وأقبية وأركبوا أَيْضا الْخُيُول المثمنة بسروج الذَّهَب وَالْفِضَّة على قدر مَرَاتِبهمْ. وَتَوَلَّى السُّلْطَان تعبية ذَلِك بِنَفسِهِ فَكَانَ مهما عَظِيما: ذبح فِيهِ سِتّمائَة رَأس من الْغنم وَأَرْبَعُونَ رَأْسا من الْبَقر وَعِشْرُونَ فرسا وَعمل فِيهِ برسم المشروب ثَلَاثمِائَة قِنْطَار من السكر. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشرى رَمَضَان: هبت ريح سَوْدَاء معتمة بِنَاحِيَة الغربية وأظلم الجو مِنْهَا وَسَقَطت دور كَثِيرَة. ثمَّ سقط برد أسود مر الطّعْم حاءت بِهِ الرّيح من نَحْو الْبَحْر حَتَّى مَلأ الطرقات ووزنت مِنْهُ وَاحِدَة فَكَانَت مائَة وَثَمَانِينَ درهما وَوجد فِيهِ وَاحِدَة على قدر النارنجة وعَلى قدر بيض النعام وَمَا دون ذَلِك إِلَى قدر البندقة. وَكَانَ الزَّرْع قد قرب حَصَاده فَرمى سنبله وحصد كثير مِنْهُ من أَصله وَهَلَكت مِنْهُ أَغْنَام كَثِيرَة. ورؤيت شَجَرَة جميز فِي غَايَة الْكبر وَقد سقط فِي وَسطهَا برده على هَيْئَة الرَّغِيف وَهِي سَوَاء - فشقتها نِصْفَيْنِ كَمَا يشق الْمِنْشَار وَوجدت بقرة مطروحة قد قطع ظهرهَا بِبُرْدَةٍ شقته نِصْفَيْنِ. وَتَلفت زروع ثَمَانِيَة وَعشْرين بَلَدا فَجمع زَرعهَا وَحمل إِلَى السُّلْطَان مَعَ فلاحيها واستغاثوا بالسلطان فرسم لمتولي الغربية أَن يكْشف تِلْكَ النواح وَيُحَرر مَا أصابتها الْجَائِحَة مِنْهَا ويحط خراجه عَن وَفِيه قدم الْبَرِيد من قوص بِأَن السَّمَاء احْمَرَّتْ فِي شهر رَمَضَان هَذَا حَتَّى ظَهرت النُّجُوم متلونة فَكَانَت تحمر سَاعَة وَتسود سَاعَة وتبيض سَاعَة إِلَى أَن طلع الْفجْر فجَاء مطر لم يعْهَد فِي تِلْكَ الْبِلَاد. وَقدم الْبَرِيد أَيْضا بِأَنَّهُ هبت ريح بأسوان أَلْقَت عَامَّة الْبيُوت وَكَثِيرًا من النّخل وهبت أَيْضا بعرب قمولة فَأَلْقَت أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة نَخْلَة مثمرة وَقدم بذلك محْضر ثَابت على قاضيها. وَخرج بِبِلَاد منفلوط فأر عَظِيم جدا فحصد الزَّرْع حصداً وأتلف جرون الغلال بِحَيْثُ كَانَ يذهب ربع الجرن فِي لَيْلَة وَاحِدَة. فَصَارَ النَّاس يبيتُونَ بالمشاعل على طول اللَّيْل وهم يقتلُون الفأر ثمَّ يتَوَلَّى أَمر النَّهَار طَائِفَة أخر وهم لَا يفترون عَن(3/247)
قَتله ثمَّ يحمل مَا قتل مِنْهُ فِي شباك وَيحرق بالنَّار على بعد وَفِيهِمْ من يلقيه إِلَى النّيل فأفاموا مُدَّة شَهْرَيْن يحملون فِي الشباك كل يرم نو مائَة حمل. وشوهد مِنْهُ عجب: وَهُوَ أَن جمعا عَظِيما من فيران بيض خَرجُوا حَتَّى ملاوا الأَرْض فَخرج مقابلهم فيران سود وَاصْطَفُّوا صفّين فِي أَرض مساحتها فدنان ثمَّ تصايحوا وَحمل بَعضهم على بعض واقتتلوا سَاعَة وانكسرت الفيران السود وتبعهم الْبيض يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى مزقوهم فِي تِلْكَ الْأَرَاضِي وَكَانَ بِمحضر عَالم كَبِير من النَّاس فَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان والأمراء فانكسر للسُّلْطَان بِنَاحِيَة منفلوط بِسَبَب الفأر نَحْو سِتِّينَ ألف أردب فول. وفيهَا رفعت قصَّة إِلَى السُّلْطَان تَتَضَمَّن أَن الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي يركب النّيل وَمَعَهُ أَرْبَاب الملاهي فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ كل فَاحِشَة وَيَأْخُذُونَ حرم النَّاس. فَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان وَطلب الْحِجَازِي وأخرق بِهِ وهدده بِالْقَتْلِ إِن عَاد يركب النّيل وَأخرج السُّلْطَان مِمَّن كَانَ يعاشره من المماليك سِتَّة وَثَلَاثِينَ رجلا إِلَى الْبِلَاد الشامية على الْبَرِيد من يومهم وَأخرج من الْغَد أَرْبَعِينَ مَمْلُوكا من أَصْحَابه بِسَبَب شربهم الْخمر وفيهَا تقدم السُّلْطَان إِلَى ولي القلعة أَلا يُمكن أَمِيرا من النُّزُول إِلَّا بمرسوم وَأمر نقيب الْجَيْش فدار على الْأُمَرَاء كلهم وأعلمهم أَلا ينزل أحد مِنْهُم من القلعة إِلَّا بمرسوم السُّلْطَان وَمن نزل فَلَا يبيت إِلَّا بالقلعة. وَركب أَمِير مَسْعُود الْحَاجِب - وَمَعَهُ وَالِي الْقَاهِرَة - وَهدم مرامي النشاب الَّتِي بناها الْأُمَرَاء لرمي النشاب خَارج الْقَاهِرَة وَطلب جَمِيع صناع النشاب ومنعهم من عمل النشاب الميداني وَبيعه لسَائِر النَّاس وَأمر بدكاكين البندقانيين فغلقت وَمنع من عمل أقواس البندق وَبَيْعهَا وَقصد السُّلْطَان بذلك كف أَسبَاب اللَّهْو فَإِنَّهُ كَانَ يكره من يلْعَب ويلهو عَن شغله وخدمته. وفيهَا شفع الْأَمِير مُوسَى بن مهنا فِي لُؤْلُؤ وَغَيره من المصادرين فرسم السُّلْطَان لشاد الدَّوَاوِين بِكِتَابَة أسمائهم - وَكَانُوا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ رجلا وَمِنْهُم قرموط وَأَوْلَاد التَّاج فأفرج عَنْهُم أما خلا قرموط وَأَوْلَاد التَّاج. وفيهَا أنشأ الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد مدرسة بجوار الْجَامِع الْأَزْهَر وَكَانَ موضعهَا دَار الْأَمِير ابْن الْحلِيّ وألزم الصناع بالعمائر السُّلْطَانِيَّة أَن يعملوا فِيهَا يَوْمًا من الْأُسْبُوع بِغَيْر(3/248)
أُجْرَة فَكَانَ يجْتَمع فِي كل أُسْبُوع بهَا كل صانع بِالْقَاهِرَةِ ومصر ويعملون نهارهم. وَحمل لَهَا أقبغا جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من عمائر السُّلْطَان وَأقَام بهَا من مماليكه شادا لم ير أظلم مِنْهُ فعسف الصناع وضربهم. وفيهَا توقفت زِيَادَة النّيل عِنْدَمَا قرب الْوَفَاء ثمَّ نقض فارنفع سعر الغلال حَتَّى بلغ الْقَمْح عشْرين درهما الأردب. ثمَّ تراجع النّيل ووفي سِتَّة عشر ذِرَاعا بَعْدَمَا زَاد ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَة أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف ذِرَاع. وَتَلفت بِسَبَب ذَلِك غلال كَثِيرَة فِي الأجران فَإِنَّهُ زَاد زِيَادَة متتابعة على حِين غَفلَة. وَكَانَت سنة شَدِيدَة وَاتفقَ فِيهَا من الأمطار والفأر والمصادرات وَغير ذَلِك عدَّة محن. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن الْأَجَل أبي هَاشم عَليّ بن الصَّدْر الأديب أبي طَالب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الفامغار - الْمَعْرُوف بِابْن الخميمي - فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى ومولده سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَحدث عَن أَبِيه والرشيد الْعَطَّار وَغَيره. وَمَات الْأَمِير إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان فِي رَابِع عشرى ذِي الْقعدَة وَدفن بتربة عَمه الصَّالح عَليّ بن وَتُوفِّي الطّيب الأديب شهَاب الدّين أَحْمد بن يُوسُف بن هِلَال الصَّفَدِي بالفاهرة عَن سبع وَسبعين سنة وَله نظم حيد. وَتُوفِّي الشَّيْخ زين الدّين عمر بن الجمالي أبي الحزم بن عبد الرَّحْمَن بن يُونُس الْمَعْرُوف بِابْن الكتاني الدِّمَشْقِي شيخ الشَّافِعِيَّة بالقاهره فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر رَمَضَان. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي بِدِمَشْق شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ الأربلي الشَّافِعِي بعد مَا ألقته بغلته بأسبوع فِي جُمَادَى الأولى بِدِمَشْق. وَتُوفِّي الشَّيْخ زكي الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الْجَلِيل الْمَعْرُوف بِابْن القوبع - الْقرشِي التّونسِيّ الْمَالِك صَاحب الْفُنُون الْكَثِيرَة بِالْقَاهِرَةِ عَن أَربع وَسبعين سنة. توفّي شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السُّعَدَاء شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن النقجواني فِي حادي عشرى الْمحرم وَدفن بالقرافة.(3/249)
وَتُوفِّي شيخ الْإِسْلَام شرف الدّين هبة الله ابْن قَاضِي حماة نجم الدّين عبد الرَّحِيم بن أبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم بن الْمُسلم بن هبة الله بن حسان بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْبَارِزِيّ الشَّافِعِي قَاضِي حماة فِي نصف ذِي الْقعدَة ومولده فِي خَامِس رَمَضَان سنة خمس وَمَات الْأَمِير طغجي. وَمَات الْأَمِير أَقُول الْحَاجِب. وَمَات الْأَمِير ظلظية كاشف الْوَجْه القبلي. وَمَات كَاتب السِّرّ محيي الدّين بن يحيى ابْن فضل الله بن مجلي الْعمريّ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع رَمَضَان. وَتُوفِّي جمال الدّين يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن جملَة وَكَانَ قد ولي قَضَاء دمشق بعد علم الدّين الأخنائي ثمَّ عزل.(3/250)
سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: قبض على امْرَأَة خناقة وَقتلت. وفيهَا قدم رسل الْملك أزبك صُحْبَة الْأَمِير سرطقطاي مقدم البريدية بهدية وَكتاب يطْلب فِيهِ مصاهرة السُّلْطَان فجهزت إِلَيْهِ هَدِيَّة وأنعم على رسله وأعيدوا وَكَانَ سرطقطاي قد توجه رَسُولا إِلَى أزبك سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة. وفيهَا قدم الْخَبَر بِأَن القان الْكَبِير عزم على الْمسير إِلَى العراقين وَقدم أَمَامه عسكراً ليسير إِذا أَخذ الْعرَاق إِلَى الشَّام. فَسَار ثَمَانِي مراحل وَبعث الله على ذَلِك الْعَسْكَر ريحًا سَوْدَاء ثمَّ صَارَت زرقاء تشتعل نَارا فَيسْقط الْفَارِس وفرسه ميتين عِنْد هبوبها وَتَمَادَى هبوبها يَوْمَيْنِ وَكَانُوا زِيَادَة على مائَة ألف فَارس فَلم يرجع مِنْهُم إِلَى القان إِلَّا نَحْو عشرَة آلَاف وَهلك باقيهم. فسر السُّلْطَان بذلك. وفيهَا قدم الْملك الْأَفْضَل مُحَمَّد بن الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل صَاحب حماة باستدعاء السُّلْطَان وَقد كثرت شكاية النَّاس لَهُ من شغفه باللهو وَأَخذه أَمْوَال الرّعية وَقد شفع فِيهِ الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فَقدم الْأَفْضَل للسُّلْطَان والأمراء تقادم جليلة ثمَّ سَافر إِلَى بَلَده بعد مَا وصاه السُّلْطَان بِحَضْرَة الْقُضَاة وَعدد ذنُوبه وَأخْبرهُ أَنه قبل فِيهِ شَفَاعَة نَائِب الشَّام ثمَّ خلع عَلَيْهِ وسفره. وفيهَا اشْترى بدر الدّين أَمِين الحكم ملكا لبعص الْأَيْتَام فَحَضَرَ إِلَيْهِ الْعلم القراريطي شاد القراريط يطْلب مِنْهُ مُوجب الدِّيوَان عَن الْملك الْمَذْكُور فأفضي الْحَال بَينهمَا إِلَى مُفَاوَضَة. بِمَجْلِس قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة أطلق فِيهَا الْعلم لِسَانه بِمَا أوجب تعزيره فَانْصَرف إِلَى النشو وعرفه أَنه لما طَالب أَمِين الحكم بالقراريط عزره ابْن جمَاعَة وكشف رَأسه فحرك ذَلِك مِنْهُ كامناً كَانَ فِي نَفسه من ابْن جمَاعَة وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك وشنع عَلَيْهِ بِأَن أَمِين الحكم لما امْتنع من دفع القراريط عَن الْملك أخرج إِلَيْهِ الْعلم مرسوم السُّلْطَان وَعَلِيهِ مُحَمَّد بن قلاوون فَأَخذه مِنْهُ ورماه بِالْأَرْضِ عِنْد النِّعَال وَقَالَ: أَتجْعَلُ فِي مجْلِس الحكم الْبَاطِل حَقًا لتأْخذ أَمْوَال الْأَيْتَام ثمَّ كشف رَأسه وضربه بِالدرةِ. فَغَضب السُّلْطَان وَطلب أَمِين الحكم وَأمر طاجار الدوادار(3/251)
بضربه فَضَربهُ على بَاب الْقصر بالقلعة والنشو جَالس ضربا مؤلماً وَقطع أكمامه وشهره بالقلعة وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاء من يمْنَع الْحُقُوق السُّلْطَانِيَّة وألزم بِحمْل عشْرين ألف دِرْهَم ورسم عَلَيْهِ فَقَامَ بِخَمْسَة عشر ألف دِرْهَم. وَفِي شهر ربيع الأول: قبض على أوحد الدّين شيخ خانكاه بيبرس وَهُوَ بالروضة تجاه مصر على حَال غير مرض وَأخرج إِلَى الْقُدس منفياً. وفيهَا قدم الْخَبَر بِأَن ابْن دلغادر استولى على قلعة طرندة من بِلَاد الرّوم وَأخذ مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَأَن الْأَمِير تنكز بعث إِلَيْهَا الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن صبح. فسر السُّلْطَان بذلك وَبعث بتشريف لِابْنِ دلغادر وشكره وَأثْنى عَلَيْهِ. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير بكتمر العلائي الأستادار فِي نِيَابَة حمص بعد وَفَاة الْأَمِير جركتمر. وَفِيه أخرج الْأَمِير منكلي بغا الفخري إِلَى دمشق وَاسْتقر من مقدمي الألوف بهَا. وَفِيه أنعم على كل من قطليجا الْحَمَوِيّ وطاجار الدوادار بإمرة طبلخاناه. وَفِي ربيع الآخر: قدم الْأَمِير ألطنبغا نَائِب حلب وصحبته تقدمة جليلة وأخلع جليلة عَلَيْهِ وَفِي تاسعه: سَارَتْ الْحرَّة المغربية عَائِدَة إِلَى بلادها بعد قَضَاء حَجهَا. وَفِي حادي عشر جُمَادَى الأول: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام. وَذَلِكَ أَن ابْنَته الَّتِي تَحت السُّلْطَان قرب وضع حملهَا فَكتب السُّلْطَان يستدعيه - وَمَعَهُ أَهله وَأَوْلَاده - لأجل مُهِمّ ابْنَته وَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو بِعَمَل بشخاناه وداير بَيت من حَرِير مخمل ويزركشهما بِمِائَة ألف دِينَار وَأمره أَن يُجهز خمسين تَشْرِيفًا لِلْأُمَرَاءِ مِنْهَا ثَلَاثَة وَعشْرين تَشْرِيفًا أطلس بحوائص ذهب كَامِلَة وبقيتها مَا بَين طرد وَحش ومصمط وَطلب إِلَيْهِ أَيْضا أَن يُجهز مَا تحْتَاج إِلَيْهِ النُّفَسَاء وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من السُّرُوج وَنَحْوهَا وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ المهم مِمَّا يبلغ زِيَادَة على ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار. فَأخذ النشو فِي التَّدْبِير لذَلِك ورتب جهاته من ثمن سكر وَعسل وقندر وقماش وخشب يطرحه على النَّاس وَعمل أوراقاً بمظالم اقترحها بلغت جلتها خَمْسمِائَة ألف دِينَار وَمِائَة ألف أردب غلَّة وَأعلم بهَا السُّلْطَان من الْغَد. وَطرح النشو مَا عِنْده من(3/252)
البضائع على النَّاس بِمصْر والقاهرة حَتَّى زلزلهما بِكَثْرَة الْعقُوبَة وَلم يراع أحدا فخنق من ذَلِك الْأَمِير الْحَاج آل ملك وَبلغ السُّلْطَان مَا نزل بالرعية من الظُّلم فلولا مَا كَانَ من ملاطفة الْأُمَرَاء فِي الْحَال لَكَانَ لَهُ وللسلطان شَأْن غير مرضِي. فَلَمَّا قدم الْبَرِيد بتوجه الْأَمِير تنكز من غَزَّة إِلَى الْقَاهِرَة بعث السُّلْطَان بالأمير قوصون إِلَى لِقَائِه وَمَعَهُ المطبخ وَركب السُّلْطَان إِلَى قصوره بسرياقوس وَمَعَهُ أَوْلَاده فَنزل قوصون السعيدية وهيأ الأسمطة الجليلة وتلقى الْأَمِير تنكز وترجل إِلَيْهِ فَنزل الْأَمِير تنكز أَيْضا ومشيا خطوَات حَتَّى تعانقا وركبا إِلَى الْخَيْمَة الَّتِي نصبها السُّلْطَان للأمير تنكز. فَلَمَّا انْقَضى السماط ركب تنكز فَتَلقاهُ أَولا أَوْلَاد السُّلْطَان فترجل لَهُم ثمَّ سَار وهم مَعَه فَتَلقاهُ السُّلْطَان وأكرمه غَايَة الْكَرَامَة. ثمَّ سَار السُّلْطَان من الْغَد وطلع قلعة الْجَبَل وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَوْلَاده وَأمرهمْ فَدَخَلُوا وأهليهم إِلَى الدّور. وَفِيه رسم بِخُرُوج الْأَمِير ألطنبغا نَائِب حلب إِلَى نِيَابَة غَزَّة وخلع عَلَيْهِ فاتهم الْأَمِير تنكز بِأَنَّهُ حمل السُّلْطَان على ذَلِك. وَنزل الْأَمِير تنكز من القلعة إِلَى بَيته بِخَط الكافوري من القاهره وجهز بِهِ تقادم السُّلْطَان وتقادم الْأُمَرَاء وَحملهَا من الْغَد وَكَانَت شَيْئا يجل عَن الْوَصْف: فِيهَا من صنف الْجَوْهَر مَا قِيمَته ثَلَاثُونَ ألف دِينَار وَمن الزركش عشرُون ألف دِينَار وَمن أواني البلور وتعابي القماش وَالْخَيْل والسروج وَالْجمال البخاتي مَا قِيمَته مِائَتَان وَعِشْرُونَ ألف دِينَار. فَلَمَّا انْقَضتْ نوبَة التقادم أدخلهُ السُّلْطَان إِلَى الدّور حَتَّى رأى ابْنَته وَقبلت يَده. ثمَّ أخرج السُّلْطَان إِلَيْهِ جَمِيع بَنَاته وأمرهن بتقبيل يَده وَهُوَ يَقُول لَهُنَّ وَاحِدَة بعد وَاحِدَة: بوسي يَد عمك ثمَّ عين مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ لوَلَدي وَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو بتجهيز تنكز إِلَى الصَّعِيد للصَّيْد ثمَّ ركب وَتوجه إِلَى بِلَاد الصَّعِيد وتنكز مَعَه فَكَانَ من إكرامه لَهُ فِي هَذِه السفرة مَا لَا عهد من ملك مثله. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان أَمر النشو بتجهيز كلفة عقد ابْني تنكز على ابْنَتَيْهِ وكلفة سفر تنكز إِلَى الشَّام. فَأخذ النشو أَمْوَال التُّجَّار وَغَيرهم وَجمع أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار حمل مِنْهَا برسم الْمهْر أَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار وجهز تنكز بِاثْنَيْ عشر ألف دِينَار. وَعقد لوَلَدي تنكز على ابْنَتي السُّلْطَان فِي بَيت الْأَمِير قوصون بِحَضْرَة الْقُضَاة والأمراء. ثمَّ ولدت ابْنة تنكز من السُّلْطَان بِنْتا فَسجدَ تنكز لله شكرا بِحَضْرَة السُّلْطَان وَقَالَ: وَا لله يَا خوند! كنت أَتَمَنَّى أَن تكون المولودة بِنْتا فَإِنَّهَا لَو وضعت ذكرا كنت(3/253)
أخْشَى من كَمَال السَّعَادَة. فَإِن السُّلْطَان تصدق عَليّ بِمَا غمرني بِهِ من السَّعَادَة فَخَشِيت من كمالها. وَأخذ السُّلْطَان مَعَ النشو فِي تجهيز تنكز على عَادَته وَأمره أَن يُضَاعف لَهُ مَا جرت بِهِ عَادَته من الْخَيل والتعابي ورتب السُّلْطَان ذَلِك بِنَفسِهِ فَكَانَت قِيمَته مائَة وَخمسين ألف دِينَار عينا وَكَانَ تنكز قد أَقَامَ مُدَّة شَهْرَيْن وراتبه السلطاني فِي كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم. فَلَمَّا وادع تنكز السُّلْطَان سَأَلَهُ فِي إعفاء الْأَمِير كجكن من الْخدمَة وَأَن ينعم عَلَيْهِ بسفر لُؤْلُؤ الْحلَبِي إِلَى الشَّام ليستقر فِي شدّ عداد الأغنام وَأَن ينْقل الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب من حلب إِلَى دمشق وَأَن ينعم على قرمشي بإمرة ويستقر حاجباً بِدِمَشْق عوضا عَن عَلَاء الدّين بن صبح فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك كُله وَكتب لَهُ تقليداً بتفويض الحكم فِي جَمِيع المماليك الشامية بأسرها وَأَن جَمِيع نوابها تكاتبه بأحوالها وَأَن تكون مُكَاتبَته: أعزالله أنصار الْمقر الشريف بَعْدَمَا كَانَت أعزالله أنصار الجناب وَأَن يُزَاد فِي ألقابه: الزَّاهدِيّ العابدي العالمي كافل الإسلامي أتابك الجيوش. وأنعم السُّلْطَان على مغنية قدمت مَعَه من دمشق بِعشْرَة أُلَّاف دِرْهَم وَحصل لَهَا من الدّور ثَلَاث بدلات زركش وَثَلَاثُونَ تعبيه قماش وَأَرْبع بدلات مقانع وَخَمْسمِائة دِينَار مبلغ متحصلها نَحْو سبعين ألف دِرْهَم. ثمَّ كَانَ آخر مَا قَالَ لَهُ السُّلْطَان: أيش بقى لَك حَاجَة أَو فِي نَفسك شَيْء أقضيه قبل سفرك فَقبل تنكز الأَرْض وَقَالَ: وَالله يَا خوند مَا بَقِي شَيْء أطلبه الا أَن أَمُوت فِي أيامك فَقَالَ السُّلْطَان: لَا إِن شَاءَ الله. يَا أَمِير تعيش أَنْت وأكون أَنا فدَاك أَو أكون بعْدك بِقَلِيل. فَقبل تنكز الأَرْض وَانْصَرف وَقد حسده جَمِيع الْأُمَرَاء وَكثر حَدِيثهمْ فِيمَا حصل لَهُ من الْكَرَامَة والمعزة. وَاتفقَ مَا قَالَه السُّلْطَان فَإِنَّهُ لم يقم بعد موت تنكز إِلَّا قَلِيل وَمَات كَمَا سَيَأْتِي ذكره. وفيهَا أنعم على الْأَمِير يلبغا اليحياوي بالمنزلة من أَعمال أشوم فَركب إِلَيْهَا النشو وحفر لَهَا ترعة، وأخرق بمتولى أشموم، وألزم آقبغا السيفي متولى الغريبة بِمِائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن آفبغا السيفي(3/254)
وَاسْتقر شهَاب الدّين بن الأز كشي فِي ولَايَة الأشمونين عوضا عَن ابْن الكوراني وَاسْتقر نجم الدّين أَيُّوب فِي ولَايَة الشرقية عوضا عَن ابْن الأزكشي. وَفِي مستهل جُمَادَى الأولى: صلى صَلَاة الْغَائِب بِمصْر والقاهرة على قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي فاستقر عوضه الشميخ تَقِيّ الدّين عَليّ بن السُّبْكِيّ. وَفِيه أخرج آقوش الزيني إِلَى حلب. وفبه أخرج الْأَمِير عز الدّين أيدمر الْعمريّ إِلَى صهيون وأنعم بإقطاعه على وَلَده أبي بكر فأحاط النشو بموجوده وَأخذ لَهُ ثَمَانِينَ ألف دِينَار. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِأَن التركمان ساقوا إِلَى دمشق عشْرين ألف رَأس من الْغنم ليبيعوها بِالْقَاهِرَةِ فَلَمَّا حضرت رسم أَلا يُؤْخَذ مِنْهُم الْمُقَرّر وَهُوَ أَرْبَعَة دَرَاهِم الرَّأْس يُؤْخَذ عَن كل مائَة دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم. وَكَانَ التركمان قد شكوا من أزدمر وَالِي بهنسا فكشف عَنهُ فَوجدَ أَنه كثر ظلمه وَأَخذه لأموال الرّعية فأحيط بضياعه وأمواله وأنعم بِبَعْض ضيَاعه على الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام ووقف بَعْضهَا على قلعة طرندة بِبِلَاد الرّوم. وفيهَا قدم الشريف مبارك بن عطيفة بخيله فسجن مَعَ أَبِيه لِكَثْرَة إفساده بالحجاز وفيهَا اتّفق موت ابْنة الْأَمِير الْكَبِير شمس الدّين إلدكز المنصوري - زَوْجَة الْأَمِير نَاصِر الدّين بن المحسني بعد عودهَا من طرابلس عَن بنت وَأُخْت وَزوج فَأخذ النشو جَمِيع مخلفها وَكَانَ شَيْئا كثيرا. وفيهَا مَاتَ بعض الْكتاب وَترك بَيْتا على الخليج فَلم يَجْسُر أحد يَشْتَرِيهِ إِلَى أَن قلبته ابْنة الْأَمِير قطز بن الفارقاني لتشتريه فَلم يعجبها فألزمها النشو أَن تشتريه بِمِائَة ألف دِرْهَم فمازالت بِهِ حَتَّى صالحها على شَيْء حَملته وَتركهَا. وفيهَا هلك بطرِيق النَّصَارَى الأقباط فَنزل النشو فِي الْكَنِيسَة وَأخذ كل مَا فِيهَا كل حَاصِل ذهب وَفِضة وشمع وَغَيره.(3/255)
وفيهَا مَاتَت امْرَأَة ظلظية الكاشف وَقد تزوجت بعده وخلفت ولدا ذكرا فَأخذ النشو موجودها كُله بِحجَّة أَن ظلظية أَخذ مَال السُّلْطَان وَتَركه بعد مَوته عِنْدهَا. وفيهَا ظفر النشو بحلي لِنسَاء أَمِين الدّين قرموط فأغري بِهِ السُّلْطَان حَتَّى سلم وَلَده وصهره وَأَهله لوالي الْقَاهِرَة. وفيهَا جدد النشو الطّلب على أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق وعوقب نِسَاءَهُمْ حَتَّى مَاتَ بَعضهنَّ من الْعقُوبَة. وفيهَا طلب النشو المَال الْحَاصِل بالمارستان المنصوري فَقَامَ الْأَمِير سنجر الجاولي فِي ذَلِك حَتَّى أَن ابتيع للْوَقْف من أَرَاضِي بهتيت من الضواحي مِائَتَان وَخَمْسُونَ فداناً وَأَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم وحملت إِلَى النشو. وفيهَا قبض على شهَاب الدّين أَحْمد بن محيي الدّين يحيى بن فضل الله فِي رَابِع عشرى شعْبَان. وَسَببه أَن الْأَمِير تنكز لما سَأَلَ السُّلْطَان أَن يولي علم الدّين مُحَمَّد ابْن القطب أَحْمد بن مفضل كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق وأحابه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ حدث شهَاب الدّين السلطاني فِي أمره وَقَالَ: هدا رجل قبْطِي لَا يدْرِي هَذِه الصِّنَاعَة فَلم يعبأ بقوله. ثمَّ رسم السُّلْطَان أَن تكْثر ألقاب علم الدّين وَيُزَاد فِي معلومه فَامْتنعَ شهَاب الدّين من ذَلِك واحتد خلقه وفاجأ السُّلْطَان بقوله كَيفَ يكون رجل أسلمى مِلَّته كَاتب السِّرّ وتزيد فِي حامكيته مَا يفلح من يخدمك وخدمتك عَليّ حرَام ونهض من بَين يَدي السُّلْطَان قَائِما. فَمَا شكّ الْأُمَرَاء فِي أَن السُّلْطَان يضْرب عُنُقه فرعى فِيهِ حق أَبِيه وَلم يؤاخذه. وَدخل شهَاب الدّين على أَبِيه محيي الدّين وعرفه مَا كَانَ مِنْهُ فخاف خوفًا شَدِيدا وَقَامَ مَعَ الْأُمَرَاء فِي ترقيع هَذَا الْخرق وَدخل إِلَى السُّلْطَان فَقبل الأَرْض وَطلب الْعَفو فَعرفهُ السُّلْطَان أَنه لأَجله حلم عَلَيْهِ وصفح عَنهُ ورسم أَن يدْخل ابْنه عَلَاء الدّين عَليّ فِي الْمُبَاشرَة عَنهُ عوضا عَن شهَاب الدّين. فَاعْتَذر محيي الدّين بِأَن ابْنه عَلَاء الدّين صَغِير لَا ينْهض أَن يقوم بأعباء الْوَظِيفَة فَقَالَ:(3/256)
السُّلْطَان: أَنا أربيه كَمَا أعرف. فباشر عَلَاء الدّين عَن أَبِيه إِلَى أَن مَاتَ أَبوهُ وشهاب الدّين مُنْقَطع بداره طول تِلْكَ الْمدَّة من الْغبن. فَلَمَّا كَانَ فِي يَده هَذِه السّنة شكا قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة أَنه كتب توقيع لِابْنِ الْأنْصَارِيّ بِرُجُوعِهِ إِلَى مُبَاشَرَته ورماه بقوادح. فَطلب السُّلْطَان الْأَمِير طاجار وَأنكر عَلَيْهِ فأحال على عَلَاء الدّين بن فضل الله أَنه أعطَاهُ قصَّته. فَطلب السُّلْطَان عَلَاء الدّين وَأنكر عَلَيْهِ فَاعْتَذر بِأَن أَخَاهُ شهَاب بعث بهَا إِلَيْهِ فاستقبح ردهَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: لَا تكن تسمع من أَخِيك فَإِنَّهُ نحس وَمَا يقْعد حَتَّى أفعل بِهِ وأفعل بِهِ فَلم تمض إِلَّا أَيَّام حَتَّى رفع شهَاب الدّين قصَّة يشكو فِيهَا كَثْرَة كلفه وَيطْلب الْإِذْن بالتوجه إِلَى دمشق فَذكر السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَأمر بِهِ فَقبض عَلَيْهِ وَحمل إِلَى القلعة. ورسم السُّلْطَان لطاجار والدوادار أَن يعريه فِي قاعة الصاحب ويضربه حَتَّى يلْزم بِحمْل عشرَة أُلَّاف دِينَار أَو يَمُوت تَحت الْعقُوبَة فعندما عراه طاجار رجف فُؤَاده وارتعدت مفاصله فَإِنَّهُ كَانَ ترفاً ذَا نعْمَة لم تمر بِهِ شدَّة قطّ فَكتب خطه بِعشْرَة أُلَّاف دِينَار. وَوَقعت الحوطة على موجوده وَأخذ لَهُ نَحْو خمسين ألف دِرْهَم وَبَاعَ قماشه وأثاثه وأملاكه بِدِمَشْق حَتَّى حمل مائَة وَأَرْبَعين ألف دِرْهَم وَسكن الطّلب مِنْهُ. وفيهَا وشى النشو بالأمير أقبغا عبد الْوَاحِد أَن لَهُ خَمْسَة أُلَّاف رَأس من الْغنم قدمت من بِلَاد الصَّعِيد ورعت براسيم الجيزة وَمَضَت إِلَى الغربية فرعت الزَّرْع فَطَلَبه السُّلْطَان وأخرق بِهِ فلولا شَاءَ الله أَن يتلطف الْأَمِير بشتاك فِي أمره وَألا أوقع بِهِ الْمَكْرُوه. وفيهَا خلع على الْأَمِير عز الدّين أيدمر كاشف الْوَجْه القبلي وَاسْتقر فِي كشف الْوَجْه البحري. وفيهَا أنشأ السُّلْطَان القناطر بجسر شيبين. وَذَلِكَ أَن بِلَاد الشرقية كَانَت لَا تروى إِلَّا من بَحر أبي المنجا وَفِي أَكثر السنين تشرق بِلَاد الْعُلُوّ مِنْهَا مثل مرصفا وسنيت وَكَانَ للأمير بشتاك بهَا نَاحيَة شَرقَتْ فَركب السُّلْطَان للنَّظَر فِي ذَلِك وصحبته المهندسون وكشف عدَّة مَوَاضِع وَكَانَ لَهُ بصر جيد وحدس صَحِيح فَوَقع اخْتِيَاره على عمل جسر من شيبين إِلَى بنها الْعَسَل وتعمر عَلَيْهِ قناطر لتحبس المَاء فَإِذا فتح بَحر أبي المنجا امْتَلَأت المخازن رَجَعَ المَاء إِلَى هَذَا الجسر ووقف عَلَيْهِ فوافقه المهندسون على ذَلِك. وَرجع السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة فَكتب إِلَى الْأَعْمَال بِجمع اثْنَي عشر ألف راجل(3/257)
وتجهيز مِائَتي قِطْعَة جراريف. فَلم تمض إِلَّا أَيَّام حَتَّى قدم مشدو الْبِلَاد بِمَا عَلَيْهِم من الرِّجَال وشرعوا فِي الْعَمَل حَتَّى تمّ فِي ثَلَاثَة أشهر وَكَانَ يصرف فِي كل يَوْم أُجْرَة رجال وَثمن كلف مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم من مَال النواحي الَّتِي للأجناد. فَلَمَّا كَانَت أَيَّام النّيل أبطل السُّلْطَان وَفتح عوضه سد شيبيني فرويت الْبِلَاد كلهَا وَرُوِيَ مَا لم يكن يرْوى قبل ذَلِك واستنجزت عدَّة أَمَاكِن. وفيهَا قدم أَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان من الكرك باستدعاء للعبه وشغفه بِبَعْض شباب أهل الكرك وإسرافه فِي الْعَطاء لوَاحِد مِنْهُم اسْمه الشهيب وَكَانَ جميل الصُّورَة وَقد هام بِهِ أَمِير أَحْمد غراماً وتهتك فِيهِ. فَلم يخرج أحد من الْأُمَرَاء إِلَى لِقَائِه فطلع مَعَ بكتاش النَّقِيب وَحده فَتَلقاهُ طاجار من بَاب الْقلَّة وَدخل بِهِ حَتَّى قبل الأَرْض ووقف وَاسِعَة ثمَّ رسم لَهُ بتقبيل الْيَد وَمضى إِلَى الدّور من غير أَن يقبل السُّلْطَان عَلَيْهِ. وَأمر السُّلْطَان بعقوبة الشَّاب الَّذِي كَانَ يهواه حَتَّى يحضر المَال الَّذِي وهبه لَهُ فَبعث أَحْمد إِلَى الْأُمَرَاء بِسَبَبِهِ حَتَّى عفى عَنهُ ومازال يجد فِي أمره إِلَى أَن أذن لَهُ أَن يدْخل عَلَيْهِ وَيُقِيم عِنْده. وفيهَا أنعم السُّلْطَان على الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي بإقطاع بهادر المعزي بعد مَوته وزاده النحراوية وَكَانَت عبرتها فِي الشَّهْر سبعين ألف دِرْهَم. وفيهَا توجه الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام من دمشق يُرِيد بِلَاد سيس لكشف الْبِلَاد الَّتِي أنعم بهَا عَلَيْهِ فَمر على حماة ونادى بهَا أَلا يقف أحد لملك الْأُمَرَاء بِقصَّة وَمن كَانَت لَهُ حَاجَة فَعَلَيهِ بِصَاحِب حماة وخلع على صَاحب حماة. وَمضى تنكز إِلَى حلب وَدخل بِلَاد سيس فأهدى إِلَيْهِ تكفور هَدِيَّة سنية مَعَ أَخِيه فقبلها وخلع عَلَيْهِ وَعمر تنكز تِلْكَ الضّيَاع بِالرِّجَالِ والأبقار والغلال وَعَاد. وفيهَا عملت أوراق بِمَا على الدولة من الكلف فبلغت نَحْو مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم فِي الشَّهْر فوفر السُّلْطَان مِنْهَا مَا يصرف للمباشرين والأمراء من التوابل ووفر شَيْئا من مَصْرُوف العمائر ووفر الدَّجَاج الْمُرَتّب برسم السماط والمخافي الْخَاصَّة بالسلطان والمخافي الَّتِي تحمل الطُّيُور المطبوخة كل يَوْم إِلَى الْأُمَرَاء وعدتها سَبْعمِائة طَائِر فِي كل يَوْم فَكَانَت جملَة مَا توفر فِي كل شهر مبلغ تسعين ألف دِرْهَم. وَاتفقَ بعد ذَلِك أَن السُّلْطَان طلب أَرْبَعَة أطيار دَجَاج فَكتب بهَا وُصُول من بَيت المَال فاستقبح النَّاس ذَلِك وَنسب توفير مَا توفر إِلَى النشو.(3/258)
وفيهَا الْتزم النشو بتدبير الدولة على أَن يتسلم الْجِهَات فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. فَطلب السُّلْطَان الشَّمْس نصر الله وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر بِهِ نظر الْجِهَات عوضا عَن وخلع على تَاج الدّين أَحْمد بن الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام وَاسْتقر بِهِ نظر الدولة عوضا عَن الْعلم بن فَخر الدولة وَولي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة كريم الدّين أَخُو تَاج الدّين الْمَذْكُور. وَجلسَ النشو فِي قاعة الصاحب بالقلعة وَضرب يَعْقُوب مُسْتَوْفِي الْجِهَات بالمقارع وألزمه بِمَال كثير وألزم جَمِيع مباشري الدولة من الْكتاب وَالشُّهُود والشادين بِحمْل معالميهم المقررة لَهُم عَن أَرْبَعَة أشهر وَاحْتج عَلَيْهِم بِأَنَّهُم أهملوا مَال السُّلْطَان فاستعاد من الْجَمِيع جوامك أَرْبَعَة أشهر وَقطع عليق جَمِيع الْأُمَرَاء والدواوين وَبَعض الخاصكية وَطلب أَرْبَاب الْأَمْوَال من أهل النواح وأوقع الحوطة على موجودهم وَلم يدع من يشار إِلَيْهِ بغني أَو زراعة إِلَّا وألزمه بِمَال. حَتَّى مَشى على وَالِي الْمحلة فَإِنَّهُ بلغه عَنهُ أَنه جمع مَالا كثيرا فعاقبه وَأخذ مِنْهُ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. وَكتب النشو لجَمِيع الْوُلَاة بشرَاء الشّعير وَدفع عَنهُ ثَلَاثَة دَرَاهِم الأردب وَعَن الْحمل التِّبْن درهما. فَشَكا الْجند ذَلِك فَلم يلْتَفت السُّلْطَان إِلَيْهِم. وفيهَا اسْتَقر المخلص أَخُو النشو مبَاشر ديوَان الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ تشريف من الخزانة بِأَلف وسِتمِائَة دِرْهَم وجهز لَهُ حمَار بِأَلف دِرْهَم وعدته بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم. وفيهَا كَانَت وقْعَة بَين ابْن دلغادر نَائِب أبلستين وَبَين الرّوم قتل فِيهَا خَمْسمِائَة نفس وَنهب ابْن دلغادر من أَمْوَال الرّوم شَيْئا كثيرا رد مِنْهُ بَعْدَمَا اصطلحا نَحْو عشْرين ألف رَأس مَا بَين غنم وخيل وحمال. وفيهَا كثرت مصادرة النشو للنَّاس من أهل مصر والقاهرة وَالْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري حَتَّى خرج فِي ذَلِك عَن الْحَد وادغر النَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم. وفيهَا اسْتَقر زين الدّين عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْحَاكِم البلقيائي فِي قَضَاء الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بحلب عوضا عَن فَخر الدّين عُثْمَان بن عَليّ بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن خطيب جبرين.(3/259)
وفيهَا اسْتَقر شهَاب الدّين أَحْمد بن فَخر الدّين أَحْمد بن قطب الدّين إِسْمَاعِيل بن يحيى وفيهَا حدثت زَلْزَلَة بطرابلس فِي رَجَب هلك فِيهَا سِتُّونَ إنْسَانا. وفيهَا انْتَهَت زِيَادَة النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَعشر أَصَابِع فَلم ترو الْأَرَاضِي كلهَا وغرق كثير مِنْهَا وتحسنت أسعار الغلال وَكَانَت سنة كَثِيرَة الْحَوَادِث. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان جمال الدّين أَحْمد بن شرف الدّين هبة الله بن المكين الإسنائي الْفَقِيه الشَّافِعِي بإسنا وَقد جَاوز السّبْعين فِي شَوَّال. وَتُوفِّي الأديب أَبُو الْمَعَالِي خضر بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن مُحَمَّد بن يحيى الرفا الخفاجي الْمصْرِيّ عَن تسع وَسبعين سنة. وَتُوفِّي خطيب الْقُدس زين الدّين عبد الرَّحِيم ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعد الله بن جمَاعَة الشَّافِعِي.(3/260)
وَتُوفِّي قَاضِي الشافعيه بحلب فَخر الدّين عُثْمَان بن زين الدّين عَليّ بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن خطيب جبرين الْفَقِيه الشَّافِعِي بِالْقَاهِرَةِ فِي الْمحرم وَله مصنفات فِي الْفِقْه وَالْأُصُول. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين عَليّ بن بلبان الْفَارِسِي الجندي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ بِالْقَاهِرَةِ عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة. وَمَات أَمِير عَليّ بن أَمِير حَاجِب كَانَ وَالِي مصر وَأحد أُمَرَاء العشرات وَكَانَت وَفَاته وَهُوَ مَعْزُول وَقد عني بِجمع القصائد النَّبَوِيَّة حَتَّى كمل عِنْده مِنْهَا خَمْسَة وَسَبْعُونَ مجلداً. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بهادر المعزي أحد أُمَرَاء الألوف فِي لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع شعْبَان وَبَلغت تركته مائَة ألف دِينَار أَخذهَا النشو. وَمَات علم الدّين عبد الله بن كريم الدّين الْكَبِير. وَمَات نَاظر الْجَيْش بِدِمَشْق فَخر الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين عبد الله بن نجم الدّين أَحْمد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن الْحلِيّ بالقدس وَكَانَ قد قدم إِلَيْهَا فولي عوضه نظر الْجَيْش بِدِمَشْق جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان الْحلَبِي.(3/261)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن عبد الْكَرِيم الْقزْوِينِي الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر جُمَادَى الْآخِرَة ومولده بالموصل فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَمَات الْحَافِظ علم الدّين الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد الْبُرْزُليّ بخليص وَهُوَ محرم فِي رَابِع ذِي الْحجَّة عَن أَربع وَسبعين سنة. وَمَات الْأَمِير علم الدّين بن هِلَال الدولة بقلعة شيزر بَعْدَمَا ولي بِالْقَاهِرَةِ شدّ الْخَاص وَشد وَمَات السعيد بن الكردوش وَأخذ لَهُ النشو بعد مَوته خَمْسَة عشر ألف دِينَار. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بيليك المحسني بطرابلس بَعْدَمَا كَانَ وَالِي الْقَاهِرَة. وَتُوفِّي المؤرخ شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الْجَزرِي الدِّمَشْقِي عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة. وَتُوفِّي بدر الدّين مُحَمَّد بن عز الدّين مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر ابْن الصَّائِغ الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي.(3/262)
(سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة)
فِي يَوْم السبت مستهل الْمحرم: قدم رَسُول الْأَمِير يُوسُف بن أتابك الْكرْدِي صَاحب الْجبَال ووطاة نَصِيبين يخبر بِكَثْرَة جموعه من الأكراد وَأَنه رغب فِي الانتماء إِلَى السُّلْطَان وَضرب السِّكَّة فِي بِلَاده باسمه وَطلب نجدته بعسكر يتسلم مَا بِيَدِهِ من الْبِلَاد ليَكُون نَائِب السلطنة بهَا وَأَن يشرف بصناجق سلطانية عَلَيْهَا اسْم السُّلْطَان لتعينه فِي غاراته فأحيب بالشكر وجهزت لَهُ هَدِيَّة وخيول وَسلَاح. وَفِيه: قدم الْخَبَر بِكَثْرَة الْفِتَن والغارات وَالِاخْتِلَاف بِبِلَاد الْمشرق من نَحْو الصين وبلاد الخطا إِلَى ديار بكر. وَفِيه: قدم مبشرو الْحَاج برخاء الأسعار وسلامة الْحَاج. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثَانِيه: قدم الْأَمِير بشتاك من الْحَج وطلع القلعة بعد الظّهْر فِي اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم أَرْبَعَة نجابة وصحبته الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب. وَكَانَ السُّلْطَان والأمراء أجِيبُوا لنواب قد قدمُوا لَهُ عِنْد سَفَره شَيْئا يجل عَن الْوَصْف فَبعث السُّلْطَان لَهُ مِائَتي ألف دِرْهَم وَمِائَة هجين وَأَرْبَعين بختياً وَسِتِّينَ جملا. فَلَمَّا قدم مَكَّة فرق فِي الْأُمَرَاء مَالا كثيرا فَبعث إِلَى كل من الْأُمَرَاء المقدمين ألف دِينَار وَإِلَى كل من أُمَرَاء الطبلخاناه خَمْسمِائَة دِينَار وَفرق فِي الأجناد وَبعث إِلَى بيُوت الْأُمَرَاء بِمَال كثير ثمَّ استدعى المجاورين جَمِيعهم والأشراف وَغَيرهم من أهل مَكَّة والزيالعة وَفرق فيهم المَال وَلم يبْق بِمَكَّة أحد حَتَّى أسدى إِلَيْهِ مَعْرُوفا فَكَانَ جملَة مَا فرق بشتاك ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم سوى مَا وصل إِلَيْهِ فِي المراكب من الغلال. فَلَمَّا قدم بشتاك الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة بعد قَضَاء نُسكه فعل بهَا خيرا كثيرا وَمضى مِنْهَا إِلَى الكرك فَتَلقاهُ الْأَمِير شطى بن عبِّيَّة أَمِير آل عقبَة فِي أَرْبَعمِائَة فَارس من عربه وأضافه ثمَّ سَار بشتاك وَمَعَهُ الْأَمِير شطى وَمن مَعَه من الْعَرَب إِلَى الْعقبَة وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة ثَانِي الْمحرم كَمَا تقدم. وَفِي رَابِع عشريه: قدم ركب الْحَاج.(3/263)
وَفِيه انْقَطع مقطع بالقناطر الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَان على جسر شيبين فَركب إِلَيْهِ الْأَمِير برسبغا الحاحب وَجمع لَهُ من النواحي أَرْبَعَة أُلَّاف رجل واستدعى بالأخشاب والصواري من دَار الصِّنَاعَة بِمصْر وغرق فِيهِ عدَّة مراكب. فَأَقَامَ برسبغا اثْنَيْنِ وَعشْرين يَوْمًا حَتَّى سد المقطع وَبلغ المصروف عَلَيْهِ فِي ثمن مراكب غرقت وَثمن صواري وحجارة وجير وجبس وحلفاً وَأُجْرَة رجال ثَلَاثِينَ ألف دِينَار غير سخر الْبِلَاد. وفيهَا قدم زين الدّين عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْحَاكِم البلفيائي قَاضِي حلب باستدعاء فولى عوضه برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي. وَفِي هَذَا الشَّهْر: وضعت السِّت طولو قرطقا زَوْجَة الْأَمِير يلبغا اليحياوي وَأُخْت خوند زَاد وَزَوْجَة السُّلْطَان فَعمل لَهَا السُّلْطَان مهما عَظِيما أَقَامَت الأفراح سَبْعَة أَيَّام بلياليها وَلم يبْق أحد من الْأُمَرَاء إِلَّا وَبعث بِزَوْجَتِهِ فَفرق السُّلْطَان فِي نسَاء الْأُمَرَاء جَمِيعهنَّ مَا بَين خَمْسمِائَة دِينَار إِلَى أَرْبَعمِائَة دِينَار إِلَى ثَلَاثمِائَة الْوَاحِدَة. وَكَانَ السُّلْطَان قد عمل للنفساء قبل وِلَادَتهَا داير بَيت وبشخاناه وَنَحْو ذَلِك بِعشْرين ألف دِينَار وَعمل لَهَا عِصَابَة مُرْضِعَة بأنواع الْجَوَاهِر قومت بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وأنعم على زوحها بِثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي صفر: قبض على النشو وعَلى أَخِيه شرف الدّين رزق الله وعَلى أَخِيه المخلص ورفيقه مجد الدّين وعَلى صهره ولي الدولة. وَسبب ذَلِك أَنه لما أسرف النشو فِي الظُّلم بِحَيْثُ قل الجالب للبضائع وَذهب أَكثر أَمْوَال التُّجَّار لطرح الْأَصْنَاف عَلَيْهِم بأغلى الْأَثْمَان وَطلب السُّلْطَان مِنْهُ يتزايد خَافَ النشو الْعَجز فَرجع عَن ظلم الْعَامَّة إِلَى التَّعَرُّض إِلَى الْخَاصَّة ورتب مَعَ أَصْحَابه ذَلِك. وَكَانَت عَادَته فِي كل لَيْلَة أَن يجمع إخْوَته وصهره وَمن يَثِق بِهِ للنَّظَر فِيمَا يحدثه من الْمَظَالِم فيدله ظلّ مِنْهُم على آبدة ثمَّ يفترقون وَقد أبرم للنَّاس بلَاء يعذبهم الله بِهِ من الْغَد على يَده فَكَانَ مِمَّا اقترحه أَن رتب أوراقاً تشْتَمل على فُصُول يتَحَصَّل فِيهَا ألف ألف دِينَار عينا وَقرأَهَا على السُّلْطَان: وَمِنْهَا التقاوي السُّلْطَانِيَّة المخلدة بالنواحي من الدولة الظَّاهِرِيَّة بيبرس والمنصورية قلاوون فِي إقطاعات الْأُمَرَاء والأجناد وجملتها(3/264)
مائَة ألف وَسِتُّونَ ألف أردب سوى مَا فِي بِلَاد السُّلْطَان من التقاوي وَمِنْهَا الرزق الأحباسية على الْجَوَامِع والمساجد والزوايا وَغير ذَلِك وَهِي مائَة ألف فدان وَثَلَاثُونَ آلف فدان وَقرر النشو مَعَ السُّلْطَان أَن يَأْخُذ التقاوي السُّلْطَانِيَّة الْمَذْكُورَة بِأَن يلْزم مُتَوَلِّي كل إقليم باستخراجها وَحملهَا وَأَن يُقيم شادا يختاره لكشف الرزق الأحباسية فَمَا كَانَ مِنْهَا على مَوضِع عَامر بِذكر الله يُعْطه نصف مَا هُوَ وقف عَلَيْهِ وَيَأْخُذ من مزارعه عَن النّصْف الآخر بِحِسَاب مائَة دِرْهَم الفدان وَيلْزمهُ بخراج ثَلَاث سِنِين وَمَا كَانَ من الرزق على مَوضِع خراب أَو على أهل الأرياف من الخطباء الْجُهَّال وَنَحْوهم أَخذ واستخرج من مزارعه خراج ثَلَاث سِنِين من حِسَاب مائَة دِرْهَم الفدان وَمِنْهَا أَرَاضِي الرَّوْضَة تجاه مَدِينَة مصر فَإِنَّهَا بيد أَوْلَاد الْمُلُوك ويستأجرها مِنْهُم الدَّوَاوِين وينشئون بهَا سواقي الأقصاب وَنَحْوهَا مِمَّا بلغ قيمَة الفدان مِنْهُ ألف دِرْهَم وَمِنْهَا مَا بَاعه أَوْلَاد الْمُلُوك بأبخس الْأَثْمَان - وَقرر النشو مَعَ السُّلْطَان أَخذ أَرَاضِي الرَّوْضَة للخاص وَأَن يُقَاس مَا أبيع مِنْهَا وَيُؤْخَذ مِمَّن هِيَ بِيَدِهِ تفَاوت قيمتهَا أَو تجدّد عَلَيْهِ إِجَارَة للسُّلْطَان بِالْقيمَةِ وَمِنْهَا أَرْبَاب الرَّوَاتِب السُّلْطَانِيَّة فَإِن أَكْثَرهم عبيد الدَّوَاوِين وغلمانهم وَنِسَاؤُهُمْ ويكتبونها باسم زيد وَعَمْرو وَمِنْهَا مَا هُوَ مُرَتّب لجَماعَة من النَّصَارَى والرهبان سكان الديارات - وَقرر النشو مَعَ السُّلْطَان عرض جَمِيع أَرْبَاب الرَّوَاتِب وَالنَّظَر فِي تواقيعهم وإبقاء أَرْبَاب الْبيُوت وَمن يسْتَحق على مَا بِيَدِهِ وَأخذ تواقيع من عداهم وإلزامه بِحل جَمِيع مَا استأداه من تَارِيخ توقيعه إِلَى أخر وَقت وَمِنْهَا ذكر حواصل الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد وتفصيل مَاله من أَمْلَاك وأراضي ومتاجر ومرتبات ورسوم على أَرْبَاب الْوَظَائِف السُّلْطَانِيَّة وعَلى صناع العمائر وتفصيل مَا حمل إِلَيْهِ من العمائر السُّلْطَانِيَّة من الْأَصْنَاف - وَذكر النشو العمائر الَّتِي عمرها أقبغا من ديوَان السُّلْطَان وَمَا لَهُ لبلاد الشَّام وجملتها وَحدهَا خَمْسمِائَة ألف دِينَار سوى مَا لَهُ بديار مصر وَمِنْهَا ذكر مَا أَخذه الْأَمِير طاجار الدوادار من الْبِلَاد الشامية وَمن أهل مصر على قَضَاء أشغالهم وتفصيل أملاكه. وَقرر النشو مَعَ السُّلْطَان الْقَبْض على آقبغا وطاجار فوافقه السُّلْطَان على ذَلِك.(3/265)
وَكَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ النشو أَن ندب جمَاعَة لقياس الرَّوْضَة جَمِيعهَا من مذدرعها وأراضي دورها وألزم أَرْبَاب الدّور الَّتِي بهَا بإحضار كتب دُورهمْ وَأَن يقومُوا عَن أراضيها بِقِيمَتِهَا من تَارِيخ شِرَائهَا ووكل ابْن صابر باستخراج ذَلِك مِنْهُم وَأخذ عَن البروز فِي الدّور خَاصَّة مائَة وَأمر النشو مباشري الجوالي بِقطع مَا عَلَيْهَا من المرتبات عَن جوامك الْقُضَاة وَالشُّهُود ومشايخ الْعلم وَنَحْوهم وَكتب إِلَى جَمِيع الْأَعْمَال يحمل مَال الجوالي إِلَى خزانَة الْخَاص وَمن تعجل مِنْهَا شيا يستعاد مِنْهُ فَجمع من ذَلِك مَالا كَبِيرا. فانزعج النَّاس كلهم وَلم يتجاسرأحد من الْأُمَرَاء على السُّلْطَان فِي الحَدِيث مَعَه فِي ذَلِك حَتَّى ذكر السُّلْطَان لَهُم أَن لَهُ نَحْو آلف أردب غلَّة فِي الْبِلَاد وَأَنه يُرِيد أَخذهَا فتلطف بِهِ الْحَاج آل ملك وبيبرس الأحمدي وجنكلي بن البابا حَتَّى سمح بِأَن يتمهل بطلبها حتم يفرغ الْحَرْث وَيقبض الْمغل. فَلَمَّا فرغ النشو من قِيَاس الرَّوْضَة ألزم أَرْبَاب الرَّوَاتِب أَن يحضروا إِلَى القلعة وَمَعَهُمْ تواقيعهم وألزم المباشرين بِعَمَل الْحساب وَحمل مَا تَحت أَيّدهُم من ذَلِك وألزم جَمِيع أَرْبَاب الرزق الأحباسية بإحضار تواقيعهم وَبعث الْبَرِيد إِلَى الْأَعْمَال بذلك وألزم ديوَان الأحباس بِكِتَابَة الرزق كلهَا فزلزل أَرض مصر قبليهما وبحريها وَلم يقبل لأحد شَفَاعَة حَتَّى الأميرين بشتاك وقوصون فَإِنَّهُمَا كَانَا إِذا بعثا إِلَيْهِ فِي شَفَاعَة رد عَلَيْهِمَا ردا جَافيا وَأَغْلظ على رسلهما. فاتفق الخاصكية جَمِيعًا عَلَيْهِ وندبوا للْحَدِيث مَعَ السُّلْطَان الْأَمِير يلبغا اليحياوي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي وَغَيرهمَا فَصَارَ كل مِنْهُم يسمع السُّلْطَان قبح سيرة النشو وَهُوَ يتغافل إِلَى أَن حَدثهُ يلبغا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أخص الخاصكية عِنْده وَقَالَ عَنهُ: يَا خوند وَالله النشو يَضرك أَكثر مَا ينفعك وَاتفقَ وُصُول الْأَمِير قرمجي الْحَاجِب من دمشق فَأَعَادَهُ السُّلْطَان سَرِيعا ليستشير الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فِي أَمر النشو وَأَنه قد بعضه أهل الدولة كلهم مَعَ كَثْرَة نَفعه لي ثمَّ وجد السُّلْطَان عدَّة أوراق فِي حق النشو قد رميت لَهُ من غير أَن يعرف رافعها مِنْهَا رقْعَة فِيهَا: أيا ملكا أصبح فِي نشوة من نشوة الظَّالِم فِي نشيه أنشيته فلتنشئن ضغائنا سترى غباوتها بِصُحْبَة غيه(3/266)
حكمته فحكمت أمرا فَاسِدا وتوحشت كل الْقُلُوب لفحشه سترى بوارقها إِذا مَا أظلمت وتحكمت أَيدي الزَّمَان ببطشه ودستندمن ندامة كسعية يَوْمًا
إِذا ذبح الخروف بكبشه فَلَمَّا قَرَأَهَا السُّلْطَان تغير لَونه ومزقها. وَوجد السُّلْطَان ورقة أُخْرَى فِيهَا. أمعنت فِي الظُّلم وأكثرته وزدت يَا نشو على الْعَالم ترى من الظَّالِم فِيكُم لنا فلعنة الله على الظَّالِم وَعَن قريب عَاد قرمجي فِي سادس عشرى الْمحرم وَأخْبر عَن نَائِب الشَّام بِأَنَّهُ قد استفيض مَا ذكره السُّلْطَان من بغض مماليكه للنشو وَأَن التُّجَّار وأرباب الْأَمْوَال فِي خوف شَدِيد من ظلمه وَرَأى السُّلْطَان فِيهِ أَعلَى. وَكَانَ يَوْم وُصُوله بالقلعة منْظرًا مهولاً فَإِنَّهُ اجْتمع بهَا أَرْبَاب الرَّوَاتِب وَالصَّدقَات وَفِيهِمْ الأرامل والأيتام والزمناء والعميان وصاروا فِي بكاء ونحيب فتقطعت الْقُلُوب حسرات رَحْمَة لَهُم. وشغل الله النشو عَنْهُم بِنَفسِهِ فحد لَهُ قولنج وَهُوَ بخزانة الْخَاص. فَأمر السلطالن النَّاس أَن ينصرفوا ويحضروا أول الشَّهْر وَمن تَأَخّر شطب على اسْمه. فَنزل بعد الظّهْر من القلعة وَتَفَرَّقُوا تِلْكَ اللَّيْلَة بالجوامع فِي الْقَاهِرَة ومصر وَهِي لَيْلَة سَابِع عشرى الْمحرم للدُّعَاء بِسَبَب توقف النّيل عَن الزِّيَادَة فَإِنَّهُ كَانَ قد توقف توقفاً زَائِدا فَلَمَّا قرب الْوَفَاء نقص وَاسْتمرّ على نَقصه أَيَّامًا فصرفوا دعاءهم على النشو طول ليلتهم وَكَانُوا جموعاً كَثِيرَة إِلَى الْغَايَة. فَأصْبح النشو مَرِيضا وَانْقطع بداره حَتَّى فرغ الْمحرم فحذره الْفَاضِل شمس الدّين مُحَمَّد بن الْأَكْفَانِيِّ مَعَ قطع مخوف فِي أول صفر يخْشَى مِنْهُ إِرَاقَة دَمه. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد أول صفر: ركب النشو إِلَى القلعة وَبِه أثر الْمَرَض فِي وَجهه فقرر مَعَ ا! سُلْطَان إِيقَاع الحوطة على أقبغا عبد الْوَاحِد من الْغَد. فتقرر الْحَال على أَنه يجلس على بَاب الخزانة فَإِذا خرج الْأَمِير بشتاك من الْخدمَة جلس مَعَه على بَاب الخزانة ثمَّ قاما إِلَى بَيت آقبغا وحاطا بموجوده كُله. فَلَمَّا عَاد النشو إِلَى دَاره عبر إِلَى الْحمام لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَمَعَهُ ابْن الأكفان فَأمر بعض عبيده السود أَن يحلق رَأسه ويجرحه بِحَيْثُ يسيل الدَّم على جِسْمه ليَكُون ذَلِك حَظه من الْقطع الْمخوف فَفعل بِهِ ذَلِك، بِمَا دفع الله عَنْهُم بِهَذَا، وَبَاتُوا ليلتهم فِي(3/267)
هَذَا وَقد كَانَ الْأَمِير يلبغا اليحياوي قد وعك جِسْمه فقلق السُّلْطَان لمرضه وَأقَام عِنْده لِكَثْرَة شغفه بِهِ. فَقَالَ لَهُ يلبغا فِيمَا قَالَ: يَا خوند قد عظم إحسانك لي وَوَجَب نصحك عَليّ والمصلحة الْقَبْض على النشو وَإِلَّا دخل عَلَيْك الدخيل فَإِنَّهُ مَا عنْدك أحد من مماليكك إِلَّا وَهُوَ يترقب غَفلَة مِنْك وَقد عرفتك ونصحتك قبل أَن أَمُوت وَبكى. فَبكى السُّلْطَان لبكائه وَقَامَ وَهُوَ لَا يعقل لِكَثْرَة مَا دَاخله من الْوَهم لِثِقَتِهِ بيليغا وَطلب بشتاك وعرفه أَن النَّاس قد كَرهُوا النشو وَأَنه عزم على الْإِيقَاع بِهِ فخاف بشتاك أَن يكون ذَلِك امتحاناً من السُّلْطَان فَوجدَ عزمه قَوِيا فِي الْقَبْض. وَاقْتضى الْحَال إِحْضَار الْأَمِير قوصون أَيْضا فقوي عزم السُّلْطَان على ذَلِك ومازال بِهِ حَتَّى قرر مَعَهُمَا أَخذه. وَأصْبح النشو يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي صفر وَفِي ذهنه أَن الْقطع الَّذِي خوف مِنْهُ قد زَالَ عَنهُ بِمَا دبره لَهُ ابْن الْأَكْفَانِيِّ من إسالة الدَّم فعلق عَلَيْهِ عدَّة من الْعُقُود والطلسمات والحروز وَركب إِلَى القلعة. وَجلسَ النشو بَين يَدي السُّلْطَان على عَادَته وَأخذ مَعَه فِي القبص على أقبغا عبد الْوَاحِد كَمَا قَرَّرَهُ فَأمره السُّلْطَان أَن يجلس على بَاب خزانَة الْقصر حَتَّى يخرج إِلَيْهِ الْأَمِير بشتاك ثمَّ يمضيا لإيقاع الحوطة على موجوده فَقَامَ. وَطلب السُّلْطَان الْمُقدم ابْن صابر وَأسر إِلَيْهِ أَن يقف بجماعته على بَاب القلعة وَبَاب القرافة وَلَا يدعوا أحدا من حَوَاشِي النشو وأقاربه وَإِخْوَته أَن ينزلُوا وَأَن يقبضوا عَلَيْهِم كلهم. وَأمر السُّلْطَان الْأَمِير بشتاك والأمير برسبغا الْحَاجِب أَن يمضيا إِلَى النشو ويقبضا عَلَيْهِ وعَلى أَقَاربه. فَخرج بشتاك وَجلسَ على بَاب الخزانة وَطلب النشو من داخلها فَظن النشو أَنه جَاءَ لميعاده مَعَ السُّلْطَان حَتَّى يحتاطا على مَوْجُود أقبغا عبد الْوَاحِد فساعة مَا وَقع بَصَره عَلَيْهِ أَمر مماليكه بِأَخْذِهِ إِلَى بَيته من القلعة وَبعث إِلَى الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فَأخذ أَخَاهُ رزق الله وَأخذ أَخَاهُ المخلص وَسَائِر أَقَاربه. فطار الْخَبَر إِلَى الْقَاهِرَة ومصر فَخرج النَّاس كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر. وَركب الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد والأمير طيبغا المجدي والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيُوت النشو وأقاربه وحواشيه وَمَعَهُمْ جمال الكفاة كَاتب الْأَمِير بشتاك وشهود الخزانة. وَأخذ السُّلْطَان لِلْأُمَرَاءِ: وَكم تَقولُونَ النشو نهب أَمْوَال النَّاس السَّاعَة نَنْظُر المَال الَّذِي عِنْده وَكَانَ السُّلْطَان يظنّ أَنه يُؤَدِّيه الْأَمَانَة وَأَنه لَا مَال لَهُ. فندم الْأُمَرَاء على تحسينهم مسك النشو خوفًا من أَن لَا يظْهر لَهُ مَال سِيمَا قوصون وبشتاك من أجل(3/268)
أَنَّهُمَا كَانَا قد بَالغا فِي الْحَط عَلَيْهِ وإغراء السُّلْطَان بِهِ فَكثر قلقهما وَلم يأكلا طَعَاما وبعثا فِي الْكَشْف عَن الْخَبَر. فَلَمَّا أوقع الْأُمَرَاء الحوطة على دور الممسوكين بَلغهُمْ أَن حَرِيم النشو فِي بُسْتَان بِجَزِيرَة الْفِيل فَسَارُوا إِلَيْهِ وهجموه فوجدوا سِتِّينَ جَارِيَة وَأم النشو وَامْرَأَته وَأُخْته وولديه وَسَائِر أَهله وَعِنْدهم مِائَتَا جنبة عِنَب وقند كثير ومعاصر وهم فِي عصر الْعِنَب. فختموا على الدّور والحواصل وَلم يتهيأ لَهُم نقل شَيْء مِنْهَا. هَذَا وَقد غلقت أسواق الْقَاهِرَة ومصر وَاجْتمعَ النَّاس بالرميلة تَحت القلعة وَمَعَهُمْ النِّسَاء والأطفال وَقد أشعلوا الشموع ورفمعوا على رُءُوسهم الْمَصَاحِف ونشروا الْأَعْلَام وهم يضجون ويصيحولن استبشاراً وفرحاً بِقَبض النشو والأمراء تُشِير لَهُم أَن يكثروا مِمَّا هم فِيهِ واستمروا لَيْلَة الثُّلَاثَاء على ذَلِك. فَلَمَّا أَصْبحُوا وَقع الصَّوْت دَاخل بَاب الْقلَّة من القلعة بِأَن رزق الله أَخُو النشو قد ذبح نَفسه. وَذَلِكَ أَنه لما قبض عَلَيْهِ تسلمه الْأَمِير قوصون ووكل بِهِ أَمِير شكار فسجنه أَمِير شكار فِي بعض خَزَائِن بَيته وَبَات يَحْرُسهُ حَتَّى طلع الْفجْر ثمَّ قَامَ أَمِير شكار للصَّلَاة. فاستغفله رزق الله وَأخذ من حياصته سكيناً ووضعها فِي نَحره حَتَّى نفذت مِنْهُ وَقطعت وريده فَلم يشْعر أَمِير شكار إِلَّا وَهُوَ يشخر وَقد تلف. فصاح أَمِير شكار حَتَّى بلغ صياحه قوصون فانزعج لذَلِك وَضرب أَمِير شكار ضربا مبرحاً إِلَى أَن علم السُّلْطَان بالْخبر فَلم يكترث بِهِ. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ: الْمَذْكُور أفرج عَن الصاحب شمس الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق وأخيه وَنزلا من القلعة إِلَى الْجَامِع الْجَدِيد خَارج مصر فَقَالَ الْكَمَال جَعْفَر الأدفوي فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ هَذَا وَفِي معنى مسك النشو وَغَيره هَذِه الأبيات: إِن يَوْم الْإِثْنَيْنِ يَوْم سعيد فِيهِ لاشك الْبَريَّة عيد أَخذ الله فِيهِ فِرْعَوْن جَهرا وَغدا النّيل فِي رباه يزِيد(3/269)
وَقَالَ شمس الدّين مُحَمَّد بن الصَّائِغ الْمصْرِيّ فِي معنى مسك النشو والإفراج عَن شمس الدّين مُوسَى وَزِيَادَة النّيل هَذِه الأبيات: لقد ظَهرت فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ آيَة أزالت بنعماها عَن الْعَالم البوسا تزايد بَحر النّيل فِيهِ وأغرقت بِهِ آل فِرْعَوْن وَفِيه نجا مُوسَى وَفِيه زَاد النّيل بعد توقفه فَقَالَ فِي ذَلِك عَلَاء الدّين بن فضل الله كَاتب السِّرّ: فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي الشَّهْر من صفر نَادَى البشير إِلَى أَن أسمع الفلكا يَا أهل مصر نجا مُوسَى ونيلكم طغا وَفرْعَوْن وَهُوَ النشو قد هلكا وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد نقص فَلَمَّا قبض على النشو زَاد سِتَّة أَصَابِع ثمَّ ثَمَانِيَة أَصَابِع. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث صفر: نُودي بِالْقَاهِرَةِ ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله على خلاصكم من النشو. وَفِيه أخرج رزق الله أَخُو النشو فِي هَيْئَة تَابُوت امْرَأَة حَتَّى دفن فِي مَقَابِر النَّصَارَى خوفًا عَلَيْهِ من الْعَامَّة. وَفِيه أَدخل الْأَمِير بشتاك على السُّلْطَان وَطلب الإعفاء من تَسْلِيم النشو إِلَيْهِ خشيَة مِمَّا جرى على أَخِيه. فَأمره السُّلْطَان أَن يهدده على إِخْرَاج المَال ثمَّ يُسلمهُ لِابْنِ صابر. فأوقفه بشتاك وأهانه. فالتزم أَنه إِن أفرج عَنهُ جمع للسُّلْطَان من أَقَاربه خزانَة مَال فَسَبهُ ثمَّ سلمه لِابْنِ صابر. فَأَخذه ابْن صابر ليمضي بِهِ إِلَى قاعة الصاحب فتكاثرت الْعَامَّة تؤيد رجمه حَتَّى طردهم نقيب الْجَيْش وَأخرجه ابْن صابر فِي زنجير بعنقه حَتَّى أدخلهُ قاعة الصاحب والعامة تحمل عَلَيْهِ حَملَة بعد حَملَة والنقباء تطردهم. وَفِيه طلب السُّلْطَان جمال الكفاة إِبْرَاهِيم كَاتب الْأَمِير بشتاك وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي نظر الْخَاص عوضا عَن شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْمَعْرُوف بالنشو(3/270)
بعد تَمنعهُ. ورسم لَهُ أَن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه وَمَعَهُ الْأَمِير آقبغا والأمير برسبغا وشهود الخزانة. فَنزل جمال الكفاة بتشريفة وَركب بغلة النشو حَتَّى أخرج حواصله. وَقد أغلق النَّاس الْأَسْوَاق وتجمعوا من كل موصع وَمَعَهُمْ الطبول والشموع وأنواع الملاهي وأرباب الخيال بِحَيْثُ لم يُوجد حَانُوت مَفْتُوح نهارهم كُله. ثمَّ سَارُوا مَعَ الْأُمَرَاء على حَالهم إِلَى تَحت القلعة وصاحوا صَيْحَة حَتَّى انزعج وَدخل الْأُمَرَاء على السُّلْطَان بِمَا وجدوه للنشو وَهُوَ من الْعين خَمْسَة عشر ألف دِينَار مصرية والفان وَخَمْسمِائة حَبَّة لُؤْلُؤ قيمَة كل حَبَّة مَا بَين ألفي دِرْهَم إِلَى ألف دِرْهَم وَسَبْعُونَ فص بلخش قيمَة كل فص مَا بَين خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم إِلَى أَلفَيْنِ وقطعتان زمرد فاخر زنتهما رَطْل ونيف وَسِتُّونَ حبلاً من لُؤْلُؤ كبار زنة ذَلِك أَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَمِائَة وَسَبْعُونَ خَاتم ذهب وَفِضة بفصوص مثمنة وكف مَرْيَم مرصع بجوهر وصليب ذهب مرصع وعدة قطع زركش سوى حواصل لم تفتح. فَخَجِلَ السُّلْطَان لما رأى ذَلِك وَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: لعن الله القبط وَمن يأمنهم أَو يُصدقهُمْ. وَذَلِكَ أَن النشو كَانَ يظْهر الْفَاقَة بِحَيْثُ يقترض الْخمسين درهما وَالثَّلَاثِينَ درهما حَتَّى ينفقها. وَبعث فِي بعض اللَّيَالِي إِلَى جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن المغربي رَئِيس الْأَطِبَّاء يطْلب مِنْهُ مائَة دِرْهَم وَيذكر لَهُ أَنه طرقه ضيف وَلم يجد مَا يعشيه بِهِ. وَقصد بذلك أَن يكون لَهُ شَاهدا بِمَا يَدعِيهِ من الْفقر. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام شكا النشو للسُّلْطَان الْفَاقَة وَابْن المغربي حَاضر فَذكر أَنه اقترص مِنْهُ فِي لَيْلَة كَذَا مائَة دِرْهَم فَمشى ذَلِك على السُّلْطَان وتقرر فِي ذهنه أَنه فَقير لَا مَال لَهُ وَصَارَ السُّلْطَان يذكر ذَلِك كل قَلِيل لِلْأُمَرَاءِ. وَاسْتمرّ الْأُمَرَاء ينزلون كل يَوْم لإِخْرَاج حواصل النشو فَوجدَ لَهُ من الْأَوَانِي الصيني والبلور وَفِيه ولي الْمُوفق نظر الْبيُوت. وَفِيه ولي الْمجد بن الْمُعْتَمد ديوَان الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي.(3/271)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس خامسه: زينت الْقَاهِرَة ومصر زِينَة عَظِيمَة مُدَّة سَبْعَة أَيَّام وعملت بهَا أفراح كَثِيرَة ونظم فِيهِ الْعَامَّة عدَّة أزجال وبلاليق وأظهروا من الخيال وَاللَّهْو مَا يجل وَصفه. وَوجدت مآكل كَثِيرَة فِي حواصل النشو: مِنْهَا نَحْو مِائَتي مطر مَمْلُوءَة ملوحة وَثَمَانِينَ مطر جبن وأحمال كَثِيرَة من سواقة الشَّام وَلحم كثير من لحم الْخِنْزِير وَأَرْبَعَة أُلَّاف جرة خمر سوى مَا نهب. وَوجد لَهُ أَرْبَعمِائَة بدلة قماش جدد وَثَمَانُونَ بدلة مستعملة وزراكش ومفرجات كَثِيرَة. وَوجد لَهُ سِتُّونَ بغلطاق نسَائِي مزركش ومناديل زركش عدَّة كَثِيرَة. وَوجد لَهُ عدَّة صناديق بهَا قماش سكندري مِمَّا عمل برسم الْحرَّة جِهَة ملك الْمغرب قد اختلسه وَكثير من قماش الْأُمَرَاء الَّذين مَاتُوا وَالَّذين قبض عَلَيْهِم. وَوجد لَهُ مَمْلُوك تركي وَكَانَ النشو قد خصاه هُوَ واثنين مَعَه مَاتَا وَكَانَ قد خصى أَيْضا أَرْبَعَة عبيد فماتوا. فَطلب الَّذِي خصاهم وَضرب بالمقارع وجرس. وتتبعت أَصْحَاب النشو وَضرب مِنْهُم جمَاعَة وشهروا.
(وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تاسعه)
خلع على نجم الدّين أَيُّوب الْكرْدِي أستادار الأكز وَهُوَ يَوْمئِذٍ وَالِي الشرقية وَاسْتقر وَالِي الْقَاهِرَة عوضا عَن عَلَاء الدّين عَليّ بن المروان وأحيط بموجود ابْن المرواني وَفِيه خلع أَيْضا على عز الدّين مَمْدُود بن عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوران وَاسْتقر فِي ولَايَة مصر. وَفِيه خرج الْبَرِيد بِطَلَب الصاحب أَمِين الدّين وَزِير الشَّام من دمشق. وَفِيه وجد لأخوة النشو ذخائر نفيسة: مِنْهَا لصهره ولي الدولة صندوق فِيهِ مائَة وَسَبْعُونَ فص بلخش وَسِتَّة وَثَلَاثُونَ مرملة مكلة بالجواهر الرائعة وَإِحْدَى عشر عنبرية مكللة بلؤلؤ كبار وَعِشْرُونَ طراز زركش وَغير ذَلِك مَا بَين لُؤْلُؤ منظوم وزمرد وكوافي زركش قوم الْجَمِيع بأَرْبعَة وَعشْرين ألف دِينَار. وَفِيه ضرب المخلص اخو النشو ومفلح عَبده بالمقارع فأظهر المخلص الْإِسْلَام.(3/272)
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رابعه وثالث عشرى مسرى: وَفِي وَفَاء النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَفتح الخليج من الْغَد على الْعَادة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشره: قدم أَمِين الدّين من دمشق على الْبَرِيد وطلع إِلَى بَين يَدي السُّلْطَان من الْغَد. وَأَجْلسهُ السُّلْطَان وحادثه وخلع عَلَيْهِ خلعة الوزارة بطرحة خبعة الْقدوم فَنزل أَمِين الدّين إِلَى دَاره وَتردد النَّاس إِلَيْهِ. وَفِيه أفرج عَن الصفي كَاتب الْأَمِير قوصون وأعيدوا إِلَى ديوَان قوصون عوضا عَن عَلَاء الدّين ابْن الْحَرَّانِي. وَفِي هَذِه السّنة: لم يركب السُّلْطَان إِلَى الميدان للعب الأكرة فَإِن الْأُمَرَاء لما تَأَخَّرت عُقُوبَة النشو تنكروا السُّلْطَان وتنكر لَهُم. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشرى ربيع الأول: وجدت ورقة بَين فرش السُّلْطَان فِيهَا: الْمَمْلُوك بيرم الناصح للسُّلْطَان يقبل الأَرْض وَينْهى أنني أكلت رزقك وَأَنت قوام الْمُسلمين وَيجب على كل أحد نصحك وَأَن بشتاك وآقبغا قد اتفقَا على قَتلك مَعَ جمَاعَة من المماليك فاحترس على نَفسك. وَكَانَ الْأَمِير بشتاك فِي هَذَا الْيَوْم قد توجه بكرَة النَّهَار إِلَى جِهَة الصَّعِيد فَطلب السُّلْطَان الْأَمِير قوصون والأمير آقبغا وأوقفهما على الورقة فَكَانَ عقل آقبغا ان يخْتَلط من شدَّة الرعب وَأخذ قوصون يعرف السُّلْطَان أَن هَذَا فعل من يُرِيد التشويش على السُّلْطَان وتغيير خاطره على مماليكه. فَأخْرج السُّلْطَان الْبَرِيد فِي الْحَال لرد الْأَمِير بشتاك فأدركه بإطفيح وَقد مد سماطه فَقَامَ وَلم يمد يَده إِلَى شَيْء مِنْهُ وجد فِي سيره حَتَّى دخل على السُّلْطَان. فأوقفه السُّلْطَان على الورقة فتنصل مِمَّا رمي بِهِ كَمَا تنصل آقبعا واستسلم وَقَالَ: هَذِه نَفسِي وَمَالِي بَين يَدي السُّلْطَان وَإِنَّمَا حمل من رماني بذلك الْحَسَد على قربي من السُّلْطَان وعظيمم إحسانه إِلَيّ وَنَحْو هَذَا حَتَّى رق لَهُ السُّلْطَان وَأمره أَن يعود إِلَى طلبه وَيتَوَجَّهُ إِلَى جِهَة قَصده فَسَار. ثمَّ طلب السُّلْطَان ديوَان الْجَيْش ورسم لَهُ أَن يكْتب كل من اسْمه بيرم ويحضره إِلَى الْأَمِير آقبغا. فارتجت القلعة والقاهرة لطلب الْمَذْكُورين وعرضهم وتهديدهم وَأخذ(3/273)
خطوطهم ليقابل بهَا كِتَابَة الورقة. فَلَمَّا أعيا آقبغا الظفر بالغريم وَهُوَ يُرَاجع السُّلْطَان فِي أَمرهم اتهمَ النشو أَنَّهَا من مكايده. وَاشْتَدَّ قلق السُّلْطَان وَكثر انزعاجه بِحَيْثُ لم يسْتَطع أَن يقر بمَكَان وَاحِد. ثمَّ طلب السُّلْطَان وَالِي الْقَاهِرَة لالا وَأمره أَن يهدم مَا بِالْقَاهِرَةِ من حوانيت صناع النشاب وينادي: من عمل نشاباً شنق فامتثل ذَلِك. وَخرجت أَيْضا جَمِيع مرامي النشاب وغلقت حوانيت القواسين. وَنزل الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب إِلَى الْأُمَرَاء جَمِيعهم وعرفهم عَن السُّلْطَان أَن من رمي بالنشاب من مماليكهم أَو حمل قوساً كَانَ أستاذه عوضا عَنهُ فِي التلاف وَألا يركب اُحْدُ من الْأُمَرَاء بسلاح وَلَا تركاش نشاب. وَبينا النَّاس فِي هَذَا الهول الشَّديد إِذْ دخل شخص يعرف بِابْن الْأَزْرَق كَانَ أَبوهُ مِمَّن مَاتَ فِي عُقُوبَة النشو لَهُ عِنْد مصادرته لجمال الكفاة - وَطلب الورقة ليعرفهم من كتبهَا. فَقَامَ وَالِي الْقَاهِرَة إِلَى السُّلْطَان وَمَعَهُ الرجل فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا قَالَ: يَا خوند هَذِه خطّ مُحَمَّد الْخطاب وَهُوَ رجل عِنْد ولي الدولة صهر النشو يلْعَب مَعَه النَّرْد ويعاقره الْخمر فَطلب الْمَذْكُور وحاققه الرجل محاققة طَوِيلَة فَلم يعْتَرف فَعُوقِبَ عقوبات مؤلمة إِلَى أَن أقرّ بِأَن ولي الدولة أمره بكتابتها فَجمع بَينه وَبَين ولي الدولة فَأنْكر ذَلِك. وَطلب ولي الدولة أَن يرى الورقة فَلَمَّا رأها حلف جهد أيمانه أَنَّهَا خطّ ابْن الْأَزْرَق لينال عرضه من أجل أَن النشو قتل أَبَاهُ وحاققه على ذَلِك. فَاقْتضى الْحَال عُقُوبَة ابْن الْأَزْرَق فاعترف أَنَّهَا كِتَابَته وَأَنه أَرَادَ أَن يَأْخُذ بثأر أَبِيه من النشو وَأَهله. فَعَفَا السُّلْطَان عَن ابْن الْأَزْرَق وَأمر بِحَبْس الْخطابِيّ. ورسم السُّلْطَان لبرسبغا الْحَاجِب وَابْن صابر الْمُقدم أَن يعاقبا النشو وَأَهله حَتَّى يموتوا وَأذن للأجناد فِي حمل النشاب فِي السّفر لَا غَيره. وَيُقَال إِن سَبَب عُقُوبَة النشو أَن أُمَرَاء المشورة تحدثُوا مَعَ السُّلْطَان فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشريه فِي أَمر النشو فابتدأ الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وَقبل الأَرْض وَقَالَ: حاشا مَوْلَانَا السُّلْطَان من شغل الخاطر وضيق الصَّدْر فَقَالَ السُّلْطَان: يَا أُمَرَاء هَؤُلَاءِ مماليكي أنشأتهم وأعطيتهم الْعَطاء الجزيل وَقد بَلغنِي عَنْهُم مَا لَا يَلِيق.(3/274)
فَقَالَ الجاولي: حاشا لله أَن يَبْدُو من مماليك السُّلْطَان شَيْء من هَذَا غير أَن علم مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحِيط بِأَن ملك الْخُلَفَاء مَا زَالَ إِلَّا بِسَبَب الْكتاب وغالب السلاطين مَا دخل عَلَيْهِم الدخيل إِلَّا من جِهَة الوزراء. ومولانا السُّلْطَان مَا يحْتَاج فِي هَذَا إِلَى أَن يعرفهُ أحد بِمَا جرى لَهُم وَمن الْمصلحَة قتل هَذَا الْكَلْب وإراحة النَّاس مِنْهُ فوافقه الْجَمِيع على ذَلِك. فَضرب فِي هَذَا الْيَوْم المخلص أَخُو النشو بالمقارع مَعَ لَيْلَة الْجُمُعَة حَتَّى هلك يَوْم الْجُمُعَة الْعَصْر وَدفن بمقابر الْيَهُود ثمَّ مَاتَت أمه عَقِيبه. وَقتل بعْدهَا ولي الدولة عَامل المتجر وَرمي إِلَى الْكلاب. هَذَا والعقوبة تتنوع للنشو حَتَّى هلك فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي ربيع الآخر فَوجدَ بِغَيْر ختان. وَكتب بِهِ محْضر وَدفن فِي مَقَابِر الْيَهُود بكفن قِيمَته أَرْبَعَة دَرَاهِم ووكل بقبره من يَحْرُسهُ مُدَّة أُسْبُوع خوفًا من الْعَامَّة أَن تخرجه وتحرقه. فَكَانَت مُدَّة ولَايَته وجوره سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر. ثمَّ أحضر ولي الدولة صهر النشو ليعاقب وَهُوَ بِخِلَاف ولي الدولة عَامل المتجر الَّذِي تقدم فَدلَّ على ذخائر للنشو مَا بَين ذهب وأواني فِي صندوق كَبِير. وَطلبت جمَاعَة بِسَبَب ودائع اتهموا بهَا عِنْدهم للنشو وَشَمل الضَّرَر غير وَاحِد مِنْهُم. وَكَانَ مَوْجُود النشو سوى الصندوق الْمَذْكُور شَيْئا كثيرا وَعمل لمبيعه تسع وَعِشْرُونَ حَلقَة أَخّرهَا حَلقَة لَا يُوجد لَهَا مثل إِذْ بلغت خمْسا وَسبعين ألف دِرْهَم فَكَانَ جملَة مَا أَخذ مِنْهُ سوى الصندوق نَحْو مِائَتي ألف دِينَار. وَوجد لوَلِيّ الدولة عَامل المتجر مَا قِيمَته خَمْسُونَ ألف دِينَار ولولي الدولة صهر النشو زِيَادَة على ثَمَانِينَ ألف دِينَار وبيعت للنشو دور بِمِائَة ألف دِرْهَم ثمَّ ركب الْأَمِير آقبغا إِلَى دور أل النشو بالمصاصة من مصر وَمَعَهُ الْأسر وخربها كلهَا حَتَّى سوى بهَا الأَرْض وحرثها بالمحاريث فِي طلب الخبايا وحملت أنقاضها ورخامها فَلم يُوجد بهَا من الخبايا إِلَّا الْقَلِيل. وَفِي ثَالِث عشره: أفرج عَن القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن يحيي بن فضل الله الْعمريّ من سجنه بقلعة الْجَبَل بَعْدَمَا أَقَامَ مسجوناً سَبْعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا.(3/275)
وَسبب الإفراج عَنهُ أَنه كَانَ فِي السجْن كَاتب قد سجن على تزوير خطّ السُّلْطَان وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ فِي أَيَّام مُبَاشرَة شهَاب الدّين لوظيفة كَاتب السِّرّ ورسم السُّلْطَان بِقطع يَده فمازال شهَاب الدّين يتلطف فِي أمره حَتَّى عُفيَ من قطع يَده وسجن. فاتفق فِي هَذَا الْوَقْت أَنه رفع قصَّة يُنْهِي فِيهَا تَوْبَته وَيسْأل الْعَفو عَنهُ فَلم يتَذَكَّر السُّلْطَان شَيْئا من خَبره فَقيل لَهُ إِن شهَاب الدّين يعرف خَبره فَبعث إِلَيْهِ فِي ذَلِك وطالعه بأَمْره فأفرج عَن الْكَاتِب وَعَن شهَاب الدّين وَنزل شهَاب الدّين إِلَى دَاره. وَفِيه خلع على الْأَمِير عز الدّين أيدمر الزراق وَاسْتقر فِي ولَايَة ثغر الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن بيبرس الجمدار الركني. وَفِيه توجه جمال الكفاة نَاظر الْخَاص والأمير نجم الدّين وَزِير بَغْدَاد والأمير بيغرا والأمير طيبغا المجدي لإيقاع الحوطة على موجوده. وَذَلِكَ أَن ابْن الصاوي شاد مَعْدن الزمرد رفع فِيهِ أَن يربح فِي سنة من صنف الْخمر وَحده ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأَن لَهُ بالإسكندرية عقارا كثيرا من جملَته ثَلَاثُونَ بستاناً أقلهَا بِأَلف دِينَار. فَوجدَ أَكثر مَا قيل عَنهُ صَحِيح فَحمل إِلَى الْقَاهِرَة وتعصب لَهُ عدَّة من الْأُمَرَاء حَتَّى تقرر عَلَيْهِ حمل عشْرين ألف دِينَار فحملها وَأَفْرج عَنهُ. وَفِيه نُودي بِالْقَاهِرَةِ أَن يكون صرف الدِّينَار بِخَمْسَة وَعشْرين درهما بَعْدَمَا كَانَ بِعشْرين درهما وَسبب ذَلِك أَن جمال الكفاة نَاظر الْخَاص عمل أوراقاً بِمَا على السُّلْطَان للتجار فَكَانَ مبلغ ألف ألف دِينَار. فَأجَاب السُّلْطَان بِأَن النشو ذكر أَنه وفى التُّجَّار مَا لَهُم وَقصد أَلا يعطهم شَيْئا فَأَشَارَ عَلَيْهِ جمال الكفاة بوفاء جمَاعَة مِنْهُم وَأَن يحْسب عَلَيْهِم الدِّينَار بِخَمْسَة وَعشْرين درهما وَمَا عدا هَذِه الْجَمَاعَة لَا يدْفع لَهُم شَيْء فتوقفت أَحْوَال النَّاس لزِيَادَة سعر الذَّهَب. وَلما نزل جمال الكفاة إِلَى دَار القند بِمصْر ابتهج النَّاس بِهِ فَطرح السكر بِأَقَلّ مِمَّا كَانَ يطرحه النشو على السكريين بِعشْرَة دَرَاهِم القنطار. وَوَقع بِبِلَاد الْبحيرَة والغربية مطر عَظِيم فِيهِ برد كبار تلف بِهِ عدَّة مزارع وَكثير من الأغنام وهبت مَعَ ذَلِك ريَاح عَاصِفَة أَلْقَت النّخل. وفيهَا فرغت مدرسة الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد بجوار الْجَامِع الْأَزْهَر. وبلي النَّاس فِي(3/276)
عمارتها ببلايا كَثِيرَة: مِنْهَا أَن الصناع كَانَ قد قرر عَلَيْهِم آقبغا أَن يعملوا بِهَذِهِ الْمدرسَة يَوْمًا فِي الْأُسْبُوع بِغَيْر أُجْرَة فَكَانُوا يتناوبون بهَا الْعَمَل سخرة وَمِنْهَا أَنه حمل لَهَا الْأَصْنَاف من النَّاس وَمن العمائر السُّلْطَانِيَّة فَكَانَت مَا بَين غضب وسرقة. وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ مَا نزلها قطّ إِلَّا وَضرب وفيهَا من الصناع عدَّة ضربا ومؤلماً فَيصير ذَلِك الضَّرْب زِيَادَة على شدَّة عسف مَمْلُوكه الَّذِي أَقَامَهُ شادا بهَا. فَلَمَّا تمت جمع بهَا الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَلم يول بهَا أحدا وَكَانَ الشريف الْمُحْتَسب قد عمل لَهَا بسطا بِنَحْوِ سِتَّة آلَاف دِرْهَم على أَن يَلِي تدريسها فَلم يتم لَهُ ذَلِك. وَفِيه قدم رَسُول الشَّيْخ حسن بن الْأَمِير حُسَيْن بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكزخان مُتَوَلِّي الْعرَاق بكتابه يتَضَمَّن طلب عَسْكَر يتسلم بَغْدَاد والموصل وعراق الْعَجم ليقام بهَا الدعْوَة للسُّلْطَان وَسَأَلَ أَن يبْعَث السُّلْطَان إِلَى طغاي بن سونتاي فِي الصُّلْح بَينه وَبَين الشَّيْخ حسن فَأُجِيب إِلَى ذَلِك ووعد بتجهيز الْعَسْكَر. وَركب أَمِير أَحْمد قريب السُّلْطَان إِلَى طغاي وَمَعَهُ هَدِيَّة لينظم الصُّلْح بَينه وَبَين الشَّيْخ حسن. وَفِيه فرغت عمَارَة الخان الَّذِي أنشأه الْأَمِير طاجار الدوادار بجينين من طَرِيق الشَّام وَعمل بِهِ حَوْض مَاء للسبيل يجْرِي إِلَيْهِ المَاء وَعمل بِهِ حَماما وعدة حوانيت يُبَاع بهَا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسَافِر فَكثر النَّفْع بِهِ. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشرى ربيع الآخر: ركب السُّلْطَان إِلَى قصوره بسرياقوس وَمضى إِلَى خانكاته وَقد تقدمه إِلَيْهَا الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد الْأَصْفَهَانِي والقوام الْكرْمَانِي وَجَمَاعَة من صوفية سعيد السُّعَدَاء. فَوقف السُّلْطَان على الْبَاب بفرسه وَخرج إِلَيْهِ جَمِيع صوفيتها ووقفوا بَين يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ من يختاروه شَيخا لَهُم بعد وَفَاة الشَّيْخ مجد الدّين مُوسَى بن أَحْمد بن مَحْمُود الأقصرائي فَلم يعينوا أحدا. فولى السُّلْطَان مشيخة الشُّيُوخ بهَا الرُّكْن الملطى خَادِم الْمجد الأقصرائي. وفيهَا قدم الْخَبَر بِأَن أرتنا لم يقم الْخطْبَة بِبِلَاد الرّوم للسُّلْطَان وَلَا ضرب السِّكَّة فَكتب بالغارة على أَطْرَاف بِلَاده. فَقدم رَسُوله بهدية فِيهَا خركاة كسوتها من داخلها وَمن خَارِجهَا حَرِير أطلس ودايرها فرو سمور وبسطها حَرِير قومت بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ إكديشاً وَأَرْبَعَة سناقر وَعشرَة بزاة وَعشرَة صقور وَسِتُّونَ تفصيلة حَرِير وَمَعَ ذَلِك كتاب يتَضَمَّن الشكوى من غَارة التركمان على أَطْرَاف(3/277)
بِلَاده. فَأُجِيب بِأَن ذَلِك بِسَبَب أَنه لم يقم الْخطْبَة وَلَا ضرب السِّكَّة باسم السُّلْطَان فِي بِلَاده كَمَا أخبر بِهِ. وفيهَا انْقَطع السُّلْطَان عَن الْخُرُوج إِلَى دَار الْعدْل نَحْو عشْرين يَوْمًا لشغل خاطره بِمَرَض الْأَمِير يلبغا اليحياوي وملازمته لَهُ. وفيهَا ادّعى صَلَاح الدّين يُوسُف بن المغربي الْحَكِيم على أَوْلَاد الْمُلُوك بمبلغ عشرَة آلَاف دِرْهَم عِنْد قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الغوري تعجلوها مِنْهُ عَن أَرض بروضة مصر. وَكَانَ النشو قد أَخذهَا مِنْهُم وأدخلها فِي ديوَان الْخَاص فَوَجَبَ حَقه على أَوْلَاد الْمُلُوك فَلم يُوَافق القَاضِي على سجنهم وَجَرت بَينه وَبَين ابْن المغربي مُفَاوَضَة جرى فِيهَا على عَادَته من السَّفه فَلم يرخص لَهُ ابْن المغربي. وَآل الْأَمر إِلَى أَن خرج الغوري من الْمدرسَة الصالحية مَاشِيا وَجمع الْحَنَفِيَّة ليطلعوا إِلَى السُّلْطَان ويشكوا من ابْن المغربي. وَمَشى الغوري بالشارع وَبِيَدِهِ عكاز وَكَانَ يَوْمًا مطيراً - والعامة تنظر بِهِ وبجماعته وَقد سبقه ابْن المغربي وشكاه إِلَى السُّلْطَان. فَبعثت السُّلْطَان إِلَيْهِ الْأَمِير طاجار فَوَجَدَهُ قد طلع إِلَى القلعة مَاشِيا ليمين حلف بهَا فَبَلغهُ طاجار الرسَالَة وأراده أَن يرجع فَأبى أَن ينْصَرف حَتَّى يجْتَمع بالسلطان. فَلم يُمكنهُ السُّلْطَان من ذَلِك وواعده إِلَى دَار الْعدْل فَلَمَّا لم يجد سَبِيلا إِلَى الِاجْتِمَاع بِهِ عَاد وطلع يَوْم الْخدمَة إِلَى دَار الْعدْل. واستدعى السُّلْطَان أَوْلَاد الْمُلُوك وَادّعى عَلَيْهِم ابْن المغربي فألزمهم بِالْمَالِ وتسلمهم برسبغا الْحَاجِب حَتَّى أدوه لِابْنِ المغربي بعد إخراق وإهانة بَالِغَة. وَفِيه عمل سماط جليل بالميدان لعافية الْأَمِير يلبغا اليحياوي فِيهِ من الْأَطْعِمَة والأشربة والحلاوات ومشروب السكر مَا يجل وَصفه. واستدعى السُّلْطَان لحضوره جَمِيع صوفية الخوانك والزوايا وَأهل الْخَيْر وَسَائِر الطوائف وَأخرج من الخزانة السُّلْطَانِيَّة ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم أفرج بهَا عَن المسجونين على دين وَأخرج للأمير يلبغا ثَلَاث حجورة بِمِائَة ألف دِرْهَم وحياصة ذهب مرصعة بالجواهر وَأَفْرج عَن شعْبَان قريب ألماس. وَفِيه خلع على الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني وَالِي الغربية وَاسْتقر كاشف الْوَجْه القبلي عوضا عَن أخي ظلظيه لشكوى الْجند مِنْهُ. وَاسْتقر أسندمر مَمْلُوك القنجقي فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن ابْن الكوراني بِتَعْيِين الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب.(3/278)
وفيهَا جهزت التعابي من الخزانة لنائب الشَّام ونائب حلب ونائب حماة ونائب طرابلس على الْعَادة فِي كل سنة. ورسم بتجهيز تعبئة للأمير ألطنبغا نَائِب غَزَّة وأنعم عَلَيْهِ من مَال دمشق بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وَألف دِرْهَم وَألف غرارة من غلَّة وَحمل إِلَيْهِ ألف دِينَار وتعبئة قماش وتشريف كَامِل. وفيهَا خلع على الْأَمِير نكبيه البريدي مُتَوَلِّي قطيا وَاسْتقر فِي ولَايَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن الزراق لاستعفائه مِنْهَا. وَفِيه قدم أَمِير أَحْمد من بِلَاد الشرق وَقد عقد الصُّلْح بَين طغاي بن سونتاي وَبَين الشَّيْخ حسن الْكَبِير. وفيهَا طلبت النِّسَاء المغاني وصودرن مَا بَين ثَلَاثَة أُلَّاف دِرْهَم وَألف درهبم الْوَاحِدَة وسجن بالحجرة أَيَّامًا حَتَّى تَابَ بَعضهنَّ عَن الْغناء وَتزَوج بقيتهن. وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير آنوك بن السُّلْطَان كَانَ يركب إِلَى جِهَة بركَة الْحَبَش وَعمر لَهُ بهَا حوشاً لطيوره وموضعاً يتنزه بِهِ وأحضر إِلَيْهِ مغنية تعرف بالزهرة فشغف بهَا حَتَّى بلغ السُّلْطَان ذَلِك. فَأسر السُّلْطَان للأمير آقبغا عبد الْوَاحِد أَن يلْزم شاد المغاني والضامنة بالإنكار على المغاني حضورهن مجَالِس الْخمر وَإِقَامَة الْفِتَن وإلزامهن بِمَال يقمن بِهِ عُقُوبَة لَهُنَّ على ذَلِك وأكد عَلَيْهِ فِي أَن يكون ذَلِك من غير أَن ينْسب إِلَى السُّلْطَان أَنه أَمر بِهِ رِعَايَة لآنوك. فَلَمَّا وَقع ذَلِك شقّ على آنوك امْتنَاع الزهرة عَنهُ عدَّة أَيَّام ومازال حَتَّى أَتَتْهُ سرا ولهى بهَا عَن زَوجته ابْنة الْأَمِير بكتمر الساقي حَتَّى علمت أمه بذلك فلشفقتها عَلَيْهِ ترخصت لَهُ وأمكنته من هَوَاهُ. فخاف آنوك من السُّلْطَان ودبر هُوَ وبعص مماليكه حِيلَة أشغل بَال السُّلْطَان عَنهُ وَكتب ورقة يخيله فِيهَا من الْأَمِير بشتاك والأمير آقبغا وألقيت إِلَى السُّلْطَان. فنم بعض مماليكه للأمير آقبغا بذلك فَبَلغهُ السُّلْطَان فَدخل إِلَى الدّور واستدعى آنوك وهم بقتْله بِالسَّيْفِ فمنعته أمه وجواريه. فأرعد آنوك من الْخَوْف وَلزِمَ الْفراش وَتغَير السُّلْطَان على لالاه أرغون العلالي وَأقَام طيبغا المجدي عوضه ورسم بِبيع الدَّار الَّتِي عمرها آنوك ببركة الْحَبَش.(3/279)
وَفِيه قدم أَبُو بكر ابْن السُّلْطَان من الكرك باستدعاء وَمَعَهُ هَدِيَّة قيمتهَا نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم بعد مَا أَخذ أَمْوَال النَّاس بهَا على سَبِيل الْقَرْض وَكَانَ يقتل من يمْتَنع عَلَيْهِ ويصادره فَمَاتَ جمَاعَة من النَّاس تَحت الْعقُوبَة. وَفِيه توجه جمال الدّين الكفاة نَاظر الْخَاص إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وأوقع الحوطة على دور بيبرس الجمدار الركني نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة بعد مَوته فَوجدَ لَهُ عدَّة دور وحوانيت وَعشْرين بستاناً بَاعهَا بِخَمْسِمِائَة ألف وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم وَعَاد. وفيهَا قوى المَاء على الجسر الَّذِي استجده السُّلْطَان بِنَاحِيَة شيبين وَصَارَت الْبِلَاد الواطئة تستبحر. فَاقْتضى رَأْي السُّلْطَان عمل زريبة كالجسر ترد قُوَّة المَاء فندب لعملها الْأَمِير بيبغا حارس الطير. وَفرض السُّلْطَان لذَلِك على الْبِلَاد عَن كل دِينَار ثمن دِرْهَم فجبي نَحْو أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم. وجمعت البناة والفعلة وعملت أقمنة الجير والجبس والطوب حَتَّى تمت الزريبة فِي طول زِيَادَة على ثَلَاثِينَ آلف قَصَبَة. فَعظم النَّفْع بهَا وَشَمل الرّيّ عدَّة أراض مَا كَانَت تروى قبل ذَلِك إِلَّا فِي الأنيال الْعَالِيَة وَزَاد ارْتِفَاع النواحي بري الْأَرَاضِي. وَبَطل سد بَحر أبي المنجا وَتَأَخر فَتحه بعد أَوَانه بِعشْرَة أَيَّام وَقَامَ مقَامه سد قناطر شيبين وَبَطل مَا كَانَ من ركُوب النَّاس وفرجهم فِي فتح أبي المنجا وأراح الله تَعَالَى مِمَّا كَانَ يعْمل فِيهِ يَوْم فَتحه من الْمُنْكَرَات وَفِيه توجه الْأَمِير بشتاك بآنوك وَأبي بكر وَلَدي السُّلْطَان إِلَى العباسة وَحضر بهما بعد أَيَّام. ثمَّ توجه الْأَمِير يلبغا اليحياوي والأمير بشتاك بطيور السُّلْطَان إِلَى الْبحيرَة وصحبة يلبغا عشرَة أُمَرَاء طبلخاناه. فَدَخَلُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَقد تقدمهم جمال الكفاة إِلَيْهَا وجهز لَهُم الإقامات والتعابي والإنعامات فأقاموا ثَلَاثَة أَيَّام وعادوا. فأنعم السُّلْطَان على يلبغا يَوْم وُصُوله بِنَاحِيَة سوهاي من الصَّعِيد وعبرتها خَمْسَة عشر ألف دِينَار وَكتب بتمكين أهل الاسكندرية من فتح دكاكين الرُّمَاة على الْعَادة والإفراج لَهُم عَن السِّلَاح وَذَلِكَ بشفاعة يلبغا. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِمَوْت الْأَمِير طقتمر الخازن نَائِب قلعة حلب وَأَنه وجد لَهُ عشرَة أُلَّاف دِينَار وَمِائَة وَسِتُّونَ ألف دِرْهَم. وفيهَا توقفت الْأَحْوَال بِسَبَب صرف الذَّهَب وَعدم وجود الْفضة من بَين النَّاس فِي(3/280)
الْأَسْوَاق. فَأخْرج السُّلْطَان من الخزانة ألف دِرْهَم فضَّة فرقت مُدَّة شهر فِي الصيارف وَأخذ عَنْهَا ذهب فمشت الْأَحْوَال قَلِيلا ثمَّ توقفت. وفيهَا قدمت طَائِفَة من الْعَجم لَهُم زِيّ غَرِيب على رُءُوسهم أقباع طوال جدا من فَوْقهَا عمائم مضلعة كَهَيئَةِ الطرطور وَلَهُم شيخ يعرف بالشيخ زَاده. فاحتفل بهم الْأَمِير قوصون وأنزلهم بخانكاته وَعمل لَهُم فِيهَا عدَّة أَوْقَات ثمَّ تحدث قوصون مَعَ السُّلْطَان فِي أَمرهم فولي زَاده مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس فباشرها وَعمل بهَا فِي كل لَيْلَة جُمُعَة سَمَاعا قَامَ بِهِ الْأَمِير قوصون. وَفِي رَابِع عشرى شَوَّال: رَحل ركب الْحَاج من بركَة الْحَاج صُحْبَة الْأَمِير بكا الخضري. وَكَانَت الْعَادة أَن يرحل الركب فِي سادس عشره فقصد السُّلْطَان أَلا تطول إِقَامَة الْحَاج بِمَكَّة رفقا بالها فَأخر الرحيل فِي رَابِع عشريه ليوافي الْحجَّاج بِمَكَّة أول ذِي الْحجَّة وَاسْتمرّ ذَلِك فِيمَا بعد. وَسَار أَيْضا الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد إِلَى الْحَج بأَهْله. وفيهَا تسلم الْأَمِير زين الدّين قراجا بن دلغادر قلعة طرندة وَأقَام بهَا الدعْوَة للسُّلْطَان. وَذَلِكَ أَن مرجان الْخَادِم نَائِب طرندة من قبل أرتنا توجه مِنْهَا إِلَى مخدومه فِي مُهِمّ لَهُ فَنزل عَلَيْهَا من أُمَرَاء التركمان أَمِير عَليّ بن الكركري وَإِبْرَاهِيم كندلكي وَقَرَأَ خَلِيل بن البكي وَابْن قرا فِي زهاء أَرْبَعِينَ رجلا وَقد باطنهم رجل من أهل القلعة وجذب الْأَرْبَعين بجبال إِلَيْهَا فَقتلُوا من بهَا من جمَاعَة أرتنا واستولوا عَلَيْهَا وأسلموها لِابْنِ دلغادر. فَكتب إِلَى السُّلْطَان بذلك فأنعم بهَا على الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فَبعث إِلَيْهَا تنكز وعمرها وَلم تزل قلعة طرندة بأيدي سلاطين مصر إِلَى أَن مَاتَ الظَّاهِر برقوق.(3/281)
وفيهَا هبت سموم ورياح عَاصِفَة بجبل طرابلس وَسقط نجم اتَّصل نوره بِالْأَرْضِ مَعَ رعد قوي إِلَى الْغَايَة وعلقت مِنْهُ نَار فِي أَرَاضِي الجون أحرقت عدَّة أَشجَار ومنازل فَكَانَ ذَلِك آيَة. وَنزلت من السَّمَاء نَار بقرية الفيجة من عمل دمشق على قبَّة خشب أحرقتها وأحرقت ثَلَاثَة بيُوت بجانبها. وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سادس عشريه: وَقع بِدِمَشْق فِي أول اللَّيْل حريق بالدهشة شَرْقي الْجَامِع الْأمَوِي فَعظم الْأَمر حَتَّى وصل إِلَى الْجَامِع وَتعلق بالمنارة الشرقية وَسقط على الجملون الرصاص. فبادر النَّاس جَمِيعًا إِلَيْهِ وأطفأوه بِحَضْرَة الْأَمِير تنكز فِي مُدَّة يَوْمَيْنِ بلياليها. ثمَّ وَقع أَيْضا فِي لَيْلَة السبت أول ذِي الْقعدَة: حريق أخر بقيسارية القواسين والكفتيين وسوق الْخَيل من دمشق وَكَانَ أمرا مهولاً مُدَّة يَوْمَيْنِ بلياليها. فَعدم فِيهَا نَحْو خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف قَوس وعدمت أَمْوَالًا عَظِيمَة مِنْهَا للتجار خَاصَّة مَا مبلغة ألف وسِتمِائَة ألف دِينَار وَخَربَتْ أَمَاكِن كَثِيرَة. فَبينا النَّاس فِي ذَلِك إِذْ وجدت ورقة فِيهَا: الْمَمْلُوك الناصح تَتَضَمَّن أَن أَمر الْحَرِيق يظْهر إِذا أمسك يَعْقُوب غُلَام المكين كَاتب الْجَيْش فَقبض على الْمَذْكُور وعوقب فاعترف على أستاذه عدَّة من كتاب النَّصَارَى وأحضروا بَين يَدي الْأَمِير تنكز فأقروا جَمِيعًا بذلك. فأوقع تنكز الحوطة على موجودهم وَكتب عَلَيْهِم محضراً ملخصه: أَن الرشيد سَلامَة بن سُلَيْمَان بن مرجا النَّصْرَانِي كَاتب الْأَمِير علم الدّين سنجر البشمقدار أشهد عَلَيْهِ أَنه حضر إِلَيْهِ منتصف شَوَّال المكين يُوسُف بن مجلي كَاتب الْأَمِير بهادر آص والمكين يُوسُف عَامل الْجَيْش وصحبتهما راهبان أَحدهمَا اسْمه ميلاني وَالْآخر اسْمه عازر وفدما من الْقُسْطَنْطِينِيَّة ليجاهدا فِي الْملَّة الإسلامية ومعابدها وَقد باعا نفسيهما على ذَلِك وأنهما يعلمَانِ صناعَة النفط. فَاجْتمعُوا فِي بُسْتَان المكين يُوسُف وأحضر لَهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من النفط وَعمِلُوا كعكات وتنكروا فِي لباسهم ونزلوا إِلَى الدهشة وَتَفَرَّقُوا فِي جوانبها وابتاعوا مِنْهَا قماشاً ودفعوا ثمنه لصَاحبه وَجعلُوا القماش عِنْده وَدِيعَة وَقد دسوا فِيهِ تِلْكَ الكعكات المصنوعة فَوَقع مِنْهَا ذَلِك الْحَرِيق ثمَّ دفعُوا إِلَى الجرائحي النَّصْرَانِي الَّذِي على بَاب قيسارية القواسين خَمْسمِائَة دِرْهَم وكعكة من تِلْكَ الكعكات فَرمي بهَا فِي دكان(3/282)
دَاخل القيسارية فَكَانَ مِنْهَا الْحَرِيق الثَّانِي وَأَن الراهبين الْمَذْكُورين خرجا بعد ذَلِك بكتب الْجَمَاعَة إِلَى بيروت حَتَّى سيرهم الْعَامِل بهَا فِي مركب إِلَى قبرص وأرخ الْمحْضر بعشرى ذِي الْقعدَة وَحمل إِلَى السُّلْطَان. ثمَّ سمر الْجَمَاعَة فِي يَوْم السبت ثَانِي عشرى ذِي الْقعدَة بَعْدَمَا عوقبوا عقوبات عَظِيمَة وعددهم أحد عشر رجلا: وهم المكين يُوسُف بن مجلي عَامل الْجَيْش وَأَخُوهُ والمكين جرجس كَاتب الحوطات والمكين كَاتب بهادر آص وسمعان وَأَخُوهُ بِشَارَة والرشيد سَلامَة بن سُلَيْمَان كَاتب سنجر البشمقدار وَالْعلم عَامل بيروت والجرائحي وجزاران نصرانيان وشخص يعرف بسبيل الله وَكَانَ هَذَا الرجل بِالْقَاهِرَةِ سنة خمس وَعشْرين بزِي غَرِيب يلبس جلدا وَيحمل على كتفه زيراً نُحَاسا أندلسياً وَبِيَدِهِ شربات كَذَلِك وَيَقُول بِلِسَان غتمي: سَبِيل الله ويسقي النَّاس بِغَيْر جعل فَمن النَّاس من اعتقده وَمِنْهُم من اتهمَ أَنه جاسوس ثمَّ خرج هَذَا الرجل حَاجا وَقدم دمشق وَأقَام بهَا يسْقِي المَاء حَتَّى دخل مَعَ النَّصَارَى فِيمَا قَامُوا فِيهِ من أَمر الْحَرِيق وَلما سمروا وسطوا بعد يَوْمَيْنِ وَوجد لَهُم مَا ينيف على آلف دِرْهَم أنْفق مِنْهَا فِي عمَارَة مَنَارَة الْجَامِع والدهشة. فَكتب السُّلْطَان إِلَى تنكز يُنكر عَلَيْهِ قتل النَّصَارَى وَأَن فِي ذَلِك إغراء لأهل الْقُسْطَنْطِينِيَّة بِمن يرد إِلَيْهِم من التُّجَّار الْمُسلمين وقتلهم وَيَأْمُر بِحمْل مَا وجد من المَاء وَأَن يُجهز بَنَاته اللَّاتِي عقد لأَوْلَاد السُّلْطَان عَلَيْهِنَّ. فَأجَاب تنكز بالاعتذار عَن تجهيز بَنَاته بِمَا شغله من عمَارَة مَا أحرق وَأَن المَال الَّذِي وجد لِلنَّصَارَى قد جعله لعمارة الْجَامِع وجهر قرمجي بذلك فَلم يرض السُّلْطَان وَتغَير(3/283)
على قرمجي وَكتب مَعَه إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لابد من تجهيز بَنَاته. تمّ أر كب السُّلْطَان الْأَمِير طاجار الدوادار على الْبَرِيد إِلَى دمشق بملطفات فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة وَكَانَ طاجار قد ثقل عَلَيْهِ أَمر تنكز وَأخذ فِي زَوَاله وَجعل توجهه إِنَّمَا هُوَ لعتب تنكز على تَأْخِيره حمل بَنَاته. وَكَانَ قد بلغ تنكز تغير السُّلْطَان عَلَيْهِ فَجهز أَمْوَاله ليحملها إِلَى قلعة جعبر وَيخرج إِلَيْهَا بِحجَّة أَنه يتصيد. فَقدم عَلَيْهِ طاجار قبل ذَلِك فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع عشره وعتبه وبلغه عَن السُّلْطَان مَا حمله فَتغير الْأَمِير تنكز وبدا مِنْهُ مَا حفظه عَلَيْهِ طاجار. وَعَاد طاجار إِلَى السُّلْطَان فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر ذِي الْحجَّة قبل الصَّلَاة فأغرى السُّلْطَان بِهِ وَأَنه قد عزم على الْخُرُوج من دمشق. فَطلب السُّلْطَان بعد الصَّلَاة الْأَمِير بشتاك والأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا والأمير أرقطاي والأمير طقزدمر فِي آخَرين وعرفهم أَن تنكز قد خرج عَن الطَّاعَة وَأَنه يبْعَث إِلَيْهِ تجريدة مَعَ الْأَمِير جنكلي والأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير أرنبغا أَمِير جندار والأمير قماري أَمِير شكار والأمير قماري أَخُو بكتمر الساقي والأمير برسبغا الْحَاجِب. وَمَعَ هَذِه الْأُمَرَاء السَّبْعَة ثَلَاثُونَ أَمِير طبلخاناه وَعِشْرُونَ أَمِير عشرَة وَمن الطبلخاناه ملكتمر السرجواني وقباتمر الجمدار المظفري وبلك الجمدار المظفري وبكا الخصري وَمُحَمّد بن الْأَمِير جنكلي وأمير عَليّ بن صغريل وأمير أَحْمد الساقي قريب السُّلْطَان ونيررز وطقتمر قلي وبيغرا السِّلَاح دَار وقراجا السِّلَاح دَار وطيبغا المجدي وطاجار الدوادار وبغاتمر وتمربغا الْعقيلِيّ وطقتمر الصلاحي وجركتمر بن بهادر وَسيف الناصري وطقبغا الناصري وبيبغا حارس الطير وأيتمش الناصري وأباجي الْوَافِد وأرلان التتري الْوَافِد وملكتمر السعيدي وأمير مَحْمُود بن خطير وَخَمْسُونَ نَفرا من مقدمي الْحلقَة وَأَرْبَعمِائَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَجلسَ السُّلْطَانِيَّة وَجلسَ السُّلْطَان وعرضهم. ثمَّ جمع السُّلْطَان فِي يَوْم السبت عشريه الْأُمَرَاء جَمِيعهم وَحلف المجردين والمقيمين لَهُ ولولده الْأَمِير أبي بكر من بعده وَطلب الأجناد من النواحي للحلف فَكَانَت بِالْقَاهِرَةِ حركات كَثِيرَة. وَحمل السُّلْطَان لكل مقدم آلف مبلغ آلف دِينَار وَلكُل أَمِير طبلخاناه أَرْبَعمِائَة دِينَار وَلكُل مقدم حَلقَة آلف دِرْهَم وَلكُل مَمْلُوك خَمْسمِائَة دِرْهَم وَفرس وقرقل وخوذة وَغير ذَلِك.(3/284)
فاتفق قدوم الْأَمِير مُوسَى بن مهنا فِي يَوْم السبت هَذَا فقرر مَعَه السُّلْطَان الْقَبْض على تنكز وَكتب إِلَى العربان بِأخذ الطرقات من كل جِهَة على تنكز. وَبعث السُّلْطَان بهادر حلاوة من طَائِفَة الأوجاقية على الْبَرِيد إِلَى ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب غَزَّة وَسيف الدّين طشتمر نَائِب صفد وَالِي أُمَرَاء دمشق بملطفات كَثِيرَة وَأخرج مُوسَى بن مهنا لتجهيز العربان وإقامته على حمص واهتم بِأَمْر تنكز اهتماماً زَائِدا وَكثر قلقه وتنغص عيشه. وَخرج الْعَسْكَر إِلَى دمشق فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة وَكَانَ حلاوة الأوجاقي قد قدم على الْأَمِير ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب غَزَّة بملطفه وَفِيه أَنه قد اسْتَقر فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن تنكز وَأَن الْعَسْكَر وَاصل إِلَيْهِ ليسيروا بِهِ إِلَى دمشق وَأَن الْأَمِير طشتمر نَائِب صفد قد كتب إِلَيْهِ بالركوب إِلَى دمشق ليركب هُوَ والأمير قطلوبغا الفخري ويقبضا على تنكز فسر ألطنبغا بذلك وَوجه حلاوة إِلَى صفد فَقَدمهَا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشريه أول اللَّيْل وأوقف الْأَمِير طشتمر على ملطفه فَركب فِي سَاعَته فِي ثَمَانِينَ فَارِسًا وسَاق إِلَى دمشق. وَاجْتمعَ طشتمر مَعَ قطلوبغا الفخري وسنجر البشمقدار وبيبرس السلحدار وَكَانَ قد قدم حلاوة إِلَى أُمَرَاء دمشق بكرَة يَوْم الثلائاء وَهُوَ متنكر وأوصل الملطفات إِلَى أَصْحَابهَا وَقد سبقته ملطفات الْأَمِير ألطنبغا من غَزَّة. فاتفق ركُوب الْأَمِير تنكز فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى قصره فَوق ميدان الْحَصَا فِي خواصه للنزهة وبينما هُوَ فِي ذَلِك إِذْ بلغه قدوم الْخَيل من صفد فَعَاد إِلَى دَار السَّعَادَة وألبس مماليكه السِّلَاح فَلم يكن بأسرع من أَن أحَاط بِهِ أُمَرَاء دمشق. وَوَقع الصَّوْت بوصول طشتمر نَائِب صفد فَخرج الْعَسْكَر إِلَى لِقَائِه وَقد نزل مَسْجِد الْقدَم. فَأمر طشتمر جمَاعَة من الْأُمَرَاء أَن يعودوا إِلَى تنكز ويخرجوه إِلَيْهِ فَدخل عَلَيْهِ مِنْهُم تمر الساقي وطرنطاي والبشمقدار وبيبرس السِّلَاح دَار وعرفوه مرسوم السُّلْطَان وأخذوه وأركبوه إكديشاً وَسَارُوا بِهِ إِلَى نَائِب صفد وَهُوَ وَاقِف بالعسكر فِي ميدان الْحَصَا وَقبض على جنغيه وطعيه مملوكي تنكز وسجنا بالقلعة. وَأمر طشتمر بتنكز فَأنْزل عَن فرسه على(3/285)
ثوب سرج وَقَيده قرمجي مَمْلُوكه وأخده الْأَمِير بيبرس السِّلَاح دَار وَتوجه بِهِ إِلَى الْكسْوَة فَحدث لَهُ إسهال ورعدة خيف عَلَيْهِ مِنْهُ الْمَوْت وَأقَام بهَا يَوْمًا وَلَيْلَة ثمَّ مضى بِهِ بيبرس إِلَى الْقَاهِرَة وَنزل الْأَمِير طشتمر نَائِب صفد بِالْمَدْرَسَةِ النجيبية. وَتقدم بهادر حلاوة عِنْدَمَا قبض على تنكز ليبشر السُّلْطَان فَقدم لَيْلًا بلبيس والعسكر نَازل عَلَيْهَا وَعرف الْأَمِير بشتاك ثمَّ سَار إِلَى السُّلْطَان فَقدم وَمَعَهُ أحد مماليك السُّلْطَان ومملوك طاجار الدوادار فِي خَامِس عشريه وَأخْبرهُ الْخَبَر فسر سُرُورًا كثيرا. وَكتب السُّلْطَان بِعُود الْعَسْكَر من بلبيس خلا الْأَمِير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير برسغبا الْحَاجِب وَجَمَاعَة فَإِنَّهُم يتوجهون إِلَى دمشق وَأَن يُقيم الْأَمِير بيغرا أَمِير جندار والأمير قماري أَمِير شكار بالصالحية إِلَى أَن يقدم الْأَمِير تنكز فيدخلا بِهِ. فَعَاد الْعَسْكَر من بلبيس وَتوجه بشتاك ورفيقاه إِلَى دمشق فَركب مَعَهم الْأَمِير ألطنبغا من غَزَّة فَلَقوا الْأَمِير تنكز على بيسان. وفيهَا فرغ قصر الْأَمِير سيف الدّين بشتاك الناصري بِخَط بَين القصرين من الْقَاهِرَة. وَذَلِكَ أَن الْأَمِير قوصون لما أَخذ قصر بيسري وجدد عِمَارَته أحب الْأَمِير بشتاك أَن يعْمل لَهُ قصراً تجاه قصر بيسري فَدلَّ على دَار الْأَمِير بكناش الفخري الصَّالِحِي أَمِير سلَاح وَهِي أحد قُصُور الْخُلَفَاء الفاطميين الَّتِي اشْتَرَاهَا بكتاش من ذُرِّيتهمْ وَأَنْشَأَ بهَا دوراً وإسطبلات وَأبقى مَا وجد فِيهَا من الْمَسَاجِد فَشَاور بشتاك السُّلْطَان على أخدها فرسم لَهُ بذلك فَأَخذهَا من أَوْلَاد بكتاش وأرضاهم وأنعم لَهُ السُّلْطَان بِأَن كَانَت داخلها برسم الفراشخاناه السُّلْطَانِيَّة وَأخذ دَار أقطوان الساقي بجوارها وَهدم الْجَمِيع وَأَنْشَأَ قصراً مطلاً على الطَّرِيق ارتفاعه أَرْبَعُونَ ذِرَاعا وأساسه أَرْبَعُونَ ذِرَاعا وأجرى إِلَيْهِ المَاء ينزل من شادروان إِلَى بركَة. وأخرب بشتاك فِي عمل هَذَا الْقصر أحد عشر مَسْجِدا وَأَرْبَعَة معابد أدخلها فِيهِ وَلم يجدد مِنْهَا سوى مَسْجِد الفجل وَقد سمي هَذَا الْمَسْجِد بذلك الِاسْم من أجل أَن قيمه يعرف بالفجل وَأَنْشَأَ خَانا تجاه خَان الزَّكَاة ثمَّ بَاعَ بشتاك هَذَا الْقصر لزوجته الَّتِي كَانَت تَحت بكتمر الساقي. وفيهَا(3/286)
خطب للخليفة الواثق بِاللَّه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المستمسك بن أَحْمد الْحَاكِم بِأَمْر الله. وَذَلِكَ أَن الْخَبَر قدم فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر شعْبَان بِمَوْت الْخَلِيفَة المستكفي بِاللَّه أبي الرّبيع سُلَيْمَان بقوص فِي مستهل شعْبَان بعد موت ابْنه صَدَقَة بِقَلِيل وَأَنه اشْتَدَّ جزعه عَلَيْهِ وَأَنه قد عَهده لوَلَده أَحْمد بِشَهَادَة أَرْبَعِينَ عدلا وَأثبت قَاضِي قوص ذَلِك. فَلم يمض السُّلْطَان عَهده وَطلب إِبْرَاهِيم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشرى شعْبَان وَأَجْلسهُ بجانبه وحادثه ثمَّ قَامَ إِبْرَاهِيم وَخرج مَعَه الْحجاب بَين يَدَيْهِ ثمَّ طلع إِلَى السُّلْطَان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشر رَمَضَان وَقد اجْتمع الْقُضَاة بدار الْعدْل على الْعَادة فعرفهم السُّلْطَان بِمَا أَرَادَ من إِقَامَة إِبْرَاهِيم فِي الْخلَافَة وَأمرهمْ بمبايعته فَأَجَابُوا بِعَدَمِ أَهْلِيَّته وَأَن المستكفي عهد إِلَى وَلَده أَحْمد بِشَهَادَة أَرْبَعِينَ عدلا وحاكم قوص وَيحْتَاج إِلَى النّظر فِي عَهده. فَكتب السُّلْطَان بِطَلَب أَحْمد وعائلة أَبِيه وَأقَام الخطباء بديار مصر وَالشَّام نَحْو أَرْبَعَة أشهر لَا يذكرُونَ فِي خطبهم الْخَلِيفَة. فَلَمَّا قدم أَحْمد من قوص لم يمض السُّلْطَان عَهده وَطلب إِبْرَاهِيم وعرفه قبح سيرته فأظهر التَّوْبَة مِنْهَا وَالْتزم بسلوك طَرِيق الْخَيْر فاستدعى السُّلْطَان الْقُضَاة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ وعرفهم أَنه أَقَامَ إِبْرَاهِيم فِي الْخلَافَة فَأخذ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة يعرفهُ سوء أَهْلِيَّته للخلافة فَأجَاب بِأَنَّهُ قد تَابَ والتائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ وَقد وليته(3/287)
فَاشْهَدُوا عَليّ بولايته. ورتب لَهُ السُّلْطَان مَا جرت بِهِ الْعَادة وَهُوَ ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَسِتُّونَ درهما وَتِسْعَة عشر أردب شَعِيرًا فِي كل شهر فَلم يُعَارضهُ أحد. وخطب لَهُ فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس ذِي الْقعدَة. ولقب بالواثق بِاللَّه أبي اسحاق فَكَانَت الْعَامَّة تسميه المستعطي فَإِنَّهُ كَانَ يستعطى من النَّاس مَا يُنْفِقهُ وَشهر بارتكاب أُمُور غير مرضية. وفيهَا اسْتَقر فِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن الْفَخر خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي عوضا عَن زين عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْحَاكِم البلفيائي. وفيهَا اسْتَقر نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين يشوب بن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمَعَالِي الْحلَبِي فِي كِتَابَة السِّرّ بحلب عوضا عَن شهَاب الدّين أَحْمد بن القطب الْمصْرِيّ. وفيهَا اسْتَقر الشَّيْخ حسن الْكَبِير بن الْأَمِير حُسَيْن بن آقبفا بن أيدكين وَهُوَ سبط القان أرغون بن أبغا بن هولاكو فِي مملكة بَغْدَاد قدم إِلَيْهَا من خُرَاسَان وَكَانَ الشَّيْخ حسن الصَّغِير بن دمرداش إِذْ ذَاك حَاكم توريز. وَكَانَ قاع النّيل فِي هَذِه السّنة أَرْبَعَة أَذْرع وَخَمْسَة أَصَابِع وانتهت زِيَادَته إِلَى سَبْعَة عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة عشر أصبعاً. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان شهَاب الدّين أَحْمد بن عِيسَى بن جَعْفَر الأرمنتي الْمصْرِيّ عرف بِابْن الْكَمَال فِي جُمَادَى الأولى سمع من الأبرقوهي وَكَانَ ثِقَة. وَتُوفِّي الشَّيْخ مجد الدّين أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الْعَزِيز الزنكلوني الشَّافِعِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الأول وَله شرح التَّنْبِيه فِي الْفِقْه وَغَيره وَولي مشيخة خانكاه بيبرس. وَتُوفِّي الْخَلِيفَة المستكفي بِاللَّه أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان ابْن الْخَلِيفَة الْحَاكِم بأمرالله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحسن بن أبي بكر بن أبي عَليّ بن الْحسن العباسي بِمَدِينَة قوص عَن سِتّ وَخمسين سنة وَسِتَّة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وَفِي خَامِس شعْبَان وَكَانَت خِلَافَته تسعا وَثَلَاثِينَ سنة وشهرين وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَكَانَ حشماً كَرِيمًا فَاضلا.(3/288)
وَتُوفِّي خطيب أحميم علم الدّين عَليّ وَكَانَ لَهُ مَال كثير وإفضال كثير. أضَاف السُّلْطَان مرَّتَيْنِ وَكَفاهُ بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأهْدى إِلَى جَمِيع الْأُمَرَاء وَعمر مدرسة بِمَدِينَة أحميم وَمَات الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الأوحدي وَالِي القلعة أحد المماليك المنصورية فِي يَوْم السبت تَاسِع عشر ربيع الأول. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري وَكَانَ خيرا. وَمَات بِدِمَشْق الْأَمِير آقسنقر مشد الْعِمَارَة الْمَنْسُوب إِلَيْهِ قنطرة آقسنقر على الخليج خَارج الْقَاهِرَة وَالْجَامِع بسويقة السباعين على الْبركَة الناصرية فِيمَا بَين الْقَاهِرَة ومصر وَمَات الْأَمِير علم الدّين عَليّ بن حسن المرواني وَالِي الْقَاهِرَة فِي ثَانِي عشر رَجَب بعد مقاساة أمراض شنيعة مُدَّة سنة وَكَانَ سفاكاً أفاكاً ظلوماً غشوماً اقترح فِي ولَايَته عقوبات مهولة: مِنْهَا نعل الرجل فِي رجلَيْهِ بالحديد كَمَا تنعل الْخَيل وَمِنْهَا تَعْلِيق الرجل بيدَيْهِ وَتَعْلِيق مقابرات العلاج فِي رجلَيْهِ فتنخلع أعضاؤه وَيَمُوت وَقتل خلقا كثيرا من الْكتاب وَغَيرهم فِي أَيَّام النشو وَلما حملت جنَازَته وقف عَالم عَظِيم لرجمه فَركب الْوَالِي وَابْن صابر الْمُقدم حَتَّى طردهم. وَمَات الْأَمِير بهادر البدري نَائِب الكرك وَهُوَ منفي بطرابلس. وَتُوفِّي شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عَسْكَر بن مظفر القيراطي الشَّافِعِي بِالْقَاهِرَةِ عَن سبعين سنة تصدر بالجامع الْأَزْهَر وباشر قَضَاء دمياط. وَتُوفِّي جمال الدّين عبد القاهر بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التبريزي الْحَرَّانِي الشَّافِعِي قَاضِي دمياط كَانَ فَقِيها أديباً شَاعِرًا خَطِيبًا. وَتُوفِّي الشَّيْخ مجد الدّين أَبُو حَامِد مُوسَى بن أَحْمد بن مَحْمُود الأقصرائي شيخ الشُّيُوخ فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر ربيع الآخر وَقد أناف على السّبْعين بخانكاه سرياقوس. وَمَات الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الركني المظفري كاشف الْبحيرَة ووالي ثغر الْإسْكَنْدَريَّة عَن مَال كثير.(3/289)
وَمَات شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن التَّاج فضل الله الْمَعْرُوف بالنشو نَاظر الْخَاص فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي ربيع الآخر كَانَ أَبوهُ يكْتب عِنْد الْأَمِير بكتمر الحاحب وَهُوَ يَنُوب عَنهُ ثمَّ انْتقل إِلَى مُبَاشرَة ديوَان الْأَمِير أركتمر الجمدار ثمَّ ولي اسْتِيفَاء الدولة ثمَّ بَاشر ديوَان الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان وأكره حَتَّى أظهر الْإِسْلَام وَولي نظر الْخَاص السلطاني فَبلغ مَا لم يبلغهُ أحد من الأقباط فِي دولة التّرْك وَتقدم عِنْد السُّلْطَان على كل أحد وخدمه جَمِيع أَرْبَاب الأقلام وَكَانَ محْضر سوء لم يشْتَهر عَنهُ شَيْء من الْخَيْر وَجمع من الْأَمْوَال مَا لم يجمعه وَزِير للدولة التركية وَكَانَ مظفراً مَا ضرب على أحد إِلَّا ونال غَرَضه مِنْهُ بالإيقاع بِهِ وتخريب دياره وَقتل على يَدَيْهِ عدَّة من الْوُلَاة وَالْكتاب واجتهد غَايَة جهده فِي قتل مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق وعاقبة سِتَّة أشهر بأنواع الْعُقُوبَات من الضَّرْب بالمقارع وَالْعصر فِي كعابه وتسعيطه بِالْمَاءِ وَالْملح وبالخل والجير وَغير ذَلِك مَعَ نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى فَلم يمت وعاش التَّاج مُوسَى هَذَا ثَلَاثِينَ سنة بعد هَلَاك النشو. وَمَات مجد الدّين رزق الله بن فضل الله أَخُو النشو خدم وَهُوَ نَصْرَانِيّ فِي اسْتِيفَاء الْخَاص أَيَّام أَخِيه ثمَّ أسلم على يَد السُّلْطَان فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ كرها وخدم عِنْد الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فَعظم شَأْنه وَفعل خيرا فَلَمَّا قبض على أَخِيه قبض عَلَيْهِ مَعَه فذبح نَفسه فِي ثَالِث صفر.(3/290)
(سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع الْمحرم: وصل الْأَمِير سيف الدّين تنكز نَائِب الشَّام وَهُوَ متضعف صُحْبَة الْأَمِير بيبرس السِّلَاح دَار وَأنزل من القلعة بمَكَان ضيق حرج. وَقصد السُّلْطَان ضربه بالمقارع فَقَامَ الْأَمِير قوصون فِي الشَّفَاعَة لَهُ حَتَّى أُجِيب إِلَى ذَلِك وَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان يهدده حَتَّى يعْتَرف بِمَا لَهُ من المَال وَيذكر من كَانَ مُوَافقا على الْعِصْيَان من الْأُمَرَاء. فَأجَاب تنكز بِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ سوى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَدِيعَة عِنْده لأيتام بكتمر الساقي وَأنكر أَن يكون خرج عَن الطَّاعَة. فَأمر السُّلْطَان فِي اللَّيْل فَأخْرج مَعَ ابْن صابر الْمُقدم وأمير جندار وَحمل فِي حراقة بالنيل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَقتله بهَا إِبْرَاهِيم بن صابر الْمُقدم فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشره. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه: قدم الْأَمِير بشتاك والأمير ألطنبغا الصَّالِحِي إِلَى دمشق فِيمَن مَعَهُمَا من الْأُمَرَاء وَقد خرج النَّاس إِلَى لقائهم فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَنزل الْأَمِير ألطنبغا بدار السَّعَادَة وَنزل الْأَمِير بشتاك بالميدان. ثمَّ قبض على الْأَمِير صاروجا المظفري ألجيبغا العادلي وَطلب من ألزام تنكز مملوكاه جنغيه وطغيه وسلما للأمير برسبغا فعاقبهما أَشد عُقُوبَة على المَال وَقبض على أولادهما وحواشيهما وأوقع الحوطة على موجوديهما وموجود صاروجا وألجيبغا ثمَّ وسط جنغيه وطغيه بسوق الْخَيل وأكحل صاروجا. وتتبعت أَمْوَال تنكز فَوجدَ لَهُ مَا يجل وَصفه وعملت لبيع حواصلة عدَّة حلق تولى البيع فِيهَا الْأَمِير ألطنبغا نَائِب الشَّام والأمير أرقطاي وهما أعدى عَدو لَهُ وَكَانَ فِي ذَلِك عِبْرَة لمن اعْتبر. وَظهر لَهُ من التحف السنيه مَا يعز وجود مثله. مِنْهَا مِائَتَا منديل زركش وَمِائَة حياصة مرصعة بالجوهر وَأَرْبَعمِائَة حياصة ذهب وسِتمِائَة كلفتاه وَثَمَانِية وَسِتُّونَ بقجه بهَا بدلات ثِيَاب زركش وألفا ثوب أطلس وَمِائَتَا تخفيفة زركش وَذهب مختوم أَرْبَعمِائَة ألف مِثْقَال. واشتملت جملَة مَا أبيع لَهُ على مِائَتي ألف دِينَار فَكَانَ جملَة الْعين سِتّمائَة ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة دِينَار. وَوجد لَهُ من الهجن وَالْخَيْل وَالْجمال البخاتي وَغَيرهَا نَحْو أَرْبَعَة أُلَّاف ومائتي رَأس وَذَلِكَ سوى مَا أَخذه الْأُمَرَاء ومماليكهم فَإِنَّهُم كَانُوا ينهبون مَا يخرج بِهِ نهباً. وَوجد لَهُ(3/291)
من الثِّيَاب الصُّوف وَمن النصافي مَا لَا ينْحَصر وظفر الْأَمِير بشتاك بجوهر لَهُ ثمين اخْتصَّ بِهِ. وحملت حرمه وَأَوْلَاده إِلَى مصر صُحْبَة الْأَمِير بيغرا بَعْدَمَا أَخذ. لَهُم من الْجَوْهَر واللؤلؤ والزركش شَيْء كثير. وَوجد لألجيبغا العادلي مبلغ مائَة وَعشْرين ألف دِرْهَم وَألف ومائتي دِينَار وأصناف كَثِيرَة فبلغت تركته سِتّمائَة ألف دِرْهَم. وَلم يُؤْخَذ لصاروجا غير أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم وصودر جمَاعه من ألزام تنكز فَأخذ مِنْهُم نَحْو الألفي ألف دِرْهَم. ثمَّ توجه الْأَمِير بشتاك من دمشق وَقدم قلعه الْجَبَل فَخلع عَلَيْهِ وَأكْرم إِكْرَاما زَائِدا. ثمَّ قدم الْأَمِير قطلوبغا الفخري باستدعاء فَخلع عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف ثمَّ قدم الْأَمِير وخلع على الْأَمِير مَسْعُود بن خطير الْحَاجِب بنيابة غَزَّة وأنعم على برسبغا بتقدمته وحجوبيته وَكتب بِحُضُور طرغاي من حلب. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير أرقطاي فِي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن طينال وَأقَام طينال بِدِمَشْق. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير أقسنقر السلاري فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن الْأَمِير طشتمر. وَلما قدم حَرِيم تنكز أنزلوا فِي دَاره بِخَط الكافوري وَكَانَ قد أخرج جمال الكفاة نَاظر الْخَاص مِنْهَا حواصل جليلة مَا بَين أواني صيني ومسك وعود وَغير ذَلِك أَقَامَ فِي بَيْعه مُدَّة أَرْبَعَة أشهر وَبَلغت قيمتهَا نَحْو ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم وَألْفي دِينَار سوى مَا أنعم بِهِ على الْأُمَرَاء. وَوجد لتنكز بقلعة جعبر مبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَثَلَاثِينَ حمل سلَاح وَوجد لَهُ حَاصِل سروج ولجم وسلاسل ذهب وَفِضة وعدة سلَاح بِمَا ينيف على مائَة ألف دِينَار وقومت أملاكه بِمَا ينيف على مائَة ألف دِينَار. وَكَانَ لتغير السُّلْطَان على تنكز أَسبَاب: مِنْهَا أَنه كتب يسْتَأْذن فِي سيره إِلَى نَاحيَة جعبر فَمَنعه السُّلْطَان من ذَلِك لما فِي تِلْكَ الْبِلَاد من الغلاء وألح تنكز فِي الطّلب وَالْجَوَاب يرد بِمَنْعه حَتَّى حنق من السُّلْطَان وَقَالَ: وَالله لقد تغير عقل أستاذنا وَصَارَ يسمع من الصّبيان الَّذين حوله وَوَاللَّه لَو سمع مني لَكُنْت أُشير عَلَيْهِ بِأَن يُقيم أحد أَوْلَاده وأقوم أَنا بتدبير أمره وَيبقى هُوَ وَاتفقَ أَن أرتنا نَائِب الرّوم بعث رَسُولا إِلَى السُّلْطَان بكتابه وَلم يكْتب مَعَه كتابا إِلَى تنكز فخنق تنكز لعدم مُكَاتبَته ورد رَسُوله من دمشق.(3/292)
فَكتب أرتنا يعرف السُّلْطَان بذلك ويسال أَلا يطلع تنكر على مَا بَينه وَبَين السُّلْطَان ورماه بِأُمُور أوجبت شدَّة تغيره عَلَيْهِ وَاتفقَ أَيْضا أَن غضب تنكز على جمَاعَة من مماليكه وضربهم وسجنهم بالكرك والشوبك فَكتب مِنْهُم جوبان وَكَانَ أكبر مماليكه الْأَمِير قوصون يشفع بِهِ فِي الإفراج عَنهُ من سجن الشوبك. فَكلم قوصون السُّلْطَان فِي ذَلِك فَكتب إِلَى تنكز يشفع فِي جوبان فَلم يجب عَن أمره بِشَيْء فَكتب إِلَيْهِ ثَانِيًا وثالثاً فَلم يجب فَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان حَتَّى قَالَ لِلْأُمَرَاءِ: مَا تَقولُونَ فِي هَذَا الرجل هُوَ شفع عِنْدِي فِي قَاتل أخي فَقبلت شَفَاعَته وأخرجته من السجْن وَسيرَته إِلَيْهِ يَعْنِي طشتمر آخا بتخاص وَأَنا أشفع فِي مَمْلُوكه مَا يقبل شفاعي وَكتب لنائب الشوبك بالإفراج عَن جوبان فأفرج عَنهُ. وَكَانَ تنكز رَحمَه الله فِي نِيَابَة دمشق قد أَزَال الْمَظَالِم وَأقَام منار الشَّرْع وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وأزال مَا كَانَ بِدِمَشْق وأعمالها من الْفَوَاحِش والخانات والخمارات وَبَالغ فِي الْعقُوبَة على ذَلِك حَتَّى قتل فِيهِ. وأنصف الْعَامَّة والتجار بخلاص حُقُوقهم من الْأُمَرَاء وَحَملهمْ مَعَ أخصامهم إِلَى الشَّرْع. واحتجب عَن الِاجْتِمَاع بالشاميين وَغَيرهم وَامْتنع من قبُول التقادم والهدايا جملَة. وتتبع الْمدَارِس والمساجد والأوقاف فعمرها جَمِيعهَا وَمنع مستحقيها من تنَاول ريعها حَتَّى كملت عمارتها. وحدد عدَّة أَمَاكِن قد دثرت أوقافها وَأعَاد فِيهَا وظائف الْعِبَادَات بَعْدَمَا بطلت وجدد عمَارَة الْجَامِع الْأمَوِي وَعمر أوقافه وَأصْلح تقاسيم الْمِيَاه بعد مَا كَانَت فَاسِدَة ونظف مجاريها ووضح طرقها وَهدم الْأَمْلَاك الَّتِي استجدها النَّاس وضيقوا بهَا الشوارع والطرقات المسلوكة. وألزم وَالِي الْمَدِينَة أَن يُعلمهُ. مِمَّن يشرب الْخمر من الْأُمَرَاء وَأَوْلَادهمْ فَتعذر وجود الْخمر فِي أَيَّامه وَلم يكن يُوجد. واستجد ديواناً لِلزَّكَاةِ وصرفها للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وأرباب الْبيُوت. وانكفت الْوُلَاة فِي أَيَّامه عَن الظُّلم وأحبته الْعَامَّة وَمنع الْأُمَرَاء من تسخير الفلاحين والمزارعين فِي أَعْمَالهم ومنعهم أَيْضا من الِاجْتِمَاع فِي الْفرج والمتنزهات وَغَيرهَا فصاروا إِذا وكبوا فِي المواكب لَا يقدر أحد مِنْهُم يكلم رَفِيقه وَإِذا صَارُوا إِلَى بُيُوتهم لَا يَسْتَطِيع الْوَاحِد أَن يجْتَمع بِالْآخرِ وَإِذا اخْرُج تنكز إِلَى سفر لَا يتَأَخَّر مِنْهُم أحد سَوَاء قَالَ لَهُ: أخرج أَو لم يقل لَهُ. وَمنع أكَابِر الْأُمَرَاء أَن تترجل لَهُ أَو تمشي فِي خدمته فَأَقَامَ الله لَهُ من الْحُرْمَة مَا لَا حصل لأحد من نواب الدولة التركية وَكتب لنواب الْبِلَاد الشامية أَلا يكاتبوا السُّلْطَان إِلَّا(3/293)
ويكاتبوه وَأَن ترد مكاتباتهم للسطان عَلَيْهِ بِغَيْر ختم ليقف عَلَيْهَا فَإِن أرضته بعث بهَا إِلَى السُّلْطَان وَإِلَّا ردهَا. وأضيف إِلَيْهِ أَمر صفد وغزة وَكَانَ مغرماً بالصيد بِحَيْثُ يركب لَهُ فِي السّنة ثَلَاث مَرَّات أَخّرهَا تَعديَة الْفُرَات فِي الشتَاء فَإِذا ضرب الْحلقَة لشتمل على ثَلَاثمِائَة غزال ونيف وعَلى مِائَتي رَأس من بقر ونعام وَغير ذَلِك. وَعمر قلعة جعبر بعد خرابها من عهد غازان وشحنها بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح والغلال وعدى الْفُرَات مرَارًا فاتفق أَنه عدى مرّة فَحمل إِلَيْهِ الشَّيْخ حسن الْكَبِير وَابْن سونتاي الْهَدَايَا الجليلة وخافه أهل بَغْدَاد والموصل فجلا كثير مِنْهُم وخافته الأكراد والتركمان والعربان بأجعهم. وَكَانَت أَوْلَاد دمرداش فِي أَعمال توريز مَاذَا بَلغهُمْ مسيره رحلوا خوفًا مِنْهُ حَتَّى يبلغهم عوده إِلَى دمشق. فَلَمَّا كَانَت أخر أَيَّامه صادر جمَاعَة كَثِيرَة من كتاب السِّرّ وَغَيرهم وَمن الضَّمَان والعرفاء. وَاتخذ الْأَمْلَاك وَأخذ عدَّة أوقاف من أَوْلَاد الْمُلُوك حَتَّى كَانَت غلَّة أملاكه كل سنة مائَة ألف دِرْهَم. وسخر الفلاحين وَقطع الزَّكَاة. وأخرق بِكَثِير من الْأُمَرَاء وَأخرج مِنْهُم جمَاعَة عَن دمشق وَبَالغ فِي الْعقُوبَة وساء خلقه كثيرا. وَكَانَت مُدَّة نيابته ثمانياً وَعشْرين سنة وأشهراً. وَفِيه طلب شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله وخلع عَلَيْهِ بِكِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق بَعْدَمَا خَلفه السُّلْطَان عوضا عَن شهَاب الدّين يحيى بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد ابْن خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر بن القيسراني. فَقدم ابْن فضل الله إِلَى دمشق وَقد كَاد الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب أَن يقطع يَد ابْن القيسراني بمرسوم السُّلْطَان بَعْدَمَا صادره فَقَامَ فِي ذَلِك ابْن فضل الله حَتَّى أفرج عَنهُ. وَفِيه طلب أَيْضا شمس الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي نظر الْجَيْش بدشق عوضا عَن فَخر الدّين مُحَمَّد بن الْحلِيّ بعد مَوته. وأخرجت لَهُ بغلة النشو الَّتِي كَانَ يركبهَا وجهز من الخزانة حَتَّى سَافر فباشر الْجَيْش بعفة زَائِدَة وأبطل مَا كَانَ يستهديه من قبله. وَفِيه قبض على الْأَمِير مكين الدّين إِبْرَاهِيم بن قروينة نَاظر الْجَيْش وَسلم للأمير برسبغا الْحَاجِب وَطلب جمال الكفاة نَاظر الْخَاص وخلع عَلَيْهِ لنظر الْجَيْش مَعَ نظر الْخَاص وَلم يجمعهما أحد قبله ثمَّ أفرج عَن ابْن قروينة بَعْدَمَا حمل مائَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم بشفاعة الْأَمِير بشناك.(3/294)
وَفِيه قبض على الصاحب أَمِين الدّين أبي سعيد عبد الله بن تَاج الرياسة بن الغنام وَسلم إِلَى الْأَمِير برسبغا ورسم لَهُ بعقوبته من أجل أَنه اتهمَ بِأَنَّهُ كَانَ من جِهَة تنكز فعاقبه برسبغا وعاقب وَلَده تَاج الدّين أَحْمد نَاظر الدولة وأخاه كريم الدّين أَبَا شَاكر مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة وَأخذ أَمْوَالهم ثمَّ خنق أَمِين الدّين. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشرى ربيع الآخر: مَاتَ الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان بعد مرض طَوِيل فَدفن بالتربة الناصرية بَين القصرين وَكَانَ يَوْمًا مهولاً نزل فِي جنَازَته جَمِيع الْأُمَرَاء. وباعت أمه ثِيَابه وتصدقت بهَا على الْفُقَرَاء ورتبت الْقُرَّاء على قَبره بجار لَهُم فِي كل شهر من وقف وقفته على قَبره وأقامت سنة تعْمل فِي كل لَيْلَة جُمُعَة على قبر مجتمعاً يحضرهُ الْقُرَّاء لقِرَاءَة ختمة كَرِيمَة وتمد لَهُم الأسمطة الجليلة. وَفِيه أنعم على الْأَمِير قطلوبغا بإقطاع آنوك. وَفِي هَذِه السّنة: كثر وُقُوع الْحَرِيق بالنواحي فِي أَجْرَانِ الغلال بنواحي قليوب وسنديون وبلاد الغربية والبحيرة وَلم يعلم من أَيْن هُوَ. ثمَّ وَقع بِالْقَاهِرَةِ فِي أَمَاكِن مِنْهَا ربع طقزدمر بدار التفاح فاستعد النَّاس لذَلِك. وَفِي أخريات جُمَادَى الْآخِرَة: هبت ريح شَدِيدَة من بَحر الْإسْكَنْدَريَّة فاقتلعت نخلا كثيرا وهدمت دوراً عديدة ثمَّ أعقبها مطر غزير هلك بِهِ أَغْنَام كَثِيرَة وَعظم اضْطِرَاب النّيل حَتَّى غرق فِيهِ أحد وَعِشْرُونَ مركبا وَصَارَ يقذف الْمركب إِلَى الْبر حَتَّى يبعده نَحْو عشر قصبات عَن المَاء. وكل ذَلِك جَمِيع أَرَاضِي مصر قبليها وبحريها وَأَرْض برقة. وَفِيه نقل الْأَمِير عز الدّين أزدمر الكاشف من كشف الْوَجْه البحري إِلَى كشف الْوَجْه القبلي وَفِيه نقل عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني إِلَى ولَايَة الغربية. وَفِيه ركب السُّلْطَان إِلَى جِهَة بركَة الْحَبَش وصحبته عدَّة من المهندسين وَأمر أَن يحْفر خليج من الْبَحْر إِلَى حَائِط الرصد ويحفر فِي وسط الشرق الْمَعْرُوف بالرصد عشرَة أبار عمق كل بِئْر نَحْو أَرْبَعِينَ ذِرَاعا يركب عَلَيْهَا السواقي حَتَّى يجْرِي المَاء من النّيل إِلَى القناطر الَّتِي تحمل المَاء إِلَى القلعة ليكْثر بهَا المَاء.(3/295)
وَأقَام السُّلْطَان الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد على هَذَا الْعَمَل فشق الخليج من بحري رِبَاط الْآثَار ومروا بِهِ وسط بُسْتَان الصاحب تَاج الدّين بن حنا الْمَعْرُوف بالمعشوق وهدمت عدَّة بيُوت كَانَت هُنَاكَ وَجعل عمق الخليج أَربع قصبات. وجمعت عدَّة من الحجارين للْعَمَل فَكَانَ مهما عَظِيما. وَفِيه قدم الشَّيْخ أَحْمد بن مُوسَى الزرعي فَركب الْأُمَرَاء والقضاة للسلام عَلَيْهِ. ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى الشَّام بعد أَيَّام وَلم يجْتَمع بالسلطان. وَفِيه تغير السُّلْطَان على وَلَده أَحْمد بِسَبَب بَيِّنَات عِنْده وَأخرجه منفياً إِلَى صرخد وَبَاعَ خيله. فَلم يزل بِهِ الْأُمَرَاء حَتَّى أَمر برده فَرجع من سرياقوس. وَفِيه كتب السُّلْطَان بِطَلَب ابْنه أبي بكر من الكرك فَقدم وَمَعَهُ هَدِيَّة بِمِائَة ألف دِرْهَم فَتوجه الْأَمِير طيبغا المجدي إِلَى الكرك وأحضر طلب أبي بكر ومماليكه وخواصل الكرك كلهَا. وَفِيه خلع على الْأَمِير ملكتمر السرجواني وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك وَتوجه إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَحْمد ابْن السُّلْطَان وأوصاه السُّلْطَان أَلا يدع لِأَحْمَد حَدِيثا وَلَا حكما بَين اثْنَيْنِ. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِأَن الغلاء شَدِيد بِبِلَاد الْمشرق وَأَنه ورد من أَهله عَالم عَظِيم إِلَى شط الْفُرَات وبلاد حلب فَكتب إِلَى نَائِب حلب بتمكينهم من العبور إِلَى حَيْثُ شَاءُوا من الْبِلَاد وأوصاه السُّلْطَان بهم فملأوا بِلَاد حلب وَغَيرهَا. وَقدم مِنْهُم إِلَى الْقَاهِرَة صُحْبَة قَاصد نَائِب حلب نَحْو المائتي نفر فَاخْتَارَ السُّلْطَان مِنْهُم طَائِفَة نَحْو ثَمَانِينَ شخصا جعل بَعضهم فِي الطباق وأسكن مِنْهُم عدَّة القلعة وَأمر مِنْهُم جمَاعَة وَفرق فِي الْأُمَرَاء مِنْهُم جمَاعَة. وفيهَا جدد السُّلْطَان جَامع راشدة وَقد تهدم أَكثر جدرانه. وفيهَا ابْتَاعَ الْأَمِير قوصون من الْأَمِير مَسْعُود بن خطير قصر الزمرد بِخَط رحبة بَاب الْعِيد من الْقَاهِرَة وَكَانَ سعته نَحْو عشر فدادين وَشرع قوصون فِي عِمَارَته سبع قاعات لكل قاعة إصطبل. وفيهَا قدم الْخَبَر بِخُرُوج ابْن دلغادر عَن الطَّاعَة.(3/296)
وفيهَا اسْتَقر ركن الدّين بيبرس السِّلَاح دَار أحد أُمَرَاء الألوف بِدِمَشْق فِي نِيَابَة أياس عوضا عَن مغلطاي الْغَزِّي بعد مَوته. وفيهَا شنعت القالة بِسوء سيرة الطَّائِفَة الأقباعية بخانكاه بيبرس فرسم السُّلْطَان بنفيهم وَنفي شيخهم فأخرجوا مِنْهَا بأجمعهم. وَاسْتقر فِي المشيخة بهَا الشَّيْخ شيرين. وَفِيه خرج الْأَمِير بشتاك إِلَى الْبِلَاد الشامية ليتصيد وَقد كتب إِلَى النواب بملاقاته وتعبية الإقامات لَهُ. وفيهَا توجه بكلمش المارديني على الْبَرِيد بهدية لصَاحب ماردين فِيهَا عشر أُلَّاف دِينَار وَعشرَة رُءُوس من الْخَيل وَمِائَتَا قِطْعَة قماش وَأَرْبَعَة فهود. وفيهَا قدم الْخَبَر باختلال حَال الْبَرِيد من كَثْرَة ركُوب التُّجَّار وَالْعرب الْبَرِيد فرسم أَلا يركب الْبَرِيد إِلَّا من يَأْذَن لَهُ السُّلْطَان فِي ركُوبه وَيكون مَعَه ورقة بتمكينه من ذَلِك وَأَن يفتش بقطيا كل من ورد فَمن وجد مَعَه ورقة وَكتب لغير السُّلْطَان أخذت مِنْهُ وحملت إِلَى السُّلْطَان. وفيهَا ركب أَمِير أَحْمد الساقي قريب السُّلْطَان الْبَرِيد إِلَى بِلَاد الشرق لمهمات سلطانية: مِنْهَا طلب رهائن طغاي سونتاي وَالشَّيْخ حسن بك الْكَبِير وَكَانَا قد سَأَلَا أَن يُجهز السُّلْطَان عسكراً ليسلماه بِلَاد الشرق فأجيبا إِلَى ذَلِك على أَن يبعثا بأولادهما رهنا على الْعَسْكَر فَجهز ابْن سونتاي وَلَده برهشين وجهز الشَّيْخ حسن ابْن أَخِيه ابراهيم شاه إِلَى حلب. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير بهاء الدّين أصلم فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن أقسنقر السلاري وَنقل آقسنقر إِلَى نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن أَمِير مَسْعُود بن خطير وَنقل أَمِير مَسْعُود إِلَى دمشق وأنعم عَلَيْهِ وَفِيه أنعم على الْأَمِير أبي بكر ابْن السُّلْطَان بإقطاع الْأَمِير أصلم ورسم للأمير بشتاك أَن يتَوَلَّى أمره فاستخدم لَهُ الوافدية من حلب وَغَيرهم حَتَّى أكمل عدته. وَعمل السُّلْطَان الْأَمِير ألطنقش مَمْلُوك الأفرم أستاداره وزوجه بابنة الْأَمِير ملكتمر الساقي الَّتِي كَانَت تَحت أَخِيه آنوك وَبنى عَلَيْهَا. وَفِيه رسم بِطَلَب أجناد الْحلقَة من الْأَعْمَال فَلَمَّا تَكَامل حضورهم تقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير برسبغا بعرضهم فَكتبت أوراق بعبرة كل خبز. ثمَّ جلس السُّلْطَان بالإيوان وَعرض عَلَيْهِ جمَاعَة كَبِيرَة من الْمَشَايِخ وَمن المحارفين فَقطع الْجَمِيع وَكتب بإقطاعاتهم(3/297)
مثالات المماليك السُّلْطَانِيَّة أَرْبَاب الجوامك. وَعرض برسبغا بَقِيَّة الأجناد بالقلعة وفتش عَن ثِيَابهمْ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِم وَقد كتبت أوراق بأرباب المرتبات الَّذين على مَدِينَة بلبيس وبساتينها وحوانيتها وأوراق بمتحصل المعادي ببولاق وأوراق بجهات النطرون وأوراق بأسماء الأجناد المقطعين على الحكورة. فرسم السُّلْطَان أَن يوفر الْجَمِيع وَأَن يُؤْخَذ من الْجند الْمُقطعَة على الحكر أخبارهم وينعم بهَا على الْأَمِير ألطنبغا المارديني ليَكُون وَقفا على جَامعه خَارج بَاب زويلة وعَلى الْأَمِير بشتاك ليَكُون وَقفا على جَامعه المطل على بركَة الْفِيل. فَلَمَّا تمّ عرض الأجناد قطع السُّلْطَان مِنْهُم الزمنى والعميان والضعفاء وأرباب العاهات وَفرق إقطاعاتهم على المماليك السُّلْطَانِيَّة وَأخرج بَعْضهَا للوافدية الَّذين يفدون من الْبِلَاد فَكَانَت مُدَّة الْعرض شَهْرَيْن أَولهَا مستهل رَمَضَان وأخرها سلخ شَوَّال. وَكتب إِلَى الْأَعْمَال بِحمْل مَا توفر عَن الأجناد من الإقطاعات لبيت المَال. وَفِيه كتبت أوراق بأسماء المجردين إِلَى بِلَاد الشرق: وهم الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب والأمير كوكاي السِّلَاح دَار والأمير طوغاي الجاشنكير والأمير قماري أَمِير شكار وَمَعَهُمْ جمَاعَة كَثِيرَة ورسم أَن يكون خرجهم إِلَى توريز فِي نصف ذِي الْحجَّة. فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّاس وَكثر الدُّعَاء على السُّلْطَان بِسَبَب قطع أرزاق الْجند. وَفِيه كتب بتجهيز عَسَاكِر دمشق وحلب وَغَيرهمَا للتجريدة إِلَى توريز صُحْبَة الْأَمِير طشتمر نَائِب حلب وَيكون مَعَه عَامَّة أُمَرَاء التركمان والعربان. فتجهز الْأُمَرَاء والأجناد بمماليك الشَّام وبرز نَائِب حلب بمخيمه إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَأقَام ينْتَظر قدوم عَسَاكِر مصر. فَأصْبح السُّلْطَان فِي مستهل ذِي الْحجَّة وَبِه وعك من قرف حدث عَنهُ إسهال لزم مِنْهُ الْفراش خَمْسَة أَيَّام فَتصدق بِمَال جزيل وَأَفْرج عَن المسجونين بسجن الْقُضَاة والولاة بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَسَائِر الْأَعْمَال. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادسه: قدم برهشين بن طغاي بن سونتاي وَإِبْرَاهِيم شاه ابْن أخي الشَّيْخ حسن الْكَبِير، فِي مِائَتي فار، فأنزلوا بالميدان، وأجريت لَهُم الرَّوَاتِب السّنيَّة.(3/298)
ثمَّ أحضروا بَين يَدي السُّلْطَان فِي يَوْم الْجُمُعَة ثامنه وَفِيهِمْ قَاضِي بَغْدَاد وقاضي الْموصل وقاضي ديار بكر فقدموا كتاب طغاي وَكتاب الشَّيْخ حسن الْكَبِير ونسخة أيمانهما وأيمان عَامَّة أهل بِلَادهمْ من الْأُمَرَاء والأجناد وأرباب المعايش بِطَاعَة السُّلْطَان وَأَنَّهُمْ من جنده ومقاتلة من عَادَاهُ وَقدمُوا الْخطْبَة الَّتِي خطب بهَا للسُّلْطَان فِي بَغْدَاد والموصل وديار بكر. فقرئ ذَلِك كُله على السُّلْطَان فعرفهم السُّلْطَان أَنه رسم بتجهيز الْعَسْكَر إِلَيْهِم وَبعد عشرَة أَيَّام يسْتَقلّ بِالسَّفرِ نَحْو بِلَادهمْ ثمَّ خلع السُّلْطَان على الْجَمِيع ورسم لنقيب الْجَيْش باستعجال الْأُمَرَاء والأجناد فِي الْحَرَكَة للسَّفر فشرعوا فِي تجهيز أَمرهم. وَكَانَت الْأَحْوَال متوقفة لقلَّة وجود الدَّرَاهِم ورد الباعة من التُّجَّار والمتعيشين الذَّهَب لغلو صرفه فشق ذَلِك على النَّاس مشقه زَائِدَة. وَفِيه قوي الإسهال بالسلطان وَمنع الْأُمَرَاء من الدُّخُول إِلَيْهِ فَكَانُوا إِذا طلعوا إِلَى الْخدمَة خرج لَهُم السَّلَام من أَمِير جندار عَن السُّلْطَان فانصرفوا. وَكثر الْكَلَام إِلَى يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر فخف عَن السُّلْطَان الإسهال فَجَلَسَ للْخدمَة وطلع لِلْأُمَرَاءِ وَوَجهه متغير. فَلَمَّا انْقَضتْ الْخدمَة نُودي بزينة الْقَاهِرَة ومصر وجمعت أَرْبَاب الملاهي بالقلعه وَجمع الْخبز وَقَامَ الْأُمَرَاء بِعَمَل الولائم والأفراح سُرُورًا بعافية السُّلْطَان وَعمل الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي نفطاً كثيرا فِي سوق الْخَيل تَحت القلعة وَالسُّلْطَان قَاعد لنظره فَاجْتمع النَّاس من كل جِهَة لرويته. وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الْجمال ولعبوا بِالرِّمَاحِ تَحت القلعة. وَخرجت الركابة والكلابزية وَطَائِفَة العتالين والحجارين إِلَى سوق الْخَيل للعب ثمَّ داروا على بيُوت الْأُمَرَاء وَأخذُوا الْخلْع هم والطبلكية فَحصل لَهُم شَيْء كثير جدا بِحَيْثُ جَاءَ نصيب مهتار الطبلخاناه مَا قِيمَته ثَمَانُون ألف دِرْهَم وَحصل لأرباب الملاهي مَالا ينْحَصر. وَفِيه رسم بِعرْض الْجند المجردين فِي غَد فطلعوا إِلَى القلعة. وَبينا هم فِي انْتِظَار الْعرض إِذْ قدم إِدْرِيس القاصد صُحْبَة مَمْلُوك صَاحب ماردين بكتابه يتَضَمَّن أَن أَوْلَاد دمرداش لما بَلغهُمْ طلب الشَّيْخ حسن الْكَبِير وطغاي بن سونتاي من السُّلْطَان أَن يُجهز(3/299)
لَهُم عسكراً ليَأْخُذ الْبِلَاد وأنهما حلفا لَهُ وحلفاً أهل الْبِلَاد وخطباً باسمه على مَنَابِر بَغْدَاد والموصل ركبُوا إِلَى محاربتهما فَطلب مِنْهُم الشَّيْخ حسن الْكَبِير الصُّلْح وَحلف لَهُم وَسَار إِلَيْهَا طَائِعا فأكرموه وَكَتَبُوا لطغاي بن سونتاي أَمَانًا وَاتَّفَقُوا على أَن يعدوا الْفُرَات إِلَى الشَّام. وَأَشَارَ صَاحب ماردين أَلا تخرج التجريدة إِلَى توريز فَإِنَّهُ لَيْسَ لسيرها فَائِدَة. فتفرقت الأجناد من القلعة بِغَيْر عرض وَبعث السُّلْطَان من ليلته بِجَوَاب صَاحب ماردين وَاقْتضى رَأْيه فالما كَانَ نصف لَيْلَة: الْعِيد هبت ريح عَاصِفَة أَلْقَت الزِّينَة ثمَّ أمْطرت مَطَرا عَظِيما أتلف كثيرا من الزِّينَة. وَكَانَت عَامَّة بِبِلَاد الشرقية والغربية والمنوفية وَنزل بِتِلْكَ الْأَعْمَال برد كبار قتل من الْغنم والدجاج كثيرا وَتَلفت غلال كَثِيرَة كَانَت بالأجران فَإِنَّهُ كَانَ فِي شهر بشنس. وَأصْبح يَوْم الْأَحَد: يَوْم الْعِيد وَقد اجْتمع الْأَمر لخُرُوج السُّلْطَان إِلَى صَلَاة الْعِيد وَقد قوي بِهِ الإسهال وَأجْمع رَأْيه على أَلا يشْهد صَلَاة الْعِيد فمازال بِهِ الْأَمِير قوصون والأمير بشتاك حَتَّى ركب وَنزل إِلَى الميدان. وَأمر السُّلْطَان قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة أَن يوجز فِي خطته مِمَّا هُوَ إِلَّا أَن صلى السُّلْطَان وَجلسَ لسَمَاع الْخطْبَة تحرّك بَاطِنه فَقَامَ وَركب إِلَى الفصر وَأقَام يَوْمه. ثمَّ قدم الْبَرِيد من حلب بِصِحَّة الْخَبَر بصلح الشَّيْخ حسن الْكَبِير وطغاي مَعَ أَوْلَاد دمرداش فانزعج السُّلْطَان لذَلِك انزعاجاً شَدِيدا واضطرب مزاجه فَحدث لَهُ إسهال دموي. وَأصْبح يَوْم الْإِثْنَيْنِ: وَقد منع النَّاس من الِاجْتِمَاع بِهِ ثمَّ أشاع الْأَمِير قوصون والأمير بشتاك أَن السُّلْطَان قد أعفى الأجناد من التجريدة إِلَى توريز وَنُودِيَ بذلك فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشره ففرح النَّاس فَرحا زَائِدا إِلَّا أَنه انْتَشَر بَين النَّاس أَن السُّلْطَان انتكس فساءهم ذَلِك. وَأخذ الْأُمَرَاء فِي إِنْزَال حرمهم وَأَمْوَالهمْ من القلعة حَيْثُ سكنهم إِلَى الْقَاهِرَة فارتجت الْمَدِينَة وَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا. واستعد الْأُمَرَاء لاسيما قوصون وبشتاك فَإِن كلا مِنْهُم أحترز من الآخر وَجمع عَلَيْهِ أَصْحَابه وَأَكْثرُوا من شِرَاء الأزيار والدنان وملأوها مَاء وأخرجوا الْقرب والروايا والأحواض وحملوا إِلَيْهِم البشماط والرقاق والدقيق والقمح وَالشعِير خوفًا من وُقُوع(3/300)
الْحَرْب ومحاصرة القلعة. فَكَانَ يَوْمًا مهولاً ركب فِيهِ الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدَّقِيق ونهبوا الحوانيت الَّتِي تَحت القلعة وسوق صليبة جَامع ابْن طولون. فارتفع سعر الأردب الْقَمْح من خَمْسَة عشر درهما إِلَى ثَلَاثِينَ درهما وغلق التُّجَّار وأرباب المعايش حوانيتهم خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة. هَذَا وَقد تنكر مَا بَين قوصون وبشتاك وَاخْتلفَا حَتَّى كادا يقتتلان. وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فزاده مَرضا على مَرضه وَكثر تأوهه وتقلبه من جنب إِلَى أخر وتهوس بِذكر قوصون وبشتاك نَهَاره. ثمَّ استدعى السُّلْطَان بهما فتنافسا بَين يَدَيْهِ فِي الْكَلَام فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ وقاما من عِنْده على مَا هما عَلَيْهِ. فَاجْتمع فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشره الْأَمِير جنكلي والأمير آل ملك والجاولي والأحمدي وأكابر الْأُمَرَاء للمشورة فِيمَا يدبرونه حَتَّى اجْتَمعُوا على أَن بعث كل مِنْهُم مَمْلُوكا إِلَى قوصون وبشتاك ليأخذا لَهُم الْإِذْن على العبور على السُّلْطَان فَأخذُوا لَهُم الْإِذْن. فَلَمَّا أَخذ الْأُمَرَاء مجَالِسهمْ قَالَ الْأَمِير الجاولي وَآل ملك للسُّلْطَان كلَاما حَاصله أَن يعْهَد أَن أحد أَوْلَاده فأحاب إِلَى ذَلِك وَطلب وَلَده أَبَا بكر وَطلب قوصون وبشتاك وَأصْلح بَينهمَا. ثمَّ جعل السُّلْطَان ابْنه أَبَا بكر سُلْطَانا بعده وأوصاه بالأمراء وأوصي الْأُمَرَاء بِهِ وعهد إِلَيْهِم أَلا يخرجُوا ابْنه أَحْمد من الكرك وحذرهم من إِقَامَته سُلْطَانا وَجعل قوصون وبشتاك وصييه وإليهما تَدْبِير ابْنه أبي بكر وحلفهما. ثمَّ حلف السُّلْطَان الْأُمَرَاء والخاصكية وأكد على وَلَده فِي الْوَصِيَّة بالأمراء وَأَفْرج عَن الْأُمَرَاء المسجونين بِالشَّام وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا ثمَّ قَامَ الْأُمَرَاء. فَبَاتَ السُّلْطَان لَيْلَة الثُّلَاثَاء وَأصْبح وَقد تخلت عَنهُ قوته وَأخذ فِي النزع يَوْم الْأَرْبَعَاء فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ كرب الْمَوْت حَتَّى مَاتَ أول لَيْلَة الْخَمِيس حادى عشريه وَله من الْعُمر سبع وَخَمْسُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَخَمْسَة أَيَّام. وَأمه أشلون بنت سكناي بن قراجين بن جيغان وَقدم سكناي هُوَ وَأَخُوهُ قرمشي بن قراجين فِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة صُحْبَة سنجر الرُّومِي فِي أَيَّام الظَّاهِر بيبرس فَتزَوج الْأَمِير قلاوون بابنة سكناي فِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد موت أَبِيهَا. زوجه إِيَّاهَا عَمها قرمشى فَولدت النَّاصِر مُحَمَّدًا على فرَاش الْملك الْمَنْصُور قلاوون فِي السَّاعَة السَّابِعَة من يَوْم السبت(3/301)
سادس عشر الْمحرم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة. وأقيم النَّاصِر فِي السلطنة بعد أَخِيه الْملك الْأَشْرَف خَلِيل سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة وعمره تسع سِنِين ثمَّ خلع فِي سادس عشر الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وجري لَهُ مَا تقدم ذكره إِلَى أَن حضر من الكرك وأعيد إِلَى الْملك ثَانِيًا. فَأَقَامَ فِي الْملك إِلَى سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَخرج يُرِيد الْحَج فتوحه إِلَى الكرك غيظاً من حجر سلار وبيبرس عَلَيْهِ. فَقَامَ بيبرس فِي السلطة ثمَّ اضْطَرَبَتْ أُمُوره وَقدم النَّاصِر من الشَّام إِلَى مصر فَملك مرّة ثَالِثَة فِي شَوَّال سنة تسع وَسَبْعمائة واستبد النَّاصِر من حِينَئِذٍ بِالْأَمر من غير معَارض مُدَّة اثْنَتَيْنِ وثلانين سنة وشهرين وَخَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا كَانَت لَهُ فِيهَا سير وأنباء كَمَا تقدم. وَكَانَ النَّاصِر أطول مُلُوك زَمَانه عمرا وأعظمهم مهابة: فَإِنَّهُ أول مَا بَدَأَ بِهِ بعد قدومه من الكرك الْقَبْض على الْأُمَرَاء البرجية وَغَيرهم فِي يَوْم وَاحِد وعدتهم زِيَادَة على ثَلَاثِينَ أَمِيرا. وأوقع مهابته فِي الْقُلُوب بِالْقَتْلِ وَأخذ الْأَمْوَال فَمنهمْ من قَتله جوعا وعطشاً وَمِنْهُم من أتْلفه بالخنق وَمِنْهُم من غرقه وَمِنْهُم من نَفَاهُ وَمِنْهُم من سجنه فَأَقَامَ مسجوناً الْعشْرين سنة فَمَا دونهَا. وَأكْثر النَّاصِر من جلب المماليك والجواري وَطلب التُّجَّار إِلَيْهِ وبذل لَهُم المَال وَوصف لَهُم حلي المماليك والجواري وسيرهم إِلَى بِلَاد أزبك وتوريز وَالروم وبغداد وَغير ذَلِك من الْبِلَاد. فَكَانَ التَّاجِر إِذا أَتَاهُ بالجلبة من المماليك بذل لَهُ فِيهَا أغْلى الْقيم وأنعم على تِلْكَ المماليك فِي يومهم بالملابس الفاخرة والحوائص الذَّهَب والخيول والعطايا حَتَّى يدهشهم. وَلم تكن هَذِه عَادَة من تقدمة من الْمُلُوك فَإِنَّهُم كَانُوا إِذا قدم لَهُم الْمَمْلُوك عرفُوا جنسه ثمَّ أسلموه إِلَى الطواشي الْمُقدم فيضيفه إِلَى جنسه من المماليك ويرتبه عِنْد الْفَقِيه فيربيه بالآداب والحشمة وَالْحُرْمَة ويمرنه فِي الرَّمْي بالنشاب واللعب بِالرُّمْحِ وركوب الْخَيل وأنواع الفروسية وَتَكون كسوته من الثِّيَاب الْقطن البعلبكي وَمن الثِّيَاب الْكَتَّان الخام الْمُتَوَسّط. ثمَّ يدرج الْمَمْلُوك فِي الجامكية من ثَلَاثَة دَنَانِير إِلَى خَمْسَة إِلَى سَبْعَة إِلَى عشرَة دَنَانِير فَإِذا الْتحق بالرحال أقيم ذَلِك الْوَقْت فِي وَظِيفَة من الوظالف اللائقة بِهِ فَيقوم بهَا على مَا يَنْبَغِي من الْأَدَب الَّذِي تأدب بِهِ فِي صغره ثمَّ يترقى الْمَمْلُوك فَإِذا وصل إِلَى منزلَة كَبِيرَة ورتبة عالية عرف مقدارها وَمَا كَانَ فِيهِ من الشَّقَاء وَمَا صَار إِلَيْهِ من النَّعيم فَأَعْرض الْملك النَّاصِر عَن هَذَا وَكَانَ يسفه(3/302)
رَأْي الْمُلُوك فِيهِ وَيَقُول إِذا عرض لَهُ بِشَيْء من ذَلِك وَبَقِي يبلغ الْمَمْلُوك قَصده من أستاذه أَو أستاذه مِنْهُ إِذا فعل مَعَه هَذَا بل إِذا رَأْي الْمَمْلُوك سَعَادَة تملأ عينه وَقَلبه نسي بِلَاده وَرغب فِي أستاذه. فَأكْثر التُّجَّار من جلب الممالليك إِلَيْهِ فطار فِي الْبِلَاد فعل السُّلْطَان مَعَهم فَأعْطى الْمغل أَوْلَادهم وبناتهم وأقاربهم للتجار وباعوهم مِنْهُم رَغْبَة فِي سَعَادَة مصر فَبلغ مِمَّن الْمَمْلُوك على التَّاجِر مَا بَين عشْرين ألف دِرْهَم إِلَى ثلالين ألف دِرْهَم إِلَى أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم ففسد بذلك حَال الْمغل فِيمَا بَينهم وَقدمُوا إِلَى مصر. فَكَانَ السُّلْطَان يدْفع فِي الْمَمْلُوك للتاجر الْمِائَة ألف دِرْهَم فَمَا دونهَا واقتدي بِهِ الْأُمَرَاء فِي ذَلِك حَتَّى إِن بعض أمرائه كَانَ لَهُ مَمْلُوك حظي كَانَ لَهُ فِي كل يَوْم ثَمَانُون عليقة وَكَانَ لأمير أخر مَمْلُوك حظي لَهُ فِي كل يَوْم أَرْبَعُونَ عليقة. وَكَانَ فِي الْأُمَرَاء من يبلغ خَاصَّة فِي كل سنة زِيَادَة على مِائَتي ألف دِينَار مثل بكتمر وقوصون وبشتاك وَمن عداهم يزِيد خاصه على مائَة ألف دِينَار فِي السّنة وَمِنْهُم من ينقص عَن دلك. وشغف السُّلْطَان النَّاصِر أَيْضا بِالْخَيْلِ فجلبت لَهُ من الْبِلَاد لاسيما خُيُول الْعَرَب آل مِنْهَا وَآل فضل فَإِنَّهُ كَانَ يقدمهَا على غَيرهَا وَلِهَذَا كَانَ السُّلْطَان يكرم الْعَرَب ويبذل لَهُم الرغائب فِي خيولهم ويتغالى فِي أثمانها. وَكَانَ إِذا سمع العربان بفرس عِنْد بدوي أخدوها مِنْهُ بأغلى الْقيم وَأخذُوا من السُّلْطَان مثلى مَا دفعوه فِيهَا. وَكَانَ لَهُ فِي كل طَائِفَة من طوائف الْعَرَب عين يدله على من عِنْده مِنْهُم الْفرس السَّابِق أَو الْأَصِيل حَتَّى يَأْخُذهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا فِي نفس صَاحبهَا من الثّمن. فتمكنت مِنْهُ بذلك العربان ونالوا الْمنزلَة الْعلية وحظوا بأنواع السعادات فِي أَيَّامه. وَكَانَ يكره خُيُول برقة فَلَا يَأْخُذ مِنْهَا إِلَّا مَا بلغ الْغَايَة فِي الْجَوْدَة وَمَا عدا ذَلِك مِنْهَا إِذا حملت إِلَيْهِ فرقه بِخِلَاف خُيُول الْعَرَب آل مهنا وَآل فضل فَإِنَّهُ كَانَ لَا يسمح بهَا إِلَّا للخاصكية. وَكَانَت لَهُ معرفَة بِالْخَيْلِ وأنسابها وَذكر من أحضرها ومبلغ ثمنهَا بِحَيْثُ يفوق فِيهَا من عداهُ. وَكَانَ إِذا استدعى بفرس يَقُول لأمير أخور: هَات الْفرس الْفُلَانِيَّة الَّتِي أحضرها فلَان واشتريناها بِكَذَا وَكَذَا. وَلما اشتهرت رغبته فِيهَا بَين الْعَرَب جلبت لَهُ(3/303)
من بِلَاد الْعرَاق وَمن الْبَحْرين والحسا والقطيف وبلاد الْحجاز وتقرب بهَا إِلَيْهِ عَامَّة طوائف الْعَرَب وجلبوها لَهُ. وَكَانَ إِذا جَاءَهُ شَيْء مِنْهَا عرضه وَدفع فِي الْفرس الْعشْرَة آلَاف وَالْعِشْرين ألف وَالثَّلَاثِينَ آلف دِرْهَم سوى الإنعام على مَالِكهَا وَكَانَ صَاحب الْفرس إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ زَاده حَتَّى يرضيه فَإِذا أَخذ ثمن فرسه وَأَرَادَ السّفر إِلَى بِلَاده أنعم عَلَيْهِ بتفاصيل ثِيَاب تصلح لَهُ ولعياله سوى السكر وَنَحْوه. وطالما وزن كريم الدّين الْكَبِير فِي أَثمَان خُيُول العربان الَّتِي جلبت للسُّلْطَان دفْعَة وَاحِدَة مبلغ ألف ألف دِرْهَم ومبلغ خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم وَدون ذَلِك. وَكَانَت خُيُول مهنا وَأَوْلَاده فِيهَا مَا بلغ الْفرس مِنْهَا إِلَى سِتِّينَ ألف وَسبعين ألف دِرْهَم وَفِي حجورتهم مَا بلغ ثَمَانِينَ ألف وَتِسْعين ألفا وَمِائَة ألف دِرْهَم. وَبلغ ثمن بنت الكرتا الَّتِي أحضرها مُحَمَّد بن عِيسَى أَخُو الْأَمِير مهنا للسُّلْطَان سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة مائَة ألف دِرْهَم وضيعة بِثَمَانِينَ ألف دِرْهَم. وأقطع السُّلْطَان النَّاصِر عرب آل مهنا وَآل فضل بِسَبَب الْخَيل عدَّة ضيَاع بأراضي حماة وحلب سوى أثمانها. فَكَانَ أحدهم إِذا أَرَادَ من السُّلْطَان شَيْئا لَهُ قدم عَلَيْهِ فِي معنى أَنه جَاءَ ليدله على فرس عِنْد فلَان يُقَال إِلَّا كَذَا ويعظم أمرهَا عِنْده فَيكْتب السُّلْطَان من فوره بِطَلَب تِلْكَ الْفرس فيشتد صَاحبهَا وَيمْتَنع من قودها ثمَّ يقترح مَا شَاءَ من الضّيَاع ولايزال حَتَّى يبلغ غَرَضه وَصَارَ ذَلِك مَعْرُوفا فِيمَا بَينهم. وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر أول من اتخذ من مُلُوك الأتراك ديواناً للإصطبل عمل لَهُ نَاظر وشهوداً وكتاباً لضبط أَسمَاء الْخَيل وشياتها وأوقات وُرُودهَا وَأَسْمَاء أَرْبَابهَا. ومبلغ ثمنهَا وَمَعْرِفَة سواسها وَغير ذَلِك من أحوالها وَكَانَ لايزال يتفقد الْخُيُول فَإِذا أُصِيب مِنْهَا فرس أَو كبر سنه بعث بِهِ مَعَ أحد الأوجاقية إِلَى الجشار بعد مَا يحمل عَلَيْهَا حصاناً يختاره وَيَأْمُر بضبط تَارِيخ نزوه(3/304)
فتوالدت عِنْده خُيُول كَثِيرَة حَتَّى أغنته عَن جلب مَا سواهَا وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يرغب فِي الْفرس الَّذِي يجلب إِلَيْهِ أَكثر مِمَّا توالد عِنْده. فعزت الْعَرَب من آل مهنا وَآل فضل وَآل مرا فِي أَيَّامه وَكَثُرت سعادتها واتسعت أحوالها بالأموال والضياع وحملتهم الدَّالَّة حَتَّى طلبُوا من السُّلْطَان النَّاصِر بِلَاد أُمَرَاء حلب وحماة ودمشق فأنعم بهَا عَلَيْهِم وَعوض الْأُمَرَاء عَنْهَا حَتَّى صَارُوا من الْقُوَّة وَالْكَثْرَة بِحَيْثُ يخافهم من عداهم من سَائِر الْعَرَب. وَشَمل الْغنى عامتهم فَكَانُوا إِذا رحلوا إِلَى مشاتيهم أَو مصائفهم تكون أَمْوَالهم من الذَّهَب وَالْفِضَّة ملْء رِقَاب الْجمال إِلَى غير ذَلِك من الْإِبِل وَالْغنم وَالْخَيْل الَّتِي لَا تدخل تَحت حصر. ولبسوا فِي أَيَّامه الْحَرِير الأطلس المعدني بالطرز الزوكشي والشاشات المرقومة بالطرز ولبسوا القرصيات بالطرز الزَّرْكَشِيّ والداير الباولي والإسكندري الْمُطَرز بِالذَّهَب وصاغ السُّلْطَان لنسائهم الأطواق الذَّهَب المرصع وَعمل لَهُنَّ الشنابر المشهرة بأكر الذَّهَب والأساور المرصعة بالجوهر واللؤلؤ وَبعث لَهُنَّ القماش السكندري وَالشرب والشمع وَعمل لَهُنَّ البراقع المزركشة والمسك وأنواع الطّيب. وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ لبس أمرائهم إِلَى آخر الْأَيَّام المنصورية قلاوون الطراطير الْحمر من تَحت العمائم الشامية من الْقطن وَكَانَت خلعهم إِمَّا مسمط أَو كنجي. وَأول من لبس مِنْهُم طرد وَحش مهنا بن عِيسَى فِي أَيَّام الْمَنْصُور لاجين لموده بَينهمَا فَأنْكر الْأُمَرَاء ذَلِك فَاعْتَذر لَهُم لاجين بتقدم صحبته لَهُ وأياديه عِنْده وَأَنه أَرَادَ أد يُكَافِئهُ على ذَلِك. وَقدم مهنا وَأَخُوهُ فِي أَيَّام تحكم بيبرس وسلار فِي الدولة فسألا أَن يقطعا ضَيْعَة من بِلَاد حلب وينزلا عَمَّا بأيديهما عوضا عَنْهَا فَغَضب الْأمين سلار من ذَلِك وَقَالَ: يَا عرب وصلتم إِلَى أَن تَأْخُذُوا ضيَاع القلاع والأجناد وتعملوها لكم إقطاعا ونهرهما فَخَرَجَا من عِنْده على حَالَة غير مرضية. وَلما عدى الظَّاهِر بيبرس الْفُرَات وَكسر الْمغل وَكَانَ مَعَه مهنا بن مَانع بن حُذَيْفَة فِي أَلفَيْنِ من عربه وَكَانُوا يقفون على مخائص الْفُرَات ويتقدمون بَين يَدي الْعَسْكَر خوفًا من غرقهم(3/305)
فَلَمَّا قدم السُّلْطَان الظَّاهِر بيبرس إِلَى حلب سَأَلَ مَانع أَبُو مهنا الْأَمِير قلاوون أَن يكون لِابْنِهِ مهنا أَرض على سَبِيل الرزقة وَيقوم عَلَيْهَا أَرْبَعَة أَفْرَاس وَعشرَة جمال. فَلَمَّا تحدث قلاوون فِي ذَلِك مَعَ السُّلْطَان بيبرس لم يجبهُ بِشَيْء حَتَّى حضر مَانع فِي الْخدمَة مَعَ الْأُمَرَاء فَقَالَ لَهُ: وَيلك يَا بدوي نحس وصلت أَن تطلب زِيَادَة على إقطاع ولدت وتبرطل السُّلْطَان على ملكه وَالله لَئِن سَمِعت عَنْكُم شَيْئا من هَذَا لأخرجنكم من الْبِلَاد خُرُوجًا نحساً وَأكْثر من هَذَا وَشبهه فَمَا زَالَ بِهِ قلاوون والأمراء حَتَّى سكن غيظه. فَخَالف السُّلْطَان النَّاصِر سيرة من تقدمه من الْمُلُوك فِي أَمر الْعَرَب حَتَّى قَالَ لَهُ صفرَة بن سُلَيْمَان بن مهنا: لقد أفسدت علينا نسواننا يُرِيد لِكَثْرَة مَا غمرهن السُّلْطَان بِالْمَالِ. وَأرْسل لَهُ مرّة بن مهنا مَعَ قاصده يَقُول لَهُ: خف الله فِي الْمُسلمين وَبَيت المَال فَإنَّك تفرقه على الْعَرَب وَنِسَائِهِمْ وصغارهم. فَكيف يحل لَك هَذَا وَمَتى سَمِعت عَن بدوية أَنَّهَا تلبس غير الثَّوْب من الْقطن والبرقع الْمَصْبُوغ وَفِي يَدهَا سوار من حَدِيد وَإِن شمت طيبا فَمن زَاد بِهَذَا لَهَا فو الله لقد أفسدت حَال الْعَرَب وَحَال نِسَائِهِم وأطمعتهم فِي شَيْء لم يَكُونُوا يطمعون فِيهِ قبلك. وَنَحْو ذَلِك من العتب. وَمَات السُّلْطَان النَّاصِر وَفِي الجشارات ثَلَاثَة آلَاف فرس يعرض فِي كل سنة عَلَيْهِ فيدفعها ويسلمها للركابين من العربان لرياضتها ثمَّ ينعم بأكثرها على الْأُمَرَاء والخاصكية ويفرح بذلك وَيَقُول: هَذِه فُلَانَة بنت فُلَانَة أَو فلَان ابْن فُلَانَة عمرها كَذَا وَشِرَاء أمهَا كَذَا وَشِرَاء أَبِيهَا كَذَا وَكَانَ يتَقَدَّم إِلَى الْأُمَرَاء أَن يضمروا الْخُيُول ويرتب على كل أَمِير من أُمَرَاء الألوف أَرْبَعَة أرؤس فِي كل سنة يضمرها ويسير للأمير أيدغمش أَمِير أخور أَن يضمر خيلاً من غير أَن يعلم الْأُمَرَاء أَنَّهَا للسُّلْطَان بل يشيع أَنَّهَا لَهُ ويرسلها للسباق مَعَ خيل الْأُمَرَاء فِي كل سنة. وَكَانَ عِنْد الْأَمِير قطلوبغا الفخري حصان أدهم سبق خيل مصر كلهَا ثَلَاث سِنِين مُتَوَالِيَة. وَكَانَ السُّلْطَان يُرْسل إِلَى مهنا وَأَوْلَاده أَن يحضروا بِالْخَيْلِ السَّبق عِنْدهم للسباق ثمَّ يركب إِلَى ميدان القبق ظَاهر الْقَاهِرَة فِيمَا بَين قلعة الْجَبَل وقبة النَّصْر وَيُرْسل الْخَيل وعدتها دَائِما مَا ينيف على مائَة وَخمسين فرسا إِلَى أَن بعث مهنا مَعَ ولديه سُلَيْمَان(3/306)
ومُوسَى حجرَة شهباء على أَنَّهَا إِن سبقت كَانَت للسُّلْطَان وَإِن سبقت ردَّتْ عَلَيْهِ بِشَرْط أَلا يركبهَا للسباق إِلَّا بدويها الَّذِي قادهاه فَلَمَّا ركب السُّلْطَان والأمراء ووقفوا على الْعَادة وَمَعَهُمْ أَوْلَاد مهنا بالميدان وَأرْسلت الْخَيل من الْبركَة كَمَا جرت بِهِ الْعَادة ركب البدوي حجرَة مهنا الشَّهْبَاء عريا بِغَيْر سرج وَقد لبس قَمِيصًا ولاطية فَوق رَأسه. فَأَقْبَلت الْخَيل تتبع بَعْضهَا بَعْضًا وَهِي قُدَّام الْجَمِيع وَبعدهَا على قرب مِنْهَا حصان لأيدغمش يعرف بِهِلَال. فَلَمَّا وقف البدوي بالشهباء بَين يَدي السُّلْطَان صَاح بِصَوْت مَلأ الْخَافِقين. السَّعَادَة لَك الْيَوْم يَا مهنا لَا شقيت وَألقى نَفسه إِلَى الأَرْض من شدَّة التَّعَب ثمَّ قدم الْحُجْرَة للسُّلْطَان. فَكَانَ هَذَا دأب السُّلْطَان النَّاصِر فِي كل سنة. وَترك السُّلْطَان النَّاصِر أَيْضا بالإسطبلات أَرْبَعَة آلَاف فرس وَثَمَانمِائَة فرس مَا بَين حجورة ومهارة وفحولة وأكاديش وَترك من الهجن الأصائل والنياق خَمْسَة أُلَّاف ونيف سوى أتباعها. وَكَانَ يحب الصَّيْد فَلم يدع أَرضًا تعرف بصيد الطير إِلَّا وَأقَام بهَا صيادين مقيمين فِي الْبَريَّة أَوَان الصَّيْد. وجلب طيور الْجَوَارِح من الصقورة والشواهين والسناقر والبزاة حَتَّى كثرت السناقر فِي أَيَّامه فَصَارَ كل أَمِير عِنْده مِنْهَا عشرَة سناقر وَأَقل وَأكْثر. وَجعل لَهَا بازدارية جوندارية وأقطع عدَّة مِنْهُم الإقطاعات وأجرى لَهُم الرَّوَاتِب من اللَّحْم والعليق والكساوي وَغير ذَلِك. وَترك بعد مَوته مائَة وَعشْرين سنقراً لخاصه وَلم يعْهَد مثل هَذَا لملك قبله بِمصْر بل كَانَ فِي الْأَيَّام المنصورية سنقر وَاحِد فَإِذا ركب السُّلْطَان فِي الموكب كَانَ بازداره أَيْضا رَاكِبًا والسنقر على يَده.(3/307)
وَلما توجه الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي لحصار سنقر الْأَشْقَر بصهيون سَأَلَ أَن يكون هَذَا السنقر فِي طلبه ليتجمل بِهِ من غير أَن يتصيد بِهِ وَلَا يرميه على صيد. وَترك من الصقورة والشواهين وَنَحْوهَا مَا لَا ينْحَصر وَترك ثَمَانِينَ جوقة كلاب الصَّيْد بكلابزيتها وَكَانَ قد اتخذ لَهَا موضعا بِالْجَبَلِ. وعني السُّلْطَان النَّاصِر أَيْضا بِجمع الأعنام وَأقَام لَهَا خَوْلَة وَكَانَ يبْعَث فِي كل سنة الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة ليكشف المراحات من قوص إِلَى الجزيرة وَيَأْخُذ مِنْهَا مَا يتخيره من الأغنام وَكَانَ يجرد أَيْضا إِلَى عيذاب وبلاد النّوبَة لجلب الأغنام. وَعمل السُّلْطَان لَهَا حوشاً بقلعة الْجَبَل وَأقَام لَهَا خَوْلَة نَصَارَى من الأسرى. وعني أَيْضا بالإوز وَأقَام لَهَا عدَّة من الخدم والجواري وَجعل لَهَا جايرا بحوش الْغنم. فبلغت عدَّة الأغنام الَّتِي تَركهَا بعد مَوته نَحْو الثَّلَاثِينَ ألف رَأس سوى أتباعها. فاقتدى بِهِ الْأُمَرَاء وَصَارَت لَهُم أَغْنَام عَظِيمَة جدا فِي عَامَّة أَرض مصر قبليها وبحريها. وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر كثير العنايه بأرباب وظائفه وحواشيه من الْأَمِير آخورية والأوجاقية وغلمان الإصطبل والبزدارية والفراشين والخولة والطباخين. فَكَانَ إِذا جَاءَ أَوَان تَفْرِقَة الْخُيُول على الْأُمَرَاء بعث إِلَى الْأَمِير بِمَا جرت بِهِ عَادَته مَعَ أَمِير أخور وأوجاقي وسايس وركبدار وترقب عودتهم حَتَّى يعرف مَا أنعم بِهِ ذَلِك الْأَمِير عَلَيْهِم فَإِن شج الْأَمِير عَلَيْهِم فِي عطائه تنكر لَهُ وبكته بَين الْأُمَرَاء ووبخه. وَقرر أَن يكون أَمِير أخور الْكَبِير بَينهم بقسمين وَمن عداهُ بقسم وَاحِد. وَكَانَ أَيْضا إِذا بعث إِلَى أحد من الْأُمَرَاء طيراً مَعَ أَمِير شكار أَو أحد من البزدارية يحْتَاج الْأَمِير أَن يلْبسهُ خلعة كَامِله بحياصة ذهب وكفلتاه زركش فَيَعُود بهَا وَيقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان فيستدنيه ويفتش خلعته. وَكَانَت عَادَته أَن يبْعَث يَوْم النَّحْر أَغْنَام الضَّحَايَا إِلَى الْأُمَرَاء مَعَ الأبقار والنوق فَبعث مرّة صُحْبَة بعض الخولة النَّصَارَى إِلَى الْأَمِير بيبغا حارس الطير ثَلَاثَة كباش فَأعْطَاهُ بيبغا عشرَة دَرَاهِم فُلُوسًا فَعَاد الخولي إِلَى السُّلْطَان فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ خلعتك فَطرح الْفُلُوس بَين يَدَيْهِ وعرفه بهَا فَغَضب وَأمر بعض الخدام أَن يسير بالخولي إِلَى بيبغا وَيَقُول لَهُ: قَالَ لَك السُّلْطَان: لَا فتح الله عَلَيْك برزق. وَيلك أما كَانَ عنْدك قبَاء ترميه على غلامي. وخله يلْبسهُ طرد وَحش. فَلَمَّا بلغه الْخَادِم ذَلِك نَدم وَأخذ يعْتَذر وألبس الخولي قبَاء طرد وَحش.(3/308)
وَكَانَت حرمته ومهابته قد تجاوزت الْحَد حَتَّى إِن الْأُمَرَاء إِذا وقفُوا بِالْخدمَةِ لَا يَجْسُر أحد مِنْهُم أَن يتحدث مِنْهُم رَفِيقه بِكَلِمَة وَاحِدَة وَلَا يلْتَفت نَحوه خوفًا من مراقبة السُّلْطَان لَهُم. وَكَانَ لَا يَجْسُر أَن يجْتَمع مَعَ خشداشه فِي نزهة وَلَا غَيرهَا من رمي النشاب وَنَحْوه فَإِذا بلغه اجْتِمَاع أحد مَعَ أخر أسر ذَلِك فِي نَفسه وأمسكه أَو نَفَاهُ. وَخرب السُّلْطَان النَّاصِر عدَّة مرار مرامي النشاب وَمنع المماليك من الرَّمْي وأغلق حوانيت البندقانيين وصناع قسي النشاب وقسي البندق ونادى من عمل قَوس بندق شنق. وَخرب مرّة دكاكينهم من أجل أَن مَمْلُوكا رمي بالبندق فَوَقَعت فِي عين امْرَأَة قلعتها. وَلَقي غازان عهلي فَرسَخ من حمص ثمَّ كَانَت لَهُ وقْعَة شقحب الْمَشْهُورَة وَدخل بعساكره بِلَاد سيس وَقرر على أَهلهَا الْخراج أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم فِي السّنة كَمَا كَانَ بعد امتناعهم من حمله. وغزا ملطية وَأَخذهَا وغزا بِلَاد سيس بعسكر مصر ثَلَاث مَرَّات بَعْدَمَا أَمر التركمان بالغارة عَلَيْهَا - وَخرب بلادهما حَتَّى قرر عَلَيْهِم الْخراج سِتّمائَة ألف دِرْهَم فِي كل سنة وَمنعُوا الْخراج مرّة فَبعث الْعَسْكَر وَأخذ مدينه أياس وَخرب البرج الأطلس وَسَبْعَة حصون وأقطع أراضيها لِلْأُمَرَاءِ والأجناد. وَأخذ جَزِيرَة أرواد من الفرنج وغزا بِلَاد الْيمن وبلاد عانة والحديثة فِي طلب مهنا. وَبعث العساكر فِي طلب الشريف حميضة نَحْو الحسا والقطيف وجرد إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة العساكر لتمهيدها وَمنع أَهلهَا من حمل السِّلَاح بهَا. وَعمر قلعة جعبر بعد خرابها وأجرى نهر حلب إِلَى الْمَدِينَة وَعمر دمشق. وَولى(3/309)
بِلَاد الرّوم نِيَابَة لأرتنا وخطب لَهُ بهَا وبماردين وبجبال الأكراد وحصن كيفا وبغداد وَغَيرهَا من بِلَاد الشرق وَهُوَ بكرسي ملك مصر. وأتته هَدِيَّة مُلُوك الْمغرب والهند والصين والحبشة والتكرور وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر على غَايَة من الحشمة ورياسة النَّفس وسياسة الْأُمُور فَلم يضْبط عَلَيْهِ أحد أَنه أطلق لِسَانه بِكَلَام فَاحش فِي شدَّة غَضَبه وَلَا فِي انبساطه وَكَانَ يَدْعُو الْأُمَرَاء وأرباب الولايات وَأَصْحَاب الأشغال بِأَحْسَن أسمائهم وَأجل ألقابهم وَإِذا غضب على أحد لَا يذكر لَهُ ذَلِك. وَكَانَ يقتصد فِي لِبَاسه فيلبس كثيرا البعلبكي والنصافي الْمُتَوَسّط وَيعْمل حياصته فضَّة نَحْو مائَة دِرْهَم بِغَيْر ذهب وَلَا جَوْهَر ويركب بالسرج الْمسْقط بِالْفِضَّةِ الَّتِي زنتها دون الْمِائَة دِرْهَم وعباءة فرسه إِمَّا تدمري أَو شَامي لَيْسَ فِيهَا حَرِير. وَكَانَ مفرط الذكاء يعرف جَمِيع مماليك أَبِيه وَأَوْلَادهمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَيعرف بهم الْأُمَرَاء وَكَذَلِكَ مماليكه لَا يغيب عَنهُ اسْم أحد مِنْهُم وَلَا شغله عِنْده وَلَا مبلغ جامكيته. وَكَانَ يعرف أَيْضا غلمانه وحاشيته على كَثْرَة عَددهمْ وَلَا يفوتهُ معرفَة أحد من الْكتاب فَإِذا أرد أَن يولي أحدا مَكَانا أَو يرتبه فِي وَظِيفَة استدعى جَمِيع الْكتاب إِلَى بَين يَدَيْهِ وَاخْتَارَ مِنْهُم وَاحِد أَو أَكثر من غير أَن يرجع فيهم إِلَى أحد ثمَّ يقيمه فِيمَا يُرِيد من الْوَظَائِف.(3/310)
