الرياسة العلمية ولازمه بعد الشهَاب ابْن قَاسم جلّ تلامذته وَمِمَّنْ لَازمه وَتخرج بِهِ الشهَاب أَحْمد الغنيمي وَعلي الْحلَبِي وَابْن أُخْته الشهَاب الخفاجي وعامر الشبراوي وسري الدّين الدروري يُوسُف الفيشي وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الْحَمَوِيّ وَالشَّمْس البابلي وَإِبْرَاهِيم الْمَيْمُونِيّ وَغَيرهم من أكَابِر الْعلمَاء وابتلى بالفالج فَمَكثَ فِيهِ سِنِين وَهُوَ لَا يقوم من مَجْلِسه إِلَّا بمساعد وَكَانَت تذْهب الأفاضل إِلَى بَيته وَلَا تَنْصَرِف عَن نَادِيه وَألف المؤلفات المقبولة مِنْهَا حَاشِيَة على متن التَّوْضِيح فِي مجلدات لم تكمل وحاشية على(1/79)
شرح الْقطر للفاكهي لم تكمل وَله حَاشِيَة أُخْرَى على شرح الْقطر للمؤلف لم تكمل وحاشية على شرح الشذور للْمُصَنف أَيْضا وحاشية على شرح الأزهرية للشَّيْخ خَالِد وَأُخْرَى على شرح الْقَوَاعِد لَهُ وَله حَاشِيَة على الْبَسْمَلَة والحمدلة للشَّيْخ عميرَة وَله شرح على الْبَسْمَلَة والحمدلة للْقَاضِي زَكَرِيَّا وَشرح على الأجرومية مطول جمع فِيهِ نفائس الْفَوَائِد وَله حاشيتان على شرح الشَّيْخ خَالِد الْأَزْهَرِي على الأجرومية وَشرح على ديباجة مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل للناصر اللَّقَّانِيّ الْمَالِكِي وَشرح الأسئلة السَّبع للشَّيْخ حَلَال الدّين السُّيُوطِيّ الَّتِي أوردهَا على عُلَمَاء عصره حَيْثُ قَالَ مَا تَقول عُلَمَاء الْعَصْر المدعون للْعلم والفهم فِي هَذِه الأسئلة الْمُتَعَلّقَة بِأَلف با تا ثا إِلَى آخرهَا مَا هَذِه الْأَسْمَاء وَمَا مسمياتها وَهل هِيَ أَسمَاء أَجنَاس أَو أَسمَاء أَعْلَام فَإِن كَانَ الأول فَمن أَي أَنْوَاع الاجناس هِيَ وان كَانَ الثَّانِي فَهِيَ شخصية أَو جنسية فان كَانَ الاول فَهَل هِيَ منقولة أَو مرتجلة فَإِن كَانَ الأول فمم نقلت أَمن حُرُوف أم أَفعَال أم أَسمَاء أَعْيَان أم مصَادر أم صِفَات وَإِن كَانَت جنسية فَهَل هِيَ من اعلام الْأَعْيَان أَو الْمعَانِي إِلَى آخر مَا قَالَ وَكَانَ أبلغ شَرحه لملك الْمغرب مولَايَ أَحْمد المنصورين مولَايَ مُحَمَّد الشَّيْخ فَأرْسل لَهُ عَطِيَّة جزيلة وَرَجا مِنْهُ إرْسَال نُسْخَة مِنْهُ وَهَذَا الشَّرْح فِي مصر مَعْدُوم على مَا سَمِعت وَيُقَال أَنه لَا يُوجد إِلَّا بِأَرْض الْمغرب فَإِن نسخته غَار عَلَيْهَا بعض المغاربة فَذهب بهَا مَعَه إِلَى الْمغرب وَذكره ابْن أُخْته الخفاجي وَعبد الْبر الفيومي وأطالا فِي تَرْجَمته وَأنْشد لَهُ الخفاجي قَوْله وَذَلِكَ مَا كتبه إِلَيْهِ فِي صدر كتاب
(سَلام شذاه يمْلَأ الأَرْض نكهة ... تبلغة مني إِلَيْك يَد الصِّبَا)
(وتحمله هوج الرِّيَاح إِلَى الْعلَا ... وتنشره فِي الْأُفق شرقا ومغربا)
(وَسَقَى ديار الرّوم والجو عايس ... رذاذ كَمَال حل فِيهَا وطنا)
(ورد عَلَيْهِ الْغَيْم لُؤْلُؤ طله ... ففضض هامات النَّبَات وذهبا)
(لَئِن كَانَ عَن مصر تواري شهابها ... فقد لَاحَ فِي دَار الْخلَافَة كوكبا)
(وَمَا كَانَ فِي تأخيري جوابك عَن سدى ... وَلَكِن ضعْفي للقريحة شيبا)
(وشرقني دمع الأسى وأهانني ... على أَن قلبِي من فراقك غربا)
(نأت بك يَا قس الفصاحة بَلْدَة ... وخلفتني بعد الْفِرَاق معذبا)
(فليت الَّذِي شقّ قُلُوب يرمها ... وليت الَّذِي سَاق لقطيعه قربا)
وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ(1/80)
(وقائلة أَرَاك بِغَيْر مَال ... وَأَنت مهذب علم إِمَام)
(فَقلت لِأَن مَا لَا قلب لَام ... وَمَا دخلت على الْأَعْلَام لَام)
قَالَ مَدين القوصوني وَكَانَت وَفَاته عقب طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد ثَالِث ذِي الْحجَّة سنة تسع عشرَة بعد الْألف وَبلغ من الْعُمر نَحْو السِّتين وَدفن بمقبرة المجاورين وَلما بلغ ابْن أُخْته الخفاجي مَوته قَالَ مضمنا لبيت الشواهد المستشهد بِهِ على التَّرْخِيم فِي غير النداء
(رحم الله أوحد الدَّهْر من قد ... كَانَ من حلية الْفَضَائِل حَالي)
(ذَاك خَالِي وسلوتي أذنعوه ... لَيْسَ حَيّ على الْمنون بخالي)
وَقَالَ أَيْضا يرثيه بِهَذِهِ الأبيات وفيهَا لُزُوم مَا لَا يلْزم وَهِي
(تَبًّا لقلب عَلَيْك الْيَوْم مَا احترقا ... وناظر دمعه فِي ذَا الْمُصَاب رقا)
(وغصة وشجي فِي الْقلب سوغها ... دمع بِهِ نَاظر المحزون قد شرقا)
(وَفرْقَة أمنتنا كل حَادِثَة ... من الزَّمَان وَلم تتْرك لنا فرقا)
(رَضِيع ثدى الندى خدن الْعلَا حسبا ... من مهده لمقر اللَّحْد مَا افْتَرقَا)
(جاؤابه فَوق أَعْنَاق مطوقة ... نداه قد جللت من دوحها وَرقا)
(قوم بِنَار الجوى تشوى قُلُوبهم ... قد صيروها قرى هم لَهُم طرقا)
(فطيبوه بِطيب الْحَمد مشتزرا ... رِدَاء حمد على الْأَيَّام مَا خرقا)
(والدمع جَار عَلَيْهِ قد طفا وطغى ... لَوْلَا سفينة تَابُوت لَهُ غرقا)
الشَّيْخ أَبُو بكر بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حُسَيْن بن الشَّيْخ عبد الله العيدروس الضَّرِير اليمني نزيل مَكَّة المكرمة السَّيِّد الْكَبِير الْعلم صَاحب الْأَحْوَال والمناقب ولد بتريم سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن وكف بَصَره وَحفظ بعض الْمُتُون واشتغل وَسمع بِقِرَاءَة أَخِيه علوي وَغَيره على مَشَايِخ عصره وَصَحب أَبَاهُ وأعمامه وَلبس الْخِرْقَة الشَّرِيفَة من كثيرين وبرع فِي الحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف وَهُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ وَأَخذه عَن جمع كثيرين ثمَّ رَحل إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار جده النَّبِي
وَعَاد إِلَى مَكَّة وَلَقي بالحرمين جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَغَيرهمَا من أكَابِر الْعلمَاء وَأخذ عَنهُ جمَاعَة ولبسوا مِنْهُ الْخِرْقَة ثمَّ جلس للتدريس وانتفع بِهِ جمَاعَة من الْعلمَاء قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد الشبلي وَكنت مِمَّن أَخذ عَنهُ وَصَحبه نَحْو عشر سِنِين وَكَانَ من أكمل الْمُتَأَخِّرين(1/81)
وَكَانَ لَهُ خلق لطيف مَعَ الْوَقار والهيبة عفوا عَمَّن هفا محسنا إِلَى من أَسَاءَ وَكَانَ أَكثر كَلَامه فِي الْوَعْظ والنصيحة بِأَلْفَاظ حَسَنَة فصيحة وَلم يزل بِمَكَّة مَحْمُود السِّيرَة إِلَى أَن انْقَضتْ مُدَّة عمره فَتوفي بهَا وَكَانَت وَفَاته لتسْع خلون من صفر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ بعد الْألف وَدفن بالمعلاة بالحوطة الَّتِي فِيهَا قبورا آل باعلوي وقبره مَعْرُوف يزار
الشَّيْخ أَبُو بكر بن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد ابْن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم صَاحب بيجافور السَّيِّد الْوَلِيّ الْعَارِف السخي ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب العارفين من أهل زَمَانه مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَلَده زين العابدين وَالسَّيِّد القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَأخذ عَن أَخِيه القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن وَغلب عَلَيْهِ علم التصوف ثمَّ رَحل إِلَى الْيمن فقصد السَّيِّد الْعَارِف الْوَلِيّ الشَّيْخ عبد الله بن عَليّ بالوهط وَصَحبه مُدَّة وَأخذ عَنهُ وَألبسهُ خرقَة التصوف ثمَّ رَحل إِلَى الْهِنْد وَأخذ عَن شمس الشموس الشيح مُحَمَّد بن عبد الله العيدروس ببند سورت ولازمه مُلَازمَة تَامَّة وَألبسهُ الْخِرْقَة وَأذن لَهُ بالإلباس ثمَّ بعد انْتِقَال شَيْخه ساح فِي تِلْكَ الْبِلَاد واخذ عَن جمَاعَة وَاجْتمعَ بِالْملكِ عنبر وَكَانَت حَضرته مجمع الْعلمَاء والأدباء ثمَّ بعد موت الْملك عنبر رَحل إِلَى بيجافور واتصل بسلطانها السُّلْطَان مَحْمُود بن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم الشهير بعادل شاه فَجعله من خَاصَّة أحبائه وخواص جُلَسَائِهِ فتدير بيجافور وَاسْتقر بهَا وَصَارَ ملْجأ للوافدين وَكَانَ كَرِيمًا طلق الْوَجْه فَعم صيته تِلْكَ الأقطار وطار ذكره فِيهَا وكف بَصَره فِي آخر عمره وابتلى بداء عضال إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته سنة أَربع وَسبعين والف بِمَدِينَة بيجافور وَدفن بمقبرة السَّادة قَرِيبا من السُّور رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد أَبُو بكر بن سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ بن عَليّ بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله عبود بن عَليّ بن مُحَمَّد مولى الدويلة ابْن عَليّ بن علوي بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن علوي بن عبيد الله بن أَحْمد بن عِيسَى بن مُحَمَّد على العريض ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله عَلَيْهِم هَذَا نسب آل شَيْخَانِ سَادَات مَكَّة المشرفة كثر الله تَعَالَى مِنْهُم وَأَبُو بكر هَذَا من أبرع أهل بَيته سيدا فائقا وَكَانَ شهما سريا فَاضلا أديبا ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وتربى تَحت حجر وَالِده وَصَحبه وَلزِمَ الْعلم وَالْعِبَادَة(1/82)
وسلك طَرِيق أجداده وعني بطرِيق الصُّوفِيَّة وَأخذ عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن مُحَمَّد الْمدنِي الشهير بالقشاشي وَعَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عمر الحبشي وَحضر دروس الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلي حِين مجاورته بِمَكَّة وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر العارفين مِنْهُم السَّيِّد الْجَلِيل علوي بن عقيل وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ بلفقيه الشهير كسلفه بِمَكَّة العيدروس وأكب على كسب الْعُلُوم وجد حَتَّى فاق أقرانه وَقَامَ مقَام أَبِيه بعد مَوته وَأخذ عَن وَالِده أَيْضا الْخِرْقَة الصُّوفِيَّة بِجَمِيعِ طرقها وَكَذَلِكَ طَرِيق النقشبندية وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أَصْحَاب وَالِده وَاسْتمرّ سِنِين على ذَلِك ثمَّ ترك وَأَقْبل على الطَّاعَات وَسَار أحسن سيرة وَكَانَ لطيف الْخلق والخلق حسن الْعشْرَة وَألف وَمن مؤلفاته شرح كَبِير على منسك الْحَج للخطيب الشربيني وَكَانَ ينظم وينثر فَمن نظمه مَا أجَاب بِهِ الأديب مُحَمَّد الدراء الدِّمَشْقِي عَن قصيدة مدحه ومدح بهَا أَخَاهُ السَّيِّد عمر فسح الله تَعَالَى فِي أَجله ومطلع قصيدته ابْن الدراء قَوْله
(قل لصنوي أصل المفاخر ... وَالْمجد رضيعي لبان ثدى الْمَعَالِي)
وَجَوَاب هَذَا قَوْله
(شامخ المرتقى حميد الْخِصَال ... شمس علم حلت ببرج الْمَعَالِي)
(فرع أصل زكا لذا أَفَاق لما ... أَن تغذى لبان ثدى الْكَمَال)
(جهبذا لفضل مَاله من نَظِير ... فِي إجتماع الفخار والأفضال)
(سَيِّدي الأوحد الَّذِي شنف السّمع ... بِحسن المفاد والإدلال)
(قل لشيخ القريض وَالْأَدب ... الغض بِصدق وترجمان الْمقَال)
(مِنْك زفت عروس بكر إِلَيْنَا ... حِين غزت فِي حسنها عَن مِثَال)
(فِي حلي من البديع ومنظوم ... معَان تزري عُقُود اللآلي)
(أعربت عَن وداد خل وَفِي ... واعتذار عَن معرض التسئال)
(فِي اجْتِمَاع بسوح بَيت صديق ... بجوار لكعبة الآمال)
(هاك بكرا زففتها لإعتذار ... وَقبُول لعذرك المفضال)
وَمِنْهَا
(حَيْثُ لاثم مقتضيه سوى أَن ... لطفكم دَائِما لَهُ ذُو احْتِمَال)
(فعلَيْهَا كن مسبلا بالتغاضي ... ستر عذر على كلا الْأَحْوَال)
(وابق فِي نعْمَة مدى الدَّهْر فِي طالع ... سعد بغرة كالهلال)
وَكَانَت وِلَادَته عصر يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَعشْرين وَألف(1/83)
وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد سادس صفر سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة بالحوطة الشهيرة فِي قبر وَالِده وجده وجد أَبِيه رَحِمهم الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن سعيد بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوي بن أبي بكر ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْمُقدم اشْتهر جده عبد الرَّحْمَن بالجفري بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْفَاء الناسك العابد الْوَرع الزَّاهِد ولد بقرية قسم وَنَشَأ وتربى فِي حجر وَالِده ثمَّ رَحل إِلَى مَدِينَة تريم فَحَضَرَ مجَالِس الْعلم والعرفان وَصَحب مَشَايِخ عصره وَأكْثر الْأَخْذ فَمن مشايخه بتريم الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده الْجَلِيل زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدوس وَالْقَاضِي أَحْمد بن حسن بلفقيه والعلامة أَبُو بكر بن شهَاب الدّين والشيح الْجَلِيل أَحْمد بن عبد الله بِأَفْضَل الشهير بالسودي وَالشَّيْخ الْكَبِير زين الدّين بن حُسَيْن بِأَفْضَل وَصَحب بعينات أَوْلَاد الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي بكر بن سَالم مِنْهُم الْحُسَيْن وَالْحسن والمحضار والحامد وَأخذ عَن المعارف بِاللَّه تَعَالَى حسن بن أَحْمد با شُعَيْب ثمَّ دخل بندر الشّجر وأخدنه عَن السَّيِّد حسن با عَمْرو وَعَن السَّيِّد ناصف الدّين بن أَحْمد وَدخل بندر عدن وَأخذ عَن جمَاعَة من بني العيدروس ثمَّ رَحل للوهط للسَّيِّد عبد الله ابْن عَليّ فاخذ عَنهُ وَصَحبه ولازمه مُدَّة ثمَّ رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وجاور بهما وَأخذ عَن جمَاعَة فيهمَا فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَابْن أَخِيه مُحَمَّد عَليّ وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن عمر الحبشي وَالسَّيِّد سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَالسَّيِّد أَحْمد بن عبد الْهَادِي وَالشَّيْخ تَاج الدّين الْهِنْدِيّ وَالشَّيْخ عبد الْهَادِي باليل وَكَانَ يحضر تدريس الشَّمْس مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين البابلي وَصَحب الشَّيْخ الْعَارِف السَّيِّد مُحَمَّد بن علوي وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الصفي أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشي وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري والعارف السَّيِّد زين بن عبد الله بِأَحْسَن وَغَيرهم ورحل إِلَى الْهِنْد وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة وَهُوَ أوسع إِلَى أقرانه رحْلَة وَألبسهُ الْخِرْقَة أَكثر مشايخه وحكموه وصافحوه وأحازوه بِجَمِيعِ مروياتهم وَجَمِيع مؤلفاتهم وَكَانَ متقيا زاهدا فِي الدُّنْيَا وَكَانَ يحجّ كل عَام ويلازم على النَّوَافِل والأذكار وَالْقِيَام ملازما للْجَمَاعَة فِي الصَّفّ الأول وزيارة قبر الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم ثمَّ انْقَطع بِمَدِينَة تريم وَلزِمَ درس السَّيِّد عبد الله بن علوي الْحداد قانعا من الدُّنْيَا باليسير مَعَ مزِيد التَّوَاضُع والتقشف وَكَانَ لَهُ كرم وإيثار وَأُصِيب آخر أمره فِي أَنفه بداء عجز عَن دوائه حذاق الْأَطِبَّاء وَلم يزل بِهِ حَتَّى مَاتَ(1/84)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف بتريم وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن صَالح الكثامي الشَّافِعِي الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ من أجلاء الشُّيُوخ وأكابر الْعلمَاء العاملين وَمن الْمَشْهُورين بِمصْر فِي عُلُوم الْهَيْئَة والميقات والفلك وَكَانَ فِي علم الأوفاق والزايرجا آيَة من آيَات الله تَعَالَى الباهرة وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي وضع كل أفق أَرَادَ كالوفق المئيني وَغَيره وَكَانَ مُنْقَطِعًا نخلوه فِي جَامع الطباخ قَرِيبا من البرمشية وَبَاب اللوق وَله مجربات مَشْهُورَة فِي الْعُلُوم الحرفية ومؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا كتاب سَمَّاهُ الْمنْهَج الحنيف فِي معنى اسْمه تَعَالَى لطيف ذكر فِيهِ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بالإسم الشريف من الشُّرُوط والدعوات وتقسيم الْأَعْدَاد نَحْو أَرْبَعَة عشر قسما وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْخَواص وَله غير ذَلِك من التحريرات وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي الطَّاعُون الْوَاقِع زمن الْوَزير مَقْصُود باشا سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَدفن بالقرافة رَحمَه الله
الشَّيْخ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن السقاف الشهير كأبيه وَأَهله بِابْن الشهَاب الْمُحدث الْكَبِير المتفرد فِي زَمَنه بعلو الْإِسْنَاد ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وعدة متون كالجزرية والأجرومية والقطر وَغَيرهَا وتفقه بالشيخ الْجَلِيل الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل ولازم وَالِده فِي دروسه وَأخذ عَنهُ علوما كَثِيرَة من فقه وَحَدِيث وأصول وَتَفْسِير وتصوف وَكَذَلِكَ عَن أَخِيه الْهَادِي ابْن عبد الرَّحْمَن وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله العيدروس ورحل إِلَى الْيمن والحرمين وَسمع بهَا من كثيرين وجاور بالحرمين واشتغل على السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وبرع فِي فنون كَثِيرَة كالتفسير والْحَدِيث والتصوف والمعاني وَالْبَيَان وَغَيرهَا من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعقلية وَأكْثر الْأَخْذ ثمَّ قَصده النَّاس للإستمتاع والإستفادة فتصدى للتدريس والإقراء وانتفع بِهِ جمَاعَة وسمعوا مِنْهُ طبقَة بعد طبقَة وَمِمَّنْ تخرج بِهِ الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد إِمَام السقاف وَالسَّيِّد عبد الله بن شيخ العيدروس وَالسَّيِّد أَحْمد بافقيه وَأَخُوهُ عبد الله وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَتيق وصنو مُحَمَّد الشلي أَحْمد بن أبي بكر قَالَ الشلي وَأَمرَنِي الْوَالِد بالإشتغال عَلَيْهِ فَقَرَأت عَلَيْهِ الْكثير وَأخذت عَنهُ الْعَرَبيَّة والْحَدِيث وَالتَّفْسِير وَكَانَ متين التَّحْقِيق حسن الْفِكر متأنيا فِي التَّقْرِير نظارا فِي تحريرة وكتابته أمتن من تقريرة وَكَانَ فصيح الْعبارَة كَامِل الأدوات مشارا إِلَيْهِ(1/85)
بالتحقيق والسبق فِي مضمار الْبَيَان مهابا فِي الْعُيُون مُعظما موقرا حَافِظًا للمسائل صَحِيح النَّقْل وَكَانَ مَعَ كبر سنة وتبحره فِي الْعُلُوم حَرِيصًا على طلب الْفَوَائِد وَكَانَ سَيِّدي الْوَالِد يَقُول مَا رَأَيْت عَاشِقًا للْعلم أَي نوع كَانَ مثله وَمن جميل سيرته أَنه مَا استصغر أحدا حَتَّى يسمع كَلَامه ساذجا كَانَ أَو متناهيا فَإِن أصَاب اسْتَفَادَ مِنْهُ صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا وَلَا يستنكف أَن تعزى الْفَائِدَة إِلَى قَائِلهَا وَكَانَ لَا يكْتب الْفَتْوَى إِلَّا فِي الْمسَائِل العزيزة النَّقْل وَإِذا سُئِلَ لَا يُجيب على البديهة بل يَقُول افْتَحْ كتاب كَذَا وعد من الصفحة الْفُلَانِيَّة كَذَا تَجِد المسئلة لِأَنَّهُ قل نظره آخرا وَإِذا سُئِلَ عَمَّا لم يعلم يَقُول الله أعلم ويتعجب مِمَّن يتجرى على الْفتيا ويبادر إِلَيْهَا ويتكلف الْجَواب عَمَّا لَا يدريه وَكَانَ غَايَة فِي العفاف معرضًا عَن المناصب الدُّنْيَوِيَّة وَلما بنى السَّيِّد الْجَلِيل النبيه مُحَمَّد بن عمر بافقيه مدرسته الَّتِي بتريم فوض إِلَيْهِ تدريسها فدرس فِيهَا أَيَّامًا احتسابا ثمَّ ترك ذَلِك وَكَانَ لَا يٍ سَأَلَ فِي أُمُوره إِلَّا الله وَلَا يعول فِي قَضَاء حَوَائِجه على سواهُ وَلَا يخرج من دَاره إِلَّا لجمعة أَو جمَاعَة أَو زِيَارَة صديق وَنَحْوه لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد من الْأَعْيَان ملازما للطاعات بِحَيْثُ لَا يُوجد فِي غير عبَادَة لَحْظَة وَكَانَ لَهُ خلق عَظِيم وَكَانَ يشْرَح كَلَام الصُّوفِيَّة وَأهل الْحَقِيقَة بِأَحْسَن بَيَان وَلبس الْخِرْقَة من مشايخه وحكموه وأذنوا لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ يلبس الْخِرْقَة ويلقن الذّكر وَيحكم وَكَانَ غَايَة فِي التَّوَاضُع وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ بركَة الْيمن وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف بِمَدِينَة تريم وَدفن بمقبرة زنبل
المنلا أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف أَبوهُ بمنلا جامي الشَّافِعِي الْكرْدِي الحريري نزيل دمشق الْمَعْرُوف بمعلم الْوَزير الْمُحَقق البارع كَانَ إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الْعُلُوم وَالتَّحْقِيق وَكَانَ فِيهِ ورع وانعزال عَن النَّاس وكف عَن مُخَالطَة الْحُكَّام مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الحظوة التَّامَّة عِنْد الْوَزير الْأَعْظَم الْفَاضِل أَحْمد باشا وَأول وُرُوده إِلَى دمشق كَانَ مَعَه وَذَلِكَ لما ولي حكومتها فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَكَانَ إِمَامه وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا فِي أَنْوَاع الْعُلُوم وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن الصَّدْر الْعَالم الْمُحَقق عبد الرَّحْمَن الصهري كَمَا قَرَأَ أَنه بِخَطِّهِ فِي إجَازَة كتبهَا للعلاء الحصفكي مفتي الشَّام وَلما عزل الْوَزير عَن الشَّام صَحبه إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَكَانَ قد رغب فِي توطن دمشق وَطلب من الْوَزير بعض جِهَات تقوم بِهِ وَاتفقَ إِذْ ذَاك وَفَاة الْعَلامَة مُحَمَّد بن أَحْمد الأسطواني الْآتِي ذكره وَكَانَ مدرس السليمية فوجهها إِلَيْهِ وأضاف إِلَيْهَا قَضَاء صيدا وَبَعض جوالي فَقدم دمشق(1/86)
وتديرها وَكَانَ مداوما على الإفادة ودرس بالجامع الْأمَوِي فِي التَّفْسِير وَكَانَ فضلاء الأكراد أذذاك يحْضرُون درسه ويتأدبون مَعَه جدا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ آخر من أدركناهم بِدِمَشْق من محققي الأكراد وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس الْمَعْرُوفَة بمرج الدحداح رَحمَه الله
الشَّيْخ أَبُو بكر بن عبد الْقَادِر محيي الدّين الْبكْرِيّ الصديقي الشَّافِعِي الدِّمَشْقِي المولد والوفاة الْفَاضِل الْمُبَارك المجذوب ذكره النَّجْم فِي ذيله وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره من أذكياء النَّاس طلب الْعلم وَحصل ملكة فِي الْعَرَبيَّة وَكَانَ لَا يفتر عَن الِاشْتِغَال وَقَرَأَ على وَالِده وعَلى الشَّيْخ تَاج الدّين القرعوني وَغَيرهمَا ثمَّ انجذب قيل بِسَبَب مُلَازمَة الْأَسْمَاء وَقيل لغيرذلك وَكَانَ فِي جذبه يحب الْعُزْلَة ويلازم جَامع السَّقِيفَة خَارج بَاب توما وَلِلنَّاسِ فِيهِ مزِيد اعْتِقَاد وَكَانَ لَهُ كشف وَاضح وَكَانَ النَّاس يعطونه الدَّرَاهِم عَن طيب نفس ويفرحون بقبوله مِنْهُم وَلَا شكّ فِي ولَايَته وَأخْبر بِمَوْتِهِ قبل وُقُوعه بسنين وَوجد ذَلِك على جِدَار بَيته وَكَانَت وَفَاته يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَجَب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن عِنْد أَبِيه وَحده بتربة الشَّيْخ أرسلان قدس الله روحه
الشَّيْخ أَبُو بكر بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الأخرم على صِيغَة أفعل من الخرم بِالْخَاءِ وَالرَّاء النابلسي الشَّافِعِي الْعَالم الْعلم الْمُحدث الْفَقِيه المعمر الْمُؤلف رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّيْخ عَامر الشبراوي وَرجع إِلَى بلدته وَأفْتى بهَا ونفع النَّاس كثيرا وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على الْجَامِع الصَّغِير فِي الحَدِيث وَشَرحه أَيْضا فِي مجلدين شرحا منقحا جمع فِيهِ بَين شرح العلقمي وَالشَّرْح الصَّغِير للمناوي وَله شرح على ألفيه ابْن مَالك وَغير ذَلِك من حواش وَكتب فِي الْفِقْه والنحو والتوحيد والتصوف وَأخذ عَنهُ جمَاعَة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من خِيَار الْعلمَاء أَرْبَاب المعلومات وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى بعد الْألف وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
أَبُو بكر بن عدي المنعوت تَقِيّ الدّين الْمَعْرُوف بِابْن شُعَيْب الْحَنَفِيّ الصَّالِحِي خَادِم مَزَار القطب الرباني الشَّيْخ أبي بكر بن قوام تفقه بالجد القَاضِي محب الدّين وخطب بِجَامِع الأفرم وَكَانَ ينشئ خطبا ويطرئ فِي الثَّنَاء عَلَيْهَا وَلما عمر الْوَزير سِنَان باشا جَامِعَة خَارج بَاب الْجَابِيَة بِدِمَشْق نقل الشَّيْخ فَخر الدّين السيوفي خطيب الدرويشية إِلَيْهِ فتفرغ عَن خطابة الدرويشية لأبي بكر الْمَذْكُور فسكن دمشق بَعْدَمَا كَانَ سكنه وَسكن أَهله بالصالحية وَاسْتمرّ خَطِيبًا بالدرويشية إِلَى أَن مَاتَ وَضعف بَصَره آخر(1/87)
عمره بِمَا انتقدت عَلَيْهِ أُمُور وَكَانَ ينظم الشّعْر فَمن شعره قَوْله وَقد كتب بِهِ لبَعض أحبابه
(وَمَا زَالَت الركْبَان تخبر عَنْكُم ... أَحَادِيث كالمسك الَّذِي بلامين)
(إِلَى أَن تلاقينا فَكَانَ الَّذِي وعت ... من القَوْل إذني دون مَا أَبْصرت عَيْني)
وَهَذَا معنى مطروق تداوله أَكثر الشُّعَرَاء وَمن أحسن مَا سمع فِيهِ قَول أبي تَمام
(كَانَت مسائلة الركْبَان تُخبرنِي ... عَن أَحْمد بن سعيد أطيب الْخَبَر)
(حَتَّى الْتَقَيْنَا وَالله مَا سَمِعت ... أُذُنِي بِأَحْسَن مِمَّا قد رأى بَصرِي)
وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَعشْرين وَألف وَدفن عِنْد ضريح ابْن قوام بالصالحية رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن عَليّ نور الدّين ابْن أبي بكر بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالجمال الْمصْرِيّ ابْن أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن ضرغام ابْن ظعان ابْن حميد الْأنْصَارِيّ الخزرجي الشَّافِعِي الْمَكِّيّ الشَّيْخ الفطن الأريب ذُو السمت الْبَهِي والذكاء العجيب وَالْأَدب الظَّاهِر وَالْحِفْظ الباهر والفطنة النقادة والقريحة المنقادة تَرْجمهُ على وَالِده الْآتِي ذكره فَقَالَ ولد سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الشاطبية والجزرية وَالْأَرْبَعِينَ النووية وألفية ابْن الهائم فِي الْفَرَائِض وألفية ابْن مَالك ومنظومة ابْن غَازِي فِي الْحساب وَحفظ متن الْبَهْجَة وَكَثِيرًا من متن المهج قَرَأَهُ على الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَأَجَازَهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأخذ عَن القَاضِي جَار الله بن أَمِين بن ظهيرة الْحَنَفِيّ وَولده على وَالشَّيْخ يحيى الْحطاب الْمَالِكِي ووالده مُحَمَّد الْحطاب مؤلف المتممة وشارح مُخْتَصر خَلِيل وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن فَهد الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ رَضِي الدّين القازاني الشَّافِعِي وَمُحَمّد بن عبد الْحق الْمَالِكِي وَشَيخ الْإِسْلَام ابْن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَادِر بن فَهد الْهَاشِمِي الشَّافِعِي وَأَجَازَهُ جَمِيع الْمَذْكُورين واشتغل بالفقه على الشَّيْخ بدر الدّين البرنبالي اشتغالاً تَاما ولازمه ودرس وَأفْتى وانتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بيري وَالشَّيْخ على طحينه وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الرسام وَغَيرهم وَألف الْحَوَاشِي المفيدة على كثير من الْكتب فِي كثير من الْفُنُون وأكثرها فِي فن الْحساب والفرائض والجبر والمقابلة وأعمال المناسخات بِالصَّحِيحِ والكسور والحل وَكَانَ لَهُ يَد طولي فِي هَذِه الْمَذْكُورَات ومشاركة تَامَّة فِي غَيرهَا كفني الْمعَانِي وَالْبَيَان النَّحْو وَالصرْف والقراآت وَالْفِقْه وَكَانَ حسن الْخط صَحِيحه(1/88)
يكْتب كل يَوْم كراساً بِقطع النّصْف مَعَ الِاشْتِغَال بالدرس والتأليف وَكَانَ يرى فِي ليله من يُخبرهُ بِمَا سيقع فِي غده لَهُ مِنْهَا أَنه أخبر بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ رجل بفلفل يُرِيد بَيْعه مِنْهُ وَهُوَ سَرقَة وحذره أَن يَأْخُذهُ فَلَمَّا أصبح أَتَاهُ رجل بِمَا أخبر وَتبين انه سَرقه وَمِنْهَا أَن جمَاعَة أَرَادوا بِهِ حِيلَة فَأخْبر فِي مَنَامه بِأَسْمَائِهِمْ ومرادهم ولقنه الْحجَّة فَلَمَّا أصبح أَتَاهُ رجل بحيلتهم فحجهم وانتصر عَلَيْهِم وَكَانَ ذَلِك قبل أَن يتَزَوَّج فَلَمَّا تزوج انْقَطع عَنهُ ذَلِك وَله نظم بديع وقصائد عَظِيمَة مِنْهَا قصيدتان تائية وهمزية مَكْسُورَة فِي مدح النَّبِي
وَمِنْهَا فِي شرِيف مَكَّة حسن بن أبي نمى على لِسَان غَيره كثير وَفِي غَيره أَكثر وَكَانَ إِذا حضر السماع تواجد وَغَابَ عَن حسه فَكَانَ لَا يحضرهُ وَله عقيدة تَامَّة فِي الصَّالِحين والأولياء والعارفين وَكَانَت وَفَاته ضحى يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شهر رَمَضَان سنة سِتّ بعد الْألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد أَبُو بكر بن عَليّ بن السَّيِّد الْمُحدث مُحَمَّد بن عَليّ بن علوي بن خرد بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالدال الْمُهْملَة اشْتهر جده بِالْعلمِ الإِمَام الْمُقدم سيد زَمَانه وعالمه كَانَ شَدِيد الزّهْد والورع مديد الباع إِذا قَامَ فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة وَشرع ولد بتريم فحفظ الْقُرْآن ولازم تقوى الله تَعَالَى وَمَشى على طَرِيق السَّلامَة والنجاة من الْأَفْعَال البارة والأعمال السارة ومصاحبة أهل الْخَيْر والفلاح ومواظبة الطَّرِيقَة الحميدة واتصف بِالصِّفَاتِ المستحسنة وتجنب الْأُمُور المستهجنة واشتغل بتحصيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وعلوم الصُّوفِيَّة وَأخذ عَن شهَاب الدّين أَحْمد باخجدب وَأخذ الْفِقْه وَغَيره عَن جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي السَّيِّد مُحَمَّد بن حسن وَالسَّيِّد عَليّ بن عبد الرَّحْمَن السقاف وَولده مُحَمَّد وَأَوْلَاد الْفَقِيه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بلحاج بِأَفْضَل وَأدْركَ جده الْمُحدث مُحَمَّد بن عَليّ وَحكمه كَثِيرُونَ من مشايخه الْمَذْكُورين وألبسوه خرقَة التصوف وأدنوا لَهُ فِي التَّحْكِيم والالباس وأجازوه فِي الإقراء ونفع النَّاس فَجَلَسَ للتدريس الْعَام فِي مَسْجِد الْقَوْم بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة وَقَرَأَ فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير وحضره خلق كثير وانتفع بِهِ الْخَاص وَالْعَام النَّفْع الْمُفِيد لَهُ تدريس خَاص بِجَمَاعَة وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْفُضَلَاء نالوا بِهِ الرتب الْعَالِيَة وَمِمَّنْ تخرج بِهِ أَبُو بكر الشلي وَالسَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عقيل وشمس الشموس السَّيِّد عبد الله شيخ العيدروس وَصَاحب الْعرْفَان السَّيِّد عبد الله بن عمر الهندوان وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن شهَاب وَكَانَ لطيف الشمايل حسن الْأَخْلَاق ثمَّ غلب عَلَيْهِ الْعُزْلَة(1/89)
وَعدم الِاجْتِمَاع بِالنَّاسِ إِلَّا عَن حَاجَة وَكَانَ ملازماً للطيلسان مواظباً على تِلَاوَة الْقُرْآن معرضًا عَن اعراض الدُّنْيَا قانعاً بالكفاف وَكَانَت فَصَاحَته تفوق فصاحة سحبان وَائِل فَإِذا تكلم فَالْعُلَمَاء الأفاضل تسمع لَهُ فَلَيْسَ أحد مِنْهُم بمتفوه وَلَا قَائِل وَله كرامات باهرة وأنفاس طَاهِرَة وَكَانَ تِلْمِيذه الشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد العيدروس يَقُول إِنَّه يشفع فِي اهل زَمَانه وَلم يزل ملازماً للتقوى إِلَى أَن قضى نحبه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف بتريم وَدفن بمقبرة زنبل هَكَذَا ذكر تَرْجَمته الشلي فِي مشروعه الْمَرْوِيّ
الْأَمِير أَبُو بكر بن عَليّ الإحسائي ثمَّ الْمدنِي الْأَمِير الْكَبِير الْجَلِيل الْقدر أحد أسخياء الْعَالم رَأَيْت فِي بعض التَّعَالِيق تَرْجَمته وَذكر مترجمه أَن وِلَادَته بِمَدِينَة الأحساء فِي حُدُود الْألف وَنَشَأ على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ثمَّ رَحل صُحْبَة وَالِده إِلَى الْمَدِينَة وتوطنها وَكَانَ بهَا ملازماً لِلْعِبَادَةِ مواظباً لقِيَام اللَّيْل حَتَّى إِنَّه كَانَ يَجِيء إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ فيقف بِبَابِهِ نَحْو سَاعَة حَتَّى يَفْتَحهُ الخدّام إِلَى أَن أدْركهُ أَجله يَوْم عَرَفَة بهَا وَهُوَ محرم فَحمل فِي محفة إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة وَذَلِكَ سنة سِتّ وَسبعين وَألف وَتُوفِّي وَالِده عَليّ باشا بِالْمَدِينَةِ فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَله ديوَان شعر فِي مجلدين وَمن شعره قَوْله مادحاً الشريف زيد بن محسن صَاحب مَكَّة
(زفت لعز مقامك العلياء ... وَعَلَيْك فضت راحها الجوزاء)
(فالبدر كاس والشموس عقارها ... فَاشْرَبْ بكاس شمسه الصَّهْبَاء)
(وحبا بهَا نجم السَّمَاء فَكَأَنَّهَا ... ذَات وَذَاكَ بشكله الْأَسْمَاء)
(وأتتك بكرا قبل فض ختامها ... يقتادها راووقها وذكاء)
(خضعت لعزك فاستقم فِي عرشها ... يَا ظَاهرا لَا يَعْتَرِيه خَفَاء)
(وانصب لِوَاء الْعدْل منتشر الثنا ... قد ضوّعت بعبيره الأرجاء)
(يسْعَى بِظِل أَمَانه بَين الورى ... ذُو الْبَأْس والأمجاد والضعفاء)
(فالدهر سَيْفك فاتخذه مجرّداً ... متوشحاً بالنصر وَهُوَ رِدَاء)
(والسعد قد توجته فلك الهنا ... وَكَذَا السَّعَادَة برجها السُّعَدَاء)
(وعلاك قد شهد الحسود بفضله ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء)
(وحماك أَمن الْخَائِفِينَ نؤمه ... شم الأنوف القادة الْأَكفاء)
(وَلَقَد حظيت من الْإِلَه بنصره ... ردَّتْ مُرِيد الكيد وَهُوَ هباء)(1/90)
(وحبيت مِنْهُ بِمَا تقاعس دونه ... همم الْمُلُوك الصَّيْد والعظماء)
(فَالله أظهر ذَا الجناب بنصه ... فالخلق أَرض والجناب سَمَاء)
(لَو قيل لي من ذَا أردْت أَجَبْتهم ... هَل غير زيد تمدح الشُّعَرَاء)
(وَإِذا أدير حَدِيثه فِي محفل ... فلمسمعي من طيب ذَاك غذَاء)
(ملك إِذا وعد الْجَمِيل وَفِي بِهِ ... وَإِذا توعد شَأْنه الإغضاء)
(ملك إِذا كتمت رعود سمائنا ... فعلى انسكاب ندى يَدَيْهِ نِدَاء)
(ملك إِذا مَا الفرن أوقد ناره ... فسيوفه لخمودها أنواء)
(ملك إِذا جَار الزَّمَان على امرىء ... فجنابه السَّامِي الرفيع وقاء)
(فبسعده أهْدى الزَّمَان إِلَى الورى ... كأساً هَنِيئًا لَيْسَ فِيهِ عناء)
(فَالله يبْقى ملكه السَّامِي الَّذِي ... قد كللته بنورها الزهراء)
(ويديمه فِي الدولة الغرّا الَّتِي ... ظَهرت بهَا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء)
(فاليك بكر قريحة بكرية ... زفت إِلَيْك تحفها الأضواء)
(كَلِمَات حق شرّفت بمديحكم ... ومديحكم تسمو بِهِ الْفُضَلَاء)
وَكتب إِلَى الْعَلامَة عِيسَى بن مُحَمَّد الْجَعْفَرِي الثعالبي ثمَّ الْمَكِّيّ مادحاً بقوله
(يَا من سما فَوق السماك مقَامه ... وَلَقَد يراك الْكل أَنْت إِمَامه)
(حزت الْفَضَائِل والكمال بأسره ... وعلوت قدرا فِيك تمّ نظامه)
(لَو قيل من حَاز الْعُلُوم جَمِيعهَا ... لأقول أَنْت الْمسك فض ختامه)
(كم صغت من بكر الْعُلُوم خرائداً ... عَن غير كُفْء لم يجب إكرامه)
(فَاعْلَم بِأَنِّي غير كفو لَائِق ... إِن لم يكن ذَا الْفضل مِنْك تَمَامه)
ثمَّ أتبعه بنثر صورته لما أَضَاء نور الْمحبَّة فِي قناديل الْقُلُوب صفت مرْآة الْحَقِيقَة فَظهر الْمَطْلُوب فاتضحت الرسوم الطامسة وَبَانَتْ الطّرق الدارسة فاكتحلت عين القريحة فسالت فِي أنهر النُّطْق فأثمرت بالمسطور وَهُوَ الْمَقْدُور وَأما الْمقَام فَهُوَ أبهى من ذَلِك وَأجل وَلَيْسَ يدرى ذَلِك إِلَّا من وصل وَأما العَبْد فَهُوَ مقرّ أَنه قصرت بِهِ الركاب عَن بُلُوغ ذَلِك وعاقته عقبات الْأَسْبَاب عَن سلوك هَذِه المسالك لَكِن حَيْثُ أَن ثِيَاب السّتْر من فَضلكُمْ على أَمْثَاله مسبولة فَيكون أَنه يدْخل فِي ضمن الْأَمْثَال مَطْلُوبه ومأموله فَأَجَابَهُ الشَّيْخ عِيسَى بقوله
(لله دَرك يَا فريد محاسناً ... أربى على الْبَدْر التَّمام تَمَامه)(1/91)
(قد صغت من سرّ البلاغة مُفردا ... فاق الفرائد نثره ونظامه)
(وَكسوته من جزل لفظك سابغاً ... وشيت بِكُل لَطِيفَة أكمامه)
(وجلوته يختال تيها آمنا ... من أَن يشابه فِي الْوُجُود قوامه)
(أعربت فِيهِ عَن اعْتِقَاد خَالص ... ومكين ود أحكمت أَحْكَامه)
(وحبوت ذَا شكر بِبَيْت قصيدة ... وبفض خَاتمه الْعلَا أسوامه)
(أَهلا بِهِ فَردا أَنِّي من مُفْرد ... وحبابه ضيفا يجل مقَامه)
(حتما على ولازما تبجيله ... فَوْرًا وَحقا وَاجِبا اكرامه)
(لَكِن على قدري فلست بكفو من ... وطِئت على هام الْعلَا أقدامه)
(وإليكها عذرا على مهل أَتَت ... خجلا لمنزلك الْعَزِيز مرامه)
(فاصفح بِفَضْلِك عَن صحيفَة نَقصهَا ... فالفضل مؤتم وَأَنت امامه)
(واسحب رِدَاء الْمجد غير مدافع ... فَلَانَتْ عنصره وَأَنت ختامه)
ثمَّ أتبعه بنثر صورته هَذِه دَامَ جدك فِي سعود ومجدك فِي صعُود عجرفة أبرزها فاتر الْفِكر الْأَعْرَج وقاصر الذِّهْن البهرج تتعثر فِي مروط الخجل والوجل وتتعارج لما بهَا من الْخَطَأ والخطل أَتَت سوح حضرتك الرحراحة الأرجاء وأملت أَن تفوز من كَمَال صفحك عَن زيفها بتحقق الرَّجَاء فقابل إقبالها بِالْقبُولِ والأغضا وألحظها غير مَأْمُور بِعَين التَّقْرِيب وَالرِّضَا فَإنَّك مأوى الْفضل ومخيمه ومفتتحه ومختتمه وَلَوْلَا نَافِذ أَمرك المطاع وواجب تعظيمك المتمكن فِي الأفئدة والإسماع لما تراآى لراء عجرها وَلَا بجرها وَلَا استبان لسامع خَبَرهَا وَلَا مخبرها وَلَكِن عِنْد الأكابر تلتمس وُجُوه المعاذير ولدى أَعْيَان الأفاضل يرتجي الصفح عَن التَّقْصِير وَالسَّلَام
الشَّيْخ أَبُو بكر بن عِيسَى بن أبي بكر بن عِيسَى ابْن الْأُسْتَاذ أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ كَانَ مُرَاد الله تَعَالَى فِي حركاته وسكناته كثير الأستغراق قَلِيل الصحو كَبِير الْحَال لَهُ إشارات غَرِيبَة ومقالات عَجِيبَة وَكَانَ إِذا غلب عَلَيْهِ الْحَال يخْشَى أَهله سطوته على النَّاس وَيَخَافُونَ على أنفسهم مِنْهُ فيحلون إزَاره الَّذِي يتزر بِهِ فَلَا يقدر على ربطه وَلَا يَسْتَطِيع الْقيام من مَكَانَهُ وَلَا يخرج من مَكَانَهُ حَتَّى يصحو من غيبوبته وَكَانَ يخبر بالمغيبات وَيرجع إِلَيْهِ فِي المعضلات وَكَانَ أهل الْجلاب إِذا سافروا فِي الْبَحْر وَحصل لَهُم شدَّة يذكرُونَهُ وينذرون لَهُ بِشَيْء فيروه عِنْدهم عيَانًا وينجيهم الله تَعَالَى ببركته وَإِذا جاؤا إِلَى اللِّحْيَة طالبهم بِالَّذِي نذروه لَهُ وَكَانَ كثير الخمول مغلظا القَوْل على الدولة(1/92)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الانتقام مِنْهُ وَيطْلب مِنْهُم الَّذِي يُرِيد وَلَا يمنعونه وَإِذا أَخذ مِنْهُم شَيْئا ذهب بِهِ إِلَى نسَاء وَرِجَال منقطعين وَكَانَت وَفَاته فِي حَيَاة أَبِيه وَهُوَ شَاب ناهز الثَّلَاثِينَ فِي نَيف وَسبعين وَألف باللحية وَدفن بِقَبْر جده وَمن كراماته أَن وَالِده جَاءَ إِلَى بعض أَصْحَابه بعد مَوته يشكو مَا حل بِهِ بعده من ضيق ذَات يَده وَإنَّهُ كَانَ فِي زَمَنه موسع الرزق من بَيته فَأَجَابَهُ صَاحبه بقوله إِن بركته إِن شَاءَ الله تَعَالَى حَاصِلَة حَيا وَمَيتًا وَقَامَ من عِنْده فَمَا مَضَت سَاعَة حَتَّى أَتَاهُ رجل يسْأَله عَن وَلَده فَأخْبرهُ بِمَوْتِهِ وَكَانَ نذر لَهُ بِشَيْء كثير من المَال فَدفعهُ لوالده وَأخْبر بعض الثِّقَات أَنهم لما مَشوا بجنازته أظلها طيور لَا تحصى وَسمع أصوات أَعْلَام كَثِيرَة وَحصل للنَّاس خشوع رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن مُحَمَّد باجثاث بجيم فمثلثتين بَينهم ألف أحد الصُّوفِيَّة الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الصَّالِحين صَاحب المعارف والعوارف والمناقب الشهيرة واللطائف ذكره السَّيِّد شيخ بن عبد الله العيدروس فِي كِتَابه السلسلة وَقَالَ كَانَ من الْمَشَايِخ العارفين الْكِبَار أهل الْأَحْوَال صَاحب كرامات خارقة وفراسات صَادِقَة ولد بتريم وَصَحب أكَابِر السَّادة وَتمسك بالعروة الوثقى فَجمع بَين الْعلم وَالْعَمَل ولازم تَاج العارفين وَإِمَام الْمُتَأَخِّرين السَّيِّد أَحْمد بن علوي باخجدب ورزق التَّوْفِيق حَتَّى أذعن لَهُ أهل الطَّرِيق وأشرقت شمس جماله وأزهر بدر كَمَاله وأذعنت السالكون لهيبة جَلَاله وَلبس الْخِرْقَة من جمَاعَة كثيرين ولبسها مِنْهُ جمَاعَة من العارفين صُحْبَة خلق كَثِيرُونَ وَتخرج بِهِ سالكون كاملون مِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة أَبُو بكر بن أَحْمد الشلي وَالسَّيِّد شيخ الْمَذْكُور وَجَمَاعَة آخَرُونَ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس بعد الْألف وَدفن بمقبرة الفربط الشهيرة بحضرموت
أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الطّيب باعلوي الْمجمع على كَمَاله المنوه بفضله ولد ببندر الشحر الْمُسَمّى سمعون وسلك الطَّرِيق وَحَازَ من الْفضل فنونا شَتَّى ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَإِلَى عدَّة بلدان وَأخذ عَن جمَاعَة من أولي الْعلم وَكَانَ فِي الثغر الْمَذْكُور مرجعاً للأعيان ومجمعاً لفضلاء الزَّمَان يشار إِلَيْهِ بالبنان مكرماً للضيفان مَشْهُورا بِالْولَايَةِ التَّامَّة وَكَانَ يلبس الملابس الفاخرة ويسكن الْبيُوت المشيدة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَدفن بِهِ
أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد تَقِيّ الدّين بن صفي الدّين الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالزهيري الأديب البارع الْفَاضِل كَانَ جيد الْمُشَاركَة فِي فنون الْأَدَب وَله محاضرة(1/93)
فائقة وأشعار شائقة اشْتغل فِي مبدأ أمره على الْعَلامَة مُحَمَّد الْحِجَازِي وَولده عبد الْحق وَبِهِمَا تفقه ثمَّ خالط الأفاضل الْكِبَار وَحضر دروس جدي القَاضِي محب الدّين فِي التَّفْسِير وَتَوَلَّى قَضَاء الشَّافِعِيَّة بمحكمة الْبَاب عوضا عَن القَاضِي محب ابْن جانيك الْمَعْرُوف بالكلنجي فحمدت سيرته ودرس بالجامع الْأمَوِي والمدرسة الجوزية قَالَ البوريني وَأخذ الْمدرسَة عَنهُ رجل رومي اللِّسَان أعجمي التِّبْيَان يُقَال لَهُ مُوسَى فاستدعى التقى من أهل الْبَلدة أَن يكتبوا محضراً فِي أَحْوَال مُوسَى الْمَذْكُور وَهل هُوَ أهل للدرس أم هُوَ جَاهِل بِكُل مسطور فَكتب الْعلمَاء فِيهِ وأطالوا وجالوا فِي ميدان ذمه وصالوا وَمَا تركُوا لَهُ أديماً صَحِيحا وشرحوا عرضه بالْقَوْل تشريحاً حَتَّى أَن الْعَلامَة القَاضِي محب الدّين أنْشد فِيمَا كتب
(تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه الْمدرس)
(فَحق لأهل الْعلم أَن يتمثلوا ... بِبَيْت قديم شاع فِي كل مجْلِس)
(لقد هزلت حَتَّى بدا من هزالها ... كلاها وَحَتَّى سامها كل مُفلس)
قَالَ وكتبت فِي أثْنَاء مَا رقمت
(مدارس آيَات خلت عَن تِلَاوَة ... ومنزل وحى مقفر العرصات)
قلت والأبيات الَّتِي أنشدها جدي للحسين بن سعد أبي عَليّ الْآمِدِيّ وَكَانَت وَفَاة التقي المترجم نَهَار الْأَرْبَعَاء ثامن جمادي الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف عَن بضع وَأَرْبَعين سنة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
الشَّيْخ أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الله بن الإِمَام مُحَمَّد مولى عيديد الشهير كسلفه ببا فَقِيه صَاحب قيدون الإِمَام المفنن الْفَقِيه الْأَجَل ولد بتريم وَحفظ الْإِرْشَاد وَغَيره من الْمُتُون ورسائل كَثِيرَة وَكَانَ عَجِيب الْحِفْظ غَرِيب الْفَهم اشْتغل بِطَلَب الْعلم من صغره ولازمه وتفقه على شيخ الْجَمَاعَة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بِأَفْضَل وَأكْثر انتفاعه بِهِ لملازمته لَهُ حَتَّى تخرج بِهِ وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَعَن الإِمَام زين بن حُسَيْن بِأَفْضَل وَغَيرهم واعتنى بالارشاد وَفتح الْجواد وَكَانَ لَهُ بِهِ اعتناء تَامّ فَكَانَ يستحضر عِبَارَته بالحرف قَالَ الشلي وَلَقَد أَخْبرنِي بعض تلامذته الثِّقَات أَنه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ الْفَتْح قَالَ فَكُنَّا نرى أَنه يحفظه عَن ظهر قلب وَكَانَ يَنْقُلهُ بِالْفَاءِ وَالْوَاو وَكُنَّا ندأب فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَنَجِيء إِلَيْهِ فنجده يستحضر من كَلَام الْمُتَكَلِّمين عَلَيْهِ من استشكال وَجَوَاب مَا لم يطلع عَلَيْهِ أحد منا مَعَ مطالعتنا(1/94)
لشروحه ومبالغتنا فِي ذَلِك وَكَانَ آيَة فِي استحضار مَذْهَب الشَّافِعِي وغرائب مسَائِله وَكَانَ هُوَ وَالشَّيْخ القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن بافقيه متصاحبين وَكَانَا كفرسي رهان وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة جَامعا لكثير من الْفُنُون ثمَّ ارتحل إِلَى دوعن فَأخذ بِهِ عَن جمَاعَة وَأقَام بِهِ مُدَّة ثمَّ قطن بِمَدِينَة قيدون وقصده الْفُضَلَاء وتصدى بهَا لنشر الْعلم والإفادة وَالْفَتْوَى وأسمع النَّاس العالي والنازل وَصَارَت الرحلة إِلَيْهِ واشتهر بِحسن التَّعْلِيم وَأَحْيَا الله تَعَالَى بِهِ كثيرا من الْفُنُون واشتهرت فَتَاوِيهِ فِي كثير من الأقطار مَعَ الْعبارَة الفائقة وَلم تجمع لَهُ فَتَاوَى وَكَانَ لَهُ يَد طولي فِي علم التصوف مَعَ الْمُوَاظبَة على الطَّرِيقَة المحمدية والديانة والشفقة منعزلاً عَن أَبنَاء الدُّنْيَا والملوك إِلَّا فِي فعل سنة أَو شَفَاعَة أَو قَضَاء حَاجَة لأحد من السَّادة وَمَعَ كَمَال التَّوَاضُع والتودد للنَّاس والنصيحة وَالْكَرم والخلق الْعَظِيم والزهد ثمَّ فِي آخر عمره انْعَزل فِي دَاره وَلم يجْتَمع بِأحد إِلَّا آحَاد النَّاس لدقع ضَرُورَة إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَألف بِمَدِينَة قيدون
الشَّيْخ أَبُو بكر ابْن مُحَمَّد بن سِرين بن المقبول بن عُثْمَان بن أَحْمد بن مُوسَى بن أبي بكر ابْن مُحَمَّد ابْن عِيسَى بن القطب صفي الدّين أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ الْعقيلِيّ صَاحب اللِّحْيَة كَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى الكاملين وأصفيائه المرجوع إِلَيْهِم فِي المآرب كثير الْعِبَادَة يقطع لَيْلَة فِي الصَّلَاة ونهاره فِي الصّيام حَرِيصًا على فعل الْخَيْر دَاعيا إِلَى الْبر لَا تفي عبارَة بنعته وَصفَة كَمَاله فالغاية فِيهِ الِاخْتِصَار حفظ الْقُرْآن وَقَامَ بِمنْصب وَالِده من بعده وَكَانَت الْحُكَّام تخشى سطوته وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ مُتَّفق على جلالته وَكَانَت وِلَادَته باللحية فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وَدفن بِقَبْر جده الاستاذ الْكَبِير أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ نفع الله تَعَالَى بِهِ وَسَيَأْتِي ذكر أَبِيه مُحَمَّد وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَهَذَا الْبَيْت أعنى بِبَيْت الزَّيْلَعِيّ لَهُم فِي الْولَايَة الرُّتْبَة المكينة
أَبُو بكر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالدلجي الشَّافِعِي الْمصْرِيّ كَانَ متضلعاً من عُلُوم الْعَرَبيَّة وَاحِدًا فِي الْفُنُون الْعَقْلِيَّة رَأَيْت تَرْجَمته بِخَط صاحبنا الْفَاضِل الْكَامِل مصطفى ابْن فتح الله نزيل مَكَّة المكرمة ذكر فِيهَا أَنه ولد فِي حُدُود سنة خمسين وَألف بدلج من أَعمال صَعِيد مصر وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وجوده وَقدم إِلَى مصر وجاور بالجامع الْأَزْهَر وَحفظ عدَّة متون فِي جملَة فنون مِنْهَا الألفية فِي النَّحْو وَكَانَ يستحضر غَالب شرحها للأشموني ويحفظ أَكثر عباراته عَن ظهر قلب وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين(1/95)
مِنْهُم الشَّمْس البلبلي وسلطان المزاحي والنور الشبراملسي ولازم مَنْصُور الطوخي فَزَوجهُ ابْنَته واختص بِهِ وَكَانَ مَعَ سَلامَة قريحته وَحسن ذكائه وَصِحَّة تصور فطنته ودهائه مبتلياً بالأمراض والأسقام مُسلما لقَضَاء الله حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي شهر رَمَضَان الْمُبَارك من سنة خمس وَتِسْعين وَألف بِمصْر وَدفن بتربة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو بكر بن مَحْمُود بن يُونُس الملقب تَقِيّ الدّين بن شرف الدّين الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْحَكِيم وَسَيَأْتِي ذكر وَالِده شرف الدّين خطيب أموي دمشق وَرَئِيس أطبائها ولد تَقِيّ الدّين هَذَا بِدِمَشْق واشتغل وَحصل وَأخذ عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَابْنه الشهَاب وَقَرَأَ الطِّبّ على وَالِده واعتنى بِبَقِيَّة الْفُنُون حَتَّى برع فِي العقليات وَكَانَ مفرط الذكاء حسن المطالعة وَكَانَ لَهُ يَد طولي فِي الْعُلُوم الغريبة مثل علم الوفق وَعلم الْحَرْف وَأخذ التصوف عَن الشَّيْخ أَحْمد بن سُلَيْمَان الصُّوفِي وَأخذ عَنهُ الطَّرِيقَة القادرية وسافر إِلَى قسطنطينية فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وانْتهى أمره بهَا إِلَى أَن تصل بالسلطان مُرَاد بن سليم وَصَارَ مصاحباً لَهُ وحظي عِنْده وَحكى البوريني أَن سَبَب اتِّصَاله بِهِ هُوَ مَا اشهر عَن السُّلْطَان مُرَاد هَذَا من أَنه كَانَ يمِيل إِلَى المتصوفة وَيُحب كَلَامهم وشطحاتهم وَرُبمَا كَانَ هُوَ يتَكَلَّم بِشَيْء من اصطلاحاتهم فَكَانَ فِي ابْتِدَاء دُخُوله أَن رجلا من حَوَاشِي السلطنة يُقَال لَهُ ناصف وَكَانَ قَصِيرا جدا وَكَانَ السُّلْطَان يحب هَذَا النَّوْع من أَنْوَاع الحفدة فَدخل يَوْمًا تَقِيّ الدّين إِلَى مقرّ السُّلْطَان فَبَصر بِهِ ناصف الْمَذْكُور فَقَالَ لَهُ عندنَا بعض مرضى من أَوْلَاد الخزينة السُّلْطَانِيَّة وَقد قَالَ بعض النَّاس أَن عنْدكُمْ علما بالطب وعلماً من الْعُلُوم الْمُتَعَلّقَة بالأسرار الالهية فَقَالَ نَحن نداوي بالعقاقير المعنوية فَقَالَ لَهُ هِيَ مرادنا فَكتب لَهُ فِي فنجان بعض كَلِمَات وأسرارا فَكَانَ ذَلِك صَادف وُقُوع الْمَقَادِير بشفاء من سقى من ذَلِك الفنجان فَقَالَ ناصف الْمَذْكُور للسُّلْطَان مُرَاد لَك مطلوبك فَإِن مَوْلَانَا السُّلْطَان من زمَان طَوِيل يطْلب رجلا من أَرْبَاب الْأَحْوَال وَقد قدم الينا رجل من رجال الشَّام وَسَماهُ وذكرانه داوى المرضى الَّذِي عندنَا بِالْكِتَابَةِ والتعويذات فَيُقَال إِن السُّلْطَان طلبه وَرَآهُ وَيُقَال بل كَانَ يراسله وَلم تزل حَاله ترتقي إِلَى أَن تقدم على الموَالِي وَرُبمَا صَار يأنف من التَّوَاضُع لقَضَاء العساكر فحدوه وَكَانَ إِمَام السُّلْطَان قد ضَاقَ ذرعه مِنْهُ وَكَانَ يتظاهر بإنكار الْمُنْكَرَات(1/96)
فحرشه عَلَيْهِ الموَالِي فَبَيْنَمَا هُوَ ذَات يَوْم ذَاهِب إِلَى مقرّ السُّلْطَان أدْركهُ عِنْد الْبَاب فأغرى بِهِ جمَاعَة من الطّلبَة فمزقوا عباءة فرسه وأهانوه ثمَّ رفعوا أمره إِلَى السُّلْطَان وأدخلوا عَلَيْهِ أموراً أوجبت أَن طرد من قسطنطينية إِلَى أَلْوَاح من ضواحي مصر وَكَانَ ذَلِك فِي سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ بعد الْألف ثمَّ اسْتَأْذن بالمكاتبات حَتَّى أذن لَهُ بِدُخُول الْقَاهِرَة ثمَّ ورد الشَّام فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف ثمَّ ذهب إِلَى الرّوم وَلم يَتَيَسَّر لَهُ اجْتِمَاع بالسلطان وَلَا أمكنه الْعود إِلَى مَا كَانَ حَتَّى توفّي بِبِلَاد الرّوم وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن مَسْعُود المغربي المراكشي الْمَالِكِي مفتي الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق ذكره البوريني وَقَالَ فِي تَرْجَمته أَخْبرنِي من لَفظه أَن مولده بِمَدِينَة مراكش وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَقَالَ لي أَن شهرتهم بمراكش بِبَيْت الوردي ورد إِلَى دمشق أَولا من مصر فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر وَأقَام بهَا إِلَى سنة ثَلَاث بعد الْألف ثمَّ قدم إِلَى دمشق وَألقى بهَا عَصا الترحال ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الشرابيشية لِأَنَّهَا مَشْرُوطَة للمالكية قَالَ وَأَخْبرنِي أَنه قَرَأَ بِمصْر الْفِقْه على شيخ الْمَالِكِيَّة الشَّمْس مُحَمَّد البنوفري وعَلى الشَّيْخ طه الْمَالِكِي وَغَيرهمَا وَأخذ الْأُصُول عَن الشَّيْخ حسن الطناني ومعظم قِرَاءَته كَانَت على أبي النجا سَالم السنهوري الْمُحدث الْكَبِير مفتي الْمَالِكِيَّة فِي عصره بِمصْر وَذكره الْغَزِّي فِي لطف السمر وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة فِي الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا لكنه كَانَ بعيد الْفَهم وَأخذ بِالشَّام عَن مفتي الْمَالِكِيَّة بهَا عَلَاء الدّين بن مرجل وَأفْتى بعد القَاضِي مُحَمَّد بن المغربي وَولي تدريس الغزالية ثمَّ تفرغ عَنْهَا ليحيى بن أبي الصفاء الْمَعْرُوف بِابْن محَاسِن وَذكر البوريني أَن وِلَادَته كَانَ فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا قَالَ وَفِي تِلْكَ السّنة مَاتَ مولَايَ مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني سُلْطَان إفريقية ومراكش وفاس والسوس والأقصى ووفاة أبي بكر فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بِبَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر بن المقبول بن عبد الْغفار بن أبي بكر بن المقبول تعيش الصَّائِم رَمَضَان فِي المهد ابْن أبي بكر صَاحب الْحَال الْأَكْبَر ابْن مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُلْطَان العارفين أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ الْعقيلِيّ صَاحب اللِّحْيَة كَانَ شَيخا جَلِيلًا كَامِل الْعقل غزير الْفضل شَدِيد الهيبة بعيد الهمة ذَا رَأْي ثاقب محباً للفضائل تَارِكًا للرذائل باذلاً فِي أَمَاكِن الْعَطاء ممسكاً فِي أَمَاكِن الحزم مرجعاً عِنْد الخطوب مفزعاً عِنْد(1/97)
مَا يَنُوب حَالا للمشكلات بِغَرَائِب الكرامات لَهُ فِي الْعلم وَالْولَايَة يَد متمكنة ولد باللحية وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وجوده وَأخذ عَن وَالِده وَتخرج بأَخيه الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد السطيحة وجد واجتهد حَتَّى فاق روى أَنه لما قدم قانصوه باشا مُتَوَجها إِلَى الْيمن كَانَ المترجم بِمَكَّة فوشى بِهِ إِلَيْهِ وَإنَّهُ هُوَ صَاحب اللِّحْيَة وسلطان نَوَاحِيهَا وأوحدها بِلَا خلاف وَأَنه لَا يتم لَهُ الْأَمر حَتَّى يقْتله فَأتوا بِهِ وَقت الْعَصْر إِلَيْهِ على حَالَة غير مرضية وَذهب مَعَه تِلْمِيذه الْفَقِيه مَقْبُول بن أَحْمد المحجب فَلَمَّا دخلا عَلَيْهِ تلقاهما وأجلسهما مَكَانَهُ فَلَمَّا أجلسا سكت وَلم يقدر على الْكَلَام والتحرك وَاسْتمرّ مطرقاً وَأَتْبَاعه والجند واقفون والجميع مبهتون حَتَّى دخل وَقت الْمغرب فَقَالَ لَهُ يَا قانصوه قُم صل الْمغرب فَالْتَفت وَقَامَ كالمنتبه من نَومه وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي أَلَك حَاجَة نقضيها لَك فَقَالَ لَهُ لَا حَاجَة لي عنْدك وَقَامَ من عِنْده وزادت جلالته فَلَمَّا ذهب من عِنْده قَالَ للفقيه مَقْبُول لَعَلَّك خفت مِنْهُ فَقَالَ نعم فَقَالَ وَالله مَا دخلت عَلَيْهِ إِلَّا وَأعْطيت التَّصَرُّف فِيهِ وَفِي عسكره جمياً وَلما قَامَ من عِنْده انْقَطَعت سبحته فشرعوا فِي جمعهَا وَجمع قانصوه مَعَهم لما تبدد مِنْهَا فَقَالَ الْفَقِيه مَقْبُول اللَّهُمَّ شتت شَمله وَفرق جمعه كَمَا تَفَرَّقت هَذِه السبحة فَاسْتَجَاب الله تَعَالَى دعاءه فَإِنَّهُ لما وصل إِلَى الْيمن وطغى وبغى وَقتل جمَاعَة من السَّادة والأعيان قَامَت عَلَيْهِ عساكره وَأَرَادُوا قَتله فهرب فِي ليله مِنْهُم وأتى طَائِعا بِنَفسِهِ إِلَى السَّيِّد الْحسن بن الإِمَام الْقَاسِم وَقَالَ لَهُ هَا أَنا بَين يَديك فافعل بِي مَا تشَاء فَقَالَ لَو جئْتُك على هَذَا الْحَال مَا كنت تفعل بِي فَقَالَ لَهُ أَقْتلك شَرّ قتلة فَضَحِك ثمَّ سَأَلَهُ عَمَّا يُرِيد فَقَالَ لَهُ تبلغني إِلَى مَكَّة فَأرْسل من جماعته من بلغه إِلَى مَكَّة ثمَّ توجه مِنْهَا إِلَى الرّوم وتبدد عسكره وَمن خبر قانصوه انه لما دخل إِلَى الْيمن دخل بهيئة عَظِيمَة من كَثْرَة العساكر والجند وَزِيَادَة المَال وَقُوَّة السطوة وَكَانَ بعض السَّادة من بني بَحر بلغه خَبره فَأرْسل جاسوساً من أَتْبَاعه إِلَى اللِّحْيَة وَكَانَ قانصوه بهَا وَقَالَ لَهُ إِذا خرج من اللِّحْيَة فَاتبعهُ إِلَى بَيت الْفَقِيه فِي الزيدية وَانْظُر هَل يذهب لبيت عَطاء لزيارة سَيِّدي أبي الْغَيْث ابْن جميل أم لَا فَتَبِعَهُ حَتَّى توجه من الزيدية إِلَى الضُّحَى وَلم يزره فَرجع إِلَى السَّيِّد وَأخْبرهُ فَقَالَ هَذَا الرجل لَا يتم لَهُ حَال بِالْيمن وَلَا يفتح عَلَيْهِ فَإِن مَفَاتِيح الْيمن بيد سَيِّدي أبي الْغَيْث يُعْطِيهَا لمن شَاءَ كَيفَ شَاءَ بِإِذن الله تَعَالَى فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك ثمَّ إِن قانصوه أَتَى إِلَى هَذَا السَّيِّد وَكَانَ قد زَاد طغيانه فَقَالَ لَهُ اقْربْ إِلَى عَسى أَقرَأ عَلَيْك شَيْئا من الْقُرْآن فيشرح الله بِهِ صدرك فَقَالَ لَهُ أَنا صَدْرِي مشروح(1/98)
بِوَاسِطَة سَيِّدي أَحْمد البدوي وَلَا يقدر أحد أَن ينْصَرف عَليّ ببركته فَأنى أخذت الْعَهْد على خلفائه وَأَنا من المنسوبين إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سَيِّدي أَحْمد البدوي نعلم أَنه من أكَابِر أهل الله وَلَكِن لَا تصرف لَهُ فِي أَرْضنَا وَحَيْثُ أَنَّك أَبيت ذَلِك فوَاللَّه لَا بُد أَن تَأتي إِلَيّ وتجلس تَحت سَرِيرِي هَذَا وَأَنت بأسوء حَال فَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لما أرْسلهُ السَّيِّد الْحسن بن الْقَاسِم إِلَى مَكَّة مر على السَّيِّد وَجَاء إِلَيْهِ معتذراً وَجلسَ تَحت سَرِيره كَمَا قَالَ لَهُ وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة كرامات كَثِيرَة مِنْهَا أَنه مرض بِمَكَّة مَرضا شَدِيدا أشرف فِيهِ على الْمَوْت فَدخل عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْفَقِيه وحزن عَلَيْهِ لما رأى حَاله اشْتَدَّ ومرضه زَاد وَقَالَ فِي نَفسه إِن هَذَا مرض الْمَوْت فبمجرد وُرُود هَذَا الخاطر عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يَا مَقْبُول لَا تخف عَليّ فَإِنِّي لَا أَمُوت إِلَّا باللحية فَعُوفِيَ من ذَلِك الْمَرَض وَقدم اللِّحْيَة فَلَمَّا دخل بَيته تباشر أَهله بقدومه وفرحوا وجمعوا النِّسَاء ليفعلوا على عَادَتهم من الفطرفة والغناء وَغير ذَلِك فَنَادَى بَنَاته وَقَالَ لَهُم مَا هَذَا الَّذِي تفعلونه أَنا مَا جِئْت عنْدكُمْ إِلَّا لأموت من قريب فصاحوا لما يعْرفُونَ من حَاله وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وعمره قريب من تسعين سنة باللحية وَدفن بِقرب تربة جده الشَّيْخ أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ نفع الله تَعَالَى بهم
الأديب أَبُو بكر بن مَنْصُور بن بَرَكَات بن حسن بن عَليّ الْعمريّ الدِّمَشْقِي شيخ الْأَدَب بِالشَّام الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور أحد الأدباء الْمُحْسِنِينَ جمع شعره بَين براعة الْأَلْفَاظ وبداعة الْمعَانِي وملاحة السبك وجودة التَّرْكِيب وَكَانَ ينظم الموشح وَالِد وَبَيت والزجل والمواليا والقوما والكان وَكَانَ وَهُوَ فِي كل فن مِنْهَا سَابق لَا يلْحق ومتقدم لَا يدْرك وَكَانَ فِي عنفوان شبابه كثير الرحلة دَائِم النقلَة فجاب الْبِلَاد وَدخل الرّوم وبلاد الشرق ورحل إِلَى مصر مَرَّات عديدة وَلَقي جَمَاهِير النبلاء وأخباره كَثِيرَة وَوَقَائعه عَجِيبَة وَقد ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَمَا انصفه فَقَالَ فِي وَصفه تمْتَام تحسن من غَيره كَلَامه يعجم لِسَانه مَا تعربه أقلامه ويستخرج فكره من الشّعْر مَا يضارع الرَّوْض المنمنم فَهُوَ أشعر بني نَوعه مَا لم يتَكَلَّم وَله من الزجل مَا يحمد الغباري غباره وَمن جَمِيع فنون الشّعْر مَا يمدح أَرْبَابهَا فِيهِ آثاره وَكَانَ على طَريقَة يحيى بن أَكْثَم من الْأَعْرَاض عَن الحبيب الْمقنع والميل إِلَى المعمم وَمن غَرِيب خَبره أَنه هام بِغُلَام أَمْرَد كَأَنَّهُ الطاوس فِي مشيته لكنه أركع من هدهد ووشي بِهِ إِلَى الْحَاكِم فَأرْسل إِلَيْهِ جمَاعَة فِي إِحْدَى الحنادس وَكَانَ مجاوراً بحجرة فِي بعض(1/99)
الْمدَارِس فوجدا على حَالَة يقبح التَّصْرِيح بذكرها الْقَبِيح فَأمر بِهِ فِي غَد تِلْكَ اللَّيْلَة أَن يطوق عُنُقه بساقي ذَلِك الْغُلَام وَيُطَاف بِهِ فِي الْأَسْوَاق بمشهد من الْخَاص وَالْعَام فاغتنمها فرْصَة وَجعل يقبلهما إِلَى الْأَقْدَام انْتهى قلت وَلَقَد فحصت عَن هَذَا الْخَبَر من كل من لَقيته مِمَّن أدْرك الْعمريّ فَلم أر لَهُ عِنْد أحد أثرا وَفِي ظَنِّي الرَّاجِح أَنه مفتري وَالله أعلم بحقيقته نعم إِن الْعمريّ صَاحب طبع ميال للجمال والميل عِنْد من يبري الساحة مَظَنَّة الِاحْتِمَال وَبِالْجُمْلَةِ فَمثل هَذَا الْخَبَر لَا ينْقل الاليوهي وبالخصوص عِنْدِي فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَعْنِي بِذكر وَلَا أَنَّهَا وَحَاصِل القَوْل أَن الْعمريّ من كملاء عصره ونبغاء دهره غير أَنه أخرج نَفسه من طَرِيق الْعلم واحترف فَصَارَ عطاراً ولوتزياً بزِي الْعلمَاء لأدرك مرامه وفَاق أقرانه وَكَانَ كثير النّظم وشعره دائر فِي أَيدي النَّاس وَلَو جمع لَهُ ديوَان لجاء فِي مجلدات وَقد وقفت على قِطْعَة مجلدة مِنْهُ وَقد كَانَ جمعهَا هُوَ بِنَفسِهِ فِي ابْتِدَاء أمره وَذكر بعض وقائع وَقعت لَهُ مِنْهَا مَا حَكَاهُ قَالَ حضرت مرّة مَجْلِسا وَفِيه بعض أفاضل من أهل الْأَدَب فأفضت المحاضرة إِلَى ذكر الْخَيل وعتاقها وسبقها وَمَا وصفتها بذلك الشُّعَرَاء من الْجَاهِلِيَّة والإسلاميين فَأَنْشد بعض الْحَاضِرين أَبْيَات الشَّيْخ صفي الدّين عبد الْعَزِيز بن سرابا الحلى وَهِي مَشْهُورَة فِي وصف جواد الَّتِي من جُمْلَتهَا قَوْله
(إِذا رميت سهامي فَوق صهوته ... مرت بهَا دِيَة وانحطت عَن الكفل)
فغلطه بعض الْحَاضِرين وَقَالَ لَهُ الرِّوَايَة تهاديه بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق لَا بِالْيَاءِ الْوحدَة وَزَاد اخْتِلَاف الْجَمَاعَة فِي ذَلِك فَكتبت إِلَى المرحوم الْحسن البوريني هَذِه الأبيات ليبين للْجَمَاعَة الصَّوَاب وَهِي قولى
(يَا شيخ الْإِسْلَام يَا ذَا الْعلم وَالْعَمَل ... وَقَائِل الْفَصْل فِي الأبحاث والجدل)
(وموضح الْحق بَين الْخلق مظهره ... بِالصّدقِ وَالْقَصْد فِيهِ أوضح السبل)
(مَاذَا تَقول وَلَا زَالَت مَقَالَتك الْعليا ... وقاليك معدوداً من السّفل)
(فِي قَول شاعرها الْمَشْهُور بارعها ... من اعتلى رُتْبَة فِي الأعصر الأول)
(عبد الْعَزِيز صفي الدّين من عمرت ... أبياته بنسيب الشّعْر والغزل)
(فِي وصف طرف يفوت الطّرف حَيْثُ جرى ... ويسبق الرّيح إِن مَا سَار عَن عجل)
(إِذا رميت سهامي فَوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عَن الكفل)
(بالبا بهاديه أَو بِالتَّاءِ قَالَ أفد ... جَوَاب حبر ببذل الْفضل محتفل)(1/100)
(وجد بِلَفْظ يحلى السّمع جوهره ... أغْلى من الدّرّ أَو أحلى من الْعَسَل)
(وَهل للفظ تهاديه هُنَا عمل ... يَلِيق أم هُوَ مَنْسُوب إِلَى الْخلَل)
(واشف الصُّدُور كَمَا عودتنا كرما ... بِحل كل عويص مُشكل جلل)
(لَا زلت ترقى إِلَى أَعلَى الطباق علا ... فِي نعْمَة الله مَأْمُوما من الخطل)
(مَا أطلع الله معنى كَانَ محتجبا ... فِي غيهب الْغَيْب حَتَّى صَار كالمثل)
فَكتب إِلَيّ الْحسن حوابا قَوْله
(الْحَمد لله واقينا من الزلل ... رب الْعباد وشافينا من الْعِلَل)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار سيدنَا ... خير الْبَريَّة من حاف ومنتعل)
(مُحَمَّد سيد الأكوان فاطبة ... عين النَّبِيين طه أكمل الرُّسُل)
(وَآله الطيبين الطاهرين أولى الْمجد ... الَّذين مَشوا فِي أقوم السبل)
(وَصَحبه السَّادة الأمجاد من نصحوا ... وَجَاهدُوا بمواضي الْبيض والأسل)
(صديقَة وَكَذَا الْفَارُوق بعد وَذُو النورين ... والمرتضى بَحر الْعُلُوم على)
(والستة الشهب ثمَّ التَّابِعين فهم ... أهل التقى والنقا وَالْعلم وَالْعَمَل)
(وَبعد أَهلا بنظم لذ مشربه ... أشهى من الْمَنّ أَو أحلى من الْعَسَل)
(مهديه لَا بَرحت تنمو فضائله ... وَلم يزل قدره فَوق السماك على)
(أَتَى يسائلنا عَن جهل ذِي لَكِن ... بل قَول ذِي خطأ قد شيب بالخطل)
(لم يدر أَن الهوادي جمع هادية ... للخيل تعزى وَلَا تعزى إِلَى الرجل)
(وَأَنَّهَا عنق الطّرف الَّذِي مرق السِّهَام ... عَنْهَا وَلم تَبْرَح لَدَى الكفل)
(وَمَا للفظ تهاديه هُنَا عمل ... إِذْ المصادر تهديه من الزلل)
(نَعُوذ بِاللَّه من جهل يقارنه ... بحمق فَصَاحب ذَا ينمي إِلَى السّفل)
(وَذَا جَوَاب بَعَثْنَاهُ على عجل ... يسْعَى لخدمتكم فِي غَايَة الخجل)
(هاديتم الرَّد هادينا كم خرزاً ... هذي المهادة قل للجاهل الرذل)
(وَدم مدى الدَّهْر فِي فضل وَفِي نعم ... ماروا ذَوُو الْجَهْل فِي غبن وَفِي بخل)
وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ قَالَ دخلت إِلَى الكلاسة الْمعدة لبيع الْكتب وَرَاء الْحَائِط الشمالي من الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق فَرَأَيْت بيد الدَّلال مقامات الحريري وَكتاب لَذَّة السّمع فِي وصف الدمع للصلاح الصَّفَدِي يذكر فِيهِ محَاسِن الْعين ومعايبها فزدت فِي الْكِتَابَيْنِ واشتريتهما من صَاحبهمَا وَهُوَ القَاضِي الشوبكي الْحَنْبَلِيّ وَجَلَست أعد لَهُ الثّمن(1/101)
إِذْ دخل الشَّيْخ إِسْمَاعِيل النابلسي الشَّافِعِي وَكَانَ شرس الْأَخْلَاق سريع الْغَضَب فَلَمَّا أبْصر الْكِتَابَيْنِ قَالَ بكم صَارا فَقَالَ لَهُ أَن هَذَا الشَّاب اشتراهما بِكَذَا وَوَقع إِيجَاب وَقبُول بَين البَائِع وَالْمُشْتَرِي قَالَ لَهُ عَليّ بِقِطْعَة زَائِدَة فخاف الدَّلال من حنقه وَسكت فَلم يسعني إِلَّا أَنِّي قلت وَقطعَة أُخْرَى فَقَالَ الشخ وثالثة قلب ورابعة إِلَى أَن وصلت زِيَادَتي إِلَى عشرَة فَأَغْلَظ لي الشَّيْخ كلَاما قبيحا فاستخرت الله وَأخذت دراهمي وانصرفت وَعِنْدِي مَا عِنْدِي فَإِنَّهُ شيخ الْإِسْلَام وَذُو جاه عَظِيم عِنْد الْحُكَّام وَلَا أقدر على مقاومته فَاشْترى الْكِتَابَيْنِ الْمَذْكُورين فنظمت تِلْكَ اللَّيْلَة قصيدة وَدخلت عَلَيْهِ بهَا فِي الْيَوْم الثَّانِي وَهُوَ يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة إِلَى قصرة بسوق السيورية والعنبرانيين وَعند صهره الْعَلامَة القَاضِي محب الدّين الْحَنَفِيّ والمرحوم أَبُو الْمَعَالِي درويش الطالوي وَالْقَاضِي شعْبَان قَاضِي بَيت الْمُقَدّس وقدمتها إِلَيْهِ وَهِي قولي
(يَا إِمَامًا علا على النَّاس قدرا ... وهما مَا قد حَاز فضلا وفخرا)
(وأديبا من لَفظه ينظم الدّرّ ... وَفِي شعره يرى السحر نثرا)
(فقت حتما على بني الْعَصْر فِي السّلم ... وَفِي الْجُود فقت حَاتِم ذكرا)
(كفك الْغَيْث فِي الْعَطاء وَأَنت اللَّيْث ... قسرا وَفِي المهابة كسرا)
(جِئْت أَشْكُو إِلَيْك يَا وَاسع الْجُود ... كلَاما أبديته لي نكرا)
(أَن أكن مذنبا فمعظم ذَنبي ... أنني زِدْت فِي المقامات عشرا)
(فَسمِعت الغليظ مِنْكُم وحسبي ... أنني بِالسُّكُوتِ قد نلْت أجرا)
(وثناني الْحيَاء وَهُوَ رِدَاء ... لفتى لم يمل مَعَ النَّفس دهرا)
(فاسمحوا للْفَقِير بالكتب فضلا ... مِنْكُم وَاجْعَلُوا مَعَ الْعسر يسرا)
(أنني مغرم بجمعي للآداب ... لما غَدَوْت بالشعر مغرى)
(لَا تخل أنني من الشّعْر عَار ... حَيْثُ أَنِّي اكْتسبت ثوبا تهرى)
(لي فِي النّظم قُوَّة والمعاني ... لبناني تنقاد طَوْعًا وقهراً)
(أَن تغزلت فِي الجفون وَفِي الأحداق ... تأنس من التغزل سحرًا)
(أَو وصفت الجبين وَالْفرق وَالْفرع ... فَإِنِّي أبدى من اللَّيْل فجراً)
(أَو أدرت المديح فِي أحد الْأَعْيَان ... أظهت من بديعي درا)
(وَكَذَا أَن هجوت أفحشت فِي القَوْل ... لِأَنِّي أحشوه نَهرا وزجرا)(1/102)
(بِلِسَان كَأَنَّهُ اللولب الدوار ... أَو كالحسام مدا وقصرا)
(ولعمري لقد بنيت من الْفَهم ... بِنَاء مشيدا مشمخرا)
(وقرأت الحَدِيث وَالْفِقْه والمنطق ... حَتَّى غَدَوْت للْعلم صهرا)
(لم أفه بِالَّذِي ذكرت سوى للسَّيِّد ... المحبي الَّذِي طَابَ نجرا)
(فليحسن فِي الظنون فَإِنِّي ... لم أرم بِالَّذِي تبجحت فخرا)
(عش مدى الدَّهْر فِي السَّعَادَة ... والإقبال وَالْخَيْر مَا سقى الْقطر غبرا)
فَلَمَّا قَرَأَهَا تغير لَونه وظنها دسيسة عَلَيْهِ وَإِنِّي لست ناظمها وَقَالَ لي خُذ اقرأها أَنْت فَلَمَّا وصلت إِلَى قولي مِنْهَا بِنَاء مشخمرا قَالَ لي قف فَمَا معنى مشخمرا قلت مرتفعا قَالَ لَيْسَ هَذَا من كَلَام الْعَرَب قلت بلَى من كَلَام الْعَرَب هَذَا بشر بن أبي عوَانَة قَالَه وَغَيره قَالَ أَو تعرف مَا قَالَه بشر بن أبي عوَانَة قلت وأحفظ القصيدة مِنْهَا قَالَ أنشدها إِن كنت صَادِقا فَقلت نقل صَاحب قراضة الذَّهَب أَنه كتب بشر بن أبي عوَانَة الْعَبْدي الجاهلي إِلَى أُخْته فَاطِمَة وَكَانَ قد خرج فِي ابْتِغَاء مهر ابْنة عَمه فَعرض لَهُ أَسد فَقتل الْأسد وَقَالَ
(أفاطم لَو شهِدت بِبَطن خبت ... وَقد لَاقَى الهزبر أَخَاك بشرا)
(إِذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لَاقَى هزبرا)
(تبهنس أَو تقاعس عَنهُ مهري ... محاذرة فَقلت عقرت مهْرا)
(أنل قدمي ظهر الأَرْض إِنِّي ... رَأَيْت الأَرْض أتبت مِنْك ظهرا)
(فحين نزلت مد إِلَيّ طرفا ... تخال الْمَوْت يلمع مِنْهُ شزرا)
(فَقلت لَهُ وَقد أبدى نصالا ... محددة ووجها مكفهرا)
(يدل بمخلب وبحد نَاب ... وباللحظات تحسبهن جمرا)
(وَفِي يمناي ماضي الْحَد أبقى ... بمضربه قراع الدَّهْر أثرا)
(ألم يبلغك مَا فعلت ظباه ... بكاظمة غَدَاة قتلت عمرا)
(خرجت تروم للأشبال قوتا ... ورمت لبِنْت عمي الْيَوْم مهْرا)
(وقلبي مثل قَلْبك لَيْسَ يخْشَى ... مصاولة فَكيف يخَاف ذعرا)
(فَفِيمَ تروم مثلي أَن يُولى ... وَيجْعَل فِي يَديك النَّفس قسرا)
(نَصَحْتُك فالتمس يَا لَيْث غَيْرِي ... طَعَاما إِن لحمي كَانَ مرا)
(محضتك نصح ذِي شفق فحاذر ... مارمي لَا تكن بِالْمَوْتِ غرا)(1/103)
(فَلَمَّا ظن أَن النصح غش ... فخالفني كَأَنِّي قلت هجرا)
(خطا وخطوت من أسدين راما ... مراما كَانَ إِذْ طلباه أمرا)
(يكفكف غيلَة أحدى يَدَيْهِ ... ويبسط للوثوب على أُخْرَى)
(هززت لَهُ الحسام فخلت إِنِّي ... شققت بِهِ من الظلماء فجرا)
(وأطلقت المهند من يَمِيني ... فقد لَهُ من الأضلاع عشرا)
(وجدت لَهُ يثابة أرته ... بِأَن كَذبته مَا مِنْهُ عذرا)
(بضربة فيصل تركته شفعا ... وَكَانَ كَأَنَّهُ الجلمود وترا)
(فَخر مضرجا بِدَم كَأَنِّي ... هدمت بِهِ بِنَاء مشخمرا)
(فَقلت لَهُ يعز عَليّ أَنِّي ... قتلت مماثلي جلدا ونهرا)
(وَلَكِن رمت أمرا لم يرمه ... سواك فَلم أطق يَا لَيْث صبرا)
(تحاول أَن تعلمني فِرَارًا ... لعمر أبي لقد حاولت نكرا)
(فَلَا تغْضب فقد لاقيت حرا ... يحاذر أَن يعاب فَمَاتَ حرا)
فَكَانَ قراءتي لَهَا أَشد على الشَّيْخ من سَماع قصيدتي إِذْ قصَّة بشر مَعَ الْأسد كقصتي مَعَ الشَّيْخ فَلم يَسعهُ إِلَّا أَن قَالَ لعَبْدِهِ ياقوت الْمَشْهُور هَات الْكِتَابَيْنِ وناولهما لهَذَا الرجل ثمَّ اعتذر إِلَيّ عَفا الله عَنهُ فأخذتهما وانصرفت شاكرا دَاعيا وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ قَالَ إِنَّنِي امتدحت المرحوم قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام الْمولى عبد الرَّحِيم الرُّومِي الْحَنَفِيّ سنة ثَان وَألف بقصيدة ميمية وَقد فقدتها من بَين مسوداتي الْآن وَكنت أستكتب فِيهَا المرحوم الشَّيْخ كَمَال الدّين بن بَرَكَات بن الكيال فَلَمَّا قدمتها إِلَيْهِ أجازني بجائزة حَسَنَة فَلَمَّا نمت تِلْكَ اللَّيْلَة رَأَيْت كَأَنِّي جَالس بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يتَأَمَّل القصيدة وَيَقُول يَا شيخ هَذَا نظمك فَقلت وَالله يَا سَيِّدي فَقَالَ لي وخطك فَقلت لَهُ نعم فَتَبَسَّمَ مُنْكرا ثمَّ تنَاول الدواة وَقطع قرطاس وقدمهما إِلَيّ ثمَّ قَالَ لي خُذ انظم نصف بَيت واكتبه فتناولتهما وكتبت
(أقضى قُضَاة الورى عبد الرَّحِيم غَدا ... يَقُول ممتحنا والصدق شيمته)
(انظم لنا نصف بَيت قلت ممتثلا ... هَا قد نظمت وَلَكِن أَيْن قِيمَته)
ثمَّ ناولته القرطاس فاهتز طَربا وَأبْدى عجبا وَقَالَ هَذَا الْخط من جنس قَول الشَّاعِر عَيناهُ فَجعلت وَقلت لَهُ لَعَلَّ مَوْلَانَا يُشِير إِلَى قَوْله
(عَيناهُ قد شهِدت بِأَنِّي مُخطئ ... وَأَتَتْ بِخَط عذاره تذكارا)(1/104)
(يَا قَاضِي الْحبّ اتئد فِي قصتي ... فالخط زور وَالشُّهُود سكارى)
فَلَمَّا سمع ذَلِك مني ضحك ضحكا عَالِيا وَجعل يضْرب بِيَدِهِ على ركبته وَيَقُول الْآن حكيت فَاسْتَيْقَظت من مَنَامِي وحس الضَّرْب وَآذَانِي وَمِنْهَا مَا قَالَ نَشأ بحلب غُلَام بديع الْجمال من أقَارِب شيخ الْإِسْلَام المرحوم الشَّيْخ زين الدّين عمر العرضي والغلام شرِيف أَنْصَارِي فنظم فِيهِ أدباء حلب مقاطيع كَثِيرَة فِي آخر كل مَقْطُوع مِنْهَا وَالْحسن تَحت عِمَامَة الْأنْصَارِيّ ثمَّ أرْسلُوا إِلَى دمشق يطْلبُونَ من أدبائها مقاطيع على نمط مَا نظموه فنظم أدباء الشَّام مقاطيع كَثِيره وأرسلوها إِلَيْهِم مِنْهَا
(سَأَلُوا عَن الخسن البديع تجاهلا ... وَالْحق لَا يخفى عَن الْأَبْصَار)
(فأجبت مَا هَذَا التجاهل والعمى ... وَالْحسن تَحت عِمَامَة الْأنْصَارِيّ)
وَمن ذَلِك قولي فِيهِ
(قَالُوا أهل اجْتمعت صِفَات الْحسن فِي ... أحد وَلم تحجب عَن الْأَبْصَار)
(قلت الملاحة وَالْجمال بأسره ... وَالْحسن تَحت عِمَامَة الْأنْصَارِيّ)
وَمن ذَلِك قولي فِيهِ أَيْضا
(مَا حلت عَن حلب وَكنت مُهَاجرا ... لِلْحسنِ حَيْثُ السعد من أَنْصَارِي)
(فالسعد لَاحَ بِوَجْهِهِ أنصاريها ... وَالْحسن تَحت عِمَامَة الْأنْصَارِيّ)
وَمِنْهَا قَالَ وَوَقع بحلب نادرة غَرِيبَة حضرتها فِي سنة سِتّ بعد الْألف وَهِي أَن شخصا يُسمى بَدْرًا عشق غُلَاما فتعاتبا يَوْمًا فَقَالَ لَهُ الْغُلَام إِن كنت تحبني فارم بِنَفْسِك فِي الخَنْدَق فَفعل ذَلِك ثمَّ أخرج مِنْهُ بعد أَيَّام وَدفن فنظم فِيهِ أدباء حلب مواليات كَثِيرَة آخر كل مواليا مِنْهَا إِن كنت بتحب وَاصل جرى للخندق إِلَّا أَنهم لم يَأْتُوا بِالْمَقْصُودِ فِيمَا نظموا فَسَأَلَنِي بَعضهم نظم مواليات فَقَالَت
(قَوس الْإِرَادَة على مغرم شجي بندق ... من أجل مَحْبُوب لأَجله النَّاس تتزندق)
(فَقَالَ لَو يَوْم قله بس تتفندق ... إِن كنت بتحب وَاصل جرى للخندق)
وَمن شعره الْمَجْمُوع فِي السّفر الْمَذْكُور قَوْله مخمسا أَبْيَات ابْن الجهم رحمهمَا الله تَعَالَى
(لَا تلح صبابه الْهوى ولعاً ... وَلَو سقَاهُ من كاسه جرعاً)
(وَإِن صغى للغذول أَو سمعا ... دَعه يُدَارِي فَنعم مَا صنعا)
(لَو لم يكن عَاشِقًا لما خضعاً ... )
(كَيفَ وَوصل الحبيب مُمْتَنع ... يهدأ صب أحشاؤه قطع)(1/105)
(وَلَيْسَ فِيمَا سواهُ منتفع ... وكل من فِي فُؤَاده وجع)
(يطْلب شَيْئا يسكن الوجعا ... )
(أصعب من حرقة على ولد ... بعد أَسِير يبيت فِي صفد)
(مَا هجعت عينه وَمَا هجعوا ... فَارق أحبابه فَمَا انتفعوا)
(بالعيش من بعده وَمَا انتفعا ... )
(أقصوه علن أَهله وتربته ... وقاطعوه من بعد صحبته)
(فَهُوَ يُنَادي لفط كربته ... يَقُول فِي نأيه وغربته)
(عدل من الله كل مَا وَقعا ... )
وَقَوله مخمسا الأبيات الَّتِي يُقَال أَنَّهَا مَكْتُوبَة على سيف بخت نصر وَهِي
(الْجُود مَا اخْتصَّ بِهِ حَاتِم ... وكل سرّ قله كاتم)
(والحرّ لَا يخفضة شاتم ... لله فِي عالمه خَاتم)
(تجْرِي الْمَقَادِير على نقشه ... )
(فَازَ امْرُؤ كَانَ لَهُ مرتقى ... يرقى بِهِ أوج العلى والتقى)
(أكْرم بِهِ أَن زَالَ عَنهُ الشقا ... وَأَنت ان لم ترج أَو تتقى)
(كالميت مَحْمُولا على نعشه ... )
(أياك وَإِلَّا جدر فِي سربه ... فالشرّ كل الشَّرّ فِي قربه)
(وَأَنت لَا تقوى على حربه ... لَا تنبش الشَّرّ فتبلى بِهِ)
(وَاحْذَرْ على نَفسك من نبشه ... )
(أهل الولايات لَهُم مشرع ... بِكُل مَا يُولى الثنا مسرع)
(لَهُم إِلَى نيل الْعلَا مهرع ... ودولة البغى لَهَا مصرع)
(تنزل السُّلْطَان من عَرْشه ... )
(احذر ظلوما أَن طَغى أَو بغى ... وجاهلا فِي عرض حر لَغَا)
(مَا بعد نصح قَتله مبتغي ... أما رَأَيْت الْكَبْش لما طَغى)
(أدرج رَأس الْكَبْش فِي كرشه ... )(1/106)
وَكتب إِلَى النَّجْم الْغَزِّي ملغزا
(يَا نجم يَا ابْن الْبَدْر يَا شمس الْهدى ... يَا من ضِيَاء وَجهه يجلو الْغَلَس)
(مَا اسْم حُرُوف لَفظه إِن عددت ... فحمسة وَإِن تصحف فَهُوَ بس)
فَأَجَابَهُ رحمهمَا الله
(يَا ملغزا فِي اسْم عَلَيْهِ رَبنَا ... صلى وَأَدْنَاهُ إِلَيْهِ فِي الْغَلَس)
(وَجَاء فِي التَّنْزِيل تَنْزِيل اسْمه ... تَحت سبا وفاطر فَوق عبس)
وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا
(حليفة موت كفنت ثمَّ ألحدت ... بِغَيْر صَلَاة بينوا الحكم تؤجروا)
فَأَجَابَهُ
(يصلى عَلَيْهَا وَهِي فِي اللَّحْد سِيمَا ... وَقد غسلت هَذَا جَوَاب مُحَرر)
وَرَأى لبَعض الْفُقَهَاء هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ملغزا
(مَا آن مُنْفَرد أَن كل مِنْهُمَا ... يجْرِي بِالِاسْتِعْمَالِ فِي التَّطْهِير)
(كل طهُور وَحده حَتَّى إِذا ... جمعا يعود الْكل غير طهُور)
فَأجَاب عَنْهُمَا بقوله
(مَاء تغير فِي الْمَمَر أَو الْمقر ... يجوز زَمَنه الْأَخْذ للتطهير)
(وَإِذا خلطت بِهِ الطّهُور وَقد نما ... التَّغْيِير عَاد الْكل غير طهُور)
وَمن أحاجيه قَوْله محاجيا فِي بلقين
(أَيهَا الْفَاضِل الَّذِي لَو كتبنَا ... بعض فضل لَهُ لعز المداد)
(قل لنا أَي قَرْيَة ذَات طلع ... أطلعت كَامِلا إِلَيْهِ الرشاد)
(لَو أردنَا بهَا نحاجي لقلنا ... أرق المَاء أَيهَا الْحداد)
وَقَوله محاجيا فِي عواصف
(وَكم رمت وَصفا للحبيب فلامني ... عذولي وَلم يعلم بكنه محبتي)
(فَمن لي بحبر فِي الأحاجي يَقُول لي ... إِذا رمت نعتا لائقا نبح انعت)
وَقَوله محاجيا فِي قسام
(لَو ذعى الزَّمَان فقت عَليّ ... كل إِمَام علت معارفه)
(أجب العَبْد منعما وَأَجد ... طرح الْمَوْت مَا يرادفه)
وَقَوله محاجيا فِي أخلاط
(لَئِن كنت رب الحجى ... وَذَا فكرة جائشة)
(فَمَا مثل قَول الْفَتى ... شَقِيق أَتَى الْفَاحِشَة)
وَمن دو بيتانه قَوْله
(إِبْلِيس وجنده أَتَوا مشتدين ... يَا رب لفتتني غدوا معتدين)(1/107)
(إِن كنت أَطَعْت أَمرهم عَن خطأ ... رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين)
وَقَوله يخرج مِنْهُ اسْم دِينَار بطرِيق التعمية
(اللوم دَعوه أَيهَا اللوام ... لله حَقًا فِي الورى أَحْكَام)
(الْعِشْق مَوَاطِن الشقا من قدم ... من لَام تحطه بهَا الْأَيَّام)
وَقَوله يخرج مِنْهُ اسْم رَمَضَان
(يَا لقلب أسر قتلتي محبوبي ... يَا دمع سل وَيَا حشاي ذوبي)
(إِن أوجب مَا أسٍ ر يَا حَاجِبه ... كن حَاجِبه بقوسك المجذوب)
وَله الْقطعَة من حمل زجل على وزان يَا غائبين عني مَا ترجعوا من نعشقو بالهجر قلبِي قلا لما قلا وَحين على جمر الفضالي سلا عني سلا وَزَاد على قلبِي العنا والبلا وأمسيت بِلَا جليس أنيس عانى وجودي عدم سَكرَان فِرَاق هاثم نديمي النَّدَم وَقد سقاني الْبَين بكاسه جرع دلَّنِي كَيفَ أصنع والعذول بِي شنع وَامْتنع عني الَّذِي أَهْوى وظهري انقسم حظي مسود فَاحم مَا رَأَيْت لي رَاحِم أَو لفمي آس أهيم فِي النواح ورى فِي النواح فِي جحيم مَا تخمد وَأمسى جفني الرمد من تجني قَاس قلت وَلَو ذكرت مَاله من الْفُنُون السَّبْعَة لطال الْكَلَام غير أَنِّي على ذكر هَذِه الْفُنُون وَرَأَيْت أَن أتعرض للْكَلَام عَلَيْهَا بِمَا يُفِيد مَعْرفَتهَا وَهِي فَائِدَة خلا أَكثر كتب الْأَدَب عَنْهَا وزبدة القَوْل عَنْهَا أَنَّهَا الأريب فِي كَونهَا خَارِجَة من الشّعْر لِأَنَّهُ يُطلق على أَبْيَات كل من القصيد وَالرجز والقريض وَيخْتَص بِمَا قَابل الرجز وَإِنَّمَا هِيَ دَاخِلَة فِي النّظم وَأول من نظم الموشح المغاربة وهذبه القَاضِي الْأَجَل هبة الله ابْن سناء الْملك وتداوله النَّاس إِلَى الْآن وسمى موشحاً لِأَن خرجاته وأغصانه كالوشاح لَهُ وَسبب تقدمه على مَا بعده لإعرابه كالشعر لَكِن يُخَالِفهُ بِكَثْرَة أوزانه وَتارَة يُوَافق أوزان الشّعْر وَتارَة يُخَالِفهُ وَالِد وَبَيت أول من اخترعه الْفرس ونظموه بلغتهم وَمَعْنَاهُ بيتان وَيُقَال لَهُ الرباعي لأربعة مصاريعه وَقد اشْتهر بإعجام داله وَهُوَ تَصْحِيف وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام يكو بِأَرْبَع قواف كالمواليا وأعرج بِثَلَاث قواف ومردوفاً بِأَرْبَع أَيْضا وَكله على وزن وَاحِد وَتقدم على مَا بعده لإعرابه أَيْضا وَأول من اخترع الزجل رجل اسْمه رَاشد وَقيل أَبُو بكر قزمان المغرساني وَهُوَ فِي اللُّغَة الصَّوْت وسمى زجلاً لِأَنَّهُ يلتذ بِهِ وَيفهم مقاطيع أوزانه وَلُزُوم قوافيه حَتَّى يغنى بِهِ ويصوت وَهُوَ خَمْسَة أَقسَام مَا تضمن الْغَزل والزهر وَالْخمر وحكاية الْحَال يخْتَص(1/108)
بالزجل وَمَا تضمن الْهزْل والخلاعة يُقَال لَهُ بليق وَمَا تضمن الهجو والنكت يُقَال لَهُ الحماق وَمَا بعض أَلْفَاظه معربة وَبَعضهَا ملحونة قاسمه مزبلح وَمَا تضمن الحكم والمواعظ فاسمه الْمُكَفّر بِكَسْر الْفَاء الْمُشَدّدَة وَالْأول أصعب هَذِه الْخَمْسَة وَقَالَ مخترعه قزمان لقد جردته من الاعراب كَمَا يجرد السَّيْف من القراب وَسبب تقدمه على مَا بعده كَثْرَة أوزانه وصعوبة نظمه وقربه من الموشح فِي أغصانه وخرجانه وَأول من اخترع المواليا أهل وَاسِط وَهُوَ من بَحر الْبَسِيط اقتطعوا مِنْهُ بَيْتَيْنِ وقفُوا شطر كل بَيت بقافية ونظموا يه الْغَزل والمديح وَسَائِر الصَّنَائِع على قَاعِدَة القريض وَكَانَ سهل التَّنَاوُل تعلمه عبيدهم المتسلمون عماوتهم والغلمان وصاروا يغنون بِهِ فِي رُؤْس النّخل وعَلى سقِِي الْمِيَاه وَيَقُولُونَ فِي آخر كل صَوت يَا مواليا إِشَارَة إِلَى ساداتهم فَسُمي بِهَذَا الِاسْم وَلم يزَالُوا على هَذَا الأسلوب حَتَّى اسْتَعْملهُ البغداديون فلطفوه حَتَّى عرف بهم دون مخترعيه ثمَّ شاع وَسبب تقدمه على مَا بعده لِأَنَّهُ من بَحر القريض بِحَيْثُ ينظم معرباً على قَاعِدَته وَأما الْمَكَان وَكَانَ لَهُ نظم وَاحِد وقافية وَاحِدَة وَلَكِن الشّطْر الأول من الْبَيْت أطول من الثَّانِي وَلَا تكون قافيته إِلَّا مردوفة وَأول من اخترعه البغداديون وَسبب تَسْمِيَته بِهَذَا الِاسْم أَنهم لَا ينظمون فِيهِ سوى الحكايات والخرافات فَكَانَ قَائِله يحْكى مَا كَانَ إِلَى أَن ظهر لَهُم مثل الإِمَام الْجَوْزِيّ والواعظ شمس الدّين الْكُوفِي وَغَيرهمَا من فضلاء بَغْدَاد فنظموا فِيهِ المواعظ وَالْحكم وَسبب تقدمه على مَا بعده لِأَنَّهُ ينظم بعض أَلْفَاظه معربة وَأما القوما فَلهُ وزنان اول مركب من أَرْبَعَة أقفال ثَلَاثَة مُتَسَاوِيَة فِي الْوَزْن والقافية وَالرَّابِع أطول مِنْهَا وزنا وَهُوَ مهمل بِغَيْر قافية وَالثَّانِي من ثَلَاثَة أقفال مُخْتَلفَة الْوَزْن متفقة القافية يكون القفل الأول مِنْهَا أقصر من الثَّانِي وَالثَّانِي أقصر من الثَّالِث وَأول من اخترعه البغداديون أَيْضا فِي الدولة العباسية برسم السّحُور فِي رَمَضَان وَسمي بِهَذَا الِاسْم من قَول المغنين بَعضهم لبَعض قوما لنسحر قوما فغلب عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم ثمَّ شاع ونظموا فِيهِ الزُّهْرِيّ والخمري والعتاب وَسَائِر الْأَنْوَاع وَأول من اخترعه أَبُو نقطة للخليفة النَّاصِر وَكَانَ يُعجبهُ ويطرب لَهُ وَجعل لأبي نقطة عَلَيْهِ وَظِيفَة فِي كل سنة فَلَمَّا توفّي أَبُو نقطة كَانَ لَهُ ولد صَغِير ماهر فِي نظم القوما فَأَرَادَ أَن يعرف الْخَلِيفَة بِمَوْت وَالِده ليجريه على مفروضه فَتعذر عَلَيْهِ ذَلِك إِلَى رَمَضَان ثمَّ جمع أَتبَاع وَالِده ووقف أول لَيْلَة مِنْهُ تَحت الطيارة وغنى القوما بِصَوْت رَقِيق فأصغى الْخَلِيفَة وطرب لَهُ فَلَمَّا أَرَادَ أَن(1/109)
ينْصَرف قَالَ
(يَا سيد السادات ... لَك بِالْكَرمِ عادات)
(أَنا ابْن أبي نقطة ... تعيش أبي قد مَاتَ)
فأعجب الْخَلِيفَة من هَذَا الِاخْتِصَار فَأحْضرهُ وخلع عَلَيْهِ وَجعل لَهُ ضعف مَا كَانَ لِأَبِيهِ والقوما والكان وَكَانَ لَا يعرفهما سوى أهل الْعرَاق وَرُبمَا تكلّف غَيرهم فنظمهما وكل بَيت من القوما قَائِم بِنَفسِهِ وَأما تَأْخِيره فلعدم إعرابه انْتهى وَقد أطلنا الْمقَال لَكِن مَا خلونا من فَائِدَة تناسب فِي هَذَا المجال وَكَانَت وَفَاة الْعمريّ فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَقد درج التسعين وَقَالَ عمر بن الصَّغِير شيخ الْأَدَب بعده فِي تَارِيخ وَفَاته
(يَا شيخ دمشق بالناظم الزاهي ... بِشِرَاك بجنة سناها باهي)
(الْهَاتِف من ألهمني تَارِيخا ... لي قَالَ أَبُو بكر عَتيق الله)
والعمري نِسْبَة إِلَى العقيبي الْحَمَوِيّ الَّذِي ورد إِلَى دمشق خَليفَة من جِهَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ علوان وَكَانَ مَسْكَنه بمحلة العقيبة خَارج دمشق بِالْقربِ من جَامع التَّوْبَة وَكَانَ العقيبي الْمَذْكُور أُمِّيا غير أَنه كَانَ ماهراً فِي الْكَلَام على الخواطر وَله مكاشفات وكرامات شَتَّى ذكره النَّجْم فِي الْكَوَاكِب السائرة وَأطَال فِي تَرْجَمته وَكَانَ مَنْصُور وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة من جماعته الملازمين لَهُ فنسب إِلَيْهِ كَذَا ذكره البوريني فِي تَرْجَمته وَالله تَعَالَى أعلم
السَّيِّد أَبُو بكر بن السَّيِّد هِدَايَة الله الْحُسَيْنِي الكوراني الْكرْدِي الْمَشْهُور بالمصنف ذكره الْأُسْتَاذ الْكَبِير الْعَالم الْعلم إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي نزيل الْمَدِينَة المنورة فِي كِتَابه الْأُمَم لايقاظ الهمم فِي تَرْجَمَة الْمَشَايِخ الَّذين روى عَنْهُم فَقَالَ إِمَام عَلامَة لَهُ مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح الْمُحَرر فِي الْفِقْه فِي ثَلَاث مجلدات انْتفع بِهِ أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَله كِتَابَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَحدهمَا سراج الطَّرِيق يشْتَمل على خمسين بَابا وَالْآخر رياض الخلود ويشتمل على ثَمَانِيَة أَبْوَاب وَكَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى كثير الِاجْتِمَاع بالخضر على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وَعَلِيهِ تخرج وَلَده المنلا عبد الْكَرِيم شيخ المنلا إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو بكر الْكرْدِي الْعِمَادِيّ الشَّافِعِي نزيل دمشق ذكره النَّجْم فِي الذيل وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ فَاضلا بارعاً قانعاً عفيفاً وَله مَعَ ذَلِك بشاشة وَحسن فهم واستماع حَرِيصًا على الْفَائِدَة وَرُبمَا علق وحشى إِلَّا أَنه خطه كَانَ سقيماً وَذكر مبدأه أَنه ورد(1/110)
دمشق مَعَ خَاله وَكَانَ دون الْبلُوغ وَتَركه خَاله بهَا ورحل فجاور فِي الْمدرسَة الكلاسة فِي جَانب الْجَامِع الْأمَوِي وَكَانَ يسْقِي المَاء بالجامع الْمَذْكُور ويتقوت بِمَا يَدْفَعهُ النَّاس وخدم الْعَلامَة أَحْمد الْكرْدِي الْعِمَادِيّ الْآتِي ذكره وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَبِه تخرج وتفقه بالشهاب العيثاوي وَالشَّمْس الميداني وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّمْس الدَّاودِيّ نزيل دمشق ولازم مَجْلِسه وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة والتصريف عَليّ الْحسن البوريني والنجم الْغَزِّي وبرع فِي الْفِقْه وَغَيره ثمَّ حصلت لَهُ بقْعَة تدريس بالجامع الْأمَوِي فتصدر وانتفعت بِهِ الطّلبَة سنوات مَعَ وجود مشايخه وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لكَمَال العيثاوي وَتزَوج فَبَقيَ متأهلاً نَحْو سنتَيْن مَعَ القناعة وَذكر الْغَزِّي عَنهُ حِكَايَة رُؤْيا رَآهَا عَجِيبَة قَالَ أَخْبرنِي أَنه رأى أَنه كَانَ فِي الْجَامِع الْأمَوِي وكل من فِيهِ نَصَارَى قَالَ فاغتظت لذَلِك وأنكرته وَإِذا رجل يَقُول ادخل إِلَى الشَّيْخ محيى الدّين بن عَرَبِيّ إِلَى دَاخل الْجَامِع فاشك إِلَيْهِ ذَلِك قَالَ فَدخلت فَوجدت الشَّيْخ ابْن عَرَبِيّ جَالِسا فِي محراب الْمَقْصُورَة وَبَين يَدَيْهِ جمَاعَة قَليلَة وَهُوَ يدرس وهم يقرؤن عَلَيْهِ فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أما ترى هَؤُلَاءِ النَّصَارَى ملؤا الْمَسْجِد كَيفَ لَا تنكر ذَلِك وَمن هَؤُلَاءِ فَقَالَ لي لَا تحزن هَؤُلَاءِ النَّصَارَى هم الَّذين ضلوا بمطالعة كتبي وَأما هَؤُلَاءِ الْمُسلمُونَ بَين يَدي فهم الَّذين انتفعوا بكلامي وهم قَلِيلُونَ كَمَا تراهم وَالَّذين هَلَكُوا بكلامي كثير كَمَا تراهم وَكَانَت وَفَاة أبي بكر صَاحب التَّرْجَمَة لَيْلَة الِاثْنَيْنِ حادي عشرى محرم سنة سِتّ بعد الْألف عَن نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَبُو بكر المعصراني المجذوب الصَّالح قَالَ الْغَزِّي فِي تَرْجَمته كَانَ فِي مبدائه يتكسب بعصر السمسم وَكَانَ يحب مجَالِس الذّكر فَحَضَرَ مَجْلِسا فِيهِ جمَاعَة اجْتَمعُوا على ذكر الله تَعَالَى مِنْهُم الْأَخ الشهَاب الْغَزِّي وَالشَّيْخ سُلَيْمَان الصَّواف وَالِد الشَّيْخ أَحْمد بن سُلَيْمَان وَبَات تِلْكَ اليلة عِنْدهم فَلَمَّا كَانَ وَقت الذّكر لاحت لَهُ بوارق الْحق فتوله وتعرى مَا دون عَوْرَته ثمَّ انجلت عَنهُ تِلْكَ الْحَالة بعد أشهر ثمَّ كَانَت تعاوده فِي كل سنة ثَلَاثَة أشهر أَو أَرْبَعَة يغيب فِيهَا عَن إحساسه ويحلق لحيته ويستأصلها ويتعرى ويكاشف فِي حَالَته تِلْكَ من يرَاهُ وَيسْأل النَّاس فِي تِلْكَ الْحَالة فَلَا يردهُ أحد وَيُعْطِيه قِطْعَة وَرُبمَا طلب أَكثر وَكَانَ يصرف مَا يجمعه على الْفُقَرَاء وَلم يطْلب من أحد شَيْئا وَيكون خَالِيا من الدَّرَاهِم وَكَانَ كشفه ظَاهر إِلَّا شُبْهَة فِيهِ وَله فِيهِ وقائع مشهوره ثمَّ كَانَ إِذا سرت عَنهُ الْحَالة لَازم الصمت وَالْعِبَادَة وَلَا يخرج من الْجَامِع الْأمَوِي إِلَّا(1/111)
للْوُضُوء وَنَحْوه ويمسك على لحيته قَالَ وَكَانَت بَيْننَا وَبَينه صُحْبَة أكيدة وأخذته حَالَة فِي آخر أمره فلازمني وَكَانَ يبيت عِنْدِي ويكلمني فِي حَالَته تِلْكَ بِلِسَان غير اللسن الَّذِي يكلم بِهِ أَكثر النَّاس فَهُوَ مُسْتَغْرق عَنْهُم فِي نظرهم وَهُوَ حَاضر معي غير مُسْتَغْرق إِلَّا أَنه رُبمَا يظْهر مِنْهُ تخريف وَأَقْبل عَليّ مرّة فِي حَالَته وَهُوَ يشارر النَّاس ويشاتمهم وَكَانَ لَا يشْتم أحدا إِلَّا بِمَا فِيهِ تَأْوِيل ظَاهر فخطر لي مَا يقاسيه فِي حَالَته من الشدَّة وَالْبَلَاء فَلَمَّا حاذاني وقف عي ضَاحِكا مُسْتَبْشِرًا وَقَالَ لي يَا فلَان
(لَا تحسب الْمجد تَمرا أَنْت آكله ... لن تبلغ الْمجد حَتَّى تلعق الصبرا)
قَالَ وَسَأَلت الله أَن يكْشف لي عَن مقَامه فرأيته فِي تِلْكَ اليلة فِي الْمَنَام فِي صُورَة أَسد ثمَّ تحول إِلَى صورته فَظهر لي بذلك أَنه من الْإِبْدَال فَلَمَّا كَانَ آخر النَّهَار رَأَيْته وَهُوَ فِي حَالَته تِلْكَ فَضَحِك وَقَالَ كَيفَ رَأَيْتنِي البارحة وَكَانَت وَفَاته بَين الْعشَاء من لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة أَربع عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو بكر السندي الشَّافِعِي المجاور بالطواشية شَرْقي الْجَامِع الْأمَوِي تَحت المنارة الشرقية نَحْو عشر سِنِين المنلا الْمُحَقق الفهامة كَانَ بارعاً فِي المعقولات نَافِعًا للطلبة صَالحا دينا مُبَارَكًا آثر الخمول والقناعة وَكَانَت تخطبه الدُّنْيَا ويأبى إِلَّا الْفِرَار مِنْهَا ملازماً على الْعِبَادَة وَالصَّلَاة بِالْجَمَاعَة يسْرد الصَّوْم دَائِم الصمت حسن الِاعْتِقَاد متواضعاً لَا يرغب فِي الْحُكَّام وَلَا يجْتَمع بهم ملازم الطّلبَة وملازموه وانتفعوا بِهِ فِي المعقولات وَغَيرهَا مَاتَ مطعوناً وَهُوَ صَائِم فِي يَوْم السبت ثَالِث ربيع الأول سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَدفن بتربة الغرباء بمقبرة الفراديس قَالَ النَّجْم وَمَات قبله بأيام صَاحبه المنلا مُحَمَّد الْهِنْدِيّ وَكَانَا متلازمين فِي الْحَيَاة وَفِي الْمَمَات فَإِن قَبره إِلَى جَانب قَبره وَقلت ملحاً
(عجبت لطاعون أَصَابَت نباله ... وأربت على الخطى والصارم الْهِنْدِيّ)
(سَطَا فِي دمشق الشَّام عَاما وآخراً ... تبسط فِي الْهِنْدِيّ وَمَا ترك السندي)
أَبُو بكر الطرابلسي الْحَنَفِيّ شيخ الإقراء بِالشَّام أَخذ القراآت عَن الْمقري الْكَبِير إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْعِمَادِيّ الْمَعْرُوف بِابْن كسباي الْمُقدم ذكره وبرع فِي علومها وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة فِي غَيرهَا من الْفُنُون وَكَانَ يعسر عَلَيْهِ الْأَدَاء كشيخه ابْن كسباي وَكَانَ دينا صَالحا وقوراً منزوياً عَن النَّاس وَتَوَلَّى إِمَامَة السياغوشية دَاخل بَاب الشاغور وَهُوَ آخر المقرئين بِدِمَشْق مَاتَ يَوْم تَاسِع أَو عَاشر شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وَألف(1/112)
وَدفن بِبَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى أَبُو الْبَقَاء بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن الصفوري الأَصْل الدِّمَشْقِي الصَّالِحِي أحد صُدُور دمشق كَانَ ذَا وجاهة ومروءة وَإِلَيْهِ مرجع أهل دائرته فِي الْأُمُور وَبلغ من الْعِزّ ونفوذ الْكَلِمَة مَا قصر عَنهُ أهل عصره وَفِيه يَقُول الْأَمِير منجك بن مُحَمَّد المنجكي قصيدته الْمَشْهُور ة
(من لي بِهِ وَالسحر ملْء جفوته ... رشأ يغار الْبَدْر من تكوينه)
يَقُول فِيهَا
(عاطيته بنت الدنان وَقد شدا ... قمري روض اللَّهْو فَوق غصونه)
(وَاللَّيْل معتكر ومعترك الحيا ... يزهو بوفد رذاذه وهتونه)
(والبرق فِي خلل السَّحَاب كَأَنَّهُ ... سيف تقلبه أكف قيونه)
(وكأنما الْقَمَر الْمُنِير ضياؤه ... من وَجه مخدون الْعلَا وقرينه)
(اعنى بِهِ الْمولى الْأَجَل أَبَا البقا ... من ظَنّه فِي الدَّهْر مثل يقينه)
(شرس يعد الْخطب لين خطابه ... والنصل شدّة بأسه فِي لينه)
(قد أودع الله السِّيَادَة والتقى ... فِي بردتيه وآدَم فِي طينه)
(من ذَا يقيس بِهِ الْبَريَّة رفْعَة ... أَن الزَّمَان وَأَهله من دونه)
(يفنى الزَّمَان وَلَيْسَ يبلغ وَصفه ... شعر وَلَو بالغت فِي تحسينه)
كَانَ أَولا شافعيا وَصَارَ كَاتبا للصكوك بمحكمة الصالحية وناب فِي الْقَضَاء بمحكمة الْكُبْرَى ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم مَرَّات ولازم على قاعدتهم وتحنف وَتَوَلَّى الْقَضَاء فِي عدَّة مناصب مثل صفد وصيدا وبيروت وحماة وَأَقْبل عَلَيْهِ آخر أمره بعض الوزراء الْعِظَام وَكَانَ قد بشره بالوزارة الْعُظْمَى فصيره من الموَالِي وَأَعْطَاهُ رُتْبَة قَضَاء الْقُدس وقرية الريحان بِالْقربِ من حرستا على طَرِيق التأييد وَرجع إِلَى دمشق وَأقَام بالصالحية وَعمر بهَا قصرا وَهُوَ إِلَى الْآن من أحسن المنتزهات بهَا وَيعرف بِهِ وَفِيه يَقُول الْأَمِير المنجكي فِي آخر قصيدته الْمُتَقَدّمَة
(أَقْسَمت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وَمَا حوت ... بطحاؤه من حجره وحجونه)
(مَا ضمت الدُّنْيَا كقصرك منزلا ... كلا وَلَا سمحت بِمثل قطينه)
وَكَانَ يعرف علم النُّجُوم والرمل والزاير جاحق الْمعرفَة وَرُبمَا رمى بِالسحرِ إِلَّا أَنه كَانَ فِي غير ذَلِك جَاهِلا وَفِيه يَقُول الأديب أَحْمد الشاهيني هاجيا لَهُ
(أَبَا الْبَقَاء لحاك الله من رجل ... فِيك الطبيعة قد قدّت من الْحجر)(1/113)
(كم تدعى بعلوم النَّجْم معرفَة ... وَلَيْسَ تفرق بَين النَّجْم وَالْقَمَر)
وَكَانَت لَهُ أَحْوَال وقصص وأخبار وَوَقع لَهُ من الإتفاقات إِنَّه لما قدم مُحَمَّد باشا نَائِب الشَّام عوضا عَن محافظها الْوَزير الْمَعْرُوف بالخناق وَقد كَانَ الخناق يحب صَاحب التَّرْجَمَة فَبلغ مُحَمَّد باشا محبته لَهُ فَلَمَّا خرج لإستقباله على عَادَة أهل الشَّام أهانه اهانة بليغة فَأتى إِلَى بَيته واختلى فِيهِ وَأخذ يَتْلُو بعض الْأَسْمَاء فاتفق بعد ثَمَانِيَة أَيَّام إِن مَاتَ مُحَمَّد باشا الْمَذْكُور وطلع أَبُو الْبَقَاء فِي جنَازَته مَعَ بَقِيَّة الْقَوْم وَأخذ يتبجح بقتْله فَسَمعهُ الشاهيني الْمَذْكُور وَهُوَ يتجاهر بذلك فَقَالَ لَهُ تقتلون الْقَتِيل وتمشون فِي جنَازَته وَهَذِه الْقِصَّة الْمَشْهُورَة وتروى على أنحاء مُخْتَلفَة وملخصها مَا ذكرته وَله غير ذَلِك من الوقائع مِمَّا هُوَ مستفيض مَشْهُور وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْجُمُعَة حادى عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالسليمية وَدفن بالسفح وَقيل فِي تَارِيخه
(أودي مُسَيْلمَة الكذوب ... السَّاحر النحس الْمرَائِي)
(ألهمت فِي تَارِيخه ... مَاتَ الشقي أَبُو الْبَقَاء)
الشَّيْخ أَبُو الْجُود بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم ابْن أبي الْيمن البتروني الْحلَبِي الْحَنَفِيّ مفتي حلب وعالم ذَلِك الْقطر ومحط أهل دائرته وَكَانَ عَلامَة محققا بارعا ف الْمَذْهَب وَالتَّفْسِير فَارِسًا فِي الْبَحْث نظارا هَاجر بِهِ أَبوهُ وبأخويه إِلَى الْيمن وَمُحَمّد إِلَى حلب بِإِشَارَة الشَّيْخ علوان الْحَمَوِيّ وَصَارَ أبوهم واعظا وخطيبا بِجَامِع حلب وَكَانَ هُوَ وَولده أَبُو الْجُود يتعممان بالعمامة الصُّوفِيَّة واشتغل أَبُو الْجُود على عُلَمَاء عصره وَولي بعد أَبِيه الْوَعْظ والخطابة بالجامع وَكَانَ يقْرَأ الدُّرُوس فِي الرواق الشَّرْقِي ثمَّ ولي الأفناء وتقاعد عَن قَضَاء الْقُدس ثمَّ عَن قَضَاء الْمَدِينَة ونال من الرُّتْبَة مَا لم ينله أحد مِمَّن تقدمه وَكَانَ لَهُ سخاء ومروءة وحمية ومدحه شعراء عصره وخلدوا مدائحه فِي دواوينهم فَمنهمْ حُسَيْن الْجَزرِي وَفتح الله بن النّحاس وحسين بن جاندار البقاعي وَفِيه يَقُول بعض شعراء حلب
(أبي الْجُود فِي الدُّنْيَا سواك لِأَنَّهُ ... تفرع من جود وَأَنت أَبُو الْجُود)
(وأضدادك الْوَادي لَهُم سَالَ واستوت ... سفينة بَحر الْعلم مِنْك على الجودى)
وَذكره البديعي فِي ذكري حبيب وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَقَالَ فِي تَرْجَمته دخل مرّة على بعض الوزراء الْعِظَام ومجلسه غاص بالخاص وَالْعَام بعد غضب يمْنَع لَذَّة(1/114)
الهجود وَمن ذَا يقر على زئير الْأسود فخاطبه بجرس جَهورِي وَلَفظ جوهري يزِيل الأحن من الْقُلُوب وَتغْفر بِمثلِهِ الذُّنُوب بِمَا نَصه نَام أَعْرَابِي لَيْلَة عَن جمله فَفَقدهُ فَلَمَّا طلع الْقَمَر وجده فَرفع إِلَى الله يَده وَقَالَ أشهد أَنَّك أعلينه وَجعلت السَّمَاء بَيته ثمَّ نظر إِلَى الْقَمَر وَقَالَ إِن الله صورك ونورك وعَلى البروج دورك فَإِذا شَاءَ قدرك وَإِذا شَاءَ كورك فَلَا أعلم مزيدا أسأله لَك الدَّوَام وَلَئِن أهديت إِلَى قلبِي سروره لقد أهْدى الله إِلَيْك نوره فَأَنا ذَلِك الْأَعرَابِي والوزير ذَلِك الْقَمَر الْمُضِيّ لقد أَعلَى الله قدره وأنفذ أمره وَنظر أليه وَإِلَى الَّذين يحسدونه فَجعله فَوْقهم وجعلهم دونه فَلَا أعلم مزيدا أَدْعُو لَهُ إِلَّا الدَّوَام فَالله يديم لَهُ ظلال النِّعْمَة ومجال الْقُدْرَة ومساق الدولة ووقفت على تفريظ كتبه على مؤلف الْعَلامَة الطرابلسي الدِّمَشْقِي الَّذِي شرح بِهِ فَرَائض ملتقى الأبحر وَهُوَ أمعنت النّظر فِي هَذَا التَّحْرِير وأجلت الْفِكر فِيمَا حواه من التَّصْوِير والتقرير فرأيته الْبَحْر الْمُحِيط إِلَّا أَنه ثجاج والوبل الغزير خلا أَنه مواج وجزمت بِأَنَّهُ السحر الْحَلَال والكمال الَّذِي لَا يحكيه فِي فنه كَمَال لأزالت شموس فَوَائِد مؤلفة مشرقة وَلَا بَرحت أَغْصَان فَوَائده مورقة مَا زينت أَقْلَام الْعلمَاء الْأَعْلَام بوشي سطورها وجنات الطروس فأشرقت لذَلِك صُدُور الصُّدُور وإشراق الشموس وَكَانَت وَفَاته غرَّة صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَقد ناهز التسعين وَهُوَ فِي نشاط أَبنَاء الْعشْرين وَقيل فِي تَارِيخ مَوته
(إِن أَبَا الْجُود الَّذِي فاق الورى ... وروج الْعلم وساد سؤددا)
(أدْركهُ الْمَوْت الَّذِي تَارِيخه ... الْعلم مَاتَ بعده وأرقدا)
ورثاه السَّيِّد مُحَمَّد بن عمر العرضي بقصيدة عَجِيبَة ذكرتها برمتها ميلامني لشعر هَذَا السَّيِّد وَكَذَا أفعل فِي كل آثاره وَهِي
(بفقدك قَامَت نواعي الحكم ... وَقد فل بعْدك حد الْقَلَم)
(أَقَامَت مآتمها المشكلات ... عَلَيْك وسود وَجه الرقم)
(فتبا ليومك من طَارق ... نسخت بِهِ لذتي بالألم)
(ورثت بِهِ حالكات الهموم ... كَمَا ورث ابْنك عز النعم)
(ورعيا لدهر أثر نابه ... نَقِيع المباحث فِي المزدحم)
(نجاذب أطرافها ساعيين ... إِلَى حلبة السَّبق سعي الْقدَم)
(صراح الزَّمَان صراح النكال ... عَلَيْك وَحقّ لَهُ بِالْعدمِ)(1/115)
(فقد كنت سدة ثلمانة ... وَآخر نعماءه للأمم)
(وعذرا لأبنائه إِنَّهُم ... ذنُوب لَهُم بل صروف النقم)
(فقدتك فقدان روق الشَّبَاب ... وَشعب الْأَمَانِي بِهِ ملتئم)
(ليبكيك دَار الضُّحَى والأصيل ... وَدَار الصَّباح وَدَار الظُّلم)
(لبست عَلَيْك ثِيَاب الْحداد ... وشبت غضارة دمعي بِدَم)
(لقد ثكلت كل من لم تَلد ... نظيرك فِي خيمه والشيم)
(حنانيك عَن مهجة رعتها ... ولبيك عَن كبد تضطرم)
(أَبَا الْجُود قُرَّة عين الْعلَا ... وغرة جبهتها فِي الْقدَم)
(لقد خَابَ بعْدك من ينتضي ... سيوف معاليك فِي الملتطم)
(أيصفر فِي الجو بعد العتاة ... وشهب البزاة بغاث الرخم)
(دفنت بدفنك فِي خاطري ... مبَاحث علم غَدَتْ كالرمم)
(قضيت وَلم تقض مِنْك المنى ... لباناتها والقضا محتتم)
(فَإِن كَانَ قبرك دون الثرى ... فقدرك فَوق عوالي الهمم)
(يعز عَليّ بِأَن ينطوي ... بِسَاط الدُّرُوس وَنشر الحكم)
(فقد شدت مجْلِس أهل الْعلم ... وَلَكِن بأيدي الْمنون انْهَدم)
(سقى جدثا أَنْت ثاوبه ... رخى السُّيُول مفاض الديم)
أَبُو الْحسن بن الزبير السجلماسي المغربي عَالم الْمغرب وَإِمَام نحاته فِي عصره ومحقق علمائه أجمع أهل الْمغرب على جلالته وتمسكنه فِي الْعُلُوم الْعَرَبيَّة وَكَانَ كثير الْحِفْظ لشواهد الْعَرَب والإطلاع على أخبارهم وَله المهارة القوية فِي اللُّغَة وَكَانَ إِذا أورد الْمسَائِل النحوية يُورد لَهَا شَوَاهِد عديدة لَا يجدونها فِي الْكتب المتداولة وَكَانَ يحفظ التسهيل وغالب شروحه وَكَانَ فصيح الْعبارَة حسن التَّقْرِير عَظِيم الهيبة وَهُوَ من أجل نشر الْعُلُوم الْعَرَبيَّة بفاس وَعلمهَا الطّلبَة وَكَانَ إِذا قرر المسئلة لَا يزَال يكررها بعبارات مُخْتَلفَة حَتَّى تظهر بَادِي الرَّأْي فَلذَلِك كثر الآخذون عَنهُ من أقطار الغرب الْأَقْصَى على كَثْرَة علمائه أذذاك أَخذ عَن إِمَام النُّحَاة أبي يزِيد عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن مُحَمَّد بن عبد الله المكناسي وكثيرين مِمَّن أَخذ عَنهُ الشَّيْخ أَحْمد بن عمرَان وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر بن عَليّ الفاسي وَمُحَمّد بن أبي بكر الدلائي وَمُحَمّد بن نَاصِر الدراوي وَغَيرهم من الشُّيُوخ الْكِبَار وَكَانَت وَفَاته بفاس فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ(1/116)
وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو السرُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عوض بن عبد الْخَالِق بن عبد الْمُنعم بن يحيى بن الْحسن بن مُوسَى بن يحيى بن يَعْقُوب بن نجم بن عِيسَى بن شعْبَان بن عوض بن دَاوُد بن مُحَمَّد بن نوح بن طَلْحَة بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وعنهم هَذَا نسب السَّادة البكرية سَادَات مصر من جِهَة الْآبَاء وَلَهُم من جِهَة الْأُمَّهَات سيادة وَأَبُو السرُور هَذَا أحد أَوْلَاد الاستاذ مُحَمَّد بن الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي ولد فِي دولة أَبِيه وتربى فِي حجر الْفضل وَالصَّلَاح وَكَانَ لَهُ الذَّوْق الصَّحِيح فِي معارف الصُّوفِيَّة والبلاغة الْكَامِلَة فِي التَّقْرِير وَهُوَ أنبل إخْوَته وأفضلهم وَأَكْثَرهم مداومة على الإفادة والقاء الدُّرُوس وَكَانَ لَهُ اتساع فِي الدُّنْيَا ومخالطة الْحُكَّام ومداخلة فِي أُمُور كَثِيرَة ودرس بالخشابية بعد موت شيخ الشَّافِعِيَّة الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ شَارِح الْمِنْهَاج وَله مؤلفات مِنْهَا مُخْتَصر فِي فضل لَيْلَة النّصْف من شعْبَان من كتاب النبذة لجده أبي الْحسن وَشَرحه وَسَماهُ فيض المنان وقرظه الشَّيْخ عبد الله الدنوشري فَقَالَ
(هَذَا كتاب منَازِل الْعرْفَان ... ومهذب الْأَلْبَاب والأذهان)
(فَالْزَمْ قِرَاءَته ولازم درسه ... إِذْ ذَاك فيض الْوَاحِد المنان)
(تأليف مَوْلَانَا وحافظ عصره ... من نسل صديق النَّبِي العدنان)
(لَا زَالَ يرقى فِي جناب سيادة ... مَا غرد الْقمرِي على الأغصان)
وَوجدت فِي بعض التعليقات أَنه عمل رِسَالَة تتَعَلَّق بمباحث آيَات السَّبع المثاني حاك برود طروسها على منوال التَّحْقِيق وطرز حَوَاشِي سطورها ببنان التدقيق وَبعث بهَا من الديار المصرية إِلَى دَار السلطنة الْعلية تَتَضَمَّن طلب منصب إِفْتَاء الشَّافِعِيَّة بِالْقَاهِرَةِ المعزية وَكَانَ أَمر الْفَتْوَى يَوْمئِذٍ مَنُوطًا بشيخ مصر على الْإِطْلَاق وعلامتها الْمَشْهُور فِي الْآفَاق صَاحب التصانيف العديدة والتآليف المتداولة المفيدة شمس الْملَّة وَالدّين مُحَمَّد بن أَحْمد الرَّمْلِيّ وعد ذَلِك الطّلب مِنْهُ على الْمحبَّة ذَنبا وَاحِد لكنه شنيع وخطبا عِنْد فضلاء الْأَمْصَار والأعصار ظليع على أَن لِسَان حَاله أنْشد معتذرا مبرزاً من الضَّمِير مَا كَانَ مستتراً
(وَإِذا الحبيب أَتَى بذنب وَاحِد ... جَاءَت محاسنه بِأَلف شَفِيع)
وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره لطيف فَمِنْهُ مَا كتب بِهِ فِي صدر رِسَالَة إِلَى الرّوم للْمولى يحيى(1/117)
ابْن كَمَال الدّين الدفتري يعاتبه على انْقِطَاع مراسلاته عَنهُ
(لَو أذنتم لطيب من نسيم ... بِسَلام يحيى فؤاد السقيم)
(لتلقاه من فُؤَادِي قبُول ... قَانِع من شذاكم بشميم)
(وَلَو أَن الرَّسُول وافي برقم ... لمحب من شوقه فِي جحيم)
(كَانَت النَّار مثل نَار خَلِيل ... تنطفي بِالسَّلَامِ وَالتَّسْلِيم)
(حِين جَاءَ الأخوان مِنْكُم طروس ... نظمها فائق كدر نظيم)
(ثمَّ جَاءَ الْأَنَام نحوي سعياً ... يسْأَلُوا الصب عَن نباك الْعَظِيم)
(هَل تناسى الْأَمِير مِنْك وداداً ... أَو ثناه الخسيس بالتلويم)
(قلت كلا فَإِن ود أَمِيري ... مُحكم النَّص كالكتاب الْقَدِيم)
(إِن يحيى الْأَمِير أعظم مولى ... لَا يُبَالِي بغادر وزنيم)
(إِنَّمَا الْكتب للمباعد مضى ... يَكْتَفِي بالرقوم أهل الرسوم)
وَذكره الخفاجي فِي كِتَابه وَقَالَ فِيهِ وَلم يزل سمح السجية بسام العشية لَا تلين قناته لغامز وَلَو صيره زَاد الْمنية إِلَى أَن أَصَابَت الرزايا بَنَات فُؤَاده بسهام المنايا فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
ابْن السُّعُود بن أَحْمد بن أبي السُّعُود الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن الْكَاتِب كَانَ جده أَبُو السُّعُود هَذَا من كبار التُّجَّار المياسير بِدِمَشْق وَله رياسة وَتقدم بَين أَبنَاء نَوعه وَجمع أَمْوَالًا كَثِيرَة وَكَانَ لَهُ أوقاف دارة وإحسانات افرة وَولده أَحْمد كَانَ أَيْضا على أَثَره وَتزَوج بابنة الْعَلامَة مُحَمَّد الجوخي الْآتِي ذكره وجاءه مِنْهَا أَبُو السُّعُود المترجم وَنَشَأ فِي عز باهر ونعمة طائلة وَقَرَأَ وتنبل وابتلى بمحبة غُلَام وَأنْفق عَلَيْهِ مَالا كثيرا وَكَانَ الْغُلَام كثير التجني عَلَيْهِ وَاتفقَ أَن أهل صَاحب التَّرْجَمَة أَكْثرُوا فِي لومه وتعنيفه فَلم يرجع عَمَّا كَانَ فِيهِ وَأَدَّاهُ ولهه وغرامه إِلَى قتل نَفسه قيل أَنه أكل سَبْعَة دَرَاهِم من الأفيون وعولج فَلم يفد علاجه وَمَات من ليلته وَهُوَ الَّذِي أحدث هَذِه الفعلة بِدِمَشْق وَكَانَ النَّاس عَنْهَا غافلين وَبعد ذَلِك تبعه فِي فعلهَا أنَاس واشتهر هَذَا الْأَمر وَهَذِه الْقِصَّة مَشْهُورَة حَتَّى صَارَت بَين أهالي دمشق مدَار التَّمْثِيل بهَا فِي أغراض كَثِيرَة وَبِالْجُمْلَةِ فقد فتح مبدعها بَابا شنيعاً وارتكب امراً فظيعاً وَكَانَت وَفَاته فِي يرمضان سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وعمره خمس(1/118)
وَعِشْرُونَ سنة
أَبُو السُّعُود بن تَاج الدّين بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زكي الدّين البعلي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد والوفاة الخزرجي الشَّافِعِي البارع المفنن كَانَ فَاضلا مشاركاً فِي عدَّة فنون وَله محاضرات وآداب وَكَانَ مطلعاً على فَوَائِد كَثِيرَة وَله مواظبة على طلب الْعلم لَا يفتر وَلَا يمل إِلَّا الْقَلِيل تفقه بالشيخ مُحَمَّد الخباز الْمَعْرُوف بالبطنيني وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة وَبَقِيَّة فنون الْأَدَب على شَيخنَا مُحَقّق الْوَقْت إِبْرَاهِيم بن مَنْصُور الفتال الْمُقدم ذكره ولازم دروسه مُدَّة مديدة وَحج كثيرا وَأخذ عَن عُلَمَاء الْحَرَمَيْنِ وَدخل الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن خَاتِمَة الْعلمَاء النُّور على الشبرملسي وَغَيره ودرس بالجامع الْأمَوِي بَين العشاءين فِي الشِّفَاء للْقَاضِي عِيَاض وَكَانَ يُبْدِي أبحاثاً مَقْبُولَة واستنابه آخرا الشَّيْخ يُونُس الْمصْرِيّ فِي درس قبَّة النسْر الْمَشْهُور فِي الشَّام لما توجه إِلَى الرّوم فدرس شَهْرَيْن وأياماً وحمدت طَرِيقَته وَكَانَ لطيف المحاورة حسن الْعشْرَة حمولاً لنكات يَقْصِدهُ بهَا بعض الأخوان مغضياً عَنْهَا فَمن ذَلِك مَا وَقع لَهُ أَن بَعضهم كتب إِلَيْهِ يسْأَله وَكَانَ ظرفاء الطّلبَة تواطأ وَأَعْلَى تلقيبه بالتركيب المزجي بِعَارِض نسبته إِلَى بعلبك
(أيا عُلَمَاء الشَّام مَا هِيَ لَفْظَة ... مركبة بِالنَّقْصِ لَا شكّ تُوصَف)
(وَيُعْطى لَهَا حكم الْفَتى كل حَالَة ... وَلَا ضَرَر يدعى لذَلِك وَيعرف)
(وَإِن ظهر الْمَقْصُود فَأتوا بِحجَّة ... تبين لي فرقا جلياً وأنصفوا)
فَأجَاب بقوله قرر النُّحَاة أَن الْمركب المزجي قد يُضَاف أول جزأيه إِلَى ثَانِيهمَا تَشْبِيها بالمركب الاضافي فيعرب الْجُزْء الأول بِحَسب العوامل ويجر الثَّانِي بِالْإِضَافَة ثمَّ إِن كَانَ فِي الْجُزْء الثَّانِي مَا يمْنَع صرفه كالمعجمة فِي رام هُرْمُز منع من الصّرْف والأصرف كحضرموت وَإِن كَانَ آخر الْجُزْء اول يَاء كمعدي كرب وقالي قلافانه تقدر فِيهِ الحركات الثَّلَاث وَلَا تظهر فِيهِ الفتحة قَالَ فِي النكت بِلَا خلاف استصحاباً لحكمها حالتي الْبناء وَمنع الصّرْف وَعلله شَارِح التَّوْضِيح يشبه الفتحة بِالْألف لِأَن من الْعَرَب من يسكن مثل هَذِه الْيَاء فِي النصب مَعَ الْأَفْرَاد فألزم فِي التَّرْكِيب لزِيَادَة الثّقل مَا كَانَ جَائِزا فِي الْأَفْرَاد فَحِينَئِذٍ يكون المنقوص وَهُوَ معدي كرب مثلا كالمقصور رأى فِي حكم التَّقْدِير فِي الْحَالَات الثَّلَاث لَا أَنه يكون معرباً بالتقدير على الْألف كَمَا يرشد إِلَيْهِ قَول السَّائِل وَيُعْطى لَهُ حكم الْفَتى دون قَوْله إِعْرَاب الْفَتى فَللَّه دره هَذَا هُوَ الْمُرَجح فِي المسئلة كَمَا قَالَه ابْن مَالك وَاقْتصر عَلَيْهِ أَبُو حَيَّان وَنَصّ عَلَيْهِ أَبُو عَليّ وَعبد القاهر وَغَيرهمَا(1/119)
وَقَالَ بَعضهم بِفَتْح فِي النصب ويسكن فِي الرّفْع والجر على أصل قَاعِدَة المنقوص كقاضي الْقَوْم فَتبين بِهَذَا إِيضَاح مَا الغزه هَذَا السَّائِل وَظهر الْمَقْصُود وَالْحجّة واتضحت بِهِ الْحجَّة انْتهى مَا قَالَه فِي الْجَواب وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْخَمِيس بعد الْعَصْر عَاشر رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو السُّعُود بن عبد الرَّحِيم بن عبد المحسن بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ الْمصْرِيّ قَاضِي الْقُضَاة الشعراني أحد أَفْرَاد الدَّهْر فِي المعارف الآلهية وَكَانَ فِي هَذَا الْعَصْر الْأَخير من محاسنه الباهرة جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل وَكَانَ لأهل الرّوم فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَهُوَ من بَيت الْولَايَة وَالصَّلَاح وَعم وَالِده الْعَارِف الْكَبِير عبد الْوَهَّاب صَاحب العهود والطبقات وَالْمِيزَان وَغَيرهمَا وفضله أشهر من أَن يذكر وَأما أَبوهُ عبد الرَّحِيم فقد أفردت لَهُ تَرْجَمَة خَاصَّة ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَبُو السُّعُود ولد بِمصْر وَدخل الرّوم مَعَ وَالِده وَهُوَ صَغِير وَذكر شَيخنَا إِبْرَاهِيم الخياري الْمدنِي فِي رحلته عِنْد تَرْجَمته لَهُ وَأَنه أَخذ عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والنور الزيَادي قَالَ وَأَخْبرنِي عَن جمَاعَة من بعض أَوْلِيَاء الله تَعَالَى الصَّالِحين المتصرفين من أهل الطَّرِيقَة وَهُوَ بالروم أَنه قَالَ لرجل مِنْهُم مالنا مَعكُمْ حِصَّة فَقَالَ لَهُ بلَى وَلَكِن تنْزع جَمِيع عَلَيْك من الثِّيَاب ثمَّ تخرج من بَاب أدرنه إِلَى حَضْرَة أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ فَقلت الْآن قَالَ لَا بعد أَيَّام فعاودته بعد أَيَّام فَقلت الْآن قَالَ نعم فنزعت ثِيَابِي إِلَّا السَّرَاوِيل وَقلت لَهُ أتأذن لي فِي إبقائه حفظا لِمِيزَانٍ الشَّرِيعَة فَأذن ثمَّ أخذت فِي السّير إِلَى أَن وصلت إِلَى الْبَاب الْمَذْكُور فَلَمَّا جاوزته مَرَرْت بالمقبرة فكشف لي عَن أَحْوَال أهل الْقُبُور وَمَا هم عَلَيْهِ وَلم أزل كَذَلِك إِلَى أَن وصلت أَبَا أَيُّوب فزرته وَرجعت وَكَانَ مَا كَانَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ صَاحب قدم راسخة فِي الْولَايَة وأطبق أهل عصره على ديانته وعفته وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب وفنونه يَد طولي وَله شعر مِنْهُ قَوْله
(أَقُول للقلب لَا تجزع لفائتة ... إِن الزَّمَان مُطِيع أَمر من أمره)
(قد يسكن الدَّار وَحقا غير ساكنها ... ويسكن الْبَيْت حَقًا غير من عمره)
وَقَوله
(اصبر فَإِن الصَّبْر مِفْتَاح الصعاب ... واشكر فَإِن الشُّكْر مدرار السَّحَاب)
(وَاعْلَم بِأَن الله يولي عَبده ... أَنْوَاع لطف وَهُوَ لَا يدْرِي الصَّوَاب)
وَذكره وَالِدي المرحوم وَأَطْنَبَ فِي تَرْجَمته ثمَّ قَالَ لَازم من شيخ الْإِسْلَام صنع الله بن جَعْفَر الْمُفْتِي ودرس بمدارس قسطنطينية إِلَى أَن وصل إِلَى إِحْدَى مدارس السُّلْطَان(1/120)
سُلَيْمَان وَولي مِنْهَا قَضَاء القضاه بِالشَّام خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ عزل وَحكى لي بعض الثِّقَات نَاقِلا عَنهُ أَنه بعد عَزله عزم على الرحلة إِلَى الرّوم فطلع إِلَى زِيَارَة الاستاذ ابْن عَرَبِيّ فخاطبه من دَاخل قَبره بالتربص وَأَنه يَأْتِيهِ فِي يَوْم كَذَا وَقت كَذَا منصب كَذَا فَوَقع لَهُ أَن جَاءَهُ فِي الْوَقْت الْمعِين المنصب الْمعِين وَهُوَ قَضَاء الْقُدس ثمَّ بعد ذَلِك ولي قَضَاء بروسه وأدرنه وقسطنطينية وَأعْطى آخرا رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي قَالَ وَالِدي روح الله روحه وتشرفت بِهِ فِي يسفرتي الثَّانِيَة إِلَى الرّوم سنة ثَلَاث وَسبعين والف ثمَّ لَزِمته وَكنت إِذا اجْتمعت بِهِ يتنور باطني وظاهري من مخاطبته وينشرح لسَمَاع فَوَائده صَدْرِي من محاضرته وأنشدته مرّة قولي وَأَنا فِي شدَّة من الْحَال
(الْحَال غَدا يكل عَنهُ الشَّرْح ... من سكرته مَتى زماني يصحو)
(أَبْوَاب مطالبي جَمِيعًا سدت ... مولَايَ عَسى يكون مِنْك الْفَتْح)
فأنشدني لنَفسِهِ قَوْله
(فَلَا تحزن إِذا مَا سد بَاب ... فَإِن الله يفتح ألف بَاب)
وَكنت تَرْجَمته فِي كتابي النفحة وغيرت تَرْجَمته إِلَى قالب آخر حَسْبَمَا التزمته فِيهَا من الالتزامات فَمَا عَليّ أَن أذكر المعدول عَنهُ إِذْ فِيهِ على كل حَال تطرية فَقلت فِيهِ وَقد ذكرته بعد أَبِيه هُوَ جَار مَعَ أَبِيه فِي ميدانه آخذ من فَضله بعنانه متحل بنعته متخلق بسمته ولد فِي طالع السخاء وغذي فِي حجور الكرماء ومارس البلاغة ممارسة كشفت لَهُ عَن أسرارها وأظفرته بكنوز جواهرها إِذْ لم يظفر غَيره بأحجارها وَكَانَت أوقاته مقسمة بَين عارفة ينيلها أَو ملمة يزيلها ومساءة من الْمسَاوِي يسرها وصنيعة من الصَّنَائِع بدخرها ومجلسه أَوله ثَنَاء جميل وَآخره عَطاء جزيل وَبَينهمَا ترحيب وتأهيل إِذا قَالَ فتحت لثنائه الأفواه وَإِذا روى تحدثت بفضله الرواه وَله من دُرَر المكارم وغرر المآثر مَا يسْتَغْرق نظم كل ناظم ونثر كل ناثر وأنشدت لَهُ تخميسه الْمَشْهُور وَهُوَ فِي صَاحب الْبَهْجَة والنور
(يَا حادي العيس إِن حفت بك الكرب ... ألحق هديب بركب سَاقه الطَّرب)
(وَقل لصب غَدا بالشوق يلتهب ... لمهبط الْوَحْي حَقًا ترحل النجب)
(وَعند هَذَا المرجى يَنْتَهِي الطّلب ... )
(أَعنِي الرَّسُول الَّذِي قد شرف الأمما ... ونال سائله فَوق السما قسما)
(يلقى العفاة بِمَا يرجون مُبْتَسِمًا ... بِهِ تحط رحال السَّائِلين فَمَا)
(لسائل الدمع مَا يَقْضِيه مَا يجب ... )(1/121)
(إِن رمت كشف العنا وَالْحوب والنوب ... كَذَا الْخَلَاص من الأكدار وَالنّصب)
(وَكنت حَقًا سعيداً غير مكتئب ... قف وَقْفَة الذل والإطراق ذَا أدب)
(فَعِنْدَ حَضرته يسْتَلْزم الْأَدَب ... )
وَهَذَا التخميس جيد جدا وأظن أَن الأَصْل أَيْضا لَهُ وَله بَقِيَّة اكتفينا عَنْهَا بنبذة نقية وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف بقسطنطينية والشعراني نِسْبَة إِلَى قَرْيَة أبي شعرًا بِمصْر
أَبُو السُّعُود بن عَليّ الزين الْمَعْرُوف بالقسطلاني الْمَكِّيّ الْمَالِكِي الشَّيْخ الإِمَام رَأَيْت تَرْجَمته بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ فِي وَصفه عَالم عَامل وناسك بركته غيث هامل وَإِمَام بِمثلِهِ يَقْتَدِي وطود بنجوم هَدْيه يَهْتَدِي عَلامَة فِي عُلُوم الْعَرَبيَّة ومثابر على خدمَة خَالق الْبَريَّة كَانَ متلقداً بقلائد العفاف متخلياً عَمَّا يزِيد على الكفاف ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم واشتغل بِالْعلمِ مُدَّة سِنِين تقَارب الْعشْرين وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الْعَلامَة عَليّ بن جَار الله وَالشَّيْخ يحيى بن الْحطاب وَغَيرهمَا وَعنهُ أَخذ الْعَلامَة عبد الله بن سعيد باقشير والفاضل حنيف الدّين المرشدي وَغَيرهمَا وَلم يزل ملازماً لخدمة الْعلم وإفادته منهمكاً على مطالعته ومذاكرته مكباً على إِفَادَة الطّلبَة وَله مؤلفات مِنْهَا الْفَتْح الْمُبين فِي شرح أم الْبَرَاهِين وفوح الْعطر بترجيح صِحَة الْفَرْض فِي الْكَعْبَة وَالْحجر وأملى على الأجرومية شرحاً لطيفاً وَله منظومة فِي مسوغات الِابْتِدَاء بالنكرة وَله شعر حسن مِنْهُ قَوْله
(أَلا ثمَّ الْقَوْم حَتَّى أَن أرى رجلا ... أَخا مذاكرة للْعلم ينتسب)
(أَقَامَ ذكر عهود بالحمى فَلهُ ... أحن الفاو بالمألوف انتسب)
(كأنني هَل إِذا فعل بحيرها ... حنت إِلَيْهِ وَأهل الْعلم تصطحب)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذكره النحويون من أَن هَل مُخْتَصَّة بِالْفِعْلِ إِذا كَانَ فِي حيزها فَلَا يجوز هَل زيد خرج لِأَن أَصْلهَا أَن تكون بِمَعْنى قد كَقَوْلِه تَعَالَى {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين} وَقد مُخْتَصَّة بِالْفِعْلِ فَكَذَا هَل لَكِنَّهَا لما كَانَت بِمَعْنى همزَة الِاسْتِفْهَام انحطت رتبتها عَن قد فِي اختصاصها بِالْفِعْلِ فاخصت بِهِ فِيمَا إِذا كَانَ فِي حيزها لِأَنَّهَا إِذا رَأَتْهُ فِي حيزها تذكرت عهوداً بالحمى وحنت إِلَى الْألف المألوف وَلم ترض بافتراق الِاسْم بَينهمَا وَإِذا لم تره فِي حيزها تسلت عَنهُ وذهلت وَمَعَ وجوده إِن لم يشْتَغل بضمير لم تقنع بِهِ مُقَدرا بعْدهَا وَإِلَّا قنعت بِهِ فَلَا يجوز فِي الِاخْتِيَار هَل زيدا رَأَيْت بِخِلَاف(1/122)
هَل زيدا رَأَيْته وأنشدني الْفَاضِل الأديب على النجاري الْمَكِّيّ فِي معنى قَول الْقُسْطَلَانِيّ
(إِذا غَابَ كَانَ الْميل مني لغيره ... ون لَاحَ كَانَ الْميل مني لَهُ حتما)
(كَأَنِّي هَل فِي النَّحْو وَالْفِعْل حسنه ... وكل الورى أَن لَاحَ محبوبي الأسمى)
(وَلأبي السُّعُود أَيْضا ... )
(فَبَيْنَمَا الشَّخْص يمشي وَهُوَ فِي فَرح ... إِذْ صَار فِي النعش مَحْمُولا على الْكَتف)
(فعد زاداً هُوَ التَّقْوَى وَكن حذرا ... واكثر من الذّكر وَالْأَحْزَان والأسف)
وَله أَيْضا
(أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... بروضة من بِالصّدقِ كَانَ يَقُول)
(وَهل أبصرن تِلْكَ الْمعَاهد والربى ... وَهل يقعن لي نظرة وَقبُول)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة بِمَكَّة المشرفة رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو السُّعُود بن مُحَمَّد الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالكوراني الأديب الشَّاعِر الْفَائِق كَانَ لطيف الطَّبْع جيد الفكرة وَله محاضرة رائقة ومفاكهة فائقة مَعَ حَدَاثَة سنه وطراوة عوده وشعره عَلَيْهِ طلاوة وَفِيه عذوبة وقفت لَهُ على قصيدة غرا فريده زهراً ومطلعها
(أجل إِنَّهَا الآرام شيمتها الْغدر ... فَلَا هجرها ذَنْب وَلَا وَصلهَا عذر)
(ففر سالما من ورطة الْحبّ واتعظ ... بحالي فَإِن الْحبّ أيسره عسر)
(وقدها جنى فِي الأيك صدح مغرد ... بِهِ حلت الأشجان وارتحل الصَّبْر)
(يذكرنِي تِلْكَ اللَّيَالِي الَّتِي انْقَضتْ ... بلذة عَيْش لم يشب حلوه مر)
(سقيت ليَالِي الْوَصْل مزن غمامة ... فقد كَانَ عيشي فِي ذراك هُوَ الْعُمر)
(فكم قد نعمنا فِيك مَعَ كل أغيد ... رَقِيق الْحَوَاشِي دون مبسمه الزهر)
(لقد خطّ ياقوت الْجمال بخده ... جداول من مسك صحيفتها الدّرّ)
(وَروض بِهِ جر الْغَمَام ذيوله ... فَخر لَهُ وجدا على رَأسه النَّهر)
(وَقد أرقص الأغصان تغريد ورقه ... وأضحك ثغر الزهر لما بَكَى الْقطر)
(وَضاع بِهِ نشر الخزامى فعطرت ... نسيم الصِّبَا مِنْهُ وَيَا حبذا الْعطر)
(بَدَائِع من حسن البديع كَأَنَّهَا ... إِذا مَا بَدَت أَوْصَاف سيدنَا الغر)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(كَأَنَّمَا الْوَجْه وَالْخَال الْكَرِيم بِهِ ... مَعَ العذار الَّذِي اسودت غدائره)(1/123)
(بَيت الْعَتِيق الَّذِي فِي رُكْنه حجر ... قد أسبلت من أعاليه ستائره)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بحلب سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَأَبوهُ مُحَمَّد شَاعِر مثله حسن السبك دَقِيق الملاحظة وَلَقَد سَأَلت عَن وَفَاته كثير من الحلبيين فَلم أظفر بهَا فَلهَذَا لم أفرده فِي هَذَا الْكتاب بترجمة وذكرته هُنَا رَغْبَة فِي تطريز هَذَا التَّارِيخ بِشعرِهِ وَمَا أوردهُ لَهُ قد ذكر غالبه البديعي وَلم يوفه فِي تَرْجَمته حَقه فَمَا أوردهُ لَهُ قَوْله
(بدر أدَار على النُّجُوم براحة ... شمسا فنارت فِي كؤوس رحيقه)
(شمس إِذا طلعت كَانَ وميضها ... برق تلألأ عِنْد لمع بريقه)
(يسقى وَإِن عزت عَلَيْهِ ورام أَن ... يشفى لداء محبه وحريقه)
(فيديرها من مقلتيه وَتارَة ... من وجنتيه وَتارَة من رِيقه)
وَقَوله
(عجبت لما أبداه وَجه معذبي ... من الْحسن كالسحر الْحَلَال وأسحر)
(بوجنته ياقوت نَار توقدت ... عَلَيْهَا عذار كالزمرد أَخْضَر)
وَقَوله مضمناً
(مليك جمال أنبت الْعِزّ خَدّه ... نباتاً لَهُ كل المحاسن تنْسب)
(فكررت لثم الخد مِنْهُ لطيبه ... وكل مَكَان ينْبت الْعِزّ طيب)
وَقَوله
(ومهفهف لدن القوام وَوَجهه ... قمر تقمص بالعذار الْأَخْضَر)
(فتق العذار بخده فَكَأَنَّمَا ... فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر)
أَبُو السُّعُود بن الشّرف يحيى بن أَحْمد بن أبي السُّعُود بن تَاج الدّين بن أبي السُّعُود ابْن جمال الدّين بن القَاضِي الْجمال مُحَمَّد بن أَحْمد صفي الدّين ابْن مُحَمَّد بن روزبة بن أبي الثَّنَاء مَحْمُود بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الكازروني الْمدنِي الزبيرِي نِسْبَة إِلَى الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنهُ الشَّافِعِي إِمَام الشَّافِعِيَّة بِطيبَة الطّيبَة كَانَ فَاضلا ذَا همة عالية وَنَفس مطمئنة ومحاضرة لَطِيفَة وجاه عريض مَعَ خشيَة الله تَعَالَى والتورع فِي كثير من أُمُور الدُّنْيَا والتقلل مِنْهَا وَالتَّعَفُّف عَنْهَا خطبَته المناصب السّنيَّة فأباها وَرفعت لَهُ عَن نقاب زخرفها فَنَهَاهَا وَكَانَ لَهُ همة عَظِيمَة فِي النّسخ لم يضيع أوقاته بِلَا شَيْء مِنْهُ فَجمع بذلك كتبا نفيسة بِخَطِّهِ وَكَانَ ملازماً لورد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي أَحْمد ابْن مُوسَى العجيل كَمَا أوصاه بِهِ وَالِده من حِين خرج من الْمكتب إِلَى وَفَاته وَأوصى هُوَ بِهِ وَلَده الْفَاضِل الْخَطِيب عبد الرَّحْمَن وَكَانَ يَقُول إِنَّه دِرْهَم الْكيس وَحفظ الْقُرْآن وجوده وَحفظ كتبا فِي الْفِقْه والأصلين وألفية ابْن مَالك والشاطبية والرحبية وَغَيرهَا وَقَرَأَ على كثير من الْمَشَايِخ كالسيد حُسَيْن السَّمرقَنْدِي الْمدنِي(1/124)
وَأخذ عَن عَمه الإِمَام مُحَمَّد تَقِيّ الدّين الكازروني الْمِنْهَاج وَشَرحه لِابْنِ حجر وَعَن خَاتِمَة الْمُحَقِّقين عبد الْملك العصامي ومولات الْمَالِكِي وَأحمد بن مَنْصُور وَالْإِمَام عبد الرَّحْمَن الخياري وَغَيرهم وَلزِمَ الإفادة وَصَلَاة الْجَمَاعَة بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ بِحَيْثُ لايفوته فرض إِلَّا لعذر وَكَانَ لَا يخرج من الْمَسْجِد إِلَّا آخر النَّاس خُصُوصا بعد صَلَاة الْعشَاء وَيَقُول أحب أَن أكون آخر النَّاس خُرُوجًا أَوَّلهمْ دُخُولا وَكَانَ وَالِده يلْزمه وَهُوَ مراهق بِحُضُور صَلَاة الصُّبْح مَعَ الْجَمَاعَة وَحُضُور قِرَاءَة الْوَظَائِف وَاسْتمرّ على ذَلِك وَمن عَادَة أهل الْمَدِينَة غَالِبا إِذا جَاءَ وَقت الصَّيف يخرجُون إِلَى النّخل قَالَ وَكَانَ لوالدي نخل بالمقصرة عِنْد الْميل الْأسود فطلع هُوَ وطلعنا مَعَه وَالْوَقْت صيف فانتبهت لَيْلَة من النّوم وَكَانَت مُقْمِرَة فتوهمت أَن النَّهَار أَسْفر وفاتني حُضُور الْجَمَاعَة فانزعجت ثمَّ تَوَضَّأت وَفتحت بَاب النّخل وَذَهَبت إِلَى أَن وصلت مَحل الدَّاعِي بِبَاب الْجُمُعَة فَإِذا الريس أول مَا ابْتَدَأَ فِي التهليل على المنارة فتحيرت حِينَئِذٍ وَعرفت أَنِّي قد اغتريت بالقمر وَأَن اللَّيْل بَاقٍ وَلَا يمكنني الرُّجُوع إِلَى الْمحل لِأَنِّي أهاب الدُّخُول بَين تِلْكَ النخيل وَلَا أجد قدرَة على الدُّخُول فِي البقيع فِي تِلْكَ السَّاعَة لكَون الْمحل مهاباً عَادَة ثمَّ ألهمني الله تَعَالَى وقوى جناني إِلَى أَن عزمت على التَّقَدُّم إِلَى البقيع فِي تِلْكَ السَّاعَة فتقدمت باسم الله إِلَى أَن جَلَست على بَاب عمات النَّبِي
واتكأت على بَاب الْقبَّة وَوضعت العباءة على رَأْسِي فَبعد سَاعَة لم أشعر لَا بفانوس أقبل من جِهَة سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ حَتَّى وقف بِهِ حامله بِالْقربِ مني وَمَعَهُ جمَاعَة مبيضون ثمَّ بعد سَاعَة أقبل فانوس آخر من جِهَة قبَّة الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ ووقف بِهِ حامله بِالْقربِ من بَاب الْجُمُعَة وَمَعَهُ جمع مبييضون أَيْضا ثمَّ بعد سَاعَة أقبل جمَاعَة كَثِيرُونَ من الدَّرْب الَّذِي أتيت مِنْهُ إِلَى الْمحل الَّذِي أَنا بِهِ من درب الْغنم وَمَعَهُمْ فانوس وَلَهُم حَرَكَة عَظِيمَة فَسلم وَاحِد على الْجمع الأول فَردُّوا سَلَامه فقصدوا بَاب السيدة فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِذا هُوَ مَفْتُوح فَدَخَلُوا فَدخلت مَعَهم وقصدوا جِهَة الصَّحَابَة فَأَرَدْت الدُّخُول مَعَهم فَوقف لي رجل مِنْهُم وَقَالَ لي هَهُنَا حدك فوقفت عِنْد قبر السيدة فَاطِمَة أتهجد سَاعَة ثمَّ خَرجُوا وَخرجت مَعَهم فَخَرجُوا من بَاب الْجَبْر ثمَّ من بَاب الْجُمُعَة فَخرجت مَعَهم فوقفوا هُنَاكَ بعد أَن توجهوا إِلَى الْقبْلَة ودعوا وَأَنا مَعَهم فَالْتَفت إِلَى رجل مِنْهُم وضيء وَقَالَ لي من أَنْت قلت أَبُو السُّعُود بن يحيى الكازروني فَرفع يَده وطبطب بهَا بَين كَتِفي وَقَالَ(1/125)
