الْأَرْبَعَاء ثَانِيه. فَمَاتَ الصَّالح بكرَة يَوْم الْجُمُعَة رابعه من دوسنطاريا كبدية وتحدثت طَائِفَة بِأَن أَخَاهُ الْملك الْأَشْرَف خَلِيلًا سمه. فَحَضَرَ النَّاس للصَّلَاة عَلَيْهِ وَصلي عَلَيْهِ بالقلعة قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين ابْن بنت الْأَعَز إِمَامًا وَالسُّلْطَان خَلفه فِي بقيه الْأُمَرَاء وَالْملك الْأَشْرَف خَلِيل. ثمَّ حملت جنَازَته وَصلي عَلَيْهِ ثَانِيًا قَاضِي الْقُضَاة معز الدّين نعْمَان بن الْحسن بن يُوسُف الخطبي الْحَنَفِيّ خَارج القلعة وَدفن بتربة أمه قَرِيبا من المشهد النفيسي. وَترك الصَّالح ابْنا يُقَال لَهُ الْأَمِير مظفر الدّين مُوسَى من زَوجته منكبك ابْنة نوكاي. وَاشْتَدَّ حزن السُّلْطَان عَلَيْهِ وَجلسَ للعزاء فِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث يَوْم وَفَاته بالإيوان الْكَبِير. وأنشئت كتب وَفِي مُدَّة مرض الْملك الصَّالح جاد السُّلْطَان بِالْمَالِ وَأكْثر من الصَّدقَات واستدعى الْفُقَرَاء وَالصَّالِحِينَ ليدعوا لَهُ وَبعث إِلَى الشَّيْخ مُحَمَّد الْمرْجَانِي يَدعُوهُ فأبي أَن يجْتَمع بِهِ فَحل إِلَيْهِ مَعَ الطواشي مرشد خَمْسَة آلَاف دِرْهَم ليعْمَل بهَا وقتا للْفُقَرَاء حَتَّى يطلبوا ولد السُّلْطَان من الله تعالي فَقَالَ لَهُ: سلم على السُّلْطَان وَقل لَهُ مَتى رَأَيْت فَقِيرا يطْلب أحدا من الله فَإِن فرغ أَجله فَالله مَا يَنْفَعهُ أحد وَإِن كَانَت فِيهِ بَقِيَّة فَهُوَ يعِيش. ورد المَال فَلم يقبل مِنْهُ شَيْئا. وطلع الشَّيْخ عمر خَليفَة الشَّيْخ أبي السُّعُود إِلَى السُّلْطَان وَقد دَعَاهُ ليدعو للصالح فَقَالَ لَهُ: أَنْت رجل بخيل مَا يهون عَلَيْك شَيْء وَلَو خرجت للْفُقَرَاء عَن شَيْء لَهُ صُورَة لعملوا وقتا وتوسلوا إِلَى الله أَن يهبهم ولدك لَكَانَ يتعافى. فَأعْطَاهُ السُّلْطَان خَمْسَة آلَاف دِرْهَم عمل بهَا سَمَاعا ثمَّ عَاد إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ: طيب خاطرك الْفُقَرَاء كلهم سَأَلُوا الله ولدك وَقد وهبه لَهُم. فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى مَاتَ الصَّالح. فرأي السُّلْطَان فِي صبيحته الشَّيْخ عمر هَذَا فَقَالَ لَهُ: يَا شيخ عمر أَنْت قلت إِن الْفُقَرَاء طلبُوا وَلَدي من الله ووهبه لَهُم فَقَالَ على الْفَوْر: نعم الْفُقَرَاء طلبوه ووهبهم إِيَّاه أَلا يدْخل جَهَنَّم ويدخله الْجنَّة فَسكت السُّلْطَان. وَفِي حادي عشر شعْبَان: فوض السُّلْطَان ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل فَركب بشعار السلطنة من قلعة الْجَبَل إِلَى بَاب النَّصْر وَعبر إِلَى الْقَاهِرَة وَخرج من بَاب زويلة وَصعد إِلَى القلعة وَسَائِر الْأُمَرَاء وَغَيرهم فِي خدمته ودقت البشائر. وَحلف الْقُضَاة لَهُ جَمِيع الْعَسْكَر وخلع على سَائِر أهل الدولة وخطب لَهُ(2/207)
بِولَايَة الْعَهْد وَاسْتقر على قَاعِدَة أَخِيه الصَّالح على وَكتب بذلك إِلَى سَائِر الْبِلَاد وَكتب لَهُ تَقْلِيد فتوقف السُّلْطَان من الْكِتَابَة عَلَيْهِ. وَفِي ثَانِي شهر رَمَضَان: اسْتَقر فِي حسبَة دمشق شمس الدّين مُحَمَّد بن السلموس عوضا عَن ابْن السيرجي. وَفِي رَابِع شَوَّال: اسْتَقر بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة خَطِيبًا بالقدس عوضا عَن الشَّيْخ قطب الدّين عبد الْمُنعم بن يحيي بن إِبْرَاهِيم الْقرشِي الْقُدسِي بِحكم وَفَاته وَكَانَت ذَلِك بعناية الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري لصحبة بَينهمَا. وَاسْتقر فِي تدريس القيمرية بِدِمَشْق عوضا عَن ابْن جمَاعَة عَلَاء الدّين أَحْمد بن تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب ابْن بنت الْأَعَز فِي سَابِع عشره. وَفِي ذِي الْحجَّة: اسْتَقر علم الدّين سنجر المسروري فِي ولَايَة البهنسا وَولي مَعَه عز الدّين مِقْدَام نظرها وَاسْتقر قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين الزواوي فِي قَضَاء الملكية بِدِمَشْق. وَفِي هَذِه السّنة: ورد كتاب نَائِب الشَّام بِأَن الفرنج بطرابلس نقضوا الْهُدْنَة وَأخذُوا جمَاعَة من التُّجَّار وَغَيرهم وَصَارَ بِأَيْدِيهِم عدَّة أسرِي. وَكَانُوا لما ملك السُّلْطَان قلعة المرقب قد بعثوا إِلَيْهِ هَدِيَّة وصالحوه على أَلا يتْركُوا عِنْدهم أَسِيرًا وَلَا يتَعَرَّضُوا لتاجر وَلَا يقطعوا الطَّرِيق على مُسَافر فتجهز المسلطان لأخذ طرابلس. وفيهَا قدم الشريف جماز بن شيحة من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَملك مَكَّة فجَاء الشريف أَبُو نمي فِي آخر السّنة وملكها مِنْهُ. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْملك الصَّالح على ابْن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون وَقد أناف على الثَّلَاثِينَ فِي رَابِع شعْبَان.(2/208)
وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن معضاد بن شَدَّاد بن ماجد الجعبري الشَّافِعِي عَن سبع وَثَمَانِينَ سنة بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي الْمجد أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن خَالِد بن حمدون الهذباني الْحَمَوِيّ الزَّاهِد الْمُحدث عَن ثَمَانِينَ سنة بحلب قدم الْقَاهِرَة. وَتُوفِّي خطيب الْقُدس قطب الدّين أَبُو الذكاء عبد الْمُنعم بن يحيي بن إِبْرَاهِيم بن على بن جَعْفَر وَتُوفِّي الْبُرْهَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد النَّسَفِيّ الْحَنَفِيّ بِبَغْدَاد عَن نَحْو تسعين سنة وَتُوفِّي أَمِين الدّين أَبُو الْيمن عبد الصَّمد بن عبد الْوَهَّاب بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله بن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الْمُحدث عَن ثَلَاث وَسبعين سنة بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة. وَتُوفِّي الأديب الشَّاعِر نَاصِر الدّين أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن شاور بن طرخان بن النَّقِيب الْكِنَانِي وَقد أناف على سبعين سنة بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي الحكم عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن على بن أبي الحزم ابْن النفيس الْقرشِي الدِّمَشْقِي وَلَيْسَ الْأَطِبَّاء عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة بِالْقَاهِرَةِ.(2/209)
فارغة(2/210)
سنة ثَمَان ثَمَانِينَ وسِتمِائَة فِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر الْمحرم: خيم السُّلْطَان بِظَاهِر الْقَاهِرَة ورحل فِي خَامِس عشره. واستخلف ابْنه الْملك الْأَشْرَف خَلِيلًا بالقلعة والأمير بيدرا نَائِبا عَنهُ ووزيرا وَكتب عِنْد الرحيل إِلَى سَائِر ممالك الشَّام بتجهيز العساكر لقِتَال طرابلس. وَسَار إِلَى دمش فَدَخلَهَا فِي ثَالِث عشر صفر وَخرج مِنْهَا فِي الْعشْرين مِنْهُ إِلَى طرابلس فنانزلها وَقد قدم لنجدة أَهلهَا أَرْبَعَة شوان من جِهَة متملك قبرص. فوالى السُّلْطَان الرَّمْي بالمجانيق عَلَيْهَا والزحف والنقوب فِي الأسوار حَتَّى افتتحها عنْوَة فِي السّلْعَة السَّابِعَة من يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الآخر بَعْدَمَا أَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنصب عَلَيْهَا تِسْعَة عشر منجنيقاً وَعمل فِيهَا ألف خَمْسمِائَة نفس من الحجارين والزرافين. وفر أَهلهَا إِلَى جَزِيرَة تجاه طرابلس فَخَاضَ النَّاس فُرْسَانًا ورجالاً وأسروهما وقتلوهم وغنموا مَا مَعَهم وظفر الغلمان والأوشاقية بِكَثِير مِنْهُم كَانُوا قد ركبُوا الْبَحْر فألقاهم الرّيح بالسَّاحل وَكَثُرت الأسري حَتَّى صَار إِلَى زردخاناه السُّلْطَان ألف وَمِائَتَا أَسِير. وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين الْأَمِير عز الدّين معن والأمير ركن الدّين منكورس الفارقاني وَخَمْسَة وَخَمْسُونَ من رجال الْحلقَة. وَأمر السُّلْطَان بِمَدِينَة طرابلس فهدمت وَكَانَ عرض سورها يمر عَلَيْهِ ثَلَاثَة فرسَان بِالْخَيْلِ ولأهلها سعادات جليلة مِنْهَا أَرْبَعَة آلَاف نول قزازاة. وَأقر السُّلْطَان بَلْدَة حبيل مَعَ صَاحبهَا على مَال أَخذه مِنْهُ وَأخذ بيروت وجبلة وَمَا حولهَا من الْحُصُون. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق فِي نصف جُمَادَى الأولى وَاسْتقر الْعَسْكَر على عَادَته بحصن الأكراد مَعَ نَائِبه الْأَمِير سيف الدّين بلبان الطباخي. وَنزل البزك إِلَى طرابلس من حصن الأكراد وأضيف إِلَى الطباخي وَاسْتقر مَعَه خَمْسمِائَة جندي وَعشرَة أُمَرَاء طبلخاناه وَخَمْسَة عشر أُمَرَاء عشرات وأقطعوا إقطاعات. ثمَّ عمر الْمُسلمُونَ مَدِينَة بجوار النَّهر فَصَارَت مَدِينَة جليلة وَهِي الَّتِي تعرف الْيَوْم بطرابلس.(2/211)
وَقدم على السُّلْطَان وَهُوَ بطرابلس رسل سيس يسْأَلُون مزاحمة فَطلب مِنْهُم مرعش وبهنا وَالْقِيَام بالقطيعة على الْعَادة وأعادهم وَقد خلع عَلَيْهِم. وَخرج الْأَمِير طرنطاي نَائِب السلطنة إِلَى حلب. وَأقَام الْأَمِير سنجر الشجاعي متحدثا فِي الْأَمْوَال بِدِمَشْق فأوقع الحوطة على تَقِيّ الدّين تَوْبَة وَأخذ حواصله وباعها على النَّاس بأغلى الْأَثْمَان حَتَّى جمع من ذَلِك خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم فخاف مِنْهُ النَّاس وفر كثير. مِنْهُم وَعَاد طرنطاي فِي سَابِع رحب. وَورد على السُّلْطَان كتاب وَلَده الْأَشْرَف بِأَن سلامش وخضرا ابْني السُّلْطَان الظَّاهِر بيبرس قد راسلا الظَّاهِرِيَّة وَأَنه يخْشَى عَاقِبَة ذَلِك. فَكتب السُّلْطَان بِأَن يخرجَا وأمهما إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة ويحملوا فِي الْبَحْر إِلَى بِلَاد الأشكري فأخرجوا لَيْلًا. وَكَانَ فِي ذَلِك أعظم عِبْرَة: فَإِن الظَّاهِر بيبرس أخرج قاقان وعليا ابْني الْمعز أيبك إِلَى بِلَاد الأشكري ومعهما أمهما فَعُوقِبَ. بِمثل ذَلِك وَأخرج ولداه وأمهما ليجزي الله كل نفس بِمَا وَخرج السُّلْطَان من دمشق فِي ثَانِي شعْبَان وَمَعَهُ تَقِيّ الدّين تَوْبَة مُقَيّدا وَقد نَالَ أهل دمشق ضَرَر كَبِير. فَدخل السُّلْطَان قلعة الْجَبَل فِي آخر شعْبَان وجرد الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم أَمِير جاندرا إِلَى بِلَاد النّوبَة وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء قبجاق المنصوري وبكتمر الجوكندار وأيدمر وَإِلَى قوص وأطلاب كثير من الْأُمَرَاء وَسَائِر أجناد المراكز بِالْوَجْهِ القبلي ونواب الْوُلَاة وَمن عربان الْوَجْهَيْنِ القبلي والبحري عدَّة أَرْبَعِينَ ألف راجل وَمَعَهُمْ متملك النّوبَة وجريس فَسَارُوا فِي ثامن شَوَّال وصحبتهم خَمْسمِائَة مركب مَا بَين حراريق ومراكب كبار وصغار تحمل الزَّاد وَالسِّلَاح والأثقال. فَلَمَّا وصلوا ثغر أسوان مَاتَ متملك النّوبَة فَدفن باسوان. فطالع الْأَمِير عز الدّين الأفرم السُّلْطَان بِمَوْتِهِ فَجهز إِلَيْهِ من أَوْلَاد أُخْت الْملك دَاوُد رجلا كَانَ بِالْقَاهِرَةِ ليملكه فَأدْرك الْعَسْكَر على خيل الْبَرِيد بأسوان وَسَار مَعَه. وَقد انقسموا نِصْفَيْنِ: أَحدهمَا الْأَمِير عز الدّين الأفرم وقبجاق فِي نصف الْعَسْكَر من التّرْك وَالْعرب فِي الْبر الغربي وَسَار الْأَمِير أيدمر وَإِلَى قوص والأمير بكتمر بالبقية على الْبر الشَّرْقِي وتقدمهم جريش نَائِب ملك النّوبَة وَمَعَهُ أَوْلَاد الْكَنْز ليؤمن أهل الْبِلَاد ويجهز الإقامات. فَكَانَ الْعَسْكَر إِذا قدم إِلَى بلد خرج إِلَيْهِ الْمَشَايِخ والأعيان وقبلوا الأَرْض وَأخذُوا الْأمان وعادوا وَذَلِكَ من بلد الدو إِلَى جزائر مِيكَائِيل وَهِي ولَايَة جريس وَأما مَا عدا ذَلِك من الْبِلَاد الَّتِي لم يكن لجريس عَلَيْهَا(2/212)
ولَايَة من جزائر مِيكَائِيل إِلَى دمقلة فَإِن أَهلهَا جلوا عَنْهَا طَاعَة لمتملك النّوبَة. فنهبها الْعَسْكَر وَقتلُوا من وجدوه بهَا ورعوا الزروع وخربوا السواقي إِلَى أَن وصلوا مَدِينَة دمقلة فوجدوا الْملك قد أخلاها حَتَّى لم يسْبق بهَا سوي شيخ وَاحِد عَجُوز فأخبرا أَن الْملك نزل بِجَزِيرَة فِي بَحر النّيل بعْدهَا عَن دمقلة خَمْسَة عشر يَوْمًا. فتتبعه وَإِلَى قوص وَلم يقدر مركب على سلوك النّيل هُنَاكَ لتوعر النّيل بالأحجار. وَقَالَ فِي ذَلِك الأديب نَاصِر الدّين بن النَّقِيب وَكَانَ مِمَّن جرد إِلَيْهَا: يَا يَوْم دمقلة وَيَوْم عبيدها من كل نَاحيَة وكل مَكَان من كل نوبي يَقُول لأخته نوحي قد سكوا قفا السودَان وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان كَاتب الْإِنْشَاء بحماة نجم الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْغفار بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الله ابْن المغيزل الْعَبْدي الْحَمَوِيّ بهَا عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة. وَتُوفِّي الْعَلامَة شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَحْمُود بن عباد الْأَصْبَهَانِيّ عَن اثْنَيْنِ وَسبعين سنة بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي الأديب شمس الدّين مُحَمَّد بن الْعَفِيف أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن على بن عبد الله ابْن على بن ياسين العابدي التلمساني. وَتُوفِّي علم الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف عبد الله بن على الشهير بِابْن الصاحب صفي الدّين بن شكر بَعْدَمَا تغير عقله وَقد أناف على السِّتين. (سقط: من صفحة 215 إِلَى 229)(2/213)
يُوجد صفحة فارغة(2/214)
سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
فِي الْمحرم: سَار الْأَمِير طرنطاى النَّائِب إِلَى بِلَاد الصَّعِيد وَمَعَهُ عَسْكَر كَبِير، فوصل إِلَى طوخ تجاه قوص، وَقتل جمَاعَة من الْعُرْيَان، وَحرق كثيرا مِنْهُم بالنَّار، وَأخذ خيولاً كَثِيرَة وسلاحا ورهائن من أكابرهم. وَعَاد بِمِائَة رَأس من الْغنم وَألف رَأس من الْغنم وَألف ومائتى فرس وَألف جمل، وَسلَاح لَا يَقع عَلَيْهِ حصر. وَفِيه توجه الْأَمِير سيف الدّين التَّقْوَى وَمَعَهُ سِتّمائَة فَارس لينزل بطرابلس وَهُوَ أول جَيش استخدم بطرابلس بعد فتحهَا، وَكَانَ الْعَسْكَر قبل ذَلِك بالحصون. وَفِي ربيع الأول: استدعى الْأَمِير سنقر الأعسر شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق إِلَى الْقَاهِرَة على الْبَرِيد، فَمَا حضرل أكْرمه السُّلْطَان وأكد عَلَيْهِ فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال، وأضاف إِلَيْهِ الْحُصُون بِسَائِر الممالك الشامية والساحل وديوان الْجَيْش، وخلع عَلَيْهِ، فَعَاد إِلَى دمشق فِي الْعشْرين من ربيع الآخر، وَقد زَاد تجبره وَكثر تعاظمه. وَفِي جُمَادَى الأولى: قبض على الْأَمِير سيف الدّين جرمك الناصرى لمطاوصة جرت بَينه وَبَين الْأَمِير طرنطاى النَّائِب، أغْلظ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَضْرَة الْأُمَرَاء. وَفِي أول جُمَادَى الْآخِرَة: اسْتَقر شرف الدّين حسن بن أَحْمد بن أبي عمر بن قدامه الْمَقْدِسِي فِي قُضَاة الحنايلة بِدِمَشْق، بعد وَفَاة قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الْقُدسِي الْحَنْبَلِيّ، بِأَمْر السُّلْطَان. وَكتب توقيعه عَن الْأَمِير حسام الدّين نَائِب الشَّام، فِي تَاسِع الشَّهْر. وَفِيه وصل وَإِلَى قوص بِمن مَعَه إِلَى تجاه الجزيرة الَّتِي بهَا سمامون ملك النّوبَة، فَرَأَوْا بهَا عدَّة من مراكب النّوبَة، فبعثوا إِلَيْهِ فِي الدُّخُول فِي الطَّاعَة وأمنوه فَلم يقبل. فَأَقَامَ الْعَسْكَر تجاهه ثَلَاثَة أَيَّام، فخاف من مجئ الحراريق والمراكب إِلَيْهِ، فَانْهَزَمَ إِلَى جِهَة الْأَبْوَاب، وَهِي خَارِجَة عَن مَمْلَكَته وَبَينهَا وَبَينه الجزيرة الَّتِي كَانَ فِيهَا ثَلَاثَة أَيَّام. ففارقة السواكرة وهم الْأُمَرَاء وفارقه الأسقف والقسوس، وَمَعَهُمْ الصَّلِيب الْفضة الَّذِي كَانَ يحمل على رَأس الْملك وتاج الْملك، وسألوا الْأمان فَأَمنَهُمْ وَإِلَى قَوس وخلع على أكابرهم، وعادوا إِلَى مَدِينَة دمقلة وهم جمع كَبِير. فَعِنْدَ وصولهم عدى الْأَمِير الدّين الأفرم وقبجاق إِلَى الْبر الشَّرْقِي، واقام الْعَسْكَر(2/215)
مَكَانَهُ. وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء بدمقلة، وَلبس الْعَسْكَر آلَة الْحَرْب وطلبوا من الْجَانِبَيْنِ، وزينت الحراريق فِي الْبَحْر وَلعب الزراقون بالنفلط. وَمد الْأُمَرَاء السماط فِي كَنِيسَة أسوس أكبر كنائس دمقلة وأكلوا، ثمَّ ملكوا الرجل الَّذِي بَعثه السُّلْطَان قلاوون وألبسوه التَّاج، وحلفوا وَسَائِر الأكابر، وقرروا البقط المستقر أَولا، وعينوا طَائِفَة من الْعَسْكَر تقيم عِنْدهم وَعَلَيْهَا يببرس الْعُزَّى مَمْلُوك الْأَمِير عز الدّين وَإِلَى قوص. وَعَاد الْعَسْكَر إِلَى أسوان بَعْدَمَا غَابَ عَنْهَا سِتَّة أشهر، وَسَارُوا إِلَى الْقَاهِرَة فِي آخر جُمَادَى الأولى بغنائم كَثِيرَة. وَأما سمامون فَإِنَّهُ عَاد بعد رُجُوع الْعَسْكَر إِلَى دمقلة مختفياً، وَصَارَ بطرِيق بَاب كل وَاحِد من السواكرة ويستدعيه، فَإِذا خرج وَرَآهُ قبل لَهُ الأَرْض وَحلف لَهُ، فَمَا طلع الْفجْر حَتَّى ركب مَعَه سَائِر عسكره. وزحف سمامون بعسكر على دَار الْملك، وَأخرج يببرس الْعُزَّى وَمن مَعَه إِلَى قوص، وَقبض على الَّذين تملك مَوْضِعه وعراه ثِيَابه، وَألبسهُ جلد ثَوْر كَمَا ذبح بَعْدَمَا قده سيوراً ولفها عَلَيْهِ، ثمَّ أَقَامَهُ مَعَ خَشَبَة وَتَركه حَتَّى مَاتَ، وَقتل جريس أَيْضا. وَكتب سمامون إِلَى السُّلْطَان يسْأَله الْعَفو، وَأَنه يقوم بالبقط الْمُقَرّر وَزِيَادَة، وَبعث رَقِيقا وَغَيره تقدمه فَقبل مِنْهُ، وَأقرهُ السُّلْطَان بعد ذَلِك بالنوبة. وَفِي ثَانِي عشرى جُمَادَى الْآخِرَة: كتب بالكشف على نَاصِر الدّين بن الْمَقْدِسِي وَكيل السُّلْطَان بِالشَّام، فظهرت لَهُ أَفعَال مُنكرَة، وَقبض عَلَيْهِ فِي تَاسِع رَجَب وَضرب بالقارع وألزم بِمَال. ثمَّ رسم بحملة إِلَى الْقَاهِرَة، فَوجدَ فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث شعْبَان وَقد شنق نَفسه، فَحَضَرَ أَوْلِيَاء وَالْقَضَاء وَالشُّهُود وشاهدوه على تِلْكَ الصُّورَة، وَكَتَبُوا محضراً بذلك، وَدفن واستراح النَّاس من شَره. وَفِي رَابِع رَجَب: اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين أيبك الموصلى فِي تقدمه الْعَسْكَر بغزة والساحل، عوضا عَن الْأَمِير آقسنقر كرتيه. وَفِي شعْبَان: خرج مرسوم السُّلْطَان أَلا يستخدم أحد من أهل الذِّمَّة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي شَيْء من المباشرات الديوانية، فصرفوا عَنْهَا. وَفِيه ثار أهل عكا بتجار الْمُسلمين وقتلوها، فَغَضب السُّلْطَان وَكتب إِلَى الْبِلَاد الشامية بِعَمَل مجانيق وتجهيز زردخاناة لحصار عكا. وَذَلِكَ أَن الظَّاهِر بيبرس هادنهم، فحملوا إِلَيْهِ وَإِلَى الْملك الْمَنْصُور هديتهم فِي كل سنة، ثمَّ كثر طمعهم وفسادهم وقطعهم الطَّرِيق على االتجار، فَأخْرج لَهُم السُّلْطَان الْأَمِير شمس الدّين سنقر المساح على عَسْكَر، ونزلوا اللجون على الْعَادة فِي كل سنة، فَإِذا بفرسان من الفرنج بعكا قد خرجت(2/216)
فحاربوهم، واستمرت الْحَرْب بَينهم وَبَين أهل عكا مُدَّة أَيَّام. وَكتب إِلَى السُّلْطَان بذلك، فَأخذ فِي الاستعداد لحربهم. فشرع الْأَمِير شمس الدّين سنقر الأعسر فِي عمل ذَلِك، وَقرر على ضيَاع المرج وغوطه دمشق مَالا على كل رجل مَا بَين ألفي دِرْهَم إِلَى خَمْسمِائَة دِرْهَم، وجبى أَيْضا من ضيَاع بعلبك وَالْبِقَاع. وَسَار إِلَى وَاد بَين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشاب المجانيق، فَسقط عَلَيْهِ ثلج عَظِيم كَاد أَن يهلكه، فَركب وسَاق وَترك أتقاله وخيامه لينجو بِنَفسِهِ، فطمها الثَّلج تَحْتَهُ إِلَى زمن الصَّيف، فَتلف أَكْثَرهَا. وَفِي سادس شَوَّال: أفرج عَن الْأَمِير الْكَبِير علم الدّين سنجر الْحلَبِي، فَكَانَت مُدَّة اعتقاله خمس سِنِين وَتِسْعَة أشهر وأياماً. وَفِي آخر شَوَّال: برز السُّلْطَان بِظَاهِر الْقَاهِرَة، وَنزل بمخيمه بِمَسْجِد تبر، يُرِيد فتح عكا. فَأَصَابَهُ وعك فِي أول لَيْلَة وَأقَام يَوْمَيْنِ بِغَيْر ركُوب، ثمَّ اشْتَدَّ مَرضه وَصَارَ الْأَشْرَف ينزل إِلَيْهِ كل يَوْم من القلعة وَيُقِيم عِنْده إِلَى بعد الْعَصْر وَيعود. فكثرت القالة وانتشرت حَتَّى ورد الْخَبَر بحركة الْعَرَب بِبِلَاد الصَّعِيد، فَأخْرج النَّائِب طرنطاي قراقوش الظَّاهِرِيّ والأمير [ ... . .] أَبَا شامة لتدراك ذَلِك. وَاشْتَدَّ مرض السُّلْطَان إِلَى أَن مَاتَ بمخيمة تجاه مَسْجِد تبر خَارج الْقَاهِرَة فِي لَيْلَة السبت سادس ذِي الْقعدَة، فَحمل إِلَى القلعة لَيْلًا، وعادت الْأُمَرَاء إل بيوتها. وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى عشرَة سنة وشهرين وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا، وعمره نَحْو سبعين سنة. وَترك ثَلَاثَة أَوْلَاد ذُكُورا اشهر وأياماً: وهم الْملك الْأَشْرَف خَلِيل الَّذِي ملك بعده، وَالْملك الناصار مُحَمَّد وَملك أَيْضا، والأمير أَحْمد وَقد مَاتَ فِي سلطنة أَخِيه الْأَشْرَف. وَترك من الْبَنَات ابْنَتَيْن: وهما ألتطمش وتعرف بدار مُخْتَار وَأُخْتهَا دَار عنبر، وَزَوْجَة وَاحِدَة وَهِي أم النَّاصِر مُحَمَّد. وناب عَنهُ بِمصْر الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم ثمَّ استعفى. فاستقر بعده حسام الدّين طرنطاي حَتَّى مَاتَ السُّلْطَان. وَكَانَ نائبة بِدِمَشْق بعد سنقر الْأَمِير حسام الدّين لاجين السِّلَاح دَار الْمَعْرُوف بالصغير، ونوابه بحلب الْأَمِير جمال الدّين أقش الشمسي، فَلَمَّا مَاتَ جمال الدّين اسْتَقر الْأَمِير علم الدّين سنجر الباشقردي، وَصرف بالأمير قراسنقر الجو كندار. وناب عَنهُ بحضن الأكراد بلبان الطباخي، وبصفد عَلَاء الدّين الكلبلي، وبالكرك أيبك الموصلى اثم بيبرس الدودار. ووزر لَهُ الصاحب برهَان الدّين خضر السنجاري مرَّتَيْنِ، وفخر الدّين إِبْرَاهِيم بن لُقْمَان، وَنجم الدّين حَمْزَة الأصفوني، وقاضي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن بنت الْأَعَز، ثمَّ الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي وَكَانَ يَلِي شدّ الدَّوَاوِين. فَإِذا لم يكن فِي الدولة وَزِير تحدث فِي الوزارة، ثمَّ اسْتَقل بالوزارة بعد(2/217)
الأصفواني، وَكَانَ جباراً عسوفاً مهيباً يجمع المَال من غير وَجهه، فكرهه كل أحد وتمنوا زَوَال دولة الْمَنْصُور من أَجله ثمَّ الْأَمِير بدر الدّين بيدرا، وَمَات الْمَنْصُور وبيدرا وَزِير. وَبَلغت عدَّة ممالكية اثْنَا عشر ألف مَمْلُوك، وَقيل سَبْعَة آلَاف وَهُوَ الصَّحِيح. تَأمر مِنْهُم كثير، وتسلطنت جمَاعَة. وَكَانَ قد أفرد من مماليكة ثَلَاث آلَاف وَسَبْعمائة من الآص والجركش، وجعلهم فِي أبراج القلعة وَسَمَّاهُمْ البرجية. وَكَانَ جميل الصُّورَة مهيباً، عريض الْمَنْكِبَيْنِ قصير الْعُنُق، فصيحاً بلغَة التّرْك والقبجاق، قَلِيل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ.
السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل ابْن الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين قلاوون الألفي الصَّالِحِي النجمي
جلس على تخت الْملك بقلعة الْجَبَل يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة، وجد الْعَسْكَر لَهُ الْحلف فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامنه. وَطلب السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف من القَاضِي فتح الدّين بن عبد الظَّاهِر تَقْلِيده بِولَايَة الْعَهْد، فَأخْرجهُ إِلَيْهِ مَكْتُوبًا بِغَيْر عَلامَة الْملك الْمَنْصُور. وَكَانَ ابْن عبد الظَّاهِر قد قدمه إِلَيْهِ ليعلم عَلَيْهِ فَلم يرض، وتكرر طلب الْأَشْرَف لَهُ، وَابْن عبد الظَّاهِر يقدمهُ والمنصور يمْتَنع إِلَى أَن قَالَه لَهُ: ((يَا فتح الدّين إِن السُّلْطَان امْتنع أَن يعطيني، وَقد أَعْطَانِي الله)) ، وَرمى إِلَيْهِ التَّقْلِيد، فَمَا زَالَ عِنْد ابْن عبد الظَّاهِر. ثمَّ إِن الْأَشْرَف خلع على سَائِر أَرْبَاب الدولة، وَركب بشعار السلطنة فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرَة بعد الصَّلَاة، وسير إِلَى الميدان الْأسود تَحت القلعة بِالْقربِ من سوق الْخَيل والأمراء والعساكر فِي خدمته. وَعَاد إِلَى القلعة قبل الْعَصْر مسرعا، فَإِنَّهُ بلغه أَن الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي يُرِيد الفتك بِهِ إِذا قرب من بَاب الإصطبل. فَلَمَّا سير أَرْبَعَة ميادين، وَقد وقف طرنطاي وَمن وَافقه عِنْد بَاب سَارِيَة، وحاذى السُّلْطَان بَاب الإسطبل، وَفِي الظَّن أَنه يعْطف إِلَى نَحْو بَاب سَارِيَة ليكمل التَّيْسِير على الْعَادة، حرك فرسه يُرِيد القلعة وَعبر من بَاب الإسطبل، فساق طرنطاي بِمن مَعَه سوقا حثيثا ليدركه ففاته. وبادر الْأَشْرَف بِطَلَب طرناي، فَمَنعه الْأَمِير زين الدّين كتبغا أَن يدْخل إِلَيْهِ وحذره مِنْهُ، فَقَالَ: ((وَالله لَو كنت نَائِما مَا جسر خَلِيل ينبهني)) ، وغره إعجابه بِنَفسِهِ وَكَثْرَة أَيَّام سَلَامَته، وَدخل وَمَعَهُ الْأَمِير زين الدّين كتبغا. فعندما وصل إِلَى حَضْرَة الْأَشْرَف قبض عَلَيْهِ وعَلى كتبغا وسجنا، وَقتل طرنطاى فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشرَة(2/218)
وَقيل يَوْم الْخَمِيس ثامن عشرَة بعد عُقُوبَة شَدِيدَة، وَترك بعد قَتله فِي قَتله فِي مَجْلِسه ثَمَانِيَة أَيَّام، ثمَّ أخرج لَيْلَة الْجُمُعَة سادس عشريه فِي حَصِير على جنوبة إِلَى الفراقة، فَغسل بزاوية أبي السُّعُود وكفنه شَيخنَا صَدَقَة عَنهُ، وَدَفنه بِظَاهِر الزاوية لَيْلًا. فَلَمَّا تسلطن كتبغا نَقله إِلَى مدرسته بِالْقَاهِرَةِ وَدَفنه بهَا، وَهُوَ إِلَى الْيَوْم هُنَاكَ. وَكَانَ سَبَب قَتله كَرَاهَة الْأَشْرَف لَهُ من أَيَّام أَبِيه، فَإِن طرنطاي كَانَ يطْرَح الشّرف، ويهين نوابه وَمن ينْسب غليه، ويرجح أَخَاهُ الْملك الصَّالح عَلَيْهِ. وَلم يتلاف ذَلِك بعد موت الصَّالح، بل جرى على عَادَته فِي إهانة من ينْسب غليه، وأغرى الْملك الْمَنْصُور بشمس الدّين السلعوس نَاظر ديوَان الْملك الْأَشْرَف حَتَّى ضربه وَصَرفه. ثمَّ وشى بِهِ إِلَى الْأَشْرَف أَنه يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ عِنْد ركُوبه إِلَى الميدان، وَيُقَال إِنَّه لما دخل عَلَيْهِ وجد لابساً عدَّة الْحَرْب، وعندما قبض على طرنطاي نزل الشجاعي - وَكَانَ عدوه - إِلَى دَاره، وأوقع الحوطة على مَوْجُودَة، فَوجدَ لَهُ من الذَّهَب الْعين ألف ألف وسِتمِائَة ألف دِينَار مصرية، وَمن الْفضة سَبْعَة عشر ألف رَطْل وَمِائَة رَطْل بالمصري، وَمن الْعدَد والقماش والخيول والمماليك وَالْبِغَال وَالْجمال والغلال، والآلات والأملاك والنحاس المكفت والمطعم والزردخاناه والسروج واللجم، وقماتش الطشتخاناه والركاب خاناه والفراش خاناه، والحوائص والبضائع والمقاوضات والودائع، والقنود والأعسال مَا لَا يحضر. وَلما حملت أَمْوَال طرنطاي إِلَى الْأَشْرَف قَالَ: ((من عَاشَ بعد عدوه يَوْمًا فقد بلغ المنى)) ، وَبعد أَيَّام من مقتل طرنطاي سُئِلَ وَلَده الْحُضُور، فَلَمَّا وَقع بَين يَدي الْأَشْرَف إِذْ هُوَ أعمي، فَبكى وَمد يَده كَهَيئَةِ السُّؤَال وَقَالَ: ((شَيْء)) وَذكر أَن لأَهله أَيَّامًا مَا عِنْدهم مَا يَأْكُلُون، فرق لَهُ السُّلْطَان، وَأَفْرج عَن أَمْلَاك طرنطاي، وَقَالَ: ((تبلغوا بريعها)) . وَفِيه ولي وَشرف الدّين الْحُسَيْن بن قدامَة فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق، بعد موت نجم الدّين أَحْمد بن قدامَة، وتحدث الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي فِي النِّيَابَة بعد طرنطاي، من غير أَن يخلع عَلَيْهِ، وَلَا كتب لَهُ تَقْلِيد النِّيَابَة، ثمَّ اسْتَقر فِي نِيَابَة السلطنة الْأَمِير بدر الدّين بيدرا، وخلع عَلَيْهِ. وَفِي تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة: طلب الْأَمِير سنقر الأعسر شاد الدواوينك بِالشَّام، فَحَضَرَ فِي ذِي الْحجَّة، فَأمر الْأَشْرَف بضربه فَعُوقِبَ مرَارًا. وَاسْتقر عوضه سيف الدّين طوغان المنصوري، وأعيد تَقِيّ الدّين تَوْبَة إِلَى وزارة الشَّام، فأوقع الحوطة على مَوْجُود سنقر الأعسر.(2/219)
وَفِيه أحضر الْأَمِير بدر الدّين بكتوت العلائي من حمص إِلَى الْقَاهِرَة، وَتوجه الْأَمِير حسام الدّين سنقر الحسامي بتقليد الْأَمِير حسام الدّين لاجين نَائِب الشَّام واستمراره على عَادَته، فوصل فِي ثامن عشرَة. وَفِي هَذِه السّنة: أَكثر السُّلْطَان من تَفْرِقَة الْأَمْوَال، وأبطل عدَّة حوادث، وَمِنْهَا مَا كَانَ قد تجدّد على الْغلَّة بِبِلَاد الشَّام، وسامح مَا تَأَخّر من الْبَوَاقِي بِأَرْض مصر وَالشَّام.
وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان
فاضي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق نجم الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ أبي عمر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي، عَن نَحْو أَرْبَعِينَ سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب مجد الدّين أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن مكي، عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي رشيد الدّين أَبُو حَفْص عمر بن إِسْمَاعِيل ابْن مَسْعُود الفارقاني الشَّافِعِي، عَن تسعين سنة، خَارج دمشق مختوقا. وَتُوفِّي عز الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن أَحْمد بن سعيد الدَّمِيرِيّ الديريني الشَّافِعِي. وَتُوفِّي فَخر الدّين أَبُو الطَّاهِر إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن عز الْقُضَاة، بِدِمَشْق عَن سِتِّينَ سنة. وَتُوفِّي الْمُحدث شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق بن أبي بكر بن الْمُحدث الرَّسْعَنِي الْحَنْبَلِيّ، غريقاً بنهر الْأُرْدُن، وَهُوَ عَائِد من مصر لدمشق، عَن ثَمَان وَسِتِّينَ سنة. وفيهَا كَانَت حخرب بَين أَمِير الركب الفارقاني وَبَين أهل مَكَّة عِنْد وُرُود الثَّنية، قتل فِيهِ رجل من بني حسن، ثمَّ قدم أَبُو خرص يبشر بسلطة الْأَشْرَف خَلِيل، فَكَانَت وقْعَة أُخْرَى بعد الْحَج، فبادر الْحجَّاج إِلَى الرحيل وَخَرجُوا سَالِمين.(2/220)
سنة تسعين وسِتمِائَة
فِي سادس الْمحرم: أفرج عَن الْملك الْعَزِيز فَخر الدّين عُثْمَان بن المغيب فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، وَكَانَ قد اعتقله الْملك الظَّاهِر يببرس فِي رَابِع عشر ربيع الأول سنة تسع وَسِتِّينَ، فَأَقَامَ فِي الاعتقال عشْرين سنة وَتِسْعَة أشهر واثنين وَعشْرين يَوْمًا، ورتب الْأَشْرَف لَهُ مَا يقوم بِحَالهِ، وَلزِمَ دَاره واشتغل بالمطالعة والنسخ، وَانْقطع عَن السَّعْي إِلَّا للْجُمُعَة أَو الْحمام أَو ضَرُورَة لَا بُد مِنْهَا. وَفِيه كتب الْأَشْرَف إِلَى شمس الدّين مُحَمَّد بن السلعوس وَهُوَ بالحجاز كتابا، وَكتب بِخَطِّهِ بَين الأسطر: ((يَا شقير يَا وَجه الْخَيْر عجل السّير فقد ملكنا)) ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكتاب وَهُوَ عَائِد من الْحَج انْضَمَّ النَّاس إِلَيْهِ، وتوددوا لَهُ وبالغوا فِي إكرامه، حَتَّى وصل قلعة الْجَبَل يَوْم عَاشُورَاء. وَكَانَ الْأَمِير سنجر الشجاعي قد تحدث فِي الوزارة مُنْذُ تسلطن الْأَشْرَف، من غير أَن يخلع عَلَيْهِ وَلَا كتب لَهُ تقليداً، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي غشره اسْتَقر ابْن السلعوس فِي الوزارة، وخلع عَلَيْهِ وفوض إِلَيْهِ سَائِر أُمُور الدولة، وجرد مَعَه عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة يركبون فِي خدمته ويترجلون فِي ركابه، ويقفون بَين يَدَيْهِ ويمتثلون أمره فَتمكن تمَكنا لم يتمكنه وَزِير قبله فِي الدولة التركية، وَصَارَ إِذا أَرَادَ الرّكُوب إِلَى القلعة اجْتمع بِبَابِهِ نظار الدولة ومشد الدَّوَاوِين ووإلى الْقَاهِرَة ومصر، ومستوفوا الدولة ونظار الْجِهَات ومشدو الْمُعَامَلَات، وَنَحْوهم من الْأَعْيَان، ثمَّ يحضر قُضَاة الْقُضَاة الْأَرْبَعَة وأتباعهم فَإِذا تَكَامل الْجَمِيع بِبَابِهِ دخل إِلَيْهِ حَاجِبه وَقَالَ: ((أعز الله مَوْلَانَا الصاحب، قد تكمل الموكب)) ، كَانَ عَلامَة تكلمة الموكب بِبَابِهِ حُضُور الْقُضَاة الْأَرْبَعَة، فَيخرج حِينَئِذٍ ويركب وَالنَّاس سائرون بَين يَدَيْهِ على طبقاتهم ومقربهم إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي وقاضي الْقُضَاة الْمَالِكِي، ومسيرهما مَعًا بَين يَدَيْهِ أَمَام فرسه، وَقُدَّام الْمَذْكُورين قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيّ وقاضي الْقُضَاة الْحَنْبَلِيّ، ثمَّ نظار الدولة ثمَّ المستوفون بالدولة ثمَّ نظار الْجِهَات على قدر مَرَاتِبهمْ، فَلَا يزالون حَتَّى يسْتَقرّ بمجلسه من قلعة الْجَبَل فَيَنْصَرِف الْقُضَاة، ثمَّ يعودون عَشِيَّة النَّهَار إِلَى القلعة، ويركبون مَعَه إِلَى أَن يصل دَاره. وَاتفقَ لَيْلَة أَنه تَأَخّر فِي القلعة إِلَى عشَاء الْآخِرَة وأغلق بَاب القلعة، فَانْقَلَبَ الموكب إِلَى جِهَة بَاب الاسطبل، ووقف الْقُضَاة على بغلاتهم بِظَاهِر بَاب الاسطبل حَتَّى خرج(2/221)
وَسَارُوا فِي خدمته إِلَى دَاره وَلم يَجْسُر أحد أَن يتَأَخَّر قطّ عَن الرّكُوب فِي موكبه، وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا ينْتَصب قَائِما لأحد، وَلما عظم موكبه وَصَارَ الأكابر يزدحمون فِي طول الشَّارِع بِالْقَاهِرَةِ، ويضيق بهم لِكَثْرَة من مَعَه، وتزدحم الغلمان أَيْضا، تحول من الْقَاهِرَة وَسكن بالقرافة، وتعاظم فِي نَفسه واستخف بِالنَّاسِ، وتعدى طور الوزراء، فَكَانَ أكَابِر الْأُمَرَاء يدْخلُونَ إِلَى مَجْلِسه لَا يستكمل قَائِما لأحد مِنْهُم، وَمِنْهُم من لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَإِذا استدعى أَمِيرا قَالَ: ((فلَان أَمِير جاندار، أَو فَلَا ن الأستادار)) باسمه من غير نَعته، ثمَّ ترقى حَتَّى استخف بنائب السلطنة الْأَمِير بيدرا، وعارضه وتحدث فِيمَا يتحدث فِيهِ، فَلم يقدر على إِظْهَار الْغَضَب لما يعلم من ميل السُّلْطَان إِلَيْهِ. وَاتفقَ أَنه قَامَ يَوْمًا من مجْلِس الوزارة بالقلعة يُرِيد الدُّخُول إِلَى الخزانة، فصادف خُرُوج الْأُمَرَاء من الْخدمَة مَعَ النَّائِب بيدرا، فبادر الْأُمَرَاء الأكابر إِلَيْهِ وخدموه وَقبل بَعضهم يَده، وفسحوا بأجمعهم لَهُ وهموا بالمشى بيدرا، وَسلم كل مِنْهُمَا على الآخر وأوما بِالْخدمَةِ، إِلَّا أَن النَّائِب بيدرا خدم الْوَزير أَكثر مِمَّا خدمه الْوَزير، فَرجع بيدرا مَعَه وَلم يكن يسامته فِي الْمَشْي، بل كَانَ النَّائِب يتَقَدَّم قَلِيلا ويميل بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ إِذا حَدثهُ الْوَزير، حَتَّى انتهيا إِلَى بَاب الخزانة، فَأمْسك ابْن السلعوس بيد النَّائِب، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ، وَقَالَ: ((بِسم الله يَا أَمِير بدر الدّين)) وَلم يزده على ذَلِك. وَفِي هَذَا الشَّهْر: قدمت رسل عكا يسْأَلُون الْعَفو، فَلم يقبل مِنْهُم مَا اعتذروا بِهِ، وَقدم أُمَرَاء العربان من كل جِهَة: فَقدم الْأَمِير مهنا بن عِيسَى أَمِير آل فضل وسابق الدّين عبِّيَّة أَمِير بني عقبَة، وقدما التقادم، فأنعم عَلَيْهِم جَمِيعًا وأعيدوا، وَقدم الْملك المظفر صَاحب حماة، فَحمل إِلَيْهِ مَا جرت بِهِ الْعَادة، وَكتب تَقْلِيده. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع صقر: قبض على الْأَمِير شمس الدّين سنقر الْأَشْقَر، والأمير جرمك الناصري، وعد على سنقر الْأَشْقَر أَنه أفشى سر طرنطاي حَتَّى قبض عَلَيْهِ، بَعْدَمَا أحسن إِلَيْهِ طرنطاي غَايَة الْإِحْسَان، وَمنع الْملك الْمَنْصُور من الْقَبْض عَلَيْهِ مرَارًا، فَلم يرع لَهُ ذَلِك. وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير كتبغا وأعيد إِلَى إمرته، وأنعم عَلَيْهِ إنعاما زَائِدا.(2/222)
وَفِي هَذَا الشَّهْر: شرح السُّلْطَان فِي الاهتمام بِفَتْح عكا، وَبعث الْأَمِير عز الدّين أَبِيك الأفرم أَمِير جاندار إِلَى الشَّام لتجهيز أَعْوَاد المجانيق، فَقدم دمشق فِي سلخة وجهزت أَعْوَاد المجانيق من دمشق، وبرزت فِي أول ربيع الأول وتكاملت فِي ثَانِي عشرَة، وَسَار بهَا الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري أحد أُمَرَاء الشَّام، ثمَّ فرقت على الْأُمَرَاء مقدمى الألوف، فَتوجه كل أَمِير ومضافيه بِمَا أَمر بنقله مِنْهَا، وَتوجه الْأَمِير حسام الدّين لاجين نَائِب الشَّام بالجيش من دمشق فِي الْعشْرين مِنْهُ، وَخرج من الْقَاهِرَة الْأَمِير سيف الدّين طغريل الأيغاني إِلَى استنفار النَّاس من الْحُصُون بممالك الشَّام: فوصل المظفر صَاحب حماة إِلَى دمشق فِي ثَالِث عشريه، بعسكره وبمجانيق وزردخاناه، وَوصل الْأَمِير سيف الدّين بلبان الطباخي نَائِب الفتوحات بعساكر الْحُصُون وطرابلس، وبالمجانيق والزردخاناه فِي رَابِع عشرِيَّة، وَسَار جَمِيع النواب بالعساكر إِلَى عكا. وَأما السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف، فَإِنَّهُ لما عزم على التَّوَجُّه إِلَى عكا، أَمر فَجمع الْعلمَاء والقضاة والأعيان والقراء بالقبة المنصورية، بَين الْقصر ين من الْقَاهِرَة عِنْد قبر أَبِيه، فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشرى صفر، فَبَاتُوا هُنَاكَ وَعمل مُهِمّ عَظِيم، وَحضر الأشرلف بكرَة يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْقبَّة المنصورية، وَتصدق بجملة كَبِيرَة من المَال والكساوى، وَفرق على الْقُرَّاء والفقراء مَالا كثيرا، وَفرق فِي أهل الْمدَارِس والزوايا والخوانك والربط مَالا وثياباً، وَعَاد إِلَى القلعة. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث ربيع الأول: توجه السُّلْطَان بالعساكر يُرِيد أَخذ عكا، وسير حريمة إِلَى دمشق فوصلوا إِلَيْهَا فِي سَابِع ربيع الآخر، وَسَار السُّلْطَان فَنزل عكا فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع الآخر، ووصلت المجانيق يَوْم ثَانِي وُصُوله وعدتها اثْنَان وَتسْعُونَ منجنيقاً، فتكامل نصبها فِي أَرْبَعَة أَيَّام، وأقيمت الستائر وَوَقع الْحصار، وَقد أَتَت جمائع الفرنج إِلَى عكا أَرْسَالًا من الْبَحْر، صَار بهَا عَالم كَبِير، فاستمر الْحصار إِلَى سادس عشر جمادي الأولى، وَكَثُرت النقوب بأسوار عكا، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشره عزم السُّلْطَان على الزَّحْف، فرتب كوساته على ثَلَاثمِائَة جمل، وَأمر أَن تضرب كلهَا دفْعَة وَاحِدَة، وَركب السُّلْطَان وَضربت فهال ذَلِك أهل عكا، وزحف بعساكره وَمن اجْتمع مَعَه قبل شروق الشَّمْس، فَلم يرْتَفع الشَّمْس حَتَّى علت الصناجق الإسلامية على أسوار عكا، وهرب الفرنج فِي الْبَحْر وَهلك مِنْهُم خلق كثير فِي الازدحام، والمسلمون يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وينهبون فَقتلُوا مَا لَا يُحْصى عده كَثْرَة، وَأخذُوا من النِّسَاء وَالصبيان مَا يتَجَاوَز الْوَصْف، وَكَانَ عِنْد فتحهَا أَن أقبل من الفرنج نَحْو عشرَة آلَاف فِي هَيْئَة مستأمين، ففرقهم السُّلْطَان على الْأُمَرَاء فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم.(2/223)
وَكَانَت مُدَّة حِصَار عكا أَرْبَعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا، وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين الْأَمِير عَلَاء الدّين كشتغدى الشمسى وَدفن بجلجولية، وَعز الدّين أيبك الْعُزَّى نقيب العساكر، وَسيف الدّين أقش الغتمى، وَبدر الدّين بيليك المَسْعُودِيّ، وَشرف الدّين قيران السكزي، وَأَرْبَعَة من مقدمى الْحلقَة وَجَمَاعَة من الْعَسْكَر. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشرَة: وَقع الْهدم فِي مَدِينَة عكا، فهدمت الأسوار والكنائسي وَغَيرهَا وَحرقت، وَحمل كثير من الأسرى بهَا إلحصون الإسلامية. وَفتحت صور وحيفا وعثليت وَبَعض صيدا بِغَيْر قتال، وفر أَهلهَا خوفًا على أنفسهم، فتسلمها الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي فِي بَقِيَّة جمادي الأولى، فَقدمت البشائر بِتَسْلِيم مَدِينَة صور فِي تَاسِع عشرَة، وبتسليم صيدا فِي الْعشْرين مِنْهُ، وَأَن طَائِفَة من الفرنج عصوا فِي برج مِنْهَا، فَأمر السُّلْطَان بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفاً، فَتوجه الْأَمِير شمس الدّين نبا الجمقدار ابْن الجمقدار فِي حادي عشرِيَّة لهدم صور، وَاتفقَ أَمر عَجِيب: وَهُوَ أَن الفرنج لما قدمُوا إِلَى صور كَانَ بهَا عز الدّين نبا والياً عَلَيْهَا من قبل المصريين، فَبَاعَ صور للفرنج بِمَال، وَصَارَ إِلَى دمشق، فَقدر الله خرابها على يَد الْأَمِير شمس الدّين نبا بن الجمقدار وَاتفقَ أَيْضا أَن الشَّيْخ [شرف الدّين] البوصيري رأى فِي مَنَامه قبل أَن يخرج الْأَشْرَف إِلَى عكا قَائِلا ينشده:
(قد أَخذ الْمُسلمُونَ عكا ... وأشبعوا الْكَافرين صكا)
(وسَاق سلطاننا إِلَيْهِم ... خيلا تدك الْجبَال دكا)
(وَأقسم التّرْك مُنْذُ سَارَتْ ... لَا تركُوا للفرنج ملكا)
فَأخْبر بذلك جمَاعَة، ثمَّ سَار الْأَشْرَف بعد ذَلِك وَفتح عكا وخربها، لم يدع فِي بَقِيَّة السَّاحِل أحدا من الفرنج، وَقَالَ محيى الدّين بن عبد الظَّاهِر فِي ذَلِك:(2/224)
(يَا بني الْأَصْفَر قد حل بكم ... نقمة الله الَّتِي لَا تنفصلل)
(قد نزل الْأَشْرَف فِي ساحلكم ... فأبشروا مِنْهُ بصفع مُتَّصِل)
وَقد أَكثر الشُّعَرَاء فِي ذكر هَذَا الْفَتْح، وَقَالَ الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي كَاتب الْإِنْشَاء لما عاين فِي جَوَانِب عكا، وَقد تساقطت أَرْكَانهَا:
(مَرَرْت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النَّار فِي وَسطهَا وارى)
(وعاينتها بعد التنصر قد غَدَتْ ... مَجُوسِيَّة الأبراج تسْجد للنار)
وَقَالَ ابْن ضَامِن الضبع بعكا:
(أدْمى الْكَنَائِس إِن تكن عبثت بكم ... شم الأنوف جحاجح أبطال)
(فلطالما سجدت لَكِن فوارض ... اللَّيَالِي أَو تغير حَال)
(فعزاء عَن هَذَا الْمُصَاب فَإِنَّهُ ... يَوْم بِيَوْم والحروب سِجَال)
(هَذَا بِذَاكَ وَلَا تغير دَهْرنَا ... وَلكُل دهر دولة وَرِجَال)
وَفِي هَذِه الْمدَّة وشى الْأَمِير علم الدّين سنجر الحموى الْمَعْرُوف بأبى خرص إِلَى السُّلْطَان بالأمير حسام الدّين لاجين نَائِب الشَّام، ثمَّ أوهم لاجين بِأَن السُّلْطَان يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ، فَركب لاجين من الوطاق بعكا لَيْلًا يُرِيد الْفراء، فساق خَلفه الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري وأدركه، وَقَالَ لَهُ: ((يَا الله لَا تكن السَّبَب فِي هَلَاك الْمُسلمين، فَإِن النَّاس قد أشرفوا على أَخذ عكا، وَإِن بلغ الفرنج فرارك، وَأَن الْعَسْكَر قد ركب خَلفك قويت نُفُوسهم وفتر الْحصار)) فَرجع مَعَه وَظن أَن الْأَمر لَا يبلغ السُّلْطَان، وَكَانَ ذَلِك فِي ثامن جمادي الأولى، فَلَمَّا كَانَ فِي صَبِيحَة هَذِه اللَّيْلَة خلع السُّلْطَان عَلَيْهِ وَطيب خاطره، ثمَّ قبض عَلَيْهِ فِي ثَانِي يَوْم الخلعة، وَبَعثه إِلَى قلعة صفد ثمَّ حمل إِلَى قلعة الْجَبَل بِمصْر. ورحل السُّلْطَان إِلَى دمشق، فَدَخلَهَا فِي ثَانِي عشر جمادي الْآخِرَة، وَقد زَيْنَب دمشق مُنْذُ فتحت عكا فَكَانَ يَوْمًا عَظِيما. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي فِي نِيَابَة دمشق، وَزَاد السُّلْطَان فِي إقطاعه وراتبه عَمَّا كَانَ لنواب الشَّام، وَأذن لَهُ ان يُطلق من الخزائن مَا أَرَادَ من غير مُشَاورَة، وَجعل لَهُ فِي كل يَوْم ثَلَاثمِائَة دِرْهَم على دَار الطّعْم، وَاسْتقر أَيْضا الْأَمِير(2/225)
جمال الدّين أقش الأشرفي فِي نِيَابَة الكرك، عوضا عَن ركن الدّين بيبرس، وَنقل بيبرس إِلَى أمره بِمصْر، وَقبض أَيْضا على الْأَمِير علم الدّين سنجر أرجواش نَائِب قلعة دمشق، وَضرب بِحَضْرَة السُّلْطَان ضربا كثيرا، وألبس عباءة وَاسْتعْمل مَعَ الأسرى فِي الْعَمَل، وأخرق بِهِ وأهين إِلَى الْغَايَة، وَوَقعت الحوطة على مَوْجُودَة، ثمَّ حبس بالقلعة، ثمَّ حمل على الْبَرِيد إِلَى مصر، ثمَّ رد من أثْنَاء الطَّرِيق بشفاعة بعض الْأُمَرَاء وَأَفْرج عَنهُ، ثمَّ أُعِيد لنيابة القلعة، وَسبب هَذَا أَن الْأَمِير شرف الدّين بن الخطير كَانَ يمزح بِحَضْرَة السُّلْطَان مَعَ الْأُمَرَاء، ويومئ إِلَيْهِ السُّلْطَان بذلك فَيحْتَمل مِنْهُ مَا يتَكَلَّم بِهِ، وَكَانَ أرجواش على النمط الأول من الْبعد عَن المجون، فَقَالَ لَهُ ابْن الخطير وَهُوَ وَاقِف بَين يَدي الْأَشْرَف: ((يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان! كَانَ عِنْد والدك الْمُلُوك بِبِلَاد الرّوم حمَار أَشهب أَعور، أشبه شَيْء بِهَذَا الْأَمِير علم الدّين أرجواش)) فَضَحِك الْأَشْرَف، وَغَضب أرجواش وَقَالَ: هَذِه صبيانية)) فحنق مِنْهُ الْأَشْرَف وَعمل مَا ذكر. وَفِي ثامن عشرَة: عزل طوغان عَن شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق، وَعِيد إِلَى ولَايَة الْبر، وَاسْتقر سنقر الأعسر فِي شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق. وَفِي ثَانِي رَجَب: عزل تَقِيّ الدّين تَوْبَة عَن وزارة دمشق، وَاسْتقر فِيهَا محيي الدّين ابْن النّحاس، وَمنع أَن يُقَال لَهُ وَزِير وَلَكِن نَاظر الشَّام. وَفِي ثامن عشرَة: اسْتَقر شرف الدّين أَحْمد بن عِيسَى بن السيرجي فِي حسبَة دمشق، وعزل تَاج الدّين بن الشِّيرَازِيّ. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشرَة: سَار السُّلْطَان من دمشق إِلَى مصر، فَدخل إِلَى الْقَاهِرَة من بَاب النَّصْر فِي بكرَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع شعْبَان، وَخرج من بَاب زويلة إِلَى القلعة وَقد زَيْنَب قبل وُصُوله بأيام، فَكَانَت زِينَة لم يسمع بِمِثْلِهَا، وَكثر سرُور النَّاس ولعبهم. وَكَانَ الْأَمِير سنجر الشجاعي نَائِب الشَّام قد سَار فِي رَابِع رَجَب إِلَى صيدا، وحاصر البرج حَتَّى فَتحه فِي خَامِس عشرَة، وَعَاد إِلَى دمشق يَوْم رحيل السُّلْطَان مِنْهَا، ثمَّ توجه إِلَى بيروت، فَتَلقاهُ أَهلهَا طائعين فَنزل بقلعتها، وفبض على الرِّجَال وقيدهم وألقاهم فِي الخَنْدَق، وافتتحها فِي ثَالِث عشرى رَجَب، وَعَاد إِلَى دمشق فِي سَابِع عشرى رَمَضَان، وَلم يبْق فِي جَمِيع السَّاحِل من الفرنج أحد.(2/226)
وَفِي شعْبَان: أوقف الْملك الْأَشْرَف على الْقبَّة المنصورية بَين القصرين من قرى عكا الكابرة وتل الميشوح وكردانة، وَمن سَاحل صور معركة وصريفين، وأوقف أَيْضا على الْمدرسَة الأشرفية بجوار السيدة نفسية قَرْيَة الْفَرح من عكا، وقرية شعر عمر وقرية الْحَمْرَاء مِنْهَا، وَمن سَاحل صور قَرْيَة طبرية. وَفِي ثامن عشره: أفرج السُّلْطَان عَن الْأَمِير بدر الدّين بيسرى الشمسي الصَّالِحِي، وَكَانَ السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون قد اعتقله فِي أَوَائِل دولته كَمَا تقدم ذكره، فأفرج الْأَشْرَف عَنهُ، وَكتب إفراجه وَجعل فِي كيس حَرِير أصفر، وَختم عَلَيْهِ بِخَاتم السُّلْطَان، وَتوجه بِهِ إِلَى الْجب الْأَمِير بدر الدّين بيدرا النَّائِب والأمير زين الدّين كتبغا وعدة من الْأُمَرَاء، وأخرجوه وقرءوا عَلَيْهِ الإفراج، وأحضروا تشريفة وهموا بِكَسْر قَيده، فَقَالَ: " لَا يفك الْقَيْد من رجلى، وَلَا ألبس التشريف، إِلَّا بعد أَن أتمثل بَين يَدي السُّلْطَان " وصمم على ذَلِك فَأعْلم السُّلْطَان بِهِ، فَأمر بإحضاره بعد فك قَيده وَهُوَ بملبوسه الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْجب، فَكسر حِينَئِذٍ قَيده وَمَشى إِلَى السُّلْطَان، فَلَمَّا عاينه قَامَ إِلَيْهِ وأكرمه وَألبسهُ التشريف وَأَجْلسهُ بجانبه، وأنعم عَلَيْهِ بالأموال وأنواع الثِّيَاب، وَأَعْطَاهُ فِي مَجْلِسه إمرة مائَة فَارس، وَعين لَهُ إقطاعا وارفرا: مِنْهُ منية بني خصيب دربستا بجواليها ومواريثها الحشرية وَنزل إِلَى دَاره، فَصَارَ ينتسب إِلَى الْملك الْأَشْرَف وَيكْتب بيسرى الأشرفى، بَعْدَمَا كَانَ يكْتب الشمسى. وَفِي رَابِع رَمَضَان: أفرج عَن الْأَمِير الدّين شمس سنقر الْأَشْقَر، والأمير حسام الدّين لاجين الصَّغِير نَائِب الشَّام، والأمير ركن الدّين بيبرس طقصوا، والأمير شمس الدّين سنقر الطَّوِيل، وَأمرُوا على عَادَتهم، وَقبض على الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري بِدِمَشْق، وَحمل إِلَى قلعة الْجَبَل مُقَيّدا، فوصل فِي سَابِع عشره. وَفِي هَذَا الشَّهْر: عزم السُّلْطَان على صرف قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن بنت الْأَعَز عَن وَظِيفَة الْقَضَاء وَسَائِر مَا بِيَدِهِ من المناصب، بِكَثْرَة حط الْوَزير ابْن السلعوس عَلَيْهِ. وَخرج الْبَرِيد فِي يَوْم تَاسِع رَمَضَان بِطَلَب بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعد الله(2/227)
ابْن جمَاعَة خطيب الْقُدس، ليلى الْقَضَاء بِمصْر وَكَانَ السَّبَب فِي طلبه أَن ابْن بنت الْأَعَز لما عزل استدعى السُّلْطَان أَعْيَان الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة بِمصْر والقاهرة، وَجعل كل وَاحِد فِي مَكَان فَلم يعلم وَاحِد مِنْهُم بالبقية، وأحضرهم وَاحِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَهُ عَن الْجَمَاعَة من يصلح فيهم لولاية الْقَضَاء، فَمَا مِنْهُم إِلَّا من أَسَاءَ القَوْل فِي أَصْحَابه ورماه بِمَا لَا يَلِيق، فانصرفوا وَقد انكف السُّلْطَان عَن ولايتهم، وَأعلم وَزِير ابْن السلعوس بِمَا قَالَ بَعضهم فِي حق بعض من الْفُحْش، فَأَشَارَ السلعوس عَلَيْهِ بِولَايَة ابْن جمَاعَة خطيب الْقُدس لصحبة تقدّمت لَهُ مَعَه، فوصل إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشره، وَأفْطر عِنْد الْوَزير، وَبَالغ الْوَزير فِي خدمته، وَسَار فِي موكبه يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشره إِلَى القلعة، وَدخل بِهِ على السُّلْطَان، فعزل ابْن بنت الْأَعَز، وَولى ابْن جمَاعَة قضا الْقُضَاة، وفوض إِلَيْهِ تدريس الْمدرسَة الصالحية بَين القصرين وخطابة الْجَامِع الْأَزْهَر، فكتم ابْن جمَاعَة الْولَايَة، وَأفْطر لَيْلَة الْجُمُعَة عِنْد الْوَزير، فَصَارَ يخاطبه بقاضي الْقُضَاة، وأعلن بعزل ابْن بنت الْأَعَز، فهنأ النَّاس ابْن جمَاعَة، وعندما خرج ابْن جمَاعَة من دَار الْوَزير الأَصْل إِلَيْهِ التَّقْلِيد مَعَ ابْن عز الدّين الْحَنْبَلِيّ، فَلَمَّا أصبح يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشره لبس الخلعة، وَمَشى الشُّهُود فِي خدمته، فَركب بالخلعة إِلَى دَار الْوَزير وخدمه، ثمَّ سَار إِلَى منزله، وَركب إِلَى الْجَامِع الْأَزْهَر بالخلعة، فَخَطب وَصلى بِالنَّاسِ وَعَاد إِلَى منزله، ثمَّ تحول إِلَى الصالحية يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشريه، ودرس بالصالحية فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشرى شَوَّال، وَكَانَ درساً حفلاً يَوْمًا مشهوداً. وَأما ابْن بنت الْأَعَز، فَإِن الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي دخل بِهِ إِلَى السُّلْطَان وَقرر مَعَه أَن يوليه قَضَاء الشَّام، فَلَمَّا شعر بذلك ابْن السلعوس خشى أَن يبْقى لَهُ حَاله فيتمكن بهَا فِي الدولة، فرتب لَهُ عدَّة من النَّاس ليثوروا بِهِ. فَلَمَّا جلس السُّلْطَان بدار الْعدْل رسم لِابْنِ السلعوس أَن يُجهز ابْن بنت الْأَعَز قَاضِيا بِدِمَشْق، وَيَعْنِي بتشريفه وَيكْتب تَقْلِيده، فَمَا انْفَصل مجْلِس دَار الْعدْل حَتَّى أحضر الشريف ابْن ثَعْلَب وَادّعى على ابْن بنت الْأَعَز بِمَا قَرَّرَهُ مَعَه الْوَزير ابْن السلعوس قبل ذَلِك، وَكَانَ قد جهز آخر إِلَى أَن يُفْتى بتعزيره، وَآخر ليشهد بِفِسْقِهِ. فَانْتدبَ السُّلْطَان لمرافعته جمَاعَة، ورموه بعظائم بغياً مِنْهُم وعدواناً: مِنْهَا أَنه يشد الزنار من تَحت ثِيَابه، وَأَنه نَصْرَانِيّ وَمَا زَالَ،(2/228)
حَتَّى رسم السُّلْطَان أَن يركب حمارا ويشهر. فَقبض عَلَيْهِ الْوَزير وَنكل بِهِ ورسم عَلَيْهِ وطالبه بِمَال كثير، وشنع فِي إهانته، وَأَرَادَ ضربه فحماه الله مِنْهُ. وَمَا زَالَ ابْن بنت الْأَعَز فِي الإهانة إِلَى أَن أَخذ يَوْمًا بالترسيم إِلَى القلعة وَهُوَ ماش والأعوان تحتاطه، فَرَأى ثَلَاثَة من خَواص الْأُمَرَاء نازلين من القلعة، فَقَالَ لَهُم: " يَا أَمِير أما تنْظرُون فِي حَالي وَأما أَنا فِيهِ من الإهانة مَعَ هَؤُلَاءِ الرُّسُل؟ " فساءهم ذَلِك وجردوا دبابيسهم وحطموا يُرِيدُونَ ضرب الرُّسُل، وَقَالُوا: " قاضى الْقُضَاة ماش، وَأَنْتُم ركاب؟ " فَقَالُوا: " الصاحب أمرنَا بِهَذَا، مَا لنا ذَنْب وَلَا نُرِيد هَذَا الْفِعْل " فشق عَلَيْهِم مَا رَأَوْا وعادوا إِلَى السُّلْطَان، وألقوا سيوفهم وَقَالُوا: " يَا خوند قد بلغ الْأَمر من حَال قَاضِي الْقُضَاة أَن يمشي وَالرسل ركاب " وَذكروا مَا هُوَ فِيهِ من الإهانة، فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان: يستأهل أَكثر من هَذَا، لأَنهم قَالُوا عَنهُ إِنَّه كَافِر يشْهد الزنار من تَحت ثِيَابه. فَقَالُوا: يَا خوند إِن كَانَ قَاضِي الْقُضَاة كَافِرًا فَابْن السلعوس مُسلم، إِمَّا تهبه لنا، وَإِمَّا تمَكنا من ابْن السلعوس، وَإِمَّا أَن تنفينا ". وَكَانَ الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير السِّلَاح لَهُ عناية بِهِ أَيْضا، فَتحدث مَعَ الْأَمِير بيدرا النَّائِب، وَكَانَ بيدرا بَينه وَبَين ابْن بنت الْأَعَز شَحْنَاء، فَقَالَ بيدرا لبكتاش: " تحدث مَعَ السُّلْطَان فِي أَمر سنجر الحموى أبي خرص ان يُطلقهُ، وَأَنا أشفع فِي ابْن بنت الْأَعَز " فاتفقا على ذَلِك، وشفع بيدرا فِي ابْن بنت الْأَعَز، وشفع بكتاش فِي أبي خرص، فأفرج السُّلْطَان عَنْهُمَا مَعًا. وَلزِمَ ابْن بنت الْأَعَز دَاره، وَلم يتْرك بِيَدِهِ شَيْء من الْوَظَائِف، وَكَانَ بِيَدِهِ سَبْعَة عشر منصباً وَهِي قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر كلهَا وخطابة الْجَامِع الْأَزْهَر، وَنظر الخزانة وَنظر الأحباس، ومشيخة الشُّيُوخ وَنظر التَّرِكَة الظَّاهِرِيَّة بيبرس وَأَوْلَاده وأوقافه وأملاكه، وعدة تداريس، وَكَانَ عِنْدَمَا عزل قد رسم عَلَيْهِ فِي شَوَّال، وألزم بِالْإِقَامَةِ فِي زواية الشَّيْخ نصر المنبجي خَارج الْقَاهِرَة حَتَّى قَامَ بِمَا قرر عَلَيْهِ من المَال، بَعْدَمَا بَاعَ وَرهن واقترض، ثمَّ انْتقل إِلَى القرافة إِلَى أَن تحدث لَهُ الْأَمِير بدر الدّين بيدرا فِي تدريس الْمدرسَة الناصرية بجوار ضريح الإِمَام الشَّافِعِي، فَوَلِيه وتحول إِلَى الْمدرسَة الْمَذْكُورَة فَكَانَ هَذَا سَببا لمحنته الثَّانِيَة، وَيُقَال إِنَّه حمل من جِهَته مبلغ ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ ألفا. وَفِي خَامِس عشرى رَمَضَان: أفرج السُّلْطَان عَن الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله أَحْمد بن الْأَمِير أبي على القتى بن الْأَمِير أبي بكر بن الإِمَام المسترشد بِاللَّه العباسي، ورسم لَهُ أَن يخْطب فِي يَوْم الْجُمُعَة، فَخَطب يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر شَوَّال، فَخرج بسواده وَهُوَ متقلد(2/229)
سَيْفا محلي وخطب بِجَامِع القلعة وَذكر الْخطْبَة الَّتِي خطب بهَا فِي أَيَّام الْملك الظَّاهِر بيبرس وَهِي من إنْشَاء شرف الدّين وَإِلَّا إِنَّه ذكر فِيهَا الْملك الْأَشْرَف وَكَانَ بَين الخطتين مُدَّة ثَلَاثِينَ سنة وَتِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا فَلَمَّا فرغ من الْخطْبَة لم يصل بِالنَّاسِ وَقدم قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة فَصلي بهم صَلَاة الْجُمُعَة وَاسْتمرّ الْخَلِيفَة يخْطب بِجَامِع القلعة واستناب عَنهُ بالجامع الْأَزْهَر صدر الدّين وَفِي تَاسِع شَوَّال: قبض على الْأَمِير سيف الدّين قرا رسْلَان المنصوري والأمير جمال الدّين أقوش الأفرم بِدِمَشْق واعتقلا بقلعتها وأقطع عز الدّين أزدمر العلائي إقطاع قرا رسْلَان وسنقر المساح إقطاع الأفرم. وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ رَابِع ذِي الْقعدَة: عمل ختم بالقبة المنصورية حَضَره الْأَمِير بيدرا النَّائِب والوزير شمس الدّين بن السلعوس وَنزل إِلَيْهِ السُّلْطَان والخليفة بكرَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ فَخَطب وَعَلِيهِ سوَاده خطْبَة بليغة حرض فِيهَا على أَخذ الْعرَاق وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً فرقت فِيهِ صدقَات وَكتب إِلَى نَائِب الشَّام بِعَمَل ختم فَاجْتمع النَّاس فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء حادي عشره بالميدان الْأَخْضَر خَارج دمشق وختموا الْقُرْآن وَحضر الوعاظ والأعيان. وَفِي هَذَا الشَّهْر: قبض بِدِمَشْق على الشَّيْخ سيف الدّين الرجيجي وَهُوَ من أَوْلَاد الشَّيْخ يُونُس وَحمل إِلَى قلعة الْجَبَل على الْبَرِيد. وَفِي هَذِه السّنة: كملت عمَارَة قلعة حلب وَكتب عَلَيْهَا اسْم الْملك الْأَشْرَف. وفيهَا أخرج بولدي الْملك الظَّاهِر بيبرس وهما المسعود نجم الدّين خضر والعادل بدر الدّين سلامش من الاعتقال ونفيا إِلَى ملك الفرنج فَسَار بهما - ومعهما والدتهما - الْأَمِير عز الدّين أيبك الْموصِلِي الأستادار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَحَملهمْ فِي الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَلَمَّا وصلوا أكْرمهم الأشكري متملكها وأجرى عَلَيْهِم مَا تقوم بهم، وَكَانَت حرمهم مَعَهم.(2/230)
وفيهَا كملت عمَارَة قلعة حلب وَكَانَ الْأَمِير قرا سنقر نَائِب حلب قد شرع فِي عمَارَة حلب فأحكم بنيانها وأدار سورها وَأقَام شَعَائِر جَامعهَا وَكَانَ لَهَا مُنْذُ خربها هولاكو ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة خراباه وَوَقع الشُّرُوع فِي عمَارَة دمشق من شَوَّال فبنيت بهَا الأدر السُّلْطَانِيَّة والطارمة والقبة الزَّرْقَاء وَتُوفِّي ذَلِك الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي وَبَالغ فِي تحسينها فَكَانَت جملَة مَا عمل فِي سقوفها أَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال ذهب. وفيهَا لم يحجّ الشريف أَبُو نمي خوفًا من المصريين. وَفِي شهر ربيع الأول مِنْهَا: مَاتَ ملك الططر بِفَارِس وَهُوَ أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان وَملك بعده أَخُوهُ كيختو بن أبغا وَترك أرغون وَلدين وهما قازان وخربندا وَكَانَا بخراسان فأفحش كيختو فِي الْفسق بنسوان الْمغل واللواط بولدانهم حَتَّى أبغضته رَعيته وفيهَا مَاتَ قَتِيلا تلابغا بن منكوتمر بن طوغان قَتله نغيه بن معل بن ططر بن دوشي خَان بن جنكزخان. وَقَامَ بعده فِي الْملك طقطغا بن منكوتمر بن طوخان وَهُوَ ابْن عَم تلابغا فرتب نغيه إخْوَة طقطغا مَعَه وهم بزلك وصراي بغا وتدان. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان السُّلْطَان الْملك الْعَادِل سلامش بن الظَّاهِر بيبرس بِبَلَد اسطنبول عَن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَمَات القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان ملك التتار بِفَارِس فِي ربيع الأول عَن نَحْو سبع سِنِين من ملكه وَقَامَ من بعده أَخُوهُ كيختو بن أبغا. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع الْفَزارِيّ الشَّافِعِي فَقِيه الشَّام عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة بِدِمَشْق.(2/231)
وَتُوفِّي الْمسند فَخر الدّين أَبُو الْحسن على بن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن مَنْصُور الْمَعْرُوف ابْن البُخَارِيّ الْمَقْدِسِي السَّعْدِيّ عَن أَربع وَتِسْعين سنة بِدِمَشْق وَقد انْفَرد بعلو الْإِسْنَاد. وَتُوفِّي خطيب حلب شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن الزبير بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ الخابوري الشَّافِعِي عَن تسعين سنة بحلب. وَتُوفِّي خطيب حماة وفقيهها بدر الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الله بن المغيزل الْعَبْدي الْحَمَوِيّ بهَا عَن سبعين سنة قدم الْقَاهِرَة. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن على بن الْكَمَال أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم ابْن خلف بن نَبهَان بن الزملكاني الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي بِدِمَشْق عَن نَيف وَخمسين سنة. وَتُوفِّي محيي الدّين أَبُو يعلى مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْمُنعم بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَمِين الدولة الرعباني الْحلَبِي الْحَنَفِيّ عَن نَيف وَثَمَانِينَ سنة بحلب. وَتُوفِّي الْعَفِيف أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان على بن عبد الله بن على بن ياسين التلمساني العابدي عَن ثَمَانِينَ سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي طَبِيب الشَّام عز الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن نجم بن طرخان الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي عَن تسعين سنة. وَتُوفِّي الأديب شرف الدّين عيسي بن فَخر الدّين أياز بن عبد الله الْوَالِي.(2/232)
سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي رَابِع عشر صفر: وَقع حريق فِي بعض خَزَائِن قلعه الْجَبَل تلف فِيهِ كثير من الْكتب وَغَيرهَا. وَفِي جُمَادَى عشر ربيع الأول: ختم بالقبة المنصورية. وَنزل السُّلْطَان وَتصدق بِمَال كثير. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشريه: خطب الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله بِجَامِع قلعة الْجَبَل خطة بليغة حث فِيهَا على الْجِهَاد وَصلي بِالنَّاسِ صَلَاة الْجُمُعَة. وَفِيه نُودي بالنفير للْجِهَاد وَخرج السُّلْطَان فِي الثَّامِنَة من يَوْم السبت ثامن ربيع الآخر بِجَمِيعِ عساكره فورد الْبَرِيد بِأَن التتار أَغَارُوا على الرحبة وَاسْتَاقُوا مواشي كَثِيرَة وَخرجت إِلَيْهِم تجريدة من دمشق. وَفِي يَوْم السبت سادس جُمَادَى الأولى: دخل السُّلْطَان إِلَى دمشق وَأنْفق فِي العساكر يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامنه. وَفِي نصفه: تزوج الْأَمِير سنقر الأعسر بِابْنِهِ الصاحب شمس الدّين بن السلعوس على صدَاق جملَته ألف وَخَمْسمِائة دِينَار الْمُعَجل مبلغ خَمْسمِائَة دِينَار. وَفِيه وصل الْملك المظفر صَاحب حماة وَعرض السُّلْطَان عساكره وَقدم جَيش الشَّام فَسَار إِلَى حلب. ثمَّ خرج السُّلْطَان من دمشق فِي الْخَامِسَة من يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشره فَدخل حلب فِي ثامن عشريه وَخرج مِنْهَا فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة يُرِيد قلعة الرّوم فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الثُّلَاثَاء ثامنه وَنصب عشْرين منجنيقا وَرمي عَلَيْهَا وعملت النقوب وَعمل الْأَمِير سنجر الشجاعي نَائِب دمشق سلسلة وشبكها فِي شراريف القلعة وأوثق طرفها بِالْأَرْضِ فَصَعدَ الأجناد فِيهَا وقاتلوا قتالاً شَدِيدا فَفتح الله القلعة يَوْم السبت حادي(2/233)
عشر رَجَب عنْوَة وَقتل من بهَا من الْمُقَاتلَة وَسبي الْحَرِيم وَالصبيان وَأخذ بترك الأرمن وَكَانَ بهَا فَأسر. وَكَانَت مُدَّة حصارها ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقد سَمَّاهَا السُّلْطَان قلعة الْمُسلمين فَعرفت بذلك وَحمل إِلَيْهَا زردخاناه وألفا ومائتي أَسِير وَاسْتشْهدَ عَلَيْهَا الْأَمِير شرف الدّين بن الخطير. فَلَمَّا وَردت البشائر إِلَى دمشق بِفَتْح قلعة الرّوم زينت الْبَلَد ودقت البشائر ورتب السُّلْطَان الْأَمِير سنجر الشجاعي نَائِب الشَّام لعمارة قلعة الْمُسلمين فعمر مَا هدمته المجانيق والنقوب وَخرب ربضها. وَعَاد السُّلْطَان رَاجعا فِي يَوْم السبت ثامن عشره فَأَقَامَ بحلب إِلَى نصف شعْبَان وعزل قرا سنقر عَن نِيَابَة حلب وَولي عوضه الْأَمِير سيف الدّين بلبان الطباخي المنصوري ورتب بهَا الْأَمِير عز الدّين أيبك الْموصِلِي شاد الدَّوَاوِين ورحل السُّلْطَان إِلَى دمشق فَدَخلَهَا فِي الثَّانِيَة من بوم الثُّلَاثَاء عشري شعْبَان وَبَين يَدَيْهِ بترك الأرمن صَاحب قلعة الرّوم وعدة من الأسري. وَفِيه خرج الْأَمِير بدر الدّين بيدرا نَائِب السلطنة بديار مصر وَمَعَهُ مُعظم الْعَسْكَر إِلَى جبال كسروان من جِهَة السَّاحِل فَلَقِيَهُمْ أهل الْجبَال وَعَاد بيدرا شبه الْمَهْزُوم واضطرب الْعَسْكَر اضطرابا عَظِيما فطمع أهل الْجبَال فيهم وتشوش الْأُمَرَاء من ذَلِك وحقدوا على بيدرا ونسبوه أَنه أَخذ مِنْهُم الرِّشْوَة. فَلَمَّا عَاد إِلَى دمشق تَلقاهُ السُّلْطَان وترحل لَهُ عِنْد السَّلَام عَلَيْهِ وعاتبه سرا فِيمَا كَانَ مِنْهُ فَمَرض بيدرا حَتَّى أشفي على الْمَوْت وتحدث أَنه سقِِي السم ثمَّ عوفي وَتصدق فِي رَمَضَان بصدقات جمة ورد أملاكا اغتصبها لأربابها وَأطلق عدَّة من سجونه وَفِي خَامِس عشر شهر رَمَضَان: توفّي محيي الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الظَّاهِر صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء وَهُوَ بِدِمَشْق فأجري السُّلْطَان معلومه على وَلَده عَلَاء الدّين على وَجعله من جملَة كتاب الْإِنْشَاء. وَأقر السُّلْطَان فِي ديوَان الْإِنْشَاء تَاج الدّين أَحْمد بن سعيد بن مُحَمَّد بن الْأَثِير التنوخي الْحلَبِي عوضا عَن ابْن عبد الظَّاهِر. وَفِيه كثر موتان الْجمال حَتَّى حمل الْأُمَرَاء أثقالهم على الْخَيل فَأذن السُّلْطَان لِضُعَفَاء الْعَسْكَر فِي الْعود إِلَى الْقَاهِرَة فَسَارُوا من دمشق فِي ثَانِي عشريه. وَحضر الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري من قلعة الْجَبَل بَعْدَمَا أفرج عَنهُ فأنعم عَلَيْهِ بإمرة فِي ديار مصر.(2/234)
وَفِي لَيْلَة عيد الْفطر: فر الْأَمِير حسام الدّين لاجين الصَّغِير من دَاره بِدِمَشْق خوفًا من السُّلْطَان لما بلغه من أَنه يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ فَنُوديَ بِدِمَشْق من أظهر لاجين فَلهُ ألف دِينَار وَمن أخفاه شنق وَركب السُّلْطَان فِي خاصته وَترك سماط الْعِيد وسَاق فِي طلب لاجين وَأخذ عَلَيْهِ الطَّرِيق ثمَّ عَاد بعد الْعَصْر فِي أَسْوَأ حَال من التَّعَب وَلم يجد لَهُ أثرا فقلق. وَاتفقَ أَن لاحين نزل على طَائِفَة من الْعَرَب فقبضوه وأحضروه إِلَى السُّلْطَان فاعتقله. وَقبض السُّلْطَان على الْأَمِير ركن الدّين بيبرس طقصوا حمي لاجين وَحمل هُوَ ولاجين إِلَى قلعة الْجَبَل بِمصْر. وَفِي سادسه: اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ فِي نِيَابَة دمشق عوضا عَن الشجاعي وَاسْتقر الْأَمِير سيف الدّين طغريل الإيغاني نَائِبا بالفتوحات عوضا عَن بلبان الطباخي بِحكم انْتِقَاله إِلَى نِيَابَة حلب. وَفِيه قدم الشجاعي من قلعة الْمُسلمين بَعْدَمَا عمر مَا هدم مِنْهَا فشق عَلَيْهِ عَزله عَن دمشق. وَفِي الثُّلُث الآخر من لَيْلَة الثُّلَاثَاء تاسعه: خرج السُّلْطَان من دمشق عَائِدًا إِلَى مصر بَعْدَمَا رسم لجَمِيع أهل الْأَسْوَاق أَن يخرج كل وَاحِد مِنْهُم وَبِيَدِهِ شمعة موقودة عِنْد ركُوب السُّلْطَان فَخَرجُوا بأجمعهم ورتبوا من بَاب النَّصْر إِلَى مَسْجِد الْقدَم فعندما ركب السُّلْطَان أشعلت تِلْكَ الشموع دفْعَة وَاحِدَة فَسَار بَينهَا حَتَّى نزل مخيمه. وَنقل محيي الدّين بن النّحاس من نظر دواوين دمشق إِلَى نظر الخزانة عوضا عَن أَمِين الدّين بن هِلَال وأقيم فِي نظر دواوين دمشق جمال الدّين بن إِبْرَاهِيم بن صصرى وَاسْتقر الْأَمِير شمس الدّين قرا سنقر الجوكندار المنصوري مقدم المماليك السُّلْطَانِيَّة. وَقدم السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي ذِي الْقعدَة وَدخل من بَاب النَّصْر وَصعد إِلَى القلعة من بَاب زويلة. وَقد عمل من الزِّينَة والقلاع والتهاني شَيْء كثير وأوقد من الشموع مَا يجل وَصفه فَإِن النَّاس احتفلوا لذَلِك احتفالا عَظِيما فاق جَمِيع مَا تقدم فِي مَعْنَاهُ. وَولي صحابه ديوَان الْإِنْشَاء عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن سعيد ابْن مُحَمَّد بن الْأَثِير بعد وَفَاة وَالِده فَإِن وَالِده لم يقم فِي كِتَابَة السِّرّ إِلَّا نَحْو شهر، وَمَات بغرة عِنْد عوده من دمشق فِي تَاسِع عشر شَوَّال.(2/235)
وَفِي ذِي الْقعدَة: ندب الْوَزير ابْن السلعوس الْعلم ابْن بنت الْعِرَاقِيّ لمرافعة تَقِيّ الدّين ابْن بنت الْأَعَز وَعقد لَهُ مجْلِس وادعي عَلَيْهِ الْعلم الْمَذْكُور بعظائم فاستمر فِي المحنة بَقِيَّة السّنة. وَفِي آخر ذِي الْحجَّة: قبض على الْأَمِير شمس الدّين سنقر الْأَشْقَر والأمير سيف الدّين جرمك الناصري والأمير سيف الدّين الهاروني والأمير بدر الدّين بكتوت واعتقلوا. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان الْملك المظفر قرا أرسلان بن السعيد غَازِي بن الْمَنْصُور أرتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صَاحب ماردين بَعْدَمَا ملك ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة. وَمَات الْأَمِير سنقر الْأَشْقَر عَن سبعين سنة. وَتُوفِّي كَاتب السِّرّ فتح الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن محيي الدّين أبي الْفضل عبد الله بن عبد الظَّاهِر عَن أَربع وَخمسين سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي كَاتب السِّرّ تَاج الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن. شرف الدّين أبي الْفضل سعيد ابْن مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَثِير الْحلَبِي بغزة. وَمَات مجد الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الطَّبَرِيّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي بالقدس عَن اثْنَيْنِ وَتُوفِّي كَاتب الْإِنْشَاء بِدِمَشْق سعد الدّين أَبُو الْفضل سعد الله بن مَرْوَان أبي عبد الله الفارقي وَهُوَ فِي عشر السِّتين. وَتُوفِّي كَمَال الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن عبد الْمُنعم بن هبة الله بن مُحَمَّد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَمِين الدولة الْحلَبِي بِالْقَاهِرَةِ عَن سبعين سنة. وَتُوفِّي فَخر الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن خضر بن غزي عَامر الْأنْصَارِيّ الْمصْرِيّ الْمُؤَدب فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَهُوَ فِي عشر الثَّمَانِينَ وَقد حدث عَن ابْن باقا ومكرم الْفَارِسِي.(2/236)
وفيهَا قبض الْأَمِير بكتوت على الشريف رَاجِح بن إِدْرِيس من يَنْبع وَحمله إِلَى مصر وَكَانَت الْخطْبَة بِمَكَّة للأشرف خَلِيل إِلَى آخر ربيع الأول ثمَّ انْقَطَعت لانْقِطَاع أَخْبَار مصر فَلَمَّا قدم الْحجَّاج وهم قَلِيل حج أَبُو نمي وَقدم حَاج الشَّام فِي ركبين وَكَانَت جفلة بِعَرَفَة وَعز المَاء فأبيعت الراوية بأَرْبعَة دَنَانِير مَكِّيَّة.(2/237)
فارغة(2/238)
سنة اثْنَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي لَيْلَة أول الْمحرم: أخرج من فِي الْجب من الْأُمَرَاء: وهم سنقر الْأَشْقَر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين وَأمر بخنقهم قُدَّام السُّلْطَان فخنقوا بأجمعهم حَتَّى مَاتُوا. وتولي خنق لاجين الْأَمِير قرا سنقر فَلَمَّا وضع الْوتر فِي عُنُقه انْقَطع فَقَالَ: يَا خوند مَالِي ذَنْب إِلَّا حميي طقصوا وَقد هلك وَأَنا أطلق ابْنَته. وَكَانَ قرا سنقر لَهُ بِهِ عناية فتلطف بِهِ وَلم يعجل عَلَيْهِ لما أَرَادَ الله من أَن لاجين يقتل الْأَشْرَف وَيملك مَوْضِعه وانتظر أَن تقع بِهِ شَفَاعَة. فشفع الْأَمِير بدر الدّين بيدرا فِي لاجين وساعده من حضر من الْأُمَرَاء فعفي عَنهُ ظنا أَنه لَا يعِيش فَحمل وَكَانَ من أمره مَا سَيذكرُهُ إِن شَاءَ الله. وَفِي أول الْمحرم: اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين أيبك الخازندار المنصوري فِي نِيَابَة طرابلس والحصون عوضا عَن طغريل الإيغاني فَسَار من الْقَاهِرَة. وَفِي رابعه: سَار السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل إِلَى الصَّعِيد واستخلف الْأَمِير بيدرا النَّائِب بقلعة الْجَبَل وَهُوَ مَرِيض. فانتهي السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة قوص ونادي هُنَاكَ بالتجهيز لغزو الْيمن. وكشف الْوَزير السلعوس الْوَجْه القبلي فَوجدَ الْجَارِي فِي ديوَان الْأَمِير بيدرا من الْجِهَات عَمَّا هُوَ فِي إقطاعاته وَمَا اشْتَرَاهُ وَمَا حماة أَكثر مِمَّا هُوَ جَار فِي الْخَاص السلطاني وَوجد الشون السُّلْطَانِيَّة بِالْوَجْهِ القبلي خَالِيَة من الغلال وشون بيدرا مَمْلُوءَة. فأبلغ ذَلِك إِلَى السُّلْطَان وأغراه ببيدرا حَتَّى تغير عَلَيْهِ فَبلغ الْخَبَر بيدرا فخاف وَأخذ يتلافي الْأَمر وجهز تقدمة جليلة مِنْهَا خيمة أطلس أَحْمَر بأطناب حَرِير وأعمدة صندل محلاة ومفصلة بِفِضَّة مذهبَة وبسطها من حَرِير وضربها بِنَاحِيَة العدوية مَعَ مَا أعده. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان نزل بهَا وَلم يكترث بالتقدمة وطلع إِلَى القلعة فارتجع عدَّة من جِهَات بيدرا للخاص السلطاني. وَفِي صفر: وَقع بغزة والرملة ولد والكرك زلازل عَظِيمَة هدمت ثَلَاثَة أبراج(2/239)
من قلعة الكرك وتوالت الأمطار والسيول حَتَّى خربَتْ طواحين العوجاء وتكسرت أحجارها وَوجد فِي السَّيْل أحد عشر أسداً موتِي وزلزلت أَيْضا الْبِلَاد الساحلية فانهدمت عدَّة أَمَاكِن فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك خرج الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الشجاعي من فِي دمشق لعمارة مَا تهدم بمرسوم شرِيف. وَورد كتاب الْأَمِير عز الدّين أيبك الرُّومِي من قلعة الْمُسلمين بِطَلَب ثَلَاثِينَ سراقوجا حَتَّى إِذا وَجه لكشف أَخْبَار الْعَدو لبسهَا من يَبْعَثهُ فَلَا يعرف من هم. وَفِيه عبي السُّلْطَان برسم الْأَمِير حسام الدّين مهنا بن عيسي ملك الْعَرَب تعبئة قماش حَرِير بِسَبَب زواج ابْنَته وَأمر بِعَمَل تعبئة لوالدته أَيْضا وجهز ذَلِك على يَد حَاجِبه من الخزانة. ورسم السُّلْطَان بِبِنَاء بِئْر فِي الْعَريش وَأخرج لَهَا عدَّة من الغواصين فَلَمَّا تمّ بناؤها ركب عَلَيْهَا ساقية. وَفِيه قتل عَلَاء الدّين البريدي وَإِلَى الأشمونين نَفسه فاستقر عوضه بكتمر الموسكي. وَقبض على الْأَمِير عز الدّين أزدمر العلائي أحد أُمَرَاء دمشق وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَقدم أول ربيع الأول. وَفِيه رسم بتجهيز العساكر إِلَى دمشق فَسَار بهَا الْأَمِير بيدرا ثمَّ سَار الْوَزير بالخزائن. وَركب السُّلْطَان على الهجن فِي أول جُمَادَى الأولى وَمَعَهُ جمَاعه من أمرائه وخواصه وَسَار إِلَى الكرك من غير الدَّرْب الَّذِي يسْلك مِنْهُ إِلَى الشَّام فرتب أحوالها. وَتوجه إِلَى دمشق فَقَدمهَا فِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة بعد وُصُول الْأَمِير بيدرا والوزير بِثَلَاثَة أَيَّام فَأمر بالتجهيز إِلَى بهسنا وَأَخذهَا من الأرمن أهل سيس. فَقدم رسل سيس يطْلبُونَ الْعَفو فاتفق الْحَال مَعَهم على تَسْلِيم بهسنا ومرعش وتل حمدون فَسَار الْأَمِير طوغان وَإِلَى الْبر بِدِمَشْق مَعَهم ليتسلما وَقدم الْبَرِيد إِلَى دمشق بتسليمها فِي أول رَجَب فدقت البشائر.(2/240)
وَاسْتقر الْأَمِير بدر الدّين بكتاش فِي نِيَابَة بهسنا وَعين لَهَا قَاض وخطيب واستخدم لَهَا رجال وحفظة. وَقدم الْأَمِير طوغان وَمَعَهُ رسل سيس بِالْحملِ والتقادم إِلَى دمشق فِي ثَانِي عشريه بعد توجه السُّلْطَان فتبعوه. وَكَانَ السُّلْطَان قد خرج فِي ثَانِي رَجَب إِلَى حمص وَمَعَهُ جمَاعَة من الْعَسْكَر وَقد سير ضعفة الْعَسْكَر إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ سَار من حمص إِلَى سلمية وطرق مهنا بن عيسي بن مهنا بن مَانع بن حَدِيثَة بن غضية بن فضل بن ربيعَة أَمِير آل فضل وَقبض عَلَيْهِ وعَلى إخواته مُحَمَّد وَفضل ووهبة وبعثهم مَعَ الْأَمِير حسام الدّين لاجين إِلَى دمشق فَقَدمهَا لاجين فِي سابعه. وَقدم السُّلْطَان فِي يَوْمه أَيْضا فَأَقَامَ فِي إمرة الْعَرَب الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن على بن حَدِيثه بن غضية بن فضل بن ربيعَة أَمِير آل على. وَبعث السُّلْطَان الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم أَمِير جاندار إِلَى الشوبك فهدم قلعتها وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا قلتهَا فَقَط. وَفِي شهر رَجَب: وَقع ببعلبك أمطار وسيول خَارِجَة عَن الْحَد ففد من كرومها ومزارعها ومساكنها مَا تزيد قِيمَته على مائَة ألف دِينَار. وَفِي حادي عشره: سَار الْأَمِير بيدرا بالعساكر والوزير ابْن السلعوس بالخزائن من دمشق ثمَّ ركب السُّلْطَان فِي خواصه يَوْم السَّبَب ثَالِث عشره فَقدم غَزَّة بكرَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشره وَدخل قلعة الْجَبَل فِي ثامن عشريه وَقدم الْأَمِير بيدرا بِمن مَعَه أول شعْبَان. وَفِيه ولي طوغان وَإِلَى الْبر بِدِمَشْق نِيَابَة قلعة الْمُسلمين وَولي أسندمر كرجي بر دمشق. وَفِي شعْبَان: اسْتَقر شمس الدّين أَحْمد السرُوجِي الْحَنَفِيّ فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ بعد وَفَاة قَاضِي الْقُضَاة معز الدّين نعْمَان بن الْحسن بن يُوسُف الخطيبي الأرزنكاني. وَفِي أول شهر رَمَضَان: أفرج عَن تَقِيّ الدّين ابْن بنت الْأَعَز بَعْدَمَا اشْتَدَّ بِهِ الْبلَاء واعتقل فِي سجن الحكم وتوعد بِالْقَتْلِ فَعَاد إِلَى بَيته بالشافعي من القرافة ومدح ابْن السلعوس بقصدة أَرَادَ إنشادها بِنَفسِهِ فَحلف الْوَزير عَلَيْهِ فأنشدها أَخُوهُ عَلَاء الدّين. ثمَّ إِنَّه ثبتَتْ بَرَاءَته مِمَّا رمي بِهِ وَفِي يَوْم السبت ثَانِي شَوَّال: قبض على الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم أَمِير جاندار وأحبط على جَمِيع موجوده بِمصْر وَالشَّام.(2/241)
وَفِي ذِي الْحجَّة: رسم بِعَمَل المهم لختان الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد أخي السُّلْطَان فنصب القبق تَحت القلعة مِمَّا يَلِي بَاب النَّصْر فِي الْعشْرين مِنْهُ وَفرقت الْأَمْوَال وَالْخلْع على من أصَاب فِي رميه وَكَانَ قد رسم بِعرْض العساكر بِحُضُور الْأَمِير بيدرا فأقامت فِي الْعرض أَيَّامًا فَرمي بيدرا بتغاضيه وَأَن بعض الْعَسْكَر يستعير الْعدة فرسم بِعرْض الْجَمِيع جملَة وَاحِدَة فِي الميدان فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَمِمَّنْ أصَاب فِي رمي القبق الْأَمِير بيسري فأنعم عَلَيْهِ بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار عينا سوي الْخلْع وَغَيرهَا وختن الْأَمِير مُحَمَّد وَأَوْلَاد الْأُمَرَاء فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ فِي ثَانِي عشريه ونثر الْأُمَرَاء الذَّهَب حَتَّى امْتَلَأت الطشوت مِنْهُ. وَفِي آخر ذِي الْحجَّة: اسْتَقر فِي كِتَابَة السِّرّ القَاضِي شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْعمريّ عوضا عَن عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْأَثِير. وَفِي هَذِه السّنة: خطب الشريف أَبُو نمي بِمَكَّة للْملك الْأَشْرَف بَعْدَمَا كَانَ يخْطب فِيهَا لصَاحب الْيمن وَنقش السِّكَّة أَيْضا باسمه وجهز بذلك محَاضِر مَعَ ابْن الْقُسْطَلَانِيّ. وفيهَا قدم رسل كيختو ملك التتار بكتابه يتَضَمَّن إِنَّه يُرِيد الْإِقَامَة بحلب فَإِنَّهَا مِمَّا فَتحه أَبوهُ هولاكو وَإِن لم يسمح لَهُ بذلك أَخذ بِلَاد الشَّام. فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بِأَنَّهُ قد وَافق القان مَا كَانَ فح نَفسِي فَإِنِّي كنت على عزم من أَخذ بَغْدَاد وَقتل رِجَاله فَإِنِّي أَرْجُو أَن أردهَا دَار إِسْلَام كم كَانَت وسينظر أَيّنَا يسْبق إِلَى بِلَاد صَاحبه وَكتب إِلَى بِلَاد الشَّام بتجهيز الإقامات وَعرض العساكر. وفيهَا وقف الْحجَّاج يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَلم يصلوا الْجُمُعَة من خوف الْعَطش لقلَّة المَاء. وَحلف أَمِير الركب الشريف أَبَا نمي يَمِينا إِنَّه يتَوَجَّه إِلَى السُّلْطَان وَكَانَ قد أعطَاهُ ألف دِينَار عينا بعث بهَا إِلَيْهِ السُّلْطَان من مصر. وفيهَا تلف فِي الْبَحْر سِتَّة عشر مركبا من جلاب الْيمن أَكْثَرهَا من عدن.(2/242)
وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْملك الْأَفْضَل على بن المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر عمر بن شاهنشاه ابْن أَيُّوب بن شادي صَاحب حماة وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى الْقَاهِرَة عَن سبع وَخمسين سنة. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر الْحلَبِي الثائر بِدِمَشْق وَهُوَ من أَبنَاء الثَّمَانِينَ بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيّ معز الدّين أَبُو عبد الله النُّعْمَان بن الْحسن بن يُوسُف الخطيبي وَتُوفِّي محيي الدّين أَبُو الْفضل عبد الله بن رشيد الدّين مُحَمَّد عبد الظَّاهِر بن نشوان ابْن عبد الظَّاهِر السَّعْدِيّ الْكَاتِب لِسَان ديوَان الْإِنْشَاء عَن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَبُو الْمَعَالِي أَحْمد بن الْحَافِظ جمال الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن على ابْن مَحْمُود بن أَحْمد بن على بن الصَّابُونِي المحمودي بِالْقَاهِرَةِ عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة. وَتُوفِّي كَمَال الدّين أَبُو عَبَّاس أَحْمد بن زيد الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن رَضِي الدّين أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن هبة الله بن عبد الْقَادِر بن عبد الْوَاحِد بن طَاهِر بن يُوسُف بن النصيبي الْحلَبِي بهَا عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة لَهُ رحْلَة. وَتُوفِّي قدوة الشَّام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن قدوة الشَّام يُوسُف الْمَدْعُو عبد الله بن يُونُس بن إِبْرَاهِيم بن سلمَان الأرموي الزَّاهِد عَن سبع وَسبعين سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي الأديب كَمَال الدّين أَبُو الْحسن على بن على بن مُحَمَّد بن الْمُبَارك بن سَالم ابْن الأعمي الدِّمَشْقِي بهَا عَن اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة.(2/243)
فارغة(2/244)
سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي ثَالِث الْمحرم: عدي السُّلْطَان النّيل إِلَى بر الجيزة يُرِيد الْبحيرَة للصَّيْد وَمَعَهُ الْأَمِير بيدرا والوزير ابْن السلعوس. واستخلف بقلعة الْجَبَل الْأَمِير على الدّين سنجر الشجاعي وَقد اشتدت الْعَدَاوَة بَين الْأَمِير بيدرا وَبَين ابْن السلعوس. فوصل السُّلْطَان إِلَى تروجة وَنزل بهَا وَتوجه الْوَزير إِلَى الاسكندرية ليعبي القماش وَيحصل الْأَمْوَال بَعْدَمَا خلع السُّلْطَان عَلَيْهِ طرد وَحش. فَوجدَ الْوَزير أَن نواب بيدرا قد استولوا على المتاجر والاستعمالات فَكتب يعرف السُّلْطَان ذَلِك ويغريه ببيدرا وَأَنه لم يجد بالثغر مَا يَكْفِي الإطلاقات على جاري الْعَادة. فَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان وَطلب بيدرا وسبه بِحَضْرَة الْأُمَرَاء وتوعده بِأَنَّهُ لابد أَن يُمكن ابْن السلعوس من ضربه بِمَا لَا يذكر. فتلطف بيدرا حَتَّى خرج إِلَى مخيمه وَقد اشْتَدَّ خَوفه فَجمع أَعْيَان الْأُمَرَاء من خشداشيته وَمِنْهُم الْأَمِير لاجين والأمير قرا سنقر وَمن يُوَافقهُ وَقرر مَعَهم قتل السُّلْطَان فَإِنَّهُ كَانَ قد أذن لِلْأُمَرَاءِ الأكابر أَن يخرجُوا إِلَى إقطاعاتهم فَسَارُوا إِلَيْهَا وَبَقِي فِي خواصه إِلَى يَوْم تاسوعاء. فتوصل الْأَمِير بيدرا إِلَى أَن أُشير على السُّلْطَان بتقدم الْعَسْكَر إِلَى الْقَاهِرَة فَبعث الْأَمِير سيف الدّين أَبَا بكر بن الجمقدار نَائِب أَمِير جاندار إِلَى بيدرا يَأْمُرهُ أَن يسير تَحت الصناجق بالأمراء والعسكر فَلَمَّا بلغه نَائِب أَمِير جاندار الرسَالَة نفر فِيهِ ثمَّ قَالَ لَهُ السّمع وَالطَّاعَة وَقد تبين الْغَضَب فِي وَجهه فَرجع ابْن أَمِير جاندار وَحمل الزردخاناه وَسَار ورحل الدهليز والعسكر. وَأصْبح السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء فَبَلغهُ أَن بتروجة طيراً كثيرا فساق وَضرب حَلقَة صيد وَعَاد إِلَى مخيمه آخر النَّهَار. ثمَّ لما كَانَ الْحَادِي عشر توجه النَّاس إِلَى الْقَاهِرَة وَحضر بيدرا وَمن قرر مَعَه قتل السُّلْطَان إِلَى الدهليز فَلم يخرج السُّلْطَان وَأَعْطَاهُمْ دستوراً فتوجهوا إِلَى خيامهم.(2/245)
وَركب السُّلْطَان جَرِيدَة وَلَيْسَ مَعَه سوي الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن الأشل أَمِير شكار وَأَرَادَ أَن يسْبق الخاصكية فرأي طيراً فصرع مِنْهُ بالبندق شَيْئا كثيرا ثمَّ الْتفت إِلَى أَمِير شكار وَقَالَ. أَنا جيعان فَهَل مَعَك مَا آكل فَقَالَ: وَالله مَا معي غير رغيف وَاحِد فرج فِي صولقي ادخرته لنَفْسي فَقَالَ: ناولنيه فَنَاوَلَهُ ذَلِك فَأَكله كُله. ثمَّ قَالَ لَهُ: أمسك فرسي حَتَّى أنزل أبول وَكَانَ الْأَمِير شهَاب الدّين ينبسط مَعَ السُّلْطَان فَقَالَ: مَا فِيهَا حِيلَة السُّلْطَان ركب حصانا وَأَنا رَاكب حجر وَمَا يتفقان. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: أنزل أَنْت واركب خَلْفي حَتَّى أنزل أَنا فَنزل وناول السُّلْطَان عنان فرسه وَركب خَلفه فَنزل السُّلْطَان وَقضي حَاجته ثمَّ قَامَ وَركب حصانه ومسك فرس أَمِير شكار حَتَّى ركب وأخذا يتحدثان. فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعَصْر: بعث بيدرا من كشف لَهُ خبر السُّلْطَان فَقيل لَهُ لَيْسَ مَعَه أحد كشف. بِمن وَافقه. فَلم يشْعر السُّلْطَان إِلَّا بغبار عَظِيم قد ثار فَقَالَ لأمير شكار: اكشف خبر هَذَا الْغُبَار. فساق إِلَيْهِ فَوجدَ الْأَمِير بيدرا وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء فَسَأَلَهُمْ فَلم يُجِيبُوهُ. ومروا فِي سوقهم حَتَّى وصلوا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ وَحده فابتدرا بِالسَّيْفِ وضربه أبان يَده ثمَّ ضربه ثَانِيًا هد كتفه. فَتقدم الْأَمِير لاجين إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا بيدرا من يُرِيد ملك مصر وَالشَّام تكون هَذِه ضَربته وَضرب السُّلْطَان على كتفه حلّه فَسقط إِلَى الأَرْض فَجَاءَهُ بهادر رَأس نوبَة وَأدْخل السَّيْف فِي دبره واتكا عَلَيْهِ إِلَى أَن أخرجه من حلقه. وتناوب الْأُمَرَاء ضربه بِالسُّيُوفِ: وهم قرا سنقر وآقسنقر الحسامي ونوغاي وَمُحَمّد خواجا وطرنطاي الساقي وألطنبغا رَأس نوبَة وَذَلِكَ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر الْمحرم. فَبَقيَ الْملك الْأَشْرَف ملقي فِي الْمَكَان الَّذِي قتل بِهِ يَوْمَيْنِ ثمَّ جَاءَ الْأَمِير عز الدّين أيدمر العجمي وَإِلَى تروجة فَوَجَدَهُ فِي مَوْضِعه عُريَانا بَادِي الْعَوْرَة فَحَمله على جمل إِلَى دَار الْولَايَة وغسله فِي الْحمام وكفنه وَجعله فِي بَيت المَال بدار الْولَايَة إِلَى أَن قدم الْأَمِير سعد الدّين كوجبا الناصري من الْقَاهِرَة وَحمله فِي تابوته الَّذِي كَانَ فِيهِ إِلَى تربته بِالْقربِ من المشهد النفيسي ظَاهر مصر وَدَفنه بهَا سحر يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشري صفر. فَكَانَت مُدَّة سلطنتة ثَلَاث سِنِين وشهرين وَأَرْبَعَة أَيَّام وعمره نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَمَات عَن ابْنَتَيْن وَلم يتْرك ولدا ذكرا. وَكَانَ ملكا كَرِيمًا شجاعاً مقداماً سريع الْحَرَكَة مظفراً(2/246)
فِي حروبه: فتح عكا وصور وبيروت وبهسنا وقلعة الرّوم. وَكَانَ مَعَ مَا فِيهِ من شدَّة البادرة حسن النادرة يطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط لَا يعلم على مَكْتُوب حَتَّى يقرأه كُله ولابد أَن يستدرج على الْكتاب فِيهِ مَا يتَبَيَّن لَهُم فِيهِ الصَّوَاب إِلَّا أَنه تعاظم فِي آخر أَيَّامه وَصَارَ لَا يكْتب اسْمه وَإِنَّمَا يكْتب خَ إِشَارَة إِلَى أول حُرُوف اسْمه وَمنع أَن يكْتب لأحد الزعيمي وَقَالَ. من زعيم الجيوش غَيْرِي! وأبطل من دمشق مشمسا كَانَ يُؤْخَذ فِي بَاب الْجَابِيَة على كل حمل قَمح خَمْسَة دَرَاهِم وَكتب بِخَطِّهِ الَّذِي يكْتب بِهِ الْعَلامَة بَين أسطر المسموح الَّذِي كتب بِإِبْطَال ذَلِك مَا نَصه: ولنكشف عَن رعايانا هَذِه الظلامة ونستجلب الدُّعَاء لنا من الْخَاصَّة والعامة. وَأما الْأُمَرَاء فَإِن الْأَمِير زين الدّين كتبغا المنصوري كَانَ قد انْفَرد وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء عَن الْملك الْأَشْرَف وَسَارُوا للصَّيْد وَبَقِي فِي الدهليز السلطاني من الْأُمَرَاء سيف الدّين برغلي وركن الدّين بيبرس الجاشنكير وحسام الدّين لاحين الأستادار وَبدر الدّين بكتوت العلائي وَجَمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة. فَلَمَّا قتل بيدرا السُّلْطَان عَاد بِمن مَعَه من الْأُمَرَاء وَنزل بالدهليز وَجلسَ فِي دست السلطة وَقَامَ الْأُمَرَاء فقبلوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وحلفوا لَهُ وتلقب بِالْملكِ الأوحد وَقيل الْمُعظم وَقيل الْملك القاهر. ثمَّ قبض بيدرا على الْأَمِير بيسري والأمير بكتمر السِّلَاح دَار أَمِير جاندار وَقصد قَتلهمَا ثمَّ تَركهمَا تَحت الِاحْتِيَاط لشفاعة الْأُمَرَاء فيهمَا وَركب إِلَى الطرانة فَبَاتَ بهَا. وَقد سَار الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة وَمَعَهُمْ الْأَمِير برغلي وهم الَّذين كَانُوا بالدهليز والوطاق وركبوا فِي آثَار بيدرا وَمن مَعَه يُرِيدُونَ الْقَبْض عَلَيْهِ. فَبلغ الْأَمِير كتبغا وَمن مَعَه مقتل السُّلْطَان وسلطنة بيدرا فلحق بِمن مَعَه الْأَمِير برغلي وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء والمماليك وجدوا بأجمعهم فِي طلب بيدرا وَمن مَعَه وَسَاقُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الطرانة وَقد لحق بيدرا بِسيف الدّين أبي بكر بن الجمقدار نَائِب أَمِير جاندار والأمير صارم الدّين الفخري والأمير ركن الدّين بيبرس أَمِير جاندار وَمَعَهُمْ الزرد خاناه عِنْد الْمسَاء من يَوْم السبت الَّذِي قتل فِيهِ السُّلْطَان فعندما أدركهم تقدم إِلَيْهِ بيبرس أَمِير جاندار وَقَالَ لَهُ: يَا خوند هَذَا الَّذِي فعلته كَانَ. بمشورة الْأُمَرَاء فَقَالَ: نعم أَنا قتلته. بمشورتهم وحضورهم وَهَا هم كلهم حاضرون. ثمَّ شرع يعدد مساوئ الْأَشْرَف ومخازيه واستهتاره بالأمراء ومماليك أَبِيه إهماله لأمور الْمُسلمين ووزارته ابْن السلعوس ونفور الْأُمَرَاء مِنْهُ لمسكه عز الدّين الأفرم وَقتل سنقر الْأَشْقَر وطقصوا وَغَيره(2/247)
وتأميره مماليكه وَقلة دينه وشربه الْخمر فِي شهر رَمَضَان وفسقه بالمردان. ثمَّ سَأَلَ بيدرا عَن الْأَمِير كتبغا فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم قتلة الْأَشْرَف: وافي الْأَمِير كتبغا فِي طلب كَبِير من المماليك السُّلْطَانِيَّة عدته نَحْو الألفي فَارس وَجَمَاعَة من الْحلقَة والعسكر وَمَعَهُمْ الْأَمِير حسام الدّين لاجين لأاستادار الطرانة وَبهَا بيدرا يُرِيدُونَ قِتَاله. وميز كتبغا أَصْحَابه بعلائم حَتَّى يعرفوا من جمَاعَة بيدرا وهم أَنهم جعلُوا مناديل من رقابهم إِلَى تَحت آباطهم فَأطلق بيدوا حِينَئِذٍ الأميرين بيسري وبكتمر السِّلَاح دَار ليكونا عونا لَهُ فَكَانَا عونا عَلَيْهِ. ورتب كتبغا جمَاعَة ترمي بالنشاب وَتقدم بِمن مَعَه وحملوا على بيدرا حَملَة مُنكرَة وَقصد الْأَمِير كتبغا بيدرا وَقد فَوق سَهْمه وَقَالَ: يَا بيدرا أَيْن السُّلْطَان ورماه بِسَهْم وَتَبعهُ الْبَقِيَّة بسهامهم فولي بيدرا بِمن مَعَه وكتبغا فِي طلبه حَتَّى أدْركهُ. وَقتل بيدرا بَعْدَمَا قطعت يَده ثمَّ كتفه كَمَا فعل بالأشرف وحملت رَأسه على رمح وَبعث بهَا إِلَى قلعة الْجَبَل فطيف بهَا الْقَاهِرَة ومصر. وَوجد فِي جيب بيدرا ورقة فِيهَا: مَا يَقُول السَّادة الْفُقَهَاء فِي رجل يشرب الْخمر فِي شهر رَمَضَان ويفسق بالمرداد وَلَا يُصَلِّي فَهَل على قَاتله ذَنْب أَو لَا فَكتب جوابها. يقتل وَلَا إِثْم على قَاتله. وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر ودخلا الْقَاهِرَة فاختفيا. وَكَانَ الَّذِي وصل إِلَى قلعة الْجَبَل بِخَبَر مقتل السُّلْطَان سيف الدّين سنكو الدوادار. وَلما بلغ الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي قتل السُّلْطَان ضم الحراريق والمعادي وَسَائِر المراكب إِلَى بر مصر والقاهرة وَأمر أَلا يعدي بِأحد من الْأُمَرَاء والمماليك إِلَّا بِإِذْنِهِ موصل الْأَمِير زين الدّين كتبغا وَمن مَعَه مت الْأُمَرَاء والمماليك بعد قتل بيدرا وهزيمة أَصْحَابه ملم يَجدوا مركبا يعدون بِهِ النّيل. فَأَشَارَ على من مَعَه من الْأُمَرَاء وهم حسام الدّين لاجين الأستادار وركن الدّين بيبرس الجاشنكير وَسيف الدّين برلغي وَسيف الدّين طغجي وَعز الدّين طقطاي وَسيف الدّين قُطْبَة وَغَيرهم أَن ينزلُوا فِي بر الجيزة بالخيام حَتَّى يراسلوا الْأَمِير سنجر الشجاعي فوافقوه وضربوا الْخيام وَأَقَامُوا بهَا وبعثوا إِلَى الشجاعي فَلم يُمكنهُم من التَّعْدِيَة. وَمَا زَالَت الرُّسُل بَينهم وَبَينه حَتَّى وَقع الِاتِّفَاق على إِقَامَة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فَبعث عِنْد ذَلِك الحراريق والمراكب إِلَيْهِم بالجيزة وعدوا بأجمعهم وصاروا إِلَى قلعة الْجَبَل فِي رَابِع عشر الْمحرم.(2/248)
السُّلْطَان النَّاصِر نَاصِر الدّين السُّلْطَان الْملك النَّاصِر نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين قلاوون الألفي العلائي الصَّالِحِي أمه أشلون خاتون ابْنة الْأَمِير سكناي بن قراجين بن جنكاي نوين. ولد يَوْم السبت النّصْف من الْمحرم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بقلعة الْجَبَل من مصر فَلَمَّا قتل أَخُوهُ الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين خَلِيل بِالْقربِ من تروجة وعدي الْأَمِير زين الدّين كتبغا والأمراء اجْتمع بهم الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي وَمن كَانَ بِالْقَاهِرَةِ والقلعة من الْأُمَرَاء الصالحية والمنصورية وقرروا سلطنة النَّاصِر مُحَمَّد وأحضروه وعمره تسع سِنِين سوا فِي يَوْم السبت سادس عشر الْمحرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة وأجلسوه على سَرِير السلطنة. ورتبوا الْأَمِير زين الدّين كتبغا نَائِب السلطنة عوضا عَن بيدرا والأمير علم الدّين سنجر الشجاعي وزيراً ومدبراً عوضا عَن ابْن السلعوس والأمير حسام الدّين لاجين الرُّومِي الأستادار أطابك العساكر والأمير ركن الدّين بيبرس الجاشنكير أستادارا والأمير ركن الدّين بيبرس الدوادار دواداراً وَأعْطِي إمرة مائَة فَارس وتقدمة ألف وَجعل إِلَيْهِ أَمر ديوَان الْإِنْشَاء فِي المكاتبات والأجوبة والبريد. وَأنْفق فِي الْعَسْكَر وحلفوا فَصَارَ كتبغا هُوَ الْقَائِم بِجَمِيعِ أُمُور الدولة وَلَيْسَ للْملك النَّاصِر من السلطنة إِلَّا اسْم الْملك من غير زِيَادَة على ذَلِك وَسكن كتبغا بدار النِّيَابَة من القلعة وَجعل الخوان يمد بَين يَدَيْهِ. وَأما الشَّام فَإِنَّهُ كتب إِلَى دمشق كتاب على لِسَان الْملك الْأَشْرَف ومضمونه: إِنَّا قد استنبنا أخانا الْملك النَّاصِر مُحَمَّدًا وجعلناه ولي عهدنا حَتَّى إِذا توجهنا إِلَى لِقَاء عَدو يكون لنا من يخلفنا ورسم فِيهِ بتحليف النَّاس للْملك النَّاصِر مُحَمَّد وَأَن يقرن اسْمه باسم الْأَشْرَف فِي الْخطْبَة. وَتوجه بِالْكتاب الْأَمِير سيف الدّين ساطلمش وَسيف الدّين بهادر التتري فدخلا دمشق يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشريه وَجمع الْأَمِير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ نَائِب دمشق الْأُمَرَاء والمقدمين والقضاة والأعيان وحلفهم وخطب باسم الْملك الْأَشْرَف وَالْملك النَّاصِر ولي عَهده وَكَانَ ذَلِك من تَدْبِير الشجاعي فَقدم من الْغَد الْبَرِيد إِلَى دمشق بالحوطة على مَوْجُود بيدرا ولاجين وقرا سنقر وطرنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رَأس نوبَة فَظهر قتل الْأَشْرَف وَإِقَامَة أَخِيه النَّاصِر بعده. فاستمر الْأَمر فِي الْخطْبَة بِالشَّام على ذَلِك إِلَى حادي عشر ربيع الأول حَتَّى ورد(2/249)
مرسوم ناصري بِالْخطْبَةِ للْملك النَّاصِر وَحده بالسلطنة فَخَطب لَهُ كَذَلِك فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر ربيع الأول وترحم على أَبِيه الْمَنْصُور وأخيه الْأَشْرَف. ثمَّ كتب إِلَى وَوَقع الطّلب على الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا مَعَ بيدرا فِي قتل الْأَشْرَف فَأول من وجد مِنْهُم الْأَمِير سيف الدّين بهادر رَأس نوبَة والأمير جمال الدّين أقش الْموصِلِي الْحَاجِب فَضربت أعناقهما وأحرقت أبدانهما فِي المجاير ثامن يَوْم سلطنة النَّاصِر. ثمَّ أَخذ بعدهمَا سَبْعَة أُمَرَاء: وهم حسام الدّين طرنطاي الساقي ونوغاي السِّلَاح دَار وَسيف الدّين الناق الساقي السِّلَاح دَار وَسيف الدّين أروس الحسامي السِّلَاح دَار وعلاء الدّين ألطبغا الجمدار وأقسنقر الحسامي وناصر الدّين مُحَمَّد بن خوجا ثمَّ قبض على قوش قرا السِّلَاح دَار وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من الْمحرم فسجنوا بخزانة البنود من الْقَاهِرَة وتولي بيبرس الجاشنكير عقوبتهم ليقروا على من كَانَ مَعَهم ثمَّ أخرجُوا يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشره وَقطعت أَيْديهم بالساطور على قرم خشب بِبَاب القلعة وسمروا على الْجمال وأيديهم معلقَة وشقوا بهم وَرَأس بيدرا على رمح قدامهم الْقَاهِرَة ومصر. وَاجْتمعَ لرؤيتهم من الْعَالم مَا لَا يُمكن حصره بِحَيْثُ كَادَت الْقَاهِرَة ومصر أَن تنهبا. ومروا بهم على أَبْوَاب دُورهمْ فَلَمَّا جازوا على دَار عَلَاء الدّين الطنبغا خرجت جواريه حاسرات يلطمن ومعهن أَوْلَاده وغلمانه قد شَقوا الثِّيَاب وَعظم صِيَاحهمْ. وَكَانَت زَوجته بِأَعْلَى الدَّار فَأَلْقَت نَفسهَا لتقع عَلَيْهِ فأمسكنها جواريها وَهِي تَقول. لَيْتَني فدَاك وَقطعت شعرهَا ورمته عَلَيْهِ فتهالك النَّاس من كَثْرَة الْبكاء رَحْمَة لَهُم واستمروا على ذَلِك أَيَّامًا: فَمنهمْ من مَاتَ على ظُهُور الْجمال وَمِنْهُم من فكت مَسَامِيرهُ وَحمل إِلَى أَهله ثمَّ أَخذ مرّة ثَانِيَة وأعيد تسميره فَمَاتَ. هَذَا وجواري الْملك الْأَشْرَف وسيال حَوَاشِيه قد لبسن الْحداد وتذرعن السخام وطفن فِي الشوارع بالنواحات يقمن المأتم فَلم ير بِمصْر أشنع من تِلْكَ الْأَيَّام. ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك الْأَمِير سيف الدّين قجقار الساقي فشنق بسوق الْخَيل وَلم يُوقف لقراسنقر وَلَا للاجين على خبر أَلْبَتَّة. وَبلغ الْوَزير ابْن السلعوس وَهُوَ بالإسكندرية مقتل الْملك الْأَشْرَف فَخرج لَيْلًا وَسَار إِلَى الْقَاهِرَة فَنزل بزاوية الشَّيْخ جمال الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الظَّاهِرِيّ خَارج الْقَاهِرَة وَبَات عِنْده. ثمَّ ركب مِنْهَا بكرَة بهيئته ودسته إِلَى دَاره فَأَتَاهُ الْقُضَاة والأعيان(2/250)
وسلموا عَلَيْهِ فجري مَعَهم على عَادَته من الترفع وَالْكبر وَلم يقم لأحد وَلَا احتفل بكبير. فَقَالَ لَهُ بعض أصدقائه: الرَّأْي أَن تختفي حَتَّى تسكن الْفِتْنَة فَقَالَ: هَذَا لَا نفعله وَلَا نرضاه لعامل من عمالنا فَكيف نختاره لأنفسنا وَاسْتمرّ فِي بَيته وَالنَّاس تَتَرَدَّد إِلَيْهِ خَمْسَة أَيَّام وَذَلِكَ من أجل أَن حرم الْملك الْأَشْرَف بعثن إِلَى الْأَمِير كتبغا النَّائِب يشفعن فبه فَإِنَّهُ من أحباب السُّلْطَان وأخصائه. فشق ذَلِك على الشجاعي وتحدث مَعَ كتبغا وَغَيره من الْأُمَرَاء وحرضهم عَلَيْهِ وأغراهم بِهِ فاستدعاه كتبغا فِي الْيَوْم السَّادِس وَهُوَ ثَانِي عشري الْمحرم فَركب فِي دسته على عَادَته فعندما دخل إِلَيْهِ قبض عَلَيْهِ وأسلمه للشجاعي فأحاط بِهِ وأنزله من القلعة مَاشِيا إِلَى دَاره والأعوان مُحِيطَة بِهِ فَلم يُمكن من العبور إِلَيْهَا. وَأَخذه أعدي أعاديه الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الظَّاهِرِيّ شاد الصُّحْبَة ليطالبه بالأموال فَضَربهُ ضربا شَدِيدا بلغ فِي مرّة وَاحِدَة ألفا وَمِائَة ضَرْبَة بالمقارع فَأنْكر عَلَيْهِ الشجاعي ذَلِك وَنقل ابْن السلعوس إِلَى الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ المَسْعُودِيّ شاد الدَّوَاوِين فعاقبه بأنواع الْعُقُوبَات وعذبه أَشد عَذَاب واستخرج مِنْهُ مَالا كثيرا: مِنْهُ مبلغ تِسْعَة آلَاف دِينَار تَحت يَد شخص بِالشَّام فَكتب. التذاكر إِلَى الشَّام وَأخذ الْمبلغ الْمَذْكُور. وَكَانَت عُقُوبَة ابْن السلعوس فِي الْمدرسَة الصاحبية بسوبقة الصاحب من الْقَاهِرَة وَفِي كل يَوْم يضْربهُ لُؤْلُؤ بالمقارع ويخرجه من الصاحبية إِلَى القلعة وَهُوَ على حمَار فيقف لَهُ أراذل النَّاس فِي طول الطَّرِيق وَمَعَهُمْ المداسات الْمُقطعَة وَيَقُولُونَ لَهُ: يَا صَاحب علم لنا على هَذِه ويسمعونه كل مَكْرُوه فَينزل بِهِ من الخزي والنكال مَا لَا يعبر عَنهُ. وَكَانَ لُؤْلُؤ هَذَا مِمَّن أنشأه ابْن السلعوس فَإِنَّهُ كَانَ قد طلب من دمشق لما قتل مخدومه الْأَمِير طرنطاي النَّائِب وَكَانَ يَلِي ديوانه بِالشَّام فَأحْسن إِلَيْهِ ابْن السلعوس وولاه شدّ الدَّوَاوِين بِمصْر وَصَارَ يقف فِي خدمته كَأَنَّهُ بعض النُّقَبَاء فَلَا يُسَمِّيه إِلَّا لُؤْلُؤ فَقدر الله أَنه وَقع فِي يَده فَبَالغ فِي إهانته وَصَارَت الْعقُوبَة فِي كل يَوْم تتزايد عَلَيْهِ والشدائد تتضاعف ويتولى عُقُوبَته شَرّ الظلمَة وأبعدهم من الشَّفَقَة إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم السبت عَاشر صفر وَقيل خَامِس عشره وَقيل سَابِع عشره وَضرب بعد مَوته ثَلَاث عشرَة مقرعة وَدفن بالقرافة. وَفِي تَاسِع عشر صفر: عزل قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة عَن وَظِيفَة الْقَضَاء وأعيد قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن بنت الْأَعَز إِلَى سَائِر مَا كَانَ(2/251)
بِيَدِهِ من المناصب وَاسْتقر ابْن جمَاعَة فِي تدريس الْمدرسَة الناصرية بجوار قبَّة الشَّافِعِي من القرافة وتدريس المشهد الْحُسَيْنِي بِالْقَاهِرَةِ. وَفِي هَذِه الْمدَّة: أحكم الشجاعي أَمر الوزارة فاشتدت مهابة النَّاس لَهُ وقويت نَفسه وَأحب أَن يستبد بالأمور فشرع فِي إِعْمَال التَّدْبِير على الْأَمِير كتبغا ليقْبض عَلَيْهِ واستمال الْأُمَرَاء البرجية والمماليك السُّلْطَانِيَّة وَفرق فيهم نَحْو الثَّمَانِينَ ألف دِينَار سرا وَقرر مَعَهم أَن من أَتَاهُ بِرَأْس أَمِير من الْأُمَرَاء الَّذين مَعَ كتبغا فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ إقطاعه وَأَن الْأَمِير علم الدّين سنجر البندقداري يقبض على كتبغا إِذا جلس على السماط. وَكَانَ مِمَّن اطلع على هَذَا الْأَمِير سيف الدّين قنغر التتري الْوَافِد فِي الدولة الظَّاهِرِيَّة وَهُوَ من جنس كتبغا فَأعلمهُ الْخَبَر فاحترز كتبغا على نَفسه وَأعلم أَصْحَابه من الْأُمَرَاء وَغَيرهم فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشري صفر اجْتمع الْأُمَرَاء بمساطب بَاب الْقلَّة من قلعة الْجَبَل على الْعَادة ينتظرون فتح بَاب القلعة ليركبوا فِي خدمَة الْأَمِير كتبغا فِي الموكب كَمَا جرت بِهِ الْعَادة فَلم يشعروا إِلَّا برسالة قد خرجت على لِسَان أَمِير جاندار بِطَلَب جمَاعَة من الْأُمَرَاء: وهم سيف الدّين قبجق وَبدر الدّين عبد الله السِّلَاح دَار حَامِل الجتر وَسيف الدّين قبليي وركن الدّين عمر السِّلَاح دَار أَخُو تمر وَسيف الدّين كرجي وَسيف الدّين طرنجي وقرمشي السِّلَاح دَار وبوري السِّلَاح دَار ولاجين جركسي ومغلطاي المَسْعُودِيّ وكرد الساقي فَدَخَلُوا إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة. وَقَامَ بَقِيَّة الْأُمَرَاء للرُّكُوب فَبَيْنَمَا هم يَسِيرُونَ تَحت القلعة بالميدان الْأسود جَاءَ الْأَمِير قنغر وَمَعَهُ ابْنه جاورجي فأخبرا النَّائِب كتبغا أَن الْأُمَرَاء الَّذين استدعوا اعتقلوا وَأَن الشجاعي قد دبر أَنَّك إِذا طلعت قبض عَلَيْك وعَلى من مَعَك وَقت الْجُلُوس على السماط. فَعرف كتبغا الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه بِمَا قَالَ قنغر وَولده فتوقفوا عَن الطُّلُوع إِلَى القلعة. واستعجل الْأَمِير علم الدّين البندقداري وَعمل مَا لَا كَانَ يَنْبَغِي وَذَلِكَ أَنه كَانَ فِي الموكب سيف الدّين برلغي أَمِير مجْلِس وركن الدّين بيبرس الجاشنكير الأستادار فَلم يشْعر بيبرس إِلَّا وضربة دبوس جَاءَتْهُ فِي رَأسه أثرت فِيهِ أثرا بَقِي فِيهِ بعد ذَلِك وَقبض عَلَيْهِ وعَلى برلغي وَبعث بهما إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَعند قبضهما قَالَ سنجر البندقداري لكتبغا النَّائِب فِي جملَة كَلَام فاوضه بِهِ: أَيْن لاجين أحضرهُ فَقَالَ كتبغا: مَا هُوَ عِنْدِي فَقَالَ سنجر: وَالله هُوَ عنْدك وجرد سَيْفه ليضْرب بِهِ كتبغا فبادره من وَرَائه بكتوت الْأَزْرَق مَمْلُوك كتبغا وضربه بِسيف حل كتفه وَنزل إِلَيْهِ بَقِيَّة مماليك كتبغا وذبحوه.(2/252)
وسَاق كتبغا وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء: وهم بيسري وبكتاش الفخري أَمِير سلَاح وبكتوت العلائي وبهاء الدّين يَعْقُوب ونوكاي وأيبك الْموصِلِي والحاج بهادر وأقسنقر كرتيه وبلبان إِلَى بَاب المحروق وَخَرجُوا مِنْهُ فنزلوا بِظَاهِر السُّور ولبسوا عدَّة الْحَرْب. وَبعث كتبغا نقباء الْحلقَة فِي طلب المقدمين وأجناد الْحلقَة والتتر والأكراد الشمهرزورية فَحَضَرُوا إِلَيْهِ. وَركب الشجاعي وَخرج إِلَى بَاب القلعة وحرك الكوسات ليحضر إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وأجناد الْحلقَة فَإِنَّهُ كَانَ قد صر عدَّة صرر من ذهب وراسل المقدمين وأجناد الْحلقَة يعدهم إِذا وافقوا وَقَامُوا مَعَه فَصَارَ من يحضر إِلَيْهِ يُعْطِيهِ صرة ذهب على قدره فَلم يحضر إِلَيْهِ هَذَا الْيَوْم إِلَّا من لَا يُغني وَلَا يجدي مَجِيئه شَيْئا. ثمَّ إِن كتبغا بعث إِلَى السُّلْطَان يطْلب الشجاعي وَقَالَ لَهُ: قد انْفَرد هَذَا بِرَأْيهِ فِي الْقَبْض على الْأُمَرَاء ولابد من حُضُوره فَإِنَّهُ بلغنَا عَنهُ مَا أنكرناه. فَأرْسل السُّلْطَان يعرف الشجاعي بذلك فَامْتنعَ أَن يحضر إِلَيْهِ ورجف كتبغا وَأخذ يحاصر القلعة وَقطع عَنْهَا المَاء وَبَاتُوا على ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة نزل الْأُمَرَاء البرجية من القلعة على حمية وقاتلوا كتبغا وَمن مَعَه من العساكر وهزموهم وَسَاقُوا خَلفهم إِلَى الْبِئْر الْبَيْضَاء وَمر كتبغا إِلَى نَاحيَة بلبيس. وَكَانَ بيسري وبكتاش فِي عدَّة من الْأُمَرَاء لم يركبُوا مَعَ كتبغا فِي هَذَا الْيَوْم فَلَمَّا سمعُوا بكسرته شقّ عَلَيْهِم ذَلِك وركبوا إِلَى البرجية وقاتلوهم وكسروهم حَتَّى ردوا إِلَى القلعة. فَقدم كتبغا بعد كَسرته وانضم مَعَ بيسري وبكتاش وتلاحق بهم النَّاس. فجدوا فِي حِصَار القلعة حَتَّى طلع الْملك النَّاصِر على البرج الْأَحْمَر وتراءى لَهُم فَنزل الْأُمَرَاء عَن خيولهم إِلَى الأَرْض وقبلوا لَهُ الأَرْض وَقَالُوا: نَحن مماليك السُّلْطَان وَلم تخلع يدا من طَاعَته وَمَا قصدنا إِلَّا حفظ نظام الدولة واتفاق الْكَلِمَة وَإِزَالَة الْفساد. وَاسْتمرّ الْحصار سَبْعَة أَيَّام وَفِي كل يَوْم ينزل الشجاعي وَمَعَهُ الْأَمِير سيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار والأمير سيف الدّين طغجي فِي عدَّة من المماليك السُّلْطَانِيَّة فَيكون بَينه وَبَين كتبغا وَأَصْحَابه قتال إِلَّا أَنه يتسلل مِمَّن مَعَه فِي كل يَوْم عدَّة ويصيرون إِلَى كتبغا. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحصار طلعت أم السُّلْطَان على سور القلعة وَسَأَلت الْأُمَرَاء عَن غرضهم حَتَّى تعْمل فَقَالُوا: مَا لنا غَرَض إِلَّا الْقَبْض على الشجاعي وإخماد الْفِتْنَة وَلَو بَقِي من بَيت أستاذنا بنت عمياء كُنَّا مماليكها لاسيما وَولده الْملك النَّاصِر حَاضر وَفِيه كِفَايَة. فانخدعت لقَولهم واتفقت مَعَ الْأُمَرَاء حسام الدّين الأتابك وغلقوا بَاب الْقلَّة(2/253)
من القلعة وَصَارَ الشجاعي بداره من القلعة محصورا. فَعِنْدَ ذَلِك تفرق عَنهُ أَصْحَابه ونزلوا إِلَى كتبغا فَلم يجد بدا من طلب الْأمان فَلم تجبه الْأُمَرَاء فتحير وَقَالَ: إِن كنت أَنا الْغَرِيم فَأَنا أتوجه إِلَى الْحَبْس طَوْعًا مني وَأَبْرَأ مِمَّا قيل عني وَخرج إِلَى بَاب الستارة السُّلْطَانِيَّة وَحل سَيْفه بِيَدِهِ وَذهب نَحْو البرج وَمَعَهُ الْأَمِير بهاء الدّين الأقوش والأمير سيف الدّين صمغار. وَقيل إِن الشجاعي لما أبي الْأُمَرَاء أَن يؤمنوه بعثوا آخر النَّهَار عِنْد الْعَصْر جمَاعَة فيهم الأقوش إِلَى عِنْد أم السُّلْطَان وطلبوا الشجاعي ليستشيروه فِيمَا يفعل فَلَمَّا حضر تكاثرت عَلَيْهِ المماليك ووثب عَلَيْهِ مِنْهُم أحد مماليك الأقوش وضربه من وَرَائه بِسيف أطار يَده وَثني بِأُخْرَى أسقطت رَأسه عَن بدنه وَرفعت فِي الْحَال على السُّور. وَكَانَ عمره نَحْو خمسين سنة. وَيُقَال إِنَّه لما حضر قَالَ لَهُ السُّلْطَان: يَا عمي لأي شَيْء هَذَا الَّذِي أَنْتُم فِيهِ فَقَالَ: لِأَجلِك يَا خوند فَقَالَ: خلوني أعمل شَيْئا تبقوا مُطْمَئِنين وَأَنا مَعكُمْ وَهُوَ أَنَّك تروح يَا أَمِير علم الدّين تقعد فِي مَكَان بالقلعة وَترسل وَرَائه الْأُمَرَاء ليطلعوا وَبعد أَيَّام نوفق بَيْنكُم ونعطيك قلعة بِالشَّام تروح إِلَيْهَا ونستريح مِنْهُم. فَقَامَ الْأُمَرَاء الْحَاضِرُونَ وقبضوا عَلَيْهِ وقيدوه وأخرجوه إِلَى مَكَان يسجن فِيهِ فَتوجه بِهِ الأقوش نَحْو البرج الجواني. فَلَمَّا كَانَ فِي أثْنَاء الطَّرِيق قَتله وَقطع رَأسه وَيَده وَأَخذهَا فِي ذيل قرظيته وَنزل إِلَى سوق الْخَيل والبرجية والمماليك السُّلْطَانِيَّة مُحِيطَة بِبَاب القلعة فَقَالُوا لَهُ: مَا مَعَك فَقَالَ: خبز سخن أرْسلهُ السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء ليعلموا أَن عندنَا الشَّيْء بِكَثْرَة يُرِيد بذلك النجَاة مِنْهُم. فظنوه صَادِقا وتركوه وَلَو علمُوا بِأَنَّهُ مَعَه رَأس الشجاعي لما خلص مِنْهُم. فَصَارَ إِلَى الْأُمَرَاء وناولهم الرَّأْس فبعثوا فِي الْحَال من حلف السُّلْطَان والأمراء الَّذين عِنْده. وَفتح بَاب القلعة وطلع كتبغا والأمراء إِلَى القلعة وهم راكبون إِلَى بَاب الْقلَّة ثَانِي يَوْم ودقت البشائر وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشريه. فَنُوديَ بعد ذَلِك بالأمان ففتحت أَبْوَاب الْقَاهِرَة وَكَانَت كلهَا مغلقة إِلَّا بَاب زويلة وَكَذَلِكَ الْأَسْوَاق كَانَت معطلة فِي هَذِه الْمدَّة. ثمَّ رفع رَأس الشجاعي على رمح وطيف بهَا الْقَاهِرَة ومصر وَلم يدعوا زقاقا حَتَّى(2/254)
طافوا بِالرَّأْسِ فِيهِ وجبوا عَلَيْهِ مَالا كثيرا. وَفِي النَّاس من كَانَ يضْرب الرَّأْس بالمداسات وَمِنْهُم من يصفعه ويسبه وصاروا يَقُولُونَ: هَذِه رَأس الملعون الشجاعي. وسر كثير من النَّاس لمَوْته فَإِنَّهُ أَكثر من المصادرات وَنَوع الظُّلم والعسف أنواعا. وَفِيه أفرج عَن الْأُمَرَاء المعتقلين وأعيدت لَهُم إقطاعاتهم وَأَمْوَالهمْ وجددت الْأَيْمَان للسُّلْطَان ولنائبه الْأَمِير كتبغا. وَأنزل من كَانَ سَاكِنا فِي الأبراج والطباق بقلعة الْجَبَل من المماليك السُّلْطَانِيَّة الَّذين رموا بِأَنَّهُم أثاروا هَذِه الْفِتْنَة وأسكنت طَائِفَة مِنْهُم فِي مناظر الْكَبْش بجوار الْجَامِع الطولوني وَطَائِفَة فِي دَار الوزارة برحبة بَاب الْعِيد من الْقَاهِرَة وَطَائِفَة فِي مناظر الميدان الصَّالِحِي بِأَرْض اللوق واعتقلت طَائِفَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشريه: اسْتَقر فِي الوزارة الصاحب تَاج الدّين مُحَمَّد بن الصاحب بهاء الدّين مُحَمَّد بن الصاحب بهاء الدّين على بن حنا وَاسْتقر ابْن عَمه عز الدّين الصاحب محيي الدّين بهاء الدّين فِي وزارة الصُّحْبَة وصارا يجلسان جَمِيعًا فِي شباك الوزارة بقلعة الْجَبَل والصاحب تَاج الدّين هُوَ الَّذِي يُوقع. وَفِي سلخه: أفرج عَن الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم. وَفِي ثَالِث ربيع الأول: أوقعت الحوطة بِدِمَشْق على مَوْجُود الْأَمِير علم الدّين سنجر الشجاعي وَفِي الْعشْرين من رَجَب: حلف نَائِب دمشق والأمراء بهَا للسُّلْطَان ونائبه وَولي عَهده الْأَمِير كتبغا ودعي لَهُ مَعَه فِي الْخطْبَة. وَفِي خَامِس عشريه: ركب الْملك النَّاصِر فِي أبهة الْملك وشق الْقَاهِرَة من بَاب النَّصْر حَتَّى خرج من بَاب زويلة عَائِدًا إِلَى القلعة وكتبغا والأمراء يَمْشُونَ فِي ركابه فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً ودقت البشائر بالقلعة. وَفِي يَوْم عيد الْفطر: ظهر الْأَمِير حسام الدّين لاحين الصَّغِير والأمير شمس الدّين قرا سنقر المنصوريان من الاستتار: وَكَانَا وَقت فرارهما عِنْد وقْعَة بيدرا قد أطلعا الْأَمِير سيف الدّين بتخاص الزيني مَمْلُوك الْأَمِير كتبغا بحالهما فتلطف مَعَ أستاذه كتبغا فِي أَمرهمَا حَتَّى صَار يتحدث مَعَ السُّلْطَان إِلَى أَن عَفا عَنْهُمَا ثمَّ تحدث كتبغا مَعَ الْأَمِير بكتاش فِي أَمرهمَا وانتدبه لإِصْلَاح حَالهمَا مَعَ الْأُمَرَاء فَركب وَدَار على الْأُمَرَاء وأعيان المماليك وأزال مَا كَانَ فِي نُفُوسهم من الوحشة. وَقرر الْحَال على أَنَّهُمَا(2/255)
يصعدان إِلَى القلعة يَوْم الْعِيد فَأتيَا سرا إِلَى بَيت الْأَمِير كتبغا بقلعة الْجَبَل فَأَخذهُمَا مَعَه وَدخل إِلَى السماط فَقبلا الأَرْض للسُّلْطَان على الْعَادة فأكرمهما وخلع عَلَيْهِمَا وَأَمرهمَا كَمَا كَانَا وَنزلا فَحمل الْأُمَرَاء إِلَيْهِمَا من التقادم مَا يجل وَصفه. وَكَانَت هَذِه الفعلة من كتبغا مَعَ لاجين كعنز السوء بحثت عَن حتفها بظلفها كَمَا ستراه قَرِيبا من وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير حسام الدّين مهنا بن عيسي وأخوته وَأَوْلَاده. وَفِي هَذِه السّنة: قصر مد النّيل وَلم يوف بل كَانَت نهايته خَمْسَة عشر ذِرَاعا وَثلث ذِرَاع فغلت الأسعار. وفيهَا اسْتَقر فِي قَضَاء دمشق قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين مُحَمَّد الخويي بِحكم وَفَاته. وفيهَا سَار الشريف أَبُو نمي أَمِير مَكَّة يُرِيد مصر حَتَّى يلقِي السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف لِأَنَّهُ حلف على ذَلِك فَلَمَّا نزل يَنْبع رد إِلَيْهِ الشريف رَاجِح بن إِدْرِيس يَنْبع وجاءه الْخَبَر بقتل السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف فَرجع من يَنْبغ إِلَى مَكَّة. وغلت الأسعار بِمَكَّة فأبيع الْمَدّ الْملح بِسِتَّة دَنَانِير مَكِّيَّة وغلت بهَا الْمِيَاه فِي شعْبَان ورمضان. وَقدم حَاج الْيمن فِي كَثْرَة فبلغت الراوية أَرْبَعَة دَنَانِير وَحمل المَاء من عَرَفَة إِلَى مَكَّة. ثمَّ أغاث الله بالأمطار وَكَانَت بِمني قبله فِي يَوْم الْأَحَد فَسَار النَّاس مِنْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ومضوا إِلَى بِلَادهمْ. وفيهَا قتل الْملك كيختو بن أبغا بن هولاكو. وَولي بعده بيدو بن طوغاي بن هولاكو. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان قَاضِي قُضَاة الشَّام شهَاب الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْخَلِيل بن سَعَادَة بن جَعْفَر بن عِيسَى المهلبي الشهير بِابْن الخويي الشَّافِعِي بِدِمَشْق عَن سبع وَسِتِّينَ سنة ولي قَضَاء حلب ودمشق ومصر وَلم يبرح مشكور السِّيرَة.(2/256)
وَتُوفِّي الْوَزير الصاحب فَخر الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن لُقْمَان بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ الإسعردي عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وزر مرَّتَيْنِ. وَتُوفِّي الْوَزير الصاحب شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي الرجا بن السلعوس التنوخي عَن خمسين سنة مقتولا. وَتُوفِّي الزَّاهِد المعتقد تَقِيّ الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن على بن مُحَمَّد بن منجد السرُوجِي بِالْقَاهِرَةِ. وَتُوفِّي الْمُحدث شرف الدّين أَبُو على الْحسن بن على بن عيسي بن الْحسن بن على ابْن الصَّيْرَفِي اللَّخْمِيّ عَن نَحْو سبع وَسِتِّينَ سنة. وَمَات قبلاي خانة بن طلوي بن جنكزخان ملك الصين وَهُوَ أكبر الْخَانَات وَالْحَاكِم على كرْسِي مملكة جنكزخان. وَكَانَت مدَّته قد طَالَتْ فَقَامَ فِي مملكة الصين بعده ابْنه شبردون بن قبلاي.(2/257)
فارغة(2/258)
سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي الْمحرم: ورد الْخَبَر بِأَن كيختو بن أبغا بن هولاكو الَّذِي تسلطن بعد أَخِيه أرغون فِي سنة تسعين قتل فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين. وَملك بعده ابْن عَمه بيدو وَهُوَ ابْن طرغاي بن هولاكو فَخرج عَلَيْهِ غازان بن أرغون بن أبغا نَائِب خُرَاسَان وكسره وَأخذ الْملك مِنْهُ وَيُقَال إِنَّه أسلم على يَد الشَّيْخ صدر الدّين بن حمويه الْجُوَيْنِيّ. وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء حادي عشره: اجْتمع المماليك الأشرفية الَّذين بالكبش وَخَرجُوا إِلَى الإسطبلات الَّتِي تَحت القلعة وركبوا الْخُيُول ونهبوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ. وداروا على خوشداشيتهم فأركبوهم ومضوا إِلَى بَاب سَعَادَة من أَبْوَاب الْقَاهِرَة فَأَحْرقُوهُ ودخلوا إِلَى دَار الوزارة لِيخْرجُوا من فِيهَا من المماليك فَلم يوافقوهم على ذَلِك فتركوهم وقصدوا سوق السِّلَاح بِالْقَاهِرَةِ وفتحوا الحوانيت وَأخذُوا السِّلَاح ومضوا إِلَى خزانَة البنود وأخرجوا من فِيهَا من المماليك وَسَارُوا إِلَى إسطبل السُّلْطَان ووقفوا تَحت القلعة. فَركب الْأُمَرَاء الَّذين بالقلعة وقاتلوهم فَلم يثبتوا وانهزموا وَتَفَرَّقُوا. فَقبض عَلَيْهِم من الْقَاهِرَة وضواحيها وَلم يفلت مِنْهُم أحد فَضربت رِقَاب بَعضهم بِبَاب القلعة وَقطعت أَيدي جمَاعَة وأرجلهم وغرق غير مِنْهُم وَفِيهِمْ من أكحل وَفِيهِمْ من قطعت ألسنتهم وَمِنْهُم من صلب على بَاب زويلة وَمِنْهُم من بَقِي وَفرق بَعضهم على الْأُمَرَاء وَكَانُوا زِيَادَة على ثَلَاثمِائَة مَمْلُوك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشره: خلع الْملك النَّاصِر ابْن قلاوون وَكَانَت أَيَّامه سنة وَاحِدَة تنقص ثَلَاثَة أَيَّام لم يكن لي فِيهَا أَمر وَلَا نهي. السُّلْطَان زين الدّين كتبغا المنصوري السُّلْطَان الْملك الْعَادِل زين الدّين كتبغا المنصوري كَانَ فِي مُدَّة سلطنة الْملك النَّاصِر هُوَ الْقَائِم بِجَمِيعِ أُمُور الدولة وَلَيْسَ للناصر مَعَه تصرف أَلْبَتَّة. ثمَّ إِنَّه أَخذ فِي أَسبَاب السلطة بعد قتل الشجاعي. وَلما دخل الْمحرم انْقَطع فِي دَار النِّيَابَة وَأظْهر أَنه ضَعِيف الْبدن وباطن أمره إِنَّه يُرِيد أَن يُقرر أُمُوره فِي السلطنة فَخرج إِلَيْهِ النَّاصِر وعاده. فَلَمَّا كَانَت فتْنَة المماليك جلس فِي صباح تِلْكَ اللَّيْلَة بدار النِّيَابَة وَجمع الْأُمَرَاء وَقَالَ لَهُم: قد انخرق ناموس المملكة وَالْحُرْمَة لَا تتمّ بسلطنة النَّاصِر لصِغَر سنه. فاتفقوا على خلعه وَإِقَامَة كتبغا مَكَانَهُ وحلفوا لَهُ على ذَلِك وَقدم إِلَيْهِ(2/259)
فرس النّوبَة بِالرَّقَبَةِ الملوكية وَركب من دَار النِّيَابَة قبلي أَذَان الْعَصْر من يَوْم أَيَّامه سنة وَاحِدَة تنقض ثَلَاثَة أَيَّام الْأَرْبَعَاء حادي عشر الْمحرم وَدخل من بَاب الْقلَّة إِلَى الأدر السُّلْطَانِيَّة والأمراء مشَاة بَين يَدَيْهِ حَتَّى جلس على التخت بأهبة الْملك وتلقب بِالْملكِ الْعَادِل فَكَانَت أَيَّامه شَرّ أَيَّام من الغلاء والوباء وَكَثْرَة الموتان. وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق أَن مشرف المطبخ السلطاني بالقلعة ضرب بعض المرقدارية فَبَلغهُ ركُوب كتبغا بشعار السلطنة فَنَهَضَ المشرف وصبيان المطبخ لرؤية السُّلْطَان وَفِيهِمْ الْمَضْرُوب وَهُوَ يَقُول: يَا نَهَار الشوم! إِن هَذَا نَهَار نحس فجري هَذَا الْكَلَام فِي هَذَا الْيَوْم على أَلْسِنَة جَمِيع النَّاس. وَفِيه نقل الْملك النَّاصِر مُحَمَّد من الْقصر وأسكن هُوَ وَأمه فِي بعض قاعات القلعة. وَفِي ثَانِي عشره: مد الْعَادِل سماطا عَظِيما وَجلسَ عَلَيْهِ فَدخل إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وقبلوا يَده وهنئوه بالسلطنة وأكلوا مَعَه. فَلَمَّا انْقَضى الْأكل خلع على الْأَمِير حسام الدّين لاجين الصَّغِير وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة بديار مصر وخلع على الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم الصَّالِحِي وَجعل أَمِير جاندار وخلع على الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج بهادر وَاسْتقر أَمِير جاجب. وَفِي رَابِع عشره: خرج الْبَرِيد بالكتب إِلَى الْبِلَاد الشامية بسلطنة الْعَادِل كتبغا وَخرجت كتب دمشق على يَد الْأَمِير ساطلمش المنصوري فَقدم دمشق فِي سَابِع عشره وَحلف النَّائِب والأمراء ودقت البشائر. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشره: خلع على سَائِر الْأُمَرَاء وأرباب الدولة وأنعم على المماليك المقيمين بدار الوزراة من أجل أَنهم امْتَنعُوا من إِقَامَة الْفِتْنَة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء أول شهر ربيع الأول: ركب السُّلْطَان على عَادَة الْمُلُوك واللواء الخليفتي على رَأسه والتقليد بَين يَدَيْهِ وكتبت البشائر بذلك لسَائِر النواب من إنْشَاء القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن المكرم بن أبي الْحسن بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ. وَشرع السُّلْطَان يُؤمر مماليكه فَأمر أَرْبَعَة: وهم بتخاص وَقد جعله أستادارا وأغرلو(2/260)