وَكَانَ فِيهِ تؤدة فَإِذا غضب على أحد من أمرائه أَو كِتَابه أسر ذَلِك فِي نَفسه وتروى فِيهِ مُدَّة طَوِيلَة وَهُوَ ينْتَظر لَهُ ذَنبا يَأْخُذهُ بِهِ كَمَا وَقع لَهُ فِي أَمر كريم الدّين الْكَبِير والأمير أرغون النَّائِب والأمير طغيه وَغَيرهم فَإِنَّهُ أَقَامَ عدَّة سِنِين يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِم وَهُوَ يتأنى وَلَا يعجل إِلَى أَن عثر لَهُم على ذنُوب توجب لَهُ أَخذهم بهَا حَتَّى لَا ينْسب إِلَى ظلم وَلَا حيف فَإِنَّهُ كَانَ يعظم عَلَيْهِ أَن يذكر عَنهُ أَنه ظَالِم أَو جَائِر أَو فِيهِ حيف أَو وَقع فِي أَيَّامه خراب أَو خلل ويحرص على حسن القالة فِيهِ وَذكره بالجميل. وَكَانَ يستبد بِأُمُور مَمْلَكَته ويتفرد بِالْأَحْكَامِ حَتَّى أَنه أبطل نِيَابَة السلطنة ليشتغل بأعباء الدولة وَحده. وَكَانَ يكره أَن يَقْتَدِي بِمن تقدمه من الْمُلُوك وَلَا يحْتَمل أَن يذكر عِنْده ملك. وَكَانَ يكره شرب الْخمر ويعاقب عَلَيْهِ وَيبعد من يشربه من الْأُمَرَاء عَنهُ. وَبلغ السُّلْطَان النَّاصِر من الْكَرم والجود والأفضال وسعة الْعَطاء غَايَة تخرج عَن الْحَد فوهب فِي يَوْم وَاحِد مَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار ذَهَبا وَلم يزل مُسْتَمر الْعَطاء لخاصكيته مَا بَين عشرَة أُلَّاف دِينَار وَنَحْوهَا. وَسُئِلَ النشو: هَل أطلق السُّلْطَان يَوْمًا ألف ألف دِرْهَم قَالَ: نعم كثيرا. وأنعم فِي يَوْم على بشتاك بِأَلف ألف دِرْهَم فِي ثمن قَرْيَة وأنعم على مُوسَى بن مهنا بِأَلف ألف دِرْهَم فِي ثمن القريتين. وَاشْترى من الرَّقِيق فِي مُدَّة أَولهَا شعْبَان سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ إِلَى سنة سبع وَثَلَاثِينَ بأربعمائة ألف دِينَار وَسبعين ألف دِينَار. وَكَانَ ينعم على تنكز فِي كل سنة يتَوَجَّه إِلَيْهِ بِمَا يزِيد على ألف ألف دِرْهَم وأنعم يَوْمًا على قوصون بزردخاناه بكتمر الساقي وَقِيمَة مَا فِيهَا سِتّمائَة ألف دِينَار أَخذ السُّلْطَان من الْجَمِيع سرجاً وَاحِدًا وسيفاً وَاحِدًا. وَلما تزوج قوصون بابنته حمل إِلَيْهِ الْأُمَرَاء شَيْئا كثيرا ثمَّ بعد ذَلِك زوج ابْنَته الْأُخْرَى بطغاي تمر وَقَالَ: مَا نعمل لَهُ عرساً لِأَن الْأُمَرَاء يَقُولُونَ هَذِه مصاردة بِحسن عبارَة وَنظر إِلَى طغاي تمر فرأه وَقد تغير. فَقَالَ للْقَاضِي تَاج الدّين إِسْحَاق نَاظر الْخَاص: يَا قَاضِي اعْمَلْ لي ورقة بمكارمة الْأُمَرَاء فِي عرس قوصون فَعمل ورقة وأحضرها فَقَالَ: كم الْجُمْلَة فَقَالَ: خَمْسُونَ ألف دِينَار فَقَالَ: أعْط نظيرها من الخزانة لطغاي تمر وَهَذَا سوى مَا دخل مَعَ الزَّوْجَة من الجهاز. وَجرى يَوْمًا عِنْد السُّلْطَان ذكر عشْرين ألف دِينَار فَقَالَ يلبغا اليحياوي: يَا خوند أَنا وَالله عمري مَا رَأَيْت عشْرين ألف دِينَار فَلَمَّا رَاح من عِنْده طلب النشو وَقَالَ لَهُ. احْمِلْ السَّاعَة إِلَى يلبغا عشْرين ألف دِينَار وجهزها مَعَ الخازندارية وجهز خَمْسَة(3/311)
تشاريف أَحْمَر أطلس بكلفات زركش وطرز زركش وحوائص ذهب ليخلع ذَلِك عَلَيْهِم. وَكَانَ راتب مطبخه ورواتب الْأُمَرَاء وَالْكتاب الَّذين هم على مطبخه فِي كل يَوْم سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف رَطْل لحم. وَكَانَت نفقات العمائر الرَّاتِب لَهَا فِي كل يَوْم ألفا دِرْهَم سوى مَا يطْرَأ. وَبَالغ السُّلْطَان النَّاصِر أخيراً فِي مشترى المماليك: فَاشْترى صرغتمس بِخَمْسَة وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم سوى تشريف أستاذه وَغير مَا كتب لَهُ من الْمُسَامحَة وَأما الْعشْرَة وَالْعِشْرين وَالثَّلَاثِينَ فكثير. وغلا الْجَوَاهِر واللؤلؤ فِي أَيَّامه. وبذل فِي أَثمَان الْخَيل مَا لم يسمع بِمثلِهِ. وَجمع من المَال والجواهر واللؤلؤ مَا لم يجمعه ملك من مُلُوك التّرْك قبله. وَعرفت رغبته فِي الْجَوَاهِر فجلبها إِلَيْهَا التُّجَّار من الأقطار وشغف بالسراري فحاز مِنْهُنَّ كل بديعة الْجمال. وجهز إِحْدَى عشرَة ابْنة لَهُ بالجهاز الْعَظِيم فَكَانَ أقلهن جهازا بثمانمائة ألف دِينَار: مِنْهَا قيمَة بشخاناه وداير بَيت وَمَا يتَعَلَّق بِهِ بِمِائَة ألف دِينَار وَبَقِيَّة ذَلِك مَا بَين جَوَاهِر ولألئ وأواني وَنَحْو ذَلِك. ثمَّ إِنَّه زوجهن من مماليكه: مثل الْأَمِير قوصون والأمير بشتاك والأمير ألطنبغا المارديني والأمير طغاي تمر والأمير عمر بن النَّائِب وَغَيرهم وجهز سراريه وجواريه وَمن يحسن بخاطره من النِّسَاء كل وَاحِدَة بِنَحْوِ ذَلِك وبأكثر مِنْهُ. واستجد النِّسَاء فِي أَيَّامه المقنعة والطرحة بِنَحْوِ عشرَة أُلَّاف دِينَار وَبِمَا دون ذَلِك إِلَى خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم والفرجيات بِمثل ذَلِك. واستجد أَيْضا فِي أَيَّامه للنِّسَاء الخلاخيل الذَّهَب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذَّهَب المرصعة بالجواهر والأوطية المرصعة والأزر الْحَرِير فَكَانَت قيمَة إِزَار الْمَرْأَة من أحاد النِّسَاء ألف دِرْهَم عَنْهَا نَحْو الْخمسين دِينَارا مصرية. وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر يحمل إِلَى مُلُوك الشرق من المَال مَا لَا ينْحَصر وَبِذَلِك كَانَ ينَال مقاصده مِنْهُم ويبلغ أغراضه فيهم فَإِنَّهُ كَانَ يعم نواب الْملك والخواتين بِمَا يبهرهم بِهِ من المصاغ والجواهر والقماش الإسكندري الْمُنَاسب لَهُم. وَاتفقَ أَنه جهز مرّة لأبي سعيد بن خربندا صُحْبَة الْأَمِير أيتمش المحمدي هَدِيَّة عَظِيمَة جدا فَقَالَ لَهُ الْفَخر نَاظر الْجَيْش: قد اغنى الله السُّلْطَان عَن هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم فِي طَاعَته عَن أَن يبْعَث لَهُم بِهَذَا المَال. فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا قَاضِي فَخر الدّين وَالله لَو علمت الَّذِي أعلمهُ مَا قلت هَذَا. اعْلَم يَا قَاضِي أَن المَال الَّذِي أسيره إِلَيْهِ مَا يَجِيء قدر ثمن(3/312)
الروايا وكلف السقايين الَّذين يذهبون معي فِي البيكار وأكون قد وفرت نَفسِي وعسكري. وَلم يعْهَد فِي أَيَّام ملك قبله مَا عهد فِي أَيَّامه من مسالمة الْأَيَّام لَهُ وَعدم حَرَكَة الْأَعْدَاء برا وبحراً وخضوع جَمِيع الْمُلُوك لَهُ ومهاداتهم إِيَّاه وَكَانَ يصل إِلَى قتل من يُرِيد قَتله بالفداوية لِكَثْرَة بذله لَهُم الْأَمْوَال. وَكَانَ يحب الْعِمَارَة فَلم يزل من حِين قدم من الكرك إِلَى أَن مَاتَ مُسْتَمر الْعِمَارَة فجَاء تَقْدِير مصروفه كل يَوْم مُدَّة هَذِه السنين ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم. وَكَانَ ينْفق على الْعِمَارَة الْمِائَة ألف دِرْهَم فَإِذا رأى فِيهَا مَا لَا يعحبه هدمها كلهَا وجددها على مَا يخْتَار. وَلم يكن من قبله من الْمُلُوك فِي الْإِنْفَاق على الْعِمَارَة كَذَلِك بل أَرَادَ الْمَنْصُور قلاوون مرّة أَن يَبْنِي مصطبة عَلَيْهَا رَفْرَف يَقِيه حر الشَّمْس ليجلس عَلَيْهَا فَكتب لَهُ الشجاعي على تَقْدِير مصروفها أَرْبَعَة أُلَّاف دِرْهَم فَتَنَاول الورقة من يَد الشجاعي ومزقها وَقَالَ: أقعد فِي مقْعد بأَرْبعَة أُلَّاف انصبوا لي صيواناً إِذا نزلت وَلَا أخرج من بَيت المَال لمثل هَذَا شَيْئا. وَكَذَلِكَ كَانَ الظَّاهِر بيبرس وَمن قبله لَا يستهون بِالْمَالِ وَإِنَّمَا يدخرونه صِيَانة وخوفاً وَلم يعرف لآحد مِنْهُم أَنه أنعم بِأَلف دِينَار جملَة وَاحِدَة. وَرَاك السُّلْطَان النَّاصِر أَرض مصر وَالشَّام وأبطل عدَّة مظالم من المكوس والضمانات: مثل سَاحل الْغلَّة وَكَانَ عَلَيْهِ سِتّمائَة جندي مَا مِنْهُم إِلَّا من لَهُ فِي كل سنة مَا بَين ثَمَانِيَة أُلَّاف دِرْهَم إِلَى سِتَّة أُلَّاف دِرْهَم سوى مَا عَلَيْهِ لِلْأُمَرَاءِ وَمثل الْحُقُوق الَّتِي كَانَت على الأسربة إِذا كسحت وَعَلَيْهَا أَيْضا عدَّة أجناد فرتب لَهُم فِي كل سنة جملَة لكل مِنْهُم وَمثل جِهَات ابْن البطوني وَكَانَ هَذَا الرجل يَأْخُذ على رد العبيد والجواري الآبقين ضريبة وَيُقِيم من تَحت يَده رجَالًا على الطرقات لرد الهاربين وَيقوم للديوان فِي كل سنة بِمَال. وأبطل السُّلْطَان غير ذَلِك من المكوس كَمَا تقدم عِنْد عمل الروك. وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر متسع الْحَال. بلغ راتبه من اللَّحْم فِي كل يَوْم لمطبخه ومرتب مماليكه سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف رَطْل لحم. واستجد فِي أَيَّامه عمائر كَثِيرَة: مِنْهَا حفر خليج الإسكندية من بَحر فوة فِي مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا عمل فِيهِ فَوق الْمِائَة ألف رجل من أهل النواحي فاستجد عَلَيْهِ عدَّة سواقي وبساتين فِي أَرَاضِي كَانَت سباخا فَصَارَت مزارع قصب السكر والسمسم(3/313)
وعمرت هُنَاكَ الناصرية وَنقل إِلَيْهَا مقداد بن شماس بأولاده وعدتهم مائَة ولد ذكر وَاسْتمرّ المَاء طول السّنة بخليج الْإسْكَنْدَريَّة. وَأَنْشَأَ الميدان تَحت القلعة وأجرى لَهُ الْمِيَاه وغرس فِيهِ النّخل وَالْأَشْجَار وَلعب فِيهِ بالكرة فِي كل يَوْم ثلاثاء مَعَ الْأُمَرَاء والخاصكية وَعمر فَوْقه الْقصر الأبلق. وأخرب البرج الَّذِي عمره أَخُوهُ الْأَشْرَف خَلِيل على الإصطبل وَجعل فَوْقه رفرفا وَترك أَصله من أَسْفَله وَعمر بجانبه برجاً نقل إِلَيْهِ المماليك. وَغير بَاب النّحاس بالقلعه ووسع دهليزه. وَعمر فِي الساحة قُدَّام الإيوان طباقاً لِلْأُمَرَاءِ والخاصكية وَغير الإيوان مرَّتَيْنِ وَفِي الْمرة الثَّالِثَة أقره على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن وَحمل إِلَيْهِ الْعمد الْكِبَار من بِلَاد الصَّعِيد فجَاء من أعظم المباني الملوكية. وَعمر بالقلعة دوراً لِلْأُمَرَاءِ الَّذين زوجهم ببناته وأجرى إِلَيْهَا الْمِيَاه وَعمل بهَا الحمامات وَزَاد فِي بَاب الْقلَّة من القلعة بَابا ثَانِيًا. وَعمر حارة مُخْتَصّ وَعمر الْجَامِع بالقلعة والقاعات السَّبع الَّتِي تشرف على الميدان وَبَاب القرافة لأجل سُكْنى سراريه. وَعمر المطبخ وَجعل عمائره كلهَا بِالْحِجَارَةِ خوفًا من الْحَرِيق. وعزم أَن يُغير بَاب القلعة الْمَعْرُوف بالمدرج وَيعْمل لَهُ دركاه فَمَاتَ قبل ذَلِك. وَعمل فِي القلعة حوش الْغنم وحوش الْبَقر وحوش المعزى وجاير الأوز وَغير ذَلِك فأوسع فِيهَا نَحْو خمسين فداناً. وَعمر الخانكاه بِنَاحِيَة سرياقوس ورتب بهَا مائَة صوفي لكل مِنْهُم الْخبز وَاللَّحم وَالطَّعَام والحلوى وَسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَعمر الْقُصُور بِالْقربِ مِنْهَا وَعمل لَهَا بستاناً حمل إِلَيْهَا الْأَشْجَار من دمشق وَغَيرهَا فَصَارَ بِهِ عَامَّة فواكه الشَّام. وحفر الخليج الناصري خَارج الْقَاهِرَة حَتَّى أوصله إِلَى سرياقوس فعمر على هَذَا الخليج عدَّة قناطر: مِنْهَا قنطرة بفمه عِنْد الميدان أَنْشَأَهَا الْفَخر نَاظر الْجَيْش وقنطرة قدادار وَالِي الْقَاهِرَة وَغير ذَلِك فَصَارَ بجانبي الخليج عدَّة بساتين وعمرت بِهِ أَرض الطبالة بعد خرابها من أَيَّام الْعَادِل كتبغا. وعمرت فِي أَيَّام السُّلْطَان النَّاصِر جَزِيرَة الْفِيل وناحية بولاق بَعْدَمَا كَانَت رمالاً ترمي بهَا المماليك النشاب وتلعب الْأُمَرَاء فِيهَا بالكرة فَصَارَت كلهَا دوراً وقصوراً وجوامع وأسواق وبساتين. وَبَلغت الْبَسَاتِين بِجَزِيرَة الْفِيل زِيَادَة على مائَة وَخمسين بستاناً بَعْدَمَا كَانَت نَحْو الْعشْرين بستاناً. واتصلت الْعِمَارَة على سَاحل النّيل من منية الشيرج إِلَى جَامع الخطيري إِلَى حكر ابْن الْأَثِير وزريبة قوصون إِلَى منشأة الكتبة ومنشأه المهراني إِلَى بركَة الْحَبَش حَتَّى كَانَ الْإِنْسَان يتعجب لذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يعْهَد هَذَا كُله تلال رمل وحلفاء فَصَارَ لَا يرى فِيهِ قدر ذِرَاع إِلَّا وَفِيه بِنَاء. وعمرت فِي أَيَّامه أَيْضا الْقطعَة الَّتِي فِيمَا بَين قبَّة الإِمَام الشَّافِعِي إِلَى بَاب القرافة(3/314)
بَعْدَمَا كَانَت فضاء لسباق خيل الْأُمَرَاء والأجناد والخدام فَتحصل بِهِ اجتماعات جليلة للتفرج عَلَيْهِم إِلَى أَن أنشأ السُّلْطَان تربة الْأَمِير بيبغا التركماني. فعمر ذَلِك كُله ترباً وخوانك حَتَّى صَارَت العمائر مُتَّصِلَة من بَاب القرافة إِلَى بركَة الْحَبَش لَا يُوجد بهَا قدر ذِرَاع بِغَيْر عمَارَة وتنافس الْأُمَرَاء فِي ذَلِك حَتَّى بلغُوا فِي عِمَارَته مبلغا عَظِيما إِلَى الْغَايَة وَعمر فِي أَيَّامه أَيْضا الصَّحرَاء الَّتِي فِيمَا بَين القلعة وخارج بَاب المحروق إِلَى قبَّة النَّصْر وَكَانَ هُنَاكَ ميدان القبق من عهد الظَّاهِر بيبرس برسم ركُوب السُّلْطَان وَعمل الموكب بِهِ وبرسم سباق الْخَيل. وَأول من عمر فِيهِ الْأُمَرَاء قراسنقر تربة وَعمل لَهَا حَوْض مَاء للسبيل يَعْلُو مَسْجِد ثمَّ اقْتدى بِهِ الْأُمَرَاء والأجناد وَغَيرهم حَتَّى امْتَلَأَ الميدان من كَثِيرَة العمائر. وَعمر السُّلْطَان لمماليكه عدَّة قُصُور: مِنْهَا قصر الْأَمِير طقتمر الدِّمَشْقِي بحدرة الْبَقر وَبلغ مصروفه ثَمَانمِائَة ألف دِرْهَم فَلَمَّا مَاتَ طقتمر أنعم بِهِ السُّلْطَان على الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر فَزَاد فِيهِ. وَمِنْهَا قصر الْأَمِير بكتمر الساقي على بركَة الْفِيل فَعمل أساسه أَرْبَعِينَ ذِرَاعا وارتفاعه عَن الأساس مثلهَا فَزَاد مصروفه على ألف ألف دِرْهَم. وَمِنْهَا الْكَبْش حَيْثُ كَانَت عمَارَة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب فعمله السُّلْطَان سبع قاعات برسم نزُول بَنَاته وسراريه فِيهَا للتفرج على ركُوب السُّلْطَان إِلَى الميدان الْكَبِير وَلم ينْحَصر مَا أنْفق فِيهَا لكثرته. وَمِنْهَا إصطبل الْأَمِير قوصون بسوق الْخَيل تَحت القلعة حَيْثُ كَانَ إصطبل الْأَمِير سنجر البشمقدار وإصطبل سنقر الطَّوِيل. وَمِنْهَا قصر بهادر الجوباني بجوار زَاوِيَة الْبُرْهَان الصَّائِغ بالجسر الْأَعْظَم تجاه الْكَبْش. وَمِنْهَا قصر قطلوبغا الفخري وَقصر ألطنبغا المارديني وَقصر يلبغا اليحياوي وَهُوَ أجل مَا عمره من الْقُصُور انْصَرف على أساسه خَاصَّة عَن ثمن جير وَحجر وَأُجْرَة مائَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَعمل نُزُوله فِي الأرص ثَلَاثِينَ ذِرَاعا واحتيج فِيهِ إِلَى زنة عشرَة آلَاف دِرْهَم لازورد لدهان سقوفه ثمنهَا مائَة ألف دِرْهَم. وَعمر الْأُمَرَاء فِي أَيَّام السُّلْطَان النَّاصِر عدَّة دور: مِنْهَا دَار الْأَمِير أيدغمش أَمِير(3/315)
آخور وَدَار آقبغا وَدَار طقزدمر وَدَار بشتاك على النّيل وَهِي تشْتَمل على ربع كَبِير فَوق زريبة بجوار جَامع طيبرس وَقصر بشتاك بِالْقَاهِرَةِ وَقد ذكرت هَذِه الْقُصُور والدور فِي كتاب المواعظ وَالِاعْتِبَار بِذكر الخطط والأمطار ذكرا مستوعباً لأخبارها. وَكَانَت للسُّلْطَان عناية كَبِيرَة بِبِلَاد الجيزة وَعمل على كل بلد بهَا جِسْرًا أَو قنطرة وَكَانَت أَكثر بلادها تشرق لعلوها فَعمل جسر أم دِينَار فِي ارْتِفَاع اثْنَتَيْ عشرَة قَصَبَة أَقَامَ الْعَمَل فِيهِ مُدَّة شَهْرَيْن فحبس المَاء حَتَّى رويت تِلْكَ الْأَرَاضِي كلهَا وَعم النَّفْع بهَا. وَقَوي بِسَبَب هَذَا الجسر المَاء حَتَّى حفر بحراً يتَّصل بالجيزة وَخرج فِي أراضيها عدَّة مَوَاضِع زرعت بَعْدَمَا كَانَت شاسعة أَخذ مِنْهَا قوصون وبشتاك وَغَيرهمَا عدَّة أَرَاضِي عمروها ووقفوها واستجد السُّلْطَان على بقيتها ثَلَاثمِائَة جندي. واستجدت فِي أَيَّامه عدَّة أَرَاضِي بنواحي الشرقية وفوة وشباس أقطعت لعدة أجناد وَعمل أَيْضا جسر شيبين فَزَاد بِسَبَبِهِ خراج الشرقية. وَعمل جِسْرًا خَارج الْقَاهِرَة حَتَّى رد النّيل على منية الشيرج وَغَيرهَا وعمرت بِسَبَبِهِ بساتين جَزِيرَة الْفِيل وَكثر عَددهَا. وَأحكم السُّلْطَان عَامَّة أَرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور حَتَّى أتقن أمرهَا وَكَانَ يوكب إِلَيْهَا برسم الصَّيْد فِي كل قَلِيل ويتفقد أحوالها وَينظر فِي جسورها وتراعها وقناطرها بِنَفسِهِ بِحَيْثُ أَنه لم يدع فِي أَيَّامه موضعا مِنْهَا حَتَّى عمل فِيهِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَكَانَ لَهُ سعد فِي جَمِيع أَعماله فَكَانَ يقترح الْمَنَافِع من قبله بعد أَن كَانَ يزهده فِيمَا يَأْمر بِهِ حذاق المهندسين وَيَقُول بَعضهم. يَا خوند الدّين جَاءُوا من قبلنَا لَو علمُوا أَن هَذَا يَصح لفعلوه فَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْلهم وَيفْعل مَا بدا لَهُ من مصَالح الْبِلَاد فَتَأْتِيه أغراضه على مَا يحب ويختار فَزَاد فِي أَيَّامه خراج مصر زِيَادَة هائلة فِي سَائِر الأقاليم. وَكَانَ إِذا سممع بشراقي بلد أَو قَرْيَة من الْقرى أهمه ذَلِك وَسَأَلَ المقطع بهَا عَن أَحْوَال الْقرْيَة الْمَذْكُورَة غير مرّة بل كلما وَقع بَصَره عَلَيْهِ وَلَا يزَال يفحص عَن ذَلِك حَتَّى يتَوَصَّل إِلَى ريها بِكُل مَا تصل قدرته إِلَيْهِ. كل ذَلِك وصاحبها لَا يسْأَله فِي شَيْء من أمرهَا فيكلمه بعض الْأُمَرَاء فِي ذَلِك فَيَقُول: هَذِه قريتي وَأَنا الْمَلْزُوم بهَا والمسؤل عَنْهَا فَكَانَ هَذَا دأبه وَكَانَ يفرح إِذا سَأَلَهُ بعض الأجناد فِي عمل مصلحَة بَلَده بِسَبَب عمل جسر أَو تقاوي أَو غير ذَلِك وينبل ذَلِك الرجل فِي عينه وَيفْعل لَهُ مَا طلبه من غير توقف وَلَا ملل فِي إِخْرَاج المَال فَإِن كَلمه أحد فِي ذَلِك فَيَقُول: فَلم نجمع المَال فِي بَيت الْمُسلمين إِلَّا لهَذَا الْمَعْنى وَغَيره فَهَذِهِ كَانَت عوائده. وَكَذَلِكَ فعل بالبلاد الشامية حَتَّى إِن مَدِينَة غَزَّة هُوَ الَّذِي مصرها وَجعلهَا على هَذِه(3/316)
الْهَيْئَة وَكَانَت قبل كآحاد قرى الْبِلَاد الشامية وَجعل لَهُ نَائِبا وَسمي بِملك الْأُمَرَاء وَلم تكن قبل ذَلِك إِلَّا ضَيْعَة من ضيَاع الرملة وَمثلهَا فكثير من قرى الشَّام وحلب والساحل يطول الشَّرْح فِي ذكر ذَلِك. وَأَنْشَأَ السُّلْطَان النَّاصِر الميدان الْكَبِير على النّيل وَخرب ميدان اللوق الَّذِي أنشأه الظَّاهِر بيبرس وَعَمله بستاناً حملت إِلَيْهِ الْأَشْجَار من دمشق وَغَيرهَا فَكَانَت فواكه تحمل إِلَى الشَّرَاب خاناه السُّلْطَانِيَّة. ثمَّ أنعم بِهِ على الْأَمِير قوصون فَبنى تجاهه على الزريبة الْمَعْرُوفَة بزريبة قوصون ووقفهما. واقتدى بِهِ الْأُمَرَاء فِي الْعِمَارَة فَأخذ قوصون بُسْتَان بهادر رَأس نوبَة ومساحته خَمْسَة عشر فداناً وحكر للنَّاس فبنوه دوراً وَعرف بحكر قوصون. وحكر السُّلْطَان حول الْبركَة الناصرية أَرَاضِي الْبُسْتَان فعمره النَّاس وَسَكنُوا فِيهِ. وحكر الْأَمِير طقزدمر بجوار الخليج بستاناً مساحته ثَلَاثُونَ فدانا وَبني لَهُ قنطرة عرفت بِهِ وَعمل هُنَاكَ حَماما وحوانيت فَصَارَ حكراً عَظِيما للْمَسَاكِين. وحكر الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد بستاناً بجوار بركَة الْفِيل فعمر عمَارَة محميرة بَعْدَمَا كَانَ مقطع طَرِيق فَصَارَ قدر مَدِينَة كَبِيرَة وَأخذ بَقِيَّة الْأُمَرَاء جَمِيع مَا كَانَ من الْبَسَاتِين والجنينات ظَاهر الْقَاهِرَة وحكروها. وحكرت الدادة حدق - وَهِي الْمَعْرُوفَة باسم سِتّ مسكة القهرمانة - حكرين عرفا بهَا فجاءا من أحسن الأحكار وأنشات لكل وَاحِد مِنْهُمَا جَامعا تُقَام بِهِ الْجُمُعَة. فأنافت الأحكار الَّتِي استجدت فِي أَيَّامه على سِتِّينَ حكراً حَتَّى لم يُوجد مَوضِع بحكر واتصلت العمارات من خَارج الْقَاهِرَة إِلَى جَامع ابْن طولون والمشاهد وَقد ذكرنَا أَيْضا هَذِه الأحكار فِي كتاب المواعظ وَالِاعْتِبَار ذكرا شافياً. وَفِي أَيَّامه عمر الْأَمِير قوصون بِالْقَاهِرَةِ وكَالَة حَيْثُ كَانَت دَار تعويل البوغاني. وَعمر الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر ربعا بجوار حدرة الْبَقر وَهُوَ الَّذِي عمر قيسارية الحريريين بجوار الوراقين من الْقَاهِرَة. وَعمر الْأَمِير بكتمر الساقي. بِمَدِينَة مصر ربعين وحوانيت على النّيل وَدَار وكَالَة ومطابخ سكر. وَعمر الْأَمِير طقزدمر دَار التفاح خَارج بَاب زويلة وَالرّبع الَّذِي فَوْقه. وتجددت عدَّة جَوَامِع فِي أَيَّامه أنافت على ثَلَاثِينَ جَامعا مِنْهَا الْجَامِع الناصري بقلعة الْجَبَل جدده السُّلْطَان النَّاصِر وأوسعه وَالْجَامِع الْجَدِيد الناصري ظَاهر من على(3/317)
النّيل وجامع المشهد النفيسي وجامع الْأَمِير كراي المنصوري بآخر الحسينية وجامع الْأَمِير طيبرس نقيب الْجَيْش على النّيل بجوار خانكاته - وَهُوَ الَّذِي عمر أَيْضا مدرسة بجوار الْجَامِع الْأَزْهَر بِالْقَاهِرَةِ وجامع الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني بِالْقربِ من بَاب الْبَحْر وجامع الْفَخر نَاظر الْجَيْش على النّيل فِيمَا بَين بولاق وجزيرة الْفِيل وَهُوَ الَّذِي عمر جَامعا آخر خلف خص الكيالة ببولاق وجامعاً ثَالِثا بالروضة وجامع كريم الدّين خلف الميدان وجامع شرف الدّين الجاكي بسويقة الريش وجامع أَمِير حُسَيْن بالحكر - وَقد بني لَهُ قنطرة على الخليج - وجامع الْأَمِير قيدان الرُّومِي بقناطر الوز وجامع دولت شاه مَمْلُوك العلائى بكوم الريش وجامع الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك بِطرف الحسينية وجامع نَاصِر الدّين الْحَرَّانِي الشرابيشي بالقرافة وجامع الْأَمِير آقسنقر شاد العمائر قَرِيبا من الميدان وجامعاً خَارج بَاب القرافة عمره جمَاعَة من الْعَجم وجامع النّوبَة بِبَاب البرقية - عمره مغلطاي أَخُو الْأَمِير ألماس وجامع بنت الْملك الظَّاهِر بيبرس بالجزيرة المستجدة وَعمر مَا حوله أملاكاً كَثِيرَة - وجامع الْأَمِير ألماس بِالْقربِ من حَوْض ابْن هنس وجامع الْأَمِير قوصون خَارج الْقَاهِرَة وجامعه خَارج بَاب القرافة وجامع الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري على النّيل ببولاق وجامع أخي صاروجا بشون الْقصب وجامع الْحَاج آل ملك بالحسينية وجامع الْأَمِير بشتاك على بركَة الْفِيل تجاه خانكاته وجامع سِتّ حدق فِيمَا بَين قنطرة السد وقناطر السبَاع وجامع سِتّ مسكة قَرِيبا من قنطرة آقسنقر وجامع الْأَمِير ألطبغا المارديني خَارج بَاب زويلة وجامع مظفر الدّين بن الْفلك بسويقة الجميزة من الحسينية وجامع جَوْهَر السحرتي قَرِيبا من بَاب الشعرية وجامع فتح الدّين مُحَمَّد بن عبد الظَّاهِر بالقرافة. واستجد بِدِمَشْق فِي أَيَّام السُّلْطَان النَّاصِر أَيْضا جَامع كريم الدّين وجامع شمس الدّين غبريال وجامع الأفرم وجامع تنكز وجامع يلبغا. وجددت الْخطب فِي أَيَّامه بعدة مَوَاضِع: فجدد نَائِب الكرك خطْبَة بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية وجدد طقزدمر خطة بالمعزية بِمصْر. وتجددت خطة بزاوية فَخر الدّين بن جوشن خَارج بَاب النَّصْر وجدد نجم الدّين أَبُو بكر بن غَازِي دلال المماليك خطْبَة بِمَسْجِد فِيمَا بَين بَاب الْبَحْر وبولاق وجددت خطة بِجَامِع مَحْمُود بالقرافة بَعْدَمَا كَانَ تربة. وَأخر مَا عمره السُّلْطَان السواقي بالرصد فَمَاتَ وَلم يكمل عَملهَا إِلَّا أَنه فِي أخر أَيَّامه أَقَامَ النشو فأفرط فِي الظُّلم. وشغف السُّلْطَان أَيْضا بحب الْجَوَارِي، فَكتب إِلَى أَعمال مصر بِبيع الْجَوَارِي(3/318)
المولدات وحملهن إِلَيْهِ وأخذهن حَتَّى من الْمُغَنِّيَات فزادت عدتهن عِنْده على ألف ومائتي وصيفة. وَكَانَ يكره ممالك أَبِيه وأخيه ومازال بهم حَتَّى فنوا فِي أَيَّامه. وَكَانَ لَا يُمكن مماليكه بالاجتماع بالفقهاء وتعنت على أجناد الْحلقَة وعرضهم وَقطع مِنْهُم جمَاعَة فَمَاتَ عقيب ذَلِك. ورسم بعد مَوته بغلق حوانيت بَين القصرين وطردت النَّاس بأجعهم من هُنَاكَ. وَحمل فِي محفة وَأخرج من القلعة ومروا بِهِ من وَرَاء السُّور إِلَى بَاب النَّصْر وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء بشتاك وملكتمر الْحِجَازِي وأيدغمش وعدة من الخاصكية. ثمَّ شَقوا بِهِ من بَاب النَّصْر إِلَى الْمدرسَة المنصورية وقدامه بعض الحراس تضيء عَلَيْهِ بمسرجة زَيْت حَار ثمَّ لحقه فانوس فشيعه إِلَى الْمدرسَة المنصورية. وَحمل إِلَى الْقبَّة بهَا وَغسل وحنط وكفن من المارستان وَقد اجْتمع الْفُقَهَاء والقراء ثمَّ دفن على أَبِيه. وَترك السُّلْطَان النَّاصِر من الْأَوْلَاد مُحَمَّدًا وابراهيم وعليا وَأحمد وَأَبا بكر(3/319)
وكجك ويوسف وَشَعْبَان ورمضان وَإِسْمَاعِيل وحاجي وَحسَيْنا وحسناً وصالحاً وَسبع بَنَات فولي السلطة من أَوْلَاده ثَمَانِيَة: وهم أَبُو بكر وكجك وَأحمد وَإِسْمَاعِيل وَشَعْبَان وحاجي وَصَالح وَحسن. وَكَانَت نوابه بديار مصر كتبغا وسلار وبيبرس الدوادار وبكتمر الجوكندار(3/320)
وأرغون الداوادار، وَلم يستنب بعد أرغون أحد. وَكَانَت وزراؤه سنجر الشجاعي وتاج الدّين مُحَمَّد بن حنا وفخر الدّين عمر بن الخليلي وسنقر الأعسر وَعز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ وَمُحَمّد بن الشيخي وأيبك الْأَشْقَر - وَسمي الْمُدبر وَسعد الدّين مُحَمَّد بن عطايا وضياء الدّين أَبُو بكر بن عبد الله النشائي وَبدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني وَأمين الدّين عبد الله بن الغنام وبكتمر الْحَاجِب ومغلطاي الجمالي. وَلم يستوزر بعد الجمالي أحدا. وَكَانَت قُضَاته تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد وَبدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وجمال الدّين سُلَيْمَان الزرعي وجلال الدّين مُحَمَّد بن الْقزْوِينِي وَعز الدّين عيد(3/321)
الْعَزِيز بن جمَاعَة. وَكَانَ كتاب سره شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله وعلاء الدّين عَليّ بن الْأَثِير ومحي الدّين يحيى بن فضل الله وعلاء الدّين عَليّ بن فصل الله. كَانَ دواداريته عز الدّين أيدمر وأرغون وأرسلان وألجاي ويوسف بن الأسعد وبغا وطاجار. وَكَانَ نظار جَيْشه بهاء الدّين عبد الله بن أَحْمد الْحلِيّ وَالْفَخْر مُحَمَّد بن فضل الله القبطي وقطب الدّين مرسي بن شيخ السلامية وشمس الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق والمكين إِبْرَاهِيم بن قروينة وجمال الكفاة إِبْرَاهِيم. تمّ ذَلِك السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أَبُو بكر بن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن الْملك الْمَنْصُور قلاوون جلس على تخت السلطنة بالإيوان من قلعة الْجَبَل بِعَهْد أَبِيه لَهُ صَبِيحَة توفّي وَالِده من يَوْم الْخَمِيس حادي عشرى ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. ولقبه الْأُمَرَاء الأكابر بِالْملكِ الْمَنْصُور وجلسوا حوله وَاتَّفَقُوا على إِقَامَة الْأَمِير سيف الدّين طقزدمر الْحَمَوِيّ - زوج أمه - نَائِب السلطة بديار مصر وَأَن يكون الْأَمِير قوصون مُدبر الدولة وَرَأس المشورة ويشاركه فِي الرَّأْي الْأَمِير بشتاك. ورسم بتجهيز التشاريف وَالْخلْع وَعين الْأَمِير قطلو بغا الفخري لتعزية نواب الشَّام بالسلطان النَّاصِر مُحَمَّد والبشارة بسلطنة ابْنه وتحليفهم. وَيكون صحبته تقاليدهم فَتوجه من يَوْمه.(3/322)
وَفِيه نُودي بِالْقَاهِرَةِ ومصر أَن يتعامل النَّاس بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَب بِسعْر الله فسر النَّاس ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا منعُوا من الْمُعَامَلَة بِالْفِضَّةِ وَألا يكون معاملتهم إِلَّا بِالذَّهَب. وَفِيه أفرج عَن بركَة الْحَبَش وقف الْأَشْرَاف وَكَانَ النشو قد أَخذهَا مِنْهُم وَصَارَ ينْفق فيهم من بَيت المَال. وَفِيه كتب إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بِرَفْع الْمَظَالِم وَألا يَرْمِي على بِلَاد الأجناد شعير وَلَا تبن. وَفِي يَوْم السبت سلخه: جمع الْقُضَاة بِجَامِع القلعة للنَّظَر فِي أَمر الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله أَحْمد بن أبي الرّبيع سُلَيْمَان وإعادته إِلَى الْخلَافَة وَحضر مَعَهم الْأَمِير طاجار الدوادار وَغَيره. فاتفقوا على إِعَادَته لعهد أَبِيه إِلَيْهِ بالخلافة. بمقتضي مَكْتُوب ثَابت على قَاضِي قوص. وَفِيه فرقت التشاريف وَالْخلْع على الْأُمَرَاء. ليلبسوها فِي يَوْم الْخدمَة من الْعَام الْمقبل. وَفِيه أقيم الْأَمِير قرصون فِي تَدْبِير أُمُور الدولة. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج قطز الظَّاهِرِيّ أحد أُمَرَاء الطبلخاناة وَقد أناف على مائَة سنة وَهُوَ أخر من بَقِي من المماليك الظَّاهِرِيَّة بيبرس وَكَانَ مشكوراً. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير بدر الدّين حنكلي بن البابا فِي يَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب. وَكَانَ فَقِيها أديباً شَاعِرًا جواداً. وَتُوفِّي الصاحب أَمِين الدّين أَمِين الْملك أَبُو سعيد عبد الله بن تَاج الرياسة بن الغنام تَحت الْعقُوبَة مخنوقا يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الأولى. ووزر الصاحب أَمِين الدّين ثَلَاث مَرَّات وباشر نظر الدولة وَاسْتِيفَاء الصُّحْبَة والدولة وخدم من الْأَيَّام الأشرفية فولي. بِمصْر ودمشق وطرابلس وَحسن إِسْلَامه وَكَانَ رَضِي الْخلق.(3/323)
وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الْعزي نَائِب أياس والفتوحات الأندلسية بهَا وَكَانَ مشكور السِّيرَة. وَمَات طوغان الشمسي سنقر الطَّوِيل وَإِلَى الأشمونين وشاد الدَّوَاوِين بِمصْر وَالشَّام وَهُوَ منفي بِالشَّام وَكَانَ ظَالِما غشوماً مَذْمُوم السِّيرَة. وَمَات الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ربيع الأول فَاشْتَدَّ حزن وَالِده السُّلْطَان عَلَيْهِ. وَتُوفِّي الشَّيْخ المعتقد عز الدّين عبد الْمُؤمن بن قطب الدّين أبي طَالب عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الكمالي أبي الْقَاسِم عمر بن عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الْمَعْرُوف بِابْن العجمي الْحلَبِي الشَّافِعِي بِمصْر. تزهد بعد الرياسة والاشتغال بِالْعلمِ وَكِتَابَة الْخط الْمَنْسُوب وَحج مَاشِيا من دمشق وجاور بِمَكَّة مرَارًا وَقدم مصر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأقَام بهَا حَتَّى مَاتَ. وَكَانَ لَا يقبل لأحد شَيْئا وَيُقِيم حَاله من وقف أَبِيه بحلب وتزيا بزِي الصُّوفِيَّة وَكَانَ فِيهِ مُرُوءَة وَله مَكَارِم وصدقات وَله شعر جيد. وَتُوفِّي افتخار الدّين جَابر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ الْحَنَفِيّ شيخ الْمدرسَة الجاولية بالكبش فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس عشر الْمحرم. وَكَانَ بارعاً فِي النَّحْو شَاعِرًا. وَتُوفِّي عز الدّين عبد الرَّحِيم بن نور الدّين عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ابْن مُحَمَّد بن الْفُرَات أحد نواب الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة. وَتُوفِّي أوحد الدّين بالقدس فِي رَابِع عشرى شعْبَان. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين قراسنقر المنصوري نَائِب حلب بِبِلَاد المراغة وَقد أقطعه إِيَّاهَا ابو سعيد بن خربندا. وَكَانَ مَوته بِمَرَض الإسهال وَقد أعيا الْملك النَّاصِر قَتله وَبعث إِلَيْهِ كثيرا من الفداوية فصانه الله مِنْهُم بِحَيْثُ قتل من الفداوية بِسَبَبِهِ نَحْو مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين فداوياً. وَلما بلغ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد مَوته قَالَ: وَا لله مَا كنت أشتهي مَوته إِلَّا من تَحت سَيفي وأكون قد قدرت عَلَيْهِ وَبَلغت مقصودي وَلَكِن الْأَجَل حُصَيْن. وَكَانَت لَهُ مَعَ الفداوية أَخْبَار طَوِيلَة: مِنْهَا أَن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد أعْطى يُونُس التَّاجِر مَالا كثيرا وَبَعثه إِلَى توريز ليتَّخذ لَهُ بهَا أصحاباً يَثِق بهم حَتَّى يرد إِلَيْهِ الفداوية(3/324)
فيأووا عِنْده وَعرف يُونُس بمقاصده. ثمَّ إِن السُّلْطَان تلطف مَعَ صَاحب مصياف وبذل لَهُ مَالا كثيرا حَتَّى ندب لَهُ من الفداوية طَائِفَة. فبعثهم السُّلْطَان إِلَى يُونُس فأواهم وأعلمهم بالغرض فانتظروا وقتا يصلح للوثوب مُدَّة أَيَّام إِلَى أَن ركب النوين الْكَبِير جوبان يُرِيد مَدِينَة توريز وَركب آقوش الأفرم وقراسنقر إِلَى جانبيه. فَخرج اثْنَان من الفداوية أَحدهمَا للأفرم وَالْآخر لقراسنقر فبدر أَحدهمَا وَضرب آقوش الأفرم فاتقى الضَّرْبَة بِيَدِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ قرضية فانشق كمه وجرحت يَده وَجبن الآخر عَن قراسنقر لقتل الفدواي. وَوَقع الحذر وكبست الفنادق والخانات بتوريز وَقبض على يُونُس فَقَامَ الْوَزير نَاصِر الدّين خَليفَة بن خواجا عَليّ شاه مَعَه حَتَّى تخلص من الْقَتْل. وَلم يصب قراسنقر بِسوء وعولج الأفرم حَتَّى برِئ من جراحته واحترسا على أَنفسهمَا وَمن غرائب الِاتِّفَاق فِيمَا سبق أَنه كَانَ لقراسنقر فرَاش من العليقة وَله معرفَة بِأَهْل مصياف فتتبع نواحي توريز حَتَّى ظفر بفداوي رسله السُّلْطَان النَّاصِر محصد لقتل قراسنقر فَإِذا هُوَ أَخُوهُ فاستماله وقربه من قراسنقر. فَأعْطَاهُ قراسنقر مائَة دِينَار ورتب لَهُ فِي كل شهر ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وخدم عِنْده فراشا رَفِيقًا لِأَخِيهِ وَزَاد فِي الإنعام عَلَيْهِ حَتَّى بلغت عطيته لَهُ خَمْسمِائَة دِينَار. فَأعْلم هَذ الفداوي قراسنق بِمَا ندب إِلَيْهِ من قَتله وَضمن لَهُ أَنه يعرفهُ بِجَمِيعِ من يرد من الفداوية. فسر قراسنقر بذلك وَأعلم جوبان والوزير نَاصِر الدّين خَليفَة فكبسوا على جمَاعَة مِمَّن دلهم عَلَيْهِم فظفروا بِوَاحِد وفر بَعضهم وَقتل بَعضهم نَفسه وَجِيء بالفداوي الْمَقْبُوض عَلَيْهِ فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلم يعْتَرف بِشَيْء. وَاشْتَدَّ الْأَمر بتوريز وَغَيرهَا على الغرباء وقصاد السُّلْطَان تطالعه بذلك فِي كل وَقت إِلَى أَن كتبُوا إِلَيْهِ نَائِب بَغْدَاد بلغه عَن تَاجر أَنه اشْترى مملوكين للسُّلْطَان بِمِائَة وَعشْرين ألف دِرْهَم فأحضر نَائِب بَغْدَاد التَّاجِر وألزمه بإحضارهما فَافْتدى بأربعمائة دِينَار حَتَّى تَركه وَأخرجه من بَغْدَاد. فَبعث التَّاجِر بطَائفَة من الفداوية لقَتله وَقتل قراسنقر فَتَفَرَّقُوا بالأردو وتوريز وبغداد وَأَقَامُوا فِي الِانْتِظَار لانتهاز الفرصة. فَبينا نَائِب بَغْدَاد يَوْمًا وَقد مر فِي الشَّارِع إِذا وثب عَلَيْهِ أحد الفداوية وَصَاح. ياللملك النَّاصِر وضربه بالخنجر فِي صَدره وَمر يعدو فَلم يقدر عَلَيْهِ. وَعَاد الفداوي إِلَى مصياف وَكتب إِلَى السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بِمَا جرى وَقتل نَائِب بَغْدَاد. فَلَمَّا بلغ ذَلِك قراسنقر وجوبان اشْتَدَّ حذرهما وألزم قراسنقر فرَاشه وأخاه الفداوي حَتَّى دلاه على(3/325)
أَرْبَعَة من الفداوية فَقبض عَلَيْهِم فاعترف أحدهم وَحكى لَهُ الْمِنْبَر بنصه فَقتلُوا وشهروا. وَأقَام رجال جوبان مُدَّة فِي طلب الفداوية فَلم يدْخل مِنْهُم أحد إِلَّا ظفر بِهِ. فَلَمَّا قدم الْمجد السلَامِي إِلَى الْقَاهِرَة وَصَحب كريم الدّين الْكَبِير واتصل بالسلطان أَقَامَهُ السُّلْطَان عينا لَهُ بِبِلَاد الشرق وَبَعثه بالهدايا والتحف. فصحب الْمجد السلَامِي جوبان والوزير ولزمهما وطالع السُّلْطَان بالأحوال. ثمَّ بعث السُّلْطَان إِلَيْهِ بعدة من الفداوية وَكَانَ من لطف الله بِهِ أَنه يَوْم قدم الْمجد السلَامِي توريز قبض بهَا على ثَلَاثَة من أَرْبَعَة من الفداوية وفر الرَّابِع الَّذِي مَعَه كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ. فَعُوقِبَ الثَّلَاثَة حَتَّى مَاتُوا وَلم يعترفوا بِشَيْء وَوصل الَّذِي فر إِلَى مصياف وَكتب إِلَى السُّلْطَان بِمَا جرى. فمازال السلَامِي يُقرر الصُّلْح بَين الْوَزير خواجاً عَليّ شاه وجوبان وَبَين ثمَّ حدث أَنه بَيْنَمَا قراسنقر فِي عدَّة من أُمَرَاء السَّاحِل يتصيد إِذْ وثب عَلَيْهِ من خَلفه فداوي وضربه فَوَقَعت الضَّرْبَة فِي خاصرة الْفرس ألْقى قراسنقر نَفسه إِلَى الأَرْض فَسلم وَقتل أَصْحَابه الفداوي. ثمَّ لما توجه الْأَمِير أيتمش بن عبد الله المحمدي الناصري فِي الْمرة الثَّانِيَة إِلَى أبي سعيد بعث السُّلْطَان النَّاصِر فِي أَثَره فداويين قبض على أَحدهمَا وَقتل الْأُخَر نَفسه فَلم يعْتَرف الْمَقْبُوض عَلَيْهِ بِشَيْء حَتَّى مَاتَ قتلا بِحُضُور أيتمش. وعتب جوبان على أيتمش بِسَبَب ذَلِك وَأَنه وَقع الصُّلْح على أَلا يدْخل أحد من هَؤُلَاءِ إِلَيْنَا فَاعْتَذر أيتمش بِأَن هَؤُلَاءِ إِلَيْنَا كَانُوا فداوية فقد كَانُوا فِي الْبِلَاد من قبل تَقْرِير الصُّلْح وَضمن أَن السُّلْطَان لَا يعود إِلَى إرْسَال أحد مِنْهُم فَمشى ذَلِك على جوبان وأعيد أيتمش إِلَى مصر. فَلَمَّا عَاد الْمجد السلَامِي أَيْضا بعث السُّلْطَان إِلَى مصياف بالإنكار على الفداوية فِي تَأَخّر قَضَاء شغله فأرسلوا إِلَيْهِ رجلا مِنْهُم ليقوم بِمَا يُؤمر بِهِ فَخَلا بِهِ السُّلْطَان وعرفه مقاصده وأنزله عِنْد كريم الدّين بِحَيْثُ لَا يرَاهُ أحد فَكَانَ راتبه فِي كل يَوْم خروفاً يَأْكُلهُ كُله فِي كشك من أول النَّهَار ثمَّ يَأْكُل فِي وسط النَّهَار دجاجاً أَو أوزاً أَو لَحْمًا مشوياً ثمَّ يتعشى بِثَلَاثَة ألوان من الطَّعَام وَيشْرب فِي كل يَوْم سِتِّينَ رطلا من الْخمر. فَأَقَامَ الرجل الفداوي على ذَلِك أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ سَافر لقصده. وتسلم القاصد الَّذِي يدله على الْغَرِيم السكين ليعطها للرجل الفداوي وَقد ختمت. وَتوجه السلَامِي أَيْضا بهدية جليلة فوصل الْجَمِيع إِلَى الْبِلَاد. وخفي أَمر الفداوي حَتَّى كَانَ يَوْم عيد الْفطر وَدخل النَّاس يهنؤن أَبَا سعيد وجوبان وَفِيهِمْ قراسنقر ثمَّ انصرفوا بعد أكلهم إِلَى الْوَزير خواجا عَليّ شاه وأكلوا طَعَامه. ثمَّ بعث السلَامِي إِلَى الفداوي فَأحْضرهُ(3/326)
وَأَوْقفهُ بطرِيق قراسنقر وَدخل رَفِيقه حَتَّى ينظر وَقت فرَاغ قراسنقر من الطَّعَام ليعرف بِهِ الفداوي. فاتفق أَن قراسنقر قَامَ وَمَشى إِلَى أثنا الدهاليز وَقد سبقه القاصد وَعرف بِهِ الفداوي وَأَعْطَاهُ السكين وَوصف لَهُ شكله وزي ثِيَابه وَقَالَ لَهُ هُوَ أول من يركب. فعندما وضع قراسنقر رجله فِي الركاب استدعاه الْوَزير فَعَاد وَقد قَامَ دمرداش نَائِب الرّوم من الْمجْلس وَكَانَ فِيهِ شبه من قراسنقر وخلعته الَّتِي عَلَيْهِ حَمْرَاء مثل خلعة قراسنقر فعندما ركب دمرداش وتوسط الطَّرِيق مر بالفداوي فَظَنهُ قراسنقر فَألْقى نَفسه من سطح كَانَ فَوْقه فَصَارَ على كفل الْفرس وَصَاح بسعادة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد وضربه فِي رقبته أَلْقَاهُ عَن فرسه قَتِيلا. وَقَامَ الفداوي يعدو فأدركه الْقَوْم وأحضروه إِلَى جوبان فاتهم بِأَنَّهُ كَانَ مَعَ السلَامِي فلولا لطف الله بِهِ وعناية الْوَزير لقتل السلَامِي شَرّ قتلة وَقتل الفداوي بعد مَا عُوقِبَ أَشد الْعقُوبَة وَلم يعْتَرف بِشَيْء. وَمِمَّا حدث كَذَلِك أَنه بَينا قراسنقر فِي بعض الأعياد وَقد خرج مَعَ أُمَرَاء الْمغل من حَضْرَة أبي سعيد إِلَى عِنْد جوبان إِذْ وثب عَلَيْهِ فداوي فَألْقى قراسنقر نَفسه إِلَى الأَرْض فَوَقع الفداوي عَلَيْهِ وضربه بالسكين فأخطأه وَوَقعت السكين فِي الأَرْض. فَقطع الفداوي فَوق صدر قراسنقر قطعا وأقيم قراسنقر وَقد خرب شاشه وطاحت الكلفتاه عَن رَأسه وَكَانَ عقله أَن يذهب. وَكَانَ قراسنقر أحد مماليك الْمَنْصُور قلاوون عمله كوكندار ثمَّ ترقى حَتَّى ولي نِيَابَة حلب ونيابة دمشق. وَكَانَ كَبِير الْقدر بشوش الْوَجْه صَاحب رَأْي وتدبير وَمَعْرِفَة وَبَلغت عدَّة مماليكه سِتّمائَة مَمْلُوك. وَكَانَ كثير الْعَطاء لَا يستكثر على أحد شَيْئا وَكَانَ مهاباً كثير المَال وَترك وَلدين هما أَمِير عَليّ وأمير فرج وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة القراسنقرية بِخَط رحبة بَاب الْعِيد من الْقَاهِرَة وَدَار قراسنقر بحارة بهَا الدّين. وَمَات الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام يَوْم الثُّلَاثَاء نصف الْمحرم.(3/327)
فارغة(3/328)
(سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
أهل الْمحرم بِيَوْم الْأَحَد: فَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِيه: خلع على جَمِيع الْأُمَرَاء والمقدمين فِي الموكب بدار الْعدْل وَذَلِكَ أَن الْأُمَرَاء طلعوا بخلعهم الَّتِي فرقت عَلَيْهِم كَمَا تقدم وطلع الْقُضَاة فَاجْتمعُوا بدار الْعدْل. وَجلسَ الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الرّبيع سُلَيْمَان على الدرجَة الثَّالِثَة من تَحت السلطنة وَعَلِيهِ خلعة خضراء وَفَوق عمَامَته سَوْدَاء مرقومة. ثمَّ خرج السُّلْطَان من بَاب السِّرّ على الْعَادة فَقَامَ الْخَلِيفَة والقضاة وَمن كَانَ جَالِسا هُنَاكَ من الْأُمَرَاء. وَجلسَ السُّلْطَان على الدرجَة الأولى دون الْخَلِيفَة فَقَامَ الْخَلِيفَة وافتتح الخطة بقوله تَعَالَى: إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي القربي وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عَاهَدَ وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا إِن الله يعلم مَا ثفعلون. ثمَّ أوصى السُّلْطَان بالرفق بالرعية وَإِقَامَة الْحق وتعظيم شَعَائِر الْإِسْلَام ونصرة الدّين ثمَّ قَالَ: فوضت إِلَيْك جَمِيع أَحْكَام الْمُسلمين قلدتك مَا تقلدته من أُمُور الدّين ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله يَد الله فَوق أَيْديهم فَمن نكث فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما. وَجلسَ الْخَلِيفَة فجيء فِي الْحَال بخلعة سَوْدَاء فألبسها الْخَلِيفَة للسُّلْطَان بِيَدِهِ وقلده سَيْفا عَرَبيا. وَأخذ عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ فِي قِرَاءَة عهد الْخَلِيفَة للسُّلْطَان حَتَّى فرع مِنْهُ ثمَّ قدمه للخليفة فَكتب عَلَيْهِ ثمَّ كتب بعده الْقُضَاة بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. ثمَّ قدم السماط فَأكل الْأُمَرَاء وانفضت الْخدمَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خامسه: قدم الْأَمِير بيغرا من عِنْد أَمِير أَحْمد بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَقد حلف بِمَدِينَة الكرك لِأَخِيهِ السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور.(3/329)
وَفِيه أنعم على الْأَمِير بيلك العلالي الساقي بإمرة البرواني وأنعم بعشرته على مغلطاي أَمِير شكار وأنعم على بزلار الساقي بطبلخاناة أَمِير حَاج ملك بن أيدغمش. وَفِي عصر يَوْم الْأَحَد ثامنه: قبض على أَمِير بشتاك الناصري وَذَلِكَ أَنه طلب أَن يسْتَقرّ فِي نِيَابَة الشَّام وَدخل على الْأَمِير قوصون وَسَأَلَهُ فِي ذَلِك وأعلمه أَن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد كَانَ قبل مَوته وعده بهَا وألح بشتاك فِي سُؤَاله وقوصون يدافعه ويحتج عَلَيْهِ أَنه قد كتب إِلَى ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام تقليداً باستقراره فِي نِيَابَة الشَّام على عَادَته فَلَا يَلِيق عَزله سَرِيعا. فَقَامَ بشتاك عَنهُ وَهُوَ غير رَاض فَإِنَّهُ كَانَ قد توهم من قوصون وخشي مِنْهُ لما كَانَ بَينهمَا قَدِيما من المنافرة وَلِأَنَّهُ قد صَار المتحكم فِي الدولة فَطلب أَن يخرج من مصر وَيبعد عَنهُ. فَلَمَّا لم يُوَافقهُ قوصون على ذَلِك سعى فِيهِ بخاصكية السُّلْطَان وَحمل إِلَيْهِم مَالا كثيرا فِي السِّرّ وَبعث إِلَى الْأُمَرَاء الْكِبَار يطْلب مِنْهُم المساعدة على قَصده فمازالوا بالسلطان حَتَّى أنعم لَهُ بنيابة الشَّام. وَطلب السُّلْطَان الْأَمِير قوصون وأعلمه بذلك فَلم يُوَافقهُ وغض من بشتاك وَأخر مَا قَرَّرَهُ مَعَ السُّلْطَان أَنه يحدث الْأُمَرَاء فِي ذَلِك ويعده بِأَنَّهُ يولي بشتاك إِذا قدم الْأَمِير قطلوبغا الفخري بنسخة الْيَمين من الشَّام. فَلَمَّا دخل الْأُمَرَاء عرفهم السُّلْطَان طلب بشتاك نِيَابَة الشَّام فَأخذُوا فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالشُّكْر فاستدعاه السُّلْطَان وَطيب خاطره ووعده بهَا عِنْد قدوم قطلوبغا وَتقدم إِلَيْهِ بَان يتجهز للسَّفر. فَظن بشتاك أَن ذَلِك صَحِيح وَقَامَ مَعَ الْأُمَرَاء من الْخدمَة وَأخذ فِي عرض خيوله وَبعث لكل من أكَابِر الْأُمَرَاء المقدمين مَا بَين ثَلَاثَة أرؤس إِلَى رَأْسَيْنِ من الْخَيل بالقماش. الفاخر وَبعث مَعهَا أَيْضا الهجن المهرية. ثمَّ بعث بشتاك إِلَى الْأُمَرَاء الخاصكية مثل ملكتمر الْحِجَازِي وطاجار بن عبد الله الناصري الدوادار ويلبغا اليحياوي وألطبغا المارداني وتنكز بغا بن عبد الله المارديني شَيْئا كثيرا من الذَّهَب والجوهر واللؤلؤ والتحف وَفرق عدَّة من الْجَوَارِي فِي الْأُمَرَاء بِحَيْثُ لم يبْق أحد من الْأُمَرَاء إِلَّا وَأرْسل إِلَيْهِ ثمَّ فرق بشتاك على مماليكه وأجناده وَأخرج ثَمَانِينَ جاريه من جواريه أعتقهن وزوجهن من مماليكه بعد مَا شورهن بِاللُّؤْلُؤِ والزركش وَغير ذَلِك مِمَّا لَهُ قيمَة كَبِيرَة جدا. وَفرق بشتاك من شونته على الْأُمَرَاء اثْنَي عشر ألف أردب غلَّة وَزَاد حَتَّى وَقع(3/330)
الْإِنْكَار عَلَيْهِ واتهمه السُّلْطَان والأمير قوصون بِأَنَّهُ يُرِيد التوثب على الْملك وَعمِلُوا هَذَا من فعله حجَّة للقبض عَلَيْهِ وَكَانَ مَا خص الْأَمِير قوصون من تفرقته هَذِه حجرين من حِجَارَة معاصر قصب السكر بِمَا فِيهَا من القنود والأعمال والأبقار والأغلال والآلات وَخَمْسمِائة فدان من الْقصب مزروعة فِي أَرض ملك لَهُ فأدهش الْأُمَرَاء بِكَثْرَة عطائه وَاسْتغْنى مِنْهُ جمَاعَة من مماليكه. وَلما كثرت القالة فِيهِ بِأَنَّهُ يُرِيد إِفْسَاد الدولة خلا بِهِ بعض خواصه وعرفه ذَلِك وَأَشَارَ عَلَيْهِ بإمساك يَده عَن الْعَطاء فَقَالَ لَهُم: إِذا قبضوا على أخدوا مَالِي وَأَنا أَحَق بِهِ مِنْهُم أَن أفرقه وَأسر بِهِ إِذا بذلته وَيبقى لي مَكَارِم على النَّاس أذكر بهَا وَإِذا سلمت فَالْمَال كثير. هَذَا وَقد قَامَ قوصون فِي أَمر بشتاك ومازال بالسلطان حَتَّى قرر مَعَه الْقَبْض عَلَيْهِ عِنْد قدوم قطلوبغا الفخري. وأشاع قوصون أَن بشتاك يُرِيد الْقَبْض على قطلوبغا فَبلغ ذَلِك بعض خَواص قطلوبغا فَبعث إِلَيْهِ من تَلقاهُ وعرفه مَا وَقع من تجهيز بشتاك وَأَنه على عزم من أَن يلقاك فِي طريقك ويقتلك فَكُن على حذر فَأخذ قطلوبغا من الصالحية يحْتَرز على نَفسه حَتَّى نزل سرياقوس. وَاتفقَ من الْأَمر العجيب أَن بشتاك خرج إِلَى حوشه بالريدانية خَارج الْقَاهِرَة ليعرض هجنه وجماله فطار الْخَبَر إِلَى قطلوبغا الفخري بِأَن بشتاك قد خرج إِلَى الريدانية فِي انتطارك فاستعد وَلبس السِّلَاح من تَحت ثِيَابه وَسَار وَقد تَلقاهُ عدَّة من مماليكه وَهُوَ على أهبة الْحَرْب. وعرج قطلوبغا عَن الطَّرِيق وسلك من تَحت الْجَبَل لينجو من بشتاك وَكَانَ عِنْد بشتاك علم من قدومه. فَلَمَّا قرب قطلوبغا من الْموضع الَّذِي فِيهِ بشتاك لاحت لَهُ غبرة خيله فحدس أَنه قطلوبغا قد قدم فَبعث إِلَيْهِ أحد مماليكه يبلغهُ السَّلَام ويعرفه أَن يقف حَتَّى يَأْتِيهِ ليجتمع بِهِ. فَلَمَّا بلغ قطلوبغا ذَلِك زَاد خَوفه من بشتاك وَقَوي عِنْده صِحَة مَا بلغه عَنهُ فَقَالَ للمملوك: سلم على الْأَمِير وَقل لَهُ لَا يكن اجتماعي بِهِ وَلَا بِأحد حَتَّى أَقف قُدَّام السُّلْطَان ثمَّ بعد ذَلِك اجْتمع بِهِ. فَمضى مَمْلُوك بشتاك وَفِي ظن قطلوبغا أَنه إِذا بلغه مَمْلُوكه الْجَواب ركب إِلَيْهِ فَأمر مماليكه أَن يَسِيرُوا قَلِيلا قَلِيلا وسَاق بمفرده مشواراً وَاحِدًا إِلَى القلعة. وَدخل قطلوبغا على السُّلْطَان وبلغه طَاعَة النواب وفرحهم بأيامه. ثمَّ أَخذ يعرف السُّلْطَان والأمير قوصون وَسَائِر الْأُمَرَاء مَا اتّفق لَهُ مَعَ بشتاك وَأَنه كَانَ يُرِيد معارضته فِي طَرِيقه وَقَتله فَأعلمهُ السُّلْطَان وقوصون بِمَا اتفقَا عَلَيْهِ من الْقَبْض على بشتاك.(3/331)
فَلَمَّا كَانَ عصر هَذَا الْيَوْم دخل الْأُمَرَاء إِلَى الْخدمَة على الْعَادة بِالْقصرِ وَفِيهِمْ الْأَمِير بشتاك وأكلوا السماط تقدم الْأَمِير قطلوبغا الفخري والأمير طقزدمر الناصري الساقي إِلَى بشتاك وأخذا سَيْفه وكتفاه. وَقبض مَعَه على أَخِيه أيوان وعَلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السُّلْطَانِيَّة كَانَا يلوذان بِهِ. وقيدوا جَمِيعًا. وسفروا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي اللَّيْل صُحْبَة الْأَمِير أسندمر الْعمريّ. وَقبض على جَمِيع مماليكه وأوقعت الحوطة على دوره وإصطبلاته وتتبعت غلمانه وحاشيته. وأنعم من إقطاع بشتاك على الْأَمِير قوصون بِخُصُوص الشرق زِيَادَة على إقطاعه وَأخذ السُّلْطَان المطرية ومنية ابْن خصيب وشبرا. وَفرق السُّلْطَان بَقِيَّة إقطاع بشتاك على ملكتمر الْحِجَازِي وَغَيره من الْأُمَرَاء. فَلَمَّا أَصْبحُوا يَوْم الْإِثْنَيْنِ تاسعه قبض على الْمجد السلَامِي واتهم بِأَن لبشتاك عِنْده جَوَاهِر مودعة. وَفِيه حملت حواصل بشتاك وَهِي من الذَّهَب مِائَتَا ألف دِينَار مصرية وَمن اللُّؤْلُؤ والجواهر والحوائص الذَّهَب والكلفتاه الزركش شَيْء كثير جدا. وَمن الغلال أحد عشر ألف أردب سوى مَا تقدم ذكره مِمَّا أنعم بِهِ شتاك وفرقه. وَفِيه أخرج أَحْمد شاد الشَّرَاب خاناه إِلَى طرابلس لنقله كلَاما بَين الْأُمَرَاء ولميلة مَعَ شتاك. وَفِي الْخَمِيس ثَانِي عشره أنعم على كل من شعْبَان ورمضان أخوي السُّلْطَان بإمرة وَفِيه قبض على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن بكتمر الْحَاجِب وأنعم من الْغَد بإمرته على أَخِيه جمال الدّين عبد الله بن الْحَاجِب. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشريه: خلع على الْأَمِير طقزدمر وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطانة فَجَلَسَ فِي دست النِّيَابَة وَحكم وسرف الْأُمُور. وَفِيه أَيْضا خلع على الْأَمِير نجم الدّين مَحْمُود بن عَليّ بن شروين الْمَعْرُوف بوزير بَغْدَاد وَاسْتقر فِي الوزارة.(3/332)
وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشريه: قدم محمل الْحَاج من الْحجاز صُحْبَة ملكتمر الْحِجَازِي وَفِيه أَيْضا قدم الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن بيلبك الحسني من دمشق على الْبَرِيد بالاستدعاء. وَفِيه أنعم الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير بكتمر الساقي أحد العشرات بإمرة طبلخاناة وَقدم الْبَرِيد من حلب بِأَن الْأَمِير بن فياض وَسليمَان بن مهنا وأخوتهما قطعُوا الطَّرِيق على التُّجَّار عِنْدَمَا بَلغهُمْ أَن أَمِيرهمْ مُوسَى بن مهنا قد قبض عَلَيْهِ بعد موت السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَكَانَ مُوسَى قد خلع عَلَيْهِ وسافر. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سلخه: قبض على الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد وَأَوْلَاده وخلع على الْأَمِير طقتمر الأحمدي وأستقر أستادار عوضه. وَسبب ذَلِك أَنه فِي أَيَّام السُّلْطَان الْملك النَّاصِر قد ولي الأستادارية وتقدمة المماليك وَشد العمائر وتحكم فِي سَائِر الْأُمُور وأرباب الأشغال وعظمت مهابته. فاتفق أَنه غضب على فرَاش لَهُ وَضَربا مبرحا كَمَا هِيَ عَادَته. فخدم الْفراش عِنْد أبي بكر ابْن السُّلْطَان ليحميه من آقبغا فَبعث آقبغا فِي طلبه فَمَنعه أَبُو بكر وَأرْسل مَعَ مَمْلُوكه يَقُول لَهُ: أُرِيد أَن تهبني هدا الْفراش فَأَغْلَظ آقبغا على الْمَمْلُوك وسبه وَقَالَ قل لَهُ يُرْسل الْفراش وَهُوَ جيد لَهُ وَكَانَ أَبُو بكر قبل ذَلِك خرج من الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة إِلَى بَيته وآقبغا يضْرب مَمْلُوكا فَوقف وشفع فِيهِ فَلم يعبأ بِهِ آقبغا وَلَا قبل شَفَاعَته وَسَار وَاقِفًا وآقبغا قَاعد فَانْصَرف أَبُو بكر وَقد خجل. فَلَمَّا أعَاد مَمْلُوكه جَوَاب آقبغا غضب وَحلف لَئِن صَار سُلْطَانا ليصادرنه وليضربنه(3/333)
بالمقارع وَحمى الْفراش من آقبغا. فَلَمَّا أفضت السلطة إِلَيْهِ بعد موت أَبِيه عرف الْأَمِير قوصون والأمير طقزدمر النَّائِب بِيَمِينِهِ فَأَجَابَهُ قوصون إِلَى مصادرته أَولا قبل ضربه وَأَرَادَ بذلك مدافعة عَنهُ فَقبض عَلَيْهِ ورسم للأمير طيبغا المجدي والأمير نحم الدّين بلبان الحسامي البريدي وَالِي الْقَاهِرَة بإيقاع الحوطة على موجوده وَسلم وَلَده الْكَبِير للمقدم إِبْرَاهِيم بن صابر. فَبَاتَ آقبغا ليلته بِغَيْر أكل وَأصْبح يَوْم الثُّلَاثَاء أول صفر فَتحدث لَهُ الْأُمَرَاء أَن ينزل فِي ترسيم طيبغا المجدي ليتصرف فِي أُمُوره فَنزل صحبته وَأخذ فِي بيع موجوده. وَكَانَ مِمَّا أبيع لَهُ سَرَاوِيل لزوجته بِمِائَتي ألف دِرْهَم فضه وقبقاب وخف نسَائِي وسرموجة لامْرَأَته بِخَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم فثار بِهِ جمَاعَة مِمَّن ظلمهم فِي أَيَّام تحكمه وطلبوا حُقُوقهم مِنْهُ وَشَكَوْهُ. فأقسم السُّلْطَان لمن لم يرضهم ليسمرنه على جمل ويشهره بِالْقَاهِرَةِ فَفرق فيهم مِائَتي الف دِرْهَم حَتَّى سكتوا عَنهُ. وَفِي يَوْم الْأَحَد سادسه: خلع على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن نجم الدّين بلبان الحسامي البريدي لقلَّة حرمته. وخلع على نجم الدّين وَاسْتقر فِي ولَايَة مصر. وَفِيه قدم الْأَمِير بدر الدّين أَمِير مَسْعُود بن خطير من الشَّام على الْبَرِيد باستدعاء. وَفِيه رسم لِابْنِ المحسني وَالِي الْقَاهِرَة أَن يستخلص من خَالِد وَابْن معِين مقدمي دَار الْوَالِي مَالا من أجل طمعهما وَكَثْرَة تحكمهما. وَفِيه أَيْضا قبض على الصَّدْر الطَّيِّبِيّ نَاظر الْمَوَارِيث وَسلم إِلَى الْوَالِي على مَال يحملهُ فعاقبه الْوَالِي حَتَّى حمل مَالا جزيلاً. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سابعه: خلع على الْأَمِير بدر أَمِير مَسْعُود وَاسْتقر حاجبا عوض عَن الْأَمِير برسبغا على إمرته بِغَيْر وَظِيفَة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تاسعه: قبض على مقدم الدولة إِبْرَاهِيم بن صابر وَسلم لمُحَمد بن شمس الدّين الْمُقدم وأحيط بأمواله. فَوجدَ لَهُ نَحْو تسعين حجرَة فِي الجشار وَمِائَة وَعشْرين بقرة فِي الزرايب ومائتي كَبْش وجوقتين كلاب سلوقية وعدة طيور جوارح مَعَ بزدارية وَوجد لَهُ من الغلال وَغَيرهَا شَيْء كثير فَعُوقِبَ وَحمل المَال شَيْئا بعد شَيْء. وَفِيه جهز ابْن طغيه وَقَرِيب الشَّيْخ حسن كجك وسفرا وَكتب إِلَى نواب الشَّام بإكرامهما. وَفِيه وَقع بَين قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الغوري الْحَنَفِيّ وَبَين موفق الدّين نَاظر الدولة بِسَبَب معلومه وَقد توقف صرفه فَكتب قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين إِلَيْهِ ورقة(3/334)
يذكر فِيهَا مساوئ الْكتاب وأفحش القَوْل فيهم. فشق ذَلِك على موفق الدولة وعَلى بَقِيَّة الْكتاب وبلغوا السُّلْطَان عَنهُ تسلطه على أَعْرَاض النَّاس وسفه قَوْله. فَلَمَّا كَانَ الْغَد يَوْم الْخَمِيس عاشره: وَحضر الْقُضَاة بدار الْعدْل على الْعَادة تكلم القَاضِي الغوري مَعَ السُّلْطَان بالتركي فِي الْكتاب بقوادح وَطعن فِي إسْلَامهمْ. فَغَضب السُّلْطَان مِنْهُ واستدعى الْوَزير بعد الْخدمَة وَأنكر عَلَيْهِ مَا وَقع من الغوري وَقَالَ: لَوْلَا أَنه من بلدك وَإِلَّا كنت ضَربته بالمقارع لَكِن إكرامه لَك فاطلبه وحذره أَلا يعود لمثلهَا. فَطَلَبه الْوَزير وعتبه عتباً شَدِيدا. وَفِيه قدم الْبَرِيد من الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر الساقي نَائِب حلب بِخُرُوج زين الدّين قراجا بن دلغادر عَن الطَّاعَة وموافقته لأرتنا متملك الرّوم على الْمسير لأخذ حلب وَأَنه قد قوي بالأبلستين وَجمع جمعا كثيرا وَسَأَلَ الْأَمِير طشتمر أَن ينجد بعسكر من مصر. وَفِيه رسم السُّلْطَان بِضَرْب أقبغا عبد الْوَاحِد بالمقارع فَلم يُمكنهُ الْأَمِير قوصون من ذَلِك فَاشْتَدَّ حنقه وَأطلق لِسَانه بِحَضْرَة خاصكيته. وَفِيه شفع الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فِي ولي الدولة أبي الْفرج بن الخطير صهر النشو فأفرج عَنهُ واستسلمه الْحِجَازِي وخلع عَلَيْهِ وَجعله صَاحب ديوانه. وَفِيه عقد السُّلْطَان نِكَاحه على جاريتين من المولدات اللَّاتِي فِي بَيت السُّلْطَان وَكتب عَلَاء الدّين كَاتب السِّرّ صداقهما فَخلع عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بِعشْرَة أُلَّاف دِرْهَم. ورسم السُّلْطَان لجمال الكفاة ناظرات أَن يجهزهما بِمِائَة ألف دِينَار وَشرع فِي عمل المهم للعرس.
(وَفِي يَوْم السبت تَاسِع عشره)
ركب الْأَمِير قوصون والأمراء على الْملك الْمَنْصُور أبي بكر وخلعوه من الْملك فِي يَوْم الْأَحَد عشريه وَأخرج أَبُو بكر هُوَ وَإِخْوَته إِلَى قوص صُحْبَة الْأَمِير بهادر بن جركتمر. وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان قرب الْأَمِير يلبغا اليحياوي وشغف بِهِ شغفاً كثيرا ونادم الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي واختص بِهِ وبالأمير طاجار الدوادار وبالشهابي شاد العمائر وبالأمير قطليجا الْحَمَوِيّ وَجَمَاعَة من الخاصكية وَعَكَفَ على اللَّهْو وَشرب الْخُمُور وَسَمَاع الملاهي. فشق ذَلِك على الْأَمِير قوصون وَغَيره لِأَنَّهُ لم يعْهَد من ملك قبله شرب حمر. فحملوا الْأَمِير طقزدمر النَّائِب على محادثته فِي ذَلِك وكفه عَنهُ فزاده لومه(3/335)
إغراء وأفحش فِي التجاهر باللهو حَتَّى تحدث بِهِ كل أحد من الْأُمَرَاء والأجناد والعامة. وَصَارَ السُّلْطَان يطْلب الغلمان فِي اللَّيْل ويبعثهم لإحضار المغاني فغلب عَلَيْهِ الشَّرَاب فِي بعض لياليه فصاح من الشباك على الْأَمِير أيدغمش يَا أَمِير آخور هَات لي ابْن عطعط فَقَالَ أيدغمش: يَا خوند مَا عِنْدِي فرس بِهَذَا الِاسْم فَنقل ذَلِك السراخورية والركابية فتداولته الْأَلْسِنَة. فَطلب قوصون الْأَمِير طاجار والشهابي شاد العمائر وعنفهما وَقَالَ: سُلْطَان الْإِسْلَام يَلِيق بِهِ أَن يعْمل مقامات ويحضر إِلَيْهَا البغايا والمغاني وعرفهم أَن الْأُمَرَاء قد بَلغهُمْ هَذَا. فبلغوا السُّلْطَان كَلَام قوصون وَزَادُوا فِي القَوْل فَأخذ جُلَسَاؤُهُ من الْأُمَرَاء فِي الوقيعة فِي قوصون والتحدث فِي الْقَبْض عَلَيْهِ وعَلى الْأَمِير قطلوبغا الفخري والأمير بيبرس الأحمدي والأمير طقزدمر النَّائِب. فنم عَلَيْهِم الْأَمر يلبغا اليحياوي لقوصون وَكَانَ قد استماله بِكَثْرَة الْعَطاء فِيمَن استمال من المماليك السُّلْطَانِيَّة وعرفه أَن الِاتِّفَاق قد تقرر على الْقَبْض عَلَيْهِ فِي يَوْم الْجُمُعَة وَقت الصَّلَاة. فَانْقَطع قوصون عَن الصَّلَاة وَأظْهر أَن بِرجلِهِ وجعاً وَبعث فِي لَيْلَة السبت يعرف الْأَمِير بيبرس الأحمدي بالْخبر ويحثه على الرّكُوب مَعَه. وَطلب قوصون المماليك السُّلْطَانِيَّة وواعدهم على الرّكُوب صحبته وملأهم بِكَثْرَة مواعيده إيَّاهُم وَبعث إِلَى الْأَمِير الْحَاج آل ملك والأمير جنكلي بن البابا. فَلم يطلع الْفجْر حَتَّى ركب قوصون من القلعة من بَاب السِّرّ فِي مماليكه ومماليك السُّلْطَان وَسَار نَحْو الثغرة وَبث مماليكه فِي طلب الْأُمَرَاء. فَأَتَاهُ جركتمر بن بهادر فِي إخْوَته وبرسبغا بيبرس والأحمدي وقطلوبغا الفخري. وَأخذُوا أقبغا عبد الْوَاحِد من ترسيم طيبغا المجدي فَسَار مَعَه المجدي أَيْضا. ووقفوا بأجمعهم عِنْد قبَّة النَّصْر ودقوا طبلخاناتهم فَلم يبْق أحد من الْأُمَرَاء حَتَّى أَتَاهُم. هَذَا وَالسُّلْطَان وندماؤه فِي غَفلَة الْوَهم وغيبة سكرهم إِلَى أَن دخل عَلَيْهِم أَرْبَاب الْوَظَائِف وأيقظوهم من نومهم وعرفوهم مَا دهوا بِهِ. فَبعث السُّلْطَان طاجار إِلَى طقزدمر النَّائِب يسْأَله عَن الْخَبَر ويستدعيه فَوجدَ عِنْده جنكلي بن البابا والوزير وعدة من الْأُمَرَاء المقيمين بالقلعة. فَامْتنعَ طقزدمر من الدُّخُول إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ: أَنا مَعَ الْأُمَرَاء حَتَّى أنظر عَاقِبَة هَذَا الْأَمر وَقَالَ لطاجار: أَنْت وَغَيْرك سَبَب هَذَا حَتَّى أفسدتم السُّلْطَان بفسادكم ولعبكم قل للسُّلْطَان يجمع مماليكه ومماليك أَبِيه حوله فَعَاد طاجار وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَخرج السُّلْطَان إِلَى الإيوان وَطلب المماليك فَصَارَت كل طَائِفَة(3/336)
تخرج على أَنَّهَا تدخل إِلَيْهِ فَتخرج إِلَى بَاب الْقلَّة حَتَّى صَارُوا نَحْو الأربعمائة مَمْلُوك وصاروا يدا وَاحِدَة من بَاب الْقلَّة إِلَى بَاب القلعة فَإِذا هُوَ قد أغلق فَرَجَعُوا إِلَى النَّائِب طقزدمر بعد مَا أخرقوا بوالي بَاب القلعة وأنكروا عَلَيْهِ وعَلى من عِنْده من الْأُمَرَاء. فَقَالَ لَهُم طقزدمر: السُّلْطَان ابْن أستاذكم جَالس على الْكُرْسِيّ وَأَنْتُم تطلبون غَيره فَقَالُوا. مَا لنا أستاذ إِلَّا قوصون. ابْن أستاذنا مَشْغُول عَنَّا لَا يعرفنا ومضوا إِلَى بَاب القرافة وهدموا مِنْهُ جانباً وَخَرجُوا فَإِذا خُيُول بَعضهم واقفة. فَركب بَعضهم وَأَرْدَفَ عدَّة مِنْهُم وَمَشى باقيهم إِلَى قبَّة النَّصْر. ففرح بهم قوصون والأمراء وَأمر لَهُم بالخيول والأسلحة واوقفهم مَعَ أَصْحَابه. وَبعث الْأَمِير مَسْعُود بن خطير الْحَاجِب إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ ملكتمر الْحِجَازِي ويلبغا اليحياوي وطاجار وَغَيره ويعرفه أَنه أستاذهم وَابْن استاذهم وَأَنَّهُمْ على طَاعَته وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ هَؤُلَاءِ لما صدر عَنْهُم من الْفساد وَرمي الْفِتَن وطلع الْأَمِير مَسْعُود إِلَى القلعه فَوجدَ السُّلْطَان فِي الإيوان وَهَؤُلَاء الْأُمَرَاء حوله فِي طَائِفَة من المماليك فَقبل الأَرْض وبلغه الرسَالَة. فَقَالَ السُّلْطَان: لَا كيد وَلَا كَرَامَة لَهُم وَلَا أَسِير مماليكي ومماليك أبي لَهُم وَقد كذبُوا فِيمَا نقلوه عَنْهُم وَمهما قدرُوا عَلَيْهِ يفعلوه. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج عَنهُ أَمِير مَسْعُود حَتَّى اقْتضى رَأْيه أَن يركب بِمن مَعَه وَينزل من القلعة وَيطْلب النَّائِب طقزدمو وَمن عِنْده من الْأُمَرَاء ويدق كوساته. فَتوجه إِلَى الشباك وَأمر أيدغمش أَمِير آخور أَن يشد الْخَيل للحرب فَأعلمهُ أَنه لم يبْق بالإصطبل غُلَام وَلَا سايس وَلَا سراخوري يشد فرسا وَاحِدًا فَبعث إِلَى النَّائِب طقزدمو يستدعيه فَامْتنعَ عَلَيْهِ. ثمَّ بعث قوصون الْأَمِير بلك الجمدار والأمير برسبغا إِلَى النَّائِب طقزدمر يعلمَانِهِ بِأَنَّهُ مَتى لم يحضر الْغُرَمَاء إِلَيْهِ وَإِلَّا زحف على القلعة وَأَخذهم غصبا. فَبعث طقزدمر إِلَى السُّلْطَان يُشِير عَلَيْهِ بإلرسالهم فَعلم السُّلْطَان أَن النَّائِب وأمير أخور قد خذلاه فَقَامَ وَدخل على أمه. فَلم يجد الْغُرَمَاء بدا من الإذغان وَخَرجُوا إِلَى النَّائِب طقزدمر وهم ملكتمر الْحِجَازِي وآلطنبغا المارديني ويلبغا اليحياوي وطاجار الدوادار والشهابي شاد العمائر وبكلمش المارديني وقطليجا الْحَمَوِيّ فبعثهم طقزدمر النَّائِب إِلَى قوصور صُحْبَة بلك وبرسبغا. فَلَمَّا رأهم قوصون صَاح فِي الْحَاجِب أَن يرجلهم عَن خيولهم من بعيد فأنزلوا منزلا قبيحاً وَأخذُوا حَتَّى وقفُوا بَين يَدَيْهِ فعنفهم ووبخهم وَأمر بهم فقيدوا وعملت الزناجير فِي رقابهم والخشب فِي أَيْديهم. ثمَّ نزل قوصون والأمراء فِي خيم ضربت لَهُم عِنْد قبَّة النَّصْر واستدعى طقزدمر النَّائِب والأمير جنكلي بن البابا وأيدغمش أَمِير أخور والوزير والأمراء المقيمين(3/337)
بالقلعة. واتففوا على خلع الْملك الْمَنْصُور وإخراجه وَإِخْوَته من القلعة فتوحه برسبغا فِي جمَاعَة إِلَى القلعة وَأخرج الْمَنْصُور وأخوته وَهُوَ سَابِع سَبْعَة وَمَعَ كل مِنْهُم مَمْلُوك صَغِير وخادم وَفرس وبقجة قماش. وأركبهم برسبغا إِلَى شاطئ النّيل وأنزلهم فِي الحراقة وسافر بهم جركتمر بن بهادر إِلَى قوص وَلم يتْرك برسبغا فِي القلعة من أَوْلَاد السُّلْطَان إِلَّا كجك. وَسلم قوصون الْأُمَرَاء المقيدين إِلَى وَالِي الْقَاهِرَة فَمضى بهم إِلَى خزانَة شمايل بِالْقَاهِرَةِ وسجنهم بهَا إِلَّا يلبغا اليحياوي فَإِنَّهُ أفرج عَنهُ. وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما بالقلعة والقاهرة من تألم النَّاس على أَوْلَاد السُّلْطَان والأمراء وَكَثْرَة الْبكاء وَبَات قوصون وَمن مَعَه لَيْلَة الْأَحَد بخيامهم عِنْد قبَّة النَّصْر وركبوا بكرَة يَوْم الْأَحَد عشريه إِلَى القلعة وَاتَّفَقُوا على إِقَامَة كجك. فَكَانَت مُدَّة سلطنة الْمَنْصُور أبي بكر تِسْعَة وَخمسين يَوْمًا وَمن حِين قَلّدهُ الْخَلِيفَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَمن الِاتِّفَاق العجيب أَن الْملك النَّاصِر أخرج الْخَلِيفَة أَبَا الرّبيع سُلَيْمَان وَأَوْلَاده إِلَى قوص مرسماً عَلَيْهِم فقوصص بِمثل ذَلِك وَأخرج الله أَوْلَاده مرسماً عَلَيْهِم إِلَى قوص على يَد أقرب النَّاس إِلَيْهِ وَهُوَ قوصون مَمْلُوكه وثقته ووصيه على أَوْلَاده فليعتبر الْعَاقِل ويتجنب أَفعَال السوء. السُّلْطَان عَلَاء الدّين كجك السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف عَلَاء الدّين كجك بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون أقيم سُلْطَانا فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشرى صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَلم يكمل لَهُ من الْعُمر خمس سِنِين وَأمه أم ولد اسْمهَا أردو تترية الْجِنْس. ولقب كجك بِالْملكِ الْأَشْرَف وَعرضت نِيَابَة السلطنة على الْأَمِير أيدغمش أَمِير أخور فَامْتنعَ وَامْتنع مِنْهَا فَوَقع الِاتِّفَاق على إِقَامَة الْأَمِير قوصون فِي النِّيَابَة فَأجَاب وَشرط على الْأُمَرَاء أَن(3/338)
يُقيم على حَاله بالأشرفية من القلعة وَلَا يخرج مِنْهَا إِلَى دَار النِّيَابَة خَارج بَاب القلعة. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فاستقر من يَوْمه نَائِب سلطاننا الْيَوْم طِفْل والأكابر فِي خلف وَبينهمْ الشَّيْطَان قد نزغا فَكيف يطْمع من مسته مظْلمَة ان تبلغ السؤل وَالسُّلْطَان مابلغا وَفِي يَوْمه: أفرج عَن الْأَمِير ألطنبغا المارديني وخلع على الْأَمِير مَسْعُود بن خطير وَاسْتمرّ حاجباً على عَادَته. وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء: أخرج بالأمير طاجار والأمير قطلوبغا الْحَمَوِيّ والأمير ملكتمر الْحِجَازِي والشهابي شاد العمائر من خزانَة شمايل جملوا إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة فستجنوا بهَا وَتوجه الْأَمِير بلك الجمدار على الْبَرِيد إِلَى حلب لتحليف النَّائِب والأمراء والأجناد وَتوجه الْأَمِير بيغرا إِلَى دمشق بِسَبَب ذَلِك والأمير جركتمر بن بهادر إِلَى طرابلس وجماه لتحليف من فِيهَا وَكتب إِلَى الْأَعْمَال بإعفاء الْجند من المغارم. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشريه: ركب الْأَمِير قوصون فِي دست النِّيَابَة وترجل لَهُ الْأُمَرَاء فَكَانَ موكباً عَظِيما. وَفِيه أنْفق الْأَمِير قوصون فِي الْعَسْكَر لكل مقدم ألف من الْأُمَرَاء ألف دِينَار وَلكُل أَمِير طبلخاناة خَمْسمِائَة دِينَار وَلكُل أَمِير عشرَة مِائَتي دِينَار وَلكُل مقدم حَلقَة خمسين دِينَار وَلكُل جندي خَمْسَة عشر دِينَار. وَفِي يَوْم السبت سادسه عشرِيَّة: سمر وَالِي الدولة أَبُو الْفرج بن الخطير صهر النشو. وَسَببه أَنه لما أفرج عَنهُ كثرت الإشاعة بِأَن الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي يسْتَقرّ بِهِ فِي نظر الْخَاص وَأَنه ينْهض بِمَا ينْهض بِهِ النشو وَأَنه صَار يَخْلُو بالسلطان الْمَنْصُور أبي بكر ويحادثه فِي أُمُور الدولة وَأَنه كثر نزُول ملكتمر الْحِجَازِي وَغَيره من الْأُمَرَاء إِلَى بَيته لَيْلًا وحضوره عِنْده إِلَى مجَالِس اللَّهْو. واتهم الْملك الْمَنْصُور أبي بكر بِأَنَّهُ نزل إِلَيْهِ أَيْضا. فَنقل ذَلِك أعداؤه من الْكتاب إِلَى الْأَمِير قوصون وأغروه بِهِ إِلَى أَن كَانَ من قِيَامه على السُّلْطَان مَا كَانَ فَقبض على وَالِي الدولة وسجنه فَقَامَ الْكتاب فِي قَتله حَتَّى أجابهم قوصون إِلَى ذَلِك فَطلب ابْن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة. طوائف من الْعَامَّة وألزمهم ان يشعلوا الشموع من بعد صَلَاة الصُّبْح خَارج بَاب زويلة وَأخرج وَإِلَى الدولة من خزانَة شمايل وسمره على جمل تسميراً فَاحش بمسامير خافية وَأمر فَنُوديَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاء من يَرْمِي الْفِتَن ويتحدث فِيمَا لَا يعنيه وَيفْسد عقول الْمُلُوك. وَشهر وَالِي الدولة(3/339)
والشموع بَين يَدَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ ومصر فطافوا بِهِ الْأَزِقَّة والشوارع وَهُوَ سَاكِت يتجلد فَإِذا مر بالشهود فِي الحوانيت أَو بِجمع من الْقُضَاة صَاح: يَا جمَاعَة اشْهَدُوا لي أنني مُسلم وَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَنا أَمُوت عَلَيْهَا فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَلم يزل وَالِي الدولة على ذَلِك أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ وَقَالَ فِيهِ بعصهم. أَرَادَ للشر فتح بَاب فأغلقوه وسمروه وَكَانَت عدَّة الشموع الَّتِي أشعلت يَوْم تسميره ألفا وَخَمْسمِائة شمعة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس مستهل ربيع الأول: أنعم الْأَمِير قوصون على أحد وَعشْرين رجلا من المماليك السُّلْطَانِيَّة بإمريات مِنْهُم سِتَّة طبلخاناة والبقية عشرات. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تاسعه وَيُوَافِقهُ أول أَيَّام النسيء: وَفِي النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَفتح سد الخليج بكرَة يَوْم السبت. فنقص المَاء أَرْبَعَة أَصَابِع ثمَّ رد النَّقْص وَزَاد أصبعاً من سَبْعَة عشر ذِرَاعا فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره فسر النَّاس بذلك سُرُورًا زَائِدا. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشره: توجه الْأَمِير طوغان لإحضار أَحْمد ابْن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد من الكرك محتفظاً بِهِ لينفى إِلَى أسوان وَسبب ذَلِك وُرُود كتاب ملكتمر السرجواني نَائِب الكرك يتَضَمَّن أَن أَحْمد قد خرج عَن طوعه وَكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه فِي معاقرة الْخمر وَأَنه يخَاف على نَفسه مِنْهُ أَن يُوَافق الكركيين على قَتله وَطلب الإعفاء من نِيَابَة الكرك. وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشره: خلع على الْأَمِير طقزدمر النَّائِب وَاسْتقر فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن الْملك الْأَفْضَل ابْن الْملك الْمُؤَيد الأيوبي وأنعم على الْأَفْضَل بإمرة ألف فِي دمشق. وَفِيه أنعم الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد بإمرة فِي دمشق ورسم بِسَفَرِهِ إِلَيْهَا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشريه: خلع على جَمِيع الْأُمَرَاء وَأهل الدولة بدار الْعدْل وَقد أَجْلِس السُّلْطَان على التخت وَقبل الْأُمَرَاء الأرص بَين يَدَيْهِ ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ على قدر مَرَاتِبهمْ وقبلوا يَده. فَكَانَت عدَّة الْخلْع يَوْمئِذٍ ألف خلعة ومائتي خلعة وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه توجه جركتمر بن بهادر إِلَى أسوان للاحتفاظ على الْمَنْصُور أبي بكر وَإِخْوَته وَكَانَ قد حضر إِلَى الْقَاهِرَة هُوَ وَغَيره مِمَّن توجه لتحليف نواب الشَّام بنسخ حلفهم.(3/340)
وَفِي تَاسِع عشريه: ورد الْبَرِيد من الكرك بِكِتَاب أَحْمد ابْن السُّلْطَان يتَضَمَّن أَنه لَا يحضر حَتَّى يَأْتِيهِ الْأُمَرَاء الأكابر إِلَى الكرك ويحلفهم ثمَّ تحضر إخْوَته من بِلَاد الصَّعِيد إِلَى قلعة الكرك ويحضر هُوَ بعد ذَلِك وينتصب سُلْطَانا. فَأُجِيب من الْغَد بِأَنَّهُ لم يطْلب إِلَّا لشكوى النَّائِب مِنْهُ وجهزت لَهُ هَدِيَّة سنية وَأَنه يحضر إِلَى الْقَاهِرَة حَتَّى تعْمل المصلحه وَفِيه أفرج عَن الشريف مبارك بن عطيفة. وَفِيه أنعم على عشرَة من مماليك السُّلْطَان بإمريات وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ بألا يرْمى على أحد من التُّجَّار والباعة شَيْء من البضائع. وَفِيه قبض على بدوي مَعَه كتاب أَمِير يحيى بن ظهير بغا المغلي لِأَحْمَد ابْن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد يحذرهُ من دُخُول مصر وَأَنه مَتى دخل إِلَيْهَا قتل فَأنْكر قوصون على أَمِير يحيى ذَلِك وَفِيه ورد كتاب عبد الْمُؤمن وَالِي قوص يخبر بوصول الْمَنْصُور أبي بكر وَإِخْوَته وَأَنه ركب فِي خدمته. فَلَمَّا عَاد عبد الْمُؤمن من خدمته بعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بِخَمْسِمِائَة دِينَار فَكتب الْأَمِير قوصون جَوَابه بالاحتراس عَلَيْهِ. وَفِيه أخذت أُمُور قوصون تضطرب. وَذَلِكَ أَنه ألزم المماليك السُّلْطَانِيَّة بِالْمَشْيِ فِي خدمته كَمَا كَانُوا فِي الْأَيَّام الناصرية يَمْشُونَ فِي خدمَة السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فَلم يوافقوه على ذَلِك وَكَانَ قوصون مَعَ كَثْرَة إحسانه قد ألْقى الله بغضته فِي قُلُوب النَّاس جَمِيعًا حَتَّى صَارُوا يلهجون بهَا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ربيع الآخر: قدم من الكرك الْأَمِير شرف الدّين ملكتمر السرجواني نائبها والأمير طرغاي الطباخي وأخبرا بامتناع أَحْمد من الْحُضُور وَأَنه أَقَامَ على الْخلاف. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشره: اجْتمع الْأُمَرَاء للمشورة فِي أَمر أَحْمد ابْن السُّلْطَان حَتَّى تقرر الْأَمر على تَجْرِيد الْعَسْكَر لأَخذه. وَفِي يَوْم السبت سادس عشره: ابتدأت الْفِتْنَة بَين الْأَمِير قوصون وَبَين المماليك السُّلْطَانِيَّة. وَذَلِكَ أَنه أرسل يَسْتَدْعِي من الطواشي مقدم المماليك مَمْلُوكا من طبقَة الزمردية جميل الصُّورَة فَمَنعه خشداشيته أَن يخرج من عِنْدهم. فتلطف بهم(3/341)
الطواشي الْمُقدم حَتَّى أَخذه وَمضى بِهِ إِلَى قوصون وَبَات عِنْده. وَطلب قوصون من الْغَد نَحْو أَرْبَعَة أَو خَمْسَة مماليك وَمِنْهُم شيخو وصرغمتش وأيتمش عبد الْغَنِيّ فامتن خشداشيتهم من ذَلِك وَقَامَ مِنْهُم نَحْو الْمِائَة مَمْلُوك وَقَالُوا: نَحن مماليك السُّلْطَان مَا نَحن مماليك قوصون. وأخرجوا الطواشي الْمُقدم على أقبح صُورَة. فَمضى الطواشي الْمُقدم إِلَى قوصون وعرفه ذَلِك فَأخْرج إِلَيْهِم الْأَمِير برسبعا الْحَاجِب وشاورشي دواداره فِي عدَّة من مماليكه ليأتوه بهم فَإِذا بالمماليك السُّلْطَانِيَّة قد تعصبوا مَعَ كبارهم وَخَرجُوا على حمية إِلَى بَاب الْقلَّة يُرِيدُونَ الْأَمِير بيبرس الأحمدي فَإِذا بِهِ رَاكب. فَمَضَوْا إِلَى بَيت الْأَمِير جنكلي بن البابا فَلَقوهُ فِي طريقهم فتقدموا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ. نَحن مماليك السُّلْطَان مُشْتَرِي مَاله كَيفَ نَتْرُك ابْن أستاذنا ونخدم غَيره فينال غَرَضه منا ويفضحنا بَين النَّاس وجهروا بالْكلَام الْفَاحِش. فتلطف بهم جنكلي فَلم يرجِعوا عَمَّا هم عَلَيْهِ فحنق مِنْهُم وَقَالَ لَهُم: أَنْتُم الظَّالِمُونَ بالْأَمْس لما خَرجْتُمْ قلت لكم أَنا ونائب السُّلْطَان طقزدمر ارْجعُوا إِلَى خدمَة أستاذكم قُلْتُمْ مَا لنا أستاذ غير قوصون والآن تشكون مِنْهُ فاعتذروا ومضوا وَقد حضر الْأَمِير بيبرس الأحمدي فَاجْتمعُوا بِهِ وتوجهوا إِلَى منكلي بغا الفخري فَإِذا قد وافاه برسبغا من عِنْد قوصون فأرادوا أَن يوقعوا بِهِ فكفهم الفحري عَنهُ ومازال يتلطف بهم. هدا وقوصون قد بلغه خبرهم فَأَرَادَ أَن يخرج وَيجمع الْأُمَرَاء فمازال بِهِ من عِنْده من الْأُمَرَاء حَتَّى سكن إِلَى بكرَة النَّهَار فَكَانَت لَيْلَة مهولة بالقلعة. ثمَّ طلب قوصون جنكلي والأحمدي والفخري وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء إِلَيْهِ وأغراهم بالمماليك السُّلْطَانِيَّة. فبعثوا بأمير مَسْعُود إِلَيْهِم ليحضرهم فإدا جمعهم قد كثف وَكثر فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ فَعَاد. وَخرج إِلَيْهِم ألطنبغا المارداني وقطلوبغا الفخري وهما أكبر الناصرية - ومازالا بهم حَتَّى أخذا من وَقع عَلَيْهِ الطّلب ودخلا بهم إِلَى قوصون فقبلوا يَده فَقَامَ لَهُم وَقبل رُءُوسهم وَطيب خاطرهم وَوَعدهمْ بِكُل خير وَانْصَرفُوا وَفِي الظَّن أَنه قد حصل الصُّلْح وَذَلِكَ يَوْم السبت الْمَذْكُور. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ: وَقت الْغُرُوب تحالف المماليك السُّلْطَانِيَّة على قتل قوصون وبعثوا إِلَى من بِالْقَاهِرَةِ مِنْهُم فَبَاتَ قوصون وَقد بلغه ذَلِك على حذر. وَركب قوصون يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشره الموكب مَعَ الْأُمَرَاء تَحت القلعة وَطلب أيدغمتش أَمِير أخور وَأخذ يلوم الْأُمَرَاء على إِقَامَته فِي نِيَابَة السلطنة وهم يترضونه ويعدونه بِالْقيامِ مَعَه. فأدركه الْأَمِير بيبرس الأحمدي وأعلمه بَان المماليك السُّلْطَانِيَّة قد اتَّفقُوا على قَتله فَمضى بالموكب مَعَ الْأُمَرَاء إِلَى جِهَة قبَّة النَّصْر. فارتجت القلعة وغلقت أَبْوَابهَا(3/342)
ولبست المماليك السُّلْطَانِيَّة السِّلَاح بالقلعة وكسروا الزردخاناه. وَقد امْتَلَأت الرميلة بالعامة وصاحوا: يَا ناصرية فأجابهم المماليك من القلعة. ثمَّ رجعُوا إِلَى بَاب إصطبل قوصون وهجموا عَلَيْهِ وكسروا من كَانَ يرجمهم من أَعْلَاهُ. فَبلغ ذَلِك قوصون فَعَاد بِمن مَعَه من الْأُمَرَاء فأوقعوا بالعامة حَتَّى وصلوا إِلَى سور القلعة فَرَمَاهُمْ المماليك السُّلْطَانِيَّة بالنشاب لحماية الْعَامَّة. فَقتل أَمِير مَحْمُود صهر الْأَمِير جنكلي بن البابا بِسَهْم وَقتل مَعَه أخر. وَوصل الْأُمَرَاء إِلَى إصطبل قوصون وَقد بَدَأَ النهب فِيهِ فَقتلُوا من الْعَامَّة جمَاعَة كَبِيرَة وقبضوا على جمَاعَة. فَلم تطق المماليك السُّلْطَانِيَّة مقاومة الْأُمَرَاء وَكفوا عَن الْحَرْب وفتحوا بَاب القلعة. فطلع إِلَيْهَا الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب وَأنزل ثَمَانِيَة من أَعْيَان المماليك إِلَى قوصون وَقد وقف بِجَانِب زَاوِيَة تَقِيّ الدّين رَجَب تَحت القلعة. فوسط قوصون وَاحِدًا مِنْهُم اسْمه صربغا فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فتح خَزَائِن السِّلَاح وألبس المماليك وَأمر بِهِ قوصون فعلق على بَاب زويلة وشفع الْأُمَرَاء فِي الْبَقِيَّة فسجنوا بخزانة شمايل مقيدين. ورسم بتسمير عدَّة من الْعَامَّة فسمر مِنْهُم تِسْعَة على بَاب زويلة وَأمر بالركوب على الْعَامَّة وقبضهم فَفرُّوا حَتَّى لم يقبض مِنْهُم على حرفوش وَاحِد. ثمَّ طلع الْأَمِير قوصون إِلَى القلعة قريب الْعَصْر وَمد لَهُ وللأمراء سماط فَأَكَلُوا. وَبقيت الأطلاب وأجناد الْحلقَة تَحت القلعة إِلَى أخر النَّهَار فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَكَانَت جملَة من قتل فِيهِ من الفئتين ثَمَانِيَة وَخمسين رجلا. وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء: طلع الْأَمِير برسبغا فِي جمَاعَة إِلَى طباق المماليك بالقلعة وقبضوا على مائَة مَمْلُوك مِنْهُم وَعمِلُوا فِي الْحَدِيد وسجنوا بخزانة شمايل فَمنهمْ من قتل وَمِنْهُم من نفي من مصر. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشره: سمر تِسْعَة من الْعَوام. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء عشريه: سمر ثَلَاثَة من الطواشية على بَاب زويلة فِي عدَّة من الحرافيش. وَسبب ذَلِك أَن قوصون لما نزل من القلعة وَمضى إِلَى قبَّة النَّصْر وقابلته المماليك أخذت الطواشية فِي الصياح على نِسَائِهِ وأفحشوا فِي سبهن. فَمَاتَ أحدهم تَحت الْعقُوبَة وَأَفْرج عَن الْإِثْنَيْنِ. وَفِيه عرضت مماليك الطباق وأنعم على مِائَتي مَمْلُوك مِنْهُم بإقطاعات كَثِيرَة المتحصل وَعين جمَاعَة مِنْهُم للإمريات. وَأكْثر قوصون من الْإِحْسَان إِلَيْهِم والإنعام عَلَيْهِم. وَفِيه قدم الْبَرِيد من دمشق بكتب أَحْمد ابْن السُّلْطَان إِلَى نَائِب الشَّام وَهِي مختومة لم(3/343)
تفك فَإِذا فِيهَا أَنه كَاتب الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب وَغَيره من النواب وَأَنَّهُمْ قد اتَّفقُوا مَعَه وَأكْثر أَحْمد من الشكوى من قوصون. فَأوقف قوصون الْأُمَرَاء عَلَيْهِمَا ومازال بهم حَتَّى وافقوه على تَجْرِيد الْعَسْكَر إِلَى الكرك. وَفِيه فرقت المماليك الَّتِي كَانَت الْفِتْنَة بسببهم على خشداشيتهم فَسلم صرغتمش إِلَى الْأَمِير ألطنبغا المارداني وَسلم أيتمش لأيدغمش أَمِير آخور وَسلم شيخو إِلَى أرنبغا السِّلَاح دَاره وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشريه: قدم الْبَرِيد من الكرك بِأَن أَحْمد ابْن السُّلْطَان لم يُوَافق طرغاي الطباخي على الْقدوم مَعَه وَأَن طرغاي توجه من الكرك عَائِدًا بِغَيْر طائل. وَكَانَت الإشاعة قد قويت بِالْقَاهِرَةِ أَن أَحْمد عزم على السّير إِلَى مصر وَطلب السلطنة. فَكثر الِاضْطِرَاب وَوَقع الشُّرُوع فِي تجهيز العساكر صُحْبَة الْأَمِير قطلوبغا الفخري واستحلفه قوصون وَبعث إِلَيْهِ عشرَة أُلَّاف دِينَار وَعين مَعَه الْأَمِير قماري أَخُو بكتمر الساقي ومعهما أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا مَا بَين طبلخاناة وعشرات وَأنْفق عَلَيْهِم جَمِيعًا ثمَّ بعث قوصون إِلَى قطلوبغا الفخري بِخَمْسَة أُلَّاف دِينَار عِنْد سَفَره وَركب لوداعه صُحْبَة الْأُمَرَاء حَتَّى أَنَاخَ بالريدانية فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشريه. وَلم يكن الْأُمَرَاء راضين بسفرهم بل أَشَارَ الْأَمِير آل ملك والأمير جنكلي بن البابا على قوصون بألا يُحَرك سَاكِنا فَلم يقبل فأشارا عَلَيْهِ بِأَن يكْتب إِلَى أَحْمد يعتبه على مُكَاتبَته نَائِب الشَّام فَكتب إِلَيْهِ بذلك فَأجَاب بِأَن طرغاي الطباخي أسمعهُ كلَاما فَاحِشا وَأَغْلظ عَلَيْهِ فِي القَوْل فَحَمله على مُكَاتبَة نَائِب الشَّام وَأَن الْأَمِير قوصون وَالِده بعد وَالِده وَنَحْو هَذَا من القَوْل. وَفِيه قدم الْأَمِير أزدمر الكاشف وَمَعَهُ ابْن حرجا خولي الأغنام السُّلْطَانِيَّة تَحت الاحتفاظ فَأخذ مِنْهُ ألف ألف دِرْهَم من غير أَن يضْرب لِكَثْرَة أَمْوَاله وسعادته. وَفِيه قدم الْخَبَر من شطي بن عبِّيَّة أَمِير الْعَرَب بِأَن أَحْمد ابْن السُّلْطَان النَّاصِر قد اخْتلفت عَلَيْهِ مماليكه وَقتلُوا الشَّاب الَّذِي كَانَ يهواه وَيعرف بشهيب من أجل أَنه كَانَ يهينهم. وَفِيه أفرج عَن مماليك دمرداش الَّذين بَعثهمْ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد إِلَى صفد ورسم وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث جُمَادَى الأول: ركب الْأَمِير نَائِب قوصون نَائِب السلطنة إِلَى(3/344)
سرياقوس وصحبته الْأُمَرَاء على جاري الْعَادة. وَفِيه خلع على ضِيَاء الدّين يُوسُف. بن خطب بَيت الْآبَار وأعيد إِلَى حسبَة الْقَاهِرَة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: ظهر لقوصون مُخَالفَة الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب عَلَيْهِ وَسَببه أَنه شقّ عَلَيْهِ إِخْرَاج أَولا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى الصَّعِيد ويجهز الْعَسْكَر لقِتَال أَحْمد ابْن السُّلْطَان. وَكَانَ قد بعث إِلَيْهِ أَحْمد يشكو من قوصون وَأَنه يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ وَيطْلب مِنْهُ النُّصْرَة عَلَيْهِ. فَكتب طشتمر حمص أَخْضَر إِلَى الْأُمَرَاء وَإِلَى قوصون بالعتب فَقبض على قاصده بقطيا وسجن. وَكتب قوصون إِلَى الْأَمِير ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام بِأَن نَائِب حلب قد شرع يتَكَلَّم فِي الْفِتْنَة وَأَنه لَا يصغي إِلَى قَوْله وَحمل إِلَيْهِ أنعاماً كثيرا فَأجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَالشُّكْر وَالثنَاء. وَفِيه أَيْضا تنكرت الْأَحْوَال بَين الْأَمِير قوصون وَبَين الْأَمِير أيدغمش أَمِير أخور وكادت الْفِتْنَة تقع بَينهمَا. وَذَلِكَ أَن بعض مماليك أَمِير عَليّ بن أيدغمش وشى إِلَيْهِ بِأَن قوصون قدر مَعَ برسبغا أَنه يبيت بِالْقَاهِرَةِ ويكبس فِي عدَّة من مماليك قوصون على أيدغمش. فَأخذ أيدغمش فِي الِاحْتِرَاز وَامْتنع من طُلُوع القلعة أَيَّامًا بِحجَّة أَنه متوعك الْجِسْم. وَصَارَ إِذا سير قوصون فِي سوق الْخَيل يغلق أيدغمش بَاب الإصطبل وَيُوقف طَائِفَة الأوجاقية عَلَيْهِ. فاشتهر الْخَبَر بَين النَّاس وَكَثُرت القالة. وَبلغ قوصون تغير أيدغمش عَلَيْهِ فَحلف لِلْأُمَرَاءِ أَنه لَا يعرف لتغيره سَببا فمازالت الْأُمَرَاء بأيدغمش حَتَّى طلع إِلَى القلعه وَعرف قوصون بحضرتهم مَا بلغه فَحلف قوصون على الْمُصحف أَن هَذَا لم يَقع مِنْهُ وَلَا عِنْده مِنْهُ خبر وتصالحا. فَبعث إِلَيْهِ أيدغمش بعد نُزُوله إِلَى الإصطبل بالناقل لَهُ فَرده إِلَيْهِ وَلم يُعَاقِبهُ. وَفِيه قدم الْخَبَر من الْإسْكَنْدَريَّة بوفاة الْأَمِير بشتاك بحبسه فاتهم قوصون بقتْله. وَفِيه قدم الْخَبَر من جركتمر بن بهادر بِأَنَّهُ وصل إِلَى الْملك الْمَنْصُور أبي بكر وشكى من ترفعه وتعاظمه عَلَيْهِ فَكتب بِطَلَب عبد الْمُؤمن وَالِي قوص على الْبَرِيد فَلَمَّا قدم خلع عَلَيْهِ قوصون وَأكْثر من الإنعام عَلَيْهِ وَقرر مَعَه مَا يعمله وَأَعَادَهُ على الْبَرِيد وَكتب إِلَى جركتمر بن بهاد بمساعدته على مَا هُوَ بصدده. وَفِيه أنشأ الْأَمِير قوصون قاعة لجُلُوس مَعَ الْأُمَرَاء من دَاخل بَاب القلعة وَفتح إِلَّا شباكاً يطلّ على الدركاه وَجلسَ فِيهِ مَعَ أكَابِر الْأُمَرَاء وَمد السماط بهَا وَصَارَ يدْخل إِلَيْهِ الْأُمَرَاء والمقدمون والأجناد. وَزَاد قوصون فِي راتب سماطه كثيرا من الْحَلْوَى(3/345)
والدجاج وَنَحْو ذَلِك وَأكْثر من الْخلْع والإنعامات إِلَى الْغَايَة بِحَيْثُ لم يمْنَع أحدا من خير يصل إِلَيْهِ مِنْهُ. وَكَانَ قوصون قبل ذَلِك يجلس بِبَاب القلعة مَوضِع النِّيَابَة فِي مَوضِع صنعه وأدار عَلَيْهِ درابزين يَحْجُبهُ عَن الزحمة من كَثْرَة النَّاس. وَفِيه قدم الْخَبَر من عبد الْمُؤمن وَالِي قوص بِأَن الْمَنْصُور أَبَا بكر وجد فِي نَفسه تغيراً وَفِي جِسْمه توعكاً لزم الْفراش مِنْهُ أَيَّامًا وَمَات. ثمَّ قدم جركتمر بن بهادر وَأخْبر بذلك فاتهم قوصون بِأَنَّهُ أَمر بقتْله. وَفِيه قدم الْخَبَر من الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى الكرك بغلاء السّعر عِنْدهم وَأَن التِّبْن بلغ أَرْبَعِينَ درهما الْحمل. ثمَّ قدم الْخَبَر بنزول الْعَسْكَر مَعَ قطلوبغا الفخري على الكرك وَقد امْتنعت واستعد أَهلهَا لِلْقِتَالِ وَكَانَ الْوَقْت شتاء فَأَقَامَ الْعَسْكَر نَحْو الْعشْرين يَوْمًا فِي شدَّة من الْبرد والأمطار والثلوج وَمَوْت الدَّوَابّ وتسلط أهل الكرك عَلَيْهِم بالسب واللعن وَكَثُرت غاراتهم فِي اللَّيْل عَلَيْهِم وتقطيع قربهم ورواياهم. هَذَا وقوصون يمد قطلوبغا الفخري بالأموال ويحرضه على لُزُوم الْحصار. وَفِيه قدم الْبَرِيد من عِنْد ألطبغا الصَّالِحِي نَائِب دمشق بِأَن تمر الموساوي قدم من حلب واستمال جمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب. فَكتب قوصون بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَحمل تشريف لنائب حلب. وَكتب قوصون إِلَى ألطبغا الصَّالِحِي نَائِب دمشق أَن يطالع بالأخبار وَأعلم القاصد بِأَنَّهُ إِنَّمَا أرسل لكشف أخباره. فَلم يرض نَائِب حلب بالتشريف وعابه وَكتب إِلَى قوصون يعتبه على إِخْرَاج أَوْلَاد السُّلْطَان فَأَجَابَهُ بأعذار غير مَقْبُولَة. ثمَّ قدم الْخَبَر من شطي بن عبِّيَّة أَمِير الْعَرَب بِأَن قطلوبغا الفخري قد خامر بالكرك على قوصون وَحلف لِأَحْمَد هُوَ وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء وَأَنَّهُمْ أقاموه سُلْطَانا ولقبوه بِالْملكِ النَّاصِر وَذَلِكَ بمكاتبة طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب لَهُ يعتبه على مُوَافقَة قوصون وَقد فعل بأولاد السُّلْطَان مَا فعل ويعزم عَلَيْهِ أَن يدْخل فِي طَاعَة أَحْمد وَيقوم مَعَه بنصرته. فصادف ذَلِك من قطلوبغا الفخري ضجره من طول الْإِقَامَة على حِصَار الكرك وَشدَّة الْبرد وَكَثْرَة الغلاء فَجمع من مَعَه وَكتب إِلَى أَحْمد وخاطبه بالسلطنة وَقرر الصُّلْح مَعَه وَكتب إِلَى طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب بذلك فَأَعَادَ جَوَابه بالشكر وَالثنَاء وأعلمه بَان الْأَمِير طقزدمر نَائِب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على الْقيام بِأَمْر أَحْمد. وَكَانَ الْأَمِير ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام قد أحس بِشَيْء من هَذَا فاحترس على(3/346)
الطرقات حَتَّى ظفر بقاصد طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب على طَرِيق بعلبك وَمَعَهُ كتب من هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء إِلَى أَحْمد فَبعث ألطنبغا بِهَذِهِ الْكتب إِلَى قوصون فَقدمت ثَانِي يَوْم وُرُود كتاب شطي بمخامرة قطلوبغا الفخري فَإِذا فِيهَا لملكي الناصري فاضطرب قوصون وَجمع الْأُمَرَاء وعرفهم بِمَا وَقع وأوقفهم على الْكتب وَذكر لَهُم أَنه وصل مِنْهُ إِلَى قطلوبغا الفخري فِي هَذِه السفرة أَرْبَعِينَ ألف دِينَار سوى الْخَيل والقماش والتحف. وَفِيه رسم قوصون بإيقاع الحوطة على دور الْأُمَرَاء المجردين إِلَى الكرك فمازال بِهِ الْأُمَرَاء حَتَّى كف عَن ذَلِك. وألزم مباشريهم بِحمْل حواصلهم وَصَارَ فِي أَمر مريج. ثمَّ كتب قوصون إِلَى ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام بِخُرُوجِهِ لقِتَال طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب وَمَعَهُ نَائِب حمص ونائب صفد ونائب طرابلس وَكتب إِلَيْهِم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لَهُ وَحمل قوصون النَّفَقَات إِلَى العساكر الشامية. فَخرج الْأَمِير ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام من دمشق بالعسكر فِي جُمَادَى الْآخِرَة فَتَلقاهُ الْأَمِير أرقطاي نَائِب طرابلس على حمص وَصَارَ من جملَته وَأخْبرهُ بِكِتَاب طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب يَدعُوهُ لموافقته وَأَنه أَبى عَلَيْهِ. ثمَّ كتب الْأَمِير ألطنبغا نَائِب الشَّام إِلَى الْأَمِير طقزدمر نَائِب حماة ليحضر مَعَه فَاعْتَذر بِأَنَّهُ من وجع رجله مَا يقدر على الرّكُوب وَكَانَ قد وَافق نَائِب حلب فَبعث إِلَيْهِ نَائِب الشَّام بِقبُول عذه وحلفه على طَاعَة السُّلْطَان الْأَشْرَف كجك وَألا يُوَافق طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب وَلَا قطلوبغا الفخري وَلَا يخرج من حماة حَتَّى يعود ألطنبغا من حلب فَحلف الْأَمِير طقزدمر على ذَلِك. وعندما بلغ طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب مسير ألطنبغا نَائِب الشَّام إِلَيْهِ بالعساكر استدعى ابْن دلغادر فَقدم عَلَيْهِ حلب وَاتفقَ مَعَه على الْخُرُوج إِلَى الأبلستين وَسَار بِهِ وَمَعَهُ مَا خف من أَمْوَاله وَأخذ أَوْلَاده ومماليكه. فأدركه عَسْكَر حلب وَقد وصل إِلَيْهِم كتاب ألطنبغا نَائِب الشَّام بالاحتراس عَلَيْهِ وَمنعه من الْخُرُوج عَن حلب وقاتلوه عدَّة وُجُوه فَلم ينالوا مِنْهُ غَرضا وَقتل من الْفَرِيقَيْنِ خَمْسَة نفر وعادوا وَأَكْثَرهم جرحى. فَلَمَّا وصل طشتمر حمص أَخْضَر إِلَى الأبلستين كتب إِلَى أرتنا يَسْتَأْذِنهُ فِي العبور إِلَى الرّوم فَبعث إِلَيْهِ أرتنا بقاضيه وعدة من ألزامه وجهز لَهُ الإقامات. فَمضى طشتمر حمص أَخْضَر إِلَى قيصرية وَتوجه أرتنا لمحاربة دمرداش بعد(3/347)
أَن رتب للأمير طشتمر فِي كل يَوْم ألفي دِرْهَم. وَأما الطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام فَإِنَّهُ قدم إِلَى حلب وَكتب إِلَى قوصون يُعلمهُ بتسحب طشتمر حمص أَخْضَر وَأَنه استولى على حلب. فَقدم كِتَابه فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب صُحْبَة أطلمش الكريمي فَأخْرجهُ قوصون فِي رابعه إِلَى الشَّام لكشف الْأَخْبَار. وَفِي خامسه: خلع على جَمِيع الْأُمَرَاء المقدمين والطبلخاناة والعشرات وَلبس مَعَهم الْأَمِير قوصون تشريف النِّيَابَة وخلع على ثَلَاثمِائَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة فان يَوْمًا مشهوداً. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامنه: فرق قوصون إقطاعات الْأُمَرَاء المجردين صُحْبَة قطلوبغا الفخري وعدتهم اثْنَان وَثَلَاثُونَ أَمِيرا مِنْهُم أُمَرَاء طبلخاناة سِتَّة عشر وأمراء عشرات سته عشر وأميران مقدمان. وَأعْطى قوصون إمرياتهم لأربعة وَثَلَاثِينَ أَمِيرا عوضا عَن أُولَئِكَ. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء عاشره: نزل الْوَزير نجم الدّين وناظر الْخَاص جمال الكفاة إِلَى بيُوت الْأُمَرَاء المجردين وَأخذُوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ من أَمْوَالهم وخيولهم ففرقها قوصون على الْأُمَرَاء المستجدين. وَأخرج قوصون أَيْضا إقطاعات أَوْلَاد الْأُمَرَاء المجردين ومماليكهم وَمن يلوذ بهم من أجناد الْحلقَة لجَماعَة سواهُم. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشريه: قدم الْأَمِير الشَّيْخ عَليّ بن دلنجي القازاني أحد الْأُمَرَاء العشرات المجردين وَأخْبر بمسير قطلوبغا الفخري من الكرك إِلَى دمشق ومواقعته مَعَ ألطنبغا نَائِب الشَّام وَأَنه فر مِنْهُ فِي لَيْلَة الْوَقْعَة فَخلع عَلَيْهِ قوصون خلعة كَامِلَة بكلفتاه زركش وحياصة ذهب. وَكَانَ من خبر ذَلِك أَن ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام لما دخل حلب استولى على حواصل طشتمر حمص أَخْضَر وأسلحته وخيوله وجماله وَبَاعَ ذَلِك على أهل حلب. وَبينا هُوَ فِي ذَلِك إِذْ بلغه دُخُول قطلوبغا الفخري إِلَى دمشق بِمن مَعَه من الْعَسْكَر وَأَنه دَعَا للناصر أَحْمد وَقد وَافقه أقسنقر السلاي نَائِب غَزَّة وأصلم نَائِب صفد وَمن تَأَخّر بِدِمَشْق من الْأُمَرَاء وهم شيخو البشمقدار وتمر الساقي وَأَن آقسنقر نَائِب غَزَّة وقف لحفظ الطرقات حَتَّى لَا يصل أحد من مصر وَاسْتولى على الْقصر المعيني بلد قوصون بالغور وَأخذ مَا فِيهَا من القند وَالسكر وَغير ذَلِك وَقبض على نوابه وأمواله وغلاله وَأَن قطلوبغا الفخري أَخذ فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال من دمشق للنَّفَقَة على الْأُمَرَاء والأجناد(3/348)
وَأَن الْأَمِير طقزدمر نَائِب حماة قدم عَلَيْهِ فِي غَد دُخُوله فَركب وتلقاه وَقَوي بِهِ. واستخدم قطلوبغا الفخري جنداً كَبِيرا ونادى بِدِمَشْق: من أَرَادَ الإقطاع وَالنَّفقَة فليحضر وَأخذ مَالا كثيرا من التُّجَّار وأرباب الْأَمْوَال وأكره قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين ابْن السُّبْكِيّ حَتَّى أَخذ مَال الْأَيْتَام وَأخذ أجر الْأَمْلَاك والأوقاف لثلاث سِنِين فَلم يبْق أحد بِدِمَشْق إِلَّا وَغرم المَال على قدر حَاله. فَجمع قطلوبغا الفخري مَالا عَظِيما وأتته جماعات من الْجند والتركمان أوراقاً من ديوَان الْجَيْش بأسماء الأجناد والبطالين لإقطاعات بالحلقة فتجهزوا جَمِيعهم بِالْخَيْلِ والأسلحة. وَحلف قطلوبغا الْجَمِيع للسُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَحْمد وَعمل برسمه العصائب السُّلْطَانِيَّة والسناجق الخليفتية ورقاب الْخَيل والكنابيش والسروج والغاشية والقبة وَالطير وَسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أبهة السلطنة وجهز الكوسات وَالْبِغَال. وَكتب قطلوبغا إِلَى النَّاصِر أَحْمد يعرفهُ بذلك فَأَجَابَهُ بالشكر وَالثنَاء وَبعث إِلَيْهِ مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق بِمَال وَسَأَلَ أَن يكون نَاظر الْخَاص على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبوهُ فِي أَيَّام أَبِيه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد. فأحابه قطلوبغا إِلَى ذَلِك وَأقَام بِدِمَشْق يدبر أمره وَطلب ابْن صبح نَائِب صفد وَبَعثه لجمع العشير والجبلية من بِلَاد صفد وطرابلس وَغَيرهَا فَأَتَاهُ مِنْهُم جمع كثير. وَكتب قطلوبغا إِلَى سُلَيْمَان بن مهنا أَن يعرف بسير ألطنبغا الصَّالِحِي من حلب فَكتب الْأَمِير ألطنبغا يعرف الْأَمِير قوصون بذلك فازداد اضطرابه وَجمع الْأُمَرَاء. فاتفق الرَّأْي على تَجْرِيد أُمَرَاء إِلَى غَزَّة فَتوجه برسبغا الحاحب وأمير مَحْمُود الْحَاجِب وعلاء الدّين عَليّ بن طغريل فِي جمَاعَة وَأجِيب الْأَمِير ألطنبغا نَائِب الشَّام على يَد أطلمش الكريمي بِأَن يسير من حلب إِلَى قتال قطلوبغا الفخري بِدِمَشْق فَتوجه أطلمش على الْبَرِيد من الْبَريَّة لانْقِطَاع الدَّرْب وَوصل إِلَى حلب وَعرف ألطنبغا الْخَبَر فَسَار ألطنبغا مِنْهَا حَتَّى قدم حمص وَقد خرج قطلوبغا الفخري من دمشق إِلَى خَان لاجين وَأمْسك الْمضيق وَأقَام الجبلية والعشير على الجبلين ووقف هُوَ بالعسكر فِي وسط الطَّرِيق. وَأما ألطنبغا الصَّالِحِي فَإِنَّهُ حلف من مَعَه وَسَار من حمص حَتَّى قرب من قطلوبغا وعدة الجمعين نَحْو ثَلَاثَة عشر ألف فَارس. فتمهل ألطنبغا كَرَاهَة لسفك الدِّمَاء وراسل قطلوبغا مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام فَلم يتم بَينهمَا أَمر وَبعث قطلوبغا إِلَى جمَاعَة من أَصْحَاب ألطنبغا يعدهم ويستميلهم حَتَّى وافقوه. فَلَمَّا تعبت الرُّسُل وملت العساكر من شدَّة الْبرد بعث ألطنبغا فِي اللَّيْل عدَّة مِمَّن مَعَه على طَرِيق المرج ليهجموا على قطلوبغا من وَرَائه ويلقاهم هُوَ من أَمَامه. وَركب ألطنبغا من الْغَد فَمَال كل أَمِير مِمَّن مَعَه إِلَى جِهَة قطلوبغا وصاروا من جملَته. فَلم يبْق مَعَ(3/349)
ألطنبغا سوى أرقطاي نَائِب طرابلس وأسنبغا بن بكتمر البوبكري وأيدمر المرقبي من أُمَرَاء دمشق فانتهزوا على طرلق صفد إِلَى جِهَة غَزَّة وَالْقَوْم فِي أَثَرهم بعد أَن كَانَت بَينهم وقبة هائلة انهزم فِيهَا ألطنبغا نَائِب الشَّام وهرب فِيهَا من مَعَهم وخلصوا هم بِأَنْفسِهِم. وَعَاد قطلوبغا الفخري إِلَى دمشق منصوراً. وَكتب مَعَ الْبَرِيد إِلَى الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر يعرفهُ بنصرته ويدعوه إِلَى الْحُضُور وَأَنه فِي انْتِظَاره بِدِمَشْق وَحلف قطلوبغا الفخري من مَعَه للْملك النَّاصِر أَحْمد. وَأمر الخطاء فدعوا لَهُ على مَنَابِر دمشق وَضرب السِّكَّة باسمه وَكتب يعرفهُ بذلك. وَبعث قطلوبغا إِلَيْهِ تقدمة جليلة واستحثه على الْمسير إِلَى دمشق ليسير فِي خدمته إِلَى مصر وَبعث بخطوط الْأُمَرَاء إِلَيْهِ. وَأما ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب دمشق فَإِنَّهُ وصل إِلَى غَزَّة وَمَعَهُ أرقطاي وطرنطاي البشمقدار فِيمَن مَعَهم فَتَلقاهُمْ الْأَمِير برسبغا وَمن مَعَه. وَكتب ألطنبغا إِلَى قوصون بذلك فَقَامَتْ وَقبض على أخوة أَحْمد شاد الشرابخاناة وَعلي قرطاي أستادار قطلوبغا الفخري. ثمَّ قدم على قوصون كتاب قطلوبغا الفخري يعنفه على إِخْرَاج أَوْلَاد السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَقتل الْمَنْصُور أبي بكر وَأَن الِاتِّفَاق وَقع على سلطنة النَّاصِر أَحْمد وَيُشِير عَلَيْهِ بِأَن يخْتَار بَلَدا يُقيم بهَا حَتَّى يسْأَل لَهُ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَحْمد فِي تَقْلِيده إِيَّاهَا. فَقَامَ قوصون وَقعد وَجمع الْأُمَرَاء فَوَقع الِاتِّفَاق على تجهيز التقادم لِلْأُمَرَاءِ بغزة. فَجهز قوصون لكل من ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وأرقطاي نَائِب طرابلس ثَلَاثِينَ بدلة وَثَلَاثِينَ قبَاء مسنجبة بطرازات زركش ومائتي خف ومائتي كلفتاه وَكِسْوَة لجَمِيع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما وجهز لكل من الْأُمَرَاء الَّذين مَعَهُمَا ثَلَاث بدلات وأقبية بسنجاب وَكِسْوَة لمماليكهم وأتباعهم. وَأخذ قوصون فِي الإنعام على المماليك السُّلْطَانِيَّة وَأخرج ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار من الذَّخِيرَة لتجهيز أمره حَتَّى يخرج بالعساكر إِلَى الشَّام. وَأخرج أَرْبَعمِائَة قرقل وزرديات وخوذ وَغَيرهَا وأنعم على جمَاعَة من المماليك بإمريات وَغير إقطاعات جمَاعَة مِنْهُم بإقطاعات المجردين وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء بمسيرهم من غَزَّة وهيأ لَهُم الإقامات والخيول وَبعث إِلَيْهِم بالحلاوات والفواكه وَسَائِر مَا يَلِيق بهم. فَبينا قوصون فِي ذَلِك إِذْ ركب الْأُمَرَاء عَلَيْهِ فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء تَاسِع عشرى رَجَب وَقت عشَاء الْآخِرَة. وَسبب ذَلِك تنكر قُلُوب أكَابِر الْأُمَرَاء عَلَيْهِ لأمور بَدَت مِنْهُ مِنْهَا قتل الْأَمِير بشتاك ثمَّ قتل الْملك الْمَنْصُور أبي بكر ثمَّ وُقُوع الوحشة بَينه وَبَين(3/350)
أيدغمش فَأخذ أيدغمش فِي التَّدْبِير عَلَيْهِ. ثمَّ كَانَ من انتصار قطلوبغا الفخري على ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام مَا كَانَ فَكتب قطلربغا إِلَى أيدغمش سرا بِأَنَّهُ سلطن أَحْمد وحرضه على الرّكُوب إِلَى الكرك بِمن قدر على استمالته. وَكَانَ قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وَمن مَعَه وَفتح ذخيرة السلطنة وَأكْثر من النَّفَقَات والإنعامات حَتَّى بلغت إنعاماته على الْأُمَرَاء والخاصكية وَمَا فرقه فيهم وَفِي الْعَسْكَر سِتّمائَة ألف دِينَار. فشاع بِأَنَّهُ يُرِيد أَن يتسلطن فخاف أيدغمش وَغَيره من تحكمه فِي السلطنة وحرض الخاصكية حَتَّى وَافقه الْأَمِير ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وعدة من أكَابِر الْأُمَرَاء مِنْهُم الْحَاج آل ملك وجنكلي بن البابا أَنهم يَسِيرُونَ جَمِيعًا إِلَى الكرك عِنْد قدوم ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وخروجهم إِلَى لِقَائِه. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ: ركب قوصون فِي الْمركب تَحت القلعة على الْعَادة وَطلب الْأَمِير يلجك ابْن أُخْته وَأخرج إِلَى لِقَاء نَائِب الشَّام - وَقد ورد الْخَبَر بنزوله على بلبيس - ليَأْتِي بِهِ سَرِيعا. فَوَافى يلجك الْأَمِير ألطنبغا الصَّالِحِي وَمن مَعَه على بلبيس فَلم يُوَافقهُ على السرعة وَقصد أَن يكون حُضُوره فِي يَوْم الْخَمِيس أول شعْبَان. وَبَات ألطنبغا لَيْلَة الثُّلَاثَاء على بلبيس وَركب من الْغَد وَنزل سرياقوس فَبَلغهُ ركُوب الْأُمَرَاء على قوصون وَأَنه مَحْصُور بالقلعة فَركب بِمن مَعَه إِلَى بركَة الْحَاج وَإِذا بِطَلَب قوصون وصنجقه فِي نَحْو مائَة مَمْلُوك قد وافوه وأعلموه أَن فِي نصف اللَّيْل ركب الْأُمَرَاء وأحاطت بإصطبل قوصون وحصروه فِي القلعة فَخَرجُوا هم على حمية حَتَّى وصلوا إِلَيْهِم. وَكَانَ من خبر ذَلِك أَن قوصون لما بعث يلجك ليَأْتِيه بنائب الشَّام سَرِيعا تواعد أيدغمش وَمن وَافقه على أَن يركبُوا فِي اللَّيْل إِلَى الكوك. فَجهز كل مِنْهُم حَاله حَتَّى كَانَ ثلث اللَّيْل فتح الْأُمَرَاء بَاب السِّرّ ونزلوا إِلَى أيدغمش بالإصطبل. وَمضى كل وَاحِد إِلَى إصطبله فَلم ينتصف اللَّيْل إِلَّا وَعَامة الْأُمَرَاء بأطلابهم فِي سوق الْخَيل تَحت القلعة وهم ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداشي والحاج آل ملك والجاولي وقماري الحسني أَمِير شكار وأرنبغا وآقسنقر السلاري. وبعثوا إِلَى إصطبلات الْأُمَرَاء مثل جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وطرغاي الطاخي وقياتمر وَغَيرهم فأخرجوا أطلاب الْجَمِيع إِلَيْهِم. وَخرج لَهُم أيدغمش بماليكه وَمن عِنْده من الأوجاقية فوقفوا جَمِيعًا ينتظرون نزُول قوصون إِلَيْهِم حَتَّى يمضوا إِلَى الكرك. فَأحْسن قوصون(3/351)
بهم وَقد انتبه فَطلب الْأُمَرَاء المقيمين بالقلعة فَأَتَاهُ مِنْهُم اثْنَي عشر أَمِيرا مِنْهُم جنكلي ابْن البابا والأحمدي وطرغيه وقباتمر والوزير. ولبست ممالكيه الَّتِي كَانَت عِنْده بالقلعة وَسَأَلته أَن ينزل وَيدْرك إصطبله ويجتمع بِمن فِيهِ من مماليكه وَكَانَ يعتز بهم فَإِنَّهُم كَانُوا سَبْعمِائة مَمْلُوك وطالما كَانَ يَقُول: إيش أُبَالِي بالأمراء وَغَيرهم عِنْدِي سَبْعمِائة مَمْلُوك ألْقى بهم كل من فِي الأَرْض فَلم يوافقهم قوصون لما أَرَادَ الله بِهِ وَأقَام إِلَى أَن طلع النَّهَار. فَلَمَّا لم تظهر لَهُ حَرَكَة أَمر أيدغمش أَن يطلع الأوجاقية إِلَى الطلخاناة السُّلْطَانِيَّة وَأخرج لَهُم الكوسات. ودق أيدغمش حَرْبِيّا ونادى: معاشر أجناد الْحلقَة ومماليك السُّلْطَان وأجناد الْأُمَرَاء والبطالين يحضروا وَمن لَيْسَ لَهُ لبس وَلَا فرس وَلَا سلَاح يحضر يَأْخُذ لَهُ الْفرس وَالسِّلَاح ويركب مَعنا فَأَتَاهُ جمَاعَة كَثْرَة من أجناد الْحلقَة والمماليك مَا بَين لابس السِّلَاح رَاكب وَبَين ماش أَو على حمَار وَأَقْبَلت الْعَامَّة كالجراد الْمُنْتَشِر. فَنَادَى أيدغمش: ياكسابة عَلَيْكُم بإصطبل قوصون اتهبوه فأحاطوا بِهِ ومماليك قوصون من أَعْلَاهُ ترميهم بالنشاب حَتَّى أتلفوا مِنْهُم عدَّة كَثْرَة. فَركب مماليك يلبغا اليحياوي أعلا بَيت يلبغا حَيْثُ مدرسة السُّلْطَان حسن الْآن ورموا مماليك قوصون بالنشاب مساعدة للعوام وجرحوا مِنْهُم جمَاعَة وحالوا بَينهم وَبَين الْعَامَّة. فهجم الْعَامَّة عِنْد ذَلِك على إصطبل قوصون ونهبوا ركب خاناته وحواصله وكسروا بَاب قصره بالفئوس بعد مكايدة شَدِيدَة وطلعوا إِلَيْهِ. فَخرجت مماليك قوصون على حمية وشقوا الْقَاهِرَة وصاروا إِلَى ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام. فَبعث أيدغمش فِي أَثَرهم إِلَى ألطنبغا نَائِب الشَّام وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء بِالسَّلَامِ عَلَيْهِم وَأَن يمنعوا مماليك قوصون من الِاخْتِلَاط بهم فَإِن الْأَمِير يلبغا اليحياوي والأمير آقسنقر قادمان فِي جَمِيع كَبِير لأخذ مماليك قوصون وحاشيه. فَأمر ألطنبغا نَائِب الشَّام مماليك قوصون ويلجك وبرسبغا أَن يَكُونُوا على حِدة. وَلبس الْجَمِيع وَأخذ برسبغا وجماعته نَحْو الْجَبَل فَلَقِيَهُمْ يلبغا اليحياوي وَمن مَعَه وَكَانَ ذَلِك بَعْدَمَا أمسك قوصون فَسَار خَلفهم إِلَى قرب إطفيح وهم فِي جمع كَبِير. وَلم تمض إِلَّا سَاعَات من النَّهَار حَتَّى نهب جَمِيع مَا فِي إصطبل قوصون من الْخَيل والسروج وألات الْخَيل وَالذَّهَب وَغير ذَلِك وقوصون ينظر وَيضْرب يدا على يَد وَيَقُول يَا أُمَرَاء هَذَا تصرف جند ينهب هَذَا المَال جَمِيعه وَكَانَ أيدغمش قصد بذلك أَن يقطع قلب قوصون. فَبعث قوصون إِلَى أيدغمش بِأَن هَذَا المَال عَظِيم وَهُوَ ينفع الْمُسلمين وَالسُّلْطَان فَكيف تفعل هَذَا وتنادي بنهبه فَرد جَوَابه: نَحن قصدنا أَنْت وَلَو رَاح هَذَا المَال وأضعافه. هَذَا والقلعة مغلقة الْأَبْوَاب وَجَمَاعَة قوصون(3/352)
يرْمونَ الأشرفية بالنشاب إِلَى قرب الْعَصْر والعامة تجمع نشابهم وتعطيه لأجناد الْأُمَرَاء المحاصرين للقلعة. فَألْقى حِينَئِذٍ قوصون بيدَيْهِ واستسلم وَدخل عَلَيْهِ مماليكه وَقد خذلوا فَدخل عَلَيْهِ بلك الجمدار وملكتمر السرجواني يأمرانه أَن يُقيم فِي مَوضِع حَتَّى يحضر ابْن أستاذه من الكرك فيتصرف فِيهِ كَمَا يخْتَار فَلم يجد بدا من الإذعان وَأخذ يُوصي الْأَمِير جنكلي على أَوْلَاده. وَأخذ قوصون وَقيد ومضوا بِهِ إِلَى البرج الَّذِي كَانَ بِهِ بشتاك ورسم عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء. وَكَانَ الَّذِي تولى مسكه وحبسه أرنبغا أَمِير جندار وَأما ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وَمن مَعَه فَإِن برسبغا ويلجك والقوصونية لما فارقوه سَار هُوَ وأرقطاي نَائِب طرابلس والأمراء يُرِيدُونَ القلعة. فَأَشَارَ الْأَمِير ألطنبغا نَائِب الشَّام على الْأَمِير أرقطاي نَائِب طرابلس أَن يرد برسبغا ويلجك والقوصونيه وبقالل أيدغمش فَإِنَّهُ يَنْضَم إِلَيْهِم جَمِيع حَوَاشِي قوصون وَيَأْخُذُونَ أيدغمش وَيخرجُونَ قوصون ويقيمونه كَبِيرا لَهُم ويخرجونه إِلَى حَيْثُ يخْتَار ويقيمون سُلْطَانا أَو ينتظرون قدوم أَحْمد فَلم يرافقه أرقطاي لعفته عَن سفك الدِّمَاء. فَلَمَّا وافيا تَحت القلعة وأيدغمش وَاقِف فِي أَصْحَابه أقبل إِلَيْهَا أيدغمش وعانقهما وَأَمرهمَا أَن يطلعا إِلَى القلعة فطلعا. وَأمر أيدغمش فَقبض على ابْن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة وأحضره والأمراء واقفون تَحت القلعة فأنزله عَن فرسه وسجنه بالقلعة بَعْدَمَا كَادَت الْعَامَّة أَن تقتله لكَونه من جِهَة قوصون ثمَّ أرسل أيدغمش الْأَمِير آقسنقر والأمير قازان فِي عدَّة مماليك وَرَاء برسبغا ويلجك وَمن مَعَهُمَا. وَجلسَ أيدغمش مَعَ ثقاته من الْأُمَرَاء وَقرر مَعَهم تسفير قوصون فِي اللَّيْل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَالْقَبْض على ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وأرقطاي نَائِب طرابلس وَمن يلوذ بهما من الْغَد وتسفير الْأَمِير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا لإحضار السُّلْطَان من الكرك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخه: خرج الحصني بواب الْمدرسَة الصالحية تجاه بَاب المارستان وَقت الصُّبْح بإعلام خليفتية ومصحف على رَأسه وَهُوَ يُنَادي بِصَوْت عَال: يَا مُسلمين قَاض يفعل كَذَا بنساء الْمُسلمين من غير كِنَايَة وَيَأْكُل الْحَشِيش هَذَا لَا يحل. فَاجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَمضى بهم إِلَى بَيت قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الغوري الْحَنَفِيّ بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية وكسروا بَابه ودخلوا عَلَيْهِ. ففر مِنْهُم حسام الدّين إِلَى السَّطْح وَهُوَ فِي أَثَره وَقد نهبوا جَمِيع مَا عِنْده حَتَّى خشب الرفوف حَتَّى وجدوه فضربوه ونتفوا لحيته وَهُوَ يعدو إِلَى أَن خرج من الْبَيْت. واستجار حسام الدّين بقاضي الْقُضَاة موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ فأجاره وَأدْخلهُ دَاره وَأقَام الْحَنَابِلَة على بَابه لمنع الْعَامَّة مِنْهُ(3/353)
وَقد اقتحموا بَابه فَقَالَ لَهُم قَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ. مَعكُمْ مرسوم بنهبي قَالُوا: لَا لَكِن سلمنَا الغوري فَقيل لَهُم: هَذَا غَرِيم السُّلْطَان قد صَار عِنْدِي وَأَنْتُم قد أَخَذْتُم مَاله ومازال بهم حَتَّى انْفَضُّوا عَنهُ وشنع الْحَال فِي النهب وَكَانَ ذَلِك من سوء تَدْبِير أيدغمش فَإِنَّهُ جرأ الْعَامَّة على نهب إصطبل قوصون لغرضه فوجدوا فِيهِ مَا لَا يكَاد يُوصف. وَبلغ ذَلِك مماليك الْأُمَرَاء والأجناد فأتوهم ووقفوا لانتظار من يخرج بِشَيْء حَتَّى يأخذوه فَإِن امْتنع من دَفعه إِلَيْهِم قَتَلُوهُ. فَوحد لقوصون أَربع سراري نهب جَمِيع مالهن وحملت أكياس الذَّهَب وَالْفِضَّة وَنَثَرت بالدهليز والطرق. فَأخذ مماليك أيدغمش وَغَيره شَيْئا كثيرا من المَال وَنزلت مماليك يلبغا اليحياوي من سور إصطبله وقووا على النَّاس واقتسموا الذَّهَب وأخرجت النهابة من الْبسط الرومية والآمدية وَعمل الشريف شَيْئا كثير قطعوها قطعا وتقاسموها وكسروا أواني البلور والصيني وسلاسل الْخَيل الْفضة وَالذَّهَب وَمن السُّرُوج وَاللَّحم مَا لَا يحد وَقَطعُوا الخيم وَثيَاب الخركاوات مَا بَين حَرِير وزرنيب بحاصله. وَكَانَ بحاصل قوصون لما نهب مَا ينيف على أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار ذَهَبا فِي أكياس وَمن الحوايص والزركش والأواني مَا بَين أطباق وخونجات زِيَادَة على مائَة ألف وَمن حلي النِّسَاء مَا لَا ينْحَصر وَثَلَاثَة أكياس أطلس فِيهَا جَوَاهِر بِمَا ينيف على مائَة ألف دِينَار وَمِائَة وَثَلَاثِينَ زوج بسط مِنْهَا مَا طوله أَرْبَعُونَ ذِرَاعا وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا كلهَا من عمل الرّوم وآمد وشيراز وَسِتَّة عشر زوجا من عمل الشريف بِمصْر قيمَة كل زوج اثْنَا عشر ألف دِرْهَم وَأَرْبَعَة أَزوَاج بسط حَرِير لَا يقوم عَلَيْهَا ونوبة خام جَمِيعهَا أطلس معدني قصّ. فَانْحَطَّ لذَلِك سعر الذَّهَب حَتَّى كَانَ صرفه بِأحد عشر درهما الدِّينَار من كَثْرَة مَا صَار فِي الْأَيْدِي بَعْدَمَا كَانَ الدِّينَار بِعشْرين درهما وَلِأَن أيدغمش نَادَى فِي الْقَاهِرَة ومصر أَن من أحضر من الْعَامَّة ذَهَبا لتاجر أَو صيرفي أَو متعيش يقبض عَلَيْهِ ويحضر بِهِ إِلَيْهِ فَكَانَ من مَعَه مِنْهُم ذهب يَأْخُذ فِيهِ مَا يدْفع إِلَيْهِ من غير توقف. وَكَثُرت مرافعة النَّاس بَعضهم لبَعض فِيمَا نهب فَجمع أيدغمش شَيْئا كثيرا من ذَلِك. ثمَّ إِن الْعَامَّة بعد نهب إصطبل قوصون وقصره حَتَّى أخذُوا سقوفه ورخامه وأبوابه وتركوه خراباً مضوا إِلَى خانكاته بِبَاب القرافة فَمَنعهُمْ أَهلهَا من(3/354)
النهب فمازالوا حَتَّى فتحوها ونهبوها وسلبوا الرِّجَال وَالنِّسَاء ثِيَابهمْ فَلم يدعوا لأحد شَيْئا وَقَطعُوا بسطها وكسروا رخامها وخربوا بركتها وأخذو الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعثوا الْجدر. ثمَّ مضوا إِلَى بيُوت مماليك قوصون وهم حشد عَظِيم فنهبوها وأحرقوها وَمَا حولهَا حَتَّى بِيعَتْ الْغلَّة بِسِتَّة دَرَاهِم كل أردب من الْقَمْح وتتبعوا حَوَاشِي قوصون بِالْقَاهِرَةِ والحكورة وبولاق والزريبة وبركة قرموط وَغير ذَلِك وَبَاعُوا الْأَمْتِعَة والأواني وَالثيَاب بأبخس ثمن وصاروا إِذا رَأَوْا نهب أحد قَالُوا هُوَ قوصوني فللحال يذهب جيع مَاله. وزادت الأوباش حَتَّى خَرجُوا عَن الْحَد وَشَمل الْخَوْف كل أحد فَقَامَ الْأُمَرَاء على أيدغمش وأنكروا عَلَيْهِ تَمْكِين الْعَامَّة من النهب فَأمر بسبعة من الْأُمَرَاء فنزلوا إِلَى القاهره والعامة مجتمعة على بَاب الصالحية فِي نهب بَيت قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الغوري فقبضوا على عدَّة مِنْهُم وضربوهم بالمقارع. وأشهروهم فانكفوا عَن النهب. وَفِي لَيْلَة الْخَمِيس: أخرج الْأَمِير قوصون من سجنه بالقلعة فِي مائَة فَارس حَتَّى ركب النّيل وَمضى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَكَانَ قوصون فِي أول أمره على حَاله وَفِي أوسطه وأخره من أَعَاجِيب الزَّمَان وَمِمَّا قيل فِيهِ: فحطه فِي الْقَيْد أيدغمش من شَاهِق عَال على الطَّائِر وَلم يجد من ذلة صاحباً فَأَيْنَ عين الْملك النَّاصِر صَار عجيباً أمره كُله فِي أول الْأَمر وَفِي الآخر وَفِي يَوْم الْخَمِيس أول شعْبَان: خلع السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف كجك من السلطة وَكَانَت مدَّته خَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام لم يكن لَهُ فِيهَا أَمر وَلَا نهي وتدبير أُمُور الدولة كلهَا إِلَى قوصون. وَكَانَ إِذا حضرت الْعَلامَة أعْطى قَلما فِي يَده وَجَاء فقيهه الَّذِي يقرئ أَوْلَاد السُّلْطَان فَكيف الْعَلامَة والقلم فِي يَد السُّلْطَان. السُّلْطَان شهَاب الدّين أَحْمد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر شهَاب الدّين أَحْمد بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الصَّالِحِي أمه اسْمهَا بَيَاض كَانَت تجيد الْغناء وَكَانَت من عُتَقَاء الْأَمِير بهادر آص رَأس نوبَة. وَكَانَت شهرتها قَوِيَّة وَلها بِالنَّاسِ اجتماعات فِي مجَالِس أنسهم. فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد خَبَرهَا اخْتصَّ بهَا وحطت عِنْده فَولدت أَحْمد هَذَا على فرَاشه. ثمَّ تزَوجهَا الْأَمِير ملكتمر السرجواني وَقد مضى من أخباره جملَة. فَلَمَّا استولى الْأَمِير(3/355)
أيدغمش على الدولة بعد قوصون وَقرر مَعَ الْأُمَرَاء خلع الْأَشْرَف كجك فِي يَوْم الخميسي أول شعْبَان بعث الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري أَمِير شكار إِلَى السُّلْطَان أَحْمد بالكرك بكتب الْأُمَرَاء يخبرونه بِمَا وَقع ويستدعونه إِلَى تَحت ملكه وضربوا اسْمه على أَمْلَاك قوصون جَمِيعهَا وأعلن بِالدُّعَاءِ لَهُ فِي خانكاه سعيد السُّعَدَاء. وَفِيه جلس أيدغمش وألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداش واستدعوا بَقِيَّة الْأُمَرَاء. وَفِيه قبض على ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وعَلى أرقطاي نَائِب طرابلس وَمضى بهما أَمِير جندار إِلَى قاعة سجنهما. وَأخذُوا بعدهمَا سَبْعَة عشر أَمِير طبلخاناة وقياتمر أحد مقدمي الألوف وجركتمر بن بهادر وَغَيره حَتَّى كَانَت عدَّة من قبض عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْم خَمْسَة وَعشْرين أَمِيرا. وَفِيه قبض على مزين مغربي كَانَ حاقق جركتمر بن بهادر بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قتل الْملك الْمَنْصُور وَكتب بذلك أَيْضا إِلَى الْأَمِير قطلوبغا الفخري. وَفِيه طلب أيدغمش جال الدّين يُوسُف وَالِي الجيزة وخلع عَلَيْهِ بِولَايَة الْقَاهِرَة فَنزل إِلَى الْقَاهِرَة فَإِذا بالعامة فِي نهب بَيت بعض مماليك قوصون فَقبض على عشْرين مِنْهُم وضربهم بالمقارع وسجنهم بَعْدَمَا أشهرهم. فاجتمعت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش وصاحوا عَلَيْهِ: وليت على النَّاس قوصوني مَا يخلي منا أحد وعرفوه مَا وَقع. فَبعث أيدغمش الأوجاقية إِلَيْهِ فِي طلبه فوجدوه بالصليبة يُرِيد القلعة فصاحت عَلَيْهِ الغوغاء قوصوني يَا غيرية على الْملك النَّاصِر ورجموه من كل جِهَة. فَقَامَتْ الجبلية والأوجاقية فِي ردهم فَلم يطيقوا ذَلِك وَجَرت بَينهم الدِّمَاء. فهرب الْوَالِي إِلَى إصطبل ألطنبغا المارداني وحمته مماليك ألطنبغا من الْعَامَّة. فَطلب أيدغمش الغوغاء وَخَيرهمْ فِيمَن يَلِي فَقَالُوا نجم الدّين الَّذِي كَانَ قبل ابْن المحسني فَطَلَبه وخلع عَلَيْهِ فصاحوا: بحياة الْملك النَّاصِر عزل عَنَّا ابْن رخيمة الْمُقدم وحمامص رَفِيقه ومكنا مِنْهُمَا. فَأذن لَهُم فِي نهبهما فشرع نَحْو الْألف مِنْهُم إِلَى دَار ابْن رخيمة بِجَانِب بَيت الْأَمِير كوكاي بِالْقَاهِرَةِ فنهبوه ونهبوا بَيت رَفِيقه. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِيه: دعِي على مَنَابِر مصر والقاهرة للسُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَحْمد. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خامسه: تجمعت الغوغاء بسوق الْخَيل وَمَعَهُمْ الرَّايَات الصفر وتصايحوا بأيدغمش: زودنا لنروح إِلَى أستاذنا الْملك النَّاصِر وَنَجِيء صحبته فَكتب لَهُم مرسوماً بِالْإِقَامَةِ والراتب فِي كل منزلَة وتوجهوا مسافرين من الْغَد.(3/356)
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سابعه: وصل الْأُمَرَاء الَّذين كَانَ سجنهم قوصون من سجن الْإسْكَنْدَريَّة وهم ملكتمر الْحِجَازِي وقطليجا الْحَمَوِيّ وَأَرْبَعَة وَخَمْسُونَ نَفرا من المماليك السُّلْطَانِيَّة. وَمن الْغَرِيب أَن الحراقة الَّتِي سَارَتْ بهؤلاء الْأُمَرَاء إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة لما قبض عَلَيْهِم قوصون هِيَ الحراقة الَّتِي سَار فِيهَا قوصون إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة حَتَّى سجن بهَا. وَكَانَ قوصون لما دخل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مُقَيّدا خرج وَالِي الثغر ليتسلمه وَقد ركب بالأمراء عِنْدَمَا أفرج عَنْهُم ليتوجهوا إِلَى الْقَاهِرَة فَسَلمُوا على قوصون فَبكى وَاعْتذر لَهُم مِمَّا صدر مِنْهُ فِي حَقهم. وعندما قدمُوا إِلَى سَاحل مصر ركب الْأُمَرَاء إِلَى لقائهم وَخرجت الْعَامَّة لرؤيتهم بِحَيْثُ غلقت الْأَسْوَاق يَوْمئِذٍ حَتَّى طلعوا إِلَى القلعة. فتلقت خوند الحجازية زَوجهَا الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي بجواريها وخدامها ومغانيها تضرب بِالدُّفُوفِ والشبابات فَرحا بِهِ وجارتها أُخْتهَا امْرَأَة قوصون فِي عويل وبكاء وصياح هِيَ وجواريها وخدامها كَمَا كَانَ بالْأَمْس لما انتصر قوصون على الْحِجَازِي والأمراء فِي بَيته الأفراح والتهاني وَفِي بَيت الْحِجَازِي الْبكاء والعويل وَكَانَ فِي ذَلِك عِبْرَة للمعتبر. وَفِيه قدم كتاب الْأُمَرَاء المتوجين إِلَى الكرك وهم جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وقماري بِأَنَّهُم لما وصلوا إِلَى الكرك نزلُوا بظاهرها وَبعث كل مِنْهُ بملوكه يعرف السُّلْطَان أَحْمد بقدومه. فَبعث إِلَيْهِم السُّلْطَان رجلا من نَصَارَى الكرك فَقَالَ: يَا أُمَرَاء السُّلْطَان يَقُول لكم إِن كَانَ مَعكُمْ كتب فهاتهوا أَو مشافهة قولوها: وَفِي الْحَال عَادَتْ مماليكهم وَلم يمكنوا من الِاجْتِمَاع بالسلطان وَقيل لَهُم إِن السُّلْطَان قد سير كِتَابه إِلَى الْأُمَرَاء. فَدفعت الْكتب إِلَى النَّصْرَانِي فَمضى بهَا ثمَّ عَاد من أخر النَّهَار بِكِتَاب مختوم وَقَالَ عَن السُّلْطَان إِنَّه قَالَ: سلم على الْأُمَرَاء وعرفهم أَن يقيموا بغزة إِلَى أَن يرد لَهُم مَا يعتمدوه كَذَا. وَحضر مَمْلُوك من قبل السُّلْطَان يَأْمر الْأَمِير قماري بِالْإِقَامَةِ على نَاحيَة الصافية وَبعث إِلَيْهِ بِخَاتم. وَجَاء فِي كتاب الْأُمَرَاء المتوجهين إِلَى الكرك أَنهم وجدوا الْكتاب يتَضَمَّن إقامتهم على غَزَّة والاعتذار عَن لقائهم فَعَاد الأميران جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي إِلَى غَزَّة. فَلَمَّا وقف الْأَمِير أيدغمش على ذَلِك كتب من وقته إِلَى الْأَمِير قطلوبغا الفخري يسْأَله أَن يستحث السُّلْطَان فِي قدومه إِلَى تخت ملكه وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء بانتظار السُّلْطَان وعرفه بمكاتبته للفخري. وَأخذ أيدغمش فِي تجهيز أُمُور السلطنة وأشاع قدوم السُّلْطَان خوفًا من إِشَاعَة مَا عَامل بِهِ الْأُمَرَاء فَيفْسد عَلَيْهِ مَا دبره.(3/357)
فَلَمَّا قدم الْبَرِيد إِلَى دمشق بِكِتَاب أيدغمش وافى قدوم كتاب السُّلْطَان أَيْضا من الكرك يتَضَمَّن الْقَبْض على الْأَمِير طرنطاي البشمقدار والأمير طينال وَحمل مَالهم إِلَى الكرك. وَكَانَ الْأَمِير قطلوبغا الفخري قد ولى طينال نِيَابَة طرابلس وطرنطاي نِيَابَة حمص فَاعْتَذر فِي جَوَابه طينال فِي شغل بحركة الفرنج وَأَشَارَ بألا يُحَرك سَاكن فِي هَذَا الْوَقْت وَسَأَلَ سرعَة حُضُور السُّلْطَان ليسير بالعسكر فِي ركابه إِلَى مصر وَأكْثر الْأَمِير فطلوبغا الفخري من مصادرة النَّاس بِدِمَشْق.
(وَفِي يَوْم السبت حادي عشرَة)
كَانَ حُضُور يلجك ابْن أُخْت قوصون وبرسبغا الْحَاجِب صُحْبَة آقسنقر الناصري من الصَّعِيد. وَفِي خَامِس عشره: اسْتَقر شمس الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق فِي نظر الْخَاص. وَفِيه أخرج الْأَمِير قطلوبغا الفخري الإقطاعات بأسماء الأجناد وعزل وَولي وَكَانَ دواداره يعلم عَنهُ. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: قدم الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب من بِلَاد أرتنا إِلَى دمشق فَتَلقاهُ الْأَمِير قطلوبغا الفخري وأنزله فِي مَكَان يَلِيق بِهِ وَبعث قطلوبغا من يَوْمه بالأمير آقسنقر السلاري نَائِب غَزَّة ليتلقى الْأُمَرَاء. وَفِيه قدم كتاب السُّلْطَان من الكرك إِلَى قطلوبغا الفخري يتَضَمَّن قدوم الْأُمَرَاء من مصر وَأَنه لم يجْتَمع بهم وَأَنه فِي انْتِظَار قدوم الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر من بِلَاد أرتنا إِلَى حلب وَأَنه لَا يخرج من الكرك قبل ذَلِك. فَكتب قطلوبغا الفخري الْجَواب بقدوم طشتمر وَأَشَارَ على السُّلْطَان بِسُرْعَة الْحَرَكَة إِلَى دمشق. وَأخذ الفخري فِي تجهيز جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ السُّلْطَان وَفِي ظَنّه أَن السُّلْطَان يسير إِلَيْهِ بِدِمَشْق فيركب فِي خدمته بالعساكر إِلَى مصر فَلم يشْعر إِلَّا وَكتاب السُّلْطَان قد ورد عَلَيْهِ مَعَ بعض الكركيين يتَضَمَّن أَنه يركب من دمشق ليجتمح مَعَ السُّلْطَان على غَزَّة. فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَسَار من دمشق بعساكرها وبمن استجده من أهل الطَّاعَة حَتَّى قدم غَزَّة فِي عدد كَبِير فلتقاه جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري. وَكَانَ قدوم قَاصد السُّلْطَان من الكرك لكشف من فِي السجون من الْأُمَرَاء فَمضى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة بِسَبَب ذَلِك وَورد كِتَابه على الْأَمِير أيدغمش بالشكر على مَا فعله وَجعل لَهُ أَن يحكم حَتَّى يحضر السُّلْطَان.(3/358)
وَفِيه قبض على خَمْسَة وَثَمَانِينَ من مماليك قوصون فقيدوا وسجنوا بخزانة شمايل. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عشريه: قبض على ولد الْأَمِير جركتمر بن بهادر وعمره نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة سنة إرضاء لأم الْمَنْصُور أبي بكر. وَفِي الْخَمِيس سلخه: وصل عبد الْمُؤمن وَالِي قوص مُقَيّدا صُحْبَة شُجَاع الدّين قنغلي المتوجه إِلَى قوص وَكَانَ قد توجه لإحضاره وَكتب إِلَى الوافدية أجناد قوص وَالِي العربان بِأخذ الطرقات عَلَيْهِ. فَلَمَّا قدم قنغلي إِلَى قوص ركب لَيْلًا بالوافدية وأحاط بدار الْولَايَة فَلبس عبد الْمُؤمن سلاحه وألبس جماعته وَقَاتل قنغلي وَرِجَاله حَتَّى نجا مِنْهُم وهم فِي أَثَره يَوْمَيْنِ وليلتين يأخدون من انْقَطع من أَصْحَابه حَتَّى أمسكوه وقيدوه. وعندما وصل ابْن الْمُؤمن إِلَى الْقَاهِرَة خرجت الْعَامَّة إِلَى رُؤْيَته وقصدوا قَتله فأركب إِلَيْهِ الْأَمِير أيدغمش جمَاعَة حَتَّى حموه وَأتوا بِهِ إِلَى القلعة فَلَمَّا طلعها أَقَامَت أم الْمَنْصُور أبي بكر العزاء وَأمر بِهِ فسجن. وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة أول شهر رَمَضَان: نزلت أم الْمَنْصُور أبي بكر من القلعة وَمَعَهَا مائَة خَادِم وَمِائَة جَارِيَة لعمل العزاء: فَدخلت بَيت جركتمر بن بهادر ونهبت مَا فِيهِ وألقته إِلَى من تبعها من الْعَامَّة ففرت حرم جركتمر مِنْهَا حَتَّى نجت من الْقَتْل. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خامسه: تفاوض الأميران ملكتمر الْحِجَازِي ويلبغا اليحياوي حَتَّى خرجا إِلَى الْمُخَاصمَة وَصَارَ لكل مِنْهَا طَائِفَة ولبسوا آلَة الْحَرْب. فتجمعت الغوغاء تَحت القلعة لنهب بيُوت من ينكسر من الْفَرِيقَيْنِ فَلم يزل الْأَمِير أيدغمش بهم حَتَّى كفوا عَن الْقِتَال وَبعث إِلَى الْعَامَّة جمَاعَة من الأوجاقية فقبضوا على جمَاعَة مِنْهُم وأودعهم السجْن. وَفِي سادسه: قبض على جمَاعَة من القوصونية. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سابعه: قدم أَوْلَاد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون من قوص وعدتهم سِتَّة. فَركب الْأُمَرَاء إِلَى لقائهم وهرعت الْعَامَّة إِلَيْهِم. فَسَارُوا من الحراقة على القرافة حَتَّى حاذوا تربة جركتمر فصاحت الْعَامَّة: هَذِه تربة الَّذِي قتل أستاذنا الْملك الْمَنْصُور وهجموها وَأخذُوا مَا فِيهَا وخربوها حَتَّى صَارَت كوم تُرَاب. فَلَمَّا وصل أَوْلَاد السُّلْطَان تَحت القلعة أَتَاهُم الْأَمِير جمال الدّين يُوسُف وَالِي الجيزة الَّذِي تولى الْقَاهِرَة وَقتل ركبة رَمَضَان ابْن السُّلْطَان فرفسه بِرجلِهِ وسبه وَقَالَ: أتنسى وَنحن فِي الحراقة عِنْد توجهنا لقوص وَقد طلبنا مأكلاً من الجيزة فَقلت خذوهم وروحوا إِلَى لعنة الله مَا عندنَا شَيْء فصاحت بِهِ الْعَامَّة: لله مكنا من نهبه هَذَا(3/359)
قوصوني فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن انهبوا بَيته فتسارعوا فِي الْحَال إِلَى بَيته المجاور للجامع الظَّاهِرِيّ من الحسينية حَتَّى صَارُوا مِنْهُ إِلَى بَاب الْفتُوح. فَقَامَتْ إخْوَته وَمن يلوذ بِهِ فِي دفع الْعَامَّة بِالسِّلَاحِ وَبعث الْأَمِير أيدغمش أَيْضا بِجَمَاعَة ليردهم عَن النهب وَخرج إِلَيْهِم نجم الدّين وَالِي الْقَاهِرَة وَكَانَ أمرا مهولاً قتل فِيهِ من الْعَامَّة عشرَة رجال وجرح خلق كثير وَلم ينتهب شَيْء. وَفِي يَوْم الْأَحَد عاشره: قدم مَمْلُوك الْأَمِير قطلوبغا الفخري ومملوك الْأَمِير طقزدمر بوصول العساكر إِلَى غَزَّة فِي انْتِظَار قدوم السلالان إِلَيْهِم من الكرك وَأَن يحلف جَمِيع أُمَرَاء مصر وعساكرها على الْعَادة. فَجمعُوا بالميدان وأخرجت نُسْخَة الْيَمين المحضرة فَإِذا هِيَ تَتَضَمَّن الْحلف للسُّلْطَان ثمَّ للأمير قطلوبغا الفخري. فتوقف الْأُمَرَاء عَن الْحلف لقطلوبغا حَتَّى ابْتَدَأَ الْأَمِير أيدغمش وَحلف فَتَبِعَهُ الْجَمِيع خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وجهزت نُسْخَة الْيَمين إِلَى قطلوبغا. وَفِيه قبض على عدَّة من الْعَامَّة نهبوا بعض كنائس النَّصَارَى وصلبوا تَحت القلعة ثمَّ أطْلقُوا. وَأما الْعَسْكَر الشَّامي فَإِنَّهُ أَقَامَ بغزة وَقد جمع لَهُم نائبها آقسنقر الإقامات من بِلَاد الشوبك وَغَيرهَا حَتَّى صَار عِنْده ثَلَاثَة آلَاف غرارة من الشّعير وَأَرْبَعَة أُلَّاف رَأس من الْغنم غير ذَلِك مِمَّا يحْتَاج عَلَيْهِ. وَكتب الْأُمَرَاء إِلَى السُّلْطَان بقدومهم صُحْبَة مماليكهم مَعَ الْأَمِير قماري أَمِير شكار فَسَارُوا إِلَى الكرك وَقد قدمهَا أَيْضا الْأَمِير يحيى بن طايربغا صهر السُّلْطَان برسالة الْأَمِير أيدغمش يستحثه على الْمسير إِلَى مصر فأقاموا جَمِيعًا ثَلَاثَة أَيَّام لم يُؤذن لَهُم فِي دُخُول الْمَدِينَة. ثمَّ أَتَاهُم كَاتب نَصْرَانِيّ وبازدار يُقَال لَهُ أَبُو بكر ويوسف بن البصال وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة هم خَاصَّة السُّلْطَان من أهل الكرك فَسَلمُوا عَلَيْهِم وطلبوا مَا مَعَهم من الْكتب. فشق ذَلِك على الْأَمِير قماري وَقَالَ لَهُم: مَعنا مشافهات من الْأُمَرَاء للسُّلْطَان ولابد من الِاجْتِمَاع بِهِ. فَقَالُوا: لَا يُمكن الِاجْتِمَاع بِهِ وَقد رسم إِن كَانَ مَعكُمْ كتاب أَو مشافهة أَن تعلمونا بهَا. فَلم يَجدوا بدا من دفع الْكتب إِلَيْهِم وَأَقَامُوا إِلَى غَد. فجاءتهم كتب مختومه وَقيل للأمير يحيى. اذْهَبْ إِلَى عِنْد الْأُمَرَاء بغزة فَسَارُوا جَمِيعًا عائدين إِلَى غزه فَإِذا فِي الْكتب الثَّنَاء على الْأُمَرَاء وَأَن يتوجهوا إِلَى مصر فَإِن السُّلْطَان يقْصد مصر بمفرده ويسبقهم. فتغيرت خواطرهم وَقَالُوا وطالوا وَخرج قطلوبغا الفخري عَن الْحَد وأفرط بِهِ الْغَضَب وعزم على الْخلاف. فَركب إِلَيْهِ الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب حلب والأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي ومازالوا بِهِ حَتَّى كف عَمَّا عزم عَلَيْهِ وَوَافَقَ على الْمسير وكتبو بِمَا كَانَ من ذَلِك إِلَى الْأَمِير أيدغمش وتوجهوا جَمِيعًا من غَزَّة يُرِيدُونَ مصر.(3/360)
وَكَانَ أيدغمش قد بعث وَلَده بِالْخَيْلِ الْخَاص إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا وصل الكرك أرسل السُّلْطَان من أَخذ مِنْهُ الْخَيل ورسم بعوده إِلَى أَبِيه. وَأخرج السُّلْطَان من الكرك رجلا يعرف بِأبي بكر البزدار وَمَعَهُ رجلَانِ ليبشروا بقدومه فوصلوا إِلَى الْأَمِير أيدغمش فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه بلغوه السَّلَام من السُّلْطَان وعرفوه أَنه قد ركب الهجن وَسَار على الْبَريَّة صُحْبَة الْعَرَب وَأَنه يصابح أَو يماسي فَخلع عَلَيْهِم أيدغمش وبعثهم إِلَى الْأُمَرَاء فَأَعْطَاهُمْ كل من الْأُمَرَاء المقدمين خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم وَأَعْطَاهُمْ بَقِيَّة الْأُمَرَاء على قدر حَالهم وَخرج الْعَامَّة إِلَى لِقَاء السُّلْطَان. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشريه: قدم قَاصد السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير أيدغمش بِأَن السُّلْطَان يَأْتِي لَيْلًا من بَاب القرافة وَأمره أَن يفتح لَهُ بَاب السِّرّ حَتَّى يعبر مِنْهُ ففتحه. وَجلسَ أيدغمش وألطنبغا المارداني حَتَّى مضى جَانب من لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشريه أقبل السُّلْطَان فِي نَحْو الْعشْرَة رجال من أهل الكرك وَقد تلثم وَعَلِيهِ ثِيَاب مفرجة فتلقوه وسلموا عَلَيْهِ فَلم يقف مَعَهم وَأخذ جماعته وَدخل بهم. وَرجع الْأُمَرَاء وهم يتعجبون من أمره وَأَصْبحُوا فدقت البشائر بالقلعة وزينت الْقَاهِرَة ومصر. واستدعى السُّلْطَان الْأَمِير أيدغمش فِي بكرَة يَوْم الْجُمُعَة فَدخل إِلَيْهِ وَقبل لَهُ الأَرْض فاستدناه السُّلْطَان وَطيب خاطره وَقَالَ لَهُ: أَنا مَا كنت أتطلع إِلَى الْملك وَكنت قانعاً بذلك الْمَكَان فَلَمَّا سيرتم فِي طلبي مَا أمكنني إِلَّا أَن أحضر كَمَا رسمتم فَقَامَ أيدغمش وَقبل الأَرْض ثَانِيًا. ثمَّ كتب أيدغمش عَن السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء الشاميين يعرفهُمْ بقدومه إِلَى مصر وَأَنه فِي انتظارهم وَكتب علامته بَين الأسطر الْمَمْلُوك أَحْمد بن مُحَمَّد وَكتب إِلَيْهِم أيدغمش أَيْضا. وَخرج مَمْلُوكه بذلك على الْبَرِيد فَلَقِيَهُمْ على الورادة فَلم يعجبهم هَيْئَة عبور السُّلْطَان وَكَتَبُوا إِلَى أيدغمش بِأَن يخرج إِلَيْهِم هُوَ والأمراء إِلَى سرياقوس ليتفقوا على مَا يَفْعَلُونَهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْم عيد الْفطر منع السُّلْطَان السماط وَمنع الْأُمَرَاء من طُلُوع القلعة ورسم أَن يعْمل كل أَمِير سماطه فِي دَاره وَلم ينزل لصَلَاة الْعِيد وَأمر الطواشي عنبر المسحرتي مقدم المماليك ونائبه الطواشي الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن يجلسا على بَاب القلعة ويمنعا من يدْخل عَلَيْهِ. وخلا السُّلْطَان بِنَفسِهِ مَعَ الكركيين فَكَانَ الْحَاج عَليّ إخْوَان سلار إِذا أَتَى مَعَ الطَّعَام على عَادَته خرج إِلَيْهِ يُوسُف وَأَبُو بكر البزدار وأطعماه ششني(3/361)
وتسلما مِنْهُ السماط وعبرا بِهِ إِلَى السُّلْطَان ووقف خوان سلار وَمن مَعَه حَتَّى يخرج إِلَيْهِم الماعون. وَحدث جمال الدّين بن المغربي رَئِيس الْأَطِبَّاء أَن السُّلْطَان استدعاه وَقد عرض لَهُ وجع فِي رَأسه فَوَجَدَهُ جَالِسا وَإِلَى جَانِبه شَاب من أهل الكرك جَالس وَبَقِيَّة الكركيين قيام فوصف لَهُ مَا يُنَاسِبه وَتردد إِلَيْهِ يَوْمَيْنِ وَهُوَ على هَذِه الْهَيْئَة. وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع شَوَّال: قدم الْأَمِير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أَخْضَر وَجَمِيع أُمَرَاء الشَّام وقضاتها والوزراء ونواب القلاع فِي عَالم كَبِير حَتَّى سدوا الْأُفق وَنزل كثير مِنْهُم تَحت القلعة فِي الخيم. وَكَانَ قد خرج إِلَى لقائهم الْأَمِير أيدغمش والحاج آل ملك والجاولي وألطنبغا المارداني وَأخذ قطلوبغا الفخري يتحدث مَعَ أيدغمش فِيمَا عمله السُّلْطَان من قدومه فِي زِيّ العربان واختصاصه بالكركيين وَإِقَامَة أبي بكر البزدار حاجباً. وَأنكر أيدغمش ذَلِك على السُّلْطَان غَايَة الْإِنْكَار وَطلب من الْأُمَرَاء مُوَافَقَته على خلعه ورده إِلَى مَكَانَهُ فَلم يُمكنهُ الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر من ذَلِك وساعده الْأُمَرَاء أَيْضا ومازالوا بِهِ إِلَى أَن أعرض عَمَّا هم بِهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ عاشره: ألبس السُّلْطَان وَجلسَ على تخت الْملك وَقد حضر الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله وقضاة مصر الْأَرْبَعَة وقضاة دمشق الْأَرْبَعَة وجيع الْأُمَرَاء والمقدمين. وعهد إِلَيْهِ الْخَلِيفَة وَقبل الْأُمَرَاء الأَرْض على الْعَادة ثمَّ قَامَ العالمان على قَدَمَيْهِ فَتقدم الْأُمَرَاء وباسوا يَده وَاحِدًا بعد وَاحِد على مَرَاتِبهمْ وَجَاء الْخَلِيفَة بعدهمْ وقضاة الْقُضَاة مَا عدا الحسام حسن بن مُحَمَّد الغوري فَإِنَّهُ لما طلع مَعَ الْقُضَاة وجلسوا بِجَامِع القلعة حَتَّى يُؤذن لَهُم على الْعَادة جمع عَلَيْهِ صبي من صبيان المطبخ السلطاني جمعا كَبِيرا من الأوباش لحقد كَانَ فِي نَفسه عَلَيْهِ عِنْدَمَا تحاكم هُوَ وَزَوجته عِنْده فَإِنَّهُ أهانه وضربه وهجم هَذَا الصَّبِي على الْقُضَاة بأوباشه وَمد يَده إِلَى الغوري من بَينهم فأقامه الأوباش وحرقوا عمَامَته وَقَطعُوا ثِيَابه وهم يسحبونه ويصيحون عَلَيْهِ: يَا قوصوني ثمَّ ضربوه بالنعال ضربا مؤلماً وَقَالُوا لَهُ: يَا كَافِر يَا فَاسق فارتجت(3/362)
القلعة وَأَقْبل علم دَار حَتَّى خلصه مِنْهُم وَهُوَ يستغيث: يَا مُسلمين! كَيفَ يجْرِي هَذَا على قَاض من قُضَاة الْمُسلمين. فَأخذ المماليك جمَاعَة من تِلْكَ الأوباش وجروهم إِلَى الْأَمِير أيدغمش فضربهم وَبعث طَائِفَة من الأوجاقية فَسَارُوا بالغوري إِلَى منزله وَلم يحضر الموكب. فثارت الْعَامَّة على بَيته بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية ونهبوه وَكَانَ يَوْمًا شنيعاً. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشره: خلع على جَمِيع الْأُمَرَاء الْكِبَار وَالصغَار ومقدمي الْحلقَة وأنعم على الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر بِعشْرَة أُلَّاف دِينَار وعَلى الْأَمِير قطلوبغا الْفَخر بِمَا حضر صحبته من الشَّام وَهُوَ أَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار وَمِائَة ألف دِرْهَم فضَّة وَنزل فِي موكب عَظِيم. وَكَانَ قد قدم مَعَه من أُمَرَاء الشَّام سنجر الجمقدار وتمر الساقي وطرنطاي البشمقدار وأقبغا عبد الْوَاحِد وتمر الموساوي والجلالي وَابْن قراسنقر وأسنبغا ابْن البو بكري وبكتمر العلائي وأصلم نَائِب صفد. وَفِيه طلب السُّلْطَان الْوَزير نجم الدّين ورسم لَهُ أَن يكون يُوسُف البزدار ورفيقه مقدمي البزدارية ومقدمي الدولة وخلع السُّلْطَان عَلَيْهِمَا كلفتاه زركش وأقبية طرد وَحش بحوائص ذهب فحكما فِي الدولة وتكبرا على النَّاس وصارا فيهم بحمق زَائِد وصارا لَا يأتمران بِأَمْر الْوَزير ويمضيان مَا أحبا. وصحبهما كثير من الأشرار وعرفوهما بأرباب الْأَمْوَال فشملت مضرتهما كثيرا من النَّاس وانهمكا فِي اللَّهْو فثقل أَمرهمَا على الكافة. وَفِي عصر يَوْم السبت خَامِس عشره: خلع على الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة بديار مصر فَجَلَسَ والحجاب قيام بَين يَدَيْهِ والأمراء فِي خدمته. فَكَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَن قلع الشباك الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ قوصون وخلع الْخشب الَّذِي عمله فِي بَاب القلعة وباشر النِّيَابَة بِحرْمَة وافرة.
(وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشره)
أخرج السُّلْطَان محمل الْحَاج. وَفِيه أخرج السُّلْطَان عبد الْمُؤمن بن عبد الْوَهَّاب السلَامِي وَالِي قوص من السجْن وَسمر على بَاب المارستان المنصوري من الْقَاهِرَة بمسامير جافية شنعة وطيف بِهِ مُدَّة سِتَّة أَيَّام وَهُوَ يحادث النَّاس فِي اللَّيْل بأخباره. فمما حَدثهمْ بِهِ أَنه هُوَ الَّذِي ركب حَتَّى ضرب النشو كَمَا تقدم ذكره وَأَنه لما سَقَطت عمَامَته ظَنّهَا رَأسه. وَكَانَ إِذا قيل لَهُ اصبر يَا عبد الْمُؤمن يَقُول أسأَل الصَّبْر وينشد كثيرا. يبكى علينا وَلَا نبكي على أحد وَنحن أغْلظ أكباداً من الْإِبِل فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت ثَانِي عشريه: شنق عبد الْمُؤمن على قنطرة السد ظَاهر مَدِينَة مصر عِنْد الكيمان وَترك حَتَّى ورم وأكلته الْكلاب.(3/363)
وَكَانَ عبد الْمُؤمن من السلامية بالعراق فَبَعثه الْمجد السلَامِي إِلَى السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد مرَارًا حَتَّى عرف عِنْده. ثمَّ تنكر عبد الْمُؤمن عَليّ الْمجد السلَامِي ورافعه إِلَى السُّلْطَان حَتَّى تغير عَلَيْهِ وَكتب إِلَى أبي سعيد بإحضاره. فَأثْبت الْمجد السلَامِي محضراً على عبد الْمُؤمن بِأَنَّهُ رَافِضِي كَافِر قتال الْأَنْفس وَقدم بِهِ على السُّلْطَان وتحاقق مَعَه. فتعصب قوصون لعبد الْمُؤمن حَتَّى بطلت حجَّة الْمجد السلَامِي عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورهَا فاختص عبد الْمُؤمن بقوصون وَلبس الكلفتاه ثمَّ ولي قوصون. وَكَانَ شجاعاً فاتكاً يتجاهر بالرفض وَيَقُول إِذا حلف على شَيْء: وحياة مولَايَ عَليّ. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: أخرج بِأحد وَعشْرين أَمِيرا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة صَحبه الْأَمِير طشتمر طلليه مِنْهُم أرقطاي نَائِب طرابلس وجركتمر بن بهادر وَابْن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة وأسنبغا بن البوبكري ويلجك ابْن أُخْت قوصون وبرسبغا الْحَاجِب. فَلَمَّا وصلوا إِلَى الثغر وسجنوا بِهِ قتل قوصون وألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب الشَّام وجركتمر بن بهادر وبرسبغا الْحَاجِب. وَفِيه رسم للأجناد الَّذين استخدمهم قطلوبغا الفخري بعودهم إِلَى دمشق بطالين فَكثر تشكيهم ووقفوا للنائب فَلم تسمع لَهُم شكوى. وَفِيه أَكثر السُّلْطَان من الإنعام على أهل الكرك حَتَّى خرج عَن الْحَد وعزم على مسك بيبرس الأحمدي وَغَيره من الْأُمَرَاء فاحترزوا على أنفسهم إِلَى أَن وَقع الْكَلَام مَعَ السُّلْطَان فِي شَيْء من ذَلِك فَاجْتمع عِنْده الْأُمَرَاء وابتدأ الْحَاج آل ملك فِي طلب بلد يتَوَجَّه إِلَيْهِ وَسَأَلَ نِيَابَة حماة فَخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس عشريه وَاسْتقر فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن طقزدمر. وخلع السُّلْطَان على بيبرس الأحمدي وَاسْتقر فِي نِيَابَة صفد وعَلى أقسنقر وَاسْتقر فِي نِيَابَة غَزَّة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل ذِي الْقعدَة: سَار الْأَمِير الْحَاج آل ملك إِلَى نِيَابَة حماة. وَفِيه خلع السُّلْطَان على الْأَمِير قطلوبغا الفخري وَاسْتقر فِي نِيَابَة الشَّام وَعلي الْأَمِير أيدغمش بنيابة حلب. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء: اسْتَقر قماري أَمِير أخور عوضا عَن أيدغمش أَحْمد شاد الشرابخاناه أَمِير شكار عوضا عَن قماري وَاسْتقر أقبغا عبد الْوَاحِد فِي نِيَابَة حمص. وَفِيه رسم السُّلْطَان أَن يسْتَقرّ سنجر البشمقدار وتمر الساقي من جملَة أُمَرَاء مصر. وَفِيه أنعم السُّلْطَان على قراجا بن دلغادر وَقد قدم إِلَى مصر بإنعامات كَثِيرَة وَكتب لَهُ بالأمرية على التركمان وَتوجه إِلَى نِيَابَة الإبلستين.(3/364)
وَفِي يَوْم الْأَحَد سابعه: خرج الْأَمِير أيدغمش مُتَوَجها إِلَى نِيَابَة حلب. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشره: خرج الْأَمِير قطلوبغا الفخري مُتَوَجها إِلَى دمشق وَمَعَهُ من تَأَخّر من عَسْكَر الشَّام. وَخرج الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر النَّائِب وَمَعَهُ جَمِيع الْأُمَرَاء لوداعه وَمد لَهُ سماطاً عَظِيما. وَفِي يَوْم السبت عشريه: قبض على الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب السلطنة وَسبب ذَلِك أَنه أَكثر من مُعَارضَة السُّلْطَان بِحَيْثُ تغلب عَلَيْهِ ورد مراسيمه وَصَارَ يتعاظم وَيظْهر من الترفع على الْأُمَرَاء والأجناد مَا لَا يحْتَمل مثله وَإِذا شفع إِلَيْهِ أحد من الْأُمَرَاء رد شَفَاعَته وَلم يقبلهَا وَلَا يقف لأمير إِذا دخل إِلَيْهِ واذا أَتَتْهُ قصَّة عَلَيْهَا عَلامَة السُّلْطَان بإقطاع أَو غَيره أَخذ ذَلِك وطرد من هِيَ باسمه وأخرق بِهِ. وَقرر طشتمر مَعَ السُّلْطَان أَنه لَا يمْضِي من المراسيم السُّلْطَانِيَّة إِلَّا مَا يختاره وَتقدم إِلَى الْحَاجِب بألا يقدم أحد قصَّة إِلَى السُّلْطَان حَتَّى يكون حَاضرا وَمنع ذَلِك فَلم يتجاسر أحد أَن يقدم قصَّة للسُّلْطَان فِي غيبته وَتقدم جمَاعَة من المماليك لطلب مَا يزِيد فِي مَرَاتِبهمْ فرسم طشتمر أَن كل من خرج عَن خبزه يعود إِلَيْهِ وَلم يُمكن المماليك السُّلْطَانِيَّة من أَخذ شَيْء. وَأخذ طشتمر إقطاع الْأَمِير بيبرس الأحمدي وتقدمته لوَلَده فَكَرِهته النَّاس. وَصَارَت أَرْبَاب الدولة وَأَصْحَاب الأشغال كلهَا فِي بَابه وتقربوا إِلَيْهِ بالهدايا والتحف. وَانْفَرَدَ طشتمر بِأُمُور الدولة وَحط على الكركيين وَقصد مَنعهم من الدُّخُول على السُّلْطَان فَلم يتهيأ لَهُ ذَلِك. وَكَانَ نَاصِر الدّين الْمَعْرُوف بفأر السقوف قد توصل بالكركيين حَتَّى اسْتَقر بِفضل توصيتهم فِي وَظِيفَة إِمَام السُّلْطَان يُصَلِّي بِهِ وَصَارَ كَذَلِك نَاظر المشهد النفيسي عوضا عَن تَقِيّ الدّين عَليّ بن الْقُسْطَلَانِيّ خطيب جَامع عَمْرو وجامع القلعة. وخلع السُّلْطَان عَليّ نَاصِر الدّين بِغَيْر علم النَّائِب طشتمر فَبعث إِلَيْهِ طشتمر عدَّة نقباء وَنزع عَنهُ الخلعة وَسلمهُ إِلَى الْمُقدم إِبْرَاهِيم بن صابر وَأمر بضربه وإلزامه بِحمْل مائَة ألف دِرْهَم. فَضَربهُ ابْن صابر عُريَانا ضربا مبرحاً واستخرج مِنْهُ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم ثمَّ أفرج عَنهُ بشفاعة أيدغمش وقطلوبغا الفخري بعد مَا أشهد عَلَيْهِ أَنه لَا يطلع إِلَى القلعة. وَأخذ طشتمر قصر معِين بالغور من مباشري قوصون وأحاط بِمَا فِيهِ من القند وَالْعَسَل وَالسكر وَغير ذَلِك. فَكثر حنق السُّلْطَان مِنْهُ وتغيره عَلَيْهِ إِلَى أَن قرر مَعَ الْمُقدم عنبر السحرتي والأمير أقسنقر السلاري فِي الْقَبْض عَلَيْهِ وعَلى قطلوبغا الفخري(3/365)
وَأَن يَسْتَدْعِي مماليك بشتاك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة ويقطعهم إقطاعات بالحلقة ليصيروا من جملَة المماليك السُّلْطَانِيَّة خوفًا من حَرَكَة طشتمر النَّائِب فعارض طشتمر السُّلْطَان فيهم فرتب السُّلْطَان عدَّة مماليك بداخل الْقصر للقبض عَلَيْهِ. وَكَانَ مِمَّا جدد طشتمر فِي نيابته أَن منع الْأُمَرَاء أَن تدخل إِلَى الْقصر بمماليكها وَبسط من بَاب الْقصر بسطاً إِلَى دَاخله فَكَانَ الْأَمِير لَا يدْخل الْقصر وَقت الْخدمَة إِلَى مبفرده فَدخل هُوَ أَيْضا بمفرده وَمَعَهُ ولداه إِلَى الْقصر وَجلسَ على السماط على الْعَادة. فعندما رفع السماط قبض كشلي السِّلَاح دَار أحد المماليك وَكَانَ مَعْرُوفا بِالْقُوَّةِ على كَتفيهِ من خلف ظَهره قبضا عنيفاً وَبدر إِلَيْهِ جمَاعَة فَأخذُوا سَيْفه وقيدوه وقيدوا ولديه. وَنزل أَمِير مَسْعُود الحاحب فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة فأوقع الحوطة على بَيته وَأخذ مماليكه جَمِيعهم فسجنهم. وَخرج فِي الْحَال سَاعَة القبص على طشتمر الْأَمِير ألطنبغا المارداني والأمير أروم بغا السِّلَاح دَار ومعهما من أُمَرَاء الطبلخاناة والعشرات نَحْو من خَمْسَة عشر أَمِيرا وَمَعَهُمْ من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَغَيرهم ألف فَارس ليقبضوا على قطلوبغا الفخري نَائِب الشَّام. وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير أقسنقر الناصري نَائِب غَزَّة بالركوب مَعَهم بعسكره فَجمع من عِنْده وَمن فِي مُعَامَلَته من الجبلية. وَكَانَ قطلوبغا الفخري قد ركب من الصالحية فَبَلغهُ مسك طشتمر ومسير الْعَسْكَر إِلَيْهِ من هجان بعث بِهِ إِلَيْهِ بعض ثقاته فساق إِلَى قطيا وَأكل بهَا شَيْئا ورحل وَقد استعد حَتَّى تعدى للعريش فَإِذا أقسنقر بعسكر غَزَّة فِي انْتِظَاره على الزعقة. وَكَانَ ذَلِك وَقت الْغُرُوب فَوقف كل مِنْهُمَا تجاه أَصْحَابه حَتَّى أظلم اللَّيْل فَسَار الْفَخر بِمن مَعَه وهم سِتُّونَ فَارِسًا على الْبَريَّة. فَلَمَّا أصبح آقسنقر علم أَن الفخري فَاتَهُ فَمَال أَصْحَابه على أثقال الفخري فنهبوها وعادوا إِلَى غَزَّة. وَاسْتمرّ الفخري ليلته وَمن الْغَد حَتَّى انتصف النَّهَار وَهُوَ سائق فَلم يتَأَخَّر مَعَه إِلَّا سَبْعَة فرسَان ومبلغ أَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار وَقد وصل بيسان وَعَلَيْهَا الْأَمِير أيدغمش نَازل. فترامى عَلَيْهِ الفخري وعرفه بِمَا جرى وَأَنه قطع خَمْسَة عشر بريداً فِي مسير وَاحِد. فطيب أيدغمش خاطره وأنزله فِي خام ضرب لَهُ وَقَامَ لَهُ بِمَا يَلِيق بِهِ فَلَمَّا جنه اللَّيْل أَمر بِهِ فقيد وَهُوَ نَائِم وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان مَعَ بكا الخضري.(3/366)
وَكَانَ السُّلْطَان لما بلغه هروب قطلوبغا الفخري تنكر على الْأُمَرَاء واتهمهم بالمخامرة عَلَيْهِ وهم أَن يمسكهم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشريه فَتَأَخر عَن الْخدمَة الجاولي وَجَمَاعَة فَلَمَّا كَانَ وَقت الظّهْر بعث السُّلْطَان لكل أَمِير أَرْبَعِينَ طَائِر أوز وَسَأَلَ عَنْهُم ثمَّ بعث أخر النَّهَار إِلَيْهِم بأمرهم أَن يطلعوا من الْغَد. فَقدم بكا عَشِيَّة يَوْم الثُّلَاثَاء مستهل ذِي الْحجَّة وَمَعَهُ سيف قطلوبغا الفخري فسر السُّلْطَان بذلك وَكتب بِحمْلِهِ إِلَى الكرك. فَلَمَّا طلع الْأُمَرَاء إِلَى الْخدمَة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ترضاهم وبشرهم بمسك قطلوبغا الفخري ثمَّ أخْبرهُم أَنه مُتَوَجّه إِلَى الكرك وَأَنه يعود بعد شهر. وَكَانَ السُّلْطَان قد تجهز إِلَى الكرك فَأخْرج فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء طشتمر حمص أَخْضَر فِي محارة بقيده وَمَعَهُ جمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة موكلون بحفظه وَعين مَعَ الْمُقدم عنبر السحرتي عدَّة من المماليك. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة بَعْدَمَا ولاه نظر المشهد النفيسي عوضا عَن ابْن الْقُسْطَلَانِيّ أَن يُسَافر مَعَه إِلَى الكرك. ورسم لجمال الكفاة نَاظر الْخَاص والجيش ولعلاء الدّين على بن فضل الله كَاتب السِّرّ أَن يتوجها مَعَه إِلَى الكرك وَركب مَعَه الْأُمَرَاء من قلعة الْجَبَل يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِيه بَعْدَمَا ألبس ثَمَانِيَة من المماليك خلع الإمريات على بَاب الخزانة. وخلع السُّلْطَان على آقسنقر السلاري وَقَررهُ نَائِب الْغَيْبَة وخلع على شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ وَاسْتقر قَاضِي الْعَسْكَر وخلع عَليّ زين الدّين عمر بن كَمَال الدّين عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر البسطامي وَاسْتقر بِهِ قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة عوضا عَن حسام الدّين الغوري. فَلَمَّا قَارب السُّلْطَان قبَّة النَّصْر خَارج الْقَاهِرَة وقف حَتَّى قبل الْأُمَرَاء يَده على مَرَاتِبهمْ وَرَجَعُوا عَنهُ. فَنزل عَن فرسه وَلبس ثِيَاب العربان وَهِي كاملية مفرجة وعمامة بلثامين وساير الكركيين وَترك الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه وهم قماري والحجازي وَأَبُو بكر بن أرغون النَّائِب مَعَ المماليك السُّلْطَانِيَّة والطلب. وَتوجه السُّلْطَان على الْبَريَّة إِلَى الكرك وَلبس مَعَه إِلَّا الكركيين ومملوكين وهم فِي أَثَره فقاسوا مشقة كَبِيرَة من الْعَطش وَغَيره حَتَّى وصلوا ظَاهر الكرك وَقد سبقهمْ السُّلْطَان إِلَيْهَا(3/367)
وقدمها فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامنه فَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء بِمصْر يعرفهُمْ ذَلِك وَيسلم عَلَيْهِم فَقدم كِتَابه يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشره. وَلما دخل الْملك النَّاصِر أَحْمد إِلَى الكرك لم يُمكن أحدا من الْعَسْكَر أَن يدْخل الْمَدِينَة سوى عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ وجمال الكفاة نَاظر الْخَاص والجيش فَقَط. ورسم السُّلْطَان أَن يسير الْأَمِير الْمُقدم عنبر السحرتي بالمماليك إِلَى قَرْيَة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن يسير قماري وَعمر ابْن النَّائِب أرغون والخليفة إِلَى الْقُدس. ثمَّ رسم السُّلْطَان أَن ينْتَقل الْمُقدم بالمماليك إِلَى غَزَّة لغلاء السّعر بالخليل. وَفِي أثْنَاء ذَلِك وصل أَمِير عَليّ بن أيدغمش بالأمير قطلوبغا الفخري مُقَيّدا إِلَى غَزَّة وَبهَا الْعَسْكَر المجهز من مصر وَمضى بِهِ إِلَى الكرك. فَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِ من تسلم الفخري مِنْهُ وَأَعَادَهُ إِلَى أَبِيه وَلم يجْتَمع بِهِ فسجن قطلوبغا الفخري وطشتمر حمص أَخْضَر بقلعة الكرك بعد مَا أهين الفخري من الْعَامَّة إهانة بَالِغَة وَنكل بِهِ نكالاً فَاحِشا. وَفِيه كتب السُّلْطَان لآقسنقر نَائِب غَزَّة بإرسال حَرِيم قطلوبغا الفخري إِلَى الكرك وَكَانُوا قد سَارُوا من الْقَاهِرَة بعد مسيره بِيَوْم فجهزهن آقسنقر إِلَيْهِ فَأخذ أهل الكرك جَمِيع مَا مَعَهُنَّ حَتَّى ثيابهن وبالغوا فِي الْفُحْش والإساءة. وَفِيه كتب السُّلْطَان لآقسنقر السلاري نَائِب الْغَيْبَة بِمصْر أَن يُوقع الحوطة على مَوْجُود طشتمر حمص أَخْضَر وقطلوبغا الفخري وَيحمل ذَلِك إِلَيْهِ بالكرك. وَكَانَ السُّلْطَان إِذا رسم بِشَيْء جَاءَ كَاتب كركي لكاتب السِّرّ وعرفه عَن السُّلْطَان بِمَا يُرِيد فَيكْتب ذَلِك ويناوله لِلْكَاتِبِ فَيَأْخُذ عَلَيْهِ عَلامَة السُّلْطَان. ويبعثه حَيْثُ رسم وَأما الْعَسْكَر المتوجه من الْقَاهِرَة إِلَى غَزَّة فَإِن ابْن أيدغمش لما قدم عَلَيْهِم غَزَّة وَمَعَهُ قطلوبغا الفخري أَرَادَ الْأَمِير ألطنبغا المارداني أَن يُؤَخِّرهُ عِنْده بغزة حَتَّى يُرَاجع فِيهِ السُّلْطَان. فَلم يُوَافقهُ ابْن أيدغمش وَتوجه إِلَى الكرك فَرَحل المارداني وَبَقِيَّة الْعَسْكَر عائدين إِلَى الْقَاهِرَة فقدموها يَوْم السبت خَامِس ذِي الْحجَّة. وَفِيه أَخذ السُّلْطَان فِي تحصين الكرك وشحنها بالغلال والأقوات وَأخرج بكتمر العلائي مِنْهَا إِلَى طرابلس وَمُحَمّد أَبوهُ إِلَى صفد.