بَارك الله فِيك حصلت لَك الْعِنَايَة ولذريتك ثمَّ تفَرقُوا على أسْرع مَا يكون حَتَّى كَأَنَّهُ لم يكن وَالْوَقْت بَاقٍ فَرَجَعت إِلَى الْمَكَان الَّذِي كنت فِيهِ بَقِيَّة لَيْلَتي فَبعد هنيهة إِذا بحس قافلة مقبلة أسمع وَلَا أرى ثمَّ بعد ذَلِك رَأَيْت رجلا مُقبلا من جِهَة درب الْجَنَائِز يَقُود جملا عَلَيْهِ شقدف عَلَيْهِ ثوب أَبيض وَرجل من خلف الْجمل يَسُوقهُ وهما فِي صفة يمانيين بازار فَقَط فَقلت هَذِه قافلة لبَعض أهل الحارة تحط هُنَا أتونس بهَا إِلَى أَن يفتح الْبَاب فَإِذا هما طلعا إِلَى البقيع وأخذا فِي السّير فَبَقيت مُتَعَجِّبا من هذَيْن الرجلَيْن من أَيْن وَإِلَى أَيْن إِلَى العريض فَمَا هُوَ وقته أوالي العوالي فَمَا اتّفق أَن أحدا يذهب إِلَيْهِ بشقدف فَإِذا هم قصدُوا جِهَة بِالْقربِ من سيدنَا إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله
فبركوا الْجمل ثمَّ أخذُوا فِي الْحفر أَرَاهُم أخرجُوا من ذَلِك الْقَبْر شَيْئا وأدخلوه فِي الشقدف وأخرجوا من الشقدف شَيْئا وأدخلوه ذَلِك الْقَبْر ثمَّ دفنوه وَأَنا أنظر إِلَيْهِم من مَكَاني وَبعد سَاعَة أناروا الْجمل فَقَامَ وَإِذا بالشقدف وَعَلِيهِ ثوب مسود بعد ذَلِك الْبيَاض الأول ومروا عَليّ فَلَمَّا جاوزوني قُمْت فمسكت قَائِد الْجمل من يَده وَقلت لَهُ من تَكُونَا فَقَالَ إِلَيْك عَنَّا نَحن الْمَلَائِكَة النقالة فتأخرت واقشعر جلدي وَذهب لبي ثمَّ أذن الريس للصبح وَفتح الْبَاب فَكنت أول من دخل فقصدت الْمَسْجِد وزرت الحضرة الشَّرِيفَة وَصليت سنة الْفجْر ثمَّ قَامَت الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة فَصليت مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ حضرت وظائفي فقرأتها مَعَ أَصْحَابِي وَرجعت للنخل وأخبرت وَالِدي بذلك كُله فَقَالَ لَا بقيت تذْهب وَأَنا أقيم فِي وظائفك نَائِبا عَنْك وناب عني انْتهى وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة نظم ونثر ثابتان فِي مجاميعه وَله تذكرة لَطِيفَة جمع فِيهَا من كل غَرِيبَة ونادرة وَلما وقف عَلَيْهَا عَليّ بن غرس الدّين الخليلي الْمدنِي قَالَ مادحاً لَهُ
(لله در بارع ... أتحفنا بتذكره)
(حوت علوماً جمة ... على التقى مذكره)
(تغنى عَن المغنى فِي ... نَحْو لما قد ذكره)
(وفقهها يَكْفِي الْفَقِيه ... عَن كتاب حَرَّره)
(وشعرها رب الشُّعُور ... من كَلَام الْخيرَة)
(عروضها يعرض أَن ... يدعى لَهُ بالمغفرة)
(فِيهَا أَحَادِيث عَن الْمولى ... عَليّ حيدره)
(أبي الْحُسَيْن من زكا ... أصلا وضاءت زهره)(1/126)
(وَكم حَدِيث ثَابت ... عَن حَافظ قد قَرَّرَهُ)
(وطرفة طريفة ... بظرفها مخدره)
(ونكتة بديعة ... على العدا مظفره)
(وتحفة نفيسة ... بروضها مسطره)
(قد نقلت عَن مُسْند ... من صحف مطهره)
(وَكتب مَرْفُوعَة ... بَين الورى محبره)
(لَا سِيمَا وَهُوَ على ... أَيدي كرام برره)
(وُجُوههم وجيهة ... على الدَّوَام مسفرة)
(مبيضة من التقى ... ضاحكة مستبشرة)
(وَقد أنار سلكها ... بدرّة وجوهرة)
(من نظمه البديع مَعَ ... نثر لَهُ قد نثره)
(أَبُو السُّعُود الْفَاضِل المفضال ... نجل الخيره)
(أعنى الحواريين وَالصديق ... نعم المدره)
(وَهُوَ الإِمَام للورى ... فِي طيبَة المطهره)
(فدام مَحْفُوظًا مَعَ ... النجل وَأبقى عمره)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِالْمَدِينَةِ وَتُوفِّي بهَا فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَصلى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ بعد صَلَاة الْعَصْر وَدفن ببقيع الْغَرْقَد بِقرب تربة وَالِده وأسلافه عِنْد قبر سيدنَا إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله
أَبُو سعيد بن أسعد بن مُحَمَّد سعد الدّين ابْن حسن جَان القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة شيخ الْإِسْلَام بن شيخ الْإِسْلَام بن شيخ الْإِسْلَام وعلامة الْعلمَاء الْأَعْلَام الَّذِي ابتهجت بِهِ الْأَيَّام والليالي وافتخرت بِهِ وببيته الْمَرَاتِب العوالي مفتي السلطنة العثمانية وأوحد كبراء الدولة الخاقاقية جمع الْفَضَائِل كلهَا وحوى المحاسن دقها وجلها فَمَا من فَضِيلَة إِلَّا فِيهِ أَصْلهَا ومقرها وَلَا مِدْحَة إِلَّا وَصِفَاته الْعلية أَصْلهَا ومستقرها دَانَتْ لَهُ اللَّيَالِي فَجلى ظلمَة الحنادس وتدانت لَهُ سَمَاء الْمَعَالِي فصافح يَد الثريا وَهُوَ جَالس وَبِالْجُمْلَةِ فحلالة قدره وسمو فخره غنيان عَن التَّعْرِيف وهما مِمَّا يشرفان التوصيف وَكَانَ عَالما فَاضلا أديب كَامِلا بليغ الْخطاب كثير الْآدَاب لَهُ يشوبه فِي المدحة شائب وَجَمِيع صِفَاته حَسَنَة أطايب وَله الْوَقار الَّذِي(1/127)
يرجح على الْجبَال الرواسِي والسكون الَّذِي تتعظ بِهِ الْقُلُوب القواسي وَكَانَ مثابرا على الْعِبَادَة الصَّدقَات ملازما للأوراد الْأَذْكَار فِي الخلوات والجلوات اشْتغل فِي مبدأ أمره وبرع ونظم الشّعْر التركي وَله شعر عَرَبِيّ أَيْضا إِلَّا أَنه قَلِيل أورد مِنْهُ وَالِدي رَحمَه الله فِي تَرْجَمته قطعتين استحسنت أَحدهمَا وَهِي هَذِه وكتبت بهَا على مؤلف الْعَلَاء الطرابلسي فِي الْفَرَائِض
(كتاب نَفِيس للفوائد جَامع ... مُفِيد لطلاب الْمسَائِل نَافِع)
(على حسن تَرْتِيب تجلى مُجملا ... فقرت عُيُون الورى ومسامع)
(بدا معجيا إِذْ لم تَرَ الْعين مثله ... بِهِ نور آثَار الْفَضَائِل لامع)
(لجامعه فَخر الْأَئِمَّة سودد ... لرايات أنوار المكارم رَافع)
(أَفَاضَ عَلَيْهِ الرب من سحب جوده ... فَإِن غمام الْفضل مِنْهُ لوامع)
وَكَانَ لَازم على عَادَة عُلَمَاء الرّوم من عَمه شيخ الْإِسْلَام الْمولى مُحَمَّد وَلم يزل يترقى فِي الْمدَارِس حَتَّى صَار قَاضِي قُضَاة الشَّام ودخلها نَهَار الْأَرْبَعَاء سادس عشر الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ألف وَكَانَ وَالِده مفتي الدولة وَقَالَ الأديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمي فِي تَارِيخ قدومه
(أَهلا بأكمل فَاضل ... رب الحجى المتكامل)
... يَا مرْحَبًا بقدوم غيث ... فِي مقَام ماحل)
(لما أَتَاهَا حَاكما ... رب الْعَطاء الشَّامِل)
(تَارِيخ مقدمه أَتَى ... فِي بَيت شعر كَامِل)
(زهيت معالم جلق ... بِأبي سعيد الْعَادِل)
وَهُوَ أجل من ولي الشَّام من الْقُضَاة وأعفهم وأعظمهم قدرا وَقد سَار سيرة فِي أَحْكَامه أنست من تقدمه وأتعبت مَا جَاءَهُ بعده وَجَاء الْخَبَر وَهُوَ قَاض أَن السُّلْطَان عُثْمَان بن السُّلْطَان أَحْمد قد تزوج بأخته فَجمع إِلَى سعوده سَعْدا وَبعد ذَلِك بِمدَّة جزئية ورد عَلَيْهِ خبر مقتل السُّلْطَان وعزل وَالِده عَن الْفتيا ثمَّ عزل هُوَ أَيْضا عَن قَضَاء الشَّام ورحل إِلَى الرّوم فِي سادس عشرى شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ بعد وُصُوله الرّوم بِمدَّة ولى قَضَاء بروسه والغلطة ثمَّ قَضَاء قسطنطينة وعزل مِنْهَا ثمَّ أُعِيد إِلَيْهَا ثَانِيًا وَنقل مِنْهَا إِلَى قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي ثمَّ نقل إِلَى روم إيلي وعزل عَنْهَا وأعيد ثَانِيًا ثمَّ صَار مفتي التخت ثَلَاثًا وَكَانَ كلما أُعِيد إِلَيْهَا تَلا قَوْله تَعَالَى هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا وَكَانَ يكْتب فِي الفتاوي الَّتِي ترفع إِلَيْهِ فَوق السُّؤَال(1/138)
الله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان وَأول من غير مختارات الْمُفْتِينَ من كتابتهم اللَّهُمَّ يَا ولي الْعِنَايَة والتوفيق نَسْأَلك الْهِدَايَة إِلَى أقوم طَرِيق جده سعد الدّين كَانَ يكْتب اللَّهُمَّ يَا مُجيب كل سَائل نَسْأَلك تسهيل الْوَسَائِل إِلَى حل مشكلات الْمسَائِل ثمَّ تبعه ابْنه أسعد وَالِد أبي سعيد فَكَانَ يكْتب الله الْهَادِي عَلَيْهِ اعتمادي وَأُصِيب فِي آخر تولياته للْفَتْوَى بِنَهْب دَاره وَأخذ لَهُ أَشْيَاء لَا يُمكن حصرها وَكَانَ سَبَب ذَلِك قيام الْعَسْكَر على الْوَزير الْأَعْظَم أبشير وَبعد وُقُوع هَذِه الْحَالة اختفى مُدَّة ثمَّ أَمر بالتوجه نَحْو بِلَاد أناطولي وَأعْطِي قَضَاء قونية فَلم يفعل وَأرْسل إِلَيْهِ قَضَاء الشَّام فَلم يقبله ثمَّ أَمر بِالْعودِ إِلَى وَطنه وَبَقِي فِي الاختفاء مُدَّة مديدة إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف وَتُوفِّي فِي ذِي الْقعدَة سنّ اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة أجداده بِالْقربِ من تربة أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَبَنُو سعد الَّذين هَؤُلَاءِ يُقَال لَهُم بَيت الخوجا لِأَن جدهم الْمَذْكُور كَانَ معلم السُّلْطَان مُرَاد بن سليم من كبراء الْعلمَاء فِي الدولة كَانَ جدهم حسن جَان الْمَذْكُور عِنْد السُّلْطَان سليم الْأَكْبَر لَهُ الحظوة التَّامَّة وَهُوَ من كبراء دولته الْعلية وَولد لَهُ سعد الدّين وَهُوَ الَّذِي عظم بِهِ قدر بَيتهمْ وسما وتشعبت أبناءه حَتَّى تزينت بهم المحافل والرتب وخلدت مآثرهم فِي دواوين السّير وَالْأَدب وَقد خرج مِنْهُم فذ بعد فذ تطرب المسامع بِذكر اوصافه وتلتذ وكل مِنْهُم عرف بمزيه واختص بفضيلة سنية وفضلهم وَقدم صدارتهم مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى إِيضَاح بل هُوَ أشهر فِي الخافقيني من الصَّباح وَسَيَأْتِي فِي كتَابنَا هَذَا مِنْهُم جمَاعَة كل مِنْهُم مُنْفَرد بترجمة مُسْتَقلَّة
أَبُو السماع الْبَصِير الْمصْرِيّ الشَّاعِر البديهي أعجوبة الزَّمَان وَأحد الْأَفْرَاد فِي البديهة وارتجال الشّعْر وَكَانَت طَرِيقَته إِذا أَرَادَ الارتجال أَن يبْدَأ بإنشاد قصيدة من كَلَام أحد الشُّعَرَاء الْمُتَقَدِّمين بِصَوْت شجي وَفِي أثْنَاء إنشاده يبتدر على وزن تِلْكَ القصيدة فِي أَي بَاب كَانَ من أَبْوَاب الشّعْر مدحا كَانَ أَو غزلا أَو غَيرهمَا وَورد دمشق فِي أَوَائِل شَوَّال سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف فأنزله أديب الزَّمَان أَحْمد الشاهيني عِنْده وَأَقْبَلت عَلَيْهِ أَعْيَان الشَّام وأدباؤها لغرابة حَاله وتفوقه فِي شَأْنه وَمِمَّا قَالَ فِيهِ اشاهيني الْمَذْكُور
(إِن هَذَا أَبَا السماع لشيخ ... فاق فِي الارتجال كل الرِّجَال)
(فَهُوَ ثَانِي الْأَفْرَاد فِي كل عصر ... وَهُوَ فَرد الرِّجَال فِي الارتجال)(1/129)
وَقَالَ فِيهِ الأديب مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمي من أَبْيَات
(فَخر لفخر فِي الزَّمَان بديع ... مَا حازه فِي الغابري من بديع)
(وَحَدِيثه فَلَقَد أَتَانِي ذكره ... متواترا حَتَّى انْتَفَى مَوْضُوع)
(صدقت مَا خبرته من فنه ... صَحَّ السماع فَصدق المسموع)
(ندب على غير القياسي قد أَتَى ... أَهلا بِهِ فالعمر مَعَه ربيع)
وَكَانَ مُشَوه الْخلقَة قَبِيح المنظر فَقَالَ فِيهِ بعض الأدباء
(أَبُو السماع اسْمَع بِهِ وَلَا تره ... فوصفه نَاقض فِيهِ مخبره)
(شَيْئَانِ فِيهِ موجبان قسوره ... عمى وخلقه لَدَيْهِ منكره)
وَأقَام بِدِمَشْق مُدَّة وودع علماءها ونجباءها هَاشم ثمَّ رَحل إِلَى طرابلس قَاصد أقاضيها الأديب البارع عبد اللَّطِيف الْمَعْرُوف بأنسي الرُّومِي وَحصل مِنْهُ عطايا طائلة ورحل إِلَى مصر قَالَ وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى وَلما كنت بِمصْر زارني مرّة وَأَنا نَائِب الصالحية فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف فرأيته فِي حَالَة ردية حَتَّى كدت أنكرهُ ثمَّ تعرفت مَعَه وذكرته بأيامه بِدِمَشْق فَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ طفق ينشد الأبيات الْمَشْهُورَة لسيدي عَليّ وفا رَحمَه الله وَهِي
(قد كنت أَحسب أَن وصلك يَشْتَرِي ... بعظائم الْأَمْوَال والأرواح)
(وَعلمت حَقًا أَن وصلك هَين ... تفنى عَلَيْهِ نفائس الأشباح)
(لما رَأَيْتُك تجتبي وتخص من ... أجتبيته بلطائف الأمناح)
(أيقنت أَنَّك لَا تنَال بحيلة ... فَجعلت رَأْسِي تَحت طي جناحي)
(وَجعلت فِي عش الغرام إقامتي ... فِيهِ غدوى دَائِما ورواحي)
وَبعد مَا أتمهَا نسج على منوالها قصيدة مدحني بهَا وَانْصَرف وَسَأَلت من لَهُ بعض معرفَة عَن سَبَب تبدل حَاله فَذكر لي أَنه حصل لَهُ مقت من جَانب السادات بني الوفا وَكَانَ هُوَ فِي الأَصْل من أتباعهم فطردوه انْتهى قلت وَلَقَد سَأَلت كثيرا مِمَّن لَقيته من أهل مصر وَأهل بَلْدَتنَا عَن وَفَاة أبي السماع فَلم أظفر بهَا لَكِن ذكر لي بَعضهم على وَجه الظَّن أَن وَفَاته كَانَت فِي حُدُود سنة خمس أَو سِتّ وَسِتِّينَ وَألف
أَبُو الصفاء بن مَحْمُود بن أبي الصفاء الأسطواني الدِّمَشْقِي وَهُوَ جدي لأمي ولد بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا وَكَانَ حنبليا على مَذْهَب أسلافه وَله مُشَاركَة جَيِّدَة فِي فقه مَذْهَبهم وَغَيره وَقَرَأَ فِي آخر أمره فقه الْحَنَفِيَّة على الْعَلامَة رَمَضَان بن عبد الْحق العكاري(1/130)
وَكَانَ من جملَة الرؤساء وفضلاء الْكتاب ولي خدماً كَثِيرَة من كتابات الخزينة والأوقاف وَكَانَ كَاتبا بليغاً كَامِل الْعقل حسن الرَّأْي مَيْمُون النقيبة ورزق دنيا طائلة وسعة وَكَانَ كثير التنعم وافر الْخَيْر محظوظاً فِي الدُّنْيَا وَبلغ من الْعُمر كثيرا وَهُوَ فِي نشاط الشبَّان وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن كَانَ مِمَّن توفرت لَهُ الدَّوَاعِي ونال من الْأَيَّام حَظه وَكَانَ مَعَ ذَلِك سمح الْكَفّ دَائِم الْبشر وَكَانَت صدقاته على الْفُقَرَاء دارة وخيراته واصلة وانتفع بِهِ جمَاعَة وَمِنْه أثروا وَبِه استفادوا وَالْحَاصِل أَنه كَانَ من محَاسِن دهره وأكارم عصره وَكَانَت وَفَاته فِي شهر ربيع الأول سنة سِتِّينَ ألف وَدفن بمقبرة الفراديس فِي تربة الغرباء رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو طَالب بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن علوي بن أبي بكر الحبشي ابْن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَسد الله ابْن حسن بن عَليّ بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم ولد بِمَدِينَة مريمه من أَرض حَضرمَوْت واشتغل بالفنون وَجمع الله تَعَالَى لَهُ بَين حسن الْحِفْظ والفهم ثمَّ رَحل إِلَى أَرض السواحل وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة ثمَّ رَحل إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة وَأخذ بهَا عَن بعض الْفُضَلَاء وَكَانَ كثير الاستحضار للمستحسنات من الْأَشْعَار والحكايات وَله نظم ونثر ثمَّ وَفد على بعض مُلُوك الْهِنْد فَوَقع عِنْده موقعاً عَظِيما وَجلسَ عِنْده للتدريس الْعَام وَكَانَ عَالما بِعلم الْفَرَائِض والحساب وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْأَدَب ثمَّ ترك ذَلِك كُله واشتغل بِالْعبَادَة وَلزِمَ الطَّرِيقَة الموصلة وَرجع إِلَى وَطنه فَركب الْبَحْر فَقدر الله تَعَالَى أَن سقطوا على أَرض عمان وَأقَام بهَا مُدَّة حَتَّى مَاتَ وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن بِأَرْض عمان فَلَمَّا فرغوا من دَفنه فِي لحده سمعُوا هزة وطلع مِنْهَا نور لحق عنان السَّمَاء فنبشوا عَلَيْهِ فَلم يَجدوا جثته وَلَا الْكَفَن رَحمَه الله تَعَالَى
الشريف أَبُو طَالب بن حسن بن أبي نمى مُحَمَّد بن بَرَكَات بن مُحَمَّد بن بَرَكَات بن حسن ابْن عجلَان بن رمية بن أبي نمى مُحَمَّد بن أبي سعيد الْحسن بن عَليّ بن قَتَادَة بن إِدْرِيس ابْن مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن عِيسَى بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد ابْن مُوسَى بن عبد الله الْمُحصن ابْن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم صَاحب مَكَّة والحجاز كَانَ من أمره أَنه لما كبر أَبوهُ فوض أَولا نِيَابَة الْإِمَارَة لِابْنِهِ الشريف حُسَيْن فَلم يطلّ أمره فِيهَا فَمَاتَ فولاها شقيقه الشريف مَسْعُود وَكَانَ مَوْصُوفا بالشجاعة وَالْقُوَّة لَكِن لم يسْلك فِيهَا مسلكاً(1/131)
مرضياً وَتُوفِّي وَهُوَ شَاب فآلت إِلَى أبي طَالب صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ ذَا فكر صائب وشجاعة عَظِيمَة وفضيلة باهرة وفَاق سَائِر إخْوَته وَبعد مَا حكم بالنيابة عَن أَبِيه مُدَّة أَمر أَبوهُ أُمَرَاء الْحجاز أَن يلبسوه الخلعة الْكُبْرَى وألبسوا وَلَده عبد الْمطلب الخلعة الثَّانِيَة فلبساهما ثمَّ جهز من أَتْبَاعه الْأَمِير بهْرَام بهدية سنية إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فِي هَذَا الْخُصُوص وَالْتمس من السُّلْطَان مُحَمَّد خَان بن السُّلْطَان مُرَاد تقريراً بذلك فَأُجِيب إِلَى ملتمسه وَرجع بهْرَام بالتقارير وَصُورَة منشورة مَذْكُورَة فِي رَيْحَانَة الخفاجي وَهُوَ من إنشائه لكنه مطول أَعرَضت عَن كِتَابَته لطوله ويعجبني مِنْهُ مَحل وَهُوَ قَوْله فِي مُخَاطبَة الشريف حسن وَقد ورد من جنابه رَسُول تَلقاهُ من سدتنا نسيم الْقبُول إِذْ جاب الفيافي من خزنها وسهلها وَأدّى الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا وَكَانَ كالميل سلك بَين الجفون فأجاد ومتع الْعُيُون بإثمد الصّلاح والسداد وَمَعَهُ منشور أرق من نسيم السحر مُعرب عَن الْعين بالأثر فَأخْبر أَن مرسله أَرَادَ الْفَرَاغ وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وتضمن منشوره الْمَذْكُور أَنه أَرَادَ الاسْتِرَاحَة من نصب المناصب والتقاعد عَمَّا بهَا من الْمَرَاتِب رَغْبَة عَن زخرف الْحَيَاة إِلَى خدمَة سَيّده ومولاه وَأَن نجله النجيب الْجَلِيل الحسيب النَّاشِئ فِي حجر الشّرف الباهر الْمُسْتَخْرج من أطيب العناصر لَيْث غابة بيض الصفاح وَسمر العسالة الرماح عَلَيْهِ أَمارَة الْإِمَارَة ومخايل النجابة والصدارة
(بلغ السِّيَادَة فِي ابْتِدَاء شبابه ... إِن الشَّبَاب مَطِيَّة للسودد)
وَسَأَلَ أَن نقلده صارم إِمَارَة تِلْكَ الديار وَمَا يتبعهَا من الْبلدَانِ والأقطار على مَا جرت بِهِ عَادَة سلفه الَّذِي سلف وقانون من خَلفه من الْخلف فأجبناه إِلَى مُرَاده وأمددناه بإسعافه وإسعاده لِأَنَّهُ إِنَّمَا نزع صارمه من يَده إِلَى يَده الْأُخْرَى وَجعله من بعد يمن الْيُمْنَى فِي يسَار الْيُسْرَى فسارت الْإِمَارَة من حرم إِلَى حرم وَلم تخرج من جيران نجد وَذي سلم وخلعنا عَلَيْهِ حللاً تأنق واشيها ورقت حواشيها ونظرنا إِلَيْهِ بنظرنا الَّذِي هُوَ اكسير أَن يحسن فِي الْعَمَل وَالتَّدْبِير وَينظر إِلَى الرعايا بِعَين الرِّعَايَة ويصونهم عَن أهل الضَّلَالَة والغواية ويؤمن تِلْكَ الْمَنَاسِك ويحرس تِلْكَ المسالك ويختار من قومه من يحرسها من الْأَعْدَاء ويحميها من كل قَاصِر فِي فعله تعدى وَيبْطل مَا فِيهَا من المكوس والمظالم وَيُقِيم الْحُدُود على مستحقيها من كل بَاغ وظالم ليخلد فِي صَحَائِف تِلْكَ الْبِلَاد الْحَسَنَات ويمحو مَا فِيهَا من آثَار السَّيِّئَات ويتصرف(1/132)
فِي بندر جدة على الْعَهْد الْقَدِيم وَمن جاور ذَلِك الْمقَام فليسعفه بالنعيم الْمُقِيم وَمن يرد فِيهِ بالحاد بظُلْم نذفه من عَذَاب أَلِيم ويحرس الوافدين إِلَى ذَلِك الْبَلَد الْأمين بِإِقَامَة شَعَائِر شرائع الدّين ويحمي بحمايته من ورد أَو صدر ويحرس مواردهم الصافية من الكدر ويلاحظ مَا للتحليل
من صَالح الدَّعْوَات فِي قَوْله وَاجعَل هَذَا الْبَلَد آمنا وارزق أَهله من الثمرات ثمَّ ليعلم كل من كحل بَصَره باثمد منشورنا الْكَرِيم وشنف مسامعه بِلَا آلىء لَفظه الْعَظِيم مِمَّن فِي دارة تِلْكَ الديار وهالة تِلْكَ الأقطار وانتظم فِي سلك سكان الْقرى والأمصار من السادات الْكِرَام والقضاة والحكام وولاة الْأُمُور من الْأَعْيَان والوافدين على تِلْكَ الديار والسكان أَن إِمَارَة تِلْكَ الْمعَاهد وَمَا فِيهَا من العساكر وَمَا أحاطت بِهِ من الأصاغر والأكابر وَسَائِر الْوَظَائِف والمناصب والجهات والمراتب مفوضة إِلَى السَّيِّد السَّنَد أبي طَالب نَاظرا بِعَين الْإِنْصَاف متجنباً سَبِيل الاعتساف وَيصرف الْمُسْتَحقّين بِحسن التصريف وَيصرف من لَا يسْتَحق بِرَأْيهِ الشريف أقمناه مقَام نفسنا فِي ذَلِك الْمقَام وفوضنا إِلَيْهِ النَّقْض والأبرام والعلامة السُّلْطَانِيَّة حجَّة لما فِيهِ مرقوم مُحَققَة لما فِيهِ من مَنْطُوق وَمَفْهُوم فليتحقق من وقف على هَذَا الْخطاب وَمن عِنْده علم الْكتاب من أهل مَكَّة وَمن فِي جوارها وطيبة الطّيبَة وَسَائِر أقطارها وَبَقِيَّة الثغور الباسمة لدولتنا بمباسم السرُور من حاضرها وباديها أَنا أعطينا الْقوس باريها فَلم تَكُ تصلح الإ لَهُ وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا سدد الله سِهَام رَأْيه فِي أغراض الصَّوَاب وَفتح لَهُ بمفاتيح السمر كل مغلق من الْأَبْوَاب مَا سَقَطت من كف الثريا الْخَوَاتِم ورقت على مَنَابِر الأغصان خطباء الحمائم وَالسَّلَام وَاسْتمرّ أَبُو طَالب تَحت مُرَاعَاة وَالِده إِلَى أَن مَاتَ أَبوهُ فِي سنه عشرَة بعد الْألف ولحقه أَخُوهُ عبد الْمطلب فاستقل بِالْملكِ من غير شريك فِيهِ وهناه الله تَعَالَى بِمَا صَار إِلَيْهِ وَأصْلح الله تَعَالَى بِهِ أُمُور الْبِلَاد والعباد وَقَامَ بأعباء الْملك وَأظْهر السطوة وقهر الأكابر والأعيان على الانقياد لأوامره والانزجار لزواجره فهابته النُّفُوس وأنصف فِي أَحْكَامه وَسَار السِّيرَة المرضية وَكَانَ حسن الْهَيْئَة شَدِيد الهيبة فَإِذا حضر النَّاس مَجْلِسه سكتوا لمهابته وَكَانَت تخافه الْبَوَادِي وَأهل النوادي وَكَانَ سخياً ندي الْكَفّ مِمَّا يحْكى من كرمه أَنه زار النَّبِي
قبل أَن يَلِي أَمر مَكَّة فَلَمَّا أَمْسَى نزل فِي وَاد هُنَاكَ هُوَ وَمن مَعَه فأضافه رجل من أهل الْوَادي يُقَال لَهُ(1/133)
السوداني فذبح الذَّبَائِح وَمد الموائد وقدمها ثمَّ بلغه أَن الشريف أَبَا طَالب لم يَأْكُل من ذَلِك الطَّعَام وَلم يحضرهُ لشغل عرض لَهُ فَعمد السوداني إِلَى أَربع أَو خمس دجاجات فذبحهن وطبخهن وقدمهن على كيلتين من الْعَيْش فِي زبدية كَبِيرَة من الصيني وَجَاء بهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي هَذَا عشَاء عَبدك أجبر خاطره جبر الله خاطرك فَغسل الشريف يَده وَأكل من تِلْكَ الزبدية لقيمات ودعالة فَلَمَّا اسْتَقل بِالْولَايَةِ وَفد عَلَيْهِ السوداني بعد سنة فَقَالَ لَهُ الشريف الزبدية الَّتِي تعشينا فِيهَا عنْدك فَقَالَ نعم فَقَالَ اثْنَتَيْ بهَا فَمَلَأ هاله ذَهَبا وَله كثير من هَذَا الْقَبِيل وَلأَهل عصره فِيهِ مدائح كَثِيرَة فَمِنْهَا قَول الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ مهنئا لَهُ فِي بعض غَزَوَاته
(بسمر القنا وبيض الصوارم ... تنَال العلى وتنال المكارم)
(وبالمرسلات بُلُوغ المنى ... وبالعاديات نوال الْغَنَائِم)
(وَلَو لم يحل ليل ذَا العجاج ... لما أشرقت شمس تِلْكَ المعالم)
(ولي سيد مَاله فِي الوغى ... شَبيه سوى جده ذِي العزائم)
(يجيل الحروب ويجلو الكروب ... وينفي اللغدب ويزري بحاتم)
(لقد أذكرتنا فتوحاته ... مغازي الْأَئِمَّة من آل هَاشم)
(لَهُ النَّصْر بِالرُّعْبِ من أشهر ... وَمن شَأْنه قسم مَال الْغَنَائِم)
(إِذا مَا بُد اللعدا جحفل ... وَلم يَك فِيهِ فَكل مقاوم)
(وَإِن قيل فِيهِ أَبُو طَالب ... فَمن ذَا يلاقيه إِلَّا مسالم)
(ترَاهُ يَخُوض بحور النحور ... بجرد تجاذب جذب الطرايم)
(هِيَ الْبَرْق فِي السَّبق لَو لم تكن ... لَهَا غزوات بِتِلْكَ الحماحم)
(يحِق لَهَا الزهو بِابْن النَّبِي ... سليل الصفى على المعالم)
(من اتخذ الدرْع تعويذة ... وَطول النجاد تَمام التمائم)
(سناء النُّبُوَّة فِي وَجهه ... كفى شرفا عَن طراز العمائم)
(وأوصافه الغربين الْأَنَام ... بهَا غنية عَن طوال التراجم)
(فَمَا حاول الْخطب الأوكان ... لَهُ الْفَتْح والنصر عبدا وخادم)
(فيا سيد أسدت كل الْمُلُوك ... من الخلص الْعَرَب ثمَّ الْأَعَاجِم)
(فَهَل ملك أَنْت فِي الارض أم ... مليك فعدلك أنسى الْمَظَالِم)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من سراة الْأَشْرَاف ومشاهير وُلَاة الْحجاز قَالَ الشلي وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة(1/134)
خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لعشر بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف بِمحل يُقَال لَهُ العشة من جِهَة الْيمن وَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة كَبِيرَة يزار بهَا
أَبُو الطّيب بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مفرج بن بدر بن بَدْرِي ابْن عُثْمَان بن جَابر بن ثَعْلَب بن صنوى الْغَزِّي ابْن شَدَّاد بن عَاد بن مفرج بن لَقِيط ابْن جَابر بن وهب بن ضباب بن جحيش بن مغيفر بن عَامر بن لؤَي بن غَالب العامري يتَّصل نسبه بعامر بن لؤَي واليه أَشَارَ جده الرضي حَيْثُ قَالَ
(وَأَبُو الْفضل كنيتي وانتسابي ... من قُرَيْش لعامر بن لؤَي)
الدِّمَشْقِي المولد الْفَاضِل الأديب الشَّاعِر المفنن الْمَشْهُور أوحد الزَّمَان ونادرة الْعَصْر والأوان كَانَ فِي زَمَانه أبلغ الشُّعَرَاء وأدقهم نظرا وشعره من أَجود الشّعْر رونقاً وديباجة وَكَانَ إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي سبك الْمعَانِي وَاسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ الشائقة وَلم يكن شعره مَعَ جودته مَقْصُورا على أسلوب وَاحِد بل كَانَ يتفنن فِيهِ وَيدخل فِي أساليب مُخْتَلفَة وَكَانَ غزير الْمَادَّة من الْأَدَب مطلعاً على مُعظم شعر الْعَرَب الخلص وَغَيرهم وَكَانَ يكْتب الْخط المدهش وَهُوَ من أذكياء الْعَالم وفضلائه الْمَشْهُود لَهُم بالتفوق والبراعة قَرَأَ فِي مبدأ أمره كثيرا وَضبط وبرع ومعظم انتفاعه فِي عُلُوم الْأَدَب بجدي المرحوم القَاضِي محب الدّين فَإِنَّهُ بِهِ عرف وَعَلِيهِ تخرج وتفقه بالشهاب العيثاوي ورحل إِلَى مصر فِي حُدُود الْألف وَأخذ عَن علمائها وَرجع إِلَى دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ القصاعية الشَّافِعِيَّة ثمَّ تفرغ عَنْهَا وَعرض لَهُ فِي سنة خمس عشرَة وَألف عَارض سوداوي فَطلق زَوجته وَفرق ثِيَابه على كثير من أَصْحَابه وَكَانَ مَعَ هَذَا الْحَال يكْتب تَفْسِير الْمولى أبي السُّعُود كِتَابَة صَحِيحَة مليحة إِلَى الْغَايَة من غير نُقْصَان وَلَا تَبْدِيل وَذكره البديعي فِي كِتَابه ذكرى حبيب وَقَالَ وَمد نظم فِي سلك ذَوي الأفضال اعترته آفَة الْكَمَال بِسَبَب مَا اعتراه من عَارض الْجُنُون وَصَبره ثَالِث خَالِد وَالْمَجْنُون وَلم يزل بعد تِلْكَ الْجنَّة يَأْتِي بِكُل معنى شارد ويساعده شَيْطَانه المارد فِي الشّعْر على كل طريف من الْأَدَب وتالد وَله من الشّعْر مَا ينفث عقد السحر ثمَّ أورد لَهُ مَا ذكره الخفاجي فِي كِتَابه وَذَلِكَ قَوْله من قصيدة
(مؤنبي لَا بَرحت فِي عذلي ... فحبذا حبه عَليّ ولى)
(غُصْن دلال أغر طلعته ... شمس ضحى فَوق ناعم خضل)(1/135)
(يجول فِي عطفة الدَّلال إِذا ... تحمل حقْوَيْهِ فَتْرَة الكسل)
(رقمت فِي طرس خَدّه قبلا ... فظل يمحو بنانه قبلي)
(وأخجل الْورْد فِي نضارته ... شَقِيق خد فِي وردتي خجل)
وَمِنْهَا
(لله قلب ينوبه كلفا ... مطال مثر إِلَى ملام خلي)
(كَأَنَّهُ فِي يديهما كرة ... فَمن هِلَال الدجى إِلَى زحل)
وَأنْشد لَهُ الخفاجي قَوْله وَهُوَ من أحسن الشّعْر وَأخذ بِمَجَامِع الْقُلُوب
(صادفته وَالْحسن حليته ... كالريم لَا رعثا وَلَا قلبا)
(والعيد للألحاظ أبرزه ... والبدر أيسر مِنْهُ لي قربا)
(أَهْوى لتهنئتي ومديدا ... وفْق الْهوى وَتَنَاول القلبا)
قَالَ وَمد الْيَد الْمُعْتَاد للمصافحة فِي الأعياد مسنون لإِظْهَار الْقرب والاتحاد فَجَعلهَا لأخذ الْفُؤَاد معنى بديع وَمثله مَا قلته فِي مد الْيَد الْمَأْمُور بِهِ فِي الدُّعَاء وَهُوَ مِمَّا لم أسبق إِلَيْهِ فَإِن أَمر السَّائِل بِمد الْيَد بِمَعْنى خُذ مَا طلبت وأزيد وَهُوَ
(أما آن من نجم الشجون غرُوب ... وَحَتَّى مَتى ريح الْفُنُون تؤوب)
(تكلفني من بعد سلوان صبوتي ... شمال تعنى مهجتي وجنوب)
(سهرت لَهَا نائي الْمضَاجِع فانبرى ... لَهَا بَين أحناء الضلوع لهيب)
(إِذا ركدت ريح وقر نسيمها ... أَبى مِنْهُ إِلَّا أَن يعود هبوب)
(لحى الله قلبِي كم تنازعه الردى ... لحاظ لَهَا فِي صفحتيه ندوب)
(يلذ الْهوى لأدر در أبي الْهوى ... وحسبك مِنْهُ زفرَة ونحيب)
(أدرح أنفاسي مَخَافَة كاشح ... وأطرق كَيْمَا لَا يُقَال مريب)
(أدين بكتمان الْهوى فيذيعه ... فؤاد وطرف خافق وسكوب)
(عدتنا عواد بَيْننَا وخطوب ... وحالت قفار بَيْننَا وسهوب)
(لَعَلَّ صَرِيح الود يَنْمُو على النَّوَى ... فيهتاج شوق أَو تشق جُيُوب)
(وَلَو أنني وفيت حبك حَقه ... لشاب عذارى حِين لات مشيب)(1/136)
(وَلَو أنني أسْتَغْفر الله كلما ... ذكرتك لم تكْتب على ذنُوب)
لله دره مَا أَعلَى هَذِه الحشوة وَهِي قَوْله وَأَسْتَغْفِر الله وَأهل الْبَيَان يسمون هَذَا النَّوْع حَشْو اللوز ينج وَمِنْهَا
(لانت على غيظ الوشاة محبب ... وَأَنت على شط المزار قريب)
(أمرت الْهوى مَا شِئْت فِي وشاءه ... ونظمت فِيك الدّرّ وَهُوَ رطيب)
(بقيت على الْأَيَّام تختلس النهى ... وجادك غيث الْحسن حَيْثُ يَنُوب)
(وَلَا زلت بَدْرًا لَا يغيب الضيالة ... علينا شروق مرّة وغروب)
وَمن شعره الْبَهِي قَوْله
(عاطيته حلب الْعصير وَلَا سوى ... زهر النُّجُوم تجاه حول الْمجْلس)
(أنظر إِلَيْهِ كَأَنَّهُ متبرم ... مِمَّا تغازله عُيُون النرجس)
(وَكَأن صفحة خَدّه ياقوتة ... وَكَأن عَارضه خميلة سندس)
وَمثله لِابْنِ هاني الأندلسي
(عاطيته كأسا كَانَ شعاعا ... شمس النَّهَار يضيئه إشراقها)
(أنظر إِلَيْهِ كَأَنَّهُ متنصل ... بجفونه مِمَّا جنت أحداقها)
(وَكَأن صفحة خَدّه وعذاره ... تفاحة حفت بهَا أوراقها)
وَقَوله أَيْضا
(خالسته نظرا وَكَانَ موردا ... فازداد حَتَّى كَانَ أَن يتلهبا)
(أنظر إِلَيْهِ كَأَنَّهُ متنصل ... بحفونه من طول مَا قد أذنبا)
(وَكَأن صفحة خَدّه وعذاره ... تفاحة رميت لتقتل عقربا)
وَلأبي الطّيب أَيْضا
(وَشرب اداموا الْورْد من اكؤس الطلا ... وَقد أنفوا الأصدار عَن ذَلِك الْورْد)
وَقَوله
(أنسأني الْوَصْل فهنيته ... مِيقَات مُوسَى فَاتَ بالصد)
(لَا بُد من بَين على غرَّة ... مَا أَنْت إِلَّا زمن الْورْد)
وَقَوله
(لقد علقت يَا فُؤَادِي ... بالحسين ذِي الوسن)
(فَإِن ظمئت فاؤشفن ... ريق الْحُسَيْن وَالْحسن)
وَمِمَّا اشْتهر من شعره وَجرى مجْرى الْأَمْثَال قَوْله
(لنا نفوس إِذا هِيَ انصدعت ... بلمح طرف تقوم ساعتها)(1/137)
(عزت فَعَاشَتْ بفقرها رغدا ... وَفِي اعتزال الْأَنَام راحتها)
وَمِمَّا اشْتهر انه من شعر عبد الْمطلب جد النَّبِي
فِي مَعْنَاهُ
(لنا نفوس لنيل الْمجد طالبة ... وَإِن تسلت أسلناها على الأسل)
(لَا ينزل الْمجد إِلَّا فِي مَنَازلنَا ... كالنوم لَيْسَ لَهُ مأوى سوى الْمقل)
قد تَرْجمهُ الخفاجي فِي كِتَابيه لَكِن اخْتلفت تَرْجَمته لَهُ كثيرا وَالَّذِي حررته وَصَحَّ مَا نَقله وَالِدي من خطّ الشهَاب من نُسْخَة الخبايا حَيْثُ قَالَ من ذَوي الْبيُوت الشامخة الرتب الْمُزَاحمَة للنيرات فِي منازها بالركب وَله أدب غض نَقده نض وَشعر يتساقط فِي أندية الْكِرَام تساقط الدّرّ أسلمه النظام ألطف من شمائل الشمَال وَأحب من دَلَائِل الدَّلال وأرق من دموع السَّحَاب وأصفى من مَاء المزن والشباب وَبَينهمَا هُوَ رحيب الصَّدْر صلب قناة الصَّبْر لم تعقد حبار أيه بِغَيْر يَد الحزم وَلم تحل الْأَيَّام عقد رَأَيْته الأبراحة الْعَزْم إِذْ غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فأعجز داؤه الدَّوَاء فبدلت جُنُون الْفُنُون بفنون الْجُنُون وَفتحت مغلق قفله وحلت عقلة عقلة فَظهر تشَتت باله ونادى لِسَانه حَاله
(تقضي زمَان لعبنا بِهِ ... زهذا زمَان بِنَا يلْعَب)
فَمَا رويت من شعره قَوْله
(ترامت نَحْوهَا الْإِبِل ... وشامت برقها الْمقل)
(فتاة من بني مُضر ... يجاذب خصرها الكفل)
(فَمَا الخطار إِن خطرت ... وَمَا الميالة الذبل)
(تكنفها لُيُوث وغى ... يحاذر بأسها الأسل)
(لَئِن شط المزار بهَا ... وأقفر دونهَا الطلل)
(بِمِثْلِهَا الْفُؤَاد بِهِ ... ويدينها لَهُ الأمل)
(وَكم لي يَوْم كاظمة ... فؤاد خافق وَجل)
(وطرف بعد بعدهمْ ... بميل السهد مكنحل)
(علقت بهَا غَدَاة غَدَتْ ... وموطئ نعلها الْمقل)
(فَإِن سَارَتْ بأخمصها ... تداعى الوابل الهطل)
(وَإِن قرت تقر الْعين ففينا بِضَرْب الْمثل ... )
قلت وَجل شعره يشْتَمل على معَان عَذَاب لَطِيفَة الْموقع وَكَانَت وَفَاته فِي ربيع الأول(1/138)
سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ ارسلان قدس الله سره الْعَزِيز
الشَّيْخ أَبُو الْغَيْث بن مُحَمَّد شجر القديمي وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى الشريف القديمي ابْن الشّجر بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي بكر العربادي ابْن عَليّ بن مُحَمَّد النجيب ابْن حسن بن يُوسُف بن حسن بن يحيى بن سَالم بن عبد الله بن حُسَيْن بن آدم بن إِدْرِيس بن حُسَيْن بن مُحَمَّد التقي الْجواد ابْن عَليّ الرِّضَا ابْن مُوسَى الكاظم ابْن جَعْفَر الصَّادِق ابْن مُحَمَّد الباقر ابْن عَليّ زين العابدين ابْن الْحُسَيْن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم هَكَذَا نقل نسب السَّادة بني القديمي الْعَلامَة مُحَمَّد بن أبي بكر الأشخر فِي رسَالَته قَالَ وَأكْثر ذُرِّيَّة الشريف شجر من وَلَده الشريف القديمي فَإِنَّهُ أعقب عمر وَالشَّجر وَالْحسن وَأَبا الْقَاسِم وَأحمد الْمسَاوِي وَعز الدّين وَلكُل من هَؤُلَاءِ عقب مَشْهُورُونَ كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة من أكَابِر أَوْلِيَاء عصره الْمَشْهُورين لَهُ الجاه الْوَاسِع عِنْد مُلُوك مَكَّة الحسينيين وأمراء الأروام وَالْخَاص وَالْعَام وَكَانَ صَاحب كشف عَظِيم وَيُحب الطّيب وَيحيى زواره بِهِ ويتصرف فِي النَّاس وَيَأْخُذ مَا شَاءَ مِنْهُم ويصل بِهِ الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والمنقطعين وَكَانَ تَارَة يلبس لِبَاس الْمُلُوك وَتارَة يَنْزعهُ ويبيعه وَيطْعم بِثمنِهِ الْفُقَرَاء ويلبس لِبَاس الْفُقَرَاء وَكَانَت تجار الْيمن وَغَيرهم يستغيثون بِهِ فِي شَدَائِد الْبَحْر ومضايق الْبر فيجدون بركَة الاستغاثة بِهِ فِي الْحَال وينذرون لَهُ وَإِذا حصل لَهُم الْفرج وَالْغَرَض وفوه وَكَانَ يعْمل المولد بِالْحرم فِي الْمَوْسِم وَغَيره على طَريقَة أهل الْيمن وَيعْمل أشغالهم ويلحن ألحانهم بِنَفسِهِ وَله رياضة واجتهاد فِي الْعِبَادَة وَهُوَ الْمَشْهُور الْآن عِنْد المكيين بِأبي الْغَيْث بن جميل وَمن كراماته أَنه وقف فِي الْمَوْسِم فِي الْمَكَان الَّذِي يفرق فِيهِ الصر السلطاني بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَقَالَ للْكتاب أعطوني مِنْهُ مَا يخصني فَقَالَ لَهُ بَعضهم إِن كنت رجلا كَامِلا فهات لنا تَقْرِير سلطانياً بِمَا ترومه ونعطيه لَك فَمَا مَضَت سَاعَة إِلَّا وأتاهم تَقْرِير من سُلْطَان عصره مُحَمَّد بن مُرَاد بجامكية وَغَيرهَا فدفعوا لَهُ مَا هُوَ مَكْتُوب فِي المرسوم السلطاني وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد الْمَذْكُور من اولياء الله تَعَالَى وَمن أهل الخطوة وَيُقَال إِن صَاحب التَّرْجَمَة بعد أَن فَارق الْكتاب الْمَذْكُورين دخل الطّواف فَرَأى السُّلْطَان مُحَمَّد فِي المطاف وَهُوَ مختف فأمسكه وَقَالَ لَهُ إِن لم تكْتب لي تَقْرِير الصر يكون لي ولأولادي وَإِلَّا فضحتك ين النَّاس فَكتب لَهُ مرسوماً فِي تِلْكَ السَّاعَة بمطلوبه فَأتى بِهِ إِلَيْهِم فأمضوه على مَا ذَكرْنَاهُ وَكَانَت وَفَاته فِي الْمحرم سنة أَربع عشرَة(1/139)
وَألف بِمَكَّة وَدفن بِالشعبِ الْأَعْلَى من المعلاة بِالْقربِ من ضريح سيدتنا خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا
الشَّيْخ أَبُو الْغَيْث الْمَعْرُوف بالقشاش المغربي التّونسِيّ الْأُسْتَاذ الْعَالم الْوَلِيّ الرحلة الْكَبِير الْقدر قطب الأقطاب ولسان الحضرة الْمُتَصَرف فِي الْأَسْمَاء والحروف الْكَامِل فِي الْخَلَائق والنعوت كَانَ آيَة من آيَات الله تَعَالَى الباهرة رحْلَة تتعنى إِلَيْهِ الْوُفُود وتستقي من بَحر كرمه العطاش وَله الْجَلالَة الَّتِي مَا رزقها أحد والكرامات الَّتِي مَا نالها وَاحِد من الخليقة ومآثره وَصِفَاته الْحَسَنَة وأحواله العجيبة الغريبة مِمَّا لَا يُحِيط بهَا وصف واصف وَلَا مدح مادح وَلم أر من ذكره إِلَّا ابْن نَوْعي فِي ذيله التركي فَجَمِيع مَا ترَاهُ إِلَّا الْقَلِيل مِمَّا ذكرته فِي تَرْجَمته مترجم مِمَّا قَالَه فِي حَقه فَأَقُول أَنه ولد بِمَدِينَة تونس وساح فِي ابْتِدَاء حَاله لتَحْصِيل الْعلم وادب فَأخذ عَن عُلَمَاء عصره الْفُنُون المتداولة حَتَّى مهر فِي علم التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْأُصُول وَالْفُرُوع وأحاط بهَا وَصَارَ فِي علم الْأَدَب شيخ الْفَنّ ثمَّ حصل لَهُ جذف الهي فساح فِي أَطْرَاف الْجَبَل الْمَعْرُوف بجبل الزَّعْفَرَان وانْتهى إِلَى خدمَة الشَّيْخ مُحَمَّد الجديدي وَكَانَ من كبار أهل الْإِرْشَاد فَحصل من تلمذته لَهُ على فيوضات عَجِيبَة فَلَمَّا انْتقل شَيْخه الْمَذْكُور بالوفاة إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى أَتَى بنية الْحَج إِلَى وَطنه تونس وَجمع جملَة من المريدين الصلحاء وَأقَام هُوَ وإياهم بقريهم تَارَة أَنْوَاع الْعُلُوم وَتارَة يذكر هُوَ وإياهم ويتواجدون مَعَه وَكَانَ أَكثر لياليه يحيها هُوَ وإياهم فِي ذكر وتسبيح وَكَانَ إِذْ ذَاك حسن الملبس فَهبت عَلَيْهِ نفحة من صوب الفناء فمزق مَا عَلَيْهِ من الثِّيَاب وتجرد وَخرج مُنْفَردا بنية أَدَاء الْحَج فأداه وجاور بِالْمَدِينَةِ مِقْدَار سنة ثمَّ لبس ثيابًا خشنة وقفل إِلَى وَطنه وَأقَام مُدَّة قَليلَة مشتغلاً بإفادة الْعُلُوم وَالْعِبَادَة ثمَّ تَغَيَّرت أطواره وَظَهَرت مِنْهُ حركات متغيرة وكلمات متنافية فَكَانَ تَارَة يَقُول إِنَّه الْمهْدي صَاحب الزَّمَان وَتارَة يَدعِي الْأَخْبَار عَن الْغَيْب فيبسط مدعاه فِي الْحَوَادِث الْآتِيَة وَيخرج فِي ذَلِك عَن طور الْعقل فَتَبِعَهُ خلق كثير وَقَامُوا بنصرته وترويج مدعاه وأفضى تشعب الْأَمر فِيهِ أَن اجْتمعت عُلَمَاء الْبَلَد وَاتَّفَقُوا على إِيقَاع أَمر بِهِ يمنعهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ فَذَهَبُوا إِلَى حَاكم تونس رَمَضَان باشا وطلبوا مِنْهُ إِحْضَاره ليقيموا عَلَيْهِ بِمحضر من القَاضِي دَعْوَى بِمَا أبرموا أَمرهم عَلَيْهِ فتكرر إِحْضَاره إِلَى مجْلِس الْحَاكِم الْمَذْكُور وقاضي الْبَلَد وتكرر مِنْهُم السُّكُوت وَعدم النُّطْق مهابة مِنْهُ حَتَّى أدّى أَمر الْجَمِيع إِلَى تَركه وَمَا(1/140)
يصنع رَأْسا فَبَقيَ متلون الْأَحْوَال ينْتَقل من طور إِلَى طور فَتَارَة يلبس عِمَامَة الْعلمَاء الْكِبَار ولباسهم ويعقد حَلقَة درس يُفِيد فِيهَا الطلاب وَتارَة يسوح فِي الْجبَال عُريَانا مغلوب الْحيرَة فِي زِيّ المجانين إِلَى أَن ترك التلون وَاخْتَارَ السّكُون والتمكن وَأَنْشَأَ جَامعا وخانقاه وتكية واشتهر بِأَنَّهُ مِمَّن ينْفق من الْغَيْب أَو من صَنْعَة الكيميا ثمَّ ترقى بِهِ الْحَال إِلَى أَن أنشأ اثنيها وَثَلَاثِينَ موضعا زَوَايَا ومساجد وجوامع وَبنى مَالا يعد من الْمدَارِس الرفعية والقناطر المنيعة ووقف على كل أثر مِنْهَا أوقافاً عَظِيمَة وَعين للمقيمين والمسافرين نفقات وَكَانَ يبْذل فِي فكاك أسرى الْمُسلمين أَمْوَالًا كَثِيرَة وَكَانَ فِي شهر رَجَب وَشَعْبَان ورمضان يعْقد مَجْلِسا لقِرَاءَة التَّفْسِير وَالْبُخَارِيّ وَكَانَ يمِيل إِلَى تَحْصِيل نسخ مُتعَدِّدَة من البُخَارِيّ وَكَانَ من ملتزماته أَنه لَا يقبل هَدِيَّة من أحد إِلَّا إِذا أهْدى لَهُ البُخَارِيّ فَكَانَ يقبله ويقابل مهديه بأنواع الْإِحْسَان وَجمع من نفائس الْكتب مَالا يعد وَلَا يُحْصى وَمن جملَة مَا وجد فِي خزانَة كتبه ألف نُسْخَة من البُخَارِيّ وَقس عَلَيْهِ الْبَاقِي وَكَانَ مفرط السخاء مبذول الْعَطاء وَأكْثر مَا كَانَ ينْفق مَاله على أسرى الْمُسلمين حكى أَنه أوصى يَوْمًا خُدَّامه أَن يجلبوا لَهُ مَا يَكْفِي كسْوَة سَبْعمِائة نفس من ثوب وقميص وشاش وحزام قاسومة فامتثلوا وَصيته وأحضروا ذَلِك وَلم يدروا السِّرّ فِي ذَلِك فَمَا تمّ جمع مَا طلب إِلَّا وصل الْخَبَر أَن ثَلَاث غلايين من غلايين الفرنج قد انْكَسَرت فِي قرب سَاحل تونس وفيهَا سَبْعمِائة أَسِير من الْمُسلمين فخلصوا جَمِيعًا وأحضروا إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ فألبسهم مَا أعد لَهُم من اللبَاس وَأكْرمهمْ وحياهم وَحكى أَن رجلا من الْجند مر لَيْلَة بِمحل فِي نواحي تونس فَرَأى حجرا عَظِيما قد ارْتَفع وانفتحت تَحْتَهُ مغارة فَرَأى المغارة ملآنة بِالذَّهَب المسكوك فَدَخلَهَا وملأ جيبه وذيله مِنْهَا فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج رأى الْبَاب قد انسد فَذهب عقله ثمَّ وضع الدَّنَانِير الَّتِي أَخذهَا مَكَانهَا وَتوجه نَحْو الْبَاب فَرَآهُ مَفْتُوحًا فكرر الْأَخْذ وتكرر انسداد الْبَاب فَعِنْدَ ذَلِك قنع بالتفرج وَخرج ثمَّ بعد أَيَّام مر بذلك الْمحل فَرَأى رجلا قد دخل وعبى عبه مَعَه من ذَلِك الذَّهَب وَخرج ثمَّ حمله على بغل كَانَ مَعَه فَسَأَلَهُ العسكري من أَنْت فَقَالَ أَنا خَادِم شيخ الشُّيُوخ أبي الْغَيْث وَهَذِه الخزينة نصِيبه إِذا أَمرنِي بِنَقْل شَيْء مِنْهَا جِئْت فَأرى الْبَاب مَفْتُوحًا فَأدْخل وآخذ مِنْهَا مِقْدَار مَا يُعينهُ لي ثمَّ أخرج وَلَيْسَ لأحد غَيره فِيهَا نصيب وَنقل أَنه كَانَ إِذا قع خِيَانَة فِيهَا من أحد فَفِي الْحَال يَنْقَلِب الذَّهَب فحماً أسود وَاتفقَ لبَعض النَّاس أَنه أبرم على الْخَادِم مرّة فِي تنَاول شَيْء مِنْهَا(1/141)
فَمَلَأ لَهُ جيبه وذيله فَلَمَّا وصل إِلَى بَيته فَإِذا هُوَ فَحم أسود وَمن كراماته المأثورة عَنهُ أَن شخصا من النَّاس فقد زَوجته من فراشها فتحقق أَن ذَلِك من فعل الْجِنّ فَذهب إِلَى الشَّيْخ وَأخْبرهُ الْخَبَر فَكتب لَهُ قرطاساً وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى تونس العتيقة وأقم ثمَّة حَتَّى إِذا مضى ثلث اللَّيْل يمر بك جند فأعط هَذَا القرطاس لملكهم تنَلْ مطلوبك فَمضى إِلَى الْمَكَان الْمَذْكُور وَقعد ينظر فَلَمَّا صَار نصف اللَّيْل ظهر لَهُ قوم روحانيون فَسَأَلَ عَن ملكهم فَقيل لَهُ هَا هُوَ ذَا فَنَاوَلَهُ القرطاس فَنظر الْملك فِيهِ ثمَّ قَالَ سمعا وَطَاعَة ثمَّ أَمر بإحضار الْمَرْأَة وَسلمهَا لزَوجهَا وَأمره بِأَن يبلغ سَلَامه إِلَى الشَّيْخ وَحكى ابْن نَوْعي قَالَ أَخْبرنِي الْأَمِير عَليّ الْمَعْرُوف ببك زَاده أَنه لما كَانَ أَبوهُ مُتَوَلِّيًا تونس وعزل فِي مُدَّة قَليلَة وابتلى بفقر وفاقة لَا يعبر عَنْهَا بمقال قَالَ وتكدر حَالنَا لأَجله فاتفق أَن جَاءَ الْعِيد وَلَيْسَ مَعَه مَا يُنْفِقهُ وَإِذا بِأحد خدام الشَّيْخ جَاءَ إِلَى أبي بهدية من الشَّيْخ وَهِي مائَة تفاحة وَاعْتذر عَن قلتهَا كل الِاعْتِذَار قَالَ فَأخذ أبي تفاحة وشقها نِصْفَيْنِ فَخرج من وَسطهَا دِينَار فشق الْجَمِيع وَأخرج مَا فِيهَا فَكَانَ مائَة دِينَار فأنفقها وَتوسع بهَا وَله من هَذَا الْقَبِيل كرامات شَتَّى وَبِالْجُمْلَةِ فقد اتّفقت الْكَلِمَة على علو شَأْنه وسمو قدره وَفِيه يَقُول شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا وَقد ورد أحد خلفائه إِلَى الرّوم وَطلب تقريظ إجَازَة أجَازه بهَا الشَّيْخ قدس الله سره
(أَبُو الْغَيْث غيث المستغيثين كلهم ... بهمته نَالَ الورى فك أسرهم)
(فهمته العلياء غيث بِهِ ارتوى ... رياض أَمَان اللائذين بأسرهم)
وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل رَجَب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن فِي زاويته الْمَعْرُوفَة بِهِ وعمره مَا جَاوز الْخمسين بِكَثِير
أَبُو الْفرج بن عبد الرَّحِيم السَّيِّد الشريف الْحُسَيْنِي الْمَعْرُوف بالسمهودي الْمدنِي الْفَاضِل الأديب الْكَامِل كَانَ من فضلاء وقته ونبلاء عصره واشتغل وَحصل وَصَارَ أحد الخطباء والمدرسين بِالْحرم النَّبَوِيّ ونبل وتفوق وَكَانَ بَينه وَبَين شَيخنَا الْعَلامَة إِبْرَاهِيم الخياري الْمدنِي صُحْبَة أكيدة ومحبة قديمَة وَذكره فيرحلته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِالشَّام شَهِيدا فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير ورثاه شَيخنَا الْمَذْكُور بقصيدة طَوِيلَة استحسنت مِنْهَا هَذَا الْمِقْدَار فأوردته وَذَلِكَ
(أأخي أجب إِنِّي لفقدك واله ... مَعَ أنني للقادحات حمول)(1/142)
(فقدتك نفس طَال مَا سيرتها ... وَبكى لفقدك صَاحب وخليل)
(وبكاك مِنْبَر جدك السَّامِي الذري ... ولفقدك الْمِحْرَاب مِنْهُ عويل)
(يحْكى حنين الْجذع لما فَاتَهُ ... قرب النَّبِي وساءه التبديل)
أَبُو الْفضل بن مُحَمَّد العقاد الْمَكِّيّ الشَّاعِر ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة وَقَالَ فِيهِ هُوَ وَإِن لقب بالعقاد لكنه حَلَال مشكلات القريض بذهنه الْوَقَّاد سَار مسير الشَّمْس من الْمشرق إِلَى الْمغرب منتجعا سُلْطَانه الْمَنْصُور بِشعرِهِ المطرب فوفد على حَضرته السامية وَورد مناهل كرمه الطامية فصدح بِشعرِهِ شاديا فِي نَادِيه ونال بِهِ مَغَانِم من أياديه وَقد وتفت على خَبره العبقري من كتاب نفح الطّيب للشَّيْخ أَحْمد الْمقري إِذْ قَالَ عِنْد ذكر موشحات أهل الْعَصْر مِنْهَا قَول أحد الوافدين من أهل مَكَّة على عتبَة السُّلْطَان مَوْلَانَا الْمَنْصُور هُوَ رجل يُقَال لَهُ أَبُو الْفضل بن مُحَمَّد العقاد وَهَذَا هُوَ الموشح الَّذِي ذكره مادحا بِهِ الْمَنْصُور
(لَيْت شعري هَل أروي ذَا الظما ... من لمى ذَاك الثغير الألعس)
(وَترى عَيْنَايَ ربات الْحمى ... باهيات بقد ودميس)
(فَلَقَد طَال بعادي والهوى ... ملك الْقلب غراما وَأسر)
(هَذ من ركن اصْطِبَارِي والقوى ... مبدلا أجفان عَيْني بالسهر)
(حِين عز الْوَصْل من وَادي طوى ... هملت أدمع عَيْني كالمطر)
(فعساكم أَن تجودوا كرما ... بلقاكم فِي سَواد الحندس)
(عله يسفى كليما مغرما ... من جراحات الْعُيُون النعس)
(كلما جن ظلام الغسق ... واعتراني من جفاكم قلقي)
(هزني الشوق إِلَيْكُم شغفا ... وتذكرت جيادا والصفا)
(وَتَنَاهَتْ لوعني من حرق ... ثمَّ أغرى الوجد بِي والتلفا)
(فانعموا إِلَيّ ثمَّ جودوا لي بِمَا ... يُطْفِئ الْيَوْم لهيب الْقُدس)
(إِنَّنِي أرْضى رضاكم مغنما ... لبقا نَفسِي ومحيا نَفسِي)
(كنت قبل الْيَوْم فِي زهو وتيه ... مَعَ أحبابي بسلع أَلعَب)
(وَمَعِي ظَبْي بِإِحْدَى وجنتيه ... مشرق الشَّمْس وَأُخْرَى الْمغرب)
(فَرَمَانِي بسهام من يَدَيْهِ ... قاسي الْقلب فقلبي مُتْعب)
(لست أَرْجُو للقاهم سلما ... غير مدحي للْإِمَام إِلَّا رَأس)(1/143)
(أَحْمد الْمَحْمُود حَقًا من سما ... الشريف ابْن الشريف الأكيس)
وَلم يُورد لَهُ غير ذَلِك وَقد نسج هَذَا الموشح على منوال موشح الْوَزير أبي عبد الله بن الْخَطِيب شَاعِر الأندلس الَّذِي أَوله
(جادك الْغَيْث إِذا الْغَيْث هما ... يَا زمَان الْوَصْل بالأندلس)
وَهُوَ عَارض بِهِ موشحة ابْن سهل الَّتِي مطْلعهَا
(هَل درى ظَبْي الْحمى أَن قد حمى ... قلب صب حلّه عَن مكنس)
وَحكى الْمقري فِي كِتَابه الْمَذْكُور أَنه اجْتمع بالحضرة المنصورية أَبُو الْفضل العقاد الْمَكِّيّ الْمَذْكُور والشريف الْمدنِي وَهُوَ رجل وَافد من أهل المدنية انْتَمَى إِلَى الشّرف وَالشَّيْخ الإِمَام إِمَام الدّين الخليلي الْوَافِد على حَضرته من بَيت الْمُقَدّس فَقَالَ إِمَام الدّين هَذَا للمنصور يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال شدّ أَهلهَا إِلَيْك الرّحال هَذَا مكي وَذَاكَ مدى وَأَنا مقدسي انْتهى وَكَانَت وَفَاة أبي الْفضل فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ بِالظَّنِّ المقارب لما اسْتُفِيدَ من أَحْوَاله وَالله أعلم رَحمَه الله تَعَالَى أَبُو الْقَاسِم بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن أبي الْقَاسِم بن عمر بن عَليّ الأهدل الْوَلِيّ الْمَشْهُور شهر على أَلْسِنَة الْعَالم بقائد الوحوش لِأَن الله تَعَالَى سخرها لَهُ كَرَامَة يسلطها على من أَذَاهُ أَو قطعه عَادَة التزمها بطرِيق النّذر وَنَحْوه وشهرة حَالَة واعتقاده بَين الْعَالم تغني عَن وَصفه وتفصيل سيرته وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الثُّلَاثَاء الْعشْر بَقينَ من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف فِي المحط من أَعمال رمع وذفن بهَا قبيل طُلُوع الْفجْر قَالَ وَلَده السَّيِّد أَبُو بكر وَلَقَد شاهدنا مِنْهُ فِي حَال احتضاره وغسله مَا يدل على حسن حَاله وفضله واطلعنا لَهُ عقب وَفَاته على مَنَاقِب كَثِيرَة تشهد بِأَنَّهُ كَانَ ذَا ولَايَة كَبِيرَة رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو الْقَاسِم بن الزبير المصباحي المغربي القصري الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم التقى كَانَ جليل الْقدر محافظا على رسوم الشَّرِيعَة مَعَ تغفل فِي دُنْيَاهُ لَا يُنكر من أَحْوَاله شَيْء وَله منازلات ومكاشفات أَخذ عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْحسن بن عِيسَى المصباحي من أكَابِر أَصْحَاب القيرواني وَعَن وَلَده أبي مُحَمَّد عِيسَى بن الْحسن وَعَن أبي عبد الله الطَّالِب وَارِث القيرواني وَعنهُ عَالم الْمغرب الشَّيْخ عبد الْقَادِر الفاسي وَكَثِيرًا مَا كَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ بِالْقصرِ قبل رحلته إِلَى فاس وَكَانَت وَفَاته فِي مستهل الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف(1/144)
أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد المغربي السُّوسِي الْمَالِكِي نزيل دمشق ومفتي الْمَالِكِيَّة بهَا كَانَ إِمَامًا بزاوية المغاربة خَارج بَاب الشاغور وَمحل مرقد ولي الله الشَّيْخ مَسْعُود يُقَال أَن الدُّعَاء عِنْد قَبره مستجاب كَانَ يُصَلِّي بهَا الْأَوْقَات الْخَمْسَة وَكَانَ حَافِظًا لقِرَاءَة السَّبع وَالْعشر وَشرح الشاطبية والنشر شرحا لطيفا وَكَانَ لَهُ مكتب يعلم فِيهِ الْأَطْفَال وَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا فتح عَلَيْهِ لشدَّة مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْفَتْح وَكَانَ وحيد عصره فِي الْفتيا بعد مشايخه الْعِظَام بِدِمَشْق كَأبي الْفَتْح الْمَالِكِي وَغَيره وَكَانَ شهما غيورا على الدّين تهابه الْقُضَاة والحكام وغالب أهل دمشق يرجعُونَ إِلَيْهِ فِي الْمُشَاورَة للأمور وَحدث بالجامع الْأمَوِي فحضره خلق كثير وَأخذ عَلَيْهِ جمَاعَة وانتفعوا بِهِ مِنْهُم الشَّيْخ عَليّ المكتبي وَولده مُحَمَّد الْآتِي ذكرهمَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان أَو تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من ضريح سيدنَا بِلَال الحبشي رَضِي الله عَنهُ
أَبُو اللطف بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن أبي اللطف الحصكفي الأَصْل الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي وَالِد الْعَلامَة السَّيِّد عبد الرَّحِيم مفتي الْحَنَفِيَّة الْآن بالقدس الشريف كَانَ فَقِيها حسن المطارحة وَفِيه لطف طبع ومروءة وَولي إِفْتَاء الشَّافِعِيَّة وتدريس الْمدرسَة الصالحية وَكَانَ ينظم الشّعْر ووقفت لَهُ على تَارِيخ صنعه لكتابة نُسْخَة من ديوَان الرضى فأثبته لَهُ وَهُوَ قَوْله
(خطّ ذَا الدِّيوَان عبد عَاجز ... بِأبي اللطف تسمى ورضى)
(لمن الدِّيوَان أَن تسْأَل وَمَا ... عَام حر رناه أرج للرضى)
وجدد الْأَمِير مصطفى بن بَاقِي بيك فِي جَامع جدة لَا لَا مصطفى باشا بقرية جينين خلْوَة فَقَالَ فِيهَا مؤرخا
(بِجَامِع جينين تجدّد خلْوَة ... بهَا جلوة للواردين ذَوي الصَّفَا)
(بناها ابْن بنت الْبَحْر بَاقِي فأرخوا ... أساس على التَّقْوَى بِنَاء لمصطفى)
وَلما وجهت فَتْوَى الشَّافِعِيَّة عِنْد للسَّيِّد مجمد الْأَشْعَرِيّ سَافر إِلَى الرّوم لتقريرها فَمَاتَ باسكدار وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ عَاشر شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بِالْقربِ من تكية الشَّيْخ مَحْمُود الأسكداري
أَبُو الْمَوَاهِب مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ الصديقي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي أحد أَوْلَاد الْأُسْتَاذ الْكَبِير مُحَمَّد بن الْأُسْتَاذ أبي الْحسن وَتَقَدَّمت بَقِيَّة نسبه فِي تَرْجَمَة أَخِيه أبي(1/145)
السرُور وَسَيَأْتِي من بَيتهمْ جمَاعَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَبُو الْمَوَاهِب هَذَا ولد فِي حَيَاة أَبِيه وَنَشَأ فِي عزة وافيه ونعمة ضافية وَكَانَ فِي بداية أمره مائلا إِلَى الخلاعة وَكَانَت مجالسه مشحونة بأنواع الطَّرب من المسمعين وصنوف الملاهي وَكَانَ لما مَاتَ وَالِده جرى بَينه وَبَين اخوته منافسات وَأُمُور تسكب عِنْدهَا العبرات حَتَّى اسْتَقر الْأَمر لزين العابدين إِلَى أَن وَقع قبله وَكَانَ أَبُو السرُور مَاتَ قبله فَسَمت الرُّتْبَة إِلَى أبي الْمَوَاهِب وَهُوَ كَمَا قَالَ الشهَاب الخفاجي فِي وَصفه مسك الختام وفذلكة أُولَئِكَ الْأَعْلَام فَظهر بمظهر أسلافه من الْفَضَائِل والمعارف وتصدر للتدريس وإملاء التَّفْسِير وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّيْخ عَليّ صَاحب السِّيرَة مَوَدَّة أكيدة وباسمه ألف السِّيرَة وَوَصفه بِذِي البداهة المطاوعة والفضائل البارعة والفواضل الْكَثِيرَة النافعة من إِذا سُئِلَ عَن أَي معضلة أشكلت على ذَوي الْمعرفَة وَالْوُقُوف لَا نرَاهُ يتَوَقَّف وَلَا يخرج عَن صَوَاب الصَّوَاب وَلَا يتعسف وَلَا أخبر فِي كثير من الْأَوْقَات عَن شَيْء من المغيبات وَكَاد أَن يتَخَلَّف ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَة الْمَشْرُوطَة لَا علم عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة تلقاها عَن وَالِد زَوجته الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ شَارِح الْمِنْهَاج وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله ديوَان يشْتَمل على دقائق ورقائق فَمِنْهُ قَوْله من أَبْيَات
(قطعت قلبِي فِي الْهوى أفلاذا ... من سيف جفنك فاتك فولاذا)
(رفقا بصب فِي الغرام موله ... بجمالكي يَا منيتي قد لاذا)
(عجبا لقلبك لَا يرق كصخرة ... والجسم لينًا لَا يُطيق اللاذا)
وَمِنْه قَوْله من أَبْيَات
(نَفسِي الْفِدَاء لورد خُذ عندمى ... قانيه يروي فِي الصبابة من دمي)
(يَا ربربا حَاز الْجمال بأسره ... يَا من بِهِ زَاد الغرام تألمي)
(إِنِّي لأرضى كل مَا ترْضى بِهِ ... يَا روح جثماني علمت وَإِن لم)
وَمِنْه من أَبْيَات
(ناعس الجفن مَا إِلَيْهِ وُصُول ... بجفون بهَا عَليّ يصول)
(أسمر الْقد أببض الْوَجْه ظَبْي ... ذُو جمال والطرف مِنْهُ كحيل)
(غُصْن بَان يمِيل تيهاً وعجباً ... فعساه مَعَ الْهَوَاء يمِيل)
وَمِنْه قَوْله فِي التبغ ومضمنا
(هَات اسْقِنِي التبغ إِن تبغي الصَّفَا سحرًا ... حَتَّى أخدر مِنْهُ وهوا غشاء)
(واستحل أنوار شمع من يَدي رشأ ... قد زانه قامة بالْحسنِ هيفاء)(1/146)
(بدر غَدا كَوْكَب الإسعاد فِي يَده ... طَوْعًا لَهُ فَهُوَ ماضي الْأَمر نهاء)
(سَاق لنا قلبه قَاس وَكَيف دنا ... من لين عطفيه والأضداد أَعدَاء)
(لَعَلَّ نَار أسى بالبعد قد وقدت ... يَوْمًا يكون لَهَا بِالْقربِ إطفاء)
(فاملأ كؤس رحيق كالحريق فقد ... أغتنك إِذْ وصفت ياللطف صهباء)
(ودع ملام طَبِيب عابها سفها ... وداوني بِالَّتِي كَانَت هِيَ الدَّاء)
وَكتب إِلَى الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن المرشدي مفتي مَكَّة المشرفة فِي صدر كتاب
(أروم الصَّفَا والقرب من جيرة الْمَسْعَى ... وَأَجْعَل أجفاني لَا قدامهم مسعى)
(فَنَار الغضى فِي مهجتي وأضالعي ... هِيَ المنحنى وَالْعين أرْسلت الدمعا)
(أَلا يَا حمام الأيك هيجت لوعتي ... إِلَى جَانب الجرعا وَمن حل بالجرعا)
(بلَى وعَلى أفق السَّمَاء محلهَا ... أحن إِلَيْهَا وَالَّذِي أخرج المرعى)
(وفيهَا إِمَام عَالم عَامل على ... تقى نقى أتقن الأَصْل والفرعا)
(ذخيرة أهل الْعلم كنز أولى التقى ... لَهُ يَا إِلَه الْخلق فِي نعْمَة فارعا)
(فَمَا هُوَ إِلَّا مرشد وَابْن مرشد ... بِهِ رَبنَا للنَّاس قد أوجد النفعا)
(فيا عَابِد الرَّحْمَن يَا خير سيد ... بإتقانه وَالله قد أحكم الشرعا)
(يراعك علم النَّحْو أصبح متقنا ... فَلَا عجب أَن يعْمل الْخَفْض والرفعا)
(وَوَاللَّه شوقي زَائِد ومضاعف ... وحبي لكم بَين الورى لم يزل طبعا)
(بَقِيتُمْ مَعَ النجل الْكَرِيم بغبطة ... وَلَا بَرحت كل الْوُفُود لكم تسْعَى)
(ويحفظ رب الْعَالمين كريمكم ... لكم رَبنَا الرَّحْمَن من فَضله يرْعَى)
(بجاه رَسُول الله أفضل مُرْسل ... ترى الْأسد فِي الغابات من خَوفه صرعى)
(عَلَيْهِ صَلَاة الله ثمَّ سَلَامه ... وَأَصْحَابه والآل أجمعهم جمعا)
وَبعدهَا نثر مِنْهُ الْإِخْلَاص فِيمَا بَيْننَا فاتحه الْكتاب وإختصاص أشهر النَّاس من فلق الصُّبْح الظَّاهِر لأولي الْأَلْبَاب فوالعصر إِنَّك مفرده وسعده ومضده وسيده تبت يدا أعداك فهم الْكَافِرُونَ للنعم وويل لكل فِي موقف الحشرة من التغابن عِنْد زلَّة الْقدَم تبَارك الَّذِي جعلك الْإِنْسَان الْكَامِل وَأظْهر لَك الْبناء الَّذِي خليت بِهِ من عُمُوم الْعَامِل وخصوص أَبنَاء طه وَيس فِي صُدُور المحافل واختارك للطالبين مرشدا وَأَنت الْمُسْتَعَان المستغاث فِي حَالَة الندا أهديك تحيات إعرابها مَبْنِيّ على الضَّم وَالْجمع وتسليمات تحرّك سواكن الأشواق وَتطلق هوامع الدمع كَيفَ لَا(1/147)
وَأَنت الْمولى الَّذِي لم يتَّخذ الْقلب عَن عطفك بَدَلا وَأصْبح تأسيس تَأْكِيد الْحبّ الصَّادِق عنْدك يجتلي أبقال الله راقياً فِي معارج مدارج الْمجد ومناهج مباهج السعد ومروضاً روض الْأَبَد بوابل فَضله وجامعاً فِي البلاغة كل شكل إِلَى شكله مَعَ عمر مديد يطاول الْأَدَب ومنح تستغرق الأمد فِي عزة تقاصر عَنْهَا مقاصير الْعلمَاء ومجد تطامن لَهُ رُؤْس العظماء وَعلم نسيق القنا مشحوذ القواضب وَفهم تحيط بِهِ فَوق فرق السهى معاقد الْمجد ومقاعد الْمَرَاتِب حَيْثُ تخفق بنود الْعُلُوم وتقذف أنوار الفهوم ويتضح الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم وينفخ إسْرَافيل اللَّوْح الالهي فِي أصوار الْأَسْرَار أَرْوَاح الإلهام وَيَتْلُو جِبْرِيل التَّنْزِيل على الْأَعْلَام فِي ذَلِك الْمقَام آيَات الْأَعْلَام فيأيها الْبَحْر الَّذِي ملك زِمَام البلاغة وانقادت بِيَدِهِ أزمة البراعة المشحون بالمعقول وَالْمَنْقُول والمفتي الَّذِي فَتَاوَاهُ جَامِعَة للفروع وَالْأُصُول والفصيح الَّذِي سد على ذَوي الفصاحة الطّرق وَجَاء بِالنَّجْمِ مصفداً من الْأُفق والفرد الَّذِي لم تَبْرَح شمايل أخلاقه العاطرة تتأرج وعقائل أَوْصَافه الفاخرة تتبرج وصل إِلَى كتابكُمْ المرقوم ودر خطابكم المنظوم الَّذِي هُوَ نور النبراس ومدارك الْحَواس وَلَذَّة السّمع ومقلة الدمع أَو نفحة الند أَو صبا نجد أَو نسيم السحر أَو بُلُوغ الوطر أَو عُقُود الْآل أَو السحر الْحَلَال جمع لمنشيه فنون الْأَوَائِل والأواخر حلى الأجياد بقلائد العقيان والجواهر وَأورد لَهُ الخفاجي قَوْله فِي مليح اسْمه عبد النَّبِي
(عبد النَّبِي قاتلي ... بِعَيْنِه وحاجبه)
(وَاعجَبا لعَبْدِهِ ... يقتل نجل صَاحبه)
قَالَ الخفاجي قَوْله بِعَيْنِه وحاجبه هَذَا من اسْتِعْمَال الْمُحدثين فيوهم أَن الْعين فِيهِ بِمَعْنى الْجَارِحَة وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الذَّات يُقَال فِي التوكيد جَاءَنِي فلَان نَفسه وعينه وبنفسه وبعينه فيراد بِعَيْنِه ذَاته وَمن الأول قَول الْبَدْر الدماميني
(بدا وَقد كَانَ اختفى ... وَخَافَ من مراقبه)
(فَقلت هَذَا قاتلي ... بِعَيْنِه وحاجبه)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة السبت سَابِع عشر شَوَّال سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن صَبِيحَة الْأَحَد بتربة آبَائِهِ بالقرافة وَكَانَ ابْتِدَاء مَرضه من سَابِع عشر شعْبَان بِمَرَض الصرع رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو الْوَفَاء بن عمر بن عبد الْوَهَّاب ابْن إِبْرَاهِيم بن مَحْمُود بن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد(1/148)
ابْن الْحُسَيْن الشَّافِعِي الْحلَبِي العرضي مفتي الشَّافِعِيَّة بحلب وَابْن مفتيها وَأحد أَعْيَان الْعلمَاء فِي الْمعرفَة والاتقان وَالْحِفْظ والضبط وَكَانَ إِمَامًا عَالما خيرا متواضعاً حسن السمت لطيف تأدية الْكَلَام واعظاً إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي التفهم وجودة الأسلوب روى الْعُلُوم النقلية والعقلية عَن وَالِده وَلزِمَ الْعَلامَة أَبَا الْجُود البتروني وَغَيره من الشُّيُوخ واستجاز كثيرا وتصدر للإقراء مُدَّة حَيَاته فِي دَار الْقُرْآن الحبشية المنسوبة إِلَى أبي العشائر المطل شباكها على الْجَامِع الْكَبِير بحلب وَله شعر حسن ونثر بارع واعتنى بِجمع تَارِيخ سَمَّاهُ معادن الذَّهَب فِي الْأَعْيَان المشرفة بهم حلب رَأَيْت مِنْهُ قِطْعَة ونقلت مِنْهَا بعض تراجم لزمني ذكرهَا وَله رسائل كَثِيرَة وتآليف مِنْهَا كتاب طَرِيق الْهدى فِي التصوف وَشرح على ألفية ابْن مَالك وحاشية على شرح الْمِفْتَاح للسَّيِّد وحاشية عَليّ الْبَيْضَاوِيّ وحاشية على شرح الْمِنْهَاج للمحلي وَشرح البديعيات وَشرح سُورَة الضُّحَى على لِسَان الْقَوْم وَله لامية تضاهي لامية الْعَجم ومطلعها قَوْله
(جلالة الْفضل تَنْفِي زلَّة الرجل ... وذلة الْجَهْل توهي صولة البطل)
مِنْهَا
(وَاضْرِبْ على الْعقل أسوار مُحصنَة ... تقيك فتْنَة أَحْدَاث أولى حيل)
(وَلَا يروقك مَاء احسن قطره ... نَار الْحيَاء على الْخَدين كالشعل)
(وَلَا حلاوة ثغر حشوه دُرَر ... فكامن السم الْعَسَّال وَالْعَسَل)
وَذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَقَالَ فِي وَصفه عَالم الشَّهْبَاء وَابْن عالمها وَمن شدّ بالفضائل دعائم معالمها وَهُوَ فِي الزّهْد كأويس وَعُرْوَة وللسادة الصُّوفِيَّة قدوه وَنعم بِهِ من قدوه اشْتغل بالتصنيف والتدريس والافتاء على مَذْهَب الإِمَام مُحَمَّد ابْن إِدْرِيس وَهُوَ الْآن لناظرها بصر وَلنَا ضرها نور وثمر يعظ النَّاس فِي كل يَوْم جُمُعَة بعد صَلَاة الْعَصْر بزواجر لَو استقضى بهَا أهل الضلال لما كَانَ مضل فِي الْعَصْر وَله أَخْلَاق تخلقت مِنْهَا نسمات الأسحار وسجايا تنسمت عَنْهَا نفحات الأزهار وَقد حوى زِمَام مَكَارِم الْأَخْلَاق من طارف وَتَلِيدُ فَأصْبح مصداق قَول أبي عبَادَة الْوَلِيد
(شجو حساده وغيظ عداهُ ... أَن يرى مبصر وَيسمع واعي)
ثمَّ ذكر لَهُ طرفا من النثر وَأورد لَهُ شَيْئا من الشّعْر فَمن ذَلِك قَوْله
(عودا لأرالك قَالَ خوف حَاسِد ... لما ارتوى من رشف ثغر عابق)
(إِن الَّذِي قد شاقني من ثغرها ... ذكر العذيب والنقا وبارق)(1/149)
وَمثله لِلشِّهَابِ بن تمراس
(أَقُول لمسواك الحبيب لَك الهنا ... برشف فَم مَا ناله ثغر عاشق)
(فَقَالَ وَفِي أحشائه حرق النَّوَى ... مقَالَة صب للديار مفارق)
(تذكرت أوطاني فقلبي كَمَا ترى ... أعلله بَين العذيب وبارق)
وَله أَيْضا
(سَأَلتك يَا عود الأراكة أَن تعد ... إِلَى ثغر من أَهْوى فَقبله مشفقا)
(ورد من ثناياه العذيب فمنهلا ... تسلسل مَا بَين الأبيرق والنقا)
وَقَوله
(أسر النَّاس باللحاظ حبيب ... كل مضني بسجنه مَحْبُوس)
(فَكَانَ الْقُلُوب منا حَدِيد ... وعيون الحبيب مغناطيس)
وَيقرب مِنْهُ قَول بَعضهم
(مغنطيس الْخَال فِي خَدّه ... يجذب بِالسحرِ حَدِيد الْعُيُون)
وَمِنْه
(نصب الْحمام لقوتي شرك الردى ... فِي غرَّة وأنابه لَا أعلم)
(فطفقت ألقط حَبَّة الأمل الَّذِي ... راودته والشيب منى يبسم)
فِيهِ شمة من قَول أبي تَمام
(وَلَا يروعك إيماض المشيب بِهِ ... فَإِن ذَاك ابتسام الرَّأْي وَالْأَدب)
وَمِنْه فِيمَن دق على يدبه بالزرقة
(الْبَدْر حِين حكى ضِيَاء جَبينه ... فاحمر من غضب على هفواته)
(شفق وَمن جِهَة الْيَمين سماؤه ... فأرتك زرقتها على حَافَّاته)
وَأنْشد لَهُ الخفاجي قَوْله
(بورد الخدر ريحَان مُحِيط ... وتركي حبه لَا أَسْتَطِيع)
(وَقلت النَّفس خضرًا يَا عذولي ... كَمَا قد قيل والزمن الرّبيع)
قَالَ وَهَذَا مثل عَامي يَقُولُونَ النَّفس خضراء تشْتَهي كل شَيْء وَقَوْلهمْ تشْتَهي إِلَى آخِره جملَة مفسرة لخضراء وَكَانَ أَصله مَا ورد فِي الحَدِيث أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طيور خضر ترتع فِي الْجنَّة انْتهى والأصوب أَن يُقَال أَن أَصله ثَلَاثَة تذْهب عَنْك الْحزن المَاء والخضرة وَالْوَجْه الْحسن وَمعنى أَن النَّفس خضراء أَي تميل إِلَى الخضرة بالطبع وَمن لطائفه فِي حق رجل يدعى منصورا رذيل الْمَرْء مَا نَهَضَ بِهِ حَظه الْحر مقهور والعلق مَنْصُور وَذكره الْحسن البوريني فِي تَارِيخه وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر أَنه اجْتمع بِهِ فِي مُنْصَرفه إِلَى حلب فِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف(1/150)
وَذكر قصيدة كتب بهَا أَبُو الْوَفَاء إِلَيْهِ مطْلعهَا قَوْله
(شموس العلى من فَوق مجدك تشرق ... وغصن النقى من فيض فضلك يورق)
فَأَجَابَهُ عَنْهَا بقصيدة مطْلعهَا
(فؤاد بِأَسْبَاب الْهوى يتَعَلَّق ... ودمع لَهُ رسم على الخد مُطلق)
والقصيدتان فِي غَايَة الطول فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إيرادهما وظفرت لَهُ بقصيدة قَالَهَا مادحاً بهَا السَّيِّد أَحْمد النَّقِيب استحسنتها أوردتها وَهِي
(من النَّوَى من مجيري ... يَا رَحْمَة المستجير)
(وَالصَّبْر جد ارتحالا ... على نياق الْمسير)
(يَوْم الْوَدَاع أضاعوا ... حشاشتي من ضميري)
(يَا لَيْت شعري فُؤَادِي ... هَل سَار لَا بشعوري)
(يقفو حداة المطايا ... فِي ظعنهم كالأسير)
(رفقا بقلب كوته ... أَيدي النَّوَى بسعير)
(والجسم كلت قواه ... من حادثات الدهور)
(وهدربع التسلي ... مغيب أنس الْحُضُور)
(قديم حكم قضته ... حوادث التَّقْدِير)
(والشوق يغلو ضراماً ... بدمع جفن مطير)
(أجْرى عقيق دموعي ... جد أَولا كالبحور)
(نهرت سَائل جفني ... عَن نوء دمع غزير)
(فَفَاضَ مَاء عيوني ... وفاض كالتنور)
(غوثاه من ذَا التنائي ... من شَره المستطير)
(وَمن فِرَاق مثير ... للوعة وزفير)
(من حَاكم فِي فُؤَادِي ... يعثو عَلَيْهِ بجور)
(وارحمه لمشوق ... إِلَى التداني فَقير)
(يهزه كل برق ... ايماضه كالثغور)
(إِن فاح نشر الخزامى ... أوضاع عرف العبير)
(يكسو الرياض فتجلى ... فِي نورها والنور)
(يهيج كامن وجد ... بَين الحشا وَالضَّمِير)(1/151)
(يذكر الصب عَيْشًا ... صفا الصفاء النمير)
(أَوْقَات أنس أَضَاءَت ... كالبدر فِي الديجور)
(نجني ثمار الْمعَانِي ... من روض مجد نضير)
(والمشكلات علينا ... تجلى بِغَيْر ستور)
(ندير رَاح الخفايا ... على سَرِير السرُور)
(وَحَيْثُ غَابَ غزال ... الْحمى وَأنس الْحُضُور)
(مولَايَ أَحْمد تَاج ... الْعلَا وَصدر الصُّدُور)
(كشاف مُشكل بحث ... بِرَأْيهِ المستنير)
(السَّابِق الْقَوْم فهما ... فِي حومة التَّقْرِير)
(أقلامه فِي جِدَال ... تطول بالتحرير)
(فذ بتوأم فضل ... بالنظم والمنثور)
(قد فاق كل لَبِيب ... وعالم نحرير)
(يَا مُفردا فِي ... جَمِيع الْعُلُوم لَا بنظير)
(لَهُ بلاغة سحبان ... بل نظام جرير)
(آدابه فِي انسجام ... تفوق وشى الْحَرِير)
(مدى الزَّمَان سلامي ... مَعَ الدُّعَاء الْكثير)
(يهدي إِلَيْك ويبدو ... فِي طيه المنشور)
(خلوص حب صفا من ... شوائب التكدير)
(سلساله العذب يَحْكِي ... معتقات الْخُمُور)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ المسفر صباحها عَن عيد الْأَضْحَى من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي الْيَوْم الرَّابِع من الْمحرم سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو الْوَفَاء بن مُحَمَّد بن عمر السَّعْدِيّ الْحلَبِي الشَّافِعِي الْمَشْهُور بِابْن خَليفَة الزكي ذكره أَبُو الْوَفَاء العرضي الْمَذْكُور قبله فِي تَارِيخ الْمَعَادِن وَقَالَ فِيهِ من أَعْيَان الْمَشَايِخ السعدية المنسوبين فِي الْخلَافَة إِلَى الشَّيْخ سعد الدّين الجباوي خَلفه وَالِده الشَّيْخ مُحَمَّد وَخلف الشَّيْخ مُحَمَّد وَالِده الشَّيْخ عمر المدفونان فِي زاويتهم خَارج بَاب النَّصْر أما وَالِده الشَّيْخ مُحَمَّد فَلَقَد كَانَ فَاضلا كَامِلا صَالحا صَاحب كرامات كَانَ رجل يُقَال لَهُ(1/153)
عبد الرَّحْمَن بن الصّلاح ذَا ثروة وَمَال وَعَلِيهِ هَيْبَة ووقار وَكَانَ يدْخل فِي حَلقَة ذكر أبي الْوَفَاء بَين أَقوام وعوام غالبهم فلاحون وَبَعض جماعات من ذَوي الهيئات فَقلت مَا السَّبَب أَنكُمْ تدخلون إِلَى حَلقَة الذّكر مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَقَالَ كنت شَابًّا وَاقِفًا أنظر إِلَى فُقَرَاء وَالِد الشَّيْخ وفا وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد وَأَنا فِي ضميري أستهزىء بِالذكر لأَنهم يَقُولُونَ مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ فَقلت فِي ضميري مَا مُرَادهم بقَوْلهمْ هام هام فَخرج الشَّيْخ من الْحلقَة وَفرق الازدحام وجذبني من ثِيَابِي وَقَالَ نقُول الله الله فَوَقَعت مغشياً عَليّ ثمَّ لم أزل على اعْتِقَادهم وَكَانَ فِي بني دِرْهَم وَنصف رجل من الْفُضَلَاء يُقَال لَهُ المنلا يستهزىء بهم ويحقرهم فَأَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ مُحَمَّد تأدب تأدب فَوَقع مصروعاً فوقعوا على الشَّيْخ واستمروا مُدَّة طَوِيلَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ حَتَّى صفح وَعَفا وتواتر على الْمَذْكُور الشفا كل ذَلِك ببركة الشَّيْخ مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ خطّ حسن حَتَّى ألف كتابا اسْمه المحمدية ذكر فِيهِ مواعظ وكرامات الْأَوْلِيَاء واستطرد إِلَى ذكر الشَّيْخ سعد الدّين الجباوي وَهُوَ أستاذه وَكَذَلِكَ صنف مجَالِس وعظ تشْتَمل على آيَات قرآنية وَأَحَادِيث نبوية وَمَعَان مهذبة ومسائل مرتبَة وَكَذَلِكَ وَالِده الشَّيْخ عمر ألف كتابا سَمَّاهُ العمرية ذكر فِيهِ مَنَاقِب الشَّيْخ سعد الدّين وَله حَلقَة ذكر فِي الْجَامِع الْكَبِير بحلب يَوْم الْجُمُعَة فِيهَا مائَة رجل وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يلبس الْعِمَامَة الْكَبِيرَة الخضراء وَالثيَاب المتسعة الأكمام الطَّوِيلَة الأذيال وَقد لبسوا الْأَخْضَر قبيل الْألف بِمدَّة قَليلَة أثبتوا أنسابهم بِوَاسِطَة الْحُسَيْن وَكَانَ من عَادَة الْأَشْرَاف يربون لَهُم الشُّعُور فِي رَأْسهمْ وَكتب لَهُم نسب ومحضر شهد لَهُم بِالنّسَبِ غَالب الْأَعْيَان بحلب وَلما مَاتَ وَالِده كَانَ شَابًّا لَهُ حِدة مزاج فَكَانَ بعض الْأَعْيَان بِبَاب النَّصْر تشاجر مَعَه فَذهب إِلَى دمشق وَأخْبر الشَّيْخ سعد الدّين وَالِد الشَّيْخ مُحَمَّد وَكَانَ الْمَذْكُور مجذوباً لَا يتمهل فِي الْأُمُور فَذكر لَهُ أَن الشَّيْخ أَبَا الوفا كَانَ مَعَ بعض نسَاء أجانب فَقبض عَلَيْهِ حَاكم الْبَلدة وَأخذ مِنْهُ مَالا لَيْلًا وَأَنه لَا يَلِيق بالخلافة وَعِنْدنَا رجل صَالح عَالم يُقَال لَهُ الشَّيْخ عبد الرَّحِيم اجْعَلْهُ خَليفَة واعزل الشَّيْخ أَبَا الوفا واكتب للاعيان مكاتيب بعزله فَكتب للشَّيْخ عبد الرَّحِيم أَنِّي جعلتك خَليفَة وعزلت أَبُو الوفا وَكتب للْقَاضِي بذلك وَأَن يمْنَع أَبَا الوفا من الذّكر مَعَ الْفُقَرَاء فَأحْضرهُ القَاضِي وَأظْهر لَهُ الْمَكْتُوب فَقَالَ أَنا لست بخليفة لَهُ وَإِنَّمَا أخذت الْخلَافَة عَن وَالِدي ووالدي عَن وَالِده ثمَّ ورد مَكْتُوب من الشَّيْخ سعد الدّين إِلَى المريدين والنقباء أَن من تبع أَبَا الوفا فَهُوَ(1/153)
مطرود من طريقتي وَمن تبع الشَّيْخ عبد الرَّحِيم فَهُوَ مَقْبُول عِنْد الله وَعِنْدِي وَمَعَ ذَلِك استمرت الْفُقَرَاء غَالِبا عِنْده ثمَّ بعد مُدَّة توجه أَبُو الوفا بِهَدَايَا إِلَى الشَّيْخ سعد الدّين وَمَعَهُ الْفُقَرَاء المريدون فسبقه الشَّيْخ مَسْعُود أَخُو الشَّيْخ عبد الرَّحِيم وَقَالَ للشَّيْخ سعد الدّين إِن خلفت أَبَا الوفا يخْتل أمرنَا فَقَالَ لَا أخلفه فجَاء أَبُو الوفا فَأكْرمه الشَّيْخ سعد الدّين ثمَّ قَالَ لَهُ جِئْت تطلب الْخلَافَة فَقَالَ أَنا خَليفَة وَالِدي عَن وَالِده عَن جده عَن أجدادكم وَجئْت لتأدية حقكم فَحسب فَإِن أذنتم فِيهَا وَإِلَّا فقد فعلت مالكم من الاحترام وَلم يبرم ثمَّ رَجَعَ إِلَى حلب واستمرت حَلقَة ذكره قَائِمَة لَكِن حَلقَة الشَّيْخ عبد الرَّحِيم كثرت جدا بِسَبَب السخاء وبذل الْقرى وَكَانَت حَلقَة الشَّيْخ عبد الرَّحِيم بِبَاب الْمَقْصُورَة ملاصقة حَلقَة الشَّيْخ أبي الوفا بِحَيْثُ يلتحمون وَلَا شَيْء حاجز بَينهم وَكَانَ يَقع بَينهم من الْفِتَن والاثارات والشتم أَشْيَاء كَثِيرَة إِلَى أَن مقت النَّاس الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا قدم الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشَّيْخ سعد الدّين إِلَى حلب ألزم الشَّيْخ عبد الرَّحِيم بالتحول إِلَى الْمِحْرَاب الْأَصْغَر حَتَّى انطفت تِلْكَ النيرَان وَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد أَخطَأ وَالِدي فِي تَفْرِيق الْكَلِمَة بَينهم وَكَانَ أَبُو الوفا تولى مدرسة الفردوس وَتَوَلَّى نقابة طرابلس وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِع الزكي وَأما مَاله وَولي مدرسة البيرامية وَكَانَت وَفَاته فِي سنة عشرَة بعد الْألف وَدفن فِي نفس زاويتهم وَقد قَارب الْخمسين
أَبُو الوفا بن مَعْرُوف الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي الخلوتي الطَّرِيقَة ذكره الشَّيْخ عمر العرضي وَالِد أبي الْوَفَاء الْمُتَقَدّم ذكره فِي تَارِيخ أَلفه وَذكر فِيهِ عُلَمَاء اجْتمع بهم وَأخذ عَنْهُم أَو صحبهم وقفت عَلَيْهِ وجردت مِنْهُ تراجم أنَاس مِنْهُم أَبُو الوفا فَقَالَ فِي تَرْجَمته صاحبنا الْفَاضِل الزَّاهِد قَرَأَ بحماة على الشَّيْخ أبي بكر اليمني الزَّاهِد فِي الْفِقْه ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ أَبُو بكر هَاجر الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء إِلَى مصر فَقَرَأَ على فضلائها كالرملي الصَّغِير وَالشَّيْخ حمدَان وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الغيطي والعربية عَن الشهَاب ابْن قَاسم والشنواني ثمَّ قدم حماه بِفضل وافر فَلبس الْخِرْقَة الخلوتية من شَيخنَا الشَّيْخ أَحْمد بن الشَّيْخ عبدو القصيري وَهَاجَر إِلَى قريته الْقصير وَدخل الْخلْوَة وتهذب وتزكت نَفسه ثمَّ عَاد إِلَى بَلَده فَركب مَنَابِر الْوَعْظ ونصح وَأطَال اللِّسَان وأعتقده النَّاس سِيمَا فِي أَوَاخِر عمره فَإِنَّهُ أَسْفر عَن أَخْلَاق مرضية وتلمذ لَهُ جمَاعَة من فضلائها وَصَارَ شيخها وقدوتها وحمده النَّاس وَقدم علينا حلب مَرَّات فِي أغلبها يبادرنا بالزيارة وَلَو أَنه تربص لسعينا لَهُ وزرته وَمَا لحُصُول بركته(1/154)
وَالِانْتِفَاع بِثَوَاب زيارته قَالَ أَبُو الْوَفَاء العرضي ابْن الْمَذْكُور فِي تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة أَنه دخل إِلَى الْقَاهِرَة بِإِذن من شَيْخه الشَّيْخ أَحْمد القصيري وَحكى أَنه نزل فِي مصر عِنْد الْأُسْتَاذ أبي الْحسن الْبكْرِيّ وَالِد الاستاذ مُحَمَّد قَالَ فَقَرَأت عَلَيْهِ بعض كتب من بعض عُلُوم فَلَمَّا وجدني على أسلوب الصَّالِحين من مُلَازمَة الأوراد وَالْقِيَام على قدم التَّهَجُّد طلب مني أَن يتخذني مرِيدا لَهُ ويعطيني الْعَهْد فَكنت أتغافل فَإِنِّي لمزيد اعتقادي فِي الشَّيْخ أَحْمد مَا أردْت أَن أعتاض عَنهُ بِغَيْرِهِ وراودني فِي ذَلِك مَرَّات قَالَ فَبينا أَنا فِي الْحُجْرَة لَيْلًا وَإِذا بالشيخ أبي الْحسن أقبل عَليّ وَعَلِيهِ قنباز من جوخ أَحْمَر وعَلى رَأسه عِمَامَة صَغِيرَة منامية فَجَلَسَ وَبسط يَده إِلَيّ وَقَالَ هَات يدك حَتَّى أُبَايِعك على طريقتنا الشاذلية فَسكت وَإِذا بالجدار انْشَقَّ وَخرج مِنْهُ شَيخنَا الشَّيْخ أَحْمد فَقَالَ للشَّيْخ أبي الْحسن لَا تتعرض لمريدي قَالَ هَذَا مريدي فَوَقَعت بَينهمَا المشاجرة وَإِذا بِهِ نظر إِلَى الْبكْرِيّ نظرة هائلة خرج من عينه خيط نَار وصلت إِلَى الْبكْرِيّ فتباعد عني وَإِذا بِرَجُل آخر أصلح بَينهمَا وَقَرَأَ الْفَاتِحَة لَهما فَسَأَلت هُنَاكَ وَاحِدًا من هَذَا الَّذِي أصلح بَينهمَا فَقيل لي إِنَّه الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم تَوَجَّهت من مصر قَاصِدا بِلَاد الْقصير خوفًا من الشَّيْخ أبي الْحسن وَمن الرِّجَال فَلم أزل على قدم السّفر حَتَّى وصلت إِلَى الشَّيْخ أَحْمد وَهُوَ حَيّ فَقبلت يَدَيْهِ فَضَحِك وَقَالَ سلسلتنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا تَنْقَطِع قَالَ العرضي وعَلى مَا قيل كَانَ الشَّيْخ أَبُو الوفا الْمَذْكُور ينْفق من الْغَيْب كَانَ خادمه يَسْتَوْفِي لَهُ أجور حوانيته نَحْو الْأَرْبَعَة عشر قِطْعَة يَضَعهَا تَحت الْجلد وَلَا يزَال ينْفق مِنْهَا وَهِي بَاقِيَة بِعَينهَا وَرُبمَا خرج فِي الْيَوْم نَحْو القرش وَكَانَ لَهُ نظم مَقْبُول مِنْهُ قَوْله
(كل من فِي الْحمى ينادم سلمى ... غير أَنِّي لهجرها لَا تسل مَا)
(فاعذروا هائماً عليلاً سقيماً ... وارحوا العاشق الَّذِي مَاتَ غما)
(لَا مني عاذلي بصبري عَلَيْهِم ... مَا أُنَاسًا مَعَ العاذل مهما)
(مذ تجلى الحبيب زَاد سقامي ... وَدَعَانِي لحانة الْأنس لما)
(قَالَ مَا أسمى فَقلت الله رَبِّي ... طَابَ شربي عِنْد اللقا بِالْمُسَمّى)
ثمَّ قَالَ عجبا يتجلى المحبوب فتنكشف الكروف فَكيف يزْدَاد السقام وتتضاعف الآلام اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا} كَمَا قَالَ(1/155)
(صَارَت جبالي دكاً من هَيْبَة المتجلي ... )
(فصرت مُوسَى زماني ... مذ صَار بعضى كلي)
أَو لَعَلَّ النُّسْخَة زَالَ بِاللَّامِ وَكَانَت وَفَاته عَن سنّ يزِيد على الثَّمَانِينَ فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف بحماة قلت وَهَذَا وَالِد الشَّيْخ الْمَعْرُوف وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور زوج أُخْت جدى القَاضِي محب الدّين وَكَانَ عَالما فَاضلا على طَريقَة وَالِده خلوتيا وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة تُوجد فِي أَيدي النَّاس ويغلب عَلَيْهَا الصِّحَّة
أَبُو الْهدى العليمي الْقُدسِي الْوَلِيّ الصَّالح قطب وقته ذكره النَّجْم فِي ذيله وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ كثيرا وَهُوَ من ذُرِّيَّة الْوَلِيّ الشهير سَيِّدي عَليّ بن عليم قدس الله سره قَالَ النَّجْم أَخْبرنِي صاحبنا أَحْمد بن الْمُغيرَة وَهُوَ ثِقَة وَشهد جنَازَته بِبَيْت الْمُقَدّس أَنه مَاتَ فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن شعْبَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَلم يتَأَخَّر عَن جنَازَته أحد من أهل الْقُدس رَحمَه الله تَعَالَى
أَبُو الْيمن بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَهُوَ وَالِد إِبْرَاهِيم البتروني الْحلَبِي الْمُقدم ذكره وَقد ذكرنَا تَتِمَّة نسبه هُنَاكَ فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكره هُنَا وَكَانَ أَبُو الْيمن هَذَا مفتي الخنفية بحلب بعد أَخِيه أَبُو الْجُود الْمَار ذكره وَكَانَ فَاضلا فَقِيها متواضعا حسن الْخلق جواد ممدوحا نَشأ فِي الْجد وَالِاجْتِهَاد وَقَرَأَ وَأخذ عَن عُلَمَاء عصره ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العادلية وأفنى مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ لَهُ شَأْن رفيع وَلأَهل حلب عَلَيْهِ إقبال زَائِد لِسَلَامَةِ طبعه وتودده وكرم أخلاقه وَدخل دمشق حَاجا فِي سنة أَربع بعد الْألف فصادف قبولا وافر وَأكْرم نزله جدي القَاضِي محب الدّين لسابق مَوَدَّة بَينه وَبَين أَخِيه أَبُو الْجُود وَذكره البديعي فِي ذكري حبيب وَقَالَ أَدْرَكته وَقد خلق عمره وانطوى عيشه وَبلغ سَاحل الْحَيَاة ووقف على ثنية الْوَدَاع وَلم يبْق مِنْهُ إِلَّا أنفاس معدوده وحركات محدودة وَمُدَّة قانية وعدة متناهية وَهُوَ بَحر علم وطود حلم وَاحِد الْآفَاق فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق وَمن لطائفه قَوْله فِي مَكْتُوب أرْسلهُ إِلَى شيخ الْإِسْلَام صنع الله بن جَعْفَر مفتي التخت السلطاني عِنْد ذكر اسْمه صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء وَمَا كتبه فِي صدر كتاب إِلَى الْمولى فيض الله قَاضِي العساكر الرومية قَوْله
(لتهن الْعلَا إِذْ صرت حَقًا لَهَا بدار ... وزين عقد الْفضل مِنْك لَهَا النحرا)
(فحمدا لَك اللَّهُمَّ قد سعد الورى ... وَصَارَ بفيض الله نهر الندى بحرا)
وَمن شعره قَوْله فِي مجْرى اسْمه عبد اللَّطِيف(1/156)
(عبد اللَّطِيف للطفه ... سبق الَّذِي جاراه)
(فَكَأَنَّهُ ريح الصِّبَا ... يحيي الْقُلُوب سراء)
وَقَوله فِي الْغَزل مضمنا
(وَبِي رشأ أحوى إِذا مَاس فِي الربى ... وهز قواما مِنْهُ تحتجب القضب)
(علقت بِهِ حَتَّى هَلَكت صبَابَة ... وَمن ذَا يرى هَذَا الْجمال وَلَا يصبو)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَبلغ من الْعُمر ثَمَانِينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد نظام الدّين بن إِبْرَاهِيم بن سَلام الله بن عماد الدّين مَسْعُود بن صدر الدّين مُحَمَّد بن غياث الدّين مَنْصُور الشِّيرَازِيّ الحسني أحد أكَابِر الْمُحَقِّقين وأجلاء المدققين كَانَ يلقب بسُلْطَان الْحُكَمَاء وَسيد الْعلمَاء وَكَانَت لَهُ بالعجم شهرة عَظِيمَة ومكانة جسيمة ومؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا إِثْبَات الْوَاجِب وَهُوَ ثَلَاث نسخ كَبِير وصغير ومتوسط وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي أَخُوهُ الْأَمِير نصير الدّين سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَكَانَا يشبهان بالشريفين الرضى والمرتضى رحمهمَا الله تَعَالَى
أَحْمد بن إِبْرَاهِيم المنعوت شهَاب الدّين الصديقي الْمَكِّيّ الشَّافِعِي النقشبندي الْمَعْرُوف بِابْن عَلان وتكملة نسبه إِلَى الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَذْكُورَة فِي أَبْيَات لَهُ وَهِي قَوْله
(أيا سائلي عَن نسبتي كَيفَ حَالهَا ... جدودي إِلَى الصّديق عشرُون فاعدد)
(خَلِيل وعلان وَعبد مليكهم ... عَليّ عَليّ ذُو النَّعيم المؤبد)
(مبارك شاه حاوي الْمجد بعده ... أَبُو بكر الْمَحْمُود نجل مُحَمَّد)
(ووالده قد جَاءَ يكنى باسمه ... فطاهر حنون الَّذِي هُوَ مهتدي)
(وعلان ثَان جَاءَ وَهُوَ حسينهم ... عفيف أَتَى فيهم وَيُونُس ذواليد)
(ويوسف إِسْحَاق وَعمْرَان قد أَتَى ... وَزيد بِهِ كل الْخَلَائق تقتدي)
(وَمن بعده حاوي الفخار مُحَمَّد ... وَالِده الصّديق ذخري ومنجدي)
وَكَانَ الشهَاب الْمَذْكُور أَمَام التصوف فِي زَمَانه وَهُوَ من الْعلم فِي الْمرتبَة السامية أَخذ عَن الشَّيْخ تَاج الدّين النقشبندي وانتفع بِهِ خلق كثير وَله التآليف الجمة مِنْهَا شرح قصيدة السودي الَّتِي أَولهَا
(لَيْسَ عِنْد الْخلق من خبر ... )
وقصيدة ابْن بنت(1/157)
الميلق
(من ذاق طعم شراب الْقَوْم يدريه ... )
وَشرح
(مَا لَذَّة الْعَيْش إِلَّا صُحْبَة الفقرا ... )
وَشرح رِسَالَة الشَّيْخ أرسلان الَّتِي أَولهَا
(كلك شرك خَفِي ... )
وَشرح حكم أبي مَدين شرحاً مُفِيدا وَشرح قصيدة الشهرزوري الَّتِي مطْلعهَا
(لمعت نارهم وَقد عسعس اللَّيْل ... ومل الْحَادِي وحار الدَّلِيل)
وَله رِسَالَة فِي طَرِيق السَّادة النقشبندية جمع فِيهَا الْآدَاب واللوازم وَذكر فِيهَا جماعات من مَشَايِخ الطَّرِيق بَدَأَ بشيخه الشَّيْخ تَاج الدّين وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من الْعلمَاء الفحول وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة بِالْقربِ من قبر أم الْمُؤمنِينَ السيدة خَدِيجَة
أَحْمد بن أبراهيم الْمَعْرُوف بِابْن تَاج الدّين الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي التاجي كَانَ أحد صُدُور الشَّام وَمن كملائها الْمَشْهُورين بِحسن المصاحبة ولطف البداهة وَكَانَ وجيهاً صَاحب إقدام فِي الْأُمُور وَله معرفَة باللغة التركية وَكَانَ بِيَدِهِ وقف أجداده بني تَاج الدّين وَهَذَا الْوَقْف من الْأَوْقَاف الْكَبِيرَة بِدِمَشْق وَكَانَ شَرِيكا لخاله شيخ شُيُوخ الشَّام عبد الْقَادِر بن سُلَيْمَان فِي خدمَة مَزَار حَضْرَة الشَّيْخ أرسلان وَكَانَت بَينهمَا نِصْفَيْنِ وسافر إِلَى الرّوم ولازم على قاعدتهم ودرس ثمَّ صَار قَاضِيا بالركب الشَّامي فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وَعَاد إِلَى الرّوم وَصَارَ قَاضِيا بفوة فِي إقليم مصر وَبعد مَا عزل مِنْهَا توجه إِلَى الرّوم ثَالِث مرّة فِي رَجَب سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَترك طَرِيق الْقَضَاء وأبدله بالتدريس وَولي تدريس الْمدرسَة الأحمدية بالمشهد الشَّرْقِي بِجَامِع بني أُميَّة الْمَعْرُوفَة بدار الحَدِيث الَّتِي كَانَ جددها أَحْمد باشا الْحَافِظ أَيَّام حكومته بِالشَّام وَكَانَت وجهت إِلَيْهِ برتبة الْخَارِج ثمَّ أعطي رُتْبَة الدَّاخِل وَأخذ الْمدرسَة العذراوية عَن عَالم دمشق وخطبها أَحْمد بن يحيى البهنسي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلم يتَصَرَّف بهَا وقررت على البهنسي لكَون أَخذهَا لم يُصَادف محلا وناب فِي قَضَاء دمشق عَن قَاضِي الْقُضَاة أبي السُّعُود الشعراني الْمُقدم ذكره وأثرى فِي آخر عمره وتصدر وَكَثُرت حَوَاشِيه وعَلى كل حَال فَهُوَ مَعْدُود من الصُّدُور وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع بعد الْألف وَتُوفِّي فِي سَابِع شعْبَان سنة سِتِّينَ وَألف وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ القلجية تَحت قدمي بانيها الْأَمِير سيف الدّين قلج الأصفلا رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن أبي بكر بن عبد الله بن ابي بكر بن علوي بن عبد الله بن علوي بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم جد الْجمال مُحَمَّد الشلي وَالِد وَالِده أَبُو بكر الْمُقدم ذكره حفيد(1/158)
الْجمال فِي تَارِيخه الْمُسَمّى نفائس الدُّرَر فِي أَشْرَاف الْقرن الْحَادِي عشر وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن واشتغل وَصَحب من أكَابِر عصره كثيرين وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الإِمَام أَحْمد بن علوي باجحدر وَالشَّيْخ شهَاب الدّين بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن السقاف وَأدْركَ الْمُحدث الْكَبِير مُحَمَّد بن عَليّ خرد صَاحب الْغرَر وأخاه القَاضِي أَحْمد شرِيف وَحج وَأخذ بالحرمين عَن جمَاعَة وَلبس خرقَة التصوف من وَالِده وَغَيره وَكَانَ كثير السُّؤَال عَمَّا يَقع لَهُ من أُمُور الدّين من الأشكال وافر التَّحَرِّي فِي أُمُور الْعِبَادَة كثير المداومة على عمل الْبر والاوراد والأذكار وَكَثْرَة الْقيام والتلاوة وَأخذ عَنهُ جمع كَثِيرُونَ مِنْهُم ابْنه أَبُو بكر وَالشَّيْخ عبد الله بن سهل بَافضل وَآخَرُونَ وَكَانَ عَالما بالفقه وأصوله لَكِن غلب عَلَيْهِ علم التصوف والاشتغال بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله
وَكَانَ كثير الْخَوْف والبكاء وأثنت عَلَيْهِ مشايخه وأكابر عصره وَكَانَ زاهداً فِي الدُّنْيَا قانعاً مِنْهَا بالكفاف وَظَهَرت مِنْهُ كرامات مِنْهَا أَن السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن أَحْمد مقرّ لما حفر بئره الْمَشْهُور تَحت تريم اعترضت دون المَاء صَخْرَة عَظِيمَة فتعب لذَلِك فَلَمَّا علم صَاحب التَّرْجَمَة بِأَنَّهُ قصد بهَا وَجه الله وَأَن فِيهَا نفعا للْمُسلمين كتب فِي حِجَارَة صَغِيرَة وَرمى بهَا على تِلْكَ الصَّخْرَة الْكَبِيرَة فانهارت كالتراب ونبع المَاء وَمِنْهَا أَنه لما سَافر إِلَى الْحَج فِي طَرِيق الشط حصل للركب الَّذِي هُوَ فِيهِ عَطش شَدِيد وَمحل المَاء بعيد عَنْهُم فَأخذ قربَة وتوارى فِي جبل صَغِير وَرجع والقربة مَمْلُوءَة مَاء فراتاً وَكَانَ يُقَال أَنه يعلم الِاسْم الْأَعْظَم وَكَانَت وَفَاته فِي رَجَب سنة أَربع بعد الْألف وَدفن بمقبرة زنبل بِقرب قبر وَالِده وجده رَحِمهم الله تَعَالَى
أَحْمد بن أبي بكر النَّسَفِيّ الخزرجي الْمَالِكِي الشهير بقعود الإِمَام البارع الْكَبِير الماهر فِي كثير أَنا الْفُنُون كَانَ أحد الْعلمَاء الْمَشَاهِير بِمصْر حسن النّظم والنثر أَخذ عَن النَّجْم الغيطي والناصر اللَّقَّانِيّ وَمن فِي طبقتهما وَألف مؤلفات كَثِيرَة نظماً ونثراً مِنْهَا منظومة فِي النَّحْو ومنظومة فِي الزخافات والعلل العروضية وَتَذْكِرَة جمع فِيهَا من لقِيه من الشُّيُوخ وَمن عاصره وَكَثِيرًا من نظمه البديع وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء وانتفعوا بِهِ مِنْهُم وَلَده أَبُو بكر والشهاب أَحْمد الخفاجي وَذكره فِي كِتَابه فَقَالَ فِي وَصفه بليغ سحب ذيل بلاغته على سحبان وَروض أدب فِي كل ورقة خطها بُسْتَان أَلْفَاظه أرق من دمع السَّحَاب وأطرب من كأس(1/159)
يضْحك بالحباب سطور شعره قضب عَلَيْهَا من قوافيه حمام وعصره وَأَن تَأَخّر لمدام الْأَدَب مسك ختام أَن ورى فالكلمات النباتية لحيائها ذَات توارى أوزف أبكار أفكاره فالكنس لشبها جواري وَهُوَ من أَعْيَان مر فضلا وأدبا وَمِمَّنْ مَال لرقته كل نسيم وصبا وَله مَكَارِم أَخْلَاق تُؤثر مآثر الْجُود فِي الْآفَاق كَمَا قَالَ فِيهِ تِلْمِيذه يحى الْأصيلِيّ
(لله در شهَاب الدّين مرتقيا ... فِي الْجُود وَالنّسب السَّامِي على السّلف)
(من رام سعى تقى أَو منتقى نسب ... قَالَت فضائله فِي ذَا وَذَا ستفي)
وَمَعَ كَون طبعه يهزأ بالشمال والشمول أَدْرَكته حِرْفَة الْأَدَب فاعتكف فِي زَوَايَا الخمول وَمن شعره قَوْله
(يَا صَاحِبي اتركا معنى ... أَو فاعذلاه وعارضاه)
(فاتطيقان رشد غاو ... بِمَا يلاقي وعي رِضَاهُ)
(سبي حشاه وَالْعقل مِنْهُ ... عينا غزال وعارضاه)
(يَا جمع من صيروا التصابي ... فِي الْحسن عارا بالعارضا هوا)
وَقَوله
(لي حبيب من هِجْرَة زَاد كسْرَى ... وسلوى هَوَاهُ أقبح ذَنْب)
(جَاءَنِي دَاعيا وَقَالَ ائْتِ إِنِّي ... أولم الْيَوْم قلت قلب الْمُحب)
وَقَوله من قصيدة
(تفت فُؤَادك الْأَيَّام فتا ... وتنحت جسمك السَّاعَات نحتا)
(وتدعوك الْمنون دُعَاء صدق ... أَلا يَا صَاح أَنْت أُرِيد أنتا)
وَمِنْهَا فِي الْعلم
(وكنز لَا تخَاف عَلَيْهِ نهبا ... خَفِيف الْحمل يُوجد حَيْثُ كنتا)
(ستجني من ثمار الْجَهْل شوكا ... وتصغر فِي الْعُيُون وَإِن كبرتا)
وَقَوله
(هم بابنة البن فقد ودها ... للطفهارب الحجى والدها)
(مذ سادت العنبر لونا شدا ... لَا تدعني إِلَّا بيا عَبدهَا)
وللقيراطي مضمنا
(فِي خد من أحببته شامة ... مَا الند فِي نكهته ندها)
(والعنبر ارطب غَدا قَائِلا ... لَا تدعني إِلَّا بياعبدها)
وَهُوَ تضمين لقَوْل الشَّاعِر(1/160)
(لَا تدعني إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أشرف أسمائي)
يُشِير إِلَى شرف مقَام الْعُبُودِيَّة وَلذَا قَالَ سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} وَمثله قَول الآخر
(وَمِمَّا زادني شرفا وتيها ... وكدت باخمصي أَطَأ الثريا)
(دخولى تَحت قولاك ياعبادي ... وجعلك خير خلقك لي نَبيا)
انْتهى مَا أوردهُ لَهُ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف وَسبب شهرته بقعود أَنه حج صُحْبَة الْأُسْتَاذ مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ فأركبه الشَّيْخ قعُودا كَانَ هُوَ يركبه لأجل الْمَنَام فِي الطَّرِيق فاتفق لما وصلا إِلَى الْمَدِينَة بعد تَمام الْحَج أَن الْجمال جاءها وأخبرهما أَن الْقعُود مَاتَ فَاغْتَمَّ صَاحب التَّرْجَمَة حِينَئِذٍ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَا تغتم نركبك أحسن مِنْهُ فَلم يفده فَذهب وَهُوَ متغير الْحَال إِلَى النَّبِي
وَذكر ذَلِك تجاه الضريح وَإِذا بالجمال رَجَعَ مُتَعَجِّبا إِلَى الشَّيْخ يُخبرهُ أَن الْقعُود حَيّ فاشتهر من ذَلِك الْخَبَر بقعود هَكَذَا رَأَيْته بِخَط بعض المصريين
أَحْمد بن أبي بكر بن سَالم بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن اليمني من الكمل الْمَشْهُورين ولد بقرية عينان وَنَشَأ بهَا واشتغل على أَبِيه ثمَّ أمره أَبوهُ بِالسَّفرِ إِلَى تريم لزيارة من فِيهَا وللأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد بن علوي وَكَذَا إخوانه أَمرهم أبوهم أَبُو بكر بِالْأَخْذِ عَن بني علوي وَسُئِلَ عَنْهُم فَأثْنى عَلَيْهِم خيرا وَقَالَ أزهدهم أَحْمد وَحج أَحْمد مرَّتَيْنِ وَلَقي جمَاعَة من العارفين وَلزِمَ الطَّاعَة وَدخل بندر عدن لزيارة أبي بكر وَمن بِهِ من بني العيدروس ثمَّ قصد زِيَارَة الشَّيْخ أَحْمد ابْن عمر العيدروس إِلَى دَاره فَخرج الشَّيْخ أَحْمد للقائه وَلما رأى كل مِنْهُم صَاحبه وقف تِلْقَاء وَلم يكن بَينهمَا مصاحبة وَلم يكلم أحد مِنْهُمَا صَاحبه وَلما سُئِلَ صَاحب التَّرْجَمَة عَن ذَلِك قَالَ حَال بَيْننَا نور منعنَا أَن نتكلم بِلِسَان الْمقَال وَرجع كل مِنْهُمَا إِلَى مَحَله ورحل صَاحب التَّرْجَمَة من عدن إِلَى بندر الشحر فَأَقَامَ بِهِ وطار صيته وقصده النَّاس من كل مَكَان وَعم نَفعه وَظهر لَهُ كرامات وخوارق مِنْهَا أَنه لما دخل مَكَّة أَتَى لزيارة الشريف إِدْرِيس بن حسن بن أبي نمى فَقَالَ لَهُ ستلى أَمر الْحجاز بعد أَخِيك أَبى طَالب وَكَانَ الْأَمر كَذَلِك وَمِنْهَا مَا أخبر بِهِ الشَّيْخ الْعَارِف مُحَمَّد بن علوي أَن الشَّيْخ أَبَا بكر الشهير بقعود الْمصْرِيّ حصل بَينه وَبَين صَاحب التَّرْجَمَة محبَّة شَدِيدَة وَلما خرج من مَكَّة خرج قعُود مَعَه للموادعة وَلما رَجَعَ فقد خَاتمه وَكَانَ فِيهِ وفْق عَظِيم وَكَانَ لَهُ(1/161)
معرفَة تَامَّة بِعلم اوقاف والأسماء كَمَا تقدم فتعب لفقده تعباً شَدِيدا ونام تِلْكَ اللَّيْلَة فِي غَايَة التَّعَب لذَلِك فَرَأى صَاحب التَّرْجَمَة فِي نَومه وَهُوَ يَقُول لَهُ تعبت لأجل الْخَاتم هَذَا خاتمك وَألبسهُ إِيَّاه فَلَمَّا أصبح وجد الْخَاتم فِي يَده ففرح فَرحا شَدِيدا وَمِنْهَا أَن بعض آل كثير قتل قَاتل أَبِيه وَخَافَ من السُّلْطَان عمر بن بدر أَن يقْتله بِهِ فَاسْتَجَارَ بِصَاحِب التَّرْجَمَة فَأمر السُّلْطَان عمر بِإِخْرَاجِهِ من دَار الشَّيْخ فهجم الْعَسْكَر الدَّار وفتشوا جَمِيع الْمنَازل فَلم يظفروا بِهِ ثمَّ أخرجه لَيْلًا والعسكر مُحِيطَة بِالدَّار وَلأَهل حَضرمَوْت والشحر وَالِد وَعَن السواحل ومقدشوه فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم ويأتون بالنذور الْكَثِيرَة إِلَيْهِ وَظهر لكثيرين مِنْهُ كرامات كَثِيرَة وانتفع بِصُحْبَتِهِ جم غفير ولبسوا مِنْهُ الْخِرْقَة وَكَانَ ملْجأ للوافدين وَكَانَت وَفَاته فِي سنة عشْرين وَألف ببندر الشحر وازدحم الْخلق على جنَازَته رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن أبي بكر بن أَحْمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن عبد الله ابْن عَليّ بن عبد الله بن علوي بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْأَجَل الْمَعْرُوف بالشلي وَهُوَ أَخُو مُحَمَّد الْجمال صَاحب التَّارِيخ وَأحد مشايخه ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن على الْمعلم الْكَبِير مُحَمَّد باعيشه وجوده عَلَيْهِ وَحفظ الجزرية والعقيدة الغزالية وَالْأَرْبَعِينَ النووية والاجرومية وَأكْثر الْإِرْشَاد وورقات الْأُصُول وقطر الندى لِابْنِ هِشَام وَأخذ عَن وَالِده وتفقه بالعلامة مُحَمَّد الْهَادِي بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَالْقَاضِي الْأَجَل أَحْمد بن حُسَيْن وَأخذ عَن الشَّيْخ أبي بكر وأخيه شهَاب الدّين ابْني عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين الْأَصْلَيْنِ وَغَيرهمَا من عُلُوم الدّين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله باهارون وَالشَّيْخ زين العابدين العيدروس وأخيه عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد العيدروس والفقيه فضل وَالشَّيْخ أَحْمد بَافضل الشهير بالسودي وَأخذ عَن غَيرهم مِمَّن يطول ذكرهم وبرع فِي الْفِقْه والْحَدِيث والعربية وَأَجَازَهُ غير وَاحِد من مشايخه وَألبسهُ الْخِرْقَة ثمَّ رَحل إِلَى الْهِنْد وَأخذ بهَا عَنهُ جمَاعَة عُلُوم الْأَدَب وَأخذ عَن السَّيِّد الْأَجَل الشَّيْخ شيخ بن عبد الله العيدروس عُلُوم الصُّوفِيَّة وَصَحب الشَّيْخ الْكَبِير السَّيِّد أَبَا بكر بن أَحْمد العيدروس وَالسَّيِّد الْكَبِير الشَّيْخ جَعْفَر العيدروس السَّيِّد عمر بن عبد الله باشيبان ولازمه فِي دروسه وَأخذ عَنهُ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والفنون الأدبية وعلوم الْعَرَبيَّة واتصل بِالْملكِ عنبر فَأحْسن إِلَيْهِ واختص بِهِ بعض مُلُوك تِلْكَ الديار فأجلسه فِي أَعلَى مراتبه ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه فلازم(1/162)
القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن وَقَرَأَ عَلَيْهِ فتح الْجواد وإحياء عُلُوم الدّين وَقَرَأَ على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف فِي الْعَرَبيَّة والْحَدِيث وَكتب الصُّوفِيَّة ثمَّ رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ عَن الشَّيْخ الْعَارِف مُحَمَّد بن علوي وَالشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ بن عَلان وَالشَّيْخ سعيد باقشير وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطَّائِفِي وَالسَّيِّد أَحْمد بن الْهَادِي والعارف أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشي الْمدنِي وَأَجَازَهُ أَكْثَرهم بِجَمِيعِ مروياتهم ومؤلفانهم ثمَّ رَجَعَ إِلَى وَطنه وَكَانَ أديباً باهراً حسن الْخط ثَابت الذِّهْن عَجِيب الْفَهم مطلعاً على اللُّغَة والمفاكهات وَكَانَت لَهُ قدرَة على كشف الغوامض وَمَعْرِفَة تَامَّة بِالْحِسَابِ والفرائض ودرس وأجاد وانتفع بِهِ كثير من الطّلبَة وَكَانَ نير السريرة طيب الرَّائِحَة لطيف الثِّيَاب دَائِم الْبشر لَا يتْرك قيام اللَّيْل كثير التَّحَمُّل للبلايا صبوراً على من أَذَاهُ وَكَانَ يحب الْفُقَرَاء وَكَانَ يَقُول كل من ابتلاه الله بالفقر فِي هَذَا الزَّمَان حقيق بِأَن يعْتَقد وَكَانَ حسن الْأَدَب مَعَ النَّاس قَالَ أَخُوهُ فِي تَرْجَمته ومنذ صحبته مَا أذكر أَنه غضب يَوْمًا من الْأَيَّام وَلَا اغتاب أحدا وَلَو أَذَاهُ وَلم يزل على حَالَته إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة تسع عشرَة وَألف وَتُوفِّي فِي سنة سبع وَخمسين وَألف بِمَدِينَة تريم وَدفن بمقبرة زنبل وقبره بهَا مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن أبي بكر بن سَالم بن أَحْمد بن شَيْخَانِ بن عَليّ بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله باعلوي وَتقدم رفع نسبه فِي تَرْجَمَة وَالِده أبي بكر الشهابالمقدم فِي الْعُلُوم الْمُنْفَرد بالفنون الأدبية إِلَى مَكَارِم شيم وأخلاق وصفاء بَاطِن وَظَاهر ولد بِمَكَّة المشرفة فِي رَجَب سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَبهَا نَشأ وتربى فِي كنف وَالِده وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد وَبَعض الْمنْهَج وألفية الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ فِي أصُول الحَدِيث وألفية ابْن مَالك وَغير ذَلِك من الرسائل ولازم أَبَاهُ وَعنهُ أَخذ الطَّرِيق المسلسل وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة الشَّرِيفَة وتلقن الذّكر والمصافحة والمشابكة ولازم الشَّيْخ عبد الله باسعيد باقشير فِي درسه وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ عَليّ بن الْجمال وَأحمد بن عبد الرؤف وَعبد الله بن الطَّاهِر العباسي وَحضر دروس الْعَلامَة عِيسَى المغربي وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن المغربي وَألبسهُ الْخِرْقَة ثمَّ لَازم مُحَمَّد بن سُلَيْمَان مُلَازمَة تَامَّة وأتقن عدَّة فنون مِنْهَا الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول والعربية والفرائض والحساب والميقات والمعاني وَالْبَيَان وَالْعرُوض وَأمره(1/163)
شَيْخه ابْن سُلَيْمَان بالتدريس فَجَلَسَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَأخذ عَن الشَّيْخ أَحْمد البشبيشي لما قدم مَكَّة فِي حجَّته الأولى وَأَجَازَهُ وَكَانَت لَهُ همة تزاحم الأفلاك ونثر وإنشاء ونظم وَألف عدَّة رسائل وتعاليق وَاخْتصرَ تَارِيخ الْقُرْطُبِيّ الْمُسَمّى بالبرق الْيَمَانِيّ وَزَاد فِيهِ زيادات وَلَكِن لم تطل مدَّته وَمن شعره قَوْله فِي مليح اسْمه بكري
(ياغزالا مرعاه وسط فُؤَادِي ... وحبيبا مَا زَالَ دمعي يذري)
(أَنْت أولى الملاح بِالْملكِ حَقًا ... بنصوص السماع إِذْ أَنْت بكري)
وَقَوله مقتبسا فِي مليح اسْمه مبارك
(بِي مُرْسل الألحاظ مَعَ فترتها ... مُقَيّد الْأَوْصَاف وَهُوَ مُطلق)
(يَا أمة الْعِشْق هلموا أَنه ... مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف وَدفن بالمعلاة بالحوطة عِنْد أسلافه رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن أبي الْفَتْح الملقب شهَاب الدّين الْحكمِي الْمقري نزيل مَكَّة الشَّيْخ الإِمَام رفيع الشَّأْن كَانَ من كبراء الْعلمَاء إِذا مهابة وجلالة وَكَانَ من أَرْبَاب الْأَحْوَال ذكر مبدأ أمره فِي رِسَالَة لَهُ سَمَّاهَا نسيمات الأسحار فِي ذكر بعض أَوْلِيَاء الله الأخيار وَذكر مشايخه الَّذين تلقى عَنْهُم بِأَرْض الْيمن ومنتهى سَنَده إِلَى الْحكمِي والبحلي أَصْحَاب عواجة وعواجة بَلْدَة مَعْرُوفَة بِأَرْض الْيمن بلد الْحكمِي والبجلي فَأَما مشايخه فهم سَبْعَة الصّديق بن مُحَمَّد الشهير بالبلاط وَالشَّيْخ أَحْمد بن المقبول الْأَسدي الْمَشْهُور بِأبي الْفَضَائِل وَالشَّيْخ عُثْمَان بن السهل الْمَشْهُور بالأقرع تلميذ الشَّيْخ الْكَبِير الرباني المربى الصُّوفِي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي الشَّيْخ شيخين بن أبي الْفَتْح الْحكمِي وَالشَّيْخ الْأمين بن أبي الْقَاسِم شَافِع وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الحلوي وَالشَّيْخ مُحَمَّد يَعْقُوب النمازي وَذكر مَا قَرَأَهُ عَلَيْهِم من الْكتب وَهِي كَثِيرَة وَله شيخ ثامن وَهُوَ الْعَالم الرباني الشَّيْخ الْكَبِير عبد الْقَادِر بن أَحْمد الْحكمِي الْمَشْهُور بِأبي الرسائل أَخذ عَنهُ الطَّرِيق وتلقن عَنهُ ورده من الْقُرْآن بِإِشَارَة مِنْهُ قَالَ وَقَالَ لي يَا أَحْمد اقْرَأ من الْقُرْآن كل يَوْم سبع الْقُرْآن بِتَقْدِيم السِّين على الْبَاء وَقَالَ لي يَا أَحْمد لَا تتْرك هَذَا السَّبع من الْقُرْآن كل يَوْم إِلَّا لعذر يُبِيح ترك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وتلقى عَنهُ ورده فِي تَهَجُّده بِالْقُرْآنِ فِي جَوف اللَّيْل بِإِشَارَة مِنْهُ قَالَ وَقَالَ لي يَا أَحْمد تهجد فِي جَوف اللَّيْل بِقدر جُزْء من الْقُرْآن وَلَا تتْرك التَّهَجُّد فِي الْقُرْآن فِي جَوف(1/164)
اللَّيْل إِلَّا لعذر وَقَالَ أَنا ملازم لذَلِك وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَقَرَأَ عَلَيْهِ فِي علم التصوف كتاب الرسَالَة للشَّيْخ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَأذن لَهُ أَن يَرْوِيهَا عَنهُ بروايته لَهَا عَن شَيْخه وجده الشَّيْخ أَحْمد بن أبي الْفَتْح الْحكمِي وَهُوَ يَرْوِيهَا عَن وَالِده أبي الْفَتْح بن الصّديق وَهُوَ عَن شَيْخه وجده الشَّيْخ الْكَبِير الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر الْحكمِي وَهُوَ يَرْوِيهَا عَن شَيْخه وجده الْكَبِير عمر بن عمر الْحكمِي ولقبه زخم الدَّاريْنِ وَهُوَ عَن شَيْخه وجده الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحكمِي صَاحب عواجة وَهَذَا مُنْتَهى سَنَد الشهَاب صَاحب التَّرْجَمَة لرِوَايَة الرسَالَة ويروي الْعُلُوم من طَرِيق الشَّيْخ عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني نزيل مَكَّة وَهِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والأصلان والنحو وَالصرْف والقراآت عَن الْمَشَايِخ السَّبْعَة الْمُقدم ذكرهم بسندهم إِلَى أَحْمد بن مُوسَى العجيل وَالشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ وهما يرويان عَن الْحكمِي والبجلي أَصْحَاب عواجة وَقَالَ وَقد جمعني الْحَضَر على هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الْخَمْسَة يغظة وهم الشَّيْخ عبد الله بن أسعد اليافعي وَالشَّيْخ أَحْمد بن مُوسَى العجيل وَالشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحكمِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن حُسَيْن البجلى أصجاب عواجة وَقَالَ لي تقدم واقرأ على شيخك وَجدك الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحكمِي فَقَالَ لي الشَّيْخ هَلُمَّ إِلَيّ فَجَلَست بَين يَدَيْهِ فَقَالَ لي اقْرَأ فَإِذا الْكتاب الَّذِي فِي يَدي كتاب الرسَالَة لأبي الْقَاسِم الْقشيرِي فَقَرَأت عَلَيْهِ الْكتاب الْمَذْكُور فِي مجْلِس وَاحِد من أَوله إِلَى آخِره هَذَا مَا ذكره فِي رسَالَته قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته أَخذ عَنهُ كَثِيرُونَ مِنْهُم شَيخنَا على بن الْجمال الْأنْصَارِيّ الْمَكِّيّ وَشَيخنَا عبد الله ابْن سعيد باقشير وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ من الضنائن المخدرين أهل الدَّلال المحبوبين وَكَانَ يمِيل بالطبع إِلَى السماع وينخلع إِذا سمع عَن بشريته المحكومة للطباع وَيظْهر مِنْهُ حالات رضية لمن لَهُ بالحواس السليمة أَدْرَاك وروى أَنه رَحل من مَكَّة لزيارة الحضرة المحمدية
فِي الرَّابِع عشر من رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَقدم الْمَدِينَة فَمَرض فِي الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب الْمَذْكُور وَدفن فِي يَوْمه ببقيع الْغَرْقَد وَهُوَ فِي سنّ الْخمسين
الشَّيْخ أَحْمد بن أبي الْوَفَاء بن مُفْلِح الْحَنْبَلِيّ الدِّمَشْقِي الإِمَام الْكَبِير الْفَقِيه الْمُحدث الْوَرع الزَّاهِد الْحجَّة الثبت الْخَيْر كَانَ أحد الْعلمَاء بِالشَّام الملازمين على تَعْلِيم الْعلم والفتيا وَكَانَ لَهُ المتانة الْكَامِلَة فِي الْفِقْه والعربية والفرائض والحساب والتاريخ(1/165)
وَلأَهل دمشق فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَهُوَ مَحَله وَأَهله وَكَانَ متجنباً غَالب النَّاس وَله مداومة على تِلَاوَة الْقُرْآن وَالْعِبَادَة أَخذ عَن الأجلاء من مَشَايِخ عصره مِنْهُم جدنا الْعَلامَة إِسْمَاعِيل النابلسي الشَّافِعِي وَأخذ الْفِقْه عَن الْفَقِيه الْكَبِير مُوسَى بن أَحْمد بن أَحْمد الْحَنْبَلِيّ الْمَعْرُوف بالحجازي صَاحب الاقناع وَأخذ عَن الشَّمْس مُحَمَّد ابْن طولون الصَّالِحِي وبرع فِي أَنْوَاع الْعُلُوم ودرس بعدة مدارس مِنْهَا دَار الحَدِيث بصالحية دمشق بِالْقربِ من الْمدرسَة الأتابكية وَكَانَ لَهُ بقْعَة تدريس بالجامع الْأمَوِي وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء الْحَنَابِلَة بمحكمة الْبَاب لما مَاتَ القَاضِي مُحَمَّد سبط الرجيحي الْحَنْبَلِيّ فِي زمن قَاضِي القضة الْمولى مصطفى بن حُسَيْن بن الْمولى سِنَان صَاحب حَاشِيَة التَّفْسِير فَامْتنعَ وَبَالغ القَاضِي وَمن كَانَ عِنْده من كبار الْعلمَاء فِي طلبه فَلم ينخدع وَاعْتذر بثقل السّمع وَأَنه لَا يسمع مَا يَقُوله المتداعيان بسهولة وَذَلِكَ يَقْتَضِي صعوبة فصل الْأَحْكَام وَلم يزل يتلطف بِالْقَاضِي حَتَّى عَفا عَنهُ وَكَانَت فَاتَهُ فِي ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وَبَنُو مُفْلِح من الْبيُوت الْمَعْرُوفَة بِالْعلمِ والرياسة بِالشَّام وردوا فِي الأَصْل من قَرْيَة راميم من وَادي الشّعير تَابع نابلس ونزلوا صالحية دمشق وتفرعوا بطوناً فَأَحْمَد هَذَا من نسل نظام الدّين وَأما ابْن عَمه القَاضِي مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالأكمل الْآتِي ذكره فِي حرف الْمِيم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَهُوَ من نسل إِبْرَاهِيم وهما أَخَوان
الأديب أَحْمد بن أَحْمد المكني بِأبي العنايات ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الْكَرِيم النابلسي الأَصْل الْمَكِّيّ المولد نزيل دمشق الشَّاعِر الْمَشْهُور بالعناياتي أحد بلغاء عصره جمع شعره بَين جودة السبك وَحسن الْمَعْنى وَعَلِيهِ طلاوة رائقة وبهجة فائقة وديوان شعر مَشْهُور وَكَانَ يدْخل فِي جَمِيع طرق الشّعْر من بديع وهجو وعزل ونسيب وَله فِي فنون النّظم السِّت الَّتِي ابتدعها الْمُتَأَخّرُونَ الباع الطَّوِيل وَكَانَ أَبوهُ رَحل من نابلس وقطن مَكَّة مُدَّة وَتزَوج بهَا فولد لَهُ أَحْمد هَذَا بهَا وَكَانَ أسمر اللَّوْن وينطق بنطق أهل مَكَّة ونبابه وَطنه أَيَّام شبابه فَفَارَقَ الْمقَام وقوض الْخيام وتقاذفت بِهِ ديار الغربة وَكَانَ ينْتَقل ويجول فِي كل ديار لَكِن كَانَت سياحته مَقْصُورَة على الْبِلَاد الشامية وَدخل دمشق آخرا فِي سنة سِتّ أَو سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَألقى بهَا عَصا ترحاله فسكن مرّة فِي جَامع هِشَام بن عبد الْملك فِي جِهَة سوق جقمق ثمَّ ارتحل إِلَى الْمدرسَة الباذرائية وَاسْتمرّ بهَا مجاوراً فِي حجرَة من حجراتها(1/166)
إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ يتعمم بالصوف الَّذِي يُقَال لَهُ المئزر وَوصف البديعي هَيئته فَقَالَ رث الشَّمَائِل وسخ الأثواب كَأَنَّمَا بكرت عَلَيْهِ مُغيرَة الْأَعْرَاب خلق الجلابيب والأردان كَأَنَّمَا اتخذ عمَامَته منديل الخوان فزيه غَرِيب وطليسان ابْن حَرْب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ قشيب وَكَانَ متقللاص فِي الْمطعم واللباس منقبضاً فِي الْغَالِب عَن المخالطة وَلم يتَزَوَّج فِي عمره وَكَانَ يكْتب الْخط الْحسن الْمَنْسُوب وينظم من الشّعْر مَا يزري بزهر الخمائل وَكَانَ فِي الْغَالِب يقْضِي أوقاته فِي بيُوت القهوة وَرُبمَا كَانَ يبيت هُنَاكَ وَكَانَ قَلِيل التكسب بالشعر وَإِذا مدح أحدا يُرْسل مدحه إِلَى بعض توابعه ويرجو بِالْإِشَارَةِ بعض جدواه وَقد وصف بعض حَاله فِي قصيدة لَهُ حَيْثُ قَالَ
(إِذا لم أعز فَمن ذَا يعز ... وفقري وقنعي كنز وحزر)
(لبست من الْيَأْس فِي النَّاس ثوبا ... عَلَيْهِ من الْعقل وَالْفضل طرز)
(وَلست أرى الذل إِلَّا إِذا ... كَانَ فِي الْحبّ والذل فِي الْحبّ عز)
(ومثلي حر عباه غناهُ ... إِذا استعبد النَّاس خَز وبز)
وَوصف خطه وحظه فَقَالَ
(زَاد خطي وَقل حظي فَمن لي ... نقل نقط من فَوق خاء لطاء)
(وبشعري الغالي ترخص سعري ... وبطب الْفُنُون مت بدائي)
وَهَذَا مَسْبُوق إِلَيْهِ فِي قَول بَعضهم
(لَا تحسبوا أَن حسن الْخط يسعدني ... وَلَا سماحة كف الحاتم للطائي)
(وَإِنَّمَا أَنا مُحْتَاج لوَاحِدَة ... لنقل نقطة حرف الْخَاء للطاء)
وَذكر الْحسن البوريني فِي تَرْجَمته أَنه كَانَ مَعَ ظُهُوره بِصُورَة الْفقر يتهم بِمَال كثير ظَهرت لَهُ بعض آثَار حَيْثُ أحب بعض أَحْدَاث دمشق وَشك عَلَيْهِ بمبلغ يقرب من مائَة دِينَار ذَهَبا وَكَانَ القَاضِي حِينَئِذٍ المرحوم الْعَلامَة محب الدّين الْحَمَوِيّ فَلَمَّا وقف العناياتي بَين يَدَيْهِ وَأقر الْحَدث بِالْحَقِّ لَدَيْهِ طلب حَبسه وَاقْتضى مِنْهُ ديناره وفلسه فَقَالَ لَهُ القَاضِي يَا شيخ أَحْمد تحبسه عنْدك فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا أَنا فِي حبس حبه وَهُوَ فِي حبس مَالِي فَحِينَئِذٍ لَا لَهُ وَلَا لي قلت وَكَانَ لجدي الْمَذْكُور مَعَه مداعبات ألطف من نسمات الرياض وأخفى سحرًا من الحدق المراض وألطف مَا سمعته مِنْهَا أَنه كَانَ يهوى غُلَاما اسْمه أصلان وَكَانَ الْغُلَام يحترف فِي دكان بِبَعْض أسواق دمشق وَكَانَ العناياتي يَأْتِي إِلَى دكان أَمَامه وَيجْلس لأجل مشاهدته فَمر بِهِ الْجد يَوْمًا وَهُوَ(1/167)
جَالس فَسَأَلَهُ عَن سَبَب جُلُوسه فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا لَهُ أصل فَقَالَ بل أصلان وأخبار العناياتي كَثِيرَة ونوادره شهيرة وَمِمَّا يستجاد من شعره قَوْله
(لَو كنت شَاهده وَقد غسق الدجى ... ودموعه فِي خَدّه تتحدر)
(لرثيت يَا مولَايَ للْعَبد الَّذِي ... شوقاً إِلَيْك فُؤَاده يتفطر)
وزار الْحسن البوريني مرّة فِي الْمدرسَة الناصرية الجوانية وَكَانَ مجاوراً بهَا للْقِرَاءَة على مدرسها أستاذه الْعِمَادِيّ الْحَنَفِيّ فَلم يجده فَكتب لَهُ على بَابهَا معاتباً
(يزِيد لكم جفاكم من ودادي ... وذنبي عنْدكُمْ تِلْكَ الزياده)
(لكم مني مقَال أبي فراس ... ولي مِنْكُم مقَال أبي عباده)
أَرَادَ بقول أبي فراس
(أَسَاءَ فزادته الاساءة حظوة ... حبيب على مَا كَانَ فِيهِ حبيب)
وَبقول أبي عبَادَة
(إِذا محاسني اللَّاتِي أدل بهَا ... صَارَت ذنوباً فَقل لي كَيفَ أعْتَذر)
وزاره أُخْرَى فَوَجَدَهُ نَائِما فَكتب على بَاب الْحُجْرَة قَوْله
(جَاءَ محب إِلَيْك بعد سنه ... رآك محتجباً عَنهُ بسنه)
(يَا حسنا جَاءَهُ الْمُحب فَمَا ... أبصره سوء حَظه حسنه)
ثمَّ زَارَهُ أُخْرَى فَلم يجده فَكتب أَيْضا على الْجِدَار قَوْله
(قد كَاد من فَرح يطير إِلَيْك فِي ... مثنى ثَلَاثًا مذاليك تشوقا)
(فَأَعَادَهُ حاشاك فقدك خائباً ... لاذقت طعم رُجُوعه صفر اللقا)
وَكتب إِلَى بعض من يهواه وَقد اتّفق أَنه زَاد فِي جفاه وَأسْندَ إِلَيْهِ أقاويل لم تصدر مِنْهُ وَإِنَّمَا جعلهَا سَببا للتقاطع عَنهُ قَوْله
(إِن الْمُحب عناؤه لَا يبرح ... فِي الْقرب والأبعاد فَهُوَ مبرح)
(الْقلب بالشوق الشَّديد مجرح ... والطرف بالدمع المديد مقرح)
(وَإِلَى مَتى هَذَا الهوان من الْهوى ... وَالله إِن الْمَوْت مِنْهُ أروح)
(قد كَانَ جرح الصد مِنْك نكاية ... فَأتى فِرَاق بِالَّذِي هُوَ اجرح)
(مَا أَنْت إِلَّا الرّوح إِن حجبت فَمَا ... للجسم غير الرّوح شَيْء يصلح)
فيا مولَايَ من أَيْن قيض لنا هَذَا الْحجاب وأتانا من الْبعد بِعَذَاب لم يكن فِي حِسَاب فولله أَنِّي مُنْذُ سَمِعت هَذِه الْأَخْبَار لم يقر لقلبي قَرَار وَلَا وجدت هدى وَلَا هُدُوا(1/168)
على هَذِه النَّار بل أَخَذَنِي التبلد وَلم أجد ذرة من التجلد وصرت كالذاهل الحيران الغارق فِي بحار الأشجان لَا أعرف مَا أَقُول وَلَا ينْصَرف فكري إِلَى مَعْقُول وَلَا مَنْقُول وَمَا ذكرت السَّبَب إِلَّا تحدر دمعي على الخد وانسكب وَعلمت أَن الشَّرّ كُله من عشرَة غير الْجِنْس مكتسب سِيمَا هَذَا الْجِنْس الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مروه وَلَا أخوة تمنع أنفسهم من النَّقْص وَلَا فتوة وَأَنت وَالله غلطان فِي تقريب بَعضهم وَأوجب حبك لَهُم ومنعك مطلوبهم مَكْرُوه بغضهم وَأَنت تعلم صانك الله من الأغيار ووقاك كيد الْفجار الأشرار أَن الْحر الْكَرِيم لَا يقوى أَن يسمع فِي عرضه كَلَام من يسوى وَمن لَا يسوى وَمَا وَحقّ من يعلم السِّرّ والنجوى بذلت لَك هَذِه النَّصِيحَة إِلَّا لتعلم أَن محبتي سليمَة صَحِيحَة وصفاء ودي لَا يتكدر وجوهر عشقي على مدى الْأَيَّام لَا يتَغَيَّر لَكِن يَا روحي السارية مسرى الدَّم فِي الأعضا وشفاء الْقُلُوب المرضى الَّتِي لَا تُرِيدُ غَيره طَبِيبا وَلَا ترْضى أَنْت تعلم أَن مَاء الْجمال تكدره نواظر الفواسق وصونه بِصُورَة الْجلَال مَحْمُود عِنْد ذَوي الْحَقَائِق فَإِن ترك مَالا يصلح أصلح والاقبال على من تنْتَفع بعقله أصوب وأرجح لِأَن من وَقع عَلَيْهِ نظر المفلح أَفْلح فاتعظ بِهَذِهِ الْوَاقِعَة عَلَيْك وَلَا تركن بإحسانه إِلَيْك لكنني أَقُول مقَال الْمُحب المغرم الَّذِي يتظلم من أَن لَا يظلم
(رويدك إِن الْهوى معرك ... يعْدم فِيهِ الْأجر والمغنم)
(فَإِنَّمَا تأويلنا أَنه ... يحل للْمُضْطَر مَا يحرم)
(من ذَا الَّذِي أفتى عُيُون المها ... بِأَن مَا تتْلف لَا تغرم)
(يستعذبوا ظلمي من اجلهم ... أسْتَغْفر الله لمن يظلم)
وَقُلْنَا فِي مثل هَذَا الْحَال سَابِقًا وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى كَمَا ترَاهُ لائقاً
(وَأَنا الَّذِي لَا ذَنْب لي وللذتي ... بِالْعَفو عني قلت إِنِّي مذنب)
(إِن لم يكن ذَنْب فحلمك وَاجِب ... أَو كَانَ لي ذَنْب فحلمك أوجب)
(وَلَقَد صبرت على الشدائد كلهَا ... إِلَّا بعادك عَنهُ صبري يعزب)
(فَارْجِع وعد عود الْكِرَام لعادة ... عودتها فَالْأَصْل أصل طيب)
وَلَو أَنِّي بثثتك عشر مَا عِنْدِي من الأشواق لفنيت الأقلام والمحابر والأوراق وَلكنهَا نفثة مصدور أصبح مَهْجُورًا وَكَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطوراً وَأهْدى إِلَى مليح وردتين وَهُوَ مُقيم بصالحية دمشق عِنْد بعض خلانه للتنزه وَكتب مَعَهُمَا قَوْله
(متعت طرفِي من سنا وَجهه ... ووجنتيه بجنى الجنتين)(1/169)
(فاقتطف الطّرف وُرُود الحيا ... إِذْ عز فِي ذَلِك قطف الْيَدَيْنِ)
(وجئته أهْدى لَهُ من يَدي ... عَن ناظري عَن خَدّه وردتين)
(واحتجب الْخَال فعوضته ... نقط زباد عوض الشامتين)
(وَقلت للقلب الشجي قرطه ... ذَا ملك يحكم فِي الْخَافِقين)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي عشرى القعدى أَو حادي عشريه سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَقد تجَاوز الثَّمَانِينَ وَقَالَ أَبُو بكر الْعمريّ الْمُقدم ذكره فِي تَارِيخ مَوته
(مَاتَ العناياتي شمس الخجى ... وَالْمَوْت طبعا بالعناياتي)
(قَالَ لِسَان الْحَال من بعده ... تَارِيخه مَاتَ العناياتي)
وَرَآهُ بعض فضلاء دمشق فِي مَنَامه بعد وَفَاته فَقَالَ لَهُ قل لي مَا فعل الله بك فأنشده بَيْتَيْنِ وأفاق الرجل وَهُوَ حافظهما وهما قَوْله
(كلوني للرحيم وخلفوني ... طريحاً أرتجي عَفْو الْكَرِيم)
(لِأَنِّي عَاجز عبد حقير ... وَإِن الله ذُو فضل عَظِيم)
قلت وَوَقع مثل هَذَا كثيرا ويعجبني لَهُ فِي بَابه مَا نَقله ابْن خلكان قَالَ رَأَيْت فِي بعض المجاميع قَالَ الْوَزير أَبُو الْقَاسِم بن المغربي رَأَيْت الْخَطِيب بن نباتة فِي الْمَنَام بعد مَوته فَقلت لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ وَقع لي رقْعَة بالأحمر
(قد كَانَ أَمن لَك من قبل ذَا ... وَالْيَوْم أضحى لَك أمنان)
(والصفح لَا يحسن عَن محسن ... وَإِنَّمَا يحسن عَن جاني)
والعناياتي نِسْبَة إِلَى أَبِيه أبي العنايات هَكَذَا ذكره البوريني رحمهمَا الله تَعَالَى
أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد بن عمر بن مُحَمَّد أقيت ابْن عمر بن عَليّ بن يحيى بن كذالة بن مكي بن نيق بن لف بن يحيى بن تشت بن تنفر بن حيراي بن النجر بن نصر بن أبي بكر بن عمر الصنهاجي الماسي السوداني يعرف بَابا صَاحب كتاب الديباج قد ترْجم نَفسه فِي آخِره فَقَالَ مولدِي كَمَا وجدته بِخَط وَالِدي لَيْلَة الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة ختام عَام ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة ونشأت فِي طلب الْعلم فَحفِظت بعض الْأُمَّهَات وقرأت النَّحْو على عمي أبي بكر الشَّيْخ الصَّالح وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول والعربية وَالْبَيَان والتصوف وَغَيرهَا على شَيخنَا الْعَلامَة مُحَمَّد يفيع ولازمته سِنِين وقرأت عَلَيْهِ جَمِيع مَا تقدم عني فِي ترجمتي وَأخذت عَن وَالِدي الحَدِيث سَمَاعا والمنطق وقرأت الرسَالَة ومقامات الحريري تفقهاً على غَيرهم(1/170)
واشتهرت بَين الطّلبَة بالمهارة على كلال ومهل فِي الطّلب وألفت عدَّة كتب تزيد على أَرْبَعِينَ تأليفا كشرحي على مُخْتَصر خَلِيل من أول الزَّكَاة إِلَى أثْنَاء النِّكَاح ممزوجا محررا وحواشي على مَوَاضِع مِنْهُ والحاشية الْمُسَمَّاة منن الرب الْجَلِيل فِي مهمات تَحْرِير خَلِيل يكون فِي سفرين وفوائد النِّكَاح على مُخْتَصر كتاب الوشاح للسيوطي وَغَيرهَا قَالَ الثِّقَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يَعْقُوب الأديب المراكشي فِي فهرسته فِي ترجمتي كَانَ أخونا أَحْمد بَابا من أهل الْعلم والفهم والإدراك التَّام الْحسن حسن التصنيف كَامِل الْحَظ من الْعُلُوم فقها وحديثا وعربية وأصلين وتاريخا مليح الاهتداء لمقاصد النَّاس مثابرا على التَّقْيِيد والمطالعة مطبوعا على التَّأْلِيف ألف تآليف مفيدة جَامِعَة فِيهَا أبحاث عقليات ونقليات وَهِي كَثِيرَة كوضعه على مُخْتَصر خَلِيل من الزَّكَاة إِلَى أثْنَاء النِّكَاح فِي سفرين وتنبيه الْوَاقِف على تَحْرِير نِيَّة الْحَالِف فِي كراس وَتَعْلِيق على أَوَائِل الألفية سَمَّاهُ النكت الوفية بشرح الألفية وَآخر سَمَّاهُ النكت الزكية لم يكملا ونيل الأمل فِي تَفْضِيل النِّيَّة على الْعَمَل وَغَايَة الإجادة فِي مُسَاوَاة الْفَاعِل للمبتدأ فِي شَرط الإفادة فِي كراسين وَآخر سَمَّاهُ النكت المستجادة فِي مساواتهما فِي شَرط الإفادة والتحديث والتأنيس فِي الِاحْتِجَاج بِابْن إِدْرِيس يُرِيد بألفاظه على الْعَرَبيَّة فِي وَرَقَات وجلب النِّعْمَة وَدفع النقمَة بمجانبة الظلمَة أولى الظلمَة فِي كراسين وَشرح الصُّغْرَى للسنوسي فِي أَرْبَعَة كراريس ومختصر تَرْجَمَة السنوسي فِي ثَلَاثَة كراريس ونيل الابتهاج بالذيل على الديباج وَالْمطلب والمأرب فِي أعظم أَسمَاء الرب تَعَالَى فِي كراسة وترتيب جَامع اليعاد للونشريشي كتب مِنْهُ كراريس وَله أسئلة فِي المشكلات ثمَّ امتحن فِي طَائِفَة من أهل بَيته بثقافهم فِي بلدهم فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف عَليّ مَحْمُود بن زرقون لما استولى بِلَادهمْ وَجَاء بهم أُسَارَى فِي الْقُيُود فوصلوا مراكش أول رَمَضَان من الْعَام واستقروا مَعَ عِيَالهمْ فِي حكم الثقاف إِلَى أَن أحجم أَمر المحنة فسرحوا يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين لرمضان سنة أَربع بعد الْألف فَفَرِحت قُلُوب الْمُؤمنِينَ بذلك جعلهَا الله لَهُم كَفَّارَة لذنوبهم ثمَّ ذكر مقروآته على صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ وَكَانَ من أوعية الْعلم صان الله مهجته انْتهى قَالَ المترجم وَلم ألق بالمغرب أثبت مِنْهُ وَلَا أوثق وَلَا أصدق وَلَا أعرف بطرِيق الْعلم مِنْهُ وَلما خرجنَا من المحنة طلبوني للإقراء فَجَلَست بعد الإباءة بِجَامِع الشرفاء بمراكش من أنوه جَامعهَا أقرى كتبا ثمَّ قَالَ وازدحم الْحلق على واعيان طلبتها ولازموني(1/171)
بالإقراء على قضاتها كقاضي الْجَمَاعَة بفاس الْعَلامَة أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم الغساني وَهُوَ كَبِير ينيف على سِتِّينَ وَكَذَا قَاضِي مكناس الرحلة مؤلف صَاحب أبي الْعَبَّاس بن القَاضِي المكناسي لَهُ رحْلَة للشرق لَقِي فِيهَا النَّاس وَهُوَ أسن منى ومفتي مراكش الرجراجي وَغَيرهم وأفتيت بهَا لفظا وكتبا بِحَيْثُ لَا تتَوَجَّه الْفَتْوَى فِيهَا غَالِبا إِلَّا إِلَى وعينت إِلَى مرَارًا فابتهلت إِلَى الله تَعَالَى أَن يصرفهَا عني واشتهر اسْمِي فِي الْبِلَاد من سوس الْأَقْصَى إِلَى بجاية والجزائر وَغَيرهمَا وَقد قَالَ لي بعض طلبته لما قدم علينا مراكش لَا نسْمع فِي بِلَادنَا إِلَّا بإسمك فَقَط انْتهى هَذَا مَعَ قلَّة التَّحْصِيل وَعدم الْمعرفَة وَإِنَّمَا ذَلِك كُله مصداق قَوْله
أَن الله لَا ينْزع الْعلم الحَدِيث وَقد ناهزت الْآن خمسين سنة بتاريخ يَوْم الجعة مستهل صفر عَام اثنى عشر بعد الْألف انْتهى كَلَامه قلت وَمن لطائفه مَا نَقله عَنهُ بعض الشُّيُوخ إِذا حضر صالب الْعلم مجْلِس الدَّرْس غدْوَة وَلم يفْطر نَادِي مُنَاد من قَعْر جَوْفه الصَّلَاة على الْمَيِّت الْحَاضِر وَكَانَت وَفَاته فِي سَابِع شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن شيخ أَحْمد موَالِي الرّوم الْمَعْرُوف بشيخ زَاده قَاضِي قُضَاة الشَّام ذكره النحم فِي ذيله وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولي قَضَاء الشَّام من دَار الحَدِيث السليمانية فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَكَانَ عَلامَة فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَله المام تَامّ بعلوم البلاغة فَاضلا فِي الْفِقْه وَكَانَ يُبَاشر الْأَحْكَام بِنَفسِهِ ويتحرى الْحق فِيهَا متصلبا فِي الْحق يتَرَدَّد إِلَيْهِ الْخُصُوم وَإِلَى نوابه المره بعد الْمرة فَلَا يَأْخُذ مِنْهُم شَيْئا حَتَّى تَنْتَهِي الدَّعْوَى فَيَأْخُذ مِنْهُم بِرِفْق وَكَانَ مقتصدا فِي أَحْوَاله وَيَقُول الإقتصاد خير من الْجور على النَّاس وَكَانَ لَهُ إِنْكَار على مَا يرَاهُ من الْمَنَاكِير حَتَّى أَمر بِإِزَالَة عشة اليمانية غربي الْجَامِع الْأمَوِي بَعْدَمَا كَانَ وَضعهَا أحد رُؤَسَاء الْجند بالدق والمسمار وَقَالَ التحجير فِي الْمَسْجِد لَا يجوز وَلم يسْتَطع أحد إِلَّا التَّسْلِيم لأَمره لموافقته الشَّرْع وأعيدت بعد عَزله بسنوات وَكَانَ متقيدا بأوقاف الْجَوَامِع والمساجد بِدِمَشْق مشددا على متوليها وينكر على النَّاس سكناهم فِي الْمدَارِس وَكَانَ يحضر بالجامع الْأمَوِي للْجَمَاعَة فِي أَكثر الْأَوْقَات وَيَطوف كل يَوْم بعد صَلَاة الصُّبْح بالجامع وَينظر فِيمَا فِيهِ وحواليه وَكَانَ يواجه أَحْمد باشا الْحَافِظ نَائِب الشَّام بالإنكار عَلَيْهِ والنصيحة وَكَانَ الْحَافِظ بكرمه ويجله إِلَى أَن وصل خبر عَزله عَن قَضَاء الشَّام(1/172)
وإعطائه قَضَاء مَكَّة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس جُمَادَى الْآخِرَه سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَكَانَت تَوليته بهَا نَحْو عشرَة أشهر انْتهى قَالَ البوريني وَوصل خبر عَزله إِلَى دمشق بعد خُرُوجه مِنْهَا وَكَانَ عَازِمًا على الْحَج فاستأجروا لَهُ ساعيا وَأَرْسلُوا لَهُ الْأَمر السلطاني بتوليته قَضَاء مَكَّة ورحل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وزار الْمعَاهد الَّتِي هُنَاكَ وَأقَام قَلِيلا ثمَّ توجه إِلَى مصر يُرِيد أَن يعبر مِنْهَا إِلَى السويس وَمِنْه إِلَى مَكَّة المشرفة ثمَّ عَاد إِلَى دمشق مَعَ الْحَاج فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وسافر إِلَى الرّوم وتقاعد عَن الْقَضَاء بتدريس دَار الحَدِيث سنوات حَتَّى وَجه إِلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّاء عِنْدَمَا صَار مفتيا قَضَاء أدرنة فوليها سِتَّة أشهر واستعفى مِنْهَا فانفصل مِنْهَا باختباره فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ ورد الْخَبَر بِمَوْتِهِ إِلَى دمشق سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن أَحْمد الْمصْرِيّ الملقب شهَاب الدواخلي الْفَقِيه الشَّافِعِي الْوَرع الزَّاهِد الناسك إِمَام الْفُقَهَاء والمحدثين فِي عصره كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا صَدرا ورعامها بالإيخاف فِي الله لومة لائم ملازما لإقراء الْعلم غير مشتغل بِشَيْء غَيره صارفا أوقاته فِي الطَّاعَة ملازما للْجَمَاعَة وَكَانَ عَظِيم الهيبة كثير الفكرة ترَاهُ دَائِما مطرقا من خشيَة الله تَعَالَى ومراقبته حَتَّى قَالَ بعض الشُّيُوخ فِي شَأْنه مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أخوف لله تَعَالَى مِنْهُ سالكا طَريقَة السّلف الصَّالح من التقشف فِي الْأكل وَالشرب والملبس لَا يرى متكلما إِلَّا فِي مجْلِس علم أَو جَوَاب عَن سُؤال أَخذ عَن النُّور الزيَادي وَمَنْصُور الطبلاوي وَسَالم الشبشيري وَالشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي وَالشَّيْخ يس الْمحلي الْمَالِكِي والبرهان اللَّقَّانِيّ قَالَ العجمي فِي مشيخته سَمِعت عَن تقاسيم شرح الْمنْهَج مَعَ حَاشِيَة الزيَادي وَشرح الْمِنْهَاج للشمس الرَّمْلِيّ والشهاب ابْن حجر الهيثمي وسيرة ابْن سيد النَّاس وحاشيتها نور النبراس وَكَثِيرًا من الشِّفَاء وشروحه للدلجي وَالسَّيِّد الصفوي والشمني والتلمساني والمواهب اللدنية وَكَثِيرًا من الْجَامِع الصَّغِير مَعَ شروحه للعلقمي والمناوي وَكَثِيرًا وَمن صَحِيح مُسلم مَعَ شروحه للنووي والأبي والسيوطي وتلوت عَلَيْهِ الْقُرْآن مدارسة مرَارًا لَا أحصيها وأجازني بِجَمِيعِ مَا ذكر وَبِمَا سَمعه من اللَّقَّانِيّ من الْمَوَاهِب وَتَذْكِرَة الْقُرْطُبِيّ والشمايل لِلتِّرْمِذِي وسيرة ابْن هِشَام وَالْأَرْبَعِينَ النووية وَكتب لي ذَلِك بِخَطِّهِ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ عَنهُ جهابذ الْعلمَاء مِنْهُم مَنْصُور الطوخي وَأحمد الْبَنَّا(1/173)