وبكتوت الْأَزْرَق وقطلو بك فَرَكبُوا بالإمرة فِي يَوْم وَاحِد. وفوض السُّلْطَان وزارة دمشق للصاحب تَقِيّ الدّين تَوْبَة التكريتي على عَادَته فِي أَيَّام الْمَنْصُور قلاوون وَكتب لَهُ برد مَا أَخذ مِنْهُ فِي الدولة الأشرفية وَسَار من الْقَاهِرَة. وَفِي يرم الثُّلَاثَاء خَامِس عشري جُمَادَى الأولى: عزل الصاحب تَاج الدّين مُحَمَّد ابْن حنا من الوزارة وَاسْتقر بِالْقَاضِي فَخر الدّين عمر بن الشَّيْخ مجد الدّين عبد الْعَزِيز الخليلي الدَّارِيّ وَكَانَ نَاظر ديوانه وناظر الدَّوَاوِين فِي الوزارة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: استسقى النَّاس بِدِمَشْق لتوقف نزُول الْغَيْث وَخرج النَّائِب وَسَائِر النَّاس مشَاة. وتزايد الغلاء بديار مصر بَعْدَمَا أَقَامَت خُيُول السُّلْطَان يُؤْخَذ لَهَا الْعلف من دكاكين العلافين وَكَانَت التقاوي المخلدة قد أكلت. وَلم يكن بالأهراء السُّلْطَانِيَّة غلال فَإِن الْأَشْرَف كَانَ قد فرق الغلال وأطلقها لِلْأُمَرَاءِ وَغَيرهم حَتَّى نفد مَا فِي الأهراء. وَقصر مد النّيل كَمَا تقدم فَصَارَ الْوَزير يَشْتَرِي الغلال للمئونة بدور السُّلْطَان وللعليق فتزايد الغلاء حَتَّى بلغ تسعين درهما الأردب. وَوَقع فِي شهر ربيع الأول من هَذِه السّنة: بديار مصر كلهَا وباء وَعظم فِي الْقَاهِرَة ومصر وتزايد حَتَّى كَانَ يَمُوت فيهمَا كل يَوْم أُلُوف ويبقي الْمَيِّت مطروحا فِي الْأَزِقَّة والشوارع ملقى فِي الممرات والقوارع الْيَوْم واليومين لَا يُوجد من يدفنه لاشتغال الأصحاء بأمواتهم والسقماء بأمراضهم. وَفِي سادس عشري رَمَضَان: اسْتَقر نجم الدّين أَحْمد بن صصرى فِي قَضَاء الْعَسْكَر بِدِمَشْق وسافر من الْقَاهِرَة وأنعم على الْملك الأوحد شادي بن الزَّاهِر مجير الدّين دوادار بن الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أَسد الدّين شيركوه الأيوبي بإمرة فِي دمشق فاستقر من جملَة أُمَرَاء الطبلخاناه بهَا وَهُوَ أول من أَمر طبلخاناه من بني أَيُّوب فِي دولة التركية. فَقدم الْخَبَر بِمَوْت الْملك المظفر شمس الدّين أبي المظفر يُوسُف بن الْملك الْمَنْصُور نور الدّين عمر بن عَليّ بن رَسُول التركماني(2/261)
صَاحب الْيمن فِي شهر رَمَضَان فَكَانَت مدَّته نَحْو خمس وَأَرْبَعين سنة وَكَانَت سيرته جَيِّدَة. وَملك بعده ابْنه الْملك الْأَشْرَف ممهد الدّين عمر ولي عهد هأيون فنازعه أَخُوهُ الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد وَجمع لقتاله وحاصر عدن ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وملكها وَأخذ وفيهَا اسْتَقر قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة من خطابة الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ من قَضَائهَا فَخَطب وَصلى بِالنَّاسِ يَوْم الْجُمُعَة سادس شَوَّال وَهُوَ أول من جمع لَهُ بَين الْقَضَاء والخطابة بِدِمَشْق. وفيهَا قبض على الْأَمِير عز الدّين أيبك الخازندار المنصوري نَائِب الْبِلَاد الطرابلسية وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَقَدمهَا فِي حادي عشر ذِي الْقعدَة واعتقل وأقيم بدله الْأَمِير عز الدّين أيبك الْموصِلِي المنصوري. وفيهَا قصر مد النّيل وَبلغ سِتَّة عشر ذِرَاعا وَسبع عشر إصبعا ثمَّ هَبَط من ليلته وَلم يعد فتزايد الغلاء وَاشْتَدَّ الْبلَاء. وأجدبت بِلَاد برقة أَيْضا وَعم الغلاء والقحط ممالك الْمشرق وَالْمغْرب والحجاز وَبلغ سعر الأردب الْقَمْح بِمصْر مائَة وَخمسين درهما فضَّة. وتزايد موت النَّاس حَتَّى بلغت عدَّة من أطلق من الدِّيوَان فِي شهر ذِي الْحجَّة سَبْعَة عشر ألفا وَخَمْسمِائة سوى الغرباء والفقراء وهم أَضْعَاف ذَلِك وَأكل النَّاس من شدَّة الْجُوع الميتات وَالْكلاب والقطاط وَالْحمير وَأكل بَعضهم لحم بعض. وأناف عدد من عرف بِمَوْتِهِ فِي كل يَوْم ألف نفس سوى من لم يثبت اسْمه فِي الدِّيوَان. فَلَمَّا اشْتَدَّ(2/262)
الْأَمر فرق السُّلْطَان الْفُقَرَاء على أَرْبَاب الْأَمْوَال بِحَسب حَالهم. وفيهَا مَاتَ ملك تونس الْأَمِير أَبُو حَفْص عمر بن يحيى بن عبد الْوَاحِد لَهُنَّ أبي حَفْص لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشري ذِي الْحجَّة فَكَانَت مدَّته إِحْدَى عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر. وبويع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي عصيدة بن يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الْوَاحِد. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان القان كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان ملك التتار قَتِيلا فَكَانَت مُدَّة ملكه نَحْو أَربع سِنِين. وَمَات القان بيدو بن طرغاي بن هولاكو الْقَائِم بعد كيختو مقتولا فَكَانَت مُدَّة ملكه نَحْو ثَمَانِيَة أشهر وَقَامَ بعده عازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو. وَمَات الْملك المظفر مُحَمَّد بن الْمَنْصُور عمر بن عَليّ بن رَسُول ملك الْيمن بقلعة تعز وَقد تجَاوز ثَمَانِينَ سنة مِنْهَا مُدَّة ملكه نَحْو سبع وَأَرْبَعين سنة. وَمَات الْملك السعيد دَاوُد بن المظفر قرا أرسلان بن السعيد غَازِي بن الْمَنْصُور أرتق ابْن إيلغازي بن ألبى تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صَاحب ماردين وَقَامَ بعده أَخُوهُ الْمَنْصُور غَازِي. وَتُوفِّي شرف الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أَحْمد بن نعدة بن أَحْمد بن جَعْفَر بن الْحُسَيْن ابْن حَمَّاد الْقُدسِي الشَّافِعِي عَن ثَلَاث وَسبعين سنة بِدِمَشْق وَقد انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الفتوي وَولي خطابة الْجَامِع الْأمَوِي. وَتُوفِّي عز الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن(2/263)
عمر بن فرج بن أَحْمد بن سَابُور الفاروثي الوَاسِطِيّ الشَّافِعِي عَن ثَمَانِينَ سنة بواسط وَكَانَ قد ولي الخطابة بعد ابْن المرحل وَكَانَ إِمَامًا فِي عدَّة فنون. وَتُوفِّي محب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي فَقِيه الْحجاز بِمَكَّة عَن تسع وَسبعين سنة. وَتُوفِّي شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن السَّاكِن الطوسي المشهدي بِالْقَاهِرَةِ(2/264)
(سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة)
فِي الْمحرم: حدث بقرية جُبَّة عَسَّال من قرى دمشق أَمر عَجِيب: وَهُوَ أَن شَابًّا من أَهلهَا خرج بثور لَهُ يسْقِيه المَاء فَلَمَّا فرغ الثور من شربه حمد الله فتعجب الصَّبِي من ذَلِك وَحَكَاهُ فَلم يصدق. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي خرج صَاحب الثور بِهِ ليسقيه فَشرب وَحمد الله بعد فَرَاغه فَمضى بِهِ وَكثر ذكر ذَلِك بالقرية. فَخرج بِهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث وَقد حضر أهل الْقرْيَة فعندما فرغ الثور من شربه سَمعه الْجَمِيع وَهُوَ يحمد الله. فَتقدم بَعضهم وَسَأَلَهُ فَقَالَ الثور بِكَلَام سَمعه من حضر: إِن الله عز وَجل كَانَ قد كتب على الْأمة سبع سِنِين جدباً وَلَكِن بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبدلها الله تعال بِالْخصْبِ. وَذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بتبليغ ذَلِك إِلَى النَّاس. قَالَ الثور فَقلت: يَا رَسُول الله مَا عَلامَة صدقي عِنْدهم قَالَ: أَن تَمُوت عقيب الْإِخْبَار ثمَّ مضى الثور إِلَى مَوضِع مُرْتَفع وَسقط مَيتا فتقاسم أهل الْقرْيَة شعره للتبرك بِهِ وكفنوه ودفنوه وَحضر إِلَى قلعة الْجَبَل محْضر ثَابت على قَاضِي الْولَايَة بِهَذِهِ الْحَادِثَة. وَفِي ربيع الأول: قدم الْبَرِيد بوصول طَائِفَة الأويراتية من التتار ومقدمهم طرغاي زوج بنت هولاكو وَإِنَّهُم نَحْو الثَّمَانِية عشر ألف بَيت وَقد فروا من غازان ملك التتار وعبروا الْفُرَات يُرِيدُونَ الشَّام. فَكتب إِلَى نَائِب الشَّام أَن يبْعَث إِلَيْهِم الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري إِلَى الرحبة ليلقاهم فَخرج من دمشق ثمَّ توجه بعده الْأَمِير سنقر الأعسر شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وَخرج الْأَمِير قراسنقر المنصوري من الْقَاهِرَة أَيْضا فوصل دمشق فِي ثَانِي عشريه ثمَّ تبعه الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج بهادر الْحلَبِي الْحَاجِب فَأَقَامَ بِدِمَشْق حَتَّى وصلت أَعْيَان الأويراتية صُحْبَة سنقر الأعسر فِي ثَالِث عشريه. وَكَانَت عدتهمْ مائَة وَثَلَاثَة عشر رجلا ومقدمهم طرغاي وَمن ثمَّ سَار بهم الْأَمِير قراسنقر إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر فَلَمَّا وصلوا بَالغ السُّلْطَان فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَأمر عدَّة مِنْهُم. وبقوا على كفرهم وَدخل شهر رَمَضَان فَلم يصم مِنْهُم أحد وصاروا يَأْكُلُون الْخَيل من غير ذَبحهَا بل يرْبط الْفرس وَيضْرب على وَجهه حَتَّى يَمُوت فيؤكل. فَأَنف الْأُمَرَاء من جلوسهم مَعَهم(2/265)
بِبَاب الْقلَّة فِي الْخدمَة وَعظم على النَّاس إكرامهم وتزايد بَعضهم فِي السُّلْطَان وَانْطَلَقت الْأَلْسِنَة بذمه حَتَّى أوجب ذَلِك خلع السُّلْطَان فِيمَا بعد. وَأما بَقِيَّة الأويراتية فَإِنَّهُ كتب إِلَى سنجر الدواداري أَن ينزلهم بِبِلَاد السَّاحِل فَمر بهم على مرج دمشق وأخرجت الْأَسْوَاق إِلَيْهِم فَنصبت بالمرج وبمنزلة الصنمين وَفِي الْكسْوَة وَلم يُمكن أحد من الأويرايتة أَن يدْخل مَدِينَة دمشق. وأنزلوا من أَرَاضِي عثليث ممتدين فِي بِلَاد السَّاحِل وَأقَام الْأَمِير سنجر عِنْدهم إِلَى أَن حضر السُّلْطَان إِلَى الشَّام. وَقد هلك مِنْهُم عَالم كَبِير وَأخذ الْأُمَرَاء أَوْلَادهم الشَّبَاب للْخدمَة وَكَثُرت الرَّغْبَة فيهم لجمالهم وَتزَوج النَّاس ببناتهم وتنافس الْأُمَرَاء والأجناد وَغَيرهم فِي صبيانهم وبناتهم ثمَّ انغمس من بَقِي مِنْهُم فِي العساكر فَتَفَرَّقُوا فِي الممالك ودخلوا فِي الْإِسْلَام واختلطوا بِأَهْل الْبِلَاد. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشر جُمَادَى الأولى: اسْتَقر فِي قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين عَليّ بن وهب بن مُطِيع الْقشيرِي الْمَعْرُوف بِابْن دَقِيق الْعِيد الشَّافِعِي بعد وَفَاة قَاضِي الْقُضَاة ذِي الرياستين تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن بن قَاضِي الْقُضَاة ذِي الرياستين تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن خلف بن بدر العلامي الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز. وَفِي هَذِه السّنة: اشْتَدَّ الغلاء وَبلغ سعر الأردب الْقَمْح الْمصْرِيّ إِلَى مائَة وَثَمَانِينَ درهما وَالشعِير تعدِي الأردب مِنْهُ مائَة دِرْهَم والفول بِنَحْوِ تسعين درهما الأردب. وَبلغ الترس سِتِّينَ درهما الأردب بعد خَمْسَة دَرَاهِم وأبيع الْخبز كل رَطْل بدرهم نقرة وأبيع الْفروج بِعشْرين درهما بعد ثَلَاثَة دَرَاهِم. وذبحت فراريج للمرضى ثمَّ وزن لَحمهَا فَوقف كل وزن دِرْهَم مِنْهَا بدرهم فضَّة وأبيعت بطيخة صيفية للمرضى بِمِائَة دِرْهَم فضَّة وأبيع الرطل مِنْهُ بأَرْبعَة دَرَاهِم. وأبيعت سفرجلة بِثَلَاثِينَ درهما وكل رَطْل لحم بسبعة دَرَاهِم وكل سبع حبات من بيض الدجاح بدرهم وَلم يزدْ سعر الْقَمْح فِي بِلَاد الصَّعِيد الْأَعْلَى على خَمْسَة وَسبعين درهما الأردب.(2/266)
وَهلك مُعظم الدَّوَابّ لعدم الْعلف حَتَّى لم تُوجد دَابَّة للكراء وَهَلَكت الْكلاب والقطاط من الْجُوع. وانكشف حَال كثير من النَّاس وشحت الأنفسي حَتَّى صَار أكَابِر الْأُمَرَاء يمْنَعُونَ من يدْخل عَلَيْهِم من الْأَعْيَان عِنْد مد أسمطتهم. وَكثر تَعْزِير محتسب الْقَاهِرَة ومصر لبياعي لُحُوم الْكلاب وَالْمَيتَات ثمَّ تفاقم الْأَمر فَأكل النَّاس الْميتَة من الْكلاب والمواشي وَبني آدم وَأكل النِّسَاء أَوْلَادهنَّ الْمَوْتَى. ورأي بعض الْأُمَرَاء بِبَاب دَاره امْرَأَة لَهَا هَيْئَة حَسَنَة وَهِي تستعطي فرق لَهَا وأدخلها دَاره فَإِذا هِيَ جميلَة فأحضر لَهَا رغيفا وإناء مملوءاً طَعَاما أَكلته كُله وَلم تشبع فَقدم إِلَهًا مثله فأكلته وَشَكتْ الْجُوع فَمَا زَالَ يقدم لَهَا وَهِي تَأْكُل حَتَّى اكتفت ثمَّ استندت إِلَى الْحَائِط ونامت فَلَمَّا حركوها وجدت ميتَة فاخذوا من كتفيها جرابا فلفوا فِيهِ يَد إِنْسَان صَغِير وَرجله فَأخذ الْأَمِير ذَلِك وَصعد بِهِ القلعة وَأرَاهُ السُّلْطَان والأمراء. ثمَّ إِن الأسعار انْحَلَّت فِي شهر رَجَب حَتَّى أبيع الأردب الْقَمْح بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ درهما وَالشعِير بِخَمْسَة وَعشْرين درهما الأردب. وَأما النّيل فَإِنَّهُ توقف ثمَّ وَفِي سِتَّة عشر ذِرَاعا وَكسر الخليج فنقص فِي يَوْم عيد الْفطر بعد الْكسر نقصا فَاحِشا ثمَّ زَاد. فتزايد السّعر وَسَاءَتْ ظنون النَّاس وَكثر الشُّح وَضَاقَتْ الأرزاق ووقفت الْأَحْوَال وَاشْتَدَّ الْبكاء وَعظم ضجيج النَّاس فِي الْأَسْوَاق من شدَّة الغلاء. وتزايد الوباء بِحَيْثُ كَانَ يخرج من كل بَاب من أَبْوَاب الْقَاهِرَة فِي كل يَوْم مَا يزِيد على سَبْعمِائة ميت وَيغسل فِي الميضأة من الغرباء الطرحاء فِي كل يَوْم نَحْو الْمِائَة وَالْخمسين مَيتا وَلَا يكَاد يُوجد بَاب أحد من المستورين بِالْقَاهِرَةِ ومصر إِلَّا وَيُصْبِح على بَابه عدَّة أموات قد طرحوا حَتَّى يكفنهم فيشتغل نَهَاره. ثمَّ تزايد الْأَمر فَصَارَت الْأَمْوَات تدفن بِغَيْر غسل وَلَا كفن فَإِنَّهُ يدْفن الْوَاحِد فِي ثوب ثمَّ سَاعَة مَا يوضع فِي حفرته يُؤْخَذ ثَوْبه حَتَّى يلبس لمَيت آخر فيكفن فِي الثَّوْب الْوَاحِد عدَّة أموات. وَعجز النَّاس عَن مواراة الْأَمْوَات فِي الْقُبُور لكثرتهم وَقلة من يحْفر لَهُم فَعمِلت حفائر كبار ألقيت فِيهَا الْأَمْوَات من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان حَتَّى تمتلئ الحفرة ثمَّ تطم بِالتُّرَابِ. وانتدب أنَاس لحمل الْأَمْوَات ورميهم فِي الْحفر فَكَانُوا يَأْخُذُونَ عَن كل ميت نصف دِرْهَم فيحمله الْوَاحِد مِنْهُم وَيُلْقِيه إِمَّا فِي حُفْرَة أَو فِي النّيل إِن كَانَ قَرِيبا مِنْهُ. وَصَارَت الْوُلَاة بِالْقَاهِرَةِ ومصر تحمل الْأَمْوَات فِي شباك على الْجمال ويعلقون(2/267)
الْمَيِّت بيدَيْهِ ورحليه من الْجَانِبَيْنِ وَيَرْمِي فِي الْحفر بالكيمان من غير غسل وَلَا كفن وَرمي كثير من الْأَمْوَات فِي الْآبَار حَتَّى تملأ ثمَّ تردم. وَمَات كثير من النَّاس بأطراف الْبِلَاد فَبَقيَ على الطرقات حَتَّى أَكلته الْكلاب وَأكل كثيرا مِنْهَا بَنو آدم أَيْضا وَحصر فِي شهر وَاحِد من هَذِه السّنة عدَّة من مَاتَ مِمَّن قدر على مَعْرفَته فبلغت الْعدة مائَة ألف وَسَبْعَة وَعشْرين ألف إِنْسَان وَعظم الموتان فِي أَعمال مصر كلهَا حَتَّى خلت الْقرى. وَتَأَخر الْمَطَر بِبِلَاد الشَّام حَتَّى دخل فصل الشتَاء لَيْلَة الْخَمِيس سادس صفر وَهُوَ سادس عشر كانون الأول وَلم يَقع الْمَطَر فتزايدت الأسعار فِي سَائِر بِلَاد الشَّام. وجفت الْمِيَاه فَكَانَت الدَّابَّة تَسْقِي بدرهم شربة وَاحِدَة وَيشْرب الرجل بِربع دِرْهَم شربة وَاحِدَة وَلم يبْق عشب وَلَا مرعي. وَبلغ الْقَمْح كل غرارة فِي دمشق بِمِائَة وَسبعين درهما وَالْخبْز كل رَطْل وأوقتين بدرهم وَاللَّحم كل رَطْل بأَرْبعَة دَرَاهِم وَنصف ثمَّ إِن الشَّيْخ شرف الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع الْفَزارِيّ قَرَأَ صَحِيح البُخَارِيّ تَحت قبَّة النسْر بالجامع الْأمَوِي بِدِمَشْق فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع صفر فَسقط الْمَطَر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَاسْتمرّ عدَّة أَيَّام وعقبه ثلج فسر النَّاس إِلَّا أَن الأسعار تزايدت ثمَّ انحطت وَاشْتَدَّ الغلاء بالحجاز حَتَّى أبيعت الغرارة الْقَمْح فِي مَكَّة بِأَلف ومائتي دِرْهَم. وَفِي رَجَب: وَقعت صَاعِقَة على قبَّة زَمْزَم فقتلت الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام مُؤذن الْحرم وَهُوَ يُؤذن على سطح الْقبَّة. وفيهَا قدمت أم الْملك الْعَادِل سلامش بن السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس من بِلَاد الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى دمشق فِي حادي عشر رَمَضَان وسارت إِلَى الْقَاهِرَة فِي ثامن عشره. وفيهَا مَاتَ الْملك السعيد إيلغازي بن المظفر فَخر الدّين قرا أرسلان الأرتقي صَاحب ماردين فَكَانَت أَيَّامه قَرِيبا من ثَلَاث سِنِين وَقَامَ من بعده أَخُوهُ الْملك الْمَنْصُور نجم الدّين عازي. وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشر شَوَّال: خرج السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل بعساكر مصر يُرِيد الشَّام واستخلف الْأَمِير شمس الدّين كرتيه فِي نِيَابَة السلطنة وَولده الْملك الْمُجَاهِد أنص. فَدخل دمشق فِي يَوْم السبت خَامِس عشر ذِي الْقعدَة، وَحمل الْأَمِير بيسرى الجتر على رَأسه.(2/268)
وَفِيه اسْتَقر تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق عوضا عَن شرف الدّين حسن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي بِحكم وَفَاته فِي ثَانِي عشري شَوَّال. وَلما اسْتَقر السُّلْطَان بِدِمَشْق خلع فِي سادس عشره على الْأُمَرَاء وَأهل الدولة وَشرع الصاحب فَخر الدّين الخليلي فِي مصادرات أهل دمشق من الْوُلَاة والشادين ورسم على سنقر الأعسر شاد الدَّوَاوِين وعزل أسندمر كرجي وَإِلَى الْبر وَولي عوضه عَلَاء الدّين ابْن الجاكي وألزم الأعسر وَسَائِر المباشرين بأموال جزيلة. وَفِي رَابِع عشريه: قدم الْملك المظفر صَاحب حماة إِلَى دمشق فَتَلقاهُ السُّلْطَان وأكرمه وَخرج عَسْكَر كَبِير إِلَى حلب. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشريه: صلى السُّلْطَان بالجامع الْأمَوِي وخلع على خَطِيبه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي ذِي الْحجَّة: عزل الْأَمِير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ عَن نِيَابَة دمشق وَوَقعت الحوطة على خيوله وأمواله وَاسْتقر فِي نِيَابَة دمشق الْأَمِير سيف الدّين أغرلو العادلي وعمره نَحْو الثَّلَاثِينَ سنة وَاسْتقر أيبك الْحَمَوِيّ نَائِب دمشق على إقطاع أغرلو بديار مصر وخلع عَلَيْهِ وَفِي ثامنه: اسْتَقر فِي وزارة دمشق عوضا عَن تَقِيّ الدّين تَوْبَة وَكيل السُّلْطَان شهَاب الدّين وَفِي ثَانِي عشره: خرج السُّلْطَان إِلَى حمص ليتصيد فَدَخلَهَا فِي تَاسِع عشره وَحضر إِلَيْهِ نَائِب حلب وَبَقِيَّة النواب. وانسلخت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان على جوسية من قرى حمص بمخيمه وَكَانَ قد اشْتَرَاهَا. وفيهَا ولي الشريف شمس الدّين مُحَمَّد بن شهَاب الدّين الْحُسَيْن بن شمس الدّين مُحَمَّد قَاضِي الْعَسْكَر نقابة الْأَشْرَاف بديار مصر بعد وَفَاة الشريف عز الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن الْحلَبِي وَاسْتقر فِي قَضَاء الحنابله بِدِمَشْق تَقِيّ الدّين أَبُو الْفضل ابْن عبد الرَّحْمَن الْحلَبِي سُلَيْمَان بن حَمْزَة بعد موت شرف الدّين حسن بن عبد الله بن الشَّيْخ أبي عمر.(2/269)
وفيهَا اسْتَقر الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد بن المظفر مُحَمَّد بن عمر بن على مملكة الْيمن بعد موت أَخِيه الْأَشْرَف ممهد الدّين عمر. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْملك الْأَشْرَف عمر بن المظفر مُحَمَّد بن الْمَنْصُور عمر بن عَليّ بن رَسُول متملك الْيمن وَقد قَارب سبعين سنة. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة ذُو الرياستين تَقِيّ الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن تَاج الدّين أبي مُحَمَّد وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق شرف الدّين أَبُو الْفَضَائِل الْحسن بن عبد الله بن الشَّيْخ أبي عمر مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي بِدِمَشْق عَن سبع وَخمسين سنة. وَتُوفِّي الْعَلامَة زين الدّين أَبُو البركات المنجا بن عُثْمَان بن أسعد بن المنجا التنوخي الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ عَن نَحْو خمس وَسِتِّينَ سنة بِدِمَشْق. وَتُوفِّي الصاحب محيى الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن هبة الله ابْن طَارق بن سَلامَة بن النّحاس الْآمِدِيّ الْحلَبِي الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وَكَانَت قد انْتَهَت إِلَيْهِ مشيخة فقه الْحَنَفِيَّة وَولي قَضَاء حلب ثمَّ وزارة دمشق. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابْن مُحَمَّد بن هبة الله بن عَليّ بن المطهر بن أبي عصرون التَّمِيمِي الْموصِلِي الشَّافِعِي بِدِمَشْق عَن خمس وَثَمَانِينَ سنة. وَتُوفِّي المقرىء الزَّاهِد شرف الدّين أَبُو الثَّنَاء مُحَمَّد بن أَحْمد بن مبادر بن ضحاك التاذفي بِدِمَشْق عَن إِحْدَى وَسبعين سنة.(2/270)
وَتُوفِّي السراج أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن الْحسن الْوراق الشَّاعِر عَن نَحْو سبعين سنة. وَتُوفِّي أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الْوَهَّاب بن خلف بن مَحْمُود الشَّافِعِي الْفَقِيه الأديب(2/271)
فارغة(2/272)
سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي ثَانِي الْمحرم قدم السُّلْطَان من حمص إِلَى دمشق. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رابعه: صلى صَلَاة الْجُمُعَة بالجامع الْأمَوِي وَأخذ قصصاً كَثِيرَة رفعت إِلَيْهِ ورأي بيد رجل قصَّة فَتقدم إِلَيْهِ بِنَفسِهِ ومشي عدَّة خطوَات حَتَّى أَخذ الْقِصَّة مِنْهُ بِيَدِهِ. وَفِي سَابِع عشره: أنعم على الْملك الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْملك السعيد بن الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بإمرة طبلخاناه بِدِمَشْق. وَفِي حادي عشريه: قبض على الْأَمِير أسندمر كرجي واعتقل بقلعة دمشق وعزل سنقر الأعسر عَن شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وَاسْتقر عوضه الْأَمِير فتح الدّين عمر بن مُحَمَّد ابْن صبرَة. وَفِي بكرَة يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشريه: رَحل السُّلْطَان من دمشق بعساكره يُرِيد الْقَاهِرَة وَقد توغرت صُدُور الْأُمَرَاء وتواعدوا على الفتك بِهِ. فَسَار إِلَى أَن نزل بالعوجاء قَرِيبا من الرملة وَحضر الْأُمَرَاء عِنْده بالدهليز فَأمر بإحضار الْأَمِير بيسري فَطلب طلبا حثيثاً فَلَمَّا حضر لم يقم لَهُ على عَادَته وَأَغْلظ لَهُ فِي الْكَلَام وَنسبه إِلَى أَنه كَاتب التتار فَكَانَت بَينهمَا مُفَاوَضَة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان وانفض الْأُمَرَاء وَقد حرك مِنْهُم مَا كَانَ عِنْدهم كامناً. فَاجْتمعُوا عِنْد الْأَمِير حسام لاجين النَّائِب وَفِيهِمْ بيسري وسألوه عَمَّا كَانَ من السُّلْطَان فِي حق فَقَالَ: إِن مماليك السُّلْطَان كتبُوا عَنْك كتبا إِلَى التتار وأحضروها إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّك كتبتها وَنِيَّته الْقَبْض عَلَيْك إِذا وصل إِلَى مصر وَأَن يقبض على أَيْضا وعَلى أكَابِر الْأُمَرَاء وَيقدم مماليكه. فَأَجْمعُوا عِنْد ذَلِك على مبادرة السُّلْطَان فَرَكبُوا يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشري الْمحرم وَقت الظّهْر: وهم لاجين بيسري وقرا سنقر وقبجاق والحاج بهادر الْحَاجِب فِي آخَرين واستصحبوا مَعَهم حمل نقارات وَسَاقُوا ملبسين إِلَى بَاب الدهليز وحركت النقارات حَرْبِيّا. فَركب عدَّة من العادلية(2/273)
واقتتلوا فَتقدم تكلان العادلي فَضَربهُ الْأَمِير لاجين فِي وَجهه ضَرْبَة أخذت مِنْهُ جانباً كَبِيرا وجرح تكلان فرس لاجين وَقتل الْأَمِير بدر الدّين بكتوت الْأَزْرَق العادلي فِي خيمته وَقتل الْأَمِير سيف الدّين بتخاص العادلي وَقد فر إِلَى الدهليز فأدركوه بِبَاب الدهليز فَقَتَلُوهُ وجرحوا عدَّة من المماليك العادلية. فَلم يثبت الْعَادِل وَخرج من ظهر الدهليز وَركب فرس النّوبَة ببغلطاق صدر وَعبر على قنطرة العوجاء يُرِيد دمشق من غير أَن يفْطن بِهِ أحد وَلم يُدْرِكهُ سوي خَمْسَة من مماليكه. وهجم لاجين على الدهليز فَلم يجد الْعَادِل وبلغه أَنه فر فساق خَلفه فَلم يُدْرِكهُ وَرجع إِلَى الدهليز فَلَمَّا عاينه الْأُمَرَاء ترجلوا لَهُ وَمَشوا فِي ركابه حَتَّى نزل. فَكَانَت مُدَّة كتبغا مُنْذُ جلس على التخت بقلعة الْجَبَل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَإِلَى أَن فَارق الدهليز بِمَنْزِلَة العوجاء فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشري الْمحرم سنة سِتّ السُّلْطَان حسام الدّين لاجين السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين لاجين المنصووي الْمَعْرُوف بالصغير كَانَ أَولا من جملَة مماليك الْملك الْمَنْصُور عَليّ بن الْملك الْمعز أيبك فَلَمَّا خلع اشْتَرَاهُ الْأَمِير سيف الدّين قلاوون وَهُوَ أَمِير بسبعمائة وَخمسين درهما من غير مَالك شَرْعِي فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه من مماليك الْمَنْصُور اشْتَرَاهُ مرّة ثَانِيَة بِحكم بيع قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب ابْن بنت الْأَعَز لَهُ عَن الْمَنْصُور وَهُوَ غَائِب بِبِلَاد الأشكري. وَعرف حِين بَيْعه بشقير فربي عِنْد قلاوون وَقيل لَهُ لاجين الصَّغِير وترقى فِي خدمته من الأوشاقية إِلَى السِّلَاح دارية. ثمَّ أمره قلاوون واستنابه بِدِمَشْق لما ملك وَهُوَ لَا يعرف إِلَّا بلاجين الصَّغِير فَشَكَرت سيرته فِي النِّيَابَة وأحبته الرّعية لعفته عَمَّا فِي أَيْديهم فَلَمَّا ملك الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون قبض عَلَيْهِ وعزله عَن نِيَابَة دمشق ثمَّ أفرج عَنهُ وولاه إمرة السِّلَاح دَار كَمَا كَانَ قبل استنابته على دمشق. ثمَّ بلغه أَن الْأَشْرَف يُرِيد الْقَبْض عَلَيْهِ ثَانِيًا ففر من دَاره بِدِمَشْق فَقبض عَلَيْهِ وَحمل إِلَى قلعة الْجَبَل وَأمر بخنقه قُدَّام السُّلْطَان. ثمَّ نجا من الْقَتْل بشفاعة الْأَمِير بدر الدّين بيدرا وأعيد إِلَى الْخدمَة على عَادَته واشترك مَعَ بيدرا فِي قتل الْأَشْرَف خَلِيل كَمَا تقدم ذكره. ثمَّ اختفى خَبره(2/274)
مُدَّة وتنقل فِي المدن إِلَى أَن تحدث الْأَمِير زين الدّين كتبغا فِي أمره فعفى عَنهُ وأعيد إِلَى إمرته كَمَا كَانَ. فَلَمَّا صَار زين الدّين كتبغا سُلْطَانا اسْتَقر لاجين فِي نِيَابَة السلطنة بديار مصر إِلَى أَن ركب على كتبغا وفر مِنْهُ فَنزل بالدهليز من العوجاء وَقيل من اللجون. وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء عِنْده وهم بدر الدّين بيسري الشمسي وشمس الدّين قراسنقر المنصوري وَسيف الدّين قبجاق وَسيف الدّين بهادر الْحَاج أَمِير حَاجِب وَسيف الدّين كرد وحسام الدّين لاجين السِّلَاح دَار الرُّومِي أستادار وَبدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح وَعز الدّين أيبك الخازندار وجمال الدّين أقوش الْموصِلِي ومبارز الدّين أَمِير شكار وَسيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار وَسيف الدّين سلار وَسيف الدّين طغي وَسيف الدّين كرجي وَعز الدّين طقطاي وَسيف الدّين برلطاي فِي آخَرين حَتَّى حملت الخزائن على البغال وَرمي الدهليز. وَسَارُوا فِي خدمَة لاجين إِلَى قريب الْمغرب ونزلوا قَرِيبا من يازور وحضروا بأجمعهم بَين يَدي لاجين وَاتَّفَقُوا على سلطنته وشرطوا عَلَيْهِ أَن يكون مَعَهم كأحدهم وَلَا ينْفَرد بِرَأْي دونهم وَلَا يبسط أَيدي مماليك وَلَا يقدمهم وحلفوه على ذَلِك. فَلَمَّا حلف قَالَ لَهُ الْأَمِير قبجاق المنصوري: نخشى أَنَّك إِذا جَلَست فِي منصب السلطنة تنسى هَذَا الَّذِي تقرر بَيْننَا وَبَيْنك وَتقدم مماليك وتخول مملوكك منكوتمر علينا فيصيبنا مِنْهُ مَا أَصَابَنَا من مماليك كتبغا. وَكَانَ منكوتمر مَمْلُوك لاجين وَكَانَ يوده ويؤثره وَله عِنْده مكانة متمكنة من قلبه. فَحلف لاجين مرّة ثَانِيَة أَنه لَا يفعل ذَلِك وَلَا يخرج عَمَّا الْتَزمهُ وشرطوه عَلَيْهِ فَحلف لَهُ الْأُمَرَاء وأرباب الدولة. وتلقب بِالْملكِ الْمَنْصُور وَركب بشعار السلطنة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشرى الْمحرم وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة ورحل إِلَى سكرير وَمِنْهَا إِلَى غَزَّة يُرِيد الديار المصرية فَلَمَّا دخل غَزَّة حمل الْأَمِير بيسري الجتر على رَأسه فَخَطب لَهُ بغزة والقدس وصفد والكرك ونابلس وَضربت بهَا البشائر. وَهَذَا وَقد ركب الْبَرِيد من غَزَّة وسَاق الْأَمِير سيف الدّين سلار الْبَرِيد إِلَى قلعة الْجَبَل ليحلف من بهَا من الْأُمَرَاء. ورسم السُّلْطَان لاجين فِي غَزَّة بمسامحة أهل مصر وَالشَّام بالبواقي ثمَّ سَار مِنْهَا فِي يَوْم الْخَمِيس أول صفر. وَنزل ظَاهر بلبيس فِي ثامنه(2/275)
وَقد خرج إِلَيْهِ أُمَرَاء مصر وحلفوا لَهُ ثمَّ سَار مِنْهَا ضحوة وَبَات مَسْجِد تبر وَركب بكرَة يَوْم الْجُمُعَة تاسعه إِلَى قلعة الْجَبَل. ثمَّ ركب إِلَى الميدان السلطاني بشعار السلطة على الْعَادة وشق الْقَاهِرَة من بَاب النَّصْر إِلَى بَاب زويلة وَعَلِيهِ الخلعة الخليفتية وَهِي جُبَّة سَوْدَاء بزيق وأكمام وَاسِعَة والتقليد مَحْمُول بَين يَدَيْهِ حَتَّى عَاد إِلَى القلعة والخليفة إِلَى جَانِبه وَذَلِكَ فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره. وَفِي يَوْم قدومه انحطت الأسعار إِلَى نصف مَا هِيَ عَلَيْهِ فسر النَّاس بِهِ فَإِن الْقَمْح كَانَ أَرْبَعِينَ درهما الأردب إِلَى مَا دونهَا فأبيع بِعشْرين وَكَانَ الشّعير بِثَلَاثِينَ درهما الأردب فأبيع بِعشْرَة وَكَانَ الرطل اللَّحْم بدرهم وَنصف فأبيع بدرهم وَربع وَدرت الأرزاق وَكثر الْخَيْر. وفوض السُّلْطَان لاجين نِيَابَة السلطة بديار مصر إِلَى الْأَمِير شمس الدّين قراسنقر المنصوري وَاسْتمرّ بالصاحب فَخر الدّين بن الخليلي فِي الوزارة وَجعل الْأَمِير سيف الدّين سلار أستادارا والأمير سيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار أَمِير جاندار والأمير سيف الدّين بهادر الْحَاج حاجبا والأمير سيف الدّين قبجاق المنصوري نَائِب الشَّام وَمنع الْوَزير من الظُّلم وَأخذ الْمَوَارِيث بِغَيْر حق وَألا يطْرَح البضائع على التُّجَّار فَكثر الدُّعَاء لَهُ. وَأما كتبغا فَإِنَّهُ قدم قبله إِلَى دمشق أَمِير شكاره وَهُوَ مَجْرُوح ليعلم الْأَمِير أغرلو نَائِب دمشق بِمَا وَقع فوصل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ الْمحرم فَكثر بِدِمَشْق القال والقيل وألبس أغرلو الْعَسْكَر السِّلَاح ووقفوا خَارج بَاب النَّصْر. فوصل كتبغا فِي أَرْبَعَة أنفس قبل الْغُرُوب وَصعد القلعة وَحضر إِلَيْهِ الْأُمَرَاء والقضاة وجددت لَهُ الْأَيْمَان ثمَّ أوقع الحوطة على أَمْوَال لاجين. وَقدم فِي أول صفر الْأَمِير زين الدّين غلبك العادلي بطَائفَة من المماليك العادلية وَجلسَ شهَاب الدّين الْحَنَفِيّ وَزِير الْملك الْعَادِل كتبغا فِي الوزارة بالقلعة ورتب الْأُمُور وأحوال السلطنة. فاشتهرت بِدِمَشْق سلطنة لاجين فِي يَوْم ثَالِث عشره وَأَن البشائر دقَّتْ بصفد ونابلس والكرك. فَصَارَ كتبغا مُقيما بقلعة دمشق لَا ينزل مِنْهَا وَبعث الْأَمِير سيف الدّين طقصبا الناصري فِي جمَاعَة لكشف الْخَبَر فعادوا وأخبروا بِصِحَّة سلطنة لاجين. فَأمر كتبغا جمَاعَة من دمشق وأبطل عدَّة مكوس فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشره وَكتب بذلك توقيعاً قرئَ بالجامع.(2/276)
فَبعث الْملك الْمَنْصُور لاجين من مصر الْأَمِير سنقر الأعسر وَكَانَ فِي خدمته. فوصل إِلَى ظَاهر دمشق فِي رَابِع عشره وَأقَام ثَلَاثَة أَيَّام وَفرق عدَّة كتب على الْأُمَرَاء وَغَيرهم وَأخذ الْأَجْوِبَة عَنْهَا وَحلف الْأُمَرَاء. وَسَار إِلَى قارا وَكَانَ بهَا عدَّة أُمَرَاء مجردين فحلفهم وَحلف عدَّة من النَّاس وَكتب بذلك كُله إِلَى مصر. وَسَار إِلَى لد فَأَقَامَ بهَا فِي جمَاعَة كَبِيرَة لحفظ الْبِلَاد وَلم يعلم كتبغا بِشَيْء من ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت رَابِع عشريه: وصل الْأَمِير سيف الدّين كجكن وعدة من الْأُمَرَاء كَانُوا مجردين بالرحبة فَلم يدخلُوا دمشق ونزلوا بميدان الْحَصَا قَرِيبا من مَسْجِد الْقدَم فأعلنوا باسم السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور لاجين وراسلوا الْأُمَرَاء بِدِمَشْق فَخَرجُوا إِلَيْهِم طَائِفَة بعد طَائِفَة. وانحل أَمر كتبغا فتدارك نَفسه وَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور خوشداشي وَأَنا فِي خدمته وطاعته وَأَنا أكون فِي بعض القاعات بالقلعة إِلَى أَن يُكَاتب السُّلْطَان وَيرد جَوَابه بِمَا يَقْتَضِيهِ فيأمري فَأدْخلهُ الْأَمِير جاغان الحسامي مَكَانا من القلعة. وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء بِبَاب الميدان وحلفوا للْملك الْمَنْصُور وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بذلك وَحفظ جاغان القلعة ورتب بهَا من يحفظ كتبغا وغلقت أَبْوَاب دمشق كلهَا إِلَّا بَاب النَّصْر وَركب الْعَسْكَر بِالسِّلَاحِ ظَاهر دمشق وأحاط جمَاعَة بالقلعة خوفًا من خُرُوج كتبغا وتحيزه فِي جِهَة أخرج. وَكثر كَلَام النَّاس وَاخْتلفت أَقْوَالهم وَعظم اجْتِمَاعهم بِظَاهِر دمشق حَتَّى أَنه سقط فِي الخَنْدَق جمَاعَة لشدَّة الزحام فِيمَا بَين بَاب النَّصْر وَبَاب القلعة فَمَاتَ نَحْو الْعشْرَة. وَاسْتمرّ الْحَال على هَذَا يَوْم السبت الْمَذْكُور ثمَّ دقَّتْ البشائر بعد الْعَصْر على القلعة وأعلن بِالدُّعَاءِ للْملك الْمَنْصُور ودعي لَهُ على المآذن فِي لَيْلَة الْأَحَد وَضربت البشائر على أَبْوَاب الْأُمَرَاء. وَفتحت الْأَبْوَاب فِي يَوْم الْأَحَد وَحضر الْأُمَرَاء والقضاة بدار السَّعَادَة وحلفوا الْأُمَرَاء بِحُضُور الْأَمِير أغرلو نَائِب الشَّام وَحلف هُوَ وَأظْهر السرُور. وَركب أغرلو والأمير جاغان الْبَرِيد إِلَى مصر وَبلغ ذَلِك الْأَمِير سنقر الأعسر بلد فَنَهَضَ إِلَى دمشق ودخلها يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشريه وَقد تَلقاهُ النَّاس وأشعلوا لَهُ الشموع وَأَتَاهُ الْأَعْيَان وَنُودِيَ من لَهُ مظْلمَة فَعَلَيهِ بِبَاب الْأَمِير شمس الدّين سنقر الأعسر. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة أول شهر ربيع الأول: خطب بِدِمَشْق للْملك الْمَنْصُور. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثامنه: وصل الْأَمِير حسام الدّين الأستادار بعسكر مصر(2/277)
ليحلف الْأُمَرَاء فَحَلَفُوا بدار السَّعَادَة فِي يَوْم السبت تاسعه وَقُرِئَ عَلَيْهِم كتاب الْملك الْمَنْصُور باستقراره فِي الْملك وجلوسه على تخت الْملك بقلعة الْجَبَل واجتماع الْكَلِمَة عَلَيْهِ وركوبه بالتشاريف الخليفتية والتقليد بَين يَدَيْهِ من أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحَاكِم بِأَمْر الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشره: وصل الْأَمِير جاغان الحسامي من مصر وَحلف كتبغا يَمِينا مستوفاة مُغَلّظَة بِحَضْرَة الْأَمِير حسام الدّين الأستادار والأمير سيف الدّين كجكن وقاضي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة على أَنه فِي طَاعَة الْملك الْمَنْصُور وموافقته وَقد أخْلص النِّيَّة لَهُ وَرَضي بِالْمَكَانِ الَّذِي عينه لَهُ وَهُوَ قلعة صرخد وَأَنه لَا يُكَاتب وَلَا يشاور وَلَا يستفسد أحدا. وَفِيه اسْتَقر تَقِيّ الدّين تَوْبَة فِي وزارة دمشق وَاسْتقر أَمِين الدّين بن هِلَال فِي نظر الخزانة عوضا عَن تَقِيّ الدّين توبه وَاسْتقر الشَّيْخ أَمِين الدّين يُوسُف الرُّومِي فِي حسبَة دمشق. وَفِي سادس عشره: وصل الْأَمِير سيف الدّين قبجق المنصوري نَائِب دمشق من مصر وَنزل بدار السَّعَادَة على عَادَة النواب. وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء تَاسِع عشره: خرج كتبغا من قلعة دمشق إِلَى قلعة صرخد وَمَعَهُ مماليكه وجرد من دمشق مَعَه نَحْو المائتي فَارس سَارُوا بِهِ حَتَّى عبر قلعة صرخد ثمَّ رجعُوا فَكَانَت مُدَّة مُفَارقَته الدهليز من العرجاء إِلَى أَن خلع نَفسه بِدِمَشْق فِي يَوْم السبت رَابِع عشري صفر أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وجهز إِلَيْهِ ابْنه أنص وَأَهله. وَوصل إِلَى دمشق نَحْو سِتّمائَة تشريف فرقت على الْأُمَرَاء والقضاة والأعيان ولبسوها يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي شهر ربيع الآخر. وَأَفْرج الْملك الْمَنْصُور عَن الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الجاشنكير وَجعله أحد الْأُمَرَاء وَعَن الْأَمِير سيف الدّين برلغي وَبَعثه إِلَى دمشق على إمرة بهَا وَعَن الْأَمِير سيف الدّين اللقماني وَعَن جمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة الَّذين كَانُوا بدمياط والإسكندرية وبخزانة البنود من الْقَاهِرَة وبخزانة شمايل. فَكَانَ لَهُم يَوْم مشهود فَإِنَّهُ كَانَ فيهم خَمْسَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا أنعم على جَمِيعهم وخلع عَلَيْهِم. وفيهَا أَمر السُّلْطَان لاجين جمَاعَة من مماليكه فَأعْطى مَمْلُوكه سيف الدّين منكوتمر إمرة ومملكوه عَلَاء الدّين أيدغدي شقير إمرة ومملوكه سيف الدّين جاغان إمرة ومملوكه سيف بهادر المعزي إمرة.(2/278)
وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير علم الدّين الدواداري بعمارة الْجَامِع الطولوني وَعين لذَلِك عشْرين ألف دِينَار عينا فعمره وَعمر أوقافه وأوقف منية أندونة من الْأَعْمَال الجيزية عَلَيْهِ ورتب فِيهِ درس تَفْسِير ودرس حَدِيث نبوي وَأَرْبَعَة دروس فقه على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة ودرساً للطب وَشَيخ ميعاد ومكتب سَبِيل لقِرَاءَة الْأَيْتَام الْقُرْآن. وَسبب ذَلِك إِنَّه لما هرب فِي وقْعَة بيدرا من بر الجيزة واختفى بمنارة الْجَامِع الطولوني وَكَانَ إِذْ ذَاك مهدوراً لَا يُوقد بِهِ سوى سراج وَاحِد فِي اللَّيْل وَلَا يُؤذن أحد بمنارته وَإِنَّمَا يقف شخص على بَابه وَيُؤذن فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة لم يظْهر خَبره فَأَرَادَ أَن يكون من شكر نعْمَة الله عَلَيْهِ عمَارَة هَذَا الْجَامِع فعمر وَهُوَ الْآن بِحَمْد الله عَامر بعمارته لَهُ. وفيهَا كتب السُّلْطَان لاجين إِلَى الأشكري بالقسطنطنية أَن يُجهز أَوْلَاد الْملك الظَّاهِر بيبرس إِلَى الْقَاهِرَة مكرمين فَجهز الْملك المسعود نجم الدّين خضر ووالدته وَحرمه وَكَانَ الْملك الْعَادِل بدر الدّين سلامش قد مَاتَ بالقسطنطنية سنة تسعين وسِتمِائَة فأحضر فِي تَابُوت مصبرا فَدفن بقرافة مصر. وَقدم الْملك السعيد خضر إِلَى السُّلْطَان وَسَأَلَ الْإِذْن بِالْحَجِّ فَأذن لَهُ وسافر مَعَ الركب. وفيهَا نقل الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله من البرج بقلعة الْجَبَل إِلَى مناظر الْكَبْش بجوار الْجَامِع الطولوني وأجرى لَهُ مَا يَكْفِيهِ. وَبعث إِلَيْهِ الْملك الْمَنْصُور بِمَال سني وَصَارَ يركب مَعَ السُّلْطَان فِي الموكب. وفيهَا قدم من قُضَاة دمشق وأعيانها جمَاعَة مِنْهُم قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين أَبُو الْفَضَائِل الْحسن بن قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين أبي المفاخر أَحْمد بن الْحسن بن أنوشروان الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ الرُّومِي فولاه السُّلْطَان قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بديار مصر عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَحْمد السرُوجِي وعامله من الْإِكْرَام. مِمَّا لم يُعَامل بِهِ أحدا وَأقر وَلَده جلال الدّين أَبَا المفاخر على قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق. وَقدم أَيْضا قَاضِي الْقُضَاة إِمَام الدّين عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن أَحْمد بن عبد الْكَرِيم الْقزْوِينِي الشَّامي - أنوشروان فَعرض السُّلْطَان عَلَيْهِ قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر فَلم يقبل وَاخْتَارَ(2/279)
دمشق فولاه قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق فِي رَابِع جُمَادَى الأولى عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَاسْتقر ابْن جمَاعَة فِي خطابة جَامع دمشق وتدريس القيمرية بهَا. وَقدم أَيْضا قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين يُوسُف الزواوي الْمَالِكِي فأعيد إِلَى ولَايَته بِدِمَشْق وخلع عَلَيْهِ وعَلى إِمَام الدّين الْقزْوِينِي فعادا إِلَى دمشق فِي ثامن شهر رَجَب. وَقدم أَيْضا عز الدّين حَمْزَة بن القلانسي فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ واستعاد لَهُ من وَرَثَة الْملك الْمَنْصُور قلاوون مَا كَانَ قد أَخذ مِنْهُ وَعَاد إِلَى دمشق فِي خَامِس عشري رَمَضَان. وفيهَا ظهر بِأَرْض مصر فأر كثير أتلف الزروع حَتَّى لم يُؤْخَذ مِنْهُ إِلَّا الْيَسِير. وعزل الْأَمِير فتح الدّين عمر بن صبرَة عَن شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وَاسْتقر عوضه الْأَمِير سيف الدّين جاغان الحسامي فِي ثامن عشر رَجَب. وَفِي هَذِه السّنة: طلب السُّلْطَان الْأَمِير سنقر الأعسر من دمشق فِي شهر رَجَب فَركب الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة. وَلما حضر أكْرمه السُّلْطَان وَجعله من أُمَرَاء مصر ثمَّ ولاه الوزارة بديار مصر فِي سادس عشريه وَسلمهُ الصاحب فَخر الدّين بن الخليلي فألزمه بِمِائَة ألف دِينَار وَقبض على أَتْبَاعه. واشتدت حرمته وعظمت مهابته فَلَا يُرَاجع وَلَا يُخَاطب إِلَّا جَوَابا. وفيهَا توقف النّيل عَن الزِّيَادَة قبل الْوَفَاء فتزايد السّعر وَبلغ فِي ذِي الْقعدَة الأردب الْقَمْح خَمْسَة وَأَرْبَعين درهما ثمَّ انحل السّعر. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء النّصْف من ذِي الْقعدَة: قبض على الْأَمِير شمس الدّين قراسنقر نَائِب السلطنة وعَلى جمَاعَة من الْأُمَرَاء واعتقلوا وأحيط بموجود قراسنقر الَّذِي بِمصْر وَالشَّام وَضرب كَاتبه شرف الدّين يَعْقُوب حَتَّى مَاتَ تَحت الضَّرْب وضيق على نوابه ودواوينه. وَأَرَادَ السُّلْطَان إِقَامَة مَمْلُوكه الْأَمِير سيف الدّين منكوتمر الحسامي فِي نِيَابَة السلطنة فعارضه الْأُمَرَاء وغضبوا من منكوتمر فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَأَرَادَ تفريقهم فَبعث طغريل الإيغاني إِلَى الْكَشْف بالشرقية. وسنقر المساح إِلَى كشف الغربية وبيسري إِلَى كشف الجيزة ثمَّ قبض على قراسنقر النَّائِب والحاج بهادر وَعز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ وسنقر شاه الظَّاهِرِيّ والأقوش وَعبد الله وكوري وَالشَّيْخ عَليّ وقيدوا وَولي منكوتمر النِّيَابَة من غَد مسكهم فِي عشري ذِي الْقعدَة وَاسْتقر فِي نِيَابَة السلطنة.(2/280)
وَفِيه ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان وَلعب بالكرة فتقنطر عَن الْفرس وانكسر أحد جَانِبي يَده اليمني وتهشم بعض أضلاعه وانصدعت رجله. وَخيف عَلَيْهِ فَكسر المجبرون عظم الْجَانِب الآخر من يَده حَتَّى يتم لَهُم الْجَبْر فَإِنَّهُ قصر عَن الْجَانِب الآخر وَكَانَ قد توقف السُّلْطَان عَن موافقتهم فَقَالَ الْوَزير سنقر الأعسر: أَنا حصل لي مثل هَذَا فَلَمَّا احتجت إِلَى كسر النّصْف الآخر ضَربته بدقماق حَدِيد فانكسر ثمَّ جبر وَكَلمه بجفاء وغلظة واستخفاف من غير أدب فَاحْتمل السُّلْطَان ذَلِك مِنْهُ وَأجَاب المجبرين لما قصدوه وَأسر لسنقر الأعسر فِي نَفسه. فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْم السبت ثَالِث عشري ذِي الْحجَّة: قبض عَلَيْهِ وَلم يول أحدا غَيره. وَفِي هَذِه السّنة: كَانَ الأردب الْقَمْح من أَرْبَعِينَ درهما إِلَى خمسين والأردب الشّعير بِثَلَاثِينَ وَاللَّحم بِدِرْهَمَيْنِ وَنصف الرطل. فَنزل الْقَمْح إِلَى عشْرين وَالشعِير إِلَى عشرَة دَرَاهِم وَاللَّحم إِلَى دِرْهَم وَربع. وفيهَا كتب بمسامحة أهل النواحي. مِمَّا عَلَيْهِم من بواقي الْخراج المنكسرة. وَفِي هَذِه السّنة: منع السُّلْطَان من لبس الكلفتاه الزركش والطرز الزركش والأقبية الْحَرِير الْعَظِيمَة الثّمن واقتصد هُوَ وخواصه فِي الملبس. وَجلسَ بدار الْعدْل يَوْمَيْنِ فِي الْأُسْبُوع لسَمَاع شكوى المتظلمين وَأعْرض عَن اللَّهْو جملَة ومقت من يعاينه وَصَامَ شَهْري رَجَب وَشَعْبَان وَتصدق فِي السِّرّ. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان قَاضِي الْقُضَاة الْحَنْبَلِيّ عز الدّين أَبُو حَفْص عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض الْمَقْدِسِي عَن خمس وَسِتِّينَ سنة بِالْقَاهِرَةِ فِي صفر. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَفِيَّة بحلب تَاج الدّين أَبُو الْمَعَالِي عبد الْقَادِر بن عز الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْكَرم بن عبد الرَّحْمَن علوي ثَلَاث وَسبعين سنة بحلب وَهُوَ مَعْزُول.(2/281)
وَتُوفِّي ضِيَاء الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن عمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الْوَاحِد بن هبة الله بن طَاهِر بن يُوسُف بن النصيبي الْحلَبِي وَزِير حماه عَن ثَمَان وَسبعين سنة بحلب. وَتُوفِّي جمال الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الظَّاهِرِيّ الْحلَبِي الْحَنَفِيّ شيخ الحَدِيث عَن سبعين سنة بزاويته خَارج الْقَاهِرَة فِي ربيع الأول. وَتُوفِّي عفيف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن مزروع الْبَصْرِيّ الْحَنْبَلِيّ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة عَن إِحْدَى وَسبعين سنة بَعْدَمَا جاور بهَا خمسين سنة. وَتُوفِّي الأديب سيف الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن جَعْفَر السامري بِدِمَشْق عَن سِتّ وَسبعين سنة وَكَانَ هجاء. وَتُوفِّي الشريف الْحَافِظ عز الدّين أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ ابْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْحُسَيْنِي الْمَعْرُوف بِابْن الْحلَبِي نقيب الْأَشْرَاف بديار مصر فِي ومولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ.(2/282)
سنة سبع وَتِسْعين فِي سِتّمائَة فِيهَا قدم الْملك المسعود نجم الدّين خضر بن الْملك الظَّاهِر بيبرس من بِلَاد الأشكري إِلَى الْقَاهِرَة بشفاعة أُخْته امْرَأَة السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور لاجين وَمَعَهُ أمه وَأَخُوهُ الْملك الْعَادِل سلامش وَقد مَاتَ وصبر فَدفن سلامش بالقرافة. وَكَانَ السُّلْطَان قد احتفل لقدومهم وَأخرج الْأُمَرَاء إِلَى لقائهم وَبَالغ فِي إكرامهم وأجرى على الْملك المسعود الرَّوَاتِب وجهزه لِلْحَجِّ. وَفِيه توجه الْأَمِير سيف الدّين سلار أستادار إِلَى الكرك وأحضر مَا كَانَ بهَا من الْأَمْوَال وَقدم مَعَه الْأَمِير جمال الدّين أقش نَائِب الكرك فَخلع عَلَيْهِ وأعيد إِلَى نيابته. وَفِي حادي عشري صفر: ركب السُّلْطَان بَعْدَمَا انْقَطع لما بِهِ من كسر يَده نَحْو الشَّهْرَيْنِ وَنزل إِلَى الميدان ودقت البشائر وزينت الْقَاهِرَة ومصر وَكتب بالبشائر إِلَى الْأَعْمَال بذلك. وَكَانَ يَوْم ركُوبه من الْأَيَّام المشهودة اجْتمع النَّاس لرُؤْيَته من كل مَكَان وَأخذ أَصْحَاب الحوانيت من كل شخص أُجْرَة جُلُوسه نصف دِرْهَم فضَّة واستأجر النَّاس الْبيُوت بأموال جزيلة فَرحا بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ محبباً إِلَى النَّاس. وَعَاد السُّلْطَان من الميدان فألبس الْأُمَرَاء وَفرق الصَّدقَات فِي الْفُقَرَاء وَأَفْرج عَن المحابيس. وَفِي هَذَا الشَّهْر: استدعى السُّلْطَان قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف الْمَالِكِي وَصِيّ الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَقَالَ لَهُ: الْملك النَّاصِر ابْن أستاذي وَأَنا قَائِم فِي السلطنة كالنائب عَنهُ إِلَى أَن يحسن الْقيام بأمرها والرأي أَن يتَوَجَّه إِلَى الكرك وَأمره بتجهيزه. ثمَّ قَالَ السُّلْطَان للْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون: لَو علمت أَنهم يخلوك سُلْطَانا وَالله تركت الْملك لَك لكِنهمْ لَا يخلونه لَك وَأَنا مملوكك ومملوك والدك احفظ لَك الْملك وَأَنت الْآن تروح إِلَى الكرك إِلَى أَن تترعرع وترتجل وتتحرج وتجرب الْأُمُور وتعود إِلَى ملكك بِشَرْط أَنَّك تُعْطِينِي دمشق وأكون بهَا مثل صَاحب حماة فِيهَا. فَقَالَ لَهُ النَّاصِر: فاحلف لي أَن تبقي على نَفسِي وَأَنا أروح فَحلف كل مِنْهُمَا على مَا أَرَادَهُ الآخر. فَخرج النَّاصِر فِي أَوَاخِر صفر وَمَعَهُ الْأَمِير سيف الدّين سلار أَمِير مجْلِس والأمير سيف الدّين بهادر الْحَمَوِيّ والأمير أرغون الدوادار وطيدمر جوباش رَأس نوبَة الجمدارية فوصل إِلَى الكرك فِي رَابِع ربيع الأول فَقَامَ لخدمته الْأَمِير جمال الدّين أقوش الْأَشْرَف نَائِب الكرك.(2/283)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه: قبض على الْأَمِير بدر الدّين بيسري الشمسي وعَلى الْأَمِير شمس الدّين الْحَاج بهادر الْحلَبِي الْحَاجِب والأمير شمس الدّين سنقر شاه الظَّاهِرِيّ وَسبب ذَلِك أَن منكوتمر فِي مُدَّة ضعف السُّلْطَان كَانَ هُوَ الَّذِي يعلم عَنهُ على التواقيع والكتب وَصَارَ يخْشَى أَن يَمُوت السُّلْطَان وَلم يكن لَهُ ولد ذكر فَيجْعَل بعده فِي السلطنة بيسري وَكَانَ يكره منكوتمر. فَحسن منكوتمر لمن خيل السُّلْطَان من ذَلِك وَأَن يعْهَد لأحد فَاقْتضى رَأْيه أَن يَجْعَل الْأَمِير منكوتمر ولي عَهده ويقرن اسْمه باسمه فِي الْخطْبَة وَالسِّكَّة وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِك الْأَمِير بيسري فَرده ردا خشناً وَقَالَ: منكوتمر لَا يَجِيء مِنْهُ جندي وَقد أَمرته وَجَعَلته نَائِب السلطة ومشيت الْأُمَرَاء والجيوش فِي خدمته فامتثلوه رِضَاء لَك مَعَ مَا تقدم من حلفك أَلا تقدم مماليكك على الْأُمَرَاء وَلَا تمكنهم مِنْهُم فَمَا قنعت بِهَذَا حَتَّى تُرِيدُ أَن تَجْعَلهُ سُلْطَانا وَهَذَا لَا يوافقك أحد عَلَيْهِ وَنَهَاهُ أَن يذكر هَذَا لغيره وخوفه الْعَاقِبَة وَانْصَرف عَنهُ فلشدة محبَّة السُّلْطَان فِي منكوتمر أعلمهُ بِمَا كَانَ من بيسري فأسرها فِي نَفسه وعاداه وَأخذ يدبر عَلَيْهِ وعَلى الْأُمَرَاء ويغري السُّلْطَان بِهِ وبهم. وَاتفقَ مَجِيء الْخَبَر بِالْحلف بَين الْمغل وَخُرُوج التجريدة إِلَى سيس فَلَمَّا تفرق الْأُمَرَاء وَلم يبْق من يخافه منكوتمر توجه إِلَى الْأَمِير بيسري. واستمال أستاداره بهاء الدّين أرسلان بن بيليك حَتَّى صَار من خواصه ورتبه فِيمَا يَقُوله. ثمَّ حسن منكوتمر للسُّلْطَان أَن ينتدب بيسري لكشف جسور الجيزة فَتقدم لَهُ بذلك مَعَ أَنَّهَا غض مِنْهُ إِذْ مَحَله أجل من ذَلِك فَلم يأب وَخرج إِلَى الجيزة بمماليكه وَأَتْبَاعه وَصَارَ يحضر الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالقلعة فِي يومي الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَيجْلس رَأس الميمنة تَحت الطواشي حسام الدّين بِلَال المغيثي لأجل تقدمه وَيعود إِلَى الجيزة حَتَّى أتقن عمل الجسور. فَلَمَّا تَكَامل إتقان الجسور اسْتَأْذن بيسري السُّلْطَان فِي عمل ضِيَافَة لَهُ فَإِذن فِي ذَلِك فاهتم لَهَا اهتماماً زَائِدا ليحضر إِلَيْهِ السُّلْطَان بالجيزة. فأمكنت الفرصة منكوتمر وَوجد سَبِيلا إِلَى بيسري فخدع أرسلان استادار بيسري ورتبه فِي كَلَام يَقُوله السُّلْطَان ووعده بإمرة طبلخاناه. فانخدع أرسلان وَدخل مَعَ منكوتمر إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ بِأَن بيسري رتب أَنه يقبض عَلَيْك إِذا حضرت لضيافته فتخيل السُّلْطَان من قَوْله. وَاتفقَ أَن بيسري بعث إِلَى منكوتمر يطْلب مِنْهُ الدهليز السلطاني لينصبه السُّلْطَان فِي مَكَان المهم فَبَعثه إِلَيْهِ من غير أَن يعلم السُّلْطَان. فَلَمَّا مر الدهليز على الْجمال من تَحت القلعة ليتوجهوا بِهِ إِلَى الجيزة رَآهُ السُّلْطَان، فَأنْكر ذَلِك وَبعث ‘ لى منكوتمر يسْأَل مِنْهُ.(2/284)
فَأنْكر أَن يكون لَهُ علم بِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا بيسري استدعى بِهِ من مقدم الفراشين وَأَخذه مماليكه من الْفرش خاناه بِغَيْر إِذن وَشرع يحْتَج لصدق مَا قَالَه أرسلان بِهَذَا. فَرد السُّلْطَان الدهليز إِلَى الْفرش خاناه وَغلب على ظَنّه صدق مَا نقل لَهُ عَن بيسري. وَلما وَقع ذَلِك أطلع عَلَيْهِ بعض الْأُمَرَاء الأكابر فَبعث أحدهم وَهُوَ الْأَمِير سيف الدّين طقجي الأشرفي يعلم بيسري بِمَا جرى ويعده بِأَنَّهُ مَعَه هُوَ جمَاعَة من الْأُمَرَاء فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله. فَبعث أرغون أحد ممالك السُّلْطَان إِلَى بيسري بالْخبر على جليته وحذره من الْحُضُور إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَأَنه إِن حضر أَن يكون على استعداد. فَلَمَّا أَرَادَهُ الله حضر بيسري يَوْم الْإِثْنَيْنِ الْمَذْكُور إِلَى الْخدمَة على الْعَادة فَقَامَ لَهُ السُّلْطَان على عَادَته وَأَجْلسهُ بجانبه. فَلَمَّا قدم السماط لم يَأْكُل بيسري وَاعْتذر بِأَنَّهُ صَائِم فَأمر السُّلْطَان بِرَفْع مجمع من الطَّعَام برسم فطوره فَرفع لَهُ وَأخذ يحادثه حَتَّى رفع السماط. وَخرج الْأُمَرَاء وَقَامَ الْأَمِير بيسري مَعَهم فَلَمَّا مَشى عدَّة خطوَات استدعاه السُّلْطَان إِلَيْهِ وحدثه طَويلا وَكَانَ الْحجاب والنقباء يستحثون الْأُمَرَاء على الْخُرُوج. ثمَّ قَامَ بيسري من عِنْد السُّلْطَان وَمَشى خطوَات فاستدعاه السُّلْطَان ثَانِيًا فَعَاد وحدثه أَيْضا حَتَّى علم أَن الْمجْلس والدهاليز لم يبْق بهَا أحد سوى مماليك السُّلْطَان فَقَط فَتَركه. فَقَامَ بيسري وَمَشى فاعترضه سيف الدّين طقجي وعلاء الدّين أيدغدي شقير وعدلا بِهِ إِلَى جِهَة أُخْرَى وَقبض أيدغدي شقير على سَيْفه وَأَخذه من وَسطه فَنظر إِلَيْهِ طقجي وَبكى وجبذاه إِلَى القاعة الصالحية فاعتقل بهَا. فارتجت القلعة وطار الْخَبَر إِلَى الْقَاهِرَة فأغلق بَاب زويلة وماج النَّاس ثمَّ فتح بَاب زويلة. وَوَقعت الحوطة على جَمِيع موجوده وَقبض على جمَاعَة من مماليكه ثمَّ أفرج عَنْهُم وَأقَام بيسري فِي القاعة مكرما وحملت إِلَيْهِ امْرَأَته وَهِي وَالِدَة أَحْمد بن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور. فَمَا زَالَ معتقلا حَتَّى مَاتَ. وَمن الْعجب أَن كلا من السُّلْطَان وبيسري أَتَى عَلَيْهِ فِي هَذِه من أخص أَصْحَابه: فَإِن أرسلان ابْن بدر الدّين بيليك أَمِير مجْلِس وَكَانَ بدر الدّين هَذَا مَمْلُوكا للأمير بيسري ورباه بيسري كَالْوَلَدِ حَتَّى كبر وَقدمه على أكَابِر مماليكه وَعَمله أستاداره وَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ حَتَّى أَنه أعطَاهُ فِي يَوْم وَاحِد سبعين فرسا وَكَانَ هُوَ السَّبَب فِي سلب نعْمَته كَمَا ذكر. وأرغون كَانَ أخص مماليك السُّلْطَان وأقربهم إِلَيْهِ فأفشى سره إِلَى بيسري من حنقه لِأَن غَيره من المماليك أَخذ إمرة طبلخاناه وَأَعْلَى هُوَ إمرة عشرَة فَبَقيَ فِي نَفسه لذَلِك إحْنَة. وَلما قبض على بيسري والأمراء نفرت الْقُلُوب وأكدت الوحشة موت عشرَة أُمَرَاء فِي خَمْسَة أَيَّام فاتهم السُّلْطَان بِأَنَّهُ سمهم.(2/285)
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ربيع الآخر: أُقِيمَت الخطة بِالْمَدْرَسَةِ المعظمية بِفَسْخ قاسيون وَفِي سَابِع عشره: أُعِيد الصاحب فَخر الدّين عمر بن الشَّيْخ مجد الدّين عبد الْعَزِيز الخليلي إِلَى الوزارة بديار مصر فتتبع ألزام الْأَمِير سنقر الأعسر وأحض أستاداره سيف الدّين كيكلدي من دمشق وأحاط بموجوده. وَفِي جُمَادَى الأولى: قبض السُّلْطَان على جمَاعَة من أُمَرَاء مصر. وَصرف بهاء الدّين الْحلِيّ عَن نظر الْجَيْش وَأخذ خطه بِأَلف ألف دِرْهَم واستدعى عماد الدّين بن الْمُنْذر نَاظر الْجَيْش بحلب واستكتب إِلَى أَن حضر أَمِين الدّين بن الرقاقي. وَسبب ذَلِك أَن ابْن الْحلِيّ كَانَ قد استشاره السُّلْطَان فِي تَوْلِيَة منكوتمر النِّيَابَة فَقَالَ لَهُ: إِن دولة السعيد مَا أخربها إِلَّا كوندك ودولة الْأَشْرَف أخربها بيدرا ودولة الْعَادِل تلفت بِسَبَب مماليكه ومنكوتمر شَاب كَبِير النَّفس لَا يرجع لأحد وَيخَاف من تحكمه وُقُوع فَسَاد كَبِير. فَسكت عَنهُ السُّلْطَان وَأعلم منكوتمر بذلك فَأخذ منكوتمر يعاديه حَتَّى إِنَّه لما ولي النِّيَابَة وَدخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا قَاضِي! هَذَا ببركة وعظك للسُّلْطَان فَأَطْرَقَ. وَأخذ منكوتمر يغري السُّلْطَان بِهِ وَيذكر سَعَة أَمْوَاله. بِمصْر وَالشَّام وَأَنه كثير اللّعب. وَكَانَ ابْن الْحلِيّ يحب بعض المماليك الخاصكية فترصده منكوتمر حَتَّى علم أَنه عِنْده فَأعْلم بذلك السُّلْطَان فَأرْسل إِلَيْهِ الطواشي الْمُقدم فِي عدَّة نقباء فَهَجَمُوا على بستانه بِالْقربِ من الميدان وأخذوه والمملوك فَسلم إِلَى الْأَمِير أقوش الرُّومِي وَقبض على حَوَاشِيه وأحيط وَفِيه قدم الْبَرِيد بِأَن رجل من قَرْيَة جينين بالسَّاحل مَاتَت امْرَأَته فَلَمَّا دَفنهَا وَعَاد إِلَى منزله تذكر أَنه نسي فِي الْقَبْر منديلا فِيهِ مبلغ دَرَاهِم فَأخذ فَقِيه الْقرْيَة ونش الْقَبْر ليَأْخُذ المَال والفقيه على شَفير الْقَبْر فَإِذا بِالْمَرْأَةِ جالسة مكتوفة بشعرها ورجلاها أَيْضا قد ربطا بشعرها فحاول حل كتفها فَلم يقدر فَأخذ يجْهد نَفسه فِي ذَلِك فَخسفَ بِهِ وبالمرأة إِلَى حَيْثُ لم يعلم لَهما خبر فَغشيَ على فَقِيه الْقرْيَة مُدَّة يَوْم وَلَيْلَة. فَبعث السُّلْطَان بِخَبَر هَذِه الْحَادِثَة وَمَا قد كتب بِهِ من الشَّام فِيهَا إِلَى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد فَوقف عَلَيْهِ وَأرَاهُ النَّاس ليعتبروا بذلك.(2/286)
وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِوُقُوع الْخلف بَين طقطاي وَطَائِفَة نغية حَتَّى قتل مِنْهُم كثير من الْمغل وانكسر الْملك طقطاي وَأَن غازان قتل وزيره نيروز وعدة مِمَّن يلوذ بِهِ. فاتفق الرَّأْي على أَخذ سيس مَا دَامَ الْخلف بَين الْمغل وَأَن يخرج الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وَمَعَهُ ثَلَاثَة أُمَرَاء وَعشرَة آلَاف فَارس وَكتب لنائب الشَّام بتجريد الْأَمِير بيبرس الجالق وَغَيره من أُمَرَاء دمشق وصفد وطرابلس وَعرض الْجَيْش. فِي جُمَادَى الأولى. فَلَمَّا تجهزوا سَار الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري إِلَى غزَاة سيس وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء حسام الدّين لاجين الرُّومِي الأستادار وشمس الدّين أقسنقر كرتاي ومضافيهم فَدَخَلُوا دمشق فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة وَخرج مَعَهم مِنْهَا الْأَمِير بيبرس الجالق العجمي والأمير سيف الدّين كجكن والأمير بهاء الدّين قرا أرسلان ومضافيهم فِي ثامنه وَسَارُوا بعسكر صفد وحمص وبلاد السَّاحِل وطرابلس وَالْملك المظفر تَقِيّ الدّين مَحْمُود صَاحب حماة. فَلَمَّا بلغ مَسِيرهمْ متملك سيس بعث إِلَى السُّلْطَان يسْأَله الْعَفو فَلم يجبهُ. ووصلت هَذِه العساكر إِلَى حلب وجهز السُّلْطَان الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري بمضافيه من الْقَاهِرَة ليلحق بهم فَأدْرك العساكر بحلب. وَخَرجُوا مِنْهَا بعسكر حلب إِلَى العمق وَهُوَ عشرَة آلَاف فَارس فَتوجه الْأَمِير بدر الدّين بكتاش فِي طَائِفَة من عقبَة بغراس إِلَى اسكندرونة ونازلوا تل حمدون وَتوجه الْملك المظفر صَاحب حماة والأمير علم الدّين سنجر الدوادراي والأمير شمس الدّين أقسنقر كرتاي فِي بَقِيَّة الْجَيْش إِلَى نهر جهان ودخلوا جَمِيعًا دربند سيس فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع رحب. وَهُنَاكَ اخْتلفُوا فَأَشَارَ الْأَمِير بكتاش بالحصار ومنازلة القلاع وَأَشَارَ سنجر الدواداري بالغارة فَقَط وَأَرَادَ أَن يكون مقدم الْعَسْكَر وَمنع الْأَمِير بكتاش من الْحصار ومنازلة القلاع فَلم ينازعه. فوافقه بكتاش وَقَطعُوا نهر جهان للغارة وَنزل صَاحب حماة على مَدِينَة سيس وَسَار الْأَمِير بكتاش إِلَى أذنة وَاجْتمعت العساكر جَمِيعهَا عَلَيْهَا بعد أَن قتلوا من ظفروا بِهِ من الأرمن وَسَاقُوا الأبقار والجواميس. ثمَّ عَادوا من أذنة إِلَى المصيصة بعد الْغَارة وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى نصبوا جِسْرًا مرت عَلَيْهِ العساكر إِلَى(2/287)
بغراس ونزلوا بمرج أنطاكية ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ رحلوا إِلَى جسر الْحَدِيد يُرِيدُونَ الْعود إِلَى مصر. وَكَانَ الْأَمِير بكتاش لما نازعه الدواداري فِي التقدمة على العساكر وَمنعه من الْحصار قد كتب إِلَى الْأَمِير بلبان الطباخي نَائِب حلب بذلك ليطالع بِهِ السُّلْطَان فَكتب بالْخبر إِلَى السُّلْطَان. فورد الْجَواب إِلَى الْأُمَرَاء بالإنكار على الدواداري فِي تقدمه على الْأَمِير بكتاش وَكَونه اقْتصر على الْغَارة وَإنَّهُ لم يخرج إِلَّا على مضافيه وَأَن التقدمة على سَائِر العساكر للأمير بكتاش وَأَن العساكر لَا ترجع إِلَّا بعد فتح تل حمدون وَإِن عَادَتْ من غير فتحهَا فَلَا إقطاع لَهُم بالديار المصرية. فَعَادَت العساكر من الروج إِلَى حلب وَأَقَامُوا بهَا ثَمَانِيَة أَيَّام وتوجهوا إِلَى سيس من عقبَة بغراس. وَسَار كجكن وقرا أرسلان إِلَى أياس وعادا شبه المنهزم فَإِن الأرمن أكمنوا فِي الْبَسَاتِين فَأنْكر عَلَيْهِمَا الْأَمِير بكتاش فاعتزرا بِضيق المسلك والتفاف الْأَشْجَار وَعدم التَّمَكُّن من الْعَدو. ثمَّ رَحل بكتاش بِجَمِيعِ العساكر إِلَى تل حمدون فوجدوها خَالِيَة وَقد نزح من كَانَ فِيهَا من الأرمن إِلَى قلعة نجيمة فتسلمها فِي سَابِع رَمَضَان وَأقَام بهَا من يحفظها وسير الْأَمِير بلبان الطباخي نَائِب حلب عسكرا فملكوا قلعة مرعش فِي رَمَضَان أَيْضا. وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْأَمِير بكتاش وَهُوَ على تل حمدون بِأَن وَاديا تَحت قلعة نجيمة وحميص قد امْتَلَأَ بالأرمن وَأَن أهل قلعة نجيمة تحميهم فَبعث طَائِفَة من الْعَسْكَر إِلَيْهِم فَلم ينالوا غَرضا فسير طَائِفَة ثَانِيَة فَعَادَت بِغَيْر طائل. فَسَار الْأُمَرَاء فِي عدَّة وافرة وقاتلوا أهل نجيمة حَتَّى ردوهم إِلَى القلعة وزحفوا على الْوَادي وَقتلُوا وأسروا من فِيهِ ونازلوا قلعة نجيمة لَيْلَة وَاحِدَة وَسَار الْعَسْكَر إِلَى الْوَطْأَة وَبَقِي الْأَمِير بكتاش وَالْملك المظفر فِي مُقَابلَة من بالقلعة خشيَة أَن يخرج أهل نجيمة فينالوا من أَطْرَاف الْعَسْكَر حَتَّى صَار الْعَسْكَر بالوطأة ثمَّ اجْتَمعُوا بهَا. فَقدم الْبَرِيد من السُّلْطَان بمنازلة قلعة نجيمة حَتَّى تفتح فعادوا إِلَى حصارها وَاخْتلف الْأَمِير بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها فَقَالَ الدواداري: مَتى نازلها الْجَيْش بأسره لَا يعلم من قَاتل مِمَّن عجز وتخاذل والرأي أَن يُقَاتل كل يَوْم أَمِير بألفه. وَأخذ يدل بشجاعته ويصغر شَأْن القلعة وَقَالَ: أَنا آخذها فِي حجري فَسَلمُوا لَهُ وَاتَّفَقُوا على تَقْدِيمه لقتالها قبل كل أحد. فَتقدم الدواداري إِلَيْهَا بألفه حَتَّى لاحف السُّور(2/288)
فَأَصَابَهُ حجر المنجنيق فَقطع مشط رجله وَسقط عَن فرسه إِلَى الأَرْض وَكَاد الأرمن يأخذونه إِلَّا أَن الْجَمَاعَة بادرت وَحَمَلته على جنوبة إِلَى وطاقه وَلزِمَ الْفراش فَعَاد إِلَى حلب وَسَار مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَة وَقتل فِي هَذِه النّوبَة الْأَمِير علم الدّين سنجر طقصبا الناصري. وزحف فِي هَذَا الْيَوْم الْأَمِير كرتاي ونقب سور القلعة وخلص مِنْهُ ثَلَاثَة أَحْجَار وَاسْتشْهدَ مَعَه ثَلَاثَة عشر رجلا. ثمَّ زحف الْأَمِير بكتاش وَصَاحب حماة ببقيه الْجَيْش طَائِفَة بعد طَائِفَة وكل مِنْهُم يردف الآخر حَتَّى وصلوا إِلَى السُّور وَعَلَيْهِم الجنويات وَكَانَ قد اجْتمع بهَا من الفلاحين وَنسَاء الْقرى وَأَوْلَادهمْ خلق كثير فَلَمَّا قل المَاء عِنْدهم أخرجُوا مرّة مِائَتي رجل وثلاثمائة امْرَأَة وَمِائَة وَخمسين صَبيا فَقتل الْعَسْكَر الرِّجَال واقتسموا النِّسَاء وَالصبيان. ثمَّ أخرجُوا مرّة أُخْرَى مائَة وَخمسين رجلا ومائتي امْرَأَة وَخَمْسَة وَسبعين صَبيا فَفَعَلُوا بهم مثل مَا فعلوا بِمن تقدم. ثمَّ أخرجُوا مرّة ثَالِثَة طَائِفَة أُخْرَى فَأتوا على جَمِيعهم بِالْقَتْلِ والسبي حَتَّى لم يتَأَخَّر بالقلعة إِلَّا الْمُقَاتلَة. وَقلت الْمِيَاه عِنْدهم حَتَّى اقْتَتَلُوا بِالسُّيُوفِ على المَاء فسألوا الْأمان فَأمنُوا وَأخذت القلعة فِي ذِي الْقعدَة وَسَار من فِيهَا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَأخذ أَيْضا أحد عشر حصنا من الأرمن وَمِنْهَا النقير وَحجر شغلان وسرقندكار وزنجفرة وحميص وَسلم ذَلِك كُله الْأَمِير بكتاش إِلَى الْأَمِير سيف الدّين أسندمر كرجي من أُمَرَاء دمشق وعينه نَائِبا بهَا فَلم يزل أسندمر بهَا حَتَّى قدم التتار فَبَاعَ مَا فِيهَا أَنا آخذ عَمَّن الحواصل ونزح عَنْهَا فَأَخذهَا الأرمن. وَلما تمّ هَذَا الْفَتْح عَادَتْ العساكر إِلَى حلب وَكَانَ الشتَاء شَدِيدا فأقاموا بهَا. وَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِم الْأَمِير سيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار والأمير عز الدّين طقطاي والأمير مبارز الدّين أوليا بن قرمان والأمير عَلَاء الدّين أيدغدي شقير الحسامي فِي ثَلَاثَة آلَاف فَارس من عَسَاكِر مصر فَدَخَلُوا دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَسَارُوا مِنْهَا إِلَى حلب فِي عشريه وَفِي هَذِه السّنة: كَانَ الروك الحسامي وَذَلِكَ أَن أَرض مصر قد قسمت على أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطا وأفرد مِنْهَا للسُّلْطَان أَرْبَعَة قراريط وَجعل لِلْأُمَرَاءِ وبرسم(2/289)
الإطلاقات والزيادات عشرَة قراريط وَجعل لأجناد الْحلقَة عشرَة قراريط فَأَرَادَ السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور تَغْيِير ذَلِك وَأَن يَجْعَل لِلْأُمَرَاءِ وأجناد الْحلقَة أحد عشر قيراطا ويستجد عسكرا بِتِسْعَة قراريط. فندب لروك أَرَاضِي مصر الْأَمِير بدر الدّين بيليك الْفَارِسِي الْحَاجِب والأمير بهاء الدّين قراقوش الظَّاهِرِيّ الْمَعْرُوف بالبريدي وانتصب لهَذَا الْعَمَل جمَاعَة من الْكتاب وَكَانَ الْمشَار إِلَيْهِ فيهم تَاج الدّين عبد الرَّحْمَن الطَّوِيل مُسْتَوْفِي الدولة وَهُوَ من مسالمة القبط وَمِمَّنْ يشار إِلَيْهِ فِي معرفَة صناعَة الْكِتَابَة ويعتمد على قَوْله وَيرجع إِلَيْهِ. فَخرج الْأُمَرَاء للروك وَمَعَهُمْ الْكتاب وولاة الأقاليم فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى. وَتقدم الْأَمِير منكوتمر نَائِب السلطنة إِلَى التَّاج الطَّوِيل بِأَن يفرد لِلْأُمَرَاءِ والأجناد عشرَة قراريط وَأَن يَجْعَل القيراط الْحَادِي عشر برسم من يتَضَرَّر من قلَّة عِبْرَة خبزه. وأفرد لخاص السُّلْطَان الْأَعْمَال الجيزية والإطفيحية والإسكندرية ودمياط ومنفلوط وكفورها وَهُوَ والكوم الْأَحْمَر من أَعمال القوصية وَغير ذَلِك وأفرد للنائب منكوتمر إقطاع عَظِيم من جملَته مرج بني هميم وكفور وسمهود وكفورها وحرجة قوص ومدينة أدفو وَمَا فِي هَذِه النواحي من الدواليب وَكَانَ متحصلها ينيف على مائَة ألف أردب وَعشرَة آلَاف أردب من الْغلَّة خَارِجا عَن المَال الْعين والقنود والأعسال وَالتَّمْر والأغنام والأحطاب. وَكَانَ فِي خاصه سَبْعَة وَعِشْرُونَ معصرة لقصب السكر سوى مَا لَهُ من المشتريات والمتاجر وَمَا لَهُ بِبِلَاد الشَّام من الضّيَاع وَالْعَقار وَمَا يرد إلية من التقادم.(2/290)
فَلَمَّا انتهي الروك فِي ثامن رَجَب فرقت مثالات الْأُمَرَاء. وَفِي تاسعه: فرقت مثالات مقدمي الْحلقَة.
(وَفِي عاشره)
فرقت مثالات أجناد الْحلقَة. وأقطعت الْبِلَاد لِلْأُمَرَاءِ والأجناد دربستا لم يسْتَثْن مِنْهَا سوى الجوالي والمواريث الحشرية فَإِنَّهَا من جملَة الْخَاص السلطاني وَسوى الرزق الأحباسية وَمَا عدا ذَلِك فَإِنَّهُ دَاخل فِي الإقطاع وحولت سنة سِتّ وَتِسْعين إِلَى سنة سبع وَتِسْعين على الْعَادة. وَتَوَلَّى تَفْرِقَة المثالات على الْأُمَرَاء والمقدمين السُّلْطَان فَبَان لَهُ فِي وُجُوههم التَّغَيُّر لقلَّة الْعبْرَة وهم بزيادتهم. فَمَنعه منكوتمر من فتح هَذَا الْبَاب وحذره أَنه مَتى فتح بَاب الزِّيَادَة تَعب وَلَكِن من تضرر من إقطاعه يحيله على منكوتمر فَفعل السُّلْطَان ذَلِك. وَتَوَلَّى تَفْرِقَة مثالات الأجناد منكوتمر فَجَلَسَ بشباك دَار النِّيَابَة ووقف الْحجاب بَين يَدَيْهِ وَأَعْلَى لكل تقدمة مِثَالا بهَا فَلم وَكَانَت الإقطاعات قد تناقصت عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي الدولة المنصورية قلاوون فَإِن أقلهَا كَانَ يتَحَصَّل مِنْهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم وأكثرها ينيف على ثَلَاثِينَ ألفا فَصَارَ أَكْثَرهَا يبلغ عشْرين ألفا فَعمل فِي هَذَا الروك أَكثر الإقطاعات يتَحَصَّل مِنْهُ عشرَة آلَاف فشق ذَلِك على الأجناد وتجمعت طَائِفَة مِنْهُم ورموا مثالاتهم وَقَالُوا: إِنَّا لم نعتد بِمثل هَذَا فإمَّا أَن تعطونا مَا يقوم بكفايتنا وَإِلَّا فَخُذُوا أخبازكم وَإِمَّا نخدم الْأُمَرَاء أَو نُقِيم بطالين. فحنق مِنْهُم منكوتمر وَأمر الْحجاب فضربوهم وَأخذ سيوفهم وسجنهم وَبَالغ فِي الْفُحْش وَصَارَ ينظر إِلَى الْأُمَرَاء وَيَقُول: أَيّمَا قواد يَجِيء يشتكي من خبزه وَيَقُول أعرف السُّلْطَان فَإِنِّي أعرف إيش يَقُول السُّلْطَان فإمَّا أَن يرضى يخْدم وَإِلَّا فَإلَى لعنة الله. فَعرف الْأُمَرَاء أَنه يعنيهم فَسَكَتُوا على ضغن وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك عَن منكوتمر فَأنْكر عَلَيْهِ وَأمره الزِّيَادَة فِي الإقطاعات فَلم يفعل وَأقَام الأجناد فِي السجْن مُدَّة أَيَّام ثمَّ أفرج عَنْهُم. فَكَانَ هَذَا الروك أكبر الْأَسْبَاب فِي زَوَال الدولة. وفيهَا أنعم بطبلخاناه الْأَمِير سيف الدّين بلبان الفاخري نقيب الْجَيْش بعد مَوته على الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الحسامي أَمِير آخور وَكَانَ السُّلْطَان قبل ذَلِك قد أعطَاهُ إمرة عشرَة. وَاسْتقر سيف الدّين كرت أَمِير آخور فِي نِيَابَة طرابلس بعد وَفَاة عز الدّين أيبك الْموصِلِي.(2/291)
وفيهَا عدم الثَّلج بِدِمَشْق وَغَارَتْ الْعُيُون وَهلك أَكثر الزَّرْع وحفت أَشجَار الْبَسَاتِين. وفيهَا بلغ سيف الدّين جاغان شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق أَن للأمير عز الدّين الجناحي نَائِب غَزَّة وَدِيعَة عِنْد رَحل فاستدعى بِهِ بعد موت الجناحي وطالبه فَقَالَ: قد أَخذ الْوَدِيعَة قبل مَوته. فَلَمَّا أَرَادَ عُقُوبَته حضر إِلَيْهِ فَخر الدّين الإعزازي أحد تجار دمشق وَقَالَ: إِن هَذِه الْوَدِيعَة أَخذهَا الجناحي من هَذَا الرجل وَجعلهَا تَحت يَدي وأحضر صندوقاً فَوحد الْأَمِير جاغان فِيهِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار ومائتي وَأَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ دِينَارا عينا وحوائص وطرزا قيمتهَا خَمْسُونَ ألف دِينَار. وفيهَا خرج الْأَمِير سيف الدّين حمدَان بن صلغاي إِلَى بِلَاد الشَّام فِي صُورَة أَنه يستحث العساكر على أَخذ سيس وَقد لقنه الْأَمِير منكوتمر أموراً مكتومة كَانَ فِيهَا زَوَال الدولة وَمِنْهَا أَنه يفرج عَن الْأَمِير كرجي من قلعة دمشق ويسفره إِلَى سيس ويتفق هُوَ وأيدغدي شقير المتوجه قبله صُحْبَة بكتمر السِّلَاح دَار مَعَ جمَاعَة من خشداشيته على مَا يَأْتِي ذكره. وَفِيمَا أنعم على صمغار بن سنقر بإمرة وأنعم على كل من بن أيتمش السَّعْدِيّ وَسيف الدّين طقصبا الظَّاهِرِيّ بإمرة. وفيهَا قدم الْأَمِير حسام الدّين مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب فَأكْرمه السُّلْطَان وَألبسهُ خلعة طرد وَحش وَهُوَ أول من ألبس ذَلِك لآل مهنا وَإِنَّمَا كَانَت خلعهم مسمطا أَو كنجيا. وَاسْتَأْذَنَ مهنا وفيهَا قوي أَمر منكوتمر وتحكم تحكمة الْمُلُوك فِي جَمِيع أُمُور المملكة وَقصد إِخْرَاج طغجي أَيْضا من مصر فَفطن طغجي لذَلِك فَسَأَلَ الْإِذْن فِي السّفر إِلَى الْحَج فَأذن لَهُ وَعمل أَمِير الركب. وفيهَا بعث منكوتمر إِلَى قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد يُعلمهُ أَن تَاجِرًا قد مَاتَ وَترك أَخا وَلم يخلف غَيره مِمَّن يَرِثهُ وَأَرَادَ أَن يثبت اسْتِحْقَاقه الْإِرْث بِمُجَرَّد(2/292)
هَذَا الْإِخْبَار عَنهُ. فَلم يُوَافق قَاضِي الْقُضَاة على ذَلِك وترددت الرُّسُل بَينهمَا فَخرج منكوتمر من ذَلِك وَبعث إِلَيْهِ الْأَمِير كرت الْحَاجِب فَلَمَّا دخل كرت وقف بَعْدَمَا سلم فَقَامَ لَهُ القَاضِي نصف قومة ورد عَلَيْهِ السَّلَام وَأَجْلسهُ. وَأخذ كرت يتلطف بِهِ فِي إِثْبَات أخوة التَّاجِر بِشَهَادَة منكوتمر فَقَالَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاة: وماذا يَنْبَنِي على شَهَادَة منكوتمر قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدي مَا هُوَ عنْدكُمْ عدل فَقَالَ: سُبْحَانَ الله ثمَّ أنْشد: يَقُولُونَ هَذَا عندنَا غير جَائِز وَمن أَنْتُم حَتَّى يكون لكم عِنْد وَكرر ذَلِك ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ: وَالله مَتى لم تقم عِنْدِي بَيِّنَة شَرْعِيَّة ثبتَتْ عِنْدِي وَإِلَّا فَلَا حكمت لَهُ بِشَيْء باسم الله. فَقَامَ كرت وَهُوَ يَقُول: وَالله هَذَا هُوَ الْإِسْلَام وَعَاد إِلَى منكوتمر وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَن هَذَا الْأَمر لابد فِيهِ من اجتماعك بِالْقَاضِي إِذا جَاءَ إِلَى دَار الْعدْل. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخدمَة وَمر القَاضِي على دَار النِّيَابَة بالقلعة ومنكوتمر جَالس فِي الشباك تسارعت الْحجاب وَاحِدًا بعد آخر إِلَى القَاضِي وهم يَقُولُونَ: يَا سَيِّدي الْأَمِير ولدك يخْتَار الِاجْتِمَاع بك لخدمتك. فَلم يلْتَفت إِلَى أحد مِنْهُم فَلَمَّا ألحوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم: قُولُوا لَهُ مَا وحبت طَاعَتك عَليّ والتفت إِلَى من مَعَه من الْقُضَاة وَقَالَ: أشهدكم أَنِّي عزلت نَفسِي باسم الله قُولُوا لَهُ يول غَيْرِي. وَعَاد إِلَى دَاره وأغلق بَابه وَبعث نقباءه إِلَى النواب فِي الحكم وعقاد الْأَنْكِحَة يمنعهُم من الحكم وَعقد الْأَنْكِحَة. فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك أنكر على منكوتمر وَبعث إِلَى القَاضِي يعْتَذر إِلَيْهِ ويستدعيه فَأبى وَاعْتذر عَن طلوعه فَبعث إِلَيْهِ الشَّيْخ نجم الدّين حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبود والطواشي مرشداً فَمَا زَالا بِهِ حَتَّى صعدا بِهِ إِلَى القلعة. فَقَامَ إِلَيْهِ السُّلْطَان وتلقاه وعزم عَلَيْهِ أَن يجلس فِي مرتبته فَبسط منديله وَكَانَ خرقَة كتَّان خلقَة فَوق الْحَرِير فَبل أَن يجلس كَرَاهَة أَن ينظر إِلَيْهِ وَلم يجلس عَلَيْهِ. وَمَا برح السُّلْطَان يتلطف بِهِ حَتَّى قبل الْولَايَة ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدي هَذَا ولدك منكوتمر خاطرك مَعَه ادعوا لَهُ وَكَانَ منكوتمر مِمَّن حضر فَنظر إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة سَاعَة وَصَارَ يفتح يَده ويقبضها وَهُوَ يَقُول: منكوتمر لَا يَجِيء مِنْهُ شَيْء وكررها ثَلَاث مَرَّات وَقَامَ. فَأخذ السُّلْطَان الْخِرْقَة الَّتِي وَضعهَا على الْمرتبَة تبركا بهَا وتفرقها الْأُمَرَاء قِطْعَة قِطْعَة ليدخروها عِنْدهم رَجَاء وَأما حمدَان بن صلغاي فَإِنَّهُ قدم إِلَى دمشق وَعرف الْأَمِير جاغان مَا ندب إِلَيْهِ من(2/293)
مسك الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار والأمير فَارس الدّين ألبكي نَائِب صفد وَعز الدّين طقطاي والأمير بزلار والأمير عزاز وَكَانَ الْأَمِير قبجق نَائِب الشَّام قد خرج بالعساكر إِلَى مساعدة الْأُمَرَاء على أَخذ سيس ثمَّ سَار حمدَان إِلَى حمص والتقي هُنَاكَ بالأمير قبجق وَهُوَ عَائِد إِلَى دمشق فَتَلقاهُ وأكرمه. ثمَّ توجه إِلَى حلب وأوقف النَّائِب على مَا جَاءَ فِيهِ من قبض الْأُمَرَاء الَّذين عينهم منكوتمر فَبَلغهُمْ ذَلِك فاحترزوا على أنفسهم وَلَحِقُوا بحمص يُرِيدُونَ الْأَمِير قبجق والاتفاق مَعَه. وفيهَا أفرج عَن ابْن الْحلِيّ بعد أَن بَالغ أقوش الرُّومِي فِي عُقُوبَته فاختفى. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير بكتمر الحسامي أَمِير آخور كَبِيرا وَاسْتقر عَلَاء الدّين طيبرس الخازنداري نقيب الْجَيْش عوضا عَن بلبان الفاخري. وفيهَا رسم بِعَمَل استيمار يجمع أَرْبَاب الرَّوَاتِب والرزق ليحضروا بتواقيعه للعرض على منكوتمر وَيقطع من يخْتَار مِنْهُم فَلَمَّا شرعوا فِي الْكِتَابَة اشْتَدَّ قلق النَّاس وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَمنع منكوتمر مِنْهُ. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر صدر الدّين إِبْرَاهِيم بن محيى الدّين أَحْمد بن عقبَة بن هبة الله بن عَطاء البصراوي الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ ولد فِي سنة تسع وسِتمِائَة وبرع فِي الْفِقْه والنحو وَأفْتى ودرس وَولي قَضَاء حلب وَقدم بعد عَزله إِلَى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا ثمَّ ولي حلب ثَانِيًا فَمَاتَ بِدِمَشْق فِي رَمَضَان. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُنعم بن نعْمَة الْمُقْرِئ الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ عَابِر الرُّؤْيَا كَانَت لَهُ عجائب فِي عبارَة الرُّؤْيَا وصنف فِيهَا وَمَات آخر ذِي الْقعدَة. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك الْموصِلِي أحد المماليك المنصورية وَقد تنقلت بِهِ الخدم حَتَّى ولي نِيَابَة طرابلس إِلَى أَن مَاتَ فِي. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان الفاخري نقيب الْجَيْش فِي رَابِع عشر ربيع الآخر.(2/294)
وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر طقصبا اسْتشْهد فِي محاصرة قلعة نجيمة فِي. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر أحد الْأُمَرَاء الناصرية بِدِمَشْق فِي سَابِع عشري جُمَادَى الأولى وَكَانَ شجاعا مقداما سمع الحَدِيث وَعرف بِالْخَيرِ وَحدث. وَتُوفِّي شيخ الشُّيُوخ بحلب نجم الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّطِيف بن أبي الْفتُوح نصر بن سعيد بن سعد بن مُحَمَّد بن نَاصِر الميهني عَن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة. وَمَات الْأَمِير سعد الدّين كوجبا نَائِب دَار الْعدْل فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات موفق الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن ثَعْلَب الأدفوي خطيب أدفو وَله نظم ونثر وَفِيه كرم وَعِنْده إغضاء وحلم وَمَات فِي. وَمَات جمال الدّين مُحَمَّد بن سَالم بن نصر الله بن سَالم بن وَاصل الْحَمَوِيّ قَاضِي حماة وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام قدم الْقَاهِرَة وَمَات بحماة فِي ثَانِي عشري شَوَّال عَن ثَلَاث وَتِسْعين سنة. وَمَات الشَّيْخ شمس الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن بكر بن مُحَمَّد الأيكي الْفَارِسِي الشَّافِعِي شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السُّعَدَاء مَاتَ بِدِمَشْق فِي رَابِع رَمَضَان عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنفر التكريتي أستادار الْملك السعيد. وَمَات الْأَمِير علم الدّين طرطج الصَّالِحِي وَهُوَ كَاتب لَهُ مَكَارِم وَفِيه غقدام وشجاعة وَله أثار حميدة. وَمَات الْأَمِير طقطاي الأشرفي أحد الْأُمَرَاء والأكابر. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنقر التكريتي عرف بالمساح وَكَانَ مَشْهُورا بالشجاعة(2/295)
يخرج كل سنة إِلَى عكا فَتكون لَهُ وقائع مَعَ أَهلهَا وَكَانَ يركب بِجَانِب الْمَنْصُور قلاوون فِي المواكب وَكَانَ قلاوون يستشيره فِي الْمُهِمَّات وَكَانَ من دون أُمَرَاء مصر يركب بالزناري على فرسه. بمفرده وَفِيه مَكَارِم. وَمَات الْفَقِيه تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْفَقِيه علم الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن رَشِيق يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة. وَتُوفِّي الشَّيْخ زين الدّين أَبُو المحاسن يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الْحسن عدي بِمصْر وَله تربة جليلة بالقرافة.(2/296)
سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فِي أول الْمحرم: قدم الْخَبَر بِأَن التتر على عزم الْحَرَكَة إِلَى الشَّام فَخرجت العساكر ثمَّ خرج الْأَمِير أقش الأفرم. وَتوجه حمدَان بن صلغاي وعلاء الدّين أيدغدي شقير على الْبَرِيد لإِخْرَاج الْأَمِير قبجق نَائِب الشَّام بالعسكر إِلَى حلب فوصلا إِلَى دمشق فِي سابعه فشرع قبجق فِي الاهتمام للسَّفر وَخرج بعسكرها وبالبحرية فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشره وَتَأَخر جاغان بِدِمَشْق. وَعلم قبجق أَن الْأَمر بِخِلَاف مَا أشيع من حَرَكَة التتار وَإِنَّمَا الْقَصْد عمل مكيدة بِهِ وَبِغَيْرِهِ من الْأُمَرَاء فَكَانَ ذَلِك سَببا لفراره إِلَى بِلَاد التتر. وَمُلَخَّص ذَلِك أَن الْأَمِير منكوتمر نَائِب السلطنة ثقلت عَلَيْهِ وَطْأَة الْأُمَرَاء بديار مصر وَالشَّام فَأَرَادَ إزاحتهم عَنهُ وَإِقَامَة غَيرهم من مماليك السُّلْطَان ليتَمَكَّن من مُرَاده فَمَا زَالَ بالسلطان حَتَّى قبض على أُمَرَاء مصر ثمَّ أَخذ فِي التَّدْبِير على من بِبِلَاد الشَّام من الْأُمَرَاء فَبعث أيدغدي شقير ثمَّ أردفه بحمدان بن صلغاي وعَلى يَده ملطفات إِلَى بلبان الطاخي نَائِب حلب بِالْقَبْضِ على الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار وَهُوَ مُجَرّد على حلب وعَلى الْأَمِير فَارس الدّين الألبكي الساقي نَائِب صفد والأمير عز الدّين طقطاي والأمير سيف الدّين بزلار والأمير سيف الدّين عزاز وَمن وَقدم حمدَان دمشق وأوقف الْأَمِير جاغان شاد الدَّوَاوِين على مَا جَاءَ فِيهِ وَأمره أَلا يُمكن قبجق نَائِب دمشق من الدُّخُول إِلَيْهَا إِلَّا بمرسوم. وَخرج حمدَان يُرِيد حلب فصادف الْأَمِير قبجق بِالْقربِ من حمص وَاجْتمعَ بِهِ فتخيل قبجق من قدومه وَبعث إِلَى بكتمر السِّلَاح دَار وَغَيره من الْأُمَرَاء يوصيهم بالاحتراز وَبعث نجابا إِلَى أَصْحَابه بِمصْر يستعلم مِنْهُم الْخَبَر. فَلَمَّا قدم حمدَان حلب وأوقف الْأَمِير بلبان الطباخي على أمره توقف فِيهِ فَأخذ حمدَان وأيدغدي شقير يستحثانه على قبض الْأُمَرَاء. فاتفق موت الْأَمِير طقطاي واتهم حمدَان بسقيه. فَبعث حمدَان وأيدغدي إِلَى منكوتمر بتوقف نَائِب حلب فِي مسك الْأُمَرَاء فَغَضب من ذَلِك وَأَرَادَ عزل بلبان عَن حلب وتولية أيدغدي شقير عوضه فخوف من ذَلِك حَتَّى كف مِنْهُ. وَكتب منكوتمر إِلَى الْأَمِير بلبان الطباخي نَائِب(2/297)
حلب يستحثه فِي مسك الْأُمَرَاء وَكتب إِلَى الْأَمِير بكتمر بنيابة طرابلس وَكَانَ ذَلِك خديعة من منكوتمر قصد بهَا أَنه إِذا حضر بكتمر بِلبْس الشريف يقبض عَلَيْهِ وعَلى الْأُمَرَاء وَقدم الْأَمِير الحسام الأستاداري إِلَى مصر فعزم منكوتمر على مسكه ثمَّ انْتظر مَا يرد عَن الْأُمَرَاء بحلب. وَبلغ بلبان الطباخي أَن أيدغدي شقير قد عين لنيابه حلب وَبلغ قبجق نَائِب الشَّام أَن خُرُوجه من دمشق إِنَّمَا كَانَ حِيلَة عَلَيْهِ وَأَن جاغان يسْتَقرّ فِي نِيَابَة دمشق عوضه فكتما كل مِنْهُمَا ذَلِك وَأخذ الحسامية فِي الإلحاح على نَائِب حلب فِي قبض الْأُمَرَاء عِنْد حضورهم السماط يَوْم الموكب فَبعث سرا إِلَى الْأُمَرَاء يعلمهُمْ ذَلِك فَاسْتَعدوا لأَنْفُسِهِمْ وركبوا فِي يَوْم الموكب على الْعَادة إِلَّا الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار فَإِنَّهُ تَأَخّر وَاعْتذر بِعَارِض فَلم يُمكن الحسامية الْقَبْض على من حضر خوفًا من فَوَات الْأَمر فِيمَن تَأَخَّرُوا وَاتَّفَقُوا على أَن ذَلِك يكون فِي موكب الآخر فَبعث الطباخي نَائِب حلب يعرفهُمْ ذَلِك فَكتب بكتمر السِّلَاح دَار إِلَى قبجق نَائِب دمشق وَقد بلغه خُرُوجه إِلَى حمص يعرفهُ بِمَا هم فِيهِ فَلَمَّا كَانَ الموكب الثَّانِي ركب الْأُمَرَاء ليقْرَأ عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان باستقرار الْأَمِير بكتمر فِي نِيَابَة طرابلس وَقد احترزوا على أنفسهم وَتَأَخر بكتمر أَيْضا عَن الرّكُوب وَاعْتذر بوجع فُؤَاده فعزموا على مسك من حضر ثمَّ أَخذ بكتمر من خيمته. وَكَانَت الْعَادة أَنهم يقفون تَحت القلعة على خيولهم فَإِذا قرىء الْكتاب نزلُوا وقبلوا الأَرْض فبيت الحسامية أَن الْأُمَرَاء إِذا نزلُوا لتقبيل الأَرْض داسوهم وأخذوهم بِالْيَدِ. فعندما قرئَ الْكتاب ترجل نَائِب حلب على الْعَادة وَتَبعهُ بَقِيَّة الْأُمَرَاء وَقد أوقفوا مماليكهم على خيولهم ليحموهم وَنزل كل مِنْهُم وعنان فرسه فِي يَده ومماليكه مُحِيطَة بِهِ وَقبل الأَرْض ووثب سَرِيعا على فرسه ومضوا يدا وَاحِدَة. فانخرم الْأَمر على الحسامية وَأخذُوا يلومون نَائِب حلب فِي كَونه لم يقبض عَلَيْهِم وهر يهول الْأَمر عَلَيْهِم إِلَى أَن اتَّفقُوا على الْإِرْسَال إِلَى الْأُمَرَاء ليجتمعوا بدار النِّيَابَة فِي اللَّيْل وَأَن يبدءوا بِالْإِرْسَال إِلَى بكتمر أَمِير سلَاح. فَلَمَّا كَانَ بعد عشَاء الْآخِرَة توجه الْحَاجِب إِلَى أَمِير سلَاح يُعلمهُ بِأَن قصادا قد قدمُوا من الْبِلَاد فيحضر للمشهورة مَعَ الْأُمَرَاء فَلم يُمكن الْحَاجِب من الِاجْتِمَاع بِهِ وَاعْتذر بوجع رجله فَمضى الْحَاجِب إِلَى الْأَمِير كرتاي وَابْن قرمان وبلغهما الرسَالَة فضحكا وَقَالَ كل مِنْهُمَا: مَا أبرد ذقن الْأَبْعَد وذقن من أرْسلهُ مَتى سَمِعت مشورة تكون ثلث اللَّيْل إِلَى غَد نحضر مَعَ الْأُمَرَاء.(2/298)
ثمَّ إِن الْأَمِير سيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار والأمير فَارس الدّين ألبكي والأمير سيف الدّين عزاز اجْتَمعُوا وركبوا من ليلتهم يُرِيدُونَ حمص ولقاء الْأَمِير قبجق فَخرج قبجق إِلَى لقائهم وَاتَّفَقُوا على العبور إِلَى بِلَاد غازان فأمهلهم قبجق حَتَّى يرد عَلَيْهِ جَوَاب الْأُمَرَاء من مصر فنزلوا مَعَه. وَقدم جَوَاب قبجق من كرجي وطغجي أَنهم عَن قريب يقضون الشّغل فَليقمْ بموضعه حَتَّى الْخَبَر فَلم يُوَافقهُ الْأُمَرَاء على الْإِقَامَة خوفًا من مَجِيء العساكر إِلَيْهِم وَسَارُوا لَيْلَة الثُّلَاثَاء من ربيع الآخر وقصدوا سلمية. وَكَانَ الْأَمِير قبجق لما قدم عَلَيْهِ الْأُمَرَاء من حلب قد بعث على الْبَرِيد الْأَمِير سيف الدّين بلغاق بن كونجك الْخَوَارِزْمِيّ إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ حُضُور الْأُمَرَاء إِلَيْهِ وَيسْأل الْأمان لَهُم وتطييب خواطرهم. ثمَّ سَار الْأَمِير قبجق من حمص لَيْلَة السبت خَامِس ربيع الأول وَبعث عَلَاء الدّين بن الجاكي إِلَى دمشق يَسْتَدْعِي من الْأَمِير جاغان مَالا وخلعا من الخزانة للنَّفَقَة على الْأُمَرَاء وتطييب خواطرهم فَامْتنعَ جاغان من ذَلِك وَكتب يلومه على إغفاله الْقَبْض عَلَيْهِم وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا أيدغدي شقير وَسيف الدّين كجكن بالإنكار وَأَنه إِن لم يقبض عَلَيْهِم ركبُوا عَلَيْهِ وقبضوه فزاده ذَلِك نفوراً. وَتبين لعسكر دمشق مُخَالفَة قبجق فتسللوا عَنهُ طَائِفَة بعد طَائِفَة وعادوا من حمص إِلَى دمشق فشكرهم جاغان على مفارقتهم إِيَّاه فَبَقيَ قبجق فِي قلَّة من المَال وَالرِّجَال. وَأما أهل حلب فَإِن الْأُمَرَاء لما شاروا فِي اللَّيْل ركب من بكرَة النَّهَار أيدغدي شقير وحمدان بن طغان والأمراء الحسامية إِلَى نَائِب حلب وبطقوا إِلَى الْأَعْمَال بِالْقَبْضِ على الْأُمَرَاء وَتوجه أيدغدي شقير فِي عَسْكَر إِلَى جِهَة الْفُرَات وَسَار عَسْكَر إِلَى جِهَة حماة ونهبت أثقال الْأُمَرَاء. فورد الْخَبَر بوصولهم إِلَى قبجق نَائِب دمشق وَأَنَّهُمْ سَارُوا على طَرِيق سلمية فَقَامَ العزاء والنواح بحلب. وَخرج الْعَسْكَر فِي طَلَبهمْ نَحْو الْفُرَات وأوقع جاغان الحوطة بِدِمَشْق على بَيت قبجق فِي خَامِس عشره وتكامل مَجِيء الْعَسْكَر الَّذِي كَانَ مَعَ قبجق فِي سَابِع عشره. وانْتهى سيف الدّين كجكن وأيدغدي شقير إِلَى الْفُرَات فوجدا الْأُمَرَاء قد قطعُوا الْفُرَات إِلَى رَأس عين فورد الْخَبَر إِلَى حلب بقتل السُّلْطَان ونائبه منكوتمر فَركب سيف الدّين بلبان البريدي وَلحق الْأَمِير قبجق بِرَأْس عين وأعلمه بذلك فَظن أَنَّهَا حِيلَة عَلَيْهِ وَلم يرجع.(2/299)
وَأما السُّلْطَان فَإِن منكوتمر لم يزل يدبر بشؤم رَأْيه حَتَّى قتل وَذَلِكَ أَن الْأَمِير طغجي قدم من الْحجاز أول صفر وَقد قرر منكوتمر خُرُوجه إِلَى نِيَابَة طرابلس فَلَمَّا استراح من تَعب السّفر استدعاه السُّلْطَان وتلطف بِهِ فِي الْخُرُوج إِلَى طرابلس فَاعْتَذر بِأَنَّهُ لَا يصلح للنيابة. وَقَامَ الْأَمِير طغجي فَأعْلم كرجي وبيبرس الجاشنكير بذلك فاتفقوا على التحدث مَعَ السُّلْطَان فِي صرفه عَن تسفيره ودخلوا عَلَيْهِ وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أَعْفَاهُ. فشق ذَلِك على منكوتمر وَأنكر على كرجي وتجهم لَهُ وَتكلم فِيهِ وَفِي من تحدث مَعَه فِي إعفاء طغجي من السّفر وَبَالغ فِي إهانتهم فحرك ذَلِك من كرجي كوامن كَانَت فِي نَفسه من منكوتمر. وَانْقطع منكوتمر من الْخدمَة حنقاً من إعفاء طغجي فداراه السُّلْطَان وَبعث إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن الرُّومِي ليحضره فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حضر بشريطة أَن يخرج طغجي من مصر ويمسك كرجي أَن يخرج أَيْضا. وَاتفقَ مَعَ ذَلِك وُصُول قَاصد الْأَمِير قبجق نَائِب دمشق فِي السِّرّ إِلَى طغجي وكرجي بِمَا تقدم ذكره فأوقفوا بيبرس وسلار وَغَيره مِمَّن يثقون بِهِ على ذَلِك وَاتَّفَقُوا على الفتك بالسلطان. وشرعوا فِي السَّعْي بَين الْأُمَرَاء المماليك المنصورية والأشرفية يستميلونهم وَأخذ كرجي يستميل المماليك أَرْبَاب النوب فَإِنَّهُ كَانَ مقدما عَلَيْهِم حَتَّى أحكموا أَمرهم. هَذَا ومنكوتمر مُقيم على إِخْرَاج طغجي وَبعث يَأْمُرهُ أَن يتجهز للسَّفر وَتَمَادَى الْحَال إِلَى يَوْم الْخَمِيس عَاشر ربيع الآخر. فَفِي ذَلِك الْيَوْم: أصبح السُّلْطَان صَائِما وَأفْطر ثمَّ جلس يلْعَب بالشطرنج وَعِنْده إِمَامه نجم الدّين بن الْعَسَّال وقاضي الْقُضَاة حسام الدّين فَدخل الْأَمِير كرجي على عَادَته وأعلمه بِأَنَّهُ قد بَيت البرجية وَغَيرهم من المماليك فِي أماكنهم وغلق عَلَيْهِم الْأَبْوَاب وَكَانَ قد رتب قبل دُخُوله جمَاعَة فِي أَمَاكِن بالدهاليز فشكره السُّلْطَان وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ لقَاضِي الْقُضَاة: لَوْلَا الْأَمِير سيف الدّين كرجي مَا وصلت إِلَى السلطة. فَقبل كرجي الأَرْض وَجلسَ على عَادَته ثمَّ قَامَ ليصلح الشمعة فأصلحها وَألقى فوطة خدمَة كَانَت بِيَدِهِ على نمجاه السُّلْطَان ليسترها عَنهُ وَكَانَ سلَاح دَار النّوبَة تِلْكَ اللَّيْلَة الْأَمِير سيف الدّين نغاي الكرموني السِّلَاح دَار قد وَافق كرجي على مَا هُوَ فِيهِ. ثمَّ قَالَ كرجي للسُّلْطَان: مَا يُصَلِّي مَوْلَانَا السُّلْطَان الْعشَاء فَقَالَ: نعم وَقَامَ يُرِيد الصَّلَاة فَأخذ السِّلَاح دَار النمجاه من تَحت الفوطة وَعند ذَلِك جرد كرجي سَيْفه(2/300)
وَضرب السُّلْطَان على كتفه فَالْتَفت السُّلْطَان يُرِيد بالنمجاه فَلم يجدهَا فَقبض على كرجي وألقاه إِلَى الأَرْض فَضرب نوغاي رجل السُّلْطَان بالمنجاه فَقطع رجله. وانقلب السُّلْطَان على ظَهره فَأَخَذته السيوف من كل جَانب حَتَّى صَار كوم لحم وفر ابْن الْعَسَّال إِلَى خزانَة وصرخ القَاضِي حسام الدّين: لَا يحل هَذَا لكم فهم بِهِ كرجي ثمَّ كَفه الله عَنهُ. وَخرج كرجي وأغلق الْبَاب على الْمَقْتُول وَالْقَاضِي فَإِذا بالأمير طغجي قد استعد وَقعد فِي عدَّة من البرجية بداركاه القلعة ينْتَظر مَا يكون من كرجي. فعندما رَآهُ طغجي قَالَ: قضيت الشّغل قَالَ: نعم وأعلمه الْخَبَر. فَوَقع الصَّوْت فِي القلعة بقتل السُّلْطَان وطار من وقته إِلَى الْمَدِينَة. فَركب الْأَمِير جمال الدّين قتال السَّبع فِي عدَّة من الْأُمَرَاء إِلَى خَارج الْمَدِينَة وَوَقعت الصرخة تَحت القلعة فَركب أَكثر الْعَسْكَر. وَأما طغجي فَإِنَّهُ استدعى بَقِيَّة الْأُمَرَاء المقيمين بالقلعة وَبسط بَاب الْقلَّة. فَلم يشْعر منكوتمر وَهُوَ بدار النِّيَابَة إِلَّا بالصرخة قد قَامَت وَبَاب القله قد فتح والأمراء قد اجْتمعت والشموع توقد والضجيج يزْدَاد. فَفطن منكوتمر بقتل السُّلْطَان وأغلق الْأَبْوَاب وألبس مماليكه فَصَارَ فِي أَرْبَعمِائَة ضَارب سيف وأزيد وَلَكِن الله خذله فَجَاءَهُ الحسام أستادار وعرفه من تَحت الشباك بقتل السُّلْطَان وتلطف بِهِ حَتَّى خرج إِلَيْهِ وَسَار مَعَه إِلَى بَاب الْقلَّة فَقبل يَد طغجي. فَقَامَ إِلَيْهِ طغجي وَأَجْلسهُ ثمَّ أَمر بِهِ أَن يمضى إِلَى الْجب فَأخذ وأرخي فِيهِ فَقَامَ إِلَيْهِ الْأَمِير شمس الدّين سنقر الأعسر والأمير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ نَائِب الشَّام وَغَيرهمَا مِمَّن كَانَ بالجب وَلما عاينوه أَنْكَرُوا ذَلِك فَقَالَ منكوتمر: قد غضب على السُّلْطَان وَحلف أَن يحبسني وَقصد بذلك دفعهم عَنهُ لِئَلَّا يقتلوه. فَلم يكن غير بعض سَاعَة إِلَّا وَقد أرخيت القفة من رَأس الْجب وصاحوا على منكوتمر فَقَامَ وَجلسَ بهَا وَفِي ظن أهل الْجب أَن السُّلْطَان قد رَضِي عَنهُ. فعندما صَار بِرَأْس الْجب وجد كرجي وَاقعا فِي طَائِفَة من المماليك فَضَربهُ كرجي بلت من حَدِيد صرعه وذبحه عِنْد الْجب وَانْصَرف وَذَلِكَ أَنه لما حضر منكوتمر إِلَى طغجي لم يكن كرجي حَاضرا فَلَمَّا بلغه مَجِيئه أقبل يُريدهُ فَأعْلم أَنه فِي الْجب فصاح على الْأُمَرَاء فَقَالَ: إيش عمل بِي السُّلْطَان حَتَّى قتلته وَالله لقد أحسن إِلَيّ وكبرني وأنشأني وَلَو علمت أَنِّي إِذا قتلت منكوتمر يبقيني بعده وَالله مَا قتلته. وَمَا أحوجني أَقتلهُ إِلَّا مَا كَانَ يَقع من منكوتمر وَمضى مسرعاً إِلَى الْجب حَتَّى قَتله ونهبت دَاره.(2/301)
وَكَانَ منكوتمر عفيفاً عَن الْأَمْوَال ضابطا لناموس المملكة متيقظاًً وَهُوَ أول من نزل عَن إقطاعات الْجند الَّتِي كَانَت فِي ديوَان النِّيَابَة ومتحصلها فِي السّنة مائَة ألف أردب غلَّة فَتَركهَا لله تَعَالَى. وَكَانَ بَعيدا عَن اللَّهْو مهيباً مصمما لم يسمع مِنْهُ قطّ أَنه شتم أحدا وَلَا جرى على لِسَانه فحش مَعَ كَثْرَة التَّحَرِّي وَرفع الْمَظَالِم. إِلَّا إِنَّه كَانَ صبي الْعقل عَظِيم الْكبر محتقراً لِلْأُمَرَاءِ فمقتوه وَعَلمُوا أَنهم لَا يصلونَ إِلَى ازاحته إِلَّا بقتل السُّلْطَان فَاجْتمعُوا على قَتله حَتَّى كَانَ مَا وَكَانَ الَّذين اتَّفقُوا على قتل السُّلْطَان من الْأُمَرَاء سيف الدّين كرجي وَسيف الدّين نوغاي وقرا طرنطاي وحجك وأرسلان وأقوش وبيليك الرسولي. وَكَانَت مُدَّة سلطة لاجين مُنْذُ فَارق الْملك الْعَادِل كتبغا الدهليز بِمَنْزِلَة العوجاء وَحلف الْأُمَرَاء فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشري الْمحرم سنة سِتّ وَتِسْعين وَإِلَى أَن قتل سنتَيْن وشهرين وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا ومنذ خلع كتبغا نَفسه بِدِمَشْق وَاجْتمعت الْكَلِمَة بِمصْر وَالشَّام على لاجين فِي يَوْم السبت رَابِع عشري صفر مِنْهَا وَإِلَى أَن قتل سنتَيْن وشهرين غير ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَقتل السُّلْطَان لاجين وَله من الْعُمر نَحْو الْخمسين سنة وَكَانَ أشقر أَزْرَق الْعين معرق الْوَجْه طوَالًا مهيباً شجاعا مقداما عَاقِلا متديناً يحب الْعدْل ويميل إِلَى الْخَيْر وَيُحب أَهله جميل الْعشْرَة مَعَ تقشف وَقلة أَذَى. وأبطل عدَّة مكوس وَقَالَ: إِن عِشْت لَا تركت مشمسا أَلْبَتَّة. وَكَانَ يحب مجالسة الْفُقَهَاء والعامة وَيَأْكُل طعامهم وَكَانَ أكولا. وَلم يعب بِشَيْء سوى انقياده إِلَى مَمْلُوكه ونائبه الْأَمِير منكوتمر ورجوعه إِلَى رَأْيه وموافقته لَهُ واتباعه لكل مَا يهواه من شدَّة حبه لَهُ حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى قَتلهمَا ثمَّ إِلَى خراب الْبِلَاد بمجيء غازان فَإِن قبجق وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء حملهمْ بغضهم فِي منكوتمر وخوفهم مِنْهُ على اللحاق بغازان وتحريضه على الْمسير إِلَى الشَّام حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله. وَكَانَ لاجين مُنْذُ قتل الْملك الْأَشْرَف يستشعر أَنه لابد أَن يقتل حَتَّى أَنه فِي يَوْم الْخَمِيس الَّذِي قتل فِي مسائه أحضر إِلَيْهِ بعد الْعَصْر بندب فَارس ميداني من السِّلَاح خاناه فَجعل يفتل فردة بعد فردة وَهُوَ يَقُول: من قتل قتل ويكرر هَذَا مرَارًا فَكَانَ الفأل موكلا بالْمَنْطق إِذْ قتل بعد أَربع سَاعَات من كَلَامه. وَنَظِير هَذَا أَن الْملك الْأَشْرَف وقف فِي حَلقَة صيد والنوبة يَوْمئِذٍ فِي حمل السِّلَاح خَلفه للاجين هَذَا فجَاء لاجين إِلَى بدر الدّين بكتوت العلائي وَله أَيْضا النّوبَة فِي حمل السِّلَاح وَقد تقدم إِلَى مَكَانَهُ من الْحلقَة وَأَعْطَاهُ سلَاح السُّلْطَان وَأمره بالتوجه إِلَى(2/302)
السُّلْطَان فَإِنَّهُ أَمر بذلك. فَأخذ بكتوت السِّلَاح وَتوجه بِهِ إِلَى الْخدمَة ووقف لاجين حَيْثُ كَانَ بكتوت وَاقِفًا. فَلَمَّا جَاءَ بكتوت وجد الْأَشْرَف على فرسه وَقد جعل طرف عصاة مقرعته تَحت جَبهته واتكأ بِرَأْسِهِ عَلَيْهَا وَهِي ثَابِتَة بحذاء سَرْجه وَكَأَنَّهُ فِي غيبَة من شدَّة الْفِكر. ثمَّ الْتفت الْأَشْرَف وَقَالَ: يَا بكتوت وَالله لقد الْتفت فَرَأَيْت لاجين خَلْفي وَهُوَ يحمل السِّلَاح وَالسيف فِي يَده فتخيلت أَنه يضربني بِهِ فَنَظَرت إِلَيْهِ وَقلت يَا شقير أعْط السِّلَاح لبكتوت يحملهُ وقف أَنْت مَكَانَهُ. فَقَالَ بكتوت: أعيذ مَوْلَانَا السُّلْطَان بِاللَّه أَن يخْطر هَذَا بِبَالِهِ ولاجين أقل من هَذَا وأضعف نفسا أَن يَقع هَذَا بِبَالِهِ فضلا عَن أَن يقدم عَلَيْهِ. وَهُوَ مَمْلُوك السُّلْطَان ومملوك مَوْلَانَا السُّلْطَان الشَّهِيد وتربية بَيته الشريف. فَقَالَ الْأَشْرَف: وَالله مَا عرفتك إِلَّا مَا خطر لي وتصورته. قَالَ بكتوت: فَخَشِيت على لاجين كَون السُّلْطَان تخيل هَذَا فِيهِ وَأَرَدْت نصحه فَقلت لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة: بِاللَّه تجنب السُّلْطَان وَلَا تكْثر حمل السِّلَاح وَلَا تنفرد مَعَه وأخبرته الْخَبَر فَضَحِك ضحكا كثيرا وتعجب. فَقلت: وَالله هَذَا يبكي مِنْهُ فَقَالَ: مَا ضحكي إِلَّا من إحساسه. وَالله لما نظر إِلَى وَقَالَ يَا شقير كنت على عزم من تَجْرِيد سَيْفه وَقَتله بِهِ. قَالَ بكتوت: فَعجب من ذَلِك غَايَة الْعجب وَمن الْعجب أَيْضا أَن الضَّرْب الَّذِي كَانَ فِي الْملك الْأَشْرَف عِنْد قَتله وجد مثله سَوَاء فِي لاجين لما قتل. وَكَانَ لاجين فِي سلطنته كثيرا مَا يقف إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي ويكشف رَأسه وَيسْأل أَن يمد فِي عمره حَتَّى يلقِي غازان ثمَّ يَقُول: لَكِن أَنا خَائِف أَن يدركني الْأَجَل قبل لِقَائِه فَكَانَ كَذَلِك. وَكَانَ فِي شبابه منهمكا على الْخمر حَتَّى صَار وَهُوَ بِدِمَشْق يعاقر أَعْيَان أَهلهَا وينعم فِي مجَالِس اللَّهْو عَلَيْهِم بِحَيْثُ لما أفرط فِي اللَّهْو قَالَ الشجاعي للْملك الْمَنْصُور قلاوون إِنَّه قد أبخس حُرْمَة السُّلْطَان بمعاشرته عَامَّة دمشق وانهماكه فِي الشّرْب. فَبعث إِلَيْهِ قلاوون على لِسَان الْأَمِير طرناي نَائِب السلطنة ينهاه ويهدده وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا بذلك. وَكَانَ ألاجين كثير الْحَرَكَة بِحَيْثُ يغيب فِي الصَّيْد الشَّهْر والشهرين وَمَعَهُ أَرْبَاب الملاهي فَلَمَّا تسلطن أعرض عَن اللَّهْو وَسَار أحسن سيرة من الْعدْل(2/303)
والإنصاف وَالعطَاء والإنعام وأحبه الْأُمَرَاء والأجناد والعامة فأفسد ذَلِك مَمْلُوكه منكوتمر بِسوء تَدْبيره. وَاتفقَ أَن لاجين لما اختفى هُوَ وقرا سنقر بعد قتل الْملك الْأَشْرَف رأى قرا سنقر رُؤْيا فَبعث إِلَى لاجين ليحضر إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا وَكَانَ كل مِنْهُمَا يعرف مَوضِع الآخر. فَجَاءَهُ لاجين فِي صندوق حمل إِلَى دَار قراسنقر بحارة بهاء الدّين من الْقَاهِرَة حَيْثُ كَانَ مختفياً فتحادثا ثمَّ قَالَ لَهُ قرا سنقر: يَا شقير رَأَيْت رُؤْيا أَنا خَائِف أَن أقصها فتطمع نَفسك وتتغير نيتك وتغدر بِي فَحلف لَهُ أَنه لَا يخونه. فَقَالَ قراسنقر: رَأَيْت كَأَنَّك قد ركبت وَبَين يَديك خُيُول معقودة الأذناب مضفورة المعارف مُجَللَة بالرقاب الذَّهَب على عَادَة ركُوب الْمُلُوك ثمَّ نزلت وَجَلَست على مِنْبَر وَأَنت لابس خلعة الْخلَافَة واستدعتني وأجلستني على ثَالِث دَرَجَة من الْمِنْبَر وتحدثت معي قَلِيلا. ثمَّ دفعتني برجلك فَسَقَطت من الْمِنْبَر وانتبهت عِنْد سقوطي. وَهَذَا يدل على قربي مِنْك ورميك لي وَأَنا وَالله يَا شقير نحس قد خلفتك وَمَا أَدْرِي هَل تصدق أَو لَا فَضَحِك لاجين. وَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ استناب قراسنقر لما تسلطن قَلِيلا ثمَّ كَانَ من أمره مَا تقدم ذكره من سجنه لَهُ. فَكَانَ قراسنقر كل قَلِيل يبْعَث إِلَيْهِ برَسُول وَهُوَ سِجِّين وَيَقُول: يَا أخي اجْعَل فِي نَظِير بشارتي بِمَا آتاك الله أَن تفرج عني وتنفيني حَيْثُ أردْت فيبتسم لاجين وَيَقُول للرسول: سلم وَاتفقَ أَن لاجين رأى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ بِبَاب الْقلَّة من القلعة وَقد جلس فِي مَوضِع النَّائِب والنائب قدامه وقف وَشد وَسطه فَلَمَّا قَامَ من مَكَانَهُ صعد درجا وَإِذا بِرَجُل وَهُوَ كرجي وَقد طعنه بِرُمْح فَصَارَ كوم رماد. فاستدعى لاجين عَلَاء الدّين ابْن الْأنْصَارِيّ عَابِر الرُّؤْيَا وقص رُؤْيَاهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: تدل هَذِه الرُّؤْيَا على أَن السُّلْطَان يستشهد على يَد كرجي. فَقَالَ لاجين: الله الْمُسْتَعَان وأوصاه بكتمان ذَلِك وَأَعْطَاهُ خمسين دِينَارا وَانْصَرف ابْن الْأنْصَارِيّ فَإِذا قَاصد الْأَمِير منكوتمر ينتظره فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ سَأَلَهُ عَن رويا السُّلْطَان فكتمها عَنهُ وَقَالَ: شَيْء يتَعَلَّق بِالْحَرِيمِ. فَقَالَ منكوتمر: قد رَأَيْت أَنا أَيْضا كَأَنِّي خرجت من الْخدمَة إِلَى دَار النِّيَابَة(2/304)
فَإِذا بالدهليز عَمُود رُخَام فَوْقه قَاعِدَة فجذبت سَيفي وَضربت رَأس العمود فألقيته ففار من العمود دم عَظِيم مَلأ الدهليز. فَعمى ابْن الْأنْصَارِيّ عَلَيْهِ وَقَالَ: قد انْقَطع الْكَلَام بِرُؤْيَة الدَّم خوفًا من شَره وَانْصَرف مُتَعَجِّبا من اتِّفَاق تَأْوِيل المنامين فَلَمَّا كَانَ بعد أحد عشر يَوْمًا من رؤياهما حضر إِلَيْهِ خَادِم بِوَرَقَة فِيهَا أَن امْرَأَة السُّلْطَان وَهِي ابْنة الْملك الظَّاهِر رَأَتْ السُّلْطَان جَالِسا وَإِذا بطائر كالعقاب انقض عَلَيْهِ واختطف فَخذه الْأَيْسَر وطار إِلَى أَعلَى الدَّار فَإِذا غراب قد أشرف على الدَّار وَصَاح كرجي ثَلَاث مَرَّات. فَقَالَ ابْن النصاري: هَذَا مَنَام لَا يُفَسر حَتَّى تمضى ثَلَاث جمع وَأَرَادَ بذلك الدّفع عَن نَفسه فَقتل لاجين فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة من هَذَا الْمَنَام وَبعث الْأَمِير علم الدّين سنجر الدواداري وَرَاء ابْن الْأنْصَارِيّ واستحكاه عَن تَأْوِيل رُؤْيا لاجين فَإِنَّهُ كَانَ حَاضرا عِنْدَمَا قصها عَلَيْهِ ثمَّ قَامَ حَتَّى لَا يسمع تَأْوِيله. فَأخْبرهُ ابْن الْأنْصَارِيّ بِمَا قَالَه لَهُ وبمنامي منكوتمر وَامْرَأَة لاجين. فَقَالَ لَهُ الْأَمِير علم الدّين: لما قُمْت من عِنْد السُّلْطَان لاجين استدعاني وَأَخْبرنِي بِمَا قَالَ لَك وَقَالَ عرفت من الَّذِي طعنني بِالرُّمْحِ قلت لَا فَأَشَارَ إِلَى كرجي. ثمَّ استدعاني بعد أَيَّام وَذكر لي أَنه أعلم منكوتمر بِأَن خاطره ينفر من كرجي فَقَالَ لَهُ منكوتمر بحنق: وَالله لَا تَبْرَح تتهاون فِي أَمرك حَتَّى يَقْتُلُوك ويقتلوني وَتَمُوت مماليكك فِي الْحَبْس وَمَا لهَذَا القواد إِلَّا قَتله يَعْنِي كرجي وَحلف أَنه كلما رَأْي كرجي يود لَو ضربه بِسَيْفِهِ ونهض وَهُوَ مصمم على قَتله فحال الله بَينهمَا وَبَين كرجي حَتَّى أمضى فيهمَا على يَده مَا قدره من قَتلهمَا. وَذَلِكَ أَن الِاتِّفَاق كَانَ قد وَقع بَين السُّلْطَان وَبَين منكوتمر على مسك كرجي وطغجي وشاورشي فِي جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَقت الْخدمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ فَعرف منكوتمر ثقاته بذلك. وَاشْتَدَّ فكر السُّلْطَان واضطراب رَأْيه فِيمَا قَرَّرَهُ مَعَ منكوتمر فَتَارَة يعزم على إمضائه وَتارَة يرجع عَنهُ حَتَّى يرد عَلَيْهِ خبر الْأُمَرَاء المجردين وَهل قبض عَلَيْهِم أَو لَا. فَلَمَّا أصبح استدعى الْأَمِير سيف الدّين سلار أَمِير مجْلِس وَبَعثه إِلَى منكوتمر يَأْمُرهُ أَلا يفعل شَيْئا مِمَّا قَرَّرَهُ مَعَ السُّلْطَان حَتَّى يعرفهُ فَإِنَّهُ خطر فِي نَفسه شَيْء أوجب تَأْخِيره فَلَمَّا ذكر سلار هَذَا لمنكوتمر ظن أَن السُّلْطَان أعلمهُ بِالْأَمر على وَجهه وَأخذ يُنكر على السُّلْطَان تَأْخِيره مَا اتفقَا عَلَيْهِ وَشرح لَهُ الْحَال كُله وَلم يَكْتُمهُ شَيْئا فسكن سلار من حنقه وَأعَاد الْجَواب على السُّلْطَان بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وكتم مَا أطلعه منكوتمر عَلَيْهِ وَمضى إِلَى كرجي وطغجي وَمن مَعَهُمَا وأعلمهم بِالْأَمر كُله فشمروا للحرب وَكَانَ مَا كَانَ.(2/305)
وَاتفقَ أَيْضا أَن فِي اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِيهَا لاجين ظهر فِي السَّمَاء نجم لَهُ ذَنْب يخيل لمن رَآهُ أَنه قد وصل إِلَى الأَرْض. فَلَمَّا رَآهُ لاجين تعجب مِنْهُ وتمعر وَجهه وَقَالَ لقَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين وَهُوَ مَعَه: ترى مَا يدل عَلَيْهِ هَذَا النَّجْم فَقَالَ: مَا يكون إِلَّا خير. فَسكت لاجين ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا قَاضِي حَدِيث كل قَاتل مقتول صَحِيح وَتغَير تغيراً زَائِدا. فشرع الحسام يبسطه ويطيب خاطره وَهُوَ يَقُول: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَجلسَ وكررها فَقتل فِي مَجْلِسه ذَلِك. وَاتفقَ أَيْضا أَنه أحضر إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بعض السِّلَاح دارية سَيْفا من الخزانة فقلبه وأعجب بِهِ فَأخذ كرجي يشْكر مِنْهُ فَقَالَ لَهُ لاجين: كَأَنَّك تريده قَالَ: نعم وَالله يَا خوند فَقَالَ لاحين: هَذَا مَا يصلح لَك والتفت إِلَى طغاي وناوله إِيَّاه وَقَالَ: خُذ هَذَا اقْتُل بِهِ عَدوك فَكَانَ أول مَا ضرب بِهِ لاحين بعد سَاعَة فأطار يَده. وَاتفقَ أَيْضا أَن لاجين دفن فِي تربة بِجَانِب تربة الْعَادِل كتبغا من القرافة فَكَانَ أَوْلَاد كتبغا يأْتونَ قَبره ويضربونه بالنعال ويسبونه وَأَقَامُوا على هَذَا مُدَّة يشفون أنفسهم بذلك. وَكَانَ لاجين مُعظما للشَّرْع وَأَهله منفذاً لأوامره وَمن ذَلِك أَنه طلب أَمْوَال الْأَيْتَام من الْأُمَرَاء وَكَانَت تَحت أَيْديهم ونقلها إِلَى مُودع حَدِيد لمَال الْأَيْتَام استجده وَكتب توقيعا بِأَن من مَاتَ وَله وَرَثَة صغَار ينْقل ميراثهم إِلَى مُودع الحكم ويتحدث فِيهِ قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي فَإِن كَانَ للْمَيت وَصِيّ فيقيم القَاضِي الشَّافِعِي مَعَه عُدُولًا من جِهَته ورد لاجين عدَّة أَمْلَاك كَانَت قد أخذت بِغَيْر حق إِلَى ملاكها مِنْهَا قَرْيَة ضمير من عمل دمشق وَكَانَت وقف الْملك الزَّاهِر على أَوْلَاده. ورد على عز الدّين بن القلانسي مَا أَخذ مِنْهُ فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون من المَال بِغَيْر طَرِيق شَرْعِي. وَوضع عَن أهل بلقس الْأَشْرَاف مَا كَانَ عَلَيْهِم من الْمَظَالِم وَهُوَ يبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فِي كل سنة(2/306)
وَعوض مقطعيه بدل ذَلِك. ورد وقف قراقوش على الْفُقَرَاء وَكَانَ قد أقطع مُنْذُ سِنِين فتسلمه القَاضِي الشَّافِعِي وبلغه فِي السّنة عشرَة آلَاف دِرْهَم وَعوض مقطعيه عَنهُ ورد الدَّار القطبية إِلَى من وقفت عَلَيْهِ من جِهَة الْملك الْكَامِل وَكَانَت بيد أحد مقدمي الْحلقَة وورثته من نَحْو سِتِّينَ سنة. وَكَانَت عدَّة من الإقطاعات بيد الْأُمَرَاء فَردهَا إِلَى أَرْبَابهَا وَكَانَت العساكر من ذَلِك فِي مضرَّة لأَنهم لَا يحصل لَهُم من دواوين الْأُمَرَاء كَبِير شَيْء ويبقي الإقطاع فِي حمي وَكَانَ لاجين شجاعا مقدما على أقرانه فِي الفروسية وأعمالها كثير الْوَفَاء لمعارفه وخدامه وَمنع من لبس الكلفتاه الزركش والطرزكش وملابس الذَّهَب وشدد فِي الْمَنْع من الْمُحرمَات كلهَا وحد فِي الْخمر بعض أَوْلَاد الْأُمَرَاء وَكَانَ يَصُوم رَجَب وَشَعْبَان وَيقوم اللَّيْل وَيكثر من الصَّدقَات مَعَ لين الْجَانِب وخفض الْجنَاح. تَدْبِير الْأُمَرَاء بعد قتل الْملك الْمَنْصُور لاجين الْأَمر وَلما قتل الْملك الْمَنْصُور لاجين ونائبه الْأَمِير منكوتمر اتّفق من كَانَ بالقلعة من الْأُمَرَاء وهم عز الدّين أيبك الخازندار المنصوري وركن الدّين بيبرس الجاشنكير وَسيف الدّين سلار الأستادار وحسام الدّين لاجين الرُّومِي الأستادار الْوَاصِل من حلب وجمال الدّين أقوش الأفرم وَبدر الدّين عبد الله السِّلَاح دَار والأمير كرت الْحَاجِب مَعَ الْأَمِير طغجى وكرجي على مُكَاتبَة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون واحضاره من الكرك واقامته فِي السلطنة وَأَن يكون طغجى نَائِب السلطنة وَألا يَقع أَمر من الْأُمُور إِلَّا بموافقة الْأُمَرَاء عَلَيْهِ وتحالفوا على ذَلِك فِي لَيْلَة الْجُمُعَة. فَلَمَّا طلع النَّهَار فتح بَاب القلعة وَركب الْأَمِير جمال الدّين أقوشق قتال السَّبع وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء إِلَيّ القلعة وَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير قبجق نَائِب الشَّام والأمير بلبان الطباخي نَائِب حلب. بِمَا وَقع(2/307)
وطلبوا مِنْهُمَا الْقَبْض على أيدغدي شقير وجاغان وحمدان بن صلغاي والأمراء الحسامية. وَسَار الْبَرِيد بذلك على يَد الْأَمِير بلغاق من أُمَرَاء دمشق وَكَانَ قد حضر بِكِتَاب الْأَمِير قبجق فِي يَوْم السبت ثَانِي عشره بعد قتل لاحين فَأخذ طغجى مِنْهُ الْكتاب. وَجلسَ طغجى مَكَان النِّيَابَة وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء يمنة ويسرة وَمد السماط السلطاني على الْعَادة. وَدَار الْكَلَام فِي الْإِرْسَال إِلَيّ الْملك النَّاصِر فَقَامَ كرجي وَقَالَ: يَا أُمَرَاء أَنا الَّذِي قتلت السُّلْطَان لاجين وَأخذت ثأر أستاذي وَالْملك النَّاصِر صَغِير مَا يصلح وَلَا يكون السُّلْطَان إِلَّا هَذَا وَأَشَارَ لطغجى وَأَنا أكون نَائِبه وَمن خَالف فدونه فَسكت الْأُمَرَاء كلهم إِلَّا كرت الْحَاجِب فَإِنَّهُ قَالَ: يَا خوند الَّذِي فعلته أَنْت قد علمه الْأُمَرَاء وَمهما رسمت مَا ثمَّ من يُخَالف وانفضوا وَتَأَخر الْإِرْسَال إِلَيّ الْملك النَّاصِر. فَبعث طغجي إِلَيّ التَّاج عبد الرَّحْمَن الطَّوِيل مُسْتَوْفِي الدولة وَسَأَلَهُ عَن إقطاع النِّيَابَة فَذكره لَهُ فَقَالَ طغجي: هَذَا كثير أَنا لَا أعْطِيه لنائب ورسم أَن توفر مِنْهُ جملَة تَسْتَقِر للخاص. فَلَمَّا خرج التَّاج عبد الرَّحْمَن الطَّوِيل من عِنْده استدعاه كرجي وَسَأَلَهُ عَن إقطاع النِّيَابَة فَلَمَّا ذكره لَهُ استقله وَقَالَ: هَذَا مَا يَكْفِينِي وَلَا أرضي بِهِ وَعين بلادا يطْلبهَا زِيَادَة على إقطاع منكوتمر فَأخذ وَفِي لَيْلَة الْأَحَد: وَقع الطَّائِر بنزول الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح بيلبيس بالعسكر الْمُجَرّد إِلَى سيس فسر الْأُمَرَاء بذلك وَكَتَبُوا إِلَيْهِ وَإِلَى من مَعَه بِجَمِيعِ مَا وَقع واتفاق طغجي وكرجي مفصلا. وَصَارَ أهل الدولة قسمَيْنِ: الْأُمَرَاء ورأيهم معدوق. مِمَّا يُشِير بِهِ الْأَمِير بكتاش إِذا حضر وَأما طغجي وكرجي وشاورشي والمماليك الأشرفية فَإِنَّهُم يَد وَاحِدَة على سلطنة طغجى ونيابة كرجي وَإِنَّهُم لَا ينزلون إِلَيّ لِقَاء الْأَمِير بكتاش بل يُقِيمُونَ مَعَ طغجي بالقلعة حَتَّى يحضر بكتاش. مِمَّن مَعَه وَكَانَ رَأْي الْأُمَرَاء النُّزُول إِلَى لقائهم. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشره: نزل الْأَمِير بكتاش بركَة الْحَاج وَشرع الْأُمَرَاء بالقلعة فِي التَّجْهِيز إِلَيّ لِقَائِه. فَامْتنعَ كرجي من أَن ينزل إِلَيْهِ أحد بل أَشَارَ أَن ينزل كل أحد إِلَيّ بَيته ويطلع الْجَمِيع من الْغَد القلعة فيلبس طغجي خلعة السلطنة وانفضوا على ذَلِك. فَعلم الْأُمَرَاء إِنَّهُم مَا لم ينزلُوا إِلَى لِقَاء الْأَمِير بكتاش فاتهم مَا دبروه فَلَمَّا اجْتَمعُوا بعد الْعَصْر اخذوا مَعَ طغجى وكرجي فِي تَحْسِين النُّزُول للقاء(2/308)
فَإِن الأميربكتاش قديم هِجْرَة وأتابك العساكر وَقد أثر فِي سَبِيل الله أثاراً جميلَة وَملك إِحْدَى عشرَة قلعة وَله غَائِب بالعسكر نَحْو سنة وَنصف فَإِن لم يتلقهم الْأُمَرَاء صَعب عَلَيْهِم وَلَو كَانَ السُّلْطَان حَيا لخرج إِلَيّ لقائهم. هَذَا وطغجى وكرجي يَقُولَانِ: لَا نزُول وَأما أَنْتُم فانزلوا إِن اخترتم فَلَمَّا طَال تحاورهم استحيا طغحى من الْأُمَرَاء وَقَالَ لكرجي: الصَّوَاب فِيمَا قَالَه الْأُمَرَاء والرأي أَن أركب مَعَهم وَمَعِي مماليك السُّلْطَان ونلقي الْأَمِير بكتاش وتقيم أَنْت بالقلعة فِي طَائِفَة من المماليك فاتفقوا على ذَلِك. وَعرض طغحى المماليك وَمَعَهُ كرجي وعينا أَرْبَعمِائَة تركيب مَعَ طغجى وأخرجت لَهُم الْخُيُول من الإسطبل وَأَن يُقيم مَعَ كرجي بَقِيَّتهمْ بالقلعة وَبَاتُوا على ذَلِك. وَأما دمشق فان بلغاق قدم إِلَيْهَا يَوْم السبت تَاسِع عشره وَقد بلغه تسحب الْأَمِير قبجق. بِمن مَعَه إِلَيّ جِهَة الْفُرَات فاخفي أمره وَتوجه إِلَيّ حلب وأوقف الْأَمِير بلبان الطاخبي على الْخَبَر فَقبض الْأَمِير بلبان من وقته على حمدَان صلغاي وسجنه بالقلعة وَبعث الْبَرِيد فِي طلب قبجق وَمن مَعَه وَكتب يعرفهُ بقتل لاجين ومنكوتمر. فصدف البريدي أيدغدي شقير وكجكن وبالوج فِي الطَّائِفَة الحسامية وَقد خَرجُوا فِي طلب قبجق وَمن مَعَه فأنكروا أمره وفتشوه فَإِذا فِي الْكتب الَّتِي مَعَه شرح مَا وَقع بِمصْر فخاف أيدغدي شقير من نَائِب حلب لسوء مَا عَامله بِهِ وَدفع الْكتب إِلَيّ البريدي وخلاه لسبيله فَمضى إِلَيّ قبجق وتحير أيدغدي فِي أمره ثمَّ قوي عَلَيْهِ كجكن حَتَّى سَار بِهِ إِلَيّ حلب فَلم يتَعَرَّض إِلَيْهِ الْأَمِير بلبان النَّائِب بل عزاهُ وتوجع لَهُ. وَقَامَ بِدِمَشْق الْأَمِير بهاء الدّين قرا أرسلان المنصوري وَقبض على الْأَمِير سيف الدّين جاغان الحسامي الشاد وعَلى الْأَمِير حسام الدّين لاجين الحسامي وإلي الْبر وَقدم الْأَمِير كجكن من حلب فقبفر عَلَيْهِ أَيْضا وسلمهم جَمِيعًا لأرجواش نَائِب القلعة. وتحدث الْأَمِير بهاء الدّين قرا أرسلان المنصوري حَدِيث نواب السلطة وَصَارَ يركب بالعصائب والجاويش وَيجْلس بدار السَّعَادَة وترفع لَهُ الْقَصَص على هَيْئَة النواب أوقع الحوطة على أَبْوَاب الْأُمَرَاء المقتولين وحواصلهم وَحلف الْعَسْكَر للْملك النَّاصِر. فَلم تطل مدَّته وَمَات فِي ثَانِي جُمَادَى الأولى بقولنج وَصَارَت دمشق بِغَيْر نَائِب وَلَا مشد وَلَا محتسب. وَكَانَ خبر قيام قرا أرسلان قد ورد إِلَيّ الْأُمَرَاء بِمصْر فَخرج الْبَرِيد فِي سادس(2/309)
عشرى ربيع الآخر باستقرار سيف الدّين قطوبك المنصوري فِي الشد عوضا عَن جاغان فعاشر ذَلِك يَوْم الْأَحَد خَامِس جُمَادَى الأولى عِنْد قدوم الْبَرِيد إِلَيّ دمشق. وَأما قبجق نَائِب دمشق فَإِنَّهُ توجه وَمَعَهُ الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار وَفَارِس الدّين ألبكي وَسيف الدّين عزاز وَسيف الدّين بزلار يُرِيدُونَ غازان فَمَاتَ بزلار قَرِيبا من سنجار. وتسامع بهم الْمغل فَركب جنكلي بن البابا أَمِير ديار بكر من قبل غازان وَبَالغ فِي إكرامهم وتلقاهم صَاحب ماردين وَقَامَ بأمرهم. فَلحقه بريد نَائِب حلب بهَا وَأَوْقفهُ على الْكتب المتضمنة لقتل لاجين ومنكوتمر فَبكى قبجق والأمراء نَادِما على سرعَة مفارقتهم بِلَاد الشَّام وَلم يعجبهم الْعود فَكَتَبُوا الْجَواب بالاعتذار. وَكَانَ غازان فد بلغه مجيئهم إِلَيْهِ فَبعث أَمِيرا يتلقاهم وَسَار بهم إِلَى الأردوا فَركب غازان فِي موكبه وتلقاهم وَأكْرمهمْ وَضرب لَهُم الخركاوات وَأمر لَهُم. مِمَّا يصلح لَهُم. ثمَّ استدعاهم وباسطهم فَلَمَّا انصرفوا حمل إِلَيّ قبجق عشرَة آلَاف دِينَار ولبكتمر مثلهَا ولعزاز والألبكي سِتَّة آلَاف دِينَار لكل مِنْهُمَا. وأنعم غازان عَلَيْهِم وعَلى من مَعَهم بالخيول وَغَيرهَا وَتقدم إِلَيّ أمرائه بِأَن يعْمل كل مِنْهُم لَهُم ضِيَافَة فأقامت الأفراح فِي الأردوا بِسَبَب ضيافتهم عدَّة أَيَّام وَصَارَ قبجق قي غَايَة المسمرة فَإِنَّهُ أَتَاهُ طَائِفَة من أَهله وأقاربه وَأما بكتمر فَإِنَّهُ لم تطب نَفسه بِالْإِقَامَةِ. وَمن غَرِيب الِاتِّفَاق أَن السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون جري مرّة عِنْده أَمر تَجْرِيد عَسْكَر إِلَيّ حلب فَذكر لَهُ قبجق هَذَا أَن بجرد فَقَالَ: أعوذ بِاللَّه أَن أجرد قبجق إِلَيّ نَحْو الشَّام فإنني مَا أَمنه أَن يدْخل الْبِلَاد وَيظْهر لي من وَجهه الْميل إِلَيّ الْمغل. ثمَّ الْتفت قلاوون إِلَى سنقر المساح وَقَالَ: إِن عِشْت يَا أَمِير وَخرج قبجق إِلَيّ الشَّام فستذكر قولي لَك فَكَانَ كَذَلِك. وَيُقَال إِنَّه كَانَ مُدَّة نيابته لدمشق يُكَاتب غازان وعندما عزم على اللحاق بِهِ استدعى مِنْهُ طمغا الْبَرِيد الَّتِي يركب بهَا الْأُمَرَاء عِنْدهم فبعثها غازان إِلَيْهِ وَصَارَت عِنْده حَتَّى ركب من ماردين فحملها إِلَيْهِ وَكَانَ هُوَ أكبر أَسبَاب قدوم غازان إِلَيّ دمشق كَمَا يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ سلطنة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون ثَانِيًا وَكَانَ من خبر ذَلِك أَن الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج آل ملك الجوكندار والأمير علم الدّين سنجر الجاولي قدما إِلَى الكرك فَوجدَ الْملك النَّاصِر يتصيد بالغور فوجها إِلَيْهِ. وَدخل الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الكرك إِلَيّ أم السُّلْطَان ليبشرها فخافت(2/310)
أَن تكون مكيدة من لاجين وتوقفت فِي الْمسير وَابْنهَا إِلَيّ مصر فَمَا زَالَ بهَا حَتَّى أجابت. وَوصل الأميران إِلَيّ الْملك النَّاصِر فَقبلا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وأعلماه الْخَبَر فَأتي إِلَيّ الْمَدِينَة وَأخذ فِي تجهيز أَحْوَاله والبريد يتواتر من مصر باستحثاثه على الْقدوم إِلَيْهَا إِلَى أَن هيا لَهُ نَائِب الكرك مَا يَلِيق بِهِ وَسَار بِهِ إِلَيّ الْقَاهِرَة فَخرج الْأُمَرَاء والعساكر إِلَيّ لِقَائِه وكادت الْقَاهِرَة ومصر أَلا يتَأَخَّر بهَا أحد من النَّاس فَرحا بقدومه وَخَرجُوا إِلَيْهِ عَامَّة مي يَوْم السبت رَابِع جُمَادَى الأولى. وَجلسَ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر على سَرِير الْملك فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه وجددت لَهُ الْبيعَة وَكتب شرف الدّين مُحَمَّد بن فتح الدّين القيسراني عَهده عَن الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين سلار فِي نِيَابَة السلطة بديار مصر والأمير ركن الدّين بيبرس الجاشنكير أستادار والأمير جمال الدّين أقوش الأفرم الداوداري المنصوري نَائِب دمشق عوضا عَن الْأَمِير قبجق المنصوري والأمير سيف الدّين كرت الْحَاجِب فِي نِيَابَة طرابلس وَاسْتقر عوضه حاجبًا سيف الدّين قطلوبك وَأَفْرج عَن الْأَمِير قرا سنقر والأمير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ والوزير شمس الدّين سنقر الأعسر وَاسْتقر قرا سنقر فِي نِيَابَة قلعة الصبيبة وخلع على سَائِر أهل الدولة وَكتب إِلَيّ الْأَعْمَال بذلك ودقت البشائر وزينت الممالك على الْعَادة. وَفِي ثامنه: ركب السُّلْطَان بخلعة الْخلَافَة والتقليد بَين يَدَيْهِ وعمره أَربع عشرَة سنة وَأقر الْوَزير فَخر الدّين عمر بن الخليلي فِي الوزارة. وَسَار الْأَمِير أقش الأفرم على الْبَرِيد إِلَيّ دمشق فَقَدمهَا فِي ثَانِي عشريه وَلبس من الْغَد التشريف وَقبل عتبَة بَاب القلعة على الْعَادة وَمد السماط بدار السَّعَادَة وَأخرج الْأَمِير سيف الدّين قطلوبك إِلَيّ مصر. وَفِي تَاسِع عشريه: افرج الْأَمِير أقش الفرم عَن جاغان الحسامي وَبَعثه على الْبَرِيد إِلَيّ مصر فَرده السُّلْطَان من طَرِيقه وَجعله أحد أُمَرَاء دمشق. وَقدم الْبَرِيد من حلببدخول قبجق وَمن مَعَه إِلَيّ بِلَاد الْمغل. وَوَقع بِالْقَاهِرَةِ مطر وسال المقطم إِلَيّ القرافة فافسد عدَّة ترب وَوصل المَاء إِلَيّ بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة وأفسد السَّيْل هُنَاكَ عدَّة ترب أَيْضا. وَصَارَ الْأُمَرَاء يَجْتَمعُونَ بقلعة الْجَبَل فِي يَوْم الموكب عِنْد السُّلْطَان ويقررون الْأُمُور مَعَ بيبرس وسلار فتصدر الْأَحْوَال عَنْهُمَا وَشرعا فِي تَقْدِيم حواشيهما وألزامهما.(2/311)