(وَفِي هده السّنة)
أخرج حسام الدّين حسن الغوري من مصر بعد عَزله من قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة فَتوجه إِلَى الْعرَاق. وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ قد توحش مَا بَينه وَبَين الْقُضَاة(3/368)
الثَّلَاثَة لقبح أَفعاله. وَكَانَ إِذا جلس مَعَ السُّلْطَان احتوى عَلَيْهِ وخاطبه بِاللِّسَانِ التركي ونكب على الْقُضَاة. وَكَانَ يتجرأ على النَّاس وَيَضَع مِنْهُم وَلَا يزَال ينصر الْمَرْأَة على زَوجهَا إِذا شكته إِلَيْهِ حَتَّى يخرج فِي ذَلِك عَن الْحَد. فادعت امْرَأَة عِنْده على زَوجهَا بِمَا اسْتحق من صَدَاقهَا وكسوتها وأظهرت صَدَاقهَا عَلَيْهِ فَإِذا فِيهِ أَن المنجم فِي كل سنة دِينَار. فاستدناها مِنْهُ وأمرها فكشف عَن وَجههَا وأعجبته وَقَالَ لأَبِيهَا وَكَانَ قد حضر مَعهَا: يَا مدمغ {مثل هَذِه تزوحها بِدِينَار كل سنة وَالله يَا مدمغ يُسَاوِي مبيتها كل لَيْلَة مائَة دِرْهَم} والتفت القَاضِي إِلَى زَوجهَا: وَقَالَ. يَا تَيْس {تستغلي هَذِه بِهَذَا الْقدر وَالله أَنْت أدمغ من أَبِيهَا هَذِه يُسَاوِي مبيتها كل لَيْلَة مائَة دِرْهَم. وَحكى القَاضِي الغوري عَن نَفسه فِي مجْلِس الْأَمِير قوصون بِحَضْرَة الْأُمَرَاء أَنه لما كَانَ محتسباً بِبَغْدَاد وقف على حَانُوت حلواني قد حل صَاحبه تَمرا وقصره حَتَّى أَبيض فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالَ هَذِه قسب وقصرته بالبيض فَقَالَ لَهُ: وَيلك} مَجْنُون أَنْت أَنا عِنْدِي جَارِيَة سَوْدَاء لي عشر سِنِين أقصرها بالبيض وَمَا ابْيَضَّتْ. وَادعت امْرَأَة على زَوجهَا عِنْده بِحَق وَجب عَلَيْهِ فَكتب بحبسه فَقَالَ لَهُ الزَّوْج: وَالْمَرْأَة أَيْضا تكون برواق البغدادية حَتَّى أحصل لَهَا حَقّهَا فَقَالَ لَهُ الغوري وَيلك! أَنْت مَجْنُون أَنا أكون أَحَق من البغدادية بهذي وَتَكون عِنْدِي أحفظها وَأَشَارَ لنقيبه فَأخذ الْمَرْأَة إِلَى طبقته وأقامت عِنْده مُدَّة حَتَّى أصلح أمرهَا مَعَ زَوجهَا. وَكَانَ القَاضِي الغوري إِذا تداعى عِنْده اثْنَان يَأْمر موقعه فَيكْتب مَا يَقُول أَحدهمَا فِي غيبَة الآخر فَإِذا انْتهى كَلَامه أخرجه وأحضر خَصمه فَيكْتب أَيْضا مَا يَقُول. وَكَذَلِكَ إِذا شهد عِنْده جمَاعَة فرق بَينهم وَكتب مَا يَقُول كل وَاحِد على انْفِرَاد فَكَانَت المحاكمة لَا تَنْتَهِي عِنْده إِلَّا بعد مُدَّة. وَكَانَ من الغي على جَانب كَبِير. ودعى مرّة إِلَى عقد نِكَاح أَوْلَاد الْأُمَرَاء هُوَ والقضاة الثَّلَاثَة فَلَمَّا دخل مَعَهم وَقد فرش الْبَيْت بالحرير والزركش تجنب الْقُضَاة الْجُلُوس على ذَلِك وتنجوا عَنهُ. فَجَلَسَ هُوَ على مقْعد(3/369)
حَرِير مزركش وَقَالَ: يَا جمَاعَة الْجند أتبصروا كَذَا فعل هَؤُلَاءِ يدعوا كَذَا الْجُلُوس على هَذَا الْحَرِير وَأقسم با لله لَو قدرُوا عَلَيْهِ باعوه فِي الْأَسْوَاق وأكلوا ثمنه فَضَحِك من فِي الْمجْلس وَنزل بالقضاة من الخجل مَا لَا يعبر عَنهُ وَتقدم إِلَيْهِ مرّة مديون وضامنه فِي الدّين ضَمَان إِحْضَار فَادّعى عَلَيْهِ غَرِيمه فاعترف بِمَا عَلَيْهِ وَأقر الضَّامِن لَهُ بضمانه. وَكَانَ الْمَدْيُون رث الْهَيْئَة زري الْحَال فصاح القَاضِي: أخرجُوا هَذَا المعثر من قدامي وَنظر إِلَى ضامنه وَقَالَ. أعْط هَذَا مَاله. فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا هَذَا غَرِيمه أحضرته إِلَيْهِ فَقَالَ: هاتوا الجحش - يَعْنِي الفلقة - واقتلوا هدا حَتَّى يُعْطي المَال وَأَنت تلبس المسنجب والفرجيات واللباس الرفيع حَتَّى أحْوج هَذَا أَن يُعْطي مَاله لمعثر فَلم يجد الضَّامِن بدا من الْتِزَامه بِالْمَالِ خوفًا من الإخراق. وَرَأى القَاضِي الغوري مرّة رجلا بِيَدِهِ فروجين قد مسك أرجلهما بِيَدِهِ وَصَارَت رأسهما إِلَى أَسْفَل فَأمر بِهِ أَن يصلب فمازال بِهِ النَّاس حَتَّى ضربه ضربا مؤلماً وَتَركه. وألزم القَاضِي الغوري الشُّهُود أَن يكون فِي كل مسطور شَهَادَة أَرْبَعَة وَأَن يكتبوا سكن الْمَدْيُون ومجونه وجنونه كثير لَهُ فِيهِ نَوَادِر مستقبحة وقبائح شنيعة. فَلَمَّا رسم بعزله أَثْبَتَت عَلَيْهِ محَاضِر توجب إِرَاقَة دَمه فَقَامَ بعض الْأُمَرَاء مَعَه ومازال بِبَعْض قُضَاة الشَّافِعِيَّة حَتَّى حكم بحقن دَمه وتسفيره من مصر. وَفِي هده السّنة: اتّفقت وَاقعَة غَرِيبَة وَهِي أَن رجلا بواردياً يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن خلف - بِخَط السيوفيين من الْقَاهِرَة - قبض عَلَيْهِ فِي يَوْم السبت سادس عشر رَمَضَان وأحضر إِلَى الْمُحْتَسب فَوجدَ بخزنه من فراخ الْحمام والزرازير المملوحة عدَّة أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ ألف وَمِائَة وسته وَتِسْعين من دلك فراخ حمام عدَّة ألف وَمِائَة وَسِتَّة وَتِسْعين فرخاً وزرازير عدَّة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألف زرزور وجميعها قد نتنت وتغيرات ألوانها. فأدب وَشهر وأتلفت كلهَا. وفيهَا قدم الْأَمِير بيبرس الأحمدي نَائِب صفد بِمن مَعَه إِلَى دمشق وَلَيْسَ بهَا نَائِب. فجَاء مرسوم السُّلْطَان من الكرك بِمَكَّة فَقبض عَلَيْهِ أمراؤها وأنزلوه بقصر تنكز. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان(3/370)
جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن أيبك الصَّفَدِي أَخُو الصّلاح الصَّفَدِي فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة بِدِمَشْق. وَكَانَ يتقن عدَّة صنائع وَسمع بِالْقَاهِرَةِ وَالشَّام وَشد أطرافاً من الْحساب والفرائض وَغير ذَلِك. وَمَات السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين أَبُو بكر ابْن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ابْن الْملك الْمَنْصُور قلاوون الألفي الصَّالِحِي مقتولاً بقوص وَحمل رَأسه إِلَى قوصون. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطنبغا الصَّالِحِي نَائِب دمشق وَهُوَ أحد المماليك المنصورية قلاوون وربي عِنْد السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَتوجه مَعَه إِلَى الكرك. فَلَمَّا عَاد النَّاصِر إِلَى السلطنة أنعم عَلَيْهِ بإمرة وَعَمله جاشنكيره ثمَّ ولاه حاجباً وَنَقله من الحجوبية إِلَى نِيَابَة حلب بعد موت أرغون النَّائِب فَسَار سيرة مشكورة. ثمَّ عَزله السُّلْطَان النَّاصِر فِي سَبِيل رضى الْأَمِير تنكز وأقدمه إِلَى مصر ثمَّ ولاه غَزَّة. ثمَّ ولاه قوصون نِيَابَة الشَّام وَآل أمره إِلَى أَن مَاتَ مسجوناً بالإسكندرية. وَمَات القان أزبك بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خَان بن جنكز خَان ملك الططر بالمملكة الشمالية بَعْدَمَا حكم بهَا مُدَّة ثَمَان وَعشْرين سنة وَقَامَ بعده ابْنه جاني بك خَان. وَكَانَ أزبك قد أسلم وَحسن إِسْلَامه. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بحلب برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن الْفَخر خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي. وَمَات الْأَمِير بشتاك الناصري مقتولاً بالإسكندرية فِي ربيع الآخر. وَكَانَ إقطاعه سبع عشرَة إمرة طبلخاناة تعْمل مِائَتي ألف دِينَار كل سنة. وأنعم عَلَيْهِ النَّاصِر مُحَمَّد فِي يَوْم بِأَلف ألف دِرْهَم وَكَانَ راتب سماطه كل يَوْم خمسين رَأس غنم وفرساً لابد من ذَلِك وَكَانَ كثير التيه لَا يحدث مباشريه إِلَّا بترجمان وَيعرف بالعربي وَلَا يتَكَلَّم بِهِ. وَمَات الْأَمِير طاجار الدوادار قتلا. وَمَات الْأَمِير جركتمر بن بهادر رَأس نوبَة قتلا. وَمَات أَمِير عَليّ ابْن الْأَمِير سلار يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قوصون مقتولاً بسجن الْإسْكَنْدَريَّة. رقاه السُّلْطَان النَّاصِر(3/371)
مُحَمَّد حَتَّى صَار أكبر الْأُمَرَاء يركب فِي ثَلَاثمِائَة فَارس صفّين قُدَّام كل صف رجل يضْرب بالقبز كَمَا يركب مُلُوك الْمغل وَكَانَ يفرق كل سنة ثَلَاثِينَ حياصة ذهب وَمِائَة قبَاء بسنجاب وَيفرق فِي وَتُوفِّي خطيب الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق بدر الدّين مُحَمَّد ابْن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي. وَمَات وَكيل بَيت المَال بِدِمَشْق نجم الدّين مُحَمَّد بن عمر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْمُنعم بن أبي الطّيب الدِّمَشْقِي. وَتُوفِّي الْملك الْأَفْضَل مُحَمَّد بن الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل بن الأفصل عَليّ ابْن المظفر مَحْمُود ابْن الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدّين أَيُّوب بن شادي بن مَرْوَان صَاحب حماة وَكَانَ بَاشَرَهَا عشر سِنِين ثمَّ نقل إِلَى إمرة مائَة بِدِمَشْق فَمَاتَ بهَا فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء حادي عشر ربيع الآخر عَن ثَلَاثِينَ سنة. وَمَات الْأَمِير مُوسَى بن مهنا بن عِيسَى بن مهنا بن مَانع بن حَدِيثَة بن عصية بن فضل ابْن ربيعَة أَمِير آل فضل بتدمر. وَمَات الْأَمِير بيبرس السِّلَاح دَار الناصري نَائِب الفتوحات بأياس. وَمَات شرف الدّين ابْن الْملك المغيث صَاحب الكرك بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات عز الدّين أيبك يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع الْمحرم. وَمَات الْحَافِظ جمال الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الزكي أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف وَمَات الْأَمِير عز الدّين الكبكي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر الْمحرم. وَمَات الْأَمِير تمر الساقي يَوْم الْأَحَد ثامن عشرى ذِي الْعقْدَة. وَتُوفِّي تَاج الدّين بن الفكهاني الْمَالِكِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع ذِي الْحجَّة. وَمَات مسمراً وَالِي الدولة أَبُو الْفتُوح بن الخطير وَكَانَ قد تزوج وَهُوَ نَصْرَانِيّ بابنة(3/372)
شرف الدّين عبد الْوَهَّاب النشو نَاظر الْخَاص قبل اتِّصَاله بالسلطان النَّاصِر مُحَمَّد فَلَمَّا تولى النشو نظر الْخَاص عظم وَالِي الدولة وَتقدم على أخوة النشو وباشر عِنْد عدَّة من الْأُمَرَاء فَلَمَّا أمسك النشو أمسك مَعَه وصودر هُوَ وَأَخُوهُ الشَّيْخ الأكرم ومازالا فِي الْحَبْس حَتَّى أفرج عَنْهُمَا فِي مرض السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَفِي جملَة من أفرج عَنهُ. وخدم أَبُو الْفتُوح عِنْد ملكتمر الْحِجَازِي إِلَى أَن نكب وَسمر فِي يَوْم السبت سادس عشرى صفر. وَكَانَ جميل الْوَجْه حسن الْخلق يَذُوق الْأَدَب ويحفظ الْأَشْعَار والوقائع وَيعرف الأحاجي والتصحيف. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ الْحلَبِي. وَكَانَ ضَامِن حلب وَقدم الْقَاهِرَة غير مرّة وَرَافِع أَهلهَا إِلَى أَن سلمهم السُّلْطَان لَهُ فعاقبهم وَأخذ أَمْوَالهم. ثمَّ ولي شدّ الدَّوَاوِين بحلب فَكثر شاكوه فتسلمه الأكز مشد الْجِهَات بديار مصر ثمَّ نقل إِلَى شدّ الدَّوَاوِين بِالْقَاهِرَةِ وعزل وَأخرج بعد محنة إِلَى حلب شاد الدَّوَاوِين. ثمَّ ضرب بالمقارع حَتَّى مَاتَ قَالَ ابْن الوردي: نثر الْجنُوب بل الْقُلُوب بِسَوْطِهِ فَمَتَى أشاهد لؤلؤاً منثورا(3/373)
فارغة(3/374)
(سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
أهلت وَالنَّاس فِي أَمر مريج لغيبة السُّلْطَان بالكرك وَعند الْأُمَرَاء تشوش كَبِير لما بَلغهُمْ من مصاب قطلوبغا الفخري. وَصَارَ الْأَمِير أقسنقر نَائِب الْغَيْبَة فِي تخوف فَإِنَّهُ بلغه أَن جمَاعَة من مماليك الْأُمَرَاء الَّذين قبض عَلَيْهِم قد باطنوا بعض الْأُمَرَاء على الرّكُوب عَلَيْهِ فَترك الرّكُوب للموكب أَيَّامًا حَتَّى اجْتَمعُوا عِنْده وحلفوا لَهُ. ثمَّ اتّفق رَأْيهمْ على أَن كتبُوا للسُّلْطَان كتابا فِي خَامِس الْمحرم بِأَن الْأُمُور ضائعة لغيبة السُّلْطَان وَقد نَافق عربان الصَّعِيد وطمع النَّاس وفسدت الْأَحْوَال كلهَا وسألوه الْحُضُور. وبعثوا بِهِ الْأَمِير طقتمر الصلاحي فَعَاد جَوَابه فِي حادي عشره: بأنني قَاعد فِي مَوضِع أشتهي وَأي وَقت أردْت أحضر إِلَيْكُم. وَذكر طقتمر أَن السُّلْطَان لم يُمكنهُ من الِاجْتِمَاع بِهِ وَأَنه بعث من أَخذ مِنْهُ الْكتاب ثمَّ أرسل إِلَيْهِ الْجَواب. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان قتل الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر والأمير قطلوبغا الفخري وَذَلِكَ أَنه قصد أَن يقتلهما بِالْجُوعِ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ بلياليهما لَا يطعمان طَعَاما. فكسرا قيدهما وَقد ركب السُّلْطَان للصَّيْد وخلعا بَاب السجْن لَيْلًا وخرجا إِلَى الحارس وَأخذ سَيْفه وَهُوَ نَائِم فأحس بهما وَقَامَ يَصِيح حَتَّى لحقه أَصْحَابه فأخذوهما. وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بخبرهما فَقدم فِي زِيّ العربان ووقف على الخَنْدَق وَبِيَدِهِ حَرْبَة وأحضرهما وَقد كثرت بهما الْجِرَاحَات. فَأمر السُّلْطَان يُوسُف بن البصارة ورفيقه بِضَرْب أعناقهما وَأخذ يسبهما ويلعنهما فَردا عَلَيْهِ ردا قبيحاً وَضرب رقابهما فَاشْتَدَّ قلق الْأُمَرَاء. وَفِيه قدم كتاب السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء يطيب خواطرهم ويعرفهم أَن مصر وَالشَّام والكرك لَهُ وَأَنه حَيْثُ شَاءَ أَقَامَ ورسم أَن تجهز لَهُ الأغنام من بِلَاد الصَّعِيد وأكد فِي ذَلِك وَأوصى آقسنقر بِأَن يكون مُتَّفقا مَعَ الْأُمَرَاء على مَا يكون من الْمصَالح. فَتَنَكَّرت قُلُوب الْأُمَرَاء ونفرت خواطرهم وَاتَّفَقُوا على خلع السُّلْطَان وَإِقَامَة أَخِيه إِسْمَاعِيل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشريه فَكَانَت مُدَّة ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا مِنْهَا مُدَّة إِقَامَته بالكرك ومراسيمه نَافِذَة بِمصْر أحد وَخَمْسُونَ وإقامته بِمصْر مُدَّة شَهْرَيْن وَأَيَّام. وَكَانَت سيرته سَيِّئَة نقم الْأُمَرَاء عَلَيْهِ فِيهَا أموراً مِنْهَا أَن رسله الَّتِي كَانَت ترد من قبله إِلَى الْأُمَرَاء برسائله وأسراره أوباش أهل الكرك فَلَمَّا قدمُوا مَعَه إِلَى مصر أَكْثرُوا من(3/375)
أَخذ البراطيل وَولَايَة المناصب غير أَهلهَا وَمِنْهَا تحكمهم على الْوَزير وَغَيره وحجبهم السُّلْطَان حَتَّى عَن الْأُمَرَاء والمماليك وأرباب الدولة فَلَا يُمكن أحدا من رُؤْيَته سوى يومي الْخَمِيس والإثنين نَحْو سَاعَة. وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ جمع الأغنام الَّتِي كَانَت لِأَبِيهِ والأغنام الَّتِي كَانَت لفوصون وعدتها أَرْبَعَة أُلَّاف رَأس وأربعماية من الْبَقر الَّتِي استحسنها أَبوهُ. وَأخذ الطُّيُور الَّتِي كَانَت بالأحواش على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وَحملهَا على رُءُوس الحمالين إِلَى الكرك. وسَاق الأغنام والأبقار إِلَيْهَا وَمَعَهُمْ عدَّة سقائين وَسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَعرض الْخُيُول والهجن وَأخذ مَا اخْتَارَهُ مِنْهَا وَمن البخاتي وحمر الْوَحْش والزراف وَالسِّبَاع وسيرها إِلَى الكرك. وَفتح الذَّخِيرَة وَأخذ مَا فِيهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَهُوَ سِتّمائَة ألف دِينَار وصندوق فِيهِ الْجَوَاهِر الَّتِي جمعهَا أَبوهُ فِي مُدَّة سلطنته. وتتبع جواري أَبِيه حَتَّى عرف المتمولات مِنْهُنَّ فَكَانَ يبْعَث إِلَى الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ يعرفهَا أَنه يدْخل عَلَيْهَا اللَّيْلَة فَإِذا تجملت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إِلَيْهِ فَإِذا خرجت من موضعهَا ندب من يَأْخُذ جَمِيع مَا عِنْدهَا ثمَّ يَأْخُذ جَمِيع مَا عَلَيْهَا حَتَّى سلب أكثرهن مَا بأيديهن وَعرض الركاب خاناه وَأخذ جَمِيع مَا فِيهَا من السُّرُوج واللجم والسلاسل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَنزع مَا عَلَيْهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَأخذ الطَّائِر الذَّهَب الَّذِي على الْقبَّة وَأخذ الغاشيه الذَّهَب وطلعات الصناجق وَمَا ترك بالقلعة مَالا حَتَّى أخده. وشنع فِي قتل أُمَرَاء أَبِيه وأتلف موجودهم وأحضر حَرِيم طشتمر حمص أَخْضَر من حلب وَقد تجهزن للمسير فَأخذ سَائِر مَا مَعَهُنَّ حَتَّى لم يتْرك عَلَيْهِنَّ سوى قَمِيص وسروال لكل وَاحِدَة. وَأخذ أَيْضا جَمِيع مَا مَعَ حَرِيم قطلوبغا الفخري حَتَّى لم تَجِد زَوجته سَرِيَّة تنكز مَا تتقوت بِهِ إِلَى أَن بعث لَهُم جمال الكفاة السُّلْطَان عماد الدّين أَبُو إِسْمَاعِيل السُّلْطَان الْملك الصَّالح عماد الدّين أَبُو إِسْمَاعِيل ابْن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ابْن الْملك الْمَنْصُور قلاوون الألفي الصَّالِحِي. جلس على تخت الْملك يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشرى الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين(3/376)
وَسَبْعمائة بعد خلع أَخِيه بِاتِّفَاق الْأُمَرَاء على ذَلِك لِأَنَّهُ بَلغهُمْ عَنهُ أَنه لما أخرجه الْأَمِير قوصون فِيمَن أخرج إِلَى قوص أَنه كَانَ يَصُوم يومي الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس ويشغل أوقاته بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَة الْقُرْآن مَعَ الْعِفَّة والصيانة عَمَّا يَرْمِي بِهِ الشَّبَاب من اللَّهْو واللعب. وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والعساكر وَحلف لَهُم السُّلْطَان أَلا يُؤْذِي أحدا وَلَا يقبض عَلَيْهِ بِغَيْر ذَنْب يجمع على صِحَّته. ودقت البشائر ولقب بِالْملكِ الصَّالح عماد الدّين وَنُودِيَ بالزينة. وَفِيه فرق السُّلْطَان أخباز الْأُمَرَاء البطالين ورسم بالإفراج عَن المسجونين وَكتب بذلك إِلَى الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري وَألا يتْرك بالسجون إِلَّا من وَجب عَلَيْهِ الْقَتْل. وَفِيه أخرج السُّلْطَان عددا كَبِيرا من سجون الْقَاهِرَة ومصر وَتوجه القصاد للإفراج عَن الْأُمَرَاء من الْإسْكَنْدَريَّة. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير أرغون العلائي زوج أم السُّلْطَان الصَّالح رَأس نوبَة وَيكون رَأس المشورة ومدبر الدولة وكافل السُّلْطَان. وَاسْتقر الْأَمِير آقسنقر السلاري نَائِب السلطنة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشريه: دعِي للسُّلْطَان على مَنَابِر مصر والقاهرة وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء بِبِلَاد الشَّام بالأمان والاطمئنان وَتوجه بذلك طقتمر الصلاحي. وَفِيه كتب تَقْلِيد الْأَمِير أيدغمش نِيَابَة الشَّام وَاسْتقر عوضه فِي نِيَابَة حلب الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ نَائِب حماة. وَاسْتقر فِي نِيَابَة حماه الْأَمِير علم الدّين سنجر الجمولي. وَفِيه كتب السُّلْطَان بِحُضُور الْحَاج آل ملك وَحُضُور الْأَمِير بيبرس الأحمدي إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه كتب السُّلْطَان الْملك الصَّالح إِلَى أَخِيه النَّاصِر أَحْمد بِالسَّلَامِ وإعلامه بِأَن الْأُمَرَاء أقاموه فِي السلطنة لأَنهم علمُوا أَن الْملك النَّاصِر أَحْمد لَيْسَ لَهُ رَغْبَة فِي ملك مصر وَأَنه يحب بِلَاد الكرك والشوبك فَهِيَ بحكمك وملكك وَرغب إِلَيْهِ فِي أَن يبْعَث الْقبَّة وَالطير والغاشية والنمجاة وَتوجه بِكِتَاب السُّلْطَان الْأَمِير قبلاي. وَفِيه خرج الْأَمِير بيغرا وَمَعَهُ عدَّة أُمَرَاء وأوجاقية لجر الْخُيُول السُّلْطَانِيَّة من الكرك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشريه: قدم الْأُمَرَاء والمسجونون بالإسكندرية وعدتهم(3/377)
سِتَّة وَعِشْرُونَ أَمِيرا مِنْهُم قياقر والمرقبي وطيبغا المحمدي وَابْن طوغان جق ودقماق وأسنبغا بن البوبكري وَابْن سوسون وناصر الدّين مُحَمَّد بن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة وأمير عَليّ بن بهادر والحاج أرقطاي نَائِب طرابلس. فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشريه: وقفُوا بَين يَدي السُّلْطَان فرسم أَن يجلس أرقطاي مَكَان الجاولي وَأَن يتَوَجَّه الْبَقِيَّة على أمريات بِبِلَاد الشَّام. وَفِي يَوْم السبت أول صفر: قدم من غَزَّة الْأَمِير قماري والأمير أَبُو بكر بن أرغون النَّائِب والأمير ملكتمر الْحِجَازِي وصحبتهم الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد والمقدم عنبر السحرتي والمماليك السُّلْطَانِيَّة مفارقين للناصر أَحْمد. وَفِيه توجه الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ لنيابة حلب. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثالثه: خلع على الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي نَائِب حماة خلعة السّفر وخلع على أَمِير مَسْعُود بن خطير خلعة السّفر لنيابة غَزَّة. وَفِيه خلع على بدر الدّين مُحَمَّد بن محيي الدّين بن يحيى بن فضل الله وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن أَخِيه شهَاب الدّين أَحْمد. وَفِيه رسم بسفر مماليك قوصون ومماليك بشتاك إِلَى الْبِلَاد الشامية مُتَفَرّقين وَكتب للنواب بإقطاعهم الأخباز شَيْئا فَشَيْئًا. وَفِيه جلس الْأَمِير آقسنقر السلاري النَّائِب بدار النِّيَابَة بعد مَا عمرها وَفتح بهَا شباكاً ورسم لَهُ أَن يُعْطي الأخباز من ثَلَاثمِائَة إِلَى أَرْبَعمِائَة دِينَار ويشاور فِيمَا فَوق ذَلِك. وَفِيه اسْتَقر المكين إِبْرَاهِيم بن قروينة فِي نظر الْجَيْش وَعين ابْن التَّاج إِسْحَاق لنظر الْخَاص عوضا عَن جمال الكفاة نَاظر الْجَيْش وَالْخَاص لغيبته بالكرك فَقَامَ الْأَمِير جنكلي فِي ابقاء الْخَاص عَليّ جمال الكفاة حَتَّى يحضر. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادسه: توجه الْأَمِير سنجر الجاولي وأمير مَسْعُود بن خطير إِلَى مَحل ولايتهما. وَفِيه أنعم السُّلْطَان على أَخِيه شعْبَان بإمرة طبلخاناة وعَلى خَلِيل بن خَاص ترك(3/378)
بإمرة طبلخاناة وَنُودِيَ بِأَن أجناد الْحلقَة ومماليك السُّلْطَان وأجناد الْأُمَرَاء لَا يركب أحد مِنْهُم فرسا بعد عشَاء الْآخِرَة وَلَا يقعدوا جمَاعَة يتحدثون. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشريه: خلع على جَمِيع الْأُمَرَاء كَبِيرهمْ وصغيرهم. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشريه: قدم عَلَاء الدّين عَليّ بن فصل الله كَاتب السِّرّ وَمَعَهُ جمال الكفاة والشريف شهَاب الدّين بن أبي الركب وَمن الكرك مفارقين للناصر أَحْمد. بحيلة دبرهَا جمال الكفاة. وَكَانَ قد بلغه عَن النَّاصِر أَنه يُرِيد قَتلهمْ خوفًا من حضورهم إِلَى مصر ونقلهم مَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء السِّيرَة فبذل جمال الكفاة مَالا جزيلاً ليوسف بن البصارة حَتَّى مكنهم من الْخُرُوج من الْمَدِينَة. وَأسر إِلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر أَنه يبْعَث من يقتلهُمْ وَيَأْخُذ مَا مَعَهم فعرجوا فِي مَسِيرهمْ عَن الطَّرِيق صُحْبَة بدوي من عربان شطي إِلَى أَن قدمُوا غَزَّة فخلصوا مِمَّن خرج فِي طَلَبهمْ. فَأقبل عَلَيْهِم الْأُمَرَاء وَالسُّلْطَان وخلع عَلَيْهِم بالاستمرار على وظائفهم. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشريه: نهب سوق خزانَة البنود بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى عَم النهب حوانيته كلهَا من النهب فِي الْجَانِبَيْنِ وَكسرت عدَّة جرار خمر من خزانَة البنود وهتكت نسَاء الفرنج. وَبلغ ذَلِك الْوَالِي فَركب نَائِبه لرد الْعَامَّة عَن الفرنج فرجموه وردوه ردا قبيحاً إِلَى أَن احتمى بِالْمَدْرَسَةِ الجمالية الْمُجَاورَة لخزانة البنود وأساءوا الْأَدَب على الْفُقَهَاء المجاورين بهَا فَخَرجُوا يحملون الْمَصَاحِف ووقفوا للسُّلْطَان. فرسم السُّلْطَان بِضَرْب الْوَالِي على بَاب الجمالية وَنُودِيَ من الْغَد أَلا يتَعَرَّض أحد لأسير من الفرنج وهدد من أَخذ لَهُم شَيْئا بالشنق. وَفِيه قدم الْخَبَر من حلب بِأَنَّهُ قد وَقع فِي بِلَاد الْموصل وبغداد وأصفهان وَعَامة بِلَاد الشرق غلاء شَدِيد حَتَّى بلغ الرطل الْخبز بالمصري إِلَى ثَمَانِيَة دَرَاهِم نقرة وأكلت الْجِيَف. وَصَارَ من مَاتَ يلقى فِي العراء عَجزا عَن مواراته وفنيت الدَّوَابّ عِنْدهم. ثمَّ عقب هَذَا الغلاء جَراد عَظِيم سد الْأُفق وَمنع النَّاس من كثرته رُؤْيَة السَّمَاء وَأكل جَمِيع الْأَشْجَار حَتَّى خشبها. وانتشر الْجَرَاد إِلَى حلب ودمشق والقدس وغزة فاض بِمَا هُنَاكَ ضَرَرا شَدِيدا بَالغا وأفسد الثِّمَار كلهَا. فَلَمَّا دخل الْجَرَاد الرمل هلك بأجمعه حَتَّى مَلأ الطرقات وتحسنت أسعار بِلَاد الشَّام. وَفِي هَذَا الشَّهْر: عقد السُّلْطَان على بنت الْأَمِير أَحْمد ابْن الْأَمِير بكتمر الساقي من(3/379)
بنت تنكز وَأصْدقهَا عشرَة أُلَّاف دِينَار. وخلع السُّلْطَان على الْأَمِير قماري وَجَمِيع أقاربها وَعمل مهما عَظِيما ورسم أَن يعْمل لَهَا بشخاناه وداير بَيت زركش بِثَمَانِينَ ألف دِينَار. وَفِيه أنعم السُّلْطَان على الْأَمِير أرقطاي بتقدمة ألف فَطلب نَاظر طرابلس بِسَبَب تَقْرِير مَا نهب لأرقطاي أَيَّام نيابته فَذكر أَنه نهب لَهُ شَيْء كثير من ذَلِك زردخاناه ضمن ثَلَاثِينَ صندوقاً وفيهَا نَحْو اثْنَي عشر جوشنا وفيهَا بركصطوانات حَرِير قيمَة الْوَاحِدَة مِنْهَا زِيَادَة على عشْرين ألف دِرْهَم وَمن السُّرُوج والخيول والخيام وَالْجمال وَغَيرهَا شَيْء كثير. فَكتب إِلَى نواب الشَّام يتتبع من مَعَه شَيْء من ذَلِك وَحمله إِلَيْهِ. وَفِيه أخرج الْأَمِير قرمجي الْحَاجِب إِلَى صفد حاجباً بسؤاله. وَفِيه خلع عَليّ قراجا وأخيه أولاجا واستقرا حاجبين. وَفِيه سَأَلَ الْأَمِير آقسنقر السلاري الإعفاء من النِّيَابَة فَلم يعف. وَفِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشر ربيع الأول: قدم الْأَمِير الْحَاج آل ملك من حماة. وَفِيه رسم للأمير طقتمر الأحمدي بنيابة طرابلس بِحكم وَفَاة الْأَمِير طينال. وَفِيه وَقعت مُنَازعَة بَين الْأَمِير جنكلي بن البابا وَبَين الضياء الْمُحْتَسب بِسَبَب وقف الْملك الْمَنْصُور أبي بكر على الْقبَّة المنصورية فَإِنَّهُ أَرَادَ إِضَافَته إِلَى المارستان وَصرف متحصله فِي مصرف المارستان. فَلم يُوَافقهُ الضياء وَاحْتج بِأَن لهَذَا مصرفاً عينه واقفه لقراء وخدام وَوَافَقَهُ الْقُضَاة على ذَلِك. فاستقر وقف الْمَنْصُور أبي بكر على مَا شَرطه لطلبة الْعلم والفقراء والأيتام وَقرر فِيهِ نَحْو سِتِّينَ نفر بمعاليم مَا بَين خبز ودراهم فَعم النَّفْع بِهِ وَيعرف الْيَوْم هَذَا الْوَقْف بالسيفي. وَفِيه وشى الخدام للسُّلْطَان بقاضي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة بِأَنَّهُ قد استولى على الْأَوْقَاف هُوَ وأقاربه وَلم يوصلوا أَرْبَابهَا استحقاقهم. فرسم للطواشي محسن الشهابي والطواشي كافور الْهِنْدِيّ بِأَن يتحدثا فِي الْمدرسَة الأشرفية الْمُجَاورَة للمشهد النفيسي وَكتب لَهما توقيع بذلك ورسم لعلم دَار بِنَظَر الْمدرسَة الناصرية بَين القصرين وبنظر جَامع القلعة. فشق ذَلِك على ابْن جمَاعَة وسعى عِنْد الْأَمِير أرغون العلائي فَلم ينجح سَعْيه.(3/380)
وَفِيه اسْتَقر سيمف الدّين وَأَخُوهُ من آل فضل على أخباز آل مهنا لِسُلَيْمَان بن مهنا وأخوته بعد مَا توفر مِنْهَا جملَة أقطعت للأجناد وأمراء الشَّام.
(وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشريه)
رسم للأمير ألطنبغا المارداني بنيابة حماة عوضا عَن الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وخلع عَلَيْهِ وَركب الْبَرِيد من يَوْمه وَسَار فِي خَمْسَة من مماليكه وَسبب ذَلِك ترفعه على الْأَمِير أرغون العلائي. وَفِيه كتب بِحُضُور الْأَمِير سنجر الجاولي إِلَى نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن أَمِير مَسْعُود بن خطير وَنقل أَمِير مَسْعُود إِلَى إمرة طبلخاناة بِدِمَشْق. وَفِيه قدم خبر من شطي بِأَن النَّاصِر أَحْمد قرر مَعَ بعض الكركيين أَن يدْخل إِلَى مصر وَيقتل السُّلْطَان فتشوش الْأُمَرَاء من ذَلِك وَوَقع الِاتِّفَاق على تَجْرِيد الْعَسْكَر لقتاله. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشريه: خلع عَليّ شُجَاع الدّين عزلوا وَالِي الأشمون وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن نجم الدّين وَاسْتمرّ نجم الدّين على إمرته. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع الآخر: تَوَجَّهت التجريدة إِلَى الكرك صُحْبَة بيغرا وَهِي أول التجاريد. وعقيب ذَلِك حدث بالسلطان رُعَاف مُسْتَمر فاتهمت أمه أردو أم الْأَشْرَف كجك بِأَنَّهَا سحرته وهجمت عَلَيْهَا وأوقعت الحوطة على جَمِيع موجودها وَضربت عدَّة من جواريها ليعترفوا عَلَيْهَا. فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى عوفي السُّلْطَان فرسم بزينة الْقَاهِرَة ومصر وحملت أم السُّلْطَان إِلَى مشْهد السيدة نفيسة قنديل ذهب زنته رطلان وَسبع أَوَاقٍ وَنصف وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشريه وَهُوَ آخر توت: انْتَهَت زِيَادَة النّيل إِلَى ثَمَانِيَة ذِرَاعا وَتِسْعَة أَصَابِع. وَفِيه قَامَت الزِّينَة لعافية السُّلْطَان ثمَّ انتكس السُّلْطَان وعوفي. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس جُمَادَى الأولى: قدم الْأَمِير بيبرس الأحمدي نَائِب صفد. وَكَانَ من خَبره أَن النَّاصِر أَحْمد لما كَانَ بالكرك قبل خلعه كتب لآقسنقر نَائِب غَزَّة أَن يركب إِلَى صفد وَيقبض عَلَيْهِ وَأَنه كتب لأمراء صفد بالاحتفاظ عَلَيْهِ. فَبلغ ذَلِك الأحمدي من عيونه فَركب لَيْلًا بِمن مَعَه وَهُوَ مستعد وَخرج من صفد. فَتَبِعَهُ عسكرها فَمَال عَلَيْهِم وَقتل مِنْهُم خَمْسَة وجرح جمَاعَة وَهُوَ مِنْهُم. فَبلغ ذَلِك آقسنقر نَائِب غَزَّة وَقد قرب من صفد فكر رَاجعا إِلَى غَزَّة وَكتب بالْخبر إِلَى السُّلْطَان النَّاصِر(3/381)
أَحْمد. وَمر الأحمدي سائراً إِلَى دمشق وفيهَا الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب وطرنطاي الْحَاجِب. فَنزل الأحمدي ميدان الْحَصَا وَخرج الأميران الْمَذْكُورَان فِي عدَّة من الْعَسْكَر إِلَيْهِ فَسَلمُوا عَلَيْهِ وتوجعوا لَهُ ثمَّ عَادوا. فَقدم فِي ثَانِي يَوْم قدومه كتاب السُّلْطَان النَّاصِر أَحْمد على نَائِب دمشق بإكرامه واحترامه ثمَّ قدم من الْغَد يُوسُف بن البصارة بِكِتَاب السُّلْطَان النَّاصِر أَحْمد إِلَى أُمَرَاء دمشق بِأَنَّهُ قد طلب بيبرس الأحمدي إِلَى الكرك فعصى وَخرج من صفد بعد مَا قتل جمَاعَة مِنْهَا وَأمرهمْ بِأخذ الطرقات عَلَيْهِ ومسكه وَحمله إِلَى الكرك. فأخدوا فِي أهبة الْحَرْب وركبوا لقتاله فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن الْمحرم وبعثوا إِلَيْهِ سرا يعرفونه بِمَا ورد عَلَيْهِم. فَركب الأحمدي إِلَى لقائهم حَتَّى ترَاءى الْفَرِيقَانِ فَبعث إِلَيْهِ الْأُمَرَاء بعض الْحجاب يُعلمهُ بمرسوم السُّلْطَان فِيهِ فَأَعَادَ الْجَواب باني طالع للسُّلْطَان إِذا كَانَ على كرْسِي ملكه بِمصْر وأسير إِلَيْهِ وَفِي عنقِي منديل ليعاقبني أَو يعْفُو عني. وَأما سُلْطَان يُقيم بالكرك وَيضْرب رِقَاب الْأُمَرَاء ويهتك حريمهم ويخرجهم بِحَيْثُ يتَصَدَّق النَّاس عَلَيْهِم ثمَّ يطلبني إِلَيْهِ فَلَا سمع وَلَا طَاعَة. وهأنا لَا أسلم نَفسِي حَتَّى أَمُوت على فرسي وَمن كَانَ فِي نَفسه مني فليأت إِلَى قتالي. فَلَمَّا سمعُوا جَوَابه أَمرهم ابْن البصارة بِأَن يهجموا عَلَيْهِ ويمسكوه فاحتجوا عَلَيْهِ بِأَن المرسوم لَا يتَضَمَّن قِتَاله وَهَذَا الَّذِي قلته يحْتَاج إِلَى قتال شَدِيد. وَلَكنَّا نكتب إِلَى السُّلْطَان بِمَا اتّفق ونستأذنه فِي قِتَاله ونمتثل مَا يرسم بِهِ وتكفلوا لَهُ بحفظه حَتَّى يعود بِالْجَوَابِ فَمشى ذَلِك عَلَيْهِ وَسَار بكتبهم. وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء بالأحمدي وَكَتَبُوا إِلَى أُمَرَاء مصر بِمَا اتّفق وَكَتَبُوا لأيدغمش نَائِب حلب وللحاج آل ملك بحماة وَعرفُوا الْجَمِيع أَن هَذَا الْأَمر إِن تَمَادى بهم ركبُوا جَمِيعهم وعبروا لبلاد الْعَدو فَكَانَ هَذَا أكبر الْأَسْبَاب فِي خلع النَّاصِر أَحْمد. وَلم يزل بيبرس الأحمدي بِدِمَشْق حَتَّى كتب إِلَيْهِ الْملك الصَّالح أَن يقدم إِلَى مصر فَقَدمهَا وَاسْتقر على إقطاعه. وَفِي هَذَا الشَّهْر: عزل أقبغا عبد الْوَاحِد من نِيَابَة حمص وأنعم عَلَيْهِ بإمرة مائَة بِدِمَشْق. وَفِي يَوْم الْأَحَد عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة: خرج أروم بغا السِّلَاح دَار لنيابة طرابلس غَضبا عَلَيْهِ لمكاتبته النَّاصِر أَحْمد لَهُ. وَفِيه كتب بقدوم طقتمر الأحمدي إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه قبض على جمال الكفاة نَاظر الْجَيْش وَالْخَاص والموفق نَاظر الدولة والصفي نَاظر الْبيُوت وزجماعة من الْكتاب وسلموا لشاد الدَّوَاوِين.(3/382)
وَفِيه قبض على ابْن رخيمة مقدم الْوَالِي وَسبب الْقَبْض على جمال الكفاة كَرَاهَة آقسنقر السلاري النَّائِب لَهُ لنقله للسُّلْطَان أخباره مَعَ توقف الدولة على الْوَزير وَكَثْرَة شكوى المماليك والخدام. وَكَانَ السُّلْطَان قد كثر إنعامه على الخدام وحواشيهم وعَلى جواريه ورتب لَهُم رواتب كَبِيرَة وأنعم عَلَيْهِم بعدة رزق. وَصَارَ كثير من النَّاس يحملون إِلَى الخدام الْهَدَايَا لتستقر لَهُم الرَّوَاتِب والمباشرات وَغَيرهَا. فكثرت كلف الْوَزير وَطلب الإعفاء فرسم لَهُ أَلا يمْضِي إِلَى بِمَا كَانَ بمرسوم الشَّهِيد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد فوفر ألفاص وَأَرْبَعمِائَة دِينَار فِي كل شهر. وَأخذ النَّائِب يغري الْأَمِير أرغون العلائي بِجَمَال الكفاة فَتعين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق لنظر الْخَاص بسعي الخدام وَتعين أَمِين الدّين إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بكاتب طشتمر لنظر الْجَيْش. وَإِبْرَاهِيم بن يُوسُف هَذَا كَانَ من سامرة دمشق كتب عِنْد الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب فَأسلم ثمَّ كتب بعد مسك بكتمر عِنْد بهاء الدّين أرسلان الدوادار ثمَّ بعد مَوته عِنْد الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر وَمن بعد مَوته كتب عِنْد الْأَمِير قماري أستادار. ثمَّ طلب هُوَ ومُوسَى بن التَّاج فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشرَة ليخلع عَلَيْهِمَا فَقَامَ الْأَمِير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وأرقطاي فِي مساعدة جمال الكفاة وتلطفوا بالنائب حَتَّى كف عَنهُ على أَن يحمل مَالا هُوَ ورفيقه. فالتزم جمال الكفاة. بِمِائَة ألف دِينَار وخلع عَلَيْهِ وعَلى بَقِيَّة الممسوكين فَحمل المَال شَيْئا بعد شَيْء ثمَّ أعفى عَمَّا بَقِي مِنْهُ. وَفِيه قدم أياز الساقي على الْبَرِيد بِمَوْت أيدغمش نَائِب الشَّام فَجْأَة فَوَقع الِاخْتِيَار على اسْتِقْرَار الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ فِي نِيَابَة الشَّام ويستقر عوضه فِي نِيَابَة حلب ألطنبغا المارداني ويستقر يلبغا اليحياوي عوضه فِي نِيَابَة حماة. فَكتب بذلك فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشره وَخرج يلبغا اليحياوي إِلَى نيابته بحماة وَمَعَهُ كل من يلوذ بِهِ. وَفِيه قدم كتاب سُلَيْمَان بن مهنا يسْأَل فِي الإفراج عَن أَخِيه فياض ورد مَا أخرج عَن آل مهنا من الإقطاعات وَإِلَّا سَار بعربه إِلَى الشرق. فأعيدت الإقطاعات إِلَى مهنا وَأَوْلَاده وأوقف إفراج فياض على ضَمَانه إِيَّاه. وَفِيه أنعم على الْأَمِير بهادر الدمرداشي بِثَلَاثَة بِلَاد زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي بِدِمَشْق تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ لما أَرَادَ أَن يخْطب بالجامع الْأمَوِي لم يرض بِهِ أهل دمشق خَطِيبًا وكرهوا خطته وَلم يُؤمنُوا على(3/383)
دُعَائِهِ وصاحوا عَلَيْهِ صياحاً مُنْكرا وَترك جمَاعَة الصَّلَاة وَقَالُوا مَا نصلي خَلفك فثارت عَلَيْهِ الْعَامَّة. فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّانِيَة جرى أفحش مَا جرى فِي الأولى فآل الْأَمر إِلَى أَن أشهد على نَفسه أَنه ترك الخطابة. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن شطي وثب عَلَيْهِ رجل وَهُوَ مَعَ الْعَسْكَر على الكرك فَضَربهُ بِحَرْبَة أرداه عَن فرسه فَحمل إِلَى بيوته وَأَن الْعَسْكَر فِي شدَّة من الأمطار وَقلة الْوَاصِل إِلَيْهِم وَأَن النَّاصِر أَحْمد رد جَوَاب كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ بِمَا لَا يَلِيق. فَكتب السُّلْطَان لِأَحْمَد بتعداد مساوئه وتهديده بتخريب الكرك حجرا حجرا وَكتب بمسير عَسْكَر غَزَّة وصفد إِلَى نجدة الْأَمِير بيغرا وَحمل الغلال والإقامات وحشد العربان مَعَهم ومحاصرة الكرك. وَفِيه أفرج عَن فياض بن مهنا بمساعدة الْأَمِير الْحَاج آل ملك وَسلم إِلَى الْأَمِير أقسنقر السلاري النَّائِب حَتَّى يحضر كتاب أَخِيه سُلَيْمَان بن مهنا. وَفِيه أنعم على أرغون العلائي بإقطاع قماري بعد مَوته وَاسْتقر تمر الموساوي أَمِير شكار وَفِيه خرج السُّلْطَان إِلَى سرياقوس على الْعَادة فَقدم عَلَيْهِ التقي السُّبْكِيّ قَاضِي دمشق فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان والأمراء. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان من سرحة سرياقوس مرض أَيَّامًا حَتَّى استرخت أعضاؤه وَصَارَ العلائي وآقسنقر النَّائِب يدبران أُمُور الدولة. وَفِيه ورد الْخَبَر بعافية شطي وَأَنه ركب مَعَ الْعَسْكَر على الكرك وقاتلوا أَهلهَا وهزموهم إِلَى القلعة. فأذعن النَّاصِر أَحْمد وَسَأَلَ أَن يُمْهل حَتَّى يُكَاتب السُّلْطَان ليرسل من يتسلم مِنْهُ القلعة فَرَجَعُوا عَنهُ. فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى استعد وَقَاتل بِمن مَعَه فَخرج جركتمر المارداني ليجهز ألفي راجل من غَزَّة وصفد. وَفِيه أنعم على فياض بِالْعودِ إِلَى بِلَاده فَتوجه إِلَيْهَا بَعْدَمَا حلف على الْتِزَام الطَّاعَة وَألا يتَعَرَّض لأمور التُّجَّار. وَفِي رَابِع عشره: أخرج جمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى الشَّام مِنْهُم ملكتمر السرجواني وبكا الخضري وقطلقتمر وأباجي وَيحيى بن ظهير الدّين بغا وأخيه ثمَّ أُعِيد ملكتمر من يَوْمه. وَفِيه قدمت رسل متملك الخطا وَقد خَرجُوا من بِلَادهمْ سنة تسع وَثَلَاثِينَ(3/384)
وَسَبْعمائة وَمَعَهُمْ كتاب للسُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد يتَضَمَّن أَن بعض الْفُقَرَاء قدم عَلَيْهِم وَأقَام عِنْدهم مُدَّة وهم يَسْجُدُونَ للشمس عِنْد طُلُوعهَا فمازال يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك ويدعوهم إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى عرف بِهِ الْملك فَأحْضرهُ إِلَيْهِ وَسمع كَلَامه وَدعَاهُ إِلَى الْإِسْلَام وهداه الله إِلَيْهِ وَأسلم فَبعث رسله إِلَى مصر فِي طلب كتب الْعلم وإرسال رجل عَارِف يعلمهُمْ شرائع الْإِسْلَام فَإِن الرجل الَّذِي هدَاهُم بِهِ مَاتَ. فَأقبل السُّلْطَان الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل عَلَيْهِم وخلع عَلَيْهِم ورسم بتجهيز الْكتب العلمية لَهُم. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب: أنعم على أَرْبَعَة بإمريات طبلخاناة مِنْهُم أَمِير حاجي ابْن النَّاصِر مُحَمَّد. وَفِيه أنعم على خَمْسَة بإمريات عشرَة ونزلوا إِلَى الْمدرسَة المنصورية على الْعَادة بِالْقَاهِرَةِ فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه خلع على الْأَمِير ملكتمر السرجواني وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن نجم الدّين مَحْمُود بن عَليّ بن شرْوَان وَزِير بَغْدَاد لتوقف أَحْوَال الدولة وشكوى المماليك السُّلْطَانِيَّة من تَأَخّر جوامكهم. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رابعه: كَانَت فتْنَة رَمَضَان أخى السُّلْطَان وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد أنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف فَلَمَّا خرج السُّلْطَان إِلَى سرحة سرياقوس تَأَخّر عَنهُ بالقلعة وتحدث مَعَ جمَاعَة من المماليك فِي إِقَامَته سُلْطَانا. فَلَمَّا مرض السُّلْطَان بالاسترخاء قوي أمره وأشاع ذَلِك وراسل بكا الخضري وَمن خرج مَعَه من الْأُمَرَاء وواعد من وَافقه على الرّكُوب بقبة النَّصْر. فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان ومدبر دولته الْأَمِير أرغون العلائي فَلم يعبأ بِهِ إِلَى أَن أهل رَجَب جهز الْأَمِير رَمَضَان خيله وهجنه بِنَاحِيَة بركَة الْحَبَش وواعد أَصْحَابه على يَوْم الْأَرْبَعَاء. فَبلغ الْأَمِير أقسنقر أَمِير أخور عِنْد الْغُرُوب من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء مَا هم فِيهِ من الْحَرَكَة فَركب بِمن مَعَه وَندب عدَّة من العربان ليأتوه بِخَبَر الْقَوْم إِذا ركبُوا. فَلَمَّا أَتَاهُ خبرهم ركب وَسَار إِلَيْهِم وَأَخذهم عَن أخرهم من خلف القلعة لَيْلًا وساقهم إِلَى الإصطبل. وَعرف أقسنقر أَمِير أخور السُّلْطَان وأرغون العلائي من بَاب السِّرّ بِمَا فعله إِلَيْهِمَا فَصَعدَ بِمَا ظفر بِهِ من أسلحة الْقَوْم. وَاتَّفَقُوا على طلب إخْوَة السُّلْطَان إِلَى عِنْده والاحتفاظ بهم. فَلَمَّا طلع الْفجْر خرج أرغون العلائي من بَين يَدي السُّلْطَان وَطلب الْإِخْوَة ووكل بِبَيْت رَمَضَان حَتَّى طلعت الشَّمْس وَصعد الْأُمَرَاء الأكابر باستدعاء وأعلمو بِمَا وَقع فطلبوا رَمَضَان إِلَيْهِم فَامْتنعَ من الْحُضُور وهم يلحون فِي طلبه إِلَى أَن خرجت أمه وصاحت عَلَيْهِم فعادوا عَنهُ إِلَى أرغون العلائي.(3/385)
فَبعث أرغون عدَّة من الخدام والمماليك لإحضاره. فَخرج رَمَضَان فِي عشْرين مَمْلُوكا إِلَى خَارج بَاب الْقلَّة وَسَأَلَ عَن النَّائِب أقسنقر السلاري فَقيل لَهُ أَنه عِنْد السُّلْطَان مَعَ الْأُمَرَاء فَمضى إِلَى بَاب القلعة وسيوف أَصْحَابه مصلتة وَركب من خُيُول الْأُمَرَاء وَمر بِمن مَعَه إِلَى سوق الْخَيل تَحت القلعة فَلم يجد أحدا من الْأُمَرَاء فَتوجه جِهَة قبَّة النَّصْر. ثمَّ وقف رَمَضَان وَمَعَهُ بكا الخضري وَقد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ. وَبلغ السُّلْطَان والأمراء خَبره فَأخْرج بالسلطان مَحْمُولا بَين أَرْبَعَة لما بِهِ من الاسترخاء وَركب النَّائِب وآقسنقر أَمِير أخور وقماري أَخُو بكتمر. وَأقَام أكَابِر الْأُمَرَاء عِنْد السُّلْطَان ووقفت أطلابهم تَحت القلعة وَضربت الكوسات حَرْبِيّا وَنزل النُّقَبَاء فِي طلب الأجناد. فَوقف النَّائِب بِمن مَعَه تجاه رَمَضَان وَقد كثر جمعه من أجناد الحسينية وَمن مماليك بكا وَمن الْعَامَّة وَبعث يخبر السُّلْطَان بذلك فَمن شدَّة انزعاحه نهضت قوته وَقَامَ على قَدَمَيْهِ يُرِيد الرّكُوب بِنَفسِهِ فَقَامَ الْأُمَرَاء وهنؤه بالعافية وقبلوا لَهُ الأَرْض وهونوا عَلَيْهِ أَمر أَخِيه. فَأَقَامَ السُّلْطَان إِلَى بعد الظّهْر والنائب يراسل رَمَضَان ويعده الْجَمِيل ويخوفه الْعَاقِبَة وَهُوَ لَا يلْتَفت إِلَى قَوْله. فعزم النَّائِب على الحملة عَلَيْهِ بِمن مَعَه وَسَار فَلم يثبت العامه والمتجمعه من الأجناد مَعَ رَمَضَان وانفلوا عَنهُ فَانْهَزَمَ رَمَضَان هُوَ وبكا الخضري فِي عدَّة من المماليك وتوجهوا نَحْو الْبَريَّة والأمراء فِي طلبه ثمَّ عَاد النَّائِب إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا كَانَ بعد عشَاء الْآخِرَة من لَيْلَة الْخَمِيس أحضر برمضان وبكا وَقد أدركوهما بعد الْمغرب عِنْد البويب ورموا بكا بالنشاب حَتَّى ألقوه عَن فرسه وَقد وقف فرس رَمَضَان من شدَّة السُّوق فَوكل برمضان من يحفظه وَأذن لِلْأُمَرَاءِ وَجلسَ السُّلْطَان وَطلب مماليك رمصان فأحضروا. وَأمر السُّلْطَان بحبسهم وحبسوا أَيَّامًا ثمَّ فرقوا على الْأُمَرَاء. وَفِيه رسم لجمال الكفاة بتجهيز التشاريف لِلْأُمَرَاءِ الأكابر فَحمل إِلَى كل من الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير بيبرس الْحَاج آل ملك والأمير قماري والأمير أرقطاي تشريف كَامِل وَألف دِينَار وللنائب أقسنقر السلاري تشريف وألفا دِينَار وفرسان ولمقدمي الْحلقَة تشاريف بأقبية ساذجة مروزي لأجل إعادتهم فَإِنَّهَا كَانَت بغاليطق ملونة.(3/386)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر: أَمر السُّلْطَان سِتَّة أُمَرَاء. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشره: قدم الْأَمِير بيغرا وَمن مَعَه من الْعَسْكَر الْمُجَرّد لقِتَال النَّاصِر أَحْمد بعد مَا حَارَبُوهُ. وَكَانَ قد جرح مِنْهُم جمَاعَة وَقلت أَزْوَادهم فَكتب السُّلْطَان بإحضارهم إِلَى الديار المصرية وَلما مثلُوا بِالْخدمَةِ خلع عَلَيْهِم. وَفِيه كتب السُّلْطَان باستقرار طرنطاي البشممقدار فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن الجاولي وَقدم الجاولي إِلَى مصر. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشريه: وسط الْأَمِير بكا الخضري وَمَعَهُ مملوكان من المماليك السُّلْطَانِيَّة بسوق الْخَيل تَحت القلعة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: استجد السُّلْطَان بالقلعة عمَارَة جليلة وَأقَام أقجبا الْحَمَوِيّ شاد العمائر وَقرر على أَرْبَاب الدَّوَاوِين رخاماً يحملونه إِلَيْهَا. وَقصد بذلك محاكاة عمَارَة الْملك الْمُؤَيد بحماة الْمَعْرُوفَة بالدهشية. فَتوجه أقجبا وأبجيج المهندس إِلَى حماة حَتَّى عرفا ترتيبها. وَكتب السُّلْطَان إِلَى حلب بِطَلَب ألفي حجر أَبيض وَألْفي حجر أَحْمَر من دمشق فَحملت وسخر لَهَا الْجمال. فبلغت أُجْرَة الْحجر مِنْهَا ثَمَانِيَة دَرَاهِم من دمشق واثني عشر درهما من حلب. وَوَقع الاهتمام فِي الْعَمَل فَكَانَ المصروف فِي الْعِمَارَة كل يَوْم عشرَة أُلَّاف دِرْهَم. وَفِي هَذَا الشَّهْر: أَيْضا وقف السُّلْطَان الْملك الصَّالح ثُلثي نَاحيَة سندبيس من القليوبية على سِتَّة عشر خَادِمًا لخدمة الضريح الشريف النَّبَوِيّ فتمت عدَّة خدام الضريح الشريف أَرْبَعُونَ خَادِمًا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع شعْبَان: قدم الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي من غَزَّة. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِمَوْت الْأَمِير أرنبغا نَائِب طرابلس فَعمِلت عَلَيْهِ أوراق بِحُقُوق سلطانية مبلغها ألفا ألف دِرْهَم. وَفِيه قدمت أَوْلَاد الْأَمِير أيدغمش من دمشق فألزموا بتفاوت الإقطاعات الَّتِي انْتَقَلت إِلَى أَبِيهِم من مصر وحلب ودمشق فبلغت جملَة كَثِيرَة باعوا فِيهَا خيولاً وعصابة مرصعة لأمهم بلغت مائَة ألف دِرْهَم. وَبَاعُوا حمام أيدغمش أَبِيهِم خَارج بَاب زويلة إِلَى خوند طغاي وعدة أَمْلَاك أَيْضا. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث شَوَّال: توفّي الْأَمِير بهادر الجوباني.(3/387)
وَفِي عاشره: توجه الْأَمِير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي فِي ألفي فَارس تجريدة لقِتَال النَّاصِر أَحْمد بالكرك وَهِي ثَانِي تجريدة. وَكتب بِخُرُوج تجريدة من دمشق وَحمل المنجنيق ونصبه على الكرك. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشريه: صَار نقل الأير يلبغا اليحياوي إِلَى حماة مَعَ طلبه فَركب الْأَمِير أرغون العلائي فِي عدَّة من الْأُمَرَاء حَتَّى زين خيله زِينَة عَظِيمَة ورتبها بِنَفسِهِ وشقوا الْقَاهِرَة وَكتب لَهُم بالإقامات فِي الطرقات. وَفِيه أَيْضا أُعِيد نجم الدّين مَحْمُود وَزِير بَغْدَاد إِلَى الوزارة وأعفي ملكتمر السرجواني مِنْهَا لتوقف أَحْوَال الدولة. وخلع عَليّ جمال الكفاة وَاسْتقر مشير الدولة بسؤال وَزِير بَغْدَاد فِي ذَلِك فَنزلَا مَعًا بتشاريفهما. وَصَارَ جمال الكفاة يطلع بكرَة النَّهَار إِلَى بَاب القلعة وَمَعَهُ الْوَزير فيصرفان الأشغال. وَطلب جمال الكفاة ضَمَان جَمِيع الْجِهَات وَزَاد فِي كل جِهَة نَحْو الْعشْرين ألف دِرْهَم وَمنع أَن يحمل شَيْء من مَال الجيزة وَلَا يصرف مِنْهَا إِلَّا بمرسوم السُّلْطَان فمشمت
(وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس ذِي الْقعدَة)
اسْتَقر لاجين أَمِير أخور عوضا عَن الْأَمِير آقسنقر الناصري. وَسبب ذَلِك أَنه سَأَلَ أَن يتَزَوَّج بخوند أردو أم الْأَشْرَف كجك فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَتزَوج بهَا وَكَانَت جميلَة الصُّورَة. ثمَّ بعد زواجها بأيام سَأَلَ الْأَمِير أقسنقر أَن يمشي صرغتمش الناصري فِي خدمته وَكَانَ قد اشْتَرَاهُ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بِنَحْوِ مائَة ألف دِرْهَم دفع عَنْهَا السُّلْطَان قَرِيبا من نَحْو خَمْسَة أُلَّاف دِينَار مصرية لجماله وبسببه كَانَت فتْنَة الْأَمِير قوصون مَعَ المماليك السُّلْطَانِيَّة لما طلبه بِاللَّيْلِ. وَكَانَ آقسنقر يهواه وَهُوَ يترفع عَلَيْهِ فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان الْأَمِير أرغون العلائي فِي إرْسَال صرغتمش إِلَى آقسنقر فَأنْكر ذَلِك. ثمَّ طلب السُّلْطَان صرغتمش وعرفه بِطَلَب أقسنقر لَهُ فَامْتنعَ أَشد امْتنَاع وَقَالَ: أقتل نَفسِي وَلَا أمضي إِلَيْهِ وأمشي فِي خدمته فَبعث السُّلْطَان إِلَى قماري والحجازي والنائب آقسنقر السلاري وعرفهم بذلك كُله فكلهم أنكر على آقسنقر الناصري طلبه صرغتمش وصابه وَأخذ الْحِجَازِي يتلطف بآقسنقر الناصري حَتَّى كف عَن طلبه على كره. ثمَّ رسم السُّلْطَان لآقسنقر الناصري أَن يتَوَجَّه مَعَ التجريدة إِلَى الكرك وَحمل إِلَيْهِ عشرَة أُلَّاف دِينَار وخسمائة جمل. وَأخذ الْأُمَرَاء فِي حمل التقادم إِلَيْهِ على حسب هممهم حَتَّى لم يبْق إِلَّا سَفَره. ثمَّ تخيل الْأَمِير أرغون العلائي من سَفَره أَن يخَامر مَعَ النَّاصِر أَحْمد فَبعث إِلَيْهِ يمنعهُ من السّفر فشق عَلَيْهِ ذَلِك وَلم يُوَافق فَأرْسل إِلَيْهِ(3/388)
السُّلْطَان الْأَمِير قماري أستادار فتلطف بِهِ حَتَّى وَافق بِشَرْط الإعفاء من الْأَمِير أخورية فأعفي وَسكن الْحِجَازِي بالأشرفية من القلعة وتحول آقسنقر إِلَى دَار الْحِجَازِي. وَفِي هَذِه السّنة: بعث أرتنا صَاحب الرّوم بهدية جليلة صُحْبَة قَاضِي الرّوم وَسَأَلَ أَن تجْرِي على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمر فِي أَيَّام الشَّهِيد السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد من تجهيز التَّقْلِيد بنيابة الرّوم. وفيهَا رتب السُّلْطَان دروساً للمذاهب الْأَرْبَعَة بالقبة المنصورية ووقف عَلَيْهَا وعَلى قراء وخدام وَغير ذَلِك نَاحيَة دهمشا من الشرقية فاستقر ذَلِك وَعرف بوقف الصَّالح. وفيهَا اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن عُثْمَان بن أَحْمد بن عَمْرو بن مُحَمَّد الزرعي فِي قَضَاء الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بحلب عوضا عَن الْبُرْهَان إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي. ثمَّ صرف الزرعي ببدر الدّين إِبْرَاهِيم بن الصد أَحْمد بن عِيسَى بن عمر بن خَالِد بن عبد المحسن بن الخشاب الْمصْرِيّ. وفيهَا ولدت امْرَأَة بِدِمَشْق مولوداً برأسين وَأَرْبَعَة أَيدي. وفيهَا كَانَ بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة فتْنَة بَين الْعَرَب وَالْحجاج من قبل الظّهْر إِلَى غرُوب الشَّمْس قتل فِيهَا جمَاعَة. وسببها أَن الشريف رميثة بن أبي نمى أَمِير مَكَّة شكا من بني حسن إِلَى أَمِير الْحَاج. فَركب أَمِير الْحَاج فِي يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة لحربهم وَقَاتلهمْ وَقتل من التّرْك سِتَّة عشر فَارِسًا وَقتل من جمَاعَة بني حسن عدَّة وَانْهَزَمَ بَقِيَّتهمْ فنفر النَّاس من عَرَفَة على تخوف وَلم ينهب لأحد شَيْء وَلَا تزَال بَنو حسن بمنى. ثمَّ رَحل الْحَاج بأجمعهم يَوْم النَّفر الأول ونزلوا الزَّاهِر خَارج مَكَّة وَسَارُوا مِنْهُ لَيْلًا إِلَى بطن مرو. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة: رسم بتجريد الْأَمِير أبي بكر بن أرغون النَّائِب والأمير أصلم والأمير أرنبغا. وَبَلغت زِيَادَة النّيل فِي هَذِه السّنة ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة أَصَابِع. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السفاقسي الْمَالِكِي فِي ذِي الْحجَّة وَله إِعْرَاب القرأن وَشرح ابْن الْحَاجِب فِي الْفِقْه.(3/389)
وَمَات الْأَمِير أرنبغا الناصري نَائِب طرابلس. وَمَات الْأَمِير أيدغمش الناصري نَائِب الشَّام. وَمَات الْأَمِير بيبرس الأحمدي الْحَاجِب وَهُوَ بِدِمَشْق فِي رَجَب. وَهُوَ أحد المماليك الناصرية ترقى فِي الخدم حَتَّى صَار أَمِير أخور ثمَّ عزل بأيدغمش وَاسْتقر حاجباً. وتجرد إِلَى الْيمن ثمَّ لما عَاد سجن فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَعشْرين وَأقَام معتقلاً تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر إِلَى أَن أفرج عَنهُ فِي ثَانِي عشرى رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ. وَأخرج إِلَى حلب أَمِيرا بهَا ثمَّ نقل إِلَى إمرة بِدِمَشْق فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ فمازال بهَا حَتَّى مَاتَ. وَله دَار بِالْقَاهِرَةِ دَاخل بَاب الزهومة بحارة العدوية وحفيده أَمِير عَليّ بن أَمِير أَحْمد بن الْحَاجِب الْمُقْرِئ. وَمَات الْأَمِير بكا الخطيري مقتولاً فِي رَابِع عشرى رَجَب. وَمَات الْأَمِير بهادر الجوباني رَأس نوبَة. وَمَات الْأَمِير قماري أَمِير شكار يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر نَائِب صفد وحلب مقتولاً بالكرك. وَمَات الْأَمِير سُلَيْمَان بن مهنا بن عِيسَى بن مهنا بن مَانع بن حَدِيثَة بن غضية بن فضل أَمِير آل فضل بِظَاهِر سلمية. وَمَات الْأَمِير طينال نَائِب صفد ونائب غَزَّة ونائب طرابلس وَهُوَ بصفد فِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ربيع الأول. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو المحاسن عبد الْقَادِر بن عبد الْمجِيد بن عبد الله بن مَتى الْيَمَانِيّ المَخْزُومِي الشَّافِعِي الأديب الْكَاتِب بالقدس عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة. قدم الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا وَله شعر وَمَات الْحَاجِب صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن الْبُرْهَان. وَتُوفِّي فَخر الدّين مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن شكر الْمَالِكِي بِمصْر عَن سبعين سنة. وَتُوفِّي الْمُقْرِئ بدر الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن نصحان الدِّمَشْقِي شيخ الْقُرَّاء بهَا عَن خمس وَسبعين سنة.(3/390)
وَمَات الْأَمِير قطلوبغا الفخري نَائِب الشَّام مقتولاً بالكرك. وَمَات سعد الْملك مطرف فِي حادي عشْرين جُمَادَى الأولى.(3/391)
فارغة(3/392)
(سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل الْمحرم: قدم مُبشر الْحَاج وَأخْبر بِكَثْرَة مَا كَانَ فِي هَذِه الْحجَّة من المشقات. وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم عَرَفَة تنافر أَشْرَاف مَكَّة مَعَ الأجناد من مصر فَرَكبُوا لحرابهم بكرَة النَّهَار ووقفوا للحرب صفّين. فَمشى الشريف عجلَان بَينهم فَلم تطعه الْأَشْرَاف وحملوا على الأجناد وقاتلوهم فَقتل مِنْهُم وَمن الْعَامَّة جمَاعَة. وأبلى الشريف عجلَان بن عقيل وأبلى كَذَلِك الْأَمِير أيدمر بلَاء عَظِيما فَعَاتَبَهُ بعض مماليك الْأَمِير بشتاك ورماه بِسَهْم فِي صَدره أَلْقَاهُ عَن فرسه وَقتل مَعَه أَيْضا جمَاعَة وَآل الْأَمر. إِلَى نهب شَيْء كثير ثمَّ تراجع عَنْهُم الْأَشْرَاف. وَفِيه قدم عِيسَى بن فضل بقود أَخِيه سيف بن فضل على عَادَته. وَكَانَ سُلَيْمَان بن مهنا قد سَافر إِلَى بِلَاده فَأكْرمه السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِ وأنزله منزلَة حَسَنَة. وَفِي يَوْم السبت سادسه: قدم من الكرك الطواشي صفي الدّين جَوْهَر ورفيقه مُخْتَار فارين من النَّاصِر أَحْمد. وَفِي يَوْم الْأَحَد سابعه: خرج المجردين إِلَى الكرك من الْقَاهِرَة صُحْبَة الْأَمِير أصلم والأمير بيبغا حارس الطير. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء عاشره: قبض السُّلْطَان على أَرْبَعَة أُمَرَاء وهم الْأَمِير أقسنقر السلاري نَائِب السلطنة والأمير بيغرا أَمِير جاندار صهره والأمير قراجا الْحَاجِب وأخيه أولاجا وقيدوا ورسم بسجنهم فِي الْإسْكَنْدَريَّة. وَفِيه خرج الْأَمِير بلك على الْبَرِيد إِلَى المجردين إِلَى الكرك فأدركهم على السعيدية فطيب خواطرهم وأعلمهم بِالْقَبْضِ على الْأُمَرَاء وَعَاد سَرِيعا فَقدم قلعة الْجَبَل طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْخَمِيس حادي عشره وَبعد وُصُوله قبض السُّلْطَان على الْأَمِير طيبغا الدوادار الصَّغِير. وَسبب قبض السُّلْطَان على هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء أَن الْأَمِير أقسنقر السلاري كَانَ فِي نيابته لَا يرد قصَّة ترفع إِلَيْهِ فقصده النَّاس من الأقطار وسألوه الرزق والأراضي الَّتِي أنهوا أَنَّهَا لم تكن بيد أحد وَكَذَلِكَ نيابات القلاع وولايات الْأَعْمَال والرواتب وإقطاعات الْحلقَة. فَلم يرد أحد سَأَلَهُ شَيْئا من ذَلِك سَوَاء كَانَ مَا أنهاه صَحِيحا أم بَاطِلا. فَإِذا قيل لَهُ هَذَا الَّذِي أنهاه يحْتَاج إِلَى كشف تغير وَجهه وَقَالَ: ليش تقطع رزق النَّاس. فَإِذا كتب بالإقطاع لأحد وَحضر صَاحبه من سَفَره أَو تعافى من مَرضه(3/393)
وَسَأَلَهُ فِي إِعَادَته قَالَ لَهُ: رح خُذ إقطاعك أَو يَقُول لَهُ: نَحن نعوضك. ففسدت الْأَحْوَال ولاسيما بالمملكة الشامية فَكتب النواب بذلك للسُّلْطَان فَكَلمهُ السُّلْطَان فَلم يرجع وَقَالَ: أَنا أَي من طلب مني شَيْئا أَعْطيته وَمَا أرد قلمي عَن أحد. بِحَيْثُ أَنه كَانَت تقدم لَهُ الْقِصَّة وَهُوَ يَأْكُل فَيتْرك أكله وَيكْتب عَلَيْهَا من غير أَن يعرف مَا فِيهَا فَأَغْلَظ لَهُ بِسَبَب ذَلِك آقسنقر الناصري أَمِير أخور. وَاتفقَ مَعَ ذَلِك أَنه وشى بِهِ أَنه يباطن للناصر أَحْمد ويواصل كتبه إِلَيْهِ فقرر أرغون العلائي مَعَ السُّلْطَان مسكه فمسك هُوَ وحاشيته. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشره: خلع السُّلْطَان عَليّ الْأَمِير الْحَاج آل ملك وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة عوضا عَن آقسنقر السلاري. وَكَانَ العلائي قد قرر مَعَ السُّلْطَان أَن يعرض على الْأُمَرَاء نِيَابَة السلطنة فَأول من عرضت عَلَيْهِ الْأَمِير بدر الدّين جنكلي بن البابا فَامْتنعَ فَقَالُوا بعده للأمير الْحَاج آل ملك فأظهر الْبشر وَأجَاب لَهَا إِن قبلت شُرُوطه. فَلَمَّا طلع الْأَمِير الْحَاج آل ملك لصَلَاة الْجُمُعَة على الْعَادة اشْترط على السُّلْطَان أَلا يفعل شَيْئا فِي المملكة إِلَّا بِرَأْيهِ وَأَنه يمْنَع الْخمر من البيع وَيُقِيم منار الشَّرْع وَأَنه لَا يُعَارض فِيمَا يَفْعَله. فَقبل السُّلْطَان شُرُوطه وَلبس الْأَمِير الْحَاج آل ملك تشريف النِّيَابَة بِجَامِع القلعة بعد صَلَاة الْجُمُعَة. وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان زِيَادَة على إقطاع النِّيَابَة بناحيتي المطرية وَالْخُصُوص ومتحصلهما اربعمائة ألف وَخمسين ألف دِرْهَم. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشره: خلع السُّلْطَان عَليّ منكلي بغا الفخري وَاسْتقر أَمِير جندار عوضا عَن بيغرا. وَفِيه فتح شباك النِّيَابَة وَجلسَ فِيهِ الْأَمِير الْحَاج آل ملك للمحاكمات. فَأول مَا بَدَأَ بِهِ أَن أَمر وَالِي الْقَاهِرَة بِأَن ينزل إِلَى خزانَة البنود بِالْقَاهِرَةِ ويحتاط على مَا بهَا من الْخمر والبغايا وَيخرج من فِيهَا من النَّصَارَى الأسرى ويريق مَا هُنَاكَ من الْخُمُور ويخربها حَتَّى يَجْعَلهَا دكاً وَسبب ذَلِك أَن خزانَة البنود كَانَت يَوْمئِذٍ حانة بعد مَا كَانَت سجناً يسجن فِيهِ الْأُمَرَاء والجند والمماليك كَمَا أَن خزانَة شمائل سجن لآرباب الجرائم من اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق. فَلَمَّا كَانَت دولة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بعد عوده من الكرك وشغف بِكَثْرَة العمارات اتخذ الأسرى وجلبهم إِلَى مصر من بِلَاد الأرمن وَغَيرهَا وَأنزل عدَّة كَثِيرَة مِنْهُم بقلعة الْجَبَل وَجَمَاعَة كَثِيرَة بخزانة البنود. فَمَلَأ أُولَئِكَ الأرمن خزانَة البنود حَتَّى بَطل السجْن بهَا وعمرها السُّلْطَان النَّاصِر مساكنا لَهُ وتوالدوا بهَا وعصروا الْخُمُور بِحَيْثُ أَنهم عصروا فِي سنة وَاحِدَة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف جرة باعوها جهاراً وَكَانَ لحم الْخِنْزِير يعلق عِنْدهم على الْوَضم وَيُبَاع من غير(3/394)
احتشام. وَاتَّخذُوا عِنْدهم أَمَاكِن لِاجْتِمَاع النَّاس على الْمُحرمَات فيأتيهم الْفُسَّاق ويظلون عِنْدهم الْأَيَّام على شرب الْخُمُور ومعاشرة الفواجر والأحداث ففسدت حرم كَثِيرَة من النَّاس وَكثير من أَوْلَادهم وَجَمَاعَة من مماليك الْأُمَرَاء فَسَادًا شنيعاً حَتَّى إِن الْمَرْأَة إِذا تركت أَهلهَا أَو زَوجهَا أَو الْجَارِيَة إِذا تركت مواليها أَو الشَّاب إِذا ترك أَبَاهُ وَدخل عِنْد الأرمن بخزانه البنود لَا يقدر أَن يأخده مِنْهُم وَلَو كَانَ من كَانَ. فَقَامَ الْأَمِير الْحَاج آل ملك فِي أَمرهم وفاوض السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي فسادهم غير مرّة فَلم يجبهُ إِلَى أَن أَكثر عَلَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا حَاج! كم تَشْتَكِي من هَؤُلَاءِ إِن كَانَ مَا يُعْجِبك مجاورتهم انْتقل عَنْهُم فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَركب إِلَى ظَاهر الحسينية وَاخْتَارَ مَكَانا وعمره دَارا وَأَنْشَأَ بجانبها جَامعا وحماماً وربعاً وحوانيت. وَبقيت فِي نَفسه حزازات حَتَّى أمكنته الْقُدْرَة مِنْهُم وانبسطت يَده فيهم بِكَوْنِهِ نَائِب السُّلْطَان فَنزل وَالِي الْقَاهِرَة وَمَعَهُ الْحَاجِب وعدة من أَصْحَاب النَّائِب وهجموا خزانَة البنود وأخرجوا جَمِيع سكانها وكسروا أواني الْخمر فَكَانَت شَيْئا يجل وَصفه كَثْرَة وهدموها وَاشْترى أرْضهَا الْأَمِير قماري من بَيت المَال وَتقدم إِلَى الضياء الْمُحْتَسب أَن يُنَادي بتحكيرها فَرغب النَّاس فِي أرْضهَا واحتكروها وبنوها دوراً وطواحين وَغَيرهَا. وَقد ذكرنَا أَخْبَار خزانَة البنود فِي كتاب المواعظ وَالِاعْتِبَار بِذكر الخطط والْآثَار ذكرا شافياً فَكَانَ يَوْم هدم خزانَة البنود يَوْمًا مشهوداً من الْأَيَّام الْمَشْهُورَة الْمَذْكُورَة عدل هدمها فتح طرابلس وعكا لِكَثْرَة مَا كَانَ يعْمل فِيهِ بمعاصي الله. ثمَّ طلب النَّائِب وَالِي القلعة وألزمه أَن يفعل ذَلِك ببيوت الأسرى من القلعة فَمضى إِلَيْهَا وَكسر جرار الْخمر الَّتِي بهَا وأنزلهم من القلعة وجعلهم مَعَ نَصَارَى خزانَة البنود فِي مَوضِع بجوار وَكَانَت الأسرى الَّتِي بالقلعة من خَواص الأسرى وَعَلَيْهِم كَانَ يعْتَمد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي أَمر عمائره وَكَانُوا فِي فَسَاد كَبِير مَعَ المماليك وَحرم القلعة فأراح الله مِنْهُم. ثمَّ رسم الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب بتتبع أهل الْفساد فَمنع النَّاس من ضرب الخيم على شاطئ النّيل بالجزيرة وَغَيرهَا للنزهة وَكَانَت مَحل فَسَاد كَبِير لاختلاط الرِّجَال فِيهَا بِالنسَاء وتعاطيهم الْمُنْكَرَات.(3/395)
واقترح الْأَمِير الْحَاج آل ملك فِي نِيَابَة اقتراحات كَثْرَة مِنْهَا أَنه منع من مُكَاتبَة وُلَاة الْأَعْمَال إِلَّا بعد أَن يبْعَث الْوَالِي أَن كَانَ للشاكي حق شَرْعِي وَجعل عوض الْمُكَاتبَة لَهُ كِتَابَة الشكوى خلف قصَّة المشتكي وَكَثِيرًا مَا كَانَ يرد الشكاة إِلَى الْوُلَاة والكشاف وَصَارَ يكنب لجَمِيع الْوُلَاة يعْتَمد. ورسم الْأَمِير الْحَاج آل ملك لأولي نيابته بِإِبْطَال جَمِيع الملعوب وَهِي جِهَة سلطانية كَانَ يتَحَصَّل مِنْهَا مَال كثير وَلها ضَامِن يُقَال لَهُ كمجتي. لَهُ ضَرَائِب مقررة على أَرْبَاب الملعوب من المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك وعَلى المعالجين والمصارعين والمثاقفين والملاكمين والمشابكين وعَلى المقامرين على اخْتِلَاف أَنْوَاع الْقمَار وعَلى القرادة والدبابة الَّذين يَلْعَبُونَ بالقرود والدب وَغير ذَلِك من أَنْوَاع اللّعب فَبَطل ذَلِك كُله. وأبطل الْأَمِير الْحَاج آل ملك أَيْضا جِهَة ابْن البطوني وَهِي جِهَة سلطانية لَهَا ضَامِن عَلَيْهِ مَال مُقَرر يَأْخُذهُ من كل من رد عَلَيْهِ عَبده أَو أمته إِذا أَبقوا فَكَانَ يتَعَدَّى حَتَّى يَأْخُذ من يجده من العبيد وَالْإِمَاء قد مضى لمَوْلَاهُ فِي حاحة ويحبسه عِنْده حَتَّى يصالحه مَوْلَاهُ على مَال يَدْفَعهُ إِلَيْهِ فَبَطل ذَلِك. وأبطل الْأَمِير الْحَاج آل ملك النُّزُول عَن الإقطاعات والمقايضات بِهَذِهِ بعد أَن فشى ذَلِك بَين الأجناد حَتَّى إِن جندياً قايض أخر بإقطاعه ومبلغ أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة دِرْهَم أقبضهُ مِنْهَا أَلفَيْنِ فألزمه الْأَمِير الْحَاج آل ملك بِحمْل الْأَلفَيْنِ لبيت المَال فانكف الأجناد عَن المقايضات. ومقت الْأَمِير الْحَاج آل ملك من يرفع إِلَيْهِ قصَّة بِطَلَب زِيَادَة فَرفع لَهُ عَلَاء الدّين بن القلنجقي أحد الْأُمَرَاء العشرات قصَّة يسْأَل فِيهَا زِيَادَة على إقطاعه فَوَقع لَهُ عَلَيْهِ بِمِائَتي فدان من الْجَبَل الْأَحْمَر زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ. وَمنع الْأَمِير الْحَاج آل ملك من مُكَاتبَة نواب الشَّام وَكِتَابَة التواقيع السُّلْطَانِيَّة لأهل الشَّام وَكتب مرسوم السُّلْطَان إِلَى الممالك الشامية بِإِبْطَال الْعَمَل بِمَا كتب بِهِ من بعد وَفَاة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد وَلَا يعْتَمد إِلَّا على المراسيم المستقرة إِلَى حِين وَفَاته ليبطل بذلك مَا كَانَ فِي نِيَابَة أقسنقر السلاري فبطلت جمَاعَة كَثِيرَة بِأَيْدِيهِم(3/396)
مراسيم سلطانية منصورية وأشرفية وصالحية تَجَدَّدَتْ بعد السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَأخذت مِنْهُم. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشره: قدم محمل الْحَاج. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشريه: نُودي بتحكير خزانَة البنود فشرع النَّاس فِي تحكيرها. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشريه: رسم السُّلْطَان أَن يُعَاد على نَاصِر الدّين الْمَعْرُوف بفأر السقوف مَا أَخذ لَهُ فِي نِيَابَة الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر وخلع عَلَيْهِ بحسبة مصر عوضا عَن ابْن بنت الْأَعَز بشفاعة الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فأعيد لَهُ مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم من بَيت المَال. وَفِيه قدم شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق بِطَلَب لِكَثْرَة شعاته فَقَامَ أَخُوهُ عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله فِي أمره حَتَّى أُعِيد إِلَى دمشق معزولاً من غير مصادرة ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ. وَفِيه أنعم على عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة بإمريات مِنْهُم شيخو الْعمريّ وألطنبغا برناق. وَفِي هَذَا الشَّهْر: كثر تخوف النَّاس من منسر انْعَقَد بِالْقَاهِرَةِ وَذَلِكَ أَن رجال هَذَا المنسر كبسوا عدَّة بيُوت وَكَتَبُوا أوراقاً يطْلبُونَ فِيهَا مَالا من الْأَغْنِيَاء وَمَتى لم يبْعَث لنا ذَلِك كُنَّا ضيوفك وأعيا الْوَالِي أَمرهم فاتفق أَنهم كبسوا بَيْتا ببولاق وَكَانَ أَهله قد أنذروا بهم فَاسْتَعدوا لَهُم وَتركُوا أَبْوَابهم مَفْتُوحَة فَدَخَلُوا نصف اللَّيْل وَإِذا بالنشاب قد وَقع فِي صُدُورهمْ فَأصَاب مِنْهُم ثَلَاثَة وَرجع باقيهم منهزمين. فَخرج مِنْهُم أَيْضا اثْنَان والطلب فِي أثرهما فَقتل مِنْهُمَا وَاحِد وقبضوا مِنْهُم على ثَلَاثَة وَأتوا بهم الْوَالِي فأقروا على جمَاعَة بالجزيرة وَغَيرهَا فتتبعوا إِلَى أَن ظفر بِجَمَاعَة سمروا وشهروا. وَفِيه قدم الرجل الصَّالح أَحْمد الزرعي فَأكْرمه الْأَمِير جنكلي بن البابا وَجمع بَينه وَبَين السُّلْطَان. فَسَأَلَ الزرعي أَن تعفى بَلَده زرع من المغارم وَالسحر وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ عَاد إِلَى الشَّام. وَفِيه قدم الْأَمِير سيف بن فضل فَأكْرمه السُّلْطَان وَكتب لَهُ ببلدة(3/397)
زرع حسب سُؤَاله وسافر فَمَاتَ قبل أَن يستغلها. وَفِيه قدم أَيْضا أَحْمد بن مهنا وَسيف بن فضل بقود. وَفِيه وصلت رسل متملك الْهِنْد بهدية فِيهَا فصان ياقوت وَمَعَهُمْ كتاب يتَضَمَّن السَّلَام والمودة وَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا يعْرفُونَ الْإِسْلَام حَتَّى أَتَاهُم رجل عرفهم ذَلِك وَذكر لَهُم أَن ولَايَة الْملك لابد أَن تكون من الْخَلِيفَة. وَسَأَلَ متملك الْهِنْد أَن يكْتب لَهُ تَقْلِيد من جِهَة الْخَلِيفَة بِولَايَة مملكة الْهِنْد ليَكُون نَائِبا عَن السُّلْطَان بِتِلْكَ الْبِلَاد وَأَن يبْعَث السُّلْطَان إِلَيْهِم رجلا يعلمهُمْ شرائع الْإِسْلَام من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَنَحْو ذَلِك. فأكرمت الرُّسُل وَطلب من الْخَلِيفَة أَن يكْتب تقليداً لمرسلهم بسلطنة الْهِنْد فَكتب لَهُ تَقْلِيد جليل ورسم بسفر ركن الدّين الْمَلْطِي شيخ الخانكاه الناصرية بسرياقوس مَعَ الرُّسُل. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِطَلَب نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن صَغِير الطَّبِيب ليعاج الْأَمِير ألطنبغا المارداني فَأخْرج على الْبَرِيد وَقدم حلب يَوْم الثُّلَاثَاء سلخه وَقد احْتضرَ الْأَمِير ألطنبغا فَمَاتَ من الْغَد فَعَاد ابْن صَغِير بعد يَوْمَيْنِ من حلب. وَفِي تَاسِع عشريه: رسم بتجريد الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير آقسنقر الناصري والأمير أبي بكر بن أرغون النَّائِب والأمير طيبغا المجدي إِلَى الكرك. وَفِي ثَانِي عشر صفر: قدم الْخَبَر بوفاة الْأَمِير ألطنبغا المارداني نَائِب حلب فَصلي عَلَيْهِ صَلَاة الْغَائِب بجامعه وقرئت لَهُ ختمة شريفة. وَفِيه عقد مشور عِنْد السُّلْطَان فِيمَن يَلِي حلب فَأَشَارَ الْأَمِير أرغون العلائي باستقرار الْأَمِير يلبغا اليحياوي فِي نِيَابَة حلب وَأَن يسْتَقرّ عوضه فِي نِيَابَة حماة الْأَمِير طقتمر الأحمدي وَأَن يسْتَقرّ بلك الجمدار فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن طقتمر الأحمدي. وَعين أرغون شاه للسَّفر بتقليد الْأَمِير يلبغا وَأَن يتَوَجَّه الْأَمِير أَحْمد لإحضار حَرِيم المارداني وأمواله من حلب. وَفِي رَابِع عشريه: توجه الْأَمِير ألطنبغا برناق بتقليد طقتمر نَائِب حماة.(3/398)
وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشريه: قدم الْأَمِير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي وَمن مَعَهُمَا من المجردين التجريدة الثَّانِيَة إِلَى الكرك فَركب الْأُمَرَاء إِلَى لقائهم. وَكَانَ قبل ذَلِك بيومين ورد كتاب الْأَمِير أصلم بِأَنَّهُ قدم إِلَى الكرك بِمن مَعَه وَخرج الْأَمِير بيبرس الأحمد بِمن مَعَه وَطلب أَن يقوى بعسكر. فَكتب إِلَى وُلَاة الأقاليم لِلْخُرُوجِ إِلَى الكرك بطلبهم وَنزل النُّقَبَاء إِلَى الْأُمَرَاء المعينين للسَّفر بخروجهم. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سلخه: خرج الْأَمِير بلك الجمدر من الْقَاهِرَة لنيابة صفد. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع ربيع الأول: خرج الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير أقسنقر الناصري وملكتمر السرجواني وأمير عمر بن أرغون النَّائِب فِي أَرْبَعَة أُلَّاف فَارس تَقْوِيَة للأمير أصلم وَهِي التجريدة الرَّابِعَة للكرك. وَتوجه صحبتهم عدَّة حجارين ونقابين ونفطية وَتوجه السُّلْطَان بعد سفرهم إِلَى سرياقوس على الْعَادة. وَفِيه اشْتَدَّ الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب على وَالِي الْقَاهِرَة ومصر فِي منع الْخمر وَغَيره من الْمُحرمَات وتتبع أهل الْفساد وإحضارهم إِلَيْهِ. وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر من أحضر سكراناً أَو أحدا مَعَه جرة خمر خلع عَلَيْهِ. فَقعدَ الْعَامَّة لشربة الْخمر بِكُل طَرِيق وأتوه مرّة بجندي قد سكر فَضَربهُ وَقطع خبزه وخلع على من أحضرهُ. وَقبض الْعَامَّة أَيْضا على بعض مماليك الْأُمَرَاء وَقد أحضر جرة خمر فِي مركب فَضَربهُ وَقطع خبزه. وَأخذ النَّائِب كثيرا من شربة الْخمر وباعته بِنَاحِيَة شبْرًا الخيم ومنية السيرج وَمن المراكب وَمن الْبيُوت فضربهم عرايا وكشف رُءُوسهم وصب عَلَيْهِم الْخمر وشهرهم. ونادى من اشْترى عنباً بالقنطار قبض عَلَيْهِ ويؤتي بِهِ إِلَيْهِ. فَعرفهُ شاد الدَّوَاوِين أَن متحصل الدِّيوَان من مُعَاملَة الْعِنَب مائَة ألف دِرْهَم وَقد بطلت فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وتنجز مرسوم السُّلْطَان بالمساجة بذلك. وَبعث النَّائِب فِي خُفْيَة من اشْترى لَهُ عنباً بِدِرْهَمَيْنِ فَجَاءَهُ عشرَة أَرْطَال فَطلب الْمُحْتَسب وَأنكر عَلَيْهِ كَيفَ يكون الْعِنَب بِهَذَا السّعر وَقد منعنَا من اعتصاره. وَمنع الْأَمِير الْحَاج ملك النَّائِب أَن يحمل الفرنج إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة خمرًا فَقَامَ فِي ذَلِك جمال الكفاة وَذكر أَنه يتَحَصَّل من ذَلِك فِي السّنة نَحْو الْأَرْبَعين ألف دِينَار وَمَتى منع الفرنج من حمل الْخمر فسد حَال الْإسْكَنْدَريَّة ومازال بالسلطان حَتَّى منع النَّائِب من ذَلِك. وأبطل الْأَمِير الْحَاج آل ملك النوايح من الْقَاهِرَة ومصر فَقَامَتْ الضامنة عِنْد الْأَمِير قماري الأستادار فِي إِعَادَة النوايح وخوفت أَن جِهَته تبطل وَكَانَ مرصده للحاشية فمازال الْأَمِير قماري يكلم الْأَمِير الْحَاج آل ملك حَتَّى أَعَادَهَا.(3/399)
وَفِي هَذَا الشَّهْر: قَامَ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة على إِمَام الْجَامِع الْأَزْهَر وحبسه. وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ يَلِي نظر الْجَامِع فَأخْرجهُ عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة وولاه للْقَاضِي الْحَنْبَلِيّ فتعصب جمَاعَة للْإِمَام حَتَّى أَعَادَهُ آقسنقر السلاري النَّائِب إِلَى نظر الْجَامِع. فشق ذَلِك على الْقُضَاة وتنكروا لَهُ فَقَامَ رجل وأنهى إِلَيْهِم أَن الإِمَام من خمس وَعشْرين سنة وَقع فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن زعم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انهزم فِي بعض غَزَوَاته وَكتب بذلك محضراً وأثبته. وشنعوا بذلك عَلَيْهِ وأخذوه من الْجَامِع إِلَى الْحَبْس فَقَامَ الشَّيْخ خَلِيل الْمَالِكِي والقوام الْكرْمَانِي قيَاما زايداً حَتَّى وصل إِلَى السُّلْطَان والأمراء أَن بَين الْقُضَاة وَبَينه عَدَاوَة بِسَبَب نظر الْجمع من قديم. فَطلب الْقُضَاة إِلَى القلعة بِحَضْرَة السُّلْطَان وَحَدَّثَهُمْ السُّلْطَان فِي أمره فوقعوا فِيهِ وقيعة قبيحة وَأَنه قد وَجب قَتله وَقد حكم بعزله من الْإِمَامَة. فمازال السُّلْطَان بهم حَتَّى حكم الْحَنَفِيّ بتعزيره فعزر وَاسْتمرّ على وظيفته. وَكَثُرت القالة فِي ابْن جمَاعَة بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ كَانَت لَهُ سمعة عِنْد الخدام وتتردد إِلَيْهِ أم السُّلْطَان. وَفِيه خلع عَليّ نجم الدّين أَيُّوب وأعيد لولاية الْقَاهِرَة عوضا عَن شُجَاع الدّين غرلو وَأخرج غرلو إِلَى الشوبك عوضا عَن ألطنقش. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عشر: قدم الْخَبَر بوصول المنجنيق من صفد إِلَى الكرك وَأَنه هرب من خدام أَحْمد ومماليكه نَحْو سِتَّة وَأَرْبَعين نَفرا ثمَّ قدمُوا فِي حادي عشريه فَخلع عَلَيْهِم. وَفِي رَابِع عشر ربيع الآخر: قدم الْخَبَر بوصول جنكلي بن البابا وأقسنقر الناصري إِلَى الكرك بِمن مَعَهُمَا فِي يَوْم السبت سابعه فزحفوا من غدهم وقاتلوا قتالاً شَدِيدا جرح فِيهِ بَالغ وَجَمَاعَة وعدة قتلوا وجرح كثير. فانكسر أهل الكرك كسرة قبيحة فسر السُّلْطَان بذلك وَبعث إِلَى الْأُمَرَاء المجردين خمسين حجاراً. وَفِيه قدم رَسُول حسن بن دمرداش بن جوبان بهدية وَسَأَلَ أَن يبْعَث إِلَيْهِ برمة أَبِيه فَاعْتَذر السُّلْطَان عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لم يعرف لَهُ قبراً. وَاتفقَ فِي زِيَادَة النّيل أَنه كَانَ وفاؤه يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر ربيع الأول وَهُوَ سَابِع عشر مسرى فَزَاد زِيَادَة كَبِيرَة بعد الْوَفَاء حَتَّى فاض من جِهَة قرموط من الخليج وطلع من الأسربة. فَركب الْوَالِي إِلَى بولاق وَركب النَّائِب إِلَى جسر بركَة الْحَبَش فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وَأقَام ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى أتقن بعض الجسور. وفاض النّيل من جِهَة قناطر الأوز فَكتب لوالي الشرقية على أَجْنِحَة الْحمام أَن يقطع(3/400)
اللؤلؤة فَكثر تقطع الجسور وتعبت الْوُلَاة فِي سدها حَتَّى تقطعت جَمِيعهَا بِالْوَجْهِ القبلي وَالْوَجْه البحري. وفسدت الأقصاب والنيلة والقلقاس وَسَائِر الزراعات الصيفية والمخا زن. وَفِيه قدم الْخَبَر بِكَثْرَة الْفساد والمجاهرة بالخمور وأنواع الفسوق بِدِمَشْق وَقلة حُرْمَة نائبها الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ وتغلب مماليكه وتهكمهم عَلَيْهِ وَسُوء سيرتهم فَكتب بالإنكار عَلَيْهِ. وَاتفقَ بِظَاهِر الْقَاهِرَة أَمر اعتني بضبطه وَهُوَ أَنه كَانَ بِنَاحِيَة اللوق كوم يعرف بكوم الزل يأوي إِلَيْهِ أهل الفسوق من أوباش الْعَامَّة فَأخذ بَعضهم مِنْهُ موضعا ليبني لَهُ فِيهِ بَيْتا فشرع فِي نقل التُّرَاب مِنْهُ فَبينا هُوَ يحْفر إِذْ ظهر لَهُ إِنَاء فخار فِيهِ مكاتيب دَار كَانَت فِي هَذَا الْبقْعَة وتدل على أَنه كَانَ بِهِ أَيْضا مَسْجِد وَرَأى أثار الْبُنيان. فأشاع بعض شياطين الْعَامَّة - وَكَانَ يُقَال لَهُ شُعَيْب أَنه رأى فِي نَومه أَن هَذَا الْبُنيان على قبر بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَأَن من كراماته أَنه يُقيم المقعد وَيرد بصر الْأَعْمَى وَصَارَ يَصِيح ويهلل وَيظْهر اختلال عقله. فاجتمعت عَلَيْهِ الغوغاء وَأَكْثرُوا من الصياح وتناولوا تِلْكَ الأَرْض بِالْحفرِ حَتَّى نزلُوا فِيهَا نَحْو قامتين فَإِذا مَسْجِد لَهُ محراب. فَزَاد نشاطهم وفرحوا فَرحا كَبِيرا وَبَاتُوا فِي ذكر وتسبيح. وَأَصْبحُوا وجمعهم نَحْو الْألف إِنْسَان فشالوا ذَلِك الكوم وساعدهم النِّسَاء حَتَّى إِن الْمَرْأَة كَانَت تشيل التُّرَاب فِي مقنعها وأتاهم النَّاس من كل أَوب وَرفعُوا مَعَهم التُّرَاب فِي أقبيتهم وعمائمهم وألقوه فِي الكيمان بِحَيْثُ تهَيَّأ لَهُم فِي يَوْم وَاحِد مَا لَا تفي مُدَّة شهر بنقله. وحفر شُعَيْب حُفْرَة كَبِيرَة وَزعم أَنَّهَا مَوضِع الصَّحَابِيّ فَخرج إِلَيْهِ أهل الْقَاهِرَة ومصر أَفْوَاجًا وَركب إِلَيْهِ نسَاء الْأُمَرَاء والأعيان فيأخذهن شُعَيْب وينزلهن تِلْكَ الحفرة لزيارتها وَمَا مِنْهُنَّ إِلَّا من تدفع الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم. وأشاع شُعَيْب أَنه أَقَامَ الزمنى وعافى المرضى ورد أبصار العميان فِي هَذِه الحفرة وَصَارَ يَأْخُذ جمَاعَة مِمَّن يظْهر أَنه من أهل هَذِه العاهات وَينزل بهم إِلَى الحفرة ثمَّ(3/401)
يخرجهم وهم يسبحون الله أكبر الله أكبر ويزعمون أَنهم قد زَالَ مَا كَانَ بهم. فَافْتتنَ النَّاس لتِلْك الحفرة وَنزلت أم السُّلْطَان لزيارتها وَلم تبْق أمْرَأَة مَشْهُورَة حَتَّى أتتها وَصَارَ للنَّاس هُنَاكَ مُجْتَمع عَظِيم بِحَيْثُ يسرج بِهِ كل لَيْلَة نَحْو مِائَتي قنديل وَمن الشموع الموكبية شَيْء كثير. فَقَامَتْ الْقُضَاة فِي ذَلِك مَعَ الْأَمِير أرغون العلائي والأمير الْحَاج آل ملك النَّائِب وقبحوا هَذَا الْفِعْل وخوفوا عاقبته حَتَّى رسم لوالي الْقَاهِرَة أَن يتَوَجَّه إِلَى مَكَان الحفره ويكشف أمرهَا فَإِن كَانَ فِيهَا مقبور يحمل إِلَى مَقَابِر الْمُسلمين ويدفن بِهِ سرا ثمَّ يُعْفَى الْموضع. فَلَمَّا مضى إِلَيْهِ ثارت بِهِ الْعَامَّة تُرِيدُ رجمه وصاحوا عَلَيْهِ بالإنكار الشنيع حَتَّى رماهم الْجند بالنشاب فتفرفوا وهرب شُعَيْب ورفيقه العجوي ومازال الحفارون يعْملُونَ فِي ذَلِك الْمَكَان إِلَى أَن انْتَهوا فِيهِ إِلَى سراب حمام وَلم يَجدوا هُنَاكَ قبراً وَلَا مقبوراً فطموه بِالتُّرَابِ وَانْصَرفُوا. وَفد انْحَلَّت عزائم النَّاس عَنهُ بَعْدَمَا فتنُوا بِهِ وَضَلُّوا ضلالا بَعيدا وَجمع شُعَيْب ورفيقه كثيرا من المَال وَالثيَاب شَيْئا طائلاً. وَفِيه توجه أيدمر الشمسي لكشف أَحْوَال الكرك. وَفِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشرى جُمَادَى الأولى: قدم الْأَمِير أصلم وَأَبُو بكر بن أرغون النَّائِب وأروم بغا من تجريدة الكرك بِغَيْر إِذن وَاعْتَذَرُوا بِضعْف أبدانهم وَكَثْرَة الْجِرَاحَات فِي أَصْحَابهم وَقلة الزَّاد عِنْدهم. فَقبل السُّلْطَان عذرهمْ ورسم الْأَمِير طقتمر الصلاحي وتمر الموساوي فِي عشْرين مقدما من الْحلقَة وَألْفي فَارس فَسَارُوا خلقه وَهِي التجريدة الْخَامِسَة. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب أَنه خرجت عَسَاكِر حلب وحماة وطرابلس صُحْبَة سنقر وَصَلَاح الدّين الدوادار إِلَى جِهَة سيس لِحَرْب أَهلهَا من الأرمن لمنعهم الْخراج. تركمان الطَّاعَة وأغاروا مَعَهم وأثروا فِي أهل سيس آثَار قبيحة. وَفِيه نُودي من قبل الْأَمِير الْحَاج آل ملك نَائِب السُّلْطَان بِأَن أهل الْأَسْوَاق كلهَا إِذْ أذن الصَّلَاة يصلونَ قُدَّام دكاكينهم بِإِمَام يُصَلِّي بهم فعملوا أنخاخاً وحصروا برسم فرشها للصَّلَاة فِي الْأَسْوَاق. وَتوجه السُّلْطَان فِي هَذِه الْأَيَّام إِلَى سرياقوس على الْعَادة ورسم بلعب الرمْح بَين يَدَيْهِ. فَاجْتمع غواة لعب الرمْح وَحضر طيدمر الملكي وَابْن الطرابلسي الرماح وقطز(3/402)
الشمسي وَمن ضاهاهم وتكافحوا. فَظهر ابْن الطرابلسي يَوْمئِذٍ على سَائِرهمْ وأنعم عَلَيْهِ. وفيهَا ترك الْأَمِير طقبغا الناصري إمريته وتزيا بزِي الْفُقَرَاء فَلَزِمَهُ بِحكم الدِّيوَان أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم حمل مِنْهَا مباشروه ثَلَاثمِائَة ألف. وفيهَا رسم باستقرار الْأَمِير سيف الدّين بن فضل أَمِير الْأُمَرَاء فِي الإمرية عوضا عَن سُلَيْمَان بن مهنا بعد مَوته. وفيهَا كتب بِمَنْع أَحْمد بن مهنا من الْقدوم إِلَى مصر فَرده نَائِب الشَّام من دمشق وَعَاد إِلَى أَهله. فاتفق أَحْمد بن مهنا مَعَ فياض على إِقَامَة فتْنَة. وفيهَا تزوج السُّلْطَان ابْنة الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ نَائِب الشَّام بعد مَا جهز الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي بِالْمهْرِ إِلَى دمشق فَقَدمهَا فِي سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَقد تَلقاهُ الْأَمِير طقزدمر فَدفع إِلَيْهِ الْمهْر وَهُوَ مائَة ألف دِرْهَم. وَعَاد الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي من دمشق من غير أَن يَأْخُذ لأحد شَيْئا هَدِيَّة فَبعث لَهُ الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ ألفي دِينَار وَمِائَة قِطْعَة قماش وَأَرْبَعَة أرؤس خيل. وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بألفي دِينَار وخيول وَغَيرهَا. وَفِيه قدم الْخَبَر بِخُرُوج فياض وَآل مهنا عَن الطَّاعَة وإغارتهم على عرب سيف بن فضل وَأَخذهم قفلاً من بَغْدَاد إِلَى نواحي الرحبة كَانَ فِيهِ لرجل وَاحِد مَا قِيمَته نَحْو مِائَتي ألف دِينَار سوى مَا لغيره من التُّجَّار. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن سُلَيْمَان شاه حَاكم الأردو جرت بَينه وَبَين أرتنا ملك الرّوم حَرْب انتصر فِيهَا أرتنا وَقتل عدَّة من أَصْحَاب سُلَيْمَان شاه وغنم مَا مَعَهم وَهزمَ باقيهم. وَفِي مستهل رَجَب: عَاد الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير آقسنقر الناصري من تجريدة الكرك إِلَى الْقَاهِرَة وَفِيه قدم الْبري بِمحضر ثَابت على قُضَاة حلب يتَضَمَّن أَنه لما كَانَ يَوْم السبت سادس شعْبَان إِذا برعد وبرق أعقبته زَلْزَلَة عَظِيمَة سمع حسها من نصف ميل عَن حلب وَهُوَ حس مزعج يرجف الْقُلُوب. فهدم من القلعة اثْنَا وَثَلَاثُونَ برجاً سوى الْبيُوت وَهدم من قلعة البيرة أَكثر من نصفهَا وَكَذَلِكَ من قلعة عين تَابَ وقلعة(3/403)
الراوند وبهسنا وبلاد منبج وقلعة الْمُسلمين. فَخرج أهل حلب إِلَى ظَاهرهَا وضربوا الخيم وغلقت سَائِر أسواقها وَفِي كل سَاعَة يسمع دوِي جَدِيد. ثمَّ إِنَّهُم تجمعُوا عَن أخرهم وكشفوا رُءُوسهم وَمَعَهُمْ أطفالهم والمصاحف مَرْفُوعَة وهم يضجون بِالدُّعَاءِ والابتهال إِلَى الله بِرَفْع هدا المقت. فأفاموا على ذَلِك أَيَّامًا إِلَى خَامِس عشريه حَتَّى رفع الله ذَلِك عَنْهُم بَعْدَمَا هَلَكت بِتِلْكَ الْبِلَاد تَحت الرَّدْم خلائق لَا يحصيها إِلَّا خَالِقهَا فَكتب بتجديد عمَارَة مَا هدم من القلاع من الْأَمْوَال الديوانية. وَقدم الْخَبَر من الكرك بِأَن العساكر أخذت على طرقها كلهَا بالاحتفاظ وأخدت أغناماً كَثِيرَة لأَهْلهَا وَقتلت جمَاعَة من الكركيين. فرسم بتجهيز الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي والأمير أرقطاي والأمير قماري أستادار وَعشْرين أَمِير طبلخاناه وعشرات وَثَلَاثِينَ مقدم حَلقَة وَأنْفق السُّلْطَان فيهم. فَسَارُوا يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شَوَّال فِي ألفي فَارس وَهِي التجريدة السَّادِسَة وَتوجه مَعَهم عدَّة حجارين ونفطية. وَفِيه خلع على الْأَمِير طرغاي الطباخي وَاسْتقر فِي نِيَابَة طرابلس بعد موت رسغاي السِّلَاح دَار وكتبت أوراق ديوانية بِمَا يلْزم رسغاي بِحكم الدِّيوَان ويشتمل على ألفي ألف دِرْهَم. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن الأطروش السَّقطِي فِي حسبَة دمشق بعناية الْأَمِير أرغون العلائي فشنع النَّاس بِسَبَب ولَايَته لجهله بالأمور الشَّرْعِيَّة. وَفِي أول شعْبَان: ورد كتاب النَّاصِر أَحْمد من الكرك وَهُوَ يترفق وَيعْتَذر عَن قتل الْأَمِير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أَخْضَر وَأَنه إِن رسم بِحُضُورِهِ حضر وَإِن رسم بإقامته بالكرك أَقَامَ تَحت الطَّاعَة وَأَنه لَا رَغْبَة لَهُ فِي الْملك. وعقيب ذَلِك ورد كتاب نَائِب الشَّام وَكتاب نَائِب حلب وَفِي ضمنهما كتب النَّاصِر أَحْمد إِلَيْهِمَا بختمها وَهِي تشْتَمل على معنى مَا ذكر فِي كِتَابه. فَتوجه إِلَيْهِ الْأَمِير طشتمر طلليه بِجَوَاب يتَضَمَّن أَنه إِن أَرَادَ الْإِقَامَة بالكرك مطمئناً فليسير مَا أخده من المَال وَالْخَيْل وَغير ذَلِك وَيبْعَث يُوسُف بن البصارة أَيْضا وَإِلَّا هدمت عَلَيْهِ الكرك حجرا حجرا وَأسر إِلَى طلليه أَن يتحيل فِي الْقَبْض على أَحْمد.(3/404)
وَفِي مستهل رَمَضَان: فرغت عمَارَة القاعة الْمَعْرُوفَة بالدهيشة من القلعة وفرشت بأنواع الْبسط والمقاعد الزركش وَجلسَ فِيهَا السُّلْطَان وَبَين يَدَيْهِ جواريه. فَأكْثر من الإنعام وَالعطَاء وَكَانَ قد اخْتصَّ بالمملوك بيبغا الصَّالِحِي وَأمره وخوله فِي نعم جليلة وزوجه بابنة الْأَمِير أرغون العلائي وَهِي أُخْت السُّلْطَان لأمه وَعمر لَهُ حوانيت خَارج بَاب القرافة. وَكثر اسْتِيلَاء الْجَوَارِي والخدام على الدولة وعارضوا النَّائِب وأبطلوا مَا أَحبُّوا إِبْطَاله مِمَّا يرسم بِهِ حَتَّى صَار يَقُول لمن يطْلب شَيْئا: رح إِلَى الطواشية يَنْقَضِي شغلك فَإِذا بَلغهُمْ ذَلِك أهدروا مكانته وردوا أَفعاله. وَفِي سابعه: توجه الْأَمِير آقسنقر الناصري لنيابة طرابلس بعد موت الْأَمِير طوغاي الطباخي وَقد تنكر السُّلْطَان لَهُ وَتغَير عَلَيْهِ. وَفِي عشريه: رَحل محمل الْحَاج من الْبركَة وَقد قدم من حجاج المغاربة زِيَادَة على عشره أُلَّاف إِنْسَان وَمن حجاج بِلَاد التكرور نَحْو خَمْسَة أُلَّاف نفر وَحج الطواشي عنبر السحرتي لالا السُّلْطَان فِي تجمل كثير. وَفِيه أعَاد النَّاصِر أَحْمد الْأَمِير طشتمر طلليه بِجَوَاب غير طائل وَمن غير أَن يجْتَمع بِهِ. وَقدم مَعَه وَبعده من الكركيين عدَّة أشخاص فمرروا مَعَ السُّلْطَان مخامرتهم على النَّاصِر أَحْمد وطلبوا إقطاعات عديدة لَهُم ولأصحابهم. فَكتب لَهُم السُّلْطَان بهَا وأعيدوا بإنعامات جليلة. فَقدم الْخَبَر بِأَن يُوسُف بن البصارة بَعثه النَّاصِر أَحْمد من الكرك ليحضر إِلَى مصر فَوجدَ قَتِيلا فِي أثْنَاء طَرِيقه واتهم النَّاصِر أَحْمد أَنه بعث من قَتله خوفًا مِنْهُ أَن ينم عَلَيْهِ لِأَخِيهِ وأحاط النَّاصِر أَحْمد بموجوده فَوجدَ لَهُ أَرْبَعَة وَعشْرين ألف دِينَار وَثَلَاثِينَ حياصة ذهب وَثَلَاثِينَ كلفتاه زركش سوى لُؤْلُؤ وقماش وَغير ذَلِك. فَوَقع الِاتِّفَاق على أَن يجرد السُّلْطَان إِلَى الكرك عدَّة عَسَاكِر من مصر وَالشَّام. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن ذِي الْقعدَة: قدم بَالغ ومشايخ الكرك طائعين فأنعم السُّلْطَان عَلَيْهِم وعادوا فِي حادي عشره وَمَعَهُمْ عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة ليسلموهم قلعة الكرك. وَفِيه رسم بتجريدة سابعة فِيهَا الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي وَعِشْرُونَ أَمِير طبلخاناة وسته عشر أَمِيرا. وَكتب بِخُرُوج عَسْكَر من دمشق وَمَعَهُمْ منجنيق وزحافات. وَحمل السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير بيبرس الأحمدي ألفي دِينَار وَإِلَى كوكاي(3/405)
ألف دِينَار وَلكُل أَمِير طبلخاناة أَرْبَعمِائَة دِينَار وَلكُل أَمِير عشره مِائَتَا دِينَار. وَأرْسل السُّلْطَان أَيْضا مَعَ الآمير بيبرس الأحمدي أَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار لأجل من عساه ينزل من الكرك وجهزت تشاريف كَثِيرَة. وَأقَام الْأُمَرَاء فِي طريقهم نَحْو شَهْرَيْن وَخرج مَعَهم سِتَّة أُلَّاف رَأس من الْبَقر وَالْغنم وَمِائَتَا رَأس جاموس وَنَحْو ألفي راجل. فاستعد لَهُم النَّاصِر أَحْمد وَجمع الرِّجَال وَأنْفق فيهم مَالا كثيرا وَجمع الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك وَركب المنجنيق الَّذِي كَانَ بهَا. وَفِيه قدم سُلَيْمَان ابْن مهنا بقوده فَخلع عَلَيْهِ. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: عرض السُّلْطَان الْخَيل ليختار فرسا يركبه يَوْم الْعِيد وأحضر عشرَة من النقاراتية فدقوا كوساتهم عِنْد الْعرض. فَظن الْعَسْكَر أَنَّهَا حربية فَرَكبُوا تَحت القلعة وتجمعت الْعَامَّة على عَادَتهم وغلقت الْأَسْوَاق. فَركب إِلَيْهِم نقيب الْجَيْش ولامهم على ركوبهم وردهم. وَأخذت القالة تكْثر حَتَّى تنكرت قُلُوب الْأُمَرَاء وَادخرُوا الأقوات خوفًا من الْفِتْنَة. ولهجت الْعَامَّة بقَوْلهمْ: يَا ولد خرا للعيد وغنوا بِهِ فِي الْأَسْوَاق. فَتوهم السُّلْطَان من فتْنَة تكون يَوْم الْعِيد وهم أَلا يُصَلِّي يَوْم الْعِيد خوفًا من طَائِفَة تهجم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة من جِهَة أَخِيه رَمَضَان واستعد لذَلِك. ثمَّ بعث السُّلْطَان إِلَى أَخِيه رَمَضَان فَقتله لَيْلَة الْعِيد وَصلى الْعِيد وَهُوَ متحرز. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: أُعِيد ضَمَان الملعوب من العلاج والصراع واللكلم والسعاة وَنَحْو ذَلِك. وأعيد ضَمَان ابْن البطوني وَضمن بِزِيَادَة عشرَة أُلَّاف دِرْهَم. وفيهَا قبض بِدِمَشْق على الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وسجنوا لميلهم إِلَى النَّاصِر أَحْمد. وفيهَا اختلت مراكز الْبَرِيد فَجمع لَهَا ثَمَانمِائَة فرس بعث السُّلْطَان مِنْهَا مِائَتي فرس وَأخذ من كل أَمِير مائَة أَرْبَعَة أرؤس وَمن كل أَمِير طبلخاناة فرسين وَمن كل أَمِير عشرَة فرسا وَاحِدًا وفيهَا نهبت منية السيرج وَذَلِكَ أَن جمَاعَة من الْفُقَرَاء المتعبدين بهَا أَنْكَرُوا على النَّصَارَى بيعهم الْخمر وهم مُعظم أهل الْمنية وبالغوا فِي الْإِنْكَار حَتَّى ضرب أحد الْفُقَرَاء نَصْرَانِيّا أسَال دَمه وَدخل إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة بالجامع. فتجمع النَّصَارَى وَأتوا الْفُقَرَاء بالجامع بعد الصَّلَاة وضربوهم فثار الْمُسلمُونَ بهم فأثخنهم ضربا ومالوا(3/406)
على بُيُوتهم فنهبوها. وتعدى النهب إِلَى بيُوت الْمُسلمين حَتَّى بلغ الْخَبَر إِلَى الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب فَبعث الْحجاب والوالي فقبضوا على جمَاعَة كَثِيرَة وردوا كثيرا مِمَّا نهب وحملوا الَّذين قبض عَلَيْهِم وَفِيهِمْ عدَّة من الأجناد فَضربُوا وسجنوا وَقطعت أخبازهم. وأقامت الْمنية خراباً وبيوتها مهدمة نَحْو الشَّهْرَيْنِ حَتَّى عَاد أَهلهَا إِلَيْهَا. وَفِي هَذِه السّنة: نَافق عربان الصَّعِيد واقتتلوا وَقَطعُوا الطَّرِيق فَقتل بَينهم نَحْو الألفي رجل. فَركب الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني وَقد استمال مَعَه طَائِفَة من أعدائهم يُرِيد حربهم فَلم يثبتوا لَهُ وفروا مِنْهُ فَأخذ لَهُم عدَّة جمال وخيول وَسلَاح. وفيهَا احتربت الدعاجية والسعديون فَقتل بَينهم خلق كثير جدا فَركب إِلَيْهِم الْأَمِير أزدمر كاشف الْوَجْه البحري وَقتل مِنْهُم أعداداً كَثِيرَة. وفيهَا كثر فَسَاد فياض وقطعه الطرقات فَلم يطق الْأَمِير سيف بن فضل رده وَمنعه لعَجزه وفيهَا اشْتَدَّ الْحصار على الكرك وَضَاقَتْ على النَّاصِر أَحْمد وَمن مَعَه لقلَّة الْقُوت عِنْدهم وتخلى عَنهُ أهل الكرك ووعدوا الْأُمَرَاء بالمساعدة عَلَيْهِ فَحملت إِلَيْهِم الْخلْع ومبلغ ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم. وفيهَا اشْتَدَّ الغلاء بِبَغْدَاد وَعَامة بِلَاد الْعرَاق وَبلغ الرَّغِيف بِبَغْدَاد دِينَارا عراقياً عَنهُ سِتَّة دَرَاهِم والرطل اللَّحْم بِدِينَار وَنصف. وفيهَا اسْتَقر بيبغا ططر فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن طرنطاي البشمقدار. وفيهَا اسْتَقر طرنطاي حاجباً بِالْقَاهِرَةِ. وفيهَا جرد الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب حلب عسكره لقِتَال ابْن دلغادر فَلَقِيَهُمْ ابْن دلغادر وكسرهم كسرة قبيحة. فَركب يلبغا بعساكر حلب وَسَار إِلَيْهِ ففر مِنْهُ ابْن دلغادر إِلَى جبل وَترك أثقاله فنهبها الْعَسْكَر وَقتلُوا كثيرا من تركمانه وظفروا بِبَعْض حرمه وتبعوه إِلَى الْجَبَل وصعدوه. فَقَاتلهُمْ ابْن دلغادر وجرح أَكْثَرهم. وَأُصِيب فرس الْأَمِير يلبغا بِسَهْم قَتله وتقنطر عَنهُ يلبغا وَأخذ صنجقه وَمن أسروه من حَرِيم ابْن دلغادر وَمَا نهبوه لَهُ وتمت الكسرة على الْعَسْكَر فَكتب السُّلْطَان بالإنكار على نَائِب حلب وتعنيفه على مَا فعله.(3/407)
وفيهَا اسْتَقر المكين إِبْرَاهِيم بن مزونية فِي نظر دمشق عوضا عَن التَّاج ابْن الصاحب أَمِين الْملك. وَاسْتقر مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق فِي نظر حلب وأستقر زين الدّين مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن عبد الْخَالِق بن خَلِيل بن مقلة بن جَابر الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي فِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب عوضا عَن بدر الدّين بن الخشاب وَعَاد ابْن الخشاب إِلَى الْقَاهِرَة. وَكَانَت هَذِه السّنة من أنكد السنين وأشدها لِكَثْرَة الْفِتَن وَسَفك الدِّمَاء بِبِلَاد الصَّعِيد ونواحي الشرقية وبلاد عرب الشَّام وبلاد الرّوم والكرك وَغَلَاء الأسعار بالعراق وَكَثْرَة الْمَوْتَى عِنْدهم وَزِيَادَة النّيل الَّتِي فسد بهَا الأقصاب والزراعات الصيفية. فَلَمَّا أدْرك الشّعير هاف من السمُوم وهاف كثير من الفول أَيْضا وَبَعض الْقَمْح وتحسن السّعر حَتَّى بلغ الأردب درهما بعد مَا كَانَ بِعشْرَة دَرَاهِم. وفيهَا بلغت زِيَادَة النّيل عشْرين ذِرَاعا وَخَمْسَة عشر أصبعاً. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان زين الدّين إِبْرَاهِيم بن عَرَفَات بن صَالح بن أبي المنا القناوي الشَّافِعِي وقاضي قِنَا وَكَانَ يتَصَدَّق فِي السّنة بِأَلف دِينَار فِي يَوْم وَاحِد. وَتُوفِّي برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الْحق قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بديار مصر وَهُوَ مُقيم بِدِمَشْق. وَمَات إِبْرَاهِيم بن صابر الْمُقدم. وَتُوفِّي الْمُحدث شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن أَيُّوب بن علوي المستولي وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ حدث عَن الأبرقوهي وَكَانَ ورعاً خيرا.(3/408)
وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي الْفرج الْحلَبِي بِالْقَاهِرَةِ حدث عَن النجيب والأبرقوهي والرشيد بن عَلان وَغَيره ومولده فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَتُوفِّي الْمسند شهَاب الدّين أَحْمد بن كشتغدي المعزي. وَمَات الْأَمِير أقسنقر السلاري قتلا بِحَبْس الْإسْكَنْدَريَّة تنقل فِي الخدم إِلَى أَن ولي نِيَابَة صفد ونيابة غَزَّة ثمَّ نِيَابَة السلطنة بديار مصر. وَمَات الْأَمِير ألطنبغا المارداني وَهُوَ فِي نِيَابَة حلب وَهُوَ الَّذِي أنشأ جَامع المارداني خَارج بَاب زويلة. وَمَات الْأَمِير ألطنبغا العلمي الجاولي الْفَقِيه الشَّافِعِي الأديب الشَّاعِر أَصله مَمْلُوك ابْن باخل ثمَّ صَار إِلَى الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي فَعرف بِهِ وَعَمله دواداره وَهُوَ نَائِب غَزَّة ثمَّ تقلبت وَتُوفِّي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق ومصر فِي ربيع الأول. وَتُوفِّي علم الدّين سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن المستوفي الْمصْرِيّ نَاظر الْخَاص بِدِمَشْق سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة عَن سبعين سنة بهَا وَكَانَ كَاتب قراسنقر وَله شعر. وَمَات الْأَمِير طوغاي الطباخي نَائِب حلب وطرابلس فِي شهر رَمَضَان. وَتُوفِّي شهَاب الدّين عبد اللَّطِيف بن عز الدّين عبد الْعَزِيز بن يُوسُف بن أبي الْعِزّ الْمَعْرُوف بِابْن المرحل الْحَرَّانِي الأَصْل النَّحْوِيّ بِالْقَاهِرَةِ وَقد جَاوز السِّتين. وَتُوفِّي الشَّيْخ المعتقد عبد الْكَرِيم فِي ربيع الأول وَدفن بالقرافة. وَتُوفِّي الْمسند الْمُحدث عَلَاء الدّين عَليّ بن قيران السكرِي ومولده فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير عِيسَى بن فضل الله بن أخي مهنا ولي إمرة الْعَرَب بعد مُوسَى بن مهنا ثمَّ عزل بِسُلَيْمَان بن مهنا وَمَات بالقريتين وَدفن بحمص. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن القطب عبد اللَّطِيف بن الصَّدْر يحيى بن أبي الْحسن عَليّ ابْن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام السُّبْكِيّ وَهُوَ أحد الْفُقَهَاء النُّحَاة للقراء. وَتُوفِّي الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن الْعِمَاد أَحْمد بن عبد الْهَادِي بن عبد الْمجِيد بن(3/409)
عبد الْهَادِي بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ فِي جُمَادَى الأولى بِدِمَشْق عَن تسع وَثَلَاثِينَ سنة. وَمَات طغاي بن سوناي بالمشرق قتلا. وَمَات الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد الأستادار فِي محبسه بالإسكندرية وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الآقبغاوية بجوار الْجَامِع الْأَزْهَر. وَقتل الشَّيْخ حسن بن دمرداش بن جوبان بن بلك بتوريز فِي رَجَب وَكَانَ داهية صَاحب حيل ومكر وَأفْتى عدَّة كَثِيرَة من الْمغل. وَمَات طغاي بن سوناي. وَمن أخباره أَنه لما مَاتَ أَبوهُ ووثب بعده عَليّ باشا خَان بوسعيد حاربه طغاي حَتَّى قَتله فَقتله إِبْرَاهِيم شاه بن بارنباي يَوْم عَاشُورَاء.(3/410)
(سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
أهلت والعسكر فِي حَرَكَة اهتمام بِالسَّفرِ إِلَى الكرك وَقد تعين الْأَمِير بغا الفخري والأمير قماري والأمير طشتمر طلليه للتوجه بهم. وألزم السُّلْطَان كل أَمِير مائَة مقدم ألف بِإِخْرَاج عشرَة مماليك وَلم يُوجد فِي بَيت المَال وَلَا الخزانة مَا ينْفق عَلَيْهِم مِنْهُ فَأخذ مَالا من تجار الْعَجم وَمن بَيت الْأَمِير بكتمر وَجَمَاعَة أخرين على سَبِيل الْقَرْض وَأنْفق فيهم. وَفِي يَوْم السبت مستهل الْمحرم: قدم مُبشر الْحَاج. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشره: خرج المجردون إِلَى الكرك. وَفِي رَابِع عشريه: قدم محمل الْحَاج وَقد قاسى الْحَاج فِي سفرهم مشقات كَبِيرَة من قلَّة المَاء وَغَلَاء الأسعار بِحَيْثُ أبيعت الويبة من الشّعير بِأَرْبَعِينَ درهما عَنْهَا دِينَارَانِ والويبة الدَّقِيق بخمسون درهما والرطل البشماط بِثَلَاثَة دَرَاهِم. وأبيع الأردب الْقَمْح فِي مَكَّة بِمِائَتي دِرْهَم وَبلغ الْجمل بمنى إِلَى أَرْبَعمِائَة وَخمسين درهما لقلَّة الْجمال. وَكَانَ من أَسبَاب ذَلِك أَن الشريف عجلَان بن رميثة خرج إِلَى جدة وَمنع تجار الْيمن من عبور مَكَّة فعز بهَا صنف المتجر وَهلك كثير من مشَاة الْحَاج. وَفِيه أَقَامَت العساكر على محاصرة الكرك وَقطع الْميرَة عَنْهَا وَكَانَت أَمْوَال النَّاصِر أَحْمد قد نفذت من كَثْرَة نفقاته فَوَقع الطمع فِيهِ. وَأخذ بَالغ - وَهُوَ أجل ثقاته من الكركيين - فِي الْعَمَل عَلَيْهِ وَكَاتب الْأُمَرَاء وَوَعدهمْ أَنه يسلم إِلَيْهِم الكرك وَسَأَلَ الْأمان. فَكتب إِلَيْهِ عَن السُّلْطَان أَمَان وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة كَمَا تقدم فِي السّنة الخالية وَمَعَهُ مَسْعُود وَابْن آبي اللَّيْث وَهَؤُلَاء أَعْيَان مَشَايِخ الكرك فأكرمهم السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِم وَكتب لَهُم مناشير بِجَمِيعِ مَا طلبوه من الإقطاعات والأراضي وَكَانَت جملَة مَا طلبه بَالغ بمفرده نَحْو أَرْبَعمِائَة وَخمسين ألف دِرْهَم فِي السّنة وَكَذَلِكَ أَصْحَابه ثمَّ أعيدوا بعد مَا حلفوا وَقد بلغ النَّاصِر أَحْمد خبرهم فتحصن بالقلعة وَرفع جسرها وصاروا هم بِالْمَدِينَةِ ومكاتباتهم ترد على الْعَسْكَر. فَلَمَّا ركب الْعَسْكَر للحرب وَخرج الكركيون لم يكن غير سَاعَة حَتَّى انْهَزمُوا مِنْهُم إِلَى دَاخل الْمَدِينَة فَدَخلَهَا الْعَسْكَر أَفْوَاجًا واستوطنوها وجدوا فِي قتال أهل القلعة عدَّة أَيَّام وَالنَّاس تنزل مِنْهَا شَيْئا بعد شَيْء حَتَّى لم يبْق مَعَ النَّاصِر أَحْمد عشرَة أنفس فَأَقَامَ يَرْمِي بهم على الْعَسْكَر. وَكَانَ(3/411)
النَّاصِر أَحْمد قوي الرَّمْي شجاعاً إِلَى أَن جرح فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وتمكنت النقابة من البرج وعلقوه وأضرموا النَّار تَحْتَهُ حَتَّى وَقع. وَكَانَ الْأَمِير سنجر الجاولي قد بَالغ أَشد مُبَالغَة فِي الْحصار وبذل فِيهِ مَالا كثيرا فَلَمَّا هجم الْعَسْكَر على النَّاصِر أَحْمد فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشرى صفر وجدوه قد خرج من مَوضِع وَعَلِيهِ زردية وَقد تنكب قوسه وَشهر سَيْفه. فوقفوا وسلموا عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِم السَّلَام وَهُوَ متجهم وَفِي وَجهه جرح وكتفه يسيل دَمًا. فَتقدم إِلَيْهِ الْأَمِير أرقطاي والأمير قماري فِي آخَرين فَأَخَذُوهُ ومضوا بِهِ إِلَى دهليز الْموضع الَّذِي كَانَ بِهِ وأجلسوه وطيبوا خاطره وَهُوَ سَاكِت لَا يُجِيبهُمْ فقيدوه ووكلوا بحفظه جمَاعَة ورتبوا لَهُ طَعَاما فَأَقَامَ يَوْمه وَلَيْلَته وَمن باكر الْغَد تقدم إِلَيْهِ الطَّعَام فَلَا يتَنَاوَل مِنْهُ شَيْئا إِلَى أَن سَأَلُوهُ فِي أَن يَأْكُل فَأبى أَن يَأْكُل حَتَّى يأتوه بشاب كَانَ يهواه يُقَال لَهُ عُثْمَان فَأتوهُ بِهِ فَأكل عِنْد ذَلِك. وَخرج ابْن الْأَمِير بيبغا الشمسي حارس الطير بالبشارة وعَلى يَده كتب الْأُمَرَاء فَقدم قلعة الْجَبَل يَوْم السبت ثامن عشريه فدقت البشائر سَبْعَة أَيَّام. ثمَّ قدم أَيْضا ابْن الْأَمِير قماري ثمَّ بعده أرلان وَمَعَهُ النمجاه. ثمَّ أخرج الْأَمِير منجك السِّلَاح دَار لَيْلًا من الْقَاهِرَة على النجب لقتل النَّاصِر أَحْمد من غير مُشَاورَة الْأُمَرَاء فوصل إِلَى الكرك. وَأدْخل منجك إِلَيْهِ من أخرج الشَّاب من عِنْده وخنقه فِي لَيْلَة رَابِع ربيع الأول وَقطع رَأسه. وَسَار منجك من ليلته وَلم يعلم الْأُمَرَاء وَلَا الْعَسْكَر بِشَيْء من ذَلِك حَتَّى أَصْبحُوا وَقد قطع منجك مَسَافَة بعيدَة فَقدم منجك بعد ثَلَاث إِلَى القلعة لَيْلًا وَقدم الرَّأْس بَين يَدي السُّلْطَان وَكَانَ ضخماً مهولاً لَهُ شعر طَوِيل فاقشعر السُّلْطَان عِنْد رُؤْيَته وَبَات مرجوفاً. وَفِيه طلب الْأَمِير قبلاي الْحَاجِب ورسم بتوجهه لحفظ الكرك إِلَى أَن ياتيه نَائِب لَهَا وَكتب بِعُود الْأُمَرَاء والعساكر وَكَانَت مُدَّة حِصَار النَّاصِر أَحْمد بالكرك سنتَيْن وشهراً وَثَمَانِية أَيَّام. وَكَانَ جمال الكفاة قد تقدم فِي الدولة تقدماً زَائِدا فَإِنَّهُ ولي الْخَاص ثمَّ نظر الْجَيْش فباشرهما جَمِيعًا. وَتمكن فِي أَيَّام السُّلْطَان الْملك الصَّالح تمَكنا عَظِيما سَببه أَن السُّلْطَان اشْتَدَّ شغفه بِجَارِيَة مولدة يُقَال لَهَا اتِّفَاق كَانَت تجيد ضرب الْعود وأخذته عَن عبد عَليّ العواد العجمي فرتبه جمال الكفاة عِنْد السُّلْطَان حَتَّى صَار يجلس مَعهَا عِنْد السُّلْطَان. وَكَانَ السُّلْطَان يخْشَى من الْأَمِير أرغون العلائي وَلَا يتجاسر أَن يبسط يَده بالعطا(3/412)
لِاتِّفَاق فَأسر ذَلِك لجمال الكفاة فَصَارَ يَأْتِيهِ بِكُل نَفِيس من الْجَوَاهِر وَغَيرهَا سرا فينعم بِهِ على اتِّفَاق. وَكَذَلِكَ كَانَ السُّلْطَان قد أسر للوزير نجم الدّين هَوَاهُ فِي اتِّفَاق فَكَانَ أَيْضا يحمل إِلَيْهِ فِي الْبَاطِن الْأَشْيَاء النفيسة وَلَا كَمَا يحملهُ جمال الكفاة. فعلت رُتْبَة جمال الكفاة بِحَيْثُ أَن الْوَزير نجم الدّين امْتنع عَن مُبَاشرَة الوزارة مَا لم يكن جمال الكفاة يلاحظه. ثمَّ رسم السُّلْطَان لجمال الكفاة أَن يكون مشير الدولة وَكتب لَهُ فِي توقيعه الجناب العالي بَعْدَمَا امْتنع عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ من ذَلِك وتوحش مَا بَينهمَا بِسَبَبِهِ. فرسم السُّلْطَان أَن يكْتب لَهُ ذَلِك فعظمت رتبته وَارْتَفَعت مكانته إِلَى أَن تعدى طوره وَأَرَادَ أَن ينخلع من زِيّ الْكتاب إِلَى هَيْئَة الْأُمَرَاء وَأَن يكون أَمِير مائَة مقدم ألف وَلم يبْق إِلَّا ذَلِك فشق على الْأُمَرَاء هَذَا الْأَمر. وَكَانَ جمال الكفاة قد تنكر عَلَيْهِ الْأَمِير أرغون العلائي بِسَبَب إقطاع عينه لبَعض أَصْحَابه فَأجَاب بِأَن السُّلْطَان قد أخرجه فَغَضب العلائي وَبعث إِلَيْهِ دواداره وَمَعَهُ حياصة من ذهب وَأمره أَن يَقُول لَهُ عَنهُ: أَنْت مَا بقيت تُعْطِي شَيْئا إِلَّا ببرطيل وَهَذِه الحياطة برطيلك خُذْهَا واقض شغل هَذَا الرجل فَلم يسمح جمال الكفاة لَهُ بالإقطاع وَقَامَ مَعَ السُّلْطَان حَتَّى عرف العلائي مشافهة بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أخرج الإقطاع فأسرها العلائي فِي نَفسه وَأخذ يغري بِهِ النَّائِب الْحَاج آل ملك والأمراء فَمَال مَعَهم الْوَزير وصاروا جَمِيعهم وَاحِدًا عَلَيْهِ ورتبوا لَهُ مهالك ليقتلوه بهَا مِنْهَا أَنه يباطن النَّاصِر أَحْمد ويكاتبه ويتصرف فِي أَمْوَال الدولة بِاخْتِيَارِهِ وَقد ضيعها كلهَا فَإِنَّهُ كَانَ نَاظر الْجَيْش ومشير الدولة وَأَنه يتحدث مَعَ السُّلْطَان فِي الْأُمَرَاء وَيَقَع فيهم ويثلب أعراضهم عِنْده. وَأخذ الْوَزير يعلم السُّلْطَان والعلائي بِأَن سَائِر مَا يُخبرهُ السُّلْطَان بِهِ من محبته لِاتِّفَاق يخبر بِهِ الْوَزير وَنقل عَنهُ من ذَلِك أَشْيَاء تبين للسُّلْطَان صِحَّته. فانحطت بذلك مكانته عِنْد السُّلْطَان ورسم بقتْله بعد أَخذ مَاله فَقبض عَلَيْهِ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر صفر وعَلى أَوْلَاده وَزَوجته. وَقبض مَعَه على الصفي الْحلِيّ مُوسَى كَاتب قوصون وناظر الْبيُوت وعَلى الْمُوفق عبد الله بن إِبْرَاهِيم نَاظر الدولة. وَنزل المجدي إِلَى بَيت جمال الكفاة وأوقع الحوطة عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ وَنزل تمر الموساوي فأوقع الحوطة على بَيت الصفي وعني الْوَزير بالموفق فَلم يُعَاقب. ونوعت الْعُقُوبَات لجمال الكفاة والصفي وَضربت أَوْلَاد جمال الكفاة وَهُوَ يراهم ضربا مبرحاً بالمقارع وعصرت نساؤه وَنسَاء الصفي وَأخذت أَمْوَالهم. فَرفع خَالِد الْمُقدم قصَّة للسُّلْطَان ذكر فِيهَا أَنه إِن شدّ وَسطه وأقيم فِي التقدمة أظهر لَهُم مَالا كثيرا من مَال جمال الكفاة. فَطلب ورسم بشد وَسطه وَنزل إِلَيْهِم فأظهر لجمال الكفاة بتهديده إِيَّاه صندوقاً فِيهِ(3/413)
مَا قِيمَته نَحْو عشْرين ألف دِينَار خَالِد وَكَانَ مودعاً بعض جِيرَانه بالمنشية وَلم يظْهر لَهُ بعد ذَلِك شَيْء. وَفِيه خلع على الضياء الْمُحْتَسب وَاسْتقر فِي نظر الدولة عوضا عَن الْمُوَافق على كره مِنْهُ لذَلِك. وَفِيه قدم الْأُمَرَاء من تجريدة الكرك فاشتدت الْعقُوبَة على جمال الكفاة خشيَة من الشَّفَاعَة فِيهِ وَضرب مائَة وَعشْرين شيباً وَسلم لخَالِد الْمُقدم فخنقه فِي لَيْلَة الْأَحَد سادس ربيع الأول وَدفن فِي يَوْم الْأَحَد بجوار تربة ابْن عبود. فَكَانَت مُدَّة مصادرته أحدا وَعشْرين يَوْمًا وَمُدَّة مُبَاشَرَته خمس سِنِين وشهراً وَأَيَّام. وعوقب الصفي مُوسَى عُقُوبَة عَظِيمَة وعصر فِي أصداغه وَضرب بالمقارع حَتَّى أنتن بدنه كُله فَلم يمت. وَأَفْرج عَن الْمُوفق بِوَاسِطَة الْوَزير وخلع عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الْمَذْكُور وَاسْتقر فِي نظر الْخَاص بعد مَا عين العلائي علم الدّين عبد الله بن تَاج الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن زنبور مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة لنظر الْخَاص فَلم يتهيأ لَهُ لسفره بِبِلَاد الشَّام. وَفِيه خلع على أَمِين الدّين إِبْرَاهِيم بن يُوسُف السامري كَاتب طشتمر وَاسْتقر فِي نظرالجيش. وَفِيه خلع على علم الدّين بن مهلول وَاسْتقر فِي نظر الدولة عوضا عَن الضياء الْمُحْتَسب لاستعفائه وَعدم تنَاوله مَعْلُوم النّظر وأعيد الضياء الْمُحْتَسب إِلَى نظر المارستان. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشره: كَانَ وَفَاء النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِاتِّفَاق فياض وَابْن دلغادر أَمِير الأبلستين بمحاصرة قلعة طرنده وَأَخذهَا من أرتنا وَبهَا أَمْوَاله ثمَّ سيرهما إِلَى حلب. وَطلب نَائِب حلب تَجْرِيد الْعَسْكَر إِلَيْهِ فرسم بتوجه الْأَمِير مكتمر الْحِجَازِي والوزير نجم الدّين مَحْمُود والأمير طرنطاي الْحَاجِب وَخمسين مقدما من مقدمي الْحلقَة بِأَلف فَارس من أجناد الْحلقَة وجهزت نفقاتهم ثمَّ بطلت التجريدة. وتوقفت أَحْوَال الدولة من كَثْرَة الإنعامات والإطلاقات للخدام والجواري وَمن يلوذ بهم وَمن يعنون بِهِ فكثرت شكاية الْوَزير من ذَلِك. وَكتب أوراق بكلف الدولة ومتحصلها فَكَانَت الكلف ثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم فِي السّنة والمتحصل خَمْسَة عشر ألف ألف دِرْهَم. وقرئت الأوراق على السُّلْطَان والأمراء فرسم أَن يسْتَقرّ الْحَال على مَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَى حِين وَفَاة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَبَطل مَا استجد بعده(3/414)
وَأَن تقطع توابل الْأُمَرَاء وَالْكتاب حَتَّى الكماج السميذ. فَعمل بدلك شهر وَاحِد وعادت الرَّوَاتِب على مَا كَانَت عَلَيْهِ حَتَّى بلغ مَصْرُوف الْحَوَائِج خاناه فِي كل يَوْم إثنين وَعشْرين ألف دِرْهَم بعد مَا كَانَت فِي الْأَيَّام الناصرية ثَلَاثَة عشر ألف دِرْهَم. وَبينا النَّائِب جَالس يَوْمًا إِذْ قدم لَهُ مرسوم عَلَيْهِ عَلامَة السُّلْطَان براتب لحم وتوابل وكماجتين عيد باسم ابْن علم الدّين. فَقَالَ النَّائِب لصَاحب المرسوم: وَيلك أَنا نَائِب السُّلْطَان قد قطعت الكماجة الَّتِي لي فَعَسَى بجاهك تخلص لي كماجة وتزايد الْأَمر فِي ذَلِك فَلم يُمكن أحد رَفعه وَفِيه خلع على الْأَمِير ملكتمر السرجواني وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك وجهز مَعَه عدَّة صناع لعمارة مَا انْهَدم من قلعتها وإعادة البرج إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. ورسم أَن يخرج مَعَه مائَة من مماليك قوصون وبشتاك الَّذين كَانَ النَّاصِر أَحْمد أسكنهم بالقلعة بِالْقَاهِرَةِ ورتب لَهُم الرَّوَاتِب وَأَن يخرج مِنْهُم مِائَتَان إِلَى دمشق وحمص وحماة وطرابلس وصفد وحلب. فأخرجوا جَمِيعًا فِي يَوْم وَاحِد وَنِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادهمْ فِي بكاء وعويل وَسَخِرُوا لَهُم خُيُول الطواحين ليركبوا عَلَيْهَا فَكَانَ يَوْمًا شنيعاً. وَقدم الْخَبَر من ماردين بِأَن فياض بن مهنا فَارق ابْن دلغادر وَقصد بِلَاد الشرق ليقوي عزم الْمغل على أَخذ بِلَاد الشَّام. فَمَنعه صَاحب ماردين من ذَلِك وشفع إِلَى السُّلْطَان فِيهِ أَن يرد إِلَيْهِ إقطاعه الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ قبل الإمرية فَقبلت شَفَاعَته وَكتب برد إقطاعه الْمَذْكُور. وَفِيه قَامَ الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فِي خلاص الصفي مُوسَى كتاب قوصون حَتَّى أفرج عَنهُ وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي ديوانه بَعْدَمَا أشرف على الْهَلَاك. وَفِيه أفرج أَيْضا عَن أهل الْأَمِير سيف الدّين أيتمش الناصري وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن جمال الكفاة. وَفِي خَامِس عشر ربيع الآخر: خلع على الْأَمِير نجم الدّين مَحْمُود وَزِير بَغْدَاد بِطَلَبِهِ الإعفاء لتوقف الْحَال. وَفِيه قدم الْخَبَر بوفاة حَدِيثَة بن مهنا وَأَن أَخَاهُ فياض بن مهنا سَار عَن ماردين وكبس سيف بن فضل أَمِير الملا فَقتل جمَاعَة من أَصْحَابه وَنهب أَمْوَاله وَأسر أَخَاهُ.(3/415)
وَفِيه تنكر الْأَمِير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي على الْأَمِير آل ملك النَّائِب بِسَبَب أَنه كَانَ إِذا قدم إِلَيْهِ منشور أَو مرسوم بمرتب ليكتب عَلَيْهِ بالاعتماد يُنكره من ذَلِك وَإِذا سَأَلَهُ أحد إقطاعاً أَو مُرَتبا قَالَ لَهُ: يَا وَلَدي رح إِلَى بَاب الستارة أبْصر طواشي أَو توصل لبَعض المغاني تقضي حَاجَتك ودله بعض الْعَامَّة على مَوضِع تبَاع فِيهِ الْخمر والحشيش فأحضر أُولَئِكَ الَّذين يبيعونهما وضربهم فِي دَار النِّيَابَة بالقلعة بالمقارع وشهرهم وخلع على ذَلِك الْعَاميّ وأقامه عَنهُ فِي إِزَالَة الْمُنكر فَصَارَ يهجم الْبيُوت لأخذ الْخُمُور مِنْهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرى ربيع الآخر. خلع على شُجَاع الدّين غرلو وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن نجم الدّين. فَمنع شُجَاع الدّين ذَلِك الرجل الْعَاميّ من التَّعَرُّض للنَّاس وأدبه. فَطَلَبه الْأَمِير الْحَاج آل الْملك النَّائِب وَأنكر عَلَيْهِ مَنعه لَهُ فأحضر ذَلِك الرجل من الْغَد رجلا مَعَه جرة خمر فكشف النَّائِب رَأسه وصبها عَلَيْهِ وَحلق لحيته على بَاب القلعة بِحَضْرَة الْأُمَرَاء فعابوا عَلَيْهِ ذَلِك. وَأخذ الْأَمِير أرقطاي يلوم الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب وينكر عَلَيْهِ فتفاوضا فِي الْكَلَام وافترقا على غير رضى. وَاتفقَ أَن الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي كَانَ مُولَعا بِالْخمرِ وَيحمل إِلَيْهِ الْخمر على الْجمال إِلَى القلعة. فمرت الْجمال بالنائب وَهُوَ بشباك النِّيَابَة فَبعث نَقِيبًا لينْظر أَيْن تدخل ويأتيه بالجمال. فَلَمَّا دخلت الْجمال بَيت الْحِجَازِي وتسلم الشربدار مَا عَلَيْهَا وَقد فطن الْجمال بالنقيب تغيب فِي دَاخل الْبَيْت وَعرف الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي الْخَبَر فأحضر الْأَمِير ملكتمر النَّقِيب وضربه ضربا مؤلماً فَقَامَتْ قِيَامَة الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب وتحدث مَعَ الْأَمِير أرغون العلائي فِي الْخدمَة وَأنكر على الْحِجَازِي تعاطيه الْخمر. فَأَتَاهُ الْحِجَازِي وفاوضه مُفَاوَضَة كَثِيرَة وَقَامَ مغضباً والأمير أرغون العلائي سَاكِت فَلم يعجب النَّائِب من العلائي سُكُوته وانفضوا على غير رضى فَطلب النَّائِب الْإِذْن فِي سَفَره إِلَى الْحجاز فرسم لَهُ بذلك ثمَّ منع مِنْهُ وترضاه السُّلْطَان وَاتفقَ أَن حسن بن الرديني الهجان قتل لَيْلًا فِي بَيته بسوق الْخَيل من منسر كبس عَلَيْهِ وَقد خرج السُّلْطَان إِلَى سرحة سرياقوس فاتهم وَلَده بذلك عِيسَى بن حسن الهجان وبالغاً الْأَعْرَج لعداوة بَينهمَا وَبَين أَبِيه فَقبض عَلَيْهِمَا إِلَى النَّائِب فعراهما وأ! راد أَن يضربهما بالمقارع فمازالا بِهِ حَتَّى أمهلهما أَيَّامًا عينهَا ليكشفوا عَن الْقَاتِل(3/416)
فسعيا بالأمراء حَتَّى أفرج عَنْهُمَا مُعَارضَة للنائب وَمنع من طلبهما. وأنعم على ولد حسن بإقطاع أَبِيه ووظيفته فَاشْتَدَّ حنق النَّائِب وَأطلق لِسَانه بالْكلَام. وَفِيه قدم سيف بن فضل فَأكْرمه السُّلْطَان وَكتب إِلَى نَائِب الشَّام بِالْقَبْضِ على أَحْمد بن مهنا إِذا قدم عَلَيْهِ. وَكَانَ فياض قد بَعثه ليَأْخُذ لَهُ الْأمان من السُّلْطَان فَيوم قدم دمشق أمسك هُوَ وَابْن أَخِيه وحبسا بالقلعة ترضية للأمير سيف. فَجمع فياض عربه يُرِيد أَخذ دمشق فَجرد النَّائِب لَهُ عشرَة أُمَرَاء فَرجع عَن مقْصده. وَبلغ ذَلِك الْأَمِير أقسنفر الناصري نَائِب طرابلس فشق عَلَيْهِ سجن أَحْمد بن مهنا فَإِنَّهُ كتب فِيهِ للسُّلْطَان وَأَنه ضمن دركه ودرك فياض. فَأُجِيب أقسنقر بِقبُول شَفَاعَته ورسم بحضورهما إِلَى مصر فاتفق من مَكَّة مَا اتّفق. وَقدم الْخَبَر بِنفَاق عربان الْوَجْه القبلي وقطعهم الطرقات على النَّاس وامتداد الْفِتَن بَينهم نَحْو شَهْرَيْن قتل فِيهَا خلق عَظِيم وَأَن عرب الفيوم أغار بَعضهم على بعض وذبحوا الْأَطْفَال على صُدُور أمهاتهم فَقتل بَينهم قَتْلَى كَثِيره. وأخربوا ذَات الصَّفَا وَمنعُوا الْخراج فِي الْجبَال وَقَطعُوا الْمِيَاه حَتَّى شَرق أَكثر بِلَاد الفيوم فَلم يلْتَفت أُمَرَاء الدولة لذَلِك لشغلهم بالصيد وَنَحْوه. وَفِيه نقل غرلو من ولَايَة الْقَاهِرَة إِلَى سد الدَّوَاوِين والدولة فِي غَايَة التَّوَقُّف. فاستجد غرلوا من الْحَوَادِث أَن من طلب ولَايَة أَو شدّ جِهَة يحمل مَالا بِحَسب وظيفته إِلَى بَيت المَال. وَعرف غرلو السُّلْطَان أَن هَذَا المَال كَانَ يحمل للنَّاظِر والمباشرين وَأَنه تنزه عَن ذَلِك وَأظْهر نهضة وَأَمَانَة. وَفِيه قدم الْخَبَر بِكَثْرَة فَسَاد العشير بِبِلَاد الشَّام وقطعهم الطرقات لقلَّة حُرْمَة الْأَمِير طقزدمر نَائِب الشَّام. فَانْقَطَعت طرقات طرابلس وبعلبك ونهبت بلادهما. وامتدت الْفِتْنَة بَين العشير زياده على شهر قتل فِيهَا خلق كثير. ونحروا الْأَطْفَال على صُدُور أمهاتهم وأضرموا النَّار على مَوضِع احْتَرَقَ فِيهِ زِيَادَة على عشْرين امْرَأَة. وَفِيه توقفت أَحْوَال الْقَاهِرَة من جِهَة الْفُلُوس وتحسن سعر أَكثر المبيعات. وَذَلِكَ أَن الْمُعَامَلَة بالفلوس كَانَت بِالْعدَدِ فَكثر فِيهَا الْفُلُوس الخفاق وانتدب جمَاعَة لشراء النّحاس الْخلق بِدِرْهَمَيْنِ الرطل وقصه فُلُوسًا خفافاً فَبلغ الرطل مِنْهَا عشْرين درهما. وَصَارَ الرصاص يقطع على هَيْئَة الْفُلُوس ويخلط بهَا. وجلب كثير من فلوس الشَّام وَهِي وَاسِعَة فَكَانَت تقطع سِتّ قطع كل مِنْهَا فلس إِلَى أَن أفحش ذَلِك وَكثر التعنت(3/417)
فِيهَا. فَطلب السُّلْطَان الْمُحْتَسب والوالي وَأنكر عَلَيْهِمَا فقبضا على كثير من الباعة وضربوا عدَّة مِنْهُم بالمقارع وشهروهم فتحسنت الأسعار كلهَا. فألزم الْمُحْتَسب سماسرة الغلال أَلا يزِيدُوا فِي سعر الْغلَّة شَيْئا فَلم يتجاسر أحد مِنْهُم أَن يزِيد شَيْئا فِي السّعر. ثمَّ نُودي أَلا يُؤْخَذ من الْفُلُوس إِلَّا مَا عَلَيْهِ سكَّة السُّلْطَان وَمَا عدا ذَلِك يُؤْخَذ بِحِسَاب كل رَطْل دِرْهَمَيْنِ وَلَا يقبل فِيهِ نُحَاس وَلَا رصاص. فشريت الْفُلُوس وَأخذ مِنْهَا مَا عَلَيْهِ السِّكَّة السُّلْطَانِيَّة وتعامل النَّاس بهَا عددا ووزنوا فِي الْمُعَامَلَة الْفُلُوس الْخفاف بالرطل على حِسَاب دِرْهَمَيْنِ كل رَطْل ففقدت بعد قَلِيل. ثمَّ ألزم النَّاس بِحمْل مَا عِنْدهم من الْفُلُوس إِلَى دَار الضَّرْب فَضربت فُلُوسًا جدداً. وَلم يكن فِي الدولة حَاصِل يحمل لدار الضَّرْب كَمَا هِيَ الْعَادة لتوقف أمرهَا. وَفِيه قدم الْأَمِير جركتمر الْحَاجِب من كشف الغلال وَقد حصل من متوفر غلال العربان بِبِلَاد الشَّام أَرْبَعمِائَة ألف وَخمسين ألف دِرْهَم. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى سرياقوس على الْعَادة. وَفِيه قبض على الْمُقدم خَالِد وَوَقعت الحوطة على موجوده وَأخذ لسوء سيرته. وَفِيه قدم رَسُول ابْن دلغادر وَأَخُوهُ وَابْن عَمه بكتابه وأنعم عَلَيْهِ بِزِيَادَة من أَرَاضِي حلب. وَفِي نصف شعْبَان: قدمت الْحرَّة أُخْت صَاحب الغرب فِي جمَاعَة كَثِيرَة وعَلى يَدهَا كتاب السُّلْطَان أبي الْحسن يتَضَمَّن السَّلَام وَأَن يدعوا لَهَا الخطباء فِي يَوْم الْجُمُعَة فِي خطبهم ومشايخ الصّلاح وَأهل الْخَيْر بالنصر على عدوهم وَأَن يكْتَسب لأهل الْحَرَمَيْنِ بذلك. وَذَلِكَ أَن فِي السّنة الخالية كَانَت بَينه وَبَين الفرنج وقْعَة عَظِيمَة قتل فِيهَا وَلَده وَنَصره الله بمنه على الْعَدو وَقتل كثيرا مِنْهُم وَملك مِنْهُم الجزيرة الخضراء. فعمر الفرنج مِائَتي شيني وجمعوا طوائفهم وقصدوا الْمُسلمين بالجزيرة وأوقعوا بهم عي حِين غَفلَة. فاستشهد عَالم كَبِير وَنَجَا أَبُو الْحسن فِي طَائِفَة من ألزامه بعد شَدَائِد. وَملك الفرنج الجزيرة وأسروا وَسبوا وغنموا شَيْئا يجل وَصفه ثمَّ مضوا إِلَى جِهَة غرناطة ونصبوا عَلَيْهَا مائَة منجنيق حَتَّى صَالحهمْ أَهلهَا على قطيعة يقومُونَ بهَا وتهادنوا مُدَّة عشر سِنِين. وقدمت رسل البنادقة من الفرنج بهدية وسألوا الرِّفْق بهم وَالْمَنْع من ظلمهم وَألا يُؤْخَذ مِنْهُم إِلَّا مَا جرت بِهِ عَادَتهم وَأَن يمكنوا من بيع بضائعهم على من يختارونه.(3/418)
فرسم لناظر الْخَاص أَلا يتَعَرَّض لبضائعهم وَلَا يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا إِلَّا بِقِيمَتِه وَلَا يلْزمهُم بشرَاء مَا لَا يختارون شِرَاءَهُ وَأَن يَأْخُذ مِنْهُم على كل مائَة دِينَار دِينَارَانِ وَكَانُوا يؤدون عَن الْمِائَة أَرْبَعَة دَنَانِير وَنصف دِينَار ليكْثر الفرنج من بِلَادهمْ جلب البضائع. وَفِي مستهل شهر رَمَضَان: توقفت أَحْوَال الدولة فِي كل شَيْء وَعجز الْوَزير عَن لحم المعاملين وجوامك المماليك وسكرهم الْجَارِي بِهِ الْعَادة فِي شهر رَمَضَان. وَكَانَ السكر الْجَارِي فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون ألف قِنْطَار فَبلغ فِي هَذَا الشَّهْر ثَلَاثَة آلَاف قِنْطَار ونيف وَلم يُوجد فِي بَيت المَال شَيْء لِكَثْرَة الزِّيَادَات فِي الرَّوَاتِب. وَعز وجود السكر لتلاف الْقصب فِيمَا مضى فرسم بِقطع راتب الْأُمَرَاء والمماليك وأرباب الْوَظَائِف كلهم وَلم يصرف سكر إِلَّا لِنسَاء السُّلْطَان فَقَط وكتبت أوراق بكلف الدولة فَمنع جَمِيع مَا استجد بعد السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَكتب بذلك مرسوم سلطاني فتوفر فِي كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف رَطْل لحم وسِتمِائَة كماج سميذ وثلاثمائة أردب شعير وَفِي كل شهر مبلغ ألف دِرْهَم وَفِي السّنة عدَّة كساوى. وأضيف سوق الْخَيل وَالْجمال وَالْحمير إِلَى الدولة وَعوض مقطوعها بِأَرْض سيلا من أَعمال الفيوم وبناحية سمنديون من القليوبية وبناحية فيشة من الغربية خلا ماهو فِيهَا لقضاة الْقُضَاة عوضا عَمَّا كَانَ لَهُم على الجوالي. وَفِي هَذَا الشَّهْر: خلع عَليّ تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الرَّحِيم بن سَالم بن مراحل وَاسْتقر فِي نظر دمشق وَكَانَ قد طلب إِلَى مصر عوضا عَن المكين إِبْرَاهِيم ابْن قروينة باستعفائه. وَفِيه كتب بِنَقْل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني من طرابلس إِلَى دمشق واستقراره فِي وَظِيفَة الشد رَفِيقًا لِابْنِ مراحل. فضبطا الْجِهَات ضبطاً كَبِيرا وقطعا من موقعي دمشق نَحْو الْعشْرين قد استجدوا وَمِنْهُم ابْن الزملكاني وَابْن غَانِم وَابْن الشهَاب مَحْمُود وَأَوْلَاده وجمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ وقطعا كثيرا من البريدية وحملا كسْوَة(3/419)
المماليك على الْعَادة وَهِي ألفا ثوب بعلبكي سوى البطائن وَغَيرهَا. وَفِيه مَاتَ بدوه الططري فَفرق إقطاعه على ثَمَانِينَ من المماليك السُّلْطَانِيَّة ووفرت جوامكهم ورواتبهم وَأخرج عدَّة مِنْهُم إِلَى الكرك. وَفِيه رسم بِعرْض أجناد الْحلقَة على النَّائِب ليوفر مِنْهُم إقطاع الشَّيْخ الْعَاجِز والجندي المستجد. فَطلب الأجناد من الأقاليم وَنُودِيَ من تَأَخّر عَن الْعرض قطع خبزه فَقَامَ الْأُمَرَاء فِي ذَلِك حَتَّى بَطل.
(وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشريه)
أفرج عَن الْأَمِير بيغرا وَعَن الْأَمِير قراجا والأمير أولاجا من سجن الْإسْكَنْدَريَّة وتوجهوا إِلَى دمشق. ثمَّ رسم لبيغرا بِالْإِقَامَةِ بِالْقَاهِرَةِ وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف. وَفِيه رسم أَن تكون نَفَقَة المماليك والأوجاقية والأيتام بَين يَدي الطواشي الْمُقدم فوفر مِنْهُم وَفِيه أنعم على الْأَمِير طرنطاي البشمقدار بإقطاع الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي بعد مَوته. وَفِيه أنعم بإقطاع طرنطاي على الْأَمِير بيبغا ططر نَائِب غَزَّة ورسم بِحُضُورِهِ. وَفِيه خلع على الْأَمِير علم الدّين أيدمر الزراق وَاسْتقر فِي نِيَابَة غَزَّة وأنعم بإقطاعه على ابْن بكتمر الساقي. وَفِيه أنعم بإقطاع الْأَمِير ألطنقش بعد مَوته على أرغون الصَّغِير صهر أرغون العلائي. وَفِيه توجه ركب الْحَاج على الْعَادة صُحْبَة الْأَمِير طيبغا المجدي. وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة: قدمت خوند بنت الْأَمِير طقزدمر نَائِب الشَّام وَزَوْجَة السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل فَدخل عَلَيْهَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشريه: عزل الضياء أَبُو المحاسن يُوسُف بن أبي بكر بن مُحَمَّد ابْن خطيب بَيت الْآبَار الشَّامي من نظر المارستان المنصوري وَاسْتقر عوضه عَلَاء الدّين بن الأطروش. وَفِي يَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة: انْفَرد الْعلم بن سهلول بوظيفة نظر الدولة بعد مَا الْتزم بِحمْل ألف دِينَار لبيت المَال.(3/420)
وَفِيه عزل موسي بن التَّاج إِسْحَاق لتوقف حَال الدولة وَكَثْرَة تقلقه وَكَرَاهَة النَّاس لَهُ لظلمه وتغييره قَوَاعِد كَثِيرَة. وَفِيه قدم كتاب التَّاج مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم البارنباي موقع طرابلس بحدوث سيل عَظِيم لم يعْهَد مثله فِيمَا تقدم. وفيهَا كثر سُقُوط الثَّلج بِدِمَشْق حَتَّى خرج عَن الْعَادة وأنفقوا على شيله من الأسطحة مَا ينيف على ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم فَإِنَّهُ أَقَامَ يسْقط أسبوعين. وفيهَا زَاد عَاصِفَة حَتَّى خرب عدَّة بيُوت وفيهَا تَوَاتر سُقُوط الْبرد بِأَرْض مصر مَعَ ريح سَوْدَاء وشعث عَظِيم وبرق ورعد سهول. ثمَّ أعقب ذَلِك عَالم شَدِيدَة الْحر بِحَيْثُ تطاير مِنْهَا شرر أحرق رُءُوس الْأَشْجَار وزريعة الباذنجان وَبَعض الْكَتَّان حَتَّى اشْتَدَّ خوف النَّاس وضجوا إِلَى الله تَعَالَى. وَجَاء مطر غزير ثمَّ برد فِيهِ يبس لم يعْهَد مثله فَكَانَت أَرَاضِي النواحي تصبح بَيْضَاء من كَثْرَة الجليد وَهلك من شدَّة الْبرد جمَاعَة من بِلَاد الصَّعِيد وَغَيرهَا. وأمطرت السَّمَاء خَمْسَة أَيَّام مُتَوَالِيَة حَتَّى ارْتَفع المَاء فِي مزارع الْقصب قدر ذِرَاع وَعم ذَلِك أَرض مصر قبليها وبحريها ففسدت بِالرِّيحِ والمطر مَوَاضِع كَثِيرَة وَقلت أسماك بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط والخلجان وبركة الْفِيل وَغَيرهَا لموتها من الْبرد. فَتلفت فِي هَذِه السّنة بعامة أَرض مصر وَجَمِيع بِلَاد الشَّام بالأمطار والثلوج وَالْبرد وهبوب السمائم وَشدَّة الْبرد من الزروع وَالْأَشْجَار والبائهم والأنعام والدور مَا لَا يدْخل تَحت حصر مَعَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ أهل الشَّام من تَجْرِيد عساكرها وتسخير أهل الضّيَاع وتسلط العربان والعشير وَقلة حُرْمَة السلطنة مصرا وشاماً وَقطع الأرزاق وظلم الرّعية. وَبَلغت زِيَادَة النّيل فِي هَذِه السّنة ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَسَبْعَة عشر إصبعاً. وَفِيه قدم سيف الدّين بلطوا مبشراً بسلامة الْحجَّاج فِي خَامِس عشرى ذِي الْحجَّة. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الزبير الغرناطي فِي شعْبَان ببرشانة من الأندلس قدم الْقَاهِرَة وَأخذ عَن جمَاعَة وَولي بِبَلَدِهِ قَضَاء عدَّة مَوَاضِع. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق جلال الدّين أَحْمد بن الْحمام أبي الْفَضَائِل الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن أنوشروان الرَّازِيّ عَن بضع وَسبعين سنة بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بكتاش نقيب الْجَيْش فِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ مشكوراً.(3/421)
وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن رَمَضَان وَدفن بمدرسته فَوق جبل الْكَبْش أَصله من مماليك جاول أحد أُمَرَاء السُّلْطَان الظَّاهِر بيبرس ثمَّ انْتقل بعده إِلَى بَيت السُّلْطَان الْمَنْصُور قلاوون. وَأخرج فِي أَيَّام الْأَشْرَف خَلِيل إِلَى الكرك فاستقر فِي بحريتها. وَقدم فِي أَيَّام السُّلْطَان الْعَادِل كتبغا إِلَى مصر بِحَال زري فسلمه كتبغا إِلَى مَمْلُوكه بتخاص ليَكُون نَائِبه بالحوائج خاناه وتنقل حَتَّى قدمه الْأَمِير سلار وقربه ثمَّ ولي نِيَابَة غَزَّة وَصَارَ من أكبر أُمَرَاء مصر. وَله مدرسة على جبل الْكَبْش بجوار جَامع ابْن طولون وجامع بقرية الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وجامع بغزة ومارستان وخان بِبَيَان وخان بقاقون وَله مصنفات وفضائل كَثِيرَة. وَمَات الْأَمِير طقصبا الظَّاهِرِيّ وَقد أناف على مائَة وَعشْرين سنة. وَمَات الْأَمِير ألطنقش أستادار السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَهُوَ من مماليك الأفرم. فَلَمَّا توجه الأفرم إِلَى بِلَاد التتار قدم هُوَ إِلَى الْقَاهِرَة فَقبض عَلَيْهِ وسجن ثمَّ أفرج عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ بإمرية طبلخاناه. ثمَّ عمل أستاداراً صَغِيرا مَعَ أستادارية آنوك ابْن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد. وَمَات الْأَمِير أرغون عبد الله. وَمَات الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن أسعد الدوادار الناصري بطرابلس ولي نِيَابَة الإسكندريه وكشفت الجيزة ثمَّ دوادارية السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَكَانَ كَاتبا شَاعِرًا ضابطاً. وَمَات الْأَمِير سنجر الجقدار أحد المماليك المنصورية وَقد أسن. وَمَات الْأَمِير طرنطاي المحمدي بِدِمَشْق وَهُوَ أحد المماليك المنصورية قلاوون وَمن جملَة من وَافق على قتل الْأَشْرَف خَلِيل. وسجن سبعا وَعشْرين سنة ثمَّ أخرج إِلَى طرابلس أَمِير عشرَة ثمَّ نقل إِلَى دمشق. وَمَات الْأَمِير بكتمر العلائي أحد المنصورية أَيْضا بَعْدَمَا ولي أستاداراً ونائب حمص ونائب غَزَّة ثمَّ نَائِب حمص وَبهَا مَاتَ. وَمَات الْأَمِير كندغدي الزراق المنصوري بحلب وَهُوَ رَأس الميسرة ومقدم العساكر الْمُجَرَّدَة إِلَى سيس. وَمَات الْأَمِير بلبان الشمسي أحد المنصورية بحلب.(3/422)
وَمَات فتح الدّين صَدَقَة الشرابيني عَن مَال ومعروف كثير فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي شَوَّال. وَمَات جمال الكفاة إِبْرَاهِيم مشير الدولة وناظر الْخَاص والجيش تَحت الْعقُوبَة فِي لَيْلَة الْأَحَد سادس ربيع الأول. وَكَانَ أَولا يُبَاشر فِي بعض الْبَسَاتِين على بيع ثَمَرَته وتنقل فِي خدمَة ابْن هِلَال الدولة. ثمَّ خدم بيدمر البدري وَهُوَ خاصكي خبزه فِي محلّة منوف يكْتب على بَاب إِلَى أَن تَأمر فباشر عِنْده ثمَّ قَرَّرَهُ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد فِي الِاسْتِيفَاء ثمَّ أَقَامَهُ فِي ديوَان الْأَمِير بشتاك بعد موت الْمُهَذّب إِلَى أَن قتل النشو فولاه نظر الْخَاص بعده. ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد نظر الْجَيْش عوضا عَن المكين إِبْرَاهِيم فَنَهَضَ بهما. ولاحظته السُّعُود حَتَّى انتقضت أَيَّامه فَزَالَ سعده وعوقب حَتَّى هلك. وَكَانَ يتحدث بالتركي والنوبي والتكروري وَله مَكَارِم كَثِيرَة. وَمَات خَالِد بن الزراد الْمُقدم فِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة تَحت الْعقُوبَة وَكَانَ ظَالِما. وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن نجدة بن حمدَان الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب الشَّافِعِي قَاضِي الْقُضَاة بحلب وَهُوَ مَعْزُول بِدِمَشْق عَن نَيف وَثَمَانِينَ سنة. وَتُوفِّي الشَّيْخ أثر الدّين أَبُو حَيَّان مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَليّ بن حَيَّان الأندلسي إِمَام وقته فِي النَّحْو والقراءات والآداب فِي ثامن عشرى صفر. وَفِيه توجه طلب الْأَمِير أرغون الكاملي إِلَى حلب.(3/423)
وَفِيه قدم طلب الْأَمِير أرقطاي مَعَ وَلَده. وَفِي يَوْم الْخَمِيس مستهل شعْبَان: خرج الْأَمِير قبلاي الْحَاجِب بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إِلَى غَزَّة لأحد شُيُوخ العشير. وَفِي هَذَا الشَّهْر: غير الْوَزير وُلَاة الْوَجْه القبلي وَكتب بطلبهم وعزل مازان من الغربية بِابْن وَفِيه أضيف كشف الجسور إِلَى وُلَاة الأقاليم. وَفِيه أُعِيد فأر السقوف إِلَى ضماد جِهَات الْقَاهِرَة ومصر بأجمعها وَكَانَ قد سجن فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون وَكتب على قَيده مخلد بعد مَا صودر وَضرب بالمقارع لقبح سيرته. فَلم يزل مسجوناً إِلَى أَن أفرج عَن المحابيس فِي أَيَّام الصَّالح إِسْمَاعِيل فأفرج عَنهُ فِي جُمْلَتهمْ وَانْقطع إِلَى أَن اتَّصل بالوزير منجك واستماله فسلمه الْجِهَات بأسرها وخلع عَلَيْهِ وَمنع مقدمي الدولة من مشاركته فِي التَّكَلُّم فِي الْجِهَات وَنُودِيَ لَهُ فِي الْقَاهِرَة ومصر فَزَاد فِي الْمُعَامَلَات ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فِي السّنة. وَفِيه قدم الْأَمِير قبلاي غَزَّة فاحتال على أُدي حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَأكْرمه وأنزله ثمَّ رده بزوادة إِلَى أَهله فاطمأنت العشرات والعربان لذَلِك وبقوا على ذَلِك إِلَى أَن أهل رَمَضَان. حضر أُدي فِي بني عَمه لتهنئة قبلاي بِشَهْر الصَّوْم فساعة وُصُوله إِلَيْهِ قبض عَلَيْهِ وعَلى بني عَمه الْأَرْبَعَة وقيدهم وسجنهم وَكتب إِلَى عَليّ بن سنجر. بِأَنِّي قد قبضت على عَدوك ليَكُون لي عنْدك يَد بَيْضَاء فسر سنجر بذلك وَركب إِلَى قبلاي فَتَلقاهُ وأكرمه فضمن لَهُ سنجر دَرك الْبِلَاد. ورحل قبلاي من غده وَمَعَهُ أُدي وَبَنُو عَمه يُرِيد الْقَاهِرَة فَقدم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشره فَضربُوا على بَاب الْقلَّة بالمقارع ضربا مبرحاً وألزم أُدي بِأَلف جمل ومائتي ألف دِرْهَم فَبعث إِلَى قومه بإحضارها فَلَمَّا أخذت سمر هُوَ وَبَنُو عَمه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه وَقت الْعَصْر وسيروا إِلَى غَزَّة صُحْبَة جمَاعَة من أجناد الْحلقَة فوسطوا بهَا. فثار أَخُو أُدي وَقصد كبس غَزَّة فَخرج إِلَيْهِ الْأَمِير دلنجي ولقيه على ميل من غَزَّة وحاربه ثَلَاثَة أَيَّام وَقَتله فِي الْيَوْم الرَّابِع بِسَهْم أَصَابَهُ وَبعث دلنجي بذلك إِلَى الفاهرة فَكتب بِخُرُوج نَائِب صفد ونائب الكرك لنجدته.(3/424)
وَفِي مستهل شَوَّال: توجه السُّلْطَان إِلَى الأهرام على الْعَادة. وَفِيه كثر الْإِنْكَار على الْوَزير منجك فَإِنَّهُ أبطل سماط الْعِيد وَاحْتج بِأَنَّهُ يقوم بجملة كَبِيرَة تبلغ خمسين ألف دِرْهَم وتنهبه الغلمان وَكَانَ أَيْضا قد أبطل سماط شهر رَمَضَان. وَفِي هَذَا الشَّهْر: فرغت القيسارية الَّتِي أَنْشَأَهَا تَاج الدّين الْمَنَاوِيّ بجوار الْجَامِع الطولوني من مَال وَقفه وتشتمل على ثَلَاثِينَ حانوتاً. وَفِيه خرج ركب الْحَاج على الْعَادة صُحْبَة الْأَمِير فَارس الدّين وَمَعَهُ عدَّة من مماليك الْأُمَرَاء. وَحمل الْأَمِير فَارس الدّين مَعَه مَالا من بَيت المَال وَمن مُودع الحكم لعمارة عين جوبا بِمَكَّة ومبلغ عشرَة أُلَّاف دِرْهَم للْعَرَب بِسَبَب الْعين الْمَذْكُورَة ورسم أَن تكون مقررة لَهُم فِي كل سنة. وَخرج مَعَه حَاج كثير جدا وَحمل الْأُمَرَاء من الغلال فِي الْبَحْر إِلَى مَكَّة عدَّة أُلَّاف أردب. وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة: قدم كتاب الْأَمِير دلنجي نَائِب غَزَّة بتفرق العربان ونزول أَكْثَرهم بالشرقية والغربية من أَرض مصر لربط إبلهم على البرسيم. فكبست الْبِلَاد عَلَيْهِم وَقبض على ثَلَاثمِائَة رجل وَأخذ لَهُم ثَلَاثَة أُلَّاف جمل. وَوجد عِنْدهم كثير من ثِيَاب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم فَاسْتعْمل الرِّجَال فِي العمائر حَتَّى هلك أَكْثَرهم. وَفِي نصفه: خرج الْأُمَرَاء لكشف الجسور فَتوجه الْأَمِير أرنان للْوَجْه القبلي وَتوجه أَمِير أَحْمد قريب السُّلْطَان للغربية وَتوجه الْأَمِير أقجبا للمنوفية وَتوجه أراي أَمِير أخور للشرقية وَتوجه أحد أُمَرَاء العشرات لأشمون. وَفِيه توقف حَال الدولة فَكثر الْكَلَام من الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة والمعاملين والخوشكاشية وَفِيه طلب الْأَمِير مغلطاي أَمِير أخور زِيَادَة على إقطاعه فكشف عَن بِلَاد الْخَاص فَدلَّ ديوَان الْجَيْش على أَنه لم يتَأَخَّر مِنْهَا سوى الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط وَقُوَّة وَفَارِس كور وَخرج بَاقِيهَا لِلْأُمَرَاءِ وَخرج أَيْضا من الجيزة مَا كَانَ لديوان الْخَاص لِلْأُمَرَاءِ. وشكا الْوَزير من كَثْرَة الكلف والإنعامات وَأَن الْحَوَائِج خاناه فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد ابْن قلاوون مرتبها فِي كل يَوْم ثَلَاثَة عشر ألف دِرْهَم وَهُوَ الْيَوْم اثْنَان وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم. فرسم بِكِتَابَة أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها فَبلغ المتحصل فِي السّنة عشرَة(3/425)
أُلَّاف ألف دِرْهَم والمصروف بديوان الوزارة وديوان الْخَاص أَرْبَعَة عشر ألف ألف دِرْهَم وسِتمِائَة ألف دِرْهَم وَأَن الَّذِي خرج من بِلَاد الجيزة على سَبِيل الإنعام زِيَادَة على إقطاعات الْأُمَرَاء نَحْو سِتِّينَ ألف دِينَار. فتغاضى الْأُمَرَاء عِنْد سَماع ذَلِك إِلَّا مغلطاي أَمِير آخور فَإِنَّهُ غضب وَقَالَ: من يحاقق الدَّوَاوِين على قَوْلهم. وَفِيه قدم طلب الْأَمِير قطليجا الْحَمَوِيّ من حلب فَوضع الْوَزير منجك يَده عَلَيْهِ وَتصرف بِحكم أَنه وَصِيّ. وَفِيه قدم الْأَمِير عز الدّين أزدمر الزراق من حلب باستدعائه بعد مَا أَقَامَ بهَا مُدَّة سنة من جملَة أُمَرَاء الألوف فأجلس مَعَ الْأُمَرَاء الْكِبَار فِي الْخدمَة. وَفِيه أخرج ابْن طقزدمر إِلَى حلب لِكَثْرَة فَسَاده وَسُوء تصرفه. وَفِيه خرج الْأَمِير طاز لسرحة الْبحيرَة وأنعم عَلَيْهِ من مَال الْإسْكَنْدَريَّة بألفي دِينَار. وَخرج الْأَمِير صرغتمش أَيْضا فأنعم عَلَيْهِ مِنْهَا بِأَلف دِينَار. ثمَّ توجه الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب للسرحة وأنعم عَلَيْهِ بِثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار. وَتوجه الْأَمِير شيخو أَيْضا ورسم لَهُ بِثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار. وَفِيه أنعم على الْأَمِير مغلطاي أَمِير أخور إرضاء لخاطره بِنَاحِيَة صهرجت زِيَادَة على إقطاعه وعبرتها عشرُون ألف دِينَار فِي السّنة. فَدخل الْأَمِير شيخو فِي سرحته إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَتَلَقَّتْهُ الْغُزَاة بآلات السِّلَاح ورموا بالجرخ بَين يَدَيْهِ ونصبوا المنجنيق ورموا بِهِ. ثمَّ شكوا لَهُ مَا عِنْدهم من الْمظْلمَة وَهِي أَن التَّاج إِسْحَاق ضمن دكاكين الْعطر وأفرد دكاناً لبيع النشا فَلَا تبَاع بغَيْرهَا وأفرد دكاناً لبيع الْأَشْرِبَة فَلَا تبَاع بغَيْرهَا وَجعل ذَلِك وَقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بِإِبْطَال ذَلِك وَأطلق للنَّاس البيع حَيْثُ أَحبُّوا وَكتب مرسوم بِإِبْطَال ذَلِك. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: عوفي علم الدّين عبد الله بن زنبور وخلع عَلَيْهِ بعد مَا(3/426)
أَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرِيضا تصدق فِيهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَأَفْرج عَن جمَاعَة من المسجونين. وَفِيه كتب الْمُوفق نَاظر الدولة أوراق بِمَا استجد على الدولة من وَفَاة السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الْمحرم سنة خمسين وَسَبْعمائة فَكَانَت جملَة مَا أنعم بِهِ وأقطع من بِلَاد الصَّعِيد وبلاد الْوَجْه البحري وبلاد الفيوم وبلاد الْملك وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سَبْعمِائة ألف ألف أردب وَألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم مُعينَة بأسماء أَرْبَابهَا من الْأُمَرَاء والخدام وَالنِّسَاء وعبرة الْبَلَد ومتحصلها وَجُمْلَة عَملهَا وقرئت على الْأُمَرَاء ومعظم ذَلِك بِأَسْمَائِهِمْ فَلم ينْطق أحد مِنْهُم بِشَيْء. وَفِيه أبطل الْوَزير منجك سماط عيد النَّحْر أَيْضا. وفيهَا أبطل مَا أحدثه النِّسَاء من ملابسهن. وَذَلِكَ أَن الخواتين نسَاء السُّلْطَان وجواريهن أحدثن قمصاناً طوَالًا تخب أذيالها على الأَرْض بأكمام سَعَة الْكمّ مِنْهَا ثَلَاثَة أَذْرع فَإِذا أرخته الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ غطى رجلهَا وَعرف الْقَمِيص مِنْهَا فِيمَا بَينهُنَّ بالبهطلة ومبلغ مصروفه ألف دِرْهَم مِمَّا فَوْقهَا. وتشبه نسَاء الْقَاهِرَة بِهن فِي ذَلِك حَتَّى لم يبْق امْرَأَة إِلَّا وقميصها كَذَلِك. فَقَامَ الْوَزير منجك فِي إِبْطَالهَا وَطلب وَالِي الْقَاهِرَة ورسم لَهُ بِقطع أكمام النِّسَاء وَأخذ مَا عَلَيْهِنَّ. ثمَّ تحدث منجك مَعَ قُضَاة الْقُضَاة بدار الْعدْل يَوْم الْخدمَة بِحَضْرَة السُّلْطَان والأمراء فِيمَا أحدثه النِّسَاء من القمصان الْمَذْكُورَة وَأَن الْقَمِيص مِنْهَا مبلغ مصروفه ألف دِرْهَم وأنهن أبطلن لبس الْإِزَار الْبَغْدَادِيّ وأحدثن الْإِزَار الْحَرِير بِأَلف دِرْهَم وَأَن خف الْمَرْأَة وسرموزتها بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم. فأفتوه جَمِيعهم بِأَن هَذَا من الْأُمُور الْمُحرمَة الَّتِي يجب منعهَا فقوي بفتواهم وَنزل إِلَى بَيته وَبعث أعوانه إِلَى بيُوت أَرْبَاب الملهى حَيْثُ كَانَ كثير من النِّسَاء فَهَجَمُوا عَلَيْهِنَّ وَأخذُوا مَا عِنْدهن من ذَلِك. وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية وَأخذُوا مَا فِيهَا من قمصان النِّسَاء وقطعها الْوَزير منجك. ووكل الْوَزير مماليكه بالشوارع والطرقات فَقطعُوا أكمام النِّسَاء ونادى فِي الْقَاهِرَة ومصر بِمَنْع النِّسَاء من لبس مَا تقدم ذكره وَأَنه مَتى وجدت امْرَأَة عَلَيْهَا شَيْء مِمَّا منع أخرق بهَا وَأخذ مَا عَلَيْهَا. وَاشْتَدَّ الْأَمر على النِّسَاء وَقبض على عدَّة مِنْهُنَّ وَأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور الْقَاهِرَة بِبَاب زويلة وَبَاب النَّصْر وَبَاب الْفتُوح وعلق عَلَيْهَا تماثيل معمولة على سور النِّسَاء وعليهن القمصان الطوَال إرهاباً لَهُنَّ وتخويفاً.(3/427)
وَطلبت الأساكفة وَمنعُوا من بيع الأخفاف والسراميز الْمَذْكُورَة وَأَن تعْمل كَمَا كَانَت أَولا تعْمل وَنُودِيَ من بَاعَ أزاراً حَرِيرًا أَخذ جَمِيع مَاله للسُّلْطَان. فَانْقَطع خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْأَسْوَاق وركوبهن حمير المكارية وَإِذا وجدت امْرَأَة كشف عَن ثِيَابهَا. وَامْتنع الأساكفة من عمل أَخْفَاف النِّسَاء وسراميزهن المحدثة وأنكف التُّجَّار عَن بيع الأزر الْحَرِير وشرائها حَتَّى أَنه نُودي على إِزَار حَرِير بِثَمَانِينَ درهما فَلم يلْتَفت لَهُ أحد فَكَانَ هَذَا من خير مَا عمل. وَفِيه اسْتَقر جمال الدّين يُوسُف المرداوي فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق بعد وَفَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن أبي البركات بن عُثْمَان بن أسعد بن المنجا. وَفِيه اسْتَقر نجم الدّين مُحَمَّد الزرعي فِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب بعد وَفَاة نجم الدّين عبد القاهر بن أبي السفاح. وَفِيه توقف النّيل ثمَّ زَاد حَتَّى كَانَ الْوَفَاء فِي جُمَادَى الْآخِرَة. ثمَّ نقص نَحْو ثُلثي ذِرَاع وَبَقِي على النَّقْص إِلَى النوروز وَهُوَ سِتَّة عشر ذِرَاعا وَإِحْدَى وَعشْرين أصبعاً. ثمَّ رد النَّقْص وَزَاد وَفِيه أضاع الْوُلَاة عمل الجسور وَبَاعُوا الجراريف حَتَّى غرق كثير من الْبِلَاد. وَمَعَ ذَلِك امتدت أَيْديهم إِلَى الفلاحين وغرموهم مَا لم تجر بِهِ عَادَة فشكي من الْوُلَاة للوزير فَلم يلْتَفت لمن شكاهم. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان شيخ الإقراء شهَاب الدّين أَحْمد بن مُوسَى بن موسك بن جكو الهكاري بِالْقَاهِرَةِ عَن سِتّ وَسبعين سنة فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى. وَكتب بِخَطِّهِ كثيرا ودرس الْقرَاءَات والْحَدِيث وَمَات النَّحْوِيّ شهَاب الدّين أَحْمد بن سعد بن مُحَمَّد بن أَحْمد النَّسَائِيّ الأندرشي بِدِمَشْق وَله شرح سِيبَوَيْهٍ فِي أَرْبَعَة أسفار. وَمَات مكين الدّين إِبْرَاهِيم بن قروينة بَعْدَمَا ولي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة وَنظر الْبيُوت ثمَّ(3/428)
ولي نظر الْجَيْش مرَّتَيْنِ وصودر ثَلَاث مَرَّات وَأقَام بطالاً حَتَّى مَاتَ. وَمَات الْأَمِير أرغون شاه الناصري نَائِب الشَّام مذبوحاً فِي لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع عشرى ربيع الأول رباه السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون حَتَّى عمله أَمِير طبلخاناه رَأس نوبَة الجمدارية ثمَّ اسْتمرّ بعد وَفَاته أستاداراً أَمِير مائَة مقدم ألف فتحكم على المظفر شعْبَان حَتَّى أخرجه لنيابة صفد وَولي بعْدهَا نِيَابَة حلب ثمَّ نِيَابَة الشَّام. وَكَانَ جفيفاً قوي النَّفس شرس الْأَخْلَاق مهاباً جائراً فِي أَحْكَامه سفاكاً للدماء غليظاً فحاشاً كثير المَال. وَأَصله من بِلَاد الصين حمل إِلَى أَبُو سعيد بن خربندا فَأَخذه دمشق خواجا بن جوبان ثمَّ ارتجعه أَبُو سعيد بعد قتل جربان وَبعث بِهِ إِلَى مصر هَدِيَّة وَمَعَهُ ملكتمر السعيدي. وَمَات الْأَمِير أرقطاي المنصوري بِظَاهِر حلب وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى دمشق عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس جُمَادَى الأولى. وَأَصله من مماليك الْمَنْصُور قلاوون رباه الطواشي فاخر أحسن تربية إِلَى أَن توجه النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الكرك كَانَ مَعَه. فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ ملكه جعله من جملَة الْأُمَرَاء ثمَّ سيره صُحْبَة الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وأوصاه أَلا يخرج عَن رَأْيه وَأقَام عِنْده مُدَّة. ثمَّ تنكر عَلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فولاه نِيَابَة حمص مُدَّة سنتَيْن وَنصف ثمَّ نَقله لنيابة صفد فَأَقَامَ بهَا ثَمَانِي عشر سنة. وَقدم مصر فَأَقَامَ بهَا عدَّة سِنِين وجرد إِلَى أياس. ثمَّ ولي نِيَابَة طرابلس وَمَات النَّاصِر مُحَمَّد وَهُوَ بهَا. ثمَّ قدم مصر وَقبض عَلَيْهِ ثمَّ أفرج عَنهُ وَأقَام مُدَّة. ثمَّ ولي نِيَابَة حلب ثمَّ طلب إِلَى مصر فَصَارَ رَأس الميمنة. ثمَّ ولي نِيَابَة السلطنة نَحْو سنتَيْن ثمَّ أخرج لنيابة حلب فَأَقَامَ بهَا مُدَّة. ثمَّ نقل لنيابة الشَّام فَمَاتَ فِي طَرِيقه لدمشق فَدفن بحلب وَكَانَ مشكور السِّيرَة.(3/429)
وَمَات الْأَمِير ألجيبغا المظفري نَائِب طرابلس موسطاً بِدِمَشْق فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشر ربيع وَقتل مَعَه أَيْضا الْأَمِير أياس وَأَصله من الأرمن أسلم على يَد النَّاصِر مُحَمَّد ابْن قلاون فرقاه حَتَّى عمله شاد العمائر ثمَّ أخرجه إِلَى الشَّام ثمَّ أحضرهُ غرلو وتنقل إِلَى أَن صَار شاد الدَّوَاوِين. ثمَّ صَار حاجباً بِدِمَشْق ثمَّ نَائِبا بصفد ثمَّ نَائِبا بحلب ثمَّ أَمِيرا بِدِمَشْق حَتَّى كَانَ من أمره مَا تقدم ذكره. وَمَات بِدِمَشْق الْأَمِير طقتمر الشريفي بعد مَا عمي. وَمَات قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب نجم الدّين عبد القاهر بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي السفاح. وَتُوفِّي نجم الدّين عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْقرشِي الأصفوني الشَّافِعِي بمنى فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة. وَدفن بِالْعَلَاءِ وَله مُخْتَصر الرَّوْضَة وَغَيره. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن الْفَخر عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن مصطفى المارديني الْمَعْرُوف بِابْن التركماني الْحَنَفِيّ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر الْمحرم بِالْقَاهِرَةِ.(3/430)
وَله كتاب الرَّد النقي فِي الرَّد على الْبَيْهَقِيّ وَغَيره وَله شعر وَكَانَ النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون يكره مِنْهُ اجتماعه بالأمراء وَكَانَ يغلو فِي مذْهبه غلواً زَائِدا. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق عَلَاء الدّين عَليّ بن الزين أبي البركات بن عُثْمَان بن أسعد بن المنجا التنوخي عَن ثَلَاث وَسبعين سنة. وَمَات الْأَمِير قطليجا الْحَمَوِيّ أَصله الْمَمْلُوك الْمُؤَيد صَاحب حماة فَبَعثه إِلَى النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وترقى صَار من جملَة الْأُمَرَاء. ثمَّ ولي نِيَابَة حماة وَنقل إِلَى نِيَابَة حلب فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَمَات وَكَانَ سيء السِّيرَة. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران السَّعْدِيّ الأخنائي الْمَالِكِي فِي لَيْلَة الثَّالِث من صفر. وَمَات الْأَمِير نوغيه البدري وَالِي الفيوم. وَمَاتَتْ خوند بنت الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَهِي زَوْجَة الْأَمِير طاز. وَتركت مَالا عَظِيما أبيع موجودها بِبَاب الْقلَّة من القلعة بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم من جملَته قبقاب مرصع بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم ثمنهَا ألف دِينَار مصرية. وَمَات علم الدّين بن سهلول. كَانَ أَبوهُ كَاتبا عِنْد بعض الْأُمَرَاء فخدم بعده أَمِير حُسَيْن بن جندر ثمَّ ولي الِاسْتِيفَاء وَنظر الدولة شركَة للموفق. ثمَّ صودر وَلزِمَ بَيته وَعمر دَارا جليلة بحارة زويلة من الْقَاهِرَة. وفيهَا قَامَ بتونس أَبُو الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد ابْن أبي حَفْص فِي ذِي الْقعدَة وَكَانَ قد قدم إِلَى تونس السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ملك بني مرين صَاحب فاس وَملك تونس وإفريقية ثمَّ سَار مِنْهَا لِلنِّصْفِ من شَوَّال واستخلف ابْنه أَبَا الْعَبَّاس الْفضل فَقَامَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وَملك تونس ملك أَبِيه.(3/431)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
فِي الْمحرم: قدم كتاب أرتنا يتَضَمَّن اتضاع أَمر أَوْلَاد دمرادش ويغض من نَائِب حلب على مَا فعله مَعَ ابْن دلغادر. وَفِي عشريه: قدم محمل الْحَاج فَتحَرك عزم السُّلْطَان لِلْحَجِّ وَكتب إِلَى بِلَاد الشامية بابتياع سِتَّة آلَاف جمل وَألْفي رَأس غنم وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من العبي والأقتاب وَنَحْو ذَلِك. وَتوجه الْأَمِير طقتمر الصلاحي بِسَبَب ذَلِك وَكتب إِلَى الكرك والبلقاء بِحُضُور العربان بجمالهم وَأَن يحمل إِلَى عقبَة أَيْلَة ألفا غرارة شعير وَمَا يُنَاسب ذَلِك من الْأَصْنَاف. فَقدمت طَائِفَة من العربان وقبضوا مَالا ليجهزوا جمَالهمْ إِلَى أَن أهل ربيع الآخر تغير مزاج السُّلْطَان وَلزِمَ الْفراش فَلم يخرج للْخدمَة أَيَّامًا. وَكَثُرت القالة وتعنت الْعَامَّة فِي الْفُلُوس وتحسن السّعر. أرجف بالسلطان فغلقت الْأَسْوَاق حَتَّى ركب الْوَالِي والمحتسب وضربوا جمَاعَة وشهروهم. فَاجْتمع الْأُمَرَاء ودخلوا على السُّلْطَان وتلطفوا بِهِ حَتَّى أبطل الْحَرَكَة لِلْحَجِّ وَكتب بِعُود طقتمر من الشَّام واستعادة المَال من العربان. وَمَا زَالَ السُّلْطَان يتعلل إِلَى أَن تحرّك أَخُوهُ شعْبَان وَاتفقَ مَعَ عدَّة من المماليك وَقد أنقطع خبر السُّلْطَان عَن الْأُمَرَاء. فَكتب بالإفراج عَن المسجونين بِالْأَعْمَالِ وَفرقت صدقَات كَثِيرَة ورتب جمَاعَة لقِرَاءَة صَحِيح البخارى فقوى أَمر شعْبَان وعزم أَن يقبض على الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب فتحرز مِنْهُ. وَأخذ الْأُمَرَاء والأكابر فِي توزيع أَمْوَالهم وحرمهم فِي عدَّة مَوَاضِع ودخلوا على السُّلْطَان وسألوه أَن يعْهَد إِلَى أحد من إخْوَته. فَطلب الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء فَلم يحضر إِلَيْهِ أحد مِنْهُم. وَقد اتّفق الْأَمِير أرغون العلائي مَعَ جمَاعَة على إِقَامَة شعْبَان فرق فيهم مَالا كثيرا فَأَنَّهُ كَانَ ربيبه أَي ابْن زَوجته وشقيق السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل. وَقَامَ مَعَ الْأَمِير أرغون من الْأُمَرَاء غرلو وتمر الموساوى وَامْتنع الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب من إِقَامَة شعْبَان. وَصَارَ الْأُمَرَاء حزبين فَقَامَ النَّائِب فِي الْإِنْكَار على الْكَلَام فِي هَذَا وَقد اجْتمع(4/3)
مَعَ الْأُمَرَاء بِبَاب القلعة وَقبض على غرلو وسجنه وتحالف هُوَ والأمير أرغون العلائي وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء على عمل مصَالح الْمُسلمين. وَتُوفِّي السُّلْطَان فِي لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع ربيع الآخر فكتم مَوته. وَقَامَ شعْبَان إِلَى أمه وَمنع من إِشَاعَة موت أَخِيه وَخرج إِلَى أَصْحَابه وَقرر مَعَهم أمره. فَخرج طشتمر ورسلان بصل إِلَى منكلى بغا ليسعوا عِنْد الْأَمِير أرقطاى والأمير أصلم. وَكَانَ الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب والأمراء قد علمُوا من بعد الْعَصْر أَن السُّلْطَان فِي النزع فاتفقوا على النُّزُول من القلعة إِلَى بُيُوتهم بِالْمَدِينَةِ. فَدخل الْجَمَاعَة على أرقطاى ليستميلوه لشعبان فَوَعَدَهُمْ بذلك ثمَّ دخلُوا على أصلم أجابهم وعادوا إِلَى شعْبَان وَقد ظنُّوا أَن أَمرهم قد تمّ. فَلَمَّا أصبح يَوْم الْخَمِيس خرج الْأَمِير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي والأمير تمر الموساوي والأمير طشتمر طلليه والأمير منكلى بغا الفخري والأمير أسندمر. وجلسوا بِبَاب الْقلَّة فَأَتَاهُم الأميران أرقطاى وأصلم والوزير نجم الدّين مَحْمُود والأمير قمارى استادر وطلبوا الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب فَلم يحضر إِلَيْهِم فَمَضَوْا كلهم إِلَى عِنْده واستدعوا الْأَمِير جنكلى بن البابا واشتوروا فِيمَن يولونه السلطة فَأَشَارَ جنكلى بِأَن يُرْسل إِلَى المماليك السُّلْطَانِيَّة ويسألهم من يختارونه فَأن من اختاروه رضيناه فَعَاد جوابهم مَعَ الْحَاجِب أَنهم رَضوا بشعبان سُلْطَانا فَقَامُوا جَمِيعًا وَمَعَهُمْ الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب إِلَى دَاخل بَاب الْقلَّة. وَكَانَ شعْبَان قد تخيل من فِي دُخُولهمْ عَلَيْهِ وَجمع المماليك وَقَالَ: من دخل قتلته بسيفي هَذَا وَأَنا أَجْلِس على الْكُرْسِيّ حَتَّى أبْصر من يقيمني عَنهُ فسير الْأَمِير أرغون العلائي إِلَيْهِ وبشره وَطيب خاطره. وَدخل الْأُمَرَاء عَلَيْهِ وسلطنوه انْقَضتْ أَيَّام الصَّالح. وَكَانَ السُّلْطَان الصَّالح فِي ابْتِدَاء دولته على دين وعفاف إِلَّا أَنه كَانَ فِي أَيَّامه مَا ذكر من قطع الأرزاق وَكَثْرَة حَرَكَة عَسَاكِر مصر وَالشَّام فِي التجاريد. وشغف السُّلْطَان الصَّالح مَعَ ذَلِك بالجواري السود وأفرط فِي حب اتِّفَاق وأسرف فِي الْعَطاء(4/4)
لَهَا وَقرب أَرْبَاب الملاهي وَأعْرض عَن تَدْبِير الْملك بإقباله على النِّسَاء والمطربين. حَتَّى أَنه إِذا ركب إِلَى سرحة سرياقوس أَو سرحة الأهرام ركبت أمه فِي مِائَتي امْرَأَة الأكاديش بِثِيَاب الأطلس الملون وعَلى رءوسهن الطراطير الْجلد البلغاري المرصع بالجواهر واللآلى وبن أَيْدِيهنَّ الخدام الطواشية من القلعة إِلَى السرحة. ثمَّ يركب حظاياه الْخُيُول الْعَرَبيَّة ويتسابقن ويركبن تَارَة بالكامليات الْحَرِير ويلعبن بالكرة وَكَانَت لَهُنَّ فِي المواسم والأعياد وأوقات النزه والفرح أَعمال يُمكن حكايتها وأكثرن من النُّزُول إِلَى بيُوت الْكتاب وَنَحْوهم. وَاسْتولى الخدام الطواشية فِي أَيَّامه على أَحْوَال الدولة وَعظم قدرهم بتحكم كَبِيرهمْ عنبر السحرتي اللالا فِي السُّلْطَان وركبوا الْخُيُول الرائعة ولبسوا الثِّيَاب الفاخرة وَأخذُوا من الْأَرَاضِي عدَّة رزق. واقتنى السحرتي البزاة والسناقر وَنَحْوهَا من الطُّيُور والجوارح وَصَارَ يركب إِلَى الْمطعم ويتصيد بِثِيَاب الْحَرِير المزركشة وَاتخذ لَهُ كفا مرصعاً بالجوهر وَعمل لَهُ خاصكية وخداما ومماليك تركب فِي خدمته حَتَّى ثقل أمره فَأَنَّهُ أَكثر من شِرَاء الْأَمْلَاك وَالتِّجَارَة فِي البضائع وأفرد لَهُ ميداناً يلْعَب فِيهِ بالكرة وتصدى لقَضَاء الأشغال. فَصَارَت الإقطاعات والرزق لَا تقضى إِلَّا بالخدام وَالنِّسَاء وَلَا يزَال الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب يشنع بذلك وَإِذا أَتَاهُ أحد يطْلب مِنْهُ خبْزًا أَو رزقة يَقُول لَهُ: النَّائِب مَا لَهُ حكم رح إِلَى بَاب الستارة واسأل عَن الطواشي فَلِأَن الدّين والطواشي فَلِأَن الدّين يقضوا لَك حَاجَتك. وَكَانَ متحصل الدولة مَعَ هَذَا كُله فِي أَيَّام السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل قَلِيلا ومصروف الْعِمَارَة لَا يزآل جملَة مستكثرة فِي كل يَوْم فأنفق السُّلْطَان على الدهيشة بالقلعة خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم سوى مَا حمل إِلَيْهِ من بِلَاد الشَّام وَغَيرهَا ثمَّ عمل فِيهَا من أوأني الذَّهَب وألفضة وَمن ألفرش مَا يجل وَصفه ومنذ فرغت عمارتها لم ينْتَفع بهَا أحد لشغفه بِالْغنَاءِ والجواري سِيمَا اتِّفَاق. وَلما ولدت مِنْهُ اتِّفَاق ولدا ذكرا عمل لَهَا مهما تناهى فِيهِ حَتَّى بلغ الْغَايَة الَّتِي لَا تُوصَف عَظمَة. وَكَانَت حَيَاته منغصة وعيشته نكدة لم يتم سروره بالدهيشة سوى سَاعَة وَاحِدَة. ثمَّ قدم عَلَيْهِ منجك بِرَأْس أَخِيه أَحْمد من الكرك بعد قَتله بهَا فَلَمَّا قدم بَين يَدَيْهِ وَرَآهُ(4/5)
بعد غسله اهتز وَتغَير لَونه وذعر، حَتَّى إِنَّه بَات ليلته يرَاهُ فِي نَومه، ويفزغ فَزعًا شَدِيدا. وتعلل السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل من رُؤْيَة رَأس أَحْمد وَمَا برح يَعْتَرِيه الأرق ورؤية الأحلام المفزعة وَتَمَادَى مَرضه وَكثر إرجافه وَكَثُرت أفزاعه حَتَّى اعتراه القولنج وَمَات كَمَا تقدم ذكره يَوْم الْخَمِيس وَدفن عِنْد أَبِيه وجده بالقبة المنصورية فِي لَيْلَة الْجُمُعَة. وَكَانَ السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل رَقِيق الْقلب زَائِد الرأفة والشفقة كَرِيمًا جواداً مائلاً إِلَى الْخَيْر. وَبلغ من الْعُمر نَحْو الْعشْرين سنة مِنْهَا مُدَّة سلطته ثَلَاث سِنِين وشهرأن وَأحد عشر يَوْمًا. السُّلْطَان الْملك الْكَامِل سيف الدّين شعْبَان بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الألفي الصَّالِحِي لما اشْتَدَّ مرض أَخِيه شقيقه السلطاد الْملك الصَّالح عماد الدّين وَدخل عَلَيْهِ الْأَمِير أرغون العلائي فِي عدَّة من الْأُمَرَاء ليعهد بالسلطنة من بعده إِلَى أحد كَانَ الْأَمِير أرغون العلائي غَرَضه فِي أَن يعْهَد لشعبان من أجل أَن أمه كَانَت زَوجته. فَلم يحب الْأَمِير آل ملك النَّائِب وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى الدُّخُول على السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل كَرَاهَة مِنْهُم فِي شعْبَان لما كَانَ قد اشْتهر عَنهُ من الْمَظَالِم. فقآل الصَّالح إِسْمَاعِيل بَعْدَمَا بَكَى وأبكى الْأُمَرَاء: سلمُوا على النَّائِب والأمراء وعرفوهم أَنى أَن مت يولوا أخي شعْبَان فَلَمَّا مَاتَ الصَّالح وَاقْتضى رأى الْأُمَرَاء أَن يعرفوا رأى المماليك السُّلْطَانِيَّة وَكَانَ جوابهم إِقَامَة شعْبَان حضر الْأُمَرَاء إِلَى بَاب الْقلَّة واستدعوا شعْبَان وأركبوه بشعار السلطنة وَمَشوا فِي ركابه والجاويشية تصيح على الْعَادة حَتَّى إِذا قرب من الإيوأن لعب ألفرس تَحْتَهُ وجفل من تصايح النَّاس فَنزل عَنهُ وَمَشى خطوَات بِسُرْعَة إِلَى أَن طلع الإيوأن فتفاءل النَّاس عَن فرسه أَنه لَا يُقيم فِي السلطة الا يَسِيرا. وَلما طلع السُّلْطَان شعْبَان الإيوأن والأمراء بَين يَدَيْهِ جلس على كرسى السلطنة وباس الْأُمَرَاء لَهُ الأَرْض وأحضروا الْمُصحف ليحلفوا فَحلف لَهُم أَولا أَنه لَا يؤذيهم ثمَّ حلفوا بعده وَذَلِكَ فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.(4/6)
ولقب بِالْملكِ الْكَامِل ودقت البشائر ونودى بسلطنته فِي الْقَاهِرَة ومصر وخطب لَهُ فِي الْغَد على مَنَابِر ديار مصر وَكتب بذلك إِلَى الأقطار مصرا وشاما. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامنه: جلس السُّلْطَان شعْبَان بدار الْعدْل من القلعة وجدد لَهُ الْعَهْد من الْخَلِيفَة بِحَضْرَة الْقُضَاة والأمراء وخلع على الْخَلِيفَة والأمراء والقضاة. وَفِيه كتب بِطَلَب الْأَمِير آقسنقر الناصرى من طرابلس فسآل الْأَمِير قمارى الأستادار أَن يسْتَقرّ عوضه فِي نِيَابَة طرابلس وَتشفع بالأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي. فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشرَة وَخرج من فوره على الْبَرِيد. وَفِيه خلع على الْأَمِير أرقطاى وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن يلبغا اليحياوي وَخرج على الْبَرِيد. وَفِيه طلب الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب الإعفاء من نِيَابَة السلطنة وَقبل الأَرْض وسآل نِيَابَة الشَّام عوضا عَن الْأَمِير طقزدمر وَأَن ينْقل طقزدمر إِلَى مصر فَأُجِيب ذَلِك وَكتب بإحضار طقزدمر. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشره: خلع على الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب وَاسْتقر فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن طقزدمر. وَأخرج من يَوْمه على الْبَرِيد فَلم يدْخل غَزَّة حَتَّى لحقه الْبَرِيد بتقليده نِيَابَة صفد وَأَن يكون وَلَده وَابْن أَخِيه ألفارس بحلب. وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير أرغون العلائي لما قَامَ فِي سلطنة شعْبَان هَذَا قآل لَهُ الْأَمِير الْحَاج آل ملك: بِشَرْط أَلا يلْعَب بالحمام فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان شعْبَان ذَلِك نقم عَلَيْهِ. وَفِيه رسم بِطَلَب شُجَاع الدّين غرلو من دمياط فَقدم فِي يَوْمه. وخلع عَلَيْهِ شاد الدَّوَاوِين. فَنزل غرلو إِلَى دَار الْولَايَة وَقبض بِيَدِهِ على أطواق الْأَمِير جمآل الدّين يُوسُف(4/7)
وَإِلَى الْقَاهِرَة وأقامه من مجْلِس حكمه وَأخرجه من دَاره وأركبه حمارا إِلَى القلعة. وَسبب ذَلِك أَنه لما قبض على غرلو تقدم يُوسُف هَذَا وَأمْسك سَيْفه وقطعه من وَسطه فكافأه غرلو على ذَلِك. وَقبض غرلو مَعَه على ابْن أَخِيه وَإِلَى الجيزة فَمَا زَالا يحملأن الْمَآل حَتَّى بلغ حملهَا خمسين ألف دِرْهَم سوى عدد سلَاح وَغير ذَلِك فأفرج عَنْهُمَا بعد أَيَّام وَبعد شَفَاعَة جمَاعَة من الْأُمَرَاء. وَفِيه كتب بِنَقْل الْأَمِير يلبغا اليحياوي من نِيَابَة حلب إِلَى ليابة دمشق فَدَخلَهَا يَوْم السبت ثأني عشر جُمَادَى الأولى وباشر نيابتها. وَفِيه رسم السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان بِعرْض أحوآل الدولة للنَّظَر فِي تدبيرها فَترك مَا استجد من المصروف فِي العمائر بالقلعة والقاهرة ورسم أَن تسلم الأغنام الَّتِي استجدها أَخُوهُ الْملك الصَّالح لجَماعَة المتعاملين فِي اللَّحْم وبتثمينها عَلَيْهِم فَكَانَت عدتهَا تِسْعَة عشر ألف رَأس ونيف وَضبط السُّلْطَان أَحْوَال المملكة. وَفِيه رسم بسفر الْأَمِير طرنطاى البشمقدار نَائِبا بحمص وأنعم بتقدمته على بيبغا ططر. وَفِيه أنعم بإقطاع الْأَمِير أرقطاى المستقر فِي نِيَابَة حلب على أرغون شاه وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر أستادار عوضا عَن قمارى المستقر فِي نِيَابَة طرابلس. وَفِيه أخرج أَحْمد شاد الشَّرَاب خأناه هُوَ وَإِخْوَته إِلَى صفد من أجل أَنهم كَانُوا مِمَّن نَام مَعَ الْأَمِير الْحَاج آل ملك النَّائِب وقمارى الأستادار فِي منع شعْبَان من السلطنة. وَفِيه خلع على علم الدّين عبد الله بن أَحْمد بن ابراهيم بن زنبور وَاسْتقر فِي نظر الْخَاص عوضا عَن الْمُوفق عبد الله بن إِبْرَاهِيم وخلع على كَاتبه فَخر الدّين بن السعيد وَاسْتقر عوضه فِي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة وعنى الْأَمِير أرغون العلائى بالموفق حَتَّى ترك بِغَيْر مصادرة وَفِيه قدم الْأَمِير طقتمر الصلاحي من الشَّام بِالْمَالِ الَّذِي فرق على الْعَرَب وبسبب حمل الغلال إِلَى مَكَّة وَهُوَ مبلغ مائتى ألف دِرْهَم. وَفِيه رسم بعزل تقى الدّين سُلَيْمَان بن على بن عبد الرَّحِيم بن سَالم بن مراجل من نظر دِرْهَم وَاسْتقر عوضه بهاء الدّين بن أَبُو بكر بن شكر. وَفِيه قدم الْأَمِير آقسنقر الناصري من طرابلس وخلع عَلَيْهِ وَسُئِلَ نِيَابَة السلطنة بديار مصر فَامْتنعَ أَشد الإمتناع وَحلف أيمأناً مُغَلّظَة أَلا يَليهَا.(4/8)
وَفِيه خطب السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان ابْنة الْأَمر بكتمر الساقى فامتنعت أمهَا من إجَابَته واحتجت عَلَيْهِ بِأَن أُخْتهَا تَحْتَهُ وَلَا يجمع بَين أُخْتَيْنِ وَأَنه بِتَقْدِير أَن يفارقها فَأَنَّهُ شغف بِاتِّفَاق حظية أَخِيه الصَّالح إِسْمَاعِيل شغفاً زَائِدا. ثمَّ قَالَت أمهَا: وَمَعَ ذَلِك فقد تغير حَال المخطوبة من شدَّة الْحزن فَأن أول من أعرس عَلَيْهَا أنوك بن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فَمَاتَ عَنْهَا وهى بكر لم يَمَسهَا فَتَزَوجهَا بعده أَخُوهُ السُّلْطَان الْمَنْصُور أَبُو بكر وَقتل ثمَّ تزَوجهَا بعد الْمَنْصُور أَبُو بكر أَخُوهُ السُّلْطَان الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل وَمَات عَنْهَا أَيْضا فَحصل لَهَا حزن شَدِيد من كَونه تغير عَلَيْهَا عدَّة أزوج فِي مُدَّة يسيرَة. فَلم يلْتَفت السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان إِلَى هَذِه الْكَلَام وطلق أُخْتهَا وَأخرج جَمِيع مَا كَانَ لَهَا فِي ليلته ثمَّ عقد عَلَيْهَا وَدخل بهَا. وَفِيه أنعم السُّلْطَان على ابْن طشتمر حمص أَخْضَر بتقدمة ألف وعَلى ابْن أصلم بإمرية طبلخأناه. وَفِي مستهل جُمَادَى الأولى: خلع السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان على الْأُمَرَاء المقدمين والطبلخأناه وأنعم على سِتِّينَ مَمْلُوك بستين قبَاء بطرز زركش وَسِتِّينَ حياصة ذهب وَفرق الْخُيُول على الْأُمَرَاء برسم الميدأن. وَفِيه قدم أَحْمد بن مهنا وَابْن أَخِيه مخلع عَلَيْهِمَا وأعيد أَحْمد إِلَى إمرية الْعَرَب فَقدم حَاجِب سيف بن فضل يخبر بِأَنَّهُ وصل إِلَى غَزَّة بقوده فَكتب بقدومه سَرِيعا فَقدم وَمَعَهُ مائَة فرس مثمنة سوى الهجن وَغَيرهَا. فَخلع عَلَيْهِ وَلم ينعم لَهُ بالإمرية وَلَا أنصف فِي أثمأن خيوله. وَفِيه رسم السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان أَن يتوفر إقطاع النِّيَابَة للخاص. وَفِيه خلع السُّلْطَان على الْأَمِير بيغرا وَاسْتقر حاجباً كَبِيرا ليحكم بَين النَّاس. ورسم لَهُ السُّلْطَان أَن يجلس بَين يَدَيْهِ موقعين لكتابة الْكتب للولاة وهما رضى الدّين بن الموصلى وَابْن عبد الظَّاهِر. وَفِيه قبض على جمال الدّين يُوسُف وَإِلَى الْقَاهِرَة وعَلى أبن أَخِيه ونائبه حمود بسعاية غرلو شاد الدَّوَاوِين. وكشف غرلو رُءُوسهم وَضرب حمودا بالمقارع ضربا مبرحا فوعد بِأَن يحضر لَهُ مَالا قد دَفنه بالجيزة فسيره صُحْبَة أعوأنه ليَأْتِيه بِالْمَالِ فَلَمَّا ركب حمود النّيل وتوسطه والقى بِنَفسِهِ فِيهِ فغرق. فرسم بالإفراج عَن جمال الدّين وَابْن أَخِيه بعناية الْأُمَرَاء بِهِ.(4/9)
وَفِي يَوْم السبت: نزل السُّلْطَان إِلَى الميدأن على الْعَادة فِي كل سنة فَكَانَ يَوْمًا مشهودا. وَفِيه خلع السُّلْطَان على الشريف عجلأن بن رميثة بن أبي نفي الحسني وَاسْتقر أَمِير مكه. وَفِيه عَاد السُّلْطَان من آخر النَّهَار على الْعَادة إِلَى القلعة. واستدعى السُّلْطَان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ غرلو شاد الدَّوَاوِين بِحَضْرَة الْأُمَرَاء والوزير ورسم لَهُ أَن يرتب بِلَاد الْخَاص وَيخرج من إقطاع النِّيَابَة وَغَيره بِلَاد المماليك السُّلْطَانِيَّة أَرْبَاب الجوامك الْكِبَار لتتوافر جوامكهم. فأفردت خمس نواح أقطعت لمِائَة مَمْلُوك وطلبوا حَتَّى فرقت عَلَيْهِم المثالات فردوها من الْغَد على السُّلْطَان وَقد وقفُوا جَمِيعًا فَاشْتَدَّ غَضَبه وَطلب الطواشي الْمُقدم وأهأنه ورسم لَهُ بضربهم وطردهم فَمَا زَالَ بِهِ الْأُمَرَاء حَتَّى رسم أَن الطواشي يضْرب مِنْهُم جمَاعَة وَأَن يفرق النواحى على ثمأنين مِنْهُم وأنعم على الْعشْرين بإقطاعات أخر. فأقاموا مُدَّة على الإمتناع حَتَّى ضرب مِنْهُم جمَاعَة كَثِيرَة وأنزلوا من القلعة إِلَى الْقَاهِرَة وَقطع جَمِيع راتبهم من لحم وَغَيره. وَرفع غرلو على الْحَاج على الطباخ الْمَعْرُوف بإخوأن سلار أَنه يَأْكُل كثيرا مِمَّا فِي المطبخ السلطانى وَأَن لَهُ فِي كل يَوْم على الْمُسلمين خَمْسمِائَة دِرْهَم ولولده أَحْمد ثَلَاثمِائَة دِرْهَم سوى الْأَطْعِمَة وَغَيرهَا. فرسم السُّلْطَان للأمير أرغون شاه أستادار بمصادرته فأوقع الحوطة على موجوده وأهأنه. وَكَانَ الْمَذْكُور قد خدم السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فِي الكرك فَلَمَّا عَاد إِلَى السلطنة أَقَامَهُ إخوأن سلار وَسلم لَهُ المطبخ فنال سَعَادَة جليلة لاسيما فِي الْمُهِمَّات والأفراح الَّتِي كَانَ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد يعملها لأولاده ومماليكه وحواشيه طول تِلْكَ الْمدَّة. فَكَانَ أقل مَا يحصل لَهُ فِي كل مُهِمّ مَا ينيف على عشرَة آلَاف دِرْهَم مَعَ كثرت تِلْكَ الْمُهِمَّات. وَلما عمل مُهِمّ ابْن(4/10)
بكتمر الساقى على بنت تنكز نَائِب الشَّام طلب السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد الْحَاج على هَذَا فِي آخر المهم وَقَالَ لَهُ: يَا حَاج على رح السَّاعَة اعْمَلْ لى خروف رميس فِي لون كَذَا فولى عَنهُ وَهُوَ متنكر قد عبس وَجهه. فصاح بِهِ السُّلْطَان ليرْجع وَقَالَ لَهُ: مَالك معبس الْوَجْه فَقَالَ: كَيفَ مَا أعبس وَقد أحرمتنى السَّاعَة عشْرين ألف دِرْهَم قَالَ: كَيفَ أحرمتك قَالَ: عِنْدِي رُءُوس وأكارع وكروش وأعضاد وكل مَا سَرقته من هَذَا المهم أُرِيد أَن أقعد أبيعه. فَقلت لي: رح اطبخ فيتلفوا الْجَمِيع. فَتَبَسَّمَ لَهُ السُّلْطَان وَقَالَ. لَا رح اطبخ وضمأنهم على. فَلَمَّا ذهب الْحَاج على طلب السُّلْطَان وَإِلَى مصر ووالي الْقَاهِرَة وَأَمرهمَا بِطَلَب الزفورية إِلَى القلعة وتفرقة تِلْكَ الأسقاط فيهم فَبلغ ثمنهَا ثَلَاثَة وَعشْرين ألف دِرْهَم. فَهَذَا أعزّك الله متحصل مُهِمّ وَاحِد من آلَاف سوى مَا لَهُ فِي كل يَوْم من جِهَة المطبخ وَهُوَ خَمْسمِائَة دِرْهَم فِي مُدَّة بضع وَثَلَاثِينَ سنة كم أَرَادَ النشو أَن يتَمَكَّن مِنْهُ وَالسُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد يمنعهُ. وَلما قبض عَلَيْهِ وجد لَهُ خَمْسَة وَعِشْرُونَ ملكا فاخذت أم السُّلْطَان دَاره الَّتِي على الْبَحْر وَكَانَت من الدّور الْعَظِيمَة وَأخذت اتِّفَاق دَاره الَّتِي بالمحمودية من الْقَاهِرَة وَإِلَيْهِ ينْسب جَامع الطباخ على بركَة السقاف بِخَط بَاب اللوق فتعطل الْجَامِع أَيَّامًا مُدَّة الْقَبْض عَلَيْهِ فَأَنَّهُ كَانَ يقوم بِهِ من غير أَن يفرد لَهُ وَقفا وَأخذت أملاكه كلهَا وَضرب ابْنه أَحْمد وألزم بِبيع موجوده وَحمل وَهُوَ وَأَبوهُ مَالهم إِلَى بَيت المَال ثمَّ شفع فِيهِ الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فأفرج عَنهُ وَلزِمَ بَيته بطالا. وَفِي هَذَا الشَّهْر صودر جمَاعَة من أهل قوص اتهموا بِأَنَّهُم وجدوا خبية مَال وَأخذت أملاكهم وَغَيرهَا وصودر الْجَمَاعَة الَّذين كتبُوا فِي محْضر وَفَاة السُّلْطَان الْمَنْصُور أبي بكر أَنه مَاتَ بِقَضَاء الله وَقدره وَأخذ جَمِيع موجودهم فأقروا أَن الْمحْضر زور وَأَنَّهُمْ أكْرهُوا حَتَّى كتبُوا مَا لم يعاينوه. وَفِيه وشى بابنة الْملك المظفر بيبرس الجاشنكير أَن فِي دارها بِالْقَاهِرَةِ خبية مَال فحفر فِيهَا نَحْو قامة فَلم يُوجد شَيْء. وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشريه: قدم الْأَمِير طقزدمر من دمشق فِي محفة وَهُوَ مَرِيض بَعْدَمَا خرج الْأَمِير أرغون العلائي إِلَى القائه فَوَجَدَهُ غير واع وَدخل عَلَيْهِ الْأُمَرَاء وَهُوَ قد أشفي على الْمَوْت. وَلما دخل طقزدمر الْقَاهِرَة على تِلْكَ الْحَال أَخذ(4/11)
أَوْلَاده فِي تجهيز تقدمة جليلة للسُّلْطَان تشْتَمل على خُيُول وتحف وجواهر فقبلها السُّلْطَان وَوَعدهمْ بِخَير. وَفِيه أنعم السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان على الْأَمِير أرغون الصَّالِحِي بتقدمة ألف ورسم أَن يُقَال لَهُ أرغون الكاملي ووهب لَهُ فِي أُسْبُوع وَاحِد ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَعشرَة آلَاف أردب من الأهراء. ورسم لَهُ بدر شاد الشرابخأناه وَأَن يعمر لَهُ من مَال السُّلْطَان بجواره قصر على بركَة ألفيل ويطل على الشَّارِع وَأقَام السُّلْطَان الْأَمِير آقجبا شاد العمائر على عِمَارَته وَفِي هَذَا الشَّهْر: شرع الْأَمِير غرلو شاد الدَّوَاوِين يستخدم الْوُلَاة وَالْكتاب على مَال يحمل لبيت المَال فَلم يل أحد بعد ذَلِك الا بِمَال. واستجد غرلو أَيْضا مَالا فِي المقأيضاً ت والنزولات عَن الإقطاعات يحمل لبيت المَال. وَجعل على عِبْرَة الدِّينَار دِينَارا فاذا كَانَ الإقطاع عِبْرَة مائَة دِينَار حمل عَنهُ لبيت المَال مائَة دِينَار وَلم يلْتَفت السُّلْطَان لقَوْل الْأُمَرَاء وأجابهم بِأَن هَذَا كَانَ يَأْخُذهُ ديوأن الْجَيْش. وَفِي يَوْم الْخَمِيس مستهل جُمَادَى الآ خر: ركب السُّلْطَان إِلَى السرحة بسرياقوس وَمَعَهُ حريمه. فَنصبت لَهُنَّ الخيم فِي الْبَسَاتِين وأخليت المناظر الَّتِي لِلْأُمَرَاءِ حَتَّى نزل أكثرهن بهَا. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة: قدم أَوْلَاد الْأَمِير طقزدمر إِلَى سرياقوس بِخَبَر وَفَاة أَبِيهِم فَلم يُمكن السُّلْطَان الْأُمَرَاء من الْعود إِلَى الْقَاهِرَة للصَّلَاة عَلَيْهِ فَدفن بخأنكاته بالقرافة. وَأخذت خيله وجماله وهجنه إِلَى الإصطبل السلطاني وقيدت إِلَى سرياقوس على الْعَادة. ورسم السُّلْطَان أَن تعْمل أوراق بمتوفر إقطاع طقزدمر وَمَا عَلَيْهِ من حُقُوق القنود وَسَائِر مَا سومح بِهِ مِمَّا عَلَيْهِ للديوأن فِي حَيَاته من جَمِيع الْأَصْنَاف فَلم تزل أَوْلَاده تقدم التقادم الجليلة حَتَّى وعدوا بتقدمة سلطانية. وَفِيه خلع على الْأَمِير رسلأن بصل وَاسْتقر حاجباً ثأنياً مَعَ بيغرا ورسم لَهُ أَن يحكم بَين النَّاس. وَفِيه خلع على الْأَمِير ملكتمر السرجوأني وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك وأنعم بإقطاعه على الْأَمِير طشتمر طلليه وأنعم بإقطاع طشتمر على الْأَمِير قبلاي. وَفِيه طلب السُّلْطَان العربأن الَّذين اتهموا بقتل ابْن الرديني وَأخذ مِنْهُم مائَة ألف دِرْهَم مصادرة.(4/12)
وَفِيه مَاتَ الْأَشْرَف كجك عَن اثْنَتَيْ عشرَة سنة. واتهم السُّلْطَان أَنه بعث من سرياقوس من قَتله فِي مضجعه على يَد أَرْبَعَة خدام طواشية. وَفِيه قدم طلب الْأَمِير آقسنقر طرابلس فَسَار السُّلْطَان من سرياقوس حَتَّى لقِيه على بلبيس وَمنع الخدام أَن تعرف زَوجته أم كجك بوفاته. وَاخْتَارَ الْأَمِير آقسنقر من طلبه عدَّة خُيُول وجمال بخاتى وهجن وقدمها للسُّلْطَان مَعَ جَوَاهِر سنية وتحف بديعة فَخلع عَلَيْهِ السُّلْطَان وأنعم على ولد ابْن اخيه بطبلخأناه أَبِيه وعمره أَربع سِنِين. وَفِيه عَاد السُّلْطَان من سرياقوس إِلَى القلعة بَعْدَمَا تهتكت المماليك السُّلْطَانِيَّة بِشرب الْخمر والإعلأن بألفواحش وركبوا فِي اللَّيْل وَقَطعُوا الطَّرِيق على الْمُسَافِرين واغتصبوا حَرِيم النَّاس وَصَارَت سرياقوس حأنة. وَفِيه عزل تَاج الدّين ابْن الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام من نظر الْبيُوت. وَذَلِكَ أَنه علم بِاجْتِهَاد السُّلْطَان فِي تَحْصِيل المَال فضبط الْبيُوت ووفر فِيهَا عشْرين ألف دِرْهَم وَأعلم السُّلْطَان بهَا من غير علم أرغون شاه الأستادار. فتنكر عَلَيْهِ أرغون شاه فَضَربهُ فسعى عَلَيْهِ أفلاطون كَاتب سنجر الجمقدار عِنْد غرلو بألفي دِينَار فولاه عوضه وَولى أَيْضا ابْن وَجه الطوبة نظر الْأَوْقَاف الصالحية إِسْمَاعِيل بَعْدَمَا حمل لبيت المَال خَمْسمِائَة دِينَار وَفِيه طُولِبَ الْمُوفق عبد الله بن إِبْرَاهِيم بِحمْل مائَة ألف دِرْهَم. وَسبب ذَلِك أَنه عثر على أَنه بَاعَ من أَرَاضِي الْخَاص إِلَى طغيتمر الدوادار. بِمِائَة ألف دِرْهَم فَبَاعَهَا طغيتمر لِابْنِ زعازع بالبهنساوية وألزم كل من طغيتمر وَابْن زعازم أَيْضا بِحمْل مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه عقد لابنَة بكتمر مُطلقَة السُّلْطَان شعْبَان على أرغون شاه أستادار وَعقد لزوجة أرغون شاه ابْنة آقبغا - وَقد بأنت مِنْهُ من مُدَّة - على بيبغا روس. وَفِيه رسم بِإِبْطَال المقأيضاً ت والنزولات عَن الإقطاعات بِقِيَام الْأُمَرَاء فِي ذَلِك مَعَ السُّلْطَان لكرة مَا فِيهِ من الْمَفَاسِد. وَكتب إِلَى الْبِلَاد الشامية أَن من مَاتَ من الأجناد أَو أَرْبَاب الْمَرَاتِب يطالع بوفاته ليخرج السُّلْطَان إقطاعه أَو مرتبه فامتثل ذَلِك. وَفِيه ألزم من بِيَدِهِ رزقه من أَرض مصر أَو أَرض اسْتَأْجرهَا أَن يقوم عَن كل فدان. بِمِائَة وَخمسين درهما. فَأخذ من ذَلِك مَال كثير قَامَ غرلو باستخراجه. فازدادت مكانته عِنْد السُّلْطَان وَعظم قدره بَين النَّاس وأنتمى إِلَيْهِ جمَاعَة وصاروا يغرونه بأرباب(4/13)
الْأَمْوَال ويفتحون لَهُ أَبْوَاب الْمَظَالِم. واستدعى غرلو طغيتمر متولى البهنسي وألزمه بِحمْل أربعمالة ألف دِرْهَم وأخرق بِهِ. وَقدم جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان من حلب وبذل فِي نظر الْجَيْش بهَا ألف دِينَار حملت إِلَى بَيت المَال ووعد بِمِائَتي إكديش. فَخلع عَلَيْهِ وَتوجه مَعَه بريد لإحضار الْخَيل. وَفِيه رسم بِقطع جَمِيع مَا هُوَ مُرَتّب على الْحَوَائِج خاناه من التوابل لِلْأُمَرَاءِ وَالْكتاب وَغَيرهم. وَطلب عدَّة من مباشري الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري سلمُوا إِلَى غرلو فصادرهم. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِوُقُوع الْحَرْب بَين الشَّيْخ حسن صَاحب بَغْدَاد وَبَين سُلْطَان شاه وَأَوْلَاد دمرداش انتصر فِيهَا الشَّيْخ حسن. والتجأ سُلْطَان شاه إِلَى ماردين فحصره الشَّيْخ حسن بهَا أَيَّامًا وأفسد ضياعها ثمَّ سَار عَنْهَا بِغَيْر طائل. وَفِيه هم السُّلْطَان أَن ينعم على غرلو بإمرة مائَة وتولية الوزارة ونيابة دَار الْعدْل فَلم يُوَافقهُ الْأَمِير أرغون العلائي على ذَلِك وأبطل أمره. وَفِيه عمل السُّلْطَان داير بَيت حَرِير مزركش عمل فِيهِ مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَعمل أَيْضا لحريمه عشْرين بغلوطاق صدر فِي كل بغلوطاق ألف دِينَار زركش. وَفِي عشري رَجَب: خلع على فَخر الدّين بن السعيد وَاسْتقر فِي نظر الْخَاص عوضا عَن علم الدّين بن زنبور. وخلع على ابْن زنبور وَاسْتقر كَمَا كَانَ فِي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة فَكَانَت مُدَّة مُبَاشرَة ابْن زنبور نظر الْخَاص نيفاً وَثَمَانِينَ يَوْمًا. وَفِيه عزم على إنْشَاء مدرسة مَوضِع خَان الزَّكَاة وَنزل الْأَمِير أرغون العلائي والوزير لنظره. وَكَانَ النَّاصِر مُحَمَّد قد وَقفه فَلم يُوَافق الْقُضَاة على حلّه. وَفِي مستهل شعْبَان: اسْتَقر تَاج الدّين مُحَمَّد بن المزين خضر بن عبد الرَّحْمَن فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن بدر الدّين مُحَمَّد بن فضل الله. وَفِيه كَانَ عرس السُّلْطَان على بنت طقزدمر وَعمل لَهَا مهما مُدَّة سَبْعَة أَيَّام بليإليها اجْتمع فِيهِ نسَاء الْأُمَرَاء جَمِيعًا. وَكَانَت فِيهِ عدَّة جوق مغانى حصل لَهُنَّ من الذَّهَب وَالْفِضَّة وتفاصيل الْحَرِير شىء يجل وَصفه وَبلغ نصيب ضامنة المغاني. بمفردها ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم سوى بَقِيَّة المغاني.(4/14)
وَفِيه اسْتَقر تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن مراجل نَاظر دمشق عوضا عَن بهاء الدّين أبي بكر ابْن سكرة بعد مَوته. وَكَانَ ذَلِك بعناية الْأَمِير أرغون العلائي فَأَنَّهُ كَانَ بعد عَزله من نظر الدولة ولاه نظر الْخَاص بِدِمَشْق ثمَّ انْتقض أمره. وَفِي مستهل شهر رَمَضَان: خلع على قشتمر وَإِلَى الجيزة وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين رَفِيقًا للأمير غرلو. وَفِيه خلع على نجم الدّين دَاوُد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن الزيبق بِولَايَة الجيزة. وَفِيه اسْتَقر الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن اللبان فِي تدريس الْمدرسَة الناصرية بجوار قبَّة الشَّافِعِي بالقرافة عوضا عَن ضِيَاء الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المناوى بعد وَفَاته. وَكَانَ ذَلِك بعناية الْأَمِير جنكلى بن البابا والأمير آقسنقر بَعْدَمَا اسْتَقر فِيهِ تَاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ بسفارة قاضى الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فَنزل ابْن اللبان ودرس وَمَعَهُ الْأَمِير أرغون الكاملي وعدة أُمَرَاء وَجَمَاعَة الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء. وَكَانَ نَاصِر الدّين فَازَ السقوف محتسب مصر مُقيما بقاعة التدريس فَأخْرجهُ ابْن اللبان مِنْهَا وطالبه باجرتها مُدَّة سكنه. فرتب نَاصِر الدّين على ابْن اللبان فتيا نسبه فِيهَا إِلَى قوادح وَأَرَادَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَلم يتَمَكَّن من ذَلِك. وَفِيه قدم الشريف من مَكَّة يُرِيد أَن يسْتَقرّ شَرِيكا لِأَخِيهِ عجلَان فِي إمرة مَكَّة. وأحضر ثقبة قودا فِيهِ عدَّة خُيُول فوعد بِخَير. وَفِيه قدمت رسل خَلِيل بن دلغادر بتقدمته وَكتابه وَقد عَاد إِلَى الطَّاعَة بِحسن سياسة الْأَمِير أرقطاى نَائِب حلب فَخلع على رسله وجهز لَهُ تشريف. وَفِيه أخذت أم السُّلْطَان من أَوْلَاد الْأَمِير طقزدمر خَمْسمِائَة فدان بِنَاحِيَة بوتيج ودولابها. وَفِيه قدمت الْحرَّة من بِلَاد الغرب بهدية سنية تُرِيدُ الْحَج فرسم بتجهيزها. وَفِيه أَخذ السُّلْطَان من وَزِير بَغْدَاد دولابين جَعلهمَا باسم اتِّفَاق وعوضه عَنْهُمَا مَا ابتاعهما بِهِ وَهُوَ مبلغ ثَمَانِيَة وَعشْرين ألف دِرْهَم. وتبرع وَزِير بَغْدَاد للسُّلْطَان. مِمَّا أنفقهُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه قدم الْخَبَر من حلب بوقعة كَانَت بَين ابْن دلغادر وَبَين أَمِير يُقَال لَهُ طرفوش أَقَامَهُ الْأَمِير يلبغا اليحياوي ضدا لِابْنِ دلغادر وأغراه بِهِ ووعده بإمرته على التركمان واقتتل طرفوش وَابْن دلغادر فانتصر ابْن دلغادر بعد عدَّة وقائع قتل فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ.(4/15)
خلائق. فَلَمَّا قدم الْأَمِير أرقطاى إِلَى حلب تلطف بِابْن دلغادر حَتَّى أَعَادَهُ إِلَى الطَّاعَة وَمَا زَالَ يجْهد حَتَّى أصلح بَينه وَبَين طرفوش. ثمَّ الْتفت الْأَمِير أرقطاي إِلَى جِهَة الْأَمِير فياض بن مهنا وَقد كثر عبثه وفساده وَأَخذه قفول التُّجَّار. وبذل الْأَمِير أرقطاى جهده حَتَّى قدم عَلَيْهِ فياض بن مهنا بِظَاهِر حلب فَتَلقاهُ وأنزله وَبَالغ فِي إكرامه وَأخذ عَلَيْهِ العهود والمواثيق بِالْإِقَامَةِ على الطَّاعَة ثمَّ جهزه إِلَى بِلَاده. وَكتب الْأَمِير أرقطاي بذلك إِلَى السُّلْطَان فسر بِهِ سُرُورًا زَائِدا فَأَنَّهُ كَانَ فِي قلق من أَخْبَار فياض وعَلى عزم أَن يجرد الْعَسْكَر إِلَيْهِ ويورى بِقصد سيس. وَأخذ فياض فِي تجهيز الْقود إِلَى السُّلْطَان وسيره فَقدم وَفِيه سَبْعُونَ فرسا قَامَت عَلَيْهِ بِأَلف ألف دِرْهَم وَخَمْسُونَ هجينا وَعشر مهريات وعبي وَغير ذَلِك. ثمَّ قدم فياض عقيب قوده فَأكْرمه السُّلْطَان وَأحسن إِلَيْهِ وأنزله. وَفِي هَذَا الشَّهْر: أَمْسَكت امْرَأَة حرامية من حمام الأيدمرى فِي يَوْم السبت سَابِع عشريه. فضربها الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب أستادار الأكر ووالي الْقَاهِرَة بالمقارع على سَاقيهَا ثمَّ قطع يَدهَا فِي بَاب زويلة. وَفِي مستهل شَوَّال: رسم للأمير أرغون الكاملي بزيارة الْقُدس وأنعم عَلَيْهِ. بِمِائَة ألف دِرْهَم. وَكتب إِلَى نواب الشَّام بالركوب إِلَى خدمته وَحمل التقادم لَهُ وتجهيز الإقامات فِي الْمنَازل إِلَى حِين عوده. ورسم أَن يُنَادي. بِمَدِينَة بلبيس وأعمالها أَنه من قَالَ عَنهُ أرغون الصَّغِير شنق وَألا يُقَال إِلَّا أرغون الكاملي. فشهر النداء بذلك فِي الْأَعْمَال الشرقية فامتثل النَّاس ذَلِك وَتوجه الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن ملغريل فِي خدمته. وَفِيه ركب حَرِيم السُّلْطَان إِلَى نَاحيَة الجيزة للنزهة وصحبتهم الْأَمِير آقسنقر فَأَقَامَ بهم حَتَّى خرج محمل الْحَاج صُحْبَة مغلطاي أَمِير شكار ثمَّ عَادوا. وَحج فِي هَذِه السّنة عدَّة من نسَاء الْأُمَرَاء وبالغن فِي زِينَة محفاتهن ومحايرهن وألبسوا جمالهن الْحَرِير والقلائد المرصعة والمقاود الْحَرِير المزركشه وَفِي أيدهن خلاخل الذَّهَب وعليهن العبي الْحَرِير والأجلة الزركش حَتَّى خرجن فِي ذَلِك عَن الْحَد. وتفاخرن فِيمَا أبدعن وتناظرن وَصَارَت كل وَاحِدَة تُرِيدُ أَن تفوق على صاحبتها(4/16)
وتشبه بِهن غَيْرهنَّ من النِّسَاء. وَلم يعْهَد أَن عمل مثل هَذَا وَلَا قريب مِنْهُ فِيمَا تقدم فأنهن خلعن على الهجانة والسقائين الأقبية الطَّرْد وَحش فَأنْكر فعلهن النَّاس وَذكره قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فِي خطْبَة الْعِيد بالقلعة وَصرح بالإنكار وصدع بالوعظ. وَفِيه قدم تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن مراجل من دمشق وَابْن قرناص من حلب فبذل ابْن قرناص فِي نظر حلب نَحْو ألفي دِينَار حَتَّى رسم لَهُ بِهِ عوضا عَن ابْن الْموصِلِي. فَبعث ابْن الْموصِلِي ابْنه بهديه سنية فِيهَا جوارى حسان وَزوج بسط حَرِير فَقَامَ غرلو مَعَه وأوصله بالسلطان فَقبل هديته وَبسط الْحَرِير بالدهيشة وَأقر ابْن الْموصِلِي على حَاله فَكَانَت مُدَّة ابْن قرناص عشْرين يَوْمًا بألفي دِينَار. وَقَامَ الْأَمِير أرغون العلائي فِي حق ابْن مراجل حَتَّى خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي نظر الدولة وَأَجْلسهُ السُّلْطَان بَين يَدَيْهِ وغرلو قَائِم على يَدَيْهِ. فتفاوضا فِي الْكَلَام بِحَيْثُ قَالَ الْأَمِير أرغون العلائي لغرلو: أَنْت شاد بعصاتك إِذا عينت لَك سالا للسُّلْطَان تستخرجه وانصرفا من الْمجْلس وكل مِنْهُمَا يترفع على الآخر. فَاشْتَدَّ ابْن مراجل على الْكتاب وألزمهم بِعَمَل الْحساب ورسم عَلَيْهِم وَكتب بِطَلَب مبَاشر الشَّام. فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثَة أَيَّام تكاشف هُوَ غرلو وترافعا إِلَى السُّلْطَان فأخرق السُّلْطَان بغرلو وألزمه أَن يمتثل مَا يرسم لَهُ بِهِ ابْن مراجل وَلَا يتعداه. وَفِيه قدم من دمشق عَلَاء الدّين الْفَرْع وتوصل إِلَى السُّلْطَان وَقدم لَهُ تقديمة جليلة وَسَأَلَهُ فِي قَضَاء دمشق عوضا عَن تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ فرسم لَهُ بِهِ ففام الْأَمِير جنكلى ابْن البابا مَعَ السُّلْطَان فِي اسْتِقْرَار السُّبْكِيّ على عَادَته حَتَّى أَجَابَهُ وعوق توقيع الْفَرْع وَعوض عَن تقدمته الْأَوْقَاف بِدِمَشْق. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن قَاصد نَائِب حلب توجه إِلَى سيس بِطَلَب الْحمل وَقد كَانَ تكفور كتب فِي الْأَيَّام الصالحية بِأَن بِلَاده خربَتْ فسومح بِنصْف الْخراج. فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَاصد نَائِب حلب جهز الْحمل وَحضر كَبِير دولته ليحلفوه أَنه مَا بقى أَسِير من الْمُسلمين فِي مَمْلَكَته كَمَا جرت الْعَادة فِي كل سنة بتحليفه على ذَلِك. وَكَانَ فِي أَيْديهم عدَّة من الْمُسلمين أسرى فبيت مَعَ أَصْحَابه قَتلهمْ فِي اللَّيْلَة الَّتِي تكون خَلفه فِي صحبيتها فَقتل كل أحد أسيره فِي أول اللَّيْل. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن مضى ثلثا اللَّيْل خرجت(4/17)
فِي الثُّلُث الْأَخير من تِلْكَ اللَّيْلَة ريح سوادء مَعهَا رعد وبرق أرعب الْقُلُوب. وَكَانَ من جملَة الأسرى عَجُوز من أهل حلب فِي أسر المنجنيقي ذَبحهَا عِنْد المنجنيق وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ خُذ الْحق مِنْهُم فَقَامَ المنجنيقي يشرب الْخمر مَعَ أَهله بعد ذَبحهَا حَتَّى غلبهم السكر وغابوا عَن حسهم. فَسَقَطت الشمعة وأحرقت مَا حولهَا حَتَّى هبت الرّيح تطاير شرر مَا احْتَرَقَ من الْبَيْت حَتَّى اشتعل. بِمَا فِيهِ وتعلقت النيرَان مِمَّا حوله حَتَّى بلغت مَوضِع تكفور ففر بِنَفسِهِ. واستمرت النَّار مُدَّة اثْنَي عشر يَوْمًا فَاحْتَرَقَ أَكثر القلعة وَتلف المنجنيق كُله بالنَّار وَكَانَ هُوَ حصن سيس وَلم يعْمل مثله وَاحْتَرَقَ المنجنيقي وَأَوْلَاده السِّتَّة وَزَوجته واثني عشر رجلا من أَقَاربه. وَخَربَتْ سيس وَهدم سورها ومساكنها وَهلك كثير من أَهلهَا وَعجز تكفور عَن بنائها. وَفِيه نافقت العربان بِالْوَجْهِ القبلي والفيوم وَكَثُرت حروبهم وقطعهم الطرقات فَلم يُمكن خُرُوج الْعَسْكَر إِلَيْهِم فَأَنَّهُ كَانَ اوأن الْمغل خوفًا عَلَيْهِ. وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة: قدم عَلَاء الدّين الْحَرَّانِي من دمشق باستدعاء وخلع عَلَيْهِ بِنَظَر الشَّام. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَنَّهُ ثارث ريح زرقاء شَدِيدَة فِي بِلَاد برقة وأعقبها مطر عَظِيم جدا يَوْمًا كَامِلا. ثمَّ نزل برد قدر بيص الْحمام مجوف وَبَعضه مثقوب من وَسطه. وَتَمَادَى حَتَّى وصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة والبحيرة والغربية والمنوفية والشرقية وأفسد من الدّور والزروع شَيْئا كثيرا سِيمَا الفول فَأَنَّهُ تلف عَن آخِره وَنزلت صَاعِقَة فأحرقت نَخْلَة فِي دَار. وَقدم الْخَبَر أَن الْأَمِير أرغون الكاملي لعب بالكرة فِي ميدان غَزَّة وَتوجه بعد أَيَّام إِلَى الْقُدس. فَقدم عَلَيْهِ نَائِب الشَّام بتقدمته ثمَّ تواردت تقادم النواب من حلب إِلَى عزة ثمَّ خرج الْأَمِير أرغون الكاملي من الْقُدس فَكتب بِسُرْعَة قدومه فَلَمَّا وصل قطيا خرج السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه بسرياقوس وَلعب مَعَه فِي الميدان بالكرة وَقد سر بقدومه ثمَّ سَار بِهِ السُّلْطَان إِلَى القلعة. وَفِيه خلع على الْأَمِير قبلاي وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن ملكتمر السرجواني لشدَّة مَرضه، وَكتب بإحضاره.(4/18)
وَفِيه كثر لعب النَّاس بالحمام وَكثر جري السعاة وتظاهر أَرْبَاب الملعوب بفنون لعبهم. وتزايد شلاق الزعر وسلط عبيد الخدام الطواشية وغلمأنهم وَعبيد الْكتاب على النَّاس وصاروا كل يَوْم يقفون للضراب فتسفك بَينهم دِمَاء كَثِيرَة وتنهب الحوانيت بالصليبة خَارج الْقَاهِرَة وَإِذا ركب إِلَيْهِم وَإِلَى الْقَاهِرَة لَا يعبئون بِهِ فَإِن قبض على أحد مِنْهُم أَخذ من يَده سَرِيعا فَاشْتَدَّ قلق النَّاس من ذَلِك وَلم يَجْسُر أحد يُنكر شَيْئا من هَذَا. وَفِيه أعرس بعض الطواشية ببعص سرارى السُّلْطَان بعد عقده عَلَيْهَا فَعمل لَهُ السُّلْطَان مهما حَضَره جَمِيع جواري بَيت السُّلْطَان. وجلبت الْعَرُوس على الطواشي ونثر السُّلْطَان عَلَيْهَا وَقت الجلا الذَّهَب بِيَدِهِ فَكَانَ أمرا شنيعاً. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: قدم الْبَرِيد من دمشق بوفاة الْأَمِير ألماس الْحَاجِب وعلاء الدّين بن سعيد فَكتب باستقرار الْأَمِير بدر الدّين الْأَمِير مَسْعُود بن خطير حاجبا عوضا عَن ألماس وأنعم على مَمْلُوك ابْن سعيد بطبلخاناه بعد بذل نَحْو سِتَّة آلَاف دِينَار. وَفِيه اشْتهر أَخذ البراطيل للسُّلْطَان فقصده كل أحد لطلب الإقطاعات والرزق والرواتب. وَفِيه قدم ابْن سَالم قَاضِي الْقُدس وَقد عَزله السُّبْكِيّ وَأثبت عَلَيْهِ محصرا أَنه بَاعَ أيتاما من يتامى الْمُسلمين الْأَحْرَار لِلنَّصَارَى. وَمَا زَالَ ابْن سَالم يسْعَى بالخدام حَتَّى كتب لَهُ توقيع بِقَضَاء الْقُدس على ألف وَخَمْسمِائة دِينَار حملهَا للسُّلْطَان وَمثلهَا لمن سعى لَهُ. وَفِيه كثرت الإشاعة بِاتِّفَاق الْحَاج الْأَمِير آل ملك نَائِب صفد مَعَ الْأَمِير يلبغا نَائِب الشَّام على المخامرة فَجهز الْأَمِير الْحَاج آل ملك محضراً ثَابتا على قَاضِي صفد بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا رمى بِهِ فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِ هَذَا. وجهز منجك السِّلَاح دَار للكشف عَمَّا ذكره فاتفق قدوم بعض مماليك الْأَمِير الْحَاج آل ملك فَارًّا مِنْهُ خوفًا أَن يضْربهُ على شربه الْخمر وَذكر عَنهُ للسُّلْطَان أَنه يُرِيد التَّوَجُّه إِلَى بِلَاد الْعَدو. فَزَاد هَذَا السُّلْطَان كَرَاهَة فِيهِ وَأخرج منجك على الْبَرِيد إِلَيْهِ. فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ حلف أَنه برىء مِمَّا قيل عَنهُ وأنعم على منجك بألفي دِينَار سوى الْخَيل والقماش. وَفِيه نُودي بِالْقَاهِرَةِ ومصر الا يُعَارض أحد من لعاب الْحمام وأرباب الملاعيب والسعاة فتزايد الْفساد وشنع الْحَال.(4/19)
وَفِيه ركب الْأَمِير طقتمر الصلاحي الْبَرِيد ليوقع الحوطة على جَمِيع أَرْبَاب الْمُعَامَلَات وَأَصْحَاب الرزق والرواتب بالبلاد الشامية من الْفُرَات إِلَى غَزَّة وَألا يصرف لأحد مِنْهُم شَيْئا وَأَن يسْتَخْرج مِنْهُم وَمن الْأَوْقَاف وأرباب الجوامك ألف ألف دِرْهَم برسم سفر السُّلْطَان للحجاز وَيَشْتَرِي بذلك الْجمال وَنَحْوهَا مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ السُّلْطَان فِي سَفَره فمنعت الرَّوَاتِب من الْفُقَرَاء وَغَيرهم لم يصرف لأحد مِنْهُم الدِّرْهَم الْفَرد فَكثر ابتهالهم وتضرعهم إِلَى الله تَعَالَى فِي وَفِيه كتب بعد موت الْأَمِير جنكلى بن البابا بقدوم الْأَمِير آل ملك إِلَى الْقَاهِرَة من صفد ليستقر على إقطاع جنكلى وَتوجه إِلَيْهِ منجك لإحضاره. وَفِي يَوْم السبت تَاسِع عشريه: أمسك الْأَمِير أينبك أَخُو قمارى ثمَّ أفرج عَنهُ من يَوْمه. وَفِيه اسْتَقر نجم الدّين إِبْرَاهِيم بن الْعِمَاد عَليّ بن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد الطرسوسى فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن أَبِيه. وَفِيه كتب باستقرار الْأَمِير سيف الدّين أراق الفتاح نَائِب غَزَّة فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن الْأَمِير الْحَاج آل ملك. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان فَخر الدّين أَحْمد بن الْحسن بن الْجَار بردى شَارِح البيضاوى. وَمَات الْأَمِير ألماس الناصري الْحَاجِب بِدِمَشْق. وَمَات بهاء الدّين أَبُو بكر بن مُوسَى بن سكرة نَاظر الدَّوَاوِين بِدِمَشْق فِي عَاشر شعْبَان بهَا عَن سِتِّينَ سنة.(4/20)
وَتُوفِّي الْملك الْأَشْرَف كجك بن مُحَمَّد بن قلاوون. وَمَات الْأَمِير طقزدمر الحموى وَأَصله من مماليك الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل بن عَليّ صَاحب حماة بَعثه للناصر مُحَمَّد وَهُوَ شَاب فخطى عَنهُ ورقاه حَتَّى صَار أَمِير مجْلِس وزوجه بابنته. ثمَّ ولي نِيَابَة السلطنة فِي أَيَّام الْمَنْصُور أبي بكر وَولي نِيَابَة حلب ودمشق ثمَّ قدم إِلَى الْقَاهِرَة وَمَات بهَا مستهل جُمَادَى الْآخِرَة وَله تنْسب خانكاه طقزدمر بالقرافة وَتُوفِّي بدر الدّين مُحَمَّد بن محيي الدّين بن فضل الله الْعمريّ الدِّمَشْقِي كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فِي سادس عشري رَجَب. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن أبي بكر الأردبيلي الشَّافِعِي مدرس الْمدرسَة الحسامية طرنطاي بالقرافة. وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه والعربية وَالْأُصُول والجدول والحساب والمنطق وَقد اشْتَدَّ صمه وأنتفع بالقراة عَلَيْهِ جمَاعَة. وَتُوفِّي القاضى ضِيَاء الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْمَنَاوِيّ الشَّافِعِي أحد نواب الحكم عِنْد قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم السبت سادس رَمَضَان وَتجَاوز تسعين سنة.(4/21)
وَمَات الْأَمِير بيبرس الأحمدي أحد المماليك المنصورية البرجيه فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشري الْمحرم وَهُوَ فِي عشر الثَّمَانِينَ. وَكَانَ جركسي الْجِنْس تنقل حَتَّى صَار من أُمَرَاء الألوف فِي وَظِيفَة أَمِير جاندار ثمَّ ولى نِيَابَة صفد وطرابلس وَكَانَ كَرِيمًا شجاعاً قوي النَّفس دينا لم يركب قطّ فرسا إِلَّا فحلاً وَلم يركب حجرَة قطّ. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين جنكلى بن البابا العجلى أتابك العساكر فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشري ذِي الْحجَّة. قدم الْقَاهِرَة سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وتنقل حَتَّى صَار رَأس الميمنة. وَله حفدة كَبِيرَة وَلم ير أعف مِنْهُ فِي الْأُمَرَاء مَعَ الصدْق فِي الدّيانَة والحلم وَالْوَقار وَكَثْرَة الصَّدقَات فَكَانَ يخرج كل سنة ثَمَانِيَة آلَاف أردب من الْقَمْح ومبلغ ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم فِي وُجُوه الْبر سوى زَكَاة مَاله. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن همام بن راجي الشَّافِعِي إِمَام جَامع الصَّالح خَارج بَاب زويلة وَهُوَ مُصَنف كتاب سلَاح الْمُؤمن وَغَيره. وَفِيه ضربت عنق ششملم وعنق رَفِيقه وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر رَجَب. وَمَات الشريف رميثة بن أبي نمى بن أبي سعد حسن بن عَليّ بن قَتَادَة أَمِير مَكَّة يَوْم الْجُمُعَة ثامن ذِي الْقعدَة بمكه(4/22)
(سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
يَوْم الْإِثْنَيْنِ أول الْمحرم: قدم منجك مَدِينَة صفد بِكِتَاب السُّلْطَان يَسْتَدْعِي الْأَمِير الْحَاج آل ملك فَسَار مَعَه إِلَى غَزَّة فَقبض عَلَيْهِ بهَا وَقيد. وَقيل كَانَ الْقَبْض عَلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس عشري ذِي الْحجَّة بغزة. وَفِي أَوله أَيْضا قدم الْأَمِير ملكتمر السرجواني من الكرك وَهُوَ مَرِيض فَمَاتَ عِنْد مَسْجِد تبر ظَاهر الْقَاهِرَة وَدخل إِلَيْهَا مَيتا فَدفن بتربته. وَفِيه أَيْضا قدم الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن الْأَمِير الْحَاج آل ملك من صفد فَأمْسك من سَاعَته وسجن. وَفِيه أَيْضا خلع على الْأَمِير أسندمر الْعمريّ وَاسْتقر فِي نِيَابَة طرابلس. وَفِي يَوْم السبت سادسه: قدم الْأَمِير الْحَاج آل ملك نَائِب صفد والأمير قمارة نَائِب طرابلس مقيدين إِلَى قليوب. وركبا النّيل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة واعتقلا بهَا. وَكَانَ الْأَمِير طقتمر الصّلاح قد قبض على قمارى بطرابلس وَقَيده وَبَعثه على الْبَرِيد وأوقع الحوطة على موجوده وَفِيه قبض على آينبك أخي قمارى وعَلى نصرات وغلبك وحواشيهم وأحيط بموجودهم. وَفِيه ركب مغلطاي الأستادار إِلَى صفد لإيقاع الحوطة على مَوْجُود الْأَمِير الْحَاج آل ملك وَركب الطواشي مقبل التَّقْوَى لإحضار مَوْجُود قمارى من طرابلس وألزم مباشروهما بِحمْل جَمِيع أمولهما فَوجدَ لآل ملك قريب ثَلَاثِينَ ألف أردب غلَّة وألزم وَلَده. بِمِائَة ألف دِرْهَم وَأخذ لزوجته خبية غمز عَلَيْهَا فِيهَا أَشْيَاء جليلة وَأخذ لزوجة قمارى صندوق فِيهِ مَال جزيل. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير رسْلَان بصل فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن طقتمر الصلاحي وَنقل طقتمر من نِيَابَة حماة إِلَى نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أرقطاي. وَكتب بقدوم أرقطاى وَتوجه فِي ذَلِك الْأَمِير قطلوبغا الكركي وَمَعَهُ التَّقْلِيد فأنعم عَلَيْهِ أرقطاى بِمِائَة ألف دِرْهَم وأنعم عَلَيْهِ طقتمر بِأَلف وخسمائة دِينَار وَعشرَة آلَاف دِرْهَم ومائتي قِطْعَة قماش وَعشرَة أرؤس من الْخَيل وخلعة السُّلْطَان وَخَمْسمِائة أردب غلَّة من مصر قيمتهَا مائَة ألف دِرْهَم(4/23)
وَفِي عشريه: قدم الْأَمِير ارقطاي من حلب فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر عوضا عَن الْأَمِير جنكلى بن البابا رَأس الميمنة. وَفِيه خلع السُّلْطَان على أرغون العلائي زوج أمه وَاسْتقر فِي نظر المارستان المنصوري عوضا عَن الْأَمِير جنكلى بن البابا. فَنزل إِلَيْهِ أرغون وَأعَاد جمَاعَة مِمَّن قطعهم ابْن الأطروش بعد موت الْأَمِير جنكلى. وَأَنْشَأَ أرغون بجوار بَاب المارستان سَبِيل مَاء ومكتب سَبِيل لقِرَاءَة أَيْتَام الْمُسلمين الْقُرْآن الْكَرِيم ووقف عَلَيْهِ وَقفا بِنَاحِيَة من الضواحي وَفِيه أنعم السُّلْطَان على طغريل بتقدمة ألف وعزل تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن مراجل من نظر الدولة وَقد كرهه النَّاس. وَفِيه خلع على الْأَمِير نجم الدّين مَحْمُود بن شروين وَزِير بَغْدَاد وأعيد إِلَى الوزارة وَكَانَت شاغرة. وَفِيه خلع على علم الدّين عبد الله بن زنبور وَاسْتقر فِي نظر الدولة عوضا عَن ابْن مراجل. وعزل جَمِيع من ولاه ابْن مراجل من الشاميين وَغَيرهم وأهينوا وألزموا بِحمْل مَا أخذُوا من المعاليم ونزعت أخفافهم. وألزم ابْن مراجل بِحمْل جَمِيع مَا استأده من الْمَعْلُوم وبثمن الخلعة وَالْبَغْلَة والدواة وقومت عَلَيْهِ بأزيد قيمَة وَأَرَادُوا أهانته بِكُل طَرِيق وَفِيه اسْتَقر ابْن سهلول فِي الِاسْتِيفَاء كَمَا كَانَ أَولا. وَاسْتقر النشو بن ريشة مُسْتَوْفيا. وَفِيه قدم الْأَمِير مغلطاى. مِمَّا وجد للأمير الْحَاج آل ملك وَهُوَ مبلغ خَمْسَة وَسَبْعُونَ ألف دِرْهَم وَأَرْبَعَة آلَاف دِينَار. وَوجد لَهُ أَيْضا ثمن غلَّة مبتاعة. بِمَكَّة نَحْو مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألف أردب وَنَحْو عشْرين ألف جلد حبشِي. وَوجد لَهُ عشرُون فرسا سوى مَا أرصده للتقدمة وعدتها سَبْعُونَ فرسا سوى الهجن والبخاتى وَنَحْو عشْرين بقجة قماش. وَوجد لَهُ أَرْبَعَة عشر قطار بخاتى أنعم بهَا على أَرْبَعَة عشر خَادِمًا فشق ذَلِك على الْأُمَرَاء. وَفِيه قدم مقبل من طرابلس بِجَمِيعِ قماش نسَاء الْأَمِير قمارى وَمَا وجده لَهُ وَفِيه زنة سبعين مِثْقَال من الْجَوَاهِر فرقه السُّلْطَان على اتِّفَاق وَغَيرهَا وَفِيه مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم وَثَلَاثَة آلَاف دِينَار وزركش بِنَحْوِ مِائَتي ألف دِرْهَم.(4/24)
وَفِي مستهل صفر: قدم ابْن زعازع من البهنسا وسعى بِبَعْض الْكتاب حَتَّى سلم إِلَيْهِ على مائَة ألف دِرْهَم فعاقبه حَتَّى مَاتَ. فاتهم ابْن زعازع بِأَنَّهُ أَخذ لَهُ مَالا كَبِيرا وَخرج الْأَمِير مغلطاي إِلَى البهنسا وَقبض عَلَيْهِ وَأخذ مِنْهُ ألفي ألف وَمِائَة وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم ومائتي جَارِيَة وَسِتِّينَ عبدا وَسِتِّينَ فرسا وألفا وَثَمَانمِائَة فدان على سَبِيل الرزق سوى القنود والأعمال والمعاصر ثمَّ سمره مغلطاي وشهره فِي النواحي. وَفِيه قدم طلب الْأَمِير الْحَاج آل ملك ففرقت مماليكه على الْأُمَرَاء وَنزل بعصهم فِي البحرية. وَفِيه أخرج مماليك قمارى من الْحلقَة. وَفِيه انْتَهَت عمَارَة قصر الْأَمِير أرغون الكاملي وإصطبله الْأَعْظَم وَأنْفق فِيهِ مَال عَظِيم وأخد فِيهِ من بركَة النّيل نَحْو الْعشْرين ذِرَاعا. فَلَمَّا عزم أرغون الكاملي على النُّزُول إِلَيْهِ مرض فقلق السُّلْطَان لمرضه فَبعث لَهُ فرسا وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم تصدق بهَا عَنهُ. وَأخرج الْأَمِير أرغون العلائي أَيْضا عشرَة آلَاف دِرْهَم تصدق بهَا عَنهُ وَأَفْرج عَن أهل السجون وَركب السُّلْطَان لعيادته بالميدان. وَفِيه اهتم السُّلْطَان بِالسَّفرِ إِلَى الْحجاز ورسم بِحمْل مائَة ألف وَخمسين ألف أردب شعير وَندب لَهَا الْأَمِير عز الدّين أزدمر الكاشف فألزم الْأَمِير عز الدّين أزدمر الفلاحين بِالْوَجْهِ البحري عَن آخِرهم بِحمْل شعير على حِسَاب كل أردب بسبعة دَرَاهِم وَكتب لآل مهنا بِالشَّام أَن يَسِيرُوا الهجن المخبورة فَقدم حيار بن مهنا وَمَعَهُ قَود جليل فَقبل مِنْهُ وقومت خيوله بِمِائَتي ألف دِرْهَم. ثمَّ قدم أَحْمد بن مهنا أَيْضا بقود غير طائل. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشريه: ولد للسُّلْطَان ولد ذكر من ابْنة الْأَمِير بكتمر الساقى. وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشريه: أفرج عَن الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن الْأَمِير الْحَاج آل ملك وَعَن أَخِيه قمارى وألزما بيوتهما.(4/25)
وَفِي مستهل ربيع الأول: قدم الْبَرِيد بانتشار الْجَرَاد بأعمل دمشق والبلقاء ورعيه زُرُوعهمْ وَقد أدْرك الشّجر وَأَنه عَم الْبَلَد حَتَّى وصل إِلَى الرمل وَقرب من الصالحية فَهَلَك الشّعْر عَن آخِره. وَفِيه تحسن سعر الْغلَّة حَتَّى أبيع الأردب الْقَمْح بِثَلَاثِينَ درهما. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى سرياقوس وأحضر عِنْده الأوباش فلعبوا باللبخة وَهِي عصى كبار حدث اللّعب فِي هَذِه الدولة وَقتل فِي اللّعب بهَا جمَاعَة. فلعبوا بهَا بَين يَدَيْهِ وَقتل رجل رَفِيقه فَخلع على بَعضهم وأنعم على كَبِيرهمْ بِخبْز فِي الْحلقَة وَاسْتمرّ السُّلْطَان بلعب الكرة فِي كل يَوْم وَأعْرض عَن تَدْبِير الْأُمُور. فتمردت المماليك وَأخذُوا حرم النَّاس وَقَطعُوا الطَّرِيق وفسدت عدَّة من الْجَوَارِي. وَكَثُرت الْفِتَن بِسَبَب ذَلِك حَتَّى بلغ السُّلْطَان فَلم يعبأ بِهَذَا وَقَالَ: خلوا كل أحد يعْمل مَا يُرِيد. فَلَمَّا فحش الْأَمر قَامَ الْأَمِير أرغون العلائي فِيهِ مَعَ السُّلْطَان حَتَّى عَاد إِلَى القلعه وَقد تظاهر النَّاس بِكُل قَبِيح ونصبوا أخصاصا فِي جَزِيرَة بولاق والجزيرة الوسطانية الَّتِي سوها حليمة بلغ مَصْرُوف كل خص فِيهَا من أَلفَيْنِ إِلَى ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. وَعمل كل خص بالرخام والدهان البديع وَزرع حوله المقائي والرياحين وَأقَام بهَا مُعظم النَّاس من الباعة وَالتِّجَارَة وَغَيرهم وكشفوا ستر الْحيَاء وبالغوا فِي التهتك. مِمَّا تهوى أنفسهم فِي حليمة وَفِي الطمية وتنافسوا فِي أرْضهَا حَتَّى كَانَت كل قَصَبَة قِيَاس تؤجر بِعشْرين درهما فَيبلغ الفدان الْوَاحِد مِنْهَا بِثمَانِيَة آلَاف دِرْهَم وَيعْمل فِيهَا ضَامِن يسْتَأْجر مِنْهَا الأخصاص. فأقاموا على ذَلِك سِتَّة أشهر حَتَّى زَاد المَاء وغرقت الجزيرة فَاجْتمع فِيهَا من البغايا والأحدا وأنواع المسكرات مَا لَا يُمكن حكايته وَأنْفق النَّاس بهَا أَمْوَالًا تخرج عَن الْحَد فِي الْكَثْرَة. وَكَانَت الْأُمَرَاء والأعيان تسير إِلَيْهَا لَيْلًا إِلَى أَن قَامَ الْأَمِير أرغون العلائي فِي أمرهَا قيَاما عَظِيما وأحرق الأخصاص على حِين غَفلَة وَضرب جمَاعَة وشهرهم فَتلف بهَا مَال عَظِيم جدا وَفِي هده الْأَيَّام: قل مَاء النّيل حَتَّى صَار مَا بَين المقياس ومصر يخاض وَصَارَ من بولاق إِلَى منشاة المهراني وَمن جَزِيرَة الْفِيل إِلَى بولاق وَمِنْهَا إِلَى الْمنية طَرِيقا وَاحِدًا. وَبعد على السقائين طَرِيق المَاء فأنهم صَارُوا يَأْخُذُونَ المَاء من قريب نَاحيَة منبابة(4/26)
وَبَلغت الراوية المَاء إِلَى دِرْهَمَيْنِ بعد نصف وَربع دِرْهَم فَشَكا النَّاس ذَلِك إِلَى الْأَمِير أرغون العلائي. فَبلغ السُّلْطَان غلاء المَاء بِالْمَدِينَةِ وانكشاف مَا تَحت بيُوت الْبَحْر من المَاء فَركب وَمَعَهُ الْأُمَرَاء وَكثير من أَرْبَاب الهندسة حَتَّى كشف ذَلِك فَوجدَ الْوَقْت فِيهِ قد فَاتَ بِزِيَادَة النّيل وَاقْتضى الرأى أَن ينْقل التُّرَاب والشقف من مطابخ السكر بِمَدِينَة مصر وَيَرْمِي من بر الجيزة إِلَى المقياس حَتَّى يصير جِسْرًا يعْمل عَلَيْهِ وَيدْفَع المَاء إِلَى الْجِهَة الَّتِي أنحسر عَنْهَا. فنقلت الأتربة فِي المراكب والقيت هُنَاكَ إِلَى أَن بَقِي جِسْرًا ظَاهرا وتراجع المَاء قَلِيلا إِلَى بر مصر فَلَمَّا قويت الزِّيَادَة علا المَاء على هَذَا الجسر. وَفِيه لعب السُّلْطَان مَعَ الْأُمَرَاء بالكرة فِي الميدان من القلعة فاصطدم الْأَمِير بيبغا الصلاحي مَعَ آخر سقطا مَعًا عَن فرسيهما إِلَى الأَرْض. وَوَقع فرس بيبغا على صَدره فَانْقَطع نخاعه وَمَات لوقته فأنعم بإقطاعه على قطلوبغا الكركى. وَفِيه قدم الشريف عجلَان بن رميثة من مَكَّة وصحبته الْقود فَمنع من الْأَنْعَام عَلَيْهِ بعادته عِنْد قدومه بقوده وهى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم. وَكتب إِلَى أَخِيه ثقبة أَلا يُعَارض وَأَن يحضر إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه كتب إِلَى نَائِب حماة بإيقاع الحوطة على الْأَمْلَاك والأراضي الَّتِي تقدم بيعهَا من الْملك الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل وَمن وَلَده فَأَنَّهَا أبيعت بِدُونِ الْقيمَة فَقَامَ أَرْبَابهَا بِقِيمَة الْمثل وَحصل مِنْهُم ثَلَاثمِائَة ألف وَفِيه قدم عَلَاء الدّين بن الْحَرَّانِي نَاظر دمشق وشكا من قطع طقتمر الصلاحي مرتبات النَّاس بِبِلَاد الشَّام. فَلم تسمع شكواه ورسم لَهُ أَلا يصرف لأحد مُرَتبا وَلَا حِوَالَة يُحَال بهَا على مَال الشَّام بل يوفر الْجَمِيع لمهم السّفر للحجاز. ثمَّ عَاد عَلَاء الدّين بن الْحَرَّانِي إِلَى دمشق وَتوجه صحبته تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن مراجل بِشَفَاعَتِهِ لَهُ فِي السّفر. وَفِيه قدمت رسل ابْن دلغادر بِكِتَاب يتَضَمَّن أَنه أَخذ قلعة كَانَت بيد الأرمن إحتوى على مَا فِيهَا وَقتل أَهلهَا فأنعم عَلَيْهِ بهَا. وَفِيه أخرج الْأَمِير ايتمش عبد الْغَنِيّ أحد الطلبخاناه على الْبَرِيد منفيا إِلَى الشَّام. وَفِيه ولد السُّلْطَان ولد ذكر من ابْنة الْأَمِير تنكز فدقت البشائر. وَنزل الْأَمِير قطلوبغا الكركي إِلَى الْأُمَرَاء يبشرهم فَلبس من أَرْبَعَة وَعشْرين أَمِيرا مقدما أَرْبَعَة وَعشْرين تَشْرِيفًا أطلس بحوائصها سوى الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل والتفاصيل. وأعفى(4/27)
قطلوبغا مقدمين من الْأَخْذ مِنْهُمَا وهما عَلَاء الدّين عَليّ بن طغريل وبهادر الْعقيلِيّ من أجل أَنَّهُمَا أخذا الإمرة عَن قريب. وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان مَعَ ذَلِك من الأهراء بِخَمْسَة عشر ألف أردب غلَّة فَاشْتَدَّ حد المماليك لَهُ على مَا ناله من السَّعَادَة فَلم يطلّ عمر هَذَا الْمَوْلُود وَمَات. وَفِيه اشتدت الْمُطَالبَة على أهل النواحي بالجمال وَالشعِير والأعدال والأخراج والعبي بِسَبَب سفر السُّلْطَان للحجاز. وَكَثُرت مغارم أهل النواحي للولاة والرقاصين وشكا أَرْبَاب الإقطاعات ضَرَر بِلَادهمْ للسُّلْطَان فَلم يلْتَفت لَهُم. وَقَامَ فِي ذَلِك الْأَمِير أرغون شاه أستادار مَعَ الْأَمِير أرغون العلائي فِي التحدث مَعَ السُّلْطَان فِي إبِْطَال حَرَكَة السّفر حَتَّى تفاوضا بِسَبَبِهِ وتنافرا. فَحدث الْأَمِير أرغون العلائي السُّلْطَان فِي تَركه السّفر فَلم يصغ لقَوْله وَكتب باستعجال الْعَرَب بالجمال واستحثاث طقتمر الصلاحي فِيمَا هُوَ بصدده من ذَلِك. وَفِيه أوقع السُّلْطَان الحوطة. على أَمْوَال الطواشي عَرَفَات وَأخرج إِلَى الشَّام. وَقصد السُّلْطَان أَخذ أَمْوَال الطواشي كافور الْهِنْدِيّ فشفعت فِيهِ خوند طغاى فَأخْرج إِلَى الْقُدس. وَكَانَ عَرَفَات وكافور من خَواص السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ونالا سَعَادَة عَظِيمَة وَبنى كافور تربة عَظِيمَة بالقرافة. وَفِيه نفي أَيْضا ياقوت الْكَبِير وكافور الْمحرم وسرور الدمامينى. وَفِي ثامن عشره: نفي أَيْضا من الطواشية دِينَار الصَّواف ومختص الخطائي. وَأهل ربيع الآخر: فَفِيهِ قدم الْخَبَر. بِمَوْت تَاج الدّين مُحَمَّد بن الزين خضر بن مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فرسم أَن يسْتَقرّ عوضه فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب عبد الْكَرِيم بن أبي الْمَعَالِي وَأَن يسْتَقرّ جمال الدّين إِبْرَاهِيم ابْن الشهَاب مَحْمُود كَاتب السِّرّ وَفِيه اشْتَدَّ فَسَاد العربان بالصعيد والفيوم والإطفيحية فَأخْرج الْأَمِير غرلو إِلَى إطفيح فأمن غرلو شيخ العربان مغنى وَأخذ فِي التحيل على نمي حَتَّى قبض عَلَيْهِ وَسلمهُ لمغنى فَعَذَّبَهُ عذَابا شَدِيدا. فثارت أَصْحَابه وكبسوا الْحَيّ وَتلك النواحي وكسروا عرب المغنى قتلوا مِنْهُم ثَلَاثمِائَة رجل وَسِتِّينَ امْرَأَة وذبحوا الْأَطْفَال ونهبوا الأجران وهدموا الْبيُوت وَلَحِقُوا بعربان الصَّعِيد والفيوم فَكَانَت عدَّة من قتل مِنْهُم(4/28)
فِي هَذِه السّنة نَحْو الألفي انسان لم يفكر أحد فِي أَمرهم وَلَا فِيمَا أفسدوه. وَفِيه مَاتَ ولد السُّلْطَان من ابْنة الْأَمِير تنكز فولد لَهُ فِي يَوْمه ولد ذكر من حظيته اتِّفَاق سَمَّاهُ شاهنشاه وسر بِهِ سُرُورًا زَائِدا وَقصد أَن يعْمل لَهُ مهما وتدق البشائر فَمَنعه الْأَمِير أرغون العلائي من ذَلِك فَعمل فَرحا مُدَّة سَبْعَة أَيَّام. وَكَانَ السُّلْطَان قد عمل لِاتِّفَاق على وِلَادَتهَا بشخاناه وداير بَيت وغشاء مهد الْوَلَد وقماطه عمل فيهم مبلغ سِتَّة وَثَمَانِينَ ألف دِينَار. وَحصل لآرباب الملهى أَيَّام ألفرح من خلع الخوانين عَلَيْهِم البغالطيق بداير زركش وباولى وطرازات زركش وَغير ذَلِك مَا يعظم قدره. وَمَعَ ذَلِك مَاتَ الْوَلَد يَوْم سابعه. وَفِيه مَاتَ يُوسُف بن السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد واتهم السُّلْطَان بقتْله. وَفِيه قدم الْأَمِير طقتمر الصلاحي من الشَّام وَمَعَهُ مبلغ ألف ألف دِرْهَم لتتمة جملَة مَا حمل من الشَّام ألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم مِمَّا توفر من المرتبات الَّتِي اقتطعت وَجِيء من الْأَعْمَال بالصنف وَذَلِكَ سوى الْأَصْنَاف المستعملة برسم السّفر. وَفِيه ورد كتاب الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام يتَضَمَّن خراب بِلَاد الشَّام مِمَّا اتّفق بهَا من أَخذ الْأَمْوَال وَانْقِطَاع الجالب إِلَيْهَا وَأَن الرَّأْي تَأْخِير السّفر إِلَى الْحجاز فِي هَذِه السّنة فَقَامَ الْأَمِير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازة فِي تصويب رَأْي نَائِب الشَّام وذكرا مَا حدث بِبِلَاد مصر من نفاق العربان وضرر الزَّرْع وَكَثْرَة مغارم الْبِلَاد. وَمَا زَالا حَتَّى رَجَعَ السُّلْطَان عَن السّفر وَكتب لنائب الشَّام بِقبُول رَأْيه فِي ذَلِك وَكتب إِلَى الْأَعْمَال باسترجاع مَا قَبضه الْعَرَب من كرى الْجمال وَرمى البشماط الَّذِي عمل على الباعة. فَلم يُوَافق هَذَا غَرَض نسَاء الساطان ووالدته وَأخذت والدته فِي تَقْوِيَة عزمه على السّفر حَتَّى قوي وَكتب لنائب الشَّام وحلب وَغَيرهمَا أَنه لابد من السّفر للحجاز وَأمرهمْ بِحمْل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَاشْترى السُّلْطَان الْجمال وَطلب الكاشف ورسم لَهُ عربان مصر وتفرقة المَال عَلَيْهِم لكرى أحمال الشّعير والدقيق والبشماط. فتجدد الطّلب على النَّاس وحملت الغلال إِلَى الطحانين لعمل البشماط والدقيق واستعيد مَا رمي من دلك. فتحسن سعر الْغلَّة واختلت النواحي من العنف فِي الطّلب(4/29)
وَرفعت أُجْرَة الْجمل إِلَى الْعقبَة عشرَة دَرَاهِم وَإِلَى يَنْبع ثَلَاثِينَ درهما وَإِلَى مَكَّة خمسين درهما واشتغل النَّاس بِهَذَا المهم وتوقفت أَحْوَال أَرْبَاب المعايش وَقل الْوَاصِل من كل شىء. وَأخذ الْأُمَرَاء فِي أهبة السّفر وقلقوا لذك وسألوا الْأَمِير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي فِي الْكَلَام مَعَ السُّلْطَان فِي إبِْطَال سَفَره وتعريفه رقة حَالهم من حِين تجاريدهم إِلَى الكرك فِي نوبَة النَّاصِر أإحمد وَمن خراب بِلَادهمْ لطلب الْكَشَّاف والولاة فلاحيها بِالشَّعِيرِ وَغَيره فَكلما السُّلْطَان بذلك فَاشْتَدَّ غَضَبه وَأطلق لِسَانه فَمَا زَالا بِهِ حَتَّى سكن غَضَبه فرسم من الْغَد الْحَج لجَمِيع الْأُمَرَاء بالتأهب للسَّفر وَمن عجز عَن السّفر يُقيم بِالْقَاهِرَةِ. فَاشْتَدَّ الْأَمر على النَّاس بديار مصر وبلاد الشَّام وَكثر دعاؤهم لماهم فِيهِ من السخر والمغارم. وتنكرت قُلُوب الْأُمَرَاء وَكَثُرت الإشاعة بتنكر السُّلْطَان على الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام وَأَنه يُرِيد مسكه حَتَّى بلغه ذَلِك فاحترز على نَفسه وَبلغ الْأَمِير يلبغا اليحياوي قتل يُوسُف أخي السُّلْطَان وَقُوَّة عزم السُّلْطَان على سفر الْحجاز مُوَافق لأغراض نِسَائِهِ فَجمع أُمَرَاء دمشق وحلفهم على الْقيام مَعَه وبرز إِلَى ظَاهر دمشق فِي نصف جُمَادَى الأولى وَأقَام هُنَاكَ وَحضر إِلَيْهِ الْأَمِير طرنطاي البشمقدار نَائِب حمص والأمير أراق الفتاح نَائِب صفد والأمير أستدمر نَائِب حماة والأمير بيدمر البدري نَائِب طرابلس. فَاجْتمعُوا جَمِيعًا ظَاهر دمشق مَعَ عسكرها وَكَتَبُوا بخلع الْملك الْكَامِل وظاهروا بِالْخرُوجِ عَن طَاعَته. وَكتب الامير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام إِلَى السُّلْطَان: إِنِّي أحد الأوصياء عَلَيْك وَإِن مِمَّا قَالَه الشَّهِيد رَحمَه الله لي وللأمراء فِي وَصيته إِذا أقمتم أحدا من أَوْلَادِي وَلم ترتضوا سيرته جروه بِرجلِهِ وأخرجوه وَأقِيمُوا غَيره. وَأَنت أفسدت المملكة وأفقرت الْأُمَرَاء والأجناد وَقتلت أَخَاك وقبضت على أكَابِر أُمَرَاء السُّلْطَان الشَّهِيد. واشتغلت عَن الْملك والتهيت بِالنسَاء وَشرب الْخمر: وصرت تبيع أَخْبَار الأجناد بِالْفِضَّةِ وَذكر الْأَمِير يلبغا اليحياوي لَهُ أموراً فَاحِشَة عَملهَا فَقدم كِتَابه فِي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من جُمَادَى الأولى. فَلَمَّا قَرَأَهُ السُّلْطَان الْكَامِل تغير تغيراً زَائِدا وأوقف عَلَيْهِ الْأَمِير أرغون العلائي. بمفرده فَقَالَ لَهُ: وَالله(4/30)
لقد كنت أَحسب هَذَا وَقلت لَك فَلم تسمع قولى وَأَشَارَ عَلَيْهِ بكتمان هَذَا. وَكتب الْكَامِل الْجَواب يتَضَمَّن التلطف فِي القَوْل وَأخرج الْأَمِير منجك على الْبَرِيد إِلَى الْأَمِير يلبغا اليحياوي فِي ثَانِي عشريه ليرجعه عَمَّا عزم عَلَيْهِ ويكشف أَحْوَال الْأُمَرَاء وَكتب السُّلْطَان إِلَى أَعمال مصر بإطال السّفر. فكثرت القالة بَين النَّاس بِخُرُوج نَائِب الشَّام عَن الطَّاعَة حَتَّى بلغ الْأُمَرَاء والمماليك فَأَشَارَ الْأَمِير أرغون العلائي على السُّلْطَان بإعلام الْأُمَرَاء الْخَبَر. فطلبوا إِلَى القلعة وَأخذ رَأْيهمْ فَوَقع الِاتِّفَاق على خُرُوج الْعَسْكَر إِلَى الشَّام مَعَ الْأَمِير أرقطاي وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء منكلى بغا الفخري أَمِير جاندار وآقسنقر الناصري وطيبغا المجدي وأرغون الكاملي وأمير عَليّ بن طغريل النوغاي وَابْن طقزدمر وَابْن طشتمر وَأَرْبَعين أَمِير طبلخاناه وَعشْرين أَمِير عشرَة وَأَرْبَعين مقدم حَلقَة. وحملت النَّفَقَة إِلَيْهِم: لكل مقدم ألف دِينَار ماعدا ثَلَاثَة مقدمين لكل مقدم ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَكتب بإحضار الأجناد من الْبِلَاد فَقدم كتب منجك من الْغَوْر. بموافقة النواب لنائب الشَّام وَأَن التجريدة إِلَيْهِ لَا تفِيد فَأَنَّهُ يَقُول أَن أُمَرَاء مصر مَعَه. وَقدم كتاب نَائِب الشَّام أَيْضا - وَفِيه خطّ أَمِير مَسْعُود بن خطير وأمير عَليّ بن قراسنقر وقلاوون وحسام الدّين البقشمدار - يتَضَمَّن: أَنَّك لَا تصلح للْملك وَأَنَّك أَنما أَخَذته بالغلبة من غير رضى الْأُمَرَاء وَعدد مَا فعله. ثمَّ قَالَ: وَنحن مَا بَقينَا نصلح لَك وَأَنت فَمَا تصلح لنا. والمصلحة أَن تعزل نَفسك. فاستدعى السُّلْطَان الْكَامِل الْأُمَرَاء وحلفهم على طَاعَته ثمَّ أَمرهم بِالسَّفرِ إِلَى فَخَرجُوا من الْغَد وَخرج طلب منكلى بغا الفخري وَبعده أرغون الكاملي. وعندما وصل أرغون الكاملي تَحت القلعة خرجت ريح شَدِيدَة أَلْقَت شاليشه إِلَى الأَرْض فصاحت الْعَامَّة: راحت عَلَيْكُم ياكاملية وتطيروا بِأَنَّهُم غير منصورين. وَأخذ المجردون فِي الْخُرُوج شَيْئا بعد شَيْء وَتقدم حلاوة الأوجاقي يَوْم الْخَمِيس عشريه وَأخْبر بِأَن منجك سَاعَة وُصُوله دمشق قبض عَلَيْهِ يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام وسجنه بالقلعة. فَبعث السُّلْطَان الطواشي سرُور الزينى لإحضار أَخَوَيْهِ أَمِير حاجي وأمير حُسَيْن فَاعْتَذر بوعكهما وَبعثت أمهاتهما إِلَى الْأَمِير أرغون العلائي والأمير الْحِجَازِي يسالأنهما فِي التلطف مَعَ السُّلْطَان فِي أَمرهمَا. فبلغت الْأَمِير أرغون بعض جواري زَوجته أم السُّلْطَان الْكَامِل أَنَّهَا سَمِعت(4/31)
السُّلْطَان وَقد سكر وكشف رَأسه وَقَالَ: إلهي أَعْطَيْتنِي الْملك ومكنتني من آل ملك وقمارى وَبَقِي العلائي والحجازي فمكنى مِنْهُمَا حَتَّى أبلغ غرضى فيهمَا فأقلقه ذَلِك. ثمَّ دخل الْأَمِير أرغون العلائي على السُّلْطَان فِي خلْوَة فَإِذا هُوَ متغير الْوَجْه مفكر. فبدره السُّلْطَان بِأَن قَالَ لَهُ: من جَاءَك من جِهَة إخوتي أَنْت والحجازي فَعرفهُ أَن النِّسَاء دخلن عَلَيْهِمَا وَطلبت أَن يكون السُّلْطَان طيب الخاطر على أَخَوَيْهِ ويؤمنهما فأنهما خائفان. فَرد عَلَيْهِ السُّلْطَان جَوَابا جَافيا وَوضع يَده فِي السَّيْف ليضربه بِهِ فَقَامَ عَنهُ لينجو بِنَفسِهِ. وَعرف الْأَمِير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الْحِجَازِي بِمَا جرى لَهُ وشكا من فَسَاد السلطنة. فتوحش خاطر كل مِنْهُمَا وأنقطع العلائي عَن الْخدمَة وتعلل. وَأخذت المماليك أَيْضا فِي التنكرعلى السُّلْطَان وَكَاتب بَعضهم الْأَمِير يبلغَا اليحياوي نَائِب الشَّام وَاتَّفَقُوا بأجمعهم حَتَّى اشْتهر أَمرهم وتحدثت بِهِ الْعَامَّة وَوَافَقَهُمْ الْأَمِير قراسنقر. فألح السُّلْطَان فِي طلب أَخَوَيْهِ وَبعث قطلوبغا الكركي فِي جمَاعَة حَتَّى هجموا عَلَيْهِمَا لَيْلًا فَقَامَتْ النِّسَاء ومنعوهما مِنْهُم. فهم السُّلْطَان أَن يقوم بِنَفسِهِ حَتَّى يأخذهما فجيء بهما إِلَيْهِ وَقت الظّهْر من يَوْم السبت تَاسِع عشريه فَأدْخل بهما إِلَى مَوضِع ووكل بهما وَقَامَ العزاء فِي الدّور عَلَيْهِمَا. وهمت المماليك بالثورة وَالرُّكُوب للحرب. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل جُمَادَى الآخر: خرج الْأَمِير أرقطاى بِطَلَبِهِ حَتَّى وصل طلبه إِلَى بَاب زويله ووقف مَعَ الْأُمَرَاء فِي الموكب تَحت القلعة وَإِذا بِالنَّاسِ قد اضْطَرَبُوا. وَنزل الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي سائقاً يُرِيد إصطبله وَتَبعهُ الْأَمِير أرغون شاه أَيْضا إِلَى جِهَة إصطبله. وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان جلس بالإيوان على الْعَادة وَقد بَيت مَعَ ثقاته الْقَبْض على الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي والأمير أرغون شاه إِذا دخلا وَكَانَا جالسين ينتظران الْإِذْن على الْعَادة. فَخرج طغيتمر الدوادار ليأذن لَهما فَأَشَارَ لَهما بِعَيْنِه أَن يذهبا وَكَانَ قد بلغهما التنكر عَلَيْهِمَا فقاما من فورهما وَنزلا إِلَى خيولهما فلبسا وسارا إِلَى قبَّة النَّصْر وَبعث الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي يَسْتَدْعِي آقسنقر من سرياقوس فَمَا تضحى النَّهَار حَتَّى اجْتمعت أطلاب الْأُمَرَاء بقبة النَّصْر. وَطلب السُّلْطَان الْأَمِير أرغون العلائي واستشاره فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يركب بِنَفسِهِ إِلَيْهِم فَركب وَمَعَهُ الْأَمِير أرغون العلائي وقطلوبغا الكركي وتمر الموساوي وعدة من المماليك. وَأمر السُّلْطَان فدقت الكوسات حَرْبِيّا ودارت النُّقَبَاء على أجناد الحلقه والمماليك ليركبوا فَركب بَعضهم.(4/32)
هَذَا وَقد قدم آقسنقر إِلَى قبَّة النَّصْر وَصَارَ السُّلْطَان فِي جَمِيع كَبِير من الْعَامَّة وَهُوَ يسألهم الدُّعَاء فنظروا إِلَيْهِ وأسمعوه مَا لَا يَلِيق. وَسَار السُّلْطَان فِي ألف فَارس حَتَّى قَابل الْأُمَرَاء فأنسل عَنهُ أَصْحَابه وَبَقِي فِي أَرْبَعمِائَة فَارس. فبز لَهُ آقسنقر ووقف مَعَه وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن ينخلع من السلطنة فاجابه إِلَى ذَلِك وَبكى. فَتَركه آقسنقر وَعَاد إِلَى الْأُمَرَاء وعرفهم ذَلِك. فَلم يرض أرغون شاه وَبدر وَمَعَهُ قرابغا وصمغار وبزلار وغرلو فِي أَصْحَابهم حَتَّى وصلوا إِلَى السُّلْطَان وسيروا إِلَى الْأَمِير أرغون العلائي أَن. يَأْتِيهم ليأخذوه إِلَى عِنْد الْأُمَرَاء. فَلم يُوَافق الْأَمِير أرغون العلائي على ذَلِك فَهَجَمُوا عَلَيْهِ وَفرقُوا من مَعَه وضربوه بدبوس حَتَّى سقط إِلَى الأرص فَضَربهُ يلبغا أروس بِسيف قطع خَدّه وَأخذ أَسِيرًا فسجن فِي خزانَة شمايل وفر السُّلْطَان الْكَامِل شعْبَان إِلَى القلعة واختفى عِنْد أمه زَوْجَة الْأَمِير أرغون العلائي. وَسَار الْأُمَرَاء إِلَى القلعة وأخرجوا أَمِير حاجي وأمير حُسَيْن من سجنهما وقبلوا يَد أَمِير حاجي وخاطبوه بالسلطة. وطلبوا الْكَامِل شعْبَان وسجنوه حَيْثُ كَانَ أَخَوَيْهِ مسجونين وَمن غرائب الِاتِّفَاق أَنه كَانَ قد عمل طَعَام لأمير حاجي وأمير حُسَيْن حَتَّى كَانَ غداءهما وَعمل سماط السُّلْطَان على الْعَادة. فَوَقَعت الضجة وَقد مد السماط فَركب السُّلْطَان شعْبَان من غير أكل. فَلَمَّا انهزم شعْبَان وَقبض عَلَيْهِ وأقيم أَخُوهُ أَمِير حاجي بدله مد السماط بِعَيْنِه لَهُ فَأكل مَعَه حاجي وَأدْخل بطعامه وَطَعَام أَمِير حُسَيْن إِلَى شعْبَان الْكَامِل فَأَكله فِي السجْن ثمَّ قتل شعْبَان فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثالثه وَقت الظّهْر وَدفن عِنْد أَخِيه يُوسُف لَيْلَة الْخَمِيس فَكَانَت مدَّته سنة وَثَمَانِية وَخمسين يَوْمًا وَكثر التظاهر فِيهَا بالمنكرات لشغفه باللهو وعكوفه على معاقرة الْخمر وَسَمَاع الأغاني واللعب وَبيعه الإقطاعات والولايات حَتَّى إِن الإقطاع كَانَ يخرج عَن صَاحبه وَهُوَ حَيّ. بِمَال الآخر فَإِذا وقف من أخرج إقطاعه قيل لَهُ: نعوض عَلَيْك وَأخذ الْأُمَرَاء على شعْبَان تَمْكِينه الخدام وَالنِّسَاء من التَّصَرُّف فِي المملكة والتهتك فِي النزه وَالصَّيْد واللعب بالكرة بالهيئات الجميلة وركوب الْخَيل المسومة وَعدم الاحتشام من فعل الْمُنْكَرَات حَتَّى أَن حريمه إِذا نَزَلْنَ إِلَى نزهة تبلغ عِنْدهن الجرة الْخمر(4/33)
إِلَى ثَلَاثِينَ درهما وشره حَرِيم شعْبَان فِيمَا فِي أَيدي النَّاس من الدواليب والأحجار والبساتين والدور وَنَحْوهَا. فَأخذت أمه معصرة وَزِير بَغْدَاد وَأخذت إتفاق أَرْبَعَة أَحْجَار وأخدت أمه أَيْضا من وَزِير بَغْدَاد منظرة على بركَة الْفِيل. وَحدث فِي أَيَّامه أَخذ خراج الرزق وَزِيَادَة القانون وَنقص الأجاير وأعيد ضَمَان أَرْبَاب الملاعيب. وَلم يُوجد لَهُ من المَال سوى مبلغ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَخَمْسمِائة ألف دِرْهَم. وَكَانَ مَعَ ذَلِك مهاباً سيوساً متفقداً لأحوال المملكة لَا يشْغلهُ لهوه عَن الْجُلُوس للْخدمَة وَكَانَ حازماً ذَا رَأْي واحتياط ومحبة لجمع المَال وَفِيه قيل: بَيت قلاوون سعاداته فِي عَاجل كَانَت بِلَا آجل حل على أملاكه للردى دين قد اسْتَوْفَاهُ بالكامل السُّلْطَان الْملك المظفر زين الدّين حاجي بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الصَّالِحِي الألفي سجنه أَخُوهُ شعْبَان الْكَامِل كَمَا تقدم وَمَعَهُ أَخُوهُ حُسَيْن. فَلَمَّا انهزم شعْبَان من الْأُمَرَاء مر وَهُوَ سائق فِي أَرْبَعَة مماليك إِلَى بَاب السِّرّ فَوَجَدَهُ مغلقا والمماليك بأعلاه فتلطف بهم حَتَّى فتح لَهُ أحدهم وَدخل ليقْتل أَخَوَيْهِ فَلم يفتح الخدام لَهُ الْبَاب فَمضى إِلَى أمه. وَصعد الْأُمَرَاء إِلَى القلعة وَقد قبضوا على الْأَمِير أرغون العلائي وعَلى الطواشي جَوْهَر السحرتى اللالا وأسندمر الكاملي وقطلوبغا الكركى وَجَمَاعَة وَدخل بزلار وصمغار راكبين إِلَى بَاب الستارة وطلبا أَمِير حاجي فادخلهما الخدام إِلَى الدهيشة حَتَّى أَخْرجُوهُ وأخاه من سجنهما. وبشرا حاجي بالظفر. ثمَّ دخل الْأَمِير أرغون شاه إِلَى حاجي وَقبل لَهُ الأَرْض وَقَالَ لَهُ: باسم الله اخْرُج أَنْت سلطاننا وَسَار بِهِ وبحسين إِلَى الرحبة وَأَجْلسهُ على بَاب الستارة. ثمَّ طلب الْأَمِير أرغون شاه شعْبَان الْكَامِل حَتَّى وَحده قَائِما بَين الأزيار وَقد اتسخت ثِيَابه فَأخْرجهُ إِلَى الرحبة وَأدْخلهُ إِلَى الدهيشة حَتَّى سجنه بهَا حَيْثُ كَانَ حاجي.(4/34)
وَطلب الْأَمِير أرغون شاه الْخَلِيفَة والقضاة وأركب حاجي من بَاب الستارة إِلَى الإيوان وَحمل المماليك أَمِير حُسَيْن على أكتافهم حَتَّى جلس حاجي على سَرِير الْملك فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل جُمَادَى الْآخِرَة. ولقب حاجي بِالْملكِ المظفر لَهُ من الْعُمر خمس عشرَة سنة. وَقبل الْأُمَرَاء الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَحلف لَهُم أَولا أَنه لَا يُؤْذِي أحدا مِنْهُم وَلَا يخرب بَيت أحد وحلفوا لَهُ على طَاعَته. وَركب الْأَمِير بيغرا الْبَرِيد ليبشر الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام ويحلفه وأمراء الشَّام. وَفِيه كتب إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بإعفاء النواحي من المغارم ورماية الشّعير والبرسيم. وَفِيه حمل الْأَمِير أرغون العلائي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثالثه: قبض على الشَّيْخ عَليّ الدوادار وعَلى عشرَة من الخدام الكاملية وسلموا إِلَى شاد الدَّوَاوِين. وَسلم لَهُ أَيْضا الطواشي جَوْهَر السحرتى وقطلوبغا الكركي ومقبل الرُّومِي وألزموا بِحمْل الْأَمْوَال الَّتِي أخذوها من النَّاس على قَضَاء الأشغال فعذبوا بأنواع الْعَذَاب وَوَقعت الحوطة على موجودهم. وَفِيه قبض على الْأَمِير تمر الموساوي وَأخرج إِلَى الشَّام وَفِيه أَمر بِأم الْكَامِل وزوجاته فأنزلن من القلعة إِلَى الْقَاهِرَة وَعرضت جواري دَار السُّلْطَان فبلغت عدتهن خَمْسمِائَة جَارِيَة فرقن على الْأُمَرَاء. وَفِيه أحيط بموجود إتفاق وأنزلت من القلعة. وَكَانَت سَوْدَاء حالكة السوَاد اشترتها ضامنة المغالي بِدُونِ الأربعمائة دِرْهَم من ضامنة المغاني. بِمَدِينَة بلبيس وعلمتها الضَّرْب بِالْعودِ على عبد عَليّ العواد فمهرت فِيهِ. وكات إتفاق حَسَنَة الصَّوْت جَيِّدَة الْغناء قدمتها ضامنة المغاني لبيت السُّلْطَان فاشتهرت فِيهِ حَتَّى شغف بهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل وَتزَوج بهَا. ثمَّ لما تسلطن شعْبَان الْكَامِل باتت عِنْده من ليلته لما كَانَ فِي نَفسه مِنْهَا أَيَّام أَخِيه ونالت من الحظوة والسعادة مَا لَا عرف فِي زمانها لامْرَأَة غَيرهَا حَتَّى أَنه عمل لَهَا داير بَيت طوله اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا وَعرضه سِتَّة أَذْرع فِيهِ خَمْسَة وَتسْعُونَ ألف دِينَار مصرية سوى البشخاناه والمخاد والمساند. وَكَانَ لَهَا أَرْبَعُونَ بذلة ثِيَاب مرصعة بالجوهر وست عشرَة بدلة بداير زركش وَثَمَانُونَ مقنعة فِيهَا مَا قِيمَته عشرُون ألف دِرْهَم وأقلها بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يجل وَفِيه وفر من مَصْرُوف الْحَوَائِج خاناه فِي كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم. وَفِيه رسم بِإِعَادَة الْأَمْلَاك الَّتِي أَخذهَا حَرِيم الْكَامِل لأربابها فاستعاد الْوَزير نجم الدّين معصرته وَأخذ من اتِّفَاق وَغَيرهَا مَا أَخَذته من النَّاس.(4/35)
وَفِيه نُودي فِي الْقَاهِرَة ومصر بِرَفْع الظلامات وَمنع أَرْبَاب الملاعيب جَمِيعهم. وَفِي عاشره: وجد صندوق مفتاحه تَحت يَد الشَّيْخ عَليّ الدوادار. فِيهِ براني فضَّة مختومة وأحقاق فتحت بِحَضْرَة الْأَطِبَّاء فَإِذا هِيَ سموم قاتلة. فَعرض الْعَذَاب على الشَّيْخ عَليّ حَتَّى اعْترف أَن المزين المغربي الَّذِي أَقَامَهُ الْكَامِل رَئِيس الجرائحية ركب ذَلِك. فَاحْتَرَقَ بالنَّار قُدَّام الايوان وَكَانَ هَذَا المغربى تعرف بأولاد السُّلْطَان وهم بقوص وَقدم مَعَهم فَلَمَّا تسلطن شعْبَان الْكَامِل تقرب إِلَيْهِ بِعَمَل السمُوم وصناعة الكيمياء. وَكَانَ قد قدم فِي الْأَيَّام الناصيرية مُحَمَّد بن قلاوون تَاجر فرنجى بهدية إِلَى ملكتمر الْحِجَازِي فَأَعْجَبتهُ مصر وَأسلم وَعرف بآقسنقر الرُّومِي. وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بإمرة عشرَة وَمَا زَالَ. بِمصْر إِلَى أَيَّام شعْبَان الْكَامِل فتقرب إِلَيْهِ آقسنقر الرُّومِي بِعَمَل الْفلك والشعبذة واختص بِهِ وَقَامَ مَعَ المغربي فِي عمل السمُوم وَخرج على الْبَرِيد مرَارًا لإحضار الحشائش القاتلة من بِلَاد الشَّام حَتَّى ركبت بَين يدى الْكَامِل وَفِيه نقل علم الدّين عبد الله بن زنبور من نظر الدولة إِلَى نظر الْخَاص عوضا عَن فَخر الدّين بن السعيد. وَفِيه قبض على ابْن السعيد وألزم بِحمْل مَال. وَفِيه خلع على موفق الدّين عبد الله بن إِبْرَاهِيم وَاسْتقر فِي نظر الدولة وخلع على سعد الدّين بن جرباش وَاسْتقر فِي الِاسْتِيفَاء عوضا عَن ابْن ريشة. وَفِيه قبض على أقطوان مُتَوَلِّي الأهراء والصناعة وَشد الْأَوْقَاف الصلاحية وَنظر الْحَرَمَيْنِ وَسلم لشاد الدَّوَاوِين فَأَنَّهُ كَانَ تجاه أستاذه الطواشي شُجَاع الدّين اللالا وَاجْتمعَ لَهُ خمس عشرَة وَظِيفَة وَبعد صيته واشتدت حرمته. وَفِيه قدم بيغرا من الشَّام وَقد لقى الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام وَقد برز خَارج دمشق يُرِيد الْمسير إِلَى مصر بالعساكر فسر الْأَمِير يلبغا اليحياوي سُرُورًا زَائِدا بِإِزَالَة الْكَامِل وَإِقَامَة أَخِيه المظفر حاجي وَعَاد إِلَى دمشق وَحلف الْأُمَرَاء على الْعَادة.(4/36)
وَأقَام يلبغا اليحياوي الْخطْبَة وَضرب السِّكَّة باسم السُّلْطَان حاجي وسير دَنَانِير ودراهم مِنْهَا وَكتب يهنئ السُّلْطَان حاجي بجلوسه على تخت الْملك. وشكا الْأَمِير يلبغا اليحياوي من نَائِب حلب ونائب غَزَّة ونائب قلعة دمشق مغلطاي المرتيني وَمن نَائِب قلعه صفد قرمجي من أجل أَنهم لم يوافقوه على خُرُوجه فِي طَاعَة شعْبَان الْكَامِل. فرسم بعزل طقتمر الأحمدي نَائِب حلب وقدومه إِلَى مصر واستقرار الْأَمِير بيدمر البدرى نَائِب طرابلس عوضه فِي نِيَابَة حلب واستقرار الْأَمِير أسندمر الْعمريّ نَائِب حماة فِي نِيَابَة طرابلس وَالْقَبْض على مغلطاي المرتيني نَائِب قلعة دمشق وعَلى قرمجي نَائِب قلعة صفد وعزل نَائِب غَزَّة وَأَن يحضر الْأَمِير أيتمش عبد الْغَنِيّ وقطليجا الْحَمَوِيّ إِلَى مصر واستقرار أَمِير مَسْعُود بن خطير فِي نِيَابَة غَزَّة واستقرار طقتمر الصلاحي فِي نِيَابَة حمص. وَكَانَ الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام لما عَاد إِلَى دمشق عمر قبَّة عِنْد مَسْجِد الْقدَم حَيْثُ كَانَ قد برز وسماها قبَّة النَّصْر وَهِي الَّتِي تعرف بقبة يلبغا. وَفِي رَابِع عشره: خلع عَليّ بمنبر السحرتى وَاسْتقر مقدم المماليك عوضا عَن محسن الشهابي. خلع على مُخْتَصّ الرسولى وَاسْتقر زِمَام الدّور فأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه. وَفِيه قبض على مَمْدُود بن الكوراني أَمِير طبر وعَلى أَخِيه عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني وَاسْتقر جمال الدّين يُوسُف وَإِلَى الجيزة عوضه أَمِير طبر وعزل عَلَاء الدّين الكوراني من كشف الْوَجْه القبلي. وَفِيه أنعم بإقطاع الْأَمِير أرغون العلائي على الْأَمِير أرغون شاه. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين بن الأطروش فِي حسبَة دمشق وتدريس الخاتونية. وَفِيه أنعم على ابْن الْأَمِير تنكز بإمرة طبلخاناه وعَلى أَخِيه بإمرة عشرَة. وَفِيه أنعم على ابْن الْأَمِير ألطنبغا نَائِب حلب بإمرة عشرَة فِي دمشق. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشره: أَمر السُّلْطَان ثَمَانِيَة عشر أَمِيرا فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً كثر فِيهِ جَمِيع النَّاس عِنْد نزولهم إِلَى الْقبَّة المنصورية على الْعَادة. وَفِي سَابِع عشرَة: أخرج آقجباي إِلَى حماة.(4/37)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شهر رَجَب: خلع على الْأَمِير أرقطاى وَاسْتقر نَائِب السُّلْطَان بِاتِّفَاق الْأُمَرَاء عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمنع من ذَلِك تمنعاً كثيرا حَتَّى قَامَ الْحِجَازِي بِنَفسِهِ وَأخذ السَّيْف وَأخذ أرغون شاه الخلعة ودارت الْأُمَرَاء حوله وألبسوه على كره مِنْهُ. فَخرج الْأَمِير أرقطاى فِي موكب عَظِيم حَتَّى جلس فِي شباك دَار النِّيَابَة وَحكم بَين النَّاس فرسم لَهُ بِزِيَادَة ناحيتي المطرية وَالْخُصُوص لأجل سماط النِّيَابَة. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى سرحة سرياقوس على الْعَادة. وَفِيه خرج الْأَمِير بيدمر البدرى إِلَى نِيَابَة حلب. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشريه. خلع على الْأَمِير قطليجا وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة وَفِيه نقل من تَسْلِيم شاد الدَّوَاوِين إِلَى تَسْلِيم وَالِي القاهره سِتَّة خدام وهم نصر الْهِنْدِيّ وَأنس وفاتن الصَّالِحِي وسرور الزيني وَعَنْبَر سيغا وجوهر السحرتى اللالا وَمَعَهُمْ المزين المغربي وَنَصْرَانِي رَاهِب. ورسم بتسميرهم جَمِيعًا فأخرجوا من الْغَد ليسمروا بسوق الْخَيل تَحت القلعة وأقعدوا على الْجمل وربطوا. فشفع فيهم الْأُمَرَاء فأنزلوا ومضوا بهم ماشين إِلَى خزانَة شمايل ثمَّ أفرج عَنْهُم فِي يقية يومهم وَنَفَوْا من مصر وَكَانَ الْقَمْح قد تحسن فِي الدولة الكاملية من أول السّنة هُوَ وَجَمِيع الغلال وَبلغ خَمْسَة وَخمسين درهما الأردب وَبلغ الشّعير اثْنَيْنِ وَعشْرين درهما الأردب والفول عشْرين درهما. فَانْحَطَّ سعر الْقَمْح فِي الْأَيَّام المظفرية إِلَى خَمْسَة وَثَلَاثِينَ درهما وَنقص من بَقِيَّة الغلال ثلث سعرها فتيامن النَّاس بِهِ. وَفِيه أخذت الباعة تتعنت فِي الْفُلُوس وَترد الصالحية والكاملية حَتَّى توقفت الْأَحْوَال وَعَاد سعر الغلال إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَنُوديَ برد القصوص من الْفُلُوس ورد الرصاص والنحاس الْأَصْفَر مِنْهَا وَألا يُؤْخَذ إِلَّا مَا عَلَيْهِ سكَّة. وترافقوا بِالنَّاسِ وَيضْرب أحد مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك فمشت الْأَحْوَال. وَفِيه قدم الْأَمِير أيتمش عبد الْغَنِيّ والأمير قطليجا الْحَمَوِيّ. فرسم لأرغون الكاملي بِلُزُوم بَيته وَفِي مستهل شعْبَان: ابْتَدَأَ مرض الْأَمِير بهاء الدّين أصلم فَأَقَامَ أَيَّامًا وَمَات فأنعم بإمرته على طغيتمر النجمي الدوادار. وَأخذ إقطاعه - وَهُوَ عِبْرَة مائَة ألف وَأَرْبَعين ألف دِينَار فسلخ مِنْهُ مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وأضيفت لديوان الْخَاص.(4/38)
وَفِيه قدم الْأَمِير سيف بن فضل فَخلع عَلَيْهِ ووعد بإمرة الْعَرَب وَقبلت خيوله الَّتِي صَار للسُّلْطَان بِهِ أنس. وَفِيه خلع على الْأَمِير تمربغا الْعقيلِيّ وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن الْأَمِير قبلاي باستعفائه. وَفِيه قدم نغيه مَمْلُوك المحسني من برقة فَارًّا. وَكَانَ قد ورد فِي الْأَيَّام الكاملية أَن قايد شيخ برقة مَاتَ بَعْدَمَا خَالف عَلَيْهِ أَقَاربه. فَسُمي نغيه فِي إقطاعه وَأَن يكون أَمِير برقة وَيَأْخُذ الْعداد على الْعَادة وَيقوم بِخَمْسِينَ فرسا. فأنعم عَلَيْهِ بذلك وَتوجه إِلَى عداد الأغنام بالعسف حَتَّى جمع مِنْهَا شَيْئا كثيرا واقتنى الْجمال وَالْخَيْل. فَلَمَّا بلغ أهل برقة قتل الْملك الْكَامِل شعْبَان ثَارُوا بِهِ وَقتلُوا من أجناده ثَلَاثِينَ رجلا وفر بِنَفسِهِ إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه رسم بِإِزَالَة مَا أحدثه غرلو وَالِي الْقَاهِرَة على بَاب زويلة. وَذَلِكَ أَنه نصب خشبتين وَعمل فيهمَا بكرتين وأرخى فيهمَا سلباً ليرتفع فيهمَا الْمُجْرمين حَتَّى يهلكا فأزيلتا. ورسم أَن يكون توسيط من يوسط أَو شنقه على كيمان البرقية خَارج سور الْقَاهِرَة. وَفِيه أخرج الْأَمِير بيغرا لكشف الجسور بِالْوَجْهِ القبلي والأمير أرلان لكشف الجسور بِالْوَجْهِ البحري. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشري: خرج الْأَمِير أرغون شاه أستادار على الْبَرِيد لنيابة صفد وَسبب ذَلِك تكبره وتعاظمه فِي نَفسه وتحكمه على السُّلْطَان فِيمَا يرسم بِهِ ومعارضته وفحشه فِي مُخَاطبَة السُّلْطَان والأمراء حَتَّى كرهته النُّفُوس وعزم السُّلْطَان على مسكة فتلطف بِهِ النَّائِب الْأَمِير أرقطاى حَتَّى تَركه وخلع عَلَيْهِ بنيابة صفد وَأخرجه من وقته خشيَة من فتْنَة يثيرها فَإِنَّهُ كَانَ قد اتّفق مَعَ عدَّة من المماليك على المقامرة وأنعم بإقطاعه على الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي وَأعْطى نَاحيَة بوتيج زِيَادَة عَلَيْهِ. وَفِيه اسْتَقر الصاحب تَقِيّ الدّين أَحْمد بن الْجمال سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن هِلَال فِي الشَّام عَن ابْن الْحَرَّانِي وَكَانَ بِمصْر من الْأَيَّام الكاملية شعْبَان. وَفِيه قدم أَحْمد بن مهنا فِي طلب إمرة الْعَرَب فَلم يقبل السُّلْطَان عَلَيْهِ.
(وَفِي يَوْم الْأَحَد أول شَوَّال)
تزوج السُّلْطَان بابنة الْأَمِير تنكز زَوْجَة أَخِيه.(4/39)
وَفِي آخِره طلبت إتفاق إِلَى القلعة فطلعت بجواريها مَعَ الخدام وَتزَوج بهَا السُّلْطَان خُفْيَة وَعقد لَهُ عَلَيْهَا شهَاب الدّين أَحْمد بن يحيى الْجَوْجَرِيّ شَاهد الخزانة. وَبنى السُّلْطَان عَلَيْهَا من ليلته بَعْدَمَا جليت عَلَيْهِ وفرش تَحت رِجْلَيْهَا سِتُّونَ شقة أطلس ونثر عَلَيْهَا الذَّهَب. ثمَّ ضربت بعودها وغنت فأنعم عَلَيْهَا السُّلْطَان بأَرْبعَة فصوص وست لؤلؤات ثمنهَا أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم. وَفِي ثامنه: أنعم السُّلْطَان على طنيرق أحد مماليك أَخِيه يُوسُف بتقدمة ألف وَنَقله من الجندية إِلَى التقدمة لجماله وَحسنه فَكثر كَلَام المماليك بِسَبَب ذَلِك وَفِيه رسم بِإِعَادَة مَا خرج عَن إتفاق وخدامها وجواريها من الرَّوَاتِب وَطلب عبد على العواد معلم إتفاق إِلَى القلعة فغنى للسُّلْطَان فأنعم عَلَيْهِ بإقطاع فِي الْحلقَة زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ وَأَعْطَاهُ مِائَتي دِينَار وكاملية حَرِير بِفَرْوٍ سمور. وأنهمك السُّلْطَان فِي اللَّهْو وشغف بِاتِّفَاق حَتَّى أشغلة عَن غَيرهَا وملكت قلبه بفرط حبه لَهَا. فشق ذَلِك على الْأُمَرَاء والمماليك وَأَكْثرُوا من الْكَلَام حَتَّى بلغ السُّلْطَان وعزم على مسك جمَاعَة مِنْهُم فمازال بِهِ الْأَمِير أرقطاى النَّائِب حَتَّى رَجَعَ عَن دلك ورسم السُّلْطَان فِي يَوْم الْجُمُعَة سادسه بعد الصَّلَاة أَن يخلع على قطليجا الْحَمَوِيّ واستقراره فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن طيبغا المجدي وخلع أَيْضا على أيتمش عبد الْغَنِيّ فاستقر فِي نِيَابَة غَزَّة وخرجا من وَقتهَا على الْبَرِيد. وفيهَا جلس السُّلْطَان والأمير أرقطاي النَّائِب لعرض المماليك وانتقى من كل عشرَة اثْنَيْنِ وَزَاد إقطاعاتهم وَأكْرمهمْ وَقدم مِنْهُم جمَاعَة. وَقصد السُّلْطَان عرض أجناد الْحلقَة فتلطف بِهِ الْأَمِير أرقطاى النَّائِب حَتَّى كف عَن عرضهمْ. وَفِيه قدم الْخَبَر بغلاء الأسعار بِدِمَشْق حَتَّى أبيع الْخبز كل رطلين بدرهم والقمح كل غرارة. بِمِائَة وَسبعين وَفِيه تَأَخّر الْمَطَر بعامة بِلَاد الشَّام. وتوقفت أَحْوَال الدولة من كَثْرَة رواتب الخدام والقهرمانات وَالْعَبِيد والغلمان وزيادتها عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْأَيَّام الكاملية. فَأَشَارَ غرلو بِأَن توزع على المباشرين(4/40)
جامكية شَهْرَيْن يقبضهَا المعاملون فوزعت عَلَيْهِم واحتال بهَا المعاملون فمشت الْأَحْوَال قَلِيلا. وَكَانَ غرلو قد تمكن من السُّلْطَان وَصَارَ يدْخل مَعَ الخاصكية فَإِذا أَشَارَ بِشَيْء قبل قَوْله. وَفِيه قدم رَسُول ابْن دلغادر بهديته فَخلع عَلَيْهِ وجهزت لَهُ خلعة مَعَ بريدي فَأَخذهَا نَائِب الشَّام وَمنع من حملهَا إِلَيْهِ فَأَنَّهُ كَانَ يكرههُ وَيُرِيد إِقَامَة غَيره وَالْقَبْض عَلَيْهِ. وَفِي ذِي الْقعدَة: توجه أَحْمد بن مهنا عَائِدًا إِلَى بِلَاده من غير طائل وَفِيه دخل السُّلْطَان على زَوجته بنت تنكز وَعمل المهم سَبْعَة أَيَّام جمعت سَائِر أَرْبَاب الملهى فَخص كل جوقة خَمْسَة آلَاف دِرْهَم. ونثر السُّلْطَان على الْعَرُوس عِنْد جلائها الذَّهَب وَفِيه خلع على سيف بن فضل بإمرة الْعَرَب وأنعم عَلَيْهِ بِزِيَادَة ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فِي السّنة من إقطاع أَحْمد بن مهنا وأعيد إِلَى بِلَاده فَسَار إِلَيْهَا. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: توجه الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي للصَّيْد وصحبته خَمْسَة عشر أَمِيرا. وَفِيه تقدم الْأَمِير طقتمر الصلاحي من حلب فَلم تطل إِقَامَته حَتَّى مَاتَ. وَفِيه قتل قرمجي بن أقطوان نَائِب قلعة صفد بِدِمَشْق فِي شعْبَان وَأخذ مَاله. وَفِيه قدم حمل سيس بِحَق النّصْف. وَخرجت هَذِه السّنة وَقد مر بِالنَّاسِ فِيهَا شَدَائِد من غلاء الأسعار لغلال مصر وَالشَّام ونفاق العربان وَتوقف النّيل وَاخْتِلَاف الدولة. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان الْأَمِير بهاء الدّين بن أصلم أحد المماليك المنصورية قلاوون فِي يَوْم السبت عَاشر شعْبَان وَإِلَيْهِ ينْسب جَامع أصلم خَارج الْقَاهِرَة. وَمَات الْأَمِير بيدمر الأشرفي أحد أُمَرَاء دمشق.(4/41)
وَمَات الْأَمِير الْحَاج آل ملك الجوكندار مقتولاً بالاسكندرية فِي الْأَيَّام الكاملية وأحضر مَيتا إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشرى جُمَادَى الآخر. وَأَصله من كسب الأبلستين فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة بيبرس سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة فَاشْتَرَاهُ قلاوون وَهُوَ أَمِير وَمَعَهُ سلار. وَأهْدى قلاوون سلاراً لوَلَده عَليّ وَآل ملك للسعيد بركَة بن الظَّاهِر زوج ابْنَته. فَأعْطَاهُ الْملك السعيد لكوندك ثمَّ سَار بعده لعَلي بن قلاوون وترقى حَتَّى صَار نَائِب السلطنة زمن السُّلْطَان عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن النَّاصِر مُحَمَّد. وَله تنْسب مدرسة آل ملك بِالْقَاهِرَةِ وجامع آل ملك بالحسينية وَكَانَ خيرا دينا. وَتُوفِّي تَاج الدّين مُحَمَّد بن الْخضر بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن أَحْمد بن عَليّ الْمصْرِيّ كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فِي لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الآخر وَقد أناف على السِّتين. وَمَات الْأَمِير قمارى أَخُو بكتمر الساقي مقتولاً وَقد ولى أستادارا وَعمل نَائِب طرابلس وَذكر أَنه كَانَ فِي بِلَاده راعي غنم. وَمَات الْأَمِير ملكتمر السرجواني نَائِب الكرك فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل الْمحرم خَارج الْقَاهِرَة وَقد قدم مَرِيضا. وَتُوفِّي الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نمير بن السراج الْمُقْرِئ الْكَاتِب فِي يَوْم الْخَمِيس نصف شعْبَان. وَمَات الشَّيْخ ركن الدّين عمر بن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الجعبري يَوْم الْخَمِيس سلخ ذِي الْحجَّة وَمَات الشَّيْخ عبد الله بن عَليّ بن سُلَيْمَان بن فلاح عفيف الدّين بن عبد الرَّحْمَن اليافعي اليمني الشَّافِعِي فِي لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة بِمَكَّة. وَمَات ملك تونس أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب بعد مَا ملك ثَلَاثِينَ سنة تنقص شهرا وَسَبْعَة أَيَّام وأقيم بعده ابْنه أَبُو حَفْص عمر. وَمَات الْأَمِير طقتمر الصلاحي أحد خَواص شعْبَان الكاملي وَكَانَ من أعين أُمَرَاء مصر ثمَّ أخرج لنيابة حمص فَمَاتَ بهَا.(4/42)
(سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
يَوْم الثُّلَاثَاء أول الْمحرم: ركب السُّلْطَان فِي أمرائه الخاصكية وَلعب بالكرة فِي الميدان تَحت القلعة فغلب الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فَلَزِمَ بِعَمَل وَلِيمَة فِي سرياقوس للسُّلْطَان ذبح فِيهَا خَمْسمِائَة رَأس غنم وَعشرَة أَفْرَاس وَعمل أحواضاً مَمْلُوءَة بالسكر الْمُذَاب وَجمع سَائِر أَرْبَاب الملهى وَحضر إِلَيْهِ السُّلْطَان والأمراء. وَفِيه قدم كتاب أسندمر الْعُمْرَى نَائِب طرابلس يسْأَل الإعفاء فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. وخلع على الْأَمِير منكلى بغا الفخري أَمِير جاندار وَاسْتقر فِي نِيَابَة طرابلس وَسَار فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي وَفِي هَذَا الشَّهْر: وقف جمَاعَة للسُّلْطَان وَشَكوا من بعد المَاء وانحساره عَن بر مصر والقاهرة حَتَّى غلت روايا المَاء. فرسم بنزول المهندسين لكشف ذَلِك فَكتب تَقْدِير مَا يصرف على الجسر مبلغ مائَة ألف وَعشْرين ألف دِرْهَم جبيت من أَرْبَاب الْأَمْلَاك المطلة على النّيل حسابا عَن كل دراع خَمْسَة عشر درهما فَبلغ قياسها سَبْعَة آلَاف ذِرَاع وسِتمِائَة ذِرَاع. وَقَامَ باستخراج ذَلِك وَقِيَاسه محتسب الْقَاهِرَة ضِيَاء الدّين يُوسُف ابْن. خطيب بَيت الْآبَار. وَفِيه توقفت أَحْوَال الدولة من كَثْرَة رواتب الخدام والعجائز والجواري وَأَخذهم بِأَرْض بهيتت من الضواحي وبأرض الجيزة وَغَيرهَا بِحَيْثُ أَخذ مقبل الرُّومِي عشرَة آلَاف فدان من شاسع الْبحيرَة قَامَ السُّلْطَان والأجناد بكلفة جسورها. وَفِيه فرق السُّلْطَان نصف إقطاع منكلى بغا الفخري وَتَأَخر نصفه. وَفِيه قدم الْأَمِير بيغرا من كشف الجسور فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر أَمِير جاندار عوضا عَن منكلى بغا الفخري. وَفِيه قدم الْأَمِير أسندمر الْعمريّ من طرابلس فأنعم عَلَيْهِ بِبَقِيَّة إقطاع مكلى بغا الفخري وَفِي خَامِس عشريه: قدم الْحَاج وأخبروا برخاء أسعار مَكَّة وَحسن سيرة الشريف عجلَان. وَفِيه قدم تجار الْيمن والهند وَكَانَ الفلفل قد عز وجوده بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى بلغ الرطل(4/43)
سِتَّة وَأَرْبَعين درهما، وَلم يعْهَد مثل ذَلِك فِيمَا سلف، فأبيع عِنْد قدوم الْحَاج بِخَمْسَة دَرَاهِم الرطل. وَوَقع اخْتِلَاف فِي أَمر الْوُقُوف بِعَرَفَة فَإِن الوقفة كَانَت عِنْد أهل مَكَّة يَوْم الْجُمُعَة على مَا ثَبت. بِمَكَّة على قاضيها بِحُضُور قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وَغَيره من حجاج مصر وَالشَّام وَالْعراق. وَكَانَ يَوْم عَرَفَة. بِمصْر والإسكندرية يَوْم الْخَمِيس فَقَامَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن عُثْمَان التركماني الْحَنَفِيّ فِي الْإِنْكَار على ابْن جمَاعَة وَأفْتى أَن حج النَّاس فَاسد وَيلْزم من وقف بِالنَّاسِ يَوْم الْجُمُعَة بِعَرَفَة جَمِيع مَا أنفقهُ الْحجَّاج من الْأَمْوَال وَأَنه يجب على الْحجَّاج كلهم أَن يقيموا محرمين لَا يطئوا نِسَائِهِم وَلَا يمسوا طيبا حَتَّى يقفوا بِعَرَفَة مرّة أُخْرَى. وشنع بذلك عِنْد الْأُمَرَاء وَأظْهر الْحزن على النَّاس والأسف على مَا أنفقوه من أَمْوَالهم. فشق ذَلِك على الْأَمِير طغيتمر الدوادار من أجل أَن زَوجته حجت فِيمَن حج وَأخذ خطّ ابْن التركمان. بِمَا تقدم ذكره. فَغَضب الشَّافِعِيَّة وأنكروا مقَالَته وردوها. وَقصد ابْن جمَاعَة أَن يعْقد مَجْلِسا فِي ذَلِك وَيطْلب ابْن التركماني ويدعى عَلَيْهِ. بِمَا أفتى بِهِ مِمَّا لَا يُوجد فِي كتب الْحَنَفِيَّة فَرَاجعه النَّاس عَن ذَلِك مَخَافَة الشناعة. وَفِيه رسم لمقبل الرُّومِي أَن يخرج إتفاقا وسلمى والكركية حظايا السُّلْطَان من القلعة. بِمَا عَلَيْهِنَّ من الثِّيَاب من غير أَن يحملن شَيْئا من الْجَوْهَر والزركش وَأَن يقْلع عِصَابَة اتِّفَاق عَن رَأسهَا ويدعها عِنْده. وَكَانَت هَذِه الْعِصَابَة قد اشتهرت عِنْد الْأُمَرَاء وشنعت قالتها فَإِنَّهُ قَامَ بعملها ثَلَاثَة مُلُوك: الصَّالح إِسْمَاعِيل والكامل شعْبَان والمظفر حاجي وتنافسوا فِيهَا واعتنوا بجواهرها حَتَّى بلغت قيمتهَا زِيَادَة على مائَة ألف دِينَار مصرية وَسبب ذَلِك أَن الْأُمَرَاء الخاصكية قرابغا وصمغار وَغَيرهمَا بَلغهُمْ إِنْكَار الْأُمَرَاء الْكِبَار والمماليك على السُّلْطَان شدَّة شغفه بالنسوة الثَّلَاث الْمَذْكُورَات وأنهماكه على اللَّهْو بِهن وانقطاعه إلَيْهِنَّ بالدهيشة عَن الْأُمَرَاء وإتلافه الْأَمْوَال الْعَظِيمَة فِي الْعَطاء لَهُنَّ ولأمثالهن فعرفا السُّلْطَان إِنْكَار الْأُمَرَاء عَلَيْهِ إعراضه عَن تَدْبِير الْملك وخوفوه عَاقِبَة ذَلِك فتلطف بِهِ وَصوب مَا أشاروا بِهِ عَلَيْهِ من الإقلاع عَن اللَّهْو بِالنسَاء وأخرجهن وَفِي نَفسه حزازات لفراقهن تَمنعهُ من الهدوء وَالصَّبْر عَنْهُم فَأحب أَن(4/44)
يتعوض عَنْهُن. بِمَا يلهيه ويسليه وَاخْتَارَ صنف الْحمام وَأَنْشَأَ حضيراً بِأَعْلَى الدهيشة رَكبه على صوار وأخشاب عالية وملأه بأنواع الْحمام فَبلغ مَصْرُوف الْحضير خَاصَّة سبعين ألف دِرْهَم. وَقدم الْبَرِيد من حلب بِأَن صَاحب سيس جهز مِائَتي أرمني إِلَى نَاحيَة أياس فَلَمَّا قربوا من كوار ليهجموا على قلعتها قَاتلهم أَرْبَعُونَ من الْمُسلمين فنصرهم الله على الأرمن وَقتلُوا مِنْهُم خمسين وأسروا ثَلَاثِينَ وهزموا باقيهم. فَقتل بكوار عدَّة مِمَّن أسر وَحمل بَقِيَّتهمْ إِلَى حلب فَكتب بِالْإِحْسَانِ إِلَى أهل كوار والإنعام عَلَيْهِم. وَاتفقَ بِمَدِينَة حلب أَن الْأَمِير بيدمر البدري لما قدمهَا ترفع على الْأُمَرَاء وعزل الْوُلَاة والمباشرين بَعْدَمَا أَخذ تقادمهم واستبدل بهم غَيرهم. بِمَال قَامُوا لَهُ بِهِ واشتدت وَطْأَة حَاشِيَته. على النَّاس بظلمهم وَسُوء معاملتهم. ثمَّ بلغه أَن رجلا من الْأَعْيَان مَاتَ عَن ابْنة وَترك مَالا جزيلا وَأوصى أَن تتَزَوَّج ابْنَته بِابْن عَمها. فَرغب بعض النَّاس فِي زواجها وبذل لأوليائها مَالا كثيرا حَتَّى زوجوها مِنْهُ بِغَيْر رِضَاهَا فَلم ترض بِهِ وكرهته كَرَاهَة زَائِدَة حَتَّى قَالَت لأَهْلهَا: أَن لم تطلقوني مِنْهُ وَإِلَّا كفرت فأحضروها إِلَى بعض الْقُضَاة وجددوا إسْلَامهَا. فَطلب الْأَمِير بيدمر ابْن عَمها وضربه بالمقارع ضربا مبرحاً وَضرب الْمَرْأَة أَيْضا ضربا شنيعاً وَقطع أنفها وأذنيها وشهرها بحلب فتألم النَّاس لَهَا ألماً كَبِيرا وَوصل خَبَرهَا إِلَى أُمَرَاء مصر فَقَامَ صمغار وقرابغا وأصحابهما قيَاما كَبِيرا فِي الْإِنْكَار على بيدمر. وصادف مَعَ ذَلِك وُرُود كتاب الْأَمِير أرغون شاه نَائِب صفد يتَضَمَّن أَن ابْن طشتمر كَاتب أرتنا نَائِب الرّوم بِأَن يتَوَجَّه إِلَيْهِ وَأَن يُقيم عِنْده. فظفر الْأَمِير أرغون شاه بقاصده وَأخذ مِنْهُ الْكتاب وَقبض على ابْن طشتمر وسجنه بالقلعة فَأُجِيب بالشكر وَالثنَاء وَكتب إِلَيْهِ أَصْحَابه بِأَن يبْعَث تقدمة للسُّلْطَان حَتَّى يتهيأ نقلته إِلَى غير صفد فَبعث سَبْعَة أَفْرَاس وَعقد جَوْهَر. بِمِائَة ألف دِرْهَم وَغير ذَلِك من الْأَصْنَاف فأعجبت السُّلْطَان وشكره. فَأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما فِي ذكر بيدمر نَائِب حلب وَكَرَاهَة النَّاس لَهُ وَمَا فعله بِالْمَرْأَةِ وَابْن عَمها وتحسين ولَايَة أرغون شاه عوضه فَإِنَّهُ سَار فِي أهل صفد سيرة جميلَة وَلم يقبل لأحد تقدمة وَجلسَ للْحكم بَين النَّاس وأنصف فِي حكمه حَتَّى أحبه أهل صفد. فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر فِي نِيَابَة(4/45)
حلب وَحُضُور الْأَمِير بيدمر من حلب فَقدم أرغون شاه صُحْبَة طنيرق فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشرى صفر بنيابة حلب عوضا عَن بيدمر البدري ورسم أَلا يكون لنائب الشَّام عَلَيْهِ حكم وَأَن تكون مكاتباته للسُّلْطَان وكنب لنائب الشَّام بذلك. وَتوجه الْأَمِير أرغون شاه إِلَى حلب فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع الأول فَقدم دمشق على الْبَرِيد فِي سادس عشره وَنزل مصر معِين الدّين حَتَّى قدم طلبه من صفد فِي أبهة زَائِدَة وخيوله بسروج ذهب مرصعة وكنابيش ذهب وقلائد مرصعة. وَكَانَ بيدمر قد رأى فِي مَنَامه الْمَرْأَة الَّتِي فعل بهَا مَا فعل وهى تَقوله لَهُ: أخرج عَنَّا وكررت ذَلِك ثَلَاث مَرَّات وَقَالَت لَهُ: قد شكوتك إِلَى الله تَعَالَى فعزلك فأنتبه مَرْعُوبًا وَبعث إِلَيْهَا لتحالله وبذل لَهَا مَالا فَلم تقبله وامتنعت من محاللته. فَقدم خبر عَزله بعد ثَلَاثَة أَيَّام من رُؤْيَاهُ وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة صُحْبَة طنيرق وَقد أوصل طنيرق الْأَمِير أرغون شاه إِلَى حلب وسر بِهِ أهل وَفِيه ارْتَفَعت الأسعار بِالشَّام فبلغت الغرارة بِدِمَشْق مِائَتَيْنِ وَخمسين درهما وَذَلِكَ أَن الْجَرَاد انْتَشَر من بعلبك إِلَى البلقاء ورعى الزروع. وَفِيه كثر عَبث العربان بِأَرْض مصر وَكثر سفكهم للدماء وَنهب الغلال من الأجران مَعَ هيف الْغلَّة. وَفِيه اشْتَدَّ احتراق النّيل وَقل مَاؤُهُ حَتَّى تَأَخّر حمل الغلال فِي المراكب فارتفع السّعر من ثَلَاثِينَ درهما الأردب من الْقَمْح إِلَى خَمْسَة وَخمسين وَبلغ الشّعير خَمْسَة وَعشْرين درهما الأردب والفول عشْرين درهما. وَفِيه اسْتَقر أَمِير عَليّ بن طغربل حاجبا بِدِمَشْق عوضا عَن أياس وَاسْتقر أياس فِي نِيَابَة صفد. وَفِيه ورد الْخَبَر باختلال مراكز الْبَرِيد بطرِيق الشَّام فَأخذ من كل أَمِير مقدم ألف أَرْبَعَة أَفْرَاس وَمن كل أَمِير طبلخاناه فرسَان وَمن كل أَمِير عشرَة فرس وَاحِد وكشف عَن الْبِلَاد المرصدة برسم الْبَرِيد فَوجدت ثَلَاث بِلَاد مِنْهَا وقف إِسْمَاعِيل بَعْضهَا وَأخرج بَاقِيهَا إقطاعات فَأخْرج السُّلْطَان عَن عِيسَى بن حسن الهجان بَلَدا تعْمل فِي كل سنة عشْرين ألف دِرْهَم وَثَلَاثَة آلَاف أردب غلَّة وَجعلهَا مرصدة لمراكز الْبَرِيد. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن أرتنا نَائِب الرّوم بعث يَسْتَدْعِي أَحْمد بن مهنا وَأرْسل إِلَيْهِ هَدِيَّة فَأبى أَن يُجيب. وَاتفقَ أَن أَخا سيف بن فضل قصد فياض بن مهنا وَقد سَار إِلَيْهِ من دمشق بمبلغ(4/46)
ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم ثمن خُيُول قدمهَا للسُّلْطَان فَأَخذه مِنْهُ وَقصد قَتله. فَركب فياض لما بلغه ذَلِك وأغار على جمال سيف وَآل فضل وساقها وَهِي نَحْو خَمْسَة عشر ألف بعير. فَبعث سيف يطْلب من نائبي دمشق وحلب عسكراً يُقَاتل آل مهنا فَلم ينجداه. وَفِيه كتب الْأَمِير أرغون شاه نَائِب حلب فِي حق سيف فَإِنَّهُ لَا طَاقَة لَهُ بآل مهنا. فرسم بقدوم سيف وَآل مرا وقدوم أَحْمد بن مهنا ووعد أَحْمد بالإمرة وَخرج الْأَمِير قطلوبغا الذَّهَبِيّ لذَلِك. وَفِيه قدم ابْن الأطروش من دمشق وَقد عزل من الْحِسْبَة وَكتب نَائِب الشَّام يذم فِيهِ وَفِي عصر يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر ربيع الآخر: قتل الْأَمِير آقسنقر الناصري والأمير ملكتمر الْحِجَازِي وَأمْسك الْأَمِير بزلار والأمير صغَار والأمير أيتمش عبد الْغَنِيّ. وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان لما أخرج إتفاق وَغَيرهَا من عِنْده وتشاغل عَنْهُن بالحمام صَار يحضر إِلَى الدهيشة والأوباش وتلعب بالعصا لعب صباح ويحضر الشَّيْخ عَليّ بن الكسيح مَعَ حظاياه فيسخر لَهُ وينقل إِلَيْهِ أَخْبَار النَّاس. فشق ذَلِك على الْأُمَرَاء حدثوا ألجيبغا وطينرق وَكَانَا عُمْدَة السُّلْطَان وخاصكيته فِيمَا يَفْعَله السُّلْطَان وَأَن الْحَال قد فسد فعرفا السُّلْطَان ذَلِك فَاشْتَدَّ حنقه وَأطلق لِسَانه وَقَامَ إِلَى السَّطْح وَذبح الْحمام بحضرتهما وَقَالَ: وَالله لأذبحنكم كَمَا ذبحت هَذِه الطُّيُور وأغلق بَاب الدهيشة وَأقَام غضبانا يَوْمه وَلَيْلَته. وَكَانَ الْأَمِير غرلو قد تمكن مِنْهُ فَأعلمهُ. بِمَا وَقع فَوَقع فِي الْأُمَرَاء وهونهم عَلَيْهِ وجسره على الفتك بهم وَالْقَبْض على الْأَمِير آقسنقر الناصري النَّائِب. فَأخذ السُّلْطَان فِي تَدْبِير مَا يَفْعَله وَقرر ذَلِك مَعَ غرلو. ثمَّ بعث السُّلْطَان بعد أَيَّام طنيرق إِلَى الْأَمِير آقسنقر الناصري النَّائِب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس ربيع الآخر ويعرفه أَن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الْغَنِيّ قد اتَّفقُوا على الْفِتْنَة وعزمي أَن أَقبض عَلَيْهِم فوعد برد الْجَواب غَدا على السُّلْطَان فِي الْخدمَة وَأَشَارَ عَلَيْهِ من الْغَد بالتثبت فِي أَمرهم حَتَّى يَصح لَهُ مَا قيل عَنْهُم فَعرفهُ السُّلْطَان من الْغَد يَوْم الْجُمُعَة بِأَنَّهُ صَحَّ لَهُ بِإِخْبَار بيبغاروس وَبَين لَهُ أَنهم تحالفوا على قَتله فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يجمع بَينهم وَبَين بيبغاروس حَتَّى يحاققهم بِحَضْرَة الْأُمَرَاء يَوْم الْأَحَد. وَكَانَ الْأَمر على خلاف هَذَا فَإِنَّهُ اتّفق مَعَ غرلو وَعَنْبَر السحرتى مقدم المماليك على مسك الْأَمِير آقسنقر الناصري والأمير ملكتمر الْحِجَازِي يَوْم الْأَحَد وَأظْهر للنائب أَنه يُرِيد الْقَبْض على قرابغا وصمغار وبزلار وأيتمش.(4/47)
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشره: حضر الْأُمَرَاء والنائب إِلَى الْخدمَة بعد الْعَصْر وَمد السماط وَإِذا بِالْقصرِ قد ملئ بسيوف مسللة من خلف آقسنقر والحجازي وأحيط بهما وبقرابغا وَأخذُوا إِلَى قاعة هُنَاكَ فَضرب الْحِجَازِي بِالسُّيُوفِ وبضع هُوَ وآقسنقر وفر صمغار وأيتمش عبد الْغنى فَركب صمغار فرسه من بَاب القلعة وَمر واختفى أيتمش عِنْد زَوجته. فَخرجت الْخَيل وَرَاء صمغار حَتَّى أدركوه خَارج الْقَاهِرَة وَأخذ أيتمش من دَاره فارتجت الْقَاهِرَة وغلقت الْأَسْوَاق وأبواب القلعة. وَكثر الإرجاف إِلَى أَن خرج النَّائِب أرقطاى والوزير نجم الدّين مَحْمُود بن شروين قريب الْمغرب فاشتهر مَا جرى. وَفِيه رسم بِالْقَبْضِ على مرزه عَليّ وعَلى مُحَمَّد بن بكتمر الْحَاجِب وأخيه وَأَوْلَاد أيدغمش وَأَوْلَاد قمارى. وأخرجوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وهم وبزلار وأيتمش وصمغار لأَنهم من ألزام الْحِجَازِي ومعاشريه فسجنوا بهَا. وَفِيه أخرج آقسنقر والحجازي فِي لَيْلَة الإثنينعشريه على جنويات فدفنا بالقرافة وَأصْبح الْأَمِير شُجَاع الدّين غرلو وَقد جلس فِي دست عَظِيم ثمَّ ركب وأوقع الحوطة على بيُوت الْأُمَرَاء المقتولين والممسوكين وَأَمْوَالهمْ وطلع بِجَمِيعِ خيولهم إِلَى الإصطبل السلطاني وَنزل وَمَعَهُ نَاظر الْخَاص حَتَّى أخرج حواصلهم. وَضرب غرلو عبد الْعَزِيز الْجَوْهَرِي صَاحب آقسنقر وَعبد الْمُؤمن أستاداره بالمقارع وَأخذ مِنْهُمَا مَالا جزيلا. فَخلع عَلَيْهِ السُّلْطَان قبَاء من ملابسي آقسنقر بطراز زركش عريض وأركبه حصان الججازي بسرج ذهب وخلا بِهِ يَأْخُذ رَأْيه فِيمَا. يَفْعَله. فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يكْتب إِلَى نوابي الشَّام. بِمَا جرى ويعدد لَهُم ذنوبا كَثِيرَة على الْأُمَرَاء الَّذين قبض عَلَيْهِم. فَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام على يَد الْأَمِير آقسنقر المظفري أَمِير جاندار. وَقدم آقسنقر المظفر على الْأَمِير يلبغا اليحياوي فِي ثامن عشريه فَكتب يلبغا بتصويب رَأْي السُّلْطَان فِيمَا فعله وَهُوَ فِي الْبَاطِن غير ذَلِك. وَعظم على الْأَمِير يلبغا قتل ملكتمر الْحِجَازِي وآقسنقر الناصري وتوحش خاطره وَجمع الْأُمَرَاء بعد يَوْمَيْنِ بدار السَّعَادَة وأعلمهم. بِمَا ورد عَلَيْهِ. وَكتب يلبغا إِلَى النواب بذلك فَبعث الْأَمِير ملك آص إِلَى حمص وحلب وَبعث الْأَمِير طيبغا القاسمي إِلَى طرابلس فَجَاءَهُ لَيْلَة الْجُمُعَة مستهل جُمَادَى الأولى من زَاده وحشه فَلم يصبح لَهُ بدار السَّعَادَة أثر غير نِسَائِهِ. وانتقل يلبغا يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْقصر فَنزل بِهِ وَشرع فِي الاستعداد لِلْخُرُوجِ عَن طَاعَة السُّلْطَان وَنزل إِلْزَامه حوله بالميدان.(4/48)
وَأخذ السُّلْطَان المظفر حاجي يستميل المماليك بتفرقة المَال فيهم وَأمر جمَاعَة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الْغَنِيّ وتقدمته وَأصْبح هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي الدولة وعظمت نَفسه إِلَى الْغَايَة. وَفِيه أخرج ابْن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب لِكَثْرَة لعبه وأنعم بتقدمته على الْأَمِير طاز. وَفِيه قدم الْخَيْر بِكَثْرَة حشود العربان بالصعيد وبلاد الفيوم وَشدَّة فسادهم وَتعذر السّفر من قطعهم الطرقات على الْمُسَافِرين. فَلم يعبأ السُّلْطَان بذلك لاشتغاله بلهوه وتلفته إِلَى أَخْبَار نواب الشَّام لتخوفه من خُرُوجهمْ عَن طَاعَته للقبض على الْأُمَرَاء وقتلهم فَقدمت أجوبتهم. بِمَا يظْهر مِنْهُ تصويب رَأْي السُّلْطَان فِيمَا فعله فَلم يطمئن ورسم بِخُرُوج الْعَسْكَر إِلَيْهِ. وَفِيه رسم السُّلْطَان بِخُرُوج الْعَسْكَر إِلَى الْبِلَاد الشامية ورسم فِي عَاشر جُمَادَى الأولى بسفر سَبْعَة أُمَرَاء مقدمين وهم طيبغا المجدي وَملك الجمدار والوزير نجم مَحْمُود بن شروين وطنغرا وأيتمش الناصري الْحَاجِب وكوكاي والزراق وَمَعَهُمْ مضافوهم من الأجناد. وَكتب بِطَلَب الأجناد من النواحي وَكَانَ وَقت إِدْرَاك الْمغل فصعب ذَلِك على الْأُمَرَاء وارتجت الْقَاهِرَة بِأَهْلِهَا لطلب السِّلَاح وآلات للسَّفر. وَكتب السُّلْطَان إِلَى أُمَرَاء دمشق ملطفات على أَيدي النجابة بالتيقظ لحركات الْأَمِير يلبغا اليحياوي فَأَشَارَ الْأَمِير أرقطاى النَّائِب بِطَلَب يلبغا ليَكُون. بِمصْر فَإِن أجَاب وَإِلَّا أعلم بِأَنَّهُ قد عزل من نِيَابَة الشَّام بأرغون شاه نَائِب حلب. فَكتب بِطَلَبِهِ على يَد الْأَمِير سيف الدّين أراى أَمِير آخور وَعند سفر أراي قدمت كتب نَائِب حماة ونائب طرابلس ونائب صفد بِأَن يلبغا دعاهم للْقِيَام مَعَه على السُّلْطَان لقَتله الْأُمَرَاء وبعثوا للسُّلْطَان بكتبه إِلَيْهِم. فَكتب السُّلْطَان لأرغون شاه نَائِب حلب أَن يتَقَدَّم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا وأعلمه أَنه ولاه نِيَابَة الشَّام فَقَامَ أرغون شاه فِي ذَلِك أتم قيام وَأظْهر ليلبغا أَنه مَعَه. وَلما وصل الْأَمِير سيف الدّين أراى إِلَى الْأَمِير يلبغا اليحياوي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس جُمَادَى الأولى إِذا فِي كتاب السُّلْطَان طلب يلبغا ليَكُون رَأس أُمَرَاء المشورة وَأَن نِيَابَة الشَّام أنعم بهَا على أرغون شاه نَائِب حلب وَظن الْأَمِير يلبغا اليحياوي أَن استدعاءه حَقِيقَة وَقَرَأَ كتاب السُّلْطَان فَأجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَأَنه إِذا وصل الْأَمِير أرغون(4/49)
شاه إِلَى دمشق توجه مِنْهَا إِلَى مصر وَكتب الْجَواب بذلك وَأعَاد الْأَمِير سيف الدّين أراى سَرِيعا. فَأَتَت قصاد أُمَرَاء دمشق إِلَى الْأَمِير سيف الدّين أراى فِي عوده لتعرف فِيمَا جَاءَ بِهِ عَلَيْهِم فأعلمهم بعزل يلبغا بأرغون شاه فتحللت عزائم الْأُمَرَاء عَن يلبغا. وتجهز يلبغا وبزر إِلَى الجسورة ظَاهر دمشق فِي خَامِس عشره وَكَانَت ملطفات السُّلْطَان وَردت إِلَى الْأُمَرَاء فِي عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس بإمساكه فَرَكبُوا وقصدوه ففر مِنْهُم بمماليكه وَأَهله وهم فِي أَثَره إِلَى خلف ضمير. وَأما الْأَمِير سيف الدّين أراى فَأَنَّهُ قدم إِلَى السُّلْطَان فَقدم الْخَبَر فِي غَد قدومه بِأَن يلبغا جمع ثقاته من أُمَرَاء الشَّام وأغراهم بالسلطان وَأَنه إِن مضى إِلَيْهِ قَتله كَمَا قتل الْأُمَرَاء وَأَنه جمع أمره على التَّوَجُّه إِلَى أَوْلَاد دمرداش بِبِلَاد الشرق. وَركب الْأَمِير يلبغا فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشره وَمَعَهُ الْأَمِير قلاوون والأمير سَيْفه والأمير مُحَمَّد بن بك بن جمق فِي مماليكهم وَخَرجُوا بِآلَة الْحَرْب فاضطرب النَّاس بِدِمَشْق. وَركب الْعَسْكَر فِي طلبه وَقد سَار نَحْو القريتين وَدخل الْبَريَّة حَتَّى وصل حماة بعد أَرْبَعَة أَيَّام وَخمْس ليَالِي. فَركب الْأَمِير قطليجا نَائِب حماة بعسكره وتلقاه وَدخل بِهِ إِلَى الْمَدِينَة وَقبض عَلَيْهِ وعَلى من مَعَه وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان فسر بِهِ سُرُورًا كَبِيرا وَأمر بِإِبْطَال التجريدة وَكتب بِحمْلِهِ إِلَى مصر. ثمَّ خرج الْأَمِير منجك السِّلَاح دَار لقَتله فلقى آقجبا الْحَمَوِيّ وصحبته يلبغا اليحياوي وَأَبوهُ وَقد نزل بقاقون. فَصَعدَ منجك مَعَ يلبغا إِلَى قلعتها وَقَتله فِي يَوْم الْجُمُعَة عشريه وجهز رَأسه إِلَى السُّلْطَان. وَتوجه منجك إِلَى حماة وجهز الْأَمِير قراكر والأمير أسندمر أخوى يلبغا اليحياوي والأمير طقطاى دواداره والأمير جوبان مَمْلُوكه إِلَى السُّلْطَان مقيدين وَكَانَ أَبوهُ الْأَمِير طابطا حمل مُقَيّدا من فاقون إِلَى السُّلْطَان. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن أَحْمد بن مهنا وفياضاً وفوازاً وقمارى كَانُوا بحلب لما قبض على يلبغا بحماة فَرَكبُوا بِجَمْعِهِمْ يُرِيدُونَ آل مرا وَقد نزلُوا قَرِيبا من سيف بن فضل فَركب سيف بآل مرا وَآل عَليّ إِلَى لقائهم فَلم يطقهم وفر فنهبوا أبياته وَأخذُوا مِنْهَا خَمْسمِائَة حمل دَقِيق وَسَاقُوا خَمْسَة عشر ألف بعير. وَمر سيف على وَجهه إِلَى الْقَاهِرَة فطلع إِلَى السُّلْطَان وَبكى بَين يَدَيْهِ بكاء كثيرا فتنكر السُّلْطَان على أَوْلَاد مهنا. فَقدم كتاب الْأَمِير أرغون بالثناء عَلَيْهِم لخدمتهم السُّلْطَان فِي أَمر يلبغا أتم الْخدمَة وَقدم أَحْمد بن مهنا عقيب ذَلِك فَلم ير من السُّلْطَان إقبالاً. وَفِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشريه: أخرج بالوزير نجم الدّين مَحْمُود والأمير بيدمر(4/50)
البدري نَائِب حلب كَانَ والأمير طغيتمر الفخري الدوادار إِلَى الشَّام وَسَببه أَن غرلو لما كَانَ شاد الدَّوَاوِين حقد على الْوَزير نجم الدّين وعَلى طغيتمر الدوادار فَحسن للسُّلْطَان أَخذ أموالهما. فَذكر السُّلْطَان للنائب أرقطاى عَنْهُمَا وَعَن بيدمر أَنهم كَانُوا يكاتبون يلبغا اليحياوي فَأَشَارَ عَلَيْهِ بإبعادهم عَنهُ وَأَن يكون الْوَزير نَائِب غَزَّة وبيدمر نَائِب حمص وطغيتمر بطرابلس فَأخْرجهُمْ أرقطاى على الْبَرِيد. فَلم يعجب غرلو ذَلِك وَأكْثر من الوقيعة فِي الْأَمِير أرقطاى النَّائِب حَتَّى غير السُّلْطَان عَلَيْهِ ومازال بِهِ حَتَّى بعث أرغون الْإِسْمَاعِيلِيّ نَائِب غَزَّة بِقَتْلِهِم. فَدخل أرغون الْإِسْمَاعِيلِيّ مَعَهم إِلَيْهَا وَقت الْعَصْر فَقتلُوا لَيْلًا وَتمكن غرلو من أَمْوَالهم. وتزايد أَمر غرلو واشتدت وطأته وكتر إنعام السُّلْطَان عَلَيْهِ حَتَّى لم يكن يَوْم إِلَّا وينعم عَلَيْهِ وَأخذ غرلو فِي الْعَمَل على علم الدّين بن زنبور نَاظر الْخَاص وعَلى عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ وَحسن للسُّلْطَان الْقَبْض عَلَيْهِمَا وَأخذ أموالهما فتلطف الْأَمِير أرقطاى النَّائِب فِي أَمرهمَا حَتَّى كف عَنْهُمَا. فَلم يبْق أحد من أهل الدولة حَتَّى خَافَ غرلو وَرجع يصانعه بِالْمَالِ. وَفِيه توجه مقبل الرُّومِي لقتل المسجونين بالإسكندرية بِإِشَارَة غرلو فَقتل أرغون العلائي وقرابغا القاسمي وتمر الموساوى وصمغار وأيتمش عبد الْغَنِيّ. وَفِيه أفرج عَن أَوْلَاد قمارى وَأَوْلَاد أيدغمش وأخرجوا إِلَى الشَّام. وَفِيه قدم الْأَمِير منكلى بغا الفخري من طرابلس وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف وَاسْتمرّ السُّلْطَان على الأنهماك فِي لهوه وَصَارَ يلْعَب فِي الميدان تَحت القلعة بالكرة فِي يومي الْأَحَد وَالثُّلَاثَاء ويركب إِلَى الميدان على النّيل فِي يَوْم السبت. فَلَمَّا كَانَ آخر ركُوبه الميدان رسم بركوب الأمرء المقدمين. بمضافيهم ووقوفهم صفّين من الصليبة إِلَى فَوق الإصطبل ليرى الْعَسْكَر. فَضَاقَ الْموضع عَنْهُم فَوقف كل مقدم بِخَمْسَة من مضافيه وجمعت أَرْبَاب الملهى ورتبوا فِي عدَّة أَمَاكِن بالميدان وَنزلت أم السُّلْطَان فِي جمعهَا وَأَقْبل النَّاس من كل جِهَة. فَبلغ كِرَاء كل طبقَة فِي ذَلِك الْيَوْم مائَة دِرْهَم وكل بَيت كَبِير لِنسَاء الْأُمَرَاء مِائَتي دِرْهَم وكل حَانُوت خمسين درهما وكل مَوضِع إِنْسَان بِدِرْهَمَيْنِ فَكَانَ يَوْمًا لم يعْهَد فِي ركُوب الميدان. وَفِيه أخرج سيف بن فضل من الْقَاهِرَة مرسماً عَلَيْهِ لكَلَام نَقله عَن الْأَمِير أرقطاى النَّائِب(4/51)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع حمادى الآخر: وصل رَأس يلبغا اليحاوي. وَفِي وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشره: قبض على غرلو وَقتل. وَسبب ذَلِك شدَّة كَرَاهَة الْأُمَرَاء أَرْبَاب الدولة لسوء أَثَره فيهم فَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُو بالسلطان ويشر عَلَيْهِ بِمَا يمضيه فَلَا يُخَالِفهُ فِي شَيْء وَعَمله السُّلْطَان أَمِير سلَاح فَخرج عَن الْحَد فِي التعاظم وجسر السُّلْطَان على قتل الْأُمَرَاء وَقَامَ فِي حق الْأَمِير أرقطاى النَّائِب يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ وَقَتله وَأخذ المماليك الناصرية والصالحية والكاملية بكمالهم واستمالهم لتجديد دولة مظفرية. وَقرر مَعَ السُّلْطَان أَن يُفَوض إِلَيْهِ أُمُور المملكة ليقوم عَنهُ بتديرها ويتوفر السُّلْطَان على لذاته. وأغراه أَيْضا بالجيبغا وطنيرق وهما أخص النَّاس بالسلطان حَتَّى تغير عَلَيْهِمَا. وَبلغ ذَلِك ألجيبغا وتناقله المماليك فتعصبوا عَلَيْهِ وراسلوا الْأُمَرَاء الْكِبَار حَتَّى حدثوا السُّلْطَان فِي أمره وخوفوه عاقبته فَلم يعبا السُّلْطَان بقَوْلهمْ فتنكروا بأجمعهم على السُّلْطَان وصاروا إلباً عَلَيْهِ بِسَبَب غرلو إِلَى أَن بلغه ذَلِك عَنْهُم من بعض ثقاته. فَاسْتَشَارَ الْأَمِير أرقطاى النَّائِب فِي أَمر غرلو وعرفه مَا يخَاف من غائلته فَلم يشر عَلَيْهِ بِشَيْء وَقَالَ لَهُ: لَعَلَّ الرجل قد كثرت حساده على تقريب السُّلْطَان لَهُ والمصلحة التثبت فِي أمره كَانَ الْأَمِير أرقطاي النَّائِب عَاقِلا سيوسا يخْشَى من مُعَارضَة غَرَض السُّلْطَان فِيهِ. فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية فِي التَّدْبِير على غرلو وتخويف السُّلْطَان مِنْهُ وَمن عواقبه حَتَّى أثر قَوْلهم فِي نَفسه. وَأَقَامُوا أَحْمد شاد الشرابخاناه - وَكَانَ مزاحا - للوقيعة فِيهِ فَأخذ فِي خلوته مَعَ السُّلْطَان بِذكر كَرَاهَة الْأُمَرَاء لغرلو وموافقة المماليك لَهُم وَأَنه يُرِيد أَن يدبر الدولة وَيكون نَائِب السُّلْطَان وليتوثب بذلك على المملكة وَيصير سُلْطَانا وَيخرج قَوْله هَذَا فِي صُورَة السخرية والضحك. وَبَالغ فِي ذَلِك على عدَّة فنون من الهزؤ إِلَى أَن قَالَ: وَإِن خلاه السُّلْطَان رحنا كلنا الحبوسات من بعده فانفعل السُّلْطَان لكَلَامه وَقَالَ: أَنا السَّاعَة أخرجه وأعمله أَمِير آخور ثمَّ مضى أَحْمد إِلَى الْأَمِير أرقطاى النَّائِب وعرفه مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا قَالَه السُّلْطَان وجسره على الوقيعة فِي غرلو. فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان الْأَمِير أرقطاى النَّائِب فِي غرلو ثَانِيًا فَأثْنى عَلَيْهِ وشكره فَعرفهُ وُقُوع الخاصكية فِيهِ وَأَنه قصد أَن يعمله أَمِير آخور فَقَالَ أرقطاي غرلو شُجَاع جسور لَا يَلِيق أَن يكون أَمِير آخور فَكَأَنَّهُ أيقظ السُّلْطَان من رقدته وَأخذ مَعَه فِيمَا يوليه فَأَشَارَ بولايته غَزَّة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وَقَامَ عَنهُ فاصبح السُّلْطَان بكرَة يَوْم الْجُمُعَة وَقد بعث طنيرق إِلَى الْأَمِير أرقطاى النَّائِب بِأَن يخرج غرلو إِلَى غَزَّة. فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى طلع غرلو على عَادَته إِلَى القلعة وَجلسَ على بَاب الْقلَّة فَبعث الْأَمِير أرقطاي النَّائِب بِطَلَبِهِ فَقَالَ: مَالِي عِنْد النَّائِب شغل وَمَا لأحد معي حَدِيث غير(4/52)
أستاذي السُّلْطَان وَأرْسل النَّائِب يعرف السُّلْطَان جَوَاب غرلو لَهُ بِطَلَبِهِ فَغَضب السُّلْطَان وَقَالَ لمغلطاى أَمِير شكار والأمراء أَن يعرفوه عَن السُّلْطَان بتوجهه إِلَى غَزَّة وَإِن امْتنع يمسكوه. فَلَمَّا صَار غرلو دَاخل الْقصر لم يحدثوه بِشَيْء وقبضوا عَلَيْهِ وقيدوه وسلموه لألجيبغا فَأدْخلهُ إِلَى بَيته بالأشرفية فَلَمَّا خرج السُّلْطَان لصَلَاة الْجُمُعَة على الْعَادة قتلوا غرلو وَهُوَ فِي الصَّلَاة واخذ السُّلْطَان بعد عوده من الصَّلَاة يسْأَل عَنهُ فَقَالُوا عَنهُ أَنه قَالَ: مَا أروح مَكَانا فَأَرَادَ سل سَيْفه وَضرب الْأُمَرَاء بِهِ وَأَنَّهُمْ تكاثروا عَلَيْهِ فَلَمَّا سلم نَفسه حَتَّى قتل. فعز قَتله على السُّلْطَان وحقد عَلَيْهِم قَتله وَلم يظهره لَهُم وَتقدم السُّلْطَان بإيقاع الحوطة على حواصله فَكَانَ يَوْمًا عَظِيما بالقلعة وَالْمَدينَة مُعظم النَّاس إِلَى تَحت القلعة فشوهد يَوْمئِذٍ من اجْتِمَاعهم أَمر مهول. وَأخرج غرلو حَتَّى دفن بِبَاب القرافة فَأصْبح وَقد خرجت يَده من الأَرْض فَأَتَاهُ النَّاس أَفْوَاجًا ليروه ونبشوا عَلَيْهِ وجروه بِحَبل فِي رجله إِلَى تَحت القلعة. وَأتوا بِنَار ليحرقوه وَصَارَ لَهُم ضجيج عَظِيم. فَبعث السُّلْطَان عدَّة من الأوجاقية قبضوا على كثير مِنْهُم فضربهم الْوَالِي بالمقارع وَأخذ مِنْهُم غرلو وَدفن وَلم يظْهر لَهُ كَبِير مَال. وَفِيه قدم الْخَبَر بِدُخُول الْأَمِير أرغون شاه إِلَى دمشق فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشره صُحْبَة متسفرة الْأَمِير آقسنقر جاندار فَعرض يَوْم دُخُوله أهل السجون ووسط وَسمر مِنْهُم عدَّة من أَرْبَاب الجرائم وألزم جَمِيع من لَهُ إقطاع بحلب أَو حماة أَو طرابلس أَو غَيرهَا من الْبِلَاد الشامية أَن يتَوَجَّه إِلَى مَحل خدمته وَلَا يُقيم بِغَيْرِهِ وأنعم الْأَمِير أرغون شاه على متسفره بِخَمْسَة عشر فرسا مِنْهَا خمس عربيات مسرجات ملجمات وَأحد عشر إكديش وَجَارِيَة بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَأَرْبَعين ألف دِرْهَم وَمِائَة قِطْعَة قماش وتشريف النِّيَابَة بِكَمَالِهِ وسيفه الْمحلى وَكتب لَهُ بِأَلف أردب غلَّة من مصر وَكَانَ الْأَمِير أرغون شاه أعطاء بحلب ألف وَخَمْسمِائة دِينَار. فَأَقَامَ آقسنقر بِدِمَشْق نَحْو ثَلَاثَة أشهر وَلم يسْأَله فِي ولَايَة وَلَا عزل إِلَّا أَجَابَهُ فَرجع بِمَال عَظِيم وَفِيه أفرج عَن ابْن طشتمر من صفد وأنعم عَلَيْهِ بإمرة فِي دمشق. وَفِيه نقل أَمِير مَسْعُود بن خطير من نِيَابَة غَزَّة إِلَى نِيَابَة طرابلس عوضا عَن الْأَمِير منكلى بغا الفخري. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير فَخر الدّين أياس حَاجِب دمشق فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أرغون شاه وَفِيه خرج السُّلْطَان إِلَى سرياقوس على الْعَادة فَأَقَامَ أَيَّامًا وَعَاد.(4/53)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر رَجَب: أخرج لاجين أَمِير آخور إِلَى دمشق على إقطاع قلاوون. وَفِيه أخرج منجك السِّلَاح دَار وَاسْتقر حاجباً بِدِمَشْق عوضا عَن أَمِير عَليّ بن طغربل وَفِيه أنعم على اثْنَي عشر من المماليك بإمرات مَا بَين طبلخاناه وعشرات بِمصْر وَالشَّام. وَفِيه أُعِيد الأطروش إِلَى الْحِسْبَة عوضا عَن الضياء ورتب للضياء مَا يقوم بِهِ. وَفِيه عمل الإستيمار بِمَا على الدولة من الكلف وَمَا يتَحَصَّل. فَوجدت الكلف ثَلَاثَة أَمْثَال مَا كَانَت فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون ومرتب الْحَوَائِج خاناه فِي كل يَوْم مِقْدَار اثْنَيْنِ وَعشْرين ألف رَطْل لحم ونفقات المماليك مبلغ مِائَتَيْنِ وَعشْرين ألف دِرْهَم بَعْدَمَا كَانَت تسعين ألف دِرْهَم. فرسم السُّلْطَان بِقطع مَا استجد من الرَّوَاتِب بعد موت السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فمازال بِهِ الْأَمِير أرقطاى النَّائِب يخوفه سوء عَاقِبَة قطع الأرزاق ويعرفه أَن أحدا من الْمُلُوك مَا قرئَ عَلَيْهِ الإستيمار وَقطع شَيْئا إِلَّا وأصابه مَا يكره فِي دولته حَتَّى رسم باستمرار الرَّوَاتِب على حَالهَا. وَفِيه وزع على مباشري الْجِهَات مبلغ سِتّمائَة ألف دِرْهَم خص مقدمي الدولة مِنْهَا مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه رسم أَن يكون فِي كل مُعَاملَة شَاهد وَكَاتب وَاسْتقر قطلوابغا شاد الْجِهَات بِالْقَاهِرَةِ وَابْن المزوالي شادا بجهات مصر. وَفِيه قدم على بن طغربل من دمشق. وَفِيه أنعم على الْأَمِير بيبغا روس عِنْد قدومه من سرحة العباسة بألفي دِينَار وَمِائَة قِطْعَة قماش وَأَرْبَعَة أرؤس خيل بسروج ذهب. وَفِي مستهل شعْبَان: خرج الْأَمِير طيبغا المجدي والأمير أسندمر الْعمريّ والأمير أرغون الكاملي والأمير بيبغا روس والأمير بيبغا ططر إِلَى الصَّيْد ثمَّ خرج الْأَمِير أرقطاى النَّائِب بعدهمْ إِلَى الْوَجْه القبلي بطور السُّلْطَان. ورسم السُّلْطَان لَهُم أَلا يحضروا إِلَى الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان. فَخَلا الجو للسُّلْطَان وَأعَاد حضير الْحمام وأحضر إِلَيْهِ عدَّة من عبيده وَأعَاد(4/54)