الدمياطي وَأحمد البشبيشي وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته غريقا فِي بَحر الَّيْلِ وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن فِي سنة خمس وَخمسين وَألف والدواخلي نِسْبَة لمحلة الدواخلي من الغربية بِمصْر وَالله سُبْحَانَهُ أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد الْخَطِيب الشَّوْبَرِيّ الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْعَالم الْكَبِير الْحجَّة شيح الْحَنَفِيَّة فِي زَمَانه كَانَ إِمَامًا فِي الفقة والْحَدِيث والتصوف والنحو كَامِل الْفَضَائِل ولد بِبَلَدِهِ ورحل مَعَ أَخِيه الشَّمْس إِلَى الشيح أَحْمد بن عَليّ الشناوي بمنية روح وأخذا عَنهُ عُلُوم الطَّرِيق وَبِه تخرجا فِي عُلُوم الْقَوْم ثمَّ قدم مصر وجاور بالأزهر سِنِين وروى الْفِقْه وَغَيره عَن الإِمَام عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَعبد الله التحريري وَعمر بن نجيم وبهم تفقه وَأخذ عَن شيخ الشَّافِعِيَّة الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ شَارِح الْمِنْهَاج وَعَن غَيره وَحكى البشبيشي أَنه أخبرهُ أَنه سمع البُخَارِيّ على الشَّمْس مُحَمَّد المحبي الْحَنَفِيّ وَكَانَ إِذا فَاتَهُ سَماع درس مِنْهُ يذهب إِلَيْهِ لبيتته فيقرؤه عَلَيْهِ وَأَجَازَهُ كثير من شُيُوخه وتصدر وَعم نَفعه لأهل عصره بِحَيْثُ أَن جَمِيع عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة من أهل مصر وَالشَّام مَا مِنْهُم إِلَّا وَأخذ عَنهُ وَكَانَ يلقب بِمصْر بِأبي حنيفَة الصَّغِير وَأَخُوهُ مُحَمَّد كَانَ يلقب بالشافعي الصَّغِير وَكَانَ أَحْمد مَشْهُور بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح وَالْبركَة لمن قَرَأَ عَلَيْهِ منعكفا فِي بَيته منعزلا عَن جَمِيع النَّاس جَامعا بَين الشَّرِيعَة والحقيقة مُعْتَقدًا للصوفية وجيها مهابا لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد مجللا كثير الْبكاء والخشية من الله تَعَالَى صَاحب أَحْوَال وكرامات قلت وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ فَقِيه الشَّام وبارعها إِسْمَاعِيل بن عبد الْغَنِيّ النابلسي الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ صَاحب الْأَحْكَام شرح الدُّرَر فِي الْفِقْه الْآتِي ذكره وَغَيره ولقيه وَالِدي المرحوم فِي مُنْصَرفه إِلَى الْقَاهِرَة سنة سبع وَخمسين وَألف وَذكره فِي رحلته الَّتِي ألفها فَقَالَ فِي وَصفه قُرَّة عين الإِمَام الْأَعْظَم وصاحبيه من انْتَهَت رياسة الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ المعزية إِلَيْهِ سراح الْمَذْهَب وطرازه الْمَذْهَب قَرَأت عَلَيْهِ بِحُضُور بعض أفاضل الطلاب من أَوَائِل الْهِدَايَة وأجازني يماله من رِوَايَة ودراية وَهَا إِجَازَته بِخَطِّهِ مضبوطة عِنْدِي بضبطه وَذكره الشلي فِي عقد الْجَوَاهِر والدرر قَالَ وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وَالْبركَة وَالْغَالِب عَلَيْهِ العزله لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد وَكَانَ مجللا عِنْد النَّاس مَقْبُول الْكَلِمَة مُعْتَقدًا للصوفية والصلحاء وَله كرامات ومكاشفات حكى أَن السّري مُحَمَّد بن مُحَمَّد الدروري الْآتِي ذكره وَهُوَ من أَعْيَان الْعلمَاء كَانَ ينقصهُ وينكر عَلَيْهِ فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ لبَعض أَصْحَابه قل لَهُ(1/174)
الْمشَاهد بَيْننَا فَلم يفهم السرى ذَلِك فاتفق أَنَّهُمَا مَاتَا فِي شهر وَاحِد وَكَانَت جَنَازَة السّري كجنازة آحَاد النَّاس وجنازته حافلة لم يتَخَلَّف عَنْهَا أحد من الْحُكَّام بالأمراء وَالْعُلَمَاء وأسف النَّاس لفقده وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ أَخُوهُ الشَّيْخ الإِمَام الشَّمْس مُحَمَّد بالرميلة والشوبرى بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء وَبعدهَا نِسْبَة إِلَى قَرْيَة بِمصْر وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد بن سَلامَة الْمصْرِيّ القليوبي الشَّافِعِي الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الْفَقِيه الْمُحدث أحد رُؤَسَاء الْعلمَاء الْمجمع على نباهته وعلو شَأْنه وَكَانَ كثير الْفَائِدَة نبيه الْقدر أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ ولازمه ثَلَاث سِنِين هُوَ منطقع ببيته ولازم النُّور الزيَادي وَسَالم الشبشيري وعليا الْحلَبِي والسبكي وَغَيرهم من مشاهير الشُّيُوخ وَعنهُ مَنْصُور الوخي وَإِبْرَاهِيم الْبرمَاوِيّ وَشَعْبَان الفيومي وَغَيرهم من أكَابِر الشُّيُوخ وَكَانَ مهابلاً لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يتَكَلَّم بَين يَدَيْهِ إِلَّا وَهُوَ مطرق رَأسه وجلا مِنْهُ وخوفا وَلَا يتَرَدَّد أحد من الكبراء وَيُحب الْفُقَرَاء وَلَا يقبل من أحد صَدَقَة مُطلقًا بل كَانَ فِي غَالب أوقاته يرى متصدقاً وَلَيْسَ لَهُ وظائف وَلَا معاليم وَمَعَ ذَلِك كَانَ فِي أرغد عَيْش وَأطيب نعيم وَكَانَ متقشفاً ملازماً للطاعات وَلَا يتْرك الدَّرْس جَامعا للعلوم الشَّرْعِيَّة متضلعاً من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَأما مَعْرفَته بِالْحِسَابِ والميقات والرمل فأشهر من أَن تذكر وإمامته فِي الْعُلُوم الحرفية وتصرفه فِي الأوفاق والزابرجا وَغير ذَلِك من الْفُنُون فَذَلِك أَمر مَشْهُور وَكَانَ فِي الطِّبّ ماهراً خَبِيرا وَكَانَ حسن التَّقْرِير ويبالغ فِي تفهيم الطّلبَة ويكرر لَهُم تَصْوِير الْمسَائِل وَالنَّاس فِي درسه كَأَن على رُؤْسهمْ الطير وَألف مؤلفات كَثِيرَة عَم نَفعهَا مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للجلال الْمحلي وحاشية على شرح التَّحْرِير لشيخ الْإِسْلَام وحاشية على شرح أبي شُجَاع لِابْنِ قَاسم الْغَزِّي وحاشية على شرح الأزهرية وحاشية على شرح الشَّيْخ خَالِد على الأجرومية وحاشية على شرح ايساغوجي لشيخ الْإِسْلَام ورسالة فِي معرفَة الْقبْلَة بِغَيْر آلَة وَكتاب فِي الطِّبّ جَامع ومناسك الْحَج وَغير ذَلِك من الرسائل والتحريرات المفيدة وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ والقليوبي بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون اللَّام وَضم الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَسُكُون الْوَاو وَبعدهَا بَاء مُوَحدَة نِسْبَة إِلَى بليدَة صَغِيرَة بَينهَا وَبينا لقاهرة مِقْدَار فرسخين أَو ثَلَاث فراسخ ذَات بساتين كَثِيرَة وَالله أعلم(1/175)
الشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالعجمي الشَّافِعِي الوفائي الْمصْرِيّ الإِمَام المفنن اللوذعي كَانَ من أجلاء عُلَمَاء مصر لَهُ الْفضل الباهر والحافظة القوية والذهن الثاقب وَكَانَ صَدُوقًا حسن الْعشْرَة والمحاضرة واليه النِّهَايَة فِي معرفَة التَّارِيخ وَأَيَّام الْعَرَب ونسابهم مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ من معرفَة بَقِيَّة الْفُنُون وَكَانَ مرجعاً لأفاضل الْعَصْر فِي مُرَاجعَة الْمسَائِل المشكلة لطول بَاعه وسعة اطِّلَاعه وَكَثْرَة الْكتب الَّتِي جمعهَا وَذكره شَيخنَا الخياري فِي رحلته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَقَالَ فِي آخر تَرْجَمته وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ مستجمع للْعلم والحلم والظرف ومستكمل فِي الْفضل الِاسْم وَالْفِعْل والحرف تفنن فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية الفرعية والأصلية فَأَخذهَا عَن أَهلهَا وأوصل الْأَمَانَة إِلَى محلهَا وَقد جمع من الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي سَائِر الْعُلُوم والفنون فأوعى وحصلها بِسَائِر أقسامها فصلا وجنساً ونوعاً بِحَيْثُ أصبح بِمصْر خزانَة الْعلم الَّذِي عَلَيْهِ فِي النَّقْل يعول واليه فِي ذَلِك يشار وعمدة الْفُضَلَاء الَّذين يردون من معِين كتبه الْبحار انْتهى وَذكر لي بعض الآخذين عَنهُ أَن لَهُ من التَّأْلِيف شرح ثلاثيات البُخَارِيّ ورسالة فِي الْآثَار النَّبَوِيَّة وَجمع لنَفسِهِ مشيخة رَأَيْتهَا وَعَلَيْهَا خطه ونقلت مِنْهَا فِي كتابي هَذَا كثيرا من وفيات عُلَمَاء مصر الَّذين أَخذ عَنْهُم وَهُوَ فِي الْغَالِب يَسْتَوْفِي أَخْبَار أشياخه وذكرنه فِي مبدأ أمره اجْتمع بِالنورِ الزيَادي صُحْبَة وَالِده أَحْمد مرَّتَيْنِ وَحل نظره عَلَيْهِ ثمَّ ابْتَدَأَ الِاشْتِغَال فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف فَقَرَأَ على الشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي صَاحب السِّيرَة والبرهان اللَّقَّانِيّ والشهاب الغنيمي وقاضي الْقُضَاة الشهَاب الخفاجي وَالشَّمْس الشَّوْبَرِيّ وسلطان المزاحي وَالشَّمْس البابلي والعلا الشبراملسي وَغَيرهم وَكَانَ الشبراملسي مَعَ جلالته يحترمه ويثني عَلَيْهِ ويراجعه فِي كثير من الْمسَائِل وَأَسْمَاء الرِّجَال وَأخذ طَرِيق السَّادة الوفائية عَن أبي الإسعاد يُوسُف الوفائي الْآتِي ذكره وَألبسهُ الْخِرْقَة وَأَجَازَهُ فِي غير ذَلِك من الْعُلُوم وَكَانَ خصيصاً بِهِ وبأولاده إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ هُوَ عِنْدهم فِي غَايَة الحظوة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم شَيخنَا الخياري الْمَذْكُور وصاحبنا الْفَاضِل إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الجينيني ثمَّ الدِّمَشْقِي وَغَيرهمَا قَرَأت فِي مشيخته أَن وِلَادَته كَانَت فِي ثَالِث عشر رَجَب سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين وَرَآهُ الشهَاب البشبيشي وَهُوَ كَأَنَّهُ فِي درسه(1/176)
لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بعد ثَمَانِيَة أَيَّام من وَفَاته وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وَهُوَ فِي مجْلِس حافل فِيهِ جمع من النَّاس يَتلون الْقُرْآن عرف مِنْهُم الْمُحدث الْكَبِير الشَّمْس البابلي وَمُحَمّد بن خَليفَة الشويري رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن أَسد البقاعي الأَصْل الصَّفَدِي الصُّوفِي العابد الزَّاهِد المرشد كَانَ وَالِده من قَرْيَة حمارا من عمل الْبِقَاع خرج مِنْهَا إِلَى دمشق وَأخذ الطَّرِيق عَن الاستاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن عراق ثمَّ ارتحل إِلَى صفد وَأقَام بدير فِي سفح جبل بِالْقربِ من قَرْيَة البعنة وَكَانَ قَدِيما يعرف بدير الْخضر وَكَانَ مسكن النَّصَارَى فَأخْرجهُمْ مِنْهُ السُّلْطَان سُلَيْمَان وَأمر أسداً بِالْإِقَامَةِ بِهِ مَعَ أَوْلَاده وَأَتْبَاعه فقطن فِيهِ إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة فَنَشَأَ وَلَده أَحْمد هَذَا على الْعِبَادَة وانتقل إِلَى صفد وَأخذ بهَا زَاوِيَة وَكَانَت تعرف قَدِيما بِجَامِع الصَّدْر وَاسْتمرّ بَقِيَّة إخْوَته مقيمين بالدير وَلَهُم ورد خَاص بهم نقلوه عَن أستاذ والدهم الْمَذْكُور يقرؤنه مَعَ جَمَاعَتهمْ عقب الصَّلَوَات الْخمس وَنشر أَحْمد طريقتهم فِي صفد وَأخذ عَنهُ جماعات وَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن النَّاس لَا يُفَارق تِلَاوَة الْقُرْآن وَلَا يفتر عَن الْعِبَادَة وَكَانَ لَهُ خطّ حسن وعبارات رشيقة وفضيلة مَقْبُولَة وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم ذكره البوريني وَقَالَ فِي تَرْجَمته أَخْبرنِي ابْن أَخِيه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن أَن وِلَادَته كَانَت فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَلم يؤرخ وَفَاته وَقد كتب لي صاحبنا الأديب الْفَائِق أَحْمد بن مُحَمَّد الصَّفَدِي إِمَام الدرويشية بِالشَّام فِي جملَة مَا كتب لي من وَفَاة الصفديين أَن وَفَاة أَحْمد الْأَسدي كَانَت فِي سنة عشرَة بعد الْألف وَدفن بزاويته فِي صفد وَسَيَأْتِي ابْن أَخِيه عبد الرَّحِيم الْمَذْكُور والبقاعي بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْقَاف وَبعدهَا ألف ثمَّ عين مُهْملَة نِسْبَة إِلَى الْبِقَاع العزيزي والعزيزي نِسْبَة إِلَى الْعَزِيز عكس الذَّلِيل وَكَأَنَّهُ نِسْبَة إِلَى الْملك الْعَزِيز ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب قَالَ فِي التَّعْرِيف ومقر ولَايَته كرك نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأما الْبِقَاع البعلبكي فَهُوَ نِسْبَة إِلَى بعلبك لقُرْبه مِنْهَا قَالَ فِي التَّعْرِيف وَلَيْسَ لَهُ مقرّ ولَايَة وَهَاتَانِ الولايتان منفصلتان عَن بعلبك لحَاكم غير حاكمها
أَحْمد بن اسكندر الرُّومِي الْكَاتِب نزيل دمشق وحيد وقته فِي صناعَة الْإِنْشَاء وَكَانَت لَهُ الشُّهْرَة التَّامَّة بالذكاء وَسُرْعَة الفطانة وَكَانَ يكْتب الْعرُوض المهمه من رَأس الْقَلَم من غير تسويد وَيكون مَقْبُولًا إِلَى الْغَايَة عِنْد الْعَارِف بِهَذَا(1/177)
الْفَنّ مَعَ حسن الْخط الْفَائِق حلاوة وطلاوة وَسبب تفوقه فِي هَذِه الصِّنَاعَة أَنه أتقن الألسن الثَّلَاثَة الْعَرَبِيّ والفارسي والتركي اتقاناً كَامِلا والمقبول من إنْشَاء التركية مَا كَانَ مرصعاً من الألسن الثَّلَاثَة ورد دمشق فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة مَعَ قَاضِي الْقُضَاة مصطفى بن بُسْتَان وَكَانَ أحد جماعته الَّذين ينوبون عَنهُ فِي الْقَضَاء ونال مِنْهُ حظاً عَظِيما بِحَيْثُ أَنه يمْضِي غَالب الْأُمُور بإشاراته وَكَانَ يكْتب لَهُ الْعرُوض ثمَّ قطن دمشق وَبَقِي بعد عَزله استاذه وابتنى بَيْتا كَانَ تربة فِي مُقَابلَة دَار الحَدِيث الأشرفية بِالْقربِ من قلعة دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الجوهرية ودأب فِي تَحْصِيل الْعُلُوم والمعارف فَقَرَأَ على الْعَلامَة مُحَمَّد بن عبد الْملك الْبَغْدَادِيّ الْحَنَفِيّ علم الْكَلَام والهيئة وَغَيرهمَا وَقَرَأَ على الْحسن البوريني من الشَّرْح الْمُخْتَصر على التَّلْخِيص ومقامات الحريري وَمهر فِي جَمِيع الْفُنُون حَتَّى صَار من أَعْلَام وقته ومفردات عصره فِي التنقيب عَن كَلِمَات الْقَوْم الدقيقة وَكَانَ يُنكر على ابْن عَرَبِيّ وَابْن الفارض وأضرابهما ويحط عَلَيْهِمَا وانفلج فِي آخر عمره فَكَانَ يُقَال إِن ذَلِك بِسَبَب إِنْكَاره وَكَانَت وَفَاته بعد الْألف بِقَلِيل هَكَذَا ذكره النَّجْم فِي لطف السمر وَلم يزدْ على ذَلِك وَالله أعلم
أَحْمد بن أكمل الدّين الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ رَئِيس المؤذنين بِجَامِع بني أُميَّة الْمَعْرُوف بالشراباتي كَانَ أعجوبة وقته ونادرة عصره جمع إِلَى الصّلاح حسن المعاشرة وَلَذَّة المخاطبة وَكَانَ حسن الصَّوْت عَارِفًا بالموسيقى وَله سخاء وإيثار وَكَانَ فِي مبدأ أمره مُؤذنًا بالجامع الْمَذْكُور وَلما توفّي الشَّيْخ مُحَمَّد المحملجي أحد رُؤَسَاء المؤذنين الثَّلَاثَة بِهِ وَجه إِلَيْهِ مَكَانَهُ وسافر إِلَى آمد مَعَ إِبْرَاهِيم باشا الدفتري بِالشَّام وَحج مَعَه لما صَار أَمِير الركب الشَّامي فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين والف وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي عصر نَهَار الْجُمُعَة آخر يَوْم من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن من غده فِي مَقْبرَة بَاب الصَّغِير قَالَ وَالِدي رَحمَه الله وَاتفقَ يَوْم وَفَاته أَن كَانَ يَوْم نوبَته فِي الترقية بَين يَدي الْخَطِيب فَنًّا وَله ساقي الْحمام فِي نوبَته رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن تَاج الدّين الدِّمَشْقِي الأَصْل الْمدنِي موقت الْحرم النَّبَوِيّ وَكَاتب الْإِنْشَاء للشريف سعد بن الشريف زيد الأعلم كَانَ وَاحِد عصره فِي معرفَة الْعُلُوم الغربية كالرياضي والنجوم والسمييا وماشا كلهَا وَله فِي وضع الْآلَات الفلكية الْيَد الطولي وَكَانَ كثير الْأَدَب جيد المحاضرة حسن التَّحْرِير لطيف النادرة أَخذ(1/178)
الْفُنُون عَن الْأُسْتَاذ الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي نزيل مَكَّة المشرفة وَعَن غَيره وتفوق واشتهر وحبب إِلَى الخواطر وَكَانَ حسن الْإِنْشَاء وأظن أَن لَهُ نظما لكني لم أَقف لَهُ على شَيْء من منظومه وَمن لطائفه الأدبية مَا وجدته مَنْقُولًا بِخَطِّهِ فِي آخر صحيفَة ترْجم فِيهَا السَّيِّد جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله الْمدنِي الملقب بكبريت عِنْد ذكر اسْمه نَفسه فَكتب مَا صورته قَالَه عجلا وحرره خجلا من لم يكن وَكَانَ وسوف يَخْلُو مِنْهُ الْمَكَان المنوه باسمه فِي قَول الْقَائِل
(وراكعة فِي ظلّ غُصْن منوطة ... بلؤلؤة لاحت بمنقار طَائِر)
فرع من لوح باسمه الشَّاعِر بقوله
(جَاءَت بقلب مُضَاف دَائِما أبدا ... للدّين فارتفعت بِاللَّه توقيرا)
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة فِي سنة إجدى وَثَمَانِينَ وَألف
أَحْمد بن توفيق الكيلاني الأَصْل القسطنطيني المولد قَاضِي الْقُضَاة الْمَعْرُوف بتوفيقي زَاده أحد فضلاء الرّوم الْمَشْهُورين ونبلائها الْمَذْكُورين وَكَانَ إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي التَّحْقِيق والذكاء والبراعة وفضله ونبله أشهر من أَن يُنَبه عَلَيْهِ ووالده المنلا توفيق قد أفردت لَهُ تَرْجَمَة ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي حرف التَّاء نَشأ أَحْمد هَذَا وَقَرَأَ أَنْوَاع الْفُنُون وبرع ولازم من شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد بن سعد الدّين ودرس وَلَا زَالَ ينْتَقل من مدرسة إِلَى مدرسة حَتَّى وصل إِلَى دَار الحَدِيث السليمانية وَأعْطى مِنْهَا قَضَاء سلانيك وَبعد مُدَّة ولي قَضَاء الشَّام فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَأقَام بهَا سَبْعَة أشهر وعزل وَكَانَ معتدل الْحُكُومَة غير أَن فِيهِ حِدة وشراسة أَخْلَاق ثمَّ ولي قَضَاء مصر ثمَّ أدرنة وَتُوفِّي بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أحدى وَخمسين وَألف
أَحْمد بن حسام الدّين السيروزي الشهير بملاجق من أفاضل قُضَاة الرّوم ذكره ابْن نَوْعي وَقَالَ فِي تَرْجَمته لَازم من وَاحِد الدُّنْيَا الْمولى عبد الرَّحِيم الْمَعْرُوف بِابْن أخي واشتهر بِالْفَضْلِ الباهر ثمَّ سلك طَرِيق الْقَضَاء فولي قَضَاء الْبِلَاد الْكِبَار من أَرض الرّوم مثل تيمور وحصار وزغرة العتيقة وهزار غراد وسيروز وَفِي تَوليته هزار غراد خلف عطائي بن نَوْعي صَاحب الذيل الْمَذْكُور فِي شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وأضيف إِلَيْهِ مدرسة إِبْرَاهِيم باشا بهَا مَعَ خدمَة الْإِفْتَاء ثمَّ عزل فِي ختام السّنة وَأقَام بهَا لشدَّة الشتَاء فَمَرض وَمَات وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بحظيرة إِبْرَاهِيم باشا وَله تأليف ورسائل مِنْهَا رِسَالَة(1/179)
على مَوَاطِن من التَّفْسِير وَالْهِدَايَة والتلويح وَله كتاب على المغلفات من فتاوي قَاضِي خَان وَشرع فِي كتاب القَوْل لمن فَلم تساعد الْأَيَّام على إِتْمَامه وَحكى عطائي الْمَذْكُور قَالَ أَخْبرنِي المترجم قَالَ لما تَوَجَّهت إِلَى هزار غراد مَرَرْت على أدرنه فابتليت بالحمى المحرقة فَلَمَّا اشْتَدَّ ضعْفي وغيبت حواسي رَأَيْت كَأَن الْملك الْمُوكل بِقَبض الْأَرْوَاح قد جَاءَ إِلَى عَليّ أحسن هَيْئَة فَانْطَلق لساني بِقَوْلِي لَهُ أَهلا وسهلا افْعَل مَا أمرت بِهِ فتردد هنيهة كَأَنَّهُ منتظر أمرا ثمَّ قَالَ لي أَن فِي عمرك بَقِيَّة وَهِي سِتَّة عشر شهرا ثمَّ ولي من حَيْثُ جَاءَ وَأخذت الْعَافِيَة تدب فِي آنافا نَا حَتَّى ذهب الْمَرَض عني قَالَ عطائي فَقلت لَهُ على طَرِيق التسلية لَعَلَّ مَا قَالَه سِتَّة عشر سنة وَأَنت فِي دهشتك سمعته يَقُول شهرا فَقَالَ هَيْهَات قد كَانَ مَا كَانَ فَلم يتَجَاوَز سِتَّة عشر شهرا حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى برحمته والسيروزي بِكَسْر السِّين ثمَّ يَاء مثناة من تَحت فراء مَضْمُونَة بعْدهَا وَاو ثمَّ زَاي نِسْبَة إِلَى بَلْدَة عَظِيمَة بِولَايَة روم إيلي بِالْقربِ من ينكى شهروا الْعَامَّة تَقول سرز بِفَتْح السِّين وَالرَّاء وَالصَّوَاب سيروز وَالله أعلم
الإِمَام أَحْمد بن الْحسن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الرشيد بن أَحْمد بن الإِمَام الْحُسَيْن بن عَليّ بن عَليّ بن يحيى بن يُوسُف الملقب بالأشل ابْن الْقَاسِم بن الإِمَام يُوسُف الدَّاعِي ابْن الإِمَام مَنْصُور يحيى ابْن الإِمَام النَّاصِر احْمَد بن الإِمَام الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا ابْن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه إِمَام الْيمن الْعلم الشهير وَالْملك الْكَبِير كَانَ هُوَ ووالده وَأَخُوهُ مُحَمَّد أَعْيَان عصرهم وأئمة مصرهم
(إِذا ركبُوا زانوا المواكب هَيْبَة ... وَإِن جَلَسُوا كَانُوا صُدُور الْمجَالِس)
وَصَاحب التَّرْجَمَة من بَينهم متقلب فِي النعم مختال بَين الخول والخدم مَعْقُود عَلَيْهِ بالخناصر وَكَانَ يُقَال أَنه سيف آل الْمُقدم الإكابر ذُو جود ونوال وَإجَابَة للسؤال ومحاسن ومفاخر وَمَكَارِم ومآثر وَفعل خَيره وصوف وميل إِلَى جِهَات البرمعروف ولي الْإِمَامَة بعد عَمه الإِمَام إسمااعيل المتَوَكل الْآتِي ذكره ولقب نَفسه بالمهدي لدين الله فَقَامَ بأمرها أحسن قيام وانتظم بِهِ الْأَمر أحسن إنتظام وَكَانَ مهابا وَفِي أثْنَاء دَعوته دَعَا ابْن عَمه السَّيِّد الْقَاسِم بن الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد وخطب لَهُ على مَنَابِر الشرفين والأهنوم وشهارة وظليمة وَحجَّة وَأكْثر التهائم وَبعد أُمُور كَثِيرَة يطول شرحها حصل الإتفاق على إِمَامَة صَاحب التَّرْجَمَة وَاجْتمعت كلمة الْيمن إِلَيْهِ وَمن حِينَئِذٍ نفذت(1/180)
كَلمته وعمت سطوته وهيبته وأطاعته الْأَئِمَّة القاسميون وصاروا إِلَيْهِ من كل حدب يَنْسلونَ ووفدت إِلَيْهِ قبائل الْعَرَب الْأَعْيَان كحاشد ومكيل وقحطان وَقَامَ بأعباء الْإِمَامَة وسلك طَرِيق الْعدْل وتعهد أَحْوَال الْفُضَلَاء وَعم ظلّ فَضله الْأَنَام وَسَار سيرة الْأَئِمَّة الهادين من تفقد الضُّعَفَاء وَأمنت السبل ووفدت الْأَسْفَار وَكَانَ مَعَ اشْتِغَاله بِأُمُور الرعايا منهمكاً على مطالعة كتب الْعلم وَالْأَدب وَله ميل إِلَى الْفُنُون العلمية ومحاضرة بديعة وَله أشعار حسان ووفدت عَلَيْهِ النَّاس وأثنوا عَلَيْهِ وَألف الأدباء فِي سيره وأحواله مؤلفات وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أَفْرَاد الزَّمَان وأجلاء إِلَّا وَإِن كَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم الثَّانِي عشر من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف بالغراس وَبهَا دفن رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن حسن بن الشَّيْخ سِنَان الدّين البياضي الرُّومِي الْحَنَفِيّ قَاضِي الْعَسْكَر وَاحِد صُدُور الدولة العثمانية من أجلاء عُلَمَاء الرّوم وأجمعهم لفنون الْعلم وَكَانَ صَدرا عَالما وقوراً جسيماً عَلَيْهِ رونق الْعلم ومهابة الْفضل واشتهر بالفقه وَفصل الْأَحْكَام وشاعت فضائله وذاعت وَقد أَخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام يحيى بن عمر المنقاري وَحج مَعَ وَالِده وَحضر دروس الشَّمْس البابلي بِمَكَّة لما كَانَ أَبوهُ قَاضِيا بهَا وَأَجَازَهُ فِي عُمُوم طلبته ونبل ودرس بالروم وَأفَاد وَولي قَضَاء حلب فِي سنة سبع وَسبعين وَألف واعتنى بِهِ أَهلهَا بالغوافي توقيره وتعظيمه وَجرى لَهُ مَعَ مفتيها الْعَلامَة مُحَمَّد بن حسن الكواكبي الْآتِي ذكره مباحثات ومناقشات كَثِيرَة دونت واشتهرت عَنْهُمَا ثمَّ عزل وَولي قَضَاء بورسة ثمَّ قَضَاء مَكَّة فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَسَار فِيهَا أحسن سيرة وَعقد بِمَجْلِس الحكم درساً وَقَرَأَ شَرحه على الْفِقْه الْأَكْبَر وَهُوَ شرح استوعب فِيهِ أبحاثاً كَثِيرَة وَأحسن فِيهِ كل الْإِحْسَان وَسَماهُ إشارات المرام من عِبَارَات الإِمَام وَقد رَأَيْته بالروم واستفدت مِنْهُ ثمَّ عزل عَن قَضَاء مَكَّة وَقدم دمشق وَاجْتمعت بِهِ فِيهَا فرأيته جبلا من جبال الْعلم راسخ الْقدر ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف وَكنت إِذْ ذَاك بهَا ثمَّ ولي قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلي وَكَانَ يَوْم ولَايَته كثير الثَّلج فأنشدت بعض حفدته قولي
(وَالْأَرْض سرت بِهِ لهَذَا ... قد لبست حلَّة البياضي)
وَوَقع فِي أَيَّام قَضَائِهِ أَنه ثَبت على امْرَأَة أَنَّهَا زنى بهَا يَهُودِيّ وَشهد أَرْبَعَة بِالزِّنَا على الْوَجْه الَّذِي يَقْتَضِي الرَّجْم فَحكم برجم الْمَرْأَة فحفر لَهَا حفيرة فِي آتٍ ميداني ورجمت(1/181)
وَهَذَا الْأَمر لم يَقع إِلَّا فِي صدر الْإِسْلَام ثمَّ عزل وَأقَام بداره مُدَّة إِلَى أَن توفّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي إِحْدَى الجماديين سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف
الشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس أَبُو عبد الله شهَاب الدّين أحد الْعلمَاء الأجلاء والأولياء الأتقياء ذكره الشلي وَقَالَ ولد بِمَدِينَة تريم فِي سنة سبعين وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ بهَا وَصَحب أَبَاهُ وَمن فِي طبقته وَأخذ عَن عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان وَألبسهُ خرقَة التصوف جمَاعَة من العارفين وتفقه وَكَانَ كثير الْقيام وَالصَّدَََقَة وَالصَّوْم وَكَانَ إِذا سجد يُطِيل السُّجُود كثير التفكر وَكَانَ غير ملتفت إِلَى الدُّنْيَا وأربابها زاهداً فِيهَا وَفِي مناصبها متباعداً عَن السُّلْطَان منقبضاً عَن الْكِبَار كثير التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ كثير الِاسْتِمَاع للمواعظ والأشعار الْحَسَنَة وَرُبمَا حصل لَهُ عِنْد ذَلِك حَال ورزق السَّعَادَة فِي نَسْله فَحلف ثَلَاثَة أَوْلَاد سَارَتْ سيرتهم فِي سَائِر الأَرْض ونفع الله تَعَالَى بهم خلقه فالشيخ عبد الله فِي الديار الحضرمية وَالشَّيْخ حُسَيْن فِي الديار اليمنية وَالسَّيِّد أَبُو بكر فِي الديار الْهِنْدِيَّة وكل وَاحِد مِنْهُم مَذْكُور فِي كتابي هَذَا فِي مَحَله وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة لَيْلَة الْجُمُعَة لليلتين خلتا من شَوَّال سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل وَلما حفروا قَبره وجدوا فِيهِ شربة لم يعرفوا من أَي شَيْء عملت وَلَا لأي شَيْء صنعت فَأَخَذُوهَا وَهِي مَوْجُودَة يستشفي بهَا النَّاس من الْأَمْرَاض
الشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم يعرف كسلفه ببافقيه قَاضِي تريم القَاضِي شهَاب الدّين الْحَضْرَمِيّ الإِمَام الْمُفْتِي الْعَالم الْأَجَل ذكره الشلي وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد وَبَعض الْمِنْهَاج وَغَيرهمَا وَعرض على مشايخه محفوظاته وأكب على تحصيلا لعلوم من صغره وتفقه على الشَّيْخ مُحَمَّد بن اسماعيل ولازمه فِي الْقِرَاءَة والتحصيل وَأكْثر التَّرَدُّد وَالْأَخْذ عَن السَّيِّد عبد الرَّحْمَن ثمَّ رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بهما عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَالشَّيْخ أَحْمد ابْن عَلان قَالَ الشلي وَبَلغنِي أَن الشَّيْخَيْنِ الجليلين الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ والشهاب أَحْمد بن قَاسم حجا فِي ذَلِك الْعَام وَأَنه أَخذ عَنْهُمَا الْأَخْذ التَّام وَأَجَازَهُ جمَاعَة من مشايخه فِي الافتاء والتدريس وتفوق حَتَّى ضرب بِهِ الْمثل فِي تِلْكَ الدائرة وقصدته الطّلبَة من كل الْبِلَاد واشتهر صيته وَتخرج بِهِ جمَاعَة من فضلاء الْعَصْر كثير وَكَانَ(1/182)
لَهُ فِي التَّحْقِيق حَظّ وافر وَكَانَ فِي الفتاوي من أحسن أهل زَمَانه فَإِذا سُئِلَ عَن مسئلة فَكَأَنَّمَا الْجَواب على طرف لِسَانه ويورد المسئلة بِعَينهَا ولفظها لقُوَّة حافظته وَيُقَال أَنه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي أحفظ أهل جِهَته وَله فتاوي منتشرة مفيدة ثمَّ عين لقَضَاء تريم وألزم بعد امْتنَاع فحمدت طَرِيقَته ونفع الله تَعَالَى بفراسته ونفوذ أَحْكَامه أهل تِلْكَ الديار مَعَ خفض الْجنَاح ولين الْجَانِب والحلم وَالصَّبْر والتودد ثمَّ عزل عَن الْقَضَاء بِسَبَب وَاقعَة بَين زين العابدين بن عبد الله العيدروس وأخيه شيخ سنذكرها فِي تَرْجَمَة زين العابدين وَكَانَ زين العابدين يَوْمئِذٍ صَاحب الْحل وَالْعقد فسعى فِي عَزله وتوليه تِلْمِيذه السَّيِّد حُسَيْن بافقيه فَأَعْطَاهَا أَكثر من حَقّهَا وَلم تطل مدَّته فِي الْقَضَاء بل عزل بعد إطفاء تِلْكَ الْفِتْنَة وأعيد صَاحب التَّرْجَمَة فَلم يسلم مِمَّن يعاديه بل كَاد أَن يُفَارق بَلَده وَوَقع لَهُ فِي الْأَحْكَام وَاقعَة فِي دُخُول رَمَضَان وشوال وَهِي أَن جمَاعَة شهدُوا بِرُؤْيَة الْهلَال لَيْلَة الثَّلَاثِينَ بعد الْغُرُوب وَشهد آخَرُونَ بِأَنَّهُم رَأَوْهُ بالشرق يَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين قبل طُلُوع شمسه فَحكم بِشَهَادَة الْأَوَّلين موافقه جمَاعَة من الْعلمَاء وَأفْتى تِلْمِيذه السَّيِّد أَحْمد بن عمر بِخِلَاف مَا حكم بِهِ وَإِن شَهَادَة من شهد بِرُؤْيَتِهِ بعد الْغُرُوب غير صَحِيحَة إِذْ هِيَ مستحيلة شرعا وعقلاً وَعَادَة وَلكُل مِنْهُمَا فِي المسئلة كِتَابَة قَالَ الشلي وَلم أَقف على كِتَابَة القَاضِي أَحْمد هَذَا وَأما شَيخنَا فستأتي فِي تَرْجَمته وَأَرْسلُوا يستفتون أهل الْحَرَمَيْنِ فَاخْتلف جوابهم وَلَكِن أَكْثَرهم أفتى بِمَا حكم بِهِ صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ وَذكرت فِي رِسَالَة معرفَة اتقان الْمطَالع واختلافها مَا يُؤَيّدهُ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة من سراة رجال الْعَالم واشتغل فِي آخر عمره بالتصوف لَا سِيمَا كتاب الْأَحْيَاء ومنهاج العابدين واجتهد فِيهِ حَتَّى بلغ رُتْبَة المرشدين الكاملين وَلم يزل حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل عِنْد قُبُور سلفه
الشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد مولى عبديد الشهير كسلفه ببافقيه الإِمَام الْجَلِيل المتقي الْوَرع ذكره الشلي وَقَالَ بعد أَن وَصفه بأوصاف لائقة بِهِ ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن والجزرية والاجرومية وَالْأَرْبَعِينَ النووية والإرشاد والملحة والقطر وَطلب الْعلم فَأخذ الْعلم عَن أَبِيه وَعَمه أبي بكر وَهُوَ صَغِير وَقَرَأَ على الْفَقِيه أَحْمد بن عمر البيتي فِي بعض الْمُتُون وشروحها وعَلى الشَّيْخ أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين كتبا كَثِيرَة فِي عدَّة فنون وعَلى(1/183)
الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن علوي بافقيه وَالشَّيْخ أَحْمد بن عمر عبد وَالشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن بافقيه وَغَيرهم وبرع فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث والفرائض والحساب الْعَرَبيَّة قَالَ الشلي وَسمع بِقِرَاءَتِي على أَكثر مَشَايِخنَا وَسمعت بقرَاءَته عَلَيْهِم وصبته مُدَّة وانتفعت بِصُحْبَتِهِ وَكتب الْكثير وانتفع بِصُحْبَتِهِ جمع وَكَانَ أفْصح أقرانه قَلما وأمكنهم فِي معرفَة الْعُلُوم وَأَحْسَنهمْ فِي معرفَة دقائق الْمعَانِي ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وجاور بِمَكَّة سِنِين للتفقه فأذ بهَا عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ عبد الله ابْن سعيد باقشير وَالشَّيْخ عَليّ بن الْجمال وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطَّائِفِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ بن عَلان وَأخذ عَن السَّيِّد مُحَمَّد بن علوي وَغَيرهم وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري والصفي القشاشي ثمَّ عَاد لمَكَّة ثَانِيًا وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة الشبيكة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن بن أبي بكر العيناتي الشَّيْخ الْكَبِير الْفَائِق ذكره الشلي وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بقرية عينات وَنَشَأ بهَا فِي حجر أَبِيه وَصَحبه وَعَمه الْحسن وَكَانَ كجماعته على طَرِيق أهل الْبَادِيَة أبدانهم وشعورهم باديه وَلما توفّي أَبوهُ اتّفق أهل عصره على تَقْدِيمه فَقَامَ مقَامه وَكَانَ فِي الْكَرم غَايَة لَا تدْرك وقصده النَّاس ومدحه الْفُضَلَاء وَكَانَت ترد عَلَيْهِ النذور وَالْأَمْوَال وَهُوَ يفرقها على الْفُقَرَاء والوافدين قَالَ الشلي وَلما دخلت عينات استمديت من بحره واجتنيت من دره وَرَأَيْت من بره وَعطفه وكرم أخلاقه ولطفه مَا يزِيد على شَفَقَة الْوَالِدين واجتليت من أنوار طلعته مَا أقرّ الْعين وَكَانَ خلقه كالروض الوسيم وأنواره يقتبس مِنْهَا ف اللَّيْل البهيم وَكَانَ يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ويكظم الغيظ إِذا قدر وَغلب وَكَانَ مَقْبُول الشَّفَاعَة يُقَابل أمره بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَكَانَت وَفَاته صبح يَوْم الْجُمُعَة لثمان خلون من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة عينات عِنْد قُبُور سلفه رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن خَلِيل بن عَليّ التركماني الأَصْل الْحِمصِي الْمَعْرُوف بالأطاسي الْفَقِيه المعمر الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب مفتي حمص وعالمها كَانَ من الصُّدُور الأفاضئل وَله فِي التَّحْقِيق الباع الطَّوِيل أَخذ بحمص عَن ابْن كلف الرُّومِي وَصَحبه إِلَى الْقُدس وشاركه فِي الْقِرَاءَة عَلَيْهِ الشَّيْخ عبد النَّبِي بن جمَاعَة وَدخل إِلَى حلب ولازم الشهَاب الْأَنْطَاكِي صديق جدّه ثمَّ عَاد إِلَى حمص وَقد زَاد علمه وَولي بهَا قدر يساور النّظر على مقَام سَيِّدي خَالِد(1/184)
ابْن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ وَدخل دمشق فَتزَوج بأخت مفتيها الْعَلامَة عبد الصَّمد العكاري ثمَّ سَافر مَعَه إِلَى حلب حِين كَانَ السُّلْطَان سُلَيْمَان بهَا فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فَأعْطى بعنايته تدريس الجراعية بِدِمَشْق ثمَّ أعْطى الْإِفْتَاء بحمص وَبَقِي يتَرَدَّد إِلَى دمشق قَالَ ابْن الْحَنْبَلِيّ الْحلَبِي فِي تَارِيخه وجده عَليّ هُوَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الَّذِي أخبر عَنهُ الشَّيْخ الْفَاضِل الصُّوفِي مَحْمُود صهر سَيِّدي الشَّيْخ علوان الْحَمَوِيّ أَنه ظَهرت لَهُ كَرَامَة الْأَوْلِيَاء بعد مَوته لِأَنَّهُ لما وضع بَين يَدي الْغَاسِل انسحبت الْخِرْقَة الساترة للعورة شَيْئا يَسِيرا فَمد يَده وسترها بِحَيْثُ انستر مِنْهُ مَا كَانَ انْكَشَفَ انْتهى وَبِالْجُمْلَةِ فبيتهم بَيت ظَاهر الْبركَة وَخرج مِنْهُم فضلاء ونبلاء عدَّة وَكنت أسمع من وَالِدي أَن لنا مَعَهم قرَابَة وَالله تَعَالَى أعلم وَكَانَت وَفَاة أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع بعد الْألف عَن نَحْو تسعين سنة والأطاسي بِضَم الْهمزَة وَبعدهَا طاء مُهْملَة ثمَّ سين مُهْملَة وَلَا أَدْرِي هَذِه النِّسْبَة لماذا وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن خَلِيل بن إِبْرَاهِيم بن نَاصِر الدّين الملقب شهَاب الدّين الْمصْرِيّ الشَّافِعِي السُّبْكِيّ نزيل الْمدرسَة الباسطية بِمصْر وقف المرحوم القَاضِي عبد الباسط وخطيبها وإمامها ذكره الشَّيْخ مَدين القوصوني فِيمَن ترْجم من عُلَمَاء عصره وَقَالَ فِي حَقه الْفَاضِل الْعَلامَة الْفَقِيه الْمُفِيد أَخذ عَن الشَّيْخ الْفَاضِل مُحَمَّد شمس الدّين الصفوي الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي نزيلها بِجَامِع الْحَاكِم وَهُوَ الَّذِي أنشأه من صغره وزوجه ببنته وَاسْتمرّ تَابعا لَهُ آخِذا عَنهُ إِلَى حِين وَفَاته وَأخذ عَن الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وَكَانَ ملازماً للمدرسة الْمَذْكُورَة نَهَارا وبمنزله بهَا لَيْلًا وَحج الْمرة بعد الْمرة برا وَمرَّة بحراً وجاور وَله من المؤلفات حَاشِيَة على الشفا للْقَاضِي عِيَاض وَشرح على منظومة الْجلَال السُّيُوطِيّ الَّتِي تتَعَلَّق بالبرزخ سَمَّاهُ فتح المقيت فِي شرح التثبيت عِنْد التبييت وَهُوَ قولات وَشرح آخر عَلَيْهَا سَمَّاهُ فتح الغفور وَهُوَ مزج وَله أَيْضا شرح على منظومة ابْن الْعِمَاد الَّتِي فِي النَّجَاسَات سَمَّاهُ فتح الْمُبين بشرح منظومة ابْن عماد الدّين وَله رِسَالَة سَمَّاهَا هَدِيَّة الإخوان فِي مسَائِل السَّلَام والاستئذان وَله مَنَاسِك حج كَبِيرَة وَأُخْرَى صَغِيرَة وَله الْفَتَاوَى الَّتِي جمعهَا من خطّ شَيْخه شيخ الْإِسْلَام الشَّمْس الرَّمْلِيّ فِي جلد ضخم انْتهى مَا قَالَه الشَّيْخ مَدين وَرَأَيْت فِي تعاليق أخينا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله تَرْجَمته وَذكر أَنه أَخذ عَن النَّجْم الغيطي وَمن فِي طبقته من عُلَمَاء(1/185)
وقته وَعنهُ الشَّيْخ سُلْطَان المزاحي وَالشَّمْس مُحَمَّد البابلي وَغَيرهمَا وَكَانَ لَهُ مهارة فِي عُلُوم الحَدِيث والعلوم النظرية وفقهه بتكلف وَاتفقَ للشَّيْخ سُلْطَان مَعَه أَنه حصل مَعَه يَوْمًا فِي صَلَاة الْجُمُعَة فِي مَسْجِد كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة إِمَامًا فِيهِ وَكَانَ من عَادَته أَن يُقيم وَلَده للخطبة وَيُصلي الْجُمُعَة هُوَ بِنَفسِهِ فَلَمَّا فرغ وَلَده من الْخطْبَة تقدم للصَّلَاة على عَادَته فَأمْسك بِيَدِهِ الشَّيْخ سُلْطَان وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي تفيدوا أَن من شَرط إِمَام الْجُمُعَة أَن يكون خَطِيبًا أَو سمع الْخطْبَة وَكَانَ المترجم عرض لَهُ ثقل فِي سَمعه فَقدم وَلَده حِينَئِذٍ للصَّلَاة بدله انْتهى وَكَانَت وَفَاته فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف عَن ثَلَاث وَتِسْعين سنة وَدفن بفسقية أحدثها بجوار الإيوان الصَّغِير الغربي من الْمدرسَة الْمَذْكُورَة ذكر ذَلِك مَدين القوصوني
أَحْمد بن خَلِيل الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بالسلموني الأديب الشَّاعِر ذكره بعض فضلاء مصر فِي جمعيته وَقَالَ فِي وَصفه جَامع أشتات الْمَعَالِي وحسنة الْأَيَّام والليالي عَلامَة الزَّمَان ووحيد الأقران والمشار إِلَيْهِ بالبنان فِي الْبَيَان زين الأكابر والأماثل وَرَأس الْأَعْيَان والأفاضل ومقصد الملتمس والسائل ومحط رَحل أمل الآمل حسن الْأَخْلَاق حَلِيم النَّفس يلتذ بِالْعَفو عَن الزلة كَمَا يلتذ الأحمق بالعقاب عَلَيْهَا مشكور السِّيرَة صافي السريرة لَهُ مهارة جَيِّدَة فِي فنون مُتعَدِّدَة وأشعاره أنيقة حَسَنَة السبك رقيقَة مِنْهَا قَوْله من قصيدة يمدح بهَا بعض الْقُضَاة ومطلعها
(مَاذَا الَّذِي وسق الأحشاء بالنصل ... وَلم يدع موضعا فِيهَا لمنتصل)
(أذاك زرق عَوَالٍ من كماة وغى ... أم ذَاك رشق نبال من بني ثعل)
(أم هِيَ عُيُون بأوتار الجفون رمت ... سِهَام ألحاظها قيس الحواجب لي)
(أم هِيَ سيوف لحاظ فِي الحشا فعلت ... فعال سيف أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ)
(أم هِيَ خناجر طعن فِي الْحَنَاجِر من ... رنا محاجر تِلْكَ الْأَعْين النجل)
(أم هِيَ رماح قدود لَا يعادلها ... فِي القدّ سمر القنا العسالة الذبل)
(بيض الْوُجُوه لَهَا الْبيض الصفاح طلا ... سود الْعُيُون لَهَا السمر الرماح حلي)
(مَالِي وعشق ملاح من محاسنها ... تبدي أحد سلَاح مرهف صقل)
(واحيرتي الأغراء والغرام بذا ... الْجمال أجنح للوام والعذل)
(أصبو لذاك وَلَا أصغي لذين وَلَا ... أسلو حلاوة مص الرِّيق والقبل)
(لكنني فِي الْهوى أَصبَحت ذَا ولهٍ ... وَمِنْه أمسيت شبه الذاهل الوهل)(1/186)
(أشبهت مَا صلَة والغير يحسبني ... ذَا عَائِد موصلاً وَالْحَال لم أصل)
(أَنى الْوُصُول إِلَى نيل العوائد والصلات ... من فاتر الأجفان والمقل)
(من لي بذلك والألحاظ تسلبني ... سلب المدامة لب الشَّارِب الثمل)
(مَا بالنا معشر العشاق تأخذنا ... فِي السّلم تِلْكَ الرنا أخذا على عجل)
(وَنحن فِي الْحَرْب أقوى مَا نَكُون إِذا ... تقارعت فِي الظبا الْأَبْطَال والأسل)
(وَبعد ذَاك القوى والعزم تنظرنا ... نهباً لألحاظ تِلْكَ النعس الْكحل)
(ظباء السيوف وأطراف الأسنة لَا نخشى ... ونخشى سَواد الطّرف والكحل)
(الله أكبر كم من ناعس غنجٍ ... أردى وجندل كم من فَارس بَطل)
وَهِي طَوِيلَة وَله أشعار كَثِيرَة والعنوان يدل على الطرس وَكَانَت وَفَاته بِمصْر خَامِس شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير أَحْمد بن رضوَان بن مصطفى الْأَمِير الْكَبِير نَائِب غَزَّة وأمير الْحَاج كَانَ أَبوهُ الْأَمِير رضوَان من كبار الْأُمَرَاء فِي زمن السُّلْطَان سليم بن مُرَاد وَأما جده مصطفى فَإِنَّهُ كَانَ فِي رُتْبَة الوزراء فِي عهد السُّلْطَان سُلَيْمَان وَأرْسل إِلَى فتح بِلَاد الْيمن وَكَانَ يعرف فِي بِلَاد الشَّام بِأبي شاهين قيل لِكَثْرَة حمله الشاهين الطَّائِر الْمَعْرُوف على يَده عِنْد الصَّيْد وَنَشَأ ولد الْأَمِير أَحْمد هَذَا فِي دولة باهرة وَكَانَ شجاعاً بطلاً وعقله فِي غَايَة الرزانة وَله مطالعة فِي كتب التَّارِيخ وَبَعض الْفُنُون وقصده الشُّعَرَاء ومدحوه وخلدوا مدحه فِي مجاميعهم فَمنهمْ أَبُو الْمَعَالِي الطالوي فَإِنَّهُ مدحه بقصيده ميمية عَجِيبَة فِي بَابهَا عِنْد عوده من الْقَاهِرَة ومروره بغزة ومطلعها قَوْله
(وَلما أرتنا العيس غَزَّة هَاشم ... عيَانًا أنخناها بِتِلْكَ المعالم)
(رواجع من مصر نوازع للحمى ... حمى الشَّام تهدى بالبروق البواسم)
وَقد ذكر فِيهَا مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الطَّرِيق من المراحل فلأجل هَذِه الْفَائِدَة ذكرت مِنْهَا مَحل ذَلِك بِتَمَامِهِ وَذَلِكَ قَوْله
(أَضَاء لَهَا الْبَرْق الشآمي مرّة ... فأثر فِي أخفافها والمناسم)
الضميران للعيس الْمُقدم ذكرهَا وَبعده قَوْله
(حننت وحنت إِذْ أَضَاء وَإِنَّمَا ... حنيني لَو تَدْرِي لبرق المباسم)
(وأعدى حصاني قطعهَا البيد فانثنى ... يجوب الفلا جوب النياق الرواسم)
(فودع ربع العادلية سائراً ... وَلم يثنه عَن سيره لوم لائم)(1/187)
(ووافى ربوع الخانقاه عَشِيَّة ... وَمر على بلبيس مر النسائم)
(وَأصْبح خطار بخطارة المنى ... وَجَاز بهَا كالبرق لَاحَ لشائم)
(وَجَاوَزَ ورد الصالحية كالقطا ... لقطية ليلى قبل ورد الحوائم)
(ترفع عَن بِئْر الدويدار قدره ... وَخَلفهَا مطروقة للسوائم)
(وأهوى لبئر العَبْد كالنجم غائراً ... لَام الحسا وَاللَّيْل وحف القوادم)
(وقابله رمل الْعَريش فعاقه ... عَن السّير إِذْ خاتنته إِحْدَى القوائم)
(وغيبه عَن حسه هول صعقة ... تخرّ لَهَا كوم المطى الروازم)
(فودّعته طرفا أغر محجلا ... كريم السجايا من عتاق كرائم)
(وَقلت لَهُ هلا حملت على وجا ... فَتى سيره للشام ضَرْبَة لَازم)
(فَقَالَ مقَالا كنت أَجْهَل قدره ... وَعَيناهُ فاضت بالدموع السواجم)
(أتشكو الجوى إِذْ جِئْت غَزَّة هَاشم ... وفيهَا أَمِير أريحي المكارم)
(سمى نَبِي الله أَحْمد من غَدا ... حَدِيث نداه نَاسِخا ذكر حَاتِم)
(كثير رماد الْقدر دَان نواله ... طَوِيل نجاد السَّيْف ماضي العزائم)
(سليل الْمُلُوك الصَّيْد من خضعت لَهُ ... قبائل من تيم وَقيس ودارم)
(وَذُو النّسَب الوضاح والجوهر الَّذِي ... أَقَامَ فرنداً فِي متون الصوارم)
(أَمِير تردى الْمجد درعاً وشاحه ... طوال العوالي فِي طوال المهاذم)
(وَقد ألف الْبيض الصوارم والقنا ... وَقتل العدا من قبل عقد التمائم)
(أَخُو الْحَرْب يغشى اللَّيْث وَاللَّيْث مشبل ... وتخشاه فِي الهيجاء أَسد الضراغم)
(ترى بَابه للوافدين محطة ... فَمن راحل مثن وَآخر قادم)
(وَردت حماه مستفيضاً نواله ... فرحلني عَنهُ بأسنى الْغَنَائِم)
(فَلَا زَالَت الأقدار تخْدم سعده ... بغزة فِي عز مدى الدَّهْر دَائِم)
وَكَانَ يحب مذاكرة الْعُلُوم وَيسْأل الْعلمَاء عَن الْأَحْكَام ويعظمهم ويكرمهم ويصل عُلَمَاء بَلَده وَغَيرهم وانتشأ فِي أَيَّام حكومته بغزة عُلَمَاء وفضلاء سَيَأْتِي ذكرهم ورزق من السَّعَادَة حظاً عَظِيما وَاسْتولى على مملكة غَزَّة مَا يقرب من ثَلَاثِينَ سنة من غير عزل يَقْتَضِي رحيله عَنْهَا وسكنها وَتَوَلَّى إِمَارَة الْحَاج الشَّامي سِنِين عديدة بعد الْأَمِير قانصوه أَمِير عجلون وَمَا والاها من بِلَاد الكرك وَكَانَ يحضر إِلَى دمشق فِي بعض الأعوام وَعمر بهَا بِالْقربِ من بَاب الْبَرِيد بَيْتا مُحكم الْبناء حسن الْوَضع(1/188)
وَأنْفق عَلَيْهِ مَالا كثيرا وَكَانَ لَهُ أَوْلَاد وَكلهمْ من بنت المرحوم درويش باشا صَاحب الْجَامِع الْمَعْرُوف بالدرويشية خَارج دمشق وخالهم لأمهم حسن باشا الْوَزير ابْن الْوَزير وتفرغ فِي آخر عمره لبَعض أَوْلَاده عَن إِمَارَة غَزَّة وَأرْسل إِلَى طرف السلطنة قَاصِدا بتحف وهدايا كَثِيرَة وَطلب أَن يصير أَمِير الْأُمَرَاء بِبَعْض المدن الْكَبِيرَة على طَرِيق التقاعد الْمَعْرُوف الْآن فِي الِاصْطِلَاح فَأُجِيب إِلَى مَا طلبه وَكَانَ ذَلِك فِي سنة تسع بعد الْألف وَأقَام إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن روح الله بن سَيِّدي نَاصِر الدّين بن غياث الدّين بن سراج الدّين الْأنْصَارِيّ الجابري الرُّومِي قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام ومصر وأدرنة وقسطنطينية وَولي قَضَاء العسكرين اشْتغل ودأب وَأخذ الْعُلُوم عَن جمَاعَة كَثِيرَة من أَجلهم الْمولى مُحَمَّد شاه وَكَانَ معيداً لَهُ ولازم مِنْهُ وبرع وتفوق وَكَانَ عَلامَة فِي المعقولات متبحراً فِي فنونها وَألف مؤلفات تدل على فَضله مِنْهَا تَفْسِير سُورَة يُوسُف وحاشية على تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام للبيضاوي وحاشية على حَاشِيَة ملا مَسْعُود فِي آدَاب الْبَحْث وحواشي على غَالب شرح الْمِفْتَاح للسَّيِّد الشريف وَله رسائل مُتعَدِّدَة فِي فنون كَثِيرَة وَقد ذكره الْحسن البوريني فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد فِي بِلَاد كنجة بردعه من بِلَاد الْعَجم وَبهَا نَشأ ثمَّ خرج مِنْهَا وَكَانَ وحيداً فريداً قَالَ وَأَخْبرنِي أَنه ورد من بِلَاده مَاشِيا وَأَنه دخل الْبَلدة الْمُسَمَّاة بالقصير فَأخذ بهَا الْعَهْد على الشَّيْخ أَحْمد القصيري الْمَشْهُور وسافر بعد ذَلِك إِلَى بَاب السلطنة العثمانية وخدم رجلا من أَرْكَان الدولة يُقَال لَهُ فريدون وأقرأ أَوْلَاده ولازمه حَتَّى انتظم فِي سلك الموَالِي قَالَ غَيره ودرس بعدة مدارس مِنْهَا مدرسة بناها المرحوم مُحَمَّد باشا باسمه وَهِي مَعْرُوفَة بَين قسطنطينية وأدرنة وَهُوَ أول من درس بهَا وَمِنْهَا مدرسة أياصوفيا ومدرسة وَالِدَة السُّلْطَان مُرَاد بِمَدِينَة اسكدار وَألقى بهَا درساً عَاما حَضَره غَالب فضلاء الرّوم وعلماؤها وخلع عَلَيْهِ يَوْم الدَّرْس ثَلَاث خلع بعد أَن أرْسلت إِلَيْهِ الوالدة ألف دِينَار لأجل ضِيَافَة من يحضر الدَّرْس وَمَا وَقع ذَلِك لأحد غَيره وَتكلم فِي تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام على قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك} الْآيَة وَكَانَ درساً حافلاً لم يعْهَد فِي الرّوم مثله لِأَن المدرسين فِي بِلَادهمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك وَإِنَّمَا يجلس الْمدرس وَحده فِي مَحل خَال من النَّاس فَلَا يدْخل إِلَيْهِ إِلَّا من يقْرَأ الدَّرْس وشركاؤه فِيهِ وَلَا يحضرهم(1/189)
أحد من غير تلامذة الْمدرس وَجرى بذلك الدَّرْس أبحاث وتناقلتها الروَاة وَألف هُوَ فِيهِ رِسَالَة وعرضها على كثير من الْعلمَاء فقرظوا لَهُ عَلَيْهَا وَكَانَ من جملَة الْقَوْم جدي القَاضِي محب الدّين فَكتب مَا من جملَته قَوْله
(ومتع العَبْد طرفه بِتِلْكَ الطّرف ... بِظِل هاتيك الْهَدَايَا والتحف)
(وَدخل من جنان سطورها غرفا ... مَبْنِيَّة من فَوْقهَا غرف)
فَلَمَّا شَاهد آيَات فَضلهَا الَّتِي لَا تحجد وعاين معجزاتها الباهرة آمن برسالة أَحْمد وَقد أعْطى من مدرسة الوالدة قَضَاء الشَّام قَالَ البوريني وَكَانَ مَوْصُوفا بالتهاون فِيمَا يتَعَلَّق بِأُمُور الْقَضَاء حَتَّى أَنه كَانَ لَا يتأمّل الْحجَّة الَّتِي تعرض عَلَيْهِ للإمضاء بل كَانَ يمضيها تقليداً لِلْكَاتِبِ ثِقَة بِهِ وتغافلاً عَن التثبت لَا سِيمَا فِي أُمُور الشَّرْع وَصدر من ذَلِك أَن بعض أعدائه أَدخل عَلَيْهِ حجَّة فِيهَا بيع السَّمَوَات وتحديدها بكرَة الأَرْض فَعلم عَلَيْهَا واشتهر أمرهَا بَين موَالِي الرّوم وَمَا بإلى ذَلِك انْتهى ثمَّ بعد عَزله من دمشق ولي قَضَاء مصر وَوجدت فِي بعض المجاميع أَنه لما ولي قَضَاء مصر كَانَ إِ ذ ذَاك أَبُو الْمَعَالِي الطالوي بهَا فنظم هذَيْن الْبَيْتَيْنِ يهجوه بهما وهما فِي غَايَة اللطافة
(حمير شرْوَان أَتَت مصرنا ... وأصبحت بعد الشقا فِي دَعه)
(وَفَارَقت كنجة لَكِنَّهَا ... لم يخل مِنْهَا الْبَعْض من بردعه)
وَبعد ذَلِك ترقى فِي المناصب على التَّرْتِيب الَّذِي ذكرته فِي مبدأ تَرْجَمته إِلَى أَن وصل إِلَى قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلي وَتُوفِّي وَكَانَت وَفَاته بقسطنطينية فِي سنة ثَمَان بعد الْألف
الشريف أَحْمد بن زيد بن محسن بن الْحسن بن الْحسن بن أبي نمي وتقدّم تَمام النّسَب فِي تَرْجَمَة عَم جده الشريف أبي طَالب فَليرْجع إِلَيْهِ ثمَّة كَانَ من أَمر الشريف أَحْمد الْمَذْكُور أَنه كَانَ فِي دولة أَخِيه الشريف سعد مشاركاً لَهُ فِي الرّبع ثمَّ لما عزلا عَن شرافة مَكَّة توجها فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف إِلَى الطَّائِف ثمَّ إِلَى بيشة وَأَقَامَا بهَا ثمَّ توجه المترجم إِلَى ديرة بني حُسَيْن فَإِن لَهُ أَهلا بهَا وَولدا وَاسْتمرّ مُقيما إِلَى ذِي الْقعدَة من السّنة فَرَحل مِنْهَا قَاصِدا لزيارة جده
فِي الْمَدِينَة فَدَخلَهَا لَيْلَة دُخُول الْحَاج الشَّامي وواجهه فِيهَا أَمِير الْحَاج الْمَذْكُور وَالْتمس مِنْهُ بعض مرام من شرِيف مَكَّة إِذْ ذَاك الشريف بَرَكَات ثمَّ خرج من الْمَدِينَة وَنزل على شيخ حَرْب أَحْمد بن رَحْمَة وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى عود الْحَاج الشَّامي فواجهه أَمِير الْحَاج وَأخْبرهُ بِعَدَمِ تَمام ذَلِك المرام ثمَّ توجه إِلَى الْفَرْع فِي أول عَام أَربع وَثَمَانِينَ(1/190)
وَألف وَاسْتمرّ بهَا مُدَّة يسيرَة ثمَّ لما خرج الشريف بَرَكَات لمحاربة حَرْب فِي أواسط السّنة الْمَذْكُورَة عَاد إِلَى حَرْب وحصن الْحَرْب ثمَّ بعد انْقِضَائِهَا توجه إِلَى الْفَرْع ثمَّ وصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الشريف سعد واستمرا سبين الوارقية وَالْفرع وَأكْثر الْإِقَامَة بالفرع وَلما توعد الشريف بَرَكَات أهل الْفَرْع فِي أَوَائِل سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف تنحوا إِلَى جِهَة وَادي البقيع من بِلَاد حَرْب بَين السّفر وبلاد بني عَليّ وعَوْف واستمروا وَمن مَعَهم إِلَى شهر رَمَضَان ثمَّ عَن لَهُم التَّوَجُّه إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فوصلوا إِلَى حول الْمَدِينَة ونزلوا بِالْغَابَةِ مُجْتَمع السُّيُول غربي أحد أَوَاخِر رَمَضَان وعيدوا فِي ذَلِك الْمحل وَلَيْسَ فِي نزُول الْأسود فِي الغابة ملامة وَلَا معابة وقضوا حوائجهم وذهبوا خَامِس شَوَّال متوجهين إِلَى الشَّام لَا يَمرونَ بحي من أَحيَاء الْعَرَب إِلَّا أكرموهم وَمن أعجب الِاتِّفَاق نزولهم على مرج بني سجيم من غير علم مِنْهُم بذلك وَكَانَ الشريف سعد قتل أَبَاهُ فَلَمَّا علمُوا بِهِ حصل لَهُم كرب شَدِيد فَلم يشعروا إِلَّا وَولده مواجه لَهُم بالعبودية وَالسَّلَام وأهدر دم وَالِده وَأكْرمهمْ وَذبح لَهُم الذَّبَائِح ومنح المنائح وَهَذِه من غير شكّ معْجزَة من جدهم وَلم يزَالُوا على مثل ذَلِك مَعَ كل من مروا عَلَيْهِ من العربان من جمع ووحدان إِلَى أَن وصلوا إِلَى الشَّام فَتَلقاهُمْ أَهلهَا وأمراؤها وكبراؤها وعلماؤها ونقيبها ودخلوا بموكب عَظِيم والأشراف من أهل الشَّام حَولهمْ مشَاة بِأَمْر من نقيبهم ثمَّ أَقَامُوا بهَا وَاسْتَأْذَنَ لَهُم حَاكم الشَّام حِينَئِذٍ السلطنة فِي الْوُصُول فأنوا لَهُم فتوجهوا إِلَى أَن دخلُوا أدرنة فَحصل لَهُم من الدولة إكرام والتفات وَاجْتمعت بهم فِيهَا ثمَّ توجهوا بِأَمْر من السلطنة إِلَى قسطنطينية واستمروا بهَا وَتَوَلَّى الشريف سعد بعد ذَلِك معرة النُّعْمَان وَتوجه إِلَيْهَا ثمَّ عزل عَنْهَا وَعرضت على المترجم طرسوس فَلم يقبل وَأقَام بقسطنطينية مُدَّة مديدة واتحدت بخدمته اتحاداً تَاما وَتَقَرَّبت إِلَيْهِ كثيرا وَكَانَ كثيرا مَا يدنيني إِلَيْهِ وَيقبل عَليّ بكليته ومدحته بقصائد مِنْهَا هَذِه القصيدة كتبتها إِلَيْهِ فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وَهِي قولي
(يجوب الأَرْض من طلب الكمالا ... وَمن صحب القنا بلغ السؤالا)
(وَكم فِي الأَرْض من سكن وَدَار ... وَإِن كَانَ النَّوَى يضني الجبالا)
(وَمَا هجري الدمى ذلاً وَلَكِن ... رَأَيْت الذل أَن أَهْوى الجمالا)
(وَأَن الحتف فِي حب الغواني ... جزين الصب هجراً أَو وصالا)(1/191)
(أما وحياة عَيْنَيْك اللواتي ... بِغَيْر السحر تأبى الاكتحالا)
(وَمَا بسقيم جفنك من فتور ... أعَاد الْبَدْر من سقم هلالا)
(لانت أعز من روحي وَمَالِي ... وَإِن لعب الزَّمَان بِنَا ومالا)
(وَكم للشوق فِي أحشاء صب ... يبيت خياله يرْعَى خيالا)
(يُخَاطب من أمانيه نديما ... ويجني من مطامعه نوالا)
(فَيقطع بالنوى الْأَيَّام سيرا ... وَيقطع بالمنى السود الطوالا)
(إِذا مَا أوهمته النَّفس أمرا ... وَرَاء السد كلفها ارتحالا)
(وَلَيْسَ الْجد فِي الدُّنْيَا بمجد ... وَلَا زَاد النَّوَى رزقا ومالا)
(وَلَكِن الْأُمُور لَهَا دواعي ... وَأَسْبَاب بَقَاء أَو زوالا)
(وأسهرني بِأَرْض الرّوم برق ... سرى من جلق يشكو الكلالا)
(وجدد لي بِأَرْض الشَّام عهدا ... وذكرني الْأَحِبَّة والظلالا)
(مَوَاطِن صبوتي مقَام أنسي ... وَإِن صرمت أهاليها الحبالا)
(وَمَا كَانَت غوانيها جُفَاة ... وَلَكِن علموهن الدلالا)
(وَترك الْمَرْء دَار الضيم حتم ... وَنَفس الْحر تأبى الاعتقالا)
(وَمَا كلفتهم شَيْئا وَلَكِن ... أعَاد الْوَهم رشدهم ضلالا)
(وَلَيْسَ يبين فضل الْمَرْء حَتَّى ... يبين وَيُشبه الشهب انتقالا)
(وَمن لم يشْكر النعماء يَوْمًا ... وأنكرها فقد رَضِي الزوالا)
(جفوا فحلمت فازدادوا جفَاء ... وظنوا الْحلم عَجزا واحتمالا)
(وَبَعض الْجَهْل فِي الأحيان خير ... وَبَعض الْحلم يَسْتَدْعِي النكالا)
(فَحَلَفت الديار وَمن عَلَيْهَا ... وَفَارَقت الْأَحِبَّة والعيالا)
(وسرت ولي من الذكرى سمير ... يؤرقني وصحبي والجمالا)
(فَلَا زَالَت لِأَحْمَد مكرمات ... تقابلني نزولا وارتحالا)
(هُوَ الْمولى الشريف وَمن تسامى ... إِلَى العيوق أفضالا وطالا)
(مليك مُسْتَفَاد من مليك ... كعرف الرَّوْض أكسبه شمالا)
(فَتى للفضل قد أضحى يَمِينا ... وباقى النَّاس كلهم شمالا)
(طليق الْوَجْه بسام الْمحيا ... يسابق فَضله منا السؤالا)
(وَمن أَحْيَا موَات الْجُود فضلا ... وَورث عدله الدُّنْيَا اعتدالا)(1/192)
(تهون بِهِ الصعاب وكل عقد ... أَبى أَلا يَكْفِيهِ انحلالا)
(أجل مُلُوك أهل الأَرْض طرا ... وأصدقهم إِذا نطقوا مقَالا)
(رويدا أَيهَا الراجي علاهُ ... فَإِن الشَّمْس تكبر أَن تنالا)
(وَيَا من قاسه الْبَحْر جودا ... لقد قايست بالملح الزلالا)
(وَيَا من قد أَرَادَ لَهُ نظيرا ... لقد كلفت دنياك المحالا)
(لَهُ النّسَب الرفيع إِلَى نَبِي ... لقد نَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا جمالا)
(أجل الْمُرْسلين ومقتداهم ... وأجزل من على الغبرا نوالا)
(عَلَيْهِ بعد أنفاس البرايا ... صَلَاة لله تكسبه كمالا)
(إِلَيْك سليل خير الْخلق أَشْكُو ... نوى قصرت نتيجته وطالا)
(وهاك حلى على الهيف الغواني ... وَالْأَخْذ على الوجنات خالا)
(عروب إِن أردْت قتال خصمي ... أجرد من قوافيها النصالا)
(تمتّع من مدائحها بروض ... يروقك مِنْهُ شِمَاله اعتدالا)
(وَدم صدر الزَّمَان وَلَا رَأينَا ... لذاتك مَا حدا الْحَادِي زوالا)
(لمجدك تنتمي زهر الدراري ... ومجدك ينْطق الْكَوْن ارتجالا)
وَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا فرأيته يقْرَأ قصيدة قافية لِابْنِ هاني الأندلسي ومطلعها قَوْله
(قمن فِي مأتم على العشاق ... وجعلن الْحداد فِي الأحداق)
فَلَمَّا أتم قرَاءَتهَا اقترح عَليّ نظم قصيدة على وَزنهَا ورويها فنظمت هَذِه القصيدة ومطلعها قولي أمتدحه بهَا وَهِي
(إِنَّمَا الدمع آيَة العشاق ... واحمرار الدُّمُوع حلى المآقي)
(لَا عدمت الْهوى وَإِن كَانَ يقْضِي ... بتلاف المتيم المشتاق)
(إِن عَيْشًا يمْضِي بِغَيْر تصاب ... مَا لخلق يختاره من خلاق)
(وَمن الضيم أَن يبيت الْمَعْنى ... خَالِي لقلب من جوى واحتراق)
(لَا أرى صحوة لمخمور عشق ... أسكرته سلافة الأحداق)
(دوختني نَوَائِب الْحبّ لَكِن ... عَرفتنِي محَاسِن الْأَخْلَاق)
(أَيهَا الْقلب غير حرك هَذَا ... إِن صدا الحسان غير مطاق)
(وتنائي الديار يكبر عَنهُ ... فِي فؤاد المضني تنائي الرفاق)
(يذهب الدَّهْر بَيْننَا لَا يوالي ... بَين لحظ المنى وطيف العناق)(1/193)
(من لقلبي الْمُذَاب إِن لج وجدي ... وحنيني وَمن لدمعي المراق)
(فضلوعي رهن الأسى وفؤادي ... نهب أَيدي الأشجان والأشواق)
(يَا سقِِي مألفا لنا بحمى الشَّام ... هزيم من الحيا المغداق)
(طالما بت فِي حماه وعيشي ... مَعَ آرامه شهي المذاق)
(نتروى من الصبوح ونفتض ... نسيم الشُّمُول فِي الاغتباق)
(ومحي بالشمس بدر فيسقى ... أنجم الشّرْب فِي سَمَاء الرواق)
(شادن موثق عهود التجني ... وَأرَاهُ ضَعِيف عقد النطاق)
(يتثنى كَأَنَّمَا رَاح يخطو ... فَوق أحناء قلبِي الخفاق)
فَلَمَّا انْتَهَيْت فِي الإنشاد إِلَى هَذَا الْبَيْت قَالَ هَذَا شعر معجب وَهَذِه القافية سيدة قوافيه فَقلت لَهُ صَاحب الْبَيْت أدرى بِالَّذِي فِيهِ فَفطن بالمراد وَقَالَ قد لَاحَ لي فِي الإحناء الانتقاد فلقت إِن رأى الْأُسْتَاذ أبدلتها بِلَفْظَة أفلاذ فَإِنَّهَا أقرب إِلَى الْقلب مِنْهَا وشفاف العشاق لَا يبعد عَنْهَا فأظهر بِمَا قلته ابتهاجه واهتز اهتزاز مرنح بصفو الزجاجة وَمِنْهَا
(بَات عِنْدِي ألذ من قبْلَة الغيد ... وشهى من الشفاه الرقَاق)
(نجتني اللَّهْو يافعاً من غصون ... للأماني كالورد فِي الأطباق)
(بِحَدِيث كالزهر كلله الطل ... فضاهى قلائد الْأَعْنَاق)
(وسلاف تسرى من الرّوح مسرى ... مكرمات الشريف فِي الْآفَاق)
(سيد تستفيد مِنْهُ الْمَعَالِي ... لبنيها طرائق الأعراق)
(ذُو بنان تجْرِي بِخَمْسَة أَنهَار ... فتجري عوائد الأرزاق)
(وندى كالغمام لَيْسَ لَهُ برق ... سوى بشر وَجهه الْبراق)
(أشبه المرهف الْمحلى سوى أَن ... حلاه مَكَارِم الْأَخْلَاق)
(أَن تجاري الْكِرَام فِي حومة الْجُود ... رَأَيْنَاهُ أسبق السباق)
(من سراه ودادهم فرض عين ... مَا تحلى بحبهم ذُو نفاق)
(وبآثارهم تسامى بَنو إِسْمَاعِيل ... فخراً على بني إِسْحَاق)
(كلهم جَاءَت السِّيَادَة تنقاد ... إِلَيْهِ بأوجب اسْتِحْقَاق)
(سبقوا الْعَالمين نَحْو الْمَعَالِي ... حَيْثُ حلوا والسبق حلي الْعتاق)
(وَأَقَامُوا فِي الله أَرْكَان دين الْحق ... بالبيض والدروع الوثاق)(1/194)
(مَا عَسى يبلغ المديح علاهم ... لَو تناهى فِي الْحصْر والإغراق)
(آل بَيت هم مَعْدن الْجُود والحلم ... وَخير الْأَنَام بالِاتِّفَاقِ)
(إِن قلبِي لَهُم مُقيم على الْمِيثَاق ... من قبل سَاعَة الْمِيثَاق)
(وانتسابي مِنْهُم لِأَحْمَد يقْضِي ... أنني عَبده بِغَيْر شقَاق)
(قيدتني نعماه بل أطلقتني ... فَأَنا شَاكر على الْإِطْلَاق)
(وَمَتى رحت للهوان أَسِيرًا ... فك أسرِي مِنْهُ وَحل وثاقي)
(وكفاني إِذا الْحَوَادِث أعطشن ... مسيلاً بسيبه الدفاق)
(قد كساني ثوب الْغنى وَأرَاهُ ... عوضا لي عَن حلَّة الإملاق)
(فلأكسوه من نَسِيج ثنائي ... حللاً لَا تهمّ بالأخلاق)
(بقواف فِي جودة السبك تحكي ... جَوْهَر الْحلِيّ فِي عُقُود التراقي)
(كل معنى كالسحر يستره اللَّفْظ ... وَحسن الأزهار بالأوراق)
(يَا أعز الورى حمى لَا يسامى ... وقف الدَّهْر فِيهِ ذَا إطراق)
(لَا عدمنا لقياك والعمر منا ... حَسبه من هُوَ النّيل التلاق)
(إِنَّمَا أَنْت بدر أفق الْمَعَالِي ... فابق فِي الدَّهْر زَائِد الْإِشْرَاق)
وَاتفقَ لي فِي خدمته يَوْم من أَيَّام الْجنان قد غفلت عَنهُ عُيُون الْحدثَان فِي ظلّ رَبِّي هَب فِيهِ صبا فطال ريا وطاب ريا وَالْوَقْت منتسب إِلَى خلقه فِي اعتداله والزهر منتم فِي الْعرف لنشر خلاله فنظمت أبياتاً فِي وصف ذَلِك الْيَوْم وأنشدته إِيَّاهَا بِمحضر من الْقَوْم وَهِي
(لله بُسْتَان حللناه ضحى ... وَالْوَرق تملى شجوها تغريدا)
(حاكت بِهِ أَيدي الْجنُوب وجودت ... فِي النسج حَتَّى ألبسته برودا)
(وتمايلت فِيهِ الغصون كخرّد ... تبدى لنا الْورْد الجني خدودا)
(والطل مطلول على حَافَّاته ... يَحْكِي لدينا لؤلؤاً منضودا)
(أهْدى شذاه معنبراً فَكَأَنَّمَا ... فِي كل عود مِنْهُ يحرق عودا)
(أَو أنّ خالطه سناء مملك ... طابت خلائقه فَكَانَ مجيدا)
(مَا إِن تصفحنا خلال كَمَاله ... إِلَّا رأنيا أحمداً مَحْمُودًا)
(هُوَ صَاحب النّسَب الرفيع مَحَله ... قد طَابَ آبَاء زكتْ وجدودا)
(فالبحتري كَأَنَّمَا عَنهُ عَنى ... فِي بَيت شعر كَانَ فِيهِ مجيدا)(1/195)
(نسب كأنّ عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى ... نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا)
(قد سَاد للرتب الجليلة سامياً ... أقرانه حَتَّى استبدّ فريدا)
(لَو أنّ منزلَة الغننى كمنا لَهُ ... شرفاً إِذا جَازَ السماك صعُودًا)
(لَا زَالَ يبْقى فِي الْمَعَالِي لاقياً ... عَيْشًا على مر الزَّمَان رغيدا)
وَلم يزل مُقيما بالروم وَالْأَحْوَال تنْتَقل بِهِ إِلَى أَن حصل لمَكَّة مَا حصل من الِاخْتِلَاف بَين الْأَشْرَاف فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَأرْسل إِلَى الشريف أَحْمد يَطْلُبهُ فَلَمَّا أَتَاهُ وَدخل قَامَ إِلَيْهِ وقابله فِي غَايَة الإجلال وَوضع كَفه بكفه وَصَافحهُ من قيام قَائِلا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وأوّل خطاب من السُّلْطَان قَالَ لَهُ يَا شرِيف أَحْمد الْحجاز خراب أريدك تصلحه فامتثل ذَلِك فَعِنْدَ ذَلِك ألبسهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ ثمَّ جلس السُّلْطَان وَأمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ وَأعَاد عَلَيْهِ مَا قَالَه أولاّ مرَّتَيْنِ وَهُوَ يجِيبه بالامتثال وَالْقَبُول فَحِينَئِذٍ قَالَ السُّلْطَان إِذا آن أَوَان الشَّيْء أبرزه الله تَعَالَى وَأمر الْوَزير وَالْكتاب أَن يكتبوا لَهُ ملتمسه فَخرج الشريف وَقدم لَهُ مركوب من خيل السُّلْطَان ورحل على خيل الْبَرِيد إِلَى دمشق وَقد خرج مِنْهَا فَدخلت عَلَيْهِ مهنئاً لَهُ بالشرافة وأنشدته هَذِه الأبيات
(الْحق عَاد إِلَى مَحَله ... وَالشَّيْء مرجعه لأصله)
(يَا طالما وعد الزَّمَان بِهِ ... وأعيانا بمطله)
(حَتَّى تحقق أَنه ... فِي النَّاس مفتقر لمثله)
(وَالسيف عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ ... يعرف فضل نصله)
(والدهر ينفر تَارَة ... وَيعود معتذراً لأَهله)
(لَا ريب قد سرّ الورى ... بفعاله الْحسنى وعدله)
(فَالْكل شَاكر صنعه ... ولسانهم وصاف فَضله)
وَأقَام بِدِمَشْق ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ خرج قَاصِدا الْحَاج حَتَّى لحقه بالعلا وَدخل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وتلقاه عسكرها وَلبس الخلعة السُّلْطَانِيَّة تجاه الْحُجْرَة الشَّرِيفَة كَمَا لبسهَا ثمَّة أَبوهُ ثمَّ دخل مَكَّة سَابِع ذِي الْحجَّة ختام سنة خمس وَتِسْعين وَألف من جِهَة أَسْفَلهَا ووراءه الْمحمل الْمصْرِيّ وَجَمِيع عَسْكَر مصر وَالشَّام وَجدّة وَركب بَين يَدَيْهِ قَاضِي مَكَّة وَأحمد باشا حَاكم جدة وَكَانَ موكباً عَظِيما فحج بِالنَّاسِ على أحسن حَال وَحصل لأهل مَكَّة بقدومه غَايَة السرُور وَاسْتمرّ شريفاً إِلَى أَن توفّي وَكَانَت(1/196)
وَفَاته فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة تسع وَتِسْعين وَألف وَولي بعده الشريف سعيد بن أَخِيه الشريف سعد ثمَّ عزل وَولي بعده الشريف أَحْمد بن غَالب
الْمولى أَحْمد بن المنلا زين الدّين العجمي النخعواني الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد والوفاة قَاضِي الْقُضَاة الملقب بالمنطقي الْفَاضِل الأديب الشَّاعِر الناثر أحد أَفْرَاد الدَّهْر ومحاسن الْعَصْر كَانَ فَاضلا سامياً هضبات الْأَدَب متفنناً بليغاً فِي إنشائه عذب الْمنطق سريع الْفَهم وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ روحاً كُله من فرقه إِلَى قدمه وَكَانَ ينظم وينثر فِي الألسن الثَّلَاثَة وَهُوَ فِيمَا عدا الْعَرَبِيّ نَسِيج وَحده ومفرد وقته وشعره فِيمَا بَين أهل الرّوم أغْلى قيمَة من الدّرّ وَذكر لي بعض الثِّقَات مِنْهُم أَن الأديب شَاعِر الرّوم فِي وقته سُلَيْمَان البوسنوي المنعوت بمذاقي وَهُوَ مِمَّن أَدْرَكته بالروم وسأذكره فِي كتابي هَذَا كَانَ يَقُول فِي شعر المنطقي أَن كل غزل من شعره يعادل ديواناً من شعر غَيره وَكنت وَأَنا بالروم جمعت من أشعاره حِصَّة وافرة فَأَرَدْت ذكر شَيْء مِنْهَا هَاهُنَا ثمَّ مَنَعَنِي من ذَلِك أَن أهل بِلَادنَا لَيْسَ لَهُم اعتناء بِهَذَا النَّوْع وغالب النساخ عندنَا لَا يعْرفُونَ التركية فكثيراً مَا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه فَيَقَع التخبيط وَالْحَاجة لَيست بماسة لذَلِك جدا نعم هِيَ ماسة لدفع مَا يَقع بَين أدباء الْعَرَب من السُّؤَال عَن قوافي أشعار الرّوم بِسَبَب اتحادها فِي الصُّورَة وَلَو كثرت وَيَقُولُونَ إِن هَذَا يطاء تبعا للعربية فَهَذَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلم أر من تعرض لَهُ إِلَّا الْعِمَاد الْكَاتِب فِي خريدته فَإِنَّهُ قَالَ وللعجم قلت وَالروم تبع لَهُم مَذْهَب فِي الشّعْر مُخَالف لأسلوب الْعَرَب وَهُوَ أَنهم يجْعَلُونَ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة رديفاً يرددونه فِي كل بَيت مِثَال ذَلِك مَا نظمه الشَّاعِر
(سل الصِّبَا هَل ورد الْورْد ... يَا من عَلَيْهِ حسد الْورْد)
ثمَّ قَالَ فالدال هِيَ الروي عِنْدهم والورد هُوَ الرديف مثل هَاء الضَّمِير فِي أسودها وأغيدها قَالَ وتذكرت هُنَا رباعيات لي وَهِي
(اسْمَع مَا قَالَ عندليب الْورْد ... فالبلبل فِي الرَّوْض خطيب الْورْد)
(الشّرْب على الْورْد نصيب الْورْد ... مَا يحسن أَن يضيع طيب الْورْد)
وَأَيْضًا
(كم حضر الراح وَغَابَ الْورْد ... حَتَّى عدم الراح فناب الْورْد)
(لما عبق الراح وطاب الْورْد ... قُلْنَا جمد الراح وذاب الْورْد)
وَهَذَا كَلَام وَقع فِي الْبَين وَلَكِن مَا خلا من فَائِدَة فلنعد إِلَى تَتِمَّة تَرْجَمَة المنطقي(1/197)
فَنَقُول وَأما شعره الْعَرَبِيّ فقليل وَقد أورد لَهُ وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَرْجَمَة قطعتين استحسنت إِحْدَاهمَا فأوردتها وَهِي هَذِه
(سقت الرياض دموع عَيْني الْجَارِيَة ... فبدت تراجعها عُيُون باكيه)
(وسرت لأغصان الْوُرُود فَأَصْبَحت ... أكمامها مِنْهَا قلوباً داميه)
(دمعي تبدل بالشرار وَكَيف لَا ... وجحيم قلبِي فِيهِ نَار حاميه)
(مَاذَا عَليّ من الْجَحِيم وَلم تزل ... نَار الْمحبَّة فِي وجودي بَاقِيَة)
(يَا سادة لما بدا سلطانهم ... ملك الْقُلُوب من الْأَنَام كَمَا هيه)
(تلوي غصون قد ودهم أَيدي الصِّبَا ... وَقُلُوبهمْ مثل الْحِجَارَة قاسيه)
(لم يبْق لي ثمن يُقَاوم وصلكم ... إِلَّا الْمحبَّة والمحبة غَالِيَة)
(الْجِسْم ذاب من الجفا وَالْقلب رهن ... عنْدكُمْ وَالروح مني عَارِية)
(منوا على بنظرة فوحقها ... قسما بِمن يحيى النُّفُوس الفانية)
(لَو مر بِي مَيتا نسيم دِيَاركُمْ ... سرت الْحَيَاة إِلَى عِظَامِي البالية)
وَذكر مبدأ أمره أَنه ولد بِدِمَشْق وَقَرَأَ وبرع واشتهر وَأشهر من أَخذ عَنهُ الشّرف الدِّمَشْقِي وبرز بروزا غَرِيبا فَجَلَسَ لإلقاء الدُّرُوس وَهُوَ حدث السن جَدِيد العذار فَاجْتمع فِي حَلقَة درسة جمَاعَة من الأكراد والأعاجم ونبل قدره وَعلا صيته وَولى تدريس الْمدرسَة السليمية بصالحية دمشق وَكَانَت بيد الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن بن عماد الدّين الْعِمَادِيّ وَبعد مُدَّة أُعِيدَت إِلَى الْعِمَادِيّ فسافر المنطقي إِلَى حلب وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَاجْتمعَ ثمَّة بالوزير مُحَمَّد باشا السردار الْمعِين من جَانب السُّلْطَان أَحْمد إِلَى مقاتله شاه الْعَجم عَبَّاس خَان فحظى عِنْده بإقبال كثير وَقرر لَهُ الْمدرسَة وَعَاد إِلَى دمشق بمهابة عَظِيمَة وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سَافر ثَانِيًا إِلَى حلب صُحْبَة مَحْمُود الرُّومِي الدفتري بِدِمَشْق فَاجْتمع بقاضيها الأديب المنشئ الْمَشْهُور عبد الْكَرِيم ابْن سِنَان فَأحْسن إِلَيْهِ كل الْإِحْسَان وَلما عزل من قَضَاء حلب صُحْبَة إِلَى الرّوم وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف فَدخل إِلَى دَار السلطنة وَأقَام بهَا فَرغب كثر من كبرائها فِي معاشرته لحسن محاضرته وأدبه وحظي عِنْدهم ولازم ودرس بعد مُدَّة بعدة مدارس وَجمع مَالا كثيرا وجاها عريضا وترقى فِي الشُّهْرَة حَتَّى وصل خبر للسُّلْطَان مُرَاد فاتخذه نديم مَجْلِسه وَكَانَ يجْتَمع هُوَ ونفعي الشَّاعِر الْمَشْهُور أحد الندماء فِي الْمجْلس السلطاني وَيجْرِي بَينهمَا مكالمات ومخاطبات(1/198)
تَأْخُذ الْعُقُول وَكَانَ كل مِنْهُمَا شَدِيد الْحَط على الآخر فِي غيبته وَمن أبلغ مَا وَقع بَينهمَا أَن السُّلْطَان أَمر صَاحب التَّرْجَمَة أَن يهجو نفعي فهجاه بقصيدة أفحش فِيهَا فَلَمَّا سَمعهَا نفعي استشاط غيظا وَجزم على مكيدته وَعرض فِي الْمجْلس السلطاني بِأَن المنطقي يحسن محاكاة كل جيل من النَّاس وَأَن أحسن مَا رَآهُ مِنْهُ محاكاة الفرنج فِي الملبس والمكاامة فَنَادَى السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة وَذكر لَهُ مَا قَالَه نفعي عَنهُ فَحلف الْأَيْمَان الأكيدة أَنه لم يصدر مِنْهُ مثل ذَلِك قطّ وَمَا زَالَ يتخضع ويبكي حَتَّى خلص نَفسه من هَذِه الورطة الَّتِي كَانَ أدنى عَاقبَتهَا الْقَتْل وَلما تحرّك الْجند على السُّلْطَان وَقتلُوا الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الْحَافِظ انْقَطع صَاحب التَّرْجَمَة عَن صُحْبَة السُّلْطَان خوفًا من الْجند وَلزِمَ زَاوِيَة الْعُزْلَة وَظهر السُّلْطَان بعد ذَلِك على الْجند وَقتل مِنْهُم من قتل وَفرق شملهم فَظهر المنطقي إِلَى الْوُجُود إِلَّا أَنه ضرب بالحجاب بَينه وَبَين صُحْبَة السُّلْطَان كَغَيْرِهِ من الندماء وَلكنه بَقِي على التَّرَدُّد إِلَى مجَالِس الصُّدُور كالمفتي الْأَعْظَم الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّاء وَغَيره وَكَانَ كثير الْحَط على من يعاديه مغالياً فِي إِظْهَار زيف أَبنَاء عصره خُصُوصا أهالي بلدته دمشق وَذكر وَالِدي فِي تَرْجَمته أَنه كَانَ يَوْمًا فِي مجْلِس الْمُفْتِي الْمَذْكُور فوصلت إِلَيْهِ قصيدة أرسلها إِلَيْهِ أديب دمشق أَحْمد بن شاهين ومطلعها
(لَا يسلني عَن الزَّمَان سؤول ... إنّ عتبي على الزَّمَان يطول)
فَنَاوَلَهُ الْمُفْتِي قرطاسها وَأمره بِقِرَاءَتِهَا فابتدر يقْرؤهَا ويحاكي ناظمها فِي حركاته وإنشاده الشّعْر وَكَانَ على طَريقَة أبي عبَادَة البحتري فِي إنشاده الشّعْر يتشدّق ويهز رَأسه ومنكبيه وَيُشِير بكمه وَيقف عِنْد كل بَيت وَيَقُول أَحْسَنت أَو أَجدت أَو مَا شاكلها إِلَى أَن أتم قرَاءَتهَا على هَذَا الأسلوب فَبلغ ابْن شاهين مَا فعله فَجهز قصيدة ثَانِيَة إِلَى الْمُفْتِي الْمَذْكُور ومطلعها قَوْله
(غب لثم الأعتاب بعد الدُّعَاء ... بشفاه لم تنو غير الشِّفَاء)
وَذكر فِيهَا فصلا يعرض بالمنطقي وَهُوَ فِي بَابه مستعذب جدّاً وَذَلِكَ قَوْله فِيهَا
(وأناس من الشآم نعتهم ... شامنا فِي جَوَانِب الغبراء)
(تَركتهم لَا يألفون خَلِيلًا ... من جَمِيع الورى لفقد الْوَفَاء)
(خَرجُوا يطْلبُونَ فضل ثواء ... ليتهم قد رَضوا بِفضل الثراء)
(ألفوا الْكسْب من وُجُوه البرايا ... مَا دروا قدر مكسب الْآبَاء)(1/199)
(برح الْعَجز فيهم فتراهم ... يَبْتَغُونَ الْغَدَاء وَقت الْعشَاء)
(قد أراقوا مَاء الحيا والمحيا ... ثمَّ حدوا فِي الْكَذِب والافتراء)
(رُبمَا هجنوا لديك ثنائي ... رُبمَا حسنوا لديك ازدرائي)
(رُبمَا حاولوا حِكَايَة صوتي ... فأخلوا بِحسن ذَاك الْأَدَاء)
(لَيْسَ عِنْدِي وَأَنت ذخري مِنْهُم ... غير مَا بالجوزا من العُوّاءِ)
(أَنا يَا سَيِّدي سُهَيْل عَلَيْهِم ... وطلوعي يضرّ نسل الزناء)
هَذَا الْبَيْت مَأْخُوذ من قَول المتنبي
(وتنكر مَوْتهمْ وَأَنا سُهَيْل ... طلعت بِمَوْت أَوْلَاد الزناء)
وَالْعرب تزْعم أَن سهيلاً إِذا طلع وَقع الوباء فِي الأَرْض وَكثر الْمَوْت يَقُول فَأَنا سُهَيْل على أَوْلَاد الزناء خَاصَّة أَي أَنهم يموتون حدا لي وَبَعض النَّاس يَقُول إِن ولد الزِّنَا اسْم لدويبة ترصف إِذا طارت بِاللَّيْلِ وَإِنَّهَا تَمُوت إِذا طلع سُهَيْل وَلَا أَدْرِي صِحَّته وَالله تَعَالَى أعلم وَلم يزل المنطقي على حَالَته الْمَذْكُورَة حَتَّى صَار قَاضِي قُضَاة حلب وَنقل مِنْهَا إِلَى قَضَاء الشَّام فوردها وَكَانَ سيره بهَا حسنا ومدحه شعراء ذَلِك الْعَصْر بالقصائد الطنانة وأجود مَا مدح بِهِ قصيدة الْأَمِير المنجكي الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(ورد الرّبيع فَقُمْ لحث الكاس ... ودع الْمقَام بِأَرْبَع أدراس)
يَقُول مِنْهَا فِي مديحه
(قَاض تودّ لَو انها فرشت لَهُ ... عِنْد الْقدوم كواكب الأغلاس)
(بيدَيْهِ حل المعضلات وكشفها ... وجلاية الجلى وَرفع الباس)
(وَله سِهَام عَدَالَة لَو فوّقت ... تركت متون الْجور كالأقواس)
(لما سهرت على مدائحه الَّتِي ... جعلت عداي من الردى حرّاسي)
(ودّ الْهلَال لَو استقام وَأَنه ... أَمْسَى لديّ مكانة النبراس)
ووجهت حُكُومَة الشَّام فِي أَيَّام قَضَائِهِ إِلَى مصاحب السُّلْطَان مُرَاد الْوَزير مصطفى باشا السلاحدار فَأرْسل من قبله لضبطها رجلا يُقَال لَهُ عُثْمَان الجفتلري وَهُوَ الَّذِي صَار حَاكما مُسْتقِلّا بِالشَّام فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف ووقف الْوَقْف الَّذِي لَهُ على أَجزَاء تقْرَأ فِي الْجَامِع الْأمَوِي بعد صَلَاة الظّهْر فِي المعزية الصَّغِيرَة الْوُسْطَى قبالة محراب الْحَنَابِلَة فاتفق أَنه وَقع بَينه وَبَين صَاحب التَّرْجَمَة لمَنعه إِيَّاه عَن بعض الْمَظَالِم فَعرض فِيهِ بِمَا لَا يَلِيق عرضه وَأسْندَ إِلَيْهِ أموراً مِنْهَا هدم قبَّة المزار الْمَنْسُوب(1/200)
لسيدي عبد الرَّحْمَن حفيد سيدنَا أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ بمقبرة الفراديس وَكَانَ هَدمه بِسَبَب أَنه كَانَ يصير فِيهِ بعض مناكر من الْفُسَّاق وَمِنْهَا أَنه ورد أَمر فتح قلعة روان حِين أخذت من يَد شاه الْعَجم عَبَّاس شاه وَاتفقَ يَوْمئِذٍ وجود القَاضِي فِي الصالحية فَأرْسل إِلَيْهِ الْخَبَر فتباطى فِي النُّزُول وَحُضُور الدِّيوَان وَمِنْهَا أَنه رُبمَا أطلق لِسَانه فِي أَرْكَان الدولة وَمِنْهُم الْوَزير الْمَذْكُور فَبعد مُدَّة قَليلَة من إرْسَال الْعرض ورد خبر عَزله عَن قَضَاء الشَّام ثمَّ ورد أَمر شرِيف بقتْله فَأخذ إِلَى قلعة دمشق وخنق بهَا وَاتفقَ يَوْم وُصُول خبر قَتله دُخُول الْمولى عبد الله بن عمر معلم السُّلْطَان عُثْمَان قَاضِي مصر إِلَى الشَّام وَجرى ذكر المنطقي مَجْلِسه وَمَا وَقع لَهُ من الخنق فَقَالَ متمثلاً إِن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق وَكَأَنَّهُ أحَال ذَلِك على سَبَبِيَّة إِطْلَاق لِسَانه فِي حق بعض الصُّدُور وَقيل فِي تَارِيخ قَتله قل مسْقط الرَّأْس دمشق وَحكى أَنه لما ولي قَضَاء الشَّام ذهب إِلَى الْمُفْتِي الَّذِي ولاه الْمولى يحيى الْمَذْكُور آنِفا بالتشكر مِنْهُ ففاءله بالتبريك بِأَن قَالَ لَهُ أول شام وَآخر شام وَكَانَ ذَلِك جرى على لِسَانه بالهام فَوَقع مَا قَالَه وَهَذِه اللَّفْظَة يستعملها أهل الرّوم من قبيل الْمثل وَلم أَقف على أَصْلهَا وَإِن كَانَ معنى شقها الثَّانِي صَحِيحا بِاعْتِبَار أَن الشَّام أَرض الْمَحْشَر والمنشر وَأما بِاعْتِبَار شقها الأول فَمَا أَدْرِي وَجه الأولية وَالله تَعَالَى أعلم وَبِالْجُمْلَةِ فقد عَاشَ المنطقي حميدا وَمَات شَهِيدا فرحم الله تَعَالَى فضائله ومعارفه وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف وَمَات صَبِيحَة الْجُمُعَة ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وضبطت أَمْوَاله لجِهَة بَيت المَال وَصلى عَلَيْهِ بعد أَدَاء صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْجَامِع الْأمَوِي وَدفن بمقبرة الفراديس بِالْقربِ من قبر أبي شامة والنخجواني بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْخَاء المنقوطة وَضم الْجِيم ثمَّ وَاو بعْدهَا ألف وَنون بَلْدَة بالعجم مَعْرُوفَة
الشَّيْخ أَحْمد بن زين العابدين بن مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ الصديقي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي أحد السَّادة البكرية شيخ وقته بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ لَهُ الْأَدَب الباهر وَالْعلم الزاخر تصدر بعد موت عَمه أبي الْمَوَاهِب وَعقد مجْلِس التَّفْسِير فِي بَيته بالأزبكية وَجمع فِيهِ عُلَمَاء الْعَصْر وأذعنوا لَهُ وَظَهَرت لَهُ أَحْوَال باهرة وَحج مرَارًا ورزق فِي الْقبُول التَّام فِي جَمِيع حالاته وَكَانَ صَاحب أَخْلَاق حَسَنَة وَفِيه سخاء وتلطف وقصده الشُّعَرَاء من كل نَاحيَة ومدحوه وَمِنْهُم من فتح الله بن النّحاس الْحلَبِي فَإِنَّهُ مدحه بقصائد وأجودها قصيدته البائية الَّتِي مطْلعهَا(1/201)
(عطف الْغُصْن الرطيب ... وتلافانا الحبيب)
وَهِي مَشْهُورَة فَلَا نطيل بذكرها سوى مَا قَالَه مِنْهَا فِي مدحه وَذَلِكَ قَوْله
(أَحْمد الْبكْرِيّ فِي ... منبرها الْيَوْم خطيب)
(ابْن زين العابدين ... السَّيِّد الْبر الوهوب)
(ابْن من يصدع بِالْحَقِّ ... ويقفو وينيب)
(ابْن من كَانَ بِهِ الْغَوْث ... مَعَ الْغَيْث يصوب)
(شَاهد الحضرة واختص ... وناجته الْغُرُوب)
(واستمرّ الْفَيْض للأستاذ ... وَالْفَتْح قريب)
(بلبل الْحق لِسَان الْغَيْب ... هطال سكوب)
(صفع الدَّهْر بكف ... مَا لَهَا الدَّهْر قتوب)
(قامع الكرب وَقد حل ... من الْقلب الكروب)
(ضَاحِك الْوَجْه وَهل فِي ... طلعة القطب قطوب)
وَقد تَرْجمهُ صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فِي مَجْمُوعه فَقَالَ فِي حَقه شهَاب الْأَئِمَّة وفاضل هَذِه الْأمة وملث غمام الْفضل وَكَاشف الْغُمَّة شرح الله تَعَالَى صَدره للعلوم شرحاً وَبنى لَهُ من رفيع الذّكر فِي الدَّاريْنِ صرحا إِلَى زهد أسس بُنْيَانه على التَّقْوَى وَصَلَاح آهل بِهِ ربعه فَمَا أقوى وآداب تحمر خدود الْفضل من آنافها خجلا وشيم أوضح بهَا غوامض مَكَارِم الْأَخْلَاق وجلا وفلاح يشرق من محياه وَطيب أعراق يفوح من نشر رياه ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ واشتغل بفنون الْعُلُوم وكرع من مشارع الفهوم وَقَرَأَ على عَمه الْأُسْتَاذ أبي الْمَوَاهِب وَأَبِيهِ وَغَيرهمَا من مَشَايِخ عصره وتصدّر للإقراء بالجامع الْأَزْهَر فأشرق فِيهِ نوره وأزهر وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي تَفْسِير الْقُرْآن وَإِلَيْهِ النِّهَايَة فِي عُلُوم الطَّرِيق ومزيد الإتقان مَعَ كرم يخجل المزن لَهَا طل وشيم يتحلى بهَا جيد الزَّمَان العاطل وجاه عريض وتمكين وَمَكَان عِنْد النَّاس مكين يستلمون أَرْكَانه كَمَا تستلم أَرْكَان الْبَيْت الْعَتِيق ويتنسمون أخلاقه كَمَا يتنسم الْمسك الفتيق والنور يسطع من أسارير جَبهته والعز يطلع فِي آفَاق طلعته وَمن مؤلفاته كتاب جعله على أسلوب لوعة الشاكي ودمعه الباكي سَمَّاهُ رَوْضَة المشتاق وبهجة العشاق وَله شعر يدل على علو مَحَله وإبلاغه هدى القَوْل إِلَى مَحَله فَمِنْهُ قَوْله(1/202)
(أحنّ إِذا جنّ الظلام تشوّقاً ... إِلَى زمن بِالْقربِ زَاد تألّقا)
(وأقطع ليلِي ساهراً متفكراً ... لَعَلَّ زمَان الْأنس يسعف باللقا)
قلت وَله ديوَان شعر أَكثر مَا فِيهِ ألغاز وَكَانَ لَهُ فِيهَا بَاعَ طَوِيل فَمن ذَلِك قَوْله
(غزالة فِي بردهَا رافله ... تقتنص الْأسد من القافله)
(فِي حرم الْأَمْن وَقد خلتها ... قَائِمَة بِالْفَرْضِ والنافله)
(قلت لَهَا رقي فَقَالَت لمن ... كَأَنَّهَا عَن مطلبي غافله)
(ثمَّ انْثَنَتْ تلغز لي باسمها ... لغزاً بِهِ أقكارنا كافله)
(مَا اسْم خماسي وَتَصْحِيفه ... شبه بدور لم تكن آفله)
(فِي سنة الْمُخْتَار خير الورى ... بَيَانه وَهِي لَهُ شامله)
(فِي سنة نبه متسيقظاً ... وَإِن تشا فِي سنة كَامِله)
وَمن قَوْله أَيْضا
(وَحقّ حمرَة خدٍّ ... تثير بِالْقَلْبِ جمره)
(تطفي لجمرة ثغر ... بَيْضَاء فِي الكاس حمره)
(تجلى لخمرة فضل ... تزيد بالشرب خمره)
وَمن نثر لَهُ جَوَاب لغز فِي الْحَوْرَاء كتب بِهِ للوارثي الْمصْرِيّ الْآتِي ذكره قَرِيبا أَجدت أَيهَا الجهبذ الْهمام وحليب بجواهر زواهر الدُّرَر أجياد الْكِرَام واستجليت على منصة فكرتك حور الْجنان واستخليت بهَا فِي مقاصير الحسان فافتر ثغر حسنها للقياك وروت لَك رِوَايَة بشر عَن الضَّحَّاك فصابح الله صباحة وَجهك بوجهها الْحسن وَلَا زَالَت تخدمك الْمعَانِي بأنضر فنن وَله ملغزاً فِي أَشهب مَا علم مُفْرد مركب وضع لحيوان يركب إِن رفعت رَأس زمامه دلّ على اسْم جمع نارى فِي الْتِزَامه إِن أتيت بِرَأْسِهِ إِلَى قدامه فاستعذ بِاللَّه من سهامه مَعَ أَنه على حَقِيقَة الِانْفِرَاد إِمَام تزيد فِيهِ اعْتِقَاد وتفتدي بأَمْره وَنَهْيه وعدله وَقد شهد الْعلمَاء بفضله خُصُوصا أهل مذهبكم الشريف وَلَا يحْتَاج إِلَى تَعْرِيف وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وأرخ مَوته عبد الْبر الفيومي بقوله بجنة الفردوس أَحْمد يُقيم
أَحْمد بن سراج الدّين الملقب شهَاب الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ الشَّيْخ الرئيس الطَّبِيب الْفَاضِل أَخذ الْعُلُوم عَن الشَّيْخ الإِمَام عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَالْإِمَام الفهامة مُحَمَّد بن محيي الدّين بن نَاصِر الدّين التحريري وَولده الرئيس الشهير(1/203)
سري الدّين وَبِه انْتفع فِي الطِّبّ وَتَوَلَّى قَدِيما تدريس الْحَنَفِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ البرقوقية وَمَات عَن مشيخة الطِّبّ بدار الشِّفَاء المنصوري ورياسة الْأَطِبَّاء قَالَ الشَّيْخ مَدين وَكَانَت وِلَادَته كَمَا أخبرنَا بِهِ فِي خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن خَارج بَاب النَّصْر وَلم يعقب إِلَّا بِنْتا وتولت مَكَانَهُ مشيخة الطِّبّ
الشخ أَحْمد بن سعد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد المسوري اليمني كَانَ هَذَا الْعَلامَة الحبر عَظِيم الشَّأْن جليل الْقدر وَاحِد الدَّهْر وفريد الْعَصْر وعالم السهل والوعر ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه مطلع البدور ومجتمع البحور وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا لَا مزِيد فَوْقه ثمَّ قَالَ أَصله من بِلَاد مسور واشتغل بِالْعلمِ وحرر الْعُلُوم وَكَانَ فِي الْعُلُوم النقلية والعقلية شيخها الْأَكْبَر وَفِي الْأَدَب الَّذِي فِيهِ انحصرت مزاياه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من الْأَفْرَاد فِي الْيمن وَكَانَت دولة الْقَاسِم زاهية بِهِ وَهُوَ صدر مجَالِسهمْ وَنور مقابسهم تصدر للإفادة وَالْكِتَابَة فِي مجْلِس الإِمَام الْقَاسِم ثمَّ فِي مجْلِس وَلَده الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد ثمَّ فِي مجْلِس أَخِيه الْقَائِم بعده أَحْمد بن أبي طَالب ثمَّ فِي مجْلِس أَخِيه الإِمَام المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل وانتهت مدَّته فِي هَذِه الدولة وَهُوَ كَاتب الْإِنْشَاء ومتقلد منصب الخطابة فِي حَضْرَة الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين وانْتهى إِلَيْهِ علم اللُّغَة والْحَدِيث وَالتَّفْسِير والنحو وَالصرْف والأصلين والدراية بمناطيق الْعَرَب ومفاهيمها وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْكِنَايَات والإشارات وعَلى كل حَال فالواصف لَهُ مقصر وشيوخه كَثِيرُونَ والآخذون عَنهُ مثل ذَلِك قلت وَمِنْهُم أَحْمد بن صَالح بن أبي الرِّجَال وَبِه تخرج وَإِلَيْهِ يُشِير فِي تَارِيخه كثيرا قَالَ وَله مؤلفات فائقة ومنشآت من خطب وَغَيرهَا بليغة وَله من الْوَرع مَا لَا يحصر بِقَيْد وَلَا وصل إِلَيْهِ عَمْرو بن عبيد مَعَ تعاور الْعِنَايَة لَهُ فِي طَاعَة هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وانسجال ديم النفائس عَلَيْهِ وَكَانَت الْأَئِمَّة تراسله بالكتب والهدايا فيأباها وَلَا يرى فِي ذَلِك من الْمُلُوك عقباها فَمن ذَلِك مَا أجَاب بِهِ على الْأَمِير الْكَبِير الشريف الْحُسَيْن ابْن أَحْمد الخواجى صَاحب صنعا وَقد كتب إِلَيْهِ كتابا وأصحبه هَدِيَّة وَبعد فواصل كتابكُمْ الَّذِي هُوَ جَوَاب جوابي عَلَيْكُم مُشْتَمِلًا على وُجُوه من الْخطاب صيرت مَا كَانَ سبق مني من الْإِحْسَان بإجابة الْكتاب الأول ذَنبا وَمَا كنت أَحْسبهُ حمداً عِنْد الله وَعند خير عباده سبا إِذْ لم يَقع مني مَا صدر من الْبشر السَّابِق لمن وصل إِلَيّ من الحضرة الإمامية من إخْوَانكُمْ الشرفاء ثمَّ جوابي لكم فِي كتابكُمْ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الْمولى إِلَّا(1/204)
رِعَايَة لحق رَسُول الله
إِذا كُنْتُم وَأُولَئِكَ الْجَمَاعَة من أهل بَيته وَمِمَّنْ ينْسب إِلَى ذُريَّته ثمَّ صِيَانة لعرض مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ومحبة فِي أَن يكون من فِي حَضرته الْكَرِيمَة من الْمُكرمين كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ الْمُؤمن ألف مألوف وَكنت اظنكم رعاكم الله وَأُولَئِكَ الْجَمَاعَة مِمَّن لَهُ فِي خوف الله نصيب وَمِمَّنْ أقلع عَمَّا يُوجب الْبعد من الْقَرِيب الْمُجيب وَمِمَّنْ دَعْوَاهُ صَادِقَة أَنه لَا يُرِيد إِلَّا الله وَلَا يسْعَى إِلَّا فِي طَاعَته وتقواه فخدعتموني تالله فانخدعت وَلَو أخذت بالحزم الَّذِي هُوَ سوء الظَّن لما أبعدت فحملتم تِلْكَ الْحَالة مني على مَا زهدني وَالله وغيري من الْمُؤمنِينَ فِيكُم ونبهني على الحذر والريب فِي كل مَا يصدر من قَول أَو فعل عَنْكُم إِذْ أحللتموني محلا لست من أَهله وكتبتم إِلَيّ بتصدير هديتكم الْمَرْدُودَة إِلَيْك غير مشكورة وَلَا محموده وَلم تَرَهَا وَالْحَمْد لله عَيْني وَلَا لمستها والْمنَّة لله يَدي إِذْ أردتم خديعتي عَن ديني والتوصل بهَا إِلَى مَا تُرِيدُونَ من إغراض الْأَهْوَاء فِي هلكتي فَأَكُون كَمَا قيل
(بت كَأَنِّي ذبالة نصبت ... تضيء للنَّاس وَهِي تحترق)
ومعاذ الله أَن أكون مِمَّن يَبِيع دينه بِكُل الدُّنْيَا فضلا عَن عرض مِنْهَا هُوَ أقل وادنى أَو أَن يحبط أَعماله ويبطلها بإماطة الأوساخ عَن النَّاس لقد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين وَكَيف إِن بَقِي شَيْء من الْمَعْقُول آمُر النَّاس بِالْبرِّ وأنسى نَفسِي وأتصدر الإِمَام الْحق فِي إنْشَاء مواعظ يخْطب بهَا على المنابر لنصيحه الْخلق وأخونها وَهِي أعز الْأَنْفس عِنْدِي على أَنِّي والْمنَّة لله عَليّ من فضل رَبِّي وَفضل إمامي فِي خير وَاسع ورزق جَامع وأمل فِي كل بَلَاغ راتع ثمَّ إِنَّه لَا يسْلك أحد طَريقَة إِلَّا وَله فِيهَا سلف يقْتَدى بهم بعد رَسُول الله
فأولهم أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَقُول فِي خطبَته وَالله لِأَن أَبيت على حسك السعدان مسهداً أَو أجر فِي الأغلال مصفداً أحب إِلَيّ من أَن ألْقى الله تَعَالَى وَرَسُوله يَوْم الْقِيَامَة ظَالِما لبَعض الْعباد أَو غَاصبا لشَيْء من الحطام وَكَيف أظلم أحدا وَالنَّفس يسْرع إِلَى البلى قفولها وَيطول فِي الثرى حلولها وَالله لقد رَأَيْت أخي عقيلا وَقد أملق حَتَّى استماحنى من بركم صَاعا وَرَأَيْت صبيانه شعث الألوان من فَقرهمْ كَأَنَّمَا اسودّت وُجُوههم بالعظلم وعاودني مؤكداً وكرّ عَليّ القَوْل مردداً فأصغيت إِلَيْهِ سَمْعِي فَظن أَنِّي أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً يقيني فأحميت لَهُ حَدِيدَة ثمَّ أدنيتها من جِسْمه ليعتبر بهَا فَضَجَّ ضجيج ذِي دنف من ألمها وَكَاد أَن يَحْتَرِق من مَسهَا فَقلت(1/205)
لَهُ ثكلتك الثواكل يَا عقيل أتئن من حَدِيدَة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إِلَى نَار أضرمها جبارها لغضبه أتئن من الْأَذَى وَلَا أَخَاف من لظى وأعجب من هَذَا طَارق يطرقنا بملفوفة فِي وعائها ومعجونة كَمَا عجنت بريق حَيَّة أرياقها فَقلت أصلة أم زَكَاة وَصدقَة فَذَلِك محرم علينا أهل الْبَيْت قَالَ لَا ذَا وَلَا ذَاك وَلكنهَا هَدِيَّة فَقلت هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتتخدعني أمخبط أَنْت أم ذُو جنَّة أما وَالله لَو أَعْطَيْت الأقاليم السَّبْعَة بِمَا تَحت أفلاكها على أَن أعصي الله فِي نملة أسلبها خلب شعيرَة مَا فعلتها وَإِن دنياكم هَذِه لأهون عِنْد الله من ورقة فِي فَم جَرَادَة مَا لعليّ ونعيم يفنى وَلَذَّة لَا تبقى نَعُوذ بِاللَّه من سيئات الْعَمَل وقبح الزلل وَبِه نستعين وَأقرب أئمتي إِلَيْهِ إِمَام عصري بعد وَالِده أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِم وهما جَمِيعًا مِمَّن علم الْخَاص وَالْعَام سلوكهما تِلْكَ الطَّرِيق وتمسكهما بذلك الْحَبل على التَّحْقِيق ورفضهما الدُّنْيَا بعد ملك الْمشرق وَالْمغْرب ورضاهما مِنْهَا بأدناها مَعَ نُفُوذ أَمرهمَا فِي الْعَرَب والعجم والبعد والقرب
(وَالشَّمْس إِن تخفى على ذِي مقلة ... نصف النَّهَار فَذَاك تَحْقِيق الْعَمى)
وَأما آبَائِي الَّذين أنتسب إِلَيْهِم فأدناهم أبي الَّذِي ولدني كَانَ وَالله كَمَا ورد فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ يغْضب لمحارم الله كَمَا يغْضب الْجمل إِذا هيج لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وكما قيل
(الْقَائِل الصدْق حَتَّى مَا يضرّ بِهِ ... وَالْوَاحد الْحَالَتَيْنِ السرّ والعلن)
ثمَّ أَخُوهُ عمي الَّذِي أدّبني كَانَ كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ كرم الله وَجهه فِي صفة الْمُؤمن الْمُؤمن بشره فِي وَجهه وحزمه فِي قلبه أوسع شَيْء صَدرا وأذل شَيْء نفسا يكره الرّفْعَة ويشنأ السمعة طَوِيل غمه بعيد همه كثير صمته مَشْغُول وقته شكور صبور مغمور بفكرته ضنين بخلته سهل الخليقة لين العريكة نَفسه أصلد من الصلد وَهُوَ أذلّ من العَبْد ثمَّ أَبوهُمَا جدي الْمُسَمّى سلمَان أهل الْبَيْت الَّذِي لَا نعلم أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة مدح غَيره بذلك فَقَالَ الإِمَام شرف الدّين لوالده شمس الدّين بن أَمِير الْمُؤمنِينَ
(جَاءَكُم سلمَان بَيْتِي ... فاعرفن يَا شمس حَقه)
(ولرجواه فحقق ... وببشر فتلقه)
وَأَنا بِحَمْد الله لم أعرف غير سبيلهم وَلَا ربيت إِلَّا فِي جحورهم وَإِنِّي وَالنَّاس لَكمَا قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله تَعَالَى
(يَقُولُونَ لي فِيك انقباض وَإِنَّمَا
(رَأَوْا رجلا عَن موقف الذل أحجما)(1/206)
(أرى النَّاس من داناهم هان عِنْدهم ... وَمن أكرمته عزة النَّفس أكرما)
(وَلم أقض حق الْعلم إِن كنت كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما)
(وَمَا كل برق لَاحَ لي يستفزني ... وَلَا كل من فِي الأَرْض أَلْقَاهُ منعما)
(إِذا قيل هَذَا مشرب قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحْتَمل الظما)
(وَلم أبتذل فِي خدمَة الْعلم مهجتي ... لَا خدم من لاقيت لَكِن لَا حد مَا)
(أأشقى بِهِ غرساً وأجنيه ذلة ... إِذا فاتباع الْجَهْل كَانَ قد أسلما)
(وَلَو أَن أهل الْعلم صانوه صانهم ... وَلَو عظموه فِي النُّفُوس لعظما)
(وَلَكِن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حَتَّى تهجما)
اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُول ذَلِك افتخاراً لي وَلَا تَزْكِيَة لنَفْسي بل لما يَنْبَغِي من تجنب مَوَاقِف التهم معترف بِأَنِّي أَحْقَر من أَن أذكر وأهون من قلامة الظفر وَلَكِن مظلوم رفعت ظلامتي إِلَيْك كَمَا قَالَ زين العابدين رَضِي الله عَنهُ يَا من لَا يخفى عَلَيْهِ أنباء المتظلمة وَيَا من لَا يحْتَاج فِي قصصهم إِلَى شَهَادَة الشَّاهِدين وَيَا من قربت نصرته من المظلومين وَيَا من بعد عونه عَن الظَّالِمين قد علمت يَا إلهي مَا نالني من فلَان إِلَى آخر مَا ذكره فِي دُعَائِهِ وحسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم هَذَا وَلَوْلَا تحرج أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ فِي إِعَادَة الْجَواب لما توجه مني بعد ذَلِك خطاب وَهَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى بيني وَبَيْنكُم آخر كتاب وَالسَّلَام
الشَّيْخ أَحْمد بن سلميان القادري الدِّمَشْقِي الشَّيْخ الْعَارِف المعتقد الْمُتَّفق على ورعه وديانته كَانَ من أكبر مَشَايِخ الشَّام فِي عصره لَهُ الْخلق الْحسن والشيم الزكية والكرامات الباهرة ورزق الحظوة التَّامَّة فِي اعْتِقَاد النَّاس عَلَيْهِ بِحَيْثُ لم يخْتَلف فِي شَأْنه اثْنَان وَكَانَ لَهُ فِي التصوف حَال باهر وكلمات رائقة نَشأ على مجاهدات وعبادات وَأخذ الحَدِيث عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَجلسَ على سجادة أَبِيه من بعده فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ فِي مبدأ أمره سَاكِنا فِي محلّة الشلاحة بِدِمَشْق ثمَّ انْتقل إِلَى مدرسة الْأَمِير سيف الدّين قلج الأسفلار الْمَعْرُوفَة بالقلجية وعزل التُّرَاب الَّذِي كَانَ فِيهَا من بقايا الخراب فِي فتْنَة تيمور وعمرها وَأَنْشَأَ سَبِيلا بجوار تربَتهَا وَكَانَ ذَلِك فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقَالَ مامية الرُّومِي مؤرخاً بِنَاء السَّبِيل
(هَذَا السَّبِيل الأحمدي ... لله لفيه خفا)
(وَقد أَتَى تَارِيخه ... اشرب هنيا بل شفا)(1/207)
وَبَعْدَمَا أتم الْعِمَارَة قطن بِالْمَدْرَسَةِ وأسكن فِي حُجْرَتهَا عدَّة من الْفُقَرَاء وَكَانَ يُقيم حَلقَة الذّكر فِي الْجَامِع الْأمَوِي يَوْم الْجُمُعَة عقب الصَّلَاة عِنْد بَاب الخطابة وبالمدرسة الْمَذْكُورَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ بعد الْعَصْر وَكَانَ يتعاطى الْإِصْلَاح بَين النَّاس وَعظم صيته وارتفع قدره حَتَّى صَارَت الْحُكَّام والأمراء يقصدونه للزيارة ويتبركون بدعواته وَكَانَ لطيف المحاورة طريف المعاشرة يستحضر أَخْبَار السّلف ويوردها أحسن مورد وَكَانَ يكرم المترددين إِلَيْهِ ويضيفهم وَيقبل عَلَيْهِم وَكَانَ يكاشف الْغَالِب مِنْهُم بأنواع المكاشفات قَرَأت بِخَط الأديب عبد الْكَرِيم الطَّبَرَانِيّ فِي بعض مجاميعه أَنه وَقع لصَاحب التَّرْجَمَة مكاشفة مَعَ بعض الروميين وَكَانَ من جمَاعَة خسرو باشا كافل المملكة الشامية وَقد ذهب لزيارته فَقَالَ لَهُ الْيَوْم يحصل لَك حَادِثَة فاحذرها وَلَا تخرج من مَكَانك حَتَّى يمْضِي الْيَوْم فَلم يبال بِمَا قَالَه وَخرج من غير مشورة لجِهَة الْكسْوَة لأمر أوجب ذَلِك فاتفق لَهُ أَن سَاق جَوَاده وَلَا زَالَ يَسُوقهُ حَتَّى رَمَاه على صخور وحجارة صلدة فهشم وَبَقِي طريحاً على الأَرْض لَا يفِيق وَلَا يعي ثمَّ حمل إِلَى منزلَة وَاسْتمرّ يعالج نَفسه إِلَى أَن عوفي وَأشهر مَا يُؤثر عَنهُ لردّ الضَّالة اللَّهُمَّ يَا معطي من غير طلب وَيَا رازقاً من غير سَبَب رد عَليّ مَا ذهب وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من الْولَايَة فِي رُتْبَة عالية وَهُوَ فَوق مَا وَصفته فِي كل منقبة سامية وَكَانَت وِلَادَته فِي بضع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد لثلاث بَقينَ من شهر رَمَضَان سنة خمس بعد الْألف وَصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر بالجامع الْأمَوِي وَدفن فِي مدفن الْأَمِير سيف الدّين بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة رَحمَه الله تَعَالَى
الْمولى أَحْمد بن سُلَيْمَان الرُّومِي الْمَعْرُوف بالإياشي قَاضِي الْقُضَاة بحلب ثمَّ بِالشَّام ولي الشَّام فِي سنة سبع بعد الْألف وَكَانَ فِي ابْتِدَاء قَضَائِهِ معتدلاً وسلك مَسْلَك الْإِنْصَاف ومدحه شعراء دمشق بالقصائد البديعة وَمِنْهُم أَبُو الْمَعَالِي درويس مُحَمَّد الطالوي فَإِنَّهُ كَاتب إِلَيْهِ قصيدة شينية استحسنها أدباء وقته مَعَ صوبة رويها ومطلعها
(كَيفَ أخْشَى فِي الشَّام أَمر معاشي ... وملاذي بهَا جناب الإياشي)
(أفضل الْقَوْم من سما للمعالي ... فاعتلاها طفْلا وكهلاً وناشي)
(فَهُوَ بدر الْعُلُوم صدر الموَالِي ... من سماهم فضلا وَلست أحاشي)
(سَاق عدلا بِالشَّام حَتَّى شَهِدنَا ... مشي ذِئْب الفلاة بَين الْمَوَاشِي)(1/208)
ثمَّ تَغَيَّرت أَحْوَاله وفسدت أطواله واشتهرت فِي أَيَّامه الرِّشْوَة وأبطل كثيرا من الْحُقُوق حَتَّى ضجر مِنْهُ أهل دمشق وأعياهم الْجهد وَقَامَت عوامها على سَاق فرجموه عِنْد خَنْدَق القلعة بَين سوق الأروام والعمارة الأحمدية وأفحشوا فِي رجمه وَكَانَ رجمه يَوْم دُخُول السَّيِّد مُحَمَّد باشا الْوَزير إِلَى دمشق حَاكما بهَا وَقد كَانَ طلع لاستقباله فَكَانَ النَّاس يشيرون إِلَى الْوَزير بالشكاية عَلَيْهِ فِي وَجهه يتظلمون وَهُوَ سَاكِت وَلم يزل النَّاس ممسكين أَيْديهم عَن الرَّجْم إِلَى أَن دخل الْوَزير الْمَذْكُور إِلَى دَار الْإِمَارَة ففارقه القَاضِي فَاسْتَقْبلهُ النَّاس عِنْد انْصِرَافه يصيحون فِي وَجهه ويقابلونه بِكَلِمَات لَا تلِيق وأعقبوا ذَلِك بِالرَّجمِ حَتَّى فرّ مِنْهُم هَارِبا وأدركه مَعَ ذَلِك مَا أدْركهُ من الْأَحْجَار وهجاه بعد ذَلِك أَبُو الْمَعَالِي الْمَذْكُور بقصيدة طَوِيلَة سَمَّاهَا رفع الغواشي عَن ظلم الإياشي وَقسمهَا فصولاً وَجعل كل فصل فِي حَال من أَحْوَاله وابتدأها ببيتين من شعر أبي الْفَتْح الْمَالِكِي مفتي الْمَالِكِيَّة بِالشَّام وهما قَوْله
(الشَّام تبْكي بدموع غزار ... بكاء ثَكْلَى مَا لَهَا من قَرَار)
(بكاء مظلوم لَهُ نَاصِر ... لَكِن بعيد الدَّار والخصم جَار)
ثمَّ ذكر فصولها فَمن ذَلِك قَوْله مُشِيرا إِلَى ظلمه مَعَ وَكيله لرجل بِدِمَشْق يُقَال لَهُ عقيص مَاتَ خلف ثَلَاثَة آلَاف قِرْش وَأخذ مِنْهَا ألفا فَقَالَ
(كَيفَ اسْتحلَّ ألف قِرْش لنا ... وَجُمْلَة المَال ثَلَاث كبار)
(وَجُمْلَة الْأَوْقَاف فِي عَهده ... تبَاع فِي الدَّلال بيع الْخِيَار)
(ويدعى الرقة فِي طبعه ... مثل المخاديم الموَالِي الْكِبَار)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء الشَّام بعيد رجمه بِقَلِيل وَاتفقَ عَزله يَوْم عيد النَّحْر من سنة ثَمَان بعد الْألف فَقيل فِي تَارِيخ عَزله
(رجم الإياشي فِي دمشق وجاءه ... عزل وَكَانَ الْعِيد عيداً أكبرا)
(وسئلت عَن تَارِيخه فأجبتهم ... بِالْعَزْلِ شَيْطَان رجيم دمرا)
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة عشر بعد الْألف والإياشي بِفَتْح الْهمزَة بعْدهَا يَاء مثناة ثمَّ ألف فشين مُعْجمَة نِسْبَة إِلَى إياش بليدَة يصنع بهَا الصُّوف من نواحي أنقرة بِبِلَاد قرمان وَالله أعلم
أَحْمد بن سِنَان الْمَعْرُوف بالقرماني الدِّمَشْقِي صَاحب التَّارِيخ الْمَشْهُور وَأحد الْكتاب الْمَشْهُورين كَانَ كَاتبا منشئاً حسن الْعبارَة قدم أَبوهُ سِنَان إِلَى دمشق وَولي(1/209)
نظارة البيمارستان ونظارة الْجَامِع الْأمَوِي وانتقد عَلَيْهِ أَنه بَاعَ بسط الْجَامِع الْأمَوِي وحصره وَأَنه خرب مدرسة الْمَالِكِيَّة بِالْقربِ من البيمارستان النوري وتعرف بالصمصامية وَحصل بِهِ الضَّرَر بمدرسة النورية ببعلبك فَقتل بِسَبَب هَذِه الْأُمُور هُوَ وناظر السليمية حُسَيْن فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر شَوَّال سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة خنقاً مَعًا بدار السَّعَادَة بشاشيهما وعمامتاهما على رأسيهما ثمَّ نَشأ أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة بعد أَبِيه وَصَارَ كَاتب وقف الْحَرَمَيْنِ ثمَّ ناظره وَكَانَ حسن المحاضرة وَله مُخَالطَة مَعَ الْحُكَّام خُصُوصا قُضَاة الْقُضَاة وَعمر بَيْتا وحديقة بمحلة الجسر الْأَبْيَض من الصالحية وَكَانَ لَهُ حشمة وإنصاف فِي كثير من الْأُمُور وَجمع تَارِيخه الشَّائِع وَتعرض فِيهِ لكثير من الموَالِي والأمراء الْمُتَأَخِّرين وَسَماهُ أَخْبَار الدول وآثار الأول وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشري شَوَّال سنة تسع عشرَة بعد الْألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الأديب أَحْمد بن شاهين الفرسي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الأديب اللّغَوِيّ الشَّاعِر المنشىء الْمَشْهُور أصل وَالِده من جَزِيرَة قبرس بِالسِّين الْمُهْملَة لَا بالصَّاد كَمَا يغلط فِيهِ الْعَوام جَزِيرَة بالبحر الشَّامي وَهُوَ من الْفَيْء الَّذِي أفاءه الله على الْإِسْلَام حِين فتحهَا فَاشْتَرَاهُ بعض الْأُمَرَاء وتبناه وَجعله من أجناد دمشق وَمكث بعد الْأَمِير يزْدَاد فِي الرّفْعَة حَتَّى صَار أحد الْأَعْيَان الْمشَار إِلَيْهِم بالتقدم وَولد لَهُ أَحْمد هَذَا وَنَشَأ وانتظم فِي سلك الْجند وَلما وَقعت الْفِتْنَة بَين عَليّ بن جانبولا ذُو العساكر الشامية وانْتهى الْأَمر إِلَى انهزام الْعَسْكَر الشَّامي وَقتل مِنْهُم من قتل وَأسر من أسر كَانَ الشاهيني من جملَة من أسر فِي تِلْكَ الْوَقْعَة وَلما أطلق من ربقة الْأسر اعتاض عَن الوشيج والحسام بالقراطيس والأقلام كَمَا قَالَ
(صبوت إِلَى حب الْفَضَائِل بَعْدَمَا ... تقلدت خطيا وصلت بلهذم)
(وَصَارَ مدادي من سَواد محاجري ... وَقد كَانَ محمراً يسيل كعندم)
(ومارست من بعد الْقَنَاة يراعة ... كأبيض مصقول الْعَوَارِض لهذم)
وَلزِمَ الْحسن البوريني وَعمر الْقَارِي وَعبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ وَقَرَأَ عَلَيْهِم من أَنْوَاع الْعُلُوم وتأدب بِأبي الطّيب الْغَزِّي وَعبد اللَّطِيف بن المنقار حَتَّى برع وَصَارَ أحد الْفُضَلَاء وَعين الْأَعْيَان وَكَانَ مليح الْعبارَة فِي الْإِنْشَاء جيد الفكرة حُلْو الترصيع لطيف الْإِشَارَة جواداً ممدّحاً منشياً بليغاً حسن التَّصَرُّف فِي النّظم والنثر وَكَانَ(1/210)
الْغَالِب عَلَيْهِ فِي إنشائه الْعِنَايَة بالمعاني أَكثر من طلب التسجيع وَله رسائل بليغة وآثار شائعة وَاخْتصرَ حِصَّة من الْقَامُوس وَزَاد من عِنْده أَشْيَاء حَسَنَة الْموقع وسلك طَرِيق عُلَمَاء الرّوم فلازم الْمُفْتِي الْأَعْظَم صنع الله بن جَعْفَر وناب فِي الْقَضَاء بِدِمَشْق وَتَوَلَّى قَضَاء الركب الشَّامي فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَلَقي شرِيف مَكَّة حِينَئِذٍ الشريف إِدْرِيس بن الْحسن ومدحه بقصيدة مطْلعهَا
(أَي ربع صبري عَاد فِيك دريسا ... وهواي أَمْسَى فِي حماك حَبِيسًا)
ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الجقمقية بالفرغ من المنلا بُسْتَان الرُّومِي نزيل دمشق وَأعْطى تدريس الدَّاخِل ونبل قدره وطار صيته ومدحه شعراء عصره بالقصائد السائرة وَرَأَيْت لبَعض الْفُضَلَاء كتابا ضخماً أَلفه باسمه وَسَماهُ الرياض الأنيقة فِي الْأَشْعَار الرقيقة افتتحه بقصيدة رائية فِي مدحه أَولهَا
(رنا فَرَمَانِي بِسَهْم النّظر ... وسل من الجفن سيف الْحور)
(فأدمى فُؤَادِي وَلَا مُنكر ... وأضحى يسائلني مَا الْخَبَر)
(وَمن عجب عَارِف بِالَّذِي ... عراني وَيسْأل عَمَّا ظهر)
وَلما قدم حَافظ الْمغرب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري إِلَى دمشق أنزلهُ فِي الْمدرسَة الجقمقية واعتنى بِهِ اعتناء زَائِدا وَصدر بَينهمَا محاورات جميلَة ومراسلات جليلة فَمن ذَلِك مَا كتبه الشاهيني فِي تهنئة بعام جَدِيد
(عَام جَدِيد وجدّ مقبل وَنهى ... فياضة وفهوم بتن كالشهب)
(فَهَل يرى الْبَدْر بدر الغرب فِي شَرق ... بِأَن يرى النَّجْم نجم الشرق فِي الْأَدَب)
(وَالْيَوْم مَا زَالَ سياراور بتما ... يحل منزلَة تنحط فِي الرتب)
وَأرْسل إِلَيْهِ بهدية وَخمسين قرشا وَكتب إِلَيْهِ معتذراً وأجاد إِلَى الْغَايَة
(لَو كَانَ لي أَمر الشَّبَاب خلعته ... بردا على عطفيك ذَا أردان)
(لَكِن تعذر بعث أوّل غايتي ... فَبعثت نَحْوك غَايَة الْإِمْكَان)
وَالْبَيْت الأول مَأْخُوذ من قَول الشريف الرضي
(وَلَو أَن لي يَوْمًا على الدَّهْر أمره ... وَكَانَ لي الْعَدْوى على الْحدثَان)
(خلعت على عطفيك برد شبيبتي ... جوداً بعمري واقتبال زماني)
فَرَاجعه الْمقري بقوله
(يَا وَاحِد الْعَصْر الَّذِي بمديحه ... سَارَتْ ركاب الْمجد فِي الْبلدَانِ)(1/211)
(أوليتني مَالا أقوم بشكره ... مَالِي بشكر المنعمين يدان)
(ونظمت أشتات الْكَمَال جواهراً ... أضحت تفوق قلائد العقيان)
(فَالله يبْقى من جنابك سَيِّدي ... عين الزَّمَان ومفخر الْأَعْيَان)
وَسَيَأْتِي لمراجعتهما طرف فِي تَرْجَمَة الْمقري إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ الشاهيني على طَريقَة ابْن بسام ويقفو أَثَره فِي عَبث اللِّسَان وشكوى الدَّهْر وهجاء أَبنَاء عصره وَكَانَ ابْن بسام هجا أَبَاهُ فَضرب الشاهيني على قالبه ونسج على منواله حَيْثُ قَالَ فِي أَبِيه
(أَقُول لركب من معِين وهم على ... جنَاح رحيل دَائِم الخفقان)
(أما إِنَّه لَوْلَا فِرَاق بكورنا ... يثبن إِلَى ردّي بجذب عناني)
(وَلَوْلَا أبي شاهين قصّ قوادمي ... لَكَانَ جناحي وافر الطيران)
وَقَالَ
(لما رَأَيْت الْعَيْش من ثَمَر الصِّبَا ... وَعلمت أَن الْعَفو حَظّ الْجَانِي)
(أدْركْت مَا لَا سوّلته شبيبتي ... وَفعلت مَا لَا ظنّه شيطاني)
وَلما مَاتَ وَالِده فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف حزن لفقده وانعزل عَن النَّاس مُدَّة وَكَانَ كثيرا مَا ينشد لنَفسِهِ وَهُوَ معتزل
(لَيْسَ فِي دَارنَا الَّتِي نَحن فِيهَا ... من جَمِيع الْأَوْصَاف وَالْأَحْوَال)
(حَالَة تشبه الْجنان سوى مَا ... قد عَرفْنَاهُ من فرَاغ البال)
وَقَالَ يشكو من بَيته
(سئمت وَالله من الْبَيْت ... ليتي أرَاهُ فَارغًا ليتي)
(فِي كل يَوْم ألف تصديعة ... آخرهَا قَارُورَة الزَّيْت)
وَكَانَ مَعَ وفور أدبه قَلِيل الْحَظ من دُنْيَاهُ لَا يزَال ضيق الْحَال شاكياً من دهره وَله فِي هَذَا الْبَاب ملح وتحف فَمن ذَلِك قَوْله
(وقائلة مَا بَال جدّك عاثراً ... وَأَنت مقيل عَثْرَة الكرماء)
(فَقلت ذَرِينِي لَا أبالك لَيْسَ ذَا ... عثار جدودي بل عثار ذكائي)
وَقَوله من قصيدة كتبهَا وأرسلها إِلَى شَيْخه الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي يستدعيه إِلَى الْقصر الَّذِي بناه بقرية كفر بَطنا ومطلعها
(كَفاك اغتراباً أَن تحل البواديا ... )
يَقُول فِيهَا
(وَلَو كنت مِمَّن خيرته جدوده ... تخيرت أَن أغدو لغمدان واليا)
(وَلَو ظَفرت نَفسِي بمبلغ حَقّهَا ... سموت فنظمت النُّجُوم مراقيا)
(وَمَا رضيت نَفسِي سوى الْبَدْر صاحباً ... وَلَا اتَّخذت إِلَّا عُطَارِد تاليا)(1/212)
(وَلَا استوطنت إِلَّا المجرة رَوْضَة ... ونهراً إِذا رامت هُنَاكَ التلافيا)
(وَلَو أَن حظي رَاح يصحب همتي ... لبت على أيوان كيوان ساميا)
(غضِبت لدهري حِين غَيْرِي سما بِهِ ... وَزَاد لَهُ لما كرهت التساويا)
(زماني كحظي ثمَّ حظي كدهره ... فَمَا أَنا عَن دهري وَلَا عَنهُ رَاضِيا)
وَهِي قصيدة طَوِيلَة تحتوي على حماسة عَجِيبَة فِي بَابهَا وغمدان فِي قَوْله تخيرت أَن أغدو لغمدان كعثمان قصر بِالْيمن بناه يشْرَح بأَرْبعَة وُجُوه أَحْمَر وأبيض وأصفر وأخضر وَبنى دَاخله قصراً بسبعة سقوف بَين كل سقف وسقف أَرْبَعُونَ ذارعا كَذَا قَالَه فِي الْقَامُوس وَقَالَ بعض شرَّاح الْمَقْصُورَة الدريدية غمدان بِنَاء بصنعا لم يدْرك مثله هَدمه عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فِي الْإِسْلَام وَله رسوم بَاقِيَة إِلَى الْآن وَالَّذِي بناه هُوَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَفِيه يَقُول الشَّاعِر
(فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفعا ... فِي رَأس غمدان دَار مِنْك محلالا)
وَمن عَجِيب خبر الشاهيني أَنه امتحن باصطناع الكيميا وَصرف عَلَيْهَا أَمْوَالًا جمة وَلم ينل مِنْهَا طائلاً وَلما تحقق استحالتها فِي ذَلِك قَالَ
(لعمري لقد جربت كل مجرب ... من النَّاس أضحى يَدعِي الْعلم بِالْحجرِ)
(فَإِن قَالَ إِنِّي وَاصل قلت كَاذِب ... غَدا واصلاً فِي الْكَذِب للشمس وَالْقَمَر)
وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بِهَذِهِ الأبيات من جملَة قصيدة للطغرائي فِي هَذَا الْفَنّ وَهِي
(يَا طَالب الْعلم عَلَيْهِ يَدُور ... فِي كنب الرَّازِيّ وَشرح الشذور)
(وَجَابِر مَعَ نجل وحشية ... وخَالِد الأول ذَاك الحذور)
(إِذا هُوَ السهل الْقَرِيب الَّذِي ... أمات بالحسرة أهل الْقُبُور)
كتب الرَّازِيّ فِي هَذَا الْفَنّ كَثِيرَة أشهرها سر الْأَسْرَار وَشرح الشذور الَّذِي عناه هُوَ شرح الْجلد كي لِأَنَّهُ أشهر شروحه وَأما مَتنه فَهُوَ لسيدي عَليّ بن مُوسَى بن ارْفَعْ رَأس المغربي وَجَابِر هُوَ ابْن حَيَّان الصُّوفِي عبد الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَفِيه يَقُول صَاحب الشذور
(حِكْمَة أورثناها جَابر ... عَن إِمَام صَادِق القَوْل حفى)
(يُوصي طَابَ من تربته ... فَهُوَ كالمسك تُرَاب نجفى)
وَابْن وحشية أستاذ كَبِير فِي هَذَا الْفَنّ وخَالِد بن يزِيد كَانَ معاصر الجابر وَهُوَ أول من عرب الْكتب الْحكمِيَّة إِلَى لُغَة الْعَرَب وَله الدِّيوَان الْمَشْهُور بالفردوس وَكَون(1/213)
هَذَا الْفَنّ يُوجب التحسر مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى تفكر وَمَا أحسن قَول مُحَمَّد بن عبد السَّلَام
(قد نكس الرَّأْس أهل الكيميا خجلاً ... وقطروا أدمعاً من بعد مَا سهروا)
(إِن طالعوا كتبا للدرس بَينهم ... صَارُوا ملوكاً إِن هم جربوا افتقروا)
(تعلقوا بحبال الشَّمْس من طمع ... وَكم فَتى مِنْهُم قد غره الْقَمَر)
وللشهاب الخفاجي
(مولَايَ مثل الكيمياء وَلَيْسَ من ... أكسيره نفع لكسرى جَابر)
(فَإِذا تصورناه فَهُوَ لنا غنى ... وَإِذا نجر بِهِ ففقر حَاضر)
والأكسير شَيْء يوضع قَلِيله على النّحاس فَيصير ذَهَبا وعَلى الرصاص فَيصير فضَّة وَقد اشْتهر فِي الكيميا وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ بِحِصَّتِهِ وَكَذَا الشَّيْخ الْبونِي وَكثير من الْعلمَاء وَمن حوز تعاطيه شَرط أَن لَا تنْقَلب عَنهُ عَن مَعْدن النَّقْدَيْنِ بعد ذَلِك وَأنْكرهُ أَبُو حَيَّان والحافظ السُّيُوطِيّ وَالتَّحْقِيق أَن تعاطيه من غير علم يقيني عَبث وضلال وَفَسَاد وَعَن مشَاهد من أستاذ عَارِف واختبار لمعدنه بِحَيْثُ يبْقى ذَهَبا أَو فضَّة لم يتَغَيَّر وَإِذا عرض على أَرْبَاب الْخِبْرَة أَجمعُوا على أَن معدنه صَحِيح جَائِز وَنقل ابْن شَاكر عَن الْعَلامَة عبد الرَّحِيم على الشير بِابْن برهَان وَكَانَ رحْلَة فِي عُلُوم شَتَّى وَكَانَ عُرْيَان الرَّأْس أَنه قَالَ لَو كَانَ علم الكيميا حَقًا لما احتجنا إِلَى الْخراج وَلَو كَانَ علم الطلاسم حَقًا لما احتجنا إِلَى الجنذ وَلَو كَانَ علم النُّجُوم حَقًا لما احتجنا إِلَى الرُّسُل والبريد وَقد خرجنَا عَمَّا يَعْنِي إِلَى ضِدّه فلنرجع لما نَحن بصدده فَنَقُول أَن لِابْنِ شاهين قصدا غررا وَمن أحْسنهَا ديباجة قصيدته الَّتِي كتب بهَا إِلَى شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا يمدحه بهَا وَيطْلب مِنْهُ قَضَاء الْحَج وَقد تقدم طرف من خَبَرهَا فِي تَرْجَمَة أَحْمد بن زين الدّين المنطقي ومطلعها قَوْله
(لَا يسلني عَن الزَّمَان سؤول ... إِن عتبي على الزَّمَان يطول)
(طَال عتبي كطول عمر تجنيه ... فعتبي بِذَنبِهِ مَوْصُول)
(أنست بِي خطوبه فَلَو اغتال ... سوائي لعزني التبديل)
وَهَذَا ينظر إِلَى قَول الشريف البياضي
(ألفت الضنى لما تطاول مكثه ... فَلَو زَالَ عَن جسمي بكته الْجَوَارِح)
وَقَول أبي الطّيب المتنبي(1/214)
(حَلَفت ألوفاً لَو رجعت إِلَى الصبى ... لفارقت شيبي مرجع الْقلب باكيا)
رَجَعَ
(وأحاطت سهامه بِي حَتَّى ... سد طرق المسام مني النصول)
رَجَعَ أَخذه من قَول المتنبي
(فصرت إِذا أصابتني سِهَام ... تَكَسَّرَتْ النصال على النصال)
(أَبْتَغِي صفوة الْحَيَاة ضلالا ... وَسَوَاد اللَّيْل لَيْسَ يحول)
رَجَعَ
(أَنا يَا دهر لست إِلَّا قناة ... لم يشنها لدي الْمَكْر النحول)
(إِن أكن فِي الحضيض أَصبَحت لي ... فِي ذرى الأوج كل حِين أجول)
(فطريقي هُوَ المجرة فِي السّير ... وَعند السماك دأبي المقيل)
(صنت نَفسِي ترفعاً عِنْد قدري ... فكثير الْأَنَام عِنْدِي قَلِيل)
(فَإِذا قيل لي فلَان ترَاهُ ... ذَا جميل أَقُول صبري الْجَمِيل)
(وفرت همتي عَليّ وعزمي ... مَاء وَجْهي فسيف عرضي صقيل)
(قد عرفت الْأَيَّام قدماً فَلَمَّا ... أَن دهتني أَبَت وَعِنْدِي الدَّلِيل)
أَخذه من قَول المتنبي
(عرفت اللَّيَالِي قبل مَا صنعت بِنَا ... فَلَمَّا دهتني لم تزدني بهَا علما)
(سلبتني بالغدر كل جميل ... غير فضلي ففاتها المأمول)
رَجَعَ
(إِن هَذَا الزَّمَان يحمل مني ... همة حملهَا عَلَيْهِ ثقيل)
(يتَأَذَّى من كَون مثلي كَأَنِّي ... أَنا مِنْهُ فِي الصَّدْر دَاء دخيل)
(فَكَأَنِّي إِذا انتضيت يراعاً ... بسنان على الزَّمَان أصُول)
(وَكَأن المداد إِذا رقمته ... أنملي والدموع مني تسيل)
(صبغة أثرت بحظي سواداً ... وأحالته وَهِي لَا تستحيل)
(لَيْتَني لَو صبغت فودي مِنْهَا ... فارعوى الشيب واستحال الفضول)
(لَا أرى أنني انْفَرَدت بِهَذَا ... كل أَيَّام دهر مثلي شكول)
وَمن شعره
(وأذكرني قدّ الْقَنَاة قوامه ... وهزني الشوق اهتزاز المهند)
(وأزعجني حَتَّى ظَنَنْت وِسَادَتِي ... عليّ وَقد أمست كقطعة جلمد)
(على أنني يَا شوق بِاللَّه عَائِد ... ومستشفع من فتنتي بِمُحَمد)
وَقَوله فِي جبهة مَحْبُوب أثرت الشَّمْس فِيهَا
(عجبت للشمس إِذْ حلت مُؤثرَة ... فِي جبهة لم أخلها قطّ للبشر)(1/215)
(وَإِنَّمَا الْجَبْهَة الغراء منزلَة ... مُخْتَصَّة فِي ذرى الأفلاك بالقمر)
(مَا كنت أَحسب أَن الشَّمْس تعشقه ... حَتَّى تبينت مِنْهَا حِدة النّظر)
وَقَوله فِي مجدر
(وقائلة وَالشَّمْس أَعنِي وَقد رَأَتْ ... قروحاً على خدّ يفوق على الْورْد)
(أما تغتدي تهدي لحبك عوذة ... فَقلت وَهل تغني الرقى من أخي الوجد)
(فَجَاءَتْهُ ولهى بالنجوم عمائماً ... فأدهشها حَتَّى نثرن على الخد)
وَهُوَ معنى حسن تصرف فِيهِ وَأَصله قَول بَعضهم
(كَأَنَّهُ غنى لشمس الضُّحَى ... فنقطته طَربا بالنجوم)
وَمن قَوْله المستجاد
(نصل الشَّبَاب وَمَا نصلت من الْهوى ... وبدا المشيب وفيّ فضل تصابي)
(وغدوت أعترض الديار مُسلما ... يَوْمًا فَلم تسمح بردّ جوابي)
(فَكَأَنَّهَا وكأنني فِي رسمها ... أعشى يحدّق فِي سطور كتاب)
وَقَوله أَيْضا
(قد كَانَ يُمكن أَن أكف يَد الْهوى ... عني وأعصي فِي الْبكاء جفوني)
(لَكِن لي صبرا مَتى استنجدته ... ضحك الْهوى وبكت عليّ عيوني)
وَقَوله فِي معذر
(حفت رياض خدوده رَيْحَانَة ... فغدت لأزهار بهَا أكماما)
(وتحوّطتها هَالة لعذاره ... فتوهموه للبدور غماما)
وَقَوله فِيهِ أَيْضا
(ومعذر كتب الْجمال بِوَجْهِهِ ... سطرين بَين مضرج ومدلج)
(فكأنّ خديه ولون عذاره ... ورد تفتح فِي رياض بنفسج)
وَسمع حِكْمَة من قَول بعض الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين وَهِي قَوْله الدُّنْيَا إِذا أَقبلت على الْمَرْء كسته محَاسِن غَيره وَإِذا أَدْبَرت عَنهُ سلبته محَاسِن نَفسه فنظمها فِي قَوْله
(إِذا أَقبلت دنياك يَوْمًا على امرىء ... كسته وَلم يشْعر محَاسِن غَيره)
(وَإِن أَدْبَرت تسلب محَاسِن وَجهه ... ويلقى شروراً فِي تضاعيف خَيره)
وَله غير ذَلِك مِمَّا يطول شَرحه وَلَا تَنْتَهِي محاسنه فلنتقتصر مِنْهُ على هَذَا الْمِقْدَار وَأما نثره فكثير وَقد أوردت لَهُ كثيرا من منشآته فِي كتابي النفحة فَليرْجع إِلَيْهِ(1/216)
وَقد ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب فَقَالَ فِي تَرْجَمته طَار صيت فَضله فِي الْبِلَاد وسرى كَلَامه مسرى الْأَرْوَاح فِي الأجساد وَمَا سفرت رقة النسيم إِلَّا عَن خلقه الْكَرِيم وَمن قَاس جود وَكَرمه بكعب وحاتم فقد ظلمه وَأما اللُّغَة فقد فصل مجملها وَفرق معضلها وانتقد جوهري نظره صِحَاح ألفاظها وَأظْهر بفائق فكره غلط حفاظها فالقاموس جدول كِتَابه والعباب سيف عبابه وَمن وقف فِي اللُّغَة على كِتَابه الفاخر علم مِنْهُ كم ترك الأول للْآخر كَمَا قَالَ هُوَ
(لَا تقل للأوائل الْفضل كم من ... أوّل فَضله نبا عَن أخير)
وَإِذا قرنت بَدَائِع نظمه ونثره بِكَلَام كل متقدّم من شعراء الشَّام إِلَى عصره كَانُوا المذانب وَهُوَ الْبَحْر وَالْكَوَاكِب وَهُوَ الْبَدْر هَذَا وكل إطناب فِي مدحه إيجاز وكل حَقِيقَة لَهُ من الْمَدْح فِي غير مجَاز ثمَّ ذكر ابْتِدَاء أمره كَمَا ذكرت وَأورد لَهُ شَيْئا كثيرا من شعره وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من نَوَادِر الْأَيَّام وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس وَكَانَ يَوْم مَوته ماطراً جدا فَقَالَ الْأَمِير المنجكي يرثيه
(قلت لما قضى ابْن شاهين نحبا ... وَهُوَ مولى يُشِير كل إِلَيْهِ)
(رحم الله سيداً وعزيزاً ... بَكت الأَرْض وَالسَّمَاء عَلَيْهِ)
أَحْمد بن شمس الدّين الصفوري الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالبيضاوي نزيل الْمدرسَة الحجازية بِدِمَشْق الْفَاضِل الْعَالم المؤرخ ولد بقرية صفورية وَقدم إِلَى دمشق وَهُوَ فِي سنّ الكهولة وَقَرَأَ على الشَّيْخ مُحَمَّد الْحِجَازِي وَولده عبد الْحق وخدمهما مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ منعزلاً عَن النَّاس منكفاً عَن مخالطتهم رَأْسا وَله تلامذة يأْتونَ إِلَيْهِ ويقتبسون مِنْهُ وَله ملكة فِي الْعُلُوم واطلاع زَائِد على علم التَّارِيخ والوقائع وَكتب كتبا كَثِيرَة بِخَطِّهِ وضبطها بضبطه وَلم يتَزَوَّج فِي عمره قطّ وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس وَسبب مَوته أَنه كَانَ ممتحناً بغلامين أَحدهمَا من أَبنَاء غوطة دمشق وَالْآخر من أَبنَاء دمشق وَقد أقرأهما الْعَرَبيَّة وَالْفِقْه وبرعا وَكَانَ الْغُلَام الأول لَهُ بعض أقَارِب فِي قريته فاتفق أَنهم زاروا قريبهم عِنْد صَاحب التَّرْجَمَة لَيْلَة دوران الْمحمل لأجل التفرج وَأَقَامُوا عِنْدهم إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ قَامُوا إِلَى الْبَيْضَاوِيّ والغلامين وهم نيام وقتلوهم وَأخذُوا جَمِيع مَا كَانَ فِي الْمَكَان من مَال وَكتب وَأَسْبَاب وقفلوا الْبَاب وَسَارُوا وَلم يشْعر(1/217)
بهم أحد ثمَّ بعد ثَمَانِيَة من قَتلهمْ فاحت روائحهم بِالْمَدْرَسَةِ وَأعلم بذلك الْحُكَّام فكشف عَلَيْهِم وغسلوا ودفنوا وَلم يعلم قَاتلهم غير أَن حَاكم الْعَرَب مَحْمُود البلطجي متسلم مصطفى باشا السلاحدار الظَّالِم الْمَشْهُور أَخذ من الْمحلة وَمن غَالب قرى دمشق جريمة عَظِيمَة نَحْو ألفي قِرْش والقصة مَشْهُورَة وَالله أعلم
الشَّيْخ أَحْمد الْهَادِي بن شهَاب الدّين بن السقاف باعلوي الْحُسَيْنِي قدس الله سره الْمَوْصُوف بالجلالة والفخامة الْعَالم الْعَامِل الْوَلِيّ كَانَ إِمَام الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول عَارِفًا بطرِيق الْقَوْم محتفلاً بكتبهم مقتفياً لآثارهم الحميدة مُلْتَزما لآدابهم مشتغلاً فِي غَالب أوقاته بأنواع الْعُلُوم من فقه وأصول وَحَدِيث وَتَفْسِير وآلات كنحو وَصرف وَكَانَ لَهُ درس خَاص فِي كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين لحجة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَكَانَت وَفَاته فجر يَوْم الثُّلَاثَاء من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن شيخ عبد الله بن شيخ العيدروس اليمني الْوَلِيّ القطب المكاشف ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة يضبطها بالجمل الْكَبِير عدد حُرُوف ولي الله شمس الشموس وَصَحب جمَاعَة من أكَابِر عصره مِنْهُم السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَالشَّيْخ الإِمَام أَحْمد بن علوي باجحدب وَالشَّيْخ أَحْمد بن حُسَيْن العيدروس ثمَّ رَحل إِلَى وَالِده بالديار الْهِنْدِيَّة وَأقَام عِنْده بِأَحْمَد أباد ولاحظته عناية أَبِيه ثمَّ سَافر إِلَى بندر عدن وَأخذ عَن الإِمَام الْعَارِف عمر ابْن عبد الله العيدروس وَغَيره ولازم أَبَاهُ فِي دروسه وَلما مَاتَ أَبوهُ انْتقل إِلَى بندر بروج وقصده النَّاس لالتماس بركته وحصلت لَهُ حَال غيبته عَن الإحساس وَكَانَ فِي حَال غيبته يخبر بالمغيبات وَأخْبر جمَاعَة بِمَا هم متلبسون بِهِ فِي الْحَال وَآخَرين بِمَا سيؤل إِلَيْهِ أَمرهم ودى لجَماعَة من أهل الْعِلَل والأمراض بالشفاء فعافاهم الله تَعَالَى وَلم يحتاجوا إِلَى اسْتِعْمَال الدَّوَاء وَأخْبر السَّيِّد عبد الله بن شيخ أَن أَبَاهُ شَيخنَا انْتقل إِلَى رَحْمَة الله بتريم وَأَن أَخَاهُ السَّيِّد عبد الرَّحْمَن قَامَ مقَامه وَورد فِي الْخَبَر بِأَن ذَلِك الْيَوْم وَقع فِيهِ الِانْتِقَال وَأَن الْأَمر كَمَا قَالَه وَله رَحمَه الله تَعَالَى كرامات كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لأَرْبَع عشرَة بَقينَ من شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَدفن ببندر بروج رَحمَه الله
السَّيِّد أَحْمد بن شَيْخَانِ باعلوي وَتقدم تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة حفيده أبي بكر الْحُسَيْنِي(1/218)
السَّيِّد الشريف ولد بالمخا وَكَانَ من أكَابِر الْأَشْيَاخ الصَّالِحين والأولياء الْمُكرمين الكاملين وَكَانَ حَاتِم زَمَانه فِي الْكَرم مُرَتبا لغالب أَصْحَابه كل سنة نَقْدا وَكِسْوَة وَكَانَ يكرم الوافدين وَيُحب الْفُقَرَاء وَكَانَ يعْمل كل يَوْم سماطاً عَظِيما يجلس هُوَ وجماعته وَأَصْحَابه ثمَّ يجلس الخدام وَمن حضر ثمَّ العبيد وَأهل الْحَرْف الدنية وَيفْعل نَحْو أَرْبَعِينَ رغيفاً يجلس تَحت بَابه وكل من مر من الْفُقَرَاء أعطَاهُ رغيفاً وَلما مَاتَ وَالِده استولى على مخلفاته أَخُوهُ السَّيِّد حسن وأبرأه صَاحب التَّرْجَمَة من جَمِيعهَا وتعاطى التِّجَارَة فَفتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ حَتَّى اتسعت أملاكه واستوطن وَصَارَ يمد أَخَاهُ بِالنَّفَقَةِ وَبنَاته من بعده وزار جده النَّبِي
وَحصل لَهُ مزِيد الْإِكْرَام وَعمي آخر عمره وَلما زار النَّبِي
وَقد كف بَصَره زار بعض الْأَوْلِيَاء الَّذين يرَوْنَ النَّبِي
وَطلب أَن يسْأَله هَل قبلت زيارته فَقَالَ لَهُ قَالَ النَّبِي
نعم قبلت زيارته فَطلب مِنْهُ أَن يسْأَله أَن يَدْعُو الله تَعَالَى أَن يرد إِحْدَى عَيْنَيْهِ ليعيش بهَا وَينظر إِلَى عجائب مخلوقاته فَقَالَ النَّبِي
سيرد الله تَعَالَى عَلَيْهِ عَيْنَيْهِ فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ لما رَجَعَ إِلَى مَكَّة أَتَى إِلَيْهِ رجل فَفتح لَهُ عَيْنَيْهِ وَاسْتمرّ إِلَى أَن مَاتَ فجر يَوْم الْجُمُعَة ثامن رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف بثغر جدة فَحَمله وَلَده سَالم من جدة إِلَى مَكَّة وَوصل بِهِ لَيْلَة السبت وَدفن فِي صبح الْيَوْم الْمَذْكُور على أَبِيه وأخيه فِي حوطة آل باعلوي الشهيرة بالمعلاة وأرخ وَفَاته سَالم بعد أَن رَآهُ فِي مَنَامه بقوله
(شاهدت فِي عَام الْوَفَاة بليلة ... غراء أَحْمد قَائِلا نَفسِي احمدي)
(أسكنت جنت النَّعيم نعم هِيَ ... نزلا فتاريخ الْوَفَاة تخلدي)
الشَّيْخ أَحْمد بن صَالح بن عمر الْقُدسِي العلمي الْفَقِيه الزَّاهِد العابد بن أخي الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد الْعلي الْمَشْهُور من بَيت الْولَايَة وَالصَّلَاح لَهُم الرتب الْعلية فِي الْبَيْت الْمُقَدّس وَخرج مِنْهُم عُلَمَاء وصلحاء كَثِيرُونَ وَقد ظَفرت بِتمَام نسبهم بِخَط بعض فضلاء الْقُدس فِيمَا كتب إِلَيّ مِنْهَا فِي الوفيات هَكَذَا عمر جد أَحْمد بن مُحَمَّد سعد الدّين بن تَقِيّ الدّين بن القَاضِي نَاصِر الدّين بن أبي بكر بن أَحْمد بن الْأَمِير مُوسَى ولي الله صَاحب الكرامات بن عمر بن علم الدّين بن ربيع بن سُلَيْمَان بن الْمُهَذّب بن قَاسم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حسن بن أَحْمد الحكاري انْتهى وَكَانَ أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة(1/219)
من عباد الله الصَّالِحين لَهُ الْوَرع التَّام وَالْعِبَادَة وَكَانَ ملازماً لِلْمَسْجِدِ وَصَلَاة الْجَمَاعَة دَائِم التَّهَجُّد والأوراد أَخذ عَن عَمه التصوف ولازمه وانتفع بِهِ وَفِي آخر أمره رَحل إِلَى دمشق فَتوفي بهَا عَشِيَّة الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
الشَّيْخ أَحْمد صفي الدّين بن صَالح بن أبي الرِّجَال اليمني الأديب المؤرخ الوافر الِاطِّلَاع كَانَ من أَفْرَاد الْيمن وقوراً ذَا أدب وسلامة لفظ وَحسن تأنق ولطافة طبع فَهُوَ إِنْسَان عين زَمَانه وأديب أَوَانه من سراة الأدباء والفضلاء بِصَنْعَاء وَكَانَ طلق الْوَجْه حسن الشمايل حلقت عَلَيْهِ الدُّرُوس بِمَدِينَة صنعاء وشهارة وصعدة وَكَانَ لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْمعَانِي وَالْبَيَان وتفاسير الْقُرْآن وَتَقْيِيد الْفُرُوع بالأصول ورد كل شَيْء إِلَى أَصله وَتَوَلَّى الخطابة وَأَنْشَأَ الْخطب فِي خلَافَة الإِمَام المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم ولازم حَضرته وَألف وَقيد وَمن أَجود مؤلفاته تَارِيخه الَّذِي جمعه لليمن وَسَماهُ مطلع البدور وَمجمع البحور وَهُوَ تَارِيخ حافل فِي سبع مجلدات وَذكر مُعظم عُلَمَاء الْيمن وأئمتها ورؤسائها وَقد وقفت بِخَط صاحبنا الأديب مصطفى بن فتح الله نزيل مَكَّة على تراجم مِنْهُ تتَعَلَّق بِأَهْل هَذِه الْمِائَة فأدرجتها فِي محلهَا وأعجبني حسن أسلوبها ولطف تعبيراتها وَكَانَ ينظم وينثر فَمن نظمه مَا قَالَه يصف محَاسِن الرَّوْضَة بِصَنْعَاء بقوله
(رَوْضَة قد صبا لَهَا السعد شوقاً ... وَصفا لَيْلهَا وطاب المقيل)
(جوّها سَجْسَج وفيهَا نسيم ... كل غُصْن إِلَى لقاه يمِيل)
(صَحَّ سكانها جَمِيعًا من الدَّاء ... وجسم النسيم فِيهَا عليل)
(إيه يَا ماءها العذب صلصل ... حبذا يَا زلال مِنْك الصليل)
(إيه يَا وَرقهَا المرنة غَنِي ... فحياة النُّفُوس مِنْك الهديل)
(روض صنعاء فقت لوناً وطبعاً ... فكثير الثَّنَاء فِيك قَلِيل)
(ته على الشّعب شعب بوّان وافخر ... فعلى مَا نقُول قَامَ دَلِيل)
(نهر دافق وجوّ فتيق ... زهرها فائق وظل ظَلِيل)
(وثمار قطوفها دانيات ... يجتنيها قصيرنا والطويل)
(لست أنسى ارتعاشي رحرور غُصْن ... طَربا والقضيب مِنْهُ يمِيل)
(وعَلى رَأس دوحة خَاطب الْوَرق ... ودموع الغصون طلاً يسيل)(1/220)
(ولسان الرعود تهتف بالسحب ... فَكَانَ الْخَفِيف مِنْهَا الثقيل)