وَاسْتقر الْأَمِير سيف الدّين بكتمر أَمِير جاندار وأنعم على أَمِير مُوسَى بن الصَّالح على ابْن قلاوون بإمرة وعَلى كل من عز الدّين أيدمر الخطيري وَبدر الدّين بكتوت الفتاح وَعلم الدّين سنجر الجاولي وَسيف الدّين تمر وَعز الدّين أيدمر النَّقِيب بإمرة. وأنعم على نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي وَإِلَى الْقَاهِرَة بإمرة وَاسْتقر واليًا بالجيزة وأعمالها مَعَ ولَايَة الْقَاهِرَة وأنعم على كل من لاجين أخي سلار وأقطاي الجمدار وبكتوت القرماني بإمرة وَقبض على الْأَمِير الْعمريّ والأقوش وقراقوش الظَّاهِرِيّ وَمُحَمّد شاه الْأَعْرَج وعد على قراقوش وَمُحَمّد شاه من الذُّنُوب قَتلهمَا طغجى وكرجي. وإلي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر جُمَادَى الْآخِرَة: ألبس الْأَمِير أقش الأفرم نَائِب دمشق الْأُمَرَاء والأعيان الْخلْع وَفِيه قدم طلبه وأثقاله من مصر فتلقاها والأمراء فِي خدمته وَعَلِيهِ التشاريف وَدخل دُخُولا حسنا. وَفِيه كتب عَن السُّلْطَان تَقْلِيد الْملك المظفر تَقِيّ الدّين مَحْمُود بنيابة حماة. وَفِي شهر رَجَب: توجه الْأَمِير كرت الْحَاجِب إِلَيّ نِيَابَة طرابلس. وَفِي ثَانِي عشره: قبض بِدِمَشْق على الْأَمِير سيف الدّين كجكن واعتقل بالقلعة وَورد الْبَرِيد من حلب بمحاربة نغاي وطقطاي وَإنَّهُ قتل بَينهمَا من الْمغل خلق كثير وَأَن غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولو بن جنكزخان قتل وزيره نوروز وَأَنه تأهب لعبور الشَّام وَبعث فِي جمع الْمغل وَإنَّهُ بعث سلامش بن أفال بن بيجو التتري إِلَى بِلَاد الرّوم على عَسْكَر يبلغ نَحْو الْخَمْسَة وَعشْرين ألف فَارس. فاهتم الْأُمَرَاء بتجريد الْعَسْكَر وَاتَّفَقُوا على تجهيز الْأَمِير سيف الدّين بلبان الحبيشي والأمير جمال الدّين عبد الله السِّلَاح دَار والأمير مبارز الدّين سوارالرومى أَمِير شكار ومقدمهم الْأَمِير جمال الدّين أقش قتال السَّبع وصحبتهم من أُمَرَاء الطبلخاناه عشرُون أَمِيرا. وَكتب إِلَى دمشق بتجريد أَرْبَعَة أُمَرَاء مقدمين فَسَارُوا وقدموها فِي سَابِع رَجَب. وَقدم الْبَرِيد من دمشق بورود نَحْو ثَلَاثِينَ بطسة فِي الْبَحْر إِلَى سَاحل بيروت فِي كل بطسة مِنْهَا نَحْو سَبْعمِائة وقصدوا أَن يطلعوا من مراكبهم إِلَى الْبر وَتحصل إغارتهم على السَّاحِل. فَاجْتمع النَّاس لقتالهم فَبعث الله ريحًا كسرت المراكب وألقتها بالشاطئ فَأخذ أهل بيروت مِنْهَا مَا بقى من الْغَرق وأسروا ثَمَانِينَ إفرنجياً وَذَلِكَ أخريات شعْبَان.(2/312)
وقويت شَوْكَة البرجية بديار مصر وَصَارَت لَهُم الحمايات الْكَبِيرَة وَتردد النَّاس إِلَيْهِم فِي الأشغال. وَقَامَ بأمرهم الْأَمِير بيبرس الجاشنكير وَأمر مِنْهُم عدَّة وَصَارَ فِي قبالته الْأَمِير سيف الدّين الدّين سلار وَمَعَهُ الصالحية والمنصورية إِلَّا أَن البرجية أَكثر وَأقوى وشرهوا جَمِيعًا إِلَى أَخذ الإقطاعات وَوَقع الْحَسَد بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَصَارَ بيبرس إِذا أَمر أحدا من البرجية وقفت أَصْحَاب سلار وَطلبت مِنْهُ أَن يُؤمر مِنْهُم وَاحِدًا. وَأخذ الْأَمِير سيف الدّين برلغي يُشَارك بيبرس وسلار فِي الْأَمر وَالنَّهْي وقويت شوكته والتف عَلَيْهِ المماليك الأشرفية. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر شعْبَان: وصل سلامش بن أفال نَائِب الرّوم إِلَى دمشق مَعَ الْأَمِير عز الدّين الزردكاش نَائِب بهسنا فِي عشْرين من أَصْحَابه. فَتَلقاهُ عَسْكَر دمشق وَأَهْلهَا مَعَ النَّائِب وَقد اهتم للقائه وَبَالغ فِي التجمل الزَّائِد فَكَانَ يَوْمًا بهجاً. وأنزله على الميدان وَقَامَ. مِمَّا يَلِيق بِهِ وأحضر فِي لَيْلَة النّصْف ليرى الوقيد بِجَامِع بنى أُميَّة. وَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ سادس عشره: أركبه الْبَرِيد هُوَ وَأَخُوهُ قطقطوا فَقدما إِلَى قلعة الْجَبَل ومعهما مخلص الدّين الرُّومِي فأكرمهم الْأُمَرَاء وَقَامُوا بواجبهم. وَكَانَ من خبر سلامش أَن غازان لما بَعثه لأخذ بِلَاد الرّوم خرج عَن طَاعَته وَحسن فِي رَأْيه الاستبداد. بِملك الرّوم فاستخدم عشرَة آلَاف وَكَاتب ابْن فرمان أصر التركمان وَكتب إِلَى الْملك الْمَنْصُور لاجين سُلْطَان مصر يطْلب نجدة على قتال غازان على يَد مخلص الدّين الرُّومِي. فَأُجِيب فِي شهر رحب بالشكر وَالثنَاء وَكتب إِلَى دمشق بِخُرُوج الْعَسْكَر لنصرته. وَكَانَ غازان قد وصل إِلَى بَغْدَاد فَبَلغهُ خُرُوج سلامش عَن طَاعَته فَأَعْرض عَن الْمسير إِلَى الشَّام وجهز العساكر إِلَى بِلَاد الرّوم وأخرجهم أول جُمَادَى الْآخِرَة وعدتهم نَحْو الْخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألفا وَعَلَيْهِم بولاي وَعَاد غازان إِلَى تبريز وَمَعَهُ الْأَمِير قبجق وبكتمر السِّلَاح دَار والألبكي وبزلار وَسَار بولاي إِلَى سنجار وَنزل على رَأس عين ثمَّ توجه إِلَى آمد.(2/313)
وَجمع سلامش نَحْو السِّتين ألفا وَامْتنع عَلَيْهِ أهل سيواس وَهُوَ يحاصرهم فَلَمَّا قرب مِنْهُ بولاي بعساكر غازان فر عَنهُ من كَانَ مَعَه من التتار إِلَى بولاي فِي أول لَيْلَة من رَجَب ثمَّ الْتحق بِهِ أَيْضا عَسْكَر الرّوم وفر التركمان إِلَى الْجبَال. وَلم يبْق مَعَ سلامش إِلَّا نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فإنهزم عَن سيواس إِلَى جِهَة سيس وَوصل بهسنا آخر رَجَب. فورد خَبره إِلَى دمشق فِي خَامِس شعْبَان والأمراء بهَا على عزم الْخُرُوج لنجدته فتوقفت الْحَرَكَة عَن تسيير العساكر. فَمَا كَانَ بعض أَيَّام إِلَّا وسلامش قد وصل إِلَى دمشق فَخرج إِلَيْهِ عَسَاكِر دمشق والتقوه فِي موكب عَظِيم وَوصل صحبته من بهسنا الْأَمِير بدر الدّين الزردكاش نَائِب السلطنة بهَا. ثمَّ توجه سلامش وَأَخُوهُ قطقطوا إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر شعْبَان على خيل الْبَرِيد فَلَمَّا قدم إِلَى قلعة الْجَبَل أنعم على أَخِيه قطقطوا بإقطاع ورتب لمخلص الدّين الرُّومِي جَار وَخير سلامش بَين الْمقَام بالديار المصرية أَو الشَّام أَو أَن يعود إِلَى بِلَاده فَسَالَ أَن يجرد مَعَه جَيش ليعود إِلَى بِلَاده ويحضر بعياله وَيرجع إِلَى خدمه السُّلْطَان. فوافقه السُّلْطَان على ذَلِك فَركب الْبَرِيد إِلَى حلب ورسم أَن يخرج مَعَه الْأَمِير بكتمر الجلمي. فَقدم سلامش دمشق فِي حادي عشر رَمَضَان وَخرج من الْغَد وَمَعَهُ الْأَمِير بدر الدّين الزردكاش وَلما وصل إِلَى حلب جرد مَعَه الْأَمِير بكتمر حسب المرسوم إِلَى جِهَة سيس بَعْدَمَا مر بحلب وَخرج مِنْهَا بعسكر. فَفطن بِهِ التتار فقاتلوه فَقتل الْأَمِير بكتمر وفر سلامش إِلَى بعض القلاع فَقبض عَلَيْهِ وَحمل إِلَى غازان فَقتله. وَكَانَ سلامش هَذَا من أكبر الْأَسْبَاب فِي حَرَكَة غازان إِلَى بِلَاد الشَّام: وَذَلِكَ إِنَّه نهب بعسكر حلب ماردين فِي شهر رَمَضَان حَتَّى أَخذ مَا كَانَ بجامعها وَفعل أفعالاً قبيحة فحرك فعله مَا عِنْد غازان وَجعله حجَّة لمسيره. وَفِي شعْبَان: انْعمْ على الْأَمِير قرا سنقر بنيابة الصبيبة وبانياس فَسَار إِلَيْهِمَا وتسلمهما فِيهِ. وَفِي رَمَضَان: قدم الْأَمِير عَلَاء الدّين كجكن إِلَى الْقَاهِرَة مُقَيّدا هُوَ وحمدان بن صلغاي وَقد وكل بهما مائَة فَارس من عَسْكَر الشَّام. فَأرْسل بحمدان إِلَى صفد فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ. وقدمت رسل صَاحب سيس وَصَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة بِهَدَايَا فِي سادسه. وَاسْتقر الْأَمِير شمس الدّين سنقر الأعسر فِي الوزارة عوضا عَن الصاحب فَخر الدّين(2/314)
عمر بن الخليلي فَضرب التَّاج بن سعيد الدولة بالمقارع فَأسلم وَكَانَ مُسْتَوْفيا. وَاسْتقر شمس الدّين أَحْمد السرُوجِي فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ ومصر عوضا عَن حسام الدّين حسن بن أَحْمد بن الْحسن الرُّومِي فِي أول ذِي الْحجَّة. وَنقل الحسام إِلَى قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن وَالِده جلال الدّين أَحْمد بن الْحسن. وَفِي آخر ذِي الْقعدَة: نقل الْأَمِير قرا سنقر من نِيَابَة الصبيبة إِلَى نِيَابَة حماة بعد وَفَاة الْملك المظفر تَقِيّ الدّين. واستناب الْأَمِير بيبرس الجاشنكير فِي الأستادارية الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وَحكمه فِي سَائِر أمورها فَترك الْملك النَّاصِر الاستدعاء لما يُريدهُ من مأكل أَو مشرب لشدَّة الْحجر عَلَيْهِ وَصَارَ لَيْسَ لَهُ من المملكة سوى الِاسْم. وَذَلِكَ إِنَّهُم يجلسونه فِي يومي الْخَمِيس والإثنين وتحضر الْأُمَرَاء الأكابر وَيقف الْأَمِير سلار النَّائِب والأمير بيبرس الأستادار ويعرض سلار عَلَيْهِ مَا يُريدهُ ثمَّ يشاور فِيهِ الْأُمَرَاء وَيَقُول: السُّلْطَان قد رسم بِكَذَا فيمضى ذَلِك. ثمَّ يخرج الْجمع فيجلس سلار وبيبرس ويتصرفان فِي سَائِر أُمُور المملكة ويتفقان على قلَّة مَصْرُوف السُّلْطَان. وَقدم الْبَرِيد بتحرك غازان وَجمعه على السّير إِلَى الشَّام فَكتب إِلَى الْأَمِير كزناي والأمير قطلوبك الْحَاجِب بِالْخرُوجِ واللحاق بالأمراء المجردين فقدموا دمشق فِي رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة. وَوَقع الْعَزْم على سفر السُّلْطَان والأمراء واستدعيت الْجند من بِلَاد مصر وألزم الْوَزير سنقر الأعسر بتجهيز الْأَمْوَال فتحسن سعر الْخَيل وَالْجمال وَالسِّلَاح وآلات السّفر. وانتظر الْعَسْكَر النَّفَقَة فيهم فَاجْتمع الْأُمَرَاء لذَلِك فَلم يُوَافق بيبرس وسلار على النَّفَقَة خوفًا من تلاف المَال وقصدا تَأْخِيرهَا إِلَى غَزَّة فَلم ترض بَقِيَّة الْأُمَرَاء بذلك وانفضوا على غير رضى. وَخرج السُّلْطَان فِي رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة بالعساكر وَنزل خَارج الْقَاهِرَة واستناب فِي غيتبه الْأَمِير ركن الدّين بيبرس المنصوري الدوادار. وَوَقع فِي هَذِه السّنة بِأَرْض مصر آفَة عَظِيمَة من الفار. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر الْأَمِير عز الدّين أيبك الْموصِلِي نَائِب طرابلس فِي صفر. وَمَات نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْأَفْضَل نور الدّين على ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب فِي رَابِع عشر ذِي الْحجَّة بِدِمَشْق.(2/315)
وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقش المغيثي نَائِب البيرة بهَا. وَقد أَقَامَ فِي نيابتها أَرْبَعِينَ سنة وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الجلمي قتل على سيس. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بدر الصوافي أحد أُمَرَاء الدوادار. أَصله من الغرب فولاه الْمَنْصُور لاجين دوادارا وأقامه على تَجْدِيد عمَارَة جَامع ابْن طولون. وَاتفقَ أَن شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله كَاتب السِّرّ مرض فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان بدر الدّين وَقَالَ: مَا بقى يَجِيء مِنْهُ شىء فَبعد أُسْبُوع مَاتَ بدر الدّين وطلع كَاتب السِّرّ إِلَى الْخدمَة وَقد عوفي وعزى السُّلْطَان فِي الدوادار فَقَالَ السُّلْطَان: لَا اله إِلَّا الله كَانَ فِي ظن الدوادار إِنَّه يعزينا فِي كَاتب السِّرّ عزانا كَاتب السِّرّ فِيهِ. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين تمر بغا وَله مَسْجِد بِالْقربِ من الميدان التحتاني بَين الْقَاهِرَة ومصر وَكَانَ كَرِيمًا. وَكَانَ قد توجه مَعَ الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك ثمَّ نقل إِلَى طرابلس فَمَاتَ بهَا. وَمَات بحلب من المجردين الْأَمِير سيف الدّين البسطي وَأحمد شاه وَمُحَمّد بن سنقر الْأَقْرَع وَعين الغزال وكيكلدى بن السّريَّة وَمَات بِنَاحِيَة سمنود - وَكَانَ قد توجه إِلَيْهَا - الْأَمِير سيف الدّين طقطاي. وَمَات شهَاب الدّين يُوسُف بن الصاحب مُحي الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن هبة الله سَالم بن طَارق النّحاس بن الْأَسدي الْحلَبِي فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة بِدِمَشْق وَقد قدم الْقَاهِرَة مرَارًا. وَمَات أَمِين الدّين سَالم بن مُحَمَّد بن سَالم بن الْحسن بن هبة الله بن مَحْفُوظ بن صصري التغلبي نَاظر الدَّوَاوِين بِدِمَشْق فِي ثامن عشرى ذِي الْحجَّة وَهُوَ مَصْرُوف. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر المسروري وَالِي الْقَاهِرَة وَهُوَ الْمَعْرُوف بالخياط.(2/316)
سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة أهلت وَالسُّلْطَان مُتَوَجّه بعساكر مصر إِلَى الشَّام والإرجاف يقوى بمسير غازان إِلَى الشَّام. فَرَحل السُّلْطَان بالعساكر من الريدانية أول يَوْم من الْمحرم والأمراء قد كثر تحاسدهم وتنافسوا بِكَثْرَة سعادتهم فَلَمَّا وصلوا غَزَّة أَقبلُوا على الصَّيْد والاجتماع والنزه. فَاشْتَدَّ حنق الطَّائِفَة الأويراتية الَّذين قدمُوا فِي أَيَّام الْعَادِل كتبغا من أجل قَتْلَى من قتل من أمرائهم فِي أَيَّام الْمَنْصُور لاجين وَمن خلع كتبغا وإخراجه إِلَى صرخد وَمن استبداد البرجية بالأمور. وعزموا على إثارة الْفِتْنَة وصاروا إِلَى الْأَمِير عَلَاء الدّين قطلو برس العادلي وأقاموه كَبِيرا لَهُم وَاتَّفَقُوا على أَن برنطاي أحد المماليك السُّلْطَانِيَّة وألوص أحد كبراء الأويراتية يهجم كل مِنْهُمَا على الأميرين بيبرس وسلار ويقتله ويعيدون دولة كتبغا. فَلَمَّا رَحل السُّلْطَان بالعسكر من غَزَّة وَنزل تل العجول ركب الْأُمَرَاء للْخدمَة على الْعَادة وَكَانَ بيبرس يتأدب مَعَ سلار ويركب بَين يَدَيْهِ فعندما ترجل الْأُمَرَاء وَلم يبْق على فرسه سوى بيبرس وسلار شهر برنطاى سَيْفه - وَكَانَ مَاشِيا فِي ركاب بيبرس - وضربه فَوَقَعت الضَّرْبَة على كفل الْفرس فَحلت ظَهره وَضرب برنطاي ثَانِيًا فَوَقَعت الضَّرْبَة على الكلفة فقطعتها وجرحت وَوَقعت الصرخة فِي الْعَسْكَر فَركب الْجَمِيع وَقصد الأويراتية الدهليز السلطاني يُرِيدُونَ الهجمة على السُّلْطَان حَتَّى صَارُوا فِي دَاخله وَقد ركب الْأُمَرَاء فِي طَلَبهمْ فَركب الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الجوكندار والمماليك السُّلْطَانِيَّة وَفِي ظنهم أَن الْقَصْد قتل السُّلْطَان ونشروا العصائب ووقفوا. وَعَاد بيبرس وسلار إِلَى مخيمهما وأمرا الْحجاب والنقباء بِجمع الْعَسْكَر إِلَى مخيم الْأَمِير سلار النَّائِب فَكَانَ الْعَسْكَر إِذا أَتَوا وَرَأَوا سنجق السُّلْطَان وعصائبه منشورة مضوا إِلَيْهِ وَتركُوا سلار فيردهم الْحجاب فَلَا يلْتَفت مِنْهُم أحد وَلَا يعود حَتَّى يقف تَحت السنجق السلطاني. فَبعث سلار إِلَى أَمِير جاندار يَقُول: مَا هَذِه الْفِتْنَة الَّتِي تُرِيدُونَ إثارتها فِي هَذَا الْوَقْت وَنحن على لِقَاء الْعَدو وَقد بلغنَا أَن الأويراتية قد وَافَقت المماليك السُّلْطَانِيَّة على قتلنَا وَكَانَ هَذَا بِرَأْيِك وَرَأى السُّلْطَان وَقد دفع الله عَنَّا. فَإِن كَانَ الْأُمَرَاء كَذَلِك فَنحْن مماليك السُّلْطَان ومماليك أَبِيه الشَّهِيد وَنحن نَكُون فدَاء الْمُسلمين وان لم يكن الْأَمر كَذَلِك فَابْعَثُوا الينا غرماءنا. فَلَمَّا سمع السُّلْطَان هَذَا بَكَى وَحلف إِنَّه لم يكن عِنْده علم. مِمَّا ذكر وَحلف أَمِير(2/317)
جاندار أَيْضا وَقَالَ: وَلَكِن لما وَقع مَا وَقع ظنُّوا إِنَّهُم يُرِيدُونَ قتل السُّلْطَان وَإِقَامَة غَيره ثمَّ قَالَ أَمِير جاندار: إِنَّمَا يُرِيد الْأُمَرَاء بِهَذَا الفول أَن تقبض على مماليك السُّلْطَان طَائِفَة بعد أُخْرَى حَتَّى تتمكن من مرادها وان كَانَ السُّلْطَان ومماليكه قد شوشوا على الْأُمَرَاء فَأَنا أَخذ السُّلْطَان ومماليكه وأسير إِلَى الكرك. فَلَمَّا بلغ الْأُمَرَاء ذَلِك عزموا أَن يركبُوا على أَمِير جاندار ثمَّ توقفوا حَتَّى بعثوا إِلَى الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح الأتابك. وَكَانَ على الجاليش وَبَينهمَا مرحلة فَلم يدْخل فِي شَيْء من ذَلِك وَأوصى أَلا يتَعَرَّض للسُّلْطَان بِسوء. فَرجع سلار إِلَى المداراة وَركب حَتَّى أصلح بَين أَمِير جندار والأمراء البرجية وقبلوا جَمِيعهم الأَرْض للسُّلْطَان وقبضوا على الأويراتية وعاقبوهم فاقروا. مِمَّا عزموا عَلَيْهِ من قتل بيبرس وسلار وإعادة دولة الْعَادِل كتبغا فَزَالَ مَا كَانَ فِي أنفس البرجية من مُوَافقَة السُّلْطَان وأمير جاندار للأويراتية. وشنق من الْغَد نَحْو الْخمسين من الأويراتية بثيابهم وكلفاتهم وَنُودِيَ عَلَيْهِم: هَذَا جَزَاء من يقْصد إِقَامَة الْفِتَن بَين الْمُسلمين ويتجاسر على الْمُلُوك. وَطلب الْأَمِير قطلوبرس فَلم يُوجد وَكَانَ قد فر إِلَى غَزَّة واختفي بهَا فنهبت أثقاله كلهَا وَأنزل بالمصلوبين فِي الْيَوْم الرَّابِع فَأخذت البرجية تغرى بيبرس وتوحش بَينه وَبَين سلار بِأَنَّهُ مُتَّفق عَلَيْهِ مَعَ مماليك السُّلْطَان. فَلَمَّا بلغ ذَلِك سلار تلطف مَعَ بيبرس واتفقا على إرْسَال طَائِفَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة إِلَى الكرك فَلم يخالفهما السُّلْطَان فأخذا مِنْهُم عدَّة مِمَّن اتهماهم. بموافقة الأويراتية وحبساهم بالكرك. ثمَّ رَحل السُّلْطَان بعد عدَّة أَيَّام إِلَى قرتية ورسم بِالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا حَتَّى يعود الرُّسُل بأخبار الْعَدو وبعثوا القصاد للكشف عَن ذَلِك وَفِي هَذِه الْمنزلَة سَالَتْ الأودية واتلف السَّيْل كثيرا من أثقال الْعَسْكَر وافتقر عدَّة مِنْهُم لذهاب جمَالهمْ وأثقالهم وتشاءموا بِهِ وتطيروا مِنْهُ فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك. وعقب هَذَا السَّيْل خرج جَراد سد الْأُفق بِحَيْثُ حجز الْأَبْصَار عَن السَّمَاء فَزَاد تطير الْعَسْكَر وخشوا أَن يكون منذراً بقدوم الْعَدو وكسرة الْعَسْكَر وتحدث بذلك كل أحد حَتَّى السوقة. ثمَّ وَقع الرحيل فِي أول ربيع الأول إِلَى جِهَة دمشق فَدَخلَهَا السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة ثامنه. فَفِي يَوْم السبت تاسعه: قدم الجفل من حلب وَغَيرهَا إِلَى دمشق وَقدم الْبَرِيد من(2/318)
حلب وَغَيرهَا بنزول غازان على الْفُرَات وَإنَّهُ فِي عَسْكَر عَظِيم إِلَى الْغَايَة فأنفق فِي العساكر لكل فَارس مَا بَين دِينَارا وَأَرْبَعين دِينَارا وَقد كثر الإرجاف وتتابع وُصُول النَّاس فِي الجفلة وشحت أنفس الْجند بِإِخْرَاج النَّفَقَة فِي شِرَاء مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لغلاء كل مَا يُبَاع من ذَلِك ولكثرة مَا أَحْرَى الله على الْأَلْسِنَة بكسرة الْعَسْكَر ولتمكن بعض الْجند فِي الْأُمَرَاء البرجية. وَقدم الْبَرِيد من حلب. بمسير جاليش غازان من الْفُرَات وعبوره وَأَن أهل الضّيَاع قد جفلوا عَن آخِرهم وَقدم الْأَمِير أسندمر كرجي مُتَوَلِّي فتوحات سيس بَعْدَمَا أَخذ حَاصِل تل حمدون وأحضر مَعَه صَاحب سيس فَخرج عَسْكَر دمشق وَخرج السُّلْطَان بعده بعساكر مصر وَقت الزَّوَال من يَوْم الْأَحَد سَابِع عشره وَسَار إِلَى حمص فَنزل عَلَيْهَا وَبعث العربان لكشف الْأَخْبَار. وَقد نزل التتر بِالْقربِ من سلمية ولهج كل أحد بِأَن الْعَسْكَر مسكور وَأقَام الْعَسْكَر لابس السِّلَاح ثَلَاثَة أَيَّام وَقد غلت الأسعار. فَلَمَّا كَانَ سحر يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشريه: ركب السُّلْطَان بالعساكر وجد فِي السّير إِلَى الرَّابِعَة من النَّهَار فظهرت طوالع التتر فَنُوديَ عِنْد ذَلِك فِي العساكر: أَن ارموا الرماح واعتمدوا على ضرب السَّيْف والدبوس فَألْقوا رماحهم كلهم على الأَرْض. وَمَشوا سَاعَة ورتبوا العساكر بمجمع المروج - وَيعرف الْيَوْم بوادي الخزندار - وعدتهم بضعَة وَعِشْرُونَ ألف فَارس والتتار فِي نَحْو مائَة ألف. فَوقف الْأَمِير عِيسَى بن مهنا وَسَائِر العربان رَأس الميمنة ويليهم الْأَمِير بلبان الطباخي نَائِب حلب بعساكر حلب وحماة ووقف فِي الميسرة الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح والأمير أقش قتال السَّبع وَعلم الدّين سنجر وطغريل الإيغاني والحاج كرت نَائِب طرابلس فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وَكَانَ فِي الْقلب بيبرس وسلار وبرلغي وقطلوبك الْحَاجِب وأيبك الخازندار فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وَقد جعلُوا جناحهم المماليك السُّلْطَانِيَّة ووقف حسام الدّين لاجين الأستادار مَعَ السُّلْطَان على بعد من اللِّقَاء حَتَّى لَا يعرف فيقصد وَقدمُوا خَمْسمِائَة مَمْلُوك من الزراقين فِي مُقَدّمَة العساكر. وَفِي وَقت التَّرْتِيب عرض للأمير بيبرس الجاشنكير حِدة وإسهال مفرط لم يتَمَكَّن مِنْهُ أَن يثبت على الْفرس فَركب المحفة وَاعْتَزل الْقِتَال وَأخذ الْأَمِير سلار النَّائِب مَعَه الْحجاب والأمراء وَالْفُقَهَاء وَدَار على العساكر كلهَا وَالْفُقَهَاء تعظ النَّاس وتقوى(2/319)
عزائمهم على الثَّبَات حَتَّى كثر الْبكاء. هَذَا وغازان ثَابت لم يَتَحَرَّك وَقد تقدم إِلَى أَصْحَابه كلهم أَلا يَتَحَرَّك أحد مِنْهُم حَتَّى يحمل هُوَ بِنَفسِهِ فيتحركون عِنْد ذَلِك يدا وَاحِدَة فبادر عَسَاكِر الْمُسلمين للحركة وأشعل الزراقون النفط وحملوا على غازان فَلم يَتَحَرَّك وَكَانَ فِي الظَّن أَن غازان أَيْضا يَتَحَرَّك إِلَى لقائهم. فمرت خُيُول العساكر بِقُوَّة شوطها فِي الْعَدو ثمَّ لما طَال المدى قصرت فِي عدوها وخمد نَار النفط. فَحمل عِنْد ذك غازان. بِمن مَعَه حَملَة وَاحِدَة حَتَّى اخْتَلَط بالعساكر بَعْدَمَا قدم عشرَة آلَاف مشَاة يرْمونَ بالنشاب حَتَّى أَصَابَت سِهَامهمْ خيولاً كَثِيرَة وَألقى الفرسان عَنْهَا. وَكَثُرت نكاية الْعَرَب بِالسِّهَامِ فولى الْعَرَب أَولا وتبعهم جَيش حلب وحماة فتمت هزيمَة الميمنة من ميسرَة غازان. وصدمت الميسرة ميمنة غازان صدمة فرقت جمعهَا وهزمتها عَن آخرهَا وَقتلت مِنْهَا نَحْو الْخَمْسَة آلَاف وَكتب بذلك للسُّلْطَان - وَهُوَ معتزل فِي طَائِفَة مَعَ حسام الأستادار - فسر بذلك. وَكَاد غازان أَن يولي الإدبار واستدعى قبجق نَائِب دمشق فشجعه قبجق وثبته حَتَّى تلاحق بِهِ من انهزم وَعَاد لَهُ أمره فَحمل حَملَة وَاحِدَة على الْقلب فَلم يثبت لَهُ وَولى سلار وبكتمر الجوكندار وبرلغى وَسَائِر الْأُمَرَاء البرجية وَركب غازان أقفيتهم حَتَّى كَانَت سهامه تصيب خوذة الْفَارِس فتقدح نَارا. هَذَا وَالسُّلْطَان معتزل وَمَعَهُ الحسام وَهُوَ يبكى ويبتهل وَيَقُول: يَا رب لَا تجعلني كَعْبًا نحساً على الْمُسلمين ويهم أَن يفر مَعَ الْقَوْم فيمنعه الحسام وَيَقُول: مَا هِيَ كسرة لَكِن الْمُسلمين قد تَأَخَّرُوا وَلم يبْق مَعَه من المماليك غير اثنى عشر مَمْلُوكا. وعادت الميسرة الإسلامية بعد كسرة ميمنة غازان إِلَى حمص بعد الْعَصْر وَمَعَهُمْ الْغَنَائِم فَإِذا الْأُمَرَاء البرجية أهل الْقلب قد انكسروا والمغل فِي أَعْقَابهم فَبُهِتُوا. وخشى غازان من الكمناء فَكف عَن اتِّبَاع العساكر وَكَانَ ذَلِك من لطف الله بهم فَلَو قد مر فِي طَلَبهمْ لهلكوا من عِنْد آخِرهم. وَوصل المنهزمون إِلَى حمص وَقت الْغُرُوب وَقد غنم التتر سَائِر مَا كَانَ مَعَهم مِمَّا لَا يدْخل تَحت الْحصْر وألقوا عَن أنفسهم السِّلَاح طلبا للنجاة فَاشْتَدَّ صُرَاخ أهل حمص وصاحوا بالعسكر: الله الله فِي الْمُسلمين وَقد كلت الْخُيُول فَمروا إِلَى بعلبك ونزلوا عَلَيْهَا بكرَة يَوْم الْجُمُعَة وَقد غلقت أَبْوَابهَا فامتاروا مِنْهَا ومروا فِي سيرهم إِلَى(2/320)
دمشق فَدَخَلُوهَا يَوْم السبت أول ربيع الآخر وَقد توجه أَكْثَرهم على السَّاحِل إِلَى مصر. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دخلُوا دمشق حَتَّى وَقع الصَّارِخ بمجيء غازان فَخَرجُوا بعد نَحْو سَاعَة من قدومهم وَتركُوا سَائِر مَا لَهُم وَجعل أهل دمشق فتشتتوا فِي سَائِر الْجِهَات وَمر بالعسكر من العشير والعربان أهوال وَأخذُوا أَكثر مَا مَعَهم نهباً وسرقة. وَقتل فِي هَذِه الْوَاقِعَة الْأَمِير كرت نَائِب طرابلس والأمير نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن الْأَمِير أيدمر الْحلَبِي وبلبان التَّقْوَى من أُمَرَاء طرابلس وبيبرس الغتمي نَائِب قلعة المرقب وأزبك نَائِب بلاطنس وبيليك الطيار من أُمَرَاء دمشق ونوكاي التتري وأقش كرجي الْحَاجِب وأقش الطروحي حَاجِب دمشق وَنَحْو الْألف من الأجناد والمماليك وَعدم قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين بن أَحْمد الرُّومِي الْحَنَفِيّ قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وعماد الدّين إِسْمَاعِيل بن احْمَد بن سعيد بن مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَثِير الْموقع. وَقتل من التتار نَحْو أَرْبَعَة عشر ألفا. وَأما غازان فَإِنَّهُ نزل بعد هزيمَة الْعَسْكَر إِلَى حمص - وَقت عشَاء الْآخِرَة - وَبهَا الخزائن السُّلْطَانِيَّة وأثقال الْعَسْكَر فَأَخذهَا من الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الصارم وَسَار إِلَى دمشق بَعْدَمَا امْتَلَأت أَيدي أَصْحَابه بأموال جليلة الْقدر. هَذَا وَأهل دمشق قد وَقع بَينهم فِي وَقت الظّهْر من يَوْم السبت أول ربيع الآخر ضجة عَظِيمَة فَخرجت النِّسَاء باديات الْوُجُوه وَترك النَّاس حوانيتهم وَأَمْوَالهمْ وَخَرجُوا من الْمَدِينَة. فَمَاتَ من الزحام فِي الْأَبْوَاب خلق كثير وانتش النَّاس برءوس الْجبَال وَفِي الْقرى وَتوجه كثير مِنْهُم إِلَى جِهَة مصر. وَفِي لَيْلَة الْأَحَد: خرج أَرْبَاب السجون وامتدت الْأَيْدِي لعدم من يحمى الْبَلَد. وَأصْبح من بقى بِالْمَدِينَةِ وَقد اجْتَمعُوا بمشهد على من الْجَامِع الْأمَوِي وبعثوا إِلَى غازان يسْأَلُون الْأمان لأهل الْبَلَد فَتوجه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَشَيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية والشريف زين الدّين بن عدنان والصاحب فَخر الدّين بن الشيرجي وَعز الدّين حَمْزَة بن القلانسي فِي جمع كَبِير من الْأَعْيَان وَالْفُقَهَاء والقراء إِلَى غازان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثالثه بعد الظّهْر فَلَقوهُ بالنبك وَهُوَ سَائِر فنزلوا عَن دوابهم وَمِنْهُم من قبل لَهُ الأَرْض. فَوقف غازان بفرسه لَهُم وَنزل جمَاعَة من التتار عَن خيولهم ووقف الترجمان وَتكلم بَينهم وَبَين غازان(2/321)
فسألوا الْأمان لأهل دمشق وَقدمُوا لَهُ مأكل كَانَت مَعَهم فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا وَقَالَ: قد بعثت إِلَيْكُم الْأمان وصرفهم فعادوا إِلَى الْمَدِينَة بعد الْعَصْر من الْجُمُعَة سَابِع الشَّهْر وَلم يخْطب بهَا فِي هَذِه الْجُمُعَة لأحد من الْمُلُوك. وَكَانَ قد وصل إِلَى دمشق فِي يَوْم الْخَمِيس سادس الشَّهْر أَرْبَعَة من التتار من جِهَة غازان وَمَعَهُمْ الشريف القمي وَكَانَ قد توجه قبل توجه الْجَمَاعَة هُوَ وَثَلَاثَة من أهل دمشق إِلَى غازان فَعَاد وَبِيَدِهِ أَمَان لأهل دمشق. ثمَّ قدم فِي يَوْم الْجُمُعَة سابعه بعد صَلَاة الْجُمُعَة الْأَمِير إِسْمَاعِيل التتري بِجَمَاعَة من التتر وَدخل الْمَدِينَة يَوْم السبت ليقْرَأ الفرمان بالجامع فَاجْتمع النَّاس وَقَرَأَ بعض الْعَجم الواصلين مَعَ الْأَمِير إِسْمَاعِيل الفرمان بتأمين الكافة وَعَاد إِسْمَاعِيل إِلَى منزله بَعْدَمَا صلى الْعَصْر. وَفِي يَوْم الْأَحَد: أَخذ أهل دمشق فِي جمع الْخَيل وَالْبِغَال وَالْأَمْوَال فَنزل غازان على دمشق يَوْم الْإِثْنَيْنِ عاشره وعاثت عساكره فِي الغوطة وَظَاهر الْمَدِينَة تهب وتفسد وَنزل قبجق وبكتمر السِّلَاح دَار. بِمن مَعَهُمَا فِي الميدان الْأَخْضَر وامتدت التتر إِلَى الْقُدس والكرك تنهب وتأسر. وَامْتنع الْأَمِير علم الدّين سنجر المنصوري الْمَعْرُوف باسم أرجواش بقلعة دمشق وَسَب قبجق وبكتمر سباً قبيحاً وَكَانَا قد تقدما إِلَيْهِ وأشارا عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ. وَفِي بكرَة يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشره: تقدم الْأَمِير إِسْمَاعِيل التتري إِلَى الْقُضَاة والأعيان بِالْحَدِيثِ مَعَ أرجواش فِي تَسْلِيم القلعة وَإنَّهُ إِن امْتنع نهب الْمَدِينَة وَوضع السَّيْف فِي الكافة. فَاجْتمع عَالم كَبِير وبعثوا إِلَى أرجواش فِي ذَلِك فَلم يجب وتكررت الرُّسُل بَينهم وَبَينه إِلَى أَن سبهم وجبههم وَقَالَ: قد وَقعت إِلَى بطاقة بِأَن السُّلْطَان قد جمع الجيوش بغزة وَهُوَ وَاصل عَن قريب وَفِي ثَانِي عشره: دخل الْأَمِير قبجق إِلَى الْمَدِينَة وَبعث إِلَى أرجواش فِي التَّسْلِيم فَلم يجب. وَفِيه كتبت عدَّة فرمانات إِلَى أرجواش من قبجق وَمن مقدم من مقدمي التتار ذكر إِنَّه رَضِيع الْملك غازان وَمن شيخ الشُّيُوخ نظام الدّين مَحْمُود بن على الشَّيْبَانِيّ وَغَيره فَلم يجب وَأخذ النَّاس فِي تحصين الدروب وَقد اشْتَدَّ خوفهم. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشره: خطب لغازان على مِنْبَر دمشق بألقابه وَهِي: السُّلْطَان الْأَعْظَم سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين مظفر الدُّنْيَا وَالدّين مَحْمُود غازان وَصلى(2/322)
جمَاعَة من الْمغل الْجُمُعَة. فَلَمَّا انْقَضتْ الْجُمُعَة صعد الْأَمِير قبجق والأمير إِسْمَاعِيل سدة المؤذنين وَقُرِئَ على النَّاس تَقْلِيد قبجق بِلَاد الشَّام كلهَا وهى مَدِينَة دمشق وحلب وحماة وحمص وَسَائِر الْأَعْمَال وَجعل إِلَيْهِ ولَايَة الْقُضَاة والخطباء وَغَيرهم. فَنثرَتْ على النَّاس الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وفرحوا بذلك فَرحا كثيرا وَجلسَ شيخ الشُّيُوخ نظام الدّين بِالْمَدْرَسَةِ العادية وعتب النَّاس لعدم ترددهم إِلَيْهِ ووعد بِالدُّخُولِ فِي صلح أُمُورهم مَعَ غازان وَطلب الْأَمْوَال وتعاظم إِلَى الْغَايَة واستخف بقبجق وَقَالَ: خَمْسمِائَة من قبجق مَا يكونُونَ فِي خَاتمِي. وَصَارَ نظام الدّين يضع من قلعة دمشق ويستهين بهَا وَيَقُول: لَو أردنَا أَخذهَا أخذناها من أول يَوْم وَكَانَ لَا يزَال الدبوس على كتفه وَلم يكن فِيهِ من أَخْلَاق الْمَشَايِخ مَا يمدح بِهِ بل أَخذ نَحْو الثَّلَاثِينَ ألف دِينَار برطيلاً حَتَّى قَالَ فِيهِ عَلَاء الدّين بن شيخ غازان مَا خلا أحد من تجرده وَغدا الْكل لابسي خرقَة الْفقر من يَده وَفِي خَامِس عشره: بَدَأَ التتر فِي نهب الصالحية حَتَّى أخذُوا مَا بالجامع والمدارس وَالتُّرَاب من الْبسط والقناديل ونبشوا على الخبايا فَظهر لَهُم مِنْهَا شَيْء كثير حَتَّى كَأَنَّهُمْ كَانُوا يعلمُونَ أماكنها فَمضى ابْن تَيْمِية فِي جمع كَبِير إِلَى شيخ الشُّيُوخ وَشَكوا ذَلِك فَخرج مَعَهم إِلَى حَيّ الصالحية فِي ثامن عشره ليتبين حَقِيقَة الْأَمر ففر التتر لما رَأَوْهُ والتجأ أهل الصالحية إِلَى دمشق فِي أَسْوَأ حَال. وَكَانَ سَبَب نهب الصالحية أَن متملك سيس بذل فِيهَا مَالا عَظِيما وَكَانَ قد قصد خراب دمشق عوضا عَن بِلَاده فتعصب الْأَمِير قبجق وَلم يُمكنهُ من الْمَدِينَة ورسم لَهُ بالصالحية فتسلمها متملك سيس وأحرق الْمَسَاجِد والمدارس وسبى وَقتل وأخرب الصالحية فبلغت عدَّة من قتل وَأسر مِنْهَا تِسْعَة أُلَّاف وَتِسْعمِائَة نفس. وَلما فرغوا من الصالحية صَار التتر إِلَى المزة وداريا ونهبوهما وَقتلُوا جمَاعَة من أهلهما فَخرج ابْن تَيْمِية فِي يَوْم الْخَمِيس عشريه إِلَى غازان بتل راهط ليشكو لَهُ مَا جرى من التتار بعد أَمَانه فَلم يُمكنهُ الِاجْتِمَاع بِهِ لشغله بالسكر فَاجْتمع بالوزيرين سعد الدّين ورشيد الدّين فَقَالَا: لابد من المَال فَانْصَرف. وَاشْتَدَّ الطّلب لِلْمَالِ على أهل دمشق وَاسْتمرّ الْحصار وَتعين نصب المنجنيق على القلعة بالجامع وهيموا أخشابه(2/323)
وَلم يبْق إِلَّا نَصبه. فَبلغ ذَلِك أرجواش فَبعث طَائِفَة هجمت على الْجَامِع على حمية وأفسدت مَا تهَيَّأ فِيهِ فَأَقَامَ التتر منجنيقاً آخر بالجامع واحترزوا عَلَيْهِ. وَاتَّخذُوا الْجَامِع حانة يزنون ويلوطون وَيَشْرَبُونَ الْخمر فِيهِ وَلم تقم بِهِ صَلَاة الْعشَاء فِي بعض اللَّيَالِي وَنهب التتر مَا حول الْجَامِع من السُّوق. فَانْتدبَ رجل من أهل القلعة لقتل المنجنيقي وَدخل الْجَامِع والمنجنيقي فِي تَرْتِيب المنجنيق والمغل حوله فهجم عَلَيْهِ وضربه بسكين فَقتله. وَكَانَ مَعَه جمَاعَة تفَرقُوا فِي الْمغل يُرِيدُونَ قَتلهمْ فَفرُّوا وخلص الرجل بِمن مَعَه إِلَى القلعة سالما. وَأخذ أرجواش فِي هدم مَا حول القلعة من العمائر والبيوت وصيروها دكا لِئَلَّا يسْتَتر الْعَدو فِي المنازلة بجدرانها فَأحرق ذَلِك كُله وهدمه من بَاب النَّصْر إِلَى بَاب الْفرج وَشَمل الحرق دَار الحَدِيث الأشرفية وعدة مدارس إِلَى العادلية وأحرق أَيْضا بِظَاهِر الْبَلَد شَيْء كثير وأحرق جَامع التَّوْبَة بالعقيبة وعدة قُصُور وجواسق وبساتين. وَاشْتَدَّ الْأَمر فِي طلب المَال وغلت الأسعار حَتَّى أبيع الْقَمْح بثلاثمائة وَسِتِّينَ درهما الغرارة وَالشعِير. بِمِائَة وَثَمَانِينَ درهما والرطل الْخبز بِدِرْهَمَيْنِ والرطل اللَّحْم بِاثْنَيْ عشر درهما والرطل الْجُبْن بِاثْنَيْ عشر درهما والرطل الزَّيْت بِسِتَّة دَرَاهِم وكل أَربع بيضات بدرهم ووزعت الْأَمْوَال فقرر على سوق الخواصين مائَة وَثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم وعَلى سوق الرماحين مائَة ألف دِرْهَم وعَلى سوق على مائَة ألف دِرْهَم وعَلى سوق النحاسين سِتُّونَ ألف دِرْهَم وعَلى قيسارية الشّرْب مائَة ألف دِرْهَم وعَلى سَوف الذهبيين ألف وَخَمْسمِائة دِينَار وَقرر على أَعْيَان الْبَلَد تَكْمِلَة ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار جبيت من حِسَاب أَرْبَعمِائَة ألف ورسم على كل طَائِفَة جمَاعَة من الْمغل فَضربُوا النَّاس وعصروهم وأذاقوهم الخزي والذل. وَكثر مَعَ ذَلِك الْقَتْل والنهب فِي ضواحي دمشق حَتَّى يُقَال إِنَّه قتل من الْجند والفلاحين والعامة نَحْو الْمِائَة ألف إِنْسَان فَقَالَ فِي ذَلِك كَمَال الدّين ابْن قَاضِي شُهْبَة: رمتنا صروف الدَّهْر مِنْهَا بِسبع فَمَا أحد منا من السَّبع سَالم غلاء وغازان وغزو ى غَارة وغدر وإغبان وغم ملازم وَقَالَ الشَّيْخ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن على الزملكاني أَيْضا: لهفي على جلق يَا سوء مَا لقِيت من كل علج لَهُ فِي كفره فن بالطم والرم جَاءُوا لَا عديد لَهُم فالجن بَعضهم والحن والبن(2/324)
وَكَانَ مَا حمل لخزانة غازان وَحده على يَد وجيه الدّين بن المنجا مبلغ ثَلَاثَة آلَاف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم سوى السِّلَاح وَالثيَاب وَالدَّوَاب والغلال وَسوى مَا نهبته التتار فَإِنَّهُ كَانَ يخرج إِلَيْهِم من بَاب شَرْقي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة غرارة. ورسم غازان بِأخذ الْخُيُول وَالْجمال فَأخْرج من الْمَدِينَة زِيَادَة على عشْرين ألف حَيَوَان وَأخذ الْأَصِيل بن النصير الطوسي منجم غازان وناظر أوقاف التتار عَن أُجْرَة النّظر بِدِمَشْق مِائَتي ألف دِرْهَم وَأخذ الصفي السنجاري الَّذِي تولى الاستخراج لنَفسِهِ مائَة ألف دِرْهَم وَهَذَا سوى مَا استخرج للأمير قبجق والأمراء الْمغل وَسوى الْمُرَتّب لغازان فِي كل يَوْم. فَلَمَّا انْتَهَت الجباية أقرّ غازان فِي نِيَابَة دمشق الْأَمِير قبجق وَفِي نِيَابَة حلب وحماة وحمص الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار وَفِي نِيَابَة صفد وطرابلس والساحل الْأَمِير الألبكي. وَجعل مَعَ كل وَاحِد عدَّة من الْمغل وَأقَام مقدما عَلَيْهِم لحماية الشَّام قطلوشاه وجرد عشْرين ألفا من عسكره مَعَ أَرْبَعَة من الْمغل بالأغوار. ورحل غازان فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى وَترك على دمشق نَائِبه قطلوشاه نازلاً بِالْقصرِ وَأخذ وزيره من أَعْيَان دمشق بدر الدّين مُحَمَّد بن فضل الله وعلاء الدّين على بن شرف الدّين مُحَمَّد بن القلانسي وَشرف الدّين مُحَمَّد بن شمس الدّين سعيد بن مُحَمَّد سعيد بن الْأَثِير. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت ثَالِث عشره: بعد رحيل غازان أَمر التتر الَّذين بِدِمَشْق أَن يخرج من كَانَ فِي الْمدرسَة العادلية فَكَانَ إِذا خرج أحد أخذُوا مِنْهُ مَا يَقع اختيارهم عَلَيْهِ بعد التفتيش ثمَّ دخلُوا فكسروا أَبْوَاب الْبيُوت ونهبوا مَا فِيهَا وَوَقع النهب فِي الْمَدِينَة فَأخذُوا نَحوا مِمَّا استخرج من الْأَمْوَال أَولا وأحرقوا كثيرا من الدّور والمدارس: فاحترقت دَار الحَدِيث الأشرفية وَمَا حولهَا وَدَار الحَدِيث النورية والعادلية الصُّغْرَى وَمَا جاورها والقيمرية وَمَا جاورها إِلَى دَار السَّعَادَة وَإِلَى المارستان النوري وَمن الْمدرسَة الدماغية إِلَى بَاب الْفرج. وَأخذُوا مَا حول القلعة وركبوا الأسطحة ليرموا بالنشاب على القلعة فَأحرق عِنْد ذَلِك أرجواش مَا حول القلعة وَخَرَّبَهُ كَمَا تقدم وَاسْتمرّ قطلوشاه مقدم التتار يحاصر القلعة. وَفِي تَاسِع عشره: قرئَ بالجامع كتاب تَوْلِيَة قبجق نِيَابَة الشَّام وَكتاب بتولية الْأَمِير نَاصِر الدّين يحيى بن جلال الدّين الختني الوزارة. وَفِي حادي عشريه: احترقت الْمدرسَة العادلية.(2/325)
فَلَمَّا عدى غازان الْفُرَات أَشَارَ قبجق وبكتمر السِّلَاح دَار على قطلوشاه أَن يتَحَوَّل عَن دمشق إِلَى حلب بِمن مَعَه من التتار وَجمع قبجق لَهُ مَالا من النَّاس وَسَار قطلوشاه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشرى جُمَادَى الأولى وَترك طَائِفَة من التتر بِدِمَشْق وَخرج قبجق لوداعه وَعَاد فِي خَامِس عشريه وَنزل بِالْقصرِ. الأبلق وَنُودِيَ فِي سادس عشريه أَلا يخرج أحد إِلَى الْجَبَل والغوطة وَلَا يغرر بِنَفسِهِ ثمَّ نُودي بِخُرُوج أهل الضّيَاع إِلَى ضياعهم. وَفِي تَاسِع عشريه: تحول الْأَمِير قبجق إِلَى الْمَدِينَة وَأقَام بهَا. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء أول جُمَادَى الْآخِرَة: نُودي بِخُرُوج النَّاس إِلَى الصالحية وَغَيرهَا فَخَرجُوا إِلَى أماكنهم وَفتحت الْأَسْوَاق وأبواب الْمَدِينَة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رابعه: دقَّتْ البشائر بالقلعة. وَفِي سابعه: أَمر قبجق جمَاعَة من أَصْحَابه وَأمر بإدارة الخمارة بدار ابْن جَرَادَة فظهرت الْخُمُور وَالْفَوَاحِش وضمنت فِي كل يَوْم بِأَلف دِرْهَم. هَذَا وَقد نهبت التتار الأغوار حَتَّى بلغُوا إِلَى الْقُدس وعبروا غَزَّة وَقتلُوا بجامعها خَمْسَة عشر رجلا وعادوا إِلَى دمشق وَقد أَسرُّوا خلقا كثيرا فَخرج إِلَيْهِم ابْن تَيْمِية ومازال يُحَدِّثهُمْ حَتَّى أفرجوا عَن الأسرى ورحلوا عَن دمشق يُرِيدُونَ بِلَادهمْ فِي ثَانِي رَجَب. وَأما السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فَإِن العساكر تَفَرَّقت عَنهُ وَقت الْهَزِيمَة وَلم يبْق مَعَه إِلَّا بعض خواصه والأميرين زين الدّين قراجا وَسيف الدّين بكتمر الحسامي أَمِير أخور فِي نفر يسير. وَبَالغ بكتمر مُدَّة السّفر إِلَى مصر فِي خدمَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَمَاله فَكَانَ يركبه وينزله ويشد خيله وَيَشْتَرِي لَهَا العليق ويسقيها إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْخدمَة حَتَّى قدم إِلَى قلعة الْجَبَل يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر ربيع الآخر. ثمَّ ترادفت العساكر إِلَى الديار المصرية شَيْئا بعد شَيْء فِي أَسْوَأ حَال وَكَانَ مِمَّن قدم مَعَهم الْملك الْعَادِل كتبغا وَصَارَ يمشي فِي خدمَة الْأَمِير سلار نَائِب السلطة وَيجْلس بَين يَدَيْهِ ويرمل عَلَيْهِ إِذا علم على المناشير وَغَيرهَا. وَاتفقَ مَعَ ذَلِك إِنَّه لما كَانَ كتبغا سُلْطَانا نُودي على جوسن للْبيع فَبلغ ثمنه على بيبرس الجاشنكير أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ عرض على كتبغا وَقيل لَهُ إِنَّه على بيبرس بِكَذَا فَقَالَ: وَهَذَا يصلح لذاك الخرياطي وَأخذ الجوسن بِثمنِهِ. فَلَمَّا زَالَت أَيَّامه صَار الجوسن لبيبرس بعد لاجين(2/326)
فَأَرَادَ نكاية كتبغا وأحضر الجوسن وكتبغا عِنْده ولبسه وَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير إيش تَقول يصلح هَذ لي فَلم يفْطن كتبغا لما أَرَادَ وَقَالَ لَهُ: وَالله يَا أَمِير هَذَا كَأَنَّهُ فصل لَك فَنظر بيبرس إِلَى الْأُمَرَاء يُشِير إِلَيْهِم فَاشْتَدَّ عجبهم من تغير الْأَحْوَال فَلم يُشَاهد أعجب من ذَلِك. وأقيم العزاء فِي النَّاس لمن فقد وَكَانُوا خلقا كثيرا. ثمَّ أَخذ السُّلْطَان النَّاصِر فِي التَّجْهِيز للمسير إِلَى الشَّام ثَانِيًا وَشرع الْأُمَرَاء فِي الاهتمام بِأَمْر السّفر وجمعوا صناع السِّلَاح للْعَمَل. وَأخذ الْوَزير فِي جمع الْأَمْوَال للنَّفَقَة وَكتب إِلَى أَعمال مصر بِطَلَب الْخَيل والرماح وَالسُّيُوف من سَائِر الْوَجْهَيْنِ القبلي والبحري فَبلغ الْقوس الَّذِي كَانَ يُسَاوِي ثَلَاثمِائَة دِرْهَم إِلَى ألف دِرْهَم وَأخذت خُيُول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية وَطلبت الْجمال والهجن وَالسِّلَاح وَنَحْو ذَلِك. فأبيع مَا كَانَ. بِمِائَة بسبعمائة وبألف وَنُودِيَ بِحُضُور الأجناد البطالين فَحَضَرَ خلق كثير من الصنائعية ونزلوا أَسْمَاءَهُم فِي البطالين. وَفرقت أخباز المفقودين ورسم لكل من أُمَرَاء الألوف بِعشْرَة من البطالين يقوم بأمرهم وَلكُل من الطبلخاناه بِخَمْسَة وَلكُل من العشراوات برجلَيْن. واستخدم جمَاعَة من الْأُمَرَاء الْغُزَاة المطوعة احتساباً. واستدعى مجدي الدّين عِيسَى بن الخشاب نَائِب الْحِسْبَة ليَأْخُذ فَتْوَى الْفُقَهَاء بِأخذ المَال من الرّعية للنَّفَقَة على العساكر فأحضر فَتْوَى الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام للْملك المظفر قطز بِأَن يُؤْخَذ من كل إِنْسَان دِينَار فرسم لَهُ سلار بِأخذ خطّ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد فأبي أَن يكْتب بذلك فشق هَذَا على سلار واستدعاه وَقد حضر عِنْده الْأُمَرَاء وشكا إِلَيْهِ قلَّة المَال وَأَن الضَّرُورَة دعت إِلَى أَخذ مَال الرّعية لأجل دفع الْعَدو وَأَرَادَ مِنْهُ أَن يكْتب على الْفَتْوَى بِجَوَاز ذَلِك فَامْتنعَ فاحتج عَلَيْهِ ابْن الخشاب بفتوى ابْن عبد السَّلَام فَقَالَ: لم يكْتب ابْن عبد السَّلَام للْملك المظفر قطز حَتَّى أحضر سَائِر الْأُمَرَاء مَا فِي ملكهم من ذهب وَفِضة وحلي نِسَائِهِم وَأَوْلَادهمْ هم ورأه وَحلف كلا مِنْهُم إِنَّه لَا يملك سوى هَذَا كَانَ ذَلِك غير كَاف فَعِنْدَ ذَلِك كتب بِأخذ الدِّينَار من كل وَاحِد. وَأما الْآن فيبلغني أَن كلا من الْأُمَرَاء لَهُ مَال جزيل وَفِيهِمْ من يُجهز بَنَاته بالجواهر واللآلئ وَيعْمل الْإِنَاء الَّذِي يستنجي مِنْهُ فِي الْخَلَاء من فضَّة ويرصع مداس زَوجته بأصناف الْجَوَاهِر وَقَامَ عَنْهُم فَطلب نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة ورسم لَهُ بِالنّظرِ فِي أَمْوَال التُّجَّار ومياسير النَّاس وَأخذ مَا يقدر عَلَيْهِ من كل مِنْهُم بِحَسب حَاله. فَمَا أهل جُمَادَى الأولى حَتَّى استجد عَسْكَر كَبِير وغصت الْقَاهِرَة ومصر وَمَا بَينهمَا بِكَثْرَة من ورد من الْبِلَاد الشامية حَتَّى ضَاقَتْ بهم المساكن ونزلوا بالقرافة(2/327)
(سقط الصفحة رقم 328 من وحول جَامع ابْن طولون وطرف الحسينية ... . مَا تجدّد من الْمُنْكَرَات، وأغلق الخمارات وأراق)(2/328)
الْخُمُور وشق ظروفها على يَد ابْن تَيْمِية. وعندما تكملت النَّفَقَة على العساكر نُودي بِالْقَاهِرَةِ ومصر بِالسَّفرِ وَمن تَأَخّر شنق ورسم أَن يكون سعر الدِّينَار عشْرين درهما. وَخرج السُّلْطَان فِي تَاسِع رَجَب فَسَار إِلَى الصالحية وقدمت إِلَيْهِ كتب الْأَمِير قبجق وبكتمر السِّلَاح دَار والألبكي بقدومهم صُحْبَة عز الدّين حَمْزَة بن القلانسي والشريف ابْن عدنان فَأَقَامَ السُّلْطَان بالصالحية. وَسَار الأميران سلار نَائِب السلطنة وبيبرس الجاشنكير الأستادار بالعساكر إِلَى دمشق فِي ثَانِي عشرى رَجَب فَلَقوا الْأَمِير قبجق وَمن مَعَه بَين غَزَّة وعقلان فترجل كل مِنْهُم لصَاحبه وتباركوا وأنزلوا ورتب لَهُم مَا يَلِيق بهم وَأمرُوا بالتوجه إِلَى السُّلْطَان وَسَار الْأُمَرَاء بالعساكر إِلَى دمشق. فَقدم قبجق بِمن مَعَه إِلَى الصالحية فِي عَاشر شعْبَان فَركب السُّلْطَان إِلَى لقائهم وَبَالغ فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وأنزلهم ثمَّ سَار بهم إِلَى قلعة الْجَبَل فَقَدمهَا فِي رَابِع عشره. وَدخل الْأَمِير جمال الدّين أقش الأفرم إِلَى دمشق فِي يَوْم السبت عَاشر شعْبَان. وَفِي حادي عشره: قدم إِلَيْهَا الْأَمِير قرا سنقر المنصوري نَائِب حلب بعساكرها وَقد اسْتَقر عوضا عَن بلبان الطباخي وَاسْتقر الطباخي من أُمَرَاء مصر بِالْخدمَةِ السُّلْطَانِيَّة على إقطاع أقسنقر كرتاي بعد مَوته. وَدخل الْأَمِير أسندمر كرجي نَائِب الفتوحات الطرابلسية بعساكرها وَقد اسْتَقر عوضا عَن الْأَمِير قطلوبك. وَفِي ثَانِي عشره: قدمت ميسرَة العساكر المصرية ومقدمها الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح. وَفِي ثَالِث عشره: قدمت ميمنة العساكر المصرية مَعَ الْأَمِير حسام الدّين لاجين أستادار. وَفِي رَابِع عشره: قدم الْأَمِير سلار النَّائِب والمماليك السُّلْطَانِيَّة وَالْملك الْعَاد ل كتبغا - وَقد اسْتَقر فِي نِيَابَة حماة عوضا عَن قرا سنقر الْمُنْتَقل لنيابة حلب - والأمير كراي المنصوري المستقر فِي نِيَابَة صفد. وَنزل الْأَمِير سلار بالميدان وَجلسَ فِي دَار الْعدْل بِحُضُور الْأُمَرَاء والقضاة وخلع(2/329)
على الصاحب عز الدّين حَمْزَة بن القلانسى. وَفِي خَامِس عشره: ولى سلار قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة قَضَاء دمشق عوضا عَن إِمَام الدّين عمر بن سعد الدّين الكرجي الْقزْوِينِي القونوي بعد وَفَاته. وَفِي حادي عشريه: ولى قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن صفي الدّين الحريري قَضَاء الْحَنَفِيَّة وَولى الْأَمِير سيف الدّين أقبجا المنصوري شدّ الدَّوَاوِين وَولي عز الدّين أيبك النجيبي بر دمشق وَولي أَمِين الدّين يُوسُف الرُّومِي إِمَام الْمَنْصُور لاجين حسبَة دمشق وَولي تَاج الدّين بن الشِّيرَازِيّ نظر الدَّوَاوِين. وسير سلار عسكراً إِلَى حلب فطرقها على غَفلَة وأوقع. بِمن فِيهَا من أَصْحَاب غازان وقتلهم فَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وَلَحِقُوا بغازان وعرفوه غدر قبجق بهم. وَتوجه الْملك الْعَادِل كتبغا إِلَى حماة بَعْدَمَا كَانَ يركب فِي دمشق بِخِدْمَة الْأَمِير سلار وَيجْلس بَين يَدَيْهِ كَمَا كَانَ يفعل بِالْقَاهِرَةِ فشاهد النَّاس من ذَلِك مَا فِيهِ أعظم عِبْرَة وَقدم كتبغا حماة فِي رَابِع عشرى شعْبَان وَاسْتقر كل نَائِب فِي مَمْلَكَته. وَكَانَ السّعر بِدِمَشْق غالياً فانحطت الغرارة الْقَمْح من ثَلَاثمِائَة دِرْهَم إِلَى مائَة وَخمسين وأبيع اللَّحْم الضَّأْن بِدِرْهَمَيْنِ الرطل الدِّمَشْقِي. وتتبع الْأَمِير جمال الدّين أقش الأفرم نَائِب السلطنة بِالشَّام من كَانَ بِدِمَشْق من المفسدين الَّذين توَلّوا اسْتِخْرَاج المَال فِي أَيَّام غازان من النَّاس وَالَّذين دلوا على عورات النَّاس. فسمر بَعضهم وشنق بَعضهم وَقطع أَيدي جمَاعَة وأرجلهم وَمن المفسدين من قطع لِسَانه وكحل فَمَاتَ من يَوْمه. وخلع سلار على الْأَمِير أرجواش نَائِب القلعة وأنعم عَلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَطلبت مَشَايِخ قيس ويمن من العشير والعربان وألزموا بإحضار مَا أَخذ من الْعَسْكَر وَأهل الْبِلَاد فِي توجههم إِلَى مصر وَقت الجفلة. وَكَانَ غازان لما أَخذ الْبِلَاد وَعَاد إِلَى الشرق طمع الأرمن فِي الْبِلَاد الَّتِي افتتحها الْمُسلمُونَ وَأخذُوا تل حمدون وَغَيرهَا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ الْأَحْوَال بِبِلَاد الشَّام خرج الأميران بيبرس وسلار بعسكر مصر من دمشق يَوْم السبت ثامن شهر رَمَضَان يُريدَان مصر فوصلا قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث شَوَّال بَعْدَمَا ركب السُّلْطَان إِلَى لقائهم وَكَانَ يَوْمًا مشهودًا.(2/330)
وعندما اسْتَقر الْأُمَرَاء سَأَلَ الْأَمِير قبجق أَن ينعم عَلَيْهِ بنيابة الشوبك فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وخلع عَلَيْهِ. وأنعم على الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار بإمرة مائَة بديار مصر وعَلى الْأَمِير فَارس الدّين ألبكي الساقي بإمرة مائَة بِدِمَشْق. وَفِي عشرى شَوَّال: توجه الْأَمِير أقش الأفرم من دمشق لغزو الدرزية أهل جبال كسروان فَإِن ضررهم اشْتَدَّ ونال الْعَسْكَر عِنْد إنهزامها من غازان إِلَى مصر مِنْهُم شَدَائِد ولقيه نَائِب صفد بعسكره ونائب حماة ونائب حمص ونائب طرابلس بعساكرهم. فَاسْتَعدوا لقتالهم وامتنعوا بجبلهم وَهُوَ صَعب المرتقى وصاروا فِي نَحْو اثْنَي عشر آلف رام. فزحفت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فَلم تطقهم وجرح كثير مِنْهُم فافترقت العساكر عَلَيْهِم من عدَّة جِهَات وقاتلوهم سِتَّة أَيَّام قتالًا شَدِيدا إِلَى الْغَايَة فَلم يثبت أهل الْجبَال وانهزموا. وَصعد الْعَسْكَر الْجَبَل بَعْدَمَا قتل مِنْهُم وَأسر خلقا كثيرا وَوضع السَّيْف فيهم فالقوا السِّلَاح وَنَادَوْا الْأمان فكفوا عَن قِتَالهمْ. واستدعوا مشايخهم وألزموهم بإحضار جَمِيع مَا أَخذ من الْعَسْكَر وَقت الْهَزِيمَة فأحضروا من السِّلَاح والقماش شَيْئا كثيرا وحلفوا إِنَّهُم لم يخفوا شَيْئا فقرر عَلَيْهِم الْأَمِير أقش الأفرم مبلغ مائَة ألف دِرْهَم جبوها وَأخذ عدَّة من مشايخهم وأكابرهم وَعَاد إِلَى دمشق يَوْم الْأَحَد ثَالِث ذِي الْقعدَة وَبعث الْبَرِيد بالْخبر إِلَى السُّلْطَان. وألزم الْأَمِير أقش الأفرم أهل دمشق بتعليق السِّلَاح فِي الحوانيت وملازمة الرَّمْي بالنشاب وَنُودِيَ بذلك. وألزم قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة فُقَهَاء دمشق بذلك وَجلسَ لعرض النَّاس فِي حادي عشريه وَعرض الكافة طَائِفَة بعد طَائِفَة من الْأَشْرَاف وَالْفُقَهَاء وَأهل الْأَسْوَاق وَقدم على أهل الْأَسْوَاق رجَالًا يَلِي كل رجل سوقاً. وتتبع النَّاس بديار بكر التتر فَقتلُوا مِنْهُم وَلم تخرج هَذِه السّنة إِلَّا وَأهل دمشق فِي فقر مدقع وَفِي ذَلِك يَقُول عَلَاء الدّين على ابْن مظفر الوداعي: أما دمشق فأهلها قد أصب بكرية جعلُوا التسنن مذهبا سرا وجهراً أَنْفقُوا أَمْوَالهم حَتَّى تجلل كل شخص بالعبا(2/331)
مَا لبست الصُّوف من عَبث لَا وَلَا الخلقان مجَّانا إِنَّه زِيّ لمن هُوَ من فُقَرَاء الشَّيْخ غازنا وَذهب لأهل مصر مَال كثير فِي حَرَكَة غازان إِلَّا إِنَّهُم لسعة أَحْوَالهم لم يبالوا بذلك. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر عَلَاء الدّين أَحْمد بن تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن خلف بن مَحْمُود بن بدر العلامي الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز الشَّافِعِي درس بالكهارية والقطبية من الْقَاهِرَة وَولي الْحِسْبَة وَكَانَ أديباً فصيحاً جميلا فِيهِ مَكَارِم ومروءة لطيف المزاج بساما شهمًا جزلا حج وَدخل الْيمن مرَارًا وَمن شعره فِي مليح سبح فِي النّيل وتلطخ بِالتُّرَابِ: فَكَأَنَّهُ بدر عَلَيْهِ سَحَابَة وَالتُّرَاب ليل من سناه أقمرا وَقَالَ: فِي السمر معَان لاترى فِي الْبيض تالله لقد نصحت فِي تَعْرِيض مَا الشهد إِذا أطعمته كاللبن يَكْفِي فطنا محَاسِن التَّعْرِيض وَمَات شهَاب الدّين احْمَد بن الْفرج بن أَحْمد اللَّخْمِيّ الإشبيلي ولد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة. وتفقه على ابْن عبد السَّلَام بِدِمَشْق وَكَانَ شافعياً وَله قصيدة فِي علم الحَدِيث. وَمَات الْأَمِير صارم الدّين أزبك نَائِب قلعة بلاطنس وَاسْتشْهدَ فِي نوبَة غازان على حمص فِي ثامن عشرى ربيع الأول. وَمَات الْأَمِير أقش كرجي المطروحي الْحَاجِب. وَمَات أقسنقر كرتاي أحد أُمَرَاء الألوف. وَمَات الْأَمِير بلبان التَّقْوَى أحد أُمَرَاء طرابلس. وَتُوفِّي كَاتب السِّرّ عماد الدّين أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن التَّاج أَحْمد بن سعيد بن مُحَمَّد ابْن الْأَثِير الْحلَبِي بَعْدَمَا صرف.(2/332)
وَمَات الْفَقِير المعتقد بدر الدّين أَبُو على الْحسن بن عضد الدولة أبي الْحسن على أخي المتَوَكل على الله أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود فِي شعْبَان ومولده بمرسية سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة كَانَ أَبوهُ نَائِب السلطنة بهَا عَن المتَوَكل فتزهد هُوَ وَحج وَسكن دمشق وَكَانَت لَهُ أَحْوَال عَجِيبَة. وَمَات بيبرس الغتمي نَائِب حصن المرقب. وَمَات بكتاش المنصوري الطيار أحد أُمَرَاء دمشق. وَمَات نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أيدمر الْحلَبِي أحد أُمَرَاء مصر. وَمَات نوكاي بن بَيَان التتري أَبُو خوند منكبك امْرَأَة الصَّالح على بن قلاوون وَأَبُو خوند أردكين امْرَأَة الْأَشْرَف خَلِيل. وَمَات عَلَاء الدّين على ابْن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن معضاد الجعبري. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْحلِيّ. وَهَؤُلَاء اسْتشْهدُوا بوقعة حمص مَا بَين قَتِيل فِي المعركة ومجروح مَاتَ من جراحته بعد ذَلِك. وَمَات الطواشي حسام الدّين بِلَال المغيثي الجلالي. بِمَنْزِلَة السوادة فِي تَاسِع ربيع الآخر فَدفن بقطيا ثمَّ نقل إِلَى تربته بالقرافة وَكَانَ خيرا دينا. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين جاغان الحسامي بِأَرْض البلقان. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة إِمَام الدّين عمر بن سعد الدّين عبد الرَّحْمَن بن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي الشَّافِعِي قَاضِي قُضَاة دمشق بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشرى ربيع الآخر. وَمَات تَاج الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم بن منجا بن على الْبكْرِيّ التَّيْمِيّ الْقرشِي النويري فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة وَهُوَ وَالِد الشهَاب أَحْمد النويري المؤرخ الْكَاتِب. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن صدر الدّين سُلَيْمَان بن أبي الْعِزّ وهيب الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق فِي. وَمَات حسام الدّين أَبُو الْفَضَائِل حسن بن تَاج الدّين أبي المفاخر أَحْمد بن حسن بن أَبُو شَرّ وان الرُّومِي قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ ومصر ودمشق فقد من الصَّفّ على(2/333)
حمص يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى ربيع الأول فَلم يعرف لَهُ خبر وعمره نَحْو السّبْعين سنة. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين قطلوبرس العادلي مشنوقاً بِدِمَشْق ظفر بِهِ بعد هروبه. وَمَات شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن على بن عِيسَى بن الْحسن اللَّخْمِيّ عرف بِابْن الصَّيْرَفِي فِي خَامِس عشرى ذِي الْحجَّة وَهُوَ فِي عشر التسعين.(2/334)
سنة سَبْعمِائة أهلت هَذِه السّنة وَقد ورد الْخَبَر بحركة غازان إِلَى بِلَاد الشَّام فَوَقع الاهتمام بِالسَّفرِ. واستدعى السُّلْطَان الْوَزير شمس الدّين سنقر الأعسر والأمير نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن الشيخي والى الْقَاهِرَة وأمرا باستخراج الْأَمْوَال من النَّاس وَكتب إِلَى الشَّام بذلك. فشرعا فِي الاستخراج وألزم أَرْبَاب العقارات والأغنياء. بِمَال تقرر على كل مِنْهُم وجلسا بدار الْعدْل تَحت القلعة حَيْثُ الطبلخاناه الْآن وَالنَّاس تحمل المَال أَولا بِأول حَتَّى أخذا مائَة ألف دِينَار جبيت من الْقَاهِرَة ومصر والوجهين القبلي والبحري فَنزل بِالنَّاسِ ضَرَر عَظِيم. وَطلب من شُهُود الْقَاهِرَة ومصر الجالسين بالحوانيت مبلغ أَرْبَعِينَ دِينَارا من كل عَائِد وَعشْرين دِينَارا من كل شَاهد فَقَامَ فِي أَمرهم قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف الْمَالِكِي حَتَّى أعفوا مِنْهُ. وَانْطَلَقت الألسن بِالشَّام ومصر فِي حق أهل الدولة واستخف الْعَامَّة بالأجناد وَأَكْثرُوا من قَوْلهم للجند: بالْأَمْس كُنْتُم هاربين وَالْيَوْم تُرِيدُونَ أَخذ أَمْوَالنَا فَإِن أجابهم الجندي قَالُوا لَهُ: لم لَا كَانَت هَذِه الْحُرْمَة فِي الْمغل الَّذين فعلوا بكم كَيْت وَكَيْت وهربتم مِنْهُم فَلَمَّا فحش أَمر الْعَامَّة فِي تجرئهم على الأجناد نُودي فِي الْقَاهِرَة ومصر: أَي عَامي تكلم مَعَ جندي كَانَت روحه وَمَاله للسُّلْطَان. واستخرج من دمشق أُجْرَة الْأَمْلَاك والأوقاف لأربعة أشهر فَأخذ ذَلِك من سَائِر مَا فِي الْمَدِينَة وضواحيها وَأخذ من الضّيَاع عَن كل مدى سِتَّة دَرَاهِم وَثلثا دِرْهَم وَالْمدّ أَرْبَعُونَ ذِرَاعا فِي مثلهَا وتكسيره ألف وسِتمِائَة ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل وَطلب من الفلاحين نَظِير مغل سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأخذ من الْأَغْنِيَاء ثلث أَمْوَالهم. فَنزلت بِالنَّاسِ شَدَائِد وَقَطعُوا الْأَشْجَار المثمرة وباعوها حطبًا حَتَّى أبيع القنطار الْحَطب الدِّمَشْقِي بِثَلَاثَة دَرَاهِم يخرج مِنْهَا فِي أُجْرَة قطعه دِرْهَم وَنصف. فخربت الغوطة من ذَلِك وفر كثير من النَّاس إِلَى مصر. فَلَمَّا جبيت الْأَمْوَال بِدِمَشْق استخدم السُّلْطَان عدَّة ثَمَانمِائَة من التركمان والأكراد(2/335)
وَدفع لكل وَاحِد سِتّمائَة دِرْهَم فهرب أَكْثَرهم لما علمُوا بوصول التتار الْفُرَات وَذهب المَال وَلم يجد نفعا. واستخدم السُّلْطَان بِمصْر عدَّة كَبِيرَة من أهل الصَّنَائِع وَنَحْوهم. وَنزل الْأُمَرَاء فِي الخيم. بميدان القبق لعرض الْعَسْكَر بخيولهم ورماحهم حَتَّى تعْتَبر أَحْوَالهم وعرضوا فِي كل يَوْم عشرَة مقدمين من الْحلقَة. بمضافيهم فَقطعُوا يَسِيرا مِنْهُم ثمَّ أَبقوا الْجَمِيع لما داجى عَلَيْهِم المقدمون فِي أَمر الْجند حَتَّى اقروا من هُوَ دخيل فيهم. وأنهوا الْعرض فِي عشْرين يَوْمًا ورميت الإقامات. وَهَذَا وَقد امْتَلَأت أَرض مصر بالجفلى من الْبِلَاد الشامية ورخصت الأسعار عِنْد قدومهم حَتَّى أبيع وَخرج السُّلْطَان من القلعة يَوْم السبت ثَالِث عشر صفر إِلَى الريدانية خَارج الْقَاهِرَة وتلاحقت بِهِ الْأُمَرَاء والعساكر فَسَار إِلَى غَزَّة وَأقَام بهَا يَوْمَيْنِ.
(فورد الْخَبَر)
بمسير غازان بعد عبوره من الْفُرَات إِلَى نَحْو أنطاكية وَقد جفل النَّاس بَين يَدَيْهِ. وخلت بِلَاد حلب وفر قرا سنقر نائبها إِلَى حماة وبرز كتبغا نَائِب حماة ظَاهرهَا فِي ثَانِي عشرى ربيع الأول وَوصل إِلَيْهِم عَسَاكِر مصر وَالشَّام فأقاموا خَارج حماة. وَأمر السُّلْطَان الجيوش بِالْمَسِيرِ من غَزَّة فَوَقع الرحيل إِلَى العوجاء. وَأصَاب الْعَسْكَر فِيهَا شَدَائِد من الأمطار الَّتِي توالت أحدا وَأَرْبَعين يَوْمًا حَتَّى عدم فِيهَا الْوَاصِل وَاشْتَدَّ الغلاء. وأضعف الْبرد الدَّوَابّ والغلمان وَبلغ الْحمل التِّبْن إِلَى أَرْبَعِينَ درهما والعليقة الشّعير ثَلَاثَة دَرَاهِم وَالْخبْز كل ثَلَاثَة أرغفة بدرهم وَاللَّحم كل رَطْل بِثَلَاثَة دَرَاهِم. وعقب الْمَطَر سيل عَظِيم أتلف مُعظم الأثقال وَمَات جمَاعَة من الغلمان وَأَرْبَعَة من الْجند لشدَّة الْبرد. ثمَّ وَقع الرحيل فِي الأوحال الْعَظِيمَة. فَقدم الْبَرِيد من حلب بِأَن غازان توجه من جبال أنطاكية إِلَى جبال السماق وَأَنه عَاد على قُرُون حماة وشيزر فنهب وسبى عَظِيما وَأخذ مَالا كَبِيرا من(2/336)
الْمَوَاشِي وَغَيرهَا وَأَنه قصد التَّوَجُّه إِلَى دمشق فَأرْسل الله عَلَيْهِ ثلوجاً وأمطاراً لم يعْهَد مثلهَا وَوَقع فِي خُيُول عساكره وجمالهم الموتان حَتَّى كَانَت عدَّة جشار غازان اثنى عشر ألف فرس فَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا نَحْو الألفي فرس وَبَقِي مُعظم عساكره بِغَيْر خُيُول فَرجع وَأَكْثَرهم مرتدفون بَعضهم بَعْضًا وَأَن غازان خَاضَ الْفُرَات فِي حادي عشر جُمَادَى الأولى فسر النَّاس سُرُورًا عَظِيما. وَسَار الْأَمِير سيف الدّين بكتمر السِّلَاح دَار بمضافيه والأمير بهاء الدّين يعقوبا بمضافيه إِلَى حلب فِي ألفي فَارس لتَكون السمعة وتطمئن أهل الْبِلَاد وَعَاد السُّلْطَان بِبَقِيَّة العساكر إِلَى مصر سلخ ربيع الآخر. وَاسْتقر الْأَمِير سيف الَّذين بدخاص فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن كراي لاستعفائه مِنْهَا وأنعم على كراي بإقطاع الْأَمِير بلبان الطباخي بعد مَوته وَاسْتقر بلبان الجوكندار حَاجِب دمشق شاد الدَّوَاوِين بهَا. فَقدم الْعَسْكَر إِلَى دمشق فِي سَابِع جُمَادَى الأولى وَقدم السُّلْطَان قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر. وَكَانَ النَّاس لما بَلغهُمْ بِدِمَشْق عود السُّلْطَان إِلَى مصر اشْتَدَّ خوفهم وَخرج معظمهم يُرِيدُونَ الْقَاهِرَة وَنُودِيَ بِدِمَشْق فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى: من أَقَامَ بِدِمَشْق بعد هدا النداء فدمه فِي عُنُقه وَمن عجز عَن السّفر فليتحصن بقلعه دمشق فَخرج بَقِيَّة النَّاس على وُجُوههم. وغلت الأسعار بِدِمَشْق حَتَّى أبيعت الغرارة الْقَمْح بثلاثمائة دِرْهَم والرطل اللَّحْم بِتِسْعَة دَرَاهِم فَلَمَّا خرج الجفل نزلت الغرارة إِلَى مِائَتي دِرْهَم. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة: كثر الإرجاف بِعُود التتر وَقد خلت الْبِلَاد الشامية من أَهلهَا ونزحوا إِلَى مصر. وَفِي رَجَب: كَانَت وقْعَة أهل الذِّمَّة: وهى أَنهم كَانُوا قد تزايد ترفهم بِالْقَاهِرَةِ ومصر وتفننوا فِي ركُوب الْخَيل المسومة والبغلات الرائعة بالحلي الفاخرة ولبسوا الثِّيَاب السّريَّة وولوا الْأَعْمَال الجليلة. فاتفق قدوم وَزِير ملك الْمغرب يُرِيد الْحَج وَاجْتمعَ بالسلطان والأمراء وبينما هُوَ تَحت القلعة إِذا بِرَجُل رَاكب فرسا وَحَوله عدَّة من النَّاس مشَاة فِي ركابه يَتَضَرَّعُونَ لَهُ ويسألونه ويقبلون رجلَيْهِ وَهُوَ معرض عَنْهُم لَا يعبأ بهم بل ينهرهم ويصيح فِي غلمانه بطردهم. فَقيل للمغربي أَن هَذَا الرَّاكِب نَصْرَانِيّ فشق عَلَيْهِ وَاجْتمعَ بالأميرين بيبرس وسلار وحدثهما بِمَا رَآهُ وَأنكر ذَلِك وَبكى بكاء كثيرا وشنع فِي أَمر النَّصَارَى وَقَالَ: كَيفَ ترجون النَّصْر وَالنَّصَارَى تركب عنْدكُمْ الْخُيُول وتلبس العمائم الْبيض وتذل الْمُسلمين وتشبههم فِي خدمتكم(2/337)
وَأطَال القَوْل فِي الْإِنْكَار وَمَا يلْزم وُلَاة الْأُمُور من إهانة أهل الذِّمَّة وتغيير زيهم. فأثر كَلَامه فِي نفوس الْأُمَرَاء فرسم أَن يعْقد مجْلِس بِحُضُور الْحُكَّام واستدعيت الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَطلب بطرك النَّصَارَى وبرز مرسوم السُّلْطَان بِحمْل أهل الذِّمَّة على مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع المحمدي. فَاجْتمع الْقُضَاة بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بَين القصرين وَندب لذَلِك من بَينهم قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَحْمد السرُوجِي الْحَنَفِيّ وَطلب بطرك النَّصَارَى وَجَمَاعَة من أساقفتهم وأكابر قسيسيهم وأعيان ملتهم وديان الْيَهُود وأكابر ملتهم وسئلوا عَمَّا أقرُّوا عَلَيْهِ فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من عقد الذِّمَّة فَلم يَأْتُوا عَن ذَلِك بِجَوَاب. وَطَالَ الْكَلَام مَعَهم إِلَى أَن اسْتَقر الْحَال على أَن النَّصَارَى تتَمَيَّز بلباس العمائم الزرق وَالْيَهُود بِلبْس العمائم الصفر وَمنعُوا من ركُوب الْخَيل وَالْبِغَال وَمن كل مَا مَنعهم مِنْهُ الشَّارِع صلى اله عَلَيْهِ وَسلم وألزموا بِمَا شَرطه عَلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. فالتزموا ذَلِك وَأشْهد عَلَيْهِ البطرك أَنه حرم على جَمِيع النَّصْرَانِيَّة مُخَالفَة ذَلِك والعدول عَنهُ وَقَالَ رَئِيس الْيَهُود ودانهم: أوقعت الْكَلِمَة على سَائِر الْيَهُود فِي مُخَالفَة ذَلِك وَالْخُرُوج عَنهُ وانفض الْمجْلس وطولع السُّلْطَان والأمراء. مِمَّا وَقع فَكتب إِلَى أَعمال مصر وَالشَّام بِهِ. وَلما كَانَ يَوْم خَمِيس الْعَهْد وَهُوَ الْعشْرُونَ من شهر رَجَب: جمع النَّصَارَى وَالْيَهُود بِالْقَاهِرَةِ ومصر وظواهرها ورسم أَلا يستخدم أحد مِنْهُم بديوان السُّلْطَان وَلَا بدواوين الْأُمَرَاء وَألا يركبُوا خيلاً وبغالاً وَأَن يلتزموا سَائِر مَا شَرط عَلَيْهِم. وَنُودِيَ بذلك فِي الْقَاهِرَة ومصر وهدد من خَالفه بسفك دَمه. فانحصر النَّصَارَى من دلك وَسعوا بالأموال فِي إبِْطَال مَا تقرر فَقَامَ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير فِي إِمْضَاء مَا ذكر قيَاما مَحْمُودًا وصمم تصميماً زَائِدا. فاضطر الْحَال بالنصارى إِلَى الإذعان وَأسلم أَمِين الْملك عبد الله بن العنام مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة وَخلق كثير حرصاً مِنْهُم على بَقَاء رياستهم وأنفة من لبس العمائم الزرق وركوب الْحمير. وَخرج الْبَرِيد بِحمْل النَّصَارَى الْيَهُود فِيمَا بَين دمقلة من النّوبَة والفرات على مَا تقدم ذكره. وامتدت أَيدي الْعَامَّة إِلَى كنائس الْيَهُود وَالنَّصَارَى فهدموها بفتوى الشَّيْخ الْفَقِيه(2/338)
نجم الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن الرّفْعَة. فَطلب الْأُمَرَاء الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء للنَّظَر فِي أَمر الْكَنَائِس فَصرحَ ابْن الرّفْعَة بِوُجُوب هدمها وَامْتنع من ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة بِأَنَّهَا أحدثت فِي الْإِسْلَام تهدم وَإِلَّا فَلَا يتَعَرَّض لَهَا وَوَافَقَهُ الْبَقِيَّة على هَذَا وانفضوا. وَكَانَ أهل الْإسْكَنْدَريَّة لما ورد عَلَيْهِم مرسوم السُّلْطَان فِي أَمر الذِّمَّة ثَارُوا بالنصارى وهدموا لَهُم كنيستين وهدموا دور الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّتِي تعلو على دور جيرانهم الْمُسلمين وحطوا مساطب حوانيتهم حَتَّى صَارَت أَسْفَل من حوانيت الْمُسلمين. وَهدم بالفيوم أَيْضا كنيستان. وَقدم الْبَرِيد فِي أَمر الذِّمَّة إِلَى دمشق يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع شعْبَان فَاجْتمع الْقُضَاة والأعيان عِنْد الْأَمِير أقش الأفرم وَقُرِئَ عَلَيْهِم مرسوم السُّلْطَان بذلك فَنُوديَ فِي خَامِس عشريه أَن يلبس النَّصَارَى العمائم الزرق وَالْيَهُود العمائم الصفر والسامرة العمائم الْحمر وهددوا على الْمُخَالفَة. فالتزم النَّصَارَى وَالْيَهُود بِسَائِر مملكة مصر وَالشَّام مَا أمروا بِهِ وصبغوا عمائمهم إِلَّا أهل الكرك فَإِن الْأَمِير جمال الدّين أقش الأفرم الأشرفي النَّائِب بهَا رأى إبقاءهم على حالتهم وَاعْتذر بِأَن أَكثر أهل الكرك نَصَارَى فَلم يُغير أهل الكرك والشوبك من النَّصَارَى العمائم الْبيض. وَبقيت الْكَنَائِس بِأَرْض مصر مُدَّة سنة مغلقة حَتَّى قدمت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفع فِي فتحهَا ففتحت كَنِيسَة الْمُعَلقَة بِمَدِينَة مصر وكنيسة مِيكَائِيل الملكية ثمَّ قدمت رسل مُلُوك آخر ففتحت كَنِيسَة حارة وزويلة وكنيسة نقولا. وفيهَا فنيت أبقار أَرض مصر: وَذَلِكَ إِنَّه وَقع فِيهَا وباء من أخريات السّنة الْمَاضِيَة وتزايد الْأَمر حَتَّى تعطلت الدواليب ووقفت أَحْوَال السواقي وتضرر النَّاس من ذَلِك. وَكَانَ لرجل من أهل أشمون طناح ألف وَأحد وَعِشْرُونَ رَأْسا من الْبَقر مَاتَ مِنْهَا ألف وَثَلَاثَة أرؤس وَبَقِي لَهُ ثَمَانِيَة عشر رَأْسا لَا غير. واضطر النَّاس لتعويض الْبَقر بالجمال وَالْحمير وَبلغ الثور ألف دِرْهَم. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير أسندمر كرجي فِي نِيَابَة طرابلس لاستعفاء الأميرة قطلوبك المنصوري. وفيهَا اخْتلف عربان الْبحيرَة واقتتلت طائفتا جَابر وبرديس حَتَّى فني بَينهمَا بشر كثير واستظهرت برديس.(2/339)
فَخرج الْأَمِير بيبرس الدوادار فِي عشْرين أَمِيرا من الطبلخاناه إِلَى تروجة فَانْهَزَمَ الْعَرَب مِنْهُم فتبعوهم إِلَى الليونة وَأخذُوا جمَالهمْ وأغنامهم واستدعوا أكابرهم ووفقوا بَينهم وعادوا. وفيهَا خرج الْوَزير شمس الدّين سنقر الأعسر فِي عدَّة مائَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة إِلَى الْوَجْه القبلي لحسم العربان وَقد كَانَ كثر عيثهم وفسادهم وَمنع كثير مِنْهُم الْخراج لما كَانَ من الِاشْتِغَال بحركات غازان. فأوقع الْوَزير شمس الدّين بِكَثِير من بِلَاد الصَّعِيد الكبسات وَقتل جماعات من المفسدين وَأخذ سَائِر الْخُيُول الَّتِي بِبِلَاد الصَّعِيد فَلم يدع بهَا فرسا لفلاح وَلَا بدوي وَلَا قَاض وَلَا فَقِيه وَلَا كَاتب وتتبع السِّلَاح الَّذِي مَعَ الفلاحين والعربان فَأَخذه عَن آخِره وَأخذ الْجمال. وَعَاد من قوص إِلَى الْقَاهِرَة وَمَعَهُ ألف وَسِتُّونَ فرسا وَثَمَانمِائَة وَسَبْعُونَ جملا وَألف وسِتمِائَة رمح وَألف وَمِائَتَا سيف وَسَبْعمائة درقة وَسِتَّة آلَاف رَأس من الْغنم فسكن مَا كَانَ بالبلاد من الشَّرّ وذلت الفلاحون وأعطوا الْخراج. وَاتفقَ أَن بعض النَّصَارَى فتح كَنِيسَة فَاجْتمع الْعَامَّة ووقفوا إِلَى الْأَمِير سلار النَّائِب وَشَكوا النَّصَارَى أَنهم فتحُوا كَنِيسَة بِغَيْر إِذن وَأَن فيهم من امْتنع من لبس الْعِمَامَة الزَّرْقَاء واحتمى بالأمراء. فَنُوديَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر أَن من امْتنع من النَّصَارَى من لبس الْعِمَامَة الزَّرْقَاء نهب وَحل مَاله وحريمه وَألا يستخدم نَصْرَانِيّ عِنْد أَمِير وَلَا فِي شَيْء من الأشغال السُّلْطَانِيَّة وَلَا فِيمَا فِيهِ نفع. فامتدت أَيدي الْعَامَّة إِلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وكادوا يَقْتُلُونَهُمْ من كَثْرَة الصفع فِي رقابهم بالأكف وَالنعال فَامْتنعَ الْكثير مِنْهُم من الْمُضِيّ فِي الْأَسْوَاق خوفاًُعلى نَفسه. وقدمت رسل غازان إِلَى الْفُرَات فورد الْبَرِيد بذلك فَخرج إِلَيْهِم الْأَمِير سيف الدّين كراي على الْبَرِيد لإحضارهم فقدموا دمشق يَوْم الثلائاء ثَالِث عشرى ذِي الْقعدَة وهم نَحْو الْعشْرين رجلا فأنزلوا بقلعتها. وَحمل ثَلَاثَة مِنْهُم إِلَى مصر فِي ثامن عشريه وهم كَمَال الدّين مُوسَى بن يُونُس قَاضِي الْموصل وناصر الدّين على خواجا ورفيقه(2/340)
فوصلوا إِلَى الْقَاهِرَة لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ خَامِس ذِي الْحجَّة وأكرموا غَايَة الْإِكْرَام. فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشره: وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء والعسكر بقلعة الْجَبَل وألبست المماليك السُّلْطَانِيَّة الكلفيات الزركش والطرز الزركش على أَفْخَر الملابس وَجلسَ السُّلْطَان بعد الْعشَاء الْآخِرَة وَبَين يَدَيْهِ ألف شمعة تعد وَقد وقفت المماليك من بَاب القلعة من بَاب الإيوان صفّين. وأحضرت الرُّسُل فَسَلمُوا وَقَامَ قَاضِي الْموصل وعَلى رَأسه طرحة فَخَطب خطْبَة بليغة وجيزة فِي معنى الصُّلْح ودعا للسُّلْطَان ولغازان وللأمراء وَأخرج كتابا من غازان مَخْتُومًا فَلم يفتح. وَأخرج بالرسل إِلَى مكانهم إِلَى لَيْلَة الْخَمِيس فَفتح الْكتاب الَّذِي من عِنْد غازا وَهُوَ فِي قطع نصف الْبَغْدَادِيّ فَإِذا هُوَ بالخط المغلي فعرب وَقُرِئَ من الْغَد بِحَضْرَة أهل الدولة فَإِذا هُوَ يتَضَمَّن أَن عَسَاكِر مصر دخلت فِي الْعَام الْمَاضِي أَطْرَاف بِلَاده وأفسدت فَأَنف من ذَلِك وَقدم إِلَى الشَّام وَهزمَ العساكر ثمَّ عَاد فَلم يخرج إِلَيْهِ أحد فَرجع إبْقَاء على الْبِلَاد لِئَلَّا تخرب وَأَنه مستعد للحرب ودعا إِلَى الصُّلْح فَكتب جَوَابه وجهز الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن التيتي وعماد الدّين على بن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعلي بن السكرِي خطب جَامع الْحَاكِم والأمير حسام الدّين أزدمر المجيري للسَّفر بِالْجَوَابِ مَعَ الرُّسُل الواصلين من عِنْد غازان. وَكَانَ هَذَا عَام: سَائِر أقطار الأَرْض مشتغلة بِالْحَرْبِ فَكَانَ الْملك المسعود عَلَاء الدّين سنجر - عَتيق شمس الدّين أيتمش عَتيق السُّلْطَان غياث الدّين - وَهُوَ ملك دله بِالْهِنْدِ قد حَارب قوما فِي السّنة الْمَاضِيَة فَأتوا فِي هَذِه السّنة إِلَى دله ونهبوا وأسروا وَخرج عَلَيْهِ طَائِفَة التتر فحاربهم حروباً عَظِيمَة وَهَزَمَهُمْ. وَقَامَ بِأَرْض الْحَبَشَة فِي السّنة الْمَاضِيَة رجل يُقَال لَهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَام فَاجْتمع عَلَيْهِ نَحْو المائتي ألف رجل. وَحَارب الأمحري فِي هَذِه السّنة حروباً كَثِيرَة. وَكَانَ بِبِلَاد الْيمن بَين ملكهَا الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين وَبَين الزيدية عدَّة حروب. وفيهَا ثقلت وَطْأَة الْأَمِير الْوَزير سنقر الأعسر على الْأُمَرَاء لشد تعاظمه وَكثر شمعه وتزايد كبره ووفور حرمته وَقُوَّة مهابته وَلما كَانَ من ضربه للتاج بن سعيد الدولة مُسْتَوْفِي الدولة بالمقارع حَتَّى أسلم وتغريمه مَالا كَبِيرا وَكَانَ من ألزام الْأَمِير الجاشنكير وَفِيه حمق ورقاعة زَائِدَة. فَلَمَّا فعل بِهِ الْوَزير مَا فعل نحلى عَن الْمُبَاشرَة وَانْقطع بزاوية الشَّيْخ نصر المنبجي خَارج بَاب النَّصْر حَتَّى تحدث الشَّيْخ نصر مَعَ الْأَمِير بيبرس فِي إعفائه من الْمُبَاشر فَأَجَابَهُ وَكَانَ لَهُ فِيهِ اعْتِقَاد ولكلامه عِنْده قبُول.(2/341)
فَأحب الْأُمَرَاء إِخْرَاج الْوَزير من الوزارة وَكَانَت فِي النَّاس بقايا من حشمة فأحبوا مراعاته والتجمل مَعَه وعينوه لكشف القلاع الشامية وَإِصْلَاح أمرهَا وترتيب سَائِر أحوالها وتفقد حواصلها كَانَت حِينَئِذٍ عامرة بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَال وَالسِّلَاح فَسَار ذَلِك. وفيهَا تزوج السُّلْطَان بخوند أردكين بنت نوكاي امْرَأَة أَخِيه الْملك الْأَشْرَف وَعمل لَهُ مُهِمّ عَظِيم أنعم فِيهِ على سَائِر أهل الدولة بِالْخلْعِ وَغَيرهَا. وَبلغ النّيل فِي هَذِه السّنة سَبْعَة عشر ذِرَاعا وَخَمْسَة عشر أصبعاً وَكَانَت سنة مقبلة رخية الأسعار. وَحج فِيهَا الْأَمِير بكتمر الجوكندار وَأنْفق فِي حجَّته خَمْسَة وَثَمَانِينَ ألف دِينَار وصنع مَعْرُوفا كثيرا: من جملَته أَنه جهز سَبْعَة مراكب فِي بَحر القلزم قد شحنها بالغلال والدقيق وأنواع الإدام من الْعَسَل وَالسكر وَالزَّيْت والحلوى وَنَحْو ذَلِك فَوجدَ بالينبع أَنه قد وصل مِنْهَا ثَلَاثَة مراكب فَعمل مَا فِيهَا أكواماً ونادى فِي الْحَج من كَانَ مُحْتَاجا إِلَى مئونة أَو حلوى فليحضر فَأَتَاهُ المحتاجون فَلم يرد مِنْهُم أحدا وَفرق مَا بَقِي على النَّاس مِمَّن لم يحضر لغناه وَأعْطى أهل الينبع ووصلت بَقِيَّة المراكب إِلَى جدة فَفعل بِمَكَّة كَذَلِك وَفرق على سَائِر أَهلهَا والفقراء بهَا وعَلى حَاج الشَّام. وَفِي هده السّنة أَيْضا كَانَت مُلُوك الأقطار كلهَا شباب لم يبلغُوا الثَّلَاثِينَ سنة. وَمَات فِي هده السّنة مِمَّن لَهُ ذكر الْأَمِير عز الدّين أيدمر الظَّاهِرِيّ وَهُوَ أحد من ولى نِيَابَة دمشق فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة وَقد اسْتَقر بهَا أَمِيرا حَتَّى مَاتَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي ربيع الأول. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك كرجي الظَّاهِرِيّ أحد أُمَرَاء الألوف بِدِمَشْق فِي عَاشر ذِي الْقعدَة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان الطباخي نَائِب حلب فِي غرَّة صفر بغزة وهر عَائِد من التجريدة. وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقوش الشريفي نَائِب قلعة الصَّلْت وبر الكرك والشوبك، وَكَانَ مهيبا.(2/342)
وَمَات الْأَمِير عز الدّين مُحَمَّد بن أبي الهيجاء الهمذاني الأربلي مُتَوَلِّي نظر دمشق بطرِيق مصر وَهُوَ عَائِد مِنْهَا عَن ثَمَانِينَ سنة وَكَانَ عَالما بالأدب والتاريخ مشكور السِّيرَة. وَمَات الشَّيْخ شمس الدّين مَحْمُود بن أبي بكر أبي الْعَلَاء الكلاباذي البُخَارِيّ الفرضي الْحَنَفِيّ فِي أول ربيع الأول بِدِمَشْق وَقد قدم الْقَاهِرَة وَكَانَ فَاضلا. وَمَات تَاج الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن هبة الله بن قلس الأرمنتي إِمَام الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة بَين القصرين وَله شعر مِنْهُ: احفظ لسَانك لَا أَقُول فَإِن أقل فنصيحة تخفى على الْجلاس وأعيذ نَفسِي من هجائك فَالَّذِي يهجي يكون مُعظما فِي النَّاس وَقَالَ: قد قلت إِذْ لج فِي معاتبتي وَظن أَن الملال من قبلي خدك ذَا الْأَشْعَرِيّ حنفني وَكَانَ من أَحْمد الْمذَاهب لي حسنك مازال شَافِعِيّ أبدا يَا مالكي كَيفَ صرت معتزلي وَكَانَ مقربا فَاضلا.(2/343)
فارغة(2/344)
سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة فِي الْمحرم: عَادَتْ رسل غازان مَعَ الرُّسُل السُّلْطَان بجوابه. وَفِي عاشره: اسْتَقر فِي الوزارة الْأَمِير عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ المنصوري عوضا عَن سنقر الأعسر وَهُوَ غَائِب بِالشَّام. وَاسْتقر الْأَمِير بيبرس التاجي أحد الْأُمَرَاء البرجية فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي وَنقل ابْن الشيخي إِلَى ولَايَة الجيزة فِي عشريه. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد فِي هَذَا الْيَوْم. وَفِيه توجه الْأَمِير أسندمر كرجي إِلَى نِيَابَة طرابلس عوضا عَن الْأَمِير قطلوبك بِحكم استعفائه فَقدم دمشق فِي حادي عشر الْمحرم. وَفِي شهر الْمحرم: أَيْضا اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بلبان الجوكندار شاد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق عوضا عَن الْأَمِير سيف الدّين أقجبا وَنقل أقجبا إِلَى نِيَابَة السلطنة بِدِمَشْق عوضا عَن الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الموفقي. وَظهر بِالْقَاهِرَةِ رجل ادّعى أَنه الْمهْدي فعزر ثمَّ خلى عَنهُ. وفيهَا مَاتَ الْخَلِيفَة الإِمَام الْحَاكِم بِأَمْر الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد فِي ثامن عشر جُمَادَى الأولى. بمناظر الْكَبْش فَغسله الشَّيْخ كريم الدّين عبد الْكَرِيم الأبلي شيخ الشُّيُوخ بخانقاه سعيد السُّعَدَاء وَحضر الْأُمَرَاء وَالنَّاس جنَازَته وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع ابْن طولون وَدفن بجوار المشهد النفيسي. وَكَانَت خِلَافَته بِمصْر أَرْبَعِينَ سنة. وَترك من الْأَوْلَاد أَبَا الرّبيع سُلَيْمَان ولي عَهده وَإِبْرَاهِيم بن أبي عبد الله مُحَمَّد المستمسك بن الْحَاكِم أَحْمد. فأقيم بعده أَبُو الرّبيع وعمره عشرُون سنة ولقب المستكفي بِاللَّه وَكتب تَقْلِيده وَقُرِئَ بِحَضْرَة السُّلْطَان فِي يَوْم الْأَحَد عشرى جُمَادَى الأولى وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وخطب لَهُ على(2/345)
عَادَة أَبِيه وَاسْتمرّ يركب مَعَ السُّلْطَان فِي اللّعب بالكرة وَيخرج مَعَه للصَّيْد وصارا كأخوين وَكَانَ الْحَاكِم قد عهد بالخلافة إِلَى ابْنه الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد ولقبه المستمسك بِاللَّه وَجعل أَبَا الرّبيع من بعده. فَمَاتَ المستمسك وَاشْتَدَّ حزن أَبِيه الْحَاكِم عَلَيْهِ فعهد لِابْنِهِ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المستمسك من بعده. فَلَمَّا مَاتَ الْحَاكِم لم يقدم بعده إِلَّا أَبَا الرّبيع وَترك إِبْرَاهِيم. وفيهَا كثر فَسَاد العربان بِالْوَجْهِ القبلي وتعدى شرهم فِي قطع الطَّرِيق إِلَى أَن فرضوا على التُّجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فَرَائض جبوها شبه الجمالية. واستخفوا بالولاة وَمنعُوا الْخراج وتسموا بأسماء الْأُمَرَاء وَجعلُوا لَهُم كبيرين أَحدهمَا سموهُ بيبرس وَالْآخر سلار ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بِأَيْدِيهِم. فاستدعى االأمراء الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء واستفتوهم فِي قِتَالهمْ فأفتوهم بِجَوَاز ذَلِك. فاتفق الْأُمَرَاء على الْخُرُوج لقتالهم وَأخذ الطّرق عَلَيْهِم لِئَلَّا يمتنعوا بالجبال والمفاوز فَيفوت الْغَرَض فيهم فاستدعوا الْأَمِير نَاصِر مُحَمَّد بن الشيخي مُتَوَلِّي الجيزية - وَغَيره من وُلَاة الْعَمَل وتقدموا إِلَيْهِ بِمَنْع النَّاس بأسرهم من السّفر إِلَى وأشاع الْأُمَرَاء إِنَّهُم يُرِيدُونَ السّفر إِلَى الشَّام وكتبت أوراق الْأُمَرَاء الْمُسَافِرين وهم عشرُون مقدما بمضافيهم وعينوا أَرْبَعَة أَقسَام: قسم يتَوَجَّه فِي الْبر الغربي من النّيل وَقسم فِي الْبر الشَّرْقِي وَقسم يركب النّيل وَقسم يمضى فِي الطَّرِيق السالكة. وَتوجه الْأَمِير شمس الدّين سنقر الأعسر - وَقد قدم من الشَّام بعد عَزله من الوزارة واستقراره فِي جملَة الْأُمَرَاء المقدمين - إِلَى جِهَة أَلْوَاح فِي خَمْسَة أُمَرَاء وَقرر أَن يتَأَخَّر مَعَ السُّلْطَان أَرْبَعَة أُمَرَاء من المقدمين وَتقدم إِلَى كل من تعين لجِهَة أَن يضع السَّيْف فِي الْكَبِير وَالصَّغِير والجليل والحقير وَلَا يبقوا شَيخا وَلَا صَبيا ويحتاطوا على سَائِر الْأَمْوَال. وَسَار الْأَمِير سلار فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء فِي الْبر الغربي وَسَار الْأَمِير بيبرس بِمن مَعَه فِي الحاجر فِي الْبر الغربي على طَرِيق الواحات وَسَار الْأَمِير بكتاش أَمِير سلَاح بِمن مَعَه إِلَى الفيوم وَسَار الْأَمِير بكتمر الجوكندار بِمن مَعَه فِي الْبر(2/346)
الشَّرْقِي وَسَار قتال السَّبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إِلَى السويس وَالطور وَسَار الْأَمِير قبجق وَمن مَعَه إِلَى عقبَة السَّيْل وَسَار طقصبا وَإِلَى قوص بعرب الطَّاعَة وَأخذ عَلَيْهِم المفازات. وَضرب الْأُمَرَاء على الْوَجْه القبلي حَلقَة كحلقة الصَّيْد وَفد عميت أخبارهم على أهل الصَّعِيد فطرقوا الْبِلَاد على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَوَضَعُوا السَّيْف فِي الجيزية بِالْبرِّ الغربي والإطفيحية من الشرق فَلم يتْركُوا أحدا حَتَّى قَتَلُوهُ ووسطوا نَحْو عشرَة آلَاف رجل وَمَا مِنْهُم إِلَّا من أخذُوا مَاله وَسبوا حريمه فَإِذا ادّعى أحد إِنَّه حضري قيل لَهُ قل: دَقِيق فَإِن قَالَ بقاف الْعَرَب قتل. وَوَقع الرعب فِي قُلُوب العربان حَتَّى طبق عَلَيْهِم الْأُمَرَاء وأخذوهم من كل جِهَة فروا إِلَيْهَا وأخرجوهم من مخابئهم حَتَّى قتلوا من بجانبي النّيل إِلَى قوص وجافت الأَرْض بالقتلى. واختفى كثير مِنْهُم بمغائر الْجبَال فأوقدت عَلَيْهِم النيرَان حَتَّى هَلَكُوا عَن آخِرهم وَأسر مِنْهُم نَحْو ألف وسِتمِائَة لَهُم فلاحات وزروع وَحصل من أَمْوَالهم شَيْء عَظِيم جدا تفرقته الْأَيْدِي. وأحضر مِنْهُ للديوان سِتَّة عشر ألف رَأس من الْغنم من جملَة ثَمَانِينَ ألف رَأس مَا بَين ضَأْن وماعز وَنَحْو أَرْبَعَة آلَاف فرس واثنين وَثَلَاثِينَ ألف جمل وَثَمَانِية آلَاف رَأس من الْبَقر غير مَا أرصد فِي المعاصر وَمن السِّلَاح نَحْو مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ حملا مَا بَين سيوف ورماح وَمن الْأَمْوَال على بغال محملة مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بغلاً. وَصَارَ لِكَثْرَة مَا حصل للأجناد والغلمان والفقراء الَّذين اتبعُوا الْعَسْكَر يُبَاع الْكَبْش السمين من ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَى دِرْهَمَيْنِ والمعز بدرهم الرَّأْس والجزة الصُّوف بِنصْف دِرْهَم والكساء بِخَمْسَة دَرَاهِم والرطل السّمن بِربع دِرْهَم وَلم يُوجد من ثمَّ عَاد الْعَسْكَر فِي سادس عشر رَجَب وَقد خلت الْبِلَاد بِحَيْثُ كَانَ الرجل يمشي فَلَا يجد فِي طَرِيقه أحدا وَينزل بالقرية فَلَا يرى أَلا النِّسَاء وَالصبيان وَالصغَار فأفرجوا عَن المأسورين وأعادوهم لحفظ الْبِلَاد. وَكَانَ الزَّرْع فِي هَذِه السّنة بِالْوَجْهِ القبلي عَظِيما إِلَى الْغَايَة تحصل مِنْهُ مَا لم يقدر قدره كَثْرَة. وفيهَا قدم الْبَرِيد بِحُضُور عَلَاء الدّين بن شرف الدّين مُحَمَّد بن القلانسي إِلَى دمشق(2/347)
وصحبته شرف الدّين بن الْأَثِير فِي تَاسِع عشرى جُمَادَى الأولى من بِلَاد التتر وَكَانَا قد أخذا لما دخل التتر إِلَى بِلَاد الشَّام ففرا ولقيا مشقة زَائِدَة فِي طريقهما. وفيهَا ورد الْبَرِيد من حلب بِأَن تكفور متملك سيس منع الْحمل وَخرج عَن الطَّاعَة وانتمى لغازان فرسم بِخُرُوج الْعَسْكَر لمحاربته وَخرج الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح والأمير عز الدّين أيبك الخازندار بمضافيهما من الْأُمَرَاء والمفاردة فِي رَمَضَان وَسَارُوا إِلَى حماة فَتوجه مَعَهم الْعَادِل كتبغا فِي خَامِس عشرى شَوَّال وَقدمُوا حلب فِي أول ذِي الْقعدَة ورحلوا مِنْهَا فِي ثالثه ودخلوا دربند بغراس فِي سابعه. وانتشروا فِي بِلَاد سيس فحرقوا المزروع انتهبوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ وحاصروا مَدِينَة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيثاً كثيرا من جفال الأرمن وعادوا من الدربند إِلَى مرج أنطاكية. فقدموا حلب فِي تَاسِع عشره ونزلوا حماة فِي وفيهَا قدم الْبَرِيد من طرابلس بِأَن الفرنج أنشئوا جَزِيرَة تجاه طرابلس تعرف بجريرة أرواد وعمروها بِالْعدَدِ والآلات وَكثر فِيهَا جمعهم وصاروا يركبون الْبَحْر وَيَأْخُذُونَ المراكب فرسم للوزير بعمارة أَرْبَعَة شواني حربية فشرع فِي ذَلِك. وفيهَا ضرب عنق فتح الدّين أَحْمد البققي الحمري على الزندقة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر ربيع الأول وَكَانَت الْبَيِّنَة قد قَامَت عَلَيْهِ قبل ذَلِك. مِمَّا يُوجب قَتله من النَّقْض بِالْقُرْآنِ وبالرسول وَتَحْلِيل الْمُحرمَات والاستهانة بالعلماء والقدح فيهم وَغير ذَلِك. وفيهَا أخرج الْأَمِير بكتمر الحسامي من الْأَمِير أخورية من حنق الْأُمَرَاء عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَكثر الْكَلَام مَعَ السُّلْطَان وَكَانَ غرضهم أَن السُّلْطَان لَا يتعرف بِهِ أحد. فَأَقَامَ الْأَمِير بكتمر معطلاً مُدَّة حمى وَفَاة مغلطاى التقوي أحد أُمَرَاء دمشق بهَا فَأخْرج على إقطاعه وَاسْتقر عوضه أَمِير أخور علم الدّين سنجر الصَّالِحِي. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حماة بِوُقُوع مطر فِيمَا بَينهَا وَبَين حصن الأكراد عقبه قطع برد كبار فِي صُورَة الْآدَمِيّين من ذكر وَأُنْثَى وَفِيه شبه صُورَة القرود وَعمل بذلك مشروح. وَكثر بِدِمَشْق الْجَرَاد وَأكل أوراق الْأَشْجَار وفواكهها. وفيهَا أضيف إِلَى بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق مشيخة الشُّيُوخ(2/348)
بهَا بعد موت الْفَخر يُوسُف بن حمويه وفيهَا حج الْأَمِير بيبرس الجاشنكير وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَمِيرا سَارُوا ركباً بمفردهم وَمن ورائهم بَقِيَّة الْحَاج فِي ركبين وأمير الْحَاج الْأَمِير بيبرس المنصوري الدوادار. وَخرج بيبرس الجاشنكير من الْقَاهِرَة أول ذِي الْقعدَة فَحَضَرَ إِلَيْهِ بِمَكَّة الشريفان عطفة وَأَبُو الْغَيْث من أَوْلَاد أبي نمى وشكيا من أخيهما أَسد الدّين رميثة وأخيه عز الدّين حميضة إنَّهُمَا وثبا بعد وَفَاة أَبِيهِم عَلَيْهِمَا واعتقلاهما ففرا من الاعتقال. فَقبض على رميثة وخميضة وحملا إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر عوضهما فِي إِمَارَة مَكَّة عطفة وَأَبُو الْغَيْث. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان مُسْند الْعَصْر شهَاب الدّين أَحْمد بن رفيع الدّين إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْمُؤَيد الأبرقوهي بِمَكَّة فِي الْعشْرين من ذِي الْحجَّة عَن سبع وَثَمَانِينَ سنة ومولده سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة بأبرقوه من شيراز. وَمَات الْحَافِظ شرف الدّين أَبُو الْحُسَيْن على ابْن الإِمَام عبد الله مُحَمَّد بن أبي(2/349)
الْحُسَيْن أَحْمد بن عبد الله بن عِيسَى بن أَحْمد بن اليونيني فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشرى رَمَضَان ببعلبك ومولده فِي حادي عشر رَجَب سنة إِحْدَى وعشرى ن وسِتمِائَة ببعلبك. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر أرجواش المنصوري نَائِب قلعة دمشق فِي ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة. وَمَات ضِيَاء الدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن شيخ السلامية بِدِمَشْق فِي يَوْم الثُّلَاثَاء عشرى ذِي الْقعدَة وَهُوَ أَبُو قطب الدّين مُوسَى وفخر الدّين. وَمَات فتح الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد البققي الْحَمَوِيّ مقتولاً بِسيف الشَّرْع فِي رَابِع عشرى ربيع الأول وَرفع رَأسه على رمح وسحب بدنه إِلَى بَاب زويلة فصلب هُنَاكَ وَسبب ذَلِك إِنَّه كَانَ ذكياً حاد الخاطر لَهُ معرفَة بالأدب والعلوم الْقَدِيمَة فَحفِظت عَنهُ سقطات: مِنْهَا أَنه قَالَ: لَو كَانَ لصَاحب مقامات الحريري حَظّ لتليت مقاماته فِي المحاريب وَأَنه كَانَ يُنكر على من يَصُوم شهر رَمَضَان وَلَا يَصُوم هُوَ وَأَنه كَانَ إِذا تنَاول حَاجَة من الرف صعد بقدميه على الربعة وَكَانَ مَعَ ذَلِك جريئاً بِلِسَانِهِ مستخفاً بالقضاة يطنز بهم ويستجهلهم حَتَّى أَنه بحث مَعَ قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد مرّة وَكَأَنَّهُ لم يجبهُ فَقَامَ وَهُوَ يَقُول: وقف الْهوى يُرِيد قَول أبي الشيص الْخُزَاعِيّ: وقف الْهوى بِي حَيْثُ أَنْت فَلَيْسَ لي فِي متأخز عَنهُ وَلَا مُتَقَدم يعْنى أَن القَاضِي انْقَطع. فَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد لِلْفَتْحِ بن سيد النَّاس: يَا فتح الدّين عَقبي هَذَا الرجل إِلَى التّلف فَلم يتَأَخَّر ذَلِك سوى عشْرين يَوْمًا وَقتل فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ. ذَلِك أَنه أَكثر من الوقيعة فِي حق زين الدّين على بن مخلوف قَاضِي قُضَاة الْمَالِكِيَّة وتنقصه وسبه فَلَمَّا بلغه ذَلِك عَنهُ اشْتَدَّ حنقه وَقَامَ فِي أمره فتقرب النَّاس إِلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ على ابْن البققي فاستدعاه وأحضر الشُّهُود فَشَهِدُوا وَحكم بقتْله وَأَرَادَ من ابْن دَقِيق الْعِيد تَنْفِيذ مَا حكم بِهِ فتوقف. وَقَامَ فِي مساعدة ابْن البققي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي وَجَمَاعَة من الْكتاب وَأَرَادُوا إِثْبَات جنه ليعفى من الْقَتْل فصمم ابْن مخلوف على قَتله وَاجْتمعَ بالسلطان وَمَعَهُ قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين السرُوجِي الْحَنَفِيّ ومازالا بِهِ حَتَّى أذن فِي قَتله. فَنزلَا إِلَى الْمدرسَة الصالحية بَين(2/350)
القصرين ومعهما ابْن الشيخي والحاجب وأحضر ابْن البققي من السجْن فِي الْحَدِيد ليقْتل فَصَارَ يَصِيح وَيَقُول: أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله ويتشهد فَلم يلتفتوا إِلَى ذَلِك وَضرب عُنُقه وطيف بِرَأْسِهِ على رمح وعلق جسده على بَاب زويلة. وَفِيه يَقُول شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْملك الأعزازي يحرض على قَتله وَكتب بهَا إِلَى ابْن دَقِيق الْعِيد: قل للْإِمَام الْعَادِل المرتضى وَكَاشف الْمُشكل والمبهم لاتمهل الكافرواعمل بِمَا قد جَاءَ فِي الْكَافِر عَن مُسلم يَا لابساً لي حلَّة من مكره بسلاسة نعمت كلمس الأرقم اعْتد لي زرداً تضايق نسجه وعَلى خرق عيونها بالأسهم فَلَمَّا وقف عَلَيْهِمَا القَاضِي الْمَالِكِي قَالَ: نرجو أَن الله لَا يمهله لذَلِك. وَمن شعره أَيْضا: جبلت على حبي لَهَا وألفته ولابدأن ألْقى بِهِ الله مُعْلنا وَلم يخل قلبِي من هَواهَا بقدرما أَقُول وقلبي خَالِيا فتمكنا وَمَات جمال الدّين عُثْمَان بن أَحْمد بن عُثْمَان بن هبة الله بن أبي الحوافز رَئِيس الْأَطِبَّاء فِي مستهل صفر ومولده سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين على التقوي أحد أُمَرَاء دمشق بهَا. وَمَات الشريف أَبُو نمى مُحَمَّد بن أبي سعد حسن بن على بن قَتَادَة بن إِدْرِيس بن مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن عِيسَى بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن على بن الْحسن بن على بن أبي طَالب أَمِير مَكَّة فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع صفر وَقد أَقَامَ فِي الْإِمَارَة أَرْبَعِينَ سنة وَقدم الْقَاهِرَة مرَارًا وَكَانَ يُقَال لَوْلَا إِنَّه زيدي لصلح للخلافة لحسن صِفَاته. وَمَات مجد الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد بن على بن القباقيبي الْأنْصَارِيّ موقع طرابلس وَله شعر وَمَات الْأَمِير عز الدّين النجيبي وَالِي الْبر بِدِمَشْق فِي سادس عشر ربيع الأول بِدِمَشْق.(2/351)
وَمَات شمس الدّين سعيد بن مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَثِير فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة بِدِمَشْق وَكَانَ يكْتب الْإِنْشَاء بهَا. وَمَات بِدِمَشْق شيخ الخانكاة السميساطية وَهُوَ شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين أبي بكر عبد الله بن تَاج الدّين أبي مُحَمَّد ابْن حمويه فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر ربيع الأول وَاسْتقر عوضه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة بِاتِّفَاق الصُّوفِيَّة. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاى التقوي المنصوري أحد أُمَرَاء دمشق بهَا فِي رَابِع عشرى رَجَب فانعم بخبزه على الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الحسامي أَمِير أخور.(2/352)
سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: قدم الْأَمِير بيبرس الجاشنكير من الْحجاز وَمَعَهُ الشريفان حميضة ورميثة فِي الْحَدِيد فسجنا. وَفِي ثامنه: قدمت رسل غازان بكتابه فأعيدوا بِالْجَوَابِ. وجهز الْأَمِير حسام الدّين ازدمر المجيري شمس الدّين مُحَمَّد التيتي وعماد الدّين على بن عبد الْعَزِيز بن السكرِي إِلَى غازان فِي عَاشر ربيع الأول. فَمَضَوْا واجتمعوا بِهِ فَمَنعهُمْ من الْعود بِسَبَب الْوَقْعَة الآتى ذكرهَا ولازالوا مقيمين حَتَّى هلك غازان فعادوا فِي أَيَّام خدا بندا. وَفِي محرم: تنجزت عمَارَة الشواني وجهزت بالمقاتلة والآلات مَعَ الْأَمِير جمال الدّين أقوش الْقَارِي العلائي وَالِي البهنسا. وَاجْتمعَ النَّاس لمشاهدة لعبهم فِي الْبَحْر فَركب أقوش فِي الشينى الْكَبِير وَانْحَدَرَ تجاه المقياس فَانْقَلَبَ مِمَّن فِيهِ يَوْم السبت ثَانِي عشره. وَكَانَ قد نزل السُّلْطَان والأمراء لمشاهدة ذَلِك وَاجْتمعَ من الْعَالم مَا لَا يحصيهم إِلَّا الله تَعَالَى وَبلغ كِرَاء الْمركب الَّذِي يحمل عشرَة أنفس إِلَى مائَة دِرْهَم امْتَلَأَ البران من بولاق إِلَى الصِّنَاعَة بِالنَّاسِ حَتَّى لم يُوجد مَوضِع قدم خَال. ووقف الْعَسْكَر على بر بُسْتَان الخشاب وَركب الْأُمَرَاء الحراريق إِلَى الرَّوْضَة. وبرزت الشواني للعب كَأَنَّهَا فِي الْحَرْب فلعب الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث واعجب النَّاس بذلك إعجاباً زَائِدا لِكَثْرَة مَا كَانَ فِيهَا من الْمُقَاتلَة والنفوط وآلالات الْحَرْب. ثمَّ تقدم الرَّابِع وَفِيه أقوش فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج من منية الصِّنَاعَة. بِمصْر وتوسط النّيل إِذا بِالرِّيحِ حركه فَمَال بِهِ مَيْلَة وَاحِدَة انْقَلب وَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَله فَصَرَخَ النَّاس صرخة وَاحِدَة كَادَت تسْقط مِنْهَا ذَات الْأَحْمَال وتكدر مَا كَانُوا فِيهِ من الصفو وتلاحق النَّاس بالشيني وأخرجوا مَا سقط مِنْهُ فِي المَاء فَلم يعْدم مِنْهُ سوى أقوش وَسلم الْجَمِيع وَعَاد السُّلْطَان والأمراء إِلَى القلعة وانفض الْجمع. وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام أخرج الشيني فَإِذا امْرَأَة الرئيس وَابْنهَا وَهِي ترْضِعه فِي قيد الْحَيَاة فَاشْتَدَّ الْعجب من سلامتها طول هَذِه الْأَيَّام وَوَقع الْعَمَل فِي إِعَادَته حَتَّى تنجز وَندب الْأَمِير سيف الدّين كهرداش الزراق المنصوري للسَّفر عوضا عَن أقوش الْقَارِي فَسَار إِلَى طرابلس بالشواني واستجد مِنْهَا سِتِّينَ مُقَاتِلًا من المماليك سوى البحرية والمطوعة.(2/353)
وَتوجه كهرداش إِلَى جَزِيرَة أرواد وهى بِقرب أنطرسوس وصبحهم فِي غَفلَة وأحاط بهم وَقَاتلهمْ سَاعَة فنصره الله عَلَيْهِم وَقتل مِنْهُم كثيرا وسألوا الْأمان فَأخذُوا أسرى فِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى صفر. وَاسْتولى كهرداش على سَائِر مَا عِنْدهم وَعَاد إِلَى طرابلس وَأخرج الْخمس من الْغَنَائِم لتحمل إِلَى السُّلْطَان وَقسم مَا بَقِي فَكَانَت عدَّة الأسرى مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ. فَلَمَّا قدم الْبَرِيد من طرابلس بذلك دقَّتْ البشائر بالقلعة وَفِي يَوْم دق البشائر قدم الْأَمِير بدر الدّين بكتاش من غزَاة سيس. وَفِي هده السّنة: توفّي قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين أَبُو مُحَمَّد بن على بن وهب بن مُطِيع ابْن أبي الطَّاعَة الْقشيرِي المنفلوطي الْمَالِكِي الْمصْرِيّ بن دَقِيق الْعِيد وَكَانَ مولده فِي شعْبَان سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة. وَلما مَاتَ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد خرج الْبَرِيد إِلَى فِي دمشق بِطَلَب قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة فَقَدمهَا فِي سَابِع عشر صفر وَخرج بِهِ مِنْهَا فِي تَاسِع عشره. فوصل ابْن جمَاعَة إِلَى الْقَاهِرَة وخلع عَلَيْهِ يَوْم السبت رَابِع ربيع الأول وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة وَولي قَضَاء دمشق نجم الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ابْن صصري وَاسْتقر بلبان الجوكندار نَائِب قلعة دمشق عوضا عَن أرجواش وَاسْتقر عوضه فِي شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق الْأَمِير بيبرس التلاوي. وَفِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة: ظهر فِي النّيل دَابَّة لَوْنهَا كلون الجاموس بِغَيْر شعر وأذناها كأذن الْجمل وعيناها وفرجها مثل النَّاقة ويغطى فرجهَا ذَنْب طوله شبر وَنصف طرفه كذنب السّمك ورقبتها مثل ثخن التليس المحشو تبناً وفمها وشفتاها مثل الكربال وَلها أَرْبَعَة أَنْيَاب اثْنَان فَوق اثْنَيْنِ فِي طول نَحْو شبر وَعرض أصبعين وَفِي فمها ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج وَطول يَديهَا من بَاطِنهَا شبران وَنصف وَمن ركبتيها إِلَى حافرها مثل أظافر الْجمل وَعرض ظهرهَا قدر ذراعين وَنصف وَمن فمها إِلَى ذنبها خَمْسَة عشر قدماً وَفِي بَطنهَا ثَلَاثَة كروش ولحمها أَحْمَر لَهُ زفرَة السّمك وطعمه مثل لحم الْجمل وثخانة جلدهَا أَرْبَعَة أَصَابِع لَا تعْمل فِيهِ السيوف وَحمل جلدهَا على خَمْسَة جمال فِي مِقْدَار سَاعَة من ثقله فَكَانَ ينْقل من الْجمل إِلَى جمل وَقد حشي تبناً حَتَّى وصل إِلَى قلعة الْجَبَل. وَقدم الْبَرِيد من حلب بِأَن غازان على عزم الْحَرَكَة إِلَى الشَّام فَوَقع الِاتِّفَاق على(2/354)
خُرُوج الْعَسْكَر وَعين من الْأُمَرَاء بيبرس الجاشنكير وطغريل الإيغاني وكراي المنصوري وبيبرس الدوادار وسنقر شاه المنصوري وحسام الدّين لاجين الرُّومِي أستادار بمضافيهم وَثَلَاثَة آلَاف من الأجناد فَسَارُوا فِي ثامن عشر رَجَب. وتواترت الْأَخْبَار بنزول غازان على الْفُرَات وَوصل عسكره الرحبة وَأَرَادَ منازلتها بِنَفسِهِ. وَكَانَ النَّائِب بهَا الْأَمِير علم الدّين سنجر الغتمي فلاطفه وَخرج إِلَيْهِ بالإقامات وَقَالَ لَهُ: هَذَا الْمَكَان قريب المأخذ وَالْملك يقْصد المدن الْكَبَائِر فَإِذا ملكت الْبِلَاد الَّتِي هِيَ أمامك فَنحْن لَا نمتنع عَلَيْك حَتَّى كف عَنهُ وَرجع عابراً الْفُرَات بعد أَن أَخذ وَلَده ومملوكه رهنا على الْوَفَاء. وَبعث غازان قطلوشاه من أَصْحَابه على عَسَاكِر عَظِيمَة إِلَى الشَّام تبلغ ثَمَانِينَ ألفا وَكتب إِلَى الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم نَائِب دمشق يرغبه فِي طَاعَته. وَأما الْعَسْكَر السلطاني ففد دخل الْأَمِير بيبرس الجاشنكير إِلَى دمشق بِمن مَعَه فِي نصف شعْبَان وَكتب يستحث السُّلْطَان على الْخُرُوج. وَأَقْبل النَّاس من حلب وحماة إِلَى دمشق خَائِفين من التتر فاستعد أهل دمشق للفرار وَلم يبْق إِلَّا خُرُوجهمْ فَنُوديَ بهَا من خرج حل مَاله وَدَمه. وَخرج الْأَمِير بهادرآص والأمير قطوبك المنصوري وأنص الجمدار على عَسْكَر إِلَى حماة وَلحق بهم عَسْكَر طرابلس وحمص فَاجْتمعُوا على حماة عِنْد الْعَادِل كتبغا. وَبلغ التتر ذَلِك فبعثوا طَائِفَة كَبِيرَة إِلَى القريتين فأوقعوا بالتركمان فَتوجه إِلَيْهِم أسندمر كرجي نَائِب طرابلس بهادر آص وكجكن وغرلوا العادلي وتمر الساقي وأنص الجمدار وَمُحَمّد بن قرا سنقر فِي ألف وخمسائة فَارس. فطرقوهم بِمَنْزِلَة عرض فِي حادي عشر شعْبَان على غَفلَة وافترقوا عَلَيْهِم أَربع فرق وقاتلوهم قتالًا شَدِيدا من نصف النَّهَار إِلَى الْعَصْر حَتَّى أفنوهم وَكَانُوا فِيمَا يُقَال نَحْو أَرْبَعَة آلَاف. وأنقذوا التراكمين بحريمهم وَأَوْلَادهمْ وهم نَحْو سِتَّة آلَاف أَسِير وَلم يفقد من الْعَسْكَر إِلَّا الْأَمِير أنص الجمدار المنصوري وَمُحَمّد بن باشقرد الناصري وَسِتَّة وَخمسين من الأجناد. وَعَاد من إنهزم إِلَى قطلوشاه وَقد أسر الْعَسْكَر مائَة وَثَمَانِينَ من التتر. وَكتب إِلَى السُّلْطَان بذلك ودقت البشائر بِدِمَشْق وَكَانَ قد خرج السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل ثَالِث شعْبَان وَمَعَهُ الْخَلِيفَة المستكفي بِاللَّه أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان فِي عَسْكَر كثير واستناب بديار مصر عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ. وَكَانَ التتر الَّذين عَادوا منهزمين إِلَى قطلوشاه قد أخبروا أَن السُّلْطَان لم يخرج من(2/355)
الديار المصرية وَأَن لَيْسَ بِالشَّام غير الْعَسْكَر الشَّامي فجد قطلوشاه فِي السّير بجموع التتر حَتَّى نزل على قُرُون حماة فِي ثَالِث عشريه فاندفعت العساكر بَين يَدَيْهِ إِلَى دمشق وَركب الْعَادِل كتبغا فِي محفة لضَعْفه فَاجْتمع الْكل بِدِمَشْق. وَاخْتلف رَأْيهمْ فِي الْخُرُوج إِلَى لِقَاء الْعَدو أَو انْتِظَار قدوم السُّلْطَان ثمَّ خَشوا من مفاجأة الْعَدو فَنَادوا بالرحيل وركبوا أول رَمَضَان. فاضطربت دمشق بِأَهْلِهَا وَأخذُوا فِي الرحيل مِنْهَا على وُجُوههم واشتروا الْحمار بستمائة دِرْهَم والجمل بِأَلف دِرْهَم وَترك كثير مِنْهُم حرمه وَأَوْلَاده وَنَجَا بِنَفسِهِ إِلَى القلعة فَلم يَأْتِ اللَّيْل إِلَّا والنوادب فِي سَائِر نواحي الْمَدِينَة. وَسَار الْعَسْكَر مخفاً إِلَى لِقَاء الْعَدو وَبَات النَّاس بِدِمَشْق فِي الْجَامِع يضجون بِالدُّعَاءِ إِلَى الله فَلَمَّا أَصْبحُوا رَحل التتر عَن دمشق بعد أَن نزلُوا بالغوطة. وَبلغ الْأُمَرَاء قدوم السُّلْطَان فتوجهوا إِلَيْهِ من مرج راهط فَلَقوهُ على عقبَة شجورا فِي يَوْم السبت ثَانِي رَمَضَان وقبلوا لَهُ الأَرْض. فورد عِنْد لقائهم بِهِ الْخَبَر بوصول التتر فِي خمسين الْفَا مَعَ قطلوشاه نَائِب غازان. فَلبس الْعَسْكَر بأجمعه السِّلَاح وَاتَّفَقُوا على الْمُحَاربَة بشقحب تَحت جبل غباغب وَكَانَ قطلوشاه قد وقف على أَعلَى النَّهر. فَوقف فِي الْقلب السُّلْطَان وبجانبه الْخَلِيفَة والأمير سلار النَّائِب والأمير بيبرس الجاشنكير وَعز الدّين أيبك الخازندار وَسيف الدّين بكتمر أَمِير جاندار وجمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام وبرلغي وايبك الْحَمَوِيّ وبكتمر البوبكري وقطلوبك ونوغاي السِّلَاح دَار وأغرلوا الزيني وَفِي الميمنة الحسام لاجين أستادار ومبارز الدّين سوار أَمِير شكار ويعقوبا الشهرزوري ومبارز الدّين أوليا بن قرمان وَفِي الْجنَاح الْأَيْمن الْأَمِير قبجق بعساكر حماة والعربان وَفِي الميسرة الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير السِّلَاح والامير قرا سنفر بعساكر حلب والأمير بدخاص نَائِب صفد وطغريل الإيغاني وبكتمر السِّلَاح دَار وبيبرس الدوادار بمضافيهم. وَمَشى السُّلْطَان والخليفة بجانبه ومعهما الْقُرَّاء يَتلون الْقُرْآن ويحثون على الْجِهَاد ويشوقون إِلَى الْجنَّة وَصَارَ السُّلْطَان يقف وَيَقُول الْخَلِيفَة: يَا مجاهدون لَا تنظروا لسلطانكم قَاتلُوا عَن حريمكم وعَلى دين نَبِيكُم صلى اله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس فِي بكاء شَدِيد وَمِنْهُم من سقط عَن فرسه إِلَى الأَرْض وَتوَاصى بيبرس وسلار على الثَّبَات فِي الْجِهَاد. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى موقفه ووقف الغلمان وَالْجمال وَرَاء الْعَسْكَر صفا وَاحِدًا وَقيل لَهُم: من خرج من الأجناد عَن المصاف فَاقْتُلُوهُ وَلكم سلاحه وفرسه.(2/356)
فَلَمَّا تمّ التَّرْتِيب زحفت كراديس التتار كَقطع اللَّيْل بعد الظّهْر من يَوْم السبت الْمَذْكُور وَأَقْبل قطلوشاه بِمن مَعَه من التوامين وحملوا على الميمنة وقاتلوها فثبتت لَهُم وقاتلتهم قتالاً شَدِيدا وَقتل الحسام لاجين أستادار وأوليا بن قرمان وسنقر الكافري وأيدمر الشمسي القشاش وأقوش الشمسي الْحَاجِب والحسام على بن باخل نَحْو الْألف فَارس. فأدركهم الْأُمَرَاء من الْقلب وَمن الميسرة وَصَاح سلار: هلك وَالله أهل الْإِسْلَام وصرخ فِي بيبرس والبرجية فَأتوهُ وصدم بهم قطلوشاه وأبلى ذَلِك الْيَوْم هُوَ وبيبرس بلَاء عَظِيما إِلَى أَن كشفا التتار عَن الْمُسلمين. وَكَانَ جوبان بن تداون وقرمجي بن الناق وهما من توامين التتار قد ساقا تَقْوِيَة لبولاي وَهُوَ خلف الْمُسلمين فَلَمَّا عاينا الكسرة على قطلوشاه أَتَيَاهُ ووقفا فِي وَجه سلار وبيبرس. فَخرج من أُمَرَاء السُّلْطَان أسندمر وقطلوبك وقبجق والمماليك السُّلْطَانِيَّة إِعَانَة لبيبرس وسلار فتمكنوا من الْعَدو وهزموه فَمَال التتر على برلغي حَتَّى مزقوه واستمرت الْحَرْب بَين سلار وَمن وَكَانَت الْأُمَرَاء لما قتلت بالميمنة إنهزم من كَانَ مَعَهم وَمَرَّتْ التتر خَلفهم فجفل النَّاس وظنوا إِنَّهَا كسرة. وَأَقْبل السوَاد الْأَعْظَم على الخزائن السُّلْطَانِيَّة فكسروها ونهبوا مَا بهَا من الْأَمْوَال وجفل النِّسَاء والأطفال وَكَانُوا قد خَرجُوا من دمشق عِنْد خُرُوج الْأُمَرَاء مِنْهَا وكشف النِّسَاء عَن وجوههن وأسبلن الشُّعُور وضج ذَاك الْجمع الْعَظِيم بِالدُّعَاءِ وَقد كَادَت الْعُقُول أَن تطيش وَتذهب عِنْد مُشَاهدَة الْهَزِيمَة فَلم ير شَيْء أعظم منْظرًا من ذَلِك الْوَقْت إِلَى أَن وقف كل من الطَّائِفَتَيْنِ عَن الْقِتَال. وَمَال قطلوشاه بِمن مَعَه إِلَى جبل قريب مِنْهُ وَصعد عَلَيْهِ وَفِي نَفسه إِنَّه انتصر وَأَن بولاي فِي أثر المنهزمين يطلبهم. فَلَمَّا صعد الْجَبَل نظر السهل والوعر كُله عَسَاكِر والميسرة السُّلْطَانِيَّة ثَابِتَة واعلامها تخفق فبهت وتحير وَاسْتمرّ بموضعه حَتَّى كمل مَعَه جمعه وَأَتَاهُ من كَانَ خلف المنهزمين من الميمنة السُّلْطَانِيَّة وَمَعَهُمْ عدَّة من الْمُسلمين قد أسروهم مِنْهُم الْأَمِير عز الدّين أيدمر نقيب المماليك السُّلْطَانِيَّة. فَأحْضرهُ قطلوشاه وَسَأَلَهُ: من أَيْن أَنْت فَقَالَ: من أُمَرَاء مصر وَأخْبرهُ بقدوم السُّلْطَان وَلم يعلم قطلوشاه بقدوم السُّلْطَان بعساكر مصر إِلَّا مِنْهُ. فَجمع قطلوشاه أَصْحَابه وشاورهم فِيمَا يفعل وَإِذا بكوسات السُّلْطَان والأمراء والبوقات قد رجفت بحسها الأَرْض وأزعجت الْقُلُوب فَلم يثبت بولاي أحد مقدمي التتر وَخرج من تجاهقطلوشاه فِي نَحْو الْعشْرين ألفا وَنزل من الْجَبَل بعد الْمغرب وفر هَارِبا.(2/357)
وَبَات السُّلْطَان وَسَائِر العساكر على ظُهُور خيولها والطبول تضرب وتلاحق بِهِ من إنهزم شَيْئا بعد شَيْء وهم يقصدون ضرب الطبول السُّلْطَانِيَّة والكوسات الحربية. وأحاط عَسْكَر السُّلْطَان بِالْجَبَلِ الَّذِي بَات عَلَيْهِ التتار وَصَارَ بيبرس وسلار وقبجق والأمراء الأكابر فِي طول اللَّيْل دائرين على الْأُمَرَاء والأجناد يرصونهم ويرتبونهم ويكثرون من التَّأْكِيد عَلَيْهِم فِي التيقظ وَأخذ الأهبة. فَمَا طلع الْفجْر يَوْم الْأَحَد إِلَّا وَقد اجْتمع كل عَسَاكِر السُّلْطَان ووقف كل أحد فِي مصافه مَعَ أَصْحَابه والجفل والأثقال قد وقفُوا على بعد وَكَانَت رُؤْيَتهمْ تذهل وثبتوا على ذَلِك حَتَّى ارْتَفَعت الشَّمْس. وَشرع قطلوشاه فِي تَرْتِيب من مَعَه ونزلوا مشَاة وفرسان وقاتلوا العساكر. فبرزت المماليك السُّلْطَانِيَّة بمقدميها إِلَى قطلوشاه وجوبان وَعمِلُوا فيهم عملا عَظِيما: تَارَة يرمونهم بِالسِّهَامِ وَتارَة يهاجمونهم واشتغل الْأُمَرَاء بِقِتَال من فِي جهتهم وصاروا يتناولون الْقِتَال أَمِيرا بعد أَمِير. وألحت المماليك السُّلْطَانِيَّة فِي الْقِتَال واستقتلوا حَتَّى أَن فيهم من قتل تَحْتَهُ الثَّلَاثَة أرؤس من الْخَيل. ومازال الْأُمَرَاء على ذَلِك حَتَّى انتصف نَهَار يَوْم الْأَحَد وَصعد قطلوشاه الْجَبَل وَقد قتل مِنْهُ نَحْو ثَمَانِينَ رجلا وجرح الْكثير وَاشْتَدَّ عطشهم. وَاتفقَ أَن بعض من أسروه نزل إِلَى السُّلْطَان وعرفه أَن التتار قد أَجمعُوا على النُّزُول فِي السحر ومصادمة الْجَيْش وَأَنَّهُمْ فِي شدَّة من الْعَطش. فَاقْتضى الرَّأْي أَن يفرج لَهُم عِنْد نزولهم ثمَّ يركب الْجَيْش أقفيتهم. فَلَمَّا باتوا على ذَلِك وَأصْبح نَهَار يَوْم الْإِثْنَيْنِ ركب التتار فِي الرَّابِعَة ونزلوا من الْجَبَل فَلم يتَعَرَّض لَهُم أحد. وَسَارُوا إِلَى النَّهر فاقتحموه وَعند ذَلِك ركبهمْ بلَاء الله من الْمُسلمين وأيدهم بنصره حَتَّى حصدوا رُؤُوس التتار عَن أبدانهم ومروا فِي أَثَرهم إِلَى وَقت الْعَصْر وعادوا إِلَى السُّلْطَان. فسرحت الطُّيُور بالنصر إِلَى غَزَّة وَمنع المنهزمون من التَّوَجُّه إِلَى مصر وتتبع من نهب الخزائن السُّلْطَانِيَّة والاحتفاظ بِهِ. وَعين الْأَمِير بدر الدّين بكتوت الفتاح للمسير بالبشارة إِلَى مصر وَسَار من وقته وَكتب إِلَى دمشق وَسَائِر القلاع بالبشارة. ثمَّ ركب السُّلْطَان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ من مَكَان الْوَاقِعَة وَبَات ليلته بالكسوة وَأصْبح يَوْم الثلائاء خَامِس الشَّهْر وَقد خرج إِلَيْهِ أهل دمشق فَسَار إِلَيْهَا - وَمَعَهُ الْخَلِيفَة - فِي عَالم من الفرسان والعامة والأعيان وَالنِّسَاء وَالصبيان لَا يحصيهم إِلَّا من خلقهمْ(2/358)
سُبْحَانَهُ وهم يضجون بِالدُّعَاءِ والهناء. وتساقطت عبرات النَّاس ودقت البشائر وَكَانَ يَوْمًا لم يُشَاهد مثله إِلَى أَن نزل السُّلْطَان بِالْقصرِ الأبلق وَنزل الْخَلِيفَة بالتربة الناصرية وَقد زينت الْمَدِينَة. وَاسْتمرّ الْأُمَرَاء فِي أثر التتار إِلَى القريتين وَقد كلت خُيُول التتر وضعفت نُفُوسهم وألقوا أسلحتهم واستسلموا للْقَتْل والعساكر تقتلهم بِغَيْر مدافعة حَتَّى أَن أراذل الْعَامَّة والغلمان قتلوا مِنْهُم خلقا كثيرا وغنموا عدَّة غَنَائِم وَقتل الْوَاحِد من الْعَسْكَر الْعشْرين من التتر فَمَا فَوْقهَا. وَأدْركت عربان الْبِلَاد التتار وَأخذُوا فِي كيدهم: فيجىء مِنْهُم الِاثْنَان وَالثَّلَاثَة إِلَى الْعدة الْكَثِيرَة من التتار كَأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ بهم فِي الْبر من طَرِيق قريبَة إِلَى اللَّيْل ثمَّ يَدعُونَهُمْ وينصرفون فتتحير التتر فِي الْبَريَّة وتصبح فتموت عطشاً. وَفِيهِمْ من فر إِلَى غوطة دمشق فتتبعتهم النَّاس وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا. وَخرج وَإِلَى الْبر حَتَّى جمع من اسْتشْهد من الْمُسلمين ودفنهم فِي مَوضِع وَاحِد بِغَيْر غسل وَلَا كفن وَبنى عَلَيْهِم قبَّة. وتتبع نَائِب غَزَّة من إنهزم من الْعَسْكَر وَأَخذهم وفتشهم فظفر مِنْهُم بِجَمَاعَة مَعَهم الأكياس المَال بختمها. ووقف الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي بطرِيق دمشق وَمَعَهُ الْخزَّان وشهود الخزانة وَأخذ الغلمان فظفر مِنْهُم بِشَيْء كثير مِمَّا نهبوه وعوقب جمَاعَة بِسَبَب ذَلِك. ومازال الْأَمر يشْتَد فِي الطّلب حَتَّى تحصل أَكثر مَا نهب من الخزائن وَلم يفقد مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل. وَشَمل السُّلْطَان الْأُمَرَاء بِالْخلْعِ والأنعام وَحضر الْأَمِير سيف الدّين برلغي - وَقد إنهزم فِيمَن إنهزم - فَلم يَأْذَن لَهُ السُّلْطَان فِي الدُّخُول عَلَيْهِ وَقَالَ: بِأَيّ وَجه يدْخل على أَو ينظر فِي وَجْهي فمازال بِهِ الْأُمَرَاء حَتَّى رَضِي عَنهُ وَأذن فِي دُخُوله فَقبل الأَرْض. وَقبض على رجل من أُمَرَاء حلب كَانَ قد انْتَمَى إِلَى التتار وَصَارَ يَد لَهُم على الطرقات فسمر على جمل وَشهر بِدِمَشْق وضواحيها. وَاسْتمرّ النَّاس طول شهر رَمَضَان فِي مسرات تتجدد وَصلى السُّلْطَان صَلَاة عيد الْفطر وَخرج من دمشق فِي ثَالِث شَوَّال يُرِيد مصر. وَأما التتار فَإِنَّهُ قتل أَكْثَرهم حَتَّى لم يعبر قطلوشاه الْفُرَات إِلَّا فِي قَلِيل من أَصْحَابه. وَوصل خبر كَسرته إِلَى همذان فَوَقَعت الصرخات فِي بِلَادهمْ وَخرج أهل توريز وَغَيرهَا إِلَى الْقُدس واستعلام خبر من فقد مِنْهُم فأقامت النِّيَاحَة فِي توريز شَهْرَيْن على الْقَتْلَى. وَبلغ الْخَبَر غازان فَاغْتَمَّ غماً عَظِيما - وَخرج من مَنْخرَيْهِ دم كثير حَتَّى أشفى على الْمَوْت واحتجب حَتَّى عَن الخواتين - فَإِنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ من كل عشرَة(2/359)
وَاحِد فارتج الأردوا بِمن فِيهِ. ثمَّ جلس غازان وأوقف قطلوشاه وجوبان وسوتاي وَمن كَانَ مَعَهم من الْأُمَرَاء وَأنكر على قطلوشاه وَأمر بقتْله فمازالوا بِهِ حَتَّى عُفيَ عَنهُ من الْقَتْل وأبعده من قدامه حَتَّى صَار على مَسَافَة كَبِيرَة بِحَيْثُ يرَاهُ وَقَامَ إِلَيْهِ - وَقد مسكه الْحجاب - سَائِر من حضر وهم خلق كثير جدا وَصَارَ كل مِنْهُم فِي وَجهه حَتَّى بَصق الْجَمِيع ثمَّ أبعده عَنهُ إِلَى كيلان. وَضرب غازان بولاي عدَّة عصي وأهانه. وَقد ذكر الشُّعَرَاء وقْعَة التتر هده فَأَكْثرُوا. وَسَار السُّلْطَان من دمشق فِي يَوْم الثُّلَاثَاء من شَوَّال وَوصل إِلَى الْقَاهِرَة ودخلها فِي ثَالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ. وَكَانَ قدم بكتوت الفتاح إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن شهر رَمَضَان فرسم بزينة الْقَاهِرَة من بَاب النَّصْر إِلَى بَاب السلسة من القلعة وَكتب بإحصار سَائِر مغاني الْعَرَب من أَعمال مصر كلهَا. واستمرت الزِّينَة من بعد وُصُول الْأَمِير بكتوت الفتاح بِكِتَاب الْبشَارَة إِلَى أَن قدم السُّلْطَان وَبعد ذَلِك بأيام وَكَانَ قبل قدوم بكتوت الفتاح قد وَقعت بطاقة من قطيا بِخَبَر الْبشَارَة وَتَأَخر الفتاح لوجع يَده فقلق النَّاس وغلقت الْأَسْوَاق وأبيع الْخبز أَرْبَعَة أَرْطَال بدرهم والراوية المَاء بأَرْبعَة دَرَاهِم. فَلَمَّا قدم خرج النَّاس إِلَى لِقَائِه وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما وتفاخر النَّاس فِي الزِّينَة ونصبوا القلاع واقتسمت أستادارية الْأُمَرَاء شَارِع الْقَاهِرَة إِلَى القلعة ورتبوا مَا يخص كل وَاحِد مِنْهُم وَعمِلُوا بِهِ قلعة بِحَيْثُ نُودي من اسْتعْمل صانعاً فِي غير عمل القلاع كَانَت عَلَيْهِ جِنَايَة للسُّلْطَان وتحسن سعر الخثسب والقصب وآلات النجارة. وَتَفَاخَرُوا فِي تَزْيِين القلاع وَأَقْبل أهل الرِّيف إِلَى الْقَاهِرَة للفرحة على قدوم السُّلْطَان وعَلى الزِّينَة فَإِن النَّاس أخرجُوا الْحلِيّ والجواهر واللآلى وأنواع الْحَرِير فزينوا بذلك. وَلم يَنْسَلِخ شهر رَمَضَان حَتَّى تهَيَّأ أَمر القلاع وَعمل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي الْوَالِي قلعة بِبَاب النَّصْر فِيهَا سَائِر أَنْوَاع الْجد والهزل وَنصب عدَّة أحواض ملأها بالسكر والليمون وأوقف مماليكه بشربات حَتَّى يسقوا الْعَسْكَر. فَقدم السُّلْطَان فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشرى شَوَّال وَقد خرج النَّاس إِلَى لِقَائِه وبلع كِرَاء الْبَيْت الَّذِي يمر عَلَيْهِ من خمسين درهما إِلَى مائَة دِرْهَم. فَلَمَّا وصل السُّلْطَان بَاب النَّصْر ترجل سَائِر الْأُمَرَاء وَأول من ترجل مِنْهُم الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وَأخذ سلَاح السُّلْطَان. فَأمره السُّلْطَان أَن يركب لكبر سنه وَيحمل السِّلَاح خَلفه فَامْتنعَ وَمَشى وَحمل الْأَمِير مبارز الدّين سوار الرُّومِي أَمِير شكار الْقبَّة وَالطير وَحمل(2/360)
الْأَمِير بكتمر أَمِير جاندار العصي والأمير سنجر الجمقدار الدبوس. وَمَشى كل أَمِير فِي مَنْزِلَته وفرش كل مِنْهُم الشقق من قلعته إِلَى قلعة غَيره فَكَانَ السُّلْطَان إِذا تجَاوز قلعة فرشت القلعة الْمُجَاورَة لَهَا الشقق حَتَّى يمشي عَلَيْهَا بفرسه مشياً هيناً لأجل مَشى الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ وَكلما رأى قلعة أَمِير أمسك عَن الْمَشْي حَتَّى يعاينها وَيعرف مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هُوَ والأمراء. هَذَا والأسرى من التتار بَين يَدَيْهِ مقيدون ورؤوس من قتل مِنْهُم معلقَة فِي رقابهم وَألف رَأس على ألف رمح وعدة الأسرى ألف وسِتمِائَة فِي أعناقها ألف وسِتمِائَة رَأس وطبولهم قدامهم مخرقة. وَكَانَت القلاع الَّتِي نصبت قلعة الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي بجوار بَاب النَّصْر وتليها قلعة الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي بن أَمِير مجْلِس وَبعده ابْن أيتمش السَّعْدِيّ ثمَّ الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وَبعده الْأَمِير طغريل الإيغاني ثمَّ بهادر اليوسفي ثمَّ سودى ثمَّ بيليك الخطيري ثمَّ برلغي ثمَّ مبارز الدّين أَمِير شكار ثمَّ أيبك الخازندار ثمَّ سنقر الأعسر ثمَّ بيبرس الدوادار ثمَّ سنقر الكمالي ثمَّ مُوسَى بن الْملك الصَّالح ثمَّ سيف الدّين آل ملك ثمَّ علم الدّين الصوابي ثمَّ جمال الدّين الطشلاقي ثمَّ سيف الدّين أَدَم ثمَّ الْأَمِير سلار النَّائِب ثمَّ بيبرس الجاشنكير ثمَّ بكتاش أَمِير سلَاح ثمَّ الطواشي مرشد الخازندار - وقلعته على بَاب الْمدرسَة المنصورية - وَبعده بكتمر أَمِير جندار ثمَّ أيبك الْبَغْدَادِيّ نَائِب الْغَيْبَة ثمَّ ابْن أَمِير سلَاح ثمَّ بكتوت الفتاحي ثمَّ تباكر التغريلي ثمَّ قلى السلحدار ثمَّ بكتمر السِّلَاح دَار ثمَّ لاجين زيرباج الجاشنكير ثمَّ طيبرس الخازنداري نقيب الْجَيْش ثمَّ بلبان طرنا وَبعده سنقر العلائي ثمَّ بهاء الدّين يعقوبا ثمَّ الأبو بكري ثمَّ بهادر الْعزي وكوكاي بعده ثمَّ قرا لاجين ثمَّ كراي المنصوري ثمَّ جمال الدّين أقوش قتال السَّبع - وقلعته على بَاب زويلة. واتصلت القلاع من بَاب زويلة إِلَى بَاب السلسلة وَإِلَى بَاب القلعة وَبَاب الْقلَّة وعندما وصل السُّلْطَان إِلَى بَاب المارستان نزل وَصعد إِلَى قبر أَبِيه وَقَرَأَ الْقُرَّاء قدامه. ثمَّ ركب إِلَى بَاب زويلة ووقف حَتَّى أركب الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح خَلفه وَبِيَدِهِ السِّلَاح. وَسَار على الشقق الْحَرِير إِلَى دَاخل القلعة والتهاني فِي دور السُّلْطَان والأمراء وَغَيرهم وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما إِلَى الْغَايَة. فَلَمَّا اسْتَقر السُّلْطَان بالقلعة أنعم على الْأَمِير برلغي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَاسْتقر أَمِير(2/361)
الركب وَقدم لَهُ الْأُمَرَاء شيثاً كثيرا وَكتب على يَده: إِلَى أبي الْغَيْث وأخيه أَمِيري مَكَّة أَلا يمكنوا من الْأَذَان بحي على خير الْعَمَل وَلَا يتَقَدَّم فِي الْحرم إِمَام زيدي وَألا يرْبط الْحَاج حَتَّى يقبضوا على مَا كَانَ فِي الْكَعْبَة مِمَّا سموهُ العروة الوثقي وَلَا يُمكن أحد من مس المسمار الَّذِي كَانَ فِي الْكَعْبَة. وَكَانَ يحصل من التَّعَلُّق بالعروة الوثقي وَمن التسلق إِلَى المسمار عدَّة مفاسد قبيحة فَترك ذَلِك كُله بسفارة الْأَمِير بيبرس وَترك الْأَذَان بحي على خير الْعَمَل من مَكَّة وَلم يتَقَدَّم من حِينَئِذٍ إِمَام زيدي للصَّلَاة بِالْحرم.