أَرْبَاب الملاعيب من الصراع والثقاف والشباك وَجرى السعاة والنطاح بالكباش ومناقرة الديوك والقمارى وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْفساد وَنُودِيَ بِإِطْلَاق اللّعب بذلك فِي الْقَاهِرَة ومصر. فَصَارَ للسُّلْطَان اجتماعات بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية ومطيري الْحمام فَكَانَ يقف مَعَهم ويراهن على الطير الْفُلَانِيّ والطيرة الْفُلَانِيَّة. وَبينا هُوَ ذَات يَوْم مَعَهم عِنْد حضير الْحمام وَقد سيبها إِذْ أذن الْعَصْر بالقلعة والقرافة فجفلت الْحمام على مقاصرها وتطايرت. فَجرد السُّلْطَان وَبعث إِلَى المؤذنين يَأْمُرهُم أَنهم إِذا رَأَوْا الْحمام لَا يرفعون أَصْوَاتهم. وَكَانَ السُّلْطَان أَيْضا يلْعَب مَعَ الْعَوام ويلبس تبان جلد ويتعرى من ثِيَابه كلهَا ثمَّ يلْعَب مَعَهم بالعصى ويلعب بِالرُّمْحِ وبالكرة. فيظل نَهَاره مَعَ الغلمان وَالْعَبِيد الدهيشة ويحضر فِي اللَّيْل وشغف السُّلْطَان بكيدا حَتَّى كَانَ لَا يكَاد يفارقها وَاشْترى لَهَا أَمْلَاك النشو وأخيه رزق الله وصهره المخلص بِخَط الزربية فاشتراها لَهَا بِمِائَة ألف دِرْهَم. وَكَانَت هَذِه الزريبة فِي غَايَة الْحسن قد أنْفق عَلَيْهَا النشو أَمْوَالًا عَظِيمَة وَصَارَت بعد النشو إِلَى إمرأة الْأَمِير بكتمر الساقي اشْتَرَاهَا لَهَا الْأَمِير بشتاك بِنَحْوِ الْألف دِرْهَم إِلَى أَن طلبتها كيدا فَأرْسل السُّلْطَان إِلَيْهَا يستوهبها مِنْهَا فتركتها لَهُ فرسم لَهَا بِمِائَة ألف دِرْهَم وكاتبها على الْأَمْلَاك باسم كيدا فَلم يهن بهَا وَوَقعت نَار فِي دَار رزق الله جَعلتهَا دكاً. وفيهَا ارْتَفع سعر الْقَمْح من أَرْبَعِينَ درهما للأردب إِلَى خمسين وغلا اللَّحْم وَعَامة الْأَصْنَاف المأكولة حَتَّى بلغت مثلى ثمنهَا. وتوقفت الْأَحْوَال وَقلت الغلال وَكثر ة قدوم أهل النواحي إِلَى الْقَاهِرَة حَتَّى ضَاقَتْ بهم فَكَانُوا كَذَلِك مُدَّة سنة مَعَ كَثْرَة المناسر فِي الْبِلَاد والقاهرة وَقُوَّة المفسدين وقطاع الطَّرِيق بِأَرْض مصر وبلاد الْقُدس ونابلس وفتنة العشير بَعضهم مَعَ بعض.(4/55)
وَفِي نصفه: توجه ألجيبغا وَأحمد شاد الشرابخاناه إِلَى الصَّيْد فَأخذ السُّلْطَان فِي التَّدْبِير على أَخِيه حُسَيْن ليَقْتُلهُ وأرصد لَهُ عدَّة خدام ليهجموا عَلَيْهِ عِنْد إِمْكَان الفرصة ويغتالوه فتمارض واحترس على نَفسه فَلم يَجدوا مِنْهُ غَفلَة. وَفِي سَابِع عشره: اسْتَقر فِي الْخلَافَة أَبُو بكر بن أبي الرّبيع سُلَيْمَان ونعت بالمتعصم بِاللَّه أبي وَفِي أخريات شعْبَان: قدم الْأُمَرَاء والأمير أرقطاى النَّائِب قبل أوانهم من الصَّيْد شَيْئا بعد شَيْء وَقد بَلغهُمْ مَا كَانَ من أَفعَال السُّلْطَان فِي غيبتهم. وَفِي يَوْم السبت رَابِع رَمَضَان: زلزلت الْقَاهِرَة مرَّتَيْنِ فِي سَاعَة وَاحِدَة. وَفِيه قدم ابْن الْحَرَّانِي من دمشق بِمَال يلبغا اليحياوي فتسلمه الخدام وأنعم السُّلْطَان من ليلته على كيدا حظته بِعشْرين ألف مِنْهُ سوى الْجَوَاهِر واللآلى ونثر الذَّهَب على الخدام والجواري فاختطفوه وَهُوَ يضْحك مِنْهُم وَفرق السُّلْطَان على لعاب الْحمام والفراشين وَالْعَبِيد الذَّهَب واللؤلؤ وَصَارَ يحذفه لَهُم وهم يترامون عَلَيْهِ ويأخذونه بِحَيْثُ لم يدع مِنْهُ شَيْئا سوى القماش والتفاصيل والآنية وَالْعدَد فَإِنَّهَا صَارَت إِلَى الخزانة. فَكَانَت جملَة مَا فرقه السُّلْطَان ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وثلاثمائة ألف دِرْهَم وجواهر وحلياً وزركشاً ومصاغاً قِيمَته زِيَادَة على ثَمَانِينَ ألف دِينَار. فَعظم ذَلِك على الْأُمَرَاء وَأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرفان السُّلْطَان مَا يُنكره عَلَيْهِ الْأُمَرَاء من اللّعب بالحمام وتقريب الأوباش وخوفاه فَسَاد الْأَمر. فَغَضب السُّلْطَان وَأمر آقجبا شاد العمائر بخراب حضير الْحمام وأحضر الْحمام وذبحها وَاحِدًا وَاحِدًا بِيَدِهِ وَقَالَ لألجيبغا وطنيرق: وَالله لأذبحنكم كلكُمْ كَمَا ذبحت هَذَا الْحمام وتركهم وَقَامَ. فَبَاتَ ليلته وَأصْبح فَفرق جمَاعَة من خشداشية ألجيبغا وطنيرق فِي الْبِلَاد الشامية وَاسْتمرّ على إعراضه عَن الْجَمِيع وَقَالَ لحظاياه وَعِنْده مَعَهُنَّ الشَّيْخ على الكسيح: وَالله مَا بقى هُنَا لي عَيْش وَهَذَانِ الكذا وَكَذَا بِالْحَيَاةِ يعْنى ألجيبغا وطنيرق فقد أفسدا على مَا كَانَ فِيهِ سرُور واتفقا على ولابد من ذبحهما. فَنقل ذَلِك الشَّيْخ على الكسيح لألجيبغا فَإِنَّهُ الَّذِي كَانَ أوصله بالسلطان وَقَالَ لَهُ مَعَ ذَلِك: خُذ لنَفسك(4/56)
فوَاللَّه لايرجع عَنْك ولاعن طنيرق. فَطلب ألجيبغا صَاحبه طنيرق حَتَّى عرفه ذَلِك فأخذا فِي التَّدْبِير على السُّلْطَان وَأخذ السُّلْطَان فِي التَّدْبِير عَلَيْهِمَا. وَفِيه أخرج السُّلْطَان الْأَمِير بيبغا روس للصَّيْد بالعباسة فَإِنَّهُ كَانَ صديقا لألجيبغا وتنمر السُّلْطَان على طنيرق وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَبَالغ فِي تهديده. فَبعث طنيرق وألجيبغا إِلَى طشتمر طلليه وَمَا زَالا بِهِ حَتَّى وافقهما. وَدَار طنيرق على الْأُمَرَاء وَمَا مِنْهُم إِلَّا من نفرت نَفسه من السُّلْطَان وتوقع مِنْهُ أَن يفتك بِهِ. وأغراهم طنيرق بالسلطان فصاروا مَعَه يدا وَاحِدَة وكلموا الْأَمِير أرقطاى النَّائِب فِي موافقتهم وأعلموه أَنه يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ وَأَكْثرُوا من تشجيعه إِلَى أَن أجابهم وتواكدوا جَمِيعًا فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع رَمَضَان على الرّكُوب فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشره. فَبعث السُّلْطَان فِي يَوْم السبت يطْلب الْأَمِير بيبغا روس من العباسة وَقرر مَعَ الطواشي عنبر مقدم المماليك أَن يعرف المماليك السِّلَاح دارية أَن يقفوا متأهبين فَإِذا دخل بيبغا روس وَقبل الأَرْض ضربوه بسيوفهم وقطعوه قطعا. فَعلم بذلك ألجيبغا فَبعث إِلَى بيبغا يُعلمهُ بِمَا دبره السُّلْطَان من قَتله ويعرفه بِمَا وَقع من اتِّفَاق الْأُمَرَاء عَلَيْهِ بكرَة يَوْم الْأَحَد على قبَّة النَّصْر. واستعدوا ليلتهم وَنزل ألجيبغا أَوَّلهمْ من القلعة وتلاه بَقِيَّة الْأُمَرَاء فَكَانَ آخِرهم ركوباً الْأَمِير أرقطاى النَّائِب. وتوافوا بأجمهم عِنْد مطعم الطير وَإِذا بيبغا قد وصل إِلَيْهِم فأحضروا مماليكهم وأطلابهم وبعثوا فِي طلب بَقِيَّة الْأُمَرَاء فَمَا ارْتَفع النَّهَار حَتَّى وقفُوا بأجمعهم لابسين آلَة الْحَرْب عِنْد قبَّة النَّصْر. فَأمر السُّلْطَان بدق الكوسات وَبعث الأوجاقية فِي طلب الْأُمَرَاء وَجمع عَلَيْهِ طنيرق وشيخو وأرغون الكاملي وطاز وَنَحْوهم من الخاصكية فَحَضَرَ إِلَيْهِ أجناد الْحلقَة ومقدموها وعدة من الْأُمَرَاء. وَأرْسل السُّلْطَان يعتب الْأَمِير أرقطاي النَّائِب على ركُوبه فَرد جَوَابه بِأَن مملوكك الَّذِي ربيته ركب عَلَيْك وَأَعْلَمنَا فَسَاد نيتك وَقد قتلت مماليك أَبِيك وَأخذت أَمْوَالهم وهتكت حريمهم بِغَيْر مُوجب وعزمت على الفتك بِمن بَقِي وَأَنت أول من حلف أَلا تخون الْأُمَرَاء وَلَا تخرب بَيت أحد فَرد السُّلْطَان الرَّسُول إِلَيْهِ يستخبره عَمَّا يريدونه مِنْهُ حَتَّى يَفْعَله لَهُم فَأَعَادُوا جَوَابه أَنهم لابد أَن يسلطنوا غَيره فَقَالَ: مَا أَمُوت إِلَّا على ظهر فرسي فقبضوا على رَسُوله وهموا بالزحف إِلَيْهِ فَمَنعهُمْ الْأَمِير أرقطاي النَّائِب. فبادر السُّلْطَان بالركوب إِلَيْهِم وَأقَام أرغون الكاملي وشيخو فِي الميسرة وَأقَام(4/57)
عدَّة أُمَرَاء فِي الميمنة وَسَار بمماليكه حَتَّى وصل إِلَى قريب قبَّة النَّصْر. فَكَانَ أول من تَركه الْأَمِير أرغون الكاملي والأمير ملكتمر السعيدي ثمَّ الْأَمِير شيخو. وَأتوا الْأَمِير أرقطاي النَّائِب والأمراء وتلاهم بَقِيَّتهمْ حَتَّى جَاءَ الْأَمِير طنيرق والأمير لاجين أَمِير جاندار صهر السُّلْطَان آخِرهم. وَبَقِي السُّلْطَان فِي نَحْو عشْرين فَارِسًا فبرز لَهُ الْأَمِير بيبغا روس والأمير ألجيبغا فولى فرسه وأنهزم عَنْهُم فأدركوه وَأَحَاطُوا بِهِ. فَتقدم إِلَيْهِ بيبغا روس فَضَربهُ السُّلْطَان بطير فَأخذ الضَّرْبَة بترسه وَحمل عَلَيْهِ بِالرُّمْحِ. وتكاثروا عَلَيْهِ حَتَّى قلعوه من سَرْجه فَكَانَ بيبغا روس هُوَ الَّذِي أرداه وضربه طنيرق جرح وَجهه وأصابعه. وَسَارُوا بِهِ على فرس إِلَى تربة آقسنقر الرُّومِي تَحت الْجَبَل وذبحوه من سَاعَته قبل الْعَصْر. وَلما أنزلوه وَأَرَادُوا ذبحه توسل إِلَى الْأُمَرَاء وَهُوَ يَقُول: بِاللَّه لَا تستعجلوا على قَتْلِي وخلوني سَاعَة فَقَالُوا: فَكيف استعجلت على قتل النَّاس لَو صبرت عَلَيْهِم صَبرنَا عَلَيْك. وَصعد الْأُمَرَاء إِلَى القلعة فِي يومهم وَنَادَوْا فِي الْقَاهِرَة بالأمان والاطمئنان وَبَاتُوا بهَا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَقد اتَّفقُوا على مُكَاتبَة الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام بِمَا وَقع وَأَن يَأْخُذُوا رَأْيه فِيمَن يقيمونه سُلْطَانا. فَأَصْبحُوا وَقد اجْتمع المماليك على إِقَامَة حُسَيْن بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي السلطة وَوَقعت بَينه وَبينهمْ مراسلات. فَقبض الْأُمَرَاء على عدَّة من المماليك ووكلوا الْأَمِير طاز بِبَاب حُسَيْن حَتَّى لَا يجْتَمع بِهِ أحد وغلقوا بَاب القلعة وهم بِآلَة الْحَرْب يومهم وَلَيْلَة الثُّلَاثَاء. وَقصد المماليك إِقَامَة الْفِتْنَة فخاف الْأُمَرَاء تَأْخِير السلطة حَتَّى يستشيروا نَائِب الشَّام أَن يَقع من المماليك مَا لَا يدْرك فارطه فَوَقع اتِّفَاقهم عِنْد ذَلِك على حسن بن النَّاصِر محد بن قلاوون فتم أمره. فَكَانَت مُدَّة المظفر حاجي سنة وَثَلَاثَة أشهر واثني عشر يَوْمًا وعمره نَحْو عشْرين سنة وَكَانَ شجاعاً جريئاً على الدُّنْيَا منهمكاً فِي الْفساد كثير الْإِتْلَاف لِلْمَالِ. السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بدر الدّين أَبُو الْمَعَالِي الْحسن بن مُحَمَّد بن قلاوون الألفي(4/58)
أمه أمة تدعى كدا مَاتَت وَهُوَ صَغِير فربته خوند أردو وَدعوهُ قماري حَتَّى كَانَ من أَمر أَخِيه حاجي مَا كَانَ. وَطلب المماليك إِقَامَة حُسَيْن فِي السلطة وَبَات لَيْلَة أَكْثَرهم بِالْمَدِينَةِ لِيخْرجُوا إِلَى قبَّة النَّصْر فَقَامَ الْأُمَرَاء بسلطة حسن هَذَا وأركبوه بشعار السلطنة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشرى رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأجلسوه على تخت الْملك بالإيوان لقبوه بِالْملكِ النَّاصِر سيف الدّين قمارى. فَقَالَ السُّلْطَان للأمير أرقطاى نَائِب السلطة: يَا بة {مَا اسْمِي قمارى إِنَّمَا اسْمِي حسن فَقَالَ أرقطاى: يَا خوند} وَالله إِن هَذَا اسْم حسن على خيرة الله فاستقرت سلطنته وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء على الْعَادة وعمره يَوْمئِذٍ إِحْدَى عشرَة سنة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشره: اجْتمع الْأُمَرَاء وَأخرج لَهُم دِينَار الشبلي المَال فَنقل إِلَى الخزانة. وَفِيه طلب خدام المظفر وعبيده وَمن كَانَ يعاشره من الفراشين ومطيري الْحمام وسلموا لشاد الدَّوَاوِين على حمل مَا أَخَذُوهُ من المَال. فَأقر الخدام أَن الَّذِي خص كيدا فِي مُدَّة شَهْرَيْن نَحْو خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَمِائَتَيْنِ وَعشْرين ألف دِرْهَم وَخص العواد نَحْو سِتِّينَ ألف دِرْهَم وخفي الْإِسْكَنْدَر بن كتيلة الجنكي نَحْو الْأَرْبَعين ألف دِرْهَم وَخص العبيد والفراشين ومطيري الْحمام نَحْو مائَة ألف دِرْهَم. وَأظْهر بعض الخدام حَاصِلا تَحت يَده فِيهِ لُؤْلُؤ وجوهر قِيمَته زِيَادَة على مائَة ألف دِينَار وَفِيه تحف وتفاصيل وزركش وبدلات ثِيَاب بِنَحْوِ مائَة ألف دِينَار. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشره: قبض على الْأَمِير أيدمر الرَّزَّاق والأمير قطز أَمِير آخور والأمير ملك وَأخرج قطز لنيابة صفد وَفِيه قطعت أخباز عشْرين خَادِمًا وخبز عبد على العواد وإسكندر بن كتيلة الجنكي. وَفِيه طلبت دبيقة مغنية عرب الجيزة وَكَانَت تخايل بالقلعة وَطلبت ضامنة المغاني أَيْضا وألزمتا بِمَال فِي نَظِير مَا حصل لَهما من بَيت المَال. وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشره: عرضت جَمِيع الْجَوَارِي اللَّاتِي بالقلعة ورسم بتزوج من أعتق مِنْهُنَّ وَفرق باقيهن. وَفِيه قبض على الطواشي عنبر السحرتي وعَلى الْأَمِير آقسنقر أَمِير جاندار زوج أم المظفر. وَفِيه عرضت المماليك أَرْبَاب الْوَظَائِف وَأخرج مِنْهُم جمَاعَة.(4/59)
وَفِيه أحيط بأموال كيدا وأموال بَقِيَّة الحظايا وأنزلن من القلعة. وَفِيه كتبت أوراق. بمرتبات الخدام وَالْعَبِيد والجواري وَقطعت كلهَا. وَكَانَ أُمَرَاء المشورة وَالتَّدْبِير تِسْعَة وهم بيبغا روس القاسمي بألجيبغا المظفري ومنكلى بغا الفخري وطشتمر طلليه وأرقطاى النَّائِب وطاز وَأحمد شاد الشرابخاناه وأرغون الْإِسْمَاعِيلِيّ فاستقر شيخو الْعمريّ رَأس نوبَة كَبِير وشارك الْأُمَرَاء فِي تَدْبِير أُمُور المملكة. وَفِيه اسْتَقر مغلطاي أَمِير آخور عوضا عَن قطز. وَفِيه أفرج عَن بزلار. وَفِيه أنعم على فَارس الدّين قريب آل ملك بإمرة طبلخاناه. وَفِيه وَقع الِاتِّفَاق على تَخْفيف الكلف السُّلْطَانِيَّة وتقليل المصروف بِسَائِر الْجِهَات وكتبت أوراق بِمَا على الدولة من الكلف. وَفِيه أَخذ الْأُمَرَاء فِي تتبع طَائِفَة الجراكسية من المماليك وَقد كَانَ المظفر قربهم إِلَيْهِ بسفارة غرلو فَأَنَّهُ كَانَ جركسي الْجِنْس. وجلبهم المظفر من كل مَكَان حَتَّى عرفُوا بَين الْأُمَرَاء وقوى أَمرهم وَصَارَ مِنْهُم أُمَرَاء وَأَصْحَاب أخباز وتميزوا بكبر عمائمهم وَعمِلُوا كلفتاه خَارِجَة عَن الْحَد. فطلبوا الْجَمِيع وأخرجوهم منفيين خُرُوجًا فَاحِشا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي شَوَّال: ركب الْأُمَرَاء وَأهل الدولة إِلَى الْخدمَة وكتبت أوراق من ديوَان الْجَيْش بأسماء الَّذين اشْتَروا الإقطاعات فِي الْحلقَة من أَرْبَاب الصَّنَائِع ورسم بِقطع أخبازهم فشفع الْأُمَرَاء فِي كثير مِنْهُم وَلم يقطع غير عشْرين جندياً. وَفِيه قدم جَوَاب الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام بموافقته وَرضَاهُ بِمَا وَقع وغض من فَخر الدّين أياس نَائِب حلب. وَكَانَ الْأَمِير أرقطاى نَائِب السلطة قد أَرَادَ من الْأُمَرَاء أَن يعفوه من النِّيَابَة ويولوه بَلَدا من الْبِلَاد فَلم يوافقوا على ذَلِك. فَلَمَّا ورد كتاب الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام يذكر فِيهِ أَن أياس يصغر عَن نِيَابَة حلب فَأَنَّهُ لَا يصلح لَهَا إِلَّا رجل شيخ كَبِير الْقدر لَهُ ذكر وشهرة وَطلب الْأَمِير أرقطاى نِيَابَة حلب فأجال الْأُمَرَاء الرَّأْي فِي ذَلِك إِلَى أَن اتَّفقُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس خامسه واجتمعوا لخدمة خلع الْأَمِير بيبغا روس القاسمي وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة عوضا عَن أرقطاي. وخلع على أَمِير أرقطاي وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن فَخر الدّين أياس(4/60)
وَخرج بتشريفهما. فَجَلَسَ بيبغا روس فِي دست النِّيَابَة وبيبغا جَالس دونه. وَفِي يَوْم السبت سابعه: قدم أَمِير منجك اليوسفي السلحدار أَخُو النَّائِب بيبغا روس من الشَّام فرسم لَهُ بتقدمة ألف وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر وزيراً وأستادارا. وَخرج فِي موكب عَظِيم والأمراء فِي خدمته فَصَارَ حكم مصر للأخوين بيبغا روس ومنجك السِّلَاح دَار. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عاشره: سَار أرقطاى مُتَوَجها إِلَى حلب وصحبته الْأَمِير كشلي الأدريسي متسفرا. وَكَانَ قد رسم بِنَقْل الْأُمَرَاء المقتولين بالإسكندرية فنقلوا إِلَى الْقَاهِرَة. وَدفن الْأَمِير قمار أَخِيه الْأَمِير بكتمر الساقى قبلى القرافة. وَدفن الْأَمِير أرغون العلائي بخانكاته من القرافة. وَدفن الْأَمِير قوصون بخانكاته دَاخل بَاب القرافة. وَدفن الْأَمِير بشتاك الجاولي فَوق جبل الْكَبْش. وَدفن الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشري رَمَضَان. بِموضع من قصر الزمرد عِنْد رحبة بَاب الْعِيد من الْقَاهِرَة أنشأته لَهُ زَوجته ثمَّ عملته مدرسة تعرف الْيَوْم بالحجازية وَدفن الْملك الْأَشْرَف كجك بجماع آقسنقر من التبانة قَرِيبا من القلعة بجوار قبر زوج أمه آقسنقر. وَأخرج يُوسُف وَشَعْبَان ورمضان النَّاصِر مُحَمَّد ودفنوا. بمواضع أُخْرَى. وَسلم الْأَمِير تمر الموساوى لأَهله فدفنوه بتربتهم. وَنقل جمَاعَة كثير سواهُم وَلم يعْهَد مثل ذَلِك فِي الدولة التركية. وَفِيه خلع على الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن الْفَخر عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم المارديني الْمَعْرُوف بِابْن التركماني الْحَنَفِيّ وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة. بِمصْر عوضا عَن زين الدّين عمر بن عبد الرَّحْمَن البسطائي. وَفِيه رسم بِكِتَابَة أوراق بكلف الدولة وفر مِنْهَا مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم فِي كل شهر من جامكية المماليك. وَقطعت جوامك الخدم والجواري والبيوتات ووفر كثير من رواتب لزوجات السُّلْطَان وكيدا واتفاق وَقطعت رواتب المغاني. وَقطع من الإصطبل السلطاني جمَاعَة مَا بَين أَمِير آخورية وسر آخورية وسياس وغلمان ووفر من رواتب عليق الْخُيُول نَحْو خمسين أردبا فِي الْيَوْم. وَقطعت الكلابزية وَكَانُوا خمسين جوقة كلاب فاستقروا جوقتين. وَقطعت رواتب كثير من الأسرى والعتالين والمستخدمين فِي العمائر وأبطلوا العمائر من بَيت السُّلْطَان. وَاسْتقر مَصْرُوف الْحَوَائِج خاناه فِي كل يَوْم ثَمَانِيَة عشر ألف دِرْهَم بَعْدَمَا كَانَ أحدا وَعشْرين ألف دِرْهَم فتوفر(4/61)
مِنْهُ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. وَاشْتَدَّ الْوَزير منجك على أَرْبَاب الدَّوَاوِين وَتكلم فيهم حَتَّى خافوه بأسرهم وَقَامُوا لَهُ بتقادم تلِيق بِهِ فَلم يمضى شهر حَتَّى أنس بهم وَاعْتمد عَلَيْهِم فِي أُمُوره كلهَا. واستدعى الْوَزير منجك أَيْضا وُلَاة الأقاليم والزم آقبغا وَالِي الْمحلة. بِمِائَة ألف دِرْهَم وَولى أسندمر القلنجيقى الغربية ثمَّ عَزله وَولى قطليجا مَمْلُوك بكتمر وَولي أسندمر الْقَاهِرَة وأضاف لَهُ الْجِهَات يتحدث فِيهَا. وَفِيه أنعم على أَمِير أرغون الكاملي بتقدمة ألف وأنعم بإقطاعه على يلجك ابْن أُخْت قوصون. وَفِيه قدم سيف فَخر الدّين أياس نَائِب حلب على يَد عمر شاه. وَقد قبض عمر شاه على أياس وأحضره إِلَى الْقَاهِرَة فَحمل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَفِيه قدم الْخَبَر بِكَثْرَة فَسَاد العربان بالصعيد والفيوم فَخرج ابْن طقزدمر وَمَعَهُ خَمْسَة أُمَرَاء طبلخاناه إِلَى الْوَجْه القبلي وَخرج بكلمش أَمِير شكار فِي عده أُمَرَاء إِلَى الفيوم. وَفِيه اسْتَقر طغيه فِي ولَايَة قوص عوضا عَن إِسْمَاعِيل الوافدي وَقد فر بأمواله من قوص. ثمَّ نقل طغيه إِلَى كاشف الْوَجْه القبلي عوضا عَن عَلَاء الدّين على بن الكوارنى وَاسْتقر ابْن المزوق فِي ولَايَة قوص. وَاسْتقر مجد الدّين مُوسَى الهذباني فِي ولَايَة الأشمونين عوضا عَن ابْن فتسامع النَّاس بِولَايَة الْوَزير منجك الْأَعْمَال بِالْمَالِ وَأَنه قد انْفَتح بَاب الْأَخْذ وَالعطَاء فهرعوا إِلَيْهِ من حلب ودمشق وَسَائِر النواحي ورتب الْوَزير بِبَابِهِ جمَاعَة لاستقضاء النَّاس وَقَضَاء أشغالهم - وَفِي أول ذِي الْقعدَة: قدم الْخَبَر بِأَن الْأُمَرَاء المجردين أوقعوا بالعرب وَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة ونهبوا مَا وجدوه فَانْهَزَمَ باقيهم إِلَى جِهَة الواحات. وَفِيه توقفت أَحْوَال الدولة وتحسن السّعر فاتفق الْأُمَرَاء ورتبوا لنفقة السُّلْطَان فِي كل(4/62)
يَوْم مائَة دِرْهَم تكون بِيَدِهِ. فَكَانَ خادمه يحضر فِي كل يَوْم إِلَى علم الدّين بن زنبور نَاظر الخزانة وَهُوَ جَالس بخزانة الْخَاص من القلعة يُطَالِبهُ. بِمِائَة دِرْهَم فَيكْتب لمباشري الخزانة بِصَرْف جامكية السُّلْطَان وصلا يَأْخُذهُ صيرفي الخزانة عِنْده ويزن للخادم الْمِائَة دِرْهَم فَيدْخل بهَا إِلَى السُّلْطَان ليتوسع بهَا فِيمَا يعن لَهُ. وَكَانَ هَذَا راتبه كل يَوْم وَلم يسمع. بِمثل ذَلِك أَن يكون ملك يجلس على تخت الْملك وَيصرف الْأُمُور بِالْعَزْلِ وَالْولَايَة وَتحمل إِلَيْهِ أَمْوَال مصر وَالشَّام وَلَا يتَصَرَّف مِنْهَا فِي شَيْء. وَذَلِكَ أَن الْأُمَرَاء تحالفوا - بعد خُرُوج الْأَمِير أرقطاى النَّائِب إِلَى حلب - أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة وكلمتهم وَاحِدَة وَلَا يدْخل بَينهم غَرِيب وَأَن يكون الْأَمِير شيخو إِلَيْهِ أَمر خزانَة الْخَاص ويراجعه عَليّ الدّين عبد الله بن زنبور نَاظر الْخَاص ويتصرف بأَمْره وَأَن يكون الْأَمِير بيبغا روس يتحدث فِي المملكة فَيخرج الإقطاعات للأجناد والإمرات لِلْأُمَرَاءِ. بِمصْر وَالشَّام وَإِلَيْهِ يرجع أَمر نواب الشَّام أَيْضا وَأَنَّهُمْ يَجْتَمعُونَ للمشورة بَين يَدي السُّلْطَان فِيمَا يَتَجَدَّد وَألا يدعوا السُّلْطَان يتَصَرَّف فِي المَال وَلَا ينعم على أحد وَلَا يُمكن من شَيْء يَطْلُبهُ فمشت الْأُمُور على هَذَا. وَفِيه وقف نَحْو الْمِائَتَيْنِ مِمَّن كَانَ بِخِدْمَة الْأُمَرَاء للنائب بيبغا روس يَشكونَ البطالة ففرقوا على كل أَمِير مائَة ثَلَاثَة نفر وعَلى كل أَمِير طبلخاناه اثْنَيْنِ وعَلى كل أَمِير عشرَة وَاحِدًا وَمن لم يكن من الْأُمَرَاء عِنْده إقطاع محلول يرتب للْوَاحِد مِنْهُم مائَة دِرْهَم وأردبين غلَّة فِي الشَّهْر. فَمن الْأُمَرَاء من قبل وَمِنْهُم من أَبى أَن يقبل مِنْهُم أحدا وَفِيه تراسل المماليك الجراكسة والأمير حُسَيْن بن النَّاصِر مُحَمَّد على أَن يقيموه سُلْطَانا فَقبض على أَرْبَعِينَ من الجراكسة وأخرجوا على الهجن مفرقين إِلَى الْبِلَاد الشامية ثمَّ قبض على سِتَّة وضربوا قُدَّام الإيوان بالقلعة ضربا مبرحاً وقيدوا وحبسوا بخزانة شمايل. ثمَّ عملت الْخدمَة بالإيوان وَتمّ الِاتِّفَاق على أَن الْأُمَرَاء إِذا أنفضوا من خدمَة الإيوان دخل أُمَرَاء المشورة المقدمين إِلَى الْقصر دون من عداهم من بَقِيَّة الْأُمَرَاء ونفذوا الْأُمُور على اختيارهم من غير أَن يشاركهم أحد من الْأُمَرَاء فِي ذَلِك. وَكَانُوا إِذا حَضَرُوا الْخدمَة بالإيوان خرج الْأَمِير منكلى بغا الفخري والأمير بيغرا والأمير بيبغا ططر والأمير طيبغا المجدى والأمير أرلان وَسَائِر الْأُمَرَاء فيمضون لحالهم إِلَّا أُمَرَاء المشورة وَالتَّدْبِير وهم الْأَمِير بيبغا النَّائِب والأمير شيخو الْعمريّ والوزير منجك والأمير ألجيبغا المظفري والأمير طاز والأمير طنيرق فَإِنَّهُم يدْخلُونَ إِلَى الْقصر(4/63)
وينفذون أَحْوَال الدولة بَين يَدي السُّلْطَان بِمُقْتَضى علمهمْ وَحسب اختيارهم فتمضي الْأُمُور على ذَلِك وَلَا يشاركهم أحد فِي شَيْء من أَحْوَال الدولة. وَفِيه قدم الْأَمِير كشلى الإدريسي من حلب فِي تَاسِع عشره بِكِتَاب الْأَمِير أرقطاى نَائِب حلب أَنه قدمهَا فِي ثَانِيه فَكَانَت جملَة مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ من ذهب وخيل وقماش نَحْو مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه كتب لنائب الشَّام أرغون شاه أَن يعْمل بِرَأْيهِ فِي نِيَابَة دمشق ويتحكم فِي جَمِيع الْأَحْوَال من غير مُشَاورَة. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: قدم الْأُمَرَاء المجردون الْوَجْه القبلي وَقد أثروا آثارا قبيحة من سفك الدِّمَاء وَنهب الْأَمْوَال بِغَيْر حق فَإِن أَرْبَاب الجرائم فروا فِي الْبَريَّة فأوقعوا بأصحاب الزروع. وَفِيه كتب لطغيه كاشف الْوَجْه القبلي برمي الشّعير على بِلَاد الْأُمَرَاء والأجناد وجباية عشرَة آلَاف أردب مِنْهَا بِسعْر عشرَة دَرَاهِم الأردب فَطلب طغيه مقطعي الْبِلَاد وَفرق فيهم المَال وواتفق فِي هَذِه السّنة حُدُوث حر شَدِيد لم يعْهَد مثل بِأَرْض مصر مُدَّة أَيَّام ثمَّ أعقب الْحر ريح من جِهَة برقه مرت بِبِلَاد الْبحيرَة والغربية تحمل تُرَابا أصفر بلون الزَّعْفَرَان لبس الزَّرْع لبساً حَتَّى أيس النَّاس مِنْهُ. فَبعث الله مَطَرا مُدَّة يَوْم وَلَيْلَة غسلت ذَلِك التُّرَاب كُله فَأصْبح من غَد يَوْم الْمَطَر وَقد جَاءَ تُرَاب أصفر أَشد من الأول وَالزَّرْع مبتل فلصق بالزروع وَاسْتمرّ عَلَيْهَا. وَقد خامر الْيَأْس من الزروع قُلُوب النَّاس وتيقنوا الْهَلَاك فتدارك الله النَّاس بِلُطْفِهِ وَبعث ندا كثيرا فِي الأسحار فأنحل التُّرَاب عَن أَخّرهُ وَلما أدْركْت الغلال لحقها بعض الهيف. وَفِيه قدم كثير من أهل دمشق للسعي من بَاب الْوَزير منجك فِي المباشرات مِنْهُم ابْن السلعوس وَصَلَاح الدّين بن الْمُؤَيد وَابْن الْأَجَل وَابْن عبد الْحق فولى ابْن الْأَجَل نظر الشَّام وَتوجه إِلَى دمشق فَضَربهُ الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام ضربا مؤلماً وَأخذ خلعته وَكتب بِسَبَبِهِ إِلَى مصر يغض مِنْهُ فرسم أَن من طلب وَظِيفَة بِغَيْر كتاب نَائِب الشَّام شنق وَأخذ مَاله. وَفِيه اسْتَقر جمال الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين عبد الرَّحِيم المسلاتي فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن شرف الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن ظافر بعد وَفَاته.(4/64)
وَفِي هَذِه السّنة: استجد. بِمَدِينَة حلب قَاض مالكي وقاض حنبلي فولى قَضَاء الْمَالِكِيَّة بهَا شهَاب الدّين أَحْمد بن ياسين الرباحي وَولي قَضَاء الْحَنَابِلَة بهَا شرف الدّين أَبُو البركات مُوسَى وفيهَا كَانَ الغلاء بِأَرْض مصر وَالشَّام حَتَّى بِيعَتْ غرارة الْقَمْح فِي دمشق بثلاثمائة دِرْهَم ثمَّ أنحط السّعر. وفيهَا توقف النّيل فِي أَوَائِل أَيَّام الزِّيَادَة فارتفع سعر الغلال. ثمَّ توالت الزِّيَادَة حَتَّى كَانَ الْوَفَاء فِي رَابِع جُمَادَى الأولى وَهُوَ تَاسِع مسرى وانتهت الزِّيَادَة إِلَى سِتَّة عشر ذِرَاعا واثنين وَعشْرين إصبعاً. ثمَّ تناقص النّيل نَحْو سبع أَصَابِع إِلَى عيد الصَّلِيب فَرد نَقصه وَزَاد حَتَّى بلغ سَبْعَة عشر وَخمْس أَصَابِع. هَذَا وسعر الْغلَّة يتزايد إِلَى أَن بلغ الأردب سِتِّينَ دِرْهَم ثمَّ تناقص حَتَّى بيع بِعشْرين درهما. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان تَقِيّ الدّين أَحْمد بن الْجمال سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن هِلَال الدِّمَشْقِي بهَا فِي لَيْلَة الْجُمُعَة سادس رَجَب. وَقد ولي بِدِمَشْق وكَالَة بَيت المَال والحسبة وتوقيع الدست ثمَّ نظر النظار وَقدم الْقَاهِرَة غير مرّة. وَمَات الْأَمِير آقسنقر الناصرى مقتولا فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر ربيع الآخر وَكَانَ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد قد اخْتصَّ بِهِ وزوجه ابْنَته وَجعله أَمِير شكار ثمَّ نَائِب غَزَّة. وأعيد بعده فِي أَيَّام الصَّالح إِسْمَاعِيل فِي مصر وَعمل أَمِير آخور. ثمَّ اسْتَقر فِي نِيَابَة طرابلس مُدَّة وأحضر إِلَى مصر فِي أَيَّام شعْبَان الكاملي وَعظم قدره ودبر الدولة فِي أَيَّام المظفر حاجي حَتَّى قَتله. وَكَانَ وَمَات الْأَمِير بيدمر البدري مقتولا بغزة فِي أَوَائِل جُمَادَى الآخر. وَهُوَ أحد المماليك الناصرية وَولي نِيَابَة حلب واليه تنْسب الْمدرسَة الأيدمرية بِالْقَاهِرَةِ قَرِيبا من المشهد الْحُسَيْنِي. وَتُوفِّي قاضى الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عماد الدّين على بن محيى الدّين أَحْمد بن عبد الْوَاحِد ابْن عبد الْمُنعم بن عبد الصَّمد الطرسوسي عَن تسع وَسبعين سنة بَعْدَمَا ترك الْقَضَاء لوَلَده وَانْقطع بداره. وَمَات أَمِير عَليّ بن الْأَمِير قراسنقر.(4/65)
وَتُوفِّي قاضى الْمَالِكِيَّة وَشَيخ الشُّيُوخ بِدِمَشْق شرف الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن ظافر عبد الْوَهَّاب الْهَمدَانِي فِي ثَالِث الْحرم عَن ثَلَاث وَسبعين سنة. وَتُوفِّي الْحَافِظ شمس الدّين بن أَحْمد بن عُثْمَان بن قايماز الذَّهَبِيّ صَاحب التصانيف الْكَثِيرَة فِي الحَدِيث والتاريخ وَغير ذَلِك فِي ثَالِث ذِي الْقعدَة ومولده فِي ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير الْوَزير نجم الدّين بن عَليّ بن شروين الْمَعْرُوف بوزير بَغْدَاد مقتولا بغزة فِي أَوَائِل جُمَادَى الآخر. قدم من بَغْدَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَولي الوزارة ثَلَاث مَرَّات فَشَكَرت سيرته وَعرف بالمكارم. وَله خانكاه بالقرافة بجوار تربة كافور الْهِنْدِيّ. وَمَات قوام الدّين مَسْعُود بن مُحَمَّد بن سهل الْكرْمَانِي الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ سنة وَكَانَ بارعاً فِي الْفِقْه والنحو وَالْأُصُول وَله شعر. وَمَات الْأَمِير نجم الدّين دَاوُد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن الزيبق بِدِمَشْق فِي سادس رَجَب وتنقل فِي ولايات مصر وَالشَّام. وَمَات أَمِير بني عقبَة بدر الدّين شطي بن عبِّيَّة لَيْلَة عيد الْأَضْحَى وأنعم على ولديه أَحْمد ونصير بإمرته. وَمَات الْأَمِير طرنطاى البشمقدار فِي شعْبَان. وَمَات الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي مقتولا فِي تَاسِع عشر ربيع الآخر. وَكَانَ من مماليك شمس الدّين أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن عمر الشهرزوري فبذل لَهُ فِيهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد زِيَادَة على مائَة ألف دِرْهَم حَتَّى ابتاعه لَهُ مِنْهُ الْمجد السلَامِي. بِمَكَّة لما حج ابْن الشهرزورى. وَقدم بِهِ الْمجد السلَامِي إِلَى السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فَلم ير. بِمصْر أحسن مِنْهُ وَلَا أظرف فَعرف بالحجازي وحظى عِنْد السُّلْطَان حَتَّى زوجه بابنته وَكَانَ مدمن(4/66)
الْخمر مرتبه مِنْهُ فِي كل يَوْم زنة خمسين رطلا. لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش قطّ وَلَا توَسط بِسوء أبدا مَعَ سخاء النَّفس وَعدم الشَّرّ. وَمَات الْأَمِير طغيتمر النجمي الدوادار صَاحب الخانكاه النجمية خَارج بَاب المحروق. وَمَات الْأَمِير يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام قتلا بقاقون وَهُوَ من المماليك الناصرية الَّذين شغف بهم السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَعمر لَهُ الدَّار الْعَظِيمَة الَّتِي موضعهَا الْآن مدرسة السُّلْطَان حسن وَولي نِيَابَة حلب ثمَّ نِيَابَة دمشق وَعمر بهَا الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع يلبغا بسوق الْخَيل وَلم يكمله فكمل بعد مَوته. وَكَانَ كَرِيمًا يبلغ إنعامه فِي كل سنة على مماليكه مائَة وَعشْرين فرسا وَثَمَانِينَ حياصة ذهب وَمَات إِسْمَاعِيل وَأَوْلَاده قتلا بالإسكندرية. وَمَات الْأَمِير أرغون العلائي أحد المماليك الناصرية. رقاه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد وزوجه أم ابنيه شعْبَان وَإِسْمَاعِيل وَعَمله لالا أَوْلَاده فدبر الدولة فِي أَيَّام ربيبه الصَّالح إِسْمَاعِيل وشكرت سيرته ثمَّ قَامَ بدولة شعْبَان الْكَامِل حَتَّى قتل وَإِلَيْهِ تنْسب خانكاه العلائي بالقرافة. وَكَانَ كَرِيمًا ينعم فِي السّنة. بمائتين وَثَلَاثِينَ فرسا ومبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِينَار على الْأُمَرَاء وَغَيرهم. وَقتل أيتمش عبد الْغَنِيّ وتمر وقراجا وصمغار. وَقتل بقلعة الْجَبَل الْأَمِير شُجَاع الدّين غرلو فِي خَامِس عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَكَانَ من أرمن قلعة الرّوم ويدعى أَنه جركسي الْجِنْس. وَقدم مصر وخدم فِي جملَة أوجاقية الْأَمِير بهادر المغربي وَصَارَ بعده أوجاقيا عِنْد الْأَمِير بكتمر الساقي ثمَّ عمله أَمِير آخور حَتَّى مَاتَ بكتمر ثمَّ خدم الْأَمِير بشتاك ثمَّ تنكر عَلَيْهِ بشتاك وضربه لتحامقه وَأخرجه فولى ولَايَة أشمون ثمَّ اسْتَقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة وانتقل إِلَى وَظِيفَة شاد الدَّوَاوِين وأحدث مظالم كَثِيرَة. وَجمع الجراكسة على المظفر حاجي لأَنهم من جنسة وَعظم فِي الدولة المظفرية حَتَّى قتل كَمَا تقدم. وَقتل السُّلْطَان المظفر حاجي فِي مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا أحدا وَثَلَاثِينَ أَمِير مِنْهُم أحد عشر أُمَرَاء أُلُوف. وَقتل متملك تونس أَبُو حَفْص عمر بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حقص فِي جُمَادَى الْآخِرَة فَكَانَت مدَّته نَحوا من أحد عشر شهرا.(4/67)
وَكَانَ قد بُويِعَ أَخُوهُ الْعَبَّاس أَحْمد فِي تَاسِع رَمَضَان سنة سبع وَأَرْبَعين ثمَّ قتل بعد سَبْعَة أَيَّام. وَمَات الشَّيْخ حسن بن النوين أرتنا ملك الرّوم فِي شَوَّال.(4/68)
(سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة)
أهلت بِيَوْم الثُّلَاثَاء وَهُوَ الْخَامِس من برمودة وَالشَّمْس فِي الدرجَة التَّاسِعَة عشر من برج الْحمل أول برج فصل الرّبيع. فِي يَوْم الثُّلَاثَاء أول الْمحرم: قدم الْخَبَر بقتل إِسْمَاعِيل الوافدي وَالِي قوص بعد فراره مِنْهَا وَقد جمع عَلَيْهِ عدَّة من الوافدية يُرِيد تملك بِلَاد السوادن فحاربوه وقتلوه وَمن مَعَه بأسرهم وَأخذُوا مِنْهُم مَالا كَبِيرا. وَفِيه خلع على الْأَمِير عَلَاء الدّين على بن الكوراني وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن أسندمر القلنجقى بعد مَوته - وَأخرج ابْن الكوراني من السجْن أَرْبَعِينَ مسجوناً وَفعل بهم من الْقَتْل وَالْقطع مَا توجبه جرائمهم شرعا. وَفِيه قبض على الشَّيْخ عَليّ الكسيح نديم المظفر حاجي وَضرب بالمقارع والكسارات ضربا عَظِيما وقلعت أَضْرَاسه وأسنانه شَيْئا بعد شَيْء فِي عدَّة أَيَّام وَنَوع لَهُ الْعَذَاب أنواعاً حَتَّى هلك. وَكَانَ شنع المنظر لَهُ حدبة فِي ظَهره وحدبة فِي صَدره كسيحاً لَا يسْتَطع الْقيام إِنَّمَا يحمل على ظهر غُلَامه. وَكَانَ يلوذ بألجيبغا المظفري وَهُوَ مَمْلُوك فَعرف بِهِ ألجيبغا الْملك المظفر حاجي فَصَارَ يضحكه. وَصَارَ المظفر يخرج عَلَيْهِ ويعاقره الشَّرَاب فتهبه الحظايا شَيْئا كثيرا. ثمَّ زوجه المظفر حاجي بِإِحْدَى حظاياه وَصَارَ يسْأَله عَن النَّاس فينقل لَهُ أخبارهم على مَا يُرِيد وداخله فِي قَضَاء الأشغال فخافه الْأُمَرَاء وَغَيرهم خشيَة لستانه وصانعوه بِالْمَالِ حَتَّى كثرت أَمْوَاله بِحَيْثُ أَنه إِذا دخل خزانَة الْخَاص لابد أَن يُعْطِيهِ نَاظر الخزانة مِنْهَا شَيْئا لَهُ قدر وَيدخل عَلَيْهِ الْخَاص حَتَّى يقبله مِنْهُ. وَإِذا دخل إِلَى النَّائِب أرقطاى استعاذ من شَره ثمَّ قَامَ لَهُ وترحب بِهِ وسقاه مشروبا وَقضى شغله الَّذِي جَاءَ بِسَبَبِهِ وَأَعْطَاهُ ألف دِرْهَم من يَده وَاعْتذر إِلَيْهِ فَيَقُول للنائب: هَا أَنا أَدخل على ابْني السُّلْطَان فأعرفه أحسانك. فَلَمَّا زَالَت دولة المظفر حاجي عَنى بِهِ ألجيبغا إِلَى أَن شكاه عبد الْعَزِيز العجمي - أحد أَصْحَاب الْأَمِير قراسنقر - على مَال أَخذه مِنْهُ لما قبض عَلَيْهِ غرلو بعد قتل قراسنقر حَتَّى خلصه مِنْهُ فتذكره أهل الدولة وسلموه إِلَى الْوَالِي فعاقبه وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَزير منجك حَتَّى أهلكه. وَفِيه رجمت الْعَامَّة ابْن الأطروش الْمُحْتَسب. وَسَببه أَن السّعر لما تحسن بلغ الْخبز سِتَّة(4/69)
أَرْطَال وَسَبْعَة أَرْطَال بدرهم عمل بعض الخبازين خبْزًا ونادى عَلَيْهِ ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم فَطَلَبه الْمُحْتَسب وضربه فثارت الْعَامَّة بِهِ وَرَجَمُوا بَابه حَتَّى ركب الْوَالِي وَضرب مِنْهُم جمَاعَة. وَفِيه توحش مَا بَين الْأَمِير شيخو والأمير بيبغا روس نَائِب السُّلْطَان. وَسَببه أَن نَفَقَة السُّلْطَان الْمِائَة دِرْهَم دخلت إِلَيْهِ على الْعَادة فَطلب مِنْهُ أحد المماليك ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فَبعث إِلَى الْأَمِير شيخو يطْلب مِنْهُ ذَلِك فَقَالَ لقاصده: أيش تعْمل بِالدَّرَاهِمِ وأيش لَهُ حَاجَة بهَا وَمَا ثمَّ هَذَا الْوَقْت شَيْء. فعز عَلَيْهِ ذَلِك لما بلغه وَأرْسل يطْلب هَذَا الْمبلغ من النَّائِب بيبغا روس فَبعث إِلَيْهِ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. وَقَامَت قِيَامَة شيخو وَأقَام أَيَّامًا لَا يحدث النَّائِب بيبغا روس حَتَّى دخل بَينهمَا الْوَزير منجك وَسَأَلَ عَن سَبَب الْغَضَب على النَّائِب. فَقَالَ لَهُ شيخو: أَنا مَا كَانَ عِنْدِي دَرَاهِم أَسِيرهَا للسُّلْطَان لَكِن حفظت مَا اتفقنا عَلَيْهِ فَعمل النَّائِب وَجهه أَبيض عِنْد السُّلْطَان وسود وَجْهي فَمَا زَالَ بِهِ الْوَزير منجك حَتَّى رضى. وَفِيه قدم الْخَبَر بِوُقُوع الْحَرْب بَين سيف بن فضل وَعمر بن مُوسَى بن مهنا أسر فِيهَا سيف وَقتل أَخُوهُ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه. وَفِيه توقف أَمر الدولة على الْوَزير منجك فَقطع سِتِّينَ من السواقين ووفر لحمهم ومعلومهم وكسوتهم وعليقهم وَقطع كثيرا من الركابين والنجابة وَقطع كثيرا من المباشرين حَتَّى وفر فِي كل يَوْم أحد عشر ألف دِرْهَم. وَفتح ابْن منجك بَاب(4/70)
المفايضات بالأخباز والنزولات عَنْهَا وَأخذ من ذَلِك مَالا كثيرا وَحكم على أَخِيه الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب بتمشية هَذَا فَاشْترى الإقطاعات كثير من الْعَامَّة. وَفِيه قدم خبر من طرابلس بِأَن قبرص وَقع بهَا فنَاء عَظِيم هلك فِيهِ خلق كثير. وَفِيه مَاتَ ثَلَاثَة مُلُوك فِي شهر وَاحِد وَأَن جمَاعَة مِنْهُم ركبُوا الْبَحْر إِلَى بعض الجزائر فهلكوا عَن آخِرهم. وَفِي رَابِع عشريه: قدم الْحَاج. وَفِي خَامِس عشريه: قبض على الطواشي عنبر السحرتي مقدم المماليك فِي الدولة المظفرية وَكَانَ قد أخرج إِلَى الْمُقَدّس وَحج مِنْهُ بِغَيْر إِذن وَقدم الْقَاهِرَة. فَأنْكر عَلَيْهِ حجه بِغَيْر إِذن وَأخذت أَمْوَاله ثمَّ أخرج إِلَى الْقُدس. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث ربيع الأول: عزل الْأَمِير منجك من الوزارة. وَسبب ذَلِك أَن علم الدّين عبد الله بن زنبور نَاظر الْخَاص قدم من الاسكندرية بِالْحملِ على الْعَادة فَوَقع الِاتِّفَاق على تفرقته فِي الْأُمَرَاء فَحمل إِلَى الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب مِنْهُ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَإِلَى الْأَمِير شيخو ثَلَاثَة آلَاف دِينَار ولجماعة من الْأُمَرَاء كل وَاحِد ألف دِينَار ولجماعة أُخْرَى مِنْهُم كل أَمِير ألف دِينَار فَامْتنعَ شيخو من الْأَخْذ وَقَالَ: أَنا مَا يحل لي أَن أَخذ من هَذَا شَيْئا وَقدم أَيْضا حمل قطيا وَهُوَ مبلغ سبعين ألف دِرْهَم وَكَانَت قطيا قد أرصدت لنفقة المماليك فَأخذ الْوَزير منجك من الْحمل أَرْبَعِينَ ألف وَزعم أَنَّهَا كَانَت قرضا فِي نَفَقَة المماليك. فَوقف المماليك إِلَى الْأَمِير شيخو وَشَكوا الْوَزير بِسَبَبِهَا فَحدث الْأَمِير شيخو الْوَزير فِي الْخدمَة ليردها فَلم يفعل وَأخذ فِي الْحَط على ابْن زنبور نَاظر الْخَاص وَأَنه يَأْكُل المَال جَمِيعه وَطلب إِضَافَة نظر الْخَاص لَهُ مَعَ الوزارة والأستادرية. وألح منجك فِي ذَلِك عدَّة أَيَّام فَمَنعه شيخو من ذَلِك وَشد من أزر ابْن زنبور وَقَامَ بالمحاققة عَنهُ حَتَّى غضب منجك بِحَضْرَة الْأُمَرَاء فِي الْخدمَة. فَمنع الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب الْوَزير منجك من التحدث فِي الْخَاص وانفض الْجمع وَقد تنكر كل مِنْهُمَا على الآخر. فكثرت القالة بالركوب على النَّائِب ومنجك حَتَّى بلغهما ذَلِك فَطلب النَّائِب الاعفاء من النِّيَابَة وَإِخْرَاج أَخِيه منجك من الوزارة وأبدأ وَأعَاد حَتَّى طَال الْكَلَام. وَوَقع الِاتِّفَاق على عزل منجك من الوزارة واستقراره أستادارا وشادا على عمل الجسور فِي النّيل. وَفِيه طلب الْأَمِير أسندمر الْعمريّ الْمَعْرُوف برسلان بصل من كشف الجسور ليتولى الوزارة. فَخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشريه خلعة الوزارة وَخرج إِلَى قاعة(4/71)
الصاحب وَجلسَ والموفق نَاظر الدولة والمستوفون وَطلب جَمِيع المشدين وأرباب الْوَظَائِف. وَفِيه أخرج الْأَمِير أَحْمد شاد الشربخاناه إِلَى نِيَابَة صفد وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ قد كبر فِي نَفسه وَقَامَ مَعَ المماليك على المظفر حَتَّى قتل. ثمَّ أَخذ فِي تَحْرِيك الْفِتْنَة وَاتفقَ مَعَ ألجيبغا وطنبرق على الرّكُوب. فَبلغ الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب الْخَبَر فَطلب الإعفاء من النِّيَابَة وَذكر مَا بلغه. وَرمى أَحْمد شاد الشرابخاناه بِأَنَّهُ صَاحب فتن ولابد من إخراجهم من بَينهم فَطلب أَحْمد وخلع عَلَيْهِ وَأخرج من يَوْمه. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشريه: اجْتمع الْقُضَاة الْأَرْبَعَة وَالْفُقَهَاء وَكثير من الْأُمَرَاء بالجامع الحاكمي وقرأوا الْقُرْآن ودعوا الله. ثمَّ اجْتَمعُوا ثَانِيًا فِي عصر النَّهَار فَبعث الله مَطَرا كثيرا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشريه: امْتنع النَّائِب من الرّكُوب فِي الموكب وَأجَاب بِأَنَّهُ ترك النِّيَابَة. فَطلب إِلَى الْخدمَة وَسُئِلَ عَن سَبَب تغيره فَذكر أَن الْأُمَرَاء المظفرية تُرِيدُ إثارة الْفِتْنَة وتبيت خيولهم فِي كل لَيْلَة مشدودة وَقد اتَّفقُوا على مسكه وَأَشَارَ لألجيبغا وطنيرق. فأنكرا مَا ذكر عَنْهُمَا فحاققهما الْأَمِير أرغون الكاملي أَن ألجيبغا واعده بالْأَمْس على الرّكُوب فِي الْغَد إِلَى الموكب ومسك بيبغا روس النَّائِب والوزير منجك فعوتب ألجيبغا على هَذَا فَاعْتَذر بِعُذْر لم يقبل مِنْهُ وَظهر صدق مَا رمي بِهِ فَخلع عَلَيْهِ بنيابة طرابلس وعَلى طينرق بإمرة فِي دمشق وَأَخْرَجَا من يومهما. فَقَامَ فِي حق طينرق صهره الْأَمِير طشتمر طلليه حَتَّى أعفي من السّفر وَتوجه ألجيبغا لطرابلس فِي ثَانِي ربيع الآخر بَعْدَمَا أمْهل أَيَّامًا فَأَقَامَ الْأُمَرَاء على حذر وقلق مُدَّة أَيَّام. وَكَانَ مَاء النّيل قد نشف فِيمَا بَين مَدِينَة مصر ومنشأة المهراني إِلَى زربية قوصون وفم الخور وَفِيمَا بَين الرَّوْضَة والجزيرة الْوُسْطَى وَصَارَ فِي أَيَّام احتراق النّيل رمالاً وَكَانَ قد ركب فِي الْأَيَّام الْمَاضِيَة جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمهندسين ورؤساء المراكب للكشف عَن ذَلِك وقاسوا مَا بَين الجيزة والمقياس ليعملوه جِسْرًا. فَقَالَ الريس يُوسُف: مَا يستد هَذَا الْبَحْر أبدا وَمَتى مَا سديتوه مَال على الجيزة وأخربها وَرَأى الْأَمِير طقزدمر النَّائِب أَن عمل هَذَا الجسر يدْفع قُوَّة المَاء إِلَى بر مصر وبولاق وَيخرب مَا هُنَاكَ من الْأَمْلَاك. فَقَامَ الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي فِي شكر رجل عِنْده قد تكفل بسد(4/72)
ذَلِك وَقَامَ الْأَمِير طغيتمر النجمي بشكر رجل آخر. فرسم بإحضار الرجلَيْن وَنزل النَّائِب والوزير لعمل ذَلِك وهما مَعَهُمَا فاستدعى صَاحب الْحِجَازِي بالخشاب والصواري الْكِبَار والحلفاء وَطلب مراكب لتملأ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يغرقها من جِهَة المقياس ويعمله سداً ثمَّ يرجع إِلَى السد الثَّانِي فيسده بِالتُّرَابِ وَطلب الأبقار والجراريف فخالفه الآخر صَاحب طغيتمر وَقَالَ بل يسد من بُسْتَان الذَّهَبِيّ إِلَى رَأس الجزيرة وَالْتزم أَنه لَا يصرف عَلَيْهِ سوى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم فَسخرَ مِنْهُ جَمِيع من حضر النَّائِب كَيفَ يكون هَذَا فَذكر أَنه يسده بالحلفاء والخوص فعادوا إِلَى السُّلْطَان المظفر حاجي فالتزم لَهُ أَن يسد الجسر. مِمَّا تقدم ذكره على أَن يُعْطِيهِ إقطاعاً ويرتب لَهُ لَحْمًا وعليقاً وَأَن لم يسده شنقه السُّلْطَان. فرسم للأمير أسندمر الكاشف ولشاد العمائر بِالْوُقُوفِ مَعَه فِي الْعَمَل فاستدعى الرجل بأخشاب وحلفاء وخوازيق وَطلب الرِّجَال وابتدأ الْعَمَل من مَوضِع قَلِيل المَاء تجاه بُسْتَان الذَّهَبِيّ وَرمى فِيهِ التُّرَاب والحلفاء ودكه بالرمال مُدَّة أُسْبُوع. وَكلما سد موضعا بِالنَّهَارِ قطعه المَاء بِاللَّيْلِ وَعَاد كَمَا كَانَ فَظهر جَهله وَقصد السُّلْطَان تأديبه حَتَّى شفع فِيهِ النَّائِب. فَقَامَ صَاحب الْحِجَازِي بِالْعَمَلِ وَكتب تَقْدِير مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من صواري وأخشاب وَغَيرهَا مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم وَذَلِكَ عَن ثمن خَمْسمِائَة صاري وَألف حسنية وَألف حجر عرض ذراعين فِي مثلهَا وَخَمْسَة آلَاف شنف وَغير ذَلِك فرسم بجباية ذَلِك من الْأَمْلَاك الَّتِي على شاطئ النّيل من رَأس الخليج إِلَى آخر بولاق فاستخرج مِنْهَا هُوَ سبعين ألف دِرْهَم وَكَانَ من انْتِقَاض الدولة المظفرية مَا كَانَ. فَلَمَّا كَانَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين هَذِه وَقع الْكَلَام فِي ذَلِك فَأَرَادَ الْأَمِير شيخو أَن يكون عمله على الْأُمَرَاء والأجناد وفلاحي الْبِلَاد فَلم يُوَافقهُ الْأَمِير منجك وَاحْتج بِقرب زِيَادَة النّيل وَأَن الغلات قد تعطل حملهَا فِي النّيل من النواحي لقلَّة المَاء فِي مَوَاضِع الْحمل وَالْتزم بِعَمَلِهِ من غير أَن يسخر فِيهِ أحدا. فيكب الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب والأمير شيخو والأمير منجك وَعَامة الْأُمَرَاء إِلَى الجزيرة وقاسوا مِنْهَا إِلَى المقياس ليعْمَل هُنَاكَ جسر. فَذكرت البحارة أَن هَذَا الْموضع لَا يُمكن سَده لِكَثْرَة كلفه(4/73)
وَأَنَّهُمْ إِن سدوه أضرّ بِبِلَاد الجيزة وقوى المَاء على جِهَة مصر وأضر وأتلف مَا على النّيل من الدّور فسفه الْأَمِير منجك رَأْيهمْ ورد قَوْلهم وَالْتزم لِلْأُمَرَاءِ بسده. فعادوا وقدروا مصروفه على الْأُمَرَاء والأجناد وَالْكتاب وَأَصْحَاب الْأَمْلَاك وَسَائِر النَّاس وَكتب أوراق من ديوَان الْجَيْش بأسماء الأجناد والأمراء وَعبر إقطاعاتهم. وَفرض على كل مائَة دِينَار دِرْهَم وَاحِد وَفرض على كل أَمِير من أُمَرَاء الألوف مَا بَين أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم إِلَى خَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَفرض على بَقِيَّة الْأُمَرَاء الطبلخاناه والعشرات بحسبهم. ورسم أَن يُؤْخَذ من كل كَاتب أَمِير مقدم مبلغ مِائَتي دِرْهَم وَمن كل كَاتب أَمِير طبلخاناه مائَة دِرْهَم. وَفرض على كل حَانُوت من حوانيت التُّجَّار والباعة دِرْهَم وعَلى كل دَار بِالْقَاهِرَةِ ومصر وظواهرهما دِرْهَمَانِ وعَلى كل بُسْتَان عشرَة دَرَاهِم الفدان وَبَعضهَا أَخذ مِنْهُ عَن كل فدان عشرُون درهما وعَلى كل حجر من حِجَارَة الطواحين خَمْسَة دَرَاهِم. وجبى من كل صهريج مَاء بتربة أَو مدرسة مَا بَين عشر دَرَاهِم إِلَى خَمْسَة دَرَاهِم وَمن كل تربة مَا بَين ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَى دِرْهَمَيْنِ وضقعت الْأَمْلَاك الَّتِي استجدت من الدّور والبساتين وَغَيرهَا فِيمَا بَين بولاق إِلَى كوم الريش ومنية السيرج والأحكار الَّتِي عمزت على الخليج الناصري وبركة الطوابين الْمَعْرُوفَة ببركة الرطلى وقنطرة الْحَاجِب وَأَرْض الطبالة وجامع حكر أخي صاروحا وقيست كلهَا وَأخذ عَن كل ذِرَاع خَمْسَة عشر درهما وَأخذ من أقمنة الطوابين والفواخير. وَطلب مباشرو أوقاف الشَّافِعِي وأوقاف الْمدَارِس الصالحية والظاهرية والمارستان وَسَائِر الْأَوْقَاف وألزموا بِمَال. وَكتب بِطَلَب الرهبان من الديارات بِالْأَعْمَالِ وَقرر على كل مِنْهُم مَا بَين المائتي دِرْهَم إِلَى الْمِائَة دِرْهَم وَأَن يُؤْخَذ عَن كل نَخْلَة بِبِلَاد الصَّعِيد دِرْهَم. وجبى من المتعيشين فِي الْقَاهِرَة ومصر مَا بَين دِرْهَم كل وَاحِد إِلَى عشرَة دَرَاهِم وَمن كل قاعة ثَلَاثَة دَرَاهِم وَمن كل طبقَة دِرْهَمَانِ وَمن كل مخزن أَو اسطبل دِرْهَم وَمن كل فندق وخان بِحَسبِهِ. وَقرر على ضامنة المغاني خَمْسَة آلَاف دِرْهَم. وَعمل مَوضِع الْمُسْتَخْرج من النَّاس خَان مسرور بِالْقَاهِرَةِ وشاد الْمُسْتَخْرج الْأَمِير تِلْكَ. وَعمل لكل جِهَة من هَذَا الْجِهَات شاد وَكَاتب وعدة أعوان من الرُّسُل وصيرفي. فارتجت أَحْوَال المدينتين وأعمالهما وَبَطلَت الْأَسْبَاب لسعى النَّاس فِيمَا عَلَيْهِم وتسلطت العرفاء وَالضَّمان وَأَصْحَاب الرباع وَالرسل على كل أحد فَلم يبْق رجل وَلَا امْرَأَة حَتَّى جبوا مِنْهُ وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يغرم للرقاص والصيرفي والشاد وَيُعْطِي أُجْرَة الشُّهُود الَّذين يشْهدُونَ عَلَيْهِ أَنه قَامَ. مِمَّا عَلَيْهِ.(4/74)
وَشرع منحك فِي جَمِيع الْأَصْنَاف الْمُحْتَاج إِلَيْهَا وَضرب لَهُ خياماً على جَانب النّيل بالروضة. وَنُودِيَ فِي النَّاس من أَرَادَ الْعَمَل فَلهُ دِرْهَم وَنصف وَثَلَاثَة أرغفة خبز فَاجْتمع لَهُ خلائق وَعمل لَهُم موضعا يَسْتَظِلُّونَ فِيهِ حر الشَّمْس ورفق منجك بهم فِي الْعَمَل. وَأقَام منجك عدَّة من الحجارين لقطع الْحِجَارَة من الْجَبَل ونقلها إِلَى السَّاحِل وَحملهَا فِي المراكب لبر الجيزة لعمل جسر من الجيزة إِلَى المقياس. ورتب منجك عمل جسر آخر من الرَّوْضَة إِلَى الجزيرة الْوُسْطَى وَأقَام الأخشاب بجانبي كل جسر مِنْهُمَا وردم التُّرَاب وَالْحِجَارَة فِي وَسطه مَعَ الحلفاء ورتب جمال السُّلْطَان لقطع الطين من بر الرَّوْضَة ورميه بوسط الجسر وَأقَام على كل جِهَة شادين ومستحثين. وَأقَام منجك الصارم شاد العمائر على الْعَمَل ورسم أَلا يتاخر عَنهُ صانع والزم تجار مصر وَغَيرهم بِنَقْل التُّرَاب إِلَى الجسر فَكَانَ الرجل مِنْهُم يغرم فِي نقل التُّرَاب مَا بَين الْخَمْسمِائَةِ إِلَى آلَاف دِرْهَم ورميت عشر مراكب مَمْلُوءَة حِجَارَة فِي وسط جسر المقياس. وَلم يزل الْعَمَل مُدَّة أَرْبَعَة أشهر أَولهَا مستهل الْمحرم وَآخِرهَا سلخ ربيع الآخر. وَكَانَ منجك قد حفر أَيْضا خليجاً تَحت الدّور من موردة الحلفاء إِلَى بولاق فَلَمَّا زَاد النّيل جرى المَاء فِيهِ ودخلته المراكب الصغار. ففرح النَّاس بِهِ وسروا سُرُورًا زَائِدا ونسوا مَا نزل بهم من الغرامة وَالْمَشَقَّة. غير أَن الشناعة قَامَت على منجك لِكَثْرَة مَا جبى من الْأَمْوَال الْعَظِيمَة حَتَّى أَرَادَ بيبغا روس النَّائِب مَنعه من ذَلِك فَلم يقبل مِنْهُ وَلم يتم من الْعَمَل سوى ثُلثَيْهِ وقويت الزِّيَادَة فَبَطل الْعَمَل. وَكَانَ القاع فِي هَذِه السّنة أَرْبَعَة أَذْرع وَنُودِيَ فِي أول الزِّيَادَة بإصبعين ثمَّ بِعشر أَصَابِع ثمَّ بِخَمْسَة عشر إصبعا ثمَّ بثمان ثمَّ بِعشْرين. وَلم تزل الزِّيَادَة تقوى حَتَّى غرقت المقاتي والتقى الْبَحْر بِرَأْس الخليج الَّذِي استجد فِيهِ المَاء. ثمَّ علا المَاء على الجسر وَكَاد يقطعهُ. فَركب منجك وَمَعَهُ وَالِي الجيزة وخلائق من الْعَامَّة والأمراء وردمه بِالتُّرَابِ فَانْدفع المَاء إِلَى جِهَة الميدان وزربية قوصن. فَكَانَ قِيَاس جسر الجزيرة الْوُسْطَى مِائَتي قَصَبَة فِي عرض ثَمَانِي قصبات وارتفاع أَربع قصبات وَطول جسر المقياس مِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ قَصَبَة وعدة مَا رمى فِيهِ من المراكب الْحجر اثْنَا عشر ألف مركب سوى التُّرَاب والطين وَغرم عَلَيْهِ مَا لَا يُمكن حصره. وَيُقَال إِنَّه جبى من النَّاس بِسَبَبِهِ زِيَادَة على ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار فَإِن الرجل كَانَ يفْرض عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ فَيغرم فِيمَا تقدم ذكره عشرَة دَرَاهِم.(4/75)
(وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشر ربيع الآخر)
أُعِيد الْأَمِير منجك اٍ لى الوزارة باستعفاء أسندمر الْعُمْرَى لتوقف أَحْوَال الدولة. وَفِيه أخرج من الْأُمَرَاء المظفرية لاجين العلائى وطيبغا المظفرى ومنكلى بغا المظفرى وفُرقوا بِبِلَاد الشَّام. وَفِيه قدم من جِهَة أَولاد جوبان قَاصد. بِمَال لعمارة عين جوبان بِمَكَّة وإجراء المَاء إِلَيْهَا وَقد انْقَطع. فَلم توَافق الْأُمَرَاء على ذَلِك وعينوا فَارس الدّين قريب ال ملك لعمارتها صُحْبَة الرجبية. ورُسم لقاضى الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا من مَال الْحَرَمَيْنِ فاً خُذ فى الاهتمام للسَّفر. وَفِيه خلع على أيتمش الناصرى الْحَاجِب وَاسْتقر أَمِير جاندار. وَفِيه خلع على الْأَمِير جركتمر وَاسْتقر نَائِب الكرك بعد وَفَاة تمربغا العقيلى وَفِيه قدمت هَدِيَّة الْأَمِير شاه نَائِب الشَّام وقوده بِزِيَادَة عَمَّا جرت بِهِ الْعَادة وهى مائَة وَأَرْبَعُونَ فرسا بعبى تدممرية فَوْقهَا أجلة أطلس ومقاود سلاسلها فضَّة ولواوين بحلق فضَّة وَأَرْبَعَة قطر هجن سلاسل مقاردها الْحَرِير من فضَّة وَذهب وأكوارها مغشاة بِذَهَب وَأَرْبَعَة كنافيش ذهب عَلَيْهَا ألقاب السُّلْطَان وتعابى قماش مفتخر. وَلم يدع الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام أحدَا من الْأُمَرَاء المقدمين وَلَا من أَرْبَاب الْوَظَائِف حَتَّى الْفراش ومقدم الاسطبل ومقدم الطبلخاناه والطباخ حَتَّى بعث إِلَيْهِم هَدِيَّة. فَخلع على مَمْلُوكه عدَّة خلع وكُتب إِلَيْهِ بِزِيَادَة على اٍ قطاعه ورسم لَهُ بتفويض حكم الشَّام اٍ ليه يعْزل ويولى بِحَسب اخْتِيَاره. وَفِيه خلع على صدر الدّين الكازاتى بمشيخة الشُّيُوخ بخانكاه سرياقرس عرضاعن الرُّكْن الملطى. وَكَانَ هَذَا الرجل قد ورد اٍ لى مصر وَأقَام بهَا لَا يؤبه لَهُ حَتَّى نِيَابَة بيبغا روس ووزارة منجك فتردد إِلَيْهِمَا وَأظْهر التزهد وَمَعْرِفَة الْعلم وصنف كتابا على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة بالتركى وَقدمه لَهما فراج بِهِ عِنْدهمَا وَكَانَ قد تحرّك للحنفية حَظّ مندْ أَعْوَام. ثمَّ سَأَلَهُمَا صدر الدّين هَذَا فى مشيخة الشُّيُوخ جْمع بيبغا روس النَّائِب الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد الأصفهانى وَعَامة صوفية الخوانك وشمايخها بِجَامِع القلعة وعرفهما الْأَمِير قبلاى الْحَاجِب عَن الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب أَن الرُّكْن الملطى لَهُ مُنْذُ غَابَ سبع سِنِين وَقد ثبتَتْ عِنْده وَفَاته وَعين عوضه الكازاتى ة فأنكروا بأجمعهم(4/76)
ولَايَته وَوَضَعُوا مِنْهُ فشق ذَلِك على الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب ورسم بحضورهم بعد الْعَصْر فِي الْخدمَة. فَلَمَّا حَضَرُوا خلع بيبغا روس على الكازاتي فَلم يتَكَلَّم أحد مِنْهُم فَنزل وهم مَعَه. وَفِيه أنعم على خَلِيل بن قوصون بإمرة طبلخاناه وعَلى ابْن المجدي بإمرة طبلخاناه أَيْضا. وَفِي جُمَادَى الأولى: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان على الْعَادة ثمَّ خرج إِلَى نَاحيَة سرياقوس فِي أول جماد الأولى وَأقَام بهَا أَيَّامًا. فَكثر تسلط السراق على النَّاس فَوكل بهم الْوَزير منجك عرب بني صبرَة بإقطاعات وندبهم للرُّكُوب فِي اللَّيْل ودركهم تِلْكَ الْأَرَاضِي. وَفِي مستهل رَجَب: جهز لعمارة عين جوبان من مَال الْحَرَمَيْنِ مبلغ مِائَتي ألف دِرْهَم. وَفِيه قدم الْخَبَر بوقعة كَانَت بَين الشَّيْخ حسن وَأَوْلَاد دمرداش وانتصر فِيهَا أَوْلَاد دمرادش وَقتلُوا كثيرا من عَسْكَر الشَّيْخ حسن. وَفِيه قدم أَحْمد بن مهنا فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي إمرة الْعَرَب وَتوجه إِلَى بِلَاده وَهُوَ مَرِيض وَفِيه أنعم على الْأَمِير أسندمر الْعمريّ بإمرة كوكاى المنصوري بعد مَوته وأنعم بإمرة أسندمر على الْأَمِير نوروز. وَفِيه أوقعت الحوطة على بَقِيَّة مَوْجُود عنبر السحرتي بعد مَوته. وَفِيه ولي الْوَزير مازان الغربيه وَولي ابْن سلمَان منوف عوضا عَن مازان وَولي صَلَاح الدّين بن العنتابي البهنساوية وَكَانَ جملَة مَا أَخذ من الْمَذْكُورين سِتَّة آلَاف دِينَار. وَفِيه سَار ركب الْحجَّاج الرجبية على الْعَادة. وَفِيه أنعم على ابْن الْوَزير منجك بإمرة مائَة. وَفِيه وفر إقطاع الْأَمِير قشتمر شاد الدَّوَاوِين وأقطع المماليك وأنعم عَلَيْهِ باقطاع الْأَمِير جركتمر.(4/77)
وَفِيه وفرت جوامك جمَاعَة ورواتبهم. وَفِيه قصد عدَّة من أَطْرَاف النَّاس بَاب الْوَزير للسعي فِي الْوَظَائِف. بِمَال فَلم يرد أحدا وَكثر طعن الْأُمَرَاء فِيهِ بِسَبَب ذَلِك. وَفِيه توجه الْأَمِير طاز لسرحة الْبحيرَة وأنعم عَلَيْهِ بِأَلف عليقة. وَفِيه توجه ببيغا روس النَّائِب إِلَى العباسة ثمَّ توجه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فأنعم عَلَيْهِ من مَالهَا بِسِتَّة آلَاف دِينَار وأتته تقادم جليلة. وَفِي هَذَا الْأَيَّام: كثر سُقُوط الدّور الَّتِي على النّيل وَذَلِكَ أَن مَاء النّيل كثرت زِيَادَته فِي ابْتِدَاء أوانها حَتَّى غرقت المقاتى كَمَا تقدم ذكره إِلَى أَن كَانَ الْوَفَاء فِي يَوْم الْجُمُعَة أول جُمَادَى الأولى وَهُوَ ثامن مسرى. ثمَّ ولت زِيَادَته وَتوقف أَيَّامًا ثمَّ نقص إِلَى يَوْم عيد الصَّلِيب حمس أَصَابِع فقلق النَّاس قلقا زَائِدا. فَمن الله بِزِيَادَتِهِ حَتَّى رد مَا نَقصه وَثَبت على سَبْعَة عشر ذِرَاعا وثمان عشرَة إصبعا. فَشَمَلَ الرّيّ الْبِلَاد وانحط سعر الغلال. فَلَمَّا أَخذ مَاء النّيل فِي الهبوط تساقطت الدّور الْمُجَاورَة للْمَاء شَيْئا بعد شَيْء ثمَّ سقط أحد عشر بَيْتا بِنَاحِيَة بولاق دفْعَة وَاحِدَة من شدَّة القلقيلة فَإِن المَاء لما عمل الجسر الَّذِي تقدم ذكره انْدفع على نَاحيَة بولاق وقوى هُنَاكَ حَتَّى سَقَطت الدّور الْمَذْكُورَة وَسقط مَا خلفهَا وَذهب فِيهَا مَال كَبِير للنَّاس فِي الْغَرق وَنهب الأوباش. ثمَّ خرب ربع السنافي وَقطعَة من ربع الخطيرى وعدة دور. وَفِيه كثرت الْأَخْبَار بِوُقُوع الوباء فِي عَامَّة أَرض مصر وتحسين جَمِيع الأسعار وَكَثْرَة أمراض النَّاس بِالْقَاهِرَةِ ومصر فَخرج السُّلْطَان والأمراء إِلَى سرياقوس. فَكثر الوباء حَتَّى بلغ فِي شعْبَان عدد من يَمُوت فِي كل يَوْم مِائَتي إِنْسَان فَوَقع الِاتِّفَاق على صَوْم السُّلْطَان شهر رَمَضَان بسرياقوس. وَفِيه قدم محْضر ثَابت على قاضى حلب بِجَمَاعَة من القادمين إِلَيْهَا أَنهم شاهدوا بواد فِي نَاحيَة توريز أفاعي ذَات خلق عَظِيم من الطول والضخامة وَقد اجْتمع مِنْهَا عدد كثير جدا. وَصَارَت فرْقَتَيْن واقتتلت يَوْمًا كَامِلا حَتَّى دخل اللَّيْل فافترقوا ثمَّ عَادوا من الْغَد بكزة النَّهَار إِلَى الْقِتَال وَأَقَامُوا كَذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام. وَفِي الْيَوْم الرَّابِع قويت إِحْدَى الْفرْقَتَيْنِ على الْأُخْرَى وَقتلت مِنْهَا مقتلة عَظِيمَة وَانْهَزَمَ بَاقِيهَا فَلم تدع فِي هزيمتها حجرا إِلَّا قصمته وَلَا شَجرا إِلَّا قلعته من أَصله وَلَا حَيَوَانا إِلَّا أتلفته فَكَانَ منْظرًا مهولا.(4/78)
وَفِيه قدم فياض بن مهنا بقوده وَفِيه اثْنَان وَسَبْعُونَ فرسا أقلهَا بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وأوسطها بِعشْرين ألفا وأغلاها بِثَلَاثِينَ ألفا سوى الهجن وَغَيرهَا. وَقدم صحبته أَحْمد ططر أَمِير بني كلاب وندا أَمِير آل مرا فَأكْرم ندا وَأحمد ططر وأعيدا إِلَى بلادهما وَقبض على فياض وَأخذت خيوله وَمَا مَعَه وَحمل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجن بهَا. وَفِيه قدم الْخَبَر بقتل الْأَمِير صعبه كاشف الْوَجْه القبلي فِيمَا بَين عَرك وَبني هِلَال وَقتل كثير من أَصْحَابه وَأخذ مَا مَعَهم. وَشن الْعَرَب بعد قَتله الغارات على الْبِلَاد وأمعنوا فِي نهب الغلال وَقطع الطرقات وَذَلِكَ بعد دُخُولهمْ سيوط ونهبها. فعين عشرَة أُمَرَاء للتجريدة ثمَّ تَأَخّر سفرهم خوفًا على الزَّرْع وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة: أخرج الْأَمِير طشبغا الدوادار إِلَى الشَّام. وَسَببه مُفَاوَضَة جرت لَهُ مَعَ عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ أفضت بِهِ إِلَى أَن أَخذ بأطواق كَاتب السِّرّ ودخلا على الْأَمِير شيخو كَذَلِك. فَأنْكر شيخو عَلَيْهِ ذَلِك وبقى بطالا وَعمل قطليجا الأرغوني دواداراً عوضه. وَفِيه أنعم على جاورجي مَمْلُوك قوصون بإمرة عشرَة وعَلى عرب بن نَاصِر الدّين الشيخي بإمرة طبلخاناه. وَفِيه قدم محمل سيس بِحَق النّصْف لخراب الْبِلَاد من كَثْرَة الفناء بهَا. وَفِيه كتب بِولَايَة حياد بن مهنا إمرة الْعَرَب. وَفِيه قدم الْخَبَر بِخُرُوج عشير الشَّام عَن الطَّاعَة وَكَثْرَة الحروب بَينهم وَقتل بَعضهم بَعْضًا وَنهب الغرد ونابلس وَكَثْرَة فَسَاد عرب الكرك وقطعهم الطرقات وكسرهم الْأَمِير جركتمر نَائِب الكرك. وَفِيه أخرج يلجك قريب لنيابة غَزَّة عوضا عَن أَحْمد الساقي وَقدم أَحْمد الساقي إِلَى مصر. وَفِيه انْحَلَّت إقطاعيات كَثِيرَة لمَوْت النَّاس فوفر الْوَزير جوازك الْحَاشِيَة ورواتبها(4/79)
وَقطعت مثالات لجَمِيع أَرْبَاب الْوَظَائِف وَأَصْحَاب الأشغال والمرتبين فِي الصَّدقَات وَالْكتاب والموقعين والمماليك السُّلْطَانِيَّة على قدر مَا بِأَسْمَائِهِمْ. وَفِيه توقفت الْأَحْوَال بِالْقَاهِرَةِ ومصر وغلقت أَكثر الحوانيت بِسَبَب زغل الْفُلُوس بالرصاص والنحاس. فَنُوديَ أَلا يَأْخُذ من الْفُلُوس إِلَّا مَا عَلَيْهِ سكَّة وَبرد الرصاص والنحاس الْأَصْفَر فمشت الْأَحْوَال. وَفِيه رسم أَن يجلس الْأَمِير بيغرا أَمِير جندار رَأس الميسرة وَاسْتقر الْأَمِير أيتمش الناصري عوضا أَمِير جندار وَاسْتقر الْأَمِير قبلاوي حاحب الْحجاب عوضا عَن أيتمش. وَفِيه اسْتَقر ابْن الأطروش فِي قَضَاء الْعَسْكَر على مَذْهَب أَبى حنيفَة وَلم يعرف أحدا قبله ولي هَذَا. بِمصْر وَاسْتقر تَاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ فِي قَضَاء الْعَسْكَر على مَذْهَب الشَّافِعِي. وَفِيه اسْتَقر خَاص ترك بن طغيه الكاشف فِي ولَايَة منفلوط وَاسْتقر مجد الدّين مُوسَى بن الهذباني وَالِي الأشمونين فِي كشف الْوَجْه القبلي بعد قتل طغيه بِمَ وَنقل مُحَمَّد ابْن أياس الدويداري من ولَايَة أشموم إِلَى ولَايَة البهنساوية. وَفِيه اسْتَقر نجم الدّين عبد القاهر بن عبد الله بن يُوسُف فِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب عوضا عَن نور الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الصابغ بعد وَفَاته. وَاسْتقر زين الدّين عمر بن يُوسُف بن عبد الله بن أبي السفاح كَاتب السِّرّ بحلب عوضا عَن جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود. وفيهَا وجد للشَّيْخ حسن مُتَوَلِّي بَغْدَاد بدار الْخلَافَة دَفِينا فِي خربة مبلغ نَحْو عشرَة قناطير دمشقية ذَهَبا. فَكَانَت سنة كَثِيرَة الْفساد فِي عَامَّة أَرض مصر وَالشَّام من كَثْرَة النِّفَاق وَقطع الطَّرِيق وَولَايَة الْوَزير منجك جَمِيع أَعمال المملكة بِالْمَالِ وانفراده وأخيه الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب بِالتَّدْبِيرِ دون كل أحد. وَمَعَ ذَلِك فَكَانَ فِيهَا الوباء الَّذِي لم يعْهَد فِي الْإِسْلَام مثله فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ بِأَرْض مصر آخر أَيَّام التخضير وَذَلِكَ فِي فصل الخريف فِي أثْنَاء سنة ثَمَان وَأَرْبَعين. وَمَا أهل محرم سنة تسع وَأَرْبَعين حَتَّى انْتَشَر الوباء فِي الإقليم بأسره وَاشْتَدَّ بديار مصر فِي شعْبَان ورمضان وشوال وارتفع فِي نصف ذِي الْقعدَة. وَكَانَ يَمُوت بِالْقَاهِرَةِ ومصر مَا بَين عشرَة آلَاف إِلَى خَمْسَة عشر ألف إِلَى عشْرين(4/80)
ألف نفس فِي كل يَوْم. وعملت النَّاس التوابيت والدكك لتغسيل الْمَوْتَى للسبيل بِغَيْر أجره وَحمل أَكثر الْمَوْتَى على أَلْوَاح الْخشب وعَلى السلالم والأبواب وحفرت الحفائر وألقوا فِيهَا. وَكَانَت الحفرة يدْفن فِيهَا الثَّلَاثُونَ وَالْأَرْبَعُونَ وَأكْثر. وَكَانَ الْمَوْت بالطاعون يبصق الْإِنْسَان دَمًا ثمَّ يَصِيح وَيَمُوت وَعم مَعَ ذَلِك الغلاء الدُّنْيَا جَمِيعهَا. وَلم يكن هَذَا الوباء كَمَا عهد فِي إقليم دون إقليم بل عَم أقاليم الأَرْض شرقا وغربا وَشمَالًا وجنوبا جَمِيع أَجنَاس بني أَدَم وَغَيرهم حَتَّى حيتان الْبَحْر وطير السَّمَاء ووحش الْبر. وَأول ابْتِدَائه من بِلَاد القان الْكَبِير حَيْثُ الإقليم الأول وَبعدهَا من توريز إِلَى أَخّرهَا سِتَّة أشهر وهى بِلَاد الخطا والمغل وَأَهْلهَا يعْبدُونَ النَّار وَالشَّمْس وَالْقَمَر وتزيد عدتهمْ على ثَلَاثمِائَة جنس. فهلكوا بأجمعهم من غير عِلّة فِي مشاتيهم ومصايفهم وَفِي مراعيهم وعَلى ظُهُور خيولهم وَمَاتَتْ خيولهم وصاروا كلهم جيفاً مرمية فَوق الأَرْض وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة على مَا وصلت بِهِ الْأَخْبَار من بِلَاد أزبك ثمَّ حملت الرّيح نتنتهم إِلَى الْبِلَاد فَمَا مرت على بلد وَلَا خركاه وَلَا أَرض إِلَّا وَسَاعَة يشمها إِنْسَان أَو حَيَوَان مَاتَ لوقته وساعته. فَهَلَك من زوق القان الْكَبِير خلائق لَا يُحْصى عَددهَا إِلَّا الله وَمَات القان وَأَوْلَاده السِّتَّة وَلم يبْق بِذَاكَ الإقليم من يحكمه. ثمَّ اتَّصل الوباء بِبِلَاد الشرق جَمِيعهَا وبلاد أزبك وبلاد اسطنبول وقيصرية الرّوم وَدخل إِلَى أنطاكية حَتَّى باد أَهلهَا. وَخرج جمَاعَة من جبال أنطاكية فارين من الْمَوْت فماتوا بأجمعهم فِي طريقهم وبدت فرس مِنْهُم بعد مَوْتهمْ عَائِدَة إِلَى جبالهم فَأخذ بَقِيَّة من تَأَخّر بهَا فِي تتبع آثَارهم حَتَّى تعرف خبرهم فَأخذُوا مَا تركُوا من المَال وعادوا فَأَخذهُم الْمَوْت أَيْضا فِي طريقهم وَلم يرجع إِلَى الْجَبَل إِلَّا الْقَلِيل فماتوا مَعَ أَهَالِيهمْ جَمِيعًا إِلَّا قَلِيلا نَجوا إِلَى بِلَاد الرّوم فَأَصَابَهُمْ الوباء. وَعم الوباء بِلَاد قرمان وقيصرية وَجَمِيع جبالها وأعمالها ففني أَهلهَا ودوابهم ومواشيهم. فرحلت الأكراد خوفًا من الْمَوْت فَلم يَجدوا أَرضًا إِلَّا وفيهَا الْمَوْتَى فعادوا إِلَى أَرضهم وماتوا جَمِيعًا. وَعظم الموتان بِبِلَاد سيس وَمَات من أهل تكفور فِي يَوْم وَاحِد. بِموضع وَاحِد مائَة وَثَمَانُونَ نفسا وخلت سيس وبلادها.(4/81)
وَوَقع فِي بِلَاد الخطا مطر لم يعْهَد مثله فِي غير أَوَانه فَمَاتَتْ دوابهم ومواشيهم عقيب ذَلِك الْمَطَر حَتَّى فنيت ثمَّ مَاتَ النَّاس والطيور والوحوش حَتَّى خلت بِلَاد الخطا وَهلك سِتَّة عشر ملكا فِي مُدَّة ثَلَاثَة أشهر. وباد أهل الصين وَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ الفناء بِبِلَاد الْهِنْد أقل مِنْهُ بِبِلَاد الصين. وَوَقع الوباء بِبَغْدَاد أَيْضا وَكَانَ الْإِنْسَان يصبح وَقد وجد بِوَجْهِهِ طلوعاً فَمَا هُوَ إِلَّا أَن يمر بِيَدِهِ عَلَيْهِ مَاتَ فَجْأَة. وَكَانَ أَوْلَاد دمرداش قد حصروا الشَّيْخ حسن بهَا ففجأهم الْمَوْت فِي عَسْكَرهمْ من وَقت الْمغرب إِلَى باكر النَّهَار من الْغَد حَتَّى مَاتَ عدد كثير فرحلوا وَقد مَاتَ مِنْهُم سِتَّة أُمَرَاء وَنَحْو ألف وَمِائَتَا رجل. ودواب كَثِيرَة فَكتب الشَّيْخ حسن بذلك إِلَى سُلْطَان مصر. وَفِي أول جُمَادَى الأولى: ابْتَدَأَ الوباء بِأَرْض حلب فَعم جَمِيع بِلَاد الشَّام وبلاد ماردين وجبالها وباد أهل الْغَوْر وسواحل عكا وصفد وبلاد الْقُدس ونابلس والكرك وعربان الْبَوَادِي وسكان الْجبَال والضياع. وَلم يبْق فِي بَلْدَة جينين سوى عَجُوز وَاحِدَة خرجت مِنْهَا فارة. وَلم يبْق. بِمَدِينَة لد أحد وَلَا بالرملة وَصَارَت الْخَانَات وَغَيرهَا ملآنة بجيف الْمَوْتَى. وَلم يدْخل الوباء معرة النُّعْمَان من بِلَاد الشَّام وَلَا بلد شيزر وَلَا حارم. وَأول مَا بَدَأَ الوباء بِدِمَشْق كَانَ يخرج خلف أذن الْإِنْسَان بثرة فيخر صَرِيعًا ثمَّ صَار يخرج بالإنسان كبة تَحت إبطه فَلَا يلبث وَيَمُوت سَرِيعا. ثمَّ خرجت بِالنَّاسِ خيارة فقتلت قتلا كثيرا. وَأَقَامُوا على ذَلِك مُدَّة ثمَّ بصقوا الدَّم فَاشْتَدَّ الهول من كَثْرَة الْمَوْت حَتَّى أَنه أَكثر من كَانَ يعِيش بعد نفث الدَّم نَحْو خمسين سَاعَة. وَبلغ عدد من يَمُوت بحلب فِي كل يَوْم خَمْسمِائَة إِنْسَان وَمَات بغزة من ثَانِي الْمحرم إِلَى رَابِع صفر - على مَا ورد فِي كتاب نائبها - زِيَادَة على اثْنَيْنِ وَعشْرين ألف إِنْسَان حَتَّى لقت أسواقها. وَشَمل الْمَوْت أهل الضّيَاع بِأَرْض غَزَّة وَكَانَ أَوَاخِر زمَان الْحَرْث. فَكَانَ الرجل يُوجد مَيتا والمحراث فِي يَده وَيُوجد أخر قد مَاتَ وَفِي يَده مَا يبذره وَمَاتَتْ أبقارهم. وَخرج رجل بِعشْرين نَفرا لإِصْلَاح أرضه فماتوا وَاحِدًا بعد وَاحِد وَهُوَ يراهم يتساقطون قدامه. فَعَاد إِلَى غَزَّة وَسَار مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَة. وَدخل سِتَّة نفر لسرقة دَار بغزة فَأخذُوا مَا فِي الدَّار لِيخْرجُوا بِهِ فماتوا كلهم. وفر نائبها إِلَى نَاحيَة بدعرش وَترك غَزَّة خَالِيَة.(4/82)
وَمَات أهل قطا وَصَارَت جثثهم تَحت النخيل وعَلى الحوانيت حَتَّى لم يبْق بهَا سوى الْوَالِي وغلامين من أَصْحَابه وحاربة عَجُوز. وَبعث الْوَالِي يستعفي فولى الْوَزير عوضه مبارك أستادار طغجى. وَعم الوباء بِلَاد الفرنج وابتدأ فِي الدَّوَابّ ثمَّ الْأَطْفَال والشباب. فَلَمَّا شنع الْمَوْت فيهم جمع أهل قبرص من فِي أَيْديهم من الأسرى الْمُسلمين وقتلوهم جَمِيعًا من بعد الْعَصْر إِلَى الْمغرب خوفًا أَن يبيد الْمَوْت الفرنج فتملك الْمُسلمُونَ قبرص. فَلَمَّا كَانَ بعد عشَاء الْآخِرَة هبت ريح شَدِيدَة وَحدثت زَلْزَلَة عَظِيمَة وامتد الْبَحْر من المينة نَحْو مائَة قَصَبَة فغرق كثير من مراكبهم وتكسرت. فَظن أهل قبرص أَن السَّاعَة قَامَت فَخَرجُوا حيارى لَا يَدْرُونَ مَا يصنعون ثمَّ عَادوا إِلَى مَنَازِلهمْ فَإِذا أَهَالِيهمْ قد مَاتُوا وَهلك لَهُم ثَلَاثَة مُلُوك وَاسْتمرّ الوباء فيهم مُدَّة أُسْبُوع فَركب فيهم ملكهم الَّذِي ملكوه عَلَيْهِم رَابِعا بجماعته فِي مركب يُرِيدُونَ جَزِيرَة بِقرب مِنْهُم فَلم يمض عَلَيْهِم فِي الْبَحْر سوى يَوْم وَلَيْلَة حَتَّى مَاتَ أَكْثَرهم فِي الْمركب وَوصل باقيهم إِلَى الجزيرة فماتوا بهَا عَن أخرهم. ووافى هَذِه الجزيرة بعد مَوْتهمْ مركب فِيهَا تجار فماتوا كلهم وتجارتهم إِلَّا ثَلَاثَة عشر رجلا فَمروا إِلَى قبرص وَقد بقوا أَرْبَعَة نفر فَلم يَجدوا بهَا أحدا فَسَارُوا إِلَى طرابلس الغرب وَحَدثُوا بذلك فَلم تطل إقامتهم بهَا وماتوا. وَكَانَت المراكب إِذا مرت بجزائر الفرنج لَا تَجِد ركابهَا بهَا أحدا وَإِن صدفت أحدا فِي بَعْضهَا يَدعُوهُم أَن يَأْخُذُوا من أَصْنَاف البضائع بِالصبرِ بِغَيْر ثمن لِكَثْرَة من كَانَ يَمُوت عِنْدهم صَارُوا يلقون فِي الْبَحْر. وَكَانَ سَبَب الْمَوْت عِنْدهم ريح تمر على الْبَحْر فساعة يشمها الْإِنْسَان سقط وَلَا يزَال يضْرب بِرَأْسِهِ الأَرْض حَتَّى يَمُوت. وقدمت مركب إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ تَاجِرًا وَثَلَاثُونَ رجل مَا بَين تجار وَعبيد فماتوا كلهم وَلم يبْق مِنْهُم غير أَرْبَعَة من التُّجَّار وَعبد وَاحِد وَنَحْو أَرْبَعِينَ من البحارة فماتوا جَمِيعًا بالثغر وَعم الْمَوْت أهل حزيرة الأندلس إِلَّا مَدِينَة غرناطة فَإِنَّهُ لم يصب أَهلهَا مِنْهُ شَيْء وباد من عداهم حَتَّى لم يبْق للفرنج من يمْنَع أَمْوَالهم. فأتتهم الْعَرَب من إفريقية تُرِيدُ أَخذ الْأَمْوَال إِلَى أَن صَارُوا على نصف يَوْم مِنْهَا مرت بهم ريح فَمَاتَ مِنْهُم على ظُهُور الْخَيل جمَاعَة كَثِيرَة. ودخلها باقيهم فَرَأَوْا من الْأَمْوَات مَا هالهم وَأَمْوَالهمْ لَيْسَ لَهَا من يحفظها فَأخذُوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ وهم يتساقطون موتى. فنجا من بَقِي مِنْهُم بِنَفسِهِ وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَقد هلك أَكْثَرهم وَالْمَوْت قد فَشَا بأرضهم بِحَيْثُ مَاتَ مِنْهُم فِي لَيْلَة وَاحِدَة عدد عَظِيم وَمَاتَتْ مَوَاشِيهمْ ودوابهم كلهَا.(4/83)
وَعم الموتان إفريقية بأسرها جبالها وصحاريها ومدنها وجافت من الْمَوْتَى وَبقيت أَمْوَال العربان سائبة لَا تَجِد من يرعاها. ثمَّ أصَاب الْغنم دَاء فَكَانَت الشاه إِذا ذبحت وجد لَحمهَا منتنا قد اسود. وَتغَير أَيْضا ريح السّمن وَاللَّبن وَمَاتَتْ الْمَوَاشِي بأسرها. وَشَمل الوباء أَيْضا أَرض برقة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَصَارَ يَمُوت بهَا فِي كل يَوْم مائَة. ثمَّ مَاتَ بالإسكندرية فِي الْيَوْم مِائَتَان وشنع ذَلِك حَتَّى أَنه صلى فِي يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الإسكندري دفْعَة وَاحِدَة على سَبْعمِائة جَنَازَة. وَصَارَ يحملون الْمَوْتَى على الجنويات والألواح. وغلقت دَار الطّراز لعدم الصناع وغلقت دَار الْوكَالَة لعدم الْوَاصِل إِلَيْهَا وغلقت الْأَسْوَاق وديوان الْخمس وأريق من الْخمر مَا يبلغ ثمنه زِيَادَة على خَمْسمِائَة دِينَار. وقدمها مركب فِيهِ إفرنج فَأخْبرُوا أَنهم رَأَوْا بِجَزِيرَة طرابلس مركبا عَلَيْهِ طير يحوم فِي غَايَة الْكَثْرَة فقصدوه فَإِذا جَمِيع من فِيهِ من النَّاس موتى وَالطير تأكلهم وَقد مَاتَ من الطير أَيْضا شَيْء كثير فتركوهم ومروا فَمَا وصلوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة حَتَّى مَاتَ زِيَادَة على ثلثيهم. وفشى الْمَوْت. بِمَدِينَة دمنهور وتروجه والبحيرة كلهَا حَتَّى عَم أَهلهَا وَمَاتَتْ دوابهم فَبَطل من الْوَجْه البحري سَائِر الضمانات وَالْمُوجِبَات السُّلْطَانِيَّة. وكل الْمَوْت أهل البرلس ونستراوه وتعطل الصَّيْد من البحرة لمَوْت الصيادين. وَكَانَ يخرج بهَا فِي المراكب عدَّة من الصيادين لصيد الْحُوت فَيَمُوت أَكْثَرهم فِي المراكب وَيعود من بَقِي مِنْهُم فَيَمُوت بعد عوده من يَوْمه هُوَ وَأَوْلَاده وَأَهله. وَوجد فِي حيتان البطارخ شَيْء منتن وَفِيه على رَأس البطرخة كَبه قدر البندقة قد اسودت. وَوجد فِي جَمِيع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود وَتلف أَكثر ثَمَر النّخل عِنْدهم. وَصَارَت الْأَمْوَات على الأَرْض فِي جَمِيع الْوَجْه البحري وَلَا يُوجد من يدفنها وَعظم الوباء بالمحلة حَتَّى أَن الْوَالِي كَانَ لَا يجد من يشكو إِلَيْهِ وَكَانَ القَاضِي إِذا أَتَاهُ من يُرِيد الْإِشْهَاد على وَصيته لَا يجد من الْعُدُول أحدا إِلَّا بعد عناء لقلتهم وَصَارَت الفنادق تَجِد من يحفظها. وَعم الوباء جَمِيع تِلْكَ الْأَرَاضِي وَمَات الفلاحون بأسرهم فَلم يُوجد من يضم الزَّرْع وزهد أَرْبَاب الْأَمْوَال فِي أَمْوَالهم وبذلوها للْفُقَرَاء. فَبعث الْوَزير منجك إِلَى الغربية كريم الدّين مُسْتَوْفِي الدولة وَمُحَمّد بن يُوسُف مقدم الدولة فِي جمَاعَة فَدَخَلُوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه وَنَحْوهَا من الْبِلَاد وَأخذُوا مَالا كثير لم يحضروا مِنْهُ سوى سِتِّينَ ألف دِرْهَم.(4/84)
وَعجز أهل بلبيس وَسَائِر الْبِلَاد الشرقية عَن ضم الزَّرْع لِكَثْرَة موت الفلاحين. وَكَانَ ابْتِدَاء الوباء من أول فصل الصَّيف وَذَلِكَ فِي أثْنَاء ربيع الآخر. فجافت الطرقات بالموتى وَمَات سكان بيُوت الشّعْر ودوابهم وكلابهم وتعطلت سواقي ألحنا وَمَاتَتْ الدَّوَابّ والمواشي وَأكْثر هجن السُّلْطَان والأمراء. وامتلأت مَسَاجِد بلبيس وفنادقها وحوانيتها بالموتى وَلم يَجدوا من يدفنهم وجافت سوقها فَلم يقدر أحد على الْقعُود فِيهِ وَخرج من بَقِي من باعتها إِلَى مَا بَين الْبَسَاتِين. وَلم يبْق بهَا مُؤذن وطرحت الْمَوْتَى بجامعها وَصَارَت الْكلاب فِيهِ تَأْكُل الْمَوْتَى ورحل كثير من أَهلهَا إِلَى الْقَاهِرَة وتعطلت بساتين دمياط وسواقيها وجفت أشجارها لِكَثْرَة موت أَهلهَا ودوابهم وَصَارَت حوانيتها مفتحة والمعايش بهَا لَا يقربهَا أحد وغلقت دورها. وَبقيت المراكب فِي الْبحيرَة وَقد مَاتَ الصيادون فِيهَا والشباك بِأَيْدِيهِم مَمْلُوءَة سمكًا مَيتا فَكَانَ يُوجد فِي السَّمَكَة كبة. وَهَلَكت الأبقار الخيسية والجاموس فِي المراحات والجزائر وَوجد فِيهَا أَيْضا الكبة. وَقدم الْخَبَر من دمشق بِأَن الوباء كَانَ بهَا أخف مِمَّا كَانَ بطرابلس وحماة وحلب فَلَمَّا دخل شهر رَجَب وَالشَّمْس فِي برج الْمِيزَان أَوَائِل فصل الخريف هبت ريح فِي نصف اللَّيْل شَدِيدَة جدا واستمرت حَتَّى مضى من النَّهَار قدر ساعتين واشتدت الظلمَة حَتَّى كَانَ الرجل لَا يرى من بجانبه ثمَّ انجلت وَقد علت وُجُوه النَّاس صفرَة ظَاهِرَة فِي وَادي دمشق كُله. وَأخذ فيهم الْمَوْت مِنْهُ شهر رَجَب فَبلغ فِي الْيَوْم ألفا ومائتي إِنْسَان. وَبَطل إِطْلَاق الْمَوْتَى من الدِّيوَان فَصَارَت الْأَمْوَات مطروحة فِي الْبَسَاتِين وعَلى الطرقات. فَقدم على قَاضِي دمشق تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ رجل من جبال الرّوم وَأخْبرهُ أَنه لما وَقع الفناء بِبِلَاد الرّوم رأى رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشَكا إِلَيْهِ مَا نزل بِالنَّاسِ من الفناء فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول لَهُم: اقرأوا سُورَة نوح ثَلَاثَة آلَاف وثلاثمائة وَسِتِّينَ مرّة واسألوا الله أَن يرفع عَنْكُم مَا أَنْتُم فِيهِ فعرفهم قَاضِي دمشق ذَلِك. فَاجْتمع النَّاس فِي الْمَسَاجِد وفعلوا مَا ذكر لَهُم وَتَضَرَّعُوا إِلَى الله وتابوا من ذنوبهم وذبحوا أبقاراً وأغناما كَثِيرَة للْفُقَرَاء مُدَّة سَبْعَة أَيَّام والفناء يتناقص كل يَوْم حَتَّى زَالَ. فَنُوديَ فِي دمشق باجتماع النَّاس بالجامع الْأمَوِي فصاروا إِلَيْهِ جَمِيعًا وقرأوا بِهِ صَحِيح البُخَارِيّ فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَثَلَاث لَيَال ثمَّ خرج النَّاس كَافَّة بصبيانهم إِلَى الْمصلى وكشفوا رُءُوسهم وضجوا بِالدُّعَاءِ وَمَا زَالُوا على ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام فتناقص الوباء حَتَّى ذهب بِالْجُمْلَةِ.(4/85)
وابتدأ الوباء فِي الْقَاهِرَة ومصر بِالنسَاء والأطفال ثمَّ فِي الباعة حَتَّى كثر عدد الْأَمْوَات. فَركب السُّلْطَان إِلَى سرياقوس وَأقَام بهَا من أول رَجَب إِلَى الْعشْرين مِنْهُ وَقصد الْعود إِلَى القلعة وأشير عَلَيْهِ بِالْإِقَامَةِ بسرياقوس وَصَوْم شهر رَمَضَان بهَا. فبلغت عدَّة من يَمُوت ثَلَاثمِائَة نفر كل يَوْم بالطاعون موتا وجباً فِي يَوْم أَو لَيْلَة فَمَا فرغ شهر رَجَب حَتَّى بلغت الْعدة زِيَادَة على الْألف فِي كل يَوْم. وَصَارَ إقطاع الْحلقَة ينْتَقل إِلَى سِتَّة أنفس فِي أقل من أُسْبُوع فشرع النَّاس فِي فعل الْخَيْر وتوهم كل أحد أَنه ميت وَقدم كتب نَائِب حلب بِأَن بعض أكَابِر الصلحاء بحلب رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَومه وشكا إِلَيْهِ مَا نزل بِالنَّاسِ من الوباء فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمُرهُم بِالتَّوْبَةِ وَالدُّعَاء وَهُوَ: اللَّهُمَّ سكن هَيْبَة صدمى قهرمان الحروب بألطافك النَّازِلَة الْوَارِدَة من فيضان الملكوت حَتَّى نتشبث بأذيال لطفك ونعتصم بك عَن إِنْزَال قهرك. يَاذَا الْقُوَّة وَالْعَظَمَة الشاملة وَالْقُدْرَة الْكَامِلَة يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام وَأَنه كتب بهَا عدَّة نسخ بعث بهَا إِلَى حماة وطرابلس ودمشق. وَفِي شعْبَان: تزايد الوباء فِي الْقَاهِرَة وَعظم فِي رَمَضَان وَقد دخل فصل الشتَاء فرسم بالاجتماع فِي الْجَوَامِع للدُّعَاء. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سادس رَمَضَان نُودي أَن يجْتَمع النَّاس بالصناجق الخليفية والمصاحف عِنْد قبَّة النَّصْر فَاجْتمع النَّاس بعامة جَوَامِع مصر والقاهرة وَخرج المصريون إِلَى مصلى خولان بالقرافة واستمرت قِرَاءَة البُخَارِيّ بالجامع الْأَزْهَر وَغَيره عدَّة أَيَّام وَالنَّاس يدعونَ الله تَعَالَى ويقنتون فِي صلواتهم ثمَّ خَرجُوا إِلَى قبَّة النَّصْر وَفِيهِمْ الْأَمِير شيخو والوزير منجك والأمراء بملابسهم الفاخرة من الذَّهَب وَنَحْوه فِي يَوْم الْأَحَد ثامنه. وَفِيه مَاتَ الرحل الصَّالح عبد الله المنوفي فصلى عَلَيْهِ ذَلِك الْجمع الْعَظِيم. وَعَاد الْأُمَرَاء إِلَى سرياقوس وانفض الْجمع. وَاشْتَدَّ الوباء بعد ذَلِك حَتَّى عجز النَّاس عَن حصر الْأَمْوَات. فَلَمَّا انْقَضى شهر رَمَضَان قدم السُّلْطَان من سرياقوس وَحدث فِي شَوَّال بِالنَّاسِ نفث الدَّم فَكَانَ الْإِنْسَان يحس فِي بدنه بحرارة ويجد فِي نَفسه غثيان فيبصق دَمًا وَيَمُوت عَقِيبه ويتبعه أهل الدَّار وَاحِد بعد وَاحِد حَتَّى يفنوا جَمِيعًا بعد لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ فَلم يبْق أحد إِلَّا وَغلب على ظَنّه أَنه يَمُوت بِهَذَا الدَّاء. واستعد النَّاس جَمِيعًا وَأَكْثرُوا من الصَّدقَات وتحاللوا وَأَقْبلُوا على الْعِبَادَة.(4/86)
وَلم يحْتَج أحد فِي هَذَا الوباء إِلَى أشربة وَلَا أدوية وَلَا أطباء لسرعة الْمَوْت. فَمَا تنصف شَوَّال إِلَّا والطرقات والأسوق قد امْتَلَأت بالأموات وانتدبت جمَاعَة لمواراتهم وَانْقطع جمَاعَة للصَّلَاة عَلَيْهِم فِي جَمِيع مصليات الْقَاهِرَة ومصر. وَخرج الْأَمر عَن الْحَد وَوَقع الْعَجز عَن الْعَدو وَهلك أَكثر أجناد الْحلقَة وخلت أطباق القلعة من المماليك السُّلْطَانِيَّة لموتهم. وَمَا أهل ذُو الْقعدَة: إِلَّا الْقَاهِرَة خَالِيَة مقفرة لَا يُوجد فِي شوارعها مار بِحَيْثُ إِنَّه يمر الْإِنْسَان من بَاب زويلة إِلَى بَاب النَّصْر فَلَا يرى من يزاحمه لِكَثْرَة الْمَوْتَى والاشتغال بهم وعلت الأتربة على الطرقات وتنكرت وُجُوه النَّاس وامتلأت الْأَمَاكِن بالصياح فَلَا تَجِد بَيْتا إِلَّا وَفِيه صبحة وَلَا تمر بشارع إِلَّا وَفِيه عدَّة أموات وَصَارَت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط. وصل فِي يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة على الْأَمْوَات بالجامع الحاكمي من الْقَاهِرَة فصفت التوابيت اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ من بَاب مَقْصُورَة الخطابة إِلَى الْبَاب الْكَبِير. ووقف الإِمَام على العتبة وَالنَّاس خَلفه خَارج الْجَامِع. وخلت أَزِقَّة كَثِيرَة وحارات عديدة وَصَارَت حارة برجوان اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين دَارا خَالِيَة. وَبقيت الْأَزِقَّة والدروب. مِمَّا فِيهَا من الدّور المتعددة خَالِيَة وَصَارَت أَمْتعَة أَهلهَا لَا تَجِد من يَأْخُذهَا وَإِذا ورث إِنْسَان شَيْئا انْتقل فِي يَوْم وَاحِد عَنهُ إِلَى رَابِع وخامس. وحصرت عدَّة من صلى عَلَيْهِ بالمصليات خَارج بَاب النَّصْر وخارج بَاب زويلة وخارج بَاب المحروق وَتَحْت القلعة ومصلى قتال السَّبع تجاه بَاب جَامع قوصون فِي يَوْمَيْنِ فبلغت ثَلَاثَة عشر ألفا وَثَمَانمِائَة سوى من مَاتَ فِي الْأَسْوَاق والأحكار وخارج بَاب الْبَحْر وعَلى الدكاكين وَفِي الحسينية وجامع ابْن طولون وَمن تَأَخّر دَفنه فِي الْبيُوت وَيُقَال بلغت عدَّة الْأَمْوَات فِي يَوْم وَاحِد عشْرين ألفا وأحصيت الْجَنَائِز بِالْقَاهِرَةِ فَقَط فِي مُدَّة شعْبَان ورمضان تِسْعمائَة ألف سوى من مَاتَ بالأحكار والحسينية والصليبة وَبَاقِي الخطط خَارج الْقَاهِرَة وهم أَضْعَاف ذَلِك. وعدمت النعوش وَبَلغت عدتهَا ألفا وَأَرْبَعمِائَة نعش. فَحملت الْأَمْوَات على الأقفاص ودراريب الحوانيت وألواح الْخشب وَصَارَ يحمل الإثنان وَالثَّلَاثَة فِي نعش وَاحِد على لوح وَاحِد. وَطلبت الْقُرَّاء إِلَى الْأَمْوَات فَأبْطل كثير من النَّاس صناعاتهم وانتدبوا للْقِرَاءَة أَمَام الْجَنَائِز. وَعمل جمَاعَة من النَّاس مدراء وَجَمَاعَة تصدوا لتغسيل الْأَمْوَات وَجَمَاعَة لحملهم فنالوا بذلك سَعَادَة وافرة. وَصَارَ الْمُقْرِئ يَأْخُذ عشرَة دَرَاهِم وَإِذا وصل الْمَيِّت إِلَى الْمصلى تَركه وَانْصَرف لآخر. وَصَارَ الْحمال يَأْخُذ سِتَّة دَرَاهِم بعد الدخلة عَلَيْهِ إِذا وجد وَيَأْخُذ الحفار أُجْرَة الْقَبْر خمسين درهما فَلم يمتع أَكْثَرهم بذلك وماتوا.(4/87)
وَدخلت غاسلة مرّة لتغسل امْرَأَة فَلَمَّا جردتها من ثِيَابهَا وَمَرَّتْ بِيَدِهَا على مَوضِع الكبة صاحت وَسَقَطت ميته فَوجدَ فِي بعض أصابعها كبة بِقدر الفولة. وامتلأت الْمَقَابِر من بَاب النَّصْر إِلَى قبَّة النَّصْر طولا وَإِلَى الْجَبَل عرضا. وامتلأت مَقَابِر الحسينية إِلَى الريدانية ومقابر خَارج بَاب المحروق والقرافة. وَصَارَ النَّاس يبيتُونَ بموتاهم على الترب لعجزهم عَن تواريهم. وَكَانَ أهل الْبَيْت يموتون جَمِيعًا وهم عشرات فَمَا يُوجد لَهُم سوى نعش وَاحِد ينقلون فِيهِ شَيْئا بعد شَيْء. وَأخذ كثير من النَّاس دوراً وأثاثاً وأموالا من غير اسْتِحْقَاق لمَوْت مستحقيها فَلم يتمل أَكْثَرهم. مِمَّا أَخذ وَمَات وَمن عَاشَ مِنْهُم اسْتغنى بِهِ. وَأخذ كثير من الْعَامَّة إقطاعات الْحلقَة وَقَامَ الْأَمِير شيخو والأمير مغلطاي أَمِير آخور بتغسيل النَّاس وتكفينهم ودفنهم. وَبَطلَت الأفراح والأعراس من بَين النَّاس فَلم يعرف أَن أحدا عمل فَرحا فِي مُدَّة الوباء وَلَا سمع صَوت غناء. وتعطل الْأَذَان من عدَّة مَوَاضِع وَبَقِي فِي الْموضع الْمَشْهُور بِأَذَان وَاحِد. وَبَطلَت أَكثر طبلخاناه الْأُمَرَاء وَصَارَ فِي طبلخاناه الْمُقدم ثَلَاثَة نفر بَعْدَمَا كَانُوا خَمْسَة عشر. وغلقت أَكثر الْمَسَاجِد والزوايا. وَاسْتقر أَنه مَا ولد أحد فِي هَذَا الوباء إِلَّا وَمَات بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ وَلَحِقتهُ أمه. وَشَمل فِي آخر السّنة الفناء بِلَاد الصَّعِيد بأسرها وتعطلت دواليبها. وَلم يدْخل الوباء ثغر أسوان فَلم يمت بِهِ سوى أحد عشر إنْسَانا. وَطلب بِنَاحِيَة بهجورة شَاهد فَلم يُوجد وَخرج من مَدِينَة أخميم شَاهد مساحة مَعَ قاضيها بقياسين لقياس بعض الْأَرَاضِي فعندما وضعت القصبة للْقِيَاس سقط أحد القياسين فَحَمله رَفِيقه إِلَى الْبَلَد فَسقط بجنبه وَمَات وَأخذت الشَّاهِد الْحمى. وَاجْتمعَ ثَلَاثَة بِنَاحِيَة أبيار وَكَتَبُوا أوراقاً بِأَسْمَائِهِمْ وَمن يَمُوت مِنْهُم قبل صَاحبه فطلعت الأوراق. بِمَوْت وَاحِد بعد آخر فَمَاتَ الثَّلَاثَة على مَا طلع فِي الأوراق وَكتب بذلك محْضر ثَابت قدم إِلَى الْقَاهِرَة. وَكَانَت البزداريه إِذا رمت طيراً من الْجَوَارِح على طَائِر ليصيده وجد الصَّيْد وَفِيه كبة كالبندقة وَلم تذبح أوزة وَلَا شَيْء من الطُّيُور إِلَّا وجد فِيهِ كبة. وَوجدت طيور(4/88)
كَثِيرَة فِي الزروع ميتَة مَا بَين غربان وحدأة وَغَيرهَا من سَائِر أَصْنَاف الطُّيُور فَكَانَت إِذا نتفت وجد فِيهَا أثر الكبة. وَمَاتَتْ القطاط حَتَّى قل وجودهَا. وتواترت الْأَخْبَار من الْغَوْر وبيسان وَغير ذَلِك من النواحي أَنهم كَانُوا يَجدونَ الْأسود والذئاب والأرانب وَالْإِبِل وحمر الْوَحْش والخنازير وَغَيرهَا من الوحوش ميتَة وفيهَا أثر الكبة. وَكَانَت الْعَادة إِذا خرج السُّلْطَان إِلَى سرحة سرياقوس يقلق النَّاس من كَثْرَة الحدأة والغربان وتحليقها على مَا هُنَاكَ من اللحوم الْكَثِيرَة فَلم يُشَاهد مِنْهَا شَيْء مُدَّة شهر رَمَضَان وَالسُّلْطَان هُنَاكَ لفنائها. وَكَانَت بحيرات السّمك بدمياط ونستراوة وسخا تُوجد أسماكها الْكَثِيرَة طافية على المَاء وفيهَا الكبة. وَكَذَلِكَ كلما يصطاد مِنْهَا بِحَيْثُ امْتنع النَّاس من أكله. وَكثر عناء الأجناد وَغَيرهم فِي أَمر الزَّرْع فَإِن الوباء ابْتَدَأَ فِي آخر أَيَّام التخضير فَكَانَ الحراث يمر ببقره وهى تحرث فِي أَرَاضِي الرملة وغزة والساحل وَإِذا بِهِ يخر مَيتا والمحراث فِي يَده وَيبقى بقره بِلَا صَاحب. ثمَّ كَانَ الْحَال كَذَلِك بأراضي مصر فَمَا جَاءَ أَوَان الْحَصاد حَتَّى فني الفلاحون وَلم يبْقى مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل فَخرج الأجناد وغلمانهم لتحصد وَنَادَوْا من يحصد وَيَأْخُذ نصف مَا يحصده. فَلم يَجدوا من يساعدهم على ضم الزروع ودرسوا غلالهم على خيوهم وذروها بِأَيْدِيهِم وعجزوا عَن كثير من الزَّرْع فَتَرَكُوهُ. وَكَانَت الإقطاعات قد كثر تنقلها من كَثْرَة موت الأجناد بِحَيْثُ كَانَ الإقطاع الْوَاحِد يصير من وَاحِد إِلَى آخر حَتَّى يَأْخُذهُ السَّابِع وَالثَّامِن. فَأخذ إقطاعات الأجناد أَرْبَاب الصَّنَائِع من الخياطين والإسكافية والمنادمين وركبوا الْخُيُول ولبسوا تكلفتاه والقباء. وَلم يتَنَاوَل أحد من إقطاعه مغلا كَامِلا وَكثير مِنْهُم لم يحصل لَهُ شَيْء. فَلَمَّا كَانَ أَيَّام النّيل وَجَاء أَوَان التخضير تعذر وجود الرِّجَال فَلم يخضر إِلَّا نصف الْأَرَاضِي. وَلم يُوجد أحد يَشْتَرِي القرط الْأَخْضَر وَلَا من يرْبط عَلَيْهِ خيوله فَانْكَسَرت بِلَاد الْملك من ضواحي الْقَاهِرَة مثل المطرية وَالْخُصُوص وسرياقوس وبهتيت. وَتركت. ألف وَخَمْسمِائة فدان براسيم بِنَاحِيَة ناي وطنان فَلم يُوجد من يَشْتَرِيهَا لرعي دوابه وَلَا من يعملها دريسا.(4/89)
وخلت بِلَاد الصَّعِيد مَعَ اتساع أرْضهَا بِحَيْثُ كَانَت مكلفة مساحي أَرض سيوط تشْتَمل على سِتَّة آلَاف نفر يَجِيء مِنْهُم الْخراج فَصَارَت فِي سنة الوباء هَذِه تشْتَمل على مائَة وَسِتَّة عشر نَفرا وَمَعَ ذَلِك فَكَانَ سعر الْقَمْح لَا يتَجَاوَز خَمْسَة عشر درهما الأردب. وتعطلت أَكثر الصَّنَائِع وَعمل كثير من أَرْبَاب الصَّنَائِع أشغال الْمَوْتَى وتصدى كثير مِنْهُم للنداء على الْأَمْتِعَة. وانحط سعر القماش وَنَحْوه حَتَّى أبيع بِخمْس ثمنه وَأَقل وَلم يُوجد من يَشْتَرِيهِ وَصَارَت كتب الْعلم يُنَادى عَلَيْهَا بالأحمال فَيُبَاع الْحمل مِنْهَا بأبخس ثمن واتضعت أسعار المبيعات كلهَا حَتَّى كَانَت الْفضة النقرة الَّتِي يُقَال لَهَا. بِمصْر الْفضة الْحجر تبَاع الْعشْرَة مِنْهَا بِتِسْعَة دَرَاهِم كاملية. وَبَقِي الدِّينَار بِخَمْسَة عشر درهما بَعْدَمَا كَانَ بِعشْرين. وعدمت جَمِيع الصَّنَائِع فَلم يُوجد سقاء وَلَا بَابا وَلَا غُلَام. وَبَلغت جامكية غُلَام الْخَيل ثَمَانِينَ درهما فِي كل شهر بعد ثَلَاثِينَ درهما. فَنُوديَ بِالْقَاهِرَةِ من كَانَت لَهُ صَنْعَة فَليرْجع إِلَى صَنعته وَضرب جمَاعَة مِنْهُم. وَبلغ ثمن راوية المَاء إِلَى ثَمَانِيَة دَرَاهِم لقلَّة الرّحال وَالْجمال وَبَلغت أُجْرَة طحن الأردب الْقَمْح خَمْسَة عشر درهما. وَيُقَال إِن هَذَا الوباء أَقَامَ على أهل الأَرْض مُدَّة خمس عشرَة سنة وَقد أَكثر النَّاس من ذكره فِي أشعارهم فَقَالَ الأديب زين الدّين عمر بن الوردي من مقامة عَملهَا: إسكندرية ذَا الوبا سبع يمد إِلَيْك ضبعه صبرا لقسمتك الَّتِي تركت من السّبْعين سبعه وَقَالَ: أصلح الله دمشقاً وحماها عَن مسبه وَقَالَ: إِن الوبا قد غلبا وَقد بدا فِي حَلبًا قَالُوا لَهُ عي الورى كَاف ورا قلت وبا وَقَالَ: الله أكبر من وباء قد سبا ويصول فِي الْعُقَلَاء كَالْمَجْنُونِ(4/90)
سنت أسنته لكل مَدِينَة فعجبت للمكروه فِي الْمسنون. وَقَالَ: حلب وَالله يَكْفِي شَرها أَرض مشقه أَصبَحت حَبَّة سوء تقتل النَّاس ببزقه وَقَالَ: قَالُوا فَسَاد الْهَوَاء يردى فَقلت يردى هوى الْفساد كم سيئات وَكم خَطَايَا نَادَى عَلَيْكُم بهَا الْمُنَادِي وَقَالَ: فَهَذَا يوصى بأولاده وَهَذَا يودع إخوانه وَهَذَا يُصَالح أعداءه وَهَذَا يلاطف جِيرَانه وَهَذَا يُوسع إِنْفَاقه وَهَذَا يخالل من خانه وَهَذَا يحبس أملاكه وَهَذَا يحرر غلمانه وَهَذَا يُغير أخلافه وَهَذَا يُغير مِيزَانه أَلا إِن هَذَا الوبا قد سبا وَقد كَاد يُرْسل طوفانه وَلَا عَاصِم الْيَوْم من أمره سوى رَحْمَة الله عبدانه وَقَالَ الصّلاح خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي: قد قلت الطَّاعُون وَهُوَ بغزة قد جال من قطيا إِلَى بيروت أخليت أَرض الشَّام من سكانها وحكمت يَا طاعون بالطاغوت وَقَالَ: لما افترست صَحَابِيّ يَا عَام تسع وأربعينا مَا كنت وَالله تسعا بل كنت سبعا يَقِينا وَقَالَ: وَقَالَ: أسفي على أكناف جلق إِذْ غَدا الطَّاعُون فِيهَا ذَا زناد وارى(4/91)
الْمَوْت أرخص مَا يكون بِحَبَّة وَالظُّلم زَاد فَصَارَ بالقنطار وَقَالَ: أما دمشق فَإِنَّهَا قد أوحشت من بعد مَا شهد الْبَريَّة أُنْسُهَا تاهت بعجب زَائِد حَتَّى لقد ضربت بطاعون عَظِيم نَفسهَا وَقَالَ: تعجبت من طاعون جلق إِذْ غَدا وَمَا فَاتَت الآذان وقْعَة طعنه فكم مُؤمن تَلقاهُ أذعن طَائِعا على أَنه قد مَاتَ من خلف أُذُنه وَقَالَ: رعى الرَّحْمَن دهرا قد تولى يُحَاذِي بالسلامة كل شَرط وَكَانَ النَّاس فِي غفلات أَمر فجا طاعونهم من تَحت إبط وَقَالَ: يَا رحمتا لدمشق من طاعونها فَالْكل مغتبق بِهِ أَو مصطبح وَقَالَ: مُصِيبَة الطَّاعُون قد أَصبَحت لم يخل مِنْهَا فِي الورى بقعه يدْخل فِي الْمنزل لَو أَنه مَدِينَة أخلاه فِي جمعه وَقَالَ الأديب بدر الدّين الْحسن بن حبيب الْحلَبِي: إِن هَذَا الطَّاعُون يفتك فِي الْعَالم فتك امْرِئ ظلوم حقود وَيَطوف الْبَلَد شرقاً وغرباً وَيسْرق الْعباد نَحْو اللحود قد أَبَاحَ الدما وَحرم جمع الشمل قهرا وَحل نظم الْعُقُود كم طوى النشر من أَخ عَن أَخِيه وسبا عقل وَالِد بوليد وَقَالَ: أيتم الطِّفْل أنكل الْأُم أبكى الْعين أجْرى الدُّمُوع فَوق الخدود بسهام يَرْمِي الْأَنَام خفيات تشق الْقُلُوب قبل الْجُلُود كَمَا قلب زِدْت فِي النَّقْص أقصر وتلبث يَقُول هَل من مزِيد إِن أعش بعده فَإِنِّي شكور مخلص الْحَمد للْوَلِيّ الحميد وَإِذا مت هنئوني وَقُولُوا كم قَتِيل كَمَا قتلت شَهِيد(4/92)
وَقَالَ الأديب جمال الدّين مُحَمَّد بن نباتة الْمصْرِيّ: سر بِنَا عَن دمشق ياطالب الْعَيْش فَمَا فِي الْمقَام للمرء رغبه رخصت أنفس الْخَلَائق بالطاعون فِيهَا كل نفس بحبه وَقَالَ الصّلاح خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي أَيْضا: قد نغص الطَّاعُون عَيْش الورى وأذهل الْوَالِد والوالده كم منزل كالشمع سكانه أطفأهم فِي نفخة واحده وَقَالَ: لَا تثق بِالْحَيَاةِ طرفَة عين فِي زمَان طاعونه مستطير فَكَأَن الْقُبُور شغلة شمع والبرايا لَهَا فرَاش يطير وَقَالَ الأديب إِبْرَاهِيم المعمار: يَا طَالب الْمَوْت أفق وانتبه هَذَا أَوَان الْمَوْت مَا فاتا قد رخص الْمَوْت على أَهله وَمَات من لَا عمره مَاتَا وَقَالَ: قبح الطَّاعُون دَاء فقدت فِيهِ الْأَحِبَّة وَمَات فِي هده السّنة خلائق من الْأَعْيَان مِنْهُم برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن لاجين بن عبد الله الرَّشِيدِيّ الشَّافِعِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشري شَوَّال ومولده سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة أَخذ الْقرَاءَات على التقي الصَّائِغ وَسمع الحَدِيث من الأبرقوهي وَأخذ الْفِقْه عَن الْعلم الْعِرَاقِيّ وبرع فِيهِ وَفِي الْأُصُول والنحو وَغَيره ودرس وأقرأ وخطب بِجَامِع أَمِير حُسَيْن واشتهر بالصلاح. وَتُوفِّي برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن عَليّ الحكري شيخ الإقراء فِي يَوْم عيد النَّحْر. أَخذ الْقرَاءَات عَن التقي الصَّائِغ وَنور الدّين عَليّ بن يُوسُف بن حَرِير الشنطوفي. وَتُوفِّي الأديب إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم المعمار. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن عز الدّين أيبك بن عبد الله الحسامي الْمصْرِيّ الدمياطي نِسْبَة إِلَى جده لأمه الشَّافِعِي الجندي. وَمَات الأديب المادح شهَاب الدّين أَحْمد بن مَسْعُود بن أَحْمد بن مَمْدُود السنهوري أَبُو الْعَبَّاس الضَّرِير كَانَت لَهُ قدرَة زَائِدَة على النّظم وشعره كثير.(4/93)
وَمَات الْأَمِير أَحْمد بن مهنا بن عِيسَى بن مهنا بن مَانع بن حَدِيثَة بن غضية بن فضل ابْن ربيعَة أَمِير آل فضل بسلمية عَن نَيف وَخمسين سنة. وَتُوفِّي كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق شهَاب الدّين أَحْمد بن محيى الدّين بن فضل الله بن عَليّ الْعمريّ فِي تَاسِع ذِي الْحجَّة بِدِمَشْق ومولده بهَا فِي ثَالِث شَوَّال سنة سَبْعمِائة. عرف الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي ودرس الْعَرَبيَّة وبرع فِي الْإِنْشَاء والتاريخ وَقَالَ الشّعْر الْجيد وصنف عدَّة كتب فِي التَّارِيخ وَالْأَدب وباشر كِتَابَة السِّرّ بديار مصر عَن أَبِيه فِي حَيَاته ثمَّ اسْتَقل فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن قيس بن ظهير الْأنْصَارِيّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي يَوْم عيد النَّحْر بِالْقَاهِرَةِ. درس بالخشابية والمشهد الْحُسَيْنِي وبرع فِي الْفِقْه وعظمت شهرته وَمَات أَحْمد بن الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد. وَمَات الْأَمِير أَحْمد بن الْأَمِير أصلم. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن الْوَجِيه الْمُحدث. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن ميلق الشاذلي. وَمَات الْأَمِير أَحْمد بن الْأَمِير جنكلى بن البابا قَرِيبا من عقبَة أَيْلَة بعد عوده من الْحَج وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن الغزاوي نَاظر الْأَوْقَاف المارستان بطرِيق الْحجاز. وَتُوفِّي الْمسند زين الدّين أَبُو بكر بن قَاسم بن أبي بكر الرَّحبِي الْحَنْبَلِيّ بِدِمَشْق ومولده سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير آقبغا أَخُو الْأَمِير طقزدمر الْحَمَوِيّ. وَمَات الْأَمِير أسندمر القلنجقي وَالِي الْقَاهِرَة. وَمَات الْأَمِير إِسْمَاعِيل الوافدي وَالِي قوص مقتولا. وَمَات الْأَمِير إلمش الجمدار الْحَاجِب بِدِمَشْق وَكَانَ مشكورا. وَمَات الْأَمِير بلك المظفري الجمدار أحد أُمَرَاء الألوف فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشرى شَوَّال.(4/94)
وَمَات الْأَمِير برلغي الصَّغِير قريب السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون. قدم إِلَى الْقَاهِرَة صُحْبَة القازانية سنة أَربع وَسَبْعمائة فأنعم عَلَيْهِ بإمرة وَتزَوج ابْنة الْأَمِير بيبرس الجاشنكير قبل سلطنته وَعمل لَهُ مُهِمّ عَظِيم أشعل فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف شمعة. ثمَّ قبض عَلَيْهِ بعد زَوَال المظفر بيبرس وامتحن وَحبس عشْرين سنة. ثمَّ أفرج عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف فَمَاتَ بعد أَيَّام. وَمَات الْأَمِير بلبان الْحُسَيْنِي أَمِير جاندار وَهُوَ من المماليك المنصورية قلاوون وَقد أناف على الثَّمَانِينَ. وَمَات الْأَمِير بكتوت الفرماني أحد المماليك المنصورية قلاوون وَكَانَ أحد الْأُمَرَاء البرجية ثمَّ ولي شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وَحبس ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بطبلخاناه فِي ديار مُضر وَكَانَت بِهِ حدبة فَاحِشَة وولع بتتبع المطالب وَعمل الكيميا. وَمَات الْأَمِير تمربغا الْعقيلِيّ نَائِب الكرك فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ مشكور السِّيرَة وَتُوفِّي كَمَال الدّين جَعْفَر بن ثَعْلَب بن جَعْفَر بن عَليّ الإدفوي الْفَقِيه الشَّافِعِي الأديب الْفَاضِل لَهُ كتاب الطالع السعيد فِي تَارِيخ الصَّعِيد وَغَيره وشعره جيد. وَمَات الْأَمِير وداد بن الشَّيْبَانِيّ متولى إِيَاس وَكَانَ مشكور السِّيرَة. وَمَات الْأَمِير سنقر الرُّومِي الْمُسْتَأْمن. قدم رَسُولا من الفرنج فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد قلاوون فَأسلم وأنعم عَلَيْهِ بإمرة عشرَة. ثمَّ اخْتصَّ بالصالح إِسْمَاعِيل وأخيه شعْبَان الْكَامِل واتهم بِأَنَّهُ ركب لَهما السمُوم فَقبض عَلَيْهِ بعد انْقِضَاء أَيَّام المظفر حاجي وَنفي. ثمَّ أحضر وأنعم عَلَيْهِ بإمرة. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين خَليفَة وَزِير الْبِلَاد القانية عَليّ شاه فِي سادس عشرى جُمَادَى الأولى بِدِمَشْق وَكَانَ قد قدم من بِلَاد الْمشرق وَأعْطِي إقطاعاً. وَتُوفِّي نجم الدّين سعيد بن عبد الله الدهلي بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ(4/95)
الْحَافِظ خَامِس عشرى ذِي الْقعدَة وَله كتاب تفتيت الأكباد فِي وَاقعَة بَغْدَاد. ولد سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة وَقدم من بَغْدَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَسمع ودأب وصنف فبرع فِي الحَدِيث وَمَعْرِفَة التراحم. وَتُوفِّي جمال الدّين أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن أبي الْحسن بن سُلَيْمَان بن رَيَّان الْحلَبِي نَاظر الْجَيْش بهَا وَمَات شيرين بن شيخ الخانكاه الركنية بيبرس فولى بعده نجم الدّين الْمَلْطِي فَمَاتَ عَن قريب. وَمَات الْأَمِير طشتمر طلليه أحد الْأُمَرَاء المقدمين فِي شَوَّال وَقيل لَهُ طلليه لِأَنَّهُ كَانَ إِذا تكلم قَالَ فِي أخر كَلَامه طلليه وَهُوَ من المماليك الناصرية. وَمَات الْأَمِير طغاي الكاشف مقتولا فَقدم الْخَبَر بقتْله يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشرى ذِي الْقعدَة. وَمَاتَتْ خوند طغاي أم آنوك وَتركت مَالا كَبِيرا وَألف جَارِيَة وَثَمَانِينَ طواشيا وأعتقت الْجَمِيع وَلها تنْسب تربة خوند بالصحراء. وَتُوفِّي الصفي عبد الْعَزِيز بن سَرَايَا بن عَليّ بن أبي الْقَاسِم بن أَحْمد بن نصر بن أبي الْعَزِيز سَرَايَا بن ناقا بن عبد الله السنبسي الْحلِيّ الأديب الشَّاعِر آخر يَوْم من ذِي الْحجَّة ومولده خَامِس ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة قدم الْقَاهِرَة مرَّتَيْنِ. وَتُوفِّي تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد عبد الْكَرِيم الْقزْوِينِي الشَّافِعِي خطيب الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق وَتُوفِّي مَعَه أَخُوهُ صدر الدّين عبد الْكَرِيم. وَتُوفِّي الرجل الصَّالح عبد الله المنوفي الْمَالِكِي فِي يَوْم الْأَحَد ثامن رَمَضَان وقبره خَارج الْقَاهِرَة يقْصد للتبرك بِهِ. وَتُوفِّي الْمسند بهاء الدّين عَليّ بن عمر بن أَحْمد الْمَقْدِسِي الصَّالِحِي الدِّمَشْقِي وَقد أناف على الثَّمَانِينَ حدث عَن ابْن البُخَارِيّ وَغَيره.(4/96)
وَمَات أَمِير عَليّ بن طغريل الإيغاني أحد أُمَرَاء الألوف. وَمَات أَمِير عَليّ بن الْأَمِير أرغون النَّائِب. وَتُوفِّي شيخ الشُّيُوخ بِدِمَشْق عَلَاء الدّين عَليّ بن مَحْمُود بن حميد القونوي الْحَنَفِيّ فِي رَابِع رَمَضَان. وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن دَاوُد هَارُون بن يُوسُف بن عَليّ الْحَارِثِيّ الصَّفَدِي أحد موقعي الدست - وَقد أناف على السِّتين - بِالْقَاهِرَةِ برع فِي الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي وَفِي الْعَرَبيَّة والإنشاء ونظم الشّعْر. وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن المظفر بن عمر بن مُحَمَّد بن أبي الفوارس بن عَليّ المغربي الْحلَبِي الْمَعْرُوف بِابْن الوردي الْفَقِيه الشَّافِعِي وَهُوَ ناظم الْحَاوِي وَقد جَاوز السِّتين وَكَانَت وَفَاته بحلب فِي تَاسِع عشرى ذِي الْحجَّة. وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن عَامر بن الْخضر بن عمر بن ربيع العامري الغري الشَّافِعِي. بِمَدِينَة بلبيس عَن إِحْدَى وَسبعين بَاشر بالكرك وعجلون وقوص وبلبيس وبرع فِي الْفِقْه. وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْحَاكِم بن عبد الرَّزَّاق البلقيائي الشَّافِعِي قَاضِي حلب وصفد وَبهَا مَاتَ عَن نَحْو سبعين سنة. وَمَات الْأَمِير ركن الدّين عمر بن طقصو وَكَانَ فَاضلا صنف فِي الموسيقا وَغَيره. وَمَات الطواشي عنبر السحرتي اللالا مقدم المماليك منفياً بالقدس. وَمَات الْأَمِير قطز أَمِير آخور ونائب صفد وَهُوَ من جملَة الْأُمَرَاء بِدِمَشْق يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة وَمَات الْأَمِير قرونه من الأويراتية. وَمَات الْأَمِير قطليجا السيفي البكتمري مُتَوَلِّي الْإسْكَنْدَريَّة ووالي الْقَاهِرَة. وَمَات الْأَمِير كوكاي السِّلَاح دَار المنصوري وَترك زِيَادَة على أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار. وَتُوفِّي قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب نور الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن عبد الْخَالِق بن خَلِيل بن مقلد بن جَابر بن الصَّائِغ الْأنْصَارِيّ وَقد أناف على السّبْعين. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن عَدْلَانِ الْفَقِيه الشَّافِعِي عَن سِتّ وَثَمَانِينَ سنة بِالْقَاهِرَةِ.(4/97)
وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْمُؤمن بن اللبان الأسعردي الْفَقِيه الشَّافِعِي عَن تسع وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الكتاني الشَّافِعِي. وَتُوفِّي عماد الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد البلبيسي الشَّافِعِي قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة فِي الْأَيَّام الناصرية وَهُوَ مَعْزُول فِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر شعْبَان. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن مِسْكين نَاظر الأحباس. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الأسيوطي وناظر بَيت المَال وَهُوَ باني جَامع الأسيوطي بِخَط جَزِيرَة الْفِيل. وَتُوفِّي الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد الْأَكْفَانِيِّ الْحَكِيم صَاحب التصانيف فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشرى شَوَّال. وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن صَغِير الطّيب وَله شعر جيد. وَمَات الشَّيْخ شمس الدّين مَحْمُود بن أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الْأَصْفَهَانِي الْفَقِيه الشَّافِعِي ذُو الْفُنُون بِالْقَاهِرَةِ فِي ذِي الْقعدَة ومولده سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير شرف الدّين مَحْمُود بن خطير أَخُو أَمِير مَسْعُود. وَمَات نكباي البريدي أحد المماليك المنصورية قلاوون ولي قطيا وإسكندرية ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بطبلخاناه وَاسْتقر مهمنداراً وَإِلَيْهِ تنْسب دَار نكباي خَارج مَدِينَة مصر على النّيل وعني بعمارتها فَلم يمتع بهَا. وَتُوفِّي الشَّيْخ المعتقد يُوسُف المرحلي.(4/98)
وَمَات نور الدّين الْفرج. وَتُوفِّي نور الدّين الْفرج بن مُحَمَّد بن أبي الْفرج الأردبيلي الشَّافِعِي: شَارِح منهاج الْبَيْضَاوِيّ فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة بِدِمَشْق.(4/99)
فارغة(4/100)
(سنة خمسين وَسَبْعمائة)
أهل شهر الله الْمحرم: وَقد تناقص الوباء. وَفِيه أخرج الْأَمِير قبجق إِلَى دمشق على إمرة طبلخاناه. وَفِيه اجْتمع رَأْي كثير من طَائِفَة الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة على أَن يكون قاضيهم جمال الدّين عبد الله بن قَاضِي الْقُضَاة عَلَاء الدّين بن عُثْمَان التركماني بعد موت وَالِده فِي تاسعه وطلبوا ذَلِك من الْأَمِير شيخو وَغَيره فأجيبوا إِلَيْهِ. وَطلب جمال الدّين وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة وَنزل إِلَى الْمدرسَة الصالحية وعمره دون الثَّلَاثِينَ سنة. وَفِيه قدم الْحَاج وَفهم قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عمر البسطامي. فَترك قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين عبد الله بن التركماني تدريس الْحَنَفِيَّة بِجَامِع أَحْمد بن طولون فشكره النَّاس على هَذَا. وَفِيه وَقدم أَيْضا قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فزوج قاضى الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة جمال الدّين عبد الله بن التركماني بابنته. وَفِيه وَقدم أَيْضا الْأَمِير فَارس الدّين وَقد نازعه عرب بني شُعْبَة فِي عمَارَة عين جوبان فَجمع لَهُم وَقَاتلهمْ وَقتل مِنْهُم جمَاعَة وجرح كثيرا وَهَزَمَهُمْ وَقتل لَهُ مملوكان وَأصْلح الْأَمِير فَارس الدّين الْعين حَتَّى جرى مَاؤُهَا بقلة وَكَانَ الغلاء. بِمَكَّة شَدِيدا بلغت الويبة من الشّعير إِلَى سبعين درهما فَهَلَك كثير من الْجمال وَوَقع. بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَعَامة بِلَاد الْحجاز وبواديها وباء عَظِيم حَتَّى جافت الْبَوَادِي. وَفِيه خلع على تَاج الدّين مُحَمَّد بن علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى الأخنائي وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة عوضا عَن عَمه تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى الأخنائي بعد مَوته. وَفِيه تقدم الْوَزير منجك لعلاء الدّين عَليّ بن الكوراني وَالِي الْقَاهِرَة بِطَلَب الخفراء أَصْحَاب الرباع وإلزامهم بِكِتَابَة أَمْلَاك الْقَاهِرَة ومصر وظواهرهما وَأَسْمَاء سكانها وملاكها فَكَتَبُوا ذَلِك. وَكَانَ يُوجد فِي الزقاق الْوَاحِد من كل حارة وَخط عدَّة دور(4/101)
خَالِيَة لَا يعرف لَهَا ملاك فختم عَلَيْهَا. وتتبع الْوَالِي الفنادق والمخازن وَدَار الْوكَالَة والحواصل والشون وَفعل فِيهَا كَذَلِك وَفِيه قدم الْخَبَر بِنفَاق العشير وعرب الكرك وَذَلِكَ أَن عشير بِلَاد الشَّام فرقنان - قيس ويمن - لَا ينفقان قطّ وَفِي كل قَلِيل يثور بَعضهم على بعض وَيكثر قتلاهم فَيَأْتِي إِلَيْهِم من السُّلْطَان من يجبيهم الْأَمْوَال الْكَثِيرَة. فَلَمَّا وَقع الفناء فِي النَّاس ثَارُوا على عَادَتهم وطالت حروبهم لاشتغال الدولة عَنْهُم فَعظم فسادهم وقطعهم الطرقات على الْمُسَافِرين. فَجرد إِلَيْهِم النَّائِب - أَعنِي الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام - ابْن صبح مقدم الجبلية فِي عدَّة من الْأُمَرَاء فَلم يظفر بهم وَأقَام بالعسكر على اللجون وَأخذ العشير فِي الغارات على بِلَاد الْقُدس والخليل ونابلس فَكتب نَائِب غَزَّة. بمساعدة الْعَسْكَر. وَفِيه اشتدت الْفِتْنَة أَيْضا فِي بِلَاد الكرك بَين بني نمير وَبني ربيعَة فَإِن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون كَانَ لما أعياه أَمرهم وتحصنهم بجبالهم المنيعة أَخذ فِي الْحِيلَة عَلَيْهِم وَتقدم إِلَى شطي أَمِير بني عقبَة وَإِلَى نَائِب الشَّام ونائب غَزَّة ونائب الكرك بِأَن يدخلُوا إِلَى الْبَريَّة كَأَنَّهُمْ يصطادون ويوقعون بهم فقبضوا على كثير مِنْهُم وَقتلُوا فِي جبالهم خلقا كثيرا مِنْهُم وحبسوا باقيهم حَتَّى مَاتُوا. فسكن الشَّرّ بِتِلْكَ الْجِهَات إِلَى أَن كَانَت فتْنَة النَّاصِر أَحْمد بالكرك عَاد بَنو نمير وَبَنُو ربيعَة إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْفساد وَقَوي أَمرهم. فَركب إِلَيْهِم الْأَمِير جركتمر نَائِب الكرك وطلع إِلَيْهِم فقاتلوه وَقتلُوا من أَصْحَابه عشرَة وكسروه أقبح كسرة فَكتب لنائب الشَّام الْأَمِير أرغون شاه بتجهيز عَسْكَر لقتالهم. وَفِي صفر: أنعم على عرب بن نَاصِر الدّين الشيخي بإمرة طبلخاناه وعَلى شاورشي دوادار قوصون بإمرة عشرَة. وَفِي أول ربيع الأول: قدم قَود الْأَمِير جَبَّار بن مهنا صُحْبَة وَلَده نعير. وَفِيه قدم الْبَرِيد من غَزَّة بركوب نائبها على العشير وكبسهم لَيْلًا وَأسر أَكْثَرهم وَقتل سِتِّينَ مِنْهُم وتوسيط الأسرى بغزة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشريه: شنقت جَارِيَة رُومِية الْجِنْس خَارج بَاب النَّصْر عِنْد مصلى الْأَمْوَات. وَسبب ذَلِك أَنَّهَا كَانَت جَارِيَة أم الْأَمِير يلبغا اليحياوي فاتفقت مَعَ عدَّة من الْجَوَارِي على قتل سيدتها وقتلوها لَيْلًا بِأَن وضعن على وَجههَا مخدة وَحبس نَفسهَا حَتَّى مَاتَت وأقمن من الْغَد عزاءها وزعمن أَنَّهَا ضربت بِدَم. فمشت حيلتهن(4/102)
على النَّاس أَيَّامًا إِلَى أَن تنافسن على قسْمَة المَال الَّذِي سرقنه وتحدثن. بِمَا كَانَ وأعترفن على الْجَارِيَة الَّتِي تولت الْقَتْل فَأخذت وشنقت وهى بإزارها ونقابها. وَأخذ من الْجَوَارِي مَا مَعَهُنَّ من المَال وَكَانَ جملَة كَثِيرَة. وَلم يعْهَد. بِمصْر امْرَأَة شنقت سوى هَذِه. وَقد وَقع فِي أَيَّام الْمَنْصُور قلاوون أَن امْرَأَة كَانَت تستميل النِّسَاء وترغبهن حَتَّى تمْضِي بِهن إِلَى مَوضِع توهمن أَن بِهِ من يعاشرهن بِفَاحِشَة فَإِذا صَارَت الْمَرْأَة إِلَيْهَا قبضهَا رجال قد أعدتهم وقتلوها وَأخذُوا ثِيَابهَا. فاشتهر بِالْقَاهِرَةِ خَبَرهَا وَعرفت بالخناقة فَمَا زَالَ بهَا الْأَمِير علم الدّين سنجر الْخياط وَالِي الْقَاهِرَة حَتَّى قبص عَلَيْهَا وسمرها. وَوَقع أَيْضا فِي أَيَّام الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون أَن امْرَأَة بِأَرْض الطبالة كَانَت عِنْد طَائِفَة البزادرية تفعل ذَلِك بِالنسَاء فَقبض عَلَيْهَا وسمروا وسمرت مَعَهم فَكَانَت تَقول - وَهِي مسمرة يُطَاف بهَا على الْجمال فِي الْقَاهِرَة - إِذا رَأَتْ النِّسَاء وَهن يتفرجن عَلَيْهَا: أه يَا قحاب لَو عِشْت لَكِن لأفنيتكن وَلَكِن مَا عِشْت. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشريه: قدم الْخَبَر بقتل الْأَمِير أرغون شاه نَائِب الشَّام وَكَانَ شَأْنه مِمَّا يستغرب. وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ نصف لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشريه لم يشْعر الْأَمِير أرغون شاه وَقد نزل بِالْقصرِ الأبلق من الميدان خَارج مَدِينَة دمشق وَمَعَهُ أَهله وَإِذا بِصَوْت قد وَقع فِي النَّاس بِدُخُول الْعَسْكَر فثاروا بأجمهم. ودارت النُّقَبَاء على الْأُمَرَاء بالركوب ليقفوا على مرسوم السُّلْطَان. فَرَكبُوا جَمِيعًا إِلَى سوق الْخَيل تَحت القلعة فوجدوا الْأَمِير ألجيبغا المظفري نَائِب طرابلس وَإِذا بالأمير أرغون شاه ماش وَعَلِيهِ بغلوطاق صدر وتخفيفة على رَأسه وَهُوَ مكتف بَين مماليك الْأَمِير فَخر الدّين أياس. وَذَلِكَ أَن ألجيبغا لما قدم من طرابلس سَار حَتَّى طرق دمشق على حِين غَفلَة وَركب مَعَه الْأَمِير فَخر الدّين أياس السِّلَاح دَار ثمَّ ركب أياس بِأَصْحَابِهِ وأحاط بِالْقصرِ الأبلق وطرق بَابه وَعلم الخدام بِأَنَّهُ قد حدث أَمر مُهِمّ فأيقظوا الْأَمِير أرغون شاه فَقَامَ من فرشه وَخرج إِلَيْهِم فقبضوا عَلَيْهِ وَقَالُوا حضر مرسوم السُّلْطَان بمسكه والعسكر وَاقِف. فَلم يحسر أحد يدْفع عَنهُ وَأَخذه أياس وأتى بِهِ ألجيبغا. فَسلم أُمَرَاء دمشق على ألجيبغا وسألوه عَن الْخَبَر فَذكر لَهُم أَن مرسوم السُّلْطَان ورد عَلَيْهِ بركوبه إِلَى دمشق بعسكر طرابلس وَقبض أرغون شاه وَقَتله والحوطة على موجوده(4/103)
وَأخرج لَهُم كتاب السُّلْطَان بذلك فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وعادوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَنزل ألجيبغا بالميدان. وَأصْبح يَوْم الْخَمِيس: فأوقع ألجيبغا الحوطة على مَوْجُود أرغون شاه وَأصْبح يَوْم الْجُمُعَة أرغون شاه مذبوحا. فَكتب ألجيبغا محضراً بِأَنَّهُ وجد مذبوحاً والسكين فِي يَده فَأنْكر الْأُمَرَاء ذَلِك عَلَيْهِ وَكَونه لما قبض أَمْوَال أرغون شاه لم يرفعها إِلَى القلعة على الْعَادة واتهموه فِيمَا فعل وركبوا لحربه يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشريه. فَقَاتلهُمْ ألجيبغا وجرح الْأَمِير مَسْعُود بن خطير وَقطعت يَد الْأَمِير ألجيبغا العادلي وَقد جَاوز تسعين سنة. وَولي ألجيبغا نَائِب طرابلس وَمَعَهُ خُيُول أرغون شاه وأمواله وَتوجه نَحْو المزة وصحبته الْأَمِير أياس الَّذِي كَانَ نَائِب حلب وَمضى إِلَى طرابلس. وَسبب ذَلِك أَن أياس لما عزل من نِيَابَة حلب بأرغون شاه وَأخذت أَمْوَاله وسجن ثمَّ أفرج عَنهُ وَاسْتقر من جملَة أُمَرَاء دمشق وأرغون شاه نائبها. وَكَانَ أرغون شاه يهينه ويخرق بِهِ. وَاتفقَ أَيْضا إِخْرَاج ألجيبغا المظفري من الْقَاهِرَة إِلَى دمشق أَمِيرا بهَا فَترفع عَلَيْهِ أرغون شاه وأذله فاتفق مَعَ أياس على مكيدة. وَأخذ ألجيبغا فِي السَّعْي لِخُرُوجِهِ من دمشق عِنْد الْأُمَرَاء وَبعث إِلَى الْأَمِير بيبغا روس نَائِب السُّلْطَان وَإِلَى أَخِيه الْوَزير منجك هَدِيَّة سنية فولوه طرابلس كَمَا تقدم وَأقَام بهَا إِلَى أَن كتب يعرف السُّلْطَان والأمراء أَن أَكثر عَسْكَر طرابلس مُقيم بِدِمَشْق وَطلب أَن يكْتب لنائب الشَّام يردهم إِلَى طرابلس فَكتب لَهُ بدلك. فشق على أرغون شاه أَن ألجيبغا لم يكْتب إِلَيْهِ يسْأَله وَإِنَّمَا كتب إِلَى السُّلْطَان والأمراء دونه وَكتب إِلَى ألجيبغا بالإنكار عَلَيْهِ وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل وَحمل الْبَرِيد إِلَيْهِ مشافهة شنيعة فَقَامَتْ قِيَامَة ألجيبغا عِنْد سماعهَا وَفعل مَا فعل. وَلما قدم خبر قتل الْأَمِير أرغون شاه ارتاع الْأُمَرَاء واتهم بَعضهم بَعْضًا. فخلف كل من شيخو والنائب بيبغا روس على الْبَرَاءَة من قَتله وَكَتَبُوا إِلَى ألجيبغا بِأَنَّهُ قتل أرغون بمرسوم من وإعلامهم. بمستنده فِي ذَلِك وَكتب إِلَى أُمَرَاء دمشق بالفحص عَن هَذِه الْوَاقِعَة. وَكَانَ ألجيبغا وأياس قد وصلا إِلَى طرابلس وخيما بظاهرها فَقدمت فِي غَد وصولهما كتب أُمَرَاء دمشق إِلَى أُمَرَاء طرابلس بالاحتراز على ألجيبغا حَتَّى يرد مرسوم السُّلْطَان فَإِنَّهُ فعل فعلته بِغَيْر مرسوم السُّلْطَان ومشت حليته علينا وَكَتَبُوا إِلَى نَائِب حماة ونائب حلب وَإِلَى العربان. بمسك الطرقات عَلَيْهِ. فَركب عَسْكَر طرابلس(4/104)
بِالسِّلَاحِ ووقفوا تجاه ألجيبغا وَأَحَاطُوا بِهِ. فوافاهم كتاب السُّلْطَان بمسكه وَقد صَار عَن طرابلس فَسَارُوا خَلفه إِلَى نهر الْكَلْب عِنْد بيروت فَإِذا أُمَرَاء العربان وَأهل بيروت واقفون فِي وَجهه. فَوقف ألجيبغا نَهَاره ثمَّ كرّ رَاجعا فقابله عَسْكَر طرابلس فَقبض عَلَيْهِ وفر أياس فَلم يقدر عَلَيْهِ. وَوَقعت الحوطة على مماليك ألجيبغا وأمواله وَأخذ الَّذِي كتب الْكتاب بقتل أرغون شاه فَاعْتَذر بِأَنَّهُ أكره على ذَلِك وَأَنه غير الألقاب وَكتب أوصال الْكتاب مَقْلُوبَة حَتَّى يعرف أَنه مزور. وَحمل ألجيبغا مُقَيّد إِلَى دمشق. فَقبض نَائِب بعلبك على أياس وَقد حلق لحيته وَرَأسه واختفي عِنْد بعض البصارى وَبعث إِلَى دمشق فحبسا بقلعتها وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان والأمراء. وَكَانَ قد ركب الْأَمِير قجا السِّلَاح دَار الْبَرِيد إِلَى دمشق بِأَمْر السُّلْطَان فَأخْرج أياس وألجيبغا ووسطهما وعلقهما على الْخشب يَوْم الْخَمِيس حادي عشري ربيع الآخر. وَكَانَ عمر ألجيبغا نَحْو تسع عشرَة سنة وَهُوَ مَا طر شَاربه. وَفِيه كتب باستقرار الْأَمِير أرقطاى نَائِب حلب فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن أرغون شاه. وَاسْتقر الْأَمِير قطليجا الْحَمَوِيّ نَائِب حماة فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أرقطاى وَاسْتقر أَمِير مَسْعُود بن خطير فِي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن ألجيبغا المظفري. وَفِيه قدم طلب أرغون شاه ومماليكه وموجوده ثمَّ وصل طلب ألجيبغا ومماليكه وأمواله وأموال أياس فتصرف الْوَزير منجك فِي الْجَمِيع. وَفِيه قدم الْخَبَر. بِمَوْت الْأَمِير أرقطاي نَائِب الشَّام فَكتب باستقرار الْأَمِير قطليجا نَائِب حلب فِي نِيَابَة الشَّام وَتوجه ملكتمر المحمدي بتقليده. فَقدم الْخَبَر بِأَن ملكتمر المحمدي قدم حلب وقطليجا متغير المزاج فَأخْرج ثقله بريد دمشق وَأقَام بِظَاهِر حلب مُدَّة أُسْبُوع وَمَات فَأَرَادَ بيبغا روس النَّائِب منجك إِخْرَاج الْأَمِير طاز لنيابة الشَّام والأمير مغلطاي أَمِير آخور لنيابة حلب فَلم يوافقا على ذَلِك وكادت الْفِتْنَة أَن تقع. فَخلع على الْأَمِير أيتمش الناصري وَاسْتقر فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن قطليجا فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشرى جُمَادَى الأولى وَتوجه إِلَيْهَا وَخرج الْأَمِير قماري الْحَمَوِيّ إِلَى دمشق وَجمع أمراءها وَقبض على كثير مِنْهُم وقيدهم وسجنهم. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: توقفت أَحْوَال الدولة وَقطعت مرتبات النَّاس من اللَّحْم وَالشعِير وَصرف للماليك السُّلْطَانِيَّة عَن كل أردب شعير خَمْسَة دَرَاهِم وَقِيمَته اثْنَا عشر درهما.
(وَفِي عَاشر جُمَادَى الآخر)
خرحت التجريدة إِلَى قتال العشير والعربان. وَسَببه كَثْرَة فسادهم بِبِلَاد الْقُدس ونابلس. وَكَانَ قد قبض على أدّى بن فضل أَمِير جرم وسجن(4/105)
بقلعة الْجَبَل ثمَّ أفرج عَنهُ بعناية الْوَزير منجك. فَجمع أدّى وَقَاتل سنجر بن عَليّ أَمِير ثَعْلَبَة فمالت حَارِثَة مَعَ أدّى ومالت بَنو كنَانَة مَعَ سنجر وَجَرت بَينهم حروب كَثِيرَة قتل فِيهَا خلائق وفسدت الطرقات على الْمُسَافِرين. فخرحت إِلَيْهِم عَسَاكِر دمشق فَلم يعبئوا بهم. فَلَمَّا ولي الْأَمِير يلجك غَزَّة استمال أدّى بعد أَيَّام وعضده على ثَعْلَبَة واشتدت الحروب بَينهم وفسدت أَحْوَال النَّاس. فَركب يلجك بعسكر غَزَّة لَيْلًا وطرق ثَعْلَبَة فقاتلوه وكسروه كسرة قبيحة وألقوه عَن فرسه إِلَى الأَرْض وسحبوه إِلَى بُيُوتهم فَقَامَ سنجر بن عَليّ أَمِير ثَعْلَبَة عَلَيْهِم حَتَّى تركُوا قَتله بعد أَن سلبوا مَا عَلَيْهِ وبالغوا فِي إهانته ثمَّ أفرجوا عَنهُ بعد يَوْمَيْنِ فَعَاد يلجك إِلَى غَزَّة وَقد اتضع قدره وتقوى العشير. بِمَا أَخَذُوهُ من عسكره وَعز حانبهم فقصدوا الْغَوْر وكبسوا الْقصير المعيني وَقتلُوا بِهِ جمَاعَة كَثِيرَة من الجبلية وعمال المعاصر ونهبوا جَمِيع مَا فِيهِ من القنود والأعمال والعسكر وَغَيره وذبحوا الْأَطْفَال على صدر الْأُمَّهَات. وَقَطعُوا الطرقات فَلم يدعوا أحدا يمر من الشَّام إِلَى مصر حَتَّى أَخَذُوهُ. وقصدوا الْقُدس فخلى النَّاس مِنْهُ وَمن الْخَيل ثمَّ قصدُوا الرملة ولد فانتهبوها وَزَادُوا فِي التَّعَدِّي وخرحوا عَن الْحَد وَالْأَخْبَار ترد بذلك. فَوَقع الِاتِّفَاق على ولَايَة الْأَمِير سيف الدّين دلنجي نِيَابَة غَزَّة وَأبقى على إقطاعه بِمصْر وخلع عَلَيْهِ وَأخرج إِلَيْهَا وَكتب بِخُرُوج ابْن صبح من دمشمق على ألفي فَارس وتجهز الْوَزير منجك وَمَعَهُ ثَلَاثَة أُمَرَاء من المقدمين وهم المحمدي وأرغن الكاملي وطقتمر فَسَار قبلهم لاجين أَمِير وبينما الْوَزير وَمن مَعَه فِي أهبة السّفر إِذْ قدم الْخَبَر أَن الْأَمِير قطيلجا توجه من حماه إِلَى نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أرقطاي فَوحد طلب أرقطاى وَقد برز خَارج حلب يُرِيد الْقَاهِرَة فأعاقه لعمل محاسبة إقطاع النِّيَابَة بحلب وَركب بحلب موكبا. ثمَّ ركب الْأَمِير قطليجا الموكب الثانى وَنزل وَفِي بدنه تغير فَلَزِمَ الْفراش أسبوعاً وَمَات. فَسَأَلَ أرغون الكاملي أَن يسْتَقرّ عوضه فِي نِيَابَة حلب فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس وأنعم بتقديمة على الْأَمِير قطلوبغا الذَّهَبِيّ ورسم بِسَفَرِهِ فِي يَوْم الْخَمِيس الْمَذْكُور. وَخرج الْوَزير منجك فِي تجمل عَظِيم وَقد كثرت القالة فِي أنقضاء مدَّته وَمُدَّة أَخِيه الْأَمِير بيبغا روس وَأَن الْأَمِير شيخو وطاز ومغلطاي وَغَيرهم من الْأُمَرَاء قد اتَّفقُوا عَلَيْهِمَا حَتَّى بلغهما ذَلِك وَأَن الْوَزير منجك قصد إبِْطَال التجريدة.(4/106)
وَهَذَا وَقد قدم الْوَزير النجابة لكشف أَخْبَار الْعَشِيرَة فَلَمَّا رَحل عَن بلبيس عَادَتْ نجابته بِأَن ثَعْلَبَة ركبت بأجمعها وَدخلت بَريَّة الْحجاز لما بَلغهُمْ مسير الْعَسْكَر إِلَيْهِم فنهب أدّى كثيرا مِنْهُم وَانْفَرَدَ فِي الْبِلَاد بعشيرة. فَعَاد الْوَزير. بِمن مَعَه وَعبر الْقَاهِرَة فِي ثَانِي عشريه بعد أَرْبَعَة أَيَّام. وَكَانَ قد حصل للوزير فِي هَذِه الْحَرَكَة من تقادم الْكَشَّاف والولاة والأمراء والمباشرين مَا ينيف على مائَة ألف دِينَار فَتَلَقَّتْهُ الْعَامَّة بالشموع وابتهجوا بقدومه وأتته الضامنة بِجَمِيعِ وَفِي مستهل رَجَب: قدم الْخَبَر بِأَن الْأَمِير دلنجي نَائِب غَزَّة بلغه كَثْرَة جَمِيع العشير وقصدهم نهب لد والرملة فَركب إِلَيْهِم ولقيهم قَرِيبا من لد منزل تجاههم وَمَا زَالَ يراسلهم ويخدعهم حَتَّى قدم إِلَيْهِ نَحْو الْمِائَتَيْنِ من أكابرهم فقبضهم وَعَاد إِلَى غَزَّة وَقد تفرق جمعهم فوسطهم كلهم. وَفِيه توحه طلب الْأَمِير أرغون الكاملي إِلَى حلب. وَفِيه قدم طلب الْأَمِير أرقطاى مَعَ وَلَده وَفِي يَوْم الْخَمِيس مستهل شعْبَان: خرج الْأَمِير قبلاي الْحَاجِب. بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إِلَى غَزَّة لأحد شُيُوخ الْعشْر. وَفِي هَذَا الشَّهْر: غير الْوَزير وُلَاة الْوَجْه القبلي وَكتب بطلبهم وعزل مازان من الغربية بِابْن الدواداري. وَفِيه أضيف كشف الجسور إِلَى وُلَاة الأقاليم. وَفِيه أُعِيد فار السقوف إِلَى ضَمَان جِهَات الْقَاهِرَة ومصر بأجمعها وَكَانَ قد سجن فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون وَكتب على قَيده مخلد بعد مَا صودر وَضرب بالمقارع لقبح سيرته. فَلم يزل مسجونا إِلَى أَن أفرج عَن المحابيس فِي أَيَّام الصَّالح إِسْمَاعِيل فافرج عَنهُ فِي جُمْلَتهمْ وَانْقطع إِلَى أَن اتَّصل بالوزير منجك واستماله فسلمه الْجِهَات بأسرها وخلع عَلَيْهِ وَمنع مقدمي الدولة من مشاركته فِي التَّكَلُّم فِي الْجِهَات(4/107)
ونودى لَهُ فِي الْقَاهِرَة ومصر فَزَاد فِي الْمُعَامَلَات ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فِي السّنة. وَفِيه قدم الْأَمِير قبلاي غَزَّة فاحتال على أدّى حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَأكْرمه وأنزله ثمَّ رده بزوادة إِلَى أَهله فاطمأنت العشرات والعربان لذَلِك وبقوا على ذَلِك إِلَى أَن أهل رَمَضَان. حضر أدّى فِي بنى عَمه لتهنئة قبلاي بِشَهْر الصَّوْم فساعة وُصُوله اليه قبض عَلَيْهِ وعَلى بني عَمه الْأَرْبَعَة وقيدهم وسجنهم وَكتب إِلَى على بن سنجر: بِأَنِّي قد قبضت على عَدوك ليَكُون لي عنْدك يَد بَيْضَاء فسر سنجر بذلك وَركب إِلَى قبلاى فَتَلقاهُ وأكرمه فضمن لَهُ سنجر دَرك الْبِلَاد. ورحل قبلاى من غده وَمَعَهُ أدّى وَبَنُو عَمه يُرِيد الْقَاهِرَة فَقدم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشره فَضربُوا على بَاب الْقلَّة بالمقارع ضربا مبرحاً وألزم أدّى بِأَلف رجل ومائتي ألف دِرْهَم فَبعث إِلَى قومه بإحضارها فَلَمَّا أخذت سمر هُوَ وَبَنُو عَمه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه وَقت الْعَصْر وسيروا إِلَى غَزَّة صُحْبَة جمَاعَة من أجناد الْحلقَة فوسطوا بهَا. فثار أَخُو أدّى وَقصد كبس غَزَّة فَخرج إِلَيْهِ الْأَمِير دلنجى ولقيه على ميل من غَزَّة وحاربه ثَلَاثَة أَيَّام وَقَتله فِي الْيَوْم الرَّابِع بِسَهْم أَصَابَهُ وَبعث دلنجي بذلك إِلَى الْقَاهِرَة فَكتب بِخُرُوج نَائِب صفد ونائب الكرك لنجدته وَفِيه كثر الْإِنْكَار على الْوَزير منجك فَإِنَّهُ أبطل سماط الْعِيد وَاحْتج بِأَنَّهُ يقوم بحملة كَبِيرَة تبلغ خمسين ألف فِي دِرْهَم وتنهبه الغلمان وَكَانَ أَيْضا قد أبطل سماط شهر رَمَضَان. وَفِي هَذَا الشَّهْر: فرغت القيسارية الَّتِي أَنْشَأَهَا تَاج الدّين الْمَنَاوِيّ بجوار الْجَامِع الطولوني من مَال وَقفه وتشتمل على ثَلَاثِينَ حانوتا. وَفِيه خرج ركب الْحَاج على الْعَادة صُحْبَة الْأَمِير فَارس الدّين وَمَعَهُ عدَّة من مماليك الْأُمَرَاء. وَحمل الْأَمِير فَارس الدّين مَعَه مَالا من بَيت المَال وَمن مُودع الحكم لعمارة عين جوبان. بِمَكَّة ومبلغ عشرَة آلَاف دِرْهَم للْعَرَب بِسَبَب الْعين الْمَذْكُورَة ورسم أَن تكون مقررة لَهُم فِي كل سنة. وَخرج مَعَه حَاج كثير جدا وَحمل الْأُمَرَاء من الغلال فِي الْبَحْر إِلَى مَكَّة عدَّة آلَاف أردب. وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة: قدم كتاب الْأَمِير دلنجى نَائِب غَزَّة بتفرق العربان(4/108)
ونزول أَكْثَرهم بالشرقية والغربية من أَرض مصر لربط إبلهم على البرسيم. فكبست الْبِلَاد عَلَيْهِم وَقبض على ثَلَاثمِائَة رجل وَأخذ لَهُم ثَلَاثَة آلَاف جمل. ووحد عِنْدهم كثير من ثِيَاب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم فَاسْتعْمل الرِّجَال فِي العمائر حَتَّى هلك أَكْثَرهم. وَفِي نصفه: خرج الْأُمَرَاء لكشف الجسور فَتوجه الْأَمِير أرنان للوحه القبلي وَتوجه أَمِير أَحْمد قريب السُّلْطَان للغربية وتوحه الْأَمِير آقجبا للمنوفية وَتوجه أراى أَمِير آخور للشرقية وَتوجه وَفِيه توقف حَال الدولة فَكثر الْكَلَام من الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة والمعاملين والخوشكاشية وَفِيه طلب الْأَمِير مغلطاي أَمِير آخور زِيَادَة على إقطاعه فكشف عَن بِلَاد الْخَاص فَدلَّ ديوَان الْجَيْش على أَنه لم يتَأَخَّر مِنْهَا سوى الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط وَقُوَّة وَفَارِس كور وَخرج بَاقِيهَا لِلْأُمَرَاءِ وَخرج أَيْضا من الجيزة مَا كَانَ لديوان الْخَاص لِلْأُمَرَاءِ. وشكا الْوَزير من كَثْرَة الكلف والإنعامات وَأَن الْحَوَائِج خاناه فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون مرتبها فِي كل يَوْم ثَلَاثَة عشر ألف دِرْهَم وَهُوَ الْيَوْم اثْنَان وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم. فرسم بِكِتَابَة أوراق. بمتحصل الدولة ومصروفها فَبلغ المتحصل فِي السّنة عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم والمصروف بديوان الوزارة وديوان الْخَاص أَرْبَعَة عشر ألف ألف دِرْهَم وسِتمِائَة ألف دِرْهَم وَأَن الَّذِي خرج من بِلَاد الجيزة على سَبِيل الإنعام زِيَادَة على إقطاعات الْأُمَرَاء نَحْو سِتِّينَ ألف دِينَار. فتغاضى الْأُمَرَاء عِنْد سَماع ذَلِك إِلَّا مغلطاي أَمِير آخور فَإِنَّهُ غضب وَقَالَ: من يحاقق الدَّوَاوِين على قَوْلهم. وَفِيه قدم طلب الْأَمِير قطليجا الْحَمَوِيّ من حلب فَوضع الْوَزير منجك يَده عَلَيْهِ وَتصرف بِحكم أَنه وَصِيّ. وَفِيه قدم الْأَمِير عز الدّين أزدمر الزراق من حلب باستدعائه بعد مَا أَقَامَ بهَا مُدَّة سنة من جملَة أُمَرَاء الألوف فأجلس مَعَ الْأُمَرَاء الْكِبَار فِي الْخدمَة. وَفِيه خرج الْأَمِير طاز لسرحة الْبحيرَة وأنعم عَلَيْهِ من مَال الْإسْكَنْدَريَّة بألفي دِينَار.(4/109)
وَخرج الْأَمِير صرغتمش أَيْضا فأنعم عَلَيْهِ مِنْهَا بِأَلف دِينَار. ثمَّ توجه الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب للسرحة وأنعم عَلَيْهِ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار. وَتوجه الْأَمِير شيخو أَيْضا ورسم لَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار. وَفِيه أنعم على الْأَمِير مغلطاي أَمِير آخور إرضاء لخاطره بِنَاحِيَة صهرجت زِيَادَة على إقطاعه وعبرتها عشرُون ألف دِينَار فِي السّنة فَدخل الْأَمِير شيخو فِي سرحته إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَتَلَقَّتْهُ الْغُزَاة بآلات السِّلَاح ورموا بالجرخ بَين يَدَيْهِ ونصبوا المنجنيق ورموا بِهِ. ثمَّ شكوا لَهُ مَا عِنْدهم من الْمظْلمَة وَهِي أَن التَّاج إِسْحَاق ضمن دكاكين الْعطر وأفرد دكانا لبيع النشا فَلَا تبَاع بغَيْرهَا وأفرد دكانا لبيع الْأَشْرِبَة فَلَا تبَاع بغَيْرهَا وَجعل ذَلِك وَقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بِإِبْطَال ذَلِك وَأطلق للنَّاس البيع حَيْثُ أَحبُّوا وَكتب مرسوم بِإِبْطَال ذَلِك وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: عوفي علم الدّين عبد الله بن زنبور وخلع عَلَيْهِ بعد مَا أَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرِيضا تصدق فِيهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَأَفْرج عَن جمَاعَة من المسجونين. وَفِيه كتب الْمُوفق نَاظر الدولة أوراقا بِمَا استجد على الدولة من وَفَاة السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الْمحرم سنة خمسين وَسَبْعمائة فَكَانَت جملَة مَا أنعم بِهِ وأقطع - من بِلَاد الصَّعِيد وبلاد الوحه البحري وبلاد الفيوم وبلاد الْملك وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سَبْعمِائة ألف الف أردب وَألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم مُعينَة بأسماء أَرْبَابهَا من الْأُمَرَاء والخدام وَالنِّسَاء وعبرة الْبَلَد ومتحصلها وَجُمْلَة عَملهَا وقرئت على الْأُمَرَاء ومعظم ذَلِك بِأَسْمَائِهِمْ فَلم ينْطق أحد مِنْهُم بشىء. وَفِيه أبطل الْوَزير منجك سماط عيد النَّحْر أَيْضا. وفيهَا أبطل مَا أحدثه النِّسَاء من ملابسهن. وَذَلِكَ أَن الخواتين نسَاء السُّلْطَان وجواريهن أحدثن قمصانا طوَالًا تخب أذيالها على الأَرْض بأكمام سَعَة الْكمّ مِنْهَا ثَلَاثَة أَذْرع فَإِذا أرخته الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ غطى رجلهَا وَعرف الْقَمِيص مِنْهَا فِيمَا بَينهُنَّ(4/110)
بالبهطلة ومبلغ مصروفه ألف دِرْهَم فَمَا فَوْقهَا. وتشبه نسَاء الْقَاهِرَة بِهن فِي ذَلِك حَتَّى لم يبْق امْرَأَة إِلَّا وقميصها كَذَلِك. فَقَامَ الْوَزير منجك فِي إِبْطَالهَا وَطلب وَالِي الْقَاهِرَة ورسم لَهُ بِقطع أكمام النِّسَاء وَأخذ مَا عَلَيْهِنَّ. ثمَّ تحدث منجك مَعَ قُضَاة الْقُضَاة بدار الْعدْل يَوْم الْخدمَة بِحَضْرَة السُّلْطَان والأمراء فِيمَا أحدثه النِّسَاء من القمصان الْمَذْكُورَة وَأَن الْقَمِيص مِنْهَا مبلغ مصروفه ألف دِرْهَم وأنهن أبطلن لبس الْإِزَار الْبَغْدَادِيّ وأحدثن الْإِزَار الْحَرِير بِأَلف دِرْهَم وَأَن خف الْمَرْأَة وسرموزتها بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم. فأفتوه جَمِيعهم بِأَن هَذَا من الْأُمُور الْمُحرمَة الَّتِى يجب منعهَا فقوى بفتواهم وَنزل إِلَى بَيته وَبعث أعوانه إِلَى بيُوت أَرْبَاب الملهى حَيْثُ كَانَ كثير من النِّسَاء فَهَجَمُوا عَلَيْهِنَّ وَأخذُوا مَا عِنْدهن من ذَلِك. وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية وَأخذُوا مَا فِيهَا من قمصان النِّسَاء وقطعها الْوَزير منجك. ووكل الْوَزير مماليكه بالشوارع والطرقات فَقطعُوا أكمام النِّسَاء ونادى فِي الْقَاهِرَة ومصر. بِمَنْع النِّسَاء من لبس مَا تقدم ذكره وَأَنه مَتى وجدت امْرَأَة عَلَيْهَا شىء مِمَّا منع أخرق بهَا وَأخذ مَا عَلَيْهَا. وَاشْتَدَّ الْأَمر على النِّسَاء وَقبض على عدَّة مِنْهُنَّ وَأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور الْقَاهِرَة بِبَاب زويلة وَبَاب النَّصْر وَبَاب الْفتُوح وعلق عَلَيْهَا تماثيل معمولة على صور النِّسَاء وعليهن القمصان الطوَال ارهابا لَهُنَّ وتخويفا. وَطلبت الأساكفة وَمنعُوا من بيع الأخفاف والسراميز الْمَذْكُورَة وَأَن تعْمل كَمَا كَانَت أَولا تعْمل وَنُودِيَ من بَاعَ إزاراً حَرِيرًا أَخذ جَمِيع مَاله للسُّلْطَان. فَانْقَطع خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْأَسْوَاق وركوبهن حمير المكارية وَإِذا وجدت امْرَأَة كشف عَن ثِيَابهَا وَامْتنع الأساكفة من عمل أَخْفَاف النِّسَاء وسراميزهن المحدثة وانكف التُّجَّار عَن بيع الأزر الْحَرِير وشرائها حَتَّى إِنَّه نُودي على وَفِيه اسْتَقر جمال الدّين يُوسُف المرداوي فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق بعد وَفَاة عَلَاء الدّين على بن أبي البركات بن عُثْمَان بن أسعد بن المنجا. وَفِيه اسْتَقر نجم الدّين مُحَمَّد الأزرعي فِي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب بعد وَفَاة نجم الدّين عبد القاهر بن أبي السفاح. وَفِيه توقف النّيل ثمَّ زَاد حَتَّى كَانَ الْوَفَاء فِي جُمَادَى الْآخِرَة. ثمَّ نقص نَحْو ثُلثي(4/111)
ذِرَاع وبقى على النَّقْص إِلَى النوروز وَهُوَ سِتَّة عشر ذِرَاعا وَإِحْدَى وَعشْرين اصبعاً. ثمَّ رد النَّقْص وَزَاد إِصْبَعَيْنِ فَبلغ سِتَّة عشر ذِرَاعا وَثَلَاثًا وَعشْرين اصبعاً فِي يَوْم عيد الصَّلِيب وَفِيه أضاع الْوُلَاة عمل الجسور وَبَاعُوا الجراريف حَتَّى غرق كثير من الْبِلَاد. وَمَعَ ذَلِك امتدت أَيْديهم إِلَى الفلاحين وغرموهم مَا لم تجر بِهِ عَادَة فَشكى من الْوُلَاة للوزير فَلم يلْتَفت لمن شكاهم. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان شيخ الإقراء شهَاب الدّين أَحْمد بن مُوسَى بن موسك بن جكو الهكاري بِالْقَاهِرَةِ عَن سِتّ وَسبعين سنة فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى. وَكتب بِخَطِّهِ كثيرا ودرس الْقرَاءَات والْحَدِيث وَمَات النحوى شهَاب الدّين أَحْمد بن سعد بن مُحَمَّد بن أَحْمد النشائي الأندرشي بِدِمَشْق وَله شرح سِيبَوَيْهٍ فِي أَرْبَعَة أسفار. وَمَات مكين الدّين إِبْرَاهِيم بن قروينة بعد مَا ولي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة وَنظر الْبيُوت ثمَّ ولي نظر الْجَيْش مرَّتَيْنِ وصودر ثَلَاث مَرَّات وَأقَام بطالا حَتَّى مَاتَ وَمَات الْأَمِير أرغون شاه الناصري نَائِب الشَّام مذبوحا فِي لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع ربيع الأول رباه السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاون حَتَّى عمله أَمِير طبلخاناه رَأس نوبَة الجمدارية ثمَّ اسْتَقر بعد وَفَاته أستادارا أَمِير مائَة مقدم ألف فتحكم على المظفر شعْبَان حَتَّى أخرجه لنيابة صفد وَولي بعْدهَا نِيَابَة حلب ثمَّ نِيَابَة الشَّام. وَكَانَ جفيفاً قوي النَّفس شرس الْأَخْلَاق مهابا جائراً فِي أَحْكَامه سفاكا للدماء غليظاً(4/112)
فحاشاً كثير المَال وَأَصله من بِلَاد الصين حمل إِلَى أَبُو سعيد بن خربندا فَأَخذه دمشق خواجا بن جوبان ثمَّ ارتجعه أَبُو سعيد بعد قتل جربان وَبعث بِهِ إِلَى مصر هَدِيَّة وَمَعَهُ ملكتمر السعيدى وَمَات الْأَمِير أرقطاى المنصورى بِظَاهِر حلب وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى دمشق عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس جُمَادَى الأولى. وَأَصله من مماليك الْمَنْصُور قلاوون رباه الطواشي فاخر أحسن تربية إِلَى أَن توجه النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الكرك كَانَ مَعَه. فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ ملكه جعله من جملَة الْأُمَرَاء ثمَّ سيره صُحْبَة الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وأوصاه أَلا يخرج عَن رَأْيه وَأقَام عِنْده مُدَّة. ثمَّ تنكر عَلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد فولاه نِيَابَة حمص مُدَّة سنتَيْن وَنصف ثمَّ نَقله لنيابة صفد فَأَقَامَ بهَا ثَمَانِي عشر سنة. وَقدم مصر فَأَقَامَ بهَا عدَّة سِنِين وجرد إِلَى أياس. ثمَّ ولي نِيَابَة طرابلس وَمَات النَّاصِر مُحَمَّد وَهُوَ بهَا. ثمَّ قدم مصر وَقبض عَلَيْهِ ثمَّ أفرج عَنهُ وَأقَام مُدَّة. ثمَّ ولي نِيَابَة حلب ثمَّ طلب إِلَى مصر فَصَارَ رَأس الميمنة. ثمَّ ولى نِيَابَة السلطنة نَحْو سنتَيْن ثمَّ أخرج لنيابة حلب فَأَقَامَ بهَا مُدَّة. ثمَّ نقل لنيابة الشَّام فَمَاتَ فِي طَرِيقه لدمشق فَدفن بحلب وَكَانَ مشكور السِّيرَة وَمَات الْأَمِير ألجيبغا المظفري نَائِب طرابلس موسطاً بِدِمَشْق فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشر ربيع الآخر. وَقتل مَعَه أَيْضا الْأَمِير أياس وَأَصله من الأرمن أسلم على يَد النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فرقاه حَتَّى عمله شاد العمائر ثمَّ أخرحه إِلَى الشَّام ثمَّ أحضرهُ غرلو وتنقل إِلَى أَن صَار شاد الدَّوَاوِين. ثمَّ صَار حاجباً بِدِمَشْق ثمَّ نَائِبا بصفد ثمَّ نَائِبا بحلب ثمَّ أَمِيرا بِدِمَشْق حَتَّى كَانَ من أمره مَا تقدم ذكره وَمَات بِدِمَشْق الْأَمِير طقتمر الشريفي بعد مَا عمى.(4/113)
وَمَات قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب نجم الدّين عبد القاهر بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي السفاح. وَتُوفِّي نجم الدّين عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْقرشِي الأصفوني الشَّافِعِي. بمنى فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة. وَدفن بِالْعَلَاءِ وَله مُخْتَصر الرَّوْضَة وَغَيره. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن الْفَخر عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن مصطفى المارديني الْمَعْرُوف بِابْن التركماني الْحَنَفِيّ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر الْمحرم بِالْقَاهِرَةِ. وَله كتاب الرَّد النقي فِي الرَّد على الْبَيْهَقِيّ وَغَيره وَله شعر وَكَانَ النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاون يكره مِنْهُ اجتماعه بالأمراء وَكَانَ يغلو فِي مذْهبه غلواً زَائِدا. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق عَلَاء الدّين عَليّ بن الزَّبْن أبي البركات بن عُثْمَان ابْن أسعد بن المنجا التنوخي عَن ثَلَاث وَسبعين سنة. وَمَات الْأَمِير قطليجا الْحَمَوِيّ أَصله الْمَمْلُوك الْمُؤَيد صَاحب حماة فَبَعثه إِلَى النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاون وترقى صَار من جملَة الْأُمَرَاء. ثمَّ ولي نِيَابَة حماة وَنقل إِلَى نِيَابَة حلب فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَمَات وَكَانَ سيىء السِّيرَة. وَتُوفِّي قاضى الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران السَّعْدِيّ الأخنائي الْمَالِكِي فِي لَيْلَة الثَّالِث من صفر وَمَات الْأَمِير نوغيه البدري وَالِي الفيوم.(4/114)
وَمَاتَتْ خوند بنت الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَهِي زَوْجَة الْأَمِير طاز. وَتركت. مَالا عَظِيما أبيع موجودها بِبَاب الْقلَّة من القلعة بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم من جملَته فبقاب مرصع بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم ثمنهَا ألف دِينَار مصرية. وَمَات علم الدّين بن سهلول. كَانَ أَبوهُ كَاتبا عِنْد بعض الْأُمَرَاء فخدم بعده أَمِير حُسَيْن بن جندر ثمَّ ولي الإستيفاء وَنظر الدولة شركَة للموفق. ثمَّ صودر وَلزِمَ بَيته وَعمر دَارا جليلة بحارة زويلة من الْقَاهِرَة وفيهَا قَامَ بتونس أَبُو الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد ابْن أبي حَفْص فِي ذِي الْقعدَة وَكَانَ فد قدم إِلَى تونس السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن. يَعْقُوب بن عبد الْحق ملك بني مرين صَاحب فاس وَملك تونس وإفريقية ثمَّ سَار مِنْهَا لِلنِّصْفِ من شَوَّال واستخلف ابْنه أَبَا الْعَبَّاس الْفضل فَقَامَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وَملك تونس ملك أَبِيه.(4/115)
فارغة(4/116)
(سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة)
أهل الْمحرم وَالنَّاس فِي بِلَاد عَظِيم من فأر السقوف ضَامِن الْجِهَات فَإِنَّهُ أحدث حوادث قبيحة فِي دَار الْبِطِّيخ وَدَار السّمك وَسَائِر الْمُعَامَلَات وَزَاد فِي ضَرَائِب المكوس وَتمكن من الْوَزير منجك تمَكنا زَائِدا حَتَّى كَانَ يَقُول: هَذَا أخي وَكَثُرت الشكاية مِنْهُ ووقفت الْعَامَّة فِيهِ للسُّلْطَان فَلم يتَغَيَّر الْوَزير عَلَيْهِ وَفِيه أوقع الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب بكاتب سرها زين الدّين عمر بن يُوسُف بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي السفاح وضربه وسجنه. فاستقر عوضه فيكتابة السِّرّ بحلب الشريف شهَاب الدّين الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي الْعَسْكَر. وَفِيه أوقع الشَّيْخ حسن نَائِب بَغْدَاد والأمير حيار بن مهنا بطَائفَة من الْعَرَب وَقتل مِنْهُم نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَأسر كثيرا مِنْهُم ففر عدَّة مِنْهُم إِلَى الرحبة. فَطلب الْأَمِير حيار من أزدمر النوري نَائِب الرحبة تَمْكِينه مِنْهُم فَأبى عَلَيْهِ فَكتب فِيهِ الْأَمِير حيار إِلَى السُّلْطَان فَعَزله وَفِيه اقتتل مُوسَى بن مهنا وَسيف بن فضل فَانْهَزَمَ سيف ونهبت أَمْوَاله وَفِيه ابتدأت الوحشة بَين الْأَمِير مغلطاي أَمِير آخور وَبَين الْوَزير منحك بِسَبَب الفار الضَّامِن وَقد شكى مِنْهُ. فَطَلَبه مغلطاي من الْوَزير عِنْدَمَا احتمى بِهِ فَلم يُمكنهُ مِنْهُ وَفِيه قدم صَاحب حصن كيفا والخواجا عمر بن مُسَافر بعد غيبَة طَوِيلَة. فسر بِهِ الْأَمِير شيخو لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جلبه من بِلَاده وَنسب إِلَيْهِ فَقيل لَهُ شيخو الْعمريّ. وَأكْرم صَاحب حصن كيفا وروعي فِي متجره وَكَانَ من جملَته ثَلَاثمِائَة ألف جلد سنجاب. فَقدم صَاحب حصن كيفا عدَّة تقادم لِلْأُمَرَاءِ فبعثوا إِلَيْهِ. بِمَال كثير وَبعث إِلَيْهِ الْأَمِير شيخو ألف دِينَار وتعبئة قماش وَبعث إِلَيْهِ الْوَزير منجم بألفي دِينَار وقماش(4/117)
كثير وأنزله فِي بَيته وَبعث إِلَيْهِ الْأَمِير بيبغا روس وَغَيره ثمَّ عَاد بعد شهر إِلَى بِلَاده. وَفِيه كمل صهريج الْوَزير منجك على الثغرة تَحت القلعة وَاشْترى لَهُ من بَيت المَال نَاحيَة بلقينة من الغربية بِخَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار أنعم عَلَيْهِ بهَا ووقفها على صهريجه. وَكَانَت بلقينة مرصدة لجوامك الْحَاشِيَة فعوضوا عَنْهَا. وَفِي رَابِع عشريه: قدم الْأَمِير فَارس الدّين بالحجاج وَكَانُوا لما قدمُوا مَكَّة نزلت رَبهم شدَّة من غلاء الأسعاء وَقلة المَاء بِحَيْثُ أبيعت الراوية بِعشْرين درهما حَتَّى هموا بِالْخرُوجِ مِنْهَا ونزول بطن مرو. فَبعث الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مَطَرا اسْتمرّ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَة حَتَّى امْتَلَأت الْآبَار والبرك وَقدم عدَّة قوافل فانحل السّعر قَلِيلا. وَحصل لَهُم خود من عبور الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَذَلِكَ أَن الشريف أدّى لما عزل بالشريف سعد جمع العربان وهجم الْمَدِينَة قبل قدوم سعد إِلَيْهَا وَأخذ أَمْوَال الخدام وودائع الشاميين وقناديل الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وأموال الْأَغْنِيَاء وَغَيرهم وَخرج. وَفِيه أفرج عَن عِيسَى بن حسن الهجان وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ وسجن بِسَبَب أَنه مَالا هُوَ وعربه جمَاعَة العايد المفسدين من العربان وأحيط بأمواله. وَكَانَ فد كثرت سعادته فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي الكرك فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ ملكه سلمه الهجن وَحكمه فِيهَا فطالت أَيَّامه وَكَثُرت أَمْوَاله. وتسلم بعده الهجن جمال الدّين نفر فَقَامَ الْوَزير حَتَّى أفرج عَنهُ ورد عَلَيْهِ إقطاعه وأنعم على جمَاعَة من عربه بإقطاعات. وَفِي مستهل صفر: قدمت رسل أرتنا نَائِب الرّوم وَسَأَلَ أَن يكْتب لَهُ تَقْلِيد نِيَابَة الرّوم على عَادَته فَكتب لَهُ وَأكْرم رَسُوله. وَفِيه تنافس الْوَزير منجك والأمير مغلطاي واستعد كل مِنْهُمَا بِأَصْحَابِهِ للْآخر فَقَامَ الْأَمِير شيخو حَتَّى أخمد الْفِتْنَة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشريه: وَقت الصَّلَاة وَقعت نَار بِخَط البندقانيين من الْقَاهِرَة فأحرقت دَار هُنَاكَ. فَركب الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني لإطفائها على الْعَادة وَكَانَ الْهَوَاء شَدِيدا والدور متلاصقة فَاشْتَدَّ لَهب النَّار بِحَيْثُ رؤى من القلعة. فَركب الْوَزير منجك والأمير بيبغا روس النَّائِب والأمير شيخو والأمير طاز والأمير مغلطاى والأمير قبلاى حَاجِب الْحجاب وَغَيرهم من الْأُمَرَاء بمماليكهم وَأتوا إِلَى الْحَرِيق ونزلوا عَن خيولهم وَمنعُوا الْعَامَّة من النهب فامتدت النَّار من دكاكين(4/118)
البندقانيين إِلَى دكاكين الرسامين ودكاكين الفقاعين والفندق المجاور لَهَا وَالرّبع علوة. وتعلقت. بِمَا نجاه ذَلِك من الدّور الْمُجَاورَة لبيت المظفر بيبرس الجاشنكير فأحرقت الرّبع واتصلت بزقاق الْكَنِيسَة إِلَى بَيت كريم الدّين بن الصاحب أَمِين الدّين إِلَى بير الدلاء الَّتِي كَانَت تعرف قَدِيما ببئر زويلة فأحرقت النَّار الدكاكين وَالرّبع المجاور لدار الجوكندار وَلم يبْق إِلَّا أَن تصل إِلَى دَار عَلَاء الدّين على بن فضل الله كَاتب السِّرّ وَعظم الْأَمر والأمراء جَمِيعهم على أَرجُلهم. بِمن مَعَهم والمقيدون بِالْمَسَاحِي بَين أَيْديهم تهدم الدّور وتطفي النَّار وَالنَّاس فِي أَمر مريج. وَبينا أَصْحَاب الدَّار فِي نقلة مَتَاعهمْ خوفًا من وُصُول النَّار إِلَيْهِم إِذا بالنَّار قد ظَهرت عِنْدهم فينجون بِأَنْفسِهِم ويتركون أَمْوَالهم حَتَّى شَمل الْهدم والحريق مَا هُنَالك من العمائر. وَلم يبْق بِالْقَاهِرَةِ سقاء إِلَّا وأحضر لإطفاء الْحَرِيق وَكَانَت الْجمال تحمل الروايا بِالْمَاءِ من بَاب زويلة إِلَى البندقانيين. واستمرت النَّار يَوْمَيْنِ وليلتين وَجَمِيع الْأُمَرَاء وقُوف حَتَّى خف اللهب. فَوكل بالحريق بعض الْأُمَرَاء مَعَ الْوَالِي وَمضى بَقِيَّتهمْ إِلَى بُيُوتهم وبهم من التَّعَب مَا لَا يُوصف. فأقامت النَّار بعد انصرافهم ثَلَاثَة أَيَّام وَهِي تطفا فَكَانَ حريقا مهولا ذهب فِيهِ من الْأَمْوَال مَا لَا ينْحَصر. وامتد الْحَرِيق إِلَى قيسارية طشتمر وَربع بكتمر ثمَّ صَارَت النَّار تُوجد بعد ذَلِك فِي مَوَاضِع عديدة من الْقَاهِرَة وظواهرها. وَوجد فِي بعض الْمَوَاضِع الَّتِي بهَا الْحَرِيق كعكات زَيْت ومطران وَوجد فِي بَعْضهَا نشابة فِي وَسطهَا نفط. وَكَانَ أَكثر الْأَمَاكِن تقع النَّار بسطحها وَلم يعرف من فعل ذَلِك فَنُوديَ باحتراس النَّاس على أملاكهم من الْحَرِيق فَلم يبْق جليل وَلَا حقير حَتَّى اتخذ عِنْده أوعية ملأها مَاء. وَلم يزل الْحَرِيق فِي الْأَمَاكِن إِلَى أثْنَاء شهر ربيع الأول فَقبض فِي هَذِه الْمدَّة على كثير من أوباش الْعَامَّة وقيدوا ليكونوا عونا على إطفاء الْحَرِيق ففر معظمهم من الْقَاهِرَة. ثمَّ نُودي أَلا يُقيم بِالْقَاهِرَةِ غَرِيب ورسم للخفراء تتبعهم وإحضارهم. وتعب وَالِي الْقَاهِرَة فِي مُدَّة الْحَرِيق تعباً لَا يُوصف فَإِنَّهُ أَقَامَ مُدَّة شهر لَا يكَاد ينَام هُوَ وحفدته فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو وَقت من صَيْحَة تقع بِسَبَب الْحَرِيق فَذَهَبت دور كَثِيرَة. ثمَّ وَقع بعد شهر. بِمصْر حريق فِي شونة حلفاء بجوار مطابخ السُّلْطَان وبعدة أَمَاكِن. وَفِي يَوْم السبت حادي عشرى ربيع الأول: سمر حمام وَعَبده الَّذِي كَانَ يحمل سلاحه وَثَلَاثَة نفر. وَكَانَ قد عظم فَسَاده وَكثر هجومه على الدّور وَأخذ مَا فِيهَا وَقتل من يمنعهُ وأعيا الْوُلَاة أمره حَتَّى أوقعه الله وَكفى شَره.(4/119)
وَفِي أول ربيع الآخر: قبض على أَحْمد بن أبي ريد وَمُحَمّد بن يُوسُف مقدمي الدولة. وَسبب ذَلِك أَن ابْن يُوسُف حج فِي السّنة الْمَاضِيَة على سِتَّة قطر جمال وَثَلَاثَة قطر هجن بطبل وبيزه كَمَا حج الْأُمَرَاء بِحَيْثُ كَانَ مَعَه نَحْو مِائَتي عليقة. وَلما قدم ابْن يُوسُف إِلَى الْقَاهِرَة أهْدى للوزير منجك والنائب بيبغا روس والأمير طاز والأمير صرغتمش الْهَدَايَا الجليلة الْقدر وَلم يهد إِلَى الْأَمِير شيخو وَلَا إِلَى الْأَمِير مغلطاي شَيْئا. فعاب عَلَيْهِ النَّاس ترك مهاداة شيخو فَحمل إِلَيْهِ بعد مُدَّة هَدِيَّة سنية فَردهَا عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا مَاله حرَام. ثمَّ يعد أَيَّام وقف جمَاعَة من الأجناد وَشَكوا فِي الْوُلَاة طمعهم وَفَسَاد الْبِلَاد فَأنْكر الْأُمَرَاء على الْوَزير منج سيرة وُلَاة الْأَعْمَال وتعرضوا لَهُم بِأَنَّهُم ولوا بِالْبرِّ أطيل فاحتاجوا إِلَى نهب أَمْوَال النَّاس وَأخذ الْأَمِير شيخو فِي الْحَط على مقدمي الدولة وَأنكر كَثْرَة مَا أنفقهُ ابْن يُوسُف فِي حجَّته وَأَن ذَلِك جَمِيعه من مَال السُّلْطَان فَقَامَ الْأُمَرَاء فِي مساعدة شيخو وعددوا مَا يشْتَمل عَلَيْهِ ابْن يُوسُف من لعبه ولهوه وانهماكه فِي اللَّذَّات فَلم يجد الْوَزير بدا من موافقتهم على عزل الْوُلَاة ومسك المقدمين أَحْمد بن أبي زيد وَمُحَمّد بن يُوسُف فَقبض عَلَيْهِمَا وألزما بِحمْل المَال وَطلب ابْن سلمَان مُتَوَلِّي المنوفية وألزم. بِمَال وَاسْتقر عوضه ابْن فنغلي وَاسْتقر فِي ولَايَة الشرقية ابْن الجاكي وعزل أسندمر مِنْهَا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشريه: خرج إِلَى الأطفيحية سَبْعَة أُمَرَاء أُلُوف وَعِشْرُونَ أَمِير طبلخاناه وَقت الْعَصْر بأطلابهم فيهم الْوَزير منجك والأمير طاز وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير بيبغا روس فَأمر بهم فقيدوا وحبسوا وَأَعَادَهُ النَّائِب إِلَى الأطفيحية فَقبض الْأَمِير. عرب بن الشيخي كَانَ بالإطفيحية مُقيما بهَا فاستمال الْعَرَب حَتَّى وثقوا بِهِ وَأَتَاهُ مِنْهُم نَحْو عشْرين رجلا فَقبض عَلَيْهِم وَركب بهم إِلَى الْقَاهِرَة وأوقفهم بَين يَدي النَّائِب الْأَمِير عرب بن الشيخي على خَمْسَة أخر وقيدهم فَأَتَاهُم لَيْلًا عدَّة من العربان وفكوا قيودهم وكبسوا خيمته ففر إِلَى الْقَاهِرَة ومالوا على موجوده وانتهبوه. فَعظم ذَلِك على الْأُمَرَاء وَخَرجُوا إِلَى الأطفيحية. وَقد بلغ الْعَرَب خبرهم فَارْتَفعُوا إِلَى الْجبَال فَقبض الْأُمَرَاء على نَحْو مائَة من الأوباش وَأهل الْبِلَاد وَقَطعُوا جَمِيع مَا هُنَاكَ من شجر الْمغل وخربوا السواقي وعادوا بعد ثَلَاثَة أَيَّام فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشريه. فَعَادَت العربان بعد رُجُوع الْعَسْكَر وَأَكْثرُوا من قطع الطَّرِيق. وَفِي نصف جُمَادَى الأولى: وصلت أم الْأَمِير بيبغا روس النَّائِب وَأم الْأَمِير أرغون(4/120)
الكاملي نَائِب حلب وَأَبوهُ وعدة من أقاربهم. فَركب النَّائِب وتلقاهم من سرياقوس وسر بهم. وَفِيه أخرج أَمِير أَحْمد الساقي إِلَى حلب لسوء سيرته فِي كشف الجسور بالغربية. وَفِيه قدم قَود جَبَّار بن مهنا وقود سيف بن فضل صحبته. ثمَّ قدم الْأَمِير جَبَّار بعده فَأَقَامَ أَيَّامًا وَعَاد إِلَى بِلَاده. وَفِيه قدم كتاب الْملك الْأَشْرَف دمرداش بن جوبان صَاحب توريز يتَضَمَّن السَّلَام والتودد. فَأكْرم رَسُوله وأعيد بِالْجَوَابِ وَأرْسل السُّلْطَان بعده إِلَيْهِ وَالِي الشَّيْخ حسن صَاحب بَغْدَاد وَفِيه قدم الْخَبَر بَان الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب ركب إِلَى التركمان وَقد كثر فسادهم فَقبض على كثير مِنْهُم وأتلفهم وأوقع بالعرب حَتَّى عظمت مهابته ثمَّ بعث مُوسَى الْحَاجِب على ألفي فَارس فِي طلب نجمة أَمِير الأكراد فَلَمَّا قرب مِنْهُ بعث صَاحب ماردين يُشِير بِعُود الْعَسْكَر خوفًا من كسر حُرْمَة السلطة. فَعَاد مُوسَى الْحَاجِب بهم إِلَى حلب من غير لِقَاء. فتنكر الْأَمِير أرغون على مُوسَى الْحَاجِب وَكتب يشكو مِنْهُ وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن الهذباني الكاشف وَاقع عرب عَرك وَبني هِلَال فهزموه أقبح هزيمَة وجرحوا فرسه وَقتلُوا عدَّة من أَصْحَابه وَأخذُوا الطّلب. بِمَا فِيهِ من خيل وَغَيرهَا وَأَنه نزل بسيوط وَطلب تَجْرِيد الْعَسْكَر إِلَيْهِ فَاقْتضى الرَّأْي تَأْخِير التجريدة حَتَّى يفرغ تَأْخِير الْأَرَاضِي بالزرع.