(وفم السحب باسم عَن بروق ... مستطير شعاعها مسطيل)
(وزهور الربى تعجب من ذَا ... شاخصاً طرفها الْمليح الْجَمِيل)
(فانبرت قضبها تراقص تيهاً ... كخليل سقَاهُ خمرًا خَلِيل)
(وعَلى الجوّ مطرف الجوّ ضاف ... وعَلى الشط برج أنس أهيل)
(فِيهِ لي رفْقَة رقاق الْحَوَاشِي ... كَاد لين الطباع مِنْهُم يسيل)
(أريحيون لَو تسومهم الرّوح لجادوا ... فَلَيْسَ مِنْهُم بخيل)
(نتهادى من الْعُلُوم كؤوساً ... طَيّبَات مزاجها زنجيبيل)
(وغوانٍ من الْمعَانِي كعاب ... رِيقهَا حِين رشفه سلسبيل)
(طَابَ لي دارها وطاب ضحاها ... كَيفَ أسحارها وَكَيف الْأَصِيل)
وَله أشعار غير هَذِه الأبيات ومنشآت وعَلى كل حَال فالمعارف هَالة وَهُوَ بدرها والفضائل رَوْضَة وَهُوَ زهرها وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير أَحْمد بن طرباي بن عَليّ الْحَارِثِيّ أَمِير اللجون من قَبيلَة حَارِثَة يَنْتَهِي نسبهم إِلَى سِنْبِسٍ بِكَسْر السِّين وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعدهَا سين مُهْملَة من طي وَهَؤُلَاء الْقَوْم لَهُم قدم فِي الامارة مَا زَالُوا فِي جينين وَمَا والاها من الْبِلَاد لَهُم الْعِزَّة وَالْحُرْمَة وَأحمد هَذَا نبغ من بَيتهمْ وحيداً فِي المفاخر والشجاعة وَكَانَ لَهُ الرَّأْي الصائب والطالع المسعود والعهد الوفي ولي فِي مبدأ أمره حُكُومَة صفد ثمَّ تولى حُكُومَة اللجون بعد موت أَبِيه طرباي فِي سنة عشر بعد الْألف وَوَقع بَينه وَبَين فَخر الدّين بن معن حروب كَثِيرَة وَكَانَ ابْن معن توجه إِلَى بِلَادهمْ ثَلَاث مَرَّات للمحاربة ورحل ابْن طرباي إِلَى الرملة وَكَانَ فِي كل مرّة يكسر عَسْكَر ابْن معن ويدحضه وَأشهر وقعاته مَعَه وقْعَة يافا وَكَانَ هُوَ وَحسن باشا حَاكم غَزَّة والأمير مُحَمَّد ابْن فروخ أَمِير نابلس فَقتل من جمَاعَة ابْن معن مقتلة عَظِيمَة وغنم غنيمه وافرة جدا وَمِمَّا شاع لَهُ فِي صدق الْعَهْد مَا وَقع لَهُ مَعَ ابْن جانبولاذ مَعَ ابْن سَيْفا وَكَانَ ابْن سَيْفا هرب إِلَى مَحل حُكُومَة ابْن طرباي فَأكْرمه وَأظْهر لَهُ مَا يَلِيق بأمثاله وَكَانَ ابْن سَيْفا خرج إِلَيْهِ وَمَعَهُ سَبْعَة رجال من جماعته وَكَانَ مَعَه من الْأَمْوَال والذخائر مَا لَا يدْخل تَحت الإحصاء فَأرْسل ابْن جانبولاذ إِلَى طرباي برسالة وَذكر لَهُ أَنه يجْتَهد فِي قتل ابْن(1/221)
سَيْفا وَله جَمِيع مَا مَعَه من المَال وَإِن لم يفعل جوزي بالعقاب الشَّديد فَكَانَ جَوَابه أَن هَذِه كلمة لَا تقال وَمن وَقع فِي مثل هَذَا فعثرته لَا تقال ثمَّ بَادر إِلَى إكرام ابْن سَيْفا أَزِيد مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وأهداه خيولاً وَغير ذَلِك وَكَانَ من خطابه لَهُ لَو كَانَ لي مَال لقدمته إِلَيْك وَلَكِن عِنْدِي خُيُول وفيهَا جواد لم يعل ظَهره أحد بعد أبي فَهُوَ لَك مني هَدِيَّة وَأقَام ابْن سَيْفا عِنْده أَيَّامًا إِلَى أَن راسل عَسْكَر الشَّام بِأَن يقدموا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِي مَعَهم إِلَى دمشق وَلما وردوا تجهز مَعَهم وأتى من طَرِيق حوران إِلَى دمشق وَتَمام قصَّته نذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته فِي حرف الْبَاء وَكَانَت وَفَاة الْأَمِير أَحْمد سنة سبع وَخمسين وَألف وَقد قَارب الثَّمَانِينَ وَقد ولي الْحُكُومَة بعده ابْنه زين وَكَانَ شجاعاً عَاقِلا حَلِيمًا ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ مُحَمَّد وَكَانَ جواداً سمح الْكَفّ ممدحاً توفّي لَيْلَة السبت سَابِع عشري جُمَادَى الثَّانِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بجينين وَقَامَ من بعده ابْن أَخِيه زين الْمَذْكُور وَصَالح ثمَّ يُوسُف بن عَليّ بن عمتهم إِلَى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف فَخرجت الْحُكُومَة عَنْهُم ووليها أَحْمد باشا الترزي وتصرفت فِيهَا السلطنة إِلَى يَوْمنَا هَذَا واللجون موضعان الأول مَدِينَة بالأردن قديمَة وَهِي قَرْيَة يسكنهَا بعض أنَاس قَلَائِل حُكيَ أَن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام سكن هَذِه الْمَدِينَة وَمَعَهُ غنم لَهُ وَكَانَت الْمَدِينَة قَليلَة المَاء فَسَأَلُوهُ أَن يرتحل عَنْهُم لقلَّة المَاء فَضرب بعصاه على صَخْرَة هُنَاكَ فَخرج مِنْهَا مَاء كثير حَتَّى عَم أهل الْبَلَد ببركته والصخرة بَاقِيَة إِلَى وقتنا هَذَا وَالثَّانِي منزل فِي طَرِيق الْمَدِينَة قرب البلقا وَالله أعلم
مولَايَ أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور بن الْخَلِيفَة الْمهْدي ابْن أبي عبد الله الْقَائِم بِأَمْر الله الشريف الحسني ملك مراكش وفاس السُّلْطَان الْعَالم الأديب كَانَ من أَمر جده الشَّيْخ أَنه كَانَ فِي بداية أمره من أهل الْعلم وَكَانَ مُجْتَهدا فِي تَحْصِيل الكمالات فَاطلع على شَيْء من الجفر وَرَأى أَن طالعه يُوَافق الْملك فَصَارَ قَاضِيا فِي نواحي السوس من ديار الغرب ثمَّ وثب على بني حَفْص المنتسبين إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَلم يزل يقاتلهم حَتَّى ملك دِيَارهمْ وَعَفا من السلطنة آثَارهم وَقتل كثيرا من الْعلمَاء وَمن جملَة من قتل الشَّيْخ الزقاق وَكَانَ يَقُول من قتل سوسياً كَانَ كمن قتل مجوسياً فَلَمَّا مسكه قَالَ لَهُ أَنْت زق الضلال فَقَالَ لَهُ لَا وَالله بل أَنا زق الْعلم وَالْهِدَايَة فَجعل عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام حجَّة وَبِه قَتله وَاسْتمرّ يؤسس قَوَاعِد ملكه إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَقَامَ بِالْأَمر بعده(1/222)
وَلَده عبد الله وَتُوفِّي فَتَوَلّى الْملك بعده وَلَده مُحَمَّد أَخُو مولَايَ أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ أكبر إخْوَته وَلما جلس على سَرِير السلطنة أظهر مولَايَ أَحْمد الْمَنْصُور أَنه غير طَالب للْملك وَأَنه لَا ينْفق رَأس مَال عمره فِي غير مَا للْعلم من كنوز ومطالب فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ قَامَ وَلَده فِي مَحَله وَاسْتولى عَلَيْهِ الْغرُور واشار عَلَيْهِ بعض خدمته بقتل من بَقِي من أَعْمَامه فَلَمَّا علم بذلك مولَايَ أَحْمد وجف بِجَيْش من الرّوم وَمَعَهُ أَخُوهُ وجيش من عِنْده وقاتله فتمت على ابْن أَخِيه الْهَزِيمَة وَذهب إِلَى ملك الفرنج فأمده وَرجع إِلَى الْحَرْب ثَانِيًا فتقاتلا وَلما تمت عَلَيْهِ الكسرة ثَانِيًا أسْرع إِلَى الْبَحْر وَأغْرقَ نَفسه فتبرجت لمولاي أَحْمد عروس تِلْكَ الممالك وَثبتت قَوَاعِده وَارْتَفَعت معاهده وَكَانَ موادعاً لسلاطين آل عُثْمَان فَيُرْسل إِلَيْهِم بالهدايا فِي كل سنة وَكَانُوا هم يرسلون إِلَيْهِ بالمكاتيب وَالْخلْع السّنيَّة حَتَّى أَن السُّلْطَان مُرَاد ابْن سليم خَان كتب إِلَيْهِ فِي أثْنَاء مكاتيبه لَك عَليّ الْعَهْد أَن لَا أمد يَدي إِلَيْك إِلَّا للمصافحة وَأَن خاطري لَا يَنْوِي لَك إِلَّا الْخَيْر والمسامحة وَرُسُله دَائِما تَأتي إِلَى قسطنطينية من جَانب الْبَحْر ويمكثون زَمَانا طَويلا ويتعهدون الوزراء ويكاتبون من لَهُ قرب إِلَى الدولة وَلم يحصل لأحد من أَوْلَاد مُحَمَّد الشَّيْخ مَا حصل لهَذَا الْمَنْصُور فَإِنَّهُ قد طَالَتْ فِي الْملك مدَّته واتسعت مَمْلَكَته وقويت شوكته وَكَانَ ابْتِدَاء ملكه من حُدُود إفريقيه إِلَى حافة النَّهر الْمُحِيط وَملك حِصَّة من بِلَاد السودَان وَكَانَ ابْتِدَاء تملكه فِي آخر سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَاسْتمرّ سُلْطَانا ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَكَانَ لَهُ أَوْلَاد قد فرقهم فِي الْبِلَاد فَجعل الْأَكْبَر وَهُوَ مولَايَ مُحَمَّد الشَّيْخ فِي فاس وَجعل زَيْدَانَ فِي مكناس وَكَانَ هُوَ بِنَفسِهِ يقوم فِي مراكش وَكَانَ سُلْطَانا عادلاً عَظِيم الْقدر حسن التَّدْبِير أديباً لَهُ شعر نضير عَلَيْهِ رونق السلطنة أنْشد لَهُ الخفاجي فِي كِتَابه قَوْله
(حرَام على طرف يرَاهُ مَنَام ... وَإِنِّي لجسم قد شفَاه سقام)
(وَكَيف بقلب فِي هَوَاهُ مُقَلِّب ... وَأَيْنَ لَهُ بَين الضلوع مقَام)
(فيا شادناً يرْعَى الحشا أَنْت بالحشا ... أما لمحل أَنْت فِيهِ ذمام)
وَالْبَيْت الْأَخير مِمَّا تداولت بِمَعْنَاهُ الشُّعَرَاء وأجود مَا قيل فِيهِ قَول الأرجاني
(يَرْمِي فُؤَادِي وَهُوَ فِي سودائه ... أتراه لَا يخْشَى على حوبائه)
(وَمن البلية وَهُوَ يَرْمِي نَفسه ... أَن تطمع العشاق فِي إبقائه)
وَقَول مهيار(1/223)
(أودع فُؤَادِي حرقاً أودع ... ذاتك تؤذي أَنْت فِي أضلعي)
(أمسك سِهَام اللحظ أَو فارمها ... أَنْت بِمَا ترمي مصاب معي)
(موقعها الْقلب وَأَنت الَّذِي ... مَسْكَنه فِي ذَلِك الْموضع)
وَمن الْمَشْهُور من شعر مولَايَ أَحْمد
(لَا ولحظ علم السَّيْف فقد ... وقوام كقنا الْخط ميد)
(ووميض لَاحَ لما ابتسمت ... من ثنايا مثل در أَو برد)
(مَا هِلَال الْأُفق إِلَّا حَاسِد ... لعلاها وبهاها والغيد)
(وَلذَا صَار عليلاً ناحلاً ... كَيفَ لَا يفنى نحولاً من حسد)
وَهَذَا منوال لطيف واسلوب ظريف تنوعت فِي قوالبه الشُّعَرَاء وَمثله فِي حسن موقع الْقسم قَول ابْن المعتز فِي قصيدة
(لَا ورمان النهود ... فَوق أَغْصَان القدود)
(وعناقيد من الصدغ ... وَورد من خدود)
(وبدور من وُجُوه ... طالعات بالسعود)
(وَرَسُول جَاءَ بالميعاد ... من غير وَعِيد)
(ونعيم من وصال ... وشقا طول الصدود)
(مَا رَأَتْ عَيْني كغيد ... زرنني فِي يَوْم عيد)
وَهَذَا الْقسم وَأَمْثَاله عد من المحسنات البديعية وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الْكَشَّاف أَيْضا وَلم يفهمهُ كثير من الأدباء لظنهم أَنه من مَعَاني الْكَلَام الوضعية وَلَا وَجه لجعلها محسنة وَوجه حسنه أَنه لما بولغ فِي عظم الشَّيْء أقسم بِغَيْر الله تَعَالَى إعلاماً بشرف الْمقسم بِهِ فَفِيهِ نُكْتَة زَائِدَة على مُجَرّد الْقسم أَلا ترى أَنهم لم يعد وَاو وَالله وتالله وَبِاللَّهِ من الْقسم الإصطلاحي انْتهى وَمن إملاء حَافظ الْمغرب أَحْمد الْمقري لمولاي أَحْمد قَوْله
(إِن يَوْمًا لناظري قد تبدى ... فتملى من حسنه تكحيلا)
(قَالَ جفني لصنوه لَا تلاقي ... إِن بيني وَبَين لقياك ميلًا)
وَمن أدبه الباهر أَن بَعضهم أنْشدهُ قَول الأبيوردي
(وَلَو أَنِّي جعلت أَمِير جَيش ... لما حَارَبت إِلَّا بالسؤال)
(لِأَن النَّاس ينهزمون مِنْهُ ... وَإِن ثبتوا لأطراف العوالي)
فَقَالَ لَو كَانَ الْبَيْت لي لَقلت(1/224)
(وَلَو أَنِّي جعلت أَمِير جَيش ... لما حَارَبت إِلَّا بالنوال)
قَالَ الخفاجي وَأَيْنَ كَلَام سَائل مل السُّؤَال من كَلَام ملك يملك الْقُلُوب بالنوال انْتهى وَقيل عَلَيْهِ رأى مولَايَ أَحْمد رَأْي الْمُلُوك فَإِن ذَلِك شَأْنهمْ وَمن هَذَا مَا قيل فِي شَوَاهِد المطول
(والجراحات عِنْده نغمات ... سبقت قبل سيبه بنوال)
وَهَذَا أبلغ من قَول ابْن النبيه
(وتهزه فِي السّلم نَغمَة طَالب ... طَربا وَيَوْم الْحَرْب صرخة ضَارب)
وَقد أَشَارَ إِلَى مَا جنح إِلَيْهِ مولَايَ أَحْمد بن الرُّومِي فِي قصيدة طَوِيلَة مَشْهُورَة بقوله
(وَحَارب من نعمائه ريب دهره ... من الْبر وَالْمَعْرُوف جند مجند)
وَمِنْهَا قَوْله
(لَهُ صُورَة مكتنة فِي سكينَة ... كَمَا اكتن فِي الغمد الجراز المهند)
(يجهل كجهل السَّيْف وَالسيف منتضى ... وحلم كحلم السَّيْف وَالسيف مغمد)
قَالَ الخفاجي انتقدت عَلَيْهِ أَنه كرر السَّيْف أَربع مَرَّات وَثَلَاث مِنْهَا مَحل الْإِضْمَار وَمثله يخل بالفصاحة ثمَّ قَالَ ورد بِأَنَّهَا كدعائم الخبا لَو رفعت وَاحِدَة انْهَدم وَوَجهه أَن تغاير الصِّفَات منزل منزلَة تضَاد الموصوفات وَكَذَا تغاير أَوْقَاتهَا وكررت هُنَا لتدل بطرِيق الْكِتَابَة الإيمائية على ذَلِك حَتَّى كَأَنَّهُ السَّيْف وَدلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ فِي كل حَال بِمَنْزِلَة دلَالَة الْمُشْتَرك على مَعَانِيه وَهَذَا نَقله الشَّيْخ فِي دَلَائِل الإعجاز عَن الصاحب انْتهى مُلَخصا وَكَانَت محظية من حظايا مولَايَ أَحْمد غَضبى فَجَاءَهُ رجل من بُسْتَان بوردة فِي أول ظُهُور الْورْد فأرسلها لَهَا مَعَ هَذِه الأبيات استعطافاً لَهَا
(وافى بهَا الْبُسْتَان صنوك وردة ... يقْضِي بهَا لما مطلت عهودا)
(أهْدى البهار محاجراً وأتى بهَا ... فِي وقته كَيْمَا تكون خدودا)
(فبعثتها مرتادة بنسيمها ... تثنى من الرَّوْض النَّضِير قدودا)
وَبِالْجُمْلَةِ فأشعار الْمَنْصُور كلهَا جَارِيَة على نهج الرقة والعذوبة وَفِيمَا أوردناه لَهُ كَافِيَة وَأما جلالة شَأْنه وَعظم قدره فمما تكفلت بهما شهرته وأخباره وحاشية من الْعلمَاء والأدباء كالمقري والثعالبي وأضرابهما وَتُوفِّي فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف
أَحْمد بن عبد الله بن سَالم بن عبد الله بن فضل بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه سعد بن مُحَمَّد بن القَاضِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه فضل بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بَافضل إِلَى هُنَا انْتهى نسب آل بَافضل الْفَاضِل الْمَشْهُور بالسودي أحد الْأَعْيَان وفضلاء الزَّمَان كَانَ من أفضل أهل زَمَانه فِي الْعُلُوم وأعرفهم بِالْعَرَبِيَّةِ على الْإِطْلَاق وَمن(1/225)
أحذق الحذاق حفظ الْقُرْآن والجزرية والأجرومية والملحة وَأكْثر اللفية وَقطعَة من الْمِنْهَاج وَحفظ كثيرا من الدَّوَاوِين وَمن كَلَام الْعَرَب وَأخذ عَن السَّيِّد عبد الله ابْن شيخ العيدروس علم التصوف وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَصَحبه مُدَّة مديدة وَتخرج بِهِ فِي عُلُوم شَتَّى ثمَّ صحب وَلَده زين العابدين وَلَزِمَه وَتخرج بِهِ فِي الْمُتُون والاصطلاحات وَأخذ الْفِقْه عَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَسمع من خلق لَا يُحصونَ وبرع فِي أصُول الدّين والْحَدِيث والعربية والتصوف ودرس وصنف وَمن تصانيفه حَاشِيَة على القصيدة الطرافعية وَله ديوَان شعر ونظمه كثير حسن وَلذَلِك لقب بالسودي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف كَذَا ذكر خَبره الشلبي وَلم يُورد لَهُ شَيْئا من شعره وَأَنا لم أطلع على شَيْء من آثاره فَلهَذَا اقتصرت على مَا ريته فِي تَارِيخ الشلي وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الرؤوف بن يحيى الْوَاعِظ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي تلميذ الشهَاب احْمَد بن حجر من صُدُور الأفاضل وأعيان الأماثل ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد وألفية الْعِرَاقِيّ وألفية ابْن مَالك وَجمع الْجَوَامِع واشتغل بِالْعلمِ على أكَابِر الشُّيُوخ المكيين وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله باقشير عدَّة عُلُوم كالفقه وَالْأُصُول والعربية وَالْعرُوض والمعاني وَالْبَيَان وتفقه بالشيخ عبد الْعَزِيز الزمزمي ولازمه مُدَّة حَيَاته وَجلسَ للتدريس فِي مَحَله بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَبعد وَفَاته وَأخذ عَن الشَّيْخ عَليّ بن الْجمال وَالشَّمْس البابلي وَأخذ التصوف عَن الْعَارِف بِاللَّه سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وتلقن مِنْهُ الذّكر وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَأخذ عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن علوي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن المغربي وَالشَّيْخ عبد الْوَاحِد بن الْعَرَب صَاحب القنفدة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة وَكَانَت الْفَتَاوَى ترد عَلَيْهِ فيجيب عَنْهَا بِأَحْسَن جَوَاب وأعذب خطاب وَكَانَ باذلاً نَفسه لإِصْلَاح ذَات الْبَين وَإِذا تصدر فِي قَضِيَّة تمت على أحسن حَال وَذَلِكَ يدل على حسن نِيَّته وَطيب طويته وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره سهل القياد مستعذب وَذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي سلافته فَقَالَ فِي حَقه أديب بذ أقرانه وفَاق ونفق أدبه فِي زمَان كساده أحسن نفاق بقريحة وقادة وذكاء ملك بِهِ زِمَام الْأَدَب وقاده مَعَ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَقيام بشروطها المرعية إِلَّا أَنه مَا طلع بدره حَتَّى أفل وَلَا ورد ظعنه حَتَّى قفل فَمَاتَ دون الاكتهال وَلم يسعفه الدَّهْر بإمهال وَله شعر لَا يقصر عَن السداد وَإِن لم يكن بطلاً فَمن يكثر(1/226)
السوَاد وَأورد لَهُ فِي قَوْله فِي الْغَزل
(حويدى اليعملات بسفح حاجر ... رويداً فِي قَتِيل ظبا المحاجر)
(فَتى شرخ الشَّبَاب عَلَيْهِ ولى ... بِذَات الأبرقين وَذي المحاجر)
(منَازِل كنّ للأفراح مغنى ... وللأرواح سالبة فحاذر)
(أخانا فِي الغرام سَأَلت نصحاً ... فرأي العاشقين بِأَن تهَاجر)
(فكم من عاشق أضحى حَزينًا ... فَلَمَّا حل فِي حزن المُهَاجر)
(يُبَاشر بالوصول إِلَى مقَام ... ترامى فِيهِ أَعْنَاق الأكابر)
(وَألقى بِالْعِصِيِّ وَحل نَادِي ... ربوع المربع الغيد الجآذر)
(لقد أَصبَحت فيهم مستهاماً ... فوا شوقي إِلَى تِلْكَ المشاعر)
(لعمري أنني فيهنّ صب ... فَمن لي أَن أكون لَهُم مسامر)
قلت وَقد وقفت لَهُ على أشعار أَجود من هَذِه الأبيات فَمن جُمْلَتهَا قصيدته الَّتِي يستغيث فِيهَا بِالنَّبِيِّ
فِي معرض عرض لَهُ ومطلعها قَوْله
(يَا صاحبيّ حققا ميعادي ... وانطلقا لأخصب الوهاد)
(ولاحظاني فِي السرى فَإِنِّي ... نضو هوى مقرح الأكباد)
(قد ترك الجفن مَنَامه فَلَا ... يأوي إِلَيْهِ وَافد الرقاد)
(وظل شرخ الْعُمر فِي بياضه ... أشرق من أشعة الأفواد)
(فعرجا بمسرح السرب الَّذِي ... لَيْسَ لَهُ مرعى سوى فُؤَادِي)
(وخفضا عَلَيْكُمَا وخليا ... دمعي السفيح رائحاً وغادي)
(يرمل فِي جرعائها معتسفاً ... لَا يَعْتَرِيه وَهن الوخاد)
(وَيجْعَل الحصبا عقيقاً أحمرا ... من النجيع الْأَحْمَر الغرصادي)
(وَيجْعَل القاع لَهُم أعقة ... يكرع مِنْهَا كل صب صادي)
(وزفرة قد غرست بمهجتي ... وطلعها فِي لمتيّ بَادِي)
(تَتَابَعَت حَتَّى يخال أنني ... من فرق لنجدهم أنادي)
(أذابت الْقلب سوى مَا أحرزوا ... لما أَتَوا من وسط السوَاد)
(وعاذل يعبث بِي لَو انه ... يجديه مَا خطّ بِلَا مداد)
(ينمق العذل يخال أَنه ... يمازج التشكيك باعتقاد)
(كَأَنَّمَا يرقم فِي كوثر مَا ... أفرغ فِي الْفُؤَاد من وداد)(1/227)
(لَا يقبل التعنيف فِي الْهوى سوى ... من يقتني غير هوى سعاد)
(واحرّ قلباه وَبرد المشتهى ... هَيْهَات كَيفَ مجمع الأضداد)
(ذادوا الْعُيُون عَن وُرُود هائم ... زَادَت على الأنواء للورّاد)
(مَا حق طرف جاد إِذْ قد ضن نوء ... الطّرف أَن يحمي عَن الميراد)
(هَيْهَات لم يبرح يروم نظرة ... من حَضْرَة الإسعاد والإمداد)
(من حَضْرَة الْمُخْتَار طه أصل مبْنى ... الْكَوْن فِي الإتقان والإيجاد)
(من نور ذِي الْعَرْش الرفيع كنهه ... تَوَاتر قد جَاءَ بالآحاد)
(فِي قَول لولاك إِشَارَة وَلَا ... خَفَاء للمريد فِي المُرَاد)
(يدريه من يرى الشؤن جمعت ... فِي مُفْرد مُجْتَمع الْأَفْرَاد)
(فآدم الآبا وَغَيره لَهُ ... فرع على معنى حلي الرَّاد)
(وَذَاكَ معنى أَنه أصل الْوُجُود ... أول فِي الْبسط للأعداد)
(فاعجب لَهُ ختماً نَبيا أَولا ... قد جَاءَ بالتحقيق فِي الْإِسْنَاد)
(الْوَاضِح الْحق الصَّحِيح حَسْبَمَا ... حرّره أَئِمَّة الْإِرْشَاد)
(وَبعد أَن زَان جمال وَجهه ... وجود مَا جَاءَ الْكَمَال هادي)
(فَقَامَ بِالتَّوْحِيدِ دَاعيا لَهُ ... وراقب المدعون بالمرصاد)
(مهد الشَّرْع القويم للورى ... مُبين الميعاد والإيعاد)
(وشت شَمل الْكفْر بانتظامنا ... فِي سلكه كالعقد فِي الأجياد)
(فابتهج الْكَوْن نضارة بِهِ ... وصدحت فِي دوحها الشوادي)
(وخفقت ألوية النَّصْر على ... سُكُون ريح الْكفْر والأعادي)
(وزمزم الرَّعْد على مسرى الظبا ... وَشقت السحب ظَبْي الغوادي)
(وأضحك الرَّوْض مَسَرَّة على ... بكاء ذِي التَّاج والإيلاد)
(وأحيت الأنوا موَات الجدب من ... مرتبع التلال والوهاد)
(ونتجت من صلبه أَئِمَّة ... قادوا إِلَى الْإِيمَان والإرشاد)
(من مظهر الزهراء ذَات الْفَخر فِي ... حظائر التَّقْدِيس والإسعاد)
(من حيدر عليّ الطُّهْر أَمِير ... الْمُؤمنِينَ سيد الأمجاد)
(قد أَعرضُوا عَمَّا بِهِ النَّاس عنوا ... وصرفوا الْوَجْه إِلَى الْمعَاد)
(تزهدوا ذَاك من صفاتهم ... ذاتاً وَهل يخفى شميم الجادي)(1/228)
(قد شرفوا على الورى فحبهم ... نَص الْكتاب عَن حَصى التعداد)
(يَا سيد الرُّسُل وَيَا خَاتم من ... قد خصصوا بوافر الأيادي)
(يَا خير مَبْعُوث على ظهر الثرى ... بِسَبَبِهِ أخصبت الْبَوَادِي)
(يَا من هُوَ الأولى بِكُل مُؤمن ... من نَفسه من سَائِر الْعباد)
(خفف عليّ حوبة جنيتها ... قد جرعتني غصص البعاد)
(وعرّضتني هدفاً لأسهم الْأَغْرَاض ... لَا أَخْلو من العوادي)
(وأخلقت صبري وجدت طمعي ... فِي أَن أرى فِي هَذِه النوادي)
(وضاق ذرعي فذريعتي إِلَى ... رحابك الفيحاء سوق الْحَادِي)
(فَحل عقدي يَا ملاذي مثل مَا ... حللت عقد الْعسر بالإنقاد)
(وَأطلق الْقَيْد الْمُحِيط علني ... فِي سوحكم أنحل من قيادي)
(فَأَنت كَهْف المرتجين فِي الورى ... وَغَيرهم فِي زمر القصاد)
(وَأَنت مقصودي وَأَنت موئلي ... وعمدتي فِي السهل والشداد)
(وَأَنت بَاب الله كل من أَتَى ... من غَيره يسام بالإبعاد)
(فَمن دنا من سوحه ملتمسا ... بادره الْعَفو إِلَى المُرَاد)
(وَعَمه الْفضل فَقَالَ شاكراً ... قد كثرت ذخائر الْفُؤَاد)
(صلى عَلَيْك الله مَا تلألأت ... صفاتك الْبيض على السوَاد)
وَهِي على عرُوض قصيدة الْفَتْح ابْن النّحاس الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(قد نفدت ذخائر الْفُؤَاد ... فَلم أرد الدمع للسهاد)
وَله غير ذَلِك والاقتصار من البلاغة وَكَانَت وَفَاته لأَرْبَع بَقينَ من الْمحرم سنة سبع وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الله بن حسن بن مُحَمَّد بن عبد الله عنتر السيووني الْحَضْرَمِيّ الشَّافِعِي الإِمَام الْجَلِيل الْعَلامَة صَادِق اللهجة شَدِيد الْحزن من خوف الله تَعَالَى خَفِيف النَّفس لطيف الذَّوْق حسن المحاضرة ولد فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف بالحوطة من أَعمال سيوون من وَادي حَضرمَوْت وببلده حفظ الْقُرْآن ثمَّ رَحل من مَكَّة وَأخذ بهَا عَن جمع مِنْهُم الشَّمْس البابلي وَمُحَمّد عَليّ بن عَلان وَمُحَمّد الطَّائِفِي وَعلي بن الْجمال وَعبد الله باقشير وَعِيسَى بن مُحَمَّد الْجَعْفَرِي وتلقن الذّكر وَلبس الْخِرْقَة من الصفي أَحْمد القشاشي ومهنا بن عوض بامزدوع الْحَضْرَمِيّ وَأقَام(1/229)
بِالطَّائِف ملازماً للْقِرَاءَة والإفادة مُعْتَزِلا عَن النَّاس وَكَانَ عَاملا بِالْعلمِ لَا يخْشَى فِي الله لومة لائم مهاباً موقراً فِي النُّفُوس عَلَيْهِ سِيمَا الصّلاح وَالتَّقوى طَاهِرا متقشفاً فِي ملبسه مُعْتَقدًا عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ أهل الطَّائِف لَا يصدرون إِلَّا عَن أمره وَلَهُم فِيهِ اعْتِقَاد ومحبة زَائِدَة وَكَانَ وَالِده كثير المَال عقيماً فَشَكا حَاله للسَّيِّد شيخ بن عبد الله بن شيخ بن طه باعلوي فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ للسَّيِّد علوي بن أَحْمد العيدروس ببتي قَرْيَة من أَعمال تريم تقضي حَاجَتك فَذهب إِلَيْهِ فَوجدَ فِي طَرِيقه لصافهم اللص بِفعل سوء بِهِ فتمثل لَهُ فَارس مَنعه من ذَلِك وَوصل إِلَى مقْصده فَلَمَّا رَآهُ السَّيِّد علوي قَالَ لَهُ بعد أَن سلم عَلَيْهِ قد حيناك من الْعَدو وارجع فقد حصل لَك مقصودك فَرجع من حِينه إِلَى بَلَده وواقع زَوجته فَحملت بِصَاحِب التَّرْجَمَة تِلْكَ اللَّيْلَة هَكَذَا حكى بعض الحضارمة وَمن مؤلفاته شرح القصيدة الْمُسَمَّاة بالحديقة الأنيقة الَّتِي أَولهَا إِلَى كم ذَا التماد وَأَنت صادي وَشرح بَانَتْ سعاد وذيل على تَارِيخ الْمَدِينَة للمرجاني فِي مُجَلد وَكَانَت وَفَاته بِالطَّائِف يَوْم الْجُمُعَة سَابِع شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف وَدفن بِالْقربِ من تربة الإِمَام عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الله بن أبي اللطف الْبري الْحَنَفِيّ الْخَطِيب الْمدنِي أحد أَعْيَان الْعلمَاء بِالْمَدِينَةِ وأنبل من بهَا من رُؤَسَاء الْعلم الْمَشْهُورين بالبراعة وَحسن الْعبارَة مَعَ بديع الشّعْر الرَّائِق والنثر الْفَائِق وَحفظ أحاسن المحاسن من أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين ولطائف الْمُتَأَخِّرين وَطَالَ عمره فِي عزة ورفعة وَكَانَ بليغاً حسن الْعبارَة ولد فِي سنة عشرَة بعد الْألف بِطيبَة الطّيبَة وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن بالروايات وَأخذ عَن علمائها ورحل إِلَى مَكَّة وَأخذ بهَا عَن جمع وأجازوه مِنْهُم الْعَلامَة عبد الْملك العصامي صَاحب التصانيف الفائقة المفيدة الْآتِي ذكره وَمِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي وَكَانَ بديع المحاضرة عَالما بِوَضْع كل شَيْء من فنون المحاضرة فِي مَوْضِعه وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّيْخ مُحَمَّد ميرزا ابْن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي ثمَّ الْمدنِي الْآتِي ذكره مَوَدَّة أكيدة وَكَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة غَالِبا يَأْتِيهِ إِلَى بَيته ويتذاكرون ببديع الفرائد وفرائد القلائد وَله أشعار حسان ونثر حسن لَا سِيمَا خطبه الَّتِي كَانَ ينشيها حَال مُبَاشَرَته بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ فَإِنَّهَا فائقة بليغة وَلما وصل القَاضِي الْفَاضِل تَاج الدّين الْمَالِكِي الْمَكِّيّ للمدينة الشَّرِيفَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف ومدح أَهلهَا بِهَذِهِ الأبيات وَهِي(1/230)
(يَا سَاكِني طيبَة فخراً فقد ... طابت فروع مِنْكُم وَالْأُصُول)
(وَآيَة الْأَنْصَار فِيكُم سرت ... كَأَنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهَا الشُّمُول)
(تصفون مَحْض الود من جَاءَكُم ... فَمَا عَسى مادحكم أَن يَقُول)
(وليهنكم مَا قد خصصتم بِهِ ... فيا لَهَا خصيصة لَا تَزُول)
(جاورتم الْمُخْتَار خير الورى ... وفزتم فِي سوحه بالحلول)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّرْجَمَة بقوله
(أعظم بِأَهْل الرُّكْن من سادة ... فِي مفرق العلياء جروا الذيول)
(جيران بَيت الله من قدرهم ... تحار فِي دَرك مداه الْعُقُول)
(بِمَكَّة حلوا فحلوا بهَا ... جيد الْمَعَالِي حلية لَا تَزُول)
(من مثلهم وَالْفضل حق لَهُم ... وَمِنْهُم التَّاج أَمَام الثقول)
(رَئِيس هَذَا الْعَصْر من جلة ... سمادع غر كرام فحول)
(أكْرم بِهِ إِذْ قَالَ من أجلنا ... طابت فروع مِنْكُم وَالْأُصُول)
(وَآيَة الْأَنْصَار فِيكُم سرت ... لكنني بِالْإِذْنِ مِنْكُم أَقُول)
(يَا نخبة الْأَنْصَار مِنْكُم لنا ... حَتَّى شهدتم وصفكم لَا يحول)
(وَأَنْتُم جيران ذَاك الْحمى ... والآن أَنْتُم فِي جوَار الرَّسُول)
(جمعتم فضلا إِلَى فَضلكُمْ ... فسدتم النَّاس وَحقّ الْمَقُول)
(فَالله رب الْعَرْش سُبْحَانَهُ ... يوليكم الْحسنى وَحسن الْقبُول)
(حَتَّى توافوا الْقَصْد فِي نعْمَة ... تترى وَعمر فِي سرُور يطول)
(ودولة الأفضال تسمو بكم ... وتزدهي طوراً وطوراً تصول)
(مَا غردت وَرْقَاء فِي دوحة ... غنا وغنت حَتَّى طَابَ الدُّخُول)
وَمن لطائف مَا وَقع لَهُ مَعَ القَاضِي تَاج الدّين الْمَذْكُور أَنه رأى فِي الْمَنَام فِي الْعَام الَّذِي زار فِيهِ التَّاج فِي الْمَدِينَة كَأَنَّهُ فِي مجْلِس الدَّرْس فِي الرَّوْضَة النَّبَوِيَّة وَإِذا بِالْقَاضِي تَاج الدّين دَاخل من بَاب السَّلَام وَهُوَ قَاصد الحضرة والشريفة فَلَمَّا قضى الوطر من التَّحِيَّة والزيارة جَاءَ بفضله وجلالة قدره إِلَى الْمجْلس وَقعد بعد تلقيه وتقبيل يَدَيْهِ وَأَشَارَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(أمولاي تَاج الدّين لَا زلت ذَا عَليّ ... على الْهَام والأوهام وَلَيْسَت بِذِي فطن)
(إِذا كُنْتُم فِي مجْلِس كَانَ أَهله ... بأجمعهم خرساً وَأَنت لَك اللسن)(1/231)
ثمَّ انتبه وَهُوَ حَافظ الْبَيْتَيْنِ ثمَّ لم تكن إِلَّا نَحْو عشرَة أَيَّام من هَذِه الرُّؤْيَا حَتَّى وصل القَاضِي وَكَانَ دُخُوله الْمَسْجِد الشريف من بَاب السَّلَام وَصَاحب التَّرْجَمَة فِي مجْلِس درسه على الصّفة الَّتِي كَانَت فِي الرُّؤْيَا ثمَّ لم يلبث أَن جَاءَ إِلَى الْمجْلس فَتَلقاهُ الْبري وَجلسَ فِي الْموضع الَّذِي جلس فِيهِ وَأَشَارَ باستمرار الْقِرَاءَة جَريا على عَادَته فِي التفضل وَالْإِحْسَان والجبر فَألْقى الكراريس وأنشده الْبَيْتَيْنِ ثمَّ أخبرهُ بالرؤيا فَقضى الْعجب واستسر ثمَّ بعد قِيَامه من الْمجْلس أنْشدهُ قَوْله معتذراً ومتشكراً
(لَئِن كَانَ قدري مثل مَا قلت عِنْدَمَا ... تواضعت إِذْ طبقت كتبك فِي الوسن)
(فقد صَحَّ بالاحرى اتصافك بِالَّذِي ... وصفت بِهِ الْمُلُوك من ظَنك الْحسن)
(لِأَنِّي وَإِن أحرزت ذَاك فإنني ... لديك أَخُو صمت وَأَنت لَك اللسن)
وَكَانَت وَفَاته لست بَقينَ من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَدفن فِي بَقِيع الْغَرْقَد ورثاه جمع مِنْهُم تِلْمِيذه أَحْمد بن شَيخنَا المرحوم إِبْرَاهِيم الخياري عمر الله تَعَالَى بِوُجُودِهِ مَدِينَة الْعلم فَإِنَّهُ رثاه بقصيدة طَوِيلَة أرخ وَفَاته فِيهَا بقوله
(فجأ الْأَنَام جَمِيعهم ... خطب ألم بهم عَجِيب)
(ومصيبة قد أوجبت ... للطفل فِيهَا أَن يشيب)
(ورزية عظمت ... بدار الْمُصْطَفى طه الحبيب)
(فقد الإِمَام الْحَافِظ ... الْعَلامَة الشهم الْخَطِيب)
(فأجبتهم متأوها ... بِلِسَان محزون كئيب)
(زل أول الْأَعْدَاد من ... تَارِيخه لتكن مُصِيب)
(واسمع فقدوا فِي لنا ... تَارِيخه مَاتَ الْخَطِيب)
وَمرَاده بِأول الْأَعْدَاد وَاحِد لَا الْمِيم كَمَا يتَوَهَّم على أَن زِيَادَة وَاحِد أَو اثْنَيْنِ فِي الْعدَد لَا يضر فِي التَّارِيخ كَمَا قيل فليفهم
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الرَّزَّاق بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد الْمَشْهُور بالمغربي الرَّشِيدِيّ المولد والوفاة الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُحَرر النقاد المفنن كَانَ فَاضلا كَامِلا صَاحب براعة وفصاحة عقدت عَلَيْهِ الخناصر وأقرت بفضله عُلَمَاء عصره حفظ الْقُرْآن بِبَلَدِهِ وَأخذ بهَا عَن الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْبُرُلُّسِيّ وَمُحَمّد الشَّاب وَعلي الْخياط ثمَّ قدم الْقَاهِرَة وجاور بالجامع الْأَزْهَر وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين ولازم الْعَلَاء الشبراملسي وَبِه تخرج وبرع فِي الْعُلُوم النقلية والعقلية حَتَّى فاق أقرانه وَرجع إِلَى بَلَده وَصَارَ(1/232)
بهَا شيخ الشَّافِعِيَّة وَعَكَفَ على التدريس وَشهر بهَا شهرة كَبِيرَة وَألف المؤلفات العجيبة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للرملي فِي مجلدين وَمِنْهَا منظومة تسمى تيجان العنوان جعلهَا على أسلوب عنوان الشّرف لِابْنِ الْمقري لم يسْبق إِلَى مثلهَا قرظ لَهُ عَلَيْهَا عُلَمَاء بَلَده وَغَيرهم وَمِمَّا قيل فِيهَا
(أنظر إِلَيْهِ مصنفاً ... تَجدهُ قد حَاز الطّرف)
(لم يحو سطر مثله ... فِي غابر مِمَّا سلف)
(روضاً نضيراً يانعاً ... وردا هنى المرتشف)
(فَكَأَنَّمَا أَلْفَاظه ... در عرين من الصدف)
(وكأنما أبياته ... غرر الْكَوَاكِب فِي الشّرف)
(لَا غرو أَن لقبتها ... تيجان عنوان الشّرف)
وَكَانَت وَفَاته فِي شعْبَان سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف برشيد وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن سراج باجمال الْحَضْرَمِيّ الشَّافِعِي كَانَ من الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقين وَالْعُلَمَاء المتضلعين ذكره الشلي وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بالغرفة وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ على وَالِده الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن وَغَيره وجد فِي التَّحْصِيل حَتَّى صَار أعلم أهل بَلَده وَتَوَلَّى الْجَامِع بِبَلَدِهِ الغرفة وأضيفت إِلَيْهِ الْأَحْكَام وقصده النَّاس للْفَتْوَى وَكَانَ لَهُ الْيَد الطولي فِي تَحْقِيق المشكلات والاطلاع على الْمسَائِل العويصات وَكَانَ غزير الْعقل قوي الْفَهم والذهن كريم النَّفس لَهُ القريحة الوقادة والعبارة المنقادة سريع الْحِفْظ لما يعانيه وَله النّظم الرَّائِق والأجوبة المحققة الْوَاضِحَة المرضية جمعهَا وَلَده الْفَقِيه مُحَمَّد وَفَاته كثير مِنْهُمَا وَاخْتصرَ فتاوي شيخ الْإِسْلَام الشهَاب أَحْمد بن حجر الْكُبْرَى فِي مُجَلد والتقط فتاوي كثير من الْمُتَأَخِّرين قَالَ وَذكره تِلْمِيذه الشَّيْخ أَحْمد الأصبحي فِي مطالع الْأَنْوَار من بروج الْجمال بِبَيَان مَنَاقِب آل باجمال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَدفن شَرْقي ضريح الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الله بن عمر باجمال بِبَلَدِهِ الغرفة من حَضرمَوْت وَآل باجمال قَالَ الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سراج فِي كِتَابه مواهب الْبر الرؤف بمناقب الشَّيْخ مَعْرُوف من الْمَعْلُوم قَدِيما وحديثاً أَنهم بَيت علم وَصَلَاح لَهُم من شرف النّسَب وكرم التَّقْوَى الْحَظ الأوفر وَلم تزل رفعتهم وعظمتهم واحترامهم عِنْد السلاطين والملوك وكافة النَّاس أشهر من الشَّمْس فِي رَابِعَة النَّهَار لَا يجهل(1/233)
مقدراهم وَلَا يضام جوارهم فأموالهم مصونة مُحْتَرمَة وأعراضهم مبجلة مكرمَة إِكْرَاما وتعظيماً لشعائر الدّين إِذْ هم موضحو شَرِيعَة سيد الْمُرْسلين وَمِنْهُم الْعباد المخلصين وَقَالَ الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد باجمال الأصبحي فِي مطالع الْأَنْوَار فِي بروج الْجمال بِبَيَان مَنَاقِب آل باجمال اعْلَم أَن باجمال بتَشْديد الْمِيم ينتسبون إِلَى كِنْدَة الْقَبِيلَة الْمَشْهُورَة وَكَانُوا مُلُوك حَضرمَوْت فِي الْجَاهِلِيَّة وَنقل عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن سراج أَنه قَالَ فِي مواهب الْبر الرؤف أَن جد آل باجمال ثَوْر بن مرتع بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَكسر الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة الْمُشَدّدَة ابْن مُعَاوِيَة بن ثَوْر بن عفير هُوَ كِنْدَة كَمَا فِي التَّهْذِيب وَكَانُوا وُلَاة ثَوْر فَأَخذهَا آل بانجاد فانتقلوا إِلَى شبام وجدهم الْجَامِع لجميعهم هُوَ الشَّيْخ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم فَجَمِيعهمْ منسوبون إِلَيْهِ وَكَانَ معاصر للشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد باعباد الْقَدِيم ثمَّ قَالَ فَإِذا كَانَت الْقَبِيلَة منحصرة فِي جد مَعْلُوم وتشعب أَوْلَاده أفخاذاً فَإِذا مَاتَ وَاحِد مِنْهُم وَجَهل أقربهم إِلَيْهِ مَعَ تحقق أَن جد هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودين وَالْمَيِّت زيد لَكِن جهلت الوسائط فقد اخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ فَأفْتى أَبُو قضام بِأَنَّهُ لَا بُد من ذكر المتوسطين بَين الْمَيِّت وَالْجد الْمَذْكُور والإحياء وَالْجد هَذَا لتعرف أصولهم المعدودة وَأفْتى جمَاعَة من الْفُقَهَاء تبعا لأبي قضام وَخَالف الْعَلامَة عبد الله بن عمر بامخرمة وَقَالَ هَذَا من الْإِرْث المحصور بِالِاسْتِحْقَاقِ وَقَالَ وَمحل معرفَة الوسائط فِي الْقَبِيلَة المنتشرة وَأما مَعَ الانحصار الْمُحَقق فَلَا يحْتَاج لمعْرِفَة الوسائط فَإِن علم أَعلَى دَرَجَة فالإرث لَهُ وَإِن لم يعلم وَادّعى ذَلِك كل وَاحِد من أَرْبَاب الْمِيرَاث المحصورين فِي ذَلِك الْجد الْمَذْكُور فَيُوقف الْمِيرَاث إِلَى إقرارهم بالأقرب أَو مناقلتهم بِالنذرِ لأَحَدهم لِأَن الْإِرْث وَالْحَالة هَذِه مُحَقّق مَحْصُور فيهم وَجرى على مَا قَالَه أَبُو مخرمَة الْفَقِيه عبد الله بن سراج وَقَالَ فِي كَلَام الشهَاب ابْن حجر مَا يشْهد لذَلِك وَالَّذِي نعتمده مَا قَالَه أَبُو مخرمَة لِأَن الْعلَّة تَقْتَضِيه
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الوارثي الْمصْرِيّ الْمَالِكِي الصديقي الْمَعْرُوف بالوارثي الإِمَام الْكَبِير الْمُفَسّر الْمُحدث وَنسبه إِلَى الصّديق مُتَّفق عَلَيْهِ ذكره السخاوي فِي تَارِيخه عِنْد ذكر جد بدر الدّين قَالَ عبد الْبر الفيومي فِي كِتَابه المنتزه وَرَأَيْت المنشور الَّذِي كتب لَهُ أَن يكون قَاضِي الْقُضَاة بالقطر الْمصْرِيّ من أحد الْمُلُوك وَهُوَ عِنْدهم مَوْجُود وَذكر فِيهِ اتِّصَال النّسَب وَأمه بنت الشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ فالشمس الْبكْرِيّ خَاله وَأم جده ولأمه شريفة وَله من جِهَة أم وَالِده(1/234)
إِلَى سَيِّدي يُوسُف العجمي انتساب وَكَانَ فِي وقته مرجع النَّاس للتلقي والاستفادة وَكَانَ لَهُ الْيَد الطولي فِي غَالب الْعُلُوم وَله تحريرات كَثِيرَة مِنْهَا الْأَجْوِبَة عَن الأسئلة لِابْنِ عبد السَّلَام فِي التَّفْسِير وَله تَفْسِير بعض الْمفصل من السُّور وَغير ذَلِك من الرسائل فِي التَّفْسِير كتب على متن التَّهْذِيب فِي الْمنطق ونظم عقيدة لَهَا حسن أسلوب لَكِن عباراتها مغلقة وَشرع فِي اخْتِصَار الْمَوَاهِب فَكتب قِطْعَة وَمَات وَلم يكمله وَله قصائد ومقاطيع وَقد تَرْجَمته فِي كتابي النفحة فَقلت فِي وَصفه لست أَدْرِي مَاذَا أَقُول فِيمَن ورث الْمجد خلفا عَن سلف وعجزت عَن أَوْصَافه الألسن وَمَا هجس لَهَا فِي الْمُبَالغَة سرف فَلَو أدْرك زمن النُّبُوَّة نزلت آي الْقُرْآن بشواهد علاهُ أَو لحق الصّديق لقَالَ هَذَا وارثي لاسواه فَهُوَ إِمَام التَّفْسِير والْحَدِيث الراقي علو الْإِسْنَاد مِنْهُ فِي الْقَدِيم والْحَدِيث بل الْعلم فِي كل علم بِلَا خلاف الَّذِي إِذا كشف عَن المعضلات كَانَ نعم الْكَشَّاف فعطا رد تلميذ أفادته وَالْمُشْتَرِي مُشْتَرِي سعادته فَلَو أدْرك التَّفْتَازَانِيّ لقيل أدْركهُ السعد أَو السَّيِّد لحصل على أمْنِيته من غير وعد وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة الْمُحَقِّقين وإنسان عين المدققين وَكَانَ من الْأَدَب فِي سنامه وكاهله تحوم الآراء حول موارده فترتوي من مناهله وَله نظم ونثر كَمَا انتظمت الأزهار بعد مَا انتثرت عَلَيْهَا دراري الأمطار فَمن نظمه قَوْله
(وَإِنِّي لصب فِي القوافي ومدحها ... ويبلغ بِي حد السرُور بليغها)
(وَأطيب أوقاتي من الدَّهْر لَيْلَة ... تريغ القوافي خاطري وأريغها)
(وَكم بلغت بِي همتي بعد غَايَة ... يعز على الشعرى العبور بُلُوغهَا)
(فَمَا سرني إِلَّا كَلَام أسيغه ... بمسمع واع أَو معَان أصوغها)
وَقَوله
(مَاذَا تَقُولِينَ فِيمَن شفه سقم ... من فرط حبك حَتَّى صَار حيراناً)
(قد لَاذَ فِي الْحبّ حَتَّى صَار مكتئبا ... والعشق أضرم فِيهِ الْيَوْم نيرانا)
(هَل يشتفي مِنْك بالثغر الرَّحِيق إِذا ... أَو تتركيه على الأدنان ندمانا)
وَكتب إِلَى بعض وزراء مصر
(يَا أَيهَا الْمولى الْوَزير من لَهُ ... من حللن من الزَّمَان وثاقي)
(من شَاكر عني يَديك فإنني ... من عظم مَا أوليت ضَاقَ نطاقي)
(منن تخف على يَديك وَإِنَّمَا ... ثقلت مواهبها على الْأَعْنَاق)
وَله فِيمَن اسْمه بدر(1/235)
(سموهُ بَدْرًا وَذَاكَ لما ... أَن فاق فِي حسنه وتما)
(وَأجْمع النَّاس من مذ رَأَوْهُ ... بِأَنَّهُ اسْم على مُسَمّى)
وَله
(وَكم لله من نعم ... يعم الْكَوْن مَا طرها)
(تذكرنا أوائلها ... بِمَا تولى أواخرها)
وَله
(رمت حَال الْوَصْل إِنِّي ... لَا أرى للوصل آخر)
(فَحرمت الْوَصْل رَأْسا ... زَاد بِي الوجد فحاذر)
وَله غير ذَلِك وَذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ الْآتِي ذكره فِي مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ عِنْدَمَا ذكره وَلما وصلت إِلَى غَزَّة فِي سَفَرِي إِلَى مصر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف شاع خبر وَفَاته وَصلى عَلَيْهِ غَائِبَة بهَا وَدخلت إِلَى مصر فَوَجَدته بِالْحَيَاةِ فهنيته بالسلامة وأخبرته بِمَا شاع وعاش بعْدهَا عشر سِنِين قلت وَقد ذكر عبد الْبر الفيومي أَنه توفّي فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الْعَزِيز السجلماسي العباسي من أدباء الْمغرب المجيدين وفضلائها البارعين حج فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وجاور بِمَكَّة وأقرأ بِالْحرم الشريف وأملى أدبا وشعرا فَمن ذَلِك فِي هَذِه القصيدة قَالَ اتّفق لي أَن خرج ابْن لمولاي رشيد صَاحب الْمغرب لينْظر إِلَى إبل وخيل وَردت عَلَيْهِ من بعض أَحيَاء الْعَرَب فَأَقَامَ عِنْدهَا أَيَّامًا واشتغل خاطر أَبِيه فَأمرنِي أَن أكتب إِلَيْهِ كتابا فَكتبت إِلَيْهِ قولي
(بلت مدامعه البطاح ... سَكرَان حب غير صَاح)
(وضع الْيَدَيْنِ على الحشاشة ... من تحرقه وَصَاح)
(صب تولع مذ نشا ... بنواهد الغيد الملاح)
(الفاتكات بِلَا ظبا ... والقاتلات بِلَا جنَاح)
(هن الفواعل بالحشا ... فعل المثقفة الرماح)
(من كل غانية حكت ... غصنا تلاعبه الرِّيَاح)
(تبغي النهوض بخصرها ... ويردها الكفل الرداح)
(فَكَأَنَّهَا غُصْن إِذا ... انتفلت عَلَيْهِ الْبَدْر لَاحَ)
(وتخالها ظَبْيًا إِذا التفتت ... إِلَيْهِ السرب رَاح)
(ترنو بهَا روتية ... مقل مريضات صِحَاح)(1/236)
(غنج سِهَام جفونها ... تصمى الْفُؤَاد بِلَا جراح)
(وقطوف رَوْضَة خدها ... شبه الشقائق فِي البطاح)
(من لي برشف لمى حكى ... مختوم صهباء وَرَاح)
(وصفيف ثغر اشنب ... يحكيه مطلول الأقاح)
(نفحاته مسكية ... ورضا بِهِ عذب قراح)
(يَا أَيهَا الْبَدْر الَّذِي ... لحرام قتلتي استباح)
(أَو مَا كفتك مراشف ... تفتر عَن فلق الصَّباح)
(لم يلق صب إِذْ بَدَت ... سمعا لحي على الْفَلاح)
(ولطالما يخفى الصبابة ... بالمغالط والمزاح)
(والدمع نم بسره ... وبحاله الْمكنون باح)
(يَا أَيهَا المشغوف بالغيد ... المكعبة الملاح)
(فلئن بَكَيْت تشوقا ... فَمن الَّذِي بالشوق ناح)
(وَلَئِن سقمت من الجوى ... فَمن الَّذِي بِالسقمِ جاح)
(شط المزار وَلَا أرى ... لَك فِي الصبابة من نجاح)
(أنساك من سكن الحشا ... حب الصوافن واللقاح)
(وتعاهد الْعَسَل الَّتِي ... قرت عيونك بالرداح)
(من كل شَائِلَة حكت ... مزنا تراكم فِي المراح)
(ورضاب عذب الثغر قد ... انساكه وضع القداح)
(ومشاهد عوضتها ... بمفا وزهت براح)
(وأفاضل يهْدُونَ من ... طرف القريض إِلَى الصَّباح)
(لطفا قد أبدلتهم ... بوغود أَعْرَاب فحاح)
(عجبا عنانك لاويا ... لعنان أَفْرَاس جماح)
(فَأَبَوا القصيدة أَحْمد ... قَاض بِذَاكَ وَلَا جنَاح)
وَكَانَ سَافر إِلَى مصر فأدركه أَجله فِي شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد الْقَادِر بن عمر الدوعني الْحَضْرَمِيّ خُلَاصَة الخلان مأمن المخلصين وصفوة الصفوة من الصُّوفِيَّة الْمُحَقِّقين وزبدة الزبدة من أهل التَّمْكِين(1/237)
أَمَام أهل الْعرْفَان فِي عصره وَشَيخ الْأَوْلِيَاء فِي قطره كَانَ لَهُ فِي علم التَّحْقِيق المشرب الصفي وَالْمقَام الْأَكْمَل الوفي ورزقه الله تَعَالَى حسن الْعبارَة فَكَانَ يتَكَلَّم بالفتوحات الالهية وَكَانَت السَّادة آل باعلوي مَعَ جلالتهم تخضع لَهُ وَتَأْخُذ عَنهُ وتتبرك بِهِ ولازمه مِنْهُم أَئِمَّة عارفون وَبِه تخْرجُوا وببركة علومه وانتفعوا وَكَانَ إِذا أَتَتْهُ الجذبات الالهية يغيب عَن شعوره وَهُوَ حَافظ لمراتب الشَّرِيعَة وَقد قَالَ بعض الصُّوفِيَّة من لم يحفظ الْمَرَاتِب فَهُوَ زنديق وَألف الرسائل المقبولة مِنْهَا شرح أَبْيَات مشكلة للشَّيْخ الْأَكْبَر ابْن عَرَبِيّ وَشرح مشكلات الْأَمر الْمُحكم المربوط وَفتح مغلقاته الَّتِي هِيَ بسر الذَّات الأحدية مَنُوط ولوامع أنوار حلية الْفقر من مطالع أسرار مَسَافَة الْقصر وحزب سَمَّاهُ حزب الْفَتْح والنصر وَكَانَ مُولَعا بكتب الشَّيْخ ابْن عَرَبِيّ قَائِلا بالوحدة الوجودية الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَاب التَّمْكِين وكراماته فِي أرضه شهيرة أفردها بعض الحضرميين بالتأليف وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ ولازمه سِنِين الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى على بارأس الدوعني وَغَيره من اكابر العارفين وَكَانَت وَفَاته فِي ثَانِي عشر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف بِبَلَدِهِ الرِّبَاط من اعمال دوعن وَبنى عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة وأعقب ذُرِّيَّة صَالِحَة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عبد اللَّطِيف بن القَاضِي أَحْمد بن شمس الدّين بن عَليّ الْمصْرِيّ البشبيشي الشَّافِعِي الإِمَام الْعَالم الْمُحَقق الْحجَّة النقال كَانَ متضلعاً من فنون كَثِيرَة قوي الحافظة ميالاً نَحْو الدقة لَهُ تصرف فِي الْعبارَات ذكره الْأَخ الأديب الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فِيمَن ذكر من مشايخه وَأَطْنَبَ فِي مدحه وَكنت كثيرا مَا أذاكره فِي شَأْنه فيبالغ وَيذكر من فضائله وعلومه مَا يقْضِي ببراعته وتفوقه على نَظَائِره من أهل عصره قَالَ وَقد ولد بِبَلَدِهِ بشبيش سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَحفظ بهَا الْقُرْآن ولازم من مشايخها الشَّيْخ عَليّ الْمحلي وَقَرَأَ بالمحلة على الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى القطب الرباني حسن البدري ولازمه كثيرا وبشره بأَشْيَاء حصلت لَهُ وَكَانَ يمس بدنه فِي ابْتِدَاء طلبه الْعلم وَيَقُول لَهُ يَا أَحْمد أضلاعك ملآنة من الْعلم حَتَّى كَانَ الْأَمر كَذَلِك ثمَّ رَحل إِلَى مصر وَقَرَأَ بالروايات على الشَّيْخ سُلْطَان المزاحي ولازمه فِي الْفِقْه والْحَدِيث والفرائض والعربية وَغَيرهَا نَحْو خمس عشرَة سنة ولازم أَبَا الضياء على الشبراملسي فِي العقائد والنحو وَالْأُصُول حَتَّى تخرج بِهِ وَأخذ عَن الْحَافِظ الشَّمْس البابلي الشَّوْبَرِيّ وَالشَّيْخ يس الْحِمصِي وسري الدّين(1/238)
مُحَمَّد الدروري الْحَنَفِيّ وتصدر للإقراء والتدريس بالجامع الْأَزْهَر وَاجْتمعت عَلَيْهِ الأفاضل وَجلسَ فِي مَحل شَيْخه سُلْطَان المزاحي فلازمه جماعته ودرس فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعقلية وَحج فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَأقَام بِمَكَّة يدرس وانتفع بِهِ جمَاعَة من أَهلهَا وَقد سَمِعت الثَّنَاء عَلَيْهِ وعَلى فضائله من كثير مِنْهُم ثمَّ توجه إِلَى مصر وسافر مِنْهَا إِلَى بَلَده بشبيش لصلة رَحمَه فأدركه بهَا الْحمام وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سلخ رَجَب سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف وَكنت أَنا وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا بِدِمَشْق فَذكر بعض الْحَاضِرين أَنه توفّي فراجعت الْفِكر فِي لَفْظَة مَاتَ البشبيشي فَوَجَدتهَا تَارِيخ وَفَاته فَذكرت ذَلِك للحاضرين وشاع هَذَا التَّارِيخ عني وَهُوَ بِكَسْر أَوله وثالثه بَينهمَا شين مُعْجمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ شين مُعْجمَة ثَانِيَة قَرْيَة من أَعمال الْمحلة بالغربية
الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب بن حسن بن أبي نمى شرِيف مَكَّة وَتقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة عَمه الشريف أبي طَالب كَانَ هَذَا الشريف من أدأب أهل بَيته فَاضلا نبيها نجيباً جيد الذكاء وَكَانَ حسن الصُّورَة عَظِيم الهيبة أَخذ فِي بَدْء أمره الطَّرِيق عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد الشناوي وَهُوَ الَّذِي بشره بِولَايَة مَكَّة لكنه قَالَ لَهُ على الشَّهَادَة يَا أَحْمد فَقَالَ على الشَّهَادَة وَكَانَ كثيرا مَا يكنى عَنْهَا بِطُلُوع الشَّمْس وَلما تولى أَمر مَكَّة استولى على أَمْوَال النَّاس وَلم يرحم أحدا وعاقب كثيرا مِمَّن كَانَ قبل استبعدها عَنهُ وسخر مِنْهُ وَكَانَ لَهُ أخدان وجلساء قبل الْولَايَة فَعجل لَهُم الأذية مِنْهُم السَّيِّد سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَالشَّيْخ أَحْمد القشاشي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْقُدسِي خَليفَة سَيِّدي أَحْمد البدوي فحبس الْجَمِيع وَثقل عَلَيْهِم حَتَّى افْتَدَوْا أنفسهم بِمَال جزيل وَذَلِكَ بوشاية شخص يُقَال لَهُ ألماس وَاسْتمرّ متغلباً على مَكَّة وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مغلوب عَلَيْهِ وَاسْتولى على أَمْوَال مَكَّة ورقاب أَهلهَا وصادر التُّجَّار وَحبس من حبس وَقتل من قتل فنفرت النَّاس وجلت عَن مَكَّة وخالفت الْقَبَائِل وتقطعت الطّرق وَأكْثر الْعَسْكَر الْفساد فِي إشراف الْبِلَاد وَسَكنُوا بيُوت الْأَشْرَاف وانتهكوا حرمتهم وَقبض على جمَاعَة من الْأَعْيَان من أَجلهم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي وحبسه مغضباً عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ موسم سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف قدم الْحَاج الْمصْرِيّ وأميره إِذْ ذَاك قانصوه باشا وَكَانَ بَينه وَبَين المرشدي مَوَدَّة أكيدة ومكاتبات سَابِقَة فَلَمَّا صعد الحجيج إِلَى عَرَفَة أَتَى حَرِيم المرشدي إِلَى مخيم قانصوه مستشفعين بِهِ إِلَى الشريف أَحْمد ابْن عبد الْمطلب فِي إِطْلَاقه من الْحَبْس فرق لَهُنَّ رقة عَظِيمَة وَتوجه إِلَى الشريف يَوْم(1/239)
عَرَفَة مستشفا بِهِ فَلم يقبل رَجَاءَهُ فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة النَّحْر أَمر بِهِ فخنق شَهِيدا وَكَانَ ذَلِك سَببا لوُقُوع مَا وَقع من قانصوه باشا فِي الشريف أَحْمد ثَانِيًا لما قدم أَمِيرا على الْيمن ثمَّ اسْتمرّ قانصوه مُتَوَجها لفتح الْيمن وصحبته العساكر وعدتها ثَلَاثُونَ ألفا وَضرب مخيمه أَسْفَل مَكَّة وَكَانَ بَين الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس وَبَين الشريف الْمَذْكُور ممالأة ومواطأة قبل نُزُوله لبندر جده مضمونها أَنِّي لَا أُرِيد الْملك لنَفْسي إِنَّمَا أُرِيد لَك أَو هُوَ بَيْننَا فخذل عني من اسْتَطَعْت من آل أبي نمى وثبطهم وَحل عزائمهم ووعده بذلك فَفعل مَا فعل وَحصل بِهِ على الشريف محسن مَا حصل وَللَّه الْأَمر فَلَمَّا نزل الشريف أَحْمد إِلَى جدة تقمصها لنَفسِهِ وَلم يَفِ الشريف مَسْعُود بِبَعْض تِلْكَ العهود بل أَرَادَ قَتله ففر إِلَى قانصوه والتجأ إِلَيْهِ فصادف قانصوه مَمْلُوء بالوجأ على الشريف أَحْمد فَلَمَّا أقبل قانصوه قَاصِدا لليمن لاقاه الشريف مَسْعُود من الينبع أَو الحورا وَجَاء مَعَه مختفياً وواجه فِي الْمَجِيء الأول الشريف أَحْمد قانصوه بالزاهر ورد عَلَيْهِ تَحِيَّة الْقدوم وعزم على محاربة قانصوه فازداد قانصوه عَلَيْهِ حنقاً على حنق وَشرع يستميل عَسْكَر الشريف فأطاعوه فَخَرجُوا من مَكَّة ثمَّ خيم قانصوه وَلما أَن قَضَت الْحجَّاج مناسكهم وذهبوا إِلَى بِلَادهمْ تخلف قانصوه بثقله أَسْفَل مَكَّة فَلَمَّا تحرّك السّفر قدم ثقله وَلم يبْق إِلَّا مخيمه وخيام الْعَسْكَر فَأَشَارَ قانصوه إِلَى شخص يتعاطى خدمته من أَبنَاء الطّواف يُسمى مُحَمَّد المياس أَنه يحسن للسَّيِّد أَحْمد الْوُصُول إِلَى قانصوه للوداع فَفعل وَذهب إِلَى الشريف أَحْمد وَحسن لَهُ ذَلِك يَوْم السبت رَابِع عشر صفر فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْأَحَد خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف ركب الشريف أَحْمد إِلَيْهِ وصحبته من الْأَشْرَاف بشير بن بشير بن أبي نمى وَمُحَمّد بن حسن بن صيقان وراجح بن أبي سعيد وَمن أعوانه وزيره مقبل الهجاني وَأحمد البشوتي مُتَوَلِّي بَيت المَال وفليفل فَلم يزَالُوا يدْخلُونَ فِي المخيم من بَاب إِلَى بَاب حَتَّى وصلوا إِلَيْهِ فتحادثا مَلِيًّا ثمَّ نصبا نطع الشطرنج فَلَمَّا كَانَت السَّاعَة الْخَامِسَة من اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة قبض على الْجَمِيع فَقتل الشريف أَحْمد فتحركت عساكره فأظهره لَهُم مقتولاً وَنشر الْعلم وتودى الْمُطِيع للسُّلْطَان يقف تَحْتَهُ وقفت العساكر تَحْتَهُ وخلع على الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس وَكَانَ للشريف أَحْمد زوجان من القنا الطَّوِيل جدا بُسْتَان مَذْهَب تَحْتَهُ أكرة من الْفضة مطلية يحمل كل وَاحِد رجل يمشي على قَدَمَيْهِ إِذا سَار فِي موكبه يسيران أَمَامه قَرِيبا مِنْهُ يصوبانهما ويصعد أَنَّهُمَا بحركة سريعة لَطِيفَة(1/240)
التصويب والتصعيد على حد سَوَاء وَرُبمَا كَانَ فيهمَا أَجْرَاس قلت رَأَيْت بِخَط بعض الْفُضَلَاء أَن هَذَا يَفْعَله أَئِمَّة الْيمن وأكابر أمرائه إِلَى الْآن إِذا سَارُوا فِي المواكب انْتهى وَلَيْسَ أهل الْيمن أول من ابتدعه فقد كَانَ يَفْعَله الْخُلَفَاء العباسيون وَقد ذكر ذَلِك شعراؤهم فِي قصائدهم قَالَ القَاضِي تَاج الدّين الأرجاني من قصيدة يمدح بهَا المستظهر بِاللَّه الْخَلِيفَة العباسي
(وألوية مِنْهُنَّ صقران أوفيا ... على علمي رُمْحَيْنِ فاكتنفاكا)
(وَلَيْسَ سوى النسرين من أفقيهما ... لحبهما نيل العلى تبعاكا)
وَكَانَ إِذا سَار بِاللَّيْلِ لَا يُوقد بَين يَدَيْهِ إِلَّا الشمع الموكبي بَدَلا عَن المشاعل وَكَانَ دُخُوله مَكَّة متملكالها وأجفل الشريف محسن وَبني عَمه عَنْهَا ضحى يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ فَكَانَ يتبجح وَيَقُول فتحت مَكَّة بِالسَّيْفِ كَمَا فتحهَا رَسُول الله
ودخلتها فِي الْيَوْم الَّذِي دَخلهَا فِيهِ رَسُول الله
قَالَ صاحبنا ومولانا الشَّيْخ عبد الْملك بن حُسَيْن العصامي حفظ الله تَعَالَى بِوُجُود زِينَة الْفضل أما قَوْله كَمَا فتحهَا الح فَالْمَشْهُور وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا لم تفتح عنْوَة وَإِنَّمَا فتحت صلحا وَمَا وَقع من خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَاتل بعض قتال مَعَ الْأَحَابِيش وَعبد أَن أهل مَكَّة فِي أَسْفَل مَكَّة وَقد نَهَاهُ
عَن الْقِتَال وَلكنه لما قوتل قَاتل وَهَذَا هُوَ شُبْهَة الْقَائِل بِأَنَّهَا فتحت عنْوَة وَأما قَوْله فَدَخلَهَا إِلَى آخِره فحطأ لِأَنَّهُ لم يدخلهَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سَابِع عشرَة وَإِنَّمَا دَخلهَا ثامن عشرَة وهب أَنه
دَخلهَا كَذَلِك وَلَكِن أَيْن هَذَا الدُّخُول من ذَلِك فَإِن هَذَا حرأة وبغى على حرم الله وسكان حرمه وذرية نبيه إِذْ فِي ضمن هَذَا التَّشْبِيه تَشْبِيه من فِيهَا من الْمُسلمين الْآن بالمشركين أذ ذَاك وَقَالَ فِي ذَاك يُوسُف بن إِبْرَاهِيم المنهار
(سنة السَّبع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْألف ... جَاءَت بِمَا ينفر بالطبع)
(دخل السَّبع مَكَّة الله ... بالجند وَلَا شكّ أَنَّهَا سنة السَّبع)
وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنة وَاحِدَة وَأَرْبَعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
أَحْمد بن عُثْمَان بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الْعزي بِالْعينِ الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة الْمصْرِيّ الْمَالِكِي الشَّاعِر البليغ ذكره الخفاجي فِي كِتَابيه وَقَالَ فِي وَصفه شَاب رَقِيق(1/241)
الجلباب يقطر من إهابه مَاء اللطافة والشباب تأدب وبرع ووعى مَا جمع منعكفاً فِي زَوَايَا الخمول ملتقطا جَوَاهِر الْفَضَائِل من أَفْوَاه الفحول كَانَ فِي زمن الطّلب حدني يجني من خمائله كَمَا أجني حَتَّى اقتطفت يَد الْمنية زهرَة حَيَاته وشربت اللَّيَالِي بقايا لذاته فَرَجَعت غير راج لإرتجاعه وطلوع بدره من ثنيات وداعه ووالده من شُيُوخ الغربية وصدور أنديتها الندية ثمَّ أنْشد لَهُ من شعره قَوْله
(لَا زَالَ هَذَا الْجمع جمع سَلامَة ... لَا نقص بعروه وَلَا تَغْيِير)
(وَالْجمع من أعدائكم فِي قلَّة ... ونقيض تِلْكَ الْقلَّة التكثير)
قلت وَقد ظَفرت لَهُ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وهما قَوْله
(أَدَم يَا رب خلواتي بحبي ... لاقضي بالتواصل مِنْهُ ديني)
(وَلَا تجْعَل هُنَاكَ سوى لساني ... سميراً بَين من أَهْوى وبيني)
وَكَانَت وَفَاته فِي صفر سنة تسع بعد الْألف بعد وَالِده بأيام قَلَائِل
أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي بكر الْكرْدِي السهراني الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالمجروحي نزيل دمشق ورد إِلَيْهَا فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَنزل عِنْده حَمْزَة الْكرْدِي أحد أَعْيَان الْجند بِالشَّام واقرأ أَوْلَاده مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى عمَارَة شمسي أَحْمد باشا وَأقَام بهَا يقرى بِالْفَارِسِيَّةِ والعربية وَيكْتب الْكتب لنَفسِهِ وَأخذ عَن الشَّمْس الميداني وَحج فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وسافر إِلَى مصر فِي خدمَة قاضيها الْمولى شعْبَان بن ولي الدّين الْآتِي ذكره وَصَارَ فِي زَمَنه محاسب أوقافها ثمَّ أَتَى فِي خدمته إِلَى دمشق وَسَار إِلَى الرّوم سنة خمسين ولازم بعض الموَالِي وَأخذ الْمدرسَة اليونسية عَن القَاضِي أَحْمد الزريابي الْمَالِكِي وَعَاد فِي أواسط سنة إِحْدَى وَخمسين ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم مرّة ثَانِيَة سنة سِتِّينَ وَأخذ الْمدرسَة الفجماسية بالفراغ من الملا أَحْمد بن الملاحيدر الْكرْدِي السهراني الْعَلامَة الْمَشْهُور صَاحب التحقيقات الفائقة ومؤلف الْحَوَاشِي على إِثْبَات الْوَاجِب للْمولى الدواني والحاشية على شرح الْمولى الْمَذْكُور للعقائد وَكَانَ قدم دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة وانتفع بِهِ جمَاعَة وَكَانَ من التَّحْقِيق والتدقيق فِي الذرْوَة الْعليا وَقد ذكرته هُنَا واكتفيت عَن ذكره فِي تَرْجَمَة أفردها لَهُ لِأَن وَفَاته لم تبلغني عَن يَقِين وَالْمَقْصُود ذكر الرجل وتعريف حَاله وأغلب الِاحْتِمَال أَن وَفَاته مَا جَاوَزت عشر السّبْعين وَالله أعلم وَكَانَ لما فرغ لصَاحب التَّرْجَمَة عَن الْمدرسَة الْمَذْكُورَة سَافر إِلَى الرّوم وَبعد مُدَّة تَوَجَّهت الْمدرسَة عَن(1/242)
صَاحب التَّرْجَمَة فسافر إِلَى الرّوم مرّة ثَالِثَة وقررها وَعَاد على أحسن حَال وَكَانَ لَهُ فضل حسن محاضرة واطلاع على التواريخ وَالْأَخْبَار وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان أَو تسع بعد الْألف وَتُوفِّي بِدِمَشْق قبيل الْغُرُوب من لَيْلَة الْجُمُعَة آخر شهر ربيع الثَّانِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير والسهراني بِضَم السِّين وَسُكُون الْهَاء وَبعدهَا رَاء وَألف وَنون نِسْبَة إِلَى بَلْدَة مَعْرُوفَة بِبِلَاد الأكراد وَالله أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد البسكري بِضَم الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة الصُّوفِي رحْلَة الْهِنْد فِي زَمَانه ذكره الشلي وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء جميلا ثمَّ قَالَ أَخذ عَن وَالِده وَعَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن شيخ العيدروس وَغَيرهمَا وَكَانَ لطيف الذَّات كَامِل الصِّفَات وَكَانَ أَكثر همه الاستعداد ليَوْم الْمعَاد قَالَ فِي النُّور السافر وَكَانَ صاحبنا أَحْمد الْمَذْكُور من أهل الْعلم وَالصَّلَاح مُتبعا للْكتاب وَالسّنة سالكا على نهج السّلف الصَّالح متصفا بالعفاف قانعا بالكفاف وَلَا يرى فِي أَكثر الْأَوْقَات إِلَّا مَشْغُولًا بمطالعة أَو كِتَابَة مظْهرا للجمالة لَهُ جملَة مصنفات وَكَانَ كف بَصَره قبل وَفَاته بِقَلِيل وَلِلنَّاسِ فِيهِ مدائح فَمن ذَلِك مَا قَالَه أديب الزَّمَان الشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد الزبير فِيهِ من قصيدة
(أعنى بِهِ أَحْمد الْمُخْتَار سيرته ... خلقا وخلقا سواهُ لَا يُسَاوِيه)
(شهَاب نجل عَليّ البسكري بَلَدا ... الْمَالِكِي مذهبا من ذَا يضاهيه)
(قد خصّه بجميل الْفضل خالقه ... بسرطي معَان فِي معاليه)
(لَهُ بديع بَيَان فِي الْخطاب يرى ... وَغير لفظ وَقد جلت مَعَانِيه)
(أخباره قد أَتَت فِي الْحَال تخبر عَن ... أَبْيَات أفكاره الْمَخْصُوص من فِيهِ)
(حَدِيثه الْحسن العالي رِوَايَته ... أعلت لسامعه شَأْنًا وَرَاوِيه)
وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثَّانِي سنة تسع بعد الْألف بِمَدِينَة أَحْمد آباد وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن عبد القدوس بن مُحَمَّد أَبُو الْمَوَاهِب الْمَعْرُوف بالشناوي الْمصْرِيّ ثمَّ الْمدنِي الاستاذ الْكَامِل المكمل الباهر الطَّرِيقَة ترجمان لِسَان الْقدَم كَانَ آيَة الله الباهرة فِي جَمِيع المعارف وَقد أَعلَى الله تَعَالَى مِقْدَاره وَنشر ذكره وَله بالحرمين الشُّهْرَة الطنانة أَخذ بِمصْر عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والقطب مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ والنور الزيَادي وبالمدينة عَن السَّيِّد صبغة الله بن روح الله السندي(1/243)
أَخذ عَنهُ طَرِيق الْقَوْم وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس الْخِرْقَة وَبِه تخرج فِي عُلُوم الْحَقَائِق وَقَامَ مقَامه للنَّاس فِي التربية والتلقين والإلباس والتحكيم وَمن مشايخه أَيْضا السَّيِّد غضنفر بن جَعْفَر البُخَارِيّ ثمَّ الْمدنِي وَأخذ عَنهُ كَثِيرُونَ مِنْهُم السَّيِّد سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ والصفي أَحْمد بن مُحَمَّد الدجاني الْمدنِي الْمَعْرُوف بالقاشي وَالسَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عمر الحبشي الغرابي وَغَيرهم من العارفين وَالشَّيْخ سُلْطَان المزاحي وَله خلفاء فِي كل أَرض رتبهم عالية مَعْلُومَة وَله التصانيف الَّتِي لم ينسج على منوالها مِنْهَا حَاشِيَة على كتاب الْجَوَاهِر للغوث الْهِنْدِيّ والسطعات الأحمدية فِي رَوَائِح مدائح الذَّات المحمدية والتأصيل وَالتَّفْصِيل وَكتاب الإقليد الفريد فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد وسعة الْأَخْلَاق وفواتح الصَّلَوَات الأحمدية فِي لوائح مدائح الذَّات المحمدية ورسالة فِي الْوحدَة الوجودية وَتمكن حَاله واشتهر مقاله وَكَانَ يَقُول فِيمَا حَكَاهُ الْعَلامَة أَحْمد البشبيشي لَو كَانَ الشعراني حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي وَكَانَ يَقُول لَا يدْخل النَّار من رَآنِي يَوْم الْقِيَامَة وَمثل هَذَا الإِمَام لَا يتَكَلَّم إِلَّا عَن أذن إلهي وَالسَّلَام على أهل التَّسْلِيم وَمن فَوَائده وَفِي أسانيدنا الأولى كَثْرَة الرِّجَال بِخِلَاف أَسَانِيد الْمُحدثين فَالْمُرَاد فِيهَا قلَّة الرِّجَال لسُهُولَة النَّقْد وَالْمرَاد هُنَا كَثْرَة الرِّجَال لتقوى المدد وتعظيم السَّنَد فَإِن للمتقدم على الْمُتَأَخر زِيَادَة وَله عَلَيْهِ إمداد وإفادة وَله الشّعْر البليغ فَمن ذَلِك قَوْله فِي تخميس قصيدة السودي الْمَشْهُورَة
(كَيفَ تبدو الْعين بالأثر ... وَهِي تأبى الْغَيْر كالحصر)
(صَحَّ فِيهَا قَول مُعْتَبر ... لَيْسَ عِنْد الْخلق من خبر)
(عَنْك يَا أغلوطة الْفِكر ... )
(صَارَت الأنباء عَنْك عمى ... وشهود الْكَشْف فِيك وَمَا)
(وَعَلِيم الْقَوْم مصطلما ... حارت الْأَلْبَاب فِيك وَمَا)
(ميزت وردا من الصَّدْر ... )
(وحدة عزت مهيمنة ... جمعت للضد مرتبَة)
(وجلت للعين تعمية ... حيرة عَمت فَأَي فَتى)
(رام عرفانا وَلم يحر ... )
(فجلالا هوته طللا ... فبدانا سوته مثلا)
(وعَلى إِطْلَاقه أزلا ... عميت أنباء ذَاك على)(1/244)
(كلهم فِي الْبَدْر والحضر ... )
(قصدُوا جمعا بِهِ صدعوا ... فراقوا فِي الْجمع فانقطعوا)
(وهم عَنهُ بِهِ منعُوا ... فانثنوا وَالله مَا وَقَعُوا)
(لَا على عين وَلَا أثر ... )
(قمحيط كَيفَ يَحْجُبهُ ... فَأَبت عَنْهُم مذاهبه)
(وضيا الأمكان واجبه ... بل عَظِيم الْقَوْم مطلبه)
(شدَّة التحيير والحصر ... )
(إِن دون الْحق لَيْسَ نبا ... فسوى الْقَوْم مِنْهُ هبا)
(وجمال الْوَجْه مَا حجبا ... كَيفَ حَار وافيك وأعجبا)
(يَا سنا سَمْعِي وَيَا بَصرِي ... )
(حكمه مَاء بمنعقد ... وَقيام الْفَرد فِي عدد)
(قُمْت فيهم غير مُتحد ... أَنْت لَا تخفى على أحد)
(غير أعشى الْفِكر وَالنَّظَر ... )
(أَو على رسم لَهُ شبه ... أَو على وسم بِهِ وَله)
(أَو على من فرقه عَمه ... أَو على شخص بِهِ كمه)
(لم يُشَاهد صُورَة الْقَمَر ... )
(فعلى تَحْقِيق رتبتهم ... أَنْت فِي إِطْلَاق نسبتهم)
(وعَلى تعْيين وجهتهم ... أَنْت فيهم ظَاهر وبهم)
(وَلَهُم لَوْلَا بقا الْأَثر ... )
(فهم مِنْهُم بهم عدم ... وَلَهُم فِي علمه قدم)
(وهم من وَجهه أُمَم ... لَو تلاشت عَنْهُم ظلم)
(وامحوا عَن عَالم الصُّور ... )
(فهم خلق يبسط وطا ... وهم حق بكشف غطا)
(فَلَو أنهلوا هدى وسطا ... شاهدوا معناك منبسطا)
(سائرا فِي سَائِر الْقطر ... )
(وَرَأَوا لله مَا حكمُوا ... وبعين الله مَا علمُوا)
(وبوجه الْحق قد عصموا ... وَرَأَوا أَن الْحجاب هم)(1/245)
(عَن شُهُود المنظر التضر ... )
وَله أَشْيَاء فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة وَكَانَت وِلَادَته فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة بمحلة روح عَن غربية مصر وَتُوفِّي فِي ثامن الْحجَّة سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف بِالْمَدِينَةِ وَدفن ببقيع الْغَرْقَد بِالْقربِ من ضريح شَيْخه السَّيِّد صبغة الله رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن قَاسم أَبُو الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بالزقاق بزاي وقافين الْمَالِكِي الْفَقِيه الْحَافِظ عَالم بِلَاد الْمغرب وَرَئِيس جهابذتها فِي عصره وَكَانَ عَالما فَقِيها متكلماً نَاظرا عَظِيم الهيبة جليل الْقدر عالي الهمة أَخذ عَن أَبِيه وَغَيره وبرع وَقيد وَضبط وَألف وَمن تآليفه شرح منظومة أَبِيه فِي الْقَوَاعِد وَبَعض الرسَالَة والمدونة ومختصر خَلِيل ورحل وَحج وتفقه بِهِ كثير من أهل فاس ولازمه ابْن أَخِيه عبد الْوَهَّاب الزقاق وانتفع بِهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف ذكر هَذَا الشلي فِي تَارِيخه
السَّيِّد أَحْمد بن عَليّ بن عَلَاء الدّين السَّيِّد الشريف الْمَعْرُوف بالصفوري الحسني الشَّافِعِي الدِّمَشْقِي كَانَت لَهُ معرفَة تَامَّة بالفقه والعربية وَالشعر وأنواع الْأَدَب وَكَانَ حسن الْخلق جيد الْفَهم لَهُ همة عالية وطبيعة مطيعة قَرَأَ بِدِمَشْق على عبد الْحق الْحِجَازِي وَالْحسن البوريني والشرف الدِّمَشْقِي وَسمع الحَدِيث من الشَّمْس الميداني النَّجْم الْغَزِّي وَكَانَ معيداً لدرسيهما فِي صَحِيح البُخَارِيّ تَحت قبَّة النسْر بِجَامِع دمشق وسافر إِلَى حلب فِي سنة سِتّ عشرَة وَألف وَجرى لَهُ مَعَ أدبائها مطارحات وقفت عَلَيْهَا بِخَطِّهِ فِي بعض مجاميعه ودرس بدار الحَدِيث الأشرفية وَتَوَلَّى قَضَاء الشَّافِعِيَّة بمحكمة الْبَاب بِدِمَشْق وَكَانَ حسن النزاهة فِي قَضَائِهِ مَشْهُور السمعة وَله شعر مستعذب عَلَيْهِ طلاوة وَفِيه رقة وعذوبة فَمن ذَلِك قَوْله
(أيا رب قد مكنت فِي الْقلب حبه ... وحكمته فِي الصب بالْقَوْل وَالْفِعْل)
(وألهمته الْأَعْرَاض عني وَلم تدع ... لقلبي صبرا عَنهُ فِي الهجر والوصل)
(فألهمه إحساناً إِلَيّ فَلَيْسَ لي ... سوى لطفك الْمَعْهُود إِن لم يكن من لي)
(وَإِلَّا فسو الْحبّ بيني وَبَينه ... فَإنَّك يَا مولَايَ تُوصَف بِالْعَدْلِ)
هَذَا أسلوب لطيف يعرفهُ من لَهُ خبْرَة بقريض الشّعْر وَهُوَ نقل الْكَلَام من أسلوب إِلَى آخر تطرفاً كاستعماله الْغَزل مَا عهد اسْتِعْمَاله فِي الدُّعَاء كَقَوْل ابْن الْوَكِيل
(يَا رب جفني قد جفاه هجوعه ... والوجد يَعْصِي مهجتي وَتُطِيعهُ)(1/246)
(يَا رب قلبِي قد تصدع بالنوى ... فَإلَى مَتى هَذَا البعاد يروعه)
(يَا رب بدر الْحَيّ غَابَ عَن الْحمى ... فَمَتَى أرَاهُ فِي القباب طلوعه)
(يَا رب فِي الأظعان سَار فُؤَاده ... يَا ليته لَو كَانَ سَار جَمِيعه)
(يَا رب لَا أدع البكا فِي حبهم ... من بعدهمْ جهد الْمقل دُمُوعه)
(يَا رب عذب فِي الْهوى من سَاءَنِي ... بمقالة أحلى الْهوى ممنوعه)
(يَا رب هَذَا بَيته وبعاده ... فَمَتَى يكون إيابه ورجوعه)
وَمثله اسْتِعْمَال الْغَزل على طَرِيق الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة كَقَوْل الظريف
(أعز الله أنصار الْعُيُون ... وخلد ملك هاتيك الجفون)
(وأسبغ ظلّ ذَاك الشّعْر مِنْهُ ... على قدبه هيف الغصون)
وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة قَوْله مضمناً
(إِن جِئْت حَيّ أَمِيري صف لي شجني ... وَطول سقمي وَمَا ألْقى فَإِن سمعا)
(فاشرح لَهُ حَال صب مغرم دنف ... قد قطع الْبعد عَنهُ قلبه قطعا)
(لَا يسْتَقرّ بِهِ فِي منزل جَسَد ... وطرفه بعده وَالله مَا هجعا)
(وَاذْكُر لَهُ إِن حبي زَاد فِيهِ وَهل ... يخْشَى تغير مَا فِي الطَّبْع قد طبعا)
(وأنشده عهدا مضى فِي الرقمتين لنا ... والبدر شاهدنا لما إِلَيْهِ سعى)
(عساه تعطفه تِلْكَ العهود وَكم ... خل إِلَى الْعَهْد والميثاق قد رجعا)
(واسرع بلطف وَقل مستعطفاً ملكا ... بَيْتا إِلَى ذكره حَال المشوق دَعَا)
(يَا ابْن الْكِرَام أَلا تَدْنُو فتبصر مَا ... قد حدثوك فاراء كمن سمع)
هَذَا الْبَيْت مِمَّا كثر تضمنه قَدِيما وحديثاً وَلَا أَدْرِي لمن هُوَ وَفِيه عكس التَّشْبِيه إِذْ لَيْسَ المُرَاد جعل السَّامع أَو فِي دَرَجَة من الرَّائِي وَقَوله مضمنا أَيْضا
(يَا من بِهِ بَدْء الْجمال وَمن غَدا ... لِلْحسنِ دون ذَوي الْكَمَال ختاما)
(قد تمّ حسنك بالعذار فَمن رأى ... بَدْرًا يكون لَهُ الْكُسُوف تَمامًا)
وَهَذَا الْبَيْت للأستاذ أبي الْفرج بن هِنْد وَقَبله
(خلع العذار على جمالك خلعة ... خلعت قُلُوب العاشقين غراما)
وللباخرزي فِيمَا يُقَارِبه وَهُوَ قَوْله
(وَجه حكى الْوَصْل طيبا زانه صدغ ... كَأَنَّهُ الهجر فَوق الْوَصْل علقه)
(وَقد رَأَيْت أَعَاجِيب الزَّمَان وَمَا ... رَأَيْت وصلا يكون الهجر رونقه)(1/247)
وللصفوري فِي الإعتذار قَوْله
(أيا من فَضله والجود سارا ... مسير النسيرين بِلَا معَارض)
(وعدتك سَيِّدي والوعد دين ... وَلَكِن مَا سلمت من الْعَوَارِض)
قلت الْعَوَارِض مظْلمَة سلطانية تُؤْخَذ من الْبيُوت فِي الشَّام فِي كل سنة وَيُقَال أَنَّهَا من محدثات الْملك الظَّاهِر بيبرس وَبِهَذَا تمت لَهُ التورية وَمِمَّا يُعجبنِي فِي التَّعَرُّض لَهَا قَول الأكرمي الْمُقدم ذكره
(لحى الله أَيَّام الْعَوَارِض أَنَّهَا ... هموم لرؤياها نشيب الْعَوَارِض)
(يضيق لَهَا صَدْرِي وَإِنِّي لشاعر ... خليع وبيتي مَا عَلَيْهِ عوارض)
وَقَالَ ملمحا بحكمة تروى عَن الإِمَام مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهِي لَيْسَ بِحَكِيم من لَا يعاشر بِالْمَعْرُوفِ من لَا يجد بدا من معاشرته حَتَّى يَجْعَل الله لَهُ فرجا ومخرجا
(إِذا أَنْت لم تقدر على ترك عشرَة ... لذِي شَوْكَة فانصح وعاشره بِالصّدقِ)
(وَلَا تضجرن من ضيق مَا قد لَقيته ... عَسى فرج يَأْتِيك من خَالق الْخلق)
وَله
(إِذا أَنْت لم تقرب يناجيك خاطري ... وَإِن تدن مني فالجوارح أعين)
(لِأَنَّك مطلوبي على كل حَالَة ... وَأَنَّك مختاري فرؤياك أحسن)
وَفِي مَعْنَاهُ قَول القَاضِي إِسْمَاعِيل الْحِجَازِي الْآتِي ذكره
(إِذا ألحت لي ناجتك كل جوارحي ... وَإِن غبت عَن عَيْني أناجيك بِالْقَلْبِ)
(فَأَنت من قلبِي حُضُور أَو غيبَة ... وَأَنت ضيا عَيْني فِي حَالَة الْقرب)
وَمن شعره قَوْله يمدح الْوَادي التحتاني أحد متنزهات دمشق
(وَالله مَا رَأَتْ العينان مثلك يَا ... وَادي دمشق وَلم تسمع بِهِ أذن)
(لانت كالجنة الفردوس إِذْ هَبَطت ... فِيك الْجَوَارِي وَالْولد أَن قد سكنوا)
وَبِالْجُمْلَةِ فمحاسن السَّيِّد أَحْمد فِي الشّعْر كَثِيرَة فنكتفي مِنْهَا بِهَذَا الْقدر وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي خَامِس شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ الحريري العسالي الشَّافِعِي شيخ الخلوتية بِالشَّام الْبركَة الْوَلِيّ العابد الزَّاهِد نزيل دمشق وَأحد الْأَفْرَاد الْمُتَّفق على صَلَاحه وزهده وورعه وَكَانَ لَهُ فِي طَرِيق الْقَوْم كَلِمَات من النمط العالي وشاع أمره وطار صيته وَكَانَ وَالِده كردِي الأَصْل قدم من بَلْدَة حَرِير وَنزل بقرية عَسَّال من ضواحي دمشق فولد لَهُ بهَا أَحْمد(1/248)
هَذَا فَدخل فِي صباه دمشق وَأخذ بهَا عَن بعض الصُّوفِيَّة ثمَّ ارتحل إِلَى حلب وَأخذ بهَا عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد الدرغراني من قَرْيَة دير غرَّة تَابع حلب وسافر إِلَى عينتاب وَاجْتمعَ بالشيخ شاه ولي الخلوتي وَعنهُ أَخذ طَرِيق الخلوتية وَرجع إِلَى دمشق وَسكن بصالحيتها مُدَّة مديدة وَكَانَت نواب الشَّام وقضاتها وأعيانها يسعون إِلَيْهِ ويلتمسون دعواته ويتبركون بِهِ وَرُبمَا أَخذ بَعضهم الطَّرِيق عَنهُ وَقد أَخذ عَنهُ من أهالي دمشق وَغَيرهَا خلق لَا يُحصونَ كَثْرَة وَكَانَت عَلَامَات الْولَايَة ظَاهِرَة عَلَيْهِ وَهُوَ فِي كل حَال مرضِي السمت وَحدث بعض الثِّقَات من أهل دمشق أَنه سَافر إِلَى مصر فِي حَيَاة العسالي فَاجْتمع بِبَعْض الخبيرين بفن الزايرجا فَسَأَلَهُ عَن قطب ذَلِك الْوَقْت فاستخرج أبياتاً باسم العسالي صَاحب التَّرْجَمَة وسكنه وشكله وقريته وَمَا زَالَ فِي إقبال من النَّاس وشهرة تَامَّة حَتَّى عمر لَهُ محافظ الشَّام أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بالكجك عِمَارَته بِالْقربِ من مَسْجِد الْقدَم وَكَانَ ذَلِك فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَنَقله إِلَيْهَا فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف فازداد اشتهاره وشاع خَبره وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وَبَايَعَهُ من مَشَايِخ دمشق الْأُسْتَاذ الْكَبِير أَيُّوب وَالسَّيِّد مُحَمَّد العباسي شَيخنَا وَغَيرهمَا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشر ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ تجاه قبَّة الْحَاج عقب صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا وَدفن بالعمارة الْمَذْكُورَة والعسالي بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَبعدهَا سين مُهْملَة وَألف وَلَام نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى الْجُبَّة من نواحي دمشق والقطب مَعْرُوف وَقد ورد فِيهِ بعض الْآثَار وَنقل النَّجْم الغيطي عَن شَيْخه القَاضِي زَكَرِيَّا أَن القطب مَوْجُود فِي كل زمَان كلما مَاتَ قطب أَقَامَ الله مَكَانَهُ آخر وَهَذَا أَمر مَعْلُوم مَشْهُور وَالْمُنكر لذَلِك محروم من بركَة الأقطاب معترف بِأَن منَّة الله تَعَالَى لم تواجهه وليته إِذْ فَاتَهُ الْوُصُول إِلَيْهَا لَا يفوتهُ الْإِيمَان بهَا انْتهى وَأما الْوَصْف بالغوث المشتهر بَين الصُّوفِيَّة فَلم يثبت لَكِن أخرج الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق عبيد الله بن مُحَمَّد الْقَيْسِي قَالَ سَمِعت الْكِنَانِي يَقُول النُّقَبَاء ثلثمِائة والنجباء سَبْعُونَ والأبدال أَرْبَعُونَ والأخيار سَبْعَة والعمد أَرْبَعَة والغوث وَاحِد فمسكن النُّقَبَاء الْمغرب ومسكن النجباء مصر ومسكن الأبدال الشَّام والأخيار سائحون فِي الأَرْض والعمد فِي زَوَايَا الأَرْض ومسكن الْغَوْث مَكَّة فَإِذا عرضت الْحَاجة من أَمر الْعَامَّة ابتهل بهَا النُّقَبَاء ثمَّ النجباء ثمَّ الأبدال ثمَّ الأخيار ثمَّ الْعمد فَإِن أجِيبُوا وَإِلَّا ابتهل الْغَوْث فَلَا تتمّ مسئلته(1/249)
حى تجاب دَعوته والخلوتية معروفون ونسبوا إِلَى الْخلْوَة لِأَنَّهَا من لَوَازِم طريقتهم قَالَ الْأُسْتَاذ أَيُّوب فِي رسَالَته الاسمائية وليدخل الْخلْوَة السّريَّة وَهُوَ التفريد بِاللَّه ذكرا فِي وجوده والغيبة بِهِ عَمَّا سواهُ فَإِن تيَسّر مَعَ ذَلِك خلْوَة الشَّخْص عَن الْخلق بِأَن يجلس فِي مَكَان طَاهِر وَالْأَفْضَل أَن يكون مَسْجِد جمَاعَة وَأَن يَنْوِي الِاعْتِكَاف الصَّوْم الشَّرْعِيّ وَالْأولَى أَن يتجرد عَن كَثْرَة الْأكل وَالشرب إِذا أفطر وَإِذا ترك الشّرْب فَإِن ذَلِك أولى فَإِن الْعَطش فِي الطَّرِيق أَمر عَظِيم بل هُوَ مسرع الْفَتْح إِذا ساعد التَّوْفِيق والعناية وَيشْرب شَيْئا من المَاء والدبس أَو الْعَسَل وَيكون ذكره فِي الْخلْوَة لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن عجز عَن ذكرهَا فِي الظَّاهِر فَيرجع إِلَى اسْمه فِي الْبَاطِن فيذكره وَلَا ينَام فِي اللَّيْل قَلِيلا وَلَا كثيرا بل بعد صَلَاة الأشراق لتنجلي لَهُ وقائعه وَإِن كَانُوا جمَاعَة فَكَذَلِك إِلَّا أَنهم يذكرُونَ الله جَمِيعًا بِقُوَّة عزم وَإِن وجد حاد ينشد لَهُم من كَلَام السادالصوفية فَلَا بَأْس ليروحهم فَإِن المجاهدة لَهَا كرب على النُّفُوس وَالْخلْوَة بِالْجِمَاعِ لَا تتجاوز الثَّلَاثَة أَيَّام وخلوة الْوَاحِد مَا شَاءَ من ثَلَاثَة وَسَبْعَة وَخَمْسَة عشر وَثَلَاثِينَ شهرا كَامِلا وَسبعين وعاماً ثمَّ الْعُمر كُله وَهُوَ الْخلْوَة الْمُطلقَة بالسر الْمُطلق قَالَ بَعضهم لَا يتَخَلَّص الْإِنْسَان من أَحْكَام النَّفس إِلَّا إِذا توالت مجاهدته وَتَتَابَعَتْ حولا كَامِلا فَلَا تعود أوصافها إِلَيْهِ وَإِن عَادَتْ لَا تستولي على الْإِنْسَان بل تَزُول بِأَدْنَى توجه بعد ذَلِك وَأما عندنَا فَإِن فعل ذَلِك فَلَا يَأْمَن بل يجمع بَين المجاهدة وَالْأَدب فِي عدم الركون إِلَى النَّفس السَّادة الخلوتية اخْتَارُوا فِي السلوك اثْنَي عشر اسْما تذكر بالترتيب شَيْئا بعد شء على حسب الْوَارِد فَلَا يذكر الثَّانِي حَتَّى ترد موارده على الأول وَيَقَع الْإِذْن بِذكر الثَّانِي فيذكر مَعَ قُوَّة الِاجْتِهَاد وثبات الجأش وعلو الهمة وَالثَّالِث وَالرَّابِع إِلَى الثَّانِي عشر وَذكرهَا لَهُ ثَلَاثَة شُرُوط الأول كِتْمَانه عَن سَائِر النَّاس الثَّانِي الطَّهَارَة فِي الْحس بالضوء أَو الْغسْل وَالْمعْنَى بالأخلاق الْحَسَنَة النافية للأخلاق السَّيئَة الثَّالِث المداومة عَلَيْهَا فِي كل حَال وَعدم المبالاة بالخلق فِي الإقبال والإدبار وَإِلَيْهِ فَهِيَ الاشارة بقوله تَعَالَى {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} وَقَالَ تَعَالَى {وَذكر اسْم ربه} فضلى وَإِن أَرَادَ السالك أَن يسْرع إِلَيْهِ الْخَيْر فليلزم الذّكر وليخلص فِيهِ إخلاصاً يحقر السرى فِي عينه كَأَنَّهُ بَاقٍ على عدميته الْأَصْلِيَّة وَهُوَ كَذَلِك فَلَا وجود لشَيْء مَعَ الْحق جلّ وَعلا
أَحْمد بن عَليّ المحيرثي نِسْبَة إِلَى المحيرث كدريهم مُصَغرًا بَلْدَة من بِلَاد كوكبان(1/250)
ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ من نَوَادِر الزَّمَان نبيها زكيا أحَاط بعلوم جمة وَتمكن من قَوَاعِد الْمَذْهَب ثمَّ قَرَأَ كتب الْحَنَفِيَّة وَولي الْقَضَاء للأروام بِصَنْعَاء وَقضى بمذهبهم وَكَانَ فِي عُلُوم الْمَعْقُول والأدوات نَسِيج وَحده وَكَانَ يقْضِي للأروام بلغتهم وللفارسيين بلغتهم وللعرب بلغتهم وَكَانَ من أَعْيَان الزيدية قَرَأَ على الْمُفْتِي وَغَيره مِنْهُم ثمَّ أخلط فِي آخر عمره قَالَ حكى بعض الشَّافِعِيَّة اخْتَلَط صَاحب التَّرْجَمَة لجودة ذكائه وأحرقت إِلَّا لمعية عقله وَكَانَ يذكر أَنه الْمهْدي المنتظر وَمن أرجوزة لَهُ إِلَى السَّيِّد أَحْمد بن الإِمَام الْقَاسِم وَولد أَخِيه الْحُسَيْن قَالَ فِيهَا
(من الإِمَام الْمهْدي المرتضى للرشد ... إِلَى المليك أَحْمد ثمَّ الْحُسَيْن الأرشد)
إِلَى آخرهَا وَتارَة يَقُول أَنه الدَّابَّة الَّتِي تكلم النَّاس وَله أجوبة مسكتة وأشعار فائقة فِي ضبط الْعُلُوم وَمن شعره قَوْله
(قَاضِي الْجمال أَتَى يجر ذيوله ... كالغصن حَرَكَة النسيم الساري)
(لبس السوَاد فَعَاد بدر فِي الدجى ... لبس الْبيَاض فَكَانَ شمس نَهَار)
(قَالَت رياض الْحسن هَذَا مالكي ... قد أَقرَأ الْحَنَفِيّ فِي الأزهار)
ثمَّ دخل مَكَّة فاشتغل بِهِ الْعلمَاء هُنَالك وَكَانَ مكي فروخ الْحَنَفِيّ على جلالة قدره بِخِدْمَة للطهور وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فِي إِفْرَاد سنة خمسين وَألف
أَحْمد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد جلاخ باقشير الشَّيْخ الإِمَام المفنن فِي الْعُلُوم ولد بحضرموت ببلدة الْمُسَمَّاة بالعجر وَحفظ الْقُرْآن على يَد جد لأمه الْهَادِي باقشير وَقَرَأَ بالتجويد وَحفظ الجزرية وَغَيرهَا من فن القراآت والتجويد وَحفظ الْإِرْشَاد والألفية والقطر وَغَيرهَا وَجل محفوظاته على مشايخه ولازم جده الْمَذْكُور وَأخذ عَنهُ التصوف ورباه فَأحْسن تَرْبِيَته وَأخذ عَن جمَاعَة بحضرموت ثمَّ رَحل إِلَى المستفاض وَأقَام عِنْد ضريح الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ الْجَوْهَرِي مُدَّة لتعليم الْقُرْآن وتدريس الْعلم النافع وانتفع بِهِ كثير من أهل تِلْكَ الْجِهَة ثمَّ ارتحل إِلَى مَكَّة المكرمة وَحج وَأقَام بهَا وتبوأ صحن مَسْجِدهَا الشريف فلقي مَكَّة سَادَات أَعْلَام كالشيخ عبد الله باقشير أَخذ عَنهُ علم التَّوْحِيد القراآت وَقَرَأَ عَلَيْهِ للسبع بعد أَن حفظ الشاطبية وحلها عَلَيْهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرحها وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَعَن الشَّيْخ عَليّ الْجمال الْفِقْه والفرائض والحساب ولازمه فِي هذَيْن الفنين وَأخذ الْفَرَائِض والحساب وَأَيْضًا عَن الشَّيْخ أَحْمد بن تَاج الدّين رَئِيس(1/251)
المؤذنين بِالْحرم النَّبَوِيّ ولازمه مُلَازمَة تَامَّة حَتَّى تخرج بِهِ وَلما قدم الْعَلامَة عِيسَى بن مُحَمَّد الْجَعْفَرِي المغربي إِلَى مَكَّة الزمه وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة كالأصلين والمنطق والمعاني وَالْبَيَان والبديع والنحو وَالصرْف وَكَانَ الشَّيْخ عبد الله الباقشير يُحِبهُ وَيُشِير إِلَيْهِ وَكَانَ إِذا ورد عَلَيْهِ مسئلة مشكلة أمره أَن يُرَاجِعهَا لَهُ ويحررها ثمَّ يَكْتُبهَا وَكَانَ الشَّيْخ إِذْ ذَاك ضعف عَن الْمُرَاجَعَة وَقل نظره وزوجه بابنته ثمَّ أذن لَهُ مشايخه بالتدريس فدرس وَأخذ عَنهُ جمَاعَة لَا سِيمَا بعد وَفَاة شَيْخه الْمَذْكُور ثمَّ شرع فِي التَّأْلِيف فصنف عدَّة رسائل لكنه لم يبيضها وَله نظم كثير ونظم أرجوزة فِي علمي الْفَرَائِض والحساب جمع فِيهَا فأوعى ثمَّ شرحها شرحا طَويلا استوعب فِيهِ جَمِيع الطّرق والمباحث وَبِالْجُمْلَةِ فقد انْفَرد بعلمي الْفَرَائِض والحساب بعد شَيْخه عَليّ بن الْجمال لَا سِيمَا علم المناسخات فَإِنَّهُ كَاد أَن يحفظ جدول ابْن عبد الْغفار لِكَثْرَة مطالعته لَهُ وقراءته وَشرع فِي اخْتِصَار حَوَاشِي الفهامة ابْن قَاسم على التُّحْفَة وَكَانَت وَفَاته ضحى يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس وَسبعين وَألف بِمَكَّة وَحضر جنَازَته خلق كثير وَحَمَلُوهُ وَالسَّمَاء تمطر حَتَّى فرغوا من دَفنه وَمِمَّنْ حمل جنَازَته عِيسَى الْجَعْفَرِي وَالشَّيْخ أَحْمد بن عبد الرؤف وأسف النَّاس عَلَيْهِ وَدفن بالمعلاة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد أَبُو الْعَبَّاس بن عَليّ بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم مطير الْحكمِي اليمني الشَّافِعِي أحد عُلَمَاء بني مطير الأكابر الَّذين ورثوا الْعلم كَابِرًا عَن كَابر وبرعوا فِي سَائِر الْعُلُوم وكرعوا من مشارع الفهوم وَاشْتَغلُوا بِطَاعَة الله تَعَالَى أَخذ الْعلم عَن وَالِده وتمتع مِنْهُ بطارفه وتالده وأغناه عَن التَّرَدُّد إِلَى غَيره وأجناه من ثَمَرَات خَيره وَألف المؤلفات المفيدة مِنْهَا تسهيل الصعاب فِي علمي الْفَرَائِض والحساب وَالرَّوْض الأنيف فِي النَّحْو واللغة والتصريف ونظم كتاب الازهار فِي فقه الائمة الاطهار بالتماس بعض الزيدية لذَلِك وَمن شعره قَوْله
(جدد عهودك بالوادي وَبِالسَّنَدِ ... بَين العقيق وَبَين السفح من أحد)
(ديار من جهم فرض ادين بِهِ ... وَمن لَهُم منزل قد شيد فِي خلدي)
(حَيْثُ النُّبُوَّة حطت رَحلهَا وثوت ... ومهبط الْوَحْي والأملاك بِالرشد)
(وراجيا من رَسُول الله رَحمته ... مُحَمَّد أَحْمد الْمَبْعُوث من أدد)
(مَا كن من قبله علم لأمته ... وَلَا لَهُ كَانَ بِالْإِيمَان ثمَّ هدى)(1/252)
(يَا خَالق الْخلق يَا من لَا شريك لَهُ ... يَا مَالك الْملك بالآزال والأبد)
(يَا ملجأي فِي أموري كلهَا أبدا ... يَا منجدي من مخوفات وَمن كمد)
(إِلَيْك أرفع كفي ضارعا خجلا ... وأخلص الدّين إِذْ أَدْعُوك يَا سندي)
(وأخفض الرَّأْس منقادا بِهِ وجلا ... مُسْتَغْفِرًا لذنوب جمة الْعدَد)
(مستسقيا مِنْك غيثا مطبقا غدقا ... سَحا هَنِيئًا مريئا مصلح الْبَلَد)
(عَاما دريرا مربعًا غير مُنْقَطع ... وَلَا مُضر وَلَا مؤذ وَلَا نكد)
(تحيا بِهِ الأَرْض والأحياء كلهم ... واغفر لنا كل ذَنْب وامحه وجد)
(يَا مفزعي يَا إلهي يَا ملاذي يَا ... مولَايَ يَا موئلي هَب لي وَمد يَدي)
(يَا عَالم السِّرّ مثل الْجَهْر يَا أملي ... ارْحَمْ بجودك ضعْفي واشددن عضدي)
(يَا فَرد يَا حَيّ يَا قيوم يَا صَمد ... يَا ذَا الْجلَال وَذَا الْإِكْرَام يَا أحدى)
(مطالبي مِنْك لَا تحصى وعلمكها ... أحصى وجودك تعطيه على الْأَبَد)
(فآتنا كل مَا نرجو ونطلبه ... وَاقْبَلْ دَعَانَا سَرِيعا وحينا وزد)
(وَآت داعيك بِي فِي كل حَادِثَة ... تنوبه سؤله فِي الْخَيْر إِن ترد)
(فاحمد بن عَليّ قد دعَاك وَقد ... عودته الْخَيْر فضلا مِنْك لم يبد)
(وكل آل مطير لست تهملهم ... فهم عبيدك فارحمهم وعد وجد)
(وأبق مِنْهُم لهَذَا الدّين مطلعا ... يسمو بهم وانصرنهم نصر منتجد)
(هم حاملون كتاب الله تعصمهم ... آيَاته عَن تآويل وَعَن أود)
(واحفظ بحفظهم من كَانَ يصحبهم ... من أهل ودهم من شَرّ ذِي حسد)
(واقرن صَلَاتك بِالتَّسْلِيمِ لَا برحا ... على نبيك فِي يَوْم وكل غَد)
(رَسُولك الْمُجْتَبى الدَّاعِي إِلَيْك أَتَى ... لبيْك لبيْك آمنا بِلَا حجد)
(وَعم آلا وأصحابا وتابعهم ... لهديهم مقتد بِالْبرِّ والرشد)
وكاننت وَفَاته ببلدهم عيس الْحصن من المخلاف السُّلَيْمَانِي فِي الْيمن فِي سنة خمس وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ الدِّمَشْقِي الخلوتي الْمَعْرُوف بِابْن سَالم الْعمريّ الْحَنْبَلِيّ خَليفَة الشَّيْخ أَيُّوب وَالشَّيْخ أَيُّوب أَخذ طَرِيق الخلوتية عَن العسالي الْمُقدم ذكره وَكَانَ ابْن سَالم فِيمَا أدّى إِلَى إطلاعي من عباد الله الصَّالِحين وَكَانَ قَرَأَ الْفِقْه والعربية وَغَيرهمَا وَكَانَ لَهُ مُشَاركَة جَيِّدَة وَأخذ التصوف عَن شَيْخه الْمَذْكُور وَألف فِيهِ تأليفا نَافِعًا(1/253)
سَمَّاهُ منهل الوراد فِي الْحَث على قِرَاءَة الأوراد وَله آخر سَمَّاهُ تحفة الْمُلُوك لمن أَرَادَ تَجْرِيد السلوك وَله رِسَالَة الْحسب وقفت عَلَيْهَا ورأيته قد ذكر فِي آخرهَا مبدأ أمره وَمَا انساق إِلَيْهِ حَاله فجردت مِنْهَا مَا لزمني اثباته فِي تَرْجَمته وأعرضت عَن غَيره قَالَ كَانَ لي فِي بدايتي وَمَا ثمَّ نِهَايَة أَنِّي كنت مغرماً بحب الصُّوفِيَّة وتطلبت مرشداً كَامِلا فَلم أَجِدهُ حَتَّى سَافَرت فِي طلبه إِلَى الْحجاز وَالروم ومصر والجزائر والسواحل فَلَمَّا أعياني تطلبه جِئْت وأقمت بالصالحية مُدَّة فحانت منا زِيَارَة لمقام إِبْرَهِيمُ ببرزة فاجتمعت فِيهَا بأستاذنا الشَّيْخ أَيُّوب فكاشفني عَن بعض مَا عِنْدِي وأوقع الله فِي نَفسِي أَنه هُوَ الْمَطْلُوب ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك فِي الرُّؤْيَا قَائِلا يَقُول لي قُم فقد أَتَى رَسُول الله
إِلَيْك يُرِيدُكَ فِي هَذَا الْوَقْت فَقُمْت مسرعاً وَكَأَنِّي بالجامع المظفري فرجت من الْبَاب الغربي فَرَأَيْت رجلا يَقُود فرسا مسرجاً ألصقها بِالصّفةِ الَّتِي على الْبَاب فَقَالَ اركب فَقلت من أَنا حَتَّى أذهب لحضرة النَّبِي
رَاكِبًا أَنا أَمْشِي على عَيْني فَقَالَ هَكَذَا أمرت فمسك لي الركاب فركبت وَذَهَبت فَكَأَنِّي بِالنَّاسِ وَقد شَقوا إِلَى زقاقاً فِي الْوسط فسرت بَينهم إِلَى أَن وصلت إِلَيْهِ فتأخرت عَنهُ قَلِيلا لِئَلَّا أحاذيه بفرسي وَهُوَ رَاكب فَجعلت رَأس فرسي قَرِيبا من ركبته الشَّرِيفَة وتكلمنا كثيرا ثمَّ استيقظت وَأَنا مفكر فِي واقعتي وَإِذا برَسُول الشَّيْخ أَيُّوب جَاءَنِي من السُّلْطَانِيَّة إِلَى الْجَامِع المظفري يَقُول لي الشَّيْخ يطلبك فسرت فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ ضخك وأنشدني ارتجالاً
(السالمي أَحْمد السالك طَرِيق الْقَوْم ... نَسِيج وَحده ظريف الشكل غالي السّوم)
(رأى الَّذِي أمنُوا البلوي وَهُوَ فِي النّوم ... فَعَاد وَهُوَ سميري فِي الْمحبَّة دوم)
ثمَّ الْتفت إِلَى الْحَاضِرين من أهل الطَّرِيق وَقَالَ لَهُم إِن طريقكم يحملهُ هَذَا وَهُوَ صَاحبه وَأَشَارَ إِلَيّ فتعجبت وَلم يتَقَدَّم لي مَعَه بيعَة وَلَا جمعية ثمَّ قَالَ اجْلِسْ فَجَلَست فبايعني على طَرِيقه وَقَالَ تذْهب فِي هَذَا الْيَوْم إِلَى مقَام بَرزَة فَقلت مرْحَبًا فجيء بدابتين إِحْدَاهمَا لَهُ وَالْأُخْرَى لي وَبَقِيَّة النَّاس يَمْشُونَ وكلمني بِبَعْض مَا رَأَيْت آنِفا فِي واقعتي وَرَأَيْت بعض من رَأَيْت فِي الْوَاقِعَة مَعَه فَعرفت أَنه الْوَارِث المحمدي فازدادت محبتي لَهُ واعتقادي فِيهِ ثمَّ إِنَّا جِئْنَا فَقَالَ مَكَانا لَا يصلح للطريق فاختر لنا مَكَانا فجئتنا للمدرسة الضيائية تجاه الْجَامِع المظفري من الشرق وَكَانَ لنا بهَا مُدَّة لَا تقوم بهَا مُدَّة ثمَّ رَأَيْت كَأَن سَبْعَة نفر شكل بريد السُّلْطَان جاؤا إِلَى الضيائية وسألوا عني(1/254)
فَقلت وماذا تُرِيدُونَ مِنْهُ قَالُوا هُوَ مَطْلُوب الْملك فَقلت أَنا هُوَ وَهل أليق لذَلِك فَقَالُوا نَحن رسل لَا نَدْرِي فانزعجت واستيقظت وقصيت على الشَّيْخ واقعتي فَقَالَ بكرَة النَّهَار أفسرها لَك ثمَّ أَنا نزلنَا إِلَى الْمَدِينَة على طَرِيق الْبَسَاتِين فَقَالَ لي الشَّيْخ كبر عمامتك وَكنت إِذْ ذَاك أتعمم بعمامة صَغِيرَة فَقلت يَكْفِي هَذَا يَا سَيِّدي فَقَالَ لي أَنْت مَطْلُوب لإمامة مَسْجِد الْقصب وَالْجَمَاعَة الَّذين رَأَيْتهمْ البارحة حجر بن عدي وَأَصْحَابه المدفونون هُنَاكَ فتعجبت أَيْضا لعدم استعدادي فَبعد مُدَّة صرت إِمَامًا باخيار جماعته فأقمت أَنا وَالشَّيْخ بِهِ ثَمَان عشرَة سنة فَرَأَيْت كَأَنِّي نَائِم على بَاب خَان السُّلْطَان على الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَاكَ وَإِذا بِبرد السُّلْطَان وقفُوا عَليّ وَقَالُوا هَذَا هُوَ فَقلت مَا تُرِيدُونَ مني فَقَالُوا هَذِه أَحْكَام السُّلْطَان لتَكون نَائِب الشَّام فَقلت أَنا من فُقَرَاء الْبَلَد وضعفائهم لَا أعرف سياسة فزجروني وَقَالُوا تأدب فَنحْن فِي الْكَلَام وَإِذا بِعَجُوزٍ وَمَعَهَا عرض حَال فَقَالَت خُذ عرض حَالي فزجرتها وَقلت لَهُم اضربوها فضربوها فَذَهَبت عني فَاسْتَيْقَظت وقصيت ذَلِك على الشَّيْخ فَقَالَ سترى عيَانًا وَلما مَرضت أَنا وَالشَّيْخ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وصلنا إِلَى الْعَدَم فَرَأَيْت فِي واقعتي كَأَن رجَالًا داخلون إِلَى جِهَة بيتنا يحمل كل وَاحِد مِنْهُم صينية فِيهَا ياسمين ومنجرة وقمقم فَقلت مَا هَذَا قَالَ عرسك على صَافِيَة بنت الشَّيْخ أَيُّوب فَقلت لَا أَدْرِي أَن لَهُ بِنْتا اسْمهَا صَافِيَة قَالُوا هَذِه الْبِنْت الْعَذْرَاء الْبكر المخدرة ثمَّ دخلُوا دَارنَا وضعُوا اكان مَعَهم وَخَرجُوا وصافحوني كلهم يَقُولُونَ لي مبارك فَاسْتَيْقَظت وبكيت لعلمي أَن هَذَا موت الشَّيْخ وَكَانَت لَيْلَة عيد الْأَضْحَى فَفِي وَقت الضُّحَى جَاءَنِي زمرة من الإخوان يَبْكُونَ وَقَالُوا فِي هَذَا الْيَوْم جلس الشَّيْخ بَين اثْنَيْنِ وَقَالَ إخْوَانِي ليعلم الْحَاضِر مِنْكُم الْغَائِب أَن خَليفَة الْخُلَفَاء بعدِي الشَّيْخ أَحْمد بن سَالم وَمَا ذَلِك مني وَإِنَّمَا نزلت خِلَافَته من السَّمَاء بِحُضُور رجال الطَّرِيق جَمِيعًا لِسَان صدق وَبعد أَيَّام تعافى الشَّيْخ قَلِيلا فَقَالَ احْمِلُونِي إِلَى جَامع منجك على دَابَّة فجَاء إِلَى الْجَامِع وَسَأَلَ كَيفَ حَال الشَّيْخ أَحْمد فَقَالُوا هُوَ على حَاله فَقَالَ احْمِلُونِي لَا عوده فَحَمَلُوهُ يتهادى بَين اثْنَيْنِ فَجَلَسَ عِنْد رَأْسِي وَلم أقدر أَن أَجْلِس لَهُ فَقَالَ لي قُم لَا بَأْس عَلَيْك ثمَّ قَالَ أرْسلت أخْبرك مَعَ إخوانك ابالخلافة وَقد جِئْت إِلَيْك بنفسي أَنْت خليفتي بعدِي فَعَلَيْك بِالطَّرِيقِ وَإِن أَبيت أوقفك عَلَيْهِ بَين يَدي الله تَعَالَى أتلفت عَلَيْك إِحْدَى وَعشْرين(1/255)
سنة من أجل هَذَا فَبَكَيْت وَبكى وَكَانَ أخواننا جَمِيعًا حاضرين ثمَّ قَالَ لي مَا رَأَيْت فَأَرَدْت أَن أكتمه واقعتي فزجرني وَقَالَ قل الصدْق فَقلت الْوَاقِعَة الْمَذْكُورَة فَقَالَ أَي وَالله هِيَ صَافِيَة وَهِي الْبكر المخدرة الَّتِي لَا تلِيق إِلَّا بك وَقد زَوجتك إِيَّاهَا جعلهَا الله مباركة وَقَرَأَ لي الْفَاتِحَة وَانْصَرف من عِنْدِي فَمَا مكث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى مَاتَ رَحمَه تَعَالَى هَذَا مَا قَالَه فِي تَرْجَمَة نَفسه قلت وَبعد وَفَاة شَيْخه صَار خَليفَة من بعده وَبَايَعَهُ خلق كثير واشتهر أمره وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من خِيَار النَّاس وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ السندوبي الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الشَّيْخ الإِمَام كَانَ من أَعْيَان المدرسين بالأزهر وَمن أكَابِر الأفاضل ذَا عِبَارَات فصيحة وشيم مليحة أَخذ عَن الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ والنور الشبراملسي وسلطان المزاحي وَمُحَمّد البابلي والشهاب القليوبي وَكثير وَأَجَازَهُ شُيُوخه وتصدر للإقراء فِي ضروب من الْفُنُون وَله مؤلفات مِنْهَا شرح على ألفية ابْن مَالك وَشرح قصيدة الْمقري الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(سُبْحَانَ من قسم الحظوظ ... فَلَا عتاب وَلَا ملامة)
فِي نَحْو عشرَة كراريس وَشرح القصيدة الشيبانية وَشرح العنقود للموصلي فِي النَّحْو وَله منظومة فِي الْحَال وَأُخْرَى فِي مصطلح الحَدِيث وَله أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله ملغزا فِي نَاصِر
(صَبرنَا فَلَمَّا أَن رأى الصَّبْر بأسنا ... تَأَخّر عَنَّا وَهُوَ مُنْقَطع الْقلب)
وَقَوله
(أَلا يَا طَالب الدُّنْيَا تنبه ... فَلَيْسَ بهَا لمخلوق مقَام)
(ودنيانا بأهليها كركب ... يسَار بهم وَأَكْثَرهم نيام)
وَقَوله
(إِذا مَا رمت من جاؤا بافك ... فهاك عدادهم فِيمَا يصحح)
(تولى كبره ابْن أبي سلول ... وَحمْنَة ثمَّ حسان ومظح)
وَقَوله
(إِذا عدت الْمَرِيض فَلَا تطول ... وقلل فِي الْكَلَام لَدَى العياده)
(وَلَا تذكر لَهُ فِيهَا مَرِيضا ... وَلَا خَبرا فَذَلِك خير عَاده)
وَحج مَرَّات وَرَأَيْت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ اتّفق لي مَعَه أَنِّي زرت مَعَه المعلاة تربة مَكَّة فتذاكرنا انسها وَعدم الوحشة فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَابِر غَيرهَا من الْبِلَاد وَمن فِيهَا من الْأَوْلِيَاء مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة فَذكرت لَهُ مَا نَقله الْمرْجَانِي فِي تَارِيخ الْمَدِينَة عَن وَالِده سَمِعت أَبَا عبد الله الدلاصي يَقُول سَمِعت(1/256)
الشَّيْخ أَبَا عبد الله الديسي يَقُول كشف لي عَن أهل المعلاة فَقلت لَهُم أتجدون نفعا بِمَا يهدى إِلَيْكُم من قِرَاءَة وَنَحْوهَا فَقَالُوا لسنا مُحْتَاجين إِلَى ذَلِك فَقلت لَهُم مامنكم أحد وَاقِف الْحَال فَقَالُوا مَا يقف حَال أحد فِي هَذَا الْمَكَان فأعجب بِهِ وَقَالَ أَرْجُو الله أَن يميتني بِمَكَّة وَأَن أدفن بالمعلاة فَلم يقدر لَهُ ذَلِك وَتُوفِّي بِمصْر وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء غرَّة جمادي الأولى سنة سبع وَتِسْعين وَألف وعمره ثَمَان وَسِتُّونَ سنة
الشَّيْخ أَحْمد بن عمر الحمامي العلواني الخلوتي الشَّافِعِي نزيل حلب الشَّيْخ الْبركَة تأدب على يَد أستاذه أبي الْوَفَاء العلواني قَرَأَ عَلَيْهِ فِي مُقَدمَات الْعُلُوم ولازمه فِي حُضُور مجَالِس شكوى الخاطر ثمَّ سلك على يَد ابْن أَخِيه الشَّيْخ مُحَمَّد فَكَانَ بَينه وَبَين الشَّيْخ علوان رجل وَاحِد هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء بن الشَّيْخ علوان ثمَّ خرج من بلدته حماة لحدة مزاجه وضيق أخلاقه وَذَلِكَ بعد موت مشايخه فورد حلب وَنزل بمحلة المشارقة وَكَانَ حِينَئِذٍ يكْتَسب بالحياكة ثمَّ مل مِنْهَا وَجلسَ بِمَسْجِد الشَّيْخ شَمْعُون بمحلة سويقة حَاتِم قرب الْجَامِع الْكَبِير فَكَانَ يقرىء المبتدئين فِي الألفية النحوية وَشرح الْقطر وَنَحْو ذَلِك ويقرى فِي الْمِنْهَاج الفرعي وَكَانَ يقنع بسد الرمق يلبس الثِّيَاب الخشنة كالعباءة والقميص من الخام مَعَ قدرته على لبس أحسن من ذَلِك ثمَّ تردد إِلَى دروس الشَّيْخ أبي الْجُود فَسمع التَّفْسِير وَمَا يقْرَأ على الشَّيْخ أبي الْجُود وَكَانَ يتفقده ثمَّ أَخذ يشكو الخواطر على طَرِيق العلوانية وَكَيْفِيَّة شكوى الخواطر أَنه يَوْم الْجُمُعَة صَبِيحَة النَّهَار يقْرَأ أوراد العلوانية وَيسْتَمر بِذكر الله تَعَالَى حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس على قدر قامتين وَيجْلس السامعون بَعضهم إِلَى ظهر بعض ثمَّ يطْرق الشَّيْخ رَأسه وَيَقُول أسْتَغْفر الله فَكل وَاحِد يَقُول كَذَلِك بمفرده ثمَّ يشكو بعض جماعات مِنْهُم مَا لَاحَ فِي ضَمِيره هَذَا يَقُول مثلا أجد نَفسِي تميل إِلَى الْأَطْعِمَة الطّيبَة وعجزت عَن دَفعهَا وَهَذَا يَقُول أشغلني عَن عبَادَة الله أُمُور الْعِيَال وَهَذَا يَقُول مَا معنى قَول ابْن الفارض روحي فدَاك عرفت أم لم تعرف وَهَذَا يَقُول مَا معنى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ} وَبعد الْفَرَاغ أَنا السؤالات يشْرَح لَهُم الخواطر وَاحِدًا بعد وَاحِد ويستطرد قَول العرضي الصَّغِير حَضرته مرّة فاستطرد إِلَى أَن حكى أَنه لما كَانَ فِي خدمَة شَيْخه أَبُو الْفَاء وجده فِي اللَّيْل نَائِما فِي الزاوية فِي الإيوان أَيَّام الْبرد فأيقظه وَقَالَ لَهُ يَا أَحْمد أوصيك لَا تتخذلك بُيُوتًا سوى الْمَسَاجِد لِئَلَّا تحاسب عَلَيْهَا فِي الْقِيَامَة وَذكر أَن شَيْخه أعطَاهُ مِفْتَاح خزانَة الزَّيْت ليُعْطى(1/257)
مِنْهَا لِلْمَسْجِدِ مَا يحْتَاج فَكَانَ يُسمى الله تَعَالَى وَيُعْطى وَاسْتمرّ مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى حمل الْحَسَد رجلا قَالَ الشَّيْخ أَن أَحْمد لَا يقدر على حفظ الزبت فسلمه الشَّيْخ الْمِفْتَاح وعزل الشَّيْخ أَحْمد فَمَا مضى نَحْو أُسْبُوع وَإِذ بِالرجلِ قَالَ فرغ الزَّيْت فَقَالَ الشَّيْخ سُبْحَانَ الله كَانَت الْبركَة فِي يَد أَحْمد وَلَو اسْتمرّ الْمِفْتَاح عِنْده كَانَ الزَّيْت يُقيم سنوات وَله مؤلفات مَقْبُولَة مِنْهَا تروية الْأَرْوَاح وأعذب المشارب فِي السلوك والمناقب الْمَتْن لَهُ منظوم وَالشَّرْح لَهُ المنظوم وَله منثور ومطلع المنظوم قَوْله
(إِلَيْك بك اللَّهُمَّ وجهت وَجْهي ... وفيك إِذا مَا هَمت ألفيت همتي)
(لقد سدت الْأَبْوَاب عني وَقصرت ... فأسألك التَّفْرِيج من كل شدَّة)
(لَك الْحَمد إِذْ أظهرت فِي الْكَوْن سادة ... تحلى بهم وَالله جيد الملاحة)
(بهم كل جود فِي الْوُجُود وَمَا لمن ... أحبهم غير الهنا والمسرة)
(لَك الْحَمد إِن أشغلت قلبِي بذكرهم ... وشرفت مَا أمْلى بِوَصْف الْمحبَّة)
(فهم نور عَيْني وَالْجمال يحفهم ... وهم روح جسمي والحياة بجملة)
(لَك الْحَمد فارحمني إِذا مَا ذكرتهم ... بِوَصْف جميل واصلح الله نيتي)
وَقد ذكر فِي الشَّرْح شَيْخه أَبَا الْوَفَاء وَأَطْنَبَ فِي مناقبه وَذكر فِيهِ الشَّيْخ عمر العرضي وَأطَال فِي مدحه وَكَانَ سَأَلَ العرضي الْمَذْكُور أَن الْمُقَرّر أَن النَّبِي أَعم من الرَّسُول مَعَ أَن الله تَعَالَى علق الْإِرْسَال على كل شئ فَقَالَ وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى دلّت بصريحها أَنه مَا من شَيْء إِلَى وَقد أرسل الله إِلَيْهِ أجَاب بِأَن الرَّسُول الْمَعْرُوف إِنْسَان أُوحِي إِلَيْهِ بشرع وَأمر بتبليغه ذَاك بِحَسب عرف أهل الشَّرْع والإرسال المُرَاد فِي الْآيَة الْإِرْسَال اللّغَوِيّ قَوْله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح} وَنَحْو ذَلِك وَلم يعرف لَذَّة الْجِمَاع أصلا وَلما ورد شاه ولي الخلوتي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى صَاحبه الشَّيْخ أَحْمد وتلمذته وَأخذ عَنهُ الْبيعَة حَتَّى تعجب النَّاس من حسن أَخْلَاق الشَّيْخ أَحْمد وَلبس الشَّيْخ أَحْمد جَمِيع مريديه تَاج الخلوتية وَشرع بقيم الذّكر على أسلوب الخلوتية فَكثر أَتْبَاعه وقصده النَّاس من جَمِيع أقطار حلب إِلَّا أَن المشددين فِي الزّهْد مَا أعجبهم هَذِه الْحَالة لكَون الطَّرِيقَة العلوية مَحْض سنة محمدية وَاتخذ لَهُ كرسيا يجلس عَلَيْهِ يَوْم شكوى الخواطر فَكَانَ يقْرَأ بعض آيَات قرآنية ويفسرها للنَّاس وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا والنذورات وأسرعت الْحُكَّام وأرباب الدولة إِلَى زيارته وَلما أدْركْت الشاه ولي الْوَفَاة بحلب اجْتمعت عَلَيْهِ أهالي بَاب(1/258)
النيرب وَقَالُوا لَهُ يَا مَوْلَانَا ترك الشَّيْخ أَحْمد طَرِيقَته وَطَرِيقَة آبَائِهِ وتلمذكم وَهُوَ عَالم فَاضل فَلَا يَلِيق بالخلافة غَيره فَقَالَ لَهُم لَا الْخَلِيفَة عَلَيْكُم بعدى قايا حلبى وكرروا هَذَا الْأَمر مرَارًا وَهُوَ يَقُول لَهُم كَذَلِك ثمَّ انحل الشَّيْخ أَحْمد عَن تِلْكَ الْحَالة وأدركه الْمَوْت فَقَالَ أشهد الله ني أَمُوت على طَريقَة الشَّيْخ علوان وَكَانَ رُبمَا اقْتصر فِي الْيَوْم على أكل رغيف وكات وَفَاته فِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف وَدفن بِجَانِب الشَّيْخ شاه ولي ملاصقاً لمقام الْخَلِيل على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام
السَّيِّد أَحْمد بن عمر بن عبد الله بن علوي بن عبد الله العيدروس ذكره الشلي وَقَالَ فِي حَقه صَاحب الْعُلُوم اللدنية والمعارف القدسية والأسرار العرفانية ولد تبريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن جمَاعَة بهَا ثمَّ رَحل إِلَى وَالِده ببندر عدن ولازمه وَتخرج بِهِ وَأخذ عَن غَيره من الْعلمَاء وَكَانَ جَامعا للأخلاق المحمودة مأوى للغريب ومنقذ اللهفان وبرع فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وعلوم التصوف وَكَانَ حاوياً لأسباب الدقائق الفرعية والأصلية جَامعا لمفردات الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة والعقلية وَقَامَ بمنصبهم بعد وَالِده أتم قيام وانتفع بِهِ النَّاس وَكَانَ ذَا خلق رَضِي وسمت مرضِي وانتفع بِهِ خلق وَمن كراماته أَنه لما قربت وفاه وَلم يكن بِهِ مرض وَإِنَّمَا كَانَ مَعَه انقباض من الْخلق كعادته طلب المَاء فَتَوَضَّأ وَصلى مَا شَاءَ الله ثمَّ طلب خواصه فَتكلم مَعَه بِكَلَام فِيهِ إشارات فِي ضمنهَا بشارات مِنْهَا مَا عرف وَمِنْهَا مَا لم يعرف ثمَّ الْتفت إِلَى أَوْلَاده الْكِبَار وعرفهم بأمورهم وَأمر أهل بَيتهمْ أوصاهم وَنصب ابْنه الْكَبِير شَيخا عَلَيْهِم وَأمر الْجَمِيع باتباعه وأصاه بهم وَأعْطى بعض خُدَّامه دَرَاهِم يَشْتَرِي حجرين عَلامَة لقبر فظنوا أَنه يُرِيدهُمَا لقبر أَخِيه عَليّ بن عمر لكَونه إِذْ ذَاك مَرِيضا ثمَّ أَمر الْجَمَاعَة بِالْخرُوجِ ثمَّ سَمِعُوهُ يَقُول الله الله فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فوجدوه قد خرجت روحه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف وَكَانَ عمره بضعاً وَخمسين سنة وقبر فِي قبَّة الشَّيْخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عمر الْمَعْرُوف بالقارىء نِسْبَة لقارة بَين حسية والنبك مَشْهُورَة بالبرد الشَّديد نزيل حلب الشَّيْخ الصَّالح المتجرد المتقلب فِي أفانين الشطح ذكره الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء العرضي فِي معادنه وَقَالَ بعد أَن أثنى عَلَيْهِ نَشأ فَقِيرا وسلك طَرِيق المشيخة والدروشة فَطَافَ الْبِلَاد وزار مرقد الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني قَالَ وَأَخْبرنِي أَنه وجد الشَّيْخ حبيب الله الْبَصْرِيّ فِي بَغْدَاد وَطلب مِنْهُ عهد الْقَوْم على طَريقَة القادرية(1/259)
فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ قَالَ أجد عَلَيْك سِيمَا غَيْرِي وَأَظنهُ سِيمَا المجذوب أَبُو بكر الْحلَبِي قَالَ ثمَّ لما جِئْت إِلَى الشَّيْخ أبي بكر قَالَ لي فِي الْوَقْت والساعة جذبناك بالحبال وَالرِّجَال فَإِن الشَّيْخ يؤنث الْمُذكر ولازم خدمَة الشَّيْخ زَمنا وَكَانَ مَا عِنْده أعظم من صَاحب التَّرْجَمَة فَتَوَلّى الْخلَافَة بعد جماعات مُتعَدِّدَة وأيدي الأقدار تبددهم وَقد كَانَ الزوار لمرقده الشريف لَا يُحْصى عَددهمْ وَالصَّدقَات تتوارد عَلَيْهِم وهم لَا يعلمُونَ مقدارها وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يشتروا مَاء ونار يطبخون فِيهِ لغَلَبَة الجذب عَلَيْهِم وَكلهمْ محلقون اللحى يلبسُونَ المرقعات ويفترشون جُلُود الْغنم ويأكلون الحشش والكلس وَبَعض المجاذيب مِنْهُم يشرب الْخمر والعرق وَلَا يصلونَ وَلَا يَصُومُونَ وتتوارد عَلَيْهِم مجاذيب الْبِلَاد على هيئات مُخْتَلفَة وَصَاحب التَّرْجَمَة مَعَهم لَا يقدر أَن يخلفهم فِي صُورَة الظَّاهِر فِي شَيْء حَتَّى ضجروا يَوْمًا من الْأَيَّام فلاموا أنفسهم على أَحْوَالهم وَقَالُوا مرادنا شيخ يصلح نظامنا فنصبوا الْمَذْكُور فَاشْترى لَهُم بسطاً وصحوناً وَبَعض حوائج التكية ثمَّ زارهم كافل حلب أَحْمد باشا ابْن مطاف فَلَامَهُمْ على ترك الصَّلَاة وَهَذِه الْأَحْوَال ثمَّ أجْرى لَهُم إِسْمَاعِيل نَائِب القلعة المَاء من قناة حلب ولازموا الصَّلَوَات الْخمس بالأوراد والعبادات حَتَّى أشرقت قُلُوبهم وأضاءت وُجُوههم وَكَثُرت الصَّدقَات الدارة عَلَيْهِم فعمر لَهُم حسن باشا ابْن عَليّ باشا ميدان الْفُقَرَاء بالقبة الْكَبِيرَة تحتهَا العواميد الْعَظِيمَة وَعمر حَمْزَة الْكرْدِي الدِّمَشْقِي القاعة ذَات الْبركَة من المَاء وَلم يُتمهَا بل وصلت إِلَى السَّرَاوِيل فأتمها أَحْمد باشا اكمكحي زَاده الْوَزير والوزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا كرّ الْقبَّة الَّتِي على مرقد الشَّيْخ وعَلى أغا ضَابِط الْعَسْكَر عمر عمارات وَالْحَاصِل فقد أنشأ فِيهَا صَاحب التَّرْجَمَة بتدبيره وَحسن رَأْيه أَشْيَاء عَظِيمَة من حدائق لَطِيفَة ومطابخ للطعام وَصَارَ هَذَا المزار لَا يُوجد لَهُ نَظِير بِالنّظرِ إِلَى مزارات الْأَوْلِيَاء وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة ذَا سُكُون ومصاحبة لَطِيفَة وسخاء مفرط لوجىء لَهُ بالألوف لفرح بإنفاقها يَوْمًا وَاحِدًا وعماراته كلهَا صدرت مِنْهُ بصدر وَاسع وكرم زَائِد ة تحمل تَامّ للفعلة والمعلمين وَقد لامه شيخ الْإِسْلَام الْمولى أسعد لما مر على حلب على كَونه يحلق لحيته مَعَ كَون ذَلِك بِدعَة قَالَ هَكَذَا وجدنَا أستاذنا قَالَ أستاذكم كَانَ مجذوباً وَأَنْتُم عقلاء فَقَالَ إِن شَاءَ الله نطلق سَبِيل اللِّحْيَة وَلما سَافر الْمولى أسعد اسْتمرّ على حلق اللِّحْيَة حَتَّى قدم على الله وَكَانَ لَهُ معرفَة بِكَلَام الْقَوْم ومذاكرة فِي بعض لطائف من الواضحات وَمن محاسنه أَنه سمع من أغلب(1/260)
النَّاس أَن الْوَزير نصوح باشا يُرِيد قَتله وَهدم أبنيته فَلم يبال بذلك حَتَّى خرج الْوَزير الْمَذْكُور يَوْمًا وَمَعَهُ الفعلة بالفوس والمجارف وَأهل حلب يظنون أَنه يهدم ذَلِك الْموضع فَاجْتمع النَّاس عِنْد مرقد الشَّيْخ أبي بكر لأجل الفرجة والفقراء الَّذين عِنْده هربوا وَهُوَ قَاعد ثَابت وَفِي خلال ذَلِك ظهر أَنه يهدم الْأَبْنِيَة الَّتِي على سور الْمَدِينَة ثمَّ جَاءَهُ الباشا زَائِرًا فَقَالَ لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة قَالُوا لي عَنْك أَنَّك غَضْبَان علينا فَقلت للنَّاس الباشا يقدر علينا فِي ثَلَاثَة أُمُور أما الْقَتْل فَأَنا لنا مُدَّة نتمنى الشَّهَادَة ودرجتها وَأما النَّفْي من حلب فلنا مُدَّة نطلب السياحة وَأما الْحَبْس فلنا مُدَّة نطلب الرياضة أتقدر على أَكثر من ذَلِك قَالَ لَا ثمَّ قَالَ لَهُ طب نفسا وقرّ عينا مَا لنا بركَة إِلَّا أَنْت الْيَوْم أخرجت الفعلة لهدم الدّور الَّتِي على سور الْمَدِينَة وَلَيْسَ لي نِيَّة على ضرركم أصلا وَاسْتمرّ نَحْو خمسين سنة فِي الْخلَافَة لَا ينازعه مُنَازع فِي رَاحَة وافرة وصدقات متواترة تَأتيه من النَّاس وَالْكَبِير وَالصَّغِير يقبلُونَ يَده وَهُوَ ملازم على الأوراد ويبذل الْقرى للواردين وكل من يرد عَلَيْهِ سقَاهُ القهوة وَمن يسْتَحق الضِّيَافَة أَضَافَهُ بصدر وَاسع وَخلق كريم لَكِن كَانُوا فِي كل يَوْم وَقت الضحوة الصَّغِيرَة يديرون الكاس يَأْكُلُونَهُ وَيَشْرَبُونَ القهوة عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول الدَّهْر مل من طول عمر ثَلَاثَة أحدهم أَنا وَالثَّانِي أَبُو الْجُود مفتي حلب وَالثَّالِث شاه عَبَّاس قَالَ بَعضهم وَالرَّابِع يُوسُف باشا ابْن سَيْفا وَهَذَا الْكَلَام مَحْمُول على طول عمر هَذِه الثَّلَاثَة وَكَثْرَة وقائعهم وأحوالهم بِحَيْثُ مل النَّاس من ذكر أُمُورهم حَتَّى سَار الإملال إِلَى الدَّهْر وَلَكِن كَانَ أَبُو الْجُود فِيهِ نفع لعباد الله تَعَالَى ثمَّ اشْترى كتبا فِيهَا المقبول الَّذِي لَهُ ثمن فوقفها على الْمَكَان وَاشْترى أَرَاضِي ووقفها على الْأَمَاكِن وَاشْترى بستاناً وَوَقفه أَيْضا على الدراويش وَكتب بذلك وقفية وَجعل لَهَا مُتَوَلِّيًا وَلما مرض أوصى بالخلافة من بعده للدرويش أَحْمد الكلشني وَأَعْطَاهُ خَتمه وأحضر الْكَشَّاف عِنْده وَكتب لَهُ بذلك حجَّة وَلما مَاتَ أظهر الشَّيْخ مصطفى القصيري ورقة بِخَط الشَّيْخ أَحْمد أَنه اتخذ الدرويش مصطفى الْخَلِيفَة من بعده وَاشْتَدَّ الْخِصَام وَبَقِي هَذَا يتَوَلَّى الْخلَافَة مُدَّة ثمَّ يذهب الآخر وَيَأْتِي بِأَمْر سلطاني ليَكُون الْخَلِيفَة ويعزل الآخر وهلم جراً واختل أَمر ذَلِك الْمَكَان غَايَة الاختلال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَقَالَ أديب الشَّهْبَاء السَّيِّد أَحْمد بن النَّقِيب الْآتِي ذكره يرثيه
(مَا الْكَوْن سوى صحيفَة الأكدار ... خطت لِذَوي الْعُقُول والأفكار)(1/261)
(كم موعظة تَضَمَّنت أسطرها ... إِن أَنْت جهلهتها فَأَيْنَ الْقَارِي)
وَفِي لفظ الْقَارِي إِيهَام التورية كَمَا لَا يخفى وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن السقاف الْفَقِيه الشَّافِعِي اليمني البيتي نِسْبَة إِلَى بَيت مسلمة قَرْيَة قرب مَدِينَة تريم أحد الْعلمَاء الْأَعْلَام ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن والجزرية والأجرومية وَالْأَرْبَعِينَ النووية والملحة والقطر والإرشاد وَغير ذَلِك وعرضها على مشايخه واشتغل على خَاله القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن بافقيه ولازمه فِي دروسه حَتَّى تخرج بِهِ وَأكْثر انتفاعه بِهِ وَأخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بَافضل وَالشَّيْخ القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَعَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَالشَّيْخ زين الدّين بن حُسَيْن بَافضل وَأحكم على الْفُرُوع والتصوف والعربية وشارك فِي غَيرهَا وَألبسهُ الْخِرْقَة جمَاعَة من العارفين وبرع فِي طَرِيق الْقَوْم وَأكْثر الْأَخْذ والتردد على عُلَمَاء عصره وَأذن لَهُ غير وَاحِد من مشايخه بالإفتاء والتدريس وَكَانَ يحضر درسه جم غفير واشتهر بِالْفَتْح لكل من قَرَأَ عَلَيْهِ وقصدته الطّلبَة من كل مَكَان لما يحصل فِي درسه من الْبَحْث والإيضاح وَكَانَ لَهُ فِي تَعْلِيم المبتدئين تدريج حسن وَأكْثر اعتنائه بالإرشاد وشروحه قَالَ الشلي وَهُوَ أول شيخ أَخذ عَنهُ فِي عنفوان عمري أخذت عَنهُ الحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف والنحو ولازمته مُدَّة مديدة وقرأت عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة وَكَانَت أخلاقه رضية وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ بذاذة حَاله وَعدم الاحتفال بِنَفسِهِ وَقد روى أَبُو دَاوُد ابذاذة من الْإِيمَان وَورد فِي خبر آخر من ترك اللبَاس تواضعاً لله وَهُوَ يقدر عَلَيْهِ دَعَاهُ الله يَوْم الْقِيَامَة على رُؤُوس الأشهاد يخيره من أَي حلل الْجنَّة شَاءَ يلبسهَا وَلَا يُنَافِي هَذَا خبر أَن الله يحب أَن يرى أثر نعْمَته على عَبده وَخبر أَن الله جميل يحب الْجَمِيل وَفِي رِوَايَة يحب النَّظَافَة لِأَن الأول مَحْمُول على آثر ذَلِك للتواضع لَا غير وَالثَّانِي على من قصد بِهِ إِظْهَار نعْمَة الله عَلَيْهِ قَالَ وَلم يزل على تِلْكَ الْأَحْوَال إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمسين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنان بشار
الْمولى أَحْمد بن عوض العينتابي الأَصْل الْحلَبِي قَاضِي قُضَاة الشَّام ومصر وَغَيرهَا كَانَ من أهل الْفضل والكمال وَفِيه تواضع وَله أَخْلَاق حَسَنَة ولد بحلب وَكَانَ أَبوهُ صَالحا تقياً نَشأ فِي حجره وَقَرَأَ فِي مبادىء عمره ثمَّ مُسَافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة(1/262)
طَوِيلَة ولازم بعض الموَالِي فسلك طَرِيق الموَالِي فدرس وَقدم فِي غُضُون ذَلِك إِلَى حلب صُحْبَة قاضيها عبد الرَّحِيم بن إسكندر فولاه قسْمَة حلب وَقدم إِلَى دمشق مَرَّات عديدة ثمَّ خدم بعض قُضَاة الْعَسْكَر فِي خدمَة التَّذْكِرَة وَصَارَت لَهُ محنة كَاد أَن يقتل بِسَبَبِهَا وَذَلِكَ أَنه نسب إِلَيْهِ أَنه قلد السُّلْطَان فِي خطه فَكتب السُّلْطَان خطا شريفاً بقتْله ثمَّ لم تزل أَعْيَان الدولة يشفعون لَهُ حَتَّى سكت عَنهُ واختفى مُدَّة حَتَّى تنوسيت قصَّته ثمَّ اخذ فِي إصْلَاح أَحْوَاله فَتَوَلّى قَضَاء آمد فسلك فِيهَا أحسن سلوك وَكَاد يلْتَحق بِالْقَاضِي شُرَيْح ثمَّ ولي قَضَاء الْقُدس ثمَّ قَضَاء أَيُّوب ثمَّ ولي قَضَاء الشَّام فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَقَالَ فِيهِ بعض الأدباء مؤرخاً تَوليته
(لقد ولي الشَّام الشَّرِيفَة حَاكم ... بِخَير لنا قد عدت وَالْعود أَحْمد)
وَكَانَ بالروم رجل من أهالي حلب يُسمى تبجي وَيعرف بستيتية حلب وَكَانَ عُلَمَاء الرّوم يعتقدونه كثيرا خُصُوصا شيخ الْإِسْلَام حُسَيْن ابْن أخي فشفع لصَاحب التَّرْجَمَة فِي إبقائه بِدِمَشْق مُدَّة زَائِدَة على مدَّته فأبقى وأنفذت شَفَاعَته فَقَالَ فِي ذَلِك الْأَمِير منجك
(تَقول لنا الشَّهْبَاء والدهر نادم ... وَأم اللَّيَالِي اشْتَدَّ صَوت نواحها)
(ستيتيتي أبقت لقَاضِي دمشقكم ... جناحاها فها هُوَ طَائِر بجناحها)
وَفِي أَيَّام قَضَائِهِ ورد إِلَى دمشق من عَسْكَر السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد طوائف وشهرتهم بالقشلق وَسبب ورودهم أَنهم كَانُوا عينوا لمحاربة شاه عَبَّاس فدهمهم الشتَاء دون الْوُصُول إِلَى خطة الْعَجم فَأمروا بِأَن يشتوا فِي دمشق وأطرافها من الْقرى وضيقوا على النَّاس أَمر الْمَعيشَة وبالغوا فِي التَّعَدِّي والتجاوز وَنهب أَمْوَال النَّاس ونفع صَاحب التَّرْجَمَة الْخلق فِي قمع أُولَئِكَ بعض القمع وَفِيهِمْ يَقُول إِبْرَاهِيم الأكرمي الْمُقدم ذكره
(أنظر إِلَى القشلق فِي ذلة ... الْعَكْس من حَالهم الْحَائِل)
(كم رجل مِنْهُم بسموره ... على جواد صائل صاهل)
(تحف بالجندي غلمانه ... وَقد أَتَى يسأ من سَائل)
وَلأبي بكر الْعمريّ قصيدة فِي وَصفهم وَفِيمَا فَعَلُوهُ وَيُشِير فِيهَا إِلَى معاونة صَاحب التَّرْجَمَة فِي دفع بعض شرهم ومطلعها
(أَواه مِمَّا حل فِي جلق ... من العنا فِي زمن القشلق)(1/263)
(رامى البلا مدّ على أَهلهَا ... قوساً لَهُ قَالَ القضا فَوقِي)
(حَتَّى يُنَادي النَّاس مِمَّا دهى ... يَا ليتنا من قبل لم نخلق)
(قد مسنا الضّر وَعم الْأَذَى ... وَمَا لنا من منجد مُشفق)
(من مبلغ سلطاننا أننا ... من جنده فِي حرج ضيق)
(وَيَا مُرَاد الله فِي خلقه ... من السلاطين غَدا نَلْتَقِي)
(فِي موقف يحكم رب الورى ... فِيهِ وَلَا ملْجأ مِنْهُ بَقِي)
(أدْرك رعاياك فقد أَصْبحُوا ... على شفا من كل بَاغ شقي)
(كَانَت دمشق الشَّام محسودة ... لكَونهَا بِالْعينِ لم تطرق)
(آمِنَة من كل مَا يختشى ... مأمنة للخائف المشفق)
(مائسة تزهو بسكانها ... مائدة للبائس المملق)
(لَا يعرف الدخل لَهَا مدخلًا ... وَلَا إِلَى عليائها يرتقي)
(وَهِي على مَا تمّ من نعْمَة ... تتيه بالْحسنِ وبالرونق)
(واهلها فِي سفه كلهم ... الْفَاجِر الفاتك والمتقي)
(يَغْبِطهُمْ فِي ذَاك أهل الدنا ... من مغرب الشَّمْس إِلَى الْمشرق)
(فَجَاءَهَا ويلاه فِي غَفلَة ... أَمر إِلَيْهَا قطّ لم يسْبق)
(أَمر مرادي لَهُ سطوة ... أخرست المنطيق والمنطق)
(قوم من الأتراك عاثوا بهَا ... عَليّ خُيُول ضمر سبق)
(من جِهَة الْمشرق قد أَقبلُوا ... وَالشَّر قد يَأْتِي من الْمشرق)
(فِي رقْعَة الشَّام عدت خيلهم ... وذلت الأرخاخ للبيدق)
(أوّاه من خمدة نيرانها ... يَا نَار كَيفَ الْيَوْم لم تحرق)
(أَيْن الْعتاق الجرد مَا بالها ... من أهم عَال وَمن أبلق)
(مَا للمواضي سكنت غلفها ... كَأَنَّهَا بالْأَمْس لم تبرق)
(مَا للعوالي نكست للثرى ... رؤوسها كالخائف المطرق)
(وَأَيْنَ فرسانك يَا شامنا ... هَل دخلُوا فِي نفق مغلق)
(عهدي بهم كَانُوا لُيُوث الوغى ... لم يعبأوا بالفيلق المطبق)
(عهدي بهم كَانُوا غيوث الندى ... إِذا ظمئنا مِنْهُم نستقي)
(عهدي بهم كَانُوا حماة الْحمى ... من الثنيات إِلَى المفرق)(1/264)
(قد أسلمونا للردى خيفة ... مِنْهُم ولاذوا بحصون تقى)
(وبيننا خلوا وَبَين العدا ... ووكلوا الباشق بالعقعق)
(أَقُول للنَّفس وَقد أوجفت ... خوفًا عَلَيْك إِلَّا من تفرقي)
(إِن مسك الضّر وَزَاد العنا ... فلازمي الصَّبْر وَلَا تقلقي)
(أَو نالك الْجُوع فَلَا تَشْتَكِي فَإِن ... بَاب الله لم يغلق)
(وَلَا تضيقي إِن عرى فادح ... ذرعاً لَو دَامَ فَلَا تحنقي)
(لكل كرب فرج يرتجى ... فصدّقي مَا قلته واصدقي)
(يَا وَيْح قوم دعسوا أَرْضنَا ... وأوقعونا فِي ردى موبق)
(وَقد أَغَارُوا وبنا أَحدقُوا ... يَا غيرَة الله إِلَيْنَا اسبقي)
(أجلوا أهالي الدّور عَن دُورهمْ ... بِالسَّيْفِ والدبوس والبندق)
(واتخذوها سكناً دونهم ... بالفرش من خَز واستبرق)
(واستوعبوا أَكثر أَمْوَالهم ... ظلما بِلَا عهد وَلَا موثق)
(واقتنع النَّاس بأعراضهم ... فَإِنَّهَا بالثلب لم ترشق)
(هَذَا وَلَوْلَا الله باري الورى ... أغاثهم بالعالم المفلق)
(الأوحدي الْمولى خدين العلى ... أَحْمد قاضيها التقي النقي)
(الْعَالم الْفَرد رفيع الذرى ... الناشر الْعدْل على صنجق)
(وَالله لولاه يَمِين امرىء ... لِسَانه بالمين لم ينْطق)
(خلت دمشق الشَّام من أَهلهَا ... طراً وَلم يبْق بهَا من بَقِي)
(جَاهد فِي الله وخاض الوغى ... بهمة علياء لم تلْحق)
(وَلم يخف فِي الله من لائم ... لَام وَلَا من نَاظر مذلق)
(وَحَوله الْأَعْلَام سَادَاتنَا ... كل يرى كَالْقَمَرِ الْمشرق)
(فقاتلوهم بقلوب صفت ... بالوعظ لَا بالكف والمرفق)
(وخوفوهم بَطش سلطاننا ... مُرَاد مردي كل بَاغ شقي)
(ثمَّ ابتهلنا كلنا بالدعا ... إِن الدعا من كل شَرّ يقي)
(وَزَالَ عَنَّا بعض مَا نشتكي ... ونسأل المنان فِيمَا بَقِي)
(وَبعدهَا قَالُوا اشْتَروا شامكم ... منا فَبَاعُوهَا غلى المخنق)
(لقد غزينا دون وعد بِلَا ... لَام فأرخ سنة القشلق)(1/265)
(وصل يَا رب على من ترى ... أنواره جَهرا من الأبرق)
وَخبر القشلق مستفيض مَشْهُور وَكَذَا هَذِه القصيدة مَشْهُورَة عود إِلَى تَتِمَّة التَّرْجَمَة وعزل صَاحب التَّرْجَمَة عَن قَضَاء دمشق وَبعد مُدَّة طَوِيلَة ولي قَضَاء مصر وَبهَا توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عِيسَى بن علاب بن جميل المنعوت شهَاب الدّين الْكَلْبِيّ الْمَالِكِي شيخ الْمحيا النَّبَوِيّ بالجامع الْأَزْهَر الإِمَام الْعَلامَة خَاتِمَة الْفُقَهَاء والمحدثين ومربي المريدين وقطب العارفين وَهُوَ منفلوطي المولد ولد بهَا وَنَشَأ ثمَّ تحول مَعَ أَبِيه إِلَى مصر فحفظ الْقُرْآن وعدة متون وَأخذ عَن وَالِده ولازم الْعلمَاء الْأَعْيَان كَالْقَاضِي عَليّ بن أبي بكر الْقَرَافِيّ الْمَالِكِي وَالشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وَغَيرهمَا وتفقه على مَذْهَب الإِمَام مَالك بِالْإِمَامِ البنوفري وَلَزِمَه وانتفع بِهِ وَأذن لَهُ بِالْجُلُوسِ فِي مَحَله بالجامع الْأَزْهَر وَصَارَ يلقِي دروساً مفيدة وَأخذ الحَدِيث عَن جمَاعَة مِنْهُم النَّجْم الغيطي وَالشَّمْس العلقمي والشريف الرميوني وَأخذ التَّفْسِير عَن تَاج العارفين مُحَمَّد الْبكْرِيّ والتصوف عَنهُ وَعَن الْعَارِف بِاللَّه عبد الْوَهَّاب الشعراوي وجد واجتهد حَتَّى علت دَرَجَته وسمت رتبته وَعنهُ أَخذ جمع مِنْهُم الشَّمْس البابلي وَغَيره وَجلسَ بالمحيا الشريف بعد وَالِده ووالده جلس بعد الشَّيْخ مُحَمَّد البُلْقِينِيّ وَهُوَ جلس بعد الشَّيْخ صَالح وَهُوَ جلس بعد الشَّيْخ نور الدّين الشوني المدفون براوية الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراوي عَن إِذن من النَّبِي
كَمَا هُوَ ثَابت مَشْهُور وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة صَاحب أَحْوَال باهرة وَحكى بعض العارفين الْأَوْلِيَاء أَنه رأى النَّبِي
فِي درسه وَمن محاسنه أَنه كَانَ محافظاً على التَّصَدُّق سرا بِحَيْثُ لَا تعلم شِمَاله مَا أنفقت يَمِينه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف بِمصْر وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن عِيسَى المرشدي الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ أحد فضلاء مَكَّة وأدبائها الْمُسلم لَهُم مَا يَقُولُونَ من غير نَكِير وَكَانَ مَعَ أدبه الباهر فَقِيها متضلعاً ولي الْقَضَاء نِيَابَة بِمَكَّة وَرَأَيْت أخباره مستقصاة فِي مجاميع عديدة ومنشآته وأشعاره كَثِيرَة رائقة وَذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة وَقَالَ فِي تَرْجَمته شهَاب الْفضل الثاقب الشهير المآثر والمناقب سَطَعَ فِي سَمَاء الْأَدَب نوره وتفتق فِي رياضه زهره ونوره وامتد فِي البلاغة بَاعه فشق على من رام أَن يشق غباره اتِّبَاعه لَا تلين قناة فَضله(1/266)
لغامز وَلَا يلمز لبه المبرأ من الْعَيْب لامز كَانَ قد ولي الْقَضَاء بِمَكَّة المشرفة فنال بِهِ من أمله مَا طمح بَصَره إِلَيْهِ واستشرفه وَلما حصل أَخُوهُ فِي قَبْضَة الشريف أَحْمد ابْن عبد الْمطلب ومني مِنْهُ بذلك الفادح الَّذِي فهر بِهِ وَغلب حصل هُوَ أَيْضا فِي الْقَبْض والأسر وَأَرْدَفَ مَعَه على ذَلِك الأدهم بالقسر حَتَّى جرع أَخُوهُ تِلْكَ الكاس وأنعم عَلَيْهِ بالخلاص بعد الْيَأْس فرَاش الدَّهْر حَاله وَأعَاد مِنْهَا مَا غَيره وأحاله وَلم يزل فارغ البال من شواغل النكد والبلبال إِلَى أَن انْقَضتْ أَيَّامه وتنبهت لَهُ من دواعي الْمنون نيامه وَله شعر بديع الأسلوب يملك برقته المسامع والقلوب فَمن ذَلِك قصيدته الَّتِي يمدح بهَا الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس
(عوجا قَلِيلا كَذَا عَن أَيمن الْوَادي ... واستوقف العيس لَا يَحْدُو بهَا الْحَادِي)
(وعرجابي على ربع صَحِبت بِهِ ... شرخ الشبيبة فِي أكناف أجواد)
(واستعطفا جيرة بِالشعبِ قد نزلُوا ... أَعلَى الْكَثِيب فهم غيي وإرشادي)
(وسائلاً عَن فُؤَادِي تبلغا أملي ... إِن التعلل يشفي غلَّة الصادي)
(واستشفعا واسعفا سؤالكم فَعَسَى ... يقدر الله إسعافي وإسعادي)
(وأحملاني وحطا عَن قلوصكما ... فِي سرح مردي الأعادي الضيغم العادي)
(مَسْعُود عين العلى المسعود طالعه ... قلب الكتيبة صدر الحفل والنادي)
(رَأس الْمُلُوك يَمِين الْملك ساعده ... زند الْمَعَالِي جبين الجحفل البادي)
(شهم السراة الأولى سَارَتْ عوارفهم ... شرقاً وغرباً بأغوار وأنجاد)
(فَرد غمار العلى فِي سوحه وأرح ... أَيدي الركائب من وخد وآساد)
(فَلَا مناخ لنا فِي غير ساحته ... وجود كفيه فِيهَا رائح غادي)
(يعشوشب الْعِزّ فِي أكناف ذروته ... يَا حبذا الشّعب فِي الدُّنْيَا لمرتاد)
(ونجتني ثَمَر الآمال يانعة ... من روض مَعْرُوفَة من قبل ميعاد)
(فَأَي سوح يرجي بعد ساحته ... وَأي قصد لمقصود وقصاد)
(لِيهن ذَا الْملك إِذْ ألبست حلته ... تحيى مآثر آبَاء وأجداد)
(عَلَوْت فخرا ففاخرت النُّجُوم على ... والشهب فخراً بِأَسْبَاب وأوتاد)
(ولحت بَدْرًا بأفق الْملك متحدة ... شمس النَّهَار وَهَذَا جرها بَادِي)
(وصنت مَكَّة إِذْ طهرت حوزتها ... من ثلة أهل تَغْلِيب والحاد)
(قد غر بَعضهم الإهمال يحسبه ... عفوا فَعَاد لاتلاف وإفساد)(1/267)
(فذذتهم عَن حمى الْبَيْت الْحَرَام وهم ... من السلَاسِل فِي أطواق أجياد)
(كَأَنَّهُمْ عِنْد رفع الزند أَيْديهم ... يدعونَ حبا لمولانا بإمداد)
(وَمَا ارعووا فشهرت السَّيْف محتسباً ... يَا برد حرّهم فِي حر أكباد)
(غادرتهم جرزاً فِي كل منجدل ... كَانَ أثوابه مجت بفرصاد)
(وأثمر الدَّم من أجسامهم ثمراً ... حلوا بأفواه أجداث وألحاد)
(سعيت سعياً جَنِينا من خمائله ... نور الْأَمَانِي لأرواح بأجساد)
(فكم بِمَكَّة من دَاع ومبتهل ... وَمن محيي وَمن مثن وَمن فادي)
(وقدت كل عصي ذلة وعنا ... وَكَانَ من قبل صعباً غير منقاد)
(وَعَاد كل شقي صَالحا وغدت ... أيامنا بالهنا أَيَّام أعياد)
(نفى لذيذ الْكرَى عَنْهُم تذكرهم ... وقائعاً لَك بَين الخرج والوادي)
(من كل أَبيض قد صلت مضاربه ... لما ترقى خَطِيبًا مِنْبَر الْهَادِي)
(وكل أسمر نظام الطلى وَله ... إِلَى العدا طفرة النظام مياد)
(أسكنت قلبهم رعْبًا تذكره ... ينسى الشفوق الموَالِي ذكر أَوْلَاد)
(أقبلتهم كل مر قَالَ وسابحة ... يسر عَن عَدو إِلَى الأعدا بأطواد)
(من كل شهم إِلَى العلياء منتسب ... بسادة قادة للخيل أجواد)
(فهاك يَا ابْن رَسُول الله مِدْحَة من ... أورت قريحته من بعد أخماد)
(فأحكمت فِيك نظماً كُله غرر ... مَا أحرزت مثله أقيال بَغْدَاد)
(أضحت قوافيه والآمال يسرحها ... روض البديع لأرصاد بمرصاد)
(ترويه عني الثريا وَهِي هازئة ... بالأصمعي وَبِمَا يروي وَحَمَّاد)
(وتستحث مطايا الزهر إِن ركدت ... كَأَنَّهَا بل يَحْدُو بهَا الْحَادِي)
(وتوقظ الركب ميلًا من خمار كرى ... وَاللَّيْل من طوق نداب السرى هادي)
(أتتك تسْأَل إقبالاً لمنشئها ... فاقبل تذللها يَا نسل أمجاد)
(وأسبل السّتْر صفحاً إِن بدا خلل ... واهتك بِهِ ستر أَعدَاء وحساد)
(لَا زلت يَا عز آل الْبَيْت فِي دعة ... تحف مِنْهُم بأنصار وأنجاد)
(بِحَق طه وسبطية وأمهما ... والمرتضى والمثنى الطُّهْر وَالْهَادِي)
(صلى عَلَيْهِم إِلَه الْعَرْش مَا سجعت ... قمرية أَو شدا فِي أيكه شادي)
وَهَذِه القصيدة لَهَا شهرة بالحجاز طنانة وَقد عارضها جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي تَاج الدّين(1/268)
الْمَالِكِي ومطلع قصيدته قَوْله
(غذيت در التصابي قبل ميلادي ... فَلَا ترم يَا عذولي فِيهِ إرشادي)
وَسَتَأْتِي فِي تَرْجَمته وَمِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود ومطلع قصيدته قَوْله
(ألوى برسم اللوى الترحال وَالْحَادِي ... وقوّض الصَّبْر عَن قلب بأجياد)
وثلاثتهم مدحوا بقصائدهم الشريف مَسْعُود وعارضهم الأديب مُحَمَّد بن أَحْمد حَكِيم الْملك بقصيدة مدح بهَا الشريف زيد بن محسن ومطلعها
(صوادح البان وَهنا شجوها بَادِي ... فَمن عذير فَتى من فت أكباد)
وَسَتَأْتِي الْأُخْرَى وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة مَا كتب بِهِ إِلَى القَاضِي تَاج الدّين الْمَذْكُور من الطَّائِف بقوله
(لَا هاج قلباً هام من ... برح الْفِرَاق بالانصداع)
(غيم أرق حواشيا ... من برد ضافيه القناع)
(زجل الرعود كَأَنَّهَا ... نغمات آلَات السماع)