(وَفِي هده السّنة)
بنابلس صَامَ الْحَنَابِلَة شهر رَمَضَان على عَادَتهم بِالِاحْتِيَاطِ واستكمل الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم شعْبَان وصاموا. فَلَمَّا أتم الْحَنَابِلَة ثَلَاثِينَ يَوْمًا أفطروا وعيدوا وصلوا صَلَاة الْعِيد وَلم ير الْهلَال. فصَام الشَّافِعِيَّة وَالْجُمْهُور ذَلِك النَّهَار وَأَصْبحُوا فافطروا وعيدوا وصلوا صَلَاة الْعِيد. فَأنْكر نَائِب الشَّام على مُتَوَلِّي نابلس كَيفَ لم يجْتَمع النَّاس على يَوْم وَاحِد وَلم يسمع. بِمثل هَذِه الْوَاقِعَة. وَاتفقَ أَيْضا أَن أهل مَدِينَة غرناطة بالأندلس صَامُوا شهر رَمَضَان سِتَّة وَعشْرين يَوْمًا وَذَلِكَ أَن الغيوم تراكمت عِنْدهم عدَّة أشهر قبل رَمَضَان فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين طلعوا المأذنة ليقدوها على الْعَادة فَإِذا الغيوم قد أقلعت وَظهر الْهلَال فافطروا. وفيهَا سخط الْأَمِير بيبرس الجاشنكير على كَاتبه الْمعلم الْمَنَاوِيّ من أجل فراره إِلَى غَزَّة فِي وَقت الْوَاقِعَة وَطلب أَبَا الْفَضَائِل أكْرم النَّصْرَانِي كَاتب الْحَوَائِج خاناه وألزمه حَتَّى أسلم وخلع عَلَيْهِ وَأقرهُ فِي ديوانه فزادت رتبته حَتَّى صَار إِلَى مَا يَأْتِي ذكره أَن شَاءَ الله وَعرف بكريم الدّين الْكَبِير. وفيهَا قَامَ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير فِي إبِْطَال عيد الشَّهِيد بِمصْر: وَذَلِكَ أَن النَّصَارَى كَانَ عِنْدهم تَابُوت فِيهِ إِصْبَع يَزْعمُونَ إِنَّه أصْبع بعض شهدائهم وَأَن النّيل لَا يزِيد مَا لم يرم فِيهِ التابوت فتجتمع نَصَارَى أَرض مصر من سَائِر الْجِهَات إِلَى نَاحيَة شبْرًا وَيخرج أهل الْقَاهِرَة ومصر وتركب النَّصَارَى الْخُيُول للعب ويمتلي الْبر بالخيم وَالْبَحْر بالمراكب المشحونة بِالنَّاسِ وَلَا يبْقى صَاحب غناء وَلَا لَهو حَتَّى يحضر وتتبرج زواني سَائِر الْبِلَاد. وَيُبَاع فِي ذَلِك الْيَوْم من الْخمر بِنَحْوِ مائَة ألف دِرْهَم حَتَّى إِنَّه فِي سنة بَاعَ رجل نَصْرَانِيّ بمائتين وَعشْرين ألف دِرْهَم خمرًا فَكَانَ أهل شبْرًا يُوفونَ الْخراج من مِمَّن الْخمر وتثور فِي هَذَا الْيَوْم الْفِتَن وَيقتل عدَّة قَتْلَى فَأمر الْأَمِير بيبرس بِإِبْطَال ذَلِك وَألا يرْمى التابوت فِي النّيل وَأخرج الْحجاب وَالْوَلِيّ حَتَّى منعُوا النَّاس من الِاجْتِمَاع بعد(2/362)
أَن كتب إِلَى جَمِيع الْوُلَاة بالنداء إِلَّا يحرج أحد إِلَى عمل عيد الشَّهِيد. فشق ذَلِك على النَّصَارَى واجتمعوا مَعَ الأقباط الَّذين أظهرُوا الْإِسْلَام وصاروا إِلَى التَّاج بن سعيد الدولة لتمكنه من الْأَمِير بيبرس فَصَارَ إِلَيْهِ وخيله من انكسار الْخراج بِإِبْطَال الْعِيد وَمن عدم طُلُوع النّيل فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وصمم على إِبْطَاله فَبَطل. وفيهَا جهز صَاحب سيس مراكب إِلَى نَحْو قبرص فِيهَا بضائع قيمتهَا قريب من مائَة ألف دِينَار فألقاها الرّيح على مينة دمياط فَأخذت برمتها. وفيهَا قدم الْخَبَر بقحط بِلَاد تقطاي مُدَّة ثَلَاث سِنِين ثمَّ أعقبه موتان فِي الْخَيل وَالْغنم حَتَّى فنيت وَلم يبْق عِنْدهم مَا يُؤْكَل فباعوا أَوْلَادهم وأقاربهم للتجار فقدموا بهم إِلَى مصر وَغَيرهَا. وفيهَا كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة: وَذَلِكَ إِنَّه حصل بِالْقَاهِرَةِ ومصر فِي مُدَّة نصب القلاع والزينة من الْفساد فِي الْحَرِيم وَشرب الْخُمُور مَا لَا يُمكن وَصفه من خَامِس شهر رَمَضَان إِلَى أَن قلعت فِي فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة: عِنْد صَلَاة الصُّبْح اهتزت الأَرْض كلهَا وَسمع للحيطان قعقة وللسقوف أصوات شَدِيدَة وَصَارَ الْمَاشِي يمِيل والراكب يسْقط حَتَّى تخيل النَّاس أَن السَّمَاء أطبقت على الأَرْض فَخَرجُوا فِي الطرقات رجَالًا وَنسَاء قد أعجلهم الْخَوْف والفزع عَن ستر النِّسَاء وجوههن وَاشْتَدَّ الصُّرَاخ وَعظم الضجيج والعويل وتساقطت الدّور وتشققت الجدران وتهدمت مأذن الْجَوَامِع والمدارس وَوضع كثير من النِّسَاء الْحَوَامِل مَا فِي بطونهن وخرحت ريَاح عَاصِفَة فَفَاضَ مَاء النّيل حَتَّى ألْقى المراكب الَّتِي كَانَت بالشاطئ قدر رمية سهم وَعَاد المَاء عَنْهَا فَصَارَت على اليبس وتقطعت مراسيها واقتلع الرّيح المراكب السائرة فِي وسط المَاء وحذفها إِلَى الشاطئ. وفقد للنَّاس من الْأَمْوَال شيىء كثير: فَإِنَّهُم لما خَرجُوا من دُورهمْ فزعين تركوها من غير أَن يعوا على شيىء مِمَّا فِيهَا فَدَخلَهَا أهل الدعارة وَأخذُوا مَا أَحبُّوا. وَصَارَ النَّاس إِلَى خَارج الْقَاهِرَة وَبَات أَكْثَرهم خَارج بَاب الْبَحْر ونصبوا الخيم من بولاق إِلَى الرَّوْضَة. وَلم تكد دَار بِالْقَاهِرَةِ ومصر تسلم من الْهدم أَو تشعث بَعْضهَا وَسَقَطت الزروب الَّتِي بِأَعْلَى الدّور وَلم تبْق دَار إِلَّا وعَلى بَابهَا التُّرَاب والطوب وَنَحْوه. وَبَات النَّاس لَيْلَة الْجُمُعَة بالجوامع والمساجد يدعونَ الله إِلَى وَقت صَلَاة الْجُمُعَة.(2/363)
وتواترت الْأَخْبَار من الغربية بِسُقُوط جَمِيع دور مَدِينَة سخا حَتَّى لم يبْق بهَا جِدَار قَائِم وَصَارَت كوماً وَأَن ضيعتين بالشرقية خربتا حَتَّى صارتا كوماً. وَقدم الْخَبَر من الْإسْكَنْدَريَّة بِأَن الْمنَار انْشَقَّ وَسقط من أَعْلَاهُ نَحْو الْأَرْبَعين شرفة وَأَن الْبَحْر هاج وَألقى الرّيح العاصف موجه حَتَّى وصل بَاب الْبَحْر وَصعد بالمراكب الإفرنجية على الْبر وَسقط جَانب كَبِير من السُّور وَهلك خلق كثير. وَقدم الْخَبَر من الْوَجْه القبلي بِأَن فِي الْيَوْم الْمَذْكُور هبت ريح سَوْدَاء مظْلمَة حَتَّى لم ير أحد أحدا قدر سَاعَة ثمَّ ماجت الأَرْض وتشققت وَظهر من تحتهَا رمل أَبيض وَفِي بعض الْمَوَاضِع رمل أَحْمَر وكشطت الرّيح مَوَاضِع من الأَرْض فظهرت عمائر قد ركبهَا السافي وَخَربَتْ مَدِينَة قوص وَأَن رجلا كَانَ يحلب بقرة فارتفع فِي وَقت الزلزلة وَبِيَدِهِ المحلب وَارْتَفَعت الْبَقَرَة حَتَّى سكنت الزلزلة ثمَّ انحط إِلَى مكنه من غير أَن يتبدد شيىء من اللَّبن الَّذِي فِي المحلب. وَقدم الْخَبَر من الْبحيرَة أَن دمنهور لوحش لم يبْق بهَا بَيت عَامر. وَخرب من الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة جَامع عَمْرو بن الْعَاصِ بِمصْر فالتزم الْأَمِير سلار النَّائِب بعمارته. وَخَربَتْ أَكثر سواري الْجَامِع الحاكمي بِالْقَاهِرَةِ وَسَقَطت مأذنتاه فالتزم الْأَمِير بيبرس الجاشنكير بعمارته وَخرب الْجَامِع الْأَزْهَر فالتزم الْأَمِير سلار بعمارته أَيْضا وشاركه فِيهِ الْأَمِير سنقر الأعسر. وَخرب جَامع الصَّالح خَارج بَاب زويلة فعمر من الْخَاص السلطاني وَتَوَلَّى عِمَارَته الْأَمِير علم الدّين سنجر. وَخَربَتْ مأذنة المنصورية فعمرت من الْوَقْف على يَد الْأَمِير سيف الدّين كهرداش الزراق. وَسَقَطت مأذنة جَامع الفكاهين. وَكتب بعمارة مَا تهدم بالإسكندرية فَوجدَ قد إنهدم من السُّور سِتّ وَأَرْبَعُونَ بَدَنَة وَسَبْعَة عشر برجاً فعمرت. وَقدم الْبَرِيد من صفد أَنه فِي يَوْم الزلزلة سقط جَانب كَبِير من قلعة صفد وَأَن الْبَحْر من جِهَة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عَن مَوْضِعه إِلَى الْبر فَظهر فِي مَوضِع المَاء اشياء كَثِيرَة فِي قَعْر الْبَحْر من أَصْنَاف التِّجَارَة وتشققت جدر جَامع بنى أُميَّة بِدِمَشْق.(2/364)
واستمرت الزلزلة خمس درج إِلَّا أَن الأَرْض أَقَامَت عشْرين يَوْمًا ترجف وَهلك تَحت الرَّدْم خلائق لَا تحصى. وَكَانَ الزَّمَان صيفاً فَتَوَلّى بعد ذَلِك سموم شَدِيدَة الْحر عدَّة أَيَّام. واشتغل النَّاس بِالْقَاهِرَةِ ومصر مُدَّة فِي رم مَا تشعث وَبني مَا هدم وغلت أَصْنَاف الْعِمَارَة لِكَثْرَة طلبَهَا فَإِن الْقَاهِرَة ومصر صَارَت بِحَيْثُ إِذا رَآهَا الْإِنْسَان يتخيل أَن الْعَدو أغار عَلَيْهَا وخربها فَكَانَ فِي ذَلِك لطف من الله بعباده فَإِنَّهُم رجعُوا عَن بعض مَا كَانُوا عَلَيْهِ من اللَّهْو وَالْفساد أَيَّام الزِّينَة وَفِيهِمْ من أقلع عَن ذَلِك لِكَثْرَة توارد الْأَخْبَار من بِلَاد الفرنج وَسَائِر الأقطار. مِمَّا كَانَ من هَذِه الزلزلة. وَاتفقَ فِيهَا من الْأَمر العجيب أَن الْأَمِير بيبرس الجاشنكير لما رم مَا تشعت من الزلزلة بالجامع الحاكمي وجد فِي ركن من المأذنة كف إِنْسَان بزنده قد لف فِي قطن وَعَلِيهِ أسطر مَكْتُوبَة لم يدر مَا هِيَ والكف طرى. ونبشت دكان لبان مِمَّا سقط فِي الزلزلة فَإِذا أخشابها قد تصلبت على اللبان وَهُوَ حَيّ وَعِنْده جرة لبن يتقوت مِنْهَا مُدَّة أَيَّام فَأخْرج حَيا لم يمسهُ سوء. وَفِي هده السّنة: اسْتَقر فِي نِيَابَة صفد الْأَمِير سنقر شاه المنصوري عوضا عَن بدخاص وأنعم على بدخاص بإمرة بديار مصر. وَنقل قبجق من نِيَابَة الشوبك إِلَى نِيَابَة حماة عوضا عَن الْعَادِل كتبغا بعد مَوته. وَاسْتقر بلبان الجوكندار فِي نِيَابَة حمص بعد موت سيف الدّين البكي. ثمَّ استعفي بلبان فولى عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ نَائِب قلعة دمشق عوضه وَاسْتقر عوضه فِي نِيَابَة قلعة دمشق بيبرس التلاوي. وَبلغ النّيل ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن فلاح بن مُحَمَّد بن حَاتِم السكندري الشَّافِعِي فِي رَابِع عشرى شَوَّال بِدِمَشْق ومولده بالإسكندرية سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ مَشْهُورا بِالْعلمِ والديانة نَاب فِي خطابة جَامع بنى أُميَّة وباشر الحكم مُدَّة بِدِمَشْق ودرس بهَا وَأفَاد زَمَانا. وَمَات كَمَال الدّين أَحْمد بن أبي الْفَتْح بن مَحْمُود بن أبي الْوَحْش أَسد بن سَلامَة ببن سلمَان بن فتيَان الْمَعْرُوف بِابْن الْعَطَّار أحد كتاب الدرج بِدِمَشْق فِي رَابِع عشرى ذِي الْقعدَة ومولده سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ كثير التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ محباً لسَمَاع(2/365)
الحَدِيث وَحدث وَكَانَ صَدرا كَبِيرا فَاضلا لَهُ نظم ونثر وَأقَام يكْتب الدرج أَرْبَعِينَ. وَمَات الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن معضاد الجعبري بِالْقَاهِرَةِ فِي. وَمَات الْأَمِير فَارس الدّين البكي الساقي أحد ممالك الظَّاهِر بيبرس تنقل فِي الخدم حَتَّى صَار من أُمَرَاء مصر ثمَّ اعتقل إِلَى أَن أفرج عَنهُ الْمَنْصُور قلاوون وأنعم عَلَيْهِ بإمرة ثمَّ ولاه نِيَابَة صفد فَأَقَامَ بهَا عشر سِنِين وفر مَعَ قبجق إِلَى غازان وَتزَوج أُخْته ثمَّ قدم مَعَ غازان وَلحق بالسلطان فولاه نِيَابَة حمص حَتَّى مَاتَ بهَا يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن ذِي الْقعدَة. وَكَانَ مليح الشكل مَا جلس قطّ بِغَيْر خف وَإِذا ركب وَنزل حل جمداره شاشه فَإِذا أَرَادَ الرّكُوب لفه مرّة وَاحِدَة كَيفَ جَاءَت ويركب وَلَا يُعِيد لفة الشاش مرَّتَيْنِ أبدا. وَاسْتشْهدَ بوقعة شقحب عز الدّين أيدمر الْعزي نقيب المماليك السُّلْطَانِيَّة وَهُوَ من مماليك عز وَمَات الْأَمِير أيدمر الشمسي القشاش وَكَانَ قد ولى الغربية والشرقية جَمِيعًا واشتدت مهابته وَكَانَ يعذب أهل الْفساد بأنواع قبيحة من الْعَذَاب مِنْهَا أَنه كَانَ يغْرس خازوقاً وَيجْعَل محدده قَائِما وبجانبه صَار كَبِير يعلق فِيهِ الرحل ثمَّ يُرْسِلهُ فَيسْقط على الخازوق فَيدْخل فِيهِ وَيخرج من بدنه وَلم يَجْرُؤ أحد من الفلاحين بالغربية والشرقية فِي أَيَّامه أَن بِلبْس مئزراً أسود وَلَا يركب فرسا وَلَا يتقلد سَيْفا وَلَا يحمل عَصا محلية بحديد وَعمل بهَا الجسور والترع وأتقنها وَأَنْشَأَ جِسْرًا بَين ملقة صندفا وَأَرْض سمنود عرف بالشقفي فَرَآهُ بعد أَن اسْتشْهد بِمدَّة قَاضِي الْمحلة فِي النّوم فَقَالَ لَهُ: سامحني الله وَغفر لي بعمارة حسر الشقفي وَكَانَ قد فلج واستعفي من الْولَايَة(2/366)
وَلزِمَ بَيته وَخرج لغزوة شقحب فِي محفة إِلَى وَقت الْقِتَال فَلبس سلاحه وَركب وَهُوَ فِي غابة الْأَلَم فَقيل لَهُ: إِنَّك لَا تقدر فَقَالَ: وَالله لمثل هَذَا الْيَوْم أنْتَظر وَإِلَّا إيش بتخلص القشاش من ربه بِغَيْر هَذَا وَحمل على الْعَدو وَقَاتل فَقتل وَرَأى فِيهِ سِتّ جراحات. وَمَات الْأَمِير حسام الدّين أوليا بن قرمان أحد الْأُمَرَاء الظَّاهِرِيَّة وهر ابْن أُخْت قرمان - وعروف بِابْن قرمان - وَكَانَ شجاعاً. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك أستادار. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيدمر الرفا المنصوري. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بهادر الدكاجكي أحد الْأُمَرَاء بحماة. وَمَات صَلَاح الدّين بن الْكَامِل. وَمَات عَلَاء الدّين بن الجاكي. وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين أَيُّوب الْكرْدِي وَكَانَ قد قدم إِلَى دمشق سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فِي طَائِفَة من الأكراد واعتقده الْأُمَرَاء وحملوا إِلَيْهِ المَال فَكَانَ يتَصَدَّق بِهِ ثمَّ قدم إِلَى الْقَاهِرَة وَخرج مَعَ السُّلْطَان وَقَاتل بشقحب حَتَّى قتل. وَمَات الأميرشمس الدّين سنقر الشمسي الْحَاجِب. وَمَات سنقرالكافري أحد الْأُمَرَاء. وَمَات سنقرشاه أستادار الجانق. وَمَات حسام الدّين على بن باخل أحد أُمَرَاء العشراوات. وَمَات لاجين الرُّومِي المنصوري أستادار الْمَنْصُور قلاوون وَيعرف بالحسام أستادار وَكَانَ دينا خيرا حشماً سمع الحَدِيث. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنقر العنتابي بِدِمَشْق لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة. وَمَات الْعَادِل كتبغا بحماة لَيْلَة الْجُمُعَة يَوْم عيد الْأَضْحَى وَهُوَ فِي سنّ الكهولة وَكَانَ دينا خيرا أسمر اللَّوْن قَصِيرا دَقِيق الصَّوْت قصير الْعُنُق شجاعاً سليم الْبَاطِن(2/367)
متواضعاً وَهُوَ من جنس الْمغل وَكَانَ قد طَال مَرضه واسترخى حَتَّى لم يقدر على حَرَكَة يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَترك اولاداً. فولى نِيَابَة حماة بعده الْأَمِير سيف الدّين قبجاق المنصوري وَقد نقل إِلَيْهِ من نِيَابَة الشوبك. وَمَات الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين على بن وهب بن مُطِيع بن أبي الطَّاعَة الْقشيرِي الْمَعْرُوف بِابْن دَقِيق الْعِيد فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر صفر عَن سبع وَسبعين سنة وَهُوَ على قَضَاء الْقُضَاة ومولده فِي خَامِس عشرى شعْبَان سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة.(2/368)
سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة فِيهَا انتدب الْأُمَرَاء لعمارة مَا خرب من الْجَوَامِع بالزلزلة وأنفقوا فِيهَا مَالا جزيلاً. وَقدم الْأَمِير برلغي الأشرفي من الْحجاز وشكى من قلَّة مهابة الشريفين أبي الْغَيْث وعطيفة وَكَثْرَة طمع العبيد فِي المجاورين بِمَكَّة. فأفرج عَن الشريفين حميضة ورميثة من السجْن وأحضرا إِلَى الْمجْلس السلطاني وخلع عَلَيْهِمَا بكلفتانزركش فَلم يلبسهَا حميضة إِلَّا بعد التمنع والتهديد بِالْعودِ إِلَى الْحَبْس. وأجلسا فَوق جَمِيع الْأُمَرَاء وَنزلا إِلَى منازلهما وَحمل إِلَيْهِمَا سَائِر مَا يحتاجان إِلَيْهِ وهاداهما الْأُمَرَاء وأجريت لَهما الرَّوَاتِب والجرايات والكسوات وركبا مَعَ وفيهَا سَارَتْ العساكر من الْقَاهِرَة للغارة على بِلَاد سيس وَعَلَيْهِم الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وَمَعَهُ الْأَمِير علم الدّين سنجر الصوابي والأمير شمس الدّين سنقر شاه المنصوري ومضافيهم وَكتب إِلَى طرابلس وحماة وصفد وحلب بِخُرُوج العساكر إِلَيْهَا. فوصل الْأَمِير بدر الدّين بكتاش إِلَى دمشق فِي ثَانِي عشر رَمَضَان وَخرج مِنْهَا بعسكر دمشق فَسَار إِلَى حلب وأتته عَسَاكِر الْبِلَاد فَمَرض وَأقَام بحلب وَسَار ابْنه بالعساكر وحرقوا مزارع سيس وخربوا الضّيَاع وأسروا أَهلهَا ونازلوا تل حمدون وَقد امْتنع بقلعتها جمَاعَة كَثِيرَة من الأرمن فقاتلوهم حَتَّى فتحت بالأمان وَأخذُوا مِنْهَا سِتَّة مُلُوك من مُلُوك الأرمن. فشق ذَلِك على تكفور ملك سيس وَقصد نكاية الْمُلُوك على تسليمهم قلعة تل حمدون بالأمان وَكتب إِلَى نَائِب حلب بِأَن مُلُوك القلاع هم الَّذين كَانُوا يمْنَعُونَ من حمل الْخراج فَلَا تفرجوا عَن أحد مِنْهُم فَلَيْسَ عِنْدِي من يزن المَال سواهُم. فَأمر النَّائِب بِقَتْلِهِم فَضربت رِقَاب الْمُلُوك الْخَمْسَة وَأسلم مِنْهُم صَاحب قلعة نجيمة وَالْتزم بِأخذ سيس فَحمل إِلَى مصر وَكتب صحبته بِعُود العساكر بالغنائم فسر الْأُمَرَاء وَالسُّلْطَان بذلك وَأكْرم صَاحب قلعة نجيمة وَكتب بِعُود العساكر. وَقدم الْبَرِيد بِمَوْت الْأَمِير عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ نَائِب حمص فَكتب بلبان الجوكندار نَائِب قلعة دمشق باستقراره فِي نِيَابَة حمص وَتوجه إِلَيْهَا فِي ثامن عشرى جُمَادَى الأولى وَولى عوضه نِيَابَة قلعة دمشق بهادر السنجري.(2/369)
وفيهَا وَقع موتان فِي الْخُيُول بِبِلَاد الشَّام فَمَاتَ من حلب ودمشق نَحْو الثَّمَانِينَ ألف فرس وَفَشَا الموتان فِي خُيُول مصر أَيْضا فَهَلَك كثير مِنْهَا. وَوَقع بِبِلَاد السَّاحِل جَراد كثير وفيهَا ارْتَفَعت أسعار الغلال بِمصْر وَبلغ الأردب الْقَمْح أَرْبَعِينَ درهما لتقاصر زِيَادَة النّيل ثمَّ انحط السّعر عَن قَلِيل وأبيع بِخَمْسَة وَعشْرين درهما. وفيهَا سَار الْأَمِير بدر الدّين جنغلي بن شمس الدّين البابا أحد مقدمي التتار وافداً إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة بأَهْله وَأَتْبَاعه فَلَمَّا قدم الْبَرِيد بمسيره كتب إِلَى نَائِب حلب فَتَلقاهُ وَبَالغ فِي إكرامه وتلقاه نَائِب دمشق وَدخل بِهِ فِي حادي عشر ذِي الْقعدَة. ومازالت الإقامات تتلقاه حَتَّى قدم إِلَى الْقَاهِرَة فَخرج الْأَمِير بيبرس الجاشنكير إِلَى لِقَائِه وَمَعَهُ الْأُمَرَاء إِلَى قبَّة النَّصْر وَصعد بِهِ إِلَى أَن قبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان فِي ثَالِث ذِي الْحجَّة وَأنزل فِي دَار بقلعة الْجَبَل. وفيهَا أخرج الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الظَّاهِرِيّ على إمرة بصفد وأنعم على جنغلي بإمرته - وهى طبلخاناه وَكتب لَهُ بِزِيَادَة مائَة ألف دِرْهَم. ثمَّ نقل إِلَى إمرة مائَة وأنعم على أَمِير على من ألزامه بإمرة عشرَة وعَلى نيروز من ألزامه بتقدمة ألف وَبعث الْأُمَرَاء إِلَيْهِ بالهدايا. وفيهَا قدم رَسُول ملك الفرنج الريدراكون البرشلوني بهدية جليلة الْقدر للسُّلْطَان وللأمراء وَسَأَلَ فتح كنائس النَّصَارَى فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَفتحت كَنِيسَة اليعاقبة بحارة زويلة وكنيسة الملكيين بالبندقانيين. وجهز جَوَابه مَعَ فَخر الدّين عُثْمَان أستادار الْأَمِير عز الدّين الأفرم فاقترض نَحْو السِّتين ألف دِرْهَم وَبَالغ فِي التجمل. فَلَمَّا كَانَ وَقت السّفر دفع الرُّسُل ملطفاً من ملكهم إِلَى السُّلْطَان يسْأَل فِي فك رجل مِمَّن أسر بِجَزِيرَة أرواد فأفرج عَنهُ وَسَار مَعَهم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَبعث بعض الأسرى يعرف السُّلْطَان بِأَن: هَذَا الَّذِي أفرج عَنهُ ابْن ملك كَبِير وَلَو أردتم فِيهِ مركبا ملآن بِالذَّهَب لحمله إِلَيْكُم فِي فكه فَكتب برده فَعَاد من الْإسْكَنْدَريَّة وَقيد على مَا كَانَ. وَركب الرُّسُل الْبَحْر حَتَّى إِذا أبعدوا عَن الْإسْكَنْدَريَّة أنزلوا الْأَمِير فَخر الدّين عُثْمَان فِي قَارب وأمروه بِالْعودِ وَأخذُوا كل مَا مَعَه. فَأَلْقَاهُ الرّيح على سَاحل الْإسْكَنْدَريَّة وَحمل إِلَى مصر فَشَكا إِلَى الْأُمَرَاء أَن الَّذِي أَخذ لَهُ دين عَلَيْهِ فَلم يلْتَفت أحد إِلَيْهِ وَكتب إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة بإيقاع الحوطة على من يرد من فرنج برشلونة. وفيهَا كملت عمَارَة الْمدرسَة الناصرية بَين القصرين. وفيهَا نقل السُّلْطَان أمه من التربة الْمُجَاورَة للمشهد النفيسي إِلَى التربة الناصرية بَين(2/370)
القصرين وَمَوْضِع هَذِه الْمدرسَة الناصرية كَانَ دَارا عرفت أخيراً بالأمير سيف الدّين بلبان الرَّشِيدِيّ فاشتراها الْملك الْعَادِل كتبغا وَشرع فِي بنائها مدرسة وَعمل بوابتها من أنقاض مَدِينَة عكا وهى بوابة كَنِيسَة بهَا. فَلَمَّا حضرت هَذِه البوابة إِلَى الْقَاهِرَة - مَعَ الْأَمِير علم الدّين الدواداري مُتَوَلِّي تخريب عكا وصور وعثليث وَغَيرهَا من القلاع الَّتِي فتحهَا الْملك الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون - أَخذهَا الْأَمِير بيدرا وَقتل وَهِي على حَالهَا فعملها كتبغا على هَذِه الْمدرسَة. وخلع كتبغا قبل أَن تكمل فاشتراها السُّلْطَان على يَد قَاضِي الْقُضَاة رين الدّين محلى بن مخلوف وأتمها وَعمل لَهَا الْأَوْقَاف الجليلة وَمن جُمْلَتهَا قيسارية أَمِير على بِخَط الشرابشيين وَالرّبع الْمَعْرُوف بالدهشة قَرِيبا من بَاب زويلة وحوانيت بِبَاب الزهومة وَالْحمام الْمَعْرُوفَة بالفخرية بجوار الْمدرسَة السيفية وَدَار أم السُّلْطَان وحمامي الشَّيْخ خضر بِظَاهِر الْقَاهِرَة بِخَط بُسْتَان ابْن صيرم وَالْجَامِع الظافري وَدَار الطّعْم خَارج مَدِينَة دمشق. ورتب بهَا قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف مدرس الْمَالِكِيَّة وقاضي الْقُضَاة شمس الدّين احْمَد السرُوجِي مدرس الْحَنَفِيَّة وقاضي الْقُضَاة شرف الدّين عبد الْغَنِيّ الْحَرَّانِي مدرس الْحَنَابِلَة وَصدر الدّين مُحَمَّد بن المرحل مدرس الشَّافِعِيَّة. وفيهَا ولد للسُّلْطَان من زَوجته أردكين الأشرفية ابْن على ولقبه بِالْملكِ الْمَنْصُور وَعمل لَهُ مهما أَرَادَ أَن يسْتَمر سَبْعَة أَيَّام فَلم يُوَافقهُ الْأُمَرَاء على ذَلِك وَعمل يَوْمًا وَاحِدًا وفيهَا شرع الْأَمِير سلار النَّائِب فِي التَّجْهِيز إِلَى الْحجاز. وفيهَا تشاجر الْوَزير عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ وناصر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي مُتَوَلِّي الجيزة وسببها تعاظم ابْن الشيخي على الْوَزير وانحصار الأقباط مِنْهُ لوفور حرمته(2/371)
وَشدَّة ضَبطه فاتفقوا مَعَ الْوَزير على أَن يحققوا فِي جِهَته وجهات مماليكه من الْأَمْوَال الديوانية مبلغا كثيرا فَتحدث الْوَزير فِي ذَلِك مَعَ الْأَمِير سلار النَّائِب لعلمه بكراهته فِي ابْن الشيخي. فَطلب ابْن الشيخي والدواوين وَحضر الْأُمَرَاء وانتدب لمحاققته التَّاج الطَّوِيل مُسْتَوْفِي الدولة. وأفحش التَّاج الطَّوِيل فِي مخاطبته وَهُوَ يخرج مِمَّا يلْزم بِهِ بحجج يظهرها ثمَّ اشْتَدَّ حنقه وَقَامَ على قَدَمَيْهِ وَقَالَ: وَحقّ نعْمَة مَوْلَانَا السُّلْطَان هَؤُلَاءِ {الأقباط أكلُوا الْأَمْوَال وَإِن تسلمتهم لآخذن مِنْهُم للسُّلْطَان ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار أكتب بهَا خطي. فَقَالَ لَهُ التَّاج: صرت أَنْت تَأمر وتنهي يَا نَاصِر الدّين وَلَو طلعت رَأسك فِي السَّمَاء كنت عِنْدِي ضَامِنا بتقارير مكتتبة عَلَيْك كَسَائِر الضَّمَان. فَغَضب الْأَمِير بيبرس الجاشنكير وَقَالَ للتاج: والك مَا كفي كذبكم حَتَّى تجْعَل أَمِيرا مثل ضَامِن وَالله مَا يَأْكُل مَال السُّلْطَان غَيْركُمْ وَأمر بإقامته من الْمجْلس. وَقَالَ الْأَمِير بيبرس لِابْنِ الشيخي: إيش قلت تحمل من جِهَة هَؤُلَاءِ ماقلت قَالَ: نعم} فرسم للوزير والحجاب بِجمع الدَّوَاوِين وتسليمهم لَهُ وانفضوا فَلم يبت أحد من الْكتاب عِنْده فا خلا ناظري الدولة وهما تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن السنهوري وشهاب الدّين غَازِي بن الوَاسِطِيّ وألزمهم بِعَمَل حِسَاب الدولة لثلاث سِنِين وضيق عَلَيْهِم وأهان التَّاج الطَّوِيل وَنكل بِهِ. وَأخذ التَّاج بن سعيد الدولة فِي مساعدة ابْن الشيخي وَصَارَ يَأْتِيهِ فِي اللَّيْل ويرتبه طهر فِي جِهَة الْكتاب شىء كثير فشكره بيبرس وَعرف الْأُمَرَاء بذلك فرعوا لَهُ بعقوبة الْكتاب واستخراج المَال مِنْهُم فَقَامَ الشهَاب بن الوَاسِطِيّ فِي الْحَط على ابْن الشيخي قيَاما زَائِدا وَقَالَ: يَا أُمَرَاء! هَذَا مَا يحل وَمَا بلغ قدر هَذَا الرجل بالْأَمْس وَهُوَ فِي دكان يخيط الأقباع ثمَّ فَقير دائر يستعطي ثمَّ ضَامِن فِي سَاحل الْغلَّة قد صَار فِي حفدة ومماليك وَعمل ولَايَة الْقَاهِرَة بأقبح سيرة. فَبلغ ذَلِك ابْن الشيخي فأوقع الحوطة عَلَيْهِ وَسَأَلَ الْأَمِير بيبرس فِيهِ فسلمها لَهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ مَعَ الرُّسُل أخرق بِهِ وَأمر أَن يعرى من ثِيَابه فمازال بِهِ الْحَاضِرُونَ حَتَّى عَفا عَنهُ من خلع ثِيَابه وضربه تَحت رجلَيْهِ ثَلَاث ضربات. ثمَّ خَافَ الْعَاقِبَة فَأكْرم ابْن الوسطي وتلطف بِهِ وبالكتاب وَحمل مِنْهُم ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَأَفْرج عَنْهُم بعد مُشَاورَة الْأَمِير بيبرس. فشق ذَلِك على الْوَزير وسعى فِي السّفر إِلَى الْحجاز مَعَ الْأَمِير سلار فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. وسعى ابْن الشيخي بالأمير بكتمر أَمِير جندار والأمير برلغي وينجار وَوَعدهمْ أَنه يؤجرهم الْبِلَاد والدواليب وَيقوم عَنْهُم بكلفها وَأهْدى إِلَيْهِم حَتَّى مَلأ أعين أعدائه(2/372)
وأصدقائه وَعمل للأمير سلار من ألات السّفر شَيْئا كثيرا ومازال يسْعَى بحاشية سلار وَهُوَ يمْتَنع من إجابتهم ويردهم أقبح رد لبغضه فِيهِ حَتَّى خدعوه وَأجَاب. فاستقر ابْن الشيخي فِي الوزارة يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر شَوَّال بِغَيْر رضَا سلار إِلَّا أَنه لم يجد بدا من ولَايَته. وَنزل فِي موكب عَظِيم إِلَى دَاره بجوار المشهد الْحُسَيْنِي من الْقَاهِرَة وتعاظم على النَّاس تعاظماً زَائِدا. وفيهَا سَار الْأَمِير سلار النَّائِب إِلَى الْحجاز وَمَعَهُ نَحْو الثَّلَاثِينَ أَمِيرا: مِنْهُم سنقر الكمالي الْحَاجِب وَعلم الدّين سنجر الجاولي وسنقر الأعسر وكوري وسودي وبكتوت القرماني وبكتوت الشجاعي والطواشي شهَاب الدّين مرشد. وَتَأَخر الْأَمِير سلار بعد خُرُوج الركب مَعَ الْأَمِير سيف الدّين أناق الحسامي أَمِير الركب وَبعث إِلَى الْحجاز فِي الْبَحْر عشرَة آلَاف أردب غلَّة وَبعث سنقر الأعسر ألف أردب وَبعث سَائِر الْأُمَرَاء الْقَمْح للتفرقة فِي أهل الْحَرَمَيْنِ فَعم النَّفْع بهم. وفيهَا ورد الْخَبَر بِمَوْت غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك الْمغل فِي ثَالِث عشر شَوَّال بنواحي الرّيّ من مرض حاد وَكَانَت مدَّته ثَمَان سِتِّينَ وَعشرَة أشهر. وَقَامَ بعده أَخُوهُ خدا بندا بن أرغون وَجلسَ على تخت الْملك فِي ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة وتلقب بغياث الدّين مُحَمَّد وَكتب إِلَى السُّلْطَان بجلوسه وَطَلَبه للصلح وإخماد الْفِتْنَة وسير إِلَيْهِ رسله. وفيهَا توجه الْوَزير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وألزم المباشرين بِعَمَل الْحساب. وَكَانَ متحصل الْإسْكَنْدَريَّة لَا ينَال ديوَان السُّلْطَان مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل فَإِن الْأُمَرَاء بيبرس وسلار وبرلغي والجوكندار مَا مِنْهُم إِلَّا من لَهُ بهَا نَائِب يتحدث فِي المتجر. فَقَامَ نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة وَمنع الْوَزير من التحدث حَتَّى يحضر الْأَمِير سلار من الْحجاز فاتفق وُصُول مركب بمتجر للفرنج بلغ مُوجبه أَرْبَعِينَ ألف د ينار. وفيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى الْبحيرَة للصَّيْد وَقد عبأ لَهُ الْوَزير الإقامات. وَنزل السُّلْطَان بتروجة واستدعى شهَاب الدّين أَحْمد بن عبَادَة الَّذِي أَقَامَهُ قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف وصّى السُّلْطَان وَكيلا على جباية أَمْوَال أَمْلَاك السُّلْطَان ونائباً عَنهُ لاشتغاله بوظيفة الْقَضَاء. وَطلب السُّلْطَان مِنْهُ دَرَاهِم يَشْتَرِي بهَا هَدِيَّة من الْإسْكَنْدَريَّة فَلم يجد عِنْده من مَال السُّلْطَان مَا يَكْفِيهِ فَبَعثه ليقترض من تجار الْإسْكَنْدَريَّة مبلغا. فَاجْتمع ابْن عبَادَة بالوزير وشكا لَهُ مَا فِيهِ السُّلْطَان من الضّيق وَالْحَاجة وَأَنه حضر ليقترض لَهُ من التُّجَّار مَا يَشْتَرِي بِهِ هَدِيَّة لجواريه ونسائه. فَقَالَ لَهُ ابْن الشيخي: ارْجع وَأَنا غَدا عِنْد السُّلْطَان بألفي دِينَار. فَعَاد ابْن عبَادَة وَأعلم(2/373)
السُّلْطَان بذلك فسر سُرُورًا كَبِيرا. وَقدم الْوَزير بالمبلغ وَقدمه للسُّلْطَان. فاستروح السُّلْطَان مَعَه بالْكلَام وشكا إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ من ضيق مَعَ الْأُمَرَاء فوعده بِأَن مصير الْأَمر إِلَيْهِ وقوى قلبه وشجعه على الفتك بالأمراء وهون عَلَيْهِ أَمرهم وَقَامَ وَقد حفظ عَلَيْهِ الجمدارية مَا قَالَه فِي حق الْأُمَرَاء. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة وَقدم الْوَزير من الْإسْكَنْدَريَّة بِمَال كثير وكساو جليلة وشكا إِلَى الْأَمِير بيبرس نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة. وَقدم الْخَبَر من الأردو بِأَنَّهُ قد جرد مقدم اسْمه قبرتو ليقيم بديار بكر عوض جنكلي ابْن البابا المُهَاجر إِلَى الْإِسْلَام. فَكتب نَائِب الشَّام مطالعة بذلك وفيهَا: أَتَى من بِلَاد الْمُشْركين مقدم تعالن لما أَن دَعوه قبرتوا وَإِنِّي لأرجو أَن يجىء عقيبها بشير لنا أَن اللعين قبرتوا وَبلغ النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَسِتَّة عشر أصبعاً بَعْدَمَا توقف وتحسنت الغلال. مَاتَ فِي هَذِه السّنة عز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ وَكَانَ من مماليك الْمَنْصُور نَائِب حماة فَطَلَبه مِنْهُ الْملك الظَّاهِر بيبرس هُوَ وَأَبُو خرص فيسرهما إِلَيْهِ فَأَمرهمَا ثمَّ ولي الْأَشْرَف خَلِيل أيبك هَذَا نِيَابَة دمشق بعد سنجر الشجاعي وعزله الْعَادِل كتبغا بغرلوا. ولي صرخد ثمَّ حمص وَبهَا مَاتَ فِي تَاسِع عشر شهر ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير بيبرس التلاوي فِي تَاسِع شهر رَجَب وَكَانَ يَلِي شدّ دمشق - وَفِيه ظلم وعسف - مُدَّة سنة وَسَبْعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا مِنْهَا أَيَّام مَرضه حَتَّى هلك سَبْعَة أشهر وَاسْتقر عوضه فِي وَمَات القان إبل خَان معز الدّين غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولوي ابْن جنكزخان بِبِلَاد قزوين فِي ثَانِي عشر شَوَّال وَحمل إِلَى تربته خَارج توريز. وَكَانَ جُلُوسه على تخت الْملك فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأسلم فِي سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة ونثر الذَّهَب وَالْفِضَّة واللؤلؤ على رُؤُوس النَّاس فَفَشَا الْإِسْلَام بذلك(2/374)
فِي التتار وَأظْهر غازان الْعدْل وَتسَمى بمحمود وَملك العراقين وخراسان وَفَارِس والجزيرة وَالروم وَتسَمى بالقان وأفرد نَفسه بِالذكر فِي الْخطْبَة وَضرب السِّكَّة بَاعه دون القان الْأَكْبَر وطرد نَائِبه من بِلَاده وَلم يسْبقهُ أحد من آبَائِهِ إِلَى هَذَا فاقتدى بِهِ من جَاءَ بعده وَكَانَ أجل مُلُوك بَيت هولاكو إِلَّا أَنه كَانَ ييخل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم. وَمَات شمس الدّين سلمَان إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْمَلْطِي الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ أحد نواب الحكم بِدِمَشْق والقاهرة وَكَانَ دينا مُبَارَكًا. وَمَات عَلَاء الدّين على بن عبد الرَّحِيم بن مراجل الدِّمَشْقِي وَالِد الصاحب تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن مراجل فِي سادس عشر ذِي الْقعدَة بِدِمَشْق وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَكَانَ ماهراً فِي الْحساب أديباً فَاضلا. وَمَات زين الدّين عبد الله بن مَرْوَان بن عبد الله بن فيع بن الْحسن الفارقي الشَّافِعِي فِي حادي عشرى صفر بِدِمَشْق ومولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَقد درس الْفِقْه وخطب بِجَامِع بنى أُميَّة قبل مَوته بِتِسْعَة أشهر فولى الخطابة بعده صدر الدّين مُحَمَّد بن الْوَكِيل الْمَعْرُوف بِابْن المرحل فَلم ترض النَّاس بِهِ فولى شرف الدّين القزاري وَمَات فتح الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الصاحب عز الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن خَالِد ابْن مُحَمَّد القيسراني بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشرى شهر ربيع الآخر ومولده فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَقد وزر جده الْمُوفق خَالِد للْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَولى الْفَتْح هَذَا وزارة دمشق ثمَّ صرف عَنْهَا وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة وباشر توقيع الدست بقلعة الْجَبَل وعني بِالْعلمِ وَله تصانيف ونظم حسن.(2/375)
وَمَات نصير بن أَحْمد بن على الْمَنَاوِيّ الْمَعْرُوف بالنصير الحمامي الأديب البارع فِي. وَمَات الشريف أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن عبد الْغَنِيّ بن سرُور بن سَلامَة المنوفي أحد أَصْحَاب الشَّيْخ أبي الْحجَّاج الأقصري - وَيُقَال إِنَّه شرِيف حسني - فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشر ذِي الْحجَّة بِمصْر عَن مائَة وَعشْرين سنة وَهُوَ صَحِيح الْأَعْضَاء سليم الْحَواس رصين الْعقل وَله ديوَان شعر. وَمَات الْأَمِير بكتمر السِّلَاح دَار الظَّاهِرِيّ فِي. الْجُزْء الثَّانِي(2/376)
(سنة أَربع وَسَبْعمائة)
فِي مستهل الْمحرم: قدم الْبَرِيد بوصول الْأَمِير سيف الدّين قطايا بن سيغرا أَمِير بني كلاب فِي عدَّة من مَشَايِخ الْعَرَب ثمَّ قدم فَأكْرمه السُّلْطَان والأمراء وأعيدوا إِلَى حلب. وَكَانَ من خبر قطايا أَنه لما خرج عَن طَاعَة السُّلْطَان وعاث فِي أَعمال حلب وأفسد طلبه عَسَاكِر حلب ففر إِلَى بِلَاد الشرق وَأقَام مَعَ الْمغل فأكرموه مُدَّة حَيَاة الْملك مَحْمُود غازان حَتَّى مَاتَ فَلم يجد بعدئذ مَا كَانَ بعهده فترامى على نَائِب حلب ومازال يستعطفه فِي أَن يَأْذَن لَهُ فِي الْعود بعد الشَّفَاعَة لَهُ إِلَى السُّلْطَان فَأجَاب سُؤَاله وَكَاتب فِيهِ فعفي عَن ذَنبه أُعِيدَت لَهُ إقطاعاته بحلب. وَقدم الْبَرِيد بِوُقُوع الْفِتْنَة بَين الْأُمَرَاء أسندمر كرجي نَائِب طرابلس والأمير بالوج الحسامي من أمرائها من أجل أَن أسندمر استخدم فِي ديوانه سامرياً كَاتبا يُقَال لَهُ أَبُو السرُور فَزَاد تحكمه وَأخذ يتجر لمخدومه فِي عدَّة بضائع وَركب الْخُيُول المسومة بالسروج المحلاة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَتصرف فِي عَامَّة الْأُمُور بطرابلس حَتَّى كثرت أَمْوَاله وسعاداته وتزايد شَره وضرره وَكَثُرت شكاية النَّاس مِنْهُ. فَقَامَ الْأَمِير بالوج فِي ذَلِك وتحدث مَعَ أُمَرَاء طرابلس فِي إِزَالَته عَن الْمُسلمين وواعدهم على نصرته ومعاونته إيَّاهُم. ثمَّ قَامَ فِي يَوْم الموكب للنائب أسندمر وَذكر لَهُ مَا أصَاب النَّاس من كَاتبه السامري وَمَا هم فِيهِ من الضَّرَر فَرد عَلَيْهِ رد اً غير جيد وجبهه بالتكذيب فِيمَا نَقله وَأَغْلظ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ غضب الْأَمِير بالوج مِنْهُ - وَكَانَ قوي النَّفس شرس الْأَخْلَاق - وَحلف بالأيمان الْمُغَلَّظَة ليضربن رَقَبَة السامري وَقَامَ من مجْلِس النَّائِب. فَكتب فِيهِ النَّائِب أسندمر يشكو مِنْهُ شكوى طَوِيلَة عريضة فأعيد جَوَابه بِالْقَبْضِ على الْأَمِير بالوج وحبسه فَأخذ سَيْفه وسجنه فاشتدت عِنْد ذَلِك وَطْأَة السامري على النَّاس فتجردوا لَهُ وَكَتَبُوا فِيهِ محَاضِر بقوادح حفظت عَنهُ وأثبتوها بِدِمَشْق. فَكتب الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام فِيهِ فَقَامَ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير فِي ذَلِك. وَكتب بِحمْل السامره إِلَى دمشق وتسليمه للْقَاضِي الْمَالِكِي. والإفراج عَن بالوج فأفرج عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ وَقيد السامري وَسلمهُ للبريد فَسَار بِهِ إِلَى حمص فاتفق قَتله بهَا واتهم أسندمر أَنه دس عَلَيْهِ من ضرب عُنُقه حَتَّى لَا يتَمَكَّن مِنْهُ فَحملت رَأسه إِلَى دمشق.(2/377)
وَفِيهِمَا حكم قَاضِي الْمَالِكِيَّة بإراقة دم شمس الدّين مُحَمَّد بن الباجريقي ففر من دمشق وَقدم الْأَمِير سلار من الْحبّ فِي نصف صفر وَقد فعل فِي الْحجاز أفعالاً جميلَة مِنْهَا: أَنه كتب أَسمَاء المجاورين بِمَكَّة وأوفى عَنْهُم جَمِيع مَا كَانَ عَلَيْهِم من الدُّيُون لأربابها وَأعْطى لكل مِنْهُم بعد وَفَاء دينه مئونة سنة ووصلت مراكبه إِلَى جدة سَالِمَة فَفرق مَا فِيهَا على سَائِر أهل مَكَّة جليلهم وحقيرهم وَكتب سَائِر الْفُقَرَاء وَجَمِيع الْأَشْرَاف وَحمل إِلَيْهِم الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وَالْغلَّة بِقدر كِفَايَة كل مِنْهُم سنة فَلم تبْق بِمَكَّة امْرَأَة وَلَا رجل وَلَا صَغِير وَلَا كَبِير وَلَا غَنِي وَلَا فَقير عبد أَو حر شرِيف أَو غير شرِيف إِلَّا وَعَمه ذَلِك ثمَّ استدعى الزيلع وَفرق فيهم الذَّهَب وَالْفِضَّة والغلال وَالسكر والحلوى حَتَّى عَم سَائِرهمْ وَبعث مباشريه إِلَى جدة فَفَعَلُوا فِيهَا كَمَا فعل هُوَ بِمَكَّة. وَحمل مَا بَقِي إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فَمَا بلغ وَادي بني سَالم وجد الْعَرَب قد أخذُوا عدَّة جمال من الْحجَّاج فَتَبِعهُمْ واخذ مِنْهُم خمسين رجلا فأفتاه الْفُقَهَاء بِأَنَّهُم محاربون فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف وَعم أهل الْمَدِينَة بالعطايا كَمَا عَم أهل مَكَّة فَكَانَ النَّاس بالحرمين يَقُولُونَ: يَا سلار! كَفاك الله هم النَّار وَلم يسمع عَن أحد فعل من الْخَيْر كَمَا فعل. وَقدم الْبَرِيد من حلب بِحُضُور جمَاعَة من الْمغل وافدين إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام نَحْو مِائَتي فَارس بنسائهم وَأَوْلَادهمْ وَفِيهِمْ عدَّة من أقَارِب غازان وَبَعض أَوْلَاد سنقر الْأَشْقَر فَكتب بإكرامهم فقدموا إِلَى الْقَاهِرَة فِي جُمَادَى الأولى وَقدم مَعَهم أخوا سلار وهما فَخر الدّين دَاوُد وَسيف الدّين جبا وقدمت أَيْضا أم سلار. فرتبت لَهُم الرَّوَاتِب وأعطوا الإقطاعات وَفرق جمَاعَة مِنْهُم على الْأُمَرَاء. وَأَنْشَأَ سلار لأمه دَارا بإسطبل الجوق الَّذِي عمله الْعَادِل كتبغا ميداناً ثمَّ عرف بحكر الخازن ورقى أَخَوَيْهِ وَأَعْطَاهُمْ الإمريات وَقدم الْأَمِير حسام الدّين أزدمر المجيري وعماد الدّين على بن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعلي بن معرف بن السكرِي من بِلَاد الشرق إِلَى دمشق فِي رَابِع عشرى شعْبَان ودخلا الْقَاهِرَة أول رَمَضَان ومعهما كتاب خر بندا وهديته فتضمن كِتَابه جُلُوسه على تخت الْملك بعد أَخِيه مَحْمُود غازان وخاطب السُّلْطَان بالأخوة(2/378)
وَسَأَلَ إخماد الْفِتَن وَطلب الصُّلْح وَقَالَ فِي آخر كَلَامه: عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ. فَأُجِيب وجهزت لَهُ الْهَدِيَّة وَأكْرم رَسُوله وسفر مَعَه عَلَاء الدّين على ابْن الْأَمِير سيف الدّين بلبان القلنجقي أحد مقدمي الْحلقَة والصدر سُلَيْمَان الْمَالِكِي المرتقى أحد الْعُدُول فتوجهوا فِي أول ذِي الْقعدَة وَعَاد عَلَاء الدّين وَسليمَان الْمَالِكِي فِي رَمَضَان من سنة خمس وَسَبْعمائة. وَقدم بدر الدّين مُحَمَّد بن فضل الله بن مجلي من بِلَاد غازان إِلَى دمشق فِي ثَالِث عشرى جُمَادَى الْآخِرَة. وَقدم رسل الْملك طقطاي صَاحب سراي وبر القبجاق فِي أول ربيع الأول وأنزلوا بمناظر الْكَبْش وأجريت لَهُم الرَّوَاتِب. ثمَّ حَضَرُوا بهديتهم وَكتاب ملكهم وَهُوَ يتَضَمَّن الرّكُوب لِحَرْب غازان ليَكُون فِي المساعدة عَلَيْهِ فَأُجِيب بِأَن الله قد كفاهم أَمر غازان وَأَن أَخَاهُ خربندا قد أذعن للصلح وجهزت لَهُ هَدِيَّة خرج بهَا مَعَ الرُّسُل الْأَمِير سيف الدّين بلبان الصرخدي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَسَارُوا فِي الْبَحْر. وَقدم عدَّة من التُّجَّار وَشَكوا من الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد بن يُوسُف بن عمر بن على ابْن رَسُول ملك الْيمن وَكَانَ مَعَ ذَلِك قد قطع الْهَدِيَّة الَّتِي كَانَت تحمل من الْيمن ومبلغها سِتَّة آلَاف دِينَار يَشْتَرِي بهَا أَصْنَاف وتسير إِلَى قلعة الإسماعيلية مَعَ هَدِيَّة تخْتَص بالسلطان. وَكَانَ المظفر يُوسُف بن الْمَنْصُور عمر بن على بن رَسُول حملهَا مُدَّة أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ حملهَا ابْنه الْأَشْرَف فَلَمَّا خرج عَلَيْهِ هزبر الدّين دَاوُد بن المظفر يُوسُف بن الْمَنْصُور بن على رَسُول قطع الْجِهَتَيْنِ واستخف بسُلْطَان مصر فَكتب إِلَيْهِ بالإنكار والتهديد وسير إِلَيْهِ مَعَ نَاصِر الدّين الطوري وشمس الدّين وَمُحَمّد بن عَدْلَانِ ومعهما كتاب الْخَلِيفَة أَيْضا يالإنكار عَلَيْهِ والتهديد وَأمره أَن يحمل الْمُقَرّر على الْعَادة. وَقدم أياي ملك دمقلة من بِلَاد النّوبَة بهدية مَا بَين جمال وأبقار ورقيق وشب وسنبادج وَطلب عسكراً فَأنْزل بدار الضِّيَافَة وَعَن مَعَه الْأَمِير سيف الدّين طقصبا وَالِي قوص وَجَمَاعَة الوافدية وعدة من أجناده الْحلقَة نَحْو ثَلَاثمِائَة فَارس وَمن أجناد(2/379)
الْوُلَاة بِالْوَجْهِ القبلي وَمن العربان جمَاعَة كَبِيرَة. فَاجْتمعُوا من الْبر وَالْبَحْر بقوص وَسَار بهم طقصبا مَعَ أياي ملك النّوبَة. وفيهَا بعث الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الدوادار إِلَى القَاضِي شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله كَاتب السِّرّ أَن يكْتب نَائِب الشَّام كتابا فَقَالَ: لابد من مُشَاورَة السُّلْطَان أَو النَّائِب فَغَضب بيبرس واستدعاه فَلَمَّا جَاءَهُ لم يكترث بِهِ وَقَالَ لَهُ: كَيفَ أَقُول لَك - والك - اكْتُبْ مَا تكْتب فَقَالَ: تأدب يَا أَمِير وَلَا تَقول والك فَقَامَ بيبرس وضربه على رَأسه ثَلَاث ضربات فَخرج من عِنْده إِلَى الْأَمِير سلار النَّائِب وعرفه مَا جرى عَلَيْهِ فأقره عِنْده. وَاجْتمعَ بالأمراء وَقت الْخدمَة وَعرف الْأَمِير بيبرس الجاشنكير الْخَبَر فشق عَلَيْهِ وعَلى بَقِيَّة الْأُمَرَاء ذَلِك وَاتَّفَقُوا على بيبرس الدوادار فَأخذ سَيْفه وعوق من بكرَة النَّهَار إِلَى الظّهْر وعنف تعنيفاً زَائِدا وعزل من الدوادارية وَاسْتقر عوضه الْأَمِير أيد مر. وَقدم الْبَرِيد من دمشق بِأَن تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية تنَازع مَعَ أهل دمشق فِي الصَّخْرَة الَّتِي بِمَسْجِد النارنج بجوار مصلى دمشق وَأَن الْأَثر الَّذِي بهَا هُوَ قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مَا يَفْعَله النَّاس من التَّبَرُّك بِهِ وَتَقْبِيله لَا يجوز وَإنَّهُ مضى بالحجارين وَقطع الصَّخْرَة فِي سادس عشر رَجَب وَقد أنكر عَلَيْهِ النَّاس مَا فعله فَأُجِيب إِن كَانَ الْأَمر على مَا زعم فقد فعل الْخَيْر وأزال بِدعَة وان كَانَ الْأَمر بِخِلَاف مَا قَالَ فَإِذا تبين صِحَّته يُقَابل على مَا فعله. وَقدم أيدغدي الشمهرزوري رَسُولا من جِهَة أبي يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن أبي بكر بن جمَاعَة المريني ملك الْمغرب بهدية جليلة وَقدم مَعَه ركب المغاربة يُرِيدُونَ الْحَج وَكَانَ قد انْقَطع من بِلَاد الْمغرب مُنْذُ سِنِين.(2/380)
فجهزهم أَبُو يَعْقُوب وَبعث مَعَهم مُصحفا غشاه بِالذَّهَب المرصع بالجوهر الرائع وَوَقفه فِي الْحرم. فَأكْرم أيدغدي وَأنزل بالميدان وأجريت عَلَيْهِ الرَّوَاتِب وَكَانَ أيدغدي هَذَا لما قبض على يَعْقُوب فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة فر فِي جمَاعَة من الأكراد إِلَى برقة وَقدم على أبي يَعْقُوب بهدية. ففر بِهِ وَقدمه حَتَّى صَار فِي منزلَة وَزِير وَحسنت سيرته عِنْدهم إِلَى أَن بَعثه أَبُو يَعْقُوب بالهدية ليحج. وفيهَا بنى الْأَمِير مُوسَى بن الصَّالح على بن قلاوون على ابْنة الْأَمِير سلار النَّائِب مَمْلُوك أَبِيه الصَّالح. وَعمل مُهِمّ عَظِيم جدا وجهزت ابْنة سلار بِمِائَة وَسِتِّينَ ألف دِينَار وَمَشى فِي زفته الْأَمِير بيبرس الجاشنكير وَسَائِر الْأُمَرَاء وَحمل كل مِنْهُم التقادم من الشمع وَغَيره. فَحمل الْأُمَرَاء إِلَيْهِ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثِينَ قِنْطَارًا من الشمع. وفيهَا أوقع بالوزير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشيخي: وَسَببه أَن الْأَمِير سلار النَّائِب لما قدم من الْحجاز عرفه الجمدارية اجتماعه بالسلطان على تروجة ومسارته لَهُ وَحمله مبلغ ألفي دِينَار وَأَنه فاوضه فِي أَمر الْأُمَرَاء وشجعه عَلَيْهِم وَأَن السُّلْطَان كلما احْتَاجَ إِلَى شَيْء استدعى بِهِ مِنْهُ فيحمله إِلَيْهِ. فشق ذَلِك على سلار وحرك مِنْهُ مَا فِي نفس من كَرَاهَته لَهُ. وَكَانَ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير قد عزم على الْحَج فَأَرَادَ مبادرة ابْن الشيخي قبل سفر بيبرس لِئَلَّا يُوقع بِهِ فِي غيبته فشق ذَلِك عَلَيْهِ فَاسْتَشَارَ الْأَمِير علم الدّين(2/381)
سنجر الجاولي فِي أمره فاتفقا على إِقَامَة شخص من الأقباط يرافعه ويحقق فِي جِهَته مَال السُّلْطَان. وَندب لذَلِك من وَقع الِاخْتِيَار عَلَيْهِ. فَكتب أوراقاً وَجلسَ الْأُمَرَاء فِي الْخدمَة فعرفهم سلار مَا بلغه عَن الْوَزير ومماليكه وَحط عَلَيْهِ. فَقَالَ الْأُمَرَاء بأجمعهم: مَتى ظهر فِي قبله شىء قطع جلده بالمقارع واستدعى. فَلَمَّا حضر قَالَ لي سلار: اسْمَع مَا يَقُول هَذَا الرجل من أَنَّك أخذت مَال السُّلْطَان وخنته وَقد عرفت الشَّرْط وَأَشَارَ للرجل بمحاققته. فَقَالَ ابْن الشيخي لشؤم بخته: وَمن هَذَا الْقطعَة النحس حَتَّى أَتكَلّم مَعَه أَو يسمع مِنْهُ فِي حق مثلى مَا يَقُوله. فَاشْتَدَّ عِنْد ذَلِك غضب سلار وَقَالَ لَهُ: يَا قواد يَا قِطْعَة نحس إيش أَنْت حَتَّى تكبر نَفسك واذا حضر وَاحِد يعرفنا خِيَانَتك تخرق بِهِ قدامنا أما لنا حُرْمَة عنْدك وَأمر الْحَاجِب فَضَربهُ على رَأسه إِلَى أَن خرب شاشه. وَسلمهُ إِلَى شاد الدَّوَاوِين وَأمره بمعاقبته ومعاقبة مماليكه كبك وبكتوت وَغَيره فَأخذ سَيْفه فِي آخر يَوْم من شعْبَان وَمضى بِهِ هُوَ ومماليكه وشاور عَلَيْهِ من الْغَد فَأمر بمطالبته بِالْحملِ فَأخذ فِي تَحْصِيل المَال وَلَا يمر بِهِ يَوْم إِلَّا ويخرق بِهِ عز الدّين ايبك الشجاعي شاد الدَّوَاوِين وينكل بِهِ لما كَانَ نَفسه من تكبره عَلَيْهِ ومشيه فِي ركابه هُوَ ووالى الْقَاهِرَة عِنْد قربه من دَاره. ثمَّ إِنَّه جلس بالصناعة فِي مصر واستدعاه من القلعة فَنزل رَاكِبًا حمارا وشق بِهِ أسواق مصر إِلَى الصِّنَاعَة فثار بِهِ أهل مصر يُرِيدُونَ رجمه وسبوه. ثمَّ أَعَادَهُ وَلم يزل على ذَلِك إِلَى يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر رَمَضَان فاستدعى سعد الدّين مُحَمَّد بن عطايا نَاظر الْبيُوت وَاسْتقر فِي الوزارة. وَجلسَ والأمير علم الدّين سنجر الجاولي قَائِم بَين يَدَيْهِ يُؤَخر مَا يُوقع عَلَيْهِ من الأوراق وَكَانَ ابْن عطايا قبل هَذَا بِثَلَاثَة أَيَّام قد رؤى قَائِما بَين يَدي الجاولي يقْرَأ عَلَيْهِ ورقة حِسَاب. وَاسْتمرّ ابْن الشيخي إِلَى لَيْلَة عيد الْفطر وبيبرس الجاشنكير لَا يتحدث فِي أمره بشىء وَإِذا عرض عَلَيْهِ شاد الدَّوَاوِين شَيْئا من أُمُوره قَالَ لَهُ: مهما رسم نَائِب السُّلْطَان افعله. هَذَا وَقد ثقل عَلَيْهِ فِي أَمر ابْن الشيخي زَوجته بنت بهادر رَأس نوبَة وولداها جركتمر وأميرعلى وأخوهما خَلِيل وَكَانُوا من خَواص الْأَمِير بيبرس وَهُوَ يعدهم بخلاصه إِلَى أَن اجْتمع والأمراء عِنْد النَّائِب فَتحدث مَعَه فِي خلاصه فَعرفهُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ السُّلْطَان على تروجة فَأمْسك عَنهُ وَقَامَ. وفيهَا توجه الْأَمِير بيبرس الجاشنكير إِلَى الْحجاز مرّة ثَانِيَة فِي أول ذِي الْقعدَة وَمَعَهُ عَلَاء الدّين ايدغدي الشمهرزوري رَسُول ملك الْمغرب والأمير بيبرس المنصوري(2/382)
الدوادار والأمير بهاء الدّين يَعْقُوب فِي جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء. وَكَانَ فد خرج الركب فِي عَالم كثير من النَّاس مَعَ الْأَمِير عز الدّين أيبك الخازندار زوج ابْنة الْملك الظَّاهِر بيبرس إِلَى الْبركَة فَكثر الْحجَّاج وقسموا ثَلَاث ركُوب: ركب مَعَ الْأَمِير بيبرس المنصوري وَركب مَعَ الْأَمِير يعقوبا وَركب مَعَ أيبك وعندما سَار الْأَمِير بيبرس الجاشنكير رسم النَّائِب سلار لشاد الدَّوَاوِين فَضرب ابْن الشيخي فِي يَوْمه بالمقارع وَاسْتمرّ يُعَاقِبهُ حَتَّى مَاتَ من الْعقُوبَة فِي سابعه. وفيهَا سَار الشريفان حميضة ورميثة من الْقَاهِرَة مَعَ الْأَمِير عز الدّين أيدمر الكوكندي إِلَى مَكَّة فَقبض الْأَمِير بيبرس الجاشنكير على الشريفين أبي الْغَيْث وعطفة وَولى مكانهما حميضة ورميثة. وفيهَا: وجد الْحَاج عدَّة مشاق: مِنْهَا قلَّة المَاء وَغَلَاء السّعر وهبوب سمائهم محرقة هلك مِنْهَا خلق كثير من جفاف قرب المَاء. وَأخذ الْحَاج من وَادي النَّار على طَرِيق أُخْرَى فتاهوا وَهلك مِنْهُم عَالم كَبِير. وَبلغ الشّعير كل ويبة بِأَرْبَعِينَ درهما والدقيق كل وبية بستين. وفيهَا: قدم الْأَمِير بكتاش الفخري أَمِير سلَاح بِمن مَعَه من غزَاة سيس وفيهَا أجدب الشَّام من الْغَوْر إِلَى الْعَريش وجفت الْمِيَاه ونزح النَّاس عَن أوطانهم من الْعَطش(2/383)
وخلا من الصَّفْقَة الْقبلية أَلفَانِ وَثَمَانمِائَة قَرْيَة. وفيهَا ظهر فِي مَعْدن الزمرد قِطْعَة زنتها مائَة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ مِثْقَالا فأخفاها الضَّامِن وَحملهَا إِلَى بعض الْمُلُوك فَدفع لَهُ فِيهَا مائَة وَعشْرين ألف دِرْهَم فَأبى بيعهَا فَأَخذهَا مِنْهُ وَبعث بهَا إِلَى السُّلْطَان فَمَاتَ الضَّامِن غماً. وفيهَا: توجه شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية فِي ذِي الْحجَّة من دمشق وَمَعَهُ(2/384)
الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش المنصوري إِلَى أهل جبل كسروان يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة فَلم يجيبوا. فَجمعت العساكر لقتالهم. وفيهَا: قَامَ بِأَمْر الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة الشريف نَاصِر الدّين أَبُو عَامر مَنْصُور بعد موت أَبِيه الْأَمِير عز الدّين أبي سفر جماز بن شيحة فِي ربيع الآخر. وَبلغ النّيل سَبْعَة عشر ذِرَاعا. وَثَمَانِية عشر إصبعاً. وَمَات فِي هَذِه السّنة زين الدّين أَحْمد بن الصاحب فَخر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب بهاء الدّين على بن مُحَمَّد بن سليم بن حنا فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثامن صفر وَكَانَ فَقِيها شافعياً فَاضلا متديناً رَئِيسا وافر الْحُرْمَة محباً لأهل الْخَيْر وَمَات فتح الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلْطَان القوصي الشَّافِعِي وَكيل بَيت المَال وَمَات شمس الدّين أَحْمد بن على بن هبة الله بن السديد الإسنائي خطيب إسنا ونائب الحكم بهَا وبأدفو وبقوص فِي رَجَب وَكَانَ قد انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الصَّعِيد وَبنى بقوص مدرسة وَكَانَ قوى النَّفس كثير الْعَطاء مهيبا ممدوحاً يبْذل فِي بَقَاء رياسته الآلاف فَيُقَال إِنَّه بذل فِي نِيَابَة الحكم بقوص ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم فَسَار إِلَى مصر وَمَات بهَا. وَمَات الْأَمِير بيبرس الموفقي المنصوري أحد أُمَرَاء دمشق بهَا فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشرى جُمَادَى الْآخِرَة مخنوقاً وَهُوَ سَكرَان. وَمَات الْأَمِير الشريف عز الدّين جماز بن شيحة أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَقد أضرّ وَقَامَ بالإمرة الْأَمِير نَاصِر الدّين مَنْصُور بن جماز. وَمَات بهاء الدّين عبد الْحسن بن الصاحب مُحي الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن هبة الله وَيعرف بِأبي جَرَادَة مَاتَ بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ سخياً مُبَارَكًا فَاضلا حدث عَن يُوسُف بن خَلِيل وَغَيره. وَمَات علم الدّين عبد الْكَرِيم بن على بن عمر الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بِالْعلمِ(2/385)
الْعِرَاقِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي مدرس التَّفْسِير بالقبة المنصورية يَوْم الثُّلَاثَاء سادس صفر عَن بضع وَثَمَانِينَ سنة وَكَانَ عَالم مصر. وَمَات تَاج الدّين على بن أَحْمد بن عبد المحسن الحسينى الْعِرَاقِيّ الإسْكَنْدراني شيخ الْإسْكَنْدَريَّة الإِمَام الْمُحدث فِي ذِي الْحجَّة تفرد بالرواية عَن جمَاعَة ورحل النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ فَقِيها عَالما. وَمَات نجم الدّين عمر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الْكَاتِب بن أبي الطّيب الدِّمَشْقِي نَاظر المارستان النوري بِدِمَشْق وناظر الخزانة ووكيل بَيت المَال بهَا لَيْلَة الثُّلَاثَاء نصف جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ فَقِيها مدرساً مشكوراً فِي ولاياته. وَمَات أَمِين الدّين مُحَمَّد بن الشَّيْخ قطب الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بِمَكَّة فِي الْمحرم وَسمع الحَدِيث بِمَكَّة وانتهت إِلَيْهِ مشيخة الحَدِيث بهَا. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن الصاحب شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد بن التيتي الْآمِدِيّ أحد الْأُمَرَاء ونائب دَار الْعدْل بقلعة الْجَبَل. وَمَات الْأَمِير مبارز الدّين سوار الرُّومِي أَمِير شكار أحد الوافدية من الرّوم فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة وَكَانَ كَرِيمًا شجاعاً متديناً. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بهادر سمر مقتولًا بأيدي عرب الشَّام. وَمَات الْأَمِير الْوَزير نَاصِر الدّين مُحَمَّد - وَيُقَال ديباى - الشيخي تَحت الْعقُوبَة فِي سَابِع ذِي الْقعدَة وَأخرج على جنوية إِلَى القرافة فَدفن بهَا وَكَانَ فِيهِ مَكَارِم وعصبة ومروءة وَيكْتب الْخط الْمليح وَيعرف صناعَة الْحساب مَعَ الظُّلم والعسف والتكبر وأحدث مظالم عديدة وَأَصله من بِلَاد ماردين وَقدم مَعَ شمس الدّين مُحَمَّد بن التيتي إِلَى دمشق وَسَار مِنْهُمَا إِلَى الْقَاهِرَة مُجَردا فَقِيرا يمشي على قَدَمَيْهِ وتعيش فِي خياطَة الأقباع بِبَعْض أسواق الْقَاهِرَة مُدَّة ثمَّ تزيا بزِي الأجناد وخدم مَعَ الشادين ولازم الْوُقُوف فِي خدمَة الحسام برناق شاد الكيالة زَمَانا حَتَّى عرف دخل الْمُبَاشرَة وخرجها فتلطف مَعَ بعض مقطعي الكيالة وأوعدهم حَتَّى ضمن سَاحل الْغلَّة ببولاق فَشدد فِيهِ حَتَّى فاض مَعَه جملَة وخدم الصاحب فَخر الدّين بن الخليلي وهادى الْأُمَرَاء إِلَى أَن(2/386)
ولى شدّ الدَّوَاوِين بإمرة عشرَة وانتقل مِنْهَا إِلَى شدّ الجيزية وَولَايَة الْقَاهِرَة وَجمع بَينهمَا فَصَارَ من أُمَرَاء الطبلخاناه وَولى الوزارة فَكَانَ فِيهَا حتفه. وَمَات الشريف شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الشهَاب أبي على الْحُسَيْن بن شمس الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد الأرموي نقيب الْأَشْرَاف فِي تَاسِع عشر شَوَّال وَولى نقابة الْأَشْرَاف بعده الشريف بدر الدّين بن عز الدّين وَقَتله بِدِمَشْق أَبُو السرُور السامري كَاتب الْأَمِير سيف الدّين أسندمر كرجي نَائِب طرابلس.(2/387)
فارغة(2/388)
سنة خمس وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: بَاشر جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عمر الْقزْوِينِي نِيَابَة الحكم بِدِمَشْق عَن نجم الدّين أَحْمد بن صصري. وَفِي ثَانِيه: سَار الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام من دمشق فِي عساكرها لقِتَال أهل حبال كسروان ونادى بِالْمَدِينَةِ من تَأَخّر من الأجناد والرجالة شنق. فَاجْتمع لَهُ نَحْو الْخمسين ألف راجل وزحف بهم لمهاجمة أهل تِلْكَ الْجبَال ونازلهم وَخرب ضياعهم وَقطع كرومهم ومزقهم بَعْدَمَا قَاتلهم أحد عشر يَوْمًا قتل فِيهَا الْملك الأوحد شادي بن الْملك الزَّاهِر دَاوُد وَأَرْبَعَة من الْجند وَملك الْجَبَل عنْوَة وَوضع فيهم السَّيْف وَأسر سِتّمائَة رجل وغنمت العساكر مِنْهُم مَالا عَظِيما وَعَاد إِلَى دمشق فِي رَابِع عشر صفر. وَقدم الْأَمِير بيبرس الجاشنكير من الْحجاز وَمَعَهُ الشريفان أَبُو الْغَيْث وعطيفة فرتب لَهما مَا يكفيهما وصارا يركبان مَعَ الْأُمَرَاء وَقدم الْحَاج ورسم بتجهيز الْهَدِيَّة إِلَى ملك الغرب وصحبتها عشرُون إكديشاً من أكاديش التتر وَعِشْرُونَ أَسِيرًا مِنْهُم وَشَيْء من طبولهم وقسيهم وَخرج بهَا - مَعَ أيدغدي الشهرزوري - عَلَاء الدّين أيدغدي التسليلي الشمسي مَمْلُوك سنقر الْأَشْقَر والأمير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ. وَاسْتقر أَمِين الدّين أَبُو بكر بن وجيه الدّين عبد الْعَظِيم بن يُوسُف بن الرقاقي فِي نظر الشَّام عوضا عَن شهَاب الدّين بن ميسر. وعزل شمس الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الحريري عَن قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَكتب باستقرار شمس الدّين الْأَذْرَعِيّ عوضا عَنهُ وَسبب عزل(2/389)
أَنه وجد بخطة ان الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَمِيمَة لم يرى النَّاس بعد سلف الصَّالح مثله فاتفق أَن البريدي لما توجه بتقليد الْأَذْرَعِيّ ظن أَنه للحريري وَقدم دمشق والنائب قد خرج إِلَى الصَّيْد فَأعْطى التَّقْلِيد للحريري فَقَامَ إِلَى الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة وَحكم وَكَانَ ابْن الْأَذْرَعِيّ يَظُنهَا لَهُ فيئس واغتم لذَلِك. ثمَّ قرئَ الثقليد بحضره النَّاس فَإِذا هر باسم الْأَذْرَعِيّ فَقَامَ الحريري خجلاً واستدعى الْأَذْرَعِيّ فَجَلَسَ وَحكم. وفيهَا: أظهر ابْن تَيْمِية الْإِنْكَار على الْفُقَرَاء الأحمدية فِيمَا يَفْعَلُونَهُ: من دُخُولهمْ فِي النيرَان المشتعلة وأكلهم الْحَيَّات ولبسهم الأطواق الْحَدِيد فِي أَعْنَاقهم وتقلدهم بالسلاس على مَنَاكِبهمْ وَعمل الأساور الْحَدِيد فِي أَيْديهم ولفهم شُعُورهمْ وتلبيدها. وَقَامَ فِي ذَلِك قيَاما عَظِيما بِدِمَشْق وَحضر فِي جمَاعَة إِلَى النَّائِب وعرفه أَن هَذِه الطَّائِفَة مبتدعة فَجمع لَهُ وَلَهُم النَّاس من أهل الْعلم فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً كَادَت أَن تقوم فِيهِ فتْنَة وَاسْتقر الْأَمر على الْعَمَل بِحكم الشَّرْع ونزعهم هَذِه الهيئات. وفيهَا اقْطَعْ السُّلْطَان فِي جُمَادَى الْآخِرَة جبال كسروان بعد فتحهَا للأمير عَلَاء الدّين بن معبد البعلبكي وَسيف الدّين بكتمر عَتيق بكتاش الفخري. وحسام الدّين لاجين وَعز الدّين خطاب الْعِرَاقِيّ فَرَكبُوا بالشربوش وَخَرجُوا إِلَيْهَا فزرعها لَهُم الجبلية وَرفعت أَيدي الرفضة عَنْهَا. وفيهَا أخر متملك سيس الْحمل الْجَارِي بِهِ الْعَادة فَبعث إِلَيْهِ نَائِب حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحد مقدمي حلب على عَسْكَر نَحْو الْأَلفَيْنِ وَفِيهِمْ الْأَمِير شمس الدّين أقسنقر الْفَارِسِي والأمير فتح الدّين صبرَة المهمندار والأمير قشتمر النجيبي وقشتمر المظفري فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَاضِيَة. فَشُنُّوا الغارات على بِلَاد سيس ونهبوا وحرقوا كثيرا من الضّيَاع وَسبوا النِّسَاء والأطفال فِي الْمحرم. وَكَانَ قد وصل إِلَى سيس طَائِفَة من التتار فِي طلب المَال فَركب التتار مَعَ صَاحب سيس وملكوا رَأس الدربند فَركب الْعَسْكَر لقتالهم وَقد انحصروا فَرمى التتار عَلَيْهِم بالنشاب والأرمن بِالْحِجَارَةِ فَقتل جمَاعَة وَأسر من الْأُمَرَاء ابْن صبرَة وقشتمر النجيبي وقشتمر المظفري فِي آخَرين من أهل حلب وخلص قشتمر مقدم الْعَسْكَر وآقسنقر الْفَارِسِي. وَتوجه التتار بالأسرى إِلَى خربندا بالأردن فرسم عَلَيْهِم: وَبلغ نَائِب حلب خبر الكسرة فَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان والأمراء فرسم بِخُرُوج الْأَمِير بكتاش أَمِير سلَاح وبيبرس الدوادار وأقوش الْموصِلِي فتال السَّبع والدكن السِّلَاح دَار فَسَارُوا من الْقَاهِرَة فِي نصف شعْبَان على أَرْبَعَة آلَاف فَارس. فَبعث متملك سيس الْحمل وَاعْتذر بِأَن الْقِتَال لم يكن(2/390)
مِنْهُ وَإِنَّمَا كَانَ من التتر ووعده بالتحيل فِي إِحْضَار الْأُمَرَاء المأسورين فَرجع الْأَمِير بكتاش بِمن مَعَه من غَزَّة. وفيهَا أفرج عَن الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج بهادر الجكمي الظَّاهِرِيّ وَأخرج إِلَى دمشق على إقطاع قيران مشد الدَّوَاوِين وَاسْتقر حاجباً بِدِمَشْق عوضا عَن الْأَمِير بكتمر الحسامي وَنقل بكتمر من الحجوبية إِلَى شدّ الدَّوَاوِين وَقبض على قيران وصودر. وفيهَا قدم رَسُول ملك قسطنطينية وَمَعَهُ رَسُول الكرج بِهَدَايَا وَكتاب يتَضَمَّن الشَّفَاعَة فِي فتح الْكَنِيسَة المصلبة بالقدس لزيارة الكرج لَهَا وَأَن الكرج تكون فِي طَاعَة السُّلْطَان وعوناً لَهُ مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم. فَكتب بِفَتْح الْكَنِيسَة ففتحت وأعيد الرَّسُول بِالْجَوَابِ. وفيهَا توقفت الْأَحْوَال بِالْقَاهِرَةِ لِكَثْرَة الْفُلُوس وَمَا دخل فِيهَا من الْخفاف الْوَزْن وارتفع سعر الْقَمْح من عشْرين درهما الأردب إِلَى أَرْبَعِينَ. فرسم بِضَرْب فلوس جدد وعملت الْفُلُوس الْخفاف بِدِرْهَمَيْنِ وَنصف الرطل فمشت الْأَحْوَال. وفيهَا قَامَ شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ بِالْقَاهِرَةِ وَأنكر على تَقِيّ الدّين أَحْمد بن(2/391)
تَيْمِية فَتْوَى رَآهَا قي مسالة الاسْتوَاء وَمَسْأَلَة خلق الْقُرْآن وَاجْتمعَ بالقضاة فِي(2/392)
لنائب آل الْأَمر فِيهِ إِلَى أَن كتب ابْن تَيْمِية خطه وَأشْهد عَلَيْهِ إِنَّه شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد مَا يَعْتَقِدهُ الإِمَام الشَّافِعِي وانه أشعري الِاعْتِقَاد. فَنُوديَ بِدِمَشْق من ذكر عقيدة ابْن تَيْمِية شنق فَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ ابْن عَدْلَانِ وَقَامَ مَعَه قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف الْمَالِكِي. وحرض الْأُمَرَاء عَلَيْهِ. ومازال بهم حَتَّى خرج الْأَمِير ركن الدّين الْعمريّ الْحَاجِب على الْبَرِيد بِحمْلِهِ وَحمل أَخِيه شرف الدّين عبد الرَّحْمَن إِلَى الْقَاهِرَة. وَطلب الْأَمِير ركن الدّين نجم الدّين أَحْمد بن صصري ووجيه الدّين بن المنجا وتقي الدّين شقير وَأَوْلَاد ابْن الصَّائِغ فأحضروهم يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر رَمَضَان فَاجْتمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بقلعة الْجَبَل وَحضر الْأُمَرَاء فَادّعى ابْن عَدْلَانِ على ابْن تيميه فَلم يجبهُ وَقَامَ يخْطب فصاح عَلَيْهِ القَاضِي زين الدّين بن مخلوف الْمَالِكِي: نَحن أحضرناك للدعوى عَلَيْك مَا أحضرناك خَطِيبًا وألزمه بِالْجَوَابِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْت عدوي لَا يجوز حكمك على فَأمر باعتقاله فَأخذ وسجن بحارة الديلم من الْقَاهِرَة هُوَ وَأَخُوهُ. وخلع على ابْن صصري وأعيد إِلَى دمشق وَمَعَهُ كتاب ليقْرَأ على الْجَامِع بِالْمَنْعِ من الْكَلَام فِي العقائد وَالنَّهْي عَن اعْتِقَاد شَيْء من فَتَاوَى ابْن تَيْمِية وَأَن يكْتب على الْحَنَابِلَة محَاضِر بِالرُّجُوعِ وفيهَا قطع خبر الْأَمِير الْكَبِير بكتاش الفخري أَمِير سلَاح الصَّالِحِي النجمي: وَسبب ذَلِك أَنه مرض وَقد أناف على الثَّمَانِينَ فخاف أستاداره بكتمر الْفَارِسِي من مَوته وَأَن يُطَالب من ديوَان السُّلْطَان بتفاوت الإقطاع فِي مُدَّة إمرته وَهِي سِتُّونَ سنة وَأَن يلْزم بالتقاوى السُّلْطَانِيَّة وَحسن لوَلَده نَاصِر الدّين مُحَمَّد أَن يمْضِي إِلَى الْأَمِير بيبرس وسلار على لِسَان أَبِيه بَان يتحدثا مَعَ السُّلْطَان بِأَنَّهُ قديم هِجْرَة وَله خدمَة فِي الْبَيْت المنصوري وَقد أسن وَعجز عَن الرّكُوب وَلَا يحل لَهُ أكل هَذَا الإقطاع بِغَيْر اسْتِحْقَاق ويسألاه فِي إِخْرَاجه عَنهُ وَكِتَابَة مسموح لأولاده ومباشريه بِمَا يخص السُّلْطَان من تفَاوت الإقطاعات والانتقالات من تَارِيخ إمرته إِلَى خُرُوج الإقطاع عَنهُ وخيله إِنَّه مَتى لم يفعل ذَلِك حَتَّى يَمُوت وَالِده لم يبْق لَهُم من بعده وجود وَيحْتَاج إِلَى الِاسْتِدَانَة ليوفي الدِّيوَان السلطاني مُسْتَحقّه. فانفعل لذَلِك وَبلغ مَا رتبه الأستادار عَن أَبِيه إِلَى بيبرس(2/401)
وسلار فتألما وبكيا ودخلا بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأَعَادَ نَاصِر الدّين مُحَمَّد لَهُ الرسَالَة بِحُضُور الْأُمَرَاء فَأُجِيب وَكتب المسموح وَنَصه: رسم بِالْأَمر الشريف شرفه الله وعظمه أَن يسامح الْمقر العالي المولوي الأميري البدري بكتاش الفخري الصَّالِحِي أَمِير سلَاح بِجَمِيعِ مَا عَلَيْهِ من تفَاوت الإقطاعات الْمُنْتَقل إِلَيْهَا والمنتقل عَنْهَا من غير طلب تفَاوت وَلَا تقاو وَلَا مَا يخص الدِّيوَان الشريف من هلالي وخراجى وَغَيره مُسَامَحَة وانعاماً عَلَيْهِ لما سلف لَهُ من الْخدمَة وتقادم الْهِجْرَة مُسَامَحَة لَا رد فِيهَا وَلَا رُجُوع عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يُطَالب بشئ قل وَلَا جلّ لما مضى من الزَّمَان وَإِلَى يَوْم تَارِيخه لنزوله عَن إقطاعه حسب سُؤَاله وَتوجه إِلَيْهِ الْأَمِير شمس الدّين سنقر الكمالي الْحَاجِب والأمير بدر الدّين مُحَمَّد بن الوزيرى بذلك. وَسبق وَلَده وَدخل عَلَيْهِ وَمَعَهُ بكتمر أستاداره وحدثاه فِي أَنه قد ضعف عَن الْحَرَكَة وَأَن الإقطاع يستكثر عَلَيْهِ فَقَالَ: أَرْجُو أَن يمن الله بالعافية وَأَن أَمُوت على ظهر فرسي فِي الْجِهَاد فذكرا لَهُ مَا يتخوفانه بعد مَوته من المغرم فَلم يلْتَفت لكلامهما. وَقدم الْحَاجِب وَابْن الوزيري بالمسموح فقاله لَهما: لَا تطيلا فِي الْكَلَام فَإِنَّهُ اخْتَلَط وَفَسَد عقله فدخلا وعرفاه مَا قَالَه عَنهُ وَلَده من طلب الإعفاء من الْخدمَة فَإِنَّهُ نزل عَن الإقطاع وقدما لَهُ المسموح وبلغاه سَلام السُّلْطَان والأمراء وَأَنه لم يفعل هَذَا إِلَّا حسب سُؤَاله وَقد رتب لَهُ خَمْسَة آلَاف دِرْهَم فِي الشَّهْر. فَغَضب عِنْد ذَلِك وَقَالَ: قطع السُّلْطَان خبزي قَالَا: نعم {وعرفاه مَا كَانَ من وَلَده فَالْتَفت إِلَيْهِ وَقَالَ: أَنْت سَأَلت فِي ذَلِك قَالَ: نعم} فَسَبهُ وَقَالَ للأميرين: قولا للسُّلْطَان والأمراء مَا كنت أستحق أَن يقطع خبزي قبل الْمَوْت وهم يعلمُونَ مَا فعلته مَعَهم وَكنت أُؤَمِّل أَن أَمُوت فِي الْغُزَاة وَمَا بَرحت أخرج كل سنة لَعَلَّ أَن يدركني أَجلي فَمَا قدر الله. ثمَّ أعرض عَنْهُم وَقَامُوا عَنهُ فَمَاتَ من مَرضه هَذَا. وَاسْتقر إقطاعه فِي الْخَاص السلطاني وأضيفت أجناده إِلَى الْحلقَة وفيهَا قدمت هَدِيَّة الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دواد صَاحب الْيمن فَوجدت قيمتهَا أقل من الْعَادة فَكتب بالإنكار عَلَيْهِ والتهديد وسير مَعَ بدر الدّين مُحَمَّد الطوري أحد مقدمي الْحلقَة فَلم يعبأ بِهِ الْملك الْمُؤَيد وَلَا أجَاب عَن الْكتاب بِشَيْء. وفيهَا استسقى أهل دمشق لقلَّة الْغَيْث فسقوا بعد ذَلِك. وَمَات فِي هَذِه السّنة خطيب دمشق شرف الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع الفزارى الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُقْرِئ النَّحْوِيّ الْمُحدث فِي شَوَّال عَن خمس وَسبعين سنة.(2/402)
وَمَات مجد الدّين سَالم بن أبي الهيجاء بن جميل الْأَذْرَعِيّ قَاضِي نابلس بِالْقَاهِرَةِ فِي ثَانِي عشر صفر بَعْدَمَا بَاشر قَضَاء نابلس أَرْبَعِينَ سنة وَصرف عَنْهَا وَقدم بأَهْله إِلَى الْقَاهِرَة فَمَاتَ بهَا. وَمَات الْحَافِظ شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن خلف بن أبي الْحسن بن شرف ابْن الْخضر بن مُوسَى الدمياطي الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُحدث آخر الْحفاظ فِي خَامِس عشر ذِي الْقعدَة من غير مرض عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة بحلب شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن بهْرَام الشَّافِعِي بهَا فِي أَوَائِل جُمَادَى وَمَات مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم بن شهَاب الدّين بن الْمُؤَدب بِمصْر حدث عَن ابْن باقا. وَمَات الْفَقِيه العابد الْمسند أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد الحبراني الْحَنْبَلِيّ ومولده بحران سنة ثَمَانِي عشرَة وسِتمِائَة سمع من ابْن روزبة والمؤتمن ابْن قميرة وَسمع بِمصْر من ابْن الجميزي وَغَيره وَتفرد بأَشْيَاء وَكَانَ فِيهِ دعابة وتلا بِمَكَّة ألف ختمة. وَمَات شرف الدّين يحيى بن احْمَد بن عبد الْعَزِيز الجذامى الإسْكَنْدراني. وَمَات الأوحد تَقِيّ الدّين بن الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد بن الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أَسد الدّين شيركوه بن شادي بن مَرْوَان أحد أُمَرَاء دمشق فِي ثَانِي صفر على قتال الكسرويين وَكَانَ فَاضلا خَبِيرا بالأمور. وَمَاتَتْ المعمرة أم الْفضل زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن رَحْمَة الإسعردية بِمصْر فِي ذِي الْقعدَة حدثت عَن ابْن الزبيدِيّ وَأحمد بن عبد الْوَاحِد البُخَارِيّ وَغَيره وتفردت بأَشْيَاء.(2/403)
فارغة(2/404)
(سنة سِتّ وَسَبْعمائة)
فِيهَا توحش مَا بَين الأميرين علم الدّين سنجر البرواني وَسيف الدّين الطشلاقي على بَاب الْقلَّة من القلعة بِحَضْرَة الْأُمَرَاء من أجل استحقاقهما فِي الإقطاعات فَإِنَّهُمَا تباعلا وَنزل الطشلاقي على إقطاع البرواني. وَكَانَ كل مِنْهُمَا فِيهِ كبر وظلم وعسف والبرواني من خَواص الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الجاشنكير والطشلاقي من ألزام الْأَمِير سلار النَّائِب لإنه خشداشه وَكِلَاهُمَا مَمْلُوك الصَّالح على بن قلاوون. فَاشْتَدَّ الطشلاقي على البرواني وسفه عَلَيْهِ فَقَامَ البرواني إِلَى الْأَمِير بيبرس فَشَكا مِنْهُ فاستدعى بِهِ وعنفه فاساء فِي الرَّد وأفحش فِي حق البرواني وَقَالَ: أَنْت وَاحِد منفي وافدي تجْعَل نَفسك مثل مماليك السُّلْطَان. فاستشاط بيبرس غَضبا وَقَامَ ليضربه فَجرد سَيْفه يُرِيد ضرب بيبرس فَقَامَتْ قِيَامَة بيبرس وَأخذ سَيْفه وَأَوْمَأَ ليضربه فترامى عَلَيْهِ من حَضَره وأمسكه عَنهُ وأخرجوا الطشلاقي بَعْدَمَا كَادَت مماليك بيبرس أَن تقتله. وللوقت طلب بيبرس الْأَمِير سنقر الكمالي الْحَاجِب وَأمره بِإِخْرَاج الطشلاقي إِلَى دمشق فخشي من النَّائِب سلار وَدخل عَلَيْهِ وَأخْبرهُ الْخَبَر فَوجدَ الْعلم عِنْده وَأمره بِالْعودِ إِلَى بيبرس وملاطفته فِي الْعَفو عَن الطشلاقي وَأَنه يلْزم دَاره حَتَّى يرضى عَنهُ. فَعَاد إِلَى بيبرس وعندما أَخذ يبلغهُ رِسَالَة سلار صرخَ فِيهِ وَحلف إِن بَات الطشلاقي اللَّيْلَة فِي الْقَاهِرَة عملت فتْنَة كَبِيرَة. فَعَاد الْحَاجِب وَبلغ سلار ذَلِك فَلم يَسعهُ إِلَّا السُّكُوت وَأخرج الطشلاقي من وقته وَأمر الْحَاجِب بِتَأْخِيرِهِ فِي بلبيس ليراجع بيبرس فِيهِ. وعندما اجْتمعَا من الْغَد فِي الْخدمَة بدأه بيبرس بِمَا كَانَ من الطشلاقي فِي حَقه من الْإِسَاءَة وسلار يسكن غَضَبه فَلَا يسكن بل يشْتَد فَأمْسك على حقد وَتوجه الطشلاقي إِلَى الشَّام. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حماة بِمصْر ثَابت على القَاضِي أَن ضَيْعَة تعرف ببارين بَين جبلين فَسمع للجبلين فِي اللَّيْل قعقعة عَظِيمَة فَتسَارع النَّاس فِي الصَّباح إِلَيْهَا فَإِذا أحد الجبلين قد قطع الْوَادي وانتقل مِنْهُ قدر نصفه إِلَى الْجَبَل الآخر والمياه فِيمَا بَين الجبلين تجْرِي فِي الْوَادي فَلم يسْقط من الْجَبَل الْمُنْتَقل شَيْء من الْحِجَارَة وَمِقْدَار النّصْف الَّذِي انْتقل من الْجَبَل مائَة ذِرَاع وَعشرَة أَذْرع ومسافة الْوَادي الَّذِي قطعه هَذَا الْجَبَل مائَة ذِرَاع وَأَن قَاضِي حماة خرج بالشهود حَتَّى عاين ذَلِك وَكتب بِهِ محضراً فَكَانَ هَذَا من غرائب الِاتِّفَاق.(2/405)
وفيهَا قدم الْخَبَر من بِلَاد الْمغرب بقتل السُّلْطَان أبي يَعْقُوب بوسف بن يَعْقُوب المريني صَاحب تلمسان فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الحالية على يَد خدمه وَأَن ابْنه أَبَا سَالم قَامَ من بعده فثاروا بِهِ بعد أُسْبُوع وَأَقَامُوا عوضه حفيده أَبَا عَامر ثَابت. وفيهَا ابتدأت الوحشة بَين الأميرين بيبرس وسلار: وسببها أَن التَّاج بن سعيد الدولة الْكَاتِب كَانَ مُتَمَكنًا من بيبرس مستولياً على سَائِر أُمُوره فمكنه من الدولة حَتَّى صَارَت أُمُور الْأَمْوَال الديوانية الْمُتَعَلّقَة بالوزارة والأستادارية لَا يلْتَفت فِيهَا إِلَى كَلَام غَيره واستعان مَعَه أكْرم بن بشير أحد أَقَاربه فتقربا إِلَى بيبرس بتحصيل الْأَمْوَال من المشتروات وأضافا لَهُ جِهَة النطرون وَكَانَ التَّاج صديقا لِابْنِ الشيخي وَهُوَ الَّذِي قدمه إِلَى الوزارة فَلَمَّا قتل شقّ عَلَيْهِ واتهم الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي بِأَنَّهُ السَّبَب فِي ذَلِك وَأَنه الَّذِي أغرى بِهِ الْأَمِير سلار لما كَانَ يعلم من عَدَاوَة الجاولي لِابْنِ الشيخي ومصادقته للصاحب سعد الدّين مُحَمَّد بن سعد بن عطايا وَهُوَ الَّذِي عينه للوزارة بِقصد إنكاء التَّاج بن سعيد الدولة. فَأخذ التَّاج فِي الْعَمَل على الجاولي وَهُوَ يَوْمئِذٍ يَنُوب عَن بيبرس الجاشنكير فِي الأستادرية وَندب لمرافقته رجل من الأقباط وَصَارَ كل قَلِيل يَقُول عَنهُ لبيبرس إِنَّه نهب الْأَمْوَال وَأخذ رواتب كَثِيرَة لنَفسِهِ وحواشيه وَمد وقفت أَحْوَال الدولة من ذَلِك والوزير ابْن عطايا لَا يدْرِي صناعَة الْكِتَابَة وَإِنَّمَا أَشَارَ الجاولي على سلار بوزارته ليتَمَكَّن من أغراضه وان بعض كتاب الْحَوَائِج خاناه كتب أوراقاً بِمَال كَبِير فِي جِهَة الجاولي وَأكْثر من هَذَا القَوْل وَمَا أشبهه إِلَى أَن تقرر ذَلِك فِي نفس بيبرس وَتغَير على الجاولي وَحدث سلار فِي أمره وَأَنه أَخذ جملَة مَال مستكترة. وَكَانَ سلار صديقا للجاولي شَدِيد الْمحبَّة لَهُ من قديم حَتَّى أَن كلا مِنْهُمَا عمر مدرسة على جبل يشْكر بجوار مناظر الْكَبْش مجاورة لمدرسة الآخر وَعمل لنَفسِهِ مدفناً بحذاء مدفن الآخر. فدافع سلار عَن الجاولي وَقَالَ لبيبرس: بِاللَّه لَا تسمع للديوان فَإِنَّهُم مناحيس يُرِيدُونَ الْفِتَن. فتمادى بيبرس فِي الْحَط على الجاولي وسبه وَقَالَ: لابد أَن أخْلص مِنْهُ المَال. فَلَمَّا افْتَرقَا أعلم سلار الجاولي بِتَغَيُّر بيبرس عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا من التَّاج بن سعيد الدولة فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ إِلَى بيبرس ومخادعته بلين القَوْل لَهُ عساه ينخدع ويمسك عَمَّا يُريدهُ. فامتثل ذَلِك وَصَارَ إِلَيْهِ وخضع لَهُ وتذلل فَاشْتَدَّ فِي الْحَرج وَبَالغ فِي السب والتهديد وَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله فَقَامَ يتعثر فِي أذياله إِلَى سلار وَأخْبرهُ فَغَضب من ذَلِك. وَعند خُرُوج الجاولي من عِنْد بيبرس دخل عَلَيْهِ ابْن سعيد الدولة بأوراق قد رتبها. مِمَّا فِي جِهَة الجاولي وَقرأَهَا عَلَيْهِ وأحضر مَعَه أكْرم بن بشير ليحاقق الجاولي على مَا فِي الأوراق فقوى بيبرس قلب بن بشير على الْمُحَافظَة. وَلما كَانَ الْغَد وَخرج الْأُمَرَاء من الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة وجلسوا عِنْد(2/406)
النَّائِب سلار وَفِيهِمْ الجاولي والوزير أَمر بيبرس بإحضار ابْن بشير الْكَاتِب فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ: أَنْت قلت إِن مَال السُّلْطَان ضائع وَإِن هَذَا - يَعْنِي الجاولي - أَخذ مِنْهُ أَشْيَاء وَإِن الْوَزير وَافقه على ذَلِك وَإِن أَحْوَال الدولة قد وقفت وَإنَّك ترافعهما وَتحقّق مَال السُّلْطَان فِي جهتهما فَتكلم الْآن مَعَهُمَا وَلَا تقل إِلَّا الصَّحِيح. فَنَهَضَ عِنْد ذَلِك قَائِما وَأخرج الأوراق وحاقق الْوَزير على فُصُول تلْزم الجاولي فَأجَاب الجاولي. عَنْهَا فصلا فصلا وَابْن بشير يرد عَلَيْهِ وَقَالَ فِي كَلَامه: أَنْت أَمِير مَا تَدْرِي فُصُول الْكِتَابَة وَطَالَ الْكَلَام وانفض الْمجْلس على أقبح صُورَة وَقد وَقع التنافر بَين بيبرس وسلار بِسَبَب قيام كل مِنْهُمَا فِي نصْرَة صَاحبه. وَكَانَ من عَادَة بيبرس أَن يركب لسلار عِنْد ركُوبه وَينزل عِنْد نُزُوله فَمن يَوْمئِذٍ لم يركب مَعَه وَبَقِي كل مِنْهُمَا يركب فِي حَاشِيَته وَحده وتوقع النَّاس الْفِتْنَة. فَبعث الْأَمِير سلار بسنقر الكمالي الْحَاجِب إِلَى بيبرس ليتلطف بِهِ ويعرفه إِن الجاولي قد علمت مَا بيني وَبَينه من الْأُخوة بِحَيْثُ أَن كلا منا عمل الآخر وَصِيّه على أَوْلَاده بعد مَوته ويتضرع لَهُ حَتَّى يعْفُو عَنهُ. فَمضى إِلَيْهِ وَبَالغ مَعَه فِي الْكَلَام وَهُوَ يشْتَد إِلَى أَن قَالَ: لَا أرجع عَنهُ حَتَّى أَخذ مِنْهُ مَال السُّلْطَان وأضربه بالمقارع. وَبعث إِلَيْهِ: إِن لم تحمل المَال ضربتك بالمقارع حَتَّى تَمُوت مثل الْغَيْر يَعْنِي ابْن الشيخي وَبعث إِلَى الْوَزير بذلك أَيْضا ورسم عَلَيْهِمَا حَتَّى يحملا المَال. فَلَمَّا بلغ الكمالي ذَلِك لسلار قَامَت قِيَامَته إِلَّا أَنه كَانَ كثير المداراة عَاقِلا. وَأخذ الجاولي فِي بيع خيله وقماشه وأمتعته بِبَاب الْقلَّة على الْأُمَرَاء فشق عَلَيْهِم مَا نزل بِهِ وشروا مبيعه بأضعاف ثمنه ليردوه إِلَيْهِ إِذا صلح حَاله مَعَ الْأَمِير بيبرس تقرباً لخاطر الْأَمِير سلار. وَتَمَادَى الْحَال عدَّة أَيَّام وبيبرس وسلار لَا يَجْتَمِعَانِ واستعد الْأُمَرَاء البرجية ألزام بيبرس وصاروا يركبون بِالسِّلَاحِ من تَحت ثِيَابهمْ خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وترقب النَّاس الشَّرّ فِي كل يَوْم وتحدثوا بِهِ. فَركب الْأُمَرَاء الأكابر: أقوش قتال السَّبع وبيبرس الدودار وبرلغي وأيبك الخازندار وسنقر الكمالي وبكتوت الفتاح فِي آخَرين إِلَيّ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير وتحدثوا مَعَه فِي تسكين الشَّرّ وإخماد الْفِتْنَة. ومازالوا بِهِ حَتَّى رفع الترسيم عَن الجاولي بِشَرْط أَن يخرج إِلَى الشَّام بطالا وَقَامُوا من عِنْده إِلَى الْأَمِير سلار ومازالوا بِهِ حَتَّى وَافق على سفر الجاولي فسافر من يَوْمه بعد مَا قطع خبزه ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بعد وُصُوله إِلَى دمشق بإمرة طبلخاناه. وفيهَا أفرج عَن الصاحب سعد الدّين مُحَمَّد بن عطايا بَعْدَمَا حمل نَحْو الثَّمَانِينَ ألف دِرْهَم واصطلح بيبرس وسلار ثمَّ تحدثا فِي أَمر الوزارة وَمن يصلح لَهَا فعين سلار(2/407)
التَّاج بن سعيد الدولة فَقَالَ بيبرس: إِنَّه لَا يُوَافق فقد عرضتها عَلَيْهِ وَامْتنع مِنْهَا فَقَالَ سلار: دَعْنِي وإياه فَقَالَ: دُونك وتفرقا. فَبعث سلار إِلَى التَّاج أحضرهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ عبس فِي وَجهه وَصَاح بانزعاج: هاتوا خلعة الوزارة فأحضروها وَأَشَارَ إِلَيّ التَّاج بلبسها فتمنع وصرخ فِيهِ وَحلف لَئِن لم يلبسهَا ضرب عُنُقه. فخاف الإخراق بِهِ لما يُعلمهُ من بغض سلار لَهُ وَلبس التشريف فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر الْمحرم وَقبل يَد الْأَمِير سلار فبش لَهُ ووصاه وَخرج من دَار النِّيَابَة بالقلعة إِلَى قاعة الصاحب بهَا وَبَين يَدَيْهِ النُّقَبَاء والحجاب وأخرجت لَهُ دَوَاة الوزارة وَالْبَغْلَة فَعلم على الأوراق وَصرف الْأُمُور إِلَى بعد الْعَصْر وَنزل إِلَى وَأصْبح النَّاس يَوْم الْجُمُعَة إِلَى دَار الْوَزير تَاج الدّين أبي الْفتُوح بن سعيد الدولة ينتظرون ركُوبه فَلم يخرج إِلَى أَن علا النَّهَار وَخرج غُلَامه وَقَالَ: يَا جمَاعَة! القَاضِي عزل نَفسه وَتوجه إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ نصر المنبجي فَتَفَرَّقُوا وَكَانَ لما نزل إِلَى دَاره توجه لَيْلًا إِلَى الشَّيْخ نصر وَكَانَ خصيصاً بِهِ وَله مكانة عِنْد الْأَمِير بيبرس وَبعث بتشريف الوزارة إِلَى الخزانة السُّلْطَانِيَّة بالقلعة وَأقَام عِنْد الشَّيْخ نصر مستجيراً بِهِ فَكتب الشَّيْخ نصر إِلَى بيبرس يشفع فِيهِ وَيَقُول لَهُ إِنَّه قد استعفى من الوزارة وَقَالَ إِنَّه لَا يُبَاشِرهَا أبدا ويقصد أَن يُقيم فِي الزاوية مَعَ الْفُقَرَاء يعبد الله فَأخذ بيبرس الورقة وَدخل على سلار فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا قَالَ: قد أعفيناه فَأحْضرهُ حَتَّى نَسْتَشِيرهُ فِيمَن يَلِي الوزارة فَأحْضرهُ بيبرس إِلَيْهِ فَاعْتَذر وَأَشَارَ بوزارة ضِيَاء الدّين أبي بكر بن عبد الله بن احْمَد النَّسَائِيّ نَاظر الدَّوَاوِين فاستدعى وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشره. فباشر ضِيَاء الدّين الوزارة وَلَيْسَ لَهُ مِنْهَا سوى الِاسْم وَصَارَ التَّاج يدبر الْأُمُور وَلَا يصرف شَيْء إِلَّا بِخَطِّهِ وَلَا يفعل أَمر إِلَّا بِحكمِهِ. وَفِي سادس صفر: خلع على التَّاج بن سعيد الدولة وَاسْتقر مُشِيرا وناظراً على الوزارة وَسَائِر النظار مصرا وشاماً ومنفرداً بِنَظَر البيوتات والأشغال الْمُتَعَلّقَة بالأستادارية وَنظر الصُّحْبَة وَنظر الجيوش وَكتب لَهُ توقيع لم يكْتب لمتعمم مثله. وَصَارَ يجلس بِجَانِب الْأَمِير سلار نَائِب السلطنة فَوق كل متعمم من الْكتاب وَنفذ حكمه وَمضى قلمه فِي سَائِر أُمُور الدولة فألان الْوَزير جَانِبه لَهُ وخفض جنَاحه بِكُل مُمكن. وَاسْتقر عز الدّين أيدمر الخطيري أستادارا عوضا عَن سنجر الجاولي. وفيهَا قدم الرُّسُل الَّذين توجهوا إِلَى الْملك طقطاي صَاحب بِلَاد الشمَال: وهم الْأَمِير بلبان الصرخدي ورفقته وَمَعَهُمْ نامون رَسُول طقطاي بهدية سنية وَكتاب(2/408)
يتَضَمَّن أَن عَسْكَر مصر تسر إِلَى بر الْفُرَات ليسير مَعَهم وَيَأْخُذ بِلَاد غازان وَيكون لكل مِنْهُمَا مَا يصل إِلَيْهِ من الْبِلَاد. فَأكْرم الرَّسُول وجهزت لَهُ الْهَدَايَا وَأجِيب بِأَن الصُّلْح قد وَقع مَعَ خربندا وَلَا يَلِيق نقضه فَإِن حدث غير ذَلِك عمل بِمُقْتَضَاهُ وسير إِلَيْهِ الْأَمِير بدر الدّين بكمش الظَّاهِرِيّ وفخر الدّين أياز الشمسي أَمِير أخور وسنقر الْأَشْقَر وَأحد مقدمي الْحلقَة. وفيهَا نقل شهَاب الدّين غَازِي بن أَحْمد بن الوَاسِطِيّ من نظر الدولة وَمَعَهُ تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن السنهوري إِلَى نظر حلب. وَسبب ذَلِك إِنَّه كَانَ يعادي التَّاج بن سعيد الدولة بِحَيْثُ إِنَّه كَانَ سَببا فِي ضرب سنقر الأعسر لَهُ بالمقارع أَيَّام وزارته حَتَّى أسلم. وَكَانَ طَوِيل اللِّسَان بعرف بالتركي ويداخل الْأُمَرَاء فَإِذا دخل ابْن سعيد الدولة إِلَى بَيت أَمِير وَهُوَ هُنَاكَ لَا يقوم لَهُ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ. فَلَمَّا تحدث ابْن سعيد الدولة فِي أُمُور المملكة ثقل عَلَيْهِ ابْن الوَاسِطِيّ وَمَا زَالَ بالأمير بيبرس إِلَى أَن كتب توقيعه بِنَظَر حلب وَبعث إِلَيْهِ. فَقَامَ لما جَاءَهُ التوقيع. وَقَالَ: وَالله لقد كنت قانعاً بجهنم عوضا عَن مُوَافقَة ابْن تعيس الدولة وَسَار إِلَيْهَا. وفيهَا نقل الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الحسامي من شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق إِلَى الحجوبية على عَادَته فِي ثامن ذِي الْحجَّة وَاسْتقر عوضه فِي الشد الْأَمِير جمال الدّين أقوش الرستمي وَالِي الْقَاهِرَة بِالصّفةِ الْقبلية بَعْدَمَا الْتزم بثماني مائَة ألف دِرْهَم فِي أَربع سِنِين. وفيهَا قدم الْبَرِيد من دمشق بقدوم رجل من بِلَاد التتر يُقَال لَهُ الشَّيْخ براق فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى وَمَعَهُ جمَاعَة من الْفُقَرَاء نَحْو الْمِائَة: لَهُم هَيْئَة عَجِيبَة وعَلى رؤوسهم كلاوت لباد مقصصة بعمائم فَوْقهَا وفيهَا قُرُون من لباد شبه قُرُون الجاموس فِيهَا أَجْرَاس ولحاهم محلقة دون شواربهم ولبسهم لبابيد بَيْضَاء وَقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب الْبَقر وكل مِنْهُم مكسور الثَّنية الْعليا وشيخهم من أَبنَاء الْأَرْبَعين سنة وَفِيه إقدام وجرأة وَقُوَّة نفس وَله صولة وَمَعَهُ طبلخاناه تدق لَهُ نوبَة وَله يحْتَسب على جماعته يُؤَدب كل من ترك شَيْئا من سنته بِضَرْب عشْرين عَصا تَحت رجلَيْهِ وَهُوَ وَمن مَعَه ملازمون التَّعَبُّد وَالصَّلَاة وَأَنه قيل لَهُ عَن زيه فَقَالَ: أردْت أَن أكون مسخرة الْفُقَرَاء وَذكر أَن غازان لما بلغه خَبره استدعاه وَألقى عَلَيْهِ سبعا ضارياً فَركب على ظهر السَّبع وَمَشى بِهِ فجل فِي عين غازان ونثر عَلَيْهِ عشرَة آلَاف دِينَار وَأَنه عِنْدَمَا قدم دمشق كَانَ النَّائِب بالميدان الْأَخْضَر فَدخل عَلَيْهِ وَكَانَ هُنَاكَ نعَامَة قد تفاقم شَرها وَلم يقدر أحد على الدنو مِنْهَا فأصر النَّائِب بإرسالها عَلَيْهِ فتوجهت نَحوه(2/409)
فَوَثَبَ عَلَيْهَا وركبها فطارت بِهِ فِي الميدان قدر خمسين ذرعاً فِي الْهَوَاء حَتَّى دنا من النَّائِب فَقَالَ لَهُ: أطير بهَا إِلَى فوف شَيْئا آخر قَالَ: لَا وَإنَّهُ أنعم عَلَيْهِ وهاداه النَّاس. فَكتب بِمَنْعه من الْقدوم إِلَى مصر فَسَار إِلَى الْقُدس وَرجع إِلَى بِلَاده وَفِيهِمْ يَقُول السراج: من موشحة طَوِيلَة أَولهَا: جتنا عجم من جوا الرّوم صور تحير فِيهَا الأفكار لَهُم قُرُون مثل الثيران إِبْلِيس يَصِيح مِنْهُم زنهار وفيهَا عَاد الْأَمِير طقصبا وَمَعَهُ الْعَسْكَر من بِلَاد النّوبَة إِلَى قوص بعد غيبتهم تِسْعَة اشهر ومقاساة أهوال فِي محاربة السودَان وَقلة الزَّاد. وفيهَا منع الأميران بيبرس وسلار المراكب من عبور الخليج الْمَعْرُوف بالحاكي خَارج الْقَاهِرَة لكثره مَا كَانَ يحصل من الْفساد والتظاهر بالمنكرات وتبرج النسا فِي المراكب وجلوسهن مَعَ الرِّجَال مكشوفات الْوُجُوه بكوافي الذَّهَب على رؤوسهن وتعاطيهن الْخمر وَكَانَت تئور الْفِتَن بِسَبَب ذَلِك وَتقتل الْقَتْلَى العديدة. فَلم يدْخل الخليج إِلَّا مركب فِيهَا متجر وَأما مراكب النزهة فامتنعت وعد ذَلِك من أحسن أَفعَال. وفيهَا كملت عمَارَة الْجَامِع الَّذِي أنشأه الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم بسفح جبل قاسيون وخطب بِهِ القَاضِي شمس الدّين بن الْعِزّ الْحَنَفِيّ يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشرى شَوَّال. وفيهَا ولى قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق صدر الدّين أَبُو الْحسن على بن الشَّيْخ صفي الدّين أبي الْقَاسِم مُحَمَّد البصروي فِي تَاسِع عشرى ذِي الْقعدَة عوضا عَن شهَاب الدّين أَحْمد الْأَذْرَعِيّ. وفيهَا قدمت رسل صَاحب سيس بِالْحملِ بَعْدَمَا أطلق مِائَتَيْنِ وَسبعين أَسِيرًا من الْمُسلمين قدمُوا حلب. وفيهَا ولى جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي خطابة دمشق بعد وَفَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان الخلاطي فِي شَوَّال. وفيهَا أفرج الْأَمِير سلار عَن شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية فِي آخر يَوْم من رَمَضَان بَعْدَمَا جمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وبعثوا إِلَيْهِ ليحضر من الاعتقال فَامْتنعَ وترددت إِلَيْهِ الرُّسُل مرَارًا فَلم يحضر وانفضوا من عِنْد سلار. فاستدعى بأخويه شرف الدّين عبد(2/410)
الله وزين الدّين عبد الرَّحْمَن وَجرى بَينهمَا وَبَين القَاضِي زين الدّين بن مخلوف الْمَالِكِي كَلَام كثير. ثمَّ اجْتمع وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْكَافِي بن عبد الْوَهَّاب البليني الشَّافِعِي أحد نواب الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة خَارج الْقَاهِرَة وَكَانَ صَالحا دينا فَاضلا. وَمَات الصاحب شهَاب الدّين أَحْمد بن أَحْمد بن عطا الْأَذْرَعِيّ الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي محتسب دمشق ووزيرها. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك الطَّوِيل الخازندار المنصوري فِي حادي عشر ربيع الأول بِدِمَشْق وَكَانَ كثير الْبر دينا. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح الصَّالِحِي النجمي اصله من مماليك الْأَمِير فَخر الدّين يُوسُف بن شيخ الشُّيُوخ وَصَارَ إِلَى الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب فترقى فِي الخدم حَتَّى صَار من أكبر الْأُمَرَاء وَخرج إِلَى الْغُزَاة غير مرّة وَعرف بِالْخَيرِ وعلو الهمة وسداد الرَّأْي وَكَثْرَة الْمَعْرُوف وَلما قتل الْمَنْصُور لاجين أَجمعُوا على سلطنته فَأبى وَأَشَارَ بِعُود النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فأعيد وَمَات بَعْدَمَا اسْترْجع إقطاعه بِالْقَاهِرَةِ فِي ربيع الأول عَن ثَمَانِينَ سنة وَهُوَ آخر الصالحية وَإِلَيْهِ ينْسب قصر أَمِير سلَاح بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان الجوكندار المنصوري ولي نِيَابَة قلعة صفد وَشد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق ثمَّ نِيَابَة قلعتها وَمَات وَهُوَ نَائِب حمص بهَا وَكَانَ خيرا. وَمَات الشَّيْخ سيف الدّين الرجيحي بن سَابق بن هِلَال ابْن الشَّيْخ يُونُس اليونسي شيخ الْفُقَرَاء اليونسية قدم من الْعرَاق فَصَارَت لَهُ حُرْمَة وافرة فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون حَتَّى مَاتَ وَله أَتبَاع كَثِيرَة فخلفه ابْنه حسام الدّين فضل. وَمَات الطواشي شمس الدّين صَوَاب السُّهيْلي بالكرك عَن مائَة سنة وَكَانَ لَهُ بر ومعروف.(2/411)
وَمَات ضِيَاء الدّين عبد الْعَزِيز مُحَمَّد بن على الطوسي الشَّافِعِي بِدِمَشْق فِي تَاسِع عشرى جُمَادَى الأولى وَله شرح الْحَاوِي فِي الْفِقْه وَشرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب ودرس مُدَّة بِدِمَشْق. وَمَات بدر الدّين مُحَمَّد بن فضل الله بن مجلي الْعمريّ أَخُو كاتبي السِّرّ شرف الدّين عبد الْوَهَّاب ومحي الدّين يحيى وَقد جَاوز سبعين سنة. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان الخلاطي خطيب دمشق فَجْأَة فِي ثامن شَوَّال وَكَانَ صَالحا معتقداَ. وَمَات مُحَمَّد بن عبد الْعَظِيم بن على بن سَالم القَاضِي جمال الدّين أَبُو بكر بن السفطي الشَّافِعِي ولد سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وناب فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ تعفف عَن وَمَات الْأَمِير فَارس الدّين أصلم الردادي فِي رَابِع ذِي الْقعدَة بِدِمَشْق. وَفِي نصف ذِي الْقعدَة مَاتَ الْأَمِير سيف الدّين كاوركا المنصوري. وَمَات الْأَمِير بهاء الدّين يعقوبا الشهرزوري بِالْقَاهِرَةِ فِي سَابِع عشر ذِي الحجه. وَمَات الطواشي عز الدّين دِينَار العزيزي الخازندار الظَّاهِرِيّ يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع ربيع الأول وَكَانَ خيرا دِينَار محبا لأهل الْخَيْر وَكَانَ دوادار الْملك النَّاصِر وناظر أوقاف الْملك الظَّاهِر. وَمَات ملك الْمغرب أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة وثب عَلَيْهِ سَعَادَة الْخصي أحد موَالِيه فِي بعض حجره وَقد خضب رجلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ وَهُوَ مستلق على قَفاهُ فطعنه طعنات قطع بهَا أمعاءه وَخرج فَأدْرك وَقتل فَمَاتَ السُّلْطَان آخر يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة وأقيم بعده أَبُو ثَابت عَامر ابْن الْأَمِير أبي عَامر بن السُّلْطَان أبي يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق فَكَانَت مدَّته إِحْدَى وَعشْرين سنة.(2/412)
(سنة سبع وَسَبْعمائة)
فِيهَا ورد الْخَبَر بِأَن الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد ملك الْيمن كثر ظلمه للتجار وَأخذ أَمْوَالهم وَترك إرْسَال الْهَدِيَّة إِلَى مصر على الْعَادة بعد أَن عزم على تجهيزها وَقصد أَن يبْعَث الْأَمْوَال إِلَى مَكَّة ليقدم اسْمه على اسْم سُلْطَان مصر فِي الدُّعَاء. فَكتب إِلَيْهِ من قبل السُّلْطَان وَمن قبل الْخَلِيفَة أبي الرّبيع سُلَيْمَان بالإنذار والإرهاب وجهزا على يَد نجاب ورسم لكل من الْأُمَرَاء المقدمين بعمارة مركب يُقَال لَهَا حلبة وَعمارَة قياسة لَطِيفَة يُقَال لَهَا فلوة برسم حمل الأزواد وَغَيرهَا وتفسر ذَلِك إِلَى الطّور على الظّهْر ليرمي على بَحر القلزم لغزو بِلَاد الْيمن. فاشترك كل أَمِير مقدم ألف ومضافيه فِي عمل حلبة وفلوة وَندب لعملها الْأَمِير عز الدّين أيبك الشجاعي الْأَشْقَر شاد الدَّوَاوِين وسافر إِلَى قوص. وفيهَا ضجر السُّلْطَان من تحكم الأميرين بيبرس وسلار عَلَيْهِ وَمنعه من التَّصَرُّف وضيق يَده. وشكا ذَلِك لخاصيته. واستدعى الْأَمِير بكتمر الجوكندار أَمِير جاندار فِي خُفْيَة وأعلمه. مِمَّا عزم عَلَيْهِ من الْقيام على الأميرين فقرر الْأَمِير أَن القلعة إِذا أغلقت فِي اللَّيْل وحملت مفاتيحها إِلَى السُّلْطَان على الْعَادة ولبست مماليك السُّلْطَان السِّلَاح وَركبت الْخُيُول من الإسطبل وسارت إِلَى إسطبلات الْأُمَرَاء ودقت كوسات السُّلْطَان بالقلعة دقاً حَرْبِيّا ليجتمع تَحت القلعة من هُوَ فِي طَاعَة السُّلْطَان ويحبهم بكتمر الجوكندار فِي عدَّة على بَيْتِي بيبرس وسلار بالقلعة ويأخذونهما. وَكَانَ لكل من بيرس وسلار أعين عِنْد السُّلْطَان فبلغهما ذَلِك فاحترسا وأمرا الْأَمِير سيف الدّين بلبان الدِّمَشْقِي وَالِي القلعة - وَكَانَ حصيصاً بهما - أَن يُوهم أَنه أغلق بَاب القلعة ويطرف أقفالها ويعبر بالمفاتيح على الْعَادة فَفعل ذَلِك. وَظن السُّلْطَان ومماليكه أَنهم قد حصلوا على غرضهم وَانْتَظرُوا بكتمر الجوكندار أَن يحضر إِلَيْهِم فَلم يحضر وبعثوا إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ مَعَ بيبرس وسلار قد حلف لَهَا على الفيام مَعَهُمَا. فَلَمَّا طلع النَّهَار ظن السُّلْطَان أَن بكتمر قد غدر بِهِ وترقب الْمَكْرُوه من الْأُمَرَاء. وَأما بكتمر فَإِن بيبرس وسلار لما بلغهما الْخَبَر خرجا إِلَى دَار النِّيَابَة بالقلعة وعزم بيبرس أَن يهجم على بكتمر ويقتله فَمَنعه سلار لما كَانَ عِنْده من السبت والتؤدة وَأَشَارَ بِالْإِرْسَال إِلَيْهِ ليحضر حَتَّى تبطل حَرَكَة السُّلْطَان. فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُول تحير وَقصد(2/413)
الِامْتِنَاع وَلبس مماليكه السِّلَاح ثمَّ مَنعهم وَخرج فعنفه سلار ولامه على مَا قصد. فَأنْكر وَحلف لَهُم على أَنه مَعَهم وَأقَام إِلَى الصَّباح وَدخل مَعَ الْأُمَرَاء إِلَى الْخدمَة عِنْد الْأَمِير سلار. ووقف ألزام بيبرس وسلار على خيولهم بِبَاب الإسطبل مترقبين خُرُوج المماليك السُّلْطَانِيَّة وَلم يدْخل أحد من الْأُمَرَاء إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَتَشَاوَرُوا. وَقد أشيع فِي الْقَاهِرَة أَن الْأُمَرَاء يُرِيدُونَ قتل السُّلْطَان أَو إِخْرَاجه إِلَى الكرك فَلم تفتح الْأَسْوَاق وَخرج الْعَامَّة والأجناد إِلَى تَحت القلعة وَبَقِي الْأُمَرَاء نهارهم مُجْتَمعين وبعثوا بالاحتراس على السُّلْطَان خوفًا من نُزُوله من بَاب السِّرّ. وألبسوا عدَّة مماليك وَأَوْقَفُوهُمْ مَعَ الْأَمِير سيف الدّين سمك أخي سلار على بَاب الإسطبل. فَلَمَّا كَانَ نصف اللَّيْل وَقع بداخل الإسطبل حس وحركة من قيام المماليك السُّلْطَانِيَّة ولبسهم السِّلَاح لينزلوا بالسلطان على حمية من الإسطبل وتوقعوا الْحَرْب فَمَنعهُمْ السُّلْطَان من ذَلِك وَأَرَادَ سمك إِقَامَة الْحُرْمَة فَرمى بالنشاب وَضرب الطبل فَوَقع سهم بالرفرف السلطاني. وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَذَان الْعَصْر من الْغَد فَبعث السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء يَقُول: مَا سَبَب الرّكُوب على بَاب إسطبلي إِن كَانَ غرضكم فِي الْملك فَهَل أَنا متطلع إِلَيْهِ فَخُذُوهُ وابعثوني أَي مَوضِع أردتم. فَردُّوا الْجَواب مَعَ الْأَمِير بيبرس الدوادار والأمير عز الدّين أيبك الخازندار والأمير برلغي الأشرفي بِأَن السَّبَب هُوَ من عِنْد السُّلْطَان من المماليك الَّذين يحرضونه على الْأُمَرَاء فعتبهم على مَا هُوَ فِيهِ وَأنكر أَن يكون أحد من مماليكه ذكر لَهُ شيثاً عَن الْأُمَرَاء. وَفِي عودهم من عِنْد السُّلْطَان وَقعت ضجة بالقلعة سَببهَا أَن الْعَامَّة كَانَ جمعهم قد كثر فَلَمَّا رَأَوْا السُّلْطَان قد وقف بالرفرف وحواشي بيبرس وسلار قد وقفُوا على بَاب الإسطبل محاصرين حنقوا من هَذَا وصرخوا ثمَّ حملُوا يدا وَاحِدَة على الْأُمَرَاء بِبَاب الإسطبل وهم يَقُولُونَ: يَا نَاصِر يَا مَنْصُور. فَأَرَادَ سمك قِتَالهمْ فَمَنعه من مَعَه من الْأُمَرَاء. وَبلغ ذَلِك بيبرس وسلار فَأرْسل الْأَمِير سيف الدّين تخاص المنصوري فِي عدَّة مماليك إِلَى الْعَامَّة فضربوهم بالدبابيس ليتفرقوا فَاشْتَدَّ صِيَاحهمْ يَا نَاصِر يَا مَنْصُور وتكاثر جمعهم ودعاؤهم للسُّلْطَان وصاروا يَقُولُونَ: الله يخون من يخون ابْن قلاوون وحملت طَائِفَة مِنْهُم على بتخاص ورجمته طَائِفَة أُخْرَى فَجرد السَّيْف ليضعه فيهم ثمَّ خشِي الْعَاقِبَة وَأخذ يلاطفهم وَقَالَ: طيبُوا خواطركم فَإِن السُّلْطَان قد طَابَ خاطره على الْأُمَرَاء ومازال بهم حَتَّى تفَرقُوا وَعَاد. فَبعث الْأُمَرَاء ثَانِيًا إِلَى السُّلْطَان بِأَنَّهُم مماليكه وَفِي طَاعَته ولابد من إِخْرَاج الشَّبَاب(2/414)
الَّذين يرْمونَ الْفِتَن فَامْتنعَ من ذَلِك وَاشْتَدَّ فمازال بِهِ بيبرس الدوادار وبرلغي حَتَّى أخرج بهم إِلَى الْأُمَرَاء وهم يبلغَا الترجماني وأيدمر الْمُرْتَد وخاص ترك. فهددهم بيبرس وسلار ووبخاهم وقصدا تقييدهم فَلم توَافق الْأُمَرَاء على ذَلِك رِعَايَة لخاطر السُّلْطَان وأخرجوا إِلَى الْقُدس من وقتهم على الْبَرِيد. وَدخل جَمِيع الْأُمَرَاء على السُّلْطَان وقبلوا الأَرْض ثمَّ قبلوا يَده فأفيضت عَلَيْهِم الْخلْع وعَلى الْأَمِير بيبرس وسلار فِي ثالثه. ثمَّ سَأَلَ الْأُمَرَاء السُّلْطَان أَن يركب فِي أمرائه إِلَى الْجَبَل الْأَحْمَر: حَتَّى تطمئِن قُلُوب الْعَامَّة ويعلموا أَن الْفِتْنَة خمدت فَأجَاب وَخَرجُوا. وَبَات السُّلْطَان فِي قلق زَائِد وكرب عَظِيم لإِخْرَاج مماليكه وَركب من الْغَد بالأمراء إِلَى قبَّة النَّصْر تَحت الْجَبَل الْأَحْمَر وَعَاد بَعْدَمَا قَالَ بيبرس وسلار: إِن سَبَب الْفِتْنَة إِنَّمَا كَانَ من بكتمر الجوكندار وَذَلِكَ إِنَّه رَآهُ قد ركب يجانب الْأَمِير بيبرس وحادثه فَتذكر غدره بِهِ وشق عَلَيْهِ ذَلِك. فتلطفوا بِهِ فِي أمره فَقَالَ: وَالله مَا بقيت لي عين تنظر إِلَيْهِ وَمَتى أَقَامَ فِي مصر لَا جَلَست على كرْسِي الْملك أبدا فَأخْرج من وقته إِلَى قلعة الصبيبة فِي خَامِس عشره وَاسْتقر عوضه أَمِير جاندار بدر الدّين بكتوت الفتاح فَلَمَّا مَاتَ سنقر شاه نَائِب صفد اسْتَقر عوضه بكتمر الجوكندار. وَتوجه الْأَمِير كراي المنصوري إِلَى بَلْدَة أدفو بالصعيد وَهُوَ حنق على الْأَمِير بيبرس الجاشنكير. وفيهَا عمر الْأَمِير بيبرس الجاشنكير الخانكاه الركنية مَوضِع دَار الوزارة برحبة بَاب الْعِيد من الْقَاهِرَة ووقف عَلَيْهَا أوقافاً جليلة فَمَاتَ قبل فتحهَا وأغلقها الْملك النَّاصِر مُدَّة ثمَّ أَمر بِفَتْحِهَا ففتحت ورتب فِيهَا عدَّة من الصُّوفِيَّة. وَبنى بيبرس أَيْضا تربة بهَا فاستمرت مغلقة إِلَى آخر سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة. وَأَنْشَأَ الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم نَائِب دمشق جَامعا بصالحية دمشق وَبعث يسْأَل فِي أَرض يوقفها عَلَيْهِ فَأُجِيب بِأَنَّهُ يعين مَا يخْتَار. وَقدم الْبَرِيد من حلب بوصول الْأَمِير فتح الدّين بن صبرَة وَقد خلص من بِلَاد التتار وَمَعَهُ جمَاعَة مِمَّن أسر من الأجناد فِي نوبَة سيس فأعيد لَهُ إقطاعه على عَادَته. وَورد كتاب الْأَمِير كراي المنصوري بالشكوى من وَالِي قوص وَمن غده قدم كتاب مُتَوَلِّي قوص بِأَن كراي ظلم فلاحيه بأدفو وَأخذ دوابهم وَعمل زاداً كَبِير ليتوجه إِلَى بِلَاد السودَان فَكتب لكراي بالحضور سَرِيعا وَكتب لوالي قوص بالاحتراس على كراي وَأخذ الطرقات من كل وفيهَا أحضرت خاصية السُّلْطَان من الْقُدس وَذَلِكَ أَن الْأَمِير أقوش الأفرم نَائِب(2/415)
الشَّام بعث إِلَى الأميرين بيبرس وسلار يلومهما على مَا وَقع من نفي خاصكية السُّلْطَان وَيُشِير بردهمْ وَأَنه مَتى لم يرسم بردهمْ حضر بِنَفسِهِ وأعادهم. فَلم يسعهما إلاٍ إحضارهم وأنعم على كل من يلبغا التركماني وألطنبغا الصَّالِحِي وبلبان الزراق بإمرة عشرَة. وَاسْتقر شهَاب الدّين أَحْمد بن على بن عبَادَة فِي نظر المارستان المنصوري. وَقدم الْأَمِير كراي من الصَّعِيد فتمارض فِي بَيته وَلم يطلع إِلَى القلعة ثمَّ سَأَلَ الإعفاء من الإمرة وَأَن يُقيم بالقدس بطالا وَاعْتذر بِكَثْرَة أمراضه فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَولى نظر الْقُدس وَالْخَيْل بحار يقوم بكفايته وَتوجه من الْقَاهِرَة ة فأنعم بإقطاعه على الْأَمِير سيفْ الدّين بتخاص المنصوري. وفيهَا وَقع الاهتمام بِالسَّفرِ إِلَى الْيمن وعول الْأَمِير سلار على أَن يتَوَجَّه إِلَيْهَا بِنَفسِهِ: وَذَلِكَ أَنه خشِي من أَن السُّلْطَان يدبر عَلَيْهِ حِيلَة أُخْرَى وَقد لَا يتهيأ لَهُ إفسادها فَيُؤْخَذ وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ شقّ عَلَيْهِ مَا صَار فِيهِ الْأَمِير بيبرس الجاشنكير من الْقُوَّة والاستظهار عَلَيْهِ بِكَثْرَة خواشداشيته البرجية وَأَنَّهُمْ قد صَارُوا مُعظم الْأُمَرَاء واشتدت شَوْكَة بيبرس بهم وعظمت مهابته وانبسطت يَده فِي التحكم بِحَيْثُ أَنه أخرج الجاولي بِغَيْر اخْتِيَار سلار وَانْفَرَدَ بالركوب فِي جمع عَظِيم. وَقد قصد البرجية فِي نوبَة بكتمر الجوكندار أَن يخرج السُّلْطَان إِلَى الكرك ويسلطن بيبرس لَوْلَا مَا كَانَ من صنع سلار بسياسة وتدبير حَتَّى وَقع الصُّلْح مَعَ السُّلْطَان. فخاف سلار عواقب الْأُمُور مَعَ السُّلْطَان وَمَعَ بيبرس وتحيل فِي الْخَلَاص من ذَلِك بِأَنَّهُ يحجّ فِي جمَاعَة من ألزامه وَأَتْبَاعه ثمَّ يسير إِلَى الْيمن ويتملكها ويتمنع بهَا. فَفطن بيبرس بِهَذَا ودس إِلَيْهِ من الْأُمَرَاء من ثنى عزمه عَن ذَلِك. وَشرع فِي الاهتمام بِعَمَل المراكب حَتَّى تنجزت وجهزت الأسلحة والأمتعة ثمَّ اقْتضى الرَّأْي تَأْخِير السّفر حَتَّى يعود جَوَاب صَاحب الْيمن فَكتب بِحُضُور شاد الدَّوَاوِين فَقدم وَهُوَ مَرِيض ومازال مُنْقَطِعًا بداره حَتَّى مَاتَ وَعين الْأَمِير سيف الدّين نوغاي القبجاقي أَمِير الركب وَخرج بالحاج على الْعَادة. وَقدم الْبَرِيد من حلب بقتل هيتوم متملك سيس على يَد بعض أُمَرَاء الْمغل: وَذَلِكَ أَن هيتوم كَانَ يحمل القطعية إِلَى الْمغل كَمَا يحملهَا إِلَى مصر ويحضر إِلَى كل سنة أَمِير من أمرائهم حَتَّى يتسلم الْحمل فَحَضَرَ إِلَيْهِ من أُمَرَاء الْمغل برلغوا وَقد أسلم وَحسن إِسْلَامه فعزم على بِنَاء جَامع بسيس يعلن فِيهِ بالآذان كَمَا تجْهر هُنَاكَ النَّصَارَى بِضَرْب النواقيس. فشق ذَلِك على هيتوم وَكتب إِلَى خربندا باً ن برلغوا يُرِيد اللحاق بِأَهْل مصر(2/416)
وَبِنَاء جَامع بسيس. فَبعث خربندا بالإنكار على برلغوا وتهدده وألزمه بالحضور فَغَضب برلغوا من هيتوم وصنع طَعَاما وَدعَاهُ وَلم يكن عِنْده علم بِأَن برلغوا اطلع على شكواه مِنْهُ لخربندا فَحَضَرَ وَهُوَ آمن فِي جمَاعَة من أكَابِر الأرمن وإخوان لَهُ. فعندما مدوا أَيْديهم إِلَى الطَّعَام أَخذ تهم السيوف من كل جَانب فَقتلُوا عَن آخِرهم وَلم ينج سوى أَخُوهُ ليفون فِي نفر قَلِيل فلحق بخربندا وأعلمه بقتل برلغوا لِأَخِيهِ هيتوم وأمرائه وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا برلغوا فَقتله بقتْله هيتوم وَولى ليفون مملكة سيس وسيرة إِلَيْهَا. وفيهَا بعث الْأَمِير عز الدّين أيبك الأفرم نَائِب الشَّام عدَّة عَسْكَر إِلَى الرحبة مَعَ الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي شقير مَمْلُوك منكوتمر وَردفهُ بالأمير قطلوبك الْكَبِير ثمَّ بالأمير بهادر آص. وفيهَا انْتَهَت زِيَادَة النّيل إِلَى ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَإِحْدَى وَعشْرين إصبعاُ: وهب فِي برمهات الْمُوَافق لشوال. من جِهَة الغرب ريح عِنْد الحراك الغلال فهافت وجف أَكْثَرهَا فَلم يحصل مِنْهَا عِنْد الْحَصاد إِلَّا الْيَسِير وَمِنْهَا مَا كَانَ أقل من بذاره. فتميز سعر الْغلَّة وأبيع الأردب الْقَمْح بِخَمْسِينَ درهما ثمَّ انحط. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير بيبرس العلائي الْحَاجِب فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن الْأَمِير أقجبار. وفيهَا سَار من دمشق إِلَى الرحبة عَسْكَر عَلَيْهِ الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الشقيري والأمير سيف قطلوبك والأمير بهادر أص. وَفِي الْعشْرين من رَجَب: توجه الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الشَّام لزيارة الْقُدس وَمَعَهُ وَفِي سَابِع عشْرين رَجَب: توجه ركب الْعمار إِلَى مَكَّة صُحْبَة الْأَمِير عز الدّين الكوكندي وَكَانَ مَعَهم الشَّيْخ نجم الدّين بن عبود وَالشَّيْخ نجم الدّين بن الرّفْعَة. وفيهَا خرج الْأَمِير شرف الدّين أَحْمد بن قَيْصر التركماني والأمير بدر الدّين بيليك المحسني برقا فِي شَوَّال. وفيهَا قدم الْأَمِير مهنا بن عِيسَى فَأكْرمه السُّلْطَان وأخلع عَلَيْهِ فَتحدث فِي خلاص شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين احْمَد بن تَيْمِية فَأُجِيب وَخرج بِنَفسِهِ إِلَى الْجب بالقلعة وَأخرجه مِنْهُ. وَنزل ابْن تَيْمِية بدار الْأَمِير سلار النَّائِب وَعقد لَهُ مجْلِس حَضَره ابْن الرّفْعَة والتاجي وَابْن عَدْلَانِ والنمراوي وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء وَلم تحضره الْقُضَاة وناظروا(2/417)
ابْن تَيْمِية ثمَّ انْفَضُّوا ثمَّ عقد لَهُ بعد سفر مهنا بن عيسي مجْلِس آخر بالصالحية. ثمَّ قَامَ تَاج الدّين أَحمد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن عَطاء وَشَيخ سعيد السُّعَدَاء وجمعوا فَوق الْخَمْسمِائَةِ رجل وَسَارُوا إِلَى القلعة وتبعهم الْعَامَّة وَشَكوا من ابْن تَيْمِية أَنه يتَكَلَّم فِي مَشَايِخ الطَّرِيقَة فَرد أَمرهم إِلَى القَاضِي الشَّافِعِي فَدفعهُ إِلَى تَقِيّ الدّين عَليّ ابْن الزواوي الْمَالِكِي فَحكم بسفر ابْن تَيْمِية إِلَى الشَّام فَسَار على الْبَرِيد وَحبس بهَا. وفيهَا بنى الْأَمِير أسندمر نَائِب طرابلس قلعة مَكَان حصن صنجيل وَبني الْأَمِير قرا سنقر وَمَات فِي هَذِه السّنة الْأَمِير عز الدّين أيدمر السناني بِدِمَشْق وَله شعر جيد وَمَعْرِفَة بتعبير المنامات وَمن شعر: تخذ النسيم الحبيب رَسُول دنف حَكَاهُ رقةً ونحولا تجزى الْعُيُون من الْعُيُون صبَابَة فيسيل فِي أثر الغريق سيولا وَيَقُول من حسد لَهُ ياليتني كنت اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بيبغا الناصري فِي شعْبَان وَترك مَالا كَبِيرا. وَمَات الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الجالق العجمي أحد البرجية الصالحية وكبير الْأُمَرَاء بِدِمَشْق عَن نَحْو الثَّمَانِينَ سنة فِي نصف جُمَادَى الأولى بِمَدِينَة الرملة وَكَانَ(2/418)
دينا لَهُ ثروة وَفِيه خير: كَانَ يقْرض الأجناد عِنْد تجردهم ويمهلهم حَتَّى يَتَيَسَّر لَهُم فَعدم لَهُ فِي ذَلِك مَال كَبِير. وَمَات شمس الدّين خضر بن الْحلَبِي الْمَعْرُوف بشلحونة وَالِي الْقَاهِرَة وَكَانَ أَبوهُ خازندار السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف صَاحب حلب ودمشق وَقدم الخْضر إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر فِي ولايتها فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة بيبرس وَالْأَيَّام المنصورية قلاوون ثمَّ نَقله الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون إِلَى شدّ الدَّوَاوِين وَكَانَ ناهضاً أَمينا فِي جَمِيع مَا يَلِيهِ مَعَ الْمعرفَة والديانة والمروءة وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يضْرب أحدا قَالَ شلحونه فَعرف بذلك. وَمَات خطلو شاه نَائِب التتر وَكَانَ مقدمهم يَوْم شقحب وَكَانَ كَافِرًا فَاجِرًا. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي البيسري أحد أُمَرَاء دمشق لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثَانِي جُمَادَى الأولى وَكَانَت لَهُ مُرُوءَة وشجاعة. وَمَات الطواشي شهَاب الدّين فاخر المنصوري مقدم المماليك وَكَانَت لَهُ سطوة ومهابة. وَمَات الشَّيْخ عمر بن يَعْقُوب بن أَحْمد السعودي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب وَكَانَ رجلا صَالحا مُعْتَقدًا. وَمَات الصاحب تَاج الدّين مُحَمَّد بن الصاحب فَخر الدّين مُحَمَّد بن الصاحب بهاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن سليم بن حنا - ومولده فِي تَاسِع شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وجده لأمه الْوَزير شرف الدّين صاعد الفائزي - فِي يَوْم السبت خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات شرف الدّين مُحَمَّد بن فتح عبد الله بن فتح الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن خَالِد القيسراني أحد موقعي الإنتماء بِالْقَاهِرَةِ فِي أول شعْبَان. وَمَات أَبُو عبد الله بن مطرف الأندلسي بِمَكَّة فِي رَمَضَان عَن نَيف وَتِسْعين سنة وَقد جاور وَمَات الشَّيْخ عُثْمَان بن جوشن السعودي.(2/419)
وَمَات الشَّيْخ عز الدن أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز بن ظافر الشِّيرَازِيّ الْمصْرِيّ فِي خَامِس ربيع الأول ومولده فِي ذِي الْحَج سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة جمل الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْعَظِيم بن عَليّ بن سَالم بن السَّقطِي الشَّافِعِي فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ حادي عشر شعْبَان ومولده سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَأخرج لَهُ التقي الأسعردي مشيخة.(2/420)
سنة ثَمَان وَسَبْعمائة فِي أَولهَا قدم مبشرو الْحَاج بِأَن الْأَمِير نوغاي حَارب العبيد بِمَكَّة: وَذَلِكَ أَنهم كثر تخطفهم أَمْوَال التُّجَّار وَأَخذهم من النَّاس بِالْغَصْبِ مَا أَرَادوا فَلَمَّا وقف بَعضهم على تَاجر ليَأْخُذ قماشه مَنعه فَضَربهُ ضربا مبرحاً فثار النَّاس وتصايحوا. فَبعث نوغاي مماليكه إِلَى العبيد فأمسكوا بَعضهم وفر باقيهم بَعْدَمَا جرحوا فَركب الشريف حميضة بالأشراف وَالْعَبِيد للحرب وَركب نوغاي بِمن مَعَه ونادى أَلا يخرج أحد من الْحَاج وليحفظ مَتَاعه وسَاق فَإِذا طَائِفَة من السرويين قد فروا من الْخَوْف إِلَى الْجَبَل. فَقتل مِنْهُم جمَاعَة ظنا أَنهم من العبيد فَكف حميضة عَن الْقِتَال وَمَا زَالَ النَّاس بنوغاي حَتَّى أمسك عَن الشَّرّ. وقمم الْبَرِيد من حلب بِأَن طَائِفَة من الْمغل قدمُوا إِلَى الْفُرَات فَخرج الْعَسْكَر إِلَيْهِم فَلَمَّا سَارُوا سقط الطَّائِر من قلعة كركر بنزول الْمغل عَلَيْهَا وَنهب التركمان وَأَخذهم فَكتب إِلَى الْعَسْكَر الْمُجَرّد بنجدتهم فكسبوا الْمغل فِي اللَّيْل وقتلوهم واستردوا مَا أَخَذُوهُ من كركر وأسروا مِنْهُم سِتِّينَ رجلا وغنموا عدَّة خُيُول. وفيهَا أفرج عَن الْملك المسعود نجم الدّين خضر بن الْملك الظَّاهِر بيبرس من البرج بالقلعة وَفِي ثَالِث ربيع الآخر: فوضيت الخطابة بِجَامِع قلعة الْجَبَل لقَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة عوضا عَن الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد الْجَزرِي. وفيهَا وصلت رسل سيس بِالْحملِ على الْعَادة وَمن جملَته طشت ذهب مرصع بالجوهر. وفيهَا عدى السُّلْطَان إِلَى نهر الجيزة وَأقَام يتَصَدَّى نَحْو عشْرين يَوْمًا وَعَاد وَقد ضَاقَ صَدره وَاشْتَدَّ حنقه وَصَارَ فِي غَايَة الْحصْر من تحكم بيبرس وسلار عَلَيْهِ وَعدم تصرفه وَمنعه من كل مَا يُرِيد حَتَّى إِنَّه مَا يصل إِلَى مَا يَشْتَهِي أكله لقلَّة الْمُرَتّب فلولا مَا كَانَ يتَحَصَّل لَهُ من أوقاف أَبِيه لما وجد سَبِيلا إِلَى بُلُوغ بعض أغراضه. فَأخذ فِي الْعَمَل لنَفسِهِ. وَأظْهر أَنه يُرِيد الْحَج بعياله وَحدث بيبرس وسلار فِي ذَلِك يَوْم النّصْف(2/421)
من رَمَضَان فوافقاه عَلَيْهِ. وأعجب البرجية سَفَره لينالوا أغراضهم وشرعوا فِي تَجْهِيزه وَكَتَبُوا إِلَى دمشق والكرك وَغَيره برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بِحمْل الشّعير فتهيأ ذَلِك. وأحضر الْأُمَرَاء تقادمهم وتأنقوا فِيهَا فقلبها السُّلْطَان وشكرهم على ذَلِك وَركب فِي خَامِس عشرى رَمَضَان يُرِيد السّفر وَنزل من القلعة وَمَعَهُ الْأُمَرَاء وَخرج الْعَامَّة وتباكوا حوله وتأسفوا على فِرَاقه ودعوا لَهُ إِلَى أَن نزل بركَة الْحَاج. وَتعين للسَّفر مَعَه من الْأُمَرَاء عز الدّين أيدمر الخطيري الأستادار عوضا عَن الجاولي وَسيف الدّين آل ملك الجوكندار. وحسام الدّين قرا لاجين أَمِير مجْلِس وَسيف الدّين بلبان أَمِير جاندار وَعز الدّين أيبك الرُّومِي السِّلَاح دَار وركن الدّين بيبرس الأحمدي وَعلم الدّين سنجر الجمقدار وَسيف الدّين يقطاي الساقي وشمس الدّين سنقر السَّعْدِيّ النَّقِيب وَمن المماليك خَمْسَة وَسَبْعُونَ نَفرا. وودعه بيبرس وسلار فِيمَن مَعَهم من الْأُمَرَاء وهم على خيولهم من غير أَن يترحلوا لَهُ وَعَاد الْأُمَرَاء. ورحل السُّلْطَان من ليلته وعرج إِلَى جِهَة الصالحية وَعِيد بهَا وَسَار إِلَى الكرك وَمَعَهُ رَحل الْخَاص مائَة وَخَمْسُونَ فرسا فَقَدمهَا يَوْم الْأَحَد عَاشر شَوَّال. فاحتفل الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأشرفي الْمَعْرُوف بنائب الكرك بقدومه وَقَامَ بِمَا يَلِيق بِهِ وزين القلعة وَالْمَدينَة وَفتح بَاب السِّرّ وَمد الجسر وَكَانَ لَهُ مُدَّة لم يمد وَقد سَار خشبه فَلَمَّا عبرت الدَّوَابّ عَلَيْهِ وأتى السُّلْطَان فِي أخرهم انْكَسَرَ الجسر تَحت رجْلي فرسه بعد مَا تعدى يَدَيْهِ الجسر فكاد يسْقط إِلَى الخَنْدَق لَوْلَا أَنهم جبدوا الْعَنَان حَتَّى خرج من الجسر وَهُوَ سَالم وَسقط الْأَمِير بلبان طرنا أَمِير جاندار وَجَمَاعَة لم يمت مِنْهُم سوى رجل وَاحِد. وعندما اسْتَقر السُّلْطَان بقلعة الكرك عرف الْأُمَرَاء أَنه قد انثنى عزمه عَن الْحَج وَاخْتَارَ الْإِقَامَة بالكرك وَترك السلطنة ليستريح خاطره فشق عَلَيْهِم ذَلِك وَبكوا وقبلوا لَهُ الأَرْض يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ فِي ترك هَذَا الخاطر وكشفوا رؤوسهم فَلم يرجع إِلَيْهِم وَقَالَ السُّلْطَان للخطيري: قد أَخذ بيبرس الجاشنكير السلطنة ولابد ثمَّ استدعى عَلَاء الدّين على بن أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير وَكَانَ قد توجه مَعَه وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء بِالسَّلَامِ عَلَيْهِم وَأَنه رَجَعَ عَن الْحَج وَأقَام بالكرك وَترك السلطة ويساً ل الإنعام عَلَيْهِ بالكرك والشوبك وَأَعْطَاهُ لِلْأُمَرَاءِ وَأمرهمْ بِالْعودِ وَأَعْطَاهُمْ الهجن - وعدتها خَمْسمِائَة هجين - وَالْجمال وَالْمَال الَّذِي قدمه لَهُ الْأُمَرَاء فَسَارُوا إِلَى الْقَاهِرَة. واستولي السُّلْطَان على مَا كَانَ فِي الكرك من المَال وَهُوَ سِتّمائَة ألف دِرْهَم فضَّة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار وَقيل بل وجد سَبْعَة وَعشْرين ألف دِينَار وَسَبْعمائة ألف دِرْهَم. واستدعى أهل الكرك فحلفهم لَهُ الْأَمِير جمال الدّين نَائِب الكرك وَأمرهمْ فحملوا لَهُ أحجاراً كَثِيرَة إِلَى القلعة فَلم يبْق أحد حَتَّى حمل إِلَيْهِ الْحِجَارَة من الْوَادي. فَلَمَّا حصل(2/422)
نَائِب الكرك وَالنَّاس فِي الْوَادي لنقل الْحِجَارَة بعث السُّلْطَان إِلَى النَّائِب أَن يتَوَجَّه إِلَى مصر وينقل مَاله بالكرك وَبَين لَهُ أَن أهل القلعة لَا سَبِيل إِلَى مجاورتهم لَهُ بهَا وَلَا بإقامتهم بِالْمَدِينَةِ فَإِنِّي أعلم كَيفَ باعوا الْملك السعيد بن الظَّاهِر بِالْمَالِ لطرنطاي وَقد مكنت حريمهم وَأَوْلَادهمْ من النُّزُول إِلَيْهِم. فامتثل النَّائِب الْأَمر وَأخذ حريمه وَقدم للسُّلْطَان مَا كَانَ لَهُ من الغلال وَهِي شَيْء كثير فقبلها وَأخذ أهل القلعة حريمهم وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد. وَأقَام السُّلْطَان الْأَمِير سيف الدّين أيتمش المحمدي فِي نِيَابَة قلعة الكرك فَصَارَ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَاج أرقطاي وأرغون الدوادار مقيمين على علو القلعة وَبعث إِلَى الْعَرَب الشوبك بِأَن يَكُونُوا فِي الْخدمَة برسم الصَّيْد. وَكَانَ حَرِيم السُّلْطَان قد توجه إِلَى الْحجاز من الْقَاهِرَة فِي سَابِع عشر شَوَّال فَلَمَّا دخل السُّلْطَان إِلَى الكرك بعث فِي طَلَبهمْ فأدركهم وهم على عقبَة أَيْلَة مَعَ الْأَمِير جمال الدّين خضر بن نوكيه فقد بهم إِلَى الكرك. وَوصل الْأُمَرَاء إِلَى قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرى شَوَّال واجتمعوا عِنْد الْأَمِير سلار النَّائِب بدار النِّيَابَة من القلعة وَقُرِئَ كتاب السُّلْطَان عَلَيْهِم فَبُهِتُوا ثمَّ اشتوروا فِيمَن يقوم بِالْملكِ فَاخْتَارَ أكَابِر الْأُمَرَاء سلار لقلعة وتودده وَاخْتَارَ البرجية بيبرس فَلم يجب سلار إِلَى ذَلِك وَخَافَ البرجية لِئَلَّا يُجيب فَقَامُوا وانفض الْمجْلس. وخلا كل من أَصْحَاب بيبرس وسلار بِصَاحِبِهِ وَحسن لَهُ الْقيام بالسلطنة وخوفه عاقية تَركهَا وَأَنه مَتى ولى غَيره لَا يوافقوه بل يقاتلوه. وَبَات البرجية تغلي مراجلهم خوفًا من ولَايَة سلار وسعي بَعضهم إِلَى بعض وَكَانُوا أَكثر جمعا من أَصْحَاب سلار وَأَعدُّوا السِّلَاح وتأهبوا للحرب فَبلغ ذَلِك سلار فخشي سوء الْعَاقِبَة واستدعى الْأُمَرَاء إخْوَته وحفدته وَمن ينتمي إِلَيْهِ وَقرر مَعَ عقلائهم سرا مُوَافَقَته على مَا يُشِير بِهِ - وَكَانَ مُطَاعًا فيهم - فَأَجَابُوهُ ثمَّ خرج إِلَى شباك 0 للطان الْملك المظفر ركن الدّين بيبرس الجاشنكير المنصوري جلس على تخت الْملك فِي يَوْم السبت ثَالِث عشرى شَوَّال سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَذَلِكَ أَنه لما أصبح يَوْم السبت جلس الْأَمِير سلار النَّائِب بشباك دَار النِّيَابَة وَحضر(2/423)
بيبرس الجاشنكير وَسَائِر الْأُمَرَاء واشتوروا فِيمَن يَلِي السلطنة. فَقَالَ الْأَمِير أقوش قتال السَّبع والأمير بيبرس الدواداري والأمير أيبك الخازندار وهم أكَابِر المنصورية: يَنْبَغِي استدعاء الْخَلِيفَة والقضاة وإعلامهم. كلا وَقع فَخرج الطّلب لَهُم وحضروا فقرئ عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان وَشهد عِنْد قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عَليّ بن مخلوف الْمَالِكِي الأميران عز الدّين الخطيري والحاج آل ملك وَمن كَانَ مَعَهم من الْأُمَرَاء بنزول الْملك النَّاصِر عَن المملكة وَترك سلطنة مصر وَالشَّام فَأثْبت ذَلِك. وأعيد الْكَلَام فِيمَن يصلح فَأَشَارَ الْأُمَرَاء الأكابر بالأمير سلار فَقَالَ: نعم! على شَرط أَن كل مَا أُشير بِهِ لَا تخالفوه وأحضر الْمُصحف وحلفهم على مُوَافَقَته وَألا يخالفوه فِي شَيْء. فقلق البرجية وَلم تبْق إِلَّا إقامتهم الْفِتْنَة فكفهم الله عَن ذَلِك وانقضى الْحلف. فَقَالَ سلار: وَالله يَا أُمَرَاء أَنا مَا أصلح للْملك وَلَا يصلح لَهُ إِلَّا أخي هَذَا وَأَشَارَ إِلَى بيبرس الجاشنكير ونهض قَائِما إِلَيْهِ فَتسَارع البرجية وَقَالُوا بأجمعهم: صدق الْأَمِير وَأخذُوا بيد بيبرس وأقاموه كرها وصاحوا بالجاوشية فصرخوا باسمه. وَكَانَ فرس النّوبَة عِنْد الشباك. فألبسوه تشريف الْخلَافَة: وَهِي فرجية أطلس أسود وطرحة وتقلد بسيفين على الْعَادة. وَمَشى سلار وَالنَّاس بَين يَدَيْهِ من دَار النِّيَابَة بعد الْعَصْر حَتَّى ركب وَعبر بَاب القلعة إِلَى الإيوان وَجلسَ على التخت ولقب بِالْملكِ المظفر وَصَارَ يبكي بِحَيْثُ يرَاهُ النَّاس. ثمَّ قَامَ إِلَى الْقصر وتفرق النَّاس بَعْدَمَا ظنُّوا كل ظن من وُقُوع الْحَرْب بَين السلارية والبيبرسية. فَكَانَت مُدَّة سلطنة الْملك النَّاصِر هَذِه عشر سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. وَلما اسْتَقر الْملك المظفر فِي مملكة مصر اجْتمع الْأُمَرَاء بِالْخدمَةِ على الْعَادة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه فأظهر التغمم بِمَا صَار إِلَيْهِ وخلع على الْأَمِير سلار خلعة النِّيَابَة على عَادَته بَعْدَمَا استعفى وَطلب أَن يكون من جملَة الْأُمَرَاء حَتَّى قَالَ لَهُ: إِن لم تكن أَنْت نَائِبا فَلَا أعمل أَنا السلطنة وَقَامَت عَلَيْهِ الْأُمَرَاء. ثمَّ كتب إِلَى الْأَعْمَال باستقرار الْملك المظفر فِي السلطنة وَتوجه الْأَمِير بيبرس الأحمدي إِلَى حلب والأمير بلاط إِلَى حماة والأمير عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ وَزِير بَغْدَاد وَسيف الدّين ساطي إِلَى دمشق على الْبَرِيد. وَطلب التَّاج بن سعيد الدولة وَعرضت عَلَيْهِ الوزارة فَامْتنعَ مِنْهَا وصمم وَأَشَارَ باستمرار الصاحب ضِيَاء الدّين النشائي فَخلع عَلَيْهِ وعَلى التَّاج. وَاسْتمرّ ابْن سعيد الدولة فِي نظر الْجَيْش وَالْإِشَارَة فِي أَمر الوزارة والتوقيع وَنزلا. وَقد عظم أَمر التَّاج حَتَّى كَانَت تعرض عَلَيْهِ أجوبة النواب وَلَا يكْتب السُّلْطَان على شَيْء مَا لم ير خطه(2/424)
فشق ذَلِك على شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله كَاتب السِّرّ وخيل السُّلْطَان من حُدُوث الْفساد بِسَبَب ذَلِك فَمَنعه من الْوُقُوف على الْأَجْوِبَة وَالْكِتَابَة عَلَيْهِمَا وأمضى لَهُ ماعدا ذَلِك. وَكتب للْملك النَّاصِر تَقْلِيد بنيابة الكرك ومنشور بإقطاع مائَة فَارس وجهز إِلَيْهِ وَقرن بهما كتاب الْملك المظفر: بِأَنِّي أجبْت سؤالك فِيمَا اخترته وَقد حكم الْأُمَرَاء على فَلم تمكن مخالفتهم وَأَنا نائبك وَخرج بهَا الْأَمِير الْحَاج آل ملك فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ أظهر الْبشر وَأمر الحراس أَن يصيحوا باسم الْملك المظفر وخطب لَهُ يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا على مِنْبَر الكرك وأنعم على البريدي وَأَعَادَهُ فسر المظفر بنلك. وَقدم الْبَرِيد من ممالك الشَّام بِالطَّاعَةِ وحلفهم ماعدا الأفرم نَائِب دمشق. فَإِنَّهُ لما قد عَلَيْهِ وَزِير بَغْدَاد بالْخبر قَالَ: بئس وَالله مَا فعله الْملك النَّاصِر بِنَفسِهِ {وَبئسَ مَا فعله بيبرس} وَأَنا لَا أَحْلف لبيبرس - وَقد حَلَفت الْملك النَّاصِر - حَتَّى أبْعث إِلَى النَّاصِر ثمَّ سير جمَاعَة إِلَى الكرك على الْبَرِيد بكتابه فَأَعَادَ النَّاصِر الْجَواب بالشكر وَالثنَاء وَأَنه قد ترك الْملك فليحلف لمن يولونه وَقدم البريدي بذلك إِلَى دمشق فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر ذِي الْقعدَة فَاجْتمع النَّاس من الْغَد بالجامع وَقُرِئَ تَقْلِيد الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام على عَادَته وخلع على مُحي الدّين يحمي بن فضل الله كَاتب السِّرّ وأنعم على الْأَمِير برلغي بإقطاع السُّلْطَان قبل سلطنته وأنعم بإقطاع برلغي على بتخاص وبإقطاع بتخاص على الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك. وخطب للْملك المظفر وَنُودِيَ بِدِمَشْق فزينت وَعَاد وَزِير بَغْدَاد وساطي إِلَى الْقَاهِرَة. فَركب الْملك المظفر بشعار السلطنة بَعْدَمَا جددت لَهُ الْولَايَة بالسلطة من الْخَلِيفَة وخلع على أَرْبَاب الدولة مَا بَين صَاحب سيف وَرب قلم فبلغت عدَّة الْخلْع إِلَى ألف ومائتي خلعة. وَكتب لَهُ تَقْلِيد السلطنة من إنْشَاء عَلَاء الدّين على بن عبد الظَّاهِر وَنزل من قلعة الْجَبَل بكرَة يَوْم السبت سَابِع عشره وسير بالميدان الْأسود وَمَعَهُ الْأُمَرَاء وَعَلِيهِ التشريف: وَهُوَ فرجية سَوْدَاء بطرز ذهب وشاش أسود ملمع بِقطع ذهب ولفته مدمورة والسيفان على عَاتِقيهِ والوزير ضِيَاء الدّين قدامه على فرس والتقليد على رَأسه فِي كيس حَرِير اً سود بَعْدَمَا قري بالقلعة على الْأُمَرَاء. وَورد الْخَبَر باً ن متملك قبرس اتّفق مَعَ جمَاعَة من مُلُوك الفرنج على عمَارَة سِتِّينَ قِطْعَة لغزو دمياط فَجمع السُّلْطَان الْأُمَرَاء وشاورهم فاتفقوا على عمل جسر ماد من الْقَاهِرَة إِلَى دمياط خوفًا من نزُول الفرنج أَيَّام النّيل وَندب لذَلِك الْأَمِير جمال الدّين(2/425)
أقوش الرُّومِي الحسامي وَأمر أَلا يُرَاعِي أحدا من الْأُمَرَاء فِي تَأْخِير رجال بِلَاده ورسم لِلْأُمَرَاءِ أَن يخرج كل مِنْهُم الرِّجَال والأبقار وَكتب إِلَى الْوُلَاة بالمساعدة وَالْعَمَل وَأَن يخرج كل وَال بِرِجَالِهِ. وَكَانَ أقوش مهاباً عبوساً قَلِيل الْكَلَام لَهُ حُرْمَة فِي قُلُوب النَّاس فَلم يصل إِلَى فَارس كور حَتَّى وجد وُلَاة الْعَمَل قد نصبوا الخيم وأحضروا الرِّجَال فاستدعى المهندسين ورتب الْعَمَل. فاستقر الْحَال على ثَلَاثمِائَة جرافة بستمائة رَأس بقر وَثَلَاثِينَ ألف رجل وأحضر إِلَيْهِ نواب جَمِيع الْأُمَرَاء. فَكَانَ يركب دَائِما لتفقد الْعَمَل واستحثاث الرِّجَال بِحَيْثُ إِنَّه فقد بعض الْأَيَّام شاد الْأَمِير بدر الدّين الفتاح وَرِجَاله فَلَمَّا أَتَاهُ بعد طلبه ضربه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ عصاة. فَلم يغب عَنهُ بعد ذَلِك أحد وَنكل بِكَثِير من مَشَايِخ العربان. وضربهم بالمقارع وخزم آنافهم وَقطع آذانهم وَلم يكد يسلم مِنْهُ أحد من أجناد الْأُمَرَاء ومشدى الْبِلَاد وَمَا زَالَ يجْتَهد فِي الْعَمَل حَتَّى نجز فِي اً قل من شهر وَكَانَ ابتداؤه من قُلُوب وأخره بدمياط يسير عَلَيْهِ الرَّاكِب يَوْمَيْنِ وَعرضه من أَعْلَاهُ أَربع قصبات وَمن أَسْفَله سِتّ قصبات يمشي سِتَّة فرساي صفار وَاحِدًا. وَعم النَّفْع بِهِ فَإِن النّيل كَانَ فِي أَيَّام الزِّيَادَة يَعْلُو حَتَّى تَنْقَطِع الطرقات وَيمْتَنع الْوُصُول إِلَى دمياط. وَحضر بعد فَرَاغه الْأَمِير أقوش إِلَى الْقَاهِرَة وخلع عَلَيْهِ وشكرت همته. وَوَقع الِاتِّفَاق على عمل جسر أخر بطرِيق الْإسْكَنْدَريَّة وَندب لعمله الْأَمِير سيف الدّين الحرمكي فعمر قناطر الجيزة إِلَى أخر الرمل تَحت الهرمين وَكَانَت تهدمت فَعم النَّفْع بعمارتها. وَورد الْخَبَر باً ن الْخَوَارِزْمِيّ والتليلي عادا من بِلَاد الْمغرب بهدية حَلِيلَة وَركب مَعَهم الْحَاج فَخرج عَلَيْهِم العربان وَأخذُوا سَائِر مَا مَعَهم حَتَّى صَارُوا عُرَاة. فَخرج جمَاعَة من الأجناد والمماليك إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ليتلقوا الرُّسُل وَالْحجاج وَسَارُوا وَمَعَهُمْ نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى سوسة فلقوهم بهَا وأحسنوا إِلَيْهِم وَإِلَى الْحَاج. وَسَارُوا بهم إِلَى الْقَاهِرَة.(2/426)
وفيهَا كثرت مرافعة أهل الخانكاه الصلاحية سعيد السُّعَدَاء فِي شيخهم كريم الدّين عبد الْكَرِيم الآملي فَقَامَ عَلَيْهِ الشَّيْخ نصر المنجني قيَاما عَظِيما حَتَّى صرف بقاضي الْقُضَاة بَحر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة. وفيهَا أطلقت حماة لنائبها الْأَمِير سيف الدّين قبجق فعزل وَولى. وفيهَا صرف أَمِين الدّين أَبُو بكر بن الرقاقي من نظر دمشق وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة. وَمَات فِي هَذِه السّنة علم الدّين إِبْرَاهِيم بن الرشيد بن أبي الْوَحْش بن أبي حليقة رَئِيس الْأَطِبَّاء بِمصْر وَالشَّام وَمَات برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن ظافر الْبُرُلُّسِيّ نَاظر بَيت المَال فِي خَامِس صفر بِالْقَاهِرَةِ وَولي نظر بَيت المَال عوضه نور الدّين الزواوي النَّائِب الْمَالِكِي. وَمَات مُحي الدّين أَحْمد بن أبي الْفَتْح بن باتكين وَكَانَ يعاني الخدم الديوانية وَله شعر حسن وفضيلة وَعِنْده مفاكهة ومحاضرة جميلَة ومولده سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة وَعمي قبل مَوته وَمَات بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات الشهَاب اً حمد بن صَادِق القوصي فِي حادي عشر صفر بقوص وَكَانَ فَقِيها شافعياً يُوقع عَن قَاضِي وَفِيه تحرز وَعِنْده يقظة. وَمَات الشَّيْخ عبد الْغفار بن نوح القوصي فِي لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع ذِي الْقعدَة وَقد حمل من قوص إِلَى الْقَاهِرَة بِسَبَب قِيَامه فِي هدم الْكَنَائِس حَتَّى هدم الْعَامَّة من قوص ثَلَاثَة عشرَة كَنِيسَة فعوق بِالْمَسْجِدِ أَيَّامًا ثمَّ خلى عَنهُ فاً قَامَ بِجَامِع عَمْرو بن الْعَاصِ حَتَّى مَاتَ وبيعت ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا بِخَمْسِينَ دِينَارا تفرقها أهل الزوايا. وَمَات عُثْمَان الحلبوني الصعيدي ببرزة خَارج دمشق وَكَانَت لَهُ أَحْوَال ومكاشفات. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن شامة الطَّائِي السوادي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء(2/427)
رَابِع عشرى ذِي الْقعدَة عَن سبع وَأَرْبَعين سنة وَدفن بالقرافة. وَمَات ظهير الدّين أَبُو نصر بن الرشيد أبي السرُور بن أبي النَّصْر السامري الدِّمَشْقِي أسلم فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون وتنقل فِي الخدم الديوانية ولي نظر الْجَيْش بِدِمَشْق ثمَّ انْقَطع فِي دَاره حَتَّى مَاتَ فِي حادي عشرى رَمَضَان ومولده اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ جميلاً لينًا متواضعاً محباً لأهل الْخَيْر مواظباً على الصَّلَوَات بِجَامِع بني أُميَّة فِيهِ بر وصدقات مَعَ الْعِفَّة. وَمَات شهَاب الدّين بن على الحسبني حدث بِمصْر عَن ابْن المقير وَابْن رواج والشاوي وَمَات بهَا. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك الشجاعي الْأَشْقَر شاد الدَّوَاوِين فِي محرم بِمصْر وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين الطبرس المنصوري وَالِي بَاب القلعة الملقب بالمجنون والمنسوب إِلَيْهِ الْعِمَارَة فَوق قنطرة الْمَجْنُونَة على الخليج الْكَبِير خَارج الْقَاهِرَة وَكَانَ عفيفاً دينا لَهُ أَحْكَام قراقوشية مَعَ تسلط على النِّسَاء وَكَانَ يخرج أَيَّام المواسم إِلَى القرافة وينكل بِهن فامتنعن من الْخُرُوج فِي زَمَانه إِلَّا لأمر مُهِمّ مثل الْحمام وَغَيره. وَمَات الْملك المسعود نجم الدّين خضر بن الْملك الظَّاهِر بيبرس فِي خَامِس رَجَب بِمصْر وَمَات وَلَده قبله بِيَوْم. وَمَات الشَّيْخ المعتقد أَحْمد بن أَبى الْقَاسِم المراغي فِي لَيْلَة السبت ثَانِي الْمحرم بِمصْر. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيدمر الرَّشِيدِيّ أستادار النَّائِب سلار فِي تَاسِع عشر شَوَّال وَكَانَ عَاقِلا لَهُ ثراء وَاسع وجاه عريض. وَمَات ملك الْمغرب أَبُو ثَابت عَامر بن الْأَمِير أبي عَامر بن السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فِي ثامن صفر فبويع أَخُوهُ الرّبيع بن أبي عَامر.(2/428)
(سنة تسع وَسَبْعمائة)
فِيهَا قدم عَلَاء الدّين التليلي وأيدغدي من بِلَاد الْمغرب ومعهما الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّا الليحاني مُتَوَلِّي طرابلس الغرب وَأَبُو إِدْرِيس عبد الْحق المريني يُريدَان الْحَج فَكَانَت غيبَة النليلي ورفيقه ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة اً شهر فَنزل اللحياني بمناظر الْكَبْش ورتب لَهُ مَا يَلِيق بِهِ. وفيهَا بني الْأَمِير برغلي على ابْنة السُّلْطَان وَعمل مُهِمّ عَظِيم خلع فِيهِ على سَائِر الْأُمَرَاء. وعزل الْأَمِير بيبرس العلائي من نِيَابَة عزة وَاسْتقر عوضه بلبان البدري. وَكتب إِلَى دمشق بِإِبْطَال الْمُقَرّر على الْخُمُور بساحل الشَّام وإراقتها وتعويض الْجند بدلهَا. وَقدم شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ من الْيمن وَقد مَاتَ رَفِيقه سنقر السَّعْدِيّ. وَقدم الْخَبَر باً ن الْملك النَّاصِر كثير الرّكُوب للصَّيْد بِبِلَاد الكرك فِي مماليكه فتخيل الْملك المظفر من ذَلِك وخشي عاقبته. وَاتفقَ أَنه قدم الْخَبَر أَيْضا بحركة خربندا للسير إِلَى بِلَاد الشَّام فَكتب إِلَى الْملك النَّاصِر بحركة خربندا وَقد دعت الْحَاجة إِلَى المَال فَيُرْسل مَا أَخذه مَعَه من مَال مصر وَمَا استولى عَلَيْهِ من حَاصِل الكرك وَمن عِنْده من المماليك وَلَا يدع عِنْده مِنْهُم سوى عشرَة برسم الْخدمَة وَيُرْسل الْخُيُول الَّتِي قادها من مصر وَمَتى لم يفعل خرجت إِلَيْهِ العساكر حَتَّى تخرب الكرك عَلَيْهِ. ورأي النَّاصِر أَن المغالطة أولى وَكتب الْجَواب: الْمَمْلُوك مُحَمَّد بن قلاوون يقبل الأَرْض وَيُنْهِي أَنه مَا قصد الْإِقَامَة إِلَّا طلبا للسلامة وَإِن مَوْلَانَا السُّلْطَان هُوَ الَّذِي رباني وَمَا أعرف لي والداً غَيره وكل مَا أَنا فِيهِ فَمِنْهُ وعَلى يَدَيْهِ وَالْقدر الَّذِي أَخَذته من الكرك لأجل مَا لَا بُد لي فِيهِ من الكلف وَالنَّفقَة. وَقد امتثلت المرسوم الشريف وَأرْسلت نصف الْمبلغ الَّذِي تَأَخّر عِنْدِي امتثالا لأمر مَوْلَانَا السُّلْطَان وَأما الْخَيل فقد مَاتَ بَعْضهَا وَلم يبْق إِلَّا مَا أكبه والمماليك فَلم أترك عِنْدِي إِلَّا من اخْتَار أَن يُقيم معي مِمَّن هُوَ مَقْطُوع العلائق من الْأَهْل وَالْولد فَكيف يحل لي أَن أخرجهم. وَمَا بَقِي إِلَّا إِحْسَان مَوْلَانَا السُّلْطَان. وَكتب النَّاصِر بِأَعْلَى الْكتاب: الملكي المظفري وخلع على مغلطاي وَدفع إِلَيْهِ الْكتاب وَحمله مَعَه مِائَتي ألف دِرْهَم وَأَعَادَهُ وَقد حمله مشافهة بمعني جَوَابه فقنع السُّلْطَان المظفر بيبرس بذلك. وفيهَا قدم السُّلْطَان البرجية أَمر مِنْهُم جمَاعَة كَبِيرَة وَأَرَادَ أَن يُؤمر جمَاعَة الْأَمِير سلار فَلم يُوَافق على ذَلِك وَحلف بأيمان مُغَلّظَة أَنه لَا يُمكن أحدا مِنْهُم أَن يتآمر.(2/429)
وفيهَا تفاوض كَاتب السِّرّ شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله والتاج بن سعيد الدولة: وَسبب ذَلِك أَن التَّاج تزايد تحكمه فِي الدولة بِحَيْثُ اٍ نه لم يكْتب لأحد توقيع برزقه أَو براتب أَو استخدم فِي وَظِيفَة حَتَّى يكْتب عَلَيْهِ ثمَّ شَارك كَاتب السِّرّ فِي معرفَة أجوبة النواب وَغَيرهم فَامْتنعَ ابْن فضل الله من ذَلِك ورد عَلَيْهِ الْجَواب وَفِيه وَلَا كَرَامَة أَن يكون مطلعاً على أسرار المملكة. ثمَّ حدث ابْن فضل الله الْأَمِير سلار النَّائِب فِي ذَلِك وقبح عِنْده أَن يطلع رجل قبْطِي على أسرار المملكة وأخبار الْعَدو وَأَنه لَا يُوَافق على ذَلِك بِوَجْه. فشق على سلار مَا قصد التَّاج وَقَامَ فِي مساعدة ابْن فضل الله وَمَا زَالَ بالسلطان إِلَى أَن منع التَّاج من الإطلاع على شَيْء من أَمر ديوَان الْإِنْشَاء فَاشْتَدَّ غَضَبه وباين ابْن فضل الله. وَقد قَامَ الْبَرِيد بِإِبْطَال سَائِر الخمارات فسر السُّلْطَان بِهَذَا وعزم على أَن يفعل مثل ذَلِك بديار مصر. وَندب لذَلِك الْأَمِير سيف الدّين الشيخي أحد البرجية وَتقدم إِلَيْهِ أَلا يُرَاعِي أحدا من خشداشيته وَلَا يدع بَيْتا بِمصْر والقاهرة من بيُوت أَعلَى النَّاس وأدناهم يبلغهُ أَن فِيهِ خمرًا إِلَّا ويكبسه وَيكسر مَا فِيهِ. وَكَانَ الشيخي فِيهِ شدَّة وَقُوَّة نفس فَطلب وَالِي الْقَاهِرَة ومقدميها وَأَصْحَاب الأرباع وسألهم عَن مَوَاضِع الْخمر فَلم يُجِيبُوهُ أخفوا سَائِر الْمَوَاضِع وَضرب جمَاعَة مِنْهُم بالمقارع حَتَّى دلوه على عصر الْعِنَب أَو من عِنْده خمر وَكتب أسمائهم فَكَانَ فيهم عدَّة من الْأُمَرَاء وَالْكتاب والأجناد والتجار وَأخذ فِي كبس الْبيُوت: فَكَانَ الرجل لَا يشْعر إِلَّا بِهِ فِي مماليكه وَقد هجم عَلَيْهِ وَمَعَهُ النجارون والبناءون لتفقد مطامير الْخمر وإخراجها فَإِذا ظفر بهَا كسر سَائِر مَا فِيهَا. فَنزل بِالنَّاسِ من ذَلِك بلَاء شَدِيد وَافْتَضَحَ كثير من المستورِين وَنهب من بُيُوتهم أَشْيَاء لِكَثْرَة مَا كَانَ يجْتَمع من الْعَامَّة ولفرار صَاحب الْبَيْت خوفًا على نَفسه وَأخذ الأجناد وَغَيرهم من ذَلِك مَا أغناهم. وَأخذ النَّاس يدل بَعضهم على بعض وتشفي جمَاعَة من أعاديهم بنلك. وكبست أَيْضا دور الْيَهُود وَالنَّصَارَى وأريق مَا فِيهَا من الْخُمُور وتعدي الْأَمر دون الْأُمَرَاء فكبست دور من عرف بِشرب الْخمر مِنْهُم وَمِنْهَا دَار الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي المَسْعُودِيّ أحد أُمَرَاء الألوف من البرجية. فأزال(2/430)
الله بذلك فَسَادًا كَبِيرا وَوَقع أَيْضا بِسَبَبِهِ من نهب الْأَمْوَال فَسَاد كَبِيرَة فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمر تجمع الْأُمَرَاء وَحَدثُوا السُّلْطَان فِيهِ فَكف عَنهُ. وَفِي ربيع الأول: خسف جَمِيع جرم الْقَمَر. وَفِيه كثر الإرجاف بحركة التتر فبرز الدهليز السلطاني إِلَى الريدانية. وفيهَا اسْتَقر سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد بن مَسْعُود الْحَارِثِيّ فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِالْقَاهِرَةِ بعد موت القَاضِي شرف الدّين عبد الْغَنِيّ بن عبد الله الْحَرَّانِي فِي ثَالِث ربيع الآخر. وفيهَا فَشَا بِالنَّاسِ أمراض حادة وَعم الوباء وَطلبت الْأَدْوِيَة والأطباء وَعز سَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ المرضى حَتَّى أبيع السكر وأبيع الْفروج بِخَمْسَة دَرَاهِم والرطل الْبِطِّيخ بدرهم وَكَانَ الرجل الْوَاحِد من العطارين يَبِيع فِي كل يَوْم بثلاثمائة دِرْهَم إِلَى مِائَتي دِرْهَم. وفيهَا توقفت زِيَادَة النّيل إِلَى أَن دخل شهر مسرى وارتفع سعر الْقَمْح حَتَّى أبيع الأردب بِخَمْسِينَ درهما والأردب الشّعير والفول بِعشْرين درهما. وَمنع الْأُمَرَاء البيع من شونهم إِلَّا الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري الأستادار فَإِنَّهُ تقدم إِلَى مباشريه أَلا يتْركُوا عِنْده مُبَاشرَة سنة وَبَاعَ مَا عداهُ قَلِيلا قَلِيلا. وَخَافَ النَّاس من وُقُوع نَظِير غلاء كتبغا وَخرج بهم الْخَطِيب نور الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحسن بن على الْقُسْطَلَانِيّ فَاسْتَسْقَى وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً فَنُوديَ من الْغَد بِثَلَاثَة أَصَابِع ثمَّ توقف. وانتهت زِيَادَة النّيل فِي سَابِع عشرى توت إِلَى خَمْسَة عشر ذِرَاعا وَسَبْعَة عشر إصبعاً. وَاتفقَ أَنه نقص فِي أَيَّام النسئ وَجَاء النوروز وَلم يوف النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَفتح الخليج يَوْم الْجُمُعَة ثامن توت وَهُوَ ثامن عشرى ربيع الأول. وَذكر بَعضهم أَنه لم يوف إِلَى تَاسِع عشر بَابه وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس حادي عشر جُمَادَى الأولى وَذَلِكَ بعد الْيَأْس مِنْهُ. وانحط مَعَ ذَلِك السّعر بعد الْوَفَاء وغنت عَامَّة مصر: سلطاننا ركين ونائبنا دقين يجينا المَاء منين. جيبوا لنا الْأَعْرَج يجي الما ويدحرج.(2/431)
وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن الْأَمِير سرتاي استنابه الْملك خربندا بديار بكر وَأَنه حَارب طقطاي فَقتل طقطاي وعزم على الْمسير إِلَى حلب. فَخرج الْأَمِير جمال الدّين أقوش قتال السَّبع والأمير حسام الدّين لاجين الجاشنكير وعدة الطبلخاناه والعشراوات فِي ألفي فَارس وَسَارُوا فِي جماد الأولى إِلَى حلب. وَكتب الْأَمِير سلار للأمير جمال الدّين أقوش بأَرْبعَة آلَاف غرارة من الْقَمْح وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم من مَاله بِدِمَشْق مَعُونَة لَهُ وَلمن مَعَه. وفيهَا ابْتَدَأَ اضْطِرَاب دولة السُّلْطَان الْملك المظفر: وَذَلِكَ أَنه كثر توهمه من الْملك النَّاصِر وخيله الْأُمَرَاء وحذروا السُّلْطَان مِنْهُ. وحسنوا لَهُ الْقَبْض عَلَيْهِ فجبن بيبرس عَن ذَلِك ثمَّ مازالوا بِهِ حَتَّى بعث الْأَمِير مغلطاي إِلَى الْملك النَّاصِر ليَأْخُذ مِنْهُ الْخَيل والمماليك الَّتِي عِنْده. وتغلظ مغلطاي فِي القَوْل فَغَضب الْملك النَّاصِر من ذَلِك غَضبا شَدِيدا وَقَالَ لَهُ: أَنا خليت ملك مصر وَالشَّام لبيبرس وَمَا يَكْفِيهِ حَتَّى ضَاقَتْ عينه على فرس عِنْدِي أَو مَمْلُوك لي ويكرر الطّلب ارْجع إِلَيْهِ وَقل لَهُ وَالله لَئِن لم يتركني وَإِلَّا دخلت بِلَاد التتر وأعلمتهم أَنِّي قد تركت ملك أبي وَأخي وملكي لمملوكي وَهُوَ يَتبعني وَيطْلب مني مَا أخفته. فجافاه مغلطاي وخشن فِي القَوْل بِحَيْثُ اشْتَدَّ غضب الْملك النَّاصِر وَصَاح بِهِ: وَيلك! وصلنا إِلَى هُنَا وَأمر أَن يجر ويرمى من سور القلعة. فثار بِهِ المماليك يَسُبُّونَهُ ويلعنونه وأخرجوه إِلَى السُّور فَلم يزل الْأَمِير أرغون الدوادار والأمير طغاي إِلَى أَن عَفا عَنهُ النَّاصِر وحبسه ثمَّ أخرجه مَاشِيا إِلَى الْغَوْر وامتعض مغلطاي عِنْد ذَلِك مِمَّا حل بِهِ. وَكتب النَّاصِر ملطفات إِلَى نواب الشَّام بحلب وحماة وطرابلس وصفد وَإِلَى أُمَرَاء مصر مِمَّن يَثِق بِهِ. مِمَّا كَانَ فِيهِ من ضيق الْيَد وَقلة الْحُرْمَة وَأَنه لأجل هَذَا ترك ملك مصر وقنع بِالْإِقَامَةِ فِي الكرك وَأَن السُّلْطَان الْملك المظفر فِي كل قَلِيل يُرْسل يُطَالِبهُ بِالْمَالِ ثمَّ بِالْخَيْلِ ثمَّ بالمماليك وَقَالَ لَهُم: أَنْتُم مماليك أبي وربيِتموني. فإمَّا أَن تردوه عني وَإِلَّا أَسِير إِلَى بِلَاد التتار وتلطف فِي مخاطبتهم غَايَة التلطف وسير إِلَيْهِم العربان بهَا فأوصلوها إِلَى أَرْبَابهَا. وَكتب الْأَمِير قبجق المنصوري نَائِب حماة الْجَواب: باً ني مَعَ الْأَمِير قرا سنفر نَائِب حلب وَكتب الْأَمِير قرا سنقر الْجَواب: باً ني مَمْلُوك السُّلْطَان فِي كل مَا يرسم بِهِ وساْل أَن يتَوَجَّه إِلَيْهِ أحد المماليك السُّلْطَانِيَّة فَبعث النَّاصِر مَمْلُوكه أيتمش المحمدي وَكتب مَعَه ملطفًا إِلَى الْأَمِير سيف الدّين قطلوبك المنصوري والأمير بكتمر الحسامي الْحَاجِب بِدِمَشْق. وَأما بكتمر الجوكندار نَائِب صفد فَإِنَّهُ طرد القاصد وَلم يجْتَمع لَهُ.(2/432)
وَقدم أيتمش دمشق فِي خُفْيَة وَنزل عِنْد بعض مماليك الْأَمِير قطلوبك وَدفع إِلَيْهِ الملطف. فَلَمَّا أوصله إِلَى قطلوبك أنكر عَلَيْهِ وَأمره بالاحتفاظ على أيتمش ليوصله إِلَى الأفرم نَائِب الشَّام ويتقرب إِلَيْهِ بذلك. فَترك أيتمش رَاحِلَته الَّتِي قدم عَلَيْهَا عِنْدَمَا بلغه ذَلِك وَمضى إِلَى دَار الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص فِي اللَّيْل وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فَعرفهُ مَا كَانَ من الْأَمِير قطلوبك فطمن خاطره وأنزله عِنْده وَقَامَ بِحقِّهِ وأركبه من الْغَد مَعَه إِلَى الموكب. وَقد سبق قطلوبك وَعرف النَّائِب قدوم مَمْلُوك الْملك النَّاصِر إِلَيْهِ وهربه لَيْلًا فقلق الأفرم من ذَلِك وألزم وَالِي الْمَدِينَة بتحصيل الْمَمْلُوك فَقَالَ بهادر آص: هَذَا الْمَمْلُوك عِنْدِي وَأَشَارَ إِلَيْهِ فَنزل عَن الْفرس وَسلم على الأفرم وَسَار مَعَه فِي الموكب إِلَى دَار السَّعَادَة وَقَالَ بِحَضْرَة الْأُمَرَاء: السُّلْطَان الْملك النَّاصِر يسلم عَلَيْكُم وَيَقُول مَا مِنْكُم أحد إِلَّا وَأكل خبز الشَّهِيد وَالِده وخبزه وَمَا مِنْكُم إِلَّا من إنعامه عَلَيْهِ. وَأَنْتُم تربية الشَّهِيد وَالِده وَأَنه قَاصد الدُّخُول إِلَى دمشق وَالْإِقَامَة فِيهَا. فَإِن كَانَ فِيكُم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفعوه. فَلم يتم هَذَا القَوْل حَتَّى صَاح عز الدّين أيدمر الكوكندي الزراق أحد أُمَرَاء دمشق وَابْن أستاذاه! وَبكى. فَغَضب الأفرم نَائِب الشَّام عَلَيْهِ وَأخرجه ثمَّ قَالَ لأيتمش: قل لَهُ - يَعْنِي الْملك النَّاصِر - كَيفَ تَجِيء إِلَى الشَّام أَو إِلَى غير الشَّام كَأَن الشَّام ومصر الْآن تَحت حكمك أَنا لما أرسل إِلَيْنَا السُّلْطَان الْملك أَن أَحْلف لَهُ مَا حَلَفت حَتَّى سيرت أَقُول لَهُ: كَيفَ يكون ذَلِك وَابْن أستاذنا بَاقٍ فَأرْسل يَقُول: أَنا مَا تقدّمت عَلَيْهِ حَتَّى خلع ابْن أستاذنا نَفسه وَكتب خطه وَأشْهد عَلَيْهِ بنزول عَن الْملك فَعِنْدَ ذَلِك حَلَفت لَهُ. ثمَّ فِي هَذَا الْوَقْت تَقول من يردني عَن الشَّام وَأمر بِهِ فَسلم إِلَى أستاداره الطنقش. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل استدعاه وَدفع إِلَيْهِ خمسين دِينَارا وَقَالَ لَهُ: قل لَهُ لَا يذكر الْخُرُوج من الكرك وَأَنا أكتب إِلَى الْملك المظفر وأرجعه عَن طلب الْخَيل والمماليك وخلى عَنهُ ليعود إِلَى الكرك. فَقدم أيتمش على الْملك النَّاصِر وحدثه بِمَا جرى لَهُ فَأَعَادَهُ على الْبَريَّة وَمَعَهُ أر كتمر وَعُثْمَان الهجان ليجتمع بقرًا سنقر نَائِب حلب ويواعده على الْمسير إِلَى دمشق. وَسَار الْملك النَّاصِر من الكرك إِلَى بركَة زيزاء. وَأما الْملك المظفر فَإِنَّهُ لما بلغه أَن الْملك النَّاصِر حبس الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي أيتعلى الْمُقدم ذكره قلق واستدعى الْأَمِير سلار النَّائِب وعرفه ذَلِك. وَكَانَت البرجية قد أغروا المظفر بسلار واتهموه بِأَنَّهُ قد بَاطِن الْملك النَّاصِر وأشاروا عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ وخوفوه مِنْهُ. فَبلغ ذَلِك سلار فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم وَأخذ فِي مداراتهم. وَكَانَ أَشَّدهم عَلَيْهِ الْأَمِير سيف الدّين بيكور فَبعث إِلَيْهِ - وَكَانَ قد شكا لَهُ من انكسار خراجه - سِتَّة أُلَّاف أردب غلَّة وَألف دِينَار مصرية فَكف عَنهُ وهادى خَواص السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِم اٍ نعامات كَثِيرَة طلبا للسلامة مِنْهُم. ثمَّ حضر سلار عِنْد المظفر(2/433)
وتكلما فِيمَا هم فِيهِ فاقتضي الرَّأْي تجهيز قَاصد للْملك النَّاصِر بتهديده ليفرج عَن أيتغلي. وبينما هم فِي ذَلِك قدم الْبَرِيد من عِنْد نَائِب دمشق باً ن الْملك النَّاصِر سَار من الكرك إِلَى البرج الْأَبْيَض وَلم يعرف مقْصده فَكتب إِلَيْهِ بالكشف عَن مقْصده وَحفظ الطرقات عَلَيْهِ. هَذَا وَقد اشْتهر بِالْقَاهِرَةِ حَرَكَة الْملك النَّاصِر وَخُرُوجه من الكرك فَتحَرك الْأَمِير سيف الدّين نوغاي القبجاقي - وَكَانَ شجاعاً مقداماً حاد المزاج قوي النَّفس وَمن ألزام الْأَمِير سلار النَّائِب - وواعده جمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة أَن يهجم بهم على السُّلْطَان الْملك المظفر بيبرس إِذا ركب ويقتله. فَلَمَّا نزل إِلَى بركَة الْجب استجمع نوغاي بِمن وَافقه يُرِيدُونَ الفتك بالسلطان فِي عوده من الْبركَة وتقرب نوغاي من السُّلْطَان قَلِيلا قَلِيلا وَفد تغير وَجهه وَظهر فِيهِ أَمَارَات الشَّرّ فَفطن بِهِ خَواص السُّلْطَان وتحلقوا حوله فَلم يجد نوغاي سَبِيلا إِلَى مَا عزم عَلَيْهِ. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة فَعرفهُ ألزامه مَا فهموه عَن نوغاي وحسنوا لَهُ الْقَبْض عَلَيْهِ وَتَقْرِيره على من مَعَه. فاستدعى السُّلْطَان الْأَمِير سلار وأعلمه الْخَبَر - وَكَانَ قد بَاطِن نوغاي أَيْضا - فحذره من ذَلِك وخوفه عَاقِبَة الْأَخْذ بِالظَّنِّ وَأَن فِيهِ فَسَاد قُلُوب الْجَمِيع وَلَيْسَ إِلَّا الإغضاء فَقَط وَقَامَ عَنهُ فَأَخذه البرجية فِي الإغراء بسلار وَأَنه ولابد قد بَاطِن نوغاي وَمَتى لم يقبض عَلَيْهِ فسد الْحَال. فَبلغ نوغاي مَا هم فِيهِ من الحَدِيث فِي الْقَبْض عَلَيْهِ فواعد أَصْحَابه على اللحاق بِالْملكِ النَّاصِر وَخرج هُوَ والأمير عَلَاء الدّين مغلطاي القازاني والأمير سيف الدّين طقطاي الساقي وَنَحْو سِتِّينَ مَمْلُوكا وَقت الْمغرب عِنْد بَاب القلعة من لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة. وَعرف السُّلْطَان بذلك من الإسطبل فَفتح بَاب القلعة وَطلب الْأَمِير سلار وشاوره فَأَشَارَ بتجهيز الْأُمَرَاء فِي طَلَبهمْ وَعين أَخَاهُ عَلَاء الدّين سمك وقطز بن الفارقاني فِي عدَّة من حَاشِيَته وَخَمْسمِائة مَمْلُوك وَسَارُوا من وقتهم غير مجدين فِي طَلَبهمْ وَصَارَ بَين الْفَرِيقَيْنِ مرحلة وَاحِدَة إِذا رَحل هَؤُلَاءِ نزل هَؤُلَاءِ. فَلَمَّا وصل نوغاي إِلَى قطيا وجد الْحمل قد تجهز إِلَى الْقَاهِرَة وَهُوَ مبلغ عشْرين ألف دِرْهَم فَأَخذه وَأخذ خيل الْوَالِي وخيول الْعَرَب وَسَار إِلَى غَزَّة وَمضى إِلَى الكرك فَنزل الْأُمَرَاء بعده غَزَّة وعادوا إِلَى الْقَاهِرَة. وَقد اشْتَدَّ خوف الْملك المظفر وَكثر خياله فَقبض على جمَاعَة تزيد عدتهمْ على ثَلَاثمِائَة مَمْلُوك وَأخرج أخبارهم وأخباز المتوجهين إِلَى الكرك لمماليكه.(2/434)
وَبلغ الْملك النَّاصِر قدوم نوغاي وَمن مَعَه وَهُوَ فِي الصَّيْد فَأمر بإحضارهم فَأتوهُ وقبلوا لَهُ الأَرْض وهنأوه بالعافية فسر بهم. وَسَارُوا مَعَه إِلَى زيزاء وَمضى إِلَى زرع يُرِيد دمشق ثمَّ رَجَعَ إِلَى الكرك. فشق على الْملك المظفر ذَلِك وَدَار بِهِ البرجية وشوشوا فكره بِكَثْرَة إيهامهم وتخيلهم لَهُ بمخاطرة الْعَسْكَر عَلَيْهِ وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أخرج الْأَمِير بينجار والأمير صارم الدّين الجرمكي فِي عدَّة من الْأُمَرَاء مجردين وَأخرج الْأَمِير أقوش الرُّومِي بجماعته إِلَى طَرِيق السويس ليمنع من عساه يتَوَجَّه من الْأُمَرَاء والمماليك إِلَى الْملك النَّاصِر وَقبض على أحد عشر مَمْلُوكا وَقصد أَن يقبض على آخَرين فاستوحش الْأَمِير سيف الدّين أيطرا وفر فأدركه الْأَمِير جركتمر بن بهادر راً س نوبَة وأحضره فحبس وَعند إِحْضَاره طلع الْأَمِير سيف الدّين الدكز السِّلَاح دَار بملطف من الْملك النَّاصِر استجلا بِهِ إِلَيْهِ فَكثر قلق الْملك المظفر وَزَاد توهمه ونفرت مَعَ ذَلِك قُلُوب جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمماليك وخشوا على أنفسهم وَاجْتمعَ كثير من المنصورية والأشرفية والأويرانية وتواعدوا على الْحَرْب وَخرج مِنْهُم مائَة وَعِشْرُونَ فَارِسًا بِالسِّلَاحِ وَسَارُوا إِلَى الْملك النَّاصِر. فَخرج إِلَيْهِم الْأَمِير بينجار والصارم الجرمكي فَقَاتلهُمْ المماليك وجرح الجرمكي بِسيف فِي فَخذه سقط إِلَى الأَرْض وَمضى المماليك على حمية إِلَى الكرك. فَعظم الْخطب على السُّلْطَان وَاجْتمعَ إِلَيْهِ البرجية وَقَالُوا لَهُ: هَذَا الْفساد كُله من الْأَمِير سلار وَمَتى لم تقبض عَلَيْهِ خرج الْأَمر من يدك فَلم يُوَافق على ذَلِك وَاتفقَ الرَّأْي على تَجْرِيد العساكر. وَفِي يَوْم السبت ثَانِي رَجَب: مَاتَ التَّاج بن سعيد الدولة وَاسْتقر ابْن أُخْته كريم الدّين أكْرم الْكَبِير فِي وظائفه وتكبر على الْأُمَرَاء واستقرت فِيهِ الْأَحْوَال حَتَّى كتب على مَا يعرف وَمَا لَا يعرف. وَأما أيتمش المحمدي فَإِنَّهُ سَار إِلَى حماة وَاجْتمعَ بالأمير قبجق نائبها فأحال قبجق الْأَمر على الْأَمِير قرا سنقر نَائِب حلب وَأَنه مَعَه حَيْثُ كَانَ. فَسَار أيتمش إِلَى حلب وَاجْتمعَ بقرًا سنقر فَأكْرمه وَوَافَقَ على قيام الْملك النَّاصِر وَدخل فِي طَاعَته ووعده على السّير إِلَى دمشق أول شعْبَان. وَكتب قرا سنقر إِلَى الأفرم نَائِب يحثه دمشق على طَاعَة الْملك النَّاصِر ويرغبه وَأَشَارَ بمكاتبة الْملك النَّاصِر للأمير بكتمر الجوكندار نَائِب صفد والأمير كراي المنصوري بالقدس ونائب طرابلس وَأعَاد أيتمش وَمن مَعَه إِلَى الْملك النَّاصِر فسر بذلك. وَكَانَ نوغاي مُنْذُ قدم لَا يبرح يحرضه على الْمسير إِلَى دمشق فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ خبر قرا سنقر اشْتَدَّ باً سه وَقَوي عزمه على الْحَرَكَة إِلَّا أَنه ثقل عَلَيْهِ أَمر(2/435)
نوغاي من مخاشنته لَهُ فِي المخاطبة وجفاه القَوْل بِحَيْثُ إِنَّه قَالَ لَهُ: لَيْسَ لي بك حَاجَة ارْجع إِلَى حَيْثُ شِئْت فَترك نوغاي الْخدمَة وَانْقطع إِلَى أَن قدم أيتمش من حلب فَدخل بَينه وَبَين السُّلْطَان حَتَّى أَزَال مَا بَينهمَا وَأسر لَهُ السُّلْطَان ذَلِك حَتَّى قَتله بعد عوده إِلَى الْملك كَمَا ثمَّ إِن الْملك النَّاصِر بعث أيتمش أَيْضا إِلَى صفد فتلطف حَتَّى اجْتمع بناصر الدّين مُحَمَّد بن بكتمر الجوكندار نَائِب صفد وَجمع بَينه وَبَين أَبِيه لَيْلًا فِي مَقَابِر صفد فعتبه أيتمش على مَا كَانَ من رده قَاصد الْملك النَّاصِر فَاعْتَذر بالخوف من بيبرس وسلار وَأَنه لَوْلَا ثقته بِهِ لما اجْتمع بِهِ قطّ. فَلَمَّا عرفه أيتمش طَاعَة الْأَمِير قرا سنقر والأمير قبجق أجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَأَنه على ميعاد النواب إِلَى الْمُضِيّ إِلَى الشَّام فَأَعَادَ أيتمش جَوَابه على الْملك النَّاصِر فسر بِهِ. وَسَار من الْقَاهِرَة عشرَة من الْأُمَرَاء المقدمين فِي يَوْم السبت تَاسِع رَجَب مِنْهُم: الْأَمِير سيف الدّين برلغي الأشرفي. والأمير جمال الدّين أقوش الأشرفي نَائِب الكرك والأمير عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ والأمير سيف الدّين طغريل الإيغاني والأمير سيف الدّين تناكر وَمَعَهُمْ نَحْو ثَلَاثِينَ أَمِيرا من الطبلخاناه بَعْدَمَا أنْفق فيهم السُّلْطَان الْملك المظفر فَأخذ برلغي عشرَة آلَاف دِينَار وكل من المقدمين ألفي دِينَار وكل من الطبلخاناه ألف دِينَار وكل من مقدمي الْحلقَة ألف دِرْهَم وكل من أجناد الكرك خَمْسمِائَة دِرْهَم ونزلوا تجاه مَسْجِد تبر خَارج الْقَاهِرَة ثمَّ عَادوا بعد أَرْبَعَة أَيَّام إِلَى الْقَاهِرَة لوُرُود الْخَبَر بِعُود الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك. ثمَّ ورد الْخَبَر ثَانِيًا بمسيره فتجهز الْعَسْكَر فِي أَرْبَعَة آلَاف فَارس وَخرج برلغي ونائب الكرك وَمن تقدم ذكره وَسَارُوا فِي الْعشْرين من شعْبَان إِلَى العباسة. فورد الْبَرِيد من عِنْد الأفرم نَائِب دمشق بقدوم أيتمش المحمدي عَلَيْهِ من قبل الْملك النَّاصِر وَبِمَا شافهه بِهِ من الْجَواب وَأَنه بعث الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الحسامي والأمير سيف الدّين جوبان لكشف الْأَخْبَار وَأَشَارَ بِتَأْخِير الْعَسْكَر فَكتب بإقامتهم على العباسة. فَقدم أيدغدي شقير وجوبان على الْملك النَّاصِر وعرفاه أَنَّهُمَا قدما لكشف حَاله وحلفا لَهُ على الْقيام بنصرته ورجعا إِلَى دمشق فعرفا الأفرم أَن النَّاصِر مُقيم ليتصيد فخاف أَن يطْرق دمشق بغته فَجرد إِلَيْهِ ثَمَانِيَة أُمَرَاء بمضافيهم: مِنْهُم الْأَمِير سيف الدّين قطلوبك المنصوري والأمير سيف الدّين الْحَاج بهادر الْحلَبِي الْحَاجِب والأمير سيف الدّين جوبان والأمير كجكن والأمير علم الدّين الجاولي ليقيموا على الطرقات لحفظها على من يخرج إِلَى الْملك النَّاصِر. وَكتب الأفرم إِلَى الْملك المظفر يحثه على إِخْرَاج الْعَسْكَر الْمصْرِيّ ليجتمع مَعَ عَسْكَر دمشق على قتال الْملك النَّاصِر وَأَنه قد جدد الْيَمين لَهُ وَحلف أُمَرَاء دمشق أَنهم لَا(2/436)
يخونون الْملك المظفر وَلَا ينْصرُونَ الْملك النَّاصِر وَأَن نَائِب حلب وَغَيره من النواب قد دخلُوا فِي طَاعَة الْملك النَّاصِر. فَلَمَّا قَرَأَ الْملك المظفر كتاب نَائِب الشَّام اضْطربَ وَزَاد قلقه. فورد كتاب الْأَمِير برلغي من العباسة بِأَن مماليك الْأَمِير جمال الدّين أقوش الرُّومِي تجمعُوا عَلَيْهِ وقتلوه وَسَارُوا وَمَعَهُمْ خزائنه إِلَى الْملك النَّاصِر وَأَنَّهُمْ لحق بهم بعض أُمَرَاء الطبلخاناه فِي جمَاعَة من مماليك الْأُمَرَاء وَقد فسد الْحَال والرأي أَن يخرج السُّلْطَان بِنَفسِهِ. فَأخْرج المظفر تجريدة أُخْرَى فِيهَا عدَّة من الْأُمَرَاء وهم بشاش وبكتوت الفتاح وَكثير من البرجية وَبعث إِلَى برلغي ألفي دِينَار ووعده بِأَنَّهُ عازم على التَّوَجُّه إِلَيْهِ بِنَفسِهِ. فَلَمَّا ورد كتاب الْملك المظفر بذلك وبقدوم التجريدة إِلَيْهِ عزم على الرحيل من الْغَد إِلَى جِهَة الكرك. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل رَحل كثير مِمَّن مَعَه يُرِيدُونَ الْملك النَّاصِر فَكتب إِلَى السُّلْطَان بِأَن نصف الْعَسْكَر قد صَار عَلَيْهِ وحرضه على الْخُرُوج بِنَفسِهِ. فَلم يطلع الْفجْر إِلَّا والأمير سيف الدّين بهادر جكي قد وصل بِكِتَاب الْأَمِير برلغي على الْبَرِيد إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا قضي صَلَاة الصُّبْح تقدم إِلَيْهِ وأعلمه برحيل أَكثر الْعَسْكَر إِلَى الْملك النَّاصِر وناوله الْكتاب فَلَمَّا قَرَأَهُ تَبَسم وَقَالَ: سلم على برلغي وَقل لَهُ لَا تخش من شَيْء فَإِن الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ قد عقد لنا بيعَة ثَانِيَة وجدد لنا عهدا وَقد قرئَ على المنابر وجددنا الْيَمين على الْأُمَرَاء وَمَا بَقِي أحد يَجْسُر أَن يُخَالف مَا كتب بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ قد أكد فِي كِتَابَة العقد. ثمَّ دفع المظفر إِلَيْهِ الْعَهْد الخليفتي وَقَالَ: امْضِ بِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يقرأه على الْأُمَرَاء والجند ثمَّ يُرْسِلهُ لي فَإِذا فرغ من قرائته يرحل بالعساكر إِلَى الشَّام وجهز لَهُ أَيْضا ألفي دِينَار أُخْرَى وَكتب جَوَابه بنظير المشافهة. فَعَاد بهادر إِلَى برلغي فَلَمَّا قرئَ عَلَيْهِ الْكتاب وانتهي إِلَى قَوْله: وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ ولاني تَوْلِيَة جَدِيدَة وَكتب لي عهدا وجدد لي بيعَة ثَانِيَة فتح برلغي الْعَهْد فَإِذا أَوله: إِنَّه من سُلَيْمَان فَقَالَ: ولسليمان الرّيح ثمَّ الْتفت إِلَى بهادر وَقَالَ لَهُ: قل لَهُ يَا بَادر الذقن! وَالله مَا معي أحد يلْتَفت إِلَى الْخَلِيفَة ثمَّ قَامَ وَهُوَ مغضب. وَكَانَ سَبَب تَجْدِيد الْعَهْد أَن نَائِب دمشق لما ورد كِتَابه بِأَنَّهُ حلف أُمَرَاء الشَّام ثَانِيًا وَبعث صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن مكي بن عبد الصَّمد الشهير بِابْن المرحل برسالة إِلَى السُّلْطَان صَار صدر الدّين يجْتَمع عِنْده هُوَ وَابْن عَدْلَانِ ويشغل السُّلْطَان وقته(2/437)
بهما. فاً شارا عَلَيْهِ بتجديد الْبيعَة وَكِتَابَة عهد يقْرَأ على المنابر وتحليف الْأُمَرَاء فَإِن ذَلِك يثبت قَوَاعِد الْملك فَفعل ذَلِك وَحلف الْأُمَرَاء بِحَضْرَة الْخَلِيفَة وَكتب لَهُ عهد جَدِيد عَن الْخَلِيفَة أبي الرّبيع ونسخته: إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. من عبد الله وَخَلِيفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن أَحْمد العباسي لأمراء الْمُسلمين وجيوشها.