(وَفِي رَجَب)
سَار ركب الْحجَّاج الرجبية فَلَقوا الشريف عجلَان بِالْعقبَةِ وَقد أخرجه أَخُوهُ ثقبة من مَكَّة. فَقدم عجلَان إِلَى الْقَاهِرَة وَدخل على السُّلْطَان وَطلب مِنْهُ تَجْرِيد عَسْكَر مَعَه فَلم يجب إِلَى ذَلِك. ورسم لَهُ بشرَاء مماليك واستخدام الأجناد البطالين فشرع فِي ذَلِك. وَقدم كتاب أَخِيه ثقبة يشكو مِنْهُ فَكتب لعجلان توقيع بإمرة مَكَّة. بمفردة وَاشْترى أَرْبَعِينَ مَمْلُوكا واستخدم عشْرين جندياً وَأنْفق فيهم خَمْسمِائَة دِرْهَم كل وَاحِد ثمَّ استجد عجلَان طَائِفَة أَحْرَى حَتَّى صَار فِي مائَة فَارس. وَحمل مَعَه حملين نشاباً وقسياً وَنَحْوهَا وسافر إِلَى مَكَّة وَفِيه توجه السُّلْطَان لسرحة سرياقوس. وَفِيه أنعم على الْأَمِير قطلوبغا الذَّهَبِيّ بإقطاع الْأَمِير لجحين أَمِير آخور بعد إمرته وأنعم لإمرته وتقدمته على عمر بن أرغون النَّائِب.(4/121)
وَفِيه أخرج بكلمش أَمِير شكار لنيابة طرابلس عوضا عَن أَمِير مَسْعُود بن خطير وَكتب بإحضار أَمِير مَسْعُود. وَفِيه هجم ابْن معِين بعربه على الأطفيحية فقاتله أَهلهَا فكسرهم بعد أَن قتل مِنْهُم عدَّة قَتْلَى كَبِيرَة تبلغ المائتي رجل. وَفِيه قدم حمل سيس بِحَق النّصْف لخراب بِلَادهمْ. وَفِيه قدم كتاب الشريف ثقبة وصحبته محْضر ثَابت يتَضَمَّن الشُّكْر من سيرته وَتَكْذيب عجلَان فِيمَا نقل عَنهُ فَكتب باستقراره شَرِيكا لِأَخِيهِ عجلَان. وَفِيه كتب بِعُود أَمِير مَسْعُود إِلَى دمشق بطالا حَتَّى ينْحل من الإقطاع مَا يَلِيق بِهِ. فَعَاد من الرملة إِلَى دمشق وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه ورسم بجلوسه فَوق الْأُمَرَاء المقدمين. وَفِيه خلع على الْأَمِير فَارس الدّين ألبكي وَاسْتقر فِي نِيَابَة غَزَّة بعد موت دلنجي وأنعم بإمرته على أَخِيه وأنعم على قطليجا الدوادار بإمرة طبلخاناه. وَفِيه قدم قرا وأشقتمر المتوجهين إِلَى الشَّيْخ حسن وَإِلَى الْأَشْرَف دمرداش بن جوبان بكتابيهما. وَذكر الشَّيْخ حسن فِي كِتَابه أَن دمرداش إِنَّمَا طلب الود مكراً مِنْهُ فَإِن رَسُوله إِنَّمَا قدم مصر لكشف أَمر عسكرها فَإِنَّهُ طمع فِي أَخذ الْبِلَاد. وَفِيه توجه الْأَمِير طاز لسرحة الْبحيرَة وأنعم عَلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف أردب شعير وَخمسين ألف دِرْهَم بِنَاحِيَة طموه من الجيزية زِيَادَة على إقطاعه. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى بر الجيزة ليتم صَوْم شهر رَمَضَان بهَا. وَفِيه تواردت تقادم نواب الشَّام والأمراء بديار مصر على الْأَمِير بيبغا روس لحركته لِلْحَجِّ. وَفِي شَوَّال: قدم السُّلْطَان من بر الجيزة إِلَى القلعة. وَفِي خَامِس عشره: خرج محمل الْحَاج إِلَى بركَة الْحَاج صُحْبَة الْأَمِير بزلار أَمِير سلَاح. وَخرج طلب الْأَمِير بيبغاروس النَّائِب بتجمل زَائِد وَفِيه مائَة وَخَمْسُونَ مَمْلُوكا معدة بِالسِّلَاحِ وَخرج طلب الْأَمِير طاز وَفِيه سِتُّونَ فَارِسًا. فَرَحل النَّائِب قبل طاز بيومين ثمَّ رَحل الْأَمِير طاز بعده ثمَّ رَحل بزلار بالحجاج ركباً ثَالِثا فِي عشريه(4/122)
وَفِي يَوْم السبت رَابِع عشره: عزل الْأَمِير منجك من الوزارة وَكَانَ الْأَمِير شيخو قد خرج إِلَى العباسة. وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان بعد توجه الْأَمِير شيخو طلب الْقُضَاة والأمراء فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِالْخدمَةِ قَالَ لَهُم: يَا أُمَرَاء هَل لأحد على ولَايَة حجر أَو أَنا حَاكم نَفسِي. فَقَالَ الْجَمِيع: يَا خوند مَا ثمَّ أحد يحكم على مَوْلَانَا السُّلْطَان وَهُوَ مَالك رقابنا. فَقَالَ: إِذا قلت لكم قولا ترجعوا إِلَيْهِ فَقَالُوا جَمِيعًا: نَحن فِي طَاعَة السُّلْطَان وممتثلون مَا يرسم بِهِ. فَالْتَفت إِلَى الْحَاجِب وَقَالَ: خُذ سيف هَذَا. وَأَشَارَ إِلَى منجك فَأخذ سَيْفه وَأخرج وَقيد وَنزلت الحوطة على أَمْوَاله مَعَ الْأَمِير كشلى السِّلَاح دَار فَوجدَ لَهُ خَمْسُونَ حمل جمل زردخاناه وَلم يُوجد لَهُ كثر مَال فرسم بعقوبته ثمَّ أخرج إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجن بهَا. وَسَاعَة قبض عَلَيْهِ رسم بإحضار الْأَمِير شيخو من العباسة على لِسَان بعض الجمدارية وإعلامه بمسك منجك. فَقَامَ الْأَمِير منكلى بغا والأمير مغلطاي فِي مَنعه من الْحُضُور ومازالا يخيلان السُّلْطَان مِنْهُ حَتَّى كتب لَهُ مرسوم بنيابة طرابلس على يَد طينال الجاشنكير فَلَقِيَهُ طينال قريب بلبيس وَقد عَاد صُحْبَة الجمدارية وَأَوْقفهُ على المرسوم فَأجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَبعث شيخو يسْأَل فِي الْإِقَامَة بِدِمَشْق فَكتب لَهُ بِخبْز الْأَمِير بلك بِدِمَشْق وَحُضُور بلك فَتوجه شيخو إِلَيْهَا وَفِيه قبض على الْأَمِير عمر شاه الْحَاجِب وَأخرج إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَفِيه أنعم على الْأَمِير طنيرق باستقراره رَأس نوبَة كَبِيرا وَفِيه قبص على حَوَاشِي منجك وعَلى عَبده عنبر البابا وصودر. وَكَانَ عنبر البابا قد أفحش فِي سيرته مَعَ النَّاس وشره فِي قطع المصانعات وترفع ترفعا زَائِدا. فَضرب ضربا مبرحا وَأخذ مِنْهُ نَحْو سبعين ألف دِرْهَم وَفِيه ضرب بكتمر شاد الأهراء فاعترف للوزير بِاثْنَيْ عشر ألف أردب غلَّة اشْتَرَاهَا منجك من أَرْبَاب الرَّوَاتِب وَالصَّدقَات على حِسَاب سِتَّة دَرَاهِم الأردب وَسَبْعَة دَرَاهِم. وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة: قبض على نَاظر الدولة والمستوفين وألزموا بِخَمْسِمِائَة ألف(4/123)
دِينَار. فترفق فِي أَمرهم الْأَمِير طنيرق حَتَّى اسْتَقَرَّتْ خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم وزعها الْمُوفق نَاظر الدولة على جَمِيع المباشرين من الْكتاب وَالشُّهُود والشادين وَنَحْوهم وألزم كل مِنْهُم بِحمْل معلومه عَن سِتَّة أشهر. فَاشْتَدَّ شاد الدَّوَاوِين فِي استخراحها وأخرق بِجَمَاعَة مِنْهُم وَالْتزم علم الدّين عبد الله بن زنبور نَاظر الْخَاص والجيش بتكفية جَمِيع الْأُمَرَاء والمقدمين بِالْخلْعِ من مَاله وَقيمتهَا خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم وفصلها وعرضها على السُّلْطَان. فَبعث السُّلْطَان بهَا إِلَى الْأُمَرَاء وركبوا بهَا الموكب وقبلوا الأَرْض فَكَانَ موكباً جَلِيلًا وَفِيه قبض على أسندمر كاشف الْوَجْه القبلي وناصر الدّين مُحَمَّد بن الدوادارى مُتَوَلِّي الْمحلة والغربية وألزم ابْن الدواداري بِحمْل مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه قبض على الفأر الضَّامِن وَضرب بالمقارع وَأخذ مِنْهُ جملَة مَال وسجن. وَفِي يَوْم السبت ثامنه: خلع على الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة عوضا عَن بيبغا روس بعد مَا عرضت على أكَابِر الْأُمَرَاء فَلم يقبلهَا أحد. وتمنع بيبغا ططر تمنعاً كَبِيرا ثمَّ قبلهَا. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير مغلطاي رَأس نوبَة عوضا عَن طينرق. وَأطلق لَهُ التحدث فِي أُمُور الدولة كلهَا عوضا عَن الْأَمِير شيخو مُضَافا إِلَى مَا بِيَدِهِ من التحدث فِي الإصطبل. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير منكلى بغا الفخري رَأس المشورة أتابك العساكر وأنعم على وَلَده بإمرة. ودقت الكوسات وطبلخاناه الْأُمَرَاء بأجمعها وزينت الْقَاهِرَة ومصر يَوْم الْأَحَد تاسعه واستمرت ثَمَانِيَة أَيَّام وَفِيه قدم الْخَبَر صُحْبَة الْأَمِير طشبغا الدوادار من دمشق بِأَن الْأَمِير شيخو لما قدم دمشق لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة أظهر طينال كتابا بِأَن يسْتَقرّ شيخو على إمرة بلك السلَامِي وتجهز بلك إِلَى الْقَاهِرَة. فَقدم من الْغَد الْأَمِير أرغون التاجي بإمساكه فقيد وَأخرج من دمشق. وَكَانَ شيخو لما قدم تَلقاهُ النَّائِب وَأخرج لَهُ كتاب السُّلْطَان. بِمَكَّة وإرساله صُحْبَة الْأَمِير طيلان. فَحل شيخو سَيْفه بِيَدِهِ وَقَالَ: وَأي حَاجَة إِلَى غدونا إِلَى الشَّام كفي هتكنا فِي مصر. ثمَّ قَالَ للنائب: وَالله يَا أَمِير مَا أعرف لي ذَنبا غير أَنِّي كنت جِسْرًا بَينهم أمنع بَعضهم من الْوُصُول إِلَى بعض " فقيد، وتسلمه طيلان ليسير بِهِ إِلَى مصر، وَسلم سَيْفه لطشبغا.(4/124)
وَفِيه قبض على ملك آص شاد الدَّوَاوِين وعَلى شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن صبح وتسلم سيفهما طشبغا. وَفِيه أركب قطلوبغا فَخرج أَخُوهُ مغلطاي رَأس نوبَة إِلَى لِقَائِه. وَفِيه قدم الْأَمِير شيخو إِلَى قطيا فَتوجه بِهِ متسلمه مِنْهَا إِلَى الطينة وأوصله إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجن بهَا. وَفِيه خلع على طشبغا وَاسْتقر على مَا كَانَ عَلَيْهِ دواداراً. وتصالح هُوَ وعلاء الدّين عَليّ بن فضل الله كَاتب السِّرّ بِحَضْرَة الْأُمَرَاء وَبعث كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر هَدِيَّة. وَكَانَ لما أمسك منجك خرج الْأَمِير قردم إِلَى الْأَمِير طاز وأمير بزلار أَمِير الركب بِكِتَاب السُّلْطَان يتَضَمَّن الْقَبْض على الْوَزير منجك وأنهما يحترسان على الْأَمِير بيبغاروس. وَكتب يبغا روس بتطييب خاطره وإعلامه بِتَغَيُّر السُّلْطَان على أَخِيه لأمور صدرت مِنْهُ اقْتَضَت مسكه وَأَنه مُسْتَمر على نِيَابَة السلطنة فَإِن أَرَادَ الْعود عَاد وان أَرَادَ الْحَج حج. فَركب الْأَمِير قردم يَوْم الْقَبْض على الْوَزير منجك الهجن وَقت الْعَصْر وأوصل طاز وبزلار كِتَابَيْهِمَا وَمضى إِلَى بيبغاروس وَقد نزل سطح الْعقبَة. فَلَمَّا قَرَأَ بيبغاروس الْكتاب وجم ثمَّ قَالَ: كلنا مماليك السُّلْطَان وخلع على الْأَمِير قردم وَكتب جَوَابه بِأَنَّهُ مَاض لأَدَاء الْحَج. ثمَّ إِن السُّلْطَان رسم للأمير صرغتمش أَن يدْخل الْخدمَة مَعَ الْأُمَرَاء بعد أَن عَزله من وَظِيفَة الجمدارية هُوَ وأمير على وَكَانَا من جملَة حَاشِيَة شيخو. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشره: أمسك الْأَمِير عمر شاه الحاحب والأمير آقبغا البالسي. وَأخرج عمر شاه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَنفي أقبغا البالسي وطشتمر القاسمي إِلَى طرابلس. وَأخرج أَمِير على إِلَى الشَّام وَأخرج الْأَمِير صرتمش لكشف الجسور بالصعيد. وَفِيه ألزم أستادار بيبغا روس بِكِتَابَة حواصله وَندب الْأَمِير آقجبا الْحَمَوِيّ لبيع حواصل منجك. وَأخذت جواري النَّائِب بيبغا روس ومماليكه وجواري منجك ومماليكه إِلَى القلعة. وطلع من مماليك منجك خَمْسَة وَسَبْعُونَ مَمْلُوكا صغَارًا وطلع من جواري بيبغا روس خمس وَأَرْبَعُونَ جَارِيَة فَلَمَّا وصلن إِلَى دَار النِّيَابَة بالقلعة صحن(4/125)
صَيْحَة وَاحِدَة وبكين فأبكين من هُنَاكَ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشره: نفي ابْن العرضي إِلَى حماة بعد مَا صورد. وَفِيه خلع على بَابَانِ السناني نَائِب البيرة وَقد حضر مِنْهَا وَاسْتقر أستادارا عوضا عَن الْأَمِير منجك الْوَزير. وَفِيه قدم الْخَبَر أَن الْأَمِير أَحْمد الساقي نَائِب صفد خرج عَن الطَّاعَة. وَسَببه أَنه لما قبض على الْوَزير منجك خرج الْأَمِير قمارى الْحَمَوِيّ وعَلى يَده ملطفات لأمراء صفد بِالْقَبْضِ على أَحْمد فَبَلغهُ ذَلِك من هجان جهزه إِلَيْهِ أَخُوهُ فندب الْأَمِير أَحْمد الساقي طَائِفَة من مماليكه لتلقى قمارى. وَطلب نَائِب قلعه صفد وديوانه وَأمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ كم لَهُ بالقلعة من غلَّة فَأمر لمماليكه مِنْهَا بِشَيْء فرقه عَلَيْهِم إِعَانَة لَهُم على مَا حصل من الْمحل فِي الْبِلَاد وبعثهم ليأخذوا ذَلِك فعندما طلعوا القلعة شهروا سيوفهم وملكوها فَقبض الْأَمِير أَحْمد الساقي على عدَّة من الْأُمَرَاء وطلع بحريمه إِلَى القلعة وحصنها وَأخذ مماليكه قمارى وأتوه بِهِ فَكتب السُّلْطَان لنائب عزه ونائب الشَّام تَجْرِيد الْعَسْكَر إِلَيْهِ ورسم بالإفراج عَن فياض بن مهنا وَعِيسَى بن حسن الهجان أُمُور العايد وخلع عَلَيْهِ وجهز وَأخذت الهجن من جمال الدّين بقر أَمِير عرب الشرقية وأعيدت إِلَى عَليّ بن حسن. وَكَانَت الأراجيف قد كثرت بِأَن الْأَمِير طاز قد تحالف هُوَ والأمير بيبغا روس بعقبة أيله فَخرج الْأَمِير فياض وَعِيسَى بن حسن أَمِير العايد ليقيما على عقبَة أَيْلَة بِسَبَب بيبغا روس. وَكتب لعرب شطي وَبني عقبَة وَبني مهْدي بِالْقيامِ مَعَ الْأَمِير فضل وَكتب لنائب غَزَّة بإرسال السوقة إِلَى الْعقبَة. وَفِيه خلع على شهَاب الدّين أَحْمد بن قزمان بنيابة الْإسْكَنْدَريَّة عرضا عَن بكتمر المؤمني. وَفِيه خلع على الْأَمِير أرلان أَمِير آخور وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن جركتمر. وأنعم وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشريه: قدم سيف الْأَمِير بيبغا روس وَقد قبض عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنه لما وردعليه الْكتاب. بمسك أَخِيه منجك اشْتَدَّ خَوفه وطلع إِلَى الْعقبَة وَنزل الْمنزلَة فَبَلغهُ أَن الْأَمِير طاز والأمير بزلار ركبا للقبض عَلَيْهِ فَركب. بِمن مَعَه من الْأُمَرَاء والمماليك بِآلَة الْحَرْب. فَقَامَ الْأَمِير عز الدّين إزدمر الكاشف. بملاطفته وَأَشَارَ(4/126)
عَلَيْهِ أَلا يعجل وَأَن يكْشف عَن الْخَبَر أَولا فَبعث الْأَمِير بيبغا روس نجاباً فِي اللَّيْل لذَلِك فَعَاد وأخبروا أَن الْأَمِير طاز مُقيم بركبه وَأَنه سَار بهم وَلَيْسَ فيهم أحد لابس عدَّة الْحَرْب فَقلع الْأَمِير بيبغا روس السِّلَاح هُوَ وَمن مَعَه وتلقى طاز وَسَأَلَهُ عَمَّا تخوف مِنْهُ فأوقفه طاز على كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ. فَلم ير بيبغا روس فِيهِ مَا يكره فاطمأن ورحل كل مِنْهُمَا بركبه من الْعقبَة. فَأَتَت الْأَخْبَار إِلَى الْأُمَرَاء باتفاف طاز وبيبغا روس فَكتب السُّلْطَان إِلَى طاز بزلار أَمِير الركب بِالْقَبْضِ على بيبغا روس قبل دُخُول مَكَّة وَتوجه إِلَيْهِمَا طيلان الجاشنكير وَقد رسم لَهُ أَن يتَوَجَّه مَعَ بيبغا روس إِلَى الكرك وجرد فياض وَعِيسَى بن حسن إِلَى الْعقبَة ثمَّ خرج الْأَمِير أرلان. بمضافية تَقْوِيَة لَهما. فَلَمَّا قدم طيلان على طاز وبزلار كتبا إِلَى أزدمر الكاشف يعلمَانِهِ. بِمَا رسم بِهِ لَهما من مسك بيبغا روس ويؤكدان عَلَيْهِ فِي استمالة الْأَمِير فَاضل والأمير مُحَمَّد بن بكتمر الْحَاجِب وَبَقِيَّة من مَعَ بيبغاروس وتعجيزهم عَن الْقيام مَعَه فَأخذ أزدمر الكاشف فِي تَنْفِيذ ذَلِك. ثمَّ كتب طاز وبزلار لبيبغا روس أَن يتَأَخَّر لسَمَاع مرسرم السُّلْطَان حَتَّى يكون دُخُولهمْ مَكَّة جَمِيعًا فأحس بيبغا روس بِالشَّرِّ وهم بالتوجه إِلَى الشَّام فمازال أزدمر الكاشف بِهِ حَتَّى رجعه عَن ذَلِك. وَعند نزُول بيبغا روس المويلحة قدم طاز وبزلار فتلقاهما وَأسلم نَفسه من غير ممانعة فَأخذُوا سَيْفه وأرادا تَسْلِيمه لطيلان حَتَّى يحملهُ إِلَى الكرك. فَرغب بيبغا روس إِلَى طاز أَن يحجّ مَعَه فَأَخذه صحبته محتفظا بِهِ وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان فَتوهم السُّلْطَان ومغلطاى أَن طاز قد مَال مَعَ بيبغاروس. وتشوشا تشوشاً زَائِدا ثمَّ أكد ذَلِك وُرُود الْخَبَر بعصيان أَحْمد فِي صفد وظنوا أَنه مناظر لبيبغا روس فَأخْرج طيلان ليقيم على الصَّفْرَاء حَتَّى يرد الْحجَّاج إِلَيْهَا فيمضي بيبغا إِلَى الكرك
(وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشريه)
خلع على علم الدّين عبد الله بن زنبور خلعة الوزارة مُضَافا لما مَعَه من نظر الْخَاص وَنظر الْجَيْش بعد مَا امْتنع وَشرط شُرُوطًا(4/127)
كَثِيرَة وَخرج ابْن زنبور فِي موكب عَظِيم فَركب بالزنارى الْحَرِير الأطلس إِلَى دَاره. بِمصْر فَكَانَ يَوْمًا مَذْكُورا. وَفِيه خلع على الْأَمِير طنيرق بنياية حماة عرضا عَن أسندمر الْعمريّ. وَفِي يَوْم السبت تَاسِع عشريه: جلس الْوَزير علم الدّين بن زنبور بشباك قاعة الصاحب من القلعة وَفِي دست الوزارة. وَجلسَ الْمُوفق نَاظر الدولة قدامه وَمَعَهُ جمَاعَة المستوفين. فَطلب ابْن زنبور جَمِيع المباشرين وَقرر مَعَهم مَا يعتمدونه وَطلب مُحَمَّد بن يُوسُف وَشد وَسطه على عَادَته وَطلب المعاملين وسلفهم على اللَّحْم وَغَيره. وَأمر فَكتبت أوراق من بَيت المَال والأهراء فَإِنَّهُ لم يكن بهما دِرْهَم وَاحِد وَلَا أردب غلَّة وَقرأَهَا على السُّلْطَان والأمراء. وَشرع فِي عرض الشادين وَالْكتاب وَسَائِر أَرْبَاب الْوَظَائِف وَتقدم إِلَى المستوفين بِكِتَابَة أوراق الْمُتَأَخر فِي النواحي واهتم بتدبير الدولة. ورسم على بدر الدّين نَاظر الْبيُوت وألزمه. بِمَال لشَيْء كَانَ فِي نَفسه مِنْهُ وَولى عوضه فَخر الدّين ماجد بن قرونه صهره نظر الْبيُوت. ورسم لأَوْلَاد الخروبي النجار. بِمصْر بتجهيز راتب السكر لشهر الْمحرم وَأنْفق فِي بَيت السُّلْطَان جامكية شهر فطلع إِلَى الْحَوَائِج خاناه السكر وَالزَّيْت والقلوبات وَسَائِر الْأَصْنَاف. وَفِيه أفرج ابْن زنبور عَن الفأر الضَّامِن بسفارة الْأَمِير ملكتمر المحمدي وَضَمنَهُ الْجِهَات بِزِيَادَة خمسين ألف دِرْهَم وَضمن الفأر مُعَاملَة الكيزان من الْأَمِير طيبغا المجدي بِزِيَادَة ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. وَفِيه حمل عَلَاء الدّين بن فضل الله كَاتب السِّرّ تَقْلِيد الوزارة إِلَى الصاحب علم الدّين عبد الله بن زنبور ونعت فِيهِ بالجناب العالي. وَكَانَ جمال الكفاة قد سعى أَن يكْتب لَهُ ذَلِك زمن السُّلْطَان الصَّالح إِسْمَاعِيل فَلم يرض كَاتب السِّرّ وشح بِهِ. فَخرج الصاحب وتلقى كَاتب السِّرّ وَبَالغ فِي إكرامه وَبعث إِلَيْهِ تقدمة سنية. وَفِي مستهل ذِي الْحجَّة: خلع على بكتمر المؤمني نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين. وَفِيه خلع على سعد الدّين رزق الله ولد الْوَزير علم الدّين وَاسْتقر بديوان(4/128)
المماليك. وَفِيه الْتزم الْوَزير علم الدّين بَين يَدي السُّلْطَان والأمراء أَنه يُبَاشر الوزارة بِغَيْر مَعْلُوم ويباشر ابْنه أَيْضا بِغَيْر مَعْلُوم ويوفر ذَلِك للسُّلْطَان. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن هِنْد وَأحد الأكراد استولى على بِلَاد الْموصل وَصَارَ فِي جمع كَبِير يقطع الطَّرِيق والتحق بِهِ نجمة التركماني فاستنابه وتقوى بِهِ وَركب من مندر إِلَى سنجار وتحصن بهَا وأغار على الْموصل وَنهب وَقتل وَمضى إِلَى الرحبة وأفسد بهَا وَمَشى على بِلَاد ماردين ونهبها. فَخرجت إِلَيْهِ عَسَاكِر الشَّام وحصروه بسنجار وَمَعَهُمْ عَسْكَر ماردين ونصبوا عَلَيْهَا المنجنيق مُدَّة شهر حَتَّى طلب هِنْد الْأمان على أَنه يُقيم الْخطْبَة للسُّلْطَان وَيبْعَث بأَخيه ونجمة فِي عقد الصُّلْح وبقطع قطيعة يقوم بهَا كل سنة فَأَمنهُ الْعَسْكَر وسروا عَنهُ بأَخيه ونجمة إِلَى حلب فَحمل نجمة ورفيقه إِلَى مصر فَلَمَّا نزلا منزلَة قانون هرب نجمة. وَفِي خامسه: رسم بِعرْض أجناد الْحلقَة وَخرجت البريدية إِلَى النواحي لإحضار من بهَا مِنْهُم فَحَضَرُوا وابتدئ بعرضهم بَين يَدي النَّائِب بيبغا ططر حارس الطير فِي يَوْم السبت حادي عشره. وَسبب ذَلِك دُخُول جمَاعَة كَبِيرَة من أَرْبَاب الصَّنَائِع فِي جملَة أجناد الْحلقَة وَأخذ جمَاعَة كَثِيرَة من الْأَطْفَال الإقطاعات حَتَّى فسد الْعَسْكَر. فرسم لنقيب الْجَيْش بِطَلَب المقدمين ومضافيهم وإحضار الغائبين وحذروهم من إخفاء أحد مِنْهُم وتقرر الْعرض بَين يَدي السُّلْطَان فِي كل يَوْم مقدمين. بمضافيهما ثمَّ رسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير أَن يتَوَلَّى ذَلِك فطلع إِلَيْهِ عدَّة أَيْتَام مَعَ أمهاتهم مَا بَين أَطْفَال تحمل على الأكتاف وصغار وشباب وَجَمَاعَة من أَرْبَاب الصَّنَائِع. فساءه ذَلِك وَكره أَن يقطع أَرْزَاقهم وَمضى يَوْمه بالتغاضي وصرفهم جَمِيعًا على أَن يحضروا من الْغَد. وتحدث بيبغا ططر حارس الطير مَعَ الْأُمَرَاء فِي إبِْطَال الْعرض فعارضه منكلى بغا الفخري وَأَشَارَ بِأَن الْعرض فِيهِ مصلحَة فَإِن الْقَصْد من إِقَامَة الأجناد إِنَّمَا هُوَ الذب عَن الْمُسلمين فَلَو تحرّك الْعَدو مَا وجد فِي عَسْكَر مصر من يَدْفَعهُ فَلم توافقه الْأُمَرَاء على دلك وَخرج الْأَمِير قبلاى الْحَاجِب على لِسَان السُّلْطَان بِإِبْطَال الْعرض وَقد اجْتمع بالقلعة عَالم كَبِير فَكَانَ يَوْمًا مهولا من كَثْرَة الدُّعَاء والبكاء والتضرع. وَفِيه قدم الْخَبَر بنزول عَسْكَر دمشق وطرابلس على صفد وزحفهم عَلَيْهَا عدَّة أَيَّام جرح فِيهَا كثير من الأجناد وَلم ينالوا من القلعة غَرضا إِلَى أَن بَلغهُمْ الْقَبْض على بيبغا(4/129)
روس. وَعلم بذلك الْأَمِير أَحْمد الساقي نَائِب صفد من هجانته فانحل عزمه فَبعث إِلَيْهِ بكلمش نَائِب طرابلس يرغبه فِي الطَّاعَة ودس إِلَى من مَعَه فِي القلعة حَتَّى حاصروا عَلَيْهِ وهموا. بمسكه. فَوَافَقَ الْأَمِير أَحْمد الساقي على الطَّاعَة وَحلف لنائب طرابلس وَنزل إِلَيْهِ. بِمن مَعَه. فسر السُّلْطَان بذلك وَكتب بإعانته وَحمله. وَفِي عاشره: كَانَت الْوَقْعَة. بمنى وَقبض على الْمُجَاهِد على بن الْمُؤَيد دَاوُد بن المظفر أَبُو سعيد المنصوري عمر بن رَسُول صَاحب الْيمن فَكَانَ من خبر ذَلِك أَن ثقبة لما بلغه اسْتِقْرَار أَخِيه عجلَان فِي إمرة مَكَّة توجه إِلَى الْيمن وأغرى الْمُجَاهِد بِأخذ مَكَّة وَكِسْوَة الْكَعْبَة. فتجهز الْمُجَاهِد وَسَار يُرِيد الْحَج فِي جحفل كَبِير بأولاده وَأمه حَتَّى قرب من مَكَّة وَقد سبق حَاج مصر. فَلبس عجلَان آلَة الْحَرْب وَعرف أُمَرَاء مصر مَا عزم عَلَيْهِ صَاحب الْيمن وحذرهم غائلته. فبعثوا إِلَيْهِ بِأَن من يُرِيد الْحَج إِنَّمَا يدْخل مَكَّة بذلة ومسكنة وَقد ابتدعت من ركوبك وَالسِّلَاح حولك بِدعَة لَا يمكنك أَن تدخل بهَا وَابعث إِلَيْنَا ثقبة ليَكُون عندنَا حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام الْحَج ثمَّ نرسله إِلَيْك فَأجَاب الْمُجَاهِد إِلَى ذَلِك وَبعث ثقبة رهينة فَأكْرمه الْأُمَرَاء وأركبوا الْأَمِير طقطاي فِي جمَاعَة إِلَى لِقَاء الْمُجَاهِد فتوجهوا إِلَيْهِ وَمنعُوا سلاحداريته من الْمَشْي مَعَه بِالسِّلَاحِ وَلم يمكنوهم من حمل الغاشية. ودخلوا بِهِ مَكَّة فَطَافَ وسمى وَسلم على الْأُمَرَاء وَاعْتذر إِلَيْهِم وَمضى إِلَى منزله وَصَارَ كل مِنْهُم على حذر حَتَّى وقفُوا بِعَرَفَة وعادوا إِلَى الحيف من منى وَقد تقرر الْحَال بَين الشريف ثقبة وَبَين الْمُجَاهِد على أَن الْأَمِير طاز إِذا سَار من مَكَّة أرقعاهما بأمير الركب وَمن مَعَه وقبضا على عجلَان وتسلم ثقبة مَكَّة. فاتفق أَن الْأَمِير بزلار رأى وَقد عَاد من مَكَّة إِلَى منى خَادِم الْمُجَاهِد سائراً فَبعث يستدعيه فَلم يَأْته وَضرب مَمْلُوكه - بعد مُفَاوَضَة جرت بَينهمَا - بِحَرْبَة فِي كتفه فماج الْحَاج وَركب بزلار وَقت الظّهْر إِلَى طاز فَلم يصل إِلَيْهِ حَتَّى أَقبلت النَّاس جافلة تخبر بركوب الْمُجَاهِد بعسكره للحرب وَظَهَرت لوامع أسلحتهم فَركب طاز وبزلار والعسكر وَأَكْثَرهم بِمَكَّة. فَكَانَ أول من صدم أهل الْيمن الْأَمِير بزلار وَهُوَ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا فَأَخَذُوهُ فِي صُدُورهمْ إِلَى أَن أرموه قرب خيمة. وَمَضَت فرقة مِنْهُم إِلَى جِهَة طاز فأوسع لَهُم ثمَّ عَاد عَلَيْهِم وَركب الشريف عجلَان وَالنَّاس فَبعث طاز لعجلان أَن احفظ الْحَاج وَلَا تدخل بَيْننَا فِي حَرْب وَدعنَا مَعَ غريمنا وَاسْتمرّ الْقِتَال بَينهم إِلَى بعد الْعَصْر. فَركب(4/130)
أهل الْيمن الذلة والتجأ الْمُجَاهِد إِلَى دهليزه وَقد أحيط بِهِ وَقطعت أطنابه وألقوه إِلَى الأَرْض. فَمر الْمُجَاهِد على وَجهه وَمَعَهُ أَوْلَاده فَلم يجد طَرِيقا ولديه إِلَى بعض الْأَعْرَاب وَعَاد. بِمن مَعَه وهم يصيحون: الْأمان يَا مُسلمين فَأخذُوا وزيره وتمزقت عساكره فِي تِلْكَ الْجبَال وَقتل مِنْهُم خلق كثير ونهبت أَمْوَالهم وخيولهم حَتَّى لم يبْق لَهُم شَيْء وَمَا انْفَصل الْحَال إِلَى غرُوب الشَّمْس. وفر ثقبة بعربه وَأخذ عبيد عجلَان جمَاعَة من الْحجَّاج فِيمَا بَين مَكَّة وَمنى وَقتلُوا جمَاعَة. فَلَمَّا أَرَادَ الْأَمِير طاز الرحيل من منى سلم أم الْمُجَاهِد وحريمه لعجلان وأوصاه بِهن وَركب الْأَمِير طاز وَمَعَهُ الْمُجَاهِد محتفظاً بِهِ وَبَالغ فِي إكرامه وَصَحب مَعَه أَيْضا الْأَمِير بيبغا روس مُقَيّدا وَبعث الْأَمِير طنطاي مبشراً. وَلما قدم الْأَمِير طاز الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة قبض على الشريف طفيل وَكَانَ قاع النّيل فِي هَذِه السّنة أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف ذِرَاع. وتوقفت الزِّيَادَة حَتَّى ارْتَفع سعر الأردب الْقَمْح من خَمْسَة عشر درهما إِلَى عشْرين درهما ثمَّ زَاد النّيل فِي يَوْم وَاحِد أَرْبعا وَعشْرين إصبعا وَنُودِيَ من الْغَد بِزِيَادَة عشْرين إصبعاً ثمَّ بِزِيَادَة خَمْسَة عشر إصبعا ثمَّ ثَمَانِي أَصَابِع. واستمرت الزِّيَادَة حَتَّى بَقِي من ذِرَاع الْوَفَاء ثَلَاثَة أَصَابِع فتوقف سِتَّة أَيَّام ثمَّ وفى السِّتَّة عشر ذِرَاعا فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشْرين مسرى. وَزَاد بعد ذَلِك إِلَى خَامِس توت فَبلغ سَبْعَة عشر ذِرَاعا وَهَبَطَ فشرقت بِلَاد كَثِيرَة وتوالى الشراقي ثَلَاث سِنِين شقّ الْأَمر فِيهَا على النَّاس من عدم الفلاحين وخيبة الزَّرْع بِخِلَاف مَا يعْهَد وَكَثْرَة المغارم والكلف وظلم الْوُلَاة وعسفهم وَزِيَادَة طمعهم فِي أَخذ مَا بذلوا مثله حَتَّى ولوا مَعَ نفاق عرب الصَّعِيد وطمعهم فِي الْكَشَّاف والولاة وَكسر الْمغل وعنتقهم فِي إِعْطَائِهِ الأجناد وَرمي الشّعير على الْبِلَاد من حِسَاب سَبْعَة دَرَاهِم الأردب وَحمله إِلَى الأهراء فَحمل نَحْو الْأَرْبَعين ألف أردب شَعِيرًا وَنَحْو خَمْسَة آلَاف أردب برسيما. وَفِيه خلع على ملك تونس أَبُو الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فِي ثامن عشر جُمَادَى الأولى فَكَانَت مدَّته سِتَّة أشهر فَقَامَ بعده أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي بكر. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْأَمِير سيف الدّين دلنجى نَائِب غَزَّة. قدم الْقَاهِرَة سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأنعم(4/131)
عَلَيْهِ بإمرة عشره ثمَّ إمرة طبلخاناه وَولي غَزَّة بعد يلجك فأوقع بالعشير وقويت حرمته. وَمَات الْأَمِير لاجين أَمِير آخور. وَتُوفِّي فَخر الدّين مُحَمَّد بن على بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْكَرِيم الْمصْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة ومولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة وَخرج من الْقَاهِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة وَسكن دمشق وبرع فِي الْفِقْه والعربية وَغير ذَلِك. وَكَانَ يتوقد ذكاء بِحَيْثُ أَنه حفظ مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب مَعَ تعقد أَلْفَاظه فِي تِسْعَة عشر يَوْمًا ودرس وَأفْتى وَأفَاد وَتُوفِّي الْعَلامَة شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب الْمَعْرُوف بِابْن قيم الجوزية الزرعي الدِّمَشْقِي فِي ثَالِث عشر رَجَب ومولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة. وبرع فِي عدَّة عُلُوم مَا بَين تَفْسِير وَفقه وعربية وَغير ذَلِك. وَلزِمَ شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية بعد عوده من الْقَاهِرَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسَبْعمائة حَتَّى مَاتَ وَأخذ عَنهُ علما جماً فَصَارَ أحد أَفْرَاد الدُّنْيَا وتصانيفه كَثِيرَة وَقدم الْقَاهِرَة غير مرّة وَمَات ابْن قرقمان صَاحب جبال الرّوم وَمَات الْحُسَيْن بن خضر بن مُحَمَّد بن حجي بن كَرَامَة بن بختر بن على بن إِبْرَاهِيم ابْن الْحُسَيْن بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْأَمِير نَاصِر الدّين الْمَعْرُوف بِابْن أَمِير الغرب التنوخى فِي نصف شَوَّال. وَولى عوضه ابْنه زين الدّين صَالح وولايته بِبِلَاد الغرب من بيروت. وَأول من وَليهَا مِنْهُم كَرَامَة بن بختر فِي أَيَّام نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَسُمي كَرَامَة أَمِير الغرب.(4/132)
(سنة اثْنَتَيْنِ فِي خمسين وَسَبْعمائة)
فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع الْمحرم: قدم الْأَمِير أسندمر الْعمريّ من حماة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خامسه: قدم الْأَمِير أرغون الكاملي من حلب بِغَيْر مرسوم فَخلع عَلَيْهِ وَأنزل بالقلعة وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ قد أشيع بحلب الْقَبْض عَلَيْهِ وَأشيع. بِمصْر أَنه خامر فكره تمكن مُوسَى حَاجِب حلب لما بَينهمَا من الْعَدَاوَة وَرَأى أَن وُقُوع الْمَكْرُوه بِهِ فِي غير حلب أخف عَلَيْهِ فَركب من حلب وَقدم مصر ففرح السُّلْطَان بقدومه لما كَانَ عِنْده من إِشَاعَة عصيانه وَفِيه قدم عِيسَى بن حسن الهجان من الْعقبَة بِكِتَاب الْأَمِير فياض يتَضَمَّن حُضُور طقطاى ورفيقه مبشرين وَأَنه عوقهما بِالْعقبَةِ وَبعث مَا على يديهما من الْكتب وَأَن طيلان لفي الْحَاج يَنْبع فَكتب بإحضار طقطاى ورفيقه. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن طيلان تسلم الْأَمِير بيبغا روس من الْأَمِير طاز وَتوجه بِهِ إِلَى الكرك من بدر. فسر السُّلْطَان والأمراء بذلك وَكتب بِإِعَادَة الْعَسْكَر من الْعقبَة. وَفِيه توجه الْأَمِير فياض بن مهنا إِلَى أَهله وسير إِلَيْهِ منشوره بإمرة الْعَرَب عوضا عَن جَبَّار صُحْبَة قطلوبغا أخي الْأَمِير مغلطاى ليسافر بِهِ إِلَى بِلَاده. وَفِي رَابِع عشره: خلع على الضياء يُوسُف الشَّامي وأعيد إِلَى حسبَة الْقَاهِرَة وَنظر المارستان عوضا عَن ابْن الأطروش بسفارة النَّائِب الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير لكَلَام نَقله ابْن الأطروش للوزير ابْن زنبور فَسَبهُ وأهانه وتحدث فِي عَزله وعود الضياء. فَعرض الضياء حواصل المارستان فَلم يجد بهَا شَيْئا وَكتب بذلك أوراقاً وأوقف الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب عَلَيْهَا. فَنزل النَّائِب مَعَه إِلَى المارستان واستدعى الْقُضَاة وأرباب الْوَظَائِف بالمارستان وأحضر ابْن الأطروش وَطلب كتاب الْوَقْف وقرأه حَتَّى وصل فِيهِ الْقَارئ إِلَى قَوْله: عَن النَّاظر التعمم وَيكون عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَأُمُور الْكِتَابَة. فَقَالَ الضياء لِابْنِ الأطروش: قد سَمِعت مَا شَرطه الْوَاقِف فِيك وَأَنت(4/133)
عَامي مَشْهُور بِبيع الخرائط لَا تَدْرِي شَيْئا مِمَّا شَرطه الْوَاقِف. وناوله ورقة حِسَاب لِيَقْرَأهَا فَقَامَ إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء وَقَالَ: هَذَا مَعَه تدريس وإعادة وَأَنا أسأله عَن شَيْء فَإِن أجَاب اسْتحق الْمَعْلُوم. وأخذته الْأَلْسِنَة من كل جَانب فَقَالَ النَّائِب: يَا قوم! هَذَا رجل عَامي وَقد أَخطَأ وَمَا بَقِي إِلَّا السّتْر عَلَيْهِ فاعترف ابْن الأطروش أَنه لَا يدْرِي الْحساب وَأَنه عَاجز عَن الْمُبَاشرَة وألزم نَفسه أَلا يعود إِلَيْهَا أبدا بإشهاد كتب فِيهِ قُضَاة الْقُضَاة ونوابهم يتَضَمَّن قوادح شنيعة ومازال النَّائِب بأخصامه حَتَّى كفوا عَنهُ ثمَّ قَامَ النَّائِب لكشف أَحْوَال المرضى فَوجدت فرشهم قد تلفت وَلها ثَلَاث سِنِين لم تغير فسد النَّائِب خلله وَانْصَرف. وَفِيه قبض على مُسْتَوْفِي الدولة الأسعد حَرْبَة وكريم الدّين أكْرم بن شيخ وسلما لشاد الدَّوَاوِين فَضرب شاد الدَّوَاوِين ابْن شيخ وعاقبه حَتَّى وزن مائَة وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم تَتِمَّة ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَوزن حَرْبَة مَالا جزيلا. وَاسْتقر عوضهما تَاج الدّين ابْن ريشة وَالْعلم كَاتب آل ملك. وَفِي يَوْم السبت عشريه: قدم الْأَمِير طاز من الْحجاز. بِمن مَعَه وصحبته الْملك الْمُجَاهِد والشريف أدّى أَمِير الْمَدِينَة بعد مَا سَافر وَلحق بِالْيمن وَقدم مَعَ الْمُجَاهِد إِلَى مَكَّة. فَخرج الْأَمِير مغلطاي إِلَى الْبركَة وَمَعَهُ الْأُمَرَاء وَمد لَهُ سماطاً جَلِيلًا وَقبض على من مَعَه من الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا من جمَاعَة الْأَمِير بيبغا روس وقيدوهم وهم فَاضل أَخُو بيبغا روس وناصر الدّين مُحَمَّد بن بكتمر الْحَاجِب. وَأما الْأَمِير أزدمر الكاشف فَإِنَّهُ أخرج عَنهُ إقطاعه وَلزِمَ بَيته وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشريه: طلع الْأَمِير طاز بالمجاهد إِلَى القلعة فقيد عِنْد بَاب القلعة وَمَشى بقيده حَتَّى وقف مَعَ الْعُمُوم بالدركاه - تجاه النَّائِب والأمراء جُلُوس - وقوفاً طَويلا إِلَى أَن خرج أَمِير جاندار يطْلب الْأُمَرَاء على الْعَادة فَدخل مَعَهم وخلع السُّلْطَان على الْأَمِير طاز ثمَّ أَخذ الْمُجَاهِد وَأمر بِهِ مقبل الأَرْض ثَلَاث مَرَّات. وَطلب السُّلْطَان الْأَمِير طاز وَسَأَلَ عَنهُ فمازال طاز يتشفع فِي أَمر الْمُجَاهِد إِلَى أَن أَمر بقيده ففك وَأنزل بالأشرفية من القلعة عِنْد الْأَمِير مغلطاى وأجريت لَهُ الرَّوَاتِب السّنيَّة وأقيم لَهُ من يَخْدمه.(4/134)
وَفِيه أنعم على الْأَمِير طاز. بِمِائَتي ألف دِرْهَم وَفِيه قبض على الْأَمِير حُسَيْن الططرى وَولده وَأخرج مَعَ الْأُمَرَاء الممسوكين إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَفِيه خلع على الْأَمِير أرغون الكاملي وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب على عَادَته ورسم أَن يكون وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه: حضر الْمُجَاهِد الْخدمَة وأجلس تَحت الْأُمَرَاء. وَفِيه ألزم الْمُجَاهِد بِحمْل أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار يقترضها من الكارم ثمَّ بعد ذَلِك ينعم لَهُ بِالسَّفرِ إِلَى بِلَاده. وَفِيه قدم المجردون من الْعقبَة بِسَبَب بيبغا روس. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشريه: قدم الْأَمِير قطلوبغا الكركي وَمَعَهُ أَمِير أَحْمد الثائر بصفد فَأرْسل إِلَى الاسكندرية فسجن بهَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشريه: خلع على الْأُمَرَاء اليمنيين المقيدين وعَلى الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن بالإيوان وَقبل الأَرْض عدَّة مرار. وَكَانَ الْأَمِير طاز والأمير مغلطاي تلطفا فِي أمره حَتَّى أعفى من حمل المَال وقربه السُّلْطَان ووعده بِالسَّفرِ إِلَى بِلَاده مكْرها فَقبل الْمُجَاهِد الأَرْض وسر بذلك فَأذن لَهُ أَن ينزل من القلعة إِلَى إصطبل الْأَمِير مغلطاى ويتجهز للسَّفر. وَأَفْرج عَن وزيره وخادمه وحواشيه وأنعم عَلَيْهِ. بِمَال. فَبعث لَهُ الْأُمَرَاء مَالا جزيلا وَشرع فِي الْقَرْض من الكارم تجار مصر واليمن فبعثوا لَهُ عدَّة هَدَايَا وَصَارَ يركب حَيْثُ شَاءَ وَفِيه خلع على ابْن بورقية وَاسْتقر فِي حسبَة مصر عوضا عَن ولي الدّين. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي صفر: ركب الْمُجَاهِد فِي الموكب بسوق الْخَيل تَحت القلعة وطلع مَعَ الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب إِلَى القلعة وَدخل إِلَى الْخدمَة بالإيوان مَعَ الْأُمَرَاء والنائب فَكَانَ موكباً عَظِيما ركب فِيهِ جمَاعَة من أجناد الْحلقَة مَعَ مقدميهم وخلع السُّلْطَان على المقدمين وطلعوا إِلَى القلعة وأجناد الْحلقَة مَعَهم. وَاسْتمرّ الْمُجَاهِد يركب فِي الْخدمَة مَعَ النَّائِب فِي سوق الْخَيل ويطلع إِلَى الْخدمَة بالقلعة(4/135)
وَفِيه خلع على الْأَمِير صرغتمش وَاسْتقر رَأس نوبَة على مَا كَانَ عَلَيْهِ بعناية الْأَمِير طاز والأمير مغلطاي وَفِيه قبض على مُحَمَّد بن يُوسُف مقدم الدولة وَسلم لشاد الدَّوَاوِين وأفرد مُحَمَّد ابْن زيد بالتقدمة. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشره: برز الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن بثقله إِلَى الريدانيه ليسافر إِلَى بِلَاده وصحبته الْأَمِير قشتمر شاد الدَّوَاوِين. وَكتب السُّلْطَان إِلَى الشريف عجلَان أَمِير مَكَّة بتجهيزه إِلَى بِلَاده وَكتب لبنى شُعْبَة وَغَيرهم من العربان بِالْقيامِ فِي خدمته وخلع عَلَيْهِ أطلس فوعد الْمُجَاهِد بإرسال الدِّيَة وَالْمَال وَقرر على نَفسه حملا فِي كل سنة وَأسر السُّلْطَان إِلَى قشتمر أَنه إِن رأى مِنْهُ مَا يرِيبهُ. بِمَنْعه من الْمُضِيّ ويطالع بأَمْره. فَرَحل الْمُجَاهِد من الريدانية خَارج الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشريه وَمَعَهُ عدَّة مماليك اشْتَرَاهَا وَكثر من الْخَيل وَالْجمال وَفِي مستهل ربيع الأول: قدم الْأَمِير قطلوبغا مُسْتَقر الْأَمِير فياض بن مهنا وَقد أنعم عَلَيْهِ. بِمِائَة ألف دِرْهَم وَثَلَاثِينَ فرسا وَخمسين جملا وقماش كثير. وَفِيه قدم الْخَبَر بلين الْأَمِير أيتمش الْمصْرِيّ نَائِب الشَّام وضياع أَحْوَال الشَّام وَكَثْرَة قطع الطرقات وَأَن أهل الشَّام سموهُ ايش كنت أَنا وَأَن أَحْوَال شمس الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق النَّاظر توقفت. وَوَقع جَراد مُضر بالزرع أفسد أَكْثَرهَا وَأَن الغرارة الْقَمْح ارْتَفَعت من ثَمَانِينَ إِلَى مائَة وَعشْرين درهما. وَوَقع بحماة سيل لم يعْهَد مثله وَخرب السَّيْل أَمَاكِن كَثِيرَة. وَفِيه قدم الْأَمِير قطلوبغا الذَّهَبِيّ من الْوَجْه القبلي وَقد عجز عَن مقاومة الأحدب. وَفِيه قدم الْخَبَر بقتل الشريف سعد بن ثَابت أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة. وَسَببه أَن الشريف أدّى لما نهب الْمَدِينَة وفر إِلَى الْيمن وَصَارَ عِنْد صَاحبهَا الْمُجَاهِد حَتَّى قدم مَكَّة ترامى على الْأَمِير طاز إِلَى أَن أَخذ لَهُ أَمَانًا من السُّلْطَان وَقدم مَعَه وَمثل بَين يَدي السُّلْطَان وَفِي عُنُقه منديل الْأمان فَقيل لَهُ: إِنَّمَا أمنك على نَفسك وَأما الْأَمْوَال الَّتِى أَخَذتهَا من أهل الْمَدِينَة وَمن الْحجَج فلابد من ردهَا إِلَى أَرْبَابهَا. فَجمع أدّى وَلَده وطرق سعد بن ثَابت لَيْلًا وحاربه فَقتل سعد وَكتب باستقرار فضل ابْن(4/136)
وَفِي مستهل ربيع الآخر. كَانَ عرس خوند زهراء ابْنة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد وَهِي زَوْجَة آقسنقر الناصري الْمَقْتُول زمن المظفر حاجي على الْأَمِير طاز ثمَّ كَانَ بعد ذَلِك عرس الْأَمِير تنكز بغا وأعرس جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَعمل السُّلْطَان لكل مِنْهُم مهما يَلِيق بِهِ فأقامت الأفراح طول الشَّهْر وأنعم السُّلْطَان على طاز وعَلى تنكز بغا بثلاثمائة ألف دِرْهَم وأنعم على كل من الْأَمِير مغلطاي رَأس نوبَة والأمير منكلى بغا الفخري. وَفِيه أخرج الْأَمِير نوروز على إمرة طبلخاناه بِدِمَشْق. وَسَببه أَنه لما قدم من الشَّام أنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف فَصَارَ يتحدث مَعَ السُّلْطَان فِي المشور وترفع على الْأُمَرَاء. وَفِيه قدم سيف بن فضل بقوده. وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رابعه: قدم الْخَبَر بِأَن الْأَمِير قشتمر أمسك الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن بينبع بعد مَا فر بِنَفسِهِ وَترك ثقله. ثمَّ قدم قشتمر فِي يَوْم السبت خَامِس عشره وَأرْسل الْمُجَاهِد إِلَى الكرك فسجن بهَا. وَفِي أول جُمَادَى الأولى: قدمت رسل الْأَشْرَف دمرداش بن جوبان بِسَبَب الصُّلْح فأنزلوا بصهريج منجك ثَلَاثَة أَيَّام وَلم يُمكن أحد من الِاجْتِمَاع بهم. ثمَّ مثلُوا بَين يَدي السُّلْطَان وأعيدوا بجوابهم. وَفِيه خلع على الْأَمِير أرغون الْإِسْمَاعِيلِيّ وَاسْتقر فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن فَارس الدّين ألبكي. وَقدم فَارس الدّين فأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه. وَفِيه خرجت الْعَرَب الْمَعْرُوفَة ثَعْلَبَة من أماكنها وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد. فوقفت أَحْوَال مراكز الْبَرِيد فَإِن دَرك الْبَرِيد عَلَيْهِم فسعى ابْن طلدية فِي ولَايَة الشرقية وتكفل برد ثَعْلَبَة فَخلع عَلَيْهِ بولايتها. وَفِيه ركب الْأَمِير طاز لكبس عرب الأطفيحية وَقد اشْتَدَّ ضررهم وَكثر قطعهم الطَّرِيق فَلم يظفر مِنْهُم بِأحد وتعلقوا بالجبال. وَفِيه توعك السُّلْطَان وَلزِمَ الْفراش أَيَّامًا فَبلغ طاز ومغلطاى ومنكلى بغا أَنه أَرَادَ بِإِظْهَار توعكه الْقَبْض عَلَيْهِم إِذا دخلُوا إِلَيْهِ وَأَنه قد اتّفق مَعَ قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر المارديني وتنكز بغا على ذَلِك وَأَن ينعم عَلَيْهِم بإقطاعاتهم وإمراتهم. فواعدوا أَصْحَابهم وَاتَّفَقُوا مَعَ الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب والأمير طيبغا المجدي والأمير رسْلَان بصل وركبوا يَوْم الْأَحَد سَابِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة بأطلابهم ووقفوا عِنْد قبَّة النَّصْر. فَخرج السُّلْطَان إِلَى الْقصر الأبلق وَبعث يسألهم عَن سَبَب ركوبهم فَقَالُوا: أَنْت اتّفقت مَعَ مماليكك على مسكنا ولابد من إرسالهم إِلَيْنَا. فَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِم تنكز(4/137)
بغا وقشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر فعندما وصلوا إِلَيْهِم قيدوهم وبعثوهم إِلَى خزانَة كايل فسجنوا بهَا. فشق ذَلِك على السُّلْطَان وَبكى وَقَالَ: قد نزلت عَن السلطنة وسير إِلَيْهِم النجَاة فسلموها للأمير طيبغا المجدي. وَقَامَ السُّلْطَان إِلَى حريمه فَبعث الْأُمَرَاء الْأَمِير صرغتش وَمَعَهُ الْأَمِير قطلوبغا الذَّهَبِيّ وَجَمَاعَة ليأخذه ويحبسه. فطلعوا إِلَى القلعة راكبين إِلَى بَاب الْقصر الأبلق ودخلوا إِلَى النَّاصِر حسن وأخذوه من بَين حرمه فَصَرَخَ النِّسَاء صراخاً عَظِيما وصاحت سِتّ حدق على صرغتمش صياحاً مُنْكرا وسبته وَقَالَت: هَذَا جَزَاؤُهُ مِنْك. فَأخْرجهُ صرغتمش وَقد غطى وَجهه إِلَى الرحبة فَلَمَّا رأه الخدام والمماليك تباكوا عَلَيْهِ بكاءاً كثيرا. وطلع صرغتمش بِهِ إِلَى رواق فَوق الإيوان ووكل بِهِ من يحفظه وَعَاد إِلَى الْأُمَرَاء. وَكَانَت مدَّته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا مِنْهَا مُدَّة الْحجر عَلَيْهِ ثَلَاث سِنِين وَمُدَّة استبداده تِسْعَة أشهر وَكَانَ الْقَائِم بدولته الْأَمِير شيخو رَأس نوبَة وَإِلَيْهِ أَمر خزانَة الْخَاص - ومرجع ذَلِك إِلَى علم الدّين بن زنبور نَاظر الْخَاص - والأمير بيبغاروس نَائِب السلطة وَإِلَيْهِ حكم الْعَسْكَر وتدبره وَالْحكم بَين النَّاس والأمير منجك الْوَزير الأستادار مقدم المماليك وَإِلَيْهِ التَّصَرُّف فِي أَمْوَال الدولة وَالْمُتوَلِّيّ لتربيته خوند طغاي أم آنوك وَفِي خدمته سِتّ حدق. ورتب لَهُ فِي كل يَوْم مائَة دِرْهَم تصرف لخدامه من خزانَة الْخَاص فَكَانَ كَذَلِك فِي طوع الْأُمَرَاء يصرفونه على حسب اختيارهم إِلَى أَن نفرت نفوس الْأُمَرَاء الخاصكية من الْوَزير منجك وحسدوه على مَا هُوَ فِيهِ وَكَانَ أَشَّدهم عَلَيْهِ حقدا الْأَمِير مغلطاي والأمير طاز. وَكَانَ الْأَمِير شيخو يفهم عَنهُ إِلَى أَن خرج الْأَمِير بيبغا روس إِلَى الْحَج وَخرج الْأَمِير شيخو إِلَى السرحة بالعباسة وَقع الِاتِّفَاق على ترشيد السُّلْطَان ومسك منجك كَمَا تقدم. فاستبد السُّلْطَان بِالتَّصَرُّفِ وَأخذ أَمْوَال الْأُمَرَاء الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وفرقها فِي خواصه. ثمَّ اخْتصَّ بطاز وَبَالغ فِي الإنعام عَلَيْهِ واستخص قشتمر وألطنبغا وملكتمر وتنكز بغا وجعلهم ندماءه فِي اللَّيْل ومشيريه فِي النَّهَار فَلم يكن يفارقهم أبدا لَيْلًا وَلَا نَهَارا وسوغهم من الْأَمْلَاك وأنعم عَلَيْهِم من الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال بِشَيْء جليل إِلَى الْغَايَة وَأعْرض عَن الْأُمَرَاء فَلم يلْتَفت إِلَيْهِم حَتَّى كَانَ مَا كَانَ من خلعه. وَكَانَت أَيَّامه شَدِيدَة كثرت فِيهَا المغارم بالنواحي وَخَربَتْ عدَّة أَمْلَاك على النّيل واحترقت مَوَاضِع كَثِيرَة بِالْقَاهِرَةِ ومصر وخرحت عربان العايد وثعلبة وعشير الشَّام وعرب الصَّعِيد عَن الطَّاعَة وَاشْتَدَّ فسادهم وَكثر قطعهم الطرقات. وَكَانَ الفناء الْعَظِيم الَّذِي لم يعْهَد مثله وتوالي شراقي الْأَرَاضِي وتلاف الجسور وَقيام ابْن وَاصل(4/138)
الأحدب بِبِلَاد الصَّعِيد وَالْعجز عَنهُ وَقتل عرب الصَّعِيد طغية الكاشف وهزيمتهم الهذباني وَأخذ ثقله. فاختلت أَرض مصر وبلاد الشَّام بِسَبَب ذَلِك خللاً فَاحِشا إِلَّا أَن النَّاصِر حسن كَانَ فِي نَفسه مفرط الذكاء ضابطاً لما يدْخل السُّلْطَان الْملك الصَّالح صَلَاح الدّين صَالح بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاون أمه بنت الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام أقيم سُلْطَانا بعد خلع أَخِيه النَّاصِر حسن فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة. وَذَلِكَ أَن الْأُمَرَاء لما حملت إِلَيْهِم النمجاة باتوا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ بإصطبلاتهم وبكروا يَوْم الْإِثْنَيْنِ إِلَى القلعة واجتمعوا بالرحبة دَاخل بَاب النّحاس وطلبوا الْخَلِيفَة والقضاة وَسَائِر أهل الدولة واستدعوا بِهِ. فَلَمَّا خرج إِلَيْهِم ألبسوه شعار السلطنة وأركبوه فرس النّوبَة من دَاخل بَاب الستارة وَرفعت الغاشية بَين يَدَيْهِ. وَكَانَ الْأَمِير طاز والأمير منكلى بغا الفخري آخذين بشكيمة الْفرس حَتَّى جلس على التخت. وحلفوا لَهُ وحلفوه على الْعَادة ولقبوه بِالْملكِ الصَّالح وَنُودِيَ بسلطنته فِي الْقَاهِرَة ومصر. وَكَانَ النّيل قد نقص عِنْدَمَا كسر فَرد نَقصه وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْيَوْم بِزِيَادَة ثَلَاثَة أَصَابِع من سَبْعَة عشر ذِرَاعا فتباشر النَّاس بولايته. وَفِيه نقل السُّلْطَان أَخَاهُ حسن النَّاصِر إِلَى حَيْثُ سَاكِنا ورتب فِي خدمته جمَاعَة وَطلب أَخَاهُ أَمِير حُسَيْن وأكرمه ووعده بتغيير إقطاعه وَزِيَادَة راتبه. وَفِيه توجه الْأَمِير بزلار أَمِير سلَاح إِلَى الشَّام وَمَعَهُ التشريف والبشارة بِولَايَة السُّلْطَان وتحليف العساكر لَهُ على الْعَادة. وَفِيه دقَّتْ البشائر وَنُودِيَ بزينة الْقَاهِرَة ومصر فزينتا. وَفِيه طلب الْأَمِير مغلطاي والأمير طاز مَفَاتِيح الذَّخِيرَة ليعتبروا مَا فِيهَا فَوجدَ شَيْء يسير.(4/139)
وَفِيه رسم للوزير علم الدّين عبد الله بن زنبور بتجهيزه تشاريف الْأُمَرَاء وأرباب الْوَظَائِف على الْعَادة فجهزها. وَفِيه وقف الْأَمِير طاز وَسَأَلَ الْأُمَرَاء وَالسُّلْطَان فِي الإفراج عَن الْأَمِير شيخو فرسم بِهِ. وَكتب كل من مغلطاي وطاز إِلَيْهِ كتابا فَبعث مغلطاي بكتابه أَخَاهُ قطلوبغا رَأس نوبَة وَبعث طاز الْأَمِير طقطاي صهره. وجهزت الحراقة لإحضار شيخو من الْإسْكَنْدَريَّة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشرينه. وَكَانَ ذَلِك بِغَيْر اخْتِيَار الْأَمِير مغلطاى فَإِن الْأَمِير طاز دخل عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَمضى إِلَى بَيته فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يخْشَى من خلاصه على نَفسه فَحلف لَهُ طاز أيمانا مُغَلّظَة أَنه مَعَه على كل مَا يُرِيد وَلَا يُصِيبهُ من شيخو مَا يكره وَأَن شيخو إِذا حضر مَا يُعَارضهُ من فِي شَيْء من أَمر المملكة وَإِنِّي ضَامِن لَهُ فِي هَذَا وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى وَافق على الإفراج عَنهُ وَكتب إِلَيْهِ مَعَ أَخِيه. فشق ذَلِك على الْأَمِير منكلى بغا الفخري وعتب مغلطاي على مُوَافَقَته لطاز وأوهمه أَن بِحُضُور شيخو يَزُول عَنْهُم مَا هم فِيهِ حَتَّى تقرر ذَلِك فِي ذهنه وَنَدم على مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى أَن كَانَ يَوْم الْخَمِيس أول شهر رحب وَركب الْأُمَرَاء فِي الموكب على الْعَادة أَخذ منكلى بغا يعرف الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب والأمراء الْكِبَار مَا دَار بَينه وَبَين مغلطاى وخيلهم من حُضُور شيخو إِلَى أَن وافقوه وطلعوا إِلَى القلعة ودخلوا إِلَى الْخدمَة. فابتدأ الْأَمِير بيبغا حارس الطير النَّائِب بِحَدِيث شيخو وَأَنه رجل كَبِير وَيحْتَاج إِلَى إقطاع كَبِير وكلف كَبِيرَة. فَتكلم منكلى بغا ومغلطاي والأمراء وطاز سَاكِت قد اختبط لتغير مغلطاي ورجوعه عَمَّا وَافقه عَلَيْهِ. وَأخذ طاز يتلطف بِهِ فصمم مغلطاي على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا لى وَجه أنظر بِهِ شيخو وَقد أخذت منصبه بعد مَا مسكته وسكنت بَيته. فوافقه الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب وَقَالَ لناظر الْجَيْش: اكْتُبْ لَهُ مِثَالا بنيابة حماه وانتقال طنبرق لنيابة حلب وَقَالَ لكاتب السِّرّ. اكْتُبْ كتابا بعوده من طَرِيقه إِلَى نِيَابَة حماه فَكتب ذَلِك وَتوجه بِهِ أيدمر الدوادار من وقته وساعته فِي حراقته. وَعين لسفر شيخو إِلَى حماة عشرُون هجينا ليرْكبَهَا ويسير عَلَيْهَا وانفضوا وَفِي نفس طاز مَا لَا يعبر عَنهُ. فَاجْتمع هُوَ وصرغتمش وملكتمر وَجَمَاعَة وَاتَّفَقُوا جَمِيعًا وبعثوا إِلَى مغلطاي بِأَن منكلى بغا رجل فتنى وَمَا دَامَ بَيْننَا لَا نتفق أبدا. فَلم يصغ مغلطاي إِلَى قَوْلهم وَاحْتج بِأَنَّهُ إِن وافقهم لَا يَأْمَن على نَفسه. فَدخل عَلَيْهِ طاز لَيْلًا بالأشرفية من القلعة حَيْثُ سكنه وخادعه حَتَّى أَجَابَهُ إِلَى إِخْرَاج منكلى بغا وتحالفا على ذَلِك. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج عَنهُ طاز أَخذ دوادار مغلطاي يفتح مَا صدر مِنْهُ ويهول عَلَيْهِ الْأَمر بِأَنَّهُ مَتى أبعد منكلى بغا(4/140)
وَحضر شيخو أَخذ لَا محَالة فَمَال إِلَيْهِ. وَبلغ الْخَبَر منكلى بغا بكرَة يَوْم الْجُمُعَة ثَانِيه فواعد الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب والأمراء على الِاجْتِمَاع فِي صَلَاة الْجُمُعَة ليَقَع الِاتِّفَاق على مَا يكون. فَلم يخف عَن طاز وصرغتمش رُجُوع مغلطاي عَمَّا تقرر بَينه وَبَين طاز لَيْلًا فاستعد للحرب وواعد الْأَمِير ملكتمر المحمدي والأمير قردم الْحَمَوِيّ وَمن هوى هواهم واستمالوا مماليك بيبغا روس ومماليك منجك حَتَّى صَارُوا مَعَهم رَجَاء الْخَلَاص أستاذيهم وَشد الْجَمِيع خيولهم. فَلَمَّا دخل الْأُمَرَاء لصَلَاة الْجُمُعَة اجْتمع منكلى بغا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير وَجَمَاعَة وَقرر مَعَهم أَن يطلبوا طاز وصرغتمش إِلَى عِنْدهم فِي دَار النِّيَابَة ويقبضوا عَلَيْهِمَا. فَلَمَّا أَتَاهُم الرَّسُول بطلبهما أحسا بِالشَّرِّ وقاما ليتهيئا للحضور وصرفا الرَّسُول على أَنَّهُمَا يكونَانِ فِي أَثَره وبادر إِلَى بَاب الدّور وَنَحْوه من الْأَبْوَاب فأغلقاها واستدعوا من مَعَهم من المماليك السُّلْطَانِيَّة ولبسوا السِّلَاح. وَنزل صرغتمش بِمن مَعَه من بَاب السِّرّ ليمنع من يخرج من إصطبلات الْأُمَرَاء وَدخل طاز على السُّلْطَان حَتَّى يركب بِهِ للحرب فلقى الْأَمِير صرغتمش فِي نُزُوله الْأَمِير أيدغدي أَمِير آخور فَلم يطق مَنعه وَأخذ بعض الْخُيُول من الإصطبل وَخرج فَوجدَ خيله وخيل من مَعَه فِي انتظارهم. فَرَكبُوا إِلَى الطبلخاناه فَإِذا طلب منكلى بغا مَعَ وَلَده ومماليكه يُرِيدُونَ قبَّة النَّصْر فألقوه عَن فرسه وجرحوه فِي وَجهه وَقتلُوا حَامِل الصنجق وشتتوا كل الْجَمِيع. فَمَا استتم هَذَا حَتَّى ظهر طب مغلطاي مَعَ مماليكه وَلم يكن لَهُم علم. بِمَا وَقع على طلب منكلى بغا. فصدمهم صرغتمش. بِمن مَعَه صدمة بددهم وحرح جمَاعَة مِنْهُم وَهزمَ بَقِيَّتهمْ. ثمَّ عَاد صرغتمش ليدرك الْأُمَرَاء قبل نزولهم من القلعة وَكَانَت خيولهم واقفة على بَاب السلسلة تنتظرهم فَمَال عَلَيْهَا ليأخذها. وامتدت أَيدي أَصْحَابه إِلَيْهَا فَقتلُوا الغلمان وَقد عظم الصياح وانعقد الْغُبَار وَإِذا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير ومغلطاى ومنكلى بغا وبيغرا وَمن مَعَهم قد نزلُوا وركبوا خيولهم. وَكَانُوا لما أَبْطَأَ عَلَيْهِم مَجِيء طاز وصرغتمش بعثوا فِي استعجالهما فَإِذا الْأَبْوَاب مغلقة والصيحة دَاخل بَاب الْقلَّة فَقَامُوا من دَار النِّيَابَة يُرِيدُونَ الرّكُوب فَمَا توسطوا القلعة حَتَّى سمعُوا ضجة الغلمان وصياحهم. فَأَسْرعُوا إِلَيْهِم وركبوا فشهر مغلطاي سَيْفه واقتحم. بِمن مَعَه على صرغتمش وَمن مَعَه وَمر النَّائِب بيبغا ططر حارس الطير وبيغرا ورسلان بصل يُرِيد كل مِنْهُم اصطبله. فَلم يكن غير سَاعَة حَتَّى انْكَسَرَ مغلطاي كسرة قبيحة وجرح كثير من أَصْحَابه وفر إِلَى جِهَة قبَّة النَّصْر وهم فِي أَثَره وَانْهَزَمَ منكلى بغا أَيْضا(4/141)
وَكَانَ طاز لما دخل على السُّلْطَان عرفه أَن الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب والأمراء اتَّفقُوا على إِعَادَة النَّاصِر حسن إِلَى السلطنة وَأَخذه فِي مماليكه وَنزل بِهِ من بَاب السِّرّ إِلَى الإصطبل. واستدعى السُّلْطَان بِالْخَيْلِ ليركب فَقعدَ بِهِ أيدغدي أَمِير آخور وَاحْتج بقلة السُّرُوج فَإِنَّهُ كَانَ ممالئاً لمغلطاي فَأخذ المماليك مَا وجدوه وَخَرجُوا بالسلطان ودقت الكوسات. فَاجْتمع إِلَيْهِ الْأُمَرَاء والأجناد والمماليك السُّلْطَانِيَّة من كل جِهَة حَتَّى عظم جمعه فَلم تغرب الشَّمْس إِلَّا وَالْمَدينَة قد غلقت والرميلة قد امْتَلَأت بالعامة. وَسَار طاز بالسلطان يُرِيد قبَّة النَّصْر حَتَّى يعرف خبر صرغتمش فَوَافى قبَّة النَّصْر بعد الْمغرب. وَأما صرغتمش فَإِنَّهُ تَمَادى فِي طلب مغلطاي ومنكلى بغا حَتَّى أظلم اللَّيْل فَلم يشْعر إِلَّا. بمملوك الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب قد أَتَاهُ برسالة النَّائِب أَن مغلطاي عِنْده فِي بَيت آل ملك بالحسينية فَبعث جمَاعَة لأَخذه. وَمر صرغتمش فِي طلب منكلى بغا فَلَقِيَهُ الْأَمِير مُحَمَّد بن بكتمر الحاحب وعرفه أَن منكلى بغا نزل قَرِيبا من قناطر الأميرية ووقف يُصَلِّي وَأَن طلب الْأَمِير مجد الدّين مُوسَى الهذباني كَانَ قد جَاءَ من جِهَة كوم الريش. وَلحق بالأمير منكلى بغا الْأَمِير أرغون الْمَكِّيّ فِي جمَاعَة فقبضوا عَلَيْهِ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي وكتفوه بعمامته وأركبوه بعد مَا نكلوا بِهِ. فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى أَتَوا بِهِ وبمغلطاي فقيدا وسجنا بخزانة شمائل ثمَّ أخرجَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ومعهما ابْن منكلى بغا فسجنوا بهَا وَأَقْبل صرغتمش وَمن مَعَه إِلَى السُّلْطَان بقبة النَّصْر وعرفه بمسك الأميرين فسر سُرُورًا كَبِيرا وَنزل هُوَ والأمراء وَبَاتُوا عِنْد قبَّة النَّصْر. وَركب السُّلْطَان بكرَة يَوْم السبت ثالثه إِلَى القلعة وَجلسَ بالإيوان وَدخل الْأُمَرَاء فهنأوه السَّلامَة وَنُودِيَ بالزينة. وَفِي الْحَال كتب باستدعاء الْأَمِير شيخو وَخرج جمَاعَة من الْأُمَرَاء ومماليكه إِلَى لِقَائِه. وَنزلت البشائر إِلَى بيُوت شيخو وبيبغا روس ومنجك وَكَانَ يَوْمًا مَذْكُورا وَبَات الْأُمَرَاء على تخوف. وَأما شيخو فَإِن حراقة أخي طاز وطقطاي وافت الاسكندرية يَوْم الْخَمِيس أول رَجَب فَخرج شيخو من السجْن وَهُوَ ضَعِيف وَركب الحراقة فِي الخليج وَأهل الْإسْكَنْدَريَّة فِي فَرح وسرور بخلاصه. فوافاه كتاب صرغتمش بِأَنَّهُ إِذا أَتَاك أيدمر بمرسوم توجهك إِلَى حماة لَا ترجع وَأَقْبل إِلَى الْقَاهِرَة فَأَنا مَعَك فَتغير لقرَاءَته وَعلم(4/142)
أَنه قد حدث فِي أمره حَادث. فَلم يكن غير ساعتين حَتَّى لاحت لَهُ حراقة أيدمر فَمر وَهُوَ مقلع وأيدمر منحدر إِلَى أَن تجاوزه وَهُوَ يَصِيح وَيُشِير. بمنديله فَلَا يلتفتون إِلَيْهِ. واستمرت حراقة شيخو طول اللَّيْل وأيدمر فِي أَثَره فَلم يُدْرِكهُ إِلَّا بكرَة يَوْم السبت. فعندما طلع إِلَيْهِ أيدمر وعرفه مَا رسم لَهُ من عوده إِلَى حماة وَقَرَأَ المرسوم الَّذِي على يَده وَإِذا بِالْخَيْلِ على الْبر تتبع بَعْضهَا بَعْضًا والمراكب قد مَلَأت وَجه المَاء تبادر لبشارته وإعلامه. بِمَا وَقع من الرّكُوب ومسك مغلطاي ومنكلى بغا فسر شيخو بذلك سُرُورًا كثيرا وَسَار إِلَى أَن أرسى بساحل بولاق فِي يَوْم الْأَحَد رابعه. وَكَانَ النَّاس قد خَرجُوا يَوْم السبت إِلَى لِقَائِه وَأَقَامُوا ببولاق ومنبابه. ووصلت المشاة إِلَى منية السيرج تنْتَظر قدومه. فَلَمَّا رَأَوْا الحراقة صاحوا ودعوا لَهُ وَتَلَقَّتْهُ مراكب أَصْحَابه. وَخرج النَّاس للفرجة فَبلغ كِرَاء المراكب إِلَى مائَة دِرْهَم وَمَا وصلت الحراقة إِلَّا وحولها فَوق الْألف مركب. وَركب الْأُمَرَاء إِلَى لِقَائِه وزينت الصليبة وأشعلت الشموع وَخرج مَشَايِخ الصُّوفِيَّة بصوفيتهم إِلَى لِقَائِه. فَسَار شيخو فِي موكب عَظِيم إِلَى الْغَايَة لم ير مثله لأمير إِلَى أَن صعد القلعة. وَدخل شيخو على السُّلْطَان فَأقبل عَلَيْهِ وخلع عَنهُ ثِيَاب السجْن وَألبسهُ تَشْرِيفًا جَلِيلًا وَخرج شيخو إِلَى منزله والتهاني تتلقاه. وَفِيه فرقت الْخلْع على الْأُمَرَاء وركبوا بهَا إِلَى الْخدمَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خامسه. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سابعه: رسم بِإِخْرَاج الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير نَائِب السلطنة والأمير بيغرا. فَنزل الحاحب إِلَى بَيت آل ملك بالحسينية وَأخرج مِنْهُ النَّائِب ليسير إِلَى نِيَابَة غَزَّة. وَفِيه قبض على الطّيب أحد أُمَرَاء الطبلخاناه من أَصْحَاب مغلطاي وَقيد وسجن. وَفِيه أخرج أيدغدي أَمِير آخور إِلَى طرابلس بطالا وَفِيه كتب بالإفراج عَن المسجونين بالإسكندرية والكرك(4/143)
وَفِي يَوْم السبت عاشره: ركب السُّلْطَان والأمراء إِلَى الميدان على الْعَادة وَلعب فِيهِ بالكرة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه وقف النَّاس فِي الفأر الضَّامِن وَرفعُوا فِيهِ مائَة قصَّة. فَقبض عَلَيْهِ وضربه الْوَزير بالمقارع ضربا كثيرا وَهُوَ يحمل المَال فَوجدت لَهُ خبية فِيهَا نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم حملت إِلَى بَيت المَال. وَفِيه قبض على النَّائِب بيبغا ططر حارس الطير فِي طَرِيقه وسجن بالإسكندرية. وَفِي يَوْم الْأَحَد حادي عشره. وصل الْأُمَرَاء من سجن الإسكندريه وهم سَبْعَة. منجك الْوَزير وفاضل أَخُو بيبغا روس وَأحمد الساقي نَائِب صفد وَعمر شاه الْحَاجِب وأمير حُسَيْن التتري وَولده وَمُحَمّد بن بكتمر الْحَاجِب. فَركب الْأَمِير طاز وَمَعَهُ الْخُيُول المجهزة لركوبهم حَتَّى لَقِيَهُمْ وطلع بهم إِلَى القلعة فَخلع عَلَيْهِم بَين يَدي السُّلْطَان. ونزلوا إِلَى بُيُوتهم فامتلأت الْقَاهِرَة بالأفراح والتهاني وَنزل الْأَمِير شيخو والأمير طاز والأمير صرغتمش إِلَى إصطبلاتهم وبعثوا إِلَى الْأُمَرَاء القادمين من السجْن التقادم السّنيَّة من الْخُيُول والتعابي القماش والبسط وَغَيرهَا فَكَانَ الَّذِي بَعثه الْأَمِير شيخو لمنجك خَمْسَة أَفْرَاس ومبلغ ألفي دِينَار وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشره: خلع على الْأَمِير قبلاي الْحَاجِب وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة عوضا عَن بيبغا ططر حارس الطير. وَفِيه قدم الْخَبَر بِنفَاق عرب الصَّعِيد ونهبهم الغلال ومعاصر السكر وكبسهم الْبِلَاد وكثره حروبهم بِحَيْثُ قتل مِنْهُم ألف رجل وَأَن ابْن مغنى حشد وَركب فِي الْبر وَالْبَحْر. وَامْتنع النَّاس من سلوك الطرقات وَأَنه مَتى لم يُبَادر الْأُمَرَاء إِلَى حربه لَا يحصل للأراضي تخضير وَكَانَ زمن النّيل. فَطلب عز الدّين أزدمر الْأَعْمَى الكاشف وأعيد لَهُ إقطاعه من الْأَمِير قندس أَمِير آخور وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي كشف الْوَجْه القبلي. وخلع على مَمْلُوك أسندمر وَاسْتقر فِي كشف الإطفيحية وأنعم عَلَيْهِ بإقطاع ابْن بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب. وأنعم على فَارس الدّين ألبكي نَائِب غَزَّة بتقدمة ألف ورسم بِخُرُوجِهِ صُحْبَة أزدمر الْأَعْمَى الكاشف وَعين مَعَه سِتَّة أُمَرَاء طبلخاناه.(4/144)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره: قدم الْأَمِير بيبغا روس من سجن الكرك فَركب الْأُمَرَاء إِلَى لِقَائِه وطلع إِلَى السُّلْطَان فَخلع عَلَيْهِ وَنزل بيبغا روس إِلَى بَيته فَلم يبْق أحد من الْأُمَرَاء حَتَّى وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشره: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان وَمَعَهُ الْأَمِير بيبغا روس وَعَلِيهِ التشريف وصحبته الْأُمَرَاء. فلعب السُّلْطَان بالكرة وَعَاد إِلَى القلعة آخر النَّهَار. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشره: خلع على الْأَمِير بيبغا روس وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن أرغون الكاملي. وَاسْتقر أرغون الكاملي فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن أيتمش الناصري وَفِيه خلع أَيْضا على أَمِير أَحْمد الساقي شاد الشرابخاناه ونائب صفد وَاسْتقر فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن طنبرق. ورسم طنبرق إِلَى حلب أَمِير طبلخاناه ثمَّ رسم أَن يكون بطالا بِدِمَشْق وَفِيه خلع على الْوَزير علم الدّين بن زنبور خلعة الِاسْتِمْرَار وَركب قُدَّام الْمحمل بالزناري فِي موكب عَظِيم. وَلم يركب أحد من الوزراء قُدَّام الْمحمل سوى ابْن السلعوس فِي أَيَّام الْأَشْرَف خَلِيل وَأمين الْملك بن الغنام فِي أَيَّام النَّاصِر مُحَمَّد مرّة وَاحِدَة. وَفِيه أحيط بموجود سِتّ حدق ووكل بهَا. وَكتب موجودها وألزمت. بِمَال كَبِير سوى موجودها ثمَّ أفرج عَنْهَا وَلم يُؤْخَذ لَهَا شَيْء. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة أول شعْبَان: خلع على مُحَمَّد بن الكوراني بِولَايَة مصر والصناعة عوضا عَن بلاط. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثالثه: سَافر الْأَمِير بيبغا روس إِلَى نِيَابَة حلب وأمير أَحْمد إِلَى نِيَابَة حماة وَفِيه كتب باستقرار منجك فِي نِيَابَة صفد فَسَأَلَ الإعفاء وَأَن يُقيم بجامعه بطالا فَأُجِيب إِلَى ذَلِك بسفارة الْأَمِير شيخو. فاسترد أملاكه الَّتِي أنعم بهَا على المماليك والخدام والجواري ورم مَا تشعت من صهريجه واستجد بِهِ خطْبَة وَولي زين الدّين البسطامي فِي خطابته(4/145)
وَفِيه خلع على عمر شاه وَاسْتقر حاحب الْحجاب عوضا عَن النَّائِب قبلاي وَفِيه أنعم على طشتمر القاسمي بتقدمة ألف وَاسْتقر حاجباً ثَانِيًا. وَفِيه أنعم على جمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة بإمرات. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سابعه: قدم أَمِير على المارديني وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة بيغرا. وَفِيه أخرج أقجبا الحاحب الْحَمَوِيّ وطينال الجاشنكير وملكتمر السعيدي وقطلوبغا أَخُو مغلطاى وطشنبغا الدوادار وَفرقُوا بِبِلَاد الشَّام. وَفِي يَوْم السبت تاسعه: وصل الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن من سجن الكرك فَخلع عَلَيْهِ من الْغَد ورسم لَهُ بِالْعودِ إِلَى بِلَاده من جِهَة عيذاب فَبعث إِلَيْهِ الْأُمَرَاء تقادم كَثِيرَة وَتوجه. وَكَانَت أمه رجعت من مَكَّة بعد مسكه وأقامت فِي مملكة الْيمن ابْنه الْملك الصَّالح وكتبت إِلَى تجار الكارم توصيهم بابنها الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن أَن يقرضوه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وختمت على مَالهم من أَصْنَاف المتجر بعدن وزبيد وتعز فَقدم قاصدها وَقد قبض على الْمُجَاهِد ثَانِيًا وسجن وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشره: وصل الْأَمِير أيتمش الناصري من الشَّام فَقبض عَلَيْهِ من الْغَد وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشريه: خرج الْأَمِير فَارس الدّين ألبكي وَمَعَهُ الْأَمِير آينبك وَأَرْبَعَة أُمَرَاء طبلخاناه صُحْبَة الْأَمِير أزدمر الْأَعْمَى الكاشف إِلَى الْوَجْه القبلي بِسَبَب نفاق العربان فِي تجمل كَبِير. وَفِي مستهل شهر رَمَضَان: قدم الشريف ثقبة بعد مَا قدم قوده وقود أَخِيه(4/146)
عجلَان فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي إِمَارَة مَكَّة بمفرده وأنعم عَلَيْهِ الْأَمِير طاز بقرض ألف دِينَار وأقرضه الْأَمِير شيخو عشرَة آلَاف دِرْهَم. واقترض ثقبة من التُّجَّار مَالا كثيرا وَاشْترى الْخَلِيل وَالسِّلَاح والمماليك واستخدم عدَّة مماليك. وَفِيه رسم بسفر الحسام لاجين العلائي مَمْلُوك آقبغا الجاشنكير وأستادار العلائي صُحْبَة ثقبة ليقلده بِمَكَّة. وَفِيه رسم بِإِبْطَال رمى والبرسيم وَالشعِير على أهل النواحي وَنقش المرسوم على رخامة بِجَانِب بَاب الْقلَّة وَكتب بذلك إِلَى الْوُلَاة. وَفِيه خلع على ابْن الأطرش وأعيد إِلَى حسبَة الْقَاهِرَة وَنظر المارستان عوضا عَن الضياء بعناية جمَاعَة من الْأُمَرَاء بِهِ لِكَثْرَة مهاداته لَهُم. وَفِيه قدم الْخَبَر بِخُرُوج عِيسَى بن حسن الهجان عَن الطَّاعَة وَامْتنع بجماعته فِي الْوَادي. وَفِي شَوَّال: قدم كتاب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام بالحط على قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَأَنه حكم بِنَزْع وقف من أَصْحَابه وَأَعَادَهُ ملكا وَطلب الْأَمِير أرغون الكاملي أَن يعْقد لذَلِك مجْلِس فِيهِ قُضَاة مصر وعلماؤها بَين يَدي السُّلْطَان. وَكَانَ من خبر ذَلِك أَن أرغون لما ولى نِيَابَة الشَّام خرج عَلَاء الدّين الْفَرْع إِلَى لِقَائِه قريب حلب وأغراه بالسبكي وقدح فِيهِ وفى وَلَده بقوادح حَتَّى غير خاطره. فَلَمَّا لقِيه السُّبْكِيّ لم يجد مِنْهُ إقبالا وَبَقِي على ذَلِك إِلَى أَن وقف جمَاعَة بدار الْعدْل يَشكونَ من السُّبْكِيّ أَن لَهُم وَقفا من عهد أجدادهم وأقطع للأجناد ثمَّ استرجعوه مِنْهُم وَثَبت وَقفه على قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِي بِدِمَشْق فانتزعه السُّبْكِيّ مِنْهُم وَسلمهُ لمن كَانَ قَدِيما فِي يَده بالملكية وسألوا عقد مجْلِس. فَلَمَّا اجْتمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء لذَلِك قَامَ الْفَرْع وَجَمَاعَة فِي العصبية على السُّبْكِيّ وشنعوا عَلَيْهِ. فَأجَاب السُّبْكِيّ بِأَنَّهُ ثَبت عندى أَن يكون فِي يَد مَالِكه وَقد حكم بذلك. وهأنا وَمن يُنَازعنِي فِيمَا حكمت فَلم(4/147)
ينازعه أحد. فَطلب الْأَمِير أرغون الكاملي قُضَاة الْقُضَاة فَحَضَرُوا إِلَّا عز الدّين بن جمَاعَة فَإِنَّهُ تعذر حُضُوره. وَقُرِئَ عَلَيْهِم كتاب النَّائِب بِحَضْرَة الشَّيْخ بهاء الدّين أَحْمد إِبْنِ السُّبْكِيّ فأظهر كتاب أَبِيه بِصُورَة الْوَاقِعَة وهى أَن أجداد الشكاة ادعوا الوقفية فِي ضَيْعَة كَذَا فوقفها أَبْنَاءَهُم من بعدهمْ ثمَّ أقطعت بعد وفاتهم لجَماعَة من الْجند فَادّعى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين البوسي لما قدم من بعلبك أَنَّهَا ملكه وَبِيَدِهِ وَأَنه ابتاعها من أَهلهَا قبل وفاتهم وَأثبت كتاب مشتراه وتسلمها وَأَن الشِّرَاء كَانَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَبَقِي إِلَى سنة أَربع وَتِسْعين. فأظهر قوم كتاب وَقفهَا وأثبتوه وتسلموها فَسُمي البوسي فِي سنة أَربع وسبعمائه واستعاد الضَّيْعَة مِنْهُم بعد منازعا عقد فِيهَا عدَّة مجَالِس. فَأَخذهَا تنكز مِنْهُم ثمَّ استردها البوسى فَلم يزل إِلَى هَذَا الْوَقْت وقف أهل الْوَقْف وأثبتوه على قَاضِي الْمَالِكِيَّة جمال الدّين المسلاتى. فَأثْبت الْآخرُونَ أَن المسلاتي كَانَت بَينه وَبَين البوسي عَدَاوَة لَا يجوز مَعهَا أَن يحكم كل وَأخذُوا الضَّيْعَة. فتحاكم الْفَرِيقَانِ إِلَى السُّبْكِيّ فَحكم باستقرار يَد الْملاك وَأبقى كل ذِي حجَّة على حجَّته. فَتَنَازَعَ ابْن السُّبْكِيّ والتاج الْمَنَاوِيّ طَويلا وانقضوا وَأخذ السُّبْكِيّ خطوط جمَاعَة من الْمُفْتِينَ بِصِحَّة حكم أَبِيه. ثمَّ اجْتَمعُوا ثَانِيًا وَحضر قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة وانتدب للنَّظَر فِي ذَلِك. بمفرده. فَادّعى قوام الدّين أَمِير كَاتب الْحَنَفِيّ فَسَاد حكم السُّبْكِيّ وتعصب عَلَيْهِ تعصبا زَائِدا. وَذَلِكَ أَنه لما قدم قوام الدّين دمشق وَبهَا يلبغا اليحياوي نَائِبا اخْتصَّ بِهِ وَأخذ ينهاه عَن رفع يَدَيْهِ فِي الرُّكُوع وَأَن هَذَا لَا يجوز وَصلَاته الَّتِي صلاهَا كَذَلِك بَاطِلَة يجب عَلَيْهِ إِعَادَتهَا فَسَأَلَ يلبغا ابْن السُّبْكِيّ عَن ذَلِك فَأنْكر مقَالَة القوام. واشتهر بَين الْأُمَرَاء والأجناد مقَالَة القوام وَكَثُرت القالة فِيهَا. فَطلب السُّبْكِيّ القوام وَمنعه من الْإِفْتَاء وَاقْتضى رَأْي ابْن جمَاعَة النّظر فِي من شهد بالعداوة وفيمن شهد بالوقفية فَكتب بذلك لنائب الشَّام. وَفِيه ارْتَفع سعر اللَّحْم ووقف حَال المعاملين بِحَيْثُ أخذُوا الأغنام من أَرْبَابهَا بِغَيْر ثمن. فَأبْطل الْوَزير المعاملين وَاشْترى الأغنام بِالثّمن الناض وَكَانَت عَادَة اللَّحْم من أَرْبَعِينَ درهما إِلَى خمسين درهما القنطار وَأكْثر مَا عهد بستين درهما القنطار. فَبلغ فِي هَذِه الْأَيَّام بتعريف الْحِسْبَة إِلَى مائَة وَأَرْبَعين وَمِائَة وَخمسين درهما وأبيع فِي الحوانيت كل رَطْل بِخَمْسَة دَرَاهِم سَوْدَاء عَنْهَا دِرْهَم وَثلث دِرْهَم كاملية.(4/148)
وَتعذر وجود الْغنم فَكتب فِي الْبِلَاد الشامية بتجهيز التركمان بالأغنام وَحمل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ ألف دِرْهَم لشراء الأغنام. وَكتب إِلَى وُلَاة الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري بِحمْل الأغنام فَحملت أَغْنَام كَثِيرَة من أَعمال مصر. وَقدم من الشَّام نَحْو الْعشْرين ألف رَأس فَانْحَطَّ سعر اللَّحْم. وَفِي خَامِس عشره: سَار محمل الْحَاج صُحْبَة الْأَمِير طيبغا المجدي. وَقدم الْحَج عَالم كثير من أهل الصَّعِيد والفيوم وَالْوَجْه البحري وَقدم من أهل الْمغرب جمَاعَة كَثِيرَة وَقدم التكرور وَمَعَهُمْ رَقِيق كثير وَفِيهِمْ ملكهم. فَسَأَلَ ملكهم الإعفاء من الدُّخُول على السُّلْطَان فأعفي وَسَار بقَوْمه وَفِيه قدم الْبَرِيد بقتل نجمة الْكرْدِي بحيلة عَملهَا عَلَيْهِ صَاحب ماردين حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَتَلقاهُ وأكرمه ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَضرب عُنُقه بِيَدِهِ وَقتل من مَعَه. وَفِيه قدم الْخَبَر بَان الْأَمِير أزدمر الْأَعْمَى الكاشف رتب من مَعَه من الْأُمَرَاء فِي عدَّة مَوَاضِع وَركب وَمَعَهُ الْأَمِير آينبك لَيْلًا وَصَاح العربان من عَرك صباحاً وَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَامْتنع باقيهم بِالْجَبَلِ. فَعَاد الْأَمِير أزدمر وَطلب بني هِلَال أَعدَاء عَرك فَأَتَاهُ مِنْهُم وَمن غَيرهم خلق كثير. وَكتب الْأَمِير أزدمر لأَوْلَاد الْكَنْز. بمسك الطرقات على عَرك وَركب وَمَعَهُ الْأَمِير فَارس الدّين والأمراء وأسندمر المتوفي الإطفيحية إِلَى الْجَبَل وَقد لقِيه الأحدب فِي حشد كَبِير فَلم بثبت الأحدب وَانْهَزَمَ من رمي النشاب وَترك أثقاله وحريمه. ونادى الْأَمِير أزدمر. يَا بنى هِلَال دونكم أعداءكم فمالوا عَلَيْهِم يقتلُون وينهبون الواشي والغلال والدقيق والقرب والروايا وسلبوا الْحَرِيم حَتَّى امْتَلَأت أَيدي بني هِلَال وأيدي الأجناد والغلمان من النهب. وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان وَأَن الْبِلَاد قد خضرت أراضيها وأطاع عربانها العصاة وتوطن أَهلهَا. فسر السُّلْطَان والأمراء بذلك وَحمل إِلَى كل من الكاشف والأمراء خلعة. وَفِيه ألزمت سِتّ حدق أَلا تَجْتَمِع بِأحد فَإِنَّهَا كَانَت من جملَة أنصار النَّاصِر حسن. وَفِيه ضيق على النَّاصِر حسن وسدت عَنهُ أَمَاكِن كَثِيرَة كَانَ ينظر مِنْهَا وَيحدث من يُرِيد وَفِيه توجه السُّلْطَان والأمراء إِلَى السرحة قَرِيبا من الأهرام. وَفِي أول ذِي الْحجَّة قدم عِيسَى بن حسن الهجان طَائِعا بِأَمَان فَخلع عَلَيْهِ. وَفِيه ارْتَفع سعر الْقَمْح من عشْرين إِلَى سَبْعَة وَثَلَاثِينَ درهما الأردب وانحط سعر اللَّحْم فأبيع بدرهم الرطل.(4/149)
وَفِيه قدم كتاب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام يطْلب الإعفاء من النِّيَابَة. وَفِي هَذِه السّنة: اسْتَقر فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب زين الدّين عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني عوضا عَن الشهَاب أَحْمد بن ياسين الريَاحي. وَاسْتقر فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بهَا جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْكَمَال عمر بن الْعِزّ عبد الْعَزِيز بن العديم بعد وَفَاة أَبِيه. وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ بحلب جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود عوضا عَن الشريف شهَاب الدّين بن قَاضِي الْعَسْكَر وَقدم الشريف إِلَى الْقَاهِرَة. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان قطب الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن مكرم كَاتب الْإِنْشَاء فِي أَوَاخِر شعْبَان عَن اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة وَأشهر وَكَانَ كثير الْعِبَادَة. وَتُوفِّي الشريف أدّى صَاحب الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فِي السحن. وَتُوفِّي قاضى الْحَنَفِيَّة بحلب نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن ابْن أَحْمد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن هبة الله بن أَحْمد بن يحيى بن أَبى جَرَادَة الْمَعْرُوف بِابْن العديم عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة مِنْهَا فِي قَضَاء حماة عشر سِنِين وَفِي قَضَاء حلب اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة. وَتُوفِّي تَاج مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن حَامِد المراكشي الْفَقِيه الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشرى جُمَادَى الْآخِرَة عَن اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة نَشأ بِالْقَاهِرَةِ واستوطن بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير بيبرس الأحمدي أحد الطبلخاناه وَهُوَ مُجَرّد بالصعيد. فَحمل مَيتا إِلَى الْقَاهِرَة وَقدم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشري رَمَضَان. وَمَات عَلَاء الدّين على بن مُحَمَّد بن مقَاتل الْحَرَّانِي نَاظر الشَّام فِي عَاشر رَمَضَان بالقدس. وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن القيسراني موقع الدست وَصَاحب الْمدرسَة بسويقة الصاحب من الْقَاهِرَة وَبهَا قَبره. وَمَات الشَّيْخ. ابْن بدلك فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشرى شَوَّال.(4/150)
وَمَات تَاج الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن الكويك فِي دَاره لَيْلَة السبت سادس عشرى ذِي الْحجَّة ذبحه الحرامية. وَمَات ملك الْمغرب أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ابْن محيو بن أبي بكر بن حمامة فِي ثَالِث عشري ربيع الآخر. وَقَامَ بعده ابْنه أَبُو عنان فَارس وَكَانَت مدَّته احدى وَعشْرين سنة.(4/151)
فارغة(4/152)
(سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة)
فِي أول الْمحرم: قدم مبشرو الْحَاج وأخبروا أَن الشريف ثقبة لما نزل بطن مر وتدم إِلَى مَكَّة متسفر الْحَاج حسام الدّين لاجين وَعرف الشريف عجلَان بانفراد أَخِيه ثقبة بالإمرة امْتنع الشريف عجلَان من تَسْلِيمه مَكَّة. وَعَاد حسام الدّين إِلَى ثقبة فأقاما حَتَّى قدم الْحَاج صُحْبَة الْأَمِير طيبغا المجدى. فَتَلقاهُ ثقبة وَطلب مِنْهُ أَن يحارب مَعَه عجلَان فَلم يُوَافقهُ على محاربته فأسمعه مَا لَا يَلِيق وهدده أَنه لَا يُمكن الْحَاج من دُخُول مَكَّة. وَقَامَ ثقبة عَنهُ وَقد اشْتَدَّ غَضَبه وألبس من مَعَه من العربان وَغَيرهم السِّلَاح. فَاجْتمع أَمِير الركب وقاضي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة - وَكَانَ قد توجه صُحْبَة الركب لِلْحَجِّ - واتفقا على إرْسَال الحسام إِلَى عجلَان وَمَعَهُ ابْن جمَاعَة. فجرت لَهُم مَعَه منازعات آخرهَا أَن تكون الإمرة شركَة بَينه وَبَين أَخِيه ثقبة. وعادا إِلَى بطن مر وقررا ذَلِك مَعَ ثقبة حَتَّى رَضِي وَسَارُوا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة. فَتَلقاهُمْ عجلَان على الْعَادة وأنصف ثقبة وأنعم عَلَيْهِ بسبعين ألف دِرْهَم. وَكَانَت الوقفة بِعَرَفَة يَوْم الْجُمُعَة وجاور قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة. وَلَقي الْحَاج من عبيد مَكَّة شرا كثيرا. وَفِيه قدم الْخَبَر أَن الْمُجَاهِد قدم إِلَى تعز فِي ثامن عشري ذِي الْحجَّة الْمَاضِيَة وَاسْتولى على ملكه. وَكَانَت أمه قد ضبطت الْبِلَاد فِي غيبته وأنفقت عِنْد قدومها مائَة ألف دِينَار للشريف الزيدي صَاحب صنعاء وَلأَهل الْجبَال ولأكابر المملكة حَتَّى أَقَامَت ابْن الْمُجَاهِد واسْمه الصَّالح. ثمَّ قبضت عَلَيْهِ وساست الْأُمُور ووفت مَا اقترضه الْمُجَاهِد من التُّجَّار. بِمصْر. وَفِيه قدم الْأَمِير أزدمر الْأَعْمَى الكاشف والأمراء من بِلَاد الصَّعِيد فَركب الأحدب وكبس نَاحيَة طما على بني هِلَال وَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَنهب مَا وجد. فَتوجه إِلَيْهِم الْأَمِير بلبان السناني الأستادار. بمضافيه والأمير قمارى الْحَمَوِيّ الحاحب وعدة من أَوْلَاد الْأُمَرَاء فِي مستهل صفر ليقيموا حَتَّى يتم قبض الْمغل. وَفِيه اسْتَقر ابْن عقيل فِي ولَايَة البهنسي وَاسْتقر بيبغا الشمسي فِي ولَايَة إطفيح. وكانتا مَعَ أسندمر مَمْلُوك أزدمر الْأَعْمَى الكاشف فَعَادَت العربان بعد عزل أسندمر إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْفساد.(4/153)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشر ربيع الأول: قدم الْأَمِير أيتمش الناصري من سجن الْإسْكَنْدَريَّة وَخرج من الْقَاهِرَة فِي يَوْم السبت ثَالِث عشرَة إِلَى صفد بطلانا. وَفِي حادي عشريه: نفي الْأَمِير قردم أَمِير آخور إِلَى صفد ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بإقطاع يلك الحسني الأرغوني الْحَاجِب وَأَن يحضر يلك إِلَى مصر فَلَمَّا حضر يلك هَذَا - وَيعرف بيلك الشّحْنَة - أنعم عَلَيْهِ بإقطاع قردم. وَفِيه اسْتَقر يلك الحسني الأرغوني الحاحب أَمِير آخور عوضا عَن قردم على إقطاعه وَهُوَ حاحب. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشريه: أخرج الْأَمِير ألطنبغا العلائي شاد الشرابخاناه إِلَى حلب. وَفِي هَذَا الشَّهْر: شرع الْأَمِير طاز فِي عمَارَة قصر وإسطبل تجاه حمام الفارقاني بجوار الْمدرسَة البندقدارية وَأدْخل فِيهِ عدَّة أَمْلَاك. وَتَوَلَّى عِمَارَته الْأَمِير منجك وَحمل إِلَيْهَا الْأُمَرَاء وَغَيرهم من الرخام وآلات الْعِمَارَة شَيْئا كثيرا. وَفِيه ابْتَدَأَ الْأَمِير صرغتمش عمَارَة إصطبل الْأَمِير بدرجك بجوار بِئْر الوطاويط قَرِيبا من الْجَامِع الطولوني وَأدْخل فِيهِ عدَّة دور وَحمل إِلَيْهِ النَّاس مَا يحْتَاج اليه من الرخام وَغَيره. وَفِيه عوفي الْأَمِير قبلاي النَّائِب وَركب الموكب. وَكَانَ مُنْذُ اسْتَقر فِي النِّيَابَة مَرِيضا بوجع المفاصل لم يركب فرسا وَإِنَّمَا يجلس فِي شباك النِّيَابَة للْحكم بَين النَّاس. ومشت فِي ولَايَته المقايضات والنزولات عَن الإقطاعات فَزَاد فَسَاد الأجناد بِكَثْرَة دُخُول أَرْبَاب الصَّنَائِع فيهم. وفحش ذَلِك حَتَّى نزل مقدمو الْحلقَة عَن التقدمة وَقَامَ جمَاعَة نَحْو الثلاثمائة رجل عرفُوا بالمهيسين على الإقطاعات وصاروا يطوفون على الأجناد ويبذلون لَهُم الرغبات فِي النُّزُول عَن إقطاعاتهم. وَفِيه خلع على الْأَمِير صرغتمش وَاسْتقر رَأس نوبَة كَبِير فِي رُتْبَة الْأَمِير شيخو بِاخْتِيَارِهِ. وَجعل إِلَيْهِ التَّصَرُّف فِي أُمُور الدولة كلهَا من الْولَايَة والعزل وَالْحكم مَا عدا مَال الْخَاص فَإِن الْأَمِير شيخو متحدث فِيهِ وَمَا عدا أُمُور الوزارة. فقصده النَّاس وَكَثُرت مهابته وعارض الْأُمَرَاء فِي جَمِيع أفعالهم. وَأَرَادَ صرغتمش أَلا يعْمل شَيْء إِلَّا(4/154)
من بَابه وبإشارته فان تحدث غَيره فِي عزل أَو ولَايَة غضب وأبطل مَا تحدث فِيهِ وأخرق بِصَاحِبِهِ. وَفِيه اجْتمع الْأُمَرَاء على استبداد السُّلْطَان بِالتَّصَرُّفِ وَأَن يكون مَا يرسم بِهِ على لِسَان الْأَمِير صرغتمش رَأس نوبَة. وَفِيه قدم الْخَبَر من مَكَّة بِأَن الأسعار بهَا غلت حَتَّى بلغ الأردب الْقَمْح ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وَالشعِير مِائَتي دِرْهَم والراوية المَاء بأَرْبعَة دَرَاهِم مسعودية فأغاثهم الله تَعَالَى فِي أول يَوْم من الْمحرم. بمطر اسْتمرّ ثَلَاثَة أَيَّام فانحل السّعر وأبيع الأردب الْقَمْح بِمِائَة وَخمسين درهما والراوية المَاء بِنصْف وَربع مسعودي لجَرَيَان مَاء عين جوبان. وَفِيه قدم الْخَبَر بِنفَاق عرب الصَّعِيد ونهبهم سقط ميدان وَقتل أَهلهَا وَنهب بِلَاد سودى بن مَانع وَأَن أهل منفلوط رجموا الْوَالِي. فألزم الْأَمِير أزدمر الْأَعْمَى الكاشف بِالْخرُوجِ إِلَيْهِم وأنعم عَلَيْهِ بِأَلف أردب شعير وَأَرْبَعين ألف دِرْهَم قبضهَا وسافر. وَفِيه قدم الْخَبَر أَن طَائِفَة الزيلع كَانَت عَادَتهم حمل قطيعة فِي كل سنة إِلَى ملك الْحَبَشَة من تقادم السنين. فَقَامَ فِيهَا عبد صَالح ومنعهم من الْحمل وشنع عَلَيْهِم إعطاءهم الْجِزْيَة وهم مُسلمُونَ لنصراني ورد رَسُول ملك الْحَبَشَة. فشق ذَلِك على ملك الْحَبَشَة وَخرج بعساكره ليقْتل الزيلع عَن آخِرهم. فَلَمَّا صَار على يَوْم مِنْهُم قَامَ العَبْد الصَّالح تِلْكَ اللَّيْلَة يسْأَل الله تَعَالَى كِفَايَة أَمر الحبشي فَاسْتَجَاب دعاءه. وعندما ركب ملك الْحَبَشَة بكرَة النَّهَار أظلم الجو - حَتَّى كَاد الرجل لَا يرى صَاحبه - مِقْدَار سَاعَة ثمَّ انقشع الظلام وأمطرت السَّمَاء عَلَيْهِم مَاء متغير اللَّوْن بحمرة وأعقبه رمل أَحْمَر امْتَلَأت مِنْهُ أَعينهم ووجوههم وَنزل من بعده حيات كَبِيرَة جدا فقتلت مِنْهُم عَالما كثيرا. فَعَاد بَقِيَّتهمْ من حَيْثُ أَتَوا وَهلك فِي عودهم معظمهم دوابهم وَكثير مِنْهُم. وَفِيه تزايد تسلط الْأَمِير صرغتمش رَأس نوبَة وَكثر ترفعه. فتنكر لَهُ الْأُمَرَاء وَكَثُرت الأراجيف بِوُقُوع الْفِتْنَة بَينهم وإعادة النَّاصِر حسن ومسك شيخو وطاز وَانْفَرَدَ صرغتمش بِالْكَلِمَةِ فقلق طاز - وَكَانَ حاد الْخلق - وهم بالركوب فَمَنعه(4/155)
شيخو فاحترز طاز وشيخو. وَأخذ صرغتمش فِي التبرئ مِمَّا رمى بِهِ وَحلف للأمير شيخو والأمير طاز فَلم يصدقهُ طاز وهم بِهِ. فَقَامَ شيخو قيَاما كَبِيرا حَتَّى أصلح بَينهمَا وَأَشَارَ على طاز بالركوب إِلَى عمَارَة صرغتمش فَركب إِلَيْهِ وتصافيا. وَفِيه خلع على جرجى الدوادار وَاسْتقر حاجبا عوضا عَن طشتمر القاسمي باستعفائه. وَفِيه ركب الْأَمِير ضروط الْبَرِيد لطلب جمال وهجن للسُّلْطَان من الْأَمِير فياض بن مهنا فَإِن جمال السُّلْطَان قلت بِحَيْثُ أَنه لما خرج إِلَى السرحة اكترى لَهُ جمالا كَثِيرَة لحمل ثقله وَمنع أَمِير آخور الْكتاب والموقعين وَغَيرهم مِمَّا جرت بِهِ عَادَتهم من حمل أثقالهم على جمال السُّلْطَان. وَفِيه قدم الْخَبَر بفتنة الفرنج الجنوية والبنادقة وَكَثْرَة الحروب بَينهم من أول الْمحرم إِلَى آخر ربيع الآخر. فَقل الْوَاصِل من بِلَاد الفرنج إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَعز وجود الْخشب وغلا وَتعذر وجود الرصاص والقصدير والزعفران. وَبلغ الْمَنّ بعد مِائَتي دِرْهَم إِلَى خَمْسمِائَة وَلم يعْهَد مثل ذَلِك فِيمَا سلف. ثمَّ قدم الْخَبَر بِأَن البنادقة انتصرت على الجنوية وَأخذت لَهُم وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ غراباً بعد قتل من بهَا. وَفِيه قدم الشَّيْخ أَحْمد الزرعي من الشَّام فَبَالغ الْأَمِير شيخو والأمير طاز فِي إكرامه. وَفِيه قدمت رسل الْأَشْرَف دمرداش بن جوبان صَاحب توريز بكتابه يخبر أَنه قد حسن إِسْلَامه هُوَ وأخوته وأقاربه وَالْتزم سيرة الْعدْل فِي رَعيته وَترك ظلمهم. وشكا الْأَشْرَف دمرداش من كَثْرَة الِاخْتِلَاف بَينهم حَتَّى هلك رَعيته وَطلب أَن يبْعَث إِلَيْهِ. مِمَّن نزح عَن بِلَاده من التُّجَّار وَكتب إِلَيْهِم أَمَانًا وَأَن أرتنا نَائِب الرّوم قد أفسد بِلَاده وَمنع التُّجَّار أَن تسير إِلَيْهِم وَطلب أَلا يدْخل السُّلْطَان بَينهمَا. وَكَانَ قد قدم إِلَى مصر وَالشَّام فِي هَذِه السّنة وَمَا قبلهَا كثير من تجار الْعَجم لسوء سيرة الْوُلَاة فيهم فَعرض عَلَيْهِم أَمَان الْأَشْرَف دمرداش فَلم يوافقوا على الْعود إِلَى بِلَاده. وَفِيه رسم للأمير جرجي الْحَاجِب أَن يتحدث فِي أَمر أَرْبَاب الدِّيوَان ويفصلهم من غرمائهم بِأَحْكَام السياسة وَلم يكن عَادَة الْحجاب فِيمَا تقدم أَن يحكموا فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة فاستمر ذَلِك فِيمَا بعد. وَكَانَ سَبَب ذَلِك وقُوف تجار الْعَجم بدار الْعدْل وَذكروا أَنهم لم يخرجُوا من بِلَادهمْ إِلَّا لما نزل بهم من جور التتار وَأَنَّهُمْ باعوا بضائعهم لعدة من تجار الْقَاهِرَة فأكلوها عَلَيْهِم وَأَرَادُوا إِثْبَات إعسارهم على القَاضِي الْحَنَفِيّ وَهُوَ فِي سجنه وَقد فلس بَعضهم. فرسم لجرجي بِإِخْرَاج غُرَمَاء التُّجَّار من(4/156)
السجْن وخلاصهم مِمَّا فِي قبلهم وَأنكر على القَاضِي الْحَنَفِيّ مَا عمله وَمنع من التحدث فِي أَمر التُّجَّار والمديونين. فَأخْرج جرجي التُّجَّار من السجْن وأحضر لَهُم أعوان الْوَالِي وضربهم وخلص مِنْهُم المَال شَيْئا بعد شَيْء وَمن حِينَئِذٍ صَارَت الْحجاب بِالْقَاهِرَةِ وبلاد الشَّام تتصدى للْحكم بَين النَّاس فِيمَا كَانَ من شَأْن الْقُضَاة الحكم فِيهِ. وَفِيه ركب عرب إطفيح على بيبغا الشمسي ونهبوا مَا مَعَه وهزموه وَخَرجُوا عَن الطَّاعَة فَجرد إِلَيْهِم طَائِفَة من الْأُمَرَاء. وَفِي هَذِه السّنة: رتب الْأَمِير شيخو فِي كل لَيْلَة جُمُعَة وقتا يجْتَمع عِنْده فِيهِ الْفُقَهَاء للمذاكرة وَيقوم الشَّيْخ عَليّ بن الركبدار المادح فينشد من مدائح الصرصري وَنَحْوه مَا يطربهم وينصرفون بعد أكلهم. وَفِيه كثرت الإشاعة بِمَدِينَة حلب أَن الْأَمِير بيبغا روس نائبها يُرِيد الْفِرَار مِنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَدو حَتَّى سَاءَهُ ذك وَقبض على عدَّة من الْعَامَّة سمرهم وشهرهم ثمَّ أفرج عَنْهُم. وفيهَا رتب الْأَمِير شيخو فِي الْجَامِع الَّذِي أنشأه للشَّيْخ أكمل الدّين مُحَمَّد الرُّومِي الْحَنَفِيّ مدرساً وَشَيخ صوفية وَقرر لَهُ فِي كل شهر أَرْبَعمِائَة دِرْهَم وَجعل عِنْده عشْرين فَقِيها. وَجعل خَطِيبه جمال الدّين خَلِيل بن عُثْمَان الزولي وَنَقله من مَذْهَب الشَّافِعِي إِلَى مَذْهَب الْحَنَفِيّ. وَجعل بِهِ درساً للمالكية أَيْضا وَولي تدريبه نور الدّين السخاوي وَقرر لَهُ ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فِي كل شهر. ورتب بِهِ قراء ومؤذنين وَغير ذَلِك من أَرْبَاب الْوَظَائِف وَقرر لَهُم معاليم بلغت جُمْلَتهَا فِي الشَّهْر وَفِيه قدم الشريف طفيل بن أدّى من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة يطْلب تَرِكَة سعد فِي الْإِمَارَة. وَفِيه قدم صدر الدّين سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين سُلَيْمَان بن عبد الْحق فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي توقيع الدست. وَفِي عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة: خلع على الْأَمِير شيخو وأعيد رَأس نوبَة عوضا عَن صرغتمش. فَعِنْدَ لبسه التشريف قدم البشير بِوِلَادَة بعض سراريه ولدا ذكرا فسر بِهِ سُرُورًا زَائِدا لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ ذكر.(4/157)
وهنأه الأدباء بعدة قصائد مِنْهَا أَبْيَات فَخر الدّين عبد الْوَهَّاب كَاتب الدرج قَالَ: بأيمن سَاعَة قدم الْوَلِيد تحف بِهِ النجابة والسعود مبارك غرَّة مَيْمُون وَجه فَيوم وُرُوده بشرى وَعِيد لقد كَادَت سروج الْخَيل تأتى إِلَيْهِ قبل أَن تأتى المهود هِلَال سَوف تستجليه بَدْرًا تَمامًا يَسْتَنِير بِهِ الْوُجُود وشبل سَوف يَبْدُو وَهُوَ لَيْث تروع من بسالته الْأسود وزهرعن قريب مِنْهُ تجنى ثمار كلهَا كرم وجود وفجر سَوف يظْهر مِنْهُ صبح وجوهرة تزان بهَا الْعُقُود أيا من نَفعه عَم البرايا وَيَا من سَعْيه سعي حميد وَمن للْملك مِنْهُ أجل ذخر إِلَى أبوابه يأوى الطريد وَمن لولاه لم تسكن خطوب وَلم تكْتم مواضيها الغمود وَمن قد شدّ لِلْإِسْلَامِ أزرا وأيده وَإِن رغم الحسود لقد وافاك مَوْلُود كريم يَسُرك فِيهِ ذُو الْعَرْش الْمجِيد وَفِي هَذَا الْيَوْم: قدم الْبَرِيد من صفد بِأَن فِي يَوْم الْجُمُعَة سلخ جُمَادَى الأولى ظهر بقرية حطين من عمل صفد شخص ادّعى أَنه السُّلْطَان أَبُو بكر الْمَنْصُور ابْن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَمَعَهُ جمَاعَة تَقْدِير عشرَة أَنْفَار فلاحين فَبلغ ذَلِك الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطنبغا برناق نَائِب صفد فَجهز إِلَيْهِ دواداره شهَاب الدّين أَحْمد وناصر الدّين مُحَمَّد بن البتخاصي الْحَاجِب فَأحْضرهُ. فَجمع لَهُ النَّائِب النَّاس والحكام فَادّعى أَنه كَانَ فِي قوص وَأَن واليها عبد الْمُؤمن لم يقْتله وَأَنه أطلقهُ وَركب فِي الْبَحْر وَوصل إِلَى قطيا وَبَقِي مخفياً فِي بِلَاد غَزَّة إِلَى الْآن وَأَن لَهُ دادة مُقِيمَة فِي غَزَّة عِنْدهَا النمجاة والقبة وَالطير فَقَالَ النَّائِب: إِذا كنت فِي تِلْكَ الْأَيَّام جاشنكيراً وَكنت أمد السماط بكرَة وعشياً وَمَا أعرفك. فَأَقَامَ مصرا على حَاله وانفسدت لَهُ عقول جمَاعَة وَمَا شكوا فِي ذَلِك. فكشف أمره من غَزَّة فَوجدت الْمَرْأَة الَّتِي ذكر أَنَّهَا دادته وَاعْتَرَفت أَنَّهَا أمه وَأَنه يَعْتَرِيه جُنُون مُنْذُ سنَن فِي كل سنة مرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا. وَذكر أهل غَزَّة أَنه يعرف بِأبي بكر بن الرماح وَله سيرة قبيحة وَأَنه ضرب غير مرّة بالمقارع. فَكتب بِحمْلِهِ فخشبه نَائِب صفد فِي يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَجعل الْحَدِيد فِي عُنُقه وَحمله إِلَى السُّلْطَان. فَقدم قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشره فَسئلَ بِحَضْرَة الْأُمَرَاء فخلط فِي كَلَامه وهذي هذياناً كثيرا. ثمَّ قدم بَين يَدي السُّلْطَان فَتكلم. مِمَّا سَوَّلت لَهُ(4/158)
نَفسه. فسمر فِي يَوْم الْخَمِيس عشريه تسمير سَلامَة وَشهر بِالْقَاهِرَةِ ومصر. فَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَالة يتحدث أَنه كَانَ سُلْطَانا وَيَقُول: اشفقوا على سلطانكم فَعَن قَلِيل أَعُود إِلَيْكُم. فَاجْتمع حوله عَالم كثير وأتوه بِالشرابِ والحلوى وحادثوه. فَكَانَ إِذا أَتَى اليه أحد بِالْمَاءِ حَتَّى يشربه يَقُول لَهُ: اشرب ششني وَإِذا رأى أَمِيرا قَالَ: هَذَا مملوكي ومملوك أبي. وَيَقُول: لي أُسْوَة بأخي النَّاصِر أَحْمد وَأخي الْكَامِل شعْبَان وَأخي المظفر حاجي الْكل قتلوهم. وَأقَام على الْخشب يَوْمَيْنِ ثمَّ حبس فِي ثالثه فاستمر فِي الْحَبْس على حَاله فَقطع لِسَانه. وَفِيه ادّعى شخص بِالْقَاهِرَةِ النُّبُوَّة وَأَن معجزته أَن ينْكح امْرَأَة فتلد من وَقتهَا ولدا ذكرا يخبر بِصِحَّة نبوته. فَقيل لَهُ: إِنَّك لبئس النَّبِي. فَقَالَ: لكونكم لبئس الْأمة. فسجن وكشف عَن أَمر فَوجدَ لَهُ اثْنَا عشر يَوْمًا مُنْذُ خرج من عِنْد الممرورين بالمارستان وَأَنه أَخذ غير مرّة وَهُوَ وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشريه: سمر ابْن مغنى وَمَعَهُ جمَاعَة قبض عَلَيْهِم الْأَمِير مجد الدّين بن مُوسَى الهذباني. الكاشف من معدية زفتية. وَفِي مستهل رَجَب: قدم الْأَمِير أزدمر الْأَعْمَى الكاشف وَقد كمل تحضير أَرَاضِي الْوَجْه القبلي وَاطْمَأَنَّ أَهله. وَطلب أزدمر الإعفاء من كشف الْوَجْه القبلي فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي كشف الْوَجْه البحري عوضا عَن مجد الدّين بن مُوسَى الهذباني. وَفِيه قدم كتاب الْملك الْمُجَاهِد على من الْيمن بوصوله إِلَى بِلَاده وَأَنه جهز تقدمته وأوفي التُّجَّار أَمْوَالهم الَّتِي اقترضها وَأَنه أطلق مراكب التُّجَّار لتسير إِلَّا أَنه منعهَا أَن ترسى بجدة وتعبر إِلَى مَكَّة كَرَاهَة فِي أمرائها. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء عَاشر رَجَب: قدم كتاب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام يتَضَمَّن أَنه قبض على قَاصد الْأَمِير منجك الْوَزير بكتابه إِلَى أَخِيه الْأَمِير بيبغا روس نَائِب حلب يحسن لَهُ الْحَرَكَة. وَقد أرْسلهُ الْأَمِير أرغون الكاملي فَإِذا فِيهِ أَنه قد اتّفق مَعَ سَائِر الْأُمَرَاء على الْأَمر وَمَا بَقِي إِلَّا أَن تركب وتتحرك. فَاقْتضى الرأى التأني حَتَّى يحضر الْأُمَرَاء والنائب من الْغَد إِلَى الْخدمَة وَيقْرَأ الْكتاب عَلَيْهِم ليدبروا الْأَمر على مَا يَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق.(4/159)
فَلَمَّا طلع الْجَمَاعَة من الْغَد إِلَى الْخدمَة لم يحضر منجك فَطلب فَلم يُوجد وَذكر أَتْبَاعه أَنه من عشَاء الْآخِرَة لم يعرفوا خَبره. فَركب الْأَمِير صرغتمش فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وكبس بيُوت جمَاعَة فَلم يُوقف لَهُ على خبر. وافتقدوا مماليكه ففقد مِنْهُم اثْنَان. فَنُوديَ عَلَيْهِ فِي الْقَاهِرَة وهدد من أخفاه. وَأخرج عِيسَى بن حسن الهجان فِي جماعته من عرب العايد على النجب لأخذ الطرقات عَلَيْهِ وَكتب إِلَى العربان ونواب الشَّام وولاة الْأَعْمَال على أَجْنِحَة الطُّيُور بتحصيله فَلم يقدر عَلَيْهِ فكبست بيُوت كَثِيرَة. وَكَانَ قد خرج فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشره الْأَمِير فَارس الدّين ألبكي بألفه والأمير طشتمر القاسمي بألفه إِلَى غَزَّة فَأخر أَمرهم وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشريه: قدم الْبَرِيد من دمشق بعصيان الْأَمِير بيبغا روس نَائِب حلب واتفاقه مَعَ الْأَمِير أَحْمد الساقى نَائِب حماة والأمير بكلمش نَائِب طرابلس فَجرد فِي يَوْم السبت سَابِع عشريه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وأجناد الْحلقَة إِلَى الصَّعِيد مِنْهُم عمر شاه الْحَاجِب وقماري الْحَاجِب وَمُحَمّد بن بكتمر الْحَاجِب وَشَعْبَان قريب يلبغا. وَكتب لبيبغا روس نَائِب حلب بالحضور إِلَى مصر على يَد سنقر وطيدمر من مماليك الْحَاج أرقطاي وَكتب مَعَهُمَا ملطفات لأمراء حلب تَتَضَمَّن أَنه إِن امْتنع عَن الْحُضُور فَهُوَ مَعْزُول ورسم لَهما أَن يعلمَا بيبغا بذلك أَيْضا مشافهة بِحَضْرَة الْأُمَرَاء فَقدم الْبَرِيد من دمشق. بموافقة ابْن دلغادر لبيبغا روس وَأَنه تسلطن يحلب وتلقب بِالْملكِ الْعَادِل وَأظْهر أَنه يُرِيد مصر لأخذ غُرَمَائه وهم طاز وشيخو وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملي نَائِب الشَّام. فرسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير بِعرْض مقدمي الْحلقَة وَتَعْيِين مضافيهم من عِبْرَة أَرْبَعمِائَة دِينَار الإقطاع فَمَا فَوْقهَا ليسافروا. فَقدم الْبَرِيد بِأَن قراجا بن دلغادر قدم حلب فِي جمع كَبِير من التركمان فَركب بيبغا روس وَقد وَاعد نَائِب حماة ونائب طرابلس على مسيرَة أول شعْبَان وَأَنَّهُمْ تلقوهُ بعساكرهم على الدستن. فَركب الْأَمِير أرقطاى الدوادار الْكَبِير الْبَرِيد. بملطفات لجَمِيع أُمَرَاء حلب وحماة ونائب طرابلس فَقدم دمشق وَبعث بالمطلفات لأصحابها فَوجدَ أَمر بيبغا روس قد(4/160)
قوي وَوَافَقَهُ النواب والعساكر وَابْن دلغادر تركمانه وكسابته وجبار بن مهنا بعربانه فَكتب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام بِأَن سفر السُّلْطَان لابد مِنْهُ وَإِلَّا خرح عَنْكُم جَمِيعه. فاتفق رَأْي الْأُمَرَاء على ذَلِك وَطلب الْوَزير علم الدّين عبد الله ابْن زنبور ورسم لَهُ بتهيئة بيُوت السُّلْطَان وتجهيزه الإقامات فِي الْمنَازل فَذكر أَنه مَا عِنْده مَال لذَلِك فرسم لَهُ بقرض مَا يحْتَاج اليه من التُّجَّار فَطلب الكارم وباعهم غلالا من الأهراء بالسعر الْحَاضِر وعدة أَصْنَاف أُخْرَى وَكتب إِلَى مغلطاي بالإسكندرية بقرض أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم فَأجَاب إِلَيْهَا. وَأخذ من ابْن منكلى بغا سِتّمائَة ألف دِرْهَم وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه. وَأخذ من الْأَمِير بيبغا ططر حارس الطير النَّائِب مائَة ألف دِرْهَم قرضا وَمن الْأَمِير بلبان السناني أستادار مائَة ألف دِرْهَم. فَلم يمْضِي أُسْبُوع حَتَّى جهز الْوَزير جَمِيع مَا يحْتَاج اليه وَحمل الشّعير إِلَى الْعَريش وَحمل فِي الخزانة أَرْبَعمِائَة تشريف مِنْهَا خَمْسُونَ أطلس بحوائص ذهب وَخرج الْأَمِير طاز فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شعْبَان وَمَعَهُ الْأَمِير بزلار والأمير كلتاي أَخُو طاز وَفَارِس الدّين ألبكي ثمَّ خرج الْأَمِير طيبغا المجدي وَابْن أرغون النَّائِب فِي يَوْم السبت خامسه وَخرج الْأَمِير شيخو فِي يَوْم الْأَحَد سادسه فِي تجمل عَظِيم فَبينا النَّاس فِي التَّفْرِيج على طلبه إِذْ قيل قبض على منجك. وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير طاز رَحل فِي يَوْم السبت فَلَمَّا وصل بلبيس قيل لَهُ إِن رجلا من بعض أَصْحَاب منجك صُحْبَة شاروشي مَمْلُوك قوصون فطلبهما طاز وفحص عَن أَمرهمَا فَرَأى بِهِ بعض شَيْء فَأمر بِالرجلِ ففتش فَإِذا مَعَه كتاب منجك لبيبغا روس تضمن أَنه قد فعل كل مَا يختاره وجهز أمره مَعَ الْأُمَرَاء كلهم وَأَنه أُخْفِي نَفسه وَأقَام عِنْد شاورشى أَيَّامًا ثمَّ خرج من عِنْده إِلَى بَيت الحسام الْقصرى أستاداره وَهُوَ مُقيم حَتَّى يكْشف خَبره وهبر يستحثه على الْخُرُوج من حلب. فَبعث الْأَمِير طاز بِالْكتاب إِلَى الْأَمِير شيخو فَوَافى والأطلاب خَارِجَة. فَطلب الْأَمِير شيخو الحسام الْقصرى وَسَأَلَهُ فَأنْكر فَأخذ الْأَمِير صرغتمش وعاقبه ثمَّ ركب إِلَى بَيته بجوار الْجَامِع الْأَزْهَر وهجمه فَإِذا منجك ومملوكه فأركبه وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سابعه: ركب السُّلْطَان إِلَى الريدانية وَجعل الْأَمِير قبلاي نَائِب الْغَيْبَة ورتب أَمِير عَليّ المارديني فِي القلعة وَمَعَهُ الْأَمِير كشلي السِّلَاح دَار ليقيما(4/161)
دَاخل القلعة وَيكون على بَاب القلعة الْأَمِير أرنال والأمير قطلوبغا الذَّهَبِيّ ورتب الْأَمِير مجد الدّين مُوسَى الهذباني مَعَ وَالِي الْقَاهِرَة لحفظها. واستقل السُّلْطَان بِالْمَسِيرِ من الريدانية يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن شعْبَان بعد الظّهْر فَقدم الْبَرِيد بِأَن الْأَمِير طقطاي الدوادار خرج من دمشق يُرِيد مصر وَأَن الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام لما بلغه خُرُوج بيبغا روس من حلب فِي ثَالِث عشر رَجَب وَمَعَهُ قراجا بن دلغادر وجبار بن مهنا وَقد نزل بكلمش نَائِب طرابلس وأمير أَحْمد نَائِب حماه على الرستن فِي انْتِظَاره عزم أرغون كَذَلِك على لِقَائِه. فَبَلغهُ مخامرة أكَابِر أُمَرَاء دمشق عَلَيْهِ فاحترس على نَفسه وَصَارَ يجلس بالميدان وَهُوَ لابس آلَة الْحَرْب. ثمَّ اقْتضى رَأْي أَمِير مَسْعُود بن خطير أَن النَّائِب لَا يلقى الْقَوْم وَأَنه يُنَادى بِالْعرضِ للنَّفَقَة فِي منزلَة الْكسْوَة ويركب اليها فَإِذا خرج الْعَسْكَر إِلَيْهِ. بِمَنْزِلَة الْكسْوَة مَنعهم من عبور دمشق وَسَار بهم إِلَى الرملة فِي انْتِظَار قدوم السُّلْطَان. فَفعل أرغون ذَلِك وَأَنه مُقيم على الرملة بعسكر دمشق فَإِن ألطنبغا برناق نَائِب صفد سَار إِلَى بيبغا روس فِي طَاعَته وَأَن بيبغاروس وصل إِلَى حماه وَاجْتمعَ مَعَ نائبها أَحْمد وبكلمش نَائِب طرابلس وَسَار بهم إِلَى حمص فَلَقِيَهُ مَمْلُوك أرقطاى بِكِتَاب السُّلْطَان ليحضر فَقبض عَلَيْهِمَا وقيدهما وَسَار يُرِيد دمشق فَبَلغهُ مسير السُّلْطَان بعساكره واشتهر ذَلِك فِي عسكره وَأَنه قد عزل من نِيَابَة حلب فانحلت عزائم كثير مِمَّن مَعَه وَأخذ فِي الاحتفاظ بهم والتحرر مِنْهُم إِلَى أَن قدم دمشق يَوْم الْخَمِيس خَامِس رَجَب فَإِذا أَبْوَاب الْمَدِينَة مغلقة والقلعة مُحصنَة. فَبعث بيبغا روس إِلَى الْأَمِير أياجي نَائِب القلعة يَأْمُرهُ بالإفراج عَن الْأَمِير وقردم وَأَن يفتح أَبْوَاب الْمَدِينَة. فَفتح أياجي أَبْوَاب دمشق وَلم يفرج عَن قردم. فَركب أَمِير أَحْمد نَائِب حماة وبكلمش نَائِب طرابلس من الْغَد ليعبرا على الضّيَاع فواقى نجاب بِخَبَر مسك منجك ومسير السُّلْطَان من خَارج الْقَاهِرَة. وَعَاد أَحْمد وبكلمش فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشره وَقد نزل الْأَمِير طاز بِمن مَعَه المزيرب فارتج عَسْكَر بيبغا روس وتواعد فراجا بن دلغادر وجبار ابْن مهنا على الرحيل فَمَا غربت الشَّمْس يَوْمئِذٍ إِلَّا وَقد خرحا بأثقالهما وأصحابهما وسارا فَركب بيبغا روس فِي أَثَرهَا فَلم يدركهما وَعَاد بكرَة يَوْم الثُّلَاثَاء فَلم يسْتَقرّ قراره حَتَّى دقَّتْ البشائر بالقلعة وأعلن أَهلهَا بِأَن الْأَمِير طاز والأمير أرغون نَائِب الشَّام وافيا وَأَن الْأَمِير شيخو وَالسُّلْطَان سَاقه. فبهت بيبغاروس وتفخد عَنهُ من مَعَه وَركب عَائِدًا إِلَى حلب فِي تَاسِع عشر شعْبَان فَكَانَت إِقَامَته أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا أثر أَصْحَابه فِيهَا بِدِمَشْق وأعمالها آثاراً قبيحة من النهب والسبي والحريق والغارات على(4/162)
الضّيَاع من حلب إِلَى دمشق كَمَا فعل المغول أَصْحَاب غازان. فَبعث السُّلْطَان الْأَمِير أسندمر العلائي وَالِي الْقَاهِرَة ليبشر بذك فَقدم إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشريه. فدقت البشاثر وطبلخاناه الْأُمَرَاء وزينت الْقَاهِرَة سَبْعَة أَيَّام. وجبى من الْأُمَرَاء والدواوين والولاة ومقدمي الْحلقَة الَّذين لم يسافروا ثمن الشقق الْحَرِير الَّتِى تفرش إِذا قدم السُّلْطَان وَكَانَ قدم إِلَيْهِ من صفد الْأَمِير أيتمش الناصري فَكَانَ يرجعه عَن كثير من ذَلِك وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ التقى مَعَ الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام على بدعرش من عمل غَزَّة وَقد تَأَخّر مَعَه الْأَمِير طاز. بِمن مَعَه. فَدخل السُّلْطَان بهم إِلَى غَزَّة وخلع على نَائِب الشَّام وأنعم عَلَيْهِ بأربعمائة ألف دِرْهَم وأنعم على أَمِير مَسْعُود بِأَلف دِينَار وأنعم على كل من أُمَرَاء الألوف بِدِمَشْق بألفي دِينَار وعَلى كل من أُمَرَاء الطبلخاناه بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وعَلى كل من أُمَرَاء العشرات بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم فَكَانَت جملَة مَا أنْفق فيهم سِتّمائَة ألف دِرْهَم. وَتقدم الْأَمِير شيخو والأمير طاز والأمير أرغون الكاملي نَائِب الشَّام. بِمن مَعَهم إِلَى دمشق وَتَأَخر الْأَمِير صرغتمش صُحْبَة السُّلْطَان ليدبر الْعَسْكَر. وتبعهم السُّلْطَان فَكَانَ دُخُوله دمشق فِي يَوْم الْخَمِيس مستهل رَمَضَان وَقد خرج النَّاس إِلَى لِقَائِه وزينت الْمَدِينَة زِينَة حفلة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَنزل السُّلْطَان بالقلعة ثمَّ ركب مِنْهَا فِي غده يَوْم الْجُمُعَة ثَانِيه إِلَى الْجَامِع الْأمَوِي فِي موكب جليل حَتَّى صلى بِهِ الْجُمُعَة. وَكَانَ الْأُمَرَاء قد مضوا فِي طلب بيبغا روس فَقدم خبرهم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خامسه بنزول الْأَمِير شيخو والأمير طاز على حمص وَأَنه قد بَلغهُمْ مسك بيبغا روس وأمير أَحْمد نَائِب حماه وَجَمَاعَة. فدقت البشائر بالقلعة ثمَّ تبين كذب هَذَا الْخَبَر وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سابعه: رسم بِعُود أجناد الْحلقَة ومقدميها وأطلاب الْأُمَرَاء إِلَى الْقَاهِرَة فخرحوا فِيهِ من دمشق أَرْسَالًا. وَكَانَت جمَاعَة من الْعَسْكَر قد تخلفوا بغزة فقدموا الْقَاهِرَة فِي رابعه وَقدم الأجناد وأطلاب الْأُمَرَاء إِلَى الْقَاهِرَة فِي خَامِس عشريه وَأما بيبغا روس فَإِنَّهُ قدم حلب فِي تَاسِع عشري شعْبَان وَقد حفرت خنادق تجاه أَبْوَابهَا وغلقت الْأَبْوَاب وامتنعت القلعة ورمته رجالها بالمنجنيق وَالْحِجَارَة وتبعهم من فَوق الأسوار من الرِّجَال بِالرَّمْي عَلَيْهِ. وصاحوا عَلَيْهِ فَبَاتَ. بِمن مَعَه وَركب من الْغَد يَوْم الْخَمِيس أول شهر رَمَضَان للزحف على الْمَدِينَة وَإِذا بصياح عَظِيم والبشائر(4/163)
تدق فِي القلعة وَالرِّجَال يصيحون: يَا منافقين! الْعَسْكَر وصل. فَالْتَفت بيبغا روس بِمن مَعَه فَإِذا البيارق والصناجق نَحْو جبل جوشن فَانْهَزَمُوا بأجمعهم نَحْو الْبر. وَلم يكن مَا رَأَوْهُ على حَبل جوشن عَسْكَر السُّلْطَان وَلكنه جمَاعَة من جند حلب وطرابلس وحماة كَانُوا مختفين من عَسْكَر بيبغا روس عِنْد خروحه من دمشق فَسَارُوا فِي أعقابه رَجَاء أَن يدركهم عَسْكَر السُّلْطَان. فَلَمَّا حضر بيبغا روس إِلَى حلب أَجمعُوا على كبسه وراسلوا أهل جبل بانقوسا بموافاتهم وجمعوا عَلَيْهِم كثيرا من العربان. وركبوا أول اللَّيْل وترتبوا بأعلا جبل حوشن ونشروا الصناجق. فعندما أشرقت الشَّمْس سَارُوا وهم يصرخون صَوتا وَاحِدًا فَلم يثبت بيبغا روس وَلَا أَصْحَابه وولوا ظنا مِنْهُم أَنه عَسْكَر السُّلْطَان. فَإِذا أهل بانقوسا قد أَمْسكُوا عَلَيْهِم طرق الْمضيق وأدركهم الْعَسْكَر فتبددوا وتمزقوا وَقد انْعَقَد عَلَيْهِم الْغُبَار حَتَّى لم يكن أحد ينظر رَفِيقه. فَأَخذهُم الْعَرَب وَأهل حلب قبضا بِالْيَدِ ونهبوا الخزائن والأثقال وسلبوهم مَا عَلَيْهِم من آلَة الْحَرْب. وَنَجَا بيبغا روس بِنَفسِهِ وامتلأت الْأَيْدِي بِنَهْب مَا كَانَ مَعَه وَهُوَ شَيْء يجل عَن الْوَصْف لكثرته وَعظم قدره. وتتبع أهل حلب أمراءه ومماليكه وأخرجوهم من عدَّة مَوَاضِع فظفروا بِكَثِير مِنْهُم فيهم أَخُوهُ الْأَمِير فَاضل والأمير ألطنبغا العلائي مشد الشرابخاناه وألطنبغا برناق نَائِب صفد وملكتمر السعيدي وشادي أَخُو أَمِير أَحْمد نَائِب حماة وطيبغا حلاوة الأوجاقي وَابْن أيدغدي الزراق أحد أُمَرَاء حلب ومهدي شاد الدَّوَاوِين بحلب وأسنباى قريب بن دلغادر وبهادر الجاموس وقلج أرسلان أستادار بيبغا روس وَمِائَة من مماليك الْأُمَرَاء فقيد الْجَمِيع وسجنوا. وَتوجه مَعَ بيبغا روس أَمِير أَحْمد نَائِب حماة وبكلمش نَائِب طرابلس وطشتمر القاسمي نَائِب الرحبة وآقبغا البالسي وصصمق وطيدمر وَجَمَاعَة تبلغ عدتهمْ نَحْو مائَة وَسِتَّة عشر فَدخل الْأُمَرَاء حلب وبعثوا بالمماليك إِلَى دمشق وَتركُوا الْأُمَرَاء المقيدين بسجن القلعة. وَركب الحسام العلائي إِلَى طرابلس فأوقع الحوطة على مَوْجُود نائبها بكلمش وَتمّ إِيقَاع الحوطة بحماة على مَوْجُود أَمِير أَحْمد. وَكتب الْأُمَرَاء إِلَى قراجا بن دلغادر بِالْعَفو عَنهُ وَالْقَبْض على بيبغا روس وَمن مَعَه وَكَانَ بيبغا روس قد قدم عَلَيْهِ فَركب وتلقاه وَقَامَ لَهُ. بِمَا يَلِيق بِهِ. فَلَمَّا وقف قراجا بن(4/164)
دلغادر على كتب الْأُمَرَاء أجَاب بِأَنَّهُ ينْتَظر فِي الْقَبْض عَلَيْهِ مرسوم السُّلْطَان بِهِ وارسال الْأمان لبيبغا روس وَأَنه مُسْتَمر على إمرته فَلَمَّا حهز لَهُ ذَلِك امْتنع من تَسْلِيمه. فَطلب رَمَضَان من أُمَرَاء التركمان وخلع عَلَيْهِ بإمرة قراجا بن دلغادر وإقطاعه. وَعَاد الْأُمَرَاء من حلب وَاسْتقر بهَا الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِبا عوضا عَن بيبغا روس وَقدمُوا دمشق وَمَعَهُمْ الْأُمَرَاء المسجونون يَوْم الْجُمُعَة سلخ رَمَضَان وركبوا مَعَ السُّلْطَان لصَلَاة الْعِيد والأمير مَسْعُود بن خطير حَامِل الجتر على السُّلْطَان حَتَّى عبر الميدان فصلى بهم تَاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ قَاضِي الْعَسْكَر صَلَاة الْعِيد وخطب وَمد السماط بالميدان فَكَانَ يَوْمًا مَذْكُورا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثالثه: جلس السُّلْطَان بطارمة قلعة دمشق ووقف الْأَمِير شيخو وطاز وَسَائِر الْأُمَرَاء بسوق الْخَيل تَحت القلعة. وَأخرج الْأُمَرَاء المسجونون فِي الْحَدِيد وَنُودِيَ عَلَيْهِم: هَذَا جَزَاء من يخَامر على السُّلْطَان ويخون الْإِسْلَام ووسطوهم وَاحِدًا بعد وَاحِد وهم ألطنبغا برناق وطيبغا حلاوة ومهدي شاد الدَّوَاوِين بحلب وأسنبغا التركماني وألطنبغا الثلاثي شاد الشرابخاناه وشادي أَخُو أَمِير أَحْمد نَائِب حماه وأعيد ملكتمر السيدي إِلَى السجْن وَفِيه قبض على ملك آص شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وساطلش الجلالي ومصطفى والحسام مَمْلُوك أرغون شاه وأمير عَليّ بن طرنطاي البشمقدار وَابْن جودى وقردم أَمِير آخور وأخرجوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَمَعَهُمْ ملكتمر السعيدي وَنفي مقبل نقيب الْجَيْش إِلَى طرابلس وَفِيه خلع على الْأَمِير أيتمش الناصري وَاسْتقر فِي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن بكلمش. وأنعم على أَمِير مَسْعُود بن خطير بإقطاع قردم وأنعم على كل من ولديه بإمرة طبلخاناه وَاسْتقر الْأَمِير طنيرق فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن أَمِير أَحْمد الساقى. وَاسْتقر شهَاب الدّين أَحْمد بن صبح فِي نِيَابَة صفد ورسم بِإِقَامَة الْأَمِير طيبغا المجدي بِدِمَشْق على إمرة.(4/165)
وَتوجه الْأَمِير يلبك والأمير نوروز إِلَى مصر. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سابعه: صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة وَخرج من دمشق يُرِيد مصر. فَكَانَت إِقَامَته بهَا سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَأما الْقَاهِرَة فَإِن مماليك الْأُمَرَاء وأجنادهم كَانَت تركب فِي مُدَّة غيبَة السُّلْطَان كل لَيْلَة من عشَاء الْآخِرَة وتتفرق فِي نواحي الْمَدِينَة وظواهرها لحفظ النَّاس فَإِذا رَأَوْا أحدا يمشى لَيْلًا حبسوه حَتَّى يتَبَيَّن أمره وَلم يبْق حَانُوت وَلَا زقاق إِلَّا وَعَلِيهِ قنديل يَشْمَل طول اللَّيْل. وَطلب الْأَمِير قبلاي النَّائِب مقدمي الْوَالِي وألزمهم أَن يقومُوا بِجَمِيعِ مَا يصرف فِي الْقَاهِرَة وظواهرها. وانتدب الْأَمِير مجد الدّين مُوسَى الهذباني والأمير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الكوراني لحفظ مَدِينَة مصر. ورتب جمَاعَة لحفظ بيُوت المتجر فِي الْبر وَالْبَحْر. فَلم يعْدم لأحد شَيْء سوى سَرقَة مَتَاع من حَانُوت يَهُودِيّ فَضرب الْأَمِير قبلاى النَّائِب مقدمي الْوَالِي بالمقارع حَتَّى أحضروا مَتَاع الْيَهُودِيّ لَهُ. وَاتفقَ أَن ابْن الأطروش محتسب الْقَاهِرَة مر بسوق الشرابشيين وَابْن أَيُّوب الشرابيشي فِي حانوته. وَكَانَ أَيُّوب هَذَا يَعْتَرِيه جُنُون فِي بعض الأحيان فَأخذ يسب الْمُحْتَسب ويهزأ بِهِ ثمَّ وثب اليه وألقاه عَن بغلته وَركب صَدره. فَمَا خلصه النَّاس مِنْهُ إِلَّا بعد جهد وأقاموه من تَحت ابْن أَيُّوب وَقد تَبَاعَدت عمَامَته وانكشف رَأسه. فطلع ابْن الأطروش إِلَى الْأَمِير قبلاي النَّائِب وَأخْبرهُ. بِمَا جرى عَلَيْهِ فأحضر الْأَمِير قبلاى ابْن أَيُّوب وضربه وحبسه. وَفِيه حدثت زَلْزَلَة فِي رَمَضَان وَالنَّاس فِي صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة. وَفِي سَابِع عشره: خرج الْأَمِير أرنان والأمير قطلوبغا الذَّهَبِيّ والأمير علم دَار إِلَى الصَّعِيد فِي الْبر
(وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشرى شَوَّال)
قدم السُّلْطَان وَمَشى بفرسه على شقَاق الْحَرِير الَّتِي فرشت لَهُ وَخرج النَّاس إِلَى لِقَائِه ورويته فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً لم يتَّفق مثله لأحد من أخوة السُّلْطَان الَّذين تسلطنوا. وعندما طلع السُّلْطَان القلعة تَلَقَّتْهُ أمه وجواريه وأخوته ونثر عَلَيْهِ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَقد فرشت لَهُ طَرِيقه بشقاق الْحَرِير الأطلسي وَلم يبْق بَيت من بيُوت الْأُمَرَاء إِلَّا وَفِيه الأفراح والتهاني. وَفِيه يَقُول الأديب شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي حجلة:(4/166)
الصَّالح الْملك الْعَظِيم قدره يطوى لَهُ الأَرْض الْبعيد النازح لاتعجبوا من طيها لمسيره فالأرض تطوى دَائِما للصالح وَعم الْمَوْت أهل جَزِيرَة الأندلس إِلَّا مَدِينَة غرناطة فَإِنَّهُ لم يصب أَهلهَا مِنْهُ شَيْء وباد من عداهم حَتَّى لم يبْق للفرنج من يمْنَع أَمْوَالهم. فأتتهم الْعَرَب من إفريقية تُرِيدُ أَخذ الْأَمْوَال إِلَى أَن صَارُوا على نصف يَوْم مِنْهَا مرت بهم ريح فَمَاتَ مِنْهُم على ظُهُور الْخَيل جمَاعَة كَثِيرَة. ودخلها باقيهم فَرَأَوْا من الْأَمْوَات مَا هالهم وَأَمْوَالهمْ لَيْسَ لَهَا من يحفظها فَأخذُوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ وهم يتساقطون موتى فنجا من بقى مِنْهُم بِنَفسِهِ وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَقد هلك أَكْثَرهم وَالْمَوْت قد فَشَا بأرضهم بِحَيْثُ مَاتَ مِنْهُم فِي لَيْلَة وَاحِدَة عدد عَظِيم وَمَاتَتْ مَوَاشِيهمْ وَعم الموتان أَرض إفريقية بأسرها جبالها وصحاريها ومدنها وجافت من الْمَوْتَى وَبقيت أَمْوَال العربان سائبة لَا تَجِد من يرعاها. ثمَّ أصَاب الْغنم دَاء فَكَانَت الشَّاة إِذا ذبحت وجد لَحمهَا منتناً قد اسود. وَتغَير أَيْضا ريح السّمن وَاللَّبن وَمَاتَتْ الْمَوَاشِي بأسرها. وَشَمل الوباء أَيْضا أَرض برقة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَصَارَ يَمُوت بهَا فِي كل يَوْم مائَة. ثمَّ مَاتَ بالإسكندرية فِي الْيَوْم مِائَتَان وشنع ذَلِك حَتَّى أَنه صلى فِي يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الاسكندري دفْعَة وَاحِدَة على سَبْعمِائة جَنَازَة. وصاروا يحملون الْمَوْتَى على الجنويات والألواح وغلفت دَار الطّراز لعدم الصناع وغلقت دَار الْوكَالَة لعدم الْوَاصِل إِلَيْهَا وغلقت الْأَسْوَاق وديوان الْخمس وأريق من الْخمر مَا يبلغ ثمنه زِيَادَة على خَمْسمِائَة دِينَار. وقدمها مركب فِيهِ إفرنج فَأخْبرُوا أَنهم رَأَوْا بِجَزِيرَة طرابلس مركبا عَلَيْهِ طير يحوم فِي غَايَة الْكَثْرَة فقصدوه فَإِذا جَمِيع من فِيهِ من النَّاس موتى وَالطير تأكلهم وَقد مَاتَ من الطير أَيْضا شَيْء كثير فتركوهم ومروا فَمَا وصلوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة حَتَّى مَاتَ زِيَادَة على ثلثيهم. وفشى الْمَوْت. بِمَدِينَة دمنهور وتروجة والبحيرة كلهَا حَتَّى عَم أَهلهَا وَمَاتَتْ دوابهم فَبَطل من الْوَجْه البحري سَائِر الضمانات وَالْمُوجِبَات السُّلْطَانِيَّة. وَشَمل الْمَوْت أهل البرلس نستراوه وتعطل الصَّيْد من الْبحيرَة لمَوْت الصيادين. وَكَانَ يخرج بهَا فِي الْمركب عدَّة من الصيادين لصيد الْحُوت فَيَمُوت أَكْثَرهم فِي الْمركب وَيعود من بَقِي مِنْهُم فَيَمُوت بعد عوده من يَوْمه هُوَ وَأَوْلَاده وَأَهله. وَوجد فِي حيتان البطارخ شَيْء(4/167)
منتن وَفِيه على رَأس البطرخة كبة قدر البندقة قد اسودت وَوجد فِي جَمِيع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود وَتلف أَكثر ثَمَر النّخل عِنْدهم. وَصَارَت الْأَمْوَات على الأَرْض فِي جَمِيع الْوَجْه البحري لَا يوحد من يدفنها. وَعظم الوباء بالمحلة حَتَّى أَن الْوَالِي كَانَ لَا يجد من يشكو إِلَيْهِ وَكَانَ القَاضِي إِذا أَتَاهُ من يُرِيد الْإِشْهَاد على وَصيته لَا يجد من الْعُدُول أحدا إِلَّا بعد عناء لقلتهم وَصَارَت الفنادق لَا تَجِد من يحفظها. وَعم الوباء جَمِيع تِلْكَ الْأَرَاضِي وَمَات الفلاحون بأسرهم فَلم يُوجد من يضم الزَّرْع. وزهد أَرْبَاب الْأَمْوَال فِي أَمْوَالهم وبذلوها للْفُقَرَاء. فَبعث الْوَزير منجك إِلَى الغربية كريم الدّين مُسْتَوْفِي الدولة وَمُحَمّد بن يُوسُف مقدم الدولة فِي جمَاعَة فَدَخَلُوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه وَنَحْوهَا من الْبِلَاد وَأخذُوا مَالا كثيرا لم يحضروا مِنْهُ سوى سِتِّينَ ألف دِرْهَم. وَعجز أهل بلبيس وَسَائِر بِلَاد الشرقية عَن ضم الزَّرْع لِكَثْرَة موت الفلاحين. وَكَانَ ابْتِدَاء الوباء عِنْدهم من أول فصل الصَّيف وَذَلِكَ فِي أثْنَاء ربيع الآخر. فجافت الطرقات وَغير ذَلِك. وألزم مُحَمَّد بن الكوراني وَالِي مصر بتحصيل بَنَات ابْن زنبور فَنُوديَ عَلَيْهِنَّ. وَنقل مَا فِي دور صهري ابْن زنبور وسلما لشاد الدَّوَاوِين. وَعَاد الْأَمِير صرغتمش إِلَى القلعة. فَطلب السُّلْطَان جَمِيع الْكتاب وعرضهم وَعين الْمُوفق هبة الله بن إِبْرَاهِيم للوزارة وَبدر الدّين كَاتب يلبغا لنظر الْخَاص وتاج الدّين أَحْمد بن الصاحب أَمِين الْملك عبد الله بن الغنام لنظر الْجَيْش وأخاه كريم الدّين لنظر الْبيُوت وَابْن السعيد لنظر الدولة وقشتمر مَمْلُوك طقزدمر لشد الدَّوَاوِين. وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشريه: خلع عَلَيْهِم. فَأقبل النَّاس إِلَى طلب الْأَمِير صرغتمش للسعي فِي الْوَظَائِف فولي أسعد حَرْبَة اسْتِيفَاء الدولة وَولي كريم الدّين أكْرم بن شيخ ديوَان الْجَيْش. وَسلم الْأَمِير صرغتمش الْمَقْبُوض عَلَيْهِم لشاد الدَّوَاوِين وهم الْفَخر بن قزوينة نَاظر الْبيُوت وَالْفَخْر بن مليحة نَاظر الجيزة وَالْفَخْر مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة وَالْفَخْر ابْن الرضي كَاتب الإصطبل وَابْن معتوق كَاتب الْجِهَات وَأكْرم الملكي. وَطلب التَّاج ابْن لفيتة نَاظر المتجر وناظر المطبخ وَهُوَ خَال ابْن زنبور فَلم يُوجد وكسبت بِسَبَبِهِ عدَّة بيُوت حَتَّى أَخذ. وَصَارَ الْأَمِير صرغتمش ينزل وَمَعَهُ نَاظر الْخَاص وشهود الخزانة وينقل حواصل ابْن زنبور من مصر إِلَى حارة زويلة بِالْقَاهِرَةِ فأعياهم كَثْرَة مَا وجدوا لَهُ. وتتبعت حَوَاشِي ابْن زنبور وهجمت دور كَثِيرَة بسببهم عدم لأربابها مَال عَظِيم.(4/168)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل ذِي الْقعدَة: قدم الْبَرِيد من نَائِب حلب بِمِائَة وَعشْرين منشوراً للتركمان ويستأذن فِي تَجْرِيد عَسْكَر حلب إِلَى ابْن دلغادر. وَفِيه نزل الْأَمِير صرغتمش إِلَى بَيت ابْن زنبور بالمصاصة وَعدم مِنْهُ ركغاً دلّ عَلَيْهِ فَوجدَ فِيهِ خَمْسَة وَسِتِّينَ ألف دِينَار حملهَا إِلَى القلعة. وَطلب الْأَمِير صرغتمش ابْن زنبور وضربه عُريَانا فَلم يعْتَرف بشىء فَنزل إِلَى بَيته وَضرب ابْنه الصَّغِير وَأمه ترَاهُ فِي عدَّة أَيَّام حَتَّى أسمعته كلَاما جَافيا فَأمر بهَا فعصرت. وَأخذ نَاظر الْخَاص فِي كشف حواصل ابْن زنبور. بِمصْر فَوجدَ لَهُ من الزَّيْت والشيرج والنحاس والرصاص والكبريت والعكر والبقم والقند وَالسكر وَالْعَسَل وَسَائِر أَصْنَاف المتجر مَا أذهله فشرع فِي بيع ذَلِك. هَذَا والأمير صرغتمش ينزل بِنَفسِهِ وينقل قماش ابْن زنبور وأثاثه إِلَى حارة زويلة ليَكُون ذخيرة للسُّلْطَان. فبلغت عدَّة الحمالين الَّذين حملُوا النصافي والتفاصيل وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة والبلور والصيني والكفت والسنجاب والملابس الرجالية والنسائية والزراكش والجواهر واللالىء والبسط الْحَرِير وَالصُّوف والفرش والمقاعد وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة زنة سِتِّينَ قِنْطَارًا وَمن الْجَوْهَر زنة سِتِّينَ رطلا وَمن اللُّؤْلُؤ كيل أردبين وَمن الذَّهَب الهرجة مبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأَرْبَعَة آلَاف دِينَار وَمن الحوائص سِتَّة آلَاف حياصة وَمن الكلفتاه الزركش سِتَّة آلَاف كلفتاه وَمن ملابس ابْن زنبور نَفسه عدَّة أَلفَيْنِ وسِتمِائَة فرجية وَمن الْبسط سِتَّة آلَاف بِسَاط وَمن الصنج لوزن الذَّهَب وَالْفِضَّة بِقِيمَة خمسين ألف دِرْهَم وَمن الشاشات ثَلَاثمِائَة شاش. وَوجد لَهُ من الْخَيل وَالْبِغَال ألف رَأس ودواب عاملة سِتَّة آلَاف رَأس ودواب حلابة سِتَّة آلَاف رَأس وَمن معاصر السكر خَمْسَة وَعِشْرُونَ معصرة وَمن الإقطاعات سَبْعمِائة إقطاع كل إقطاع متحصله خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم فِي السّنة. وَوجد لَهُ مائَة عبد وَسِتُّونَ طواشي وَسَبْعمائة جَارِيَة وَسَبْعمائة مركب فِي النّيل وأملاك قومت بثلاثمائة ألف دِينَار ورخام. بِمِائَتي ألف دِرْهَم ونحاس بأَرْبعَة آلَاف دِينَار وسروج وبدلات عدَّة خَمْسمِائَة. وَوجد لَهُ اثْنَان وَثَلَاثُونَ مخزناً فِيهَا من أَصْنَاف المتجر مَا قِيمَته أَرْبَعمِائَة ألف(4/169)
دِينَار. وَوجد لَهُ سَبْعَة آلَاف نطع وَخَمْسمِائة حمَار وَمِائَتَا بُسْتَان وَألف وَأَرْبَعمِائَة ساقية وَذَلِكَ سوى مَا نهب وَسوى مَا اختلس على أَن موجوده أبيع بِنصْف قِيمَته. وَوجد لَهُ فِي حَاصِل بَيت المَال مبلغ مائَة ألف وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم وَفِي الأهراء نَحْو عشْرين ألف أردب وَكَانَ مبدأ أمره أَنه بَاشر اسْتِيفَاء الْوَجْه القبلي وَتوجه إِلَيْهِ صُحْبَة الْأَمِير علم الدّين أيدمر الزراق وَهُوَ كاشف. فَنَهَضَ فِيهِ وشكرت سيرته إِلَى أَن عرض السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الْكتاب فِي أَيَّام النشو ليختار مِنْهُم من يوليه كَاتب الإصطبل وَكَانَ ابْن زنبور من جُمْلَتهمْ وَهُوَ شَاب فَأثْنى عَلَيْهِ الْفَخر نَاظر الْجَيْش وساعده الأكوز. فَخلع عَلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد وَاسْتقر بِهِ كَاتب الإصطبل عوضا عَن ابْن الجيعان فنال فِي مُبَاشرَة الإصطبل سَعَادَة طائلة. وأعجب بِهِ السُّلْطَان لفطنته وشكره من تَحت يَده حَتَّى مَاتَ السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد. ثمَّ اسْتَقر ابْن زنبور مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة فِي أَيَّام الْمَنْصُور أبي بكر وانتقل مِنْهَا فِي وزارة نجم الدّين مَحْمُود وَزِير بَغْدَاد إِلَى نظر الدولة. ثمَّ أخرجه جمال الكفاة لكشف القلاع فَقدم إِلَى مصر بعد مَوته. ثمَّ اسْتَقر فِي نظر الْخَاص بعناية الْأَمِير أرغون العلائي ثمَّ أضيف إِلَيْهِ نظر الْجَيْش وَجمع بعد مُدَّة إِلَيْهِمَا الوزارة. وَلم يتَّفق لأحد قبله بِالْجمعِ بَين الْوَظَائِف الثَّلَاث وَعظم ابْن زنبور إِلَى الْغَايَة حَتَّى أَنه كَانَ إِذا خرجت الْخُيُول لأرباب الْوَظَائِف من إصطبل السُّلْطَان يخرج لَهُ ثَلَاثَة أرؤس وَإِذا خلع عَلَيْهِ خلع عَلَيْهِ ثَلَاث خلع. ونفذت كَلمته وقويت مهابته وفخمت سعادته واتجر فِي جَمِيع الْأَصْنَاف حَتَّى فِي الْملح والكبريت وَربح فِي سنة وَاحِدَة من المتجر زِيَادَة على ألف ألف دِرْهَم مِنْهَا فِي صنف الزَّيْت الْحَار خَاصَّة مائَة ألف وَعشرَة آلَاف. فكثرت حساده وعادته الْكتاب لضبطه وأحصوا عَلَيْهِ جَمِيع مَا يتَحَصَّل لَهُ. فَلَمَّا ولى الْأَمِير صرغتمش بعد الْأَمِير شيخو رَأس نوبَة أغروه بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يحمل لشيخو مَال الخلص وَهُوَ الَّذِي عمر لَهُ الْعِمَارَة الَّتِي على النّيل من مَاله وَكَانَ يقوم لَهُ بِمَا يفرقه من الحوائص على مماليكه وَنَحْو ذَلِك حَتَّى تغير صرغتمش وَصَارَ صرغتمش(4/170)
يسمع شيخو الْكَلَام. الْكثير بِسَبَبِهِ فَيَقُول لَهُ: قد كثرت القالة فِيك بِسَبَب ابْن زنبور وَأَنه يحمل إِلَيْك كل مَا يتَحَصَّل من الْخَاص وَأَنه قد كثر مَاله. فَلَو مكنتني أخدت للسُّلْطَان مَالا ينقصهُ. فيدافع شيخو عَنهُ وَيعْتَذر لَهُ بِأَنَّهُ إِذا قبض عَلَيْهِ لَا يجد من يسد مسده وَإِن كَانَ ولابد فيقرر عَلَيْهِ النشو مَال يحملهُ وَهُوَ على وظائفه. وبينما هُوَ فِي ذَلِك إِذْ قدم خبر مخامرة بيبغا روس فاشتغل عَنهُ صرغتمش وَخرج إِلَى الشَّام وَفِي نَفسه مِنْهُ مَا فِيهَا. وَصَارَ صرغتمش يتجهم لِابْنِ زنبور ويسمعه مَا يكره إِلَى أَن أرجف. بمسكه وَهُوَ يسترضيه وَيحمل لَهُ أَنْوَاع المَال فَلَا يرضى حَتَّى أعيى ابْن زنبور أمره. وَحدث ابْن زنبور شيخو بِدِمَشْق. بِمَا هُوَ فِيهِ مَعَ صرغتمش فطب شيخو خاطره بِأَنَّهُ مادام حَيا لَا يتَمَكَّن مِنْهُ أحد فركن لقَوْله. وَأخذ صرغتمش يغري الْأَمِير طاز بِابْن زنبور حَتَّى وَافقه على مسكه فقوى بِهِ على شيخو ووكل يثقله لما توجه من دمشق من يَحْرُسهُ وَهُوَ لَا يشْعر فَلَمَّا وصل السُّلْطَان خَارج الْقَاهِرَة أشيع أَنه يعبر من بَاب النَّصْر ويشق الْقَاهِرَة فَاجْتمع لرُؤْيَته عَالم عَظِيم وأشعلوا لَهُ الشموع والقناديل. فَدخل ابْن زنبور على بغلة رائعة بزناري أطلس فِي موكب جليل إِلَى الْغَايَة وَبَين يَدَيْهِ جَمِيع المتعممين من الْقُضَاة وَالْكتاب وَقد أعجب بِنَفسِهِ إعجاباً كثيرا وَالنَّاس تُشِير إِلَيْهِ بالأصابع. فَكَانَت تِلْكَ نهايته وَقبض عَلَيْهِ كَمَا تقدم. وانتدب جمَاعَة بعد مسك ابْن زنبور للسعي فِي هَلَاكه وأشاعوا أَنه وجد فِي بَيته عدَّة صلبان وَأَنه لما دخل إِلَى الْقُدس فِي سفرته هَذِه بَدَأَ بكنيسة الْقِيَامَة فَقبل عتبتها وَتعبد فِيهَا ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فأراق المَاء فِي بَابه وَلم يصل فِيهِ وَكَانَت صدقته على النَّصَارَى بكنيسة الْقِيَامَة وَلم يتَصَدَّق على أحد من فُقَرَاء الْمُسلمين بالقدس. فأثبتوا فِي ذهن صرغتمش أَنه بَاقٍ على النَّصْرَانِيَّة ورتبوا فَتَاوَى تَتَضَمَّن أَنه ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام. وَكَانَ أحل من قَامَ عَلَيْهِ الشريف شرف الدّين نقيب الْأَشْرَاف والشريف أَبُو الْعَبَّاس الصفراوي وَبدر الدّين نَاظر الْخَاص والصواف تَاجر صرغتمش. فَأول مَا بدأوا بِهِ من نكايته أَن حسنوا لصرغتمش حَتَّى بعث إِلَيْهِ الصَّدْر عمر وشهود الخزانة فَشَهِدُوا عَلَيْهِ فِي مَكْتُوب أَن جَمِيع مَا بِيَدِهِ من الدّور والبساتين والأراضي مَا وَقفه مِنْهَا وَمَا هُوَ طلق - جَمِيعه اشْتَرَاهُ من مَال السُّلْطَان دون مَاله وَأَنه ملك للسُّلْطَان لَيْسَ فِيهِ شَيْء قل أَو جلّ. ثمَّ حسنوا لَهُ ضرّ بِهِ فَأمر بِهِ فَأخْرج بكرَة يَوْم وَفِي عُنُقه باشة وجنزير وَضرب عُريَانا قُدَّام بَاب قاعة الصاحب من القلعة. ثمَّ أُعِيد إِلَى مَوْضِعه وعصر وَسَقَى(4/171)
المَاء وَالْملح. ثمَّ سلم لشاد الدَّوَاوِين وَأمر بقتْله فنوع عُقُوبَته. فَمنع الْأَمِير شيخو من قَتله فَأمْسك عَنهُ ورتب لَهُ الْأكل وَالشرب وغيرت عَنهُ ثِيَابه وَنقل من قاعة الصاحب إِلَى بَيت الْأَمِير صرغتمش. وَفِي يَوْم الْأَحَد رَابِع عشر ذِي الْقعدَة: قبض على الْأُمَرَاء قمارى الْحَمَوِيّ وَشَعْبَان قريب يلبغا وَمُحَمّد بن بكتمر الحاحب ومأمور وحملوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجنوا بهَا ماعدا شعْبَان فَإِنَّهُ أخرج إِلَى دمشق. وَفِيه قدمت رسل الْأَشْرَف بن جوبان أَنه يُرِيد محاربة أرتنا نَائِب الرّوم وَطلب أَلا يدْخل السُّلْطَان بَينهمَا فَأُجِيب عَن ذَلِك. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشره: قدم الْأَمِير نَاصِر الدّين بن المحسني. وَفِي أول ذِي الْحجَّة: قرر على أَتبَاع ابْن زنبور مَال وَأَفْرج عَنْهُم فَكَانَت جملَة ذَلِك سِتّمائَة وَسبعين ألف دِرْهَم. وَفِي خامسه: وصل أَمِير عَليّ المارديني نَائِب الشَّام إِلَى دمشق صُحْبَة الْأَمِير عز الدّين أزدمر الخازاندر متسفره وَركب أَمِير على الموكب على الْعَادة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشريه: قدم الْبَرِيد من حلب بِأخذ أَحْمد الساقي نَائِب حماة وبكلمش نَائِب طرابلس من عِنْد ابْن دلغادر وَقد قبضهما. فدخلا حلب فِي حادي عشريه وسجنا بقلعتها فَأُجِيب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب بالشكر وَالثنَاء وَأَنه يشهر الْمَذْكُورين بحلب ويقتلهما وجهز لنائب حلب خلعة. وَفِيه قدم الْخَبَر من غَزَّة بِكَثْرَة الأمطار الَّتِي لم يعْهَد بغزة مثلهَا وَأَنه هدم عدَّة بيُوت كَثِيرَة مِنْهَا على أهاليها وَسقط نصف دَار النِّيَابَة وَسكن النَّائِب بِجَامِع الجاولي وَتلف مَا زرع من كَثْرَة الْمِيَاه. ثمَّ سقط ثلج كثير حَتَّى تعدى الْعَريش. وَفِيه كَانَت الأمطار بأراض كَثِيرَة جدا وَسقط الثَّلج بِنَاحِيَة بركَة الْحَبَش وعَلى الْجَبَل وبأراضي الجيزة. وَأما النّيل فان القاع جَاءَ ثَلَاثَة أَذْرع وَثلث وتوقفت الزِّيَادَة أَيَّامًا. ثمَّ زَاد فِي كل يَوْم مَا بَين أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِينَ وَعشْرين إصبعاً حَتَّى كَانَ الْوَفَاء فِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشري جُمَادَى الْآخِرَة وثالث عشر مسرى وَنُودِيَ بِزِيَادَة عشر أَصَابِع من سَبْعَة عشر ذِرَاعا وانتهت زِيَادَته إِلَى ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة عشر أصبعاً.(4/172)
وفيهَا وَقع بِدِمَشْق حريق عَظِيم عِنْد بَاب جيرون عدم فِيهِ الْبَاب النّحاس الْأَصْفَر الَّذِي لم ير مثله وَيَزْعُم أهل دمشق أَنه من بِنَاء جيرون بن سعيد بن عَاد بن أرم بن سَام بن نوح. وفيهَا ولي الْأَمِير بكتمر المؤمني شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن الْأَمِير يلك أَمِير آخور بعد مَوته بغزة. وَكَانَ قد توجه إِلَى الْحجاز فَتوجه النجاب لإحضاره حَتَّى قدم وَاسْتقر بعناية الْأَمِير شيخو وتعيينه لَهُ. وَفِيه تولى نظر خزانَة الْخَاص قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الأخنائي ثمَّ استعفي مِنْهَا بعد الْقَبْض على ابْن زنبور فولى عوضه تَاج الدّين الْجَوْجَرِيّ. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان أرتنا نَائِب الرّوم من قبل بوسعيد. وَتُوفِّي بدر الدّين حسن بن عَليّ بن أَحْمد الْغَزِّي الْمَعْرُوف بالزغاري الدِّمَشْقِي الأديب الشَّاعِر عَن نَيف وَخمسين سنة بِدِمَشْق فِي لَيْلَة الْخَمِيس حادي عشر رَجَب ومولده سنة سِتّ وَسَبْعمائة. وَتُوفِّي الْعَضُد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الْغفار الْعِرَاقِيّ شَارِح الْمُخْتَصر والمواقف. ولي قَضَاء مملكة أبي سعيد. وَتُوفِّي الْأَمِير فَاضل أَخُو بيبغا روس بحلب وَكَانَ عسوفاً. وَمَات الْأَمِير يلك أَمِير آخور بغزة وَهُوَ عَائِد إِلَى الْقَاهِرَة وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان القفصي أحد نواب الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي بهاء الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن سعيد وَالْمَعْرُوف بِابْن إِمَام المشهد الْفَقِيه الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي ثامن عشرى رَمَضَان وَقد أناف على السِّتين وَولي حسبَة دمشق وَقدم الْقَاهِرَة.(4/173)
وَتُوفِّي شهَاب الدّين يحيى بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن القيسراني كَاتب السِّرّ لدمشق وَهُوَ بطال عَن نَيف وَخمسين سنة. وَتُوفِّي نَاظر الخزانة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز. وَمَات الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن بيليك الحسني وَالِي دمياط. وَكَانَ فَقِيها شافعياً شَاعِرًا أديباً نظم كتاب التَّنْبِيه فِي الْفِقْه وَكتب عدَّة مصنفات وَمَات الْأَمِير منكلى بغا الفخري قدم الْخَبَر بوفاته مستهل جُمَادَى الأولى. وَمَات الْحَاج عمر مهتار السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الأولى. وَمَات سيف الدّين خَالِد بن الْمُلُوك بالقدس فِي أول رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير تمر بغا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء رَابِع عشري رَجَب.(4/174)
(سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة)
شهر الله الْمحرم أَوله الْخَمِيس: فِيهِ قدم الْخَبَر من مُتَوَلِّي مَدِينَة قوص بقدوم رسل الْملك الْمُجَاهِد على بن الْمُؤَيد دَاوُد ابْن المظفر يُوسُف بن مَنْصُور عمر بن عَليّ بن رَسُول متملك الْيمن إِلَى عيذاب بهدية. فتوحه الْأَمِير آقبحا الْحَمَوِيّ لملاقاتهم وصحبته الإقامات من الأنزال والعلوفات والطبائخ وَنَحْو ذَلِك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سابعه: قدم الْبَرِيد من حلب بِالْقَبْضِ على الْأَمِير قراجا بن دلغادر مقدم التركمان فسر أهل الدولة بذلك. وَفِيه قدم الْأَمِير جنتمر أَخُو طاز برأسي الْأَمِير بكلمش والأمير أَحْمد الساقي وَقد قتلا بحلب. وَفِي هَذَا الشَّهْر: حملت رمتا وَالِد الْأَمِير طاز وأخيه جركس. وَكَانَ أَبوهُ قدم إِلَى مصر من بِلَاد التّرْك فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة فَتَلقاهُ وأكرمه وَأدْخلهُ فِي دين الْإِسْلَام وَخَتنه. ثمَّ توجه أَبوهُ هَذَا بعد مُدَّة عَائِدًا إِلَى بِلَاده بِحجَّة أَن يَسُوق بَقِيَّة أَهله فَهَلَك بالمعرة وَدفن بهَا فَبنى نَائِب حلب على قَبره تربة. ثمَّ لما توجه الْأَمِير طاز بالعسكر إِلَى حلب هلك أَخُوهُ جركس فدفنه بالمعرة مَعَ أَبِيه ثمَّ بدا لَهُ فِي نقلهما إِلَى مصر فنقلهما فِي هَذَا الشَّهْر ودفنهما خَارج بَاب المحروق ظَاهر الْقَاهِرَة فِي تربة أَنْشَأَهَا هُنَاكَ ورتب بهَا الْقُرَّاء وَغير ذَلِك من أَرْبَاب الْوَظَائِف وَجعل لَهَا أوقافاً دارة وَعمل لقدومهما عدَّة مجتمعات ختم فِيهَا الْقُرْآن الْكَرِيم على قبريهما. وَحصر تِلْكَ المجتمعات مَعَه الْأُمَرَاء والأعيان فاحتفل لذَلِك احتفالا زَائِدا. وَفِي ثامن عشره: قدم شيخ الشُّيُوخ زكي الدّين الْمَلْطِي من بِلَاد الْهِنْد فَتَلقاهُ طوائف النَّاس وطلع قلعة الْجَبَل. فَخلع عَلَيْهِ بَين يَدي السُّلْطَان وَحمل على بغلة رائعة بزنارى وَاسْتقر على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مشيخة الخانكاه الناصرية بسرياقوس. وَقد تقدم سَفَره فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فَكَانَت غيبته بِالْهِنْدِ عشر سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَعَاد بِغَيْر طائل. وَلم يرض الْأَمِير صرغتمش بولايته. وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشريه: أُعِيد الْوَزير ابْن زنبور إِلَى تَسْلِيم قشتمر شاد(4/175)
الدَّوَاوِين وَأمر بقتْله فعاقبه بقاعة الصاحب من قلعة الْجَبَل أَشد عُقُوبَة. فشق ذَلِك على الْأَمِير شيخو وعتب الْأَمِير طاز والأمير صرغتمش وَأَغْلظ فِي القَوْل وَمنع من التَّعَرُّض لِابْنِ زنبور وَأخرجه بعد الْمغرب من لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشريه وَحمله فِي النّيل إِلَى قوص. وَكَانَت مُدَّة شدته ثَلَاثَة أشهر. وَلما قدم الْحَاج أخبروا أَن الشريف عجلَان مضى قبل قدوم الْحَاج إِلَيْهِ من مَكَّة يُرِيد جدة لأخذ مكس التُّجَّار الواردين فِي الْبَحْر. فَبعث اليه أَخُوهُ ثقبة يطْلب نصِيبه من ذَلِك فَأبى عجلَان أَن يدْفع لَهُ شَيْئا فَركب إِلَيْهِ ولقيه. فَلَمَّا نزلا غدر ثقبة بعجلان وقبص عَلَيْهِ وَقَيده وأسلمه لمن يحفظه وَركب ليَأْخُذ أَمْوَال عجلَان من وَادي نَخْلَة. فَلَمَّا أبعد ثقبة فِي السّير أفرج الموكلون بعجلان عَنهُ وأطلقوه فَرمى نَفسه على عرب بِالْقربِ مِنْهُ وتذمم مِنْهُم. فأنزلوه عِنْدهم وأركبوه لَيْلًا وصاروا بِهِ إِلَى بني حسن وَبني شُعْبَة وَأقَام عجلَان مَعَهم خَارج مَكَّة وَمن الْأَخْبَار كَذَلِك أَن الْحَاج لما قدم مَكَّة لم يجد بهَا أحدا من بني حسن وَلَا من العبيد وَأَن أسعار مَكَّة رخية وَأَن الْمُجَاهِد بِالْيمن منع التُّجَّار من الْمَجِيء إِلَى مَكَّة غيظا من أمرائها. وَفِي أول صفر: قَامَ الْأَمِير صرغتمش فِي أَمر أوقاف ابْن زنبور يُرِيد حلهَا وَبَيْعهَا وَقد حسن لَهُ ذَلِك الشريف شرف الدّين عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد نقيب الْأَشْرَاف والشريف أَبُو الْعَبَّاس الصفراوي ولقناه فِي ذَلِك أموراً يحْتَج بهَا مِنْهَا أَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون لما قبض على كريم الدّين الْكَبِير أَرَادَ أَخذ أوقافه فَلم يُوَافقهُ على ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة فندب السُّلْطَان من شهد على كريم الدّين بإشهاده لَهُ على نَفسه أَن جَمِيع مَا ملكه من الْعقار وَغَيره - وَقفه وطلقه - هُوَ من مَال السُّلْطَان دون مَاله. فَلَمَّا ثَبت ذَلِك بطريقة صَارَت أَمْلَاك كريم الدّين بأجمعها للسُّلْطَان فَأقر مَا كَانَ مِنْهَا وَقفا على حَاله وسعاه الْوَقْف الناصري وَتصرف فِيمَا لَيْسَ بوقف. فَلَمَّا اجْتمع الْقُضَاة الْأَرْبَعَة بدار الْعدْل من قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة على الْعَادة كَلمهمْ الْأَمِير صرغتمش فِي حل أوقاف ابْن زنبور فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فِي الْإِنْكَار لذَلِك وساعده قَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين عبد الله الْحَنْبَلِيّ وجبه صرغتمش بِكَلَام خشن وَقَالَ لَهُ: أخربت الْبَلَد بشرك يَا(4/176)
صبي. هَذَا وصرغتمش يحاججهم وَيذكر قَضِيَّة أوقاف كريم الدّين فأجاباه بِأَن كريم الدّين كَانَت بِيَدِهِ جَمِيع أَمْوَال السُّلْطَان كلهَا مَا بَين خزانته وحواصله ومتاجره يتَصَرَّف فِيهَا بِرَأْيهِ فَلهَذَا سَاغَ أَن يثبت الْإِشْهَاد عَلَيْهِ بِأَن جَمِيع أملاكه وعقاراته وَغَيرهَا إِنَّمَا هِيَ من مَال السُّلْطَان دون مَاله. وَأما من لَهُ مَال من متجر أَو اكْتَسبهُ من مُبَاشرَة وَنَحْوهَا فَلَيْسَ لأحد أَن يتَعَرَّض لمَاله وَلَا يجوز نقض شىء وَقفه من ذَلِك وَلَا أَخذ مَا ملكه أَو وهبه من يَد من هُوَ فِي أَيْديهم فَإِن جَمِيع تَصَرُّفَاته فِي مَاله سَائِغَة بطريقها. فَذكر لَهُم صرغتمش أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ شاطر عماله وَمَال الْوَزير جَمِيعه إِنَّمَا هُوَ مَال السُّلْطَان. فَعرض لَهُ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بِذكر الشريفين عَليّ بن حُسَيْن وَأبي الْعَبَّاس الصفراوي وَقَالَ يَا أَمِير: إِن كنت تبحث مَعنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بحثنا مَعَك وَإِن كَانَ أحد ذكرهَا لَك فليحضر حَتَّى نناظره فِيهَا فَإِنَّهُ مَا قصد بِذكر هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا مصادرة سَائِر النَّاس وَأخذ أَمْوَالهم وَقَامُوا على الِامْتِنَاع وَالْإِنْكَار على من يُرِيد هَذَا وَنَحْوه. وَكَانَ صرغتمش قد وعد أم السُّلْطَان بِالدَّار الْمَعْرُوفَة بالسبع قاعات من أوقاف ابْن زنبور فَبعث لقَاضِي الْقُضَاة عز الدّين فِي ذَلِك فخوفها عَاقِبَة ذَلِك ومازال بهَا حَتَّى أَعرَضت عَن طلبه. فشق ذَلِك على الْأَمِير صرغتمش وَاشْتَدَّ حنقه حَتَّى مرض عدَّة أَيَّام مَرضا خيف عَلَيْهِ مِنْهُ فَتصدق بأموال جزيلة على الْفُقَرَاء وافتك أهل السجون. وَفِي أثْنَاء ذَلِك اتّفق الأميران شيخو وطاز على عزل صرغتمش من وَظِيفَة رَأس نوبَة ليقل شَره وتنحط رتبته وَيعود الْأَمِير شيخو رَأس نوبَة. فَلَمَّا عوفي صرغتمش نزل من القلعة إِلَى إصطبله المجاور لمدرسته فأشعلت لَهُ الشموع وَفَرح بِهِ سكان الصليبة وَتصدق صرغتمش بِمَال كَبِير. وَفِيه اجْتمع الْأُمَرَاء بِالْقصرِ بَين يَدي السُّلْطَان فِي الْخدمَة على الْعَادة وَذكروا أَمر توقف حَال الدولة من قلَّة حَاصِل بَيت المَال وخزانة الْخَاص وَأَن الْوَقْت مُحْتَاج إِلَى نظر الْأَمِير شيخو. وَكَانَ الْأَمِير شيخو مُنْذُ خرج من وَظِيفَة رَأس نوبَة ووليها الْأَمِير صرغتمش ترك التحدث فِي أَمر الدولة لصرغتمش وَصَارَ كالمشير. فَلَمَّا عينه الْأُمَرَاء فِي هَذَا الْيَوْم للتحدث كَمَا كَانَ امْتنع عَلَيْهِم فمازالوا بِهِ حَتَّى ألبوه التشريف وَولي على عَادَته بعد مَا شَرط عَلَيْهِم أَلا يتحدث أحد فِي أَمر جليل وَلَا حقير غَيره فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك. وَفِيه خلع أَيْضا على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن بدر الدّين بيليك المحسني وَاسْتقر مشير الدولة رَفِيقًا للصاحب موفق الدّين على قَاعِدَة الأكوز فِي الدولة الناصرية.(4/177)
وَفِيه اسْتَقر سيف الدّين قطلو شاد الدَّوَاوِين أَمِير طبلخاناه كَمَا كَانَ لُؤْلُؤ مَعَ الأكوز وَقيل للوزير أَلا يفصل أمرا دونهمَا وخرحوا من الْخدمَة. فَجَلَسَ ابْن المحسني من دَاخل الشباك بدار الوزارة من القلعة تجاه الْوَزير وَأمر بِكِتَابَة كلف الدولة. وَأَقْبل النَّاس إِلَى بَاب الْأَمِير شيخو فَصَارَت أُمُور الدولة كلهَا تصدر عَنهُ حَتَّى الإقطاعات. وَفِيه رسم بِإِبْطَال المقايضات والنزولات فِي الإقطاعات فَبَطل ذَلِك بعد مَا كَانَ قد فحش الْأَمر فِيهِ وَأخذ كتاب الْجَيْش مِنْهُ مَالا جزيلا. فتعطل كتاب الْجَيْش بِسَبَب ذَلِك ولاسيما بعد أَن رسم لَهُم أَلا يَأْخُذُوا رسماً فِي كل منشور أَو محاسبة سوى ثَلَاثَة دَرَاهِم وَكَانَ رسم ذَلِك عشْرين درهما. وَفِيه اسْتَقر أَن الْوَزير والمشير وَنَحْوهمَا يحْضرُون كل يَوْم إِلَى مجْلِس الْأَمِير شيخو ويطالعونه. بِمَا تحصل وَانْصَرف ويحضر إِلَيْهِ نَاظر الْجَيْش من الأشغال مَا شَاءَ حَتَّى تعطل حكم الْأَمِير قبلاي نَائِب السلطنة. وَفِي ربيع الأول: ورد الْخَبَر بوصول الصاحب علم الدّين بن زنبور إِلَى قبرص سالما وَقد نفي إِلَيْهَا. وَفِيه رفعت يَد نَاظر الْخَاص من وقف الصَّالح إِسْمَاعِيل وفوض نظره إِلَى الْأَمِير عز الدّين أزدمر الخازندار. وَفِيه قدم الْخَبَر بوصول الْأَمِير بيبغا روس إِلَى حلب وَقَتله فَكتب إِلَى الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب بالشكر وَالثنَاء وَعمل وَحمل اليه تشريف وَأمر أَن يعْمل الْحِيلَة فِي إِحْضَار قراجا بن دلغادر وجهز إِلَيْهِ تشريف برسمه وتقليد تقدمة التركمان فاستدعاه الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب ليلبس التشريف السلطاني وَيقْرَأ عَلَيْهِ التَّقْلِيد بِحَضْرَة أُمَرَاء حلب فَاعْتَذر عَن حُضُوره. فَلَمَّا قدم كتاب الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب بذلك كتب لَهُ بالركوب اليه ومحاربته فَاعْتَذر بِأَنَّهُ قد حلف لَهُ قبل ذَلِك بِأَنَّهُ إِن سير إِلَيْهِ بيبغا روس لَا يحاربه. فشق ذَلِك على الْأُمَرَاء وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بالإنكار عَلَيْهِ وجهز لَهُ الْأَمِير عز الدّين طقطاي الدوادار وَمَعَهُ الْكتب إِلَى نواب الشَّام بنجدة الْأَمِير أرغون الْكَامِل نَائِب حلب على قتال ابْن دلغادر فَسَار طقطاي فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل شهر ربيع الآخر. وَفِيه انحطت رُتْبَة الشريف أبي الْعَبَّاس الصفراوي. بِمَنْع الْأَمِير شيخو لَهُ من عبوره إِلَى دَاره وصعوده إِلَى القلعة. فثار عَلَيْهِ أعداؤه ونفوه من الشّرف وشنعوا عَلَيْهِ فالتجأ الشريف أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْأَمِير طاز حَتَّى كف عَنهُ من يقاومه. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رابعه: سمر عِيسَى بن حسن شيخ العايد.(4/178)
وَفِيه أعرس الْأَمِير أَخُو طاز بابنة الْأَمِير آقسنقر أنعم عَلَيْهِ بسبعة آلَاف دِينَار ومائتي قِطْعَة قماش وَعمل لَهُ مُهِمّ جليل. وَفِيه قدم من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة جمَاعَة يَشكونَ من قاضيها شمس الدّين مُحَمَّد بن سبع فعين عوضه بدر الدّين ابراهيم بن أَحْمد بن عِيسَى الخشاب فَلم يجب حَتَّى اشْترط أَلا يُقيم بهَا سوى سنة وَاحِدَة وَأَن تَسْتَقِر وظائفه الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ بيد نوابه فَأُجِيب بدر الدّين إِلَى ذَلِك وَولي قَضَاء الْمَدِينَة. وعزل أَيْضا عَن قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة لسوء سيرته وَولي عوضه الربعِي. وَفِيه اسْتَقر صدر الدّين سُلَيْمَان بن عبد الْحق فِي نظر الأحباس عوضا عَن شمس الدّين بن الصاحب. وَفِي يَوْم السبت حادي عشر ربيع الآخر: قدمت رسل الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن وَمَعَهُمْ ابْنه الْملك النَّاصِر وعمره إِحْدَى عشرَة سنة. فأنزلوا بالميدان وَنزل اليهم الْأَمِير طاز حَتَّى عرضت عَلَيْهِ الْهَدِيَّة ثمَّ تمثلوا بَين يَدي السُّلْطَان بهديتهم قدر سِتِّينَ رَأْسا من الرَّقِيق بَقِيَّة ثَلَاثمِائَة مَاتُوا ومائتي شاش وَأَرْبَعمِائَة قِطْعَة صيني وَمِائَة وَخمسين نافجه مسك وَقرن زباد وعدة تفاصيل وَمِائَة وَخمسين قِنْطَارًا من الفلفل وَأَشْيَاء مَا بَين زنجبيل وَعَنْبَر وأفاويه وفيل وَاحِد وَذَلِكَ سوى هَدِيَّة لكل من الْأَمِير شيخو وطاز وقبلاي نَائِب السلطنة وللوزير علم الدّين بن زنبور. فَحملت الْهَدِيَّة السُّلْطَانِيَّة إِلَى الصاحب موفق الدّين فَلم يرض الْأُمَرَاء بذلك فَإِن هَدِيَّة الْمُؤَيد للْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون كَانَ فِيهَا قدر ألفي شاش. وَمَعَ ذك فَإِنَّهُ أنْفق على الرُّسُل مُنْذُ قدمُوا عيذاب إِلَى وصلوا إِلَى الميدان نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم وخلع على الْجَمِيع وتقرر لَهُم فِي كل يَوْم خَمْسمِائَة دِرْهَم وَلم يبْق أحد من الْأُمَرَاء حَتَّى عمل لَهُم ضِيَافَة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشره: صلى قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة بالسلطان الْجُمُعَة على الْعَادة ثمَّ اجْتمع بالسلطان وَعِنْده الْأَمِير شيخو واستعفي من الْقَضَاء فَإِنَّهُ عزم على الْحَج والمحاورة وَاعْتذر بكبر سنه. فَلم يجب إِلَى ذَلِك فَمَا زَالَ يتلطف ويترفق حَتَّى - أُجِيب بِشَرْط أَن يعين للْقَضَاء من يختاره. فعين صهره وخليفته(4/179)
على الحكم قَاضِي الْعَسْكَر تَاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ فولاه السُّلْطَان الْقَضَاء وَأشْهد عَلَيْهِ بذلك فِي غيبته وانفضوا على ذَلِك. فَامْتنعَ الْمَنَاوِيّ من الْقبُول فَمَا زَالَ بِهِ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين حَتَّى قبل فِي يَوْم السبت ثامن عشره. وَولي الْمَنَاوِيّ سهاب الدّين أَحْمد بن يُوسُف بن مُحَمَّد الْحلَبِي الْمَعْرُوف بِالسِّين وَغَيره فبادر النَّاس للسعي فِي وظائفه وَكَانَت جليلة وَكتب الْمَنَاوِيّ لبهاء الدّين أَحْمد بن تَقِيّ الدّين بن عَليّ بن السُّبْكِيّ بِقَضَاء الْعَسْكَر. وَمَا أذن عصر يَوْم السبت حَتَّى اجْتمع عِنْد الْأَمِير شيخو نَحْو سِتِّينَ قصَّة رفعت اليه بالسعي فِي وظائف الْمَنَاوِيّ فَقَامَ قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين عبد الله الْحَنَفِيّ وقاضي الْقُضَاة موفق الدّين عبد الله الْحَنْبَلِيّ فِي عود ابْن جمَاعَة إِلَى الْقَضَاء ومازالا بالأمير شيخو حَتَّى بعث بالأمير عز الدّين أزدمر الخازندار إِلَيْهِ فتلطف بِهِ إِلَى أَن أجَاب إِلَى استقراره فِي الْقَضَاء على عَادَته وَأَنه يتَوَجَّه إِلَى الْحجاز ويستخلف على الحكم والأوقاف إِلَى أَن يعود أَو تُدْرِكهُ الْوَفَاة. فاستدعي ابْن جمَاعَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه وجددت لَهُ ولَايَة ثَانِيَة وخلع عَلَيْهِ وَنزل فِي موكب عَظِيم إِلَى دَاره. وَفِي يَوْم السبت: الْمَذْكُور توجه عز الدّين أيدمر السناني إِلَى الشَّام وَقدم الْأَمِير طقطاى الدوادار من حلب وَقد ألزم الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب حَتَّى سَار لِحَرْب ابْن دلغادر وَأَتَاهُ نواب القلاع حَتَّى صَار فِي عشرَة آلَاف فَارس سوى الرجالة والتركمان. وَنزل الْأَمِير أرغون الكاملي على الأبلستين فنهبها وهدمها وَتوجه إِلَى قراجا بن دلغادر وَقد امْتنع بجبل عَال فقاتلوه عشْرين يَوْمًا فَقتل فِيهَا وجرح عدد كثير من الْفَرِيقَيْنِ. فَلَمَّا طَال الْأَمر نزل إِلَيْهِم قراجا بن دلغادر وَقَاتلهمْ صَدرا من النَّهَار قتالا شَدِيدا فاستمر الْقَتْل فِي تركمانه وَانْهَزَمَ إِلَى جِهَة الرّوم فَأخذت أَمْوَاله ومواشيه. وَصعد الْعَسْكَر إِلَى جبل فوجدوا فِيهِ من الأغنام والأبقار مَا لَا يكَاد ينْحَصر فاحتووا عَلَيْهَا بِحَيْثُ ضَاقَتْ أَيْديهم عَنْهَا وأبيع الرَّأْس من الْبَقر بِعشْرين إِلَى ثَلَاثِينَ درهما وَالرَّأْس من الضان بِثَلَاثَة دَرَاهِم والإكديش من أَرْبَعِينَ إِلَى خمسين درهما. وسبيت نساؤه وَنسَاء تركمانه وَأَوْلَاده وبيعوا بحلب وَغَيرهَا بالهوان فَكَانَت خِيَار بَنَاته تبَاع بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم وظفروا بدفائن فِيهَا مَال كَبِير. وَفِي هَذَا الشَّهْر: أعلن بعض النَّصَارَى الواردين من الطّور بالقدح فِي الْملَّة الإسلامية فأحضر إِلَى القَاضِي تَاج الدّين الْمَنَاوِيّ وَسَأَلَهُ الْمَنَاوِيّ عَن سَبَب قدومه فَقَالَ: جِئْت أعرفكُم أَنكُمْ لَسْتُم على شَيْء وَلَا دين الا دين النَّصْرَانِيَّة وَمَا قلت هَذَا(4/180)
إِلَّا لكَي أَمُوت شَهِيدا فَضَربهُ الْمَنَاوِيّ بالمقارع ضربا مبرحاً مُدَّة أُسْبُوع وَهُوَ يَقُول: عجل على الْقَتْل حَتَّى ألحق بِالشُّهَدَاءِ فَيَقُول لَهُ: مَا أعجل عَلَيْك غير الْعقُوبَة ثمَّ ضربت عُنُقه وأحرقت جثته. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن ابْن دلغادر لما انهزم تبعه الْعَسْكَر وأسروا ولديه وَنَحْو الْأَرْبَعين من أَصْحَابه وَنَجَا بِخَاصَّة نَفسه إِلَى ابْن أرتنا وَقد سبق الْكتاب إِلَيْهِ بإعمال الْحِيلَة فِي قَبضه. فَأكْرمه ابْن أرتنا وأواه ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَحمله إِلَى حلب فَدَخلَهَا وسجن بقلعتها فِي ثَانِي عشرى شعْبَان. فَكتب إِلَى الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب بِحمْلِهِ إِلَى مصر وأنعم عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم مِنْهَا ثَلَاثمِائَة ألف من مَال دمشق وَبَاقِيه من مَال حلب. وأعفي الْأَمِير أرغون من تسيير الْقود الَّذِي جرت عَادَة نواب حلب بِحمْلِهِ إِلَى السُّلْطَان من الْخَيل وَالْجمال البخاتي والهجن والعراب وَمن البغال والقماش والجواري والمماليك وَقِيمَته خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم. فَعظم بذلك شَأْن الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب فَإِنَّهُ مَعَ صغر سنه كَانَ لَهُ أَرْبَعَة مماليك أُمَرَاء وَله ولد عمره ثَلَاث سِنِين أَمِير مائَة مقدم ألف فَلَمَّا مَاتَ هَذَا الْوَلَد أضيفت تقدمته إِلَى إقطاع النِّيَابَة وَكَانَ لأربعة من أخوته القادمين من الْبِلَاد وأقاربه أَربع إمرات. وَفِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة: سَافر الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي إِلَى الْبِلَاد الشامية بعدة خُيُول لنواب الشَّام. وَفِي خامسه: عزل الْأَمِير بكتمر المؤمني أُمِّي آخور وَاسْتقر عوضه الْأَمِير قندس. وَكَانَ من خير آل مهنا أَنهم قووا وفخم أَمرهم حَتَّى صَار من أَوْلَاد مهنا بن عِيسَى وَأَوْلَادهمْ نَحْو مائَة وَعشرَة مَا مِنْهُم إِلَّا وَمن لَهُ إمرة وإقطاع. فبطروا وشنوا الغارات على الْبِلَاد وَقَطعُوا الطرقات على التُّجَّار حَتَّى امْتنعت السابلة وَذَلِكَ بعد موت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد فَقبض على فياض وسجن واستقرت الإمرة لِأَخِيهِ جَبَّار فسكن الشَّرّ وسافرت القوافل. ثمَّ خلص فياض من السجْن بشفاعة الْأَمِير مغلطاي أَمِير آخور وَركب من الْقَاهِرَة وَلحق بأَهْله فَلَمَّا خامر بيبغا روس كتب لَهُ بالإمرة فَبعث أَوْلَاده بتقدمته. ثمَّ قدم سيف بن فضل فولى الإمرة وعزل فياض فَلم يُحَرك سَاكِنا حَتَّى توجه الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب لقِتَال ابْن دلغادر فَكثر طمعه وفساده. ثمَّ ركب جَبَّار وفياض ابْنا مهنا إِلَى إقطاعاتهم الَّتِي خرجت عَنْهُم لسيف بن فضل وبريد بن تتر وقسموها وَرفعُوا مغلاتها. فَلم يطق سيف معارضتهم لقوتهم(4/181)
وَكَثْرَة جمعهم فَبعث يعرفهُمْ أَن هَذِه الْبِلَاد قد أقطعها لَهُ السُّلْطَان فَردا عَلَيْهِ جَوَابا جَافيا. فَكتب إِلَيْهِمَا الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب يعتب عَلَيْهِمَا فَلم يذعنا لَهُ فَكتب إِلَى السُّلْطَان والأمراء بذلك فَكتب إِلَيْهِمَا بالقدوم إِلَى الحضرة فاعتذرا عَن الْحُضُور. فَتوجه الْأَمِير قشتمر الحاحب لإحضار الْجَمِيع على الْبَرِيد فِي نصف شعْبَان فَلم يوافقاه وأجابا بالاعتذار فَعَاد قشتمر. وَقدم عمر بن مُوسَى بن مهنا بِهِ بقوده وسعى فِي الإمرة فأدركه سيف بن فضل بعد حُضُور الْأَمِير قشتمر وسعى حَتَّى اسْتَقر على إمرته شَرِيكا لعمر بن مُوسَى. وَفِيه أَيْضا كثر عَبث العربان بِبِلَاد الصَّعِيد وقووا على المقطعين وَقَامَ من شيوخهم رجل أحدب فَجمع جمعا كَبِيرا وَتسَمى بالأمير. فَقدم الْخَبَر فِي شعْبَان بِأَنَّهُم كبسوا نَاحيَة ملوى وَقتلُوا بهَا نَحْو ثَلَاثمِائَة رجل ونهبوا المعاصر وَأخذُوا حواصلها وذبحوا أبقارها وَأَن عرب منفلوط والمراغة وَغَيرهم قد نافقوا وَقَطعُوا بعض الجسور بالأشمونين. فَوَقع الِاتِّفَاق على الرّكُوب عَلَيْهِم بعد تخضير الْأَرَاضِي بالزراعة وَكتب إِلَى الْوُلَاة بتجهيز الإقامات. وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة: عمل الْأَمِير طاز وَلِيمَة عَظِيمَة بداره الَّتِي عمرها بِرَأْس الصليبة عِنْدَمَا كملت حضرها السُّلْطَان وَجَمِيع الْأُمَرَاء فَلَمَّا انْقَضى السماط قدم الْأَمِير طاز للسُّلْطَان أَرْبَعَة أرؤس خيل مسرجة ملجمة بسروج ذهب وكنابيش ذهب مطرز وَلكُل من الأميرين شيخو وصرغتمش فرسين وَلمن عداهما من الْأُمَرَاء كل وَاحِد فرسا وَلم يعْهَد قبل ذَلِك أَن أحدا من مُلُوك التّرْك بِمصْر نزل إِلَى بَيت أَمِير. وَفِيه ورد كتاب الْأَمِير أيتمش نَائِب طرابلس وَمَعَهُ محْضر ثَابت على قاضيها يتَضَمَّن أَن امْرَأَة من أهل طرابلس اسْمهَا نفيسة جميلَة الصُّورَة تزوجت بِثَلَاثَة أَزوَاج وَلم يقدر وَاحِد مِنْهُم على بَكَارَتهَا من غير مَانع مِنْهُم وظنوا أَنَّهَا رتقاء وطبقوها وَاحِدًا بعد وَاحِد. فَلَمَّا بلغت خمس عشرَة سنة غر ثدياها واعتراها النّوم لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَارَ يخرج من فرجهَا شَيْء قَلِيلا قَلِيلا إِلَى أَن تشكل مِنْهُ ذكر صَغِير وأنثيين فكتمت أمرهَا إِلَى أَن خطبهَا رجل رَابِع وَلم يبْق إِلَّا العقد عَلَيْهَا فأطلعت أمهَا على أمرهَا فاشتهر ذَلِك بطرابلس وَأعلم بِهِ الْأَمِير أيتمش النَّائِب فَكتب بِهِ محضراً وجهزه إِلَى السُّلْطَان. وبرز الْمَذْكُور بَين النَّاس وَتسَمى عبد الله وَسَار إِلَى دمشق ووقف بَين يَدي نائبها أَمِير عَليّ فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأخْبرهُ. بِمَا ذكر فَأَخذه الْحَاجِب كجكن عِنْده وَأخْبر أَنه احْتَلَمَ ثَلَاث مَرَّات مُنْذُ صَار ذكرا فِي مُدَّة سِتَّة أشهر. ثمَّ نَبتَت لَهُ لحية سَوْدَاء وَصَارَ(4/182)
من جملَة الأجناد وَلم تبْق فِيهِ من سمات النِّسَاء شَيْء سوى كَلَامه فَإِن فِيهِ أنوثة فَكتب بإحضاره إِلَى مصر فَكَانَ هَذَا من عجائب صنع الله. وَقد ذكر شَيخنَا عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن عمر بن كثير فِي تَارِيخه أَنه اجْتمع بِهِ. وَفِيه وقف السُّلْطَان الْملك الصَّالح نَاحيَة سردوس من القليوبية على كسْوَة الْكَعْبَة وَكَانَت تعْمل بدار الطّراز فَيُؤْخَذ حريرها من التُّجَّار بِغَيْر ثمن يرضيهم. وأضيف إِلَيْهَا أَرَاضِي أخر مِمَّا تغل فِي السّنة مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم وَاسْتقر نظرها لوكيل بَيت المَال فاستمر ذَلِك فِيمَا بعد. وَفِيه قدم الْأَمِير طيبغا المجدي من دمشق فَلَزِمَ بَيته وَبَقِي على إقطاعه الَّذِي بِدِمَشْق. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشرى رَمَضَان: وصل مقدم التركمان قراجا بن دلغادر وَهُوَ مُقَيّد فِي زنجير فأقيم بَين يدى السُّلْطَان وعددت ذنُوبه. ثمَّ أخرج إِلَى الْحَبْس فَلم يزل بِهِ إِلَى أَن قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن جَبَّار بن مهنا استدعى أَوْلَادًا بن دلغادر فِي طَائِفَة كَبِيرَة من التركمان. لينجدوه على سيف. وَكَانَ سيف قد التجأ إِلَى بني كلاب فَالتقى الْجَمْعَانِ على تعبئة فانكسر التركمان وَقتل مِنْهُم نَحْو سَبْعمِائة رجل وَأخذ مِنْهُم سِتّمائَة إكديش. فَكتب السُّلْطَان من سرياقوس - وَكَانَ بهَا - إِلَى النَّائِب قبلاي بقتل ابْن دلغادر فَأخْرجهُ من السجْن إِلَى تَحت القلعة ووسطه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر ذِي الْقعدَة بعد مَا أَقَامَ مسجوناً ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين يَوْمًا. وَفِيه عزل ركن الدّين عَن مشيخة الشُّيُوخ بخانكاه سرياقوس وأعيد. وَأما العربان فَإِن الْأُمَرَاء عقدوا مشورا بَين يَدي السُّلْطَان فِي أَمرهم فتقرر الْحَال على التَّجْرِيد إِلَيْهِم فرسم للأمير سيف الدّين بزلار الْعمريّ أَن يتَوَجَّه إِلَى قوص بمضافيه وللأمير سيف الدّين أرلان والأمير قطلوبغا الذَّهَبِيّ أَن يتوجها. بمضافيهما إِلَى أَلْوَاح وتتمة ثَلَاثَة عشر مقدما. بمضافيهم من أُمَرَاء الطبلخاناه وَأَن يكون مقدمهم الْأَمِير شيخو وجهزت الإقامات برا وبحراً. فَأخذ الْعَرَب حذرهم فَتَفَرَّقُوا واختفوا وقدمت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى مصر فَأخذُوا وَكَانُوا عشرَة. فَقبض مَا وجد مَعَهم من المَال وَحمل لأمير جندار فَإِنَّهُم كَانُوا فلاحيه وأتلفوا. فَلَمَّا برز الْحَاج إِلَى بركَة الْحجَّاج ركب الْأَمِير شيخو وَضرب حَلقَة على الركب ونادى من كَانَ عِنْده بدوي وأخفاه حل دَمه وفتش الْخيام وَغَيرهَا فَقبض على جمَاعَة فوسط بَعضهم وَأَفْرج عَن بعض. ثمَّ لما عَاد السُّلْطَان إِلَى الجيزة كبست تِلْكَ النواحي وحذر النَّاس من إخفاء العربان فَأخذ البحري والبري وقبضت خُيُول تِلْكَ(4/183)
النواحي وسيوف أَهلهَا بأسرها. وَعرضت الرِّجَال فَمن كَانَ مَعْرُوفا أفرج عَنهُ وَمن لم يعرف أقرّ فِي الْحَدِيد وَحمل إِلَى السجْن. ورسم أَن الفلاحين تبيع خيولهم بِالسوقِ ويوردون أثمانها مِمَّا عَلَيْهِم من الْخراج فبيعت عدَّة خُيُول وَأورد أثمانها للمقطعين وَالْفرس الَّذِي لم يعرف لَهُ صَاحب حمل إِلَى إصطبل السُّلْطَان. وَكتب للأمير عز الدّين أزدمر الكاشف بِالْوَجْهِ البحري أَن يركب ويكبس الْبِلَاد الَّتِي لأرباب الجاه وَالَّتِي يَأْوِيهَا أهل الْفساد فَقبض على جمَاعَة كَثِيرَة ووسطهم وسَاق مِنْهُم إِلَى الْقَاهِرَة نَحْو ثَلَاثمِائَة وَخمسين رجلا وَمِائَة وَعشْرين فرسا وسلاحاً كثيرا. ثمَّ أحضر الْأَمِير أزدمر من الْبحيرَة سِتّمائَة وَأَرْبَعين فرسا فَلم يبْق بِالْوَجْهِ البحري فرس ورسم لقضاة الْبر وعدوله بركوب البغال والأكاديش. ثمَّ كبست البهنسا وبلاد الفيوم فَركب الأميران طاز وصرغتمش. بِمن مَعَهُمَا إِلَى الْبِلَاد وَقد مر أَهلهَا واختفى بَعضهم فِي حفائر تَحت الأَرْض. فقبضوا النِّسَاء وَالصبيان وعاقبوهم حَتَّى دلوهم على الرِّجَال فسفكوا دِمَاء كثيرين وعوقب كثير من النَّاس بِسَبَب من اختفي وَأخذت عدَّة أسلحة. وَاتفقَ لناحية النحريرية أَنه شهد على بعض نصاراها أَن جده كَانَ مُسلما فَحكم قاضيها بِإِسْلَامِهِ وحبسه حَتَّى يسلم. فَاجْتمع النَّصَارَى إِلَى الْوَالِي وأخرجوا الحبيس لَيْلًا فتصايحت الْعَامَّة من الغض بِالْقَاضِي فَغَضب الْوَالِي من ذَلِك وَطلب القَاضِي لينكر عَلَيْهِ مَا فعله فَقَامَتْ الْعَامَّة مَعَ القاضى وَأَغْلقُوا الحوانيت واجتمعوا ليرجموا الْوَالِي. فَجمع لَهُم الْوَالِي أَيْضا ليوقع بهم فحملوا عَلَيْهِ وهزموه حَتَّى خرج من الْبَلَد وهدموا كَنِيسَة كَانَت بهَا حَتَّى لم يبْق بهَا جِدَار قَائِم وأحرقوا مَا بهَا من الصلبان والتماثيل وعمروها مَسْجِدا ونبشوا قُبُور النَّصَارَى وأحرقوا رممهم وهموا يَأْخُذُونَ النَّصَارَى فَهَرَبُوا مِنْهُم وَكَانَ يَوْمًا مهولا. فَكتب الْوَالِي إِلَى الْأُمَرَاء والوزير بالشكاية من القَاضِي وَأَنه ضيع مَال السُّلْطَان وَهُوَ خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم بتعرضه لِلنَّصْرَانِيِّ حَتَّى ثارت بِسَبَبِهِ الْفِتْنَة. وَكتب النَّصَارَى أَيْضا إِلَى الحسام أستادار العلائي - وَقد ترقى حَتَّى صَار أَمِير طبلخاناه - فَقَامَ مَعَ النَّصَارَى وَحدث الْأَمِير شيخو وشنع على القَاضِي وسعى فِي إِلْزَامه لإعادة الْكَنِيسَة من مَاله. فَطلب القَاضِي والوالي فحضرا وَعقد مجْلِس حَضَره الْقُضَاة الْأَرْبَعَة بِجَامِع القلعة وَمَعَهُمْ الْوَزير وَغَيره من أهل الدولة فانتصب الحسام لمخاصمة قَاضِي النحريرية ومازالوا حَتَّى انْفَضُّوا على غير رضى فأغرى الْأَمِير شيخو بِقِيَام الْقُضَاة مَعَ قَاضِي النحريرية وهول الْأَمر فانعقد الْمجْلس بَين(4/184)
يَدَيْهِ وَقد امْتَلَأَ غَضبا على القَاضِي. فعندما اسْتَقر بهم الْمجْلس أغْلظ شيخو على القَاضِي وَأخذ الحسام ينهره ويخزيه بالْقَوْل وساعده على هَذَا الْأَمِير عز الدّين أزدمر كاشف الْوَجْه البحري حَتَّى يتَبَيَّن الْغَرَض. فامتعض لذَلِك الشَّيْخ أكمل الدّين مُحَمَّد بن مَحْمُود بن أَحْمد شيخ الْجَامِع الشيخوني يَوْمئِذٍ وَله اخْتِصَاص زَائِد بالأمير شيخو وَأخذ يتَكَلَّم مَعَه بالتركية فِي إِنْكَار مَا قَامَ فِيهِ الحسام من إِعَادَة الْكَنِيسَة وتعصبه على القَاضِي لِلنَّصَارَى وَخَوف الْأَمِير عَاقِبَة ذَلِك. فشاركه الحسام فِي الْكَلَام مَعَ الْأَمِير وَجرى على عَادَته فِي إِعَادَة الْكَنِيسَة فصدعه الْأَكْمَل بالإنكار وزجره وَمنعه من الْكَلَام فِي هَذَا وَقَالَ لَهُ: مَا يحل السَّلَام عَلَيْك فَإنَّك فد خرحت من الْإِسْلَام بتعصبك لِلنَّصَارَى. ومازال الشَّيْخ أكمل الدّين يلح فِي الْكَلَام حَتَّى رسم الْأَمِير شيخو بالكشف عَن الْوَاقِعَة لينْظر من تعدى من الرجلَيْن - القَاضِي أَو الْوَالِي ووكل بهما من يحفظهما حَتَّى يحضر الْكَشْف عَن أَمرهمَا. فَلَمَّا حضر الْكَشْف من وَالِي الْمحلة وَكَانَ قد حسن أَمرهمَا بِأَن ذكر أَن كلا مِنْهُمَا أَسَاءَ التَّدْبِير رسم بعزل الوالى وَالْقَاضِي. وَفِيه رسم بتجريد أجناد الْحلقَة إِلَى بِلَاد الصَّعِيد فَعرض النَّائِب قبلاي مقدمي الْحلقَة وَعين مِنْهُم تسعين مقدما اخْتَار مِنْهُم خَمْسَة وَعشْرين مقدما مَعَ كل مقدم عشرُون من أجناد الْحلقَة لتَكون عدَّة الْجُمْلَة خَمْسمِائَة فَارس فَبَيْنَمَا هم فِي تجهيز أَمرهم إِذْ ورد كتاب الْأَمِير بِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك فبطلت تجريدتهم. وفيهَا كثرت المناسر بِظَاهِر الْقَاهِرَة فِي مُدَّة غيبَة السُّلْطَان وكبسوا عدَّة دور وركبوا الْخَيل وَضَاقَتْ بهم الرجالة فَعظم الضَّرَر بهم. وتتبع الْوَالِي آثَارهم حَتَّى ظهر أَنهم فِي نَاحيَة بلبيس فكبس عَلَيْهِم وَقبض مِنْهُم جمَاعَة اعْتَرَفُوا بعد - عقوبتهم على بَقِيَّة أَصْحَابهم فتتبعهم الْوُلَاة بالنواحي حَتَّى أخذوهم. ورتب فِي أثْنَاء ذَلِك أَرْبَعَة أُمَرَاء وأضيف إِلَيْهِم عدَّة من أجناد الْحلقَة للطَّواف بِاللَّيْلِ خَارج الْقَاهِرَة. وَركب الْوَالِي بجماعته طول اللَّيْل فِي الْقَاهِرَة وَسمر عدد كثير من أهل الْفساد بِالْقَاهِرَةِ ووسط خلق فِي النواحي. وَكتب إِلَى جَمِيع أَعمال الْوَجْه البحرى بألا يدعوا عِنْدهم مُفْسِدا وَلَا أحدا مِمَّن يتجمع إِلَيْهِم من بِلَاد الصَّعِيد والفيوم وَمن آواهم حل دَمه. وحذر أَيْضا من اقتناء الْخَيل بِجَمِيعِ الْأَعْمَال وألزموا بإحضارها. فَاشْتَدَّ طلب الْوُلَاة لذَلِك وَقبض على جمع كَبِير وَأخذت خُيُول وأسلحة كَثِيرَة.(4/185)
وفيهَا استسقى أهل دمشق لتأخر نزُول الْمَطَر بعامة بِلَاد الشَّام حَتَّى بلغت الغرارة من الْقَمْح إِلَى مائَة وَعشْرين درهما بعد مَا كَانَت بِثَمَانِينَ درهما. فأغيثوا من ليلتهم وأمطروا كثيرا مُدَّة أُسْبُوع فَنزل سعر الْقَمْح فِي يَوْمه عشْرين درهما للغرارة. وفيهَا كثرت تزويرات المساطير وَغَيرهَا فَقَامَ فِي ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ وتحدث مَعَ الْأَمِير شيخو فِيهِ حَتَّى رسم لَهُ بالفحص عَن ذَلِك ومقابلة من يَفْعَله. بِمَا يسْتَحقّهُ. فكبس قَاضِي الْقُضَاة عدَّة بيُوت وَأخرج مِنْهَا تزاوير كَثِيرَة وَقبض على جمَاعَة وعاقبهم وسجنهم وَلم يقبل فيهم شَفَاعَة أحد من الْأُمَرَاء. وَاشْتَدَّ الطّلب على ابْن أبي الحوافر فَإِنَّهُ كَانَ عجبا فِي محاكاة الخطوط وكبست دَاره فَوجدَ فِيهَا من تزويره كتب كَثِيرَة وَلم يقدر عَلَيْهِ لاختفائه. وفيهَا قدم نَفِيس الدواداري الدَّاودِيّ الْيَهُودِيّ التبريزي لمعالجة الْأَمِير قبلاى النَّائِب من ضَرْبَان المفاصل وَمَعَهُ ولداه وَهُوَ فِي خنزوانة وتعاظم. فَادّعى دَعْوَى عريضة وَأَرَادَ أَن يركب بغلة فَلم يُمكن من ذَلِك. وفيهَا ولدت امْرَأَة طفلين ملتصقين لكل مِنْهُمَا ثَلَاثَة أَيدي وَثَلَاثَة أرجل وَلَيْسَ لَهما قبل وَلَا دبره وفيهَا انحطت الأسعار بِأَرْض مصر حَتَّى بيع الأردب من الْقَمْح من عشرَة دَرَاهِم الى خَمْسَة عشر درهما. وفيهَا فَشَتْ الْأَمْرَاض فِي النَّاس بالاسكندرية وَالْوَجْه البحري كُله والقاهرة مُدَّة شَهْرَيْن وَبلغ عدَّة الْمَوْتَى فِي كل يَوْم مَا بَين الْخمسين إِلَى السِّتين. وفيهَا ولد السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف شعْبَان بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون وفيهَا توجه ركب الْحجَّاج صُحْبَة الْأَمِير ركن الدّين عمر شاه الحاحب وَحج من الْأُمَرَاء الْأَمِير سيف الدّين كشلى والأمير سيف الدّين بزلار والأمير سيف الدّين طقطاي والأمير شهَاب الدّين أَحْمد بن آل ملك والأمير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن بكتمر الساقي والأمير ركن الدّين عمر بن طقزدمر وَحج الْخَلِيفَة المعتضد بِاللَّه أَبُو بكر(4/186)
وَحج قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وَالشَّيْخ بهاء الدّين عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عقيل. وَأسر السُّلْطَان والأمراء مدبرو الدولة إِلَى أَمِير الْحَاج وَمن صحبته من الْأُمَرَاء أَن يقبضوا على الشريف ثقبة ويقرروا الشريف عجلَان بمفرده على إِمَارَة مَكَّة. فَلَمَّا قدم الْحَاج بطن مر وَمضى عجلَان إِلَى لقائهم شكا إِلَى الْأُمَرَاء من أَخِيه ثقبة وَذكر مَا فعله مَعَه وَبكى. فطمنوا قلبه وَسَارُوا بِهِ مَعَهم حَتَّى لَقِيَهُمْ ثقبة فِي قواده وعبيده فألبسوه خلعة على الْعَادة ومضوا حافين بِهِ نَحْو مَكَّة وهم يحادثونه فِي الصُّلْح مَعَ أَخِيه عجلَان ويحسنون لَهُ ذَلِك وَهُوَ يَأْبَى موافقتهم حَتَّى أيسوا مِنْهُ. فَمد الْأَمِير كشلى يَده إِلَى سَيْفه فَقبض عَلَيْهِ وَأَشَارَ إِلَى من مَعَه فألقوه عَن فرسه وأخدوه وَمَعَهُ ابْن لعطيفة وَآخر من بني حسن وكبلوهم بالحديد ففر القواد وَالْعَبِيد. وأحضر عجلَان وألبس التشريف وعبروا بِهِ إِلَى مَكَّة فَلم يخْتَلف عَلَيْهِم اثْنَان. وَسلم ثقبة للأمير أَحْمد بن آل ملك فسر النَّاس بذلك. وَكثر حلب الغلال وَغَيرهَا فانحل السّعر عشْرين درهما الأردب. وَقبض على إِمَام الزيدية أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد اليمني وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحرم بطائفته ويتجاهر وَنصب لَهُ منبراً فِي الْحرم يخْطب عَلَيْهِ يَوْم الْعِيد وَغَيره. بمذهبه. فَضرب بالمقارع ضربا مبرحاً ليرْجع عَن مذْهبه فَلم يرجع وسجن ففر إِلَى وَادي نَخْلَة فَلَمَّا انْقَضى موسم الْحَاج حمل الشريف ثقبة مُقَيّدا إِلَى مصر وَبلغ النّيل فِي زِيَادَته إِلَى سِتَّة عشر أصبعاً من تِسْعَة عشر ذِرَاعا بعد مَا توقف فِي ابْتِدَاء الزِّيَادَة. وَكَانَ الْوَفَاء يَوْم الْأَحَد تَاسِع رَجَب وَهُوَ ثامن عشر مسرى وَفتح الخليج على الْعَادة. وَمَات فِيهَا أَمِين الدّين إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بكاتب طشتمر وَولي نظر الْجَيْش فِي أَيَّام الصَّالح إِسْمَاعِيل ثمَّ عزل وَتوجه إِلَى الْقُدس حَتَّى أقدم الْأَمِير شيخو وَعَمله نَاظر ديوانه فَمَاتَ قَتِيلا بحلب فِي رَابِع عشر الْمحرم. وَمَات الْأَمِير بكلمش نَائِب طرابلس فِي أول الْمحرم. وَأَصله من مماليك صَاحب ماردين بَعثه إِلَى السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فترقى فِي خدمته وأنعم عَلَيْهِ إِلَى أَن ولى نِيَابَة طرابلس فِي الْأَيَّام المظفرية وَكَانَ من أمره مَا ذكره. وَمَات الْأَمِير أَحْمد بن الساقي نَائِب حماة فِي أول الْمحرم. وَأَصله من الأويرانية وَبَعثه نَائِب البيرة فِي الْأَيَّام الناصرية فَأعْطَاهُ السُّلْطَان للأمير بكتمر الساقي ثمَّ أنعم عَلَيْهِ(4/187)
السُّلْطَان بعد موت بكتمر بإمرة عشرَة ولقبه بِأَحْمَد الساقى ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بإمره طبلخاناه وَعَمله شاد الشَّرَاب خاناه. وتنقل بعد موت السُّلْطَان فَعمل أَمِير شكار فِي الْأَيَّام المظفرية ثمَّ أخرج لنيابة صفد ثمَّ ولي نِيَابَة حماة حَتَّى كَانَ من أمره مَا كَانَ وَكَانَ شجاعاً أهوج جهولا مقداماً. وَمَات الْأَمِير بيبغا روس القاسمي أحد المماليك الناصرية. توفّي السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد ابْن قلاوون وَهُوَ من خاصكيته فترقى حَتَّى صَار فِي الْأَيَّام الصالحية إِسْمَاعِيل أَمِير طبلخاناه وَتمكن مِنْهُ حَتَّى كَانَ الصَّالح لَا يُفَارِقهُ سَاعَة وَاحِدَة. ثمَّ أنعم عَلَيْهِ فِي الْأَيَّام الكاملية شعْبَان ثمَّ ولي فِي الْأَيَّام الناصرية حسن نِيَابَة السلطنة فَشَكَرت سيرته فِيهَا ثمَّ قبض عَلَيْهِ بطرِيق الْحجاز وسجن ثمَّ أفرج عَنهُ. وَولى نِيَابَة حلب وَكَانَ من عصيانه مَا كَانَ حَتَّى لحق بقراجا بن دلغادر فاخذه وَبعث بِهِ إِلَى حلب فَقتل بهَا وَمَات الْأَمِير ألجيبغا العادلي فِي سَابِع ربيع الآخر بِدِمَشْق وَكَانَ فَارِسًا جواداً وَمَات الْأَمِير شعْبَان قريب يلبغا اليحياوي. وَكَانَ من جلة خَواص ألماس الحاحب فسجن عِنْد مسكه مُدَّة ثمَّ نفي إِلَى صفد. وأنعم عَلَيْهِ بعد مُدَّة بإمرة وَتوجه إِلَى حلب فِي نِيَابَة يلبغا اليحياوي ثمَّ سجن بعد موت يلبغا اليحياوي مُدَّة ثمَّ أفرج عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ بإمرة وَقدم مصر ثمَّ توجه إِلَى دمشق فَمَاتَ بهَا. وَمَات الْأَمِير بيغرا المنصوري أحد أُمَرَاء الألوف بديار مصر وَهُوَ بطال بحلب وَكَانَ خيرا ولى الحجوبية. بِمصْر فَشَكَرت سيرته لجودة عقله وَمَات الْأَمِير بدر الدّين مَسْعُود بن أوحد بن مَسْعُود بن الخطير الرُّومِي فِي سَابِع شَوَّال ومولده لَيْلَة السبت سَابِع جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بِدِمَشْق. ترقى فِي خدمَة الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وَولي حاجباً بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ ولى نِيَابَة غَزَّة وطرابلس غير مرّة وَكَانَ مشكوراً. وَمَات الشريف أَمِير يَنْبع عِيسَى بن حسن الهجان فِي رَابِع ربيع الآخر. وَمَات قراجا بن دلغادر فِي رابععشر ذِي الْقعدَة.(4/188)
وَمَات الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الصَّائِغ فِي رَابِع عشرى رَجَب. وَمَات عمر بن مُسَافر الخواجا ركن الدّين أستاذ الْأَمِير شيخو وَغَيره من المماليك العمرية فِي عشرى ربيع الآخر. وَمَات الْوَزير علم الدّين عبد الله بن تَاج الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن زنبور بقوص فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع عشر ذِي الْقعدَة. وَمَات أسعد خربه مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة وَهُوَ أحد مسالمة الْكتاب فِي عشرى ذِي الْقعدَة. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان الْحلَبِي أحد موقعي الدست بِدِمَشْق. وَمَات شرف الدّين عبد الْوَهَّاب الشهَاب أَحْمد بن محيى الدّين يحيى بن فضل الله الْعمريّ أحد موقعي الدست بِدِمَشْق. وَمَات شرف الدّين عمر بن يُوسُف بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي السفاح كَاتب سر حلب بهَا. وَمَات صدر الدّين مُحَمَّد بن الشّرف مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم الْمَيْدُومِيُّ أَبُو الْفَتْح الشَّيْخ الْمسند المعمر. حدث عَن النجيب وَغَيره. ومولده سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. حَدثنَا عَنهُ وَتُوفِّي إِمَام الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أَحْمد بن مَيْمُون إِمَام الدّين بن زين الدّين بن الْمُحدث أَمِين الدّين أبي الْمَعَالِي بن الإِمَام الْقدْوَة قطب الدّين أبي بكر بن الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس الْقَيْسِي الْقُسْطَلَانِيّ بِالْقَاهِرَةِ فِي الْمحرم ومولده بِمَكَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة وَمَات جمال الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الإِمَام شمس الدّين أبي مُحَمَّد أبي عبد الله ابْن الْعَفِيف مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الْمُنعم بن سُلْطَان الْمَقْدِسِي النابلسي ثمَّ الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ فِي رَجَب. ومولده بنابلس فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة حدث عَن جمَاعَة.(4/189)
وَمَات الْفَقِيه الْمُحدث تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَسْكَر بن مظفر نجم الطَّائِي. وَمَات القيراطي الْمصْرِيّ ثمَّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي فِي شَوَّال. حدث بِالْقَاهِرَةِ ودمشق ودرس بهما. وَقتل حسن بن هِنْد وَهُوَ الْحَاكِم بِمَدِينَة سنجار وبالموصل قَتله صَاحب ماردين وَكَانَت عَسَاكِر الشَّام حاصرته ثمَّ عَادَتْ عَنهُ. الْجُزْء الثَّالِث(4/190)
(سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة)
شهر الله الْمحرم أَوله يَوْم الْأَحَد وَفِي ثامن عشره: قدم الْحَاج وَلم يتَّفق بِمثل هَذَا فِيمَا سلف وَهلك جمَاعَة من المشاة وَقدم الشريف ثقبة مُقَيّدا فسجن. وَفِي ثامن عشريه: قدم الْأَمِير شيخو مِمَّن مَعَه من بِلَاد الصَّعِيد وَكَانَ من خَبره أَن العربان بِالْوَجْهِ القبلى خَرجُوا عَن الطَّاعَة وَسَفك بَعضهم دِمَاء بعض وَقَطعُوا الطرقات وَأخذُوا أَمْوَال النَّاس وكسروا مغل الْأُمَرَاء والأجناد. وَقتلُوا الكاشف طغاى وكسروا مجد الدّين مُوسَى الهذبانى وَأخذُوا خامه وقماشه وَقتلُوا بعض أجناده. وَقَامَ فِي البهنساوية ابْن سودى وحشد على بنى عَمه وَقتل مِنْهُم نَحْو الالفي رجل وأغار على الْبِلَاد وَأكْثر من الْقَتْل والنهب. ونافق أَيْضا ميسرَة بالأطفيحية واقتتل مَعَ ابْن مغنى قتالاً كَبِيرا فاستمر هَذَا الْبلَاء بالصعيد سنة كَامِلَة هلك فِيهَا من العربان خلائق كَثِيرَة فمازال السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون يسوس الْأَمر حَتَّى سكنت تِلْكَ الْفِتَن وتتبع أهل الْفساد وحرث دِيَارهمْ بالأبقار وأفناهم بِالْقَتْلِ. ثمَّ ثَارُوا بعد ذَلِك وركبوا على بيبغا الشمسى الكاشف وحاربوه وتجمعوا على الْفساد ثمَّ تبع ذَلِك قيام الأحدب واسْمه مُحَمَّد بن وَاصل وَلم يكن أحدب وَلَكِن أقفص فشهر لذَلِك بالأحدب وَقَامَ الأحدب هَذَا فِي عرب عَرك بِنَاحِيَة وَقَاتل بنى هِلَال. فَلَمَّا تغافل أهل الدولة بعد موت السُّلْطَان النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون عَن أهل النواحي قلت مهابة الْكَشَّاف والولاة عِنْدهم فَخَرجُوا عَن الْحَد وَقَطعُوا الطرقات برا وبحراً حَتَّى تعذر سلوكها. ومالوا على المعاصر والسواقي فنهبوا حواصلها من القنود وَالسكر والأعسال وذبحوا الأبقار. وَادّعى الأحدب السلطنة وَجلسَ فِي جتر أَخذه من قماش الهذبانى وَجعل خَلفه الْمسند وأجلس الْعَرَب حوله وَمد السماط بَين يَدَيْهِ فنفذ أمره فِي الفلاحين. وَصَارَ الجندي إِذا انْكَسَرَ لَهُ خراج قَصده وساله فِي خلاصه من فلاحه فَيكْتب لهورقة لفلاحه وَأهل بَلَده فيصل بهَا إِلَى حَقه وَيُرْسل مَعَ مماليك الكاشف والوالي بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ ويأمره أَن يَقُول: إِن كَانَت لَك حَاجَة قضيتها لَك. وحدثته نَفسه بتملك الصَّعِيد وقويت نَفسه بتأخر وُلَاة الْأُمُور عَنهُ وَأقَام لَهُ حاجباً وكاتباً.(4/191)
فَلَمَّا عظم أمره عقد الْأُمَرَاء المشور بَين يَدي السُّلْطَان الْملك الصَّالح فِي مستهل شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة فِي أَمر عرب الصَّعِيد. وقرروا تَجْرِيد الْعَسْكَر لَهُم صُحْبَة الْأَمِير سيف الدّين شيخو الْعُمْرَى رَأس نوبَة وَمَعَهُ اثنى عشر مقدما. بمضافيهم من أُمَرَاء الطبلخاناه والعشرات وهم أسندمر الْعُمْرَى وطشتمر القاسمي وقطلوبغا الطرخانى وأرلان وبزلار أَمِير سلَاح وكلتاى أَخُو طاز واصر على بن أرغون النَّائِب وتنكز بغا وجركتمر ويلجك قريب قوصون وقطلوبغا الذهبى وَأَن يتَوَجَّه كلتاى وَابْن أرغون النَّائِب نَحْو الشرق بالإطفيحية وَيتَوَجَّهُ يلجك إِلَى الفيوم وبزلار وأرلان نَحْو الواح وَيتَوَجَّهُ الْأَمِير شيخو بِبَقِيَّة الْأُمَرَاء إِلَى جِهَة قوص ويتأخر فِي صُحْبَة السُّلْطَان عِنْد سَفَره الْأَمِير طاز والأمير صرغتمش والأمير قجا أَمِير شكار. فَيتَوَجَّه السُّلْطَان نَحْو البهنسا كَأَنَّهُ يتصيد وَأَن يكون السّفر فِي ذِي الْقعدَة فَيتَوَجَّه الْأُمَرَاء أَولا ثمَّ يركب السُّلْطَان بعدهمْ. فطار الْخَبَر إِلَى عَامَّة بِلَاد الْوَجْه القبلي فَأخذ العربان حذرهم فَمنهمْ من عزم على الدُّخُول بأَهْله إِلَى بِلَاد النّوبَة وَمِنْهُم من اختفي فِي مَوضِع أعده ليأمن فِيهِ على نَفسه وَمِنْهُم من عزم على الْحَج وَقدم إِلَى مصر فَفطن بهم أعداؤهم ودلوا عَلَيْهِم الْأُمَرَاء. فَقبض على جمَاعَة مِمَّن قدم مصر نَحْو الْعشْرَة وَأخذ مَا مَعَهم. ثمَّ ركب الْأَمِير شيخو إِلَى بركَة الْحَاج فِي عدَّة وافرة وأحاط بالركب وتتبع الْخيام وَغَيرهَا بعد مَا حذر من أُخْفِي الْعَرَب فَقبض على جمَاعَة مِنْهُم وَقتل من عرف مِنْهُم بِفساد وَأطلق من شكر حَاله. ثمَّ توجه الْأُمَرَاء فِي ذِي الْقعدَة وعدى السُّلْطَان. مِمَّن مَعَه من بَقِيَّة الْأُمَرَاء إِلَى بر الجيزة فكبست بِلَاد الجيزة بعد مَا كتب لمتوليها ومشايخها وأرباب أدراكها أَنهم لَا يخفون أحدا من الْعَرَب وَلَا من أَوْلَادهم وَنِسَائِهِمْ فَأخذ الصَّالح والطالح. وَقبض الْأُمَرَاء على الْخُيُول وَالسُّيُوف حَتَّى لم يبْق بِبِلَاد الجيزة فرس وَلَا سيف وأحضروا أَصْحَابهَا إِلَى الوطاق. واستدعى الْوَالِي ومشايخ العربان وَعرض من قبض عَلَيْهِ فَمن عرفوه أَنه من أهل الْبِلَاد أفرج عَنهُ وَمن لم يعرفوه قيد وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فسجن بهَا. وَعرضت الْخُيُول فَمن عرف فرسه من الفلاحين رسم لَهُ بِبَيْعِهَا فِي سوق الْخَيل تَحت القلعة وَحمل ثمنهَا إِلَى الدِّيوَان مِمَّا عَلَيْهِ من الْخراج. ورسم بِمثل ذَلِك فِيمَا يحضر من خُيُول فلاحي بَقِيَّة النواحي أَي أَن الْفَلاح يَبِيعهَا ويورد ثمنهَا فِيمَا عَلَيْهِ من الْخراج إِمَّا الْأَمِير أَو للجندي. فامتثل ذَلِك وَعمل بِهِ وسيقت خُيُول المفسدين وَمن لم يعرف لَهُ صَاحب حمل إِلَى إصطبل السُّلْطَان.(4/192)