(والهمع مثل الدمع من ... عَيْني مراء أَو مراع)
(يهمى ويسكب كي يعم ... بَريَّة سعف التلاع)
(والبرق يخْفق مثل قلب ... الصب فِي يَوْم الْوَدَاع)
(ونسيمه قد رق من ... حر اشتياقي والتلاع)
(لفراق تَاج الدّين ماضي ... الْأَمر قاضينا المطاع)
(من جمعت فِيهِ العلى ... وتوفرت فِيهِ الدواع)
(ذِي الْفضل بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ ... وَلَا أخص وَلَا أراع)
(سبقت أنامله الْأَنَام ... فأحرزت قصب اليراع)
(من ذَا يباري ذَا البنان ... براقم ويدي ضيَاع)
(إِن حاك وشى مَا يحوك ... بالابتكار والاختراع)
(لَا زَالَ مَحْمُود الْخِصَال ... ودام مشكور المساع)
فَرَاجعه بقوله
(إِن كَانَ قَلْبك صيب من ... برح الْفِرَاق بالانصداع)
(فالقلب قد غادرته ... شذراً بمعترك الْوَدَاع)
(أَو هاجكم زجل الرعود ... سرى وَأصْبح فِي اندفاع)(1/269)
(وَسمعت من نغماته ... رنات آلَات السماع)
(فَلَقَد رحلت بمقلة ... عميا وَسمع غير واع)
(وَلَئِن يكن رق النسيم ... بِمَا يجن من التياع)
(فبزفرتي اشتعل الْهَوَاء ... من الْعَنَان إِلَى الْبِقَاع)
(كم قلت للقلب المصدع ... بالنوى جد بارتجاع)
(فأحال ذَاك على انتظام ... الشمل فِي سلك اجْتِمَاع)
(عهدي بِهِ لما إِن استولت ... عَلَيْهِ يَد الضّيَاع)
(أضللته فِي موقف التوديع ... من دهش ارتياعي)
(ناشدته نشداته ... لي بَين هاتيك الرباع)
(تَحت المواطىء من ممر ... صديقي الْخلّ المراعي)
(يَا سَيِّدي وَأخي هوى ... وجلالة ويدي وباعي)
(من أَصبَحت شمس العلى ... بسناه ساطعة الشعاع)
(فَخر الْقُضَاة وفيصل الْأَحْكَام ... فِي يَوْم التداعي)
(بَحر الْعُلُوم فَإِن إفاد ... ترى لَهُ سَعَة اطلَاع)
(قل للمحاول شأوه ... قصر خطا هذي المساعي)
(فَانْظُر لمرآة الزَّمَان ... وَقد غَدَتْ ذَات التماع)
(لَا غير صُورَة مجده ... فِيمَا ترَاهُ وَذَا انطباع)
(يَا محرزا ببنانه ... قصب السباق بِلَا دفاع)
(وموشياً حبر البلاغة ... والبراعة باليراع)
(أَنى يحاكي وشيها ... بحياء كمتى ذَات الرّقاع)
(كَانَ الحرىّ بهَا اشتمالي ... صوب سمتي وادراعي)
(لَكِن أمرت بِأَن أجيبك ... وامتثال الْأَمر دَاعِي)
(فأتتك من خجلٍ تجر ... الذيل مرخية القناع)
(فانشر لَهَا ستر الرِّضَا المنسوج ... من كرم الطابع)
(لَا زَالَ مجدك كل حِين ... فِي ازدياد وارتفاع)
وَقَالَ فِي صوفية عصره
(صوفية الْعَصْر والأوان ... صوفية الْعَصْر والأواني)(1/270)
(فاقوا على قوم لوط ... بنقرزان لنقرزان)
وَمن بديع شعره مَا كتبه فِي ديوَان ابْن عقبَة بقرية السَّلامَة من أَعمال الطَّائِف وَهِي قصيدة فريدة لم أظفر مِنْهَا إِلَّا بِهَذَا الْقدر ومطلعها قَوْله
(قصر ابْن عقبَة لَا زَالَت مُوَاصلَة ... مني إِلَيْك التحايا نسمَة السحر)
(وَلَا عدتك غوادي السحب تسحبه ... رحابك الفيح ذيل الطل والمطر)
(كم لَذَّة فِيك أرضيت الغرام بهَا ... يَوْمًا وأرغمت أنف الشَّمْس وَالْقَمَر)
(وَكم صديق من الخلان حاورني ... أَطْرَاف أَخْبَار أهل الْكتب وَالسير)
وَقَالَ مُعَللا تَسْمِيَة الْقدح قدحاً
(مذ صب ساقينا الطلا ... حَتَّى تناثر وانتضح)
(خالوا شراراً مَا رَأَوْا ... فلأجل ذَا قَالُوا قدح)
وَمن شعره وَله فِي البرقع الشَّرْقِي الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْيمن
(وخود كبدر التم فِي جنح مصون ... حماها من الْأَبْصَار برقعها الشَّرْقِي)
(نرى طرة مثل الْهلَال بَدَت لنا ... على شفق وَالْفرق كالفجر فِي الْأُفق)
(فَقلت هِلَال لَاحَ والبدر طالع ... من الغرب أم لَاحَ الْهلَال من الشرق)
وَقَوله فِي مثل ذَلِك
(بالبرقع الشَّرْقِي تَحت ... المصون الباهي الْجمال)
(أبدت لنا شفقاً وليلاً ... لَاحَ بَينهمَا الْهلَال)
ويعجبني من شعره قَوْله فِي مطلع قصيدة مدح بهَا السَّيِّد شهوان بن مَسْعُود
(فيروزج أم وشام الغادة الرود ... يَبْدُو على سمط در مِنْهُ منضود)
وأعجب مِنْهُ مخلصها وَهُوَ
(صهباء تفعل بالألباب سورتها ... فعل السخاء بشهوان بن مَسْعُود)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته لخمس خلون من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَاتفقَ تَارِيخ وَفَاته صدر هَذَا الْبَيْت
(من شَاءَ بعْدك فليمت ... فَعَلَيْك كنت أحاذر)
الشَّيْخ أَحْمد بن الْفضل بن مُحَمَّد باكثير الْمَكِّيّ الشَّافِعِي من أدباء الْحجاز وفضلائها المتمكنين كَانَ فَاضلا أديباً لَهُ مِقْدَار عَليّ وَفعل جلي وَكَانَ لَهُ فِي الْعُلُوم الفلكية وَعلم الأوفاق الزاير جايد عالية وَكَانَ لَهُ عِنْد أَشْرَاف مَكَّة منزلَة وشهرة وَكَانَ فِي الْمَوْسِم(1/271)
يجلس فِي الْمَكَان الَّذِي يقسم فِيهِ الصر السلطاني بِالْحرم الشريف بَدَلا عَن شرِيف مَكَّة وَمن مؤلفاته حسن الْمَآل فِي مَنَاقِب الْآل جعله باسم الشريف إِدْرِيس أَمِير مَكَّة وَمن شعره قَوْله مصدرا ومعجزاً قصيدة المتنبي يمدح بهَا السَّيِّد عَليّ بن بَرَكَات الشريف الحسني وَهِي
(حشاشة نفس ودّعت يَوْم ودعوا ... وَقَالَت لأظعان الْأَحِبَّة اتبعُوا)
(وصبر نوّى الترحال يَوْم رحيلهم ... فَلم أدر أَي الظاعنين أودع)
(أشاروا بِتَسْلِيم فجدنا بأنفس ... تسيل مَعَ الأنفاس لما تَرفعُوا)
(وسارت فظلت فِي الخدود عيوننا ... تسيل من الآماق والسم أدمع)
(حشاي على جمر ذكي من الْهوى ... وصبري مذ بانوا عَن الصَّبْر بلقع)
(وقلبي لَدَى التوديع فِي حزن حزنه ... وعيناي فِي روض من الْحسن ترتع)
(وَلَو حملت صم الْجبَال الَّذِي بِنَا ... من الوجد والتبريح كَانَت تضعضع)
(وأكبادنا من لوعة الْبَين والنوى ... غَدَاة افترقنا أوشكت تتصدع)
(بِمَا بَين جَنْبي الَّتِي خَاضَ طيفها ... دموعي فوافي بالتواصل يطْمع)
(تخيل لي فِي غفوة وجهت بهَا ... إِلَى الدياجي والخليون هجع)
(أَتَت زَائِرًا مَا خامر الطّيب ثوبها ... وخمرتها من مسك دارين أضوع)
(فَقبلت إعظاماً لَهَا فضل ذيلها ... وكالمسك من أردانها يتضوع)
(فشرد عِظَامِي لَهَا مَا أَتَى بهَا ... وَفَارَقت نومي والحشا يتقطع)
(وَبت على جمر الغضا لفراقها ... من النَّوْع والتاع الْفُؤَاد المولع)
(فيا لَيْلَة مَا كَانَ أطول بتها ... سمير السها حلف الدجى أتضرع)
(يجر عني كاس الأسى فقد طيفها ... وسم الأفاعي عذب مَا أتجرع)
(تذلل لَهَا واخضع على الْقرب والنوى ... لَعَلَّك تحظى بِالَّذِي فِيهِ تطمع)
(وَلَا تأنفن من هضم نَفسك فِي الْهوى ... فَمَا عاشق من لَا يذل ويخضع)
(وَلَا ثوب مجد مثل ثوب ابْن أَحْمد ... عَليّ بن بَرَكَات بِهِ الْفَخر أجمع)
(عَلَيْهِ ضفا بالمكرمات وَلم يكن ... على أحد إِلَّا بلؤم مُرَقع)
(وَإِن الَّذِي حابى جديلة طيىء ... بحاتمهم وَهُوَ الْجواد الممنع)
(حبأ بعلي آل طه فَإِنَّهُ ... بِهِ الله يُعْطي من يَشَاء وَيمْنَع)
(بِذِي كرم مَا مر يَوْم وشمسه ... بِغَيْر سنا مِنْهُ تضيء وتسطع)(1/272)
وَمِنْهَا فِي الختام قَوْله
(أَلا كل سمح غَيْرك الْيَوْم بَاطِل ... لِأَنَّك فَرد للكمالات تجمع)
(وكل ثَنَا فِيك حق وَإِن علا ... وكل مديح فِي سواك مضيع)
وَاتفقَ أَنه سمع وَهُوَ محتضر رجلا يُنَادي على فَاكِهَة ودعوا من دنا رحيله فَقَالَ بديهاً
(يَا صَاح دَاعِي الْمنون وافى ... وَحل فِي حينا نُزُوله)
(وَهَا أَنا قد رحلت عَنْكُم ... فودعوا من دنا رحيله)
فَلم يلبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة
الأديب أَحْمد بن كَمَال الدّين بن مرعي الشَّافِعِي الدِّمَشْقِي العيثاوي الأديب الذكي النَّاظِم اللبيب كَانَ جيد الْفَهم حُلْو الْعبارَة فائق النّظم على حَدَاثَة سنه وغضارة عوده ولد بِدِمَشْق وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ على وَالِده شَيْئا يَسِيرا من الْفِقْه وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة وفنون الْأَدَب على عُلَمَاء عصره وَمَال بكليته نَحْو الْأَدَب فنظم الشّعْر الْمُبْدع ومدح غَالب أَعْيَان وقته واشتهر فَضله ونبل قدره ووقفت لَهُ من الشّعْر على هَذِه القصيدة كتبهَا جَوَابا لقصيدة أرسلها إِلَيْهِ أَبُو بكر الْعمريّ وألغزله فِيهَا فِي صندل وَهِي قَوْله
(يَا ناظم العقد الظريف ... بقريضك الْحسن اللَّطِيف)
(بيراعك الصفحات تزهو ... بِالْعُقُودِ وبالشنوف)
(وبفكرك الْوَقَّاد تهزء ... بالظريف وبالعفيف)
(كم عين نقدك أظهرت ... بفصاحة خافي الزُّيُوف)
(أَنْت المجلى كم بِطرف ... الطّرف جلت على الصُّفُوف)
(وَيْح المجاري لم يكن ... من دأبه غير الْوُقُوف)
(يَا من يفوق الشَّمْس بالْحسنِ ... المصون عَن الْكُسُوف)
(الْبَدْر عِنْد كَمَاله ... بِالنَّقْصِ حط وبالخسوف)
(هَل ذَا النظام حديقة ... تزهو بتذليل القطوف)
(أم ذَاك للصادي النمير ... أَتَاهُ فِي حر المصيف)
(أم ذَا الحبيب موايتاً ... كرما يوعد للدنيف)
(أم ذَات حسن أَقبلت ... تجلى مخضبة الكفوف)
(لَا بل دَوَاء متيم ... لَا زَالَ ذَا جسم نحيف)(1/273)
(أفديك من بَحر أَتَى ... مبدي الْعَجَائِب والصنوف)
(من بَعْضهَا الحسنا الَّتِي ... تنبي عَن الْفضل المنيف)
(جَاءَت تجر الذيل من ... تيه على رغم الأنوف)
(سترت صباح جبينها ... بظلام شعر كالسجوف)
(فدهشت مذ أَبْصرت مِنْهَا ... الْفرق كالبرق الخطوف)
(ووقفت إجلالاً لَهَا ... ولمثلها حتم الْوُقُوف)
(وسألتها حسر اللثام ... بِحل مَعْنَاهَا اللَّطِيف)
(فَأَبت وآبت وَهِي لم ... تَحَنن على فكري الضَّعِيف)
(فَضربت تخت الِاجْتِمَاع ... فجَاء بالشكل الظريف)
(فَوَجَدتهَا لمريدها ... لم تلف بِالطَّلَبِ الْخَفِيف)
وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ شَاب فِي حَيَاة أَبِيه لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس لَيْلَة من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم الملقب شهَاب الدّين باجابر الْحَضْرَمِيّ ذكره الشلي فِي تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين وَقَالَ فِي تَرْجَمته ذُو السودد الظَّاهِر وَالْفضل الباهر أَخذ عَن وَالِده الشَّيْخ مُحَمَّد وتربى تَحت حجزه وتحلى بجواهر بحره وَأخذ عَن غَيره من الْعلمَاء ورحل إِلَى الْهِنْد وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن شيخ وَغَيره وَله نظم حسن ومدائح فِي السَّادة قَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر مدحني بقصيدة يَقُول فِيهَا
(وَمَا قصدي الْجَزَاء سوى انتسابي ... إِلَى عليا كم يَوْم الْقِيَامَة)
فَكَانَ من اخْتِيَار الله تَعَالَى لَهُ بِمُقْتَضى حسن نِيَّته إِلَى أَن مَاتَ قبل أَن يفتح الله علينا بِشَيْء من الدُّنْيَا وتأسفت على مَوته جدا وَكنت كلما ذكرته استثار مني الْحزن انْبَعَثَ الأسى والندم حَتَّى كَانَ مصابي بِاعْتِبَار ذَلِك جَدِيدا فِي كل آن ثمَّ كنت كثير الترحم عَلَيْهِ وَالدُّعَاء لَهُ وصنفت فِي أخباره وَمَا جرياته كتابا سميته صدق الْوَفَاء بِحَق الإخاء وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ لاهور من الديار الْهِنْدِيَّة فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان شهَاب الدّين الْمُتَوَلِي الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الإِمَام الْمُؤلف الْمُحَرر المتقن ذكره الشَّيْخ مَدين القوصوني فِيمَن تَرْجمهُ فَقَالَ بركَة الْمُسلمين ومفيد الطالبين شَيخنَا أَحْمد شهَاب الدّين كَانَ ورعاً متواضعاً وَكَانَ(1/274)
يجلس للوعظ بِالْمَدْرَسَةِ المؤيدية وَكَانَ لَا يسمع أصلا وَإِنَّمَا كُنَّا نكتب لَهُ مَا نَسْأَلهُ عَنهُ أَخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ يُوسُف بن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا وَعَن الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وَعَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن حسن الطنجي وَغَيرهم وَله من المؤلفات شرح عَليّ الْجَامِع الصَّغِير وَهُوَ شرح مُفِيد جَامع وَمِنْه كَانَ يستمد الشَّيْخ عبد الرؤف الْمَنَاوِيّ فِي شروحه وَله مقدمه وَضعهَا قبل الشَّرْح الْمَذْكُور تشْتَمل على أَرْبَعَة وَعشْرين علما قلت وَقد رَأَيْت هَذَا الشَّرْح وطالعته فرأيته استوعب فِي مقدمته أَشْيَاء نفيسة جمة الْفَائِدَة وَله رِسَالَة سَمَّاهَا نيل الاهتداء فِي فضل الارتداء أَصْلهَا سُؤال عَن وضع الشد على الْكَتِفَيْنِ هَل لَهُ أصل فِي السّنة أَولا فَأجَاب فِيهَا بِمَا حَاصله أَن الأَصْل فِي ذَلِك الرِّدَاء ثمَّ قَالَ فَإِن قلت فَهَذَا الَّذِي اعتاده النَّاس من جعل ثوب على الْعُنُق وإرساله من الْجَانِبَيْنِ هَل لَهُ أصل من السّنة قلت لَا أصل لَهُ وَهُوَ عَادَة القبط قَدِيما كَمَا قَالَه أَبُو شامة وَغَيره مِمَّن ألف فِي الْحَوَادِث والبدع وَقد اعتاده النَّاس فَمن فعله حرم بركَة الاقتداءبه
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عمر والطبرني فِي الْأَوْسَط قَالَ وَمن تشبه بِقوم فهم مِنْهُم قَالَ وَأما الارتداء فَمن فعله فببركة أَتبَاع السّنة يَقِيه الله الْمَكْرُوه فَعَلَيْك بالاتباع وَإِيَّاك والابتداع وَمن عَجِيب مَا وَقع لي أَنه حضر بعض أكَابِر الْعلمَاء وَمن ينْسب إِلَى المشيخة الْكُبْرَى وَهَذَا الثَّوْب الَّذِي يعرف الْآن بالشد على عُنُقه على صُورَة فعل القبط فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَا مستندكم فِي هَذَا الْفِعْل وَلم عدلتم عَن اتِّبَاع مَا كَانَ يَفْعَله
فَمَا أعَاد جَوَابا كَأَنَّهُ ألقم الْحجر ورحم الله ابْن رشد قَالَ كَانَ الْعلم فِي الصُّدُور فَصَارَ الْآن فِي الثِّيَاب انْتهى وَقَالَ قبل ذَلِك وَفِي النِّهَايَة الرِّدَاء الثَّوْب أَو الْبرد الَّذِي يَضَعهُ الْإِنْسَان على عَاتِقيهِ وَبَين كَتفيهِ فَوق ثِيَابه روى الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله
قَالَ الارتداء لبسة الْعَرَب والالتفاع لبسة الايمان وَكَانَ رَسُول الله
يَفْعَله قَالَ عبد الْملك بن جُبَير فِي شرح الْمُوَطَّأ الارتداء وضع الرِّدَاء على الْكَتِفَيْنِ والتلفع أَن يلقِي الانسان الثَّوْب على رَأسه ثمَّ يلتف بِهِ لَا يكون الالتفاع إِلَّا بتغطية الرَّأْس وروى ابْن عَسَاكِر عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ طول رِدَاء رَسُول الله
أَرْبَعَة أَذْرع وشبراً فِي ذِرَاع وروى ابْن سعد عَن عُرْوَة بن الزبير أَن طول رِدَاء النَّبِي
أَرْبَعَة أَذْرع وَعرضه ذراعان انْتهى خَاتِمَة فِي بَيَان عبارَة صَاحب التَّرْجَمَة وَعبارَة غَيره من شرَّاح الْجَامِع الصَّغِير فِي جَوَاز اللَّعْن وتحريمه قَالَ(1/275)
الأول مَا نَصه وَقد أَجمعُوا على تَحْرِيم لعن الْمُسلم المصون وَأما لعن أهل الْمعاصِي لَا المعينين والمعروفين كلعن الله آكل الرِّبَا فَجَائِز وَأما لعن معِين متصف بِمَعْصِيَة كيهودي أَو مُصَور أَو آكل رَبًّا فَظَاهر الْأَحَادِيث أَنه جَائِز وَأَشَارَ الْغَزالِيّ إِلَى تَحْرِيمه وَأما لعن الْحَيَوَان والجماد فكله مَنْهِيّ عَنهُ مَذْمُوم قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَاحْتج شَيخنَا يَعْنِي البُلْقِينِيّ على جَوَاز لعن الْمعِين بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الْمَرْأَة إِذا دَعَاهَا زَوجهَا إِلَى فرَاشه فَأَبت لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح وَهُوَ فِي الصَّحِيح وَتوقف فِيهِ بَعضهم فَإِن الاعن هُنَا الْمَلَائِكَة فَيتَوَقَّف الِاسْتِدْلَال بِهِ على جَوَاز التأسي بهم وعَلى التَّسْلِيم فَلَيْسَ فِي الْخَبَر تَسْمِيَتهَا وَالَّذِي قَالَه شَيخنَا أقوى فَإِن الْملك مَعْصُوم والتأسي بالمعصوم مَشْرُوع والبحث فِي جَوَاز الْمعِين وَهُوَ مَوْجُود قلت يحْتَمل أَن يُقَال هُوَ من خَصَائِص الْمَعْصُوم ليسقط الِاسْتِدْلَال بِهِ فَتَأمل هَذَا وَقد ثَبت النَّهْي عَن اللَّعْن فَحَمله على الْمعِين أولى انْتهى بِحُرُوفِهِ وَقَالَ شَيخنَا عبد الرؤف الْمَنَاوِيّ فِي شَرحه مَا نَصه وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم لعن الْمُسلم المصون وَأما أهل الْمعاصِي غير الْمعِين فَجَائِز وَأما لعن معِين متصف بِمَعْصِيَة كيهودي أَو نَصْرَانِيّ وآكل رَبًّا فظواهر الْأَخْبَار جَوَازه وَأَشَارَ الْغَزالِيّ إِلَى تَحْرِيمه وَجوز البُلْقِينِيّ لعن العَاصِي وَلَو معينا لخَبر إِذا دَعَا الْمَرْأَة زَوجهَا إِلَى فرَاشه فَأَبت لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح وَاعْترض بِأَن الِاسْتِدْلَال مُتَوَقف على وجوب التأسي بِالْمَلَائِكَةِ أَو جَوَازه مَعَ أَن لَيْسَ فِي الْخَبَر تَسْمِيَتهَا وَزعم بعض من كتب على الْكتاب أَنه من خَصَائِص الْمَعْصُوم فَلَا يسْتَدلّ بِهِ سَاقِط إِذْ لَا بُد فِي دَعْوَى الخصوصية من دَلِيل انْتهى كَلَام كل من الشَّارِحين وَقد رَأَيْت أصل الْعبارَة للْإِمَام النَّوَوِيّ فِي أَوَاخِر الاذكار وَعبارَته أَن الْغَزالِيّ أَشَارَ إِلَى التَّحْرِيم إِلَّا فِي حق من علمنَا أَنه مَاتَ على الْكفْر كَأبي لَهب لِأَن اللَّعْن هُوَ الإبعاد عَن رَحْمَة الله تَعَالَى وَمَا نَدْرِي مَا يخْتم بِهِ لهَذَا الْفَاسِق وَالْكَافِر وَله رِسَالَة قَالَ فِي أَولهَا فقد سَأَلَني بعض الاخوان أَن أعلق تَعْلِيقا لطيفاً ألذ من بُلُوغ الآمال جَوَابا عَن مسَائِل تتَعَلَّق بِعرْض الْأَعْمَال ورفعها إِلَى الله تَعَالَى فِي الْأَيَّام والليال فأجبته إِلَى ذَلِك السُّؤَال وجمعت هَذِه الرسَالَة الحاوية لنفائس الْجَوَاهِر واللآل وسميتها نجاح الآمال بإيضاح عرض الْأَعْمَال وَقَالَ فِي أواسطها رُوِيَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول عَن عبد الغفور بن عبد الْعَزِيز عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا تعرض الْأَعْمَال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس على الله تَعَالَى وَتعرض على الْأَنْبِيَاء والآباء والأمهات يَوْم الْجُمُعَة(1/276)
فيفرحون بحسناتهم وتزداد وُجُوههم بَيَاضًا وإشراقاً فَاتَّقُوا الله وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُم ثمَّ قَالَ قَالَ الشَّيْخ ولي الدّين الْعِرَاقِيّ إِن قلت مَا معنى هَذَا مَعَ أَنه ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن الله تَعَالَى يرفع إِلَيْهِ عمل اللَّيْل قبل عمل النَّهَار وَعمل النَّهَار قبل عمل اللَّيْل قلت يحْتَمل أَمريْن أَحدهمَا أَن أَعمال الْعباد تعرض على الله تَعَالَى كل يَوْم ثمَّ تعرض عَلَيْهِ أَعمال الْجُمُعَة فِي كل اثْنَيْنِ وخميس ثمَّ تعرض عَلَيْهِ أَعمال السّنة فِي شعْبَان أَو تعرض عَلَيْهِ عرضا بعد عرض وَلكُل عرض حِكْمَة يطلع عَلَيْهَا من يَشَاء من خلقه أَو يستأثر بهَا عِنْده مَعَ أَنه تَعَالَى لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَعْمَالهم وَلَا تخفى عَلَيْهِ خافية انْتهى قلت وَهِي رِسَالَة كَثِيرَة الْفَوَائِد جدا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت ثامن عشر ربيع الأول سنة ثَلَاث بعد الْألف وَدفن خَارج بَاب النَّصْر بتربة الشريف الدارس وَهِي بِالْقربِ من مُقَابلَة حَوْض اللفت رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الحصكفي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن المنلا وَتَمام نسبه وَقد ذكرته فِي يترجمة ابْنه إِبْرَاهِيم فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته وَأحمد هَذَا قد ذكره جمَاعَة من المؤرخين والمنشئين وَكلهمْ أثنوا عَلَيْهِ ووصفوه بأوصاف حَسَنَة رائقة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ وَاحِد الدَّهْر فِي كل فن من فنون الْأَدَب جمع بَين لطف التَّحْرِير وعذوبة الْبَيَان وَكَانَ بالشهباء أحد الْمَشَاهِير وَمن جملَة الجماهير نَشأ فِي كنف أَبِيه وَقَرَأَ على جمَاعَة من الْعلمَاء وَأكْثر اشْتِغَاله على الرضي ابْن الْحَنْبَلِيّ صَاحب تَارِيخ حلب أَخذ عَنهُ رسَالَته سرح المقلتين فِي مسح الْقبْلَتَيْنِ دراية ورافق فِي سَماع تأليفه مخائل الملاحة فِي مسَائِل المساحة وشارك فِي الْجَبْر والمقابلة وَقَرَأَ الْمحلي الْأَصْلِيّ مَعَ مشارفة حَاشِيَته وَسمع شمايل النَّبِي
لِلتِّرْمِذِي من لَفظه قَالَ ابْن الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَ أَي ابْن المنلا السَّبَب فِي أَن قلت
(يَا من لمضطرم الأوام ... حَدِيثه الْمَرْوِيّ دوى)
(أروى شمايلك الْعِظَام ... لرفقة حضر وَالِدي)
(على أنال شَفَاعَة ... تسدي لَدَى العقبى إِلَى)
(حاشا شمايلك اللطيفة ... أَن ترى عونا على)
وَقَرَأَ عَلَيْهِ شرح المواقف والعضد مَعَ حَاشِيَة السَّيِّد الْجِرْجَانِيّ والسعد التَّفْتَازَانِيّ وَصَحب سَيِّدي علوان بن مُحَمَّد الْحَمَوِيّ وَهُوَ بحلب سنة أَربع وَخمسين وَسمع مِنْهُ الثُّلُث من البُخَارِيّ وَحضر مواعيده وَسمع الحَدِيث المسلسل بالأولية من الْبُرْهَان(1/277)
الْعِمَادِيّ وَأَجَازَ لَهُ وَقَرَأَ بالتجويد على الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الضَّرِير الدِّمَشْقِي نزيل حلب كثيرا وَأَجَازَ لَهُ فِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَدخل دمشق مرَّتَيْنِ وَأخذ بهَا عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَحضر دروسه بالشامية البرانية وَقَرَأَ على النُّور النَّسَفِيّ بِدِمَشْق مطعه من البُخَارِيّ وَمُسلم وَحضر عِنْده دروساً من الْمحلى وَشرح الْبَهْجَة وَأَجَازَ لَهُ وَقَرَأَ بهَا شرح منلا زَاده على هِدَايَة الْحِكْمَة على محب الدّين التبريزي مجاور التكية السليمانية مَعَ سَمَاعه عَلَيْهِ بعض تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَقَرَأَ قطعتين صالحتين من المطول والأصفهاني على أبي الْفَتْح الشبستري ورحل فِي سنة ثَمَان وَخمسين إِلَى قطسنطينية صَحبه وَالِده فَأخذ رِسَالَة الاسطرلاب من نزيلها الشَّيْخ غرس الدّين الْحلَبِي وَاجْتمعَ بالمحقق السَّيِّد عبد الرَّحِيم العباسي واستجاز مِنْهُ رِوَايَة البُخَارِيّ فَأجَاز لَهُ ومدحه بقصيدة مطْلعهَا قَوْله
(لَك الشّرف العالي على قادة النَّاس ... وَلم لَا وَأَنت الصَّدْر من آل عَبَّاس)
وَهِي مَذْكُورَة فِي رحلته الَّتِي ألفها وسماها بالروضة الوردية فِي الرحلة الرومية وَرجع إِلَى حلب فولي تدريس البلاطية الَّتِي أَنْشَأَهَا الْحَاج بلاط دويدار الْحَاج اينال كافلها إِلَى جَانب تربته وتربة مخدومه وَأفَاد وصنف وَشرح مُغنِي اللبيب شرحاً جمع فِيهِ بَين الدماميني والشمني وَأطَال فِيهِ وَهُوَ فِي بَابه لَا نَظِير لَهُ وَله رسائل أدبية مِنْهَا رِسَالَة طالبة الْوِصَال من مقَام ذَلِك الغزال نسجها على منوال عِبْرَة الكئيب وعثرة اللبيب للصفدي وشكوى الدمع المراق من سِهَام الْفِرَاق وَوضع كتابا سَمَّاهُ عُقُود الجمان فِي وصف نبذة من الغلمان وَضعه على أسلوب كتاب شَيْخه ابْن الْحَنْبَلِيّ الْمُسَمّى بمرتع الظبا ومربع ذَوي الصِّبَا وتعاطى على صناعَة النّظم والنثر فَأحْسن فيهمَا إِلَى الْغَايَة وَمن محَاسِن شعره قَوْله
(نَازع الخد عذار دائر ... فَوق خَال مسكه ثمَّ عبق)
(قَائِلا للخد هَذَا خادمي ... ودليلي أَنه لوني سرق)
(فانتضى الطّرف لَهُم سيف القضا ... ثمَّ نَادَى مَا الَّذِي أبدى الْفرق)
(أَيهَا النُّعْمَان فِي مذهبكم ... حجَّة الْخَارِج بِالْملكِ أَحَق)
قَوْله
(وأسمر من بني الأتراك ذِي غنج ... يهز قدا كغصن البان فِي هيف)
(كَأَنَّهُ حِين يَعْلُو سور قلعته ... وينثني شرفاً مِنْهُ على شرف)
(غُصْن الصِّبَا مزهراً قد رنحته صبا ... عَلَيْهِ بدربدا من دارة الشّرف)(1/278)
وَقَوله
(ادعوا أَن خصره فِي انتحال ... فَلِذَا بَان قده الممشوق)
(وَأَقَامُوا الدَّلِيل ردفا ثقيلا ... قلت مهلا دليلكم مطروق)
وَله
(قَالُوا حَبِيبك أَمْسَى لَا تكَلمه ... وَلَا تميل لرؤيا وَجهه النَّضر)
(فَقلت أَمر دَعَاني نَحْو جفوته ... وَالْحب للقلب لَا للفظ وَالنَّظَر)
وَقَوله
(المشهدي لِسَانه ... قد فل كل مهند)
(أَن رام إنشاد ... القريض فَقل لَهُ يَا سَيِّدي)
يُشِير إِلَى قَول بَعضهم فِي قَول ابْن الشجري الْعلوِي
(يَا سَيِّدي وَالَّذِي يعيذك من ... نظم قريض يصدا بِهِ الْفِكر)
(مَا فِيك من جدك النَّبِي سوى ... أَنَّك لَا يَنْبَغِي لَك الشّعْر)
وَهَذَا ألطف فِي التَّعْبِير بمراتب من قَول مخلد الْموصِلِي وَهُوَ
(يَا نَبِي الله فِي الشّعْر ... وَيَا عِيسَى ابْن مَرْيَم)
(أَنْت من أشعر ... خلق الله إِن لم تَتَكَلَّم)
وَإِن كَانَ أَصله مَا قَالَه الثعالبي فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالشكاية والتعريف إِذا كَانَ الرجل متشاعراً غير شَاعِر قَالُوا فلَان نبى فِي الشّعْر يَعْنِي أَنه لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِك وَقَالَ
(إِن كنت تَفْخَر يَا رقيع ... بِمَا زعمت من الشّرف)
(فَالله يدْرِي مَا تَقول ... وَلست إِلَّا ذَا سرف)
(أَنِّي أجل بني الرَّسُول ... من أَن تكون لَهُم خلف)
(وَإِذا قبلنَا مَا نقُول ... فَإِنَّهُم نعم السّلف)
وَمِنْه قَول أبي تَمام
(لئيم الْفِعْل من قوم كرام ... لَهُ من بَينهم أَبَد اغواء)
وَمن لطائف مضامينه البديعة قَوْله فِي شخص عابه بانحسار شعر رَأسه
(يعيبني أَن شعر الرَّأْس منحسر ... مني فَتى قد عرى من حلَّة الْأَدَب)
(وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا من ضرام هوى ... سرى إِلَى الرَّأْس مِنْهُ سَاطِع اللهب)
(أقصر عدمتك إِذا دَاء بمعبره ... فالعيب فِي الرَّأْس دون الْعَيْب فِي الذَّنب)
وَكتب مَعَ هَدِيَّة قَوْله
(أقبل هَدِيَّة مخلص ... فِي وده وثنائه)
(وأجبر بذلك كَسره ... واغنم جميل دُعَائِهِ)
وَمِمَّا ينخرط فِي هَذَا السلك قَول سعيد بن أَحْمد
(هديتي تقصر عَن همتي ... وهمتي تعلو على مَالِي)(1/279)
(فخالص الود ومحض الولا ... أحسن مَا يهديه أمثالي)
وَله
(قد بعثنَا إِلَيْك أكرمك الله ... ببر فَكُن لَهُ ذَا قبُول)
(لَا تقسه إِلَى ندى كفك الْغمر ... وَلَا نيلك الْكثير الجزيل)
(واغتفر قلَّة الْهَدِيَّة مني ... أَن جهد الْمقل غير قَلِيل)
وَقَالَ فِي رحلته الرومية لمحت بعريض شيزر غزالاً بَين الغزلان نافر وشادنا طَار نَحوه قلبِي فأفى الَّذِي بَين جفنيه كاسر ومليحاً أَسْفر عَن بدر فِي تَمَامه وابتسم عَن ثنايا كَأَنَّهَا الدّرّ فِي انتظامه يتبعهُ شرذمة من خرد النِّسَاء الحسان وَهُوَ يلْعَب بَينهُنَّ كأنهن الْحور وَهُوَ من الْولدَان
(صادني بالعريض ظَبْي غرير ... بحسام من حد جفن غضيض)
(ثمَّ لما انثنى بأسمر قد ... أوقع الْقلب فِي الطَّوِيل العريض)
وَله من رِسَالَة يقبل الأَرْض معترفاً برق الْعُبُودِيَّة قرباً وبعداً ومقراً بِأَن فِرَاق تِلْكَ الحضرة الزكية لم يبْق لَهُ على مقاومة الصَّبْر جهداً ارْتكب مجَاز التصبر ليفوز بِحَقِيقَة الاصطبار واستعار لِقَلْبِهِ جنَاح الشوق فها هُوَ يود لَو أَنه نحوكم طَار عجل عَلَيْهِ الْبَين يدنو حِينه وسبك فِي بودقة خديه خَالص ابريز دمعة عَنهُ وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دُمُوعه وَنفى بتأوهه وأنينه طير هجوعه وَله غير ذَلِك من غرر القَوْل وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف قَتله الفلاحون فِي قَرْيَة باتشا من عمل معرة نسرين ظلما وعدواناً وَدفن بِالْجَبَلِ بِالْقربِ من تربة جده لأمه الخواجة اسكندر بن آيجق رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد نزيل طيبَة والمتوفى بهَا ابْن أَحْمد بن أَحْمد بن عمر بن أَحْمد ابْن أبي بكر بن أَحْمد الْعَبَّاس شهَاب الدّين الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ الْمَعْرُوف بالشوبكي الصَّالِحِي كَانَ من أفاضل الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق وَكَانَ غزير الْعلم سريع الْفَهم حسن المحاضرة فصيح الْعبارَة وَفِيه تواضع وسخاء ولد بصالحية دمشق وَحفظ الْقُرْآن وَالْمقنع فِي الْفِقْه وَأخذ الْفِقْه وَغَيره عَن مُحَرر مَذْهَبهم الْعَلامَة مُوسَى الحجاوي الصَّالِحِي وَأخذ الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا من الْفُنُون عَن الشَّمْس مُحَمَّد بن طولون والملا محب الله والعلامة أبي الْفَتْح الشبستري والعلامة عَلَاء الدّين بن عماد الدّين والشهاب أَحْمد بن بدر الطَّيِّبِيّ الْكَبِير ثمَّ رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الجلة من(1/280)
الْعلمَاء كشيخ الْإِسْلَام تَقِيّ بن أبي بكر بن مُحَمَّد الفيومي وَرجع إِلَى دمشق وَأفْتى بهَا ودرس نَحْو سِتِّينَ سنة وَسلم لَهُ فُقَهَاء الْمَذْهَب غير أَنه كَانَ على مَذْهَب ابْن تَيْمِية من القَوْل بتجويز بَقَاء التَّزْوِيج بعد الطلقات الثَّلَاث وَتَوَلَّى الْقَضَاء بالصالحية وقناة العوني والكبرى وَكَانَ يحكم بِبيع الْأَوْقَاف وَترك الصالحية فِي أَوَاخِر عمره وقطن بِدِمَشْق بِالْقربِ من الْجَامِع الْأمَوِي وخطب مُدَّة طَوِيلَة بِجَامِع منجك بمجلة ميدان الْحَصَى وَكَانَ صَوته حسنا وتلاوته حَسَنَة وامتحن مَرَّات وسافر إِلَى قسطنطينية فِي بَعْضهَا وسرقت ثِيَابه وغالب مَا كَانَ يملك فِي منزله بِدِمَشْق دخل عيه اللُّصُوص وأمسكوا لحيته وَأَرَادُوا قَتله وَنسب فعل ذَلِك إِلَى غُلَام رومي كَانَ مَال إِلَيْهِ ثمَّ تَركه وَكَانَ وِلَادَته فِي سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي يَوْم عَرَفَة بعد الْعَصْر تَاسِع ذِي الْحجَّة سنة سبع بعد الْألف وَدفن بسفح قاسيون رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد الصفوي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْمَعْرُوف بِابْن عبد الْهَادِي الْعمريّ الشَّافِعِي الْفَقِيه النَّبِيل من بَيت مَعْرُوف بقرية صفورية لَهُم الصّلاح وَالْعلم خرج مِنْهُم فضلاء جمة وَيَنْتَهِي نسبهم إِلَى سيدنَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَأول من قدم مِنْهُم إِلَى دمشق مُحَمَّد وَالِد أَحْمد هَذَا فقطن بقرية عقربا من نَاحيَة الغوطة وَاتخذ بهَا بساتين ومساكن وَتزَوج بنت الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الْقَادِر بن سوار شيخ الْمحيا بِدِمَشْق وجاءه مِنْهَا أَوْلَاد كَثِيرُونَ مِنْهُم أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة فَنَشَأَ طَالبا للعلوم والمعارف وَقَرَأَ على الْحسن البوريني الشَّافِعِي طرفا من فقه الشَّافِعِي وشيئاً من الْمعَانِي وَالْبَيَان واشغل على غَيره وبرع وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة سنة تسع بعد الْألف وَدفن بتربة القصارين فِي جَانب قبر عَاتِكَة ثمَّ رَأَيْت فِي الْكَوَاكِب السائرة أَن جدهم عبد الْهَادِي كَانَ يسكن دمشق بمحلة قبر عَاتِكَة وَوَصفه بالشيخ الصَّالح الصُّوفِي المسلك المربى ولي الله تَعَالَى وَذكر أَن وَفَاته كَانَت يَوْم الْأَحَد سادس عشر شَوَّال سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَدفن بتربة بِالْقربِ من مَسْجِد الطالع بتربة الدقاقين
أَحْمد بن مُحَمَّد اقاضي شهَاب الدّين الْجَعْفَرِي الصَّالِحِي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالمصارع ولي نِيَابَة الْقَضَاء بمحاكم دمشق وعزل آخر عَن نِيَابَة الْبَاب بعد أَن تعاقب عَلَيْهِ مرَارًا هُوَ وَالْقَاضِي مُحَمَّد الكنجي الْآتِي ذكره وَكَانَ يبْذل المَال لأجل تَوْلِيَة النِّيَابَة(1/281)
ويعزل سَرِيعا لحماقة كَانَت فِيهِ وَكَانَ مذموماً سيء الأطوار وَلما ولي نِيَابَة الحكم قيل فِيهِ
(أَصبَحت يَا ابْن الجعفرية حَاكما ... فسد الزَّمَان ترَاهُ أم جن الْفلك)
(أما الصراع فَأَنت فِيهِ عَارِف ... لَكِن شَرِيعَة أَحْمد من أَيْن لَك)
وَجَرت لَهُ محن كَثِيرَة لطلاقة لِسَانه فِي حق الأكابر أصبح مَيتا فِي فرَاشه فِي يَوْم الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وَدفن فِي مَقْبرَة الفراديس وَقيل فِي تَارِيخ مَوته
(مصَارِع لَيْسَ لَهُ مضارع ... أَقرع رَأس بالأذى يقارع)
(ألهمت يَوْم مَوته تَارِيخه ... مَاتَ إِلَى جَهَنَّم المصارع)
وَقيل أَيْضا
(مَاتَ المصارع والأنام تيقنوا ... أَن الْأَذَى لِلْخلقِ مِنْهُ يضرّهُ)
(ألهمت يَوْم وَفَاته تَارِيخه ... أَن المصارع فِي الْجَحِيم مقره)
أَحْمد بن مُحَمَّد بن راضي الشَّافِعِي العلواني من أَتبَاع الشَّيْخ عَليّ الكيزواني الشَّيْخ الصَّالح قَرَأَ على وَالِده فِي علم القراآت وَكَانَ لوالده الْيَد الطولي فِي هَذَا الْفَنّ وغالب قراء حلب فِي زَمَنه تعلمُوا مِنْهُ وَقَرَأَ على الشَّيْخ عمر العرضي مُدَّة مديدة وانتفع مِنْهُ بمباحث مفيدة كَانَ إِمَامًا بالكيزوانية ومتولياً وَاسْتولى على جَمِيع أوقافها بِاعْتِبَار انتسابهم فِي الْأَخْذ عَن الشَّيْخ الكيزواني طَريقَة العلوانية بل طَريقَة شَيْخه السَّيِّد عَليّ بن مَيْمُون فَإِن الكيزواني كَانَ من أَقْرَان الشَّيْخ علوان إِلَّا أَن سَيِّدي الشَّيْخ علوان كَانَ ذَا عُلُوم غزيرة من عُلُوم الشَّرِيعَة والحقيقة وَكَانَ الِاسْم الْكَبِير لَهُ والشهرة التَّامَّة فَإِن السَّيِّد عَليّ بن مَيْمُون خلف الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين وَخلف الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن عراق وَخلف الشَّيْخ الزين الْحلَبِي مدفناً بالشيخ علوان لَهُ المصنفات الْعَظِيمَة نَحْو نسمات الأسحار ومصباح الْهِدَايَة وَشرح التائية الفارضية والتائية الصفدية وَغير ذَلِك وَالشَّيْخ الكيزواني لَهُ رسائل كَثِيرَة فِي التصوف إِلَّا أَنَّهَا مختصرة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن عراق وَتَوَلَّى صَاحب التَّرْجَمَة لمدرسة الاغونية وَكَانَ يتَوَلَّى تكاليف محلّة الْعقبَة فَمنهمْ المادح وَمِنْهُم غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَدفن بِقرب الْفَيْض وَقد جَاوز السِّتين تَقْرِيبًا رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن الْعَلامَة الشَّمْس مُحَمَّد بن شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن يُونُس بن إِسْمَاعِيل ابْن مَحْمُود السعودي الشهير بالشلبي الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الإِمَام الْمُحدث راس فُقَهَاء زَمَنه ومحدثيه وَكَانَ لَهُ بِعلم الحَدِيث اعتناء كَبِير محتاطاً فِيهِ عَارِفًا بِطرقِهِ(1/282)
وتقييداته وإقراء كتبه وَله سهم عَال فِي الْفِقْه والفرائض وَكَانَ سريع الْفَهم وافر الِاطِّلَاع ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن وَالِده وَعَن الْجمال يُوسُف بن القَاضِي زَكَرِيَّا وَغَيرهمَا وَعنهُ أَخذ الشهَاب أَحْمد الشَّوْبَرِيّ وَالشَّيْخ حسن الشُّرُنْبُلَالِيّ وَعمر الدفتري وَالشَّمْس مُحَمَّد البابلي وزين العابدين بن شيخ الْإِسْلَام القَاضِي زَكَرِيَّا وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي نَيف وَعشْرين وَألف
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالكواكبي البيري الأَصْل ثمَّ الْحلَبِي الْحَنَفِيّ الصُّوفِي أحد أَعْيَان عُلَمَاء حلب وكبرائها ذكره أَبُو الْوَفَاء العرضي وَقَالَ فِي تَرْجَمته لزم الِاشْتِغَال على الْوَالِد يَعْنِي الشَّيْخ عمر العرضي بُرْهَة من الزَّمَان حَتَّى وصل إِلَى قِرَاءَة المطول وحواشيه قِرَاءَة تَحْقِيق وَقَرَأَ على الشَّيْخ مُحَمَّد بن مُسلم المغربي أحد شُيُوخ الْوَالِد فِي الْمُغنِي وحاشيته وَقَرَأَ فقه الْحَنَفِيَّة على الشَّيْخ مُحَمَّد الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ وَكَانَ يحضر مجَالِس ذكر وَالِده وَكَانَ يخرج بِالذكر أَمَام الْجَنَائِز كَمَا هُوَ سنَن الصُّوفِيَّة وَكَانَ حنق على وَالِده فَأخذ الطَّرِيق على الشَّيْخ عيواد الكلشني وَهُوَ ارد ولي أَيْضا وَاتخذ لَهُ حَلقَة ذكر فِي جَامع بانقوسا ثمَّ رَجَعَ إِلَى طَاعَة وَالِده وَتَابَ إِلَى الله تَعَالَى وَتقدم عَلَيْهِ فِي بعض مجَالِس الذّكر الشَّيْخ عبد الله فَضَربهُ صَاحب التَّرْجَمَة وَألقى عمَامَته عَن رَأسه وَكَانَ فِي وَقت هوية الذّكر فَلم ينزعج الشَّيْخ عبد الله بل اسْتمرّ فِي ذكره وَهَذَا خلق حسن عَظِيم ثمَّ ترك زِيّ الصُّوفِيَّة وَشرع فِي أَخذ الْمدَارِس الحلبية ثمَّ حركه مبغضو الشَّيْخ أبي الْجُود على أَخذ إِفْتَاء حلب مِنْهُ فاستعظم ذَلِك ثمَّ توجه إِلَى قسطنطينية وَأَخذهَا وَتَوَلَّى الْقِسْمَة العسكرية بحلب مرَارًا وَصَارَ قَائِما مقَام القَاضِي إِذا تولى جَدِيدا حَتَّى جمع فِي سنة وَاحِدَة بَين التفوى وَالْقِسْمَة العسكرية مَعَ النِّيَابَة الْكُبْرَى عَن قَاضِي حلب وَالنَّظَر على كتخداي الباشا وكتخداي الدفتر دَار وَكَانَ عفيفاً فِي أقضيته لَهُ حسن مُعَاملَة مَعَ أَصْحَابه ومحبيه وأحبه كافل حلب نصوح باشا نكاية فِي أبي الْجُود لكَون أبي الْجُود صاهر الْعَسْكَر الدمشقيين ونصوح باشا كَانَ يبغضهم وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ وتزدحم على بَابه الأكابر والأعيان وَبنى دَارا عَظِيمَة بالجلوم إِلَى جنب زَاوِيَة جده بهَا مجَالِس عَظِيمَة وَبنى مَكَانا فِي دهليزها لطيفاً لَهُ شباك مشرف على زَاوِيَة جده من جِهَة الشرق وَلما تولى حُسَيْن باشا كَفَالَة حلب وعزل نصوح باشا وَوَقع بَينهمَا تِلْكَ الْفِتَن والمحن وَكَانَ حُسَيْن باشا ينظر إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة شزراً ويسمعه هجراً وَاشْتَدَّ الْوَهم بِهِ حَتَّى(1/283)
تدلى لَيْلًا من السُّور وَانْهَزَمَ حَتَّى وصل إِلَى طرابلس سَرِيعا جدا فالتجأ إِلَى كرم بني سَيْفا فاستقبوله بالإجلال فَجَلَسَ هُنَاكَ شهوراً قَليلَة ثمَّ توجه إِلَى مصر وَحج وَاسْتمرّ بِمصْر حَتَّى ذهبت دولة جانبولاذ فَعَاد إِلَى حلب وَلبس ثِيَاب الصُّوفِيَّة وَجمع ليَالِي لجَمِيع الْمَشَايِخ والفقراء وَاتخذ لَهُ مجْلِس صَلَاة على النَّبِي
وَكَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ نَحْو ألف إِنْسَان مَا بَين ذَاكر وناظر وَكَانَ يُطِيل مجْلِس الصَّلَاة وَالسَّلَام على النَّبِي
حَتَّى يمل الْمُصَلِّي وَالسَّامِع فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الشَّيْخ أَبُو النَّصْر طريقتنا قسم تهليل وَلَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة على النَّبِي
صَاحب التَّرْجَمَة يَقُول الصَّلَاة على النَّبِي
بَعضهم يرجحها فِي الْفضل على لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ طَال الْجِدَال بَينهمَا حَتَّى أصلح الشَّيْخ أَبُو النَّصْر مَسْجِدا كَانَ مَهْجُورًا واتخذه للذّكر فِي ليَالِي الْجمع فَكَانَ الْأَكْثَر من النَّاس يأْتونَ إِلَى الشَّيْخ أبي النَّصْر لكَون ذكره بالنغم والأساليب الْحَسَنَة مَعَ الْعِبَادَة ومجلس صَاحب التَّرْجَمَة عبَادَة مَحْضَة وَكَانَ كتب فِي إمضائه نقل من السّجل المصان فاعترضه الشَّيْخ أَبُو الْجُود وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الوفا وَكَانَ سَأَلَني وَأَنا شَاب لم كَانَ اسْم الْفَاعِل مَعَ فَاعله لَيْسَ بجملة وَالْفِعْل مَعَ فَاعله جملَة فأجبت بِأَنَّهُ لما لم يخْتَلف غيبَة وتكلما وخطاباً عومل مُعَاملَة الْمُفْردَات وَأما الْفِعْل مَعَ فَاعله لما اخْتلف عومل مُعَاملَة الْجمل فأعجبه وَمن نظمه حِين أحب أَخُوهُ شَابًّا يُقَال لَهُ مَحْمُود فَأَنْشد
(قد قلت للْأَخ لما زَاد فِي شغف ... ارْفُقْ بِنَفْسِك أَن الرِّفْق مَقْصُود)
(فَقَالَ لَا أَبْتَغِي عَن ذَا الْهوى بَدَلا ... هواي بَين أهيل الْعِشْق مَحْمُود)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَدفن فِي قُبُور الصَّالِحين
السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُرَاد السُّلْطَان الْأَعْظَم والخاقان الأفخم أعظم مُلُوك آل عُثْمَان وأحلمهم وَأكْرمهمْ كَانَ سُلْطَانا عَظِيم الْقدر جميل الذّكر محباً للْعُلَمَاء وَآل الْبَيْت متمسكاً بِالسنةِ النَّبَوِيَّة حسن الِاعْتِقَاد معاشراً لأرباب الْفَضَائِل سمح الْكَفّ جواد الاتزال إحساناته للْفُقَرَاء واصلة وعطاياه لأرباب الِاسْتِحْقَاق مترادفة وَكَانَ مائلاً إِلَى الْأَدَب والمحاضرات وَله شعر بالتركية ومخلصه على قَاعِدَة شعراء الرّوم بختى وَمِمَّا يرْوى لَهُ من الشّعْر العري قَوْله وأجاد
(ظَبْي يصول وَلَا اتِّصَال إِلَيْهِ ... جرح الْفُؤَاد بصارمي لحظيه)(1/284)
(مَا قَامَ معتدلاً وهز قوامه ... إِلَّا تهتكت الستور عَلَيْهِ)
(يسْقِي المدامة من سلافة رِيقه ... ويخصنا بالغنج من جفنيه)
(عَيناهُ نرجسنا وآس عذره ... ريحاننا ولورد من خديه)
(يَا شعر فِي بَصرِي وَلَا فِي خَدّه ... إِنِّي أغار من النسيم عَلَيْهِ)
(عجبي لسلطان يعز بعدله ... ويجور سُلْطَان الغرام عَلَيْهِ)
(لَوْلَا اخاف الله ثمَّ جحيمه ... لعبدته وسجدت بَين يَدَيْهِ)
قلت والبستان الأخيران من جملَة قصيدة لِابْنِ رزيك الشيعي ومطلع قصيدته قَوْله
(ومهفهف ثمل القوام سرت إِلَى ... أعطافه النشوات من عَيْنَيْهِ)
وَلما توفّي وَالِده كَانَ الْوَزير لَهُ إِذْ ذَاك قَاسم باشا فأخفى الْوَزير موت السُّلْطَان وَدخل إِلَى دَاخل بَيت السلطنة وَذكر للسُّلْطَان أَحْمد الْمَذْكُور كلَاما يَقْتَضِي أَن يلبس السوَاد ويحضر فِي الْجمع وَيجْلس على الْكُرْسِيّ وَإِذا أحضر أَعْيَان الْعلمَاء وَأَصْحَاب المناصب وأركان الدولة من أكَابِر الوزراء والأمراء وقبلوا يَده وَبَايَعُوهُ على السلطنة على قانونهم فَيَقُول لَهُم كل وَاحِد مِنْكُم يمشي على طَرِيقه ويصله كَمَال الشَّفَقَة وَنِهَايَة المرحمة فَلَمَّا صدر ذَلِك خرج الْوَزير وَأرْسل وَرَاء الْأَعْيَان والوزراء فَحَضَرُوا وَأخذ كل وَاحِد مِنْهُم مَجْلِسه فَبعد هنيئة رَأَوْا شَابًّا حسن الْوَجْه رَقِيق الْجِسْم تعلوه هَيْبَة عَظِيمَة ووقار جسيم فجَاء حَتَّى جلس على كرْسِي السلطنة وَعَلِيهِ ثِيَاب سود ومئزر من الصُّوف على رَأسه على عَادَة آل عُثْمَان فِيمَا يلبسُونَ عِنْد موت وَاحِد مِنْهُم فَلَمَّا جلس علمُوا أَنه لسلطان وتحققوا موت وَالِده فَقَامُوا وقبلوا يَده وَحَدَّثَهُمْ بِمَا عهد إِلَيْهِ بِهِ الْوَزير وانقضى الْمجْلس على ذَلِك وشرعوا بعد ذَلِك فِي تجهيز السُّلْطَان مُحَمَّد وَدَفنه وَكَانَ ذَلِك نَهَار الْأَحَد سَابِع عشر شهر رَجَب سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَكَانَ عمر السُّلْطَان أَحْمد يَوْمئِذٍ أَرْبَعَة عشر سنة وَوَافَقَ تَارِيخ جُلُوسه مخلصه بخْتِي وَقيل فِي تَارِيخه أَيْضا هُوَ خير السلاطين ووفقت وَأَنا بالروم على مَجْمُوع بِخَط بعض الأفاضل لَا يحضرني اسْمه أنشأ فِيهِ تواريخ آل عُثْمَان شعرًا ويستخرج التَّارِيخ بطرِيق التعمية وَلم يعلق فِي خاطري إِلَّا تَارِيخ جُلُوس السُّلْطَان أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ
(سلطاننا أَحْمد عزت ولَايَته ... تاريخها فِي اسْمه للنَّاس إِن حسبوا)
(أعداد مضروبه اضْرِب فِي الْأُصُول وَفِي ... ثَانِيه رابعه يحصل لَك الأرب)(1/285)
وَلما التحم أمره ابْتَدَأَ بإرسال وزيره عَليّ باشا الْوَزير الْأَعْظَم إِلَى جِهَة المجر بالعساكر فَمَاتَ وَهُوَ مُتَوَجّه فعين مَكَانَهُ مُحَمَّد باشا الَّذِي كَانَ سرداراً فِي روم ايلي ثمَّ بعد ذَلِك سعى فِي الصُّلْح مُرَاد باشا بَين السُّلْطَان والمجر على مُدَّة عشْرين سنة وَدخل إِلَى الديار الرومية يُرْسل الْكفَّار وَمَعَهُمْ الْهَدَايَا والتحف فَقبل السُّلْطَان أَحْمد ذَلِك ثمَّ سعى فِي قطع دابر الْبُغَاة الخارجين على السلطنة فِي أَيَّام وَالِده وَقد كَانَ جرى على أَيَّامه مِنْهُم مَا لم يجر على أحد من أهل بَيته مِمَّن تقدمه وَلَا تَأَخره حَتَّى أَنهم ملكوا غَالب النوحي والبلدان وقويت شوكتهم وَكبر شَأْنهمْ مِنْهُم حُسَيْن باشا الَّذِي كَانَ حَاكما فِي بِلَاد الْحَبَشَة ولخروجه أَسبَاب يطول الْكتاب بذكرها فأفسد وجبى الْأَمْوَال من الْبِلَاد وأحرق بعض النواحي من بِلَاد قرمان ونواحي أناطولي وَقتل وسبى وَأسر بعض الْقُضَاة وَاسْتمرّ فِي غلوائه حَتَّى وصل إِلَى مَدِينَة الرها وَبهَا العَاصِي الَّذِي أسس بِنَاء السكانية وَهُوَ عبد الْحَلِيم اليازجي فَلَمَّا وصل الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة التقى صلان صائلان وَاجْتمعَ ثعبانان منثعبان وأبرز كل مِنْهُمَا للْآخر حكما يشْهد بِأَن آل عُثْمَان قد أَمرُوهُ بقتل الآخر وَقد اتفقَا على الْمُخَالفَة لآل عُثْمَان دفْعَة وَاحِدَة وَنزلا فِي قلعة الرها وتحالفا أَن لَا يتخالفا فَلَمَّا شاع توافقهما عين السُّلْطَان لقتالهما الْوَزير مُحَمَّد باشا ابْن سِنَان باشا وَضم إِلَيْهِ عَسَاكِر الرّوم وَالشَّام وحلب وَغَيرهمَا فَرجع الْأَمر لتسليم عبد الْحَلِيم لحسين باشا وَأرْسل يطْلب رهنا من الْعَسْكَر السلطاني على أَن يدْفع لَهُم حُسَيْن باشا ويتركوه هُوَ فِي القلعة حَاكما فأرسلوا لَهُ من عَسْكَر دمشق كنعان لجركسي وَهُوَ من أَعْيَان عَسْكَر دمشق وَبكر دواتدار حَاكم دمشق خسرو باشا الْخَادِم وَجَمَاعَة فأذعن لإعطاء حُسَيْن باشا وَسلمهُ وَلما أخذت العساكر السُّلْطَانِيَّة حُسَيْن باشا مَالَتْ إِلَى ترك اليازجي فِي قلعة الرها لِأَن الْعَهْد هَكَذَا صدر مِنْهُ فَغَضب لذَلِك السردار مُحَمَّد باشا وَعرض ذَلِك للسُّلْطَان أَحْمد وَكَاد أَن يقتل بِسَبَبِهِ حَاكم دمشق خسرو باشا الْمَذْكُور لَوْلَا أَن تداركته المعونة وَاسْتمرّ عبد الْحَلِيم عَاصِيا حَتَّى قدم عَلَيْهِ الْوَزير حُسَيْن باشا ابْن الْوَزير مُحَمَّد باشا مَعَ العساكر السُّلْطَانِيَّة بأسرها فَالْتَقوا بِجمع الْبُغَاة وَكَبِيرهمْ عبد الْحَلِيم وَأَخُوهُ حسن فِي مَكَان يُقَال لَهُ الْبُسْتَان من نواحي مرعش فَاقْتَتلُوا هُنَاكَ وَكسر عَسْكَر الْبُغَاة وَقتل مِنْهُم مَا يزِيد على أَرْبَعَة آلَاف رجل ثمَّ إِن عبد الْحَلِيم مَاتَ فِي قَصَبَة سامسون وَاجْتمعَ الْبُغَاة على أَخِيه حسن وَكَانَ أَشْجَع من أَخِيه فوصل إِلَى الْوَزير الْمَذْكُور وَطَلَبه للمقابلة(1/286)
فَخرج إِلَيْهِ بِمن مَعَه من العساكر فَمَا ثبتوا قُدَّام الْبُغَاة لَحْظَة حَتَّى كسروا وهرب حسن باشا إِلَى قلعة توقات وَمَا رفعوا إِلَّا بالحبال وهجم الْعَدو وعَلى الْمَدِينَة بأسرها وَصَارَت عَسَاكِر السُّلْطَان فِي أسر الْبُغَاة مَا عدا حسن باشا مَعَ بعض الْخَواص فَإِنَّهُ اعتقل فِي القلعة وأغلقت أَبْوَاب القلعة والعدو يحفها إِلَى أَن وَقع موت حسن باشا على يَد بعض خدمه كَمَا سَنذكرُهُ فِي تَرْجَمته فَرَحل حسن الْخَارِجِي عَن توقات وتقرب من جَانب قَرَأَ حِصَار ثمَّ إِن جمَاعَة قربوه إِلَى خاطر السُّلْطَان أَحْمد وَقَالُوا لَهُ أَن يقنع بِمنْصب فِي بِلَاد الرّوم فَأَعْطوهُ مَدِينَة طمشوار وَهِي فِي أقْصَى مدن الْإِسْلَام وَمِنْهَا بداية ولَايَة الْكفْر فدام فِيهَا مُدَّة طَوِيلَة وَحسن حَاله وَقلت أحقاده وخدم خدمَة حَسَنَة إِلَى أَن قدر الله عَلَيْهِ الْمُخَالفَة بَينه وَبَين أهل ولَايَته فأخرجوه مِنْهَا فَذهب إِلَى مَدِينَة بلغراد فَوَضعه حاكمها فِي القلعة مكرما فِي الظَّاهِر مَحْبُوسًا فِي الْبَاطِن وَعرض أمره إِلَى السُّلْطَان فَأرْسل أَمر إِلَى حَاكم بلغراد بقتْله فَقطع رَأسه وَخرج بعد ذَلِك على السلطنة ابْن جانبو لاذحاكم كاس وعزاز وَوصل إِلَى أَن جرد العساكر وَقَاتل عَسْكَر السُّلْطَان على حماة وَكَانَ رَئِيس العساكر الْأَمِير يُوسُف بن سَيْفا التركماني حَاكم بِلَاد طرابلس الشَّام وانكسر عَسْكَر ابْن سَيْفا وَمن مَعَه وَآل أَمر ابْن جانبولاذ إِلَى الطغيان الزَّائِد وَجَاء إِلَى دمشق ونهبها وَسَيَأْتِي تَفْصِيل مَا وَقع وَفعل بِدِمَشْق فِي تَرْجَمته ثمَّ رَحل إِلَى حلب وَمكث بهَا وَكَانَت جماعته تزيد يَوْمًا فيوما واشتهر أمره وقوى جاشه إِلَى أَن ورد الْوَزير الْأَعْظَم مُرَاد باشا إِلَى قسطنطينية من محاربة كفار المجر وتشاور الوزراء مَعَه فِي شَأْن ابْن جانبولاذ فَكَانَ شوراه أَن يذهب إِلَيْهِ وَهُوَ بحلب وَأَن يسْعَى فِي إِزَالَته وقهره فَفعل ذَلِك وَورد إِلَى حلب وانتزعها من أعوان ابْن جانبولاذ إِلَى أَن آل الْأَمر إِلَى دُخُوله إِلَى قسطنطينية وَاجْتمعَ مَعَ السُّلْطَان وَحكى لَهُ قصَّته فَقبل عذره وَأَعْطَاهُ حُكُومَة طمشوار وَلم يزل على حكومتها إِلَى أَن عرض لَهُ أَمر أوجب قِتَاله لرعايا تِلْكَ الْبِلَاد وانحصر فِي بعض القلاع فَعرض أمره إِلَى السُّلْطَان فبرز الْأَمر بقتْله فَفَتَلَ وَأرْسل رَأسه إِلَى بَاب السُّلْطَان وَكَانَ كلما قتل وَاحِدًا من الْبُغَاة وضع رَأسه فِي مَكَان تقبل فِي الوزراء ليعتبروا بِهِ وَكَانَ أجل من قَتله السُّلْطَان مِنْهُم نصوح باشا الْوَزير الْأَعْظَم وَكَانَ سَبَب قَتله أَن جمَاعَة جاؤا إِلَى السُّلْطَان بمكاتيب ادعوا أَنه كتبهَا الْجِهَة الْعَجم فِيهَا التحريض على عدم الصُّلْح والتلويح بمساعدتهم فحين قَرَأَ السُّلْطَان المكاتيب أرسل خلف(1/287)
بعض الوزراء وَأمر بِفعل وَلِيمَة لجَماعَة نصوح باشا إِذْ ذَاك متمرضاً فجَاء أَتْبَاعه بأجمعهم إِلَى الْوَلِيمَة فحين خلا مَحَله من أَتْبَاعه أرسل السُّلْطَان جمَاعَة لقَتله فَاسْتَأْذنُوا فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم بعض جماعته لَا يُمكن الِاجْتِمَاع بِهِ فَقَالُوا لَا بُد من ذَلِك فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْده أحد وأظهروا الْأَمر السلطاني بقتْله فَقَالَ لَهُم أمهلوني لأصلي رَكْعَتَيْنِ فأمهلوه فَقَامَ وَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ لما فرغ خنقوه على سجادة الصَّلَاة ثمَّ ذَهَبُوا إِلَى السُّلْطَان وَأَخْبرُوهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِهِ فجاؤا بِهِ فَأمر بعوده وَدَفنه وَكَانَ السَّبَب فِي قَتله الْمُفْتِي الْأَعْظَم الْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين ثمَّ ولي مَكَانَهُ مُحَمَّد باشا زوج ابْنة السُّلْطَان وجهزه بالعساكر إِلَى بِلَاد الْعَجم وَوَقع المصاف بَينه وَبَين عَسَاكِر الْعَجم وَكَانَت الْهَزِيمَة على الْعَجم وَلما رَأَتْ الْأَعَاجِم ذَلِك أرْسلُوا استمالوا أَتْبَاعه فَحصل التواني وَوَقع الاختلال وَقتل من عَسْكَر السُّلْطَان جَانب كَبِير وَعَاد بِلَا فَائِدَة فَغَضب السُّلْطَان وَأَرَادَ قَتله كَمَا فعل بِمن قبله ثمَّ عَفا عَنهُ بِوَاسِطَة أم الْوَزير بِشَرْط جُلُوسه فِي اسكدار وَكَانَ السلسطان أَحْمد مُدَّة حَيَاته لَا يفتر عَن عمَارَة الْمَسَاجِد وَفعل الْخيرَات وَمن جملَة آثاره الجميلة أَنه كسا الْبَيْت الشريف وَكَذَلِكَ فعل بالحجرة النَّبَوِيَّة وكسا أضرحة جَمِيع سكان البقيع وسكان المعلاة وَكَانَ أَرَادَ أَن يَجْعَل حِجَارَة الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ملبسة وَاحِدًا بِالذَّهَب وواحداً بِالْفِضَّةِ فَمَنعه الْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين الْمُفْتِي وَقَالَ هَذَا يزِيل حُرْمَة الْبَيْت وَلَو أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لجعله قِطْعَة من الْيَاقُوت فَكف عَن ذَلِك وَجعل ثَلَاث مناطق من الْفضة المحلاة بِالذَّهَب أَيْضا دَاخل الْكَعْبَة الشَّرِيفَة صونا لَهَا من الْهدم وَأول من حلاها فِي الْجَاهِلِيَّة عبد الْمطلب بن هَاشم جد النَّبِي
وَفِي الْإِسْلَام الْوَلِيد بن عبد الْملك وَقيل أَبوهُ وَقيل ابْن الزبير وحلاها من العباسيين الْأمين والمتوكل والمعتضد وحلتها أم المقتدر العباسي وَالْملك الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن وَمن مُلُوك آل عُثْمَان صَاحب التَّرْجَمَة وَمن آثاره أَيْضا تَجْدِيد مولد السيدة فَاطِمَة وتبييضه وَمِنْهَا عمَارَة مَسْجِد الْبيعَة وَهُوَ بِالْقربِ من عقبَة مني على يسَار الصاعد بَينه وَبَين عقبَة منى مِقْدَار غلوة سهم وَوهم من قَالَ أَنه من منى وَمِنْهَا عمَارَة الْعين وَأصْلح مآثر كَثِيرَة يمكة وَأَنْشَأَ وَقفا من قرى مصر على خدام الْحَرَمَيْنِ لأجل أَن يصرف علوفة الخدم السّنة تَمامًا لِأَن فِي الْقَدِيم مَا كَانَ يصرف لَهُم الْأَعْلَى حكم النّصْف وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف أرسل للحضرة الشَّرِيفَة(1/288)
فصين من الألماس قيمتهمَا ثَمَانُون ألف دِينَار فوضعها فَوق الْكَوْكَب الدُّرِّي وَهَذَا الْكَوْكَب تجاه الْوَجْه الشريف فِي الْجِدَار وَهُوَ مِسْمَار من الْفضة مموه بِالذَّهَب فِي رخامة حَمْرَاء من استقبله كَانَ مُسْتَقْبل الْوَجْه الشريف كَذَا قَالَ ابْن حجر فِي الْجَوْهَر المنظم وَأنْشد بَعضهم
(الْكَوْكَب الدُّرِّي من شَأْنه ... يخفى مَعَ الْوَجْه السراج الْمُنِير)
(فكثروا الْجَوْهَر أَو قللُوا ... فالجوهر الْفَرد عديم النظير)
وَبعث أَيْضا للحجرة بشبابيك من الْفضة المحلاة بِالذَّهَب وَأمر أَن يُرْسل إِلَيْهِ بالشبابيك الْقَدِيمَة ليجعلها فِي مدفنه الَّذِي أنشأه بقسطنطينية لأجل التَّبَرُّك فَمَنعه الْمُفْتِي وَاعْتَرضهُ فِي نقل الشبابيك فَقَالَ نَحن نرسلها من الْبَحْر فَإِن كَانَ النَّبِي
يقبلهَا فَهِيَ تصل سَالِمَة من غير غرق وَإِلَّا فتغرق فِي الطَّرِيق فأرسلها من الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فوصلت سَالِمَة ثمَّ أرسلها من مصر إِلَى الْمَدِينَة المنورة فوصلت سَالِمَة أَيْضا وَكَذَلِكَ أَمر أَن يفعل بالشبابيك الْقَدِيمَة حِين ترسل إِلَيْهِ فوصلت إِلَى قسطنطينية من غير أدنى مشقة فَجَعلهَا فِي مدفنه كَمَا أَرَادَ وجدد عمَارَة العلمين اللَّذين هما حدا لحرم من جِهَة عَرَفَة فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف على يَد الباشا حسن المعمار وَأول من وضع انصاب الْحرم خوف اندراسه الْخَلِيل إِبْرَاهِيم على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام بِدلَالَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي فِي جَمِيع جوانبه خلا جِهَة جدة وجهة الْجِعِرَّانَة فَإِنَّهُ لَيْسَ فيهمَا انصاب ثمَّ نصبها إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ قصى بن كلاب وَقيل ابْن عدنان بن أد أول من وضع انصاب الْحرم حِين خَافَ أَن يندرس ونصبتها قُرَيْش بعد أَن نزعوها وَالنَّبِيّ
بِمَكَّة قبل هجرته وَأمر النَّبِي
عَام الْفَتْح تَمِيم بن أَسد فجددها ثمَّ إِن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بعث أَرْبَعَة نفر لتجديدها وهم مَخْزُوم بن نَوْفَل وَسَعِيد بن يَرْبُوع وَحُوَيْطِب بن عبد الْعُزَّى وأزهر بن عبد عَوْف ثمَّ عُثْمَان ثمَّ مُعَاوِيَة ثمَّ عبد الْملك بن مَرْوَان ثمَّ الْمهْدي العباسي ثمَّ أَمر الراضي العباسي بعمارة العلمين الكبيرين اللَّذين هما حدا لحرم من جِهَة التَّنْعِيم فِي سنة خمس وَعشْرين وثلثمائة ثمَّ أَمر المظفر صَاحب أربل بعمارة العلمين الَّذين هما حدا لحرم من جِهَة عَرَفَة فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ صَاحب التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا وَبعث إِلَى بَيت الْمُقَدّس من فضَّة مطلية بِالذَّهَب لتوضع على الْقدَم(1/289)
الشريف بالصخرة وَهِي إِلَى الْآن مَوْجُودَة وَفِي شَوَّال سنة سِتّ وَعشْرين وَألف أرسل لِأَحْمَد باشا محافظ مصر بِأَن يُرْسل مِقْدَارًا من الخزينة لأجل عمَارَة الْحرم النَّبَوِيّ على حكم الْحرم الْمَكِّيّ فامتثل وَأرْسل وَمَات السُّلْطَان أَحْمد قبل الشُّرُوع فِي ذَلِك وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْمُعْطِي بن أبي الْفَتْح بن أَحْمد الإسحاقي فِي كِتَابه لطائف الْأَخْبَار الأول فِيمَن تصرف فِي مصر من أَرْبَاب الدول عِنْد ذكر السُّلْطَان أَحْمد وَمن جملَة محاسنه أَنه حصل فِي بِنَاء الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ميلان فِي بعض أحجارها فَأرْسل عمدا من فولاذ مطلية بِالذَّهَب ومموهة بِالذَّهَب فطوقت بهَا الْكَعْبَة الشَّرِيفَة من الْجِهَات الْأَرْبَع وحفظت الْأَحْجَار من السُّقُوط وَأرْسل ميزابا من الْفضة مموها بِالذَّهَب وَوضع مَوضِع الْمِيزَاب الْعَتِيق وتسلم أَمِير الْحَاج الْمِيزَاب الْعَتِيق وأرسله إِلَى السُّلْطَان وَوضع فِي الخزانة العامرة تبركا وَعمل سَحَابَة بطرِيق الْحَاج الْمصْرِيّ يحمل بهَا المَاء للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين ووقف عَلَيْهَا أوقافا وَهِي مستمرة إِلَى الْآن وَبهَا النَّفْع الْعَام ورتب من ريع وَفقه لفقراء الْحَرَمَيْنِ وأرباب وظائفهما زِيَادَة فِي معلومهم فِي كل سنة اثْنَي عشر كيسا تحمل إِلَيْهِم صُحْبَة الْحَاج الْمصْرِيّ ثمَّ قَالَ وَالَّذِي ضَبطه جَامع هَذِه الأرقام بطرِيق التَّقْرِيب ورقمه حسب مَا وصل إِلَيْهِ علمه من أَفْوَاه المباشرين وَالْكتاب أَن الَّذِي يُجهز فِي كل عَام إِلَى فُقَرَاء الاحرمين ومجاوزيهما من صدقَات آل عُثْمَان وَخدمَتهمْ وَمِمَّنْ سَيَأْتِي ذكره فِي اديار الْمصْرِيّ مَا هُوَ من المَال النَّقْد الْمُسَمّى بالصرة مائَة كيس وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ كيسا بَيَان ذَلِك مَا هُوَ من أوقاف الدشيشة الْكُبْرَى أَرْبَعَة وَسِتُّونَ كيسا وَمَا هُوَ من وقف السُّلْطَان مُرَاد سَبْعَة عشر كيسا وَمَا هُوَ من وقف السُّلْطَان مُحَمَّد اثْنَا عشر كيسا وَمَا هُوَ من وقف السُّلْطَان أَحْمد اثْنَا عشر كيسا وَمَا هُوَ من وقف الخاصكية عشرَة أكياس وَمَا هُوَ من وقف الْحَرَمَيْنِ عشرَة أكياس وَمَا هُوَ من وقف الْأَشْرَاف اثْنَا عشر ألف نصف وَمَا هُوَ من وقف الخدام ثَمَانُون ألف نصف وَمَا هُوَ من وقف رستم باشا اثْنَا عشر ألف نصف وَمَا هُوَ من وقف اسكندر باشا عشرَة آلَاف نصف وَمَا هُوَ من وقف سِنَان باشا عشرُون ألف نصف وَمَا هُوَ من وقف عَليّ باشا اثْنَان وَثَلَاثُونَ ألف نصف وَمَا هُوَ من الْحبّ فِي كل عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ وَألف ادرب وَثَمَانمِائَة أردب وَذَلِكَ خَارج عَن صدقَات الْبِلَاد الرومية والشامية والحلبية وغالب الممالك الإسلامية قلت وَذَلِكَ شَيْء لَا يحصره ضبط وَلَا يحبط بِهِ وصف وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن محَاسِن هَذِه الدولة(1/390)
العثمانية كَثِيرَة وخيراتهم غزيرة من آثاره الَّتِي بقسطنطينية الْجَامِع الَّذِي لم يعْمل مثله فِي إنشائه وَأَحْكَام بنائِهِ ودقة صنائعه إِلَى غير ذَلِك وَله سِتّ منارات حَسَنَة الْوَضع إِلَى الْغَايَة وداخله مزين بأنواع الْقَنَادِيل من البلور والقاشاني والسدف وَغير ذَلِك وَفِيه كل أعجوبة لَا نَظِير لَهَا وَلما تمّ وَضعه هادته مُلُوك الأقاليم بالتحف من قناديل الذَّهَب وَغَيرهَا لتَعلق فِيهِ وَبَلغت مصارف نَفَقَته نَحْو نَفَقَة عمَارَة جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق فَإِنَّهُ يُقَال أَن الْوَلِيد بن عبد الْملك الْخَلِيفَة الْأمَوِي أنْفق عَلَيْهِ أَرْبَعمِائَة صندوق من الذَّهَب فِي كل صندوق أحد عشر ألف مِثْقَال من الذَّهَب وَفِي خَارجه الْمَكَان الْمَعْرُوف بآت ميداني وَهُوَ ميدان وَاسع وَبِه رصد من نُحَاس على شكل أَفْعَى قيل أَنه كَانَ رصدا للحيات لَكِن الْآن بَطل عمله فَإِن السُّلْطَان مُرَاد ولد صَاحب التَّرْجَمَة كَانَ كسر مِنْهُ قِطْعَة فَبَطل عمله لذَلِك ويروى أَنه بعد تَمام بنائِهِ واستحكامه كَانَ بَقِي فِي أحد جوانبه إعوجاج بِسَبَب بَيت صَغِير كَانَ لعجوز وَقد أرغبت بِالْمَالِ الْكثير لتبيعه فَأَبت فاتفق أَنَّهَا مَاتَت عَن غير وَارِث وَآل الْبَيْت إِلَى بَيت المَال فأضيف إِلَى الْجَامِع وتناسب بذلك وَضعه وَمِمَّا قيل فِيهِ من التواريخ تَارِيخ الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْغَنِيّ قَاضِي الْعَسْكَر وَهُوَ قَوْله
(ذَا جَامع مؤسس ... على تقى الرب المتين)
(بناه سُلْطَان الورى ... بعد لَهُ الجزل الرزين)
(سمى أَحْمد الْهدى ... ظلّ إِلَه الْعَالمين)
(حاولت تَارِيخا لَهُ ... من نَص قُرْآن مُبين)
(فجَاء فِيهِ قَوْله ... لنعم دَار الْمُتَّقِينَ)
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن هَذَا السُّلْطَان أعظم سلاطين آل عُثْمَان قدرا وَكَانَت وِلَادَته فِي سَابِع عشر شهر رَجَب سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَقيل فِي تَارِيخه حفظه الله وابتدأه الْمَرَض فِي شَوَّال سنة سِتّ وَعشْرين وَألف بقرحة فِي ظَهره وَأخْبر عَنهُ مصطفى آغا ضَابِط الْحرم أَنه قبل مَوته بِيَوْم وَكَانَ قبل الْعَصْر صَار يَقُول وَعَلَيْكُم السَّلَام إِلَى أَن قَالَ ذَلِك أَربع مَرَّات قَالَ مصطفى آغا تسلمون على من فَقَالَ حضر لي فِي هَذَا الْوَقْت سيدنَا أَبُو بكر الصّديق وَسَيِّدنَا عمر وَسَيِّدنَا عُثْمَان وَسَيِّدنَا عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَقَالُوا لي أَنَّك تَجْتَمِع بسُلْطَان الدُّنْيَا وَالْآخِرَة سيدنَا مُحَمَّد
فِي غَد مثل هَذَا الْوَقْت فَكَانَ كَمَا قَالَ فَمَاتَ فِي ثَانِي يَوْم وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء(1/291)
ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَقد بلغ من الْعُمر ثَمَانِي وَعشْرين سنة وَدفن بجامعة الْمَذْكُور رَحمَه الله تَعَالَى وَخلف من الْأَوْلَاد أَرْبَعَة وهم السُّلْطَان عُثْمَان وَالسُّلْطَان مُحَمَّد توفّي شَهِيدا فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَالسُّلْطَان مُرَاد السُّلْطَان إِبْرَاهِيم وثلاثتهم ولوا الْخلَافَة وَقد ذكرتهم فِي محالهم وَأما وزراؤه فسبعة وهم ياوز عَليّ باشا وَمُحَمّد باشا البوسنري ودرويش باشا وَمُرَاد باشا ونصوح باشا وَمُحَمّد باشا وخليل باشا رَحِمهم الله تَعَالَى
السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى المتطبب الْحَنَفِيّ سبيويه زَمَانه وَإِمَام سَائِر فنون الْأَدَب فِي أَوَانه كَانَ فَقِيها محققا آلت الْفَتْوَى فِي مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة إِلَيْهِ وأمده الله تَعَالَى بِالْحِفْظِ فَكَانَ بحرا زاخرا فِي جَمِيع الْفُنُون وخصوصا علم النَّحْو ومتعلقاته مَعَ التَّحْقِيق الوافي والتدقيق الوافر أَخذ عَن وَالِده وَغَيره وَعنهُ أَخُوهُ عبد الله بن مُحَمَّد وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن أبي الْقَاسِم الأهدل وَأَخُوهُ سُلَيْمَان وَكثير وَعلا صيته واشتهر أمره وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَعشْرين وَألف بزبيد وَبهَا دفن بتربة بَاب سِهَام ورثاه الْفَقِيه الْفَاضِل المفنن أَبُو بكر بن عَليّ مهير أحد تلامذته بمرثية مِنْهَا قَوْله
(إِمَام لَهُ فِي الْعلم بَاعَ وساعد ... وكف يكف الْخطب أَنى تغلبا)
مِنْهَا
(أما كَانَ فَردا فِي الْعُلُوم وملجأ ... إِذا مَا عرى خطب من الدَّهْر قلبا)
(أما كَانَ فِي الْعلم الإِمَام الَّذِي لَهُ ... نرى فرض عين أَن يعدو يحسبا)
(فَمن لدروس الْعلم بُد شتاتها ... يذلل مِنْهَا فهمه مَا تصعبا)
(وَمن لخبايا النَّحْو كم قد تسترت ... فابدي لنا مِنْهَا ضميرا محجبا)
(وَمن للفتاوي فِي الْعُلُوم بأسرها ... يفيدك إيجازا وَإِن شَاءَ أطنبا)
(خَطِيبًا ترى قسا لَدَيْهِ كباقل ... فصيح إِذا مَا قَالَ أطرى وأطربا)
(لقد بزمنا الدَّهْر وَجه بِلَادنَا ... وَفرق مِنْهَا الْحسن تفريقه سبا)
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد القادري الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي من ذُرِّيَّة القطب الْكَبِير الجيلاني المقيمين بحماه وهم رؤساؤها الْمشَار إِلَيْهِم تولى خلَافَة السَّادة القادرية بعد أَخِيه الشَّيْخ عبد الله وحظى بِكَثْرَة الْأَمْوَال والعقارات والبيوت الْحَسَنَة المطلة على نهر العَاصِي حَتَّى قبل لما مر السُّلْطَان سليم فاتح الأقطار الشامية والمصرية والحجازية أعجبه مكانهم فَقَالَ عَنهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَلم يدنس عرضه بتعاطي(1/292)
أَمْوَال المصادرات وَالدُّخُول فِي الْمَظَالِم كَمَا يَفْعَله كثير من مَشَايِخ حماه وَلَا يُكَلف أهل محلته المساعدة على قرى الضيوف كَمَا هُوَ من عَادَتهم وَكَانَ يقرى الضيوف مِمَّا حضر من غير تكلّف وَأما أَخُوهُ الشَّيْخ عبد الله فَإِنَّهُ كَانَ بحرا يتلاطم بالأمواج من السخاء حَتَّى أَن رجلا من حماه كَانَ لَيْلَة فِي الْحرم الشريف فَلَمَّا خلا المطاف نَادَى الْمَذْكُور الْأُسْتَاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَقَالَ تعال حَتَّى نختبي نَحن وَأَنت فَفعل ذَلِك وَوضع الشال عَلَيْهِمَا فَقَالَ الْقَائِل من دَاخل الشال الشَّيْخ عبد الله من الأبدال وَمَا نَالَ تِلْكَ الْمرتبَة إِلَّا بالسخاء وسلامة الصَّدْر وعلامته أَن لَا يعِيش لَهُ ولد وَقد حظى بِالْكَلِمَةِ النافذة وإقبال الوزراء والأمراء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَكَانُوا يَأْخُذُونَ طَريقَة سَيِّدي عبد الْقَادِر الجيلاني وَكَانَ لَا يخرج لزيارة حَاكم وَلَا لغيره أصلا وَكَانَ كثير الصَّدقَات والهدايا إِلَى الْحُكَّام بعث ثَلَاثَة آلَاف من القروش صَدَقَة للجامع الْأَزْهَر وَبنى جَامع المعرة وجامع أرِيحَا وَمَسْجِد فِي بَيت الْمُقَدّس وَكَانَ إِذا سَافر إِلَى بلد لَا يحب أَن يدخلهَا بالشهرة وَالْجَمَاعَات والأعلام كَمَا هُوَ عَادَة الْمَشَايِخ وَمن عَجِيب أمره أَن لَهُ حجرَة كَبِيرَة أَخذهَا الْأَمِير ابْن الأعوج فِي غيبته ووضعها فِي حمام لَهُ بناه وَبَقِي اخراجها صعبا فَلَمَّا رَجَعَ من الْحَج استقبله ابْن الأعوج فاسمعه مَا يكره وَقَالَ لَا بُد أَن تعيد الْحُجْرَة إِلَى مَكَانهَا فَلَا زَالَ ابْن الأعوج يسترضيه حَتَّى جعل لَهُ ثمن الْحُجْرَة مائَة وَخمسين قرشا فَقَالَ لَهُ لَا تتعب لَو أَعْطَيْت بثقلها ألماسا لَا أرْضى إِلَّا بِإِعَادَة حُجْرَتي إِلَى موضعهَا فوضعها موضعهَا وَمن عَجِيب أمره أَن مفتي أرِيحَا كَانَ يُحِبهُ ويعظمه وَلما قدم الشَّيْخ أَحْمد إِلَى حلب أَخذ يضيفه حَتَّى بَالغ فِي التَّعْظِيم لَهُ فَأعْطَاهُ الْكسْوَة القادرية ثمَّ بعد مُدَّة أَرَادَ الشَّيْخ مُحَمَّد مفتي أرِيحَا أَن يظْهر تَعْظِيمًا للشَّيْخ أَحْمد فَأخذ هَدِيَّة عَظِيمَة فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ غضب الشيح ورد إِلَيْهِ الْهَدِيَّة فَحصل لَهُ خجل ثمَّ نزل على ابْن عَم صَاحب التَّرْجَمَة فَقَالَ لَهُ مرْحَبًا وَلَكِن اجْلِسْ عندنَا اللَّيْلَة وصباحا توجهوا مَعَ السَّلامَة فَإِنِّي أَخَاف أَن يسمع الشَّيْخ فيغضب علينا وَفِي الْيَوْم الثَّانِي بعث جمَاعَة بالخفية يتوسلون بالشيخ لَعَلَّه يَأْذَن بِالْإِقَامَةِ فَلم يَأْذَن حَتَّى رَجَعَ إِلَى وَطنه وَقصد الشَّيْخ تَعْرِيف المريد صدق التلمذة وَمن عَجِيب أمره أَن الْوَزير الْأَعْظَم نصوح باشا لما قدم من آمد إِلَى حلب وَكَانَ الشَّيْخ فتح الله يَقُول لَهُ الشَّيْخ قل للوزير ينظر لي منزلا حسنا قَرِيبا مِنْهُ فَغَضب الشَّيْخ فتح الله وَقَالَ مَا أَنا متفرغ لهَذَا الْأَمر وَلَا الْوَزير الْأَعْظَم وَلَكِن الشَّيْخ ينزل(1/293)
أَرض الله وَاسِعَة وَلَا بَأْس أَن ينزل فِي تكية الشَّيْخ أبي بكر فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى الشَّيْخ قَالَ وتربة الشَّيْخ عبد الْقَادِر مَا أنزل إِلَّا فِي نفس خيمة الْوَزير نكاية فِي الشَّيْخ فتح الله ثمَّ ركب بغلته وَدخل على الْوَزير فَاسْتَقْبلهُ بالتبجيل وَقَالَ لَهُ أَيْن نزلتم فَقَالَ الْمنزل عنْدكُمْ فنصب لَهُ خيمة عَظِيمَة بجانبه ووكل بِهِ أعظم جماعته أوقفهُ فِي خدمته ثمَّ كتب الشَّيْخ دفتراً عَظِيما فِيهِ هَدَايَا للوزير يبلغ ثمنهَا ألفا وَخَمْسمِائة قِرْش فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ فتح الله مَا أبقيتم لكم شَيْئا فَقَالَ أَنا فِي غنية لله الْحَمد ومرادي مُجَرّد محبَّة الْوَزير قيل قَالَ المنكرون لَو أعطيتموها للْفُقَرَاء فَقَالَ أَنا مَا أهادي الْحُكَّام إِلَّا لأجل الْفُقَرَاء ومصالحهم وَمن عَجِيب أمره أَنه كَانَ بَينه وَبَين أَمِير حماه ابْن الأعوج شَحْنَاء بِسَبَب ظلم ابْن الأعوج فَقدم وَزِير تولى مصر وخدمه ابْن الأعوج وَلم يحسن للوزير زِيَارَة الشَّيْخ أَحْمد فَقَالَ الشَّيْخ أَحْمد لبَعض جماعته اذْهَبْ إِلَى كتخذ الْوَزير وَقل لَهُ عِنْدِي بعض صدقت لأهل الْجَامِع الْأَزْهَر مرادي يُكَلف خاطره ويحضر عِنْدِي حَتَّى أعْطِيه إِيَّاهَا فَحَضَرَ الكتخدا فَفِي الْحَال أعطَاهُ نَحْو ثلثمِائة قِرْش وَأمره أَن يتَصَدَّق بهَا على أهل جَامع الْأَزْهَر وَأَعْطَاهُ لنَفسِهِ مَا ينوف عَن مائَة وَخمسين قرشا ثمَّ لما قَامَ من عِنْده قَالَ لَهُ عِنْدِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف قِرْش كَانَ مرادي أسلمها للباشا يُعْطِيهَا صَدَقَة لأهل الْأَزْهَر لَكِن مَا زارنا كَانَ عَادَة الوزراء أَن يزورونا وَلَكِن نصبر حَتَّى يمر علينا وَزِير مثله نُعْطِيه إِيَّاهَا فَاجْتمع الكتخدا بالباشا وَقَالَ لَهُ هَذَا قطب الْعَالم فَفِي الْحَال جَاءَ إِلَيْهِ الباشا زَائِرًا وَقبل يَدَيْهِ وَفِي صحبته ابْن الأعوج أَمِير حماه فَقَالَ الباشا ابْن الأعوج قريبنا يكون نظرك عَلَيْهِ فَقَالَ لَكِن عجزت عَن نصيحته عَن ظلم الْعباد فَلم يسمع مني فَكَانَت هَذِه نكاية مِنْهُ لِابْنِ الأعوج حَيْثُ لم يحسن لَهُ زيارته وَأعْطى الْوَزير الدَّرَاهِم لأهل الْأَزْهَر وخدمه بِهَدَايَا تَسَاوِي خَمْسمِائَة قِرْش فَلَمَّا ذهب الْوَزير قَالَ لجماعته جِئْت بالوزير على رغم أنف ابْن الأعوج وَجعلت قِيمَته عِنْده كَالْكَلْبِ وَالْحَاصِل أَنه كَانَ تقياً صَالحا مهاباً حصلت لَهُ الرياسة الْعُظْمَى وَمَا غضب على أحد وَكَانَت أَحْوَاله باهرة تقصده الوزراء والأمراء ويقبلون يَده وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاثِينَ بعد الْألف وَقد جَاوز التسعين وَدفن بزاويته بحماه رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد المغربي الأَصْل الْمَعْرُوف بالحمودي الطرابلسي الْمَالِكِي واشتهر بالصل كَانَ من فضلاء زَمَانه وَهُوَ مَعْدُود من الأدباء منخرط فِي سلكهم(1/294)
قدم أَبوهُ إِلَى دمشق فِي عشر السّبْعين وَتِسْعمِائَة وتديرها وَولد بهَا أَحْمد هَذَا فَنَشَأَ وتفقه بِالْعَلَاءِ بن المرحل البعلي الْمَالِكِي وَالشَّمْس مُحَمَّد بن أَحْمد الأندلسي خَليفَة الحكم بِدِمَشْق وَحج فَأخذ بِمَكَّة عَن الشَّيْخ خَالِد التّونسِيّ وبالقاهرة عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وبالمدينة عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْبري الْمَالِكِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد زوز التّونسِيّ وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة بِدِمَشْق على الشَّيْخ أَحْمد الوفائي المفلحي وَالشَّيْخ تَاج الدّين الْقطَّان وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّمْس مُحَمَّد الدَّاودِيّ وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن كسباي وَالشَّيْخ مَحْمُود البيلوني وتأدب بالشيخ عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ وَفِي مَكَّة بالشيخ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى المرشدي وَفِي المخا بالسيد حَاتِم فِي عدن بالسيد أَحْمد العيدروس ثمَّ رَحل إِلَى مَكَّة فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَأقَام بهَا بَين ذهَاب إِلَى الْيمن وعود إِلَيْهَا وَكَانَ يرد الْمَدِينَة فِي كل سنة ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف واشتغل بمعاناة الْأَدَب وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره مستعذب وَمِنْه قَوْله من قصيدة كتب بهَا إِلَى عبد الْكَرِيم الطاراني جَوَابا عَن أَبْيَات كتبهَا لَهُ يستدعيه بهَا ومطلع قصيدة الصل قَوْله
(على م أدرت يَا ذخر الموَالِي ... فَتى فِي الْحبّ من بعض الموَالِي)
(تذكر لَيْلَة مرت وَطَابَتْ ... وَقد يُغْنِيك حَالي عَن سُؤَالِي)
(بأقداح وأفراح وَأنس ... يَا صِحَاب وأعيان موَالِي)
(ودارت بَيْننَا كاسات لفظ ... غَدَتْ أشهى من المَاء الزلَال)
(وَكم ذكر جميل فِي وقار ... جرى منا لَدَى صحب أعالي)
(وروحاً فِي حيازيم الْأَمَانِي ... وعينا للأحبا والأهالي)
(نطارحهم بِأَلْفَاظ عَذَاب ... تنير الزهر فِي أفق الْمَعَالِي)
(عجبت لَهَا وَقد خلبت فُؤَادِي ... مَعَانِيهَا كَمَا السحر الْحَلَال)
(لَدَى صحب تساقوا كاس حب ... فأكسبهم ثَنَاء كالغوالي)
(فبعضهم لَهُ جد وجد ... وَكلهمْ ذووا مجد أنال)
(فَلَا تبعد عَن الأعطاف واعطف ... وقابل بالتحمل ذَا الدَّلال)
(وصل من غاله فرط اشتياق ... وَلَا تقطع مَوَدَّة ذِي كَمَال)
وَكَانَت وِلَادَته فِي لَيْلَة السبت رَابِع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي قَوْله من أرجوزة(1/295)
(ومولدي لَيْلَة سبت زَاهِر ... رَابِع عشر من ربيع الآخر)
(وَذَاكَ فِي عَام ثَلَاث وَثَمَانِينَ ... وَتِسْعمِائَة وَقد رمى)
(بِي الدَّهْر بعد أَن كَبرت بالعرى ... وعشت دهراً فِي ذزى أم الْقرى)
وَتُوفِّي فِي حلب فِي سَابِع شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف والحمودي نِسْبَة إِلَى قيلة من عرب الْمغرب مَنَازِلهمْ الْجَبَل الْأَخْضَر والصل مَعْرُوف وَكَانَ لَا يُنكر تلقيبه بِهِ قَالَ الطاراني وَكنت أُشير بنزله فيأبى وَالله أعلم
الأديب أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن المنقار الْحلَبِي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْوَفَاة الأديب الشَّاعِر الذكي البارع كَانَ مَشْهُورا بالذكاء والفطنة وَالْفضل لَازم الْعَلامَة الملا اسد الدّين بن معِين الدّين التبريزي نزيل دمشق وَأخذ عَنهُ الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان وَغَيرهَا وبرع فِي الْفُنُون وتميز على أقرانه وطار صيته وَصَارَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفطنة وَألف قبل أَن يبلغ الْعشْرين من سنه رِسَالَة مَقْبُولَة فِي مبَاحث الِاسْتِعَارَة وَبَيَان أقسامها وَتَحْقِيق الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وعرضها على عُلَمَاء عصره فقبلوها ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الفارسية ونظم الشّعْر الرَّائِق المعجب وَمن جيد شعره القصيدة الَّتِي كتب بهَا إِلَى الْحسن البوريني جَوَابا عَن قصيدة أرسلها إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله
(أَتَى ينثني كاللدن قده اسمى ... غزال بِفعل الجفن يُلْهِيك عَن أسما)
(فريد جمال جَامع اللطف جؤذر ... أَمِير كَمَال أهيف أحور ألمي)
(إِذا مَا بدا أوماس تيها وَإِن رنا ... ترى الْبَدْر مِنْهُ والمثقف والسهما)
(لَهُ مقلة سيافة غمدها الحشا ... ونبالة قلبِي لَا سهمها مرمى)
(تجسم من لطف وظرف أما ترى ... تغيره لما تخبلته وهما)
وَمِنْهَا
(يَمِينا بميمات الباسم أنني ... عَن الْحبّ لَا ألوي بلومهم العزما)
(وَلَا أَبْتَغِي من قيد حبيه مخلصا ... سوى حسن فعلا وقولا كَذَا إسما)
وَكَانَ سَافر إِلَى قسطنطينية لوفاة وَالِده مُحَمَّد بهَا وَكَانَ من قُضَاة العقبات فَتوجه أَحْمد إِلَيْهَا ليتناول مَا خَلفه وَالِده من المَال فاشتهر صيته بَين عُلَمَاء الرّوم حَتَّى أَن الْمُفْتِي الْأَعْظَم زَكَرِيَّا بن بيرام الْآتِي ذكره جعله ملازما فِيهِ على قَاعِدَة عُلَمَاء تِلْكَ الديار ثمَّ أَدَّاهُ لطف الطَّبْع والإمتزاج مَعَ ظرفاء تِلْكَ الْبَلدة إِلَى إستعمال بعض المكيفات فَغلبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاء فاختلط عقله وَصَارَ يخلط فِي كَلَامه فوضعوه فِي دَار الشِّفَاء(1/296)
ثمَّ لزم إرسالة إِلَى بِلَاده وَكَانَ بقسطنطينية أذ ذَاك بعض أَعْيَان دمشق فصحبه مَعَه موثقًا وَقدم بِهِ إِلَى دمشق ثمَّ تزايد عَلَيْهِ الْجُنُون حَتَّى حبس فِي بَيت لَا يخرج مِنْهُ إِلَّا فِي بعض الْأَوْقَات وَعَلِيهِ حارس مُوكل وَكَانَت حَالَته تزيد وتنقص بِحَسب فُصُول الْعَام قَالَ البوريني فِي تَرْجَمته وَلَقَد دخلت عَلَيْهِ مُسلما وَله من الدَّهْر متظلما فرأيته فِي سلسلة طَوِيلَة الذيل فأسبلت دموعي كالسيل حزنا عَلَيْهِ وشوقا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يراسلني بقصائده ويتحفني بفرائده وَكنت أُجِيبهُ عَن رسائله وأحقق جَمِيع دلائله فَقَالَ لي وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال متمثلا على سَبِيل الإرتجال مُشِيرا إِلَى سلسلته الَّتِي منعته الْمسير وصيرته فِي صُورَة الْأَسير
(إِذا رَأَيْت عارضاً مسلسلا ... فِي وجنة كجنة يَا عاذلي)
(فَاعْلَم يَقِينا اننا من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل)
قلت البيتان للوداعي وأصلهما الحَدِيث عجب رَبك من أَقوام يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل قيل هم الأسرى يقادون إِلَى الْإِسْلَام مكرهين فَيكون ذَلِك سَبَب دُخُولهمْ الْجنَّة لَيْسَ أَن ثمَّة سلسلة وَيدخل فِيهِ كل من حمل على عمل من أَعمال الْخَيْر وَلَا يخفى لطف موقع الْبَيْت لما فِيهِ من دَعْوَى اأنه من أسرى الْمحبَّة وَقد بَقِي على ذَلِك الْحَال نَحْو ثَلَاثِينَ سنة إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَبَيت المنقار بحلب ودمشق بَيت علم ورياسة خرج مِنْهُم نجباء وجدهم الْأَعْلَى مُحَمَّد بن مبارك بن عبد الله الحسامي كَانَ أَمِيرا جَلِيلًا صَار أحد مقدمي الألوف بِالشَّام سنة ثَلَاث وَثَمَانمِائَة وَولي كَفَالَة حماة فِي أَيَّام السُّلْطَان فرج بن برقوق وَجعله مرّة رَئِيس عسكره وَكَانَ أَولا يعرف بِابْن المهمندار وَهُوَ صَاحب الْوَقْف الْعَظِيم الْبَاقِي فِي يَد ذُريَّته بِدِمَشْق وحلب وَمِنْهُم الْفَقِير مؤلف هَذَا التَّارِيخ فَإِن حدتي وَالِدَة وَالِدي مِنْهُم وَهَذَا هُوَ الَّذِي لقب بالمنقار لِأَنَّهُ كَانَ لمطبخه طباخة مُسِنَّة وَكَانَ يُنكر عَلَيْهَا حسن الطَّبْخ مغضبا فَقَالَت لَهُ يَوْمًا إِلَى مَتى ترفع منقارك على تُرِيدُ بذلك رفع أَنفه عَلَيْهَا عِنْد غَضَبه فلقبه أعداؤه بالمنقار رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الصَّفَدِي الْمَعْرُوف بالخالدي الْفَقِيه الأديب الْحَنَفِيّ كَانَ إِمَامًا بارعا فَقِيها مطلعا وَكَانَ حسن المطارحة كثير الْفُنُون ولد بصفد وَبهَا نَشأ ثمَّ ارتحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ البهنسي الْعقيلِيّ الشَّافِعِي الْمصْرِيّ وَأَجَازَهُ بالبخاري فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَعَن(1/297)
أَحْمد بن مُحَمَّد بن شعْبَان الْعمريّ الْحَنَفِيّ وَأَجَازَ لَهُ جَمِيع مروياته ومؤلفاته الَّتِي من جُمْلَتهَا تشنيف المسمع وَأَجَازَ لَهُ أَيْضا عَليّ بن حسن الشُّرُنْبُلَالِيّ وَمُحَمّد بن محيي الدّين النحريري الحنفيان جَمِيع مَا يجوز لَهما وعنهما وَعمر بن مَنْصُور الْحَنَفِيّ جَمِيع مَا يجوز لَهُ وَالشَّيْخ عبد الله بن بهاء الدّين مُحَمَّد بن جمال الدّين عبد الله بن نور الدّين الطنبغا التركي الشهير نسبه بالعجمي الشنشوري الفرضي الشَّافِعِي الْخَطِيب بالجامع الْأَزْهَر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بِجَمِيعِ مروياته ومؤلفاته وَأَجَازَ لَهُ الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن غَانِم الخزرجي الْمَقْدِسِي ثمَّ الْمصْرِيّ متن الْكَنْز وَسَائِر كتب الْفِقْه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير والتاريخ وَغَيرهَا فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْبكْرِيّ الصديقي سبط آل الْحسن بِجَمِيعِ مَا يجوز لَهُ وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم العلقمي بِجَمِيعِ مروياته وَعبد الرَّحْمَن المسيري الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الذِّئْب جَمِيع مَاله رِوَايَته وَأَبُو النجا سَالم بن مُحَمَّد عز الدّين بن نَاصِر الدّين السنهوري الْمَالِكِي بِجَمِيعِ مروياته وَيحيى الْقرشِي الْأَسدي الزبيرِي الشهير بالقرافي الشَّافِعِي بالصحيحين وَجَمِيع مروياته وَرجع إِلَى صفد ودرس وَأفْتى وناب فِي الْقَضَاء وَألف وَمن تآليفه شرح على ألفية ابْن مَالك وَكتاب فِي الْعرُوض وَله رحْلَة إِلَى الْحَج وَأُخْرَى إِلَى بَيت الْمُقَدّس نظما وَخمْس همزية إِلَّا بوصيري وبرأته وَله غير ذَلِك وَمن شعره قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(من لي بهيفاء لَا أسطيع سلوانا ... عَنْهَا وَفِي دمع عَيْني عين سلوانا)
وَكَانَت وَفَاته بصفد فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمصلى الْعِيدَيْنِ والخالدي نِسْبَة إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد السَّعْدِيّ الْحلَبِي الشهير بِابْن خَليفَة التركي أَخُو الشَّيْخ وَفَاء خَليفَة بني سعد الدّين الجباويين بحلب آلت إِلَيْهِ الْخلَافَة بعد موت أَخِيه الْمَذْكُور فلازم حَلقَة الذّكر بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْجَامِع الْكَبِير بحلب وصبر على مرَارَة الْفَاقَة وَتحمل أَحْوَال المريدين ولازم زاويته لَا يخرج إِلَّا للذّكر غَالِبا ويبذل قراه للواردين وَكَانَ كلما كبر عمره ازْدَادَ خيرا وصلاحا ودينا وفلاحا وَلما كَانَ الشَّيْخ عبد الرَّحِيم يذكر بِالْقربِ مِنْهُ كَانَ إِذا قَامَ الْفُقَرَاء للذّكر أَخذ الْفُقَرَاء وَأبْعد عَن فُقَرَاء الشَّيْخ عبد الرَّحِيم الْخَلِيفَة الثَّانِي للسعديين هربا من الْجِدَال والعداوة بِخِلَاف أَخِيه فَإِنَّهُ كَانَ يقرب من الشَّيْخ عبد الرَّحِيم حكى بعض الثِّقَات الْعُدُول(1/298)
من كراماته أَنه أَمر نَفسه أَن يَأْخُذ على الْحمار حمل حِنْطَة ليطحنها فَطلب النَّقِيب مِنْهُ عثمانيين لأجل اليسقية قَالَ وَالله مَا معي صبرهم فَتوجه النَّقِيب وفم الْعدْل مربوط وَالْحِنْطَة نازلة عِنْد فَم الْعدْل وَعند عقبه حَتَّى يحصل التعادل فَلَمَّا وصل إِلَى اليسقي امْتنع من ترك العثمانيين وَقطع الْحَبل المربوط بِهِ فَم الْعدْل بالخنجر وَالْحِنْطَة متراكمة عِنْد فَم الْعدْل فَلم يسْقط مِنْهَا حَبَّة وَاحِدَة فَضَجَّ اليسقي بالبكاء وَذهب إِلَى الشَّيْخ تَائِبًا خاضعا مُعْتَقدًا ووالده شيخ عَالم شرح البحاري على أساليب مجَالِس الْوَعْظ وَذكر فِيهِ مسَائِل حَسَنَة وفوائد نفيسة وَله تأليف جمع فِيهِ مَنَاقِب شَيْخه سعد الدّين ومناقب أَوْلَاده من بعده وَكَانَت وَفَاته سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بزاوية جده رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَحْمُود الْمَعْرُوف بِابْن الفرفور والفقيه الأديب الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَقَالَ فِي حَقه هُوَ من ذَوي الْحسب والعراقة وأرباب اللسن والطلاقة وآباؤه صُدُور الدُّرُوس وزينة الْأَزْمِنَة والطروس
(جمال ذِي الأَرْض كَانُوا فِي الْحَيَاة وهم ... بعد الْمَمَات جمال الْكتب وَالسير)
قلت وَكَانَ أَحْمد هَذَا وَاسِطَة عقدهم وفذلكة حِسَاب مجدهم كَمَا قَالَ فِيهِ أَبُو بكر بن أَحْمد الْجَوْهَرِي
(أَبنَاء فرفور لقد حازوا العلى ... حَتَّى علوا فِي الْمجد هام الفرقد)
(ورثوا الْفَضَائِل كَابِرًا عَن كَابر ... وَكَمَال ذَلِك بالشهاب الأحمد)
ولد بِدِمَشْق وَقَرَأَ بهَا على عبد الْحق الْحِجَازِي وعَلى غَيره وَكَانَت لَهُ مُشَاركَة جَيِّدَة فِي الْفِقْه وَغَيره ودرس بالقضاعية الشَّافِعِيَّة وَاتفقَ أَن الدَّهْر ضرب على صماخيه بصمام الصمم فَكَانَ ثقل تِلْكَ الحاسة زادته خفَّة فَكَانَ لَا يجْتَمع إِلَّا بِبَعْض إخْوَان الْفَهم وألفوه وخلا بِنَفسِهِ واشتغل بِمَا هُوَ الأهم من أَمر معاشه ومعاده وَكَانَ لَهُ مَا يقوم بِهِ من وقف أجداده وتعاني النّظم وَكَانَ أَكثر مَا يمِيل طبعه إِلَى الأحاجي وَله فِي علمهَا وحلها الْيَد الطولي فَمن أحاجيه الَّتِي نظمها أحجية فِي نهروان كتب بهَا الأديب عبد اللَّطِيف المنقاري وَهِي قَوْله
(يَا من سقى الْفضل مَاء فكرته ... فَمِنْهُ يحيا رَبِيعه الخصب)
(مَا مثل من قَالَ وهوذ وظمأ ... وارى الحنايا لحعفر نصب)(1/299)
فَأَجَابَهُ
(يَا فَاضلا أبرزت قريحته ... أحجية حَال شَأْنهَا عجب)
(يَوْمًا ترَاهَا بالغرب ظَاهِرَة ... وَتارَة للعراق تنتسب)
(مَاء وَلَكِن مَا لجانبه ... حوتان بالنَّار أَصْلهَا حطب)
وَكتب إِلَيْهِ الْمُفْتِي الْعِمَادِيّ من قصيدة قَوْله
(من لي بِظَبْيٍ كحلت ... أجفانه بِالسقمِ)
(يفتر عَن ثغر غَدا ... عذب الثنا ياشبم)
(أجْرى دموعي فِي الْهوى ... كمغد قات الديم)
(وسل سيف لحظه ... وهز قد لهذم)
(واختال فِي ثوب الصِّبَا ... يسحب كل معلم)
(مصائب مَا جمعت ... إِلَّا لقتل المغرم)
(يَا قَاتل الله الْهوى ... بدل دمعي بِالدَّمِ)
(فكم لَهُ فِي خلدي ... سرائر لم تعدم)
فَأَجَابَهُ بقوله
(در سمت بالقيم ... وَسميت بالكلم)
(أم رَوْضَة دَامَت عَلَيْهَا ... هاطلات الديم)
(فلاح مِنْهَا نور ثغر ... نورها المبتسم)
(أم غادة قلبِي كليم ... لحظها المكلم)
(من بيضها وسمرها ... فِي الطرس قتل المغرم)
(حيت فأحيت باللقا ... قلبا إِلَيْهَا قد ظمى)
(لم لَا ومهديها كريم ... للكرام ينتمي)
(أَلْفَاظه كالسحر ... إِلَّا أَنَّهَا لم تحرم)
(مهذب آدابه ... تفوح بَين الْأُمَم)
(كنشر روض قد سرى ... غب حَيا منسجم)
وَكَانَت وِلَادَته فِي صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْخَمِيس حادي عشر الْمحرم سنة سبع وَثَلَاثِينَ بعد الْألف وَدفن بتربتهم الملاصقة لضريح سَيِّدي الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره ورثاه أحمدبن شاهين بقصيدة مطْلعهَا
(بَكَيْت وأضللت الغواء مَعَ الرشد ... لمن عِنْده صبري وأحزانه عِنْدِي)
وَهِي طَوِيلَة إِلَى الْغَايَة فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إيرادها والفرفوري بِضَم الْفَاء بن(1/300)
كَمَا نَقله البوريني من خطّ الشَّمْس بن طولون المؤرخ وَلَا أَدْرِي هَذِه النِّسْبَة لماذا وَالله أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أدريس المنعوت شهَاب الدّين الْحلَبِي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْمَعْرُوف بِابْن قولا قسز الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كَانَ من أجل الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين بسعة الِاطِّلَاع والتبحر تفقه على وَالِده شمس الدّين الْآتِي ذكره وعَلى جدي القَاضِي محب الدّين وَالشَّمْس مُحَمَّد بن هِلَال وَبِه تخرج فِي كِتَابه الأسئلة الْمُتَعَلّقَة بالفتاوي حَتَّى أَنه فاق فِيهَا من تقدمه واشتهر ذكره وَصَارَ مرجعا للنَّاس فِي المشكلات وانتفع بِهِ جمَاعَة كثير مِنْهُم عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد الفرفوري الْمُقدم ذكر أَبِيه والآتي ذكره ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الفارسية وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَمَات فِي تَاسِع شهر ربيع الأول سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من مَزَار بِلَال الحبشي وقولا قسر لَفْظَة تركية مَعْنَاهَا عادم الْأذن وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد بن قولا قسر الَّذِي تولى النِّيَابَة الْكُبْرَى بِدِمَشْق ودرس بالشبليه
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله سميط بن عَليّ الْمَشْهُور بالسنهجي بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن علوي بن الْفَقِيه بن عبد الرَّحْمَن بن علوي بن مُحَمَّد صَاحب مرباط الشهير كسلفه بِابْن سميط اليمني الزَّاهِد صَاحب الْأَحْوَال والكرامات الشهيرة ولد بِمَدِينَة تريم وَصَحب بهَا عُلَمَاء جمة وسلك مَسْلَك آبَائِهِ وحذا حذوهم ثمَّ ارتحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَكَانَ ملازما للطاعات كثير المجاهدة عَظِيم الرياضة إِلَى أَن حصل لَهُ من الآمال مَا لم يخْطر لَهُ على خاطر وَكَانَت تغلب عَلَيْهِ الْأَحْوَال فيضطرب أَقْوَاله وأفعاله وَكَثِيرًا مَا ينشد
(أَلا يَا صَاحب الْخمر ... قتلت النَّاس بالسكر)
(وسكر النَّاس لَا سكرى ... وسكرك قَاطع السكر)
وَكَانَت لَهُ حالات تظهر فِي تِلْكَ الأطوار فتكشف عَن كرامات وخوارق عادات وَقد تستمر بِهِ الْحَال مُدَّة مديدة وأشهرا عديدة واعتقده النَّاس اعتقادا عَظِيما وتوطن آخر عمره ببندر جدة وَلم يزل قاطنا بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وقبره مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن علوي بن أبي بكر الحبشي بن عَليّ بن الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد أَسد الله بن حسن بن عَليّ بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الشهير كسلفه بالحبشي صَاحب الشّعب المشهوره وَأحد الْعلمَاء الْمَشْهُورين بِالْيمن ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ(1/301)
الْقُرْآن وابتدأ التَّحْصِيل وَصَحب أكَابِر عصره وَأخذ عَنْهُم فَمن مشايخه الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين والعارف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو بكر بن عَليّ خرد وَالسَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بن عقيل مذيحج وَالشَّيْخ الإِمَام أَبُو بكر بن سَالم عينات وَكَانَ هُوَ وَالسَّيِّد الْعَظِيم عبد الله بن سَالم كالتو أَمِين وَأخذ كل مِنْهُمَا عَن صَاحبه ورحلا على قدم التَّجْرِيد إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ ابهما وباليمن عَن جمَاعَة كثيرين مِنْهُم الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى تَاج العارفين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ وجاور بالحرمين عدَّة سِنِين وَكَانَت لَهُ مجاهدات ورياضات وَرُبمَا ترك أَلا كل مُدَّة وَكَانَ كثير الصّيام وَالْقِيَام سالكا مَسْلَك الصُّوفِيَّة مواظبا على السّنَن والآداب الشَّرْعِيَّة مَا يعلم بفضيلة الأعمل بهَا وَلَا يسمع بِكَرَاهَة أَلا اجتنبها وَبَلغت شهرته الْآفَاق فهرعت إِلَيْهِ النَّاس وَكَانَ كرمه فَوق الْغَايَة وَكَانَ ورعا يصدع بِالْحَقِّ وَكَانَت لَهُ دعوات مستجابات وَكَانَ يعتني بِكَلَام الشَّيْخ عمر با مخربه وشعره وبشرح الحكم لِابْنِ عباد وَكَانَ يحب القهوة وَيَأْمُر بشربها وَكَانَ يَقُول هَذِه الثَّلَاثَة يَعْنِي كَلَام با مخرمه واللذين بعده من النعم الَّتِي اخْتصَّ بهَا الْمُتَأَخّرُونَ ثمَّ فِي آخر عمره استوطن الحسيسه فَكَانَ ملْجأ للواردين والوافدين إِلَى أَن مَاتَ بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وقبر فِي أَسْفَل الْجَبَل وَبني على قَبره قبَّة عَظِيمَة رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن لُقْمَان بن أَحْمد بن شمس الدّين بن الْمهْدي أَحْمد بن يحيى المرتضى اليمني الإِمَام المبرز فِي جَمِيع الْعُلُوم الكارع من مشارب الفهوم كَانَ من أرأس الْعلمَاء فِي عصره لَهُ مؤلفات مفيدة مِنْهَا شرح الكافل فِي علم الْأُصُول ومرقاة الْأُصُول للْإِمَام الْقَاسِم وَشرح الأساس لَهُ أَيْضا وَكَانَت وَفَاته فجر يَوْم الْخَمِيس تَاسِع رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف دفن بقلعة غمار من جبل دازح
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي الْعَيْش بن مُحَمَّد أَبُو الْعَبَّاس الْمقري التلمساني المولد الْمَالِكِي الْمَذْهَب نزيل فاس ثمَّ الْقَاهِرَة حَافظ الْمغرب جاحظ الْبَيَان وَمن لم ير نَظِيره فِي جودة القريحة وصفاء الذِّهْن وَقُوَّة البديهة وَكَانَ آيَة باهرة فِي علم الْكَلَام وَالتَّفْسِير والْحَدِيث ومعحزاً باهراً فِي الْأَدَب والمحاضرات وَله المؤلفات الشائعة مِنْهَا عرف الطّيب فِي أَخْبَار ابْن الْخَطِيب وَفتح المتعال الَّذِي صنفه فِي أَوْصَاف نعل النَّبِي
وإضاءة الدجنة فِي عقائد أهل السّنة وأزهار الكمامة وأزهار الرياض فِي أَخْبَار القَاضِي عِيَاض وقطف المهتصر فِي أَخْبَار الْمُخْتَصر واتحاف المغري فِي تَكْمِيل شرح الصُّغْرَى وَعرف النشق فِي أَخْبَار دمشق والغث والسمين والرث والثمين وَروض الآس العاطر الأنفاس فِي ذكر من لَقيته من أَعْلَام مراكش وفاس والدر الثمين فِي أَسمَاء الْهَادِي الْأمين وحاشية شرح أم الْبَرَاهِين وَكتاب البدأة والنشأة كُله أدب ونظم وَله رِسَالَة فِي الوفق المخمس الْخَالِي الْوسط وَغير ذَلِك ولد بتلمسان وَنَشَأ بهَا وَحفظ اقرآن وَقَرَأَ وَحصل بهَا على عَمه الشَّيْخ الْجَلِيل الْعَالم أبي عُثْمَان سعيد بن أَحْمد الْمقري مفتي تلمسان سِتِّينَ سنة وَمن جملَة مَا قَرَأَ عَلَيْهِ صَحِيح البُخَارِيّ سبع مَرَّات وَرُوِيَ عَنهُ الْكتب السِّتَّة بِسَنَدِهِ عَن أبي عبد الله التنسي عَن وَالِده حَافظ عصره مُحَمَّد بن عبد الله التنسي عَن الْبَحْر أبي عبد الله بن مَرْزُوق عَن أبي حَيَّان عَن أبي جَعْفَر بن الزبير عَن أبي الرّبيع عَن القَاضِي عِيَاض بأسانيده الْمَذْكُورَة فِي كتاب الشفا وَالْأَحَادِيث المسندة فِي الشِّفَاء جَمِيعهَا سِتُّونَ حَدِيثا أفردها بَعضهم فِي جُزْء من أَرَادَ رِوَايَة الْكتب السِّتَّة من طَرِيقه فليأخذها من كتاب الشفا أَو من الْجُزْء الْمَذْكُور وَكَانَ يخبر عَن بَلْدَة تلمسان أَنَّهَا بَلْدَة عَظِيمَة من أحاسن بِلَاد الْمغرب وَأَنَّهَا فِي يَد العثمانيين سلاطين مملكتنا هِيَ الْحَد الْمَضْرُوب بَين سلطاننا وسلطان الْمغرب ورحل إِلَى فاس مرَّتَيْنِ مرّة سنة تسع بعد الْألف وَمرَّة سنة ثَلَاث عشرَة وَكَانَ يخبر أَنَّهَا دَار الْخلَافَة للمغرب وَكَانَ بهَا الْملك الْأَعْظَم مولَايَ أَحْمد الْمَنْصُور الْمَشْهُور بِالْفَضْلِ وَالْأَدب الْمُقدم ذكره وَأَن الْفَتْوَى صَارَت إِلَيْهِ فِي زَمَنه وَمن بعده لما اختلت أَحْوَال المملكة بِسَبَب أَوْلَاده إِلَى حَدِيث يطول ذكره ارتحل تَارِكًا للمنصب والوطن فِي أَوَاخِر شهر رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين بعد الْألف قَاصِدا حج بَيت الله الْحَرَام وَأنْشد صَاحب مراكش متمثلاً قَول عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْحَضْرَمِيّ
(محبتي تَقْتَضِي مقَامي ... وحالتي تَقْتَضِي الرحيلا)
فَأَجَابَهُ صَاحب مراكش بقوله
(لَا أوحش الله مِنْك قوما ... تعودوا صنعك الجميلا)
قلت وَبَيت الْحَضْرَمِيّ أول أَبْيَات ثَلَاثَة كتب بهَا الْعِزّ الدولة ابْن سقمون وَكَانَ فِي خدمته وَبعده
(هَذَانِ خصمان لست أَقْْضِي ... بَينهمَا خوف أَن أميلا)
(فَلَا يزَالَانِ فِي خصام ... حَتَّى أرى رَأْيك الجميلا)(1/302)
فَوَقع عز الدّين على ورقته الرَّأْي الْجَمِيل أَن تمنع من الرحيل وتسوغ الْإِقَامَة فِي ظلّ دوحة وإحسان غمامه قَالَ الْمقري وَكتب إِلَى الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو الْحسن عَليّ الخزرجي الفاسي الشهير بالشاحي بِمَا كتبه أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن خَاتمه المري المغربي إِلَى بعض أشياخه
(أشمس الغرب حَقًا مَا سمعنَا ... بأنك قد سئمت من الْإِقَامَة)
(وَإنَّك قد عزمت على طُلُوع ... إِلَى شَرق سموت بِهِ علامه)
(لقد زلزلت منا كل قلب ... بِحَق الله لَا تقم الْقِيَامَة)
ثمَّ ورد إِلَى مصر بعد أَدَاء الْحَج فِي رَجَب سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَتزَوج بهَا من السَّادة الوفائية وسكنها وَقد سُئِلَ عَن حَظه بهَا فَقَالَ قد دَخلهَا قبلنَا ابْن الْحَاجِب وَأنْشد فِيهَا قَوْله
(يَا أهل مصر وجدت أَيْدِيكُم ... فِي بذلها بالسخاء منقبضه)
(لما عدمت الْقرى بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه)
وَأنْشد هُوَ لنَفسِهِ
(تركت رسوم عزي فِي بلادي ... وصرت بِمصْر منسي الرسوم)
(وَنَفْسِي عفتها بالذل فِيهَا ... وَقلت لَهَا عَن العلياء صومي)
(ولي عزم كَحَد السَّيْف مَاض ... وَلَكِن اللَّيَالِي من خصومي)
ثمَّ زار بَيت الْمُقَدّس فِي شهر ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وَألف وَرجع إِلَى الْقَاهِرَة وَكرر مِنْهَا الذّهاب إِلَى مَكَّة فَدَخلَهَا بتاريخ سنة سبع وَثَلَاثِينَ خمس مَرَّات وأملى بهَا دروساً عديدة ووفد على طيبَة سبع مَرَّات وأملى الحَدِيث النَّبَوِيّ بمرأى مِنْهُ
ومسمع ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر فِي صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَدخل الْقُدس فِي رَجَب من تِلْكَ السّنة وَأقَام خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ ورد مِنْهَا إِلَى دمشق فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل شعْبَان وأنزلته المغاربة فِي مَكَان لَا يَلِيق بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ أَحْمد بن شاهين مِفْتَاح مدرسة الجقمقية وَكتب مَعَ الْمِفْتَاح هَذِه الأبيات
(كنف الْمقري شَيْخي مقرى ... وَإِلَيْهِ من الزَّمَان مفري)
(كنف المعترى مثل صَدره فِي اتسعا ... وعلوم كالبحر فِي ضمن بَحر)
(أَي بدر قد اطلع الدَّهْر مِنْهُ ... مَلأ الشرق نوره أَي بدر)
(أَحْمد سَيِّدي وشيخي وذخري ... وَسمي ذَاك أشرف فخري)(1/304)
(لَو بِغَيْر الْأَقْدَام يسْعَى مشوق ... جِئْته زَائِرًا على وَجه شكري)
فَأَجَابَهُ الْمقري بقوله
(أَي نظم فِي حسنه حَار فكري ... وتحلى بدره صدر ذكري)
(طَائِر الصيت لِابْنِ شاهين ينمي ... من بروض الندى لَهُ خير ذكر)
(أَحْمد الممتطين ذرْوَة مجد ... لعوان من الْمَعَالِي وَبكر)
(حل مِفْتَاح فَضله بَاب وصل ... من مَعَاني تَعْرِيفه دون نكر)
(يَا بديع الزَّمَان دم فِي ازدياد ... بالعلى وازدياد تجنيس شكر)
وَلما دخل إِلَيْهَا أَعْجَبته فَنقل أَسبَابه إِلَيْهَا واستوطنها مُدَّة إِقَامَته وأملى صَحِيح البُخَارِيّ بالجامع تَحت قبَّة النسْر بعد صَلَاة الصُّبْح وَلما كثر النَّاس بعد أَيَّام خرج إِلَى صحن الْجَامِع تجاه الْقبَّة الْمَعْرُوفَة بالباعونية وحضره غَالب أَعْيَان عُلَمَاء دمشق وَأما الطّلبَة فَلم يتَخَلَّف مِنْهُم أحد وَكَانَ يَوْم خَتمه حافلاً جدا اجْتمع فِيهِ الألوف من النَّاس وعلت الْأَصْوَات بالبكاء فنقلت حَلقَة الدَّرْس إِلَى وسط الصحن إِلَى الْبَاب الَّذِي يوضع فِيهِ الْعلم النَّبَوِيّ فِي الْجُمُعَات من رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وأتى لَهُ بكرسي الْوَعْظ فَصَعدَ عَلَيْهِ وَتكلم بِكَلَام فِي العقائد والْحَدِيث لم يسمع نَظِيره أبدا وَتكلم على تَرْجَمَة البُخَارِيّ وَأنْشد لَهُ بَيْتَيْنِ وَأفَاد أَن لَيْسَ للْبُخَارِيّ غَيرهمَا وهما
(اغتنم فِي الْفَرَاغ فضل رُكُوع ... فَعَسَى أَن يكون موتك بغته)
(كم صَحِيح قد مَاتَ قبل سقيم ... ذهبت نَفسه النفيسة فلته)
قلت وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع نقلا عَن الْحَافِظ ابْن حجر أَنه وَقع للْبُخَارِيّ ذَلِك أَو قريب مِنْهُ وَهَذِه من الغرائب انْتهى وَكَانَت الجلسة من طُلُوع الشَّمْس إِلَى قرب الظّهْر ثمَّ ختم الدَّرْس بِأَبْيَات قَالَهَا حِين ودع الْمُصْطَفى
وَهِي قَوْله
(يَا شَفِيع العصاة أَنْت رجائي ... كَيفَ يخْشَى الرَّجَاء عنْدك خيبه)
(وَإِذا كنت حَاضرا بفؤادي ... غيبَة الْجِسْم عَنْك لَيست بغيبة)
(لَيْسَ بالعيش فِي الْبِلَاد انْقِطَاع ... أطيب الْعَيْش مَا يكون بطيبه)
وَنزل عَن الْكُرْسِيّ فازدحم النَّاس على تَقْبِيل يَده وَكَانَ ذَلِك نَهَار الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى رَمَضَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَلم يتَّفق لغيره من الْعلمَاء الواردين إِلَى دمشق مَا اتّفق لَهُ من الحظوة وإقبال النَّاس وَكَانَ بعد مَا رأى من أَهلهَا مَا رأى كثر الاهتمام بمدحها وَقد عقد فِي كِتَابه عرف الطّيب فصلا يتَعَلَّق بهَا وبأهلها(1/305)
وَأورد فِي مدحها أشعاراً وَمن محَاسِن شعره فِي حَقّهَا قَوْله
(محَاسِن الشَّام جلت ... عَن أَن تقاس بِحَدّ)
(لَوْلَا حمى الشَّرْع قُلْنَا ... وَلم نقف عِنْد حد)
(كَأَنَّهَا معجزات ... مقرونة بالتحدي)
وَقَوله
(قَالَ لي مَا تَقول فِي الشَّام حبر ... شام من بارق العلى مَا شامه)
(قلت مَاذَا أَقُول فِي وصف أَرض ... هِيَ فِي وجنة المحاسن شامة)
وَقَوله
(قل لمن رام النَّوَى عَن وَطن ... قولة لَيْسَ بهَا من حرج)
(فرج الْهم بسكنى جلق ... أَن فِي جلق بَاب الْفرج)
وَجرى بَينه وَبَين أدبائها وعلمائها مطارحات شَتَّى فَمن ذَلِك مَا كتبه إِلَى الشاهيني مَعَ خَاتم ومسبحة أرسلهما لَهُ
(يَا نجل شاهين الَّذِي ... حَاز الْمَعَالِي والمعالم)
(يَا من دمشق بِطيب مَا ... يبديه عاطرة النواسم)
(فالنهر مِنْهَا ذُو صفا ... والزهر مفتر المباسم)
(والغصن يثني عطفه ... طَربا لتغريد الحمائم)
(يَا أَحْمد الْأَوْصَاف يَا ... من حَاز أَنْوَاع المكارم)
(أَنْت الَّذِي طوقتني ... مننا لَهَا تعنو الأعاظم)
(فَمَتَى اؤدي شكرها ... وَالْعجز لي وصف ملازم)
(والعذر بادان بعثت ... إِلَيْك من جنس الرتائم)
(تَسْبِيحَة الذّكر الَّتِي ... جَاءَت بتصحيف ملايم)
(وَنَجَا تمّ دَاع إِلَى ... فيض الندى من كف حَاتِم)
(فامدد على جهد الْمقل ... رواق صفح ذَا دعائم)
(لَا زلت سَابق غَايَة ... بَين الأعارب والأعاجم)
سَيِّدي لَا يخفاك أنني بعثت بهَا رتيمه وَلَو أمكنني لأهديت من الْجَوَاهِر مَا ينوف على قدر الْقيمَة فهما أَعنِي الْخَاتم والمسبحة تذكير ليد العلى بخالص الوداد وَفِي الْمثل لَا كلفة بَين من تثبت بَينهم الألفة حَتَّى فِي الْوَرق والمداد وَالله يبقيك الْبَقَاء الْجَمِيل ويبلغك غَايَة التأميل وَالْعَفو مَطْلُوب وَالله عِنْد مكسرة الْقُلُوب وَهُوَ الْمَسْئُول أَن يحرسكم بِعَين عنايته الَّتِي لَا تنام بجاه من ترقي إِلَى أَعلَى مقَام(1/306)
وَللَّه در الْقَائِل
(هَدِيَّة العَبْد على قدره ... وَالْفضل أَن يقبلهَا السَّيِّد)
(فالعين مَعَ تَعْظِيم مقدارها ... تقبل مَا يهدي لَهَا المرود)
فَكتب إِلَيْهِ الشاهيني قصيدة مطْلعهَا
(يَا سيد اشعري لَهُ ... مَا أَن يقاوي أَو يُقَاوم)
مِنْهَا وَهُوَ مَحل ذكر مَا أهداه إِلَيْهِ
(قد جَاءَ مَا شرفتني ... بخصومه دون الأعاظم)
(من خَاتم كفى بِهِ ... ورثت سُلَيْمَان العزائم)
(وبسبحة شبهتها ... بِالشُّهُبِ فِي أسلاك ناظم)
(فلتحسد الجوزاء مَا ... أحرزت من تِلْكَ المكارم)
(هِيَ آلَة الذّكر لَكِن ... لي ذكرا فِي الحيازم)
(فهواك فِي قلبِي وَمَا ... فِي الْقلب جلّ عَن الرتائم)
(ماذي رتائم سَيِّدي ... بل إِنَّهَا عِنْدِي تمائم)
(لَو أَنَّهَا من جنس مَا ... يطوى غَدَتْ فَوق النعائم)
(لَكِنَّهَا قد زينت ... كفى وأزرت بالخواتم)
وَاتفقَ للمقري مجْلِس فِي دَعْوَة بعض الْأَعْيَان وَكَانَ الْمُفْتِي الْعِمَادِيّ والشاهيني صحبته فِي يتلك الدعْوَة فمس ثلجاً وَقَالَ الماس هَذَا فَأَنْشد الشاهيني مرتجلا
(شَيخنَا الْمقري وَهُوَ النَّاس ... وَالَّذِي بالأنام لَيْسَ يُقَاس)
(مس ثلجاً وَقَالَ الماس هَذَا ... قلت الماس عندنَا الماس)
ثمَّ ارتجل بِآخَرين فِي الثَّلج
(غنيت بالثلج عَن سَوْدَاء حالكة ... من قهوة لم تكن فِي الأعصر الأول)
(وَقلت لما غَدا خلى يعنفني ... فِي طلعة الشَّمْس مَا يُغْنِيك عَن زحل)
فَقَالَ الْعِمَادِيّ
(يَا بردهَا ثلجة جَاءَت على كبد ... حراء من فرقة الأحباب فِي وَجل)
فَقَالَ الْمقري
(تحلو إِذا كررت ذوقاً وَعَادَة مَا ... أُعِيد أَن يلتقي بالكره والملل)
فَقَالَ الْعِمَادِيّ
(لَعَلَّ إعلاله بالثلج ثَانِيَة ... يدب مِنْهَا نسيم الْبرد فِي عللي)
فَقَالَ الْمقري
(إِذا دَعَاني بِمصْر ذكر معهدها ... أجَاب دمعي وَمَا الدَّاعِي سوى طلل)
فَقَالَ الْعِمَادِيّ
(لَو كَانَ فِي مصر مَاء بَارِد لكفى ... عَن الثلوج وَمن للعور بالحول)(1/307)
وَمن شعر الْمقري قَوْله مضمنا مَعَ الِاكْتِفَاء والتورية
(لم أنس يَوْمًا للنواعير بِهِ ... فِي نهر فاس شجن هاج الجوى)
(فَقلت إِذْ ذَكرنِي معاهدا ... لله مَا قد هجب يَا يَوْم النَّوَى)
والمصراع الثَّانِي ضمنه من مَقْصُورَة حَازِم وَبعده
(على فؤاد من بتاريخ الجوى ... )
وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع نقلا عَن خطّ الْمقري قَالَ أَنْشدني صاحبنا الْعَلامَة البليغ النَّاظِم الناثر القَاضِي مُحَمَّد المنوفي لبَعض من قَصده الدَّهْر بسهامه وَلم يجد صبرا لإشكال صبره وانبهامه قَوْله
(وأخفيت صبري سَاعَة بعد سَاعَة ... وَلَكِن عَيْني فِي الْأَحَايِين تَدْمَع)
فَقلت مضمنا وَفِيه لُزُوم مَا لَا يلْزم
(وقائلة مَالِي رَأَيْتُك ذَا شجى ... وَلم يَك قدما فِيك للشجو مطمع)
(فَقلت أصابتني من الدَّهْر عينه ... وخالفت ذَا نصح لَهُ كنت أسمع)
(فَقَالَت تصبروا كتم الْأَمر تسترح ... وَلَا تسأمن فالخير فِي ذَاك أجمع)
(فَقلت لَهَا أرشدت من لَيْسَ جَاهِلا ... وأنشدتها والحي للسير أزمعوا)
(وأخفيت صبري سَاعَة بعد سَاعَة ... وَلَكِن عَيْني فِي الْأَحَايِين تَدْمَع)
قَالَ وَكَانَ شيخ مَشَايِخنَا القَاضِي الْأَجَل سَيِّدي عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الونشريسي التلمساني الأَصْل قَاضِي قُضَاة فاس المحروسة نظم بَيْتا ورمز فِيهِ للمواضع الَّتِي لَا يُصَلِّي فِيهَا على النَّبِي
فَقَالَ
(على عَاتِقي حملت ذَنْب جوارح ... تعبت بهَا وَالله للذنب غَافِر)
وَهَذَا بَيَان مَا رمز على التَّرْتِيب عطاس عبره حمام ذبح جماع تعجب بيع فَقلت إِن قَوْله وَالله للذنب غَافِر لَا مَحل لَهُ فِي الرَّمْز مَعَ أَنه بقيت أَشْيَاء أخر لَو جعلت مَكَان هَذَا الْكَلَام لَكَانَ أحسن وَأَيْضًا فَإِن بَيته لَيْسَ فِيهِ مَا يفهم مِنْهُ مُرَاده فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك وطأت لَهُ بِبَيْت صرحت فِيهِ بالمراد وأبدلت قَوْله وَالله للذنب غَافِر بالرمز لما أغفله قلت وَالْفضل بالتقدم لَهُ
(ينزه ذكر الْمُصْطَفى فِي مَوَاضِع ... لَهَا رمز أَلْفَاظ تبدي شمولها)
(على عَاتِقي حملت ذَنْب جوارح ... تعبت بهَا قد أثقلتني حمولها)
رمزت للقذر وَالْأكل وحاجة الْإِنْسَان لما يُقَال أَن الْحَاجة تدخل فِي قَوْله حملت لأَنا نقُول أَنه كرر فِي قَوْله على عَاتِقي وَذَلِكَ يدل على أَنه لَا يَكْتَفِي بِاللَّفْظِ الْوَاحِد(1/308)
ثمَّ ظهر لي بعد مَا تقدم أَن قولي ينزه إِلَى آخِره لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِعَدَمِ الصَّلَاة عَلَيْهِ
فَقلت بدله
(صَلَاة على الْمُخْتَار ردع فِي مَوَاضِع ... لَهَا رمز أَلْفَاظ تبدي شمولها)
(عَلَيْك بإكثار الصَّلَاة على الَّذِي ... رسَالَته لِلْخلقِ باد شمولها)
(ودعها بِعشر قلت فِي رمز عدهَا ... كلَاما عيوني زَاد مِنْهُ همولها)
(على عَاتِقي حملت ذَنْب جوارح ... تعبت بهَا قد أثقلتني حمولها)
وَمن املائه لبَعض فضلاء دمشق أَنه قَالَ حكى أَن أفلاطون كتب إِلَى بقراط قبل أَن يتَعَلَّم مِنْهُ إِنِّي أَسأَلك عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء أَن أجبْت عَنْهَا تلمذت لَك فَكتب إِلَيْهِ بقراط سل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فَكتب إِلَيْهِ أَخْبرنِي من أَحَق النَّاس بِالرَّحْمَةِ وَمَتى يضيع أَمر النَّاس وَمَا تتلقى بِهِ النِّعْمَة من الله فَكتب إِلَيْهِ بقراط أما أَحَق النَّاس بِالرَّحْمَةِ فَثَلَاثَة البريكون فِي سُلْطَان فَاجر فَهُوَ الدَّهْر حَزِين لما يرى وَيسمع والعاقل فِي تَدْبِير الْجَاهِل فَهُوَ الدَّهْر مُتْعب مغموم والكريم يحْتَاج إِلَى اللَّئِيم فَهُوَ الدَّهْر خاضع دَلِيل وَأما تَضْييع أُمُور النَّاس فَإِذا كَانَ الرَّأْي عِنْد من لَا يقبل مِنْهُ وَالسِّلَاح عِنْد من لَا يَسْتَعْمِلهُ وَالْمَال عِنْد من لَا يُنْفِقهُ وَأما مَا بِهِ تتلقى النِّعْمَة من الله فبكثرة الشُّكْر وَلُزُوم طَاعَته وَاجْتنَاب مَعْصِيَته فَأقبل إِلَيْهِ أفلاطون وَصَارَ تلميذا لَهُ إِلَى أَن مَاتَ قَالَ الْمقري وَقد نظمت هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب فِي قولي
(أرسل أفلاطون وَهُوَ الَّذِي ... قد مَا سما فِي النَّاس بالحكمة)
(لشيخه بقراط من قبل أَن ... بِكَوْن مِمَّن قد حوى علمه)
(أَن أَنْت حققت جوابي على ... ثَلَاثَة محضتك الْخدمَة)
(وَكنت تلميذا مقرابما ... تسديه من علم وَمن حرمه)
(فَقَالَ بَينهَا فَقَالَ اكشفن ... عَمَّن أَحَق النَّاس بِالرَّحْمَةِ)
(وَعَن أُمُور النَّاس أوضح مَتى ... تضيع واستقبالنا النِّعْمَة)
(من رَبنَا سُبْحَانَهُ مَا الَّذِي ... بِهِ تلقى فاشرح الْقِسْمَة)
(فَقَالَ بقراط أَحَق الورى ... برحمة يَا موفي الذِّمَّة)
(ذُو الْعقل فِي تَدْبِير ذِي الْجَهْل لَا ... يبرح طول الدَّهْر فِي غمه)
(والبران أضحى بسُلْطَان من ... فجوره عَم الورى نقمه)
(بحزنه مَا يسمع أَو مَا يرى ... مِنْهُ لِأَن الظُّلم ذُو ظلمَة)(1/309)
(كَذَا كريم النَّفس ذُو حَاجَة ... إِلَى لئيم سَاقِط الهمه)
(يَغْدُو ذليلا خاضعا خَاشِعًا ... لَهُ وناهيك بذا وصمه)
(فاسأل من الرَّحْمَن سُبْحَانَهُ ... عَن الثَّلَاث الْحِفْظ والعصمة)
(وَذي ثَلَاث أَن تكن فِي الورى ... ضَاعَت أُمُور النَّاس فِي مهمه)
(المَال فِي كف امْرِئ مُمْسك ... لَهُ يرى أنفاقه ثلمه)
(والرأي أَن كَانَ لَدَى من أَبَوا ... مِنْهُ قبولا وأبوا خرمه)
(وَذُو سلَاح لَيْسَ مُسْتَعْملا ... وَله وَلم يكْسب لَهُ حشمه)
(وَذي ثَلَاث غَيرهَا أوضحت ... عَمَّا بِهِ تسْتَقْبل النِّعْمَة)
(ترك العباسي وَلُزُوم التقى ... وَكَثْرَة الشُّكْر فصن نظمه)
وَذكر فِي بعض محاضراته أَن لِسَان الدّين بن الْخَطِيب ذكر فِي الكنبة الكامنة فِي أَبنَاء الثَّامِنَة جَوَابا عَن الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين وهما قَوْله
(كسرت لما قد قلت قلبِي ... وَلم تضفه إِلَى فلَان)
(مَا يملك المستهام قلبا ... يَا ظَالِم اللَّفْظ والمعاني)
قَالَ والبيتان المشهوران اللَّذَان هتان وَجَوَاب عَنْهُمَا هما قَول الْقَائِل
(يَا سَاكِنا قلبِي الْمَعْنى ... وَلَيْسَ فِيهِ سواهُ ثَانِي)
(لاي معنى كسرت قلبِي ... وَمَا التقى فِيهِ ساكنان)
وَرَأَيْت لبَعْضهِم جَوَابا عَنْهُمَا وَقد أَجَاد إِلَى الْغَايَة بقوله
(سكنته وَهُوَ ذُو سُكُون ... لم يثنه عَن هواي ثَانِي)
(فَكَانَ كسْرَى لَهُ قِيَاسا ... لما التقى فِيهِ ساكنان)
وَأجَاب الْمقري بقوله
(نحلتني طَائِعا فُؤَادِي ... فَصَارَ إِذْ حزنه مَكَاني)
(لَا غروان لي مُضَافا ... إِنِّي على الْكسر فِيهِ باني)
قلت وَذكر الخفاجي فِي تَرْجَمَة أَحْمد بن الجيعان أَنه ذكر هَذَا السُّؤَال فِي بَيْتَيْنِ وَقَالَ إِذا التقى ساكنان كسر أَحدهمَا لَا مَحلهمَا وَكَون المُرَاد بِالْمحل الْكَلِمَة الَّتِي فِيهَا ذَلِك فَإِنَّهُ إِذا كسر أَحدهمَا كَانَت مَبْنِيَّة على الْكسر كأمس لَا تحتمله البلاغة قَالَ فَقلت لَهُ هَذَا مِمَّا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَأحسن مِنْهُ قولي فِي هَذَا الْمَعْنى
(إِن ذَا الدَّهْر لَا يزَال يرى ... جمع شَمل الْكِرَام مُمْتَنعا)
(فَهُوَ حتما محرك أبدا ... أحد الساكنين مَا اجْتمعَا)(1/310)
ولسان الدّين بن الْخَطِيب هُوَ الَّذِي ألف صَاحب التَّرْجَمَة كِتَابه عرف الطّيب فِي أخباره وَمن غَرِيب خَبره وَالْأَيَّام ترى الْغَرِيب من أفعالها وَتسمع العجيب من أحوالها أَنه رَحل من غرناطة وَدخل إِلَى مَدِينَة فاس فَبَالغ سلطانها فِي إكرامه فَتمكن مِنْهُ أعداؤه بالأندلس وأثبتوا عَلَيْهِ كَلِمَات منسوبة إِلَى الزندقة تكلم بهَا فسجل القَاضِي بِثُبُوت زندقته وَحكم بإراقة دَمه وَأرْسل بِهِ إِلَى سُلْطَان فاس فسجن بهَا وَدخل إِلَيْهِ بعض الأوغاد السجْن وَقَتله خنقاً وَأخذ جوَار مِنْهُ فدفنت فَأصْبح غدْوَة دَفنه طريحاً على شَفير قَبره وَقد ألقيت عَلَيْهِ الأحطاب وأضرمت فِيهَا النَّار فَاحْتَرَقَ شعره واسودت بَشرته ثمَّ أُعِيد إِلَى حفرته وَكَانَ ذَلِك سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَمن أعجب مَا وَقع لَهُ أَنه كَانَ نظم هَذَا الْمَقْطُوع وَهُوَ
(قف لترى مغرب شمس الضُّحَى ... بَين صَلَاة الْعَصْر وَالْمغْرب)
(واسترحم الله قَتِيلا بهَا ... كَانَ إِمَام الْعَصْر فِي الْمغرب)
فاتفق أَنه قتل بَين هَاتين الصَّلَاتَيْنِ فَالْمُرَاد من شمس الضُّحَى نَفسه وَقَوله واسترحم الله قَتِيلا بهَا مَعْنَاهُ اسْأَل الله رَحْمَة للقتيل بشمس الضُّحَى فضمير بهَا عَائِد إِلَى شمس الضُّحَى على سَبِيل الِاسْتِخْدَام وكلا الْمَعْنيين مجازي وَقد أطلنا الْكَلَام حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمقَام فلنرجع إِلَى الْغَرَض من ذكر بَقِيَّة خبر الْمقري فَنَقُول وَكَانَت إِقَامَته بِدِمَشْق دون الْأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ رَحل مِنْهَا فِي خَامِس شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ إِلَى مصر وَعَاد إِلَى دمشق مرّة ثَانِيَة فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة اربعين وَحصل لَهُ من الْإِكْرَام مَا صَحِلَ فِي قَدمته الأولى وَحين فَارقهَا أنْشد قَوْله
(إِن شام قلبِي عَنْك بارق سلوة ... يَا شام كنت كمن يخون ويغدر)
(كم راحل عَنْهَا لفرط ضَرُورَة ... وعَلى الْقَرار بغَيْرهَا لَا يقدر)
(متصاعدا لزفرات مكلوم الحشا ... والدمع من أجفانه يتحدر)
وَدخل مصر وَاسْتقر بهَا مُدَّة يسيرَة ثمَّ طلق زَوجته الوفائية وَأَرَادَ الْعود إِلَى دمشق للتوطن بهَا ففاجأه الْحمام قبل نيل المرام وَكَانَت وَفَاته فِي جمادي الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة المجاورين وَقَالَ الأديب إِبْرَاهِيم الأكرمي فِي تَارِيخ وَفَاته
(قد ختم الْفضل بِهِ ... فأرخوه خَاتم)
والمقري بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الْقَاف وَآخِرهَا رَاء مُهْملَة وَقيل بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف لُغَتَانِ أشهرهما الأولى نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى تلمسان وإليها نِسْبَة آبَائِهِ
أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان القَاضِي شهَاب الدّين بن نَاصِر الدّين الأسطواني الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ رَئِيس الْكتاب بمحكمة الْبَاب كَانَ كَاتبا بارعاً تَامّ الْمعرفَة حسن الْخط وافر الضَّبْط قَرَأَ وَحصل فِي مباديه ثمَّ صَار كَاتبا للصكوك بالمحكمة الْكُبْرَى وَبعد مُدَّة نقل إِلَى الْبَاب وَصَارَ رَئِيس كتابها وانحصرت فِيهِ أمورها وَكَانَ يُرَاجع فِي المهام وَهُوَ فِي حد ذَاته من المتفوقين فِي صَنعته بري الساحة مِمَّا يدنسه كَامِل الْعرض حسن السمت وَخَلفه ابْنه حسن وَكَانَ على سمته وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْبَيْت فِي دمشق مَعْرُوف بالرؤساء الأجلاء وَلَهُم قدم ووجاهة وَاجْتنَاب للمكاره وَكَانَت وِلَادَته سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي عشرى الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الملقب شهَاب الدّين بن شمس الدّين بن نور الدّين الْمَعْرُوف بالغنيمي الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ الإِمَام الْعَلامَة الْحجَّة خَاتِمَة الْمُحَقِّقين الْمشَار إِلَيْهِم بِالنّظرِ الصائب ولطائف التَّحْرِير ودقة النّظر وَهُوَ أجل الشُّيُوخ الَّذين انفردوا فِي عصرهم فِي علم الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وتبحروا فِي الْعُلُوم الدقيقة والفنون العويصة حَتَّى استخرجوها بِالنّظرِ الدَّقِيق والفكر الغامض وَكَانَ أَولا شافعيا حضر الجلة من مَشَايِخ الشَّافِعِيَّة وأتقن الْمَذْهَب ودرس فِيهِ ثمَّ إِنَّه لما صَار إِلَى الْبِلَاد الرومية وَأخذ بعض التداريس الْحَنَفِيَّة وَكَانَ ذَلِك بِالْمَدْرَسَةِ الأشرفية الَّتِي بصحراء مصر صَار حنفيا قَالَ مَدين القوصوني وَمِمَّا كتب لنا بِخَطِّهِ بعد الطّلب وَأما تَارِيخ مولدِي فَلَا أتحققه لَكِن أذكر مَا فِيهِ تقريب لَهُ وَهُوَ أَنِّي أدْركْت قتل مَحْمُود باشا وَكنت إِذْ ذَاك صَغِير بالمكتب أتهجى وَلما شاع الْخَبَر بقتْله جَاءَنِي عمي أَبُو بكر وحملني على كتفه وَذهب بِي إِلَى الْبَيْت خشيَة عَليّ وَلَا يخفى أَن تَارِيخ قَتله بالجمل عظه بالظاء المشالة وَأما مشايخي فهم شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد الرَّمْلِيّ وعارف الْوَقْت سَيِّدي مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي حَضرته فِي غَالب الشفا للْقَاضِي عِيَاض بِقِرَاءَة الشَّيْخ الْفَاضِل صفي الدّين الْغَزِّي عَلَيْهِ وَحين خَتمه استجاز فَقَالَ أجزتم رَضِي الله عَنْكُم لمن قَرَأَهُ أَو سَمعه أَو شَيْئا مِنْهُ أَن يرويهِ وَجَمِيع مَا يجوز لكم وعنكم رِوَايَته فَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور نعم وَأهل الْعَصْر وحضرته أَيْضا فِي الشمايل ودرس التَّفْسِير والتصوف وَغير ذَلِك وَمِنْهُم شيخ الْإِسْلَام نجم الدّين الغيطي بِقِرَاءَة الشَّيْخ سَالم السنهوري الْمَالِكِي وَغَيره وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا مَشْغُولًا(1/311)
بِحِفْظ الْقُرْآن وَمِنْهُم الشَّيْخ يُوسُف جمال الدّين بن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ اجْتمعت بِهِ مبركاً وحضرته مرّة أَو مرَّتَيْنِ بقراء الْعم جمال الشَّيْخ جمال الدّين عَلَيْهِ فِي الحَدِيث وَمِنْهُم عَالم الْحَنَفِيَّة الْعَلامَة الفهامة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي حَضرته فِي المطول مَعَ حَاشِيَة الفنري وَمِنْهُم الشَّيْخ الفهامة المتقن إِبْرَاهِيم العلقمي لازمته زَمَانا كثيرا فِي يالبخاري وَغَيره وَمِنْهُم الشَّيْخ الْعَلامَة الفهامة فريد عصره ووحيد دهره أَحْمد بن قَاسم الْعَبَّادِيّ أخذت عَنهُ الْعَرَبيَّة بقرَاءَته ألفية ابْن مَالك مرَّتَيْنِ فِي دَاخل مَقْصُورَة الْجَامِع الْأَزْهَر بَين الْمغرب وَالْعشَاء وأصول الْفِقْه جمع الْجَوَامِع غالبه فِي الدَّرْس الْعَام وَمِنْهُم رَفِيقه فِي الِاشْتِغَال الْعَلامَة الشَّيْخ يُوسُف النَّحْوِيّ وَمِنْهُم شيخ الْإِسْلَام عَليّ نور الدّين الزيَادي وَمِنْهُم الشَّيْخَانِ العالمان العاملان الشَّيْخ مُحَمَّد الخفاجي وَالشَّيْخ أَبُو بكر الشنواني وَمِنْهُم الفهامة الشَّيْخ صَالح البُلْقِينِيّ وَمِنْهُم الْعَالم الشَّيْخ مُحَمَّد النحراوي وَمِنْهُم الشَّيْخ عبد الله السندي نزيل مَكَّة أخذت عَنهُ رِسَالَة الاستعارات وغالب شرحها للْمولى عِصَام الدّين وَبَينه وَبَين عِصَام الدّين شيخ وَاحِد وَمِنْهُم شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد البهنسي شَارِح البُخَارِيّ وَغَيره وَمِنْهُم الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الْحق السنباطي وَمِنْهُم الشَّيْخ نور الدّين العسيلي وَمِنْهُم الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو نصر الطبلاوي وَأما مؤلفاتي فَهِيَ أقل من أَن تذكر بَين مؤلفات الْمُحَقِّقين الْأَعْلَام لَكِن رَأَيْت من الْأَدَب حسن الِامْتِثَال فَمِنْهَا وَهِي أجلهَا حَاشِيَة على مُقَدّمَة الامام مُحَمَّد اسنوسي الْمُسَمَّاة بِأم الْبَرَاهِين فِي أصُول الدّين جَاءَت فِي نَحْو تسعين كراسة صَغِيرَة وَلم تكمل وَمِنْهَا شرح مُقَدّمَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراوي فِي علم الْعَرَبيَّة قَالَ وَقد تعبت فِي شرحها لعدم ألفها وغريب صنعها ألزمني فِي ذَلِك بعض الاخوان وَمِنْهَا رِسَالَة فِي أَن الله سُبْحَانَهُ قديم الذَّات وَالزَّمَان ردا على من اعْترض علينا فِي خطْبَة حاشيتنا على أم البرهين حَيْثُ قُلْنَا فِيهَا ذَلِك وَهِي مفيدة عزيزة وَمِنْهَا رِسَالَة فِي تَحْرِير النّسَب الْأَرْبَع مَعَ نقائضها الْمَذْكُورَة فِي أَوَائِل الْمنطق وَمنا رِسَالَة فِي شرح الأبيات الْمَشْهُورَة الَّتِي اولها
(مَا وحد الْوَاحِد من وَاحِد ... إِذْ كل من وَحده جَاحد)
(تَوْحِيد من ينْطق عَن نَعته ... عَارِية أبطلها الْوَاحِد)
(توحيده إِيَّاه توحيده ... ونعت من يَنْعَتهُ لأحد)
واعتذرت فِي عدم الْكِتَابَة عَلَيْهَا بِأَنِّي لست من فرسَان هَذَا الميدان فالزمت أَن(1/313)
أكتب عَلَيْهَا على مُقْتَضى ظَاهر اللَّفْظ فَإِنَّهَا أرْسلت إِلَيْنَا من الصَّعِيد بالخصوص وَمِنْهَا رِسَالَة تتَعَلَّق بالخضر عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَنه نَبِي أَو ولي وَفِي نسبه وَغير ذَلِك مَعَ عدم الْوُقُوف على رِسَالَة الْجلَال السُّيُوطِيّ وَغَيره فِيهِ وَمِنْهَا رِسَالَة فِي مبَاحث مُتَفَرِّقَة قلت وَرَأَيْت فِي بعض التَّعَالِيق أَنه رَحل إِلَى الرّوم فتحول حنفيا بِأَمْر مولى من موَالِي الرّوم وحظى ثمَّة حظوة لم يحظها أحد فِي عصره من الْعَرَب وَالروم وَأعْطى الْمدَارِس الْعلية بِمصْر والوظائف والمعاليم ثمَّ عَاد إِلَى مصر من طَرِيق الْبَحْر إِلَى أَن وصل إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة فانكسر الْمركب وضاعت جَمِيع أَسبَابه وَكتبه إِلَّا كتابا وَاحِدًا كَانَ بِيَدِهِ فَخرج بِهِ من الْمركب ثمَّ سرق مِنْهُ وَبَقِي صفر الْيَدَيْنِ ثمَّ أرسل إِلَى مفتي الرّوم وعرفه بِجَمِيعِ مَا حصل لَهُ فَعوضهُ عَن بعض ذَلِك وجدد لَهُ مراسيم بمدارسه ووظائفه وَاسْتمرّ بِمصْر وَعرض لَهُ فِي آخر عمره ثقل فِي سَمعه حَتَّى توفّي بِهِ وَقد انْتفع بِهِ أجلاء الْعلمَاء وَمِمَّنْ لَازمه سِنِين عديدة الْعَلَاء الشبراملسي وَكَانَ لَا يفتر عَن ذكره وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ مَاتَ الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول بعده وَرَأَيْت بِخَط بعض الأخوان أَن لَهُ تآليف زَائِدَة على مَا ذكر مِنْهَا كتاب ابتهاج الصُّدُور فِي بَيَان كَيْفيَّة الْإِضَافَة والتثنية وَالْجمع للمنقوص والممدود والمقصور وَكتاب إرشاد الطلاب إِلَى لفظ بَاب الْإِعْرَاب قلت وَهَذَا شرح الشعرانية فِي علم الْعَرَبيَّة وَله حَاشِيَة على شرح الاستعارات للْمولى عِصَام وحاشية على شرح أيسا غوجي للْقَاضِي زَكَرِيَّاء وَله حواش نفيسة على طرر كتبه جرد مِنْهَا فِي حَال حَيَاته وَبعد مماته مِنْهَا مَا كتبه على شرح عقائد النَّسَفِيّ للتفتازاني وَمَا كتبه على شرح جمع الْجَوَامِع للمحلي وَمَا كتبه على شرح الأزهرية للشَّيْخ خَالِد وَغير ذَلِك من الرسائل المقبولة وَكَانَ الشبراملسي يَقُول من رأى دروس الغنيمي وَتَقْرِيره ودقة نظره لَا يجوز نِسْبَة هَذِه التآليف الَّتِي ألفها إِلَيْهِ لِأَن مقَامه أجل مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا فِي غَايَة الدقة وَحسن الصِّنَاعَة وَمِمَّا ظَفرت بِهِ من تحريراته مَا كتبه على عبارَة القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ عِنْد قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} حَيْثُ قَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَهَذَا من عطف الْخَاص على الْعَام للْمُبَالَغَة إِلَّا أَن يحض الْعَمَل بِمَا يكون مَقْصُورا على كَمَاله انْتهى قَالَ الغنيمي الضَّمِير فِي كَمَاله يرجع إِلَى الْإِنْسَان وَهُوَ الظَّاهِر الْمُتَبَادر إِلَّا أَن يحض الْعَمَل الْمَفْهُوم من قَوْله {وَعمِلُوا الصَّالِحَات} بِعَمَل يكون ذَلِك الْعَمَل مَقْصُورا على كَمَال الْإِنْسَان نَفسه لَا يتجاوزه إِلَى غَيره وَحِينَئِذٍ لَا يكون(1/314)
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ عطف الْخَاص لِأَن التواصي لَيْسَ مَقْصُورا على كَمَال الْإِنْسَان نَفسه بل يتجاوزه إِلَى الْغَيْر وَيُمكن رُجُوع الضَّمِير إِلَى الْعَمَل وَيكون ذَلِك من قصر الجزئي على مَا للكلى فَالْمُرَاد من قَوْله وَعمِلُوا الصَّالِحَات الْأَعْمَال الْكَامِلَة إِمَّا لتبادرها عِنْد الاطلاق أَو من العنوان عَنْهَا بالصالحات مَعَ الْمقَام أَو غير ذَلِك فَقَوله وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ شَامِل للكاملة وَغَيرهَا وَيجوز أَن يكون مَا فِي قَوْله بِمَا يكون وَاقعَة على الدَّلِيل الْمُخَصّص أَلا أَن يخص الْعَمَل بِدَلِيل يكون مَقْصُورا على كَمَال الْعَمَل بِأَن يدل عَلَيْهِ انْتهى وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة والغنيمي نِسْبَة إِلَى جده الشَّيْخ غنيم المدفون بالشرقية ويتصل نسبه إِلَى سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد البقاعي العرعاني نزيل دمشق الْفَقِيه الْمُحدث الشَّافِعِي الْمَذْهَب المعمر كَانَ من أجلاء الْعلمَاء لَهُ الشُّهْرَة التَّامَّة فِي الحَدِيث وَالرِّوَايَة أَخذ بِالشَّام عَن شيخ الْإِسْلَام الْبَدْر الْغَزِّي وَغَيره ورحل إِلَى مصر والحرمين فِي طلب الحَدِيث وَأخذ عَن الجلة من علمائها كالنجم الغيطي وَالشَّيْخ جمال الدّين بن القَاضِي زَكَرِيَّاء وَأبي النَّصْر الطبلاوي والاستاذ الْكَبِير مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ وَالشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ والنور عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ والعارف بِاللَّه عبد الْوَهَّاب الشعراوي وَأبي النجا سَالم السنهوري الْمَالِكِي وَالشَّيْخ العمريطي وبمكة عَن ابْن حجر الْمَكِّيّ وَغَيرهم وَرجع إِلَى دمشق وَكَانَ يجلس فِي الزاوية الغزالية يدرس ويقري وانتفع بِهِ خلق كثير وَكَانَ دينا خيرا مَقْبُول الرِّوَايَة ذكره الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ فِي مشيخته وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَهُوَ من جملَة من روى عَنهُ وَأَخْبرنِي وَلَده أَبُو بكر وَهُوَ الْآن فِي الاحياء أَن ولادَة وَالِده كَانَت فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف والعرعاني بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَبعدهَا ألف وَنون نِسْبَة إِلَى عرعان قَرْيَة بالبقاع العزيزي
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد الْهَادِي بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ عَليّ اليمني الْمُفْتِي أَخذ عَن وَالِده وعميه الشَّيْخ شهَاب الدّين وَأبي بكر عدَّة عُلُوم مِنْهَا التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والنحو والتصوف وَأخذ عَن شيخ الاسلام عبد الله بن شيخ وَولده زين العابدين العيدروس وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَغَيرهم ثمَّ ارتحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بهما عَن جمَاعَة مِنْهُم الْعَارِف(1/315)
بِاللَّه تَعَالَى أَحْمد عَلان وَشَيخ الاسلام السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم الْبَصْرِيّ ولازمه مُلَازمَة تَامَّة حَتَّى تخرج بِهِ وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وزوجه بنته وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي وَالشَّيْخ أَحْمد الْخَطِيب وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْبري الْمَالِكِي الْمدنِي وَالشَّيْخ عبد الْملك العصامي وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَغَيرهم من أهل الْحَرَمَيْنِ وَلبس الْخِرْقَة من جمع كثير وأذنوا لَهُ بالالباس وأجازوه بالافتاء والتدريس فَجَلَسَ للاقراء بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَكَانَ لَهُ اعتناء بِكِتَاب احياء عُلُوم الدّين فَأَقْرَأهُ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام سِتّ مَرَّات وقرأه على وَالِده أَربع مَرَّات على شَيْخه عبد الله بن شيخ العيدروس أَربع مَرَّات وَرُبمَا قَرَأَ فِي التَّفْسِير وحضره جم وافر وَكَانَ طلق اللِّسَان متدرعاً جِلْبَاب الطَّاعَة عَاملا بِعِلْمِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ وفهمه مواظباً على السّنَن النَّبَوِيَّة كثير التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ ملازماً للذّكر مَعَ غَايَة من الزّهْد والقناعة وَكَانَ شَدِيد الانكار يثب على الْمُنكر كَأَنَّهُ صَاحب ثأر لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَلَا تَأْخُذهُ رأفة فِي دين الله وَإِذا حضر مَجْلِسا احتاط الْحَاضِرُونَ فِي ستر الْمُنْكَرَات والمتهجنات وَحكي أَنه دخل على بعض أَرْبَاب الدولة وَعِنْده من يضْرب بالآلة فأسكت المسمعين وَوعظ الْحَاضِرين وَأمرهمْ بِالتَّوْبَةِ وَكَانَ لطيف المعاشرة حسن المذاكرة لَهُ كرامات كَثِيرَة مِنْهَا أَنه دَعَا لجَماعَة من أَصْحَابه بمطالب دينية ودنيوية فنالوها ببركة دُعَائِهِ وَمِنْهَا أَن بعض أَصْحَابه اعتراه وسواس شديدحتى اتّفق لَهُ أَنه كَانَ فِي الطّواف فتخيل لَهُ أَنه خرج مِنْهُ بَوْل فأسرع بِالْخرُوجِ من الْمَسْجِد خشيَة تلويثه ثمَّ نظر إِلَى ثَوْبه فَلم يجد بللاً وَشك فِي وضوئِهِ وطهارة ثَوْبه وتعب تعباً شَدِيدا فَمر بِهِ صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالة فتلعق بِهِ وألزمه بِالدُّعَاءِ لَهُ فِي رفع تِلْكَ الوسوسة فَدَعَا لَهُ فأذهبها الله عَنهُ من حِينَئِذٍ وَكَانَ يحب الْفُقَرَاء والضعفاء ويكرمهم وَتخرج بِهِ جمَاعَة فِي عدَّة عُلُوم لَا سِيمَا التصوف وألبس الْخِرْقَة لجَماعَة وَلم يزل على حَالَته إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بالمعلاة عِنْد قُبُور السَّادة الْأَشْرَاف بني علوي وقبره مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالزريابي الدِّمَشْقِي الْمَالِكِي قَاضِي الْمَالِكِيَّة وفقيههم بِدِمَشْق كَانَ من الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين والنبلاء المعروفين نَشأ بِدِمَشْق وَقَرَأَ على الْعَلامَة عمر بن مُحَمَّد الفاري وَالشَّيْخ تَاج الدّين المقرءوني ثمَّ رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وتفقه على الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأخذ عَنهُ بَقِيَّة الْعُلُوم وَأخذ من غَيره وَمكث ثَمَان(1/316)