7 - (يأيها الَّذين آمنُوا أَطيعوا الله وأَطيعوا الرَّسُول وَأولى الْأَمر مِنْكُم)
وَإِنِّي رضيت لكم بِعَبْد الله تَعَالَى الْملك المظفر ركن الدّين نَائِبا عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية وأقمته مقَام نَفسِي لحينه وكفايته وأهليته ورضيته للْمُؤْمِنين وعزلت من كَانَ قبله بعد علمي بنزوله عَن الْملك وَرَأَيْت ذَلِك مُتَعَيّنا عَليّ وحمت بذلك الْحَاكِم الْأَرْبَعَة. وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن الْملك عقيم لَيْسَ بالوراثة لأحد خَالف عَن سالف وَلَا كَابر عَن كَابر. وَقد استخرتُ الله تَعَالَى وَوليت عَلَيْكُم الْملك المظفر فَمن أطاعه فقد أَطَاعَنِي وَمن عَصَاهُ فقد عَصَانِي وَمن عَصَانِي فقد عصي أَبَا الْقَاسِم ابْن عمي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم. وَبَلغنِي أَن الْملك النَّاصِر بن الْملك الْمَنْصُور شقّ الْعَصَا على الْمُسلمين وَفرق كلمتهم وشتت شملهم وأطمع عدوهم فيهم وَعرض الْبِلَاد الشامية والمصرية إِلَى سبي الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد وَسَفك الدِّمَاء وَتلك دِمَاء قد صانها الله من ذَلِك. وَأَنا خَارج إِلَيْهِ ومحاربه إِن اسْتمرّ على ذَلِك وأدفع عَن حَرِيم الْمُسلمين وأنفسهم وَأَوْلَادهمْ هَذَا الْأَمر الْعَظِيم وأقاتله حَتَّى يفِيء إِلَى أَمر الله تَعَالَى. وَقد أوجبت عَلَيْكُم يَا معاشر الْمُسلمين كَافَّة الْخُرُوج تَحت لِوَائِي - اللِّوَاء الشريف فقد اجْتمعت الْحُكَّام على وجوب دفْعَة وقتاله إِن اسْتمرّ على ذَلِك وَأَنا مستصحب معي لذَلِك السُّلْطَان الْملك المظفر فجهزوا أرواحكم وَالسَّلَام. وَقد قرئَ على مَنَابِر الْجَوَامِع بِالْقَاهِرَةِ فِي الْجَامِع الْأَزْهَر وبجامع الْحَاكِم وَقت الْخطْبَة فِي يَوْم الْجُمُعَة فَلَمَّا بلغ الْقَارئ إِلَى ذكر الْملك النَّاصِر صاحوا: لَا {مَا نريده} وَوَقع فِي الْقَاهِرَة ضجة وحركة بِسَبَب ذَلِك. وَفِيه قدم الْأَمِير بهادر آص من دمشق على الْبَرِيد يحث السُّلْطَان على الْخُرُوج بِنَفسِهِ فَإِن النواب قد مالوا كلهم مَعَ الْملك النَّاصِر فَأجَاب بِأَنَّهُ لَا يخرج وَاحْتج بكراهيته للفتنة وَسَفك الدِّمَاء وَأَن الْخَلِيفَة قد كتب بولايته وعزل الْملك النَّاصِر فَإِن قبلوا وَإِلَّا(2/438)
ترك الْملك. ثمَّ قدم الْأَمِير بلاط بِكِتَاب الْأَمِير برلغي أَن جَمِيع من خرج من أُمَرَاء الطبلخاناه لَحِقُوا بِالْملكِ النَّاصِر وتبعهم خلق كثر وَلم يتَأَخَّر غير برلغي وجمال الدّين أقوش نَائِب الكرك وأيبك الْبَغْدَادِيّ وتناكر والفتاح لَا غير وَذَلِكَ لأَنهم خَواص السُّلْطَان. وَأما الْملك النَّاصِر فَإِنَّهُ سَار فِي أول شعْبَان بِمن مَعَه يُرِيد دمشق فَدخل فِي طَاعَته الْأَمِير قطلوبك الْحَاج بهادر الْحلَبِي وبكتمر الْحَاجِب والجاولي وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بذلك وَأَنه يتاً نى فِي الْمسير إِلَى دمشق من غير سرعَة حَتَّى يتَبَيَّن مَا عِنْد بَقِيَّة أُمَرَاء دمشق. ثمَّ كتبُوا إِلَى الأفرم نَائِب دمشق بِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى محاربة الْملك النَّاصِر وَأَرَادُوا بذلك إِمَّا أَن يخرج الأفرم إِلَيْهِم فيقبضوه أَو يسير عَن دمشق إِلَى جِهَة أُخْرَى فتأتيهم بَقِيَّة الْجَيْش. وَكَانَ كَذَلِك: فَإِنَّهُ لما قدم كِتَابهمْ عَلَيْهِ بِدِمَشْق شاع بَين النَّاس سير الْملك النَّاصِر من الكرك فثارت الْعَوام وصاحوا: نَصره الله. وَركب الأجناد إِلَى النَّائِب فاستدعى من بَقِي من الْأُمَرَاء والقضاة ونادى: معاشر أهل الشَّام {مَا لكم سُلْطَان إِلَّا الْملك المظفر فَصَرَخَ النَّاس بأسرهم: لَا} لَا! مَا لنا سُلْطَان إِلَّا الْملك النَّاصِر. وتسلل الْعَسْكَر من دمشق طَائِفَة بعد طَائِفَة إِلَى الْملك النَّاصِر وانفرط الْأَمر من الأفرم. فَاجْتمع الْأَمِير بيبرس العلائي والأمير بيبرس الْمَجْنُون بِمن مَعَهُمَا على الْوُثُوب بالأفرم وَقَبضه فَلم يثبت عِنْدَمَا بلغه ذَلِك واستدعى عَلَاء الدّين بن صبح وَكَانَ من خواصه وَتوجه لَيْلًا إِلَى جِهَة الشقيف. فَركب الْأَمِير قطلوبك والأمير الْحَاج بهادر عِنْدَمَا سمعا الْخَبَر وتوجها إِلَى الْملك النَّاصِر فسر بهما وأنعم على كل مِنْهُمَا بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. ثمَّ قدم إِلَيْهِ أَيْضا الجاولي وجوبان وَسَار بِمن مَعَه حَتَّى نزل الْكسْوَة فَخرج إِلَيْهِ بَقِيَّة الْأُمَرَاء والأبضاد وَقد عمل لَهُ سَائِر شَعَائِر السلطنة من الصناجق الخليفتية والسلطانية والعصائب والجتر والغاشية. فَحلف العساكر وَسَار فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر شعْبَان من الْكسْوَة يُرِيد الْمَدِينَة فَدَخلَهَا بَعْدَمَا زينت زِينَة عَظِيمَة. وَخرج جَمِيع النَّاس إِلَى لِقَائِه على اخْتِلَاف طبقاتهم حَتَّى صغَار الْمكَاتب فَبلغ كِرَاء الْبَيْت من الْبيُوت الَّتِي من ميدان الْحَصَا إِلَى القلعة للتفرج على السُّلْطَان من خَمْسمِائَة دِرْهَم إِلَى مائَة دِرْهَم. وفرشت الأَرْض بشقاق الْحَرِير الملونة وَحمل الْأَمِير سيف الدّين قطلوبك المنصوري الغاشية وَحمل الْأَمِير الْحَاج بهادر الجتر. وترجل الْأُمَرَاء والعساكر بأجمعهم حَتَّى إِذا وصل بَاب القلعة خرج مُتَوَلِّي القلعة وَقبل الأَرْض فَتوجه السُّلْطَان حَتَّى نزل بِالْقصرِ الأبلق من الميدان. وَكَانَ عَلَيْهِ عِنْد دُخُوله عباءة بَيْضَاء فِيهَا خطوط سود تحتهَا فرو سنجاب.(2/439)
وَفِي وَقت نُزُوله قدم مَمْلُوك قرا سنفر من حلب لكشف الْخَبَر وَذكر أَن قرا سنقر خرج من حلب وقبجق خرج من حماة فَخلع عَلَيْهِ وَكتب إِلَيْهِمَا بِسُرْعَة الْقدوم. وَكتب إِلَى الأفرام أَمَان وَتوجه بِهِ علم الدّين الجاولي. فَلم يَثِق بذلك وَطلب يَمِين السُّلْطَان لَهُ فَحلف السُّلْطَان وَبعث إِلَيْهِ بنسخة الْحلف صُحْبَة الْأَمِير الْحَاج أرقطاي الجمدار فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قدم مَعَه هُوَ وَابْن صبح فَركب السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه حَتَّى إِذا قرب مِنْهُ نزل كل مِنْهُمَا عَن فرسه. فاً عظم الأفرم نزُول السُّلْطَان لَهُ وَقبل الأَرْض وَكَانَ قد لبس كاملية وَشد وَسطه وتوشح بنصفية يَعْنِي أَنه حضر بهيئة البطال من الإمرة وكفنه تَحت إبطه وعندما شَاهده النَّاس على هَذِه الْحَالة صرخوا بِصَوْت وَاحِد: يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان بتربة والدك الشَّهِيد لَا تؤذيه وَلَا تغير عَلَيْهِ فبكي سَائِر من حضر. وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه وخلع عَلَيْهِ وأركبه وَأقرهُ على نِيَابَة دمشق فَكثر الدُّعَاء لَهُ وَسَار النَّاصِر إِلَى الْقصر. فَلَمَّا كَانَ الْغَد أحضر الأفرم خيلاً وجمالاً وثياباً بِمِائَتي ألف دِرْهَم تقدمة للسُّلْطَان. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرى: خطب بِدِمَشْق للْملك النَّاصِر وَصليت الْجُمُعَة بالميدان فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه قدم الْأَمِير قرا سنقر نَائِب حلب والأمير قبجق نَائِب حماة والأمير أسندمر كرجي نَائِب طرابلس وتمر الساقي نَائِب حمص. فَركب السُّلْطَان إِلَى لقائهم فِي ثامن عشرى وترحل لقرا سنقر وعانقه وشكر الْأُمَرَاء وَأثْنى عَلَيْهِم. ثمَّ قدم الْأَمِير كراي المنصوري من الْقُدس وبكتمر الجوكندار نَائِب صفد. وَقدم كل من النواب والأمراء تقدمه على قدر حَاله مَا بَين ثِيَاب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاه زركش وخيول مسرجة وأصناف الْجَوَاهِر وَالْخلْع والأقبية والتشاريف. وَكَانَ أَجلهم تقدمة الْأَمِير قطلوبك المنصوري فَإِنَّهُ قدم عشرَة أرؤس خيل مسرجة ملجمة عنق كل فرس كيس فِيهِ ألف دِينَار وَعَلِيهِ مَمْلُوك وَأَرْبع قطر بغال وعدة بَخَاتِي وَغير ذَلِك. وَشرع الْملك النَّاصِر فِي النَّفَقَة على الْأُمَرَاء والعساكر الْوَارِدَة مَعَ النواب فَلَمَّا انْتهى أَمر النَّفَقَة قدم السُّلْطَان بَين يدية الْأَمِير كراي المنصوري على عَسْكَر ليسير إِلَى غَزَّة فَسَار إِلَيْهَا وَصَارَ كراي يمد فِي كل يَوْم سماطاً عَظِيما للمقيمين والواردين وَأنْفق فِي ذَلِك أَمْوَالًا جزيلة من حصاله. وَاجْتمعَ عَلَيْهِ بغزة عَالم كَبِير وَهُوَ يقوم بكلفهم ويعدهم عَن السُّلْطَان بِمَا يرضيهم.(2/440)
وقم الْخَيْر إِلَى الْقَاهِرَة فِي خَامِس عشرى شعْبَان باستيلاء الْملك النَّاصِر على دمشق بِغَيْر قتال فقلق الْملك المظفر واضطربت الدولة وَخرجت عَسَاكِر مصر شَيْئا بعد شَيْء تُرِيدُ اللحاق بِالْملكِ النَّاصِر حَتَّى لم يتَأَخَّر عِنْد الْملك المظفر بديار مصر إِلَّا خواصه وألزامه. وَلم يتَأَخَّر عِنْد الْأَمِير برلغي من الْأُمَرَاء والأجناد سوي خَواص الْملك المظفر فتشاور مَعَ جماعته فَاقْتضى رَأْيه وَرَأى الْأَمِير أقوش نَائِب الكرك اللحاق بِالْملكِ النَّاصِر أَيْضا فَلم يُوَافق على ذَلِك البرجية وَعَاد الْأَمِير أيبك الْبَغْدَادِيّ وبكتوت الفتاح وقجمار وَبَقِيَّة البرجية إِلَى الْقَاهِرَة وصاروا مَعَ الْملك المظفر. وَسَار برلغي ونائب الكرك إِلَى الْملك النَّاصِر فِيمَن بَقِي من الْأُمَرَاء والعساكر فاضطربت الْقَاهِرَة. وَكَانَ الْملك المظفر قد أَمر فِي مستهل رَمَضَان سَبْعَة وَعشْرين أَمِيرا مَا بَين طبلخاناه وعشراوات: مِنْهُم من مماليكه صنقبحي وصديق وطومان وقرمان وغرلوا وبهادر وطرنطاي المحمدي وبكتمر الساقي وقراجا الحسامي وبهادر قبجق ولاجين أيتغلي وانكبار وطاشتمر أَخُو بتخاص وَمن ألزامه جركتمر بن بهادر رَأس نوبَة وَحسن بن الردادي وشقوا الْقَاهِرَة على الْعَادة فصاحت بهم الْعَامَّة: يَا فرحة لَا تمت. أخرج المظفر أَيْضا عدَّة من المماليك إِلَى بِلَاد الصَّعِيد وَظن أَن ينشئ لَهُ دولة. فَلَمَّا بلغه مسير برلغي ونائب الكرك إِلَى الْملك النَّاصِر سقط فِي يَده وَعلم زَوَال أمره فَإِن برلغي كَانَ زوج ابْنَته وَمن خواصه بِحَيْثُ أنعم عَلَيْهِ فِي هَذِه الْحَرَكَة بنيف وَأَرْبَعين ألف دِينَار. وَقيل سبعين ألف دِينَار. وَظهر عَلَيْهِ اختلال الْحَال وَأخذ خواصه فِي تعنيفه على إبْقَاء سلار النَّائِب وَأَن جَمِيع هَذَا الْفساد مِنْهُ. وَكَانَ كَذَلِك: فَإِنَّهُ لما فَاتَتْهُ السلطنة وَقَامَ فِيهَا بيبرس حسده ودبر عَلَيْهِ وبيبرس فِي غَفلَة عَنهُ وَكَانَ سليم الْبَاطِن لَا يظنّ أَنه يخونه. وَقبض فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشره على جمَاعَة من الْعَوام وضربوا وشهروا لإعلانهم بسب الْملك المظفر فَمَا زادهم ذَلِك إِلَّا طغيانًا وَفِي كل ذَلِك تنْسب البرجية فَسَاد الْأُمُور إِلَى الْأَمِير سلار. فَلَمَّا أَكثر البرجية من الإغراء بسلار قَالَ لَهُم المظفر: إِن كَانَ فِي خاطركم شَيْء فدونكم وإياه إِذا جَاءَ إِلَى الْخدمَة وَأما أَنا فَلَا أتعرض لَهُ بِسوء قطّ فَأَجْمعُوا على قبض سلار إِذا عبر يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشره إِلَى الْخدمَة. فَبَلغهُ ذَلِك فَتَأَخر عَن حُضُور الْخدمَة واحترس على نَفسه وَأظْهر أَنه قد وعك فَبعث الْملك المظفر يسلم عَلَيْهِ ويستدعيه ليَأْخُذ رَأْيه فَاعْتَذر بِأَنَّهُ لَا يُطيق الْحَرَكَة لعَجزه عَنْهَا. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر رَمَضَان استدعى الْملك المظفر الْأُمَرَاء كلهم واستشارهم فِيمَا يفعل. فَأَشَارَ الْأَمِير بيبرس الدودار والأمير بهادر آص بنزوله(2/441)
عَن الْملك وَالْإِشْهَاد بنلك كَمَا فعل الْملك النَّاصِر وتسير إِلَيْهِ تستعطفه وَتخرج إِلَى الإطفيحية مِمَّن تثق بِهِ وتقيم هُنَاكَ حَتَّى يرد جَوَاب الْملك النَّاصِر. فأعجبه ذَلِك وَقَامَ ليجهز أمره وَبعث ركن الدّين بيبرس الدوادري إِلَى الْملك النَّاصِر يسْأَله إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا الكرك وأعمالها أَو حماة وبلادها أَو صهيون ومضافاتها. ثمَّ اضْطربَ المظفر آخر النَّهَار وَدخل الخزائن فَأخذ من المَال وَالْخَيْل والهجن مَا أحب وَخرج فِي يَوْمه من بَاب الإسطبل فِي مماليكه وعدتهم سَبْعمِائة فَارس وَمَعَهُ الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطير الأستادار والأمير بدر الدّين بكتوت الفتاح. والأمير سيف الدّين قجماس والأمير سيف الدّين تناكر فِي بَقِيَّة ألزامه من البرجية. وكأنما نُودي فِي النَّاس بِأَنَّهُ قد خرج هَارِبا فَاجْتمع النَّاس وَقد برز من بَاب الإسطبل وصاحوا بِهِ وتبعوه وهم يصيحون عَلَيْهِ وَزَادُوا فِي الصياح حَتَّى خَرجُوا عَن الْحَد ورماه بَعضهم بِالْحِجَارَةِ. فشق ذَلِك على مماليكه وهموا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِم وَوضع السَّيْف فيهم فَمَنعهُمْ من ذَلِك وَأمرهمْ بنثر المَال عَلَيْهِم ليشتغلوا بجمعه عَنْهُم فَأخْرج كل من المماليك حفْنَة مَال ونثرها. فَلم تلْتَفت الْعَامَّة لذَلِك وتركوه وَأخذُوا فِي الْعَدو خلف الْعَسْكَر وهم يسبون ويصيحون فشهر المماليك حِينَئِذٍ سيوفهم وَرَجَعُوا إِلَى الْعَوام فَانْهَزَمُوا عَنْهُم. وَأصْبح الحراس بقلعة الْجَبَل يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشره يصيحون باسم الْملك النَّاصِر. بِإِشَارَة الْأَمِير سلار فَإِنَّهُ أَقَامَ بالقلعة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشره: خطب على مَنَابِر الْقَاهِرَة ومصر باسم الْملك النَّاصِر وَأسْقط اسْم الْملك المظفر فَكَانَت أَيَّامه فِي السلطنة عشرَة أشهر وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا فَكَانَ كَمَا قيل: أعجلتها النَّوَى فَمَا نلْت مِنْهَا طائلاً غير نظرة من بعيد عود السُّلْطَان نَاصِر الدّين إِلَى الْملك عود السُّلْطَان الْملك النَّاصِر نَاصِر الدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الْملك الْمَنْصُور قلاوون إِلَى الْملك مرّة ثَالِثَة وَذَلِكَ أَنه لما عزم على الْمسير إِلَى ديار مصر خرج من دمشق فِي الثَّانِيَة من نَهَار يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر رَمَضَان - وَهِي السَّاعَة الَّتِي خلع فِيهَا الْملك المظفر بيبرس نَفسه من الْملك - وَسَار يُرِيد مصر. وعندما فر المظفر بيبرس جلس الْأَمِير سلار فِي شباك النِّيَابَة وجع من بَقِي من الْأُمَرَاء واهتم بِحِفْظ القلعة وَأَفْرج عَن المحابيس بهَا. وَركب سلار ونادى فِي النَّاس: ادعوا لسلطانكم لملك النَّاصِر وَكتب إِلَى الْملك النَّاصِر بنزول بيبرس عَن السلطنة(2/442)
وفراره وسير بنلك أصلم الدوادار وبهادر آص إِلَى الْملك النَّاصِر برسالة المظفر أَنه قد نزل عَن السلطنة وَيسْأل إِمَّا الكرك أَو حماة أَو صهيون. فاتفق يَوْم وصولهما إِلَى غَزَّة قدوم الْملك النَّاصِر أَيْضا وقدوم الْأَمِير سيف الدّين ساطي السِّلَاح دَار فِي طَائِفَة من الْأُمَرَاء وقدوم العربان والتركمان. وَقدم الْأَمِير مهنا بِجَمَاعَة من عرب آل فضل فَركب السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه وَقدم برلغي ونائب الكرك فسر السُّلْطَان بذلك سُرُورًا كَبِيرا. وَكتب النَّاصِر إِلَى المظفر أَمَانًا مَعَ بيبرس الدودار وبهادر آص وقدما فِي حادي عشرى رَمَضَان إِلَى الْأَمِير سلار فَجهز الْأمان إِلَى المظفر. وَلما تكاملت العساكر بغزة سَار النَّاصِر يُرِيد مصر فَقدم أصلم مَمْلُوك سلار بالنمجاة وَوصل أرسلان الدوادار فسر بذلك. وَلم يزل النَّاصِر سائراً إِلَى أَن نزل بركَة الْحَاج وَقد جهز إِلَيْهِ الْأَمِير سلار الطّلب السلطاني والأمراء والعساكر سلخ رَمَضَان وَخرج الْأَمِير سلار إِلَى لِقَائِه. وَصلى السُّلْطَان صَلَاة الْعِيد بالدهليز فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء مستهل شَوَّال وَأنْشد الشعرا مدائحهم فَمن ذَلِك مَا أنْشدهُ شمس الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى الرَّاعِي أبياتاً مِنْهَا: الْملك عَاد إِلَى حماه كَمَا بدا وَمُحَمّد بالنصر سر مُحَمَّدًا وإيابه كالسيف عَاد لغمده ومعاده كالورد عاوده الندى الْحق مرتجع إِلَى أربابه من كف غاصبه وَإِن طَال المدا وَعمل الْأَمِير سلار سماطاً عَظِيما بلغت النَّفَقَة عَلَيْهِ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم جلس عَلَيْهِ السُّلْطَان: فَلَمَّا انْقَضى السماط عزم السُّلْطَان على الْمبيت وَالرُّكُوب بكرَة يَوْم الْخَمِيس. فَبَلغهُ أَن الْأَمِير برلغي والأمير أقوش نَائِب الكرك قد اتفقَا مَعَ البرجية على الهجوم عَلَيْهِ وَقَتله فَبعث إِلَى الْأُمَرَاء يعلمهُمْ. مِمَّا بلغه وَيَأْمُرهُمْ بالركوب فَرَكبُوا وَركب فِي ممالكيه ودقت الكوسات. وَسَار النَّاصِر وَقت الظّهْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَقد احتفت بِهِ مماليه كي لَا يصل إِلَيْهِ أحد من الْأُمَرَاء وَسَار إِلَى القلعة وَخرج النَّاس بأجمعهم لمشاهدته. فَلَمَّا بلغ بَين العروستين ترجل سلار وَسَائِر الْأُمَرَاء وَمَشوا إِلَى بَاب السِّرّ من القلعة وَقد وقف جمَاعَة من الْأُمَرَاء بمماليكهم وَعَلَيْهِم السِّلَاح حَتَّى عبر السُّلْطَان من الْبَاب إِلَى القلعة وَأمر الْأُمَرَاء بالانصراف إِلَى مَنَازِلهمْ وَعين جمَاعَة من الْأُمَرَاء الَّذين يَثِق بهم أَن يستمروا على ظُهُور خيولهم حول القلعة طول اللَّيْل فَبَاتُوا على ذَلِك. وَأصْبح النَّاصِر من الْغَد يَوْم الْخَمِيس ثَانِيه جَالِسا على تخت الْملك وسرير السلطنة وَحضر الْخَلِيفَة أَبُو الرّبيع والأمراء والقضاة وَسَائِر أهل الدولة للهناء فَقَرَأَ مُحَمَّد بن عَليّ(2/443)
ابْن مُوسَى الرَّاعِي: قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعزمن تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شئ قدير ثمَّ دَعَا. وَلما تقدم الْخَلِيفَة وَسلم نظر إِلَيْهِ السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ: كَيفَ تحضر تسلم على خارجي هَل كنت أَنا خارجياً وبيبرس كَانَ من سلالة بني الْعَبَّاس فَتغير وَجه الْخَلِيفَة وَلم ينْطق. ثمَّ الْتفت السُّلْطَان إِلَى القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ بن عبد الظَّاهِر الْموقع وَكَانَ هُوَ الَّذِي كتب عهد المظفر عَن الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُ: يَا أسود الْوَجْه فَقَالَ ابْن عبد الظَّاهِر من غير توقف: يَا خوند {أبلق خير من أسود فَقَالَ السُّلْطَان: وَيلك} حَتَّى أَلا تتْرك رنكه أَيْضا يَعْنِي أَن ابْن عبد الظَّاهِر مِمَّن ينتمي إِلَى الْأَمِير سلار وَكَانَ رنك سلار أَبيض وأسود ثمَّ الْتفت السُّلْطَان إِلَى قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد ابْن جمَاعَة وَقَالَ: يَا قَاضِي {كنت تُفْتِي الْمُسلمين بقتالي فَقَالَ: معَاذ الله} إِنَّمَا تكون الْفَتْوَى على مُقْتَضى كَلَام المستفتي. ثمَّ حضر صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن المرحل وَقبل يَد السُّلْطَان فَقَالَ لَهُ كنت تَقول مَا للصَّبِيّ وَمَا للْملك يكلفه. فَحلف بِاللَّه مَا قَالَ هَذَا وَإِنَّمَا الْأَعْدَاء أَرَادوا إِ تلافه فزادوا فِي قصيدته هَذَا الْبَيْت. وَالْعَفو من شيم الْمُلُوك فَعَفَا عَنهُ وَكَانَ ابْن المرحل قد مدح المظفر بيبرس بقصيدة عرض فِيهَا بالناصر من جُمْلَتهَا: ماللصبي وَمَا للْملك يكفله شَأْن الصَّبِي لغير الْملك مألوف ثمَّ اسْتَأْذن شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ ففال السُّلْطَان للدوادار: قل لَهُ أَنْت أَفْتيت أَنه خارجي وقتاله جَائِز مَالك عِنْده دُخُول وَلَكِن عرفه هُوَ وَابْن المرحل أَنه يكفيهما مَا قَالَ الشارمساحي فيهمَا. وَكَانَ من خير ذَلِك أَن الأديب شهَاب الدّين أَحْمد ابْن عبد الدَّائِم الشارمساحي مدح السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بقصيدة عرض فِيهَا بهحو الْملك المظفر بيبرس وَصِحَّته لِابْنِ عَدْلَانِ وَابْن المرحل مِنْهَا: ولي المظفر لما فَاتَهُ الظفر وناصر الْحق وافي وَهُوَ منتصر وَقد طوى الله من بَين الورى فتنا كَادَت على عصبَة الْإِسْلَام تنتثر فَقل لبيبرس إِن الدهرألبسه أَثوَاب عَارِية فِي طولهَا قصر لما تولى الْخَيْر عَن أُمَم لم يحْمَدُوا أَمرهم فِيهَا وَلَا شكروا وَكَيف تمشي بِهِ الْأَحْوَال فِي زمن لَا النّيل وَفِي وَلَا وافاهم مطر وَمن يقوم ابْن عَدْلَانِ بنصرته وَابْن المرحل قل لي كَيفَ ينتصر وَكَانَ الْمَطَر لم يَقع فِي هَذِه السّنة وَقصر النّيل وارتفع السّعر.(2/444)
وَاتفقَ فِي يَوْم جُلُوس السُّلْطَان أَن الْأُمَرَاء لما اجْتَمعُوا قبل خُرُوج السُّلْطَان إِلَيْهِم بالإيوان أَشَارَ الأفرم نَائِب الشَّام لِمُنْشِد يُقَال لَهُ مَسْعُود أحضرهُ مَعَه من دمشق فَقَامَ وَأنْشد أبياتاً لبَعض عوام الْقَاهِرَة قَالَهَا عِنْد توجه الْملك النَّاصِر من مصر إِلَى الكرك مِنْهَا: أحبة قبلي إِنَّنِي لوحيد وَأُرِيد لقاكم والمزار بعيد كفى حزنا أَنِّي مُقيم ببلدة وَمن شف قلبِي بالفراق فريد نق فتواجد الأفرم وَبكى وحسر عَن رَأسه وَوضع الكلفتاه على الأَرْض فَأنْكر الْأُمَرَاء ذَلِك وَتَنَاول الْأَمِير فرا سنقر الكلفتاه بِيَدِهِ ووضعها على رَأسه. وَخرج السُّلْطَان فَقَامَ الْجَمِيع وصرخت الجاويشية فَقبل الْحَاضِرُونَ الأَرْض. وَفِيه قدم الْأَمِير سلار من المماليك والخيول وتعابى القماش مَا قِيمَته مِائَتَا ألف دِرْهَم فَقبل السُّلْطَان شَيْئا ورد الْبَاقِي. وَسَأَلَ سلار الإعفاء من نِيَابَة السلطنة وَأَن ينعم عَلَيْهِ بالشوبك فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. وَحلف سلار أَنه مَتى طلب حضر وخلع عَلَيْهِ وَخرج عصر يَوْم الْجُمُعَة ثالثه مُسَافِرًا فَكَانَت ثيابته إِحْدَى عشرَة سنة وَتوجه مَعَه الْأَمِير نظام الدّين آدم وَاسْتقر ابْنه عَليّ بِالْقَاهِرَةِ وأنعم عَلَيْهِ بإمرة عشرَة. وَفِي خامسه: قدم رَسُول المظفر بيبرس بكتابه يسْأَل الْأمان. وَفِيه اسْتَقر قرا سنقر فِي نِيَابَة دمشق عوضا عَن الأفرم وقبجق فِي نِيَابَة حلب. والحاج بهادر الْحلَبِي فِي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن أسندمر كرجي وقطلوبك المنصوري فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن بكتمر الجوكندار وأسندمر كرجي فِي نِيَابَة حلب حماة عوضا عَن قبجق وسنقر الكمالي حَاجِب الْحجاب بديار مصر على عَادَته وقرا لاجين أَمِير مجْلِس على عَادَته وبيبرس الدوادار على عَادَته - وأضيف إِلَيْهِ نِيَابَة دَار الْعدْل وَنظر الأحباس - فِي خَامِس ذِي الْقعدَة وَاسْتقر الأفرم فِي نِيَابَة صرخد بِمِائَة فَارس. وَطلب شهَاب الدّين بن عبَادَة ورسم لَهُ بتجهيز الْخلْع والتشاريف لسَائِر أُمَرَاء الشَّام ومصر فجهزت وخلع عَلَيْهِم كلهم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه وركبوا فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشره: اسْتَقر فَخر الدّين عمر بن الخليلي فِي الوزارة وَصرف ضِيَاء الدّين أبر بكر النشائي وعوق بالقلعة أَيَّامًا ثمَّ أفرج عَنهُ وَلم يحمل مَالا. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشره: حضر الْأُمَرَاء الْخدمَة على الْعَادة وَقد قرر السُّلْطَان مَعَ مماليكه الْقَبْض على الْأُمَرَاء وَأَن كل عشرَة يقبضون أَمِيرا مِمَّن عينه لَهُم بِحَيْثُ تكون الْعشْرَة عِنْد دُخُول الْأَمِير محتفة بِهِ فَمَاذَا رفع السماط واستدعى السُّلْطَان(2/445)
أَمِير جاندار قبض كل جمَاعَة على من عين لَهُم. فَلَمَّا حصل الْأُمَرَاء فِي الْخدمَة أحَاط بهم المماليك ففهموا الْقَصْد وجلسوا على السماط فَلم يتَنَاوَل أحد مِنْهُم لقْمَة. وعندما نهضوا أَشَارَ السُّلْطَان إِلَى أَمِير جاندار فَتقدم إِلَيْهِ وَقبض المماليك على الْأُمَرَاء المعينين وعدتهم اثْنَان وَعِشْرُونَ أَمِيرا فَلم يَتَحَرَّك أحد لقبضهم من خشداشيتهم وبهت الْجَمِيع. وَلم يفلت مِمَّن عير سوى جركتمر بن بهادر رَأس نوبَة فَإِنَّهُ لما فهم الْقَصْد وضع يَده على أَنفه كَأَنَّهُ رعف وَخرج من غير أَن يشْعر بِهِ أحد واختفى عِنْد الْأَمِير قرا سنقر وَكَانَ زوج ابْنَته فشفع فِيهِ حَتَّى عفى السُّلْطَان عَنهُ. وَكَانَ الْأُمَرَاء الْمَقْبُوض عَلَيْهِم: تناكر وأيبك الْبَغْدَادِيّ والعتابي وبلبان التقوي وقجماس وصاروجا وبيبرس عبد الله وبيدمر ومنكوبرس وأشقتمر والسيواسي والكمالي الصَّغِير وَحسن الردادي وبلاط وتمربغا وقيران ونوغاي الْحَمَوِيّ والحاج بيليك المظفري وفطقطوا والغتمي وأكبار وتتمة الِاثْنَيْنِ وَعشْرين. وجرد عدد من الْأُمَرَاء إِلَى دمشق فَأول من سَافر عَلَاء الدّين مغلطاي المَسْعُودِيّ وجبا أَخُو سلار وطرنطاي الْبَغْدَادِيّ وأيدغدي التليلي وبهادر الْحَمَوِيّ وبلبان الدِّمَشْقِي وأيدغدي الزراق وكهرداش الزراق وبكتمر الأستادار وأيدمر الْإِسْمَاعِيلِيّ وأقطاي الجمدار وبوزبا الساقي وبيبرس الشجاعي وكوري السِّلَاح دَار وأقطوان الأشرافي وبهادر الجوكندار وبلبان الشمسي وعدة من أُمَرَاء الشعراوات فَلَمَّا وصلوا إِلَى حلب رسم بِإِقَامَة سِتَّة من أُمَرَاء الطبلخاناه وعود الْبَقِيَّة. وَفِي ثَالِث عشرى: اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الجوكندار المنصوري فِي نِيَابَة السلطنة بديار مصر عوضا عَن سلار. وَفِي خَامِس عشرى: أحضر الْأَمِير بيبرس الداودار الْأَمْوَال من عِنْد الْملك المظفر بيبرس. وَفِيه أَمر السُّلْطَان اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَمِيرا من مماليكه مِنْهُم تنكز الحسمامي وطغاي وكستاي وقجليس وخاص ترك وخلط قرا وأركتمر وأيدمر الشيخي وأيدمر الساقي وبيبرس أَمِير آخور وطاجار وخضر بن نوكاي وبهادر قبجق والحاج رقطاي وَأَخُوهُ أيتمس المحمدي وأرغون الدوادار الَّذِي صَار بعد ذَلِك نَائِب السلطنة بِمصْر وسنقر المرزوقي وبلبان الجاشنكير وأسنبغا وبيبغا الملكي وأمير عَليّ بن قطلوبك ونوروز أَخُو جنكلي والجاي الحسامي وطيبغا حاجي ومغلطاي الْعزي صهر نوغاي وقرمشى الزيني وبكتمر قبجق وبيغر الصَّالِحِي ومغلطاي البهائي وسنقر السِّلَاح دَار ومنكلي بغا. وركبوا جَمِيعًا بالشرابيش وشقوا الْقَاهِرَة وَقد أوقدت الحوانيت كلهَا إِلَى الرميلة وسوق الْخَيل ورصت المغاني وأرباب الملاهي فِي(2/446)
عدَّة أَمَاكِن وَنَثَرت عَلَيْهِم الدَّرَاهِم فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَكَانَ المذكورون مِنْهُم أُمَرَاء طبلخاناه وَمِنْهُم أُمَرَاء عشراوات. وَفِيه قبض على الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري الأستادار والأمير بدر الدّين بكتوت الفتاح أَمِير جاندار بَعْدَمَا حضرا من عِنْد الْملك المظفر وخلع عَلَيْهِمَا. وَفِيه كتب إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بالحوطة على مَوْجُود الْأُمَرَاء الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَطلب السُّلْطَان مباشرتهم. وَفِيه سفر الْأُمَرَاء الْمَقْبُوض عَلَيْهِم إِلَى حبس الْإسْكَنْدَريَّة وَكتب بالإفراج عَن المعتقلين بهَا وهم: الأقوش المنصوري قَاتل الشجاعي وَالشَّيْخ عَليّ التتري ومنكلي التتري وشاورشي بن قنغر الَّذِي أثار فتْنَة الشجاعي وكتبغا وغازي ومُوسَى أخوا حمدَان بن صلغاي فَلَمَّا حَضَرُوا خلع عَلَيْهِم وأنعم عَلَيْهِم بإمريات فِي الشَّام وأحضر شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية من سجن الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى السُّلْطَان فَبَالغ فِي إكرامه. وَأما المظفر بيبرس فَإِنَّهُ لما فَارق قلعة الْجَبَل أَقَامَ بإطفيح يَوْمَيْنِ وَاتفقَ رَأْيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح على الْمسير إِلَى برقة وَالْإِقَامَة بهَا فَلَمَّا بلغ المماليك هَذَا عزموا على مفارقتهم فَلَمَّا رحلوا من إطفيح رَجَعَ المماليك شَيْئا بعد شَيْء إِلَى الْقَاهِرَة فَمَا بلغ الْملك المظفر إِلَى إحميم حَتَّى فَارقه أَكثر من كَانَ مَعَه فانثنى رَأْيه عَن برقة. وَتَركه الخطيري والفتاح وعادا إِلَى الْقَاهِرَة فتبعهما كثير من المماليك المظفرية وَهُوَ يراهم. وبينما هُوَ سَائِر قدم عَلَيْهِ الأميران بيبرس الدوادار وبهادر أص من عِنْد الْملك النَّاصِر ليتوجه إِلَى صهيون بعد أَن يدْفع مَا أَخذه من المَال بأجمعه إِلَى بيبرس فَسَار بِهِ بيبرس فِي النّيل وَقدم بهادر آص فِي الْبر بالمظفر وَمَعَهُ كَاتبه كريم الدّين أكْرم. وَسَأَلَ المظفر يَمِين السُّلْطَان مَعَ من يَثِق بِهِ فَحلف لَهُ السُّلْطَان بِحَضْرَة الْأُمَرَاء وَبعث إِلَيْهِ بنلك مَعَ أيتمش المحمدي فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ أيتمش بَالغ فِي إكرامه وتحير فِيمَا يَفْعَله وَكتب الْجَواب بِالطَّاعَةِ وَأَنه يتَوَجَّه إِلَيْهِ نَاحيَة السويس وَأَن كريم الدّين يحضرهُ بالخزانة والحواصل الَّتِي أَخذهَا فَلم يعجب السُّلْطَان ذَلِك وعزم على إِخْرَاج تجريدة إِلَى غَزَّة ليردوه وأطلع على ذَلِك بكتمر الجوكندرا النَّائِب وقرا سنقر نَائِب دمشق والحاج(2/447)
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس الَّذِي قبض فِيهِ على الْأُمَرَاء جلس بعض المماليك الأشرفية فَلَمَّا خرج الْأُمَرَاء من الْخدمَة قَالَ أُولَئِكَ الأشرفية: وَأي ذَنْب لهَؤُلَاء الْأُمَرَاء الَّذين قبض عَلَيْهِم وَهَذَا الَّذِي قتل أستاذنا الْملك الْأَشْرَف وَدَمه إِلَى الْآن على سَيْفه مَا خرج أَثَره قد صَار الْيَوْم حَاكم المملكة - يَعْنِي قرا سنقر. فَنقل هَذَا لقرا سنقر فخاف على نَفسه وَأخذ فِي التعمل على الْخَلَاص من مصر وَالْتزم للسُّلْطَان أَنه يتَوَجَّه وَيحصل المظفر بيبرس هُوَ والحاج بهادر نَائِب طرابلس من غير إِخْرَاج التجريدة فَإِن فِي بعث الْأُمَرَاء لنلك شناعة فمشي ذَلِك على السُّلْطَان ورسم بسفرهما. فَخرج قرا سنقر هُوَ وَسَائِر النواب إِلَى ممالكهم فعوق السُّلْطَان أسندمر كرجي نَائِب حماة عَن السّفر وَسَار الْبَقِيَّة. ثمَّ جهز السُّلْطَان أسندمر كرجي لإحضار المظفر مُقَيّدا فاتفق دُخُول فرا سنقر والأمراء إِلَى غَزَّة قبل المظفر فَلَمَّا بَلغهُمْ قربه ركب قرا سنقر وَسَائِر النواب والأمراء ولقوة شَرْقي غَزَّة وَقد تقى مَعَه عمد من مماليكه وَقد تأهبوا للحرب فَلبس الْأُمَرَاء السِّلَاح ليقاتلوهم. فَأنْكر المظفر على مماليكه تأهبهم لِلْقِتَالِ وَقَالَ: أَنا كنت ملكا وحولي أضعافكم ولي عصبَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء وَمَا اخْتَرْت سفك الدِّمَاء وَمَا زَالَ حَتَّى كفوا عَن الْقِتَال وسَاق بِنَفسِهِ حَتَّى صَار مَعَ الْأُمَرَاء وَأسلم نَفسه إِلَيْهِم فَسَلمُوا عَلَيْهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى معسكرهم وأنزلوه بخيمة وأخفوا سلَاح مماليكه ووكلوا بهم من يحفظهم وَأَصْبحُوا من الْغَد عائدين بِهِ مَعَهم إِلَى مصر. فأدركهم أسندمر كرجي بالخطارة فَأنْزل فِي الْوَقْت المظفر عَن فرسه وَقَيده بِقَيْد أحضرهُ مَعَه فبكي وتحدرت دُمُوعه على شيبته. فشق ذَلِك على قرا سنقر وَألقى الكلفتاه عَن رَأسه إِلَى الأَرْض وَقَالَ: لعن الله! الدُّنْيَا فياليتنا متْنا وَلَا رَأينَا هَذَا الْيَوْم. فترجلت الْأُمَرَاء وأخفوا كلوثته ووضعوها على رَأسه. هَذَا مَعَ أَن قرا سنقر كَانَ أكبر الْأَسْبَاب فِي زَوَال دولة المظفر وَهُوَ الَّذِي حسن للْملك النَّاصِر حَتَّى كَانَ مَا كَانَ. ثمَّ عَاد قراسنقر والحاج بهادر إِلَى جِهَة الشَّام وَأخذ بهادر يلوم قرا سنقر على مُخَالفَة رَأْيه فَإِنَّهُ كَانَ قد أَشَارَ على قراسنقر فِي اللَّيْل بعد الْقَبْض على المظفر بِأَن يخلي عَنهُ حَتَّى يصل إِلَى صهيون وَيتَوَجَّهُ كل مِنْهُمَا إِلَى مَحل ولَايَته ويخيفا النَّاصِر بِأَنَّهُ مَتى تغير عَمَّا كَانَ قد وَافق الْأُمَرَاء عَلَيْهِ بِدِمَشْق قَامُوا بنصرة المظفر وإعادته إِلَى الْملك. فَلم يُوَافق قراسنقر على ذَلِك وَظن أَن الْملك النَّاصِر لَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ وَلَا على المظفر فَلَمَّا رأى مَا حل بالمظفر نَدم على مُخَالفَة بهادر. وبينما هما فِي ذَلِك إِذْ بعث أسندمر كرجي(2/448)
إِلَى قراسنقر بمرسوم السُّلْطَان أَن يحضر صُحْبَة المظفر إِلَى القلعة وَكَانَ عزمه أَن يقبض عَلَيْهِ أَيْضا فَفطن فراسنقر بذلك وَامْتنع من التَّوَجُّه إِلَى مصر وَاعْتذر بِأَن العشير قد جمعُوا وَيخَاف على دمشق مِنْهُم وجد فِي الْمسير وَقدم أسندمر بِالْملكِ المظفر فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الرَّابِع عشر من ذِي الْقعدَة فَلَمَّا مثل المظفر بَين يَدي السُّلْطَان قبل الأَرْض فأجلسه وعنفه بِمَا فعل بِهِ وَذكره بِمَا كَانَ مِنْهُ وَعدد ذنُوبه وَقَالَ: تذكر وَقد صحت على وَقت كَذَا بِسَبَب فلَان ورددت شَفَاعَتِي فِي حق فلَان واستدعيت نَفَقَة فِي وَقت كَذَا من الخزانة فمنعتها وَطلبت فِي وَقت حلوى بلوز وسكر فمنعتني. وَيلك! وزدت فِي أَمْرِي حَتَّى منعتني شَهْوَة نَفسِي والمظفر سَاكِت. فَلَمَّا فرغ كَلَام السُّلْطَان قَالَ لَهُ: يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان كل مَا قلت فعلته وَلم تبْق إِلَّا مراحم السُّلْطَان. وإيش يَقُول الْمَمْلُوك لأستاذه. فَقَالَ لَهُ: يَا ركن الدّين أَنا الْيَوْم أستاذك وأمس تَقول لما طلبت أوز مشوي إيش يعْمل بالأوز الْأكل هُوَ عشرُون مرّة فِي النَّهَار. ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِهِ إِلَى مَكَان وَكَانَ ذَلِك لَيْلَة الْخَمِيس فاستدعى بِوضُوء وَصلى الْعشَاء الْآخِرَة. ثمَّ جَاءَ السُّلْطَان وَأمر بِهِ فَقتل وَأنزل على جنوية إِلَى الإسطبل وَغسل بِهِ فِي لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس عشرَة وَدفن خلف القلعة. وَقدم كريم الدّين أكْرم بن الْعلم بن السديد كَاتب الْملك المظفر بِالْمَالِ والحواصل فقربه السُّلْطَان وَأَدْنَاهُ وَأثْنى عَلَيْهِ ووعده بِكُل جميل إِن أظهره على ذخائز بيبرس وَنزل إِلَى دَاره. فبذل كريم الدّين جهده فِي تتبع أَمْوَال بيبرس وخدم طغاي وكستاي وأرغون الدوادار وبذل لَهُم مَالا كثيرا حَتَّى صَارُوا أكبر أعوانه وأنصاره لَا يبرحون فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ مَعَ السُّلْطَان. وَقدم من كَانَ مَعَ بيبرس من المماليك وعدتهم ثَلَاثمِائَة وَمَعَهُمْ الْخَيل والهجن وَالسِّلَاح ومبلغ مِائَتي ألف دِرْهَم وَعشْرين ألف دِينَار وَسِتُّونَ بقجة من أَنْوَاع الثِّيَاب. فَقبض السُّلْطَان الْجَمِيع. وَفرق المماليك على الْأُمَرَاء واختص مِنْهُم بكتمر الساقي الْآتِي ذكره وَمَا صَار إِلَيْهِ واختص أَيْضا طوغان الساقي وقباتمر وبلك فِي آخَرين. واستدعى السُّلْطَان الْقُضَاة وَأقَام عِنْدهم الْبَيِّنَة بِأَن جَمِيع مماليك بيبرس وسلار وَسَائِر مَا وَقَفاهُ من الضّيَاع والأملاك اشْترى من مَال بَيت المَال. فَلَمَّا ثَبت ذَلِك ندب السُّلْطَان الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك وكريم الدّين أكْرم لبيع تَرِكَة بيبرس وإحضار نصف مَا يتَحَصَّل فَإِنَّهُ للسُّلْطَان وَدفع النّصْف الآخر لابنَة بيبرس - امْرَأَة الْأَمِير برلغي الأشرفي - فَإِنَّهُ لم يتْرك سواهَا. فَشدد كريم الدّين الطّلب على امْرَأَة بيبرس حَتَّى أَخذ مِنْهَا جَوَاهِر عَظِيمَة الْقدر وذخائر نفيسة جدا وَحمل مِنْهَا(2/449)
إِلَى السُّلْطَان وأهدي إِلَى الْأُمَرَاء الخاصكية القائمين بأَمْره والعناية بِهِ وادخر لنَفسِهِ. وَبَاعَ مَوْجُود بيبرس وَكَانَ شَيْئا كثيرا: فَوجدَ لَهُ ثَمَانِينَ بذله ثِيَاب مَا بَين أقبية وبغالطيق للبسه وَسِتِّينَ سروالاً وَثَمَانِينَ قَمِيصًا. وَصَارَ كريم الدّين يتَرَدَّد إِلَى بَيت الشهَاب الدّين أَحْمد بن عبَادَة وَكيل السُّلْطَان المتحدث فِي أملاكه وَهُوَ حِينَئِذٍ عَظِيم الدولة المتحدث فِي سَائِر أُمُور المملكة وَيقرب إِلَيْهِ بِمَا يحب. وَطلب الصاحب فَخر الدّين عمر بن الخليلي مباشري الْأُمَرَاء الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وطالبهم بالأموال. وَأما قرا سنقر والنواب فَإِنَّهُ سقط فِي أَيْديهم وداخل كلا مِنْهُم الْخَوْف على نَفسه من السُّلْطَان وَاتَّفَقُوا على أَلا يحضر أحد مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان إِن استدعاه فَلم يفدهم ذَلِك. وَكَانَ من خبرهم مَا يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَلما فَاتَ السُّلْطَان قرا سنقر لم ير الْقَبْض على أسندمر كرجي وخلع عَلَيْهِ وولاه نِيَابَة حماة وَسَار إِلَيْهَا. وَندب الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن لمساعدة الصاحب فَخر الدّين على حوطات الْأُمَرَاء. ثمَّ ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان فِي موكب عَظِيم وَاجْتمعَ النَّاس لرُؤْيَته واستأجروا الحوانيت والدور بِمَال كَبِير فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِي أول ذِي الْحجَّة: دخل الْأَمِير قرا سنقر دمشق. وَفِيه سَار الْأَمِير أرغون الدوادار على الْبَرِيد إِلَى الشوبك بتشريف سلار وأنعم عَلَيْهِ بِمِائَة فَارس وأخرجت لَهُ بِلَاد من خَاص الكرك زِيَادَة على مَا بِيَدِهِ من الشوبك وَكتب لَهُ بِهِ منشور. وَفِيه وسط تَحت القلعة سَبْعَة من ممالك أقوش الرُّومِي بِسَبَب أَنهم توَلّوا قَتله وأخنوا مَاله وصاروا إِلَى الكرك كَمَا تقدم. وَفِيه منع الأويراتية من الدُّخُول إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة: وَسَببه أَنهم كَانُوا مستخدمين عِنْد الْأُمَرَاء فَلَمَّا خامروا على أستاذيهم وفروا إِلَى السُّلْطَان بالكرك ظنُّوا أَنهم قد اتَّخذُوا عِنْده بذلك يدا فصاروا بعد عوده إِلَى السلطنة يَمْشُونَ فِي خدمَة السُّلْطَان ويقفون فَوق المماليك السُّلْطَانِيَّة فشق ذَلِك على المماليك وَأغْروا السُّلْطَان بهم حَتَّى تنكر لَهُم وَأَكْثرُوا من ذمهم وَالْعَيْب عَلَيْهِم بكونهم خامروا على أستاذيهم وَأَنَّهُمْ لَا خير فيهم إِلَى أَن مَنعهم السُّلْطَان. وَفِيه كتب لقرا سنقر نَائِب دمشق بمحاربة العشير وقتلهم وَكَانَت بَنو هِلَال وَبَنُو أَسد قد كثرت حروبهم وَعظم فسادهم لاختلال أَمر الدولة فَبعث إِلَيْهِم قرا سنقر(2/450)
تجريدة أحضرت رؤوسهم وَقرر عَلَيْهِم ثَلَاثمِائَة ألف دحرهم وَحبس رهائنهم وَبعث يسْأَل الإنعام عَلَيْهِ بمبلغ فأنعم عَلَيْهِ. وأعيد الشَّيْخ كريم الدّين عبد الْكَرِيم الآملي إِلَى مشيخة سعيد السُّعَدَاء وعزل عَنْهَا بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَاسْتقر عوضه جمال الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين حسن بن تَاج الدّين على بن الْقُسْطَلَانِيّ فِي خطابة القلعة وَكَانَ قد عزل مِنْهَا ابْن جمَاعَة أَيْضا لتغير السُّلْطَان عَلَيْهِ. وأنعم على الْأَمِير نوغاي القبجاقي بإمرة دمشق عوضا عَن قطلوبك وَسَار إِلَيْهَا. وَكتب بِقطع خبز الْأَمِير قطلوبك الأوشاقي والطنقش أستادار الأفرم وعلاء الدّين عَليّ بن صبيح مقدمي الجبلية وَحَملهمْ إِلَى مصر. وَفِيه قبض على الْأَمِير برلغي الأشرفي وطغلق السِّلَاح دَار ومغلطاي الفارقاني وَكتب لقرا سنقر بِالْقَبْضِ على نوغاي وبيبرس العلمي فَقبض عَلَيْهِمَا وسحنا بقلعة دمشق. وأحيط بِسَائِر مَا لَهما. وفيهَا كَانَت حَرْب بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة: وَذَلِكَ أَن الشريف مقبل بن جَازَ بن شيحة أَمِير الْمَدِينَة تنافس مَعَ أَخِيه مَنْصُور فَتَركه وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة فولاه الْملك المظفر نصف الإمرة بِنَجْد واستخلف ابْنه كبيشة. ففر كبيشة عَنْهَا وملكها مقبل فَعَاد كبيشة بِجمع كَبِير وحاربه وَقَتله وَاسْتقر مَنْصُور بمفرده. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر ضِيَاء الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عمر بن يُوسُف بن عبد الْمُنعم الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ الْقُرْطُبِيّ المتحد القنائي المولد والوفاة فِي رَابِع ذِي الْقعدَة وَكَانَ رَئِيسا بِبَلَدِهِ. وَمَات الشَّيْخ الصَّالح المعمر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي طَالب الحمامي الْبَغْدَادِيّ بِمَكَّة فِي جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات نبيه الدّين حسن ابْن حُسَيْن بن جِبْرِيل ابْن نصر الْأنْصَارِيّ الأسعردي بِالْقَاهِرَةِ فِي أول جُمَادَى الْآخِرَة ولي حسبَة الْقَاهِرَة لما اسْتَقر ضِيَاء الدّين أَبُو بكر النشائي وزيراً تولى هُوَ نظر الدولة مَاتَ بِمصْر عَن سبع وَسبعين سنة. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح البعلي الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ فِي الْمحرم بِمصْر وَكَانَ بارعاً فِي الْفِقْه والنحو.(2/451)
وَمَات الْأَمِير الْوَزير شمس الدّين سنقر الأعسر المنصوري فِي ربيع الأول وَدفن خَارج بَاب النَّصْر بَعْدَمَا استعفى من الإمرة وَلزِمَ دَاره حَتَّى مَاتَ وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْقَمُولِيّ الشَّافِعِي بقوص فِي جُمَادَى الأولى وَكَانَ صَالحا عَالما بالفقه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين عبد الْغَنِيّ بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الله بن نصر بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع عشرى ربيع الأول وَدفن بالقرافة ومولده بحران سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين طغريل الإيغاني بِالْقَاهِرَةِ فِي عَاشر رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك الخازندار بِالْقَاهِرَةِ فِي سَابِع رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير عز الدّين عبد الْعَزِيز بن شرف الدّين مُحَمَّد القيسراني كَاتب الدرج ومدرس الْمدرسَة الفخرية بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْخَمِيس عَاشر صفر. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين أقطوان الدواداري بِدِمَشْق أَيْضا. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن معِين الدّين سُلَيْمَان البرواناه نَائِب دَار الْعدْل بقلعة الْجَبَل وقدمت أُخْته بعد مَوته فشاهدته مَيتا ثمَّ دفن. وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقوش الرستمي شاد الدواودين بِدِمَشْق فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشرى جُمَادَى الأولى. وَمَات متملك تونس الْأَمِير أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بِأبي عصيدة ابْن يحيى الواثق بن مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بن يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فِي عَاشر ربيع الآخر وَكَانَت مدَّته أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر ووفى بعده الْأَمِير أَبُو بكر بن أبي زيد عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر بن يحيى بن عبد الْوَاحِد الْمَدْعُو بالشهيد لِأَنَّهُ قتل ظلما بعد سِتَّة عشر يَوْمًا وبويع بعده أَيْضا الْأَمِير أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن يحيى بن إِبْرَاهِيم.(2/452)
وَمَات التَّاج أَبُو الْفرج بن سعيد الدولة فِي يَوْم السبت ثَانِي رَجَب وَكَانَ عِنْد المظفر بيبرس بمكانة عَظِيمَة قَرَّرَهُ مُشِيرا فَكَانَت تحمل إِلَيْهِ فوط الْعَلامَة فيمضي مِنْهَا مَا يختاره وَيكْتب عَلَيْهِ عرض فَإِذا رأى السُّلْطَان خطه علم وَإِلَّا فَلَا وَكَذَلِكَ كتب الْبَرِيد وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى بعث إِلَيْهِ الأفرم نَائِب الشَّام يهدده بِقطع رَأسه فَامْتنعَ وَكَانَ مَشْهُورا بالأمانة والعفة، مهيبا لَهُ حُرْمَة، لَا يخالط أحدا وَلَا يقبل هَدِيَّة.(2/453)
فارغة(2/454)
(سنة عشر وَسَبْعمائة)
أهل الْمحرم: فوردت رسل سيس بهدية مِنْهَا طشت ذهب وإبريق بلور مرصع بالجوهر وَكتاب يتَضَمَّن الهناء بِالْعودِ إِلَى الْملك فَأُجِيب بالشكر. وَصرف قَاضِي الْقَضَاء بمر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعد الدّين بن جمَاعَة الشَّافِعِي وَولى بعده الْقَضَاء بديار مصر جمال الدّين أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مجد الدّين أبي حَفْص عمر بن شرف الدّين أبي الْغَنَائِم سَالم بن عَمْرو بن عُثْمَان الْأَذْرَعِيّ الشهير بالزرعي الشَّافِعِي فِي يَوْم الثلاناء تَاسِع عشرى صفر. وعزل قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْغَنِيّ السرُوجِي الْحَنَفِيّ فِي رَابِع ربيع الأول فَأَقَامَ بعد عَزله سِتَّة أَيَّام وَمَات واستدعى شمس الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي الْحسن بن عبد الْوَهَّاب بن أبي عمر الْأَنْصَار الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن الحريري الْحَنَفِيّ من دمشق إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ ومصر فِي رَابِع ربيع الآخر. وعزل الْأَمِير عَلَاء الدّين كشتغدي البهادري من شدّ الدَّوَاوِين وَاسْتقر عوضه بلبان المحسني ثمَّ عزل بلبان بعد أَيَّام بِعلم الدّين سنجر الخازن. وَاسْتقر شمس الدّين غبريال فِي نظر الدَّوَاوِين وَفِي ربيع الأول قبض السُّلْطَان على إخْوَة سلار وحاشيته فَقبض عَلَاء الدّين سمك(2/455)
وجبا وَدَاوُد وأمير على وساطي. وَقبض على الْأَمِير طشتمر الجوكندار وكوري السِّلَاح دَار وَسيف الدّين الطشلاقي وقلغاي وتتمة سِتَّة عشر أَمِيرا. وَكتب إِلَى نَائِب دمشق ونائب طرابلس بِالْقَبْضِ على الْأُمَرَاء الَّذين أفرج عَنْهُم عِنْدَمَا قدم السُّلْطَان من الكرك: وهم ألطنبغا وأشقتمر وَعبد الله والأقوش المنصوري وَالشَّيْخ عَليّ التتري وبينجار النتري ومرسي وغازي وأخوا حمدَان بن صلغاي وطرنطاي المحمدي وأقطوان الأشرفي فَقبض عَلَيْهِم خوفًا من شرهم وإقامتهم الْفِتَن. وَكتب إِلَى نَائِب حلب بِالْقَبْضِ على فَخر الدّين أياز نَائِب قلعة الرّوم فَقبض عَلَيْهِ وَأخذ مَاله فَكَانَ ألف ألف دِرْهَم حملت إِلَى السُّلْطَان. وَاسْتقر نجم الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان البصروي فِي وزارة دمشق وَسَار من الْقَاهِرَة فِي سَابِع صفر. وَاسْتقر الْأَمِير بكتمر الحسامي الْحَاجِب فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن بلبان البدري وَسَار فِي سَابِع عشري الْمحرم. وَندب الْأَمِير بدر الدّين القرماني لكشف القلاع الشامية فَسَار وَمَعَهُ أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام. وَقبض السُّلْطَان على قطقطواه وَالشَّيْخ على وضروط مماليك سلار وَأمر جمَاعَة من المماليك مِنْهُم بيبغا الأشرفي وَسيف الدّين جغطاي وطيبغا الشمسي وبكتمر قبجق وبهادر السعيدي الكركري وطشتمر أَخُو بتخاص والعمري وقطلوبغا وأزدمر وملكتمر وفيهَا قدم الْأَمِير حسام الدّين مهنا ملك الْعَرَب فِي جُمَادَى الأولى فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ فَسَأَلَ فِي أَشْيَاء مِنْهَا: وُلَاة حماة للْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل ابْن الْملك الْأَفْضَل عَليّ فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك ووعده بحماة عوضا عَن أسندمر كرجي وَمِنْهَا الشَّفَاعَة فِي عز الدّين أيدمر الشيخي فَعَفَا عَنهُ السُّلْطَان وَأخرجه إِلَى قوص وَمِنْهَا الشَّفَاعَة فِي الْأَمِير برلغي الأشرفي وَكَانَ فِي الأَصْل قد كَسبه مهنا من التتر وأهداه للْملك الْمَنْصُور قلاوون فرتبه عِنْد ابْنه الْملك الْأَشْرَف خَلِيل فعدد السُّلْطَان ذنُوبه وَمَا زَالَ بِهِ مهنا حَتَّى خفف عَن برلغي وَأذن للنَّاس فِي الدُّخُول عَلَيْهِ ووعده بالإفراج عَنهُ بعد شهر فَرضِي مِنْهَا بذلك وَعَاد إِلَى بِلَاده وَهُوَ كثير الشُّكْر وَالثنَاء. وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر المظفر بيبرس لم يبْق عِنْده أهم من سلار فندب إِلَيْهِ الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أَمِير سلَاح بكتاش الفخري وَكتب على يَده كتابا بِحُضُورِهِ فَاعْتَذر عَن الْحُضُور بوجع فِي فُؤَاده وَأَنه يحضر إِذا زَالَ عَنهُ. فتخيل السُّلْطَان من تَأْخِيره وَخَافَ أَن يتَوَجَّه إِلَى التتار فَكتب إِلَى قرا سنقر نَائِب الشَّام وَإِلَى أسندمر نَائِب(2/456)
طرابلس يَأْخُذ الطَّرِيق على سلار لِئَلَّا يتَوَجَّه إِلَى التتار وَبعث الْأَمِير بيبرس الدوادار وَعلم الدّين سنجر الجاولي إِلَى سلار وأكد عَلَيْهِمَا فِي إِحْضَاره وَأَن يضمنا لَهُ على السُّلْطَان أَنه يُرِيد إِقَامَته عِنْده ليستشيره فِي أُمُور المملكة فَقدما عَلَيْهِ وبلغاه عَن السُّلْطَان مَا قَالَ فوعد بِأَنَّهُ يحضر وَكتب الْجَواب بذلك فَلَمَّا رجعا اشْتَدَّ قلق السُّلْطَان وَكثر خياله. وَأما سلار فَإِنَّهُ تحير فِي أمره وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَمنهمْ من أَشَارَ بتوجهه إِلَى السُّلْطَان وَمِنْهُم من أَشَارَ بتوجهه إِلَى قطر من الأقطار إِمَّا إِلَى التتار أَو إِلَى الْيمن أَو برقة. فعول سلار على الْمسير إِلَى الْيمن ثمَّ أجمع على الْحُضُور إِلَى السُّلْطَان وَخرج من الشوبك وَعِنْده مِمَّن سَافر مَعَه من مصر أَرْبَعمِائَة وَسِتُّونَ فَارِسًا وَسَار إِلَى الْقَاهِرَة فَقدم وَقبض عَلَيْهِ فِي سلخ ربيع الآخر وسجن بالقعة. وفيهَا عزل صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن المرحل من وظائفه بِدِمَشْق من أجل أَنه قبض عَلَيْهِ بصالحية دمشق وَعِنْده جمَاعَة يعاقرونه الْخمر. وفيهَا ضيق على الْأَمِير برلغي بعد سفر الْأَمِير مهنا وَأخرج حريمه من عِنْده وَمنع من الْوُصُول إِلَيْهِ وَمن أَن يدْخل إِلَيْهِ بِأَكْل أَو شرب فَلَمَّا أشفي برلغي على الْمَوْت قتل بَعْدَمَا يَبِسَتْ أعضاؤه وخرس لِسَانه من شدَّة الْجُوع وَمَات لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب. وفيهَا قتل الْأَمِير سلار أَيْضا بقلعة الْجَبَل فِي رَابِع عشري جُمَادَى الأولى وأحيط بِمَالِه وَكَانَ شَيْئا كثيرا. وَلما وصل طلبه فرقه السُّلْطَان على الْأُمَرَاء. ثمَّ مَاتَت أمه بعد أَيَّام. وَكَانَ سلار وَقدم الْبَرِيد بِمَوْت الْأَمِير قبجق نَائِب حلب وَأَن عماد الدّين إِسْمَاعِيل لما ورد عَلَيْهِ التَّقْلِيد بنيابة حماة سَار إِلَيْهَا من دمشق. فَمَنعه أسندمر كرجي فَأَقَامَ بَين حماة وحمص ينْتَظر مرسوم السُّلْطَان. فاتفق موت قبجق فَسَار أسندمر من حماة إِلَى حلب وَكتب يسْأَل السُّلْطَان نيابتها فَغَضب السُّلْطَان من أسندمر وَأسر ذَلِك فِي نَفسه. وفيهَا عزل الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب عَن نِيَابَة غَزَّة وأحضر إِلَى الْقَاهِرَة وَولي نِيَابَة غَزَّة الْأَمِير قطلقتمر. وفيهَا عزل الصاحب فَخر الدّين عمر بن الخليلي من الوزارة والأمير علم الدّين سنجر الخازن من شدّ الدَّوَاوِين وَاسْتقر الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب فِي الوزارة فِي حادي عشر رَمَضَان وَاسْتقر فَخر الدّين أياز أستادار سنقر الأعسر فِي شدّ الدَّوَاوِين. وَاتفقَ أَن أياز هَذَا استخدمه الْأَمِير سلار النَّائِب استاداره بعد موت عز الدّين أيدمر الرَّشِيدِيّ فَلم(2/457)
يزل حَتَّى قبض على سلار وأحيط بِمَالِه ورسم على أياز مَعَ سَائِر مباشريه وسلموا لعلم الدّين سنجر الخازن مشد الدَّوَاوِين فِي المصادرة ليستخرج مِنْهُم المَال فَحمل أياز للخازن ألف دِينَار وللصاحب فَخر الدّين ألف دِينَار فَرد الخازن المَال وَقَبله الصاحب. فَلم يمض سوى أَيَّام حَتَّى عزل الصاحب والخازن وسلما لأياز ليستخرج المَال مِنْهُمَا فَبعث إِلَيْهِ الخازن ألف دِينَار فَردهَا وَقَالَ لقاصده: سلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ مَا لنا عِنْده شَيْء وَطيب خاطره وَبعث إِلَيْهِ الصاحب فَخر الدّين ألف دِينَار فَأَخذهَا وَقَالَ لقاصده: عرفه أَنِّي أخذت وديعتي الَّتِي كَانَ أَخذهَا مني ثمَّ إِن الْأَمِير بكتمر الجوكندار شفع فيهمَا فأفرج السُّلْطَان عَنْهُمَا. وفيهَا قدم مَمْلُوك عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْأَفْضَل بِأَنَّهُ دخل حماة لمعد خُرُوج أسندمر مِنْهَا. وَقدم رَسُول الأشكري ورسل ملك الكرج بِهَدَايَا سنية فِي رَجَب وسألوا فتح الْكَنِيسَة المصلبة بالقدس. فَكتب الْجَواب بِأَن هَذِه الْكَنِيسَة غلقت من الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة على يَد الشَّيْخ خضر وَبنى فِيهَا مَسْجِد وَلَا يُمكن نقض ذَلِك ورسم أَن تفتح لَهُم كَنِيسَة الملكية بِمصْر وكنيسة اليعاقبة الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ وكنيسة الْيَهُود وَأذن لَهُم أَن يركبُوا على الاسْتوَاء. وفيهَا كتب بعزل نجم الدّين الْبَصْرِيّ عَن وزارة دمشق وَولَايَة شرف الدّين حَمْزَة القلانسي عوضه. وقمم الْبَرِيد بوفاة الْحَاج بهادر الْحلِيّ نَائِب طرابلس فَكتب بِنَقْل الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم من صرخد إِلَى نِيَابَة طرابلس فَسَار إِلَيْهَا. وَفَرح السُّلْطَان بِمَوْت الْحَاج بهادر فَرحا زَائِدا فَإِنَّهُ كَانَ يخشاه ويخشى شَره. والتفت السُّلْطَان إِلَى أسندمر كرجي نَائِب حلب وَأخرج تجريدة من الْقَاهِرَة فِيهَا من الْأُمَرَاء كراي المنصوري وَهُوَ مقدم الْعَسْكَر وسنقر الكمالي حَاجِب الْحجاب وأيبك الرُّومِي وبينجار وكجكن وبهادر آص وَفِي عدَّة من مضافيهم أُمَرَاء الطبلخاناه والعشراوات ومقدمي الْحلقَة وَأظْهر أَنهم قد توجهوا لغزو سيس. وَكتب السُّلْطَان لأسندمر كرجي بتجهيز آلَات الْحصار على الْعَادة والاهتمام فِي هَذَا الْأَمر حَتَّى يصل الْعَسْكَر الْمُجَرّد من مصر وَكتب إِلَى عماد الدّين صَاحب حماة بِالْمَسِيرِ مَعَ الْعَسْكَر. وَسَار الْأَمِير كراي من الْقَاهِرَة مستهل ذِي الْقعدَة بَعْدَمَا أَخْلَع عَلَيْهِ وَأسر إِلَيْهِ السُّلْطَان مَا يعتمده فِي أَمر كرجي. وفيهَا عدى السُّلْطَان النّيل إِلَى الجيزة وَنزل تَحت الأهرام ليتصيد. فَمَاتَ وَلَده على ابْن الخاتون أردوكين ابْنة نوكيه وَله من الْعُمر سِتّ سِنِين فِي لَيْلَة الْأَحَد حادي عشر رَجَب وَدفن بالقبة الناصرية بَين القصرين بَعْدَمَا حضر الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي(2/458)
لتجهيزه. وَاشْتَدَّ حزن أمه عَلَيْهِ ووقفت على الْقبَّة مَا خصها من إِرْث الْملك الْأَشْرَف خَلِيل ورتبت عِنْد قَبره الْقُرَّاء. وفيهَا عظم شَأْن شهَاب الدّين أَحْمد بن عبَادَة وَكيل السُّلْطَان وَضرب أكَابِر العنبر بالمقارع مثل عز الدّين بن حالومة وشمس الدّين بن الْحَكِيم: وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان كَانَ قد وهبه قبل توجهه إِلَى الكرك مَمْلُوكا جميل الصُّورَة فَصَارَ يشْتَمل على الْمَذْكُورين ويعاشرهم على مَا لَا يَنْبَغِي فحنق ابْن عبَادَة من ذَلِك وأوقع بهم. وَضرب ابْن عبَادَة أَيْضا شهَاب الدّين أَحْمد النويري صَاحب التَّارِيخ بالمقارع: وَذَلِكَ أَنه كَانَ استنابه فِي الْمدرسَة الناصرية والمنصورية وَغَيرهمَا وَجعله يدْخل على السُّلْطَان ويطالعه بالأمور فاغتر بذلك وَبسط القَوْل فِي ابْن عبَادَة. فَلم يعجب السُّلْطَان مِنْهُ وقيعته فِي ابْن عبَادَة وَعرف ابْن عبَادَة مَا قَالَه فِي حَقه وَسلمهُ إِلَيْهِ ومكنه مِنْهُ فَضَربهُ بالمقارع ضربا مبرحاً وصادره فَلم يشْكر النويري أَحد على مَا كَانَ مِنْهُ. وفيهَا توحش خاطر الْأَمِير بكتمر الجوكندار نَائِب السلطة بِمصْر من السُّلْطَان وَخَافَ مِنْهُ وَاتفقَ بكتمر مَعَ الْأَمِير بتخاص المنصوري على إِقَامَة الْأَمِير مظفر الدّين مُوسَى ابْن الْملك الصَّاع عَليّ بن قلاوون فِي السلطنة والاستعانة بالمظفرية وبعثوا إِلَيْهِ بذلك فوافقهم. وَشرع النَّائِب فِي استمالة الْأُمَرَاء ومواعدة المماليك المظفرية الَّذين بِخِدْمَة الْأُمَرَاء على أَن كل طَائِفَة تقبض على الْأَمِير الَّتِي هِيَ بخدمته فِي يَوْم عينه لَهُم ثمَّ يَسُوق الْجَمِيع إِلَى قبَّة النَّصْر خَارج الْقَاهِرَة وَقد نزل هُنَاكَ الْأَمِير مُوسَى. فدبروا ذَلِك حَتَّى انتظم الْأَمر وَلم يبْق إِلَّا وُقُوعه فَأَرَادَ بيبرس الجمدار أحد المظفرية الَّذين انتظموا فِي سلك هَذَا العقد أَن يتَّخذ يدا عِنْد السُّلْطَان وَعرف خوشداشيته قياتمر الخاصكي بِمَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ فَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان وَكَانَ فِي اللَّيْل فَلم يتمهل السُّلْطَان وَطلب أَمِير مُوسَى إِلَى عِنْده وَكَانَ يسكن بِالْقَاهِرَةِ فَلَمَّا نزل إِلَيْهِ الطّلب هرب. واستدعى السُّلْطَان الْأَمِير بكتمر النَّائِب وَبعث أَيْضا فِي طلب بتخاص وَكَانُوا إِذْ ذَاك يسكنون بالقلعة فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ بكتمر أكْرمه وَأَجْلسهُ وَأخذ يحادثه حَتَّى أَتَاهُ المماليك بالأمير بتخاص فَسقط فِي يَد بكتمر وَعلم بِأَنَّهُ قد هلك فقيد بتخاص وسجن وَأقَام السُّلْطَان فِي انْتِظَار أَمِير مُوسَى فَعَاد إِلَيْهِ الجاولي ونائب الكرك وأخبراه بفراره فَاشْتَدَّ غَضَبه عَلَيْهِمَا. وَمَا طلع النَّهَار حَتَّى أحضر السُّلْطَان الْأُمَرَاء وعرفهم مَا كمان قد تقرر من إِقَامَة أَمِير مُوسَى وموافقة. بتخاص لَهُ وَلم يذكر بكتمر النَّائِب. وألزم السُّلْطَان الْأَمِير كشتغدي البهادري وَالِي الْقَاهِرَة بالنداء عَلَيْهِ وَمن أحضرهُ من الْجند فَلهُ إمرته وَإِن كَانَ من الْعَامَّة أَخذ ألف دِينَار. فَنزل كشتغدي وَمَعَهُ الْأَمِير فَخر الدّين أياز(2/459)
شاد الدَّوَاوِين وأيدغدي شقير وسودي وعدة من المماليك وألزم سَائِر الْأُمَرَاء بِالْإِقَامَةِ بالقاعة الأشرفية حَتَّى يظْهر أَمِير مُوسَى وَقبض على حَوَاشِي مُوسَى وجماعته وعاقب كثيرا مِنْهُم. فَلم يزل الْأَمر على ذَلِك من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء إِلَى يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ قبض عَلَيْهِ من بَيت أستادار الفارقاني من حارة الوزيرية بِالْقَاهِرَةِ وَحمل إِلَى القلعة فسجن بهَا. وَنزل الْأُمَرَاء إِلَى دُورهمْ وخلى عَن الْأَمِير بكتمر النَّائِب أَيْضا ورسم بشمير أستادار الفارقاني ثمَّ عفى عَنهُ وَسَار إِلَى دَاره. وتتبع السُّلْطَان المماليك المظفرية فَقبض عَلَيْهِم وَفِيهِمْ بيبرس الَّذِي نم عَلَيْهِم وَعمِلُوا فِي الْحَدِيد. وأنزلو ليسمروا تَحت القلعة وَقد حضر نِسَاؤُهُم وَأَوْلَادهمْ وَجَاء النَّاس من كل مَوضِع فَكثر الْبكاء والصراخ عَلَيْهِم رَحْمَة لَهُم وَالسُّلْطَان ينظر فاً خذته الرَّحْمَة وَعَفا عَنْهُم فتركوا وَلم يقتل أحد مِنْهُم. وَأما الْعَسْكَر فَإِنَّهُ لما وصل إِلَى حمص أَقَامَ بهَا على مَا قَرَّرَهُ السُّلْطَان مَعَ الْأَمِير كراي حَتَّى قدم عَلَيْهِ الْأَمِير منكوتمر الطباخي بكتب السُّلْطَان لكراي ولكرجي نَائِب حلب بِمَا يتعمدانه من المراسيم. وَقد كتب السُّلْطَان مَعَه أَيْضا مطلقات إِلَى أُمَرَاء حلب بِقَبض كرجي وَحمله مشافهات لكراي وَغَيره فَقضى منكوتمر شغله من كراي بحمص وَسَار إِلَى حلب. فَرَحل كراي فِي أَثَره وجد فِي السّير إِلَى حلب جَرِيدَة من غير أثقال فَقطع من حمص إِلَى حلب فِي يَوْم وَنصف ووقف بِمن مَعَه تَحت قلعتها عِنْد ثلث اللَّيْل الْأَخير وَصَاح يال على وَهِي الْإِشَارَة الَّتِي رتبها السُّلْطَان بَينه وَبَين نَائِب القلعة فَنزل النَّائِب عِنْد ذَلِك من القلعة بِجَمِيعِ رجالها وَقد اسْتَعدوا للحرب وزحف وَمَعَهُ الْأَمِير كراي على دَار النِّيَابَة وَلحق بهم أُمَرَاء حلب وعسكرها. فَسلم كرجي وَلم يُقَاتل فَأخذ وَقيد وسجن بالقلعة وأحيط بموجوده وَسَار منكوتمر الطباخي على الْبَرِيد بذلك إِلَى السُّلْطَان. ثمَّ حمل أسندمر كرجي إِلَى السُّلْطَان صُحْبَة الْأَمِير بينجار وأيبك الرُّومِي فخاف قرا سنقر عِنْد ذَلِك على نَفسه وَسَأَلَ أَن ينْقل من دمشق إِلَى نِيَابَة حلب ليبعد عَن السُّلْطَان فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَكتب تَقْلِيده وجهز إِلَيْهِ فِي أخريات ذِي وفيهَا اسْتَقر كريم الدّين وَأَبُو الْفَضَائِل عبد الْكَرِيم بن الْعلم هبة الله بن السديد ابْن أُخْت التَّاج بن سعيد الدولة فِي نظر الْخَاص ووكالة السُّلْطَان بعد موت شهَاب الدّين أَحْمد بن عبَادَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر جُمَادَى الأولى.(2/460)
وفيهَا قدم أسندمر كرجي فاعتقل بالقلعة وَبعث يسْأَل عَن ذَنبه عِنْده فَأَعَادَ جَوَابه: مَا لَك ذَنْب إِلَّا أَنَّك فَلت لما ودعتك عِنْد سفرك أوصيك يَا خوند لَا تتْرك فِي دولتك كَبْشًا كَبِيرا وأنشئ مماليكك وَلم يبْق عِنْدِي كَبْش كَبِير غَيْرك. وفيهَا قبض على طوغان نَائِب البيرة وَحمل إِلَى السُّلْطَان فحبسه أَيَّامًا ثمَّ ولاه شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق. وَخرج الْأَمِير أرغون الدوادار على الْبَرِيد بتقليد فرا سنقر حلب وَأسر إِلَيْهِ الْقَبْض عَلَيْهِ إِن أمكن ذَلِك. وفيهَا قدم الشريف مَنْصُور أَحْمد بن جَازَ من المدنية النَّبَوِيَّة بتقادم فأنعم عَلَيْهِ بِإِعَادَة مَا خرج لِأَخِيهِ مقبل. وفيهَا استعفى الطواشي شهَاب الدّين مرشد الخازندار من الإمرة فأعفي. وَاتفقَ فِي هَذِه السّنة أَمر غَرِيب قَلما عهد مثله: وَهُوَ موت سُلْطَان مصر وقاضيها إِمَام الْحَنَفِيَّة فِي عصره ومفسرها والمتكلم على الْقُلُوب وواعظها وَشَيخ شيوخها وَإِمَام الشَّافِعِيَّة وعالمهم ومحتسبها وناظر جيوشها وأديبها فَقتل السُّلْطَان الْملك المظفر بيبرس فِي ذِي الْقعدَة. وَتُوفِّي الْقُضَاة إِمَام الْحَنَفِيَّة فِي عصره شمس الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْغَنِيّ السروحي الْمصْرِيّ عَن ثَلَاث وَسبعين سنة فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشرى رَجَب ومولده سنة سبع - وَقيل سنة تسع - وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَأخذ الْفِقْه عَن صدر الدّين سُلَيْمَان بن أبي الْعِزّ بن وهيب وَغَيره وَدفن بالقرافة وَله على كتاب الْهِدَايَة شرح جليل لكنه لم يكمل وَله اعتراضات على التقي ابْن تَيْمِية. وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الشَّيْخ الرّفْعَة مُرْتَفع بن حَازِم ابْن إِبْرَاهِيم بن عَبَّاس الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الرّفْعَة الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمصْرِيّ فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشر رَجَب ومولده سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَتُوفِّي الإِمَام عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد الْجَلِيل النمراوي فِي تَاسِع ذِي الْقعدَة. وَمَات الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عطا الله صَاحب الْكَلَام الرَّائِق الْفَائِق فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات شيخ الوعاظ نجم الدّين الْعَنْبَري فِي سادس شعْبَان وَمَات شيخ الشُّيُوخ(2/461)
خانكاه السُّعَدَاء كريم الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن الْحُسَيْن أبي بكر الآملي الطَّبَرِيّ فِي تَاسِع شَوَّال وَمَات القَاضِي بدر الدّين حسن بن نصر الأسعردي الْمُحْتَسب فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات القَاضِي بهاء الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ بن المظفر بن الْحلِيّ نَاظر الجيوش فِي لَيْلَة الْعَاشِر من شَوَّال. وَمَات الأديب البارع شمس الدّين مُحَمَّد بن دانيال بن يُوسُف بن معتوق الْخُزَاعِيّ الْموصِلِي فِي ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة ومولده بالموصل سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَكَانَ كثير المجون وَالشعر البديع وَله كتاب طيف الخيال لم يصنف مثله فِي مَعْنَاهُ. وَمَات ملك الْمغرب صَاحب فاس أَبُو الرّبيع بن أبي عَامر بن السُّلْطَان أبي يَعْقُوب بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو بن أبي بكر بن عبد الْحق المريني فِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة وبويع بعده أَبُو سعيد عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْملك بن عبد الْمُنعم بن عبد الْعَزِيز بن جَامع بن راضي العزازي التَّاجِر عَن بضع وَسبعين بِالْقَاهِرَةِ فِي تَاسِع عشرى الْمحرم وَله ديوَان شعر كَبِير وَمَات فَخر الدّين إِسْمَاعِيل بن عبد الْقوي بن الْحسن حيدرة الْحِمْيَرِي الإسنائي الْمَعْرُوف بِالْإِمَامِ الْفَقِيه الشَّافِعِي بَعْدَمَا كف بَصَره بِمَدِينَة قوص. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن عبَادَة وَكيل الْخَاص فِي لَيْلَة الْأَحَد سادس عشر جُمَادَى الأولى بِالْقَاهِرَةِ، وَدفن بالقرافة، وَولى بعده كريم الدّين أكْرم.(2/462)
وَمَات أَمِين الدّين أَبُو بكر بن وجيه الدّين عبد الْعَظِيم بن يُوسُف بن الرقاقي نَاظر الدَّوَاوِين بديار مصر لَيْلَة الْأَحَد ثَالِث عشرى جُمَادَى الأولى وَدفن بالقرافة وَكَانَ دينا خيرا كثير الْإِحْسَان ولي نظر بَيت المَال وَنظر الْبيُوت وَنظر الدولة بِمصْر وَالشَّام. وَمَات عز الدّين الْحسن بن الْحَارِث بن الْحُسَيْن بن يحيى بن خَليفَة بن نجا بن حسن ابْن مُحَمَّد من ولد الْحَارِث بن مِسْكين أحد أَعْيَان الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة عصر لَيْلَة السبت ثامن جُمَادَى الأولى. وَمَات الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب عرف بالشريف عطوف الْحُسَيْنِي الموسى الْعَطَّار لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة وَدفن خَارج بَاب النَّصْر وَقل حَدِيثه. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان البيدغاني نَائِب بغراس مقتولاً بيد مماليكه. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج بهادر الْحلَبِي نَائِب طرابلس فِي ربيع الآخر. وَمَات الشَّيْخ الصَّالح عبد الله بن ريحَان التقوي السمسار بِمصْر حدث عَن ابْن المقير وَابْن رواح وَغَيره. وَمَات بهاء الدّين على بن الْفَقِيه عِيسَى بن سُلَيْمَان بن رَمَضَان الثَّعْلَبِيّ الْمصْرِيّ الصَّدْر المعمر الْمَعْرُوف بِابْن الْقيم فِي ذِي الْقعدَة وَقد تعين للوزارة ومولده سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ سليم الْعقل والحواس. وَمَات الشَّيْخ عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن خطاب التاجي فِي سادس ذِي الْقعدَة. وَمَات بَحر الدّين أَبُو البركات عبد اللَّطِيف ابْن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن رزين الشَّافِعِي يَوْم الْأَحَد ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة بِالْقَاهِرَةِ ومولده بِدِمَشْق سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَولي قَضَاء الْعَسْكَر. وَمَات الْخَطِيب بهاء الدّين عبد الرَّحْمَن بن عماد الدّين عَليّ بن السكرِي فِي حَيَاة أَبِيه لَيْلَة السبت حادي عشر رَجَب بِمصْر.(2/463)
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قشتمر الشمسي بِدِمَشْق. وَمَات الطواشي شهَاب الدّين مرشد الخازندار المنصوري بِالْقَاهِرَةِ فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْقعدَة وَكَانَ خيرا وَانْفَرَدَ بالرواية عَن جمَاعَة وَولد سنة ثَلَاث عشر وسِتمِائَة وَمَات وَلم تَتَغَيَّر حواسه. وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقوش قتال السَّبع الْموصِلِي أَمِير علم بِمصْر فِي تَاسِع رَجَب. وَمَات خضر بن الْخَلِيفَة أبي الرّبيع سُلَيْمَان فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير برلغي الأشرفي فِي سجن القلعة بَعْدَمَا يَبِسَتْ أعضاؤه وجف لِسَانه من الْجُوع فِي وَمَات الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي الْبَغْدَادِيّ. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطنبغا الجمدار. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين أرغون الجمقدار. وَمَات قطب الدّين مَحْمُود بن مَسْعُود بن مُفْلِح الشِّيرَازِيّ صَاحب التصانيف رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير سيف سلار فِي لَيْلَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وَكَانَ من التتار الأويراتية وَصَارَ إِلَى الْملك الصَّالح عَليّ بن قلاوون وَبَقِي بعد مَوته فِي خدمَة الْملك الْمَنْصُور قلاوون حَتَّى مَاتَ ثمَّ دخل فِي خدمَة الْملك الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون وحظى عِنْده فَلَمَّا قتل حظى عِنْد لاجين لمودة كَانَت بَينهمَا وترقى إِلَى أَن صَار نَائِب السلطنة بديار مصر وَكَانَ من أخباره مَا تقدم ذكره إِلَى أَن قدم من الشوبك فَترك فِي السجْن حَتَّى مَاتَ جوعا وَتَوَلَّى الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي دَفنه بتربته على جبل يشْكر بجوار مناظر الْكَبْش وَكَانَ سلار أسمر لطيف الْقد أسيل الخد لحيته فِي حنكه سَوْدَاء ظريفاً فِي لبسه اقترح أَشْيَاء نسبت إِلَيْهِ إِلَى يَوْم وَبلغ من السَّعَادَة إِلَى مبلغ عَظِيم: فَكَانَ يدْخل إِلَيْهِ من أجر أملاكه فِي كل يَوْم ألف دِينَار مصرية وَمن إقطاعاته وضماناته وحماياته تَتِمَّة مائَة ألف دِرْهَم فِي الْيَوْم عَنْهَا حِينَئِذٍ زِيَادَة على خَمْسَة(2/464)
آلَاف دِينَار مصرية وَكَانَ بقطاعه أَرْبَعِينَ إمرة طبلخاناه وَكَانَ عَاقِلا متأنياً داهياً قَلِيل الظُّلم واشتملت تركته على ثَلَاثمِائَة ألف ألف دِينَار وَزِيَادَة: فَوجدَ لَهُ فِي يَوْم ياقوت أَحْمَر زنة رطلين وَنصف وبلخش زنة رطلين وَنصف وزمرد تِسْعَة عشر رطلا وَسِتَّة صناديق فِيهَا جَوَاهِر وَمن الماس وَعين الهر ثَلَاثمِائَة قِطْعَة ولؤلؤ زنة مَا بَين مِثْقَال كل حَبَّة إِلَى دِرْهَم عدَّة ألف وَمِائَة وَخمسين حَبَّة عين مصري مبلغ مائي ألف وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعين ألف دِينَار وَفِضة دَرَاهِم مبلغ أَربع مائَة ألف وَأحد وَسبعين ألف دِرْهَم وَوجد لَهُ أَيْضا فِي يَوْم فصوص مُخْتَلفَة زنة رطلين وَذهب عين مصري مبلغ خَمْسَة وَخمسين ألف فِي دِينَار ودراهم فضَّة ألف ألف دِرْهَم وحلي ذهب أَربع قناطير وآلات مَا بَين طاسات وَنَحْوهَا سِتَّة قناطير فضَّة وَوجد فِي يَوْم ذهب مصري مبلغ خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف دِينَار ودراهم فضَّة مبلغ ثَلَاثمِائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وفضيات ثَلَاثَة قناطير وَوجد فِي يَوْم ذهب عين ألف ألف دِينَار وَفِضة ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَوجد لَهُ ثَلَاثمِائَة قبَاء من حَرِير بِفَرْوٍ قاقم وثلاثمائة قبَاء حَرِير بسنجاب وَأَرْبَعمِائَة قبَاء بِغَيْر فرو وسروج ذهب مائَة سرج وَوجد لَهُ ثَمَانِيَة صناديق لم يعلم فِيهَا حملت مَعَ مَا تقدم إِلَى السُّلْطَان وَوجد لَهُ ألف تفصيلة مَا بَين طرد وَحش وَعمل الدَّار وَوجد لَهُ خام سِتّ عشر نوبَة وَوصل مَعَه من الشوبك مبلغ خمسين ألف دِينَار ذَهَبا وأَربعمائة ألف دِرْهَم وَسبعين ألف دِرْهَم وثلاثمائة خلعة ملونة وخركاه بغشاء حَرِير أَحْمَر معدني مبطن بحرير أَزْرَق مروى وَستر بَابهَا زركش وَوجد لَهُ ثَلَاثمِائَة فرس وَمِائَة وَعِشْرُونَ قطار بغال وَعِشْرُونَ قطار جمال وَمن الْغنم وَالْبَقر والجواري والمماليك وَالْعَقار شَيْء كثير جدا وَوجد لَهُ فِي مَوضِع بَين حائطين عدَّة أكياس لم يدر مَا فِيهَا وَلَا كم عدتهَا وَوجد لَهُ فِي المرحاض شبه فسقية كشف عَنْهَا فَإِذا هِيَ مَمْلُوءَة ذَهَبا وَوجد لَهُ من الْقَمْح وَالشعِير والفول وَنَحْوهَا ثَلَاثمِائَة ألف أردب وَذَلِكَ سوى مَا أَخذ من أخوته ومباشريه وحواشيه وأسبابه فَإِنَّهُم صودروا جَمِيعًا حَتَّى مقدم شونه وجباة أملاكه فَاجْتمع من ذَلِك مَا لَا يدْخل تَحت حصر لكثرته وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء.(2/465)
فارغة(2/466)
(سنة إِحْدَى عشر وَسَبْعمائة)
فِي مستهل الْمحرم: وصل الْأَمِير أرغون الدوادار إِلَى دمشق فاحترس مِنْهُ الْأَمِير قرا سنقر على نَفسه وَبعث إِلَيْهِ عدَّة من مماليكه يتلقونه وَيمْنَعُونَ أحدا مِمَّن قدم مَعَه أَن ينْفَرد. مَخَافَة أَن يكون مَعَه من الملطفات لِلْأُمَرَاءِ مَا فِيهِ ضَرَر. ثمَّ ركب إِلَيْهِ قرا سنقر ولقيه بميدان الْحَصَا ظَاهر الْمَدِينَة وأنزله عِنْده بدار السَّعَادَة ووكل بخدمته من ثقاته جمَاعَة. فَلَمَّا كَانَ الْغَد أخرج لَهُ أرغون تَقْلِيد نِيَابَة حلب فقبّله وقَّبل الأَرْض على الْعَادة وَأخذ فِي التهيؤ للسَّفر وَلم يدع أرغون ينْفَرد عَنهُ بِحَيْثُ إِنَّه أَرَادَ زِيَارَة أَمَاكِن بِدِمَشْق فَركب مَعَه بِنَفسِهِ حَتَّى قضى أربه وَكثر تحدث النَّاس بِدِمَشْق فِي مَجِيء أرغون وَأَنه يُرِيد قبص قرا سنقر وَأَن قرا سنقر قد حَضَره فهم الْأُمَرَاء بالركوب على قرا سنقر وَأَخذه ثمَّ خَشوا الْعَاقِبَة وَأَنه لم يصل إِلَيْهِم مرسوم السُّلْطَان بذلك فكفوا عَنهُ. وَصَارَ الْأَمِير بيبرس العلائي يركب بمماليكه فِي اللَّيْل وَيَطوف حول القلعة على هَيْئَة الحرس. وَبلغ ذَلِك قرا سنقر فاستدعى الْأُمَرَاء كلهم إِلَى عِنْد الْأَمِير أرغون وَقَالَ لَهُم: إِنَّه قد بَلغنِي أَن بعض الْأُمَرَاء يركب فِي اللَّيْل وَيَطوف بالقلعة خشيَة أَن أخرج هَارِبا وَمَا فعل هَذَا إِلَّا برأيكم ولابد أَن يكون علمه عنْدك يَا أَمِير أرغون. فَإِن كَانَ قد حضر مَعَك مرسوم بِالْقَبْضِ عَليّ فَمَا يحْتَاج إِلَى فتْنَة فَإِنِّي طالع للسُّلْطَان وَهَذَا سَيفي خُذْهُ وَحل سَيْفه. فَقَالَ لَهُ أرغون: لم أحضر إِلَّا بتقليد الْأَمِير نِيَابَة حلب حسب سؤالك وحاش الله أَن يكون السُّلْطَان يرى الْأَمِير بِهَذِهِ الْعين وأبكز أرغون أَيْضا أَن يكون عِنْده علم بركوب الْأَمِير بيبرس العلائي فِي اللَّيْل حول السُّور فوعد قرا سنقر أَنه يتَوَجَّه غَدا إِلَى حلب وانفض الْمجْلس. ثمَّ إِن قراسنقر بعث إِلَى الْأُمَرَاء أَلا يركب أحد مِنْهُم لوداعه وَلَا يخرج من بَيته واستعد وَقدم أثقاله أَولا فِي اللَّيْل. فَلَمَّا أصبح ركب يَوْم الرَّابِع من الْمحرم فِي مماليكه وعدتهم سِتّمائَة فَارس وَركب أرغون بجانبه وبهادر آص فِي جمَاعَة قَليلَة. وَسَار قرا سنقر فَقدم عَلَيْهِ الْخَبَر أَن الْأَمِير سنقر الكمالي الْحَاجِب قد تَأَخّر فِي حلب بِجَمَاعَة من عَسْكَر مصر فعرج عَن الطَّرِيق حَتَّى إِذا قَارب حلب نزل وَقَالَ لأرغون: لَا أَدخل حلب وَبهَا أحد من عَسْكَر مصر فَبعث أرغون إِلَى سنقر الكمالي يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ من حلب فَلَمَّا رَحل عَنْهَا سنقر الكمالي دخل إِلَيْهَا قراسنقر فِي نصف الْمحرم(2/467)
وَلبس التشريف وَقُرِئَ تَقْلِيده على الْعَادة وَأعَاد الْأَمِير أرغون وَقد أنعم عَلَيْهِ. فوصل أرغون إِلَى دمشق وقلد الْأَمِير سيف الدّين كراي المنصوري نِيَابَة دمشق فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشرى وَألبسهُ التشريف على الْعَادة وَقُرِئَ تَقْلِيده وَركب الموكب. ثمَّ اً نعم كراي على أرغون بِأَلف دِينَار سوى الْخَيل والخلعة وَغير ذَلِك وَأَعَادَهُ إِلَى مصر فشكره السُّلْطَان على مَا كَانَ من حسن تأنيه وإخماد الْفِتْنَة. وَقدم الْأَمِير سنقر الكمالي بالعسكر أَيْضا فَخلع عَلَيْهِ وأجلس بالإيوان. وَفِي صفر. توجه الْأَمِير طوغان المنصوري إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن فَخر الدّين أياز فَقَدمهَا فِي ثامن عشره وَقبض على أياز وألزمه بثلاثمائة ألف دِرْهَم. وَولى الْأَمِير ركن الدّين بيبرس العلائي نِيَابَة حمص. وفيهَا عزل الصاحب عز الدّين حَمْزَة القلانسي وَزِير دمشق وعوق حَتَّى حمل أَرْبَعِينَ ألفا انساقت بَاقِيا على ضَمَان الْجِهَات ثمَّ أفرج عَنهُ وَقدم الْقَاهِرَة فأنعم عَلَيْهِ ورسم بِإِعَادَة مَا حمله إِلَى دمشق واستعاده. وفيهَا عزل الْأَمِير بكتمر الحسامي عَن الوزارة وَاسْتقر أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام نَاظر الدَّوَاوِين عوضه فِي الوزارة. وأنعم على الْأَمِير بكتمر بإمرة عوضا عَن سنقر الكمالي وَولى حاجباً وَذَلِكَ فِي سادس ربيع الآخر. وَفِي يَوْم الأثنين حادي عشريه: أُعِيد قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة إِلَى قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر وَصرف جمال الدّين سُلَيْمَان بن عمر الزرعي وَاسْتقر الزرعي فِي قَضَاء الْعَسْكَر وتدريس الْجَامِع الحاكمي ورسم لَهُ أَن يجلس بَين الْحَنَفِيّ والحنبلي بدار الْعدْل. وَفِي مستهل جُمَادَى الأولى: اسْتَقر الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي فِي نِيَابَة غَزَّة وَقبض على الْأَمِير قطلو قتمر نَائِب غَزَّة. وَقدم الْخَبَر من سيس بِأَن فرنج جَزِيرَة المصطكى أَسرُّوا رسل السُّلْطَان إِلَى الْملك طقطاي وَمن مَعَهم من رسل طقطاي وعدتهم سِتُّونَ رجلا وَأَنه بعث فِي فدائهم(2/468)
سِتِّينَ ألف دِينَار ليتَّخذ بذلك يدا عِنْد السُّلْطَان فَلم يمكنوه مِنْهُم. فَكتب إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط بالحوطة على تجار الفرنج واعتقالهم كلهم فأحيط بحواصلهم وحبسوا بأجمعهم. وَحضر أحد تجار الجنوية فضمن إِحْضَار الرُّسُل وَمَا مَعَهم فمكن من السّفر. وفيهَا عزم السُّلْطَان على إنْشَاء جَامع فَاسْتَشَارَ الْفَخر نَاظر الْجَيْش فَأَشَارَ بعمارته على سَاحل مصر وَعين مَوضِع الْجَامِع الْجَدِيد وَكَانَ بستاناً يعرف بالحاج طيبرس وشونا وَغير ذَلِك فاستبدل بِالْأَرْضِ على رَأْي الْحَنَابِلَة فَإِنَّهَا كَانَت وَقفا. نزل السُّلْطَان حَتَّى رتبه وَأقَام الْفَخر على عِمَارَته. وفيهَا قبض على الْأَمِير بكتمر الجوكندار نَائِب السلطنة بديار مصر فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الأولى وَقبض مَعَه على عدَّة أُمَرَاء مِنْهُم صهره ألكنتمر الجمدار وأيدغدي العثماني ومنكوتمر الطباخي وبحر الدّين أيدمر الشمسي وأيدمر الشيخي وسجنوا إِلَّا الطباخي فَإِنَّهُ قتل فِي وقته. ثمَّ استدعى السُّلْطَان الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الدوادار المنصوري وخلع عَلَيْهِ وولاه النِّيَابَة عوضا عَن بكتمر الجوكندار فِي يَوْم السبت ثامن عشره. وفيهَا أَمر أَن يجمد السُّلْطَان الْجُلُوس بدار الْعدْل فِي كل ثنين فحار النُّقَبَاء على الْقُضَاة وَغَيرهم من أهل الدولة. وَجلسَ السُّلْطَان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشريه وَنُودِيَ فِي النَّاس من لَهُ ظلامة فَليرْفَعْ قصَّته بدار الْعدْل فخاف الْأُمَرَاء وَغَيرهم وأدوا مَا عَلَيْهِم من الْحُقُوق من غير شكوى وَرفع النَّاس قصصهم فقرأها الموقعون على السُّلْطَان بدار الْعدْل وَوَقع عَلَيْهَا بَين يَدَيْهِ وَحكم بَين النَّاس وأنصف الْمَظْلُوم وَاسْتمرّ الْجُلُوس فِي كل يَوْم إثنين. وفيهَا صرف السُّلْطَان قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين أَبَا الْحسن عَليّ بن مخلوف بِسَبَب مُفَاوَضَة فِي وفيهَا استدعى السُّلْطَان الْقُضَاة وَولى كريم الدّين أكْرم عبد الْكَرِيم الْكَبِير وكَالَته وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ وبأمر السلطنة بحضورهم وخلع عَلَيْهِ. فَكَانَ أول سعادته أَن السُّلْطَان اشْترى من الفرنج جَوَاهِر وَغَيرهَا فَبلغ ثمنهَا سِتَّة عشر ألف دِينَار وأحالهم بهَا على كريم الدّين فَذكر الفرنج أَنهم بعد ثَلَاثَة أَيَّام يسافرون فحلفه السُّلْطَان أَلا يؤخرهم عَن الثَّلَاثَة أَيَّام فَنزل إِلَى دَاره وَهُوَ مَحْصُور لعدم المَال عِنْده وَاسْتَشَارَ الْأَمِير(2/469)
عَلَاء الدّين بن هِلَال الدولة وَالصَّلَاح الشرابيشي فَحسب لَهُ أَخذ حَاصِل المارستان المنصوري والاقتراض من تجار الكارم بَقِيَّة الْمبلغ وَكَانَت تجار الكارم بِمصْر حِينَئِذٍ فِي عدَّة وافرة وَلَهُم أَمْوَال عَظِيمَة. وَمضى من الْأَجَل يَوْمَانِ وَأصْبح فِي الْيَوْم الثَّالِث آخر الْأَجَل فَأَتَاهُ الفرنج وَقت الظّهْر لقبض المَال فَاشْتَدَّ قلقه وَأَبْطَأ عَلَيْهِ حُضُور الكارم. وَبينا هُوَ فِي ذَلِك إِذْ أَتَاهُ تجار الكارم فَنظر بَعضهم إِلَى وَاحِد من الفرنج لَهُ عِنْده مبلغ عشْرين ألف دِينَار قراضا فَسَأَلَ التُّجَّار الفرنج عَن سَبَب جلوسهم على بَاب كريم الدّين فَقَالُوا: لنا عَلَيْهِ حِوَالَة من قبل السُّلْطَان بِمَال وَقد وعدنا بِقَبْضِهِ الْيَوْم. فطالبهم الكارمي بِمَالِه من مبلغ الْقَرَاض فوعدوه بِأَدَائِهِ. وَبلغ ذَلِك كريم الدّين فسر بِهِ سُرُورًا زَائِدا وكتمه وَأمر بالكارم والفرنج فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَلم يعرف الكارم بِشَيْء من أمره وَلَا أَنه طَلَبهمْ ليقترض مِنْهُم مَالا بل قَالَ: مَا بالكم من الفرنج فعرفوه أَمر الْقَرَاض الَّذِي عِنْد الافرنجي فَقَالَ لَهُم: مهما كَانَ عِنْد الإفرنجي هُوَ عِنْدِي. ففرح الفرنج بذلك وأحالوا الكارمي على كريم الدّين بِسِتَّة عشر ألف دِينَار وَهِي الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ بحوالة السُّلْطَان ودفعوا أَرْبَعَة آلَاف تَتِمَّة عشْرين ألف دِينَار للكارمي. وَقَامَ الفرنج وَقد خلص كريم الدّين من تَبِعَهُمْ بِغَيْر مَال وَالْتزم للكارمي بالمبلغ فَمضى هُوَ وَبَقِيَّة التُّجَّار من غير أَن يقترض مِنْهُم شَيْئا فعد هَذَا من غرائب الِاتِّفَاق. وفيهَا قبض على الْأَمِير قطلوبك نَائِب صفد. وأنعم على الصاحب نجم الدّين البصروي بإمرة. وفيهَا قرر على أَمْلَاك دمشق وأوقافها ألف وَخَمْسمِائة فَارس وَهِي الَّتِي كَانَت تسمى مُقَرر الخيالة فَلَمَّا ورد المرسوم بذلك على الْأَمِير كراي نَائِب دمشق أعسف بِالنَّاسِ فِي الطّلب وَضرب جمَاعَة وَأخذ مَالا كَبِيرا فتجمع النَّاس مَعَ الْخَطِيب جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي وَكَبرُوا وَرفعُوا الْمَصَاحِف والأعلام ووقفوا للنائب فأمله بهم فَضربُوا وطردوا طرداً قبيحا فَكثر عَلَيْهِ الدُّعَاء فَلم يُمْهل بعْدهَا غير تِسْعَة أَيَّام. وَقدم أرغون الدوادار من مصر إِلَى دمشق يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشرى جُمَادَى الأولى على الْبَرِيد وعَلى يَده مراسيم لِلْأُمَرَاءِ بِالْقَبْضِ على الْأَمِير سيف الدّين كراي وَوصل أَيْضا فِي هَذَا الْيَوْم مَمْلُوك كراي وصحبته تشريف وحياصة وَسيف لمخدومه وَاتفقَ قدوم رسل التتر. فأوصل الْأَمِير أرغون الْكتب إِلَى الْأُمَرَاء وَأصْبح كراي يَوْم الْخَمِيس فَركب الْمركب وَنزل وَقد احتفل لأجل لبس التشريف ولقدوم الرُّسُل. فَلَمَّا فرغ الْأكل وانصرفت الرُّسُل أحَاط الْأُمَرَاء بكراي وأخرجوا مرسوم السُّلْطَان بمسكه(2/470)
فَقبض عَلَيْهِ وَهُوَ بتشريفه وَحمل مُقَيّدا إِلَى الكرك فسجن بهَا. وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشرى جُمَادَى الأولى وَقبض فِي غده على قطلوبك نَائِب صفد وسجن بالكرك. وَاسْتقر فِي نِيَابَة دمشق عوض الْأَمِير كراي الْكَبِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك وخلع عَلَيْهِ فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة فَقَدمهَا فِي رَابِع عشره. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص فِي نِيَابَة صفد وَأرْسل تشريفه صُحْبَة الْأَمِير جمال الدّين أقوش وَقد توجه إِلَيْهَا. ورسم للأمير بدر الدّين بكتوت القرماني بشد الدَّوَاوِين بِدِمَشْق وَكتب على يَده مساحة بِمَا قَرَّرَهُ كراي. وَتوجه بكتوت مَعَ الْأَمِير جمال الدّين أقوش إِلَى دمشق فَقَدمهَا فِي رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة قُرِئت الْمُسَامحَة على مِنْبَر الْجَامِع فسر النَّاس بذلك. وَقبض بِدِمَشْق على الْأَمِير بكتوت الشجاعي وَسيف الدّين جنقار الساقي وحملا إِلَى الكرك. وفيهَا نقل الْأَمِير بكتمر الجوكندار النَّائِب والأمير أسندمر كرجي من سجن الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى سحن الكرك فَاجْتمع بالكرك من الْأُمَرَاء المعتقلين بكتمر الجوكندار وأسندمر كرجي وكراي المنصوري وقطلوبك المنصوري نَائِب صفد وبيبرس العلائي فِي آخَرين. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بيبغا الأشرفي فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن الْأَمِير أيتمش المحمدي وَكَانَ السُّلْطَان قد استنابه بهَا لما خرج مِنْهَا إِلَى دمشق. وفيهَا وصل الْأَمِير سُلَيْمَان بن مهنا إِلَى الْقَاهِرَة وَمَعَهُ عدَّة من التتر مقيمين أسرهم فِي الْغَارة على التتر فأنعم عَلَيْهِ بِمِائَة ألف دِرْهَم. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن خربندا ملك التتر قتل جمَاعَة من خواصه وَقتل خواصه. وفيهَا أُقِيمَت الْخطْبَة للْملك النَّاصِر بطرابلس الغرب أَقَامَهَا لَهُ الشَّيْخ أَبُو يحيى زَكَرِيَّا ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الْوَاحِد بن حَفْص عمر اللحياني لما جهزه السُّلْطَان إِلَيْهَا بالصناجق وبعدة من الأجناد وَكَانَ ذَلِك فِي شهر رَجَب وَكَانَ الأجناد قد قدمُوا مَعَ بيبرس بَعْدَمَا قدمهَا أَبُو يحيى من مصر فِي جُمَادَى الأولى.(2/471)
وَفِي ثامن عشر رَمَضَان: كتب باستقرار الْأَمِير بلبان فِي نِيَابَة قلعة دمشق عوضا عَن بهادر السنجرلي. ورسم لبهادر بنيابة قلعة البيرة. وَفِي سادس شَوَّال: قبض على الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام وعَلى التَّاج عبد الرَّحْمَن الطَّوِيل وَقرر عَلَيْهِمَا مَال فحملاه وهما معوقان بالقلعة من غر أَن يَلِي أحد. ثمَّ أفرج عَنْهُمَا يَوْم الْخَمِيس حادي عشريه وخلع عَلَيْهِمَا واستقرا على عَادَتهمَا. فَمَاتَ التَّاج فِي ذِي الْقعدَة وإستقر عوضه فِي نظر الدولة تَقِيّ الدّين أسعد ابْن أَمِين الْملك الْمَعْرُوف بكاتب برلغي وَولى التَّاج إِسْحَاق والموفق هبة الله وَظِيفَة مُسْتَوْفِي الدولة وَكَانَا كتابا لسلار. وفيهَا توجه السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الصَّعِيد. ورسم بِنَقص الإيوان الأشرفي بقلعة الْجَبَل فنقض وجدد فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان جلس فِيهِ على الْعَادة. وفيهَا وصل كرنبس ملك النّوبَة بالقود الْمُقَرّر عَلَيْهِ بعد قتل أَخِيه. وقدمت رسل الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دواد ملك الْيمن بهدية ومائتي جمل ومائتي جمال وخيول ووحوش وطيور فَفرق ذَلِك على الْأُمَرَاء الأكابر والأصاغر. وفيهَا اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن تَاج الدّين أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير فِي كتاب السِّرّ عوضا عَن شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْعمريّ فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْحجَّة وَنقل شرف الدّين إِلَى كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن أَخِيه محيي الدّين يحيى. وَكَانَ ابْن الْأَثِير قد توجه من مصر مَعَ السُّلْطَان هُوَ وجمال الدّين إِبْرَاهِيم بن المغربي فَلَمَّا أَقَامَ بالكرك خيرهما فاختارا الْإِقَامَة عِنْده فَلَمَّا عَاد إِلَى ملك مصر رعى لَهما ذَلِك وَأقر ابْن الْأَثِير فِي كِتَابَة السِّرّ وَابْن المغربي فِي رياسة الْأَطِبَّاء. وفيهَا أَخذ الْأَمِير قرا سنقر فِي التَّدْبِير لنَفسِهِ خوفًا من الْقَبْض عَلَيْهِ كَمَا قبض على غَيره واصطنع العربان وهاداهم وَصَحب سُلَيْمَان بن مهنا وأخاه وأنعم عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه مُوسَى حَتَّى صَار الْجَمِيع من أنصاره وَقدم عَلَيْهِ الْأَمِير مهنا إِلَى حلب وَأقَام عِنْده أَيَّامًا وأفضى إِلَيْهِ بسره وَأَنه خَائِف من السُّلْطَان وَأَوْقفهُ على كتاب السُّلْطَان بِالْقَبْضِ على مهنا وَأَنه لم يُوَافق على ذَلِك فَغَضب الْأَمِير مهنا وَأخذ يسكن مَا بقرًا سنقر وَانْصَرف وَقد اشْتَدَّ غَضَبه. وَبعث قرا سنقر يسْأَل السُّلْطَان فِي الْإِذْن لَهُ بِالسَّفرِ إِلَى الْحَج فَأذن لَهُ فِي الْحَج وَقد سر أَنه بِخُرُوجِهِ من حلب يقدر على أَخذه وَبعث إِلَيْهِ بألفي دِينَار وخلعة. وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير مهنا يطْلب مِنْهُ فرسا عينه وَأَن يحضر إِلَى مصر لزيارته - وَكَانَ قد بلغه اجْتِمَاع مهنا بقرًا سنقر. فدبر أمرا يعمله مَعَه أَيْضا - فَبعث مهنا الْفرس وَأعَاد الْجَواب. وجهز قرا سنقر حَاله. وَخرج من حلب(2/472)
فِي نصف شَوَّال وَمَعَهُ أَرْبَعمِائَة مَمْلُوك واستناب الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي وَترك عدَّة مماليكه بحلب لحفظ حواصله. فَلَمَّا قدم الْبَرِيد بمسيره من حلب كتب لقرطاي بالاحتراس وَألا يُمكن قرا سنقر من حلب إِذا عَاد ويحتج عَلَيْهِ بإحضار مرسوم السُّلْطَان بتمكينه من ذَلِك وَكتب إِلَى نَائِب دمشق ونائب غَزَّة ونائب الكرك وَإِلَى بني عقبَة بِأخذ الطَّرِيق على قرا سنقر فَقدم الْبَرِيد بِأَنَّهُ سلك الْبَريَّة على صرخد إِلَى زيزاء. ثمَّ كثر وهمه وَاشْتَدَّ خَوفه من السُّلْطَان لوُرُود الْخَبَر من ثقاته بِمصْر بِمَا عزم عَلَيْهِ السُّلْطَان وَمَا كتب بِهِ فَعَاد من غير الطَّرِيق الَّتِي سلكها. ففات أهل الكرك الْقَبْض عَلَيْهِ وَكَتَبُوا بالْخبر إِلَى السُّلْطَان فشق عَلَيْهِ ذَلِك وَكتب بكشف أخباره وَكتب إِلَى حلب بِمَنْعه مِنْهُمَا وَمنع مماليكه من الْخُرُوج إِلَيْهِ وَإِن وجدت فرْصَة تقبض عَلَيْهِ قدم قرا سنقر ظَاهر حلب قبل قدوم مَا كتب بِهِ السُّلْطَان. فَمَنعه قرطاي من الدُّخُول وعوق من بحلب من مماليكه عَن الْخُرُوج إِلَيْهِ فَسقط فِي يَده ورحل وَكتب إِلَى الْأَمِير مهنا بِمَا جرى لَهُ فَكتب مهنا إِلَى قرطاي بِأَن يخرج حواصل قرا سنقر إِلَيْهِ وَإِلَّا هجم على مَدِينَة حلب وَأخذ مَاله قهرا. فخاف قرطاي من ذَلِك وجهز كِتَابه إِلَى السُّلْطَان فِي طي كِتَابه وَبعث بِشَيْء من حواصل قرا سنقر إِلَيْهِ مَعَ الْأَمِير عز الدّين فرج بن قرا سنقر. وَانْصَرف قرا سنقر عَن حلب وَقصد الْبَريَّة ثمَّ جهز وَلَده فرج ونائبه عبدون إِلَى الديار المصرية وَكَذَلِكَ جملَة من أَمْوَاله فَقدم فرج أَوَاخِر ذِي الْحجَّة وانعم السُّلْطَان عَلَيْهِ بإمرة عشرَة أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ مَعَ أَخِيه عَلَاء الدّين عَليّ بن قرا سنقر. وَقدم سُلَيْمَان بن مهنا إِلَى قرا سنقر وَأَخذه حَتَّى أنزلهُ فِي بَيت أمه واستجار بهَا من السُّلْطَان فَأَجَارَتْهُ. وَأَتَاهُ الْأَمِير مهنا وَأَوْلَاده وَقَامَ لَهُ بِمَا يَلِيق بِهِ وَكتب يعرف السُّلْطَان بنزول قرا سنقر فِي أبياته وَأَنه استجار بِأم سُلَيْمَان فَأَجَارَتْهُ وَسَأَلَ الْعَفو عَنهُ وَبعث بذلك أحد أَوْلَاده. فَلَمَّا سَافر ابْن مهنا من مصر أخرج السُّلْطَان تجريدة فِيهَا من الْأُمَرَاء حسام الدّين قرا لاجين الأستادار حسام الدّين لاجين الجاشنكير وعلاء الدّين مغلطاي المَسْعُودِيّ وشمس الدّين الدكز الأشرفي ولاجين الْعمريّ فِي مضافيهم من الطبلخاناه والعشراوات. ثمَّ أردفهم السُّلْطَان بتجريدة أُخْرَى فِيهَا الْأَمِير سيف الدّين قلى السِّلَاح دَار وَسيف الدّين وَآل ملك وجنكلي بن البابا وأمير حُسَيْن بن جندر فِي جمَاعَة(2/473)
من الخاصكية مثل أرغون الدوادار وأرقطاي وأيتمش وجغطاي والجاي الساقي وطقطاي الساقي. وكنب السُّلْطَان لنائب دمشق بتجريد كجكن وكتبغا الْحَاجِب بمضافيهما وَجعل مقدم هَذِه العساكر قرا لاجين الأستادار وَصَاحب السِّرّ والمشورة أرغون الدوادارة فَسَارُوا من دمشق يُرِيدُونَ جِهَة مهنا. فاستعد قرا سنقر وَكتب إِلَى الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب طرابلس يستدعيه إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ بالموافقة ووعده بالحضور إِلَيْهِ. وَكتب الأفرم إِلَى صهره الْأَمِير عز الدّين أيدمر الزردكاش بِدِمَشْق يَأْمُرهُ باستفساد من قدر عَلَيْهِ ولحاقه بِهِ وبقرا سنقر وجهز إِلَيْهِ خَمْسَة آلَاف دِينَار ليفرقها فِيمَن يستميله وَنزل الْعَسْكَر السلطاني حمص. فأرادا قرا سنقر مخادعة السُّلْطَان ليتسع لَهُ المجال وَكتب إِلَيْهِ مَعَ مَمْلُوكه وَكتب إِلَيْهِ مهنا مَعَ وَلَده بِالدُّعَاءِ وَالشُّكْر وَأَن قرا سنفر قد اخْتَار صرخد وسألا يَمِين السُّلْطَان بِالْوَفَاءِ وَإِخْرَاج مَا لقرا سنقر بحلب من المَال وتمكينه مِنْهُ. فَمر ابْن مهنا ومملوك قرا سنقر على حمص وَعرفا الْأَمِير قرا لاجين وأرغون الدوادار بِدُخُول قرا سنقر فِي الطَّاعَة وَأَنه عين صرخد. فَمشى ذَلِك عَلَيْهِمَا وكتبا مَعَهُمَا إِلَى السُّلْطَان بِمَعْنى ذَلِك. فانخدع السُّلْطَان أَيْضا وَكتب تَقْلِيد قرا سنقر بنيابة صرخد ورسم أَن يتَوَجَّه بِهِ إِلَيْهِ أيتمش المحمدي وَكتب لأيتمش بِأَن يُوصل الملطف إِلَى مهنا سرا وَأَن طقطاي يتَوَجَّه إِلَى حلب وَيخرج مَا لقرا سنقر بهَا من المَال ويسيره إِلَيْهِ. وأنعم السُّلْطَان على مَمْلُوك قرا سنقر بِأَلف دِينَار ووعده أَنه مَتى قَامَ على أستاذه حَتَّى يعود إِلَى الطَّاعَة أنعم عَلَيْهِ بإمرة وَأخرجه على الْبَرِيد هُوَ وَابْن مهنا. فسارا إِلَى حمص ودفعا كتب السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء وسارا بأيتمش إِلَى قرا سنقر فسر بِهِ وأنزله وَاحْتج بِأَنَّهُ لَا يتَوَجَّه إِلَى صرخد حَتَّى يَأْتِيهِ مَا لَهُ فِي حلب فتحيل أيتمش حَتَّى أوصل ملطف السُّلْطَان إِلَى مهنا فَأطلع عَلَيْهِ قرا سنقر. وَبينا هم فِي ذَلِك إِذْ قدمت أَمْوَال قرا سنقر الَّتِي كَانَت بحلب إِلَيْهِ فَإِن طقطاي توجه إِلَيْهَا وَبعث إِلَى قرا سنقر بِمَا كَانَ لَهُ فِيهَا فَمَا هُوَ إِلَّا أَن وصل مَاله بحلب إِذا بالأفرم قد قدم عَلَيْهِ أَيْضا من الْغَد وَمَعَهُ خَمْسَة أُمَرَاء طبلخاناه وَسِتَّة عشراوات فِي جمَاعَة من التركمان. وَقدم الزردكاش وَمَعَهُ الْأَمِير بلبان الدِّمَشْقِي وَالِي القلعة وبيبرس الحسامي فسر قرا سنقر بقدومهم. وَلما اسْتَقر بهم الْمنزل استدعوا أيتمش وعددوا عَلَيْهِ من قَتله السُّلْطَان من الْأُمَرَاء وَأَنَّهُمْ قد خَافُوا على أنفسهم وعزموا على الدُّخُول إِلَى بِلَاد التتر وركبوا بأجمعهم. فَعَاد أيتمش إِلَى الْأُمَرَاء بحمص وعرفهم الْخَبَر فَرَكبُوا عائدين إِلَى مصر بِغَيْر طائل وَوَقعت الحوطة على أَمْوَال الأفرم وَمن تبعه.(2/474)
وفيهَا أفرج عَن الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري وأنعم عَلَيْهِ بِخبْز الجاولي. وفيهَا ولي شمس الدّين غبريال كَاتب قرا سنقر نظر الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق والأوقاف عوضا عَن شرف الدّين ابْن صصري وَكَانَ غبريال لما خرج قرا سنقر من حلب قدم إِلَى مصر وسعى حَتَّى ولى ذَلِك. وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة: قدمت تقدمة الْيمن على الْعَادة فَقبلت. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر الْأَمِير بدر الدّين بكتوت الخازنداري - عرف بأمير شكار - نَائِب الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَت وَفَاته بعد عَزله فِي ثامن عشرى رَجَب بِالْقَاهِرَةِ وَأَصله من مماليك الْأَمِير بيليك الخازندار نَائِب السلطنة بِمصْر فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة وتنقل حَتَّى اشْتهر فِي الْأَيَّام العادلية كتبغا وَصَارَ أَمِير شكار ثمَّ ولى الْإسْكَنْدَريَّة وَكثر مَاله واختص بيبرس وسلار فَلَمَّا عَاد الْملك النَّاصِر إِلَى السلطنة حضر وَحسن للسُّلْطَان حفر خليج الْإسْكَنْدَريَّة ليستمر المَاء فِيهِ دَائِما فندب مَعَه الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن كيدغوي الْمَعْرُوف بِابْن الوزيري وَفرض الْعَمَل على سَائِر الْأُمَرَاء فَأخْرج كل مِنْهُم أستاداره وَرِجَاله وَركب وُلَاة الأقاليم. وَوَقع الْعَمَل من رَجَب سنة عشر وَسَبْعمائة فَكَانَ فِيهِ نَحْو الْأَرْبَعين ألف راجل تعْمل وَقد قسم بالأقصاب على الْأُمَرَاء والولاة وحفر كل أحظ مَا حد لَهُ فَكَانَ قِيَاس الْعَمَل من فَم الْبَحْر إِلَى شنبار ثَمَانِيَة آلَاف قَصَبَة وَمثلهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَكَانَ الخليج الْأَصْلِيّ من حد شنبار يدْخل المَاء فَجعل فَم هَذَا الْبَحْر يَرْمِي إِلَيْهِ وَعمل عمقه سِتّ قصبات فِي عرض ثَمَانِي قصبات. فَلَمَّا وصل الْحفر إِلَى حد الخليج الأول حفر بِمِقْدَار الخليج المستجد وَجعل بحراً وَاحِدًا وَركب عَلَيْهِ القناطر. وَوجد فِي الخليج من الرصاص الْمَبْنِيّ تَحت الصهاريج شَيْء كثير فأنعم بِهِ على بكتوت هَذَا. فَلَمَّا فرغ أنشأ النَّاس عَلَيْهِ أَرَاضِي وسواقي واستجدت عَلَيْهِ قَرْيَة عرفت بالناصرية فَبلغ مَا أنشئ عَلَيْهِ زِيَادَة على مائَة ألف فدان وَنَحْو سِتّمائَة ساقية وَأَرْبَعين قَرْيَة وسارت فِيهِ المراكب الْكِبَار وَاسْتغْنى أهل الثغر عَن خزن المَاء فِي الصهاريج وَعمر عَلَيْهِ نَحْو ألف غيط وعمرت بِهِ عدَّة بِلَاد. وتحول النَّاس حَتَّى سكنوا مَا عمر من الْأَرَاضِي على الخليج فَصَارَ بَعْدَمَا كَانَ سباخاً سواقي الْقصب والقلقاس والسمسم وَغَيره. فَلَمَّا تمّ ذَلِك أنشأ بكتوت من مَاله جِسْرًا أَقَامَ فِيهِ نَحْو ثَلَاثَة أشهر حَتَّى بناه رصيفا وَاحِدًا نَحْو(2/475)
ثَلَاثَة أشهر حَتَّى بناه رصيفاً وَاحِدًا نَحْو الثَّلَاثِينَ قنطرة بناها بِالْحِجَارَةِ والكلس وَعمل أساسه رصاصاً وَأَنْشَأَ بجانبه خَانا وحانوتاً وَعمل فِيهِ خفراء وأجرى لَهُم رزقة فبلغت النَّفَقَة عَلَيْهِ نَحْو سِتِّينَ ألف دِينَار. وأعانه على ذَلِك أَنه هدم قصراً قَدِيما خَارج الْإسْكَنْدَريَّة وَأخذ حجره وَوجد فِي أساسه سرباً من رصاص مَشوا فِيهِ إِلَى قرب الْبَحْر المالح فَحصل منهه جملَة عَظِيمَة من الرصاص. ثمَّ إِنَّه شجر مَا بَينه وَبَين صهره فسعى بِهِ إِلَى السُّلْطَان وأغراه بأمواله وَكتب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام - وَهُوَ مُسْتَوْفِي الدولة - عَلَيْهِ أوراقاً بمبلغ مائَة ألف دِينَار فَطلب إِلَى الْقَاهِرَة. وَلما قُرِئت عَلَيْهِ الأوراق قَالَ: قبلوا الأَرْض بَين يَد السُّلْطَان وعرفوه عَن مَمْلُوكه أَنه إِن كَانَ رَاضِيا عَنهُ فَكل مَا كتب كذب وَإِن كَانَ غير رَاضِيا فَكل مَا كتب صَحِيح. وَكَانَ قد وعك فِي سَفَره من الْإسْكَنْدَريَّة فَمَاتَ بعد لَيَال فِي ثامن عشر رَجَب وَأخذ لَهُ مَال عَظِيم جدا وَكَانَ من أَعْيَان الْأُمَرَاء وكرمائهم وشجعانهم مَعَ الذكاء والمروءة والعصبية وَله مَسْجِد خَارج بَاب زويلة وَله عدَّة أوقاف على جِهَات بر. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنقر شاه الظَّاهِرِيّ مَاتَ بِدِمَشْق. وَمَات الْوَزير فَخر الدّين عمر بن عبد الْعَزِيز الْحُسَيْن بن الْحَنْبَلِيّ التَّمِيمِي وَهُوَ مَعْزُول لَيْلَة عيد الْفطر وَدفن بالقرافة ومولد فِي سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ كَرِيمًا جواداً. وَمَات مجد الدّين عِيسَى بن عمر بن خَالِد بن الخشاب المَخْزُومِي الشَّافِعِي وَكيل بَيت المَال فِي ثامن ربيع الأول بِالْقَاهِرَةِ دفن بالقرافة وَكَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء وَولى الْحِسْبَة فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون وَصَحب الشجاعي وأضاف لَهُ قلاوون وكَالَة بَيت المَال ووكالة السُّلْطَان وعدة مباشرات فعظمت مهابته وعيب عَلَيْهِ مجونه وعزله وَكَثْرَة اجتماعه بالشجاعي ومعاشرته لَهُ وَكَانَ الْوَزير ابْن الخليلي يبكته بذلك وَكَانَ لَا يكْتب فِي أخر كتبه سوى: حَسبنَا الله فَقَط من غير وَنعم الْوَكِيل وَسُئِلَ أَن يكْتب وَنعم الْوَكِيل فَأبى. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد بن مَسْعُود بن زيد الْحَارِثِيّ الْحَنْبَلِيّ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة وَدفن بالقرافة وَسمع وَخرج وصنف وَصَارَ من الْأَئِمَّة الْحفاظ وَكتب على سنَن أبي دادو قِطْعَة. وَمَات الشَّيْخ صَالح مُحَمَّد العربان فِي ثامن عشر رَجَب. وَمَات شرف الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن شرِيف بن يُوسُف بن الوحيد الزرعي فِي(2/476)
يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر شعْبَان بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ يكْتب فِي التوقيع وَله معرفَة بالإنشاء وَبلغ الْغَايَة فِي جودة الْكِتَابَة وانتفع النَّاس بِالْكِتَابَةِ عَلَيْهِ وَكَانَ فَاضلا شجاعاً مقداماً لسناً متكلماً يَرْمِي فِي دينه بالعظائم وَيعرف عدَّة لُغَات وَله نظم ونثر. وَمَات الطَّبِيب شرف الدّين عبد الله بن أَحْمد بن أبي الحوافر رَئِيس الْأَطِبَّاء فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث عشرى شَوَّال وَدفن بالقرافة وَكَانَ دينا فَاضلا رَضِي الْأَخْلَاق ماهراً فِي علم الطِّبّ. وَمَات التَّاج عبد الرَّحْمَن الطَّوِيل القبلي الْأَسْلَمِيّ نَاظر الدَّوَاوِين فِي ثَانِي عشرى ذِي الْقعدَة وَقد انْتَهَيْت إِلَيْهِ معرفَة الْكِتَابَة الديوانية وَكَانَ إِسْلَامه فِي الْأَيَّام الأشرفية وَله صدقَات كَثِيرَة. وَمَات القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين على بن مخلوف الْمَالِكِي لَيْلَة الْخَمِيس حادي عشر ذِي الْحجَّة وَكَانَ يَنُوب عَن أَخِيه بالقاهر فِي الحكم ورسم لَهُ باستقلال بوظيفة الْقَضَاء بعد أَبِيه فَمَاتَ فِي حَيَاته وَكَانَ من النجباء. وَمَات جمال الدّين أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن الشَّيْخ جلال الدّين المكرم بن عَليّ فِي ثَالِث عشرى الْمحرم عَن بضع وَثَمَانِينَ سنة وَدفن بالقرافة وَكَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وروءساء الْقَاهِرَة وأماثل كتاب الْإِنْشَاء وَمن رُوَاة الحَدِيث. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد ابْن يُوسُف الْجَزرِي الشَّافِعِي خطيب جَامع ابْن طولون وَكَانَ يعرف بالمحوجب وَكَانَ عَارِفًا بالفقه وَالْأُصُول ودرس بالمعزية بِمصْر. وفيهَا قتل متملك تونس الْأَمِير أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فِي جُمَادَى الأولى فَكَانَت مدَّته نَحْو عَاميْنِ وَقدم الْأَمِير أَبُو يحيى زَكَرِيَّا اللحياني منطرابلس، فَملك تونس بعده.(2/477)
فارغة(2/478)
(سنة اثْنَتَيْ عشر وَسَبْعمائة)
فِيهَا انْتَهَت عمَارَة الْجَامِع الْجَدِيد الناصري بساحل مصر فَنزل السُّلْطَان إِلَيْهِ ورتب فِيهِ قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِيَّة خَطِيبًا ورتب فِيهِ أَرْبَعِينَ صوفياً فِي سطحه وَأَرْبَعين صوفياً بداخله ورتب لكل مِنْهُم الْخبز وَاللَّحم فِي الْيَوْم. ومبلغ خَمْسَة عشر درهما فِي الشَّهْر وَجعل شيخهم قوام الدّين الشِّيرَازِيّ ووقف السُّلْطَان عَلَيْهِ قيسارية العنبر بِالْقَاهِرَةِ وَعمر لَهُ ربعا وحماماً وَأقَام لَهُ خَطِيبًا. وَأول صَلَاة صليت بِهِ ظهر يَوْم الْخَمِيس ثامن صفر بإمامة الْفَقِيه تَاج الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن الشَّيْخ مرهف وخطب فِيهِ من الْغَد يَوْم الْجُمُعَة تاسعه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة. فحكر النَّاس حوله وبنوا الدّور وَغَيرهَا. وَقدم الْبَرِيد من حلب بعبور قرا سنقر وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء إِلَى بِلَاد التتر وَأَنَّهُمْ بعثوا بأولادهم وحريمهم إِلَى مصر. وَكَانَ من خبرهم أَنهم لما وصلوا إِلَى الرحبة انْقَطع كثير مِمَّن تَبِعَهُمْ من المماليك والتركمان فَبعث قرا سنقر وَلَده الْأَمِير فرج وَبعث الأفرم وَلَده مُوسَى مَعَ بعض من يوثق بِهِ وأمرا بتقبيل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان وَأَن يبلغاه أَن الْأُمَرَاء مَا حملهمْ على دُخُول بِلَاد الْعَدو إِلَّا الْخَوْف وَأَن الْأَوْلَاد والحريم وداعه فَلْيفْعَل السُّلْطَان مَعَهم مَا يَلِيق بِهِ فَقدما إِلَى الْقَاهِرَة وبقيا فِي الْخدمَة. وَسَار الْأُمَرَاء إِلَى ماردين وَكَتَبُوا إِلَى خربندا بقدومهم فَبعث أكَابِر الْمغل إِلَى لقائهم وَتقدم إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بخدمتهم وَالْقِيَام لَهُم. بِمَا يَلِيق بهم. فَلَمَّا قاربوا الأرد وَركب خربندا وتلقاهم وترجل لَهُم لما ترجلوا لَهُ وَبَالغ فِي إكرامهم وَسَار بهم إِلَى مخيمه وأجلسهم مَعَه على التخت وَضرب لكل مِنْهُم خركاه ورتب لَهُم الرَّوَاتِب السّنيَّة. ثمَّ استدعاهم بعد يَوْمَيْنِ واختلا بقرًا سنقر فَحسن لَهُ عبور الشَّام وَضمن لَهُ تَسْلِيم الْبِلَاد بِغَيْر قتال ثمَّ خلا بالأفرم فَحسن لَهُ أَيْضا أَخذ الشَّام إِلَّا أَنه خيله من قُوَّة السُّلْطَان وَكَثْرَة عساكره. فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر وأقطع همذان للأفرم واستمروا هَكَذَا. وَفِي يَوْم الْأَحَد عَاشر ربيع الأول: قبض السُّلْطَان على القَاضِي فَخر الدّين مُحَمَّد ابْن فضل الله نَاظر الْجَيْش وعَلى وَلَده شمس الدّين: وَسبب ذَلِك مُفَاوَضَة حصلت بَينه وَبَين(2/479)
فَخر الدّين أياز الشمسي مشد الدَّوَاوِين اشتط فِيهَا القَاضِي على الْفَخر أياز الشمسي وأهانه فَاجْتمع أياز بالدواوين وعرفهم مَاله من الْأَمْوَال والدواليب فِي أَعمال مصر وَاجْتمعَ بالسلطان وأغراه بِهِ وَالْتزم لَهُ أَن يستخلص مِنْهُ ألف دِرْهَم فأعجبه ذَلِك ومكنه مِنْهُ فَاشْتَدَّ بأسه حِينَئِذٍ وَجلسَ على بَاب القلعة وَفتح مَعَ الْفَخر بَاب شَرّ وَأَغْلظ فِي القَوْل بِحَضْرَة الْأُمَرَاء إِلَى أَن قَالَ لَهُ: أَنْت كسرت معاملات السُّلْطَان وَخَربَتْ بِلَاده وَأخذت أَرَاضِي الْخَاص عملتها لَك رزقا ثمَّ نَهَضَ وَقَالَ: أَنا بِاللَّه وبالسلطان وَدخل وَالْفَخْر خَلفه حَتَّى وَقفا بَين يَدي السُّلْطَان فَبسط أياز لِسَانه وحانق الْفَخر على عدَّة فُصُول حَتَّى غضب السُّلْطَان قَالَ لَهُ: تسلمه وَخذ مَالِي مِنْهُ فَأَخذه إِلَى قاعة الصاحب وَكتب أياز إِلَى الْأَعْمَال بالحوطة على مواشيه وزراعاته وسواقي أقصابه وَغير ذَلِك وأحيط بموجوده فِي الْقَاهِرَة ومصر وتتبعت حَوَاشِيه فَلم يطق الْفَخر مَا هُوَ فِيهِ من الْبلَاء مَعَ أياز وَبعث إِلَى طغاي وكستاي وَإِلَى الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الأحمدي أَمِير جاندار فتحدثوا فِي أمره مَعَ السُّلْطَان على أَن ينْقل إِلَى بيبرس الأحمدي وَأَنه يحمل جَمِيع مَاله وَلَا يدع مِنْهُ شَيْئا فتسلمه لبيبرس أَمِير جاندار من أياز. وفيهَا كتب بِطَلَب قطب الدّين مُوسَى بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن شيخ السلامية نَاظر الْجَيْش بِدِمَشْق على الْبَرِيد فَحَضَرَ وَاسْتقر عوضا عَن الْفَخر فِي نظر الْجَيْش. وَتمكن أياز من حَاشِيَة الْفَخر وَضرب جمَاعَة مِنْهُم بالمقارع وَأخذ سَائِر موجودهم وَحمل الْفَخر نَحْو الْخَمْسمِائَةِ ألف دِرْهَم. ثمَّ أفرج السُّلْطَان عَنهُ وَعَن وَلَده وخلع عَلَيْهِمَا فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشرى ربيع الآخر وَاسْتقر الْفَخر عوضا عَن معِين الدّين هبة الله ابْن حشيش صَاحب ديوَان الْجَيْش. وَلم يوفق ابْن شيخ السلامية وارتبك فِي الْمُبَاشرَة بِحَيْثُ أَن السُّلْطَان كَانَ إِذا سَأَلَهُ عَن كشف بلد وَفِي حادي عشرى ربيع الأول: ولى قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَابِلَة بِالْقَاهِرَةِ ومصر تَقِيّ الدّين أَحْمد بن عز الدّين عمر بن عبد الله الْمَقْدِسِي عوضا عَن سعد الدّين مَسْعُود الْحَارِثِيّ.(2/480)
وَفِي سادس ربيع الآخر: أَمر السُّلْطَان مِمَّن مماليكه سِتَّة وَأَرْبَعين أَمِيرا مِنْهُم طبلخاناه تِسْعَة وعشراوات سَبْعَة عشر وألوف عشرُون وشقوا الْقَاهِرَة بالشرابيش وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما. وفيهَا قدم الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى الشَّام فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي ربيع الآخر وطلع الْأُمَرَاء إِلَى القلعة فَقبض على عدَّة من الْأُمَرَاء لميلهم إِلَى قرا سنقر: مِنْهُم جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك - وَكَانَ قد حضر من دمشق وخلع عَلَيْهِ - وبيبرس المنصوري نَائِب السلطنة بِمصْر وسنقر الكمالي ولاجين الجاشنكير وبينجار والدكز الأشرفي ومغلطاي المَسْعُودِيّ وسجنوا. وفيهَا اسْتَقر سودون الجمدار نَائِبا بحلب فِي ربيع الأول وتمر الساقي المنصوري فِي نِيَابَة طرابلس فِي ربيع الآخر. وفيهَا كتب بِطَلَب فضل أخي مهنا وَولده أبي بكر وسير إِلَيْهِ تَقْلِيد الإمرة عوضا عَن مهنا وَأَن مهنا لَا يُقيم بالبلاد وَخرج بذلك الْأَمِير بهاء الدّين أرسلان الدوادار. وفيهَا قبض أَيْضا فِي رَابِع ربيع الأول على بيبرس العلمي بحمص وعَلى الْأَمِير بيبرس الْمَجْنُون. والأمير علم الدّين سنجر البرواني والأمير طوغان المنصوري وبيبرس التاجي وقيدوا وحملوا من دمشق إِلَى الكرك وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير تنكر الناصري فِي نِيَابَة دمشق عوضا عَن الْأَمِير جمال الدّين نَائِب الكرك مستهل ربيع الآخر وَسَار على الْبَرِيد يَوْم الْجُمُعَة سابعه فَدَخلَهَا يَوْم الْخَمِيس عشرى ربيع الآخر ورسم لَهُ أَلا يستبد بِشَيْء إِلَّا بعد الِاتِّفَاق مَعَ الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي والأمير حسام الدّين طرنطاي البشمقدار. وَفِي سادس عشر ربيع الآخر: أَمر السُّلْطَان فِي يَوْم وَاحِد سِتَّة وَأَرْبَعين أَمِير مِنْهُم طبلخاناه تِسْعَة وَعِشْرُونَ وعشراوات سَبْعَة عشر وشقوا الْقَاهِرَة بالشرابيش وَالْخلْع. وَفِي يَوْم الأثنين أول جُمَادَى الأولى: اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين أرغون الدوادار الناصري نَائِب السلطنة عوضا عَن بيبرس الدوادار المنصوري. ورسم بنيابة صفد لبلبان طرنا أَمِير جاندار عوضا عَن بهادر آص وَأَن يرجع بهادر إِلَى دمشق أَمِيرا على عَادَته فسافر إِلَيْهَا. وَفِيه ركب السُّلْطَان إِلَى بر الجيزة وَأمر طقتمر الدِّمَشْقِي وقطلوبغا الفخري الْمَعْرُوف بالفول المقشر وطشتمر البدري حمص أَخْضَر. وفيهَا هدم السُّلْطَان الرفرف الَّذِي أنشأه أَخُوهُ الْأَشْرَف خَلِيل على يَد الشجاعي.(2/481)
وفيهَا ورد الْخَبَر فِي أول رَجَب بحركة خربندا وَسبب ذَلِك رحيل مهنا إِلَيْهِ عِنْد إِخْرَاج خبزه لِأَخِيهِ وإقامته عِنْده وتقوية عزمه على أَخذ الشَّام. وَكَانَ السُّلْطَان تَحت الأهرام بالجيزة فقوي عزمه على تَجْرِيد العساكر وَلم يزل هُنَاكَ إِلَى عَاشر شعْبَان فَعَاد إِلَى القلعة وَكتب إِلَى نواب الشَّام بتجهيز الإقامات. وَعرض السُّلْطَان الْعَسْكَر وَقطع جمَاعَة من الشُّيُوخ العاجزين عَن الرّكُوب وانفق فيهم الْأَمْوَال. وابتدأ الْعرض من خَامِس ربيع الآخر وكمل فِي أول جُمَادَى الأولى فَكَانَ السُّلْطَان يعرض فِي كل يَوْم أميرين بِنَفسِهِ من مقدمي الألوف ويخرجان بِمن مَعَهُمَا من الْأُمَرَاء ومقدمي الْحلقَة والأجناد وترحلوا شَيْئا بعد شَيْء. من أول رَمَضَان إِلَى ثامن عشريه حَتَّى لم يبْق بِمصْر أحد من الْعَسْكَر. وَخرج السُّلْطَان فِي ثَانِي شَوَّال وَنزل مَسْجِد تبر خَارج الْقَاهِرَة ورحل فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثالثه ورتب بالقلعة سيف الدّين أيتمش المحمدي. فَلَمَّا كَانَ ثامنه قدم الْبَرِيد برحيل التتار لَيْلَة سادس عشرى رَمَضَان من الرحبة وعودهم إِلَى بلادِهم بَعْدَمَا أَقَامُوا عَلَيْهَا من أول رَمَضَان فَفرق السُّلْطَان العساكر فِي قانون وعسقلان وعزم على الْحَج. وَدخل السُّلْطَان دمشق فِي تَاسِع عشره وَخرج مِنْهَا ثَانِي ذِي الْقعدَة إِلَى الكرك وَكَانَ قد أَقَامَ بِدِمَشْق أرغون النَّائِب للنَّفَقَة على العساكر وَغير ذَلِك من الْأَعْمَال وكلف الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام بِجمع المَال اللَّازِم. وَدخل السُّلْطَان الكرك فِي ثامن ذِي الْقعدَة وَتوجه إِلَى الْحجاز فِي أَرْبَعِينَ أَمِيرا. وفيهَا خرج الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام من الْقَاهِرَة يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشرى شَوَّال وَدخل دمشق وَأقَام بهَا بعد توجه السُّلْطَان ليحصل الْأَمْوَال فأوقع الحوطة على الْوَزير والمباشرين وطالب محيي الدّين بن فضل الله بِمَال كَبِير عمل بِهِ أوراقاً وَأَغْلظ عَلَيْهِ وأحاط بموجوده وتتبع حَوَاشِيه وصادر أَمِين الدّين أَكثر النَّاس. وَأما الْقَاهِرَة فَإِن الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن نقل من ولَايَة البهسنا إِلَى ولَايَة الْقَاهِرَة أَقَامَ الْأَمِير أيتمش المحمدي نَائِب الْغَيْبَة الْحُرْمَة وَمنع الأكابر من الْهِجْرَة وأنصف الضُّعَفَاء مِنْهُم. وَحج بالركب الْمصْرِيّ الْأَمِير مظفر الدّين قيدان الرُّومِي.(2/482)
وفيهَا اسْتَقر فِي نِيَابَة قلعة دمشق عز الدّين أَبِيك الجمالي عوضا عَن بلبان البدري ثمَّ كتب بِأَن يكون بلبان شَرِيكا لَهُ فباشرا جَمِيعًا. وفيهَا قدت هَدِيَّة الأشكري وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر ضِيَاء الدّين أَحْمد بن عبد الْقوي بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي الإسنائي الْمَعْرُوف بِابْن الْخَطِيب. الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَت وَفَاته ببلدة أدفو فِي شَوَّال وَهُوَ فِي الطَّرِيق إِلَى الْحَج فَحمل إِلَى سنا فَدفن بهَا. وَمَات تَاج الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي نصر الشِّيرَازِيّ محتسب دمشق وناظر الدَّوَاوِين بهَا فِي رَجَب عَن بضع وَخمسين سنة. وَمَات عماد الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد بن سرُور الْمَقْدِسِي الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ فِي جُمَادَى الْآخِرَه بِمصْر ومولده بِبَغْدَاد سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة. وَمَات زين الدّين حسن بن عبد الْكَرِيم بن عبد السَّلَام الغماري الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد الْمَالِكِي سبط زِيَادَة بن عمرَان وَكَانَت وَفَاته فِي شَوَّال بِمصْر قَرَأَ الْقُرْآن وَكَانَ خيرا فَاضلا. وَمَات نور الدّين على بن نصر الله بن عمر الْقرشِي - الْمَعْرُوف بِابْن الصَّواف - الْخَطِيب الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي رَجَب بِمصْر. وَمَات أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن هَارُون ابْن مُحَمَّد بن هَارُون الثَّعْلَبِيّ الدِّمَشْقِي - قَارِئ المواعيد - الْفَاضِل الصَّالح فِي ربيع الآخر بِمصْر عَن سِتّ وَثَمَانِينَ سنة وَمَات نور الدّين أَحْمد بن الشَّيْخ شهَاب الدّين عبد الرَّحِيم ابْن عبد عز الدّين بن عبد الله بن رَوَاحَة الْأنْصَارِيّ الْحَمَوِيّ بحماة وَكَانَ فَاضلا دينا وَمَات الْملك الْمَنْصُور نجم الدّين غَازِي بن الْمَنْصُور نَاصِر الدّين أرتق بن إيلغازي بن البن بن تمر تاس بن ايلغازي بن أرتق الأرتقي صَاحب ماردين فِي تَاسِع رَجَب وَكَانَت إمرته نَحْو عشْرين سنة وَكَانَ مهاباً فَقَامَ بعده ابْنه الْملك الْعَادِل عَليّ وَأقَام سَبْعَة عشر يَوْمًا ثمَّ ملك أَخُو الْملك الصَّالح شمس الدّين بن الْملك الْمَنْصُور. وَمَات الْملك المظفر شهَاب الدّين غَازِي بن النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر رَجَب بِالْقَاهِرَةِ عَن نَيف(2/483)
وَسبعين سنة وَقد حدث وَمَاتَتْ امْرَأَته ابْنة عَمه الْملك المغيث بعده فحرجت الجنازتان مَعًا وَكَانَ قد حج وَقدم الْقَاهِرَة من طَرِيق الْقُدس بَعْدَمَا زَارَهُ ومولده بالكرك فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ دينا متواضعاً فَاضلا. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر الصَّالِحِي أَمِير آخور بِدِمَشْق عَن مَال كَبِير جدا مَاتَ شرف الدّين مُحَمَّد بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن خَلِيل الْقُدسِي فِي خَامِس عشر شعْبَان بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ يُبَاشر التوقيع فِي الْإِنْشَاء وَيكْتب الْخط الْمليح وَيَقُول الشّعْر ويغلب عَلَيْهِ الهجاء مَعَ تفننه فِي عُلُوم كَثِيرَة. وَمَات تَاج الدّين عبد الرَّحِيم بن تَقِيّ الدّين عبد الْوَهَّاب بن الْفضل بن يحيي السنهوري فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر ربيع الآخر وباشر نظر النظار بديار مصر سِتِّينَ سنة وَعرضت عَلَيْهِ الوزارة غير مرّة فأباها وَكَانَ أَمينا كثير الْخَيْر وَلم ينكب قطّ وعاش مائَة وتسع سِنِين عزل قبل مَوته. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن دَاوُد بن حَازِم الْأَذْرَعِيّ الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق وَهُوَ مَعْزُول. وَمَات الشَّيْخ عمر بن الشَّيْخ أبي عبد الله بن النُّعْمَان بِمصْر يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشرى رَمَضَان. وَمَات شهَاب الدّين غَازِي بن أَحْمد الوَاسِطِيّ بحلب فِي ثامن عشر ربيع الآخر ولى نظر الدَّوَاوِين بِمصْر مُدَّة ثمَّ نقل إِلَى نظر حلب وَولي نظر دمشق وَنظر الصُّحْبَة وَكتب بديوان الْإِنْشَاء مُدَّة. وَمَات الْفَقِيه نجم الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْفَقِيه جمال الدّين عبد الْعَزِيز بن أَحْمد ابْن عمر بن جَعْفَر بن اللهيب فِي خَامِس عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات بطرابلس الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي البهائي وَقد رسم بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَمَاتَ قبل وُصُول الْبَرِيد بِيَوْم.(2/484)
سنة ثَالِث عشرَة وَسَبْعمائة فِي أول الْمحرم: قدم الْأَمِير سيف الدّين قجليس من الْحجاز إِلَى الْقَاهِرَة مبشرا بِعُود السُّلْطَان. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشره: قدم السُّلْطَان من الْحجاز إِلَى دمشق بعد دُخُوله إِلَى الْمَدِينَة لنبوية وتوجهه على الكرك وَكَانَ دُخُوله إِلَى دمشق يَوْمًا مشهوداً بلغت فِيهِ أجر الْبيُوت مبلغا زَائِدا حَتَّى إِن بَيْتا أخذت أجرته للنَّظَر إِلَى السُّلْطَان فِي مُدَّة من بكرَة النَّهَار إِلَى الظّهْر سِتّمائَة دِرْهَم. وَعبر السُّلْطَان وَهُوَ على نَاقَة وَعَلِيهِ لشت من ملابس الْعَرَب بلثام وَبِيَدِهِ حَرْبَة وَلعب يَوْم السبت فِي الميدان بالكرة. ثمَّ أَخذ فِي الإنعام على بعض رجال دولته فولى شمس الدّين عبد الله بن غبريال بن سعيد نظر دمشق على قَاعِدَة الوزراء وَكَانَ نَاظر الْبيُوت وَنقل الْأَمِير بدر الدّين بكتوت القرماني من شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق إِلَى نِيَابَة الرحبة عوضا عَن بدر الدّين مُوسَى الأزكشي. وخلع السُّلْطَان على الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا صحبته بالحجاز وعدتهم نَحْو الْأَرْبَعين أَمِيرا وَأَفْرج عَن المصادرين وَأعَاد الْفَخر إِلَى نظر الْجَيْش بديار مصر وَأعَاد قطب الدّين مُوسَى بن شيخ السلامية إِلَى نظر الْجَيْش بِدِمَشْق. وَصَارَ السُّلْطَان إِلَى مصر فِي سَابِع عشريه بعد أَن أَقَامَ بِدِمَشْق خَمْسَة عشر يَوْمًا وَصلى بالجامع الْأمَوِي الْجُمُعَة مرَّتَيْنِ. وَقدم قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر صفر وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وفيهَا نقل الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن فَخر الدّين عيسي التركماني من ولَايَة الجيزة إِلَى شدّ الدَّوَاوِين وَاسْتقر فَخر الدّين أياز الشمسي فِي شدّ الدَّوَاوِين بِدِمَشْق عوضا عَن القرماني وَاسْتقر كريم الدّين أكْرم بن الخطيري - كَاتب الْحميدِي - الْمَعْرُوف بكريم الدّين الصَّغِير فِي نظر الدَّوَاوِين رَفِيقًا لتقي الدّين أسعد كَاتب برلغي ابْن أَمِين الْملك مُسْتَوْفِي الْحَاشِيَة.(2/485)
وفيهَا ابْتَدَأَ السُّلْطَان بعمارة الميدان تَحت القلعة فاختطه من بَاب الإسطبل إِلَى نَحْو بَاب القرافة ووزع عمله على الْأُمَرَاء فنقلت جمَالهمْ الطين إِلَيْهِ حَتَّى امْتَلَأَ وغرس فِيهِ النّخل وَالْأَشْجَار وحفرت فِيهِ الْآبَار وَركبت عَلَيْهَا السواقي وأدير عَلَيْهِ سور من حجر وَبنى خَارجه حَوْض مَاء للسبيل. فَلَمَّا فرغت عِمَارَته لعب السُّلْطَان فِيهِ مَعَ الْأُمَرَاء بالكرة وخلع عَلَيْهِم وشملهم الإنعام الْكثير. وفيهَا اجْتمع الْقُضَاة فِي حادي عشر ربيع الآخر بالمدارس الصالحية بَين القصرين للنَّظَر فِي الشُّهُود وأقيم مِنْهُم جمَاعَة. وفيهَا عمل السُّلْطَان أَيْضا أَربع سواقي على النّيل تنقل المَاء وترميمه على المَاء الْجَارِي من النّيل إِلَى السُّور حَتَّى يصل إِلَى القلعة ورم السُّور وأزال شعثه فَكثر المَاء بقلعة الْجَبَل وَزَاد الْبِئْر الظَّاهِرِيّ المجاور لزاوية تَقِيّ الدّين رَجَب. بِأَن عمل عَلَيْهِ نقالة إِلَى بِئْر الإسطبل واهتم بِعَمَل مصَالح الجسور الَّتِي بالنواحي والترع. وفيهَا قبض على الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام فِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشرى جُمَادَى الأولى وألزم بِحمْل ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَذَلِكَ بسعي كريم الدّين الْكَبِير وَبدر الدّين بن التركماني. وَأغْرقَ السُّلْطَان بِهِ وَقيل لَهُ إِنَّه أَخذ مَالا كثيرا من المصادرين بِمصْر وَالشَّام. وفيهَا أبطلت الوزارة فَلم يل أحد بعد أَمِين الدّين وَنقل كريم الدّين أكْرم الصَّغِير من ديوَان الْجَيْش إِلَى نظر الدولة شَرِيكا للتقي أسعد بن أَمِين الْملك كَاتب برلغي كَمَا تقدم وَاسْتقر شرف الدّين الخيري كَاتب سلار والتاج إِسْحَاق الْموقف أَخُو الخيري مُسْتَوْفِي الدولة. فَانْفَرد كريم الدّين الْكَبِير بالتمكن من السُّلْطَان وَصَارَت الْأُمُور كلهَا منوطة بِهِ وَركب بجنيبين وخلع عَلَيْهِ أطلس بطرز زركش وَأشْهد على السُّلْطَان أَنه ولاه جَمِيع مَا ولاه الله تَعَالَى وكاتبه الْمُلُوك الْمُجَاورَة مثل مَا كاتبوا السُّلْطَان. وفيهَا أَخذ كريم الدّين الْكَبِير مَعَ السُّلْطَان فِي الْعَمَل على الْوَزير وأغراه بالأسعد غبريال كَاتب نَائِب السلطنة وَأَنه كثير الظُّلم وَأَنه نقل إِلَى أستاذه أموراً تضر الدولة وأغراه بِالْعلمِ كبيبه كَاتب منكلي بغا. وَمَا زَالَ كريم الدّين الْكَبِير بالسلطان حَتَّى سلم الأسعد إِلَى الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة ليخلص مِنْهُ المَال وَسلم الْعلم كبيبه إِلَيْهِ أَيْضا وَضَربا قُدَّام السُّلْطَان وَضرب مَعَهُمَا أَمِين الدّين بن الغنام بِالْعِصِيِّ إِلَّا غبريال فَإِنَّهُ ضرب بالمقارع. وأوقعت الحوطة على مَوْجُود غبريال وَسلم(2/486)
هُوَ وَأمين الدّين إِلَى شاد الدَّوَاوِين ورسم لمجد الدّين سَالم أَن يتَوَلَّى بيع موجودهما وَحمله إِلَى بَيت المَال فَأَقَامَ البيع نَحْو شهر. وَحمل من أَمِين الدّين نَحْو ثلاثماثة ألف دِرْهَم من ثمن الْمَبِيع وَلم يُوجد لَهُ نقد ألبته ثمَّ أفرج عَنهُ. وَأما غبريال فَإِن الخازن وَالِي الْقَاهِرَة عاقبه حَتَّى هلك بعد أُسْبُوع. وَمَا زَالَ أَمِين الدّين ملازماً لداره إِلَى يَوْم السبت تَاسِع عشرى ذِي الْحجَّة فاستدعى وأخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر نَاظر النظار عوضا عَن الصاحب ضِيَاء الدّين النشائي وَنقل النشائي إِلَى نظر الخزانة عوضا عَن سعد الدّين الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الأقفهسي بعد وَفَاته. وَلما اسْتَقر أَمِين الدّين فِي نظر النظار وَدخل عَلَيْهِ مجد الدّين سَالم ليهنه والمجلس غاص بِالنَّاسِ نظر أَمِين الدّين إِلَى الْحَاضِرين وَقَالَ: هَذَا القَاضِي مجد الدّين تفصل فِي حَقي. حَيْثُ كَانَ يتَوَلَّى أَمْرِي فِي بيع حواصلي وَبَاعَ حَتَّى زبادي المطبخ. فَالْتَفت إِلَيْهِ الْمجد على الْفَوْر وَكَانَ مقداماً جريئاً وَقَالَ لَهُ: يَا مَوْلَانَا أَنِّي والّه تفضلت عَلَيْك وأحسنت إِلَيْك غَايَة الْإِحْسَان وخدمتك أتم خدمَة وبعت من زبادي ونحاس وفرش بمبلغ ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَمَا تحدثنا فِي ظُهُور دِرْهَم وَلَا دِينَار بل سكتنا وَنحن سكُوت إِلَى الْآن. فَلم يجب أَمِين الدّين سوى بقول حَسبنَا الله. وفيهَا ولى السُّلْطَان الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن كندغدي بن الوزيري نِيَابَة دَار الْعدْل وَشد الْأَوْقَاف بِسَبَب قصَّة رفعت فِي الْأَوْقَاف. وَكَانَ ابْن الوزيري أَمينا حاد الْخلق عَارِفًا بالأمور. فباشر الْأَوْقَاف فِي دَاره يَوْم الثَّامِن من ربيع الأول. وَجلسَ ابْن الوزيري بدار الْعدْل فِي يَوْم السبت خَامِس عشرى ربيع الأول وَجلسَ الْقُضَاة الْأَرْبَعَة بَين يَدَيْهِ بدار الْعدْل وَرفعت إِلَيْهِ الْقَصَص وَصرف الْأُمُور وَطلب سَائِر مباشري الْأَوْقَاف وألزمهم بِعَمَل الْحساب مُدَّة عشْرين سنة بالأوقاف وَطلب موادع الحكم وتشدد عَلَيْهِم. فقلق الْقُضَاة من ذَلِك وسألوه الاغضاء عَن ذَلِك فتمادى فِي الطّلب وأخرق بعدة من المباشرين وضربهم لفساد حسابهم. فَقَامَ قَاضِي بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة فِي الْعَمَل عَلَيْهِ - وَكَانَ عَارِفًا بالسعي وَله فِي ذَلِك أياد وتراتيب - وَوَافَقَ رفاقه وَصَارَ إِلَى القَاضِي كريم الدّين الْكَبِير بِنَفسِهِ وترامى عَلَيْهِ ثمَّ اجْتمع بالفخر نَاظر الْجَيْش وبعلاء الدّين كَاتب السِّرّ وبعدة من الخاصكية وَمَا زَالَ بهم حَتَّى خيلوا السُّلْطَان من ابْن الوزيري أَنه شرس الْأَخْلَاق وَله أغراض فَاسِدَة وقصده إهانة الْقُضَاة وَأهل الْعلم وَحط أقدارهم وَقد كثر الدُّعَاء على لسلطان بِسَبَبِهِ. فَلَمَّا تكاثر ذكر ذَلِك لَدَى السُّلْطَان وبلغه عدَّة حكايات عَنهُ وَمنعه من التحدث فِي الْأَوْقَاف وَمن حِينَئِذٍ بَدَت عَدَاوَة ابْن جمَاعَة لفتح الدّين مُحَمَّد بن سيد(2/487)
النَّاس وَاشْتَدَّ الْأَمر بَينهمَا إِلَى أَن بلغ السُّلْطَان ذَلِك وتسلط الشهَاب أَحْمد بن عبد الدَّائِم الشارمساحي الشَّاعِر عَليّ ابْن جمَاعَة وهجاه بعدة قصائد بعثها إِلَيْهِ ورتب هُوَ وَابْن سيد النَّاس القصيدة الَّتِي أَولهَا: تري يسمع السُّلْطَان شكوى الْمدَارِس وعدتها سِتُّونَ بَيْتا فحبسه ابْن جمَاعَة بِسَبَبِهَا لِأَنَّهُ أقذع فِيهَا وشهرها فِي النَّاس إِلَى أَن قُرِئت على السُّلْطَان فَقَامَ أيدغدي شقير فِي حَقه وَأخرجه من السجْن. وَفِي يَوْم السبت ثَانِي جُمَادَى الأولى: اسْتَقر صدر الدّين بن المرحل فِي تدريس الزاوية المجدية بالجامع الْعَتِيق عوضا عَن جلالي الدّين على بن عبد الله العسلوجي بِحكم عَزله. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِعَة: أوفى النّيل وَهُوَ أخر أَيَّام النسيء قبل الْمُفْرد ثمَّ قدم الْمُفْرد بعد الْوَفَاء فِي يَوْم الْخَمِيس سادسه. وفيهَا عمل الروك بالبلاد الشامية وَندب لَهُ الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي نَائِب غَزَّة وَابْن معبد ومعين الدّين هبة الله بن حشيش نَاظر الْجَيْش بِالشَّام مَعَ مباشري ديوَان الجيوش بِمصْر. فَتوجه الجاولي إِلَى دمشق وأمام مَعَ الْأَمِير تنكر النَّائِب إِلَى أَن عملت أوراق بعبرة الْبِلَاد ومنحصلها وَمَا فِيهَا من إقطاع ووقف وَملك. وكمل ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة ونقلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة إِلَى سنة ثَلَاث عشرَة وجهزت الأوراق إِلَى السُّلْطَان فقرئت عَلَيْهِ فَكتب السُّلْطَان مثالات جَدِيدَة لأمراء دمشق وأجنادها ووفر عدَّة قطاعات وبلاد أدخلها فِي ديوَان الْخَاص وَزَاد إقطاع النيا وَكتب بلك مناشير سَار بهَا على الْبَرِيد الْأَمِير سيف الدّين قجليس حَتَّى فرقها على أَرْبَابهَا وَعَاد. وفيهَا تَوَجَّهت تجريدة إِلَى مَكَّة صُحْبَة الْأَمِير سيف الدّين طقصاي الناصري وَالِي قوص وَسيف الدّين بيدوا وعلاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ وصاروجا الحسامي وَتوجه دمشق سيف الدّين بلبان البدري مَعَ الركب وأضيف إِلَيْهِم عدَّة من الأجناد وَذَلِكَ بِسَبَب حميضة بن أبي نمي فَإِنَّهُ كثر ظلمه. وفيهَا قبض على الأميرين عز الدّين أيبك الرُّومِي المنصوري وركن الدّين بيبرس الأحمدي أَمِير جاندار فِي رَابِع عشرى رَمَضَان. وبسبب ذَلِك مُفَاوَضَة جرت بَين الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي شقير وَبَين أيبك الرُّومِي بِحَضْرَة الْأُمَرَاء على بَاب القلعة فِي انْتِقَال إقطاعات بَينهمَا خرجا فِيهَا عَن الْحَد. فَخرج الْأَمِير طغاي وهما فِي ذَلِك - (سقط: من صفحة 489 إِلَى 504)(2/488)
وَكَانَ يَعْنِي بأيدغدى حَتَّى قربه من السُّلْطَان - فشق عَلَيْهِ استطالة أيبك من أجل أَنه من أُمَرَاء البرجية وشجعانهم، وَمِمَّنْ عرف بالعفة. فَلَمَّا كَانَت خدمَة الْعَصْر بلغ السُّلْطَان مَا كَانَ بَينهمَا، فرسم بحملهما إِلَى ديوَان السُّلْطَان، وَمن تعين عَلَيْهِ شَيْء قَامَ بِهِ، وَأسر مَا أغراه بِهِ طغاي فِي نَفسه. ثمَّ قبض السُّلْطَان عَلَيْهِ وعَلى الأحمدى، وَبعث إِلَى الأحمدى مَعَ قجليس " بأنك وحشداشك اتفقتما على أَنه يتسلطن، فَبكى وَسَأَلَ الله إِن كَانَ مَا نقل عَنْهُمَا حَقًا أَنى يقسى قلب السُّلْطَان رق لَهُ، وَأمر بِهِ ففك قَيده، وأحضر وَأعْطى سَيْفه، وخلع عَلَيْهِ من سَاعَته، وَذَلِكَ فِي رَابِع عشرى شَوَّال. وفيهَا أرسل السُّلْطَان صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن المرحل على الْبَرِيد إِلَى الْأَمِير منهنا ليَرُدهُ إِلَى الطَّاعَة، فَإِنَّهُ حصل مِنْهُ حيف على التُّجَّار، وَقطع أَوْلَاده وعربانه الطرقات فَاجْتمع بِهِ ابْن المرحل قَرِيبا من الْعرَاق، وَمَا زَالَ بِهِ يعده برد إقطاعه ويرغبه إِلَى أَن أذعن، وَبعث مَعَه بِابْنِهِ مُوسَى، وجهز الْقود على الْعَادة صُحْبَة وَلَده سليم. فَقدم ابْن المرحل بمُوسَى بن مهنا فِي ربيع الآخر، وَأنزل مُوسَى فِي القاعة الأشرفية بالقلعة وَأكْرم إِكْرَاما زَائِدا، ثمَّ قدم الْقود، وأعيدت الإمرة لمهنا، وَزيد إقطاعه مبلغ مائى الف دِرْهَم؛ وأعيد إقطاع فضل إِلَيْهِ على عاداته قبل الإمرة. وفيهَا توجه السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد فِي ثامن عشرى رَجَب، وَنزل تَحت الأهرام بالجيزة، وَأظْهر أَنه يُرِيد الصَّيْد وَقصد أحد العربان، فَإِنَّهُ كثر قطعهم الطَّرِيق، وكسروا الْخراج. وَبعث السُّلْطَان عدَّة من الْأُمَرَاء حَتَّى أَمْسكُوا طَرِيق السويس وَطَرِيق الواحات، فضبط البرين على العربان، ثمَّ رَحل من منزلَة الأهرام بالجيزة، وَسَار إِلَى فرجوط. وَعَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة فِي يَوْم السبت عَاشر رَمَضَان، وَقد أَخذ كثيرا من العربان؛ وبعثهم مقيدين فِي المراكب إِلَى الْقَاهِرَة، فسجنوا واستعملوا فِي الجسور، وَقبض على مقداد بن شماس - وَكَانَ قد عظم مَاله حَتَّى بلغ عدد جواريه أَرْبَعمِائَة جَارِيَة، وعدة أَوْلَاده ثَمَانُون ولدا - وَقتل عدَّة كَثِيرَة من العربان، وَعَاد. فحبس (السُّلْطَان) مقدادا مُدَّة ثمَّ أفرج عَنهُ، وأنعم عَلَيْهِ بِمَال وغلال، وَكتب برد أَهله وَأَوْلَاده وعبيده إِلَيْهِ، وأنزله بالناصرية الَّتِي أَنْشَأَهَا خليج الْإسْكَنْدَريَّة، فَأَقَامَ مقداد هُنَاكَ، وَأَنْشَأَ للبيوت والسواقي والدواليب، وَعمر تِلْكَ الْجِهَات، بَقِي عقبه من بعده بهَا. وفيهَا ابتدئ بِعَمَل الْقصر الأبلق على الإسطبل فِي أول السّنة، فكمل فِي سَابِع عشر(2/489)
رَجَب. وَقصد السُّلْطَان أَن يحاكى بِهِ قصر الْملك الظَّاهِر بيبرس بطاهر دمشق، واستدعى لَهُ الصناع من دمشق، وَجمع صناع مصر، فكمل، وَأَنْشَأَ بجانبه جنينة. وَعمل السُّلْطَان عِنْده سماطا لِلْأُمَرَاءِ، وخلع عَلَيْهِم، وَحمل إِلَى كل أَمِير مائَة ألف دِينَار، وَإِلَى كل أَمِير طبلخاناه عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَلكُل مقدم حَلقَة خَمْسمِائَة دِرْهَم فَكَانَ جملَة مَا فرق فِي هَذَا المهم خَمْسمِائَة ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف دِرْهَم. وَصَارَ السُّلْطَان يجلس فِيهِ سَائِر الْأَيَّام، مَا عدا يومى الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَإِنَّهُ يجلس فيهمَا بالإيوان. وفيهَا أخرب السُّلْطَان مناظر اللوق بالميدان الظَّاهِرِيّ، وعملها بستانا، وأحضر إِلَيْهِ سَائِر أَصْنَاف الزراعات، واستدعى حولة الشَّام والمطعمين، فجَاء من أبدع الْبَسَاتِين، وَعرف أهل جَزِيرَة الْفِيل مِنْهُ صناعَة تطعيم الشّجر، واغتنوا بهَا. وفيهَا ركب السُّلْطَان إِلَى الجيزة، وَندب بدر الدّين بن التركماني لعمل جسورها وقناطرها، واستدعى المهندسين. فَأَنْشَأَ ابْن التركماني لكل بلد جِسْرًا متقنا وَعمل جِسْرًا من الْبَحْر إِلَى أمدنيار، وَخرج الْعَسْكَر جَمِيعه والأمراء بمضافيهم للْعَمَل فِي ذَلِك، فَكَانَ مهما عَظِيما، وَصَارَ السُّلْطَان يركب إِلَيْهِ كل قَلِيل حَتَّى كمل، وعمرت القناطر من حِجَارَة الْهَرم الصَّغِير، وَمن حجار القناطر الظَّاهِرَة الَّتِي تعرف بالأربعين قنطرة. وَأكْثر السُّلْطَان من العمائر، وَولى آقسنقر أَمِير آخور شاد العمائر، وأحضر العتالين من سَائِر الْبِلَاد الشامية، وأفرد للعمائر ديوانا بلغ مصروفه فِي كل يَوْم اثنى عشر ألف دِرْهَم إِلَى ثَمَانِيَة آلَاف، وَهِي أقل مَا كَانَ يصرف فِي الْيَوْم الْوَاحِد. وَأَنْشَأَ السُّلْطَان دَار الْبَقر الَّتِي كَانَت برسم بقر السواقي السُّلْطَانِيَّة، بِبَاب القلعة بجوار إسطبل الطَّوِيل، وَندب لذَلِك كريم الدّين الْكَبِير، فأنفق عَلَيْهَا مَا ينيف على ألف ألف دِرْهَم وَأَنْشَأَ دَارا للأمير سيف الدّين طاش تمر " حمص أَخْضَر " بحدرة اليقر، وَاشْترى لَهُ بُسْتَان ابْن المغربي بِجَزِيرَة الْفِيل بتسعين ألف دِرْهَم. فامتدت أَيدي النَّاس إِلَى الْعِمَارَة، وكأنما نُودي فِي النَّاس أَلا يبْقى أحد حَتَّى يعمر، وَذَلِكَ أَن النَّاس على دين ملكهم. وأنعم السُّلْطَان على الْأَمِير سيف الدّين طغاي دبار الْملك الْمَنْصُور قلاوون بِالْقَاهِرَةِ. وفيهَا ابْتَدَأَ النَّاس بعمارة نَاحيَة اللوق خَارج المقس، وَعمارَة أَرَاضِي بُسْتَان الخشاب فِيمَا بَين اللوق ومنشأة المهراني على النّيل. وفيهَا قدم الْبَرِيد بإجراء الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي عين مَاء إِلَى الْخَلِيل، وَأَنه عمر بِمَسْجِد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام عمائر حَسَنَة وَجعل عَلَيْهَا أوقافا.(2/490)
وفيهَا تسحب عَلَاء الدّين عَليّ بن الْأَمِير بدر الدّين بن المحسني إِلَى بِلَاد الغرب فِي نَحْو المئاتين، وَخرج الطّلب خَلفهم خَمْسَة أَيَّام فَلم يدركوا. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بقلة المَاء بهَا، وَقد عين أَهلهَا مَوَاضِع يساق فِيهَا المَاء حَتَّى يرْمى إِلَى نهر الساجور فَيصير نَهرا يجْرِي فِي الْمَدِينَة، وَأَن قِيَاسه من نهر قويق إِلَى الساجور أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ ألف ذِرَاع طولا فِي عمق ذراعين، وَأَنه كتب تَقْدِير المصروف على ذَلِك ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم، فأنعم من مَال السُّلْطَان الْخَاص بمبلغ مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم، ورسم لنائب حلب سيف الدّين سودى أَن يقوم من مَاله بمبلغ مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم؛ فَوَقع الْعَمَل فِي ذَلِك. وفيهَا قدم الْبري أَيْضا بامتناع مهنا من الْحُضُور. وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما حضر ولداه سُلَيْمَان ومُوسَى أنعم عَلَيْهِمَا إنعاما كثيرا، وَبعث إِلَيْهِ بعد مَجِيء الْقود بهدية، واستدعاه وحلفه. وَضمن سُلَيْمَان ومُوسَى إِحْضَار أَبِيهِمَا إِلَى مصر، وسافرا، ثمَّ خرج بعدهمَا الْأَمِير بهاء الدّين أرسلان الدوادار بِكِتَاب ليحلفه ويعده ويتلطف بِهِ ليحضر، فأوصله الْكتاب ورغبة فِي الْحُضُور، فَامْتنعَ من الْيَمين والحضور. فَاشْتَدَّ حنق السُّلْطَان مِنْهُ، ورسم أَن يخرج من عَسْكَر مصر ألف فَارس مَعَ الْأَمِير قجليس، وَمن عَسْكَر دمشق ألف فَارس مَعَ الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي. واستدعى السُّلْطَان فضل بن عِيسَى، وَأعَاد إِلَيْهِ الإمرة عوضا من مهنا، وَكتب إِلَى عرب بني كلاب وَآل مري وَآل فضل وَآل عَليّ بالركوب مَعَ العساكر، وَأخذ مهنا وَأَوْلَاده وإخراجهم من الْبِلَاد، فَوَقع الشُّرُوع فِي التجهز للسَّفر. وفيهَا سمل السُّلْطَان عَيْني عَلَاء الدّين عَليّ بن سعد الدّين الفارقي الْموقع، وكحلا بِسَبَب التزوير فِي المراسيم وَأَخذه على ذَلِك جملَة من المَال. وَفِي سادس عشرى ذِي الْقعدَة: قدمت رسل الْملك أزبك صَاحب سراي، ورسل الأشكري، فأنزلوا بمناظر الْكَبْش.