وَندب الْأَمِير عز الدّين أزدمر كاشف الْوَجْه البحري للسَّفر إِلَى عمله فكبس الْبِلَاد المتجوهة وَالَّتِي تعرف بِأَنَّهَا مأوى المفسدين فِي عَامَّة الشرقية وَالْوَجْه البحري بأجمعه. وَأحسن أزدمر التَّدْبِير فِي ذَلِك فَإِنَّهُ كتب لجَمِيع الْوُلَاة أَن يلاقوه فِي الْبر وَالْبَحْر وواعدهم يَوْمًا عينه. وَكَانَ الْوَالِي بالغربية فِي بره والكاشف والولاة وأرباب الأدراك مُقَابِله وَمنعُوا النَّاس كلهم من ركُوب النّيل فَأخذ الْوَالِي عربا كثيرا وكبس بلاداً عديدة وَأخذ مِنْهَا المفسدين فوسط وَسمر جماعات مِنْهُم وسير إِلَى الْقَاهِرَة مائَة وَخمسين رجلا فِي الْحَدِيد وَمِائَة وَعشْرين فرسا وسلاحاً كثيرا. وَأرْسل مُتَوَلِّي الْبحيرَة من خيل عريها سِتّمائَة وَأَرْبَعين فرسا فَلم يتَأَخَّر فِي الْوَجْه البحري فرس وَاحِد من خُيُول العربان. ورسم لقضاة الْبر وعدوله بركوب البغال والأكاديش. وَتوجه السُّلْطَان بعد رحيل الْأُمَرَاء من الجيزة إِلَى البهنسا فَتَوَلّى الكبسات الْأَمِير طاز والأمير صرغتمش وتتبعوا الرِّجَال وعاقبوا النِّسَاء وَالصبيان حَتَّى دلوهم على أماكنهم فأخرجوهم من المطامير وسفكوا دِمَاء كَثِيرَة. وقبضوا على عدَّة رجال فأودعوهم الْحَدِيد وحازوا من الْخَيل وَالسِّلَاح شَيْئا كثيرا. فحشد الأحدب بن وَاصل شيخ عَرك جموعه وصمم على لِقَاء الْأُمَرَاء وَحلف أَصْحَابه على ذَلِك. وَقد اجْتمع مَعَه عرب منفلوط وعرب المراغة وَبني كلب وجهينة وعرك حَتَّى تجاوزت فرسانه عشرَة آلَاف فَارس تحمل السِّلَاح سوى الرجالة الْمعدة فَإِنَّهَا لَا تعد وَلَا تحصى لكثرتها. وَجمع الأحدب مواشي أَصْحَابه كلهم وَأَمْوَالهمْ وغلالهم وحريمهم وَأَوْلَادهمْ وَأقَام ينْتَظر قدوم الْعَسْكَر. فَقدم الْأَمِير شيخو بِمن مَعَه حَتَّى نزل سيوط وَمَعَهُ الْوُلَاة والكشاف فتلقها أَهلهَا وعرفوه أُمُور الْعَرَب وَمَا هم عَلَيْهِ من الْعَزْم على اللِّقَاء والمحاربة وَكَثْرَة جمعهم. فاستراح الْأَمِير شيخو وقدمت عَلَيْهِ عرب الطَّاعَة وهولوا عَلَيْهِ بِكَثْرَة جمع المارقين حَتَّى دَاخله الْوَهم وَبعث يَسْتَدْعِي بالعسكر من الْقَاهِرَة. فَعرض الْأَمِير سيف الدّين قبلاى نَائِب السلطنة مقدمي الْحلقَة ومضافيهم وَعين مِنْهُم تسعين مقدما وأضاف إِلَى كل مقدم جمَاعَة. وَعرضت أوراق بِأَسْمَائِهِمْ على السُّلْطَان والأمراء فَاخْتَارُوا مِنْهُم خَمْسَة وَعشْرين مقدما مَعَ كل مقدم من مضافيه عشرُون جندياً فَتكون عدتهمْ خَمْسمِائَة فَارس ورسم بتجهيزهم. وأعيد جَوَاب الْأَمِير شيخو بذلك فَرد جَوَابه بِأَن فِي حُضُور(4/193)
نجدة من الْقَاهِرَة مَا يُوجب طمع العربان فِي الْعَسْكَر وظنهم أَن ذَلِك من عجزهم عَن اللِّقَاء وَأَشَارَ بِإِبْطَال تَجْرِيد النجدة فبطلت. ثمَّ رَحل الْأَمِير شيخو عَن سيوط وَبعث الْأَمِير مجد الدّين الهذبانى ليؤمن بنى هِلَال أَعدَاء عَرك ويحضرهم لِيُقَاتِلُوا عَرك أعداءهم. فانخدعوا بذلك وفرحوا بِهِ وركبوا بأسلحتهم وَقدمُوا فِي أَرْبَعمِائَة فَارس فَمَا هُوَ الا أَن وصلوا إِلَى الْأَمِير شيخو فَأمر بأسلحتهم وخيولهم فَأخذت بأسرها وَوضع فيهم السَّيْف فأفناهم جَمِيعًا. وَركب الْأَمِير شيخو من فوره وَصعد عقبَة أدفو فِي يَوْم وَلَيْلَة فَلَمَّا نزل إِلَى الوطاة قدم عَلَيْهِ نجاب من أُمَرَاء أسوان بِأَن الْعَرَب قد نزلُوا فِي بَريَّة بوادي الغزلان فالبس الْعَسْكَر الة الْحَرْب. وَقدم الْأَمِير سودون أحد أمرأء الطبلخاناه فِي مائَة من مماليك الْأُمَرَاء طَلِيعَة وَسَارُوا. فَلَمَّا كَانَ قبيل الْعَصْر الْتَقت الطليعة بفئة من طلائع الْعَرَب فَبعث سودون يخبر الْأَمِير شيخو بذلك وَقَاتلهمْ فَانْهَزَمُوا ثمَّ عَادوا للحرب مرَارًا حَتَّى كلت خُيُول التّرْك وَلم يبْق الا أَن تأخذهم الْعَرَب. فأدركهم الْأَمِير شيخو وَقد سَاق لما أَتَاهُ الْخَبَر سوقاً عَظِيما مِمَّن مَعَه وامتلأ الجو من غبارهم. وهبت ريح فَحملت الْغُبَار والقته فِي وُجُوه الْعَرَب حَتَّى صَار أحدهم لَا يرى رَفِيقه مَعَ رُؤْيَتهمْ بريق الأسنة ولمعان السيوف. فخارت قواهم وانهزموا بأجمعهم بعد مَا اسْتَعدوا للقاء اسْتِعْدَادًا محكماً. فقدموا الرجالة بالدرق أَمَام الفرسان لتلقى عَنْهُم السِّهَام وَقَامَت الفرسان من ورائهم بأسلحتها وأوقفوا حريمهم من ورائهم. وَصَارَ الرجل مِنْهُم يصدم ابْنه وأخاه وَهُوَ لَا يلوى على شَيْء. فَركب التّرْك أقفيتهم وَمن وَقت الْغُرُوب عِنْد الْهَزِيمَة يقتلُون وَيَأْسِرُونَ حَتَّى أعتم اللَّيْل وَبَاتُوا متحارسين فَلم يعد أحد من الْعَرَب اليهم. وَعند ارْتِفَاع النَّهَار جرد الْأَمِير شيخو طَائِفَة فِي طَلَبهمْ فأحاطوا بِمَال كثير مَا بَين مواشي وقماش وحلى ونقود وعروض وأقوات وأزواد وروايا مَاء. وَسبوا حريمهم وَأَوْلَادهمْ فاسترقوا كثيرا مِنْهُم وَصَارَ إِلَى الأجناد والغلمان مِنْهُم شَيْء كَبِير باعوا مِنْهُ عددا كثيرا بِالْقَاهِرَةِ بعد عودهم. وَهلك من الْعَرَب خلائق بالعطش مَا بَين فرسَان ورجالة وجدهم المجردون فِي طَلَبهمْ فسلبوهم. وَصعد كثير مِنْهُم إِلَى الْجبَال واختفوا فِي المغائر فَقتل الْعَسْكَر وَأسر وسبا عددا كثيرا وارتقوا إِلَى الْجبَال فِي طَلَبهمْ وأضرمرا النيرَان فِي أَبْوَاب المغائر(4/194)
فَمَاتَ بهَا خلق كثير من الدُّخان. وَخرج اليهم جمَاعَة فَكَانَ فيهم من يلقى نَفسه من أَعلَى الْجَبَل وَلَا يسلم نَفسه وَيرى الْهَلَاك أسهل من أَخذ الْعَدو لَهُ. فَهَلَك فِي الْجبَال أُمَم كَثِيرَة وَقتل مِنْهُم بِالسَّيْفِ مَا لَا يُحْصى كَثْرَة حَتَّى عملت عدَّة حفائر وملئت من رممهم وَبنى فَوْقهَا مصاطب ضربت الْأُمَرَاء رنوكها عَلَيْهَا وأنتنت الْبَريَّة من جيف الْقَتْلَى ورمم الْخَيل. ثمَّ فرق الْأَمِير شيخو الْأُمَرَاء فِي الْبِلَاد لكبسها فطرقوا عَامَّة النواحي وقبضوا على جمَاعَة كَثِيرَة قتلوا مِنْهُم خلقا كثيرا وأحضروا خلقا إِلَى الْأَمِير شيخو فأقاموا على هَذَا عدَّة أَيَّام حَتَّى لم يبْق بِبِلَاد الصَّعِيد بدوي. ثمَّ نصبت الأخشاب على الطرقات وعلق فِيهَا أعداد وافرة مِمَّن شنق ووسط من الْعَرَب فَكَانَ أَولهَا طما وأخرها منية ابْن خصيب. ثمَّ عَاد الْأَمِير شيخو. مِمَّن مَعَه وصحبته نَحْو الالفي رجل فِي الْحَدِيد فَلم يصل إِلَى الْقَاهِرَة مِنْهُم سوى ألف وَمِائَتَيْنِ وَهلك باقيهم بِالْجُوعِ والتعب. فَلَمَّا نزل طموة خرج اليه الْأُمَرَاء بأجمعهم وَعمِلُوا لَهُ الولائم الْعَظِيمَة مُدَّة أَيَّام. ثمَّ سَافر الْأَمِير شيخو مِنْهَا فِي موكب جليل والأسرى بَين يَدَيْهِ والخيول وَالْجمال وَالسِّلَاح حَتَّى صعد القلعة وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَأثْنى عَلَيْهِ من كَانَ مَعَه بإحسانه اليهم ونفقاته فيهم فَكَانَت مُدَّة غيبته نَحْو ثَلَاثَة أشهر وَأَقل مَا قيل إِنَّه قتل فِي هَذِه الْوَاقِعَة زِيَادَة على عشرَة الاف رجل. ثمَّ قدمت الأسرى الَّتِي أحضرت مَعَ الْأَمِير شيخو أَو من بعث بِهِ الْكَشَّاف والولاة وَفِيهِمْ ابْن ميسرَة الثائر بالأطفيحية فأفرج عَن جمَاعَة مِنْهُم. وسمو ابْن ميسرَة وَثَلَاثَة عشر من أكَابِر العربان وَمِائَة وَأَرْبَعُونَ رجلا من شرارهم وشهروا. وَقيد جمَاعَة وَسَخِرُوا فِي الْعَمَل. وَعرضت الدَّوَابّ فَكَانَت الْفَا وثلاثمائة فرس والفا وَخَمْسمِائة جمل وَسَبْعمائة حمَار وأغناماً كَثِيرَة سوى مَا نهبه العبيد وأكلوه. وَعرض السِّلَاح فَكَانَ مائَة حمل رماح وَثَمَانِينَ حمل سيوف وَثَلَاثِينَ حمل درق. وَكتب لجَمِيع وُلَاة الْأَعْمَال وكشافها الا يدعوا فِي جَمِيع النواحي فرسا لبدوي وَلَا لفلاح سوى أَرْبَاب الأدراك فَإِنَّهُ يتْرك لكل وَاحِد مِنْهُم فرس. فَركب الْوُلَاة إِلَى الْبِلَاد وَأخذُوا مَا بهَا من الْخُيُول وسيروها إِلَى اصطبل السُّلْطَان. فَكَانَ الرجل إِذا حضر وَادّعى ملك شَيْء سلم اليه بعد مَا تظهر صِحَة دَعْوَاهُ والزم بعد تَسْلِيمه بِأَن يَبِيعهُ وَيُعْطى ثمنه مِمَّا عَلَيْهِ من الْخراج فكثرت الْخُيُول بِالْقَاهِرَةِ وَاسْتوْفى الأجناد خراجهم قبل أَوَانه.(4/195)
فَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة من أعظم حوادث الصَّعِيد وأشنع محنها وَلذَلِك سقتها فِي هَذَا الْموضع كَمَا هِيَ وَإِن كَانَ قد تقدم فِي السّنة الحالية طرف مِنْهَا لِأَن حكايتها مُتَوَالِيَة أبين لَهَا وَأكْثر وَقد مدح الْأَمِير شيخو غير وَاحِد عِنْد قدومه مِنْهُم نَاصِر الدّين النشائي أحد كتاب الْإِنْشَاء فَقَالَ قصيدة أَولهَا: صعودك للصَّيْد لَهُ سعود بِهِ نجزت من النَّصْر الوعود وَأرْسل نحوهم فرسَان حَرْب ضراغمة تحافهم الْأسود فخاضوا فيهم بِالسَّيْفِ حَتَّى غدوا وهم قَتِيل أَو شريد ومهدت الْبِلَاد فَزَالَ عَنْهَا ظلام الظُّلم وابتهج الْوُجُود وَقَالَ الْفَخر عبد الْوَهَّاب كَاتب الدرج من أَبْيَات: قدوم سعيد مبهج وإياب بِهِ حف للنصر الْعَزِيز ركاب مضيت مضى السهْم فِي غَزْو عصبَة بغاة وغازى المفسدين يُتَاب وَمن كَانَ قتل النَّفس بعض ذنُوبه فَلَيْسَ لَهُ الا السيوف عتاب فَلم تنجهم أَرض وَلَا عصمتهم مغائر مَا بَين الصخور صعاب وَقَالَ الْأَمِير عز الدّين أزدمر الكاشف قصيدة مِنْهَا: حسام عزمك بردى الْأسد فِي الأجم وَنور رَأْيك يهدى النَّاس فِي الظُّلم سعى اليهم وَنصر الله يقدمهُ فِي بَحر جَيش بموج الْخَيل مُنْتَظم وَالْأَرْض ترجف تَحت الْخَيل من فرق وَالْخَيْل تمشى على الأشلاء والرمم فأوقع السَّيْف فِي الْأَعْدَاء منتصراً لله حَتَّى غدوا لَحْمًا على وَضم وَلم يدع دَار بغى غير دَائِرَة وَلَا منار شقَاق غير منهدم وَكَانَ الأحدب قد نجا بِنَفسِهِ فَلم يقدر عَلَيْهِ وَمن حينئد أمنت الطرقات برا وبحراً فَلم يسمع بقاطع طَرِيق بعْدهَا. وَوَقع الْمَوْت فِيمَن تَأَخّر فِي السجون من العربان فكاد يَمُوت مِنْهُم فِي الْيَوْم من عشْرين إِلَى ثَلَاثِينَ حَتَّى فنوا الا قَلِيلا. وَقدم الْخَبَر من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة أَن الشريف مَانع بن على بن مَسْعُود بن جماز وَأَوْلَاد طفيل جمعُوا ونازلوا الْمَدِينَة يُرِيدُونَ قتل الشريف فضل بن قَاسم بن قَاسم بن جماز فَامْتنعَ بهَا وهم يحارصرونه اثْنَي عشر يَوْمًا مرت بَينهم فِيهَا حروب فَانْهَزَمُوا ومضو من حَيْثُ أَتَوا.(4/196)
وَفِيه أخرج الْأَمِير ساطلمش تركاش منفياً لسوء سيرته. وَفِيه ضربت عدَّة من شُهُود الزُّور وحلقت لحاهم وشهروا فِي الْقَاهِرَة وَكَانَ يَوْمًا شنيعاً. وفيهَا أخرج ابْن طشتمر الساقي منفياً إِلَى طرابلس لانهماكه فِي اللّعب. وَفِي شهر ربيع الأول: قدم مُحَمَّد بن وَاصل الأحدب شيخ عَرك من بِلَاد الصَّعِيد طَائِعا. وَكَانَ من خَبره أَنه لما نجا وَقت الْهَزِيمَة. وَأخذت أَمْوَاله وَحرمه ترامى بعد عود الْعَسْكَر على الشَّيْخ المعتقد أَبى الْقَاسِم الطحاوى فَكتب الشَّيْخ فِي أمره إِلَى الْأَمِير شيخو يسال الْعَفو عَنهُ وتأمينه. على أَنه يقوم بدرك الْبِلَاد ويلتزم بتحصيل جَمِيع غلالها وأموالها وَمَا يحدث بهَا من الْفساد فَإِنَّهُ مواخذ بِهِ وَأَنه يُقَابل نواب السُّلْطَان من الْكَشَّاف والولاة فَكتب لَهُ أَمَان سلطاني وكوتب بتطييب خاطره وحضوره أمنا فَسَار وَمَعَهُ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم. فَأكْرم الْأُمَرَاء الشَّيْخ وأكرموا لأَجله الأحدب وَكَانَ دُخُوله يَوْمًا مشهوداً. وتمثل الأحداب بَين يَدي السُّلْطَان. وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان والبسه تَشْرِيفًا وناله من الْأُمَرَاء إنعام كثير وَضمن مِنْهُم دَرك الْبِلَاد على مَا تقدم ذكره فرسم لَهُ بإقطاع. وَعَاد الأحدب إِلَى بِلَاده بعد مَا أَقَامَ نَحْو شهر وَقد البسه السُّلْطَان تَشْرِيفًا ثَانِيًا ثمَّ توجه الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الطَّحَاوِيّ أَيْضا بعد أَيَّام وَكَانَ نُزُوله بزاوية العربان من القرافة فجددها الْأَمِير شيخو تجديداً حسنا. وَفِيه توجه النَّاصِر بن الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن عَائِدًا إِلَى أَبِيه بِمن مَعَه بعد أَرْبَعَة أشهر من قدومه. وَأخذ مَعَه كثير من الصناع والمخايلين والشعبذين والمساخر وأرباب الملاهى وتحفا عديدة قَامَت عَلَيْهِ بأموال جزيلة وأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان والأمراء بِغَيْر نوع من الْهَدَايَا والتحف السّنيَّة والبسوه الْخلْع الجليلة وبالغوا فِي إكرامه. وجهروا لَهُ مَا يحْتَاج اليه من المراكب وَكتب إِلَى وَفِي حادي عشر رَجَب: أفرج عَن الْأَمِير سيف الدّين منجك والأمير عَلَاء الدّين مغلطاي أَمِير أخور. وَكَانَ المعتنى بالأمير منجك الْأَمِير شيخو والمعتنى بالأمير مغلطاي الْأَمِير طاز. فَتوجه اليهما الْأَمِير جنتمر أَخُو طاز وحملهما من الْإسْكَنْدَريَّة فَكَانَ دخولهما يَوْمًا مشهوداً بعد مَا أَقَامَا بسرياقوس عشرَة أَيَّام والتقادم ترد اليهما وتمد لَهما الأسمطة الْعَظِيمَة بالهمة الجليلة فانعما على متسفرهما الْأَمِير جنتمر بسبعة الاف دِينَار.(4/197)
وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بتعذر مسير القوافل من كَثْرَة فَسَاد الْعَرَب وقطعهم الطَّرِيق وَأَن سيف بن فضل تعجز عَن مقاومة عرب فياض بن مهنا وَأَن الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب أخرج مقدما من مقدميه فِي تجريدة لحفظ الطَّرِيق مَعَ بعض الْأُمَرَاء فكبسه الْعَرَب وقاتلوه فَقتل فِي المعركة وَأَن سيف بن فضل عمر بن مُوسَى ابْن مهنا لما الزمهما الْأَمِير أرغون الكاملى نَائِب حلب بتحصيل من قتل الْمَذْكُور ادعوا أَنهم من غير عربهم. وَكَانَ فياض لما كتب اليه بالحضور اعتذر عَن ذَلِك وَالْتزم بدرك الْبِلَاد وكف أَسبَاب الْفساد وَبعث ابْنه إِلَى السُّلْطَان رهينة بِمصْر. فَحَضَرَ سيف وَعمر بقود كَبِير من جمال وخيل فاعتنى الْأَمِير طاز بِسيف ومازال حَتَّى خلعه عَلَيْهِ وعَلى عمر وأستقرا فِي الإمرة. فَتوجه ولد فياض من مصر إِلَى أَبِيه وَأخْبرهُ بذلك فَاشْتَدَّ حنقه وَكثر قطعه الطَّرِيق وعزم على الْمسير إِلَى أَوْلَاد قراجا بن دلغادر وإحضارهم بجمائعهم لأخذ حلب. فانحصر الْأَمِير أرغون الكاملي نَائِب حلب وضاق ذرعه. فَلَمَّا قدم كِتَابه اقْتضى الرَّأْي إرْسَال الْأَمِير جنتمر أخي طاز إِلَى الْأَمِير فياض وكتبت على يَده عدَّة كتب من السُّلْطَان والأمراء بتطمين خاطره وَالْحلف لَهُ الا يتَعَرَّض لَهُ بِسوء. فَركب الْأَمِير جنتمر فِي عشرَة سروج على الْبَرِيد ولقى فياضاً ومازال بِهِ حَتَّى أذعن لَهُ ووكب مَعَه بعد مَا بَالغ فِي إكرامه وَأكْثر من التقادم السّنيَّة لَهُ وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة فِي عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِيه أَخذ الْأَمِير صرغتمش من دَار ابْن زنبور بِالْقَاهِرَةِ مَا كَانَ بهَا من الرخام فَوجدَ فِي زواياها من أواني الصيني والنحاس وَمن القماش وَغَيره شَيْئا كثيرا. وَفِيه قدم عدَّة من النَّصَارَى بالغربية ووقفوا بدار الْعدْل من القلعة للسُّلْطَان وسالوا إِعَادَة كَنِيسَة النحريرية الَّتِي هدمها الْعَامَّة وعملوها مَسْجِدا. فَلم يجابوا لذَلِك وطردوا بعد ضَربهمْ وَكتب إِلَى متولى النَّاحِيَة أَن يعْمل لهَذَا الْمَسْجِد مناراً يُؤذن فِيهِ للصلوات الْخمس وتجدد عمَارَة الْمَسْجِد فامتثل ذَلِك. وَفِي شهر ربيع الآخر: وقفت أَحْوَال ديوانى الْخَاص والدولة حَتَّى إِن السُّلْطَان كَانَ إِذا استدعى بِشَيْء من الْخَاص يَقُول بدر الدّين نَاظر الْخَاص: مَا تمّ حَاصِل وَلَيْسَ لي مَال. وَتَأَخر من الدولة مَا يصرف للحوالج كاشية وأرباب الْمُرَتّب ونفقات مماليك السُّلْطَان. فَكثر الْإِنْكَار على بدر الدّين نَاظر الْخَاص وأسمعه الْأُمَرَاء مَا يكره فالتجأ إِلَى الْأَمِير صرغتمش وَكَانَ يعضده وَذكر لَهُ مَا هُوَ فِيهِ من الْعَجز. فوعده الْأَمِير(4/198)
صرغتمش بتخليصه وَأسر اليه أَن يتمارض فِي بَيته أَيَّامًا حَتَّى يدبر أمره مَعَ السُّلْطَان والأمراء. فَانْقَطع بدر الدّين عَن الْخدمَة وَأظْهر أَنه مَرِيض فَلم يبْق أحد من أهل الدولة حَتَّى عَاده على الْعَادة. ثمَّ بعد أَيَّام انْقَطع الْوَزير الصاحب موفق الدّين أَبُو الْفضل عبد الله بن سعيد الدولة لوعك أَصَابَهُ فتعطلت أشغال السلطنة. وَأخذ الْأَمِير صرغتمش يحدث الْأُمَرَاء فِي إعفاء بدر الدّين نَاظر الْخَاص فاستدعى تَاج الدّين أَحْمد بن الصاحب أَمِين الْملك عبد الله بن غَنَّام وَعرض عَلَيْهِ السُّلْطَان نظر الْخَاص فتمنع تمنعاً زَائِدا فَلم يُوَافقهُ الْأَمِير طاز والبسه التشريف فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشره فولي الْخَاص عوضا عَن بدر الدّين. ثمَّ كَانَ موت الْوَزير موفق الدّين فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشريه فَتعين الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن بيليك المحسنى وَطلب الْأَمِير نَاصِر الدّين لذَلِك فَامْتنعَ أَشد الِامْتِنَاع وَجَرت بَينه وَبَين تَاج الدّين نَاظر الْخَاص مُفَاوَضَة فِي مجْلِس السُّلْطَان سَببهَا أَنه قَالَ: أما ثمَّ من يصلح للوزارة الا الْأَمِير نَاصِر الدّين فحنق مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: مَا يصلح الا أَنْت فَتكون الوزارة مُضَافَة للخاص كَمَا كَانَ من قبلك. فَامْتنعَ تَاج الدّين من ذَلِك وانفض الْمجْلس فَأخذ الْأَمِير طاز بِحسن لناظر الْخَاص التحدث فِي الوزارة ويعده بمساعدته وَهُوَ يَأْبَى. وَفِي أثْنَاء ذَلِك استعفى الْأَمِير شيخو من التحدث فِي أَمر الدولة فتقرر الْحَال على أَن ينْفَرد السُّلْطَان بتدبير دولته من غير أَن يُعَارضهُ أحد فِي ذَلِك ويستبد بالمملكة وَحده كَمَا كَانَ أَبوهُ وَحده. وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء وَسَائِر أهل الدولة بَين يَدي السُّلْطَان وفاوضوه فِي ذَلِك فَوَافَقَ غَرَضه فَإِنَّهُ كَانَ فِي حصر شَدِيد لَيْسَ لَهُ أَمر وَلَا نهى وَلَا تصرف فِي شَيْء من أُمُور الدولة وَهُوَ مَحْجُور عَلَيْهِ مَعَ الْأَمِير شيخو. فقلدوه الْأُمُور والتزموا بِطَاعَتِهِ فِيمَا يرسم بِهِ. فَصَارَ مباشرو الدولة يدْخلُونَ على السُّلْطَان وَينْهَوْنَ لَهُ الْأَحْوَال فيمضيها بأَمْره وَنَهْيه. واختص السُّلْطَان بالأمير طاز وَتقدم اليه أَن ينظر فِي أُمُور الدولة من غير أَن يظْهر ذَلِك. فاشتهر بَين الْأُمَرَاء وَغَيرهم أَن استعفاء الْأَمِير شيخو من التحدث فِي أُمُور الدولة واستقلال السُّلْطَان بِالْأَمر إِنَّمَا هُوَ بتدبير طاز وقيامه فِيهِ مَعَ السُّلْطَان فَإِن السُّلْطَان كَانَ لَهُ ميل كَبِير إِلَى الْأَمِير طاز وشغف بحب أَخِيه جنتمر وَفتن بِهِ وَكَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يخفي على شيخو فَرَأى أَن ترك التحدث فِي الدولة من تِلْقَاء من نَفسه خير من عَزله عَنهُ. فَلَمَّا استبد السُّلْطَان بأَمْره منع الْأَمِير شيخو الْوَزير وناظر الْخَاص وأمثالهما من الدُّخُول اليه وَاسْتَأْذَنَ السُّلْطَان فِي الْإِقَامَة بإصطبله عدَّة أَيَّام ليشْرب دَوَاء. فَخَلا(4/199)
تَاج الدّين نَاظر الْخَاص بالأمير طاز وعرفه كَثْرَة مَا على الدولة من الكلف وَأَنَّهَا لَا تفى بذلك وَقرر مَعَه أَن يوفر من المصاريف جلة. وَكتب تَاج الدّين مَا على الدولة من المصروف فَكَانَت جملَة مَا أطلقهُ الصاحب موفق الدّين لزوجته اتِّفَاق وخدامها وَمن يلوذ بهَا سَبْعمِائة ألف دِرْهَم فِي كل سنة. ثمَّ كتب تَاج الدّين استيمارا بِمَا يَتَرَتَّب صرفه وَأخذ عَلَيْهِ خطّ السُّلْطَان وَعين صهره فَخر الدّين ماجد بن قزوينة لنظر الدولة فَطلب وخلع عَلَيْهِ شريك فَخر الدّين بن السعيد. فَكَانَ المتوفر من معاليم المباشريين جملَة كَثِيرَة فَإِنَّهُ لم يدع مباشراً الا وفر من معلومه نصفه أَو ثُلثَيْهِ وَلم يراع مِنْهُم أحدا لَا من مباشرى الدولة وَلَا مباشرى الْخَاص وَلَا مباشرى الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط وجيع أَعمال الْوَجْه القبلى وَالْوَجْه البحرى. ثمَّ عزل تَاج الدّين كثيرا من مباشرى الْمُعَامَلَات فَإِنَّهُ كَانَ فِي كل مُعَاملَة سِتَّة مباشرين وَأكْثر فَجعل فِي كل مُعَاملَة ثَلَاثَة مباشرين ورتب لكل مِنْهُم نصف مَعْلُوم. ووفر تَاج الدّين معلومه على نظر الْخَاص وباشر الْخَاص بِمَعْلُوم الْجَيْش. فَشَمَلَ هَذَا كل من لَهُ مَعْلُوم فِي بَيت السُّلْطَان من متجر وَغَيره مَا خلا الموقعين والأطباء فَإِن الموقعين عَنى بهم كَاتب السِّرّ عَلَاء الدّين على بن فضل الله وَكَانَ عَظِيما فِي الدولة فَلم يتَعَرَّض تَاج الدّين لشَيْء من معاليمهم وأقرها بكمالها. وَأما الْأَطِبَّاء فاعتنى بهم الْأَمِير طاز فانه أَمِير مجْلِس وهم من تعلقه. وَأما من عدا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ حاصصه على مباشرى صرغتمش وطاز وشيخو فجَاء جملَة المتوفر نَحْو سَبْعمِائة ألف دِرْهَم فِي كل سنة. فشق ذَلِك على الْأُمَرَاء وكرهوا قطع الأرزاق وتشاءموا بِهَذَا الْفِعْل. واشتهر ذَلِك بَين النَّاس فَتَنَكَّرت قُلُوبهم وَكثر دعاؤهم وابتهالهم إِلَى الله تَعَالَى. ثمَّ إِن تَاج الدّين اتهمَ بدر الدّين نَاظر الْخَاص بِأَنَّهُ حوى مَالا كثيرا من جِهَة تَرِكَة ابْن زنبور ومازال بِهِ حَتَّى حمل من بَيته وَهُوَ مَرِيض إِلَى القلعة والزم بِحمْل مَال كَبِير فَحمل بدر الدّين المَال مُدَّة أَيَّام وَمَات يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشرى جُمَادَى الأولى فِي قاعة الصاحب بالقلعة بعد موت الصاحب موفق الدّين بِشَهْر ويومين. فَقَامَ الْأَمِير صرغتمش فِي مساعدته وَمنع من الحوطة على موجوده وَكَانَ بدر الدّين قد خلف سَعَادَة جليلة مِمَّا حصله من جِهَة ابْن زنبور. وَفِي سادس عشر جُمَادَى الأولى: قدم ابْن رَمَضَان التركمانى المستقر عوضا عَن قراجا بن دلغادر وَقدم للسُّلْطَان والأمراء ألف أكديش. فرسم لَهُ بالإمرة على التركمان وأنعم لَهُ بالإقطاع وأنعم على عدَّة من أَصْحَابه بإمرات مَا بَين عشرات وطبلخاناه وَعَاد إِلَى بِلَاده.(4/200)
وَفِيه رسم بِعَمَل أوراق بالرزق الأحباسيه الَّتِي فِي إقطاعات الْأُمَرَاء وَفِي غير ذَلِك من أَرَاضِي مصر مِمَّا هِيَ مَوْقُوفَة على الْكَنَائِس والديارات فَجَاءَت خَمْسَة وَعشْرين ألف فدان. فأنعم وَفِي هَذِه السّنة: كَانَت وَاقعَة النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا قد تعاظموا وتباهوا بالملابس الفاخرة وَمن الفرجيات المصقولة والبقيار الَّذِي يبلع ثمنه ثَلَاثمِائَة دِرْهَم والفرط الَّتِي تلفهَا عبيدهم على رؤوسهم. بمبلغ ثَمَانِينَ درهما الفوطة. وركبوا الْحمير الفره ذَات الْأَثْمَان الْكَثِيرَة وَمن ورائهم عبيدهم على الأكاديش. وبنوا الْأَمْلَاك الجليلة فِي مصر والقاهرة ومتنزهاتها واقتنوا الْجَوَارِي الجميلة من الأتراك والمولدات واستولوا على دواوين السُّلْطَان والأمراء وَزَادُوا فِي الْحمق والرقاعة وتعدوا طورهم فِي الترفع والتعاظم. وَأَكْثرُوا من أذي الْمُسلمين وإهانتهم إِلَى أَن مر بَعضهم يَوْمًا على الْجَامِع الْأَزْهَر بِالْقَاهِرَةِ وَهُوَ رَاكب بخف ومهماز وبقيار طرح سكندرى على رَأسه وَبَين يَدَيْهِ طرادون يبعدون النَّاس عَنهُ وَخَلفه عدَّة عبيد على أكاديش وَهُوَ فِي تعاظم كَبِير. فَوَثَبَ بِهِ طَائِفَة من الْمُسلمين وأنزلوه عَن فرسه وهموا بقتْله فخلصه النَّاس من أَيْديهم. وتحركت النَّاس فِي أَمر النَّصَارَى وماجوا وانتدب عدَّة من أهل الْخَيْر لذَلِك وصاروا إِلَى الْأَمِير طاز الشريف أَبى الْعَبَّاس الصفراوي وبلغوه مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِمَّا يُوجِبهُ نقض عَهدهم وانتدبوه لنصرة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين. فانتفض الْأَمِير طاز لذَلِك وَحدث الاصرين شيخو وصرغتمش وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء فِي ذَلِك بَين يَدي السُّلْطَان فوافقوه جَمِيعًا وَكَانَ لَهُم يَوْمئِذٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَهله عناية. ورتبوا قصَّة على لِسَان الْمُسلمين قُرِئت بدار الْعدْل على السُّلْطَان بِحَضْرَة الْأُمَرَاء والقضاة وَعَامة أهل الدولة. فرسم بِعقد مجْلِس للنَّظَر فِي هَذَا الْأَمر ليحمل النَّصَارَى وَالْيَهُود على الْعَهْد الَّذِي تقرر فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. وَطلب بطرك النَّصَارَى وَرَئِيس الْيَهُود وَحَضَرت قُضَاة الْقُضَاة وعلماء الشَّرِيعَة وأمراء الدولة وجىء بالبطرك والرئيس فوقفا على أرجلهما وَقَرَأَ العلائى على ابْن فضل الله كَاتب السِّرّ نُسْخَة الْعَهْد الَّذِي بَيْننَا وَبَين أهل الذِّمَّة بعد مَا الزموا بإحضاره وَهُوَ الا يحدثوا فِي الْبِلَاد الإسلامية وأعمالها ديراً وَلَا كَنِيسَة وَلَا صومعة وَلَا يجددوا مِنْهَا مَا خرب وَلَا يمنعوا من كنائسهم الَّتِي عَاهَدُوا عَلَيْهَا أَن ينزل بهَا أحد من الْمُسلمين ثَلَاث لَيَال يطعمونه. وَلَا يكتموا غشاً للْمُسلمين وَلَا يعلمُوا أَوْلَادهم الْقُرْآن وَلَا يمنعوهم من الْإِسْلَام إِن(4/201)
أَرَادوا وَإِن أسلم أحدهم لَا يردوه. وَلَا يتشبهوا بِشَيْء من ملابس الْمُسلمين ويلبس النَّصْرَانِي مِنْهُم الْعِمَامَة الزَّرْقَاء عشر أَذْرع فَمَا دونهَا واليهودي الْعِمَامَة الصَّفْرَاء كَذَلِك وَيمْنَع نِسَاؤُهُم من التَّشَبُّه بنساء الْمُسلمين. وَلَا يتسموا بأسماء الْمُسلمين وَلَا يكتنوا بكناهم وَلَا يتلقبوا بالقابهم وَلَا يركبُوا على سرج وَلَا يتقلدوا سَيْفا وَلَا يركبُوا الْخَيل وَالْبِغَال ويركبون الْحمير عرضا بالكف من غير تَزْيِين وَلَا قيمَة عَظِيمَة لَهَا. وَلَا ينقشوا خواتمهم بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَن يجزوا مقادم رؤوسهم وَالْمَرْأَة من النَّصَارَى تلبس الْإِزَار الْمَصْبُوغ أَزْرَق وَالْمَرْأَة من الْيَهُود تلبس الْإِزَار الْمَصْبُوغ بالأصفر. وَلَا يدْخل أحد مِنْهُم الْحمام الا بعلامة مُمَيزَة عَن الْمُسلم فِي عُنُقه من نُحَاس أَو حَدِيد أَو رصاص أَو غير ذَلِك وَلَا يستخدموا مُسلما فِي أَعْمَالهم. وتلبس الْمَرْأَة السائرة خُفَّيْنِ أَحدهمَا أسود وَالْآخر أَبيض وَلَا يجاوروا الْمُسلمين بموتاهم وَلَا يرفعوا بِنَاء قُبُورهم وَلَا يعلوا على الْمُسلمين على الْمُسلمين فِي بِنَاء وَلَا يضْربُوا بالناقوس الا ضربا خَفِيفا وَلَا يرفعوا أَصْوَاتهم فِي كنائسهم. وَلَا يشتروا من الرَّقِيق مُسلما وَلَا مسلمة وَلَا مَا جرت عَلَيْهِ سِهَام الْمُسلمين وَلَا يمشوا وسط الطَّرِيق توسعة للْمُسلمين وَلَا يفتنوا مُسلما عَن دينه وَلَا يدلوا على عورات الْمُسلمين. وَمن زنى بِمسلمَة قتل وَمن خَالف ذَلِك فقد حل مِنْهُ مَا يحل من أهل المعاندة والشقاق. وكل من مَاتَ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والسامرة ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى يحْتَاط عَلَيْهِ ديوَان الْمَوَارِيث الحشرية بالديار المصرية وأعمالها وَسَائِر الممالك الإسلامية إِلَى أَن يثبت ورثته مَا يستحقونه بِمُقْتَضى الشَّرْع الشريف. فَإِذا اسْتحق يعطونه. بِمُقْتَضَاهُ وَتحمل الْبَقِيَّة لبيت مَال الْمُسلمين وَمن مَاتَ مِنْهُم وَلَا وَارِث لَهُ يحمل موجوده لبيت المَال. ويجرى على موتاهم الحوطة من ديوَان الْمَوَارِيث ووكلاء بَيت المَال مجْرى من يَمُوت من الْمُسلمين إِلَى أَن تبين مواريثهم. وَكَانَ هَذَا الْعَهْد قد كتب فِي رَجَب سنة سَبْعمِائة فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون فَلَمَّا انْتهى العلائى على بن فضل الله كَاتب السِّرّ من قِرَاءَته تقلد بطرك النَّصَارَى وديان الْيَهُود حكم ذَلِك والتزما بِمَا فِيهِ وأجابا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة. ثمَّ جال الحَدِيث فِي أَمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى وإعادة وقائعهم الْمَاضِيَة وَأَنَّهُمْ بعد التزامهم أَحْكَام الْعَهْد يعودون إِلَى مَا نهوا عَنهُ. فاستقر الْحَال على أَنهم يمْنَعُونَ من الخدم فِي جَمِيع الْأَعْمَال وَلَا يستخدم نَصْرَانِيّ وَلَا يَهُودِيّ فِي ديوَان السُّلْطَان وَلَا فِي شَيْء من دواوين الْأُمَرَاء وَلَو تلفظ بِالْإِسْلَامِ على أَن أحدا مِنْهُم لَا يكره على(4/202)
الْإِسْلَام فَإِن أسلم بِرِضَاهُ لَا يدْخل منزله وَلَا يجْتَمع بأَهْله الا إِن اتَّبعُوهُ فِي الْإِسْلَام وَيلْزم أحدهم إِذا أسلم. بملازمة الْمَسَاجِد والجوامع. وَأَن تكون عِمَامَة النَّصْرَانِي واليهودي عشر أَذْرع ويلزموا بِزِيَادَة صبغها والا يستخدموا مُسلما وَأَن يركبُوا الْحمير بالآكل وَإِذا مروا بِجَمَاعَة من الْمُسلمين نزلُوا عَن دوابهم وَأَن يكون قيمَة حمَار أحدهم أقل من مائَة دِرْهَم وَأَن يلجأوا إِلَى أضيق الطّرق وَلَا يكرموا فِي مجْلِس وَأَن تلبس نِسَاؤُهُم ثيابًا مُغيرَة الزي إِذا مررن فِي الطرقات حَتَّى أخفافهن تكون فِي لونين وَلَا يدخلن حمامات الْمُسلمين مَعَ المسلمات. وَكتب بذلك كُله مراسيم سلطانية سَار بهَا الْبَرِيد إِلَى الْبِلَاد الإسلامية فَكَانَ تاريخها ثَانِي عشري جُمَادَى الْآخِرَة وقرىء مِنْهَا مرسوم. بِمَجْلِس السُّلْطَان فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشريه. وَركب من الْغَد يَوْم الْجُمُعَة سادس عشريه الْأَمِير سيف الدّين وقرىء مرسوم بِجَامِع عَمْرو من مَدِينَة مصر وَآخر بِجَامِع الْأَزْهَر من الْقَاهِرَة فَكَانَ يَوْمًا عَظِيما هَاجَتْ فِيهِ حفاظ الْمُسلمين وتحركت سواكنهم لما فِي صُدُورهمْ من الحنق على النَّصَارَى ونهضوا من ذَلِك الْمجْلس بعد صَلَاة الْجُمُعَة وثاروا باليهود وَالنَّصَارَى وأمسكوهم من الطرقات وتتبعوهم فِي الْمَوَاضِع وتناولوهم بِالضَّرْبِ ومزقوا مَا عَلَيْهِم من الثِّيَاب وأكرهوهم على الْإِسْلَام فيضطرهم كَثْرَة الضَّرْب والإهانة إِلَى التَّلَفُّظ بِالشَّهَادَتَيْنِ خوف الْهَلَاك. فَإِنَّهُم زادوا فِي الْأَمر حَتَّى أضرموا النيرَان وحملوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى والقوهم فِيهَا. فاختفوا فِي بُيُوتهم حَتَّى لم يُوجد مِنْهُم أحد فِي طَرِيق وَلَا ممر وَشَرِبُوا مياه الْآبَار لِامْتِنَاع السقائين من حمل المَاء من النّيل اليهم. فَلَمَّا شنع الْأَمر نُودي فِي الْقَاهِرَة ومصر الا يُعَارض أحد من النَّصَارَى أَو الْيَهُود فَلم يرجِعوا عَنْهُم. وَحل بهم من ذَلِك بلَاء شَدِيد كَانَ أعظمه نكاية لَهُم أَنهم منعُوا من الخدم بعد إسْلَامهمْ فَإِنَّهُم كَانُوا فِيمَا مضى من وقائعهم إِذا منعُوا من ذَلِك كَادُوا الْمُسلمين لإِظْهَار الْإِسْلَام ثمَّ بالغوا فِي إِيصَال الأذي لَهُم بِكُل طَرِيق بِحَيْثُ لم يبْق مَانع يمنعهُم لِأَنَّهُ صَار الْوَاحِد مِنْهُم فِيمَا يظْهر مُسلما وَيَده مبسوطة فِي الْأَعْمَال وَأمره نَافِذ وَقَوله ممتثل. فَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ وتعطلوا عَن الخدم فِي الدِّيوَان وَامْتنع الْيَهُود وَالنَّصَارَى من تعاطى صناعَة الطِّبّ. وَبدل الأقباط ذَلِك فَلم يجابوا إِلَيْهِ.(4/203)
ثمَّ لم يكف النَّاس من النَّصَارَى مَا مر بهم حَتَّى تسلطوا على كنائسهم ومساكنهم الجليلة الَّتِي رفعوها على أبنية الْمُسلمين فهدموها. فازداد النَّصَارَى وَالْيَهُود خوفًا على خوفهم وبالغوا فِي الاختفاء حَتَّى لم يظْهر مِنْهُم أحد فِي سوق وَلَا فِي غير. ثمَّ وَقعت قصَص على لِسَان الْمُسلمين بدار الْعدْل تَتَضَمَّن أَن النَّصَارَى استجدوا فِي كنائسهم عُمَّال ووسعوا بناءها وَتجمع من النَّاس عدد لَا ينْحَصر واستغاثوا بالسلطان فِي نصْرَة الْإِسْلَام وَذَلِكَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر رَجَب. فرسم لَهُم أَن يهدموا الْكَنَائِس المستجدة فنزلوا يدا وَاحِدَة وهم يضجون. وَركب الْأَمِير عَلَاء الدّين على بن الكوراني والى الْقَاهِرَة ليكشف عَن صِحَة مَا ذَكرُوهُ فَلم يتمهلوا بل هجموا على كَنِيسَة بجوار قناطر السبَاع وكنيسة للأسرى فِي طَرِيق مصر ونهبوهما وَأخذُوا مَا فيهمَا من الأخشاب والرخام وَغير ذَلِك وَوَقع النهب فِي دير بِنَاحِيَة بولاق التكرور. وهجموا على كنائس مصر والقاهرة وأخربوا كَنِيسَة بحارة الفهادين من الجوانية بِالْقَاهِرَةِ. وتجمعوا لتخريب كَنِيسَة بالبندقانيين من الْقَاهِرَة فَركب وَالِي الْقَاهِرَة فَركب وَالِي الْقَاهِرَة ومازال حَتَّى ردهم عَنْهَا وَتَمَادَى هَذَا الْحَال حَتَّى عجزت الْحُكَّام عَن كفهم. فَلَمَّا كَانَ فِي أخريات رَجَب بلغ الْأَمِير صرغتمش أَن بِنَاحِيَة شبْرًا الْخيام كَنِيسَة فِيهَا أصْبع الشَّهِيد الَّتِي ترمى كل سنة فِي النّيل فَتحدث مَعَ السُّلْطَان فِيهِ. فرسم بركوب الْحَاجِب والوالي إِلَى هَذِه الْكَنِيسَة وهدمها فهدمت ونهبت حواصلها وأخد الصندوق الَّذِي فِيهِ أصْبع الشَّهِيد وأحضر إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بالميدان الْكَبِير قد أَقَامَ بِهِ كَمَا يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فأضرمت النَّار وأحرق الصندوق. بِمَا فِيهِ ثمَّ ذرى رماده فِي الْبَحْر. وَكَانَ يَوْم رمى هَذَا الْأصْبع فِي النّيل من الْأَيَّام المشهودة فَإِن النَّصَارَى كَانُوا يَجْتَمعُونَ من جَمِيع الْوَجْه البحري وَمن الْقَاهِرَة ومصر فِي نَاحيَة شبْرًا وتركب النَّاس المراكب فِي النّيل وتنصب الخيم الَّتِي يتَجَاوَز عَددهَا الْحَد فِي الْبر وتنصب الْأَسْوَاق الْعَظِيمَة وَيُبَاع من الْخمر مَا يودون بِهِ مَا عَلَيْهِم من الْخراج فَيكون من المواسم القبيحة. وَكَانَ المظفر بيبرس قد أبْطلهُ كَمَا ذكره فأكذب الله النَّصَارَى فِي قَوْلهم أَن النّيل لَا يزِيد مَا لم يرم فِيهِ أصْبع الشَّهِيد وَزَاد تِلْكَ السّنة حَتَّى بلغ إِلَى أصْبع من ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا. ثمَّ سعت الأقباط حَتَّى أُعِيد رميه فِي الْأَيَّام الناصرية كَمَا تقدم فأراح الله مِنْهُ بإحراقه. وَأخذ عباد الصَّلِيب فِي الإرجاف بِأَن النّيل لَا يزِيد فِي هَذِه السّنة فاظهر الله تَعَالَى قدرته وَبَين للنَّاس كذبهمْ بِأَن زَاد النّيل زِيَادَة لم يعْهَد مثلهَا كَمَا سَيَأْتِي ذكره.(4/204)
وَكَثُرت الْأَخْبَار من الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري بِدُخُول النَّصَارَى فِي الْإِسْلَام ومواظبتهم الْمَسَاجِد وحفظهم لِلْقُرْآنِ حَتَّى أَن مِنْهُم من ثبتَتْ عَدَالَته وَجلسَ مَعَ الشُّهُود. فَإِنَّهُ لم يبْق فِي جَمِيع أَعمال مصر كلهَا قبليها وبحريها كَنِيسَة حَتَّى هدمت وَبنى مَوَاضِع كثير مِنْهَا مَسَاجِد. فَلَمَّا عظم الْبلَاء على النَّصَارَى وَقلت أَرْزَاقهم رَأَوْا أَن يدخلُوا فِي الْإِسْلَام. فَفَشَا الْإِسْلَام فِي عَامَّة نَصَارَى أَرض مصر حَتَّى أَنه أسلم من مَدِينَة قليوب خَاصَّة فِي يَوْم وَاحِد أَرْبَعمِائَة وَخَمْسُونَ نَفرا وَمِمَّنْ أسلم فِي هَذِه الْحَادِثَة الشَّمْس القسى والخيصم. وَحمل كثير من النَّاس فعلهم هَذَا على أَنه من جملَة مَكْرهمْ لِكَثْرَة مَا شنع الْعَامَّة فِي أَمرهم فَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة أَيْضا من حوادث مصر الْعَظِيمَة. وَمن حِينَئِذٍ اخْتلطت الْأَنْسَاب بِأَرْض مصر فنكح هَؤُلَاءِ الَّذين أظهرُوا الْإِسْلَام بالأرياف المسلمات واستولدوهن ثمَّ قدم أَوْلَادهم إِلَى الْقَاهِرَة وَصَارَ مِنْهُم قُضَاة وشهود وعلماء وَمن عرف سيرتهم فِي أنفسهم وَفِيمَا ولوه من أُمُور الْمُسلمين تفطن لما لَا يُمكن التَّصْرِيح بِهِ. وَفِي يَوْم السبت ثَانِي عشري رَجَب: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان الْكَبِير المطل على النّيل بعد كسر الخليج من الْعَادة وَعَاد من أَخّرهُ إِلَى القلعة. ثمَّ ركب السُّلْطَان السبت الثَّانِي إِلَى الميدان. وأقامبه وَمَعَهُ الْأَمِير شيخو والأمير طاز والأمير صرغتمش وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء الخاصكية. وَعمل السُّلْطَان بِهِ الْخدمَة فِي يومي الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس كَمَا تعْمل بالإيوان فِي القلعة وَلم يتقدمه أحد إِلَى مثل هَذَا. مِنْهُم عَالم عَظِيم ونصبت هُنَاكَ أسواق كَثِيرَة فصاروا يَخُوضُونَ فِيمَا لَا يعنيهم ويتكلمون فِي اللَّيْل بِكُل فَاحِشَة فِي حق كبراء الدولة وَيَقُولُونَ ليسمع السُّلْطَان: قُم اطلع قلعتك مَا جرت بذا عَادَة واحترس على نَفسك وَإِيَّاك تأمن لأحد. فَلَمَّا كثر هَذَا وَشبهه من كَلَامهم وسَمعه مِنْهُم الْأُمَرَاء اشْتَدَّ حنقهم وَأمرُوا مماليكهم فَرَكبُوا وأوقعوا بهم ضربا بالدبابيس والعصى فَفرُّوا هاربين والقوا أنفسهم فِي الْبَحْر وَتَفَرَّقُوا فِي كل جِهَة. فَقبض مِنْهُم جمَاعَة وَأَسْلمُوا لوالى الْقَاهِرَة ورسم لَهُ بِأَن يتتبع غوغاء الْعَامَّة حَيْثُ كَانُوا فهجم أماكنهم وَقبض على جمَاعَة كَثِيرَة وسجنهم. فاظهر النَّصَارَى الشماتة بهم وتجاهروا بِأَن هَذَا عُقُوبَة من الله لَهُم بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهم. فشق هَذَا على الْأُمَرَاء وَأمرُوا بِأَن يفرج عَنْهُم حَتَّى لَا يشمت بهم أهل الْكفْر فأطلقوا وَخرج عدَّة مِنْهُم إِلَى الأرياف.(4/205)
وَركب السُّلْطَان فِي يَوْم السبت ثَالِث شعْبَان - بعد مَا لعب بالكرة على عَادَته - إِلَى القلعة. فَلَمَّا اسثقر بهَا حسن لَهُ نَاظر الْخَاص أَن ينْقل مَا بخزانة الْخَاص من التحف الَّتِي قدمهَا النواب وَغَيرهم إِلَى دَاخل الدَّار فَحملت كلهَا. ثمَّ كتب نَاظر الْخَاص أَسمَاء جمَاعَة لَهُم أَمْوَال من جُمْلَتهمْ خَالِد بن دَاوُد مقدم الْخَاص وأغرى السُّلْطَان بِهِ. فَأخذ الْأَمِير قجا أَمِير شكار فِي الدّفع عَن خَالِد وَكَانَ يعْنى بِهِ ثمَّ أعلم خَالِدا بِمَا كَانَ فالتزم لَهُ خَالِد أَن يحصل للسُّلْطَان أَمْوَالًا عَظِيمَة من ودائع ابْن زنبور أَضْعَاف مَا يطْلب مِنْهُ على أَن يُعْفَى من تقدمة الْخَاص وينعم عَلَيْهِ بإقطاع وَيبقى من جملَة الأجناد فأتقن لَهُ أَمِير شكار ذَلِك مَعَ السُّلْطَان فَأجَاب السُّلْطَان سُؤَاله واستدعى خَالِد والبسه الكلفتاه ومكنه مِمَّا يُرِيد. فَنزل خَالِد وَقبض على جمَاعَة من الزام ابْن زنبور فدلوه على صندوق قد أودع عِنْد قاضى الْحَنَفِيَّة بالجيزة فَركب اليه وَأَخذه مِنْهُ فَوجدَ فِيهِ مصاغاً وزراكش. فَأخذ خَالِد فِي تتبع حَوَاشِي ابْن زنبور حَتَّى أَخذ مِنْهُم مَا ينيف على مائَة ألف دِينَار فاشتكى نَاظر الْخَاص من فعله نكاية بَالِغَة. فَلَمَّا كَانَ فِي شهر رَمَضَان خرج السُّلْطَان إِلَى نَاحيَة سرياقوس على الْعَادة وَمَعَهُ والدته وحريمه وَجَمِيع الْأُمَرَاء وَغَيرهم من أهل الدولة وَتَأَخر الْأَمِير شيخو بإصطبله لوعك بِهِ. فَكثر لَهو السُّلْطَان ولعبه وشغفه بالأمير جنتمر حَتَّى أفرط وَجمع عَلَيْهِ الْأَمِير قجا أَمِير شكار وأخوته. وَمَال السُّلْطَان إِلَى جِهَة الْأَمِير طاز وَأعْرض عَن الْأَمِير شيخو والأمير صرغتمش. وَصَارَ يركب النّيل فِي اللَّيْل ويستدعى أَرْبَاب الصَّنَائِع من الطباخين والخراطين والقزازين وَنصب لَهُ نول قزازة وَعمل هَذِه الْأَعْمَال بِيَدِهِ فَكَانَ إِذا رأى صناعَة من الصناعات عَملهَا فِي أيسر زمن بِيَدِهِ. وَعمل لخوند قطلوبك أمه مهما طبخ فِيهِ الطَّعَام بِيَدِهِ وَعمل لَهَا جَمِيع مَا يعْمل فِي الموكب السلطاني ورتب لَهَا الخدام والجواري مَا بَين حمدارية وسقاة وَمِنْهُم من حمل الغاشية والقبة وَالطَّرِيق وأركبها فِي الحوش بزِي الْملك وهيئة السلطنة. وخلع وَأنْفق ووهب شَيْئا كثيرا من المَال. ثمَّ شدّ فِي وَسطه فوطة ووقف فطبخ الطَّعَام فِي هَذَا المهم بِنَفسِهِ وَمد السماط بَين يَديهَا بِنَفسِهِ فَكَانَ مهما يخرج عَن الْحَد فِي كَثْرَة المصروف فَأنْكر ذَلِك الْأَمِير شيخو وكتم مَا فِي نَفسه. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان فِي آخر الشَّهْر من سرياقوس إِلَى القلعة وَقد بلغ شيخو أَن السُّلْطَان قد اتّفق مَعَ إخْوَة طاز على أَن يقبض عَلَيْهِ وعَلى صرغتمش يَوْم الْعِيد. وَكَانَ(4/206)
طاز قد توجه إِلَى الْبحيرَة فِي هَذِه الْأَيَّام بعد مَا قرر مَعَ السُّلْطَان مَا ذكر فَركب السُّلْطَان فِي يَوْم الْأَحَد أول شَوَّال لصَلَاة الْعِيد فِي الإصطبل على الْعَادة وَقرر مَعَ كلتاي وجنتمر واصر عمر مَا يَفْعَلُونَهُ وَأمر بِمِائَة فرس فشدت وأوقفت فَلم يحضر شيخو صَلَاة الْعِيد وَكَانَ قد بلغه جَمِيع مَا تقرر فَبَاتُوا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ على حذر وَأَصْبحُوا وَقد اجْتمع مَعَ الْأَمِير شيخو من الْأُمَرَاء صرغمتش وطقطاى وَمن يلوذ بهم وركبوا إِلَى تَحت الطبلخاناه ورسموا للاصر علم بِضَرْب الكوسات فَضربت حَرْبِيّا. فَركب جَمِيع الْعَسْكَر تَحت القلعة بِالسِّلَاحِ وَصعد الْأَمِير تنكربغا والأمير أسنبغا المحمودي إِلَى القلعة وقبضا على السُّلْطَان وسجناه مُقَيّدا فَزَالَ ملكه فِي أقل من سَاعَة وَصعد الْأَمِير شيخو وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء إِلَى القلعة وأقامت أطلابهم على حَالهَا تَحت القلعة. وَقبض الْأَمِير شيخو على إخْوَة الْأَمِير طاز وَاسْتَشَارَ فِيمَن يقيمه للسسلطة وَصرح هُوَ وَمن مَعَه بخلع الْملك الصَّالح صَالح فَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام فسبحان من لَا يَزُول ملكه. السُّلْطَان الْملك النَّاصِر حسن بن مُحَمَّد بن قلاوون الالفي وَلما قبض على الْملك الصَّالح وخلع اقْتضى رأى الْأَمِير شيخو - وَسَائِر الْأُمَرَاء - إِعَادَة السُّلْطَان حسن لما كَانَ يبلغهم عَنهُ من ملازمته فِي مُدَّة حَبسه للصلوات الْخمس والإقبال على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ حَتَّى إِنَّه كتب بِخَطِّهِ كتاب دَلَائِل النُّبُوَّة للبيهقي.(4/207)
فاستدعوا الْخَلِيفَة وقضاة الْقُضَاة وأحضروا السُّلْطَان من محبسه وأركبوه بشعار المملكة وَمَشى الْأُمَرَاء كلهم وَسَائِر أَرْبَاب الدولة فِي ركابه حَتَّى جلس على تخت الْملك وَبَايَعَهُ الْخَلِيفَة فقبلوا لَهُ الأَرْض على الْعَادة وَذَلِكَ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي شهر شَوَّال. وَبَات الْأُمَرَاء فِي الأشرفية من القلعة. وَأرْسل الْأَمِير صرغتمش والأمير تقطاى الدوادار إِلَى الْأَمِير طاز ليخبراه. مِمَّا وَقع فصارا اليه ولقياه بالطرانة وَقد رَجَعَ. وبلغه الْخَبَر فعرفاه مَا كَانَ فِي غيبته وأقبلا مَعَه إِلَى حَيْثُ أَرَادَا تَعديَة النّيل فَأرْسل الله ريحًا عاصفاً منعت المعادى من الْمسير. وَنزل الْأَمِير طاز بِالْمَدْرَسَةِ المعزية ليفطر فَإِنَّهُ كَانَ صَائِم. وَبلغ إخْوَته وَمن يلوذ بِهِ مَجِيئه فَأخذُوا فِي تَدْبِير أُمُورهم فَلم يَجدوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا لاحتراز الْأَمِير شيخو مِنْهُم وَالتَّوْكِيل بهم. الا أَن الْأَمِير كلتا ركب فِي عدَّة من مماليكه - ومماليك أَخِيه الْأَمِير طاز - يُرِيد ملتقاه فَأنْكر شيخو ذَلِك. وَاتفقَ أَن مماليكه ظفروا. بمملوكين من أَصْحَاب كلتا لابسين وأحضروهما إِلَى شيخو. فَركب الْأَمِير بلجك فِي عدَّة من مماليكه والتقاه بعد الْعَصْر عِنْد بَاب اصطبل طاز فَلم يطق محاربته. لِكَثْرَة جمعه فَرجع فَرَمَوْهُ بالنشاب وَسَارُوا إِلَى لِقَاء طاز. وَبعث الْأَمِير شيخو. بمماليك كل من الاصرين صرغتمش وتقطاى ليلتقوهما فجدوا فِي الْمسير حَتَّى لقوهما عِنْد الرصد بعد الْمغرب وهما مَعَ الْأَمِير طاز. فَمَا هُوَ الا أَن أَتَت أطلاب الاصرين رفس كل مِنْهُمَا فرسه ودكس من جَانب طاز وَصَارَ فِي طلبه بَين مماليكه فَإِنَّهُمَا كَانَا لما رَأيا مماليك كلتا قد أَقبلُوا إِلَى لِقَاء طاز وهم ملبسين خافا على أَنفسهمَا. وَفِي الْحَال وَقعت الضجة وَلم يبْق الا وُقُوع الْحَرْب. فتفرقت(4/208)
مماليك طاز عَنهُ لقلَّة عَددهمْ فَإِن الأطلاب صَارَت تتلاحق من قبل الْأَمِير شيخو شَيْئا بعد شَيْء فَطلب طاز أَيْضا نجاة نَفسه وَولى بفرسه فَلم يعرف أَيْن يذهب. وَأَقْبَلت الْأُمَرَاء إِلَى الْأَمِير شيخو فأركب الْأَمِير قطلوبغا الطرخانى فِي جمَاعَة من الْأُمَرَاء لحراسة الطرقات فَتَفَرَّقُوا فِي عدَّة جِهَات وَبَات بَقِيَّة الْأُمَرَاء فِي الأشرفية من القلعة ووقفت عدَّة وافرة تَحت القلعة. وَبَات السلطات والأمير شيخو على بَاب الإصطبل فَكَانُوا طول ليلتهم فِي أَمر مريج وظلوا يَوْم الْخَمِيس وَلَيْلَة الْجُمُعَة كَذَلِك. فَفِي أثْنَاء لَيْلَة الْجُمُعَة حضر الْأَمِير تقطاى الدوادار - وصحبته الْأَمِير طاز - إِلَى عِنْد الْأَمِير شيخو. وَكَانَ طاز قد التجأ إِلَى بَيت تقطاى فَإِن أُخْت طاز كَانَت تَحْتَهُ فَقَامَ اليه الْأَمِير شيخو وعانقه وَبكى بكاء كثيرا وتعاتبا وَأقَام عِنْده ليلته تِلْكَ. وَركب بِهِ يَوْم الْجُمُعَة إِلَى القلعة فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان وَطيب خاطره ورسم لَهُ بنيابة حلب عوضا عَن الْأَمِير أرغون الكاملى. فَلبس طاز التشريف فِي يَوْم السبت سابعه وَسَار من يَوْمه وَمَعَهُ الْأَمِير شيخو وصرغتمش وَجَمِيع الْأُمَرَاء لوداعه فَسَالَ أَن تكون إخْوَته صحبته فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وأخرجوا اليه بِحَيْثُ لم يتَأَخَّر عَنهُ أحد من حَاشِيَته وَعَاد الْأُمَرَاء وَمضى لمحل نيابته. وسجن الْملك الصَّالح صَالح حَيْثُ كَانَ أَخُوهُ الْملك النَّاصِر حسن مسجوناً. وَمن غَرِيب مَا وَقع - مِمَّا فِيهِ أعظم مُعْتَبر - أَنه عمل الطَّعَام للسُّلْطَان الْملك الصَّالح ليمد بَين يَدَيْهِ على الْعَادة وَعمل الطَّعَام للناصر حسن ليأكله فِي محبسه فاتفق خلع الصَّالح فِي أق من سَاعَة وسجنه وَولَايَة أَخِيه حسن السلطنة عوضه فَمد السماط بِالطَّعَامِ الَّذِي عمل ليأكله الصَّالح فَأَكله حسن فِي دست مَمْلَكَته وَأدْخل الطَّعَام - الَّذِي عمل لحسن ليأكله فِي محبسه - على الصَّالح فَأَكله فِي السجْن الَّذِي كَانَ أَخُوهُ حسن فِيهِ. فسبحان محيل الْأَحْوَال لَا اله الا هُوَ. وفيهَا كَانَ الْقَبْض على تَاج الدّين أَحْمد بن الصاحب أَمِين الْملك عبد الله بن غَنَّام نَاظر الْخَاص وناظر الْجَيْش. وعددت لَهُ ذنُوب مِنْهَا أَنه لما ولى نظر الْجَيْش - بعد علم الدّين بن زنبور - تشدد فِيهِ مَعَ سلوكه سَبِيل الْأَمَانَة على الْمَعْنى. بِمَنْع المقايضات والنزولات حَتَّى قلت أَرْزَاقهم. ثمَّ لما ولى نظر الْخَاص بعد بدر الدّين - مُضَافا إِلَى(4/209)
الْجَيْش - ثمَّ مَاتَ الْوَزير موفق الدّين مالط إِلَى جِهَة طاز وَالْملك الصَّالح وأوقع فِي ذهنهما أَنه لَا يتَمَكَّن من عمل مصَالح السُّلْطَان مَعَ تحدث الْأَمِير شيخو فِي أُمُور الدولة. فَنقل ذَلِك إِلَى شيخو وصرغتمش فَقَامَ صرغتمش على شيخو حَتَّى استعفي من التحدث فِي أُمُور الدولة وقلدوا السُّلْطَان أمرهَا فاستقل بِالتَّدْبِيرِ وَحده. وَجعل الْأَمِير طاز كَأَنَّهُ يتحدث عَنهُ من غير إِظْهَار ذَلِك فاتفق مَعَ الْأَمِير طاز على توفير جملَة من المعاليم المستقرة للمباشرين فوفر مِنْهَا مَا تقدم ذكره وَلم يراع أحدا فَتَنَكَّرت الْقُلُوب لَهُ. وَنقل مَعَ هَذَا الْأَمِير شيخو عَنهُ أَنه أغرى الْملك الصَّالح بِهِ. وعرفه كَثْرَة متاجره وأمواله حَتَّى تنكر عَلَيْهِ وعَلى الْأَمِير صرغتمش. فَلَمَّا توطدت دولة الْملك النَّاصِر حسن تفرغ الْأَمِير شيخو لناظر الْخَاص. وعندما خرج من خزانَة الْخَاص بالقلعة أَخذ وَوضع فِي رقبته باسة وجنزير وكشف رَأسه وتناولته أَيدي النَّاس يضربونه بنعالهم وهم خدام السُّلْطَان ومماليكه بقتْله فلولا من هُوَ مُوكل بِهِ لأتوا على نَفسه ومازالوا بِهِ حَتَّى أدخلوه قاعة الصاحب بالقلعة. وَمَاجَتْ الْقَاهِرَة ومصر بِأَهْلِهَا لسرورهم بذلك فَكَانَ يَوْمًا معدوداً. وَوَقع الطّلب عَلَيْهِ بِحمْل المَال وَبسطت عَلَيْهِ الْعُقُوبَات بأنواعها. وَتَوَلَّى تعذيبه عدوه خَالِد بن دَاوُد فَقبض على أَخِيه كريم الدّين نَاظر الْبيُوت وعَلى الزامه وأصهاره وَأَتْبَاعه. وَولى مجد الدّين مُوسَى الهذبانى شاد الدَّوَاوِين فعظمت مصيبتهم وجلت بلاياهم فَإِنَّهُ أَدخل على تَاج الدّين. بمزين حلق رَأسه ثمَّ شقّ جلدَة رَأسه بِالْمُوسَى وحشى جراحاته من الخنافس. ثمَّ البس رَأسه طاسة من نُحَاس قد أوقد عَلَيْهِ بالنَّار حَتَّى اشتدت سخونتها فعندما أحست الخنافس بالحرارة سعت لتخرج فَلم تَجِد سَبِيلا فَجعلت تنقب فِي جراحات رَأسه حَتَّى هلك بعد مَا رأى فِي نَفسه العبر من كَثْرَة تنوع الْعَذَاب الاليم عَلَيْهِ. وَاعْتَزل بخبيئة فِي دَاره فَنزل الْأَمِير قشتمر الحاحب ومجد الدّين الهذبانى - شاد الدَّوَاوِين - وخَالِد بن دَاوُد اليها فوجدوا سِتَّة الاف دِينَار. وأبيع موجوده وهدمت دَاره فَكَانَت جملَة مَا أَخذ مِنْهُ عشرَة الاف دِينَار. وَاسْتقر عوضه فِي نظر الْخَاص والجيش علم الدّين عبد الله بن نقولا كَاتب الخزانة. وَاسْتقر كريم الدّين أكْرم بن شيخ فِي نظر الدولة وَنظر الْبيُوت. وَاسْتقر الْفَخر ابْن السعيد - صَاحب وَفِي هَذَا الشَّهْر: قدم الْأَمِير أرغون الكاملى نَائِب حلب فَأكْرم إِكْرَاما زَائِدا(4/210)
وخلع عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بإقطاع الْأَمِير طاز من غير زِيَادَة وَهِي منية ابْن خصيب وناحية أُخْرَى. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة: أخرج الْأَمِير أسندمر الْعُمْرَى لنيابة حماة وَنقل الْأَمِير سيف الدّين طبيرق نَائِب حماة إِلَى إمرة بِدِمَشْق. وَنقل الْأَمِير منجك من صفد إِلَى نِيَابَة طرابلس عوضا عَن أيتمش الناصري بعد وَفَاته. وَفِي هَذَا الشَّهْر: ركب السُّلْطَان إِلَى جِهَة الأهرام وَعَاد فَدخل إِلَى بَيت الْأَمِير شيخو يعودهُ وَقد وعك فَقدم لَهُ تقدمة جليلة. وَفِيه خلع على الْأَمِير صرغتمش وَاسْتقر فِي نظر المارستان المنصوري وَكَانَ قد تعطل نظره من متحدث تركي وَانْفَرَدَ بالْكلَام فِيهِ القَاضِي عَلَاء الدّين على بن الأطروش وَفَسَد حَال وَقفه فَإِنَّهُ كَانَ يكثر من مهاداة أُمَرَاء الدولة ومدبريها ويمهل عمَارَة رباعه حَتَّى تشعثت فَنزل اليه الْأَمِير صرغتمش وَدَار فِيهِ على المرضى فساءه مَا رأى من ضياعهم وَقلة الْعِنَايَة بهم فاستدعى القَاضِي ضِيَاء الدّين يُوسُف بن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن خطيب بَيت الْآبَار وَعرض عَلَيْهِ التحدث فِي المارستان كَمَا كَانَ عوضا عَن ابْن الأطروش. فَامْتنعَ من ذَلِك فمازال بِهِ حَتَّى أجَاب. وركبا إِلَى أوقاف المارستان بالمهندسين لكشف مَا يحْتَاج اليه من الْعِمَارَة فَكتب تَقْدِير المصروف ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فرسم بِالشُّرُوعِ فِي الْعِمَارَة فعمرت الْأَوْقَاف حَتَّى ترفع مَا فسد مِنْهَا ونودى بحمايه من سكن فِيهَا فَزَاد ريع الْوَقْف فِي الشَّهْر نَحْو أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم وَمنع من يتَعَرَّض اليهم وانصلحت أَحْوَال المرضى أَيْضا. وَعرض الْأَمِير صرغتمش جَمِيع مستحقى الْوَقْف من الْفُقَهَاء والقراء وَغَيرهم وَأكْثر من سُؤَالهمْ ونقب عَن أُمُورهم والزمهم بمواظبة وظائفهم. وفيهَا انْفَتح بَاب السَّعْي عِنْد الْأَمِير شيخو بالبراطيل فِي الولايات فسعى جمَاعَة بأموال فِي عدَّة جِهَات فأجيبوا إِلَى ذَلِك وقرروا فِيمَا أرادوه وَأخذ مِنْهُم مَا وعدوا(4/211)
بِهِ مِنْهُم حاجي أستادار ظهير بغا اسْتَقر فِي ولَايَة قوص بمائتين وَخمسين ألف دِرْهَم قَامَ بهَا للسُّلْطَان والأمراء. وَاسْتقر أَيْضا نَاصِر الدّين عمد بن إِيَاس بن الدويدارى فِي كشف الْوَجْه البحري عوضا عَن عز الدّين أزدمر الْأَعْمَى بِنَحْوِ سِتَّة الاف دِينَار. وَكَانَ أزدمر قد عمى من اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهُوَ لَا يظْهر أَنه أعمى ويركب ويكبس الْبِلَاد ويحضر الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مَعَ الْأُمَرَاء وَله مَمْلُوك يكون مَعَه حَيْثُ سلك يعرفهُ مَا يُرِيد وَإِذا رأى أحدا يَقْصِدهُ يعرفهُ بِهِ فيستقبله من بعد وَيسلم عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يرَاهُ. وَكَذَا إِذا جلس للْحكم أرشده سرا لما لابد مِنْهُ. وَمَعَ ذَلِك فقد كَانَ لطول مدَّته وتمرنه صَار يعرف أَكثر أَحْوَال العربان ويستحضر أَسْمَاءَهُم فيقوى بذلك على تمشية أُمُوره بِحَيْثُ يخفي على أَكثر النَّاس عماؤه وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه. وفيهَا خرج ركب الْحجَّاج الرجبية صُحْبَة الْأَمِير عز الدّين أزدمر الخازندار وَنزل بركَة الْجب على الْعَادة فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشْرين رَجَب. وسافر فِيهِ الطواشي شبْل الدولة كافور الْهِنْدِيّ وقطب الدّين هرماس وَجَمَاعَة من الْأَعْيَان. فَلَمَّا وصل الركب إِلَى بدر لَقِيَهُمْ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وَقد توجه من الْمَدِينَة النبويه - وَكَانَ مجاوراً بهَا - يُرِيد مَكَّة ليصوم بهَا شهر رَمَضَان. وَعند نزولهم بطن مرو لقبهم الشريف عجلَان أَمِير مَكَّة. فَخلع عَلَيْهِ ومضوا إِلَى مَكَّة فَدَخَلُوهَا معتمرين يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشْرين شعْبَان فَنُوديَ من الْغَد مستهل رَمَضَان الا يحمل أحد من بنى حسن والقواد وَالْعَبِيد سِلَاحا بِمَكَّة فامتنعوا من حمله. وَكَانَ الرخَاء كثيرا كل غرارة قَمح - وَهِي سبع ويبات مصرية - بِثَمَانِينَ درهما والغرارة الشّعير بِخَمْسِينَ(4/212)
درهما. الا أَن المَاء قَلِيل بِحَيْثُ نزحت الْآبَار وانقطعت عين جوبان فأغاثهم الله بمطر عَظِيم رووا مِنْهُ. وَحضر أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد الْيُمْنَى - إِمَام الزيدية الَّذِي ضربه عمر شاه أَمِير الركب فِي السّنة الخالية - إِلَى قاضى الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة تَائِبًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ من مَذْهَب الزيدية فعقد لَهُ مجْلِس بِالْحرم حَضَره أَمِير الركب وَعَامة أهل مصر وَمَكَّة وأشهدهم أَنه رَجَعَ عَن مَذْهَب الزيدية وتبرأ إِلَى الله تَعَالَى من إِبَاحَة دِمَاء الشَّافِعِيَّة وَأَمْوَالهمْ وَأَنه يواظب على صَلَاة الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة مَعَ أَئِمَّة الْحرم وَإِن خرج عَن ذَلِك فعل بِهِ مَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَة وَكتب خطه بذلك. فَقَالَ بَعضهم: استتوبوا الزيدى عَن مَذْهَب قد كَانَ من قبل بِهِ معجبا لَو لم يدارك نَفسه بتوبة لعجل الله لَهُ مذهبا وهبت الرّيح بِمَكَّة من قبل الْيمن أظلم عقبيها الْحرم وفشث الْأَمْرَاض فِي النَّاس حَتَّى لم يكن أحد الا وَبِه وعك الا أَنه كَانَ سليما يحصل الْبُرْء مِنْهُ بعد أُسْبُوع. فَلَمَّا كَانَ شهر شَوَّال ظهر بعد الْعشَاء الْآخِرَة من قبل جبل أبي قبيس كَوْكَب فِي قدر الْهلَال وَأكْثر نورا مِنْهُ وَمر على الْكَعْبَة ثمَّ اختفي بعد ثَلَاثَة درج فَسمع من فَقير يماني وَهُوَ يَقُول: لَا اله الا الله الْقَادِر على كل شَيْء هَذَا يدل على رجل يكون فِي شدَّة يفرج الله عَنهُ وَرجل يكون فِي فرج يصير إِلَى شدَّة وَالله يدبر الْأَمر بقدرته. وَقدم الْخَبَر فِي أخريات شَوَّال بخلع الصَّالح وإعادة السُّلْطَان حسن وَكَانَ اتّفق أَيْضا أَن الشَّيْخ المعتقد أَبَا طرطور قَالَ يَوْمًا: لَا اله الا الله الْيَوْم جلس حسن فِي دست مملكة مصر. وَلم يكن عِنْده سوى الشَّيْخ قطب الدّين أَبى عبد الله مُحَمَّد بن أَبى الثَّنَاء مَحْمُود ابْن هرماس بن ماضي الْقُدسِي الْمَعْرُوف بالهرماس فَقَامَ من فوره إِلَى أَمِير الركب عز الدّين أزدمر وقاضى الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وهما بِالْحرم فَجَلَسَ اليهما ثمَّ أطرق وَرفع رَأسه وَقَالَ: لَا اله الا الله الْيَوْم جلس الْملك النَّاصِر حسن فِي دست مملكة مصر عَن الْملك الصَّالح صَالح فَور خوا ذَلِك عنْدكُمْ. فورخه الْأَمِير عز الدّين أزدمر. وَقدم الْخَبَر بخلع الصَّالح وجلوس النَّاصِر حسن فِي ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه. فَمن حِينَئِذٍ ارْتبط الْأَمِير عز الدّين أزدمر على الهرماس وأوصله للسُّلْطَان حسن حَتَّى بلغ مَا بلغ ظنا مِنْهُ أَن الْكَلَام الْمَذْكُور كَانَ من قبله على جِهَة الْكَشْف وَمَا كَانَ الا مِمَّا تلقفه من الشَّيْخ أبي طرطور فنسبه إِلَى نَفسه.(4/213)
وفيهَا كَانَ من زِيَادَة النّيل مَا ينْدر وُقُوع مثله فَإِنَّهُ انْتهى فِي الزِّيَادَة إِلَى أَصَابِع من عشْرين ذِرَاعا فَقيل خَمْسَة وَقيل سَبْعَة وَقيل عشرُون أصبعاً من عشْرين ذِرَاعا ففسدت الأقصاب والنيلة وَنَحْوهَا من الزراعات وفسدت الغلال الَّتِي بالمطاصر والأجران والمخازن وتقطعت الجسور الَّتِي بِجَمِيعِ النواحي قبليها وبحريها وتعطلت أَكثر الدواليب وتهدمت دور كَثِيرَة مِمَّا يجاور النّيل والخلجان وغرقت الْبَسَاتِين وفاض المَاء حَتَّى بلغ قنطرة قديدار فَكَانَت المراكب تصل من بولاق اليها ويركب النَّاس فِي المراكب من بولاق إِلَى شبْرًا ودمنهور. وغرقت كوم الريش وَسَقَطت دورها فَركب الْأَمِير عَلَاء الدّين على بن الكوراني وَالِي الْقَاهِرَة والأمير قشتمر الحاحب وَجَمَاعَة. وَقطعت أَشجَار كَثِيرَة وَعمل سد عَظِيم حَتَّى رَجَعَ المَاء عَن الحسينية بعد مَا أشرفت على الْغَرق فَإِن المطرية والاصرية والمنيا وشبرا مَعَ جَمِيع الضواحي بقوا ملقة وَاحِدَة مُتَّصِلَة بالنيل الْأَعْظَم فعز التِّبْن بالنواحي لتلفه كُله وَبلغ كل حمل عشْرين درهما فِي الرِّيف وَوصل فِي الْقَاهِرَة كل حمل إِلَى خَمْسَة وَأَرْبَعين درهما ثمَّ انحط إِلَى خَمْسَة وَعشْرين درهما. وتحسنت الأسعار فَبلغ الأردب الْقَمْح إِلَى سِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما والأردب الشّعير إِلَى عشْرين درهما والأردب الفول إِلَى سِتَّة عشر درهما. وشرق مَعَ ذَلِك كثير من بِلَاد الفيوم فَإِن جسرها انْقَطع فَتوجه الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسنى والأمير مجد الدّين مُوسَى الهذبانى والأمير عمر شاه - كاشف الجسور - وَغَيره حَتَّى سدوه وجبوا من بِلَاد الفيوم ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وبنوا زريبة حجر مَوضِع الجسر حَتَّى أتقنوه ثمَّ عَادوا. وغلا البرسيم الأخصر حَتَّى بلغ(4/214)
الفدان بالضواحي إِلَى مِائَتَيْنِ وَخمسين درهما وَفِي غَيرهَا إِلَى مِائَتَيْنِ من قلَّة الأتبان. وانحط سعر الْعَسَل وَالسكر وَتَلفت الْفَوَاكِه جَمِيعهَا وَهَلَكت أَشجَار أَكثر الْبَسَاتِين. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر الْأَمِير سيف الدّين أيتمش المحمدي الناصري نَائِب طرابلس فِي رَمَضَان ترقى فِي الخدم إِلَى أمره الناصري قَرِيبا من سنة أَربع وَعشْرين ثمَّ ولى حاجباً فِي الْمحرم سنة أَربع وَأَرْبَعين وانتقل مِنْهَا إِلَى الوزارة فِي شهر رَمَضَان مِنْهَا فاستمر إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وأعيد إِلَى الحجابة. فَلَمَّا قتل أرغون شاه نَائِب دمشق اسْتَقر عوضه فَقدم دمشق فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمسين وَأقَام بهَا إِلَى رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين فدعى إِلَى مصر وَقبض عَلَيْهِ بهَا وسجن بالإسكندرية ثمَّ أفرج عَنهُ بعد يسير وَأخرج إِلَى صفد وَمِنْهَا لحق بيبغ روس فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ. فَلَمَّا قدم السُّلْطَان إِلَى دمشق وَعرفت سيرته الْحَسَنَة ولى نِيَابَة طرابلس فَمَاتَ بهَا. وَكَانَ لين العريكة وطى الْجَانِب. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي - أَمِير شكار واصر أخور - بطالا بِدِمَشْق. كَانَ من خَواص الناصري فترقى فِي خدمته حَتَّى صَار رَأس نوبَة كَبِير أَمِير مايه وَاسْتقر أَمِير شكار واصر آخور ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَأخرج إِلَى طرابلس ثمَّ نقل إِلَى دمشق فَمَاتَ بهَا فِي عَاشر رَمَضَان وَكَانَ حاد الْخلق. وَمَات جمال الدّين أَبُو الطِّبّ الْحُسَيْن ابْن قاضى قُضَاة دمشق تَقِيّ الدّين أَبى الْحسن على بن عبد الْكَافِي بن على بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام الْأنْصَارِيّ السُّبْكِيّ بِدِمَشْق فِي يَوْم السبت ثَانِي شهر رَمَضَان ومولده. بِمصْر سنة إِحْدَى وَعشْرين. كتب بديوان الْإِنْشَاء فِي وزارة أَبِيه ثمَّ ولى اسْتِيفَاء الصُّحْبَة. وتقلد فِي سنة(4/215)
تسع وَثَلَاثِينَ إِلَى نظر الدولة وَاسْتقر عوضه فِي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة أَخُوهُ كريم الدّين حَتَّى أمسك مَعَ أَبِيه فِي نوبَة النشو وعوقبوا. ثمَّ توجه بعد موت أَبِيه إِلَى الْقُدس وَأقَام بِهِ مُدَّة. ثمَّ طلب وَولى نظر الْبيُوت فاستعفى مِنْهَا وَولى نظر النظار بِالشَّام. ثمَّ استعفى مِنْهَا أَيْضا وَقدم الْقَاهِرَة حَتَّى ولى نظر الْجَيْش بعد ابْن زنبور وأضيف اليه نظر الْخَاص وَكَانَ فَاضلا كَرِيمًا درس بعدة مَوَاضِع. توفّي تَاج الدّين أَبُو الفضايل أَحْمد بن الصاحب أَمِين الْملك عبد الله بن غَنَّام فِي رَابِع شَوَّال تَحت الْعقُوبَة كَمَا تقدم. وَهُوَ أحد كتاب مصر المعدودة وَكَانَ يخْدم جريدته بِيَدِهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى كشف عَامل وَلَا غَيره بل يكَاد أَن يعْمل محاسبة كل أحد من ذهنه لفرط ذكائه وَشدَّة فطنته مَعَ الْعِفَّة وَالْأَمَانَة أَو التشدد على النَّاس والتوفير من الأرزاق حَتَّى لم يعْهَد أَنه جرى على يَده رزق لأحد بل مَا برح يومر المَال للسُّلْطَان إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ. وَكَانَ لَا يُرَاعى أحدا وَلَا يحابى وَيكثر من المحاققة والضبط. توفّي الْأَمِير سيف الدّين أياجى نَائِب قلعة دمشق وَتوفى الشريف عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن على بن عز الدّين حَمْزَة بن الْفَخر على بن الْحسن الْحسن بن زهرَة بن الْحسن بن زهرَة الْحُسَيْنِي الْحلَبِي نقيب الْأَشْرَاف بحلب. قدم الْقَاهِرَة وَكتب بديوان الْإِنْشَاء مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى حلب وَولى وكَالَة بَيت المَال ونقابة الْأَشْرَاف لَهَا حَتَّى مَاتَ وَقد أناف على السّبْعين. وَتُوفِّي الْوَزير الصاحب موفق الدّين أَبُو الْفضل هبة الله بن سعيد الدولة إِبْرَاهِيم فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشْرين ربيع الآخر. وَكَانَ كَاتبا مجيداً مشكور السِّيرَة. لَهُ بر ومعروف. بَاشر أَولا نظر الدولة ثمَّ تنقل إِلَى الوزارة فَلم يزل وزيراً حَتَّى مَاتَ وَدفن بتربته من الْقَاهِرَة وَكَانَت جنَازَته حفلة. وَتُوفِّي متملك الأندلس أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن فرج بن الْأَحْمَر فِي صَلَاة عيد الْفطر طعن بخنجر وَهُوَ ساجد فَكَانَت منيته.(4/216)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة بِبِلَاد الشرق عضد الدّين عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الْغفار بن أَحْمد الإيجي المطرزي الْمَعْرُوف بالعضد الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي مسجوناً فِي سخط صَاحب كرمان ومولده سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة. وَله شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب فِي الْأُصُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المواقف وَكتاب الْقَوَاعِد الغياثية. وَكَانَ إِمَامًا فِي المعقولات والنحو وَالْأُصُول والمعاني وَالْبَيَان مشاركاً فِي الْفِقْه. وَله سَعَادَة ضخمة وَكلمَة نَافِذَة. وولاه أَبُو سعيد الْقَضَاء وَسكن سلطانية ثمَّ شيراز. وَبَينه وَبَين فَخر الدّين أَحْمد بن الْحسن الجاربردى مناظرات(4/217)
فارغه(4/218)
(سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة)
فِي الْمحرم: شرع الْأَمِير شيخو فِي هدم أَمْلَاك ابتاعها بِخَط صليبة جَامع ابْن طولون. فَكَانَت مساحتها زِيَادَة على فدان واختط موضعهَا خانكاه وحمامين وحوانيت يعلوها رباع. وجد فِي بنائها بِحَيْثُ أَنه عمل فِيهَا بِنَفسِهِ ومماليكه حَتَّى انْتَهَت عمارتها وَأشْهد عَلَيْهِ بوقفها. ووقف عَلَيْهَا عدَّة جِهَات بِأَرْض مصر وَالشَّام. ورتب بهَا دروس الْفِقْه للمذاهب الْأَرْبَعَة وشيخاً للصوفية ومدرساً للْحَدِيث النَّبَوِيّ وشيخاً لإقراء الْقُرْآن الْكَرِيم بالقراءات السَّبع وَغير ذَلِك من الفراشين والقومة والمباشرين. وَشرط على الْفُقَهَاء والصوفية الا يتَزَوَّج مِنْهُم الا طَائِفَة عينهم من كل مَذْهَب وَأَن يُقيم العزاب بالخانكاه لَيْلًا وَنَهَارًا. وَشرط الا يكون فيهم وَلَا مِنْهُم قَاض وَلَا شَاهد يتكسب بتحمل الشَّهَادَة. فَلَمَّا كَانَ يَوْم عَرَفَة مِنْهَا ركب فِي جمَاعَة الْأُمَرَاء وأعيان الدولة وقضاة الْقُضَاة ومشايخ الْعلم إِلَى هَذِه الخانكاه. وَقد قرر فِي تدريس الشَّافِعِيَّة بهاء الدّين أَحْمد ابْن الشَّيْخ الإِمَام تَقِيّ الدّين على بن عبد الْكَافِي السُّبْكِيّ وَالشَّيْخ خَلِيل الجندي فِي تدريس الْمَالِكِيَّة وَالْقَاضِي نَاصِر الدّين نصر الله فِي تدريس الْحَنَابِلَة شَرِيكا لقَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين عبد الله الْحَنْبَلِيّ. والقى المدرسون الثَّلَاثَة دروس الْفِقْه على مذاهبهم وطلبتهم قد تحلقوا بَين أَيْديهم فِيمَا بَين الظّهْر إِلَى الْعَصْر. فَلَمَّا صلوا الْعَصْر فرش الْأَمِير شيخو سجادة مشيخة التصوف بِيَدِهِ وأجلس الشَّيْخ أكمل الدّين مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحَنَفِيّ عَلَيْهَا. ثمَّ لما انْقَضى الْحُضُور انْفَضُّوا. فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَلم يسخر فِي بنائها أحد من المقيدين الَّذين بالسجون كَمَا هِيَ عَادَة أُمَرَاء الدولة فِي عمايرهم وَلَا سخر من النَّاس أحدا بِغَيْر أُجْرَة فِي شَيْء من أَعمال هَذِه الخانكاه بل كَانَت توفى للعمال أجرهم. وَأنْشد أدباء الْعَصْر فِي هَذِه الخانكاه عدَّة أشعار مِنْهَا قَول الأديب صَلَاح الدّين صَلَاح بن الزين لبيكم: لقد شاد شيخو خانكاه بديعة تفوق على الرَّوْض المكلل بالندا بناها وَلم يعْمل بهَا من مُقَيّد وَلَكِن على أهل الوظايف قيدا(4/219)
وَقَالَ الأديب شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى بن أبي بكر بن عبد الْوَاحِد الشهير بِابْن أبي حجلة المغربي من مقَامه عَملهَا فِي الخانكاه الْمَذْكُورَة: ومدرسة للْعلم فِيهَا مَوَاطِن فشيخو بهَا فَرد وإيثارة جمع لَئِن بَات فِيهَا فِي الْقُلُوب مهابة فواقفها لَيْث وأشياخها سبع وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي صفر: عزل تَاج الدّين مُحَمَّد بن علم الدّين مُحَمَّد بن أَبى بكر الأخنائي عَن وَاسْتقر فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة الشَّيْخ نور الدّين أَبُو الْحسن على بن عبد النصير بن عَليّ السخاوي فَمَرض بعد شهر وَلزِمَ الْفراش حَتَّى مَاتَ بعد اثْنَيْنِ وَسبعين يَوْمًا بعد مَا أَفَاق من مَرضه إفاقة. وبلغه أَنه لما أيس مِنْهُ عزل فَسَالَ الْأَمِير شيخو أَن بجدد السُّلْطَان لَهُ ولَايَة فَخلع عَلَيْهِ وَعمل الْأَمِير شيخو وَلِيمَة لعافيته فَمَاتَ يَوْم الثَّامِن من الْوَلِيمَة فاستدعى تَاج الدّين الإخنائي وخلع عَلَيْهِ وأعيد إِلَى قَضَاء الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة مَعَ نظر خزانَة الْخَاص فاستناب فِي نظر الْخَاص أَخَاهُ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم. وَفِيه كتب توقيع لتاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن تَقِيّ الدّين على السُّبْكِيّ بِأَن يكون نَائِبا عَن أَبِيه فِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق ومستقلاً بعد وَفَاته. ورسم بِحُضُور التقى إِلَى(4/220)
الْقَاهِرَة بسعى وَلَده بهاء الدّين أَحْمد فِي ذَلِك فكتم التقى عَن أهل دمشق هَذَا وَخرج - وَهُوَ مَرِيض - فِي محفة ليزور الْقُدس فَقدم الْقَاهِرَة وَقد اشْتَدَّ مَرضه فَمَاتَ بعد أَيَّام. وَاسْتقر عوضه فِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق ابْنه تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع صفر: قبض على الْأَمِير أرغون الكاملي خوفًا من شَره وسجن بالإسكندرية. وَاسْتقر كريم الدّين أكْرم ابْن شيخ فِي نظر الدولة وأعيد شهَاب الدّين أَحْمد بن ياسين بن مُحَمَّد الريَاحي إِلَى قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب بعد وَفَاة زين عمر بن سعيد يحيى التلمستاني المغربي. وَاسْتقر خَالِد بن دَاوُد شاد الدَّوَاوِين بأمرة عشرَة وَلبس الشربوش فِي يَوْم عاشرة وَاسْتقر الْحَاج مُحَمَّد بن يُوسُف مقدم الدولة عوضا عَن الْحَاج أَحْمد بن زيد. والزم ابْن زيد بِحمْل ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فحملها فتتبع ابْن يُوسُف أثاره حَتَّى أظهر لَهُ من دفائن وودائع نَحْو أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم. ثمَّ صرف ابْن يُوسُف وأعيد ابْن زيد. وَقبض على ابْن يُوسُف وعَلى خَالِد بن دَاوُد شاد الدَّوَاوِين وسلما لِأَحْمَد بن زيد فعاقبهما والزمهما بِحمْل المَال فَلم يزل خَالِد فِي الْعقُوبَة حَتَّى مَاتَ وأنعم السُّلْطَان على وَلَده الْأَمِير أَحْمد بإمرة مائَة تقدمة الف وأفرد لَهُ ديواناً. وَقدم الْخَبَر بهجوم الفرنج على طرابلس الغرب وَأَخذهَا وَقتل عَامَّة أَهلهَا. فَلَمَّا بلغ ذَلِك أَبُو عنان فَارس بن أَبى الْحسن عَليّ بن يَعْقُوب - متملك فاس - اشْتَرَاهَا من الفرنج. بِمَال كَبِير وعمرها. وَفِيه سَافر الْأَمِير عمر شاه إِلَى الصَّعِيد وَقد خرج سودى بن مَانع وَأَخُوهُ عَن الطَّاعَة فَأَخذهُمَا ووسطهما فِي عدَّة من أصحابهما وَعَاد. وَفِيه قدم أَوْلَاد قراجا بن دلغادر بتقادم فأعيد كَبِيرهمْ إِلَى الإمرة. وَقدم الْأَمِير فياض بن مهنا بقول جليل فَأكْرم وأجريت لَهُ الرَّوَاتِب على الْعَادة(4/221)
فشفع فِي الشريف ثفبة فأفرج عَنهُ وَعَن أَخِيه وَابْن عَمه مغامس فأقاموا مُدَّة قَليلَة ثمَّ فر ثقبة إِلَى مَكَّة فَطلب فَلم يقدر عَلَيْهِ. وَفِي سَابِع جُمَادَى الأولى: أُعِيد تَاج الدّين مُحَمَّد الأخنائي إِلَى قَضَاء الْمَالِكِيَّة بعد موت نور الدّين على السخاوى. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس جُمَادَى الْأُخَر: ولد للاصر شيخو ولد ذكر من أبنة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فاحتفل احتفالاً زَائِد فِي عقيقته وَمَات الْوَلِيد بعد أَيَّام وعميت أمه عقيب وِلَادَته. وَفِي خَامِس عشره قطعت يَد الشريف المزور وَضرب أَصْحَابه بالمقارع وشهروا وَكَانَ فِي التزوير ومحاكاة الخطوط عجبا وسجن بِسَبَب ذَلِك مرَارًا. وَفِيه سقط مطر فِي غير أَوَانه عَم الْوَجْه البحري وَنزل مَعَه برد قتل عدَّة أَغْنَام كَثِيرَة بلغ وزد الْبردَة أُوقِيَّة وأوقيتين وَمِنْهَا مَا نزل فِي قدر الرَّغِيف الْكَبِير. وَتلف زرع كثير من السَّيْل وهبت قبل هَذِه المطرة ريح عَاصِفَة غرق مِنْهَا عدَّة مراكب. وَفِي هَذِه السّنة: ابْتَدَأَ الْأَمِير صرغتمش فِي هدم مسَاكِن بجوار الْجَامِع الطولوني واختط موضعهَا مدرسة فِي خَامِس رَمَضَان وكشف أوقاف الْجَامِع بِنَفسِهِ ورم شعثها. وَقدم الْخَبَر بِأَن فِي شهر ربيع الآخر أمْطرت السَّمَاء بِأَرْض الرّوم بردا أهلك مِنْهُ نَحْو مائَة وَخمسين قَرْيَة فَجَعلهَا دكاً وَكَاد وزن الْبردَة الْوَاحِدَة نَحْو رَطْل وَثلث بالحلبي وَذَلِكَ فِي شهر نيسان. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر شهَاب الدّين أَحْمد بن حسن بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْفُرَات الْمَالِكِي - موقع الحكم - فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ عَاشر ذِي الْقعدَة وَكَانَ عَاقِلا دينا فَاضلا.(4/222)
وَتُوفِّي الشَّيْخ الإِمَام قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق تَقِيّ الدّين أَبُو الْحسن على بن زين الدّين عبد الْكَافِي بن على بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام بن حَامِد بن يحيى بن عمر بن عُثْمَان بن سوار بن سليم الْأنْصَارِيّ السُّبْكِيّ بحزيرة النّيل من شاطىء النّيل خَارج الْقَاهِرَة فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ رَابِع جُمَادَى الآخر. ومولده فِي صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بِنَاحِيَة سبك من المنوفية أحد أَعمال مصر. قَرَأَ الْقرَاءَات على التقى الصايغ وَالتَّفْسِير على الْعلم الْعِرَاقِيّ وَسمع على الْحَافِظ الدمياطي وتفقه للشَّافِعِيّ وَولى قَضَاء دمشق بعد الْجلَال الْقزْوِينِي فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وانتهت اليه رياسة الْعلم. وَتُوفِّي قاضى الْقُضَاة الْمَالِكِي نور الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد النصير بن عَليّ السخاوي الْمَالِكِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ رَابِع جُمَادَى الأولى وَدفن بالقرافة. وَتُوفِّي زين الدّين أَبُو حَفْص عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني الْمَالِكِي قَاضِي قُضَاة الْمَالِكِيَّة بحلب عَن نَيف وَسِتِّينَ سنة مِنْهَا فِي قَضَاء حلب نَحْو خمس سِنِين. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْحق السَّعْدِيّ البارنباري كَاتب سر طرابلس وَله شعر جيد. وَتُوفِّي الأديب الشَّاعِر شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله(4/223)
يلقب بالضفدع ويشهر بالخياط الدِّمَشْقِي فِي طَرِيق الْحجاز. قدم الْقَاهِرَة ومدح الْأَعْيَان وَجمع شعره فِي عدَّة أَجزَاء وتكسب بتحمل الشَّهَادَة فِي دمشق. وَكَانَ لَا يُؤمن هجوه لطول لِسَانه وتعرضه لكل أحد. وَتُوفِّي الْعَلامَة شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف بن مُحَمَّد الْحلَبِي النَّحْوِيّ المقرىء الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن السمين فِي عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة. قَرَأَ النَّحْو على أَبى حَيَّان والقراءات على التقى الصايغ وَسمع بِآخِرهِ من يُونُس الدبابيسي وتصدر للإقراء بِجَامِع ابْن طولون. وناب فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ وَولى نظر الْأَوْقَاف وصنف تَفْسِير الْقُرْآن فَأطَال فِيهِ جدا حَتَّى جَاءَ فِي عشْرين سفرا كبارًا وصنف إِعْرَاب الْقُرْآن وَشرح التسهيل والشاطبية. وَكَانَ فَقِيها بارعاً فِي النَّحْو وَالتَّفْسِير وَعلم الْقرَاءَات وَتكلم فِي علم الْأُصُول وَكَانَ خيرا دينا. وَتُوفِّي فَخر الدّين عُثْمَان بن علم الدّين يُوسُف بن أبي بكر بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ النويري الْمَالِكِي فِي ذِي الْحجَّة. ومولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَحفظ الْمُوَطَّأ وَسمع على جمَاعَة. بِمصْر وَالشَّام والحرمين وتفقه ودرس وَأفْتى وَأحكم الْمَذْهَب. وَكَانَ كثير الْحَج والمجاورة والتاله. وَمَات الْأَمِير قبلاى النَّائِب يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث ربيع الأول. وَمَات شهَاب الدّين شَاهد الْجَيْش يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشْرين صفر. وَمَات زين الدّين الْخضر بن تَاج الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين الْخضر بن جمال عبد الرَّحْمَن بن علم الدّين سُلَيْمَان بن نور الدّين على الْمَعْرُوف بِابْن الزين خضر فِي آخر ربيع الأول. ومولده سنة عشر وَسَبْعمائة. سمع على الْحجاز وَقَرَأَ فِي النَّحْو وَغَيره وَكتب فِي الْإِنْشَاء ونوه بِهِ كَاتب السِّرّ عَلَاء الدّين على بن فضل الله وَاعْتمد عَلَيْهِ وَأقرهُ يكْتب بَين يَدي نَائِب السلطة وَكَانَ يكْتب سَرِيعا من رَأس الْقَلَم مَا شَاءَ وَكَانَ ينْطق بِالْجِيم كافاً. وَمَات الْأَمِير ملك آص فِي ثامن عشر رَمَضَان بِدِمَشْق وَكَانَ جاشنكير ثمَّ ولى(4/224)
شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق ونيابة جعبر وسجن بالإسكندرية ثمَّ أَقَامَ بِدِمَشْق بطالا حَتَّى مَاتَ. وَمَات الْأَمِير قردم بِدِمَشْق يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر شهر رَمَضَان. كَانَ أَمِير أخور ثمَّ أخرج إِلَى دمشق بطالا وَقبض عَلَيْهِ ثمَّ صَار بِدِمَشْق من جملَة الْأُمَرَاء حَتَّى مَاتَ. وَالله تَعَالَى أعلم.(4/225)
فارغه(4/226)
(سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة)
فِيهَا ولى أويس بن الشَّيْخ حسن بن أقبغا بن أيلكا لسطان بَغْدَاد بعد موت أَبِيه. وَولى كَمَال الدّين أَبُو الْقَاسِم عمر بن الْفَخر بن عَمْرو عُثْمَان بن هبة الله المعري قَضَاء الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بحلب بعد وَفَاة نجم الدّين مُحَمَّد الزرعي. وهجم على طرابلس الشَّام الفرنج فِي عدَّة شوانى وأفسدوا ثمَّ عَادوا. وَوَقع حريق بِمَدِينَة دمشق فَتلف مِنْهُ عدَّة مَوَاضِع ظَاهر بَاب الْفرج مِنْهَا سِتّمائَة حَانُوت سوى الْبيُوت عدم فِيهَا مَا تزيد قِيمَته على ألف الف دِرْهَم. ثمَّ وَقع حريق آخر بالعقيبة - ثمَّ حريق آخر بالصالحية وحريق أخر دَاخل بَاب الصَّغِير مثل الْحَرِيق الَّذِي بِبَاب الْفرج. ثمَّ وَقع فِي أَمَاكِن أُخْرَى من الْبَلَد. وَاسْتولى الفرنج على صيدا وَقتلُوا وأسروا وَقتل مِنْهُم أَيْضا جمَاعَة وعادوا. وَفِي شهر ربيع الأول: هبت بِالْقَاهِرَةِ ومصر ريح غَرِيبَة من أول النَّهَار إِلَى الْمغرب اصفر مِنْهَا الجو ثمَّ احمر ثمَّ اسود. واستمرت الرّيح إِلَى نصف اللَّيْل فَسَقَطت عدَّة أَمَاكِن وامتلأت الأَرْض من تُرَاب أصفر ثمَّ أمْطرت السَّمَاء وَسكن الرّيح. وفيهَا كمل بِنَاء مدرسة الْأَمِير صرغتمش بجوار جَامع أَحْمد بن طولون. ورتب فِي تدريس الْحَنَفِيَّة بهَا قوام الدّين أَمِير كَاتب بن أَمِير عمر بن أَمِير غَازِي أَبُو حنيفَة الفارابي الأتقائي الْحَنَفِيّ وَقرر عِنْده عدَّة من طلبة الْحَنَفِيَّة وَشرط أَن يَكُونُوا أفاقية وَعمل(4/227)
بهَا درسا للْحَدِيث النَّبَوِيّ وَحضر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تاسعه صرغتمش وَمَعَهُ الْأُمَرَاء والقضاة والمشايخ فَألْقى القوام الدَّرْس ثمَّ مد سماط جليل وملئت الْبركَة سكرا مذابا فَأكل النَّاس وَشَرِبُوا ثمَّ انْفَضُّوا. وفيهَا يَقُول الْعَلامَة شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الصايغ الْحَنَفِيّ: لِيَهنك يَا صرغتمش مَا بنيته لأخراك فِي دنياك من حسن بُنيان بِهِ يزدهي الرخيم كالزهر بهجة فَللَّه من زهر وَللَّه من بَان وَقَالَ النَّقِيب صَلَاح الدّين صَلَاح بن الزين لبيكم الرِّفَاعِي: صَرْغَتمش قد شاد يَا حبذا مدرسة بديعة فائقة كَأَنَّهَا من حسنها جنَّة وَقد غَدَتْ قبابها شاهقة وَقد حكى رخامها رَوْضَة أزهارها من طيبها عابقة وَقَالَ الشهَاب أَحْمد بن أَبى حجلة: وَقد أنبت التَّرْخِيم فِي مِحْرَابهَا زاهراً كدر قلائد العقيان فَكَأَنَّهُ كسْرَى أنو شرْوَان قد وضعُوا عَلَيْهِ التَّاج فِي الإيوان لَو لم يبت وَأَبُو حنيفَة شيخها ماشبهت بشقائق النُّعْمَان حبر يطوف بِمصْر بَحر علومه حَتَّى كَأَن النَّاس فِي طوفان يثنى إِلَيْهِ الْعلم فضل زَمَانه وَأَبُو حنيفتنا الإِمَام الثَّانِي وفيهَا أَمر بإحضار الشَّيْخ جمال الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نباتة الْمصْرِيّ من دمشق فَقدم الْقَاهِرَة فَلم ينجح سَعْيه وَأقَام خاملاً.(4/228)
وفيهَا وَقع حريق عَظِيم بِبِلَاد السَّاحِل وأراضي كسروان من بِلَاد الشَّام عَم من بِلَاد طرابلس إِلَى مُعَاملَة بيروت أتلف كثيرا من الْوَحْش والأمتعة وَشَجر الزَّيْتُون. وَكَانَ عجبا من الْعجب فَإِن ورقة من شَجَرَة سَقَطت فِي بَيت فَاحْتَرَقَ جَمِيع مَا فِيهَا واستمرت ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ وَقع مَطَرا فأطفاه. وفيهَا عمرت مَدِينَة عمان من البلقاء للأمير صَرْغَتمش وَنقل إِلَيْهَا الْولَايَة وَالْقَضَاء من حسبان وَجعلت أم تِلْكَ الْبِلَاد. وَهِي بلد قديم من بِنَاء عمان ابْن أخي لوط بناها بعد هَلَاك قوم لوط. وَقيل هِيَ مَدِينَة دقيانوس الْملك الَّذِي أخرج مِنْهَا أَصْحَاب الْكَهْف والرقيم هُنَاكَ مَوضِع وفيهَا ولى شَيخنَا الشَّيْخ جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي وكَالَة بَيت المَال بعد وَفَاة الشريف شرف الدّين على نقيب الْأَشْرَاف. وَولى نقابة الْأَشْرَاف الشريف شهَاب الدّين بن أبي الركب. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر شرف الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَنَاوِيّ الشَّافِعِي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس شهر رَجَب نَاب فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ وتفقه وشارك فِي الحَدِيث وَأفْتى ودرس وَشرح فَرَائض الرسيط. وَتوفى كَمَال الدّين أَبُو مُحَمَّد وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مهْدي النشائي الشَّافِعِي فِي يَوْم الْأَحَد حادي عشر صفر. ومولده فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة(4/229)
سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة. تفقه على أَبِيه وبرع ودرس بالجامع الخطيري ببولاق. وَهُوَ أول من ولى خطابته وإمامته وتدريسه. وصنف كتاب جَامع المختصرات وَكتاب الْمُنْتَقى وعلق على التَّنْبِيه استدراكات. وَمَات متملك بَغْدَاد الشَّيْخ حسن بن حُسَيْن بن أقبغا بن أيلكان التتري سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو وَكَانَت مدَّته سبع عشرَة سنة. وَتوفى الشريف شرف الدّين أَبُو الْحسن على بن حُسَيْن بن مُحَمَّد الْحُسَيْنِي نقيب الْأَشْرَاف ووكيل بَيت المَال ومحتسب الْقَاهِرَة فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة. مولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة. حدث وتفقه للشَّافِعِيّ وَقَرَأَ النَّحْو ودرس بالمشهد الْحُسَيْنِي والمدرسة الفخرية وَكتب توضيح الْحَاوِي وأقرأه بِمَكَّة فِي مجاورته سنة إِحْدَى وَخمسين. وَتُوفِّي نجم الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن فَخر الدّين عُثْمَان بن أَحْمد بن عَمْرو بن مُحَمَّد الزرعي الْحلَبِي الْفَقِيه الشَّافِعِي قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بحلب. فَكَانَت مدَّته نَحْو سِتّ سِنِين. وَكَانَ فَاضلا ممدحاً أديباً ماهراً فِي النثر مَعَ معرفَة بالفقه وَالْأُصُول والنحو.(4/230)
سنة ثَمَان وخسمين وَسَبْعمائة فِيهَا قبض على ابْن الزبير نَاظر الدولة وعوقب حَتَّى هلك. وفى جُمَادَى الآخر: خلع على شمس الدّين مُحَمَّد ابْن الصاحب مدرس الصاحبية والشريفية. بِمصْر وَاسْتقر محتسب الْقَاهِرَة بعد وَفَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن الأطروش. وَاسْتقر شَيخنَا سراج الدّين الْهِنْدِيّ عوضه فِي قَضَاء الْعَسْكَر. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن شعْبَان: وثب قطا وقجا - وَيُقَال باي قجا - أحد المماليك السِّلَاح دارية على الْأَمِير شَيْخُو وَهُوَ بدار الْعدْل وضربه بِسيف ثَلَاث ضربات فِي رَأسه وَوَجهه وذراعه فَسقط وَارْتجَّ الْمجْلس. وَقَامَ السُّلْطَان عَن كرْسِي الْملك إِلَى قصره فِي خاصكيته وتفرق الْأُمَرَاء. وطار الْخَبَر بِأَن الْأَمِير شيخو قتل فَركب الْأَمِير خَلِيل ابْن قوصون - ربيب شيخو وَلبس آلَة الْحَرْب وسَاق فِي عدَّة وافرة إِلَى القلعة وصعدها. بِمن مَعَه وهم ركاب إِلَى رحبة دَار الْعدْل. وَحمل شيخو على جنوية - على أَنه قد مَاتَ - إِلَى إصطبله. وَركب الْعَسْكَر جَمِيعهم إِلَى تَحت القلعة بِالسِّلَاحِ. وَركب الْأَمِير صرغَتمش فِي عدَّة من الْأُمَرَاء إِلَى الْأَمِير شيخو فوجدوا بِهِ رمقاً فاعتذروا إِلَيْهِ مِمَّا وَقع وَأَنه لم يكن يعلم السُّلْطَان وَأَنه قبض على الْغَرِيم وَأمر بتسميره وتوسيطه. ثمَّ قَامُوا فسمر الْمَذْكُور وطيف بِهِ على جمل ثمَّ وسط بعد مَا قرر فَلم يقر على أحد. وَقَالَ: قدمت لَهُ قصَّة لينقلني من الجامكية إِلَى الإقطاع فَلم يفعل فَبَقيَ فِي نَفسِي مِنْهُ وَركب السُّلْطَان من الْغَد لعيادة شَيْخُو وَحلف لَهُ أَنه لم يعلم. بِمَا جرى حَتَّى وَقع ثمَّ عَاد. فمازال شيخو صَاحب فرَاش حَتَّى مَاتَ يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشْرين ذِي الْقعدَة وَدفن من الْغَد بخانكاته وقبره بهَا وَكَانَ قد قَارب السِّتين سنة. وَكَانَ كثير الْمَعْرُوف وَهُوَ أول من قيل لَهُ الْأَمِير الْكَبِير بِمصْر. وَفِي شعْبَان: قدم رسل السُّلْطَان جَانِبك بن أزبك فَركب الْعَسْكَر من الْأُمَرَاء والمماليك والمقدمين وأجناد الْحلقَة إِلَى لقائهم بالزي الفاخر. وتمثلوا بَين يَدي السُّلْطَان(4/231)
وَقدمُوا مَعَهم من الْهَدِيَّة، وَهِي عدَّة مماليك، وفرو سمور، وطيور جوارح. فَكتب جوابهم وأعيدوا. وَفِي هَذَا الشَّهْر: حملت جَارِيَة بِدِمَشْق من عُتَقَاء الْأَمِير تمر المهمندار قَرِيبا من سبعين يَوْمًا ثمَّ طرحت أَرْبَعَة عشر بِنْتا وصبياً يعرف الذّكر من الْأُنْثَى فِي نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَلما مَاتَ شيخو قبض السُّلْطَان على الْأَمِير خَلِيل بن قوصون وَغَيره من أَتبَاع شيخو فيهم الْأَمِير قجا السِّلَاح دَار أَمِير شكار والأمير تقطاى الدوادار والأمير قطلوبغا الذَّهَبِيّ وأرغون الطرخاني فنفي بَعضهم إِلَى الشَّام وسجن بَعضهم بالإسكندرية وَانْفَرَدَ الْأَمِير صرغتمش بتدبير الدولة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة: اسْتَقر الْأَمِير تنكزبغا أَمِير مجْلِس والأمير أزدَمُر الخازندار أَمِير سلَاح والأمير كشتمر القاسمي حَاجِب الْحجاب والأمير علم دَار دوادارا كَبِيرا. وأنعم على يلبغا الْعمريّ الخاصكي بإمارة طبلخاناه وعَلى مَنْكلى بُغا بإمرة طبلخاناه وعَلى أيْدَمُر بإمرة طبلخاناه وعَلى طَيبغا الطَّوِيل بإمر طبلخاناه. وَاسْتقر قطب الدّين ابْن عرب فِي حسبَة الْقَاهِرَة بعد وَفَاة شمس الدّين مُحَمَّد ابْن الصاحب فَجْأَة وَهُوَ رَاكب على بغلته بَين القصرين فَسقط عَنْهَا فَلَا يدرى أمات فَسقط أَو سقط فَمَاتَ. وَاسْتقر تَاج الدّين بن الريشة فِي نظر الدولة. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان قَاضِي قُضَاة الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق نجم الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْعِمَاد أبي الْحسن عَليّ ابْن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد بن عبد الْمُنعم بن عبد الصَّمد الطرسوسي الْحَنَفِيّ عَن أَرْبَعِينَ سنة. وَكَانَ مشكور السِّيرَة صنف كتاب رفع الكلفة عَن الأخوان فِي ذكر مَا قدم الْقيَاس على الِاسْتِحْسَان وَكتاب الاختلافات الْوَاقِعَة فِي المصنفات(4/232)
وَكتاب مَنَاسِك الْحَج - مطولا - وَكتاب مَحْظُورَات الْإِحْرَام وَكتاب الإشارات فِي ضبط المشكلات - عدَّة مجلدات - وَكتاب الْفَتَاوَى فِي الْفِقْه وَكتاب الْإِعْلَام فِي مصطلح الشُّهُود والحكام وَكتاب الفوايد الْمَنْظُومَة فِي الْفِقْه. وَمَات شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن عبد المحسن العسجدي الشَّافِعِي وَقد قَارب الثَّمَانِينَ. وَمَات الْأَمِير أرغون الكاملي بالقدس فِي تِلْكَ السّنة أَصله من مماليك الْكَامِل شعْبَان بن النَّاصِر مُحَمَّد فترقى فِي الخدم حَتَّى صَار من أُمَرَاء الألوف وَولى نِيَابَة حلب ونيابة دمشق ثمَّ قبض عَلَيْهِ وسجن ثمَّ نفي إِلَى الْقُدس فَمَاتَ بهَا. وَتُوفِّي الشَّيْخ قوام الدّين أَبُو حنيفَة أَمِير بن كَاتب بن أَمِير عمر بن أَمِير غَازِي الفارابي الْأَتْقَانِيّ فِي شَوَّال ولى تدريس مشْهد الإِمَام أَبى حنيفَة - رَحمَه الله تَعَالَى - بِبَغْدَاد ثمَّ قدم إِلَى الشَّام فاستدعى مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَة واختص بالأمير صَرْغَتمش وَعمل لَهُ درساً بِجَامِع المارديني ثمَّ وَتوفى محب الدّين أَبُو عبد الله مَحْمُود بن عَلَاء الدّين على بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف القونوي الشَّافِعِي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشْرين ربيع الآخر. درس بِالْمَدْرَسَةِ الشريفية من الْقَاهِرَة وبالجامع المارديني. وَشرح كتاب ابْن الْحَاجِب فِي الْأُصُول وَكتب تَعْلِيقه فِي الْفِقْه وَكتب إعتراضات على شرح الْحَاوِي فِي الْفِقْه لِأَبِيهِ. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن الأطروش الْحَنَفِيّ محتسب الْقَاهِرَة وقاضي الْعَسْكَر فِي تِلْكَ السّنة. حدث وَكَانَ فِيهِ كرم وَهُوَ مَعْدُود من رجال الدُّنْيَا فِي مَعْنَاهُ. وَله منازعات مَعَ الضياء الشَّامي فِي نظر المارستان وحسبة الْقَاهِرَة. وَكَانَ يَلِي هَذَا مرّة وَهَذَا مرّة. وَولى أَولا حسبَة دمشق. وَكَانَ أَبوهُ يَبِيع السقط.(4/233)
فارغه(4/234)
(سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة)
أول الْمحرم: اسْتَقر محب الدّين مُحَمَّد بن نجم الدّين يُوسُف بن أَحْمد بن عبد الدايم التَّيْمِيّ الْمَعْرُوف بكاتب جانكلى صَاحب ديوَان الْأَمِير قجا السِّلَاح دَار فِي نظر الْبيُوت. وَفِي هَذَا الشَّهْر: أَمر - بِإِشَارَة الْأَمِير صَرْغتمش - أَن تضرب فلوس زنة الْفلس مِنْهَا مِثْقَال فَضرب مِنْهَا عدَّة قناطير. ثمَّ رسم أَن يكون كل فلس من هَذِه الجدد بفلسين من الْعتْق وكل رَطْل من الْفُلُوس الْعتْق بدرهم وَنصف بعد مَا كَانَ الرطل مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ. وَركب وَالِي الْقَاهِرَة ووالي مصر ومحتسبيهما وأحمال الْفُلُوس الجدد بَين أَيْديهم. وَنُودِيَ فِي النَّاس بِأَن يتعاملوا بهَا على مَا ذكرنَا. فاستمرت الْمُعَامَلَة بالفلوس الجدد واستقرت أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فلسًا بدرهم فضَّة. وعزل تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ عَن قَضَاء دمشق وَاسْتقر عوضه بهاء الدّين أَبُو الْبَقَاء مُحَمَّد بن عبد الْبر السُّبْكِيّ الشَّافِعِي. وَاسْتقر جمال الدّين مَحْمُود بن أَحْمد بن مَسْعُود القونوي - الْمَعْرُوف بِابْن السراج الْحَنَفِيّ - فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن شهَاب الدّين أَحْمد بن فَزَارَة الكفري. وَاسْتقر شرف الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَسْكَر الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن جمال الدّين المسلاتي.(4/235)
وأستقر شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن المخلطة فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن ابْن الريغي. وَفِي يَوْم سَار الْبَرِيد بِالْقَبْضِ على الْأَمِير طاز نَائِب حلب فَبلغ الْخَبَر طاز فَسَار من حلب فِي أَصْحَابه كَأَنَّهُ يُرِيد الْحَرْب. وَأخذ السُّلْطَان فِي تجهيز العساكر لقتاله فَلَمَّا قَارب دمشق أرسل إِلَى الْأَمِير على النَّائِب بِأَنَّهُ مَمْلُوك السُّلْطَان وَفِي طَاعَته وَمَا قصدت إِلَّا أَن يصل أَهلِي إِلَى دمشق فِي سَلامَة من نهب العربان والتراكمين. وَسلم نَفسه فَقبض نَائِب الشَّام على حَاشِيَته وجهز سيوفهم إِلَى السُّلْطَان على الْعَادة وَحمل طاز مُقَيّدا إِلَى الكرك فبطلت تجريدة العساكر ورسم بِنَقْل طاز إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَكتب باستقرار الْأَمِير منجك فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن طاز. وَتقدم مرسوم قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن جمَاعَة بألا يشْهد فِي المساطير المكتبة بمبلغ كَبِير من المَال وَفِي صدقَات النِّسَاء الَّتِي مبلغها كَبِير إِلَّا أَرْبَعَة شُهُود وَلَا يشْهد على مَرِيض بِوَصِيَّة إِلَّا بِإِذن أحد الْقُضَاة الْأَرْبَعَة أَو أحد نواب الشَّافِعِي. وفى يَوْم الْخَمِيس ثامن عشْرين جُمَادَى الآخر: صرف قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة عَن الْقَضَاء وَاسْتقر عوضه الشَّيْخ بهاء الدّين عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عقيل الْعقيلِيّ فَأبْطل مَا رسم بِهِ للشُّهُود وَفرق من مَال الصَّدقَات فِي الْفُقَرَاء نَحْو السِّتين ألف دِرْهَم فِي أَيَّام ولَايَته وَفرق الْفُقَهَاء مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم من وَصِيَّة واستناب زوج ابْنَته سراج الدّين عمر بن رسْلَان بن نصير بن صَالح(4/236)
البُلْقِينِيّ وتاج الدّين بن سَالم وَغَيره من أصهاره. وأنعم على الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن قشتمر حمص أَخْضَر بإمرة مائَة. وَكثر فِي شهر رَمَضَان إكرام السُّلْطَان للأمير صَرْغَتْمش وَأمر فَعمل لَهُ بثغر الْإسْكَنْدَريَّة قبانخ. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الاحد تَاسِع عشره أصبح السُّلْطَان متوعك الْبدن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ صَرْغَتْمُش ليعوده ألبسهُ القبانخ وَنزل إِلَى دَاره. ثمَّ صعد من الْغَد يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشرينه إِلَى الْقصر على عَادَته وَأمر وَنهى على بَاب الْقصر وَصرف أُمُور الدولة على عَادَته ثمَّ دخل. فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ الْجُلُوس وتكامل الْمركب تقدم الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل وَقبض عَلَيْهِ وأعانه الْأَمِير منكلى بغا ثمَّ قبض على الْأَمِير قشتمر القاعي حَاجِب الْحجاب والأمير طقبغا صاروق الماجارى. وَارْتجَّ الْقصر. بِمن فِيهِ فَركب الْأَمِير أَحْمد بن قشتمر فِي عدَّة من المماليك وَلبس وهم آلَة الْحَرْب ووقف تَحت القلعة فَركب إِلَيْهِ الْأَمِير عز الدّين أزدمر الخازندار والأمير يلبغا الخاصكي والأمير تنكر بغا والأمير طيبغا الطَّوِيل والأمير منكلى بغا فِي طَائِفَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وقاتلوه من بكرَة النَّهَار إِلَى الْعَصْر حَتَّى هزموه وَمن مَعَه. وَركب الْعَامَّة أقفيتهم يرجمونهم بِالْحِجَارَةِ ثمَّ امتدت أَيْديهم إِلَى بَيت الْأَمِير صَرْغتْمش فنهبوه ونهبوا الحوانيت الَّتِي بالصليبة بجواره وتتبعوا الْعَجم فَإِن صرغتمش كَانَ يعْنى بهم ونوه باسمهم وَجعل مدرسته وَقفا عَلَيْهِم. فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً عَظِيما شناعته. وَاسْتمرّ الطّلب على ابْن قَشتَمُر حَتَّى قيض عَلَيْهِ وعَلى جماعته من أخر النَّهَار فقيدوا وحملوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة - وَفِيهِمْ صرغَتمش - فسجنوا بهَا. وَقبض على القَاضِي ضِيَاء الدّين يُوسُف بن أَبى بكر مُحَمَّد نَاظر المارستان وأهين وأركب على حمَار ثمَّ نفي بعد ضربه بالمقارع عرياً ومصادرته. وعزل عَامَّة من كَانَ جِهَته صَرْغَتْمُش فعزل قطب الدّين بن عرب من حسبَة الْقَاهِرَة وَاسْتقر عوضه الشَّيْخ عبد الرَّحِيم الْإِسْنَوِيّ وعزل ابْن عقيل عَن قَضَاء الْقُضَاة بعد اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ يَوْمًا وأعيد عز الدّين بن جمَاعَة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشْرين شهر رَمَضَان. وَقبض على نَاظر(4/237)
الْخَاص والجيش علم الدّين عبد الله بن نقُوله وصودر وَاسْتقر عوضه فِي نظر الْخَاص تَاج الدّين بن الريشة مُضَافا إِلَى الوزارة. وَفِي نظر الْجَيْش محب الدّين مُحَمَّد بن نجم الدّين يُوسُف بن أَحْمد بن عبد الدايم. وَاسْتقر عوض محب الدّين فِي نظر الْبيُوت فَخر الدّين بن السعيد. قبض على جرجى الأدريسي وَنفي فِي عدَّة من الْأُمَرَاء. وأنعم السُّلْطَان على عدَّة من مماليكه بأمريات أنعم على مَمْلُوكه الْأَمِير يلبغا الخاصكي بتقدمة ألف وَعَمله أَمِير مجْلِس عوضا عَن تنكز بغا. وأنعم على كل من الأميرين مَنكَلى بُغَا والأمير طَيبغا الطَّوِيل والأمير أندَمُر الشَّامي والأمير ألجَاي اليوسفي بإمرة مائَة وتقدمة ألف. وَعمل أيْدَمر الشَّامي داودارا وألحَا حاجباً ثَانِيًا. وَعمل الْأَمِير عز الدّين أزدمر الخازن دَار أَمِيرا كَبِيرا مَكَان صَرْغَتمش وولاه نظر المارستان المنصوري وَنظر وقف الصَّالح إِسْمَاعِيل بَقِيَّة المنصورية. وأنعم على عدَّة من مماليكه أَيْضا بأمريات مَا بَين طبلخاناه وعشرات. وَفِي يَوْم الْأَحَد: الْمُبَارك ولد للسُّلْطَان ولد ذكر سَمَّاهُ قَاسم وَأَعْطَاهُ إمرة مائَة. وَنقل الْأَمِير مَنْجَك من نِيَابَة حلب إِلَى نِيَابَة الشَّام عوضا عَن أَمِير عَليّ. وَنقل أَمِير عَليّ إِلَى نِيَابَة حلب. وَفِيه خرجت تجريدة إِلَى برقة مَعَ الْأَمِير مُحَمَّد باك القازاني. وَفِي هَذِه السّنة: كثر اخْتِصَاص قطب الدّين هِرْماس بالسلطان وَصَارَ يدْخل عَلَيْهِ مَتى أَرَادَ بِغَيْر إِذن وَيدخل مَعَه أَيْضا زوج ابْنَته صدر الدّين. وَكَانَت بَين الْهِنْدِيّ سراج الدّين عمر الْحَنَفِيّ وَبَين الهرماس منافرة فَتقدم لقَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين عبد الله بن التركماني أَن يعزله من نِيَابَة الحكم فَصَرفهُ وهجره فَأَعْرض عَنهُ عَامَّة فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة. وَفِيه اسْتَقر التنيسِي الْمَالِكِي فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة بعد وَفَاة ابْن المختلطة وَقدم الْخَبَر بِمَوْت صرغَتمش فِي سجنه بالإسكندرية فَكَانَت مُدَّة سجنه شَهْرَيْن واثني عشر يَوْمًا. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان شرف الدّين أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر القَنسَراني بِدِمَشْق عَن نَيف وَخمسين سنة.(4/238)
وَمَات الْأَمِير الْكَبِير سيف الدّين صَرغَتْمش الناصري بسجن الْإسْكَنْدَريَّة مقتولاً فِي ذِي الْحجَّة. كَانَ يكْتب الْخط الْجيد ويشارك فِي الْفِقْه على مَذْهَب أَبى حنيفَة ويتعصب لمذهبه ويجل الْعَجم وَيخْتَص بهم وَيتَكَلَّم أَيْضا فِي الْعَرَبيَّة ودبر أَمر الدولة مُدَّة. وَمَات أَبُو عنان فَارس بن أبي الْحسن عَليّ بن أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن جمَاعَة المريني متملك الْمغرب وَصَاحب فاس. وَتُوفِّي فَخر الدّين أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن المُختَلطَة قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع رَجَب. وَتُوفِّي شمس الدّين بن عِيسَى بن حسن بن كرّ الْحَنْبَلِيّ إِمَام أهل الموسيقى وَله تأليف حسن فِي الموسيقى. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين تَنْكِزبغا المارديني أَمِير مجْلِس وَزوج أُخْت السُّلْطَان حسن وَمَات الْأَمِير الطواشي صفي الدّين جَوْهَر الجَناحي مقدم المماليك وَقد قَارب الْمِائَة سنة. وَتوفى شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن دَاوُد بن نصر الهكاري الْكرْدِي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي ذِي الْقعدَة ومولده سنة خمس وَثَمَانِينَ وست مائَة. حدث عَن التقي الواسلي والشريف بن عَسَاكِر وتفقه وَأفْتى ودرس. وَتوفى أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة الشريف مَانع بن عَليّ بن مَسْعُود بن جَازَ بن شيحة الْحُسَيْنِي. وَاسْتقر بعد ابْن عَمه فضل بن قَاسم فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين. وَكثر تظاهره. بمذهبه. فَلَمَّا قدم الْحَاج وَلبس الخلعة على الْعَادة وثب عَلَيْهِ فداويان قتلاه فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة فثارت الْفِتْنَة بعد قَتله وتأذى بهَا كثير من الْحجَّاج.(4/239)
وَتُوفِّي إِمَام الْحَنَابِلَة بِمَكَّة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن مُوسَى الْآمِدِيّ الْحَنْبَلِيّ بَعْدَمَا أم النَّاس ثَلَاثِينَ سنة. وَمَات قَتِيلا الْأَمِير سيف بن فضل بن مهنا بن عِيسَى بن مهنا بن مَانع بن حَدِيثَة بن غضينة بن فضل فِي ذِي الْقعدَة. وَكَانَ جواداً ولى إمرة آل فضل غير مرّة. وَمَات الْأَمِير مَلَكتمُر السعيدي فِي ثامن ذِي الْقعدَة.(4/240)
(سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة)
فِي الْأَرْبَعَاء ثَالِث الْمحرم: قدم أَمِير على إِلَى دمشق وَقد أُعِيد إِلَى نيابتها وعزل الْأَمِير مَنجَك عَنْهَا وَطلب إِلَى مصر ففر من غَزَّة وَلم يُقف على خَبره فَعُوقِبَ بِسَبَبِهِ عدَّة من النَّاس. وَاسْتقر الْأَمِير سيف الدّين بكتمر المؤمني فِي نِيَابَة حلب ثمَّ صرف عَنْهَا وَاسْتقر عوضه الْأَمِير سيف الدّين بيدمر الْخَوَارِزْمِيّ. وَصرف أَمِير على عَن نِيَابَة الشَّام وَاسْتقر عوضه الْأَمِير سيف الدّين أَسَنْدَمُر الزيني. وانتهت زِيَادَة مَاء النّيل إِلَى أَربع أَصَابِع من عشْرين ذِرَاعا وَثَبت إِلَى أول شهر هاتور فَخرج النَّاس ودعوا حَتَّى هَبَط فكثرت الْأَمْرَاض بِبِلَاد الصَّعِيد. وفيهَا عقد لشمس الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن يُوسُف بن عبد الرَّحِيم الدكالي الأَصْل الْمَعْرُوف بِابْن النقاش الْفَقِيه الشَّافِعِي فَجَلَسَ بَين يَدي قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بِإِشَارَة الهرماس وَادّعى عَلَيْهِ زين الدّين عبد الرَّحِيم الْعِرَاقِيّ أَنه يُفْتِي بِغَيْر مَذْهَب الشَّافِعِي فَمنع من الْإِفْتَاء وَألا يتَكَلَّم فِي مجَالِس الْوَعْظ إِلَّا من كتاب فَامْتنعَ بعد مَا حبس ثمَّ أفرج عَنهُ.(4/241)
وَفِيه أخرج الْأَمِير عز الدّين. أَزدَمر الخازندار إِلَى الشَّام على إمرة بهَا فَانْحَطَّ قدر الهرماس وَفِي شهر رَجَب: سَارَتْ الْحجَّاج الرجبية من الْقَاهِرَة وسافر فيهم قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة وقاضي الْقُضَاة موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ وقطب الدّين الهرماس. وَكَانَ الشريف عجلَان قد قدم من مَكَّة فَعَزله السُّلْطَان عَن إمارتها وَولى عوضه الشريفان مُحَمَّد بن عُطفة وَسَنَد بن رُمَيثة وقواهما بالأمير جرَكتمُر الْحَاجِب والأمير قطلوبغا المنصوري وناصر الدّين أَحْمد بن أصلَم ليقيموا بِمَكَّة حَتَّى يَأْتِيهم الْبَدَل من مصر. وعُوق الشريف عجلَان بِمصْر فاتصل - فِي غيبَة الهرماس - بالسلطان سراج الدّين عمر الْهِنْدِيّ قَاضِي الْعَسْكَر وشمس الدّين مُحَمَّد بن النقاش ولازماه سفرا وَإِقَامَة وبلغا مِنْهُ منزلَة مكينة فأخذا فِي إغراء السُّلْطَان بِهِ حَتَّى تنكر لَهُ وَتغَير عَلَيْهِ لقوادح رمياه بهَا. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان جمال الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود بن سلمَان بن فَهد الْحلَبِي كَاتب سر حلب. وَمَات الْأَمِير عز الدّين تُقطاي الداودار الصَّالِحِي بطرابلس منفياً أَصله من مماليك يلبغا اليحياوي ثمَّ انْتقل إِلَى الْملك الصَّالح فترقى حَتَّى صَار من الْأُمَرَاء ثمَّ أخرج إِلَى الشَّام فَقدم دمشق فِي ربيع الآخر سنة تسع وَخمسين وَمضى إِلَى طرابلس فَأَقَامَ لَهَا حَتَّى هلك. وَمَات علم الدّين مُحَمَّد بن القطب أَحْمد بن مفضل كَاتب سر دمشق وناظر الْجَيْش بهَا وَقد جَاوز السِّتين. وَمَات تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن شَاس الْمَالِكِي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع شَوَّال وَقد نَاب فِي الحكم وَأفْتى ودرس.(4/242)
وَمَات تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن عُثْمَان الْقَيْسِي أَبُو المظفر الْحَمَوِيّ عرف بِابْن الْحَكِيم الْحَنَفِيّ قَاضِي حماة وَقد أناف على سِتِّينَ سنة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بن فضل بن عِيسَى قَتله عمر بن مُوسَى. وَكَانَ قد ولى إمرة الْعَرَب فِي أَيَّام المظفر حاجى بعد أَحْمد بن مهنا فَلَمَّا مَاتَ أُعِيد أَحْمد بن مهنا. وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.(4/243)
فارغه(4/244)
سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِيهَا اسْتَقر أَمِين الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حَمْزَة التَّمِيمِي الْمَعْرُوف بِابْن القلانسي الدِّمَشْقِي كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق اسْتَقر صَلَاح الدّين خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي كَاتب السِّرّ بحلب. وَلما قدم الْحَاج كَانَ السُّلْطَان بقصور سرياقوس توجه قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين ابْن جمَاعَة وقاضي الْقُضَاة موفق الدّين عبد الله الْحَنْبَلِيّ وَالشَّيْخ قطب الدّين الهرماس وَقد قدمُوا من الْحَج للسلام على السُّلْطَان فَأذن للقاضيين فِي الدُّخُول على السُّلْطَان فدخلا وَمنع الهرماس من ذَلِك فَأقبل السُّلْطَان عَلَيْهِمَا وألبسهما خلعتين وخرجا إِلَى منازلهما بِالْقَاهِرَةِ. وَتبين للنَّاس انحطاط رُتْبَة الهرماس وَفَسَاد حَاله مَعَ السُّلْطَان. وَفِيه سَار الْأَمِير بيدمر نَائِب حلب بالعساكر إِلَى بِلَاد سيس فَفتح أذنة وطرسوس والمصيصة وعدة قلاع وَأقَام بأذنة وطرسوس نائبين بعسكر مَعَهُمَا وَعَاد بالغنائم إِلَى حلب فَنقل فِي شهر ربيع الأول إِلَى نِيَابَة دمشق عوضا عَن أسندمر الزيني.(4/245)
وَاسْتقر الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن القشتمري فِي نِيَابَة حلب. وَاسْتقر نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمَعَالِي الْحلَبِي كَاتب السِّرّ بحلب عوضا عَن الصّلاح الصَّفَدِي وَاسْتقر الْأَمِير ألجاي اليوسفي صَاحب الْحجاب بِدِمَشْق. وظفر الْمُسلمُونَ بغراب للفرنج فأسروا من فِيهِ وَقدمُوا بهم الْقَاهِرَة. وَاسْتقر فَخر الدّين ماجد - ويدعى عبد الله بن أَمِين الدّين خصيب - فِي الوزارة بعد وَفَاة ابْن الريشة. وَكَانَ خصيب من جملَة الْكتاب النَّصَارَى فَأسلم وترقى ابْنة ماجد فِي الخدم وفيهَا اشْترى السُّلْطَان الْقصر الْمَعْرُوف بالبيسري من الْقَاهِرَة وَقصر بشتاك الْمُقَابل لَهُ وجدد عمارتهما. وَفِي يَوْم الْأَحَد: ركب السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل وَعبر من بَاب زويلة إِلَى المارستان المنصوري وشقاق الْحَرِير مفروشة ليمشي عَلَيْهَا فزار أَبَاهُ وجده. وَقد زينت لَهُ الْقَاهِرَة وَاجْتمعَ بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية قُضَاة الْقُضَاة الْأَرْبَع ومشايخ الْعلم. بهاء الدّين ابْن عقيل وزين الدّين البسطامي الْحَنَفِيّ وأكمل الدّين الْحَنَفِيّ وبهاء الدّين السُّبْكِيّ وسراج الدّين الْهِنْدِيّ وسراج الدّين البُلْقِينِيّ وناصر الدّين نصر الله الْحَنْبَلِيّ وشمس الدّين بن الصايغ الْحَنَفِيّ وشمس الدّين مُحَمَّد بن النقاش وَبدر الدّين حسن الشجاع الْحَنَفِيّ وعدة أخر. فَأَتَاهُم السُّلْطَان وهم بالإيوان القبلي فَجَلَسَ وهم حَلقَة بَين يَدَيْهِ وأداروا الْبَحْث فِي مَسْأَلَة حَتَّى انْتَهوا إِلَى غايتهم فِيهَا. وقدمت عدَّة سجاجيد وَغَيرهَا للسُّلْطَان فقبلها وَصَارَ يَرْمِي بهَا إِلَى الْأُمَرَاء وهم يقبلُونَ الأَرْض. ثمَّ قَامَ فَركب من الْبَاب وَركب مَعَه ابْن النقاش وسراج الْهِنْدِيّ حَتَّى حَاذَى جَامع الْحَاكِم فَأمر بهدم دَار الهرماس. ثمَّ خرج من بَاب النَّصْر وَصعد إِلَى القلعة. فهدمت دَار الهرماس الْمُجَاورَة للجامع وَنزل الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الأزكشي فَقبض على الهرماس وَولده وَنزع عَنهُ ثِيَابه وضربه بالمقارع قَرِيبا من عشرَة شيوب وداره تهدم وَهُوَ يشاهدها، ثمَّ أخرج إِلَى مصياف من بِلَاد الشَّام منفيا.(4/246)
وَكَانَ من الدهاء وَالْمَكْر على جَانب كَبِير. وَفِيه يَقُول الْعَلامَة شمس الدّين مُحَمَّد بن الصايغ الْحَنَفِيّ: نَالَ هرماس الخسارة من بعد ربح وجسارة وَحسب الْبُهْتَان يبْقى أخرب الله دياره وَقبض على الْأَمِير منجك من داريا بالشرف الْأَعْلَى ظَاهر مَدِينَة دمشق بعد مَا أَقَامَ مختفياً نَحْو سنة فَحمل إِلَى مصر وتمثل بَين يَدي السُّلْطَان وَهُوَ لابس بشتا من صوف وَقد أعتم. بميزر من صوف فَعَفَا عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه بِالشَّام ورسم أَن يكون طرخانا وَأَن يُقيم حَيْثُ شَاءَ من الْبِلَاد. وَكَانَ النّيل فِي هَذِه السّنة مِمَّا يتعجب مِنْهُ فَإِن القاع جَاءَ نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة ذِرَاعا. وَكَانَ الْوَفَاء يَوْم الْخَمِيس وَهُوَ سادس مسرى فَكسر سد الخليج من الْغَد يَوْم الْجُمُعَة وَنُودِيَ عَلَيْهِ تِسْعَة أَصَابِع من عشْرين ذِرَاعا. ثمَّ بَطل النداء عَلَيْهِ فَبلغ نَحْو أَرْبَعَة وَعشْرين ذِرَاعا وَخَربَتْ عدَّة مسَاكِن وَاسْتمرّ ثَابتا إِلَى خَامِس بابة فَخرج النَّاس من الْغَد ودعوا الله فهبط من يَوْمه أَرْبَعَة أَصَابِع. وسارت الْحجَّاج الرجبية على الْعَادة. وَتوجه الْأَمِير قُنْدش بَدَلا من الْأَمِير جركتمر. ورسم بتوجه جركتمر إِلَى الشَّام بعد الْحَج وَقد قطع خبزه. وَكَانَ الشريف ثقبة فِيمَا مضى مُقيما بجدة فَلَمَّا خرج جركتمر من مَكَّة بعد قَضَاء الْحَج هجم ثقبة عَلَيْهَا وَأخذ خُيُول قُندسُ وَمن مَعَه وحصرهم فِي الْمَسْجِد فأغلقوا عَلَيْهِم أبوابه وقاتلوا من أَعْلَاهُ بالنشاب فَقتل الشريف مغامس وَانْهَزَمَ قُندسُ بِأَصْحَابِهِ فَقتل مِنْهُم وَأسر جمَاعَة نُودي عَلَيْهِم. بِمَكَّة للْبيع فبيعوا بأبخس الْأَثْمَان. وَأخذ قندس فعذب عذَابا أشفى مِنْهُ على الْمَوْت. ثمَّ نُودي عَلَيْهِ وأبيع بِدِرْهَمَيْنِ فشفع إِلَيْهِ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن قَاسم الْحرَازِي قَاضِي مَكَّة حَتَّى أخرج من مَكَّة وَمَعَهُ جَمِيع الأتراك. وَقد اقْترض مَا يبلغهُ إِلَى يَنْبع. وفر أَيْضا الشريف مُحَمَّد بن عُطيفة إِلَى يَنْبع والتجأ الشريف سَنَد بن رميثة إِلَى الشريف ثقبة وَصَارَ من جملَته. فَلَمَّا قدم الْحَاج من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة إِلَى يَنْبع(4/247)
وجدوا بهَا الْأَمِير قُنْدُس وَمن بَقِي من المجردين وَمُحَمّد بن عُطَيْفَةَ فَسَارُوا مَعَ الْحَاج إِلَى الْقَاهِرَة. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلاي أَبُو سعيد الشَّافِعِي صَاحب كتاب الْقَوَاعِد وَغَيره فِي الْمحرم. ومولده سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة. وَكَانَ حَافِظًا فَقِيها شافعياً لم يخلف بعده فِي وَمَات صدر الدّين أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق الْحَنَفِيّ نَاظر الأحباس عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة. وَمَات جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن يُوسُف بن أَحْمد بن عبد الله بن هِشَام النَّحْوِيّ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي ذِي الْقعدَة ومولده فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسَبْعمائة. وَمَات الشريف زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر بن زيد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد الممدوح الْحُسَيْنِي الْحلَبِي نقيب الْأَشْرَاف بحلب. وَمَات السُّلْطَان الْملك الصَّالح صَالح بن مُحَمَّد بن قلاوون فِي محبسه من قلعة الْحَبل سلخ ذِي الْحجَّة وَدفن بتربة عَمه الصَّالح عَليّ بن قلاوون قَرِيبا من المشهد النفيسي. رَحمَه اللهّ تَعَالَى. وَتوفى فَخر الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مِسْكين الشَّافِعِي أحد نواب الحكم ولى قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة وَغَيرهَا عَن ثَلَاث وَتِسْعين سنة فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع رَجَب رَحمَه الله(4/248)
وَمَات صدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين أَحْمد بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض الْحَنْبَلِيّ فاستقر عوضه فِي تدريس الْمدرسَة المنصورية قَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين عبد الله الْحَنْبَلِيّ. وَفِي تدريس الْمدرسَة الأشرفية نَاصِر الدّين نصر الله الْحَنْبَلِيّ. وَمَات شرف الدّين مُوسَى بن كجك الإسرائيلي الأَصْل الطّيب فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن شَوَّال. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد الْقُسْطَلَانِيّ خطيب جَامع عَمْرو بِمصْر وخطيب جَامع القلعة فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس ذِي الْحجَّة. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَحْمد الزَركشي الشَّافِعِي مدرس الْمدرسَة الفارسية وخطيب الْجَامِع الْأَخْضَر فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن ذِي الْحجَّة. وَتُوفِّي سراج الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن معز يَوْم الْخَمِيس حادي عشْرين الْمحرم عَن ماية سنة وَولى حسبَة الْإسْكَنْدَريَّة وَشَهَادَة بَيت المَال. وَتُوفِّي ضِيَاء الدّين أَبُو المحاسن يُوسُف بن أَبى بكر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالضياء بن خطيب بَيت الْآبَار الشَّامي فِي ذِي الْحجَّة. ولى الْحِسْبَة وَنظر الدولة وَنظر المارستان وَغير ذَلِك وَكَانَ ناهضاً أَمينا. رَحمَه الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.(4/249)
فارغه(4/250)
سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة أهلت والأمراض بالباردة فَاشِية فِي النَّاس وَقد ساءت أَحْوَالهم لطول مُدَّة أمراضهم. وفيهَا قدم الْأَمِير بيدمر نَائِب الشَّام وَمَعَهُ الْأَمِير جركتمر المارديني الْمُجَرّد بالحجاز وَقد قبض عَلَيْهِ وفيهَا عدى السُّلْطَان إِلَى بر الجيزة وَنزل بِنَاحِيَة كوم برا قَرِيبا من الأهرام. وفيهَا قبض على الْوَزير الصاحب فَخر الدّين ماجد بن خصيب وعَلى أَخِيه وحواشيه وأصهاره وأحيط بدياره وألزم بِمَال كَبِير. ثمَّ نفي إِلَى مصياف من بِلَاد الشَّام فَأَقَامَ بهَا سنة ونيفاً ثمَّ نقل إِلَى الْقُدس فَأَقَامَ هُنَاكَ أَربع سِنِين مَاتَ وَكَانَ قد أظهر فِي وزارته من الترفع والتعاظم أمرا زَائِدا. من ذَلِك أَنه ألزم جَمِيع مباشري الدولة وَالْخَاص وَعَامة المشدين بالركوب مَعَه إِذا ركب فَإِذا وصلوا بَين يَدَيْهِ إِلَى رَأس سوق الحريريين من الْقَاهِرَة نزل مقدم الدولة ومقدم الْخَاص ومضيا فِي ركابه إِلَى بَين القصرين ثمَّ نزلت طَائِفَة بعد طَائِفَة بِحَسب رتبهم وَمَشوا بَين يَدَيْهِ حَتَّى لَا يبْقى أحد رَاكب سواهُ إِلَى أَن يصل إِلَى دَاره بِرَأْس حارة زويلة فَإِن كَانَ فِي دَاره بِفَم الخور على النّيل نزل من ينزل من قنطرة قدادار وَمَشوا إِلَى دَاره وَهُوَ رَاكب فَإِذا مضى إِلَى الصِّنَاعَة بِمَدِينَة مصر نزل النَّاس من بَاب مصر وَبَقِي هُوَ وَأَخُوهُ راكبين. بمفردهما إِلَى الصِّنَاعَة وَالنَّاس جَمِيعًا مشَاة. وعنى بالأسمطة فَكَانَ يطْبخ دَائِما فِي كل يَوْم بداره ألف رَطْل من اللَّحْم سوى الدَّجَاج والأوز. وَكَانَ يبْعَث كل لَيْلَة بعد عشائه إِلَى بَين القصرين من الْقَاهِرَة فيشترى لَهُ. بمبلغ مِائَتَيْنِ وَخمسين درهما فضَّة مَا بَين قطا وسمان وفراخ وحمام وعصافير مقلوة. وتناهي فِي أَنْوَاع الْأَطْعِمَة الفاخرة واقترح عُلَبًا كبار للحلوى عرفت بعده مُدَّة سِنِين بالعلب الخصيبية. وَأَخْبرنِي الْوَزير الصاحب تَقِيّ الدّين(4/251)
عبد الْوَهَّاب بن الْوَزير فَخر الدّين ماجد بن أبي شَاكر أَنه كَانَ فِي دَارهم من جواري ابْن خصيب جاريتين تحسن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ثَمَانِينَ لوناً من التقالى سوى بَقِيَّة ألوان الطَّعَام. وَبَلغت عدَّة جواريه سَبْعمِائة جَارِيَة بعد مَا كَانَ من أفقر الْكتاب. وَقد غَلبه الدّين وَأقَام فِي السجْن والترسيم على دُيُون النَّاس مُدَّة شهر. وفيهَا قدم فَخر الدّين ماجد بن قزوينة وَزِير دمشق إِلَى الْقَاهِرَة باستدعاء فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي الوزارة وَنظر الْخَاص عوضا عَن ابْن خصيب. وفيهَا عزل الشَّيْخ جمال الدّين عبد الرَّحِيم الْإِسْنَوِيّ نَفسه من حسبَة الْقَاهِرَة لمفاوضة حصلت كَانَت بَينه وَبَين الصاحب فَخر الدّين ماجد بن قزوينة. وَاسْتقر عوضه برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَبى بكر الأخنائي أَخُو قَاضِي الْقُضَاة علم الدّين مُحَمَّد الأخنائي فَسَار فِي الْحِسْبَة أحسن سيرة وتصلحت عَامَّة المعايش وَفِي يَوْم السبت سادس ربيع الآخر: سَقَطت إِحْدَى منارتي مدرسة السُّلْطَان حسن فَهَلَك تحتهَا نَحْو ثَلَاثمِائَة من الْأَطْفَال الْأَيْتَام الَّذين كَانُوا بمكتب السَّبِيل وَغير الْأَيْتَام فتشاءم النَّاس بذلك وتطيروا بِهِ لزوَال السُّلْطَان فَكَانَ كَذَلِك وَزَالَ ملكه فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع جُمَادَى الأولى وَذَلِكَ أَنه بلغه وَهُوَ بمنزله بكوم برا أَن الْأَمِير يلبغا الخاصكي يُرِيد قَتله وَأَنه لَا يدْخل إِلَى الْخدمَة إِلَّا وَهُوَ لابس آلَة الْحَرْب من تَحت ثِيَابه فاستدعى بِهِ وَهُوَ مَعَ حريمه فِي خلْوَة وَأمر فنزعت عَنهُ ثِيَابه كلهَا ثمَّ كتفت يَدَاهُ فْشفعت فِيهِ إِحْدَى حظايا السُّلْطَان حَتَّى خلى عَنهُ وخلع عَلَيْهِ وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَنَّهُ بلغه عَنهُ أَنه لَا يدْخل إِلَّا بِالسِّلَاحِ مخفي فِي ثِيَابه. فَخرج إِلَى مخيمه وَقد اشْتَدَّ حنقه فَلم يمض سوى ثلاثةّ أَيَّام وَبلغ السُّلْطَان أَن يلبغا قد خامر وَأظْهر الْعِصْيَان وألبس مماليكه آلَة الْحَرْب فبادر للرُّكُوب فِي طَائِفَة من مماليكه ليكبسه على بَغْتَة وَيَأْخُذهُ من مخيمه فَسبق ذَلِك إِلَى يلبغا من الطواشي بشير الجمدار وَقيل بل من الحطة الَّتِي شفعت فِيهِ. فَركب بمماليكه من فوره بِالسِّلَاحِ يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن جُمَادَى الأولى بعد الْعَصْر ولقى(4/252)
السُّلْطَان وَهُوَ سَائِر إِلَيْهِ وتوافقا حَتَّى غربت الشَّمْس فَحمل يلبغا. بِمن مَعَه يُرِيد السُّلْطَان فَانْهَزَمَ من غير قتال وَمَعَهُ الْأَمِير عز الدّين أيدمر الدوادار فتفرقت مماليكه فِي كل جِهَة وَتَمَادَى السُّلْطَان فِي هزيمته إِلَى شاطىء النّيل وَركب هُوَ وأيدمر فَقَط فِي بعض المراكب وَترك ركُوب الحراقة السُّلْطَانِيَّة وَصعد قلعة الْجَبَل وألبس من بهَا من المماليك فَلم يجد فِي الإصطبل خيولاً لَهُم فَإِنَّهَا كَانَت مرتبطة على البرسيم لتربع على الْعَادة فاضطرب وَنزل من القلعة وَمَعَهُ أيْدَمُر وَقد تنكرا ليسيرا إِلَى الشَّام فعرفهما بعض المماليك فَأنْكر حَالهمَا وَأَخذهمَا وَمضى بهما إِلَى بَيت الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن المازْكَشي فأواهما. هَذَا وَقد مضى يلبغا وَقت هزيمَة السُّلْطَان فِي إسره فَلم يظفر بِهِ فَركب الحراقة وَمنع أَن يعدى مركب بِأحد من المماليك السُّلْطَانِيَّة إِلَى بر مصر وعدى بَأصحابه فِي اللَّيْل إِلَى الْبر فَلَقِيَهُ الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني والأمير قشتمر المنصوري فِي عدَّة وافرة فحاربهما وهزمهما وَتقدم فَهزمَ طَائِفَة بعد طَائِفَة. ثمَّ وجد الْأَمِير أسنبغا ابْن البوبكري فِي عدَّة وافرة فقاتله قَرِيبا من قنطرة قديدار قتالاً كَبِيرا جرح فِيهِ أسنبغا وَانْهَزَمَ من كَانَ مَعَه. وَمضى يلبغا حَتَّى وقف تَحت القلعة فَبَلغهُ نزُول السُّلْطَان وأَيْدَمُر منكسرين. وبينما هُوَ مفكر فِيمَا يَفْعَله إِذْ أَتَاهُ قَاصد ابْن الأزْكَشي وَأخْبرهُ بِأَن السُّلْطَان وأَيْدَمر عِنْده فَسَار بعسكره إِلَى بَيت ابْن الأزْكَشي بالحسينية وأحاط بِهِ وَأخذ السُّلْطَان والأمير أَيْدَمُر وَمضى بهما إِلَى دَاره قرب جبل الْكَبْش فحبسهما بهَا ووكل بهما من يَثِق بِهِ. ثمَّ عَاد إِلَى القلعة وَقد امْتنع بهَا طَائِفَة من مماليك السُّلْطَان ورموه بالنشاب فأعلمهم بِأَنَّهُ قد قبض على السُّلْطَان وسجنه فِي دَاره فانحلت عزائمهم وفتحوا بَاب القلعة فَصَعدَ يلبغا وَمن مَعَه إِلَيْهَا وملكها وَأقَام فِي السلطنة مُحَمَّد بن المظفر حاجي بن مُحَمَّد بن قلاوون. وَلم يُوقف للسُّلْطَان حسن على خبر فَقيل إِنَّه عاقبه عُقُوبَة شَدِيدَة حَتَّى مَاتَ وَدَفنه فِي مصبطة كَانَ يركب عَلَيْهَا من دَاره بالكبش. وَقيل دَفنه بكيمان مُضر وأَخفي قَبره فَكَانَ عمره دون الثَّلَاثِينَ سنة مِنْهَا مُدَّة سلطنته هَذِه الثَّانِيَة سِتّ سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام. وَترك عشرَة أَوْلَاد ذُكُور وهم أَحْمد وقاسم وَعلي وإسكندر وَشَعْبَان وَإِسْمَاعِيل وَيحيى ومُوسَى ويوسف وَمُحَمّد وست بَنَات. وَكَانَ من خِيَار مُلُوك الأتراك. أَخْبرنِي ثقتان من النَّاس أَنَّهُمَا سمعاه يحلف بالأيمان الحرجة أَنه مَا شرب خمرًا وَلَا لَاطَ مُنْذُ كَانَ إِلَّا أَنه شغف بنسائه وجواريه شغفاً زَائِدا واشتهر فِي أمرهن وأفرط فِي الإقبال عَلَيْهِنَّ مَعَ الْقيام بتدبير ملكه. وعزم على قطع دابر الأقباط والأتراك المماليك فولى عدَّة وظائف كَانَت بيد الأقباط(4/253)
لجَماعَة من الْفُقَهَاء مِنْهَا وَظِيفَة نظر الْجَيْش وَنظر بَيت المَال. وَجعل عشرَة من أَوْلَاد النَّاس أُمَرَاء أُلُوف وهم ولداه أَحْمد وقاسم وأسنبغا بن البوبكري وَعمر بن أرغون النَّائِب وَمُحَمّد بن طرغاي وَمُحَمّد بن بهادر آص وَمُحَمّد بن المحسني ومُوسَى بن أرقطاي وَأحمد بن آل ملك ومُوسَى بن الأزكشي. وأنعم على عدَّة مِنْهُم بإمريات طبلخاناه وعشرات. وَولى ابْن القَشتَمُري نِيَابَة حلب وَابْن صُبْح نِيَابَة صفد. وَقد وَافق أَبَاهُ فِي عدَّة أُمُور فِي اللقب الْخَاص بالملوك فكلاهما لقب بِالْملكِ النَّاصِر. وَفِي أَنه خلع ثمَّ أُعِيد كل مِنْهُمَا إِلَى السلطنة بعد الْخلْع كَانَ ذَلِك فِي ثَانِي شَوَّال. وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا من وزر لَهُ مُتعمم وَصَاحب سيف. وَأقَام مُدَّة بِغَيْر وَزِير وَلَا نَائِب وَبنى الْمدرسَة الَّتِي لم يبن فِي ممالك الْإِسْلَام بَيت لله مثلهَا فِي الْعظم وَالْجَلالَة والضخامة. السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن الْملك المظفر حاجي بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون أَقَامَهُ الْأَمِير يلبغا فِي السلطنة. وَذَلِكَ أَنه لما قبض على السُّلْطَان حسن وَصعد إِلَى القلعة وَمَعَهُ الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل أَمِير سلَاح والأمير مَلَكتمُر المارديني رَأس نوبَة الجمدارية والأمير أَشَقتمر أَمِير مجْلِس فِي بَقِيَّة الْأُمَرَاء اشتوروا فِيمَن يُقَام فِي السلطة فَذكر بَعضهم الْأَمِير حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون وَهُوَ آخر من بقى من أَوْلَاد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد لصلبه فَلم يرضوه خشيَة من أَن يستبد بالأمير دونهم ثمَّ لَا يبْقى مِنْهُم أحدا. وَذكر الْأَمِير أَحْمد بن السُّلْطَان حسن فَرَأَوْا أَن تَقْدِيمه - وَقد عُمل بِأَبِيهِ مَا عُمل - سوء تَدْبِير فَإِن الْحَال يلجئه لِأَن يَأْخُذ بثأر أَبِيه فأعرضوا عَنهُ. وَوَقع الطارق على مُحَمَّد بن المظفر حاجى فاستدعى الْخَلِيفَة وقضاة الْقُضَاة وأحضر ابْن المظفر وعمره نَحْو أَربع عشرَة سنة ففوض الْخَلِيفَة إِلَيْهِ أُمُور الرّعية وَركب والكافة بَين يَدَيْهِ من بَاب الدَّار إِلَى الإيوان حَتَّى جلس على تخت الْملك وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء على الْعَادة وَهُوَ لابس الثَّوْب الخليفتي وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع(4/254)
جُمَادَى الأولى ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور صَلَاح الدّين. وَهُوَ أول من تسلطن من أَوْلَاد أَوْلَاد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد فَقَامَ الْأَمِير يلبغا بتدبير الدولة وَلم يبْق للمنصور سوى الِاسْم. وَاسْتقر الْأَمِير طَيبغا الطَّوِيل على عَادَته أَمِير سلَاح والأمير قطلُوبغا الأحمدي رَأس نوبَة كَبِير والأمير مَلَكتمُر المارديني رَأس نوبَة الجمدارية والأمير أشَقتمُر أَمِير مجْلِس والأمير أرغون الأشعردي دوادارا والأمير ألجاى اليوسفي حَاجِب الْحجاب والأمير قَشتمر المنصوري نَائِب السلطنة. ودقت البشائر وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر بسلطنة الْملك الْمَنْصُور وَكتب إِلَى الْأَعْمَال بذلك فسارت البريدية. وَقبض على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني وسجن بالإسكندرية. وَأَفْرج عَن الْأَمِير طاز وَقد سمل النَّاصِر حسن عَيْنَيْهِ فَلَمَّا مثل بَين يَدي السُّلْطَان وعَلى عَيْنَيْهِ شعرية توجع لَهُ وخلع عَلَيْهِ فَسَأَلَ الْإِقَامَة بالقدس وَأجِيب إِلَى ذَلِك وأنعم لَهُ بإمرة طبلخاناه. فَسَار إِلَيّ الْقُدس وَأقَام بِهِ. وَأَفْرج عَن الْأَمِير جركَتمر المارديني والأمير قَطْلُوبُغا المنصوري والأمير قَشتَمُر القاسمي والأمير مَلَكتمُر المحمدي والأمير أَقتمُر عبد الْغَنِيّ والأمير بَكتمر المؤمني وأخيه طاز. وَاسْتقر قَشتَمُر القاعي نَائِب الكرك ومَلَكتمُر المحمدي نَائِب صفد. وَأخرج بَكتمُر المؤمني إِلَى أسوان منفياً. ونقلت رمة الْأَمِير صَرْغَتمش من الْإسْكَنْدَريَّة ودفنت بمدرسته الْمُجَاورَة لجامع ابْن طولون خَارج الْقَاهِرَة. وخلع على الشريف عجلَان وأعيد إِلَى إِمَارَة مَكَّة. وقدمت الْأَخْبَار فِي شهر رَجَب بِخُرُوج الْأَمِير بَيدَمُر نَائِب الشَّام عَن الطَّاعَة وموافقة جمَاعَة من الْأُمَرَاء لَهُ على ذَلِك مِنْهُم أسَنْدَمُر أَخُو يَلبغا اليحياوي والأمير مَنجَك وَجَمَاعَة وَأَنه قَامَ لأخذ ثأر السُّلْطَان حسن وَأَفْتَاهُ جمَاعَة من الْفُقَهَاء بِجَوَاز قتال قَاتله الَّذِي تغلب على المُلك - يَعْنِي الْأَمِير يَلْبُغا - وَمنع الْبَرِيد أَن يمر من الشَّام. وجهز الْأَمِير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني فِي عَسْكَر إِلَى غَزَّة فحاربوا نائبها(4/255)
وملكوها. فنصب الْأَمِير يَلبُغا. السَنْجق السلطاني وَتقدم إِلَى الْأُمَرَاء بالتجهيز للسَّفر وَأخرج الْأَمِير قَشَتمر نَائِب السلطة إِلَى جِهَة الصَّعِيد فِي عَسْكَر ليحفظ تِلْكَ الْجِهَة فِي مُدَّة الْغَيْبَة بِالشَّام. وأقيم الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الأزْكَشي نَائِب الْغَيْبَة وَخرجت طلاب الْأُمَرَاء شَيْئا بعد شَيْء. وَركب السُّلْطَان فِي أول شهر رَمَضَان من قلعه الْجَبَل وَنزل خَارج الْقَاهِرَة ثمَّ رَحل وصحبته الْخَلِيفَة والأمراء وتاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ قاضى الْعَسْكَر وسراج الدّين عمر الندى قَاضِي الْعَسْكَر. فَرَحل الْأَمِير منجَك بِمن مَعَه من غَزَّة عَائِدًا إِلَى دمشق. فَنزل بهَا السُّلْطَان بعساكره وَجلسَ الْأَمِير يلبغا لعرض الْعَسْكَر. ثمَّ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى دمشق وخيموا بظاهرها فَخرج إِلَيْهِم أَكثر أُمَرَاء دمشق وعسكرها راغبين فِي الطَّاعَة حَتَّى لم يبْق من الْأُمَرَاء مَعَ بَيْدَمُر سوى مَنجَك وأَسَنْدَمُر - وَقد امْتَنعُوا بالقلعة - فترددت الْقُضَاة بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي الصُّلْح حَتَّى تقرر وَحلف لَهُم الْأَمِير يَلُبغا على ذَلِك فاطمأنوا إِلَيْهِ ونزلوا من القلعة. فَركب السُّلْطَان بعساكره صبح يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشْرين شهر رَمَضَان وَدخل إِلَى دمشق وَقبض على الْأَمِير بيدمر والأمير منجك والأمير أَسَندَمُر وقيدوا فَأنْكر ذَلِك جمال الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد المرداوي الْحَنْبَلِيّ قَاضِي دمشق وَصَارَ إِلَى الْأَمِير يَلْبُغا وَقَالَ لَهُ: لم يَقع الصُّلْح على هَذَا فَاعْتَذر بِأَنَّهُ مَا قصد إِلَّا إِقَامَة حُرْمَة السُّلْطَان ووعد بالإفراج عَنْهُم. فَلَمَّا انْصَرف بعث بهم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجنوا بهَا. وَصعد السُّلْطَان إِلَى قلعة دمشق وسكنها. واستبد الْأَمِير يَلْبُغا بتدبير الْأُمُور فِي الشَّام على عَادَته فِي مصر. وَاسْتقر الْأَمِير عَلَاء الدّين أَمِير على نَائِب الشَّام عوضا عَن الْأَمِير بَيْدَمُر وَاسْتقر الْأَمِير قطْلُوبُغا الأحمدي رَأس نوبَة فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أَحْمد بن القَشتمري. ثمَّ سَار السُّلْطَان بعساكره من دمشق فِي يَوْم الْأَحَد فَلَمَّا قرب من الْقَاهِرَة دُقت البشائر بقلعة الْجَبَل وزينت الْقَاهِرَة ومصر زِينَة عَظِيمَة وَصعد إِلَى قلعته فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشْرين شَوَّال. وَفِيه قدم الْأَمِير قَشْتَمُر النَّائِب من الْوَجْه القبلي.(4/256)
وَقدم الْأَمِير حيار بن مهنا فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي الإمرة عوضا عَن أَخِيه فياض ابْن مهنا بعد مَوته. وَاسْتقر عَلَاء الدّين على بن إِبْرَاهِيم بن حسن بن تَمِيم فِي كِتَابَة سر حلب عوضا عَن نَاصِر وَاتفقَ بحلب أَن فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشْرين ربيع الأول جىء إِلَى النَّائِب بمولود قد مَاتَ بعد وِلَادَته بساعة فَإِذا لَهُ على كل كتف رَأس بِوَجْه مستدير وهما إِلَى جِهَة وَاحِدَة. وفيهَا اتّفق الْأَمِير حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون مَعَ الطواشي جَوْهَر الزمردي نَائِب مقدم المماليك على أَن يلبس المماليك السُّلْطَانِيَّة آلَة الْحَرْب ويتسلطن. وَكَانَ السفير بَينهمَا نصر السُّلَيْمَانِي أحد طواشية الْأَمِير حُسَيْن فوشى بذلك إِلَى الْأُمَرَاء. وَكَانَ السُّلْطَان بِالشَّام فبادر الْأَمِير أَيْدَمُر الشمسي نَائِب الْغَيْبَة والأمير مُوسَى بن الأزْكَشي وقبضا على جَوْهَر وَنصر وسجنا بخزانة شمايل بِالْقَاهِرَةِ. فَلَمَّا قدم السُّلْطَان والأمير يلبغا سمراً وشهراً ثمَّ نفيا إِلَى قوص فِي ذِي الْقعدَة. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن خلف بن بدر الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز العلائي الففيه الشَّافِعِي نَاظر بَيت المَال وناظر الأحباس فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ربيع الآخر. والأمير بلبان السناني أستادار السُّلْطَان وَأحد مقدمى الألوف بعد مَا نَفَاهُ النَّاصِر حسن ثمَّ أُعِيد وَاسْتقر إِلَى القلعة وَهُوَ من المماليك الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون. وَمَات الشريف شهَاب الدّين حُسَيْن بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن(4/257)
حُسَيْن بن زيد الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي الْعَسْكَر الأرموي نقيب الْأَشْرَاف بديار مصر وَكَاتب السِّرّ بحلب عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات الشريف بدر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن حَمْزَة بن عَليّ بن الْحسن بن زهرَة بن الْحسن بن زهرَة نقيب الْأَشْرَاف بحلب. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن دويب الْآمِدِيّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي شُهْبَة الأديب الماهر خطيب مَدِينَة غَزَّة وَكَاتب الْإِنْشَاء بِدِمَشْق. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين عِيسَى بن مَحْمُود بن عبد الضَّيْف البعلبكي الْمَعْرُوف بِابْن الْمجد الموسوي فِي سلخ صفر. وَكَانَ قد ابتلى فِي الوسواس بِأَمْر شَدِيد حَتَّى أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ من فسقية الْمدرسَة الصالحية بَين القصرين لايزال بِهِ وسواسه إِلَى أَن يلقى نَفسه فِي المَاء بثيابه ويغطس شتاءً وصيفاً زعماً مِنْهُ أَنه لَا يسبغ الْوضُوء مَا لم يفعل هَذَا. وَكَانَ جميل المعاشرة حسن المحاضرة لَا تمل مُجَالَسَته. وَتُوفِّي الشَّيْخ جمال الدّين عبد الله بن الزَّيْلَعِيّ الْحَنَفِيّ فِي حادي عشْرين الْمحرم برع فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَخرج أَحَادِيث الْهِدَايَة فِي الْفِقْه على مَذْهَب أبي حنيفَة وَخرج أَحَادِيث الْكَشَّاف للزمخشري فِي تَفْسِير الْقُرْآن وَبَين مَا وصلت إِلَيْهِ قدرته من أسانيدها فَأحْسن مَا وَتُوفِّي الشَّيْخ جمال الدّين خَلِيل بن عُثْمَان بن الزولي فِي حادي عشْرين الْمحرم كَانَ شافعياً ثمَّ صَار حنفياً وَكَانَ تيمي الِاعْتِقَاد حَتَّى مَاتَ. ولي خطابة جَامع شيخو وإمامته وتدريس الحَدِيث بالخانكاه الشيخونية. وَكَانَ لشيخو فِيهِ اعْتِقَاد جيد وَله بِهِ اخْتِصَاص. وَكَانَ عبدا صَالحا كثير السّكُون يكْتب الْخط الْجيد. وَتُوفِّي الْحَافِظ عَلَاء الدّين مُغْلطَاي بن قليج بن عبد الله البَكْخَري الْحَنَفِيّ الْمُحدث. وَتُوفِّي الشَّيْخ المعمر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الزرعي الحنْبلي أحد الآمرين بِالْمَعْرُوفِ والناهين عَن الْمُنكر فِي الْمحرم بِمَدِينَة حبراص من الشَّام. قدم إِلَى الْقَاهِرَة(4/258)
وَكَانَ قَوِيا فِي ذَات الله جريئاً على الْمُلُوك أبطل مظالم كَثِيرَة وَصَحب شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية فَانْتَفع بِهِ. وَكَانَ متقشفاً وَله وجاهة عِنْد الْخَاصَّة والعامة لزهده وورعه وتقواه. وَلما قدم على النَّاصِر مُحَمَّد بقلعة الْجَبَل قَالَ لَهُ: يَا شيخ مَا جئتنا بهدية! فَقَالَ: نعم جراب ملآن حيات وعقارب. وَأخرج جراباً فِيهِ قصَص مظالم فرسم السُّلْطَان بإجابته إِلَى جَمِيع ذَلِك. وَعَاد إِلَى دمشق فَأمْضى النَّائِب بَعْضهَا ودافع فِي الْبَعْض. وَتُوفِّي الْفَقِيه المنشىء الْكَاتِب كَمَال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن شرف الدّين أَحْمد ابْن يَعْقُوب بن فضل بن طرخان الزَّيْنَبِي الْجَعْفَرِي العباسي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي بضواحي الْقَاهِرَة عَن بضع وَتُوفِّي الخواجا عز الدّين حُسَيْن بن دَاوُد بن عبد السَّيِّد بن علوان السلَامِي التَّاجِر فِي رَجَب بِدِمَشْق وَقد حدث عَن ابْن النجاري وَغَيره. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين المهمندار حَاجِب الْحجاب بِدِمَشْق فِي شَوَّال. والأمير سيف الدّين برناق نَائِب قلعة دمشق فِي شعْبَان. وَمَات محيى الدّين أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عمر بن الزكي بن أبي الْقَاسِم الشَّافِعِي قَاضِي الكرك فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة بالقدس معزولاً. وَتُوفِّي الشريف ثُقبة بن رُميثَة فِي شَوَّال وَانْفَرَدَ أَخُوهُ عَجلان بعده بإمارة مَكَّة. وفيهَا قتل صَاحب فاس ملك الْمغرب السُّلْطَان أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ذِي الْقعدَة. وأقيم بعده أَبُو عمر تاشفين بن السُّلْطَان أبي الْحسن.(4/259)
فارغه(4/260)
(سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة)
فِي شهر الله الْمحرم: تزوج الْأَمِير يَلْبُغا الأتابك بخوند طولونية زوج السُّلْطَان حسن. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس صفر: خلع على الْأَمِير الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الآنوكي وَاسْتقر مقدم المماليك عوضا عَن شرف الدّين مُخْتَصّ الطَقتمُري بعد وَفَاته. وَخرج السُّلْطَان والأمير يَلبغَا إِلَى الصَّيْد بالجيزة. واستدعى جمَاعَة من الْفُقَهَاء إِلَى مخيم الْأَمِير يَلْبُغَا فعين طَائِفَة مِنْهُم وعرضهم على السُّلْطَان فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشْرين صفر فَخلع على برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران الأخنائي محتسب الْقَاهِرَة وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة عوضا عَن أَخِيه تَاج الدّين بعد مَوته. وخلع على صَلَاح الدّين عبد الله بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم البردمي الْمَالِكِي مدرس الْمدرسَة الأشرفية وَاسْتقر فِي حسبَة القاهرةْ عوضا عَن الْبُرْهَان الأخنائي. وخلع على تَاج الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين شَاهد الجمالي وَاسْتقر فِي نظر المارستان المنصوري عوضا عَن الْبُرْهَان الأخنائي. وخلع على الشَّيْخ شرف الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَسْكَر الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي وَاسْتقر فِي نظر الخزانة الْخَاص عوضا عَن التَّاج الأخنائي. وعدوا النّيل إِلَى الْقَاهِرَة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. ثمَّ عَاد السُّلْطَان إِلَى قلعة الْجَبَل. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع شهر رَجَب: خلع على الْأَمِير طُغاى تَمُر النظامي وَاسْتقر حَاجِب الْحجاب عوضا عَن الْأَمِير ألجاي اليوسفي. وَاسْتقر أُلجاي أَمِير جندار. وَفِي سَابِع عشريه: نفي الْأَمِير مُوسَى بن الأزكشي إِلَى حماة بطالاً وَاسْتقر عوضه أستادار الْأَمِير أروس المحمودي. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس شعْبَان: خلع على الْأَمِير قشتمر النَّائِب وَاسْتقر فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن أَمِير على بِحكم استعفائه. وخلع على الشَّيْخ بهاء الدّين أَحْمد بن التقي السُّبْكِيّ وَاسْتقر فِي قَضَاء دمشق عوضا عَن أَخِيه تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب. وَاسْتقر التَّاج فِي وظائف أَخِيه وَهِي تدريس الْمدرسَة المنصورية والخانكاه الشيخونية والمدرسة الناصرية بجوار قبَّة الإِمَام الشَّافِعِي وإفتاء دَار الْعدْل. وَقد استدعى إِلَى الْقَاهِرَة لِكَثْرَة شكواه.(4/261)
وَفِي ثامنه: أنعم على الْأَمِير قَطْلَقتمُر العلاي الجاشنكير بتقدمة ألف. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس شَوَّال: خلع على الْأَمِير أَشَقتمر المارديني أَمِير مجْلِس وَاسْتقر فِي نِيَابَة وخلع على الْأَمِير طُغَاى تَمر النظامي وَاسْتقر أَمِير مجْلِس عوضا عَن أَشقتمر وخلع على الْأَمِير أَسنبغا بن البوبكري وَاسْتقر حَاجِب الْحجاب. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين أَيْدَمُر الشيخي فِي نِيَابَة حماة. وَاسْتقر الْأَمِير مَنكَلى بغا الشمسي فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن قطلوبغا الأحمدي. وَاسْتقر الْأَمِير أَسندمر الطازي فِي نِيَابَة ملطية فَأكْثر من الغارات على بِلَاد الرّوم وأسرهم وقتلهم فَبعث إلية الْأَمِير مُحَمَّد بن أَرتَنَا صَاحب قيصرية الرّوم عسكراً مَعَ ابْن دُلغَادر فكسبه وَهُوَ يتصيد فقاتله قتالاً شَدِيدا وَنَجَا بِنَفسِهِ إِلَى ملطية. فَكتب السُّلْطَان والأمير يلبُغا بِخُرُوج عَسَاكِر دمشق وطرابلس وحماة وحلب بآلات الْحَرْب والحصار صُحْبَة الْأَمِير قطْلُوبغا نَائِب حلب. فَخرج من دمشق خَمْسَة آلَاف فَارس وَمن بَقِيَّة الْبِلَاد الشامية سَبْعَة آلَاف فَارس. وَتوجه نَائِب حلب فِي اثْنَي عشر ألفا وَمَعَهُ المجانيق والنقابون وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَشُنُّوا الغارات على بِلَاد الرّوم ثمَّ عَادوا بِغَيْر طائل. وفيهَا استدعى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْخَلِيفَة المعتضد بِاللَّه أبي بكر فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى إِلَى قلعة الْجَبَل وَجلسَ مَعَ السُّلْطَان بِالْقصرِ وَقد حضر الْأُمَرَاء فأقيم فِي الْخلَافَة بعد وَفَاة أَبِيه ولقب بالمتوكل على الله وخلع عَلَيْهِ وفوض لَهُ نظر المشهد النفْيسي. ليستعين بِمَا يحمل إِلَيْهِ من النذور على حَاله وَركب إِلَى منزله فهنأه النَّاس بالخلافة. وفيهَا اسْتَقر جمال الدّين يُوسُف بن قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحُسَيْن بن سُلَيْمَان بن فَزَارَة الكفري فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن وَالِده فِي جُمَادَى الأولى.(4/262)
وَاسْتقر صدر الدّين أَحْمد بن عبد الظَّاهِر بن مُحَمَّد الدَّمِيرِيّ فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب عوضا عَن الشهَاب أَحْمد بن مُحَمَّد بن ياسين الريَاحي فِي صفر. وَاسْتقر كَمَال الدّين أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن الْقسم النويري فِي قَضَاء مَكَّة عوضا عَن تَقِيّ الدّين أبي الْيمن مُحَمَّد بن أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم الْحرَازِي بعد عَزله. وفيهَا اسْتَقر جمال الدّين عبد الله بن كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن تَاج الدّين أَحْمد بن السعيد بن الْأَثِير فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب بن عبد الْكَرِيم الْحلَبِي بعد وَفَاته. وفيهَا اشْتَدَّ الْبرد بِدِمَشْق. وَخرج ركب الْحَاج من الْقَاهِرَة صُحْبَة الْأَمِير طَيبغَا الطَّوِيل أَمِير سلَاح وَهُوَ فِي تجمل عَظِيم فوصلت إِلَيْهِ الإقامات إِلَى عَرَفَة حملهَا إِلَيْهِ الْأَمِير يَلبغا وفيهَا خلع صَاحب فاس ملك الْمغرب أَبُو عمر تاشفين بن السُّلْطَان أبي الْحسن على ابْن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي محرم. وَولى ملك الْمغرب بعد أَبُو زيان مُحَمَّد ابْن الْأَمِير أَبى عبد الرَّحْمَن بن السُّلْطَان أبي الْحسن. وفيهَا اشْتَدَّ الْبرد بِبِلَاد الشَّام وجمدت الْمِيَاه حَتَّى مَاء الْفُرَات وَمر المسافرون عَلَيْهِ بأثقالهم فَرَأَوْا مِنْهُ منْظرًا عجيباً. وَهَذَا الْأَمر لم يعْهَد فِي هَذِه الْأَعْصَار مثله. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر من الْأَعْيَان الْخَلِيفَة المعتضد بِاللَّه أَبُو الْفَتْح واسْمه أَبُو بكر بن المستكفي بِاللَّه أبي الرّبيع سُلَيْمَان ابْن الْحَاكِم بِأَمْر الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحسن بن أبي بكر بن أبي عَليّ بن الْحسن بن الْخَلِيفَة الراشد بن المسترشد فِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر جُمَادَى الأولى وَمُدَّة خِلَافَته عشرَة أَعْوَام. وَحج سنة أَربع وَخمسين وَسنة سِتِّينَ. وَكَانَ يلثغ فِي حرف الْكَاف وعهد إِلَى ابْنه مُحَمَّد قبل وَفَاته بِقَلِيل.(4/263)
وَتُوفِّي السُّلْطَان أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني صَاحب فاس من بِلَاد الْمغرب. وَكَانَ من خَبره أَن أَبَاهُ السُّلْطَان - أَبَا الْحسن - أَقَامَهُ أَمِيرا فَقدم هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى غرناطة من الأندلس فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين فأقاما بهَا إِلَى أَن مَاتَ أَبُو عنان فِي سنة تسع وَخمسين وأقيم بعده ابْنه السعيد فِي الْملك فَخرج أَبُو سَالم من غرناطة لَيْلًا وَلحق بأشبيلية وَبهَا سُلْطَان قشتالة فَطرح نَفسه عَلَيْهِ فوعده وَلم يَفِ لَهُ فَاجْتمع النَّاس على مَنْصُور بن سُلَيْمَان بن مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ونازل الْبَلَد الْجَدِيد فَخرج أَبُو سَالم من إشبيلية بِغَيْر طائل وَمضى إِلَى الإفرنس فانضم إِلَيْهِ طَائِفَة وأخدْ مَدِينَة أصيلا وطنجة فتلاحقت بِهِ جيوش مَنْصُور بن سُلَيْمَان وَقد اخْتَلَّ أمره ففر. فَسَار أَبُو سَالم بِمن مَعَه وَدخل دَار الْإِمَارَة يَوْم الْخَمِيس النّصْف من شعْبَان سنة تسع وَخمسين فَلم يخْتَلف عَلَيْهِ أحد إِلَى أَن كَانَت هَذِه السّنة ثار عَلَيْهِ ثقته ودعا إِلَى أَخِيه تاشفين. ففر النَّاس عَنهُ وَخرج لَيْلًا فَأخذ وَذبح فاضطربت الْأُمُور من بعده. وَكَانَ وسيماً بديناً كثير الْحيَاء مؤثراً للجميل لَهُ معرفَة بِالْحِسَابِ والنجوم ومحبة فِي الرَّاحَة. وَتُوفِّي الْأَمِير طاز فِي الْعشْرين من ذِي الْحجَّة بِالشَّام. وَتُوفِّي الشريف شمس الدّين مُحَمَّد بن شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن أَبى الركب نقيب الْأَشْرَاف بِالْقَاهِرَةِ وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الشريفية بحارة بهاء الدّين. وَتُوفِّي أَبوهُ شهَاب الدّين فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ. وَتُوفِّي شمس الدّين أَبُو إِمَامَة مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن يحيى بن عبد الرَّحِيم الْمَعْرُوف بِابْن النقاش الشَّافِعِي الْفَقِيه الْمُحدث الْمُفَسّر الْوَاعِظ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر ربيع الأول. وَتُوفِّي أَمِين الدّين مُحَمَّد بن الْجمال أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الله بن المظفر ابْن أسعد بن حَمْزَة الْمَعْرُوف بِابْن القلانس التَّمِيمِي الدِّمَشْقِي وَكَانَ أحد أَعْيَان دمشق وباشر بهَا وكَالَة بَيت المَال وَقَضَاء الْعَسْكَر ودرس الْفِقْه ثمَّ ولي كِتَابَة السِّرّ مُدَّة وعزل عَنْهَا.(4/264)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران الأخنائي الْمَالِكِي فِي ثامن عشر صفر بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن حمل الْمَعْرُوف بِابْن التّونسِيّ أحد نواب الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر صفر بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب بن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمَعَالِي الْحلَبِي الشَّافِعِي. ولي كِتَابَة السِّرّ بحلب ودمشق ثلاَثاً وَعشْرين سنة ودرس وَقَالَ الشّعْر. وَتُوفِّي صَلَاح الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن كثير التَّاجِر النَّحْوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن المعزى بِمَكَّة فِي ذِي الْقعدَة. أَخذ النَّحْو بِالْقَاهِرَةِ عَن أبي الْحسن وَالِد الشَّيْخ سراج الدّين عمر بن الملقن. وَكَانَ عبدا صَالحا. وَتُوفِّي الْأَمِير أَيْنَبَك أَخُو الْأَمِير بَكتمُر الساقي. وَتُوفِّي الصاحب الطواشي صفي الدّين جَوْهَر الزمردي بقوص فِي شعْبَان. وَتُوفِّي فتح الدّين يحيى بن عبد الله بن مَرْوَان بن عبد الله بن قمر بن الْحسن الفارقي الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي فِي ربيع الآخر بِدِمَشْق. ومولده فِي الْقَاهِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة. وَقد حدث وَكَانَ صَالحا ثِقَة ثبتاً. وَتُوفِّي وَالِده فِي صفر سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة. وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُفْلِح بن مُحَمَّد بن مفرح الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ فِي رَجَب بِدِمَشْق ومولده بعد سنة سَبْعمِائة برع فِي الْفِقْه وَغَيره وصنْف كتاب الْفُرُوع وَهُوَ مُفِيد جدا. وَالله أعلم.(4/265)
فارغه(4/266)
(سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة)
فِي الْمحرم: عدى السُّلْطَان والأمير يَلْبغا النّيل إِلَى بر الجيزة وخيم قَرِيبا من الأهرام وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ: رَابِع عشر صفر قدم قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أَحْمد بن السُّبْكِيّ على الْبَرِيد من دمشق باستدعاء فَاجْتمع بالسلطان والأمير يلبغا ثمَّ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِي تَاسِع عشر شهر ربيع الأول: عَاد السُّلْطَان من السرحة بالجيزة وَمَعَهُ الْأَمِير يَلْبُغَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشرينه: خلع على تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ وأعيد إِلَى قَضَاء دمشق وخلع على أَخِيه بهاء الدّين وأعيد إِلَى إِفْتَاء دَار الْعدْل وَبَقِيَّة وظائفه. وخلع على الْأَمِير وَفِي جُمَادَى الأولى: فَشَتْ الطواعين والأمراض الحادة فِي النَّاس بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَعَامة الْوَجْه البحري وتزايد حَتَّى بلغ فِي شهر رَجَب عدَّة من يَمُوت فِي الْيَوْم ثَلَاثَة آلَاف. وَلم تزل الْأَمْرَاض بِالنَّاسِ إِلَى شهر رَمَضَان. وَقدم الْخَبَر بِوُقُوع الوباء بِدِمَشْق وغزة وحلب وَعَامة بِلَاد الشَّام فَهَلَك فِيهِ خلائق كَثِيرَة جدا وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شعْبَان: اقْتضى رأى الْأَمِير يَلبغَا خلع السُّلْطَان فوافقه الْأُمَرَاء على ذَلِك فخلعوه من الْغَد لاختلال عقله وسجنوه بِبَعْض الدّور السُّلْطَانِيَّة من القلعة فَكَانَت مُدَّة سلطنته سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام لم يكن لَهُ سوى الِاسْم فَقَط السُّلْطَان زين الدّين أَبُو الْمَعَالِي السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف زين الدّين أَبُو الْمَعَالِي شعْبَان بن الأمجد حُسَيْن بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون ولي السلطنة وعمره عشر سِنِين وَلم يل أحد من بني قلاوون وَا بوه لم يل السلطنة(4/267)
سواهُ. وَكَانَ من خَبره أَن الْأَمِير يلبغا جمع الْأُمَرَاء بقلعة الْجَبَل كَمَا تقدم حَتَّى اتَّفقُوا على خلع السُّلْطَان الْمَنْصُور. ثمَّ بَكرُوا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء النّصْف من شعْبَان إِلَى القلعة وأحضروا الْخَلِيفَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد المتَوَكل على الله وقضاة الْقُضَاة الْأَرْبَع وأعلموهم باختلال عقل الْمَنْصُور وَعدم أَهْلِيَّته للْقِيَام بِأُمُور المملكة وَأَن الِاتِّفَاق وَقع على خلعه فخلعوه وأحضروا شعْبَان بن حُسَيْن وأفاضوا عَلَيْهِ خلعة السلطنة ولقبوه بِالْملكِ الْأَشْرَف زين الدّين أبي الْمَعَالِي وأركبوه بشعار السلطة حَتَّى جلس على تخت الْملك وحلفوا لَهُ وقبلوا الأَرْض على الْعَادة. وَكتب إِلَى الْأَعْمَال بذلك فسارت الْبرد فِي أقطار المملكة وخلع على أَرْبَاب الْوَظَائِف. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشْرين رَمَضَان: عزل قَاضِي الْقُضَاة موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ نَفسه من الْقَضَاء من أجل أَن الْأَمِير يَلبغَا استدعاه فوافاه القاصد وَهُوَ نايم فَلم يتمهل عَلَيْهِ حَتَّى ينتبه بل أَمر بِهِ فأيقظ وَقد انزعج فَغَضب لذَلِك وعزل نَفسه وأبى أَن يُجيب القاصد أَو يجْتَمع بِهِ فشق ذَلِك على الْأَمِير يَلبغَا. ومازال يُرْسل إِلَيْهِ ويترضاه حَتَّى رَضِي. ثمَّ استدعى فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشرينه إِلَى مجْلِس السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ وأعيد إِلَى وَظِيفَة الْقَضَاء على عَادَته. وَاسْتقر الْأَمِير مَنْكَلى بُغَا الشمسي فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن الْأَمِير قَشْتَمُر. وَاسْتقر الْأَمِير أَشَقتمر المارديني فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير سيف الدولة قطلوبغا الأحمدي بعد مَوته. وَاسْتقر الْأَمِير أَزْدَمر الخازندار فِي نِيَابَة طرابلس وَاسْتقر عوضه فِي نِيَابَة صفد الْأَمِير قَشْتَمُر المنصوري نَائِب الشَّام ومصر. وَاسْتقر الْأَمِير عمر شاه فِي نِيَابَة حماة. وَاسْتقر الْأَمِير أَحْمد بن القَشَتمُري فِي نِيَابَة الكرك والأمير أَرَنبُغا فِي نِيَابَة غَزَّة. وَاسْتقر الْأَمِير أَرْغون الأحمدي الخازندار لالا السُّلْطَان وَاسْتقر عوضه خازندار الْأَمِير يَعْقُوب شاه. وَاسْتقر الشريف بَكتمُر بن عَليّ الحسني وَالِي قطا فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني بِحكم استعفائه. وَولي الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الطشلاقي وَالِي دمياط ولَايَة قطيا. وَاسْتقر خَلِيل بن الزيني فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن عمر بن الكركَنْد وَهِي ولَايَته الثَّالِثَة. وَاسْتقر قَشْتَمُر أستادار طَقَزْدَمُرْ فِي ولَايَة(4/268)
الجيزة ثمَّ عزل عَن قريب بمُوسَى بن الديناري. وَاسْتقر أَحْمد بن جميل وَالِي الأشمونين ومقبل السيفي وَالِي منوف عوضا عَن مُحَمَّد بن عقيل وَمُحَمّد بن السميساطي وَالِي دمياط. وَاسْتقر الحسام الْمَعْرُوف بِالدَّمِ الْأسود أستادار أيتمش فِي ولَايَة الفيوم عوضا عَن مُحَمَّد بن طغاى. وَاسْتقر فتح الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ابْن أبي الْكَرم مُحَمَّد بن الشَّهِيد فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن الْجمال عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير. وَفِي هده السّنة: توقفت زِيَادَة مَاء النّيل فِي أَيَّام زِيَادَته مُدَّة أَيَّام ثمَّ نُودي عَلَيْهِ فِي يَوْم السبت سَابِع ذِي الْقعدَة وسادس عشْرين مسرى زِيَادَة إِصْبَع لتتمة سَبْعَة عشر إصبعاً من سِتَّة عشر ذِرَاعا. ثمَّ نقص ثلث ذِرَاع وتوقفت الزِّيَادَة حَتَّى انْقَضتْ أَيَّام مسرى وَبعدهَا أَيَّام النسىء. ثمَّ زَاد فِي آخر أَيَّام النسىء إصبعاً وَاحِدًا وَاسْتمرّ حَتَّى كَانَ الْوَفَاء فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر ذِي الْقعدَة. وَفتح الخليج فتمادت زِيَادَته حَتَّى انْتَهَت إِلَى أَرْبَعَة أَصَابِع من ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا ثمَّ انهبط فَتحَرك سعر الغلال. وفيهَا فرق الْأَمِير يلبغا كثيرا من الغلال وَالْأَمْوَال فِي الْفُقَهَاء والصوفية. وَولى من ذَلِك جانباً موفوراً للْقَاضِي محب الدّين نَاظر الْجَيْش فارتفق النَّاس بِهَذِهِ الصَّدقَات بِحَيْثُ اسْتغنى مِنْهَا جمَاعَة. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير بَكتمُر مَمْلُوك طاز - أحد الطبلخاناه - فِي نِيَابَة الرحبة. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان الشريف غياث الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن صدر الدّين حَمْزَة الْعِرَاقِيّ وَالِد الشريف مرتضى وَمَات شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الرَّحِيم البعلبكي مفتي دَار الْعدْل بِدِمَشْق فِي سَابِع عشْرين شهر رَمَضَان. برع فِي الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي وشارك فِي عدَّة فنون وَأفْتى ودرس وَقدم الْقَاهِرَة.(4/269)
وَتُوفِّي الشَّيْخ مجد الدّين أَبُو الفدا إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن مُحَمَّد الكفتي شيخ الْقرَاءَات فِي نصف شعْبَان. قَرَأَ على الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نمير بن السراج وَعلي التقي الصايغ وَنجم الدّين عبد الله الوَاسِطِيّ وتصدر للإقراء بِجَامِع أَحْمد بن طولون وَعَلِيهِ قَرَأَ التقي وَمَات بَكتمر أَمِير علم وَمَات جَرْكَس النوروزي أحد أُمَرَاء الطبلخاناه. وَتُوفِّي الْفَقِير المعتقد حسن بن مُسلم المسلمي الْمُقِيم بِجَامِع الفيلة وَكَانَ يُجَاهد الفرنج من جِهَة طرابلس الْمغرب وَيُقِيم حَاله وَحَال من مَعَه من الْفُقَرَاء الْمُسلمين مِمَّا يكون من الغنايم. وَكَانَ عِنْده أَسد قد رباه وساسه حَتَّى صَار بَين فقرائه بِمَنْزِلَة الهر فِي الْبيُوت. فَلَمَّا مَاتَ أَخذ السباعون الْأسد فتوحش عِنْدهم وَعَاد إِلَى مَا جبل عَلَيْهِ. وَتُوفِّي أَبُو حَاتِم بن بهاء الدّين أَحْمد بن السُّبْكِيّ وَتُوفِّي الشَّيْخ صَلَاح الدّين أَبُو الصَّفَا خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي فِي لَيْلَة الْأَحَد عَاشر شَوَّال بِدِمَشْق. برع فِي عدَّة فنون من أدب وتاريخ وَغَيره وَأكْثر من قَول الشّعْر وإنشاء الْكتب والرسائل وَنَحْوهَا. وَألف كتبا كَثِيرَة مفيدة مِنْهَا كتاب الوافي بالوفيات فِي التَّارِيخ كَبِير جدا وَكتاب أعوان النَّصْر فِي أَعْيَان الْعَصْر جدد فِيهِ مَا شَاءَ وَكتاب شرح لامية الْعَجم طول فِيهِ كثيرا وملأه بفوائد جليلة وَغير ذَلِك وَكتب الْإِنْشَاء بِالْقَاهِرَةِ ودمشق وباشر كِتَابَة سر حلب قَلِيلا.(4/270)
وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الرَّحِيم بن أبي سَالم بن مراجل الدِّمَشْقِي وَمَات شمس الدّين عبد الله بن يُوسُف بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي السفاح بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات شمس الدّين عبد الرَّحْمَن بن الضياء الْمَنَاوِيّ فِي تَاسِع عشْرين جُمَادَى الآخر وَهُوَ شَاب وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن الشّرف عِيسَى بن عمر الباريني الْحلَبِي الْفَقِيه الشَّافِعِي بحلب وَمَات الشَّيْخ عماد الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن عمر الْإِسْنَوِيّ الشَّافِعِي فِي ثامن عشْرين جُمَادَى الآخر بِالْقَاهِرَةِ برع فِي الْفِقْه وَالْأُصُول ودرس وناب فِي الحكم وصْنف وَمَات نَاصِر الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن الربوة القونوى ثمَّ الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الْفَقِيه الْخَطِيب الْمُفْتِي. شرح كتاب السِّرَاجِيَّة فِي الْفَرَائِض والمنار فِي الْأُصُول ودرس وخطب بِجَامِع يَلْبُغَا. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا الأحمدى نَائِب حلب بهَا. وَمَات تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْفُرَات الشَّافِعِي النَّحْوِيّ موقع الحكم فِي يَوْم السبت تَاسِع عشْرين جُمَادَى الْآخِرَة بِالْقَاهِرَةِ. برع فِي الْعَرَبيَّة وَانْفَرَدَ بِمَعْرِِفَة التواقيع الْحكمِيَّة. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن صَلَاح الدّين عبد الله بن شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْعمريّ أحد أُمَرَاء دمشق(4/271)
وَتُوفِّي مُحدث الشَّام أَمِين الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ الجوخي فِي لَيْلَة السبت حادي عشر رَمَضَان. حدث عَن الْفَخر عَليّ وَزَيْنَب بنت كَامِل وَسمع النَّاس عَلَيْهِ مُسْند الإِمَام أَحْمد. وَتُوفِّي خطيب دمشق جمال الدّين مَحْمُود بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن جملَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ الْعشْرين من رَمَضَان. وَمَات يزدار أَمِير شكار وجوهر المظفري اللالا وَجَمَاعَة كثير جدا. وَتُوفِّي حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون لَيْلَة السبت رَابِع ربيع الآخر.(4/272)
سنة خمس وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِي الْمحرم: أنعم على الْأَمِير طَيْدَمر البالسي بتقدمة الْأَمِير قَندس الناصري. وَقد كف بَصَره. وأنعم على الْأَمِير عَليّ بن قندس الناصري بإمرة طبلخاناه. وَاسْتقر الْأَمِير أَرْغُون التاجى أَمِير جندار حَاجِب طرابلس وَاسْتقر الْأَمِير ألطنبُغَا فرفور جاشنكيرا. عوضا عَن مَنْكُوتَمُر عبد الْغَنِيّ وَقد استعفي. وَاسْتقر الْأَمِير آسن قُجَا على بك الجوكندار فِي نِيَابَة ملطية فِي ثَالِث صفر وَاسْتقر الْأَمِير عمر بن أرغون النايب فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن قَشْتَمر الْمَنْصُور. واستدعى قَشْتَمُر إِلَى الْقَاهِرَة. وأنعم عَلَيْهِ بتقدمهْ عمر ابْن أرغون النايب. وَاسْتقر الْأَمِير طَيْنال المارديني وَالِي القلعة عوضا عَن أَلْطنْبُغا الشمسي آنوك وَقد استعفي. وأنعم السُّلْطَان على جمَاعَة بإمريات طبلخاناه مِنْهُم تَمُرقُبا الْعمريّ وَمُحَمّد بن قمارى أَمِير شكار وأَلْطنبُغَا الأحمدي وأقبغا الصَّفَدِي. وأنعم على كل من إِبْرَاهِيم بن الْأَمِير صرغتمش وقَشتمُر العلاي طاجار من عوض وأروس بغا الخليلي وَرَجَب بن كَلَفتَ التركماني بإمرة عشرَة. وَاسْتقر الْأَمِير قمارى الْحَمَوِيّ فِي نِيَابَة طرسوس. وَاسْتقر الْأَمِير قَشْتَمُر القاسمي فِي نِيَابَة سلمية عوضا عَن الْأَمِير طنيرق. واستمّر عمر بن الكَركَند فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن خَلِيل بن الزيني. وَاسْتقر فَخر الدّين عُثْمَان الشرفي فِي ولَايَة الأشمونين. وفيهَا ارْتَفع سعر الغلال فَبلغ الْقَمْح أَرْبَعِينَ درهما الأردب وَوَقع الْمَوْت فِي الأبقار بِأَرْض مصر وإفريقية. وَفِي الْمحرم: قدم بهاء الدّين أَبُو الْبَقَاء مُحَمَّد بن عبد الْبر بن يحيى السبكى إِلَى الْقَاهِرَة من دمشق معزولاً عَن قضاياها.(4/273)
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشْرين صفر: خلع على عَلَاء الدّين على بن سديد الدّين أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن الْفَخر عثمادْ بن مُحَمَّد بن هبة الله بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن حُسَيْن بن عبد الْعَظِيم بن عبد الْكَرِيم بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن عبد الْوَهَّاب بن سُلَيْمَان بن خَالِد بن الْوَلِيد الْمَعْرُوف بِابْن عرب وَاسْتقر محتسب الْقَاهِرَة عوضا عَن الصّلاح عبد الله بن عبد الله الْبُرُلُّسِيّ بعد وَفَاته وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر ربيع الآخر: خلع على بهاء الدّين أبي الْبَقَاء وَاسْتقر قاضى الْعَسْكَر ووكيل الْخَاص عوضا عَن التَّاج مُحَمَّد بن عبد الْحق المناوى بعد وَفَاته. وخلع على السراج عمر الْهِنْدِيّ الْحَنَفِيّ وَاسْتقر قَاضِي الْعَسْكَر أَيْضا. وخلع على الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الصايغ الْحَنَفِيّ وَاسْتقر فِي إِفْتَاء دَار الْعدْل وَهُوَ أول حَنَفِيّ ولي إِفْتَاء دَار الْعدْل. وخلع على الشَّيْخ سراج الدّين عمر بن رسْلَان البُلْقِينِيّ الشَّافِعِي وَاسْتقر فِي إِفْتَاء دَار الْعدْل أَيْضا. وَأمر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة مَعَ الشَّيْخ بهاء الدّين بن السُّبْكِيّ بِحُضُور دَار الْعدْل فِي أَيَّام الْخدمَة. وَفِي شَوَّال: خلع على أبي الْبَقَاء وَاسْتقر فِي نظر الْأَوْقَاف ونيابة الحكم مُضَافا لما بِيَدِهِ وقدمت رسل متملك سيس فِي طلب تَخْفيف الضريبة المقررة عَلَيْهِم فَهَلَك ملكهم وهم بِمصْر فعادوا بِغَيْر طائل. وَكثر الْجَرَاد بِالشَّام حَتَّى شنع وأتلف الزروع فغلت الأسعار حَتَّى بلغت الغرارة الْقَمْح بِدِمَشْق ماية وَثَمَانِينَ درهما ثمَّ انحطت إِلَى مائَة وَعشرَة دَرَاهِم وفشت الطواعين والأمراض الحادة فِي النَّاس بِدِمَشْق. وَفتح الْأَمِير منكلى بغا الشمسي نَائِب الشَّام بَاب كيسَان من مَدِينَة دمشق بعد مَا أَقَامَ مغلوقا زِيَادَة على مِائَتي عَام مُنْذُ أَيَّام الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَعقد عَلَيْهِ قبوا كَبِيرا وَنصب لَهُ جِسْرًا يمر النَّاس عَلَيْهِ وَأَنْشَأَ هُنَاكَ جَامعا.(4/274)
وفيهَا برز مرسوم السُّلْطَان. بِمَنْع الوكلاء الَّذين. بمجالس الْقُضَاة. بِمصْر وَالشَّام لِكَثْرَة خداعهم ومكرهم وتحذلقهم فى تنوع الشرور. وفى ثامن عشْرين ذِي الْحجَّة: السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف زين الدّين أَبُو الْمَعَالِي شعْبَان بن الأمجد حُسَيْن بن النَّاصِر مُحَمَّد بن قلا اسْتَقر الْأَمِير قَطْلُبَك والأمير منوف. وَمَات فى هَذِه السّنة من الْأَعْيَان شهَاب الدّين أَحْمد بن الْجمال مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن هبة الّله بن أَحْمد بن يحيى بن أَبى جَرَادَة العقيلى الحلبى الْمَعْرُوف بِابْن العديم الحنفْى نَائِب شيزر عَن بضع وَسِتِّينَ سنة. وَتُوفِّي قاضى حماة نجم الدّين عبد الرَّحِيم بن شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن عبد الرَّحِيم بن اٍ براهيم بن المسَلْم بن هبة الله بن حسان بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن أَحْمد بن البارزى الْجُهَنِىّ الحموى الشافعى بعد مَا أَقَامَ قَاضِيا شَيْئا وَعشْرين سنة. وَمَات الْأَمِير قُطْلُوئغا الأحمدى. تقدم ذكره فى السّنة الَّتِى قبلهَا وَهُوَ نْائب حلب. وَمَات القاضى تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن بهاء الدّين إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ا! سَلَمى الممناوى الشافْعى خْليفهْ الحكم وقاضي الْعَسْكَر ووكيل الْخَاص فِي يَوْم الجمعهْ سادس ربيع الآخر وَدفن بالقرافة. وَتوفى صَلَاح الدّين عبد الله بن عبد الله بن اٍ براهيم البرلسى المالكى محتسب الْقَاهِرَة يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشْرين صفر وَدفن بالقرافة وبيعت كتبه. بِمِائَة ألف دِرْهَم ونيف. وفى حسبته أَمر الموًذنين أَن يَقُولُوا مَعَ قَوْلهم فى ليَالِي الْجُمُعَة بعد أَذَان عشَاء الْآخِرَة وَفِي السَّلَام قبل الْفجْر السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله الصلاهْ وَالسَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله. فاستمر ذَلِك. وَتوفى فتح الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَبى الْحسن القلانسى الحنبلى. عَاقد الْأَنْكِحَة. فى لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الأولى عَن سنّ عالية وَقد حدث بعلو إِسْنَاد عَن جماعهَ.(4/275)
وَتُوفِّي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز بن إِسْحَاق بن أَحْمد بن أَسد بن قَاسم الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج النميري الغرناطي قدم إِلَى الْقَاهِرَة حَاجا وَكتب الْإِنْشَاء بغرناطة وبجاية وَقَالَ الشّعْر. وَتُوفِّي قَاضِي مَكَّة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن قَاسم الْعمريّ الْحرَازِي الشَّافِعِي معزولاً وَمَات الْأَمِير أقبغا بوذ السيفي أحد رُءُوس النوب. وَمَات الْأَمِير أرغون التاجي أحد الطبلخاناه. وَتوفيت خوند طولباى التركية عتيقة السُّلْطَان حسن وَامْرَأَة الْأَمِير يلبغا الأتابك فِي رَابِع وَتُوفِّي الْملك الصَّالح صَالح بن الْمَنْصُور نجم الدّين غَازِي بن المظفر قرا أرسلان بن السعيد غَازِي بن أرتق بن أرسلان بن إيلغازى بن ألبى بن تمرداش بن إيلغازى بن أرتق. متملك ماردين فَلَمَّا قدم الْخَبَر بوفاته جهزت الخلعة بالسلطنة لوَلَده الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين أَحْمد. وَكَانَ قد ملك أَرْبعا وَخمسين سنة. وَمَات بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة الْحَافِظ عفيف الدّين أَبُو السِّيَادَة عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن خلف المطري فِي سادس عشْرين ربيع الأول. وَالله تَعَالَى أعلم.(4/276)
سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِي المحرمك استعفى الشَّيْخ جمال الدّين عبد الرَّحِيم الْإِسْنَوِيّ من وكَالَة بَيت المَال. حنقا من الْوَزير فَخر الدّين بن قزوينة فأعفي وخلع على عَلَاء الدّين عَليّ بن عرب. وَاسْتقر عوضه فِي الْوكَالَة وَالْكِسْوَة مُضَافا إِلَى حسبَة الْقَاهِرَة. وَفِيه خلع على شمس الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي رقيبة وَاسْتقر فِي حسبَة مَدِينَة مصر وَالْوَجْه القبلي عوضا عَن بهاء الدّين بن الْمُفَسّر بعد عَزله. وَفِي رَجَب اسْتَقر الْأَمِير جرجى الإدريسي أَمِير آخور فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن أشقتمر المارديني. وَفِي عشْرين صفر: اسْتَقر جمال الدّين مُحَمَّد بن السراج أَحْمد بن مَسْعُود القونوي - الْمَعْرُوف بِابْن السراج الْحَنَفِيّ - فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن الْجمال يُوسُف الكفري. وفيهَا أسلم الشَّمْس أَبُو الْفرج المقسي وَتسَمى عبد الله ولقب شمس الدّين وَاسْتقر مُسْتَوْفِي المماليك ثمَّ نقل إِلَى اسْتِيفَاء الْخَاص. وَاسْتقر الْأَمِير يَعْقُوب شاه أَمِير آخور عوضا عَن الْأَمِير جرجى نَائِب حلب بإمرة طبلخاناه وأنعم على كل من قَطلَوبُغا البلاني وكمُشْبغا الْحَمَوِيّ وجنغرا السيفي وأقبغا الْجَوْهَرِي بإمرة طبلخاناه وعَلى كل من سلجوك الرُّومِي وأروس السيفي وسُنْقر السيفي بإمرة عشرَة وَاسْتقر حسام الدّين حسن بن عَلَاء الدّين عَليّ بن مَمْدُود الكوراني فِي ولَايَة المنوفية عوضا عَن قَطْلُبَك السيفي وَاسْتقر حسن بن الحرامي فِي ولَايَة قوص عوضا عَن بَكتمُر العلمي.(4/277)
وَفِي أول شهر بيع الأول: قدم التَّاج عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ قَاضِي دمشق إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ عَاد فِي عَاشر جُمَادَى الآخر إِلَى مَحل ولَايَته بِدِمَشْق. وَقدم الْخَبَر بغلاء الأسعار بِمَكَّة حَتَّى بِيعَتْ الغرارة الْقَمْح - وَهِي مائَة قدح مصري - بأربعمائة دِرْهَم وَثَمَانِينَ درهما وَعز وجود الأقوات بهَا فَهَلَك جمَاعَة كَثِيرَة جوعا وَنزع أَكثر أَهلهَا عَنْهَا فَجهز الْأَمِير يلبغا الأتابك فِي جُمَادَى الأولى إِلَى مَكَّة ألفي أردب قمحاً وواصل الْإِرْسَال حَتَّى حمل من مصر إِلَيْهَا اثْنَي عشر ألف أردب. فرقت كلهَا فِي النَّاس فَعم النَّفْع بهَا. وَكتب مرسوم بِإِسْقَاط مَا يُؤْخَذ من مكس الْحَاج بِمَكَّة فِيمَا يحمل إِلَيْهَا من البضائع خلا مكس الكارم تجار الْيمن ومكس الْخَيل ومكس تجار الْعرَاق وَعوض أَمِير مَكَّة عَن ذَلِك إقطاعاً. بِمصْر وَحمل إِلَيْهِ مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم فضَّة عَنْهَا يَوْمئِذٍ نَحْو الألفي مِثْقَال ذَهَبا. واستقو آل ملك السيفي فِي ولَايَة الشرقية. وفخر الدّين عُثْمَان الشوفي ولَايَة البهنسا عوضا عَن الشهَاب أَحْمد بن جميل. وَاسْتقر ابْن جميل فِي ولَايَة الأشمونين. وَاسْتقر شمس الدّين بن الديناري فِي ولَايَة الفيوم عوضا عَن عَلَاء الدّين الْعمريّ. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة: عدى قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة النّيل إِلَى بر الجيزة وَقد خيم بهَا السُّلْطَان على الْعَادة بكوم برا وَسَأَلَ الْأَمِير يلبغا فِي إعفائه من الْقَضَاء وَتشفع إِلَيْهِ بمصحف مَعَه وعزل نَفسه. وَقَامَ وَقد أقرّ الْأَمِير يلبغا نواب الحكم على حَالهم. فَلَمَّا عدى السُّلْطَان النّيل وَصعد القلعة فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشره وَجه الْأَمِير يلبغا بالأمير جرجي أَمِير آخور إِلَى ابْن جمَاعَة يدْخل عَلَيْهِ فِي عوده إِلَى وَظِيفَة الْقَضَاء فَامْتنعَ غَايَة الِامْتِنَاع. فَبعث إِلَيْهِ بكاتب السِّرّ عَلَاء الدّين عَليّ بن فضل الله فَلم يجبهُ أَيْضا. فَركب الْأَمِير يلبغا بِنَفسِهِ فِي يَوْم السبت حادي عشرينه وَأَتَاهُ إِلَى منزله بالجامع الْأَقْمَر وألح فِي سُؤَاله وَهُوَ يمْتَنع. فَلَمَّا أيس مِنْهُ سَأَلَهُ أَن يعين من يصلح فَأَشَارَ بِولَايَة أبي الْبَقَاء ثمَّ صلى وَرَاءه الْمغرب وَانْصَرف. فاستدعى فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشرينه بِأبي الْبَقَاء وفوض إِلَيْهِ السُّلْطَان قَضَاء الْقُضَاة عوضا عَن ابْن جمَاعَة وخلع عَلَيْهِ وأضاف إِلَيْهِ نظر وقف الْأَشْرَاف وخلع مَعَه على بهاء الدّين أَحْمد بن السُّبْكِيّ وَاسْتقر فِي قَضَاء الْعَسْكَر عوضا عَن أَبى الْبَقَاء. وخلع(4/278)
على تَاج الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين وَاسْتقر فِي وكَالَة الْخَاص زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ من نظر المارستان. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشرينه: خلع على عز الدّين بن جمَاعَة وَاسْتقر فِي نظر جَامع أَحْمد بن طولون وتدريس الْفِقْه وتدريس الحَدِيث بِهِ ورتب لَهُ على بَيت المَال فِي كل شهر ألف دِرْهَم. وَفِي أول شهر رَجَب: عزل فَخر الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن الكُويك عَن نظر الأحباس وَاسْتقر عوضه نَاصِر الدّين مُحَمَّد الْقرشِي موقع الدست. وَفِي سابعه: اسْتَقر الْأَمِير قُطلو أقتمر العلاى أَمِير جاندار فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن الْأَمِير عمر بن أرغون النَّائِب وأنعم على عمر بإمرة قُطلو أقتمر. وَفِي حادي عشره: اسْتَقر الْأَمِير أينال اليوسفي أَمِير جاندار. وَاسْتقر ألطُنبغا البُشْتكي فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن أربغا الكاملي. وَاسْتقر الْأَمِير جمال الدّين عبد الله بن بَكتمُر الْحَاجِب فِي نظر المشهد النفيسي عوضا عَن الْخَلِيفَة. وأنعم على الْأَمِير شعْبَان بن الْأَمِير يلبغا الأتابك بتقدمة ألف. وَفِي شهر رَمَضَان: اسْتَقر الْأَمِير أزدمر نَائِب طرابلس فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن قطلو أقتمر. وَاسْتقر الْأَمِير قشْتَمُر المنصوري فِي نِيَابَة طرابلس. وَفِي سادس عشْرين شَوَّال: اسْتَقر الْأَمِير عبد الله بن بَكتمر الْحَاجِب أَمِير شكار عوضا عَن الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن ألجيبغا. وَاسْتقر أَسَنْدمُر حرفوش حاجباً عوضا عَن عبد الله بن بَكتمر. وَفِي آخر ذِي الْقعدَة: اسْتَقر الْأَمِير مَنْجَك اليوسفي فِي نِيَابَة طرسوس عوضا عَن قمارى الْحَمَوِيّ بعد وَفَاته. وفيهَا توجه نَائِب حلب بالعسكر إِلَى نجدة نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن باك بن أرتنا وَتوجه عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة إِلَى مَكَّة صُحْبَة الركب وجاور بهَا.(4/279)
وَقدم السُّلْطَان حلى عبد الْحَكِيم من الْمغرب فَارًّا فأنعم السُّلْطَان عَلَيْهِ وأجرى لَهُ الرَّوَاتِب السّنيَّة فَتزَوج بإتفاق الصالحية امْرَأَة الصاحب موفق الدّين هبة الله بن إِبْرَاهِيم وَتوجه حَاجا صُحْبَة الركب فِي تجمل زايد. وَتوجه أَيْضا إِلَى الْحَج الْأَمِير صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام مُتَوَلِّي الْإسْكَنْدَريَّة واستناب عَنهُ فِي الثغر الْأَمِير جنغرا وَكَانَ أَمِير الْحَاج مُحَمَّد بن قُندس وفيهَا لخمس وَعشْرين من ذِي الْقعدَة قدم الْبَرِيد من نَاحيَة الْمشرق إِلَى دمشق بقماقم فِيهَا مَاء من عين هُنَاكَ من خاصيته أَن يتبعهُ طير يُسمى السمرمر فِي قدر الزرزور ولونه وَفِيه ريش أصفر يَأْكُل الْجَرَاد. فعلق بطارمة القلعة وبمأذنة الْعَرُوس وقبة النَّصْر من الْجَامِع الْأمَوِي وَكَانَ الْجَرَاد قد كثر بأعمال دمشق وأضر بمزارعها فَبعث الْأَمِير منكلى بغا الشمسي نَائِب الشَّام لإحضار هَذَا المَاء. فَلَمَّا جِيءَ بِهِ وعلق كثر السمرمر بِدِمَشْق وأفنى مَا كَانَ الْجَرَاد هُنَاكَ حَتَّى لم يبْق مِنْهُ شَيْئا وأقامت قماقم المَاء معلقَة بِتِلْكَ الْأَمَاكِن إِلَى أَن جف مَا فِيهَا وَالطير مَوْجُود. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر الشريف شمس الدّين حسن بن مُحَمَّد بن حسن بن عَليّ بن حسن بن زهرَة بن حسن بن زهرَة الحسني نقيب الْأَشْرَاف بحلب. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي الفوَّى الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى وَقد تصدر للتدريس. وَتُوفِّي قطب الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد الرَّازِيّ الْمَعْرُوف بالقطب التحتاني بِدِمَشْق وَقد أناف على السِّتين. وبرع فِي الْمنطق والنحو وصنف شرح الشمسية والمطالع وحواشي على الْكَشَّاف وَغير ذَلِك.(4/280)
وَتُوفِّي زين الدّين مُحَمَّد بن سراج الدّين عمر بن مَحْمُود الْمَعْرُوف بِابْن السراج الْحَنَفِيّ أحد نواب الحكم بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم السبت الْعشْرين من ذِي الْقعدَة عَن بضع وَسبعين سنة. وَكَانَ يحفظ الْهِدَايَة فِي الْفِقْه ودرس وَأعَاد. وَتُوفِّي بدر الدّين مُحَمَّد بن قطب الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْمَعْرُوف بِابْن الشامية موقع الحكم فِي يَوْم السبت ثَانِي شهر رَمَضَان. وَتُوفِّي شرف الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي بكر الْمزي الدِّمَشْقِي الحريري بِمصْر فِي شعْبَان حدث عَن سُلَيْمَان بن حسن وَالقَاسِم بن عَسَاكِر وأبى نصر الشِّيرَازِيّ. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق جمال الدّين يُوسُف بن شرف الدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن سُلَيْمَان بن فَزَارَة الكفري الْحَنَفِيّ. كَانَ بارعاً فِي الْفِقْه والعربية عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ. وَمَات الْأَمِير قمارى الْحَمَوِيّ الْحَاجِب. وَهُوَ على نِيَابَة طرسوس بهَا. وَمَات الْأَمِير آسن قجا بن عبد الله من على بك أحد أُمَرَاء الطبلخاناه بعد مَا ولى نِيَابَة البيرة ثمَّ نِيَابَة طرسوس وَبهَا مَاتَ. وَتُوفِّي أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن سعيد بن عبد العال القيرواني الْمَالِكِي بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة. وَكَانَ قد برع فِي الْفِقْه ودرس زَمَانا. وَتُوفِّي الْمسند شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب بن إلْيَاس الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْبَيَانِي الْمَقْدِسِي الدِّمَشْقِي الشَّاهِد عرف بِابْن إِمَام الصَّخْرَة فِي تَاسِع عشْرين ذِي الْقعدَة بِالْقَاهِرَةِ. ومولده سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة. حضر على زَيْنَب بنت مكي فِي الثَّانِيَة وعَلى الْفَخر بن البُخَارِيّ. وَابْن القواس وَغَيرهم فِي الثَّالِثَة. وَسمع من ابْن عَسَاكِر وَطَائِفَة وَحدث وَخرج لَهُ ابْن رَافع مشيخة حدث بهَا.(4/281)
فارغه(4/282)
سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِي الْمحرم: ولى قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عمر بن عبد الرَّحْمَن البسطامي الْحَنَفِيّ خطابة جَامع شَيْخُو خَارج الْقَاهِرَة بعد وَفَاة شهَاب الدّين أَحْمد بن الشّرف. وَفِيه سرح السُّلْطَان على الْعَادة إِلَى سرياقوس. وَتوجه الْأَمِير يلبغا الأتابك إِلَى بر الصَّيْد بالعباسة فورد الْبر فِي يَوْم السبت رَابِع عشرينه. بمنازلة الفرنج الْإسْكَنْدَريَّة وَأَنَّهُمْ قدمُوا يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرينه. فسرح الطَّائِر بذلك إِلَى الْأَمِير يلبغا فَتوهم أَن تكون هَذِه مكيدة يكَاد بهَا فبادر وَدخل إِلَى دَاره خَارج الْقَاهِرَة وَتَبعهُ السُّلْطَان فَصَعدَ القلعة فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرينه. فَلَمَّا تحقق الْأَمِير يلبغا الْخَبَر عدى النّيل من سَاعَته إِلَى الْبر الغربي وتلاحق بِهِ أَصْحَابه وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ: من تَأَخّر من الأجناد غَدا حل دَمه وَمَاله فَخرج النَّاس أَفْوَاجًا وَسَار السُّلْطَان بعساكره إِلَى الطرانة وَقدم عسكراً عَلَيْهِ الْأَمِير قطلوبغا المنصوري والأمير كوكنداي والأمير خَلِيل بن قوصون ليدركوا أهل الثغر فَقدر الله تَعَالَى فِي ذَلِك أَن أهل الثغر كَانَ قد بَلغهُمْ مُنْذُ أشهر إهتمام الفرنج بغزوهم فَكتب بذلك الْأَمِير صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام - متوفي الثغر - إِلَى السُّلْطَان والأمير يلبغا فَلم يكن من الدولة اهتمام بأمرهم. فَلَمَّا توجه ابْن عرام إِلَى الْحَج واستناب عَنهُ فِي الثغر الْأَمِير جنغرا - أحد أُمَرَاء العشرات - وَجَاء أَوَان قدوم مراكب البنادقة من الفرنج لَاحَ للناظور عدَّة قلاع فِي الْبَحْر. ثمَّ قدم فِي عسكره يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرينه إِلَى الميناء ثَمَانِيَة أغربة وتلاها من الأغربة والقراقر مَا بلغت عدتهَا مَا بَين سبعين إِلَى ثَمَانِينَ قِطْعَة. فأغلق الْمُسلمُونَ أَبْوَاب الْمَدِينَة وركبوا الأسوار بِآلَة الْحَرْب وَخرجت طَائِفَة إِلَى ظَاهر الْبَلَد وَبَاتُوا يتحارسون. وَخَرجُوا بكرَة يَوْم الْخَمِيس يُرِيدُونَ لِقَاء الْعَدو فَلم يَتَحَرَّك الفرنج لَهُم طول يومهم وَلَيْلَة الْجُمُعَة. فَقدم بكرَة يَوْم الْجُمُعَة طوايف من عربان الْبحيرَة وَغَيرهم ومضوا جِهَة الْمنَار وَقد نزل من الفرنج جمَاعَة فِي اللَّيْل بخيولهم وكمنوا فِي الترب الَّتِي بِظَاهِر الْمَدِينَة. فَلَمَّا(4/283)