سِنِين وَعَاد إِلَى دمشق وَولي إِفْتَاء الْمَالِكِيَّة وَالْقَضَاء بمحكمة الْبَاب عَن وَالِده وَذَلِكَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف ودرس بِالْمَدْرَسَةِ اليونسية بعد وَفَاة الْعَلامَة مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ الحزرمي الْبَصِير الْآتِي ذكره سنة سِتّ وَأَرْبَعين ثمَّ فِي أَوَاخِر سنة تسع وَأَرْبَعين شرع فِي عمَارَة الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره الْعَزِيز وَانْقطع هُنَاكَ وَصرف مَالا جزيلاً وَكَانَ صَاحب ثروة وأجرى مَاء للشباك قبالة الضريح وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله لما عمر الْعِمَارَة الْمَذْكُورَة
(قد شاده خويدم الأعتاب ... أَحْمد ذَاك الْمَالِكِي بِالْبَابِ)
(فِي رَأس خمسين وَألف تتلو ... من هِجْرَة النَّبِي وَالْأَصْحَاب)
وَقَوله يمدح الشَّيْخ أرسلان
(رسْلَان يَا كَهْف لَدَى دَرك المنى ... وغياثنا وملادنا وَالْمطلب)
(وَإِذا ألم بك الزَّمَان بنائب ... فانهض إِلَيْهِ فَهُوَ باز أَشهب)
وَقَوله أَيْضا فِيهِ
(أرسلان قد أظمأت نفسا تعشقت ... بحب إِلَه الْعَالمين تعشقا)
(وأرويت مذ أرويت زند ولَايَة ... واسقيت أهل الشَّام كاسا مرّة وقا)
وَكَانَت وِلَادَته سنة إِحْدَى وَألف وَتُوفِّي فِي سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الحسني الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب الْحلَبِي الأديب المفنن البارع الْمَشْهُور ذكره البديعي فِي ذكرى حبيب فَقَالَ فِي حَقه عنوان الْفضل وبسملة كِتَابه وَفصل خطابه وفذلكة حسابه وسهام كِنَانَته ودلاص عيابه ورواء الشَّهْبَاء فخامة وجلالاً ووسامة وإقبالاً وَقد جمع الله لَهُ أَسبَاب السَّعَادَة كَمَا قصر عَلَيْهِ أدوات السِّيَادَة وَهُوَ فِي اقتناء السودد فريد وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد ومنزلته فِي النّظم رفيعة وطريقته فِي النثير بديعة ينظم فينثر الدُّرَر وينثر فينظم الْغرَر وحاشيته على الدُّرَر تشهد بِأَن الواني وابي وحبرية أثر فِي نَفسه وبراعته برهَان حق على مين مان فكم نمقت أفكاره فِي غلس الديجور مَا هُوَ أوقع فِي النُّفُوس من حور الْحور وقيدت بسلاسل السطور شوارد يقتبس مِنْهَا مشكاة الْهدى والنور وَهُوَ الْآن للأدب وأصوله وأنوعه وفصوله إِمَام أئمته وَمَالك أزمته ويروى غليل الإفهام سلسال تَقْرِيره وتحلى أجياد الأقلام عُقُود تحريره انْتهى قلت وَقد(1/317)
رَأَيْت خَبره معصلا فِي بعض مَا كتبه إِلَى السَّيِّد عبد الله الْحِجَازِي رَحمَه الله تَعَالَى من تراجم الحلبيين قَالَ ولد بحلب وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن الْعَلامَة عمر العرضي وَغَيره وتأدب بإبراهيم بن المنلا وبرع ورحل إِلَى قسطنطينية وَولي الْقَضَاء بُرْهَة ثمَّ تقاعد عَن رُتْبَة الْقُدس وَولي نِيَابَة الْقَضَاء بحلب وَكَانَ لَهُ إحاطة تَامَّة بأنواع الْفُنُون وَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة من مشاهير فضلاء حلب وَبِه انتفعوا وَألف حَاشِيَة على الْفُنُون وَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة من مشاهير فضلاء حلب وَبِه انتفعوا وَألف حَاشِيَة على الدُّرَر وَالْغرر فِي الْفِقْه وأجاد فِيهَا جدا واطلعت أناله على تحريرات كَثِيرَة تدل على دقة نظره وغزارة فَضله أما شعره ونثره فاليهما النِّهَايَة فِي الْحسن فَمن شعره قَوْله من قصيدة
(سقى الله عَيْشًا مر فِي زمن الصِّبَا ... وحياه عني بالعبير نسيم)
(ودهراً بقسطينية قد قطعته ... إِذا السعد عبد لي بهَا وخديم)
(بِلَاد هِيَ الدُّنْيَا إِذا مَا قطنتها ... فَوجه الْأَمَانِي مُسْفِر ووشيم)
(وَمَا هِيَ الا جنَّة الْخلد بهجة ... وَمَا غَيرهَا إِلَّا لظى وجحيم)
(فكم فِي مغانيها قضيت لبانة ... وزالت عَن الْقلب الكليم هموم)
(وَقرب أبي أَيُّوب كم رَوْضَة إِذا ... حللت بهَا يَوْمًا فلست تريم)
(تَقول إِذا شاهدت عالي قُصُورهَا ... أهذي جنان زخرفت ونعيم)
(جرى مَاؤُهَا كالسلسبيل فمثلها ... إِذا مَا تذكرت الْبِقَاع عديم)
(كستها الغوادي حلَّة سندسية ... وَأهْدى شذاها للنفوس شميم)
(وبالسفح سفح الطوبخانة أَربع ... لَهَا النسْر فِي جو السَّمَاء نديم)
(تلوح بهَا الغيد الصَّباح كَأَنَّمَا ... علوا وإشراقا تلوح نُجُوم)
(يقابلها ذَاك الخليج بصفحة ... كَأَن لَهَا متن السَّمَاء خديم)
(ترى السفن فِيهَا جاريات كَأَنَّهَا ... جِيَاد فَمِنْهَا سَابق ولطيم)
(وَعند الحصارين المنيعين جيرة ... حَدِيث علاهم فِي الْأَنَام قديم)
(عجبت لأيامي بهم كَيفَ لم تدم ... وَهل دَامَ شَيْء غَيرهَا فتدوم)
وَكتب لبَعض الكبراء مَعَ قطاع من الصيني أهداها لَهُ قَوْله
(إِن قصر الدَّاعِي وَأهْدى بِلَا ... روية محتقرا نزرا)
(من عمل الصين قطاعا أَتَت ... لَا تسْتَحقّ الْوَصْف والذكرا)
(فاعذر فقد أهْدى إِلَيْك الثنا ... عقد انظيما يخجل الْبَدْر)(1/318)
وَكتب مَعَ أُخْرَى يعتذرا عَن هَدِيَّة قَوْله
(وهديت الْيَسِير فانعم وقابل ... نزره بِالْقبُولِ والامتنان)
(فَلَو أَن العيوق وَالشَّمْس والبدر ... مَعَ الفرقدين فِي إمكاني)
(كنت أَهْدَيْتهَا وقدمت عذرا ... وَرَأَيْت الْقُصُور مَعَ ذَاك شاني)
وَقَالَ من فصل وَهُوَ مِمَّا يخْتَار لِلْكَاتِبِ مَعَ الْهَدَايَا قد جرت الْعَادة بمهاداة الخدم للسادة رَجَاء أَن يجددوا لَهُم ذكرا وَإِن كَانَت الْهَدِيَّة شَيْئا نزرا وَلَهُم فِي ذَلِك أُسْوَة بالسحاب إِذا أهْدى الْقطر إِلَى تيار الْبَحْر وبالنسيم إِذا أهْدى النشر إِلَى حديقة الزهر وَله من قصيدة يُخَاطب بهَا صديقا لَهُ
(تَزُول الرواسِي عَن مقرّ رسومها ... وودي على الْأَيَّام لَيْسَ يَزُول)
(وَلست بِمن يرضيه من أهل وده ... خَفِي وداد فِي الْفُؤَاد دخيل)
(إِذا لم يكن فِي ظَاهر الْمَرْء شَاهد ... على سره فالود مِنْهُ عليل)
(أأرضى بود فِي الْفُؤَاد مغيب ... وَلَيْسَ إِلَى علم الغيوب سَبِيل)
(وَأَقْبل عَن هجري اعتذار مزينا ... تمحلته أَنِّي إِذا لجهول)
(لعمرك قد حركت مَا كَانَ سَاكِنا ... وعلمتني بِالْغَيْبِ كَيفَ أصُول)
وَكتب إِلَى العلامك البوسنوي يودعه حِين توجه إِلَى الرّوم من حلب من غير عزل وأقامه مقَامه
(ركابك مقرون بعز وإقبال ... وسيرك مَيْمُون بطالعك العالي)
(رحلت فأضرمت الْقُلُوب بجمرة ... وكل مَا أوريت من حرهَا صالي)
(وغادرتنا حلف التأسف والأسى ... نبيت بآلام وتغدو بأوجال)
(إِذا مَا تذكرنا زَمَانك وَالَّذِي ... جنيناه فِيهِ من جنى كل إفضال)
(تمزق درع الصَّبْر عَنَّا تلهفا ... عَلَيْهِ وَلم نَبْرَح رهائن بلبال)
(فَمَا أَنْت إِلَّا الْغَيْث نخصب إِن دنا ... ونجدب إِمَّا هم عَنَّا بترحال)
(وَقد كَانَت الشَّهْبَاء لما حللتها ... تجر مروط الْعِزّ ناعمة البال)
(وتفخر إعجابا وَمَا ذَاك بِدعَة ... فكم من عرين نَالَ فخرا بريبال)
(فَصَارَت وَقد أَعرَضت عَنْهَا خلية ... عَن الْعدْل والانصاف فِي أسوء الْحَال)
(كَانَ أمرأ الْقَيْس انتحاها بقوله ... أَلا عَم صباحا أَيهَا الطلل الْبَالِي)
وَقَالَ يُخَاطب بعض أَصْحَابه بقوله(1/319)
(رويدك شَأْن الدَّهْر أَن يتغيرا ... وشمته أَنا مَا صفا أَن يكدرا)
(وعادته الشعاء فِي النَّاس أَنه ... إِذا جَاءَ بالبشرى تحول منذرا)
(فَلَا بؤسه يبْقى وَأما نعيمه ... فكالطيف إِذْ تَلقاهُ فِي سنه الكرا)
(فَلَا تَكُ مَسْرُورا إِذا كَانَ مُقبلا ... وَلَا تَكُ حزونا إِذا هُوَ أدبرا)
(فَأَي دجى هم دهاك وَلم تَجِد ... صبا حَاله بالبشر وأفاك مُسْفِرًا)
(وَقد هزلت أيامنا فَلَو أَنَّهَا ... أتتنا بجد كَانَ للهزل مظْهرا)
وَمِنْهَا
(وَلَيْسَ بِعَيْب الْبَدْر فقدان نوره ... إِذا كَانَ بعد الْفَقْد يظْهر مقمرا)
وَكتب إِلَى بعض الموَالِي يودعه
(أمامك التَّوْفِيق والرشد ... وخدنك التأييد والسعد)
(وَكلما حليت فِي منزل ... قابلك الاقبال وَالْجد)
(رحلت عَن ثهبائنا فانزوى ... الْفضل بهَا وانطمس الْمجد)
(من بعد مَا أجريت عدلا بهَا ... فِيهِ تساوى الْحر وَالْعَبْد)
(فَكُن مثل الشَّمْس ماشانها ... بِالنورِ إِلَّا الاعين الرمد)
(فَكنت مثل الْورْد مَا زرتنا ... حَتَّى ترحلت كَذَا الْورْد)
(لَا بل كريعان الصِّبَا سرنا ... حينا وَلَكِن ساءنا الْفَقْد)
(فَاذْهَبْ فَأَنت الْغَيْث مَا حل فِي ... منزلَة الاله خمد)
وَله وَهُوَ فِي غَايَة الْجَوْدَة
(لدواة داعيكم مداد شَاب من ... جور الزَّمَان وَقد رثت لمصابه)
(فَأَتَت تؤمل فَضلكُمْ وتروم من ... إحسانكم تَجْدِيد شرخ شبابه)
وَكتب صدر رِسَالَة
(أَيهَا الْفَاضِل الَّذِي خصّه الله ... من الْفضل والحجى بلبابه)
(إِن شوقي إِلَيْك لَيْسَ بشوق ... يُمكن الْمَرْء شَرحه فِي كِتَابه)
وَكتب إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد العرضي قبل توجهه إِلَى الرّوم
(مَا زلت محسوداً على أيامكم ... حَتَّى غَدَوْت ببعدكم مرحوما)
(وَمن البلية قبل توديعي لكم ... أَصبَحت رزقا للنوى مقسوما)
فَأَجَابَهُ وَكَانَ محموما
(وافي الْكتاب وَكنت قبل وُرُوده ... من خوف ذكر فراقكم محموما)(1/320)
(هَذَا ولي أَمر بصرفة عزمكم ... عَنهُ فَكيف إِذا غَدا محتوما)
وَله
(إِن شوقي يحل عَن أَن يُؤَدِّي ... بعض أَوْصَافه لِسَان اليراع)
وَكتب لمن أَعَارَهُ مجموعا
(مولَايَ هَب أَن الْمُحب فُؤَاده ... هبة مسلمة بِغَيْر رُجُوع)
(فاقنع فديتك بالفؤاد تفضلا ... وانعم وَلَا تتبعه بالمجموع)
قلت مِمَّا يُنَاسب هَذَا الْمَضْمُون وَيحسن موقعه عِنْده فِي المماطلة بِمَجْمُوع أَن الصَّدْر تَاج الدّين أَحْمد بن الْأَمِير الْكَاتِب اسْتعَار مجموعا من مُجَاهِد الدّين بن شقير وَأطَال مطله بِهِ فاتفق يَوْمًا أَن حضر إِلَى ديوَان المكاتبات فَقَالَ لَهُ ابْن الْأَمِير كَيفَ أَنْت يَا مُجَاهِد الدّين وَالله قلبِي وخاطري عنْدك فَقَالَ لَهُ وَالله وَأَنا محمو عي عنْدك فطرب لَهُ الْحَاضِرُونَ وَمن رباعيات ابْن النَّقِيب قَوْله
(يَا من اخْتَرْت لي حبيباً قبله ... يَا من صيرت حسنه لي قبله)
(روحي لَك قد أَخَذتهَا خَالِصَة ... فَاجْعَلْ ثمن الْمَبِيع مِنْهَا قبله)
وَلما انْتقل أَخُوهُ بالوفاة كتب إِلَى أبي الْوَفَاء العرضي وَكَانَ أُصِيب بولديه قَوْله
(رزء ألم وحسرة تتوالى ... ومصيبة قد جرت الأذيالا)
(وجليل خطب لَو تكلّف حمله ... ثهلان ذُو الهضبات دك ومالا)
(وفراق الف إِن أردْت تصبرا ... عَنهُ أردْت من الزَّمَان محالا)
(وغروب عين لَيْسَ تفتر دَائِما ... عَن سكب رقراق الدُّمُوع سجالا)
(بعد الدَّهْر شَأْنه أَن لَا يرى ... إِلَّا خؤونا غادرا محتالا)
(نغتر فِيهِ بالسلامة بُرْهَة ... ونرى الْمَآل تمحقا وزوالا)
(ويعيرنا ثوب الشبيبة ثمَّ لم ... يبرح بِهِ حَتَّى يرى أسمالا)
(قبحت يَا وَجه الزَّمَان فَلَا أرى ... لَك بعد أَن فقد الْجمال جمالا)
(ذَاك الَّذِي قد كَانَ قُرَّة ناظري ... وقرار قلبِي بل وَأعظم حَالا)
(قد كنت أَرْجُو أَن يُؤَخر يَوْمه ... عني وَيحمل بعدِي إِلَّا ثقالا)
(وَيَذُوق مَا قد ذقته لفراقه ... ويمارس الْأَهْوَال والأوجالا)
(فتطاولت أَيدي الْمنية نَحوه ... وَبقيت فَردا أندب الأطلالا)
(كُنَّا كغصني بانة قطع الردى ... منا الأغض إِلَّا رطب الميالا)
(أَو كاليدين لذات شخص وَاحِد ... كَانَ الْيَمين لَهَا وَكنت شمالا)(1/321)
(أسفى عَلَيْهِ شمس فضل عوجلت ... بكسوفها وعماد مجد مَالا)
(لَا كَانَ يَوْمًا حسم فِيهِ فراقنا ... فَلَقَد أَطَالَ الْحزن والبابالا)
(فبقى ضريحا صله صوب الحيا ... فِي كل وَقت لَا يغيب وصالا)
وَمِنْهَا
(هَيْهَات من لي بالرثاء وفقده ... لم يبْق فِي بَقِيَّة ومجالا)
(أفحمتني يَا رزأه من بَعْدَمَا ... كنت الفصيح المصقع القوالا)
(من لي بطبع اللوذعي أبي الوفا ... ذَاك الَّذِي بِالسحرِ جَاءَ حَلَالا)
(مولى إِذا وعظ الْأَنَام رَأَيْته ... يلقى على كل امْرِئ زلزالا)
(بزواجر لَو أَنه استقصى بهَا ... أهل الضلال لما رَأَيْت ضلالا)
(مولَايَ يَا صدر الزَّمَان وَمن غَدا ... لِبَنِيهِ غوثا يرتجى وثمالا)
(ذِي نفثة المصدور قد سرحتها ... لحماك تَشْكُو بثها إدلالا)
(أَن الْمُصِيبَة ناسبت مَا بَيْننَا ... إِذْ حولت بحلولها إِلَّا حوالا)
(فثكلت مخدومين كل مِنْهُمَا ... قد كَانَ فِي أفق السُّعُود هلالا)
(لَو أمهلا مَلأ الْعُيُون محاسنا ... وَكَذَا الْقُلُوب مهابة وكمالا)
(ولكان هَذَا للمعالي نَاظرا ... ولكان هَذَا فِي طلاها خالا)
(خطفتهما أَيدي الْمنون وغادرت ... مَاء الْعُيُون عَلَيْهِمَا هطالا)
فَأَجَابَهُ بقصيدة مِنْهَا
(لهفي على بدر تَكَامل بَعْدَمَا ... قد سَار فِي ذَاك الْكَمَال هلالا)
(أعظم بِهِ رزأ أتاح مضائبا ... فت القوب ومزق الأوصالا)
(مَا كنت أعلم قبل حمل سَرِيره ... أَن الرِّجَال تسير إِلَّا جبالا)
(وَعَجِبت للبحر الْمُحِيط بحفرة ... هَل غَابَ حَقًا أَو أرَاهُ خيالا)
(يَا دافنيه من الْحيَاء تقنعوا ... غيبتم شمس الْغَدَاة ضلالا)
(عهدي الْغَمَام حجابها مَالِي أرى ... أضحى الْحجاب جناد لَا ورمالا)
وَكتب إِلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْن قَوْله
(خطب بِقرب دونه الآجالا ... ويمزق الأحشاء والأوصالا)
(فدع الجفون تجود إِن نضبت ... سحائب دمعها فِيهِ دَمًا هطالا)
(أفلت نُجُوم الْفضل من فلك العلى ... ووهي ثبير المكرمات ومالا)
(فقدت أولو الْأَلْبَاب الْمجد الَّذِي ... عدموا بفقد حَيَاته الإقبالا)(1/322)
(فقدوا حَلِيف الْفضل من بِكَمَالِهِ ... وحجاه كُنَّا نضرب الأمثالا)
(من شَاءَ للعلياء يسع فَإِن من ... كَانَت لَهُ بالْأَمْس ملكا زَالا)
وَمِنْهَا
(اعزز عَليّ بِأَن أرى رب ... الفصاحة والبلاغة لَا يُجيب سؤالا)
(مَا كنت أعلم قبل يَوْم وَفَاته ... أَن الْكَوَاكِب تسكن الأرمالا)
(مَا كنت أَحسب أَن أرى من قبله ... للشمس من قبل الزَّوَال زوالا)
وَمِنْهَا
(صبرا على مَا نالني فِي يَوْمه ... كالصبر مِنْهُ بِهِ على مَا نالا)
(مَلأ الْقُلُوب من الأسى ولطالما ... مَلأ الْعُيُون مهابة وجلالا)
(لَوْلَا أَخُوهُ أَبُو الْفَضَائِل أَحْمد ... لرأيت أندية العلى أطلالا)
(الْكَامِل الفطن الَّذِي عزماته ... أَن صال تلقاها ظبا ونصالا)
وَمِنْهَا
(مَا رام بدر التم مثل كَمَاله ... إِلَّا وصيره المحاق هلالا)
(مولَايَ يَا ابْن الرشدين وَمن لَهُم ... شرف على هام السماك تَعَالَى)
(صبرا فَإِن الدَّهْر من عاداته ... يدني النَّوَى ويحول الأحوالا)
وَقد اقتفى أثر الشريف الرضي فِي قصيدته الَّتِي رثى بهَا الصاحب ابْن عباد ومطلعها
(أكذا الْمنون تقطر الأبطالا ... أكذا الزَّمَان يضعضع الأجيالا)
وَهِي طَوِيلَة جدا فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إيرادها وَلابْن النَّقِيب غضة الشغوف مِنْهَا قولة حَضْرَة تقلدت أَعْنَاق الرِّجَال بقلائد نعمها وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها وسعت أفكار بني الْآدَاب بَين صفا منثورها ومروة منظومها لَا بَرحت الْأَيَّام باسمة الثغر بمعاليها والأنام حَالية النَّحْر بأياديها وَكَقَوْلِه وَهُوَ صدر الدُّنْيَا وركن الْعليا وواسطة عقد وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَوَاحِد هَذَا النَّوْع الانساني من الاحياء دَعْوَى لَا يدْخل بينتها وهم ونتيجة لَا يشين مقدماتها عقم فَإِن من كل صدر بني هَاشم وشنب ثغرهم الباسم وهم فِي الرّفْعَة والمنعة كَانَ أجل مَوْجُود وَأعظم من فِي الْوُجُود وَكَقَوْلِه قسما بِمن جعل محَاسِن الدُّنْيَا فِي تِلْكَ الذَّات محصوره وَأَسْبَاب الْعليا على مُلَازمَة عتباتها مقصوره أَن عقد عبوديتي عقد لَا تتطاول إِلَيْهِ الْأَيَّام بِفَسْخ وعهد مودتي عهد لَا تتوصل إِلَيْهِ الْحَوَادِث بنسخ وَكَيف يفْسخ وَصورته فِي الْجنان مجلوه أم كَيفَ ينْسَخ وسورته فِي كل حِين بِاللِّسَانِ متلوه ولعمري مهما نسيت فَإِنِّي لَا أنسى أيامي فِي خدمتها والتقاطي الدّرّ من مذاكرتها وَمَا كَانَ بَيْننَا من(1/323)
المصافاة الَّتِي هِيَ مصافاة المَاء مَعَ الراح وَمَا يجْرِي بَيْننَا من الْمُفَاوضَة الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَة مُفَاوَضَة الْورْد مَعَ التفاح وعَلى كل حَال فَلَا عوض لنا عَنْهَا إِلَى مَا تنقله الركْبَان من اخبار سلامتها وَمَا تودعه فِي صدفة آذاننا من جَوَاهِر آثَار عدالتها لَا جرم أَنه كلما تعطرت مجالسنا بِشَيْء من ذَلِك دَعونَا الله عز وَجل فِيمَا هُنَالك بِأَن يزِيد بَاعَ عدلها امتدادا وشعاع فَضلهَا سطوعا وازدياد وَأَن يبلغهَا أقْصَى مَا تطمح إِلَيْهِ عين طامحة أَو تجنح نَحْو نفس جانحة هَذَا والمتوقع من كرمها كَمَا هُوَ المألوف من شيمها أَن لَا تخرجنا من ضميرها الْمُنِير وَأَن تعدنا فِي جَرِيدَة من يلوذ بمقامها الخطير وَالله تَعَالَى يبْقى لنا تِلْكَ الذَّات سامية الركاب عالية القباب فِي رفْعَة دونهَا قاب الْعقَاب وَبِالْجُمْلَةِ فمحاسن هَذَا السَّيِّد كَثِيره وأشعاره ومنشآته غزريرة فلنكتف بِهَذَا الْمِقْدَار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَخمسين وَألف وعمره ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة حَتَّى أَنه كَانَ يَقُول فِي مرض مَوته أَحْمد وَاقعَة الْحَال رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد بن مُحَمَّد بن نعْمَان بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالأيجي الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ كَانَ فَاضلا كَامِلا سخياً سليم الصَّدْر صافي المشرب نَشأ بِدِمَشْق وَقَرَأَ على أَبِيه وَغَيره وَكَانَ شافعياً على مَذْهَب وَالِده ثمَّ تحنف وَتزَوج بابنة نقيب الْأَشْرَاف السَّيِّد مُحَمَّد بن حَمْزَة وجاءه مِنْهَا أَوْلَاد وَتَوَلَّى النيابات بنواحي دمشق ومحاكمها وَصَارَ قَاضِي الركب الشَّامي وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا ولازم من بعض الموَالِي ودرس بدار الحَدِيث الأحمدية الكائنة بالمشهد الشَّرْقِي من الجاامع الْأمَوِي وَقبل مَوته بأيام صَارَت لَهُ رُتْبَة الدَّاخِل المتعارفة الْآن عِنْد أهل دمشق تبعا لأهل الرّوم ونفذت كَلمته وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة ثَانِي عيد النَّحْر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير والأيجي بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَبعدهَا جِيم نِسْبَة إِلَى ايج بَلْدَة بالعجم قدم مِنْهَا جده أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وتوطن دمشق وَكَانَ من اجلاء الْعلمَاء وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة فِي الْكَوَاكِب السائرة للنجم الْغَزِّي وَسَيَأْتِي فِي كتَابنَا ابْنه نعْمَان وَابْن ابْنه مُحَمَّد وَالِد أَحْمد وَيحيى أَخُو أَحْمد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن مُوسَى بن أبي بكر صَاحب الْخَال الْأَكْبَر ابْن مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُلْطَان العارفين أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ صَاحب اللِّحْيَة ابْن حُسَيْن بن ملكاي بن عقيل بن حُسَيْن بن طللة بن عَليّ بن أَحْمد بن حُسَيْن ابْن عمر بن أَحْمد بن جِبْرِيل بن عبد الرَّحْمَن بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن حسن بن(1/324)
أبي بكر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّاء بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن جِبْرِيل بن مُحَمَّد بن جِبْرِيل بن مُحَمَّد بن سراج الدّين بن حَامِد بن عبد الله بن صَالح بن أَحْمد بن حُسَيْن بن زين العابدين ابْن مُسلم بن عقيل بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم الْمَعْرُوف بِصَاحِب الْخَال كَبِير اللِّحْيَة وصدرها وَشَيخ المعارف والعلوم ومعدن العوارف والفهوم الامام الْفَقِيه الْجَلِيل الْمُنْفَرد فِي عصره بعلوم الدّين وَالْولَايَة وَكَانَ قَاضِي اللِّحْيَة ومرجعها الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول وَله الْكَلِمَة النافذة وَالْقَبُول التَّام والتمسك من التَّقْوَى بِسَبَب أقوى وجلالته ومهابته وخشيته من الله تَعَالَى مِمَّا اشْتهر وبهر ذكره الشلي فِيمَا أعلم ثمَّ رَأَيْت الْأَخ الْفَاضِل الشَّيْخ مصطفى بن فتح الله الْحَمَوِيّ الأَصْل ثمَّ الدِّمَشْقِي نزيل مَكَّة قد تَرْجمهُ وَذكر أَن وِلَادَته كَانَت فِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن والارشاد وعدة متون فِي جملَة فنون وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين مِنْهُم الْفَقِيه رَضِي الدّين بن أبي بكر الْقمرِي وَأَبُو الْخَيْر مُحَمَّد بن شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن حجر الهيثمي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ عَلان الصديقي وَعنهُ جمع من أَعْيَان الأفاضل وَكثير من الْعلمَاء مِنْهُم ولداه مُحَمَّد وَأَبُو بكر وَله مؤلفات مِنْهَا منظومة فِي الْحساب ومنظومة فِي أَسمَاء الصَّحَابَة الَّذين روى عَنْهُم البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس عشر رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف باللحية وَدفن بِقرب تربة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي المقبول صَاحب الْقَضِيب ابْن أَحْمد بن مُوسَى قدس الله سره الْعَزِيز
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَسدي الشَّافِعِي الْمَكِّيّ من فضلاء الزَّمَان وظرفائه ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وَأخذ عَن وَالِده عدَّة عُلُوم وَأخذ عَن الشَّمْس مُحَمَّد بن عَلان والامام عَليّ ابْن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد الطَّائِفِي وَغَيرهم وتصدر للإقراء بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وانتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَ كثير الْعِبَادَة محبا للعزلة ونظم شذور الذَّهَب لِابْنِ هِشَام فِي أرجوزة سَمَّاهَا قلائد النحور بنظم الشذور وَله أشعار كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله متغزلا وَهُوَ أسلوب لطيف الْموقع حسن التأدية
(دع المدامة يَعْلُو فَوْقهَا الحبب ... رضَا بِهِ وثناياه لنا أرب)
(نزه فُؤَادك عَن رَاح الكؤس وَخذ ... رَاحا من الثغر عَنْهَا يعجز الْعِنَب)
(شتان بَين حَلَال طيب عذب ... وحامص يزدريه الْعقل وَالْأَدب)
(إِذا تغزلت فِي خمر وَفِي قدح ... فَمَا مرادي إِلَّا الثغر الشنب)
(لله در مدام بت أرشفها ... من فِي غزال إِلَى الأتراك ينتسب)(1/325)
(مهند اللحظ زنجي السوالف لم ... تحو الَّذِي قد حواه الْعَجم وَالْعرب)
(قَالَت مباسمه للبرق حَتَّى سرى ... لقد حكيت وَلَكِن فاتك الشنب)
(وَبت أشدو على الْغُصْن الرطيب لذا ... بيني وَبَيْنك يَا ورق الْحمى نسب)
(يَقُول لما رأى دمعي جرى ذَهَبا ... يَا مطلبا لَيْسَ لي فِي غَيره أرب)
(تبت يدا عاذلي عَمَّن أعوذه ... بِالنَّاسِ من نافث أَو غَاسِق يقب)
(إِن الْمحرم سلواني لطلعته ... فَقل لشعبان عني إِنَّنِي رَجَب)
(كَيفَ السلو وعيني كلما نظرت ... لوامع الْبَرْق قَالَت زَالَت الْحجب)
وَقَوله من قصيدة يمتدح بهَا شَيْخه الإِمَام عَليّ بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ ويستجيزه
(من أَيْن للبدر جُزْء من محياك ... أم للصباح نصيب من ثناياك)
(والبدر يزريه مَا يعلوه من كلف ... وَالصُّبْح يَكْفِيهِ أَن يَدعِي بأفاك)
(وَهل حوى الكاس مَا يحويه ثغرك من ... نفائس لم ينلها غير مسواك)
(قد غره عِنْد مَا يعلوه من حبب ... قَول الَّذِي قَالَ إِلَّا خلته فَاك)
(أَنْت البريئة من نقص تشان بِهِ ... حاشاك من وصمة حاشاك حاشاك)
(كل المحاسن فِي مرآك قد جمعت ... فجل من بحلى الْحسن حلاك)
(من علم الظبى أَن يرنو بناظره ... وَعلم الْغُصْن أَن يَهْتَز الاك)
(وَالْبيض من لحظك الفتان راوية ... والسمر تنقل مَا ترويه عطفاك)
(يَا كعبة الْحسن بل يَا ركن كعبته ... تبَارك الله من أنشا وَسوَاك)
(رقى لصب فَقير من تصبره ... بِحَق من بكنوز الْحسن أَغْنَاك)
(مني عَلَيْهِ بوصل بَات يرقبه ... فطرفه ساهر من صَار يهواك)
(أَقْسَمت بِالْمِيم من طائي مبسمها ... وَنون حَاجِب ذَاك النَّاظر الشاكي)
(أَن لَا مليح سواهَا فَهِيَ وَاحِدَة ... وَمَالهَا فِي البها شبه وَلَا حاكي)
(أملي العذول سلوى وَهُوَ مؤتفك ... وعنك شنع هجري بعد أَمْلَاك)
(كَيفَ السلو وقلبي مَا لَهُ شغل ... إِلَّا التفكر فِي تَحْقِيق معناك)
(نعم بِحَضْرَة ذِي الآلاء قدوتنا ... رب المكارم مَوْلَانَا ومولاك)
وَقَالَ فِي مليح اسْمه بِلَال
(ومليح تَكَامل الْحسن فِيهِ ... لشفاء الْمُحب سمى بِلَالًا)
(كلما رام مِنْهُ نيل وصال ... لَا ترَاهُ يُجيب إِلَّا بِلَالًا)(1/326)
واشعاره كلهَا من هَذَا النمط مستعذبة لَطِيفَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بالشبيكة والأسدي نِسْبَة إِلَى أَسد بن عَامر أحد الْفُقَهَاء الْعَامِرِيين والأسديون كَثِيرُونَ بِالْيمن مَشْهُورُونَ بِالْعلمِ وَالصَّلَاح مِنْهُم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ الْأَسدي الْمَعْرُوف بالبلاع صَاحب الكرامات الْمَشْهُورَة وَكَانَ يلقب بالمعمر لِأَنَّهُ عمر مائَة وَثَمَانِينَ سنة على مَا قيل وأصلهم من قَبيلَة يُقَال لَهُم آل خَالِد سكنهم بنواحي جازان قَرْيَة بِأَرْض الْيمن قلت جازان أَصْلهَا جوزان بِفَتْح الْجِيم وَالزَّاي وجازان لُغَة عامية هَكَذَا رَأَيْت فِي بعض التغاليق وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالقلعي الْحِمصِي المولد الدِّمَشْقِي الدَّار الْفَقِيه الْحَنَفِيّ أحد مَشَايِخ دمشق المتصدرين للتدريس والنفع كَانَ إِمَامًا عَالما متبحراً فِي الْفِقْه مقدما فِي مَعْرفَته وإتقانه وَكَانَ لَهُ إِلْمَام بِغَيْرِهِ من الْعُلُوم وَكَانَ النَّاس يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ ويقتبسون مِنْهُ وَكَانَ حسن التَّعْلِيم جيد التفهيم وَنَفسه مُبَارَكًا انْتفع بِهِ خلق كثير وَأجل من قَرَأَ عَلَيْهِ شَيخنَا مُحَقّق الْعَصْر إِبْرَاهِيم بن مَنْصُور الفتال الْمُقدم ذكره وَسمعت مِنْهُ الثَّنَاء عَلَيْهِ بِالْعلمِ وَالتَّقوى مرَارًا وَذكره وَالِدي المرحوم فِي تَارِيخه وَقَالَ قدم مَعَ وَالِده إِلَى دمشق وَكَانَ صَغِيرا وَبَلغنِي أَن وَالِده توفّي فَجْأَة وهم داخلون إِلَى دمشق بِالْقربِ من مَسْجِد الأقصاب قبل أَن يصلوا وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع منجك وَدفن بمقبرة الفراديس وَاسْتمرّ أَحْمد هَذَا بِدِمَشْق وَقَرَأَ ودأب واتصل بِخِدْمَة الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُوسَى السيوري ولازمه مُدَّة مديدة واشتغل بِالْعلمِ على الْعَلامَة عمر الْقَارِي وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ وَالشَّيْخ الامام يُوسُف بن أبي الْفَتْح وَصَارَ معيد الدَّرْس السليمانية وَكَانَ مدرسها إِذْ ذَاك الْفَاضِل الْمَشْهُور مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالسكوني مفتي دمشق بعد الْعِمَادِيّ الْمَذْكُور وبرع وتنبل وَسكن آخرا دَاخل قلعة دمشق وَصَارَ إِمَامًا وَلذَلِك يدعى بالقلعي قَالَ وَالِدي رَحمَه الله قَرَأت عَلَيْهِ فِي أَوَائِل الطّلب مِقْدَار ثُلثي الْقَدُورِيّ وَحِصَّة من كتاب الِاخْتِيَار وَشرح الْمُخْتَار وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف
الأديب أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بالجوهري الْمَكِّيّ الأديب الشَّاعِر البارع ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة وَقَالَ فِي حَقه جوهري النثر والنظام ازهري السجايا الْعِظَام حلي بعقود نظمه عواطل الأجياد وَسبق بجواد فكره الصافنات(1/327)
الْجِيَاد وتضلع من فنون الْعُلُوم واطلع على خفايا الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بهَا وترعرع ورحل إِلَى الْهِنْد فِي عنفوان عمره وَابْتِدَاء حَاله وَأمره فقطن بهَا خَمْسَة وَعشْرين سنة وَعَاد إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى فَأنْكر تقلب أمورها فانتقل مِنْهَا إِلَى فَارس فطنب بهَا خيامه وَلم يتم لَهُ فِيهَا مرامه فَرجع إِلَى الْهِنْد وَلم يزل حَتَّى دَعَاهُ أَجله فلبى وَقضى من الْحَيَاة نحبا وَمن رَقِيق شعره قَوْله
(مَا شمت برقا سرى فِي جنح معتكر ... إِلَّا تذكرت برق المبسم الْعطر)
(وَلَا صبوت إِلَى خل أسامره ... إِلَّا بَكَيْت زمَان اللَّهْو والسمر)
(شلت يَد للنوى مَا كَانَ ضائرها ... لَو غادرتنا تقضي الْعَيْش بالوطر)
(فِي خلسة من ليَالِي الْوَصْل مسرعة ... كَأَنَّمَا هِيَ بَين الوهن وَالسحر)
(لَا نرقب النَّجْم من فقد النديم وَلَا ... نستعجل الخطو من خوف وَلَا حذر)
(وأهيف الْقُدس ساقينا براحته ... كَأَنَّهُ صنم فِي هيكل الْبشر)
(منعمين وَشَمل الْأنس مُنْتَظم ... يَرْبُو على نظم عقد فاخر الدُّرَر)
(فَمَا انتهينا لأمر قد ألم بِنَا ... إِلَّا وَبدل ذَاك الصفو بالكدر)
(لَا دردر زمَان رَاح مختلسا ... من بَيْننَا قمر أناهيك من قمر)
(غزال أنس تحلى فِي حلى بشر ... وَبدر حسن تجلى فِي دجى شعر)
(وغصن بَان تثنى فِي نقا كفل ... لَا غُصْن بَان تثنى فِي نقا مدر)
(كَأَن ليلِي نَهَار بعد فرقته ... مِمَّا أقاسي بِهِ من شدَّة السهر)
(يَا لَيْت شعري هَل حَالَتْ محاسنه ... وَهل تغير مَا باللحظ من حور)
(فَإِن تكن فِي جنان الْخلد مبتهجا ... فاذكر معنى الْأَمَانِي ضائع النّظر)
(وَإِن تأنست بالحور الحسان فَلَا ... تنس اللَّيَالِي الَّتِي سرت مَعَ الْقصر)
وَقَوله
(كَيفَ أسلو من مهجتي فِي يَدَيْهِ ... وفؤادي وَإِن رحلت لَدَيْهِ)
(إِن طلبت الشِّفَاء من شَفَتَيْه ... جاد لي بالسقام من جفنيه)
(إِن حلف السهاد عين رَأَتْهُ ... وجنت ورد جنتي خديه)
(كلما رمت سلوة قَالَ قلبِي ... لَا تلمني فِي ذَا العكوف عَلَيْهِ)
(لست وحدي متيما فِي هَوَاهُ ... كل أهل الغرام تصبو إِلَيْهِ)
وَله مقاطيع سَمَّاهَا لآلىء الْجَوْهَرِي مِنْهَا قَوْله
(كَيفَ يَرْجُو الْعرْفَان بِاللَّه من قد ... قيدته الذُّنُوب طول حَيَاته)(1/328)
(لَا لعمري أم كَيفَ يشرق قلب ... صور الكائنات فِي مرآته)
وَقَوله
(إِذا انْقَضتْ الْأَوْقَات من غير طَاعَة ... وَلم تَكُ مَحْزُونا قد أعظم الْخطب)
(عَلامَة موت الْقلب أَن لَا ترى بِهِ ... حراكا إِلَى تقوى وميلا عَن الذَّنب)
وَقَوله
(إِن حزت علما فَاتخذ حِرْفَة ... تصون مَاء الْوَجْه لَا يبْذل)
(وَلَا تهنه أَن ترى سَائِلًا ... فشأن أهل الْعلم أَن يسئلوا)
وَقَوله
(قل للَّذي يَنْبَغِي دَلِيلا ... من غير طول على الْمُهَيْمِن)
(مَا ذرة فِي الْوُجُود إِلَّا ... فِيهَا دَلِيل عَلَيْهِ بَين)
وَقَوله فِي الْغَزل
(وَلَقَد سقتنا البابلية إِذْ رَأَتْ ... أَنا نحدثها ونسبر حسنها)
(خمرًا أدراتها الْعُيُون فأذهبت ... منا الْعُقُول وَلم نفارق دنها)
وَقَوله
(لما بدا الْبَدْر يجلو ... دجى الظلام واسفر)
(ذكرت وَجه حَبِيبِي ... وَالشَّيْء بالشَّيْء يذكر)
وَقَوله
(وأسمح النَّاس كفا ... من لَا يَقُول وَيفْعل)
(وأعذب الشّعْر بَيت ... يرويهِ عذب الْمقبل)
وَقَوله
(لَا تعذلوني فِي وَقت السماع إِذا ... طربت وجدا فَخير النَّاس من عذرا)
(حَتَّى الجماد إِذا غنت لَهَا طرب ... أما ترى الْعود طورا يقطع الوترا)
فَكتب إِلَيْهِ بعض الأدباء مقرظا وصل البيتان بل القصران فَمَا ألفاظهما إِلَّا الدّرّ النظيم فَلَا وحقك لم يفه بمثلهما العصران لَا الحَدِيث وَلَا الْقَدِيم فَللَّه دَرك مَا أحفل دَرك وأبهج فِي أسلاك الْمعَانِي دَرك وَلَقَد خاطبت بمعناهما عِنْد سماعهما من عذل وطربت لحسن سبكهما طرب من منح عِنْد نشوته سبيك النضار وبذل بل طرب لَهما الجماد وَمن ذَا الَّذِي سمعهما وَمَا ماد فَالله تَعَالَى يبقيك للأدب كهفا يرجع إِلَيْهِ وذخرا عِنْد اشْتِبَاه الْأَلْفَاظ والمعاني يعول عَلَيْهِ وَقد نظمت البارحة أبياتا فِي الْعود أَحْبَبْت أَن يلاحظها بملاحظتك لَهَا السُّعُود وَهِي
(وعود بِهِ عود المسرة مُورق ... يُغني كَمَا غنت عَلَيْهِ الحمائم)
(إِذا حركت أوتاره كف غادة ... فسيان فِي شوق خلي وهائم)
(يرنح من يصغي إِلَيْهِ صبَابَة ... كَمَا رنحته فِي الرياض النسائم)
فَرَاجعه بقوله يَا مولَايَ الَّذِي إِن عد أَرْبَاب الْمجد عقدت عَلَيْهِ الخناصر وَإِن ذكر(1/329)
أصخاب الْفضل فَلَا يدانيه مُتَقَدم وَلَا معاصر لَو أمدني ابْن العميد واضرابه والصاحب ابْن عباد وَأَصْحَابه مَا اسْتَطَعْت تقريظ أبياتك الأبيات إِلَّا مِنْك الممتنعات إِلَّا عَنْك فَأَنت فريد دهرك وَلَا أَقُول فِي هَذَا الْفَنّ ووحيد عصرك وَلَيْسَ ذَلِك عَن ظن وَقد دعتني دَاعِيَة الْأَدَب إِلَى أَن أَقُول أَن الْعود يفوق آلَات الطَّرب فمدحته كَمَا مدحته ووصفته كَمَا وَصفته وَقلت
(فاق كل الْآلَات فِي اللّحن عود ... حِين تعلو أصواتها وترن)
(فَكَانَ الْحمام ودهراً طَويلا ... عَلمته ألحانها وَهُوَ غُصْن)
هَذَا من قَول أبي الْفضل أَحْمد بن يُوسُف الطَّيِّبِيّ رَحمَه الله تَعَالَى
(من أَيْن للعود هَذَا الصَّوْت تَأْخُذهُ ... أَطْرَافه بأطاريف الأناشيد)
(أَظن حِين نشا فِي الدح علمه ... سجع الحمائم تَرْجِيع الأغاريد)
وَمثله قَول معاصره الصفي الحلى
(وعود بِهِ عَاد السرُور لِأَنَّهُ ... حوى اللَّهْو قدما وَهُوَ رَيَّان ناعم)
(يغرب فِي تغريده فَكَأَنَّمَا ... يُعِيد لنا مَا لقنته الحمائم)
ولبعضهم فِيهِ
(وعود لَهُ نَوْعَانِ من لَذَّة المنى ... فبورك جَان يجتنيه وغارس)
(تغنت عَلَيْهِ وَهُوَ رطب حمامة ... وغنت عَلَيْهِ قينة وَهُوَ يَابِس)
وَمن لآلئه الْمَذْكُورَة قَوْله
(لَا تجهلن قدرا لنَفسك إِنَّهَا ... علوِيَّة ترقى لما هُوَ شبهها)
(وَالنَّفس كالمرآة يصقلها الْغِنَا ... قسراً وَيظْلم بِالْمَعَاصِي وَجههَا)
وَقَوله
(فِي الْمَنْع والاعطاء كن رَاضِيا ... واستقبل الْكل بِوَجْه الرِّضَا)
(فالخير للعارف فِيمَا جرى ... وَرب منع كَانَ عين العطا)
وَقَوله
(إِذا الْتبس الْأَمْرَانِ فالخير فِي الَّذِي ... ترَاهُ إِذا كلفته النَّفس يثقل)
(فجانب هَواهَا واطرح مَا تريده ... من اللَّهْو وَاللَّذَّات إِن كنت تعقل)
وَهَذَا من قَول الْأَحْنَف بن قيس كفى بِالرجلِ رَأيا إِذا اجْتمع عَلَيْهِ أَمْرَانِ فَلم يدر أَيهمَا الصَّوَاب أَن ينظر أعجبهما إِلَيْهِ وأغلبهما عَلَيْهِ فليحذره وَقَرِيب مِنْهُ قَول أبي الْفَتْح البستي
(وَإِن هَمَمْت بِأَمْر ... وَلم تطق تَخْرِيجه)(1/330)
(فقس قِيَاسا صَحِيحا ... وَخذ بضد النتيجة)
وَمن مقاطيعه فِي الْغَزل
(أخجلت بدر الدياجي ... إِذْ تمّ فِي بَدْء أَمرك)
(فَعَاد فِي النَّقْص حَتَّى ... حكى قلامة ظفرك)
وَقَوله
(وظبى نافر مِمَّا أرَاهُ ... يذل لحسنه الْملك المهيب)
(عرفت مزاجه فانقاد طَوْعًا ... وَمن عرف المزاج هُوَ الطَّبِيب)
وَقَوله
(وأهيف كالسيف ألحاظه ... وقده الْعَسَّال كالسمهري)
(أخجلني ثغر لَهُ باسم ... فاعجب لثغر مخجل الْجَوْهَرِي)
وَقَوله
(قَالَ عذولي إِذْ رأى ... أَخا الغزال الأعفر)
(هَذَا الَّذِي مبسمه ... فتت قلب الْجَوْهَرِي)
وَقَوله
(جرح اللحظ خَال خد غُلَام ... فَضَح البان قده باعتداله)
(فَإِذا ثار طاعنا لفؤادي ... قَالَ خُذْهَا من طَالب نَار خَاله)
وَقَوله
(تذكرت إِذْ جَاءَ الحجيج بِمَكَّة ... وَنحن وقُوف نَنْظُر الركب محرما)
(فصرت بِأَرْض الْهِنْد فِي كل موسم ... يجدد تذكاري لقلبي مأتما)
وَقَوله
(وَلَو أَن أَرض الْهِنْد فِي الْحسن جنَّة ... وسكانها حور وأملكها وحدي)
(لما قستها يَوْمًا ببطحاء مَكَّة ... وَلَا اخْتَرْت عَن سعدي بديلا هوى هِنْد)
وَقَوله
(وَقَالُوا بالمخاخير كثير ... فَقلت صَدقْتُمْ وَبهَا الْأمان)
(وَلَكِن حرهَا يشوي البرايا ... وَلَوْلَا الرِّيق لاحترق اللِّسَان)
وَقَوله
(شهت أمواج بَحر الْهِنْد حَيْثُ رست ... بِهِ السفائن من هِنْد وَمن صين)
(بأسطر فَوق قرطاس قد اتسقت ... والسفن فِيهِ عَلَامَات السلاطين)
وَقَوله
(إِذا لم تكن ناقدا للرِّجَال ... وصاحبت من لَا لَهُ تعرف)
(فحالفه فِي بعض أَقْوَاله ... فَإنَّك عَن خلقه تكشف)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِالْهِنْدِ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عمر قَاضِي الْقُضَاة الملقب بشهاب الدّين الخفاجي الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ صَاحب التصانيف السائرة وَأحد أَفْرَاد الدُّنْيَا الْمُجْتَمع على تفوقه وبراعته وَكَانَ فِي عصره بدر سَمَاء الْعلم ونير أفق النثر وَالنّظم رَأس المؤلفين وَرَئِيس(1/331)
المصنفين سَار ذكره سير الْمثل وطلعت أخباره وطلوع الشهب فِي الْفلك وكل من رَأَيْنَاهُ أَو سمعنَا بِهِ مِمَّن أدْرك وقته معترفون لَهُ بالتفرد فِي التَّقْرِير والتحرير وَحسن الْإِنْشَاء وَلَيْسَ فيهم من يلْحق شأوه وَلَا يَدعِي ذَلِك مَعَ أَن فِي الْخلق من يدعى مَا لَيْسَ فِيهِ وتآليفه كَثِيرَة ممتعة مَقْبُولَة وانتشرت فِي الْبِلَاد وزرق فِيهَا سَعَادَة عَظِيمَة فَإِن النَّاس اشتغلوا بهَا وأشعاره ومنشآته مسلمة لَا مجَال للخدش فِيهَا وَالْحَاصِل أَنه فاق كل من تقدمه فِي كل فَضِيلَة وأتعب من يَجِيء بعده مَعَ مَا خوله الله تَعَالَى من السعَة وَكَثْرَة الْكتب ولطف الطَّبْع والنكتة والنادرة وَقد ترْجم نَفسه فِي آخر ريحانته من حِين مبدئه فَقَالَ قد كنت فِي سنّ التَّمْيِيز فِي مغرز طيب النَّبَات عَزِيز فِي حجر وَالِدي ممتعا فَلَمَّا درجت من عشى قَرَأت على خَالِي سِيبَوَيْهٍ زَمَانه يَعْنِي أَبَا بكر الشنواني عُلُوم الْعَرَبيَّة ثمَّ ترقيت فَقَرَأت الْمعَانِي والمنطق وَبَقِيَّة الْعُلُوم الاثْنَي عشر وتظرت كتب المذهبين مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ مؤسسا على الْأَصْلَيْنِ من مَشَايِخ الْعَصْر وَمن أجل من أخذت عَنهُ شيخ الْإِسْلَام مُحَمَّد الرَّمْلِيّ حضرت دروسه الفرعية وقرأت عَلَيْهِ شَيْئا من صَحِيح مُسلم وأجازني بذلك وبجميع مؤلفاته ومروياته بروايته عَن القَاضِي زَكَرِيَّاء عَن وَالِده مِنْهُم شَافِعِيّ زَمَانه الشَّيْخ نور الدّين على الزيَادي حضرت دروسه زَمنا طَويلا وَمِنْهُم الْعَلامَة الفهامة خَاتِمَة الْحفاظ والمحدثين إِبْرَاهِيم العلقمي قَرَأت عَلَيْهِ الشِّفَاء بِتَمَامِهِ وأجازني بِهِ وَبِغَيْرِهِ وشملني نظره وبركة دُعَائِهِ لي وَمِنْهُم الْعَلامَة فِي سَائِر الْفُنُون عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ حضرت دروسه وقرأت عَلَيْهِ الحَدِيث وَكتب لي إجَازَة بِخَطِّهِ وَمِمَّنْ أخذت عَنهُ الْأَدَب وَالشعر شَيخنَا أَحْمد العلقمي وَمُحَمّد الصَّالِحِي الشَّامي وَمِمَّنْ أخذت عَنهُ الطِّبّ الشَّيْخ دَاوُد الْبَصِير ثمَّ ارتحلت مَعَ وَالِدي للحرمين الشريفين وقرأت ثمَّة على الشَّيْخ عَليّ بن جَار الله العصام وَغَيره ثمَّ ارتحلت مَعَ وَالِدي للحرمين الشريفين وقرأت ثمَّة على الشَّيْخ عَليّ بن جَار الله العصام وَغَيره ثمَّ ارتحلت إِلَى قسطنطينية فتشرفت بِمن فِيهَا من الْفُضَلَاء والمصنفين واستفدت مِنْهُم وتخرجت عَلَيْهِم وَهِي إِذْ ذَاك مشحونة بالفضلاء الأذكياء كَابْن عبد الْغَنِيّ ومصطفى بن عزمي والحبر دَاوُد وَهُوَ مِمَّن أخذت عَنهُ الرياضيات وقرأت عَلَيْهِ اقليدس وَغَيره وأجلهم إِذْ ذَاك أستاذي سعد الْملَّة وَالدّين ابْن حسن أَخذ عَن خَاتِمَة الْمُفَسّرين أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ عَن مؤيد زَاده عَن الْجلَال الدواني وَلما توفّي أستاذي قَامَ مقَامه صنع الله ثمَّ ولداه ثمَّ انقرضوا فِي مُدَّة يسيرَة ثمَّ لما عدت إِلَيْهَا ثَانِيًا بَعْدَمَا توليت قَضَاء الْعَسْكَر بِمصْر رَأَيْت تفاقم الْأَمر فَذكرت ذَلِك للوزير فَكَانَ(1/332)
ذَلِك سَبَب لعزلي وأمري بِالْخرُوجِ من تِلْكَ الْمَدِينَة وَقد من الله تَعَالَى عَليّ بالسلامة ثمَّ ذكر أَن من تآليفه حَوَاشِي تَفْسِير القَاضِي وَهِي الَّتِي سَمَّاهَا عناية القَاضِي وَشرح الشِّفَاء وَشرح درة الغواص والريحانة والرسائل الْأَرْبَعين حَاشِيَة شرح الْفَرَائِض وَكتاب السوانح والرحلة وحواشي الرضى قلت وَله كتاب شِفَاء الغليل فِيمَا فِي كَلَام الْعَرَب من الدخيل والنادر الحوشي الْقَلِيل وَكتاب ديوَان الْأَدَب فِي ذكر شعراء الْعَرَب ذكر فِيهِ مشاهير الشُّعَرَاء من الْعَرَب العرباء والمولدين وَله كتاب طراز الْمجَالِس وَهُوَ مَجْمُوع حسن الْوَضع جم الْفَائِدَة رُتْبَة على خمسين مَجْلِسا ذكر فِيهِ مبَاحث تفسيرية ونحوية وأصولية وَغَيرهَا وَذكر فِي آخِره لما قَرَأت مَا قَالَه عُلَمَاء الحَدِيث فِي الخصائص النَّبَوِيَّة أَنه لم تلج النَّار جوفا فِيهِ قَطْرَة من فضلاته
قَالَ بعض من كَانَ عندنَا حَاضر إِذا كَانَ هَكَذَا فَكيف تعذب أَرْحَام حَملته فَأَعْجَبَنِي كَلَامه ونظمته فِي قولي
(لوالدي طه مقَام علا ... فِي جنَّة الْخلد وَدَار الثَّوَاب)
(فقطرة من فضلات لَهُ ... فِي الْجوف تنجي من أَلِيم الْعقَاب)
(فَكيف أَرْحَام لَهُ قد غَدَتْ ... حاملة تصلى بِنَار الْعَذَاب)
ثمَّ ختم الْكتاب بقوله
(أسْتَغْفر الله مَالِي بالورى شغل ... وَلَا سرُور وَلَا آسى لمفقود)
(عَمَّا سوى سَيِّدي ذِي الطول قد قطعت ... مطالبي كلهَا مذ تمّ توحيدي)
وَله رسائل كَثِيرَة ومكاتبات وافرة لم يجمعها ومقامات ذكر بَعْضهَا فِي ريحانته وَكَانَ لما وصل إِلَى الرّوم فِي رحلته الأولى ولي الْقَضَاء بِبِلَاد روم ايلي حَتَّى وصل إِلَى أَعلَى مناصبها كأسكوب وَغَيرهَا ثمَّ فِي زمن السُّلْطَان مُرَاد توصل حَتَّى اشْتهر بِالْفَضْلِ الباهر فولاه السُّلْطَان قَضَاء سلانيك فَحصل بهَا مَالا كثيرا ثمَّ أعْطى بعْدهَا قَضَاء مصر وَبَعْدَمَا عزل عَنْهَا رَجَعَ إِلَى الرّوم فَمر على دمشق وَأقَام بهَا أَيَّامًا ومدحه فضلاؤها بالقصائد واعتنى بِهِ أَهلهَا وعلماؤها فأكرمو نزله وَوَقع لَهُ لطائف من ذَلِك أَنه دَعَاهُ الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي إِلَى قصرهم بالصالحية فَمر الشهَاب وصحبته الْعِمَادِيّ وَابْن شاهين على الجسر الْأَبْيَض فَنظر إِلَى غُلَام وَاقِف هُنَاكَ نظرة ميل ووقف يتأمله فانتقد الْعِمَادِيّ وَابْن شاهين عَلَيْهِ ذَلِك فَأَنْشد بديهة قَوْله
(قيل لَا تنظرن لوجه مليح ... إِن هَذَا مبدد الْحَسَنَات)(1/333)
(قلت هَذَا الْجمال لما تبدى ... أشغل الْكَاتِبين عَن سيئاتي)
وَدخل حلب أثر ذَلِك ثمَّ وصل إِلَى الرّوم وَكَانَ إِذْ ذَاك مفتيها الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّاء فَأَعْرض عَنهُ أجل أُمُور انتقدت عَلَيْهِ أَيَّام قَضَائِهِ فِي سلانيك ومصر من الجرأة وَبَعض الطمع فَصنعَ مقامته الَّتِي ذكرهَا فِي الريحانة وَتعرض فِيهَا للْمولى الْمَذْكُور فَكَانَ ذَلِك سَببا لنفيه إِلَى مصر وَأعْطى قَضَاء ثمَّة على وَجه الْمَعيشَة فاستقر بِمصْر يؤلف ويصنف ويقرى وَأخذ عَنهُ جمَاعَة اشتهروا بِالْفَضْلِ الباهر من جُمْلَتهمْ الْعَلامَة عبد الْقَادِر الْبَغْدَادِيّ وَالسَّيِّد أَحْمد الْحَمَوِيّ وَغَيرهمَا وَاجْتمعَ بِهِ وَالِدي المرحوم فِي مُنْصَرفه إِلَى مصر وَأخذ عَنهُ وَكتب عَنهُ أصل الريحانة الَّذِي سَمَّاهُ خبايا الزوايا فِيمَا فِي الرِّجَال من البقايا وَكتب مِنْهَا فِي دمشق نسخ وَمن ثمَّ اشتهرت فضيلته وَذكره فِي رحلته فَقَالَ ثمَّ جِئْت إِلَى رياض الْعُلُوم المزهرة بأصناف الْفُنُون من منثور ومنظوم فجنيت زهر الْآدَاب من تِلْكَ الحدائق الرحاب فَكَانَ بَيت قصيدها وواسطة عقدهَا وفريدها مَالك أزمة هَذِه الصِّنَاعَة وَفَارِس حلبة البلاغة والبراعة جناب الْمولى الشهَاب انسان عين الموَالِي وزبدة الأحقاب
(عَلامَة الْعلمَاء واللج الَّذِي ... لَا يَنْتَهِي وَلكُل لج سَاحل)
قد أشرقت بشموس علومه أفلاكها ولمع بسنا الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم سماكها وتحلت أجياد الطروس بعقود أَلْفَاظه وراجت نقود آدابه فِي سوق عكاظه قد اتّفقت كلمة الكملة أَنه وَاحِد عصره بِلَا خلاف وأقرت لَهُ عُلَمَاء دهره فِي حِيَازَة السَّبق بالاعتراف فانتهت إِلَيْهِ الْيَوْم بلاغة البلغاء فَمَا تظل الخضراء وَلَا تقل الغبراء فِي زَمَاننَا أجْرى مِنْهُ فِي ميدانها وَأحسن تَصرفا بعنانها وَأما فنون الْآدَاب فَهُوَ بن بجدتها وأخو جُمْلَتهَا وَأَبُو عذرتها وَمَالك أزمتها
(فَإِن أقرّ على رق أنامله ... أقرّ بِالرّقِّ كتاب الْأَنَام لَهُ)
قد سقت عُيُون قريحته الْمسَائِل وبسقت فِي روضه أَغْصَان الْفَضَائِل فَصَارَ عَزِيز مصر وقاضيها وناشر لِوَاء الْعَدَالَة فِي نَوَاحِيهَا وَبنى وشيد بأيدي تحريراته معالم التَّنْزِيل ونضا قناع خفايا الْأَسْرَار بمحكم التَّأْوِيل فكم أبدع بِمَا أودع فِي خبايا الزوايا فِيمَا فِي الرِّجَال من البقايا فنظمه نفثات السحر وقلائد النَّحْر وغمزات الألحاظ المراض وعطفات الحسان بعد الْأَعْرَاض ونثره النثرة إشراقا وحباب الصَّهْبَاء رونقا واتسانا(1/334)
(فقر لم يزل فَقِيرا إِلَيْهَا ... كل مبدي فصاحة وَبَيَان)
وَقد حصلت على ضالتي المنشودة من لقيَاهُ وظفرت بالكنز الَّذِي كنت أتوقعه وأترجاه وشاهدت ثمار الْمجد والسودد تنثر من شمائله وَرَأَيْت فَضَائِل الدَّهْر عيالا على فضائله وَمن فَوَائده المعحبة الَّتِي لَا يَنْقَضِي التحسين لَهَا مَا نَقله فِي شرح الشفا عِنْد قَوْله وَمن دَلَائِل نبوته
أَن الذُّبَاب كَانَ لَا يَقع على مَا طهر من جسده وَلَا يَقع على ثِيَابه مَا نَصه وَهَذَا مِمَّا قَالَه ابْن سبع أَيْضا إِلَّا أَنهم قَالُوا لَا يعلم من روى هَذَا والذباب وَاحِدَة ذُبَابَة قيل أَنه سمي بِهِ لِأَنَّهُ كلما ذب آب أَي كلما طرد رَجَعَ وَهَذَا مِمَّا أكْرمه الله بِهِ لِأَنَّهُ طهره من جَمِيع الأقذار وَهُوَ من استقذاره وَقد يَجِيء من مستقدر قيل وَقد نقل مثله عَن ولي الله الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني قدس الله سره وَلَا بعد فِيهِ لِأَن معجزات الْأَنْبِيَاء قد تكون كرامات لأولياء أمته وَفِي ربَاعِية لي
(من أكْرم مُرْسل عَظِيم جلا ... لم تدن ذُبَابَة إِذا مَا حلا)
(هَذَا عجب وَلم يذقْ ذُو نظر ... فِي الوجودات من حلاه أحلى)
وتظرف مِنْهُ منلا جامي فَقَالَ مُحَمَّد رَسُول الله لَيْسَ فِيهِ حرف منقوط لِأَن النقط يشبه الذُّبَاب فصين اسْمه ونعته عَنهُ كَمَا قلت فِي مدحه
(لقد ذب الذُّبَاب فَلَيْسَ يَعْلُو ... رَسُول الله مَحْمُودًا مُحَمَّد)
(ونقط الْحَرْف يحكيه بشكل ... لذاك الْخط مِنْهُ قد تجرد)
وَمن تحريراته فِي أَن الْقُرْآن هَل فِيهِ السجع أَولا قَالَ وَقَالَ البقاعي فِي كتاب مصاعد النّظر اخْتلف فِيهِ السّلف فَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني فِي كتاب الإعجاز ذهب أَصْحَابنَا الأشاعرة كلهم إِلَى نفي السجع عَن الْقُرْآن كَمَا ذكره أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي غَيره مَوضِع من كتبه وَذهب كثير مِمَّن خالفهم إِلَى إثباتة انْتهى وَالْقَوْل الثَّانِي فَاسد من اخْتِلَاف أَكثر فواصله فِي الْوَزْن والروى وَلَا يَنْبَغِي الإغترار بِمَا ذكره بعض الأماثل كالبيضاوي والتفنا زاني من إِثْبَات الفواسل والسجع فِيهِ وَإِن مُخَالفَة النّظم فِي مثل هَارُون ومُوسَى بِحَسبِهِ وَنقل أَبُو حَيَّان فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا الظل وَلَا الحرور} فِي فاطر أَنه لَا يُقَال فِي الْقُرْآن قدم كَذَا وَأخر كَذَا للسجع لإن الإعجاز لَيْسَ فِي مُجَرّد اللَّفْظ بل فِيهِ وَفِي الْمَعْنى وَمَتى حول اللَّفْظ لاجل السجع عَمَّا كَانَ يتم بِهِ الْمَعْنى بِدُونِ سجع نقص الْمَعْنى ثمَّ أَنه قَالَ لَو كَانَ فِي الْقُرْآن سجع لم يخرج عَن أساليب كَلَامهم وَلم يَقع بِهِ إعجاز وَلَو حَاز أَن يُقَال سجع معجز جَازَ أَن(1/335)
يُقَال شعر معجز والسجع مَا تؤلفه الْكُهَّان وَقد أنكر
على من سجع عِنْده على مَا عرف فِي كتب الحَدِيث وَلَو كَانَ سجعاً لَكَانَ قبيحاً لتقارب أوزانه وَاخْتِلَاف طرقه فَيخرج عَن نهجه الْمَعْرُوف وَيكون كشعر غير مَوْزُون وَمَا احْتَجُّوا بِهِ من التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لَيْسَ بِشَيْء وَأَنه كذكر الْقِصَّة بطرق مُخْتَلفَة أَقُول أَطَالَ بِلَا طائل لتوهمه أَن السجع كالشعر لالتزام تقفيته مَا يُنَافِي جزالة الْمَعْنى وبلاغته لاستتباعه للحشو والمخل وَأَن الإعجاز بمخالفته لأساليب الْكَلَام فشنع على هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام وَلَيْسَ بِشَيْء وَالْعجب مِنْهُ أَنه ذكر كَلَام الباقلاني مَعَ التَّصْرِيح فِيهِ بِأَن من السّلف من ذهب إِلَيْهِ وَالْحق أَنه وَقع فِي الْقُرْآن من غير الْتِزَام لَهُ فِي الْأَكْثَر فَكَانَ من نَفَاهُ نفي الْتِزَامه أَو أكثريته وَمن أثْبته أَرَادَ وُرُوده فِيهِ على الْجُمْلَة فاحفظه وَلَا تلْتَفت إِلَى مَا سواهُ وَهَذَا مِمَّا ينفعك فِيمَا سَيَأْتِي وَلذَا فصلنا هُنَا لتَكون على ثَبت مِنْهُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء أَنه تطلق الفواصل عَلَيْهِ دون السجع انْتهى وَمن غَرَائِبه الَّتِي زلق فِيهَا قلمه قَوْله عِنْد قَول القَاضِي وقرىء صِرَاط من أَنْعَمت فِيهِ دَلِيل على جَوَاز إِطْلَاق الْأَسْمَاء المبهمة على الله كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة يَا من بِيَدِهِ الْخَيْر وَنَحْوه فَلَا يغرنك مَا نَقله الْحَفِيد عَن صَاحب الْمُتَوَسّط من مَنعه فَهَذَا مِنْهُ غَفلَة إِذْ من فِي الْقُرْآن لَيست وَاقعَة على الله حَتَّى يسْتَدلّ بهَا على جَوَاز الاطلاق انْتهى ونوقش فِي الْبَيْت الْمَشْهُور
(كَأَنَّهُ فَوق شقات الرخام ضحى ... مَاء يسيل على أَثوَاب قصار)
بعد قَوْله
(لله يَوْم بحمام نعمت بِهِ ... وَالْمَاء من حَوْضه مَا بَيْننَا جاري)
فَقيل لَهُ أَنه عيب حَتَّى قيل فِي قَائِله
(وشاعر أوقد الطَّبْع الذكي لَهُ ... فكاد يحرقه من فرط لألاء)
(أَقَامَ يعْمل أَيَّامًا رويته ... وَشبه المَاء بعد الْجهد بِالْمَاءِ)
فَقَالَ هَذَا الْعَيْب لَيْسَ بِشَيْء فَإِنَّهُ شبه هَذَا الرخام فِي الْحمام بشقة قصار جرى عَلَيْهَا المَاء وَلم يرد تَشْبِيه المَاء وَلَكِن مَا ذكر فِي الطَّرفَيْنِ جَاءَ بَارِدًا فَأَشَارَ الشَّاعِر إِلَى برودته فِي كَلَامه بِمَا ذكره وَله ديوَان شعر وقفت عَلَيْهِ وكل شعر مفروغ فِي قالب لإجادة وَمن أجوده قصيدته الدالية الْمَشْهُورَة وَهِي قَوْله
(قدحت رعود الْبَرْق زندا ... أضرّ من أشجانا ووجدا)
(فِي فَحْمَة الظلماء إِذْ ... مدت على الخضراء بردا)(1/336)
(حَتَّى تثاءب نوره ... وتمطت الأغصان قدا)
(وأتى الشَّقِيق بمجمر ... للروض وَقد فِيهِ ندا)
(وعَلى الغدير مفاضة ... سردت لَهُ النسمات سردا)
(وحبابه من فَوْقه ... قد بَات يلْعَب فِيهِ نردا)
(فسقى معاهد بالحمى ... قد أنبتت حبا وودا)
(تذر اللَّيَالِي فِي ثرى ... من عنبر للمسك أهْدى)
(عجبا لدر ناصع ... أودعن فِي مسك مندي)
(فِي ظلّ عَيْش ناعم ... بنسيم أسحار تردى)
(والدهر عبد طائع ... أهْدى لنا شرفا وسعدا)
(مَا زَالَ اصدق نَاصح ... كم قَالَ لي هزلا وجدا)
(سلم امْرُؤ عَن طوره ... فِي كل حَال مَا تعدى)
(فالخطب بَحر زاخر ... فاصبر لَهُ جزرا ومدا)
(لَا يختشى لسع الزنابير ... الَّذِي يستام شَهدا)
(فِي ذمَّة الْأَيَّام للأحرار ... دين قد يُؤدى)
(إِن مَا طلت فلربما ... أنجزن بعد المطل وَعدا)
(فَإِذا رمى طأطىء لَهُ ... رَأْسا ترَاهُ عَنْك عدى)
(أفبعد أخواني الالى ... درجوا أَخَاف الْيَوْم فقدا)
(عَيْني إِذا استسقت بهم ... تسقى بدمع الْعين خدا)
(لَو كَانَت القطرات تجمد ... نظمت فِي الْجيد عقدا)
(قوم لَهُم يَدْعُو الثنا ... من شاسع الأقطار وَغدا)
(كم فِي عكاظ نديهم ... جلبوا لَهُم شكرا وحمدا)
(لَا يشْتَرونَ بذخرهم ... إِلَّا جميل الذّكر نَقْدا)
(أبقى لَهُم حسن الحَدِيث ... برغم أنف الدَّهْر خلدا)
(ورثوا المكارم كَابِرًا ... عَن كَابر فرضا وردا)
(من كل طود شامخ ... متسربل برْدَاهُ مجدا)
(أمست عيُونا كلهَا ... ترنو إِلَى الْأَعْدَاء حقدا)
(تلقى الورى بنديهم ... نكس الْعُيُون إِذا تبدى)(1/337)
(لبس الْجلَال على الْجمال ... فصد عَنهُ الطّرف صدا)
(فهم بسُلْطَان التقى اتَّخذُوا ... قُلُوب النَّاس جندا)
(أَمْسوا بغمد ضريحهم ... وَبقيت مثل السَّيْف فَردا)
(مَالِي أقيم ببلدة ... فِيهَا بِنَاء الدّين هدا)
(وَبهَا الشهَاب إِذا سما ... يخْشَى من الشَّيْطَان طردا)
وَله قصيدة مطبوعة مطْلعهَا قَوْله
(أرح طرف عين جفاها الهجوع ... فَإِن عناء الجفون الدُّمُوع)
(إِذا علم الصَّبْر أَن يخدع العزائم ... دهر لحظي خدوع)
(حسيت كؤوس الْهوى سحرة ... وساقى المنى لمرادي مُطِيع)
(إِلَى حِين غَابَتْ نُجُوم الْهدى ... فَكَانَ لَهَا فِي عِذَارَيْ طُلُوع)
(وباتت تحث مطايا الغرام ... فجالت بِقَيْد الكلال المنوع)
(ربيئة قلبِي عين لَهَا ... لِسَان من الدمع سرى يشيع)
(تحار بِنَا فِي مجَال الصِّبَا ... يَد للطلا من قناها الشموع)
(وظبى ترى فِي حجور الْقُلُوب ... لَهُ توأم الْحسن خدن رَضِيع)
(فلولا فُؤَادِي لَهُ مسكن ... لما كَانَ تحنو عَلَيْهِ الضلوع)
(تقنعت بالوصل من طيفه ... وكل محب لعمري قنوع)
(ولي حَاجَة عِنْده للجوى ... وَلَيْسَ لَهُ غير ذلي شَفِيع)
(رهنت فُؤَادِي على حبه ... فَمَا باله لرهوني يضيع)
(تجرد من لحظه صارم ... لعمر اصْطِبَارِي عَلَيْهِ قطوع)
(وَلَو لم يكن قَاتلا للسكرى ... لما سَالَ من مقلتي النجيع)
(بِمِرْآة خديه أصداغه ... تخال عذارا لصبري يروع)
(تقيل المحاسن فِي ظله ... وَمَاء الْجمال لَدَيْهِ مريع)
(لَهُ بسط الرَّوْض ديباجه ... ومدت عَلَيْهِ الْخيام الْفُرُوع)
(وَقد ردد الطير آيَاته ... وللقضب فِي جانبيه رُكُوع)
(كَانَ الشَّقِيق وَستر الضباب ... وزهر تبقى عَلَيْهَا هزيع)
(مجامر تبر علاها الدُّخان ... وَقد أصبح الند فِيهَا يضوع)
وَهِي قصيدة طَوِيلَة فلنقتصر مِنْهَا على هَذَا الْمِقْدَار طلبا للاختصار وَمن شعره قَوْله(1/338)
(قلت للندمان لما ... مزقوا برد الدياجي)
(قتلتنا الراح صرفا ... فاقتلوها بالمزاج)
أَصله قَول حسان
(إِن الَّتِي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل)
قَالَ الرَّاغِب أصل الْقَتْل إِزَالَة الرّوح من الْجَسَد كالموت لَكِن إِذا اعْتبر بِفعل الْمُتَوَلِي لذَلِك يُقَال قتل وَإِذا اعْتبر بفوت الْحَيَاة يُقَال موت واستعير على سَبِيل الْمُبَالغَة قتلت الْخمر بِالْمَاءِ إِذا مزجته وَوجه الِاسْتِعَارَة فِيهِ أَنه يزِيل شدتها فَجعلت نشوتها كروحها وَجعلت سكرتها عدوا انْتهى وللشهاب
(قبل يَد الْخيرَة أهل التقى ... وَلَا تخف طعن أعاديهم)
(رَيْحَانَة الرَّحْمَن عباده ... وشمها لثم أياديهم)
أَخذه من قَول عِيسَى بن حجاج اليمني وَهُوَ من كبراء الْأَوْلِيَاء وَكَانَ كل من دخل عَلَيْهِ أَو خرج يقبل يَده فَأنْكر عَلَيْهِ بَعضهم ذَلِك فَقَالَ العَبْد الْمُؤمن رَيْحَانَة الله فِي أرضه وَلَا بَأْس بشم الريحان فِي الدُّخُول وَالْخُرُوج وَمن شعره قَوْله
(أَخُوك الَّذِي إِن جِئْته لملمة ... يشمر عَن سَاق بعزم مُسَدّد)
(يُبَادر أَمر الْيَوْم قبل مضيه ... وَلَيْسَ محيلا فِي الْأُمُور على غَد)
أَصله مَا روى عَن الْمفضل الضَّبِّيّ أَنه قَالَ قَالَ لي الْمهْدي يَوْمًا أبْغض شَيْء إِلَى أَن أجعَل عمل الْيَوْم فِي غَد فَقلت لَهُ أَنه الحزم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ أَخُو تَمِيم
(أَخُوك لَهُ عزم على الحزم لم يقل ... غَدا يَوْمهَا إِن لم تعقه الْعَوَائِق)
وَله من الرباعيات قَوْله
(مذ أطنب بالمطال والايجاز ... فِي موعده ظننته بِي هازي)
(حَتَّى أرى عقيق فِيهِ قبلا ... والخاتم من عَلامَة الانجاز)
يُوضحهُ قَول بدر الدّين الْأَزْهَرِي
(أمنت من خوف العدى وشرهم ... مذ جَاءَنِي بِخَاتم الْأمان)
خَاتم الْأمان كمديل الْأمان يسْتَعْمل فِي أَمارَة الانجاز لِأَن الرؤساء اعتادوا إرْسَال ذَلِك إِذا أرادوه وَله
(قد كَانَ لي خل على ... نهج النِّفَاق لقد سلك)
(ركت ملابس وده ... فقطعته من حَيْثُ رك)
أورد هَذَا فِي شرح درة الغواص عِنْد قَول الحريري وَيَقُولُونَ قطعه من حَيْثُ رق(1/339)
وَفِي كَلَام الْعَرَب اقطعه من حَيْثُ رك أَي من حَيْثُ ضعف وَمِنْه قيل للضعيف رَكِيك فِي الحَدِيث أَن الله تَعَالَى يبغض السُّلْطَان المركك وَقَالَ هُوَ عَلَيْهِ هَذَا على تَقْدِير السماع فِيهِ أَمر سهل فَإِنَّهُ يلْزم من رقة الثَّوْب عدم قوته فَلَا مَانع من إِرَادَة لَازمه وَبَاب الْمجَاز مَفْتُوح وَلذَا فسر أهل اللُّغَة رك برق وَلَا حَاجَة فِي أَن يُقَال تبدل الْكَاف قافا لقرب مخرجيهما وَمن ملح ابْن نباتة قَوْله
(كَانَت للفظي رقة ... ضن الزَّمَان بِمَا اسْتحقَّت)
(فصرفتها عَن فكرتي ... وقطعتها من حَيْثُ رقت)
وللشهاب
(كم من كريم قد بَات فِي دعة ... أَتَاهُ سيل الصَّباح بالنكد)
(وَرب فرخ أراشه زمن ... فَصَارَ بالعز بَيْضَة الْبَلَد)
هَذَا جَار على اسْتِعْمَال أهل الْحجاز يَقُولُونَ فِي الشتم وَهُوَ فرخ يَعْنِي ولد زنالا يعرف لَهُ أَب وَإِنَّمَا تعرف الدَّجَاجَة الَّتِي باضته وَفِي الحَدِيث الشريف على بعض الرِّوَايَات فرخ الزنالا يدْخل الْجنَّة وَهُوَ اسْتِعَارَة بديعة فِي بَابهَا وَقَوله فَصَارَ بالعز بَيْضَة الْبَلَد جرى فِيهِ على أحد احتمالية وَهُوَ الْمَدْح وَالْمرَاد بِهِ وَاحِد الْبَلَد الَّذِي يجمع إِلَيْهِ وَيقبل قَوْله لَكِن الْأَشْهر أَنه ذمّ وَقَوْلهمْ فلَان بَيْضَة الْبَلَد أبي لَا يعبأ بِهِ كَمَا ذكره فِي مجمع الْأَمْثَال وَله
(سِهَام جفونه أعرضن عني ... فأسرع فتكها ونما جواها)
(فيا لَك أسهما تصمي الرمايا ... إِذا صرفت إِلَى شَيْء سواهَا)
وَمثله لِابْنِ الرُّومِي
(نظرت فأقصدت الْفُؤَاد بسهمها ... ثمَّ انْثَنَتْ عَنهُ فكاد يهيم)
(ويلاه إِن نظرت وَإِن هِيَ أقصدت ... وَقع السِّهَام وقصدهن اليم)
وَمن شعره قَوْله
(إِن يعد ذُو بغى عَلَيْك فخله ... وارقب زَمَانا لانتقام الطاغي)
(وَاحْذَرْ من الْبَغي الوخيم فَلَو بغى ... جبل على جبل لَدُكَّ الْبَاغِي)
أَصله مَا روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لَو بغى جبل على جبل لَدُكَّ الْبَاغِي وَكَانَ الْمَأْمُون يتَمَثَّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِأَخِيهِ الْأمين
(يَا صَاحب الْبَغي إِن الْبَغي مصرعة ... فاعدل فَخير فعال الْمَرْء أعدله)
(فَلَو بغى جبل يَوْمًا على جبل ... لَا ندك مِنْهُ أعاليه وأسفله)(1/340)
وَقَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا
(بغى على لئيم دون سَابِقَة ... تَدعُوهُ غير فضول الْجَهْل والجاه)
(فَلم ألمه سوى أَن قلت من جزع ... الْموعد الْحَشْر وَالْقَاضِي هُوَ الله)
وَله
(من يتْرك الدُّنْيَا يسد أَهلهَا ... ويقتطف زهرتها بِالْيَدِ)
(لَا تسكن التَّقْوَى وَلَا حِكْمَة ... تنزل قلبا فِيهِ هم الْغَد)
أَصله مَا روى عَن ابْن سينا أَنه قَالَ ورد فِي الحَدِيث الشريف أَن الْحِكْمَة لتنزل من السَّمَاء فَلَا تدخل قلبا فِيهِ هم عد وَقَالَ أَيْضا مضمنا
(أرى عز غير الله للذل صائرا ... وكل هنى من سواهُ منغص)
(وَفِي تَعب خود لَا عمى تزينت ... وَقَامَت لَهُ فِي ظلمَة اللَّيْل ترقص)
(فَلَا ترج من أهل الزَّمَان مَوَدَّة ... إِذا غلت الأسعار بِالتّرْكِ ترخص)
وَفِي مَعْنَاهُ قَول الصاحب ابْن عباد
(أردْت وصل عَليّ ... فَقَالَ كم ذَا الذُّنُوب)
(فَقلت كفر ذنوبا ... سلطتها فأتوب)
وَمن مستظرفاته قَوْله
(يَقُول من أهواه دَعْنِي وَتب ... يَا أَيهَا الْمفْتُون عَن حبي)
(فَقلت مر حسنك أَن لَا يرى ... مسلطا عشقا على قلبِي)
وَقَوله
(قد كساني حلَّة هَذَا الضنا ... خاطها فِي لِليْل وجد لَا يمل)
(ابر قد نَبتَت فِي مضجعي ... وخيوط من دموع لي تحل)
وَله
(رَئِيس تشفع بِي سيد ... اليه لأمر لقلبي طَبِيب)
(فَقلت استرح واعفه إِنَّه ... إِذا مطل الدَّاء مل الطَّبِيب)
وَفِي مَعْنَاهُ قَول الرئيس مُسْتَوْفِي اربل
(غرام قديم الشجو أعوز بُرْؤُهُ ... إِذا طَال مطل الدَّاء غير طبيبه)
وَمن ملحه قَوْله
(أَيهَا السائلي عَن ابْن فلَان ... وديون عَلَيْهِ دهرا مَلِيًّا)
(لَيْسَ يقضيك حَبَّة من دُيُون ... ويكيل الايمان كَيْلا وفيا)
(إِن تخاشنه فِي تقاضيه يَوْمًا ... صَار بِالْحلف دينه مقضيا)
وَلابْن بسام
(إِذا آلت إِلَى ضيق ديوني ... وباكرني التُّجَّار ليجذبوني)
(دفعتهم لمن لَو شَاءَ أدّى ... دُيُونهم إِلَيْهِم مُنْذُ حِين)(1/341)
(فَمَا فِي حكمه تقشير رِزْقِي ... وتعذيبي بحنثي فِي يَمِيني)
وَلابْن الرُّومِي
(وَإِنِّي لذُو حلف كَاذِب ... إِذا مَا اضطررت فِي الْحَال ضيق)
(وَهل من جنَاح غير مُسلم ... يدافع الله مَالا يُطيق)
وللعجلي
(وَإِن دَرَاهِم الْغُرَمَاء عِنْدِي ... معلقَة لَدَى بيض الأنوق)
(فَإِن دلفو لفت لَهُم بِحلف ... كمعطى الْبرد لَيْسَ بِذِي فنوق)
(وَإِن لانوا وعدتهم بلين ... وَفِي وعدي ثنيات الطَّرِيق)
(وَإِن وَثبُوا على وجردوني ... جلفت لَهُم كالضرام الْحَرِيق)
وَمن مجونه
(مولَايَ شكرا لفرج لقد رقيت بِهِ ... فاستشفع الْحر واسأله بِمَا وَمنى)
(واعضض عَلَيْهِ وعش فِي رقْعَة وغنى ... وانعم بعيش هني نلته بِهن)
وَله فِي مَعْنَاهُ
(قَالُوا فلَان قدرقي بِزَوْجَة ... لرتبة لم يَك قبلهَا جرى)
(فَقَالَت الزَّوْجَة لما أَن علا ... لَوْلَا حرى مَا كَانَ ذابه حرى)
وَنَحْوه قَول الآخر
(قل للامير وَلَا تفزعك هيبته ... وَإِن تعاظم وَاسْتولى بمنصبه)
(لَوْلَا فُلَانَة مَا استوزرت ثَانِيَة ... فاشكر حراصرت مَوْلَانَا الْوَزير بِهِ)
وَله وَهُوَ من مبدعاته
(لعمري لم أَبَد الْبكاء لذلة ... وَإِنِّي لسوء الذل لست مطيفا)
(وَلَكِن أَرَادَ الطّرف تبريد غلتي ... برد لماء الْوَجْه حِين أريقا)
وَله فِي الرثاء
(قد ضمه الْبَحْر فِي لج مَخَافَة أَن ... يُؤْذِي التُّرَاب لجسم فِيهِ بيليه)
(فالماء خر لى رَأس لفرقته ... والموج يلطم والأطيار تبكيه)
وَلآخر
(غريق كَأَن الْمَوْت رق لحسنه ... فلَان فِي صفحة المَاء جَانِبه)
(أَبى الله أَن يسلوه قلبِي فَإِنَّهُ ... توفاة فِي المَاء الَّذِي أَنا شَاربه)
وَلآخر
(وَلما لم تسعه الأَرْض جمعا ... تضمن جِسْمه الْبَحْر الْمُحِيط)
وَله فِي ثقيل
(ازمنا قد ثقيل فَهَل ... لَهُ على الْأَرْوَاح مناديون)
(تكرههُ الألحاظ منا لذا ... تلوذ بالأجفان منا الْعُيُون)
جعل الْعُيُون لائذة بالأجفان كِتَابَة حَسَنَة عَن تغميض الْعُيُون وَأَصله قَول ابْن الرُّومِي
(لنا صديق كلا صديق ... غث على أَنه سمين)
(إِذا بدا وَجهه لقوم ... لاذت بأجفانها الْعُيُون)(1/342)
(كَأَنَّهُ عِنْدهم غَرِيم ... حلت عَلَيْهِم بِهِ دُيُون)
وَله
(الْعرف قرض لمن تزكو مروءته ... يهوى الْأَدَاء لَهُ فِي حَال مقدرته)
(وَذَاكَ قيد لَهُ إِن لم يؤد فَلَا ... يفك إِلَّا بشكر أَو مكافأته)
أَصله قَول ابْن المعتز الْمَعْرُوف على الْخَيْر غل لَا يفكه إِلَّا شكر أَو مُكَافَأَة وَله غير ذَلِك مِمَّا إِذا تتبعته جَاءَ فِي مجلدة ضخمة والعنوان يدل على الطرس وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى يَوْم الثُّلَاثَاء لثنتي عشرَة خلت من شهر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَقد أناف على التسعين وَكَانَ توفّي قبله بِثَلَاثَة أشهر الْفَقِيه الْكَبِير مُحَمَّد بن أَحْمد الشَّوْبَرِيّ الملقب بالشافعي الصَّغِير فَقَالَ فيهمَا السَّيِّد الأديب أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَمَوِيّ الْمصْرِيّ يرثيهما وَكَانَ قَرَأَ عَلَيْهِمَا
(مضى الإمامان فِي فقه وَفِي أدب ... الشَّوْبَرِيّ والخفاجي زِينَة الْعَرَب)
(وَكنت أبْكِي لفقد الْفِقْه مُنْفَردا ... فصرت أبْكِي لفقد الْفِقْه وَالْأَدب)
قلت الْبَيْت الْأَخير مضمن من قَول جحظة الْبَرْمَكِي فِي رثاء أبي بكر بن دُرَيْد اللّغَوِيّ مَعَ تَغْيِير يسير وَذَلِكَ قَوْله
(فقدت يَا ابْن دُرَيْد كل فَائِدَة ... لما غَدا ثَالِث الْأَحْجَار والترب)
(وَكنت أبْكِي لفقد الْجُود مُنْفَردا ... فصرت أبْكِي لفقد الْجُود وَالْأَدب)
والخفاجي نِسْبَة إِلَى أَبِيه خفاجي وَلَا أَدْرِي مَعْنَاهُ وأصل وَالِده من سرياقوس من قَرْيَة من قرى الخانقاه وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن البتروني الْحلَبِي وَتقدم تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة ابْن عَمه إِبْرَاهِيم بن أبي الْيمن وَسَيَأْتِي أَبوهُ مُحَمَّد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن مفتي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ أحد كبراء حلب وَأحد رؤسائها وَكَانَ من أسخياء الْعَالم ذَا مُرُوءَة وهمة عالية وشهامة باهرة ولي الْقَضَاء مُدَّة مديدة ثمَّ تقاعد عَن رُتْبَة قَضَاء الشَّام وتصدر بحلب وانقاد إِلَيْهِ أَهلهَا ونفذت فِيمَا بَينهم كَلمته وجلت حرمته حصل أَمْوَالًا كَثِيرَة وجاها وافرا إِلَّا أَن بضاعته كَانَت كبضاعة أَبِيه مزجاة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف
السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُونُس الْمَدْعُو عبد النَّبِي بن أَحْمد بن السَّيِّد عَلَاء الدّين عَليّ ابْن السَّيِّد الحسيب النسيب يُوسُف بن حسن بن يس البدري نِسْبَة إِلَى السَّيِّد بدر الْوَلِيّ الْمَشْهُور المدفون بزاويته بوادي النُّور ظَاهر الْقُدس الشريف وَله ذُرِّيَّة(1/342)
لَا يُحصونَ كَثْرَة قَالَ صَاحب الْإِنْس الْجَلِيل بتاريخ الْقُدس والخليل ومناقبهم لَا تحصى وَذكر مِنْهُم جمَاعَة وسَاق نسب السَّيِّد بدر فَقَالَ بدر بن مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن بدر بن يَعْقُوب بن مظفر بن سَالم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحسن بن العريض الْأَكْبَر بن زيد بن زين العابدين بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ إِلَّا أَن الشَّيْخ أَحْمد كَانَ يخفي نسبه اكْتِفَاء بِنسَب التَّقْوَى المفضي للتنصل من أَسبَاب الْفَخر والجاه فِي الدُّنْيَا فتبعته على ذَلِك ذُريَّته وَكَانَت وَالِدَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْمدنِي من ذُرِّيَّة سيدنَا تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ وهم كَثِيرُونَ بِبَيْت الْمُقَدّس ووالدة صَاحب التَّرْجَمَة من بَيت الْأنْصَارِيّ وَلِهَذَا كَانَ يكْتب بِخَطِّهِ أَحْمد الْمدنِي الْأنْصَارِيّ وَتارَة سبط الْأَنْصَار ورباه وَالِده وَأَقَرَّاهُ بعض الْمُقدمَات الْفِقْهِيَّة على مَذْهَب الإِمَام مَالك لِأَن وَالِده تمذهب بِمذهب شَيْخه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عِيسَى التلمساني وَكَانَ من كبراء الْعلمَاء والأولياء بِالْمَدِينَةِ ورحل بِهِ وَالِده إِلَى الْيمن فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف فَأخذ عَن أَكثر علمائه وأوليائه خُصُوصا شُيُوخ وَالِده الْمَوْجُودين إِذْ ذَاك كالشيخ الْأمين بن الصّديق المراوحي وَالسَّيِّد مُحَمَّد الغرب وَالشَّيْخ أَحْمد السطيحة الزَّيْلَعِيّ وَالسَّيِّد عَليّ القبع وَالشَّيْخ عَليّ مطير وَمكث عِنْد وَالِده مُدَّة ثمَّ حدث لَهُ وَارِد مزعج فَخرج سائحاً من الْيمن حَتَّى وصل إِلَى مَكَّة وَمكث بهَا مُدَّة وَصَحب جمَاعَة كالسيد أبي الْغَيْث شجر وَالشَّيْخ سُلْطَان المجذوب وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة وَصَحب بهَا الشَّيْخ أَحْمد بن الْفضل بن عبد النافع ابْن الشَّيْخ الْكَبِير مُحَمَّد بن عراق وَالشَّيْخ الْوَلِيّ عمر بن القطب بدر الدّين العادلي وَالشَّيْخ شهَاب الدّين الملكاني وَغَيرهم ثمَّ لزم الشَّيْخ الْكَبِير أَحْمد بن عَليّ الشناوي الشهير بالخامي وتمذهب بمذهبه وسلك طَرِيقَته وَقَرَأَ كتبا فِي مشربه وَأخذ عَنهُ الحَدِيث وَغَيره وَلَا زَالَ ملازماً لَهُ حَتَّى اخْتصَّ بِهِ وزوجه ابْنَته واستخلفه ثمَّ أَخذ عَن رَفِيق شَيْخه فِي الْإِرَادَة السَّيِّد أسعد الْبَلْخِي ولازمه حَتَّى مَاتَ وَورث أَحْوَاله ثمَّ صحب خلقا يطول تعداد أسمائهم وَكَانَ جملَة من أَخذ عَنْهُم فِي طَرِيق الله تَعَالَى نَحْو مائَة شيخ مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْحَكِيم خَاتِمَة أَصْحَاب الْغَوْث مؤلف الْجَوَاهِر الْخمس وَمِنْهُم الْعَلامَة المنلا شيخ الْكرْدِي قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا وَلم يزل على قُوَّة حَاله حَتَّى انْتفع بِهِ النَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم وانتشر صيته وَكَثُرت أَتْبَاعه فِي أقطار الأَرْض وَشهد لَهُ أَوْلِيَاء وقته بِأَنَّهُ الإِمَام الْمُفْرد كالشيخ أَيُّوب الدِّمَشْقِي فَإِنَّهُ كتب إِلَيْهِ كتبا يَقُول فِي بَعْضهَا إِنِّي لأعْلم(1/344)
أَن لكل وَقت صَمد وَأَنَّك وَالله صَمد هَذَا الْوَقْت وَمِنْهُم الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مَقْبُول المحجب الزَّيْلَعِيّ وَالسَّيِّد عبد الله بن شيخ العيدروس بِحَيْثُ أَنه أَخذ عَنهُ فِي أَيَّام زيارته الْمَدِينَة وَمِنْهُم السَّيِّد الْعَلامَة الْوَلِيّ بَرَكَات التّونسِيّ وَالسَّيِّد عبد الْخَالِق الْهِنْدِيّ بل أَخذ عَنهُ كبار الشُّيُوخ كالسيد الْعَارِف بِاللَّه عبد الرَّحْمَن المغربي الإدريسي وَالشَّيْخ عِيسَى المغربي الْجَعْفَرِي وَالشَّيْخ مهنا بن عوض بامزروع وَالسَّيِّد عبد الله بافقيه وَجَمَاعَة من عُلَمَاء السَّادة بني علوي وَمن فُقَهَاء الْيمن من جعمان وَغَيرهم وَمِنْهُم نتيجة النتائج خَلِيفَته الروحاني إِبْرَاهِيم بن حسن الكوراني السهراني فَإِنَّهُ بِهِ تخرج وبعلومه انْتفع لَازمه مُدَّة حَيَاته وَصَارَ خَلِيفَته فِي التربية والإرشاد بعد مماته وَله مؤلفات كَثِيرَة الْمَوْجُود مِنْهَا نَحْو خمسين مؤلفاً مِنْهَا حَاشِيَة على الْمَوَاهِب وحاشية على الْإِنْسَان الْكَامِل للجيلي وحاشية على الكمالات الإلهية لَهُ وَشرح حكم ابْن عَطاء الله فِي مُجَلد ضخم وَشرح عقيدة ابْن عفيف وَكتاب النُّصُوص والكنز الْأَسْنَى فِي الصَّلَاة وَالسَّلَام على الذَّات المكملة الْحسنى وعقيدة منظومة فِي غَايَة الْحسن والاختصار وَكَانَ إِمَام الْقَائِلين بوحدة الْوُجُود حَافِظًا للمراتب الشَّرْعِيَّة متضلعاً من أذواق السّنة كثير النَّوَافِل وَالصِّيَام كَامِل الْعقل وَالْوَقار وَوصل إِلَى مقَام الختمة فِي عصره فقد قَالَ فِيمَا وجد بِخَطِّهِ على هَامِش رِسَالَة الْعَارِف بِاللَّه سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ باعلوي الْمُسَمَّاة بشق الجيب فِي معرفَة رجال الْغَيْب عِنْد قَوْله والختم وَهُوَ وَاحِد فِي كل زمَان يخْتم الله بِهِ الْولَايَة الْخَاصَّة وَهُوَ الشَّيْخ الْأَكْبَر انْتهى مَا نَصه الَّذِي يتَحَقَّق وجدانه أَن الختمة الْخَاصَّة مرتبَة إلهية ينزل بهَا كل أحد لَهَا حسب وقته وزمانه غيرم منقطعه أَبَد الآباد إِلَى أَن لَا يبْقى على وَجه الأَرْض من يَقُول الله الله لعدم خلو الْمَرَاتِب الإلهية عَن القائمين بهَا حَتَّى يصير الْقَائِم بهَا كالصفر الْحَافِظ لمرتبة الْعدَد فميا قبله وَبعده بأنفاسه تتمّ الصَّالِحَات وتقضى الْحَاجَات وَقد تحققنا بذلك حَقًا ونزلنا منازلة وصدقاً وَمِمَّنْ رَأَيْته من مشايخي من أهل الختمة الْمَذْكُورَة سنداً مُتَّصِلا مِنْهُم إِلَيْنَا من غير انْقِطَاع بِإِذن الله تَعَالَى خَمْسَة أنفس سادسهم كلبهم لَا رجماً بِالْغَيْبِ وربه ثمَّ قَالَ بعْدهَا قَالَه عبد الْجَمِيع أَحْمد بن مُحَمَّد الْمدنِي وَمثله لَا يتَكَلَّم بِمثل هَذَا الْكَلَام إِلَّا عَن إِذن إلهي وَنَفث روعي وَله ديوَان شعر مِنْهُ قَوْله
(أَضَاءَت لنا بالرقمتين على نجد ... لوامع أنوار فهيجن لي وجدي)(1/345)
(وذكرنني الْعَهْد الْقَدِيم ورامة ... وأوقات أنس مَا برحب بهَا أشدي)
(وكأس مدام أدهقته كَرِيمَة ... تسمت بأسماها الربَاب مَعًا هِنْد)
(فَلَمَّا تحسى الْقَوْم كأس غرامها ... غدوا لَهَا يشدون بِالْعلمِ الْفَرد)
(فهم فتية صرف الغرام قُلُوبهم ... بمشهدها الْأَعْلَى لَدَى صفوة الْجند)
(فَسَارُوا بهَا نَحْو الإضاءة يَبْتَغُوا ... خلاصاً إِلَيْهَا والبنود لَهُم تهدي)
(أذلا لسلطان المليحة صبوة ... وذل الْهوى مستعذب الصَّدْر والورد)
(فَلَمَّا اجتلوا للاسم جال بوسمه ... فأبدى مُسَمَّاهُ بِزَيْنَب والدّعد)
وَقَوله أَيْضا
(يَا قُرَّة الْعين إِن الْعين فِيك جلت ... مَحْض العيان بمسموع ومبصور)
(فامتع قراك على علم بِذَاكَ فَذَاك ... الْغَيْب شاهدنا فِي كل مَنْظُور)
وَله
(هذي صلات الَّذِي دَامَت صلَاتهم ... مذ حَافظُوا بدوام النفح فِي الصُّور)
وَقَوله
(وَفِي مهجتي من نَار وَجدك فارض ... يقسم مِيرَاث الصبابة للْكُلّ)
(يعشقني فِيهِ إِلَيْهِ بِوَجْهِهِ ... بِوَحْي وتكليف على مِلَّة الرُّسُل)
(وَيَدْعُو إِلَى صرف اللِّقَاء بِمَوْت مَا ... ترا آه وهمي مذ تعين بالشكل)
(فَهَل من سَبِيل والكفاح مُصَرح ... بِوَجْه محيا طالع الْبَدْر فِي نزل)
(فَفِي الْفرق تَعْذِيب عذوبة مَائه ... مجاذبة الْأَسْمَاء فِي شاخص الظل)
(وَأَنِّي أَنا المجذوب وَالْكل جاذب ... وقبلتنا الشّطْر الْحَرَام مَعَ الْكل)
وَقَوله
(لَا تعر عقلك غَيْرك ... فترى من بعد تندّم)
(إِنَّمَا الْعقل ضِيَاء ... يهد للَّتِي هِيَ أقوم)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله نَهَار الْإِثْنَيْنِ آخر سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ شَرْقي قبَّة السيدة حليمة السعدية رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْعجل بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم ابْن الشَّيْخ القطب الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل أَبُو الوفا اليمني الامام الْبَحْر الْعَارِف الاستاذ الشهير بالعجل بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وَالصَّوَاب فتح الْعين وَكسر الحيم كَذَا ضَبطه شَيخنَا عَلامَة الْقطر الْحِجَازِي الْحسن بن عَليّ العجيمي الْحَنَفِيّ فِيمَا كتبه إِلَى من خَبره وذكرانه ولد فِي بلدته الْمَعْرُوفَة بِبَيْت الْفَقِيه ابْن عجيل وَنَشَأ فِي حجر أَبَوَيْهِ فحفظه وَالِده الْقُرْآن وأقرأه فِي الْمِنْهَاج الفقهي وَألقى إِلَيْهِ مَا لَدَيْهِ(1/346)
من الْمَعْلُوم الظَّاهِرَة والباطنة وَأَجَارَهُ وَحج بِهِ وزار النَّبِي
مَرَّات وَأخذ عَن شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ كَالْقَاضِي الْأَجَل عَليّ بن جَار الله بن ظهيرة بِمَكَّة وَالشَّيْخ المعمر حميد السندي بِالْمَدِينَةِ وَتزَوج وَولد لَهُ أَبُو الزين مُوسَى فِي سنة أَربع بعد الْألف وفيهَا دخل إِلَى زبيد وَمكث بهَا نَحْو احدى عشرَة سنة لَا يخرج مِنْهَا إِلَّا لِلْحَجِّ أَو زِيَارَة أَبِيه نَادرا ولازم بهَا الشَّيْخ الْعَلامَة الْوَلِيّ الزين بن المزجاجي فَقَرَأَ عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة مِنْهَا الفتوحات المكية وَأخذ عَن عُلَمَاء زبيد ونواحيها كالشيخ الصّديق الْخَاص وَأَجَازَهُ وَكَذَا أجَاز لَهُ مُسْند الْيمن السَّيِّد الطَّاهِر بن الْحُسَيْن الأهدل خَاتِمَة الآخذين عَن الديبع سَمَاعا وسلك على طَريقَة آبَائِهِ الأكرمين مَعَ الْعِنَايَة بِقِرَاءَة الحَدِيث وَغَيره حَتَّى وَفد إِلَى زبيد الشَّيْخ تَاج الدّين النقشبندي فَأخذ عَنهُ هُوَ ووالده وَأهل بَيته ولازمه ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة وَانْقطع بهَا مجاورا مَعَ وَلَده مُوسَى عِنْد الشَّيْخ تَاج الدّين سنة أَو أَكثر حَتَّى وصل إِلَى رُتْبَة الْخلَافَة وَكَانَ الشَّيْخ تَاج يجله حَتَّى كَانَ يجسله مَعَه على السرير وَسَائِر الْجَمَاعَة تحتهما وَمكث فِي بلدته مَقْصُود للزيارة والارشاد وَالرِّوَايَة وتعمر حَتَّى ألحق الأحفاد بالأجداد فَإِنَّهُ روى عَمَّن ذكر بِالْقِرَاءَةِ وَالسَّمَاع والاجازة وبالاجازة فَقَط عَن الشَّيْخ الامام الْبَدْر بن الرضى الْغَزِّي الدِّمَشْقِي قلت رِوَايَته عَن الْبَدْر الْغَزِّي غير بعيدَة بِأَن يكون أَبوهُ استجازه لَهُ بالمكاتبة وَيكون إِذْ ذَاك سنة سنة وَاحِد فَإِن وَفَاة الْبَدْر فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وولادة صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ومسافة الطَّرِيق سنة فصح مَا قلته وَله رِوَايَة عَن القطب الْمَكِّيّ وَعَن الامام يحيى الطَّبَرِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد النحراوي الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن فَهد وَغَيرهم وَكَانَ مِمَّن جمع لَهُ بَين الْعُلُوم الظَّاهِرَة والباطنة وَأظْهر على يَدَيْهِ الْأَسْرَار والكرامات الباهرة وَله فَوَائِد ونوادر من جُمْلَتهَا لدفع الْأَعْدَاء فِي كل صباح وَمَسَاء ثَلَاثًا اللَّهُمَّ يَا مخلص الْمَوْلُود من ضيق مَخَاض أمه وَيَا معافي الملدوغ من حمة سمه وَيَا قَادِرًا على كل شَيْء بِعِلْمِهِ أَسأَلك بِمُحَمد واسْمه أَن تكفيني كل ظَالِم يَظْلمه فَإنَّك فكفاه وَكَانَت وَفَاته بعد صَلَاة الْعشَاء من اللَّيْلَة الَّتِي تسفر صبيحتها عَن رَابِع عشر شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَألف وَجَاء تَارِيخ مَوته شيخ أجل مكمل وَدفن خَارج قبَّة وَالِده الْمَشْهُورَة بِبَلَدِهِ وَخَلفه وَلَده الْعَالم الْوَلِيّ أَبُو الزين مُوسَى الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَرْوَان القَاضِي بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد القَاضِي ابْن أبي(1/347)
مجلى العباسي الْمَالِكِي المغربي التجموعتي السجلماسي الْحَافِظ الإِمَام الْمُحدث الْعَالم من بَيت الرياسة وَالْعلم بسجلماسة وَكَانَ عَلامَة نحويا فَقِيها مقريا شَائِع الصيت ذائع الذّكر توفّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ لَهُ ثَلَاث أخوة مُحَمَّد وَعبد الْعَزِيز وَعبد الْملك وَكلهمْ عُلَمَاء أجلاء وأبوهم مُحَمَّد عَالم مُعْتَقد مَعْدُود من أَوْلِيَاء زَمَانه مَاتَ مُحَمَّد سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَعبد الْعَزِيز مَاتَ سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَعبد المملك وَحج وجازر وَقَرَأَ فِي الْحَرَمَيْنِ الحَدِيث والعلوم وَهُوَ الْآن قَاضِي سجلماسة ولعَبْد الْعَزِيز ولد اسْمه أَحْمد عَلامَة كَبِير متبحر فِي الْعُلُوم ثَبت الرِّوَايَة قدم مصر وَحج وزار الْبَيْت الْمُقَدّس وَوجدت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل الأديب إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان الجينيني أَن أَحْمد هَذَا أخبر حِين قدم الرملة مُتَوَجها لزيارة الْقُدس وَذَلِكَ نَهَار الثُّلَاثَاء سادس عشرى رَجَب سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف أَنه قَرَأَ كتابا بِمصْر جَاءَ من ملك سنار يُخَاطب بِهِ القَاضِي عمر السُّوسِي المغربي قَاضِي الْمَالِكِيَّة بِمصْر يتَضَمَّن بعد السَّلَام عَلَيْهِ آيَة كبرى وَهِي أَنه يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْعَصْر الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف سقط حجر ياقوت من السَّمَاء وَوجد يفه مَكْتُوب بقلم الْقُدْرَة لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ثمَّ بعد ذَلِك بأيام وَقع حجر آخر صَغِير مَكْتُوب عَلَيْهِ لَا إِلَه إِلَّا الله وَذكر أَنه أرسل الْحجر السَّاقِط أَولا إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام والتحية انْتهى وَسَأَلت بعد ذَلِك صاحبنا الجينيني عَن هَذَا الْخَبَر فَقَالَ حَدثنَا بِهِ جمَاعَة أَنا فضلاء الرملة وَأَخْبرنِي أَنه أَخذ عَنهُ بهَا جمع من فضلائها وَسَأَلته عَن خَبره بعد ذَلِك فَقَالَ انْقَطع عَنَّا وَالظَّاهِر أَنه فِي الْأَحْيَاء الْآن والتجموعتي بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون الْجِيم وَضم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَبعدهَا تَاء مثناة سَاكِنة نِسْبَة إِلَى بَلْدَة بالسوس والسجلماسي بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَالْجِيم وَسُكُون اللَّام وَفتح الْمِيم وَألف وسين ثَانِيَة وهاء نِسْبَة إِلَى ولَايَة مَشْهُورَة وَهِي مَدِينَة تلِي الخضراء الفاصلة بَين بِلَاد الْمغرب وبلاد السودَان وَلَيْسَ فِي جنوبها وغربها عمَارَة وَالله تَعَالَى أعلم
الشريف أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَارِث بن الْحُسَيْن بن أبي نمى السَّيِّد الشريف الْأَفْضَل كَانَ آيَة فِي الْعقل والذكاء مرجعاً للأشراف الحسنيين مُلُوك مَكَّة فِي جَمِيع امورهم وَإِذا حكم بِأَمْر لَا يقدر أحد أَن يسْتَدرك عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئا لحسن أَحْكَامه وَلما وَقع بَين الشريف سعد بن زيد وين حسن باشا صَاحب جدة مَا وَقع وَذهب للمدينة ولي(1/348)
صَاحب التَّرْجَمَة وَلم يتم لَهُ ذَلِك وَكَانَت وَفَاته تَاسِع رَجَب سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن فِي قبه جده الشريف حسن إِلَى جنب تابوته مِمَّا يَلِي الشرق وَوضع عَلَيْهِ تَابُوت عَظِيم وَخلف أَوْلَاده أمجادا أكبرهم السَّيِّد مُحَمَّد كريم مَشْهُور وشجاع مخبور لَيْسَ فِي عصره أحد يماثله من الْأَشْرَاف جودا وسخاء وَأَخُوهُ السَّيِّد نَاصِر أحد دهاة الْأَشْرَاف وعقلائهم المرجوع إِلَيْهِم فِي الْمُهِمَّات كَانَ الشريف بَرَكَات يَقُول لَا أَخَاف من أحد من الْأَشْرَاف مَا أَخَاف من نَاصِر
الْأَمِير أَحْمد بن مُحَمَّد معصوب بن نصير الدّين بن إِبْرَاهِيم الملقب نظام الدّين الْأَمِير بن الْأَمِير الصَّدْر العالي الْقدر وَالِد السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم صَاحب السلافة ذكره ابْنه فِي سلافته فَقَالَ فِي تَرْجَمته ناشر علم وَعلم وشاهر سيف وقلم وراقي رَبًّا نجد وسامي وَعلا ومجد إِمَام ابْن إِمَام وَهَمَّام ابْن همام وَكفى شَاهدا على هَذَا المرام قَول بعض أجداده الْكِرَام لَيْسَ فِي نسبنا إِلَّا ذُو فضل وحلم حَتَّى نقف على بَاب مَدِينَة الْعلم وَهَذَا فرع طابق أَصله ومبرز أحرز فَصله طلع فِي الدَّهْر غره فَمَلَأ الْعُيُون قره فَأَلْقَت إِلَيْهِ الرياسة قيادها وأقامت بِهِ السِّيَادَة منآدها فَأصْبح ومرتبته الْعليا وَعَبده الدَّهْر وَأمته الدُّنْيَا إِلَى علم بهرت حجَّته كالبحر زخرت لجته قذف درا فكشف ضرا وناهيك بمعرق أصل ذِي منطق فصل وَأَنا مَتى نعت حَسبه فَإِنَّمَا أَنعَت مجدي وَمَتى وصفت نسبه فَإِنَّمَا أصف جدي بيد أَنِّي أَقُول وَإِن دغم كل أبي
(هَذَا أبي حِين يعزي سيدلاب ... هَيْهَات مَا للورى يَا دهر مثل أبي)
مولده ومنشأه الطَّائِف بالحجاز والقطر الَّذِي هُوَ موطن الشّرف على الْحَقِيقَة وَسَوَاء الْمجَاز سنة سبع وَعشْرين وَألف وربى فِي حجر الْحجر وغذي بدرزمزم فغرد طَائِر يمنه على فتن سعده وزمزم وَلما ضَاعَ أرج ذكره نشر أَو تهلل محيا الْوُجُود بفضله بشرا وغار صيته وأنجد وأذعن لمجده كل همام أمجد عشقت أَوْصَافه الاسماع وتطابع على نبله العيان وَالسَّمَاع فاستهداه مَوْلَانَا السُّلْطَان إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة واستدعاه إِلَى سدته المنيفة فَدخل إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة عَام خمس وَخمسين وَألف فأملكه من عَامه ابْنَته وَأَسْكَنَهُ من انعامه جنته وَهُنَاكَ امْتَدَّ فِي الدُّنْيَا بَاعه وعمرت بإقباله رباعه وقصده الغادي والرائح وخدمته القرائح بالمدائح فَهُوَ متحلى من محتده الطَّاهِر ومفخره الباهر الظَّاهِر بِفضل تثني عَلَيْهِ الخناصر وتثنى عَلَيْهِ العناصر وأدب تشهد بِهِ الْأَعْلَام ونستمد مِنْهُ السّنة الأقلام قلت وَقد ذكر فِي كِتَابه(1/349)
الْمَذْكُور كثيرا من مدائح الشُّعَرَاء فِيهِ وَجُمْلَة كَافِيَة من شعره وقطعا بديعة من نثره وَمرَاده بالسلطان الَّذِي استدعاه إِلَيْهِ وزوجه ابْنَته وضمه إِلَيْهِ شاهنشاه عبد الله بن مُحَمَّد قصب شاه ملك حيدر آباد وَمَا والاها من الْبِلَاد وَقد انْتَهَت إِلَيْهِ بِسَبَب تقربه إِلَى السُّلْطَان بِتِلْكَ الأَرْض الرياسة وقصده النَّاس من أقْصَى الْبِلَاد النائية وساس أحسن سياسة حَتَّى أدْرك السُّلْطَان أَجله وظنه أَن يكون ملكا بعده فَم ينم لَهُ مَا أمله وَتَوَلَّى الْملك بعده الميرز أَبُو الْحسن من الْعَجم المقربين إِلَى الْملك الْمَزْبُور فِي قصَّة يطول شرحها فَقبض عَلَيْهِ وسجنه إِلَى أَن وفاه أَجله وَلَقي مَا عمله وَمن شعره قَوْله
(مثير غرام المستهام ووجده ... وميض سرى من غور سلع ونجده)
(وَبَات بأعلا الرقمتين التهابه ... فظل كئيبا من تذكره عَهده)
(يحن إِلَى نَحْو اللوى وطويلع ... وبانات نجد والحجاز ورنده)
(وضال بِذَات الضال مرح غصونه ... تفيأه طبي يميس بِبرْدِهِ)
(يغار إِذا مَا قست بالبدر وَجهه ... ويغضب إِن شبهت وردا نجده)
(كثير التجني ذُو قوام مهفهف ... صبيح الْمحيا لَيْسَ يُوفي بوعده)
(مليح تسامى بالملاحة مُفردا ... كشمس الضُّحَى والبدر فِي برج سعده)
(ثناياه برق والصباح جَبينه ... وَأما الثريا قد أنيطت بعقده)
(فَمن وَصله سُكْنى الْجنان وطيبها ... وَلَكِن لظى النيرَان من نَار صده)
(ترا آي لنا بالجيد كالظبي لفتة ... أُسَارَى الْهوى فِي حكمه بعض جنده)
(روى حسنه أهل الغرام وَكلهمْ ... يتيه إِذا مَا شاهدوا ليل جعده)
(يعنعن علم السحر هاروت لحظه ... ويروي عَن الزَّمَان كاعب نهده)
(مضاء اليمانيات دون لحاظه ... وَفعل الردينيات من دون قده)
(إِذا مَا نضا عَن وَجهه بعض حجبه ... صبا كل ذِي نسك ملازم زهده)
(وَأبْدى محيا قاصرا عَنهُ كل من ... أَرَادَ لَهُ نعتا بتوصيف حَده)
(هُوَ الْحسن بل حسن الورى مِنْهُ مجتدي ... وَكلهمْ يعزي لجوهر فَرده)
(وَمَا تفعل الراح العتيقه بعض مَا ... بمبسمه بالمحتسى صفو وده)
وَقَوله فِي مليح
(يَا جوهرا فَردا علا ... من أَيْن جَاءَك ذَا الْعرض)
اعتل طرفه
(وعلام طرفك ذَا الْمَرِيض ... أعله هَذَا الْمَرَض)(1/350)
(عهدي بِهِ مِمَّا يُصِيب ... فَكيف صَار هُوَ الْغَرَض)
(هَا قلبِي المعمود نصب ... للتوائب يرتكض)
(فاجعله يَأْكُل المنى ... بَدَلا لما بك أَو عوض)
(فَاسْلَمْ مدى الْأَيَّام يَا ... ذَا الْحسن مَا برق ومض)
(فمذ اعتللت أَخا لَهَا ... فِي الطّرف طرفِي مَا غمض)
(أَنْت المُرَاد وَلَيْسَ لي ... فِي غير وصفك من غَرَض)
وَقَوله
(خلت خَال الخد فِي وجنته ... نفطة العنبر فِي جمر الغضا)
(دَامَت الأفراح لي مذ أَبْصرت ... مقلتي صبح محيا قد أضا)
(يتَمَنَّى الْقلب مِنْهُ لفتة ... وَبِهَذَا اللحظ للعين رضَا)
(جَاهِل رام سلوا عَنهُ إِذْ ... حظر الْوَصْل وأولاه النضا)
(هامت الْعين بِهِ لما رَأَتْ ... حسن وَجه حِين كُنَّا بالأضا)
وَقَوله
(سلوا بطن مرو والغميم وموزعا ... مَتى اصطافها ظِلِّي التقا وتربعا)
فِي الْغَزل
(وَهل حل من شرقيها أَرض عجلة ... وَقد جادها مزن فَسَأَلَ وأمرعا)
(سقى تِلْكَ من نوء السماكين حفل ... سحائب غيث مربعًا ثمَّ مربعًا)
(تظل الصِّبَا تحدو بهَا وَهِي نعم ... وتنزلها سهلا وحزنا وأجرعا)
(فَتلك مغان لَا تزَال تحلها ... مد ملجة السَّاقَيْن مهضومة المعا)
(ربيبة خدر الصون والترف الَّذِي ... يزِيد على بدر اللَّيَالِي تمنعا)
(تروت من الْحسن الْبَهِي خدودها ... وقامتها كالغصن حِين ترعرعا)
وَكتب إِلَى الشَّيْخ مُحَمَّد الشَّامي رقْعَة صورتهَا يَا مَوْلَانَا عمر الله بِالْفَضْلِ زَمَانك وأنار فِي الْعَالم برهانك سمحت للْعَبد قريحته فِي ريم هَذِه صفته بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(نراآي كالظبي خَائِف من حبائل ... يُشِير بِطرف ناعس مِنْهُ فاتر)
(وَقد ملئت عَيناهُ من سحب جفْنه ... كنرجس روض جاده وبل ماطر)
فَإِن رأى الْمولى يجيزهما ويجيرهما من النَّجس فَهُوَ المأمول من خصائل تِلْكَ النَّفس وَإِن رآهما من الغث فليدعهما كأمس وَلَعَلَّ الِاجْتِمَاع لكم فِي هَذَا الْيَوْم بعد الظّهْر وَقبل الْعَصْر لنحسو من كؤوس المحادثة مَا راق بعد الْعَصْر والمملوك كَانَ على جنَاح ركُوب بيد أَنه كتب هَذِه البطاقة وأرسلها إِلَى سوق أدبكم العامرة الَّتِي مَا برح إِلَيْهَا كل خير مجلوب(1/351)
(فأسبل السّتْر صفحا أَن خلل ... تهتك بِهِ ستر أَعدَاء وحساد)
فَكتب إِلَه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ بديهة
(ولرب ملتفت يَا جِيَاد المها ... نحوي وأيدي العيس تنفث سمها)
(لم يبك من ألم الْفِرَاق وَإِنَّمَا ... يسْقِي سيوف لحاظه ليسمها)
ثمَّ نظم المعني بِعَيْنِه فَقَالَ
(وَلَقَد يُشِير إِلَيّ عَن حدق المها ... والرعب يخْفق فِي حشاه الضامر)
(غشت نواظره الدُّمُوع كَأَنَّهَا ... مَاء ترقرق فِي متون بواتر)
(رقت شمائله ورق أديمه ... فتكاد نشر بِهِ عُيُون النَّاظر)
وَقَالَ أَحْمد الْجَوْهَر مُعَارضا
(وظبي غرير بالدلال محجب ... يرى أَن ستر الْعين فرض المحاجر)
(رماني بِطرف أسبل الدمع دونه ... لِئَلَّا أرى عَيْنَيْهِ من دون سَاتِر)
وَلما وقفت أدباء الْيمن على بَيْتِي النظام تجاروا فيهمَا بسوابق النظام فَقَالَ السَّيِّد حسن بن المطهر الجرموزي
(وريم فَلَا أصل المحاسن فَرعه ... تبدى كبدر فِي الدجى للنواظر)
(سباني بجفن أدعج ماج مَاؤُهُ ... فطرز شهب الدمع ليل البواتر)
وَقَالَ حسن بن عَليّ باعفيف
(وخشف عَلَيْهِ الْحسن أوقف نَفسه ... لَهُ نَاظر يحميه من كل نَاظر)
(نظرت إِلَيْهِ نَاظرا در دمعه ... فنظام فكري هام فِي در ناثر)
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الله الزنْجِي
(وطرف لَهُ فعل السيوف البواتر ... يُصِيب بِهِ مستلئما دون حاسر)
(رمى ورنا فانهل بالدمع جفْنه ... كدر حواه سمط نظم الْجَوَاهِر)
وَقَالَ السَّيِّد عَليّ صَاحب السلافة
(وَللَّه ظَبْي كالهلال جَبينه ... رماني بِسَهْم من جفون فواتر)
(جرت بمآقيه الدُّمُوع كَأَنَّهَا ... سقاء فريد فِي شفار بواتر)
وللنظام غير ذَلِك مِمَّا رق وراق من الْأَشْعَار الفائقة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف بِمَدِينَة حيدر آباد
أَحْمد باشا بن مُحَمَّد باشا الْوَزير الْأَعْظَم الْمَعْرُوف بالفاضل أَحْمد باشا الكوبري الأَصْل(1/352)
القسطنطيني المولد أحد وزراء الدولة العثمانية بل أوحدهم الَّذِي عزت بِهِ السلطنة وافتخرت الدولة وَكَانَ فِي وقته من مفاخره السامية وأفراده المتعالية وَبِه ظهر رونق الزَّمن وَعلا قدر الْفضل وَكَانَ عصره إِلَى أواسط مدَّته أحسن العصور وقته أَنْضَرُ الْأَوْقَات وَلم يكن فِي الوزراء من يحفظ أَمر الدّين وقانون الشَّرِيعَة مثله صعباً شَدِيدا فِي أُمُور الشَّرْع سهلاً فِي أُمُور الدُّنْيَا وَكَانَ حاذقاً مُدبر للْملك قَائِما بضبطه وَملك من نفائس الْكتب وعجائب الذَّخَائِر مَا لَا يدْخل تَحت الْحصْر وَلَا يضْبط بالاحصاء ولد بقسطنطينية وَنَشَأ بهَا واعتنى أَبوهُ بتهذيبه وأقرأه الْعُلُوم حَتَّى مهر وسمت همته نَحْو معالي الْأُمُور وسلك فِي بداية أمره طَرِيق المدرسين ثمَّ عدل إِلَى طَرِيق وَالِده فَتَوَلّى وَأَبوهُ فِي الصدارة الْعُظْمَى ولَايَة أَرض روم ايلي فظهرت كِفَايَته وحمدت طَرِيقَته ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى حُكُومَة الشَّام وأعطيها برتبة الوزارة وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وقدمها وَكَانَت أمورها مختلة النظام فأصلها وتقيد فِي أُمُور الْأَوْقَاف وأزال مَا بهَا من محدثات الْوَظَائِف وَغَيرهَا وَركب على أَوْلَاد معن وَبني شهَاب وَأقَام بالبقاع العزيزي أَيَّامًا حَتَّى أزالهم عَن بِلَادهمْ وقمع أهل الْفِتَن وَكَانَ قبل وَطْأَة قدمه دمشق ولغت بهَا أَيدي الْقَحْط حَتَّى عَمها وَبَلغت غرارة الْحِنْطَة فِي الثّمن إِلَى ثَمَانِينَ قرشا فنفع النَّاس فِي جلب الحبوبات من مصر وَأمر هُوَ بالبقاع بعمارة قاعة معظمة دَاخل درا الْإِمَارَة بِدِمَشْق فبنيت على أسلوب عَجِيب وَوضع غَرِيب ثمَّ طلب من الْبِقَاع إِلَى الرّوم فَسَار بالسرعة وعزل عَن حُكُومَة دمشق وجاءه أَمر حُكُومَة حلب وَهُوَ ذَاهِب فِي الطَّرِيق وَلم يدخلهَا وَبعد وُصُوله إِلَى قسطنطينية صَار قَائِما مقَام أَبِيه فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان إِذْ ذَاك بأدرنة وَأقَام أَيَّامًا قَليلَة ثمَّ طلب إِلَى أدرنة وَكَانَ وَالِده قد ابتدأه الْمَرَض فَلَمَّا وَصلهَا صَار قَائِما مقَامه فِي حَيَاته وَبعد أَيَّام قَليلَة توفّي وَالِده فَتَوَلّى مَكَانَهُ وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف وأرخ بَعضهم تَوليته بقوله دولته نعْمَة الْإِلَه وسلك طَرِيقا فِي وزارته لم يسْبقهُ إِلَيْهَا أحد وَبلغ من الْأَحْكَام ونفوذ القَوْل مبلغا لَيْسَ فِيهِ مستزاد وَلم يبْق للنَّاس سوى التَّمَسُّك بعنايته ومراعاة حَاشِيَته وَكَانَ صائب الرَّأْي كَامِل الفراسة وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهِ من الفطنة أَنه جَاءَهُ يَوْمًا شخص بتوقيع فتفرس فِيهِ أَنه مَصْنُوع فَنَاوَلَهُ لأحد جماعته وَأمره بحفظه وَمضى على ذَلِك سِتّ سنوات فَجَاءَهُ يَوْمًا شخص آخر برقعة فَلَمَّا رَآهَا طلب التوقيع فجيء بِهِ فقابله على الرقعة ثمَّ سَأَلَ صَاحبهَا عَن كاتبها(1/353)
فَأخْبرهُ بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ أرَاهُ التوقيع وَقَالَ أَلَيْسَ هَذَا بخطك فاعترف بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كتبه فَأمر بِقطع يَمِينه وَعين لَهُ من بَيت المَال مَا يَكْفِيهِ فِي كل يَوْم وقصده الشُّعَرَاء من الْبِلَاد ومدحه جمَاعَة مِنْهُم وَالِدي المرحوم فَإِنَّهُ مدحه بِثَلَاث قصد أحداها الَّتِي أَولهَا
(طيف يمثله الغرام بفكره ... أرجا يحار بطيه وبنشره)
وَهِي قصيدة فائقة فِي بَابهَا وَكتب إِلَيْهِ رسائل عَجِيبَة الْإِنْشَاء وترجمه تَرْجَمَة استوعب الْمَدْح بِجَمِيعِ أفانينه فِيهَا وَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير المنجكي فِي صدر رِسَالَة
(يَا سيد الوزراء دَعْوَة مقْعد ... محت الْحَوَادِث رسمه فَعَسَى عَسى)
(فَانْظُر إِلَيْهِ برأفة بل رَحْمَة ... يَكْفِيك من جرح الأسا ياما احتسى)
(قد كَانَ سحبان الزَّمَان فَضِيلَة ... قطعت علوفته فَأصْبح أخرسا)
وَمن الْغَزَوَات الَّتِي وَقعت أَيَّام وزارته وَعين إِلَيْهَا غَزْوَة إيوار عينه السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى فتحهَا فَسَار بِجَمِيعِ العساكر إِلَيْهَا وحاصرها وَوَقع بَينه وَبَين كفار المجر وقْعَة عَظِيمَة ومكروا بعسكره مَرَّات وخلصهم الله تَعَالَى بيمن تَدْبيره ثمَّ افتتحها فِي حادي عشري صفر سنة أَربع وَسبعين وَألف وَهدم مِمَّا يَليهَا قلعة تسمى بالقلعة الجديدة كَانَت الْكفَّار بنوها ليتحصنوا بهَا وَبَعْدَمَا قدم إِلَى مقرّ الدولة وَاسْتقر مُدَّة وَقد قويت شوكته وعظمت مهابته أَمر مخدومه بِالسَّفرِ إِلَى جَزِيرَة كريد لفتح بَلْدَة قندية الَّتِي كَانَت بَقِيَّة فِي هَذِه الجزيرة من بَين بلادها لم تفتح كَمَا شرحنا ذَلِك فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان إِبْرَاهِيم فوصلها فِي خَامِس ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسبعين وَألف وَبنى بِالْقربِ مِنْهَا مَكَانا كَانَ متهدماً لتهيئة مهمات الْحصار ثمَّ نزلها بِمن مَعَه من العساكر وَكَانَ أَهلهَا حصنوها بأَشْيَاء لَا يُمكن حصرها وأضافوا لسورها سوراً آخر عمروه من دَاخل السُّور الْقَدِيم وَطَالَ الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ مُدَّة ثمَّ افتتحها صلحا فِي غرَّة جُمَادَى الأولى سنة ثَمَانِينَ وَألف ووردت البشائر إِلَى الْأَطْرَاف بالزينة وَكَثُرت تباشير النَّاس بِفَتْحِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن أمرهَا كَانَ بلغ الْغَايَة وَطَالَ حَتَّى مل النَّاس من خَبَرهَا وَأَكْثَرت الشُّعَرَاء من التواريخ لهَذَا الْفَتْح وعملت الْقَصْد العجيبة حَتَّى رَأَيْت بعض الْفُضَلَاء أفرد الْأَشْعَار الَّتِي نظمت فِي ذَلِك وَفِي مدح الْوَزير صَاحب التَّرْجَمَة فبلغت شَيْئا كثيرا وَمن نوادرها التَّارِيخ اللَّفْظِيّ الْمَعْنَوِيّ لصاحبنا الشَّيْخ الْفَاضِل أَحْمد الصَّفَدِي وَهُوَ قَوْله فِي عَام ألف وَثَمَانِينَ عَام وَمن التهنئات(1/354)
قصيدة الْعَلامَة الأديب الْمَشْهُور مصطفى بن عُثْمَان البابي الْحلَبِي قَاضِي الْمَدِينَة المنورة الْآتِي ذكره وَهِي من جيد شعره ومطلعها
(لَك الله من ندب أذاهم صمما ... وطلاع أنجاد إِذا أم تمما)
(نقاب بأعقاب الْأُمُور مُحدث ... كَأَن لَهُ مِنْهَا عَلَيْهَا مسترجما)
(إِذا عرضت فِي جَانب الْملك زيغة ... أَرَاهَا قذى الأجفان أَو تتقوما)
(وَقَامَ بأعباء الوزارة ناصحاً ... ووطأ فاستقصى وشاد فأحكما)
(من النَّضر الغر الألى تركت لَهُم ... عزائمهم فِي غرَّة الدَّهْر مبسما)
(إِذا ظمئت بيض الظبا فِي أكفهم ... تحاشوا لَهَا وردا سوى مصدر الظما)
(لقد قرنوا بالنجدة الْعلم والتقى ... فقد نظموا طعمين شَهدا وعلقما)
(فَفِي الجدب يستسقى بفضلهم احيا ... وَفِي الروع يستسقى ببيضهم الدما)
(فيا أَسد الله الَّذِي إِن يحرم الفريسة ... أقراهم من الْأسد مطعما)
(لِيَهنك فتح بَشرته سعوده ... بإقبال عز يمْلَأ الأَرْض والسما)
(رَأَيْت بِهِ الْإِسْلَام يلتام شعبه ... وَقد كربت أَرْكَانه أَن تهدما)
(فعلت بِجَيْش الْكفْر مَا أَنْت فَاعل ... وجرعته كأساً من الذل علقما)
(فأخرت حَتَّى لم يجد مُتَأَخِّرًا ... وأقدمت حَتَّى لم يجد مُتَقَدما)
(وَمَا اخْتَار موج الْبَحْر إِلَّا لِأَنَّهُ ... رأى موجه من موج سَيْفك أسلما)
(فطوقتها طوق الْحَمَامَة نعْمَة ... وَإِنَّا لنَرْجُو فَوْقهَا لَك أنعما)
(إِلَى أَن تعود الأَرْض بالأمن كعبة ... حَرَامًا وكل الدَّهْر شهرا محرما)
وَبَعْدَمَا مهد أمورها وَبنى مَا كَانَ تهدم أَيَّام الْمُحَاربَة من مساكنها رَجَعَ إِلَى مقرّ حكومته وَكَانَ السُّلْطَان إِذْ ذَاك بأدرنة فَأَقَامَ مُدَّة ثمَّ عينه السُّلْطَان إِلَى محاربة الْقَوْم المعروفين بالليه من النَّصَارَى فَسَار فِي جمع عَظِيم لم يشْهد مثله وافتتح قلعة قمنيجة فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَعَاد إِلَى أدرنة وَأخذ فِي نقض الْأُمُور وإبرامها على الْوَجْه الحميد والرأي السديد ثمَّ تَغَيَّرت أطواره وحببت إِلَيْهِ الْعُزْلَة فَانْقَطع عَن الدِّيوَان وتعاطى الْمصَالح واشتغل باتخاذ الندماء وَكَانَ مَجْلِسه كُله فَوَائِد وَلم ينْسب إِلَيْهِ مَا يشينه سوى بعض التشاغل عَن أُمُور الرّعية وَإِلَّا فقد يُقَال إِن جَمِيع مزايا الْحسن جمعت فِيهِ فحاز من كل وصف كَمَاله وغايته ثمَّ رَحل السُّلْطَان من أدرنة إِلَى قسطنطينية وَذَلِكَ فِي أواسط الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف فَرَحل هُوَ مَعَه فَعِنْدَ وُصُوله ابتدأه(1/355)
الْمَرَض وَكَانَ ابْتِدَاء مَرضه اليرقان الْأسود وعولج مِقْدَار سِتَّة أشهر فَلم يفد العلاج وَاشْتَدَّ بِهِ إِلَى أَن سَافر السُّلْطَان إِلَى أدرنة فِي شعْبَان من هَذِه السّنة وَخرج هُوَ على أَثَره من الْبَحْر فِي مركب إِلَى بلد سلورية وَوصل من الْبر إِلَى نواحي جور لي فأدركه أَجله فِي قَرْيَة بِالْقربِ مِنْهَا وَغسل بهَا وَأتوا بجنازته إِلَى قسطنطينية فَدفن مِمَّا يَلِي وَالِده بتربته الَّتِي كَانَ أَنْشَأَهَا بدرب الدِّيوَان وَصلى عَلَيْهِ مَكَان دَفنه وَذَلِكَ نَهَار الْأَرْبَعَاء سَابِع عشري شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ قبل وَفَاته وقف كتبه ووضعها فِي خزانَة بالتربة الْمَذْكُورَة ورتب لَهَا أَرْبَعَة حفاظ وفيهَا من نفائس الْكتب مَا لَا يُوجد فِي مَكَان وَأَخْبرنِي بعض من أَثِق بِهِ أَنَّهَا خمنت بِأَرْبَعِينَ ألف قِرْش رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَمِين الدّين بن شهَاب بن أبي الْفضل بن عمر بن أَحْمد بن شرف الدّين الْمَعْرُوف بالداراني الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الْوَاعِظ الشَّافِعِي الْمَذْهَب كَانَ فَاضلا دينا خيرا لَهُ صَلَاح وَانْقِطَاع إِلَى الله تَعَالَى وَفِيه سَلامَة طبع وزهد وقناعة قَرَأَ على وَالِده وعَلى الشَّيْخ مُحَمَّد الأسطواني وَأخذ عَن مُحَمَّد البلباني وَمُحَمّد الخباز البطنيني وَعَن الْأُسْتَاذ الْكَبِير إِبْرَاهِيم بن حسن الكوراني نزيل الْمَدِينَة ودرس بِأحد بقع الْمدرسَة العمرية وَكَانَ يعظ بالجامع الْأمَوِي ويدرس بِهِ الْفِقْه وانتفع بِهِ جمَاعَة وَأَنا الْفَقِير من معتقديه ومحبيه فَإِنَّهُ كَانَ فِي جَمِيع أَحْوَاله على حد سَوَاء من الاسْتقَامَة وَالصَّلَاح وَكَانَ النَّاس يعظمونه وَيطْلبُونَ مِنْهُ الدُّعَاء وَهُوَ مَظَنَّة عَظِيمَة للدُّعَاء الصَّالح بل أرى ذَلِك فِيهِ عيَانًا وَكَانَ كثير الْأَمْرَاض نحيف الْبدن قانعاً بضنك الْعَيْش صبوراً وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ خير مَحْض من فرقه إِلَى قدمه وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمسين وَألف تَقْرِيبًا وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشر صفر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وَكَانَت جنَازَته حافلة وَدفن بعد صَلَاة الْجُمُعَة بمقبرة بَاب الصَّغِير والداراني بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف وَرَاء نِسْبَة إِلَى داريا بياء مُشَدّدَة قَرْيَة عَظِيمَة بِدِمَشْق وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا على داراني من شواذ النّسَب لِأَنَّهُ على غير قِيَاس إِذْ الْقيَاس أَن تحذف الْألف الْأَخِيرَة لوقوعها سادسة كَمَا قَالُوا فِي قبعثر فبعثرى ثمَّ تحذف الْيَاء الأولى وتقلب الثَّانِيَة واواً كَمَا قَالُوا قصوى نِسْبَة إِلَى قصي فَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا داروي وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الصَّفَدِي(1/356)
الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي ثمَّ الْحَنَفِيّ إِمَام الدرويشية صاحبنا الشَّيْخ الْأَجَل الأديب الْفَاضِل اللبيب الشَّاعِر كَانَ فِيمَا تحققته من حَاله كثير الْفضل غَايَة فِي حسن الْأَخْلَاق سخي الطَّبْع لطيف المعاشرة ظريف النُّكْتَة والنادرة حمولاً صَدُوقًا صحبته من سنة أَربع وَسبعين إِلَى أَن مَاتَ فَمَا أنْكرت شَيْئا من أخلاقه وَكَانَ كثير الشّعْر ندي الْقَلَم وشعره عَلَيْهِ مسحة من الطلاوة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِمَّن يُنَوّه بِذكرِهِ وَلَا يهمل إِيرَاد شعره ولد بصفد وَقدم إِلَى دمشق وَمَا جَاوز الْعشْرين بِكَثِير فَأَقَامَ بِجَامِع المرادية مشتغلا بِعلم القراآت وَنسخ الْكتب وَكتب كثيرا ثمَّ قَرَأَ على جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم الشَّيْخ مَنْصُور السطوحي وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر الصفوري واستجازهما فَأَجَازَهُ بمالهما وَحج فَأخذ عَن عُلَمَاء الْحَرَمَيْنِ ثمَّ تقلبت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن صَار شَاهدا بالمحكمة الْكُبْرَى ومحكمة الْبَاب ثمَّ ترك وَصَارَ إِمَامًا بِجَامِع المرحوم درويش باشا وخطيبا بِجَامِع الأغا وسافر إِلَى الرّوم مَرَّات ونال جِهَات ومعاليم ودرس بالعمرية وَوعظ بالجامع فِي يَوْم الاربعاء وَكَانَ يُقيم أَكثر أوقاته بالخلوة بِجَامِع الدرويشية يدرس فِيهَا القراآت والْحَدِيث والعقائد وَالْفِقْه وَالْأَدب وَله من التآليف منظومة فِي العقائد وَكتاب جمع فِيهِ ألف حَدِيث رتبها على حُرُوف المعجم وَجمع من شعره ديوانا فَسرق ثمَّ جمع آخر أَكْثَره من شعره المستجد بعد ذَلِك وظفر فِي مسوداته بِبَعْض الْمَسْرُوق فألحقه وَكنت فِي بعض الْأَحَايِين أداعبه إِذا قَرَأت لَهُ شعرًا من الدِّيوَان الْمَذْكُور فَأَقُول لَهُ أَظن هَذَا من الشّعْر الْمَسْرُوق فيفطن للغرض فيبتسم وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَن الشَّيْخ مصطفى بن سعد الدّين كَانَ دعاءه وَشَيخنَا الشَّيْخ عبد الْغَنِيّ النابلسي وَعين يَوْمًا للدعوة ثمَّ عرض لَهُ مَانع فَأرْسل يعْتَذر إِلَيْهِمَا وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث وَسبعين فأرخ شَيخنَا تبطيله الدعْوَة الشَّيْخ قلب وتوارد مَعَه صَاحب التَّرْجَمَة مؤرخاً بقوله قلب الشَّيْخ وَكنت كثيرا مَا استنشده التاريخين وَأَقُول لَهُ أرى الشَّيْخ قلب الشَّيْخ قلب وَمن مستظرفاته مَا كتبه إِلَى شَيخنَا النابلسي الْمَذْكُور يستدعيه إِلَى روض وأرخ الدعْوَة بقوله
(مَجْلِسنَا عبد الْغَنِيّ نزهة ... لناظر خَال عَن الْخَوْض)
(فشرفونا واحضروا عندنَا ... فَنحْن فِي التَّارِيخ فِي روض)
وَوَقع بيني وَبَينه مخاطبات نظماً ونثراً كَثِيرَة فَمن ذَلِك مَا كتبه إِلَيّ وَأَنا بالروم قَوْله
(على الحبر الْأَجَل الْمُسْتَقيم ... طراز الْجُود ذِي الْفضل العميم)(1/357)
(كثير الْخَيْر مِفْتَاح العطايا ... شرِيف النَّفس وَالنَّفس الْكَرِيم)
(مُحَمَّد الْأمين وَمن تسامى ... بديع الصنع ذِي النّظر السَّلِيم)
(عليم الْبَحْر من فن القوافي ... وبحر الْعلم ذِي الْقدر الجسيم)
(بليغ النّظم مُنْتَظم اللآلئ ... طَوِيل الباع ذِي الْحلم الْحَلِيم)
(كريم فاق فِي الْآفَاق ذكرا ... وَعم الأَرْض بِالْعلمِ الْعَلِيم)
(سَلام من سَلام من سَلام ... قويم من قويم فِي قويم)
(عَظِيم الْعرف كالمسك الذكي ... غضيض الطّرف كالورد الشميم)
(ومصحوبا بخيرات حسان ... ورضوان بجنات النَّعيم)
(فيغشى الْحبّ فِي روض أنيق ... ويلثم تربه لثم النديم)
(وَفِي التَّقْبِيل عني نَاب أَنِّي ... كثير النوح فِي اللَّيْل البهيم)
(من الأشواق شقّ الْقلب مني ... وأحرق مهجتي بعد الْحَمِيم)
(لذيذ الْعَيْش عِنْدِي صَار مرا ... وَإِنِّي للفراق كَمَا السقيم)
(فَإِن ألقيت طيفك فِي خيالي ... توقد فِي الحشا حمر الْجَحِيم)
(وَلما جَاءَ طرس مِنْك حلى ... بنظم صَار كالدر النظيم)
(فأنعشني وَلَكِن زَاد شوقي ... إِلَى لقياك فِي وجد عَظِيم)
(فيا مولَايَ دم بِالْخَيرِ واسلم ... مدى الْأَيَّام بِالْفَضْلِ العميم)
فَكتبت إِلَيْهِ الْجَواب
(تذكر لَذَّة الْعَيْش الْمُقِيم ... فحن لذَلِك الْعَهْد الْقَدِيم)
(وَبَات مؤرقا يطوي ضلوعا ... على شغف بشادنه الرخيم)
(سقى عهدي بِهِ نوء الغوادي ... يرويهِ بصيبه العميم)
(أَو أَنا كنت أجني فِي حماه ... ثمار الْحَظ فِي الرَّوْض النَّعيم)
(وأروي فِيهِ زاهية القوافي ... عَن الصَّفَدِي كالدر النظيم)
(بِأَلْفَاظ أرق من الحميا ... وألطف من محادثة النديم)
(وأندى من رَبًّا هبت عَلَيْهَا ... صبا فاحت معطرة الشميم)
(بروحي ثمَّ بِي أفدى سميري ... وَمن أَدْعُوهُ بالخل الْحَمِيم)
(وَمن هُوَ فِي الحفيظة لَيْسَ يمشي ... على غير الصِّرَاط الْمُسْتَقيم)
(أديب الدَّهْر مُخْتَار الْمعَانِي ... وفرد الْعَصْر ذُو الْقدر الجسيم)(1/358)
(تملك كل وصف مستجاد ... بِحسن الْخلق والطبع السَّلِيم)
(أيا مولَايَ دمت حفيظ ودي ... فودك من فُؤَادِي بالصميم)
(بعثت إِلَيّ بالغر اللواتي ... تعرفنِي بأسلوب الْحَكِيم)
(أَنْت نحوي على مضضي فَحلت ... حُلُول الْبُرْء فِي جسم السقيم)
(وقاك الله من نكدي وحزني ... وحياني بمنظرك الوسيم)
(وَدم تنتاشني من خطب دهر ... رماني بالنوى الصعب الذميم)
(اجلك أَن يكون إِلَيْك هَذَا ... جوابي لَا من الوشي الرقيم)
(فعذرا أَن فكري فِي انقباض ... تقاضاه التنائي كالغريم)
(إِذا استنتجت مِنْهُ بعض شَيْء ... فينتجه من الشكل الْعَقِيم)
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى نَهَار الْجُمُعَة سادس عشرى شهر ربيع الثَّانِي سنة مائَة وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَلم يُجَاوز السِّتين بِكَثِير وَقلت أرثيه
(لهفي على الصَّفَدِي فَرد الدَّهْر من ... لعلاه كف المكرمات تُشِير)
(طود الْفَضَائِل دكه حكم القضا ... فالأرض من أقْصَى التخوم تمور)
(فَانْظُر ترى عجبا وَقد سَارُوا بِهِ ... جبلا غَدا فَوق الرِّجَال يسير)
الشريف أَحْمد بن مَسْعُود بن حسن بن أبي نمى الشريف الحسني أحد أَشْرَاف مَكَّة صَاحب الْأَدَب البارع والأشعار السائرة المرغوبة ذكره ابْن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي تَرْجَمته نَابِغَة بني حسن وباقعة الفصاحة واللسن الساحب ذيل البلاغة على سحبان والسائر بأفعاله وأقواله الركْبَان أحد السَّادة الَّذين رووا الحَدِيث برا عَن بر والساسة الَّذِي فتقت لَهُم ريح الجلاد بعنبر فاقتطفوا نور الشّرف من روض الْحبّ الأنضر وجنوا ثَمَر الوقائع يانعاً بالعز من ورق الْحَدِيد الْأَخْضَر كَانَت لَهُ همة تزاحم الأفلاك وتراغم بعلو قدرهَا الْأَمْلَاك لم يزل يطْلب من نيل الْملك مَا لم يَفِ بِهِ عدده وعدده وَلم يمده من الْقَضَاء مدده ومدده فاقتحم لطلبه برا وبحرا وقلد للملوك بمدحه جيدا ونحرا لم يسعفه أحد وَلم يساعد إِذا عظم الْمَطْلُوب قل المساعد وَكَانَ قد دخل شهارة من بِلَاد الْيمن فِي حدى الجماديين من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف وامتدح بهَا إمامها مُحَمَّد بن الْقَاسِم بقصيدة رَاح بهَا ثغر مديحه ضَاحِكا باسم وَطلب مساعدته على تَخْلِيص مَكَّة المشرفة لَهُ وإبلاغه من تحليته بولايتها امله وَكَانَ ملكهَا إِذْ ذَاك الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب(1/359)
فَأَشَارَ فِي بعض أبياتها إِلَيْهِ وَطعن فِيهَا بسنان بَيَانه عَلَيْهِ ومطلعها
(سلا من دمي ذَات الخلاخل وَالْعقد ... بِمَاذَا استحلت أَخذ روحي على عمد)
(فَإِن أمنت أَن لَا تقاد بِمَا جنت ... فقد قيل أَن لَا يقتل الْحر بِالْعَبدِ)
مِنْهَا وَهُوَ مَحل الْغَرَض
(أغث مَكَّة وانهض فَأَنت مؤيد ... من الله بِالْفَتْح المقوض وَالْجد)
(وَقدم أَخا ود وَأخر مباغضا ... يساور طَعنا فِي الْمُؤَيد وَالْمهْدِي)
(ويطعن فِي كل الْأَئِمَّة مُعْلنا ... ويرضى عَن ابْن الْعَاصِ والنجل من هِنْد)
فَلم يحصل مِنْهُ على طائل إِلَّا مَا أجَازه من فضل ونائل فَعَاد إِلَى مَكَّة المشرفة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأقَام بهَا سنتَيْن ثمَّ توجه إِلَى الديار الرومية فِي أواسط شهر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين قَاصِدا ملكهَا السُّلْطَان مُرَاد خَان فورد عَلَيْهِ قسطنطينية الْعُظْمَى مقرّ ملكه وَاجْتمعَ بِهِ ومدحه بقصيدة فريدة وَسَأَلَهُ فِيهَا تَوليته مَكَّة المشرفة وأنشده إِيَّاهَا فِي أَوَاخِر شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف ومطلعها قَوْله
(أَلا هبي فقد بكر النداما ... وَمَج المرج من ظلم الندى مَا)
فَيُقَال أَنه أَجَابَهُ إِلَى ملتمسه وَمرَاده وأرعاه من مقْصده أخصب مُرَاده وَلَكِن مدت إِلَيْهِ يدا لهلك قبل نيل الْملك وَقيل أجزل صلته فَقَط فقد طمعه عَمَّا تمناه وقط وَلم يعد إِلَى مَكَّة وَتُوفِّي فِي تِلْكَ السّنة أَو الَّتِي تَلِيهَا وظفرت فِي آثَار السَّيِّد مُحَمَّد بن العرضي الْحلَبِي بِذكرِهِ فِي تَرْجَمَة أفردها لَهُ وَهِي من محَاسِن الْمَقُول فَذَكرتهَا تَتِمَّة للفائدة وَالْمَقْصُود التطرية وَمَا تمّ لَهَا أحسن من الْكَلَام الْمُهَذّب الْجَارِي عَن أَمْثَال هَذَا فَقَالَ فِي حَقه النقاب ابْن النقاب وَمن غذي بلبان أبي تُرَاب نبغة من الشَّجَرَة النَّبَوِيَّة الزاكية النجار المعجونة طينتها برند نجد والعرار طلع علينا بحلب سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف طُلُوع الْبَدْر فِي الدراه وَألقى بهَا عَصا التسيار وَكَأَنَّهُ من الْكَوَاكِب السيارة فَنزل مِنْهَا بصدر رحيب وقابلته بتأهيل وترحيب وكل من أبنائها تشوق لنزوله عِنْده فِي السعَة قَائِلا بِلِسَان الْحَال هَلُمَّ يَا ابْن رَسُول الله إِلَى الرَّاحَة والدعة فَأبى أَن ينزل الْأَعْلَى أفقر بَيت فِي الْمَدِينَة وَأَصْلحهُ هُوَ بَيت الشَّيْخ الزَّاهِد نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين الْمَعْرُوف بالصائغ وَمن ذيله بِالطَّهَارَةِ الدِّينِيَّة ضاف وسابغ مقتديا فِي ذَلِك بجده رَسُول الله
حِين دخل الْمَدِينَة فَكَانَ كلما مر على دَار من دور الْأَنْصَار يَدعُونَهُ إِلَى الْمقَام عِنْدهم يَا رَسُول الله(1/360)
هَلُمَّ إِلَى الْقُوَّة والمنعة فَيَقُول خلوا سَبِيلهَا يَعْنِي النَّاقة أَنَّهَا مأمورة وَلم يَزُجّ من زمامها وَلم يحولها وَهِي تنظر يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى إِذا أَتَت دَار مَالك بن النجار بَركت على بَاب الْمَسْجِد وَهُوَ يَوْمئِذٍ لسهل وَسُهيْل ابْني رَافع بن عَمْرو وهما يتيمان فِي حجر معَاذ بن عفراء وَيُقَال أسعد بن زُرَارَة وَهُوَ الْمُرَجح ثمَّ ثارت وَهُوَ
عَلَيْهَا حَتَّى بَركت على بَاب أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ ثمَّ ثارت مِنْهُ وبركت فِي مبركها الأول وَأَلْقَتْ جِرَانهَا بِالْأَرْضِ يَعْنِي بَاطِن عُنُقهَا أَو مقدمها من المذبح ورزمت يَعْنِي صوتت من غير أَن تفتح فاها فَنزل عَنْهَا رَسُول الله
وَقَالَ هَذَا الْمنزل إِن شَاءَ الله وَاحْتمل أَبُو أَيُّوب رَحْله وَأدْخلهُ بَيته وَمَعَهُ زيد بن حَارِثَة وَكَانَت دَار بني النجار أَوسط دور الْأَنْصَار وأفضلها وهم أخوال عبد الْمطلب جده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَذَا فِي الْمَوَاهِب اللدنية للقسطلاني عود إِلَى تَمام سيرة ابْن هِشَام وَابْن سيد النَّاس وَخير الْأَنَام الني هِيَ أزكى من الرَّوْض الْأنف يفتر عَن زهر الكمام ثمَّ انثالت إِلَيْهِ من أَبنَاء الشَّهْبَاء عُيُون أعيانها من وُجُوه علمائها واشرافها الَّذين هم إِنْسَان حدقة انسابها انثيال الدّرّ إِلَى الْوَاسِطَة من عقد النَّحْر واحتفت بِهِ احتفاف النُّجُوم بالبدر فَمن دَعَاهُ نَادِيه فلباه حظي بإقبال وَجهه وطلعة محياه فرأيناه يحاضرنا بأخبار الشريف الرضي من وَجه مذْهبه فِي البلاغة وضي وَطَرِيقه وَهُوَ أَخُو المرتضى مرضى ويلهج كثيرا بأخباره ويحفظ أغلب أشعاره فمدحته بقصيدة مطْلعهَا
(لله أكناف بخيف ... طابت وطاب بهَا وُقُوفِي)
إِلَى أَن قلت فِي التَّخَلُّص إِلَى المديح
(وَإِذا طلبت عريفهم ... ولأنت بالفطن العريف)
(فَهُوَ الشريف ابْن الشريف ... ابْن الشريف ابْن الشريف)
فقابل لَدَى إنشادها طَربا وَأظْهر إعجابا بهَا وعجبا قَائِلا لَا فض الله فَاك وَكثر من أمثالك فَقلت اسْتَجَابَ الله دعَاك كَمَا اسْتَجَابَ من جدك رَسُول الله
حِين أنْشدهُ النَّابِغَة الْجَعْدِي
(بلغنَا السما مجدا وجودا وسوددا ... وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا)
فَقَالَ لَهُ
إِلَى أَيْن يَا ابْن أبي ليلى قَالَ إِلَى الْجنَّة يَا رَسُول فَقَالَ أجل ثمَّ قَالَ(1/361)
(وَلَا خير فِي حكم إِذا لم يكن لَهُ ... حَكِيم إِذا مَا أورد الْأَمر أصْدرَا)
فَقَالَ
لَا فض الله فَاك فَبلغ عمره مائَة سنة وَلم يتَغَيَّر لَهُ سنّ بل كَانَ أحسن النَّاس ثغرا ثمَّ قصد الشريف الْمَزْبُور دَار السلطنة فلقي سُلْطَان الْوَقْت إِذْ ذَاك مُرَاد الْغَازِي ومدحه بقصيدته الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(أَلا هبي فقد بكر النداما ... وَمَج المرج من ظلم الندى مَا)
مِنْهَا
(فيا ملك الْمُلُوك وَلَا أحاشي ... وَلَا عذرا أسوق وَلَا احتشاما)
(أنفت بأنني أَلْقَاك مِنْهُم ... بِمَنْزِلَة الرِّجَال من الْأَيَامَى)
(إِلَى جدواك كلفنا المطايا ... دواما لَا نفارقها دواما)
(صلينَا من سموم القيظ نَارا ... تكون ببردك الناشي سَلاما)
(وخضنا الْبَحْر من ثلج إِلَى أَن ... حسبناه على البيدا الكماما)
(نَؤُم رحابك الفيح اشتياقا ... ونأمل مِنْك آمالا جِسَامًا)
(وَمن قصد الْكَرِيم غَدا أَمِيرا ... على مَا فِي يَدَيْهِ وَلنْ يضاماا)
(وحاشا بحرك الْفَيَّاض أَنا ... نرد بغلة عَنهُ هياما)
(وَقد وافاك عبد مستهيج ... ندى كفيك والشيم الضخاما)
(وَحسن الظَّن يقطع لي بِأَنِّي ... أنال وَإِن سما مِنْك المراما)
(وَلَا بدع إِذا وافاك عاف ... فَعَاد يَقُود ذَا الْجب لهاما)
(فقد نزل ابْن ذِي يزن طريدا ... عَليّ كسْرَى فأنزله شماما)
(أَتَى فَردا فآب يجر جَيْشًا ... كسا الآكام خيلا والرغاما)
(بِهِ استبقى جميل الذّكر دهرا ... وَأَنت أجل من كسْرَى مقَاما)
(وَسيف لَو سمادوني فَإِنِّي عصامي وأسموه عظاما)
(بفاطمة وابنيها وطه ... وحيدرة الَّذِي أشفى السقاما)
(عَلَيْهِم رَحْمَة تهدي سَلاما ... يكون لنشرها مسكا ختاما)
(وَفِي أملي بِأَن يجْزِيك عني ... بِي عَفوه ويطفي الأواما)
(فَخذ بيَدي وسنمنى محلا ... بقربي مِنْك فِيهِ لن أسامى)
(وهب لي منصبي لتنال أجري ... وشكري مَا بقيت بهَا لزاما)
(فقد لعبت بِبَيْت الله حَقًا ... زعانف يسْتَحلُّونَ الحراما)
(أغثه فَلَيْسَ مسئول غَدَاة ... الْمعَاد سواك إِن بعثت قيَاما)(1/362)
(وَفك أَسِير أسر لَيْسَ يرضى ... بِأَن يغشى وَإِن خَفِي الملاما)
(فَقل سل تعط أَعْطَاك الَّذِي لم ... يخف نقصا وَلم يخْش انتقاما)
(مدى الْأَيَّام تخْفض ذَا اعوجاج ... وترفع من أطاعك واستقاما)
(وَدم فِي دَار عمرك والأعادي ... تمنى فِي مضاجعها الحماما)
قَوْله فقد نزل الأبيات يلمح إِلَى قصَّة سيف ذِي يزن لما تغلبت الْحَبَشَة على ملك الْيمن فَنزل بكسرى مستنجدا فأمده بِجَيْش انقشعت بِهِ غمامتهم فَعَاد سيف قرير الْعين إِلَى ملكه وَسكن غمدان قصره وَرجع إِلَى صولته وفتكه فانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب بالتهنئة من كل فج عميق وَكَانَ من جُمْلَتهمْ عبد الْمطلب جدا النَّبِي
وَهُوَ إِذْ ذَاك معرف قُرَيْش العريق وَالنَّبِيّ
رَضِيع فِي المهاد محفوف بعيون الْعِنَايَة والاسعاد فَأخْبرهُ سيف أَنه سينجم أمره ويطلع بدره فِي قصَّة يطول شرحها مستوفاة فِي كتب السّير فَجعل صَاحب التَّرْجَمَة نَفسه كسيف وسلطان الْوَقْت ككسرى وَكَانَ الْأَنْسَب أَن يَجْعَل سُلْطَان الْوَقْت كقيصر لكَونه ملك الرّوم إِلَّا أَنه تحاشى عَن ذَلِك لكَون قَيْصر لما قَصده سيف لم ينجده وَلم يجبهُ إِلَى مُرَاده بل اعتذر إِلَيْهِ بانا نَحن والحبشة اخوان لكوننا جَمِيعًا أهل كتاب فَرجع من عِنْده خائبا قَالَ العرضي وَكَانَت رفادة الْبَيْت وسقاية الْحَاج الْمعبر عَنْهَا الْآن بسلطنة الْحَرَمَيْنِ مفوضا أمرهَا إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة إِلَّا أَنه فاضت فِي زمن تَوليته فتن ادت إِلَى خلعه وتولية ابْن عَمه الشريف زيد بن محسن بن حُسَيْن فسكن بيمن تَوليته نابض الْفِتْنَة وأخمد بِنور طلعته نَار المحنة وَكَذَا النُّور يخمد النيرَان فَلم يقر لصَاحب التَّرْجَمَة قَرَار دون أَن ينشر على رَأسه لواؤها وَالْعلم فَركب ابله وَجعل اللَّيْل جمله يفلي شعر الفلاة بِمشْط كل حافر ومنسم فَوجه تِلْقَاء مَدين دَار السلطنة العادلة رجاه ضَارِبًا بعصا تسياره أَحْجَار عرصاتها لينجز لَهُ مَا يترقبه ويتمناه من انعطاف السلطنة إِلَيْهِ ثَانِيًا فَلِذَا استماح سُلْطَان الْوَقْت بقوله وَقد أضحى لعنان همته ثَانِيًا ثمَّ ذكر قِطْعَة من قصيدته الْمُتَقَدّمَة قلت قد وقفت لَهُ على أشعار كَثِيرَة ذكرت مِنْهَا فِي النفحة الَّتِي ذيلت بهَا على الريحانة حِصَّة وافرة وقصيدته السينية الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(حث قبل الصَّباح نجب كؤوسي ... فَهِيَ تسرى مسرى الفذافي فِي النُّفُوس)
سائرة مَشْهُورَة فَلَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا هُنَا وَكَانَ نظمها فِي طرسوس الْبَلدة الْمَعْرُوفَة(1/363)
قرب طرابلس الشَّام فَإِنَّهُ كَانَ مر عَلَيْهَا قادما من نَاحيَة مصر على طَرِيق السَّاحِل وَبعد مَا عَاد من الرّوم مَاتَ فِي الطَّرِيق وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير أَحْمد بن مطاف أَمِير الْأُمَرَاء بحلب ذكره أَبُو الْوَفَاء العرضي فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته لم يزل يتدرج إِلَى المناصب حَتَّى تولى كَفَالَة حلب وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام وَقع الْحَرِيق فِي سوق العطارين وَذهب للنَّاس أَمْوَال كَثِيرَة مَعَ أَن هَذَا الْأَمر لم يعْهَد فِي حلب قيل سَببه أَن بَعضهم نسي فِي الشقف بعض نَار وَقيل أَن جمَاعَة الكافل فعلوا ذَلِك عمدا حَتَّى يغرموا النَّاس الْأَمْوَال وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال وَالَّذِي قَالَه بعض أَرْبَاب الْعُقُول الْحَسَنَة أَن هَذَا الْأَمر وَقع من غفل رجل عَن النَّار وَظهر فِي زَمَنه من الْعَرَب فَسَاد كثير من قطع الطَّرِيق وَأخذ أَمْوَال النَّاس حَتَّى ركب ابْنه درويش بك بعساكر حلب نَحْو ألف فَارس وَكَانَ أَمِير الْعَرَب عرار خَال دندن فَاقْتَتلُوا وَانْهَزَمَ عَسْكَر حلب فَكَانَ عرار يتبعهُم وَحده وَيقتل مِنْهُم ويفرّ وَمن تَحْتَهُ فرسه الَّتِي لَا تسابق وَعَلِيهِ الدرْع الَّذِي لَا تعلم فِيهِ السِّهَام وَلَا السيوف قيل وَلَا المكاحل وَاسْتمرّ يتبعهُم إِلَى قرب حلب وَكَانَ عرار فِي الشجَاعَة والفروسية لَا يُطَاق وعاش درويش بعد وَالِده مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ من أكَابِر أَعْيَان المتفرقة وَحصل لَهُ الْقبُول التَّام عِنْد نصوح باشا وسعى على قتل السَّيِّد حُسَيْن نقيب الْأَشْرَاف بتحسين أَخِيه السَّيِّد لطفي قَائِلا لَهُ إِن أخي يفعل كَذَا وَيفْعل كَذَا وَسَيَأْتِي خبر قتل السَّيِّد حُسَيْن ثمَّ لما وَقعت الْفِتْنَة بَينه وَبَين حُسَيْن باشا ابْن جانبولاذ وَكَانَ يتهم درويش بك فِي أَنه هُوَ الَّذِي حسن لنصوح باشا كل هَذِه الْأُمُور فَلَمَّا ملك حُسَيْن باشا حلب وَصَارَ كافلها حبس درويش بك فِي القلعة وخنقه لَيْلًا وعلقه على بَاب الْحَبْس وَقَالَ إِن درويش بك هُوَ الَّذِي قتل نَفسه تجَاوز الله عَن الْجَمِيع وَكَانَ قَتله فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَأَبوهُ صَاحب التَّرْجَمَة مَاتَ قبله وَهُوَ باني الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بِهِ بحلب وَقد شَرط لمدرسها فِي الْيَوْم عشر قطع فضية فِي قَول عشْرين عثمانياً صَحِيحا وَاتخذ لَهُ ثَلَاثِينَ جُزْءا من كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ ختم كَامِل وَبنى لَهُ مدفناً وَله خَان وَبَعض دكاكين وَقفهَا على هَذِه الْخيرَات وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان بعد الْألف وَدفن بمحلة الجلوم رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد السطيحة بن المقبول بن عبد الْغفار بن أبي بكر بن المقبول تعيش(1/364)
الصَّائِم رَمَضَان فِي المهد ابْن أبي بكر صَاحب الْخَال الْأَكْبَر بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن أبي الْأَوْلِيَاء سُلْطَان العارفين بِاللَّه أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ صَاحب اللِّحْيَة الَّذِي قَالَ فِي شَأْنه الْوَلِيّ الْكَبِير أَبُو الْغَيْث بن جميل حِين زَارَهُ وتعاطى خدمته بِنَفسِهِ وَقد سَأَلَ تلامذته عَنهُ وَعَن سَبَب تعاضيه خدمته بِنَفسِهِ دون غَيره من أَتْبَاعه أَنه مَا على الله الْآن أكْرم مِنْهُ وَأَن لَهُ لِوَاء يعرف بِهِ يَوْم الْقِيَامَة وأكون أَنا وَأَنْتُم تَحت لوائه الإِمَام الْعقيلِيّ أحد أَوْلِيَاء الله تَعَالَى الْكِبَار الَّذين اشتهروا فِي سَائِر الأقطار فعمت بركاته وعظمت حالاته مولده اللِّحْيَة وَبهَا نَشأ وأقعد وَهُوَ صَغِير وَأخذ عَن أكَابِر الشُّيُوخ وَعنهُ أَخذ كثير من العارفين مِنْهُم الْخَتْم الإلهي أَحْمد بن مُحَمَّد القشاشي وَالْوَلِيّ الشهير مَقْبُول المحجب الزَّيْلَعِيّ وَغَيرهمَا وَمن كراماته أَن بعض السَّادة جَاءَهُ وَهُوَ مقْعد وَكَانَ يتَعَلَّم الْقُرْآن وَهُوَ صَغِير جدا فَقَالَ لَهُ فِي أُذُنه لما رأى الْأَطْفَال قَامُوا يتمشون ويلعبون بعد انفضاضهم من الْقِرَاءَة نقيمك يَا سطيحة تمشي مَعَهم فَقَالَ لَهُ مجيباً إِن أقمتنا أقعدناك فصاح وَخرج هَارِبا وَمِنْهَا أَنه قبل مَوته بأيام كَانَ يَقُول لزوجته إِذا مت فَلَا تصيحوا وَلَا تنوحوا عَليّ فَإِنِّي مُتَوَجّه من مَكَان إِلَى آخر وَهِي تَقول لَهُ وَكَانَت هِيَ أَيْضا من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى مَا يُمكن نخالف عَادَة أهل بلدنا فَإِذا لم نَفْعل ذَلِك يعيبوننا وَيَقُولُونَ إِنَّك عندنَا ممتهن فَقَالَ لَهَا إِن كُنْتُم تَفْعَلُونَ ذَلِك تفتشون عَليّ مَا تجدوني فَلَمَّا مَاتَ ناحوا عَلَيْهِ وَبكوا فَلَمَّا جهزوه وَأتوا بِهِ إِلَى الْمَسْجِد للصَّلَاة عَلَيْهِ فَبَيْنَمَا هم ينتظرون إِمَام الْمَسْجِد ليُصَلِّي عَلَيْهِ جَاءَ بعض النَّاس ومسه ليتبرك بِبدنِهِ فَلَمَّا وضع يَده على السَّاتِر الَّذِي يضعونه فَوق التابوت على الْمَيِّت لم يجده فِي التابوت فَأخْبر النَّاس فضحوا وتحيروا وصاروا يفتشون عَلَيْهِ ويظنون أَنه سقط حَتَّى جَاءَ بعض أكَابِر السَّادة بني الزَّيْلَعِيّ فَأَمرهمْ أَن يقرؤا سُورَة يس أَرْبَعِينَ مرّة فَلَمَّا أتموها وجدوه مَكَانَهُ وَكَانَت وَفَاته نصف لَيْلَة الْأَحَد ثامن شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف باللحية وَدفن بِقرب تربة جده الْفَقِيه أَحْمد بن عمر الزَّيْلَعِيّ رحمهمَا الله تَعَالَى
الْمولى أَحْمد بن نور الله البولوي نزيل قسطنطينية الْمَعْرُوف بذكي قَاضِي الْقُدس الشريف أحد من لَقيته من فضلاء اروم وأدبائها البارعين وَهُوَ أمثلهم فِي معرفَة فنون الْأَدَب واللغة وأرواهم للشعر الْعَرَبِيّ وأحفظهم للوقائع وَالْأَخْبَار وَكَانَ مَعَ ذَلِك متقناً للفقه والفرائض والصول كثير الْإِحَاطَة بمسائلها وَقد جمع إِلَى(1/365)
تَحْقِيق الْعَجم فصاحة الْعَرَب وَكَانَ أستاذي عَلامَة الرّوم الْمولى شيخ مُحَمَّد بن لطف الله الْمَعْرُوف بعزتي يعظمه وَيعرف قدره ويقدمه وَهُوَ أحد أَتْبَاعه وملازميه وَصَحبه إِلَى دمشق ومصر أَيَّام قَضَائِهِ فيهمَا وولاه فيهمَا الْقِسْمَة وَكنت وَأَنا بالروم لَزِمته للأخذ عَنهُ والتلقي مِنْهُ فَقَرَأت عَلَيْهِ أصُول الْفِقْه وَأخذت عَنهُ الْفَرَائِض وَالْعرُوض ورسالة الرّبع وَهُوَ أَخذ عَن خَاله الْعَلامَة الْكَبِير الْمولى أَحْمد وَعَن غَيره ونفع الطّلبَة فِي ابْتِدَاء أمره مُدَّة فِي إقراء الْعُلُوم ثمَّ إِنَّه مَال إِلَى سلوك طَرِيق الموَالِي فدرس بعدة مدارس بقسطنطينية إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بوفاء برتبة السلميانية وَأعْطى مِنْهَا قَضَاء الْقُدس فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف وَقدم إِلَى دمشق وَأَنا بهَا فاجتمعت بِهِ ثمَّ سَار إِلَى الْقُدس وسلك فِي قَضَائِهِ بهَا مسلكاً معتدلاً ثمَّ عزل وَقدم إِلَى دمشق فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَتِسْعين وَمرض بهَا مُدَّة أَيَّام ثمَّ توجه إِلَى الرّوم وَهُوَ مَرِيض فَمَاتَ فِي الطَّرِيق بِمَدِينَة أركلة أَوَاخِر صفر سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن رَجَب خطيب دمشق وَابْن خطيبها الْمَعْرُوف بالبهنسي الْحَنَفِيّ أحد الْعلمَاء الرؤساء النبلاء كَانَ عَالما وجيهاً كثير التَّخْصِيص والتنغم وافر الْعِزَّة وَالْحُرْمَة مَحْفُوظًا فِي الدُّنْيَا موقراً عِنْد الْخَاصَّة والعامة قَرَأَ فِي أول أمره على وَالِده وَأخذ عَنهُ النَّحْو وَأخذ النَّحْو والمعاني عَن الشَّيْخ الشَّمْس ابْن المنقار وَالْحسن البوريني وَالْفِقْه عَن أَبِيه وَغَيره وتصدر للإقراء وانتفع بِهِ جمَاعَة وسافر مَعَ أَبِيه إِلَى الرّوم ولازم من قَاضِي الْعَسْكَر الْمولى مُحَمَّد بن بُسْتَان وانفصل عَن بعض مدارس الْأَرْبَعين وناب فِي خطابة الْجَامِع الْأمَوِي عَن وَالِده ثمَّ أعطيها بعد موت أَبِيه وَأفْتى بِدِمَشْق نِيَابَة عَن الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ مفتي الْحَنَفِيَّة لما حج فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَذَا لما مَاتَ الْمُفْتِي الْمَذْكُور فِي سنة إِحْدَى وَخمسين إِلَى أَن وجهت للعلامة مُحَمَّد بن قباد الْمَعْرُوف بالسكوتي الْآتِي ذكره وَتوجه إِلَى الْقُدس وَإِلَى الْحَج فِي سنة خمس وَأَرْبَعين ودرس بالعادلية الصُّغْرَى والعذراوية وَفرغ عَن العذراوية آخرا إِلَى زوج ابْنَته عبد اللَّطِيف بن عَليّ الكريدي وَكَانَت وِلَادَته فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي منتصف جُمَادَى الآخر ة سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من بِلَال الحبشي رَحمَه الله تَعَالَى(1/366)