وَمَات فِي هَذِه السّنة
مِمَّن لَهُ ذكر أَبُو بكر بن مُحَمَّد - وَقيل عمر - بن تَقِيّ الدّين المشيع المصاتي الْجَزرِي،(2/491)
ولد بِجَزِيرَة ابْن عمر، وَعمل صناعَة المقصات، ثمَّ ولي وظائف بِدِمَشْق، وَمَات بِدِمَشْق عَن بضع وَثَمَانِينَ سنة، فِي لَيْلَة السبت حادي عشرى جُمَادَى الْآخِرَة؛ وَقَرَأَ النَّاس الْقرَاءَات بِمصْر وَالشَّام نَحْو خمسين سنة، وَقَرَأَ على الشَّيْخ عبد الصَّمد وَغَيره، وروى عَن ابْن الكواشي تَفْسِيره، وَكَانَ عَارِفًا بالقراءات دينا. وَمَات الْأَمِير ركن الدّين بيبرس المحمدي العديمي، فِي ذِي الْقعدَة بحلب، حدث عَن جمَاعَة. وَمَات عز الدّين عبد الْعَزِيز بن مَنْصُور التاجي الكولمي، بالإسكندرية فِي رَمَضَان، كَانَ أَبوهُ يَهُودِيّا من حلب يعرف بالحموي، فَأسلم وسافر ابْنه عبد الْعَزِيز هَذَا بِمَالِه وَهُوَ ببضاعة قيمتهَا أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار؛ وَكَانَ فِيهِ خير وبر، وَله صدقَات. وَمَات فَخر الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عُثْمَان التوزري الْحَافِظ، بِمَكَّة فِي ربيع الآخر، وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث والقراءات، وَجَاوَزَ عدَّة سِنِين. وَمَات عماد الدّين أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن فَخر الدّين عبد الْعَزِيز بن قَاضِي الْقُضَاة عماد الدّين عبد الرَّحْمَن بن السكرِي الشَّافِعِي، خطيب الْجَامِع لحاكمي بِالْقَاهِرَةِ، ودرس المشهد الْحُسَيْنِي بهَا، فِي سادس عشرى صفر يَوْم الْجُمُعَة، ومولده فِي خَامِس عشرى الْمحرم سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَهُوَ الَّذِي توجه فِي الرسَالَة إِلَى غازان، فولى خطابة الْجَامِع الحاكمي وتدريس منَازِل الْعِزّ بعده القَاضِي تَاج الدّين الْمَنَاوِيّ الشَّافِعِي، وَولي تدريس المشهد الْحُسَيْنِي صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن المرحل. وَمَات مجد الدّين مُحَمَّد بن حَمْزَة بن معد الفرجوطي بِمَدِينَة فرجوط، وَله شعر. وَمَات قطب الدّين يُوسُف بن أصيل الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الْعَوْفِيّ الأسفردي، خطيب جَامع الصَّالح خَارج بَاب زويلة، فَجْأَة لَيْلَة السبت عشرى رَجَب، وَاسْتقر عوضه الشَّيْخ زين الدّين عمر بن يُونُس الكتاني. وَمَات الشَّيْخ تَاج الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن همام الْعَسْقَلَانِي، إِمَام جَامع الصَّالح، لَيْلَة السبت حادي عشرى شعْبَان، ومولده فِي رَابِع عشرى ربيع الآخر سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وَاسْتقر عوضه ابْنه تَقِيّ الدّين مُحَمَّد. وَمَات الْأَمِير جمال الدّين آقوش الكنجي مُتَوَلِّي قلاع الإسماعيلية بقلعة مصياب،(2/492)
وَكَانَ قد وَليهَا من الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة، وعزل فِي الْأَيَّام المنصورية، ثمَّ أُعِيد وعزل فِي الْأَيَّام الأشرفية، ثمَّ أُعِيد، وَكَانَ مُطَاعًا فيهم بحث إِنَّه إِذا أَمر بقتل نَفسه يُبَادر لذَلِك. وَمَات صدر الدّين مُحَمَّد بن البارنباري يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشرى شعْبَان. وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عماد الدّين يحيى بن الرّفْعَة، مُرْتَفع يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرى ربيع الآخر. وَمَات جمال الدّين بن الْمجد مُسْتَوْفِي ديوَان المماليك فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة، وَاسْتقر عوضه أَمِين الدّين بن الْخطاب. وَمَات الشَّيْخ أَمِين الدّين بن الصعبي، يَوْم الْأَحَد عشرى ذِي الْحجَّة. وَمَات الْفَقِيه زكي الدّين البهنسي، فِي شهر رَمَضَان. وَمَات الشَّيْخ الرشيد، فِي سلخ رَجَب برباط الأفرم، وَكَانَ يَلِي مشيخته.(2/493)
صفحة فارغة(2/494)
سنة أَربع عشر وَسَبْعمائة
مستهل الْمحرم: وَافقه حادي عشرى برمودة. فِيهِ اخضر مَاء النّيل، وَتغَير لَونه تغيرا زَائِدا عَن الْعَادة، وَتغَير طعمه وريحه أَيْضا، وَجَرت الْعَادة أَن يكون فِي هَذِه الْأَيَّام فِي غَايَة الصفاء. وَفِي نصف الْمحرم: اتّفق أَنه كَانَ لِلنَّصَارَى مُجْتَمع بالكنيسة الْمُعَلقَة بِمصْر، واستعاروا من قناديل الْجَامِع الْعَتِيق جملَة. فَقَامَ فِي إِنْكَار ذَلِك الشَّيْخ نور الدّين عَليّ بن عبد الْوَارِث الْبكْرِيّ، وَجمع من البكرية وَغَيرهم خلائق، وَتوجه إِلَى الْمُعَلقَة وهجم على النَّصَارَى وهم فِي مجتمعهم وقناديلهم وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وَأنزل الْقَنَادِيل. وَعَاد الْبكْرِيّ إِلَى الْجَامِع، وَقصد القومة، فاحتجوا أَن الْخَطِيب الْقُسْطَلَانِيّ هُوَ الَّذِي أَمر بإرسال الْقَنَادِيل إِلَى الْكَنِيسَة، فَأنْكر عَليّ الْخَطِيب فعله. وَجمع الْبكْرِيّ النَّاس مَعَه على ذَلِك، وَقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى مِنْهُ وَتوجه إِلَى الْفَخر نَاظر الْجَيْش وعرفه بِمَا وَقع، وَأَن كريم الدّين أكْرم هُوَ الَّذِي أَشَارَ بعارية الْقَنَادِيل فَلم يَسعهُ إِلَّا مُوَافَقَته. فَلَمَّا كَانَ الْغَد عرف الْفَخر السُّلْطَان بِمَا كَانَ، وَعلم الْبكْرِيّ أَن ذَلِك قد كَانَ بِإِشَارَة كريم الدّين، فَسَار بجمعه إِلَى القلعة وَاجْتمعَ بالنائب وأكابر الْأُمَرَاء، وشنع فِي القَوْل وَبَالغ فِي الْإِنْكَار، وَطلب الِاجْتِمَاع بالسلطان. فأحضر السُّلْطَان الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَطلب الْبكْرِيّ، فَذكر الْبكْرِيّ من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَتَضَمَّن معاداة النَّصَارَى، وَأخذ يحط عَلَيْهِم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى السُّلْطَان بِكَلَام فِيهِ جفَاء وغلظة حَتَّى غضب مِنْهُ عِنْد قَوْله: " أفضل الْمَعْرُوف كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر. وَأَنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم فِي دولتك وَفِي الْمُسلمين، وأضعت أَمْوَال الْمُسلمين فِي العمائر والإطلاقات الَّتِي لَا يجوز "، إِلَى غير ذَلِك، فَقَالَ السُّلْطَان لَهُ: " وَيلك {أَنا جَائِر؟ ". فَقَالَ: " نعم} أَنْت سلطت الأقباط على الْمُسلمين، وقويت دينهم ". فَلم يتَمَلَّك السُّلْطَان نَفسه عِنْد ذَلِك، وَأخذ السَّيْف وهم بضربه. فَأمْسك الْأَمِير طغاي يَده، فَالْتَفت السُّلْطَان إِلَى قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين بن مخلوف، وَقَالَ: " هَكَذَا يَا قَاضِي يتجرأ عَليّ؟ إيش يجب أفعل بِهِ؟ قل لي {" وَصَاح بِهِ. فَقَالَ لَهُ ابْن مخلوف: " مَا قَالَ شَيْئا يُنكر عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، فَإِنَّهُ نقل حَدِيثا صَحِيحا ". فَصَرَخَ السُّلْطَان فِيهِ وَقَالَ: " قُم عني} ". فَقَامَ من فوره وَخرج. فَقَالَ صدر الدّين بن المرحل - وَكَانَ حَاضرا - لقَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِي: " يَا مَوْلَانَا! هَذَا الرجل تجرأ على السُّلْطَان، وَقد(2/495)
قَالَ الله تَعَالَى أمرا لمُوسَى وَهَارُون حِين بعثهما إِلَى فِرْعَوْن {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} . فَقَالَ ابْن جمَاعَة للسُّلْطَان: " قد تجرأ وَلم تبْق إِلَّا مراحم مَوْلَانَا السُّلْطَان ". فانزعج السُّلْطَان انزعاجا عَظِيما، ونهض عَن الْكُرْسِيّ، وَقصد ضرب الْبكْرِيّ بِالسَّيْفِ، فَتقدم إِلَيْهِ طغاي وأرغون فِي بَقِيَّة الْأُمَرَاء، وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أمسك عَنهُ، وَأمر بِقطع لِسَانه، فَأخْرج الْبكْرِيّ إِلَى الرحبة، وَطرح إِلَى الأَرْض، والأمير طغاي يُشِير إِلَيْهِ أَن يستغيث، فَصَرَخَ الْبكْرِيّ وَقَالَ: " أَنا فِي جيرة رَسُول الله "، وكررها مرَارًا حَتَّى رق لَهُ الْأُمَرَاء، فَأَشَارَ إِلَيْهِم طغاي بالشفاعة فِيهِ، فنهضوا بأجمعهم وَمَا زَالُوا بالسلطان حَتَّى رسم بِإِطْلَاقِهِ وَخُرُوجه من مصر. وَأنكر الْأَمِير أيدمر الخطيري كَون الْبكْرِيّ قوى نَفسه أَولا فِي مُخَاطبَة السُّلْطَان، ثمَّ إِنَّه ذل بعد ذَلِك، وَنسب إِلَى أَنه لم يكن قِيَامه خَالِصا لله. وَفِيه قدم الركب من الْحجاز، وَقد كثرت الشكوى من الْأَمِير بلبان الشمسي أَمِير الرَّاكِب، وَأَنه كثير الطمع مفرط فِي أَمر الْحَاج سيء السِّيرَة، فَقبض عَلَيْهِ. وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير برلغي صهر المظفر بيبرس. وَفِيه قدم الْبَرِيد من دمشق بِأَنَّهُ قد اجْتمع على النَّاس بواق كَثِيرَة من ضمانات ومقررات على أهل الْبِلَاد، وَقد تضرروا مِنْهَا. فَكتب مِثَال بمسامحة أهل الشَّام بالبواقي لاستقبال سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَإِلَى آخر سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة، وسير إِلَى دمشق فقرئ بهَا على مِنْبَر الْجَامِع فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم، وتلاه مِثَال آخر بِإِبْطَال الْمُقَرّر على السجون، وإعفاء الفلاحين من السخر، وَإِبْطَال مُقَرر الأقصاب، ومقرر ضَمَان القواسين، ورسوم الشد وَالْولَايَة. فَأبْطل ذَلِك كُله من جَمِيع ممالك الْبِلَاد الشامية بأسرها. وَفِيه كتب لنواب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بِأَن أحدا مِنْهُم لَا يُكَاتب السُّلْطَان، وَإِنَّمَا يُكَاتب الْأَمِير تنكر نَائِب الشَّام، وَيكون هُوَ الْمكَاتب فِي أَمرهم للسُّلْطَان. فشق ذَلِك على النواب، وَأخذ الْأَمِير سيف الدّين بلبان طرنا نَائِب صفد يُنكر ذَلِك، فكاتب فِيهِ تنكز السُّلْطَان حَتَّى عزل فِي صفر، وَاسْتقر عوضه الْأَمِير بلبان البدري، وَحمل طرنا فِي الْقَيْد إِلَى مصر، وسجن بالقلعة. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطنبعا الْحَاجِب فِي نِيَابَة حلب، بعد وَفَاة الْأَمِير سيف الدّين سودي فِي نصف رَجَب. وَقدم زين الدّين قراجا الخزنداري وَالْخَاص ترك من بِلَاد طقطاي، وأخبرا بِمَوْتِهِ، وَهُوَ طقطاي بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجي(2/496)
ابْن جنكز خَان ملك التتار بِبِلَاد الشمَال، أَقَامَ فِي الْملك مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة، وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام على دين البخشية، وَملك بعده أزبك خَان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان. وفيهَا اهتم السُّلْطَان بعمارة جسور نواحي أَرض مصر وترعها وَندب الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري إِلَى الشرقية، والأمير عَلَاء الدّين أيدغدي شقير إِلَى البهنساوية، والأمير شرف الدّين حُسَيْن بن حيدر إِلَى أسيوط ومنلفوط والأمير سيف الدّين آقول الْحَاجِب إِلَى الغربية، والأمير سيف الدّين قلي أَمِير سلَاح إِلَى الطحاوية وبلاد الأشمونين، والأمير بدر الدّين جنكلي بن البابا إِلَى القليوبية، والأمير عَلَاء الدّين التليلي إِلَى الْبحيرَة، والأمير بدر الدّين بكتوت الشمسي إِلَى الفيوم، والأمير سيف الدّين بهادر المعزي إِلَى إحميم، والأمير بهاء الدّين أصلم إِلَى قوص. وفيهَا قدم الْأُمَرَاء المجردون إِلَى الْحجاز: وَكَانَ من خبرهم أَنهم لما وصلوا صُحْبَة الْحَاج من السّنة الْمَاضِيَة فر الشريف حميضة نَحْو الْيمن، وَأقَام بلحى بني يَعْقُوب: فَلَمَّا انْقَضى الْمَوْسِم وَخرج الْحَاج أَقَامَ الْأَمِير طقصبا المغربي بالمعسكر حَتَّى رتب الشريف أَبَا الْغَيْث فِي إِمَارَة مَكَّة، وَلم يزل مُقيما مَعَه مُدَّة شَهْرَيْن بعد انْقِضَاء الْحَج. وَلم تمطر تِلْكَ السّنة بِمَكَّة وَقل الجلب، فكثرت كلف العسكرن وَاحْتَاجَ طقصبا إِلَى السّفر. فَأشْهد عَلَيْهِ أَبُو الْغَيْث أَنه أذن لَهُ فِي السّفر، وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان. فَلم يكن بعد توجه الْعَسْكَر من مَكَّة غير قَلِيل حَتَّى جمع حميضة وَقدم، ففر مِنْهُ أَبُو الْغَيْث إِلَى هُذَيْل بوادي نَخْلَة، وَملك (حميضة) مِنْهُ مَكَّة، وَبعث حميضة إِلَى السُّلْطَان الْقود اثْنَي عشر فرسا وكتابا، وَهُوَ يترفق ويبذل الطَّاعَة وَيعْتَذر؛ فَلم يقبل مِنْهُ الْعذر، وَحبس رَسُوله. وفيهَا توجه الْأَمِير قجلس لقبض مَال سودي نَائِب حلب وكشف أَخْبَار مهنا، فَأَشَارَ تنكز نَائِب الشَّام بِإِخْرَاج مهنا من الْبِلَاد وَأَن عَسْكَر الشَّام يَكْفِيهِ، فَبَطل أَمر التجريدة من مصر. وجرد من الشَّام الْحَاج أرقطاي وكجكن، وَمن حماة ألف فَارس مَعَ عَسْكَر طرابلس وحلب، وَخرج طلب قجليس من الْقَاهِرَة ليَكُون مقدم العساكر، فاجتمعت عِنْده العساكر والعربان بحلب. وَبلغ ذَلِك مهنا فأجمع على الرحيل، وسارت إِلَيْهِ(2/497)
العساكر، فَلَمَّا قاربته رَحل وَهِي فِي إثره إِلَى عانة والحديثة من الْعرَاق، فجفلت أهل الْبِلَاد. وَبلغ ذَلِك جوبان نَائِب خربندا ملك التتار، فَظن أَن السُّلْطَان قد نقض الصُّلْح وَيُرِيد أَخذ الْعرَاق، فانزعج لذَلِك إِلَى أَن بلغه مَجِيء الْعَسْكَر بِسَبَب الْعَرَب، وَأَنه لم يَتَعَدَّ عانة وَلَا تعرض لزرع الْبِلَاد وَلَا كرومها، فسكن مَا بِهِ. وَرجع الْعَسْكَر عَن عانة إِلَى ضَيْعَة تعرف بالعنقاء من ضيَاع مهنا، وَأخذ مَا كَانَ بهَا من الْمغل، وَسَار كَذَلِك إِلَى ضيَاع مهنا حَتَّى وصل الرحبة، وَقد حمل الغلال إِلَيْهَا. فَبعث السُّلْطَان إِلَى قجليس بِعُود العساكر إِلَى بلادها، وإقامته على سلمية إِلَى أَن يخزن مغلها بقلعة حلب، فاعتمد ذَلِك وَأقَام حَتَّى استغل سلمية، وَعَاد قجليس إِلَى الْقَاهِرَة فأخلع عَلَيْهِ. وفيهَا خرج عَسْكَر من الْقَاهِرَة فِي أول ذِي الْقعدَة: فِيهِ من الْأُمَرَاء سيف الدّين بكتمر البوبكري السِّلَاح دَار وَإِلَيْهِ تقدمه الْعَسْكَر وقلى السِّلَاح دَار، وَعلم الدّين سنجر الجمقدار، وركن الدّين بيبرس الْحَاجِب، وبكتمر البوبكري الجمدار، وَبدر الدّين مُحَمَّد بن الوزيري، وأيتمش المحمدي، بمضافيهم من الْأُمَرَاء ومقدمي الْحلقَة والأجناد. وَكتب لنائب الشَّام الْأَمِير تنكز بِالْمَسِيرِ مَعَهم بعسكر دمشق، وَأَن يكون الْمُقدم على جَمِيع العساكر، وَكتب بِخُرُوج عَسَاكِر حماة وحلب وطرابلس، وَأشيع أَن ذَلِك لغزو سيس. فوصل عَسْكَر مصر إِلَى دمشق فِي عشريه، وَأقَام بهَا حَتَّى انْقَضتْ السّنة. واتفقت حَادِثَة غَرِيبَة بِالْقَاهِرَةِ: وَهُوَ أَن رجلا من سكان الحسينية يُقَال لَهُ عَليّ بن السَّارِق ركب فِي يَوْم الْجُمُعَة فرسا وَبِيَدِهِ سَيْفه، وشق الْقَاهِرَة فَمَا وجد بهَا يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا إِلَّا ضربه، فجرح جمَاعَة، وَقطع أَيدي جمَاعَة، وشج جمَاعَة، ثمَّ أمسك خَارج بَاب زويلة، وَضرب عُنُقه.
وَمَات فِيهَا مِمَّن لَهُ ذكر
رشيد الدّين إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ، بِمصْر فِي رَجَب عَن إِحْدَى(2/498)
وَتِسْعين سنة، أَخذ الْقرَاءَات عَن السخاوي، وَأفْتى ودرس، وَقدم الْقَاهِرَة من سنة سَبْعمِائة فِي الجفل. وَمَات بِدِمَشْق الْعدْل نجم الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحِيم بن أَحْمد - عرف جده بالقابوني - السَّعْدِيّ الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي، فِي لَيْلَة الْجُمُعَة أول محرم، ومولده سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة، وَسمع من أبي السّير فِي آخَرين، وَحدث عَن أبي عبد الله ابْن أَمِين الدّين سُلَيْمَان الْموصِلِي، وروى عَنهُ شَيخنَا الْعِمَاد بن كثير، وَقَالَ كَانَ رجلا جيدا يشْهد على الْقُضَاة، وباشر اسْتِيفَاء الْأَوْقَاف. وَمَات الشريف أَمِين الدّين أَبُو الْفضل جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَدْلَانِ بن الْحسن الْحُسَيْنِي، نقيب الْأَشْرَاف بِدِمَشْق، فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث رَجَب، ومولده أول رَجَب سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة، وَكَانَ حسن السِّيرَة عفيفا، وَولي نظر الدَّوَاوِين بِدِمَشْق أَيْضا. وَمَات الْأَمِير سودي نَائِب حلب فِي نصف رَجَب، وَوجد لَهُ من الذَّهَب الْعين مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِينَار، واشتملت تركته على ألف ألف دِرْهَم، حملت إِلَى الْقَاهِرَة، وَكَانَ كَرِيمًا حشما مشكور السِّيرَة. وَمَات الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن خطاب الْبَاجِيّ، بِمصْر لَيْلَة الْجُمُعَة سادس ذِي الْقعدَة، عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة، وَكَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة، درس وصنف وَأفْتى. وَمَات جمال الدّين عَطِيَّة بن إِسْمَاعِيل بن عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عَطِيَّة اللَّخْمِيّ الإسْكَنْدراني، عَن ثَمَانِينَ سنة بالإسكندرية، وَمَات شرف الدّين يَعْقُوب بن فَخر الدّين مظفر بن أَحْمد مزهر الحلى، نَاظر حلب ودمشق، فِي ثامن عشرى شبعان، عَن سِتّ وَثَمَانِينَ سنة بحلب، ومولده سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة، وَلم تبْق مملكة بِالشَّام إِلَّا بَاشَرَهَا، وَكَانَت لَهُ مُرُوءَة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين كهرداش المنصوري بِدِمَشْق. وَمَات عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْملك المغيث شهَاب الدّين عبد الْعَزِيز بن الْمُعظم(2/499)
عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، بحماة فِي ثامن عشرى ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين ملكتمر الناصري الْمَعْرُوف بِالدَّمِ الْأسود بِدِمَشْق، وَكَانَ ظَالِما. وَمَات الْأَمِير فَخر الدّين أقجبا الظَّاهِرِيّ بِدِمَشْق، وَكَانَ خيرا، وَمَات الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَجَب بن أشترك العجمي، صَاحب زَاوِيَة تَقِيّ الدّين تَحت قلعة الْجَبَل، فِي ثامن رَجَب، وَكَانَ لَهُ أَتبَاع ومريدون، وَله حُرْمَة ووجاهة عِنْد أهل الدولة، وَمَات الشَّيْخ شرف الدّين أَبُو الْهدى أَحْمد بن قطب الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقُسْطَلَانِيّ بِالْقَاهِرَةِ، ومولده بِمَكَّة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وَكَانَ ورعا دينا، وَمَات الشَّيْخ المعمر مُحَمَّد بن مَحْمُود بن الْحُسَيْن بن الْحسن الْمَعْرُوف بحياك الله الموصلين فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول، بزاويته من سويقة الريش خَارج الْقَاهِرَة، عَن مائَة وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ قد سُئِلَ عَن مولده، فَقَالَ إِنَّه قدم إِلَى الْقَاهِرَة فِي أَيَّام الْمعز أيبك، وعمره مجد الدّين عِيسَى بن الخشاب، وَكيل بَيت المَال، يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع شعْبَان، وَولى عوضه مجد الدّين حرمي، وَمَات القَاضِي سعد الدّين مُحَمَّد بن فَخر الدّين عبد الْمجِيد بن صفي الدّين عبد الله الأقفهسي، نَاظر الخزانة، يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى ذِي الْحجَّة فَجْأَة، وَاسْتقر عوضه الصاحب ضِيَاء الدّين النشائي. وَمَات القَاضِي شمس الدّين عبد الله بن غَائِب بالقدس، فَقدم بعد مَوته لَيْلَة رَابِع عشريه، فقررت جامكيته باسم ابْنه، واستنيب عَنهُ، مَاتَ القَاضِي تَقِيّ الدّين بن الفائزي، لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشرى صفر. وَمَات الشَّيْخ رَجَب مُوسَى بن سمْعَان النَّصْرَانِي، كَاتب الْأَمِير قطلوبك الجاشنكير بحران، وَذَلِكَ أَنه نصر مُسلما، وكواه على يَده مِثَال صَلِيب، فَحكم قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين الْمَالِكِي بقتْله، فَقتل.(2/500)
سنة خمس عشر وَسَبْعمائة
فِي أول الْمحرم: سَار الْعَسْكَر من دمشق إِلَى حلب، وَعَلِيهِ الْأَمِير سيف الدّين تنكز نَائِب الشَّام، وَقد استصحب مَعَه قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين بن صصرى وَشرف الدّين ابْن فضل الله، وَجَمَاعَة من الموقعين، وَكَانَ تنكز بزِي الْمُلُوك من العصائب والكوسات، وَلم تجر عَادَة نَائِب قبله بذلك، وَتَبعهُ عَسْكَر صفد وحمص حماة وطرابلس. فَلَمَّا مر الْأَمِير تنكز بحماة أعرض عَن صَاحبهَا لكَونه لم يتلقه من بعد، وَلم يَأْكُل مَا أعده لَهُ من الطَّعَام، وَسَار تنكز إِلَى حلب فَجرد مِنْهَا الْأَمِير قرطاي والأمير ملكتمر الجمدار إِلَى ملطية، وَكَانَ فِي الظَّن أَن الْمسير إِلَى سيس. وَسبب غَزْو ملطية أَن السُّلْطَان بعث فداوية من أهل مصياب لقتل قرا سنقر، فَصَارَ هُنَاكَ رجل من الأكراد يُقَال لَهُ مندوه يدل على قصاد السُّلْطَان أَخذ مِنْهُم جمَاعَة، فشق(2/501)
ذَلِك على السُّلْطَان، وَأخذ فِي الْعَمَل عَلَيْهِ. فَبَلغهُ أَنه صَار يجني خراج مطلية، وَكَانَ نائبها من جِهَة جوبان يُقَال لَهُ بدر الدّين ميزامير بن نور الدّين، فخاف من مندوه أَن يَأْخُذ مِنْهُ نِيَابَة ملطية، فَمَا زَالَ السطلان يتحيل حَتَّى كَاتبه ميزامير. وَقرر مَعَه أَن يسلم الْبَلَد لعساكره. فَجهز السُّلْطَان العساكر، وروى أَنَّهَا تقصد سيس حَتَّى نزلت بحلب، وسارت العساكر مِنْهَا مَعَ الْأَمِير تنكز على عينتاب إِلَى أَن وصل الدرنبد، فألبس الْجَمِيع السِّلَاح وسلك الدرنبد إِلَى أَن نزل على ملطية يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشريه، وحاصرها ثَلَاثَة أَيَّام. فاتفق الْأَمِير ميزامير مَعَ أَعْيَان ملطية على تَسْلِيمهَا، وَخرج فِي عدَّة من الْأَعْيَان إِلَى الْأَمِير تنكز، فَأَمنَهُمْ وألبسهم التشاريف السُّلْطَانِيَّة المجهزة من الْقَاهِرَة، وَأعْطى الْأَمِير ميزامير، سنجقا سُلْطَانا، وَنُودِيَ فِي الْعَسْكَر أَلا يدْخل أحد إِلَى الْمَدِينَة. وَسَار الْأَمِير ميزامير وَمَعَهُ الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب والأمير أركتمر حَتَّى نزل بداره، وَقبض وَقتلُوا عدَّة من أَهلهَا. فشق ذَلِك على الْأَمِير تنكز، وَركب مَعَه الْأُمَرَاء، ووقف على الْأَبْوَاب وَأخذ النهوب من الْعَسْكَر، ورحل من الْغَد وَهُوَ رَابِع عشرى الْمحرم بالعسكر، وَترك نَائِب حلب مُقيما عَلَيْهَا لهدم أسوارها. ففر مندوه قبل الدُّخُول إِلَى الدرنبد. وَفَاتَ أمره. فَلَمَّا قطعُوا الدرنبد أحضرت الْأَمْوَال الَّتِي نهبت والأسرى، فَسلم من فيهم من الْمُسلمين إِلَى أَهله، وأفرد الأرمن. فَلَمَّا فتحت ملطية سَار الْأَمِير قجليس إِلَى مصر بالبشارة، فَقدم يَوْم الْخَمِيس ثَالِث صفر، ودقت البشائر بذلك. وَتَبعهُ الْأَمِير تنكز بالعساكر - وَمَعَهُ الْأَمِير ميزامير وَولده - حَتَّى نزل عينتاب ثمَّ دابق، فَوجدَ فِيهَا تِسْعَة عشر ألف نول تعْمل الصُّوف، وتجلب كلهَا إِلَى حلب. ثمَّ سَار تنكز، فَقدم دمشق فِي سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وَابْنه فِي ثَلَاثِينَ رجلا مَعَ الْعَسْكَر الْمصْرِيّ إِلَى الْقَاهِرَة فقدموا فِي خَامِس ربيع الآخر. وفيهَا قبض على الأميرين عَلَاء الدّين أيدغدي شقير، وجمال الدّين بكتمر الحسامي الْحَاجِب، فِي أول ربيع الآخر، فَقتل شقير من يَوْمه لِأَنَّهُ اتهمَ بِأَنَّهُ يُرِيد الفتك بالسلطان، وَأخذ لبكتمر الْحَاجِب مائَة ألف دِينَار، وسجن. وَكَانَ قد قبض على الْأَمِير بهادر المغزي فِي عَاشر الْمحرم، وَقبض أَيْضا بعد الْقَبْض على شقير على الْأَمِير طغاي، وَقبض على تمر الساقي نَائِب طرابلس وَحمل إِلَى قلعة الْجَبَل، وَقبض على الْأَمِير بهادر آص وَحمل إِلَى الكرك. وَاسْتقر الْأَمِير سيف الدّين كستاي الناصري فِي نِيَابَة طرابلس.(2/502)
وَأَفْرج فِي مستهل ربيع الآخر عَن دَاوُد وجبا أخوى الْأَمِير سلار، وَأَفْرج عَن الْأَمِير سيف الدّين قجماس المنصوري أحد البرجية. وَأخرج الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد الوزيري عَن مصر ليقيم بِدِمَشْق، فِي يَوْم السبت سلخ ربيع الآخر، وأنعم عَلَيْهِ بِمَا خص السُّلْطَان من خمس ملطية، وَهُوَ نَحْو الْخمسين ألف دِرْهَم. وَفِي ثامن عشرى رَجَب: أفرج عَن الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك، وخلع عَلَيْهِ، وَأمر فِي ثامن عشرى شهر رَجَب، ثمَّ أنعم عَلَيْهِ فِي ثَالِث عشر شعْبَان بإقطاع الْأَمِير حسام الدّين لاجين أستادار بعد مَوته. وَفِيه قدم مُحَمَّد بن عِيسَى أَخُو الْأَمِير مهنا، وَاعْتذر عَن أَخِيه مهنا، وَقدم فرسا أصيلا للسُّلْطَان، فَقدمت الْفرس للسُّلْطَان فِي شعْبَان، وَعرفت ببنت الكزتا، بلغ ثمنهَا وكلفتها سِتّمائَة ألف دِرْهَم. فَكتب السُّلْطَان إِلَى مهنا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْبِلَاد، وخلع على مُحَمَّد بن عِيسَى، ثمَّ بعث إِلَى مهنا بِاثْنَيْ عشر ألف دِينَار، وأنعم عَلَيْهِ بِمِائَتي ألف دِرْهَم، وَكتب لَهُ بضيعة من الْخَاص على سَبِيل الْملك. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عشرى جُمَادَى الأولى: - تَاسِع عشرى مسرى: كَانَ وَفَاء النّيل، وَفتح الخليج على الْعَادة. وَفِي ثامن عشريه: عزل عَلَاء الدّين القطزي من ولَايَة مصر، وَولي بعده ابْن أَمِير حَاجِب، نقل إِلَيْهَا من ولَايَة الشرقية. وَفِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة: حضر الشريف أَسد الدّين أَبُو غرارة رميثة ابْن أبي نمى، من مَكَّة فَارًّا من أَخِيه حميضة، وَأخْبر أَنه قطع اسْم السُّلْطَان من الْخطْبَة بِمَكَّة، وخطب لصَاحب الْيمن. فَجرد السُّلْطَان مَعَه الْأَمِير سيف الدّين طيدمر، والأمير نجم الدّين ذمرخان بن قرمان، وثلاثمائة فَارس من أجناد القلعة وأجناد الْأُمَرَاء. وفيهَا قدم الْأَمِير سيف الدّين الْخَاص تركي وزين الدّين قراجا الخازندار من بِلَاد طقطاي، وَمَعَهُمْ رسل الْملك أزبك الْقَائِم بعد طقطاي، وأخبروا بِإِسْلَامِهِ وَمَعَهُمْ هَدِيَّة. فَأكْرم السُّلْطَان الرُّسُل، وَكتب جَوَابه، وسفرهم، وَبعث مَعَهم الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ بهدية. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بقدوم وَالِدَة صَاحب ماردين تُرِيدُ الْحَج، فرسم للنواب بخدمتها وَالْقِيَام بِمَا يَلِيق بهَا.(2/503)
وفيهَا قدم الْبَرِيد بِخُرُوج سُلَيْمَان بن مهنا عَن الطَّاعَة، ونهبه القريتين، وتوجهه نَحْو الْعرَاق من أجل خُرُوج إقطاعه عَنهُ. فَكتب إِلَى مهنا فِي ذَلِك، فَأجَاب بِأَنَّهُ خَارج عَن طَاعَته. وفيهَا قدمت رسل صَاحب الْيمن، وهما بدر الدّين حسن بن أبي المنجا، والطوشي جمال الدّين فَيْرُوز، وَقد خرج عَلَيْهِمَا عرب صحراء عيذاب، وَأخذُوا مِنْهُمَا الْهَدِيَّة. فَجرد السُّلْطَان من الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين مغلطاي بن أَمِير مجْلِس، وَسيف الدّين ساطي السِّلَاح دَار، وصارم الدّين أزبك الجرمكي، وَعز الدّين أيدمر الدوادار، عَلَاء الدّين عَليّ بن قرا سنقر، وَعلم الدّين سنجر الدنيسري، فِي عدَّة من الأجناد ومقدمي الْحلقَة، وَأمرُوا بالتوجه إِلَى دملقة بالنوبة، فَسَارُوا فِي أول شَوَّال. وَفِي الْعشْر الْأَخير من شعْبَان: وَقع الشُّرُوع فِي روك أَرض مصر وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان استكثر أَخْبَار المماليك أَصْحَاب بيبرس الجاشنكير وسلار النَّائِب وَبَقِيَّة البرجية، وَكَانَ الْخبز الْوَاحِد مَا بَين ألف مِثْقَال فِي السّنة إِلَى ثَمَانمِائَة مِثْقَال، وخشي السُّلْطَان من وُقُوع الفتة بِأخذ أخبازهم. فقرر السُّلْطَان مَعَ الْفَخر مُحَمَّد بن فضل الله نَاظر الْجَيْش روك الْبِلَاد وَإِخْرَاج الْأُمَرَاء إِلَى الْأَعْمَال فَتعين الْأَمِير بدر الدّين جنكلي(2/504)
والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وَابْن طرنطاي وبيبرس الجمدار وللصعيد التليلي والمرتيني. وفيهَا توجه السُّلْطَان فِي شعْبَان إِلَى بِلَاد الصَّعِيد وَقدم فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر شَوَّال. وفيهَا توجه من حلب سِتّمائَة فَارس عَلَيْهِم الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي للغارة على بِلَاد ماردين ودنيسر لقلَّة مُرَاعَاة صَاحب ماردين لما يرسم بِهِ. فشن قرطاي الْغَارة على بِلَاد ماردين يَوْمَيْنِ فصادف قراوول التتار قد قدم إِلَى ماردين على عَادَته كل سنة لجباية القطيعة وهم فِي ألفي فَارس فحاربهم قرطاي وَقتل مِنْهُم سِتّمائَة رجل وَأسر مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَقدم بالرءوس والأسرى إِلَى حلب وَمَعَهُمْ عدَّة خُيُول. فَلَمَّا قدم الْبَرِيد سر السُّلْطَان سُرُورًا زَائِدا وَبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي. وَقدم الْخَبَر من مَكَّة بقتل أبي الْغَيْث فِي حَرْب مَعَ أَخِيه حميضة وَأَن الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى مَكَّة وَاقع حميضة وَقتل عدَّة من أَصْحَابه فَانْهَزَمَ حميضة وَسَار يُرِيد بِلَاد خربندا فَتَلقاهُ خربندا وأكرمه وَأقَام حميضة عِنْده شهرا وَحسن لَهُ إرْسَال طَائِفَة من الْمغل إِلَى بِلَاد الْحجاز ليملكها ويخطب لَهُ على منابرها. وَقدم الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى الْحجاز فِي ثامن عشرى رَجَب وَكَانَ السُّلْطَان قد أنعم على مُحَمَّد بن مَانع بإمرة مهنا فشن الغارات وَأخذ جمال مهنا وطرده. فَسَار مهنا أَيْضا إِلَى خربندا فسر بِهِ وأنعم عَلَيْهِ. وجرد خربندا مَعَ الشريف حميضة من عَسْكَر خُرَاسَان أَرْبَعَة آلَاف فَارس وَسَار حميضة بهم فِي رَجَب يُرِيد مَكَّة. وَأخذ خربندا فِي جمع العساكر لعبور بِلَاد الشَّام فَقدر الله مَوته فخاف مهنا من الْإِقَامَة بالعراق فَسَار من بَغْدَاد وَبلغ مُحَمَّد بن عِيسَى أَخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر الْمغل إِلَى مَكَّة فشق عَلَيْهِ استيلاؤهم على الْحجاز فَلَمَّا علم بِمَوْت خربندا وَخُرُوج أَخِيه مهنا من بَغْدَاد سَار فِي عربانه وكبس عَسْكَر حميضة لَيْلًا وَوضع فيهم السَّيْف وَهُوَ يَصِيح باسم الْملك النَّاصِر فَقتل أَكْثَرهم. وَنَجَا حميضة وَوَقع فِي الْأسر من الْمغل أَرْبَعمِائَة رجل وغنم الْعَرَب مِنْهُم مَالا كثيرا وخيولاً وجمالاً. وَكتب وخيولاً وجمالاً.(2/505)
وخيولا وجمالا وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان فسر بِهِ وَأعَاد الإمرة إِلَى مهنا واستدعى مُحَمَّد بن عِيسَى فَقدم إِلَى مصر وشمله من إنعام السُّلْطَان شَيْء كثير. وفيهَا وصل إِلَى السُّلْطَان مهرَة تعرف ببنت الكرتا كَانَ قد بذل فِيهَا نَحْو مِائَتي ألف وَتِسْعين ألف دِرْهَم وضيعة من بِلَاد حماة وَيُقَال إِنَّهَا بلغت كلفها على السُّلْطَان سِتّمائَة ألف دِرْهَم. وفيهَا وعك السُّلْطَان أَيَّامًا فَلَمَّا عوفي وَدخل الْحمام حلق رَأسه كُله فَلم يبْق أحد من الْأُمَرَاء والمماليك الناصرية حَتَّى حلق رَأسه. وَمن يَوْمئِذٍ بَطل إرخاء الْعَسْكَر ذوائب الشّعْر وَاسْتمرّ إِلَى الْيَوْم وَجلسَ السُّلْطَان يَوْم عيد النَّحْر بعد عافيته وَأَفْرج عَن أهل السجون وطلع النَّاس للهناء وَنُودِيَ بزينة الْقَاهِرَة ومصر فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه فرغ الْعَمَل من بِنَاء الإيوان وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان هدم الإيوان الَّذِي بناه أَبوهُ الْملك الْمَنْصُور وجدده أَخُوهُ الْملك الْأَشْرَف ثمَّ أنشأ إيواناً جَلِيلًا وَعمل بِهِ قبَّة عالية متسعة ورخمه رخاماً وَأما الْأُمَرَاء الَّذين توجهوا إِلَى روك أَعمال مصر فَإِن كلا مِنْهُم لما نزل بِأول عمله استدعى مَشَايِخ الْبِلَاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وَعرف متحصلها وَمِقْدَار فدنها ومبلغ عبرتها وَمَا يتَحَصَّل للجندي من الْعين وَالْغلَّة والدجاج والخراف والبرسيم والكشك والعدس والكعك ثمَّ قَاس تِلْكَ النَّاحِيَة وَكتب بذلك عدَّة نسخ وَلَا يزَال يعْمل ذَلِك حَتَّى انْتهى أَمر عمله. وعادوا بعد خَمْسَة وَسبعين يَوْمًا بالأوراق فتسلمها الْفَخر نَاظر الْجَيْش ثمَّ طلب السُّلْطَان الْفَخر نَاظر الْجَيْش والتقى الأسعد بن أَمِين الْملك - الْمَعْرُوف بكاتب برلغي - وَسَائِر مُسْتَوْفِي الدولة وألزمهم بِعَمَل أوراق تشْتَمل على بِلَاد الْخَاص السلطاني الَّتِي عينهَا لَهُم وعَلى إقطاعات الْأُمَرَاء وأضاف على عِبْرَة كل بلد مَا كَانَ فلاحيها من الضِّيَافَة المقررة وَمَا فِي كل بلد من الجوالى وَكَانَت الجوالى قبل ذَلِك إِلَى وَقت الروك ديواناً مُفردا يخْتَص بالسلطان فأضيف جوالى كل بلد إِلَى متحصل خراجها.(2/506)
وأبطلت عدَّة جِهَات من المكوس مِنْهَا سَاحل الْغلَّة وَكَانَت هَذِه الْجِهَة مقطعَة لأربعمائة من أجناد الْحلقَة سوى الْأُمَرَاء ومتحصلها فِي السّنة أَرْبَعَة آلَاف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم وإقطاع الجندي مِنْهَا من عشرَة آلَاف دِرْهَم فِي السّنة إِلَى ثَلَاثَة آلَاف وللأمراء من أَرْبَعِينَ ألف إِلَى عشرَة آلَاف واقتنى مِنْهَا المباشرون أَمْوَالًا عَظِيمَة فَإِنَّهَا أعظم الْجِهَات الديوانية وَأجل معاملات مصر وَكَانَ النَّاس مِنْهَا فِي أَنْوَاع من الشدائد لِكَثْرَة المغارم والتعب وَالظُّلم فَإِن أمرهَا كَانَ يَدُور مَا بَين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين وَالْكتاب وَكَانَ الْمُقَرّر على كل أردب مبلغ دِرْهَمَيْنِ للسُّلْطَان ويلحقه نصف دِرْهَم أخر سوى مَا ينهب وَكَانَ لَهُ ديوَان فِي بولاق خَارج المقس وَقَبله كَانَ خص يعرف بخص الكيالة فَلَمَّا ولى ابْن الشيخي شدّ هَذِه الْجِهَة - قبل أَن يَلِي الوزارة - عمر مَكَان الخص مقْعدا وَجلسَ فِيهِ وَكَانَ فِي هَذِه الْجِهَة نَحْو السِّتين رجلا مَا بَين نظار ومستوفين وَكتاب وَثَلَاثِينَ جندياً وَكَانَت غلال الأقاليم لَا تبَاع إِلَّا فِيهِ. وَمن المكوس الَّتِي أبطلها السُّلْطَان النَّاصِر أَيْضا نصف السمسرة الَّذِي أحدثه ابْن الشيخي فِي وزارته وَهُوَ أَن من بَاعَ شَيْئا فَإِن دلَالَته على كل مائَة دِرْهَم دِرْهَمَيْنِ يُؤْخَذ مِنْهُمَا دِرْهَم للسُّلْطَان فَصَارَ الدَّلال يحْسب حسابه ويخلص درهمه قبل دِرْهَم السُّلْطَان. وَمِنْهَا رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية وَكَانَت جِهَة تتَعَلَّق بالولاة والمقدمين فيجيبها المذكورون من عرفاء الْأَسْوَاق وبيوت الْفَوَاحِش وَعَلَيْهَا جند مستقطعة وأمراء وَكَانَ فِيهَا من الظُّلم والعسف وَالْفساد وهتك الْحرم وهجم الْبيُوت مَا لَا يُوصف. وَمِنْهَا مُقَرر الحوائص وَالْبِغَال وَهِي تجبى من الْمَدِينَة وَسَائِر معاملات مصر كلهَا من الْوَجْهَيْنِ القبلي والبحري فَكَانَ على كل من الْوُلَاة والمقدمين مُقَرر يحمل فِي كل قسط من أًقساط السّنة إِلَى بَيت المَال عَن ثمن حياصة ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وَعَن ثمن بغل خَمْسمِائَة دِرْهَم وَكَانَ عَلَيْهَا عدَّة مقطعين سوى مَا يحمل وَكَانَ فِيهَا من الظُّلم بلَاء عَظِيم. وَمِنْهَا مُقَرر السجون وَهُوَ على كل من يسجن وَلَو لَحْظَة وَاحِدَة مبلغ سِتَّة دَرَاهِم سوى مَا يغرمه وعَلى هَذِه الْجِهَة عدَّة من المقطعين وَلها ضَمَان وَكَانَت تجبى من سَائِر السجون. وَمِنْهَا مقرّ طرح الفراريج وَلها ضَمَان فِي سَائِر نواحي الإقليم فتطرح على النَّاس فِي النواحي الفراريج وَكَانَ فِيهَا من الظُّلم والعسف وَأخذ الْأَمْوَال من الأرامل والفقراء والأيتام مَا لَا يُمكن شَرحه وَعَلَيْهَا عدَّة مقطعين ومرتبات وَلكُل إقليم ضَامِن مُفْرد وَلَا يقدر أحد أَن يَشْتَرِي فروجاً فَمَا فَوْقه إِلَّا من الضَّامِن. وَمِنْهَا مُقَرر الفرسان وَهِي شَيْء يستهديه الْوُلَاة والمقدمون من سَائِر الأقاليم فَيَجِيء من ذَلِك مَال عَظِيم وَيُؤْخَذ فِيهِ الدِّرْهَم ثَلَاثَة دَرَاهِم لِكَثْرَة الظَّالِم. وَمِنْهَا مُقَرر(2/507)
الأقصاب والمعاصر وَهُوَ مَا يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر وَرِجَال المعصرة. وَمِنْهَا رسم الأفراح هِيَ تجبى من سَائِر الْبِلَاد وَهِي جِهَة بذاتها لَا يعرف لَهَا أصل. وَمِنْهَا حماية المراكب وَهِي تجبى من سَائِر المراكب الَّتِي فِي النّيل بتقرير معِين على كل مركب يُقَال لَهُ مُقَرر الحماية ويجبى من الْمُسَافِرين فِي المراكب سَوَاء إِن كَانُوا أَغْنِيَاء أَو فُقَرَاء. وَمِنْهَا حُقُوق الْقَيْنَات وَهِي مَا كَانَ يَأْخُذهُ مهتار الطشتخاناه من البغايا ويجمعه من الْمُنْكَرَات وَالْفَوَاحِش من أوباش مصر وَضَمان تجيب بِمصْر. وَمِنْهَا شدّ الزعماء وَحُقُوق السودَان وكشف مراكب النّوبَة فَيُؤْخَذ من كل عبد وَجَارِيَة مُقَرر مَعْلُوم عِنْد نزولهم فِي الْخَانَات وَكَانَت جِهَة قبيحة شنعة. وَمِنْهَا متوفر الجراريف وتجبى من المهندسين والولاة بِسَائِر الأقاليم وَعَلَيْهَا عدَّة من الأجناد. وَمِنْهَا مُقَرر المشاعلية وَهِي مَا يُؤْخَذ عَن تنظيف أسربة الْبيُوت والحمامات والمسامط وَغَيرهَا وَحمل مَا يخرج مِنْهَا من الْوَسخ إِلَى الكيمان فَإِذا امْتَلَأَ سرب مدرسة أَو مَسْجِد أَو بَيت لَا يُمكن شيله حَتَّى يحضر الضَّامِن ويقرر أجرته بِمَا يخْتَار فَمَتَى لم يُوَافقهُ صَاحب الْبَيْت تَركه حَتَّى يحْتَاج إِلَيْهِ ويبذل لَهُ مَا طلب. وَمِنْهَا ثمن العبي الَّتِي كَانَت تستأدى من الْبِلَاد. وَمِنْهَا مُقَرر الأتبان الَّتِي كَانَت تُؤْخَذ لمعاصر الأقصاب بِغَيْر ثمن. وَمِنْهَا زَكَاة الرجالة بالديار المصرية. وابطل السُّلْطَان أَيْضا وظيفتي النّظر والاستيفاء من سَائِر الْأَعْمَال فِي كل بلد نَاظر ومستوف وعدة مباشرين فرسم أَلا يستخدم أحد فِي إقليم لَا يكون للسُّلْطَان فِيهِ مَال وَمَا كَانَ للسُّلْطَان فِيهِ مَال يكون فِي كل إقليم نَاظر وَأمين حكم لَا غير. وَرفع السُّلْطَان سَائِر المباشرين. ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سَائِر النواحي إِلَى آخر سنة أَربع وَسَبْعمائة. وَجعل المَال الْهِلَالِي لاستقبال صفر سنة سِتّ عشرَة وَالْمَال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة. وأفرد السُّلْطَان لخاصة الجيزية وأعمالها وبلاد هُوَ والكوم الْأَحْمَر ومنفلوط والمرج وَالْخُصُوص وعدة بِلَاد. وأخرجت الجوالى من الْخَاص وَفرقت فِي الْبِلَاد. وأفردت جِهَات المكس كلهَا وأضيف للوزارة. وأفردت للحاشية بِلَاد ولجوامك المباشرين بِلَاد ولأرباب الرَّوَاتِب جِهَات. وارتجعت عدَّة بِلَاد كَانَت اشْتريت وأدخلت فِي الإقطاعات. واعتد فِي سَائِر الْبِلَاد بِمَا كَانَ يهديه الْفَلاح وَحسب من جملَة الإقطاع.(2/508)
فَلَمَّا فرغ الْعَمَل من ذَلِك نُودي فِي النَّاس بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَسَائِر الْأَعْمَال بِإِبْطَال مَا أبطل من الْجِهَات وكتبت المراسيم إِلَى النواحي بِهِ فسر النَّاس سُرُورًا كَبِيرا. وَجلسَ السُّلْطَان بالإيوان الَّذِي أنشأه لتفرقة المثالات فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة بَعْدَمَا دارت النُّقَبَاء على جَمِيع الأجناد وحضروا ورسم أَن يفرق كل يَوْم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فَكَانَ الْمُقدم يقف بمضافيه ويستدعي السُّلْطَان المقدمين كل أحد باسمه فَإِذا تقدم الْمَطْلُوب سَأَلَهُ السُّلْطَان: من أَيْن أَنْت ومملوك من حَتَّى لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أمره ثمَّ يُعْطه مِثَالا على مَا قسم لَهُ من غير تَأمل وأنبأ السُّلْطَان فِي الْعرض عَن معرفَة تَامَّة بأحوال الأجناد وأمراء الْجَيْش. وَكَانَ الْأُمَرَاء عِنْد الْعرض قد جلس أكابرهم بخدمته على الْعَادة وَإِذا أخذُوا فِي شكر جندي عاكسهم وَأَعْطَاهُ دون مَا كَانَ فِي أملهم لَهُ وَأَرَادَ بذلك أَلا يتَكَلَّم أحد فِي الْمجْلس. فَلَمَّا فطنوا لذَلِك أَمْسكُوا عَن الْكَلَام وَالشُّكْر بِحَيْثُ لم يتَكَلَّم أحد بعْدهَا إِلَّا جَوَابا لَهُ عَمَّا يسْأَل السُّلْطَان عَنهُ مِنْهُم. وَفعل فِي عرض المماليك مثل عرض الأجناد فَكَانَ الْمَمْلُوك إِذا تقدم إِلَيْهِ سَأَلَهُ عَن اسْم تاجره وَعَن أَصله وفرعه وَكم حضر من مصَاف وَكم رأى بيكاراً وَأي قِطْعَة حاصر فَإِن أَجَابَهُ بِصدق أنصفه. وَكَانَ السُّلْطَان يُخَيّر الشَّيْخ المسن بَين الإقطاع والرواتب فيعطيه مَا يخْتَار وَلم يقطع فِي الْعرض الْعَاجِز عَن الْحَرَكَة بل كَانَ يرتب لَهُ مَا يقوم بِهِ عوضا عَن إقطاعه. وَاتفقَ لَهُ فِي الْعرض أَشْيَاء: مِنْهَا أَنه تقدم إِلَيْهِ شَاب تَامّ الْخلقَة فِي وَجهه أثر شبه ضَرْبَة سيف فأعجبه وناوله مِثَالا بإقطاع جيد وَقَالَ لَهُ: فِي أَي مصف وَقع فِي وَجهك هَذَا السَّيْف. فَقَالَ لقلَّة سعادته: يَا خوند هَذَا مَا هُوَ أثر سيف وَإِنَّمَا وَقعت من سلم. فَصَارَ فِي وَجْهي هَذَا الْأَثر فَتَبَسَّمَ وَتَركه. فَقَالَ الْفَخر نَاظر الْجَيْش: يَا خوند مَا بَقِي يصلح لَهُ هَذَا الْخبز {. فَقَالَ السُّلْطَان لَا} قد صدقني وَقَالَ الْحق وَأخذ رزقه فَلَو قَالَ أصبت فِي المصف الْفُلَانِيّ من الَّذِي يكذبهُ فدعَتْ الْأُمَرَاء لَهُ وَانْصَرف الشَّاب بالمثال. وَتقدم إِلَيْهِ رجل ذميم الشكل وَله إقطاع ثقيل عِبْرَة ثَمَانمِائَة دِينَار. فَأعْطَاهُ مِثَالا وَانْصَرف. فَإِذا بِهِ عِبْرَة نصف مَا كَانَ مَعَه. فَعَاد وَقبل الأَرْض. فَسَأَلَهُ السُّلْطَان عَن حَاجته. فَقَالَ: الله يحفظ السُّلْطَان! فَإِنَّهُ غلط فِي حَقي فَإِن إقطاعي كَانَت عبرته ثَمَانمِائَة دِينَار وَهَذَا أَرْبَعمِائَة. فَقَالَ السُّلْطَان: بل الْغَلَط كَانَ فِي إقطاعك الأول فَمضى بِمَا قسم لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَت تَفْرِقَة المثالات فِي آخر الْمحرم سنة سِتّ عشرَة توفر مِنْهَا نَحْو مِائَتي مِثَال.(2/509)
ثمَّ أَخذ السُّلْطَان فِي عرض طباق المماليك ووفر جوامك عدَّة مِنْهُم ورواتبهم وَأَعْطَاهُمْ الإقطاعات. وأفرد جِهَة قطيا للعاجزين من الأجناد وَقرر لكل ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم فِي السّنة. وارتجع السُّلْطَان مَا كَانَت البرجية قد اشترته من أَرَاضِي الجيزة وَغَيرهَا وارتجع مَا كَانَ لبيبرس وبرلغي والجوكندار وَغَيرهم من المتاجر وأضاف ذَلِك للخاص. وَبَالغ السُّلْطَان فِي إِقَامَة أَيَّام الْعرض. وَعرف النَّائِب وأكابر الْأُمَرَاء أَنه من رد مِثَالا أَو تضرر أَو شكا ضرب وَحبس وَقطع خبزه وَأَن أحدا من الْأُمَرَاء لَا يتَكَلَّم مَعَ السُّلْطَان فِي أَمر جندي وَلَا مَمْلُوك فَلم يَجْسُر أحد أَن يُخَالف مَا رسم بِهِ. وَعين فِي هَذَا الْعرض أَكثر الأجناد فَإِنَّهُم أخذُوا إقطاعات دون الَّتِي كَانَت مَعَهم وَقصد الْأُمَرَاء التحدث فِي ذَلِك مَعَ السُّلْطَان والنائب أرغون ينهاهم عَنهُ. فَقدر الله أَن السُّلْطَان نزل إِلَى الْبركَة لصيد الكركي وَجلسَ فِي الْبُسْتَان المنصوري ليستريح فَدخل بعض المرقدارية - وَكَانَ يُقَال لَهُ عَزِيز - وَمن عاداته الْهزْل قُدَّام السُّلْطَان والمزح مَعَه فَأخذ يهزل على عَادَته قُدَّام السُّلْطَان والأمراء جُلُوس وَهُنَاكَ ساقية وَالسُّلْطَان ينظر إِلَيْهَا. فتمادى عَزِيز لشؤم بخته فِي الْهزْل إِلَى أَن قَالَ: وجدت جندي من جند الروك الناصري وَهُوَ رَاكب إكديش وخرجه ومخلاة فرسه وَرمحه على كتفه وَأَرَادَ أَن يتم الْكَلَام. فَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان. وَصَاح فِي المماليك. عروه ثِيَابه فللحال خلعت عَنهُ الثِّيَاب وربط مَعَ قواديس الساقية وَضربت الأبقار حَتَّى أسرعت فِي الدوران وعزيز تَارَة ينغمر فِي المَاء وَتارَة يظْهر وَهُوَ يستغيث وَقد عاين الْمَوْت وَالسُّلْطَان يزْدَاد غَضبا. فَلم تجسر الْأُمَرَاء على الشَّفَاعَة فِيهِ حَتَّى مضى نَحْو ساعتين وَانْقطع حسه فَتقدم إِلَيْهِ الْأَمِير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وَقَالا: ياخوند! هَذَا الْمِسْكِين لم يرد إِلَّا أَن يضْحك السُّلْطَان ويطيب خاطره وَلم يرد غير ذَلِك وَمَا زَالا بِهِ حَتَّى أخرج الرجل وَقد أشفى على الْمَوْت ورسم بنفيه من أَرض مصر فَحَمدَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأُمَرَاء على سكوتهم وتركهم الشَّفَاعَة فِي تَغْيِير مثالات الأجناد وَفِي هده السّنة: ظهر بِبِلَاد الصَّعِيد فأر عَظِيم يخرج عَن الإحصاء بِحَيْثُ إِن مباشري نَاحيَة أم الْقُصُور من بِلَاد منفلوط قتلوا فِي أَيَّام قَلَائِل من الفأر مبلغ ثَلَاثمِائَة وَسَبْعَة عشر أردباً ينقص ثلث أردب واعتبروا أردباً فجَاء عدَّة ثَمَانِيَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة فأر وكل ويبة ألف وَأَرْبَعمِائَة فأر(2/510)
وفيهَا وَقعت نَار فِي البرج المنصوري من قلعة الْجَبَل وطباق الجمدارية فأحرقت شَيْئا كثيرا وَذَلِكَ فِي تَاسِع عشرى شعْبَان. وفيهَا غلقت كنائس الْيَهُود وَالنَّصَارَى بأجمعها فِي مصر والقاهرة فِي يَوْم السبت سَابِع عشرى شَوَّال فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء الْعشْرين من ذِي الْحجَّة فتحت الْكَنِيسَة الْمُعَلقَة وخلع على بطرك النَّصَارَى. وفيهَا حج الْأَمِير سيف الدّين أرغون النَّائِب وقاضي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة مَعَ الركب وَكَانَ أَمِير الركب عز الدّين أيدمر الكوكندي. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر شهَاب الدّين أَحْمد بن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الأرمنتي الْمَعْرُوف بِابْن الأسعد يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشرى رَمَضَان وَكَانَ فَقِيها شافعياً مشكور السِّيرَة. وَمَات جلال الدّين إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن بريق بن برعس أَبُو الطَّاهِر القوصي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كَانَ متصدراً بِجَامِع أَحْمد بن طولون وَله فَضِيلَة فِي الْفِقْه والقراءات والعربية وصنف وَحدث وَله شعر مِنْهُ: حرمت الطيف مِنْك فَفَاضَ دمعي وطرفي فِيك محرم وَسَائِل وَمَات تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة بن عمر بن أبي عمر مُحَمَّد بن أَحْمد بن قدامَة الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ قَاضِي الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق فِي حادي عشرى ذِي الْقعدَة ومولده سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ فَاضلا وَاسع الرِّوَايَة لَهُ مُعْجم فِي مجلدين وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء مَعَ الدّين والتواضع. وَمَات شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن عبد السَّلَام بن جميل التّونسِيّ الْمَالِكِي بِالْقَاهِرَةِ لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر عَن سِتّ وَتِسْعين سنة ودفق بالقرافة ومولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وناب فِي الحكم بالحسينية خَارج الْقَاهِرَة ثمَّ ولي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة وَهُوَ أول من درس بِالْمَدْرَسَةِ المنكوتمرية بِالْقَاهِرَةِ. وَمَات السَّيِّد الإِمَام الْعَلامَة ركن الدّين أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن شرف الدّين شاه(2/511)
الْحُسَيْنِي الْعلوِي الأستراباذي عَالم الْموصل ومدرس الشَّافِعِيَّة وشارح الْمُخْتَصر لِابْنِ الْحَاجِب ومقدمي ابْن الْحَاجِب وَالْحَاوِي فِي الْمَذْهَب وَله سَبْعُونَ سنة وَأخذ عَن النصير الطوسي وَتقدم عِنْد التتار وتوفرت حرمته وبرع فِي عُلُوم المعقولات وَكَانَ يجيد الْفِقْه وَغَيره. وَمَات شرف الدّين مُحَمَّد بن نصر الله القلانسي التَّمِيمِي الدِّمَشْقِي فِي ثَانِي عشر الْمحرم بِدِمَشْق ومولده بهَا سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَكَانَ أحد الْأَعْيَان الأخيار. وَمَات الشَّيْخ صفي الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد الأرموي - الْمَعْرُوف بالهندي الأرموي - الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي تَاسِع عشرى صفر بِدِمَشْق ومولده ثَالِث ربيع الآخر سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَله تصانيف مفيدة وَقدم من الْهِنْد إِلَى مصر بعد حجه وَسَار إِلَى الرّوم فَأَقَامَ بهَا إِحْدَى عشرَة سنة وَسكن دمشق من سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَسمع بهَا ودرس وَكَانَ إِمَامًا عَالما دينا. وملت شرف الدّين مُحَمَّد بن تَمِيم الإسْكَنْدراني كَاتب الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين صَاحب الْيمن بهَا وَكَانَ إِمَامًا فِي الْإِنْشَاء وَله نظم. وَمَات عز الدّين مُوسَى بن على بن أبي طَالب الشريف أَبُو الْفَتْح الموسوي الْحَنَفِيّ الْعدْل فِي سَابِع ذِي الْحجَّة بِمصْر وَانْفَرَدَ بالرواية عَن ابْن الصّلاح والسخاوي ورحل النَّاس إِلَيْهِ. وَمَات الْأَمِير عز الدّين حُسَيْن بن عمر بن مُحَمَّد بن صبرَة فِي تَاسِع عشر رَجَب بطرابلس وَولي حاجباً بِدِمَشْق مُدَّة وَكَانَ مشكوراً. وَمَات الشريف أَبُو الْغَيْث بن أبي نمي. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي شقر الحسامي أحد مماليك الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين وَمَات حسام الدّين قرا لاجين المنصوري الأستادار لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر شعْبَان وَكَانَ جواداً خيرا سليم الْبَاطِن وَا نعم بإقطاعه على الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأشرفي وتوفرت الأستادارية وَمَات الْأَمِير سيف الدّين جيرجين الخازن تَحت الْعقُوبَة يَوْم السبت عَاشر ربيع الآخر. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين مُوسَى بن الْأَمِير سيف الدّين أبي بكر مُحَمَّد الأزكشي بِدِمَشْق فِي ثامن شعْبَان وَكَانَ شجاعاً شهماً.(2/512)
وَمَات الْملك خربندا بن أبغا بن أرغون فِي سادس شَوَّال وَتسَمى بِمُحَمد وَكَانَ رَافِضِيًّا قتل أهل السّنة وَكَانَ منهمكاً فِي شرب الْخمر متشاغلاً باللهو وَقَامَ بعده ابْنه أَبُو سعيد بعهده إِلَيْهِ وَكَانَ محولاً بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ عادلاً فِي رَعيته ملك ثَلَاث عشرَة سنة وأشهراً. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين كستاي النَّاصِر نَائِب طرابلس بهَا وَكَانَ حسوراً قوي النَّفس معجباً بِنَفسِهِ شَدِيد الْكبر إِلَّا أَنه بَاشر طرابلس بعفة وَحُرْمَة مُدَّة شَهْرَيْن ثمَّ طلب من النَّاس التقادم وأَخذها. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بن الْملك المغيث فِي ثَانِي شعْبَان. مَاتَ بهاء الدّين بن الْمحلي فِي خَامِس شعْبَان. وَمَات الْفَقِيه شرف الدّين بن محيي الدّين بن الْفَقِيه نجيب الدّين فِي تَاسِع رَجَب. وَمَات الشَّيْخ نَاصِر الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل يُوسُف بن مُحَمَّد بن عبد الله بن المهتار الْكَاتِب بِدِمَشْق فِي سادس عشرى ذِي الْحجَّة انْفَرد بِرِوَايَة عُلُوم الحَدِيث بِسَمَاعِهِ من مُؤَلفه ابْن الصّلاح وبرواية الزّهْد لِأَحْمَد بن حَنْبَل وشيوخه كَثِيرَة ومولده فِي رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة. وَمَات الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن الشَّيْخ مرهف إِمَام الْجَامِع الْجَدِيد الناصري خَارج مصر لَيْلَة الْأَرْبَعَاء خَامِس عشر رَجَب. وَمَات الشَّيْخ الْمُقْرِئ أَمِين الدّين بن الصَّواف المتصدر بِجَامِع عَمْرو بِمصْر لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشرى شعْبَان. وَمَات الشَّيْخ ابْن أبي مفصلة لَيْلَة الْأَحَد سادس عشر رَمَضَان. وَمَات الشَّيْخ زين الدّين الْمَهْدَوِيّ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع رَجَب. وَمَات الطواشي شبْل الدولة كافرر الأقطواني الصَّالِحِي شاد الخزانة السُّلْطَانِيَّة لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر ذِي الْقعدَة. وَمَات فتح الدّين بن زين الدّين بن وجيه الدّين بن عبد السَّلَام فِي سَابِع عشرى ذِي الْقعدَة.(2/513)
فارغة(2/514)
(سنة سِتّ عشر وَسَبْعمائة)
فِي الْمحرم: قدم الْبَرِيد من حلب بِمَوْت خربندا وجلوس وَلَده أبي سعيد بعده. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشريه: سمع بِالْقَاهِرَةِ هدة عَظِيمَة شبه الصاعقة وتبعها رعد ومطر كثير وَبرد وغرقت بلبيس لِكَثْرَة الْمَطَر. وَفِي ثامن صفر: اسْتَقر شمس الدّين مُحَمَّد بن مُسلم بن مَالك بن مزروع فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق وجهز لَهُ توقيعه من الْقَاهِرَة فَلم يُغير زيه وَاسْتمرّ يحمل مَا يَشْتَرِيهِ من السُّوق بِنَفسِهِ وَيجْلس على ثوب يبسطه بِيَدِهِ فِي مجْلِس الحكم وَيحمل نَعله بِيَدِهِ. وَفِي أول ربيع الأول: فوضت إمرة الْعَرَب بِالشَّام إِلَى الْأَمِير شُجَاع الدّين فضل بن عِيسَى بن مهنا. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِوُقُوع الْمَطَر فِي قارا وحمص وبعلبك وَفِي بِلَاد حلب وإعزاز وحارم بِخِلَاف الْمَعْهُود وعقبه برد قدر النارنج فِيهَا مَا زنته ثَلَاث أَوَاقٍ دمشقية هلك بهَا من النَّاس والأَغنام وَالدَّوَاب شَيْء كثير. وَخَربَتْ عدَّة ضيَاع وَتلف من التركمان وَأهل الضّيَاع خلق كثير. وعقب هَذَا الْمَطَر نزُول سمك كثير مَا بَين صغَار وكبار بِالْحَيَاةِ تنَاوله أهل الضّيَاع واشتروه وأكلوه. وَسقط بالمعرة وسرمين عقيب هَذَا الْمَطَر ضفادع كَثِيرَة فِي غَايَة الْكبر مِنْهَا ميت وَمِنْهَا بِالْحَيَاةِ ثمَّ نزل ثلج عَظِيم طم الْقرى وسد الطرقات والأودية وَامْتنع السّفر حَتَّى بعث النواب الرِّجَال من الْبِلَاد وَالْجِبَال مَعَ الْوُلَاة بِالْمَسَاحِي وَعمِلُوا فِيهَا حَتَّى فتحت الطرقات. وَفِي سادس عشرى جُمَادَى الأولى: اسْتَقر قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين بن صصري فِي مشيخة الشُّيُوخ بِدِمَشْق عوضا عَن شهَاب الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله البكاشغري. فِيهَا رأى السُّلْطَان أَن يقدم برشنبو النوبي وَهُوَ ابْن أُخْت دَاوُد ملك النّوبَة فَجهز(2/515)
صحبته الْأَمِير عز الدّين أيبك على عَسْكَر. فَلَمَّا بلغ ذَلِك كرنبس ملك النّوبَة بعث ابْن أُخْته كنز الدولة بن شُجَاع الدّين نصر بن فَخر الدّين مَالك بن الْكَنْز يسْأَل السُّلْطَان فِي أمره فاعتقل كنز الدولة. وَوصل الْعَسْكَر إِلَى دمقلة وَقد فر كرنبس وَأَخُوهُ أبرام فَقبض عَلَيْهِمَا وحملا إِلَى الْقَاهِرَة فاعتقلا. وَملك عبد الله برشنبو دمقلة وَرجع الْعَسْكَر فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع عشرَة. وَأَفْرج عَن كنز الدولة فَسَار إِلَى دمقلة وَجمع النَّاس وَحَارب برشنبو فخذله جماعته حَتَّى قتل وَملك كنز الدولة. فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك أطلق أبرام وَبَعثه إِلَى النّوبَة ووعده إِن بعث إِلَيْهِ بكنز الدولة مُقَيّدا أفرج عَن أَخِيه كرنبس. فَلَمَّا وصل أبرام خرج إِلَيْهِ كنز الدولة طَائِعا فَقبض عَلَيْهِ ليرسله فَمَاتَ أبرام بعد ثَلَاثَة أَيَّام من قَبضه فَاجْتمع أهل النّوبَة على كنز الدولة وفيهَا أَخذ عرب بَريَّة عيذاب رسل صَاحب الْيمن وعدة من التُّجَّار وَجَمِيع مَا مَعَهم فَبعث السُّلْطَان الْعَسْكَر وهم خَمْسمِائَة فَارس عَلَيْهِم الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي بن أَمِير مجْلِس فِي الْعشْرين من شَوَّال فَسَارُوا إِلَى قوص ومضوا مِنْهَا فِي أَوَائِل الْمحرم سنة سبع عشرَة إِلَى صحراء عيذاب ومضوا إِلَى سواكن حَتَّى الْتَقَوْا بطَائفَة يُقَال لَهَا حَيّ الهلبكسة وهم نَحْو الألفي رَاكب على الهجن بحراب ومزاريق فِي خلق من المشاة عرايا الْأَبدَان فَلم يثبتوا لدق الطبول وَرمى النشاب وانهزموا بعد مَا قتل مِنْهُم عدد كَبِير. وَسَار الْعَسْكَر إِلَى نَاحيَة الْأَبْوَاب ثمَّ مضوا إِلَى دمقلة وعادوا إِلَى الْقَاهِرَة تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع عشرَة وَكَانَت غيبتهم ثَمَانِيَة أشهر. وَكَثْرَة الشكاية من الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي بن أَمِير مجْلِس مقدم عَسْكَرهمْ فَأخْرج إِلَى دمشق. وفيهَا أغار من الططر نَحْو ألف فَارس على أَطْرَاف بِلَاد حلب ونهبوا إِلَى قرب قلعة كمختا فَقَاتلهُمْ التركمان وَقتلُوا كثيرا مِنْهُم وأسروا سِتَّة وَخمسين من أعيانهم وغنموا مَا كَانَ مَعَهم فَقدمت الأسرى إِلَى الْقَاهِرَة فِي صفر سنة سبع عشرَة. وفيهَا هبت ريح سَوْدَاء مظْلمَة بِأَرْض أسوان وسود وإسنا وأرمنت وقدحت لشدَّة حرهَا نَار عَظِيمَة أحرقت عدَّة أَجْرَانِ من الغلال. ثمَّ أمْطرت السَّمَاء فعقب ذَلِك وباء هلك فِيهِ وفيهَا أفرج عَن الْأَمِير بكتمر الحسامي الْحَاجِب. وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر شَوَّال بنيابة صفد وَا نعم عَلَيْهِ بِمِائَتي ألف دِرْهَم فَسَار على الْبَرِيد ودخلها فِي آخر ذِي الْحجَّة. وَكَانَ بكتمر فِي مُدَّة اعتقاله مكرماً لم يفقد غير ركُوب الْخَيل وَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان بِجَارِيَة حبلت مِنْهُ فِي الاعتقال وَولدت ولدا سَمَّاهُ نَاصِر الدّين مُحَمَّدًا(2/516)
فَكَانَت مُدَّة سجنه سنة وَسَبْعَة أشهر وأياماً. وفيهَا ولي الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي نِيَابَة حمص فِي تَاسِع رَجَب عوضا عَن شهَاب الدّين قرطاي بِحكم انْتِقَاله إِلَى نِيَابَة طرابلس فِي جُمَادَى الْآخِرَة. رفيها أخرجت قطيا عَن الأجناد وأضيفت إِلَى الْخَاص وَخرج إِلَيْهَا نَاظر وشاد. وَعوض الأجناد بجهات فِي الْقَاهِرَة بعد عرضهمْ على السُّلْطَان وَأعْطى كل مِنْهُم نَظِير مَا كَانَ لَهُ. وفيهَا توجه الْأَمِير بهاء الدّين أرسلان الدوادار إِلَى الْأَمِير مهنا وَعَاد. وفيهَا أفرج عَن الْأَمِير كراي المنصوري والأمير سنقر الكمالي من سجن الكرك وقدما إِلَى الْقَاهِرَة فسجنا بالقلعة ومعهما نساؤهما. وفيهَا قدمت رسل أزبك ورسل ملك الكرج ورسل طغاي قريب أزبك بِهَدَايَا فأجيبوا وسيرت إِلَيْهِم الْهَدَايَا. فَاجْتمع هَذِه السّنة ثَمَانِيَة رسل وهم رسل جوبان وَأبي سعيد وأزبك وطغاي وَصَاحب برشلونة وَصَاحب إسطنبول وَصَاحب النّوبَة وَملك الكرج وَكلهمْ يبْذل الطَّاعَة وَلم يتَّفق فِي الدولة التركية مثل ذَلِك وَأكْثر مَا اجْتمع فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة خَمْسَة رسل. وفيهَا سَافر فِي الرسلية إِلَى بِلَاد أزبك الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدعدي الْخَوَارِزْمِيّ مَمْلُوك يازي وَمَعَهُ حُسَيْن بن صَارُوا أحد مقدمي الْحلقَة بالهدية فِي آخر الْمحرم وَهِي مِائَتَا عدَّة كَامِلَة مَا بَين جوشن وخوذة وبركستوان وخلعة كَامِلَة التحتاني أطلس أَحْمَر مزركش وشاش كافوري وبلغطاق فوقاني مفرج مقصب مُحَقّق بطرز ذهب وكلفتاه ذهب وحياصة ذهب وَفرس مسرجة ملجمة بِذَهَب مرصع وجتر وَسيف بحلية ذهب وَسَار مَعَهم بطرك الملكية. وفيهَا قدمت أم الْأَمِير بكتمر الساقي. وفيهَا تغير السُّلْطَان على الْأَمِير سيف الدّين طغاي وضربه بِيَدِهِ بالمقرعة على رَأسه ثمَّ رَضِي عَنهُ وخلع عَلَيْهِ. وفيهَا صرف بهادر الإبراهيمي من نقابة المماليك وَبَقِي على إمرته وَولى عوضه دقماق نقابة المماليك. وفيهَا مَرضت زَوْجَة الْأَمِير طغاي فعادها السُّلْطَان مرَارًا فَلَمَّا مَاتَت نزل الْأُمَرَاء كلهم للصَّلَاة عَلَيْهَا، وَعمل كريم الدّين لَهَا مهما عَظِيما.(2/517)
وفيهَا سَار السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع شعْبَان وَتوجه إِلَى بِلَاد الصَّعِيد. وَعَاد إِلَى قلعة الْجَبَل يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر رَمَضَان وَأعْطى الْأُمَرَاء دستوراً وَنزل تَحت الأهرام. وفيهَا توجه كريم الدّين إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَعَاد وَهُوَ متوعك فَخلع السُّلْطَان عَلَيْهِ فرجية أطلس أَبيض بطراز وأنعم عَلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. وَكَانَ وَفَاء النّيل يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرى جُمَادَى الأولى - فِي ثامن عشر مسري - بعد أَن بلغ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء أَربع عشرَة إصبعاً من سِتَّة عشر ذِرَاعا. فَانْقَطع الجسر المجاور للقناطر الْأَرْبَعين بالجيزة فنقص عدَّة أَصَابِع وَجمع لسده خلق كثير غرق مِنْهُم نَحْو ثَلَاثِينَ رجلا فِي سَاعَة وَاحِدَة انطبق عَلَيْهِم الجسر. ثمَّ جمع من مصر رجال كَثِيرَة وكتفوا وأنزلوا فِي مركب وعدتهم سَبْعُونَ رجلا فَانْقَلَبت بهم الْمركب فَغَرقُوا بأجمعهم فِي يَوْم السبت سَابِع عشره. ثمَّ زَاد النّيل حَتَّى أوفى. وفيهَا قطعت أرزاق المرتزفة من أَرْبَاب الرَّوَاتِب لاستقبال الْمحرم وعوضوا على جِهَات أَجودهَا نسترواة فَصَارَت سنتهمْ ثَمَانِيَة أشهر. وَتَوَلَّى ذَلِك الصاحب سعد الدّين مُحَمَّد بن عطايا والسعيد مُسْتَوْفِي الرَّوَاتِب. وَمنع شهر الْمحرم وصولح من لَهُ راتب بِثلث الْمدَّة - وَهِي شَهْرَان وَثلثا شهر - وأحيلوا على المطابخ وثمنت عَلَيْهِم قطارة فَحصل من كل دِينَار سدسه. وَنزل بِالنَّاسِ من ذَلِك شدَّة وحصلت ذلة للحرم والأيتام وسماهما النَّاس سعد الذَّابِح وَسعد بلع وشافهوهما بِكُل مَكْرُوه. وفيهَا قدم الْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل صَاحب حماة فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى وَنزل بمناظر الْكَبْش وَحمل تقدمته فِي غده وَسَار فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وفيهَا لعب السُّلْطَان بالميدان الْجَدِيد تَحت القلعة فِي يَوْم السبت ثامن جُمَادَى الْآخِرَة وخلع على الْأُمَرَاء وعَلى الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماة. وفيهَا اسْتَقر الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام نَاظر الدَّوَاوِين بمفرده فِي خَامِس عشر رَجَب بعد موت التقي أسعد كَاتب برلغي. وفيهَا سَافر الْفَخر نَاظر الْجَيْش وقاضي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة إِلَى الْقُدس وَقدم ابْن جمَاعَة فِي تَاسِع عشرى رَمَضَان. وَفِيه اسْتَقر الْعلم أَبُو شَاكر بن سعيد الدولة فِي نظر الْبيُوت وَاسْتقر كريم الدّين(2/518)
أكْرم الصَّغِير فِي نظر الدَّوَاوِين شَرِيكا لأمين الدّين فِي يَوْم الْأَحَد أول ذِي الْقعدَة. وَفِيه توجه الْأَمِير أرغون النَّائِب إِلَى الْحجاز. عز الدّين أَحْمد بن جمال الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن ميسر الْمصْرِيّ بِدِمَشْق فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ أول رَجَب ومولده بِمصْر فِي حادي عشرى رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ فَاضلا جليل الْقدر ولي نظر الدَّوَاوِين بِمصْر وَولي نظر الشَّام وطرابلس وإسكندرية ثمَّ تَغَيَّرت حَالَته وانحطت رتبته وَاسْتقر فِي نظر أوقاف دمشق مَعَ الْحِسْبَة وَكَانَ عَاقِلا خَبِيرا بالولايات وَفِيه لين وَسُكُون ومروءة وسماح لمن تَحت يَده من المباشرين. وَمَال صدر الدّين أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن أبي الْيُسْر مَكْتُوم بن أَحْمد الْقَيْسِي السويدي الدِّمَشْقِي فِي لَيْلَة السبت ثَالِث عشرى شَوَّال بِدِمَشْق كَانَ فَقِيها مقرئاً مُحدثا درس وَانْفَرَدَ بالرواية عَن جمَاعَة. وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم أحد مماليك الْمَنْصُور قلاوون وَكَانَ نَائِب دمشق فِي ثَالِث عشرى الْمحرم بهمذان. وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين سُلَيْمَان بن عبد الْقوي بن عبد الْكَرِيم الطوفي الْبَغْدَادِيّ الْحَنْبَلِيّ فِي رَجَب بِبَلَد الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة وامتحن بهَا. وَمَات شمس الدّين عبد الْقَادِر بن يُوسُف بن مظفر الخطيري الدِّمَشْقِي فِي جُمَادَى الأولى عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة حدث وَولي نظر الخزانة بِدِمَشْق وَكَذَلِكَ نظر الْجَامِع الْأمَوِي والمارستان النَّوَوِيّ بهَا وَكَانَ دينا صيناً. وَمَات الْكَاتِب عَلَاء الدّين عَليّ بن المظفر بن إِبْرَاهِيم الكندري - عرف بكاتب ابْن(2/519)
ابْن ودَاعَة - الأديب البارع الْمُقْرِئ وَمَات الشَّيْخ صدر الدّين مُحَمَّد بن عمر بن مكي - الْمَعْرُوف بِابْن المرحل وبابن الْوَكِيل - فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة بِالْقَاهِرَةِ ومولده بدمياط فِي شَوَّال سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَاسْتقر بعده فِي تدريس الزاوية بِجَامِع عَمْرو شهَاب الدّين بن الْأنْصَارِيّ وَفِي تدريس المجدية شمس الدّين مُحَمَّد بن اللبان. وَقتل بالكرك من الْأُمَرَاء سيف الدّين أسندمر كرجي وَسيف الدّين بينجار المنصوري وبكتوت الشجاعي وبيبرس العلمي وبيبرس الْمَجْنُون وقطلوبك الْكَبِير وبكتمر الجوكندار نَائِب السلطنة وبلبان طرنا خنقوا فِي لَيْلَة وَاحِدَة. وَمَات بطرابلس نائبها الْأَمِير سيف الدّين كستاي الناصري فِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وَاسْتقر عوضه الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي الصَّالِحِي نَائِب حمص وَولي حمص أرقطاي الجمدار. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين طقتمر الدِّمَشْقِي طنبغا الشمسي أحد أُمَرَاء مصر وَكَانَ حشماً عَاقِلا. وَمَات الصاحب ضِيَاء الدّين أَبُو بكر بن عبد الله بن أَحْمد بن مَنْصُور بن شهَاب النشائي وَزِير مصر فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشرى رَمَضَان وَكَانَ قد ولي التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بجوار الشَّافِعِي بالقرافة ومشيخه الميعاد بالجامع الطولوني وَنظر الأحباس وَنظر الخزانة وَكَانَ مشكور السِّيرَة فَقِيها فَاضلا إِمَامًا فِي الْفَرَائِض مشاركاً فِي علم الحَدِيث كثير الصَّدَقَة وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء يرثيه: إِن بَكَى النَّاس بالمدامع حمرا فَهُوَ شَيْء يُقَال من حناء فاختم الدست بالنشائي فَإِنِّي لأرى الْخَتْم دَائِما بالنشاء وَكَانَ فِي وزارته غير نَافِذ الْأَمر وَقَالَ فِيهِ أَحْمد بن عبد الدَّائِم الشارمساحي من أَبْيَات: زقوا منصب الوزارة حَتَّى لزقوها وقتنا بالنشاء وَولي بعده نظر الخزانة تَقِيّ الدّين أَحْمد بن قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عمر بن عبد الله الْحَنْبَلِيّ. وَمَات تَقِيّ الدّين أسعد الْأَحْوَال بن أَمِين الْملك - الْمَعْرُوف بكاتب برلغي - نَاظر الدَّوَاوِين فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثامن شهر رَجَب فاستقر بعده الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام والتقى هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ سَبَب الروك بتحسينه عمل ذَلِك للسُّلْطَان وَهُوَ(2/520)
الَّذِي أَدخل جِهَات المكوس فِي ديوَان الوزارة وَجعلهَا برسم المطبخ وَفرق جوالي الذِّمَّة فِي الإقطاعات بَعْدَمَا كَانَت قَلما مُفردا فَمَا زَالَ رجال الدولة بالسلطان حَتَّى تنكر عَلَيْهِ وسبه ولعنه وهدده بِالْقَتْلِ فأثر فِيهِ الْخَوْف وَلزِمَ فرَاشه حَتَّى مَاتَ وَكَانَ من الظلمَة اللئام واستسلمه الْأَمِير برلغي وَلم يُوجد لَهُ بعد مَوته شَيْء سوى دَوَاة وأثاث لم تبلغ قِيمَته مِائَتي دِرْهَم. وَمَات نَاصِر الدّين أَبُو بكر بن عمر بن السلار - بتَشْديد اللَّام بعد السِّين الْمُهْملَة - فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر الْمحرم ومولده لَيْلَة الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة بِدِمَشْق وَكَانَ أديباً بارعاً بديع الْكِتَابَة وتفتن فِي عدَّة فَضَائِل وَهُوَ من بَيت إِمَارَة وَمن شعره: لعمرك مَا مصر بِمصْر وَإِنَّمَا هِيَ الْجنَّة الدُّنْيَا لمن يتبصر فأولادها الْوَالِدَان من نسل آدم وروضتها الفردوس والنيل كوثر وَمَات الطواشي ظهير الدّين مُخْتَار المنصوري - الْمَعْرُوف بالبلبيسي - الخازندار بِدِمَشْق فِي عَاشر شعْبَان وَكَانَ يقراً الْقُرْآن وَفِيه شجاعة وشهامة وَفرق مَاله على عتقائه قبل مَوته ووقف أملاكه على تربته. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن كيدغدي بن الوزيري بِدِمَشْق فِي سادس عشر شعْبَان. وَمَاتَتْ المسندة المعمرة سِتّ الوزراء أم مُحَمَّد وتدعى وزيرة ابْنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية بِدِمَشْق فِي ثامن عشر شعْبَان ومولدها فِي سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَحدثت بِصَحِيح البُخَارِيّ فِي الْقَاهِرَة ومصر وقلعة الْجَبَل سنة خمس وَسَبْعمائة. وَمَات القَاضِي فَخر الدّين عَليّ ابْن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد فِي يَوْم الثُّلَاثَاء عشرى رَمَضَان. ومولده بقوص سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة وَانْقطع بعد أَبِيه للأشغال ودرس بالكهاربة من الْقَاهِرَة. وَمَات الْكَاتِب المجود نجم الدّين مُوسَى بن على بن مُحَمَّد بن الْبَصِير الدِّمَشْقِي بهَا(2/521)
فِي عَاشر ذِي الْقعدَة وَولد سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَكَانَ شيخ الْكِتَابَة بِدِمَشْق. وَمَات نجاد بن أَحْمد بن حجي أَمِير آل مرا وَحضر ثَابت بن عساف بن أَحْمد بن حجي إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر عوضه. وَقتل سيف الدّين خَاص بك فِي يَوْم السبت سَابِع عشر جُمَادَى الأولى ضربت عُنُقه وَكَانَ مِمَّن فر إِلَى بِلَاد الْمغرب وَقبض عَلَيْهِ. وَمَات الشَّيْخ نور الدّين الْكِنَانِي الْمُقْرِئ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء عشرى جُمَادَى الأولى بروضة مصر. مَاتَ سراج الدّين عمر الأسعردي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث رَجَب. وَمَات الطواشي شبْل الدولة كافور الطيبرسي - الشهير بالعاجي - يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر رَجَب. وَمَات جمال الدّين عبد الله بن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشرى رَجَب. وَمَات شهَاب الدّين أَحْمد بن الْعَسْقَلَانِي إِمَام جَامع المنشاة يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ رَجَب. وَمَات شهَاب الدّين مُحَمَّد بن عبد الحميد - المتصدر بِجَامِع عَمْرو - بِمصْر يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر شعْبَان ومولده سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ مُعْتَقدًا.(2/522)
(سنة سبع عشر وَسَبْعمائة)
أول الْمحرم: قدم طيبغا الْحَمَوِيّ مبشراً بسلامة الْحَاج وَوصل القَاضِي كريم الدّين نَاظر الْخَاص من الْقُدس يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه. وقمم الْأَمِير سيف الدّين أرغون النَّائِب من الْحجاز يَوْم الثُّلَاثَاء سابعه. وَفِيه مَرضت امْرَأَة الْأَمِير سيف الدّين طغاي وَمَاتَتْ فَأكْثر زَوجهَا من الصَّدَقَة وَفرق بداره الَّتِي كَانَت للْملك الْمَنْصُور قلاوون بِالْقَاهِرَةِ مَالا على الْفُقَرَاء وَهلك فِي الزحام اثْنَا عشر شخصا وبهيمة كَانَت تَحت أحدهم. وَفِي حادي عشرى صفر: شنع النَّاس بِمَوْت القَاضِي كريم الدّين فَركب فِي سادس عشريه وَصعد إِلَى مصر فزينت لَهُ وَأوقدت الشموع. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِمحضر ثَابت على قَاضِي بعلبك بنزول مطر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع صفر ببعلبك عقبه سيل عَظِيم أتلف شَيْئا كثيرا وَهدم قِطْعَة من السُّور وغرق الْمَدِينَة وَتلف بهَا شَيْء كثير وَمَات ألف وَخَمْسمِائة إِنْسَان سوى من مَاتَ تَحت الرَّدْم وانهدم مِنْهُ بستاناً وَثَلَاثَة عشر جَامعا ومدرسة ومسجداً وَسَبْعَة عشر فرناً وَأحد عشر طاحوناً وَهدم برجاً من السُّور ارتفاعه ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا ودوره من أَسْفَله ثَلَاثَة عشر ذِرَاعا ذهب جَمِيعه. وَفِي ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى - وَهُوَ يَوْم السبت تَاسِع عشرى أبيب -: قدم الْمُفْرد إِلَى مصر وعلق السّتْر فنقص النّيل فِي لَيْلَة الْأَحَد ثَلَاثَة أَصَابِع فخلق المقياس يَوْم الْأَحَد وَفتح الخليج مَعَ النَّقْص ثمَّ رد النّيل وَزَاد إِصْبَعَيْنِ نُودي بهما يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث مسرى. واستمرت الزِّيَادَة فَكَانَ يُنَادي فِي الْيَوْم بِتِسْعَة أَصَابِع وَمَا دونهَا حَتَّى بلغت الزِّيَادَة فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع عشرى توت - وَهُوَ ثَالِث رَجَب - ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَسِتَّة أَصَابِع وَفَسَد من ذَلِك عدَّة مَوَاضِع لقلَّة الاعتناء بالجسور. وَفِي بكرَة يَوْم الْخَمِيس رَابِع جُمَادَى الأولى: سَار السُّلْطَان وَمَعَهُ خَمْسُونَ أَمِيرا وكريم الدّين الْكَبِير نَاظر الْخَاص. وَالْفَخْر نَاظر الْجَيْش وعلاء الدّين بن الْأَثِير كَاتب السِّرّ بَعْدَمَا فرق فِي كل وَاحِد فرسا مسرجاً وهجينين وَبَعْضهمْ ثَلَاثَة هجن. وَركب السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام أَن يلقاه بالإقامات لزيارة الْقُدس فَتوجه إِلَى الْقُدس وَدخل إِلَى الكرك وَعَاد فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة فَكَانَت غيبته أَرْبَعِينَ يَوْمًا.(2/523)
وَفِي ثامن عشره: قدم الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي وَمَعَهُ الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص والأمير ركن الدّين بيبرس الدوادار من سجن الكرك فَخلع السُّلْطَان عَلَيْهِمَا وأنعم على بهادر بإمرة فِي دمشق وَلزِمَ بيبرس دَاره ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بتقدمه ألف على عَادَته. وَفِيه صرف أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام من نظر الدَّوَاوِين وَنزل بتربته من القرافة وَاسْتمرّ التَّاج إِسْحَاق بن القماط والموفق هبة الله مُسْتَوْفِي الْأَمِير سلار فِي نظر الدَّوَاوِين عوضه نقلا من اسْتِيفَاء الدولة وَاسْتقر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير فِي نظر الكارم وَدَار القند فِي ثَالِث عشريه وخلع على الثَّلَاثَة فِي يَوْم السبت خَامِس عشريه. وَفِي رَابِع رَجَب: تقطعت جسور منية الشيرج وقليوب وغرقت لَيْلَة خامسه وفر أَهلهَا وَتَلفت أَمْوَالهم وغلالهم. فَركب مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة وغلق سَائِر الحوانيت والأسواق وَأخذ النَّاس والعسكر والأمراء لتدارك مَا بَقِي من الجسور. وَفِيه قدم الْأَمِير مُحَمَّد بن عِيسَى وَمَعَهُ ابْن أَخِيه مُوسَى بن مهنا فأنعم عَلَيْهِمَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشره: صرف قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين الحريري الْحَنَفِيّ عَن قَضَاء مصر خَاصَّة وَاسْتقر عوضه سراج الدّين عمر بن مَحْمُود بن أبي بكر الْحَنَفِيّ قَاضِي الحسينية فَجَلَسَ سراج الدّين للْحكم فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشره وَمَات لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَعَاد ابْن الحريري إِلَى قَضَاء مصر. وَكَانَ سَبَب عَزله أَنه بَالغ فِي الْحَط على الْكتاب من النَّصَارَى والمسالمة وأخرق بِجَمَاعَة مِنْهُم وضربهم وَكَانَ إِذا رأى نَصْرَانِيّا رَاكِبًا أنزلهُ وأهانه وَإِذا رأى عَلَيْهِ ثيابًا سَرِيَّة نكل بِهِ فَضَاقَ ذرعهم بِهِ وَشَكوا أَمرهم إِلَى كريم الدّين الْكَبِير. فَلَمَّا أَخذ السُّلْطَان دَار الْأَمِير سلار ودور إخْوَته وقطعتة من الميدان وَأَنْشَأَ الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الساقي المظفري قصراً فِي مَوضِع ذَلِك على بركَة الْفِيل. أَرَادَ السُّلْطَان أَن يدْخل فِيهِ قِطْعَة من أَرض بركَة الْفِيل وَهِي فِي أوقاف الْملك الظَّاهِر بيبرس على أَوْلَاده فَأَرَادَ استبدال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا بِموضع آخر وَأَرَادَ من ابْن الحريري الحكم بذلك كَمَا هُوَ مذْهبه فابى وَجَرت بَينه وَبَين السُّلْطَان مُفَاوَضَة قَالَ فِيهَا: لَا سَبِيل إِلَى هَذَا وَلَا يجوز الِاسْتِبْدَال فِي مذهبي ونهض قَائِما وَقد اشْتَدَّ حنق السُّلْطَان(2/524)
مِنْهُ. فسعى السراج عِنْد كريم الدّين الْكَبِير فِي قَضَاء مصر. ووعد بِأَنَّهُ يحكم بذلك فَأُجِيب وَحكم بالاستبدال وَصَارَ ابْن الحريري على قَضَاء الْحَنَفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ فَقَط فَمَرض السراج عقيبها إِلَى أَن مَاتَ فِي ثَالِث عشرى رَمَضَان فعد ذَلِك من بركَة الحريري وأعيد إِلَيْهِ قَضَاء مصر. وَفِي أَوَاخِر شعْبَان: عدى جمَاعَة من الططر الْفُرَات وَقدم دمشق فِي سادس رَمَضَان مِنْهُم وَفِي رَمَضَان: عَادَتْ الرُّسُل من عِنْد أزبك وهم أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ وَمن مَعَه وصحبته رسل إزبك. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِأَنَّهُ ظهر فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة رجل من أهل قَرْيَة قرطياوس من أَعمال جبلة زعم أَنه مُحَمَّد بن الْحسن الْمهْدي وَأَنه بَينا هُوَ قَائِم يحرث إِذْ جَاءَهُ طَائِر أَبيض فَنقبَ جنبه وَأخرج روحه وَأدْخل فِي جسده روح مُحَمَّد بن الْحسن فَاجْتمع عَلَيْهِ من النصيرية الْقَائِلين بإلهية عَليّ بن أبي طَالب نَحْو الْخَمْسَة آلَاف وَأمرهمْ بِالسُّجُود لَهُ فسجدوا وأباح لَهُم الْخمر وَترك الصَّلَوَات وَصرح بِأَن لَا إِلَه إِلَّا عَليّ وَلَا حجاب إِلَّا مُحَمَّد وَرفع الرَّايَات الْحمر وشمعة كَبِيرَة تقد بالهار ويحملها شَاب أَمْرَد زعم أَنه إِبْرَاهِيم بن أدهم وَأَنه أَحْيَاهُ وَسمي أَخَاهُ الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ وَسمي أخر جِبْرِيل وَصَارَ يَقُول لَهُ: اطلع إِلَيْهِ وَقل كَذَا وَكَذَا وَيُشِير إِلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ بِزَعْمِهِ عَليّ بن أبي طَالب فَيخرج الْمُسَمّى جِبْرِيل ويغيب قَلِيلا ثمَّ يَأْتِي وَيَقُول: افْعَل رَأْيك. ثمَّ جمع هَذَا الدعي أَصْحَابه وهجم على جبلة يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين مِنْهُ فَقتل وسبى وأعلن بِكُفْرِهِ وَسَب أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا. فَجرد إِلَيْهِ نَائِب طرابلس الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي الْأَمِير بدر الدّين بيليك العثماني المنصوري على ألف فَارس فَقَاتلهُمْ إِلَى أَن قتل الدعي وَكَانَت مُدَّة خُرُوجه إِلَى قَتله خَمْسَة أَيَّام. وَفِيه قدم كتاب الْمجد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن ياقوت السلَامِي بإذعان الْملك أبي سعيد(2/525)
ابْن خربندا ووزيره خواخا على شاه والأمير جوبان والأمراء أكَابِر الْمغل للصلح وَمَعَهُ هَدِيَّة من جِهَة خواجا رشيد الدّين فجهزت إِلَى أبي سعيد هَدِيَّة جليلة من جُمْلَتهَا فرس وَسيف وقرفل. وَفِيه أفرج عَن الشريف مَنْصُور بن جماز أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ وَحضر مَعَ أَمِير الركب وأعيد إِلَى ولَايَته عوضا عَن أَخِيه ودي بن جماز وَسَار مَنْصُور إِلَى الْمَدِينَة وَمَعَهُ عز الدّين أيدمر الكوندكي. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بِخُرُوج ريح فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر ربيع الأول وَقت الْعَصْر سَوْدَاء مظْلمَة تمادت تِلْكَ اللَّيْلَة وَمن الْغَد عَقبهَا برق ورعد عَظِيم ومطر غزير وَبرد كبار وَجَاء سيل لم يعْهَد مثله فَأخذ كل مَا مر بِهِ من شجر وَغَيره وَتَكون عَمُود من نَار مُتَّصِل اقتلع كَنِيسَة كَبِيرَة من عهد الرّوم وَمَشى بهَا رمية سهم ثمَّ فرقها الرّيح حجرا. وَفِيه قدم الْخَبَر بِعُود حميضة من الْعرَاق إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ نَحْو الْخمسين من الْمغل فَمَنعه أَخُوهُ رميثة من الدُّخُول إِلَّا بِإِذن السُّلْطَان فَكتب بِمَنْعه من ذَلِك مَا لم يقدم إِلَى مصر. وَفِيه قبض على الْأَمِير أقبغا الحسني وَضرب وَأخرج إِلَى دمشق على إمرة من أجل أَنه شرب الْخمر وَفِيه قدم الشريف رميثة أَمِير مَكَّة فَارًّا من أَخِيه حميضة وَأَنه ملك مَكَّة وخطب لأبي سعيد بن خربندا وَأخذ أَمْوَال التُّجَّار فرسم بتجريد الْأَمِير صارم الدّين أزبك الجرمكي والأمير سيف الدّين بهادر الإبراهيمي فِي ثَلَاثمِائَة فَارس من أجناد الْأُمَرَاء مَعَ الركب إِلَى مَكَّة. وَفِيه عزل الْأَمِير ركن الَّذين بيبرس أَمِير أخور من الحجوبية وَاسْتقر عوضه الْأَمِير سيف الدّين ألماس وَكَانَ ألماس تركياً غتمياً لَا يعرف بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ. وفيهَا أخرج إِلَى الشَّام الْأَمِير عز الدّين أيدمر الدوادار وعلاء الدّين على الساقي وعلاء الدّين مغلطاي السنجري وطغاي الطباخي وَشرف الدّين قيران الحسامي أَمِير علم. وأنعم عَلَيْهِم بإمريات وإقطاعات بهَا. وَفِيه قدم مندوه الْكرْدِي الفار من أسره بملطية بَعْدَمَا أَمن فأنعم عَلَيْهِ بأمرة فِي دمشق.(2/526)
وَفِيه حاصر الْأَمِير سنجر الجاولي غَزَّة قلعة سلع - وَمَعَهُ نَحْو الْعشْرَة آلَاف فَارس - مُدَّة عشْرين يَوْمًا إِلَى أَن أَخذهَا وَقتل من أَهلهَا سِتِّينَ رجلا من الْعَرَب المفسدين وغنم الْعَسْكَر مِنْهَا شَيْئا كثيرا ورتب الجاولي بهَا رجَالًا وَعَاد إِلَى غَزَّة. وَفِي جُمَادَى الأول اسْتَقر فَخر الدّين أَحْمد بن تَاج الدّين سَلامَة السكندري الْمَالِكِي فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن جمال الدّين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن سومر الزواوي بعد مَوته فَسَار وَفِيه كَانَ روك المملكة الطرابلسية على يَد شرف الدّين يَعْقُوب نَاظر حلب فاستقر أمرهَا لاستقبال رَمَضَان سنة عشر وَسَبْعمائة الْهِلَالِي وَمن الخراجى لاستقبال مغل سنة سبع عشرَة. وتو بِهَذَا الروك إقطاعات سِتَّة أُمَرَاء طبلخاناه وَثَلَاثَة إقطاعات أُمَرَاء عشروات وأبطل مِنْهَا رسوم الأفراح ورسوم السجون وَغير ذَلِك من المكوس الَّتِي كَانَ مبلغها فِي كل سنة مائَة ألف دِرْهَم وَعشرَة آلَاف دِرْهَم وَقدم شرف الدّين بأوراق الروك إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه قدم الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ وحسين بن صَارُوا وبطرك الملكية من بِلَاد أزبك وَمَعَهُمْ عدَّة من رسل أزبك: وهم شرنك وبغرطاي وقرطقا وَعمر القرمي ورسل الأشكري صَاحب قسطنطينية وهم خادمه وكبير بَيته ميخائيل وكاشمانوس وتادروس وَمَعَهُمْ الْهَدَايَا: فديَة أزبك ثَلَاث سناقر وَسِتَّة مماليك وزردية وخوذة فولاذ وَسيف فأكرموا وأعيدوا مَعَ الْأَمِير سيف الدّين أطرجي والأمير سيف الدّين بيرم خجا بهدية قيمتهَا عشرَة آلَاف دِينَار. وَفِيه سَافر السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد بالبحيرة وَأقَام أَيَّامًا وَعَاد. وَفِيه أعْطى السُّلْطَان زين الدّين قراجا التركماني النَّازِل بِالْبركَةِ إمرة. وَفِيه اسْتَقر الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان بن فَهد الْحلَبِي فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق بعد موت شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْعمريّ. وَاسْتقر الْأَمِير سيف الدّين ألجاي دواداراً بعد موت بهاء الدّين أرسلان. وَفِيه طلق السُّلْطَان زَوجته خوندا أردركين ابْنة الْأَمِير سيف الدّين نوكاي. وَفِيه أنعم على الْأَمِير بدر الدّين جنكلي بن البابا بإقطاع الْأَمِير سيف الدّين قلي السِّلَاح دَار بعد مَوته. وَحج بالركب الْأَمِير سيف الدّين مجليس وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء شرف الدّين أَمِير بن جندر وعرلوا الجوكندار وَسيف الدّين ألجاي الساقي وَسيف الدّين طقصبا(2/527)
الظَّاهِرِيّ وشمس الدّين سنقر المرزوقي وَحج أَيْضا الْأَمِير شرف الدّين عِيسَى بن مهنا وَأَخُوهُ مُحَمَّد فِي عدَّة من عرب آل فضل بلغت عدتهمْ نَحْو اثنى عشر ألف رَاحِلَة. وَفِيه تمزقت جمَاعَة الثائر بجبلة وَكَانَ قد قَامَ فِي النصيرية وَادّعى أَنه الْمهْدي وَأَن دين النصيرية حق وَأَن الْمَلَائِكَة تنصره. فَركب الْعَسْكَر وقاتلوه فَقتل ورسم أَن يبْنى بقرى النصيرية فِي كل قَرْيَة مَسْجِد وتعمل لَهُ ارْض لعمل مَصَالِحه وَأَن يمْنَع النصيرية من الْخطاب وَهُوَ أَن الصَّبِي إِذا بلغ الْحلم عملت لَهُ وَلِيمَة فَإِذا اجْتمع النَّاس وأكلوا وَشَرِبُوا حلفوا الصَّبِي أَرْبَعِينَ يَمِينا على كتمان مَا يودع من الذَّهَب ثمَّ يعلمونه مَذْهَبهم وَهُوَ إلهية عَليّ بن أبي طَالب وَأَن الْخمر حَلَال وَأَن تناسخ الْأَرْوَاح حق وَأَن الْعَالم قديم والبعث بعد الْمَوْت بَاطِل وإنكار الْجنَّة وَالنَّار وَأَن الصَّلَوَات خمس وَهِي إِسْمَاعِيل وَحسن وحسين ومحسن وَفَاطِمَة وَلَا غسل من جَنَابَة بل ذكر هَذِه الْخَمْسَة يُغني عَن الْغسْل وَعَن الْوضُوء وَأَن الصّيام عبارَة عَن ثَلَاثِينَ رجلا وَثَلَاثِينَ امْرَأَة ذكروهم فِي كتبهمْ وَأَن إلههم عَليّ بن أبي طَالب خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الرب وَأَن مُحَمَّدًا هُوَ الْحجاب وسلمان هُوَ الْبَاب. من مَاتَ فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْأَسدي الطَّيِّبِيّ بطرابلس فِي سادس عشرى رَمَضَان عَن تسع وَسِتِّينَ سنة كَانَ أديباً فالملا بَاشر الْإِنْشَاء مُدَّة وَنفل إِلَى طرابلس فِي توقيعها إِلَى أَن مَاتَ وَمن شعره: هجرت الْخمر لما صَحَّ عِنْدِي بِأَن الْخمر آفَة كل طَاعَة وَلم تَرَ مقلتي فِي الْخمر شَيْئا سوى أَن تجمع الأحباب سَاعَة وَمَات الْأَمِير بهاء الدّين أرسلان الدوادار الناصري يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشرى رَمَضَان فَوجدَ لَهُ مَال جزيل: مِنْهُ أَرْبَعُونَ حياصة ذَهَبا وَأَرْبَعُونَ كلفتاه زركش ومبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَإِلَيْهِ تنْسب خانكاه بهاء الدّين بمنشاة المهراني. وَمَات شرف الدّين عبد الْوَهَّاب بن فضل الله الْعمريّ كَاتب السِّرّ يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث رَمَضَان بِدِمَشْق ومولده سَابِع ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة حدث عَن ابْن عبد السَّلَام وبرع فِي الْأَدَب وَكَانَ دينا عَاقِلا وقوراً ناهضا ثِقَة أَمينا مشكوراً. مليح الْخط جيد الْإِنْشَاء فولي بعده شهَاب الدّين أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن سُلَيْمَان(2/528)
الْحلَبِي أحد كتاب الدرج بديار مصر نقل إِلَيْهَا من الْقَاهِرَة فَقدم دمشق ثامن عشرى شَوَّال. وَمَات فَخر الدّين عُثْمَان بن بلبان بن مقَاتل معيد الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين وَكَانَ فَاضلا حدث وروى وَحصل وَكتب وَخرج وَمَات عَن اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة. وَمَات عَلَاء الدّين على ن فتح الدّين مُحَمَّد بن محيي الدّين عبد الله بن عبد الظَّاهِر السَّعْدِيّ أحد أَعْيَان كتاب الْإِنْشَاء يَوْم الْخَمِيس رَابِع رَمَضَان وَكَانَ عالي الهمة صَاحب مَكَارِم وَتمكن من الْأَمِير سلار أَيَّام نيابته فَإِنَّهُ كَانَ موقعه. وَمَات زين الدّين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن أَحْمد ابْن يُوسُف الصنهاجي المراكشي الإسكندارني فِي أول يَوْم من ذِي الْحجَّة. وَمَات جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن سومر الزواوي الْمَالِكِي قَاضِي دمشق فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى بهَا ومولده سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة وَقدم الْإسْكَنْدَريَّة وَهُوَ شَاب وتفقه بهَا حَتَّى برع فِي مَذْهَب مَالك وأَكثر من سَماع الحَدِيث فَسمع من ابْن رواج والسبط وَأبي عبد الله المريني وَأبي الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ وَابْن عبد السَّلَام وَأبي مُحَمَّد بن برطلة وَولي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق ثَلَاثِينَ سنة بصرامة وَقُوَّة فِي الْأَحْكَام وَشدَّة فِي إِرَاقَة دِمَاء الْمُلْحِدِينَ والزنادقة والمخالفين إِلَى أَن اعتل بالرعشة نَحْو عشْرين سنة ومازال إِلَى يعلته أَن عجز عَن الْكَلَام فصرف. وَمَات بعد عَزله بِعشْرين يَوْمًا وَبعد أَن علم بِالْعَزْلِ بسبعة أَيَّام. وَمَات الصَّدْر شرف الدّين مُحَمَّد بن الْجمال إِبْرَاهِيم بن الشّرف عبد الرَّحْمَن بن صصري الدِّمَشْقِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ذِي الْحجَّة بِمَكَّة وعمره خمس وَثَلَاثُونَ سنة فَدفن بالمعلاة وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق. وَمَات بطرابلس عماد الدّين مُحَمَّد بن صفي الدّين مُحَمَّد بن شرف الدّين يَعْقُوب النويري صَاحب ديوَان طرابلس.(2/529)
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قلني السِّلَاح دَار. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين الذّكر السِّلَاح دَار - صهر علم الدّين سنجر الشجاعي - وَهُوَ فِي الْحَبْس. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين ألكتمر - صهر الجوكندار - بِالْحَبْسِ أَيْضا. وَمَات الْخَطِيب عماد الدّين ابْن بنت المخلص فِي حادي عشرى الْمحرم. وَفِيه خلع نَفسه الْأَمِير أَبُو يحيى زَكَرِيَّا اللحياني بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص ملك تونس وَولى ابْنه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي ضَرْبَة فِي آخر ربيع الآخر وَكَانَت مدَّته سِتّ سِنِين.(2/530)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة فِي الْمحرم: قدم الركب من الْحجاز على الْعَادة وصحبته المجردون فَشكى الصارم أزبك الجرمكي من بهادر الإبراهيمي وَأَنه مَنعه من اخذ الشريف حميضة وَأَنه تعاطى الْخُمُور فَقبض عَلَيْهِ وعَلى رَمَضَان الْمُقدم وأقجبا وَجَمَاعَة وسجنوا بالإسكندرية وأنعم على الْأَمِير مغلطاي الجمالي بِخبْز الإبراهيمي. وَفِيه قدم الْبَرِيد من حلب بغلاء الأسعار بديار بكر والموصل وبغداد وتوريز وَكَثْرَة الوباء وَالْمَوْت بهَا. وَأَن جَزِيرَة ابْن عمر خلت من السَّاكِن وميافارقين لم يُوجد من يخْطب بهَا فِي جَامعهَا. وَفِي أول صفر: توجه القَاضِي كريم الدّين الْكَبِير إِلَى دمشق فَدَخلَهَا فِي سابعه وتلقاه الْأَمِير تنكز النَّائِب وأنزله بدار السَّعَادَة وَقدم إِلَيْهِ هَدِيَّة سنية فَلم يقبل مِنْهَا غير فرس وَاحِد ورد وَفِي سابعه: اسْتَقر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير فِي نظر الدَّوَاوِين. وَفِي سادس عشره: وصل الْأَمِير جمال الدّين بكتمر الحسامي نَائِب صفد وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف فِي سادس عشرَة. وَفِي سَابِع عشرَة: سَافر الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام على الْبَرِيد إِلَى طرابلس نَاظرا. وَسبب ذَلِك أَنه لما طَالَتْ عطلته اجْتمع بالأمير سيف الدّين البوبكري وَحط على كريم الْكَبِير وَأَنه قد استولى على الْأَمْوَال وأنفقها على مماليك السُّلْطَان ليصانع بهَا عَن نَفسه. فَعرف البوبكري السُّلْطَان عَنهُ مَا قَالَ فَأعْلم بِهِ كريم الدّين فَقَالَ هُوَ يَا خوند مَعْذُور فَأَنَّهُ قد بَطل ولابد لَهُ من شغل يَأْكُل فِيهِ صَدَقَة السُّلْطَان. وعينه لنظر طرابلس. فَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِ فِي الْحَال بخلعة وبريدي وَخرج لوقته. وَفِي حادي عشريه: عزل الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني من شدّ الدَّوَاوِين وَنزل إِلَى دَاره. وَفِيه عوفي قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَركب إِلَى القلعة وَترك مَعْلُوم الْقُضَاة تنزهاً عَنهُ فَخلع عَلَيْهِ وباشر بِغَيْر مَعْلُوم.(3/3)
وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشريه: خلع على الْأَمِير سيف الدّين طغاي الحسامي الْكَبِير وسفر على خيل الْبَرِيد لنيابة صفد عوضا عَن بكتمر الحاحب. وَسبب ذَلِك كَثْرَة دالته على السُّلْطَان وتحكمه فِي الْأُمَرَاء والمماليك وَقُوَّة حرمته وتعرضه على السُّلْطَان فِيمَا يَفْعَله من ملاذه. وَخرج مَعَه مغلطاي الجمالي فوصل صفد فِي تَاسِع عشر ربيع أول وَقدم الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِأَنَّهُ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي صفر هبت ريح شَدِيدَة بِأَرْض طرابلس وَمَرَّتْ على أَبْيَات مقدم التركمان بالجون فكسرتها وَصَارَت عموداً أغبر هَيْئَة تنين مُتَّصِل بالسحاب وَمر ذَلِك العمود على أَبْيَات عَلَاء الدّين طوالي بن اليكي مقدم التركمان وتلوى يَمِينا وَشمَالًا فَلم يتْرك هُنَاكَ شَيْئا حَتَّى أهلكه وطوالي يَصِيح: يَا رب قد أخذت الرزق وَتركت الْعِيَال بِغَيْر رزق فإيش أطْعمهُم فَعَاد ذَلِك التنين إِلَيْهِ بعد مَا كَانَ خرج عَنهُ وأهلكه وَامْرَأَته وَأَوْلَاده وَثَلَاثَة عشر نفسا. وحملت الرّيح جملين حَتَّى ارتفعا فِي السَّمَاء قدر عشرَة أرماح وأتلفت الْقُدُور الْحَدِيد. وَمَرَّتْ على عربان هُنَاكَ فاحتملت لَهُم أَرْبَعَة جمال حَتَّى غَابَتْ عَنْهُم فِي الْيَوْم ثمَّ نزلت مقطعَة. وعقب هَذَا الرّيح مطر وَبرد زنة الْبردَة الْوَاحِدَة مِنْهُ ثَلَاث أَوَاقٍ دمشقية. وَفِيه أَجْلِس السُّلْطَان جمَاعَة من مقدمي الْحلقَة الشُّيُوخ فِي أَوْقَات المشورة مَعَ الْأُمَرَاء وَسمع كَلَامهم. وَفِيه سَأَلَ النَّصَارَى فِي رم جدران كَنِيسَة بربارة بحارة الرّوم فَأذن لَهُم السُّلْطَان فِي رمها. فَاجْتمع لعمارتها جمَاعَة كَثِيرَة من النَّصَارَى وأحضر الأقباط لَهُم الْآلَات وَأَقَامُوا على عَملهَا عدَّة من الْمُسلمين شادين ومستحثين فَجَاءَت كأحسن المبانى. فشق ذَلِك على جيران الْكَنِيسَة من الْمُسلمين وَشَكوا أمرهَا إِلَى الْأَمِير أرغون النَّائِب وَالْفَخْر نَاظر الْجَيْش وَأَن ذَلِك وَقع بجاه كريم الدّين الْكَبِير وكريم الدّين الصَّغِير وَرفعُوا عدَّة قصَص إِلَى السُّلْطَان بدار الْعدْل. فساعد النَّائِب وَالْفَخْر عِنْد قِرَاءَة الْقَصَص فِي الْإِنْكَار على بِنَاء الْكَنِيسَة إِلَى أَن رسم لمتولي الْقَاهِرَة على علم الدّين سنجر الخازن بخراب مَا جدد فِيهَا من الْبناء فَنزل إِلَيْهَا علم الدّين وَاجْتمعَ إِلَيْهِ من النَّاس عدد لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَهدم مَا جدد فِيهَا وَمضى لسبيله. فَقَامَتْ طَائِفَة من الْمُسلمين وبنوا الْجَانِب الَّذِي هدم محراباً وأذنوا فِيهِ أَوْقَات الصَّلَوَات وصلوا وقرأوا هُنَاكَ الْقُرْآن ولزموا الْإِقَامَة فِيهِ. فحنق النَّصَارَى من ذَلِك وَشَكوا أَمرهم إِلَى كريم الدّين فَرفع كريم الدّين ذَلِك للسُّلْطَان وأغراه مِمَّن فعل ذَلِك وَأَنه يُرِيد نهب النَّصَارَى وَأخذ أَمْوَالهم وشنع القَوْل. فرسم السُّلْطَان للخازن بهدم(3/4)
الْمِحْرَاب وإعادة الْبناء وَقبض أهل حارة الرّوم وعملهم فِي الْحَدِيد فَلَمَّا توجه الخازن لذَلِك اجْتمع النَّاس وصاحوا بِهِ فساس الْأَمِير وتركهم وأهمل ذَلِك الْموضع حَتَّى صَار كوم تُرَاب. وَفِيه تجهز السُّلْطَان لركوب الميدان وَفرق الْخُيُول على جَمِيع الْأُمَرَاء واستجد بركوب الأوشاقية بكوافي زركش على صفة الطاسات وهم الَّذين عرفُوا باسم الجفتاوات. واستجد النداء فِي الْبَحْر على أَرْبَاب المراكب أَلا يركبُوا أحدا من مماليك السُّلْطَان فِي مركب يَوْم الميدان وشدد الْإِنْكَار على الطواشي الْمُقدم فِي غفلته عَن المماليك. وَفِيه شدد على الْأُمَرَاء المسجونين ببرج السبَاع من قلعة الْجَبَل وهم: طوغان نَائِب البيرة وَعلم الدّين سنجر البرواني وبيبرس الْمَجْنُون وفخر الدّين أياز نَائِب قلعة الرّوم والحاج بيليك وَسيف الدّين طاجا وَالشَّيْخ على مَمْلُوك سلار وَمنع حريمهم من الْإِقَامَة عِنْدهم. وَفِيه خرج الْأَمِير مغلطاي الجمالي على الْبَرِيد إِلَى صفد بتقليد الْأَمِير طغاي نِيَابَة حلب وَكتب إِلَى الْأَمِير سيف الدّين أقطاي نَائِب حمص بنيابة صفد عوضا عَن طغاي واستقرار الْأَمِير بدر الدّين بكتوت القرماني فِي نِيَابَة حمص. وَأسر السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير مغلطاي الْقَبْض على طغاي. فَتوجه مغلطاي إِلَى صفد للقبض على طغاي. فَتوجه مغلطاي إِلَى صفد بعد اجتماعه بالأمير تنكز نَائِب الشَّام وَهُوَ على طغاي وأحضره إِلَى قبَّة النَّصْر خَارج الْقَاهِرَة فَخرج إِلَيْهِ الْأَمِير قجليس وَصعد إِلَى القلعة وَهُوَ مُقَيّد فِي خَامِس عشر جُمَادَى الأ ولى وَأخرج بِهِ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع جُمَادَى الأولى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَكَانَ أخر الْعَهْد بِهِ. وَأخرج بهادر أَيْضا إِلَى سجن الْإسْكَنْدَريَّة وَوَقعت الحوطة فِي يَوْم الْخَمِيس عشريه على موجوده وَفرقت مماليكه على وَفِيه توجه الْأَمِير قجليس إِلَى الشَّام. وَفِيه ابتدئ فِي صفر بهدم المطبخ وَهدم الْحَوَائِج خاناه والطشت خاناه والفرش وجامع القلعة وَبنى الْجَمِيع جَامعا فجَاء على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن من أحسن المباني. تمّ بِنَاؤُه ورخامه جلس فِيهِ السُّلْطَان واستدعى سَائِر مؤذني الْقَاهِرَة ومصر وقراءها وخطباءهما وعرضوا عَلَيْهِ فَاخْتَارَ عشْرين مُؤذنًا رتبهم فِيهِ وَقرر بِهِ درساً وقارئ مصحح وأوقف عَلَيْهِ الْأَوْقَاف الْكَثِيرَة.(3/5)
وَفِيه تجدّد بِدِمَشْق ثَلَاثَة جَوَامِع بظاهرها: وَهِي جَامع الْأَمِير تنكز والأمير كريم الدّين وجامع شمس الدّين غبريال بن سعد. وَفِيه غرقت مركب فِي بَحر الْملح وَهِي متوجهة إِلَى الْيمن وَكَانَ فِيهَا لكريم الدّين متجر. بمبلغ مائَة ألف دِينَار سوى مَا لغيره فَلم يسلم مِنْهَا سوى سَبْعَة أنفس وغرق الْجَمِيع. وَفِيه وَقعت الْفِتْنَة بَين الْمغل فَقتل فِيهَا نَحْو الثَّلَاثِينَ أَمِيرا سوى الأجناد والأتابك وَقتل من الخواتين سبع نسْوَة مَعَ عَالم عَظِيم وانتصر أَبُو سعيد. فسر السُّلْطَان بذلك لما فِيهِ من وُقُوع الوهن فِي الْمغل. وفيهَا قبض على الْأَمِير بدر الدّين ميزامير ابْن الْأَمِير نور الدّين صَاحب ملطية من أَنه كتب إِلَى جوبان الْقَائِم بدولة أبي سعيد بن خربندا بالأردو أَن يَطْلُبهُ من السُّلْطَان. وَقبض أَيْضا على وَفِيه حبس شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية بِسَبَب مَسْأَلَة الطَّلَاق وَكَانَ ذَلِك بسعي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين بن الحريري الْحَنَفِيّ عَلَيْهِ وإغرائه السُّلْطَان بِهِ. وَفِيه أنعم على الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الدوادار المنصوري بإقطاع مغلطاي ابْن أَمِير مجْلِس بإمرة ثَمَانِينَ فَارِسًا وخلع عَلَيْهِ وَجلسَ رَأس الميسرة وَنقل مغلطاي إِلَى الشَّام.(3/6)
وَفِيه قدم صَاحب خرتبرت فأنعم بإمرية. وَفِيه اسْتَقر فِي نِيَابَة الكرك الْأَمِير عز الدّين أيبك الجمالي نَائِب قلعة دمشق وَاسْتقر عوضه فِي نِيَابَة قلعة دمشق الْأَمِير عز الدّين أيبك الدميتري. وَفِيه خرج الْأَمِير بدر الدّين بن عِيسَى بن التركماني بطَائفَة من الْعَسْكَر مجردين إِلَى الْحجاز فِي طلب الشريفين حميضة ورميثة. وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير سيف الدّين أقبغا الحسني وأنعم عَلَيْهِ بإمرة فِي دمشق. وَفِي شعْبَان: قدم حمل سيس على الْعَادة. وَفِيه ولي قَضَاء الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة بِالْقَاهِرَةِ ومصر تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عيس ابْن بدران الأخنائي بعد موت زين الدّين عَليّ بن مخلوف فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِيه حج بالركب الْمصْرِيّ الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي وَقبض على الشريف رميثة وفر وَفِيه قدمت رسل ابْن قرمان بِدَرَاهِم ضربت باسم السُّلْطَان وَأَنه خطب هُنَاكَ(3/7)
للسُّلْطَان وَهِي أَطْرَاف بِلَاد الرّوم فَكتب لَهُ تَقْلِيد وسيرت إِلَيْهِ هَدِيَّة جليلة. وَفِيه خلع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي ضَرْبَة ابْن الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا اللحياني ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فِي أخر شهر ربيع الآخر. وَكَانَت مدَّته سنة وَاحِدَة وَقَامَ بعده بتونس الْأَمِير أَبُو بكر بن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن يحيي بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص. وَفِي هَذِه السّنة. انقرضت دولة بني قطلمش مُلُوك قونية. وَذَلِكَ أَن عز الدّين اسيكاوس بن كيخسرو لما مَاتَ سبع وَسبعين وسِتمِائَة ترك ابْنه مسعوداً فولاه أبغا بن هولاكو سيواس وَغَيرهَا. واستبد معِين الدّين سُلَيْمَان برواناه على ركن الدّين قلج أرسلان ابْن كيخسرو بقيصرية ثمَّ قَتله وَنصب ابْنه غياث الدّين كيخسرو فَعَزله أرغون بن أبغا وَولي ابْن عَمه مَسْعُود بن كيكاوس فَأَقَامَ مَسْعُود حَتَّى انحل أمره وافتقر وَبَقِي الْملك بالروم للتتر إِلَّا ملك بني أرتنا فَأَنَّهُ بَقِي بسيواس. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر كَمَال الدّين أَحْمد بن جمال الدّين أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن سحمان الكبري الوائلي الشريشي الْفَقِيه الشَّافِعِي. قدم مصر وَسمع بهَا وبالإسكندرية وبرع فِي الْأُصُول والنحو وناب بِدِمَشْق فِي الحكم عَن الْبَدْر مُحَمَّد بن جمَاعَة وَولى(3/8)
وكَالَة بَيت المَال مرَّتَيْنِ ومشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق وعلق تعاليق وَقَالَ الشّعْر. ومولده فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة بسنجار وَتُوفِّي بِمَنْزِلَة الحسا من طَرِيق الْحجاز عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة فِي سلخ شَوَّال. وَمَات جمال الدّين أَبُو بكر بن إِبْرَاهِيم بن حيدرة بن عَليّ بن عقيل الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن القماح فِي سَابِع عشر ذِي الْحجَّة وَهُوَ عَم القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن القماح. وَمَات شرف الدّين أَبُو الْفَتْح أَحْمد بن سُلَيْمَان بن أَحْمد بن أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الله السيرجي الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي فِي سَابِع عشري ربيع الأول. وَهُوَ من بَيت جليل وَولي عدَّة مناصب وَكَانَ دينا صَاحب مُرُوءَة وسعة وَمَات يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشري ربيع الأول. وَمَات فَخر الدّين أَحْمد بن تَاج الدّين بن أبي الْخَيْر سَلَامه بن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن سَلامَة السكندري المالكى قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق ولد سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَمَات مستهل ذِي الْحجَّة وَكَانَ مشكور السِّيرَة بَصيرًا بِالْعلمِ ماهراً فِي الْأُصُول حشماً. وَمَات أَحْمد بن المغربي الإشبيلي كَانَ يَهُودِيّا يُقَال لَهُ سُلَيْمَان فَأسلم فِي أَيَّام الْملك الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون سنة تسعين وستمائه وَتسَمى أَحْمد وَمَات فِي لَيْلَة الْعشْرين من صفر. وَكَانَ بارعاً فِي عدَّة عُلُوم إِمَامًا مي الفلسفة والنجامة ولي رياسه الْأَطِبَّاء بديار مصر.(3/9)
وَمَات مجد الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن قَاسم التّونسِيّ الْمُقْرِئ الْمَالِكِي النَّحْوِيّ. قدم فِي صباه إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا الْقرَاءَات والنحو حَتَّى برع فيهمَا وَسكن دمشق وأقرأ بهَا واشتغل فِي عدَّة عُلُوم من أصُول وَفقه وَغير ذَلِك وَكَانَ دينا رصيناً مفرط الذكاء فِيهِ تودد وَيُحب الإنفراد وَتخرج بِهِ الْفُضَلَاء. وَمَات يَوْم السبت سادس عشري ذِي الْقعدَة بِدِمَشْق عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة. وَمَات مُسْند الْوَقْت زين الدّين أَبُو بكر أَحْمد بن عبد الدايم بن نعْمَة الْمَقْدِسِي الصَّالِحِي سمع سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة على الْفَخر الإربلي وَسمع الصَّحِيح كُله على ابْن الزبيدِيّ وَسمع من الناصح ابْن الْحَنْبَلِيّ وَسَالم بن صصري وجعفر الهمذاني وَجَمَاعَة وأضر قبل مَوته بِثَلَاثَة أَعْوَام وَثقل سَمعه وَكَانَ لَهُ همة وجلادة وَفهم وَحدث وعاش ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة. وَمَات لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشري رَمَضَان ومولده فِي سنة خمس أَو سِتّ وسِتمِائَة. وَمَات زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مخلوف بن ناهض بن مُسلم بن منعم بن خلف النويري الْجُزُولِيّ الْمَالِكِي قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة بِالْقَاهِرَةِ ومصر فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر جمادي الْآخِرَة وَأقَام قَاضِيا نَحوا من أَربع وَثَلَاثِينَ سنة ومولده سنة عشْرين وسِتمِائَة. وَكَانَ مشكور السِّيرَة خَبِيرا بتدبير أُمُوره الدُّنْيَوِيَّة كثير المداراة سيوساً محباً لقَضَاء الْحَوَائِج وَولي بعده نَائِبه تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَتيق الأخنائي وَمَات مُحَمَّد بن قَاضِي الْجَمَاعَة أبي الْقَاسِم وَقيل أبي عمر أَحْمد ابْن القَاضِي أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحَاج وَقيل أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن القَاضِي أبي جَعْفَر بن الْحَاج أَبُو الْوَلِيد التجِيبِي الأندلسي الْقُرْطُبِيّ الإشبيلي ولد سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَمَات أَبوهُ وجده فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَورث مَالا(3/10)
كثيرا فصادره ابْن الْأَحْمَر وَأخذ مِنْهُ عشْرين ألف دِينَار وَنَشَأ يَتِيما فِي حجر أمه ونقلته إِلَى شريش ثمَّ إِلَى غرناطة فَلَمَّا شب قدم تونس ثمَّ رَحل مِنْهَا بإبنيه إِلَى الْقَاهِرَة وَسكن دمشق حَتَّى مَاتَ بهَا فِي رَجَب. وَكَانَ فَاضلا دينا أم بمحراب الْجَامِع وَامْتنع من ولَايَة الحكم. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنقر الكمالي الْحَاجِب بمحبسه من القلعة فِي ربيع الآخر وَكَانَ فِي ولَايَته مشكوراً حشماً صين اللِّسَان. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين أقطوان الظَّاهِرِيّ بِدِمَشْق فِي عَاشر رَمَضَان وَقد تجَاوز الثَّمَانِينَ سنة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين طغاي بمحبسه بالإسكندرية أول شعْبَان. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين الدكز الأشرفي أحد المماليك المنصورية قلاوون بمحبسه بالقلعة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين منكوتمر الطباخي. وَمَات أركتمر بالجب من القلعة. وَأشيع موت الْأَمِير مُوسَى ابْن الْملك الصَّالح عَليّ بن قلاوون بقوص. وَمَات الْأَمِير عز الدّين طقطاي نَائِب الكرك. وَمَات ركن الدّين بيبرس نَائِب عجلون. وَفِيه قدم الْخَبَر. بِمَوْت الْوَزير رشيد الدولة أَبُو الْفضل فضل الله بن أبي الْخَيْر بن عالي الهمذاني الطَّبِيب فِي تَاسِع رَمَضَان. وَكَانَ قد علت مَنْزِلَته عِنْد غازان وَقدم مَعَه الشَّام وَتقدم فِي أَيَّام خربندا. فَلَمَّا مَاتَ خربندا عزل عَن وظائفه فصانع عَن نَفسه. بِمَال كَبِير فَلم يغنه شَيْئا واتهم أَنه قتل خربندا بالسم وَشهد عَلَيْهِ الأطباخي وَقتل وَحمل رَأسه إِلَى تبريز ثمَّ قطعت أعضاؤه وَحمل إِلَى كل بلد عُضْو. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بهادر الشمسي بقلعة دمشق فِي ذِي الْحجَّة.(3/11)
وَفِيه قدم من الْعرَاق محمل إِلَى مَكَّة وَكِسْوَة للكعبة فَلم يمكنوا من الْكسْوَة وَكَانَ القان أَبُو سعيد قد جهز الركب وَقدم عَلَيْهِم رجلا شجاعاً فَلم يُمكن العربان أَن يَأْخُذ شَيْئا من الْحَاج. فَلَمَّا كَانَ الْعَام الْقَابِل خرجت الْعُيُون على الركب ونهبوه وَأخذُوا من الْحَاج شَيْئا كثيرا فَسَأَلَ أَبُو سعيد كم قدر مَا أخذُوا من الركب فَقيل لَهُ نَحْو الثَّلَاثِينَ ألف دِينَار فرتب لَهُم سِتِّينَ ألف دِينَار فَمَاتَ من سنته.(3/12)
سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة فِي خَامِس الْمحرم: قدم مُبشر الْحَاج بسلامة الْحَاج وَالْقَبْض على الشريف رميثة بن أبي نمى وَأَنه اسْتَقر عوضه فِي إمرة مَكَّة أَخُوهُ الشريف عطيفة. وَقدم الْحَاج مَعَ مغلطاي الجمالي وصحبته الشريف رميثة فسجن من سَابِع عشرَة إِلَى أَن دخل الْمحمل فِي ثَانِي عشريه. فشق الجمالي على النَّاس بِكَثْرَة عجلته فِي السّير وَكَانَت الْعَادة أَولا بقدوم الْمحمل فِي ثامن عشري الْمحرم ثمَّ اسْتَقر دُخُوله فِي الْأَيَّام الناصرية يَوْم الْخَامِس أَو الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ فَأنْكر عَلَيْهِ السُّلْطَان مَا فعله وجهز مُحَمَّد بن الرديني. بِمِائَتي جمل عَلَيْهَا الزَّاد وَالْمَاء برسم حمل من انْقَطع من الْحَاج فسافر من يَوْمه. وَفِيه قدم كتاب الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن عِيسَى بن التركماني من مَكَّة بِأَنَّهُ منع العبيد من حمل السِّلَاح. بِمَكَّة وَأَنه أخرج المفسدين ونادى بِالْعَدْلِ وَأَنه مُقيم لأخد الشريف حميضة. وَفِيه جهز الْأَمِير أيتمش المحمدي على عَسْكَر إِلَى برقة وَمَعَهُ فَايِد وَسليمَان أُمَرَاء العربان لجباية زَكَاة الأغنام على الْعَادة فَسَار فِي ثَلَاثمِائَة فَارس من أجناد الْحلقَة وَمَعَهُ من الْأُمَرَاء بلبان الْخَاص تركي وبلبان الحسني وسنقر المرزوقي وصمغار بن سنقر الْأَشْقَر ومنكلي الجمدار وغرلوا الجوكندار ونوغاي أخر يَوْم من الْمحرم وَنزل بالإسكندرية. ثمَّ سَار أيتمش يُرِيد بِلَاد جَعْفَر بن عمر من برقة ومسافتها من الْإسْكَنْدَريَّة على الجادة نَحْو شَهْرَيْن. فدله بعض الْعَرَب على طَرِيق مسافتها ثَلَاثَة عشر يَوْمًا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْقَوْم من غير أَن يعلمُوا بِهِ وَطلب فِي نَظِير دلَالَته على هَذِه الطَّرِيق مائَة دِينَار وإقطاعات من السُّلْطَان بعد عود الْعَسْكَر إِلَى الْقَاهِرَة فَعجل لَهُ أيتمش الْمِائَة وَالْتزم لَهُ(3/13)
بالإقطاع من السُّلْطَان وَكتب لَهُ بِعشْرَة أرادب قمحاً لِعِيَالِهِ وأركبه نَاقَة وكتم ذَلِك كُله عَن الْعَسْكَر من الْأُمَرَاء والأجناد والعربان وَسَار بمسيره. فَأنْكر سُلَيْمَان وفايد على أيتمش مسيره فِي غير الجادة وخوفوه الْعَطش وهلاك الْعَسْكَر فَلم يعبأ بكلامهما فمضيا إِلَى الْأُمَرَاء وشنعا القَوْل وأكثرا من الإرجاف فَاجْتمعُوا بأيتمش ليردوه إِلَى الجادة فَلم يفعل وَمضى فَلم يَجدوا بدا من أَتْبَاعه حَتَّى إِذا مَضَت ثَلَاث عشرَة لَيْلَة أشرف على منَازِل جَعْفَر بن عمر وعربانه فدهشوا لرؤية الْعَسْكَر. وَأرْسل إِلَيْهِم أيتمش بِسُلَيْمَان وفايد يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة فَأَجَابُوا مَعَ رسلهم: إِنَّا على الطَّاعَة وَلَكِن مَا سَبَب قدوم هَذَا الْعَسْكَر على غَفلَة من غير أَن يتَقَدَّم لنا بِهِ علم. فَقَالَ لَهُم أيتمش: حَتَّى يحضر الْأَمِير جَعْفَر وَيسمع مرسوم السُّلْطَان وأعادهم. وَتقدم أيتمش إِلَى جَمِيع من مَعَه أَلا ينزل أحد عَن فرسه طول ليلته فَبَاتُوا على ظُهُور الْخَيل. فَلَمَّا كَانَ الصَّباح حضر أَخُو جَعْفَر ليسمع المرسوم فنهره أيتمش وَقَالَ لَهُ وَلمن مَعَه: ارْجعُوا إِلَى جَعْفَر فَإِن كَانَ طَائِعا فليحضر وَإِلَّا فليعرفني وَبعث مَعَه ثَلَاثَة من مقدمي الْحلقَة فَامْتنعَ جَعْفَر من الْحُضُور. فللحال لبس الْعَسْكَر السِّلَاح وترتب وأفرد سُلَيْمَان وفايد. بِمن مَعَهُمَا من الْعَسْكَر نَاحيَة واستعد جَعْفَر أَيْضا وَجمع قومه وَحمل بهم على الْعَسْكَر. فَرَمَوْهُمْ بالنشاب فَلم يبالوا بِهِ ودقوا الْعَسْكَر برماحهم وصرعوا الْأَمِير شُجَاع الدّين غرلوا الجوكندار بَعْدَمَا جرحوه ثلات جراحات فَتَدَاركهُ أَصْحَابه وأركبوه. وحملوا على الْعَرَب فَكَانَت بَين الْفَرِيقَيْنِ تسع عشرَة وقْعَة أَخّرهَا انهزم الْعَرَب إِلَى بُيُوتهم فَقَاتلهُمْ الْعَسْكَر عِنْد الْبيُوت سَاعَة وهزموهم إِلَيْهَا وَكَانَت تِلْكَ الْبيُوت فِي غَايَة قصب. فَكف الْعَسْكَر عَن الدُّخُول إِلَيْهِم ومنعهم أيتمش عَن التَّعَرُّض إِلَى الْبيُوت وحماها وأباح لَهُم مَا عَداهَا فامتدت الأيدى وَأخذت من الْجمال والأغنام مَا لَا ينْحَصر عدده. وَبَات الْعَسْكَر محترسين وَقد أَسرُّوا نَحْو الستمائة رجل سوى من قتل. فَلَمَّا أصبح الصُّبْح من أيتمش على الأسرى وأطلقهم وتفقد الْعَسْكَر فَوجدَ فِيهِ اثنى عشر جريحاً وَلم يقتل غير جندي وَاحِد فَرَحل عَائِدًا عَن الْبيُوت بأنعام تسد الفضاء وأبيع مَعَهم فِيمَا بَينهم الرَّأْس الْغنم بدرهم والجمل مَا بَين عشْرين إِلَى ثَلَاثِينَ درهما وَسَار أيتمش سِتَّة أَيَّام فِي الطَّرِيق الَّتِي سلكها والعسكر بِالسِّلَاحِ خشيَة من عود الْعَرَب إِلَيْهِم. وَبعث أيتمش بالبشارة إِلَى السُّلْطَان فَبعث الْأَمِير سيف الدّين ألجاي الساقي لتلقي الْعَسْكَر بالإسكندرية وَإِخْرَاج الْخمس مِمَّا مَعَهم للسُّلْطَان وتفرقة مَا بَقِي فيهم فَخص(3/14)
الجندي مَا بَين أَرْبَعَة جمال وَخَمْسَة وَمن الْغنم مَا بَين الْعشْرين إِلَى الثلائين. وحضروا إِلَى الْقَاهِرَة فَخلع السُّلْطَان على أيتمش وَبعد حضورهم بإسبوع قدم جَعْفَر بن عمر إِلَى الْقَاهِرَة وَنزل عِنْد الْأَمِير بكتمر الساقي مستجيراً فَأكْرمه وَدخل بِهِ على السُّلْطَان فاعترف بالْخَطَأ وَسَأَلَ الْعَفو وَأَن يُقرر عَلَيْهِ مَا يقوم بِهِ فَقبل السُّلْطَان قَوْله وَعَفا عَنهُ وخلع عَلَيْهِ وَمضى وَصَارَ يحمل الْقود فِي كل سنة. وَفِي لَيْلَة أول الْمحرم: هبت ريح بِدِمَشْق شَدِيدَة رمت عدَّة منَازِل وَخَربَتْ كثيرا من الْبيُوت فَهَلَك تَحت الرَّدْم خلق كثير وقلعت أَشجَار كَثِيرَة من أُصُولهَا. ثمَّ سكنت الرّيح ثمَّ ثارت لَيْلَة التَّاسِع عشر مِنْهُ وَلم تبلغ شدَّة الأولى. وَفِي صفر: اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بهادر البدري نَائِب السلطنة بحمص عوضا عَن بدر الدّين بكتوت القرماني فَتوجه إِلَيْهَا فِي رَابِع ربيع الأول وَاسْتقر القرماني من جملَة أُمَرَاء دمشق. وَاسْتقر شرف الدّين مُحَمَّد بن معِين الدّين أبي بكر ظافر بن عبد الْوَهَّاب الهمذاني الْمَالِكِي ابْن خطب الفيوم فِي قَضَاء الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق عوضا عَن فَخر الدّين أَحْمد بن سَلامَة فِي تَاسِع عشري ربيع الأول. وَاسْتقر تَاج الدّين أَحْمد بن القلانسي فِي وكَالَة بَيت المَال بِدِمَشْق وَكتب. بِمَنْع ابْن تَيْمِية من الفتوي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْيمن بِالطَّلَاق. وَفِيه قل الْمَطَر بِبِلَاد الشَّام حَتَّى أيس النَّاس واستسقوا بِدِمَشْق فسقوا وَمر دمشق سيل عَظِيم قل ماعهد مثله. وَفِيه استجد السُّلْطَان الْقيام فَوق الْكُرْسِيّ للأميرين جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك وَسيف الدّين بكتمر البوبكري السِّلَاح دَار إِذا دخلا عَلَيْهِ. وَكَانَ نَائِب الكرك يتَقَدَّم على البوبكري عِنْد تَقْبِيل يَد السُّلْطَان فعتب الْأُمَرَاء على البوبكري. وَسُئِلَ السُّلْطَان عَن تَقْدِيمه نَائِب الكرك وتأخيره البوبكري فَأن الْعَادة جرت أَن يتَأَخَّر الْكَبِير فِي تَقْبِيل الْيَد ويتقدم الصَّغِير قبله فَقَالَ لِأَنَّهُ أكبر. فكشف عَن ذَلِك فَوجدَ أَن نَائِب الكرك قد أمره الْملك لمنصور قلاوون إمرة عشرَة وَجعله أستادار إبنه الْملك الْأَشْرَف فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَوجد أَن البوبكري تَأمر بعد مسك سنقر الطَّوِيل عِنْدَمَا طلب من مماليك البرج هُوَ والخطيري وسنجر الجمقدار وطشتمر الجمقدار فِي سنة تسعين وسِتمِائَة.(3/15)
وَفِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر ربيع الآخر: قدم شمس الدّين غبريال على الْبَرِيد من دمشق باستدعاء وخلع عَلَيْهِ بِنَظَر الشَّام. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر ربيع الآخر. فر الشريف رميثة أخر النَّهَار فَبعث السُّلْطَان فِي طلبه الْأَمِير قطلوبغا المغربي والأمير أقبغا أص الجاشنكير على الهجن السُّلْطَانِيَّة فِي لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع عشره فَقبض عَلَيْهِ. بِمَنْزِلَة حقل فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشريه وَقدم فِي خَامِس عشريه فسجن فِي الْجب من القلعة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر رَجَب: قدم الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني من مَكَّة بِكِتَاب الشريف عطيفة وَأخْبر بِأَن القواد فِي طَاعَته وَأَن حميضة نزح إِلَى الْيمن وَذَلِكَ بعد أَن فَارقه بَنو شُعْبَة وَغَيرهم. وَفِيه قدم الْخَبَر بإفساد الْعَرَب بثغر عيذاب وقتلهم الشاد الْمُقِيم بهَا. فَجرد إِلَيْهِم السُّلْطَان من الْأُمَرَاء آقوش المنصوري وَهُوَ الْمُقدم وَمُحَمّد بن الشمسي وَعلي بن قراسنقر وطقصباي الحسامي وبيبرس الكريمي وآقوش العتريس وأنعم على آقوش المنصوري بإمرة طبلخاناه وأقطع ثغر أسوان ليقيم بعيذاب. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة: قدم سُلَيْمَان بن مهنا طَائِعا بعد دُخُوله إِلَى الأردو ملتجئاً إِلَى الْمغل فَأكْرمه السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِ بِمِائَتي ألف دِرْهَم من دمشق وَأَعْطَاهُ قماشاً بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَعَاد. وَفِيه اسْتَقر فِي نقابة الجيوش أَحْمد بن آقوش العزيزي المهمندار بعد وَفَاة الْأَمِير طيبرس الخزنداري. وَفِيه قدم كتاب أبي يحيى زَكَرِيَّا بن أَحْمد بن مُحَمَّد اللحياني الزَّاهِد بن عبد الْوَاحِد ابْن أبي حَفْص الْمَعْرُوف باللحياني يسْأَل الْإِسْعَاف بتجريد طَائِفَة من الْعَسْكَر إِلَيْهِ(3/16)
يحضر مَعَهم إِلَى مصر. فَخرج إِلَيْهِ الْأَمِير طقصباي الحسامي والأمير بدر الدّين بيليك المحسني فِي طَائِفَة من الأجناد وأحضراه بحرمه وَفِيه أنزلت خوند أردوكين بنت نوكاي من القلعة إِلَى الْقَاهِرَة بَعْدَمَا أَخذ السُّلْطَان مِنْهَا كثيرا من الْجَوَاهِر ورتب لَهَا عدَّة رواتب. وَفِيه عمل إبرنجي خَال القان أبي سعيد على قتل جوبان وواعد قرمشي ودقماق وَغَيرهمَا من المقدمين على ذَلِك. فَنقل الْخَبَر لجوبان ففر ونهبت أثقاله وَقتل لَهُ نَحْو ثَلَاثمِائَة رجل. وَلحق جوبان بتبريز وَقدم وَمَعَهُ عَليّ شاه إِلَى بو سعيد فتبرأ مِمَّا جرى عَلَيْهِ. وجهز لَهُ بو سعيد عسكراً وَركب مَعَه حَتَّى لقوا إبرنجي وَمن مَعَه فقاتلوهم وَأخذُوا إبرنجي وقرمشي ودقماق فَقتلُوا وَأمْسك أمراؤهم. وَتمكن جوبان من أعدائه وَقتل خلائق من الْمغل واتهم القان بوسعيد وَفِيه اهتم السُّلْطَان بالحركة إِلَى الْحجاز ليحج وَتقدم إِلَى كريم الدّين الْكَبِير بتجهيزه وَالسّفر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة لعمل ثِيَاب أطلس برسم شمسوة الْكَعْبَة. فَطلب كريم الدّين أكْرم الصَّغِير وَغَيره من المباشرين وَأمرهمْ بتجهيز الإقامات والمعلوات والحوائج خاناه وَكتب لنائب الشَّام ونائب غَزَّة بتجهيز مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. فتوالت تقادم الْأُمَرَاء والنواب من سَائِر الْبِلَاد الشامية. وَكَانَت أول تقدمة وصلت من الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وفيهَا الْخَيل والهجن بأكوار ذهب وسلاسل ذهب وَفِضة ومقاود حَرِير ثمَّ تقدمة الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماة. وَتَوَلَّى كريم الدّين بِنَفسِهِ تجهيز مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَعمل عدَّة قدور من ذهب وَفِضة ونحاس تحمل على البخاتي ويطبخ فِيهَا وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين فِي أحواض من خشب تحمل على الْجمال فَتَصِير مزوعة وتستقى ويحصد مِنْهَا مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ فِيهَا من البقل والكراث والكزبرة والنعناع وَالريحَان وأنواع المشمومات شَيْء كثير ورتب لَهَا الخولة لتعهدها وجهزت الأفران وصناع الكماج(3/17)
والجبن المقلي وَغَيره. وَدفع كريم الدّين إِلَى العربان أُجْرَة الْأَحْمَال من الشّعير والدقيق والبقسماط وجهز فِي بَحر الْملح مركبين إِلَى يَنْبع ومركبين إِلَى جدة وَكتب أوراق العليق للسُّلْطَان والأمراء وعدتهم اثْنَان وَخَمْسُونَ أَمِيرا لكل أَمِير مَا بَين مائَة عليقة فِي كل يَوْم إِلَى خمسين عليقة إِلَى عشْرين عليقة فَكَانَت حَملَة العليق فِي مُدَّة الْغَيْبَة مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألف أردب من الشّعير. وَحمل من دمشق خمسائة حمل على الْجمال مَا بَين حلوى وسكردانات وفواكه وَمِائَة وَثَمَانُونَ حمل حب رمان ولوز وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَصْنَاف المطبخ. وجهز كريم الدّين من الأوز ألف طَائِر وَمن الدَّجَاج ثَلَاثَة أُلَّاف طَائِر. وَعين السُّلْطَان الْأَمِير أرغون النَّائِب بديار مصر للإقامة بقلعة الْجَبَل وَمَعَهُ الْأَمِير أيتمش وَغَيره ورسم لمن تَأَخّر من الْأُمَرَاء أَن يتوجهوا إِلَى نواحي إقطاعهم فَيكون كل مِنْهُم بِبِلَاد إقطاعه إِلَى حِين عود السُّلْطَان وَلَا يجْتَمع أَمِير بأمير فِي غيبته. وَكتب إِلَى النواب بِالشَّام أَن يسْتَقرّ كل نَائِب. بمقر مَمْلَكَته وَلَا يتَوَجَّه إِلَى صيد إِلَى حِين عوده فامتثلت أوامره. وَفِيه قدم الْملك الْمُؤَيد من حماة فَتوجه الْمحمل على الْعَادة فِي يَوْم الْأَحَد ثامن عشر شَوَّال مَعَ الْأَمِير سيف الدّين طرجي أَمِير مجْلِس. وَركب السُّلْطَان من القلعة فِي أول ذِي الْقعدَة وَسَار من بركَة الْحَاج فِي سادسه وَمَعَهُ صَاحب حماة والأمراء وقاضي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَأهل الدولة. وَقدم السُّلْطَان مَكَّة بتواضع وذلة بِحَيْثُ قَالَ الْأَمِير بدر الدّين جنكلي بن البابا. لازلت أعظم نَفسِي إِلَى أَن رَأَيْت الْكَعْبَة وَذكرت بوس النَّاس الأَرْض لي فَدخلت فِي قلبِي مهابة عَظِيمَة مازالت حَتَّى سجدت لله تَعَالَى. وَحسن لَهُ بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة أَن طوف رَاكِبًا كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: وَمن أَنا حَتَّى أتشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لَا طفت إِلَّا كَمَا يطوف النَّاس. وَمنع السُّلْطَان الْحجاب من منع النَّاس أَن يطوفوا مَعَه وصاروا يزاحمونه وَهُوَ يزاحمهم كواحد من النَّاس فِي مُدَّة طَوَافه وَفِي تقبيله الْحجر. وبلغه أَن جمَاعَة من الْمغل مِمَّن حج قد اختفي خوفًا مِنْهُ فأحضرهم وأنعم عَلَيْهِم وَبَالغ فِي إكرامهم. وَغسل الْكَعْبَة بِيَدِهِ وَأخذ أزر إِحْرَام وغسلها لَهُم بِنَفسِهِ. وأبطل سَائِر المكوس من الْحَرَمَيْنِ وَعوض أَمِيري(3/18)
مَكَّة وَالْمَدينَة عَنْهَا إقطاعات. بِمصْر وَالشَّام. وَأحسن إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ وَأكْثر من الصَّدقَات.
(وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث ذِي الْحجَّة)
ظهر بعد الظّهْر الْقَمَر فِي السَّمَاء مُقَارنًا لكوكب وَأَقَامَا ظَاهِرين إِلَى بعد الْعَصْر. وَفِيه مهد السُّلْطَان مَا كَانَ فِي عقبَة أَيْلَة من الصخور ووسع طريقها حَتَّى أمكن سلوكها بِغَيْر مشقة. وَفِيه اتّفقت موعظة: وَهِي أَن السُّلْطَان بَالغ فِي تواضعه. بِمَكَّة فَلَمَّا أخرجت الْكسْوَة لتعمل على الْبَيْت صعد كريم الدّين الْكَبِير إِلَى أعلا الْكَعْبَة بَعْدَمَا صلى بجوفها ثمَّ جلس على العتبة ينظر إِلَى الخياطين فَأنْكر النَّاس استعلاءه على الطَّائِفَتَيْنِ فَبعث الله عَلَيْهِ نعاساً سقط مِنْهُ على أم رَأسه من علو الْبَيْت فَلَو لم يتداركوه من تَحْتَهُ لهلك. وصرخ النَّاس فِي الطّواف تَعَجبا من ظُهُور قدرَة الله فِي إذلال المتكبرين وَانْقطع ظفر كريم الدّين وَعلم بِذَنبِهِ فَتصدق بِمَال جزيل. وَفِي هَذِه السّنة: حشد الفرنج وَأَقْبلُوا يُرِيدُونَ استئصال الْمُسلمين من الأندلس فِي عدد لَا يُحْصى فِيهِ خَمْسَة وَعِشْرُونَ ملكا فقلق الْمُسلمُونَ بغرناطة واستنجدوا بالمريني ملك فاس فَلم ينجدهم فلجوا إِلَى الله وحاربوهم وهم نَحْو ألف وَخَمْسمِائة فَارس وَأَرْبَعَة أُلَّاف راجل فَقتلُوا الفرنج بأجمعهم. وَأَقل مَا قيل أَنه قتل مِنْهُم خَمْسُونَ ألفا وَأكْثر مَا قيل ثَمَانُون ألفا وَلم يقتل من الْمُسلمين سوى ثَلَاثَة عشر فَارِسًا وغنم الْمُسلمُونَ مَا لَا يدْخل تَحت حصر وسلخ الْملك دون بتروا وَحشِي قطناً وعلق على بَاب غرناطة فَطلب الفرنج الْهُدْنَة فعقدت وَبَقِي دون بتروا مُعَلّقا عدَّة سِنِين. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْأَمِير سيف الدّين كراي المنصوري فِي سادس عشر الْمحرم بسجن القلعة وَكَانَ مقدما قَلِيل السياسة. وَمَات الْأَمِير شُجَاع الدّين أغرلوا العادلي أحد مماليك الْعَادِل كتبغا بِدِمَشْق سلخ جُمَادَى الأولى وَكَانَ شجاعاً كَرِيمًا.(3/19)
وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين طيبرس الخزنداري نقيب الْجَيْش وَأحد أُمَرَاء الطبلخاناه فِي عشري ربيع الآخر وَدفن بمدرسته الْمُجَاورَة للجامع الْأَزْهَر وَكَانَ قد أَقَامَ فِي نقابة الْجَيْش نَحْو أَربع وَعشْرين سنة لم يقبل فِيهَا لأحد هَدِيَّة وَكَانَ دينا صَاحب مَال كَبِير وَهُوَ أول من عمر فِي أَرض مصر بُسْتَان الخشاب وَالْجَامِع والخانكاه على النّيل وَبنى الْمدرسَة الْمُجَاورَة للجامع الْأَزْهَر وَعمل لذَلِك أوقافاً كَثِيرَة وَلما كملت وجاءه مباشروه بِحِسَاب مصروفها لم ينظر فِيهِ وغسله بِالْمَاءِ وَقَالَ: شَيْء خرحنا عَنهُ الله لَا نحاسسب عَلَيْهِ. وَمَات الْأَمِير ملكتمر السُّلَيْمَانِي الجمدار فَجْأَة. وَمَات الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح نصر بن سُلَيْمَان بن عمر المنبجي لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة ومولده فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ مُعْتَقدًا عَارِفًا بالقراءات مُحدثا فَقِيها حنفياً وَأقَام عدَّة سِنِين لَا يَأْكُل اللَّحْم وَحصل لَهُ حَظّ وافر فِي الدولة المظفرية بيبرس. وَمَات القَاضِي فَخر الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَليّ بن يحيى بن هبة الله الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي عرف بإبن بنت أبي سعد فِي لَيْلَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة ومولده فِي حادي عشري رَجَب سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة بداريا ظَاهر دمشق وَاسْتقر عوضه فِي تدريس الْجَامِع الطولوني عز الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة. وَمَات الْملك الْمُعظم شرف الدّين عِيسَى ابْن الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد ابْن الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه ابْن القاهر مُحَمَّد ابْن الْمَنْصُور أَسد الدّين شيركوه بن شادي بِالْقَاهِرَةِ فِي ثَانِي ذِي الْقعدَة وَقد حضر من دمشق فِي طلب إمرة فأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه بِدِمَشْق فَمَاتَ قبل عوده إِلَيْهَا. ومولده بِدِمَشْق فِي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة. وَمَات بِدِمَشْق شهَاب الدّين أَحْمد بن صَلَاح الدّين مُحَمَّد ابْن الْملك الأمجد مجد الدّين حسن ابْن النَّاصِر دَاوُد ابْن الْمُعظم عِيسَى ابْن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فِي رَجَب يَوْم الْإِثْنَيْنِ لست بَقينَ مِنْهُ. وَمَات الصَّدْر بدر الدّين مُحَمَّد بن نَاصِر الدّين مَنْصُور بن الْجَوْهَرِي الْحلَبِي بِدِمَشْق(3/20)
فِي سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة ومولده بحلب فِي ثَالِث عشر صفر سنة اثْنَيْنِ وَخمسين وستمائه وَكَانَ من رُؤَسَاء الدولة العادلية كتبغا وَعرضت عَلَيْهِ وزارة دمشق فَأبى.(3/21)
فارغة(3/22)
سنة عشْرين وَسَبْعمائة فِيهَا عَاد السُّلْطَان من الْحجاز بَعْدَمَا من بخليص وَقد جرى المَاء إِلَيْهَا. وَكَانَ قد ذكر لَهُ وَهُوَ بِمَكَّة أَن الْعَادة كَانَت جَارِيَة بِحمْل مَال إِلَى خليص ليجري المَاء من عين بهَا إِلَى بركَة يردهَا الْحَاج وَقد انْقَطع ذَلِك مُنْذُ سِنِين وَصَارَ الْحَاج يجد شدَّة من قلَّة المَاء بخليص فرسم بمبلغ خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم لإجراء المَاء من الْعين إِلَى الْبركَة وَجعلهَا مقررة فِي كل سنة لصَاحب خليص. فَأجرى صَاحب خليص المَاء قبل وُصُول السُّلْطَان إِلَيْهَا وَاسْتمرّ حمل المَال إِلَيْهِ فِي كل سنة وَوجد المَاء فِي الْبركَة دَائِما. ولقى السُّلْطَان فِي هَذِه السفرة جَمِيع العربان: من بني مهْدي وأمرائها وشطى وأخيه عساف وَأَوْلَاده وأشراف مَكَّة من الْأُمَرَاء وَغَيرهم وأشراف الْمَدِينَة والينبع وخليص وَبني لَام وعربان حوران وَأَوْلَاد مهنا مُوسَى وَسليمَان وفياض وَأحمد وجبار بعربهم وَلم يتَّفق اجْتِمَاع هَؤُلَاءِ لملك قبله. وَأَكْثرُوا من الدَّالَّة على السُّلْطَان وجروا على عوائدهم الْعَرَبيَّة من غير مُرَاعَاة الْآدَاب الملوكية وَهُوَ يَحْتَمِلهُمْ بِحَيْثُ أَن مُوسَى بن مهنا كَانَ ولد صَغِير فَقَامَ فِي بعض الْأَيَّام وَمد يَده إِلَى لحية السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَليّ بحياة هذي ومسك مِنْهَا شَعرَات إِلَّا مَا أعطتني الضَّيْعَة الْفُلَانِيَّة إنعاماً عَليّ. فَصَرَخَ فِيهِ الْفَخر نَاظر الْجَيْش وَقَالَ لَهُ: شل يدك قطع يدك والك تمد يدك إِلَى السُّلْطَان فَتَبَسَّمَ لَهُ السُّلْطَان وَقَالَ: يَا قَاضِي هَذِه عَادَة الْعَرَب إِذا قصدُوا كَبِيرا فِي شَيْء فَيكون عَظمته عِنْدهم مسك لحيته يُرِيدُونَ أَنهم قد استجاروا بذلك الشَّيْء فَهُوَ سنة عِنْدهم. فَغَضب الْفَخر وَقَامَ وَهُوَ يَقُول: وَا لله إِن هَؤُلَاءِ مناحيس وسنتهم أنحس.(3/23)
وفيهَا قدم الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أرغون النَّائِب مبشراً إِلَى الْقَاهِرَة وَمَعَهُ الْأَمِير قطلوبغا المغربي. وَقدم الْأَمِير بدر الدّين بدرجك إِلَى دمشق مبشراً. وَقدم السُّلْطَان فِي يَوْم السبت ثَانِي عشر الْمحرم فَخرج الْأُمَرَاء إِلَى لِقَائِه ببركة الْحَاج وَركب بعد انْقِضَاء أَمر السماط فِي موكب جليل وَقد خرج سَائِر النَّاس لرُؤْيَته وَسَار إِلَى القلعة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وزينت الْقَاهِرَة ومصر زِينَة عَظِيمَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره: جلس السُّلْطَان وخلع على سَائِر الْأُمَرَاء والقضاة وأرباب الدولة وعَلى الْأَمِير شطي بن عبِّيَّة وَحسن بن دريني وألبس كريم الدّين الْكَبِير أطلسين وَلم يتَّفق ذَلِك لمتعمم قبله. وَفِيه بعث السُّلْطَان بالجمال والزاد لتلقي المنقطعين من الْحَاج فتواصل قدوم الْحَاج إِلَى أَن وصل الْمحمل يَوْم الْأَحَد سَابِع عشريه وصحبته قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين وَغَيره فاتفق فِيهِ مطر عَظِيم وَفِيه خلع على الْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل صَاحب حماة وَركب بشعار السلطنة من الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين وَحمل وَرَاءه الْأَمِير قجليس السِّلَاح والأمير ألجاي الدواة ورتب مَعَه الْأَمِير بيبرس الأحمدي أَمِير جندار وأمير طبر وَسَار بالغاشية والعصائب وَسَائِر دست السلطنة وهم بِالْخلْعِ مَعَه إِلَى أَن صعد القلعة فَكَانَت عدَّة التشاريف مائَة وَثَلَاثِينَ تَشْرِيفًا: فِيهَا ثَلَاثَة عشر أطلس والبقية كنجي وَعمل الدَّار وطرد وَحش. وَجلسَ صَاحب حماة رَأس الميمنة ولقبه السُّلْطَان بِالْملكِ الْمُؤَيد وسافر من يَوْمه بَعْدَمَا جهزه السُّلْطَان بِسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر صفر: أفرج عَن الْأَمِير علم الدّين سنجر البروانى والأمير عَلَاء الدّين أيتغلي الشيخى وصارم الدّين العينتابي وَعز الدّين أيدمر الشيخي وعلاء الدّين مغلطاي السيواسي والحاج بدر الدّين بيليك وشمس الدّين سنقر الكمالي الصَّغِير وَالشَّيْخ عَليّ التبريزي وَسيف الدّين منكجار وَسيف الدّين طوغان نَائِب البيرة وناصر الدّين منكلي وطاشار ومُوسَى وغازي أخوي حمدَان بن صلغاي وَعَن الشريف رميثة بن أبي نمى.(3/24)
وَفِيه هرب من سجن الإسكندربة الْأَمِير سيف الدّين بهادر الإبراهيمي النَّقِيب وَيُقَال لَهُ زيرامو وبهادر التَّقْوَى الزراق فأدركهما الطّلب وأخذا وحملا إِلَى القلعة بعد مَا خرج الْأَمِير أيتمش المحمدي والأمير أصلم للقبض عَلَيْهِمَا فَلَمَّا أحضرا كتب بِعُود الأميرين أيتمش المحمدي وأصلم فَرَجَعَا ثَالِث يَوْم سفرهما وَأنزل بالأميرين الهاربين ليوسطا تَحت القلعة فشفع فيهمَا الْأُمَرَاء فأعفى السُّلْطَان عَنْهُمَا من الْقَتْل وكحلهما بالحديد المحمي مرَّتَيْنِ حَتَّى فقدا الْبَصَر. وَفِيه رسم بالإفراج عَمَّن فِي سجن الْإسْكَنْدَريَّة فقدموا الْقَاهِرَة وأنعم عَلَيْهِم بالإقطاعات من أجل أَنهم لم يوافقوا على الهروب. وَفِيه كتب بإعفاء الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام من نظر طرابلس وَأَن يُقيم بالقدس ورتب لَهُ فِي كل شهر ألف دِرْهَم وَبعث إِلَيْهِ كريم الدّين الْكَبِير هَدِيَّة حَسَنَة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس ربيع الأول: سَار الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب بطَائفَة من الأجناد إِلَى مَكَّة ليقيم بهَا بدل الْأَمِير آقسنقر شاد العمائر الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ السُّلْطَان. بِمَكَّة وَمَعَهُ عدَّة أجناد تخوفاً من هجوم الشريف حميضة على مَكَّة. وَفِيه كتب بِخُرُوج عَسَاكِر الشَّام إِلَى غَزْو بِلَاد متملك سيس لمَنعه الْحمل. وَفِيه أبطل مكس الْملح بديار مصر فأبيع الأردب الْملح بِثَلَاثَة دَرَاهِم بَعْدَمَا كَانَ بِعشْرَة فَإِنَّهُ كتب إِلَى الْأَعْمَال أَلا يمْنَع أحد من شيل الْملح من الملاحات وأبيحت لكل أحد فبادر النَّاس إِلَيْهَا وجلبوا الْملح. وَفِيه وصلت السّتْر الرفيع الخاتوني طلنباي وَيُقَال دلنبية وَيُقَال طولونية بنت طغاي بن هندو بن باطو بن دوشي خَان بن جنكزخان. وَسبب ذَلِك أَن السُّلْطَان كَانَ قد بعث إِلَى أزبك يخْطب بعض الْجِهَات الجنكزية فاشتط بِهِ أزبك فِي طلب الْمهْر وَطول الْمدَّة وَكَثْرَة الشُّرُوط فَأَعْرض السُّلْطَان عَن الْخطْبَة وسير إِلَيْهِ الْهَدِيَّة كَمَا تقدم. وَكَانَ أزبك قد عين الْمَذْكُورَة فاستدعى التُّجَّار واقترض مِنْهُم ثَلَاثِينَ ألف دِينَار. بمعاملتهم صرف كل دِينَار سِتَّة دَرَاهِم وجهزها مَعَ بعض أمرائه فِي مائَة وَخمسين رجلا وَسِتِّينَ جَارِيَة وقاضي سراي وَمَعَهُمْ هَدِيَّة سنية فقدموا فِي الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي عشري ربيع الأول. وَخرج الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد فِي عدَّة من الْأُمَرَاء(3/25)
وَمَعَهُ الحراريق إِلَى لقائها وَخرج كريم الدّين الْكَبِير وَمَعَهُ عربان وبخاتي وبغال وَضرب الْخيام الْحَرِير الأطلس بالميدان. فَحملت الخاتون فِي الحراريق إِلَى سَاحل مصر وَركبت فِي العربة إِلَى الميدان والحجاب تمْضِي قُدَّام العربة فأقامت بالخيام ثَلَاثَة أَيَّام. ثمَّ حملت إِلَى القلعة لَيْلَة السبت سلخه فِي عربة تجرها الْعجل وَهِي كالقبة مغطاة بالديباج وَفِي خدمتها الْأَمِير أرغون النَّائِب والأمير بكتمر الساقي وَالْقَاضِي كريم الدّين الْكَبِير. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي ربيع الآخر: جلس السُّلْطَان للرسل وَحضر كَبِيرهمْ باينجار وَكَانَ مقْعدا لَا يقدر على الْقيام وَلَا الْمَشْي وَإِنَّمَا يحمل وَدخل مَعَه إيتغلي وطقبغا ومنغوش وطرجي وَعُثْمَان خجا وَالشَّيْخ برهَان الدّين إِمَام القان ورسل الأشكري. فأجلس باينجار وَأخذ مِنْهُ كتاب أزبك فَبلغ السَّلَام وَقَالَ: أَخُوك أزبك أَنْت سيرت طلبت من عظم القان بِنْتا فَلَمَّا لم يسيرها لم يطب خاطرك وَقد سيرنا لَك من بَيت كَبِير فَإِن أعجبتك خُذْهَا بِحَيْثُ لَا تخلي عنْدك أكبر مِنْهَا وَإِن لم تعجبك فاعمل بقول الله تَعَالَى: إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا. فَقَالَ السُّلْطَان: نَحن مَا نُرِيد الْحسن وَإِنَّمَا نُرِيد كبر الْبَيْت والقرب من أخي ونكون نَحن وإياه شَيْئا وَاحِدًا. وبلغه أَيْضا برهَان الدّين مشافهة من قبل أزبك. فَتَوَلّى قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة العقد على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار الْحَال مِنْهَا عشرُون ألفا والمؤجل عشرَة أُلَّاف وَقَبله السُّلْطَان بِنَفسِهِ. وَكتب عَلَاء الدّين على بن الْأَثِير كَاتب السِّرّ العقد بِخَطِّهِ وَصورته بعد الْبَسْمَلَة: هَذَا مَا أصدق مَوْلَانَا السُّلْطَان الْأَجَل الْملك النَّاصِر على الخاتون الجليلة بنت أخي السُّلْطَان أزبك خَان طولو ابْنة طغاي بن بكر بن دوشي خَان بن جنكزخان. وخلع السُّلْطَان يَوْمئِذٍ خَمْسمِائَة خلعة وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَبني عَلَيْهَا من لَيْلَتهَا فَلم تلق بخاطره. وَأصْبح السُّلْطَان فَتقدم إِلَى كريم الدّين أكْرم الصَّغِير بالتوجه إِلَى الصَّعِيد وتعبية الإقامات إِلَى قوص وجهز الرُّسُل بالهدايا والإنعامات وسفرهم وَركب للصَّيْد. وفيهَا توقف حَال النَّاس بِسَبَب الْفُلُوس وَمَا كثر فِيهَا من الزغل وَكَانَت الْمُعَامَلَة بهَا عددا عَن كل دِرْهَم فضَّة عدَّة ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين فلسًا من ضرب السُّلْطَان فعملها الزغلية وخفوا وَزنهَا حَتَّى صَار الْفلس زنته سدس دِرْهَم. وَكَانَت مُعَاملَة دمشق بالفلوس الَّتِي يُقَال لَهَا الْقَرَاطِيس والقرطاس سِتَّة فلوس ويعد فِي الدِّرْهَم الْفضة(3/26)
أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ قرطاساً فَأبْطل السُّلْطَان الْقَرَاطِيس من دمشق وَضرب بهَا كل فلس زنته دِرْهَم وَالدِّرْهَم بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين فلسًا مثل مُعَاملَة مصر فنقلت هَذِه الْفُلُوس الْخفاف الْقَرَاطِيس إِلَى مصر وخلطت بفلوس الْمُعَامَلَة حَتَّى كثرت وَقلت الْجِيَاد. فتعبت النَّاس فِيهَا وزادت الأسعار كلهَا حَتَّى غلقت الباعة الحوانيت عِنْدَمَا نُودي أَن يكون الْفُلُوس بالميزان على أَن كل رَطْل مِنْهَا بِثَلَاثَة دَرَاهِم فضَّة. فَركب وَإِلَى الْقَاهِرَة وَضرب كثيرا من أَرْبَاب المعايش بالمقارع وشهرهم وَلم يرجِعوا فَنُوديَ أَن الْفلس الَّذِي عَلَيْهِ بقجة من ضرب دَار الضَّرْب يُؤْخَذ والفلس الْخَفِيف يرد فَلم يفد ذَلِك شَيْئا. وَعمل الزغلية فُلُوسًا خفافاً عَلَيْهَا بقجة فَنُوديَ أَن يُؤْخَذ الْجَمِيع بِحِسَاب دِرْهَمَيْنِ وَنصف الرطل فمضي الْحَال قَلِيلا وَاسْتمرّ عنت الْعَامَّة وَكثر تعطيلهم الحوانيت وغلقها. وَكَانَ السُّلْطَان غَائِبا فَلَمَّا نزل بالجيزة وَخرج كريم الدّين إِلَى لِقَائِه صاحت بِهِ الْعَامَّة وفاجأوه. مِمَّا لَا يَلِيق وتكاثروا عَلَيْهِ من كل جِهَة وَشَكوا مَا بهم من أَمر الْفُلُوس ورد الباعة لَهَا وَقلة الْخبز وَغَيره فَوَعَدَهُمْ بِخَير وَعرف كريم الدّين السُّلْطَان ذَلِك. فاستدعى السُّلْطَان الْأُمَرَاء وَأنكر عَلَيْهِم رد مباشريهم الْفُلُوس وَعدم بيعهم الْقَمْح من الشون للطحانين والموانة وَقرر ضرب فلوس جدد زنة الْفلس مِنْهَا دِرْهَم وعَلى أحد وجهيه لَا إِلَه الا الله مُحَمَّد رَسُول الله وعَلى الآخر اسْم السُّلْطَان فَضرب مِنْهَا نَحْو ثَمَانِينَ ألف رَطْل. وَاسْتقر الْفُلُوس الْعتْق كل رَطْل بِثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَى أَن تخرج الْفُلُوس الجدد من دَار الضَّرْب. فاستمر ذَلِك ومشت الْأَحْوَال إِلَّا أَنه صَار فِيهَا غبن زَائِد وَذَلِكَ أَن الرطل من الْعتْق يبلغ سَبْعَة دَرَاهِم بِالْعدَدِ. وفيهَا قدمت رسل متملك الْيمن بالهدية وأحضروا بالقلعة يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِي ليلته: خسف الْقَمَر. وفيهَا بعث السُّلْطَان ثَلَاثِينَ فداويا من أهل قلعة مصياب للفتك بالأمير قراسنقر(3/27)
فعندما وصلوا إِلَى تبريز نم بَعضهم لقراسنقر عَلَيْهِم فتتبعهم وَقبض على جمَاعَة مِنْهُم وقتلهم. وَانْفَرَدَ بِهِ بَعضهم وَقد ركب من الأردو فقفز عَلَيْهِ فَلم يتَمَكَّن مِنْهُ وَقتل. واشتهر فِي الأردو خبر الفداوية وَأَنَّهُمْ حَضَرُوا لقتل السُّلْطَان أبي سعيد وجوبان والوزير على شاه وقراسنقر وأمراء الْمغل فاحترسوا على أنفسهم وقبضوا عدَّة فداوية. فتحيل بَعضهم وَعمل حمالاً وَتبع قراسنقر ليقفز عَلَيْهِ فَلم يلْحقهُ وَوَقع على كفل الْفرس فَقتل فاحتجب أَبُو سعيد بالخركاه أحد عشر يَوْمًا خوفًا على نَفسه. وَطلب الْمجد إِسْمَاعِيل وَأنكر عَلَيْهِ جوبان وأخرق بِهِ وَقَالَ لَهُ: والك أَنْت كل قَلِيل تحضر إِلَيْنَا هَدِيَّة وتريد منا أَن نَكُون متفقين مَعَ صَاحب مصر لتمكر بِنَا حَتَّى تَقْتُلنَا الفداوية والإسماعيلية وهدده أَنه يقْتله شَرّ قتلة ورسم عَلَيْهِ فَقَامَ مَعَه الْوَزير على شاه حَتَّى أفرج عَنهُ. ثمَّ قدم الْخَبَر من بَغْدَاد بِأَن بعض الإسماعيلية قفز على النَّائِب بهَا وَمَعَهُ سكين فَلم يتَمَكَّن مِنْهُ وَوَقعت الضَّرْبَة فِي أحد أُمَرَاء الْمغل وَأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ فر فَلَمَّا أدْركهُ الطّلب قتل نَفسه. فتنكر جوبان لذَلِك وجهز الْمجد السلَامِي إِلَى مصر ليكشف الْخَبَر وبعثوا فِي أَثَره رَسُولا بهدية. وفيهَا عَادَتْ العساكر من غَارة سيس إِلَى أَبْيَات مهنا وطردوه من مَكَانَهُ وَفرقُوا جمعه فِي نواحي الْعرَاق. وفيهَا كثرت كِتَابَة الأوراق للسُّلْطَان فِي أمرائه وَأهل دولته وإلقائها من غير أَن يعلم من أَيْن هِيَ أَو ربطها بجناح طَائِر حمام وحذفه خَارج حَائِط الميدان تَحت القلعة إِلَى دَاخله فتأذى بذلك جمَاعَة كَثِيرَة. فاتفق إِن السُّلْطَان ركب إِلَى مطعم الطُّيُور بالمسطبة الَّتِي أَنْشَأَهَا قَرِيبا من بركَة الْحَبَش فَوجدَ ورقة مختومة فقرأها وَلم يعلم أحدا فِيهَا وَعَاد إِلَى القلعة وَقد اشْتَدَّ حنقه ووقف عِنْد دَار النِّيَابَة وَأمر بهدم المساطب والرفرف وغلق الشباك. ثمَّ بعث السُّلْطَان أَمِير جاندار الْأَمِير سيف الدّين البوبكري أَن يتَحَوَّل من دَاره بالقلعة ويسكن بِالْقَاهِرَةِ فَنزل من يَوْمه وَسكن بدار كراي المنصوري وهدمت الدَّار الَّتِي كَانَ البوبكري يسكنهَا وعمرت قاعات وطباق للخاصكية. وَامْتنع السُّلْطَان من ركُوبه إِلَى الْمطعم الْمَذْكُور وَصَارَ يركب إِلَى ميدان القبق. وَكَانَت الورقة تَتَضَمَّن سبّ السُّلْطَان وَسُوء تصرفه وتسليطه الْكتاب النَّصَارَى على الْمُسلمين وصلحه مَعَ الْمغل.(3/28)
وَاتفقَ أَن بعض الْعَامَّة أخبر عَن شخص غَرِيب فأفضى الْأَمر إِلَى حملهما إِلَى الخازن وَإِلَى الْقَاهِرَة فَقَالَ الْعَاميّ: هَذَا الْغَرِيب قَاصد وَمَعَهُ فداوية فقرره الْوَالِي فاعترف أَن مَعَه أَرْبَعَة من جِهَة قراسنقر بَعثهمْ لقتل السُّلْطَان فَقبض مِنْهُم على رجلَيْنِ وفر الْآخرَانِ. وَحمل الْوَالِي إِلَى السُّلْطَان فأقرا بِأَنَّهُمَا من جِهَة قراسنقر فَأمر بهما فقتلا. وَأخذ السُّلْطَان يحترس على نَفسه وَمنع عِنْد ركُوبه إِلَى الميدان المتفرجين من الْجُلُوس فِي الطرقات وألزم النَّاس بغلق طاقات الْبيُوت. وفيهَا قبض على الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي نَائِب غَزَّة وسجن بالإسكندرية وَوَقعت الحوطة على موجوده يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشري رَمَضَان. وَكَانَ ذَلِك لقلَّة اكتراثه بالأمير نَائِب الشَّام وموافقة بعض مماليكه على مَا قيل فِيهِ أَنه يُرِيد التَّوَجُّه إِلَى الْيمن. وفيهَا قدم الْخَبَر من الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب بقتل الشريف حميضة بن أبي نمى ثمَّ قدم الْأَمِير وفيهَا قدم الْمجد السلَامِي على الْبَرِيد من عِنْد الْملك أبي سعيد بن خربندا فِي طلب الصُّلْح فَخرج القَاضِي كريم الدّين الْكَبِير إِلَى لِقَائِه وَصعد بِهِ إِلَى القلعة فَأخْبر الْمجد السلَامِي برغبة جوبان وأعيان دولة أبي سعيد فِي الصُّلْح وَأَن الْهَدِيَّة تصل مَعَ الرُّسُل فَكتب إِلَى نائبي حلب ودمشق بتلقي الرُّسُل وإكرامهم. فَقدم الْبَرِيد بِأَن سُلَيْمَان بن مهنا عَارض الرُّسُل وَأخذ جَمِيع مَا مَعَهم من الْهَدِيَّة وَقد خرج عَن الطَّاعَة لإِخْرَاج أَبِيه مهنا من الْبِلَاد وَإِقَامَة غَيره فِي إمرة الْعَرَب. ثمَّ قدمت الرُّسُل بعد ذَلِك بالكتب وفيهَا طلب الصُّلْح بِشُرُوط: مِنْهَا أَلا تدخل الفداوية إِلَيْهِم وَأَن من حضر من مصر إِلَيْهِم لَا يطْلب وَمن حضر مِنْهُم إِلَى مصر لَا يعود إِلَيْهِم إِلَّا بِرِضَاهُ وَألا يبْعَث إِلَيْهِم بغارة من عرب وَلَا تركمان وَأَن تكون الطَّرِيق بَين المملكتين مفسوحة تسير تجار كل مملكة إِلَى الْأُخْرَى وَأَن يسير الركب من الْعرَاق إِلَى الْحجاز فِي كل عَام. بمحمل وَمَعَهُ سنجق فِيهِ اسْم صَاحب مصر مَعَ سنجق أبي سعيد ليتجمل بالسنجق السلطاني وَألا يطْلب الْأَمِير قراسنقر. فَجمع السُّلْطَان الْأُمَرَاء واستشارهم فِي ذَلِك بعد مَا قَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب فاتفق الرَّأْي على إِمْضَاء الصُّلْح بِهَذِهِ الشُّرُوط وجهزت الْهَدَايَا لأبي سعيد: وفيهَا خلعة(3/29)
أطلس باولي زركش وقباء تتري وقرقلات وَغير ذَلِك مِمَّا بلغت قِيمَته أَرْبَعِينَ ألف دِينَار. وأعيد الرُّسُل بِالْجَوَابِ وَفِيه آلا يُمكن عرب آل عِيسَى من الدُّخُول إِلَى الْعرَاق فَإِن الْعَسْكَر وَاصل لقتالهم وفيهَا أنشأ السُّلْطَان ميدان المهار بجوار قناطر السبَاع فِيمَا بَين الْقَاهِرَة ومصر وَنقل إِلَيْهِ الطين وَزرع فِيهِ النّخل وَلعب فِيهِ بالكرة مَعَ الْأُمَرَاء ورتب فِيهِ الحجورة للنتاج فاستمر ذَلِك وَصَارَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ ثمَّ أنشا السُّلْطَان بجوار جَامع الْأَمِير عَلَاء الدّين طيبرس زريبة على النّيل ليبرز بمناظر الميدان الْكَبِير إِلَى قرب شاطئ النّيل وَكَانَ قد أخر عمل ذَلِك بِسَبَب قرب سَفَره إِلَى الصَّعِيد. وفيهَا مرض كريم الدّين الْكَبِير نَحْو أسبوعين فَكَانَ يحضر عَلَيْهِ فِي كل يَوْم جمدار فيخلع عَلَيْهِ بكرَة النَّهَار وَيعود فيأتيه أخر الْعَصْر فيخلع عَلَيْهِ وَكلما أَتَاهُ مَمْلُوك من جِهَة أحد الْأُمَرَاء للسلام عَلَيْهِ خلع عَلَيْهِ فَلَمَّا عوفي وَركب زينت الْقَاهِرَة وَأوقدت فِيهَا الشموع وَجَلَست المغاني وَاجْتمعَ النَّاس لرُؤْيَته فَكَانَ يَوْمًا مشوداً. وَلما قدم إِلَى الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين بِمَال فَتصدق فَمَاتَ فِي الإزدحام سِتَّة أنفس وَصعد كريم الدّين إِلَى القلعة ثمَّ ركب من الْغَد إِلَى مَدِينَة مصر فزينت لركوبه أَيْضا وزينت الحراريق ولعبت فِي النّيل فَخلع على رُؤَسَاء الحراريق وَفرق فِي رجالها مَالا وَعمل لَهُم مائَة خروف شواء وَكَانَ عدَّة الشموع الَّتِي اشتعلت لَهُ فِي مصر ألفا وسِتمِائَة شمعة ونثر النَّاس على رَأسه الذَّهَب وَالدَّرَاهِم وَعمل لَهُ الْفَخر نَاظر الْجَيْش ضِيَافَة عَظِيمَة فَكَانَت تِلْكَ الْأَيَّام من الْأَيَّام المشهودة. وفيهَا قدم الْخَبَر بِأَن أَبَا سعيد أراق الْخُمُور فِي سَائِر مَمْلَكَته وأبطل مِنْهَا بيُوت الْفَوَاحِش وَأبْعد أَرْبَاب الملاهي وأغلق الْخَانَات وأبطل المكوس الَّتِي تجبي من التِّجَارَة الْوَارِدَة إِلَيْهِم من الْبِلَاد وَهدم كنائس بِالْقربِ من توريز وَرفع شَهَادَة الْإِسْلَام وَنشر الْعدْل وَعمر الْمَسَاجِد والجوامع وَقتل من وجد عِنْده الْخمر بعد إراقته فَكتب السُّلْطَان سَائِر نواب الشَّام بِإِبْطَال ضَمَان الخمارات وإراقة الْخُمُور وغلق الحانات واستتابة أهل الْفَوَاحِش فَعمل ذَلِك فِي سَائِر مدن الْبِلَاد الشامية وضياعها وجبالها(3/30)
واجتهد النواب فِي إِزَالَة الْمَنَاكِير حَتَّى طهر الله مِنْهَا وَمن أَهلهَا الْبِلَاد. وفيهَا قدم مَمْلُوك الْمجد السلَامِي وَرَسُول أبي سعيد وجوبان وأخبروا بوصول الْهَدِيَّة السُّلْطَانِيَّة وسألوا تجهيز السنجق السلطاني ليسير مَعَ الركب إِلَى الْحجاز فسير سنجق حَرِير أصفر بطلعة ذهب وَكتب لصَاحب مَكَّة بإكرام حَاج الْعرَاق. وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بِأَن أَبَا سعيد قد نَادَى فِي مَمْلَكَته بِالْحَجِّ فتجهز عَالم عَظِيم وَأَن فياضاً وَسليمَان ابْني مهنا قد كثر فسادهما وقطعهما الطَّرِيق على التُّجَّار وَيخَاف على الرَّاكِب الْعِرَاقِيّ من عرب مهنا. فَاقْتضى رَأْي السُّلْطَان أَن استدعي سيف ابْن فضل أخي مهنا من الْبِلَاد وَقرر مَعَه أَن أَبَاهُ فضلا يمْنَع مهنا وَأَوْلَاده من التَّعَرُّض لركب الْعرَاق فَقَامَ فِي ذَلِك فضل وخدع أَخَاهُ مهنا حَتَّى كف عَنْهُم وَلم يتَعَرَّض لأحد مِنْهُم وَبعث مهنا بإبنه مُوسَى إِلَى السُّلْطَان بِأَنَّهُ لم يتَعَرَّض للركب فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ وعَلى من مَعَه. وفيهَا أخرج الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني فِي الشَّام على إمرة لتغير كريم الدّين الْكَبِير مِنْهُ. وَفِي ثَانِي عشري رَجَب: عقد بدار السَّعَادَة بِدِمَشْق مجْلِس لإبن تَيْمِية وَمنع من الْإِفْتَاء بِمَسْأَلَة الطَّلَاق ثمَّ اعتقل بالقلعة إِلَى يَوْم عَاشُورَاء سنة إِحْدَى وَعشْرين فأفرج عَنهُ. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْغَنِيّ بن أبي اسحاق قَاضِي شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْغَنِيّ بن أبي إِسْحَاق السرُوجِي الْحَنَفِيّ فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشري رَجَب بعد عَزله فِي رَابِع ربيع الآخر بشمس(3/31)
الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان الحريري ومولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ من أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة وَلم يسمع عَنهُ مَا يشينه وَلَا راعي صَاحب جاه قطّ مَعَ السماح والجود. وَمَات الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي بكر بن عرام بن إِبْرَاهِيم بن ياسين بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الشَّيْخ بهاء الدّين أبي الْعَبَّاس بن أبي الفضال بن أبي الْمجد ابْن أبي إِسْحَاق الربعِي الشافعى سبط أبي الْحسن على الشاذلي فِي لَيْلَة سَابِع شَوَّال ومولده سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. سمع الحَدِيث وَقَرَأَ النَّحْو وتصوف وتصدر بالإسكندرية لإقراء الْعَرَبيَّة وَولي نظر الأحباس بهَا وصنف فِي الْفِقْه وَغَيره. وَمَات الصاحب قوام الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الْكَرِيم بن أبي سعيد الْمَعْرُوف بِابْن الطراح فِي أول الْمحرم بِبَغْدَاد ومولده فِي ربيع الأول سنة خمسين وسِتمِائَة وَهُوَ من بَيت علم ورياسة وَكَانَ يعرف النَّحْو واللغة والحساب والنجوم وَالْأَدب. وَمَات الصَّدْر فَخر الدّين أَبُو الْهدى أَحْمد بن اسماعيل بن عَليّ بن الْحباب الْكَاتِب يَوْم الْخَمِيس تَاسِع رَمَضَان عَن سبع وَتِسْعين سنة. وَقتل إِسْمَاعِيل بن سعيد الْكرْدِي على الزندقة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشري صفر وَكَانَ عَارِفًا بالقراءات وَالْفِقْه والنحو والتصريف ويحفظ كثيرا من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَيحل فِي الْفِقْه ويحفظ الْعُمْدَة فِي الحَدِيث غير أَنه حفظت عَنهُ عظائم فِي حق الْأَنْبِيَاء وَكَانَ يتجاهر بِالْمَعَاصِي فَاجْتمع الْقُضَاة وضربوا عُنُقه بَين القصرين. وَمَات الْحسن بن عمر بن عيسي بن الْخَلِيل الْكرْدِي الدمشقى بِنَاحِيَة الجيزة تجاه مصر فِي ثَالِث وَمَات كَمَال الدّين عبد الرَّحِيم بن عبد المحسن بن ضرغام الْكِنَانِي الْحَنْبَلِيّ خطيب جَامع المنشاة فِيمَا بَين الْقَاهِرَة ومصر فِي ربيع الآخر عَن ثَلَاث وَتِسْعين سنة.(3/32)
وَمَات كَمَال الدّين أَبُو الحفص عمر بن عز الدّين أبي البركات عبد الْعَزِيز بن محيي الدّين أبي عبد الله بن مُحَمَّد بن نجم الدّين أبي الْحسن أَحْمد بن جمال الدّين هبة الله أبي الْفضل بن مجد الدّين أبي غَانِم مُحَمَّد بن هبة الله بن أَحْمد بن يحيى بن أبي جَرَادَة الْعقيلِيّ الْحلَبِي الْحَنَفِيّ قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بحلب وَكَانَ مشكوراً. وَمَات زين الدّين أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْعلم مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَتيق بن رَشِيق الإسكندري الْفَقِيه المعمر الْمَالِكِي بِمصْر فِي لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشر الْمحرم عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة ولي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة مُدَّة اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء دمشق فَامْتنعَ وَله نظم. وَمَات شرف الدّين يَعْقُوب بن أَحْمد بن الصَّابُونِي الْحلَبِي بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشري رَجَب كَانَ مُحدثا عدلا ودرس بالمنكوتمرية من الْقَاهِرَة وتميز فِي كِتَابَة السجلات. وَمَات القَاضِي زين الدّين أَبُو بكر بن نصر بن حُسَيْن بن حسن بن حُسَيْن الأسعردي محتسب الْقَاهِرَة ووكيل بَيت المَال فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشري رَمَضَان وَاسْتقر فِي الْوكَالَة بعده قطب الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الصَّمد السنباطي وَفِي حسبَة الْقَاهِرَة ابْن عَمه نجم الدّين مُحَمَّد بن وَمَات عَليّ بن عبد الصَّمد الأسعردي فِي سَابِع شَوَّال. وَمَات الشَّيْخ نجم الدّين أَبُو الْحسن على بن الأسيوطي الْمُقْرِئ الْوَاعِظ فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشر ذِي الْحجَّة. وَقتل أقبجا مَمْلُوك ركن الدّين بيبرس التاحي بِدِمَشْق لدعواه النُّبُوَّة فِي خَامِس عشري ربيع الأول. وَمَات بهاء الدّين السنجاري محتسب مصر يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشري ذِي الْقعدَة فولي بعد نجم الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الحزم الْقَمُولِيّ خَليفَة الحكم فِي ثامن ذِي الْحجَّة. وَمَات صَاحب غرناطة من بِلَاد الأندلس الْغَالِب بِاللَّه أَبُو الْوَلِيد اسماعيل بن فرج بن(3/33)
إسماعبل بن يُوسُف بن نصر فِي ذِي الْقعدَة وأقيم بعده ابْنه أَبُو عبد الله مُحَمَّد فَكَانَت مدَّته ثَلَاث عشرَة سنة.(3/34)
(سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة)
فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث الْمحرم: قدم الْفَخر نَاظر الْجَيْش من الْحجاز وَكَانَ قد سَافر إِلَى مَكَّة فِي مُدَّة اثنى عشر يَوْمًا وَغَابَ حَتَّى قدم نَحْو شهر وَتصدق فِي الْحَرَمَيْنِ بإثني عشر ألف دِينَار. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشره: قدم الْأَمِير أرغون النَّائِب من الْحجاز وَكَانَ قد سَافر أول ذِي الْقعدَة وَمَشى من مَكَّة إِلَى عَرَفَات على قَدَمَيْهِ بهيئة الْفُقَرَاء. ثمَّ قدم الْأَمِير بهاء الدّين أصلم أَمِير الركب بالحاج وَلم ير فِيمَا تقدم مثل كَثْرَة الْحَاج فِي موسم الحالية. وَكَانَت الوقفة يَوْم الْجُمُعَة. وَكَانَ حَاج مصر سَبْعَة ركُوب: ركب فِي شهر رَجَب وَأَرْبَعَة فِي شَوَّال أَولهَا رَحل فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشره ورحل أَخّرهَا يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشره. وَسَار الْأَمِير أرغون النَّائِب أول ذِي الْقعدَة فِي جمَاعَة ثمَّ توجه الْفَخر فِي جمَاعَة وَركب الْبَحْر خلائق وَاجْتمعَ بِعَرَفَة مَا يزِيد على ثَلَاثِينَ ركباً. ووقف محمل الْعرَاق خلف محمل مصر وَمن خَلفه محمل الْيمن. واعتنى أَبُو سعيد بِأَمْر حَاج الْعرَاق عناية تَامَّة وغشى الْمحمل بالحرير ورصعه بِاللُّؤْلُؤِ والياقوت وأنواع الْجَوَاهِر وَجعل لَهُ جتراً ينصب عَلَيْهِ إِذا وضع. فَلَمَّا مر ركب الْعرَاق بعرب الْبَحْرين خرج عَلَيْهِم ألف فَارس يُرِيدُونَ أَخذهم فتوسط النَّاس بَينهم على أَن يَأْخُذُوا من أَمِير الركب ثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار فَلَمَّا قيل لَهُم إِنَّمَا جِئْنَا من الْعرَاق بِأَمْر الْملك النَّاصِر صَاحب مصر وَكتابه إِلَيْنَا بِالْمَسِيرِ إِلَى الْحجاز أعادوا المَال وَقَالُوا: لأجل الْملك النَّاصِر نخفركم بِغَيْر شَيْء ومكنوهم من الْمسير. فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فسر بِهِ وَبَالغ فِي الإنعام على العربان. وَكَانَ السُّلْطَان قد بعث إِلَى أُمَرَاء الْمغل وأعيانهم الْخلْع فَلَمَّا انْقَضى الْحَج خلع عَلَيْهِم الْأَمِير أرغون النَّائِب ودعا لأبي سعيد بعد الدُّعَاء للسُّلْطَان بِمَكَّة. وَفِيه قدم كتاب نَائِب الشَّام فِي الشَّفَاعَة فِي ابْن تَيْمِية وَكَانَ قد سجن فِي السّنة(3/35)
الْمَاضِيَة فأفرج عَنهُ بَعْدَمَا سجن خَمْسَة أشهر وَشرط عَلَيْهِ أَلا يُفْتِي بِمَسْأَلَة الطَّلَاق. وَفِيه اسْتَقر كريم الدّين الْكَبِير فِي نظر الْجَامِع الطولوني فَنمت أوقافه. وَفِيه قدم الْبَرِيد من دمشق بهدم كَنِيسَة للْيَهُود بِدِمَشْق على يَد الْعَامَّة. وفيهَا أخرج الْأَمِير شرف الدّين أَمِير حُسَيْن بن جندر إِلَى دمشق. وَسَببه أَنه لما أنشأ جَامعه الْمَعْرُوف بِجَامِع أَمِير حُسَيْن بجوار دَاره فِي بر الخليج الغربي وَعمل القنطرة أَرَادَ أَن يفتح فِي سور الْقَاهِرَة خوخة تَنْتَهِي إِلَى حارة الوزيرية فَأذن لَهُ السُّلْطَان فِي فتحهَا فخرق بَابا كَبِيرا وَعمل عَلَيْهِ رنكه فسعى بِهِ علم الدّين سنجر الْخياط مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة أَنه فتح بَابا قدر بَاب زويلة وَعمل عَلَيْهِ رنكه فشق عَلَيْهِ ذَلِك وَأخرجه من يَوْمه على إقطاع الْأَمِير جوبان وَنقل جوبان إِلَى وَفِيه قدم الْأَمِير سيف الدّين طقصباي من بِلَاد أزبك. وَقدم من الأردو الْأَمِير باورر ابْن براجوا أحد أَعْيَان الْمغل فأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه بِمصْر. وَفِيه قدم أَبُو يحيى اللحياني من الغرب وَلم يُمكن من الْبِلَاد فرتب لَهُ بالإسكندرية مَا يَكْفِيهِ وَأقَام بهَا. وَفِيه أخرج الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ حاجباً بِالشَّام. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الآخر: ثارت الْعَامَّة يدا وَاحِدَة وهدموا كنيستين متقابلتين بالزهري وكنيسة بُسْتَان السكرِي وتعرف بالكنيسة الْحَمْرَاء وَبَعض كنيستين بِمصْر وَكَانَ ذَلِك من غرائب الِاتِّفَاق ونوادر الْحَوَادِث: وَالْخَبَر عَنهُ أَن السُّلْطَان لما عزم على إنْشَاء الزريبة بجوار جَامع الطيبرسي على النّيل احْتَاجَ إِلَى طين كثير فَنزل بِنَفسِهِ وَعين مَكَانا من أَرض بُسْتَان الزُّهْرِيّ قَرِيبا من ميدان المهارة ليَأْخُذ مِنْهُ الطين ولينشئ فِي هَذَا الْمَكَان بركَة وَعوض مستحقي وَقفه بدله وَكتب أوراقاً(3/36)
بأسماء الْأُمَرَاء وأفزر لكل مِنْهُم قِيَاسا مَعْلُوما فَتَوَلّى قِيَاس ذَلِك عدَّة من المهندسين مَعَ الْأَمِير بيبرس الحاحب. وابتدأ الْأُمَرَاء فِي الْحفر يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشري ربيع الأول وَرفعُوا الطين على بغالهم ودوابهم إِلَى شاطئ النّيل حَيْثُ عمل الزريبة. فَلم يزل الْحفر مستمراً إِلَى أَن قرب من كَنِيسَة الزُّهْرِيّ وأحاط بهَا الْحفر من دايرها وَصَارَت فِي الْوسط بِحَيْثُ تمنع من اتساع الْبركَة. فَعرف الْأَمِير أقسنقر شاد العمائر السُّلْطَان بذلك فَأمره أَن يُبَالغ فِي الْحفر حولهَا حَتَّى تتَعَلَّق وَإِذا دخل اللَّيْل فيدع الْأُمَرَاء تَهدمهَا ويشيع أَنَّهَا سَقَطت على غَفلَة مِنْهُم فاعتمد الْحفر فِيمَا حولهَا وكتم مَا يُريدهُ وَصَارَت غلْمَان الْأُمَرَاء تصرخ وتريد هد الْكَنِيسَة وآقسنقر يمنعهُم من ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الآخر: بَطل الْعَمَل وَقت الصَّلَاة لاشتغال الْأُمَرَاء بِالصَّلَاةِ فَاجْتمع من الغلمان والعامة طَائِفَة كَبِيرَة وصرخوا صَوتا وَاحِدًا الله أكبر ووقعوا فِي أَرْكَان الْكَنِيسَة بِالْمَسَاحِي والفوس حَتَّى صَارَت كوماً وَوَقع من فِيهَا من النَّصَارَى وانتهب الْعَامَّة مَا كَانَ بهَا. والتفتوا إِلَى كَنِيسَة الْحَمْرَاء المجاوره لَهَا وَكَانَت من أعظم كنائس النَّصَارَى وفيهَا مَال كَبِير وعدة من النَّصَارَى مَا بَين رجال وَنسَاء مترهبات فَصَعدت الْعَامَّة فَوْقهَا وفتحوا أَبْوَابهَا ونهبوا أموالها وخمورها. وانتقلوا إِلَى كَنِيسَة بومنا بجوار السَّبع سقايات وَكَانَت معبدًا جَلِيلًا من معابد النَّصَارَى فكسروا بَابهَا ونهبوا مَا فِيهَا وَقتلُوا مِنْهَا جمَاعَة وَسبوا بَنَات كَانُوا بهَا تزيد عدتهن على سِتِّينَ بكرا فَمَا انْقَضتْ الصَّلَاة حَتَّى ماجت الأَرْض فَلَمَّا خرج النَّاس من الْجَامِع رَأَوْا غباراً ودخان الْحَرِيق قد ارتفعا إِلَى السَّمَاء وَمَا فِي الْعَامَّة إِلَّا من بِيَدِهِ بنت قد سباها أَو جرة خمر أَو ثوب أَو شَيْء من النهب فدهشوا وظنوا أَنَّهَا السَّاعَة قد قَامَت. وانتشر الْخَبَر من السَّبع سقايات إِلَى تَحت القلعة فَأنْكر السُّلْطَان ارْتِفَاع الْأَصْوَات بالضجيج وَأمر الْأَمِير أيدغمش بكشف لخَبر. فَلَمَّا بلغه مَا وَقع انزعج لذَلِك انزعاجاً زَائِدا وَتقدم إِلَى أيدغمش أَمِير أخور فَركب بالوشاقية ليقْبض على الْعَامَّة ويشهرهم. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن ركب أيدغمش إِذا بملوك الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة حضر وَأخْبر بِأَن الْعَامَّة ثارت بِالْقَاهِرَةِ وأخربوا كَنِيسَة بحارة الرّوم وكنيسة بحارة زويلة وَأَنه ركب خوفًا على الْقَاهِرَة من النهب. وَقدم مَمْلُوك وَالِي مصر وَأخْبر بِأَن عامتها قد تجمعت لهدم كَنِيسَة الْمُعَلقَة حَيْثُ مسكن البترك وأموال النَّصَارَى وَيطْلب نجدة. فلشدة مَا نزل بالسلطان من الْغَضَب هم أَن يركب بِنَفسِهِ ثمَّ أرْدف أيدغمش بأَرْبعَة أُمَرَاء سَارُوا إِلَى مصر وَبعث بيبرس الْحَاجِب وألماس الْحَاجِب إِلَى مَوضِع الْحفر وَبعث طينال إِلَى الْقَاهِرَة ليضعوا السَّيْف فِيمَن وجدوه. فَقَامَتْ الْقَاهِرَة ومصر على(3/37)
سَاق وفرت النهابة فَلم تدْرك الْأُمَرَاء مِنْهُم إِلَّا من غلب على نَفسه بالسكر من الْخمر. وَأدْركَ الْأَمِير أيدغمش وَالِي مصر وَقد هزمته الْعَامَّة من زقاق الْمُعَلقَة وأنكوا مماليكه بِالرَّمْي عَلَيْهِم وَلم يبْق إِلَّا أَن يحرقوا أَبْوَاب الْكَنِيسَة فَجرد هُوَ وَمن مَعَه السيوف ليفتك بهم فَرَأى عَالما عَظِيما لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم فَكف عَنْهُم خوف اتساع الْخرق ونادى من وقف فدمه حَلَال فخافت الْعَامَّة أَيْضا وَتَفَرَّقُوا. ووقف أيدغمش يحرس الْمُعَلقَة إِلَى أَن أذن الْعَصْر فَصلي بِجَامِع عَمْرو وَعين خمسين أوشاقيا للمبيت مَعَ الْوَالِي على بَاب الْكَنِيسَة وَعَاد. وَكَانَ كَأَنَّمَا نُودي فِي إقليم مصر بهدم الْكَنَائِس وَأول مَا وَقع الصَّوْت بِجَامِع قلعة الْجَبَل: وَذَلِكَ أَنه لما انْقَضتْ صَلَاة الْجُمُعَة صرخَ رجل موله فِي وسط الْجَامِع: اهدموا الْكَنِيسَة الَّتِي فِي القلعة وَخرج فِي صراخه عَن الْحَد واضطرب. فتعجب السُّلْطَان والأمراء مِنْهُ وَندب نقيب الْجَيْش والحاجب لتفتيش سَائِر بيُوت القلعة فوجدوا كَنِيسَة فِي خرائب التتر قد أخفيت فهدموها. وَمَا هُوَ إِلَّا أَن فرغوا من هدمها وَالسُّلْطَان يتعجب إِذْ وَقع الصُّرَاخ تَحت القلعة وبلغه هدم الْعَامَّة للكنائس كَمَا تقدم وَطلب الرجل الموله فَلم يُوجد. وعندما خرج النَّاس من صَلَاة الْجُمُعَة بالجامع الْأَزْهَر من الْقَاهِرَة رَأَوْا الْعَامَّة فِي هرج عَظِيم وَمَعَهُمْ الأخشاب والصلبان وَالثيَاب وَغَيرهَا وهم يَقُولُونَ: السُّلْطَان نَادَى بخراب الْكَنَائِس فظنوا الْأَمر كَذَلِك. وَكَانَ قد خرب من كنائس الْقَاهِرَة سوى كنيستي حارة الرّوم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كَثِيرَة ثمَّ تبين أَن ذَلِك كَانَ من الْعَامَّة بِغَيْر أَمر السُّلْطَان. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد حادي عشره: سقط الطَّائِر من الْإسْكَنْدَريَّة بِأَنَّهُ لما كَانَ النَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة تجمع الْعَامَّة وصاحوا هدمت الْكَنَائِس فَركب الْأَمِير بدر الدّين المحسني مُتَوَلِّي الثغر بعد الصَّلَاة ليدرك الْكَنَائِس فَإِذا بهَا قد صَارَت كوماً وَكَانَت عدتهَا أَربع كنائس. وَوَقعت بطاقة من وَالِي الْبحيرَة بِأَن الْعَامَّة هدمت كنيستين فِي مَدِينَة دمنهور وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة. ثمَّ ورد مَمْلُوك وَالِي قوص فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشره وَأخْبر بِأَنَّهُ لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة هدم الْعَامَّة سِتّ كنائس بقوص فِي نَحْو نصف سَاعَة. وتواترت الْأَخْبَار من الْوَجْه القبلي وَالْوَجْه البحري بهدم الْكَنَائِس وَقت صَلَاة الْجُمُعَة فَكثر التَّعَجُّب من وُقُوع هَذَا الِاتِّفَاق فِي سَاعَة وَاحِدَة بِسَائِر الأقاليم.(3/38)
وَصَارَ السُّلْطَان يشْتَد غَضَبه من الْعَامَّة والأمراء تسكن غَضَبه وَتقول. يَا مَوْلَانَا هَذَا إِنَّمَا هُوَ من فعل الله. وَإِلَّا فَمن يقدر من النَّاس على هدم كنائس الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط والقاهرة ومصر وبلاد الصَّعِيد فِي سَاعَة وَاحِدَة وَهُوَ يشْتَد على الْعَامَّة وَيزِيد الْبَطْش بهم فهرب كثير مِنْهُم. وَكَانَ الَّذِي هدم فِي هَذِه السَّاعَة من الْكَنَائِس سِتُّونَ كَنِيسَة: وَهِي كَنِيسَة بقلعة الْجَبَل وكنيسة بِأَرْض الزُّهْرِيّ مَوضِع الْبركَة الناصرية وكنيسة بالحمراء وكنيسة بجوار السَّبع سقايات وكنيسة أبي المنا بجوارها وكنيسة الفهادين بحارة الحكر وكنيسة بحارة الرّوم من الْقَاهِرَة وكنيسة البندقانيين مِنْهَا وكنيسة بحارة زويلة وكنيسة بخزانة البنود وكنيسة بالخندق خَارج الْقَاهِرَة وَأَرْبع كنائس بالإسكندرية وكنيستان بدمنهور الْوَحْش وَأَرْبع كنائس بالغربية وَثَلَاث كنائس بالشرقية وست كنائس بالبهنساوية وبسيوط ومنفلوط ومنية بن خصيب ثَمَانِي كنائس وقوص وأسوان إِحْدَى عشرَة كَنِيسَة والإطفيحية كنيستان وبمدينة مصر بِخَط المصاصة وسوق وردان وَكَانَ عقيب هدم الْكَنَائِس وُقُوع الْحَرِيق بِالْقَاهِرَةِ ومصر فابتدأ يَوْم السبت خَامِس عشر جُمَادَى الأولى وتواتر إِلَى سلخه. وَكَانَ من خَبره أَن الميدان الْكَبِير المطل على النّيل(3/39)
لما فرغ الْعَمَل فِيهِ ركب السُّلْطَان إِلَيْهِ فِي يَوْم السبت الْمَذْكُور وَكَانَ أول لعبه فِيهِ بالأكرة فَبَلغهُ الْخَبَر بعد عوده إِلَى القلعة بِأَن الْحَرِيق وَقع فِي ربع من أوقاف المارستان المنصوري بِخَط الشوايين من الْقَاهِرَة. وَاشْتَدَّ الْأَمر والأمراء تطفئه إِلَى عصر يَوْم الْأَحَد فَوَقع الصَّوْت قبل الْمغرب بالحريق فِي حارة الديلم بزقاق العريسة قريب من دَار كريم الدّين الْكَبِير. وَدخل اللَّيْل وَاشْتَدَّ هبوب الرِّيَاح فسرت النَّار فِي عدَّة أَمَاكِن. وَبعث كريم الدّين بولده علم الدّين عبد الله إِلَى السُّلْطَان يعرفهُ فَبعث عدَّة من الْأُمَرَاء والمماليك لإطفائه خوفًا على الحواصل السُّلْطَانِيَّة ثمَّ تفاقم الْأَمر وَاحْتَاجَ أقسنقر شاد العمائر إِلَى جمع سَائِر السائقين والأمراء وَنزلت الْحجاب وَغَيرهم وَالنَّار تعظم طول نَهَار الْأَحَد وَخرجت النِّسَاء مسبيات من دورهن. وَبَاتُوا على ذَلِك وَأَصْبحُوا يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَالنَّار تتْلف مَا تمر بِهِ والهد وَاقع فِي الدّور الَّتِي تجاور الْحَرِيق خشيَة من تعلق النَّار فِيهَا وسريانها فِي جَمِيع دور الْقَاهِرَة. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الثُّلَاثَاء خرج أَمر الْحَرِيق عَن الْقُدْرَة البشرية وَخرجت ريح عَاصِفَة أَلْقَت النخيل وغرقت المراكب ونشرت النَّار فَمَا شكّ النَّاس فِي أَن الْقِيَامَة قد قَامَت. وَعظم شرر النيرَان وَصَارَت تسْقط فِي عدَّة مَوَاضِع بعيدَة فَخرج النَّاس وتعلقوا بالمأذن واجتمعوا فِي الْجَوَامِع والزوايا وضجوا بِالدُّعَاءِ والتضرع إِلَى الله تَعَالَى وَصعد السُّلْطَان إِلَى أعلا الْقصر فهاله مَا شَاهد. وَأصْبح النَّاس يَوْم الثُّلَاثَاء فِي أَسْوَأ حَال فَنزل النَّائِب بِسَائِر الْأُمَرَاء وَجَمِيع من فِي القلعة وَجَمِيع أهل الْقَاهِرَة وَنقل المَاء على جمال الْأُمَرَاء ولحقه الْأَمِير بكتمر الساقي وأخرجت جمال الْقرى السُّلْطَانِيَّة ومنعت أَبْوَاب الْقَاهِرَة أَن يخرج مِنْهَا سقاء ونقلت الْمِيَاه من الْمدَارِس والحمامات والآبار. وجمعت سَائِر البنائين والنجارين فهدت الدّور من أَسْفَلهَا وَالنَّار تحرق فِي سقوفها. وَعمل الْأُمَرَاء الألوف وعدتهم أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا بِأَنْفسِهِم فِي طفي الْحَرِيق وَمَعَهُمْ سَائِر أُمَرَاء الطبلخاناه والعشراوات وتناولوا المَاء بِالْقربِ من السقائين بِحَيْثُ صَار من بَاب زويلة إِلَى حارة الرّوم بحراً وَحضر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير. بِمِائَتي رجل. فَكَانَ يَوْمًا لم ير أشنع مِنْهُ بِحَيْثُ لم يبْق أحد إِلَّا وَهُوَ فِي شغل. ورؤى سَائِر الْأُمَرَاء وَهِي تَأْخُذ الْقرب من مماليكها وتطفئ النَّار بأنفسها وتدوس الوحل بأخفافها. ووقف الْأَمِير بكتمر الساقي والأمير أرغون النَّائِب حَتَّى نقلت الحواصل السُّلْطَانِيَّة من بَيت كريم الدّين إِلَى بَيت وَلَده علم الدّين عبد الله بدرب الرصاصي وَهدم لأجل نقل الحواصل سِتَّة عشر دَارا. وخمدت النَّار وَعَاد الْأُمَرَاء.(3/40)
فَوَقع الصياح فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بِربع الْملك الظَّاهِر خَارج بَاب زويلة وبقيسارية الْفُقَرَاء وهبت الرِّيَاح مَعَ ذَلِك. فَركب الْحجاب والوالي وَعمِلُوا فِي طفيها إِلَى بعد الظّهْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء وهدموا دوراً كَثِيرَة مِمَّا حوله. فَمَا كَاد أَن يفرغ الْعَمَل من إطفاء النَّار حَتَّى وَقعت النَّار فِي بَيت الْأَمِير سلار بِخَط القصرين فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَإِذا بالنَّار ابتدأت من أعلا البادهنج وَكَانَ ارتفاعه من الأَرْض زِيَادَة على مائَة ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل وَرَأَوا فِيهِ نفطاً قد عمل فِيهِ فَتِيلَة كَبِيرَة فمازالوا بالنَّار حَتَّى أطفئت من غير أَن يكون لَهَا أثر كَبِير. وَنُودِيَ بِأَن يعْمل بِجَانِب كل حَانُوت بالقاهره ومصر زير وَدَن ملآن مَاء وَكَذَلِكَ بِسَائِر الحارات والأزقة فَبلغ ثمن كل دن من ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَى خَمْسَة وكل زير إِلَى ثَمَانِيَة دَرَاهِم لِكَثْرَة طلبَهَا. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس: وَقع الْحَرِيق بحارة الرّوم وبخارج الْقَاهِرَة وَتَمَادَى الْحَال كَذَلِك وَلَا تَخْلُو سَاعَة من وُقُوع الْحَرِيق بِموضع من الْقَاهِرَة ومصر وَامْتنع وَالِي الْقَاهِرَة والأمير بيبرس الْحَاجِب من النّوم. فشاع بَين النَّاس أَن الْحَرِيق من جِهَة النَّصَارَى لما أنكاهم هدم الْكَنَائِس ونهبها وَصَارَت النيرَان تُوجد تَارَة فِي مَنَابِر الْجَوَامِع وَتارَة فِي حيطان الْمدَارِس والمساجد. وَوجدت النَّار بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية فَزَاد قلق النَّاس وَكثر خوفهم وَزَاد استعدادهم بادخار الْآلَات المملوءة مَاء فِي أسطحة الدّور وَغَيرهَا. وَأكْثر مَا كَانَت النَّار تُوجد فِي الْعُلُوّ فَتَقَع فِي زروب الأسطحة فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشريه: قبض على راهبين خرجا من الْمدرسَة الكهارية بِالْقَاهِرَةِ وَقد أرميا النَّار وأحضرا إِلَى الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن وَالِي الْقَاهِرَة فشم مِنْهُمَا رَائِحَة الكبريت وَالزَّيْت فأحضرهما من الْغَد إِلَى السُّلْطَان فَأمر بعقوبتهما حَتَّى يعترفا. فَلَمَّا نزل الْأَمِير علم الدّين بهما وجد الْعَامَّة قد قبضت على نَصْرَانِيّ من دَاخل بَاب جَامع الظَّاهِر بالحسينية وَمَعَهُ كعكة خرق بهَا نفط وقطران وَقد وَضعهَا بِجَانِب الْمِنْبَر فَلَمَّا فاح الدُّخان وأنكروه وجد النَّصْرَانِي وَهُوَ خَارج والأثر فِي يَدَيْهِ فَعُوقِبَ قبل صَاحِبيهِ. فاعترف النَّصْرَانِي أَن جمَاعَة من النَّصَارَى قد اجْتَمعُوا وَعمِلُوا النفط وفرقوه على جمَاعَة ليدوروا بِهِ على الْمَوَاضِع. ثمَّ عاقب الْأَمِير علم الدّين الراهبين فأقرا أَنَّهُمَا من دير الْبَغْل وأنهما هما اللَّذَان أحرقا سَائِر الْأَمَاكِن الَّتِي تقدم(3/41)
ذكرهَا. وَذَلِكَ أَنه لما مر بالكنائس مَا كَانَ حنق النَّصَارَى من ذَلِك وَأَقَامُوا النِّيَاحَة عَلَيْهَا وَاتَّفَقُوا على نكاية الْمُسلمين وَعمِلُوا النفط وحشوه بالفتائل وعملوها فِي سِهَام ورموا بهَا فَكَانَت الفتيلة إِذا خرجت من السهْم تقع على مَسَافَة مائَة ذِرَاع. فَلَمَّا أَنْفقُوا ذَلِك فرقوه فِي جمَاعَة فصاروا يدورون فِي الْقَاهِرَة بِاللَّيْلِ وَحَيْثُ وجدوا فرْصَة انتهزوها وألقوا الفتيلة حَتَّى كَانَ مَا كَانَ. فطالع الْأَمِير علم الدّين السُّلْطَان بذلك. وَاتفقَ وُصُول كريم الدّين الْكَبِير نَاظر الْخَاص من الْإسْكَنْدَريَّة فَعرفهُ السُّلْطَان مَا وَقع من الْقَبْض على النَّصَارَى فَقَالَ كريم الدّين: النَّصَارَى بطرك يرجعُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يعرف أَحْوَالهم. فامر السُّلْطَان كريم الدّين بِطَلَب البطرك إفي بَيته واستعلام الْخَبَر مِنْهُ فاتاه لَيْلًا فِي حماية وافي الْقَاهِرَة خوفًا من الْعَامَّة مبالغ كريم الدّين فِي إجلاله وأعلمه. مِمَّا ذكر الرهبان وأحضرهم إِلَيْهِ فَذكرُوا لَهُ كَمَا ذكرُوا للوالي فبكا وَقَالَ: هَؤُلَاءِ سُفَهَاء قد فعلوا كَمَا فعلوا سفهاؤكم وَالْحكم للسُّلْطَان. وَمن أكل الحامض ضرس وَالْحمار العثور يلقِي الأَرْض بِأَسْنَانِهِ. وَأقَام البطرك سَاعَة وَقَامَ فَركب بغلة كَانَ قد رسم لَهُ مُنْذُ أَيَّام بركوبها فشق ذَلِك على النَّاس وهموا بِهِ لَوْلَا الْخَوْف مِمَّن حوله من المماليك. فَلَمَّا ركب كريم الدّين من الْغَد صاحت الْعَامَّة بِهِ: مَا يحل لَك يَا قَاضِي تحامي للنصاري وَقد أخربوا بيُوت الْمُسلمين وتركبهم البغال فانتكى كريم الدّين مِنْهُم نكاية بَالِغَة وَأخذ يهون من امْر النَّصَارَى الممسوكين وَيذكر أَنهم سُفَهَاء وَعرف السُّلْطَان مَا كَانَ من أَمر البطرك وَأَنه اعتنى بِهِ. فَأمر السُّلْطَان الْوَالِي بعقوبة النَّصَارَى فأقروا على أَرْبَعَة عشر رَاهِبًا بدير الْبَغْل فَقبض عَلَيْهِم من الدَّيْر. وعملت حفيرة كَبِيرَة بشارع الصليبة وأحرق فِيهَا أَرْبَعه مِنْهُم فِي يَوْم الْجُمُعَة وَقد اجْتمع من النَّاس عَالم عَظِيم. فاشتدت العامه عِنْد ذَلِك على النَّصَارَى وأهانوهم وسلبوهم ثِيَابهمْ وألقوهم من الدَّوَابّ إِلَى الأَرْض. وَركب السُّلْطَان إِلَى الميدان يَوْم السبت ثَانِي عشريه وَقد اجْتمع عَالم عَظِيم وصاحوا: نصر الله الْإِسْلَام انصر دين مُحَمَّد بن عبد الله. فَلَمَّا اسْتَقر السُّلْطَان بالميدان حَتَّى أحضر لَهُ الخازن وَالِي الْقَاهِرَة نَصْرَانِيين قد قبض عَلَيْهِمَا فأحرقا خَارج الميدان. وَخرج كريم الدّين الْكَبِير من الميدان وَعَلِيهِ التشريف فصاحت بِهِ الْعَامَّة: كم تحامي لِلنَّصَارَى وسبوه ورموه بِالْحِجَارَةِ فَعَاد إِلَى الميدان. فشق ذَلِك على السُّلْطَان(3/42)
وَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاء فِي أَمر الْعَامَّة فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك بعزل الْكتاب النصاري فَإِن النَّاس قد أبغضوهم فَلم يرضه ذَلِك. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى ألماس الْحَاجِب أَن يخرج فِي أَرْبَعَة أُمَرَاء وَيَضَع السَّيْف فِي الْعَامَّة حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بَاب زويلة ويمر إِلَى بَاب النَّصْر وَهُوَ كَذَلِك وَلَا يرفع السَّيْف عَن أحد وَأمر وَالِي الْقَاهِرَة أَن يتَوَجَّه إِلَى بَاب اللوق وَالْبَحْر وَيقبض من وجده ويحملهم إِلَى القلعة وَعين لذَلِك مماليك تخرج من الميدان. فبادر كريم الدّين وَسَأَلَ السُّلْطَان الْعَفو فَقبل شَفَاعَته ورسم بِالْقَبْضِ على الْعَامَّة من غير قَتلهمْ. وَكَانَ الْخَبَر قد طَار ففرت الْعَامَّة حَتَّى الغلمان وَصَارَ الْأَمِير لَا يجد من يركبه. وانتشر ذَلِك فغلقت جَمِيع أسواق الْقَاهِرَة فَمَا وصل الْأَمر إِلَى بَاب زويلة حَتَّى لم يَجدوا أحدا وشقوا الْقَاهِرَة إِلَى بَاب النَّصْر فَكَانَت سَاعَة لم يمر بِالنَّاسِ أعظم مِنْهَا. وَمر الْوَالِي إِلَى بَاب اللوق وبولاق وَبَاب الْبَحْر وَقبض كثيرا من الكلابزة والنواتية وأراذل الْعَامَّة بِحَيْثُ صَار كل من رأه أَخذه. وجفل النَّاس من الْخَوْف وعدوا فِي المراكب إِلَى بر الجيزة. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة لم يجد أحدا فِي طَرِيقه وأحضر إِلَيْهِ الْوَالِي بِمن قبض عَلَيْهِ وهم نَحْو الْمِائَتَيْنِ فرسم أَن يصلبوا وأفرد جمَاعَة للشنق وَجَمَاعَة للتوسيط وَجَمَاعَة لقطع الْأَيْدِي. فصاحوا: يَا خوند مَا يحل لَك! فَمَا نَحن الْغُرَمَاء وتباكوا فرق لَهُم بكتمر الساقي وَقَامَ مَعَه الْأُمَرَاء ومازالوا بالسلطان حَتَّى رسم بصلب جمَاعَة مِنْهُم على الْخشب من بَاب زويلة إِلَى سوق الْخَيل وَأَن يعلقوا بِأَيْدِيهِم. فَأَصْبحُوا يَوْم الْأَحَد صفا وَاحِدًا من بَاب زويلة إِلَى سوق الْخَيل تَحت القلعة فتوجع لَهُم النَّاس وَكَانَ مِنْهُم كثير من بَيَاض النَّاس وَلم تفتح الْقَاهِرَة. وَخَافَ كريم الدّين على نَفسه وَلم يسْلك من بَاب زويلة وَصعد القلعة من خَارج السُّور فَإِذا السُّلْطَان قد قدم الكلابزة وَأخذ فِي قطع أَيْديهم. فكشف كريم الدّين رَأسه وَقبل الأَرْض وباس رجل السُّلْطَان وَسَأَلَهُ الْعَفو. فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بمساعدة الْأَمِير بكتمر وَأمر بهم فقيدوا وأخرجوا للْعَمَل فِي الحفير بالجيزة. وَمَات مِمَّن قطع يَده رجلَانِ وامر بحط من علق على الْخشب.(3/43)
فللحال وَقع الصَّوْت بحريق أَمَاكِن بجوار جَامع ابْن طولون وبوقوع الْحَرِيق فِي القلعة وَفِي بَيت الأحمدي بحارة بهاء الدّين من الْقَاهِرَة وبفندق طرنطاي خَارج بَاب الْبَحْر فدهش السُّلْطَان. وَكَانَ هَذَا الفندق برسم تجار الزَّيْت الْوَارِد من الشَّام فعمت النَّار كل مَا فِيهِ حَتَّى الْعمد الرخام وَكَانَت سِتَّة عشر عموداً طول كل مِنْهَا سِتَّة أَذْرع باعمل ودوره نَحْو ذراعين فَصَارَت كلهَا جيراً وَتلف فِيهِ لتاجر وَاحِد مَا قِيمَته تسعون ألف دِرْهَم وَقبض فِيهِ على ثَلَاثَة نَصَارَى مَعَهم فتائل النفط اعْتَرَفُوا أَنهم فعلوا ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت تَاسِع عشريه: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان فَوجدَ نَحْو الْعشْرين ألفا من الْعَامَّة قد صبغوا خرقاً بالأزرق والأصفر وَعمِلُوا فِي الْأَزْرَق صلباناً بَيْضَاء ورفعوها على الجريد وصاحوا عَلَيْهِ صَيْحَة وَاحِدَة: لَا دين إِلَّا دين الْإِسْلَام {نصر الله دين مُحَمَّد بن عبد الله} يَا ملك النَّاصِر يَا سُلْطَان الْإِسْلَام إنصرنا على أهل الْكفْر وَلَا تنصر النَّصَارَى فخشح السُّلْطَان والأمراء وَمر إِلَى الميدان وَقد اشْتغل سره وَركبت الْعَامَّة أسوار الميدان وَرفعت الْخرق وَهِي تصيح. لَا دين إِلَّا دين الْإِسْلَام. فخاف السُّلْطَان الْفِتْنَة وَرجع إِلَى مداراتهم وَتقدم إِلَى الْحَاجِب بِأَن يخرج وينادي: من وجد نَصْرَانِيّا فدمه وَمَاله حَلَال. فَلَمَّا سمعُوا النداء صرخوا صَوتا وَاحِدًا: نصرك الله يَا نَاصِر دين الْإِسْلَام فارتجت الأَرْض. وَنُودِيَ عقيب ذَلِك بِالْقَاهِرَةِ ومصر: من وجد من النَّصَارَى بعمامة بَيْضَاء حل دَمه. وَمن وجد من النَّصَارَى رَاكِبًا باستواء حل دَمه. وَكتب مرسوم بِلبْس النَّصَارَى العمائم الزرق وَألا يركبُوا فرسا وَلَا بغلاً وَأَن يركبُوا الْحمير عرضا وَلَا يدخلُوا الْحمام إِلَّا بجرس فِي أَعْنَاقهم وَلَا يتزيوا بزِي الْمُسلمين هم وَنِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادهمْ. ورسم لِلْأُمَرَاءِ بِإِخْرَاج النَّصَارَى من دواوينهم وَمن دواوين السُّلْطَان وَكتب بذلك إِلَى سَائِر الْأَعْمَال وغلقت الْكَنَائِس والأديرة وَطلب السّني ابْن سِتّ بهجة وَالشَّمْس بن كثير فَلم يوجدا. وتجرأت الْعَامَّة على النَّصَارَى بِحَيْثُ إِذا وجدوهم ضربوهم وعروهم ثِيَابهمْ فَلم يتجاسر نَصْرَانِيّ أَن يخرج من بَيته. وَلم يتحدث فِي أَمر الْيَهُود فَكَانَ النَّصْرَانِي إِذا طَرَأَ لَهُ أَمر يتزيا بزِي الْيَهُود ويلبس عمامه صفراء يكتريها من يَهُودِيّ ليخرج فِي حَاجته. وَاتفقَ أَن بعض كتاب النَّصَارَى حضر إِلَى يَهُودِيّ لَهُ عَلَيْهِ مبلغ ألف دِرْهَم ليَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فأمسكه الْيَهُودِيّ وَصَاح: أَنا با للة وبالمسلمين فخاف النَّصْرَانِي وَقَالَ لَهُ:(3/44)
أبرأت ذِمَّتك وَكتب لَهُ خطه بِالْبَرَاءَةِ وفر. وَاحْتَاجَ عدَّة من النَّصَارَى إِلَى إظهارهم الْإِسْلَام فَأسلم السّني ابْن سِتّ بهجة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة وخلع عَلَيْهِ وَأسلم كثير مِنْهُم واعترف بَعضهم على رَاهِب بدير الخَنْدَق أَنه كَانَ ينْفق المَال فِي عمل النفط للحريق وَمَعَهُ أَرْبَعَة فَأخذُوا وسمروا. وانبسطت أَلْسِنَة الْأُمَرَاء بسب كريم الدّين أكْرم الصَّغِير وحصلت مُفَاوَضَة بَين الْأَمِير قطلوبغا الفخري والأمير بكتمر الساقي بِسَبَب كريم الدّين الْكَبِير فَإِن بكتمر كَانَ يعتني بِهِ وبالدواوين والفخري يضع مِنْهُ وَمِنْهُم وَصَارَ مَعَ كل من الأميرين جمَاعَة وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك وَأَن الْأُمَرَاء تترقب وُقُوع الْفِتْنَة. وَصَارَ السُّلْطَان إِذا ركب إِلَى الميدان لَا يري أحدا فِي طَرِيقه من الْعَامَّة لِكَثْرَة خوفهم من أَن يبطش بهم فَلم يُعجبهُ ذَلِك وَنُودِيَ بِخُرُوج النَّاس للفرجة على الميدان فَخَرجُوا على عَادَتهم. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْأَحَد ثَانِي عشريه وَقع الْحَرِيق بالقلعة وَعظم أمره حَتَّى اشْتَدَّ القلق إِلَى أَن طفي.
(وَفِي رَابِع عشريه)
توجه كريم الدّين الْكَبِير إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ونادى فِيهَا بِلبْس النَّصَارَى العمائم الزرق ومنعهم من الْمُبَاشرَة فِي الدِّيوَان. فوردت مراكب تحصل مِنْهَا للديوان نَحْو الْخمسين ألف دِينَار فسر كريم الدّين بذلك. وَعَاد كريم الدّين إِلَى الْقَاهِرَة فشفع فِي إِطْلَاق المقيدين الَّذين فبض عَلَيْهِم فأطلقوا وَأعْطى كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة دَرَاهِم فضَّة وَعشرَة فُلُوسًا وقميصاً وَفرق ألف قَمِيص ثمَّ استدعى المسجونين على الدِّيوَان وَصَالح غرماءهم عَنْهُم وخلى سبيلهم بِحَيْثُ لم يبْق أحد بسجن الْقُضَاة وأغلق. وفيهَا ألقيت ورقة فِي جنَاح طَائِر وجد بالإسطبل تَتَضَمَّن الْإِنْكَار على السُّلْطَان وَأَنه فرط فِي ملكه ومماليكه والعسكر قد تلف وَقد بَاعَ أَوْلَاد النَّاس الإقطاعات الَّتِي بِأَسْمَائِهِمْ وصاروا يسْأَلُون النَّاس من الْحَاجة. فَغَضب السُّلْطَان من ذَلِك وَتقدم إِلَى نقيب الْجَيْش بِكِتَابَة أَسمَاء من بَاعَ خبزه وكشف حَال الأجناد وَمَعْرِفَة من فيهم بِغَيْر فرس وَعرض مماليك السُّلْطَان وَأخرج مِنْهُم مائَة إِلَى الكرك. وَفِيه سَافر كريم الدّين الْكَبِير إِلَى دمشق على الْبَرِيد فَتَلقاهُ النَّائِب على الْعَادة وَقدم النَّاس إِلَيْهِ تقادم جليلة فَلم يقبل مِنْهَا لأحد مِنْهُم شَيْئا بل عمهم بالإنعامات وَالصَّدقَات وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة. وفيهَا جلس السُّلْطَان لعرض أجناد الْحلقَة فَضرب جمَاعَة وَحبس جمَاعَة وَقطع(3/45)
أخباز أَرْبَعَة عشر من أَوْلَاد الْأُمَرَاء ثمَّ أفرج عَن المحبوسين بعد شَهْرَيْن وبعثهم إِلَى الشَّام. وَفِيه قدم عرب الْبَحْرين بِأَرْبَعِينَ فرسا فقومت بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم فضَّة وأنعم عَلَيْهِم بِعشْرَة أُلَّاف دِينَار مصرية زِيَادَة على ذَلِك وخلع على الْجَمِيع. وفيهَا خرج إلأمير جمال الدّين أقوش الأشرفي نَائِب الكرك بعسكر إِلَى أياس وَخرجت مَعَه عَسَاكِر الشَّام وحلب بالآلات فنازلوها ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق وقاتلوا الأرمن حَتَّى ملكوها وغنموا مِنْهَا مَالا كثيرا وَقتلُوا عدَّة كَثِيرَة مِنْهُم وَمر من بَقِي فِي الْبَحْر وَذَلِكَ فِي حادي عشرى ربيع الآخر. وعادت العساكر فأغارت على بِلَاد تكفور وَأخذت مَالا كَبِيرا وَقدم الْأَمِير جمال الدّين أقوش إِلَى الْقَاهِرَة. فَبلغ الْأَمِير ألطنبغا نَائِب حلب أَن أهل إِيَاس قد عَادوا إِلَيْهَا فَأمْسك إِلَى أَن كَانَت أَيَّام عيد لَهُم وَركب بعسكر حلب وطرقهم على غَفلَة وَقتل مِنْهُم نَحْو ألفي رجل وَأسر ثَلَاثمِائَة وغنم مَالا جزيلاً وَعَاد. وَفِيه تنكرت المماليك السُّلْطَانِيَّة على كريم الدّين الْكَبِير لتأخر جوامكهم شَهْرَيْن ثمَّ تجمعُوا فِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشرى صفر قبل الظّهْر ووقفوا بِبَاب الْقصر. وَكَانَ السُّلْطَان وقتذاك عِنْد الْحَرِيم فَلَمَّا بلغه ذَلِك خشى مِنْهُم وَبعث بِخُرُوج الْأَمِير بكتمر الساقي إِلَيْهِم فَلم يرضوه فَخرج إيهم السُّلْطَان وَقد صَارُوا ألفا وَخَمْسمِائة فعندما رأهم سبهم وأهانهم وَأخذ الْعَصَا من الْمُقدم وَضرب بهَا رُءُوسهم وأكتافهم وَصَاح فيهم: اطلعوا مَكَانكُمْ فعادوا بأجمعهم إِلَى الطباق فعدت سَلَامَته من الْعَجَائِب. ثمَّ إِنَّه أَمر النَّائِب بعرضهم فعرضهم فِي يَوْم السبت أخر صفر وَأخرج مِنْهُم مائَة وَثَمَانِينَ إِلَى الْبِلَاد الشامية وَأخرج بعد ذَلِك مِنْهُم جمَاعَة من الطباق إِلَى خرائب تتر وَضرب وَاحِدًا مِنْهُم بالمقارع هُوَ وَغُلَامه لكَونه شرب الْخمر فَمَاتَ بعد يَوْمَيْنِ من ضربه وَأخرج جمَاعَة من الخدام وَقطع جوامكهم وأنزلهم من القلعة. وَفِيه قدم رَسُول جوبان من الأردو يسْأَل أَن يعْطى ضَيْعَة من ضيَاع مصر الخراب ليعمرها ويقفها على الْحرم فأعيد رَسُوله بِأَنَّهُ يسير إِلَيْهِ مكاتيب ضَيْعَة بعد ذَلِك. وَفِيه أنعم السُّلْطَان على جمَاعَة من المماليك بإمريات: مِنْهُم عَلَاء الدّين أيدغدي التيليلي الشمسي أحد مماليك سنقر الْأَشْقَر وَكَانَ قد أَمر فِي أَيَّام الْمَنْصُور لاجين(3/46)
وأنعم على كل من بيبرس الكريمي وقطلوبغا طاز الناصري وَعبد الْملك المنصوري وَالِي القلعة وَأَبُو بكر ابْن الْأَمِير أرغون النَّائِب وملكتمر السرجواني وطيبغا القاسمي وطقبغا وبيدمر وطغاي تمر من الخاصكية يإمرة. ونزلوا إِلَى الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين وَقد أشعلت لَهُم الْقَاهِرَة وَجلسَ المغاني بالحوانيت فِي عدَّة أَمَاكِن وَعمل لَهُم كريم الدّين سماطا جَلِيلًا وفواكه ومشارب بِالْمَدْرَسَةِ فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَفِيه نزل السُّلْطَان لصيد الكراكي من بركَة الْحَاج وَتقدم لكريم الدّين الْكَبِير أَن يعْمل بهَا احواشاً للخيل وَالْجمال وميداناً وَيَبْنِي الْأَمِير بكتمر الساقي مثل ذَلِك. فَجمع كريم الدّين من الرِّجَال للْعَمَل نَحْو ألفي رجل وَمِائَة زوج من الْبَقر حَتَّى فرغ فِي أَيَّام يسيرَة وَجعل فِي الميدان عدَّة من الحجورة الْمُسْتَوْلدَة وَركب السُّلْطَان لمشاهدة ذَلِك وَاسْتمرّ يتَعَاهَد الرّكُوب إِلَيْهَا. وَفِيه شكا طَائِفَة من أجناد الْحلقَة من زايد القانون فِي الْبِلَاد فرسم للفخر نَاظر الْجَيْش أَلا يتحدث فِي ذَلِك. وزايد القانون شَيْء حدث فِي الْأَيَّام الناصرية: وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما عمل الجسور وَاتفقَ أمرهَا وأنشا عَلَيْهَا القناطر صَار المَاء إِذا أروى بِلَاد الْبحيرَة يجد مَا يمنعهُ من الْخُرُوج إِلَى الْبَحْر فيتراجع ثمَّ حرق من مَوضِع خرقاً كالمجراة واتسع حَتَّى صَار خليجاً صَغِيرا يمر على أراض لم يكن من عَادَتهَا أَن يعلوها المَاء. فطالع الْأَمِير ركن الدّين القلنجقي كاشف الْبحيرَة السُّلْطَان بِأَن عدَّة من الْأَرَاضِي الَّتِي فِي بِلَاد المقطعين قد شملها الرّيّ وَسَأَلَ أَن يقتطع وَلَده مِنْهَا خبْزًا بِعشْرَة أرماح فَإِنَّهَا زايدة عَن قانون المقطعين. فندب السُّلْطَان الْأَمِير أيتمش المحمدي والموفق مُسْتَوْفِي الدولة لكشف هَذِه الْأَرَاضِي وقياسها فتوجها إِلَى الْبحيرَة وكشفا عَنْهَا فبلغت خَمْسَة وَعشْرين ألف فدان فَكتبت مشاريحها وَلم يذكر مِنْهَا غير خَمْسَة عشر ألف فدان(3/47)
فَقَط فَإِنَّهَا كَانَت أَرَاضِي مُتَفَرِّقَة فِي بِلَاد المقطعين. فَكتب السُّلْطَان بهَا مثالات مَا بَين ثَلَاثمِائَة دِينَار وَأَرْبَعمِائَة دِينَار وفرقها على أَرْبَاب الجوامك من المماليك فشق هَذَا على الأجناد فَإِنَّهَا كَانَت من أَرَاضِي إقطاعاتهم. وَفِي نصف جُمَادَى الْآخِرَة: ولد للسُّلْطَان من خوند طغاي ولدا أسماه آنوك. وَكَانَت طغاي هَذِه جَارِيَة تركية اشْتَرَاهَا تنكز نَائِب الشَّام من دمشق بتسعين ألف دِرْهَم وبعثها إِلَى السُّلْطَان. فشق على سَيِّدهَا ذَلِك لشغفه بهَا وَحضر إِلَى السُّلْطَان فأنعم عَلَيْهِ بألفي دِينَار مصرية وَكتب لَهُ مسموحا بألفي دِينَار. وحظيت الخاتون طغاي عِنْد السُّلْطَان وَكَانَت بارعة الْجمال فَعمل السُّلْطَان عِنْد وِلَادَتهَا مهما عَظِيما إِلَى الْغَايَة وأنعم لَهَا بِالسَّفرِ إِلَى الْحجاز وفيهَا قبض على الْأَمِير صَلَاح الدّين بن البيسري وأرخي فِي الْجب مُقَيّدا ثمَّ أخرج بعد يَوْمَيْنِ إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. وَسَببه أَنه كَانَ يتورع عَن الْأكل من سماط السُّلْطَان وَكَانَت أُخْته تَحت الْحَاج آل ملك فَشَكا مِنْهُ أَنه قد أكل مَالهَا فَقَالَ السُّلْطَان: متورع عَن الْأكل من السماط وَيَأْكُل مَال الْيَتِيم وَأمر بِهِ فقيد وفيهَا قدم الْبَرِيد من حلب بمسير جوبان بعساكر الْمغل لِحَرْب الْملك أزبك. وفيهَا أنشأ السُّلْطَان على بركَة الْفِيل دَارا بجوار دَار الْأَمِير بدر الدّين جنكلي بن البابا وَأقَام آقسنقر شاد العمائر على عَملهَا وَأدْخل فِيهَا كثيرا من دور النَّاس وأراضي ملاكها ورسم بِنَقْل كريم الدّين الْكَبِير إِلَيْهَا. وفيهَا قدمت تقادم نواب الشَّام برسم سفر الخاتون طغاي إِلَى الْحجاز وَعمل الْأَمِير أرغون النَّائِب برسمها ثَمَانِي عربات كعاده بِلَاد التّرْك لتسافر فِيهَا وجرها إِلَى الإسطبل فأعجب بهَا السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ. وَعين للسَّفر مَعَ الخاتون الْأَمِير قجليسي وَالْقَاضِي كريم الدّين الْكَبِير وَخرج النَّائِب والحجاب فِي خدمتها إِلَى بركَة الْحَاج حَتَّى رحلت فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى شَوَّال وَمَعَهَا من النُّقَبَاء صاروجا وبكتاش وَرفعت عَلَيْهَا العصائب السُّلْطَانِيَّة ودقت الكوسات وَرَاءَهَا وحملت الخضراوات والبقول والرياحين فِي المحابر مزروعة فِي الطين وَلم يعْهَد سفر امْرَأَة من نسَاء الْمُلُوك قثل سفرها.(3/48)
وفيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد وَقد توقف حَال النَّاس فِي أَمر الْفُلُوس لِكَثْرَة الزغل فِيهَا وتحسنت البضائع. فَلَمَّا قدم السُّلْطَان من الصَّيْد رسم أَن تكون الْفُلُوس بالميزان بَعْدَمَا ضرب كثيرا من الباعة. وفيهَا سقط نجم عَظِيم بعد الْعَصْر فطبق شعاعه الأَرْض ورأه كل أحد. وفيهَا ولدت كلبة بِالْقَاهِرَةِ ثَلَاثِينَ جرواً وأحضرت بجراها إِلَى السُّلْطَان. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشرى رَمَضَان: شكا طلبة زَاوِيَة الشَّافِعِي بِجَامِع عَمْرو من مدرسهم شهَاب الدّين الْأنْصَارِيّ وأبدوا فِيهِ قوادح فصرف عَنْهُم وَولي عوضه قَاضِي القصاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَنزلت إِلَيْهِ الخلعة يَوْم الْجُمُعَة سلخه فلبسها يَوْم الْعِيد. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر نور الدّين إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن عَليّ الْحِمْيَرِي الإسنائي الْفَقِيه الشَّافِعِي قَاضِي قوص بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشرى صفر أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ بهاء الدّين هبة الله بن عبد الله القفطي وَالْأُصُول عَن الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن مَحْمُود(3/49)
الْأَصْبَهَانِيّ والنحو عَن ابْن النّحاس. وبرع فِي ذَلِك وصنف. وَمَات تَاج الدّين أَبُو الْهدى أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْكَمَال أبي الْحسن عَليّ بن شُجَاع الْقرشِي العباسي بمنشاة المهراني خَارج مَدِينَة مصر عَن تسع وَسبعين سنة فِي سَابِع جُمَادَى الأولى. وَمَات مجد الدّين أَحْمد بن معِين الدّين أبي بكر الهمذاني الْمَالِكِي خطيب الفيوم يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن ربيع الأول وَكَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي المكارم والسودد وَهُوَ أَخُو قَاضِي الفضاة شرف الدّين الْمَالِكِي وصهر الصاحب تَاج الدّين مُحَمَّد بن حنا. وَمَات بِمَكَّة الشَّيْخ نجم الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ فِي جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات الْأَمِير زين الدّين كتبغا العادلي حَاجِب دمشق بهَا فِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى شَوَّال وَاسْتقر عوضه الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ وَكَانَ شجاعاً كَرِيمًا. وَمَات تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن عبد الحميد بن عبد الْغفار الهمذاني الْحلَبِي الضَّرِير بِمصْر وجد مَيتا فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة وَقد أناف على السّبْعين وَحدث بأَشْيَاء.(3/50)
وَمَات الْملك الْمُؤَيد هزبر الدّين دَاوُد ابْن المظفر شمس الدّين يُوسُف ابْن الْمَنْصُور نور الدّين عمر بن عَليّ بن رَسُول التركماني ملك الْيمن فِي مستهل ذِي الْحجَّة وَكَانَت مدَّته خمْسا وَعشْرين سنة وَقَامَ من بعده ابْنه الْملك الْمُجَاهِد سيف الدّين عَليّ. وَمَات كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير كَاتب الدست وَمَات الطواشي صفي الدّين جَوْهَر مقدم المماليك السُّلْطَانِيَّة فاستقر بعده الطواشي صفي الدّين صَوَاب الركني وَكَانَ صَوَاب الركني هَذَا يَلِي تقدمة المماليك فِي الْأَيَّام الركنية بيبرس فَلَمَّا قدم السُّلْطَان من الكرك عَزله ثمَّ أَعَادَهُ بعد موت جَوْهَر. وَمَات حميد الدّين أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مَحْمُود بن نصر النَّيْسَابُورِي شيخ الخانكاه الركنية بيبرس فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة ومولده سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمَات الشَّيْخ تَاج الدّين يحيى بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحِيم الدمنهوري الشَّافِعِي فِي ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى. كَانَ يتصدر لإقراء النَّحْو وصنف. وَمَات بِمَكَّة الإِمَام الْمُقْرِئ عفيف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الْحق بن عبد الله ابْن عبد الْأَحَد المَخْزُومِي الدلاصي فِي لَيْلَة رَابِع عشر الْمحرم.(3/51)
فارغة(3/52)
سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة أهل الْمحرم يَوْم الْأَرْبَعَاء فَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشره: وصل أَوَائِل الْحجَّاج. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشريه: وصل القَاضِي كريم الدّين الْكَبِير والأمير قجليس صُحْبَة الخاتون طغاي. وَخرج السُّلْطَان إِلَى لقائها ببركة الْحَاج وَمد سماطاً عَظِيما وخلع على سَائِر الْأُمَرَاء وأرباب الْوَظَائِف وَجَمِيع القهرمانات: مثل السِّت حدق الْمَعْرُوفَة بالست مسكة وَنسَاء الْأُمَرَاء وَدخل الْجَمِيع إِلَى مَنَازِلهمْ فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَلم يسمع بِمثل هَذِه الْحجَّة فِي كَثْرَة خَيرهَا وسعة الْعَطاء وَيُقَال إِن السُّلْطَان أنْفق على حجَّة طغاي مبلغ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وسِتمِائَة وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم سوى كرى الحمول وَثمن الْجمال ومصروف الجوامك وَسوى مَا حمل من أُمَرَاء الشَّام وأمراء مصر. وَفِي تَاسِع عشريه: قدم الْمحمل بِبَقِيَّة الْحَاج. وَفِي يَوْم السبت ثَانِي صفر: خرج الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك والأمير علم الدّين سنجر الجمقدار والأمير سيف الدّين ألماس الْحَاجِب والأمير سيف الدّين طرجي أَمِير مجْلِس والأمير بهاء الدّين أصلم السِّلَاح دَار بمضافيهم وَطَائِفَة من أجناد الْحلقَة إِلَى غَزْو بِلَاد متملك سيس لمَنعه الْحمل. وَلم يكن الْأَمر كدلك بل مَسِيرهمْ إِنَّمَا كَانَ لأجل توجه الْملك أزبك إِلَى بِلَاد أبي سعيد. وَكتب بِخُرُوج عَسَاكِر الشَّام أَيْضا. وَفِيه هدم مَوضِع دَار الْعدْل الَّذِي أنشأه الْملك الظَّاهِر بيبرس وَعمل طبلخاناه فِي(3/53)
شهر رَمَضَان فاستمر مَوضِع الطلخاناه إِلَى الْيَوْم وَلما هدم وجد فِي أساسه أَرْبَعَة قُبُور فَلَمَّا نبشت وجد بهَا رمم أنَاس طوال عراض وإحداها مغطاة بملاءة دبيقي ملونة اذا مس مِنْهَا شَيْء تطاير وَعَلَيْهِم عدَّة الْقِتَال وبهم جراحات وَفِي وَجه أحدهم ضَرْبَة سيف بَين عَيْنَيْهِ عَلَيْهَا قطن فَلَمَّا رفع الْقطن نبع من تَحْتَهُ دم وشوهد الْجرْح كَأَنَّهُ جَدِيد فنقلوا إِلَى العروستين وَعمل عَلَيْهِم مَسْجِد. وَفِي مستهل ربيع الآخر: قدم الْأَمِير سيف الدّين طقصبا الظَّاهِرِيّ وَمَعَهُ رسل الْملك أزبك بكتابه فأحضروا وَلم يعبأ السُّلْطَان بهم لِكَثْرَة شكوى طقصبا من تغير أزبك عَلَيْهِ وإطراحه لَهُ واعيد الرُّسُل بِالْجَوَابِ. وَفِيه قدم عرب الْبَحْرين بِمِائَة وَثَلَاثِينَ فرسا فقومت بأثمان غَالِيَة مَا بسين عشرَة أُلَّاف دِرْهَم الْفرس إِلَى خمسين ألفا فَلَمَّا أخذت أثمانها أنعم السُّلْطَان عَلَيْهِم بخلع وتفاصيل وَغير ذَلِك وسفروا إِلَى بِلَادهمْ. وَفِيه عوض السُّلْطَان أَمِير مَكَّة عَن نَظِير مَا كَانَ يستأديه من مكس الغلال وأقطعه ثُلثي دمامين بِالْوَجْهِ القبلي. وَفِيه قدم الْبَرِيد من دمشق بِحُضُور أُخْت الْأَمِير بدر الدّين جنكلي بن البابا من الشرق وصحبتها جمَاعَة كَثِيرَة إِلَى دمشق وَأَنَّهَا مَاتَت بعد قدومها بِثَلَاثَة أَيَّام فاستدعي من حضر مَعهَا إِلَى مصر فَلَمَّا وصلوا أنعم عَلَيْهِم السُّلْطَان بالإقطاعات وَغَيرهَا. وَفِي مستهل جُمَادَى الأولى: قدم الْبَرِيد بِأَن الْعَسْكَر أغار على بِلَاد سيس وأخرب وغنم وَقتل جمَاعَة وَأَن أوشين متملك سيس هلك وَقَامَ من بعده ابْنه ليفون وَله من الْعُمر نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَأَن العساكر نازلت أياس وأخذوها عنْوَة بعد حِصَار وَقتلُوا أَهلهَا وخربوها وعادوا على الأرمن فغنموا وأسروا مِنْهُم كثيرا وتوجهوا عائدين. فَقدم الْأَمِير جمال الدّين أقوش بالعسكر إِلَى الْقَاهِرَة فِي سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة وخلع عَلَيْهِ. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع رَجَب: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام باستئذان فأنعم عَلَيْهِ(3/54)
السُّلْطَان إنعامات جليلة بلغت قيمتهَا نَحْو ثَمَانِينَ ألف دِينَار ورسم لسَائِر الْأُمَرَاء بِحمْل تقادمهم إِلَيْهِ وَأَن من أحضر تقدمة يخلع على محضرها من الخزانة السُّلْطَانِيَّة فَحملت إِلَيْهِ تقادم جليلة مِنْهَا أَرْبَعُونَ سلسلة مَا بَين ذهب وَفِضة وَحمل كريم الدّين الْكَبِير تقدمة بِعشْرَة أُلَّاف دِينَار. وَعَاد تنكز بعد إِقَامَته خَمْسَة أَيَّام على الْبَرِيد فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشريه وَدخل دمشق أول شعْبَان. وَفِيه توجه الْأَمِير سيف الدّين أيتمش المحمدي إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد بن خربندا لعقد الصُّلْح وعَلى يَده هَدِيَّة سنية وسفر بألفي دِينَار. وَفِي ثَانِي شعْبَان: عقد على الْأَمِير أبي بكر بن الْأَمِير أرغون النَّائِب عقد خوند بنت السُّلْطَان وَتَوَلَّى العقد قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين الحريري الْحَنَفِيّ على أَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار. وختن السُّلْطَان أَوْلَاد ثَلَاثَة من الْأُمَرَاء: وهم بكتمر الساقي وطشتمر حمص أَخْضَر ومنكلي بغا الفخري وَعمل لَهُم مهما عَظِيما مُدَّة أَرْبَعَة أَيَّام. وَرمى الْأُمَرَاء الذَّهَب فِي الطشت فَبلغ مَا فِي طشت ابْن الْأَمِير بكتمر الساقي أَرْبَعَة أُلَّاف وثلاثمائة وَثَمَانِينَ دِينَارا وَفِي طشت ابْن طشتمر حمص أَخْضَر ثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار ونيف وَفِي طشت ابْن منكلي بغا ألف دِينَار وَثَمَانمِائَة دِينَار. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر رَمَضَان: قبض على الْأَمِير سيف الدّين بكتمر البوبكري وولديه ثمَّ وَقعت الشَّفَاعَة فِي ولديه فأطلقا. وَسبب ذَلِك كَثْرَة معارضته للسُّلْطَان فعينه السُّلْطَان لنيابة صفد فاستعفى من ذَلِك فَبعث إِلَيْهِ كريم الدّين الْكَبِير بألفي دِينَار وتشريف نِيَابَة صفد ومثالين بإمرتين لِوَلَدَيْهِ بهَا فَلم يعبأ بكريم الدّين وفارقه وَهُوَ متغير. فَركب الْأَمِير بكتمر وَسَأَلَ السُّلْطَان الإعفاء فَغَضب وَقَبضه وولديه وسجنهم بالبرج إِلَى لَيْلَة عيد الْفطر ثمَّ أفرج عَن الْوَلَدَيْنِ. وَفِيه قدم الشريف عطيفة بن أبي نمى صَاحب الْحجاز وَأخْبر بقحط مَكَّة لعدم الْمَطَر وَأَنَّهُمْ استسقوا ثَلَاثًا فَلم يسقوا وَوصل الْقَمْح إِلَى مِائَتَيْنِ وَخمسين درهما الأردب. فرسم السُّلْطَان أَن يحمل إِلَى مَكَّة ألفا أردب وَحمل النَّائِب ألف أردب والحاج آل ملك ألف أردب. فَلَمَّا وصلت الغلال تصدق بهَا فانحل السّعر وأبيع الأردب الْقَمْح بِمِائَة دِرْهَم وأغيث أهل مَكَّة عقيب ذَلِك.(3/55)
وَفِيه قدم الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماة وَسَار مَعَ السُّلْطَان إِلَى قوص. وَفِيه نقل البوبكري إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة عِنْد سفر السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الصَّعِيد فسجن بهَا. وَفِيه ورد الْخَبَر بخلع الْملك الْمُجَاهِد على صَاحب الْيمن وَإِقَامَة النَّاصِر جلال الدّين. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر الشَّيْخ نجم الدّين الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبود لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث عشرى شَوَّال وَكَانَ قد عظم قدره فِي الدولة المنصورية لاجين وَعمر زاويته بالقرافة وقصده النَّاس لقَضَاء حوائجهم. وَمَات الشَّيْخ جلال الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَحْمُود القلانسي بالقدس فِي ذِي الْقعدَة. وَكَانَ قدم إِلَى مصر فِي سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأقَام بهَا وَحصل لَهُ بهَا رياسة واعتقده الْأُمَرَاء وَأهل الدولة وترددوا إِلَى زاويته على بركَة الْفِيل ثمَّ أخرج إِلَى الْقُدس وَكَانَ كَاتبا فَاضلا مُعْتَقدًا. وَمَات الشَّيْخ حسن الجوالقي القلندري صَاحب زَاوِيَة القلندرية خَارج بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة بِدِمَشْق. وَكَانَ قد تقدم فِي دولة الْعَادِل كتبغا. وَمَات الرئيس الْكَاتِب زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن أبي صَالح رَوَاحَة بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن مظفر بن نصر بن رَوَاحَة الْأنْصَارِيّ الْحَمَوِيّ بسيوط من بِلَاد الصَّعِيد فِي ذِي الْقعدَة من أَربع وَتِسْعين سنة ورحل إِلَيْهِ النَّاس لسَمَاع الحَدِيث. وَمَات مُحي الدّين عبد الرَّحْمَن بن مخلوف بن جمَاعَة بن رَجَاء الربعِي الإسْكَنْدراني الْمَالِكِي مُسْند الْإسْكَنْدَريَّة بهَا فِي يَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة عَن ثَلَاث وَتِسْعين سنة. وَمَات تَقِيّ الدّين عَتيق بن عبد الرَّحْمَن بن أبي الْفَتْح الْعمريّ الْمُحدث الزَّاهِد فِي ذِي الفعدة بِمصْر. وَمَات أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن حُرَيْث الْقرشِي البلنسي السبتي بِمَكَّة فِي(3/56)
جُمَادَى الْآخِرَة عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وَأقَام بهَا مجاوراً سبع سِنِين وَكَانَ خَطِيبًا بسبتة ثَلَاثِينَ سنة وبرع فِي فنون. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن سِبَاع الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ بِدِمَشْق وَقدم إِلَى مصر وبرع فِي الْأَدَب وصنف. وَمَات أَمِين الدّين مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عبد الْمُؤمن الأصفوني الشَّافِعِي بسيوط. وَمَات تَاج الدّين مُحَمَّد بن الْجلَال أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الدشناوي الشَّافِعِي بقوص. وَمَاتَتْ زَيْنَب بنت أَحْمد بن عمر بن أبي بكر بن شكر أم مُحَمَّد المقدسية المعمرة الرحلة فِي ذِي الْحجَّة بالقدس عَن أَربع وَتِسْعين سنة حدثت بِمصْر وَالْمَدينَة النَّبَوِيَّة. وَمَات بِدِمَشْق الْأَمِير غلبك العادلي والأمير فَخر الدّين أياز شاد الدَّوَاوِين والأمير أيدمر الساقي الْمَعْرُوف بِوَجْه وَمَات أقجبا البدري وَالِي الفيوم. وَمَات بدر الدّين وَالِي قوص. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيبك الْبَغْدَادِيّ بمحبسه من قلعة الْجَبَل فِي سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَمَات بِمصْر القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن المكين بن رَابِعَة فِي ثَالِث عشرى الْمحرم. وَمَات أقضى الْقُضَاة نور الدّين أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يَعْقُوب الزواوي الْمَالِكِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى صفر. وَمَات القَاضِي سعد الدّين مَسْعُود بن نَفِيس الدّين مُوسَى بن عبد الْملك القمني الشَّافِعِي يَوْم الئلاثاء ثَالِث عشرى شعْبَان. وَمَات أقضى الْقُضَاة قطب الدّين مُحَمَّد بن عبد الصَّمد بن عبد الْقَادِر السنباطي خَليفَة الحكم الشَّافِعِي ووكيل بَيت المَال بِالْقَاهِرَةِ سحر يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة.(3/57)
فارغة(3/58)
(سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة)
أهل الْمحرم بِيَوْم الْأَحَد الْمُوَافق لَهُ رَابِع عشر طوبة: سقط بالدقهلية والمرتاحية من بِلَاد الغربية بعد مطر عَظِيم وريح قَوِيَّة جدا برد وزن الْحبَّة مِنْهُ مَا ينيف على خمسين درهما أتلف كثيرا من الزَّرْع وَمن الْغنم وَالْبَقر وَوجد فِيهِ حِجَارَة مِنْهَا مَا وَزنه من سَبْعَة أَرْطَال إِلَى ثَلَاثِينَ رطلا وَتلف من الْبِلَاد أحد وَسَبْعُونَ بَلَدا بالغربية وإثنان وَثَلَاثُونَ بَلَدا بالبحيرة. وفيهَا نزل السُّلْطَان بالجيزة عَائِدًا من بِلَاد الصَّعِيد وخلع على نَائِب حماة ورسم لَهُ بِالْعودِ إِلَى بَلَده. واستدعى السُّلْطَان بِالْحَرِيمِ من القلعة إِلَى عِنْده وَكَانَ الْوَقْت شتاء فطرد سَائِر النَّاس من الطرقات وعلقت الحوانيت وَنزلت خوند طغاي والأمير أيدغمش أَمِير أخور ماش يَقُود عنان فرسها بِيَدِهِ وحولها سَائِر الخدام مشَاة مُنْذُ ركبت من القلعة إِلَى أَن وصلت إِلَى النّيل فعدت فِي الحراقة. واستدعى الْأَمِير بكتمر الساقي وَغَيره من الْأُمَرَاء الخاصكية حريمهم وَأَقَامُوا فِي أهنأ عَيْش وأرغده. وفيهَا قدم من عِنْد صَاحب ماردين الْجَارِيَة الَّتِي طلبت: وَكَانَ الْمجد السلَامِي قد بعث بِأَنَّهُ أَرَادَ شِرَاء جَارِيَة جنكية من الأردوا فبذل صَاحب ماردين فِيهَا الرغائب لصَاحِبهَا حَتَّى اشْتَرَاهَا وَأَن الْمجد سير يُعلمهُ بِأَنَّهُ قد عينهَا للسُّلْطَان فَلم يعبأ بقوله وشغف بهَا. فَكتب السُّلْطَان لصَاحب ماردين بالإنكار عَلَيْهِ وَأَن يحملهَا إِلَى مصر فسير جَارِيَة غَيرهَا من مملوكين فَلم يخف ذَلِك على السُّلْطَان ورد الثَّلَاثَة وَقَالَ لقاصده شفاهاً: مَتى لم يبْعَث بالجارية وَإِلَّا أخربت ماردين على رَأسه فَلم يجد بدا من إرسالها فَلَمَّا حضرت أنعم السُّلْطَان عَلَيْهِ وَفِيه عَاد السُّلْطَان من الجيزة إِلَى القلعة وَقد توعك كريم الدّين الْكَبِير. وَفِي خَامِس عشره: قدمت بَوَادِر الْحجَّاج وَقدم الْمحمل بِبَقِيَّة الْحَاج فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشره.(3/59)
وَفِيه تكَرر إرْسَال السُّلْطَان الْأُمَرَاء وَغَيرهم لتفقد حَال كريم الدّين فَلم ينزل إِلَيْهِ أحد إِلَّا وخلع عَلَيْهِ أطلس بطراز وكلفتاه زركش وحياصة ذهب حَتَّى استعظم النَّاس ذَلِك. وَبَالغ السُّلْطَان فِي كَثْرَة الإنعام على الْأُمَرَاء والحكماء إِلَى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ربيع الأول. ثمَّ ركب كريم الدّين إِلَى القلعة وَتوجه بعد اجتماعه بالسلطان إِلَى القرافة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً زينت فِيهِ الْقَاهِرَة زِينَة عَظِيمَة وصفت بهَا المغاني وأشعلت الشموع وَاجْتمعَ النَّاس بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية بَين القصرين لأخذ الصَّدقَات فَمَاتَ فِي الزحمة أَرْبَعَة عشر إنْسَانا وتأذى أنَاس كَثِيرَة وَلم يفرق فيهم شَيْء. وخلع على جَمِيع الْأَطِبَّاء أخرج أهل السجون وَتصدق بأموال جزيلة. وَفِيه قدم الْخَبَر باجتماع الْأَمِير أيتمش بالسلطان أبي سعيد وَأَنه أكْرم غَايَة الإكرامة وَعَاد إِلَى ماردين. وَفِي عشريه: قتل الشَّيْخ ضِيَاء الدّين عبد الله الدربندي الصُّوفِي. وَكَانَ قد قدم من دمشق فِي أَوَائِل هَذِه السّنة على هَيْئَة الْفُقَرَاء اليونسية ولايزال فِي يَده طبر وَشهر بدين وَعلم. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْم تحزم وَقَالَ: أَنا رَايِح أجاهد فِي سَبِيل الله وأموت شَهِيدا وَسَار من خانكاه سعيد السُّعَدَاء إِلَى قلعة الْجَبَل والأمراء جُلُوس على بَاب الْقلَّة فَرَأى رجلا من الْمُسلمين قد تبع بعض الْكتاب النَّصَارَى وَقبل يَده وَالنَّصْرَانِيّ لَا يعبأ بِهِ فحنق مِنْهُ وَضرب النَّصْرَانِي بالطبر فهدل كتفه وثنى عَلَيْهِ فارتجت القلعة وَاجْتمعَ النَّاس وقبضوه فَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان وَأمر بِهِ فَضرب عُنُقه على بَاب القلعة. وَفِي ثَالِث عشريه: قدم الْبَرِيد بوفاة نجم الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن صصري قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق فاستقر عوضه قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين سُلَيْمَان بن عمر الزرعي وَاسْتقر عوضه فِي تدريس الْمدرسَة المنصورية القَاضِي تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ(3/60)
وَفِي تدريس الْجَامِع الحاكمي الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ. وَفِيه قدم الْأَمِير أيتمش المحمدي من عِنْد أبي سعيد وَقد عقد الصُّلْح بَينه وَبَين السُّلْطَان وخطب بذلك فِي يَوْم الْجُمُعَة بِمَدِينَة توريز على مِنْبَر الْجَامِع وَقد حمل الْأَمِير أيتمش مَعَه نُسْخَة الْأَيْمَان الَّتِي تَتَضَمَّن حلف أبي سعيد وجوبان والوزير وَمَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ أَبُو سعيد: وَهُوَ مَا قِيمَته نَحْو المائتي ألف دِرْهَم ولؤلؤاً اشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم قوم بِمِائَة ألف. وَقدم أيتمش ذَلِك كُله للسُّلْطَان وَحلف أَلا يدْخل فِي ملكه فَقبله مِنْهُ وأنعم عَلَيْهِ بِمِائَة ألف دِرْهَم وَحمل لَهُ كريم وَفِي يَوْم الْخَمِيس سلخ ربيع الأول: قبل الظّهْر ولد للسُّلْطَان ولد ذكر من حظيته طغاي سَمَّاهُ أنوك وَفِيه وقف بعض بزدارية السُّلْطَان وشكا أَن أحد أجناد الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب تزوج بامرأته من غير أَن يكون قد طَلقهَا وَأَنه رشا الشُّهُود حَتَّى فعلوا لَهُ ذَلِك. فكشف علم الدّين الخازن وَالِي الْقَاهِرَة عَن قَوْله فَتبين كذبه وَأَنه طلق الْمَرْأَة وَانْقَضَت عدتهَا ثمَّ تزوجت بالجندي فتعصب الْأَمِير بكتمر على البازدار لظُهُور كذبه فحنق السُّلْطَان وَأمر الْوَالِي بتعزير الشُّهُود ومنعهم من تحمل الشَّهَادَة وإلزام الجندي بِطَلَاق الْمَرْأَة وردهَا إِلَى البازدار فَكَانَ هَذَا من الْأُمُور الشنيعة. وَفِيه قبض على القَاضِي كريم الدّين عبد الْكَرِيم بن الْعلم بن هبة الله بن السديد نَاظر الْخَاص ووكيل السُّلْطَان فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشره ربيع الآخر بَعْدَمَا تجهز ليسافر فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشره إِلَى الشَّام. فعندما طلع إِلَى القلعة على الْعَادة وَوصل إِلَى الدركاه منع من الدُّخُول إِلَى السُّلْطَان وعوق بدار النِّيَابَة هُوَ وَولده علم الدّين عبد الله وكريم الدّين أكْرم الصَّغِير نَاظر الدولة. وَوَقعت الحوطة على دور كريم(3/61)
الدّين الْكَبِير خَاصَّة الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ وبركة الْفِيل وَنزل شُهُود الخزانة بولده إِلَى دَاره ببركة الْفِيل وحملوا مَا فِيهَا إِلَى القلعة. وتوالت مصادرته فَوجدَ لَهُ شَيْء كثير جدا: من ذَلِك قماش وَبرد وطرز وحوايص قيمتهَا زِيَادَة على سِتِّينَ ألف دِينَار وقند وسكر زنته ثَمَانُون ألف قِنْطَار وَعسل عدَّة ثَلَاثَة وَخمسين ألف مطر وصناديق بهَا مسك وزعفران وَعَنْبَر وعود ولبان وعير ذَلِك عدَّة أحد وَأَرْبَعين صندوقاً. وأبيعت دَاره الَّتِي على بركَة الْفِيل للأمير سيف الدّين طقتمر بِثَلَاثَة عشر ألف دِينَار. وَحمل مَاله فِي الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ خمسين ألف دِينَار وَمن أَصْنَاف المتجر شَيْء كثير جدا وَمِنْه ثَمَانُون ألف قِطْعَة خشب وَمِائَة وَسِتُّونَ ألف قِنْطَار رصاص وَبَلغت قيمَة الْأَصْنَاف الَّتِي لَهُ فِي الْإسْكَنْدَريَّة خَمْسمِائَة ألف دِينَار. وَوجد لَهُ بِدِمَشْق ألف ألف دِينَار وسِتمِائَة ألف دِرْهَم وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار. وَبَلغت قيمَة أوقافه سِتَّة أُلَّاف ألف دِرْهَم. وَفِي يَوْم السبت سلخه: قبض على كريم الدّين الصَّغِير وَسبب أَنه امْتنع من أَن يتحدث فِي الْخَاص والمتجر وَيُدبر الْأُمُور كلهَا بعد الْقَبْض على خَاله كريم الدّين الْكَبِير. وَفِيه نقل كريم الدّين الْكَبِير وَولده علم الدّين إِلَى البرج المرسوم للمصادرين بِبَاب القرافة من القلعة وطولب بِالْحملِ. وعوق بالقلعة نَاصِر الدّين شاد الْخَاص والمهذب الْعَامِل وَغَيره لعمل حِسَاب كريم الدّين. وَكَانَ سَبَب نكبته حسد الْأُمَرَاء وَغَيرهم لَهُ على تمكنه من السُّلْطَان وسعة مَاله وَكَثْرَة عطائه فوشوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أَنه يتْلف الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة بتفريقها ليقال عَنهُ إِنَّه كريم. وَاتفقَ مَعَ ذَلِك أَن كريم الدّين أكْرم الصَّغِير كَانَ لَهُ اخْتِصَاص بالأمير أرغون النَّائِب فَأكْثر من شكاية كريم الدّين الْكَبِير وَأَنه يمنعهُ من تَحْصِيل الْأَمْوَال. وَكَانَ أكْرم الصَّغِير ظلوماً غشوماً يُرِيد أَن يمد يَده إِلَى ظلم النَّاس فيمنعه كريم الدّين. فَبلغ النَّائِب السُّلْطَان شكوى أكْرم الصَّغِير مرَارًا فأثر فِي نَفسه ذَلِك. وَصَارَ السُّلْطَان يرى عِنْد الخاصكية من الملابس الفاخرة والطرز الزركش وَعند نِسَائِهِم من الملابس والحلي مَا يستكثره فَإِذا سَأَلَ عَنهُ قيل لَهُ هَذَا من كريم الدّين فتصغر نَفسه عِنْدهم لِأَنَّهُ لَا يعطيهم قطّ مثل ذَلِك. وَلما حضر عرب الْبَحْرين بِالْخَيْلِ قومت بِأَلف ألف ومائتي ألف دِرْهَم سلمهَا كريم الدّين إِلَيْهِم بجملتها فِيمَا بَين بكرَة النَّهَار إِلَى الظّهْر وعادوا إِلَى السُّلْطَان وَقد دهشوا فَإِنَّهُ كَانَ أخرج إِلَيْهِم(3/62)
شكائر مَا بَين ذهب وَفِضة. فَلَمَّا قَالَ لَهُم السُّلْطَان: قبضتم. قَالُوا: نعم قَالَ: لَعَلَّه تَأَخّر لكم شَيْء فَقَالُوا: وحياتك! عِنْد كريم الدّين مَال فِي خزانَة إِذا أخرج مِنْهُ مُدَّة شهر مَا يفرغ. فَتحَرك السُّلْطَان لذَلِك وَقَالَ لبكتمر الساقي. سَمِعت قَول الْعَرَب أَنه دفع هَذَا الْقدر فِي يَوْم وَاحِد والخزانة ملآنة ذَهَبا وَفِضة وَأَنا أطلب مِنْهُ ألفي دِينَار فَيَقُول مَا تمّ حَاصِل. وَتبين الْغَضَب فِي وَجه السُّلْطَان فَأخذ بكتمر يتلطف بِهِ وَهُوَ يحتد إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ. وَفِي يَوْم السبت سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة: نقل تَاج الدّين بن عماد الدّين بن السكرِي من شَهَادَة الخزانة إِلَى نظر بَيت المَال وخلع عَلَيْهِ بطرحة. وَفِيه نقل عَلَاء الدّين بن الْبُرْهَان الْبُرُلُّسِيّ من نظر بَيت المَال إِلَى نظر خَزَائِن السِّلَاح وخلع عَلَيْهِ. وَفِي رَابِع عشره: قدمت رسل أبي سعيد لتحليف السُّلْطَان على الصُّلْح وَمَعَهُمْ هَدِيَّة مَا بَين بَخَاتِي وأكاديش وتحف فقرئ كِتَابه بِوُقُوع الصُّلْح ثمَّ سفروا بهدية سنية بَعْدَمَا عمرهم إِحْسَان السُّلْطَان فِي ثَانِي عشريه. وَفِيه قدم الْحمل من عِنْد متملك سيس صُحْبَة رَسُوله وَمَعَهُ جَوَاهِر ثمينة وَاعْتذر الرَّسُول عَمَّا كَانَ من متملك سيس وَاسْتَأْذَنَ فِي عمَارَة أياس على أَن يحمل فِي كل سنة مائَة ألف دِرْهَم فَأُجِيب إِلَى ذَلِك. وَفِيه قدم مُوسَى بن مهنا وَعَمه مُحَمَّد بالقود على الْعَادة وخيول كَانَ السُّلْطَان استدعى بهَا. وَسبب ذَلِك وُقُوع الصُّلْح مَعَ أبي سعيد فضاقت بهم الْبِلَاد فأكرمهما السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِمَا وأعادهما إِلَى بلادهما. وَفِيه وَقعت مرافعة بَين فرج وَعلي وَلَدي قراسنقر بِسَبَب دخيرة لِأُمِّهِمَا تبلع نَحْو المائتي ألف ألف دِرْهَم فَأَخذهَا السُّلْطَان مِنْهُمَا. وَفِيه قدم الْمجد السلَامِي من الشرق وَقدم تقدمة جليلة فرتبت لَهُ الرَّوَاتِب السّنيَّة وَكتب لَهُ مسموح بمبلغ خمسين ألف دِرْهَم فِي السّنة ومرسوم بمسامحة نصف المكس عَن تجاراته وَعَاد إِلَى توريز.(3/63)
وَفِيه قبض على جمَاعَة من المماليك وعوقوا بِسَبَب ورقة وجدت تَحت كرْسِي السُّلْطَان فِيهَا سبه وتوبيخه وَأخرج مِنْهُم عدَّة إِلَى بِلَاد وسجن مِنْهُم جمَاعَة. وَفِي سادس عشره: اسْتَقر الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي أستاداراً عوضا عَن الْأَمِير سيف الدّين بكتمر العلائي وَخرج بكتمر إِلَى دمشق. وَكَانَ ذَلِك بِسَبَب أَنه استخدم طباخ كريم الدّين الْكَبِير فِي مطبخ السُّلْطَان فَأنْكر عَلَيْهِ السُّلْطَان ذَلِك وَقَالَ لَهُ: تستخدم طباخ رجل قد عزلته وصادرته فِي مطبخي وَأخرج أَيْضا الْأَمِير سنقر السَّعْدِيّ نقيب المماليك إِلَى طرابلس. وَفِيه أفرج عَن كريم الدّين أكْرم الصَّغِير ورسم لَهُ أَن يتحدث فِي الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة كلهَا بِغَيْر مشارك فَامْتنعَ من ذَلِك فعزل عَن نظر الدَّوَاوِين. ثمَّ خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر صَاحب ديوَان الْجَيْش عوضا عَن معِين الدّين بن حشيش وخلع على معِين الدّين بِنَظَر الْجَيْش بِالشَّام. وَفِيه ولى السُّلْطَان نظر الْخَاص تَاج الدّين اسحاق أحد نظار الدَّوَاوِين وَتسَمى لما أسلم عبد الْوَهَّاب ورسم أَلا يتحدث فِي متجر. وَكَانَ سَبَب ولَايَته أَن السُّلْطَان لما قبض كريم الدّين الْكَبِير بعث إِلَيْهِ أَن يعين من يصلح لنظر الْخَاص فعين التَّاج وباشر التَّاج الْخَاص بِسُكُون زَائِد وسياسة جَيِّدَة إِلَى أَن مَاتَ. وَفِيه طلب الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام من الْقُدس. وَفِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة: سفر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير على الْبَرِيد إِلَى صفد. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشريه: أفرج عَن كريم الدّين الْكَبِير وَولده وألزم بِالْإِقَامَةِ فِي تربته من القرافة وَكَانَ لَهُ يَوْم عَظِيم جدا وَأَتَاهُ النَّاس من كل مَكَان. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك فِي نظر المارستان عوضا عَن كريم الدّين الْكَبِير فَوجدَ حَاصله أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم سوي سكر وَغَيره قِيمَته مائَة ألف دِرْهَم. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين قجليس فِي نظر جَامع ابْن طولون عوضا عَن كريم الدّين الْكَبِير أَيْضا.(3/64)
وَفِيه خرج الطّلب لإحضار شمس الدّين غبريال من دمشق فَركب وَمَعَهُ أَمْوَال كَثِيرَة ثمَّ خول اموال كريم الدّين الْكَبِير وَعَاد إِلَى دمشق مكرماً. ثمَّ قدم الصاحب أَمِين الدّين يَوْم الْأَحَد رَابِع عشرى ربيع الآخر وَقرر فِي الوزارة وَجلسَ بقلعة الصاحب من القلعة وَنزل إِلَى دَاره فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَاسْتقر فِي نظر النظار شرف الدّين إِبْرَاهِيم بن زنبور وَاسْتمرّ عوضه فِي اسْتِيفَاء الصُّحْبَة شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن قروينة صهر الصاحب أَمِين الدّين فَصَارَ نظر النظار بَين القَاضِي موفق الدّين هبة الله بن سعيد الدولة إِبْرَاهِيم وَبَين ابْن زنبور. وشفى الصاحب أَمِين الدّين نَفسه من كريم الدّين أكْرم النَّاظر وأخرق بِهِ. وَفِي يَوْم السبت سلخ ربيع الْأُخَر: قبض على كريم الدّين الصَّغِير واعتقل ببرج فِي القلعة فشرع فِي حمل المَال ثمَّ أفرج عَنهُ سلخ جُمَادَى الأولى ورسم لَهُ بِنَظَر صفد فَتوجه إِلَيْهَا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِيه قدم شمس الدّين غبريال وَمَعَهُ حمل دمشق ألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم وَمن الذَّهَب مبلغ خَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار من حَاصِل كريم الدّين ومتاجره. وَفِي يَوْم السبت تَاسِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة: أخرج كريم الدّين الْكَبِير وَولده الشوبك بَعْدَمَا أشهد عَلَيْهِ أَن جَمِيع مَا وَقفه من الْأَمْلَاك وَغَيرهَا إِنَّمَا اشْتَرَاهُ من مَال السُّلْطَان دون مَاله. فأبقى السُّلْطَان أوقاف الخانكاه بالقرافة وأوقاف الْجَامِع بِدِمَشْق وأعيد غبريال إِلَى دمشق على عَادَته. وَفِيه توجه التَّاج اسحاق والأمير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي إِلَى الاسكندرية واحتاطا على أَمْوَال كريم الدّين الْكَبِير وَكَانَت تَحت يَد مكين الترجمان وَقد أَخذ المكين مِنْهَا ثَلَاثَة وَخمسين ألف دِينَار فاستقر التَّاج إِسْحَاق يتحدث فِي متجر الْخَاص. وَعَاد التَّاج إِسْحَاق وَمَعَهُ الْأَمِير مغلطاي فأوقع الحوطة على أَمْوَال التُّجَّار وألزم ابْن المحسني مُتَوَلِّي الثغر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار ورسم على سَائِر المباشرين وصادر النَّاس فغلقت الْمَدِينَة وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَأنكرهُ وَأَفْرج عَن ابْن المحسني بَعْدَمَا أَخذ مِنْهُ مبلغ اثْنَي عشر ألف دِينَار وَعَاد الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي بستين ألف دِينَار من المصادرات. وَفِيه كَانَ عرس أَمِير عَليّ بن أرغون النَّائِب على ابْنة السُّلْطَان فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشر شعْبَان. وَقد اعتنى السُّلْطَان بجهازها عناية عظيمه وَعمل لَهَا بشخاناه وستارة وداير بَيت زركش بمبلغ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وآلات ذهب وَفِضة بِمَا ينيف على عشرَة(3/65)
أُلَّاف دِينَار. وَعمر السُّلْطَان لَهَا مناظر الْكَبْش عمَارَة جَدِيدَة وَنقل الجهاز إِلَيْهَا ثمَّ نزل بِنَفسِهِ حَتَّى نصب الجهاز. وَعمل المهم مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام حَضَره نسَاء الْأُمَرَاء بتقادمهم: وَهِي مَا بَين أَرْبَعمِائَة دِينَار سوى تعابي القماش إِلَى مِائَتي دِينَار. وَكَانَ فِيهِ ثَمَانِي جوق من مغاني الْقَاهِرَة وَعِشْرُونَ جوقة من جواري السُّلْطَان والأمراء خص كل جوقة من جَوف الْقَاهِرَة خَمْسمِائَة دِينَار وَمِائَة وَخَمْسُونَ تفصيلة حَرِير وَلم يحصو مَا حصل لجواري السُّلْطَان والأمراء لكثرته. فَلَمَّا انْقَضى المهم بعث السُّلْطَان لكل من نسَاء الْأُمَرَاء تعبية قماش على قدرهَا وَعم جَمِيع الْأُمَرَاء بِالْخلْعِ وَفضل من الشممع بَعْدَمَا اسْتعْمل مِنْهُ مُدَّة الْعرس ألف قِنْطَار مصري. وأنعم السُّلْطَان على الْأَمِير أرغون النَّائِب بمنية بني خصيب زِيَادَة على إقطاعه. وَفِيه قبض على الْأَمِير طشتمر حمص أَخْضَر الساقي وَفرج بن قراسنقر وكرت وعدة من المماليك. ثمَّ أفرج عَن طشتمر من يَوْمه وَنفي كرت إِلَى صفد وَبَقِي فرج ابْن قراسنقر بالجب. وَفِيه هبت ريح سَوْدَاء حارة بِدِمَشْق مَاتَ مِنْهَا جمَاعَة من النَّاس فَجْأَة وفسدت الثِّمَار وجفت الْمِيَاه فتحسن سعر الغلال. ثمَّ وَقع مثل ذَلِك بِالْقَاهِرَةِ ومصر فتغيرت أمزجة النَّاس وفشت الْأَمْرَاض وَكثر الْمَوْت مُدَّة شهر وفسدت الثِّمَار وتحسن السّعر لهيف الْغلَّة وَقلة وُقُوعهَا. وَفِيه قدم الْأَمِير بكتمر الحسامي من دمشق فولي الْإسْكَنْدَريَّة وَتوجه إِلَيْهَا فأراق الْخُمُور بهَا وَمنع من بيعهَا وَجعل أُجْرَة النَّقِيب نصف دِرْهَم وَتثبت فِي الْبَينَات وَحمل النَّاس على الْأُمُور الشَّرْعِيَّة. فاستخفوا بِهِ وطمعوا فِيهِ وَكثر فسادهم فأحدث عَلَيْهِم غرامات يقومُونَ بهَا إِذا تبين الْحق عَلَيْهِ فَكَانَ الرجل إِذا شكا يجبى مِنْهُ من مِائَتي دِرْهَم إِلَى مَا دونهَا وَضرب جمَاعَة مِنْهُم وَفِيه توجه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة والأمير آل ملك إِلَى الْحَج فِي سادس شَوَّال. وَتوجه الْأَمِير بيبرس الدوادار نَائِب السلطنة فِي حادي عشره وَمَعَهُ حَاج كثير ورحل الْمحمل بِبَقِيَّة الْحَاج فِي ثامن عشره من الْبركَة. وَتوجه الْفَخر نَاظر الْجَيْش(3/66)
فِي ثَانِي عشريه إِلَى الْقُدس ليتوجه مِنْهُ إِلَى الْحَج. وَكَانَت عدَّة ركُوب الْحَاج من مصر سِتَّة ركُوب على كل ركب أَمِير. وَفِيه اسْتَقر بلبان العتريس فِي ولَايَة الْبحيرَة عوضا عَن أسندمر القلنجقي. وَفِيه اسْتَقر قدادار مَمْلُوك برلغي فِي ولَايَة الغربية. وَفِي أول ذِي الْحجَّة: خرج الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن قراسنقر والأمير سيف الدّين أيدمر الكبكي والأمير طقصباي الْمرتبَة فديته بقوص وَخَمْسمِائة من أجناد الحلقه إِلَى بِلَاد النّوبَة وَمَعَهُمْ كرنبس. فَانْتَهوا إِلَى دمقلة وَكَانَ قد تغلب كنز الدولة عَلَيْهَا وَنزع كرنبس ففر كنز الدولة مِنْهُم وَجلسَ كرنبس على سَرِير ملكه وعادوا فحارب كنز الدولة كرنبس بعد عود الْعَسْكَر وَملك مِنْهُ الْبِلَاد. وَفِيه صرف معِين الدّين بن حشيش عَن ديوَان الْجَيْش وَنقل إِلَى دمشق وأشرك بَينه وَبَين القطب ابْن شيخ السلامية فِي نظر الْجَيْش بهَا. وَكَانَ قاع النّيل فِي هَذِه السّنة سِتَّة أَذْرع وَنصف وَكَانَ الْوَفَاء يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس شعْبَان وسابع عشر مسري وانتهت الزِّيَادَة فِي سَابِع عشر رَمَضَان إِلَى ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَسِتَّة أَصَابِع. وخرق المَاء نَاحيَة بُسْتَان الخشاب وَدخل إِلَى بولاق وغرق بساتين. وانقطعت الطَّرِيق من جِهَة اللوق وغرق الخور وانهدمت عدَّة بيُوت وغرقت الْمنية وجزيرة الْفِيل فَركب السُّلْطَان بِنَفسِهِ لعمل جسر. ثمَّ قويت الزِّيَادَة وفاض المَاء على منشاة المهراني ومنشاة الكتبة وَصَارَ مَا بَين بولاق ومصر بحراً وَاحِدًا. وَأمر النَّاس برمي التُّرَاب فِي نَاحيَة بولاق وَكثر الْخَوْف من غرق الْقَاهِرَة وَاشْتَدَّ الاحتراس. وَطلب الْفُقَرَاء للْعَمَل فبلغت أُجْرَة الرجل فِي كل يَوْم مابين دِرْهَم إِلَى ثَلَاثَة دَرَاهِم لعزة وجود الرِّجَال واشتغالهم عِنْد النَّاس فِي نقل التُّرَاب. ونزت أَمَاكِن كَثِيرَة وغرقت الأقصاب بِبِلَاد الصَّعِيد وَتلف القلقاس والنيلة وعدة مطاير بهَا الغلال. وَكتب لسَائِر الْوُلَاة بِكَسْر جَمِيع الترع والجسور وتصريفها إِلَى الْبَحْر الْملح فَثَبت المَاء ثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ نزل قَلِيلا قَلِيلا. فاستدعى السُّلْطَان المهندسين ورسم بِعَمَل جسر يحجز المَاء عَن الْقَاهِرَة لِئَلَّا تغرق فِي نيل أخر وألزم أَرْبَاب الْأَمْلَاك المطلة على النّيل بعمارة الزرابي فَعمل كل أحد تجاه دَاره زربية. واستدعى الْأُمَرَاء فلاحيهم من(3/67)
النواحي فَحَضَرُوا بالأبقار والجراريف. وَعمل الجسر من بولاف إِلَى منية الشيرج ووزع بالأقصاب على الْأُمَرَاء فنصب كل أَمِير خيمة وَخرج بِرِجَالِهِ للْعَمَل. ونصبت لَهُم الْأَسْوَاق حَتَّى كمل الجسر فِي عشْرين يَوْمًا وَكَانَ ارتفاعه أَربع قصبات فِي عرض ثَمَانِيَة. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِمَوْت تكفور متملك سيس وَإِقَامَة وَلَده بعده ثمَّ قدمت رسله بالهدية. وَفِيه قدم الشريفان عطيفة أَمِير مَكَّة وَقَتَادَة أَمِير يَنْبع. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْمُجَاهِد أنص ابْن الْعَادِل كتبغا بعد مَا عمي من سهم أَصَابَهُ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي الْمحرم وَكَانَ سَمحا ذكياً مُتَقَدما فِي رمي البندق. وَمَات تَاج الدّين أَحْمد بن مجد الدّين عَليّ بن وهب بن مُطِيع بن دَقِيق الْعِيد الشَّافِعِي فِي عشرى ذِي الْحجَّة ومولده فِي ربيع سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة. وَكَانَ فَقِيها فَاضلا فِي مذهبي الشَّافِعِي وَمَالك سمع الحَدِيث وَحدث وَولي الحكم بغرب قمولا وبقوص وَكَانَ كثير الْعِبَادَة. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق نجم الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْعِمَاد مُحَمَّد ابْن الْأَمِير سَالم بن الْحَافِظ بهاء الدّين الْحسن بن هبة الله بن مَحْفُوظ بن صصري التغلبي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي فِي لَيْلَة السبت سادس عشرى ربيع الأول ومولده فِي سَابِع عشرى ذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة وَولي الْقَضَاء إِحْدَى وَعشْرين سنة وَقدم الْقَاهِرَة(3/68)
مرَارًا وَقَرَأَ الْقرَاءَات السَّبع وَسمع الحَدِيث وَكتب الْخط الْمليح وبرع فِي الْأَدَب والتاريخ وَقَالَ الشّعْر وشارك فِي فنون من فقه وَتَفْسِير وَغَيره. وَمَات أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي بكر بن خَمِيس الْأنْصَارِيّ المغربي فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شعْبَان بِمصْر ومولده بالجزيرة الخضراء من الغرب فِي الْمحرم سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَكَانَ صَاحب فنون وَصَلَاح وَدين وَشعر جيد. وَمَات نجم الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الصفي البصروي الْحَنَفِيّ الْوَزير الصاحب. ولي حَسبه دمشق ثمَّ وزارتها ثمَّ صَار من الْأُمَرَاء. وَمَات كَمَال الدّين عبد الرَّزَّاق بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الفوطي الْبَغْدَادِيّ المؤرخ فِي الْمحرم بِبَغْدَاد. وَمَات تَاج الدّين ناهض بن مخلوف أَخُو قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عَليّ بن مخلوف الْمَالِكِي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر الْمحرم بِمصْر. وَمَات السّني ابْن سِتّ بهجة يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرى ذِي الْحجَّة وَكَانَ من أَعْيَان الْكتاب بِمصْر. وَمَات بهاء الدّين الْقَاسِم بن مظفر بن مَحْمُود بن تَاج الْأُمَنَاء أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عَسَاكِر فِي خَامِس عشرى شَوَّال ومولده سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة. سمع وَحدث وَصَارَ مُسْند الشَّام.(3/69)
فارغة(3/70)
سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة أهل الْمحرم يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث شهر طوبة: فَقدم الْفَخر نَاظر الْجَيْش من الْحجاز عَشِيَّة الْأَحَد ثالثه. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادسه: نُودي على الْفُلُوس أَن يتعامل النَّاس بهَا بالرطل على أَن كل رَطْل مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ وَمن عِنْده مِنْهَا شَيْء يحضرهُ إِلَى دَار الضَّرْب وَيَأْخُذ عَنْهَا فضَّة. ورسم بِضَرْب فلوس زنة الْفلس مِنْهَا دِرْهَم وَثمن فَضرب مِنْهَا نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم فرقت على الصيارف. وَكَانَ سَبَب ذَلِك كَثْرَة مَا دخل فِي الْفُلُوس من الزغل حَتَّى صَار وزن الْفلس نصف دِرْهَم. فتوقف النَّاس عَن أَخذ الْفُلُوس وَكثر ردهَا وعقوبة الباعة على ذَلِك بِالضَّرْبِ والتجريس إِلَى أَن فسد الْحَال وغلقت الحوانيت وَارْتَفَعت الأسعار وَبلغ الْقَمْح بعد عشرَة دَرَاهِم الأردب إِلَى سَبْعَة عشر درهما. وَفِي يَوْم السبت تاسعه: وصل الْأَمِير سيف الدّين طشتمر حمص أَخْضَر الساقي من الْحجاز وصحبته جمَاعَة وَكَانَ قد سَافر بعد الإفراج عَنهُ وأنعم عَلَيْهِ بألفي دِينَار وغلال كَثِيرَة وَعمل لَهُ السُّلْطَان عِنْد قدومه اثْنَتَيْ عشرَة بدلة وَثَلَاثَة حوائض وطرز زركش وأنعم عَلَيْهِ بِمَال جزيل وتتابع قدوم الْحَاج حَتَّى قدم الْمحمل فِي خَامِس عشريه وَفِيه توجه الْأَمِير أرغون النَّائِب إِلَى منية بني خصيب فَشَكا أَهلهَا من مباشريهم فَلم يسمع لَهُم وَأمر بضربهم فرجموه بِالْحِجَارَةِ وأنكوا فِي مماليكه وغلمانه. فَركب عَلَيْهِم أرغون ليفتك بهم فَفرُّوا من عِنْد الوطاق خَارج الْبَلَد إِلَى دَاخل الْبَلَد فَأخذ مماليكه من عمائم الهاربين نيفاً على ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ عِمَامَة زرقاء من عمائم النَّصَارَى فَلَمَّا استكثر ذَلِك قيل لَهُ إِن بهَا كثيرا من النَّصَارَى وَلَهُم خمس كنائس فَهَدمهَا فِي سَاعَة وَاحِدَة ورسم أَلا يستخدم نَصْرَانِيّ فِي ديوانه وَكَانَ النَّصَارَى قد جددوا عمَارَة مَا خرب من الْكَنَائِس بالصعيد فهدمت أَيْضا. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة: هبت ريح وَالنَّاس فِي الصَّلَاة حَتَّى ظن النَّاس أَن السَّاعَة قَامَت واستمرت بَقِيَّة النَّهَار وَطول اللَّيْل فهدم بهَا دور كَثِيرَة وامتلأت الأَرْض بِتُرَاب أسود.(3/71)
وَخرجت ريح شَدِيدَة بِبِلَاد قوص إِلَى أسوان واقتلعت فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَرْبَعَة أُلَّاف نَخْلَة وَخَربَتْ الديار. وَفِيه قدمت رسل الْمُجَاهِد سيف الدّين بن عَليّ ملك الْيمن بِطَلَب نجدة من مصر فَلم يجب إِلَى ذَلِك. وفيهَا قحطت بِلَاد الشرق فَقدمت طوائف إِلَى بِلَاد الشَّام وَكَانَ الْجَرَاد قد أتلف زروعها فبلغت الغرارة بِدِمَشْق إِلَى مِائَتي دِرْهَم. فَجهز الْأُمَرَاء من مصر الغلال الْكَثِيرَة فِي الْبَحْر إِلَى بيروت وطرابلس فَكَانَ مَا حمل من جِهَة السُّلْطَان والأمراء نَحْو عشْرين ألف أردب سوى مَا حمله التُّجَّار فَانْحَطَّ السّعر حَتَّى أبيعت الغرارة بِثَمَانِينَ درهما. وَكتب بِإِبْطَال مكس الْغلَّة بِالشَّام وَهُوَ على كل غرارة ثَلَاثَة دَرَاهِم وكانث تبلغ فِي كل سنة ألف ألف ومائتي ألف دِرْهَم فَبَطل ذَلِك وَاسْتمرّ بُطْلَانه. وَفِيه عزل جمال الدّين سُلَيْمَان الزرعي عَن قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق وَاسْتمرّ عوضه جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي بعد استدعائه إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى وقدومه فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشريه. فَلَمَّا اجْتمع الْقزْوِينِي بالسلطان أقبل عَلَيْهِ وَصلى بِهِ الْجُمُعَة وَنزل إِلَى خانكاه سعيد السُّعَدَاء ثمَّ ولاه قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق وخلع عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة وسافر الْقزْوِينِي على الْبَرِيد يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشريه فَقدم دمشق خَامِس رَجَب وَكَانَ عَلَيْهِ دُيُون اجْتمعت عَلَيْهِ بِسَبَب مكارمه وَهِي ألف دِينَار وَمِائَة وَسِتُّونَ دِينَارا فَأعْطَاهُ وَفِيه كتب باستقرار كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الزملكاني فِي قَضَاء حلب عوضا عَن زين الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الْأنْصَارِيّ. وَفِيه توجه السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد بالبحيرة فاصطاد نَحْو المائتي غزال بِالْحَيَاةِ سوى مَا قتل وجرح كثيرا مِنْهَا وأطلقها. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ربيع الأولى: توجه الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا المغربي لإحضار كريم الدّين الْكَبِير وَولده من الْمُقَدّس فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشريه حضرا على الْبَرِيد تَحت الحوطة فسلما إِلَى الْأَمِير قجليس فأقاما كنده إِلَى يَوْم حادي عشر ربيع الآخر ثمَّ طلعا إِلَى قلعة الْجَبَل وطولبا بِالْمَالِ.(3/72)
وَفِيه تنكر الْحَال بَين الأميرين تنكز نَائِب الشَّام والأمير ألطنبغا نَائِب حلب. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر ربيع الآخر: حضر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير على خيل الْبَرِيد من صفد إِلَى قلعه الْجَبَل فعوق ببرج بَاب القرافة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشره: سفر كريم الدّين بكتمر وَولده إِلَى الْوَجْه القبلي صُحْبَة وَالِي قوص. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشريه: أفرج عَن كريم الدّين أكْرم الصَّغِير وَنزل إِلَى بَيته. وَفِي اليلة الْأَحَد خَامِس عشر جُمَادَى الأولى: طلع الْقَمَر مخسوفاً بِالسَّوَادِ. وَفِيه قدم منسا مُوسَى ملك التكرور يُرِيد الْحَج وَأقَام تَحت الأهرام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الضِّيَافَة. عدى إِلَى بر مصر فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشرى رَجَب وطلع إِلَى القلعة ليسلم على السُّلْطَان وَامْتنع من تَقْبِيل الأَرْض فَلم يجْبر على ذَلِك غير أَنه لم يُمكن من الْجُلُوس فِي الحضرة السُّلْطَانِيَّة. وَأمر السُّلْطَان بتجهيزه لِلْحَجِّ فَنزل وَأخرج ذَهَبا كثيرا فِي شِرَاء مَا يُرِيد من الْجَوَارِي وَالثيَاب وَغير ذَلِك حَتَّى انحط الدِّينَار سِتَّة دَرَاهِم. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن رَمَضَان: عزل الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام عَن الوزارة وَلزِمَ بَيته. وَاسْتقر عوضه الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي وزيراً مَعَ مابيده من الأستادارية فِي يَوْم السبت عاشره. وَفِيه اسْتَقر شهَاب الدّين بن الأقفهسي فِي نظر الدَّوَاوِين عوضا عَن الْمُوفق وَعَن شرف الدّين بن زنبور. وَولي مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة نظر الْبيُوت عوضا عَن الأقفهسي الْمَذْكُور. ثمَّ قدم شمس الدّين غبريال من دمشق باستدعاء فِي أثْنَاء شهر رَمَضَان فاستقر نَاظر الدَّوَاوِين ووزير الصُّحْبَة ونائب الوزارة فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرى رَمَضَان يَوْم وُصُوله. وَاسْتقر فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشرى رَمَضَان الْأَمِير سيف الدّين قدادار فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن علم الدّين سنجر الخازن نقل إِلَيْهَا من ولَايَة الْبحيرَة ففتك فِي الْعَامَّة وَمنع من الْخُمُور وَفِيه عزل علم الدّين سنجر الْحِمصِي من شدّ الدَّوَاوِين وَولي الجيزة نَحْو شَهْرَيْن ثمَّ أخرج إِلَى طرابلس شاد الدَّوَاوِين بهَا. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين أيدغدي الباشقردي بِمصْر عوضا عَن عَلَاء الدّين ابْن أَمِير حَاجِب.(3/73)
وَفِيه اسْتَقر ابْن زنبور فِي نظر خَزَائِن السِّلَاح عوضا عَن عَلَاء الدّين عَليّ بن الْبُرْهَان إِبْرَاهِيم أَحْمد بن ظافر الْبُرُلُّسِيّ. وَاسْتقر ابْن الْبُرُلُّسِيّ فِي نظر بَيت المَال عوضا عَن تَاج الدّين بن السكرِي وَاسْتقر ابْن السكرِي شَاهد الخزانة الْكُبْرَى. وَفِيه اسْتَقر كريم الدّين أكْرم الصَّغِير فِي نظر الشَّام عوضا عَن غبريال فِي يَوْم السبت رَابِع عشرى رَمَضَان وَخرج على الْبَرِيد يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشرى شَوَّال.