تكاثر جمع الْمُسلمين من العربان وَأهل الثغر عِنْد الْمنَار برز لَهُم غراب إِلَى بَحر السلسلة حَتَّى قَارب السُّور فقاتله الْمُسلمُونَ قتالاً شَدِيدا قتل فِيهِ عدَّة من الفرنج وَاسْتشْهدَ جمَاعَة من الْمُسلمين. وَخرج إِلَيْهِم أهل الْمَدِينَة وصاروا فرْقَتَيْن فرقة مَضَت مَعَ العربان نَحْو الْمنَار وَفرْقَة وقفت تقَاتل الفرنج بالغراب. وَخرجت الباعة وَالصبيان وصاروا فِي لَهو وَلَيْسَ لَهُم اكتراث بالعدو. فَضرب الفرنج عِنْد ذَلِك نفيرهم. فَخرج الكمين وحملوا على الْمُسلمين حَملَة مُنكرَة. وَرمى الفرنج من المراكب بِالسِّهَامِ فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَركب الفرنج أقفيتهم بِالسَّيْفِ. وَنزل بَقِيَّتهمْ إِلَى الْبر فملكوه بِغَيْر مَانع وَقدمُوا مراكبهم إِلَى الأسوار فاستشهد خلق كثير من الْمُسلمين وَهلك مِنْهُم فِي الازدحام عِنْد عبور بَاب الْمَدِينَة جمَاعَة وخلت الأسوار من الحماة فنصب الفرنج سلالم وَوَضَعُوا السُّور وَأخذُوا نَحْو الصِّنَاعَة فحرقوا مَا بهَا وألقوا النَّار فِيهَا ومضوا إِلَى بَاب السِّدْرَة وعلقوا الصَّلِيب عَلَيْهِ فانحشر النَّاس إِلَى بَاب رشيد وأحرقوه ومروا مِنْهُ على وجوهم وَتركُوا الْمَدِينَة مَفْتُوحَة بِمَا فِيهَا للفرنج وَأخذ الْأَمِير جنغرا مَا كَانَ فِي بَيت المَال وقاد مَعَه خمسين تَاجِرًا من تجار الفرنج كَانُوا مسجونين عِنْده وَمضى هُوَ وَعَامة النَّاس إِلَى جِهَة دمنهور فَدخل وَقت الضُّحَى من يَوْم الْجُمُعَة ملك قبرص - واسْمه ربير بطرس بن ريوك - وشق الْمَدِينَة وَهُوَ رَاكب فاستلم الفرنج النَّاس بِالسَّيْفِ ونهبوا مَا وجدوه من صَامت وناطق وأسروا وَسبوا خلائق كَثِيرَة وأحرقوا عدَّة أَمَاكِن وَهلك فِي الزحام بِبَاب رشيد مَا لَا يَقع عَلَيْهِ حصر فأعلن الفرنج بدينهم وانضم إِلَيْهِم من كَانَ بالثغر من النَّصَارَى ودلوهم على دور الْأَغْنِيَاء فَأخذُوا مَا فِيهَا واستمروا كَذَلِك يقتلُون وَيَأْسِرُونَ ويسبون وينهبون ويحرقون من ضحوة نَهَار الْجُمُعَة إِلَى بكر نَهَار الْأَحَد فَرفعُوا السَّيْف وَخَرجُوا بالأسرى والغنايم إِلَى مراكبهم وَأَقَامُوا بهَا إِلَى يَوْم الْخَمِيس ثامن عشرينه ثمَّ أقلعوا وَمَعَهُمْ خَمْسَة آلَاف أَسِير فَكَانَت إقامتهم ثَمَانِيَة أَيَّام. وَكَانُوا عدَّة طوائف فَكَانَ فيهم من البنادقة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ غراباً وَمن الجنوية غرابين وَمن أهل رودس عشرَة أغربة والفرنسيس فِي خَمْسَة أغربة وَبَقِيَّة الأغربة من أهل قبرص. وَكَانَ مَسِيرهمْ عِنْد قدوم الْأَمِير يلبغا بِمن مَعَه فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ الْأَمِير قطلوبغا المنصوري لم يجد مَعَه سوى عشْرين فَارِسًا وَعَلِيهِ إِقَامَة مائَة فَارس فَغَضب عَلَيْهِ وَوجد الْأَمر قد فَاتَ فَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان فَعَاد إِلَى القلعة وَبعث بِابْن عرام نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة على عَادَته بِأَمْر الْأَمِير يلبغا. بموارة من اسْتشْهد من الْمُسلمين ورم مَا احْتَرَقَ وَغَضب على جنغرا وهدده وَعَاد فَأخذ فِي التأهب لغزو الفرنج. وتتبعت النَّصَارَى فَقبض على جَمِيع من بديار مصر وبلاد الشَّام(4/284)
وَغَيرهمَا من الفرنج وأحضر البطريق وَالنَّصَارَى وألزموا بِحمْل أَمْوَالهم لفكاك أسرى الْمُسلمين من أَيدي الفرنج وَكتب بذلك إِلَى الْبِلَاد الشامية وتتبعت ديارات النَّصَارَى الَّتِي بأعمال مصر كلهَا وألزم سكانها بِإِظْهَار أَمْوَالهم وأوانيهم وعوقبوا على ذَلِك. فَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة من أشنع مَا مر بالإسكندرية من الْحَوَادِث وَمِنْهَا اختلت أحوالها واتضع أَهلهَا وَقلت أَمْوَالهم وزالت نعمهم. وَكَأن النَّاس فِي الْقَاهِرَة مُنْذُ أَعْوَام كَثِيرَة تجرى على ألسنتهم جَمِيعًا: فِي يَوْم الْجُمُعَة تُؤْخَذ الْإسْكَنْدَريَّة فَكَانَ كَذَلِك. وَمر بِمن خرج من الْإسْكَنْدَريَّة فِي وَقت الْهَزِيمَة من العربان بلَاء لَا يُوصف. وَلما اسْتَقر الْأَمِير يلبغا بعد عوده من الْإسْكَنْدَريَّة أَشَارَ بِالْقَبْضِ على الْأَمِير قطلوبغا المنصوري فَقبض عَلَيْهِ وَنفي إِلَى الشَّام. وأنعم على الْأَمِير أرغون الأزقي بتقدمته. وَاسْتقر الْأَمِير يَعْقُوب شاه اليحياوي حاجباً عوضا عَن قطلوبغا المنصوري. وَاسْتقر الْأَمِير طشتمر الحسني أَمِير آخور عوضا عَن يَعْقُوب شاه. وَأخذ الْأَمِير يلبغا فِي تجهيز مولَايَ حلى بعد عوده من الْحَج للسَّفر إِلَى بِلَاده وخلع عَلَيْهِ السُّلْطَان فرجية حَرِير أطلس أَحْمَر من تحتهَا تَحْتَانِيَّة أطلس أصفر وعَلى الفرجية تركيبة زركش وطوق بعنبرانية. وألبس طرحة عَن عمَامَته وقلد بِسيف محلى بِالذَّهَب فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشْرين صفر. وسافر فَمَاتَ على تروجة فِي أَوَائِل شهر ربيع الأول. وَفِيه قدم تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ قَاضِي دمشق باستدعاء. وَقد شُكى وَأمر بِالْكَاف عَلَيْهِ. وَقدم الْخَبَر بِكَثْرَة فَسَاد أَوْلَاد الْكَنْز وَطَائِفَة العكارمة بأسوان وسواكن وَأَنَّهُمْ منعُوا التُّجَّار وَغَيرهم من السّفر لقطعهم الطَّرِيق وَأَخذهم أَمْوَال النَّاس. وَأَن أَوْلَاد الْكَنْز قد غلبوا على ثغر أسوان وصحرا عيذاب وبرية الواحات الدَّاخِلَة.(4/285)
وصاهروا مُلُوك النّوبَة وأمراء العكارمة واشتدت شوكتهم. ثمَّ قدم ركن الدّين كرنبس من أُمَرَاء النّوبَة والحاج ياقوت ترجمان النّوبَة وأرغون مَمْلُوك فَارس الدّين برسالة متملك دمقلة بِأَن ابْن أُخْته خرج عَن طَاعَته واستنجد ببني جعد من الْعَرَب وقصدوا دمقلة فاقتتلا قتالاً كثيرا قتل فِيهِ الْملك وَانْهَزَمَ أَصْحَابه. ثمَّ أَقَامُوا عوضه فِي المملكة أَخَاهُ وامتنعوا بقلعة الدو فِيمَا بَين دمقلة وأسوان. فَأخذ ابْن أُخْت الْمَقْتُول دمقلة وَجلسَ على سَرِير المملكة وَعمل وَلِيمَة جمع فِيهَا أُمَرَاء بني جعد وكبارهم وَقد أعد لَهُم جمَاعَة من ثقاته ليفتكوا بهم وَأمر فأخليت الدّور الَّتِي حوال دَار مضيفهم وملأها حطباً. فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا خرجت جمَاعَة بأسلحتهم وَقَامُوا على بَاب الدَّار وأضرم آخَرُونَ النَّار فِي الْحَطب فَلَمَّا اشتعلت بَادر العربان بِالْخرُوجِ من الدَّار فأوقع الْقَوْم بهم وَقتلُوا مِنْهُم تِسْعَة عشر أَمِير فِي عدَّة من أكابرهم. ثمَّ ركب إِلَى عَسْكَرهمْ فَقتل مِنْهُم مقتلة كَبِيرَة وَانْهَزَمَ باقيهم فَأخذ جَمِيع ماكان مَعَهم واستخرج ذخائر دمقلة وأموالها وأخلاها من أَهلهَا. وَمضى إِلَى قلعة الدو وسألا أَن ينجدهما السُّلْطَان على الْعَرَب حَتَّى يستردوا ملكهمَا وَالْتزم بِحمْل مَال فِي كل سنة إِلَى مصر. فرسم بسفر الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ حَاجِب الْحجاب وَمَعَهُ الْأَمِير ألجاي أحد أُمَرَاء الألوف وَعشرَة أُمَرَاء عشرات وَثَمَانِية أُمَرَاء طبلخاناه مِنْهُم أَمِير خَلِيل بن قوصون وأسندمر حرفوش الْحَاجِب ومنكوتمر الجاشنكير ودقماق بن طغنجى ويَكتمر شاد الْقصر وأمير مُوسَى بن قرمان وأمير مُحَمَّد بن سرطقطاى فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَأخذُوا فِي تجهيزهم من سادس عشر شهر ربيع الأول. وَسَارُوا فِي رَابِع عشرينه وهم نَحْو الثَّلَاثَة آلَاف فَارس فأقاموا بِمَدِينَة قوص سِتَّة أَيَّام واستدعوا أُمَرَاء أَوْلَاد الْكَنْز من ثغر أسوان ورغبوهم فِي الطَّاعَة وخوفوهم عَاقِبَة الْمعْصِيَة وأمنوهم. ثمَّ سَارُوا من قوص فأتتهم أُمَرَاء الْكُنُوز طائعين عِنْد عقبَة أدفو فَخلع عَلَيْهِم الْأَمِير أَقتمر عبد الْغَنِيّ وَبَالغ فِي إكرامهم. وَمضى بهم أسوان فخيم بِظَاهِرِهِ من الْبر الغربي أَرْبَعَة عشر يَوْمًا نقل مَا كَانَ مَعَ الْعَسْكَر فِي المراكب من الأسلحة وَغَيرهَا على الْبر حَتَّى قطعت الجنادل إِلَى قَرْيَة بلاق فأكمل نقل(4/286)
الأسلحة والغلال وَغير ذَلِك وطلعت المراكب من الجنادل وَأصْلح مَا فسد مِنْهَا فِي طُلُوعهَا من الجنادل وَصَارَت من وَرَاء الجنادل وشحنت بالأسلحة والغلال وَبَقِيَّة الأزواد والأمتعة وَمَرَّتْ فِي النّيل. وسارت العساكر تُرِيدُ النّوبَة على محازاتها فِي الْبر يَوْمًا وَاحِدًا وَإِذا برسل متملك النّوبَة قد لاقتهم وأخبروهم بِأَن الْعَرَب قد نازلوا الْملك وحصره بقلعة الدوه فبادر الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ لانتقاء الْعَسْكَر وَسَار فِي طَائِفَة مِنْهُم جَرِيدَة وَترك الْبَقِيَّة مَعَ الأثقال. وجد فِي سيره حَتَّى نزل بقلعة أبريم وَبَات بهَا ليلته وَقد اجْتمع بِملك النّوبَة وعرب العكارمة وَبَقِيَّة أَوْلَاد الْكَنْز ووافاه بَقِيَّة الْعَسْكَر. فدبر مَعَ ملك النّوبَة على أَوْلَاد الْكَنْز وأمراء العكارمة وأمسكهم جَمِيعًا. وَركب متملك النّوبَة فِي الْحَال وَمَعَهُ طَائِفَة من المماليك. وَمضى فِي الْبر الشَّرْقِي إِلَى جَزِيرَة مِيكَائِيل حَيْثُ إِقَامَة العكارمة. وَسَار الْأَمِير خَلِيل بن قوصون فِي الْجَانِب الغربي وَمَعَهُ طَائِفَة فأحاطوا جَمِيعًا بِجَزِيرَة مِيكَائِيل عِنْد طُلُوع الشَّمْس وأسروا من بهَا من العكارمة وَقتلُوا مِنْهُم عدَّة بالنشاب والنفط. وفر جمَاعَة نجا بَعضهم وَتعلق بالجبال وغرق أَكْثَرهم. وسَاق بن قوصون النِّسَاء وَالْأَوْلَاد والأسرى والغنائم إِلَى عِنْد الْأَمِير أَقتمر فَفرق عدَّة من السَّبي فِي الْأُمَرَاء وَأطلق عدَّة وَعين طَائِفَة للسُّلْطَان. وَوَقع الِاتِّفَاق على أَن يكون كرْسِي ملك النّوبَة بقلعة الدو لخراب دمقلة كَمَا مر ذكره وَلِأَنَّهُ يخَاف من عرب بني جعد أَيْضا إِن نزل الْملك بدنقلة أَن يأخذوه فَكتب الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ محضراً برضاء ملك النّوبَة بإقامته بقلعة الدو واستغنائه عَن النجدة وَأَنه أذن للعسكر فِي الْعود إِلَى مصر. ثمَّ ألبسهُ التشريف السلطاني وَأَجْلسهُ على سَرِير الْملك بقلعة الدو وَأقَام ابْن أُخْته بقلعة أبريم. فَلَمَّا تمّ ذَلِك جهز ملك النّوبَة هَدِيَّة للسُّلْطَان وهدية للأمير يَلْبُغا الأتابك مَا بَين خيل وهجن ورقيق وتحف. وَعَاد الْعَسْكَر وَمَعَهُمْ أُمَرَاء الْكَنْز وأمراء العكارمة فِي الْحَدِيد. فأقاموا بأسوان سَبْعَة أَيَّام ونودى فِيهَا بالأمان والإنصاف من أَوْلَاد الْكَنْز. فَرفعت عَلَيْهِم عدَّة مرافعات فَقبض على عدَّة من عبيدهم ووسطوا. ورحل الْعَسْكَر من أسوان ومروا إِلَى الْقَاهِرَة فقدموا فِي ثَانِي شهر رَجَب وَمَعَهُمْ الأسرى فعرضوا على السُّلْطَان وقيدوا إِلَى السجْن وخلع على الْأَمِير عبد الْغَنِيّ وَقبلت الْهَدِيَّة. وفيهَا حدثت وَحْشَة بَين السُّلْطَان أويس متملك بَغْدَاد وتوريز وَبَين نَائِبه بِبَغْدَاد خواجا مرجان فعصى عَلَيْهِ مرجان وخطب بِبَغْدَاد للسُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف. وَبعث رسله بذلك فقدموا فِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى وَمَعَهُمْ كِتَابه بِأَنَّهُ قد خلع أويس وَأقَام الْخطْبَة وَضرب السِّكَّة باسم السُّلْطَان الْأَشْرَف وَأخذ لَهُ الْبيعَة على النَّاس بِبَغْدَاد(4/287)
وعزم على محاربة أويس وَأَنه نَائِب السُّلْطَان بِبَغْدَاد إِن نَصره الله عَلَيْهِ وَإِن تكن الْأُخْرَى قدم إِلَى أَبْوَاب السُّلْطَان. فأكرمت رسله وجهز لَهُ تشريف جليل وأعلام خليفتية وأعلام سلطانية وَكتب لَهُ تَقْلِيد بنيابة بَغْدَاد وجهز أَيْضا عدَّة خلع لأمرائه وأكابر دولته وخلع على رسله وأعيد. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشره: خلع على تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ وأعيد إِلَى قَضَاء دمشق على عَادَته وسافر فِي ثَالِث عشرينه وَهَذِه ولَايَته الثَّالِثَة. وَفِي هَذِه الْمدَّة: اهتم الْأَمِير يَلْبُغا الأتابك بِعَمَل الشواني البحرية لغْزو الفرنج فَجمع من الأخشاب وَالْحَدِيد والآلات مَا يجل وَصفه وَشرع النجارون فِي عَملهَا بِجَزِيرَة أروى الْمَعْرُوفَة بالجزيرة الْوُسْطَى وَتَوَلَّى عَملهَا الْوَزير فَخر الدّين ماجد بن قزوينة فَقَامَ فِي ذَلِك أتم قيام وبذل همته وأستفرغ وَسعه وتصدى لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَاسْتقر شاد الْعَمَل الْأَمِير عَلَاء الدّين طيبغا العلاي أستادار الْأَمِير يلبغا وناظر الْعَمَل بهاء الدّين بن الْمُفَسّر فَقدم للْعَمَل مائَة شيني مَا بَين غراب وطريدة برسم حمل الْخَيل فَكَانَ أمرا مهولاً. وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر بِحُضُور البحارة والنفاطة وَمن يُرِيد الْجِهَاد فِي سَبِيل الله إِلَى بَيت الْأَمِير يلبغا الأتابك للعرض وَأخذ نَفَقَة للسَّفر فِي المراكب. فَاجْتمع عدَّة من المغْاربة رجال الْبَحْر وكتبت أَسمَاؤُهُم وقررت لَهُم المعاليم وأقيمت لَهُم نقباء وَقَامُوا فِي مساعدة صناع المراكب. وَكتب إِلَى طرابلس وَنَحْوهَا من بِلَاد السَّاحِل بإنشاء مراكب حربية وَجمع رجالها فَكَانَ عملا جَلِيلًا. وَفِي تَاسِع عشره: قدم الْخَبَر بفرار تجار الفرنج من الْإسْكَنْدَريَّة فِي الْبَحْر فَلم يقدر عَلَيْهِم. وَفِي عشرينه: طلب نقباء أجناد الْحَرَكَة وألزموا بألا يخفوا أحدا من أجناد الْحلقَة وهددوا إِن أخفوا أحدا مِنْهُم فَكتب كل نقيب مضافيه وأحضروهم للعرض فَقطع الْأَمِير يلبغا مِنْهُم جمَاعَة. وَفِي آخِره: قدم قَاضِي تبريز فِي جمَاعَة برسالة السُّلْطَان أويس أَن مرجان قد عصى عَلَيْهِ وَأَنه قصد الْمسير لقتاله فَلَا يُمكن - إِذا فر - من دُخُوله إِلَى الشَّام ومصر فَأُجِيب بِمَا لَا يُرِيد وَأَنه إِن أَرَادَ نجدة سيرنا إِلَيْهِ العساكر لنصرته وأهين رَسُوله وأعيد خائباً.(4/288)
وَفِي حادي عشر جُمَادَى الْآخِرَة: أنعم على الْأَمِير طيبغا العلاى - أستادار الأتابك يلبغا - بتقدمة ألف عوضا عَن ملكَتمر المارديني بعد مَوته. وأنعم على الْأَمِير أَيْنَبكَ البدري - أَمِير آخور يلبغا - بإمرة طبلخاناه وَاسْتقر أستادار يلبغا عوضا عَن طيبغا. وَاسْتقر الْأَمِير أرغون ططر رَأس نوبَة كَبِيرا عوضا عَن ملكتمر المارديني. وَفِي ثَانِي عشره: اسْتَقر الْأَمِير أرغون الأزقي أستادار السُّلْطَان عوضا عَن أروس المحمودي. وَفِي خَامِس عشره: اسْتَقر الشريف بكتمر وَالِي الْقَاهِرَة فِي ولَايَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام وَكَانَت ولَايَة حَرْب. فاستقر لبَكتَمُر نِيَابَة بتقدمة ألف وَهُوَ أول من بَاشَرَهَا نِيَابَة سلطنة وَعمل مَعَه حَاجِب أَمِير طبلخاناه ووالي حَرْب إمرية عشرَة وَخَمْسمِائة فَارس بالثغر. وَاسْتقر الْأَمِير عَلَاء الدّين طيبغا أستادار كشلي فِي ولَايَة الْقَاهِرَة. وَاسْتقر عوضه فِي ولَايَة مصر الْأَمِير - حسام الدّين حُسَيْن بن عَلَاء الدّين عَليّ بن الكوراني. وَكَانَ الْأَمِير طَيبغا الطَّوِيل أَمِير سلَاح قد خرج إِلَى العباسة يتصيد فَبعث الْأَمِير يلبغا إِلَيْهِ مرسوم السُّلْطَان فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره مَعَ الْأَمِير أقبغا الْعمريّ الْحَاجِب بِأَن يتَوَجَّه إِلَى دمشق نَائِب السلطنة بهَا وَحمل مَعَه التَّقْلِيد والتشريف فَلم يُوَافق على ذَلِك ورد الْحَاجِب ردا غير جميل وَكَانَ الْأَمِير يلبغا بتربة مَلَكتمر المارديني مُقيما على قَبره فَلَمَّا بلغه الْحَاجِب جَوَاب الْأَمِير طيبغا غضب وَبعث إِلَيْهِ الْأَمِير أرغون الأسعردي الدوادار والأمير أروس المحمودي والأمير أرغون الأزقي والأمير طيبغا العلاي بالتشريف وتقليد النِّيَابَة وأكد عَلَيْهِمَا فِي ترجيعه عَن الْفِتْنَة وَإِن لم يمض فليقبضوا عَلَيْهِ. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن مضوا حَتَّى أبعدوا قَلِيلا فَتَأَخر عدَّة من مماليك الْأَمِير طَيبغا العلاي ومماليك أرغون الأزقي ووافى الْأَمِير طيبغا فَامْتنعَ من إجابتهم إِلَى السّفر وَقَالَ: لَيْسَ بيني وَبينهمْ إِلَّا السَّيْف. فَمَال إِلَيْهِ أرغون الأسْعَردي والأمير أروس وقبضوا على الْأَمِير طيبغا العلاي ففر أرغون الأزقي إِلَى الْأَمِير يلبغا وَهُوَ بالتربة ثمَّ لحق بِهِ الْأَمِير طيبغا العلاي وأخبراه بِمَا وَقع فَركب من فوره إِلَى قلعة الْجَبَل وَأمر فدقت الكوسات حَرْبِيّا. وَلبس السُّلْطَان وَعَامة الْعَسْكَر السِّلَاح وركبوا(4/289)
لَيْلَة السبت سَابِع عشره وَعمل كميناً فِي خلف الْجَبَل قَرِيبا من قبَّة النَّصْر. فَمَا طلع الْفجْر حَتَّى وافى الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل قبَّة النَّصْر فاقتتل الْفَرِيقَانِ فاستظهر طيبغا الطَّوِيل على الْقَوْم وكادت النُّصْرَة تتمّ لَهُ فَخرج الكمين من وَرَائه. وَعَاد الْأَمِير يلبغا بعد مَا أبعد قَلِيلا فَانْهَزَمَ طيبغا الطَّوِيل وتفرق جمعه فاختفي بِالْقَاهِرَةِ. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة وَنُودِيَ بإحضار من وجد من المنهزمين وهدد من أخفاهم فَلم يسر وَإِلَى الْقَاهِرَة والنداء بَين يَدَيْهِ عَن بَين القصرين - من الْقَاهِرَة - غير قَلِيل حَتَّى دله بعض النَّاس على طيبغا الطَّوِيل فَدخل خانكاه بيبرس وَأَخذه مِنْهَا وَصعد بِهِ القلعة فقيده وسجن. وظفر أَيْضا فِي آخر النَّهَار بالأمير أروس وبالأمير أرغون الأسعردي والأمير كَوْكَنداي أخي طيبغا الطَّوِيل والأمير كليم. ثمَّ قبض على الْأَمِير جَرَكتمُر السيفي منجك الجوكندار والأمير أرغون عبد الْملك شاد الشرابخاناه والأمير جمق الشيخوني والأمير تِلْكَ وأقبعا الْعمريّ البالسي وقرا السِّلَاح دَار والأمير أزكاه السيفي وجرجى بن كوكندي وأزرمق بن مصطفي وطشتمر العلاي فحملوا ثغر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي النّيل مقيدين وسجنوا هُنَاكَ. وَأخرج الْأَمِير حُسَيْن بن طوغان الساقي منفياً إِلَى الشَّام. وارتجع إقطاع ولدى طيبغا الطَّوِيل - وهما على وَحَمْزَة - وأنعم فِي يَوْمه على الْأَمِير طيْدمر البالسي وَاسْتقر أَمِير سلَاح عوضا عَن طيبغا الطَّوِيل. وَاسْتقر الْأَمِير طيبغا البوبكري المهمندار دوادارا بإمرة طبلخاناه. وَفِي ثَانِي عشرينه: خلع على الْأَمِير أرغون الأزقي وَاسْتقر أستادار السُّلْطَان عوضا عَن أروس. وَاسْتقر الْأَمِير قطلوبغا الشَّعْبَانِي شاد الشرابخاناه بإمرة طبلخاناه عوضا عَن أرغون عبد الْملك. وَاسْتقر الْأَمِير تمرقيا الْعمريّ جوكندار عوضا عَن جَرَكتمر السيفي. وأنعم على كل من الْأَمِير أقبغا الأحمدي الْمَعْرُوف بالجلب والأمير أسندمر الناصري بتقدمة ألف. وَفِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرينه: نُودي بزينة الْقَاهِرَة ومصر فزينتا أحسن زِينَة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشرينه: قدم ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ أَمِيرا مِنْهُم أُمَرَاء طبلخاناه: أقبغا الْجَوْهَرِي وأرغون القَشْتَمُري وأَيْنَبَك البدري وعَلى السيفي كُشلى - وَالِي الْقَاهِرَة - وطُغَاى تَمُر العثماني وألطنبغا الْعُزَّى وقجماس السيفي طاز وأرغون الْعُزَّى كتك وقَراتمر المحمدي وأروس بغا الخليلي وطاجار من عَوض وقطْلُوبغا الْعُزَّى وأقْبُغا اليوسفي وألطنبغا المارديني ورسلان السيفي - وَاسْتقر حَاجِب الْإسْكَنْدَريَّة - وعَلى بن قَشْتَمُر وسودون القُطلُقتمُرى وقطلوبغا الشَّعْبَانِي وطُغَاى(4/290)
تَمُر الْعُزَّى وَمُحَمّد الترجمان. وبقيتهم أُمَرَاء عشرات وهم ككبغا السيفي وتنبك الأزقي وأرغون الأحمدي وأرغون الأرغوني وسودون الشيخوني وأزدمر الْعُزَّى وأروسِ النظامي وَيُونُس الْعمريّ ودَرْتُ بُغا البالسي وطُرحسن وقرا بغا الصَرْغتْمُشي وطاز الحسنِي وقماري الجمالي ويوسف شاه وطقبغا العلاي وفيرعلي وقرقماس الصَرْغتْمُشي وطاجار المحمدي. وخلع على الْجَمِيع وألبسوا الشرابيش ونزلوا جَمِيعًا من دَار الْعدْل بالقلعة إِلَى الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين من الْقَاهِرَة حَتَّى حلفوا كَمَا هِيَ الْعَادة. ثمَّ ركبُوا إِلَى القلعة وَقد أُقِيمَت لَهُم المغاني فِي عدَّة مَوَاضِع من بَين القصرين إِلَى القلعة فَكَانَ يَوْمًا مَذْكُورا ثمَّ أزيلت الزِّينَة بعد ثَلَاث من نصبها. وَفِي أول شهر رَجَب: قدم الْخَبَر بوصول رسل الفرنج إِلَى ميناء الْإسْكَنْدَريَّة وَأَنَّهُمْ طلبُوا رهائن عِنْدهم حَتَّى ينزلُوا من مراكبهم ويردوا رسالتهم فَلم تؤمن مكيدتهم. وَاقْتضى الْحَال إجابتهم فَأخْرج من سجن الوافي - الْمَعْرُوف بخزانة شمايل - جمَاعَة وَجب قَتلهمْ وغسلوا بالحمام وألبسوا ثيابًا جميلَة وسفروا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. فأكرمهم النايب وأشاع أَنهم من رُؤَسَاء الثغر وَبعث بهم إِلَى الفرنج وشيع خَلفهم نسَاء وصبيانا يصيحون ويبكون كَأَنَّهُمْ عِيَالهمْ وهم يخَافُونَ الفرنج عَلَيْهِم. فَمشى ذَلِك على الفرنج وعَلى أهل الثغر لانتظام حَال المملكة وملاك أمرهَا وجودة تدبيرها. فتسلم الفرنج الْجَمَاعَة وَنزلت رسلهم من المراكب. وَقدمُوا إِلَى قلعة الْجَبَل وَقد عدى السُّلْطَان إِلَى سرحة كوم برا بالجيزة فحملوا إِلَى هُنَاكَ. وَجلسَ لَهُم الْأَمِير يلبغا الأتابك وَقَامَ الْأُمَرَاء والحجاب بَين يَدَيْهِ وأدخلوا عَلَيْهِ فهالهم مَجْلِسه وطنوا أَنه السُّلْطَان فَقيل لَهُم هَذَا مَمْلُوك السُّلْطَان. فكشفوا عَن رُءُوسهم وخروا على وُجُوههم يقبلُونَ الأَرْض ثمَّ قَامُوا ودنوا إِلَيْهِ وناولوه كتاب ملكهم وَقدمُوا هديته إِلَيْهِ فَفرق ذَلِك بحضرتهم فِيمَن بَين يَدَيْهِ وَاخْتَارَ مِنْهُ طشطا وأبريقاً من ذهب وصندوقاً لم يعرف مَا فِيهِ. وتضمنت رسالتهم أَنهم فِي طَاعَة السُّلْطَان ومساعدوه على متملك قبرص حَتَّى ترد الأسرى الَّتِي أخذت من الْإسْكَنْدَريَّة ويعوض المَال وسألوا تَجْدِيد الصُّلْح وَأَن يُمكن تجارهم من قدوم الثغر وَأَن تفتح كَنِيسَة الْقِيَامَة بالقدس وَكَانَت قد غلقت(4/291)
بعد وَاقعَة الْإسْكَنْدَريَّة. فأجابهم بِأَنَّهُ لابد من غَزْو قبرص وتخريبها. ثمَّ أخرجُوا فأقاموا بالوطاق ثَلَاثَة أَيَّام وحملوا إِلَى دَار الضِّيَافَة بجوار قلعة الْجَبَل. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان من السرحة وقفُوا بَين يَدَيْهِ وَقدمُوا هديتهم وأدوا رسالتهم فَلم يجابوا وأعيدوا إِلَى بِلَادهمْ خائبين. وَفِي أول شعْبَان: أخرج الْأَمِير جركس الرَّسُول شاد العماير منفياً إِلَى حلب واستمْر عوضه الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أقبغا آص فِي شدّ العماير. ورسم بإحضار الْأَمِير قشتمر المنصوري نايب طرابلس وَاسْتقر عوضه الْأَمِير أشَقتمُر المارديني. وَاسْتقر الْأَمِير أسندمر الزيني فِي نِيَابَة صفد. وَكتب إِلَى الْأَمِير جرجي نايب حلب أَن يسير لأخذ قلعة خرت برت من ديار بكر وَأخذ صَاحبهَا خَلِيل بن قراجا بن دُلغادر مقدم التركمان فنازل قلعتها نَحْو أَرْبَعَة أشهر وَعَاد بِغَيْر طائل. لمنعتها وحصانتها. ثمَّ إِن ابْن دلغادر طلب الْأمان فأمن وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه أخرج الْأَمِير قطْلوبغا الْعمريّ الْحَاجِب والأمير أَحْمد بن أبي بكر بن أرغون النايب بعد مَا قطع لِسَان كل مِنْهُمَا وَنفي إِلَى الشَّام وَاسْتقر سعد الدّين بن الريشة نَاظر الدولة. وَاسْتقر عوضه فِي نظر الخزانة الْكُبْرَى فَخر الدّين بن السعيد. ثمَّ أضيف إِلَى الْفَخر بن السعيد نظر الْبيُوت عوضا عَن تَاج الدّين مُوسَى بن أبي شَاكر. وَتوجه الْأَمِير طقبغا رَسُولا إِلَى قبرص فَأدى رسَالَته وَعَاد فِي أول شهر رَمَضَان وَفِيه رسم بالإفراج عَن الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل فَتوجه إِلَيْهِ الْأَمِير خَلِيل بن قوصون وَقدم بِهِ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامنه فَأخْرج إِلَى الْقُدس بطالا. وَفِيه عزل جمال الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مَحْمُود المرداوي(4/292)
قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق. وَاسْتقر عوضه شرف الدّين أَحْمد بن الْحسن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي الْجَبَل. وعزل جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن عبد الْملك المسلاتي قَاضِي الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وَاسْتقر عوضه سرى الدّين أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد هاني اللَّخْمِيّ الأندلسي وعزل شمس الدّين مُحَمَّد بن الحكري عَن قَضَاء الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَاسْتقر عوضه شمس الدّين مُحَمَّد بن خطيب أبرود. وَفِي يَوْم عيد الْفطر: رسم بالإفراج عَن الْأَمِير أرغون الأسعردي والأمير أروس المحمودي وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء المسجونين فأفرج عَنْهُم وأخرجوا إِلَى الشَّام مُتَفَرّقين. وَفِي خامسه: قدم رَسُول الْملك أرخان بن عُثْمَان ملك الرّوم يخبر أَنه جهز مِائَتي غراب بحريّة نجدة للسُّلْطَان على متملك قبرص فَأُجِيب بالشكر وَالثنَاء وَأَنه لَا يَتَحَرَّك حَتَّى تقدم من ديار مصر الشواني. وَقدم الْخَبَر بمسير السُّلْطَان أويس من توريز إِلَى بَغْدَاد وَقَبضه على خواجا مرجان وسمل عَيْنَيْهِ وحبسه. وأَن حيار بن مهنا لما خرج عَن الطَّاعَة ثمَّ فر إِلَى الْعرَاق وطردت عربه من بِلَاد الشَّام خدم أويس زِيَادَة على سنتَيْن حَتَّى خَالف عَلَيْهِ خواجا مرجان بِبَغْدَاد وَقبض عَلَيْهِ فر مِنْهُ بعض أمرائه إِلَى حيار. فَلَمَّا طلبه مِنْهُ أويس لم يبْعَث بِهِ إِلَيْهِ فَبعث أويس يطرده من بِلَاده. فَسَار عَنْهَا وَسَأَلَ الْأَمِير عمر شاه نَائِب حماة أَن يشفع إِلَى السُّلْطَان فِيهِ ويسأله رد إقطاعه إِلَيْهِ فَكتب بذلك عمر شاه فَأُجِيب إِلَى قبُول شَفَاعَته وَأَن يجهزه إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة صحبته. فَقدم الْأَمِير عمر شاه وَمَعَهُ الْأَمِير حيار فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره. وَقدم عقيب ذَلِك رَسُول السُّلْطَان أويس بِطَلَب الْأَمِير الَّذِي فر إِلَى حيار وَألا يُمكن أحدا فر من مَمْلَكَته أَن يعبر(4/293)
الشَّام ومصر فَلم يجب إِلَى قَصده. وخلع على حيار وَولده الْأَمِير نعير وخواصه وَفِي أول ذِي الْقعدَة: قدم رَسُول متملك ماردين بِأَن بيرم خجا التركماني تغلب على الْموصل مُنْذُ سِنِين وَبلغ عسكره نَحْو الثَّلَاثِينَ ألفا. فَلَمَّا أَخذ السُّلْطَان أويس نايبه مرجان بعث إِلَى الْموصل جَيْشًا ففر مِنْهُ بيرم خجا إِلَى بِلَاد الْعَجم وملكها أويس وَقد عزم على أَخذ ماردين وَمَتى ملكهَا تعدى مِنْهَا إِلَى حلب. وَطلب نجدة فَخرج من يكْشف عَن هَذَا الْأَمر. وقدمت أَيْضا رسل متملك جنوة بستين أَسِيرًا من أهل الْإسْكَنْدَريَّة وهدية للسُّلْطَان وللأمير يلبغا. وَذكر أَن هَذِه الأسرى كَانَت نصِيبه وَاعْتذر بِأَنَّهُ لم يعلم بواقعة الْإسْكَنْدَريَّة إِلَّا بعد وُقُوعهَا وَأَنه مُسْتَمر على الصُّلْح وَمَتى قدر على متملك قبرص قَبضه وَقَتله. فَقبلت هديته وَأثْنى الأسرى عَلَيْهِ خيرا وَأَن متملك قبرص لما عَاد من الْإسْكَنْدَريَّة قسم مَا غنمه مِنْهَا بَين مُلُوك الفرنج وَبعث بهؤلاء إِلَى متملك جنوة فعرضهم وتغمم لَهُم وَأحسن إِلَيْهِم وكساهم وأجرى لَهُم الرَّوَاتِب حَتَّى بعث بهم. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير حسام الدّين حُسَيْن بن الكوراني وَإِلَى الْقَاهِرَة. وَاسْتقر الْأَمِير الأكز الكشلاوي نايب الْإسْكَنْدَريَّة. وَنقل الشريف بَكتمُر مِنْهَا إِلَى ولَايَة الْبر بِالشَّام. وَقدم وَزِير متملك الْيمن بهدية من جُمْلَتهَا فيل. واستجد السُّلْطَان والياً بأسوان على إقطاع أَوْلَاد الْكَنْز وَلم يعْهَد مثل ذَلِك. فِيمَا سلف. وخلع على الحسام الْمَعْرُوف بِالدَّمِ الْأسود وَسلمهُ أَوْلَاد الْكَنْز المسجونين بِالْقَاهِرَةِ. وَسَار إِلَى قوص فسمرهم جَمِيعًا وَمضى بهم مسمرين من قوص إِلَى أسوان ووسطهم بهَا. فشق ذَلِك على أَوْلَادهم وعبيدهم واجتمعوا مَعَ العكارمة وَأتوا. فِي جمع كَبِير إِلَى أسوان. فَلَقِيَهُمْ الدَّم الْأسود وَقَاتلهمْ فهزموه وجرحوا عدَّة من مماليكه ومالوا على أهل أسوان يقتلُون وينهبون ويخربون الدّور ويحرقون بالنَّار حَتَّى أفنوا عدَّة من النَّاس وأسروا النِّسَاء وفعلوا كَمَا فعلت الفرنج بالإسكندرية وفيهَا قَامَ بمملكة الْيمن الْملك الْأَفْضَل عَبَّاس بن الْمُجَاهِد على بن الْمُؤَيد هزبر الدّين(4/294)
دَاوُد المظفر يُوسُف بن عمر بن على بن رَسُول بعد موت أَبِيه. وَاسْتقر شَيخنَا ضِيَاء الدّين عبد الله بن سعد العفيفي الْمَعْرُوف بقاضي قرم فِي مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس من الْقَاهِرَة بعد موت الرضي. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الظَّاهِر الْمَعْرُوف بِابْن الشّرف الْحَنَفِيّ. خطب جَامع شيخو. وَمَات الْأَمِير بُطَا أحد أُمَرَاء الطبلخاناه. وَقَرَأَ على قَبره ألف ختمة بوصيته. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن أَيُّوب العينتابي الْحلَبِي قَاضِي الْعَسْكَر بِدِمَشْق. برع فِي الْفِقْه وَشرح مجمع الْبَحْرين والمغنى فِي الْأُصُول. وَمَات الشَّيْخ خَلِيل الدّين بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بِابْن الجندي الْفَقِيه الْمَالِكِي صَاحب الْمُخْتَصر فِي الْفِقْه فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر شهر ربيع الأول وَدفن خَارج الْقَاهِرَة. أَخذ الْفِقْه على مَذْهَب مَالك عَن الشَّيْخ عبد الله المنوفي وبرع فِيهِ. وصنف مُخْتَصرا فِي الْفِقْه على طَريقَة الْحَاوِي فِي الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي. وَشرح كتاب ابْن الْحَاجِب فِي الْفِقْه. وتصدر بعد المنوفي. بمجلسه من الْمدرسَة الصالحية بَين القصرين. وَكَانَ يرتزق من إقطاع لَهُ بالحلقة ثمَّ قَرَّرَهُ الْأَمِير شيخو فِي تدريس الْمَالِكِيَّة بخانكاته وَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ. وَكَانَ عبدا صَالحا.(4/295)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن الْبَدْر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ابْن سعد الله بن جمَاعَة الْكِنَانِي الْحَمَوِيّ بمكى يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة ومولده فِي محرم سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة بِدِمَشْق. سمع الْكثير عَن جمَاعَة كَثِيرَة وَحدث بِأَكْثَرَ مسموعاته. وَقَرَأَ الْفِقْه والْحَدِيث وَأفْتى ودرس وخطب وَولي قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر تسعا وَعشْرين سنة بِأَحْسَن سيرة وَأجل طَريقَة. ثمَّ ترك ذَلِك تنزهاً وَتَعَفُّفًا وجاور بِمَكَّة فَقضى بهَا نحبه. رَحمَه الله. وَتُوفِّي الْملك الْمُجَاهِد سيف الدّين على ابْن الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد ابْن المظفر شمس الدّين وَتُوفِّي شمس الْأَئِمَّة مَحْمُود بن خَليفَة مدرس الْحَنَفِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية حسن. وَتُوفِّي الرضي شيخ الخانكاه الركنية بيبرس فِي لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشْرين رَجَب. وَمَات الْأَمِير ملكتمر المارديني رَأس نوبَة الجمدارية أحد مقدمى الألوف فِي يَوْم الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات الْأَمِير أرغون الْعزي بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير أرغون البَكتمري أحد رُءُوس النوب. وَمَات الْأَمِير أروس الْعُزَّى أحد الطبلخاناه.(4/296)
(سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة)
فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث الْمحرم: قدمت رسل الْملك الْأَفْضَل عَبَّاس بن الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن بهدية سنية على الْعَادة وهم وزيره شرف الدّين حُسَيْن بن عَليّ الفارقي وأمير أخوره نَاصِر الدّين. فوقفوا بَين يَدي السُّلْطَان وأدوا رسالتهم ثمَّ أنزلوا فِي الميدان الْكَبِير على شاطىء النّيل وَقدمُوا هَدِيَّة مرسلهم فِي يَوْم السبت خامسه. وفيهَا فرس لَيْسَ لَهُ ذكر وَلَا أنثيين وَإِنَّمَا يَبُول من ثقب فَقبلت. وَفِي تَاسِع صفر: اسْتَقر الْأَمِير طَيبغا الطَّوِيل فِي نِيَابَة حماة. واستدعى الْأَمِير منكلى بغا الشمسي نَائِب الشَّام فَقدم فِي محفة لتوعك بِهِ فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشْرين صفر: خلع على الْأَمِير منكلى بغا الشمسي وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن جرجي الإدريسي. فَصَارَت نِيَابَة حلب أكبر رُتْبَة من نِيَابَة دمشق وأضيف من عَسْكَر دمشق إِلَى حلب أَرْبَعَة آلَاف فَارس. وخلع على الْأَمِير أقتمُر عبد الْغَنِيّ وَاسْتقر فِي نِيَابَة دمشق. وخلع على الْأَمِير طيبغا العلاي أستادار الْأَمِير يلبغا الأتابك وَاسْتقر حَاجِب الْحجاب عوضا عَن أقتمر عبد الْغَنِيّ وَنزل الثَّلَاثَة بتشاريفهم من القلعة. وَاسْتقر جمال الدّين عبد الله بن نجم الدّين عمر بن الْجمال مُحَمَّد بن الْكَمَال عمر ابْن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن هبة الله بن أَحْمد بن يحيى بن العديم الْحَنَفِيّ فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماة بعد وَفَاة أَمِين الدّين عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن وهبان. وَاسْتقر جمال الدّين عبد الله بن الْكَمَال مُحَمَّد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن التَّاج أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن فتح الدّين أبي بكر مُحَمَّد بن عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن الشَّهِيد. ورسم لِلْأُمَرَاءِ جَمِيعًا بِأَن يسكنوا بقلعة الْجَبَل على مَا جرت بِهِ الْعَادة الْقَدِيمَة فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون فسكن بَعضهم. وَاسْتقر شهَاب الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الْمَعْرُوف بِابْن زُبَيبَة الْحَنَفِيّ قَاضِيا بالإسكندرية زِيَادَة على قاضيها جمال الدّين بن الربعِي الْمَالِكِي وَلم يعْهَد قبل ذَلِك بالإسكندرية قاضيان.(4/297)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر ربيع الأول: قبض الْأَمِير يلبغا الأتابك على الْأَمِير الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الآنوكي مقدم المماليك السُّلْطَانِيَّة وضربه نَحْو ستماية ضَرْبَة بالعصى وَأخرجه إِلَى أسوان منفياً لكَلَام نقل لَهُ عَنهُ. وَولى عوضه الطواشي ظهير الدّين مُخْتَار الْمَعْرُوف بشاذروان مقدم المماليك. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير أرغون الأزقي فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن ألطبغا البشتكي. وَفِي ثَانِي عشرينه: أخرج الْأَمِير أرغون الأحمدي اللالا منفياً وَأخرج أَيْضا الْأَمِير تمرقيا الْعمريّ منفياً فتوجها إِلَى الشَّام وخلع على الْأَمِير أقبغا حلب الأحمدي وَاسْتقر لالا السُّلْطَان. وَفِيه رسم للأمير طيبغا حَاجِب الْحجاب بِعرْض أجناد الْحلقَة فاستدعاهم وَجلسَ لعرضهم جَزِيرَة أروى حَيْثُ تعْمل الشواني الحربية وتشدد عَلَيْهِم وَقطع مِنْهُم جمَاعَة فِي عدَّة أَيَّام حَتَّى عرض مِنْهُم نَحْو ثلثيهم ثمَّ كَانَ مَا يَأْتِي ذكره. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي تَاسِع عشرينه: اسْتَقر الْأَمِير قُطْلُوبك السيفي وَالِي قوص عوضا عَن الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي. وَفِي هَذَا الشَّهْر: كملت عمَارَة الشواني البحرية وعدتها ماية قِطْعَة مَا بَين غربان وطرايد فاستخدم الْأَمِير يلبغا لَهَا من الرِّجَال مَا يكفيها وجمعهم مَا بَين مغاربة وتراكمين وصعايدة ورتب لَهُم رؤوساء ونقباء وَأنْفق فيهم المعاليم المقررة وشحن الأغربة بِالْعدَدِ الحربية وَجَمِيع آلَات السِّلَاح. فَلَمَّا تهيأت كلهَا فرقها الْأَمِير يلبغا على الْأُمَرَاء فتسلم كل أَمِير مَا خصّه من الشواني وزينها بأعلامه وَأقَام فِيهَا الطبول والأبواق وَأنزل بهَا عدَّة من مماليكه وَقد ألبسهم آلَة الْحَرْب وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ فِيهَا للغزو إِذا سَارَتْ. ثمَّ ركب السُّلْطَان والأمير يلبغا وَسَائِر أُمَرَاء الدولة وأعيانها لرؤية الشواني وَقد كملت وَتمّ أمرهَا وتهيأت رِحَالهَا وَخرج النَّاس من أقطار الْمَدِينَة وَأتوا من كل جِهَة فِي يَوْم السبت رَابِع عشْرين ربيع الأول. فَسَار السُّلْطَان بعساكره من القلعة إِلَى جَزِيرَة أروى وَركب الحراقة وَقد امْتَلَأت تِلْكَ الْأَرَاضِي بِالنَّاسِ. فَقدمت الشواني ولعبت رجالها بالآلات الحربية كَمَا يفعل عِنْد لِقَاء الْعَدو ودقت كوساتها ونفخت بوقاتها وأفلتت النفوط فَكَانَ أمرا مهولاً ومنظراً جميلاً وأمراً حسنا لَو تمّ. فَلَمَّا انْقَضى ذَلِك توجه السُّلْطَان فِي الحراقة حَتَّى نزل من بولاق التكروري وخيم بِمَنْزِلَتِهِ من بر الجيزة على الْعَادة. وَمضى الْأَمِير يلبغا لتصيد فِي جَزِيرَة القط وأقيم الْأَمِير(4/298)
عمر بن أرغون النايب بقلعة الْجَبَل نايب الْغَيْبَة وَأقَام الْأَمِير طيبغا حَاجِب الْحجاب بِجَزِيرَة وَكَانَ الْأَمِير يلبغا - لأمر يُريدهُ الله تَعَالَى - قد شحت نَفسه وَسَاءَتْ أخلاقه فَاجْتمع مماليكه الأجلاب إِلَى رُؤُوس النوب وَشَكوا مَا يلقوه من الْأَمِير يلبغا وَأَنه يجفوهم ويهينهم ويبالغ فِي معاقبة أحدهم على الذَّنب الْيَسِير حَتَّى أَنه ضرب عدَّة مِنْهُم بالمقارع وَقطع أَلْسِنَة جمَاعَة وَأَنَّهُمْ قد صَارُوا يدا وَاحِدَة يُرِيدُونَ قَتله وَقتل من لم يوافقهم على ذَلِك فَأَشَارَ الأكابر مِنْهُم عَلَيْهِم بالتمهل قَلِيلا حَتَّى يَأْخُذُوا مَا عِنْد الْأَمِير يلبغا وحدثوه فِي شَأْنهمْ وانتدب مِنْهُم الْأَمِير أسندمر الناصري والأمير أقبغا جلب الأحمدي والأمير قجماس الطازي والأمير تغرى برمش العلاي والأمير أقبغا جركس أَمِير سلَاح والأمير قرابغا الصرغتمشي ومضوا إِلَى الْأَمِير يلبغا وحدثوه فِي أَمر المماليك وسألوه الرِّفْق بهم فجبههم ورد عَلَيْهِم ردا جَافيا وتهددهم وَحلف بالأيمان الحرجة أَنه لابد من ضرب جمَاعَة من مماليكه بالمقارع وإشهارهم فِي الوطاق. فشق ذَلِك عَلَيْهِم وَخَرجُوا من بَين يَدَيْهِ وَقد توغرت صُدُورهمْ. وَحَدثُوا إخْوَانهمْ من المماليك بِمَا كَانَ من الْأَمِير يلبغا واتففو جَمِيعًا على الفتك بِهِ وتحالفوا على ذَلِك ولبسوا سِلَاحهمْ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء خَامِس ربيع الآخر وكبسوا مخيم يلبغا وَأَحَاطُوا بِهِ ليأخذوه. فَمضى إِلَيْهِ بعض خواصه مِنْهُم وأعلمه الْخَبَر. فبادر إِلَى الْفِرَار على فرس وَقصد بولاق التكروري فِي نفر من خاصته وَبعث إِلَى الْأَمِير طيبغا حَاجِب الْحجاب يُعلمهُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَلم يشْعر الْحَاجِب وَقد جلس بكرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء لعرض الأجناد على عَادَته وهم مِنْهُ على تخوف أَن يقطعهم كَمَا فعل بغيرهم إِذْ جَاءَهُ أحد مماليك يَلبغا وَأسر إِلَيْهِ طَويلا. ثمَّ قَامَ عَنهُ. وَقد تغير حَاله فَأمر الأجناد بالإنصراف وأبطل عرضهمْ. وَركب إِلَى دَاره فَلبس آلَة الْحَرْب هُوَ ومماليكه. وَعَاد إِلَى الجزيرة وَتقدم بِطَلَب أجناد الْحلقَة وَمن تَأَخّر بِالْقَاهِرَةِ من الْأُمَرَاء فَأتوهُ فِي السِّلَاح وَقد ارتجت الْقَاهِرَة بِأَهْلِهَا وَخرجت الْعَامَّة من كل مَوضِع إِلَى الجزيرة وَمَا حولهَا وَمنع أَرْبَاب المراكب النيلية أَن يعدوا بِأحد النّيل من البرين. وجمعت المراكب كلهَا إِلَى بر مصر وضموا الشواني الحربية وألقوا مراسيها فِي وسط النّيل وأخرجوا مِنْهَا رجالها. وَتقدم حَاجِب الْحجاب إِلَى فتح الدّين صَدَقَة وَلَيْسَ الحراقة السُّلْطَانِيَّة أَن يخرج الحراقة الذهبية من بر الجيزة وَلَا يعدى إِلَّا بالسلطان والأمير يلبغا فَقَط وَمن يصحبهما. وَكَانَ الْأَمِير عمر ابْن النَّائِب - نَائِب الْغَيْبَة - قد أغلق أَبْوَاب القلعة وألبس من بهَا من مماليك السُّلْطَان السِّلَاح وأقامهم على الأسوار واستعد.(4/299)
وَأما يلبغا فَإِنَّهُ سَار لَيْلَة من جَزِيرَة القط إِلَى بولاق التكروري فَلم يأتها إِلَّا عِنْد نصف النَّهَار من يَوْم الْأَرْبَعَاء. فَلم يجد مركبا يعدى بِهِ النّيل إِلَّا الحراقة الذهبية فَعدى فِيهَا وَقد عرفه الرايس صَدَقَة حَتَّى وافى حَاجِب بالجزيرة وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من الْأُمَرَاء والأجناد فأكد فِي الْمَنْع بالتعدية بِأحد من بر الجزيرة. وَسَار فِي جحفل كَبِير إِلَى القلعة فَمَنعهُمْ نايب الْغَيْبَة من دُخُولهَا وَرَأَوا منعتها عَلَيْهِم بِمن فَوْقهَا من الْمُقَاتلَة فَعَاد عَنْهَا يجمعه من منزله بالكبش وظل فِيهِ بَقِيَّة نَهَاره وَبَات لَيْلَة الْخَمِيس وَقد رَجَعَ الْأَمِير طيبغا حَاجِب الْحجاب إِلَى الجزيرة لحراسة المعادي. وَأما المماليك لما بَلغهُمْ فرار يلبغا نادوا من أَرَادَ مخدومه يلبغا فليتبعه وَمن أَرَادَ السُّلْطَان فَليقمْ مَعنا. فتبع يلبغا طايفة وَتَأَخر أَكْثَرهم فأسرع الْقَوْم إِلَى من فارقهم وأخذوهم وقيدوهم واقتسموا جَمِيع مَا مَعَهم. وتجمعوا بأسرهم عِنْد وطاق السُّلْطَان ونزلوا عَن خيولهم ومثلوا بَين يَدَيْهِ وقبلوا الأَرْض وأعلموه بِمَا كَانَ من يلبغا فِي حَقهم وَمَا رده من الْكَلَام الجافي عَلَيْهِم وسألوه نصرتهم عَلَيْهِ فَوَعَدَهُمْ بِخَير وقوى عزايمهم فَحَلَفُوا لَهُ. ثمَّ سَارُوا بِهِ إِلَى بولاق التكرووي فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء حَتَّى وافى شط النّيل فَلم يجد مراكب يعدى بهَا النّيل فخيم هُنَاكَ بِمن مَعَه وَنُودِيَ بِالْإِقَامَةِ ثَلَاثَة أَيَّام. وكتبت البطايق إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط ورشيد والبرلسي على أَجْنِحَة الْحمام بقدوم من بهَا من الْأُمَرَاء والأجناد المركزين فِي اليزك على الْعَادة لحفظ الثغور من الفرنج. وَكتب بِحُضُور من بِالْوَجْهِ القبلي وَالْوَجْه البحري أَيْضا فقدموا شَيْئا بعد شَيْء. وَأخذ وُلَاة الجيزة فِي جمع المراكب من شاطىء النّيل فَجمعُوا مِنْهَا عدَّة ركب بهَا طَائِفَة فِي اللَّيْل. وَأخذُوا كثيرا من الشواني الحربية الَّتِي فِي وسط النّيل وضموا بهَا مَا بقى مِنْهَا وصاروا بهَا جَمِيعًا إِلَى بولاق التكروري وفيهَا آلَات الْحَرْب فَمَا طلع النَّهَار حَتَّى زينت ونصبت عَددهَا وعمرت بِالرِّجَالِ البحرية والمماليك السُّلْطَانِيَّة فَكَأَن الْأَمِير يلبغا إِنَّمَا تَعب فِيهَا لتَكون مقاتلة لَهُ ومزيلة نعْمَته وسالبة لملكه. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس: ركب الْأَمِير يلبغا فِي عَسْكَر موفور إِلَى الجزيرة فبرزت إِلَيْهِ الشواني من بر الجيزة حَتَّى صَارَت فِي وسط النّيل ورمته المماليك السُّلْطَانِيَّة مِنْهَا بِالسِّهَامِ والنفط فمازال الْقَوْم يترامون نهارهم ثمَّ أَمر يلبغا فجيء إِلَيْهِ بالخليفة وآنوك ابْن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون. وَطلب يلبغا من الْخَلِيفَة أَن يُفَوض إِلَيْهِ السلطة عوضا عَن أَخِيه شعْبَان بن حُسَيْن فَامْتنعَ الْخَلِيفَة من ذَلِك. وَاحْتج بِأَن الشَّوْكَة للأشرف شعْبَان فَأمر يلبغا بالكوسات فدقت وَأقَام شعار السلطنة كُله وَقَالَ: أَنا أعينه وأؤيده.(4/300)
وَمن الشَّوْكَة غَيْرِي فَلم يجد الْخَلِيفَة بدا من سلطة آنوك فأقاموه سُلْطَانا ولقبوه بِالْملكِ الْمَنْصُور وأركبوه بالشعار السلطاني. واشتدت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ يَوْم الْخَمِيس وَلَيْلَة الْجُمُعَة. وَجلسَ الْمَنْصُور آنوك بكرَة يَوْم الْخَمِيس وَبَين يَدَيْهِ أَرْبَاب الدولة من الْأُمَرَاء وأرباب الأقلام على الْعَادة. فَلَمَّا انْقَضتْ الْخدمَة ركب بالعساكر مَعَ الْأَمِير يلبغا للحرب. وَاسْتمرّ الرَّمْي من الشواني طول النَّهَار إِلَى نصف نَهَار يَوْم السبت. ثمَّ نزل عدَّة من الأشرفية فِي أَرْبَعَة شواني يُرِيدُونَ جِهَة الرَّوْضَة فندب يلبغا جمَاعَة من أَصْحَابه إِلَى جهتهم حَتَّى يمنعوهم الصعُود إِلَى الْبر. ثمَّ خرجت ثَلَاث طرايد أَيْضا وَمَضَت من بولاق التكروري تُرِيدُ جِهَة جَزِيرَة الْفِيل وشبرا فسير إِلَيْهِم يلبغا طَائِفَة أُخْرَى تمنعهم النُّزُول إِلَى الْبر وَمِنْهُم الْأَمِير طغاي تمر النظامي والأمير قرابغا البدري والأمير طيبغا المجدي فَالْتَقوا قَرِيبا من الْوراق. وَصَارَ البدري والنظامي فِي جلة الأشرفية فبعثوا بهما إِلَى بولاق التكروري. وَنزل الأشرفية إِلَى نَاحيَة شبْرًا فِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف فملكوا الْبر الشَّرْقِي. هَذَا وأسواق الْقَاهِرَة طول هَذِه الْأَيَّام مغلقة والأسباب متعطلة وَلَيْسَ للنَّاس شغل سوى التفرج فِي شاطىء النّيل على المقاتلين من السُّلْطَانِيَّة واليلبغاوية وصاروا يلهجون كثير بقَوْلهمْ. السُّلْطَان الجزيرة مَا يُسَاوِي شعيرَة. يُرِيدُونَ أَن أَمر آنوك لَا يتم ويهزأون بِهِ وَصَارَ الْأَمِير قجماس الطازي يمر فِي قَارب لطيف وَمَعَهُ طَائِفَة حَتَّى يقرب من الْبر ويرمى بالنشاب فيرموه أَيْضا ويتسابقوا وتعصبت الْعَامَّة للسُّلْطَان وَعمِلُوا لَهُم رايات وسبحوا النّيل إِلَيْهِ وصاحوا عِنْده السُّلْطَان مَنْصُور فَأخذ أَمر يلبغا ينْحل. فَلَمَّا قدم البدري والنظامي على السُّلْطَان. وأعلماه بِأخذ السُّلْطَانِيَّة الْبر الشَّرْقِي. وتفرق اليلبغاوية فِي طلب الشواني وأشارا عَلَيْهِ بتعدية النّيل. ركب فِي بَقِيَّة الأغربة بِمن مَعَه وَمضى إِلَى جِهَة شبْرًا والعامة تحاذيه من البرين وتستغيث بِالدُّعَاءِ لَهُ. حَتَّى نزل شبْرًا والتفت عَلَيْهِ جموعه فَسَار يُرِيد القلعة فتسلل أَصْحَاب يلبغا عَنهُ طَائِفَة بعد طَائِفَة. فَلم يجد يلبغا بدا من الْفِرَار وَتوجه يُرِيد القلعة. وَقد فر عَنهُ من كَانَ قد بَقِي مَعَه من الْأُمَرَاء وهم يَعْقُوب شاه وأرغون ططر وبيبغا العلاي الدوادار وخليل بن قوصون وأقبغا الْجَوْهَرِي وكمشبغا وبيبغا شقير وأينبك. وَلَحِقُوا جَمِيعهم بالسلطان وَلم يتَأَخَّر مَعَ يلبغا سوى علاي الدّين طيبغا حَاجِب الْحجاب. وَكَانَ الْعَامَّة قد لقبوه قنصا ونسن. وفر مماليكه شَيْئا بعد شَيْء. فأيقن بالزوال. وَبعث بسُلْطَان الجزيرة آنوك إِلَى القلعة وأصعد بكوساته إِلَى الطبلخاناه وَنزل عَن فرسه تَحت الميدان(4/301)
بسوق الْخَيل وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَحل سَيْفه من وَسطه. وَأمر طيبغا حَاجِب الْحجاب أَن يمْضِي بِهِ ثمَّ ركب فرسه وَمضى إِلَى دَاره بالكبش وَلم يبْق مَعَه إِلَّا دون الْمِائَة فَارس والعامة تهزأ بِهِ وتسبه وترجمه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وصل دَاره. وَقدم السُّلْطَان إِلَى القلعة فِي عساكره وعساكر يلبغا وعالم كَبِير من الْعَامَّة. فَدخل من بَاب الإصطبل أول لَيْلَة الْأَحَد فَنزل عِنْد بَابه. والكوسات تدق والعساكر واقفة تَحت القلعة فِي الرميلة. ثمَّ أَمر بإحضار يلبغا فأحضر إِلَيْهِ فِي الْحَال مَعَ عدَّة من الْأُمَرَاء والمماليك المتوجهين إِلَيْهِ من قبل السُّلْطَان وأحضر مَعَه طيبغا حَاجِب الْحجاب فحبسا بالقلعة فَخَشِيت المماليك مِنْهُ أَن يفرج السُّلْطَان عَنهُ فيبيدهم فصاروا بأجمعهم إِلَى أكابرهم والأعيان مِنْهُم وهم الْأَمِير أسنَدُمر والأمير أَقبُغا حَلَب والأمير قجْماس. ومازالوا بهم حَتَّى طلبُوا من السُّلْطَان أَن يُمكنهُم مِنْهُ فخلاهم وإياه فأخرجوه من السجْن وَمَشوا بِهِ حَتَّى قرب من بَاب السلسلة قدم لَهُ فرس لركبه فعندما أَرَادَ ركُوبه بدره من مماليكه قراتَمُر ألْقى رَأسه عَن بدنه واقتحم بَقِيَّتهمْ عَلَيْهِ بسيوفهم حَتَّى أتلفوا شلوه. وحملوا رَأسه إِلَى السُّلْطَان وَبَين يَدَيْهِ مشعل قد أضرمت ناره وَعلا لهبه فَألْقوا الرَّأْس فِي النَّار ثمَّ أَخْرجُوهُ وغسلوه فَعرفهُ من هُنَالك بسلعة كَانَت تَحت أُذُنه. وحملت جثته إِلَى خلف القلعة. فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ السُّلْطَان وَصعد إِلَى قصره من القلعة فَأخذ الْأَمِير طاش تَمُر - دوادار يلبغا - الرَّأْس وتتبع الجثة حَتَّى وجدهَا فِي ليلته. ثمَّ غسل الْجَمِيع وَدَفنه بتربته الْمَعْرُوفَة بتربة يَلْبُغا خَارج بَاب المحروق من الْقَاهِرَة وَذَلِكَ لَيْلَة الْأَحَد عَاشر شهر ربيع الآخر. واستمرت الكوسات تدق طول تِلْكَ اللَّيْلَة والعساكر واقفة تَحت القلعة حَتَّى أصبح نَهَار الْأَحَد صعدوا إِلَى الْخدمَة بالقلعة وَقد تعين مِنْهُم الْأَمِير أقبغا الجلب والأمير أسندمر والأمير قجماس وَأخذُوا فِي تَدْبِير أُمُور الدولة وقبضوا على الْأَمِير قرابغا البدري والأمير يَعْقُوب شاه والأمير يَلْبُغا الدوادار وقيدوهم وبعثوا بهم فحبسوا بالإسكندرية وألزم الْأَمِير خَلِيل ابْن قوصون بِأَن يُقيم فِي دَاره بطالا. هَذَا وَقد امتدت أَيدي الْعَامَّة وأسافل الأجناد إِلَى بيُوت الْأَعْيَان فنهبوها بِحجَّة أَنهم من حَوَاشِي يلبغا حَتَّى شنع الْأَمر فِي ذَلِك. ونهبوا بَيت الْأَمِير فَخر الدّين ماجد بن قزوينة وبيوت ألزامه وَأَتْبَاعه ونهبوا بَيت الْأَمِير علاي الدّين وَالِي الْقَاهِرَة. وَصَارَ من يُرِيد أَن يبلغ عَن عدوه مَا يُرِيد يَقُول عَنهُ أَنه يلبغاوي فَمَا هُوَ إِلَّا أَن تسمع الْعَامَّة عَنهُ(4/302)
ذَلِك وَإِذا بهم أَتَوا كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر فَمَا يعفوا وَلَا يكفوا. وَإِن صدفوا فِي طريقهم أحدا سلبوه ثِيَابه. فَحل بِالنَّاسِ من هَذَا بلَاء لايمكن وَصفه وتخوف كل أحد أَن يُصِيبهُ بلاؤهم. فتنهب دَاره ثمَّ تخرب وتتفرق آلاتها فِي الْأَيْدِي كَمَا فعل بجاره أَو قَرِيبه أوصديقه. فَلَمَّا تجَاوز الْعَامَّة فِي إفسادهم الْمِقْدَار ركب الْأَمِير ضروط الْحَاجِب وَمَعَهُ وَالِي الْقَاهِرَة فِي عَشِيَّة النَّهَار وَنُودِيَ بالأمان. وَأَن غَرِيم السُّلْطَان قد أمسك وَمن تعرض لأحد من النَّاس أَو نهب شَيْئا حل مَاله وَدَمه للسُّلْطَان وشق فانكفوا عَن فسادهم. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشره: جلس السُّلْطَان بدار الْعدْل من القلعة على الْعَادة وخلع على الْأَمِير قشتمر المنصوري. وَاسْتقر حَاجِب الْحجاب. وخلع على الْأَمِير أيدَمر الشَّامي وَاسْتقر مقدم ألف نَاظر الأحباس دوادارا كَبِيرا وعَلى الْأَمِير قجماس الطازي. وَاسْتقر أَمِير سلَاح. وعَلى الْأَمِير ضروط وَاسْتقر حاجباً عوضا عَن يَعْقُوب شاه. وعَلى الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن قماري. وَاسْتقر أَمِير شكار عوضا عَن جمال الدّين عبد الله بكتَمر الْحَاجِب. وخلع على الْوَزير فَخر الدّين ماجد بن قزوينة وَاسْتمرّ على عَادَته وَقبض على الْأَمِير أرغون الْعزي والأمير أرغون الأرغوني والأمير أزدَمُر الْعزي أَبُو دقن والأمير يُونُس الْعمريّ الرماح والأمير أقبغا الْجَوْهَرِي والأمير كمشبغا الْحَمَوِيّ الْأَمِير نوبَة يلبغا. وسجنوا بالقلعة ماعدا كمشبغا الْحَمَوِيّ وأقبغا الْجَوْهَرِي فَإِنَّهُمَا سجنا بخزانة شمايل. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشره: قبض على الْأَمِير آَينبك البدري فَصَالح عَن نَفسه بِأَن ينْفق على المماليك الأجلاب من مَاله فأنفق فيهم وَكَانُوا ألفا وثماني ماية مَمْلُوك وعَلى كل مَمْلُوك مِنْهُم ألف دِرْهَم فضَّة عَنْهَا يَوْمئِذٍ زِيَادَة على خمسين مِثْقَالا من الذَّهَب وَحمل مَالا جزيلاً إِلَى الْأُمَرَاء حَتَّى أُعِيد إِلَيْهِ إقطاعه. وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشره: توجه الْأَمِير تغرى برمش بعدة من الْأُمَرَاء والمماليك الْمَقْبُوض عَلَيْهِم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجنوا بهَا. وَفِي الْخَمِيس رَابِع عشره: قدم الْأَمِير ألطنبغا البشتَكي نَائِب غَزَّة. وَفِي لَيْلَة السبت سادس عشره: أخرج كمشبغا الْحَمَوِيّ وأقبغا الْجَوْهَرِي من خزانَة شمايل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة.(4/303)
وَفِي يَوْم السبت: الْمَذْكُور خُلع على الْأَمِير طيدَمُر البالسي وَاسْتقر أستادار على الْأَمِير قرابغا الصَرْغَتمشي أحد العشرات بتقدمة ألف. وَفِي عشرينه: خلع على الْأَمِير أَسنبغا القوصوني وَاسْتقر لالا عوضا الأحمدي وَاسْتقر قراتمر المحمدي خازندار عوضا عَن ملكتمُر المحمدي. وَفِيه قدم الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الآنوكي من قوص فقربه وأكرمه. وَنُودِيَ فِي النَّاس: من قطع طيبغا حَاجِب الْحجاب خبزه وَقت الْعرض فليحضر وَيَأْخُذهُ. فَاجْتمع كثير مِنْهُم فِي دَار الْأَمِير قَشْتَمُر حَاجِب الْحجاب فَرد إِلَيْهِم أخبازهم. وَفِيه كثرت المرافعات على الْأَمِير آينبك فَرد إِلَى جمَاعَة كَبِيرَة مَا كَانَ أَخذ مِنْهُم أَيَّام يلبغا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى: خلع على الْوَزير فَخر الدّين ماجد ابْن قزوينة وَلم يقدر على أَخَوَيْهِ سعد الدّين وَعلم الدّين إِبْرَاهِيم. وعزل الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن كلفت شاد الدَّوَاوِين وَقبض عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه زين الدّين رَجَب. وخلع على فَخر الدّين ماجد - ويدعى عبد الله بن التَّاج مُوسَى ويدعى مَالك الرّقّ ابْن أبي شَاكر كَاتب الْأَمِير يلبغا وَاسْتقر فِي الوزارة وَنظر الْخَاص عوضا عَن الْفَخر بن قزوينة. وخلع على الْأَمِير صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين وسُلم ابْن قزوينة للأمير قرابغا الصرغتمشي ليستخلص أَمْوَاله. وَفِي سادس عشره: خلع على الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الآنوكي وَاسْتقر مقدم المماليك على عَادَته. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشره: نزل جمَاعَة الْأُمَرَاء من القلعة إِلَى الْمدرسَة المنصورية فَحَلَفُوا بهَا وخلع عَلَيْهِم بالشرابيش على الْعَادة وركبوا إِلَى القلعة وَقد زينت الْقَاهِرَة لَهُم فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه نقل الْأَمِير عَلَاء الدّين وَالِي الْقَاهِرَة إِلَى مصر، وَاسْتقر عوضه فِي ولَايَة(4/304)
الْقَاهِرَة الشريف بكتمُر فُسر النَّاس بعزله وَزَوَال دولة يلبغا وَقبض ابْن قزوينة وأبقوا الزِّينَة يومهم كُله. وَفِي ثامن عشره: قدمت رسل متملك جنوة من بِلَاد الفرنج يسْأَل أَن تمكن تجارهم فِي الْقدوم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة على عَادَتهم فأجيبوا إِلَى ذَلِك. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشر شهر رَجَب: ركب الْأُمَرَاء للحرب بِالسِّلَاحِ ووقفوا تَحت القلعة وَكَانَ قد أشيع أَن الأجلاب اليلبغاوية يُرِيدُونَ الْحَرْب وَقبض الْأُمَرَاء وأَول مَا بدأوا بِهِ أَن قبضوا على الْأَمِير قرابغا الصرغتمشي وحبسوه وَأَقَامُوا على تخوف هَذَا وَقد تفاحش أَمر الأجلاب بِحَيْثُ سلبوا النَّاس فِي الطرقات وهجموا الحمامات على النِّسَاء وأخذوهن بالقهر وقصدوا أَرْبَاب الْأَمْوَال بالأذى حَتَّى شَمل الْخَوْف النَّاس. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشرينه: ركب الْأَمِير تغرى بَرْمِش للحرب فِي جمَاعَة كَبِيرَة من الأجلاب فَركب الْأُمَرَاء لحربهم وقبضوا على تغرى برمش الْمَذْكُور وعَلى الْأَمِير آيْنَبَك البدري والأمير قرابغا الْعُزَّى والأمير مُقبل الرُّومِي وَإِسْحَاق الرَّحبِي وبعثوا بهم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وقبضوا أَيْضا عدَّة من الأجلاب ونفوهم من أَرض مصر. وَفِي سادس عشرينه: أنعم على الْأَمِير أقطاى بتقدمة ألف وعَلى الْأَمِير قطلوبُغا جركس بتقدمة ألف وَكَانَ الْأَمِير أسندمر قد صَار فِي رُتْبَة أستاذه يلبغا وَإِلَيْهِ تَدْبِير أُمُور الدولة وَعنهُ يصدر ولَايَة أَرْبَابهَا وعزلهم وَسكن فِي دَار يلبغا بالكبش. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد سَابِع شَوَّال: بلغ الْأَمِير أسندَمُر أَن جمَاعَة من الْأُمَرَاء قد اتَّفقُوا على الفتك بِهِ وبالأجلاب وهم أعضاده وبهم يصول. فَخرج لَيْلًا من دَاره إِلَى دَار الْأَمِير قجماس الطازي وبذل لَهُ مَالا كَبِيرا حَتَّى استماله إِلَيْهِ. ثمَّ فَارقه وَفِي ظَنّه أَنه قد صَار مَعَه وَلم يكن كَذَلِك. وَعَاد إِلَى منزله بالكبش واستدعى خواصه من اليلبغاوية وَقرر مَعَهم أَنه إِذا ركب للحرب يقتل كل وَاحِد مِنْهُم أَمِيرا أَو يقبض عَلَيْهِ وبذل لَهُم مَالا كَبِيرا حَتَّى وافقوه وَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج أسنَدمر من عِنْد قجماس ليدبر مَا قد ذكر مَعَ الأجلاب. ركب قجماس إِلَى جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَقرر مَعَهم الْقَبْض على أسنَدمُر فَرَكبُوا مَعَه للحرب ووقفوا تَحت القلعة فَنزل السُّلْطَان فِي الْحَال إِلَى الإصطبل ودقت الكوسات حَرْبِيّا. وَأما أسندمر فَإِنَّهُ بَات هَذِه اللَّيْلَة فِي إصطبله حَتَّى طلعت الشَّمْس ركب من(4/305)
الْكَبْش بِمن مَعَه من اليلبغاوية وَغَيرهم وَمضى نَحْو القرافة وَمر من وَرَاء القلعة حَتَّى وافاهم من تَحت دَار الضِّيَافَة ووقف تَحت الطلبخاناه فَالتقى مَعَ الْأُمَرَاء واقتتلوا فَهَزَمَهُمْ بِمن كَانَ قد دبر مَعَهم من اليلبغاوية فِي اللَّيْل قبض الْأُمَرَاء أَو قَتلهمْ. وَثَبت الْأَمِير ألجَاي اليوسفي والأمير أرغون ططر وقاتلا أسندمر إِلَى قبيل الظّهْر فَلَمَّا لم يجد معينا وَلَا ناصراً انكسرا إِلَى قبَّة النَّصْر وانفض الْجمع بعد مَا قتل الْأَمِير ضروط الْحَاجِب وجرح الْأَمِير قجماس والأمير أقبغا الجلب وَكثير من الأجناد والعامة فَقبض الْأَمِير أَسَندَمر على الْأَمِير قجماس والأمير أَقبغا الجلب والأمير أقطاي والأمير قُطْلُوبغا جركس وَهَؤُلَاء أُمَرَاء أُلُوف. وَقبض من أُمَرَاء الطلبخاناه على قرابغا شاد الأحواش واختفى كثير من الْأُمَرَاء. وَمَرَّتْ مماليك أَسَندَمُر وَطَائِفَة من الأجلاب فِي خلق كثير من الْعَامَّة فنهبوا بيُوت الْأُمَرَاء فَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة من أشنع حوادث مصر وَأَعْظَمهَا فَسَادًا. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء: غَد الْوَاقِعَة قبض على الْأَمِير أيدمر الشَّامي الدوادار فَضَربهُ الْأَمِير أَسَندمر ضربا مبرحاً وعنفه على مُخَالفَته عَلَيْهِ. ثمَّ قَيده مَعَ بَقِيَّة من قبض عَلَيْهِ. وَفِيه أمسك أَيْضا الْأَمِير أُلْجاي اليوسفي أحد أُمَرَاء الألوف والأمير يلبغا شُقَير أحد الطبخاناه فقيدوا وَحمل الْجَمِيع إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. فسجنوا بهَا. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء: قبض على الْأَمِير طُغاى تَمُر النظامي - أحد الألوف - وعَلى الْأَمِير أرغون طَطَر - أحد الألوف - وعَلى قُطلُوبغا الشَّعْبَانِي. وأيدَمُر الخطاي وتمراز الطازي وهم من الطلبخاناه. ثمَّ قبض على الْأَمِير ألطنبغا الأحمدي أحد مقدمي الألوف وعَلى طاجار من عوض وآسن الناصري. وقراتمر المحمدي وقرابغا الأحمدي من الطلبخاناه. وعَلى جمَاعَة أُخْرَى فَكَانَت عدَّة من قبض عَلَيْهِ أسندَمُر خَمْسَة وَعشْرين أَمِيرا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشرينه: اسْتَقر أَزْدَمُر الْعُزَّى أَبُو دقن أَمِير سلَاح وجركَتَمر السيفي منجك أَمِير مجْلِس وألطبغا اليلبغاوي أحد العشرات رَأس نوبَة كَبِير وأنعم عَلَيْهِ بمأمرة ماية. وَاسْتقر قطلو أقتمر العلاي أَمِير جندار وسلطان شاه حاجباً ثَانِيًا. وأنعم على يبرم الْعُزَّى أحد الأجناد بتقدمة ألف وَأعْطى إقطاع طُغَاى تَمُر النظامي وَجَمِيع مَاله من خيل ومماليك وقماش وَمَال وغلال وَغير ذَلِك وَاسْتقر دواداراً كَبِيرا وخلع عَلَيْهِم وعَلى الْأَمِير خَلِيل بن قوصون وعَلى الْأَمِير قُنقُ الْعُزَّى(4/306)
والامير أرغون القَشْتَمُري وعَلى مُحَمَّد بن طيطَق العلاي - وَاسْتقر - جوكندار - وعَلى قَرْمش الصَرغَتْمشي وعَلى الْأَمِير مبارك الطازى والأمير إينال اليوسفي وعَلى الْأَمِير ملكتمر المحمدي - وَاسْتقر خازندار - وعَلى الْأَمِير بهادر الجمافي وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن ابْن عرام وخلع على ابْن عرام وَاسْتقر فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة وأنعم على كل من أرغون المحمدي الآنوكي الخازن وبزلار الْعمريّ وأرغون المارغوني وَمُحَمّد بن طقبغا الماجاري وباكيش السيفي يلبغا وسودون الشيخوني وأَقبغا آص الشيخوني وكبك الصرغتمشي وجلبان السَّعْدِيّ وإينال اليوسفي وكمشْبغا الطازي وقماري الجمالي وبكتمر العلمي وأَرْسَلان خجا ومبارك الطازي وتَلَكتمُر الكشلاوي وأسنبغا الْعُزَّى وقطلوبغا الْحلَبِي ومأمور القلمطاوي بإمرة طلبخاناة وارتجع عَن أَوْلَاد يلبغا الأتابك تقادمهم وأنعم عَلَيْهِم بطبلخاناه وأنعم على كل من ألطُنْبُغا المحمودي وقرابغا الأحمدي وكَزَك الأرغوني وحاجي بك بن شادي وعَلى بن بكتاش وَرَجَب بن خضر وطيطق الرماح بإمرة عشرَة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَقدم الْخَبَر بِاتِّفَاق الْأَمِير طبغا الطَّوِيل نايب حماة والأمير أشقتمُر نايب طرابلس على المخامرة فتجهز الْأَمِير أسندمر الأتابك للسَّفر وَتقدم بتهيؤ الْأُمَرَاء وَبعث القصاد للكشف عَن ذَلِك على الْبَرِيد فعادوا باستمرار بَقِيَّة النواب على الطَّاعَة ماعدا الْمَذْكُورين. فَكتب بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا فقبضا وَقبض مَعَهُمَا على إخْوَة طيبغا الطَّوِيل وحملوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مقيدين. وَاسْتقر أسندمر الزيني فِي نِيَابَة طرابلس وأعيد عمر شاه إِلَى نِيَابَة حماة فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة وَاسْتقر أرغون الأزقي فِي نِيَابَة صفد. وَاسْتقر مُحَمَّد بن أقوش الشجاعي فِي ولَايَة الغربية وعَلى الْعمريّ فِي ولَايَة(4/307)
الأشمونين وَاسْتقر بيبغا القوصوني أَمِير آخور عوضا عَن أقبغا الصفوي بعد مَوته. وَبَلغت زِيَادَة مَاء النّيل إِصْبَعَيْنِ من عشْرين ذِرَاعا ثمَّ زَاد بعد ذَلِك فَلم يتَأذّى بِهِ. وَمر بالحاج مشقة وعناء لقلَّة الْمِيَاه وَمَوْت فَشَا فيهم من شدَّة الْحر والعطش. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر من الْأَعْيَان الْأَمِير ألطنبغا الْعُزَّى أحد الطلبخاناه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع شهر ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير أقبغا الأحمدي أحد اليلبغاوية وَيعرف بالجلب من أُمَرَاء الألوف الَّذين خامروا على يلبغا. فَلم يمْتَنع بعده. وَمَات الْأَمِير أقبغا الصفوي أَمِير آخور فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر ذِي الْقعدَة. وَتُوفِّي بهاء الدّين حسن بن سُلَيْمَان بن أبي الْحسن بن سُلَيْمَان بن رَيَّان نَاظر الْجَيْش بحلب عَن ثَمَان وَسِتِّينَ سنة بِدِمَشْق وَقد اعتزل النَّاس. وَتُوفِّي الشَّيْخ المعتقد عبد الله بن أسعد بن عَليّ بن سُلَيْمَان بن فلاح الشَّافِعِي اليمني بِمَكَّة عَن سبعين سنة. وَله شعر ومصنفات فِي التصوف وَغَيره. وَتُوفِّي نجم الدّين عبد الْجَلِيل بن سَالم بن عبد الرَّحْمَن الْحَنْبَلِيّ الْأَعْمَى أحد شُيُوخ الْحَنَابِلَة بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشْرين شهر ربيع الأول وَهُوَ عَم الشَّيْخ صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن الْأَعْمَى الْحَنْبَلِيّ. وَتُوفِّي قَاضِي حماة أَمِين الدّين عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن وهبان الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ وَقد برع فِي الْقرَاءَات والعربية.(4/308)
وَتُوفِّي نور الدّين على الدِميري الرجل الصَّالح بِالْقَاهِرَةِ فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ حادي عشْرين صفر أفنى عمره فِي تَعْلِيم الْقُرْآن وبر الْفُقَرَاء. وَتُوفِّي شرف الدّين عِيسَى الزنكلوني الشَّافِعِي أحد نواب الحكم بِالْقَاهِرَةِ فِي سَابِع عشْرين رَمَضَان. وَمَات تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن مَحْمُود بن عبد الضَّيْف البعلبكي الشهير بِابْن الْمجد الشَّافِعِي. ولي قَضَاء طرابلس وحمص وبعلبك وَقدم مصر وبغداد وَسمع الحَدِيث وبرع فِي الْفِقْه وشارك فِي عدَّة فنون. وَتُوفِّي الأديب البارع جمال الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن أبي الْحسن بن صَالح بن عَليّ بن يحيى بن طَاهِر بن مُحَمَّد الْخَطِيب بن عبد الرَّحِيم بن نباتة الْمصْرِيّ بِالْقَاهِرَةِ فِي ثامن وَتُوفِّي الْوَزير الصاحب نَاظر الْخَاص فَخر الدّين ماجد بن قزوينة الْأَسْلَمِيّ تَحت الْعقُوبَة فِي ثامن جُمَادَى الآخر وَترك بالأهراء السُّلْطَانِيَّة مَا ينيف على ثَلَاثمِائَة ألف أردب وَفِي النواحي مغل سنتَيْن وَكَانَ يحمل إِلَى الْأَمِير يلبغا بعد تكفية السُّلْطَان وتكفية الْأَمِير يلبغا وَصرف الرَّوَاتِب فِي كل شهر سِتِّينَ ألف دِينَار وَكَانَ أَمينا عَارِفًا مهاباً عمر بيُوت الْأَمْوَال وخزائن الْخَاص بأنواع الْأَمْوَال إِلَّا أَنه كَانَ كثير الترفع حَتَّى على الْأُمَرَاء فعذب عذَابا شنيعاً وَضرب غير مرّة بالمقارع ولفت أَصَابِع يَده الْيُمْنَى بالمشاق وغمست فِي الزَّيْت ثمَّ أشعلت بالنَّار حَتَّى احترقت يَده كلهَا وَعمل(4/309)
فِي عُنُقه الْحَدِيد وَصَارَ يمر بالأسواق وَهُوَ كَذَلِك على حمَار. وَيذكر أَن فَقِيرا قدم لَهُ فِي وزارته فمزقها وطرده فَدَعَا عَلَيْهِ وَخرج فَلم يمض سوى أَيَّام حَتَّى قبض عَلَيْهِ وعذب إِلَى أَن مَاتَ. وَتُوفِّي الْأَمِير تمرتاش العلاي خازندار يلبغا أحد الطبلخاناه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الآخر. وَتُوفِّي الشَّيْخ المسلك يُوسُف بن عبد الله بن عمر بن عَليّ بن خضر الكوراني الْكرْدِي العجمي مرَبي الْفُقَرَاء فِي يَوْم الْأَحَد النّصْف من جُمَادَى الأولى بزاويته من القرافة. وَقتل صَاحب فاس ملك الْمغرب أَبُو زيان بن الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن بن أبي الْحسن فِي الْمحرم. وأقيم بعده عَمه عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن، رَحمَه الله.(4/310)
(سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة)
فِي الْمحرم: اسْتَقر الْأَمِير بيدمر الْخَوَارِزْمِيّ فِي نِيَابَة الشَّام والأمير منجك فِي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن أسندمر الزيني. وَفِي أول صفر: ورد الْخَبَر بوصول الفرنج إِلَى طرابلس فِي ماية وَثَلَاثِينَ مركبا مَا بَين شيني وقرقورة وغراب وطريدة وشختور عَلَيْهَا متملك قبرص ومتملك رودس والاسبتار وَكَانَ النَّائِب غَائِبا فَقَاتلهُمْ الْمُسلمُونَ قتالاً شَدِيدا حَتَّى اقتحم الْعَدو الْمَدِينَة ونهبوا من أسواقها فتحامل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم واشتدوا فِي قِتَالهمْ حَتَّى أخرجوهم بعد مَا قتلوا مِنْهُم نَحْو الْألف وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو الْأَرْبَعين رجلا. فَرَكبُوا سفنهم وانقلبوا خايبين فَمروا بِمَدِينَة إِيَاس فِي ماية قِطْعَة فَسَار إِلَيْهِم الْأَمِير منكلى بغا نايب حلب وَقد فر أهل إِيَاس مِنْهَا فَدَخلَهَا الفرنج. فَلَمَّا قدم نايب حلب جلوا عَنْهَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِيه: خلع على نَاصِر الدّين نصر الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح الْعَسْقَلَانِي الْكِنَانِي الْحَنْبَلِيّ قَضَاء الْحَنَابِلَة بديار مصر بعد وَفَاة موفق الدّين عبد الله بن مُحَمَّد.(4/311)
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سادسه: ركب المماليك الأجلاب اليلبغاوية لمحاربة الْأَمِير أسنْدَمُر الناصري الأتابك وطلبوه فِي أَن يسلمهم بيرم وأزدمر أَبُو دقن وجَرَكتمُر أَمِير مجْلِس فِي عدَّة أُخْرَى. فَلم يجد بدا من أَن يبْعَث إِلَى الْأُمَرَاء فَلَمَّا أَتَوْهُ قبض على الْأَمِير جَرَكتمُر والأمير أَزْدَمُر أَبُو دقن أَمِير سلَاح واِلأمير بيرم الْعُزَّى الدوادار والأمير يلبغا القوصوني أَمِير آخور والأمير كَبَك الصرغتمُشي الجوكندار وَحَملهمْ مقيدين إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. فَلم يقنعهم ذَلِك وَبَاتُوا بسلاحهم وغدوا يَوْم السبت على حربهم وطلبوا مِنْهُ خَلِيل بن قوصون فسلمه إِلَيْهِم فَافْتدى نَفسه مِنْهُ بماية ألف دِرْهَم عجل مِنْهَا ربعهَا ورسموا عَلَيْهِ لقوم بباقيها وأهانه إهانة بَالِغَة ونزعوا السِّلَاح وَفِي باطنهم غل كثير ثمَّ تجمع أكابرهم فِي لَيْلَة الْأَحَد وَاتَّفَقُوا على قتل الْأَمِير أسنْدَمُر وَقتل السُّلْطَان وَإِقَامَة سُلْطَان غَيره وتحالفوا على ذَلِك وركبوا من ليلتهم وقصدوا القلعة فَأمر السُّلْطَان بالكوسات فدقت ليجتمع الْأُمَرَاء والعسكر وأحضر الْأَمِير خَلِيل بن قوصون وأركب مَعَه المماليك السُّلْطَانِيَّة وهم نَحْو الْمِائَتَيْنِ والأجلاب نَحْو الْألف وَخَمْسمِائة وَنُودِيَ فِي الْقَاهِرَة بركوب أجناد الْحلقَة وَحُضُور الْعَامَّة لقِتَال الأجلاب. وَكَانَت النُّفُوس قد مقتتهم لقبح سيرتهم وَكَثْرَة شرهم وَزِيَادَة تعديهم. فبادروا إِلَى تَحت القلعة زمراً زمراً وَركب الْأَمِير أسنبغا بن البوبكري والأمير قشتَمر المنصوري وَغَيره فتناولت الْعَامَّة الأجلاب بِالرَّجمِ من كل جِهَة وَتقدم إِلَيْهِم المماليك السُّلْطَانِيَّة والأمراء والأجناد وقاتلوهم فكسروهم. فَمَضَوْا فِي كسرتهم إِلَى الْأَمِير أسَندَمر. بمنزله من الْكَبْش ومازالوا بِهِ حَتَّى ركب مَعَهم فِي موكب عَظِيم وَمر على القرافة حَتَّى أَتَى من وَرَاء القلعة كَمَا فعل فِيمَا تقدم فَلم تثبت لَهُ المماليك السُّلْطَانِيَّة وانهزمت عِنْد رُؤْيَته فثبتت الْعَامَّة وَحدهَا لقتاله وتقدموا إِلَيْهِ ورموه بِالْحِجَارَةِ رمياً مُتَتَابِعًا وَهُوَ وَمن مَعَه يرموهم بالنشاب فَكَانَ بَين الْفَرِيقَيْنِ قتال شَدِيد شنيع قتل فِيهِ جمَاعَة مِنْهُمَا وطالت المعركة بَينهمَا فَعَادَت المماليك السُّلْطَانِيَّة والأمراء وحملوا هم والعامة على أسندمر والأجلاب حَملَة مُنكرَة فَلم يثبت لَهُم وَولى الأدبار بِمن مَعَه وَامْتنع بإصطبله من الْكَبْش وفت الظّهْر فَقبض من أَصْحَابه على الْأَمِير قرمش الصرغتمشي والأمير أقبغا آص الشيخوني والأمير أرسلان خجا وسجنوا بخزانة شمايل من الْقَاهِرَة. وَركب الْوَالِي عَن أَمر السُّلْطَان ونادى بِالْقَاهِرَةِ ومصر وظواهرهما من قدر على حد من الأجلاب فَلهُ سلبه وَيُعْطى كَذَا من المَال إِذا أحضرهُ فتتبعت الْعَامَّة عِنْد ذَلِك الأجلاب فِي الْأَزِقَّة والحارات وَأخذُوا مِنْهُم جمَاعَة وَركب الْأَمِير خَلِيل بن(4/312)
قوصون إِلَى الْأَمِير أسنَدمر فَأَخذه من دَاره وطلع بِهِ إِلَى القلعة ليقيد ويسجن فشفع فِيهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وقرروا عَلَيْهِ مَالا لينفق فِي مماليك السُّلْطَان فَقبل السُّلْطَان شفاعتهم وخلع عَلَيْهِ وَأقرهُ على حَاله فَنزل إِلَى دَاره فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَمَعَهُ الْأَمِير خَلِيل بن قوصون مرسماً عَلَيْهِ حَتَّى يحضر من الْغَد بِالْمَالِ. فخدع أسندمر بن قوصون ووعده بِأَن يقيمه فِي السلطة فَإِنَّهُ ابْن بنت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فانخدع ابْن قوصون وَمَال إِلَيْهِ وتحالفا على ذَلِك. فَبعث أسندَمُر فَجمع إِلَيْهِ الأجلاب وبذل فيهم المَال وَوَعدهمْ ومناهم فَمَا طلع نَهَار يَوْم الْإِثْنَيْنِ حَتَّى وكب أسندَمر وَابْن قوصون فِي جمع كَبِير ووقفا تَحت القلعة فَعَادَت الْحَرْب وَركب الْأُمَرَاء والأجناد وَخرج عَامَّة النَّاس فَكَانَ الْأُمَرَاء إِذا رَأَوْا ابْن قوصون بِجَانِب أسندمر انضموا إِلَيْهِ ظنا مِنْهُم أَنه سلطاني. فَأمر السُّلْطَان فدُقت الكوسات وَنزل إِلَى الإصطبل بِآلَة الْحَرْب فَاجْتمع إِلَيْهِ الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة والعامة وَبعث إِلَى أسندَمُر وَابْن قوصون ليحضرا إِلَيْهِ فامتنعا وصرحا بِأَنَّهُمَا يُريدَان نزع السُّلْطَان من الْملك وَإِقَامَة غَيره فِي السلطة لتخمد الْفِتْنَة. فَلَمَّا عَاد جوابهما إِلَى السُّلْطَان بعث ثَانِيًا يخوفهما عَاقِبَة الْغدر فأظهرا أَنَّهُمَا أجابا وهمّا بالحضور ثمَّ سَلا سيفيهما وَمَرا ليفتكا بالسلطان وَقد ركب ووقف تَحت الإصطبل فتبعهما من مَعَهُمَا من الأجلاب وهم شاهرون السِّلَاح ليفعلا فعلهمَا. فبادر السُّلْطَان بالنداء فِي الْعَامَّة هَؤُلَاءِ مخامرون فارجموهم. فصاحت الْعَامَّة بأجمعهما مخامرين ورجموهم بِالْحِجَارَةِ ورمتهم المماليك السُّلْطَانِيَّة بالنشاب فَلم يكن غير سَاعَة حَتَّى انْكَسَرَ أسندمُر وَابْن قوصون وَقتل عدَّة من الأجلاب فَأَخَذتهم الْعَامَّة فِي هزيمتهم وَأتوا بهم إِلَى السُّلْطَان أَرْسَالًا وَقد نزعوا ثِيَابهمْ وكشفوا رؤوسهم ونالوا مِنْهُم مَا شفي صُدُورهمْ. ثمَّ قبضوا على خَلِيل ابْن قوصون من نَاحيَة المطرية وَأتوا بِهِ. ثمَّ أخذُوا أسندمر من نَحْو وَادي السِّدْرَة تجاه قبَّة النَّصْر. وَقبض على الْأَمِير ألطبغا اليلبغاوي والأمير سُلْطَان شاه بن قرا وهما من أُمَرَاء الألوف. وَقبض على أحد عشر أَمِير سوى هَؤُلَاءِ من اليلبغاوية وقيدوا وَمضى(4/313)
بهم الْأَمِير مَلَكتمُر والأمير ألطنبغا العلاي والأمير درت بغا البالسي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَمَات فِي هَذَا الْيَوْم الْأَمِير قنق أحد الألوف. وَنُودِيَ فِي آخر النَّهَار بالأمان فَلَا ينهب أحد شَيْئا فقد ظفر السُّلْطَان بغرمائه فزينوا الْقَاهِرَة ومصر فزينتا أحسن زِينَة وَفَرح النَّاس بِزَوَال دولة الأجلاب. وَفِي عاشره: رسم بالإفراج عَن الْأَمِير طغاى تَمُر النظامي والأمير ألجاي اليوسفي والأمير أيدَمُر من صديق. وأنعم على الْأَمِير مَلَكتمُر بن بركَة بتقدمة خَلِيل بن قوصون. وَفِي ثَالِث عشره: اسْتَقر الْأَمِير أقبغا عبد الله دواداراً كَبِيرا بإمرة طبلخاناه. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشره: اسْتَقر الْأَمِير يلبغا آص المنصوري أَمِيرا كَبِيرا أتابك شَرِيكا للأمير تَلكتَمر المحمدي. وأنعم على كل مِنْهُمَا بتقدمة ألف وأجلسا بالإيوان. وَاشْتَدَّ الطّلب على المماليك اليلبغاوية فَقبض مِنْهُم على نَحْو الْألف وحبسوا فَبلغ السُّلْطَان أَن الأميرين يلبغا آص وتلكتَمر يريدا إِخْرَاج الْمَذْكُورين وسكنى بَيت يلبغا فِي الْكَبْش وركوبهما بهم على السُّلْطَان وَقَتله فبادر وَقبض على يلبغا آص من الْغَد يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشره وعَلى تلكتمر المحمدي وَجَمَاعَة من المماليك وَحمل الأميران إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجنا بهَا. وَفِيه قدم الْأَمِير طُغاى تَمُر النظامي والأمير أُلجاى اليوسفي والأمير أيْدَمُر من صديق الخطاي من الْإسْكَنْدَريَّة فَخلع عَلَيْهِم. وَفِيه أنْفق السُّلْطَان فِي مماليكه ماية دِينَار لكل وَاحِد وخلع على الْأَمِير بكتمر المؤمني وَاسْتقر أَمِير أخور عوضا عَن بيبغا القوصوني. وَقدم الْأَمِير أَقتمُر عبد الْغَنِيّ من الشَّام باستدعاء فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر حَاجِب الْحجاب وخلع على الْأَمِير الأكز الكشلاوي وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن بهادر الجمالي. وَفِي لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشره: أغرق السُّلْطَان فِي النّيل جمَاعَة من المماليك اليلبغاوية الَّذين اتَّفقُوا على قَتله وَأمر بتقوية زِينَة الْقَاهِرَة ومصر فَبَالغ النَّاس فِي تحسينهما. وَفِي بكرَة يَوْم الْخَمِيس: هَذَا سمر من الأجلاب اليلبغاوية ماية من أعيانهم ووسطهم وَأغْرقَ جمَاعَة مِنْهُم وَنفي باقيهم إِلَى الشَّام وَإِلَى أسوان فَكَانَ مِمَّن نفي من اليلبغاوية برقوق وبركة وألطنبغا الجوباني وجركس الخليلي وأقبغا المارديني. تسلمهم الشريف بكتمر وَالِي الْقَاهِرَة وأوقفهم فِي دَاره وَقد جعلت أَيْديهم فِي(4/314)
الْخشب وَحضر غداؤه فَلم يُطعمهُمْ شَيْئا. ورسم عَلَيْهِم من توجه بهم إِلَى قطيا فتسلمهم وَالِي قطيا وَبعث بهم إِلَى غَزَّة فأرسلهم نائبها إِلَى الكرك فسجنوا بجب مظلم فِي قلعتها عدَّة سِنِين. ثمَّ أفرج عَنْهُم ومضوا إِلَى دمشق فخدموا عِنْد الْأَمِير مَنْجَك نَائِب الشَّام حَتَّى استدعى السُّلْطَان بالمماليك اليلبغاوية ليستخدمهم بديوان ولديه فَحَضَرَ برقوق وبركة وَغَيرهمَا إِلَى الْقَاهِرَة وخدم برقوق فِيمَن خدم عِنْد وَلَدي السُّلْطَان حَتَّى قتل السُّلْطَان بعد عوده من عقبَة أَيْلَة وَقَامَ الْأَمِير أَيْنبَك بِأَمْر الدولة فَصَارَ برقوق من جملَة أُمَرَاء الطبلخاناه وَمِنْهَا ملك الإصطبل وَأقَام بِهِ حَتَّى تسلطن. كَمَا سَيَأْتِي ذَلِك كُله فِي أوقاته مبسطاً إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْيَوْم: أَيْضا خلع على الْأَمِير ألجاي اليوسفي وَاسْتقر أَمِير سلَاح عوضا عَن أزدَمُر الَّذِي يُقَال لَهُ أَبُو دقن. وَأمر بهدم بَيت الْأَمِير يلبغا الخاصكي بالكبش فهدم جَمِيعه حَتَّى لم يبْق مِنْهُ سوى بعض سوره. وَأَفْرج عَن الْأَمِير أرغون ططر فَقدم فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع الأول وَمضى الْبَرِيد لإحضار الْأَمِير قُطْلُبغا الشَّعْبَانِي من الشَّام فَخلع على أرغون ططر وَاسْتقر أَمِير شكار بتقدمة ألف وَقدم الشَّعْبَانِي فِي خامسه. وَخرج الْبَرِيد بِطَلَب الْأَمِير منكلى بغا الشمسي فَقدم وخُلع عَلَيْهِ بالإيوان. وَاسْتقر نايب السُّلْطَان وأتابك العساكر وَأَفْرج عَن الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن منكلى بغا الشمسي واستدعى أَيْضا الْأَمِير أزدَمُر الخازندار من الشَّام فَقدم. وَفِي سَابِع عشره: اسْتَقر محيى الدّين مُحَمَّد بن الصَّدْر عمر فِي حسبَة الْقَاهِرَة عوضا عَن علاي الدّين عَليّ بن عرب وَاسْتقر ابْن عرب فِي نظر الخزانة وخلع عَلَيْهِمَا.(4/315)
وَفِي رَابِع عشرينه: اسْتَقر الْأَمِير أسنبغا بن البوبكري فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن ابْن عرام وَقدم الْأَمِير أَمِير على من الشَّام باستدعاء خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر نايب الشَّام فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى. وَفِي خَامِس عشرينه: قدم من الْإسْكَنْدَريَّة نَحْو ماية وَخمسين من الفرنج فِي الْخشب وَذَلِكَ أَنه ورد ميناء الْإسْكَنْدَريَّة عدَّة مراكب فِي هَيْئَة أَنَّهَا مراكب تحمل البضائع فَدخل مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة نَحْو ماية وَخمسين رجلا فعوقهم الْأَمِير أسنبغا النَّائِب حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ أَمرهم فسارت المراكب مقلعة وعادت من حَيْثُ أَتَت فَأمر بتخشيب أَيدي الْمَذْكُورين وَحَملهمْ إِلَى الْقَاهِرَة ليرى السُّلْطَان مَا رَأْيه. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة: قدم الْأَمِير قطلوبغا المنصوري بإستدعاء ورسم بمسك الْأَمِير بيدمر نايب الشَّام فَقبض عَلَيْهِ وَاسْتقر عوضه الْأَمِير منْجَك وَاسْتقر عوض منجك فِي وَاسْتقر الْأَمِير طَقتمُر الشريفي فِي نِيَابَة غَزَّة وَاسْتقر علاي الدّين عَليّ بن الطشلاقي. فِي ولَايَة قطيا عوضا عَن ابْن الدوادارى وَاسْتقر الْملك الصَرْغَتمُشي فِي ولَايَة بلبيس وَاسْتقر الْأَمِير علاي الدّين عَليّ بن بكتاش فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن الشريف بكتمر وَاسْتقر بكتَمر فِي ولَايَة الجيزة وَاسْتقر الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى الأزكَشي الأستادار فِي الْبحيرَة عوضا عَن بدر الدّين بن معِين. وَفِي ثامن عشره: خلع على الْأَمِير أقتمر الصاحبي الْحَنْبَلِيّ وَاسْتقر دوادارا عوضا عَن أقبغا عبد الله. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشرينه: اسْتَقر سراج الدّين مُحَمَّد بن رسْلَان بن نصير البُلْقِينِيّ قَاضِي قُضَاة الشَّام عوضا عَن تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ وخلع عَلَيْهِ وَمضى إِلَى دمشق.(4/316)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع رَجَب: تزوج الْأَمِير الأتابك منكلى بغا الشمسي بأخت السُّلْطَان وَهِي خوند سارة بنت حُسَيْن بن مُحَمَّد بن قلاوون. وَفِيه خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر نَاظر المارستان المنصوري. وَاسْتقر الْأَمِير الأكز الكشملاوي أستادار السُّلْطَان عوضا عَن ألْطنبغا البَشْتَكي بعد وَفَاته وَاسْتقر أَرغون الأحمدي لالا السُّلْطَان عوضا عَن سودون الشيخوني. وَاسْتقر الْأَمِير طغاى تمر النظامي شاد الشرابخاناه. وَاسْتقر الْأَمِير بشتاك الْعمريّ رَأس نوبَة ثَانِيًا وَاسْتقر الْأَمِير ككبغا السيفي خازندارا ثمَّ نفي بعد قَلِيل وَاسْتقر عوضه الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أقبغا آص وَاسْتقر الْأَمِير درت بغا البالسي خاصكيا بإمرة طبلخاناه. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشره: أُعِيد علاي الدّين عَليّ بن عرب إِلَى حسبَة الْقَاهِرَة وعزل ابْن الصَّدْر عمر فَمَاتَ بعد تِسْعَة أَيَّام من عَزله وَفِي ثَالِث عشرينه وَقع حريق عَظِيم بداخل الدّور السُّلْطَانِيَّة من قلعة الْجَبَل فَدخل الْأُمَرَاء حَتَّى أطفوه. وَفِي سابعِ شعْبَان: اسْتَقر الْأَمِير عمر بن أرغون النايب فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن ابْن القشتمُري. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشرينه: خلع على سراج الدّين عمر بن إِسْحَاق بن أَحْمد الْهِنْدِيّ وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة عوضا عَن جمال الدّين عبد الله بن عَليّ التركماني بعد وَفَاته وخلع على بدر الدّين مُحَمَّد بن جمال الدّين التركماني وَاسْتقر فِي قَضَاء الْعَسْكَر عوضا عَن السراج الْهِنْدِيّ وَنزلا جَمِيعًا من القلعة فَكَانَ يَوْمًا مَذْكُورا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس رَمَضَان: خلع على بدر الدّين مُحَمَّد بن علاي الدّين عَليّ بن فضل الله الْعمريّ وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ عوضا عَن أَبِيه وَقد اشْتَدَّ مَرضه. فَلَمَّا رَآهُ أَبوهُ بالخلعة بَكَى. وَقدم الْحَاج مُحَمَّد التازي المغربي رايس الْبَحْر وَقد تسلم من الشواني الَّتِي عمرها(4/317)
الْأَمِير يلبغا غراباً كمله بِالْعدَدِ والآلات وشحنه بالمقاتلة من رجال المغاربة وَأخذ غراباً آخر من الْإسْكَنْدَريَّة متكملاً بِالْعدَدِ وَالرِّجَال وَمضى فِي الْبَحْر وهجم على الفرنج فَملك مِنْهُم غراباً قتل مِنْهُ جمَاعَة وَأسر باقيهم. وَقدم فِي تَاسِع عشْرين شعْبَان فَتَلقاهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء بتجمل عَظِيم وَخرج النَّاس إِلَى لِقَائِه وسروا بِهِ فَلَمَّا تمثل بَين يَدي السُّلْطَان خلع عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا أحضرهُ من الغنايم. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره: قبض على الْأَمِير طغاي تمر النظامي والأمير أرغون طَطر واتهما بإثارة فتْنَة على السُّلْطَان. وَفِي تَاسِع عشرينه: اسْتَقر الْأَمِير أَرغون الأزقي رَأس نوبَة كَبِيرا عوضا عَن تلكتُمر وَاسْتقر تلكتمر أَمِير مجْلِس عوضا عَن طغاي تمر النظامي وخلع عَلَيْهِمَا. وَفِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة: قدم سراج الدّين عمر البُلْقِينِيّ من دمشق باستدعاء وَاسْتقر أسنبغا بن البوبكري فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن طيبغا الطَّوِيل بعد مَوته وَاسْتقر طَيْدَمُر البالسي فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن ابْن البوبكري وَاسْتقر صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام حاجباً بالثغر وَاسْتقر قطْلُوبغا المنصوري حاجباً ثَانِيًا عوضا عَن طَيدَمُر البالسي. وَفِيه خلع على علم الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن فَخر الدّين ماجد بن أبي شَاكر وخلع على ابْن أبي شَاكر وَاسْتقر فِي نظر الخزانة الْكُبْرَى عوضا عَن شمس الدّين بن الْمُوفق وخلع على ابْن الْمُوفق وَاسْتقر فِي نظر الإصطبل عوضا عَن شمس الدّين بن الصفي فِي ثَالِث عشرينه. وخلع على شمس الدّين المقسي وَاسْتقر فِي نظر الْخَاص عوضا عَن ابْن أبي شَاكر وخلع على كريم الدّين شَاكر بن الغنام وَاسْتقر فِي نظر الْبيُوت وخلع على الْحَاج مُحَمَّد بن يُوسُف وَاسْتقر مقدم الدولة عوضا عَن الْمُقدم عز وَاسْتقر الْأَمِير أشَقتمُر المارديني فِي نِيَابَة طرابلس ثمَّ عزل وَاسْتقر الْأَمِير أيدمر الشيخي فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن عمر شاه وَاسْتقر الْأَمِير أيدمُر يانق فِي كشف الْوَجْه القبلي وَاسْتقر ابْن الديناري فِي ولَايَة قوص عوضا عَن قُرُطاى الكركي وَاسْتقر مُحَمَّد بن عقيل فِي ولَايَة الغربية وَاسْتقر عُثْمَان الشَرفي بالبهنساوية وَمُحَمّد الكركى بالأشمونين وَأحمد الطرخاني بمنوف عوضا عَن خَاص ترك بن طغاى وَاسْتقر قُطُلوبك بالفيوم وَاسْتقر أَمِين الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن(4/318)
الْحسن الألفي فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب عوضا عَن صدر الدّين أَحْمد الدَّمِيرِيّ بعد وَفَاته وأعيد فتح الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن الشَّهِيد إِلَى كِتَابَة بِدِمَشْق وَقدم جمال الدّين بن الْأَثِير إِلَى الْقَاهِرَة. وَقبض على الْأَمِير أرغون القشُتَمري وَأخرج بطالا إِلَى الْقُدس وَنفي أَيْضا الْأَمِير بَشْتَاك العُمري وَفِي حادي عشْرين ذِي الْحجَّة: قدمت رسل السُّلْطَان أويس من بَغْدَاد وَكَانَ قاع النّيل أَرْبَعَة أَذْرع وَأَرْبَعَة عشر إصبعاً. وأنعم على كل من كَجَك بن أرطُق وأزدَمر الخازندار وأقتمر الْحَنْبَلِيّ وبكتمر المؤمني والأكز الكشلاوى وأرغون الأحمدي اللالا بتقدمة ألف وأنعم على كل من مُحَمَّد بن طُرغاي وَإِبْرَاهِيم الناصري وصُراي العلاي وبكتمر الأحمدي شاد الْقصر وبشتاك العُمري وتنبك الأزقي ودْرت بغا البالسي وككبُغا السيفي وأقبغا عبد الله وطغاى تمر عبد الله ويوسف شاه بن يلو وأروس السيفي وأيدَمُر بن صديق وَمُحَمّد ابْن أقتمر عبد الْغَنِيّ وَيُونُس الشيخوني ومُوسَى بن أيتْمش وَمُحَمّد ابْن الدواداري وسودون جركس أَمِير آخور وبرسبغا وقرابغا الأناقي وَعلي بن بكتاش وَمُحَمّد بن أَمِير عَليّ المارديني وصصلان الجمالي وصراى تمر المحمدي وأَسنبغا القوصوني وخليل بن تنكزبغا بإمرة طبلخاناه. وأنعم على كل من قماري الجمالي وَعمر بن طقتمر وصربغا السيفي وجاني بك العلاي وألطنبغا عبد الْمُؤمن وطقتُمر الحسني ومبارك شاه الرسولي وجَرْقُطْلو وجَرجي البالسي وَمُحَمّد بن أزدمر الخازندار وقدق الشيخوني وكوجيا وَأبي بكر بن قنْدُس وأَسنْبُغا البهادري وأقتمر عبد الْغَنِيّ الساقي ويلبغا الناصري وَمُحَمّد بن قرابغا الأناقي وألطنبغا النظامي وقطلوبغا من بايزيد بإمرة عشرَة. وَفِي هَذِه السّنة: فَشَتْ الْأَمْرَاض الحادة والطواعين بِالنَّاسِ فِي الْقَاهِرَة ومصر فَمَاتَ فِي كل يَوْم مَا ينيف على مائَة ألف نفس. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْفَقِير المعتقد إِبْرَاهِيم بن الْبُرُلُّسِيّ وَهُوَ مجاور بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَقد أناف على ماية سنة.(4/319)
وَمَات الْملك الْمَنْصُور أَحْمد بن الصَّالح صَالح بن الْمَنْصُور غَازِي بن المظفر قَرَأَ أرسلان ابْن أرتق صَاحب ماردين فَكَانَت مدَّته نَحْو ثَلَاث سِنِين وَقد جَاوز سِتِّينَ سنة. وَتُوفِّي صدر الدّين أَحْمد بن عبد الظَّاهِر بن عبد الدَّمِيرِيّ قَاضِي الْمَالِكِيَّة بحلب وَله نظم وَخمْس الْبردَة. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن لُؤْلُؤ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب الشَّافِعِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر شهر رَمَضَان. ومولده سنة اثْنَيْنِ وَسَبْعمائة. أَخذ الْقرَاءَات السَّبع عَن جمَاعَة وَقَرَأَ النَّحْو على أبي حَيَّان وبرع فِي الْفِقْه وَكتب مُخْتَصرا حسنا فِي الْفِقْه وَاخْتصرَ الْكِفَايَة وَكتب النكت على الْمِنْهَاج وَكتب قِطْعَة على الْمُهَذّب وَقَالَ الشّعْر وتصدر بِالْمَدْرَسَةِ الحسامية والمدرسة الأشرفية وَأم بالندقدارية وَكَانَ جيد الْقِرَاءَة حسن الصَّوْت ويقصد سَماع قِرَاءَته فِي الْمِحْرَاب وَتُوفِّي شيخ الشُّيُوخ بخانكاه سرياقوس شهَاب الدّين أَحْمد بن سَلامَة بن الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي وَكَانَ قبل ذَلِك شيخ خانكاه بَشتَاك وخطيب جَامعه وصنف كتابا مُفِيدا فِي التصوف. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أزدمر الناصري الخازندار أحد مقدمي الألوف ونائب طرابلس وصفد فِي أول شهر ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أزدمر الْعُزَّى أَبُو دقن أَمِير سلَاح منفياً بِالشَّام فِي صفر. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين أسنَدمُر النَّاصِر أتابك العساكر بسجن الْإسْكَنْدَريَّة فِي يَوْم الْأَحَد.(4/320)
وَمَات الْأَمِير أسندمر العلاي نايب الشَّام ونايب طرابلس فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ. وَمَات الْأَمِير أسندمر العلاى الخازن. وَمَات الْأَمِير ألطنبغا البشتكي نَائِب غَزَّة وأستادار السُّلْطَان فِي رَابِع عشْرين شعْبَان. وَمَات الْأَمِير أيدمر يانق كاشف الْوَجْه القبلي فِي ثامن عشْرين ذِي الْحجَّة. وَمَات الْأَمِير بكتمر الأحمدي شاد الدَّوَاوِين ومقدم المماليك. وَمَات الْأَمِير باكيش اليلبغاوي الْحَاجِب فِي صفر. وَمَات الْأَمِير بيليك الْفَقِيه الزراق أحد مقدمي المماليك. وَمَات الْأَمِير بركان شاد الصندوق. وَمَات الْأَمِير جرجي الإدريسي أَمِير آخور ونائب حلب وَهُوَ بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير جَرْقُطلو أَمِير جندار فِي صفر. وَمَات الْأَمِير جركتمر المارديني الْحَاجِب بعد عطلة طَوِيلَة. وَتُوفِّي عز الدّين حَمْزَة بن قطب الدّين مُوسَى بن الضياء أَحْمد بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن شيخ السلامية الْحَنْبَلِيّ وَقد أناف على السِّتين بِدِمَشْق فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ. وَله شرح على الْمُنْتَقى لِابْنِ تَيْمِية. وَتُوفِّي بهاء الدّين خَلِيل أحد نواب الْحَنَفِيَّة يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر شعْبَان. وَتُوفِّي الْأَمِير طيبغا البوبكري المهمندار فِي تَاسِع عشر الْمحرم. وَمَات الْأَمِير طيبغا الطَّوِيل نَائِب حلب بهَا فِي تَاسِع ذِي الْقعدَة. وَتُوفِّي قاضى الْقُضَاة الْحَنْبَلِيّ موفق الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عبد الْبَاقِي الجازي الْقُدسِي فِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشْرين الْمحرم ومولده فِي أَوَائِل سنة تسعين وسِتمِائَة.(4/321)
وَتُوفِّي الشَّيْخ بهاء الدّين عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عقيل الشَّافِعِي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشْرين شهر ربيع الأول. وَتُوفِّي قاضى الْقُضَاة الْحَنَفِيّ جمال الدّين عبد الله بن عَلَاء الدّين عَليّ بن فَخر الدّين عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم بن مصطفي بن سُلَيْمَان المارديني التركماني فِي لَيْلَة الْجُمُعَة حادى عشر شعْبَان وَتُوفِّي جمال الدّين عبد الله بن عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْفُرَات موقع الحكم فِي الْعشْرين من شهر رَمَضَان. وَتُوفِّي فَقِيه الْمَالِكِيَّة بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة بدر الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن فَرِحُونَ بن مُحَمَّد بن فَرِحُونَ. وَتُوفِّي صَلَاح الدّين عبد الله بن الْمُحدث شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن غَنَائِم بن وَاحِد بن سعيد الْمَعْرُوف بِابْن المهندس الصَّالِحِي الْحلَبِي الْحَنَفِيّ سمع كثيرا بِالشَّام ومصر والحجاز وَكتب وَجمع وَحدث وَوعظ وَقد أناف على السّبْعين. وَتُوفِّي علاى الدّين عَليّ بن محيى الدّين بن فضل الله بن مُجَلي بن دعجان بن خلف بن مَنْصُور بن نصير الْعمريّ كَاتب السِّرّ فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع شهر رَمَضَان. وَقد بَاشر كِتَابَة السِّرّ نيفاً وَثَلَاثِينَ سنة وخدم أحد عشر سُلْطَانا وَكتب الْخط الْمَنْسُوب وَقَالَ الشّعْر الْجيد. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين عمر بن نجم الدّين مُحَمَّد بن عمر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْمُنعم بن أبي الطِّبّ الدِّمَشْقِي نَاظر الخزانة بهَا فِي يَوْم الْأَرْبَع. وَمَات قنق الْعُزَّى الْأَمِير.(4/322)
وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مَحْمُود المرداوي صَاحب الحمارة. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَفِيَّة بطرابلس بدر الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الشبلي. وَتُوفِّي جمال الدّين مُحَمَّد بن كَمَال الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الشريشي الْبكْرِيّ الوايلي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي. وَتُوفِّي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان بن فَهد الْحلَبِي بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي بدر الدّين مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الشجاع الْحَنَفِيّ أحد نواب الْحَنَفِيَّة فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع رَمَضَان. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف أحد نواب الْمَالِكِيَّة فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْخَامِس من شَوَّال. وَتُوفِّي الفقيهَ مُوسَى الضَّرِير الْمَالِكِي. وَمَات محتسب الْقَاهِرَة محيى الدّين مُحَمَّد بن الصَّدْر عمر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشْرين رَجَب وَتُوفِّي نَاظر الأحباس فَخر الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن الكويك فِي ثَالِث عشر رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير يبرم الْعُزَّى الدوادار بطالا الشَّام. وَمَات الْأَمِير أروس البَشْتَكي رَأس نوبَة الجمدارية. وَمَات الْأَمِير أرغون الأحمدي أحد الطبلخاناه.(4/323)
وَمَات الْأَمِير أرغون القَشْتَمُر أحد الألوف بطالا بالقدس. وَتُوفِّي قطب الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْبَقَاء مَحْمُود بن هرماس بن مامضى الْمَعْرُوف بالهرماس الْمَقْدِسِي.(4/324)
(سنة سبعين وَسَبْعمائة)
أهل الْمحرم يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ ثَالِث عشر مسرى من شهور قبط مصر وَفِيه نُودي بوفاء النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا فَفتح الخليج على الْعَادة. وَفِي أول ربيع الأول: قدم الْأَمِير منجك نَائِب الشَّام بتقدمة سنية فَخلع عَلَيْهِ وَقبل تقدمته ثمَّ أُعِيد بعد أَيَّام إِلَى نيابته وأعيد تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ إِلَى قَضَاء دمشق عوضا عَن سراج الدّين عمر البُلْقِينِيّ. وَفِي لَيْلَة عشرينه: ولد للسُّلْطَان ولد سَمَّاهُ أَحْمد فدقت البشائر ثَلَاثَة أَيَّام. وَفِي يَوْمه: ولى الْأَمِير قَشْتَمُر المنصوري نِيَابَة حلب عوضا عَن أسنبغا بن البوبكرى. وَقدم رَسُول متملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وصحبته بطرِيق الملكانية. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن ربيع الآخر: اسْتَقر الْأَمِير الأكز الكشلاوي وزيراً عوضا عَن علم الدّين إِبْرَاهِيم الحليق بن قزوينة مُضَافا إِلَى الإستادارية. وَاسْتقر ابْن قزونية فِي نظر الْخَاص عوضا عَن الشَّمْس المقسي وَاسْتقر المقسي فِي نظر الإصطبل عوضا عَن شمس الدّين بن الْمُوفق وخلع عَلَيْهِم. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عاشره: سَار السُّلْطَان إِلَى نَاحيَة طنان للصَّيْد وَمضى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَدَخلَهَا يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جماد الأولى وَقد زينت زِينَة عَظِيمَة الْقدر وترجل جَمِيع الْأُمَرَاء من بَاب رشيد إِلَى بَاب الْبَحْر فِي ركابه فَرمى بالمجانيق بَين يَدَيْهِ. ثمَّ عَاد من الْبَاب الْأَخْضَر إِلَى دَار السُّلْطَان وَجلسَ على التخت بهَا ومدَّ السماط(4/325)
فَأكل الْأُمَرَاء ثمَّ رفع فَلَمَّا أذن الْعَصْر ركب السُّلْطَان وَدخل إِلَى دَار الطّراز وَصعد إِلَى الْقصر ثمَّ عَاد إِلَى المخيم بِبَاب رشيد من آخر النَّهَار وَتوجه فِي يَوْم الْأَحَد إِلَى الْقَاهِرَة فَصَعدَ قلعة الْجَبَل. وَفِي سَابِع عشرينه: جمع الْأُمَرَاء وقضاة الْقُضَاة بالإيوان من القلعة وَعقد لخوند سارة أُخْت السُّلْطَان على الْأَمِير بشتاك رَأس نوبَة بِصَدَاق حَملته خَمْسَة عشر ألف دِينَار وأربعماية ألف دِرْهَم فضَّة عَنْهَا نَحْو الْعشْرين ألف دِينَار. وَكَانَ الَّذِي تولى عقد النِّكَاح بَينهمَا قَاضِي الْقُضَاة سراج الدّين عمر الْهِنْدِيّ الْحَنَفِيّ وَأنكر عَلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء عقد النِّكَاح من أجل أَن الزَّوْج قد مَسّه الرّقّ فألف فِي جَوَاز ذَلِك كتابا. وَفِي ثامن عشرينه: قبض على الْأَمِير الأكز الْوَزير وعوق بقاعة الصاحب من القلعة. وخلع على شمس الدّين أبي الْفرج المقسى وَاسْتقر فِي الوزارة وَنظر الْخَاص وخلع على الْوَزير علم الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة وَاسْتقر فِي نظر الإصطبل عوضا عَن المقسى وَأخرج الْأَمِير آقبغا عبد الله الدوادار منفياً. وخلع على الْأَمِير أقتمر الْحَنْبَلِيّ وَاسْتقر فِي نظر الخانكاه الناصرية بسرياقوس. وَفِي رَابِع عشْرين شهر رَجَب: قبض على أرغون العجمي الساقي - من المماليك السُّلْطَانِيَّة - وَنفي إِلَى الشَّام من أجل أَنه فقد للسُّلْطَان جَوَاهِر نفيسة الْقدر فَلم يعرف لَهَا خبر فأحضر بعض الفرنج مِنْهَا حجرا رَابِعا - يعرف بِوَجْه الْفرس - إِلَى الْأَمِير مَنْجَك نَائِب الشَّام فَعرفهُ وَسَأَلَ الفرنجى عَن سَبَب وُصُوله إِلَيْهِ فَذكر أَن أرغون هَذَا بَاعه إِيَّاه فَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان وطالعه بالْخبر فَقبض على أرغون فَلم يُوجد مَعَه من ثمن الْحجر الْمَذْكُور كَبِير شَيْء فَعَفَا السُّلْطَان عَنهُ ونفاه. وَفِي يَوْم الأثنين أول شهر رَمَضَان: أُعِيد ابْن عرام إِلَى نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن طيدمر البالسي بِحكم استعفائه. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رابعه: خلع على الصاحب علم الدّين إِبْرَاهِيم الحليق بن قزوينة إِلَى الوزارة وَاسْتقر المقسي على نظر الْخَاص فَقَط وأضيف إِلَيْهِ نظر أَمْلَاك خوند بركَة أم السُّلْطَان وأوقافها. وَفِي ليلية الْجُمُعَة خامسه: هبت بِالْقَاهِرَةِ وأعمالها ريَاح عَاصِفَة سقط مِنْهَا نخيل كَثِيرَة وأعالي عدَّة من الدّور وغرقت سفن مُتعَدِّدَة فَهَلَك تَحت الرَّدْم جمَاعَة من النَّاس وَكَانَ أمرا مهولاً عَامَّة تِلْكَ اللَّيْلَة.(4/326)
وَفِي يَوْم السبت عشرينه: تنكر السُّلْطَان على الْأَمِير أقتمر الْحَنْبَلِيّ لكَلَام جرى بَينه وَبَين الْأَمِير ألجاي وَأمر بنفيه إِلَى الشَّام وَاسْتقر عوضه دوادار الْأَمِير منكوتَمُر عبد الْغَنِيّ بإمرة طبلخاناه وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشرينه وخلع فِيهِ أَيْضا على الْأَمِير بهادر الجمالي وَاسْتقر أستادار وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف. وَفِي أول شَوَّال: قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن الْأَمِير قَشْتَمُر نَائِب حلب أَخذ سيس من الأرمن وَعَاد إِلَى حلب فغلب الأرمن عَلَيْهَا بعد عوده. وَفِي أول شهر ذِي الْقعدَة: قبض الصاحب علم الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة على كريم الدّين عبد الْكَرِيم بن الرويهب من أجل أَنه بلغه أَنه يسْعَى فِي الوزارة. وَفِي رَابِع عشره: أَخذ قاع النّيل فَكَانَ خَمْسَة أَذْرع وَعشْرين إصبعاً. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشره: قدم الْأَمِير بَيدمُر نايب الشَّام صُحْبَة الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن قُمارى أَمِير شكار وَقد وكب الْبَرِيد لإحضاره فَأمر بِهِ إِلَى الْأَمِير علاى الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن كَلَفْت فسجنه بقاعة الصاحب وألزمه بِحمْل ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وعصره فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرينه فَحمل مِنْهُ ماية ألف دِينَار وَخرج إِلَى دمشق ليؤدي بَقِيَّة مَا ألزم بِهِ ثمَّ ينفى إِلَى طرسوس. وَكَانَ قد اسْتَقر عوضه فِي نِيَابَة الشَّام الْأَمِير منجك. وَفِي هَذَا الشَّهْر: خرج بِبِلَاد الشَّام جَراد مُضر وَكثر بهَا الفأر فِي البيادر فَتلفت الغلال وَفَشَا بهَا الوباء. وَكثر الْخَوْف بِبِلَاد السَّاحِل من الفرنج والعشمير. وَوصل إِلَى صيدا عدَّة من مراكب الفرنج فحاربوا الْمُسلمين وَرَجَعُوا خايبين. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشرينه: تجمعت الغوغاء من زعر الْعَامَّة بأراضي اللوق خَارج الْقَاهِرَة للشلاق فَقتل بَينهم وَاحِد مِنْهُم فَركب وَالِي الْقَاهِرَة الشريف بَكتمُر وأركب مَعَه الْأَمِير علاى الدّين على بن كَلَفت الْحَاجِب والأمير أقبغا(4/327)
اليوسفي الْحَاجِب وَقصد المشالقين فَفرُّوا مِنْهُم وبقى من هُنَاكَ من النظارة فَضرب عدَّة مِنْهُم بالمقارع. فتعصبت الْعَامَّة ووقفوا تَحت القلعة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء وَأَصْبحُوا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشرينه كَذَلِك وهم يستغيثون ويضجون بالشكوى من الْوَالِي فأجيبوا بِأَن السُّلْطَان يعْزل عَنْكُم هَذَا الْوَالِي فَأَبَوا إِلَّا أَن يُسلمهُ إِلَيْهِم هُوَ والحاجبين. وَكَانَ الْوَالِي قد ركب على عَادَته بكرَة النَّهَار يُرِيد القلعة فرجمته الْعَامَّة حَتَّى كَاد يهْلك فالتجأ مِنْهُم بالإصطبل وظل نَهَاره فِيهِ والعامة وقُوف تَحت القلعة إِلَى قريب الْعَصْر وَكلما أمروا بِأَن يمضوا أَبَوا ولجوا فَركب إِلَيْهِم الْوَالِي فِي جمع موفور من مماليك الْأَمِير بَكتمُر المومني أَمِير آخور وَمن الأوجاقية فثارت الْعَامَّة ورجمتهم رجماً متداركاً حَتَّى كسروهم كسرة قبيحة فركبت المماليك السُّلْطَانِيَّة والأوجاقية وحملوا على الْعَامَّة وَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وقبضوا على خلائق مِنْهُم وَركب الْأَمِير ألجاي اليوسفي وَقسم الخطط والحارات على الْأُمَرَاء والمماليك وَأمرهمْ بِوَضْع السَّيْف فِي النَّاس فجرت خطوب شنيعة قتل فِيهَا خلائق ذهبت دِمَاؤُهُمْ هدرا وأودعت السجون مِنْهُم طوائف وامتدت أَيدي الأجناد إِلَى الْعَامَّة حَتَّى أَنه كَانَ الجندي يدْخل إِلَى حَانُوت البياع من المتعيشين ويذبحه ويمضي. وَحكى بَعضهم أَنه قتل بِيَدِهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة من الْعَامَّة سَبْعَة عشر رجلا. وَكَانَت لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشرينه: من ليَالِي السوء وَأصْبح النَّاس وَقد بلغ السُّلْطَان الْخَبَر فشق عَلَيْهِ وَأنْكرهُ وَقَالَ للأمير بكتمر المومني عجلت بالأضحية على النَّاس وتوعده فَرَجَفَ فُؤَاده ونحب قلبه وَقَامَ فَلم يزل صَاحب فرَاش حَتَّى مَاتَ وَأمر السُّلْطَان بالإفراج عَن المسجونين وَنُودِيَ بالأمان وَفتح الْأَسْوَاق ففتحت وَقد كَانَ النَّاس قد أَصْبحُوا على تخوف شَدِيد لما مر بهم فِي اللَّيْل. وَفِيه خلع على الْأَمِير حسام الدّين حُسَيْن بن الكوراني وَالِي مصر وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن الشريف بكتمر. وأتفق فِي هَذَا الشَّهْر: أَيْضا أَن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن مُسلم - كَبِير تجار مصر - سَافر للقاء بضائع قدمت لَهُ من الْهِنْد بقوص فأشاع وَلَده فِي النَّاس موت أَبِيه وَعمل عزاهُ وَاجْتمعَ بالسلطان وَسَأَلَهُ أَن يقوم عوض أَبِيه فِي المتجر ووعد بِحمْل خمسين ألف دِينَار فَخلع عَلَيْهِ وَنزل فَأخذ فِي حمل مَا وعد بِهِ حَتَّى أَتَى على مبلغ كَبِير مِنْهُ. فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِك إِذْ قدم كتاب أَبِيه فِي بعض حاجاته فسر أَهله بحياته(4/328)
وَبعث إِلَيْهِ بِمَا كَانَ من مولده فبادر إِلَى الْمَجِيء وَاجْتمعَ بِأَهْل الدولة وبالسلطان فاعتذروا إِلَيْهِ بِمَا كَانَ من وَلَده ورسم لَهُ أَن يعْتد لَهُ بِمَا حمل وَلَده فِي نَظِير مَا يرد لَهُ من البضائع وَيُحَاسب بِهِ مِمَّا عَلَيْهِ للديوان وخلع عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِك أَيْضا من شنيع مَا وَقع. وَاتفقَ أَيْضا أَن بني كلاب كثر فسادهم وقطعم الطَّرِيق فِيمَا بَين حماة وحلب وَأخذُوا بعض الْحجَّاج فَخرج إِلَيْهِم الْأَمِير قشتمر نَائِب حلب بالعسكر حَتَّى أَتَوا تل السُّلْطَان بِظَاهِر حلب فَإِذا عدَّة من مضَارب عرب آل فضل فاستاق الْعَسْكَر جمَالهمْ ومواشيهم ومالوا على بيُوت الْعَرَب فنهبوها. فثارت الْعَرَب بهم وقاتلوهم واستنجدوا من قرب مِنْهُم من بنى مهنا وأتاهم الْأَمِير حيار وَولده نعير بِجمع كَبِير فَكَانَت معركة شنيعة قتل فِيهَا الْأَمِير قشتمر النايب وَولده وعدة من عسكره وَانْهَزَمَ باقيهم فَركب الْعَرَب أقفيتهم فَلم ينج مِنْهُم عُريَانا إِلَّا من شَاءَ الله وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن ذِي الْحجَّة: قدم الْخَبَر بنزول أَربع قطايع على الْإسْكَنْدَريَّة من الفرنج وَأَنَّهُمْ رموا على الْمَدِينَة بمنجنيق فَخرج تِلْكَ اللَّيْلَة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا مِنْهُم ثَلَاثَة من الألوف وَعشرَة من الطبلخاناه وَعشرَة من أُمَرَاء العشرات فَقدم الْخَبَر فِي عَشِيَّة السبت أَن المغاربة والتركمان نزلُوا فِي المراكب وقاتلوا الفرنج وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْمِائَة وغنموا مِنْهُم مركبا. وَفِي خَامِس عشره: خرج على الْبَرِيد الْأَمِير قطلوبغا الشَّعْبَانِي ليسير بالأمير أشَقتمر المارديني إِلَى حلب وَكتب مَعَه تَقْلِيده بالنيابة وحملت إِلَيْهِ الخلعة وَأَن يُقَلّد الْأَمِير زامل إمرة الْعَرَب عوضا عَن حيار بن مهنا فاستقر الْأَمِير أَشَقتمر فِي نِيَابَة حلب وَوجد الْعَرَب قد شرقوا. وَفِيه توجه الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير سرتقطاى فِي الرسَالَة إِلَى أويس متملك بَغْدَاد. وَاسْتقر جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن عبد الْملك المسلاني فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن سرى الدّين إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن هاني الأندلسي وَاسْتقر الْأَمِير بيبغا القوصوني كاشف القليوبية والأمير مُحَمَّد بك الشيخوني فِي نِيَابَة(4/329)
غَزَّة والشريف بكتمر فِي ولَايَة قطيا عوضا عَن ابْن الطشلاقي والأمير بكتمر أستادار الطَّوِيل فِي ولَايَة قوص والأمير أسندمر الخضري فِي الْبحيرَة عوضا عَن ابْن معِين والأمير قطلوبك السيفي فِي ولَايَة مصر وأنعم على الْأَمِير مُحَمَّد بن طرغاي بإمرة طبلخاناه وَاسْتقر أستادار وارتجع عَن الْأَمِير أَسَندَمر المظفري تقدمته وَعوض طبلخاناة لعَجزه عَن الْخدمَة من مرض وأنعم على كل من الْأَمِير بَتْشَاك الْعمريّ والأمير بهادر الجمالي بإمرة ماية تقدمة ألف وعَلى كل من الْأَمِير بيبغا القوصوني وصراي الإدريسي وَأحمد بن أقتمر عبد الْغَنِيّ وَأحمد بن قنغلى وطَقتمُر الْحسنى وخليل بن قمارى وأرغون شاه الأشرفي وحسين بن الكوراني بإمرة طبلخاناه وعَلى كل من جلبان العلاى وَمُحَمّد بن لاجين وأسنبغا النظامي وَمُحَمّد بن قطلوبغا المحمدي وَعمر بن أسن البوبكرى بإمرة عشرَة. وَفِي هَذِه السّنة: حجت خوند بركَة أم السُّلْطَان فِي تجمل عَظِيم وَمَعَهَا الكوسات والعصايب السُّلْطَانِيَّة وعدة جمال تحمل الْخضر المزروعة وَفِي خدمتها الْأَمِير بشتاك الْعمريّ والأمير بهادر الجمالي وماية من المماليك السُّلْطَانِيَّة. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْأَمِير إِبْرَاهِيم ابْن الْأَمِير صَرغَتْمش الناصري أحد العشرات فِي تَاسِع شَوَّال وَدفن بمدرسة أَبِيه. وَمَات الأديب الموَالِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالفار طرنجي الْعَالِيَة. وَمَات الْأَمِير أرغون عَليّ بك الأزقي نَائِب غَزَّة وَأحد أُمَرَاء الألوف رَأس نوبَة فِي أول جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات تَقِيّ الدّين حسن بن مُحَمَّد بن فتيَان كَاتب سر طرابلس. وَمَات الْأَمِير خَلِيل بن عَليّ بن الْأَمِير سلار النَّائِب أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير الطواشي نَاصِر الدّين شَفِيع أحد العشرات ونائب مقدم المماليك فِي ثامن شعْبَان. وَمَات الْأَمِير طُغاى الفخري - أحد الطبلخاناه - غريقاً بالنيل. وَمَات قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق جمال الدّين مَحْمُود بن أَحْمد بن مَسْعُود أحد فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة الْأَعْيَان.(4/330)
وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن خلف بن كَامِل الْغَزِّي أحد نواب الحكم بِدِمَشْق وأعيان الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَله رحْلَة إِلَى الْقَاهِرَة. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين عبد القاهر بن الْوَزير الصاحب ضِيَاء الدّين أبي بكر بن عبد الله بن أَحْمد بن مَنْصُور بن أَحْمد النشابي أحد موقعي الدست فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة عَن اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة. وَمَات عماد الدّين مُحَمَّد بن مُوسَى بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الله بن عَليّ بن أَحْمد بن الشيرحي محتسب دمشق وناظر الخزانة بهَا. وَمَات بدر الدّين مُحَمَّد بن الْجمال مُحَمَّد بن الْكَمَال أَحْمد بن مُحَمَّد بن الشريشي الشَّافِعِي برع فِي الْفِقْه واللغة وَقَالَ الشّعْر. وَمَات الْأَمِير مُحَمَّد بن الْأَمِير طقبغا الماجاري صاووق أحد الطبلخاناه. وَمَات الأديب الشَّاعِر شمس الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين على الوَاسِطِيّ فِي شهر رَجَب. وَمَات الْأَمِير ألطنبغا المؤمني الجوكندار أحد العشرات فِي صفر. وَمَات الْأَمِير أقَتمُر عبد الْغَنِيّ الصَّغِير - أحد العشرات - فِي تَاسِع عشْرين شهر رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير أزكا السيفي أحد الطبلخاناه. وَمَات متملك تونس أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن يحيى فِي الْعشْرين من رَجَب بعد مَا ملك تسع عشرَة سنة وشهرين فَقَامَ بعده ابْنه أَبُو الْبَقَاء خَالِد.(4/331)
فارغه(4/332)
(سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة)
فِي أول الْمحرم: ورد قَاصد الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير طاز وَمَعَهُ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ من وَفِي يَوْم الْأَحَد ثامنه: ورد الْبَرِيد بِطَلَب الْأَمِير حيار الْأمان وَكَانَ القاصد بذلك الْأَمِير سيف الدّين بهادر أستادار الْأَمِير منجك نَائِب الشَّام ومعيقل حَاجِب حيار فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشره: خلع على كريم الدّين عبد الْكَرِيم بن الرويهب وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن علم الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة باستعفائه وَلم يتَعَرَّض لِابْنِ قزوينة بِسوء. وَفِيه اسْتَقر عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن أبي الْعِزّ بن صَالح الْمَعْرُوف بِابْن الكشك الدِّمَشْقِي فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق بعد وَفَاة جمال الدّين أبي الثَّنَاء مَحْمُود بن سراج الدّين أَحْمد بن مَسْعُود الْمَعْرُوف بِابْن السراج. وَفِي يَوْم السبت رَابِع عشر: ركب السُّلْطَان إِلَى لِقَاء والدته عِنْد قدومها من الْحَج وَنزل بركَة الْحجَّاج ثمَّ مضى إِلَى البويب. فَلَمَّا قدمت فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشره عَاد إِلَى قلعة الْجَبَل. وَفِي يَوْم السبت حادي عشرينه: خلع على الْأَمِير بهادر الجمالي وَاسْتقر أَمِير أخور عوضا عَن الْأَمِير بَكتمُر المؤمني بعد وَفَاته وخلع على الْأَمِير تَلكتَمُر بن بركَة أستادار عوضا عَن بهادر الجمالي وَاسْتقر الْأَمِير أرغون شاه الأشرفي أَمِير مجْلِس عوضا عَن تلكتمر وأنعم على الْأَمِير جلبان العلاى بإمرة طبلخاناة. وَخرج الْبَرِيد بِطَلَب الْأَمِير أَقتمُر الصاحبي الْحَنْبَلِيّ من الشَّام فَقدم فِي رَابِع عشر صفر.(4/333)
وَفِيه اسْتَقر كَمَال الدّين - التنسي الْمَالِكِي فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن كَمَال الدّين الريغي. وَفِي أول شهر ربيع الأول: قدم الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف بن إلْيَاس القونوي الْحَنَفِيّ فَخرج الْأَمِير منكلى بغا الشمسي الأتابك إِلَى لِقَائِه وأنزله فِي بَيت بالمارستان فَأَتَاهُ النَّاس من كل جِهَة. وَكَانَ مُنْقَطع القرين فِي الْوَرع والصدع بِالْحَقِّ. وَفِي ثَالِث ربيع الآخر: اسْتَقر الْأَمِير كنجكجي المنصوري فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن أيدمر الشيخي. وَفِي رابعه: خلع على الصاحب شمس الدّين أبي الْفرج المقسي وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن كريم الدّين عبد الْكَرِيم بن الرويهب مُضَافا إِلَى نظر الْخَاص. وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة: أخرج الْأَمِير مُحَمَّد بن قمار أَمِير شكار منفياً وَاسْتقر عوضه الْأَمِير جمال الدّين عبد الله بن بَكتمر الْحَاجِب أَمِير شكار وخلع على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن قيران الحسامي الْمَعْرُوف بِابْن شرف الدّين وَاسْتقر أَمِير طبر عوضا عَن شرف الدّين مُوسَى بن ديدار بن قرمان عِنْد استعفائه وخلع على الْأَمِير نصرات وَاسْتقر حاجباً عوضا عَن أسنبغا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشْرين رَجَب: اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن عبد الله بن أبي الْفَتْح بن هَاشم الْمَقْدِسِي فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق عوضا عَن شرف الدّين أَحْمد بن شيخ الْجَبَل بعد وَفَاته. وَفِي تَاسِع عشرينه: رسم الْأَمِير أسندَمُر حرفوش بِالْجُلُوسِ وَقت الْخدمَة بالإيوان. وَفِي ثامن عشر شعْبَان: اسْتَقر الشريف بكتمر بن عَليّ الْحُسَيْنِي حاجباً عوضا عَن أقبغا اليوسفي. وَاسْتقر الْأَمِير أرغون شاه الأشرفي رَأس نوبَة عوضا عَن الْأَمِير بَشتاك الْعمريّ بعد وَفَاته وَاسْتقر الْأَمِير أرغون الأحمدي اللالا أَمِير مجْلِس عوضا عَن أرغون(4/334)
شاه وأنعم على الْأَمِير طينال المارديني بتقدمة ألف وعَلى الْأَمِير علم دَار بتقدمة ألف وَاسْتقر أستادارا وَاسْتقر الْأَمِير مُحَمَّد بن سرتقَطَاي نقيب الْجَيْش عوضا عَن أرغون بن قيران. وَاسْتقر الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الأزكَشي شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن شرف الدّين مُوسَى بن الديناري وَاسْتقر ابْن الديناري حاجباً عوضا عَن عَلَاء الدّين ابْن كلفت وَاسْتقر الْأَمِير آقبغا بن مصطفى جاشنكيرا عوضا عَن الْأَمِير ألطبغا العلاى فرفور وَاسْتقر الْأَمِير جركس الرسولي أستادارا ثَانِيًا عوضا عَن مُحَمَّد بن طرغاي وَاسْتقر الْأَمِير طغاى تمر العثماني أَمِير جاندار عوضا عَن الْأَمِير أسندمر حرفوش وخلع على الْجَمِيع. وَقدم الْبَرِيد بغلاء الأسعار بِدِمَشْق وتجاوزت الغرارة الْقَمْح مِائَتي دِرْهَم وفشت بهَا الآوبئة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشْرين شَوَّال: توجه قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق عَلَاء الدّين على ابْن مُحَمَّد إِلَى مَحل ولَايَته. وَفِي رَابِع ذِي الْقعدَة: اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن الرصاص فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بصفد وخلع عَلَيْهِ وَتوجه إِلَى ولَايَته. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشرينه: خلع على الصاحب فَخر الدّين ماجد بن تَاج الدّين مُوسَى بن أبي شَاكر وأعيد إِلَى الوزارة عوضا عَن شمس الدّين أبي الْفرج المقسي وخلع على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن إياز الدواداري وَاسْتقر كاشف الْوَجْه البحري وَاسْتقر علاى الدّين السناني فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن قطلوبك صهر المزوق وَاسْتقر بهادر وَالِي الْعَرَب فِي ولَايَة البهنسا وَاسْتقر ركن الدّين عمر بن الْمعِين وَالِي الْبحيرَة عوضا عَن أسَندَمُر الخضري. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرينه: رسم بتسمير نَصْرَانِيّ اتهمَ أَنه سحر خوند ابْنة الْأَمِير طاز وَزَوْجَة السُّلْطَان فَمَاتَتْ بسحره فسمر ووسط وأحرق بالنَّار. وَاسْتقر نجم الدّين أَحْمد بن عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الكشك فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن أَبِيه برغبته لَهُ عَن ذَلِك وَاسْتقر برهَان الدّين أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن على الصنهاجي فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب، عوضا عَن تَقِيّ الدّين الأنفي.(4/335)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ذِي الْحجَّة: اسْتَقر زين الدّين أَبُو بكر على بن عبد الْملك المازوني فِي قَضَاء الماليكة بِدِمَشْق بعد وَفَاة جمال الدّين المسلاتي. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشرينه: قدم الْبَرِيد بوفاة التَّاج عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق فاستقر عوضه كَمَال الدّين أَبُو الْقَاسِم عمر بن الْفَخر عُثْمَان ابْن هبة الله المعري قَاضِي حلب وَاسْتقر فِي قَضَاء حلب عوض المعري قَاضِي طرابلس فَخر الدّين عُثْمَان بن أَحْمد بن عُثْمَان بن أَحْمد الزرعي. وأعيد الْأَمِير ألطبغا الشمسي إِلَى ولَايَة القلعة وَأخرج الْأَمِير نصرات إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَعمل بهَا حاجباً وأنعم على كل من الْأَمِير منكوتَمر عبد الْغَنِيّ والأمير يلبغا الْمَجْنُون بتقدمة ألف وعَلى كل من الْأَمِير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الشمسي والأمير قطلو أقتمر العثماني والأمير آل ملك الصرغتمشي والأمير عبد الرَّحِيم بن الْأَمِير منكلى بغا الشمسي والأمير يَاوَرجي القوصوني والأمير تغرى بردش بن ألجاي والأمير تلكتَمُر الجمالي بإمرة طبلخاناه وعَلى كل من مُحَمَّد بن قرا ابْن كُلَيته وَرَجَب بن طيبغا المحمدي وَعبد الله بن مُحَمَّد بن طرغاي وصراي تمر المحمدي ومنكلى بغا الْبَلَدِي الأحمدي ويلبغا المحمدي وبكتمر العلمي وَمُحَمّد شاه ابْن الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أقبغا آص وطيدمر الذَّهَبِيّ أَمِير شكار وبكتاش بن قطليجا. وفيهَا ولد للسُّلْطَان ولد ذكر سَمَّاهُ رَمَضَان وزينت الْقَاهِرَة لولادته ودقت البشاير وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان. وَكَانَ أَمِير الْحَاج عَلَاء الدّين عَليّ بن كَلَفْت فَأَقَامَ بِمَكَّة لعمارة مأذنة بَاب الْحَزْوَرَة وَعَاد بالحاج الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الآنوكي مقدم المماليك. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر من الْأَعْيَان الْوَزير الصاحب علم الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة الْمَعْرُوف بالحليق فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سَابِع شهر رَجَب.(4/336)
وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق شرف الدّين أَحْمد بن قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق شرف الدّين أبي الْفَضَائِل الْحسن بن الْخَطِيب شرف الدّين أبي بكر عبد الله بن الشَّيْخ أبي عمر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي ثمَّ الصَّالِحِي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي الْجَبَل الْحَنْبَلِيّ عَلامَة وقته فِي كَثْرَة النَّقْل وَقفه الْحَنَابِلَة فِي يَوْم الثَّالِث عشر من رَجَب. وَتُوفِّي قاضى الْمَالِكِيَّة بحماة ودمشق أَبُو الْوَلِيد سرى الدّين إِسْمَاعِيل بن الْبَدْر مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن هانىء اللَّخْمِيّ الأندلسي بِالْقَاهِرَةِ برع فِي الْعَرَبيَّة واللغة وَالْأَدب وَشرح التَّلْقِين فِي النَّحْو لأبي وَمَات الْأَمِير أروس بغا الخليلي أحد الطبلخاناه فِي آخر شهر رَجَب. وَمَات الْأَمِير أسندَمُر الكاملي زوج خوند القُرْدُمية وَأحد أُمَرَاء الألوف. وَمَات الْأَمِير آسن الصرغتمشي أحد الطبلخاناه منفياً بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير أقبغا اليوسفي الْحَاجِب فِي شعْبَان بِمَدِينَة منفلوط وَقد توجه إِلَى لِقَاء هَدِيَّة صَاحب الْيمن وَكَانَ مشكور السِّيرَة. وَمَات الْأَمِير ألطبغا العلاى الجاشنكيرى فرفور أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير بكتمر المؤمني أَمِير آخور فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر الْمحرم. وَمَات الْأَمِير بكتمر الأحمدي أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير تنبك الأزقي أحد الطبلخاناه وَرَأس نوبَة ثَانِيًا. وَكَانَ من الْأَبْطَال. وَمَات الْأَمِير طيبغا المحمدي أحد أُمَرَاء الألوف فِي صفر. وَمَات قَاضِي قُضَاة دمشق تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن قَاضِي قُضَاة دمشق تَقِيّ الدّين على بن عبد الْكَافِي بن عَليّ بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام الْأنْصَارِيّ السبكى فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع ذِي الْحجَّة بِدِمَشْق عَن أَربع وَأَرْبَعين سنة.(4/337)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة وعالمهم زين الدّين عمر بن الْكَمَال أبي عمر عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر البسطامي لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس عشْرين جُمَادَى الآخرى بِالْقَاهِرَةِ ومولده فِي جُمَادَى سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَدفن بالقرافة عِنْد جده لأمه قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد السرُوجِي. وَتُوفِّي زين الدّين عبد الله بن القوصي أحد نواب الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة فِي لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع عشر جُمَادَى الآخر. وَتُوفِّي قاضى الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق جمال الدّين مُحَمَّد بن الزين عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن عبد الْملك المسلاتي بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم السبت ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة وَدفن بتربة الصُّوفِيَّة خَارج بَاب النَّصْر. وَتُوفِّي قَاضِي الْعَسْكَر بدر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد اللطف بن يحيى بن عَليّ بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام السُّبْكِيّ بطرِيق الْقُدس أَو قد توجه لزيارته. وَتُوفِّي الْفَقِيه النَّحْوِيّ شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد المالقي المغربي الْمَالِكِي بِدِمَشْق وَله شرح التسهيل فِي النَّحْو. وَمَات الْأَمِير مُحَمَّد بن الْأَمِير تنكز نايب الشَّام أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير مُحَمَّد بن الْأَمِير طرغاي أحد الطبلخاناه. وَمَات شمس الدّين مُوسَى بن التَّاج أبي إِسْحَاق عبد الْوَهَّاب بن عبد الْكَرِيم نَاظر الْجَيْش وناظر الْخَاص بعد مَا عزل ووزر وزارة دمشق غير مرّة. وَهُوَ من أَبنَاء السّبْعين بِظَاهِر دمشق. وَمَات الْأَمِير الأكز الكشلاوي الْوَزير الأستادار وَهُوَ منفي بحلب فِي ربيع الأول.(4/338)
سنة اثنتن وَسبعين وَسَبْعمائة فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر الْمحرم: اسْتَقر سعد الدّين ماجد بن التَّاج أبي إِسْحَاق فِي وزارة الشَّام. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره: سَافر زين الدّين أَبُو بكر بن عَليّ بن عبد الْملك المازوني - قَاضِي الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق - إِلَى مَحل ولَايَته. وَفِي حادي عشرينه: أخرج الْأَمِير يَعْقُوب شاه الخازندار منفياً إِلَى ملطة. وَفِي أول صفر: قدمت رسل الفرنج لطلب الصُّلْح فَحَلَفُوا على أَلا يغدروا وَلَا يحزنوا وخلع عَلَيْهِم وسافروا وَمَعَهُمْ من يحلف ملكهم وَأخذت مِنْهُم رهائن بالقلعة. وَفِي شهر ربيع الأول عزل الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن قنغلى من ولَايَة الجيزة بسؤاله وارتجعت عَنهُ إمرة طبلخاناه وأنعم على طيبغا الْعمريّ الْفَقِيه بإمرة عشرَة. وَاسْتقر مُحَمَّد بن قرطاي الْموصِلِي نقيب الْجَيْش عوضا عَن أرغون بن قيران ثمَّ أُعِيد أرغون واستدعى مُحَمَّد بن قماري من غَزَّة وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه وَاسْتقر أَمِير شكار على عَادَته. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشر ربيع الآخر: ركب السُّلْطَان للصَّيْد وَعبر الْقَاهِرَة من بَاب زويلة وَنزل إِلَى الْقبَّة المنصورية فزار جده وجد أَبِيه وَركب فَخرج من بَاب النَّصْر وتصيد وَعَاد يُرِيد التَّوَجُّه إِلَى الْوَجْه القبلي فَقدمت لَهُ أَرْبَاب الأدراك تقادم جليلة. وَفِي لَيْلَة الْخَمِيس الْخَامِس من جُمَادَى الأولى: ظهر بالسماء على الْقُدس ودمشق وحلب حمرَة شَدِيدَة جدا كَأَنَّهَا الْجَمْر وَصَارَت فِي خلل النُّجُوم كالعمد الْبيض حَتَّى سد ذَلِك الْأُفق طول لَيْلَة الْخَمِيس حَتَّى طلع الْفجْر فارتاع النَّاس وَاشْتَدَّ خوفهم وَبَاتُوا يَسْتَغْفِرُونَ الله ويذكرونه.(4/339)
وَفِي آخِره: خلع على الْأَمِير سيف الدّين طشتمر العلاى وَاسْتقر دوادارا بإمرة طبلخاناه نقل إِلَيْهَا من الجندية بعد وَفَاة منكوتمر عبد الْغَنِيّ الدوادار. وَفِيه عَادَتْ رسل الفرنج وَمَعَهُمْ عدَّة مِمَّن أسروهم من الْمُسلمين نَحْو الْمِائَة. وَكَانَ الْوَقْت خَرِيفًا فكثرت الْأَمْرَاض فِي النَّاس بِالْقَاهِرَةِ وَالْوَجْه البحري وَتجَاوز عدد الْأَمْوَات بِالْقَاهِرَةِ ثَمَانِينَ فِي كل يَوْم. وَفِي أول جُمَادَى الْآخِرَة: اسْتَقر شرف الدّين عبد الْمُنعم بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْبَغْدَادِيّ الْحَنْبَلِيّ فِي إِفْتَاء دَار الْعدْل وتدريس مدرسة أم السُّلْطَان بِخَط التبانة عوضا عَن بدر الدّين حسن النابلسي بعد وَفَاته. وَفِيه بعث الفرنج من بَقِي من أسرى الْمُسلمين ببلادهم وَتمّ الصُّلْح وَفتحت كَنِيسَة القمامة بالقدس. وَفِي ثَالِث عشْرين شهر رَجَب: سَار ركب الْحجَّاج الرحبية إِلَى مَكَّة. وَفِي سَابِع شعْبَان: اسْتَقر بدر الدّين عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن مُحَمَّد الأخناي فِي إِفْتَاء دَار الْعدْل عوضا عَن تَاج الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين بعد وَفَاته بعقبة أَيْلَة صُحْبَة الرجبية. وَفِي تاسعه: اسْتَقر علم الدّين صَالح الْإِسْنَوِيّ موقع الحكم وَاسْتقر فِي وكَالَة الْخَاص عوضا عَن ابْن بهاء الدّين وَاسْتقر بدر الدّين الأقفهسي شَاهد الْأَمِير ألجاي اليوسفي عوضه فِي شَهَادَة الْجَيْش وَاسْتقر محب الدّين السمسطاي فِي نظر المارستان عوض ابْن بهاء الدّين. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شعْبَان: خلع على الصاحب شمس الدّين أبي الْفرج المقسي وَاسْتقر وَكيل الْخَاص عوضا عَن علم الدّين صَالح مُضَافا لما بِيَدِهِ. وَفِي أول شهر رَمَضَان: خلع على الْأَمِير علم دَار وَاسْتقر فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن تَلَكتمُر الْفَقِيه من بركَة وَقدم تَلَكتمُر وَاسْتقر أستادارا عوضا عَن علم دَار.(4/340)
وَفِي عَاشر شَوَّال: خلع على الْأَمِير أرغون شاه، وَاسْتقر رَأس نوبَة بعد موت الْأَمِير بشتاك. وَفِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة: خلع على الْأَمِير طيدمر البالسي وَاسْتقر فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن ابْن عرام وأنعم على أبن عرام بإمرة طبلخاناه بِالْقَاهِرَةِ. وَفِي رَابِع عشرينه: خلع على بدر الدّين بن السكرِي وَاسْتقر فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالإسكندرية بعد موت ابْن الزبيبة وخلع على مُحَمَّد بن سرتُقطَاي وَاسْتقر نقيب الْجَيْش عوضا عَن أرغون بن قيران. وَفِيه خلع أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر متملك تونس بعد إِقَامَته فِي الْملك سنة وَتِسْعَة أشهر تنقص يَوْمَيْنِ وَقَامَ بعده ابْن عَمه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم فِي يَوْم السبت ثامن عشر ربيع الآخر. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر من الْأَعْيَان قَاضِي الْحَنَفِيَّة بثغر الْإسْكَنْدَريَّة شهَاب الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الصَّالِحِي عرف بِابْن زْبيبّة - تَصْغِير زبيبة - فِي خَامِس عشر ربيع الأول وَهُوَ أول من ولي من قَضَاء الْمَدِينَة بالإسكندرية. وَمَات الْأَمِير أسندمر حرفوش العلاى الْحَاجِب بعد مَا أخرج إِلَى الشَّام وأنعم عَلَيْهِ بإمرة ألف فِي دمشق. وَمَات الْأَمِير عَليّ المارديني نَائِب الشَّام وديار مصر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع الْمحرم وَكَانَ مشكور السِّيرَة. وَمَات الْأَمِير بَشْتَاك الْعمريّ رَأس نوبَة. وَمَات الْأَمِير جرجي نَائِب حلب وَهُوَ أَمِير كَبِير بِدِمَشْق فِي صفر.(4/341)
وَمَات الْأَمِير جرجي البالسي أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير جرقطلو المظفري أحد العشرات. وَمَات بدر الدّين حسن بن مُحَمَّد بن صَالح بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد المحسن النابلسي الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ مفتي دَار الْعدْل ومدرس الْحَنَابِلَة بمدرسة أم السُّلْطَان فِي رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة توفّي بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات شرف الدّين سَالم بن قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أبي الْبَقَاء فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر شَوَّال بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات الشَّيْخ عبد الرَّحِيم جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن عمر الْأمَوِي الْإِسْنَوِيّ الشَّافِعِي فَجْأَة لَيْلَة الْأَحَد ثامن جُمَادَى الأولى وَقد انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الْعلم. وَأكْثر من التصانيف فِي الْفِقْه وَغَيره. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة نور الدّين عَليّ بن الْفَقِيه عز الدّين يُوسُف بن الْحسن بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الزرندي. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين على بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الظريف الْفَقِيه الْمَالِكِي موقع الحكم وَأحد نواب الْمَالِكِيَّة والمقدم فِي عمل المناسخات فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات سراج الدّين عمر بن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن الْفُرَات موقع الحكم فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء حادي عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات الْأَمِير قُطْلو أَقتَمُر الناصري رَأس نوبَة فِي ثامن عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات تَاج الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين الْمَالِكِي الْمَعْرُوف بِابْن شَاهد الْجمال مفتي دَار الْعدْل وَشَاهد الْجَيْش وناظر المارستان ووكيل الْخَاص فِي أول شعْبَان بمنزل الْعقبَة.(4/342)
وَتُوفِّي شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد الزَّرْكَشِيّ أحد أَعْيَان الْفُقَهَاء الْحَنَابِلَة فِي لَيْلَة السبت رَابِع عشْرين جُمَادَى الأولى. وَمَات الشَّيْخ أَبُو الظَّاهِر تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد إِمَام أهل الْمِيقَات فِي يَوْم السبت حادي عشْرين شهر رَجَب. وَمَات الشَّيْخ المجذوب المعتقد ذُو الكرامات العجيبة أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ بن يحيى الصنافيري الْأَعْمَى فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشْرين شعْبَان وحزر الْجمع الَّذين صلوا عَلَيْهِ بمصلى خولان من الْقَاهِرَة فَكَانَ ينيف على خمسين ألفا. وَتُوفِّي زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم أحد قراء السَّبع وَشَيخ خانكاه بكتمر بالقرافة فِي سَابِع عشْرين ربيع الآخر أَخذ الْقرَاءَات عَن التقي الصايغ. وَمَات الْأَمِير أروس النظامي أحد الطبلخاناه. وَمَات الْأَمِير أزْدَمُر الصفوي الجوكندار. وَتُوفِّي الطّيب الْفَاضِل جمال الدّين يُوسُف الشربكي فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى. وَالله تَعَالَى أعلم.(4/343)
فارغه(4/344)
سنة ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: اسْتَقر الْأَمِير أيدمر الدوادار فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن أَشَقتمُر المارديني. وَفِي صفر: طُلب شمس الدّين مُحَمَّد الركراكي المغربي من فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة إِلَى مجْلِس الْأَمِير الْكَبِير ألجاي وَادّعى عَلَيْهِ بقوادح توجب إِرَاقَة دَمه فتعصب لَهُ قوم وتعصب عَلَيْهِ آخَرُونَ. وَكَثُرت زِيَادَة النّيل فَنُوديَ عَلَيْهِ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر شهر ربيع الأول وَهُوَ خَامِس عشْرين توت أَرْبَعَة أَصَابِع لتتمة إِصْبَعَيْنِ من عشْرين ذِرَاعا ثمَّ زَاد بعد ذَلِك عدَّة أَيَّام فَلم يناد عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فاض حَتَّى تقطعت الطرقات وتأخرت الزِّرَاعَة ثمَّ نقص قَلِيلا وَثَبت حَتَّى مضى من هاتور عدَّة أَيَّام فَاجْتمع النَّاس بِجَامِع عَمْرو من مَدِينَة مصر وَالْجَامِع الْأَزْهَر بِالْقَاهِرَةِ ودعوا الله لهبوط النّيل عدَّة مرار فهبط وَزرع النَّاس على الْعَادة. وَركب السُّلْطَان للعب بالكرة فِي الميدان الْكَبِير بشاطىء النّيل خمس سبوت مُتَوَالِيَة وَلم يتقدمه لذَلِك أحد وَإِنَّمَا الْعَادة أَن يكون الرّكُوب بعد وَفَاء النّيل إِلَى الميدان فِي ثَلَاثَة سبوت مُتَوَالِيَة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ أول جُمَادَى الأولى: ضرب عنق بعادة مشارف ديوَان الْمَوَارِيث الحشرية لقوادح أوجبت إِرَاقَة دَمه شرعا. وَفِي هَذَا الشَّهْر: تنجز لقَاضِي الْقُضَاة سراج الدّين عمر الْهِنْدِيّ الْحَنَفِيّ مرسوماً بِأَن يلبس الطرحة ويستنيب عَنهُ قُضَاة فِي أَعمال مصر قبليهاوبحريها ويفرد لَهُ مودعاً لأموال يتامى الْحَنَفِيَّة كَمَا يفعل قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي فَشَغلهُ الله عَن إتْمَام ذَلِك بِمَرَض نزل بِهِ فَلَزِمَ الْفراش حَتَّى مَاتَ. وَفِيه أَيْضا جرى بَين قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أبي الْبناء الشَّافِعِي وَبَين قَاضِي الْقُضَاة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم الأخناي الْمَالِكِي كَلَام فِي مَسْأَلَة وَكَانَ أَبُو الْبَقَاء بَحر علم لَا يُدْرِكهُ الدلاء والأخناي بضاعته فِي الْعلم مزجاة فأنجز الْكَلَام إِلَى أَن قَالَ أَبُو الْبَقَاء: لَو كَانَ مَالك حَيا لناظرته فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. فعد الأخناي ذَلِك خُرُوجًا من(4/345)
بهاء الدّين وَقَالَ: إيش أَنْت حَتَّى تذكر مَالِكًا وَالله لَو كَانَ غَيْرك لفَعَلت بِهِ كَذَا يَعْنِي الْقَتْل وهجره. فاتفق عَن قريب عزل أبي الْبَقَاء فطار الْبُرْهَان كل مطار وعدى هُوَ وَأَصْحَابه ذَلِك من كرامات الإِمَام رَحمَه الله. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامنه: كَانَت الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بدار الْعدْل من القلعة وَحضر قُضَاة الْقُضَاة على الْعَادة ثمَّ انْقَضتْ الْخدمَة فَمضى الْقُضَاة على عَادَتهم وجلسوا بالجامع من القلعة إِذْ أَتَاهُم رجل من عِنْد السُّلْطَان وَأسر إِلَى أبي الْبَقَاء ثمَّ الْتفت إِلَى بَقِيَّة الْقُضَاة وبلغهم عَن السُّلْطَان أَنه قد عزل أَبَا الْبَقَاء وَأمره أَن يلْزم بَيته فَانْفَضُّوا على ذَلِك وَخرج الْبَرِيد بِطَلَب خطيب الْقُدس برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحِيم بن جمَاعَة فَقدم فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة وَدخل على السُّلْطَان فَبَالغ فِي إكرامه وخلع عَلَيْهِ وولاه قَضَاء الْقُضَاة عوضا عَن أبي الْبَقَاء فَنزل وَبَين يَدَيْهِ حاجبين من حجاب السُّلْطَان. وَلم يتَقَدَّم لأحد من الْقُضَاة قبله أَن تركب مَعَه الْأُمَرَاء وَركب مَعَه أَيْضا الْأَعْيَان فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَكَانَت مُدَّة عطلة النَّاس من ولَايَة قَاضِي الْقُضَاة سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا وَقد وَقع مثل ذَلِك فِي الْأَيَّام الناصرية مُحَمَّد بن قلاوون تعطلت الْقَاهِرَة من بعض قُضَاة الْقُضَاة بسبعة وَعشْرين يَوْمًا. وَوَقع نَظِير ذَلِك فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَثَمَانمِائَة فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة خشقدم - يبْقى الله عَهده - عِنْد عَزله قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين أَبُو السعادات مُحَمَّد بن تَاج الدّين البُلْقِينِيّ الْكِنَانِي الشَّافِعِي وَطلب السُّلْطَان الشَّيْخ أبي يحيى زَكَرِيَّا السُّبْكِيّ الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي ليوليه وَظِيفَة الْقَضَاء فاختفي عِنْد طلبه وشغر منصب الْقَضَاء سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ ظهر بعد ذَلِك وَطلب إِلَى عِنْد السُّلْطَان هُوَ وَالشَّيْخ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن إِمَام الكاملية وَعرض عَلَيْهِمَا وَظِيفَة الْقَضَاء وسألهما السُّلْطَان فِي ذَلِك فأصرا على عدم الدُّخُول فِي ذَلِك وسعى جمَاعَة فَلم يجابوا إِلَى شَيْء فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان الشَّيْخ(4/346)
أَمِين الدّين يحيى بن الأقصري الْحَنَفِيّ فِيمَن يوليه فَأَشَارَ بِولَايَة الشَّيْخ ولي الدّين أبي الْفضل أَحْمد بن أَحْمد السُّيُوطِيّ الشَّافِعِي أحد خلفاء الحكم الْعَزِيز وَذكر الشَّيْخ أَمِين الْمَذْكُور أَنه أصلح الْمَوْجُودين فَطلب ولي الدّين الْمَذْكُور وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي وَظِيفَة الْقَضَاء وَسَار سيرة حَسَنَة بالسبة إِلَى مستنيبه القَاضِي الْمُنْفَصِل وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر شهر رَجَب: دَار محمل الْحَاج على الْعَادة فِي كل سنة فاستدعى صدر الدّين مُحَمَّد بن جمال الدّين عبد الله بن عَلَاء الدّين عَليّ التركماني قَاضِي الْعَسْكَر وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة عوضا عَن السراج عمر الْهِنْدِيّ. وَنزل والمحمل والقضاة وَغَيرهم وقُوف بالرميلة تَحت القلعة كَمَا هِيَ الْعَادة فَوقف مَعَهم ثمَّ مضى فِي موكب الْمحمل حَتَّى انْقَضى دورانه فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرَة: خلع على الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الصَّائِغ الْحَنَفِيّ وَاسْتقر قَاضِي الْعَسْكَر عوضا عَن صدر الدّين مُحَمَّد التركماني وأضيف إِلَيْهِ أَيْضا تدريس الْحَنَفِيَّة بالجامع الطولوني عوضا عَن السراج الْهِنْدِيّ وَاسْتقر جلال الدّين جَار الله فِي تدريس الْحَنَفِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية عوضا عَن حميه السراج الْهِنْدِيّ. وَفِي شعْبَان: على الشَّيْخ سراج الدّين عمر البُلْقِينِيّ وَاسْتقر فِي قَضَاء الْعَسْكَر عوضا عَن الشَّيْخ بهاء الدّين أَحْمد بن السُّبْكِيّ بعد مَوته وَاسْتقر فِي تدريس الْمدرسَة الناصرية بجوار قبَّة الإِمَام الشَّافِعِي - رَحمَه الله - من القرافة وتدريس الشَّافِعِيَّة(4/347)
بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية بَين القصرين من الْقَاهِرَة قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أَبُو الْبَقَاء. وَاسْتقر فِي إِفْتَاء دَار الْعدْل كَمَال الدّين أَبُو البركات بن السُّبْكِيّ وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشره وَاسْتقر الشَّيْخ ضِيَاء الدّين عبيد الله بن سعد القرمي فِي تدريس الشَّافِعِيَّة بخانكاه شيخو وَحضر مَعَه الْقُضَاة والأعيان وعدة من الْأُمَرَاء مِنْهُم الْأَمِير الْكَبِير منكلى بغا الشمسي الأتابك والأمير أرغون اللالا والأمير تلكتمر الْفَقِيه أستادار السُّلْطَان والأمير أرغون شاه رَأس نوبَة والأمير طشتمر الدوادار فِي آخَرين وَمد سماط عَظِيم بالخانكاه فَكَانَ يَوْم مشهوداً ثمَّ انْفَضُّوا بعد مَا ألْقى الدَّرْس وأكلوا السماط. وَفِي هَذَا الشَّهْر: ألزم الْأَشْرَاف بِأَن يتميزوا بعلامة خضراء فِي عمائم الرِّجَال وأزر النِّسَاء فعملوا ذَلِك وَاسْتمرّ وَقَالَ: فِي ذَلِك الأديب شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن جَابر الأندلسي: جعلُوا لأبناء الرَّسُول عَلامَة إِن الْعَلامَة شَأْن من لم يشهر نور النُّبُوَّة فِي كريم وجوهم يُغني الشريف عَن الطّراز الْأَخْضَر وَقَالَ الأديب المنشىء زين الدّين طَاهِر بن حبيب الْحلَبِي: أَلا قل لمن يَبْغِي ظُهُور سيادة تَملكهَا الزهر الْكِرَام بَنو الزهرا وفيهَا اسْتَقر شهَاب الدّين أَحْمد بن الْعِمَاد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْمُسلم بن عَلان الْقَيْسِي فِي كِتَابَة السِّرّ بحلب بعد وَفَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن حسن بن تَمِيم. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان مِمَّن لَهُ ذكر الشَّيْخ بهاء الدّين أَبُو حَامِد أَحْمد بن تَقِيّ الدّين أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْكَافِي بن عَليّ بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام الْأنْصَارِيّ السبكى الشَّافِعِي بِمَكَّة لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع رَجَب. وَمَات الْأَمِير أيدمر الشيخي أحد أُمَرَاء الألوف ونائب حماة بعد مَا أَقَامَ بحلب. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة سراج الدّين عمر بن إِسْحَاق بن أَحْمد الغزنوي الْهِنْدِيّ(4/348)
الْحَنَفِيّ فِي لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع رَجَب اللَّيْلَة الَّتِي مَاتَ بهَا ابْن السُّبْكِيّ بِمَكَّة. وَمَات كَمَال الدّين أَبُو الْغَيْث مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الْمَعْرُوف بِابْن الصايغ الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي قَاضِي حمص عَن بضع وَأَرْبَعين سنة. وَمَات الأديب يحيى بن زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن يحيى بن الخباز العامري الحمري وَهُوَ من أَبنَاء الثَّمَانِينَ بِدِمَشْق. وَمَات الْفَقِير المعتقد عبد الله درويش فِي سَابِع عشر رَجَب. وَمَات الْأَمِير أسنبغا التَلَكسي أحد العشرات. وَمَات الأديب الشَّاعِر شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن شيحان الْمَعْرُوف بِابْن الْمجد الْبكْرِيّ التَّيْمِيّ الْقرشِي الْبَغْدَادِيّ فِي عَاشر شهر رَمَضَان. بمنية بني خصيب. وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.(4/349)
فارغة(4/350)
(سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة)
وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير قُرُطاى الكركي شاد العماير فِي كشف الْوَجْه القبلي وَاسْتقر شاد العماير عوضه أسنبغا البهادري وَاسْتقر مُحَمَّد بن قيران الحسامي فِي كشف الْوَجْه البحري عوضا عَن عُثْمَان الشرفي وَاسْتقر قطلوبغا الْعُزَّى أَمِير علم. وَاسْتقر قرابغا الأحمد أَمِير جاندار وَاسْتقر تمراز الطازي حاجباً صَغِيرا وَاسْتقر شهَاب الدّين أَحْمد بن شرف الدّين مُوسَى بن فياض بن عبد الْعَزِيز بن فياض الْمَقْدِسِي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَابِلَة بحلب عوضا عَن أَبِيه برغبته لَهُ وَاسْتقر شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن مهَاجر فِي كِتَابَة السِّرّ بحلب عوضا عَن ابْن عَلان بعد وَفَاته. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الأزكشي فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن طيدَمُر البالسي. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ جُمَادَى الأولى: ضرب الْبُرْهَان الأخناي قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة عنق رجل لوُقُوعه فِيمَا أوجب ذَلِك. وَفِي عشرينه: تقدم الْأَمِير الْكَبِير ألجاي اليوسفي بألا يجلس فِي كل حَانُوت من حوانيت الشُّهُود سوى أَرْبَعَة وَأمر قُضَاة الْقُضَاة أَلا يجلس كل قَاض من الشُّهُود إِلَّا من كَانَ على مذْهبه فانحصر الشُّهُود من ذَلِك ثمَّ تنجزوا مرسوم السُّلْطَان بإعادتهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَبَطل ذَلِك. وَفِي يَوْم الْأَحَد أول جُمَادَى الْآخِرَة: قدم قَود الْأَمِير منجك نَائِب الشَّام وَفِيه أسدان وضبع وإبل وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ كَلْبا سلوقياً وَأَرْبَعُونَ فرسا وَخَمْسُونَ بقجة قماش وقطاران بخاتى بقماشها الفاخر وَأَرْبَعَة قطّ بخاتى بقماش دون قماش القطارين الْأَوَّلين وَخمْس جمال بخاتى لكل وَاحِد مِنْهَا سنامان وقماشها من حَرِير وَسِتَّة قطر جمال عراب بقماشها وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ هجيناً وَثَلَاثَة قباقيب نساوية من ذهب فِيهَا(4/351)
اثْنَان مرصعان بالجوهر قيمتهَا مائَة وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم عَنْهَا نَحْو ثَمَانِيَة آلَاف مِثْقَال من الذَّهَب وعدة قنادير من حَرِير مزركش بتراكيب مرصعة من الْجَوْهَر من ملابس النِّسَاء وعدة كنابيش زركش وعرقيات زركش برسم الْخَيل وعدة عبي من حَرِير وَكثير من أحمال الحلاوات والفواكه والأشربة والنخللات فَاسْتَكْثر ذَلِك. وَفِيه أنعم على الْأَمِير منكلى بغا الإحمدي بتقدمة ألف وعَلى سُلْطَان شاه بإمرة طبلخاناه وَاسْتقر الْأَمِير يلبغا الناصري الخازندار شاد الشَّرَاب خاناه عوضا عَن منكلى بغا الأحمدي وَاسْتقر تلكتَمُر خازندار. وَفِي ثَانِيه: عرضت مماليك الْأَمِير الْكَبِير الأتابك منكلى بُغا الشمسي على السُّلْطَان بعد مَوته وهم مِائَتَان وَوَاحِد فجعلهم فِي خدمَة وَلَده أَمِير عَليّ. وَفِيه ورد قَود الْأَمِير أَشقتمر المارديني نَائِب طرابلس وَهُوَ خَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسا وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ بقجة قماش وَلكُل من وَلَدي السُّلْطَان - أَمِير عَليّ وأمير حاجي - أَرْبَعَة أَفراس وَأَرْبع بقج فأنعم عَلَيْهِ بنيابة حلب عوضا عَن الْأَمِير عز الدّين أزدَمُر الدوادار وَنقل أيدمر إِلَى نِيَابَة طرابلس وَاسْتقر الْأَمِير ألجاي اليوسفي أتابك العساكر وناظر المارستان عوضا عَن الْأَمِير منكلى بغا الشمسي فَسَأَلَ قَاضِي الْقُضَاة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن جمَاعَة فِي التحدث عَنهُ فِي نظر المارستان فَلم يقبل فولى الصاحب كريم الدّين شَاكر بن إِبْرَاهِيم بن غَنَّام فِي نِيَابَة النّظر عَنهُ بالمارستان كل ذَلِك وَالسُّلْطَان بسرحة الْبحيرَة على عَادَته فِي كل سنة. فَلَمَّا قدم السُّلْطَان من السرحة وَقع فِي لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشرينه بالدور السُّلْطَانِيَّة من قلعة الْجَبَل حريق عَظِيم تَمَادى عدَّة أَيَّام وَالْخَلَائِق فِي إطفائه حَتَّى قيل إِنَّه صَاعِقَة سَمَاوِيَّة وضاق وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء أول شهر رَجَب: عرض الشريف فَخر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن - نقيب الْأَشْرَاف - عَامَّة الْأَشْرَاف لتحدث الشريفي بدر الدّين حسن بن النسابة بِأَن النَّقِيب أَدخل فِي الْأَشْرَاف من لَيْسَ بشريف ثَابت النّسَب وقدح فِيهِ بِسَبَب ذَلِك فرسم على النسابة حَتَّى يثبت مَا رمى بِهِ النَّقِيب.(4/352)
وَفِي ثالثه: اسْتَقر الْأَمِير كَجَك أَمِير سلَاح عوضا عَن الْأَمِير ألجاي اليوسفي. وَفِيه خلع مَا استجده السُّلْطَان عِنْد قدومه كل سنة من سرحة البحرة من الْخلْع على الْأُمَرَاء الألوف وهى أقبية حَرِير بِفَرْوٍ سمور وأطواق سمور بزركش وعَلى أُمَرَاء الطبلخاناه والعشرات أقبية حَرِير بطرز زركش مِنْهَا مَا تَحْتَهُ فرو قاقم وَمِنْهَا مَا فروه سنجاب. واستجد فِي هَذِه السّنة خلعة للأمير سَابق الدّين مقدم المماليك وَهِي قبَاء حَرِير أَزْرَق بطرز زركش عريض فَخلع عَلَيْهِ ذَلِك وَلم يتَقَدَّم قبله لأحد من مقدمي المماليك مثل هَذَا. وَاسْتقر الْأَمِير أَحْمد بن جميل فِي ولَايَة الغربية والأمير علم دَار المحمدي فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن مُوسَى بن أرقطاى. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي شعْبَان: اسْتَقر الْأَمِير صَلَاح الدّين خَلِيل بن عرام فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن شرف الدّين مُوسَى بن الأزكشي. وَفِي هَذَا الشَّهْر: قصد الْأَمِير ألجاي أَن يجدد بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية بَين القصرين من الْقَاهِرَة منبراً ويقرر بهَا خطباً لتقام بهَا الْجُمُعَة فأفتاه سراج الدّين عمر البُلْقِينِيّ من الشَّافِعِيَّة وشمس الدّين مُحَمَّد بن الصايغ من الْحَنَفِيَّة بِجَوَاز ذَلِك وَأنْكرهُ من عداهما من الْفُقَهَاء لقرب الْمدرسَة الصالحية - وَبهَا خطة للْجُمُعَة - بِحَيْثُ يرى من المنصورية مِنْبَر الصالحية وَكثر الْكَلَام فِي ذَلِك فعقد مجْلِس فِي يَوْم السبت سادس عشرينه اجْتمع فِيهِ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية لهَذَا فَجرى بَينهم نزاع طَوِيل آل أمره إِلَى الْمَنْع من تَجْدِيد الخطة وانفضوا على أحن فِي نفوس من أفتى بِالْجَوَازِ على من منع فِي الْجَوَاز.(4/353)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر شَوَّال: خلع على الشريف عَاصِم وَاسْتقر نقيب الْأَشْرَاف عوضا عَن السَّيِّد فَخر الدّين لما رمى بِهِ من أَخذ الرِّشْوَة على إِدْخَال من لَيْسَ بِثَابِت النّسَب فِي جملَة الْأَشْرَاف وَذَلِكَ بعناية الْأَمِير الْكَبِير ألجاي بعاصم. وَفِي الثُّلَاثَاء سادس عشر ذِي الْقعدَة: ركب السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل إِلَى رِبَاط الْآثَار النَّبَوِيَّة خَارج مَدِينَة مصر للزيارة ثمَّ توجه لعيادة أمه بالروضة فَأَقَامَ عِنْدهَا على شاطىء النّيل حَتَّى عَاد إِلَى القلعة فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشره. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير أرغون الْعُزَّى شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن شرف الدّين مُوسَى بن الديناري وَاسْتقر أَبُو بكر القرماني فِي ولَايَة الغربية عوضا عَن أَحْمد بن جميل وَاسْتقر فَخر الدّين عُثْمَان الشرفي وَالِي الجيزة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشْرين ذِي الْحجَّة: أُعِيد الشريف فَخر الدّين إِلَى نقابة الْأَشْرَاف وعزل الشريف عَاصِم الْحُسَيْنِي وَاسْتقر الصاحب كريم الدّين شَاكر بن إِبْرَاهِيم بن غَنَّام فِي الوزارة عوضا عَن فَخر الدّين ماجد بن مُوسَى بن أبي شَاكر وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر علم الدّين عبد الله بن الصاحب كريم الدّين شَاكر بن غَنَّام فِي نظر الْبيُوت عوضا عَن أَبِيه. وَفِي ثَالِث عشرينه: خلع على الْوَزير كريم الدّين بن الرويهب وَاسْتقر فِي نظر الدولة فرسم لَهُ الصاحب كريم الدّين بن غَنَّام أَن يجلس مُقَابِله بشباك قاعة الصاحب من القلعة إجلالاً لَهُ فَإِنَّهُ جلس بالشباك الْمَذْكُور وَهُوَ وَزِير فصارا يجلسان مَعًا بِهِ. وَفِيه خلع على جمال الدّين عبد الرَّحِيم بن الْوراق الْحَنَفِيّ مؤدب وَلَدي السُّلْطَان وَاسْتقر فِي نظر الخزانة الْكُبْرَى وخلع على تَاج الدّين النشو الْمَالِكِي وَاسْتقر فِي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة.(4/354)
وَفِي سَابِع عشرينه: أخرج الْأَمِير مُحَمَّد بن أياز الدواداري نقيب الْجَيْش منفياً إِلَى الشَّام. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان وَتُوفِّي كَاتب السِّرّ بحلب شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْمُسلم بن عَلَاء القبيسي. وَتُوفِّي من فُقَهَاء الْحَنَابِلَة بِالْقَاهِرَةِ الشهَاب أَحْمد العباسي سبط فتح الدّين القلانسي الْمُحدث فِي حادي عشْرين جُمَادَى الأولى. وَمَات من فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة الشهَاب أَحْمد بن عبد الْوَارِث الْبكْرِيّ فِي سَابِع عشْرين رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير أرغون ططر الناصري رَأس نوبَة بعد مَا نفي بحماة فِي الْمحرم. وَتُوفِّي خطيب حلب شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن جُمُعَة بن أبي بكر الْأنْصَارِيّ الْحلَبِي الْفَقِيه الشَّافِعِي عَن سِتّ وَسبعين سنة بحلب وَله رحْلَة إِلَى الْقَاهِرَة. وَتُوفِّي الشَّيْخ عماد الدّين أَبُو الفدا إِسْمَاعِيل بن الْخَطِيب شهَاب الدّين عمر بن كثير بن ضو بن كثير الْقرشِي الشَّافِعِي الإِمَام الْمُفَسّر الْمُحدث الْوَاعِظ الْفَقِيه فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشر شعْبَان بِدِمَشْق عَن أَربع وَسبعين سنة. وَتُوفِّي بدر الدّين حسن بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْكَرِيم بن أبي طَالب بن عَليّ مُسْتَوْفِي ديوَان الْجَيْش يُقَال إِنَّه من لخم فِي يَوْم الْعشْرين من جُمَادَى الأولى. كَانَت لَهُ مُرُوءَة غزيرة وَمَكَارِم مَشْهُورَة. وَتُوفِّي الشَّيْخ ولي الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الملوي الدمياجي الشَّافِعِي ذُو الْفُنُون بِالْقَاهِرَةِ فِي لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشْرين ربيع الأول عَن بضع وَسِتِّينَ سنة وحزر الْجمع فِي جنَازَته بِثَلَاثِينَ ألف رجل.(4/355)
وَتُوفِّي الشَّيْخ الْعَارِف المُسَلك بهاء الدّين مُحَمَّد الكازروني فِي لَيْلَة الْأَحَد خَامِس ذِي الْحَج بزاويته الَّتِي يُقَال لَهَا المشتهي بالروضة أَخذ عَن أَحْمد الحويري خَادِم ياقوت الحبشي خَادِم أبي الْعَبَّاس المرسي عَن الشَّيْخ أبي الْحسن الشاذلي وَصَحبه زَمَانا. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن الْجمال رَافع بن هجرس بن مُحَمَّد بن شَافِع السلَامِي الْمصْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُحدث عَن سبعين سنة بِدِمَشْق يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات الأديب البارع الْفَقِيه شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن رضوَان الْموصِلِي بطرابلس فِي جُمَادَى الْآخِرَة عَن خمس وَسبعين سنة. وَتُوفِّي نَاظر الْجَيْش بحلب بدر الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان الْحلَبِي بهَا عَن خمس وَسبعين سنة. وَمَات الْأَمِير منكلى بغا الشمسي الأتابك فِي جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير مُوسَى بن الْأَمِير أرقطاي نَائِب صفد. وَمَات الشَّيْخ يحيى بن الرهوني الْمَالِكِي فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث ذِي الْقعدَة. وَمَات الْفَقِيه المعتقد عبد الله بن عمر بن سُلَيْمَان المغربي الْمَعْرُوف بالسبطير بالجامع الْأَزْهَر فِي ثَانِي عشْرين صفر. وَمَات نَاصِر الدّين مُحَمَّد الزفتاوي الْمَعْرُوف بسباسب رَئِيس المؤذنين وَقد اخْتصَّ بالسلطان فِي عَاشر شهر وَجب. وَتوفيت خوند بركَة أم السُّلْطَان فِي يَوْم الثُّلَاثَاء آخر ذِي الْقعدَة وَهِي الَّتِي بنت(4/356)
الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بمدرسة أم السُّلْطَان بِخَط التبانة قَرِيبا من قلعة الْجَبَل وَبنت الرّبع الْمَعْرُوف بِربع أم السُّلْطَان وقيسارية الْجُلُود الَّتِي تَحت الرّبع الْمَذْكُور بِخَط الرُّكْن المخلق وَكَانَا فِي جملَة أوقاف مدرستها هَذِه حَتَّى أخذهما الْأَمِير جمال الدّين يُوسُف الأستادار فِيمَا أَخذ من الْأَوْقَاف والأملاك وهما الْآن وقف على مدرسته الَّتِي أَنشأها بِخَط رحبة بَاب الْعِيد وَمن غَرِيب الِاتِّفَاق أَن الأديب شهَاب الدّين أَحْمد السَّعْدِيّ قَالَ فِي مَوتهَا: فِي مستهل الْعشْر من ذِي الْحَج - ة كَانَت صَبِيحَة موت أم الْأَشْرَف فَالله يرحمها ويعظم أجره يكون عاشورا موت اليوسفي يعْنى الْأَمِير ألجاي اليوسفي زَوجهَا فَكَانَ كَذَلِك وَمَات يَوْم عَاشُورَاء كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. أَنْشدني الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورين صاحبنا صارم الدّين إِبْرَاهِيم ابْن دقماق قَالَ: أنشدنيهما وَمَات ملك الْمغرب صَاحب فاس عبد الْعَزِيز بن السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وأقيم بعده ابْنه السعيد مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز أبي الْحسن.(4/357)
فارغه(4/358)
سنة خمس وَسبعين وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: خلع على الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن كَلَفت وَاسْتقر حاجباً. وَكَانَت عَادَة الْأَمِير ألجاي أَنه يسكن الْغَوْر من القلعة وَيدخل إِلَى الأشرفية فِي كل يَوْم اثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس وَإِلَيْهِ أُمُور الدولة كلهَا فَلَمَّا مَاتَت زَوجته خوند بركَة أم السُّلْطَان انحطت مَنْزِلَته وتنكر مَا بَينه وَبَين السُّلْطَان بِسَبَب تركتهَا وبلغه عَن السُّلْطَان مَا يكره فَامْتنعَ فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سادسه من الطُّلُوع للمبيت بالقلعة على عَادَته وَاعْتذر للسُّلْطَان عَن ذَلِك وَأخذ فِي الاستعداد للحرب وَفرق السِّلَاح فِي مماليكه فألبس السُّلْطَان أَيْضا مماليكه وَأمر بدق الكوسات حَرْبِيّا فدقت بعد الْعشَاء من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فَركب الْأُمَرَاء بِالسِّلَاحِ إِلَى القلعة وَبَاتُوا مَعَ السُّلْطَان على حذر حَتَّى طلع نَهَار يَوْم الْأَرْبَعَاء برز الْأَمِير ألجاي من إصطبله فِي جمع موفور من مماليكه وَأَتْبَاعه شاكين فِي السِّلَاح حَتَّى وقفُوا تَحت القلعة وَبعث ليمنع الْأُمَرَاء أَن يخرجُوا من بُيُوتهم فَنزلت إِلَيْهِ المماليك السُّلْطَانِيَّة من بَاب السلسلة وَقد لقيتهم أطلاب الْأُمَرَاء واقتتلوا مَعَ ألجاي قتالاً شَدِيدا كَانَت فِيهِ إِحْدَى عشرَة وقْعَة قتل فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ وجرح كثير مِنْهُم فَانْهَزَمَ ألجاي يُرِيد جِهَة الصليبة فَلَقِيَهُ طلب الْأَمِير طَشْتَمُر الدوادار وَمَال مَعَه عدَّة أطلاب على ألجاي فَمر على وَجهه نَحْو بَاب القرافة والطلب فِي أَثَره حَتَّى أَتَى بركَة الْحَبَش وَمر على الْجَبَل المقطم حَتَّى خرج من جَانب الْجَبَل الْأَحْمَر خَارج الْقَاهِرَة وَنزل قَرِيبا من قبَّة النَّصْر وَقد ضرب لَهُ مخيماه وَاجْتمعَ عَلَيْهِ عدَّة من أَصْحَابه وَبَات لَيْلَة الْخَمِيس فَبعث السُّلْطَان يرغبه فِي الطَّاعَة فَذكر أَنه مَمْلُوك السُّلْطَان وَلم يخرج عَن طَاعَته وَإِنَّمَا يُرِيد بعض الْأُمَرَاء الخاصكية أَن يسلمهم إِلَيْهِ أَو يبرزوا لمحاربته فَمن انتصر كَانَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَمُوت إِلَّا على ظهر فرسه فَبعث إِلَيْهِ ثَانِيًا يخوفه عَاقِبَة الْبَغي ويعرض عَلَيْهِ أَن يتَخَيَّر من الْبِلَاد الشامية مَا شَاءَ فَلم يُوَافق وترددت الرُّسُل بَينهمَا مرَارًا وَبعث إِلَيْهِ بتشريف نِيَابَة حماة فَقَالَ: لَا أتوجه لذَلِك إِلَّا وَمَعِي جَمِيع مماليكي وقماشي وكل مَا أملكهُ. فَلم يرض السُّلْطَان بذلك واستدعى بالأمير عز الدّين أَيْنَبَك - وَكَانَ فِي جملَة ألجاي - فَأَتَاهُ طايعاً وَالْتزم أَن(4/359)
يستميل من مَعَ ألجاي من اليلبغاوية وهم مائَة مَمْلُوك فوعده السُّلْطَان بإمرة طبلخاناه وَانْصَرف إِلَى تربة أستاذه الْأَمِير يلبغا واختفى بهَا بَقِيَّة نَهَاره فَلَمَّا أقبل اللَّيْل بعث غُلَامه إِلَى اليلبغاوية فَمَا زَالَ بهم حَتَّى أَتَوْهُ زمراً زمراً إِلَى التربة فَصَعدَ بهم جَمِيعًا إِلَى السُّلْطَان فرتبهم فِي خدمَة وَلَده أَمِير عَليّ وتبعهم أَكثر من كَانَ مَعَ ألجاي من الْأُمَرَاء والمماليك بِحَيْثُ لم يطلع الْفجْر إِلَّا وَمَعَهُ دون الْخَمْسمِائَةِ فَارس. فتوج إِلَى قِتَاله الْأَمِير أرغون شاه فِي عدَّة وافرة وخلائق من الْعَامَّة. وَمضى أَيْضا الْأَمِير منكلى بغا الْبَلَدِي من طَرِيق أُخْرَى فِي جمع موفور وَكثير من الْعَامَّة. وَسَار الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شرف الدّين وَمَعَهُ طَائِفَة من الْمُقَاتلَة وَطَوَائِف من أهل الحسينية وَغَيرهم من طَرِيق ثَالِثَة فعندما رأى أُلجاى أَوَائِل الْقَوْم تَأَخّر عَن مَوْضِعه قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى صَار الْأَمِير أرغون فِي مَكَانَهُ من قبَّة النَّصْر وانضم إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وَمن مَعَهم وَبعث طَائِفَة مِنْهُم فَلَقِيت ألجاي وقاتلته فانكسر مِنْهُم وَأخذ فِي الْفِرَار فَركب الْقَوْم قَفاهُ وَقد تَأَخّر عَنهُ من بَقِي مَعَه حَتَّى وصل إِلَى الخرقانية من القليوبية فِي ثَلَاثَة فرسَان وَابْن شرف الدّين فِي طلبه فَوقف على شاطئ النّيل ظَاهر قليوب واقتحمه بفرسه فغرقا فِي النّيل واستدعى ابْن شرف الدّين بالغطاسين فأخرجوه ووضعوه على بر نَاحيَة شبْرًا وَحَمَلُوهُ فِي تَابُوت إِلَى الْقَاهِرَة فِي بكرَة يَوْم الْجُمُعَة يَوْم تاسوعاء فَدفن بمدرسته من سويقة الْعُزَّى قَرِيبا من القلعة وَكَانَ الْأَمِير أرغون قد عَاد لما انهزم ألجاي وغرق وَعرف السُّلْطَان فَصَعدَ إِلَى القلعة وَبقيت العساكر واقفة تَحت القلعة يَوْم الْخَمِيس. وَقبض السُّلْطَان على الْأَمِير طقتمر الحسني والأمير صراي العلاى وسلطان شاه بن قرا الْحَاجِب ونفاهم. وَقبض على الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن كلفت وألزمه بِحمْل مَال وَقبض على الْأَمِير بيبغا القوصوني والأمير خَلِيل بن أقماري ثمَّ أفرج عَنْهُمَا بشفاعة الْأَمِير طشتمر الدوادار. وَفِيه نُودي من وجد مَمْلُوكا من الألجيهية وأحضره فَلهُ خلعة وحذر من أخفاهم فَظهر السُّلْطَان مِنْهُم بعدة.(4/360)
فَلَمَّا دفن ألجاي نزع الْأُمَرَاء سِلَاحهمْ وهنأوا السُّلْطَان بسلامته وظفره بعدوه وَنُودِيَ بالأمان وَكتب إِلَى الأقطار بِخَير هَذِه الْوَاقِعَة. وَفِيه خرج على الْبَرِيد الْأَمِير بوري الأحمدي الخازن دَار لإحضار الْأَمِير أيدمر الدوادار. وَفِي يَوْم السبت عاشره: خلع على الْأَمِير يَعْقُوب شاه وَاسْتقر نَائِب طرابلس عوضا عَن الْأَمِير أيدمر. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشره: اسْتَقر الْأَمِير أرغون شاه أَمِيرا كَبِيرا ورسم لَهُ أَن يجلس بالإيوان فِي وَقت الْخدمَة وَاسْتقر الْأَمِير صرغتمش الأشرفي أَمِير سلَاح ورسم لَهُ أَيْضا أَن يجلس وَقت الْخدمَة وَاسْتقر الْأَمِير أرغون الأحمدي اللالا أَمِيرا كَبِيرا أَيْضا ورسم لَهُ أَن يجلس وَقت الْخدمَة بِجَانِب الْأَمِير أيدمر الشمسي وَاسْتقر الْأَمِير قطلوبغا الشَّعْبَانِي رَأس نوبَة ثَانِيًا وأنعم عَلَيْهِ بإمرة مائَة بتقدمة ألف وَاسْتقر الطواشي مُخْتَار الحسامي مقدم الرفرف فِي تقدمة المماليك عوضا عَن سَابق الدّين مِثْقَال الأنوكي وَأمر سَابق الدّين أَن يلْزم بَيته وَاسْتقر الْأَمِير أيدمر من صديق رَأس نوبَة رَابِعا وخلع على الْجَمِيع واستدعى بأولاد ألجاي وأسكنا بالقلعة ورتب لَهُم كفايتهم وَوَقعت الحوطة على جَمِيع مخلف ألجاي فَكَانَ شَيْئا كثيرا ورتبت مماليكه فِي خدمَة وَلَدي السُّلْطَان وَقبض على مُحَمَّد شاه دوادار ألجاي وعَلى أقبغا البجمقدار خَازِن دَاره وعَلى مباشري ديوانه وألزامه وألزموا بِمَال كَبِير فحملوا بعض مَا ألزموا بِهِ وخلى عَنْهُم. وَفِيه اسْتَقر كَجَك من أرْطَق شاه فِي نِيَابَة الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن ابْن عرام وَاسْتقر كَمَال الدّين الربغي فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن الْكَمَال بن التنسي وَاسْتقر الْأَمِير فَخر الدّين عُثْمَان الشرفي أستادار ابْن صبح فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن الْأَمِير بَكتَمُر السيفي وَقبض على بَكتَمُر وصودر وَاسْتقر الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الديناري فِي ولَايَة الجيزة عوضا عَن عُثْمَان الشرفي وخلع عَلَيْهِم. وَفِيه أنعم على كل من الْأَمِير أقتمر الصاحبي الْحَنْبَلِيّ والأمير تمر باي الحسني والأمير أَحْمد بن يلبغا وإينال اليوسفي وبلوط الصَرغَتْمُشي وَأحمد بن الْأَمِير بُهادر الجمالي وألجنبغا المحمدي وحاجي بك بن شادي والطواشي مُخْتَار الحسامي بإمرة طبلخاناة وعَلى كل من طشتمر الصَّالِحِي، وألطنبغا عبد الْملك بإمرة عشرَة.(4/361)
وَفِي ثَانِي عشرينه: اسْتَقر الْأَمِير قطلوبغا المنصوري فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن علمدار المحمدي وَاسْتقر الْأَمِير تلكتمر من بركَة حاجباً ثَانِيًا عوضا عَن المنصوري. وَفِي رَابِع صفر: قدم الْأَمِير أيدمر الدوادار من طرابلس فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر أتابك العساكر عوضا عَن ألجاي اليوسفي وَاسْتقر تمراز الطازي فِي نِيَابَة حمص عوضا عَن آقبغا عبد الله وأنعم على كل من آقبغا الْمَذْكُور - وَقد قدم من حمص - ويلبغا الناصري اليلبغاوي بإمرة طبلخاناة. وَفِي سَابِع عشره: اسْتَقر الْأَمِير أسنبغا البهادري نقيب. الْجَيْش وَاسْتقر عوضه فِي شدّ العماير قطلوبغا الكوكاي. وَفِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشرينه: خلع على الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ حَاجِب الْحجاب وَاسْتقر نايب السُّلْطَان. وَفِي هَذَا الشَّهْر: اجْتمع قَاضِي الْقُضَاة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن جمَاعَة وَالشَّيْخ سراج الدّين عمر البُلْقِينِيّ بالسلطان وعرفاه مَا فِي ضَمَان المغاني من الْمَفَاسِد والقبايح وَمَا فِي مكس القراريط من الْمَظَالِم - وَهُوَ مَا يُؤْخَذ من الدّور إِذا بِيعَتْ - فسمح بإبطالهما وَكتب بذلك مرسومين إِلَى الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري بعد مَا قرءا على مَنَابِر الْقَاهِرَة ومصر فَبَطل وَالْحَمْد لله ضَمَان وَفِي آخِره: نفي الْأَمِير صَلَاح الدّين خَلِيل بن عوام والأمير عَلَاء الدّين على بن كَلَفت وَمُحَمّد شاه - دوادار ألجاي - وأقبغا البجمدار فَسَارُوا إِلَى الشَّام وَنفي الْأَمِير بَكتمُر السيفي إِلَى طرسوس. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن الأزكشي فِي ولَايَة قوص وأضيف إِلَيْهِ الْكَشْف أَيْضا. وَفِي هَذِه السّنة: توقف مَاء النّيل عَن الزِّيَادَة فِي أوانها حَتَّى كَانَ النوروز وَلم يبلغ سِتَّة عشر ذِرَاعا وَتَأَخر مِنْهَا ثَمَانِيَة أَصَابِع فَنُوديَ فِي يَوْم النوروز - وَهُوَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع شهر ربيع الأول - بِزِيَادَة إِصْبَعَيْنِ وَنُودِيَ من الْغَد يَوْم الثُّلَاثَاء بِزِيَادَة إِصْبَعَيْنِ وَنُودِيَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء بِزِيَادَة إِصْبَعَيْنِ وَتَأَخر من ذِرَاع الْوَفَاء إصبعان فَلم يزدْ بعد ذَلِك شَيْئا ثمَّ نقص فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشره فقلق النَّاس لذَلِك وتزايد قلقهم إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشره خرج الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَغَيرهم إِلَى جَامع عَمْرو بِمصْر وضجوا(4/362)
بِالدُّعَاءِ إِلَى الله فِي إِجْرَاء النّيل ثمَّ فتح الخليج من أخر النَّهَار وَقد بَقِي من الْوَفَاء خَمْسَة أَصَابِع فهبط المَاء من يَوْمه وَلم يعد. وَفِي تَاسِع عشره: قدم الْأَمِير حيار بن مهنا فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي إمرة الْعَرَب على عَادَته وَلم يُؤَاخذ بِمَا كَانَ من قَتله الْأَمِير قشتمر وعفي عَنهُ. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عشرينه: خرج الْقُضَاة وَالنَّاس إِلَى رِبَاط الْآثَار النَّبَوِيَّة خَارج مَدِينَة مصر وغسلوها فِي النّيل بالمقياس وقرأوا هُنَاكَ الْقُرْآن الْكَرِيم وَتَضَرَّعُوا إِلَى الله تَعَالَى فِي إِجْرَاء النّيل ورد مَا نقص ثمَّ عَادوا فَنزل حَتَّى جَفتْ الخلجان من المَاء فارتفع السّعر وَبيع الإردب من الْقَمْح بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما سوى كلفه وشرهت الْأَنْفس وتكالب النَّاس على طلب الْقُوت وَغلب على النَّاس الْيَأْس فَنُوديَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشرينه فِي النَّاس بِالتَّوْبَةِ والإقلاع عَن الْمعاصِي وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فصَام من صَامَ الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء. وَخرج النَّاس فِي بكرَة يَوْم الْخَمِيس سادس عشرينه إِلَى قبَّة النَّصْر - خَارج الْقَاهِرَة - وهم حُفَاة بِثِيَاب مهنتهم وَمَعَهُمْ أطفالهم وَكتب مِمَّن خرج يَوْمئِذٍ وَقد نصب هُنَاكَ مِنْبَر وَنزل الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ النَّائِب فِي عدَّة من الْأُمَرَاء فَخَطب ابْن القْسِطلاني خطيب جَامع عَمْرو خطْبَة الاسْتِسْقَاء وَصلى صَلَاة الاسْتِسْقَاء وكشف رَأسه عِنْد الدُّعَاء وحول رِدَاءَهُ فكشف النَّاس جَمِيعًا رؤوسهم وضجوا بِالدُّعَاءِ إِلَى الله تَعَالَى وَارْتَفَعت أَصْوَاتهم بالاستغاثة وهملت أَعينهم بالبكاء فَكَانَ مشهداً عَظِيما فَلم يسقوا وعادوا خائبين فعز وجود الغلال. وَفِيه تجمعت الْعَامَّة تَحت القلعة وسألوا عزل ابْن عرب عَن الْحِسْبَة وَكَانُوا قد توعدوه فاختفى وَلم يركب فِي هَذَا الْيَوْم وَلَا خرج إِلَى الاسْتِسْقَاء. وَفِيه نفي كريم الدّين عبد الْكَرِيم بن الرويهب نَاظر الدولة إِلَى طرابلس وَاسْتقر فِي نظر الدولة عوضه تَاج الدّين النشو الْمَالِكِي وَاسْتقر الطواشي سَابق الدّين مِثْقَال الأنوكي فِي تقدمة المماليك على عَادَته وأعيد مُخْتَار كَمَا كَانَ مقدم الرفوف وخلع على الْجَمِيع. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر شهر ربيع الآخر اسْتَقر الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن الْأَمِير الْحَاج آل ملك فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن طشبغا المظفري وأنعم على كل من الْأَمِير الطازي والأمير سودُن جركس المنجكي بإمرة مائَة وارتجع عَن طينال المارديني تقدمته وَعوض إمرة طبلخاناه وأنعم على الْأَمِير جركتمر الخاصكي بطبلخاناه.(4/363)
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشره: خلع على بهاء الدّين مُحَمَّد بن الْمُفَسّر وَاسْتقر فِي حسبَة الْقَاهِرَة عوضا عَن علاى الدّين عَليّ بن عرب باستعفائه مِنْهَا. وَفِي لَيْلَة السبت ثَانِي عشره: أرعدت السَّمَاء وأبرقت وسحت بأمطار غزيرة عَمت كثيرا من أَرَاضِي مصر بِحَيْثُ زرع بَعْضهَا لريها من هَذِه المطرة البرسيم فسر النَّاس بذلك وانحل سعر الْقَمْح خَمْسَة دَرَاهِم الأردب وَكَانَ قد بلغ أَرْبَعِينَ درهما. وَفِي آخِره. خلع على بهاء الدّين بن الْمُفَسّر محتسب الْقَاهِرَة وَاسْتقر فِي وكَالَة بَيت المَال وَنظر كسْوَة الْكَعْبَة عوضا عَن ابْن عرب مُضَافا إِلَى الْحِسْبَة وَأخذ سعر الغلال يرْتَفع. وَفِي خَامِس عشر جُمَادَى الأولى - وَهُوَ سَابِع هاتور -: زَاد النّيل اثْنَي عشر إصبعاً وَفِي الْغَد وَبعد الْغَد ثَمَانِيَة أَصَابِع ثمَّ نقص وَلم يعْهَد مثل ذَلِك. وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشرينه: ركب الْأَمِير منكلى بغا الْبَلَدِي إِلَى بَيت الْأَمِير أقتمر عبد الْغَنِيّ النَّائِب ليبلغه عَن السُّلْطَان رِسَالَة فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أَمر بإمساكه وَأخرجه من بَاب سر دَاره منفياً إِلَى الشَّام فانفض من كَانَ مَعَه من المماليك وَلم يَتَحَرَّك أحد مِنْهُم بحركة ثمَّ رسم لَهُ بنيابة مَدِينَة الكرك فَتوجه إِلَيْهَا. وَبلغ سعر الأردب الْقَمْح إِلَى خمسين درهما والأردب من الشّعير والفول إِلَى خَمْسَة وَعشْرين درهما والحملة الدَّقِيق - وَهِي ثَلَاثمِائَة رَطْل - إِلَى أَرْبَعَة وَثَمَانِينَ درهما. وَقدم الْأَمِير بَيْدَمُر وَمَعَهُ تقادم جليلة فَأكْرم وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس أول جُمَادَى الْآخِرَة وَاسْتقر فِي نِيَابَة حلب عوضا عَن الْأَمِير أشقتمر وَركب السُّلْطَان - وَهُوَ مَعَه - فَعدى النّيل إِلَى الجيزة وَهُوَ بتشريف النِّيَابَة ثمَّ عَاد وَتوجه إِلَى حلب وَاسْتقر الْأَمِير أشقتمر فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن قطلوبغا المنصوري وَاسْتقر المنصوري فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن الْأَمِير أَحْمد بن آل ملك وَاسْتقر ابْن آل ملك فِي نظر الْقُدس والخليل. وَفِي ثامنه: خلع على علاى الدّين على بن عرب وأعيد إِلَى وكَالَة بَيت المَال وَنظر الْكسْوَة وَفِي خَامِس عشره: خلع على الطواشي جَوْهَر الصلاحي - مقدم الْقصر - وَاسْتقر نَائِب مقدم المماليك عوضا عَن نحتار الدمنهوري وخلع على نحتار الْمَذْكُور وَيعرف بشاذروان وَاسْتقر مقدم مماليك وَلَدي السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِ بإمرة عشرَة.(4/364)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشرينه: خلع على تَاج الدّين النشو الْمَالِكِي وَاسْتقر فِي الوزارة عوضا عَن كريم الدّين شَاكر بن غَنَّام وخلع على ابْن غَنَّام وَاسْتقر فِي نظر الْبيُوت وَنظر المارستان وَنظر دَار الطّراز وأنعم على نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أقبغا آص بتقدمة ألف عوضا عَن منكلى بغا الْبَلَدِي وَاسْتقر أستادار السُّلْطَان وأنعم على الْأَمِير ألطبغا العثماني طَطَق بتقدمة ألف وَاسْتقر أَمِير سلَاح عوضا عَن طيدمر البالسي. وَفِيه قدم شرف الدّين حُسَيْن الفارقي وَزِير صَاحب الْيمن بكتابه وصحبته أَمِير آخوره نَاصِر الدّين مُحَمَّد ومعهما هَدِيَّة سنية. وخلع على الْأَمِير طُغَاى تَمُر دوادار الْأَمِير يلبغا وَاسْتقر دوادارا ثَانِيًا بإمرة طبلخاناه وخلع على الْأَمِير قرطاي الكركي وَاسْتقر فِي كشف الْوَجْه البحري عوضا عَن الْأَمِير آل ملك الصرغتمشي. وَفِيه شنقت الْمَرْأَة الخناقة وَزوجهَا جُمُعَة الخناق وَكَانَا فِي تربة من ترب الْقَاهِرَة فيدوران بِالْقَاهِرَةِ ومصر وظواهرهما ويأخذان من أَطْفَال النَّاس وَأَوْلَادهمْ من قدرُوا عَلَيْهِ ويخنقاه لأخذ مَا عَلَيْهِ من ثِيَاب الجميلة ففقد النَّاس عدَّة أَوْلَاد وَاشْتَدَّ حزنهمْ عَلَيْهِم وَكثر ذَلِك فِي النَّاس حَتَّى ذعروا مِنْهُ ففضح الله جُمُعَة هَذَا وَامْرَأَته وَقبض عَلَيْهِمَا وعوقبا وَأخذ مَا وجد عِنْدهمَا من على الْأَوْلَاد وثيابهم ثمَّ شنقا وَكَانَ يَوْمًا مَجْمُوع لَهُ النَّاس بِالْقَاهِرَةِ خَارج بَاب النَّصْر مِنْهَا. وَتقدم مرسوم السُّلْطَان بِإِقَامَة الْأَمِير جَاوَرْجي القوصوني والأمير أقبغا بن مصطفى والأمير أسنبغا القوصوني والأمير قرابغا الأحمدي والأمير نصرات أخي بكتمر الساقي فِي ثغر الْإسْكَنْدَريَّة فَسَارُوا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عشْرين شهر رَجَب: خلع على الْأَمِير قُطْلوبغا الكوكاي وَاسْتقر أستادارا عوضا عَن الْأَمِير نصرات وَاسْتقر الْأَمِير أسنبغا البهادري شاد العماير على عَادَته وَاسْتقر الْأَمِير آل ملك الصرغتمشي نقيب الْجَيْش وخلع على برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن بهاء الدّين بن الحِلىّ نَاظر بَيت المَال وَاسْتقر فِي نظر المارستان مُضَافا لما بِيَدِهِ. وَفِي سَابِع عشر شعْبَان: خلع على الْأَمِير أرغون الأحمدي اللالا وَاسْتقر نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة عوضا عَن الْأَمِير كَجَك وَاسْتقر كجك فِي نِيَابَة غَزَّة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشرينه: خلع على بهاء الدّين أبي الْبَقَاء وَاسْتقر فِي قَضَاء(4/365)