الشَّيْخ أَحْمد بن يحيى بن حسن بن نَاصِر الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْمُؤَذّن الْفَقِيه الشَّافِعِي القادري الطَّرِيقَة خطيب جَامع السُّلْطَان بِمَدِينَة حماه وَكَانَ عَالما محققاً مطلعاً واعظاً مُعْتَقدًا رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَغَيره من عُلَمَاء الْأَزْهَر وتفوق وبرع وَأقَام بِدِمَشْق مُدَّة وَأخذ بهَا عَن الْحسن البوريني وَغَيره وتصدّر للإفادة بحماة فَانْتَفع بِهِ جمَاعَة وذاع ذكره ثمَّة بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَكَانَت وَفَاته فِي رَجَب سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف بحماة وَقد جَاوز السِّتين هَكَذَا أَخْبرنِي وَلَده الشَّيْخ الصَّالح مُحَمَّد فِي منزلي بِدِمَشْق
الشَّيْخ أَحْمد بن يحيى بن يُوسُف بن أبي بكر بن أَحْمد بن أبي بكر بن يُوسُف بن أَحْمد الْحَنْبَلِيّ الكرمي نِسْبَة لطور كرم من قرى نابلس ثمَّ الْقُدس كَانَ من الْعلمَاء العاملين والأولياء الزاهدين ولد بِبَيْت الْمُقَدّس فِي سنة ألف وَقَرَأَ الْقُرْآن بطور كرم وَأخذ الطَّرِيق عَن الْعَارِف بِاللَّه مُحَمَّد العلمي ورحل إِلَى الْقَاهِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَأخذ بهَا الْفِقْه وَغَيره عَن عَمه مرعي الْحَنْبَلِيّ وَعَن مَنْصُور البهوتي ويوسف الفتوحي الحنبليين وَأخذ النَّحْو عَن مُحَمَّد النَّحْوِيّ والفرائض والحساب عَن عبد الْمُنعم الشرنوبي والْحَدِيث عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَعلي الأَجْهُورِيّ وَكثير وَكَانَ ملازماً لِلْعِبَادَةِ بمكانه الْمَعْرُوف بِجَامِع الْأَزْهَر مشتغلاً بالعلوم الدِّينِيَّة لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد من أَرْبَاب الدُّنْيَا قانعاً باليسير من الرزق متقيداً بِصَلَاة الْجَمَاعَة فِي الصَّفّ الأول فِي الْأَوْقَات الْخَمْسَة قَلِيل الْكَلَام حسن السِّيرَة جَامعا لصفات الْخَيْر لَيْسَ فِيهِ شَيْء يشينه فِي دينه ودنياه حكى عَن وَلَده الشَّيْخ الْفَاضِل عبد الله أَنه رأى الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي النّوم ثَلَاث مَرَّات أَولهَا رأى الْمَلَائِكَة قد أَخَذُوهُ إِلَى النَّار فَإِذا بمناد من الْحق سُبْحَانَهُ لَيْسَ من أَهلهَا اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْجنَّة فَقَامَ من نَومه فَرَأى نَفسه فِي الْجَامِع الْأَزْهَر وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشر صفر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف وَدفن بتربة المجاورين بِقرب تربة عَمه مرعي رحمهمَا الله تَعَالَى
السَّيِّد أَحْمد بن يحيى بن عمر الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بالعسكري الشَّافِعِي مفتي الشَّافِعِيَّة بحماة الْعَالم الْعلم الفصيح الْعبارَة الْكَامِل الأدوات قَرَأَ على أَبِيه وعَلى الشَّيْخ سرى الدّين بن مُحَمَّد الْبكْرِيّ الشراباتي وَكَانَ فَقِيها فرضياً حسابياً أديباً لبيباً ودرس بعد أَبِيه بِالْمَدْرَسَةِ العصرونية بحماة وَكَانَت وَفَاته فِي ثَالِث عشر رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وَألف وَسَيَأْتِي أَبوهُ السَّيِّد يحيى إِن شَاءَ الله تَعَالَى(1/367)
الْمولى أَحْمد بن يُوسُف الْمُفْتِي الْأَعْظَم الْمَعْرُوف بالمعيد الْمجمع على فَضله وديانته وتبحره فِي الْعُلُوم ورزق من الْحَظ والإقبال فِي أُمُوره مَا لم يكن لأحد من أهل عصره ولد بقرية قازطاغى وَقدم قسطنطينية واشتغل بالعلوم حَتَّى مهر فِيهَا ثمَّ صَار من طلبة الْمولى مُحَمَّد فهمي الْمَعْرُوف بِابْن الحنائي وَصَارَ معيد درسه فِي مدرسة عَليّ باشا الجديدة وشهرته بالمعيد لذَلِك ثمَّ لَازم مِنْهُ بعد انْفِصَاله عَن الْمدرسَة الْمَذْكُورَة واختص بالعلامة الْمُحَقق الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْغَنِيّ صَاحب الْحَاشِيَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ الْآتِي ذكره وَكَانَ كثير التقشف مداوماً على الْعِبَادَة وعلماء الرّوم ينظرُونَ إِلَيْهِ نظر التوقير ويتوسمون فِيهِ الصّلاح والفلاح ثمَّ درس بعد ذَلِك على قاعدتهم حَتَّى وصل إِلَى إِحْدَى مدارس السُّلْطَان سُلَيْمَان وَولي مِنْهَا قَضَاء دمشق نَهَار الْأَرْبَعَاء حادي عشر شهر رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَكَانَت سيرته فِي حكوماته مرضية جدا وَولد لَهُ فِي دمشق ولد سَمَّاهُ يحيى الشَّامي وَذَلِكَ فِي سَابِع ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَقيل فِي تَارِيخه قدوم يحيى عَلَيْك عيد وعزل فِي ثَالِث يَوْم من وِلَادَته وَتُوفِّي ابْنه الْمَذْكُور ثَانِي يَوْم عَزله ثمَّ سَار إِلَى قسطنطينية وَبعد مُدَّة صَار قَاضِيا بِمصْر فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وعزل عَنْهَا وَولي بعد ذَلِك قَضَاء أدرنة وقسطنطينية وَقَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي فِي عشرى ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَوَقع بَينه وَبَين الْعَلامَة يُوسُف بن أبي الْفَتْح الدِّمَشْقِي إِمَام السُّلْطَان امتحان بِسَبَب أَنه تخطاه فِي مجْلِس أحد الصُّدُور وَجلسَ فَوْقه وتباحثا فِي بعض مسَائِل من عُلُوم مُتَفَرِّقَة سأذكرها فِي تَرْجَمَة الْفَتْح إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِنَّهَا كثيرا مَا تطب وَيسْأل عَنْهَا وَذَاكَ محلهَا فَإِن الفتحى هُوَ السَّائِل وَله على لأجوبة إشكالات دقيقة المسلك وبسببها ظهر الفتي عَلَيْهِ فِي الْبَحْث فَأعْطى رُتْبَة قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلي لِيَتَقَدَّم فِي الْجُلُوس على المعيد وَاسْتمرّ المعيد قَاضِي الْعَسْكَر باناطولي إِلَى أَن سَافر السُّلْطَان مُرَاد إِلَى بَغْدَاد وسافر هُوَ بخدمته حَتَّى وصلوا إِلَى ازنكميد فأهان رجلا من جمَاعَة الْمُفْتِي الْأَعْظَم الْمولى يحيى بن زَكَرِيَّا فَغَضب السُّلْطَان عَلَيْهِ لذَلِك وعزله وَوجه إِلَيْهِ فضاء بلغراد مَعَ فتواها فَتوجه إِلَيْهَا وَكَانَ بعض المنجمين بشره بالفتوى فظنها هِيَ وَلم يعلم أَن الْفَتْوَى الْعُظْمَى مدخرة لَهُ ثمَّ أذن لَهُ بِالْعودِ من بلغراد وَأعْطى ثَانِيًا قَضَاء الْعَسْكَر باناطولي وَنقل مِنْهَا بعد مُدَّة إِلَى قَضَاء عَسْكَر روم ايلي فَأَقَامَ بهَا مُدَّة طَوِيلَة وعزل ثمَّ أعْطى منصب الْفَتْوَى فِي نَهَار الاربعاء خَامِس(1/368)
عشري ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَألف وأرخ تَوليته قَاضِي الْقُضَاة الشهَاب أَحْمد الخفاجي الْمُقدم ذكره بقوله
(إِنِّي لأشكر دَهْرنَا ... مذ زَاد فِي الْحسنى وَأحمد)
(إِذْ صير الْفَتْوَى إِلَى ... أتقى أهالي الْعَصْر أَحْمد)
(أرخته فِي نَصره ... لشريعة الْمُخْتَار أَحْمد)
(أمعيد شرع مُحَمَّد ... بِكَمَالِهِ وَالْعود أَحْمد)
وَبنى مدرسة بقسطنطينية تجاه دَاره بِالْقربِ من جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح وَمَات وَهُوَ مفت فِي خَامِس شهر ربيع الأول سنة سبع وَخمسين وَألف وَدفن بمدرسته الْمَذْكُورَة وَخلف مَالا جزيلاً وَلم يعقب إِلَّا بأنثى وقازطاغى بقاف ثمَّ ألف وزاي ثمَّ طاء وَألف وغين مُعْجمَة ثمَّ يَاء قَصَبَة مَعْرُوفَة قرب مَدِينَة بروسة سميت باسم جبل قريب مِنْهَا فَقَوْلهم قازطاغى أَي جبل الأوزفان القاز الأوز وطاغ الْجَبَل عَادَتهم تَقْدِيم الْمُضَاف إِلَيْهِ على الْمُضَاف وازنكميد بِكَسْر الْهمزَة وَالزَّاي وَسُكُون النُّون وَكسر الْكَاف وَالْمِيم ثمَّ دَال والعامة تَقول ازميد بَلْدَة ببروسة وَالله تَعَالَى أعلم
الشَّيْخ أَحْمد بن يُونُس بن أَحْمد بن أبي بكر الملقب شهَاب الدّين العيثاوي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي أحد شُيُوخ الْعلمَاء الأجلاء بِالشَّام المتصدين للإفتاء والتدريس ونفع النَّاس وَكَانَ عَالما ورعاً جليل الْقدر نبيه الذّكر جيد الملكة سليم الطَّبْع وَكَانَ ألطف الْأَشْيَاخ عبارَة وأجودهم تقريراً وَله من التآليف متن على طَرِيق الْإِرْشَاد فِي فقه الشَّافِعِي سَمَّاهُ الحبب وَشَرحه شرحاً لطيفاً سَمَّاهُ بالخبب فِي الْتِقَاط الحبب وَله غير ذَلِك من تحريرات رسائل وَأفْتى مُدَّة طَوِيلَة وانتفع بِهِ كثير من الْمُتَأَخِّرين الْفُضَلَاء وَعنهُ أخذُوا وَعمر حَتَّى لم يبْق من أقرانه فِي دمشق وحلب ومصر والحجاز أحد وَكَانَ لَهُ فِي الْولَايَة شَأْن عَال وأخبار عَجِيبَة قَرَأت فِي ثَبت الشَّيْخ مُحَمَّد المكبتي مِمَّا أرويه وأنقله عَن السَّادة الأخيار أَن عجاناً عجن عجينه بِالنَّهَارِ ثمَّ خبزه وأتى الْجَامِع فَتَوَضَّأ وَصلى الظّهْر واضطجع يُرِيد صَلَاة الْعَصْر فاسترسل بِهِ النّوم إِلَى وَقت السحر وَإِذا بِرَجُل شعل الْقَنَادِيل الَّتِي فَوق محراب الْمَالِكِيَّة وَعمد إِلَى الْبَاب الَّذِي يجْرِي فِيهِ مَاء الْحَنَفِيَّة ففتحه حَتَّى دخلت مِنْهُ رجال نَحْو الْأَرْبَعين فَلَمَّا رَآهُمْ العجان ظن أَن الصَّلَاة للمغرب أَو الْعشَاء فجَاء الْقَوْم وَاصْطَفُّوا منتظرين لإمامهم فَإِذا صَلَاة الْعشَاء قد أُقِيمَت للعيثاوي فَتقدم وَصلى إِمَامًا ثمَّ إِن الْقَوْم جاؤا(1/269)
إِلَيْهِ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ الْبركَة وَجَاء العجان على إثرهم فخاطبه وَأمره بِالْكِتْمَانِ مُدَّة الْحَيَاة ولد بِدِمَشْق وَقَرَأَ الْقُرْآن على الشهَاب أَحْمد بن النبيه ثمَّ قَرَأَ الْفِقْه والنحو على الشَّيْخ البارع تَاج الدّين ثمَّ لزم وَالِده الْفَقِيه الْكَبِير يُونُس ثمَّ أمره وَالِده بملازمة فَقِيه الْعَصْر أقضى الْقُضَاة نور الدّين عَليّ النَّسَفِيّ الْمصْرِيّ نزيل دمشق فلازمه سِنِين حَتَّى تبحر فِي الْفِقْه وَحضر بأَمْره أَيْضا دروس الْعَلَاء بن عماد الدّين وَأخذ الحَدِيث عَن الشَّمْس مُحَمَّد بن طولون وَغَيره وَقَرَأَ فِي القراءآت على أستاذ الْقُرَّاء الشهَاب الطَّيِّبِيّ وَصَحب فِي طَرِيق الْقَوْم ومذاكرة الْعُلُوم الشهَاب أَحْمد بن الْبَدْر الْغَزِّي واصطحب فِي الطَّرِيق أَيْضا الشَّيْخ عبد الرَّحِيم الصَّالِحِي وَأَجَازَهُ الْبَدْر الْغَزِّي بالفتوى بعد وَفَاة الطَّيِّبِيّ وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم الْحسن البوريني وَالشَّيْخ مُحَمَّد الجوخي والشرف الدِّمَشْقِي والنجم الْغَزِّي وَغَيرهم وَكَانَ أفقه أهل زَمَانه وَعَلِيهِ الْمعول فِي الْفَتْوَى وَمن بَينهم وَاخْتلف هُوَ والعلامة إِسْمَاعِيل النابلسي الشَّافِعِي فِي بِنَاء المنارة الْبَيْضَاء الَّتِي بنيت على كَنِيسَة النَّصَارَى دَاخل دمشق بمحلة الخراب فَأفْتى النابلسي بِعَدَمِ بنائها حذرا من أَن يكون إشهار الْأَذَان بهَا سَببا لسب النَّصَارَى لدين الْإِسْلَام وَنظر إِلَى الْآيَة {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله} الْآيَة وَأفْتى العيثاوي بِجَوَاز بنائها وَكَانَ الْبَانِي لَهَا عَلَاء الدّين بن الحجيج التَّاجِر الْكَبِير وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة مصطفى بن بُسْتَان مائلاً إِلَى مَا أفتى بِهِ العيثاوي ونائب الشَّام حسن باشا بن مُحَمَّد باشا مائلاً إِلَى مَا أفتى بِهِ النابلسي ثمَّ بنيت بِأَمْر القَاضِي بعد أَن بذل النَّصَارَى للوزير مَالا جماً وَألف العيثاوي فِي بنائها رِسَالَة لَطِيفَة وَكَانَ ذَلِك قبل التسعين والتسعمائة وَتَوَلَّى من الْوَظَائِف إِمَامَة الْجَامِع الْأمَوِي وخطابة الْجَامِع الْجَدِيد الْمَعْرُوف بالجامع الْمُعَلق خَارج بَاب الفراديس وَنصف خطابة التوريزية خَارج دمشق بمحلة قبر عَاتِكَة ودرس بالعمرية والعزيزية ثمَّ الظَّاهِرِيَّة ثمَّ الشامية البرانية وَوعظ بالجامع الْأمَوِي وجامع السُّلْطَان سُلَيْمَان وسافر إِلَى الْحصن وَإِلَى طرابلس الشَّام مرَّتَيْنِ لصلة أرحامه وَكَانَ لَهُ ثمَّ خؤلة وسافر إِلَى حلب مرَّتَيْنِ أَيْضا كِلَاهُمَا فِي مصلحَة أهالي دمشق الأولى سنة سِتّ عشرَة بعد الْألف هُوَ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن سعد الدّين وَآخَرُونَ بشكاية إِلَى الْوَزير مُرَاد باشا بِمَا وَقع بِدِمَشْق ونواحيها من عَليّ بن جانبولاذ وفخر الدّين بن معن وأحزابهما وعتوّهما فِي بِلَاد دمشق والقصة مَشْهُورَة وَسَتَأْتِي(1/370)
فِي تَرْجَمَة ابْن جانبولاذ فِي حرف الْعين إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالثَّانيَِة فِي سنة خمس وَعشْرين لرفع التَّكْلِيف عَن أهل دمشق بِسَبَب سفر الْعَجم الْوَاقِع فِي تِلْكَ السّنة وَأَقْبَلت عَلَيْهِ أهالي حلب للأخذ عَنهُ وعظموه تَعْظِيمًا بليغاً وَرَأَيْت أَبَا الْوَفَاء العرضي يثني عَلَيْهِ فِي تَارِيخه كثيرا وَذكر علمه وورعه وَهُوَ فِي نفس الْأَمر أهل لكل وصف حسن وَكَانَ مرض مرّة عَاما كَامِلا وَكَانَ ابْتِدَاء مَرضه فِي عيد الْأَضْحَى سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وانْتهى فِي عيد الْأَضْحَى من الْعَام الْقَابِل فعيده الْحسن البوريني وَأنْشد لنَفسِهِ قَوْله
(شهَاب الْمَعَالِي وَبدر الدجى ... وَمن مِنْهُ كل الورى تستفيد)
(نذرت الصّيام ليَوْم الشفا ... وَكَيف يَصُوم الْفَتى يَوْم عيد)
قَالَ النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله الْمُسَمّى بلطف السمر فِي أَعْيَان الْقرن الْحَادِي عشر أَخْبرنِي مرَارًا أَن مولده فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وتمرض بحمى الرّبع وَتُوفِّي فِي مستهل ذِي الْحجَّة سنة خمس وَعشْرين وَألف عَن أَربع وَثَمَانِينَ سنة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَقَالَ أَبُو بكر الْعمريّ فِي تَارِيخ وَفَاته
(يَا أَخا الْعلم خَاضَ بَحر الْفَتَاوَى ... وَغدا الدّين دامي الطّرف أرمد)
(مَاتَ غوث الْأَنَام من كَانَ يستسقى ... بِهِ الْغَيْث وَالْخَلَائِق تشهد)
(شَيخنَا العيثوي بل شيخ أهل الْعَصْر ... طرّ ادْع جَاهِلا فِيهِ فند)
(شَافِعِيّ الزَّمَان مَالك أَسبَاب ... الْعُلُوم الَّتِي بهَا النَّاس ترشد)
(قل إلهي إِذا دَعَوْت وأرخ ... ارْحَمْ العيثوي عَبدك أَحْمد)
والعيثاوي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ يَاء مُثَلّثَة وَألف مَقْصُورَة نِسْبَة إِلَى عيثاقرية من قرى الْبِقَاع العزيزي من ضواحي دمشق وَيُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا عيثوي أَيْضا كَمَا اسْتَعْملهُ الْعمريّ وعيثالغة عامية وَكَانَ وَالِده يُونُس قدم مِنْهَا إِلَى دمشق وتوطنها ذكره البوريني
أَحْمد بن يُونُس وَزِير شرِيف مَكَّة السَّيِّد إِدْرِيس بن الْحسن كَانَ شَدِيد الْبَأْس ذَا قُوَّة وَعدد ومدد وطار صيته فِي الْآفَاق وَأكْثر الدخل وَأَقل الْإِنْفَاق وَكَانَ ذَا تَدْبِير لأحواله حَتَّى جَاوز الْحُدُود فَوَقع مَا قَضَاء الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَنه لما استفحل أمره وَعظم صَارَت الْأُمُور كلهَا منوطة بِرَأْيهِ فتعدى طوره وَلم يقف عِنْد حَده فتوافق الشريف إِدْرِيس والشريف محسن على عَزله فَأرْسل الشريف إِدْرِيس وَكَانَ(1/371)
إِذْ ذَاك بالمبعوث إِلَى الْقَائِم مقَامه بِمَكَّة السَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الْمطلب يَأْمُرهُ بِأخذ الْمهْر مِنْهُ وَهُوَ مهر الْعرُوض وَأرْسل الشريف محسن إِلَى الْقَائِد ياقوت بن سُلَيْمَان وَكَانَ وزيره بِأخذ مهره مِنْهُ فَفعل كل مَا أَمر بِهِ وَكَانَ الْأَخْذ الْمَذْكُور صَبِيحَة عَاشر رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وَألف فشاع فِي الْبَلَد عَزله وَأرْسل الشريف إِدْرِيس إِلَى الْقَائِد ريحَان بن سَالم حَاكم مَكَّة يَأْمُرهُ بالوصول إِلَيْهِ إِلَى الشرق فَقدم إِلَيْهِ فقلده منصب الوزارة فوصل إِلَى مَكَّة فِي الشَّهْر الْمَذْكُور فَلَمَّا كَانَ آخر الْعشْر الثَّانِي من رَمَضَان وصل الْخَبَر للسَّيِّد مُحَمَّد الْمَذْكُور بِأَن الْقَائِد أَحْمد يُرِيد الرّكُوب عَلَيْك وَقد اجْتمعت عِنْده الْعدَد والمدد وَوصل الْخَبَر إِلَى الْقَائِد أَحْمد بذلك أَيْضا فَركب كل مِنْهُمَا وألبس ووقف عِنْد بَاب دَاره ثمَّ انجلى الْأَمر وَظهر أَن مَا أخبر بِهِ كل مِنْهُمَا لَيْسَ لَهُ أصل وَأرْسل السَّيِّد مُحَمَّد إِلَى الشريف إِدْرِيس والشريف محسن يعرفهما بذلك وَلما كَانَ الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان ذهب الْقَائِد أَحْمد إِلَى الْمَبْعُوث وَأقَام هُنَاكَ فجَاء الْأَمر إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد بِأخذ أَمْوَاله من دَاره وكل ماهو لَهُ وَأَن يحْتَفظ على ذَلِك فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْعِيد فرق السِّلَاح على الْعَسْكَر آخر اللَّيْل وَنزل إِلَى الْمَسْجِد وَصلى صَلَاة الْعِيد فَقَط وبرز من الْمَسْجِد قبل الْخطْبَة وعزم بالجيش إِلَى بَيت الْقَائِد الْمَذْكُور فختم على أَمْوَاله وَأمر أَن ينزل الْبَعْض مِنْهَا إِلَى الْبَلَد وَاسْتمرّ إِلَى بعد صَلَاة الْعَصْر فَنزل هُوَ والجيش بعد أَن احتاط بِبَقِيَّة الْأَمْوَال وَقبض على جمَاعَة من المنسوبين إِلَيْهِ وحبسهم بعد أَن ختم على بُيُوتهم ثمَّ فكوا بعد وُصُول الشريف إِدْرِيس إِلَّا إِبْرَاهِيم بن أَمِين كَاتبه وَأعظم المقربين إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لم يزل مسجوناً إِلَى أَن قضى الله عَلَيْهِ وَأما الْقَائِد أَحْمد فَإِنَّهُ اسْتمرّ بالمبعوث فثارت بسبه فِي ثَانِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فتْنَة أدَّت إِلَى الادراع ولإلباس ثمَّ رَحل إِلَى كلاح فَأَقَامَ بهَا ثمَّ رَجَعَ مِنْهَا إِلَى جِهَة الشَّام فَلَمَّا أَن كَانَ فِي أثْنَاء الطَّرِيق رَجَعَ فوصل إِلَى الشريف إِدْرِيس وَهُوَ بالشرق فِي السّنة الْمَذْكُورَة فسجنه وكبله بالحديد ثمَّ إِنَّه قَتله فِي الْعَام الْمَذْكُور فِي مَحل يُقَال لَهُ وَادي النَّار وَدفن هُنَاكَ عَفا الله عَنهُ
أَحْمد الأحمدي الصعيدي من بَيت بني أَحْمد قَرْيَة من أَعمال الْمنية كَانَ مَاشِيا على طَرِيق الْقَوْم بِكَثْرَة الْعِبَادَة محباً للْفُقَرَاء وَالْعُلَمَاء صوفياً زاهداً عَمت إمداداته واشتهر صيته وَكَانَ يحجّ سنة وَيتْرك أُخْرَى مَعَ إدامته لخشونة عيشه وَكَانَ رُبمَا لبس الخيش وَكَانَ كثيرا مَا ينشد(1/372)
(أقنع بلقمه وشربة مَاء وَلبس الخيش ... وَقل لقلبك مُلُوك الأَرْض راحوا بإيش)
وَكَانَ كثير الْفِكر وَالذكر وَالصَّلَاة على النَّبِي
وَأخْبر أَنه رأى النَّبِي
وَأَنه إِذا زَارَهُ سمع مِنْهُ رد السَّلَام عَلَيْهِ كَانَت وَفَاته فِي سنة سبع بعد الْألف ذكر وَفَاته الْمَنَاوِيّ فِي طبقاته وَهُوَ عُمْدَة وَذكر الشلي أَن وَفَاته فِي رَجَب سنة عشر بعد الْألف وَلَا أَدْرِي عَمَّن نقل هَذَا وَالله أعلم
الشَّيْخ أَحْمد المغربي الْمَالِكِي شيخ الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق والمتكلم عَلَيْهِم بعد الْعَلَاء ابْن المرحل كَانَ فَاضلا دينا وَفِيه خير وَصَلَاح وكلمته نَافِذَة عِنْد الْحُكَّام وَله استقامة لَا يتَكَلَّم فِي أحد بِسوء ولي نظارة الْجَامِع الْأمَوِي فحمدت سيرته وَكَانَ ينتدب الْأَوْقَاف فيعمرها مَعَ التوفير فِي المصارف ووسع الطرقات إِلَى الْجَامِع فَوسعَ بَاب الْبَرِيد بِتَأْخِير تخوته إِلَى خلف ووسع سوق السِّلَاح وَكَانَت وَفَاته فِي إِحْدَى الجمادين سنة ثَمَان وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
خَان أَحْمد الكيلاني الشريف الْحُسَيْنِي سُلْطَان بِلَاد كيلان من بَيت السلطنة أَبَا عَن جد وَكَانَ مَعَ كَونه من الْمُلُوك أحد أَفْرَاد الْعَالم فِي الْعُلُوم الرياضية والحكمية حصل علم الْهَيْئَة والهندسة والفلك وَكَانَ يدرس القوشجي فِي الْهَيْئَة وَكَانَ إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الموسيقى وَالشعر الْفَارِسِي وَإِذا نظم غزلاً ربطه فِي أصوات ونغمات وَكَانَ طهماسب شاه قد اعتقله فِي قلعة دهقهه فِي بِلَاد الْعَجم وَمكث بهَا معتقلاً سِنِين عديدة وَكَانَ ولد طهماسب شاه إِسْمَاعِيل مَحْبُوسًا عِنْده فَقَالَ لَهُ أطلقني الله من الْحَبْس وولاني أَمر النَّاس فَللَّه عَليّ أَن أطلقك وأوليك بلادك فاتفق أَن الله تَعَالَى أطلقهُ وَأَعْطَاهُ سلطنة العراقين وأذربيجان وشروان وشيراز وخراسان وهمدان وبلاد الْجبَال فَأخْرجهُ من دهقهة لَكِن وَضعه فِي قلعة اصطخر وَقَالَ لَهُ أُرِيد أرسلك إِلَى بلادك مَعَ مزِيد التَّعْظِيم فَلم تطل مُدَّة إِسْمَاعِيل وَمَات ثمَّ استخرجه الشاه أعمى أَخُو إِسْمَاعِيل الْمُسَمّى بخداي بنده مُحَمَّد عِنْدَمَا تولى السلطنة بِاتِّفَاق أُمَرَاء قزلباش وَكَانَت إِقَامَته فِي زمن سلطنة أَبِيه وأخيه الشاه إِسْمَاعِيل فِي شيراز فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ إِسْمَاعِيل لم يَجدوا فِي بَيت السلطنة ذكرا قَابلا للْملك سوى هَذَا فقالو اهو من بَيت السلطنة لَيْسَ إِلَّا فَنحْن نوليه ملك أَبِيه وَلَو كَانَ أعمى فَلَمَّا تولى السلطنة أرسل إِلَى خَان أَحْمد واستخرجه من اصطخر وولاه بِلَاد كيلان كَمَا كَانَ فَلم يزل بهَا إِلَى أَن أَخذ سُلْطَان الْإِسْلَام السُّلْطَان مُرَاد بن سليم غَالب عراق الْعَجم(1/373)
وكل عراق الْعَرَب وأذربيجان وشروان وبلاد الكرج فَلَزِمَ إِن شاه عَبَّاس بن خداي بنده الضَّرِير الْمَذْكُور أرسل عسكراً وافراً فَأخذُوا كيلان من يَد خَان أَحْمد فهرب مَعَ جمَاعَة معدودين إِلَى جَانب السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد فَدخل عَلَيْهِ وامتدحه بقصيدة عَظِيمَة يحثه فِيهَا على أَخذ كيلان من يَد شاه عَبَّاس وَأهْدى لَهُ شمعداناً مرصعاً قيل إِنَّه خمن بِثَمَانِينَ ألف دِينَار وَلم يحصل على مُرَاده من الْعَسْكَر وَذهب إِلَى بَغْدَاد بِإِذن السُّلْطَان فَمَاتَ بهَا فِي سنة تسع بعد الْألف
الشَّيْخ أَحْمد الضوي الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بِأبي لبد لِأَنَّهُ كَانَ يتعمم بعدة برد وَيَضَع على رَأسه عقدَة لبد ويجعلها وَاحِدَة فَوق وَاحِدَة المجذوب الْيَقظَان الهائم السَّكْرَان كَانَ مُقيما بقلمه بِقرب قليوب لَا يأوي غَالِبا إِلَّا للكيمان وَكَانَ بَينه وَبَين النُّور ابْن العظمة الْآتِي ذكره مَا يكون بَين الأقران حَتَّى أَنه لم يدْخل مصر مُدَّة حَيَاته مهابة لَهُ وَله كرامات وأحوال غزيرة مِنْهَا مَا حَكَاهُ الحمصاني أَنه دخل على والدته ذَات يَوْم فَقَالَ أعندك شَيْء آكله فَقَالَت لم يكن عِنْدِي إِلَّا جبن فَقَالَ بلَى عنْدك لبن ادخرتيه لزوجك وَكَانَت ادّخرته لَهُ كَمَا قَالَ وَلم تعلم بِهِ أحدا قَالَ الحمصاني وَكَانَ لَهُ اطلَاع على الخواطر مَا وقف إِنْسَان تجاهه إِلَّا كاشفه بِمَا عِنْده وَمِنْهَا أَنه وجد غزالة مَعَ رجل بسوق طنان فَقَالَ لَهُ بِعني هَذِه فَقَالَ أَعْطَيْت خمسين نصفا فَقَالَ لَهُ خُذ هَذَا ثمنهَا فَوضع فِي يَده خَمْسَة أَنْصَاف فَأَعَادَهَا لَهُ وَقَالَ لَهُ أَقُول لَك أَعْطَيْت خمسين فَمَا يزَال يدفعهم لَهُ بعينهم وَفِي كل مرّة يزِيدُونَ وَيَقُول هم الثّمن إِلَى أَن صَارُوا خمسين وَله غير ذَلِك وَتُوفِّي فِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف
الشَّيْخ أَحْمد الْمَدْعُو حَمده المجذوب الصاحي كَانَ كشفه لَا يكَاد يتَخَلَّف وَكَثِيرًا مَا يخبرنا بالشَّيْء قبل وُقُوعه قَالَ الْمَنَاوِيّ قَالَ الْوَلَد يَعْنِي وَلَده زين العابدين الْآتِي ذكره مَا تلبست بِحَال إِلَّا كاشفني بِهِ وَهُوَ مُقيم عِنْد نسَاء بِبَاب الْفتُوح يخدمهن وبعضهن بغيات وَمَا مَاتَ أحد مِنْهُنَّ إِلَّا عَن تَوْبَة وَرُبمَا صَار بَعضهنَّ من أهل المقامات وَيذْهب كل يَوْم من بَاب الْفتُوح إِلَى بَاب زويلة يجمع لَهُنَّ دَرَاهِم من أَرْبَاب الحوانيت قَالَ وَقَالَ لي الحمصاني لَقيته مرّة وَإِذا بولدك قادم فَقَالَ لَهُ أَصبَحت فِينَا صيرفياً وَمن لم تستجوده فَلَيْسَ عبقرياً طَاعَتك علينا حكم الْفَرْض لَا نصدر إِلَّا عَن رَأْيك فِي الطول وَالْعرض وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَدفن فِي الرَّوْضَة خَارج بَاب النَّصْر(1/374)
الشَّيْخ أَحْمد الأحمدي الْمصْرِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى المرشد الْمَعْرُوف بالسيحي ذكره أَحْمد العجمي فِي مشيخته قَالَ فِي تَرْجَمته تَلا الْقُرْآن على مُحَقّق عصره الشَّيْخ أَحْمد بن شيخ الشُّيُوخ عبد الْحق النباطي وَلَزِمَه وَأخذ عَنهُ وَأخذ عَن عُلَمَاء عصره الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَكَانَ فِي عداد طبقَة الْمَشَايِخ الْكِبَار بل أكبر مِنْهُم حَالا ومقالاً وَكَانُوا كلهم يعظمونه ويوقرونه ويتبركون بِهِ ثمَّ ارتحل من مصر بِإِشَارَة بعض أَرْبَاب الْأَحْوَال فَطَافَ الْبِلَاد الْبَعِيدَة على قدم التَّجْرِيد المجاهدة والتوكل وَدخل بَغْدَاد والكوفة وَالْبَصْرَة وَمَا وَرَاء تِلْكَ النواحي ثمَّ عَاد إِلَى مصر فابتنى مَسْجِدا بجوار مشْهد الشُّهَدَاء بالمنوفية وَأقَام فِيهِ لإقراء النَّاس الْقُرْآن فَانْتَفع بِهِ خلائق لَا يُحصونَ وَكَانَ يَجِيء إِلَى مصر فِي كل عَام مرّة يجلس أَحْيَانًا بِجَامِع الْأَزْهَر وَأَحْيَانا بمدرسة السيوفية وَالنَّاس يزدحمون عَلَيْهِ ثمَّ يعود إِلَى مَسْجده هَذَا دأبه مُدَّة حَيَاته وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمسجده وضريحه يزار رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد المغربي القيرواني الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِصَاحِب السَّعَادَة أحد أَعَاجِيب الزَّمَان ونوادره كَانَ فِي مبدأ أمره خرج من بِلَاده وَهُوَ متقن لمعارف وأفانين كَثِيرَة فِيهِ فضل وأدب فوصل إِلَى الرّوم وَاخْتَلَطَ بأدبائها وَلم يزل مُقيما بهَا حَتَّى صَار مُسْتَوْفيا بِبِلَاد الْيمن ورحل إِلَيْهَا فصادف بهَا حاكمها حيدر باشا فانخرط فِي سلك ندمائه وَلم يزل عِنْده فِي مكانة سامية حَتَّى وقف على جملَة من هزلياته فنفر عَنهُ وَعرض فِيهِ إِلَى جَانب السُّلْطَان فعزل وسافر إِلَى الرّوم فولي الْحُكُومَة بِمَدِينَة مرعش وَبَعْدَمَا صرف عَنْهَا حط بِهِ الدَّهْر إِلَى أَن بَقِي مُنْفَردا لَا يملك من حطام الدُّنْيَا إِلَّا مَا عَلَيْهِ من الثِّيَاب وَورد دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة أَخْبرنِي من كَانَ لَهُ وقُوف على حَاله أَنه كَانَ فَاسد الرَّأْي كثير الأزراء بِنَفسِهِ وَمن عَجِيب أطواره أَنه كَانَ يلبس ثوبا من الليف الْبُرُلُّسِيّ سوى أكمامه فَكَانَ يصنعها من الْكَتَّان الرفيع الفاخر وَكَانَ لَهُ ناسومتان إِحْدَاهمَا عتيقة يلبسهَا فِي أغلب أوقاته وَأُخْرَى جَيِّدَة يصطحبها دَاخل الْكيس مُعَلّق فِي خرامة إِذا أَرَادَ الدُّخُول على أحد من الْأَعْيَان لبسهَا وَوضع العتيقة مَكَانهَا فِي الْكيس إِلَى أَن يخرج فيعيدها وَكَانَ لَهُ مَعَ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري صُحْبَة أكيدة فَلَمَّا قدم الْمقري دمشق كَانَ لَا يُفَارِقهُ وبسببه اتَّحد مَعَ عُلَمَاء دمشق مِنْهُم أَحْمد الشاهيني وَلما رَحل الْمقري من دمشق أَقَامَ هُوَ بهَا فَتغير(1/375)
(لَهَا برص بِإِحْدَى إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حِين شَابًّا)
غير أَن الفرزدق نظام وَهَذَا من جملَة الْعَوام بل الْهَوَام أَو جحظة الْبَرْمَكِي الَّذِي يَقُول فِيهِ ابْن الرُّومِي
(نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج وَمن سرطان)
(وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم الْعُيُون للذة الآذان)
خلا أَن منادم هَذَا يجمع بَين الألمين بَين ألم الْأذن وألم الْعين أَو هُوَ أَبُو زيد الَّذِي قَالَ فِيهِ الصاحب
(انْظُر إِلَى وَجه أبي زيد ... أوحش من حبس وَمن قيد)
(وحوشه ترتع فِي ثَوْبه ... وظهره يركب للصَّيْد)
بيد أَن أَبَا زيد أثبت لَهُ الصاحب صفة الصَّيْد وَهُوَ لَا يكون إِلَّا لوزير أَو لأمير ابْن أَمِير وَهَذَا الفاتك المتناسك كَأَنَّهُ حجام أَو حائك أَو هُوَ عَيَّاش الَّذِي قَالَ فِيهِ أَبُو تَمام
(أيا من أعرض الْعَالم طرّاً عَنهُ من بغضه ... وَيَا من بعضه يشْهد بالبغض على بعضه)
(وَيَا أثقل خلق الله من ماش على أرضه ... وَيَا أقذر مَخْلُوق تناهى الْخلق فِي رفضه)
(وَمن عاف مليك الْمَوْت ... واستقذر من قَبضه)
وَأقسم بِاللَّه أَن قدر عَيَّاش مَا بَين الأوباش بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا القلاش فِي المعاش كنسبة أبي تَمام لبَعض أراذل الْعَوام وَلَيْسَ فِي نفس الْأَمر إِلَّا زيد الَّذِي وَصفه عَمْرو فَقَالَ يَا صَاحب الشقاوة ومنبع الغباوة كم تدّعى الْحَلَاوَة وَقَالَ مَا هَذِه العلاوة والطرف ذُو غشاوة وحظك الْعَدَاوَة وَقَالَ فِيهِ
(يَا من بِهِ وبشكله ... لِذَوي البصائر تبصره)
(أَخْلَاق ثَوْبك عِبْرَة ... للعاقلين وتذكره)
(قومت مَا فِيهِ أَتَى ... بقمامة فِي مجزرة)
(فِي كل مغر زابره ... قاذورة أَو مطهره)
(مَا أَنْت إِلَّا دمثة ... مَكْرُوهَة مستقذره)
وَقَالَ فِيهِ
(يَا بَحر جهل قد زخر ... بالحمق دهراً فافتخر)
(هلا تنسمت الَّذِي ... فِي الثَّوْب من فضل الْحجر)
(مَا للكيف رَوَائِح ... فاحت بفيك من البخر)
وَقَالَ فِيهِ
(يَا ذَا الَّذِي قد جَاءَنَا ... والشكل مِنْهُ مزدرى)(1/377)
(مَا إِن رَأَيْتُك مُقبلا ... إِلَّا تمنيت الْعَمى)
أصبح فِي الشَّام كَأَنَّهُ فِي الْعَرَبيَّة ابْن هِشَام يتَكَلَّم بِغَيْر احتشام فَتَارَة يَدعِي أَنه أفضل أهل الْمشرق وَأَحْيَانا أَنه أفضل أهل الْمغرب وآونة أَنه أكمل فضلاء مصر ورادفة أَنه أجل أُمَرَاء الْعَصْر وَهُوَ خَارج من الْفَرِيقَيْنِ ودارج عَن الطَّرِيقَيْنِ
(لَا إِلَى هَؤُلَاءِ إِن طلبوه ... وجدوه وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)
وَرُبمَا يلهو بلحيته الوسواس الخناس فيزكي نَفسه وَيَقُول أَنا أتقى النَّاس وَرُبمَا لج بِهِ الْغرُور حَتَّى فضل نَفسه على الْجُمْهُور وَإِذا تحكم بِهِ الطغيان صرح وَقَالَ من فلَان وَفُلَان وَحين يقرب بِزَعْمِهِ من نفس الْأَمر جعل نَفسه ثَانِيًا لوَاحِد الدَّهْر وَلَيْسَ حَظه من هَذِه الدَّعْوَى إِلَّا الْبلوى والشكوى وَلَا فَائِدَة وَلَا جدوى بل حَظه مِنْهَا الْجِدَال والمرا وَمن جهلت نَفسه قدره رأى غَيره فِيهِ مَا لَا يرى يزْعم أَنهم لقبوه صَاحب السَّعَادَة وَلَا أَدْرِي مَا السَّعَادَة الَّتِي ينتمي إِلَيْهَا والرياسة الَّتِي يلوب ويتهالك عَلَيْهَا إِن كَانَت أخروية فَذَلِك الْأَمر لَا يعرف كَيفَ يكون وَإِن كَانَت دنيوية فالرجل لَا محَالة مَجْنُون مفتون إِذْ لَيْسَ فِيهِ أثر من آثارها وَلَا ذرة من غبارها فالويل لَهُ من هَذِه الدَّعْوَى الكاذبة والتنابز بِالْأَلْقَابِ المخطئة الْغَيْر صائبة اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك عقلا يعقلنا عَن مثل تِلْكَ الحماقات ورشداً يمنعنا عَن تِلْكَ الدَّعَاوَى الباطلات العاطلات
(والدعاوى مَا لم يقيموا عَلَيْهَا ... بَيِّنَات أبناؤها أدعياء)
فَلَمَّا وصلت إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة أَخْبَار هَذِه الْمُقدمَة لم يزل يتطلبها حَتَّى وقف عَلَيْهَا وتحامق على حمقه وحنق وَذهب بهَا إِلَى الشَّيْخ الْمقري وَبكى وشكى من مؤلفها فَأرْسل مؤلفها يعرف الشَّيْخ سَبَب تأليفها وإنشائها وتصنيفها فَكتب إِلَيْهِ يَقُول وَلَقَد أجل سَيِّدي عَمَّا سيعرض على عالي جنابه وأنزه من ذَلِك شرِيف سَمعه وخطابه من هَذَا الوسواس المنافر والهذيان الوافي المتنافر والسخرية الَّتِي يحرس سمع الأديب عَنْهَا ويكلا والأعجوبة الَّتِي خَبَرهَا يسلى الحزين ويضحك الثكلى والمدح الَّذِي يلوح الْقدح على صفحاته والهزل الَّذِي يَأْخُذ الْجد بمخنق لهاته وَالشعر الَّذِي ينفث السحر بَين كَلِمَاته وفقراته والداعي إِلَى ائتلاف قوافيه وتضييع الْعُمر فِيهِ أَن هَذَا الرجل الملقب نَفسه بالضد وَهُوَ حَلِيف الشقاوة وَمن طَرِيق الْجد قد نصب حبائل الخداع فِي استجلاب مَا عندنَا من نفائس الْمَتَاع وَلم يفرق بَين(1/378)
عرُوض التُّجَّار وعروض الْأَشْعَار فجاءنا بوريقة فِيهَا خطوط أخلاط لَا يُدْرِكهَا وَلَا يفهمها بقراط مشوّشة المبنى مُخْتَلفَة الْمَعْنى يدعى أَنَّهَا تدخل فِي سلك النّظم لَا تساغ مَعَ الكظم وَلَا يعْمل فِيهَا الهضم إِنَّمَا هِيَ لقْمَة ذَات عظم لَا يُؤثر فِيهَا القضم فَمَا رَأَيْت قدرا أَكثر مِنْهَا عظما وَلَا آكلاً أَكثر مني كظماً كَمَا لم أر ناظماً أقبح مِنْهُ نظماً ثمَّ إِنَّه أَخذ يتقاضى الْجَواب وَلَا يمنعهُ الْحجاب وَلَا يعوقه البواب وَلَا يروعه الْبَاب فيقف بَين يَدي كَأَن لَهُ دينا عَليّ فيضغطني ضغطة الْغَرِيم اللَّئِيم للْمَدِين الْكَرِيم حَتَّى أردْت أَن أَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَقلت أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ثمَّ أَمْسَكت اليراع وَأَنا ممتلىء بالصداع ونظمت هَذِه الأبيات والنشوة على شرف الْفَوات وَمَا أنشأت هَذَا القريض حَتَّى انحط طبعي للحضيض ثمَّ لم يبرح من بَاب الدَّار حَتَّى أَمْسَكت بيَدي الطومار فَكتبت وشرخ البديهة عَازِب وَنجم القريحة غارب وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ كلهَا هجواً وَلما كَانَ بعض هجائها نجوى وَهَا هِيَ كَمَا يرَاهُ السَّيِّد مِنْهَا الرَّدِيء والجيد فَقلت مرتجلاً بديهة من غير توقف وَلَا تدبر
(من رام يحوي فِي العلى مُرَاده ... فليصحبن صَاحب السعاده)
(مهذب الرَّأْي الَّذِي دُنْيَاهُ فِي ... يَدَيْهِ لَا فِي قلبه معاده)
(ذُو همة لَو جِيءَ بالعنقاء قد ... يَقُول هذى عندنَا جراده)
(مقتصد عدوّه الأسراف فِي ... أُمُوره وخلقه الزهاده)
(وَرُبمَا يرفل فِي ديباجه ... طوراً وطوراً لابساً نجاده)
(وَلَو أَتَاهُ قس يَوْمًا حجَّة ... وَلَو غَدا مستنصراً إياده)
(أَو حَاتِم وافاه رَاح خجلا ... وَلَو بطى قد نوى استنجاده)
(يَقُول قس أَيْن لي فضل فَتى ... أحرز خصل الْفضل مَعَ زياده)
(وحاتم يَقُول إِنِّي عَاجز ... عَن شأو مولى غَالب أضداده)
(عَن الإِمَام المقرىء شَيخنَا ... رويت كلما رويت عَاده)
(والمقري عِنْد أَصْحَاب النهى ... خُزَيْمَة فِي موطن الشَّهَادَة)
(يحفظه الله الَّذِي أفادني ... إِفَادَة تغني عَن الْإِعَادَة)
(قد كثر الله معاليه كَمَا ... قد كثر الله بهَا حساده)
(لله مَا أسعد أوقاتي بِهِ ... وطبعه الْمَوْصُوف بالإجاده)(1/379)
(هُوَ الْقَرِيب للقريب جَامع ... فِي زمن مشتت أَفْرَاده)
(قاءه وَطول بَاعَ فِي العلى ... وزي فقر فِي الْغنى استفاده)
(طوّل فِي كل الْمعَانِي بَاعه ... من اعْتدى مقصراً نجاده)
(أَحْمد ذَاك الْكَامِل السَّامِي الَّذِي ... قد لقبوه صَاحب السعاده)
(المغربي القيرواني الَّذِي ... أشْرب قلب شرقنا وداده)
(هِيَ الْخِصَال كلهَا غَرِيبَة ... جود وحزم ومعالي الساده)
(من الذكاء قلبه مشتعل ... أورى لَهُ الْفضل بِهِ زناده)
(فبذله كفضله وجوده ... من طبعه وقوته العباده)
(يحْتَمل الْكل عَن الْخلّ الَّذِي ... أَضَافَهُ وَيكرهُ استبعاده)
(مقتنع بِكُل مَا يَأْتِي بِهِ ... محسن للباذل اقتصاده)
(لَا يَأْكُل الطَّعَام إِلَّا مرّة ... بحكمة من طبعه مفاده)
(وَكلما ذكرت من أخلاقه ... مُبين من رشده سداده)
(وَبَعض مَا أوردت من صِفَاته ... هُوَ الَّذِي مشرد رقاده)
(لَك الصَّفَا لَك الهنا لَك المنا ... لَك الرِّضَا مَعَ مُنْتَهى الإراده)
(إِن جئتنا فِي يَوْم سعد زَائِرًا ... يَا من يرى الْخلّ بِهِ أعياده)
(يَا لهف نَفسِي كَيفَ أبغي مدحه ... لفاضل لست أرى أنداده)
(أفيده مد حَاله وَهُوَ الَّذِي ... بِذَاتِهِ اسْتغنى عَن الإفاده)
(أتحفني مِنْهُ بِشعر شَاعِر ... مَا مثله حَاز أَبُو عباده)
(من لي بِشعر حرت فِي نشيده ... حِين سَمِعت فِي الملا إنشاده)
(حسب ابْن شاهين بِأَن قد جِئْته ... بمدحه كَأَنَّهَا قلاده)
(من لُؤْلُؤ وجوهر منضد ... يزين مِنْهَا نظمها أجياده)
(فَإِن يجبك سَيِّدي بِمثل مَا ... أهديته فَمن علاك صَاده)
(وَإِن يكن صَاد النُّجُوم مهدياً ... إِلَيْك فَهُوَ عِنْده مَا اعتاده)
(فَلَا بَرحت سَيِّدي مرتقياً ... مراقي الْعِزّ والسياده)
(فِي مدّة لَا فنيت بِعَارِض ... وعمره مُحَصل مُرَاده)
وَكَانَت وَفَاة صَاحب السَّعَادَة فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف بالمحلة الْكُبْرَى
أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بِالْحَافِظِ أحد وزراء الدولة العثمانية الكبراء وَكَانَ فَاضلا(1/380)
كَامِلا عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية وَيعرف عُلُوم الْأَدَب وَالْعرُوض وَكَانَ متيقظاً مُدبرا حاذقاً خدم فِي مبادي أمره بدار السلطنة وَلم يزل يترقى فِي المناصب حَتَّى ولي كَفَالَة دمشق ودخلها يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وساس الْأُمُور فِي بداية أمره على النهج القويم إِلَّا أَنه لما طَالَتْ مدَّته تجبر وظلم النَّاس ظلما بلغ الْغَايَة وملأ من الرعب قُلُوب أهل دمشق وَلما مَاتَ الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن سعد الدّين تنَازع فِي المشيخة أَخُوهُ سعد الدّين وَابْن أَخِيه كَمَال الدّين وكل مِنْهُمَا ذُو أَمْوَال كَثِيرَة وعقارات غزيرة فَأخذ من كل وَاحِد مِنْهُمَا أَمْوَالًا لَا تحصى ثمَّ بَعْدَمَا استصفى مِنْهُم الْأَمْوَال أَخذ بستاناً عَظِيما يُسَاوِي خَمْسَة آلَاف دِينَار من الشَّيْخ سعد الدّين حَتَّى حَاز على المشيخة وَقطع آمال الشَّيْخ كَمَال الدّين وَكتب الشَّيْخ سعد الدّين حجَّة بِالْبيعِ لَهُ وَقبض الثّمن مِنْهُ وَقد كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة ذَا شهامة وَمَعْرِفَة تَامَّة بأحوال الحروب وتغريم الْأَمْوَال فصادر جماعات فِي دمشق وَأخذ مِنْهُم أَمْوَالًا بِغَيْر حق وَكَانَ أَرْبَاب الدولة من مقربي السلطنة يبعدونه دَائِما عَن السُّلْطَان لعلمهم أَنه إِذا قربوه سحر السُّلْطَان بسعة عقله وَتَمام فَضله وَكَثْرَة حيله وَقُوَّة مكره وَمن الْعجب أَن مدرسة انْحَلَّت فِي دمشق فَأمر القَاضِي أَن تُعْطى للشَّيْخ زين الدّين الأشعافي وَكَانَ أَرَادَ أَن يستوطن دمشق وَكَانَ عَالما وَسَتَأْتِي تَرْجَمته وَكَانَ صَاحب تآليف فِي علم الْعرُوض والحافظ طلبَهَا لأجل إِمَام لَهُ وَكَانَ صَالحا وَكَانَ يعرف بعض أَشْيَاء من الْعِبَادَات على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فَقيل لِلْحَافِظِ أَن الشَّيْخ زين الدّين ثَانِي الْخَلِيل فِي علم الْعرُوض فَسَأَلَهُ الْحَافِظ عَن تقطيع بَيت فقدّر الله أَنه عجز وَصَارَ لَهُ كَمَا صَار للحريري ثمَّ إِن الْحَافِظ وَجه الْمدرسَة لإمامه ثمَّ إِن السُّلْطَان اتَّخذهُ سرداراً على قتال الْأَمِير فَخر الدّين بن معن وَأمر كافل حلب وكافل ديار بكر وكافل طرابلس وأمراء الأكراد وَنَحْو النّصْف من السباهية وعساكر دمشق وعساكر حلب الْجَمِيع يكونُونَ تبعا لَهُ فَتوجه بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ ألفا وحاصر ابْن معن تِسْعَة أشهر فَلم يقدر أَن يَأْخُذ قلعة من القلاع ثمَّ بعده أخرج رجلا من جماعته وَقَالَ لمن فِي القلاع أَنا مَالِي عنْدكُمْ غَرَض الْوَزير الْأَعْظَم لَهُ غَرَض فَقولُوا للأمير فَخر الدّين أَن ينزل إِلَى خيامنا وَعَلِيهِ أَمَان الله ونأخذ مِنْهُ دَرَاهِم للسُّلْطَان وللوزير ونقرره فِي أماكنه فَقَالُوا الْأَمِير ذهب فِي المراكب إِلَى بِلَاد الفرنج فَلَمَّا تحقق ذَلِك رَضِي بنزول أم فَخر الدّين فَقَالَت نَحن مَا ضَبطنَا بَلَدا بِغَيْر إِذن السُّلْطَان وَلَا انْكَسَرَ عندنَا مَال(1/381)
فَعِنْدَ ذَلِك أَعْطَتْ للسُّلْطَان مائَة ألف قِرْش وللوزير خمسين ألفا وللحافظ مثلهَا وانفصل الْأَمر على ذَلِك ثمَّ تولى كَفَالَة آمد فَقدر وَالله عز وَجل أَن كفلاء بَغْدَاد تجاوزوا فِي الظُّلم وَتَوَلَّى يُوسُف باشا بَغْدَاد وَكَانَ وزيراً شهماً فظلم وَكَانَ بكر أحد أجناد بَغْدَاد استطال على الْعَسْكَر لِكَثْرَة أَتْبَاعه وأمواله فَوَقع بَينه وَبَين الْوَزير الْمَذْكُور وَأَرَادَ الْوَزير قَتله فحاصر بكر بمعونة أَكثر عَسَاكِر بَغْدَاد قلعة بَغْدَاد وفيهَا الْوَزير فَكَانَ ينظر من أسوارها فَضربت مكحلة من جَانب عَسْكَر بكر فأصابت الْوَزير فَقتلته وَاسْتولى بكر على بَغْدَاد وَجعل نَفسه بيد حاكمها وَبعث الْأَمْوَال وَالْعرُوض والمحاضر إِلَى دَار السلطنة ليتولى على بَغْدَاد فَمَا أُجِيب إِلَى ذَلِك ثمَّ فِي خلال ذَلِك كتب الْحَافِظ أبياتاً بالتركية تَتَضَمَّن الْخطاب للسُّلْطَان أَحْمد أَنه مَا بَقِي عنْدكُمْ عَسْكَر وَلَا رجال وَلَا أَمْوَال حَتَّى تعينُوا سرداراً على بَغْدَاد وَكَانَ مُرَاده التَّوَصُّل إِلَى الوزارة الْعُظْمَى وَكَانَ عِنْده مَمْلُوك جميل اسْمه دلاور فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان قصيدة تركية يَقُول لَهُ فِيهَا مَا بَقِي عنْدك دلاور بمعان مُتعَدِّدَة ثمَّ بعد ذَلِك جعله السُّلْطَان سرداراً على بَغْدَاد وَأمر عدَّة أُمَرَاء أَن يَكُونُوا تبعا لَهُ وَجَمِيع الأكراد لَكِن مَا جعله وزيراً أعظم فَلَمَّا سمع ذَلِك بكر كتب لشاه عَبَّاس مَكْتُوبًا يَقُول لَهُ أسلمك بَغْدَاد بِشَرْط أَن تكون الْخطْبَة وَالسِّكَّة بِاسْمِك فَقَط فَرضِي الشاه بذلك فَقيل لَهُ أَنْت سني وَهَذَا شيعي كَيفَ تحكم الشِّيعَة فِي السّنيَّة فَقَالَ أَنا أكذب على الشاه إِذا رَجَعَ الْحَافِظ لَا أطمع بني عُثْمَان وَلَا الشاه فجَاء الْحَافِظ وحاصر بَغْدَاد وَقدر الله تَعَالَى أَن بَغْدَاد كَانَت فِي غَايَة الْقَحْط فَتحمل بكر المضض وَاسْتمرّ الْحَافِظ على المحاصرة حَتَّى سمع بِقرب الشاه مِنْهُ وَبَقِي بَينه وَبَين الشاه أَرْبَعَة أَيَّام فَكتب الْحَافِظ أَمر الْبكر أَنِّي جعلتك حَاكم بَغْدَاد ثمَّ تحول الْحَافِظ لعلمه بِكَثْرَة عَسَاكِر الشاه وَعدم استطاعته وتحول الْحَافِظ إِلَى ديار بكر وحاصر الشاه بَغْدَاد فضاقت الْمَعيشَة بعساكر بَغْدَاد ووصلوا إِلَى أَنهم كَانُوا يَأْكُلُون الْآدَمِيّين وَكَانَ بكر جعل على كل بَاب بِبَغْدَاد رجلا من أكَابِر أَقَاربه وَسلم القلعة لِابْنِهِ مُحَمَّد عَليّ فَلَمَّا رأى مُحَمَّد على أَن الْأُمُور صائرة إِلَى الْهَلَاك سمح بِهَلَاك وَالِده لنجاة نَفسه فَبعث للشاه ورقة التَّسْلِيم وَأدْخل لَيْلًا للقلعة عَسَاكِر الشاه وَلما كَانَ وَقت الصَّباح إِذا بطبول الشاه تضرب فِي القلعة فَانْقَطَعت قُلُوب أهل السّنة من الْخَوْف وامتلأت قُلُوب الشِّيعَة من الْفَرح وَالسُّرُور فَدخل الشاه صباحاً وَقتل بكر شَرّ قتلة وَوضع أَخا بكر(1/382)
عمر فِي السَّفِينَة وَألقى فِيهَا النفط والقطران وَالنَّار وأحضر المنلا عَليّ وَكَانَ سنياً حنفياً شَيخا كَبِيرا فَأحْضرهُ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْعَن الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ يَا شاه أَنا عِشْت هَذَا الْعُمر مَا بَقِي لي غَرَض فِي الْحَيَاة لعنة الله على من يلعن أَصْحَاب رَسُول الله
فَأخذ الشاه السَّيْف بِيَدِهِ وضربه ضربا متوالياً حَتَّى قتل شَهِيدا سعيداً ثمَّ نَادَى بقاضي بَغْدَاد الَّذِي ولاه السُّلْطَان مُرَاد وَطلب مِنْهُ أَن يسْعَى بَينه وَبَين السُّلْطَان مُرَاد فِي أَن يولي ابْن الشاه بَغْدَاد وَتَكون السِّكَّة وَالْخطْبَة باسم السُّلْطَان مُرَاد وَيُرْسل ابْنه فِي كل سنة خمسين ألف قِرْش فوعده القَاضِي بِالْخَيرِ فَقَالَ لَهُ خواصه إِن القَاضِي يَضرك عِنْد السُّلْطَان وَيحسن لَهُ أَخذ بَغْدَاد قَالَ صَدقْتُمْ وَقَتله ثمَّ قتل السَّيِّد مُحَمَّد نَائِب المحكمة والخطيب الْعَظِيم فِي بَغْدَاد وَكَانَت امْرَأَة فسخت نِكَاحهَا عَن زَوجهَا بسب تعذر النَّفَقَة كَمَا هُوَ مَذْهَب السَّادة الشَّافِعِيَّة وَعند الشِّيعَة لَا يجوز الْفَسْخ وَكَانَ السَّيِّد مُحَمَّد فِي الْمِنْبَر يُبَالغ فِي الدُّعَاء على الشاه وَفِي لَعنه فَقَالَ لَهُ أسمعنا تِلْكَ الْخطْبَة البليغة فَقَالَ لَهُ لَا وَلَكِنِّي أسمعك مولد النَّبِي
فَقَالَ لَهُ كَيفَ تزوج امْرَأَة زَوجهَا حَيّ قَالَ فسخ عَنْهَا على قَاعِدَة مَذْهَب الشَّافِعِي فلعن الشَّافِعِي وَلعن بَقِيَّة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَضرب السَّيِّد مُحَمَّد بكلاب أخرجه من لِسَانه وصلبه وَحكى الشَّيْخ عُثْمَان الْخياط الْبَغْدَادِيّ أَنه رفس بِرجلِهِ صندوق الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَألقى عمَامَته عَن الصندوق وَسمر بَابه وَاتخذ تكيته اصطبلاً للخيل وَالْجمال وَفعل بِقَبْر الإِمَام أبي حنيفَة أَكثر من ذَلِك فَقَالَ لَهُ السَّيِّد دارج وَكَانَ نقيب الْأَشْرَاف بِبَغْدَاد الشَّيْخ عبد الْقَادِر شرِيف فَلم تهينه فَقَالَ لَهُ جمَاعَة من أَتبَاع الشاه لَيْسَ بشريف وَقَالَ لَهُ رجل نزل بِبَاب الأزج اجْعَل للشَّيْخ إهانة عَظِيمَة يهْلك بهَا أهل السّنة وَهِي أَن أَسد جَمِيع المراحيض فِي بَاب الأزج وَأسد بَاب مَزَار الشَّيْخ عبد الْقَادِر وأفتح من الْقبَّة طَاقَة على قبر الشَّيْخ فَجَمِيع من كَانَ مُرَاده أَن يَبُول ويتغوط تنزل فضلاته على قبر الشَّيْخ فَقَالَ خوب خوب وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وَأخذ فِي سد الْأَبْوَاب من الْغَد فَقبل الْمغرب أَخذ خادمه يفتش على عرق ايكر فَقيل لَهُ لماذا قَالَ أَصَابَهُ قولنج ثمَّ مَاتَ سَرِيعا فَعلم الشاه أَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر صَاحب أَحْوَال وأهان جَمِيع أهل السّنة وَحكى أَن البغداديين الشِّيعَة كَانُوا إِذا وقفُوا يقرؤن الْفَاتِحَة عِنْد قبر الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَو قبر أبي حنيفَة يَقُولُونَ يَا عَار يَا عَار يَا أنجس من الفار إِن كَانَ الله حَرمك من الْجنَّة لَا يحرمك من النَّار وَبدل الْجُمُعَة بخطيب(1/383)
يصعد إِلَى الْمِنْبَر وَيذكر أَئِمَّة الْبَيْت الاثْنَي عشر ويلعن أَصْحَاب مُحَمَّد
وَعَلَيْهِم ويلعن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْعُلَمَاء الْمَوْجُودين فِي الْأَحْيَاء وَينزل وَيصلونَ فُرَادَى ينتظرون خُرُوج الْمهْدي ويؤذنون وَيَقُولُونَ بعد الحيعلتين حَيّ على خير الْعَمَل مُحَمَّد وعَلى خيرالبشر وَضبط الشاه جَمِيع أَمْوَال عَسَاكِر بني عُثْمَان وأموال المنسوبين إِلَيْهِم ثمَّ بعد ذَلِك عين السُّلْطَان جركس مُحَمَّد باشا سردار على الشاه بَعْدَمَا يُقَاتل أبازه مُحَمَّد باشا وَلما ورد إِلَى توقات فقاتل أبازه وانكسر وَتَفَرَّقَتْ العساكر وَكَانَ جركس مُحَمَّد باشا يقْعد فِي خيمته ويتهجد وَيَدْعُو الله أَن لَا يظلم أحدا وَلَا يكسر خاطر أحد أصلا فأدركه الْمَوْت وخلصه الله من هَذِه المشاق فَاجْتمع رَأْي أَرْبَاب الدولة أَن يجْعَلُوا الْحَافِظ وزيراً أعظم فَتوجه لَكِن اغْترَّ بعزمه فَكَانَ يَقُول للعساكر مَفَاتِيح بَغْدَاد بيَدي وَسَببه أَن ضَابِط بَغْدَاد بعث إِلَيْهِ أَن يُسلمهُ بِمُجَرَّد وُصُوله إِلَيْهَا بِشَرْط أَن يُعْطِيهِ منصباً جَلِيلًا وَأَنا مَا أقدر أسلم مَا لم تحضر فَإِنِّي أَخَاف من عَسْكَر الشاه أَن يقتلوني فَلَمَّا وصل الْحَافِظ بالعسكر الْعَظِيم إِلَى خَارج بَغْدَاد أرسل جمَاعَة الشاه المكاحل وهم يصرخون وَيَقُولُونَ بالتركية خُذ هَذِه مَفَاتِيح بَغْدَاد فَعلم أَنهم أردوا الخداع وَالْمَكْر حَتَّى لَا يتدارك مهمات الْحصار وَاتَّخذُوا لقومات عديدة فَمَا أفادت شَيْئا سوى لقم وَاحِد اصطنعه ضَابِط الْجند خسرو باشا فَفتح جانبا عَظِيما وَلَكِن الْعَسْكَر لم يهجموا كلهم عَلَيْهِ فَإِن من عَادَة أكَابِر الْعَسْكَر أَنهم يُرِيدُونَ تَدْبِير بَعضهم بَعْضًا فَحِينَئِذٍ أقدم عَسَاكِر بَغْدَاد حَتَّى سدوا اللقم فَكَانَ خسرو باشا يبكي وينتف لحيته من قهره وَكَانَ الشاه نزل بِالْقربِ من بَغْدَاد نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى تسمع عساكره فِي بَغْدَاد بِخَبَرِهِ فتقوى قُلُوبهم وتضعف قُلُوب عَسَاكِر السُّلْطَان وَكَانَ مُرَاد باشا الأرنبودي كافل حلب بقبح صَنِيع الْحَافِظ ويسبه وَيَقُول لأي شَيْء لَا يُرْسل عَسَاكِر من عِنْده وَكَانَ هُوَ مَعَه عَسَاكِر كَثِيرَة وَجَاء إِلَى الْحَافِظ وَقَالَ لَهُ أَعْطِنِي إجَازَة حَتَّى أتوجه إِلَى الشاه وأقتل جماعته وَرُبمَا قبضت عَلَيْهِ فَيَقُول لَهُ الْحَافِظ مُرَاد باشا لَا تفرق عساكرنا وتضعفهم فيهجم عَسَاكِر بَغْدَاد علينا ويقتلونا وَمُرَاد باشا يصمم على قتال الشاه فَقَالَ لَهُ الْحَافِظ إِن فعلت فَأَنت تعلم فَجمع مُرَاد باشا نَحْو أَرْبَعَة آلَاف وكبس الشاه فتحاربوا شَيْئا قَلِيلا ثمَّ رَجَعَ مُرَاد باشا مكسوراً فَقَالَ لَهُ الْحَافِظ عرفت أَن قَول الشُّيُوخ أصوب من رَأْي الشبَّان وضاق الْأَمر على عَسَاكِر الْحَافِظ وَوَقع(1/384)
الغلاء فيهم وهرب غالبهم ثمَّ بعد ذَلِك اجْتمع الْعَسْكَر وَرَجَمُوا الْحَافِظ وطلبوا مِنْهُ أَن يقوم بالعساكر عَن الْحصار ويرجعوا إِلَى أوطانهم فَقَالَ اصْبِرُوا عَليّ أسبوعاً فصبروا أسبوعين ثمَّ جاؤا فَلم يزل يواعدهم حَتَّى اجْتَمعُوا عَلَيْهِ وَوَضَعُوا فِي عُنُقه مُحرمَة وجذبوه حَتَّى قَامَ من مَكَانَهُ وَشرع فِي الرحيل وَكَانَ عِنْده بعض مكاحل دَفنهَا فِي الأَرْض وَلم يعلم بذلك أحد إِلَّا شرذمة قَليلَة فَجرد بالمكاحل فَتَبِعهُمْ الشاه وَأَرَادَ الْعَسْكَر أَن يعجلوا فِي الرُّجُوع فَنَادَى كل من فَارق الْوَزير وَخرج عَن خيامه تخرج عَنهُ علوفته فَتَبِعهُمْ الشاه مرحلة مرحلة وَأَرَادَ الهجوم عَلَيْهِم فَلم يبالوا بِهِ وجمعهم الْحَافِظ وَتوجه إِلَى الشاه وقاتله حَتَّى رَجَعَ الشاه من خَوفه وَبعد يَوْمَيْنِ أحضر إِلَيْهِ مُرَاد باشا وَقَالَ لَهُ ألم أقل لَك لَا تركب حَتَّى كسرت العساكر وأظهرت الصيت الْقَبِيح لنا وَقَتله فِي الْحَال بَين خيامه وَأرْسل جثته إِلَى جماعته وَجَاء الْحَافِظ إِلَى حلب فَبعث الْهَدَايَا والتحف إِلَى السُّلْطَان وجماعته واسترضى السُّلْطَان وجماعته حَتَّى لَا يقتل لكنه عزل وَنزل بقسطنطينية خَائفًا مختفياً وَتَوَلَّى الوزارة بعده خَلِيل باشا وَبعده خسرو باشا ثمَّ تولاها الْحَافِظ صَاحب التَّرْجَمَة ثَانِيًا وَكَانَ للعساكر الطغيان الْعَظِيم فَاجْتمع عَلَيْهِ العساكر وقتلوه وَكَانَ السُّلْطَان خَيره بَين أَن يقْتله هُوَ بِنَفسِهِ وَيبْعَث بِرَأْسِهِ إِلَيْهِم ليطفي نَار غضبهم وَبَين أَن يُمكن العساكر مِنْهُ فَقَالَ الأولى أَن تسلمني للعساكر وَلَا تتقلد دمي ليبقى الْإِثْم فِي عنق الْعَسْكَر وَيكون لي فِي الْقِيَامَة الْمُطَالبَة الْكُبْرَى وَكَانَ قَتله فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
أَحْمد باشا الْوَزير الْكَبِير الْمَعْرُوف بكوجك أَحْمد الأرنودي أحد الوزراء الْمَشْهُورين بالشجاعة وَشدَّة الْبَأْس وَحسن التَّدْبِير وَكَانَ عَارِفًا بأحوال الحروب وَله طالع سعيد ورأي سديد وَكَانَ فِي مبدأ أمره خامل الذّكر ثمَّ نَهَضَ بِهِ الْحَظ حَتَّى صَار بكلر بكيا وَتَوَلَّى حُكُومَة سيواس ثمَّ ورد دمشق حَاكما بهَا أَولا فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف بَعْدَمَا عزل عَنْهَا ولي حُكُومَة كوتاهيه فنجم فِي بِلَاد الرّوم الياس باشا وَأظْهر العقوق للدولة العثمانية فعين السُّلْطَان مُرَاد صَاحب التَّرْجَمَة لمحاربته مَعَ جملَة من العساكر فَسَار إِلَيْهِ وقابله وفتك بِهِ فتكة بَالِغَة وأسره وغنم مِنْهُ غَنَائِم كَثِيرَة وَعَاد بِهِ إِلَى الْأَبْوَاب الْعَالِيَة فَأكْرمه السُّلْطَان لذَلِك وفوض إِلَيْهِ ثَانِيًا كَفَالَة دمشق وَكَانَ ذَلِك فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف وخلع عَلَيْهِ خلعة الوزارة(1/385)
وعينه لمقاتلة الْأَمِير فَخر الدّين بن معن وَقد كَانَ خرج عَن طَاعَة السلطنة وَجَاوَزَ الْحَد فِي الطغيان وَأخذ كثيرا من القلاع من ضواحي دمشق وَتصرف فِي ثَلَاثِينَ حصنا وَجمع من طَائِفَة السكبان جمعا عَظِيما وَبِالْجُمْلَةِ فقد بلغ مبلغا لم يبْق وَرَاءه إِلَّا دَعْوَى السلطنة وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره تعين لمقاتلته الْحَافِظ الْمَار ذكره فَلم يُقَابله وهرب إِلَى بِلَاد الفرنج كَمَا سلف الْإِيمَاء إِلَيْهِ وَلما عَاد أفرط فِيمَا كَانَ يرتكبه إِلَى أَن تعين لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة وَأمر كافل حلب نوالي باشا وَجَمِيع أُمَرَاء أَطْرَاف الشَّام كطرابلس وغزة والقدس ونابلس واللجون وعجلون وحمص وحماه أَن يَكُونُوا تبعا لَهُ وَهُوَ رئيسهم فَبعد قدومه إِلَى دمشق جمع أَعْيَان الْعلمَاء وكبراء الْعَسْكَر وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة فقابلوها بِالطَّاعَةِ وَبَادرُوا إِلَى مهمات تدارك السّفر وَأخذت أُمَرَاء الْأَطْرَاف يردون وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن قدم نَائِب حلب فبرز بِمن مَعَه من الْعَسْكَر فِي ثَانِي عشر صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَقد كَانَ جدد الْمحمل الشريف فأطلعه أَمَامه وَأقَام بِالْقربِ من قَرْيَة الْكسْوَة بِأول الجسور أَيَّامًا قَليلَة إِلَى أَن تَكَامل جمع الجموع وَرجل لى قره خَان ثمَّ عين شرذمة من الْعَسْكَر لمنازلة بني الشهَاب الَّذين يسكنون وَادي تيم الله بن ثَعْلَبَة وهم منبع الشقاوة فَسَار كتخداه وَمَعَهُ بعض الْأُمَرَاء إِلَى جَانب حاصبيا وريشيا فاتفق من ألطاف الله أَن الْأَمِير على بن فَخر الدّين بن معن أَمِير صفد كَانَ مُتَوَجها لناحية وَالِده لمساعدته فَالتقى العسكران عِنْد صَلَاة الصُّبْح فانقضت فرقة الْعَسْكَر السلطاني انقضاض النسور على أَضْعَف الطُّيُور فمزقوهم بدداً وفرشوا الفضا بجثث الْقَتْلَى وَلم يعلم أحد أَن الْأَمِير عَليّ بَينهم وَلَو علمُوا لما ثَبت أحد لكبر صيته وَكَانَ من الِاتِّفَاق العجيب أَن بعض الشجعان صادفه فطعنه بِرُمْح رَمَاه عَن جَوَاده مَا عرفه فَأَتَاهُ رجل من الْجند وَكَانَ خدم الْأَمِير عَليّ فِي مبدئه فَنزل إِلَيْهِ ليحز رَأسه فَعرفهُ الْأَمِير عَليّ فَقَالَ لَهُ خلصني وَلَك عَليّ من المَال مَا تُرِيدُ فَقَالَ لَهُ إِن بَقَاءَك بعد هَذِه الْجراح محَال ثمَّ قطع رَأسه وأتى إِلَى مخيم الْوَزير فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فَنَبَّهَهُ خدمه الموكلون بِهِ وَلما أَفَاق قبل يَدَيْهِ وَوضع الرَّأْس قدامه وَقَالَ لَهُ هَذَا رَأس رَئِيس الْقَوْم فَلم يصدقهُ حَتَّى جَاءَ من عرفه وحقق لَهُ الْأَمر فَضربت البشائر وَكَانَ الْعَسْكَر الَّذين تلاقوا مَعَ عَسْكَر الْأَمِير عَليّ انتصروا وغنموا غنيمَة عَظِيمَة وَقتلُوا وأسروا وَلم ينج من أَيْديهم إِلَّا شرذمة قَليلَة وَأرْسل أَحْمد باشا رَأس(1/386)
الْأَمِير عَليّ إِلَى دمشق فِي جملَة من الرؤوس وأدخلوهم مشرعين على رُؤُوس الرماح وجهزوهم بعد أَيَّام إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة ثمَّ إِن أَحْمد باشا سَار إِلَى الْبِقَاع العزيزي وافتتح قلعة قبر الياس وَتوجه إِلَى جَانب صيدا وَأقَام بهَا مُدَّة شهر وَالْأَخْبَار عَن الْأَمِير فَخر الدّين مُخْتَلفَة فَمنهمْ من يَقُول إِنَّه فِي قلعة ينحا وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه فِي قلعة جزين وَكَانَ الْوَزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا فِي حلب فاستدعى أَحْمد باشا فَسَار بخواص اتِّبَاعه وَأبقى جَمِيع الْعَسْكَر بِمَدِينَة صيدا وَاجْتمعَ بِهِ فِي حلب وَعَاد بالسرعة وَكَانَ تحقق أَن فَخر الدّين فِي قلعة جزين فَأخذ يحاصرها وَلما رأى فَخر الدّين أَنه مَأْخُوذ خرج من القلعة وأتى طَائِعا إِلَى أَحْمد باشا فَقبض عَلَيْهِ وأتى بِهِ إِلَى دمشق وَدخل بموكب حافل وفخر الدّين خَلفه مُقَيّد على فرس وَكثر دُعَاء النَّاس لَهُ ومدحه شعراء دمشق بالقصائد الطنانة وَأَكْثرُوا من التواريخ وَمن جملَة من مدحه الْأَمِير المنجكي فَإِنَّهُ مدحه بِهَذِهِ الأبيات
(إِن الْوَزير أدام الله دولته ... أخباره سير فِي النَّاس تنْتَقل)
(إِذْ طهر الأَرْض من كفر الدروز وَمن ... شَرّ الْبُغَاة الَّتِي من دونهَا الْأَجَل)
(وجاءنا بِابْن معن بَعْدَمَا قطعت ... صم الصخور عَلَيْهِ وَهُوَ معتزل)
(لم تغن عَنهُ الْحُصُون الْبيض إِذْ طلعت ... سوء الرزايا عَلَيْهِ الْيَوْم والقلل)
(وَلَا الدلاص وَلَا ذَاك الرصاص وَلَا ... تِلْكَ الْجِيَاد وَلَا العسالة الذبل)
(وَلَا من الْعَرَب من كَانَت جرائره ... تَأتي عَلَيْهِم وَلَا الْكتاب وَالرسل)
(أطفاله لَهُم من حوله زجل ... كَأَنَّهُمْ قتلوا من غير مَا قتلوا)
(كم بَات يحْسب فِي التَّقْوِيم مفتكراً ... فِي نجمه فَرَآهُ أَنه زحل)
(من رَاح يَطْلُبهُ التَّقْدِير لَيْسَ لَهُ ... بَحر يَقِيه وَلَا برّ وَلَا جبل)
(هذي عواقب من يطغى وحرفته ... فِي قومه وبنيه الْمَكْر والحيل)
ثمَّ أرْسلهُ أَحْمد باشا مَعَ من وَكله بِهِ إِلَى مقرّ السلطنة فَبعد وُصُوله أَمر السُّلْطَان بقتْله وَسَيَأْتِي خَبره مفصلا فِي تَرْجَمته فِي حرف الْفَاء وَلما تمّ الْأَمر على هَذَا المنوال رَجَعَ صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى بِلَاد فَخر الدّين لضبط مَاله من الْأَمْوَال والأمتعة فنازل قلعة فيحة وتسلمها واستدعى قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام وعلماءها وأعيانها فتوجهوا إِلَيْهِ وحضروا الضَّبْط وَلم يظْهر من النُّقُود إِلَّا شَيْء يسير وَأما الْأَمْلَاك والعقارات والأمتعة وحلي النِّسَاء وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وآلات الْحَرْب فقد ظهر مِنْهَا شَيْء(1/387)
وافر وَكتب بذلك حجَّة وَعَاد صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة وَكَانَ عمر بِدِمَشْق تكية خَارج بَاب الله بِالْقربِ من رية الْقدَم ووقف عَلَيْهَا قرى من ضواحي صيدا وبعلبك وَكَانَ أملا كالفخر الدّين وَألْحق بذلك سِتِّينَ جزأ بالجامع الْأمَوِي وتعيينات لأهالي الْحَرَمَيْنِ وَبني سَبِيلا بِالْقربِ من عِمَارَته عَظِيم النَّفْع وَقيل فِي تَارِيخه
(نشا الْوَزير للوفود منهلا ... لوجه مَوْلَاهُ إِذا وافى غَدا)
(وَأنْشد الْوَارِد فِي تَارِيخه ... هَذَا السَّبِيل الأحمدي قد بدا)
ثمَّ طلبه السُّلْطَان مُرَاد إِلَى محاربة الْعَجم فِي قلعة روان وعزل عَن حُكُومَة دمشق ثمَّ أُعِيد اليها قَرِيبا وَأمر بمحافظة الْموصل وَعين مَعَه عَسْكَر الشَّام فحافظوا مُدَّة وَمرض فِي أثْنَاء الْمُحَافظَة وَأَرَادَ المقاومة لشاه الْعَجم عَبَّاس شاه فَمَا ساعده الْقدر فَقتل وَأسر غَالب من مَعَه من العساكر وَأرْسل راسه إِلَى دمشق فَدفن فِي تكيته الْمَذْكُورَة وَكَانَ قَتله فِي ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف رَحمَه الله
الشَّيْخ أَحْمد باعنتر اليمني الْحَضْرَمِيّ نزيل الطَّائِف كَانَ من كبار الْعلمَاء قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بحضرموت فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَطلب الْعلم بهَا وَهُوَ صَغِير ثمَّ ارتحل إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا سِنِين وَأخذ عَن جمع مِنْهُم الشَّيْخ عبد الله الجبرتي وَمُحَمّد الطَّائِفِي وَالشَّيْخ عبد الله باقشير وَالشَّيْخ عَليّ بن الْجمال وَالشَّمْس مُحَمَّد البابلي وَالشَّيْخ عِيسَى بن مُحَمَّد الْجَعْفَرِي المغربي وَأخذ عَن الصفي القشاشي وتلقن مِنْهُ الذّكر وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَمن الشَّيْخ مُحَمَّد باعلوي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن المغربي وَأخذ عَن الشَّيْخ مهنا بن عوض بامزروع وزار النَّبِي
مرَارًا كَثِيرَة ثمَّ تدير الطَّائِف وَجلسَ للتدريس وانتفع بِهِ خلق كثير فِي فنون عديدة واعتقده أهل تِلْكَ الْجِهَة لحسن سيرته وَكَانَ يغلب على أهل تِلْكَ الْبِلَاد عدم الاسْتقَامَة فَلم يزل يرشدهم إِلَى الشَّرِيعَة حَتَّى اهْتَدَى مِنْهُم خلائق وَلم يكن بَين اثْنَيْنِ مخاصمة ووصلوا إِلَيْهِ إِلَّا أصلح مَا بَينهم ويرضى كل بصلحه وَكَانَ أول أمره يعلم الْقُرْآن وَكَانَ فَقِيرا زاهداً قانعاً ثمَّ اتَّسع فِي آخر عمره وَكَانَ يحجّ فِي كل سنة وَيُقِيم بِمَكَّة إِلَى آخر الْمحرم ويزور النَّبِي
كثيرا من السنين وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف بِالطَّائِف وَحضر جنَازَته أَكثر أهل الْبَلَد وعطلوا الصَّنَائِع وَالتِّجَارَة وتعب النَّاس لفقده رَحمَه الله تَعَالَى(1/388)
الشَّيْخ إخلاص الخلوتي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه نزل حلب كَانَ مسلكا ومرشداً حسن الْخلق وَهُوَ فِي الْمقَام اليونسي يقرب مريدوه من مائَة ألف أَو يزِيدُونَ وَذكره العرضي الصَّغِير وَوَصفه بِصِفَات كَثِيرَة ثمَّ قَالَ كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره خَادِمًا لبَعض أَرْبَاب الدول فلازم أعتاب أستاذه الشَّيْخ قايا خَليفَة الشَّيْخ شاه ولى وَأَقْبل على الرياضة وَكسر النَّفس وتهذيب الخلاق وقمع الشَّهَوَات وَالْمَنْع من اللَّذَّات وَالدُّخُول فِي الخلوات أُسْوَة غَيره من المريدين حَتَّى دنت وَفَاة الشَّيْخ قايا فامتدت أَعْنَاق المريدين إِلَى الْخلَافَة فَاخْتَارَ إخلاصاً مَعَ أَن لَهُ ابْنا صَالحا فَاضلا يُقَال لَهُ الشَّيْخ حَمْزَة لَكِن من عَادَة هَذِه الْفرْقَة من الخلوتية أَنهم لَا ينصبون خَليفَة إِلَّا الْأَجْنَبِيّ كَمَا أَن الْفرْقَة الْأُخْرَى من الخلوتية أَتبَاع جدنا لوالدتنا أَحْمد القصيري لَا يختارون إِلَّا ابنهم أَو أَخَاهُم أَو أحد أقاربهم وَدَلِيل الأولى اخْتِيَار النَّبِي
الصّديق للخلافة مَعَ كَونه أَجْنَبِيّا مَعَ وجود الْعَبَّاس عَمه وَابْن عَمه عَليّ بن أبي طَالب وَدَلِيل الثَّانِيَة طمأنينة قُلُوب المريدين للأقارب وَعدم احتقارهم وَلِئَلَّا يَنْقَطِع الْخَيْر عَن ذُريَّته وَقد اتخذ لَهُ الْوَزير الْأَعْظَم مُحَمَّد باشا الأرنود زَاوِيَة صرف عَلَيْهَا مَالا جزيلاً ووقف عَلَيْهَا وَقفا عَظِيما يحصل مِنْهُ فِي الْيَوْم ثَلَاثَة قروش وَطعن فِيهِ بعض النَّاس أَنَّهَا من مَال الْعَوَارِض وَلَكِن قَالَ بَعضهم أَن الْوَزير اقْترض من رَئِيس الدفتريين مَالا جزيلاً لأجل مهمات السّفر وَحصل الْإِيفَاء من مَال الْعَوَارِض وَمَا أَظن الْكَلَامَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَحكى لنا الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن الأطرش وَهُوَ نَاشد حَلقَة ذكره أَنا كُنَّا مَعَ الشَّيْخ بِنَاحِيَة بيرة الفراة وَكَانَ معي رجل يُقَال لَهُ الْحَاج حُسَيْن وَالله أعلم قَالَ ذهبت مَعَه إِلَى مَاء هُنَاكَ للاغتسال فَنزل الْمَذْكُور إِلَى النَّهر فَرَآهُ عميقاً وَلَا قدرَة لَهُ على السباحة فِيهِ فغط وَأخرج رَأسه وصرخ إِنِّي هَلَكت وغط الثَّانِيَة وَأخرج رَأسه لَا يَسْتَطِيع الْكَلَام وَأَنا عَاجز عَن السباحة وَمَا عِنْدِي أحد وثيابه بِالْقربِ مني فهربت خوفًا من الْحُكَّام وَجئْت إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ لي أَيْن الْحَاج حُسَيْن فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي لَا أَدْرِي فكرّر الْكَلَام ثَانِيًا وثالثاً وَقَالَ أَيْن هُوَ فَقلت وَالله يَا سَيِّدي لَا أعلم قَالَ يَا مَجْنُون الشَّيْخ الَّذِي لَا يحمي مريده لَا يكون شَيخا وَبعد زمَان طَوِيل وَإِذا بالحاج حُسَيْن مَحْمُول انتفخ من المَاء وَفِيه روح فعلقوه وَجعلُوا رَأسه تَحت وأقدامه فَوق حَتَّى نزل المَاء من فِيهِ وَحصل لَهُ الشِّفَاء فَسَأَلته قَالَ كنت قطعت بِالْمَوْتِ فَرَأَيْت يدا تدافعني إِلَى السَّاحِل حَتَّى خرجت سالما هَكَذَا أخبر(1/389)
والعهدة عَلَيْهِ وَله فِي كل سنة أَيَّام الشتَاء خلْوَة عَامَّة يجْتَمع إِلَيْهَا المريدون فيصومون ثَلَاثَة أَيَّام ويأكلون عِنْد الْمسَاء مِقْدَار أوقيتين من الحريرة ورغيفا من الْخَبَر أَكثر من أُوقِيَّة وَلَا يشربون المَاء القراح بل يشربون القهوى ويستمرون فِي الذّكر وَالْعِبَادَة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَأما بَاقِي الْأَيَّام فَيقومُونَ سحرًا ويتهجدون على قدر طاقتهم ثمَّ يَأْخُذُونَ فِي الذّكر إِلَى وَقت الْأَسْفَار ثمَّ يصلونَ الصُّبْح لكَون الشَّيْخ حنفيا ويقرؤن الأوراد إِلَى ارْتِفَاع الشَّمْس وَيصلونَ الْإِشْرَاق وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْعِبَادَات فِي أَوْقَات الصَّلَوَات المفروضات وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَألف وَبلغ من الْعُمر إِحْدَى وَسبعين سنة
الشريف إِدْرِيس بن الْحسن بن أبي نمى وَتَمام النّسَب تقدم فِي تَرْجَمَة أَخِيه الشريف أبي طَالب صَاحب مَكَّة وَكَانَ من أجل النَّاس من سراة الْأَشْرَاف شهما تهابه الْمُلُوك والأشراف شجاعا حسن الْأَخْلَاق ذَا تودد وسكينة وَكَانَ يكنى أَبَا عون ولد فِي سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأمه هُنَا بنت أَحْمد بن خميصة بن مُحَمَّد بن بَرَكَات بن أبي نمى وَكَانَ لَهُ من العبيد المولدين وَالرَّقِيق الجلب مَا يزِيد على أَرْبَعمِائَة وَمن المقاديم من الْعَرَب جمَاعَة ولي مَكَّة بعد أَخِيه أبي طَالب فِي سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وأشرك مَعَه أَخَاهُ السَّيِّد فهيد ثمَّ خلعه فِي وَاقعَة ذكرتها فِي تَرْجَمته ثمَّ أشرك مَعَه ابْن أَخِيه الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن بِاتِّفَاق من أكَابِر الْأَشْرَاف وَتمكن من السطوة والعزة ووفد إِلَيْهِ ومدح كثيرا وَمن أَجود مَا مدح بِهِ قصيدة حُسَيْن بن أَحْمد الْجَزرِي الْحلَبِي وَهِي من أرق الشّعْر وأسوغه ومطلعها قَوْله
(أألزم قلبِي فِيك حبك والصبرا ... سَأَلت مجيبا لَو ملكت لَهُ أمرا)
(وَمَا الْحبّ من يبْقى على الصب لبه ... وَلَا الْقلب من يبْقى وَيحْتَمل الهجرا)
(وَلَيْسَ التمَاس الْعين من سهد لَيْلهَا ... بأمنع مِنْهَا مِنْك إِن لم تكن سكرى)
(طوى أَن أطل شرحا لَهُ قلت هُوَ هوا ... وَيَكْفِيك ذكر النَّار عَن فعلهَا ذكرا)
(وموقف بَين لَا نذيع وداعه ... وَلم ندر الألحاظ الأبه شزرا)
(أحم على الْعَينَيْنِ من وَجه لائم ... وأثقل فِي الأسماع من ذكره وقرا)
(نموه فِي تسليمنا بِأَنا مل ... عَلَيْك فتنضي الْبيض أَو تهززا السمرا)
(وَمن لي بكتم بَين واش وحاسد ... لسرك والأجفان توضحه جَهرا)(1/390)
(فِرَاق تراق النَّفس فِيهِ مدامعا ... وَشَاهد قولي أَنَّهَا قطرت حمرا)
(وَيَوْم يؤم الْمَرْء فِيهِ حتوفه ... وَإِلَّا فَمَا بَال الْوُجُوه ترى صفرا)
(ودهر إِذا استعفيته عَن مظالمي ... كَأَنِّي سَأَلت الضَّب أَن يسْلك البحرا)
(أصَاحب فِيهِ اللَّيْل والبيد والسرى ... وأفقد مِنْهُ الْأنس والأمن والفجرا)
(وَمَا طَال إِلَّا ليل من طَال همه ... وَلَا زَاد إِلَّا هم من زَاده فكرا)
(وحسبك من ليل إِذا رمت حدّه ... فأطول يَوْم الْبَين أقصره عمرا)
(أكلف مهري فِيهِ كل تنوفة ... كَمَا كلف الْمُضْطَر فِي حَاجَة عمرا)
(ليلحق بِي السُّلْطَان إِدْرِيس هَاشم ... ويركب هول الْبَحْر من طلب الدرا)
(فَتى يهب العافين مَا دون مجده ... وَلَو كَانَ يعْطى سره بذل السرا)
(إِذا مَا سَأَلت الْقطر ثمَّ سَأَلته ... توهمت أَن الْقطر يَسْأَلك القطرا)
(وَلَا عيب فِيهِ غير أَن نواله ... على سَعَة الْآفَاق يستعبد الحرا)
وَمن جُمْلَتهَا
(من الْقَوْم أثنى الله فِي الذّكر عَنْهُم ... وطهرهم من رِجْس دنياهم طهرا)
(فَمَا غَايَة الْمثنى عَلَيْهِم بِشعرِهِ ... وَلَو نظم الشعرى العبور بهم شعرًا)
(وَمَا جهد من يَبْغِي اللحاق لشأوهم ... وَلَو ركب النكباء فِي سَيرهَا شهرا)
(ومفترع العلياء بكرا وَلَيْسَ من ... يحاور عينا مثل من وطىء البكرا)
(وَمَا زَادَت الْآفَاق إِلَّا بهم سنا ... وَمَا دلّت الْأَعْنَاق إِلَّا لَهُم قسرا)
وَمِنْهَا
(وَمن كَانَ نجلاً للنَّبِي مُحَمَّد ... فقد فَازَ فِي الدُّنْيَا مقَاما وَفِي الْأُخْرَى)
(قدم ملكا كلتا يَدَيْهِ لتأمني ... فنأمن باليمنى ونوسر باليسرى)
(مفدى بقيل بعد قيل وَمَا أَنا ... بِمن يرتضي زيدا فدالك أَو عمرا)
ومدحه الْحسن البوريني لما حج فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف بقصيدة يَقُول فِيهَا من المديح
(مولَايَ يَا ماجد لم يحكه أحد ... وَلَو سعى جهده فِي سالف الْأُمَم)
(لَا بدع إِن فقدت كل النَّاس قاطبة ... فَأَنت من نسل خير الْخلق كلهم)
(قصدت ساحة الْجُود فِي مَنَازِلكُمْ ... لم أستلمها وَلَا قبلتها بفمي)
(وَلَا وَردت إِلَى شرب تروّقه ... مِنْك البشاشة وَالْقلب المشوق ظمى)
(وَلِيكُم أَنا وَالْأَيَّام تشهد لي ... بِالصّدقِ من قبل أَن أَصبَحت ذَا حلم)(1/391)
(أَرْجُو بكم شربة قد راق منهلها ... وَالْحَرِير كض فِي أحشاء مُحْتَرم)
وللشاهيني فِيهِ قصيدة طَوِيلَة مطْلعهَا
(ياربع صبري عَاد فِيك دريسا ... وهواي أَمْسَى فِي هَوَاك حَبِيسًا)
وَرَأَيْت لَهُ تَرْجَمَة فِي أنموذج السَّيِّد مُحَمَّد العرضي الْحلَبِي فَقَالَ فِي وَصفه سُلْطَان الأكياس وَمن سيرته سيرة ابْن سيد النَّاس ذُو الطلعة الغرا وزهرة فَاطِمَة الزهرا ذُو الجبين المستنير بالعرفان إِذا غَدا غَيره جهولا مقنعا بطيلسان الذل والهوان مَا جد احتبي بنطاق الْمجد كَمَا احتبي بالسحائب ثهلان وجواد أقسم جوده بِيَوْم الغدير والنهروان فأقسم بِرَبّ الْبدن تدمي مِنْهَا النَّحْو رانه الْوَارِث مِنْهُ وَقْفَة الحجيج والوفادة وسقايتهم والرفادة وشهوده على ذَلِك مني والمخيف وصم الصَّفَا والمعزف كَمَا قَالَ الشريف الرضى
(لَهُ وقفات بالحجيج شهودها ... إِلَى عقب الدُّنْيَا مني والمخيف)
(وَمن مأثرات غَيرهَا تيك لم تزل ... لَهُ عنق عَال على النَّاس مشرف)
سَار الْمَذْكُور فِي أهل الْحجاز بسيرة جده من غير أَن يغمد فيهم سيف حَده وَمِمَّا أنشدت لَهُ من شعر الْمُلُوك الْمَحْمُود وَإِن قيل شعر الْهَاشِمِي لَا يجود قَوْله فِي الِاعْتِذَار عَن خضاب الشيب بالشباب الملبس الْمعَاد والتسر بل على موت الصِّبَا بِثِيَاب الْحداد
(قَالُوا خضبت الشيب قلت لَهُم نعم ... مَا إِن طمعت بِذَاكَ فِي رد الصِّبَا)
(لَكِن عقل الشيب مَا أحرزته ... فَخَشِيت أَن أدعى جهولا أشيبا)
وَاسْتمرّ الشريف محسن مشاركا لَهُ على صدق الْكَلِمَة والنصح والمساعدة فِي الْأَحْوَال المهمة ونافره بَنو أَخِيه عبد الْمطلب بن حسن لأمر فَقَامَ الشريف محسن فِي موافقتهم لَهُ فتم ذَلِك ودخلوا فِي الطَّاعَة وَطَابَتْ نُفُوسهم وتوغل الشريف إِدْرِيس والشريف محسن فِي الشرق ووصلا بالفريق إِلَى قرب الأحسا واجتمعا بهم هُنَاكَ ثمَّ دخلا الأحسا وَضربت خيامهم قبالة الْبَاب القبلي من سور الأحسا وأكرمهما الله صَاحبهَا عَليّ باشا وَأَقَامَا نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام وَلم يتَّفق لأحد من أَشْرَاف مَكَّة المتولين من القتاديين دُخُول الأحسا كَمَا اتّفق لهذين الشريفين ثمَّ وَقع بَين الشريفين إِدْرِيس ومحسن تنافر بِسَبَب خدام الشريف إِدْرِيس وتجاوزهم فِي التَّعَدِّي وعمت الْبلوى بِمَا يصدر عَنْهُم من الْأُمُور الْمُشْتَملَة على التلبيس خُصُوصا من وزيره(1/392)
أَحْمد بن يُونُس الْمُقدم ذكره وَكَانَ الشريف إِدْرِيس متغافلاً عَمَّا يصنعوه وَلم يلق سَمعه إِلَى مَا ينْهَى من فعلهم إِلَيْهِ وَلَا ينصف أحدا من شكايتهم وراجعه الشريف محسن فِي شَأْنهمْ مرَارًا وردد القَوْل فَكَانَت الشكوى إِلَى غير منصف فَرَأى الشريف محسن وخامة عواقب الْحَال فَعِنْدَ ذَلِك اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من بني عَمه من السَّادة الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والأعيان فَرفعُوا الشريف إِدْرِيس عَن ولَايَة الْحجاز وفوضوا الْأَمر إِلَى الشريف محسن رَأَيْت فِي بعض التَّعَالِيق مَا نَصه فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث الْمحرم سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف أشيع بِمَكَّة أَن السَّادة الْأَشْرَاف نيتهم إِقَامَة الشريف محسن مُسْتقِلّا بِالْأَمر فَحصل اضْطِرَاب عَظِيم فِي الْبَلَد وحركة عَظِيمَة وَقسمت آلَات الْحَرْب من الْجَانِبَيْنِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس ألبس كل مِنْهُمَا لمن مَعَه من العساكر والجنود ووقف كل مِنْهُمَا عِنْد بَاب دَاره فبرز من جمَاعَة الشريف محسن شرذمة من جَانب عقد السَّيِّد بشير بنية عقد النداء فِي الْبَلَد للشريف محسن اسْتِقْلَالا فَقبل وصولهم المقعد رَمَتْهُمْ الجبالية المجعولون فِي مدرسة السَّيِّد العيدروس بالبندق فَقتل من الْجَمَاعَة الْمَذْكُورين بالبندق السَّيِّد سلمَان بن عجلَان بن ثقبة والقائد مرجان بن زين العابدين وَزِير الشريف محسن فَرجع الْبَاقُونَ وَفِي ضحى هَذَا الْيَوْم ركب الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب وَمَعَهُ خيل والمنادي يُنَادي بالبلاد للشريف محسن وَلم يزل هَذَا الِاضْطِرَاب فِي الْبَلَد ذَلِك الْيَوْم جَمِيعه وَمن ألطاف الله تَعَالَى أَن الْجَمَاعَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قَائِمَة ذَلِك الْيَوْم والأسواق فَاتِحَة وفيهَا الأقوات وَلم يحصل تغير أبدا فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس الْمحرم وَقع الصُّلْح بَينهمَا على أَن يسْتَقلّ الشريف محسن بِالْأَمر وَيكون الْكَفّ عَن الْمُحَاربَة سِتَّة أشهر مِنْهَا ثَلَاثَة يكون الشريف إِدْرِيس فِيهَا بِالْبَلَدِ وَثَلَاثَة بِالْبرِّ فاتفق الْحَال ودعا الْخَطِيب للشريف محسن يَوْم الْجُمُعَة بمفرده ثمَّ خرج الشريف من مَكَّة لَيْلَة المولد وَنقل الثِّقَات أَنه لما ضويق وأجلبت عَلَيْهِ الْأَشْرَاف وَمن مَعَهم بِحَيْثُ أَنه أُصِيبَت جوَيْرِية من بَين يَدَيْهِ بالبندق فَسَقَطت ميتَة بَين يَدَيْهِ فارتاع لذَلِك وحزن وضع منديلاً لطيفاً على وَجهه وَبكى لفقد الناصرين فَدخلت عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الجالة أُخْته الشَّرِيفَة زَيْنَب بنت الْحسن فَقَالَت لَهُ علام ذَا الْحزن والعناء دعها لِابْنِ أَخِيك فقد وليتها مُدَّة طَوِيلَة فحيئذ أرسل إِلَى الشريف محسن والأشراف وَطلب مِنْهُم مهلة شَهْرَيْن فِي الْبَلَد وَأَرْبَعَة أشهر(1/393)
خَارِجهَا ليتأهب للسَّفر إِلَى حَيْثُ شَاءَ فَأعْطَاهُ الشريف محسن ذَاك وَشرط عَلَيْهِ أَن لَا يحدث شَيْئا من المخالفات فاستمر شهر محرم وصفر فَمَرض فِيهِ حَتَّى خيف عَلَيْهِ فِي لَيْلَة المولد خرج من مَكَّة فَمَا طَاف للوداع إِلَّا فِي محفة وَخرج وَقد أضعفه الْمَرَض فَتوفي فِي سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة عِنْد جبل شبر وَدفن بِمحل يُسمى ياطب وَمن الإتفاق العجيب أَن حِسَاب يَا طب بالجمل اثْنَان وَعِشْرُونَ وَهِي مُدَّة ولَايَته مجبورة فَإِن ولَايَته إِحْدَى وَعِشْرُونَ وَنصف وَوصل خبر وَفَاته إِلَى مَكَّة فِي مستهل رَجَب وَصلى عَلَيْهِ غَائِبَة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام رَحمَه الله تَعَالَى برحمته
الشَّيْخ إِسْحَاق بن عمر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي اللطف الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي من بَيت الْعلم والرياسة بالقدس وَرَأس مِنْهُم جمَاعَة وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب غالبهم وَكَانَ أَبُو إِسْحَاق هَذَا حنفيا ولى افتاء الْحَنَفِيَّة بالقدس ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العثمانية وَابْنه هَذَا تحول إِلَى مَذْهَب أجداده وَكَانَ فَقِيها نبيلا وَله فِي الْفَرَائِض والحساب بَاعَ طَوِيل وَكَانَ فِي الْكَرم غَايَة لَا تدْرك وَحدث عَنهُ بعض من لقِيه أَنه كَانَ إِذا أَتَى إِلَى بَيت الْمُقَدّس قافلة رُبمَا أضَاف كل أَهلهَا وَلَا يمل ذَلِك الْمرة بعد الْمرة وشاع ذكره فِي الْآفَاق وَولى تدريس الْمدرسَة الصالحية بالقدس وَهِي مَشْرُوطَة لَا علم عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة فِي ديار الْعَرَب وعلوفتها فِي كل يَوْم مِثْقَال من الذَّهَب وَهِي من بِنَاء المرحوم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب الَّذِي أَخذ الْقُدس من يَد النصاري وَكَانَ لَهُ شريك فِي التدريس الْمَذْكُور وَهُوَ ابْن عَمه الشَّيْخ يُوسُف بن أبي اللطف وَلَكِن التَّصَرُّف فِي الْغَالِب إِنَّمَا هُوَ لإسحاق
الشَّيْخ إِسْحَاق بن مُحَمَّد الخربشي الْقُدسِي الْحَنْبَلِيّ كَانَ عَالما عَاملا أَخذ عَن وَالِده وَأم بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَكَانَ إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي علم القراآت لى الْعشْر حسن الصَّوْت وَالْأَدَاء لَا يمل من سَمَاعه طارحا للتكلف مشتغلا دَائِما بِالْقِرَاءَةِ ووالده مُحَمَّد صَاحب المؤلفات العديدة مَشْهُور توفّي إِسْحَاق فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم ابْن عبد الله بن جعمان بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين ابْن يحيى بن عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن الشويش بن عَليّ بن وهب بن عَليّ بن(1/394)
صريف بن ذوال سنوه بن ثَوْبَان بن عِيسَى بن سحارة بن غَالب بن عبد الله بن عك ابْن عدنان العكي العدناني الصريفي الذوالي اليمني الزبيدِيّ الشَّافِعِي قَاضِي زبيد الْعَلامَة الَّذِي جمع أشتات الْعُلُوم وَحَازَ قصب السَّبق فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة وَنشر أَقْوَال الشَّافِعِيَّة وَقَامَ بنصر الأشاعرة وَأقَام الحجيج على الْمُخَالفين وقمع شبه غلاة المبتدعين مَعَ شدَّة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وتبصر بالقواعد الْحكمِيَّة وتنفيذ للأقضية الْحكمِيَّة ولد بِمَدِينَة زبيد فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَحفظ بهَا الْقُرْآن وَأخذ عَن وَالِده عُلُوم الْفِقْه والْحَدِيث ولازم عَمه الطّيب بن أبي الْقَاسِم جمعان فِي كثير من عُلُوم السّنة وَالْقُرْآن وبرع وفَاق أقرانه خُصُوصا فِي علم الحَدِيث وَأَجَازَهُ شُيُوخ كَثِيرُونَ وَقَرَأَ بزبيد الْجَامِع الصَّحِيح للْبُخَارِيّ مرت كَثِيرَة وتكرر مِنْهُ خَتمه لَهُ وَسمع مِنْهُ بالحرمين خلق كثير لَا يُحصونَ مِنْهُم سيد الْمُحدثين فِي عصره إِبْرَاهِيم بن حسن الكوراني وَعِيسَى بن مُحَمَّد الْجَعْفَرِي وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن عبد الأول البرزنجي وَغَيرهم وَله مؤلفات نافعة مِنْهَا الْحَاشِيَة الأنيقة على مسَائِل الْمِنْهَاج الدقيقة وَله شعر مِنْهُ قصيدته الَّتِي عَارض بهَا القصيدة الموصلية الَّتِي أَولهَا
(لمعت نارهم وَقد عسعس اللَّيْل ... ومل الْحَادِي وحار الدَّلِيل)
وقصيدة هِيَ هَذِه
(نفحت نفحة العبير وريا ... منْدَل الْحبّ أوصلتها شُمُول)
(سحرًا والرفاق من سكرة النّوم ... على أظهر النجائب ميل)
(فنشقنا نوافج الطّيب مِنْهَا ... إِذْ شذاها على الْخيام دَلِيل)
(وابتسام المهاة فِي حندس اللَّيْل ... أَضَاء الدجى فَبَان السَّبِيل)
(فحثثنا الْمطِي فِي أثر الطّيب ... سرَاعًا لَهَا إِلَيْهِ ذميل)
(فطرقنا الْخيام منسلخ اللَّيْل ... وللصبح عَارض مستطيل)
(فنزلنا فِيهَا بأكرم نزل ... عِنْد حَيّ يعزفيه النزيل)
(نعم الطّرف عِنْدهم بِجَمَال ... لَيْسَ للبدر مثله فيخيل)
(وَاحِد الْحسن مستضيء مضيء ... مستنير كَأَنَّهُ قنديل)
(مشرق النُّور تَحت ليل بهيم ... مظلم فرقه لَهُ ترسيل)
(بجبين كَأَنَّهُ صدف الدّرّ ... أَو الطرس زانه التصقيل)
(فِيهِ قَوس وحاجب وسهام ... من لحاظ وَفِيه خد أسيل)(1/395)
(أوسع العاشقين سبيا وقتلا ... مَا لَهُم من حياضه تبليل)
(قَامَ هاروت لحظه يجمع السَّبي ... وبالسفك قد قضي قابيل)
(كم أَسِير مكبل بفنا ... الدَّار وفيهَا مجرح قَتِيل)
(فائق للملاح بل هُوَ زين ... وَاسِط العقد بل هُوَ الأكليل)
(باسم الثغر عَن نضيد نقى ... جوهري رحيقه معسول)
(ثمَّ بتنا لَدَيْهِ والطرف مِنْهُ ... منعم الوشاة عَنهُ غفول)
(وَسَقَانَا من كف يمناه كأسا ... سلسبيلا مزاجها زنجبيل)
(نظرة مِنْك سَيِّدي يتلافى ... مستهام بهَا ويشفي غليل)
(ثمَّ يطفي بهَا لهيب الْمَعْنى ... ويداوي من السقام العليل)
(وفؤادي أودي بِهِ الشوق والوجد ... وجسمي بِهِ الضنا والنحول)
(يَا حَبِيبِي إِن كَانَ خطبا جَلِيلًا ... هجركم فالوصال وصل جميل)
(بَات يَرْمِي جَوَاهِر اللَّفْظ من فِيهِ ... ودرا من النظام نبيل)
(بعتاب كَأَنَّهُ نسمَة الْفجْر ... جناها رضَا بهَا مطلول)
(يَا حَبِيبِي قد كَانَ مَا كَانَ فاصفح ... وَتعطف فَلَيْسَ عنْدك بديل)
(لَا وسقم الْهوى وَطيب التلاقي ... مَا فُؤَادِي إِلَى سواك يمِيل)
(فَحكم مولَايَ واقض بِمَا شِئْت ... فَأَنت الْعَطاء والتنويل)
وَكَانَت وَفَاته فِي ثَانِي شهر ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بِمَدِينَة زبيد وَدفن بتربة بَاب سِهَام عِنْد آبَائِهِ وأجداده رَحمَه الله تَعَالَى
الْمولى أسعد بن سعد الدّين بن حسن جَان التبريزي الأَصْل القسطنطيني المولد ولوفاة مفتي التخت العثماني وَوَاحِد الزَّمَان فِي الْفضل والإتقان وَكَانَ عَالما محققا متجرا فِي الْعُلُوم طَوِيل الباع وَاتفقَ أهل عصره على أَنه لم يكل لَهُ نَظِير فِيهِ فضلا وديانة وإتقانا ونفاسة وَبلغ هَذَا الْمبلغ من الْكَمَال وَهُوَ حدث السن غض الشَّبَاب وغالب تَحْصِيله على وَالِده وعَلى الْمولى الْعَلامَة المنلا توفيق الكيلاوي الْآتِي ذكره قَالَ الْحسن البوريني أخبر فِي منلا توفيق من لَفظه وَقد نزل فِي مدرستي الناصرية الجوانية عِنْد وُرُوده إِلَى دمشق مَعَ المرحوم الْمولى عبد الله قَاضِي الْقُدس الشريف نَاوِيا عَن زِيَارَة الْقُدس أَنه لم ير فِي عُلَمَاء الرّوم أفضل من مَوْلَانَا أسعد وَحكى لي عَن فهمه وإدراكه شَيْئا لَا تسعه دَائِرَة الْعُقُول انْتهى وَقد لَازم من وَالِده وَولي الْمدَارِس(1/396)
والمناصب الرفيعة فِي عنفوان عمره مِنْهَا تدريس الْمدرسَة الْكُبْرَى الَّتِي تنْسب إِلَى وَالِدَة السُّلْطَان سليم الثَّانِي وَهِي من الْمدَارِس الَّتِي جرت الْعَادة بِنَقْل مدرسيها إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس الثمان وَمِنْهَا إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس السليمانية بِمَدِينَة قسطنطينية وَكَذَلِكَ وَقع لَهُ إِلَّا أَنه أَقَامَ فِي الْمدرسَة السليمانية مُدَّة طَوِيلَة وأكبّ على الِاشْتِغَال والإفادة فَلم يَنْقَطِع يَوْمًا وَاحِدًا مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة وَأما مَا شغله فِي منزله بالمطالعة فَإِنَّهُ فَوق مَا يُقَال وَكَانَ لَا يفتر وَلَا يمل وَلَا يقدم على ذَلِك أمرا مهما وَلَا حَاجَة من حوائج الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُ فِي الْعَرَبيَّة والفارسية والتركية بَاعَ طَوِيل وَله أشعار رائقة فِي الألسن الثَّلَاثَة ثمَّ وَجه لَهُ قَضَاء أدرنة وَذَلِكَ فِي سنة أَربع بعد الْألف وَلما سَافر السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى بِلَاد الْكفَّار بِولَايَة الألمان مر فِي طَرِيقه على أدرنة فَوجدَ أهاليها شاكرين مِنْهُ فَأقبل عَلَيْهِ وَجلسَ لأَجله مَجْلِسا خَاصّا لَا يشركهُ فِيهِ أحد للسلام عَلَيْهِ فبمجرد نظره إِلَيْهِ قَامَ لَهُ وعظمه فِي الدُّخُول وَالْخُرُوج أَكثر من تَعْظِيمه لقضاة العساكر ثمَّ اقْتضى رَأْيه أَن يُكرمهُ ففوض إِلَيْهِ قَضَاء قسطنطينية فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أثْنَاء الطَّرِيق إِذْ ورد إِلَيْهِ خبر أَن وَالِدَة السُّلْطَان قد امْتنعت من تَنْفِيذ هَذَا الْإِعْطَاء وصممت على رد هَذِه الْولَايَة وَوَلَّتْ قَاضِي استانبول السَّابِق لكَون السُّلْطَان فوض إِلَيْهَا أَمر ذَلِك وَأَنَّهَا تعزل من أَرْبَاب الدولة من أَرَادَت وتولي من أَرَادَت فاضطربت أَرْبَاب المناصب لهَذَا وَاسْتمرّ هُوَ معزولاً ثمَّ ولى بعد مُدَّة قَضَاء قسطنطينية وَكَانَت تَوليته لَهَا فِي الْمحرم سنة سبع بعد الْألف ثمَّ ولي قَضَاء باناطولي فِي صفر سنة عشر وَألف وعزل مِنْهُ فِي رَجَب سنة إِحْدَى عشرَة وَولي قَضَاء الرّوم مرّة فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمرَّة فِي الْمحرم سنة سبع عشرَة وانفصل عَنهُ مُدَّة وَفِي تِلْكَ الْمدَّة قدم إِلَى دمشق حَاجا وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وخدمته أهل دمشق خدمَة لم تتفق لغيره وبذلوا فِي تَعْظِيمه جهدهمْ ثمَّ حج ونظم قصيدته الْمَشْهُورَة وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ المنورة مدح بهَا النَّبِي
(يَا رَسُول الله أَنْت الْمَقْصد ... أَنْت للراجين نعم الْمسند)
(كل خير فَهُوَ مَجْمُوع لديك ... بَين جمع الرُّسُل أَنْت الْمُفْرد)
(كل من ناداك فِيمَا نابه ... فَازَ بالإسعاد فِيمَا يقْصد)
(قد أَتَى مُسْتَغْفِرًا مستشفعاً ... عَبدك الْمِسْكِين هَذَا أسعد)
(مستغيثاً شاكياً من نَفسه ... باكياً مِمَّا جنت مِنْهُ الْيَد)(1/397)
(مِنْك فتح الْبَاب أَرْجُو ضارعا ... قارعا أَبْوَاب فضل ترصد)
(مِنْك يَا غيث الندى أَرْجُو الْهدى ... أَن فِي الأحشاء نَارا توقد)
(مسني ضرّ وكرب مزعج ... فِي اللَّيَالِي بالتوالي أسهد)
(طَال أَيَّام التنائي والأسى ... يَا طَبِيب الْقلب أَنْت المنجد)
(يَا حبيب الله بِاللَّه الَّذِي ... غَيره سُبْحَانَهُ لَا معبد)
(بِالَّذِي أَعْطَاك قدرا عَالِيا ... مَا لمخلوق إِلَيْهِ مصعد)
(بِالَّذِي أَعْطَاك بَين الأنبيا ... مكرمات أَنْت فِيهَا أوحد)
(بِالَّذِي أَعْطَاك مَا لم يُعْطه ... وَاحِدًا من خلقه يَا سيد)
(عد بلطف مِنْك كن لي شافعا ... إِن تلاحظني فَإِنِّي أسعد)
(لَا تخيبني فَإِنِّي سَائل ... سَائل الدمع الَّذِي لَا يطرد)
(سل من الرَّحْمَن تَعْجِيل الشفا ... وانشراح الصَّدْر لي يَا أمجد)
(كل من يَرْجُو الندى من بَابَكُمْ ... فَهُوَ من نيل الْأَمَانِي يسْعد)
(أَنْت مَحْمُود لرَبي فعلى ... ذاتك لَا أحصي الثنايا أَحْمد)
(صل يَا رب على خير الورى ... بِصَلَاة سرمدا لَا تنفد)
(وَأَرْض عَن آل وَأَصْحَاب هم ... العابدون الراكعون السجد)
وَرجع إِلَى الرّوم وَكَانَ أَخُوهُ الْأَكْبَر الْمولى مُحَمَّد مفتيا فَتوفي وَولي مَكَانَهُ صَاحب التَّرْجَمَة وجاءه المنشور وَهُوَ ذَاهِب فِي الطَّرِيق وَكَانَ ذَلِك فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَعشْرين وَألف وعزل فِي رَجَب سنة أحدى وَثَلَاثِينَ وتولاها ثَانِي مرّة فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتُوفِّي وَهُوَ مفت فِي ثَانِي عشر شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بتربة أسلافه بِمَدِينَة أبي أَيُّوب وَقَالَ الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي فِي تَارِيخ وَفَاته
(نح على الْكَوْن غَابَ أوحده ... أعدم الْمجد فِيهِ موجده)
(قَالَ فِي عَامه مؤرخه ... مَاتَ مولى فِي الرّوم وَاحِدَة)
وَرَأَيْت فِي طَبَقَات التقى التَّمِيمِي الَّتِي ألفها فِي عُلَمَاء مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة ذكره وَذكر وِلَادَته كَانَت ثَانِي عشر الْمحرم سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة
الْمولى أسعد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْبَاقِي القسطنطيني قَاضِي الْقُضَاة من ذَوي الْبيُوت الْمَعْرُوفَة بالروم وجده سُلْطَان الشُّعَرَاء بَاقِي صَاحب الدِّيوَان الْمَشْهُور وَسَيَأْتِي فِي كتَابنَا هَذَا فِي حرف الْعين إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ أسعد هَذَا صَاحب(1/398)
معرفَة وَكَمَال وَله حسن خلة ومعاشرة وسخاء ورفعة شَأْن نَشأ فِي دولة أَبِيه واشتغل ودرس إِلَى أَن وصل إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس السليمانية وَصَارَ مِنْهَا قَاضِيا بالغلطة ثمَّ بِدِمَشْق وَقدم إِلَيْهَا فِي حادي عشر رَمَضَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف ثمَّ عزل عَنْهَا وَتوجه إِلَى الرّوم وَلما وَقع الْحَرِيق الْكَبِير بقسطنطينية فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين احترقت دَاره وَذهب لَهُ أَمْتعَة كَثِيرَة وَبعد مُدَّة أعْطى قَضَاء بروسة ثمَّ قَضَاء أدرنة وَبَعْدَمَا قدم مِنْهَا إِلَى قسطنطينية توفّي فَجْأَة كوالده وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع السُّلْطَان مُحَمَّد وَدفن إِلَى جَانب خَاله قَاضِي الْعَسْكَر الْمولى مُحَمَّد بن بُسْتَان دَاخل قسطنطينية بِجَامِع جد والدته الْمَعْرُوف بالنيشاني بِقرب قرمان الصَّغِيرَة
السَّيِّد أسعد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي الْجُود بن عبد الرَّحْمَن وَتقدم تَمام النّسَب فِي تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم بن أبي الْيمن البتروني الْحلَبِي الأديب البارع الحلو الْعبارَة قَرَأَ ودأب بموطنه ثمَّ خرج فِي صباه إِلَى الرّوم فسلك طَرِيق الْقَضَاء وَدخل دمشق ومصر وحظي فِي دُنْيَاهُ كثيرا وسمت همته حَتَّى ولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بحلب عَن مفتيها الْعَلامَة مُحَمَّد بن حسن الكواكبي مُدَّة يسيرَة وَبعد ذَلِك ترقى فِي مناصب الْقَضَاء بالقصبات حَتَّى ولي أرقاها وَمَات وَهُوَ مَعْزُول عَن ازنكميد وَكَانَ فَاضلا أديباً حسن الْهَيْئَة فكهاً لطيف المحاورة شرِيف النَّفس متواضعاً وَفِيه تودد وَبشر وانبساط وَهُوَ مَعَ ذَلِك شَاعِر مطبوع إِلَّا أَن شعره قَلِيل وأغلبه فِي الهجاء وَكَانَ فِي هَذَا الْبَاب أعجب مَا سمع يخترع كل معنى غَرِيب ومضمون عَجِيب وَأما وقائعه وَمَا جرياته فَهِيَ من أعذب مَا يحاضر بِهِ وَكنت وَأَنا بالروم أسمع أشعاره وَوَقَائعه وَلم تتفق لي رُؤْيَته مَعَ الْمُجَاورَة وَقرب الْمحل إِلَّا بعد مُدَّة ثمَّ إِنِّي لَزِمت مَجْلِسه وَكنت مشغوفاً بملازمته ومؤانسته مستعذباً أسلوبه ومدحته بقصيدة مطْلعهَا
(حنانيك هَل يلوي الحبيب المماطل ... فتنجح آمال وتقضى وَسَائِل)
وَهِي طَوِيلَة جدا فَلَا حَاجَة إِلَى إيرادها وَمِمَّا أَخَذته من شعره قَوْله وَكتب بهَا إِلَى السَّيِّد مُوسَى الرامحمداني
(قد حل أَمر عجب ... شيب بفودي يلْعَب)
(نجومه لَا تغرب ... فَأَيْنَ أَيْن الْمَهْرَب)
(أَرْجُو بَقَاء مَعَه ... مَا أَنا إِلَّا أشعب)
(هَذَا الشَّبَاب قد مضى ... وَبَان مني الأطيب)(1/399)
(هَل عيشة تصفو لمن ... قد غَابَ عَنهُ الطَّرب)
(دهر أرانا عجبا ... وكل يَوْم رَجَب)
(أندب أَيَّامًا مَضَت ... فِيهَا صفالي المشرب)
(فِي حلب بسادة ... قد خدمتهم رتب)
(من كل سمح ماجد ... تخجل مِنْهُ السحب)
(أفناهم الْمَوْت الَّذِي ... لكل بكر يخْطب)
(وَمَا بهَا بعد هم ... من للمعاني ينْسب)
(سوى جهول سفلَة ... عَن كل فضل يحجب)
(وَهُوَ إِذا أملته ... كلب عقور كلب)
(أسْتَغْفر الله بهَا ... استاذنا الْمُهَذّب)
(مُوسَى الَّذِي لفضله ... مد رواق مَذْهَب)
(حَلَال كل مُشكل ... وحاتم إِذْ يهب)
(إِن جرى فِي مُحكم ... يخال قسا يخْطب)
(وَقد حوى معاليا ... تنحط عَنْهَا الشهب)
(من سادة أحسابهم ... تنطق عَنْهَا الْكتب)
(مولَايَ أَشْكُو غربَة ... طَالب وَعز الْمطلب)
(وَتَحْت أذيال الدجى ... حاملة لَا تنجب)
(أَلا بأولاد الزِّنَا ... هَذَا لعمري الْعجب)
(إليكها خريدة ... منالها يستصعب)
(جآذر الرّوم لَهَا ... تسْجد أَو تنتسب)
(فَاسْلَمْ وَدم فِي رفْعَة ... للسعد فِيهَا كَوْكَب)
(مَا حركت متيما ... وَرْقَاء حِين تندب)
فَأَجَابَهُ عَنْهَا بقوله
(مَا الدَّهْر الأعجب ... فَمِنْهُ لَا تستعجب)
(أعمارنا تنتهب ... يَوْمًا فيوما تذْهب)
(وَنحن نَلْهُو أبدا ... فِي غَفلَة وَنَلْعَب)
(أَواه من يَوْم يجي ... وشمسه لَا تغرب)
(صائلة فِيهِ المنى ... بصولة لَا تغلب)(1/400)
(تسطو على أَرْوَاحنَا ... فَأَيْنَ أَيْن الْمَهْرَب)
(تَبًّا لدنيانا الَّتِي ... لم يصف فِيهَا المشرب)
(كم سيد غرّت بِهِ ... وَأرَاهُ لحد أحدب)
(للدّود فِيهِ مرتع ... وللهوام ملعب)
(وَالْوَيْل يَوْم الْعرض إِن ... لم ينج منا المذنب)
(وَمن لظى نَار بهَا ... أَجْسَادنَا تلتهب)
(لَا عمل يُرْجَى وَلَا ... غوث إِلَيْهِ ينْسب)
(إِلَّا الْكَرِيم رَبنَا ... وَمن بِهِ نحتسب)
(مَعَ الشَّفِيع من إِلَى ... جنابه ننتسب)
(مُحَمَّد خير الورى ... مقصدنا وَالْمطلب)
(الْحَمد لله فَلَا ... يكون مَا لَا يكْتب)
(وَالْخَيْر فِيمَا اخْتَارَهُ ... حتم علينا يجب)
(نَسْأَلهُ يبْقى لنا ... سيدنَا الْمُهَذّب)
(أسعد من سَاد الورى ... بِهِ وساد الْعَرَب)
(جَوْهَرَة العقد الَّذِي ... جوهره الْمُنْتَخب)
(نجل الألى تجملت ... بهم قَدِيما حلب)
(علما وحلماً وتقى ... وحسبٍ وَنسب)
(يخجل من أخلاقه ... زهر سقته السحب)
(وَمن جميل صنعه ... لَهُ الْمَعَالِي تخْطب)
(طلق الْمحيا بهج ... مبجل محجب)
(ولطف أنفاس الصِّبَا ... إِلَى علاهُ ينْسب)
(وَمن الْمجد يجاريه ... فَلَا يصوّب)
(زيد بنانا كَفه ... إِن ضَاقَ عَمَّا يهب)
(فسبب صوب جوده ... يخجل مِنْهُ الصيب)
(لم يحل خل غَيره ... مودّد محبب)
وَله غير ذَلِك وابتلي فِي آخر أمره بِمَرَض المراقيا وعالجه مُدَّة وَكَانَ بِسَبَبِهِ كثير الْمُرَاجَعَة للأطباء وَكتب الطِّبّ حَتَّى صَار لَهُ فِي الطِّبّ مهارة كُلية ثمَّ بعد مُدَّة قوي(1/401)
عَلَيْهِ الْمَرَض فَكَانَ سَبَب هَلَاكه وَتُوفِّي بقسطنطينية وَدفن بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف
السَّيِّد أسعد الْبَلْخِي نزيل الْمَدِينَة النقشبندي الطَّرِيقَة أحد خلفاء السَّيِّد صبغة الله السندي الْآتِي ذكره وَكَانَ هُوَ وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوي الْمُقدم ذكره فرسي رهان فِي التَّحْقِيق وَللسَّيِّد أسعد كتابات على شرح النُّصُوص للمحقق مُحَمَّد بن إِسْحَاق القونوي تدل على علو كَعبه فِي علم التصوف وَكَانَ ينظم الشّعْر الْعَرَبِيّ على مصطلح التصوف فَمن شعره مَا كتبه إِلَى السَّيِّد سَالم شَيْخَانِ من الْمَدِينَة المنورة إِلَى مَكَّة المشرفة وَهُوَ قَوْله
(وَمن كَانَ فِي أم الْقرى مستقره ... لماذا امتطى الوخاد شوقاً ليثرب)
(إِذا حنّ وجدا للتدلي دنوه ... ليبلونا خير إِمَام محجب)
(أم اشتاق من عز الْغنى ذل فقرنا ... أَشد حنيناً يَا لَهُ من محبب)
(كَذَاك حوى دور التسلسل دَائِما ... لينظم شَمل السّفل أوج المحدب)
فَأَجَابَهُ بقوله
(وَمن كَانَ عَن أم الْكتاب سفوره ... بِسبع مثان وَصفه للتحبب)
(فتكوينه تدوين إعجاز مُحكم ... بإمكانه نشر الْوُجُود المغيب)
(فَأم قراه مُسْتَقر وُجُوبه ... ومستودع الْإِمْكَان منهل يثرب)
(إِلَيْهِ امتطى الوخاد من شَرق روحه ... ليسفر شمس الذَّات فِي لوح مغرب)
(ويطلع بدر الْوَصْف من غرب كَونه ... بتفصيل تصريف وَلَكِن مُعرب)
(بِمن عزه قد حنّ شوقاً لذلنا ... ليبلو فقرا بالغنى خبْرَة الْأَب)
(وَيَتْلُو كتاب الْجمع من نقش نَفسه ... على فرض عين فِي وجود محجب)
(ليتلو مِنْهُ شَاهد لَاحَ شَاهدا ... بِهِ الْوَجْه يَبْدُو سافراً يتحجب)
(لرحمانه عرش على حكمه اسْتَوَى ... بِخلق وَأمر هجرتي فِي التغرب)
(إِلَى من إِلَيْهِ كل أَمر مرده ... تسلسل فِي أدوار عنقاء مغرب)
(عَلَيْهِ بِهِ صلى شَهِيد وجوده ... بآل وَصَحب مَا تلى الْمَدْح للنَّبِي)
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من كبار الْمُحَقِّقين العارفين وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت خَامِس عشري شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ
اسكندر بن يُوسُف بن إِسْحَاق الرُّومِي الأَصْل الدِّمَشْقِي أحد كتاب خزينة الشَّام(1/402)
وَهُوَ ابْن أُخْت إِبْرَاهِيم بن عبد المنان الدفتري الْمُقدم ذكره وَأَصله من بوسنة كَانَ كَاتبا منشئاً عَارِفًا بالقوانين العثمانية وَله خبْرَة تَامَّة بِالْحِسَابِ وإنشاء الرسائل التركية مَعَ جرْأَة وإقدام وَهُوَ الَّذِي سعى فِي قطع رزق الْعلمَاء والصلحاء بِالشَّام من جوالي السُّلْطَان وسافر إِلَى الرّوم وتعاضد هُوَ والدفتري بِالشَّام إِذْ ذَاك وَبَعض عونه من الْكتاب وعرضوا مَا أبرموه على الْوَزير فجرت الْمَقَادِير على وفْق مَا أحكموه من الرَّأْي الْفَاسِد وَقطع عَن النَّاس شَيْء كثير وبسبب ذَلِك ضعفت قُوَّة الْعلمَاء بِالشَّام وَاسْتولى عَلَيْهِم الْفقر وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود سنة سِتِّينَ وَألف وَمِمَّا قيل فِي هَذَا الْخطب الفادح
(شكت الشَّام عَمها المتوالي ... نَحْو بَاب المُرَاد فِي عرض حَال)
(فَقَرَأَ على وفاقة النَّاس فاقت ... والجوالي لَهَا احتراق الجوى لي)
(قطعوها ظلما وأبقوا يتامى ... فاقدي الزَّاد مَا لَهُم من نوال)
(والفقيرات باكيات بِضعْف ... فقدوا قُوَّة لجسم وَمَال)
(وَيْح من يستبيح رزقه محيا ... وَإِمَام طَالب ذِي عِيَال)
(وكذاك المؤذنون أصيبوا ... وهم الذاكرون جنح اللَّيَالِي)
(دفتري لَهُ القساوة طبع ... مبغض خائن دنيء الفعال)
(أكل المَال بالخيانة حَتَّى ... صَار ذَا ثروة وَطول سبال)
(ساعدوه جمَاعَة أشقياء ... ظَهَرُوا بَغْتَة بزِي الرِّجَال)
(مِنْهُم اسكندر الْخَبيث المداجي ... مَعَ بعض أصون عَنهُ مقالي)
(لَا جزاهم الهنا غير نَار ... تتلظى وحسرة فِي الوبال)
(هَل لهَذَا الْمُصَاب مبلغ خير ... نَحْو بَاب المُرَاد بَين الموَالِي)
(علهم يبلغون كَهْف العطايا ... منبع الْعدْل والندى والمعالي)
(ملك زَاده الْإِلَه بهاء ... وَله الْيمن صَاحب والعوالي)
(مَا نحا وَجهه من الْخَيْر إِلَّا ... بادرته مطيعة لَا تبالي)
(نسْأَل الله أَن يديم علينا ... ملكه دَائِما بِأَحْسَن حَال)
وَلم تطل بعد ذَلِك مُدَّة اسكندر حَتَّى مَاتَ بقسطنطينية مطعوناً فِي سنة أحدى وَسِتِّينَ وَألف وَقيل فِيهِ
(يَقُولُونَ قد مَاتَ اسكندر وَمَا ... أُصِيب بِسيف مُسْتَحقّ بسيره)(1/403)
(فَقلت لَهُم سهم الْقَضَاء أَصَابَهُ ... وَمن لم يمت بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ)
وَقيل فِي تَارِيخ مَوته
(بشرى لأهل الجوالي ... هَلَاك منشي الضلال)
(من طالما قد تعدّى ... وبالدعا لم يبالِ)
(وضرّ بِالنَّاسِ حَتَّى ... أَتَاهُ سهم الوبال)
(وَسَار نَحْو عَذَاب ... مؤبد واشتغال)
(أرخ أَوَى فِي جحيم ... اسكندر وانتقال)
السَّيِّد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن يحيى بن الْمهْدي بن إِبْرَاهِيم الْمهْدي بن أَحْمد بن يحيى بن الْقَاسِم بن يحيى بن عليان بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الملقب جحاف بن جَعْفَر بن الإِمَام الْقَاسِم بن عَليّ العياني بن عبد الله ابْن مُحَمَّد بن الإِمَام الْقَاسِم الرسي بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه الْمَعْرُوف بالجحاف اليمني الأديب البليغ المتفرد فِي الأقطار اليمنية حفظ الْقُرْآن والحاجبية والازهار فِي الْفِقْه وَغَيرهمَا من الْمُتُون وَأخذ عَن أكَابِر شُيُوخ زَمَانه مِنْهُم وَالِده السَّيِّد إِبْرَاهِيم وجده السَّيِّد حُسَيْن بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم الجحاف وَالسَّيِّد عَليّ بن حُسَيْن الجحاف وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن حُسَيْن الجحاف وَعنهُ أَخذ جمع من الْأَعْيَان مِنْهُم السَّيِّد شرف الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين الْحسن بن أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل إِسْمَاعِيل وغالب إخْوَته وسَادَة أهل بَلَده وَله شعر لطيف مِنْهُ قَوْله من قصيدة يمدح بهَا الإِمَام المتَوَكل إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم ويحثه على إحْيَاء مدارس الْعلم الَّتِي كَادَت أَن تندرس
(أصبح الدَّهْر طيب الْأَوْقَات ... كَامِل الْحسن وافر الْحَسَنَات)
(مشرق الْوَجْه باسم الثغر يزْدَاد بمر ... الشُّهُور والسنوات)
(كعروس من فَوْقهَا زانها الحلى ... جمالاً إِلَى جمال الذَّات)
(غادة تسلب الْعُقُول وتغتال ... قُلُوب الْأَنَام باللحظات)
(بنت سبع وَأَرْبع وَثَلَاث ... برعت فِي السّكُون والحركات)
(تتثنى فينثني من وراها ... خافق الْقلب ساكب العبرات)
(جمعت كل مُفْرد من جمال ... وتثنت غصناً من المائسات)
(مذ تولّى أَمر الْخلَافَة فِيهِ ... أوحديّ الفعال جم الصِّفَات)(1/404)
(ثَابت الرَّأْي ثَابت الجاش إِسْمَاعِيل ... حلف الْهدى حَلِيف الهداة)
(الَّذِي بشرت بِهِ الرُّسُل حَقًا ... وحوى ذكره حَدِيث الثِّقَات)
(فَهُوَ مهْدي هَاشم وهداها ... ذُو الكرامات فِي الورى الْبَينَات)
(هدوى فِي نِسْبَة من أَبِيه ... قاسمي فِي نِسْبَة الْأُمَّهَات)
(تتلاقى أَطْرَافه فِي الْمَعَالِي ... بَين خير وخيرة الصَّالِحَات)
(فَهُوَ فرع لدوحة الْمجد شمس ... فِي بروج الفخار والمكرمات)
(زَاده الله بَسطه فِي عُلُوم ... طالما أعجزت ذَوي الطلبات)
(وجلاها من لَفظه بِبَيَان ... مستنير وأوضح المشكلات)
(رغبت فِيهِ بعد طول نفار ... عَن سواهُ وأذعنت بالتفات)
(واستعاذت صعابها من يَدَيْهِ ... طائعات لأَمره تابعات)
(يَا إِمَام الزَّمَان قد أٍ سعد الله ... أُنَاسًا رأوك قبل الْمَمَات)
(شَاهد وافيك من صِفَات عَليّ ... جملَة أخْبرت عَن الْبَاقِيَات)
(علمه مَعَ بَيَانه وعلاه ... مَعَ خضوع وجوده مَعَ الثَّبَات)
(وأهنيك يَا ابْن خير قُرَيْش ... عود عبد الصّيام بالخيرات)
(جَاءَ مستوهبا نوالك فاغمره ... بمسنونه مَعَ الْوَاجِبَات)
(طامعا أَن يفوز مِنْك بِفضل ... فيباهي أَمْثَاله الماضيات)
(وَكَذَا شهرك الْكَرِيم يهنيك ... بِمَا حزت فِيهِ من قربات)
(من صِيَام ودرس علم ووحي ... وَصَلَاة مَقْبُولَة وصلات)
(طبق الأَرْض جود كفيك فِيهِ ... وغمرت الورى بأسنى الهبات)
(يتبارى كَفاك وَالْبَحْر جودا ... فَأَنا فاستبقا على الذاريات)
(صفة من صِفَات جدك قد جَاءَ ... بمضمونها حَدِيث الروَاة)
(قد هدى الله أمة قُمْت فِيهَا ... قائدا وفدها إِلَى الجنات)
(حطتها عَن عداتها بمواض ... وجياد سوابق مقربات)
(كل من رام أَن يضم علاها ... عَاد مستوليا على الحسرات)
(حجَّة الله لَا بَرحت بِخَير ... فِي رياض أنيقة مغدقات)
(أَصبَحت عِبْرَة لكل نسيب ... عرصات من أَهلهَا مقفرات)
(فتميل الْقُلُوب تَشْكُو إِلَيْهَا ... هجرها دَائِما بِكُل الْجِهَات)(1/405)
(لَيْسَ خلق سواك يحنو عَلَيْهَا ... يَا إِمَامًا فَوَات قبل الْفَوات)
(وانتعش أَهلهَا وشيد بناها ... وأعدها فِي أحسن الْحَالَات)
(أَنْت فِي الأَرْض رَحْمَة أهبطها الله ... تَعَالَى وسامع الدَّعْوَات)
(أَنْت للنَّاس عصمَة فِي معاش ... ومعاد نمحو بِهِ السَّيِّئَات)
(ختم الله بالرضى عَنْك سعيا ... إِنَّمَا الْفَوْز فِي رضى الخاتمات)
(وعَلى الطُّهْر خَاتم الرُّسُل والآل ... سَلام وَأفضل الصَّلَوَات)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته بحبور فِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف تَقْرِيبًا وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشر شعْبَان سنة سبع وَتِسْعين وَألف ببلدة وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن عبد الْحق بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْحِمصِي الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي القَاضِي الْفَاضِل الأديب الشَّاعِر وَيعرف بالحجازي لمجاورة جده مُحَمَّد بالحجاز كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك فِي تَرْجَمته ذكر إِسْمَاعِيل هَذَا وَالِدي رحمهمَا الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ قَرَأَ على الْعَلامَة فضل الله بن عِيسَى البوسنوي نزيل دمشق وعَلى الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وَأخذ فقه الشَّافِعِيَّة عَن الشّرف الدِّمَشْقِي والطب عَن جده مُحَمَّد وَغَيره وَولي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بمحكمة قناة العوني وَنقل مِنْهَا إِلَى الْبَاب وَصَارَ رَئِيس الْأَطِبَّاء عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن الغزال وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا رَقِيق حَاشِيَة الطَّبْع رائق البديهة حسن الأسلوب لين الْعشْرَة لطيف المؤانسة حُلْو المذاكرة وَله أشعار كَثِيرَة مسبوكة فِي قالب الرقة جَارِيَة على وصف الشوق وَالْحب وَذكر الصبابة والغرام فَلهَذَا علقت بالقلوب ولطف مَكَانهَا عِنْد أَكثر النَّاس ومالوا إِلَيْهَا وتحفظوها وتداولوها بَينهم وَذكره البديعي فِي ذكرى حبيب فَقَالَ فِي حَقه أديب يطرب بألحانه مَا لَا يطرب المدام بحانه فَلَو أدْركهُ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ لوشح بِأَصْوَات موشحاته كتاب الأغاني ثمَّ عقب هَذَا الْكَلَام بِذكر سلسلته الْمَشْهُورَة الَّتِي مطْلعهَا قَوْله
(مَا فاح شذا الْمسك من صفاتك أَو ضَاعَ ... إِلَّا وتذكرت مِنْك حسن أوضاع)
وَذكره عبد الْبر الفيومي فِي كِتَابه المنتزه أَيْضا وَذكر شَيْئا من شعره فَقَالَ وَمن نظمه الْمَشْهُور قَوْله
(وَرب عتاب بَيْننَا جدّد الْهوى ... شهيّ بِأَلْفَاظ أرق من السحر)
(وَأحلى من المَاء الزلَال على الظما ... وألطف من مرّ النسيم إِذا يسري)(1/406)
(عتاب سرقناه على غَفلَة النَّوَى ... وَقد طرفت أَيدي الْهوى أعين الدَّهْر)
(وَقد أخذتنا نشوة من حَدِيثه ... كأنا تعاطينا سلافا من الْخمر)
(ورحنا بِحَال ترتضيها نفوسنا ... وَهَا أَنا بَين الصحو مَا زلت وَالسكر)
وَقَوله
(فؤاد أبي إِلَّا التولع فِي الْحبّ ... وَلم يرض بعد الْبَين يسكن فِي قلبِي)
(وطرف قريح جفْنه قَاطع الْكرَى ... وواصله دمع يفوق حَيا السحب)
(تساعد قلبِي فِي تلافي وناظري ... فَخذ لي حَقي مِنْهُمَا أَنْت يَا رَبِّي)
(فطر فِي إِذا مَا رمت أمساك دمعه ... يزِيد عَن خدي سكبا عَن سكب)
(وقلبي طلبت الصَّبْر مِنْهُ فخانني ... فَمَا للهوى ذَنْب إِذا خانني قلبِي)
وَقَوله
(وَلم أنس إِذْ جَاءَ الحبيب وودعا ... وَفِي الْقلب نيران التباعد أودعا)
(وَقَوْلِي لَهُ هَل يجمع الله شملنا ... على رغم ذياك الحسود الَّذِي سعى)
(رعى الله أَيَّامًا تقضت وَنحن فِي ... أَمَان من الهجران لن نتروعا)
(نبيت كعصني بانه فِي ربى الصِّبَا ... يرنحنا صَوت الْحمام مرجعا)
(إِلَى أَن دَعَانَا للفراق رقيبنا ... فياليت دَاع للتفرق مَا دَعَا)
وملح وأطرب فِي قَوْله
(كلما حدثت قلبِي سلوة ... عَن هواهم قَالَ لي لَا يُمكن)
(وَإِذا ذكرته أَنهم ... قد أساؤا قَالَ لَا بل أَحْسنُوا)
وَفِي قَوْله
(ولي قلب أَلِيم من ... صدودك دَائِم الضرم)
(بودي لَو أقطعه ... فَإِن وجوده عدمي)
(وَلَكِن قَطْعِيّ الْعُضْو الْأَلِيم ... يزِيد فِي ألمي)
وَقَالَ
(قد وقفنا بعد التَّفَرُّق يَوْمًا ... فِي مَكَان فديته من مَكَان)
(نتشاكى لَكِن بِغَيْر كَلَام ... نتحاكى لَكِن بِغَيْر لِسَان)
وَقَالَ
(وربة لَيْلَة قد زار فِيهَا ... خيال فِي الدجى مِنْهُ طروق)
(وَبَات تشوقي يُدْنِيه منى ... ويبعده من الْقلب الخفوق ... )
(فَلَا أروي الحشامنة إعتناق ... وَلَا بل الجوى لي مِنْهُ ريق)
وَقَالَ
(طلع الْبَدْر والحبيب مَعًا ... فأضاء الْوُجُود والتمعا)
(فتعجبت إِذْ رأيتهما ... فِي زمَان كِلَاهُمَا طلعا)
(كَيفَ ببدر الْهلَال فِي زمن ... فِيهِ وَجه الحبيب قد سطعا)(1/407)
وَله فِي التورية
(قَالَت حَبِيبِي قل لي ... يَا صَاح من أَي قوم)
(أروم هجرك إِن لم ... تقل لنا قلت رومي)
وَله
(يَا أخلاي إِذا مَا جِئتُكُمْ ... فاعذروني ودعوا عني ملامي)
(جَاءَ بِي الشوق إِلَى أَرْضكُم ... وَدَعَانِي نحوكم دَاعِي غرامي)
وأشعاره كَثِيرَة والاختصار أولى بالمختصر وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة إِحْدَى وَألف وَدفن بِبَاب الصَّغِير إِلَى جَانب أَبِيه وجده
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن عبد الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم النابلسي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد وَالدَّار الْعَلامَة الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كَانَ عَالما متبحراً غواصاً على الْمعَانِي الدقيقة قوي الحافظة وَهُوَ أفضل أهل وقته فِي الْفِقْه وأعرفهم بِطرقِهِ وصنف كتبا كَثِيرَة أجلهَا وأحكمها كِتَابه الْأَحْكَام شرح الدُّرَر فِي اثْنَي عشر مجلداً بيض مِنْهَا أَرْبَعَة إِلَى كتاب النِّكَاح وَهُوَ كتاب جليل الْمِقْدَار مُشْتَمل على جلّ فروع الْمَذْهَب وَمَا عداهُ من تآليفه كلهَا بقيت فِي المسودات وَكَانَ أَولا اشْتغل بِمذهب الشَّافِعِي وَألف فِيهِ حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج لِابْنِ حجر الْمُسَمّى بالتحفة ثمَّ عدل إِلَى مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة وَقَرَأَ بِدِمَشْق على الشّرف الدمشيق والمنلا مَحْمُود الْكرْدِي وَالشَّيْخ عمر الْقَارِي والعمادي الْمُفْتِي وتفقه بالشيخ عبد اللَّطِيف الجالقي وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الْغَزِّي وبرع فِي الْعُلُوم ثمَّ شرع فِي إِلْقَاء الدُّرُوس وَفِي الْجَامِع الْأمَوِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف وسافر إِلَى الرّوم ولازم من شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّاء ودرس على قاعدتهم ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وكرّر الذّهاب إِلَى الرّوم وَأعْطى الْمدرسَة القيمرية بِدِمَشْق وَدخل حلب وَحج وقفل من الْحجاز إِلَى الْقَاهِرَة واخذ بهَا عَن الشهَاب أَحْمد الشَّوْبَرِيّ الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ حسن الشُّرُنْبُلَالِيّ ثمَّ توجه إِلَى الرّوم وَضم لَهُ قَضَاء صيدا وَعَاد وَلما توفّي الْمولى يُوسُف بن أبي الْفَتْح أَمَام السُّلْطَان كَانَ عَلَيْهِ تدريس جَامع السُّلْطَان سليم بصالحية دمشق فَوجه إِلَيْهِ وَأخذ عَنهُ بعد مُدَّة فَسَار إِلَى الرّوم وقرّره وَصَارَت لَهُ رُتْبَة مدارس الصحن وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سِتِّينَ وَلما رَجَعَ إِلَى وَطنه انْعَزل عَن النَّاس للتحرير والمدارسة وَكَانَ لَا يفتر وَلَا يمل من المطالعة والمباحثة وَلَزِمَه جمَاعَة للأخذ عَنهُ وَبِه انتفعوا مِنْهُم شَيخنَا المرحوم إِبْرَاهِيم الفتال وأملى تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ بالجامع الْأمَوِي وَكَانَ يُورد عَلَيْهِ عِبَارَات تفاسير عديدة وَكلهَا إِلْقَاء من حفظه وَبِالْجُمْلَةِ فقوّة حافظته مِمَّا يقْضى مِنْهَا بالعجب وَكَانَ ينظم الشّعْر(1/408)
وشعره كثير مِنْهُ قَوْله وَكتب بِهِ ضمن كتاب أرْسلهُ إِلَى دمشق من حمص حِين توجه إِلَى الرّوم فِي أَوَاخِر رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَألف
(إِن طلبتم أبدي لكم شرح حَالي ... فَهُوَ أَمر بِكُل عَنهُ مقالي)
(لَا تَقولُوا مُسَافر بل مُقيم ... كل يَوْم سروره فِي كَمَال)
(ثمَّ مَا قد أَصَابَنَا من رَفِيق ... وعزيز ومنبع الأفضال)
(فَهُوَ أَمر عجزت أَن رمت أحصى ... مِنْهُ حَالا فَكيف بالأحوال)
(غير أَنِّي قصدت من رقم هَذَا ... فهمكم حَالنَا على الْإِجْمَال)
وَقَوله وَكتب فِي صدر مُكَاتبَة أَيْضا
(إِذا قبل أَي إِمَام همام ... بليغ لقد فاق للفاضل)
(غزيرالنوال عَزِيز المنال ... شرِيف الْخِصَال وَذي النائل)
(وَحبر الْأَنَام وبحر الْكِرَام ... لخير يرام بِلَا سَائل)
(كريم الْأُصُول ومحيي الْقبُول ... وَفضل يصول على الْجَاهِل)
(أَشَارَ إِلَيْك جَمِيع الْأَنَام ... اشارة غرقي إِلَى السَّاحِل)
أصل هَذَا مَا قَالَه فِي كتاب العقد أَنه وقف بعض الشُّعَرَاء على عبد الله بن طَاهِر فأنشده
(إِذا قيل أَي فَتى تعلمُونَ ... أهش إِلَى البائس السَّائِل)
(وأضرب للهام يَوْم الوغى ... وَأطْعم فِي الزَّمن الماحل)
(أَشَارَ إِلَيْك جَمِيع الْأَنَام إِشَارَة غرقي إِلَى السَّاحِل ... )
وللنابلسي
(لوى وَجهه عني على عزم أنني ... أداهنه من أجل أمرأ حاوله)
(فَقلت لَهُ خفض عَلَيْك فإنني ... تكلفت هَذَا الْأَمر مِمَّن أخالله)
(وصدقت ظَنِّي فِيك والطبع غَالب ... وكل يلاقي بِالَّذِي هُوَ فَاعله)
وَله
(وَلَو لم يكن علمي بأنك فَاعل ... من الْخَيْر أَضْعَاف الَّذِي أَنا فَاعل)
(لما بسطت كفى إِلَيْك وَسِيلَة ... وَلَا وصلت مني إِلَيْك الرسائل)
وَله هَذِه الرّبَاعِيّة
(قد أقسم لي لما اعْتَرَانِي الوله ... أَن يعْطف لي لكنه أَوله)
(لَا يسمح بالوصال إِلَّا غَلطا ... فِي النَّادِر والنادر لَا حكم لَهُ)
وَله غير ذَلِك ووقفت على مَجْمُوع بِخَطِّهِ فِيهِ من انشائه وشعره أَشْيَاء كَثِيرَة وَمن جملَة ذَلِك خطب دروسه التفسيرية وفيهَا مناسبات ولطائف تعبيرات تشهد لَهُ(1/409)
بِالْيَدِ الطُّولى فِي كل فن وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة سبع عشرَة وَألف وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بالمدفن الْمَعْرُوف بهم وَهُوَ بِالْقربِ من جَامع جراح وَلنَا قرَابَة مَعَهم من جِهَة الْأُمَّهَات فَإِن جدي محب الله ابْن عمَّة صَاحب التَّرْجَمَة وَلما مَاتَ رثاه بعض الأدباء بقوله
(أودى الإِمَام الحبر إِسْمَاعِيل ... لهفي عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَنهُ بديل)
(بَكت السما وَالْأَرْض يَوْم وَفَاته ... وَبكى عَلَيْهِ الْوَحْي والتنزيل)
(وَالشَّمْس وَالْقَمَر الْمُنِير تناوحا ... حزنا عَلَيْهِ وللنجوم عويل)
(أَيْن الإِمَام الْفَرد فِي آدابه ... مَا إِن لَهُ فِي الْعَالمين عديل)
(لاتخدعنك مني الْحَيَاة فَإِنَّهَا ... تلهى وتنسى والمنى تضليل)
(وتأهبن للْمَوْت قبل نُزُوله ... فالموت حتم والبقاء قَلِيل)
إِسْمَاعِيل بن عبد الْوَهَّاب الْهَمدَانِي نزيل دمشق ذكره الْغَزِّي فِي ذيله وَقَالَ دخل دمشق فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَسكن بالمجاهدية وَكَانَ يَبِيع الحبر بِبَاب الْبَرِيد ويصبغ الْوَرق وَكَانَ يخْدم الْقُضَاة وَغَيرهم ونال شَيْئا من الجوالي ثمَّ أعْطى تَوْلِيَة جَامع سيباي خَارج بَاب الْجَابِيَة ثمَّ أعطَاهُ الْمولى عَليّ بن أَمر الله الْمَعْرُوف بِابْن الحنائي وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام تَوْلِيَة الْجَامِع الْأمَوِي عَن منلا أَسد بن معِين الدّين التبريزي وَضم إِلَيْهِ نظارة النظار عَن الْكَمَال بن الحمراوي وَبَقِي مُتَوَلِّيًا على الْجَامِع أَرْبَعِينَ سنة وَتصرف هُوَ وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الْموقع تَصرفا انتقد عَلَيْهِمَا أَكْثَره وَفِيهِمَا يَقُول شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْفَتْح الْمَالِكِي مُشِيرا إِلَى مَا فعلاه بِالْوَقْفِ
(يَقُول على مَا قيل جَامع جلق ... ألم يَك قَاضِي الشَّام عني مسئولا)
(يسلم للأعجام وقفي لَا كُله ... ويروى لَهُم عني كتاب ابْن مَاكُولَا)
(أبعد الْفَتى السُّبْكِيّ أعْطى لسيبك ... وَبعد الإِمَام الزنكلوني الزنكلولا)
(أقاموه لي قرداً بشباك مشْهد ... وضموا لَهُ دباً على الرقص مجبولا)
(يؤمل كل أكل وقفي بأسره ... فَلَا بلغ الله الْأَعَاجِم مأمولا)
وَلما آل أَمر الْوَقْف إِلَى الضّيَاع وَلزِمَ توزيع نقص مَاله على أَرْبَاب الْوَظَائِف وَكَانَ يقسم على طَبَقَات اقْتضى صرف إِسْمَاعِيل عَن نظارته وَأعْطيت لبونسوز على سنة فطغى فِي نظارته ثمَّ عزل عَنْهَا وَولى مَكَانَهُ حسن باشا الشهير بشور بزه حسن(1/410)
فسلك فِيهِ أحسن السلوك من تنمية وَفقه وَإِعْطَاء علوفاته وَرفع يَد إِسْمَاعِيل وَكَانَ يوصله علوفته فاختل أمره وَبَقِي فِي زَوَايَا الخمول إِلَى أَن مَاتَ فِي سادس عشر شَوَّال سنة سِتّ بعد الْألف
الإِمَام إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الرشيد بن أَحْمد بن الْأَمِير الْحُسَيْن بن عَليّ بن يحيى بن يُوسُف الملقب بالأشل بن الْقَاسِم بن الإِمَام يُوسُف الدَّاعِي ابْن الإِمَام الْمَنْصُور يحيى بن الإِمَام النَّاصِر أَحْمد بن الإِمَام الْهَادِي بن يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ المتَوَكل على الله الزيدي صَاحب الْيمن وَليهَا بعد وَفَاة أَخِيه مُحَمَّد الْمُؤَيد وخلع أَخِيه الإِمَام أَحْمد فِي سنة خمس وَخمسين وَألف وأرخ بَعضهم ابْتِدَاء دَعوته بقوله توكلت على الله وَحده أبدا وعظمت حرمته ورهبت سطوته ودانت لَهُ الأقاليم اليمنية وَسَار بِالنَّاسِ سيرة حَسَنَة وَكَانَ حَازِم الرَّأْي خَبِيرا بتدبير الْأُمُور حسن الْمُعَامَلَة مَحْمُود الْأَوْصَاف بَعيدا من الخناء وَالْفُحْش يملك نَفسه عِنْد الْمَحَارِم ويعد مَغَانِم الْفَاحِشَة من المغارم سَار السِّيرَة العادلة بِحَيْثُ لم يكن لَهُ همة بعد الإشتغال بِالْعلمِ إِلَّا التفكر فِي أُمُور الرعايا فأمنت السبل فِي أَيَّامه ورخصت الأسعار وَلم يتَمَكَّن أحد من ظلم أحد فِي ولَايَته وَلَو كَانَ كَافِرًا وَلم يَجْسُر أحد من عماله على ظلم أحد من الرعايا وَأمن النَّاس على أنفسهم وحريمهم وَأَوْلَادهمْ وترددت التُّجَّار لسَائِر الأقطار وَكَانَ حسن الشكل مليح الْوَجْه عَالما متضلعا أَخذ عَن كثير من الْمَشَايِخ من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة والزيدية وجد بالإشتغال بالعلوم الشَّرْعِيَّة والآلية وبرع فِي سَائِر الْفُنُون وَألف تآليفاً رائقة مِنْهَا شَرحه على جَامع الْأُصُول لِابْنِ الْأَثِير وَجمع أَرْبَعِينَ حَدِيثا تتَعَلَّق بِمذهب الزيدية وَشَرحهَا شرحا مستوعبا ذكر لي بعض الإخوان من أهل دمشق وَكَانَ رَحل إِلَى الْيمن أَنه رَآهُ وَهُوَ يحتوي على تحقيقات وأبحاث بديعه وَله العقيدة الصَّحِيحَة فِي الدّين النَّصِيحَة وَله رِسَالَة فِي التحسين والتقبيح الأصليين وَكَانَ بحاثا مناظرا وَكَانَ يعظم الشَّرْع وَلَا يخرج عَن حكمه ويوقر من زَارَهُ من الْفُضَلَاء وَكَانَ إِذا اجْتمع بِأحد من أهل الْعلم يقبل بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ ويوده ويؤانسه وَمن سعادته أَنه كَانَ إِذا غضب على أحد فِي الْغَالِب لَا يزَال ذَلِك المغضوب عَلَيْهِ فِي خمول وتعس وتكد إِلَى أَن يَمُوت وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن جَمِيع أَيَّامه كَانَت غرراً وَفِي بعض التَّعَالِيق فِي سنة(1/411)
سبعين وَألف استولى الإِمَام إِسْمَاعِيل على حَضرمَوْت كلهَا وَأمرهمْ بِأَن يزِيدُوا فِي الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل وَترك لترضى عَن الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَمنع الدفوف واليراع فِي رابت السقاف وانتهت دولة آل كثير من تِلْكَ الديار وَكَانَ آخِرهم عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ لما خلع نَفسه وَتَوَلَّى أَخُوهُ بدر بن عَمْرو فِي آخر دولته ظلم وطغى فهجم عَلَيْهِ ابْن أَخِيه بدر بن عبد الله وحبسه فدانت لَهُ الْعباد إِلَى أَن ظلم وصادر السَّادة فَاجْتمعُوا ودعوا عَلَيْهِ فَقدر الله أَن كتب عَمه بدر ابْن عمر وَهُوَ فِي الْحَبْس إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل وهون عَلَيْهِ أَمر حَضرمَوْت فَكتب الإِمَام إِلَى السُّلْطَان بدر بن عبد الله بِإِخْرَاج عَمه من الْحَبْس فَأخْرجهُ ثمَّ اتَّصل بِالْإِمَامِ وَطلب مِنْهُ التَّجْهِيز على حَضرمَوْت وتكفل لَهُم بأَشْيَاء وساعده على ذَلِك الشَّيْخ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن العمودي شيخ العموديين وَكَانَ والياً على أَكثر وَادي دوعن فكاتبوا مَشَايِخ الْقَبَائِل وَأَرْسلُوا لَهُم بالأموال فَلَمَّا التقى الجيشان انْكَسَرَ جَيش السُّلْطَان بدر وَلم يُقَاتل مَعَه إِلَّا خواصه ثمَّ انْكَسَرَ مُنْهَزِمًا وَولى مُدبرا إِلَى جبل أَخْوَاله السناقر وَطلب لنَفسِهِ الْأمان فَأعْطِيه وَلما لم يطب لِأَحْمَد بن حسن الْمقَام بحضرموت أَقَامَ بهَا بدر بن بدر الكثيري وَرجع إِلَى عَمه الإِمَام إِسْمَاعِيل وَبقيت حَضرمَوْت فِي تصرف الإِمَام إِلَى مماته وَتمكن غَايَة التَّمَكُّن ومدحه شعراء عصره بالقصائد الطنانة مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن صَالح الْمُهْتَدي فَإِنَّهُ مدحه بقصيدة غَايَة فِي الْحسن ويعجبني مِنْهَا قَوْله
(نعم مَا لربات الحجول ذمام ... وَلَا لعهود الغانيات دوَام)
(أعز إلام الْبَرْق عنْدك خلب ... وحتام سحب الْوَصْل مِنْك جهام)
(تقلص ظلّ من وفائك سابغ ... ظَلِيل وَعَاد الرّيّ وَهُوَ أوام)
(تخذت قلال الصَّدْر والبعد جنَّة ... مللت أَلا إنّ الملال ملام)
(وَتلك لعمري فِي الحسان سجية ... وللشيخ فِي الما مهن لزام)
(وَلكنه فِي حقهن ممدح ... يحل وَأما فِي الرِّجَال حرَام)
(قصارى جمال الغيد وجدٌ ولوعةٌ ... لَهَا بَين أحناء الضلوع ضرام)
(تصعبت حَتَّى مَا لمضناك حِصَّة ... من الْوَصْل إِلَّا من رناك سِهَام)
(حسبت بَان الْحسن بَاقٍ وَرُبمَا ... غَدا نعيه يَا عز وَهُوَ تَمام)
(وكل شباب بالمشيب مروع ... وَإِن لم يرعك الشيب رَاع حمام)(1/412)
(ألم تعلمي أَن المحاسن دولة ... يَزُول إِذا زَالَت جوى وغرام)
(وَلَو دَامَت الدولات كَانُوا لغَيرهم ... رعايا وَلَكِن مَا لَهُنَّ دوَام)
(إِذا زِدْت بعدا أَو أطلت تجنبا ... رحلت وجسمي لم يذبه سقام)
(وَمَا فضل رب السَّيْف لَو فتكت بِهِ ... جفون كليلات المضاء كهام)
(أينصبن لي من هدبهن حبالة ... وَهل صيد فِي فخ الغزال حمام)
(ولي همة لَا تمتطيها صبَابَة ... وحزم فَتى بالحتف لَيْسَ يسام)
(وعزمة ندب لَا يزَال فُؤَاده ... وجانب حر لَا ترَاهُ يضام)
(هيامي فِي نهد أقب مطهم ... إِذا الْقَوْم فِي نهد المليحة هاموا)
(وَلم يَك عِنْدِي غير كتب نفيسة ... تروق وَإِلَّا ذابل وحسام)
(ولي قلم كالصل أما لعابه ... فسم وَأما نفثه فمدام)
(وَإِن رامنى دهري الخؤون بحادث ... فلي من أَمِير الْمُؤمنِينَ عِصَام)
وَكَانَ ينظم الشّعْر وَرُوِيَ لَهُ أشعار جَيِّدَة مَقْبُولَة فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(فِي المهجة أضحى معهده ... فَلِذَا فِي الْغَيْبَة تشهده)
(فتان الْحسن ممنعه ... فتيَان الصبوة أعبده)
(معسول الثغر مفلجة ... عَسَّال الْقد معربده)
(وافي من بعد تجنبه ... ووفي بالزورة موعده)
(وسرى كالبدر فسربه ... مسلوب كرى لَا يرقده)
وَكتب إِلَيْهِ القَاضِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم السحولي
(عجبا مَا للاخلة ... أَعرضُوا من غير عله)
(وتجافوا عَن كئيب ... هائم الْقُلُوب موله)
(مستهام عَذبته ... من غزال الرمل مقله)
(ذُو قوام مثل غُصْن ... البان قد حل برمله)
(ومحيا أورث الأنجم ... والأقمار خجله)
(عبلة السَّاق رداح ... دونهَا فِي الْحسن عبلة)
(غادة عَادَتهَا ... للصب أَن تكْثر مطله)
(جعلت هجر الْمَعْنى ... فِي الْهوى دنيا ومله)
(حرمت من وَصله مَا ... خَالق الْخلق أحله)(1/413)
(وَأحلت قَتله وَالله ... قد حرم قَتله)
(يَا ترى فِي أَي يَوْم ... يصل المحبوب حبله)
(وَبِه فِي طيب عَيْش ... يجمع الرَّحْمَن شَمله)
(وَيرى العاذل فِيهِ ... تَارِكًا فِي الْحبّ عذله)
(وَيعود الصب للمعهود ... من غير تعله)
(فهم قوم سراة ... أر يحيون أَجله)
(وَلَهُم فِي الْقلب ود ... لَا يروم الْغَيْر نَقله)
(غير أَن الدَّهْر أبدى ... مِنْهُم للصب غفله)
(سد دون الضاحك الثغر ... طَرِيقا مِنْهُ سهله)
(فتناسوا عهد صب ... ذاهل اللب موله)
(وجفوه فرسوم الود ... مِنْهُم مضمحلة)
(فَمَتَى فِي الدَّهْر نلقى ... شَيخنَا بدر الأهله)
(علنا نشكو إِلَيْهِ ... سطوة الدَّهْر وَفعله)
(نجل إِبْرَاهِيم عز الدّين ... مَحْمُود الجبلة)
(أعظم الأخيار نيلا ... أكْرم الْأَحْرَار خله)
(أحسن النَّاس خِصَالًا ... لم نرى فِي النَّاس مثله)
(وَهُوَ للطَّالِب علما ... علم زاه وَقَبله)
(يَا جمال الدّين من حَاز ... خِصَال الْمجد جمله)
(هاك نظما من محب ... لَا يرى غَيْرك أَهله)
(أوجدته فكرة قد ... كدرتها أَي شغله)
(يرتجى مِنْك قبولا ... لنظام جَاءَ قبله)
(مسبلا من دونه سترا ... من الْعَيْب وَكله)
(دمت فِي أرغد عَيْش ... راقيا أَعلَى مَحَله)
فَرَاجعه عَنْهَا بقوله
(سامحوا الْمُلُوك لله ... واصفحوا عَن كل زلَّة)
(عفوكم عَنَّا دَوَاء ... نَافِع من كل عِلّة)
(والرضى مِنْكُم زلال ... مبرد من كل غلَّة)(1/414)
(ودكم عِنْدِي أَمَان ... ببراهين الْأَدِلَّة)
(حبكم شَرْعِي وديني ... وَهُوَ عِنْدِي خير مِلَّة)
(وَهُوَ لي خلق كريم ... وطباع وجبلة)
(وَلَقَد مازج روحي ... وَسَوَاد الْقلب حلّه)
(قمر الْحسن وللحسن ... بدور وَأَهله)
(لَو رَآهُ الْبَدْر أَعْلَاهُ ... مقَاما وأجله)
(ضرب الْحسن علبه ... قبَّة تزهو وَكله)
(يَا لقومي فِي كثير الْحسن ... حظى مَا أَقَله)
(يَا رَسُولي قل لَهُ ... بِاللَّه إِن أَحْسَنت قل لَهُ)
(كي يقْضِي الصب عمرا ... فعساه وَلَعَلَّه)
(أَن يكن لَا يرتجى الوبل ... من الْوَصْل فطله)
(وعَلى الْحسن زَكَاة ... وَردت فِيهَا الْأَدِلَّة)
(وَهُوَ مِسْكين فَمنع الصّرْف ... فِيهِ من أحله)
(لست أَشْكُو الْجور إِلَّا ... للأجل ابْن الأجلة)
(من لَهُ كَثْرَة أَوْصَاف ... العلى من غير عله)
(من رقى فِي الْمجد ... وَالْفَخْر إِلَى أرقى مَحَله)
(ونضا منصل عزم ... مرهف بِالْحَدِّ وسله)
(وسعى فِي طلب العلياء ... من غير تعله)
(وسما فِي نيله ... الْفضل إِلَى أرفع قله)
(مَا أحل الله شخصا ... فِي العلى حَيْثُ أحله)
(يَا سليل الْعِزّ يَا من ... لأعاديه المذلة)
(وصل الْمَمْلُوك وصل ... مِنْكُم أعلا مَحَله)
(وكساه برد فحر ... زانه بَين الأخلة)
(عقد نظم خلته وردا ... كَسَاه الصُّبْح طله)
(أَو هُوَ الدّرّ نهاداه ... الغواني للأكلة)
(وتود الغيد لَو أَن ... لَهَا مِنْهُ أشله)
(بل هُوَ الْفضل ... أدام الله للْعَالم ظله)(1/415)
(فِيهِ إعزاز لقدري ... ولنظمي فِيهِ ذله)
(فاقبلوا مني جَوَابا ... جَاءَ فِي ضعف وقله)
(طَال تقصيري وَلَكِن ... سامحوا الْمَمْلُوك لله)
وَمن شعره الإِمَام قَوْله
(وشادن أجْرى دموعي دَمًا ... سفحا على الْخَدين لَا ترقا)
(أَخَاف مسود عِذَارَيْ بِهِ ... ببيض من حلته الزرقا)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة تسع عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَقَامَ بعده فِي طلب الْإِمَامَة لنَفسِهِ أَحْمد بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم ونازعه فِيهَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم ابْن عَمه وَحصل بَينهمَا محاربة ثمَّ تمت الْولَايَة لِأَحْمَد كَمَا تقدم فِي تَرْجَمته
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عماد الدّين الْمَعْرُوف بِابْن تبل الدِّمَشْقِي القبيباتي ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله فَقَالَ فِي حَقه كَانَ من أذكياء الْعَالم ودأب فِي الإشتغال حَتَّى برع فِي كل فن من الْفُنُون واشتهر بِالْفَضْلِ وَكَانَ شافعيا ثمَّ تحنف وَقصد أَن يسْلك طَرِيق الصُّوفِيَّة فاختلى عِنْد الشَّيْخ أَحْمد الحرستاني الْكَاتِب وَرَأى فِي الْوَاقِعَة بعد سِتَّة عشر يَوْمًا أَنه فِي فلاة فِيهَا كوم من أَحْجَار وأوساخ وَوجد عَلَيْهَا قِطْعَة خبر فَأكلهَا فَذكره هَذِه الرُّؤْيَا للشَّيْخ أَحْمد فَقَالَ لَهُ أخرج من الْخلْوَة فَإِن لَك خَوْلَة فِي الدُّنْيَا فَخرج ثمَّ تعلق بأنواع الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وسافر إِلَى الرّوم وسلك الطَّرِيق وخدم بعض الموَالِي حَتَّى صَار محاسبا بأوقاف قسطنطينية فِي زمن بعض قضاتها حَتَّى حصل دنيا عريضة واشتهر فِيمَا بَينهم بمنلا عماد ثمَّ تفرغ عَن ذَلِك كُله ووهب مَا عِنْده من مَتَاع وَغَيره وَلحق بالعارف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ مَحْمُود الإسكداري وَصَارَ من مريديه وَتُوفِّي عِنْده بأسكدار فِي سنة عشر بعد ألف رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الإِمَام الْقَاسِم من أَوْلَاد الْأَئِمَّة بِالْيمن وجده هُوَ الَّذِي أخرج الأتراك من الْيمن وَكَانَ ذَا ولَايَة وَاسِعَة وَسَتَأْتِي تَرْجَمته إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ السَّيِّد إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور فِي الْمحل الْأَعْلَى من الفصاحة والبلاغة وَحسن الْأَدَب نقي الطبغ بهى الْآثَار رَقِيق جِلْبَاب النّظم وَله مؤلف سَمَّاهُ سمط اللآل بأشعار الْآل وفضله فِي الْيمن أشهر من أَن يذكر وَمن شعره النقي الْبَهِي قَوْله يمدح وَالِده مُحَمَّد بن الْحسن(1/416)
(أَتَرَى السَّلب للقلوب الشيجه ... لسواجي لحاظها كالسجية)
(أم رمى غير عَامِد أسْهم الهدب ... وَلم يدر أَن قلبِي الرَّمية)
(فعلت بِي الألحاظ شرفها الله ... تَعَالَى مَا تفعل المشرفية)
(عَرفتنِي أسحار بَاب هاروت ... فَكَانَت عِنْدِي هِيَ البابلية)
(نصبت لي أشراك هدب فَهَلا ... شَافِعِيّ وَاحِد من الزيدية)
(أَنا شيعها وَبِالنَّصبِ جرتني ... إِلَى أَن وَقعت فِي الْمَالِكِيَّة)
(ملكتني قلبا وعينا وَحَتَّى ... ملكتني قولا وفعلا ونيه)
(مَا نوبت الطموح للْغَيْر إِلَّا ... حجبتني الحواجب النونيه)
(وبنار الْأُخْدُود ذاب فُؤَادِي ... من خدود ندية عندميه)
(أَي نَار لَهَا إتقاد لماء ... غير نَار على الخدود الندية)
(يَا لَهَا فتْنَة لَهَا قدرهَا الله ... فَعَادَت عشاقها قدرية)
(لَا يرَوْنَ السلوان مِمَّا يُطِيقُونَ ... وَلَا يدْفَعُونَ هذي البلية)
(حققوا الْجَبْر فِي اعتزالهم اللوم ... فراحوا لفعلهم رافضيه)
(فهم يفرقون من كل شَيْء ... أبدا فِي صباحهم والعشية)
(مثل مَا يفرق الشجاع إِذا لَاقَى ... إِمَام الْعِصَابَة الهاشمية)
(الإِمَام القوام لله بِالْحَقِّ ... بِإِجْمَاع الْجَمَاعَة النَّبَوِيَّة)
(الْأَغَر الأبر عز الْهدى ... الْهَادِي البرايا إِلَى الطَّرِيق السويه)
(الْمُفِيد المبيد شَمل الأعادي ... بالمواضي والبقنا السمهرية)
(خير من هز صَار مَا يَوْم روع ... وعَلى صهوة الْجِيَاد الْعلية)
(وَالَّذِي قاد شاردات الْمَعَالِي ... بالعوالي والهمة العلوية)
(والذكي الَّذِي يحل من الأشكال ... مَا يعجز الفحول الذكية)
(والجواد الَّذِي يَسُوق إِلَى العافين ... سحبا من اللهى عسجديه)
(والمليك الَّذِي يدبر أَعمال ... نظام الشَّرِيعَة الأحمدية)
(لم يزل فِي الْأُمُور يمْضِي بِرَأْي ... هُوَ أضوى من الشموس المضية)
(أحلم النَّاس أعلم النَّاس أزكاهم ... مقَاما ومحتدا وطوية)
(وَالَّذِي طَابَ نشر ذكرَاهُ حَتَّى ... طَابَ مِنْهُ أقْصَى الْجِهَات القصية)
(هاكها بنت لَيْلَة حبرتها ... مَعَ شغل سليقة حسنيه)(1/417)
(درها تخجل اليواقيت مِنْهُ ... ودراري الْكَوَاكِب العلوية)
(فاقبل النزر من خطابي واعذر ... فِي خطاب جلبة وخفية)
(إِنَّمَا يحسن النظام ويزكو ... حِين تزكوا الْعَوَارِض النفسية)
(غير خَالف على أبي الْفضل أَن الضيم ... تأبى مِنْهُ النُّفُوس الأبيه)
(وابق مَا مَالَتْ الغصون على الرَّوْض ... وغنت بأبكها قمرية)
(وعَلى خَاتم النَّبِيين والآل ... صَلَاة من الْإِلَه سنية)
(وَسَلام عَلَيْك نترى من الله تَعَالَى ... فِي بكرَة وَعَشِيَّة)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان أَو تسع وَسبعين وَألف وعمره فَوق الثَّلَاثِينَ وَتَحْت الْأَرْبَعين تَقْرِيبًا فِي مذيخره من أَعمال السعدين رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الأنقوري المولوي أحد خلفاء طَرِيق حَضْرَة مَوْلَانَا قدس الله سره الْعَزِيز الْمَشْهُود لَهُم بِالْفَضْلِ الباهي الباهر ولد بانقرة وساح وجد فِي طَرِيق المولوية إِلَى أَن أكمل الطَّرِيق ثمَّ ولي المشيخة الْوَاقِعَة بالغلطة الْمَنْسُوب إيقافها إِلَى اسكندر باشا وَكَانَت مجالسة غاصة بالأدباء والظرفاء وَكَانَ فَاضلا متورعا متشرعا أديبا وافر الْمعرفَة بِلِسَان الْقَوْم مطلعا على أَحْوَالهم وَله بالمثنوى المام كلي وَله عَلَيْهِ شرح نَفِيس وَشرح مشكلاته أَيْضا وَله تآليف كَثِيرَة مِنْهَا كتاب طريقت نامه وَشرح حَدِيث الْأَرْبَعين وَحجَّة السماع وَشرح التائية وَشرح الهياكل والفاتحة العينية وَهُوَ تَفْسِير الْفَاتِحَة بالتركية أَلفه بعد أَن طَرَأَ عَلَيْهِ الْعَمى وعوفي مِنْهُ فِي زَمَنه قدم الشَّيْخ عَبدِي المولوي من ديار أناطولي وجدد زاويتهم الْمَشْهُورَة بقاسم باشا وَكَانَ شَيخا صَالحا مُجَاهدًا عَظِيم الشَّأْن وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ إِسْمَاعِيل فِي أواسط سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف ذكر هَذَا ابْن نَوْعي فِي ذيل الشقائق التركي
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل السجيدي الْمصْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي كَانَ من أكَابِر الشَّافِعِيَّة بِمصْر وَكَانَ صَاحب عبارَة وبلاغة وفصاحة وبراعة إِمَامًا فِي الْعُلُوم الْعَرَبيَّة أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ الرَّمْلِيّ ولازمه إِلَى أَن مَاتَ وتكمل بِالنورِ الزيَادي وتصدر للإقراء بالجامع الْأَزْهَر سِنِين عديدة وَاسْتمرّ إِلَى أَن توفّي نَهَار الْإِثْنَيْنِ سَابِع ربيع الأول سنة سِتّ وَخمسين وَألف وعمره نَيف وَتسْعُونَ سنة(1/418)
الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الكلشني خَليفَة الطَّائِفَة الكلشنية بحلب كَانَ من خِيَار الْخِيَار ذكره أَبُو الوفا العرضي فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي وَصفه أعْطى مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد وَصَارَ سمير الْعِبَادَة والزهادة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود نَشأ فِي الْعِبَادَة وَالتَّقوى مُنْذُ كَانَ طفْلا وَاسْتمرّ على حَالَة وَاحِدَة شَابًّا وشيخاً وكهلاً قَرَأَ على العرضي الْمَذْكُور فِي المصابيح للْإِمَام الْبَغَوِيّ مُدَّة مديدة ثمَّ استجازه فَأَجَازَهُ بِمَا يجوز لَهُ وَعنهُ رِوَايَته وَقَرَأَ على النَّجْم الحلفاوي فِي النَّحْو وَالْفِقْه مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ أَولا من المريدين للكلشنية وَكَانَت زوايتهم أول من أصلحها وَأَنْشَأَ هَذِه الطَّرِيقَة فِي الديار الحلبية درويش رَجَب ثمَّ إِنَّه فعل أوضاعاً مذمومة ثمَّ تولى المشيخة رضوَان دده فَجَلَسَ مُدَّة وَلم يقبل النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ أَدْرَكته الْوَفَاة ثمَّ قدم صَاحب التَّرْجَمَة مجَازًا من الديار المصرية من صَاحب السجادة أحد أَعْيَان ذُرِّيَّة الكلشني فَوَجَدَهُ النَّاس ذَا هَيْئَة حَسَنَة وشكل حسن وَقِرَاءَة حَسَنَة مجودة فَإِنَّهُ قَرَأَ على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني أحد أَئِمَّة الْقُرَّاء فِي الديار المصرية وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يقْرَأ بالألحان والأوزان والأنغام من غير أَن يخرج الْحُرُوف والكلمات عَن حُقُوقهَا فاستحلى جَمِيع النَّاس قِرَاءَته وَكَانُوا فِي ليَالِي شهر رَمَضَان يأْتونَ إِلَيْهِ من نواحي حلب للتلذذ بِسَمَاع قِرَاءَته مَعَ الْمُحَافظَة على الدّين والشريعة وَيعرف الْفِقْه معرفَة لَا بَأْس بهَا وَبَعض شَيْء فِي النَّحْو ويقرى المخاديم الصغار الْقُرْآن بالتجويد وَيُعلمهُم مُقَدمَات الْفِقْه وَاللِّسَان الْفَارِسِي مَعَ الضَّبْط لفقرائه بِحَيْثُ أَن غالبهم محافظون على الشَّرِيعَة وَكَانَ لَا يَمُوت أحد من الْأَعْيَان وَغَيرهم إِلَّا أحضروه يذكر أَمَام الْجِنَازَة تبركاً بِهِ ويعظمونه ويعطونه أَكثر من غَيره وَكَانَت الأكابر ترسل إِلَيْهِ بالإحسانات فيبذلها للمريدين وَلَا يخْتَص بهَا وَصَارَ لزاويته بعض خيرات وصدقات حَتَّى انتظم أمرهَا وَكَانَ يُقيم حَلقَة الذّكر لَيْلَة الْجُمُعَة فَيقْرَأ مَعَ الْجَمَاعَة سُورَة تبَارك على أسلوب لطيف تستحليه النَّاس أَرْبَاب الأذواق السليمة ثمَّ يذكر مَعَ الْقَوْم على أسلوب حسن مَعَ الرضى بالقناعة ثمَّ أَنه لما مَاتَ شَيْخه فِي مصر توجه إِلَى مصر ليَأْخُذ الْبيعَة على الشَّيْخ الْجَدِيد فَقدر الله أَن الشَّيْخ الْجَدِيد مَاتَ وَهُوَ فِي خلال الطَّرِيق وَتَوَلَّى غَيره وَحضر صَاحب التَّرْجَمَة فعظموه وأجلوه وَأَعْطوهُ إجَازَة أَيْضا فَرجع عَزِيزًا جَلِيلًا وَأقَام بحلب إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَسبعين وَألف
أصلان دده المجذوب نزيل حلب قَالَ العرضي الْمَذْكُور آنِفا عِنْدَمَا ذكره(1/419)
اخْتَرَطَ فِي مبادي الْعُمر شوك القناد وَاحْتمل المشقات والإنكاد من الْجُوع والعطش والعري والسهر وَكَانَ ينَام فِي الْمَسَاجِد بِغَيْر غطاء مَشْغُولًا بخويصة وجوده فِي منادماته وشهوده وَكَانَ نَائِبا لبَعض قُضَاة حلب فَحصل لَهُ الجذب الإلهي فِيهَا يُقَال إِنَّه قطع خصيتيه قَالَ وسمعته يقْرَأ أَحْيَانًا بعض عِبَارَات كَافِيَة ابْن الْحَاجِب وَكَانَ يسْرد أَحْيَانًا آيَات قرآنية ولازم بَيت القهوة فَكَانَ لَا يخرج مِنْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا إِلَّا أَحْيَانًا قَليلَة وَلَا يتَكَلَّم مَعَ النَّاس إِلَّا الْقَلِيل من الْكَلِمَات تَارَة لَهَا انتظام وَأُخْرَى بِدُونِهِ ثمَّ خدمه رجل يُقَال لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد العجمي وَكَانَ شَيخا معلما لبَعض الأكابر من أَرْبَاب الدول وَكَانَ لَهُ صَوت حسن وَخط حسن فأجل مقَامه وَأظْهر احترامه فعكف الأكابر عَلَيْهِ وقدمت الْأَمْوَال إِلَيْهِ وَشَاهد كثير من النَّاس تصرفه التَّام وَمن كراماته مَا أَخْبرنِي بِهِ صهرنا الشَّيْخ أَحْمد الشَّيْبَانِيّ وَكَانَ عبدا صَالحا مُعْتَقدًا فِي الْأَوْلِيَاء من ذُرِّيَّة قوم كرام من ذُرِّيَّة بني الشَّيْبَانِيّ وَمن ذُرِّيَّة بَيت الشحني أَنه كَانَ لوالده مُعتق يُقَال لَهُ سُلَيْمَان ترقى فِي الرّفْعَة حَتَّى صَار كتخداي جَعْفَر باشا كافل بِلَاد اليمنية أَنه لما رَجَعَ من الْيمن على أنطاكية فَاسْتَقْبلهُ أَحْمد الْمَذْكُور فَأخْرج لَهُ ورقة تَتَضَمَّن أَن الشَّيْخ مُحَمَّد الزّجاج من أهل الْيمن يسلم على أصلان دده وَيقبل أياديه وَقَالَ لي قبل أياديه عني فَأَنا الْآن مَشْغُول بِخِدْمَة الباشا لَا أَسْتَطِيع الذّهاب إِلَى الْمَذْكُور فَأَنت كن نَائِبا عني فَلَمَّا جَاءَ أَحْمد الْمَذْكُور قَامَ لَهُ أصلان دده قَائِلا مرْحَبًا بِالَّذِي جَاءَ لنا بِسَلام أهل الْيمن كررها أَربع مَرَّات ثمَّ قَالَ وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وكررها أَربع مَرَّات ثمَّ قَالَ رَأَيْت الْجمل قل وَلَا الْجمال وكررها أَيْضا كل هَذَا وَأحمد الْمَذْكُور لم يكلمهُ بذلك وَلَا شطر كلمة وَإِنَّمَا عرض عَلَيْهِ الْأَمر فِي الْبَاطِن وَهَذِه الْكَلِمَات قَالَهَا بالتركي فَإِن أصلان دده كَانَ لَا يعرف الْعَرَبيَّة وَلسَانه تركي فَقَالَ لَهُ درويش على خَلِيفَته الْجَالِس فِي خدمته يَا سَيِّدي حَضْرَة الدده يَقُول لكم السَّلامَة وَلكم الْيمن وَالْبركَة وَلكم الْجمال لمَكَّة فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا صَدقْتُمْ هَذَا تَأْوِيل كَلَام الشَّيْخ
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بَين مشرق ومغرب)
وَمن كراماته أَن عسكرياً اشْترى من باياس أرزاً وبناً وسكراً وَقَالَ فِي ضَمِيره أعطي للمذكور مِنْهُ سِتَّة عشر أبلوجاً من السكر وَالْبَاقِي يَبِيعهُ خَلِيفَته سَيِّدي عَليّ ويحط الثّمن على دَرَاهِمه الْكَثِيرَة ثمَّ عدل وَقَالَ آخذ أبلوجين ثمَّ حمل السكر من(1/420)
باياس فَسقط عَن الدَّابَّة وَوَقع فِي المَاء حَتَّى وصل إِلَى التّلف وَقدر الله أَن البن والأرز كَانَا يباعان بِأَحْسَن ثمن فَانْحَطَّ ثمنهَا فَفِي الْحَال ذهب وَأعْطى بَقِيَّة مَا نَذره فِي ضَمِيره فَمَا مضى ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى بَاعَ الْجَمِيع بأرفع الْأَثْمَان وَمِنْهَا أَنى الْفَقِير أردْت أَن آخذ مَكَانا خراباً كَانَ أَصله يُبَاع فِيهِ غزل الصُّوف من مُسْتَحقّ وَقفه فطلبته مِنْهُ فَامْتنعَ وَوَقع فِي خاطري وَكَانَ الْمَذْكُور كثيرا مَا يزورنا فِي زاويتنا العشائرية وَيدخل إِلَى بيتنا ولبيتنا بَاب آخر إِلَى الجراكسية وَإِلَى الْموضع الَّذِي طلبته وَمَا خرج الْمَذْكُور قطّ من ذَلِك الْبَاب فزارنا وَدخل إِلَى بيتنا وَفتح ذَلِك الْبَاب وَتوجه إِلَى ذَلِك الْمَكَان وَأسْندَ إِلَيْهِ ظَهره زَمَانا طَويلا ثمَّ عَاد إِلَى بيتنا وَخرج إِلَى زاويتنا فَفِي الْيَوْم الثَّانِي جَاءَنِي مُسْتَحقّ الْوَقْف يطْلب مني مَا كنت ذكرته لَهُ وَقضى الله الْمصلحَة وَمِنْهَا أَنه يَوْمًا من الْأَيَّام طلب ديوَان حَافظ وَاسْتمرّ عِنْده نَحْو شهر وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ ويقبله فَبعد ذَلِك تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار أَن الْحَافِظ صَار وزيراً أعظم وَكَانَ حِينَئِذٍ فِي آمد وَكَانَت الْهَدَايَا والنذورات تَأتيه على التوالي وتعطيه أَرْبَاب الدول المئات من القروش بِحَيْثُ إِذا شفع فِي أعظم شَفَاعَة تقبل مَعَ أَنه لَا يدْرك شَيْئا بِالْكُلِّيَّةِ لغَلَبَة الجذب عَلَيْهِ حَتَّى بنى لَهُ خَلِيفَته سَيِّدي عَليّ دكاكين وبيوتاً وَأخذ لَهُ خَان الْكَتَّان اتخذ لَهُ قهوة بعض الدكاكين وقف نَاصِر الدّين بن برهَان وَبَعضهَا وقف زَاوِيَة بَيت الشَّيْخ دامان الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الحبال وكتبها لنَفسِهِ فالخلوات ملك ثمَّ وَقفهَا وَأما الأرضية فَإِنَّهَا للْغَيْر بَعْضهَا لجامع نَاصِر الدّين بيك وَبَعضهَا لزاوية بَيت الشَّيْخ دامان فِي سويقة الحجارين وَاتخذ هَذَا الْبناء فِي زمن يسير من وزارة الْحَافِظ وَهُوَ الْوَزير الْأَعْظَم فَأعْطَاهُ ألف دِينَار وَمن عَجِيب أمره أَنه قبيل مَوته حضر لَدَيْهِ إِنْسَان يُشبههُ من كل وَجه بِحَيْثُ لَو رَآهُ الصَّغِير الَّذِي لَا يدْرك شَيْئا وَقيل لَهُ من هَذَا لقَالَ أَخُو أصلان دده فَادّعى أَنه أَخُوهُ وَجلسَ هُنَاكَ وسيدي عَليّ يُنكر ذَلِك فأحضر سَيِّدي عَليّ نَائِب المحكمة الصلاحية وأحضر هَذَا الرجل فَقَالَ من أَنْت فَقَالَ أَنا فلَان بن فلَان وَأمي فُلَانَة فَسمى أَبَاهُ وَأمه وَسُئِلَ صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ لَا يدْرك شَيْئا من الْأُمُور فَقَالَ أَنا فلَان وَأبي فلَان وَأمي فُلَانَة فَسمى أَبَاهُ وَأمه بِغَيْر مَا سَمَّاهُ وَأثبت النَّائِب أَنه لَيْسَ أَخَاهُ ثمَّ لم يفدهم ذَلِك شَيْئا وَاسْتمرّ يَأْخُذ من وقف التكية حَتَّى مَاتَ وَمِنْهَا مَا شَاهد النَّاس مِنْهُ أَنه لما كَانَ السُّلْطَان يطْلب بَغْدَاد كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة فِي تَعب باطني عَظِيم وَكَانَت وَفَاته بعد فتح بَغْدَاد بِقَلِيل وَالْفَتْح كَانَ فِي سنة ثَمَان(1/421)
وَأَرْبَعين وَألف وَقد عَاشَ نَحْو مائَة سنة رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أكمل الدّين بن عبد الْكَرِيم القطبي مفتي مَكَّة وعالمها كَانَ من الْعلمَاء الأجلاء لَهُ الشُّهْرَة الْعَظِيمَة والهيبة ودرس وَأفْتى وَأفَاد وَأخذ عَن جمَاعَة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة وفتاويه شاهدة بِعِلْمِهِ الجم وَهِي مَقْبُولَة فِيمَا بَين عُلَمَاء مَكَّة مَرْغُوب إِلَيْهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من أساطين عُلَمَاء الْحجاز وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي شَهِيدا بالأعاضيد وَهُوَ اسْم مَحل بِهِ نخل ومزارع بَين الطَّائِف والمبعوث لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر شَوَّال سنة تسع بعد الْألف والشريف إِدْرِيس إِذْ ذَاك بالمبعوث وَدفن بالمسيل وَبَنُو القطب بِمَكَّة أَبنَاء علم ورياسة وَسَيَأْتِي مِنْهُم عبد الْكَرِيم بن أكمل الدّين هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الأديب أكمل الدّين بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن كريم الدّين الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ فَاضلا مفنناً طلق اللِّسَان حُلْو الْعبارَة حسن الْخط عَارِفًا باللغة الفارسية والتركية صَاحب نظم ونثر فيهمَا وَكَانَ جَهورِي الصَّوْت ندي اللهجة متقناً للموسيقى وتوابعها وَله أغان كَانَ يصنعها وتنقل عَنهُ وَألف شرحاً على ديوَان ابْن الفارض لم يشْتَهر وَقد تلقى عَن أَشْيَاخ عدَّة مِنْهُم عبد الرَّحْمَن الْمُفْتِي الْعِمَادِيّ وَفضل الله بن عِيسَى البوسنوي نزيل دمشق وَالشَّيْخ عمر الْقَارِي والشرف الدِّمَشْقِي وَأخذ الحَدِيث عَن أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري وبرع ولازم من شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا وَولي نِيَابَة الْقَضَاء بمحاكم دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ القصاعية الْحَنَفِيَّة ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم وَصَحب مَعَه زَوجته وَأَوْلَاده وَأقَام بهَا مُدَّة جزئية وَأعْطى رُتْبَة الدَّاخِل فَقدم دمشق ثمَّ حبب إِلَيْهِ الانعزال عَن النَّاس وَلزِمَ الْوحدَة حَتَّى ابْتُلِيَ بالماليخوليا وأثرت فِيهِ آثاراً بَالِغَة وَكَانَت تصدر عَنهُ أَحْوَال غَرِيبَة يَجْعَلهَا أَكثر من يعرفهُ أَحَادِيث وأطروفات وَمن أعجبها مَا حَكَاهُ الدرويش ولي الدّين الْموصِلِي الطنبوري وَكَانَ لَهُ بِهِ صُحْبَة قَالَ استدعاني لَيْلَة إِلَى دَاره فَجَلَسْنَا للمفاكهة والغناء إِلَى وَقت نصف اللَّيْل ثمَّ نَهَضَ مسرعاً وَجَاء بِسيف مسلول ثمَّ قَالَ خطر فِي بالي الْآن أَن أَقْتلك وَأَنا مصمم عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ ظهر لي أَنَّك جاسوس من جَانب شاه الْعَجم على بِلَادنَا وَأَنا متقرب بقتلك إِلَى خاطر سلطاننا فَإِنَّهُ إِذا بلغه هَذَا حصل لَهُ حَظّ عَظِيم وَإِن أردْت السَّلامَة فَأعْطِنِي موثقًا بأنك إِذا أطلقت ووصلت إِلَى الشاه فَلَا تذكرني فِي مَجْلِسه فَإِنَّهُ رُبمَا يكون ذَلِك سَببا لمجيئه إِلَى بِلَادنَا وَإِن ذَكرتني(1/422)
وَلَا بدّ فَلْيَكُن ذكرك على وَجه الْمَدْح وأعلمه بِأَنِّي أعرف اللُّغَة الفارسية فَإِذا أرسل يطلبني سرت إِلَى خدمته فَإِنِّي سئمت من هَذِه الْبِلَاد وانفصل الْمجْلس بَينهمَا على هَذَا وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر أَعرَضت عَلَيْهَا لشهرتها وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن أَوَائِله كَانَت فِي غَايَة من الظّرْف والكمال وَله أشعار كلهَا جَيِّدَة لَطِيفَة مستعذبة مِنْهَا قَوْله
(وحديقة ينساب بَين غصونها نهر يرى كالفضة الْبَيْضَاء ... )
(قد ألبسته يَد الجنائب وَالصبَا ... زرداً كنبت الرَّوْضَة الْغناء)
(دولابه بنحيبه كمذكر ... عهد الشَّبَاب ومعهد السَّرَّاء)
(أبدا يَدُور على الْأَحِبَّة باكياً ... بمدامعٍ تربو على الأنواء)
(ناح الْحمام عَلَيْهِ قدماً فَهُوَ فِي ... ترجيعه موف قديم إخاء)
وَقد أَجَاد فِي قَوْله من ربَاعِية
(حَيا وَسَقَى الحيا الربى والسفحا ... من غادية تشبه دمعي سفحا)
(وَالله وَمَا ذكرت عيشي بهما ... إِلَّا وَضربت عَن سواهُم صفحا)
وَقَالَ معمياً فِي اسْم عِيسَى
(وَجهك الشَّمْس على ... قدّ لَهُ الْخَال شعار)
(فتْنَة الْعَالم دارت ... مِنْك إِذْ دَار العذار)
أَرَادَ بالشمس الْعين وبالقدّ الَّذِي لَهُ الْخَال شعار الْيَاء ونقطها وبالعذار المُرَاد بِهِ آس إِذا دَار كَانَ ساو فِيهِ دخل من جِهَة كِتَابَة عِيسَى بِالْيَاءِ الْمُسْتَخْرج للمعمي إِنَّمَا يسْتَخْرج مَا يرَاهُ مَكْتُوبًا وَالْأَمر فِي ذَلِك سهل وأشعاره كَثِيرَة وَقد استوعبت مِنْهَا طرفا فِي كتابي النفحة فَرَاجعه إِن شِئْت وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَتُوفِّي فِي حادي عشري صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
اله بخش الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى واله بخش لفظ فَارسي مَعْنَاهُ عَطِيَّة الله الْهِنْدِيّ النقشبندي كَانَ صَاحب معرفَة وَكَمَال وتكميل وَكَانَت تطريقته طَريقَة العشقية وَكَانَ عالي المشرب نِهَايَة فِي المعارف نقلت عَنهُ التصرّفات العجيبة والكرامات الغريبة وَهُوَ من أجل مَشَايِخ الْعَارِف بِاللَّه تَاج الدّين الْهِنْدِيّ النقشبندي نزيل مَكَّة وَله مَعَه خوارق مِنْهَا أَن الشَّيْخ أرْسلهُ إِلَى بلد أمروهة لخدمة فَكَانَ يمشي فِي الطَّرِيق فَرَأى فِي أثْنَاء طَرِيقه امْرَأَة جميلَة فَتعلق قلبه بهَا وَصَارَ مشغوفاً بهَا حَتَّى خرج زِمَام اخْتِيَاره من يَده وَنسي تِلْكَ الْخدمَة وتبعها فَبَيْنَمَا هُوَ ذَلِك إِذْ(1/423)
رأى الشَّيْخ على يَمِين تِلْكَ الْمَرْأَة ينظر إِلَيْهِ وَاضِعا إصبعه السبابَة فِي فَمه على طَرِيق التَّنْبِيه والتعجب فَلَمَّا رَآهُ حصل لَهُ مِنْهُ غَايَة الْحيَاء وَانْقطع أصل محبتها من قلبه وَمضى لسبيله وَلما رَجَعَ من الْخدمَة وصل إِلَى الشَّيْخ فَلَمَّا رَآهُ ضحك مِنْهُ فَعرف أَنه كَانَ مشعراً بذلك وَمِنْهَا أَن وَاحِدًا من أَصْحَاب الشَّيْخ اله بخش كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ شَيْئا فِي علم التصوف ذَات يَوْم فجَاء الْجَرَاد إِلَى الْبَلَد ووقف على أَشجَار النَّاس وزروعهم فجَاء راعي بُسْتَان الشَّيْخ وَأخْبرهُ بالجراد فَأرْسل الشَّيْخ وَاحِدًا من أَصْحَابه إِلَى الْبُسْتَان وَقَالَ لَهُ قل للجراد منادياً بِصَوْت رفيع إِنَّكُم أضيافنا ورعاية الأضياف لَازِمَة إِلَّا أَن بستاننا أشجاره صغَار لَا تحْتَمل ضيافتكم فالمروءة أَن تتركوه فمجرد مَا سمع الْجَرَاد هَذَا الْكَلَام من الرجل طَار وَخرج من بُسْتَان الشَّيْخ وَصَارَ زروع النَّاس وبساتينهم كعصف مَأْكُول إِلَّا بُسْتَان الشَّيْخ وَمِنْهَا أَن رجلا جَاءَ إِلَى الشَّيْخ اله بخش وشكا إِلَيْهِ الْفقر والضيق فِي الْمَعيشَة وَجلسَ أَيَّامًا فِي خدمته فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ إِذا حصل لَك شَيْء من الدُّنْيَا مَا تخرج لنا مِنْهُ فَقَالَ الْعشْر فَقَالَ لَهُ لَا تَسْتَطِيع فكرر عَلَيْهِ الْكَلَام حَتَّى اسْتَقر الْحَال على أَن يخرج لَهُ من كل مائَة وَاحِدًا فَأمره أَن يروح إِلَى وَاحِد من أهل الدُّنْيَا فَحصل لَهُ ببركة الشَّيْخ دنيا كَثِيرَة فِي أَيَّام قَليلَة فَكَانَ الشَّيْخ يُرْسل إِلَيْهِ الْفُقَرَاء وَيكْتب لَهُ بِأَن يعطيهم فَلَا يُؤَدِّي إِلَيْهِم شَيْئا ثمَّ اجْتمع عِنْده دَرَاهِم كَثِيرَة من حِصَّة الشَّيْخ فَكتب إِلَى الشَّيْخ أَنكُمْ تُرْسِلُوا وَاحِدًا من خدّامكم حَتَّى نرسل هَذِه الدَّرَاهِم إِلَيْكُم فَلَمَّا وصل مكتوبه حصل للشَّيْخ غيرَة وَغَضب وَقَالَ سُبْحَانَ الله مَا قلع أحد من وَقت آدم إِلَى يَوْمنَا هَذَا شَجَرَة غرسها بِنَفسِهِ إِلَّا أَنا أقلعه الْيَوْم فَجَاءَهُ بعد أَيَّام خبر مَوته وَله كرامات كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وعمره اثْنَان وَثَمَانُونَ سنة وَهُوَ على ركبة تِلْمِيذه الشَّيْخ تَاج الدّين وأوصاه أَن لَا يغسلهُ وَلَا يُكَفِّنهُ إِلَّا هُوَ فَقبل وَصيته رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ إِمَام الدّين بن أَحْمد بن عِيسَى المرشدي الْعمريّ الْحَنَفِيّ مفتي مَكَّة الْفَاضِل الْعَالم الْعلم ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن وَحفظه وجود على الْفَقِيه الْمقري أَحْمد اسكندر وَحفظ الْكَنْز والهاملية وعرضهما على ابْن عَمه حنيف الدّين بن عبد الرَّحْمَن المرشدي الْآتِي ذكره ولازمه فِي دروسه حَتَّى حصل طرفا صَالحا فِي مَذْهَب الإِمَام الْأَعْظَم وَأخذ النَّحْو عَن عبد الله باقشير وَأخذ عَن عِيسَى المغربي الْجَعْفَرِي وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان نزيل مَكَّة وَقَرَأَ طرفا على السَّيِّد مُحَمَّد الشلي باعلوي من البُخَارِيّ(1/424)
والشمايل وَشرح الْأَرْبَعين وَجُمْلَة كتب فِي علم الْعَرَبيَّة وَقَرَأَ الْفَرَائِض والحساب على أَحْمد بن عَليّ باقشير وجد واجتهد فِي طلب الْعُلُوم لَا سِيمَا الْفِقْه حَتَّى فاق أقرانه وَلبس الْخِرْقَة من السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عبد الرَّحْمَن الإدريسي المغربي وَولي منصب الْإِفْتَاء بِمَكَّة وَلم يزل على طَريقَة حَسَنَة حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بالمعلاة فِي سوح السيدة خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا على يسَار الْخَارِج من الْقبَّة ثمَّ بعد سِنِين دفن عَلَيْهِ السَّيِّد إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد أَخُو الشريف بَرَكَات وَبنى عَلَيْهِ بِنَاء مُرْتَفع يشبه التابوت
الْمولى أويس القَاضِي الرُّومِي الْمَعْرُوف بويسي وَاحِد الزَّمَان فِي النّظم والنثر لم ير مثله فِي حسن التأدية وَالتَّصَرُّف فِي قوالب الشّعْر والإنشاء بِلِسَان التركي وَكَانَ فِي حَيَاته سُلْطَان الشُّعَرَاء بَاقِي الْآتِي ذكره يشار إِلَيْهِ بالبراعة التَّامَّة فَلَمَّا مَاتَ بَاقِي أذعنت لَهُ الشُّعَرَاء جَمِيعًا حَتَّى خاطبه أحدهم يَوْم موت بَاقِي بِبَيْت بالتركية تَرْجَمته هَكَذَا
(لَئِن مضى للنعيم بَاقِي ... فَكُن لنا الدَّهْر أَنْت بَاقِي)
وَكَانَ سريع البديهة إِذا أَخذ الْقَلَم بِيَدِهِ لَا يَدعه حَتَّى يَسْتَوْفِي غَرَضه وَأَخْبرنِي جمَاعَة عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول عَن نَفسه إِذا أخذت الْقَلَم بيَدي لأنشيء شَيْئا تزاحمت عليّ الْمعَانِي فَرُبمَا حررت فِي مقصد وَاحِد أَشْيَاء كَثِيرَة ثمَّ أَعُود فأنتخبها وأنتقيها وَقَرِيب من هَذَا مَا يُقَال أَن صديقا لكلثوم العتابي طلب مِنْهُ يَوْمًا أَن يصنع لَهُ رِسَالَة فاستمد مُدَّة ثمَّ علق الْقَلَم فَقَالَ لَهُ صَاحبه مَا أرى بلاغتك إِلَّا شاردة عَنْك فَقَالَ العتابي إِنِّي لما تناولت الْقَلَم تداعت عَليّ الْمعَانِي من كل جِهَة فَأَحْبَبْت أَن أترك كل معنى حَتَّى يرجع إِلَى مَوْضِعه وَهَذَا مثل قَول امرىء الْقَيْس يُقَال إِنَّه قَالَهَا وَهُوَ ابْن عشر سِنِين
(أذود القوافي عني ذيادا ... كذود غُلَام غويّ جوادا)
(فَلَمَّا كثرن وعنينه ... تخير مِنْهَا جواداً جوادا)
(فأعزل مرجانها جانباً ... وآخذ من درها المستجادا)
وَله تآليف حَسَنَة الْوَضع مِنْهَا سيرة النَّبِي
بالتركية أحسن فِيهَا كل الْإِحْسَان وَقد طالعتها كثيرا فَشَكَرت صَنِيعه فِيهَا وَأورد فِيهَا أَشْيَاء مُنَاسبَة للمقصود فَمن ذَلِك مَا ذكره فِي فصل سفر النَّبِي
إِلَى الشَّام واجتماعه ببحيرا الراهب قَالَ أَخْبرنِي الشَّاب الْفَاضِل عَليّ الْحلَبِي الأسكوبي وَأَنا قَاض بأسكوب وَقد طارحته فِي الوقائع النَّبَوِيَّة فَحكى لي أَنه فِي أثْنَاء سياحته مر على قَصَبَة من(1/425)
قصبات الرّوم تدعى دبرى بِكَسْر الدَّال ثمَّ بَاء مُوَحدَة وَرَاء مَكْسُورَة بعْدهَا يَاء قَالَ فَدخلت إِلَى دير مُعظم بِالْقربِ مِنْهَا فَلم أر أحسن مِنْهُ وضعا وتزييناً وَرَأَيْت فِيهِ مَجْلِسا عَظِيم الشَّأْن قد رتب ترتيباً أنيقاً فَسَأَلت عَنهُ ثمَّة رَاهِبًا من الرهبان الطاعنين فِي السن فجذبني إِلَى مَكَان لَا يَرَانَا فِيهِ أحد ثمَّ قَالَ لي هَذِه صُورَة الْمجْلس الَّذِي رتب فِيهِ بحيرا الضِّيَافَة لنبيكم مُحَمَّد
لما ورد الشَّام للتِّجَارَة قَالَ فتأملته فَإِذا هُوَ على طبق مَا ذكره أهل السّير ثمَّ قلت للراهب أَتَرَى أَن نَبينَا لَو لم يكن عنْدكُمْ مَبْعُوثًا بِالْحَقِّ هَل كَانَ صناديدكم يتكلفون فِي تخليد مآثره هَذَا التَّكَلُّف وَهل كَانُوا يعتنون فِي إِقَامَة رسومه بَيْنكُم فَمَا هُوَ إِلَّا كَمَا نقُول قَالَ فَقَالَ لي أَنا نَحن مصدقون بنبوته موقنون بهَا وَرُبمَا أَنا لَو لم نخف من الجهلة لأقررنا بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْمَلأ الْعَام فَهُوَ النَّبِي الصَّادِق الْوَعْد الْمَبْعُوث فِي آخر الزَّمَان غير أننا قَائِلُونَ ببعثته إِلَى الْعَرَب خَاصَّة وَالله أعلم وَله كتاب واقعتنامه بالتركية أَلفه على طرز مُخَاطبَة جرت من البديع الْهَمدَانِي لِابْنِ فَارس صَاحب الْمُجْمل سأذكرها إِذا ذكرت ملخص هَذِه وَحَاصِل تأليفه أَنه رتب رُؤْيا وأبرزها فِي هَذَا القالب وَذَلِكَ فِي عهد السُّلْطَان أَحْمد فِي حُدُود سنة سبع عشرَة وَألف وَكَانَ أَمر الدولة إِذْ ذَاك فِي غَايَة الاضمحلال قَالَ لما لاحظت الْحَوَادِث فِي عَالم الْكَوْن وَالْفساد كنت أَتَمَنَّى لَو كلمت السُّلْطَان فِي هَذَا الشَّأْن بِلَا وَاسِطَة حَتَّى طرقني النّوم فِي أثْنَاء هَذِه الفكرة فَرَأَيْت جمَاعَة كل مِنْهُم فِي ناصيته نور السَّعَادَة لامع وشعاع الإقبال فِي وَجهه سَاطِع فنزلوا فِي بُسْتَان وكل مِنْهُم اسْتَقر على كرْسِي وَبقيت أَنا مَعَ الخدم فناداني المتأمر مِنْهُم وأجلسني فَسَأَلت عَنهُ فَقيل لي إِنَّه الْإِسْكَنْدَر ذُو القرنين وَالَّذين حوله هم مُلُوك آل عُثْمَان الماضين ثمَّ أقبل موكب حافل وأسفر عَن السُّلْطَان أَحْمد فجَاء وَجلسَ على سَرِير مُقَابل للإسكندر وَأخذ هُوَ والإسكندر فِي المكالمة فَكَانَ تَارَة يتَكَلَّم وَذَاكَ ينصت وَتارَة ينصت وَذَاكَ يتَكَلَّم حَتَّى ابتدر الْإِسْكَنْدَر وَقَالَ إِن السُّلْطَان قلب الْعَالم فَإِذا لم يكن الْقلب معتدل الْأَحْوَال انحرف الْعَالم عَن حد الِاعْتِدَال وَالْعدْل والرشاد مَادَّة السداد والمرحمة والإنصاف سَبَب جمعية الرعايا والجور والاعتساف باعث تَفْرِيق البرايا فتأوه السُّلْطَان ثمَّ قَالَ أَيهَا السُّلْطَان الْأَعْظَم كلامك حق مَعْلُوم أما اعْتِدَال الْقلب فموجود وَأما الْجور فَغير مجحود وَذَلِكَ لِأَن السلطنة لم تسلم لنا إِلَّا بعد خراب الدُّنْيَا فَإِنَّهُ من عهد جدي المرحوم(1/426)
السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث قد ارتكبت مكروهات لَا محيد عَنْهَا وَذَلِكَ بِسَبَب التصميم على قلع شَجَرَة الرَّفْض والإلحاد فَاقْتضى الْأَمر تعْيين العساكر الَّتِي لَا نِهَايَة لَهَا وَلزِمَ من ذَلِك إِعْطَاء المناصب الْعلية والمراتب السّنيَّة لغير أَهلهَا وَلزِمَ من ذهَاب العساكر وإيابها فِي كل سنة تكاليف الرعايا وَوَقع بَينهم وَبَين العساكر وَرُبمَا أدَّت مخاصمة للسان إِلَى محاكمة السَّيْف والسنان فَوَقع بِسَبَب ذَلِك الخراب فَقَالَ أَن قطع النّظر عَن ذَلِك وَادّعى الْعمار فِيمَا قبله وَأَن الدُّنْيَا لم تخرب إِلَّا فِي هَذَا الزَّمَان فيا لَيْت شعري مَتى كَانَت معمورة أَفِي زمَان آدم ثمَّ ذكر وقائع نَبِي بعد نَبِي إِلَى نَبينَا ثمَّ إِلَى الْخُلَفَاء ثمَّ إِلَى الْمُلُوك إِلَى زمَان الْملك النَّاصِر بن قلاوون وَلَا يتَعَرَّض إِلَّا لصَاحب مَا جرية غَرِيبَة وَبعد إِيرَاد الماجرية يَقُول فِي أَي زمَان هَذَا كَانَت الدُّنْيَا معمورة إِلَى آخر مَا ذكره من رِسَالَة البديع تعرف الأسلوب غير أَنه غَيره فِي كَونه ابْتَدَأَ من أول الدُّنْيَا إِلَى الطّرف الآخر والبديع ابْتَدَأَ من الطّرف الآخر وَهَذِه رِسَالَة البديع كَمَا ترَاهَا وَسبب إنشائها أَنه ذكر يَوْمًا البديع فِي مجْلِس ابْن فَارس فَقَالَ كلا مَا مَعْنَاهُ أَن البديع نسي حق تعليمنا إِيَّاه وعقنا وشمخ بِأَنْفِهِ علينا فَالْحَمْد لله على فَسَاد الزَّمَان وَتغَير نوع الْإِنْسَان فَبلغ ذَلِك البديع فَكتب إِلَيْهِ مجاوبا نعم أَطَالَ الله بَقَاء الشَّيْخ إِنَّه المحأ الْمسنون وَإِن ظنت الظنون وَالنَّاس لآدَم وَإِن كَانَ الْعَهْد قد تقادم وتركبت الاضداد وَاخْتلف الميلاد وَالشَّيْخ الإِمَام يَقُول فسد الزَّمَان أَفلا يَقُول مَتى كَانَ صَالحا أَفِي الدولة العباسية فقد رَأينَا آخرهَا وَسَمعنَا أَولهَا أم الْمدَّة المروانية وَفِي أَخْبَارهَا لَا يكسع الشول بأغبارها أم السنين الحربية وَالرمْح يركز فِي الكلا وَالسيف يغمد فِي الطلا ومنبت حجر بالفلا والحربان وكربلا أم الْبيعَة الهاشمية وَالْعشرَة تراس من بني فراس أم الْأَيَّام الأموية والنفير إِلَى الْحجاز والعيون فِي الإعجاز أم الْإِمَارَة العدوية وصاحبها يَقُول وَهل بعد البزول إِلَّا النُّزُول أم الْخلَافَة التيمية وَهُوَ يَقُول طُوبَى لمن مَاتَ فِي نأنأة الْإِسْلَام أم على عهد الرسَالَة وَيَوْم الْفَتْح قيل اسكني يَا فُلَانَة فقد ذهبت الْأَمَانَة أم فِي الْجَاهِلِيَّة ولبيد يَقُول
(وَبقيت فِي خلف كَجلْد الأجرب ... )
أم قبل ذَلِك وأخو عَاد يَقُول
(بِلَاد بهَا كُنَّا وَكُنَّا نحبها ... إِذْ النَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان)
أم قبل ذَلِك ويروى عَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام(1/427)
(تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمن عَلَيْهَا ... وَوجه الأَرْض مسود قَبِيح)
أم قبل ذَلِك وَالْمَلَائِكَة تَقول أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا مَا فسد النَّاس بل اطرد الْقيَاس وَلَا أظلمت الْأَيَّام بل امْتَدَّ الظلام وَهل يفْسد الشَّيْء إِلَّا عَن صَلَاح ويمسي الْمَرْء إِلَّا عَن صباح ولعمري إِن كَانَ كرم الْعَهْد كتابا يرد وجواباً يصدر أَنه لقريب الْمِثَال سهل المنال وإنني على توبيخه لي لفقير إِلَى لِقَائِه شفيق إِلَى بَقَائِهِ منتسب إِلَى ولائه شَاكر لآلائه إِلَى كَلَام آخر يتخضع لَهُ فِيهِ ويتملق وَالْغَرَض المسوق لَهُ الْكَلَام قد انْتهى بعون الله وَحسن توفيقه وَكَانَت وَفَاة أويس فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ أَيُّوب بن أَحْمد بن أَيُّوب الْأُسْتَاذ الْكَبِير الْحَنَفِيّ الخلوتي الصَّالِحِي أصل آبَائِهِ من الْبِقَاع العزيزي وَنسبه مُتَّصِل بسيدي عَليّ بن مُسَافر قدس الله سره ولد صَاحب التَّرْجَمَة وَنَشَأ بصالحية دمشق واشتغل فِي أَنْوَاع الْعُلُوم على جدي القَاضِي محب الدّين والمنلا نظام والمنلا أبي بكر السنديين وَعبد الْحق الْحِجَازِي وَأخذ الحَدِيث عَن الْمُحدث المعمر إِبْرَاهِيم بن الأحدب وَصَحب فِي طَرِيق الخلوتية الْعَارِف بِاللَّه أَحْمد العالي وَأخذ عَنهُ التصوف وَصَارَ شيخ وقته حَالا وَقَالا وفريد عصره اسْتِيلَاء على الكمالات واشتمالاً وكلماته فِي التَّحْقِيق مَشْهُورَة مدونة وَله تحريرات ورسائل لَا يُمكن حصرها وَلَا ضَبطهَا وأكبر مَا روى لَهُ من الْآثَار رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا ذخيرة الْفَتْح ودونها عقيلة التفريد وخميلة التَّوْحِيد وذخيرة الْأَنْوَار وسميرة الأفكار ورسالة الْيَقِين وذخيرة الْمَرَض وَمَا ينتجه من الْمعَانِي والرسالة الأسمائية فِي طَرِيق الخلوتية وذخيرة الْمَكْر الإلهي ورسالة التَّحْقِيق فِي سلالة الصّديق وَجمع جزأ لمشايخه فِي الحَدِيث وَاتفقَ كل من عاصره أَنه لم ير أحد مثله جمع بَين علمي الشَّرِيعَة والحقيقة وَبلغ الْغَايَة فِي كل فن من الْفُنُون وَأَخْبرنِي عَنهُ بعض الثِّقَات أَنه كَانَ يَقُول أعرف ثَمَانِينَ علما يعرف النَّاس بَعْضًا مِنْهَا بِالْحَقِيقَةِ وبعضاً بِالِاسْمِ وَالْبَعْض الآخر يجهلونه رَأْسا وَولي الْإِمَامَة بِجَامِع السُّلْطَان سليم بالصالحية وَكَانَ حسن الصَّوْت وَالْقِرَاءَة عَارِفًا بالموسيقى وَحج مرَّتَيْنِ وسافر إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتّ مَرَّات واستدعاه السُّلْطَان إِبْرَاهِيم للاجتماع بِهِ فِي سنة خمسين فَتوجه إِلَيْهِ وَاجْتمعَ بِهِ ودعا لَهُ وَعَاد وَكَانَ يَقُول قد أظلمت فِي وَجْهي الدُّنْيَا مُنْذُ خرجت من دمشق حَتَّى عدت إِلَيْهَا وَكَانَت أَحْوَاله غَرِيبَة جدا من التَّوَاضُع وَترك التَّكَلُّف وَحسن الْمُعَامَلَة إِلَى(1/428)
الْغَايَة وَكَانَ لَهُ الْكَشْف الصَّرِيح وَهُوَ لِسَان ابْن عَرَبِيّ وَسمعت الْفَقِيه الأديب إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن أَمِين الْفَتْوَى بِدِمَشْق الْمُقدم ذكره يَقُول إِنِّي كنت نظمت قصيدة مدحته بهَا ومطلعها
(دَعوه يكابد أشواقه ... فقد أَكثر الوجد أحراقه)
قَالَ وَكنت لم أنْشد لأحد مِنْهَا شَيْئا فصادفت الشَّيْخ أَيُّوب دَاخِلا من بَاب العنبرانيين إِلَى الْجَامِع الْأمَوِي فبادرني بإنشاد مطْلعهَا هَذَا فتعجبت من ذَلِك وظننت أَنِّي مَسْبُوق بِهِ فَقَالَ لي أنظمت شَيْئا من هَذَا الروي وَالْوَزْن فَقلت لَهُ نعم فَقَالَ فِي اللَّيْلَة الْمَاضِيَة أنشدتني قصيدة هَذَا مطْلعهَا اذْهَبْ وائتني بهَا وَله من هَذَا الأسلوب وقائع كَثِيرَة وَرُوِيَ عَنهُ أَنه رأى الشَّيْخ ابْن عَرَبِيّ وعَلى أبوابه حجب كَثِيرَة نَحْو الْأَرْبَعين فَدَخلَهَا وَلم يمنعهُ أحد من الْحجاب فَلَمَّا كشفها وَوصل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ أَنْت على قدمي يَا أَيُّوب وَلَا أعلم أحدا دخل عَليّ غَيْرك وَرَأى النَّبِي
والسادة الْعشْرَة مَعَه وَهُوَ يَقُول لِابْنِ عَمه عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قل لأيوب طُوبَى لعصر أَنْت فِيهِ وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي همزيته الَّتِي أَولهَا
(يَا عريبا حموا حمى الجرعاء ... )
وَكَانَ ملازماً فِي جَمِيع أوقاته على قَول لَا إِلَه إِلَّا الله حَتَّى امتزجت بِهِ فَكَانَ إِذا نَام يسمع هديره وَكَانَ يَقُول لَو كنت فِي مبد أَمْرِي اعْلَم مَا فِي لَا إِلَه إِلَّا الله من الْإِسْرَار مَا طلبت شَيْئا من الْعُلُوم وَذكر فِي رسَالَته الأسمائية أَن أسْرع الْأَذْكَار نتيجة لَا إِلَه إِلَّا الله وَقِرَاءَة سُورَة الْإِخْلَاص إِلَّا أَن هَذِه السُّورَة أورادها أقهر للنَّفس الأمارة وَأَشد تَأْثِيرا فِي فنائها فَهِيَ أولى للمتوسط فِي سلوك الطَّرِيقَة بعد ظُهُور نتائج كلمة التَّوْحِيد وَكَانَ مغرماً بالجمال الْمُطلق لَا يفتر وَلَا يمل من التعشق والتوله وَفِي ذَلِك يَقُول
(قَالَ الْمُحَقق أَن القطب يعشق مَا ... بدا لَهُ من جمال قلت قد صدقا)
(وَأَن تفِيد فَقل أصل الْجمال بِهِ ... مخيم لَا تلوم الْفَرْع إِن لَحقا)
وَقَالَ أَيْضا
(قد لامني الْخلق فِي عشق الْجمال وَمَا ... يدروا مرادي فِيهِ آه لَو عرفُوا)
(وصلت مِنْهُ إِلَى الْإِطْلَاق ثمَّ سرى ... سرى إِلَى قيد حسن عَنهُ قد وقفُوا)
وَكَانَ يَقع لَهُ فِي بَاب الْعِشْق أَحْوَال مقرونة بكرامات وَمن أشهرها مَا حدث بِهِ بعض الثِّقَات أَن الشَّيْخ حضر لَيْلَة عِنْد بعض خلانه وَكَانَ فِي الْمجْلس غُلَام بارع(1/429)
الْجمال فَلَمَّا أَرَادوا النّوم طلب الشَّيْخ صَاحب التَّرْجَمَة مضاجعته فَأنْكر عَلَيْهِ بعض الجلساء وَالْتزم مراقبته فِي ليلته ثمَّ اقْتضى خُرُوج الرجل فِي أثْنَاء اللَّيْل إِلَى خَارج الدَّار فصادف الشَّيْخ قَائِما يُصَلِّي وحقق شخصه ثمَّ دخل فَرَآهُ نَائِما وتكرر مِنْهُ فعل ذَلِك مرَارًا فَألْقى أَعِنَّة التَّسْلِيم وَرجع عَن إِنْكَاره وَهَذَا من صِفَات الْبَدَلِيَّة فَإِن الْأَوْلِيَاء يكونُونَ فِي مَكَان وشبههم فِي مَكَان آخر وَقد تكون تِلْكَ الصّفة الْكَشْف الصُّورِي الَّذِي ترفع فِيهِ الجدران وينتفي الاستطراف وَوَقع لَهُ نوع من هَذَا فِي الْخلْوَة بِجَامِع السليمية أَنه كبر وَعظم فِي الْخلقَة حَتَّى مَلأ الْخلْوَة رَآهُ على هَذِه الْحَالة بعض حفدته من الْعلمَاء وَأَظنهُ شَيخنَا عبد الْحَيّ العكري الصَّالِحِي رَحمَه الله تَعَالَى وَمن غَرِيب مَا وَقع لَهُ أَنه سحر فَعدم الْقَرار فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس فِي السليمية فِي شباكها القبلي وَإِذا بِرَجُل طَوِيل الْقَامَة لم يره قبل ذَلِك الْيَوْم فَقَالَ لَهُ ائْتِنِي بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس فَأَتَاهُ بهما ثمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ مَا أمليك وَهُوَ باسم الله باديخ بِسم الله بيدوخ بِسم الله شمادخ بِسم الله شموخ بِسم الله برخوي بِسم الله بانوخ قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر إِن الله سيبطله إِن الله لَا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الْحق بكلماته وَلَو كره المجرمون يَد الله فَوق أَيْديهم وعصا مُوسَى بَين أَعينهم كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين فأغشيناهم فهم لَا يبصرون شَاهَت الْوُجُوه شَاهَت الْوُجُوه وعنت الْوُجُوه للحي القيوم وَقد خَابَ من حمل ظلما سُبْحَانَ الْملك القدوس مَالك الْملك ثمَّ قَالَ لَهُ يَكْفِي هَذَا الْقدر فَإِذا كَانَ عَلَيْك أَو على أحد سحر فَاكْتُبْ مِنْهُ نسختين تحمل وَاحِدَة وتغتسل بِالْأُخْرَى وَمن فَوَائده فِي رسَالَته الْأَنْوَار الْمرتبَة الثَّالِثَة أَو عَلمته أحدا من خلقك أَي ابْتِدَاء من غير أَن تكون لَهُ سلما أَو معراجاً أَي يكون لَهُ ذَلِك كمن يذكر اسْما من أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ فَيرجع فِي التجلي باسم آخر لم يعهده فيذكره فيتجلى عَلَيْهِ مِنْهُ غرائب وَرُبمَا أنكر عَلَيْهِ بعضه وَالْأول كثير وَمِنْه مَا وَقع للغوث الْهِنْدِيّ وَجمع مِنْهُ الْجَوَاهِر الْخمس وَهِي الْآن فِي عصرنا هَذَا لَا سِيمَا فِي مَكَّة قد اشتهرت واجتمعنا بِأَهْلِهَا وسلموا لنا بعد الامتحان ظنا مِنْهُم أَنَّهَا لم تصل إِلَيْنَا وَكَانَت قد وصلت إِلَيْنَا قبلهم فأخرجوا ثَلَاثِينَ كراساً قد شرحت فِيهَا الْجَوَاهِر الْخمس فأمليتهم إِيَّاهَا ثمَّ أمليتهم مَا فِيهَا فِي أدنى من سَاعَة رملية جملا جملا فَلم يستطيعوا بعد ذَلِك احتجاباً عني وَإِذا احْتَجَبت عَنْهُم لمصْلحَة طلبوني طلبا حثيثاً وَذَلِكَ أَنِّي لما عرفت وَنزلت إِلَى مَكَّة جَلَست تجاه(1/430)
الْكَعْبَة المشرفة مشاهداً لَهَا فَبَيْنَمَا أَنا فِي حَالَة اعترتني وَإِذا بشاب وقف عَليّ وسألني فَقلت لَهُ هَذَا الَّذِي تسْأَل عَنهُ أطلبه من غَيْرِي فَسَأَلَ الْغَيْر فدله عَليّ فَقَالَ قُم معي فَإِن جمَاعَة يدعونك إِلَى عِنْدهم فَذَهَبت إِلَيْهِم فحين جَلَست كتب وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ الشَّيْخ مهنا من حَضرمَوْت الْيمن أبياتاً أرجوزة تقَارب خَمْسَة عشر بَيْتا يسألني عَن ثَلَاث مسَائِل مَا القطب الْأَكْبَر وَمَا الْخَتْم المحمدي وَمَا معنى قَول بعض الْمُحَقِّقين الْإِنْسَان الْكَامِل يعمر كل منزل ثمَّ قدمُوا إِلَيّ دَوَاة وقلما وقرطاساً فسميت الله تَعَالَى وغمست الْقَلَم وكتبت مائَة وَثَمَانِينَ بَيْتا من بَحر الرجز أَيْضا لم يقف الْقَلَم فِيهَا فَأَخَذُوهَا ورأوها من الكرامات الَّتِي يكرم الله بهَا عباده المضافين إِلَيْهِ فبيضوها وكتبوها بالورق الْحَرِير ثمَّ إِنَّهُم لزموني لُزُوم الظل وَلَا زَالُوا فِي هَذِه مَعنا إِلَى أَن خرجت من مَكَّة ولي مَعَهم أُمُور عَجِيبَة إِلَى الْآن يعلمهَا الله وكما وَقع للشَّيْخ الْأَكْبَر فِي كِتَابه طب الْمَرْء من نَفسه وتعريبه الْأَسْمَاء الْهِنْدِيَّة وَهُوَ كتاب بديع غَرِيب الْمظهر انْتهى وَقَالَ فِيهَا أَيْضا وَلَقَد رَأَيْت فِي واقعتي لَيْلَة تقييدي لأبيات من همزيتي فِي مدحه
وَهِي قصيدة تزيد على أَرْبَعمِائَة بَيت والتزمت فِي كل بَيت جناسين من سَائِر أَنْوَاعه مَا خلا الْأَنْوَاع البديعية وَكنت فِي تِلَاوَة ورد الصُّبْح فَجَاءَت المبشرة مثل فلقها وَصورتهَا أَنه تراآى لي شَجَرَة كَمَا ذكر الله سُبْحَانَهُ أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء يَغْشَاهَا من الْأَنْوَار كَمَا يُقَال الرَّقَائِق الشمسية فطلبت فِي الْحَال مَا وَرَاءَهَا فأغشيتها وَرَأَيْت خلفهَا فضاء وَاسِعًا لَا حد لَهُ وَلَا نِهَايَة فَإِذا بِحَضْرَة الرَّسُول
قد أقبل إِلَى الْجِهَة الَّتِي العَبْد فِيهَا وَمَعَهُ خلق لَا يحصيهم إِلَّا الله تَعَالَى وشعاع الْأَنْوَار سَاطِع من سَائِر مسام جسده الشريف وَكَانَ لي عَادَة مَعَه فِي الوقائع إِذا رَأَيْته انكب عَليّ فَيكون رَأسه الشريف فَوق رَأْسِي وصدره الشريف فَوق صَدْرِي وَيَضَع يَدَيْهِ الشريفتين على ظَهْري وَيَقُول لي بَارك الله فِيك وَفِي عصر أَنْت فِيهِ وَللَّه الْحَمد على مَا حصل من فيض فَضله
وَسُئِلَ عَن معنى قَول الْقَائِل
(رَأَتْ قمر السَّمَاء فأذكرتني ... ليَالِي وصلنا بالرقمتين)
(كِلَانَا نَاظر قمراً وَلَكِن ... رَأَيْت بِعَينهَا وَرَأَتْ بعيني)
فَأجَاب معنى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ أَن المرئي الَّذِي هُوَ قمر السَّمَاء بِعَين المحبوبة ذَا ذكر الْمُحب اللَّيَالِي الَّتِي حصل لَهُ بهَا وصل هَذِه المحبوبة الَّتِي رَأَتْ قمر السَّمَاء فَكل مِنْهُمَا نظر(1/431)
قمراً من باله وَلَكِن المحبوبة لما رَأَتْ ورؤيتها أذكرته رُؤْيَته إِيَّاهَا تِلْكَ اللَّيَالِي قمراً ادّعى أَنه رأى بِعَينهَا إِذْ لَا قمر عِنْده إِلَّا هِيَ وَهُوَ إِذا رأى الْقَمَر فقد رَآهَا وَهِي أَيْضا رَأَتْ بِعَيْنِه فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عينه إِلَّا هِيَ الَّتِي هِيَ الْقَمَر المرئي مُطلقًا فَهُوَ معنى ادعائي فِي الرؤيتين وَهَذَا أحد الْوُجُوه فِي معنى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَسُئِلَ عَن معنى قَول بَعضهم فِي القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي مطْلعهَا
(إِلَيْك وجهت وَجْهي لَا إِلَى الطلل ... )
مِنْهَا
(يَا عين عِيسَى وَيَا لَام الْخَلِيل وَيَا ... يَاء الْحَقِيقَة يَا موحي إِلَى الرُّسُل)
فَأجَاب
(عين عِيسَى روح الْإِلَه تَعَالَى ... ثمَّ لَام الْخَلِيل روح لعَيْنِي)
(روح هَذَا روح بَدَت لمثال ... من مليك لجبرئيل الْأمين)
(وبروح الْخَلِيل معنى لطيف ... جَامع للوداد للمظهرين)
(وبياء الْحَقِيقَة السرّ باد ... عِنْدهَا فِي لَطِيفَة النقطتين)
(يَا عليا عَن السوى كن لقلبي ... موحياً للأسرار من غير مين)
وقرأت بِخَطِّهِ هَذِه الأبيات ذكر أَنه توسل بقلب القطب الْغَوْث فَرد الزَّمَان
(إلهي بِالْقَلْبِ الَّذِي حَاز نظرة ... فأحياه ذَاك اللحظ بعد مماته)
(وصيره صبا صَبأ لحبيبه ... بعشقته للذات بعد صِفَاته)
(وَلَا زَالَ هَذَا دأبه فِي حَيَاته ... إِلَى أَن أَتَاهُ الرّوح عِنْد وَفَاته)
(وخاطبه سرا لتخلص لامه ... من الْألف الغراء بعد ثباته)
(فخلصه مِنْهُ وخصصه بِهِ ... ورقاه فِي الْمِعْرَاج لَيْلًا بِذَاتِهِ)
(وَقَالَ لَهُ عَبدِي أبحت مشاهدي ... لخاطرك المنتاب من رشفاته)
(أنلني من هَذَا الْمقَام رقيقَة ... تمد فُؤَادِي قُوَّة فِي ثباته)
وَمن غزلياته قَوْله
(لَا تسألوا عَن أَسِير شفه الشغف ... فالحال يخبر عَنهُ فَوق مَا وصفوا)
(إِنِّي غَرِيم غرام والهوى وطني ... وَلست عَنهُ مدى الْأَيَّام أنحرف)
(وَكَيف يصرف من قد صَار فِي زمن ... لَهُ شوامته من صدقه اعْتَرَفُوا)
(يخْتَار حَال الْهوى فِي سيره وَله ... فِي عقله وَله والدمع منذرف)
(إِذا تذكر يَوْم الْبَين خالطه ... مَا لَيْسَ يعرفهُ من الْهوى عرفُوا)
(يَقُول وَهُوَ لبلواه على رَمق ... وَالْعقل منزعج وَالْقلب منزعف)
(أرى الطَّرِيق قَرِيبا حِين أسلكه ... إِلَى الحبيب بَعيدا حِين أنصرف)(1/432)
وَقَوله
(وَلَيْلَة بت فِيهَا لَا أرى غيرا ... مَعَ شادن وَجهه قد أخجل القمرا)
(نادمته قَالَ هَات الكأس قلت لَهُ ... جلّ الَّذِي لافتضاحي فِيك قد سترا)
(وَقمت أرشف من ريق المدام وَمن ... مدام ريق وأقضي فِي الْهوى وطرا)
(ولفنا الشوق فِي ثوبي نقى وَهوى ... وَطَالَ بالوصل لي وَاللَّيْل قد قصرا)
وَأكْثر شعره مَوْجُود فِي أَيدي النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِكْثَار مِنْهُ هُنَا لَكِن نذْكر من حكمه وكلماته مَا يستظرف فَمن ذَلِك قَوْله الخمول يُورث الْحجب والشهرة تورث الْعجب لَيْسَ الْعَارِف من ينْفق من الجيب بل الْعَارِف من ينْفق من الْغَيْب من صدقت سَرِيرَته انفتحت بصيرته من قنع من الدُّنْيَا باليسير هان عَلَيْهِ كل عسير من لم يكمل عقله لَا يُمكن نَقله من صدق مقاله استقام حَاله الْأَخ من يعرف حَال أَخِيه فِي حَيَاته وَبَعْدَمَا يواريه كل من الْخلق أَسِير نَفسه وَلَو كَانَ طلبه حَضْرَة قدسه مُعَاملَة الْإِنْسَان دَلِيل على ثُبُوت الْإِيمَان لَا ينَال غَايَة رِضَاهُ إِلَّا من خَالف نَفسه وهواه من عَلامَة أهل الْكَمَال عدم الثُّبُوت على حَال وَمن وَصَايَاهُ الجامعة مَا أوصى بِهِ أحد أَوْلَاده وَهِي مَا أَحْبَبْت أَن يعاملك بِهِ فعامل بِهِ خلقه وَبِالْجُمْلَةِ فآثاره وأخباره كَثِيرَة والعنوان يدل على الطرس وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْأَرْبَعَاء مستهل صفر سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس الْمَعْرُوفَة بتربة الغرباء وَقيل فِي تَارِيخ مَوته الشَّيْخ أَيُّوب قطب رَحمَه الله تَعَالَى
(حرف الْبَاء)
السَّيِّد باكير بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب الْحلَبِي السَّيِّد الْأَجَل الْفَاضِل الأديب النَّاظِم الناثر كَانَ عَارِفًا باللغة وَالْأَدب حق الْمعرفَة وَلم يكن فِي حلب من أدباء عصره أَكثر رِوَايَة مِنْهُ للنظم والنثر قَالَ البديعي فِي وَصفه لَهُ كَلِمَات من النمط العالي فَكَأَنَّمَا عناه بقوله الميكالي
(إِن كَلَام بن أَحْمد الحسني ... آسى كَلَام الهموم والحزن)
(سحر وَلَكِن حكى الصِّبَا سحرًا ... فِي لطفه غب عَارض هتن)
قَالَ وَجرى ذكر نجابته لَيْلَة فِي مجْلِس شَيخنَا النَّجْم الحلفاوي فَرَأى فِي مَنَامه كَأَن رجلا ينشده هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(باكير فاق على الأقران مرتقياً ... أوج الْمَعَالِي فَلَا قرن يدانيه)(1/433)
(وَالْفرع إِن أثمرت أَيدي الْكِرَام بِهِ ... فَالْأَصْل من كوثر الإفضال يسْقِيه)
قلت وَقد مدحه بعض الأدباء بقوله
(إِذا رمت تلقى ذَات علم تكوّنت ... وتروي حَدِيث الْفضل عَن أوحد الدَّهْر)
(فعرج على ذَات العواصم قَاصِدا ... سليل العلى نجل الْكِرَام أَبَا بكر)
دأب فِي تَحْصِيل المعارف حَتَّى رقى ذرْوَة من الْفضل عَلَيْهِ وَكَانَ أَكثر اشْتِغَاله على وَالِده وَقَرَأَ على غَيره وتعانى صناعَة النّظم وشعره حسن الرونق بديع الأسلوب وَأَخْبرنِي من كَانَ يَدعِي معاشرته لَهُ وقُوف على حَاله أَن أَكثر شعره منحول من شعر وَالِده من جيد شعره قَوْله من قصيدة
(لَاحَ الصَّباح كزرقة الألماس ... فلتصطبح ياقوت در الكاس)
(من كف أهيف صان ورد خدوده ... بسياج خطّ قد بدا كالآس)
(فَكَانَ مرْآة البديع صحيفَة ... لِلْحسنِ جدولها من الأنفاس)
(فِي رَوْضَة قد صَاح فِيهَا الديك إِذْ ... عطس الصَّباح مشمت العطاس)
(ضحِكت بهَا الأزهار لما أَن بَكت ... عين الْغَمَام القاتم الْعَبَّاس)
(ورقى بهَا الشحرور أغصاناً غَدَتْ ... بتموج الأرياح فِي وسواس)
(والورد تحمده البلابل هتفاً ... من فَوق غُصْن قوامه المياس)
(وَيرى البنفسج عجبه فَيَعُود من ... حسد لسطوته ذليل الراس)
(والطل حل بهَا كدمع متيم ... لمعاهد الأحباب لَيْسَ بناس)
(فتظن ذَا ثغراً وَذَا عينا وَذَا ... خداً لغانية كظبي كناس)
(واحمر خد شقائق مخضلة ... حميت بِطرف النرجس النعاس)
(حسداً لخد الطرس لما أَن غَدا ... خطّ القريض بمدح فضلك كاس)
وَقَوله مضمناً
(بك صرح العلى سَام عماده ... وكذاك الْكَمَال وار زناده)
(إِن كل الْأَنَام من نَاظر الدَّهْر بَيَاض ... وَأَنت مِنْهُ سوَاده)
(قد غرقنا من فيض فضلك فِي ... أمواج بَحر تَتَابَعَت أزباده)
(وَإِذا الْفِكر لم يحط بمعاليك جَمِيعًا ... وخاب فِيك اجْتِهَاده)
(فاعتذاري بِبَيْت ندب همام ... مَا كبا فِي ميدان فضل جَوَاده)
(إِن فِي الموج للغريق لعذراً ... وَاضحا أَن يفوتهُ تعداده)(1/434)
وَمن مقاطيعه قَوْله فِي تَشْبِيه ثَلَاث شامات على نمط
(فِي جَانب الخد وَهِي مصفوفة ... كَأَنَّهَا أنجم الذِّرَاع بَدَت)
وَقَوله
(فِي خَدّه القاني المضرج شامة ... قد زيد بالشعرات باهر شانها)
(كلهيب جمر تَحت حَبَّة عنبر ... قد أوقدت فَبَدَا زكيّ دخانها)
وَأنْشد لَهُ البديعي قَوْله من قصيدة فِي الْمَدْح
(تهلل وَجه الْفضل وَالْعدْل بالبشر ... وَأصْبح شخص الْمجد مبتسم الثغر)
وَمِنْهَا
(فيا لَك من مولى بِهِ الشّعْر يزدهي ... إِذا مَا ازدهت أهل المدائح بالشعر)
(فريد الْمَعَالِي لَا يرى لَك ثَانِيًا ... من النَّاس إِلَّا من غَدا أَحول الْفِكر)
معنى الْبَيْت الأول مطروق وَأَصله قَول أبي تَمام
(وَلم أمدحك تفخيماً بشعري ... وَلَكِنِّي مدحت بك المديحا)
وَأَبُو تَمام أَخذه من قَول حسان فِي النَّبِي
(مَا إِن مدحت مُحَمَّدًا بمقالتي ... لَكِن مدحت مَقَالَتي بِمُحَمد)
وَالْبَيْت الثَّانِي مَأْخُوذ من قَول بَعضهم
(إِن من يُشْرك بِاللَّه ... جهول بالمعاني)
(أَحول الْفِكر لهَذَا ... ظن للْوَاحِد ثَانِي)
وَله ويروى لوالده
(صدر الْوُجُود وَعين هَذَا الْعَالم ... وملاذ كل أخي كَمَال عَالم)
أَيْضا
(إِن لم تكن لِذَوي الْفَضَائِل منقذاً ... من جور دهر فِي التحكم ظَالِم)
(فبمن نلوذ من الزَّمَان وَبَاب من ... ننتاب فِي الْأَمر المهم اللَّازِم)
(فَبِحَق من أَعْطَاك أرفع رُتْبَة ... أضحى لَهَا هَذَا الزَّمَان كخادم)
(وحباك من سلطاننا بمواهب ... تركت حسودك فِي الحضيض القاتم)
(فَإِذا تتوج كنت درة تاجه ... وَإِذا تختم كنت فص الْخَاتم)
(إِلَّا نظرت بِعَين عطفك نحونا ... وَتركت فيهم كل لومة لائم)
(ورعيت فِي داعيك نسبته إِلَى ... خير الْبَريَّة من سلالة هَاشم)
(فالوقت عَبدك طوع أَمرك فاحتكم ... فيمَ تشَاء فَأَنت أعدل حَاكم)
قلت هَكَذَا أَنْشدني لَهُ هَذِه الأبيات صاحبنا المرحوم عبد الْبَاقِي بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن السمان الدِّمَشْقِي وَذكر لي أَنه أَخذ قَوْله فَإِذا تتوج إِلَى آخِره من قَول أبي الْحُسَيْن العرضي الْعلوِي
(كَأَنَّمَا الدَّهْر تَاج وَهُوَ درته ... وَالْملك وَالْملك كفٍّ وَهُوَ خَاتمه)(1/435)
أَو لم يدر مَعَ سَعَة اطِّلَاعه أَن الْبَيْت برمتِهِ لأبي الطّيب فِي قصيدته الَّتِي أَولهَا
(أَنا مِنْك بَين فَضَائِل وَمَكَارِم ... وَمن ارتياحك فِي غمام دَائِم)
وَقد أطلنا الْكَلَام حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمقَام وَبِالْجُمْلَةِ ففضل صَاحب التَّرْجَمَة غير خَفِي بل هُوَ أجلى من الْجَلِيّ وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف بحلب رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ بَرَكَات بن تَقِيّ الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الكيال الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي خطيب الصابونية كَانَ شَيخا صَالحا قَارِئًا مجوداً حسن السمت والاعتقاد يحب الطّيب وَيكثر التطبب أَخذ القراآت عَن شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق الشهَاب الطَّيِّبِيّ وَولده وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن قِرَاءَة حَسَنَة وَولي خطابة الصابونية بعد ابْن عَمه ولي الدّين وناب فِي إِمَامَة الْجَامِع الْأمَوِي عَن ابْن الطَّيِّبِيّ الْمَذْكُور ولازم الْمحيا بالجامع الْأمَوِي وجامع الْبزورِي بمحلة قبر عَاتِكَة خَارج دمشق فِي زمن شيخ الْمحيا عبد الْقَادِر بن سوار وَكَانَ يقْرَأ الْعشْر الْمُعْتَاد من سُورَة الْأَحْزَاب فِي الْمحيا وَكَانَ بَيته بِالْقربِ من الْجَامِع قَرِيبا من بَيت منجك وَأكْثر أوقاته يُقيم بالجامع فِي الْحُجْرَة الصَّغِيرَة الَّتِي كَانَت بيد شَيْخه الطَّيِّبِيّ ثمَّ وَلَده عِنْد بَاب جبرون من جِهَة الْقبْلَة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير قلت وَابْن عَمه ولي الدّين الْمَذْكُور هُوَ وَالِد جدة أبي لَامة وَله أوقاف دارة وَأَنا الْآن صَاحب نصيب وافر من خَيرهَا وَأَبُو شمس الدّين مثله صَاحب إدرارات وكلا الوقفين نصف نظارتهما عَليّ جزاهم الله عني خيرا وَبِاللَّهِ الِاسْتِعَانَة
الشريف بَرَكَات بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن بَرَكَات بن أبي نمي بن بَرَكَات الشريف الحسني صَاحب مَكَّة وبلاد الْحجاز ونجد وَكَانَ من أمره لما توفّي الشريف زيد بن محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن وَقَامَ بِالْأَمر بعده الشريف سعد بعد أَن وَقعت بِمَكَّة رجة عَظِيمَة فِيمَن يتَوَلَّى بَين الشريف سعد والشريف حمود بن عبد الله وَقَامَ كل مِنْهُمَا وَجمع الجموع وتحصنوا بِالْبُيُوتِ والمنائر وانضم الْأَشْرَاف إِلَى الشريف حمود وَلم يبْق مَعَ الشريف سعد إِلَّا مبارك بن مُحَمَّد الْحَرْث وراجح بن قايتباي وَعبد الْمطلب ابْن مُحَمَّد وَمُضر بن المرتضى وَالسَّيِّد حُسَيْن بن يحيى وَفَارِس بن بَرَكَات وَمُحَمّد بن أَحْمد ابْن عَليّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُنَادِي لِأَن من قَوَاعِد الْأَشْرَاف أَنه إِذا أولى أحدهم الْإِمَارَة مَشى شرِيف مِنْهُم مَعَ المنادى ليحميه مِمَّن يتَطَرَّق إِلَيْهِ من الْأَشْرَاف(1/436)
المبارزين حالتئذ وَكَانَ بِمَكَّة إِذْ ذَاك عماد أَمِير جدة وَشَيخ الْحرم فَردُّوا الْأَمر إِلَيْهِ فأخضر خلعة عِنْده وَالرسل تسْعَى من الشريف سعد إِلَيْهِ فاتفق الرَّأْي أَن يلبس الخلعة الشريف سعد فلبسها فِي بَيته وَكَانَ مجْلِس عماد فِي دكة عِنْد بَاب رِبَاط الداودية فَبعد أَن أخذت الخلعة قيل لَهُ أَن ابْن زيد مُحَمَّد يحيى هُوَ ولي الْعَهْد لِأَن وَالِده أخرج لَهُ مرسوماً سلطانياً بذلك فَقَالَ لمن أَخذ الخلعة قُولُوا للشريف سعد بِشَرْط أَنَّك قَائِم مقَام أَخِيك فَبعد أَن ذَهَبُوا بالخلعة وَمَشوا بهَا قَلِيلا دخل الْمَسْجِد من بَاب بني سهم الْمُسَمّى بِبَاب الْعمرَة جمَاعَة من الْأَشْرَاف مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله ومبارك بن فضل بن مَسْعُود وَعبد الله بن أَحْمد وَمُحَمّد بن أَحْمد بن حراز فِي نَحْو عشرَة أشخاص فوقفوا على عماد فَقَالَ لَهُم نَحن ألبسنا الشريف سعد بِشَرْط أَنه قَائِم مقَام أَخِيه فَقَالَ لَهُ السَّيِّد مبارك نَحن حمود شَيخنَا وَكَبِيرنَا وَلَا نرضى إِلَّا بِهِ وَكَانَ عِنْد عماد رَاجِح بن قايتباي من جَانب الشريف سعد فَوَقع بَينهمَا كَلَام طَوِيل ثمَّ ذهب الْأَشْرَاف وَالْخَيْل إِلَى حمود فَخرج عَلَيْهِم متعمماً بعمامة زرقاء فَجَلَسَ لَحْظَة ثمَّ قَامَ للنزول إِلَى تجهيز الشريف زيد وَمَعَهُ نَحْو ثَلَاثَة من بني عَمه فَلَمَّا كَانَ فِي الدرج أقبل عَلَيْهِ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَرْث فَوقف لَهُ حمود وَقَالَ لَهُ لَا قطع الله هَذِه الزائلة فَأَجَابَهُ بقوله إِذا جاءتك الرِّجَال كن زيره فَرده وَرجع مَعَه وَلم يذهب إِلَى مَا كَانَ قَصده ثمَّ جهز الشريف زيد وَأخرج إِلَى الْمَسْجِد بعد صَلَاة الظّهْر وَخرج فِي جنَازَته من الْأَشْرَاف وَلَده حسن وَآخر من بني عَمه وَلم يخرج أحد من الْعَسْكَر والاتباع لاشتغالهم بِمَا هم فِيهِ وطلع مَعَه الْعَامَّة وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء وَجلسَ الشريف سعد للتهنئة بِالْملكِ ودعا مَشَايِخ الْعَرَب وَأَصْحَاب الْإِدْرَاك وألزم كلا بجهته ثمَّ فِي الْيَوْم الثَّالِث من موت الشريف زيد وَقع الِاتِّفَاق بَين سعد وحمود على قدر مَعْلُوم من الْمَعْلُوم وعينت جهاته وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما عِنْد النَّاس وَحصل بذلك الْأَمْن وَأمر الشريف سعد بالزينة ثَلَاثَة أَيَّام وَكتب محضراً وَعَلِيهِ خطوط الْأَعْيَان وأرسله مَعَ أحد تَوَابِع أَبِيه إِلَى مصر فَأرْسلهُ وَزِير مصر إِلَى السُّلْطَان وَكَذَلِكَ كتب السَّيِّد حمود محضراً لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا خطوط الْأَشْرَاف وارسله مَعَ رجل مصري يُقَال لَهُ الشَّيْخ عِيسَى فَقدر الله أَنه مَاتَ عقب دُخُوله مصر بيومين وَكَانَ ذَلِك لسعد سعد فوجدوا الْعرض فِي تركته وَلم يصل إِلَى مقْصده وَكَذَلِكَ السَّيِّد مُحَمَّد يحيى بن الشريف زيد أرسل محضراً من الْمَدِينَة وَعَلِيهِ خطوط أعيانها وَقد كَانَ وَالِده أخرج لَهُ مرسوماً(1/437)
سلطانياً كَمَا ذكرنَا فَلم يتَمَكَّن من تنفيذه دَرأ لملفسدة وَكَانَ لَا يحجّ مَعَ زيد غَالِبا كل سنة من أَوْلَاده إِلَّا حسن وَمُحَمّد يحيى وَكَانَ مُحَمَّد يحيى بِالْمَدِينَةِ فَطَلَبه لِلْحَجِّ فِي عَام مَوته فَامْتنعَ لأمر يُريدهُ الله فَلَمَّا بلغ زيدا قَالَ إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَكَانَ سعد فِي نَحْو الشرق فجَاء فِي ذَلِك الْعَام وتقرب من وَالِده وَحج مَعَه وَكَانَ من أَمر الله تَعَالَى مَا كَانَ واستمرّ النَّاس منتظرين خبر وُرُود الْأَمر السلطاني نَحْو سِتَّة أشهر إِلَى أَن وصل رَسُول السُّلْطَان بالخلعة لَهُ من غير شريك ودخلوا بهَا على معتادهم وقرىء المرسوم بِالْحرم وَاسْتقر لَهُ الْأَمر وَجلسَ للتهنئة وجاءه السَّيِّد حمود وَأَتْبَاعه من الْأَشْرَاف طائعين مظهرين لَهُ الوداد والصداقة وَكَانَ حمود فِي هَذِه الْمدَّة يطْلب مِنْهُ مَا يُرِيد فَيُجِيبهُ إِلَى طلبه ثمَّ حصل بَينهمَا تنافر فَخرج حمود يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسبعين وَأقَام بالجوخى وَكَانَ كثيرا مَا ينشد فِي خُرُوجه بَيْتا للسَّيِّد قَتَادَة المستشهد بِهِ فِي وَاقعَة لَهُ
(مصَارِع آل الْمُصْطَفى عدت مِثْلَمَا ... بدأت وَلَكِن صرت بَين الْأَقَارِب)
وَلم تزل الرُّسُل تسْعَى بَينهمَا فَلم يتَّفقَا على حَال وَتوجه حمود إِلَى وَادي مرو وَأقَام بِمن مَعَه من الْأَشْرَاف وأتباعهم وَسعد لم يستخفه الطيش وَتوجه بَعضهم إِلَى طَرِيق جدة فوجدوا القوافل فنهبوها وفيهَا أَمْوَال عَظِيمَة للحجاج والتجار والعسكر فَقطعت السبل وَارْتَفَعت الأسعار وَلما قدم الْحَاج الْمصْرِيّ إِلَى مَكَّة وأميره الْأَمِير أوزبك ركب حمود وَمن مَعَه من الْأَشْرَاف إِلَيْهِ وَدخل عَلَيْهِ وَمَعَهُ أَحْمد الْحَرْث وَبشير ابْن سُلَيْمَان فأنهوا إِلَيْهِ حَالهم وَعدم الْوَفَاء من سعد فِيمَا الْتَزمهُ لَهُم من معاليمهم وَقَالُوا إننا لَا نَدع أحدا يحجّ إِلَّا أَن نَأْخُذ مَا هُوَ لنا وَكَانَ قدر مائَة ألف أشرفي فالتزم لَهُم أَن ينفذ الشريف نصفهَا قبل الصعُود فقبلوا الْتِزَامه وخلوا سَبيله وَمن مَعَه فَلَمَّا دخل الْأَمِير مَكَّة خرج الشريف سعد على الْمُعْتَاد إِلَى المختلع فَلبس الخلعة ثمَّ كَلمه الْأَمِير فِيمَا الْتَزمهُ لحمود وَمن مَعَه فَقبل وَسلم خَادِم حمود الْخمسين ألفا قبل الصعُود ثمَّ لما كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشري ذِي الْحجَّة وصل حمود إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ السَّيِّد عبد الْمعِين بن نَاصِر بن عبد الْمُنعم بن حسن وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن الْحسن وَالسَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان بن مُوسَى بن بَرَكَات بن أبي نمي وَالسَّيِّد مبارك وَنَافِع ابْنا نَاصِر ابْن عبد الْمُنعم فِي جمع من الْأَشْرَاف والقواد للصلح بَين سعد وحمود وترددت الرُّسُل بَينهمَا وألزموهما بالحضور إِلَى القَاضِي فجَاء حمود وَحضر الْأُمَرَاء ووجوه أَرْكَان(1/438)
الدولة وعماد وأكابر الْعَسْكَر فَأرْسل سعد خادمه بِلَالًا وَكيلا عَنهُ فِي الْخُصُومَة وَالدَّعْوَى فاغتاظ حمود من ذَلِك وَأَرَادَ الفتك بِهِ فِي الْمجْلس فَذهب مسرعاً فَزعًا فَأرْسل عوضه أَخَاهُ مُحَمَّد يحيى وَكيلا وَادّعى على حمود بِمَا أَخذه فِي طَرِيق جده من الْأَمْوَال فَلم يثبت عَلَيْهِ ثمَّ طلب حمود أَن يتَوَجَّه إِلَى مصر وَيرْفَع أمره إِلَى السُّلْطَان فأذنوا لَهُ وَاتفقَ الْحَال على ذَلِك ثمَّ لما توجه الْحَاج الشَّامي وَسَائِر الْحجَّاج توجه مَعَهم حَتَّى وصل إِلَى بدر فَتخلف وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين توجه من بدر إِلَى يَنْبع فِي صفر وَأرْسل وَلَده أَبَا الْقَاسِم وَأحمد بن الْحَرْث وَولده مُحَمَّدًا ومعهما غَالب بن زامل بن عبد الله بن حسن وَجَمَاعَة من ذَوي عنقاء السَّيِّد بشير ابْن مُحَمَّد وظافر بن وَاضح وَمُحَمّد بن عنقاء وَولده وَأرْسل مَعَهم هَدِيَّة إِلَى وَزِير مصر عمر باشا نَحْو سِتَّة أَفْرَاس مِنْهُم البغيلة والكحيلة والهدباء فَسَارُوا إِلَى أَن بلغُوا الْحَوْرَاء الْمنزلَة الْمَعْرُوفَة فِي طَرِيق الْحَج فلاقاهم قَاصِدا إِبْرَاهِيم باشا الْمُتَوَلِي بعد صرف عمر باشا بمكاتيب متضمنة لِلْأَمْرِ بالإصلاح والاتفاق فَرجع غَالب صُحْبَة القاصد إِلَى مَكَّة لينْظر مَا يتم عَلَيْهِ الْحَال فأقاموا بالحوراء بِمَا مَعَهم نَحْو خَمْسَة عشر يَوْمًا ينتظرون فَلم يصل إِلَيْهِم خبر فَسَارُوا إِلَى مصر فَدَخَلُوهَا لَيْلَة المولد وَقدمُوا مَا مَعَهم من المقاود والمكاتيب لإِبْرَاهِيم باشا فأكرمهم وَزَاد فِي تعظيمهم وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى جُمَادَى الْآخِرَة وَلم يرجع القاصد من مَكَّة إِلَى مصر وَأشيع بهَا أَن الْأَشْرَاف قَتَلُوهُ فَأَشَارَ على الْوَزير بعض أكَابِر الدولة بِمصْر أَن يقبض على السَّيِّد أبي الْقَاسِم ابْن حمود وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد الْحَرْث فَأمر بنقلهما من مَحلهمَا الأول بقايتباي إِلَى بَيت الْأَمِير يُوسُف وَفِي هَذِه الْمدَّة طلب مُحَمَّد يحيى من أَخِيه سعد أَن يَجْعَل لَهُ محصول ربع الْبِلَاد وينادي لَهُ بهَا فَامْتنعَ من ذَلِك فَغَضب الشريف أَحْمد بن زيد وَكَانَ بالشرق فجَاء إِلَى مَكَّة مسرعاً فلحق أَخَاهُ سَعْدا قبل أَن يتَوَجَّه وَتوجه مُحَمَّد يحيى وَلحق بحمود وَاتفقَ مَعَه وَأَقَامَا يعاندان الْقَضَاء وَأقَام سعد وَأَخُوهُ أَحْمد معِين لَهُ وَلما لم يحصل الِاتِّفَاق بَين سعد وحمود بعد وُصُول القاصد للإصلاح أرسل سعد إِلَى وَزِير مصر يعرفهُ بِمَا جرى ليعرضه على السُّلْطَان وَكَذَلِكَ أرسل حمود قَاصِدا أَيْضا برز يَوْم عشري ربيع الأول الشريف سعد إِلَى الجوخي فِي موكب عَظِيم بِمن مَعَه من الْأَشْرَاف والعساكر وَأقَام هُنَالك ينْتَظر وُصُول الْأَخْبَار فَلَمَّا وصلت الْأَخْبَار إِلَى وَزِير مصر أَمر بتجهيز خَمْسمِائَة من الْعَسْكَر أَمر عَلَيْهَا الْأَمِير يُوسُف(1/439)
مُتَوَلِّيًا جدة ومشيخة الْحرم وَصرف عماد عَنْهَا فَسَارُوا من مصر وهم بأتباعهم وَمن مَعَهم من الْحجَّاج والتجار يدْخلُونَ فِي ألف وَخَمْسمِائة فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى مَكَّة توجه حمود وَمَعَهُ سعيد بن بشير بن حسن وَكَانَ والياً على بيشة ونواحيها مُدَّة فِي زمن زيد فأخرجوه مِنْهَا فواجه الْعَسْكَر بينبع فِي جَيش لهام من أهل يَنْبع وجهينة وعنزة فَأَخَذُوهُمْ عَن آخِرهم وقتلوهم وسلبوا أَمْوَالهم وَأسرُوهُمْ وَلم يسلم مِنْهُم إِلَّا نَحْو مائَة وَقبض على الْأَمِير يُوسُف وَقتل حِينَئِذٍ من الْأَشْرَاف بشير بن أَحْمد بن عبد الله ابْن حسن وسرور بن عبد الْمُنعم وَمن ذَوي عنقاء زين العابدين بن نَاصِر وَقتل أَيْضا السَّيِّد لِبَاس وَسبب قَتله أَنه صعد أول الْحَرْب إِلَى متراس للترك ظَنّه متراساً لعسكر حمود فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم مَاشِيا صاعداً تلقوهُ فَقطعُوا رَأسه من حِينه ووضعوه فِي مخلاة علقت على بعير وَلم يدروا بِهِ إِلَّا بعد انكسار جَيش التّرْك وَجَاء بِهِ بعض من أَخذ الْجمل بِمَا عَلَيْهِ من الْمَتَاع وَأُصِيب السَّيِّد عبد الْمعِين بن نَاصِر فِي رَأسه بعد أَن زاغت عَنهُ الخوذة بِسَبَب وُقُوعه عَن الْفرس بكبوها وقتلها ونهبت الأجمال بالأحمال ثمَّ أَمر حمود بِجمع حَرِيم الْأَمِير يُوسُف وَغَيره فِي مخيم كَبِير وأجرى عَلَيْهِم المصروف وَمَات الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ اللِّقَاء الْمَذْكُور يَوْم الْأَرْبَعَاء عَاشر رَجَب من هَذِه السّنة وَكَانَ حمود أرسل إِلَى الْعَسْكَر قبل قدومهم عَلَيْهِ أَن لَيْسَ لكم طَرِيق علينا إِن لم يكن السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم مَعكُمْ وَالسَّيِّد مُحَمَّد فَلم يمتثلوا فَلَمَّا وصل الْخَبَر إِلَى مصر قتلوا من كَانَ من أَتبَاع السَّيِّد أبي الْقَاسِم وَالسَّيِّد مُحَمَّد وتتبعوهم فِي الْأَمَاكِن وَأمر بالسيدين إِلَى حبس الدَّم بعد أَن طلب وَزِير مصر الْفَتْوَى من الْعلمَاء بِجَوَاز قَتلهمَا فَلم يفتوه فَأمر باعتقالهما ثمَّ عزل إِبْرَاهِيم باشا عَام ثَمَانِينَ وَتَوَلَّى مصر حُسَيْن باشا ابْن جانبولاذ فَسَأَلَ عَن سَبَب حبسهما فَأخْبر بِمَا وَقع فِي الْعَسْكَر من أبويهما فَقَالَ هَل كَانَ الْوَاقِع قبل وصولهما أَو بعده فَقيل بعده بِمدَّة فَقَالَ لَا ينْسب شَيْء من ذَلِك إِلَيْهِمَا وَأمر بإخراجهما واستدناهما وأكرمهما وَأقَام لَهما من الْمعِين مَا يكفيهما وأنزلهما بِبَيْت نقيب الْأَشْرَاف فَلَمَّا كَانَ شهر رَمَضَان استدعاهما النَّقِيب لَيْلَة إِلَى الْإِفْطَار عِنْده فَأَتَاهُ أَبُو الْقَاسِم فِي جملَة من أَصْحَابه وَلم يَأْته مُحَمَّد فدعاهما فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَكَانَ كَذَلِك فاستنكر عدم مَجِيء مُحَمَّد تِلْكَ اللَّيْلَة فردّد الرُّسُل إِلَيْهِ فَلم يَأْتِ فقوي الريب عِنْده فَاعْتَذر عَنهُ أَبُو الْقَاسِم ثمَّ خرج مُحَمَّد بمفرده فارّاً من مصر إِلَى مَكَّة مَاشِيا حَتَّى انْتهى إِلَى الْعقبَة فَأتى لَهُ بِمَا يركبه وَأما أَبُو الْقَاسِم فاستمر إِلَى أَن(1/440)
توفّي فِي شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف شَهِيد بالطاعون ثمَّ جهز عَسْكَر كثير من مصر وَمَعَهُ أميران وَعَلَيْهِم أَمِير مُحَمَّد جاويش مُتَوَلِّيًا جدة ومشيخة الْحرم فوصلوا إِلَى يَنْبع وَكَانُوا تلاقوا مَعَ الْحَاج قبلهَا بيومين أَو ثَلَاثَة ودخلوا مَعًا وَأَقَامُوا فِيهَا خَمْسَة أَيَّام أَو سِتَّة يكاتبون حموداً وَهُوَ يُجِيبهُمْ بِكَلَام شَدِيد فحملوا عَلَيْهِ فَلم يجدوه فَاقْتضى رَأْيهمْ أَن بَعضهم يُقيم لحفظ الْبَلَد وَالْآخر يحجّ وَهُوَ الْأَكْثَر فَدَخَلُوا مَكَّة بموكب عَظِيم سَابِع ذِي الْحجَّة وَمَعَهُمْ اثْنَا عشر كاشفاً تَحت يَد كل الكاشف جمَاعَة وَدخل الْحَاج الشَّامي واليماني وَالْمَدَنِي وَأما أهل الْعرَاق ونجد والحجاز وَسَائِر الْعَرَب فَلم يحجوا لما حصل لَهُم من التَّعَب والجوع وَالْخَوْف وَنزل الْعَسْكَر فِي بَيت حمود وَأحمد الْحَرْث وَجَمِيع الْأَشْرَاف الَّذين مَعَه وَقتل مُحَمَّد جاويش سِتَّة أشخاص من أَتبَاع حمود ثمَّ توجه الْحَاج الْمصْرِيّ وَمَعَهُ الْعَسْكَر والشريف سعد إِلَى يَنْبع نَحْو حمود وَأقَام أَخَاهُ السَّيِّد أَحْمد مقَامه بِمَكَّة فَلَمَّا وصلوا إِلَى يَنْبع تشاوروا هَل يُقِيمُونَ أَو يتوجهون وَرَاء حمود أَو يرجعُونَ إِلَى مصر فاتفق الرَّأْي أَن يذهبوا إِلَى مصر وَأقَام سعد وَمُحَمّد جاويش وَقبض سعد على جمَاعَة من المفسدين كَانُوا مَعَ حمود وكبلهم بالقيود والأغلال وَخرج من مَكَّة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس صفر سنة تسع وَسبعين وَألف أَحْمد بن زيد بعسكره إِلَى جِهَة الْمَبْعُوث لإِصْلَاح تِلْكَ الْجِهَات والطرقات وَأقَام مقَامه بِمَكَّة بشير بن سُلَيْمَان ثمَّ دخل سعد إِلَى مَكَّة ثَانِي عشري ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَبعدهَا بأَرْبعَة أَيَّام دخل أَخُوهُ أَحْمد فَلَمَّا كَانَ رَابِع ذِي الْحجَّة وصل رَسُول من الْمَدِينَة يخبر بِأَن رجلا اسْمه حسن باشا قدم مُتَوَلِّيًا جده وَمَعَهُ أوَامِر سلطانية بِأَنَّهُ ينظر فِي أُمُور الْحَرَمَيْنِ فبرزت لَهُ عَسَاكِر الْمَدِينَة وكبراؤها وتلقوه بموكب عَظِيم وَالسَّبَب فِي وُصُوله أَن أهل الْمَدِينَة رفعوا أَمرهم إِلَى السُّلْطَان بالشكوى من الشريف سعد وَلما خرج من الْمَدِينَة مُتَوَجها إِلَى مَكَّة صَار يُنَادي مناديه فِي الطَّرِيق أَن الْبِلَاد للسُّلْطَان وَلَا يذكر الشريف سعد فَدخل الْحَاج الْمصْرِيّ إِلَى مَكَّة وَلبس الشريف خلعته الْمُعْتَادَة ثمَّ دخل الْحَاج الشَّامي ثمَّ دخل بعد الظّهْر حسن باشا فِي موكب عَظِيم إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب السَّلَام فَنزل وَدخل الْمَسْجِد وَفِي الْيَوْم السَّابِع خرج الشريف لأمير الْحَاج الشَّامي وَلبس خلعته الْمُعْتَادَة ايضاً وَكَانَ من الْعَادة أَن يقسم بعض الصَّدقَات لأهل مَكَّة قبل الصعُود إِلَى عَرَفَة فَمنع من ذَلِك وتخلف مِنْهُم كثير عَن الْحَج لذَلِك فتعب الشريف سعد من أَحْوَاله(1/441)
السَّابِقَة واللاحقة وَقَالَ إِن لم يظْهر مَا بِيَدِهِ من الْأَوَامِر فننظرها كَاذِبَة أَو صَادِقَة لم أحج فِي هَذَا الْعَام وَأرْسل بذلك إِلَيْهِ وَالِي الْأُمَرَاء وشدد فِي الْكَلَام وَوَقع اضْطِرَاب فِي الْبِلَاد وعزلت لأسواق وغلقت الْأَبْوَاب وخليت الطّرق وَجمع الشريف سعد جَيْشه وَقَامَ على قَدَمَيْهِ ثمَّ إِن الْأُمَرَاء وكبار الْعَسْكَر أَتَوا إِلَيْهِ مستشفعين لِلْحَجِّ فَعِنْدَ ذَلِك نَادَى مناديه بِأَن النَّاس يحجون وَصعد إِلَى عَرَفَات وَلم يحصل شَيْء مُخَالف ثمَّ سعى جمَاعَة بَينهمَا بِالصُّلْحِ مِنْهُم الْأَمِير عساف بن فروخ أَمِير الْحَاج الشَّامي وَكَانَ اجْتِمَاعهم بعد صَلَاة الْعَصْر ثَانِي الْمحرم سنة ثَمَانِينَ وَألف خلف مقَام الْحَنَفِيّ بِحَضْرَة الْخَاص وَالْعَام ثمَّ تفَرقا وَرجع كل مِنْهُمَا إِلَى منزله وَأرْسل كل مِنْهُمَا نوبَته إِلَى الآخر فَضربت الطبول وَأرْسل كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر هَدِيَّة سنية وَفِي الْيَوْم الثَّامِن من الْمحرم توجه بعد الْعَصْر الشريف سعد وَأَخُوهُ أَحْمد إِلَيْهِ مقابلهما بالإكرام والتعطف وَلما أَرَادَا الْقيام ألبس كلا مِنْهُمَا ثوبا نفيساً يَلِيق بِهِ وخرجا من عِنْده ثمَّ فِي الْيَوْم الْعَاشِر أَرَادَ حسن باشا التَّوَجُّه إِلَى جدة فَتوجه إِلَى الشريف بعد الْعَصْر وَمكث عِنْده سَاعَة وَلم يذقْ عِنْده شَيْئا من الطَّعَام وَادّعى أَنه صَائِم وَلما خرج قدم لَهُ فرسا مسرجة ملاحة فَلَمَّا وصل إِلَى جدة أغلق أبوابه وَحصل مِنْهُ أُمُور يطول شرحها ثمَّ فِي سَابِع عشر ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة أشرك الشريف سعد أَخَاهُ أَحْمد فِي الرّبع وَنُودِيَ فِي الْبِلَاد وَأمر الْخَطِيب بِالدُّعَاءِ لَهُ على الْمِنْبَر وَأرْسل إِلَيْهِ حسن باشا نوبَته فَضربت فِي بَيته ثَلَاثَة أَيَّام وأتته خلعة سلطانية مَعَ أَخِيه فِي الْمَوْسِم الثَّانِي وَلم يزل حسن باشا يُعَارض الشريف فِي أَحْوَاله وَأَحْكَامه ويستولي على غَالب محصول جدة والشريف يتلطف بِهِ وَهُوَ لَا يفِيدهُ ذَلِك حَتَّى كَانَ يَوْم الثَّالِث من منى بعد انتصاف النَّهَار نفر حسن باشا إِلَى رمي الْجمار فِي موكب عَظِيم والجند محدقون بِهِ فَلَمَّا كَانَ وَاقِفًا عِنْد الْعقبَة لرمي الْجمار رَمَاه ثَلَاثَة رجال بِثَلَاث بَنَادِق فَخر على وَجهه للتراب فَتَلقاهُ جنده فَرَفَعُوهُ إِلَى التخت وتحيروا فِيمَا نزل من هَذَا المضاب نزلُوا بِهِ إِلَى مَكَّة وصاروا يقتلُون من لاقوه فِي الطَّرِيق ووصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة وتحصنوا فِي الْبيُوت وَدخل جمع مِنْهُم الْمَسْجِد بِالسِّلَاحِ وَالنَّار ورموا فِيهِ البندق إِلَى بَيت الشرق ووجهوا المدافع للأربع جِهَات واحترسوا غَايَة الاحتراس ثمَّ إِن الشريف توجه بعسكره وبالإشراف إِلَى مَكَّة ملبسين مدرعين فَاجْتمع الْأُمَرَاء حِينَئِذٍ وَاتَّفَقُوا على أَن يُعْطِيهِ مَا كَانَ استولى عَلَيْهِ من مَال جده(1/442)
وَقدره ثَلَاثُونَ ألف قِرْش واستعطفوا الشريف بترك الثُّلُث فَتَركه وَأخذ عشْرين ألفا فَلم يسْتَطع الْمقَام بِمَكَّة فَأرْسل إِلَى جدة بعض أَتْبَاعه وَتوجه مَعَ الْحَاج الْمصْرِيّ إِلَى الْمَدِينَة وَأقَام بهَا فوفد عَلَيْهِ السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحَرْث فألزمه بالذهاب إِلَى وَالِده واستلحاقه إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَة فَلَمَّا حضر نَادَى لَهُ فِي الْبِلَاد بعد أَن ألبسهُ خلعة وَأمر بِالدُّعَاءِ لَهُ على الْمِنْبَر وَقطع الدُّعَاء لسعد وَقد كَانَ سعد خرج صُحْبَة الْحَاج أَو عقبه حَتَّى وصل إِلَى يَنْبع فَأَقَامَ بهَا فَلَمَّا بلغه مَا فعل حسن باشا أرسل إِلَى أَحْمد الْحَرْث كتابا مضمونه بعد الثَّنَاء أَن هَذَا الْوَاقِع الَّذِي سمعنَا بِهِ من تقمصل برداء الْملك وأثوابه فَهَذَا أَمر أَنْت بَيته الْأَعْلَى وَمثلك أَحْرَى بِهِ وَأولى فأنك أَنْت الشَّيْخ وَالْوَالِد الْجَائِز كل كَمَال طريف وتالد فَإِن كَانَ هَذَا مُحكم الاساس فِي الْبُنيان جَارِيا على مُقْتَضى مرسوم السُّلْطَان فَنحْن بِالطَّاعَةِ أعوان وَإِن كَانَ الْأَمر خلاف ذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ من تسويلات هَذَا الظَّالِم الغادر وتنميقات ذَلِك المذمم الْغَيْر ظافر فأجل حلمك أَن تستخفه نكباء الطيش وَأَن تستزله اخلاط الأشارب وغوغاء الْجَيْش فَأرْسل إِلَيْهِ ابْن الْحَرْث الْجَواب بِأَن الْأَمر لم يكن على هواي وَإِنَّمَا هُوَ إِلْزَام مَعَ علمي بِأَن هَذَا الِابْتِدَاء لَا يكون لَهُ تَمام فاستشعر حسن باشا أَن من نِيَّة سعد الْمسير إِلَيْهِ فتهيأ لِلْقِتَالِ وصنع إكراً من حَدِيد قَرِيبا من مِائَتَيْنِ تسمى قنابر تملأ بالرصاص وَالْحَدِيد يَرْمِي بهَا من بعد إِلَى الْجَيْش وَكَانَ كلما أَرَادَ الْمسير ثبطه ابْن الْحَاجِب فعزم سعد وَأحمد إِلَى الْمَدِينَة وصمما على الْقِتَال وَكَانَ حمود نازلا بالمبعوث فِي المربعة المنسوبة إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد الْحَرْث فَأَتَاهُ السَّيِّد أَحْمد بن حسن بن حراز رَسُولا من ابْن الْحَرْث وَحسن باشا بكتابين يستدعيانه إِلَيْهِمَا للانضمام ووعداه بِمَا يُريدهُ من الْجِهَات والمعينات ومضمون كتاب ابْن الْحَرْث بعد الثَّنَاء وَإِظْهَار الود والشوق أَن أَخَاك لم يكن لَهُ هَذَا الْأَمر ببال وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ بالقال وَالْحَال وَإِنَّمَا لَحِقَنِي وَلَدي مُحَمَّد إِلَى الشعرى وَكرر عَليّ القَوْل مرّة بعد أُخْرَى وَلم أوافقه حَتَّى رَأَيْت جدك النَّبِي فِي الْمَنَام قَائِلا لي وَافق ودع الأوهام فحينذ رجعت وَالْقَصْد أَنِّي أَخُوك الَّذِي تعرفه وَلَا تنكره فاقبل إِلَيْنَا فَهُوَ أعظم جميل نذكرهُ ففكر حمود سَاعَة وَقَالَ كَأَنِّي برَسُول سعد يصبحنا إِن لم يماسنا فَقبل الْغُرُوب إِذا بِرَاكِب منيخ فَتقدم إِلَيْهِ وَأخرج مكتوبين من سعد وَأحمد مضمونهما استحثاثه فِي الْمسير اليهما وَإِن حسن باشا قد شمر عَن سَاقيه للحرب وكشر عَن نابيه لِلطَّعْنِ وَالضَّرْب وَاسْتشْهدَ سعد بقول(1/443)
الشَّاعِر
(مَا غَلطت رِقَاب الْأسد حَتَّى ... بأنفسها تولت مَا عناها)
وَأتبعهُ بقوله وَأَنت تعلم أَن الْأَمر الَّذِي يعنانا يعناك وأدري بِمَا يؤل إِلَيْهِ الْأَمر فِي ذَاك وَهَذِه ألف دِينَار صُحْبَة الْوَاصِل إِلَيْك فَأدْرك وَأدْركَ أدام الله فَضله عَلَيْك فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين مَا رَأَيْت لمن تتَوَجَّه قَالَ إِلَى سعد صَاحب الْفضل ومولاه فَإِن بيني وَبَينه فِي ضريح الحبر عبد الله عهودا لَو عارضني فِيهَا وَالِدي عبد الله لكفحت وَجهه بِالسَّيْفِ دونه ثمَّ توجه على الركاب يَوْمه الثَّانِي وقوض الأخبية وَفَارق المباني حَتَّى وصل إِلَى سعد وأخيه وهما بِمحل يُقَال لَهُ ملجة فوافي ذَلِك عزل حسن باشا وَطَلَبه فارتحل إِلَى الْمَدِينَة فَمَاتَ بطرِيق غَزَّة وَدفن هُنَاكَ وَأَتَتْ إِلَى الشريف الْخلْع من وَزِير مصر وَكَانَ إرسالها ضربا من المكايد ثمَّ فِي آخر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة قدم مُحَمَّد جاويش الْمُقدم ذكره بجيوش نَحْو أَرْبَعَة آلَاف أَو خَمْسَة قبل قدوم الْحَاج بأيام وَنصب خيامه فِي أَسْفَل مَكَّة نَحْو الزَّاهِر بِمن مَعَه من العساكر وصاروا يدْخلُونَ خَمْسَة سَوَاء أَو عشرَة أَو مَا قَارب ذَلِك ثمَّ يرجعُونَ إِلَى خيامهم ثمَّ قدم الْحَاج الْمصْرِيّ وَلبس الشريف خلعته الْمُعْتَادَة وَقدم الْحَاج الشَّامي وَمَعَهُ حُسَيْن باشا الْوَزير كافل الشَّام بِنَحْوِ ثَلَاثَة آلَاف وَقد فوض إِلَيْهِ أَن يعْمل بِمَا يَقْتَضِيهِ رَأْيه فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة خرج الشريف لملاقاة أَمِير الْحَاج الشَّامي على الْمُعْتَاد فَطلب مِنْهُ أَن يَأْتِي إِلَى مخيم الْأَمِير فَلم يرض لكَونه غير مُعْتَاد لأسلافه وترددت إِلَيْهِ الرُّسُل فِي ذَلِك فَلم يجب بل عطف عنان فرسه رَاجعا من طَرِيق الشبيكة إِلَى مَكَّة فخشوا من وُقُوع فتْنَة فأرسلوا الخلعة مَعَ من لحقه بهَا فِي أثْنَاء الطَّرِيق ثمَّ صعد الحجيج إِلَى عَرَفَات فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفر وَهُوَ الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام منى ترددت الرُّسُل من الشريف إِلَى أَمِير الْحَاج الشَّامي لما هُوَ الْمُعْتَاد من الخلعة الَّتِي مَعهَا المرسوم السلطاني الَّتِي يلبسهَا ذَلِك الْيَوْم وَيقْرَأ المرسوم ويسمعه القاصي والداني فَلم يُؤْت بهَا إِلَيْهِ فاستشعر حِينَئِذٍ أَن مُرَادهم بِهَذِهِ العساكر الْقَبْض عَلَيْهِ فأضمر الصولة عَلَيْهِم والمسير ثمَّ رجح الانكفاف والذهاب فسافر بِمن مَعَه على الْخَيل والركاب وَلما كَانَ ظهر الْيَوْم الثَّانِي عشر حضر حُسَيْن باشا وَمُحَمّد جاويش وأمراء الْحَاج وأكابر الدولة واستدعوا جمَاعَة من الْأَشْرَاف مِنْهُم السَّيِّد أَحْمد بن الْحَرْث وَالسَّيِّد يُشِير بن سُلَيْمَان وَالسَّيِّد بَرَكَات مُحَمَّد وأظهروا وأمرا سلطانيا للشريف بَرَكَات بولايته على مَكَّة وألبس حِينَئِذٍ خلعة سلطانية وَنزل من منى إِلَى بَيت أَبِيه(1/444)
الْمَعْرُوف بزقاق طاعنة وَورد فِي ذَلِك الْمَوْسِم كتاب للسَّيِّد أَحْمد بن الْحَرْث وَللسَّيِّد حمود وَللسَّيِّد بشير بن سُلَيْمَان مَضْمُون الْجَمِيع وَاحِد وعباراتهم مُخْتَلفَة وَلَفظ كتاب السَّيِّد حمود فرع دؤابه هَاشم وَشَيخ المحامد والمكارم السَّيِّد حمود نظم الله عقوده وأباد حسوده وَبعد فَلَا يخفى عَلَيْكُم أَن الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام ومطاف طواف الاسلام هُوَ أول بَيت وضع للنَّاس وَأسسَ على التَّقْوَى مِنْهُ الأساس وَأَنه لم يزل فِي هَذِه الدولة الْعلية آمنا أَهله من النوائب وروضا مخصبا بأحاسن الأطايب إِلَى أَن ظهر من السَّيِّد سعد من الْأَمر الشنيع مَا يشيب عِنْده الطِّفْل الرَّضِيع وَمَا كَفاهُ ذَلِك حَتَّى شدّ الخناق على أهل الْمَدِينَة البهية وأذاقهم كاس الْمنون روية فَلَمَّا بلغ هَذَا الْحَال السّمع الْكَرِيم السلطاني أَمر بعزله عَن مَكَّة وتفويضها إِلَى الشريف بَرَكَات ليعْمَل فِيهَا بِحسن التَّصَرُّفَات وتكونوا لَهُ معينا وظهيرا وناصحا ومشيرا وكل من يتَفَرَّع غصنه من دوحة فَاطِمَة الزهراء ويتصل نسبه إِلَى أَئِمَّة الْملَّة الغراء تهدونه إِلَى طَرِيق الْخَيْر وَالصَّلَاح وترشدونه إِلَى معالم الرشد والنجاح وَأَنْتُم على مَا تعهدون من التكريم والتبجيل وَالله على مَا نقُول وَكيل فاستقام الْأَمر بتولية الشريف بَرَكَات غَايَة الاسْتقَامَة وَكَانَ فِي الْبَاطِن طَالبا لهَذَا الْأَمر حَرِيصًا عَلَيْهِ وَذكر الشلي فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ عبد الله صَاحب رِبَاط الْحداد أَن الشريف بَرَكَات قبل أَن يتَوَلَّى الامارة بأيام أَتَاهُ وَهُوَ فِي الْحجر وَسَأَلَهُ الدُّعَاء بتيسير الْمَطْلُوب فَدَعَا لَهُ بذلك فَلَمَّا ذهب سَأَلَ الشَّيْخ رجل من أَشْرَاف مَكَّة عَمَّا طلب فَقَالَ أَنه طلب أَن يكون ملكا وَقد اسْتَجَابَ الله الدُّعَاء لَهُ فِي ذَلِك وَلما تولى توجه الشريف سعد من مَكَّة فَخرج الشريف بَرَكَات وَمَعَهُ العساكر فِي طلبه فسلك طَرِيق الثَّنية إِلَى الطَّائِف وَكَانَ الشريف سعد قد سلكها وَنزل بِالطَّائِف ثمَّ ارْتَفع عَنهُ إِلَى عباسه ثمَّ إِلَى تربة ثمَّ إِلَى بيشة فَتَبِعَهُ الشريف بَرَكَات حَتَّى قَارب تربة ثمَّ عَاد إِلَى الْمَبْعُوث ثمَّ إِلَى الطَّائِف وَأقَام بهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة وحظى عِنْد السلطنة وَكَانَ مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْدهم مُعْتَقدًا لما كَانَ يكثره من مداراتهم وَكَانَ كثير الاحسان للأشراف والتعطف بهم وتقووا فِي زَمَنه وقويت شوكتهم وَكَثُرت أَمْوَالهم وبسبب ذَلِك بَقِي كبار الْأَشْرَاف وصغارهم تَحت طوعه وَكَانَ يخرج بهم لِحَرْب الْعَرَب من أهل الْفَرْع وَغَيرهم وَيكون الظفر فِيهِ لَهُ وللأشراف وحمدت طَرِيقَته وَأمنت فِي زَمَنه السبل وربحت التُّجَّار وانتظم الْأَمر خُصُوصا للحجاج وَفِيه يَقُول بعض أدباء دمشق وَقد حج(1/445)
(أنخ الركاب فَهَذِهِ أم الْقرى ... قد لَاحَ نور الْهدى من مشكاتها)
(وَاجعَل شعارك فِيهِ تقوى الله كي ... تستنتج الْخيرَات من بركاتها)
وَلم يزل كَذَلِك عالي الهمة مَيْمُون النقيبة إِلَى أَن تغلب عَلَيْهِ غَالب الْأَشْرَاف وَخرج السَّيِّد أَحْمد بن غَالب مفارقاً لَهُ فِي نَحْو ثَلَاثِينَ شريفاً من ذَوي مَسْعُود وَغَيرهم فَدخلت الْأَشْرَاف فِي الصُّلْح بَينهم فَلم يتم وَخَرجُوا إِلَى الركاني من وَادي مر واجتمعوا هُنَاكَ وتأهبوا وَسَارُوا مِنْهُ قَاصِدين الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فوصلوا إِلَى الشَّام فأنزلهم متوليها حُسَيْن باشا بِبَيْت عَظِيم وأجرى عَلَيْهِم مَا يكفيهم من الْمصرف وَبَالغ فِي تعظيمهم وَأرْسل يعرف بشأنهم إِلَى الْأَبْوَاب الْعلية فَأمروا بِكِتَابَة عرض بِمَا يشكونه فكتبوه وأرسلوه مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُم وهما السَّيِّد مُحَمَّد بن مساعد وَالسَّيِّد بشير بن مبارك بن فضل فوعدوا بإزاحة شكواهم وَكَانَ الشريف بَرَكَات عرض لما فَارقه ابْن غَالب وَمن مَعَه أَن الْأَشْرَاف اتَّبعُوهُ بِالطَّلَبِ الشطيط وَأَنه بَالغ فِي رضاهم بِكُل وَجه وَقَالَ إِنِّي رضيت أَن أجعَل لَهُم مغل ثَلَاثَة أَربَاع الْبِلَاد وَيكون لي ربعه فأبرزوا لَهُ أمرا سلطانياً بذلك وَلما كَانَ حادي عشري ربيع الأول وَقعت فتْنَة سَببهَا أَن عبدا للسَّيِّد حسن ابْن حمود بن عبد الله اخْتصم مَعَ رجل من عَسْكَر مصر عِنْد البزابيز بالمسعى فَضرب العسكري العَبْد وَأخذ سلاحه فَحِينَئِذٍ استحشم السَّيِّد حسن الْأَشْرَاف وَالْعَبْد العبيد فَاجْتمعُوا كلهم عِنْد السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله ثمَّ انقلبت شرذمة من العبيد نَحْو الْخمسين شاهرين السِّلَاح فوصلوا إِلَى الْمَرْوَة فهربت الأتراك وَأَرَادُوا الرُّجُوع فَرَمَاهُمْ بعض الأتراك الساكنين فِي الرّبع بالأحجار فأرادوا الطُّلُوع إِلَيْهِم فكسروا بعض الدكاكين الَّتِي تَحْتَهُ ظنا أَنَّهَا بَاب الرّبع فوجدوها ملآنة من النّحاس والأثاث فنهبوا جَمِيع ذَلِك وفعلوا بدكان أُخْرَى مثل ذَلِك وصوبوا نَحْو ثَلَاثَة من التّرْك بِالسِّلَاحِ وَقتلُوا آخر من المجاورين كَانَ يحتجم عِنْد حلاق بالمروة ثمَّ ذَهَبُوا ثمَّ تحزبت الأتراك وجاؤوا إِلَى القَاضِي وَأَرْسلُوا إِلَى الشريف يطْلبُونَ الْغُرَمَاء فصبروا فَلم يصبروا وَأتوا إِلَى بَيت الشريف وَبَيت السَّيِّد أَحْمد بن الْحَرْث وَكَانَ بِهِ جمَاعَة من عَسْكَر الشريف فَرَمَوْهُمْ من بَيت الْحَرْث فَقتلُوا من التّرْك اثْنَيْنِ أَيْضا فَرجع التّرْك حِينَئِذٍ وَأرْسل الشريف بَرَكَات إِلَى الْأَشْرَاف يطالبهم بالغرماء فامتنعوا وَخَرجُوا إِلَى الشَّيْخ مَحْمُود وَقَالُوا من يطْلب الْغُرَمَاء يأتنا وَخرج العبيد حَتَّى عبيد الشريف بَرَكَات وَعبيد حَاكم مَكَّة الْقَائِد أَحْمد بن جَوْهَر إِلَى بركَة(1/446)
ماجن ووحدوا جمَاعَة من الأتراك المجاورين مقيلين فَأخذُوا جَمِيع مَا مَعَهم وسلبوهم ونهبوا قَرِيبا من أَرْبَعمِائَة رَأس من الْغنم ثمَّ أرسل الشريف بَرَكَات أَخَاهُ عمر فردّ العبيد ثمَّ قصد الشريف تسكين الْفِتْنَة فَأمر بعبدين كَانَا محبوسين فِي سَرقَة أَن يشنقا فشنقا فَلم تطب نفوس الأتراك بذلك ثمَّ وجد السَّيِّد يحيى بن بَرَكَات وَكَانَ يعس الْبَلَد بِاللَّيْلِ عَبْدَيْنِ سارقين فَضرب عنقهما وَرمى بجثتهما تَحت جميزة المعلاة فَرضِي الأتراك حِينَئِذٍ واصطلح الْأَشْرَاف مَعَ الشريف ودخلوا إِلَى مَكَّة بأجمعهم وَوَقع بَينهم الِاتِّفَاق الَّذِي مَا شابه بعد وصمة واستقام الْأَمر وَفِي أَيَّامه فِي ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وَقع سيل بِالْمَدِينَةِ خرب كثيرا من الدّور الَّتِي تحتهَا وَكَاد أَن يدخلهَا من بَاب الْمصْرِيّ وَاسْتمرّ خَمْسَة أَيَّام وَلم يهْلك من النَّاس إِلَّا شخص أَو شخصان وَفِي هَذِه السّنة حصل فِي قَرْيَة السَّلامَة وَمَا حولهَا من أَرض الطَّائِف برد شَدِيد لَهُ وَقع عَظِيم بِحَيْثُ صَار يضْرب بالصخور والأبواب كالبنادق غالبه كبيض الْحمام وَبَعضه كبيض الدَّجَاج قَالَ الشلي فِي تَارِيخه وَسمعت غير وَاحِد يَقُول وزنت وَاحِدَة فَكَانَت رطلا وَوَقع بعضه على قدر فخرقه وأتلف ثمار الْبَسَاتِين وجرح كثيرا من الْحَيَوَانَات وَبَعضهَا مَاتَ وَفِي ثَانِي عشري ذِي الْحجَّة من سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَقع بِمَكَّة سيل عَظِيم وسالت الأودية وَخَربَتْ مِنْهَا دوراً كَثِيرَة وأتلف أَمْوَالًا لَا تحصى وَأغْرقَ نَحْو ثلثمِائة نفس وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَعلا على مقَام إِبْرَاهِيم ومقام الْمَالِكِي والحنبلي وَعلا بَاب الْكَعْبَة وَكَانَ الركب الْمصْرِيّ إِذْ ذَاك فِي نفير السّير من مَكَّة فَأكْثر الغرقاء كَانُوا غرباء وَاسْتمرّ نَحْو عشْرين دَرَجَة ثمَّ سكن الْمَطَر وَعَاد مرّة أُخْرَى وَاسْتمرّ فِيهَا نَحْو الأولى ثمَّ سكن وَفِي أَيَّامه عمرت الخاصكية التكية الْمَعْرُوفَة الْآن بِمَكَّة بَين البزابيز وَالْمُدَّعى وَصرف عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وَقد وَقعت موقعها وَعم نَفعهَا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس ثَانِي عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف بِمَكَّة وَكَانَت ولَايَته عشر سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا وَتَوَلَّى بعده وَلَده الشريف سعيد وَلم يخْتَلف فِيهِ اثْنَان من الْأَشْرَاف وَذَلِكَ أَنه بعد موت أَبِيه ذهب عَمه السَّيِّد عَمْرو فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف إِلَى القَاضِي وطلبوا مِنْهُ خلعة فَسَأَلَهُمْ هَل الْأَشْرَاف راضون فَقيل لَهُ نعم فَأتوا بهَا إِلَيْهِ فلبسها وَنُودِيَ فِي الْبِلَاد باسمه وَمَعَ الْمُنَادِي السَّيِّد الْحُسَيْن بن يحيى وَالسَّيِّد عبد الله بن هَاشم ثمَّ جهز الشريف وَصلى عَلَيْهِ ضحى إِمَامًا بِالنَّاسِ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الشيبي فاتح الْبَيْت(1/447)
فِي مشْهد حافل حضرت الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء وَعَامة النَّاس وَدفن بحوطة السيفي على يسَار الذَّاهِب إِلَى المعلاة بِوَصِيَّة مِنْهُ وَلم يحصل بِمَوْتِهِ للنَّاس خوف وَلَا فزع ثمَّ عقد مجْلِس الِاجْتِمَاع يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي وَفَاة يَوْم أَبِيه بِالْحَطِيمِ حضرت الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء والأعيان والعساكر فأظهر الشريف سعيد أمرا سلطانياً كَانَ برز لَهُ لما أرْسلهُ وَالِده إِلَى السُّلْطَان أَن الْملك بعد أَبِيه فقرىء بذلك الْمجمع وَلم تقع مُخَالفَة من أحد ثمَّ ورد الْأَمر الَّذِي كَانَ طلبه الشريف بَرَكَات بالأرباع بعد مَوته فأخفاه الشريف سعيد وَكَانَ الْأَشْرَاف متحققين خَبره قبل وُصُوله إِلَى مَكَّة فطلبوه من الشريف فَأحْضرهُ إِلَى مجْلِس الشَّرْع وسجل مضمونه وقسموا مَدْخُول الْبِلَاد أَربَاعًا ربع لشريف مَكَّة وَربع تشيخ فِيهِ السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله وَالسَّيِّد نَاصِر بن أَحْمد الْحَرْث ومعهما جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالرّبع الثَّالِث تشيخ فِيهِ السَّيِّد أَحْمد بن غَالب وَالسَّيِّد أَحْمد بن سعيد ومعهما جمَاعَة وَالرّبع الرَّابِع تشيخ فِيهِ السَّيِّد عَمْرو بن مُحَمَّد وَالسَّيِّد غَالب بن زامل ومعهما جمَاعَة فَحصل بذلك التشاجر فِي الْقِسْمَة والتعب والتشاحن وَوَقع فِي الْبِلَاد السّرقَة والنهب وَاخْتلفُوا فِيمَا بَينهم وَصَارَت الرّعية بِلَا رَاع وَلزِمَ من ذَلِك أَن كل صَاحب ربع يكون لَهُ كتبة وخدّام يجمعُونَ مَا هُوَ لَهُ وَجمع ابْن غَالب عسكراً وانضم إِلَيْهِ من العبيد كثير فتعب الشريف سعيد بذلك وَأمرهمْ بترك الْعَسْكَر فامتنعوا وَقَالُوا إِن السوالف سبقت بِمثل هَذَا لصَاحب الرّبع وَشهد بذلك كبار الْأَشْرَاف وَذكر الشريف سعيد أَنه متوهم من هَذَا الْفِعْل وَطلب من يكفل لَهُ ابْن غَالب فَكَفَلَهُ عشرَة من الْأَشْرَاف واصطلحا على ذَلِك ثمَّ ادّعى الشريف سعيد أَن عبيدهم أتلفوا الْبِلَاد وَالْقَصْد أَن أهل الأرباع كل مِنْهُم يُرْسل رجلا من جَانِبه يعس الْبِلَاد بِاللَّيْلِ مَعَ جماعته فَأرْسل ابْن غَالب أَخَاهُ السَّيِّد حسن وَأرْسل السَّيِّد مُحَمَّد بن أَحْمد ابْنه السَّيِّد بَرَكَات وَأرْسل الشريف سعيد السَّيِّد حَمْزَة بن مُوسَى بن سُلَيْمَان فِي جمَاعَة من الخيالة والمشاة وَمَعَهُمْ حَاكم مَكَّة الْقَائِد أَحْمد بن جَوْهَر وَلما قدم الْحَاج وَخرج الشريف لملاقاته على الْمُعْتَاد لم تخرج مَعَه الْأَشْرَاف فِي العرضة فَبعد أَن حج النَّاس ونزلوا عقد الشريف مَجْلِسا فِيهِ أَحْمد باشا حَاكم جدة وأمير الْحَاج الشَّامي صَالح باشا وأمير الْحَاج الْمصْرِيّ ذُو الفقار بيك وأمير الصرة وأكابر عَسْكَر الحجين فَلَمَّا حَضَرُوا جَمِيعهم شكا من السَّيِّد أَحْمد بن غَالب من جِهَة كِتَابَة الْعَسْكَر وَأَنه مناكد لَهُ فِي الْبِلَاد وَأَنه أفسد عَلَيْهِ الْأَشْرَاف(1/448)
وَأَنه حصل مِنْهُ وَمن جماعته الْفساد فِي الْبِلَاد وَأَرْسلُوا لَهُ السَّيِّد غَالب بن زامل ليحضر فَيظْهر مِمَّن الْخلاف فَامْتنعَ من الْحُضُور فِي بَيت الشريف سعيد وَقَالَ إِن كَانَ الْقَصْد الِاجْتِمَاع فَفِي الْمَسْجِد وَإِن كَانَ لكم دَعْوَى فأوكل وَكيلا يسمع مَا تدعون بِهِ عَليّ فأرسلوا لَهُ من جِهَة كِتَابَة الْعَسْكَر وَمَا بعده فَأجَاب بِأَن هَذِه قَوَاعِد بَيْننَا قد سلفت أَن لصَاحب الرّبع أَن يكْتب عسكراً وَأما قَوْلكُم إِنَّه قد حصل من جماعتي أَو عسكري مفْسدَة فأطلقوا منادياً يُنَادي معاشر النَّاس كَافَّة هَل أحد مِنْكُم يشتكي من أَحْمد ابْن غَالب أَو من جماعته أَو من عسكره شَيْئا أَو أخذُوا حق أحد ظلما أَو ضربوا أحدا فَإِن وجدْتُم مشتكياً صَحَّ مَا قَالَه الشريف سعيد وَإِلَّا فَلَا وَجه لَهُ وَلكم وَأما قَوْلكُم إِنَّا تركنَا العرضة مَعَه فخفنا أَن يَقع شَيْء فينسب إِلَيْنَا أَو إِلَى جماعتنا كل هَذَا وَجَمِيع الْأَشْرَاف اجْتَمعُوا على قلب وَاحِد وخيولهم مسرجة ودروعهم على أظهرهم وملؤا أجياداً إِلَى العقد وتحركت الأنفة الهاشمية الَّتِي تأبى الضيم وَلما سمعُوا جَوَاب السَّيِّد أَحْمد بن غَالب علمُوا أَنه لَا وَجه لَهُ عَلَيْهِ فسعوا فِي الصُّلْح بَينهمَا وَكتب بَينهمَا بذلك حجَّة وطلبوا من ابْن غَالب أَن يَأْتِي إِلَى الشريف سعيد فَأَتَاهُ لَيْلَة ثمَّ أَتَاهُ الشريف سعيد لَيْلَة أُخْرَى وَتمّ الصُّلْح وَحصل من الشريف سعيد فِي ذَلِك الْمَوْسِم أَنه أَمر منادياً يُنَادي فِي الْبِلَاد بِإِخْرَاج الأغراب من مَكَّة من جَمِيع الطوائف فَحصل للنَّاس مزِيد تَعب فَتكلم الْعَسْكَر مَعَه فِي ذَلِك فَرجع فَلَمَّا رأى أَحْمد باشا حَاكم جدة اختلال حَاله تسطى على ربع الْحبّ الجراية الَّتِي ترد إِلَى مَكَّة وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ فَبلغ ذَلِك الْأَشْرَاف فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر الْمحرم افْتِتَاح سنة خمس وَتِسْعين أَرَادَ النُّزُول إِلَى جدة فحشكت عَلَيْهِ الْأَشْرَاف بعد أَن كَلمُوهُ فِي ذَلِك فَامْتنعَ وتحزبوا جَمِيعًا وَقَالُوا لَا ينزل حَتَّى يُعْطِينَا مَا هُوَ لنا وَلَا يبْقى لنا عِنْده شَيْء وَكَانَ ذَلِك بعد أَن قدم أَهله وأثقاله إِلَى خَارج مَكَّة قَاصِدين جدة فَصَارَ حِينَئِذٍ أحير من ضَب واجتمعوا كلهم بِبَيْت السَّيِّد مُحَمَّد بن حمود وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ السَّيِّد ثقبة فَقَالَ لَهُ إِن نزلت قبل أَن تصلح الْأَشْرَاف يَأْخُذُوا جَمِيع أسبابك الَّتِي تقدمتك وينهبوا حَرمك ويقتلوك فأذعن حِينَئِذٍ بوفائهم فَقَالُوا لَا نرضى بذلك حَتَّى يكفل لنا فَكَفَلَهُ كورد أَحْمد أغا وَجَمِيع رُؤَسَاء الْعَسْكَر وَكتب بذلك حجَّة وَأَنه إِن حصل مِنْهُ منع لبَعض حُقُوقهم يكن عاصي الشَّرْع وَالسُّلْطَان ثمَّ خرج من مَكَّة بعد الْعَصْر كالهارب وَطلب مِنْهُم شريفاً يوصله إِلَى جدة خوفًا من الْعَرَب أَن يطمعوا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِك وَأَرْسلُوا(1/449)
مَعَه السَّيِّد مبارك بن نَاصِر ثمَّ اشْتَدَّ الْبلَاء بِالسَّرقَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَكسرت الْبيُوت والدكاكين وَترك النَّاس صَلَاة الْعشَاء وَالْفَجْر بِالْمَسْجِدِ خوف الْقَتْل أَو الطعْن وَصَارَ العبيد لَا يأْتونَ إِلَّا ثَمَانِيَة أَو عشرَة وانقلب ليل النَّاس نَهَار وَكَثُرت الْقَتْلَى فِي الرّعية حَتَّى ضبطت الْقَتْلَى فِي شهر رَمَضَان فبلغت تِسْعَة أشخاص فضجت النَّاس من هَذِه الْأَحْوَال فَأرْسل الشريف سعيد إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة ترجمانه يذكر فَسَاد مَكَّة وَأَنَّهَا خربَتْ وَأرْسل يطب عسكراً لإصلاحها وَكَانَت النَّاس فِي هَذِه الْمدَّة يتوسلون إِلَى الله تَعَالَى أَن يصلح الْأُمُور فَاسْتَجَاب الله دعاءهم فَاقْتضى نظر السُّلْطَان وأركان دولته أَنه لَا يصلح هَذَا الْخلَل إِلَّا الشريف أَحْمد بن زيد فَأعْطى الشرافة فِي قصَّة ذكرنَا هُنَا فِي تَرْجَمته والشريف سعيد وَعَمه عَمْرو ينتظران الْجَواب فَلَمَّا كَانَ سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة خمس وَتِسْعين ركب الشريف سعيد إِلَى أَحْمد باشا صَاحب جدة وَكَانَ بِالْأَبْطح بُسْتَان الْوَزير عُثْمَان بن حميدان وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى جَانب يسير من اللَّيْل ثمَّ ركب وَقصد ثنية الْحجُون ذَاهِبًا إِلَى السَّيِّد غَالب بن زامل وَكَانَ نازلاً بِذِي طوى فَلَمَّا جَاوز الْحجُون إِذا هُوَ بِرَجُل على ذَلُول فاستخبره من أَي الْعَرَب فَقَالَ من بني صَخْر فَقَالَ لَهُ الشريف سعيد أَمَعَك كتاب من يحيى بن بَرَكَات فَقَالَ لَا وَكَانَ الشريف يحيى ذهب لملاقاة الْحَاج الشَّامي فَأمر بضربه وهدد بِالْقَتْلِ فأقره بِأَنَّهُ رَسُول من الشريف أَحْمد بن زيد إِلَى السَّيِّد أَحْمد بن غَالب وَأَنه قد جَاءَ مُتَوَلِّيًا مَكَّة وَلحق الْحَاج الشَّامي فِي الْعَلَاء ثمَّ ذهب لَيْلَة الثُّلَاثَاء تَاسِع عشري الشَّهْر المذكو إِلَى بَيت عَمه السَّيِّد عَمْرو واستدعى السَّيِّد غَالب بن زامل وَالسَّيِّد نَاصِر بن أَحْمد الْحَرْث وَعبد الله بن هَاشم وَتَشَاوَرُوا فِي إِظْهَار هَذَا الْأَمر كَيفَ يكون فاتفق الْأَمر على أَن يرسلوا إِلَى السَّيِّد مساعد بن الشريف سعد ابْن زيد فأرسلوا إِلَيْهِ السَّيِّد عبد الله بن هَاشم وَتَشَاوَرُوا فِي إِظْهَار هَذَا الْأَمر كَيفَ يكون فاتفق الْأَمر على أَن يرسلوا إِلَى السَّيِّد مساعد بن الشريف سعد ابْن زيد فأرسلوا إِلَيْهِ السَّيِّد عبد الله بن هَاشم وأتى بِهِ فَلَمَّا دخل بَيت السَّيِّد عَمْرو وَرَأى الْجَمَاعَة مُجْتَمعين جلس مَعَهم فَقَالَ لَهُ الشريف سعيد يَا سيد مساعد لم أرسل إِلَيْك فِي هَذَا الْوَقْت إِلَّا قصدي أودعك أَهلِي فَإِن عمك الشريف أَحْمد تولى مَكَّة وَأَنَّك تقوم مقَامه حَتَّى يصل وَأرْسل الشريف سعيد إِلَى أغاوات الْعَسْكَر الَّذين مَعَه وَقَالَ لَهُم إِن الْأَمر للسَّيِّد أَحْمد بن زيد فاخدموا سيدكم وَخرج الشريف سعيد تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الْوَادي وَأقَام بِهِ حَتَّى سَافر الْحَاج الْمصْرِيّ من مَكَّة فَذهب مَعَه إِلَى مصر وَهُوَ الْآن مُقيم بهَا(1/450)
الشَّيْخ بَرَكَات الملقب زين الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الْجمل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الإِمَام الْعَالم الصَّالح المعتقد كَانَ حَافظ لكَلَام الله تَعَالَى عَارِفًا بالفقه والفرائض والعربية كثير التَّحَرِّي فِي الْعِبَادَة فَقِيرا صَابِرًا قانعا متواضعا عابدا زاهدا لَا يغتاب وَلَا يسمع الْغَيْبَة لزم الشهَاب بن الْبَدْر الْغَزِّي وَأخذ عَنهُ القراآت والفرائض والحساب وتفقه بالشرف يُونُس العيثاوي وَكتب الْكثير مَعَ ضعف بَصَره وانتفع بِهِ خلق فِي الْقُرْآن وَغَيره من الْعُلُوم وَكَانَ إِمَام الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بالمغيربية لصيق الدرويشية وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من الْقَوْم الأخيار وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث صفر سنة تسع عشرَة بعد الْألف صلى الْمغرب وَصعد إِلَى بَيته بالمكتب عِنْد الشادبكية دَرَجَتَيْنِ أَو ثَلَاثَة فَقَط مَيتا وَوجد فِيهِ طاعون وَصلى عَلَيْهِ بالسيبائية وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من مَقَابِر بني قَاضِي عجلون قَرِيبا من ضريح سَيِّدي بِلَال الحبشي إِلَى جِهَة الغرب عَن نَحْو سِتِّينَ سنة رَحمَه الله تَعَالَى
الْأَمِير برويز بن عبد الله الْأَمِير الْكَبِير أحد أَعْيَان كبراء دمشق وَأَصْحَاب الرَّأْي وَالتَّدْبِير وَكَانَ أَمِيرا جليل الْقدر عَليّ الهمة نَافِذا القَوْل مُحْتَرما يترددا إِلَيْهِ نواب الشَّام وقضاتها وَيَصْدُرُونَ عَن رَأْيه وَهُوَ فِي الأَصْل من أرقاء عَليّ حَلَبِيّ دفتري الشَّام سَابِقًا الَّذِي كَانَ يسكن بمحلة القيمرية فتنقل فِي مَرَاتِب الأخيار حَتَّى صَار أَمِير الْأُمَرَاء وتقاعد وَعمر مَسْجِدا بِالْقربِ من دَاره بمحلة القيمرية وَيعرف الْآن بِهِ ورتب لَهُ إِمَامًا ومؤذنا وأجزاء بِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من أَصْحَاب المروآت والوجاهة والمآثر الفائقة وَلم يسمع عَنهُ زلَّة وَبلغ من الْعُمر نَحْو تسعين سنة أَو قَارب الْمِائَة وَقتل فِي محاربة عَليّ بن جانبولاذ وَقد ذهب إِلَى الصالحية وزار بعض زيارتها ثمَّ ذهب إِلَى العراد وَكَانَت الْوَاقِعَة ثَانِي يَوْم ذَهَابه فَوجدَ مقتولا ودفنت جثته هُنَاكَ وَكَانَ ذَلِك فِي سنة خمس عشرَة وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ بُسْتَان الرُّومِي الْوَاعِظ البورسوي الْحَنَفِيّ نزيل دمشق وَشَيخ مدرسة المرحوم أَحْمد باشا الْمَعْرُوف بشمسي وَكَانَ عَلَيْهِ الْوَعْظ فَوق الْكُرْسِيّ الرخام فِي مُقَابلَة مَزَار حَضْرَة النَّبِي يحيى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَا خطابة السليمية بالصالحية وَكَانَ عَالما عَاملا صَالحا طارحا للتكلف وَلِلنَّاسِ فِيهِ إعتقاد عَظِيم خُصُوصا الأتراك يحْضرُون مجْلِس وعظه ويتهافتون على فَوَائده وَكَانَت عمدته فِي إمْلَائِهِ على عبارَة القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ وَالْإِمَام الْبَغَوِيّ وَكَانَ يحط على المتكبرين ويحاكيهم فِي أفعالهم(1/451)
ويبالغ فِي تقبيح أُمُورهم ويبذل الْجهد فِي نصائحهم وهم مَعَ ذَلِك يحبونه ويحترمونه وَكَانَ عفيفا قانعا مَيْمُون الْوَجْه مَأْمُون العائلة يتَرَدَّد إِلَى الْحُكَّام فَلَا يتَكَلَّم الأنجير وَيُحب الصَّالِحين ويعترف بِالْفَضْلِ لأَهله وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث بعد الْألف عَن نَيف وَخمسين سنة وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
بشير بن مُحَمَّد الخليلي الْقُدسِي الأديب الشَّاعِر الْفَائِق وَكَانَ بالقدس أحد من تفرد بالشعر وَالْأَدب وَلم يكن فِي زَمَنه من أقرانه فِيهِ الْأَشْرَف الدّين العسيلي الْآتِي ذكره لَكِن شعر بشير أغزر رمادة وأجود تخييلا وقفت لَهُ على قصيدة أجَاب بهَا عَن قصيدة شيخ الْإِسْلَام خير الدّين الرَّمْلِيّ الَّتِي صنعها وَهُوَ بالقدس يمتدحها ويمتدح أَهلهَا حِين رجل إِلَيْهَا ومطلع قصيدة الشَّيْخ خير الدّين
(مَا كَانَ مرمى فُؤَادِي حَيْثُ هيئ لي ... فِيهِ الْبناء بهند بعد مرتحلي)
وقصيدة بشير هِيَ هَذِه
(صوب من الْغَيْث وافي زَائِد الهطل ... أَحْيَا رَبِّي الْقُدس عِنْد الجدب وَالْمحل)
(أم شمس فضل ترقت فِي مطالعها ... أوج الفخار فَحلت ذرْوَة الْحمل)
(أم بدر أفق الْمَعَالِي قد تنقل فِي ... بروجه وَكَانَ الْبَدْر فِي النَّقْل)
(لَا بل هُوَ الْجَامِع الْعرف الَّذِي ملكت ... أَوْصَافه الْغرَر حب السهل والجبل)
(أَرَادَ رَبك فِي تحريكه حكما ... وَرُبمَا صحت الْأَجْسَام الْعِلَل)
(فزين الْمَسْجِد الْأَقْصَى بحليته ... وشوه الرملة الرملاء بالعطل)
(فاهتز من طرب هَذَا لزائره ... وَارْتجَّ من حَرْب هَذَا المرتحل)
(وَكم على الْمَسْجِد الأقدسي من فَرح ... وَكم على السَّاحِل البحري من خبل)
(وَكَيف لَا وَهُوَ خير أَن أَقَامَ على ... أَرض تسامت وَأَن يرحل فَلَا تسل)
(تجمعت فِيهِ أَوْصَاف الْكَمَال كَمَا ... تجمعت قسم التَّفْصِيل فِي الْجمل)
(أَحْيَا الدُّرُوس وَقد أحفى الدُّرُوس بهَا ... وجاد وإبلها الظمآن بالنهل)
(معالم لَو رأى الرَّازِيّ حقائقها ... لبات بِالريِّ يشكو برح الغلل)
(بجود كف لَو الطَّائِي شَاهده ... لقَالَ لَا نَاقَتي فِيهَا وَلَا جمل)
(ومنطق يتْرك الْأَلْبَاب ذاهله ... والكامل الْعقل مثل الشَّارِب الثمل)
(كم أنشدت لِذَوي الْفَتْوَى براعته ... أَصَالَة الرَّأْي صانتني عَن الخطل)(1/452)
(قلدت جيداها إِلَى الْقُدس عقد ثَنَا ... من درّ ألفاظك الْخَالِي عَن الْخلَل)
(قصيدة مَا لَهَا مثل يناظرها ... سَارَتْ بلاغتها فِي الْكَوْن كالمثل)
(لَو أنصفوا لم يكن موجودهم بَدَلا ... عَنْهَا وَهل ليتيم الدّرّ من بدل)
(من أعجب الْأَمر تعريضي لَهَا هذراً ... وَلَو سترت عواري كَانَ أصلح لي)
(فَمَا نظامي لما أَن يُقَاس بهَا ... إِلَّا نَظِير قِيَاس الشَّمْس مَعَ زحل)
(لَكِن رَأَيْت انتظامي مَعَ قُصُور يَدي ... فِي سلك مدحكم عفوا من الزلل)
(فرمته فَأتى يسْعَى على عجل ... فاعجب لَهُ من بسيط جَاءَ فِي رمل)
(ولذ لي وصفك الزاكي فأذهلني ... عَن الْبدَاءَة بالتشبيب والغزل)
(أَنا البشير وكل اسْم لصَاحبه ... مِنْهُ نصيب بنجح الْقَصْد والأمل)
(فدم فَمَا زلت نورا يستضاء بِهِ ... إِلَى الْهدى وبعون الله لم تزل)
(تَحْمِي حمى مِلَّة الْمُخْتَار أشرف من ... نَالَ الفخار من الْأَمْلَاك وَالرسل)
(صلى عَلَيْهِ إلهي دَائِما أبدا ... والآل والصحب أهل الْعلم وَالْعَمَل)
(مَا أنشدت فاستمالت قلب سامعها ... مَا كَانَ مرمى فُؤَادِي حَيْثُ هيىء لي)
وَسمعت خبر فضائله كثيرا من أهل الْقُدس وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ من الشُّعَرَاء البلغاء وَكَانَت وَفَاته سنة سِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
بعث الله الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ نزيل دمشق وَرُبمَا قيل فِي اسْمه بعث وَهُوَ مَنْقُول عَن الْفِعْل الْمَاضِي وَالْأول مَنْقُول عَن الْجُمْلَة شيخ المولد السوي وَأحد المؤذنين بِجَامِع بني أُميَّة وَكَانَ أعمى وَحفظ الْقُرْآن على كبر بعد مَجِيئه إِلَى دمشق وجوده على الشَّيْخ أَحْمد الضَّرِير وَكَانَ أعرف أهل زَمَانه بالموسيقى وَأَحْسَنهمْ صَوتا وَأَقْوَاهُمْ ملكة لَهُ تصرف عَجِيب فِي صَوته مَعَ جهارته ونداوته وَكَانَ يَقُول إِن الَّذِي بِهِ من حسن الصَّوْت بِدُعَاء أستاذ كَانَ لَهُ بِمصْر من الصَّالِحين وَأَنه لما أَرَادَ السّفر من مصر ذهب إِلَى وداعه فَقَالَ إِن شِئْت فتحت فَاك وَإِن شِئْت فتحت يدك قَالَ فَقلت لَهُ افْتَحْ فمي قَالَ وظننت أَنه يطعمني شَيْئا قَالَ افْتَحْ ففتحته فَوضع يَده على فمي وَقَالَ بسط الله لَك الشُّهْرَة فِي الْآفَاق فرزق الْحَظ الْعَظِيم وَكَانَ لَا ينشد شعرًا إِلَّا معرباً فصيحاً وَكَانَ آدم اللَّوْن وَفِيه يوقل مامية الرُّومِي الشَّاعِر مُشِيرا إِلَى فظاظته إِذا طلب للمولد
(بعث الله ضريراً ... أورث الْقلب عذَابا)
(قلت لما طيروه ... بعث الله غرابا)(1/453)
وَكَانَ فِي أول أمره يعْمل الْقَصْد إِذا دخل مجْلِس الأكابر فَلَمَّا حفظ الْقُرْآن صَار يَقُول لأهل الْمجْلس الَّذِي يدْخل إِلَيْهِ أسمعكم آيَات أم أَبْيَات وهم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يختاروا فِي ظَاهر الْحَال على كتاب الله غَيره وَإِن كَانَت خواطرهم فِي غير ذَلِك فَلَا يكون جوابهم إِلَّا طلب الْقُرْآن وَحج فِي سنة ثَمَان بعد الْألف فَلم ينشد شَيْئا فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنه قَرَأَ شَيْئا من الْقُرْآن وسافر قَدِيما إِلَى قسطنطينية وَقَرَأَ المولد فِي حَضْرَة السُّلْطَان مُرَاد ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وسافر إِلَى طرابلس وَاسْتقر آخرا بِدِمَشْق وَكَانَت مُدَّة إِقَامَته بهَا أَرْبَعِينَ سنة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من محَاسِن وقته وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْإِثْنَيْنِ رَابِع شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة والف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
الشَّيْخ بكار بن عمرَان الرحيبي المولد الدِّمَشْقِي الْوَلِيّ الْعُرْيَان الْمُسْتَغْرق صَاحب الْحَال الباهر والكشف الصَّرِيح الَّذِي لَا يتَخَلَّف وَاتفقَ أهل عصره على ولَايَته وتفوقه وَله كرامات كَثِيرَة حدث بعض الثِّقَات قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه مُحَمَّد القشاشي نزيل مَكَّة وَنحن بهَا فِي سَابِع ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف أَن الشَّيْخ بكارا كَانَ عِنْده فِي ذَلِك الْيَوْم وَأخْبرهُ أَن الْوَزير الْأَعْظَم قره مصطفى باشا قتل وَجَاء خَاتم الوزارة إِلَى نَائِب الشَّام مُحَمَّد باشا سبط رستم باشا قَالَ فشككت فِي هَذَا الْخَبَر فَلَمَّا وافيت دمشق تحققته فَظهر لي أَن ختم الوزارة كَانَ وصل إِلَى الشَّام فِي الْيَوْم الَّذِي أخبرتي فِيهِ القشاشي بالْخبر وَسَأَلت عَن الشَّيْخ بكار هَل فَارق الشَّام فَقيل لي لم نره فَارقهَا مُنْذُ زمَان طَوِيل وَكَانَ كثير من الْحجَّاج يشاهدونه فِي الْموقف وَاقِفًا بِعَرَفَة وَذكر عَنهُ أَنه لما قدم الْمولى مُحَمَّد الْمَعْرُوف بقره جلبي زَاده إِلَى دمشق قَاضِيا لمَكَّة زَارَهُ الشَّيْخ بكار بِمَنْزِلَة الَّذِي نزل فِيهِ وَلبس صوفه وَوضع لَهُ الوسادة وَأمره بِالنَّوْمِ وَأخذ يُورد كلَاما مضمونه صَرِيح فِي تَوليته قَضَاء دمشق وَأَنه لَا يذهب مَكَّة فاتفق فِي ذَلِك الْيَوْم أَنه جَاءَهُ الْأَمر بتوليته قَضَاء دمشق وَصَرفه عَن مَكَّة وعَلى كل حَال فصلاحة وولايته مِمَّا أطبقت عَلَيْهَا أهل دمشق وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس الْمَعْرُوفَة بتربة الغرباء وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا لم يتَخَلَّف عَنْهَا أحد وقبره الْآن مَعْرُوف يزار ويتبرك بِهِ وَمِمَّا قيل فِي تَارِيخ وَفَاته
(مذ غَدا بكار فَرد الواصلين ... نازلا فِي ظلّ رب الْعَالمين)(1/454)
(فجنان الْخلد نادت فرحة ... مرْحَبًا أَهلا بفخر القادمين)
(طبت بكارا بهَا أرمخ وَقل ... ادخلوها بِسَلام آمِنين)
والرحيبي بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ بعْدهَا بَاء مُوَحدَة نِسْبَة إِلَى قريب الرحيبة من ضواحي دمشق بِالْقربِ من منزلَة القطيفة
بكر الْبَغْدَادِيّ تقدم ذكره ضمن تَرْجَمَة الْحَافِظ أَحْمد الْوَزير وعلينا هُنَا أَن نَعْرِف أَصله فَنَقُول هُوَ رومي الأَصْل سكن بَغْدَاد وَصَارَ من اكابر عسكرها وتغلب عَلَيْهَا وانبسطت يَده على مملكتها حَتَّى صَار إِذا جَاءَت وزراؤها من قبل السلاطين آل عُثْمَان متولين عَلَيْهَا مَا ينفذ من حكمهم إِلَّا مَا نفذه وَهُوَ الَّذِي أَدخل الشاه بَغْدَاد كَمَا ذكرته مفصلا فِي تَرْجَمَة الْحَافِظ وَقَتله الشاه وَولده مُحَمَّد شَرّ قتلة وَكَانَ قَتلهمَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
برهَان الدّين بن مُحَمَّد البهنسي الدِّمَشْقِي الْمَشْهُور بشقلبها من ذَوي الْبيُوت بِدِمَشْق الَّذين خرج مِنْهُم عُلَمَاء وفضلاء وَتقدم ابْن عَمه أَحْمد الْخَطِيب وَسَيَأْتِي أَبُو أَحْمد يحيى وَهَذَا برهَان الدّين نَشأ فِي مبدا أمره يَبِيع الْحَرِير بحانوت قرب بَاب العنبرانيين من أَبْوَاب جَامع بني أُميَّة ثمَّ نما حَاله وأثرى فَرَحل إِلَى الرّوم وَعَاد مدرسا بِالْمَدْرَسَةِ السليمية وعد ذَلِك من الْعَجَائِب وَلم يطلّ أمره بهَا وَأَخذهَا عَنهُ الْمولى يُوسُف ابْن أبي الْفَتْح إِمَام السُّلْطَان فَتوجه إِلَى الرّوم ثَانِيًا وَولي قَضَاء صيدا وَلما عزل عَنْهَا اسْتَقر بِدِمَشْق وبقى يُعَامل الفلاحين واشتهر بالربا وَبلغ فِيهِ مبلغا لَيْسَ وَرَاء غَايَة وَكَانَ إِذا اسْتحق مَا لَهُ على الدَّائِن يغلظ عَلَيْهِ فِي طلبه وَيَقُول لَا سَبِيل إِلَّا أَن تُعْطِينِي مَالِي أَو تشقلبه وَهَذِه عبارَة جَارِيَة على السن الْعَوام يَقُولُونَ شقلب مَاله أَي رابح فِيهِ مرّة ثَانِيَة فَكَانَ مِنْهُم من يُعْطِيهِ مَاله وَمِنْهُم من يرابحه وَبِذَلِك عرف بشقلبها وَجمع كتا نفيسة وأملاكا وعقارات وامتحن مَرَّات فَكَانَ قَضَاء دمشق يهينونه كثيرا وَهُوَ لَا يعبأ بذلك وَكَانَ قرب دره قناة مَاء فأخرجها إِلَى الشَّارِع وعمرها وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف فَقَالَ الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي مؤرخا بناءها وَهُوَ من التواريخ العجيبة وَهُوَ قَوْله
(لبرهان قناة قد بناها ... وشقلبها فَتلك لَهُ سمات)
(فشقلب وَاحِدًا فِي الْعَدو احسب ... وأرخها مشقلبة قناة)
قلت قد اعْتبر التَّاء المربوطة فِي قناة هَاء وَهِي مستعملة عِنْد الأدباء كَذَلِك(1/455)
كَمَا فِي المقامات الحريرية وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره الْعَزِيز
بير مُحَمَّد الْمَعْرُوف بمفتي اسكوب كَانَ أَبوهُ مَمْلُوكا وَولد هُوَ بقسطمون والتحق أَولا بطَائفَة البكتاشية من الدراويش ثمَّ طلب الْعلم وبرع ولازم من ابْن جوى ثمَّ صَار مفتيا بِمَدِينَة زعرة ودرس بهَا بمدرسة إِبْرَاهِيم الْمَقْتُول ثمَّ أعْطى فَتْوَى اسكوب وَبَقِي بهَا مُدَّة مديدة واشتهر صيته وَكَانَ فَقِيها مطلعا وَقد جمع مَا وَقع فِي زمن إفتائه من الْمسَائِل وأضاف إِلَيْهَا نقولها ودونها ورتبها على أَبْوَاب الْفِقْه وَهِي موسومة بفتاوي الإسكوبي وَهِي مَشْهُورَة عِنْد الروميين يعتمدون عَلَيْهَا فِي المراجعات وَكَانَت وَفَاته صَاحب التَّرْجَمَة سنة عشْرين وَألف هَكَذَا ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيله التركي
(حرف التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق)
تَاج الدّين بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن محَاسِن الدِّمَشْقِي المولد وَالدَّار الأديب الألمعي كَانَ أحد أَعْيَان التُّجَّار المياسير وَكَانَ مَعَ ثروته لَا يَنْفَكّ عَن المذاكرة وَقَرَأَ فِي مبدأ أمره كثيرا وَحصل ورحل إِلَى مصر والحجاز للتِّجَارَة وَكَانَ لَهُ وجاهة تَامَّة بَين ابناء نَوعه ورزق الْحَظ الْعَظِيم وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله شعر مطبوع غير متكلف فَمِنْهُ مَا قَالَه بِالْقَاهِرَةِ متشوقا إِلَى دمشق
(مُنْذُ فَارَقت جلقا ورباها ... لم تذق مقلتي لذيذ كراها)
(ولسكانها الْأَحِبَّة عِنْدِي ... فرط شوق بحث لَا يتناهى)
(فسقى الله ربعهَا كل غيث ... وَحمى الله أَهلهَا وحماها)
وَكتب إِلَى بعض أحبائه
(يَا أحباي والمحب ذُكُور ... هَل لأيام وصلنا من رُجُوع)
(وَترى الْعين مِنْكُم جمع شَمل ... مِثْلَمَا كَانَ حَالَة التوديع)
وَكتب لِابْنِهِ مُحَمَّد الْخَطِيب بِجَامِع بني أُميَّة فِي صدر مُكَاتبَة من مصر يَقُول
(أبدا إِلَيْك تشوقي يتزايد ... ولديك من صدق الْمحبَّة شَاهد)
(والتيه إِن البعاد لمتلفي ... إِن دَامَ مَا يُبْدِي النَّوَى وأكابد)
(كم ذَا أعلل حر قلبِي بالمنى ... فيعيده من طول نأبك عَائِد)(1/456)
(وجار الزَّمَان على فِي أَحْكَامه ... ولطالما شكت الزَّمَان أساود)
(والدهر حاول أَن يصدع شملنا ... فامتد مِنْهُ للتفرق ساعد)
(يَا لَيْت شعري هَل يرق وطالما ... ألفيته لأولى الْكَمَال يعاند)
(اشكوه للْمولى الَّذِي الطافه ... تزوي الخطوب إِذا أَتَت وتساعد)
وَكتب مَعَ سجادة أهداها لبَعض الْعلمَاء
(مولَايَ قد أرْسلت سجادة ... هَدِيَّة من بعض أنعامكم)
(فلتقبلوها إِذْ مرادي بِأَن ... تنوب فِي تَقْبِيل أقدامكم)
وَكتب على ديوَان أبي بكر الْجَوْهَرِي
(طالعت هَذَا السّفر فِي لَيْلَة ... سامرت فِيهَا الْبَدْر والمشترى)
(رَأَيْته عقدا ثمينا وَلَا ... يستنكر العقد على الْجَوْهَرِي)
وَوجدت فِي بعض المجاميع إِن نِسْبَة بني محَاسِن فِي الأَصْل لبني فِرْعَوْن وَكتب صَاحب ذَلِك الْمَجْمُوع وَمِمَّا يرشد إِلَى مَا قُلْنَا أَنه لما تزوج تَاج الدّين يَعْنِي صَاحب التَّرْجَمَة ابْنة الْحسن البوريني أنْشد أَبُو الْمَعَالِي درويش مُحَمَّد الطالوي لنَفسِهِ فِي ذَلِك قَوْله
(بَارك الله لِلْحسنِ ... ولبورين بالختن)
(يَا ابْن فِرْعَوْن قد ظَفرت ... وَلَكِن ببنت من)
وَالْأَصْل فِيهِ قَول مُحَمَّد بن حَازِم الْبَاهِلِيّ لما تزوج الْمَأْمُون بوران بنت الْحسن
(بَارك الله لِلْحسنِ ... ولبوران بالختن)
(يَا ابْن هرون قد ظَفرت ... وَلَكِن ببنت من)
فنقله الطالوي نقلا اسْتَحَقَّه بِهِ ويروي أَن قَول الْبَاهِلِيّ لما بلغ الْمَأْمُون قَالَ وَالله مَا نَدْرِي خيرا أَرَادَ أم شرا وقصة تزوج الْمَأْمُون بوران مستفيضة شائعة وَكَانَت ولادَة تَاج الدّين فِي سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لست بَقينَ من شعْبَان سنة سِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير وَسَيَأْتِي ابناه عبد الرَّحِيم وَمُحَمّد وَابْن أَخِيه يحيى
القاصي تَاج الدّين بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن تَاج الدّين بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن تَاج الدّين أبي نصر عبد الْوَهَّاب ابْن أقضى الْقُضَاة جمال الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن يحيى بن يحيى ابْن عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي الْمدنِي ثمَّ الْمَكِّيّ وَيعرف بِابْن يَعْقُوب كَذَا ذكر نسبه ابْن فَهد فِي ذيله القَاضِي الْفَاضِل والحبر الْكَامِل كَانَ بِمَكَّة من صُدُور الخطباء والمدرسين وَمن أكَابِر الْعلمَاء الْمُحَقِّقين وَمِمَّنْ شيد ربوع الْأَدَب وَكَانَ بهَا ترجمان(1/457)
لِسَان الْعَرَب غذته الْفَضَائِل بدرها وكللت تاجه بدرها مَعَ طيب محاورة تسكر مِنْهَا الْعُقُول وتهزأ بالشمول وجاه عِنْد الدولة ظَاهر وَكلمَة مسموعة عِنْد البادي والحاضر ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر شُيُوخ عصره كالعلامة عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَعبد الْملك العصامي وخَالِد الْمَالِكِي وَغَيرهم وَأَجَازَهُ عَامَّة شُيُوخه وتصدر للتدريس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وطار صيته عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ إِمَام الْإِنْشَاء فِي عصره ومفرد سمط المكاتبات فِي دهره فَلَا برح يتفجر ينبوع البلاغة من بنانه ويتلاعب بأساليب البراعة على طرف لِسَانه وَله ديوَان إنْشَاء جمع من المكاتبات أسماها وَمن المراسلات أسناها وفتاوى فقهية جمعهَا وَلَده أَحْمد فِي مَجْمُوع سَمَّاهُ تَاج المجاميع وَأما خطب الْجمع والعيد وَالِاسْتِسْقَاء فَجعله مجموعاً مُسْتقِلّا وَله رِسَالَة فِي شرح قصيدة الْعَفِيف التلمساني الَّتِي أَولهَا
(إِذا كنت بعد الصحو فِي المحو سيدا ... )
سَمَّاهَا تطبيق المحو بعد الصحو على قَوَاعِد الشَّرِيعَة والنحو وَله رِسَالَة فِي الاسْتِغْفَار سَمَّاهَا فصوص الْأَدِلَّة المحققة فِي نُصُوص الاسْتِغْفَار الْمُطلقَة وَله رِسَالَة فِي الْكَلَام على الأسئلة الْوَارِدَة من بِلَاد جاوه فِيمَا يتَعَلَّق بالوحدانية سَمَّاهَا الجادة القويمة إِلَى تَحْقِيق مسئلة الْوُجُود وَتعلق الْقُدْرَة الْقَدِيمَة وَله رِسَالَة فِي العقائد سَمَّاهَا بَيَان التَّصْدِيق مفيدة جدا خُصُوصا للمبتدي وَله رسالتان كبرى وصغرى فِي شرح الْبَيْتَيْنِ اللَّذين هما
(من قصر اللَّيْل إِذا زرتني ... أَشْكُو تشكين من الطول)
(عدوّ عَيْنَيْك وشانيهما ... أصبح مَشْغُولًا بمشغول)
وَله أشعار كَثِيرَة فَمن ذَلِك قصيدته الَّتِي مدح بهَا الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس ومطلعها قَوْله
(غذيت در التصابي قبل ميلادي ... فَلَا ترم يَا عذولي فِيهِ إرشادي)
(غي التصابي رشاد وَالْعَذَاب بِهِ ... عذب لدي كبرد المَاء للصادي)
(وعاذل الصب فِي شرع الْهوى حرج ... يروم تَبْدِيل إصْلَاح بإفساد)
(لَيْت العذول حوى قلبِي فيعذرني ... أوليت قلب عذولي بَين أكبادي)
(لَو شام برق الثنايا والتثني من ... تِلْكَ القدود ثنى عطفا لإسعادي)
(وَلَو رأى هادي الجيداء كَانَ درى ... أَن اشتقاق الْهدى من ذَلِك الْهَادِي)
(كم بَات عقدا عَلَيْهِ ساعدي ويدي ... نطاق مُجْتَمع المخفي والبادي)(1/458)
(إِذْ أعين الغيد لَا تنفك ظامئة ... لورد مَاء شَبَابِي دون أندادي)
(فيا زمَان الصِّبَا حييت من زمن ... أوقاته لم نرع فِيهَا بإنكاد)
(وَيَا أحبتنا روى معاهدكم ... من العهاد هتون رائح غاد)
(معاهد كنّ مصطافي ومرتبعي ... وَكم بهَا طَال بل كم طَابَ تردادي)
(يَا راحلين وقلبي إِثْر ظعنهم ... ونازحين وهم ذكري وأورادي)
(إِن تَطْلُبُوا شرح مَا أَيدي النَّوَى صنعت ... بمغرم حلف إيحاش وإيحاد)
(فقابلوا الرّيح إِن هبت شآمية ... تروي حَدِيثي لكم مَوْصُول إِسْنَاد)
(والهف نَفسِي على مغنى بِهِ سلفت ... سَاعَات أنس لنا كَانَت كأعياد)
(كَأَنَّهَا وأدام الله مشبهها ... أَيَّام دولة صدر الدست والنادي)
(ذُو الْجُود مَسْعُود المسعود طالعه ... لَا زَالَ فِي برج إقبال وإسعاد)
(عَادَتْ بدولته الْأَيَّام مشرقة ... تهز مختالة أعطاف مياد)
(وقلد الْملك لما أَن تقلده ... فخراً على مرّ أزمان وآباد)
(وَقَامَ بِاللَّه فِي تَدْبيره فغدا ... موفقاً حَال إصدار وإيراد)
(حق لَهُ الْحَمد بعد الله مفترض ... فِي كل آونة من كل حَمَّاد)
(أنقذتهم من يَد الْأَعْدَاء متخذاً ... عِنْد الْإِلَه يدا فيهم بإنجاد)
(داركتهم سهداً رمقي فعادلهم ... غمضٌ لجفن وأرواح لأجساد)
(بِشِرَاك يَا دهر حَاز الْملك كافله ... بِشِرَاك يَا دهر أُخْرَى بشرها باد)
(عَادَتْ نُجُوم بني الزهراء لَا أفلت ... بعودة الدولة الزهرا لمعتاد)
(واخضل روض الْأَمَانِي
حِين أَصبَحت الأجواد ... عقدا على أجياد أجياد)
(وَأصْبح الدّين وَالدُّنْيَا وأهلهما ... فِي ظلّ ملك لظل الْعدْل مدّاد)
(يُبِيح هام الأعادي من صوارمه ... مَا استحصدت بالتعاصي من كل حصاد)
(فهم أيادي أعاديه ونائله ... على الورى أَصبَحت أطواق أجياد)
(يُفْضِي ميمم جدوى راحتيه إِلَى ... طلق الْمحيا كريم الْكَفّ جواد)
(بذل الرغائب لَا يعتده كرماً ... مَا لم يكن غير مَسْبُوق بميعاد)
(وَالْعَفو عَن قدرَة أشهى لمهجته ... صينت وأشفى من اسْتِيفَاء إيعاد)
(مآثر كالدراري رفْعَة وسناً ... وَكَثْرَة فَهِيَ لَا تحصى بإعداد)
(فَأَنت من معشر إِن غَارة عرضت ... خفوا إِلَيْهَا وَفِي النادي كأطواد)(1/459)
(كم هجمة لَك والأبطال محجمة ... ووقفة أوقفت لَيْث الشرى العادي)
(بِكُل مُجْتَمع الْأَطْرَاف معتدل ... لدن لعرق نجيع الْقرن فصاد)
(فَخر الْمُلُوك الألى تزهو مناقبهم ... دم حائزاً ملك آبَاء وأجداد)
(وليهن حلته إِذْ رَاح يلبسهَا ... فَأَصْبَحت خير أَثوَاب وأبراد)
(واستجل أبكار أفكار مخدرة ... قد طَال تعنيسها من فقد أنداد)
(كم ردّ خطابها حَتَّى رأتك وَقد ... أمّتك خاطبة يَا نسل أمجاد)
(أفرغت فِي قالب الْأَلْفَاظ جوهرها ... سكباً بذهن وريّ الزند وقاد)
(وصاغها فِي معاليكم وأخلصها ... ود ضميرك فِيهِ عَادل اشهاد)
(يَحْدُو بهَا العيس حاديها إِذا رزمت ... من طول وخد وإرقال وآساد)
(كَأَنَّهَا الراح بالألباب لاعبة ... إِذا شدا بَين سمار بهَا شادي)
(بفضلها فضلاء الْعَصْر شاهدة ... وَالْفضل مَا كَانَ عَن تَسْلِيم أضداد)
(فَلَو غَدَتْ من حبيب فِي مسامعه ... أَو الصفي استحلا بغض حساد)
(واستنزلا عَن مطايا الْقَوْم رحلهما ... واستوقفا العيس لَا يَحْدُو بهَا الْحَادِي)
(وحسبها فِي التسامي والتقدم فِي ... عد المفاخر إِذْ تعدو لتعداد)
(تقريضها عِنْدَمَا جَاءَت مُعَارضَة ... عوجا قَلِيلا كَذَا عَن أَيمن الْوَادي)
وَهِي عرُوض قصيدة الأديب الْفَاضِل أَحْمد بن عِيسَى المرشدي الْمُقدم ذكره ومطلعها الَّذِي ذكره عوجا قَلِيلا وَقد ذكرتها برمتها فِي تَرْجَمَة المرشدي الْمُقدم ذكره وَمن فَوَائده أَنه سُئِلَ عَن قَول الصفي الْحلِيّ
(فلئن سطت أَيدي الْفِرَاق وأبعدت ... بَدْرًا تحجب نصفه بنصيف)
(فَلَقَد نعمت بوصله فِي منزل ... قد طَابَ فِيهِ مربعي ومصيفي)
فَأجَاب بقوله لَا يخفى أَن النصيف هُوَ الْخمار فَكَانَ الشَّاعِر تخيل أَن الجبين بدر تَامّ كَامِل الاستدارة ستر الْخمار نصفه الْأَعْلَى فَلَمَّا تخيل ذَلِك قَالَ بَدْرًا تحجب نصفه بنصيف ثمَّ ضمنه بقوله
(أفدى الَّتِي جلب الغرام جبينها ... تَحت الْخمار لقلبي المشغوف)
(فصبا لَهُ لما تحقق أَنه ... بدر تحجب نصفه بنصيف)
وَقد سُئِلَ عَنهُ الإِمَام زين العابدين الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي إِمَام الْمقَام فَأجَاب بِمَا لَفظه النصيف الْخمار وكل مَا يُغطي بِهِ الرَّأْس وَالْوَجْه هُوَ الْبَدْر فِي التَّشْبِيه فمراد الشَّاعِر(1/460)
أَنَّهَا تلثمت بِبَعْض النصيف الَّذِي على رَأسهَا فَصَارَت بذلك ساترة لنصف وَجههَا الْأَسْفَل الْمُشبه بالبد فَصَارَ نصيفاً ونقاباً والنقاب مَا تنقبت بِهِ الْمَرْأَة كَمَا فِي الْقَامُوس وَهُوَ شَامِل لما كَانَ مُسْتقِلّا وَبَعض شَيْء آخر كَمَا يُقَال مثله أَيْضا فِي النصيف فَهُوَ نصيف وَإِن غطى رَأس الرَّأْس مَعَ الرَّأْس وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ عَادَة غَالب النِّسَاء الحسان فِي قطر الْعَرَب فَإِن الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ تنتقب بفاضل خمارها فتفتن الْعُقُول بِمَا ظهر من لواحظها وأسحارها انْتهى وَكتب القَاضِي تَاج الدّين إِلَى القَاضِي أَحْمد بن عِيسَى المرشدي معتذراً عَن وُصُوله إِلَيْهِ بعد وعده لَهُ بِهِ لعروض مَانع عرض لَهُ بقوله بديها
(أَيهَا المعشر الَّذين إِلَيْهِم ... وَاجِب أَن يكون سعياً براسي)
(لَا تظنوا تركي الْوُصُول إِلَيْكُم ... لملالي ودادكم أَو تناسي)
(أَو تراخ عَنْكُم وَإِن كَانَ عُذْري ... هُوَ أَنِّي ندبت خير اناس)
فَأَجَابَهُ بقوله
(قد أَتَانِي اعتذاركم بعد أَنِّي ... بت من هجرك الْأَلِيم أقاسي)
(فتلقيته بصدر رحيب ... ولصقت الْكتاب عزا براسي)
(غير أَنِّي لَا أرتضيه إِذا لم ... تنعموا بالوصال والإيناس)
(وأقلني العثار فِي النّظم أَنِّي ... قلته والفؤاد فِي وسواس)
وَكتب إِلَى شَيْخه عبد الْملك العصامي مسائلاً بقوله
(مَاذَا يَقُول إِمَام الْعَصْر سيدنَا ... وَمن لَدَيْهِ ينَال الْقَصْد طَالبه)
(فِي الدَّار هَل جَائِز تذكير عائدها ... فِي قَوْلنَا مثلا فِي الدَّار صَاحبه)
(وَمن إبانة همز ابْن أَرَادَ فَهَل ... يكون موصوفه سما يُطَالِبهُ)
(أم كَونه علما كَاف وَلَو لقبا ... أَو كنية إِن أَرَادَ الْحَذف كَاتبه)
(أفد فَمَا قد رَأينَا الْحق منخفضاً ... إِلَّا وَأَنت على التَّمْيِيز ناصبه)
فَأَجَابَهُ بقوله
(يَا فَاضلا لم يزل يهدي الفرائد من ... علومه وتروّينا سحائبه)
(تأنيثك الدَّار حتم لَا سَبِيل إِلَى التَّذْكِير ... فامنع إِذا فِي الدَّار صَاحبه)
(وَالِابْن موصوفه عمم فَإِن لقبا ... أَو كنية فارتكاب الْحَذف واجبه)
(هَذَا جوابي فاعذر أَن ترى خللاً ... فمصدر الْعَجز وَالتَّقْصِير كَاتبه)
(لَا زلت تاجاً لهامات الْهدى علما ... فِي الْعلم يحوي بك التَّحْقِيق طَالبه)(1/461)