(وَفِي يَوْم السبت ثَمَانِي عشرى شَوَّال)
فتحت الْحمام بِقرب رحبة الأيدمري وَقد جددها الْأَمِير الْحَاج آل ملك. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشريه: رَحل الركب من بركَة الْحَاج إِلَى الْحجاز. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن ذِي الْقعدَة: قدمت رسل أبي سعيد بِسَبَب الْمُصَاهَرَة مَعَ السُّلْطَان فأعيدوا بعد إكرامهم. وَفِيه رسم بإغلاق دكاكين النشاب وَهدم مرامي النشاب. وَفِيه فَشَتْ الْأَمْرَاض فِي النَّاس بِالشَّام ومصر والصعيد وَكثر الْمَوْت السَّرِيع وَمرض السُّلْطَان ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا وعوفي فَعمِلت التهاني والأفراح سَبْعَة أَيَّام وَكتب بالبشاره إِلَى الْأَعْمَال على يَد الْأَمِير قطلوبغا المغربي فَحصل لَهُ سِتَّة أُلَّاف دِينَار وَثَلَاثُونَ فرسا وثلاثمائة قِطْعَة قماش وست خلع كَامِلَة بحوائص ذهب فَلَمَّا حضر أنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بعد ذَلِك بتشريف. وفيهَا أخرج الأقوش المنصوري أَمِيرا بِدِمَشْق. وَسبب ذَلِك مرافعة وَلَده حَتَّى قبض عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة سادس عشرى رَجَب ثمَّ أفرج عَنهُ فِي سلخه ورسم لَهُ بإمرة فِي حلب فَخرج على الْبَرِيد فِي عَشِيَّة نَهَاره. وَفِي سادس عشرى رَجَب: اسْتَقر الْأَمِير ألطنقش أستاداراً عوضا عَن الْأَمِير جمال الدّين يغمور بعد مَوته وَكَانَت وَفَاة الْأَمِير يغمور فِي خَامِس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة.(3/74)
وَفِي ثَالِث شعْبَان: قدم المجردون إِلَى النّوبَة وَقد غَابُوا ثَمَانِيَة أشهر. وَفِيه منع الأجناد من الِاجْتِمَاع بسوق الْخَيل. وَفِيه قدم الْخَبَر بهبوب الرّيح فِي بِلَاد الصَّعِيد وَأَنَّهَا اقتلعت من نَاحيَة عرب قمولة زِيَادَة على أَرْبَعَة أُلَّاف نَخْلَة فِي سَاعَة وَاحِدَة وأخرحت عدَّة أَمَاكِن بأحميم وأسيوط وأسوان وبلاد السودَان وَهلك مِنْهَا كثير من النَّاس وَالدَّوَاب. وَفِي ذِي الْقعدَة: طُولِبَ الصاحب أَمِين الدّين والموفق نَاظر الدولة بِثمن كتَّان من خراج الجيزة قِيمَته مائَة ألف دِرْهَم خص الصاحب مِنْهَا مبلغ خمسين ألفا وَخص الْمُوفق مبلغ خَمْسَة وَعشْرين ألفا فاستخرج ذَلِك من جوامك المباشرين. وَكَانَ قاع النّيل فِي هَذِه السّنة سِتَّة أَذْرع وَعشْرين أصبعاً وَكَانَ الْوَفَاء فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع شعْبَان وثامن مسرى. وانتهت الزِّيَادَة إِلَى ثمانيه عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة عشمر أصبعاً فغرقت الأقصاب والمعاصر وَكَثْرَة من شون الغلال وَصَارَت المراكب لَا تَجِد برا تضرب فِيهِ الوتد من قوص إِلَى الْقَاهِرَة وغرقت الفيوم لانْقِطَاع جسرها وَتوجه الْأَمِير بكتمر الحسامي لعمارته. وفيهَا قرر السُّلْطَان أَن تعْمل لَهُ كل يَوْم أوراق بالحاصل والمصروف فَصَارَت تعرض عَلَيْهِ كل يَوْم وتحدث فِي الْأَمْوَال بِنَفسِهِ. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان برهَان الدّين أَبُو اسحاق إِبْرَاهِيم بن ظافر يَوْم الْخَمِيس سادس جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ فَقِيها شافعياً. وَمَات الشيح نور الدّين عَليّ بن يَعْقُوب بن جِبْرِيل الْبكْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس وَمَات تَقِيّ الدّين مُحَمَّد الْجمال عبد الرَّحِيم بن عمر الباجر بَقِي الشَّافِعِي فِي(3/75)
ربيع الآخر بِدِمَشْق قدم الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا وَله الملحمة الباجر بَقِيَّة واتهم بالزندقة. وَمَاتَتْ خوند أردكين بنت نوكاي الأشرفية ثمَّ الناصرية يَوْم السبت ثَالِث عشرى الْمحرم. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح الفخري يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ أحد الْأُمَرَاء الألوف. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بزلار أَمِير علم. وَمَات الطواشي عنبر الْأَكْبَر زِمَام الدّور فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير مُحَمَّد بن عيس بن مهنا من آل فضل يَوْم السبت سَابِع رَجَب قدم الْقَاهِرَة مرَارًا. وَمَات الْأَمِير قطليجا الزيني من أُمَرَاء مصر. وَمَات الشَّيْخ الصَّالح مَحْمُود الحيدري خَارج الْقَاهِرَة. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بكتمر بدرجك أحد الْأُمَرَاء بِمصْر. وَمَات كريم الدّين أَبُو الْفَضَائِل عبد الْكَرِيم بن الْعلم هبة الله بن السديد بثغر أسوان لَيْلَة الْخَمِيس الْعشْرين من شَوَّال وَعَاد ابْنه علم الدّين عبد الله فاعتقل بالقلعة وَأخذ مِنْهُ مَال كثير وَمَات نور الدّين عَليّ بن تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين حسن بن تَاج الدّين عَليّ الْقُسْطَلَانِيّ خطيب جَامع عَمْرو بِمصْر فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر ربيع الآخر. وَمَات نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين النابلسي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشر جُمَادَى الأولى. وَمَات بهاء الدّين ابْن الشَّيْخ جمال الدّين بن صفي الدّين بن أبي الْمَنْصُور يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشرى جُمَادَى الْآخِرَة.(3/76)
وَمَات الْحسن بن عَليّ الأسواني الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي جُمَادَى الأولى بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَقد أم بهَا واشتغل ثَمَانِي عشرَة سنة وَكَانَ فَقِيها صَالحا.(3/77)
فارغة(3/78)
سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة الْمحرم أَوله الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشرى كيهك: وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عاشرة: قدم أَوَائِل الْحَاج. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشره: قدم السُّلْطَان من الْوَجْه القبلي. وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشريه: وصل الْمحمل وَبَقِيَّة الْحَاج مَعَ الْأَمِير أيتمش المحمدي أَمِير الركب. وَفِيه اجْتمع بِمصْر من رسل الْمُلُوك مَا لم يجْتَمع مثلهم فِي الدولة التركية وهم: رسل صَاحب الْيمن ورسل صَاحب إسطنبول ورسل الأشكري ورسل متملك سيس ورسل أبي سعيد ورسل ماردين ورسل ابْن قرمان ورسل ملك النّوبَة وَكلهمْ يبذلون الطَّاعَة. وَسَأَلَ الْملك الْمُجَاهِد صَاحب الْيمن إنجاده بعسكر من مصر وَأكْثر من ترغيب السُّلْطَان فِي المَال الَّذِي بِالْيمن وَكَانَ قدوم رسله فِي مستهل صفر. فرسم السُّلْطَان بتجهيز الْعَسْكَر صُحْبَة الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الْحَاجِب وَهُوَ مقدم الْعَسْكَر. وَكَانَ مَعَه من أُمَرَاء الطبلخاناه خَمْسَة: وهم آقول الْحَاجِب وقجمار الجوكندار وَيعرف باسم بشاس وبلبان الصرخدي وبكتمر العلالي أستادار وألجاي الساقي الناصري وَمن العشراوات عز الدّين أيدمر الكوندكي وشمس الدّين إِبْرَاهِيم بن التركماني وَأَرْبَعَة من مقدمي الْحلقَة عَلَيْهَا الْأَمِير سيف الدّين طينال الْحَاجِب وَمَعَهُ خَمْسَة أُمَرَاء طبلخاناه وهم: الْأَمِير ططر الناصري وعلاء الدّين بن طغريل الإيغاني وجرباش أَمِير علم وأيبك الكوندكي وكوكاي طاز وَمن العشراوات أَيْضا بلبان الدواداري وطرنطاي الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالِي بَاب الْقلَّة وَأَرْبَعَة أخرون من مقدمي الْحلقَة وَمن المماليك السُّلْطَانِيَّة ثَلَاثمِائَة فَارس وَمن أجناد الْحلقَة تَتِمَّة الْألف فَارس. وَفرقت فيهم أوراق السّفر يَوْم الْإِثْنَيْنِ خامسه. وَكتب بِحُضُور العربان من الشرقية والغربية لأجل الْجمال. وَفِيه خرج السُّلْطَان إِلَى سرياقوس وَقبض على الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب وَجَمَاعَة فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي ربيع الأول.(3/79)
وَفِيه قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فِي عاشره فَأَقَامَ عِنْد السُّلْطَان أَيَّامًا وَعَاد إِلَى دمشق مكرماً. وَفِيه أنْفق السُّلْطَان فِي الْأُمَرَاء المتوجهين إِلَى الْيمن فَقَط فَحمل لبيبرس ألف دِينَار ولطينال ثَمَانمِائَة دِينَار وَلكُل أَمِير طبلخاناه عشرَة أُلَّاف دِرْهَم وللأمير من العشراوات مبلغ ألفي دِرْهَم ولمقدم الْحلقَة ألف دِرْهَم. وَحَضَرت العربان فاستقر كرا الْجمل إِلَى مَكَّة بِمِائَة وَسِتِّينَ درهما وَإِلَى يَنْبع بِمِائَة وَثَلَاثِينَ ورحل كل جندي على أَرْبَعَة جمال جملين إِلَى مَكَّة وجملين إِلَى يَنْبع وَتَوَلَّى الْأَمِير عز الدّين أيدمر الكبكي أَمر العربان وَأخذ الْعَسْكَر فِي التَّجْهِيز وَبَاعُوا موجودهم فَانْحَطَّ سعر الدَّنَانِير من خَمْسَة وَعشْرين إِلَى عشْرين درهما لِكَثْرَة مَا باعوا من الْحلِيّ والمصاغ. وبرزوا من الْقَاهِرَة إِلَى بركَة الْحَاج يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر ربيع الآخر واستقلوا بِالْمَسِيرِ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشره. وَفِيه خرج السُّلْطَان إِلَى سرياقوس وَمَعَهُ عدَّة من المهندسين وَعين موضعا على نَحْو فَرسَخ من نَاحيَة سرياقوس ليبتني فِيهِ خانكاه بهَا مائَة خلْوَة لمِائَة صوفي وبجانبها جَامع تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَمَكَان برسم ضِيَافَة الواردين وحمام ومطبخ وَندب السُّلْطَان آقسنقر شاد العمائر لجمع الصناع. ورتب السُّلْطَان لَهَا أَيْضا قصوراً برسم الْأُمَرَاء الخاصكية وَعَاد فَوَقع الإهتمام فِي الْعَمَل حَتَّى كملت فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثمَّ اقْتضى رَأْي السُّلْطَان حفر خليج خَارج الْقَاهِرَة يَنْتَهِي إِلَى سرياقوس ويرتب عَلَيْهِ السواقي والزراعات وتسير فِيهِ المراكب أَيَّام النّيل بالغلال وَغَيرهَا إِلَى الْقُصُور بسرياقوس وفوض ذَلِك إِلَى الْأَمِير أرغون النَّائِب. فَنزل الْأَمِير أرغون بالمهندسين فِي النّيل إِلَى أَن وَقع الِاخْتِيَار على مَوضِع بموردة البلاط من أَرَاضِي بُسْتَان الخشاب وَيَقَع الْحفر فِي الميدان الظَّاهِرِيّ الَّذِي صَار بستاناً ويمر على بركَة قرموط إِلَى بَاب الْبَحْر ثمَّ إِلَى أَرض الطبالة ويرمى فِي الخليج الْكَبِير. فَكتب إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بإحضار الرِّجَال للحفير وَعين لكل وَاحِد من الْأُمَرَاء أقصاب يحفرها وابتدأ الْحفر مستهل جُمَادَى الأولى إِلَى أَن تمّ فِي سلخ جُمَادَى الْآخِرَة. وَخَربَتْ فِيهِ أَمْلَاك كَثِيرَة وَأخذت قِطْعَة من بُسْتَان الْأَمِير أرغون النَّائِب وَأعْطى السُّلْطَان ثمن مَا خرب من الْأَمْلَاك لأربابها وَفِيهِمْ من هدم دَاره وَأخذ أنقاضها. وَالْتزم الْفَخر نَاظر الْجَيْش بعمارة قنطرة بِرَأْس الخليج عِنْد فَمه وَالْتزم قدادار وَالِي الْقَاهِرَة بِعَمَل قنطرة تجاه الْبُسْتَان الَّذِي كَانَ ميداناً للظَّاهِر ورسم بِعَمَل قنطرة الأوز وقناطر الأميرية فَلَمَّا كَانَت أَيَّام الزِّيَادَة فِي مَاء النّيل جرت(3/80)
السفن فِي هَذَا الخليج، وعمرت السوافي عَلَيْهِ، وأنشئت بجانبه الْبَسَاتِين والأملاك. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس جُمَادَى الْآخِرَة: توجه السُّلْطَان إِلَى الخانكاه خَارج نَاحيَة سرياقوس وَقد خرجت الْقُضَاة والمشايخ والصوفية يَوْم الْأَرْبَعَاء وَعمل لَهُم سماط عَظِيم فِي يَوْم الْخَمِيس تاسعه بالخانكاه. وَاسْتقر مجد الدّين أَبُو حَامِد مُوسَى بن أَحْمد بن مَحْمُود الأقصرائي وَهُوَ شيح خانكاه كريم الدّين الْكَبِير بالقرافة فِي مشيخة هَذِه الخانكاه ورتب عِنْده مائَة صوفي وخلع السُّلْطَان عَلَيْهِ وعَلى قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَولده عز الدّين عبد الْعَزِيز وعَلى قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين الأخنائي الْمَالِكِي وعَلى الشَّيْخ عَلَاء الدّين القونوي شيخ خانكاه سعيد السُّعَدَاء ورسم للشَّيْخ مجد الدّين ببغلة وَأَن يلقب بشيخ الشُّيُوخ وخلع على أَرْبَاب الوظالف وَفرق سِتِّينَ ألف دِرْهَم وخلع على الْأُمَرَاء وَأهل الدولة. وفيهَا حبس شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن مري البعلبكي الْحَنْبَلِيّ أحد أَصْحَاب ابْن تَيْمِية مُقَيّدا فِي سجن القَاضِي الْمَالِكِي تَقِيّ الدّين الأخنائي بِالْقَاهِرَةِ وَضرب بالسياط ضربا مبرحاً وَشهر فِي تَاسِع عشرى جُمَادَى الأولى بَعْدَمَا أَقَامَ فِي السجْن من سادس عشرى ربيع الأولى وَكَانَ قد عرض على السُّلْطَان فِي نصف ربيع الآخر فَأثْنى عَلَيْهِ الْأَمِير بدر الدّين بن جنكلي بن البابا وَالْقَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة وَغَيرهمَا من الْأُمَرَاء وعارضهم الْأَمِير أيدمر الخطيري حَتَّى كَادَت تكون فتْنَة. ففوض السُّلْطَان الْأَمر لأرغون النَّائِب فآل الْأَمر إِلَى تَمْكِين القَاضِي الْمَالِكِي مِنْهُ كَمَا تقدم. ثمَّ أُعِيد ابْن مري إِلَى السجْن ثمَّ شفع فِيهِ فآل أمره إِلَى أَن أفرج عَنهُ وَأخرج إِلَى الْقُدس بعد يَوْمَيْنِ من سجنه وَكَانَ مَظْلُوما. فاتفق عقيب ذَلِك أَن الْفُقَهَاء شنعوا على تَقِيّ الدّين ابْن شَاس بِأَنَّهُ كفر لتصويبه بعض أراء ابْن مري وشهدوا عَلَيْهِ فدافع الأخنائي عَنهُ وَسكن الْقَضِيَّة حَتَّى خمدت فَقَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم الرَّشِيدِيّ فِي ذَلِك: يَا قَاضِيا شاد أَحْكَامه على تقى من الله وَأقوى أساس مقَالَة فِي ابْن مرى لفقت تجاوزت فِي الْحَد حد الْقيَاس وفى ابْن شَاس حققت مَا أثرت فَهَل أَبَاحَ الشَّرْع كفر ابْن شَاس(3/81)
وفيهَا بلغ السُّلْطَان عَن دمرداش بن جوبان متملك الرّوم مَا أغضبهُ فَكتب يشكوه إِلَى أَبِيه جوبان فَأنْكر عَلَيْهِ فعله فَاعْتَذر عَمَّا وَقع مِنْهُ وَبلغ جوبان ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَجهز إِلَى دمرداش تَشْرِيفًا وهدية وَكتب إِلَيْهِ يستميله. وَفِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة: توجه الْأَمِير الْوَزير مغلطاي الجمالي ومكين الدّين بن قروينة مُسْتَوْفِي الدولة على الْبَرِيد لكشف القلاع وَحمل مَا فِيهَا من الحواصل فراك الجمالي المملكة الحلبية وَعَاد يَوْم الثُّلَاثَاء سادس شهر رَمَضَان. وَفِيه اسْتَقر بهادر البدري فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن بيليك الجمالي. وَفِي يَوْم السبت الْعشْرين من رَمَضَان: قدم الْأَمِير سيف الدّين بكمش الجمدار الظَّاهِرِيّ والأمير بدر الدّين بيليك السيفي السلاري الْمَعْرُوف بِأبي غُدَّة من بِلَاد أزبك بهدية ومعهما كِتَابه وَهُوَ يسْأَل أَن يُجهز لَهُ كتاب جَامع الْأُصُول فِي أَحَادِيث الرَّسُول وَكتاب شرح السّنة وَالْبَحْر للروياني فِي الْفِقْه وعدة كتب طلبَهَا فجهزت لَهُ. وَفِيه خرج السُّلْطَان إِلَى الْبحيرَة فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة للصَّيْد. وَفِيه بعث السُّلْطَان الْأَمِير مغلطاي الجمالي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فأفرج عَن الْأُمَرَاء المسجونين بهَا وهم: طاجار المحمدي وبلبان الشمسي وكيتمر وبهادر التَّقْوَى أَمِير جاندار فقدموا إِلَى الْقَاهِرَة فِي ثامن عشريه. وفيهَا نزل سيل عَظِيم فِي النّيل حَتَّى اصفر مَاؤُهُ وَزَاد سِتَّة أَصَابِع. وَأما الْعَسْكَر الْمُجَرّد لنجدة صَاحب الْيمن فَإِنَّهُ سَار إِلَى مَكَّة وَقد كتب السُّلْطَان إِلَى الشريف عقيل أَمِير يَنْبع وَإِلَى الشريفين عطيفة ورميثة أَمِيري مَكَّة وَإِلَى قوادهما وَإِلَى بني شُعْبَة وعرب الواديين وَسَائِر عربان الْحجاز بِالْقيامِ فِي خدمَة الْعَسْكَر. وَوصل الْعَسْكَر إِلَى مَكَّة فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى ودخلها وَأقَام بهَا حَتَّى قدمت المراكب بالغلال وَغَيرهَا من مصر إِلَى جدة فأبيع الشّعير بِثَلَاثِينَ درهما الأردب والدقيق بِعشْرين درهما الويبة. وَتقدم الْخَادِم كافور الشبيلي خَادِم الْملك الْمُجَاهِد إِلَى زبيد ليعلم مَوْلَاهُ العساكر وَكتب الْأَمِير ركن الدّين بيبرس بن الْحَاجِب وَهُوَ مقدم الْعَسْكَر إِلَى أهل حلى بني يَعْقُوب بالأمان وَأَن يجلبوا البضائع للعسكر. ورحل الْعَسْكَر فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة من مَكَّة وَمَعَهُ الشريف عطفة والشريف عقيل وَتَأَخر الشريفي رميثة. فوصل الْعَسْكَر إِلَى حلي بني يَعْقُوب فِي اثْنَي عشر يَوْمًا(3/82)
بعد عشْرين مرحلة فَتَلقاهُمْ أَهلهَا ودهشوا لرؤية العساكر وَقد طلبت ولبست السِّلَاح وهموا بالفرار. فَنُوديَ فيهم بالأمان وَألا يتَعَرَّض أحد من الْعَسْكَر لشَيْء إِلَّا بِثمنِهِ فاطمأنوا وحملوا إِلَى كل من بيبرس وطينال مقدمي الألوف مائَة رَأس من الْغنم وَخَمْسمِائة أردب أذرة فرداها وَلم يقبلا لأحد شَيْئا. ورحل الْعَسْكَر بعد ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْعشْرين مِنْهُ. فَقدمت الْأَخْبَار باجتماع رَأْي أهل زبيد على الدُّخُول فِي طَاعَة الْملك الْمُجَاهِد خوفًا من معرة قدوم الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَأَنَّهُمْ ثَارُوا بالمتملك عَلَيْهِم وَهُوَ الْملك الظَّاهِر ونهبوا أَمْوَاله ففر عَنْهُم وَكَتَبُوا إِلَى الْمُجَاهِد بذلك فقوي وَنزل من قلعة تعز يُرِيد زبيد. فَكتب أُمَرَاء الْعَسْكَر الْمصْرِيّ إِلَيْهِ وهم قرب حُدُود الْيمن بِأَن يكون على أهبة اللِّقَاء. وَنزل الْعَسْكَر على زبيد ووافاهم الْمُجَاهِد بجنده فَسخرَ مِنْهُم النَّاس من أجل أَنهم عُرَاة وسلاحهم الجريد والخشب وَسُيُوفهمْ مشدودة على أذرعتهم ويقاد للأمير فرس وَاحِد مجلل وعَلى رَأس الْمُجَاهِد عِصَابَة ملونة فَوق الْعِمَامَة. وعندما عاين الْمُجَاهِد العساكر المصرية وَهِي لابسة ألة الْحَرْب رعب وهم أَن يترجل عَن فرسه حَتَّى مَنعه الأميران بيبرس وآقول من ذَلِك. وَمضى الْعَسْكَر صفّين والأمراء فِي الْوسط حَتَّى قربوا مِنْهُ فَألْقى الْمُجَاهِد نَفسه وَمن مَعَه إِلَى الأَرْض وترجل لَهُ أَيْضا الْأُمَرَاء وأكرموه وأركبوه فِي الْوسط وَسَارُوا إِلَى المخيم وألبسوه تَشْرِيفًا سلطانياً وكلفتاه زركش وحياصة ذهب. وَركب الْمُجَاهِد والأمراء فِي خدمته بالعساكر إِلَى دَاخل زبيد ففرح أَهلهَا فَرحا شَدِيدا. وَمد الْمُجَاهِد لَهُم سماطاً جَلِيلًا فَامْتنعَ الْأُمَرَاء والعسكر من أكله خوفًا من أَن يكون فِيهِ مَا يخَاف عاقبته وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَن هَذَا لَا يَكْفِي الْعَسْكَر وَلَكِن فِي غَد يعْمل السماط. فأحضر الْمُجَاهِد إِلَيْهِم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَتَوَلَّى طباخو الْأُمَرَاء عمل السماط. وَحضر الْمُجَاهِد وامراؤه وَقد مد السماط بَين يَدي كرْسِي جلس عَلَيْهِ الْمُجَاهِد ووقف السقاة والنقباء والحجاب والجاشنكيرية على الْعَادة ووقف الْأَمِير بيبرس رَأس الميمنة والأمير طينال رَأس الميسرة. فَلَمَّا فرغ السماط صاحت الشاويشية على أُمَرَاء الْمُجَاهِد(3/83)
وَأهل دولته فأحضروهم وَقُرِئَ كتاب السُّلْطَان فباسوا بأجمعهم الأَرْض وَقَالُوا سمعا وَطَاعَة وَكتب الْأَمِير بيبرس لممالك أليمن وَلم يُجهز الْملك الْمُجَاهِد للعسكر شَيْئا من الإقامات وعنفه الْأَمِير بيبرس على ذَلِك فَاعْتَذر بخراب الْبِلَاد وَكتب لَهُم على الْبِلَاد بِغنم وأذرة فَتوجه إِلَيْهَا قصاد الْأُمَرَاء. وَسَار الْمُجَاهِد إِلَى تعز لتجهيز الإقامات وَمَعَهُ الأميران سيف الدّين ططر العفيفي السِّلَاح الدَّار وَسيف الدّين قجمار فِي مِائَتي فَارس وَتَأَخر الْعَسْكَر بزبيد وعادت قصاد الْأُمَرَاء بِغَيْر شَيْء فَرَحل الْعَسْكَر من زبيد فِي نصف رَجَب يُرِيدُونَ تعز فَتَلقاهُمْ الْمُجَاهِد ونزلوا خَارج الْبَلَد وَشَكوا مَا هم فِيهِ من قلَّة الإقامات فوعد بِخَير. وَكتب الْأُمَرَاء إِلَى الْملك الظَّاهِر الْمُقِيم بدملوة وبعثوا إِلَيْهِ الشريف عطفة أَمِير مَكَّة وَعز الدّين الكوندكي وَكتب إِلَيْهِ الْمُجَاهِد أَيْضا يحثه على الطَّاعَة. وَأقَام الْعَسْكَر فِي جهد فَأَغَارُوا على الضّيَاع وَأخذُوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ فارتفع سعر الأذرة من ثَلَاثِينَ درهما الأردب إِلَى تسعين وفقد الْأكل إِلَّا من الْفَاكِهَة فَقَط لقلَّة الجلب واتهم أَن ذَلِك بمواطأة الْمُجَاهِد خوفًا من الْعَسْكَر أَن يملك مِنْهُ الْبِلَاد. ثمَّ إِن أهل جبل صَبر قطعُوا المَاء عَن الْعَسْكَر وتخطفوا الْجمال والغلمان. وَزَاد أَمرهم إِلَى أَن ركب الْعَسْكَر فِي طَلَبهمْ فامتنعوا بِالْجَبَلِ ورموا بالمقاليع على الْعَسْكَر فَرَمَوْهُمْ بالنشاب. وأتاهم الْمُجَاهِد فخذلهم عَن الصعُود إِلَى الْجَبَل فَلم يعبأوا بِكَلَامِهِ ونازلوا الْجَبَل يومهم ففقد من الْعَسْكَر ثَمَانِيَة من الغلمان وَبَات الْعَسْكَر تَحْتَهُ. فَبلغ بيبرس أَن الْمُجَاهِد قرر مَعَ أَصْحَابه بِأَن الْعَسْكَر إِذا صعد الْجَبَل يضرمون النَّار فِي الوطاق وينهبون مَا فِيهِ فبادر بيبرس وَقبض على بهاء الدّين بهادر الصقري وَأخذ موجوده ووسطه قطعتين وعلقه على الطَّرِيق ففرح أهل تعز بمتله وَكَانَ بهادر قد تغلب على زبيد وَتسَمى بالسلطنة وتلقب بِالْملكِ الْكَامِل وظل متسلطاً عَلَيْهَا حَتَّى طرده أَهلهَا عِنْد قدوم الْعَسْكَر. وَقدم الشريف عطفة والكوندكي من عِنْد الْملك الظَّاهِر صَاحب دملوة وأخبرا بِأَنَّهُ فِي طَاعَة السُّلْطَان. وَطلب بيبرس من الْمُجَاهِد مَا وعد بِهِ السُّلْطَان فَأجَاب بِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ إِلَّا بِمَا فِي دملوة فَأشْهد عَلَيْهِ بيبرس قُضَاة تعز بذلك وَأَنه أذن للعسكر فِي الْعود لخراب الْبِلَاد وعجزه عَمَّا يقوم بِهِ للسُّلْطَان وَأَنه امْتنع بقلعة تعز. ورحل الْعَسْكَر إِلَى حلي بني يعفوب فَقَدمهَا فِي تَاسِع شعْبَان. ورحلوا مِنْهَا أول(3/84)
رَمَضَان إِلَى مَكَّة فَدَخَلُوهَا فِي حادي عشره بعد مشقة زَائِدَة. وَسَارُوا من مَكَّة يَوْم عيد الْفطر وَقدمُوا بركَة الْحَاج أول يَوْم ذِي الْقعدَة. وطلع الْأُمَرَاء إِلَى القلعة فَخلع عَلَيْهِم فِي يَوْم السبت ثالثه. وَقدم الْأَمِير بيبرس هَدِيَّة فأغرى الْأَمِير طينال السُّلْطَان بالأمير بيبرس وَأَنه أَخذ مَالا من الْمُجَاهِد وَغَيره وَأَنه قصر فِي أَخذ مملكة الْيمن. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشره: رسم بِخُرُوجِهِ إِلَى نِيَابَة غَزَّة فَامْتنعَ لِأَنَّهُ كَانَ قد بلغه مَا قيل عَنهُ وَأَن السُّلْطَان قد تغير عَلَيْهِ فقيد وسجن فِي البرج وقبضت حَوَاشِيه وعرقبوا على المَال فَلم يظْهر شَيْء. وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة: قبض على إِبْرَاهِيم ابْن الْخَلِيفَة أبي الرّبيع وسجن بالبرج لِأَنَّهُ تزوج بمغنية وَأشْهد عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا. وَفِي ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة: قدم ألطبغا نَائِب حلب وسافر أخر يَوْم الْأَحَد. وَفِي أول ذِي الْحجَّة: خلع على الْأَمِير بهادر البدري السِّلَاح دَار وَاسْتقر فِي لنيابة الكرك عوضا عَن عز الدّين أيبك الجمالي وَنقل الجمالي لنيابة غَزَّة فَسَار إِلَيْهَا فِي خَامِس عشره. وَفِي ثَالِث عشره: توجه السُّلْطَان إِلَى الصَّيْد نَحْو الجيزة وَأَفْرج عَن بلبان الشمسي وبهادر التَّقْوَى وأمير جاندار وطاجار المحمدي. وَمَات فِي هَذِه السّنة مِمَّن لَهُ ذكر حجاب بنت عبد الله شيخة رِبَاط البغدادية فِي الْمحرم وَكَانَت صَالِحَة خيرة مُلَازمَة للرباط تعظ النِّسَاء. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قطز عِنْد عوده من الْيمن وَحمل إِلَى مَكَّة فَدفن بهَا وَكَانَ جواداً عفيفاً. وَمَات الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الْمَنْصُور فِي لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشرى رَمَضَان وَهُوَ أحد مماليك الْمَنْصُور قلاوون واستنابه بالكرك وعزله الْملك الْأَشْرَف خَلِيل بالأمير جمال الدّين أقوش ثمَّ صَار دوادار السُّلْطَان وناظر الأحباس وَولي نِيَابَة السلطنة بديار مصر وَكَانَ عَاقِلا كثير الْبر وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الدوادارية بِخَط سويقة الْعزي خَارج الْقَاهِرَة وَله تَارِيخ سَمَّاهُ زبدة الفكرة فِي تَارِيخ الْهِجْرَة يدْخل فِي أحد عشر سفرا أَعَانَهُ على تأليفه كَاتبه ابْن كبر النَّصْرَانِي وَكَانَ يجلس رَأس الميسرة فَأخذ إقطاعه الْأَمِير(3/85)
مغلطاي الْجمال وَأخرج مِنْهُ طبلخاناه لبلبان السناني وَصَارَ الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري بعده يجلس فِي رَأس الميسرة. وَمَات الشريف مَنْصُور بن جماز بن شيحة فِي حَرْب يَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من رمصان قَتله حَدِيثَة ابْن ابْن أَخِيه وَكَانَ لَهُ فِي الإمرة ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَأَيَّام وَاسْتقر عوضه فِي إمرة الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة ابْنه بدر الدّين كبيشة بن مَنْصُور وَقدم مَنْصُور إِلَى الْقَاهِرَة مرَارًا. وَمَات الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان بن فَهد الْحلَبِي كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فِي شعْبَان عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وَقدم الْقَاهِرَة مرَارًا. وَمَات الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن الْجمال أَحْمد بن الصفي عبد الْخَالِق الشهير بالتقي الصَّائِغ شيخ الْقُرَّاء بِمصْر فِي لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشر صفر. وَمَات نجم الدّين أَبُو بكر بهاء الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن خلكان الشَّافِعِي بِالْقَاهِرَةِ فِي ثَالِث ذِي الْقعدَة وَكَانَ فَاضلا إِلَّا أَنه رمي فِي عقله وعقيدته بأَشْيَاء. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان التتري المنصوري فِي ذِي الْقعدَة. وَمَات الْخَطِيب جمال الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد القسطلان فِي لَيْلَة السبت مستهل ربيع الأول وَاسْتقر ابْن أَخِيه الْخَطِيب تَقِيّ الدّين بن نور الدّين مَكَانَهُ خَطِيبًا بِجَامِع القلعة ورتب وَلَده زين الدّين أَحْمد بن جمال الدّين فِي خطابة جَامع عَمْرو وإمامته وَنَظره. وَمَات شرف الدّين يُونُس بن أَحْمد بن صَلَاح القلقشندي الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي خَامِس عشرى ربيع الآخر.(3/86)
(سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة)
أهلت وَالسُّلْطَان فِي الصَّيْد بِالْوَجْهِ البحري. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر الْمحرم: وَردت رسل ملك الْحَبَشَة بكتابه يتَضَمَّن إِعَادَة مَا خرب من كنائس النَّصَارَى ومعاملتهم بالإكرام والاحترام ويهدد بِأَنَّهُ يخرب مَا عِنْده من مَسَاجِد الْمُسلمين ويسد النّيل حَتَّى لَا يعبر إِلَى مصر فَسخرَ السُّلْطَان مِنْهُ ورد رسله. وَفِي عشرى صفر: خلع على فَخر الدّين استادار ألطنبغا وَاسْتقر وَالِي الْمحلة بعد موت الشيخي. وَفِي ثامن عشر صفر: صرف شمس الدّين غبريال عَن نظر النظار وسفر إِلَى دمشق فَسَار على الْبَرِيد فِي حادي عشريه وَقدم دمشق فِي ثامن عشريه. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس ربيع الأول: قدم كريم الدّين أكْرم الصَّغِير من دمشق باستدعاء إِلَى نَاحيَة سفط من الجيزة - وَالسُّلْطَان مخيم بهَا - فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِ إنكاراً شَدِيدا وَأمره. بملازمة بَيته. وَكَانَ قد سعى بِهِ الْفَخر نَاظر الْجَيْش وَغَيره وَأغْروا بِهِ السُّلْطَان حَتَّى أحضرهُ من دمشق. وَفِيه اسْتَقر شرف الدّين الخطيري - الْمَعْرُوف بكاتب سلار وَكَانَ قد خدم عِنْد الْأَمِير أرغون النَّائِب - فِي نظر النظار عوضا عَن غبريال. وَفِيه رسم للوزير مغلطاي بقتل كريم الدّين أكْرم الصَّغِير فِي خُفْيَة فَتقدم إِلَى وَالِي الْقَاهِرَة بذلك فَوضع لَهُ أعيناً يترقبون فرْصَة إِلَى أَن ركب من دَاره يُرِيد الْحمام بعد الْعشَاء الْآخِرَة من لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ رَابِع ربيع الآخر فَوَثَبَ عَلَيْهِ جمَاعَة وَكَانَ قد احترس على نَفسه فنجا بفرسه مِنْهُم وَقتلُوا غُلَامه. وَأصْبح النَّاس وَقد شاع خَبره وَبلغ السُّلْطَان فرسم للوزير بِإِخْرَاجِهِ إِلَى أسوان فَقبض عَلَيْهِ فِي يَوْم السبت تاسعه هُوَ وَأَوْلَاده وأحضرهم مجْلِس السُّلْطَان وطولب بِالْمَالِ فَلم يعْتَرف بِشَيْء فَضرب ابْنه سعد الدّين أَبُو الْفرج بالمقارع وَسلم أكْرم إِلَى وَالِي الْقَاهِرَة فَوجدَ فِي كمه أوراقاً فِيهَا مرافعات فِي جمَاعَة من أهل الدولة فطلبها الْوَزير مِنْهُ فَامْتنعَ من ذَلِك حَتَّى بعث السُّلْطَان من تسلمها مِنْهُ وَقرأَهَا فأفرج السُّلْطَان عَن أَوْلَاده ورسم بعقوبته فسعط(3/87)
بالخل والجير. وَأخرج أكْرم وَابْنه سعد الدّين فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ حادي عشره إِلَى جِهَة الصَّعِيد بَعْدَمَا توجه الْأَمِير بهاء الدّين وَالِي القلعة إِلَى الْوَزير يطْلب لَهُ مِنْهُ بساطاً وَنَفَقَة فَأبى ذَلِك. وَمضى أكْرم وَابْنه فِي سلورة إِلَى أسوان فَقدما فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه وَقتل لَيْلَة الثُّلَاثَاء سادس عشريه. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع جُمَادَى الأولى سَار الْأَمِير أيتمش المحمدي رَسُولا إِلَى القان بوسعيد وصحبته هَدَايَا جليلة ليرغبه فِي مصاهرة السُّلْطَان. فَبلغ أيتمش رسَالَته وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشرى شعْبَان. وَفِي ثَانِي عشرى جُمَادَى الأولى: خرجت تجريدة إِلَى برقة عَلَيْهَا من الْأُمَرَاء أسندمر الْعمريّ وملكتمر الإبراهيمي وقطلوبغا الطَّوِيل وَجَمَاعَة من أجناد الْأُمَرَاء. وسببها حُضُور فَايِد وَسليمَان أَمِيري العربان ببرقة وشكواهم من الْعَرَب أَنهم منعُوا أَدَاء الزَّكَاة عَن الْغنم. وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامنه: وَقت الْغُرُوب ركب أَحْمد ابْن السُّلْطَان وَمَعَهُ الْأَمِير قجليس والأمير طقتمر الخازن ليتوجه إِلَى الكرك - وعمره يَوْمئِذٍ ثَمَانِي سِنِين - وَسَار مَعَه عدَّة من المماليك وخزانة مَال وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك الْأَمِير سيف الدّين بهادر الْبَدْر وَتوجه مَعَه ليقوم بأَمْره ويودع المَال بحزانة قلعة الكرك وَلَا يُمكن أحدا من التَّصَرُّف بل يمرنه على الصَّيْد والفروسيه. فأوصله الأميران إِلَى الكرك وعادوا فِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِيه قدم كتاب نَائِب الشَّام بِأَنَّهُ قبض على بكتوت القرمان لامتناعه من التَّوَجُّه لإحضار حمل سيس فَأُجِيب بتقييده وسجنه بقلعة دمشق وَأَن يسْتَقرّ شهَاب الدّين قرطاي الصلاحي نَائِب طرابلس على خبزه. وَفِيه رسم للأمير طينال الْحَاجِب بنيابة طرابلس فَسَار من الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة. وَأمر السُّلْطَان بتقدمته على الْأَمِير قوصون زِيَادَة على إقطاعه عقد لَهُ على إِحْدَى بَنَات السُّلْطَان. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن رَجَب: ابْتَدَأَ جُلُوس الصُّوفِيَّة بخانقاه الْأَمِير بكتمر الساقي بآخر القرافة مِمَّا يَلِي بركَة الْحَبَش.(3/88)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر رَجَب: قدمت رسل جوبان حَاكم دولة أبي سعيد وَمَعَهُمْ طايربغا وَابْنه يحيى فَخلع عَلَيْهِم وأنعم على طايربغا بإمرة طبلخاناه فِي سَابِع عشره وعَلى ابْنه يحيى بإمرة عشرَة وأعيدت الرُّسُل فِي رَابِع عشريه. وَكَانَ طايربغا هَذَا يَلِي نِيَابَة خلاط وَبَينه وَبَين السُّلْطَان قرَابَة فَكتب إِلَى الْأَمِير جوبان ليستدعيه وَأَهله إِلَى مصر فبعثهم. وَفِي سَابِع عشره: أَيْضا أنعم على أَحْمد بن بكتمر الساقي بإمرة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس شعْبَان: حبس تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية وَمَعَهُ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرَّحْمَن بقلعة دمشق. وَضرب شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية وَشهر على حمَار بِدِمَشْق. وَسبب ذَلِك أَن ابْن قيم الجوزية تكلم بالقدس فِي مَسْأَلَة الشَّفَاعَة والتوسل بالأنبياء وَأنكر مُجَرّد الْقَصْد للقبر الشريف دون قصد السمجد النَّبَوِيّ فَأنْكر المقادسة مَسْأَلَة الزِّيَارَة وَكَتَبُوا فِيهِ إِلَى قَاضِي جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي وَغَيره من قُضَاة دمشق. وَكَانَ قد وَقع من ابْن تَيْمِية كَلَام فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق بِالثلَاثِ أَنه لَا يَقع بِلَفْظ وَاحِد فَقَامَ عَلَيْهِ فُقَهَاء دمشق. فَلَمَّا وصلت كتب المقادسة فِي ابْن الْقيم كتبُوا فِي ابْن تَيْمِية وَصَاحبه ابْن الْقيم إِلَى السُّلْطَان فَعرف شمس الدّين الحريري قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بديار مصر ذَلِك فشنع على ابْن تَيْمِية تشنيعاً فَاحِشا حَتَّى كتب بحبسه وَضرب ابْن الْقيم. وَفِيه أنشأ الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك قاعة بالمارستان المنصوري ونحت جدران المارستان والمدرسة المبنيه بِالْحجرِ كلهَا دَاخِلا وخارجاً وطر الطّراز الذَّهَب من خَارج الْقبَّة والمدرسة حَتَّى صَار كَأَنَّهُ جَدِيد. وَعمل أقوش خيمة يزِيد طولهَا على مائَة ذِرَاع وركبها لتستر على مقاعد الأقفاص وتستر أَهلهَا من الْحر وَنقل الْحَوْض من جَانب بَاب المارستان لِكَثْرَة تأذي النَّاس برائحة النتن وَعمل مَوْضِعه سَبِيل مَاء عذب لشرب النَّاس وَكَانَ مَصْرُوف ذَلِك كُله من مَاله دون مَال الْوَقْف. وَإِلَى يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر شعْبَان: أفرج عَن الْأَمِير بلبان طرنا أَمِير جاندار فَكَانَت مُدَّة اعتقاله إِحْدَى عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام فَلَمَّا مثل بِحَضْرَة السُّلْطَان خلع عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ إمرة دمشق وَبَعثه إِلَيْهَا. وَفِيه نقل الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني من دمشق إِلَى شدّ الدَّوَاوِين بطرابلس وأنعم على وَفِيه حمل بكتوت القرماني من قلعة دمشق إِلَى الْقَاهِرَة مُقَيّدا على الْبَرِيد وَحمل مِنْهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة هُوَ والبوبكري والجاولي فسجنوا بهَا.(3/89)
وَفِيه قدم بازان رَسُول جوبان حَاكم بِلَاد أبي سعيد وجوبان هُوَ الَّذِي أجْرى الْعين من عَرَفَة إِلَى مَكَّة. فَلَمَّا قدم إِلَى مصر وَاجْتمعَ بالسلطان وعرفه خبر الْعين شقّ عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ لَهُ على أَن النَّائِب: من أذن لَك فِي هَذَا وَلم لَا شاورتني فَقَالَ بازان للنائبء عرف السُّلْطَان أَن جوبان فعل مَا فعل من الْخَبَر وَبَقِي الْأَمر للسُّلْطَان إِن شَاءَ يخرب أَو يعمر فَهَذَا شَيْء قد فعله من فعله وَخرج عَنهُ وَالْأَمر إِلَيْكُم فَلَمَّا بلع النَّائِب قَوْله السُّلْطَان سكت. وَكَانَ من خبر هَذِه الْعين أَنه لما كثر ترداد الْحَاج من الْعرَاق إِلَى مَكَّة فِي كل سنة شقّ عَلَيْهِم قلَّة المَاء بِمَكَّة فَإِن الراوية كَانَت تبلغ فِي الْمَوْسِم عشرَة دَرَاهِم مسعودية وَفِي غير الْمَوْسِم من سِتَّة دَرَاهِم إِلَى سَبْعَة. فقصد الْأَمِير جوبان حَاكم مملكة أبي سعيد عمل خير بِمَكَّة فدله بعض النَّاس على عين كَانَت تجْرِي فِي الْقَدِيم ثمَّ تعطلت فندب لذَلِك بعض ثقاته وَأَعْطَاهُ خمسين ألف دِينَار وجهزه فِي موسم سنه خمس وَعشْرين فَلَمَّا قضي حجه تَأَخّر بِمَكَّة وَشهر أمره بهَا فَأعْلم بِعَين فِي عَرَفَة فَنَادَى بِمَكَّة: من أَرَادَ الْعَمَل فِي الْعين فَلهُ ثَلَاثَة دَرَاهِم فِي كل يَوْم. فهرع إِلَيْهِ الْعمَّال وَخرج بهم إِلَى الْعَمَل فَلم يشق على أحد مِنْهُم وَلَا استحثه وَإِنَّمَا كَانُوا يعْملُونَ باختيارهم. أاتاه جمع كَبِير من الْعَرَب وَعمل حَتَّى النِّسَاء إِلَى أَن جرى المَاء بِمَكَّة بَين الصَّفَا والمروة فِي ثامن عشرى جُمَادَى الأولى من هَذِه السّنة فَكَانَت مُدَّة الْعَمَل أَرْبَعه أشهر وَكثر النَّفْع بِهَذِهِ الْعين وَصَرفه أهل مَكَّة إِلَى مزارع الخضراوات. وَفِيه قدم الْقَاهِرَة الْأُمَرَاء المجردون إِلَى برقة وَقد غَابُوا عَنْهَا ثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام جمع الْعَامَّة بِدِمَشْق وألزمهم بإحضار الْكلاب ورميها بالخندق فأقاموا عشرَة أَيَّام فِي جمعهَا حَتَّى امْتَلَأَ الخَنْدَق بهَا وَأكل بَعْضهَا بَعْضًا. وَفِيه قدم الْخَبَر بِحُصُول سيل عَظِيم فِي الْفُرَات أعقبه مطر وَأَنه حدث وخم وفناء عَم النَّاس من الْفُرَات إِلَى دمشق فَلم تبْق مَدِينَة فِيمَا بَين ذالك حَتَّى كثر بهَا الْمَرَض وَالْمَوْت وَبَاعَ بعض عطاري دمشق فِي كل يَوْم أدوية للمرضى بِنَحْوِ الْألف دِرْهَم وأبيع قدر فِيهِ حسو شعير بِزِيَادَة على ثَلَاثِينَ درهما وَأخذ حجام فِي أُجْرَة فصد وشراطة أَذَان فِي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة دِرْهَم فَإِنَّهُ كَانَ فصلا زموماً وَكَانَ الْمَوْت فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَض قَلِيل.(3/90)
وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس رَمَضَان: قدم الْملك الصَّالح صَلَاح الدّين يُوسُف ابْن الْملك الْكَامِل سيف الدّين أبي بكر بن شادي ابْن الْملك الأوحد تَقِيّ الدّين ابْن الْملك الْمُعظم غياث الدّين توران شاه ابْن الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل مُحَمَّد ابْن الْملك الْعَادِل بن أَيُّوب بن شادي صَاحب حصن كيفا فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان وأكرمه وخلع عَلَيْهِ تَشْرِيفًا طرد وَحش بحياصة ورتب لَهُ مَا يَلِيق بِهِ من اللَّحْم والدجاج وَالسكر والحلوى وَغير ذَلِك وَبعث لَهُ عشرَة أُلَّاف دِرْهَم. وَأقَام الصَّالح صَلَاح الدّين إِلَى نصف شَوَّال وَسَار بعد مَا جهزه السُّلْطَان بِكُل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من خيل وجمال وَسلَاح وتحف وأنعم عَلَيْهِ بِأَلف دِينَار. فَلَمَّا قدم دمشق بَالغ الْأَمِير تنكز فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ وَبَعثه إِلَى بَلَده فَقَدمهَا وسر بِهِ أَهلهَا. فَلَمَّا صعد الْحصن وتوسط الدهليز وثب عَلَيْهِ أَخُوهُ الْملك الْعَادِل محيي الدّين وَقَتله. وَكَانَ من خبر الصَّالح صَلَاح الدّين أَنه ملك حصن كيفا من أَعْمَامه وأخوته بِالْقُوَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ شجاعاً جريئاً فَلَمَّا تمكن منع الْخراج عَن أبي سعيد وَتعرض لقصاد الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وَإِلَى بعض التُّجَّار. فَكتب اليه تنكز يهدده بِأَنَّهُ يقْتله وسط حصنه فخاف سوء الْعَاقِبَة وَأجَاب بالاعتذار وَأَنه من الْيَوْم فِي خدمَة السُّلْطَان ونائبه وَأَنه يمتثل مَا يرسم بِهِ وجهز لتنكز هَدِيَّة. فسر السُّلْطَان بذلك وأكد على تنكز فِي مهاداته. فَلَمَّا قدم الْأَمِير أيتمش المحمدي عَلَيْهِ تَلقاهُ وَقدم لَهُ تقدمة حَسَنَة وعرفه أَنه صَاحب السُّلْطَان فِي الْحسن تَحت أوامره وَكتب إِلَى نَائِب الشَّام بذلك. فَكتب تنكز يعرف السُّلْطَان بذلك فازداد رَغْبَة فِيهِ ومازال بِهِ الْأَمِير تنكز يستميله حَتَّى قدم إِلَى مصر ذَلِك بعد أَن استناب أَخَاهُ الْملك الْعَادِل محيي الدّين على الْحصن مُدَّة غيبته. فطمع محيي الدّين فِي الْحصن وَقَتله بعد رُجُوعه من مصر وَكتب إِلَى جوبان وَأبي سعيد أَنه لم يقْتله إِلَّا لمخامرته وَخُرُوجه عَن طاعتهما وَبعث إِلَيْهِمَا بالخراج فأجاباه بالشكر وَالثنَاء واستمراره على نِيَابَة الْحصن وَكتب محيي الدّين أَيْضا لنائب الشَّام بِأَنَّهُ لم يقْتله إِلَّا لما ثَبت عَلَيْهِ من شرب الْخمر وَالْفِسْق وَقتل الْأَنْفس واستباحة الْأَمْوَال والتلفظ بالْكفْر غير مرّة وجهز إِلَيْهِ وترفق إِلَيْهِ(3/91)
هَدِيَّة فِي كتبه وَأَنه مَمْلُوك السُّلْطَان ونائبه. فَعرف تنكز السُّلْطَان ذَلِك فَأَجَابَهُ بِقبُول عذره ومهاداته واستجلاب خاطره فَفعل ذَلِك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر رَمَضَان: تولى الْأَمِير عماد الدّين الْبحيرَة عوضا عَن بلبان العتريس. وَفِي خَامِس شَوَّال: توجه الْأَمِير سيف الدّين أرغون النَّائِب وَولده نَاصِر الدّين مُحَمَّد إِلَى الْحجاز لِلْحَجِّ. وَفِيه أشيع أَن قصاد الْأَمِير تنكز وصلت من الشرق وأخبرت بِأَن الْأَمِير جوبان جمع من خِيَار عَسْكَر الأردو عشرَة أُلَّاف فَارس وَقصد الْحَج. فأظهر السُّلْطَان الْخَوْف على نَائِبه الْأَمِير أرغون أَن يقبض عَلَيْهِ جوبان ويجعله إِلَى بِلَاده وَكتب إِلَى تنكز نَائِب الشمام أَن يخرج بعسكر إِلَى جِهَة الكرك ليدرك الْأَمِير أرغون. فبرز تنكز بعد أَرْبَعَة أَيَّام من قدوم الْبَرِيد عَلَيْهِ وَنزل الصنمين. ثمَّ كتب إِلَيْهِ السُّلْطَان بعوده إِلَى دمشق فَعَاد. وباطن هَذِه الْحَرَكَة أَن السُّلْطَان بلغه أَن الْأَمِير مهنا بن عِيسَى يُرِيد الْحَج فندب الْأَمِير أرغون لِلْحَجِّ أَن يقبض عَلَيْهِ. فَلَمَّا خرج أرغون بلغ السُّلْطَان أَنه كتب إِلَى مهنا يحذرهُ من الْحَج فشق ذَلِك على السُّلْطَان وأشاع مَا تقدم ذكره وَأخرج نَائِب الشَّام بالعسكر ليقْبض على أرغون ثمَّ بدا لَهُ فأشاع أَن جوبان أبطل حركته لِلْحَجِّ وَأعَاد نَائِب الشَّام. وفيهَا كثر الرخَاء بِمصْر فأبيع الأردب الْقَمْح بِخَمْسَة دَرَاهِم وبستة وأبيع الشّعير والفول من ثَلَاثَة دَرَاهِم الأردب إِلَى أَرْبَعَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر شَوَّال: فرق السُّلْطَان الحوائص الذَّهَب على الْأُمَرَاء. وفيهَا بلغت زِيَادَة مَاء النّيل تِسْعَة عشر أصبعاً وَسَبْعَة عشر ذِرَاعا. وفيهَا كتب مرسوم السُّلْطَان - وَقُرِئَ على المنابر - بألا يضْرب أحد فِي ديار مصر وَالشَّام بالمقارع. وفيهَا قدم بيبغا الْحَمَوِيّ من مَكَّة مبشراً بسلامة الْحَاج فِي رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة. وَمَات فِيهَا مِمَّن لَهُ ذكر شيخ الضَّيْعَة جمال الدّين حُسَيْن بن يُوسُف بن المطهر الْحلِيّ المعتزل شَارِح مُخْتَصر(3/92)
ابْن الْحَاجِب فِي الْمحرم وَكَانَ رَضِي الْخلق حَلِيمًا عَالما بالمعقولات وَله وجاهة عِنْد خربندا وَله عدَّة مصنفات وَلابْن تَيْمِية عَلَيْهِ رد فِي أَربع مجلدات وَكَانَ يُسَمِّيه ابْن المنجس. وَمَات شرف الدّين أَبُو الْفَتْح أَحْمد بن عز الدّين أبي البركات عِيسَى بن مظفر بن مُحَمَّد بن إلْيَاس الْمَعْرُوف بِابْن الشيرجي - الْأنْصَارِيّ الدِّمَشْقِي محتسب دمشق ومولده فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمَات بدر الدّين حسن ابْن الْملك الْأَفْضَل صَاحب حماة أحد الْأُمَرَاء بحماة عَن نَيف وَسِتِّينَ سنة. وَكَانَ من أهل الْعلم وسعى فِي مملكة حماة. وَمَات سراج الدّين عمر بن أَحْمد بن خضر بن ظافر بن طراد الخزرجي الْأنْصَارِيّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي خطيب الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة. وَمَات وَالِي الْمحلة الشَّيْخ فِي سَابِع عشرى الْمحرم.(3/93)
فارغة(3/94)
سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة أهل الْمحرم: وَقد كثر مرض النَّاس بحميات حادة دموية فَشَتْ حَتَّى لم يكد يسلم مِنْهَا أحد فَكَانَ الْمَرِيض يتمادى مَرضه أسبوعاً وَيبرأ وَربح بياعو الْأَدْوِيَة والأطباء والحجامون مَالا كثيرا. وَفِي يَوْم الْأَحَد حادي عشره: قدم الْأَمِير أرغون النَّائِب وَولده نَاصِر الدّين مُحَمَّد من الْحجاز وَالسُّلْطَان بِنَاحِيَة سرياقوس فَقبض عَلَيْهِمَا وعَلى الْأَمِير طيبغا الْحَمَوِيّ فَأَخذهُم الْأَمِير بكتمر الساقي عِنْده وسعى فِي أَمرهم فَأخْرج السُّلْطَان الْأَمِير أيتمش فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشره بالأمير أرغون لنيابة حلب عوضا عَن ألطنبغا. وَقد تقدم تغير السُّلْطَان على الْأَمِير أرغون فَلَمَّا قدم بعث السُّلْطَان الْأَمِير أيتمش المحمدي ليقف على بَاب الْقلَّة من قلعة الْجَبَل فَإِذا مر بِهِ أرغون فِي دُخُوله على السُّلْطَان منع مماليكه من العبور مَعَه. وَأمر السُّلْطَان الْأَمِير قجليس أَن يتلقاه إِذا صعد القلعة وَلَا يُمكنهُ من العبور إِلَى دَاره فَتَلقاهُ قجليس من بَاب القلعة وَمَشى مَعَه إِلَى أَن جازا دَار النِّيَابَة فَسمع أرغون صُرَاخ أَهله وَقد مَاتَت ابْنة زَوجته. ثمَّ مر أرغون إِلَى بَاب الْقلَّة فَإِذا أيتمش وَغَيره فَأخذُوا سَيْفه وَسيف ابْنه مُحَمَّد وَفرق بَينهمَا. فَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِ بكتمر الساقي يعدد عَلَيْهِ ذنُوبه فاستسلم لأمر الله. وَطَالَ ترداد بكتمر بَينه وَبَين السُّلْطَان إِلَى أَن أنعم عَلَيْهِ بنيابة حلب وَأخرج مَعَه أيتمش ليوصله وَيعود. وَبعث السُّلْطَان الْأَمِير ألجاي الدوادار على الْبَرِيد إِلَى حلب ليحضر ألطنبغا نائبها وَقرر مَعَ كل من أيتمش وألجاي أَن يَكُونَا بِمن مَعَهُمَا فِي دمشق يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشريه. وَلم يعلم أحد مِنْهُمَا بِمَا توجه فِيهِ الآخر حَتَّى توافيا بِدِمَشْق فِي يَوْم الْجُمُعَة المذكوره وَقد خرج الْأَمِير تنكز فِي السَّاعَة الرَّابِعَة إِلَى ميدان الْحَصَا للقاء الْأَمِير أرغون فترجل كل مِنْهُمَا لصَاحبه وسارا إِلَى جَامع بني أُمِّيّه فعندما توسطاه إِذا بالجاي وَمَعَهُ ألطنبغا نَائِب حلب فَسلم عَلَيْهِ أرغون بِالْإِيمَاءِ. فَلَمَّا قضيت صَلَاة الْجُمُعَة حمل لَهما الْأَمِير تنكز سماطاً جَلِيلًا وَركب أرغون إِلَى حلب فَدَخلَهَا فِي سلخه. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره: عزل شرف الدّين الخطيري من نظر الدولة بمجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة وَاسْتقر الخطيري نَاظر الْبيُوت فألزم ابْن لفيتة المباشرين بِعَمَل الْحساب وَأَرَادَ توفير جمَاعَة مِنْهُم فَلم يتَمَكَّن من ذَلِك.(3/95)
وَفِيه سَار ألطبغا إِلَى الْقَاهِرَة فَقَدمهَا يَوْم السبت مستهل صفر فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ وَأَسْكَنَهُ بقلعة الْجَبَل وأنعم عَلَيْهِ بأمرة مائَة من جملَة إقطاع أرغون وكمل السُّلْطَان مِنْهُ لطايربغا إمرة مائَة فزادت التقادم تقدمة وَصَارَت الْأُمَرَاء خَمْسَة وَعشْرين مقدما واتهم الْفَخر نَاظر الْجَيْش بِأَنَّهُ كَانَ سَبَب تغير السُّلْطَان أرغون لِكَثْرَة حطه عَلَيْهِ وإغرائه بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: يَا خوند! مَا رَأينَا سُلْطَانا دخل عَلَيْهِ الدخيل من غير نَائِب السلطنة وَذكره بِمَا وَقع للمنصور لاجين بِسَبَب نَائِبه منكوتمر وَقيام لاجين وَهُوَ نَائِب السلطنة على الْعَادِل كتبغا وإفساد سلار نَائِب السلطنة مملكة المظفر بيبرس وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِبْطَال النِّيَابَة والاستبداد بالأمور. وَسبب ذَلِك مَا كَانَ بَين الْفَخر وَبَين الْأَمِير أرغون من المنافرة وأهانة أرغون لَهُ وحطه من مِقْدَار. وَلما قدم أيتمش سَأَلَهُ السُّلْطَان عَن أرغون فَمَا ذكر إِلَّا خيرا فَقَالَ لَهُ الْفَخر بِحَضْرَة السُّلْطَان: يَا أيتمش كل مَا قلت صَحِيح لَكِن وَالله لَو قَامَ أرغون فِي النِّيَابَة شهرا وَاحِدًا مَا رَأَيْت السُّلْطَان على هَذَا الْكُرْسِيّ. فأثر هَذَا القَوْل فِي السُّلْطَان أثرا قبيحاً وَطلب شرف الدّين الخطيري كَاتبه وهدده بالشنق أَن أُخْفِي شَيْئا من مَال أرغون وألزمه بِكِتَابَة حواصله فَلَمَّا تنجزت الأوراق أحَاط السُّلْطَان بِجَمِيعِ حواصله وَأخذ بَعْضهَا وأنعم بِالْبَاقِي. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر صفر: قدم الشريف طفيل فَارًّا من ابْن عَمه الشريف ودي ابْن جماز بن شيحة وَأخْبر أَنه حصر الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة سَبْعَة أَيَّام ودخلها عنْوَة لغيبة الشريف كبيشة أَمِير الْمَدِينَة وَأخذ غلمانه وَأَهله وصادرهم وعاقب جمَاعَة حَتَّى مَاتُوا تَحت الْعقُوبَة وَقتل القَاضِي هَاشم بن عَليّ وَعبد الله بن الْقَائِد عَليّ بن يحيى. فَلَمَّا بلغ ذَلِك الشريف كبيشة قدم ففر مِنْهُ ودى فَغَضب السُّلْطَان من ذَلِك وعزم على تَجْرِيد عَسْكَر يَوْم الْجُمُعَة. وَفِي رَابِع ربيع الْأُخَر: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام باستدعاء وَمَعَهُ قَلِيل من مماليكه فَخرج الْأَمِير بكتمر الساقي إِلَى لِقَائِه بسرياقوس وَقدم بِهِ فَأكْرمه السُّلْطَان وأنزله بدار الْأَمِير بكتمر الساقي. وَكَانَ قد قدم مَعَه الْأَمِير بدر الدّين مَسْعُود بن الخطير أحد حجاب دمشق فَشَكا مِنْهُ وَسَأَلَ أَن يكون بديار مصر فأنعم عَلَيْهِ بأمرة طبلخاناه وَأَن يكون حاجباً صَغِيرا رَفِيقًا للأمير ألماس الْحَاجِب وأنعم بإقطاعه فِي دمشق على أَخِيه شرف الدّين مَحْمُود بن الخطير وسافر الْأَمِير تنكز.(3/96)
وَفِي يَوْم الْأَحَد سادس ربيع الآخر: قبض على الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا الْفَخر والأمير سيف الدّين طشتمر حمص أَخْضَر الساقي. وَأخرج قطلوبغا على إقطاع أيدغدي التليلي بِدِمَشْق فِي يَوْم السبت ثَانِي عشريه. وَأَفْرج عَن طشتمر وَاسْتمرّ على حَاله. وَسبب مسكهما أَن السُّلْطَان وجد ورقة فِيهَا أَنَّهُمَا اتفقَا على قَتله فَقَامَ الْأُمَرَاء وكذبوا هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ من فعل من يُرِيد الْفِتْنَة ومازالوا حَتَّى أفرج عَنْهُمَا. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين دقماق نقيب الجيوش عوضا عَن شمس الدّين المهمندار مُضَافا لما بِيَدِهِ من نقابة المماليك. وَاسْتقر المهمندار على المهمندارية. وَفِي يَوْم الْخَمِيس مستهل جُمَادَى الأولى: قبض على الْأَمِير بهاء الدّين أصلم وعَلى أَخِيه سيف الدّين قرمجي وَجَمَاعَة من القبجاقية. وَسبب ذَلِك أَن أصلم عرض سلَاح خاناه وَجلسَ بإصطبله وألبس خيله عدَّة الْحَرْب وعرضها يَوْمه كُله فوشي بِهِ إِلَى السُّلْطَان بعض أعدائه بِأَنَّهُ قد عزم هُوَ وَأَخُوهُ قرمجي وَجَمَاعَة جنس القبجاق أَن يهجموا على السُّلْطَان ويغيروا الدولة وَأَنه أمس عرض عدده وألبس خيله ورتبهم للرُّكُوب. وَكتب هَذَا فِي ورقة وَأَلْقَاهَا أحدهم فِي الإصطبل السلطاني. فَلَمَّا وقف السُّلْطَان عَلَيْهَا تغير تغيراً زَائِدا وَكَانَت عَادَته أَنه لَا يكذب فِي الشَّرّ خَبرا وَبعث من فوره يسْأَل أصلم مَعَ الْحَاجِب ألماس عَمَّا كَانَ يعمله أمس فِي إصطبله فَذكر أَنه اشْترى عدَّة أسلحة فعرضها على خيله لينْظر مَا يُنَاسب كل فرس مِنْهَا فَصدق السُّلْطَان مَا نقل عَنهُ وَقبض عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه وَأهل جنسه وعَلى قيران صهر قرمجي وانكبار أخي آقول الحاحب وسفروا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مَعَ صَلَاح الدّين طرخان بن بدر الدّين بيسري الشمسي وبرلغي قريب السُّلْطَان وَكَانَا مسجونين بقلعة الْجَبَل. وأفرد أصلم فِي برج بالقلعة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشره: قدم الْأَمِير حُسَيْن بن جندر بك من الشَّام فَخلع عَلَيْهِ أطلس بطرز زركش وكلفتاه زرك! ش وحياصة مجوهرة وأنعم عَلَيْهِ بإقطاع الْأَمِير أصلم. وَفِيه سَار الْأَمِير حسام الدّين حُسَيْن بن خربندا إِلَى الشَّام وَقد كَانَ فر من بِلَاد التتار وشمله الإنعام السلطاني وَصَارَ من جملَة أُمَرَاء الطبلخاناه. وَفِيه قدمت رسل اصطنبول فَأسلم مِنْهُم نفران وهما آقسنقر وبهادر وأنعم على آقسنقر بإمرة عشرَة بديار مصر وعَلى بهادر بِخبْز جند وَكَانَا أخوة. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة: عقد على الْأَمِير سيف الدّين قوصون بالقلعة عقد ابْنة السُّلْطَان بالقلعة وَتَوَلَّى عقد النِّكَاح قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن الحريري الْحَنَفِيّ.(3/97)
وَفِيه سَأَلَ قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِي فِي الإعفاء من الْقَضَاء وَاعْتذر بنزول المَاء فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ وانحداره إِلَى الْأُخَر وَقلة نظره وَكبر سنه. فَسَأَلَ السُّلْطَان من ابْنة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة عَن وظائف وَالِده فَأخْبرهُ بهَا فَلَمَّا حضر بدر الدّين دَار الْعدْل فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عاشره أعَاد السُّؤَال فِي طلب الإعفاء فَأَجَابَهُ السُّلْطَان من غير تَصْرِيح وَقَالَ لَهُ: احكم بَين الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب وَبَين غُرَمَائه فَنزل إِلَى الْمدرسَة الصالحية وَحكم بَينهمَا وَقَالَ لأهل مَجْلِسه. هَذَا أخر الحكم وَمضى إِلَى دَاره بِمصْر فقرر لَهُ السُّلْطَان من مَال المتجر فِي كل شهر ألف دِرْهَم فضَّة. وَفِيه كتب بإحضار جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي قَاضِي دمشق ليستقر فِي قَضَاء الْقُضَاة بِمصْر عوضا عَن بدر الدّين بن جمَاعَة فَقدم على الْبَرِيد إِلَى سرياقوس يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشريه وخطب بِجَامِع الخانكاه وَصلى بِالنَّاسِ صَلَاة الْجُمُعَة. وطلع الْقزْوِينِي قلعة الْجَبَل يَوْم السبت تَاسِع عشريه فَخلع عَلَيْهِ فِي أول رَجَب وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة وأركب بغلة بزنار جوخ وأضيف إِلَيْهِ تدريس الْمدرسَة الصالحية والمدرسة الناصرية وَدَار الحَدِيث الكاملية وخطابة جَامع القلعة شركَة مَعَ ابْن الْقُسْطَلَانِيّ وأعيد ابْنه بدر الدّين مُحَمَّد على خطابة جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق. وَكتب باستقرار شمس الدّين أبي الْيُسْر ابْن الصَّائِغ بِتَعْيِين الْجلَال القزوين فَامْتنعَ من ذَلِك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع رَجَب: قدمت رسل القان أبي سعيد وَمَعَهُمْ مُحَمَّد بيه بن جمق قريب السُّلْطَان وَابْن أُخْت طايربغا بهدية سنية. فأنعم السُّلْطَان على مُحَمَّد بيه بإمره طبلخاناه عوضا عَن أيبك البكتوتي أَمِير علم بِحكم انْتِقَاله على إقطاع فَيْرُوز بصمد. فَلَمَّا كمان يَوْم السبت: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان وَمَعَهُ الرُّسُل ثمَّ أركبهم فِي ثَالِث عشره مَعَه إِلَى الْقَاهِرَة وَنزل إِلَى زِيَارَة قبر وَالِده الْملك الْمَنْصُور وَمد سماط عَظِيم بإيوان الْمدرسَة المنصورية القبلي وَحضر الْفُقَهَاء بالإيوان البحري. ثمَّ ركب السُّلْطَان بهم مرّة ثَانِيَة إِلَى الميدان وأعادهم فِي سادس عشره بهدية جليلة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خامسه: كَانَت الْفِتْنَة بالإسكندرية: وملخصها أَن بعض تجار الفرنج فاوض رجلا من الْمُسلمين وضربه وَذَلِكَ أَن الفرنجي وقف بِجَانِب صبي أَمْرَد ليأخذه وَيفْعل بِهِ ذَلِك الْفِعْل فعناه بعض الْمُسلمين وَقَالَ لَهُ: هَذَا مَا يحل فَضَربهُ الفرنجي بخف على وَجهه. فثار الْمُسلمُونَ بالإفرنج وثار الفرنج لتحميه فَوَقع الشَّرّ بَين الْفَرِيقَيْنِ واقتتلوا بِالسِّلَاحِ. فَركب ركن الدّين الكركي مُتَوَلِّي الثغر فَإِذا النَّاس قد(3/98)
ئعصبوا وأخرجوا السِّلَاح وشهدوا على الفرنجي. مِمَّا يُوجب قَتله وَحَمَلُوهُ إِلَى القَاضِي وغلقت أسواق الْمَدِينَة وأبوابها. فَلَمَّا كَانَ بعد عشَاء الْآخِرَة فتحت الْأَبْوَاب ليدحل من كَانَ خَارج الْبَلَد فَمن شدَّة الزحام قتل عشرَة أنفس وَتَلفت أَعْضَاء جمَاعَة وَذَهَبت عمائم وَغَيرهَا لكثير مِنْهُم. وَتبين للكركي تحامل النَّاس على الفرنج فَحمل بِنَفسِهِ وأجناده عَلَيْهِم ليدفعهم عَن الفرنج فَلم يندفعوا وقاتلوه إِلَى أَن هزموه وقصدوا إِخْرَاج الْأُمَرَاء المعتقلين بالثغر. بعد مَا سفكت بَينهمَا دِمَاء كَثِيرَة. فَعِنْدَ ذَلِك بَادر الكركي بمطالعة السُّلْطَان بِهَذِهِ الْحَادِثَة فسرح الطَّائِر بالبطائق يعلم السُّلْطَان فَاشْتَدَّ غَضَبه. وخشي السُّلْطَان خُرُوج الْأُمَرَاء من السجْن وبادر إِلَى أَخذ أَوْلَاد الْأَمِير سيف الدّين الأبو بكري الثَّلَاثَة - وهم على وأسنبغا وَأحمد - فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تاسعه وجعلهم فِي دَار الْأَمِير ألماس الْحَاجِب. وَأخرج السُّلْطَان الْوَزير مغلطاي الْجمال وطوغان شاد الدَّوَاوِين وَسيف الدّين ألدمر الركني أَمِير جندار فِي جمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَمَعَهُمْ نَاظر الْخَاص إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَمَعَهُمْ تَذَاكر. مِمَّا يعْمل من تتبع أهل الْفساد وقتلهم ومصادرة قوم بأعيانهم وتغريم أهل الْبَلَد المَال وَالْقَبْض على أسلحة الْغُزَاة ومسك القَاضِي وَالشُّهُود وتجهيز الْأُمَرَاء المسجونين إِلَى قلعة الْجَبَل فَسَارُوا فِي عاشره ودخلوا الْمَدِينَة. وَجلسَ الْوَزير والناظر بديوان الْخمس وَفرض الْوَزير على النَّاس خَمْسمِائَة ألف دِينَار وَقبض على جمَاعَة من أذلّهم ووسطهم وَقطع أَيدي بَعضهم وأرجلهم وتطلب ابْن رَوَاحَة كَبِير دَار الطّراز ووسطه من أجل أَنه وشي بِهِ أَنه كَانَ يغري الْعَامَّة بالفرنج ويمدهم بِالسِّلَاحِ وَالنَّفقَة. فَحل بِالنَّاسِ من المصادرة بلَاء عَظِيم وَكتب السُّلْطَان ترد شَيْئا بعد شَيْء تَتَضَمَّن الْحَث على سفك دِمَاء المفسدين وَأخذ الْأَمْوَال والوزير يُجيب بِمَا يصلح أَمر النَّاس. ثمَّ استدعى الْوَزير بِالسِّلَاحِ الْمعد للغزاة فَبلغ سِتَّة أُلَّاف عدَّة وَضعهَا كلهَا فِي حَاصِل وَختم عَلَيْهَا وَاسْتمرّ نَحْو الْعشْرين يَوْمًا فِي سفك دِمَاء وَأخذ أَمْوَال حَتَّى جمع مَا ينيف على مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ ألف دِينَار وَقدم الْوَزير عماد الدّين مُحَمَّد ابْن اسحاق بن مُحَمَّد البلبيسي قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة ليشنق ثمَّ أَخّرهُ وَكَاتب السُّلْطَان بِأَنَّهُ كشف عَن أمره فَوجدَ مَا نقل عَنهُ غير صَحِيح. وَبعث الْوَزير المسجونين إِلَى قلعة الْجَبَل فِي طَائِفَة مَعَهم لحفظهم فقدموا فِي ثامن عشره وهم البوبكري وتمر الساقي وسنجر الجاولي وبهادر الْمعز وطغلق وأمير غَانِم وقطلوبك الوشاقي وأيدمر اليونسي وكجلي نَائِب قلعة الرّوم. فَأخْرج البوبكري وتمر الساقي إِلَى الكرك وسجن الجاولي وبهادر المعزي فِي البرج بالقلعة وَأنزل بطغلق وأمير غَانِم وقطلوبك وأيدمر(3/99)
وبلاط وبرلغي ولاجين زيرباج وبيبرس العلمي وطشتمر أخي بتخاص المنصوري إِلَى الْجب بالقلعة وَأَفْرج عَن فَخر الدّين أياس وَقدم الْوَزير من الْإسْكَنْدَريَّة بِالْمَالِ وَجلسَ فِي سلخ رَجَب بِالْمَالِ بقاعة الوزارة المستجدة بالقلعة وَقد سكنها وحفر النظار والمستوفون من خَارج الشباك وَحضر طوغان الشاد أَيْضا فنفذ الْوَزير الْأُمُور وَصرف أَحْوَال الدولة. وَفِي أول شعْبَان: قدمت رسل بَابا الفرنج من مَدِينَة رومة بهدية وَكتاب فِيهِ الْوَصِيَّة بالنصارى وَأَنه مهما عمل مُهِمّ بِمصْر وَالشَّام عاملوا من عِنْدهم من الْمُسلمين بِمثلِهِ فأجيبوا وأعيدوا. وَلم تقدم رسل من عِنْد الْبَاب إِلَى مصر مُنْذُ أَيَّام الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب. وَفِيه قبض على أَمِير فرج بن قراسنقر واعتقل بالجب فِي القلعه. وَأخرج كجكن الساقي إِلَى صفد فاعتقل بهَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال: استدعي الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي الطلاء القونوي الشَّافِعِي شيخ خانكاه سعيد السُّعَدَاء وخلع عَلَيْهِ بِقَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق وَنزل فَحكم بالقاهره وَأثبت كتبا تتَعَلَّق بِدِمَشْق وسافر فَقدم دمشق فِي خَامِس عشريه وأضيف إِلَيْهِ مشيخة الشُّيُوخ بهَا عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْمَالِكِي. وَاسْتقر فِي مشيخة سعيد السُّعَدَاء شيخ الشُّيُوخ مجد الدّين أَبُو حَامِد مُوسَى بن أَحْمد بن مَحْمُود الأقصرائي شيخ خانكاه سرياقوس ورسم لَهُ أَن يَسْتَنِيب عَنهُ بِسَعِيد السُّعَدَاء الشَّيْخ جمال الدّين الحويزاني. وَاسْتقر فِي مشيخة الخانكاه الركنية(3/100)
بيبرس افتخار الدّين الْخَوَارِزْمِيّ عوضا عَن مجد الدّين أبي بكر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الْعَزِيز الزنكلوني وَنقل الزنكلوني إِلَى مشيخة تدريس الحَدِيث النَّبَوِيّ بالقبة البيبرسية. وَفِيه قبض على الشريف ودي بن جماز عِنْدَمَا حضر من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَكَانَ قد تحاقق هُوَ وطفيل بن مَنْصُور بن جَازَ بَين يَدي السُّلْطَان ففلح عَلَيْهِ طفيل فِي الْخُصُومَة. وسفر الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن طغريل صُحْبَة الشريف كبيشة ليوصله إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَيقبض على أَصْحَاب ودي. فَلَمَّا قدما فر أَصْحَاب ودي وَملك كبيشة ابْن مَنْصُور الْمَدِينَة ودعا للسُّلْطَان عقيب كل صَلَاة كَمَا يَدعِي لَهُ بِمَكَّة. وَفِي خَامِس عشر فِي ذِي الْقعدَة: اسْتَقر مغلطاي الخازن فِي نِيَابَة قلعة دمشق عوضا عَن سنجر الدميتري. وأنعم على سنجر بإمرة فِي دمشق. وَفِيه اسْتَقر الْأَمِير بلبسطي فِي نِيَابَة حمص بعد وَفَاة بلبان البدري. وَاسْتقر فِي نظر الْقُدس والخليل إِبْرَاهِيم الجاكي. وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة: دخل الْأَمِير قوصون على ابْنة السُّلْطَان بعد مَا حمل جهازها إِلَيْهِ وَكَانَ شَيْئا عَظِيما: مِنْهُ بشخاناه وداير بَيت زركش زنة البشخاناه بمفردها مائَة ألف مِثْقَال ذَهَبا. وَعمل الْفَرح مُدَّة سَبْعَة أَيَّام ذبح فِيهِ خَمْسَة أُلَّاف رَأس من الْغنم الضَّأْن وَمِائَة رَأس من الْبَقر وَخَمْسُونَ فرسا وَمن الدَّجَاج والأوز مَا لَا يُحْصى كَثْرَة. وَاسْتعْمل فِيهِ من السكر برسم الحلاوات وتحالي الْأَطْعِمَة والمشروب أحد عشر ألف أبلوجة وَبلغ وزن الشمع الَّذِي أحضرهُ الْأُمَرَاء ثَلَاثمِائَة قِنْطَار وَأحد عشر قِنْطَارًا. وَبَلغت تقادم الْأُمَرَاء لقوصون خمسين ألف دِينَار. وَعمل قجليس فِي القلعة برجا من بارود ونفط غرم عَلَيْهِ ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم. وَحصل للمغاني من النقوط عشرَة أُلَّاف دِينَار مصرية وَقد جمع أُمَرَاء مصر وَالشَّام تقادم جليلة مِنْهَا تقدمة الْملك صَاحب حماة وَمن جُمْلَتهَا مشعل وطرطور ومخلاة مطرز ذهب بالف دِينَار. وَفِي صَبِيحَة الْعرس عقد الْأَمِير أَحْمد بن بكتمر الساقي عَليّ قطلوملك بنت الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وَقد حضرت فِي أول ذِي الْقعدَة بجهاز عَظِيم فِيهِ داير بَيت زنة زركشه سِتُّونَ ألف مِثْقَال من الذَّهَب. وَقدم الْأَمِير تنكز عَلَيْهِ عَلَيْهِ السُّلْطَان خلعة(3/101)
كَامِلَة انْصَرف على القباء الفوقاني مِنْهَا وَحده مبلغ أَرْبَعَة وَخمسين ألف دِرْهَم فضَّة. فَدخل أَمِير أَحْمد على ابْنة تنكز فِي لَيْلَة رَابِع عشره. وَفِي هَذِه السّنة: قدم إِلَى ميناء بيروت من سواحل الشَّام تجار الفرنج بِمِائَة وَأَرْبَعين من أُسَارَى الْمُسلمين قد اشتروهم من الجزائر فاشتراهم الْأَمِير تنكز وَأفَاد التُّجَّار فِي كل أَسِير مائَة وَعشْرين درهما على مَا اشْتَرَاهُ بِهِ. وكسا تنكز الْجَمِيع وزودهم وَحَملهمْ إِلَى مصر فسر وَفِيه كتب لنائب الشَّام بِجمع فُقَهَاء الشَّام وَالْعَمَل فِي أوقافها كلهَا بمقتض شُرُوط واقفيها وَأَن يُجهز ضِيَاء الدّين يُوسُف بن أبي بكر بن مُحَمَّد - الْمَعْرُوف بالضياء بن خطيب بَيت الْآبَار - وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْقزْوِينِي قد عينه لنظر الْأَوْقَاف بديار مصر وأثني عَلَيْهِ. فَلَمَّا قدم ضِيَاء الدّين خلع عَلَيْهِ بِنَظَر الْأَوْقَاف فباشرها مُبَاشرَة جَيِّدَة. وَنظر تنكز نَائِب الشَّام فِي أوقافها ورسم بعمارة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَمنع الجوالك كلهَا أَن يصرف مِنْهَا لأحد حَتَّى تفرغ عمارتها فامتثل ذَلِك. وَنظر تنكز فِي مقاسم الْمِيَاه بِدِمَشْق الَّتِي تتصرف فِي دور النَّاس وكسح مَا فِيهَا من الأوساخ وَفتح مَا استد مِنْهَا حَتَّى صلحت كلهَا فَعم النَّفْع بهَا. وَكَانَت الْمِيَاه قد تَغَيَّرت لما خالطها فِي طول السنين وَصَارَ الوخم يعْتَاد أهل دمشق فِي كل سنة. فَشكر النَّاس هَذِه الْأَفْعَال ودعوا لَهُ وَيُقَال أَنه بلغ المصروف فِي ذَلِك ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم. وفيهَا اهتم تنكز أَيْضا بِفَتْح الْعين بالقدس فَإِن المَاء قل بِهِ حَتَّى بلغ شرب الْفرس المَاء مرّة وَاحِدَة نصف دِرْهَم فضَّة وَكتب إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال بِإِخْرَاج الرِّجَال وَندب قطلوبك بن الجاشنكير بِالْمَالِ لنفقته عَلَيْهَا. وفيهَا ندب السُّلْطَان الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن هِلَال الدولة لعمارة حرم مَكَّة وَقد بلغه أَن سقوفه تشعثت وتهدم فِيهِ عدَّة جدر وجهز ابْن هِلَال الدولة بِكُل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من المَال والمصاغ والآلات وَكتب السُّلْطَان للشريف عطيفة بمساعدته. وَحج(3/102)
بِالنَّاسِ من مصر الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان نجم الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الحزم مكي المَخْزُومِي ابْن ياسين الْقَمُولِيّ الشَّافِعِي محتسب مصر فِي ثامن رَجَب. وَمَات أَبُو يحيى زَكَرِيَّا بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن مُحَمَّد اللحياني ملك تونس بالإسكندرية. وَمَات كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين عَليّ بن كَمَال الدّين عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم بن خلف بن نَبهَان الزملكاني الشَّافِعِي بِمَدِينَة بلبيسي عِنْد قدومه من حلب فِي سادس شهر رَمَضَان وَدفن بالقرافة. وَمَات شمس الدّين مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود بن سُلَيْمَان بن فَهد الْحلَبِي كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فِي عَاشر شَوَّال. وَمَات نور الدّين عَليّ بن عمر بن أبي بكر بن عبد الله الخلاطي الواني الصُّوفِي نزيل الْقَاهِرَة فِي الْمحرم ومولده فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة سمع من يُونُس بن مَحْمُود الشاوي وَعبد الْوَهَّاب بن رواح وَعبد الرَّحْمَن بن مكي سبط السلَفِي وَخرج لَهُ الْحَافِظ أَبُو الْحُسَيْن بن أيبك جُزْءا حدث بِهِ فَسمع مِنْهُ قَدِيما البرزالي سنة خمس وَثَمَانِينَ(3/103)
وسِتمِائَة وَسمع مِنْهُ شَيخنَا أَبُو الْفرج بن الشيخة وَأَبُو عَليّ الباصلي وَعبد الْوَهَّاب البصروي. وَمَات قَاضِي الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق صدر الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن صفي الدّين أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عُثْمَان البصراوي فِي شعْبَان بَعْدَمَا حكم بِدِمَشْق عشْرين سنة. وَمَات الْملك الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن السعيد فتح الدّين عبد الْملك بن الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل أبي بكر مُحَمَّد بن نجم الدّين أَيُّوب بن شاد بِدِمَشْق فِي حادي عشرى جُمَادَى الْآخِرَة عَن أَربع وَسبعين سنة. وَمَات الطواشي نَاصِر الدّين نصر الشَّمْس شيخ الخدام بِالْحرم النَّبَوِيّ وَكَانَ خيرا يحفظ الْقُرْآن وَيكثر تِلَاوَته بِصَوْت حسن. وَمَات الضياء المجدي بِمصْر وَكَانَ مطبوعاً صَاحب نَوَادِر. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بلبان البدري نَائِب حمص فِي لَيْلَة عيد الْفطر. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أرغون النَّائِب بحلب فِي ثَالِث عشر شعْبَان. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا المغربي الْحَاجِب بِالْقَاهِرَةِ فِي ثامن رَجَب. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين كوجري أَمِير شكار بِالْقَاهِرَةِ فِي تَاسِع عشرى ذِي الْحجَّة. وَهُوَ مَمْلُوك عز الدّين أيدمر نَائِب دمشق فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة. وَمَات بكتوت بن الصَّائِغ فِي يَوْم السبت رَابِع عشرى جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين إِبْرَاهِيم ابْن الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن عِيسَى بن التركماني فِي جُمَادَى الْآخِرَة بدار جوَار بَاب الْبَحْر خَارج الفاهرة. وَكَانَت لَهُ مَكَارِم وَفِيه مُرُوءَة.(3/104)
(سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة)
فِي ثَالِث الْمحرم: أنعم بِخبْز الْأَمِير كوجري أَمِير شكار على الْأَمِير بشتاك. وَفِي خَامِس عشريه: قدم الْأَمِير جمال الدّين آقوش نَائِب الكرك من الْحجاز بالحجاج. وَفِي سَابِع عشريه: قدمت رسل القان أبي سعيد فأكرموا وأعيدوا فِي رَابِع صفر. وَفِي الْمحرم: هَذَا وشى بالأمير شمس الدّين آقسنقر شاد العمائر أَن جَمِيع عمائره وأملاكه الَّتِي استجدها مِمَّا يَأْخُذهُ من الأسرى وأرباب الصَّنَائِع فرسم عَلَيْهِ مَالا ألزم بِهِ فاعتنى بِهِ الْأَمِير قوصون وشفع فِيهِ فأفرج عَنهُ وَأخرج إِلَى الشَّام. وَفِيه وَردت مُكَاتبَة الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام بالشكوى من الْأَمِير طينال نَائِب طرابلس وترفعه عَلَيْهِ فَكتب بالإنكار عَلَيْهِ وَألا يُكَاتب فِي الْمُهِمَّات وَغَيرهَا إِلَّا نَائِب الشَّام وَلَا يُجهز بعْدهَا مطالعة إِلَى مصر. وَفِي سَابِع ربيع الأول. قدم دمرداش بن جوبان بن تِلْكَ بن تداون. وَسبب ذَلِك أَن القان أَبَا سعيد بن خربندا لما ملك أقبل على اللَّهْو فتحكم الْأَمِير جوبان بن تِلْكَ على الأردو وَقَامَ بِأَمْر المملكة واستناب وَلَده دمشق خواجا بالأردو وَبعث ابْنه دمرداش إِلَى مملكة الرّوم. فانحصر أَبُو سعيد إِلَى أَن تحرّك بعض أَوْلَاد كبك بِجِهَة خُرَاسَان وَخرج عَن الطَّاعَة فَسَار جوبان لحربه فِي عَسْكَر كَبِير فَمَا هُوَ إِلَّا أَن بعد عَن الأردو قَلِيلا حَتَّى رَجَعَ الْعَدو عَن خُرَاسَان وَقصد جوبان الْعود. وَكَانَ قد قبض بوسعيد على دمشق خواجا وَقَتله بِظَاهِر مَدِينَة السُّلْطَانِيَّة فِي شَوَّال من السّنة الْمَاضِيَة وأتبع بِهِ إخْوَته وَنهب أتباعهم وَسَفك أَكثر دِمَائِهِمْ وَكتب إِلَى من خرج من الْعَسْكَر مَعَ جوبان بِمَا وَقع وَأمرهمْ بِقَبْضِهِ وَكتب إِلَى دمرداش أَن يحضر إِلَى الأردو وعرفه شوقه إِلَيْهِ ودس مَعَ الرَّسُول إِلَيْهِ عدَّة ملطفات إِلَى أُمَرَاء الرّوم بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ أَو قَتله وعرفهم مَا وَقع.(3/105)
وَكَانَ دمرداش قد ملك بِلَاد الرّوم جَمِيعهَا وجبال ابْن قرمان وَأقَام على كل دربند جمَاعَة تحفظه فَلَا يمر أحد إِلَّا وَيعلم بِهِ خوفًا على نَفسه من السُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَن يبْعَث إِلَيْهِ فداويا يقْتله بِسَبَب مَا حصل بَينهمَا من المواحشة الَّتِي اقْتَضَت انحصار السُّلْطَان مِنْهُ وَأَنه منع التُّجَّار وَغَيرهم من حمل المماليك إِلَى مصر وَإِذا سمع بِأحد من جِهَة صَاحب مصر أخرق بِهِ. فشرع السُّلْطَان يخادعه على عَادَته ويهاديه ويترضاه وَهُوَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ فَكتب إِلَى أَبِيه جوبان فِي أمره حَتَّى بعث يُنكر عَلَيْهِ فَأمْسك عَمَّا كَانَ فِيهِ قَلِيلا وَلبس تشريف السُّلْطَان وَقبل هديته وَبعث عوضهَا وَهُوَ مَعَ هَذَا شَدِيد التَّحَرُّز. فَلَمَّا قدمت رسل أبي سعيد بِطَلَبِهِ فتشهم الموكلون بالدربندات فوجدوا الملطفات فحملوهم وَمَا مَعَهم إِلَى دمرداش. فَلَمَّا وقف دمرداش عَلَيْهِمَا لم يزل يُعَاقب الرُّسُل إِلَى أَن اعْتَرَفُوا بِأَن أَبَا سعيد قتل دمشق خواجا وإخواته وَمن يلوذ بهم وَنهب أَمْوَالهم وَبعث بقتل جوبان. فَقتل دمرداش الرُّسُل وَبعث إِلَى الْأُمَرَاء أَصْحَاب الملطفات فَقَتلهُمْ أَيْضا وَكتب إِلَى السُّلْطَان الْملك النَّاصِر يرغب فِي طَاعَته ويستأذنه فِي الْقدوم عَلَيْهِ بعساكر الرّوم ليَكُون نَائِبا عَنهُ بهَا. فسر السُّلْطَان بذلك. وَكَانَ قد ورد على السُّلْطَان كتاب الْمجد السلَامِي من الشرق بقتل دمشق خواجا واخوته وَكتاب أبي سعيد بقتل جوبان وَطلب ابْنه دمرداش وَأَنه مَا عَاق أَبَا سعيد عَن الْحَرَكَة إِلَّا كَثْرَة الثَّلج وَقُوَّة الشتَاء. فَكتب السُّلْطَان النَّاصِر جَوَاب دمرداش يعده بمواعيد كَثِيرَة ويرعبه فِي الْحُضُور. فتحير دمرداش بَين أَن يُقيم فيأتيه أَبُو سعيد أَو يتَوَجَّه إِلَى مصر فَلَا يدْرِي مَا يتَّفق لَهُ. ثمَّ قوي عِنْده الْمسير إِلَى مصر وَأعلم أمراءه أَن عَسْكَر مصر سَار ليَأْخُذ بِلَاد الرّوم وَأَنه قد كتب إِلَيْهِ الْملك النَّاصِر يَأْمُرهُ أَن يكون نَائِبه فَمشى عَلَيْهِم ذَلِك وسرهم. وَأخذ دمرداش يُجهز أمره وحصن أَوْلَاده وَأَهله فِي قلعة منيعة وَبعث مَعَهم أَمْوَاله ثمَّ ركب بعساكره حَتَّى قَارب بهسنا فَجمع من مَعَه وأعلمهم أَنه يُرِيد مصر وَخَيرهمْ بَين الْعود إِلَى بِلَادهمْ وَبَين الْمسير مَعَه فعادوا إِلَّا من يخْتَص بِهِ. وَسَار دمرداش إِلَى بهسنا فِي نَحْو ثَلَاثمِائَة فَارس فَتَلقاهُ نائبها ومازال حَتَّى قدم دمشق يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرى صفر فَركب الْأَمِير تنكز إِلَى لِقَائِه وأنزله بالميدان وَقَامَ لَهُ بِمَا يجب وجهزه إِلَى مصر بعد مَا قدم بَين يَدَيْهِ الْبَرِيد بِخَبَرِهِ. فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان(3/106)
بالأمير سيف الدّين طرغاي الجاشنكير وَمَعَهُ المهمندار بِجَمِيعِ الْآلَات الملوكية من الْخيام والدهليز والبيوتات كلهَا إِلَى غَزَّة فَلَقوهُ بهَا وَأقَام فِيهَا يَوْمَيْنِ وسافر إِلَى الْقَاهِرَة فَركب الْأُمَرَاء إِلَى لِقَائِه وَخرج السُّلْطَان إِلَى بر الجيزة ورسم أَن يعدي النّيل إِلَيْهِ. فَلَمَّا قدم دمرداش إِلَى الْقَاهِرَة فِي سَابِع ربيع الأول أَتَاهُ الْأَمِير طايربغا وأحضره إِلَى السُّلْطَان بالجيزة فَقبل الأَرْض ثَلَاث مَرَّات. فترحب السُّلْطَان بِهِ وَأَجْلسهُ بِالْقربِ مِنْهُ وباسطه وَطيب خاطره وَسَأَلَهُ عَن أَحْوَاله وَألبسهُ تَشْرِيفًا عَظِيما وَركب مَعَه للصَّيْد وعدى بِهِ النّيل إِلَى القلعة وَأَسْكَنَهُ بهَا فِي بَيت الجاولي ورتب لَهُ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ ورسم للأمير طوغان أَن يدْخل صُحْبَة طَعَامه بكرَة وعشيا. وَفِي عاشره: قدم دمرداش مائَة إكديش وَثَمَانِينَ بختيا وَخَمْسَة مماليك وَخمْس بقج فِيهَا الثِّيَاب الفاخرة مِنْهَا بقجة بهَا قبَاء أطلس مرصع بعدة جَوَاهِر ثمينة فَلم يقبل السُّلْطَان غير القباء وإكديشاً وَاحِدًا وقطار بخات ورد البقيه إِلَيْهِ ليتقوى بهَا. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْوَزير أَن يرتب لدمرداش مَا يَلِيق بِهِ وَطلب إِلَى الْحَاجِب أَن يجلسه فِي الميمنة تَحت الْأَمِير سيف الدّين آل ملك الجوكندار. فشق عَلَيْهِ ذَلِك إِلَى أَن بعث السُّلْطَان إِلَيْهِ الْأَمِير بدر الدّين جنكلي يعْتَذر إِلَيْهِ أَنه مَا جهل قدره وَلَكِن الشَّهِيد وَالِد السُّلْطَان لَهُ مماليك كبار قد ربوا السُّلْطَان فَهُوَ يُرِيد تَعْظِيم قدرهم فَلهَذَا أجلسك بجانبهم فطاب خاطره. وَاجْتمعَ دمرداش بالسلطان وفاوضه فِي أَمر بِلَاد الرّوم وَأَن يُجهز إِلَيْهَا عسكراً. فَأَشَارَ السُّلْطَان بالمهلة حَتَّى يرد الْبَرِيد بِخَبَر أَبِيه جوبان مَعَ أبي سعيد وَكتب إِلَى ابْن قرمان أَن ينزل على القلعة الَّتِي فِيهَا أَوْلَاد دمرداش وحواصله ويرسلهم مكرمين إِلَى مصر. فَاسْتَأْذن دمرداش فِي عود من قدم مَعَه إِلَى بِلَادهمْ فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَسَار كثير مِنْهُم. وَهِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشره: ركب دمرداش بالقماش الإسلامي على هَيْئَة الْأُمَرَاء. وَفِي تَاسِع عشره: قدم الْأَمِير شاهنشاه ابْن عَم جوبان فَخلع عَلَيْهِ وَأنزل عِنْد دمرداش. وَفِي ثامن عشريه: وصل طلب دمرداش وَثقله فأنزلوا بدار الضِّيَافَة وهم نَحْو سِتّمائَة فَارس.(3/107)
وَفِي يَوْم الْأَحَد أول ربيع الآخر: عرض السُّلْطَان أَصْحَاب دمرداش وَفرق أَكْثَرهم على الْأُمَرَاء وَاخْتَارَ نَحْو التسعين مِنْهُم الْعود إِلَى بِلَادهمْ فعادوا. وَفِيه قدمت رسل أبي سعيد بكتابه وَفِيه بعد السَّلَام والاستيحاش وَذكر الود إِعْلَام السُّلْطَان بِأَمْر جوبان وتحكمه وَقلة امتثاله الْأَمر وَأَنه قصد قَتله والتحكم بمفرده فَلَمَّا تحقق ذَلِك لَدَيْهِ بَعثه إِلَى خُرَاسَان وسير بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْخُذ رَأْي السُّلْطَان فِي ذَلِك وَقد سير أَبُو سعيد مَعَ رسله هَدِيَّة فَقبلت. وسألهم السُّلْطَان عَن دمرداش فَذكرُوا أَنهم لم يعرفوا خَبره حَتَّى قدمُوا دمشق فبعثهم إِلَيْهِ فَلم يعبأ بهم. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عاشره: توجه السُّلْطَان إِلَى الْوَجْه البحري وَمَعَهُ دمرداش وَحسن لَهُ الْفَخر نَاظر الْجَيْش والأمير بكتمر الساقي زِيَارَة الشَّيْخ مُحَمَّد المرشد فتوقف فِي زيارته ثمَّ عزم عَلَيْهَا. فرسم للأمير علم الدّين سنجر الخازن كاشف الغربية بِطَلَب جَمِيع العربان وتقديمهم الْخَيل والهجن وَأَن يُجهز الإقامات. واستناب السُّلْطَان فِي غيبته الْأَمِير قجليس. وَعَاد السُّلْطَان فِي سادس عشريه بعد مَا قدم الْأَمِير تنكز فِي رَابِع عشريه. وَفِي تَاسِع شَوَّال: خلع على الطواشي نَاصِر الدّين نصر الساقي. وَاسْتقر مقدم المماليك عوضا عَن الطواشي صَوَاب الركني. وَفِيه بعث السُّلْطَان الْأَمِير سيف الدّين أروج مَمْلُوك قبجق إِلَى أبي سعيد يشفع فِي دمرداش وَمَعَهُ الرُّسُل بهدية جليلة فَسَارُوا فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة: سَار برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الْحق الْحَنَفِيّ على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة وَقد طلب فَقدم يَوْم السبت خَامِس عشريه وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة بديار مصر عوضا عَن شمس الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان. مُحَمَّد بن عُثْمَان الحريري بعد وَفَاته. وَفِي يَوْم السبت عَاشر رَجَب: عَاد أطوجي من بِلَاد أزبك ملك القبجاق بتقادم جليلة فَأنْزل بالميدان وأنعم عَلَيْهِ وعَلى جماعته بِشَيْء كثير. وَفِي حادي عشره: حضر أطوجي إِلَى بَين يَدي السُّلْطَان فَخلع عَلَيْهِ وَسَار فِي عشريه. وَفِي خَامِس عشريه: عقد نِكَاح ابْنة السُّلْطَان على الْأَمِير سيف الدّين طغاي تمر الْعمريّ النَّاصِر وأعفي الْأُمَرَاء من حمل الشموع وَغَيرهَا وأنعم عَلَيْهِ من الخزانة بأَرْبعَة أُلَّاف دِينَار عوضا عَن ذَلِك.(3/108)
وَفِيه عَاد جَوَاب ابْن قرمان بِأَنَّهُ ركب إِلَى القلعة الَّتِي فِيهَا أهل دمرداش وعرفهم أَنه حفر. بمرسوم السُّلْطَان وَبعث إِلَيْهِم بِكِتَاب دمرداش أَنهم يقدمُونَ عَلَيْهِ بِمصْر فَردُّوا جَوَابه: لَا حَاجَة لنا فِي مصر. وَذكر ابْن قرمان أَن هَذَا بمباطنة دمرداش لَهُم وَحط عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سفك دِمَاء كَثْرَة وَقتل من الْمُسلمين عَالما عَظِيما وَأَنه جسور وَمَا قصد بِدُخُولِهِ مصر إِلَّا طَمَعا فِي ملكهَا. وَبعث ابْن قرمان الْكتاب صُحْبَة نجم الدّين إِسْحَاق الرُّومِي أنطالية وَهِي القلعة الَّتِي أَخذهَا مِنْهُ دمرداش وَقتل وَالِده وَأَنه قدم ليطالبه بِدَم أَبِيه. فَلَمَّا وقف السُّلْطَان على الْكتاب تغير وَطلب دمرداش وأعلمه بِمَا يه. وَجمع السُّلْطَان بَينه وَبَين إِسْحَاق فتحاققا بِحَضْرَة الْأُمَرَاء فَظهر أَن كلا مِنْهُمَا قتل لصَاحبه قَتِيلا فَكتب جَوَاب ابْن قرمان مَعَه وأعيد. وَقد تبين للسُّلْطَان خبث نِيَّة دمرداش فَقَبضهُ وَأمْسك من مَعَه من الْأَعْيَان وهم مَحْمُود شاهنشاه وعدة أخر فِي يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من شعْبَان واعتقل دمرداش ببرج السبَاع من القلعة وَفرق الْبَقِيَّة فِي الأبراج وَفرقت مماليكه على الْأُمَرَاء ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ. وَكَانَ للقبض على دمرداش أَسبَاب: مِنْهَا أَنه كَانَ لَهُ بالروم مائَة ألف رَأس من الْغنم فَلَمَّا وصلت قطيا أطلق مِنْهَا للأمير بكتمر الساقي عشْرين ألفا ولقوصون وَبَقِيَّة الْأُمَرَاء كل وَاحِد شَيْئا حَتَّى فرق الْجَمِيع فَلم يعجب السُّلْطَان ذَلِك. وَدخل دمرداش يَوْمًا الْحمام فَأعْطِي الحمامي ألف دِرْهَم والحارس ثَلَاثمِائَة فَزَاد حنق السُّلْطَان مِنْهُ. ثمَّ أَخذ دمرداش يُوقع فِي الْأُمَرَاء والخاصكية وَيَقُول: هَذَا كَانَ كَذَا وَهَذَا كَانَ كَذَا وَهَذَا ألماس الْحَاجِب كَانَ حمالاً فَمَا حمل السُّلْطَان هَذَا مِنْهُ. وَفِي شَوَّال: حسن جمَاعَة للسُّلْطَان توفير كثير من الجوامك فَعمل فِيهِ استيمار وَفرق فِيهِ مَا قطع من جوامك المباشرين والغلمات وَهِي جملَة ووفر مِنْهُم عدَّة ثمَّ قرئَ عَلَيْهِ. وأحضر الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام وخلع عَلَيْهِ وعَلى مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة بِغَيْر طرحات واستقرا فِي نظر النظار والصحبة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ نصف شَوَّال. وَفِيه نقل شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن قروينة إِلَى نظر الْبيُوت وخلع عَلَيْهِ مَعَهُمَا. وَفِي تَاسِع عشريه: عقد نِكَاح الخاتون طلباي الْوَاصِلَة من بِلَاد أزبك على الْأَمِير(3/109)
سيف الدّين منكلي بغا السِّلَاح دَار بَعْدَمَا طَلقهَا السُّلْطَان وَانْقَضَت عدتهَا وَبنى عَلَيْهَا الْأَمِير سيف الدّين فِي ثامن ذِي الْقعدَة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثاسع عشريه: عزل الصاحب أَمِين الدّين بن الغنام عَن نظر الدولة. وَكَانَ قد كتب قصَّة يطْلب الإعفاء من الْمُبَاشرَة فَلم يجب إِلَى ذَلِك فَكتب قصَّة ثَانِيَة فَأُجِيب فَكَانَت مُدَّة مُبَاشَرَته أَرْبَعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا تحريراً. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن ذِي الْحجَّة: أفرج عَن الْأَمِير حسام الدّين لاجين الْعمريّ الملقب زيرباج الجاشنكير أحد المماليك المنصورية الْمَشْهُورين بالشجاعة وَالْقُوَّة بَعْدَمَا أَقَامَ فِي الاعتقال من يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث ربيع الآخر سنة ثنتى عشرَة مُدَّة سِتّ عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَخَمْسَة أَيَّام وَهُوَ يغزل الصُّوف المرعز ويعمله كوافي بديعة الزي وَلِلنَّاسِ فِيهَا رَغْبَة وَيتَصَدَّق بِثمنِهَا. وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وَكَانَت مُدَّة اعتقاله ثَمَانِي سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وَكَانَ فِيهَا ينْسَخ الْقُرْآن وَكتب الحَدِيث وَنَحْوه. وَأَفْرج عَن أَمِير فرج بن قراسنقر فِي يَوْم عَرَفَة ثمَّ أُعِيد إِلَى سجنه فِي يَوْمه. وَفِيه سَافر الْأَمِير سيف الدّين أيتمش إِلَى بوسعيد برسالة تَتَضَمَّن مَا قَامَ بِهِ السُّلْطَان مَعَ دمرداش بن جوبان وَكَانَ قد وصل إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر شهر رَمَضَان رسل من عِنْد أبي سعيد وهم ثَلَاثَة نفر والمشار إِلَيْهِ مِنْهُم أياجي أَمِير جندار الْملك أبي سعيد. فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدي السُّلْطَان وَكلهمْ الإنعام بالتشاريف على عَادَة أمثالهم أرسلهم السُّلْطَان إِلَى دمرداش فِي معتقله صُحْبَة الْأَمِير سيف الدّين قجليس أَمِير سلَاح فَاجْتمعُوا بِهِ وتحدثوا مَعَه. وَقيل كَانَ مَضْمُون رسالتهم طلب دمرداش من السُّلْطَان وَأَنه إِذا سلم إِلَيْهِم أرسل الْملك أَبُو سعيد فِي مُقَابلَة ذَلِك الْأَمِير شمس الدّين سنقر المنصوري. فَمَال السُّلْطَان إِلَى ذَلِك ورسم للأمير أيتمش المحمدي أَن يتَوَجَّه إِلَى الْملك أبي سعيد برسالة السُّلْطَان لتقرير الْحَال فِي ذَلِك وَتوجه طلب دمرداش فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر شهر رَمَضَان ثمَّ عدل السُّلْطَان عَن هَذَا الْأَمر وترحح عِنْده أَنه لَا يُرْسِلهُ إِلَى الْملك أبي سعيد. فَلَمَّا كَانَ فِي لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع شَوَّال: من هَذِه السّنة أخرج دمرداش من معتقله بالبرج وَفتح بَاب السِّرّ من جِهَة القرافة وَأخرج مِنْهُ وَهُوَ مُقَيّد مغلول وَشَاهده رسل الْملك أبي سعيد وَهُوَ على هَذِه الْحَال. ثمَّ خنق دمرداش وَشَاهده الرُّسُل بعد مَوته وَقطع رَأسه وسلخ وصبر وَحشِي وَأرْسل السُّلْطَان الرَّأْس إِلَى أبي سعيد وَدفن الْجَسَد(3/110)
بمَكَان قَتله. وَحضر الرُّسُل إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع شَوَّال وركبوا مَعَ السُّلْطَان إِلَى الميدان فِي يَوْم السبت سادسه ثمَّ حَضَرُوا إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامنه وَكلهمْ الْخلْع والإنعام وأعيدوا إِلَى مرسلهم فِي هَذَا الْيَوْم وَتوجه مَعَهم الْأَمِير سيف الدّين أيتمش المحمدي برسالة السُّلْطَان إِلَى الْملك أبي سعيد كَمَا تقدم وفيهَا وَقع فِي زروع أَرض مصر أفة من الدودة عِنْد أَوَان الزَّرْع عقيب حر شَدِيد حَتَّى عَم ذَلِك أَكثر الزَّرْع فَكتب إِلَى الْوُلَاة بِكِتَابَة مَا تلف فَوجدَ قد تلف فِي بعض الْبِلَاد نصف الزَّرْع وَمَا دونه فِي غَيرهَا. وتحسن السّعر فَبلغ الْقَمْح إِلَى عشْرين الأردب بعد ثَلَاثَة عشر. وفيهَا هبت ريح سَوْدَاء بَعْدَمَا أرعدت السَّمَاء وأبرقت حَتَّى كَانَ الْإِنْسَان لَا يبصر رَفِيقه وَحَتَّى ردَّتْ وُجُوه الْحِيَل إِلَى وَرَائِهَا وَلم يسْتَطع أحد أَن يثبت فَوق فرسه وَلَا أَن يقف على رجلَيْهِ فَوق الأَرْض بل تلقيه الرّيح وَكَانَ ذَلِك بِبِلَاد فوة بَحر الغرب وَسَائِر الْوَجْه البحري. وغرق بهَا من المراكب شَيْء كثير وتقصفت عدَّة من النّخل واقتلعت شَجَرَة جميزه كبيره من أَصْلهَا بِنَاحِيَة فوه وَمَرَّتْ بهَا قدر مِائَتي قَصَبَة فَلَمَّا قطعت حمل خشبها تِسْعَة أحمال جمال. وَمر من ذَلِك فِي البرين الغربي والشرقي عجائب وهدمت عدَّة دور ثمَّ أمْطرت بعد أَيَّام مَطَرا عَظِيما سَالَ مِنْهُ إِلَى مَدِينَة بلبيس حَتَّى خرب كثير مِنْهَا وَجرى السَّيْل إِلَى المطرية وأمطرت بِالْقَاهِرَةِ ومصر ثَلَاثَة أَيَّام مَطَرا لم يعْهَد مثله تلف مِنْهُ عَامَّة السقوف. وفيهَا اشْتَدَّ بَأْس الْأَمِير قدادار وَالِي الْقَاهِرَة وتسلط على الْعَامَّة بِكَثْرَة سفلك الدِّمَاء. وَكَانَ قد رسم لجَمِيع الْوُلَاة أَلا يقتلُوا أحدا وَلَا يقطعوا يَده إِلَّا بعد مُشَاورَة السُّلْطَان خلا قدادار فَإِنَّهُ لَا يشاور على مُفسد وَلَا غَيره. فَانْطَلَقت يَده فِي سَائِر النَّاس وَأقَام عَنهُ نَائِبا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة مِنْهُ فِي كل يَوْم بثلاثمائة دِرْهَم وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْمَعْرُوفَة بالمستصنعين فِي الْمَدِينَة وَعمِلُوا أعمالاً شنيعة وَكَتَبُوا لأرباب الْأَمْوَال أوراقاً(3/111)
بالتهديد فَاشْتَدَّ خوف أهل الرتب مِنْهُ. ونادى قدادار أَلا يفتح بعد عشَاء الْآخِرَة أحد دكاناً فِي مُدَّة غيبَة السُّلْطَان فِي الْوَجْه البحري وَلَا يمشي أحد بِاللَّيْلِ فِي الْأَسْوَاق وَلَا يخرج أحد من بَيته بعد عشَاء الْآخِرَة فَكَانَ من يُوجد يُؤْخَذ فَإِن وجدت مِنْهُ رَائِحَة الْخمر لَقِي شدَّة. فانكف النَّاس عَن الْخُرُوج لَيْلًا وَصَارَت الشوارع موحشة. وَأقَام قدادار على كل حارة درباً ألزم أَهلهَا بِعَمَلِهِ ورتب الخفراء تَدور فِي اللَّيْل بطبول فِي جَمِيع الحارات والخطط فظفر أحدهم بِرَجُل قد سرق من بَيت وَلبس ثِيَاب النِّسَاء فسمره قدادار بِبَاب زويلة. وفيهَا قدم الْبَرِيد من صفد وَمَعَهُ مبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم حملا للموقعين فَأخذ قَرِيبا من بلبيس. فألزم السُّلْطَان واليها علم الدّين قصير - مَمْلُوك العلائي - بهَا بَعْدَمَا رسم بشنقه ثمَّ عَفا عَنهُ وعزله. وفيهَا ولي ظلظيه الشرقية نَقله السُّلْطَان إِلَيْهَا من البهنسا وَولي عوضه شُجَاع الدّين قنغلي. وفيهَا ولي عز الدّين أيدمر السلَامِي المنوفية فتفنن فِي إِتْلَاف الْأَنْفس وأوقف رجلا بَين خشبتين ونشره من رَأسه وصلق أخر فِي دست وسلخ أخر وَهُوَ حَيّ. وفيهَا عزم السُّلْطَان على أَن يجْرِي النّيل تَحت القلعة ويشق لَهُ من نَاحيَة حلوان فَبعث الصناع صُحْبَة شاد العمائر إِلَى حلوان وقاسوا مِنْهَا إِلَى الْجَبَل الْأَحْمَر المطل على الْقَاهِرَة وقدروا الْعَمَل فِي بِنَاء الواطي حَتَّى يرْتَفع وحفر العالي ليجري المَاء وَينْتَفع بِهِ فِي دَاخل قلعة الْجَبَل من غير معاناة وَلَا كلفة. ثمَّ عَادوا وَعرفُوا السُّلْطَان ذَلِك فَركب لكشفه وقاسوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ. فَكَانَ قِيَاس مَا يحْفر اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف قَصَبَة حاكمية ليبقى خليجاً فِيهِ مَاء النّيل شتاءً صيفاً بسفح الْجَبَل. وَعَاد السُّلْطَان وَقد أعجب بمشروعه وشاور الْأُمَرَاء فِيهِ فَلم يُعَارضهُ مِنْهُم أحد إِلَّا الْفَخر نَاظر الْجَيْش فَإِنَّهُ قَالَ: بِمن يحْفر السُّلْطَان هَذَا الخليج فَقَالَ السُّلْطَان: بالعسكر فَقَالَ الْفَخر: وَالله لَو اجْتمع عَسْكَر أخر فَوق عَسْكَر السُّلْطَان وَأقَام سِنِين مَا قدرُوا على حفر(3/112)
هَذَا الْعَمَل. وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى ثَلَاث خَزَائِن من المَال. ثمَّ هَل يَصح أَو لَا فالسلطان لَا يسمع كَلَام كل أحد ويتعب النَّاس ويستجلب دعاءهم. وَنَحْو هَذَا من القَوْل حَتَّى رَجَعَ السُّلْطَان عَن عمله. وفيهَا كملت الْعين الَّتِي أجراها الْأَمِير تنكز بالقدس بعد مَا أَقَامَ الصناع فِيهَا مُدَّة سنة وَبنى لَهَا مصنعاً سعته نَحْو مِائَتي ذِرَاع وَركب فِي الْجَبَل مجاري نقب لَهَا فِي الْحجر حَتَّى دخل المَاء إِلَى الفدس فَكَانَ لَهَا يَوْم شُهُود. وَأَنْشَأَ تنكز بالقدس أَيْضا خانكاه وحمام وفيسارية فعمرت الْقُدس. وفيهَا أفرج عَن تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية بشفاعة الْأَمِير جنكلي بن البابا وَغَيره من الْأُمَرَاء. وفيهَا أجري ابْن هِلَال الدولة عينا بِمَكَّة تعرف بِعَين ثقبة فَصَارَ بِمَكَّة عين جوبان وَعين ثفبة وانحلت الأسعار بهَا حَتَّى نزل الْقَمْح من سِتِّينَ درهما الغرارة إِلَى أَرْبَعِينَ وَزرع بهَا الْبِطِّيخ والذرة والخضروات وَغَيرهَا وامتلأت البرك وكملت عمَارَة الْحرم. وجدد ابْن هِلَال الدولة. بِمَكَّة عدَّة ميض باسم السُّلْطَان وَأجْرِي لَهَا مَا يقوم بكلفتها. وفيهَا ورد الْخَبَر بقتل حوبان نَائِب أبي سعيد. وَذَلِكَ أَن الْعَسْكَر المجهز مَعَه لما وصل إِلَيْهِم خبر قتل أَوْلَاده بِأَمْر أبي سعيد ووصلت إِلَيْهِم كتب أبي سعيد بقتْله أَيْضا ركبُوا عَلَيْهِ ففر وَمَعَهُ ابْنه جلوخان وَطَائِفَة من خواصه إِلَى قلعة هراة وَامْتنع بهَا فَدس إِلَيْهِ أَبُو سعيد من قَتله وَابْنه وحملا إِلَى أبي سعيد فَكَانَ لدخولها الأردوا يَوْمًا عَظِيما. وفيهَا حج بالركب الْمصْرِيّ شهَاب الدّين أَحْمد بن المهمندار. وَحج فِي هَذِه السّنة أَيْضا الْأَمِير سيف الدّين طقزدمر الناصري وست حدق وَعلمت مَعْرُوفا كَبِيرا. وفيهَا قدم ابْن هِلَال من مَكَّة فَخلع عَلَيْهِ وأعيد إِلَى شدّ الْخَاص. وفيهَا طلب صَلَاح الدّين يُوسُف دوادار فبجق من طرابلس وَولي شدّ الدَّوَاوِين. وفيهَا تنكر السُّلْطَان على الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي الْوَزير. وَسَببه عمل الْفَخر نَاظر الْجَيْش عَلَيْهِ بموافقة التَّاج إِسْحَاق وَقد كتبت فِيهِ مرافعة غضب السُّلْطَان بِسَبَبِهَا عَلَيْهِ وَقصد الْإِيقَاع بِهِ. فاعتنى الْأَمِير بكتمر الساقي، وَاعْتذر عَنهُ بِأَنَّهُ رجل غنتمى.(3/113)
وَفِي يَوْم عَرَفَة وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة: أفرج عَن الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي وَمُدَّة سجنه ثَمَانِي سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَتِسْعَة أَيَّام. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله ابْن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي بِدِمَشْق لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة فِي سجنه بالقلعة. ومولده يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر ربيع الأول سنة احدى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين جوبان الْمَنْصُور أحد أُمَرَاء دمشق الأكابر بهَا فِي الْعشْرين من صفر. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بكتمر البوبكري بسجنه من قلعة الْجَبَل يَوْم الْخَمِيس نصف شعْبَان. وَمَات الْأَمِير جوبان بن تِلْكَ بن تداون نَائِب القان أبي سعيد بن خربندا مقتولاً بهراة وَحمل إِلَى بَغْدَاد فَقَدمهَا فِي سَابِع عشرى شَوَّال وَصلي عَلَيْهِ وَحمل إِلَى مَكَّة مَعَ ركب الْحَاج الْعرَاق وطيف بِهِ الْكَعْبَة ومضي بِهِ إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فَدفن بِالبَقِيعِ. وَمَات الشريف كبيشة بن مَنْصُور بن جماز بن شيحة أَمِير الْمَدِينَة فِي أول شعْبَان قَتِيلا. وَكَانَت ولَايَته بعد قتل أَبِيه مَنْصُور فِي رَابِع عشر رَمَضَان سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة قَتله أَوْلَاد ودي وَكَانَ ودي قد حبس بقلعة وَمَات الْأَمِير جمال الدّين خضر بن نوكاي أَخُو خوند أردوكين فِي لَيْلَة الرَّابِع عشر من رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين قراسنقر المنصوري بالمراغة من آذربيجان يَوْم السبت سَابِع عشرى شَوَّال وَورد الْخَبَر بِمَوْتِهِ فِي حادي عشرى ذِي الْقعدَة فأنعم على وَلَده أَمِير عَليّ بن قراسنقر بإمرة طلبلخاناه على عَادَته بِدِمَشْق وعَلى أَخِيه أَمِير فرج بن قراسنقر بأمرة عشرَة ورسم بسفرهما من الْقَاهِرَة إِلَيْهَا. وَتُوفِّي دمرداش بن جوبان بن تِلْكَ بن تدوان لَيْلَة الْخَمِيس رَابِع شَوَّال وَحمل رَأسه إِلَى بوسعيد بن خربندا.(3/114)
وَمَات بِبَغْدَاد مفتي الْعرَاق كَمَال الدّين عبدا لله بن مُحَمَّد بن عَليّ حَمَّاد بن ثَابت الوَاسِطِيّ العاقولي مدرس المستنصرية فِي ذِي الْقعدَة. ومولده فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة.(3/115)
فارغة(3/116)
(سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة)
أهلت وَالسُّلْطَان بسرياقوس. وَفِي يَوْم السبت ثَانِي الْمحرم: قدم الْفَخر نَاظر الْجَيْش من الْحجاز. وَفِيه قدم بدر الدّين بن عَلَاء الدّين بن الْأَثِير كَاتب السِّرّ وَقد اشْتَدَّ بِأَبِيهِ مرض الفالج وَانْقطع عَن الْخدمَة فَخلع عَلَيْهِ وَجلسَ فِي رُتْبَة أَبِيه وباشر وَفِي ظَنّه أَنه يسْتَقرّ عوضه. فَخرج الْبَرِيد بِطَلَب محيي الدّين بن فضل الله كَاتب سر دمشق فَقدم وَمَعَهُ وَلَده شهَاب الدّين أَحْمد وَشرف الدّين أَبُو بكر بن الشهَاب مَحْمُود وخلع على محيي الدّين خلعة كِتَابَة السِّرّ بديار مصر عوضا عَن ابْن الْأَثِير وعَلى شرف الدّين بِكِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن محيي الدّين فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشره. وَفِي ثَالِث عشره: اسْتَقر بيبرس الجمدار فِي ولَايَة إسكندربة عوضا عَن الرُّكْن الكركي. وَفِي يَوْم الْأَحَد رَابِع عشريه: قدم الْأَمِير أيتمش المحمدي من بِلَاد الْعرَاق بِجَوَاب القان أبي سعيد. وَفِيه أنعم على الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي بإمرة أَمِير عَليّ بن قراسنقر الْمُنْتَقل إِلَى دمشق وَفِيه أنعم على لاحين الخاصكي بإمرة طبلخاناه عوضا عَن مُحَمَّد بيه بن جمق بِحكم عوده إِلَى بِلَاد التتار. وَفِي يَوْم السبت سَابِع صفر: قدمت رسل أبي سعيد وجهزوا إِلَى المنوفية للقاء السُّلْطَان فأدوا رسالتهم وعادوا إِلَى قلعة الْجَبَل. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشره: قدم السللطان من الصَّيْد سالما. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ أول شهر ربيع الأول: أُعِيد شمس الدّين بن قزوينة إِلَى نظر الدَّوَاوِين على عَادَته وأضيف مَا كَانَ بِيَدِهِ من نظر الْبيُوت إِلَى مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة مَعَ مَا بِيَدِهِ من نظر الدَّوَاوِين وخلع عَلَيْهِمَا.(3/117)
وَفِيه رسم بِخُرُوج عَليّ وَفرج وَلَدي قراسنقر فسارا إِلَى دمشق وقدماها فِي ثَالِث ربيع الآخر. وَفِي خَامِس ربيع الآخر: اسْتَقر صَلَاح الدّين يُوسُف بن دَاوُد بن قبجق شاد الدَّوَاوِين ثمَّ عزل فِي سادس عشر شعْبَان وَاسْتقر فِي ولَايَة الجيزة عوضا عَن بلبان الحسني. وَنقل بلبان إِلَى ولَايَة دمياط عوضا عَن الكركي. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر جُمَادَى الأولى: رسم بردم الْجب الَّذِي بقلعة الْجَبَل لما بلغ السُّلْطَان أَنه شنيع المنظر شَدِيد الظلمَة كثير الوطاويط كره الرَّائِحَة وَأَنه يمر بالمحابيس فِيهِ شَدَائِد عَظِيمَة فردم وَعمر فَوْقه طباق للمماليك وَكَانَ عمل هَذَا الْجب فِي سنة احدى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون. وَفِيه قدمت رسل الشَّيْخ حسن بن الجلايري وَكَانَ الشَّيْخ حسن هَذَا قد أصبح نَائِب القان أبي سعيد وَهُوَ ابْن عمته وَزوج بَغْدَاد خاتون بنت جوباني. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة: قدم الْأَمِير سيف الدّين أرغون نَائِب حلب باستدعاء مخرج الْأَمِير ألمالس الْحَاجِب وتلقاه من قبَّة النَّصْر خَارج الْقَاهِرَة وَصعد بِهِ قلعة الْجَبَل فَأكْرمه السُّلْطَان وَعَزاهُ فِي وَلَده وخلع عَلَيْهِ وأنزله فِي دَاره على الْكَبْش. وَطلب أرغون شرف الدّين الخطير نَاظر ديوانه وَسَأَلَهُ عَن أَمْوَاله وغلاله وحواصله فَأسر لَهُ بِأَن السُّلْطَان لم يبْق لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل فَسكت ثمَّ استدعاه السُّلْطَان يَوْم الْخَمِيس سادس عشريه وخلع عَلَيْهِ وَأَعَادَهُ إِلَى حلب. وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشريه: قدمت رسل أبي سعيد فِي طلب الْمُصَاهَرَة وَمَعَهُمْ اثْنَا عشر إكديشاً بِجلَال جوخ وَاثْنَانِ عري. وَفِي عَاشر شهر رَجَب: قدم الْأَمِير سيف الدّين طينال الْحَاجِب نَائِب طرابلس(3/118)
بسؤاله ليحاقق شكاته وَمَعَهُ هَدِيَّة فَوقف وحاققهم وساعده الْأُمَرَاء إِلَى أَن عَاد إِلَى طرابلس فِي خَامِس عشريه. وَفِي يَوْم الْأَحَد حادي عشريه: رسم بعزل الْمجد بن لفيتة فعزل من نظر الدَّوَاوِين وَنظر الصُّحْبَة وَنظر الْبيُوت وعزل أَيْضا ابْن قروينة من نظر الدَّوَاوِين. وَاسْتقر عوضهما فِي نظر الدولة علم الدّين إِبْرَاهِيم بن التَّاج إِسْحَاق وتقي الدّين عمر بن الْوَزير شمس الدّين مُحَمَّد بن السلعوس وَكَانَ يَلِي صحابة ديوَان دمشق فأحضر مِنْهَا فِي ثامن عشره وخلع عَلَيْهِمَا. وَاسْتقر فِي نظر خزانَة تَاج الدّين مُوسَى بن التَّاج اسحاق عوضا عَن أَخِيه علم الدّين. فباشر الْعلم وتقي الدّين بن السلعوس النّظر مَعَ الْأَمِير مغلطاي الجمالي الْوَزير - وَكَانَ أمره فِي الوزارة ضَعِيفا - إِلَى يَوْم الْأَحَد ثَانِي شَوَّال ثمَّ رسم بتوفير الوزارة فتوفرت وَاسْتمرّ الجمالي فِي الأستادارية على عَادَته. وَسبب ذَلِك توقف حَال الدول من قلَّة الْوَاصِل وَكَثْرَة إغراء الْفَخر نَاظر الْجَيْش والتاج إِسْحَاق بن القماط نَاظر الْخَاص السُّلْطَان بالجمالي لكراهتهما فِي الْمجد بن لفيتة فَإِنَّهُ كَانَ قد استولى على الجمالي حِين صَار أَمر الوزارة إِلَيْهِ وكتبت فِيهِ مرافعات أَنه أَخذ مَالا كثيرا وَتَوَلَّى الْأَمِير أيتمش الْكَشْف عَلَيْهِ. فَلَمَّا ولي الْعلم بن التَّاج النّظر وباشر مُوسَى الْخَاص نِيَابَة عَن أَبِيه صَار الْعلم يكْتب كل يَوْم أوراقاً بالجاري ثمَّ يرفعها للسُّلْطَان مِمَّا تحصل وَانْصَرف وَيدخل بهَا إِلَيْهِ وَمَعَهُ ابْن السلعوس رَفِيقه وَابْن هِلَال الدولة الشاد. فانحصر المباشرون ومشت أُمُور الدولة بمرسوم السُّلْطَان على مَا يقرره وَحمل مَال الجيزة بِكَمَالِهِ إِلَى خزانَة الْخَاص وَلم يصرف مِنْهُ شَيْء. وَفِي ثَانِي عشريه: تولى قشتمر الْمحلة. وَفِي خَامِس عشريه: أنعم على آقبرس بن عَلَاء الدّين طيبرس بإقطاع الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الْخَوَارِزْمِيّ الْحَاجِب بعد مَوته بِدِمَشْق فَتوجه إِلَيْهَا. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث شَوَّال: اسْتَقر عَلَاء الدّين أيدمر العلائي عرف بالزراق وَفِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن قدادار عِنْد توحهه إِلَى الْحجاز. وَفِيه أَيْضا اسْتَقر عَلَاء الدّين ابْن هِلَال الدولة شاد الدَّوَاوِين مُضَافا لشد الْخَاص. وَفِي سادسه: عزل صَلَاح الدّين الدوادار عَن الجيزة وَاسْتقر من جملَة الْأُمَرَاء وَولي الجيزة جمال الدّين يُوسُف الجاكي وَالِي الشرقية وَاسْتقر فِي الشرقية عوضه الحسام طرنطاي القلنجقي.(3/119)
وَفِي يَوْم الْأَحَد نصف ذِي الْقعدَة: جلس السُّلْطَان بالميدان تَحت القلعة وَعرض الْكتاب بدواوين الْأُمَرَاء. وَطلب السُّلْطَان الْمجد بن لفيتة وَابْن قزوينة الناظرين المنفصلين والمكين بن قزوينة مُسْتَوْفِي الصُّحْبَة وَأمين الدّين موط مُسْتَوْفِي الخزانة ورسم عَلَيْهِم وسلمهم إِلَى الْأَمِير الدمر حاندار ليخلص مِنْهُم سِتّمائَة ألف دِرْهَم انساقت بَاقِيا بالجيزة. فَحمل ألدمر من جِهَة قشتمر وَالِي الجيزة مبلغ مِائَتي دِرْهَم وَمن ابْن سقرور مُسْتَوْفِي الجيزة زِيَادَة على سبعين ألف دِرْهَم. ورسم السُّلْطَان بِقطع أخباز المشدين على الْجِهَات بأسرهم وَقرر عوضهم. وأحضر السُّلْطَان مَشَايِخ الجيزة وَكتب عَلَيْهِم سجلات أراضيها بِحُضُورِهِ وَلم يسمع بِهَذَا فِيمَا سلف. ثمَّ أفرج السُّلْطَان عَن الناظرين المنفصلين والمستوفين بَعْدَمَا استخرج مِنْهُم بعض مَا قرر عَلَيْهِم. وفيهَا رسم للحاجب أَن يتَقَدَّم بألا يُبَاع مَمْلُوك تركي لكاتب وَلَا عَامي وَمن وجد عِنْده مِنْهُم مَمْلُوك فليبعه وَمن عثر عَلَيْهِ بعد ذَلِك أَن عِنْده مَمْلُوكا طولع بِهِ السُّلْطَان فَبَاعَ النَّاس مماليكهم وأخفوا بَعضهم. وفيهَا عرض السُّلْطَان مماليك الطاق والبرانيين وَقطع مِنْهُم مائَة وَخمسين وأخرجهم من يومهم ففرقوا بقلاع الشَّام. وفيهَا صرف شهَاب الدّين أَحْمد بن المهمندار عَن نقابة الْجَيْش بالأمير عز الدّين أيدمر دقماق. وفيهَا قتل الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام الْكلاب بِدِمَشْق فَتَجَاوز عدد مَا قتل مِنْهَا خَمْسَة الْأَمِير سعد الدّين سعيد بن أَمِير حُسَيْن فِي ثامن عشر الْمحرم وأنعم بإمرته على تكلان. وَمَات الْأَمِير غرس الدّين خَلِيل بن الإربدي أحد أُمَرَاء العشرات فِي سادس صفر وأنعم بإمرته على أياجي الساقي. وَمَات الْأَمِير الْكَبِير شرف الدّين حُسَيْن بن أبي بكر بن إِسْمَاعِيل بن جندو باك(3/120)
الرُّومِي فِي سادس الْمحرم قدم صُحْبَة أَبِيه إِلَى مصر فِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة بيبرس فِي جملَة من قدم من أهل الرّوم بعد مَا كَانَ أَبوهُ أَمِير جندار متملك الرّوم فترقى حَتَّى نادم الأفرم نَائِب دمشق فأنعم عَلَيْهِ بإمرة فَلَمَّا قدم النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاون دمشق من الكرك وتحرك لأخذ السلطنة كَانَ الْأَمِير شرف الدّين حُسَيْن مِمَّن سَار فِي خدمته إِلَى مصر فَنَوَّهَ بِهِ وَأَعْطَاهُ أمرة ثمَّ قَرَّرَهُ أَمِير شكار بعد وَفَاة كشرى وأعجب بِهِ وَإِلَيْهِ ينْسب جَامع أَمِير حُسَيْن وقنطرة أَمِير حُسَيْن على الخليج خَارج الْقَاهِرَة قَرِيبا من بُسْتَان الْعدة. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن الكافري وَالِي قوص وَولي عوضه غرس الدّين خَلِيل أَخُو طقصباي الناصري. وَمَات سنجر الأيدمري أحد العشرات فِي ثَالِث عشر ربيع الأول وأنعم بإمرته على ساطلمش الناصري. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين بكتمر الحسامي الْمَعْرُوف بالحاحب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشريه ربيع الآخر فأنعم على وَلَده نَاصِر الدّين مُحَمَّد بإمرة عشرَة وسنه يَوْمئِذٍ(3/121)
ثَلَاث عشرَة سنة وَفرق إقطاعه بَين جمَاعَة: فكمل مِنْهُ للامير طرغاي الجاشنكير تقدمة ألف. وأنعم مِنْهُ على صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد بِنَاحِيَة جوجر وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين وأنعم مِنْهُ على الْأَمِير قوصون بمنية زفتا وَكَانَ بكتمر هَذَا من جملَة مماليك الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي نَائِب السلطنة المنصورية قلاوون أَخذه فِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة فِيمَا أَخذ من مماليك السُّلْطَان غياث الدّين كيخسرو متملك الرّوم عِنْدَمَا دخل الظَّاهِر بيبرس إِلَى مَدِينَة قصرية الرّوم وَاسْتولى عَلَيْهَا فَصَارَ بكتمر إِلَى طرنطاي وَهُوَ حِينَئِذٍ مَمْلُوك الْأَمِير سيف الدّين قلاوون فرباه وَأعْتقهُ فَلَمَّا قتل طرنطاي صَار بكتمر إِلَى الْأَشْرَاف خَلِيل بن قلاوون فرتبه فِي جملَة الأوشاقية بالإصطبل السلطاني ثمَّ نَقله الْمَنْصُور لاجين وَعَمله أَمِير أخور صَغِيرا ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بإمرة عشرَة بعد وَفَاة الفاخري ومازال بكتمر يترقى حَتَّى ولي الوزارة والحجوبية ونيابة غَزَّة ونيابة صفد فِي الْأَيَّام الناصرية وَإِلَيْهِ تنْسب مدرسة الْحَاجِب وَدَار(3/122)
الْحَاجِب خَارج بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة وَكَانَ بكتمر من أَغْنِيَاء الْأُمَرَاء الكثري المَال المعروفين بالشح. وَتُوفِّي ضِيَاء الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن فلاح بن مُحَمَّد الإسْكَنْدراني الْمصْرِيّ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شعْبَان ومولده فِي نصف ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة سمع من ابْن عبد الدَّائِم وَالْمجد بن عَسَاكِر وَابْن أبي الْيُسْر وَجَمَاعَة. وَتُوفِّي عز الدّين أَبُو يعلى حَمْزَة بن الْمُؤَيد أبي الْمَعَالِي بن المظفر بن أسعد بن حمزه بن أَسد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن القلانسي بِدِمَشْق سمع الحَدِيث وَصَارَ رَئِيس الشَّام وَولى وزارة دمشق. وَتُوفِّي الأديب سعد الدّين سعيد بن مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي الْمصْرِيّ بِمصْر وَله شعر جيد. وَتُوفِّي الشَّيْخ جلال الدّين أَبُو بكر عبدا لله بن يُوسُف بن إِسْحَاق بن يُوسُف الْأنْصَارِيّ الدلاصي إِمَام الْجَامِع الْأَزْهَر بِالْقَاهِرَةِ عَن بضع وَثَمَانِينَ سنة وَكَانَ يعْتَقد فِيهِ الْخَيْر ويتبرك بدعائه. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف القونوي الشَّافِعِي فِي يَوْم السبت رَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَدفن بسفح قاسيون قدم من بِلَاد الرّوم إِلَى دمشق فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة فدرس بهَا مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى الْقَاهِرَة فسكنها وَولي مشيخة الشُّيُوخ بخانكاه سعيد السُّعَدَاء وتصدى للاشتغال بِالْعلمِ وصنف شرح الْحَاوِي فِي الْفِقْه وَغَيره ثمَّ ولي قَضَاء دمشق فباشره(3/123)
حَتَّى مَاتَ بهَا وَولي بعده قَضَاء دمشق علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى الأخنائي. وَتُوفِّي نجم الدّين مُحَمَّد بن عقيل بن أبي الْحسن بن عقيل البالسي الشَّافِعِي بِمصْر نَاب فِي الْقَضَاء ودرس وَشرح التَّنْبِيه فِي الْفِقْه وَكَانَ مُعْتَقدًا فِيهِ الْخَيْر. وَتُوفِّي جمال الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ الأشموني المولد وَالدَّار عرف بالوجيزي لقرَاءَته كتاب الْوَجِيز فِي الْفِقْه ولي قَضَاء الجيزة وقليوب وَمَات فِي رَجَب وَهُوَ أحد مَشَايِخ الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة. وَتُوفِّي معِين الدّين هبة الله بن علم الدّين مَسْعُود بن عبد الله بن حشيش صَاحب ديوَان الْجَيْش. بِمصْر يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ بارعاً فِي الْفِقْه والنحو واللغة وَالْأَدب كَرِيمًا لَهُ شعر جيد ومولده سنة سِتّ وسِتمِائَة. وَتُوفِّي الْأَمِير حسام الدّين لاجين الصَّغِير بقلعة البيرة ولي نِيَابَة غَزَّة ثمَّ نِيَابَة البيرة وَبهَا مَاتَ. وَتُوفِّي الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب بن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمَعَالِي الْمصْرِيّ بحماة تنقل فِي عدَّة ولايات وَكَانَ جواداً كَرِيمًا كثيرا المَال ممدوحاً. وَتُوفِّي فتح الدّين أَبُو النُّون يُونُس بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْقوي بن قَاسم الْكِنَانِي الْعَسْقَلَانِي الْمَعْرُوف بالدبوسي الْمسند المعمر بِالْقَاهِرَةِ فِي جُمَادَى الأولى وَقد جَاوز التسعين سنه حدث عَن جمَاعَة تفرد بالرواية عَنْهُم. وَتُوفِّي الْأَمِير عز الدّين أيبك الخطيري أَمِير آخور، فِي ثَالِث عشرى ذى الْقعدَة.(3/124)
وَتُوفِّي الْأَمِير غرلوا الركني بقوص فِي ثَالِث ربيع الآخر. وَتُوفِّي الْأَمِير ساطلمش الفاخر فِي ثَالِث ذِي الْحجَّة وأنعم بإمرته على كوجبا الساقي. وَتُوفِّي الْأَمِير لاجين الإبراهيمي أَمِير جاندار فِي تَاسِع عشرى ذِي الْحجَّة وأنعم بإمرته على برسبغا. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن حنا فِي يَوْم السبت حادي عشر ذِي الْحجَّة. وَتُوفِّي الطواشي نصر شيخ الخدام بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة ومقدم المماليك السُّلْطَانِيَّة يَوْم الْخَمِيس عَاشر رَجَب وَاسْتقر عوضه فِي المشيخة وتقدمة المماليك الطواشي عنبر السحرتي وَكَانَت مُدَّة تقدمته تِسْعَة أشهر. وَمَات عز الدّين القيمري فِي يَوْم السبت حادي عشرى ذِي الْقعدَة.(3/125)
فارغة(3/126)
سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة أهلت بِيَوْم الْأَرْبَعَاء وَالسُّلْطَان بِنَاحِيَة سرياقوس وَكَانَ مسيرَة إِلَيْهَا فِي سَابِع عشرى ذِي الْحجَّة. وَفِيه قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه وَرفع مَنْزِلَته على عَادَته وَفِي يَوْم السبت: رابعه اسْتَقر علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدر بن رَحْمَة الأخناني قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة فِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق عوضا عَن عَلَاء الدّين على القونوي وَاسْتقر عوضه فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة علم الدّين الْإِسْنَوِيّ. وَفِي سادسه: اسْتَقر الْأَمِير بكتمر العلائي الأستادار فِي نِيَابَة غَزَّة وَسَار إِلَيْهَا عوضا عَن عز الدّين أيبك الجمالي وَنقل أيبك إِلَى نِيَابَة قلعة البيرة عوضا عَن لاجين الحسامي المنصوري بِحكم وَفَاته. وأنعم على بهادر الدمرداش بإقطاع الْأَمِير بكتمر نَائِب غَزَّة. وَفِي رَابِع عشره: توجه الْأَمِير تنكز إِلَى دمشق بَعْدَمَا أنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بِمِائَة ألف دِرْهَم وَكتب لَهُ على الْأَعْمَال السامية بِمِائَة ألف أُخْرَى. وَفِي عشريه: قدم الْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل صَاحب حماة فَأكْرمه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ وعَلى وَلَده. وَفِي تَاسِع صفر: توجه السُّلْطَان إِلَى جِهَة الصَّعِيد وصحبته صَاحب حماة فخيم قَرِيبا من الأهرام وَعَاد فِي ثَالِث عشره من أجل وعك بدنه لظُهُور دمل فِي جسده. وَأقَام السُّلْطَان بقلعة الْجَبَل إِلَى حادي عشريه ثمَّ سَار فَمر بِبِلَاد الصَّعِيد.(3/127)
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر ربيع الأول: جمع الْأَمِير جمال الدّين آقوش نَائِب الكرك الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بِسَبَب عمل مِنْبَر بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بَين القصرين من الْقَاهِرَة لإِقَامَة الْجُمُعَة بهَا فأفتوه بِجَوَاز ذَلِك فرتب آقوش خَطِيبًا قرر لَهُ فِي كل شهر خمسين درهما ورتب سِتَّة نفر عَمَلهم مؤذنين لكل وَاحِد عشرَة دِرْهَم فِي كل شهر ولقارئ يقْرَأ الْقُرْآن الْكَرِيم يَوْم الْجُمُعَة فِي مصحف أعده لَهُ مبلغا سَمَّاهُ وأقيمت الْخطْبَة بهَا فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشريه فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَجعل آقوش المعاليم الْمَذْكُورَة من عقار وَقفه على ذَلِك. وَفِي هَذَا الشَّهْر تصدق الْأَمِير الْمَذْكُور بِنَحْوِ ثَلَاثَة أُلَّاف أردب من الغلال. وَفِي خَامِس ربيع الآخر: عَاد السُّلْطَان إِلَى قلعة الْجَبَل بعد أَن انْتهى فِي مسيره إِلَى هدينة هُوَ من الصَّعِيد الْأَعْلَى. وَفِي ثامنه: سَار الْمُؤَيد صَاحب حماة من ظَاهر الْقَاهِرَة عَائِدًا إِلَى حماة. وَفِي خَامِس عشريه: سَار السُّلْطَان إِلَى نواحي قليوب يُرِيد الصَّيْد فَبينا هُوَ فِي ذَلِك اذ تقنطر عَن فرسه وانكسرت يَده وَغشيَ عَلَيْهِ سَاعَة وَهُوَ ملقى على الأَرْض ثمَّ أفاف وَقد نزل إِلَيْهِ الْأَمِير أيدغمش أَمِير أخور والأمير قماري أَمِير شكار وأركباه فَأقبل الْأُمَرَاء بأجمعهم إِلَى خدمته وَعَاد السُّلْطَان إِلَى قلعة الْجَبَل فِي عَشِيَّة الْأَحَد ثامن عشريه فَجمع الْأَطِبَّاء والمجبرين لمداواته فَتقدم رجل من المحبرين يعرف بِابْن بوستة وَقَالَ بجفاء وعامية طباع: تُرِيدُ تفيق سَرِيعا اسْمَع مني. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: قل مَا عنْدك فَقَالَ: لَا تخل أحدا يداويك غَيْرِي بمفردي وَإِلَّا فسد حَال يدك مثل مَا سلمت رجلك لِابْنِ السيسي أفسدها. وَأَنا مَا أخلي شهرا يمْضِي حَتَّى تركب وتلعب بِيَدِك الأكرة. فأغضى السُّلْطَان عَن جَوَابه وَسلم إِلَيْهِ يَده فَتَوَلّى علاجه بمفرده فبطلت الْخدمَة مُدَّة سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. ثمَّ عوفي السُّلْطَان فزينت الْقَاهِرَة ومصر فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وتفاخر النَّاس فِي الزِّينَة بِحَيْثُ لم تعهد زِينَة مثلهَا وأقامت أسبوعاً تفنن أهل البلدين فِيهِ بأنواع الترف. وَنزلت سِتّ حدق فِي عدَّة من الخدام والجواري حَتَّى رَأَتْ الزِّينَة وَقد اجْتمع أَرْبَاب الملاهي فِي عدَّة أَمَاكِن بِجَمِيعِ آلَات الْمُغنِي. هَذَا والأفراح بالقلعة وَسَائِر بيُوت الْأُمَرَاء مُدَّة الْأُسْبُوع وَمَعَ هَذَا فالبشائر من ضرب الكوسات مستمرة وَكَذَلِكَ طبلخاناه الْأُمَرَاء فَلم يبْق أَمِير إِلَّا وَعمل فِي بَيته فَرحا. وأنعم السُّلْطَان وخلع على كثيرين من أَرْبَاب الْوَظَائِف من الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة.(3/128)
ثمَّ خرج السُّلْطَان إِلَى الْقصر الأبلق وَفرق مثالات على الْأَيْتَام وَعمل سماطاً جَلِيلًا وخلع على جَمِيع أَرْبَاب الْوَظَائِف. وأنعم السُّلْطَان على الْمُجبر بِعشْرَة أُلَّاف دِرْهَم ورسم لَهُ أَن يَدُور على جَمِيع الْأُمَرَاء فَلم يتَأَخَّر أحد من الْأُمَرَاء عَن إفَاضَة الْخلْع عَلَيْهِ وإعطائه المَال فَحصل لَهُ مَا يجل وَصفه وَكَانَت هَذِه الْأَيَّام مِمَّا ينْدر وُقُوع مثله. وَفِي خَامِس عشره: قدمت رسل ريدافرنس فِي طلب الْقُدس وبلاد السَّاحِل وعدتهم مائَة وَعِشْرُونَ رجلا فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِم وعَلى مرسلهم وأهانهم ثمَّ رسم بعودهم إِلَى بِلَادهمْ. وَفِيه: سَار الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد إِلَى الْبِلَاد الشامية يبشر بعافية السُّلْطَان فدقت فِي جَمِيع ممالك الشَّام البشائر وعملت بهَا الأفراح وَحصل لأقبغا من سَائِر أَصْنَاف المَال مَا يجل وَصفه بِحَيْثُ بلغت قِيمَته نَحْو مائَة ألف دِينَار. وَفِيه: عزل علم الدّين الإسنائي عَن قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة لمضادته الْأَمِير ييربر الجمدار نَائِب الثغر. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشريه: أفرج عَن الْأَمِير سيف الدّين بهادر المعزى وأنعم عَلَيْهِ بخيل وَثيَاب بَعْدَمَا أَقَامَ فِي الاعتقال خمس عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا. فَلَمَّا ورد الْخَبَر بوفاة الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص وأنعم بتقدمته بِدِمَشْق على الْأَمِير علم الدّين سنجر الجمقدار وَأخرج إِلَى دمشق وأنعم على بهادر المعزى بإقطاع سنجر الْمَذْكُور. وَفِي هَذِه الْمدَّة وَقع بِدِمَشْق اضْطِرَاب فِي عيار الذَّهَب فَإِنَّهُ تغير وَنقص وَغرم النَّاس فِيهِ جملَة كَثِيرَة. وصادر الْأَمِير تنكز أهل دَار الضَّرْب وَأخذ مِنْهُم خمسائة ألف دِرْهَم وتقرر سعر الدِّينَار من تِسْعَة عشر درهما إِلَى أحد وَعشْرين درهما وَأَن يكون صرف الدِّينَار الْجَدِيد وَفِي الْعشْرين من شهر رَجَب: قدمت رسل أبي سعيد بن خربند للهناء بعافية السُّلْطَان فأكرموا وأعيدوا فِي سَابِع عشريه. وقدمت أَيْضا رسل الشَّيْخ حسن الجلايري نَائِب أبي سعيد بعد رحيل الْمَذْكُورين فأدوا رسالتهم وأعيدوا فِي آخِره. وَفِي هَذَا الشَّهْر: أحرقت كنيسه الممكية بِمصْر حَتَّى صَارَت عمدها الرخام جيراً وَكَانَ بجانبها مَسْجِد لم تصبه النَّار فرسم لِلنَّصَارَى بإعادتها فأعيدت.(3/129)
وفيهَا اشْترى الْأَمِير قوصون دَار الْأَمِير آقوش الْموصِلِي الحاحب عرفت بدار آقوش نميلَة ثمَّ عرفت بدار الْأَمِير جمال الدّين آقوش قتال السَّبع من أربها وَاشْترى قوصون أَيْضا مَا حولهَا وَهدم ذَلِك وَشرع فِي بِنَاء جَامع فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان بشاد العمائر والأسرى لنقل الْحِجَارَة وَنَحْوهَا فتنجزت عِمَارَته. وَجَاء الْجَامِع من أحسن المبان وَهُوَ بحارة المصامدة خَارج بَاب زويلة قَرِيبا من بركَة الْفِيل وَولي بِنَاء منارتيه رجل من أهل توريز أحضرهُ مَعَه الْأَمِير أيتمش فعملهما على منوال مأذن توريز. وَلما كمل بِنَاء الْجَامِع أُقِيمَت الْجُمُعَة بِهِ فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر شهر رَمَضَان وخطب بِهِ يَوْمئِذٍ قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي وخلع عَلَيْهِ الْأَمِير قولون بعد فَرَاغه وأركبه بغلة ثمَّ اسْتَقر فِي خطابته فَخر الدّين مُحَمَّد بن شكر. وفيهَا قصد الْأَمِير قوصون أَن يتَمَلَّك حمام قتال السَّبع وَهِي الْحمام الْمُجَاورَة فِي وقتنا هَذَا لباب الْجَامِع الَّذِي يدْخل إِلَيْهِ من الشَّارِع وَكَانَت من وقف قتال السَّبع فاحتالوا لحل وَقفهَا بِأَن هدموا جانباً مِنْهَا وأحضروا شُهُودًا قد بينوا مَعَهم ذَلِك ليكتبوا محضراً بِأَن الْحمام خراب لَا ينْتَفع بِهِ وَهُوَ يضر بِالدَّار والمار والخط والمصلحة فِي بيع أنقاضه ليؤدي هَذِه الشَّهَادَة عِنْد قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين أَحْمد بن عمر الْحَنْبَلِيّ حَتَّى يحكم بَيْعه على مقتضي مذْهبه فعندما شرع الشُّهُود فِي كِتَابَة الْمحْضر الْمَذْكُور امْتنع أحدهم من وضع خطه فِيهِ وَقَالَ: وَالله مَا يسعني من الله أَن أَدخل باكر النَّهَار فِي هَذَا الْحمام وأتطهر فِيهِ وَأخرج وَهُوَ عَامر ثمَّ أشهد بعد ضحوة نَهَار أَنه خراب وَانْصَرف فاستدعي غَيره فَكتب وَأثبت الْمحْضر على الْحَنْبَلِيّ. فَابْتَاعَ الْأَمِير قوصون الْحمام الْمَذْكُور من ولد قتال السَّبع وجدد عِمَارَته. وَفِي ذِي الْحجَّة: اسْتَقر الْأَمِير بدر الدّين بيلبك المحسني فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن أيدمر الزراق.(3/130)
(وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر رَمَضَان)
قدم يُوسُف الكيمياوي إِلَى مصر. وَكَانَ من خبر هَذَا الرجل أَنه كَانَ نَصْرَانِيّا من أهل الكرك فَأسلم وَمضى إِلَى دمشق بَعْدَمَا خدع بِمَدِينَة صفد الْأَمِير بهادر التَّقْوَى حَتَّى انخدع لَهُ وأتلف عَلَيْهِ مَالا جزيلاً فَلَمَّا ظهر لَهُ أمره سجنه مُدَّة ثمَّ أفرج عَنهُ. فاتصل يُوسُف بالأمير تنكز نَائِب الشَّام وَقصد خديعته فَلم ينخدع لَهُ وَأمر وَالِي دمشق بشنقه فصاح وَقَالَ: أَنا جيت للسُّلْطَان حَتَّى أملأ خزانته ذَهَبا وَفِضة. فَلم يجد تنكز بدا من إرْسَاله إِلَى السُّلْطَان فقيده وأركبه الْبَرِيد مَعَ بعض ثقاته وَكتب بِخَبَرِهِ وحذر مِنْهُ. فَلَمَّا اجْتمع يُوسُف بالسلطان مَال إِلَى قَوْله وَفك قَيده وأنزله عِنْد الْأَمِير بكتمر السَّاق وَأجْرِي عَلَيْهِ الرَّوَاتِب السّنيَّة وَأقَام لَهُ عدَّة من الخدم يتولون أمره وخلع عَلَيْهِ وأحضر لَهُ مَا طلب من الْحَوَائِج لتدبير الصَّنْعَة حَتَّى تمّ مَا أَرَادَهُ. فَحَضَرَ يُوسُف بَين يَدي السُّلْطَان وَقد حضر الْفَخر نَاظر الْجَيْش والتاج اسحاق وَابْن هِلَال الدولة والأمير بكتمر الساقي فِي عدَّة من الْأُمَرَاء وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم الصائع وعدة من الصواغ فأوقدوا النَّار على بوطقة قد ملئت بِالنُّحَاسِ والقصدير وَالْفِضَّة حَتَّى ذاب الْجَمِيع فألقي عَلَيْهِ يُوسُف شَيْئا من صَنعته وَسَاقُوا بالنَّار عَلَيْهَا سَاعَة ثمَّ أفرغوا مَا فِيهَا فَإِذا سبيكة ذهب كأجود مَا يكون زنتها ألف مِثْقَال فأعجب السُّلْطَان ذَلِك إعجاباً كثيرا وسر سُرُورًا زَائِدا وأنعم على يُوسُف بِهَذِهِ الْألف مِثْقَال وخلع عَلَيْهِ خلعة ثَانِيَة وأركبه فرسا مسرجاً مُلجمًا بكنبوش حَرِير وَبَالغ فِي إكرامه ومكنه من جَمِيع أغراضه. فاتصل بِهِ خدام السُّلْطَان وَقدمُوا لَهُ أَشْيَاء كَثِيرَة مستحسنة فاستخف عُقُولهمْ حَتَّى ملكهَا بِكَثْرَة خدعه فبذلوا لَهُ مَالا جزيلاً. ثمَّ سبك يُوسُف للسُّلْطَان سبيكة ثَانِيَة من ذهب فكاد يطير بِهِ فَرحا وَصَارَ يستحضره بِاللَّيْلِ ويحادثه فيزيده طَمَعا ورغبة فِيهِ فَأذن لَهُ أَن يركب من الْخُيُول السُّلْطَانِيَّة ويمضي حَيْثُ شَاءَ من الْقَاهِرَة ومصر فَركب وَأَقْبل على اللَّهْو وَأَتَاهُ عدَّة من النَّاس يسألونه فِي أَخذ أَمْوَالهم طَمَعا فِي أَن يفيدهم الصَّنْعَة أَو يغنيهم مِنْهَا فمرت لَهُ أَوْقَات لَا يتهيأ لكل أحد مثلهَا من طيبتها. ثمَّ إِنَّه سَأَلَ أَن يتَوَجَّه إِلَى الكرك لإحضار نَبَات هُنَاكَ فأركبه السُّلْطَان الْبَرِيد وَبعث مَعَه الْأَمِير طقطاي مقدم البريدية بَعْدَمَا كتب إِلَى نَائِب عزة ونائب الكرك بخدمته وَقَضَاء مَا يرسم بِهِ وَالْقِيَام بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من ديوَان الْخَاص فَمضى يُوسُف إِلَى الكرك وَأَبْطَأ خَبره ثمَّ قدم وَقد ظهر كذبه للسُّلْطَان فضيق عَلَيْهِ. وَفِي تَاسِع عشر شَوَّال: قدمت رسل الْملك الْمُجَاهِد على من الْيمن بهدية وفيهَا(3/131)
فيلان فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِم من أجل أَن الْمُجَاهِد قبض على رَسُول ملك الْهِنْد وَأخذ هَدِيَّة السُّلْطَان ثمَّ قَتله وَأمر بهم فسجنوا. وَفِي لَيْلَة السبت سادس عشر ذِي الْقعدَة: أخرج السُّلْطَان من فِي الْقَاهِرَة ومصر من الجذمى والبرصان وَأمرهمْ بسكنى الفيوم. وَفِيه: أخرب الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام الحوانيت الْمُجَاورَة لباب النَّصْر خَارج دمشق من ضيق الطَّرِيق حَتَّى وصل الْهدم إِلَى الجسر تجاه الْبَحْر وحفر حَتَّى أخرج الأساسات فَصَارَ فضاء. وَفِيه: جدد الْأَمِير قوصون خطته بالجامع بِخَط الْمصلى.(3/132)
وَفِيه: ابْتَدَأَ الْأَمِير ألماس الْحَاجِب بعمارته الْجَامِع الَّذِي عرف باسمه بِخَط حَوْض ابْن هنس خَارج بَاب زويلة من الْقَاهِرَة. وَفِيه: ابْتَدَأَ الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي فِي عمَارَة مدرسة بجوار دَاره قَرِيبا من درب ملوخيا بِالْقَاهِرَةِ ووقف عَلَيْهَا أوقافاً جليلة. وَفِيه ابتدا عَلَاء الدّين طقطاي أحد مماليك السُّلْطَان فِي عمَارَة جَامع بَين السورين من الْقَاهِرَة وَسَماهُ جَامع التَّوْبَة لِكَثْرَة مَا كَانَ هُنَاكَ من الْفساد وَأقَام بِهِ خطْبَة للْجُمُعَة. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس ذِي الْحجَّة: اسْتَقر نَاصِر الدّين بن المحسني فِي ولَايَة القاهره وَقد نقل إِلَيْهَا من ولَايَة المنوفية عوضا عَن عز الدّين الزراق. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر ذِي الْحجَّة قتل الْأَمِير الدمر أَمِير جندار بِمَكَّة وَكَانَ من خبر ذَلِك أَن أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ فِي هَذِه السّنة كَانَ من أهل توريز يعرف بِمُحَمد الحجيج وَكَانَ يتَقرَّب من أَوْلَاد جوبان فترقى بهم إِلَى معرفَة السُّلْطَان بورسعيد فَعظم أمره وَجعله من ندمائه وَبَعثه رَسُولا إِلَى مصر غير مرّة. فأعجب بِهِ السُّلْطَان النَّاصِر ولاق بخاطره إِلَى أَن بلغه عَنهُ أَنه تعرض فِي مجْلِس أبي سعيد لشَيْء ذكر مِمَّا يكرههُ السُّلْطَان فتنكر لَهُ وَأسر ذَلِك فِي نَفسه فَلَمَّا بلغه أَنه سَار أَمِير الركب الْعِرَاقِيّ كتب إِلَى الشريف عطفة بن أبي نمى سر ان يتحيل فِي قَتله فَلم يجد عطيفة بدا من امْتِثَال مَا أَمر بِهِ وأطلع وَلَده مبارك بن عطيفة وَمن يَثِق بِهِ على ذَلِك وَتقدم إِلَيْهِم بأعمال الْحِيلَة فِيهِ. فَلَمَّا قضى الْحَاج النّسك عَاد مِنْهُم الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي إِلَى مصر وَمَعَهُ جمَاعَة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة. وَتَأَخر الْأَمِير سيف الدّين خَاص ترك أَمِير الْحَاج والأمير الدمر جاندار والأمير أَحْمد ابْن خَالَة السُّلْطَان ليصلوا بِمَكَّة صَلَاة الْجُمُعَة وَمَعَهُمْ بَقِيَّة حجاج مصر. فَلَمَّا حَضَرُوا للْجُمُعَة وَصعد الْخَطِيب الْمِنْبَر أَرَادَ الشريف عمل مَا رسم لَهُ بِهِ وَأخذ العبيد فِي إثارة الْفِتْنَة بَين النَّاس ليحصل الْغَرَض(3/133)
بذلك. وَأول مَا بدأوا بِهِ أَن عبثوا بِبَعْض حَاج الْعرَاق وخطفوا شَيْئا من أَمْوَالهم. وَكَانَ الشريف عطيفة جَالِسا إِلَى جَانب الْأَمِير خَاص ترك أَمِير الركب فَصَرَخَ النَّاس بالأمير ألدمر وَلَيْسَ عِنْده علم بِمَا كتب بِهِ السُّلْطَان إِلَى الشريف عطيفة وَكَانَ مَعَ ذَلِك شجاعاً حاد المزاج قوي النَّفس فَنَهَضَ وَمَعَهُ من المماليك وَقد تزايد صُرَاخ النَّاس وأتى الشريف وسبه وَقبض بعض قواده وأخرق بِهِ فلاطفه الشريف فَلم يلن. وَاشْتَدَّ صياح النَّاس فَركب الشريف مبارك بن عطيفة فِي قواد مَكَّة بِآلَة الْحَرْب وَركب جند مصر. فبادر خَلِيل ولد الْأَمِير ألدمر وَضرب أحد العبيد فَرَمَاهُ العَبْد بِحَرْبَة قَتله فَاشْتَدَّ حنق أَبِيه وَحمل بِنَفسِهِ لأخذ ثأر وَلَده فَقتل. وَيُقَال بل صدف الشريف مبارك بن عطيفة وَقد قصد ركب الْعرَاق وَعَلِيهِ آلَة حربه فَقَالَ لَهُ. وَيلك تُرِيدُ أَن تثير فتْنَة وهم أَن يضْربهُ بالدبوس فَضَربهُ مبارك بِحَرْبَة كَانَت فِي يَده أنفذها من صَدره فَخر صَرِيعًا وَقتل مَعَه رجلَانِ من جماعته. فَركب أَمِير الركب عِنْد ذَلِك وَنَجَا بِنَفسِهِ وَرمي مبارك بن عطيفة بِسَهْم فِي يَده فشلت. واختبط النَّاس بأسرهم وَركب أهل مَكَّة سطح الْحرم ورموا أَمِير أَحْمد ابْن خَالَة السُّلْطَان وَمن مَعَه بِالْحِجَارَةِ وَقد أفرغ نشابه بَين يَدَيْهِ هُوَ وَمن مَعَه وَرمي بهَا حَتَّى خلص أَيْضا وفر أَمِير ركب الْعرَاق وتحير الشريف عطيفة فِي أمره ومازال يُدَارِي الْأَمر حَتَّى خرج الْحَاج بأجمعهم من مَكَّة وتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ. وَكَانَ من غَرِيب الِاتِّفَاق أَن فِي يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي قتل فِيهِ ألدمر كَأَنَّمَا نُودي فِي الْقَاهِرَة ومصر وقلعة الْجَبَل بقتل ألدمر فِي فتْنَة كَانَت بِمَكَّة فِي هَذَا الْيَوْم وتحدث النَّاس بذلك حَدِيثا فاشياً إِلَى أَن بلغ السُّلْطَان وأمراء الدولة. فَلم يعبأوا بِهِ وجعلوه من ترهات الْعَامَّة. وَأغْرب من ذَلِك أَن الْأَمِير علم الدّين سنجر كَانَ كاشفاً بالغربية من نواحي الْقَاهِرَة فَلَمَّا عَاد منزله بعد صَلَاة عيد الْأَضْحَى وافاه أحد غلمانه وَقد حضر اإيه من الْقَاهِرَة فَأخْبرهُ أَنه أشيع بِالْقَاهِرَةِ أَن فتْنَة كَانَت بِمَكَّة قتل فِيهَا الْأَمِير ألدمر أَمِير جندار فَسخرَ من قَوْله وَقَالَ: هَذَا كَلَام لَا يقبله عَاقل وَأخذ الْخَبَر ينتشي حَتَّى تحدث بِهِ كل أحد. وَاتفقَ فِي هَذِه السّنة أَنه وصل صُحْبَة حَاج الْعرَاق فيل من جِهَة الْملك أبي سعيد يحمل محملهم فتشاءم النَّاس بِهِ وَقَالُوا: هَذَا عَام الْفِيل فَكَانَ من الْفِتْنَة بِمَكَّة وَقتل(3/134)
ألدمر مَا كَانَ. فَلَمَّا قَارب حَاج الْعرَاق ذَا الحليفة من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وقف الْفِيل وتقهقر فضربوه ليسير فَصَارَ كلما أكره على أَن يتَقَدَّم إِلَى جِهَة الْمَدِينَة تَأَخّر إِلَى وَرَائه. هَذَا وهم يضربونه وَهُوَ يتَأَخَّر إِلَى أَن سقط مَيتا وَذَلِكَ فِي ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة. وَيُقَال إِنَّه بلغت الثفقة على هَذَا الْفِيل مُنْذُ خرج من الْعرَاق إِلَى أَن هلك زِيَادَة على ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَلم يعرف مقصد أبي سعيد فِي بَعثه الْفِيل إِلَى مَكَّة. وفيهَا نقل شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن نجد بن حمدَان الشهير بِابْن النَّقِيب الشَّافِعِي من قصاء طرابلس إِلَى قَضَاء الْقُضَاة بحلب عوضا عَن فَخر الدّين عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْمُسلم الْمَعْرُوف بِابْن الْبَارِزِيّ بعد وَفَاته وَاسْتقر فِي قَضَاء طرابلس شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمجد. وفيهَا بلغت زِيَادَة مَاء النّيل عشرَة أَصَابِع من ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا. وَكَانَ وفاؤه يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرى شَوَّال وَهُوَ تَاسِع عشر مسرى. أَحْمد بن أبي طَالب بن أبي النعم بن نعْمَة بن الْحسن بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن السحنة الحجار الصَّالِحِي الدِّمَشْقِي فِي خَامِس عشرى صفر ومولده سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَقد صَار مُسْند الدُّنْيَا وَتفرد بالرواية عَن ابْن الزبيدِيّ وَابْن اللَّيْثِيّ مُدَّة سنتَيْن لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد وَسمع النَّاس عَلَيْهِ صَحِيح البُخَارِيّ أَكثر من سبعين مرّة وَقدم الْقَاهِرَة مرَّتَيْنِ وَحدث بهَا. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص أحد أُمَرَاء الألوف بِدِمَشْق فِي تَاسِع عشر صفر وأنعم بإقطاعه على الْأَمِير سنجر الجمقدار وَكَانَ شجاعاً مقداماً فِي الْحَرْب ولي نِيَابَة صفد وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَة أَوْلَاد مِنْهُم اثْنَان أُمَرَاء فَكَانَ يضْرب على بَابه ثَلَاث طبلخاناه. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين بلبان الكوندي المهمندار الدوادار بِدِمَشْق فِي نصف جُمَادَى الأولى وَكَانَ أحد الْأُمَرَاء العشروات.(3/135)
وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين بلبان الصرخدي الظَّاهِرِيّ أحد أُمَرَاء الطبلخاناه بِالْقَاهِرَةِ فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة وَقد تجَاوز الثَّمَانِينَ وَكَانَ خيرا. وَتُوفِّي الْأَمِير قلبرص بن الْحَاج طيبرس الوزيري بِدِمَشْق لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن ذِي الْقعدَة. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين بلبان الجمقدار المعررف بالكركند فِي سَابِع ربيع الآخر كَانَ من كبار الْأُمَرَاء. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين بلبان الكوندكي أحد أُمَرَاء دمشق فِي سَابِع عشرى شعْبَان وَخرج طيبغا حاجي على إقطاعه وَكَانَ جواداً. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين ألدمر أَمِير جندار مقتولاً بِمَكَّة فِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر ذِي الْحجَّة وَله خَارج بَاب زويلة من الْقَاهِرَة حمامات وَكَانَت أَمْوَاله جزيلة. وَتُوفِّي القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ ابْن القَاضِي تَاج الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَثِير كَاتب السِّرّ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشر الْمحرم بَعْدَمَا أَصَابَهُ مرض الفالج مُدَّة سنة كَامِلَة وَهُوَ ملازم بَيته وَكَانَ ذَا سَعَادَة جليلة وَحُرْمَة وافرة وجاه عريض وَيضْرب بِهِ الْمثل فِي الحشمة. وَتُوفِّي الْوَزير شمس الدّين أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن سهل بن أَحْمد بن سهل الْأَسدي الغرناطي الأندلسي بِالْقَاهِرَةِ قَافِلًا من الْحَج وَكَانَ صَاحب فنون من قراءات وَفقه وَنَحْو وأدب وتاريخ. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين شَافِع بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عَبَّاس بن اسماعيل الْكِنَانِي الْعَسْقَلَانِي سبط ابْن عبد الظَّاهِر فِي سَابِع عشري شعْبَان بَعْدَمَا عمي وَكَانَ أديباً مشاركاً فِي عدَّة عُلُوم وَله عدَّة مصنفات ونظم جيد ونثر مليح وَهُوَ أحد كتاب الْإِنْشَاء. وَتُوفِّي سعد الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عطايا فِي يَوْم السبت سَابِع عشرى رَمَضَان ولي نظر الْبيُوت وَنظر الرَّوَاتِب ثمَّ ولي الوزارة فِي أَيَّام بيبرس وسلار ثمَّ صرفه الْملك النَّاصِر لما قدم من الكرك وصادره، فَلَزِمَ بَيته حَتَّى مَاتَ.(3/136)
وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين قدادار وَالِي الْقَاهِرَة فِي سادس عشر صفر وأنعم بإمرته على الْأَمِير طاجار القبجاقي وَأَصله من مماليلك الْأَمِير برلغي وترقى إِلَى أَن ولي ولَايَة الغربية وَولَايَة الْبحيرَة وَولَايَة الْقَاهِرَة وَتمكن فِيهَا تمَكنا زَائِدا وَكَانَ جريئاً على الدِّمَاء ثمَّ صرف عَن ولَايَة الْقَاهِرَة بناصر الدّين مُحَمَّد بن المحسن وَأقَام فِي دَاره إِلَى أَن خرج إِلَى الْحَج وَهُوَ ضَعِيف ثمَّ قدم فَلَزِمَ الْفراش حَتَّى مَاتَ. وَتُوفِّي الْأَمِير بلبان الديسني فِي خَامِس عشر ربيع الأول وأنعم بأمرته على برلغي. وَتُوفِّي الْأَمِير كجكن الساقي فِي سادس صفر وأنعم بإقطعاعه على سنقر الخازن. وَتُوفِّي الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن ملكشاه فِي ثَانِي عشر صفر وأنعم بإقطاعه على بكمان. وَتُوفِّي الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن الرّوم شيخ خانكاه بكتمر الساقي فِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة وَولي عوضه الشَّيْخ زَاده الدوقاني. وَتُوفِّي الشَّيْخ زين الدّين أَيُّوب بن نعْمَة الكحال البالسي فِي ذِي الْحجَّة وَقد أناف على التسعين حدث بِمصْر ودمشق عَن المرسي والرشيد الْعِرَاقِيّ فِي آخَرين وَانْفَرَدَ فِي الرِّوَايَة. وَتُوفِّي ركن الدّين عبد السَّلَام بن قطب الدّين عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أبي صَالح نصر بن عبد الرَّزَّاق بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني فِي أخر جُمَادَى الْآخِرَة بِدِمَشْق قدم الْقَاهِرَة مرَارًا وَتُوفِّي فَخر الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن الْجمال أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الظَّاهِر فِي رَجَب وَدفن بزاوية أَبِيه خَارج بَاب الْبَحْر من الْقَاهِرَة ومولده سنة سبعين وسِتمِائَة سمع الحَدِيث من جمَاعَة كَثِيرَة وَحدث.(3/137)
فارغة(3/138)
سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة أهلت بِيَوْم الْإِثْنَيْنِ: وَفِي ثَالِث الْمحرم: قدم مبشرو الْحَاج وأخبروا بِمَا وَقع بِمَكَّة من الْفِتْنَة وَقتل الْأَمِير ألدمر أَمِير جندار وَولده فتعجب النَّاس من صِحَة مَا أشيع بِالْقَاهِرَةِ من قتل ألدمر فِي يَوْم قَتله. فشق على السُّلْطَان ذَلِك وَكتب بإحضار الشريف عطفة أَمِير مَكَّة وَولده وقواده. وَفِي ثَانِي عشره: خلع على الْأَمِير عز الدّين أيدمر العلائي الجمقدار الْمَعْرُوف بالزراق المستقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة ورسم لَهُ أَن يكون أَمِير جندار ثمَّ خلع على الْأَمِير سيف الدّين أرنبغا السلحدار وَاسْتقر أَمِير جندار عوضا عَن ألدمر. وَفِي تَاسِع عشريه: اسْتَقر فَخر الدّين مُحَمَّد تَاج الدّين مُحَمَّد بن مؤتمن الدّين الْحَارِث ابْن مِسْكين الشَّافِعِي فِي قَضَاء الْإسْكَنْدَريَّة وَتوجه إِلَيْهَا فِي عَاشر ربيع الأول. وَفِي الْمحرم هَذَا: قدم الْحَاج وأخبروا بِكَثْرَة الْفِتَن بِمَكَّة بَين الشريفين عطيفة ورميثة وَقُوَّة رميثة على عطيفة ونهبه مَكَّة وَخُرُوجه عَن الطَّاعَة وَأَنه لم يلق ركب الْحجَّاج فَكتب بِحُضُورِهِ. فَلَمَّا ورد المرسوم بِطَلَب الشريفين إِلَى مصر اتفقَا وخرجا عَن الطَّاعَة فشق ذَلِك على السُّلْطَان وعزم على إِخْرَاج بني حسن من مَكَّة. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير سيف الدّين أيتمش أَن يخرج بعسكر إِلَى مَكَّة وَعين مَعَه من الْأُمَرَاء الْأَمِير طيدمر الساقي والأمير أقبغا آص والأمير أقسنقر والأمير طرقش والأمير طقتمر الأحمد والأمير طقتمر الصّلاح وَأَرْبَعَة عشر من مقدمي الْحلقَة وعدة من أَعْيَان أجناد الْحلقَة. استدعى السُّلْطَان الْأَمِير أيتمش بدار الْعدْل وَقَالَ لَهُ بِحَضْرَة الْقُضَاة: لَا تدع فِي مَكَّة أحدا من الْأَشْرَاف وَلَا من القواد وَلَا من عبيدهم وناد بهَا من أَقَامَ مِنْهُم حل دَمه. ثمَّ أحرق جَمِيع وَادي نَخْلَة وألق فِي نخلها النَّار حَتَّى لَا تدع شَجَرَة مثمرة وَلَا دمنة عامرة وَخرب مَا حول مَكَّة من المساكن وَأخرج حرم الْأَشْرَاف(3/139)
مِنْهَا وأقم بهَا بِمن مَعَك حَتَّى يَأْتِيك عَسْكَر أخر. فَقَامَ فِي ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي وَوعظ السُّلْطَان وَذكره بِوُجُوب تَعْظِيم الْحرم إِلَى أَن اسْتَقر الْأَمر على أَن كتب لرميثة أَمَان وتقليد بإمرة مَكَّة. وَسَار الْعَسْكَر من ظَاهر الْقَاهِرَة فِي نصف صفر وعدتهم سَبْعمِائة فَارس. وَفِي سَابِع ربيع الأول: توجه السُّلْطَان إِلَى سرياقوس فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَار إِلَى الْبحيرَة والمنوفية وَمضى على الجيزة إِلَى البهنساوية وَعَاد إِلَى قلعة الْجَبَل فِي حادي عشر ربيع الآخر. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى ربيع الأول. اسْتَقر شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن الْحسن بن عبد الله بن عبد الْغَنِيّ بن عبد الْوَاحِد بن عَليّ الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق وَفِي مستهل ربيع الآخر: تولى عَلَاء الدّين الطَّوِيل المنوفية ثمَّ بَطل ذَلِك وَتَوَلَّى فَخر الدّين أياس الدواداري المنوفية فِي الْيَوْم الْمَذْكُور. وَفِي جُمَادَى عشريه: خلع على ركن الدّين الكركر وَاسْتقر فِي ولَايَة قوص عوضا عَن غرس الدّين خَلِيل أخي طقصبا. وَفِي ثَالِث عشريه: سَار السُّلْطَان إِلَى نَاحيَة طنان وَأقَام هُنَاكَ أَيَّامًا ثمَّ عَاد إِلَى الجيزة فَأَقَامَ بهَا عدَّة أَيَّام. ثمَّ توجه السُّلْطَان إِلَى الحمامات ثمَّ رَجَعَ فَدخل قلعة الْجَبَل فِي رَابِع جُمَادَى الأولى. وَقدم عَلَيْهِ فِي سَفَره هَذَا رسل الْملك أبي سعيد بن خربندا. وَفِي حادي عشريه أَيْضا: اسْتَقر الْأَمِير عز الدّين أيدمر العلائي الْمَعْرُوف بأستادار ألطبغا الْحَاجِب فِي ولَايَة الْوَجْه البحري وَكَانَ وَالِي أسيوط ومنفلوط.(3/140)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشريه: مَاتَ الْأَمِير أرغون الدوادار نَائِب حلب فَخلع على الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطبغا الصَّالِحِي بنيابة حلب فِي يَوْم الْخَمِيس أَخّرهُ وَتوجه إِلَيْهَا. وَفِي جُمَادَى الأولى: مرض القَاضِي تَاج الدّين إِسْحَاق نَاظر الْخَاص. وَتُوفِّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ أول جُمَادَى الآخر. وَترك القَاضِي تَاج الدّين من الْأَوْلَاد علم إِبْرَاهِيم نَاظر الدولة وشمس الدّين مُوسَى وَسعد الدّين ماجد بَعْدَمَا وَصِيّ بهم الْفَخر نَاظر الْجَيْش فتوسط الْفَخر لَهُم مَعَ السُّلْطَان إِلَى أَن استدعي من الْغَد شمس الدّين مُوسَى وخلع عَلَيْهِ وَقَررهُ فِي نظر الْخَاص ووكالة السُّلْطَان عوضا عَن أَبِيه وَقد كَانَ يَنُوب عَنهُ فِي حَيَاته وَأقر السُّلْطَان أَخَاهُ علم الدّين إِبْرَاهِيم فِي نظر الدولة وَأقر عَلَاء الدّين بن هِلَال الدولة فِي شدّ الدَّوَاوِين وَشد الْخَاص وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناه. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن نصر الله الجوحري شَاهد الخزانة فِيمَا كَانَ بيد شمس الدّين مُوسَى قبل ولَايَته نظر الْخَاص. وَفِيه اسْتَقر جمال الدّين يُوسُف أَخُو قنغلي فِي ولَايَة الشرقية بسفارة الْأَمِير بكتمر الساقي وَاسْتقر أَخُوهُ شُجَاع الدّين قنغلي فِي ولَايَة البهنساوية. وَفِي يَوْم السبت سادسه: خلع على عز الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وَاسْتقر فِي وكَالَة السُّلْطَان عوضا عَن التَّاج إِسْحَاق نَاظر الْخَاص بعد وَفَاته. وَفِي سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة: قدم الْأَمِير أيتمش بالعسكر الْمُجَرّد إِلَى مَكَّة فَكَانَت مُدَّة غيبتهم أَرْبَعَة أشهر تنقص ثَمَانِيَة أَيَّام. وَكَانَ من خبرهم أَنهم لما قدمُوا مَكَّة كَانَ الشريف رميثة قد جمع عربا كَثِيرَة يُرِيد محاربتهم فَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير أيتمش يعرفهُ بِأَمَان السُّلْطَان لَهُ وتقليده إمرة مَكَّة ويحثه على الْحُضُور إِلَيْهِ ويرغبه فِي الطَّاعَة ويحذره عَاقِبَة الْخلاف ويهدده على ذَلِك ويعرفه بِمَا أَمر بِهِ السُّلْطَان من إجلاء بني حسن وأتباعهم عَن مَكَّة. فَلَمَّا وقف رميثة على ذَلِك اطْمَأَن إِلَى الْأَمِير أيتمش وأجابه بِمَا كَانَ قد عزم عَلَيْهِ من الْحَرْب لَو أَن غَيره قَامَ مقَامه وَطلب مِنْهُ أَن يحلف هُوَ وَمن مَعَه(3/141)
أَلا يغدره وَأَن يقْرضهُ مبلغ خمسين ألف دِرْهَم يتعوضها من إقطاعه. فتقرر الْحَال على أَن يبْعَث إِلَيْهِ الْأَمِير أيتمش عشرَة أحمال من الدَّقِيق وَالشعِير والبقسماط وَغَيره ومبلغ خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم فَقدم حِينَئِذٍ. فَلَمَّا قَارب رميثة مَكَّة ركب الْأَمِير أيتمش بِمن مَعَه إِلَى لِقَائِه فَإِذا عدَّة من قواده مَعَ وزيره قد تقدموه ليحلفوا لَهُ الْعَسْكَر فعادوا بهم إِلَى الْحرم وحلفوا لَهُ أيماناً مُؤَكدَة ثمَّ ركبُوا إِلَى لِقَائِه وقابلوه بِمَا يَلِيق بِهِ من الْإِكْرَام فَلبس رميثة تشريف السُّلْطَان وتقلد إِمَارَة مَكَّة وعزم على تقدمة شَيْء لِلْأُمَرَاءِ فامتنعوا أَن يقبلُوا مِنْهُ هَدِيَّة وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان بِعُود الشريف إِلَى الطَّاعَة وَخَرجُوا من مَكَّة يُرِيدُونَ الْقَاهِرَة. فَلَمَّا وصلوا دخل الْأَمِير أيتمش على السُّلْطَان فشكره على مَا كَانَ مِنْهُ. وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْقزْوِينِي حَاضرا فَأكْثر من الثَّنَاء على أيتمش وَقَالَ: هَذَا الَّذِي فعله هُوَ الْإِسْلَام. وَفِيه قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادسه وَمَعَهُ الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي نَائِب صفد. فَأكْرم السُّلْطَان الْأَمِير أرقطاي وقربه وَتقدم إِلَى جَمِيع الْأُمَرَاء أَن يقدموا لَهُ التقادم فَقدم لَهُ كل أحد على قدر همته وأنعم السُّلْطَان على أحد ولديه بإمرة طبلخاناه وعَلى الآخر بإمرة عشرَة. وَكَانَ سَبَب قدومه من صفد أَن الْأَمِير تنكز لما توجه فِي السّنة الخالية من دمشق يُرِيد الْقدوم على السُّلْطَان على عَادَته ركب الْأَمِير أرقطاي من صفد ليلقاه من رَأس اللجون وَمد لَهُ سماطاً جَلِيلًا وَركب إِلَى لِقَائِه فَلم ينصفه الْأَمِير تنكز فِي السَّلَام عَلَيْهِ وَسَار حَتَّى قرب من السماط فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا نزل لَهُ وَمر من غير أَن يَأْكُل مِنْهُ. فشق ذَلِك على أرقطا وَقيل لتنكز إِنَّه قد انْكَسَرَ خاطره من الْأَمِير فَقَالَ: وَمن قَالَ لَهُ يعْمل هَذَا فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فعتبه عِنْد حُضُوره على مَا كَانَ مِنْهُ لأرقطا وَقَالَ لَهُ: وماذا كَانَ يصيبك لَو أكلت طَعَامه وَأمره ان يحضرهُ صحبته إِذا قدم فِي السّنة الْآتِيَة وَكتب لأرقطاي أَن يحضر مَعَ الْأَمِير تنكز فَلَمَّا خرج الْأَمِير تنكز من دمشق فِي هَذِه السّنة وتلقاه أرقطا أكْرمه تنكز وَمضى بِهِ إِلَى مصر ثمَّ سافرا إِلَى مَحل كفالتهما فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشرَة. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر شهر رَجَب: توجه الْأَمِير سيف الدّين طرغاي(3/142)
الجاشنكير والأمير بيغرا والأمير ملكتمر السرجواني. وَقد اسْتَقر فِي نِيَابَة الكرك بإبراهيم ولد السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة الكرك ليقروه بهَا فوصلوا بِهِ إِلَيْهَا وعادوا مِنْهَا وَمَعَهُمْ أَحْمد ابْن السُّلْطَان وَكَانَ قد توجه قبل ذَلِك إِلَى الكرك فقدموا بِهِ قلعة الْجَبَل فِي يَوْم السبت سادس عشر شعْبَان وَمَعَهُ الْأَمِير بهادر البدري نَائِب الكرك. فختن الْأَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشرَة بعد وُصُوله بيومين. وَفِيه قدمت رسل ملك الْهِنْد وَكَانَ مجيؤهم من جِهَة بَغْدَاد فأكرموا وخلع عَلَيْهِم وَسَارُوا فِي أَخّرهُ. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس رَمَضَان: أفرج عَن الشريف ودي أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَعَن خرص ابْن أَخِيه وَكَانَا قد اعتقلا بقلعة الْجَبَل فِي أول شَوَّال سنة تسع وَعشْرين فرتب لَهما راتب حسن مُدَّة ثمَّ أنعم عَلَيْهِمَا بإقطاع فِي الشَّام وسارا إِلَيْهَا فَمَاتَ خرص ثمَّ ولي ودي إمرة الْمَدِينَة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: فر يُوسُف الكيمياوي من سجنه فَنُوديَ عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ ومصر وسرحت البطائق على أَجْنِحَة الْحمام لولاة الْأَعْمَال بتحصيله. وَفِي عاشره: خلع على الْأَمِير ملكتمر السرجواني وَاسْتقر فِي نِيَابَة الكرك عوضا عَن بهادر الْبَدْر وسافر من يَوْمه. وَفِي يَوْم السبت خَامِس عشره. حمل من خزانَة الْخَاص بالقلعة مهر آنوك ولد السُّلْطَان إِلَى بنت الْأَمِير بكتمر الساقي: وَهُوَ عشرَة أُلَّاف دِينَار ومائتان وَخَمْسُونَ تفصيلة حَرِير مثمنة وَمِائَة نافجة مسك وَألف مِثْقَال عنبر خام وَمِائَة شمعة موكبية وَثَلَاثَة أرؤس من الْخَيل مسرجة ملجمة، وَخَمْسَة مماليك على يَد كل مَمْلُوك بقجة.(3/143)
وَسلم ذَلِك إِلَى الْأَمِير أيدغمش أخور والأمير طقتمر الخازن دوادار القَاضِي شمس الدّين مُوسَى نَاظر الْخَاص وألبس الثَّلَاثَة تشاريف جليلة وتوجهوا بذلك إِلَى بَيت الْأَمِير بكتمر الساقي فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَعقد العقد وعملت الْمُهِمَّات والأفراح الملوكية. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ نصف شَوَّال: رسم بعزل نواب قُضَاة الْقُضَاة الْأَرْبَعَة بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَكَانَت عدتهمْ قد بلغت نَحْو الْخمسين نَائِبا فعزلوا بأجمعهم. وَفِي أول ذِي الْقعدَة: سَار الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف دوادار قبجق رَسُولا إِلَى أبي سعيد ملك الْعرَاق. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشره: كتب كتاب الْأَمِير ملجك ابْن أُخْت الْأَمِير قوصون على بنت الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام. وحملت إِلَيْهِ من دمشق وصحبتها أَمْوَال جزيلة وتحف جليلة فَعمِلت أفراح سنية مُدَّة أَيَّام. وَفِيه أَيْضا كَانَ وَفَاء النّيل وَهُوَ خَامِس عشرى مسري. وَفِي سَابِع عشره: اسْتَقر شهَاب الدّين الإقفهسي فِي نظر الدولة عوضا عَن تَقِيّ الدّين عمر بن مُحَمَّد بن السلعوس. وَفِي يوج الْإِثْنَيْنِ خَامِس ذِي الْحجَّة: أسلم من الْكتاب النَّصَارَى الْمُهَذّب كَاتب الْأَمِير بكتمر وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشره: ركب السُّلْطَان إِلَى الميدان الَّذِي استجده وَقد كملت عِمَارَته. وَكَانَ قد رسم فِي أول هَذِه السّنة بهدم مناظر الميدان الظَّاهِرِيّ وتجديد عِمَارَته وفوض ذَلِك إِلَى الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسن فَهَدمهَا وَبَاعَ أخشابها بِمِائَة ألف دِرْهَم وَألْفي دِرْهَم واهتم فِي عمَارَة جَدِيدَة فكمل الْبناء فِي مُدَّة شَهْرَيْن وَجَاء كأحسن شَيْء يكون. فَخلع عَلَيْهِ السُّلْطَان وَفرق على الْأُمَرَاء الْخُيُول المسرجة الملجمة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: قبض على يُوسُف الكيمياوي بِمَدِينَة أحميم وَحمل مُقَيّدا فوصل إِلَى قلعة الْجَبَل فِي رَابِع عشريه. وَمثل يُوسُف بَين يَدي السُّلْطَان فَسَأَلَهُ عَن المَال فَقَالَ: عدم مني. فَسَأَلَهُ السُّلْطَان عَن صناعته فَقَالَ: كل مَا كنت أَفعلهُ إِنَّمَا هُوَ(3/144)
خفَّة يَد فَعُوقِبَ عُقُوبَة شَدِيدَة بِالضَّرْبِ ثمَّ حمل إِلَى خزانَة شمائل سجن أَرْبَاب الجرائم بجوار بَاب زويلة من الْقَاهِرَة فَمَاتَ لَيْلَة الْأَحَد خَامِس عشريه فسمر وَهُوَ ميت وطيف بِهِ الْقَاهِرَة على جمل فِي يَوْم الْأَحَد. وَكَانَ قد عزم السُّلْطَان على أَن يُؤمر وَلَده أَحْمد الْمحْضر من الكرك فَركب الْأَمِير بكتمر الساقي وَسَائِر الْأُمَرَاء وَجَمِيع الخاصكية إِلَى الْقبَّة المنصورية بَين القصرين فِي خدمَة الْأَمِير أَحْمد وَهُوَ بشربوش وعَلى رَأسه سنجق وَأمر مَعَه أَيْضا ثَلَاثَة أُمَرَاء عشراوات فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس عشريه. وألزم الْأَمِير نَاصِر الدّين بن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة جَمِيع أَرْبَاب الحوانيت بِالْقَاهِرَةِ أَن يوقدوا الشموع والقناديل ويزينوا الْقَاهِرَة زَينُوا الْأَسْوَاق وأشعلوا الشموع والقناديل وَجلسَ أَرْبَاب الملهى فِي عدَّة أَمَاكِن يضْربُونَ بألاتهم فَرحا بتأمير أَحْمد ابْن السُّلْطَان. وَاتفقَ فِي هَذِه السّنة توالي الأفراح لأجل عَافِيَة السُّلْطَان وتزويج وَلَده أنوك وتزويج ملجك ابْن أُخْت قوصون وتأمير أَحْمد بن السُّلْطَان. وَفِيه ورد الْخَبَر بإفساد الْعَرَب بِبِلَاد الصَّعِيد قطعهم الطَّرِيق فاستدعي ظلظية مُتَوَلِّي الشرقية وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي كشف الْوَجْه القبلي فَسَار فِي تجمع كَبِير وأوقع بِأَهْل الصَّعِيد وَقتل كثيرا من العربان وَلم يراع أحدا من الْأُمَرَاء فِي بِلَاده فعظمت مهابته وَخَافَ كل أحد بادرته.
(وَفِي سَابِع عشره)
نزل السُّلْطَان إِلَى الميدان تَحت القلعة وَعين الْأَمِير أرنبغا أَمِير جندارا للسَّفر مَعَ الْأَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان. وَخرج طلب الْأَمِير أَحْمد وَمَعَهُ الْأُمَرَاء والحجاب فَسَار إِلَى الكرك وَسلمهُ الْأَمِير ملكتمر السرحواني نائبها وَأمر بتربيته وتأديبه. وَفِيه قدمت رسل ملك البلغار بكتابه يترامى على مراحم السُّلْطَان وَيسْأل أَن يبْعَث إِلَيْهِ سَيْفا وسنجقاً ليقهر بِهِ أعداءه. فأكرمت رسله وجهزت لَهُ خلعة طرد وَحش مقصب بِفَرْوٍ سنجاب مقندس على مفرج سكندري وكلفتاه زركش وشاش(3/145)
بطرفين رقم وحياصة ذهب وكلاليب ذهب وَسيف محلى وسنحق سلطاني أصفر مَذْهَب. وفيهَا كثرت الشكاية من جمال الدّين عبدا لله ابْن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْقزْوِينِي بِكَثْرَة لعبه وَرفعت فِيهِ عدَّة قصَص للسُّلْطَان. فَبعث السُّلْطَان إِلَى أَبِيه على لِسَان الْفَخر نَاظر الْجَيْش يَأْمُرهُ بكفه عَن ذَلِك فَلم ينْتَه عَن لعبه فرسم بِسَفَرِهِ من الْقَاهِرَة إِلَى الشَّام فَسَار على خيل الْبَرِيد. وفيهَا ولي عز الدّين بن عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي القضاه بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة وكَالَة بَيت المَال وَنظر جَامع أَحْمد بن طولون وَنظر الْمدرسَة الناصرية. وفيهَا وصل إِلَى حلب نهر الساجور بعد مَا أنْفق عَلَيْهِ مَال كَبِير فسر بِهِ أهل حلب سُرُورًا زَائِدا. وفيهَا ملك أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني مَدِينَة فاس من بِلَاد الْمغرب بعد موت أَبِيه. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان شهَاب الدّين صمغار ابْن الْأَمِير شمس الدّين سنقر الْأَشْقَر فِي ثَالِث عشر الْمحرم فأنعم بإمرته وَهِي طبلخاناه على بهادر بن قرمان. وَفِي يَوْم السبت ثامن عشره: توفّي الشَّيْخ صبيح التكروري بِدِمَشْق وَقد حدث بِالْقَاهِرَةِ ودمشق مرَارًا عَن النجيب الْحَرَّانِي وَغَيره. وَتُوفِّي الشَّيْخ عفيف الدّين عبد الله بن محيي الدّين عبد الله بن الصاحب صفي الدّين إِبْرَاهِيم بن هبة الله الْعَسْقَلَانِي بطرِيق مَكَّة الْخَمِيس ثَانِي عشره ومولده بِمصْر وَكَانَ يشْهد بِدِمَشْق على الْحُكَّام وَفِي الْأَمْلَاك بِغَيْر أُجْرَة وَلَا يقبل هَدِيَّة لأحد.(3/146)
وَتُوفِّي أَمِير عَليّ أَخُو قطلوبك أحد أُمَرَاء العشراوات فِي سَابِع عشريه فأنعم بإمرته على أَمِير جمال بن طقزدمر. وَتُوفِّي الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْعِمَاد مُحَمَّد بن التَّاج أبي الْحسن عَليّ ابْن أَحْمد بن عَليّ الْقُسْطَلَانِيّ بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشريه. وَتُوفِّي شمس الدّين عبد اللَّطِيف بن خَليفَة العجمي أَخُو الْوَزير نجيب الدولة وَزِير قازان غريقاً ببركة الْفِيل خَارج الْقَاهِرَة فِي سلخه وَكَانَ يعرف الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة. وَتُوفِّي محيي الدّين مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن مُحَمَّد الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ ابْن أخي قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْحَرَّانِي بِالْقَاهِرَةِ فِي حادي عشره. وَتُوفِّي الْأَمِير بكتمر بن كرأي فِي خَامِس صفر. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين منكلي بغا السِّلَاح دَار فِي يَوْم الْأَحَد سادسه وَدفن خَارج بَاب النَّصْر من القاهره وَكَانَ أحد أُمَرَاء الألوف وَتزَوج خوند دلنبية بنت طاجي مُطلقَة السُّلْطَان وأنعم بإمرته على تمربغا السَّعْدِيّ وَكَانَ كثير الْأكل كثير النِّكَاح. وَتُوفِّي زين الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي بكر مُحَمَّد بن عَليّ الْقُسْطَلَانِيّ فِي سابعه. وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة بن أَحْمد بن عمر بن الشَّيْخ أبي عمر مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد بن قدامَة الْحَنْبَلِيّ بِدِمَشْق فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء وَولي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق بعده شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْحسن بن عبد الله بن عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين قجليس أَمِير سلَاح فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر صفر وأنعم على ساطلمش الجلالي بإقطاعه. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين طرجي الساقي أَمِير مجْلِس فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس ربيع الآخر وأنعم بطبلخاناته على أولاجا وَاسْتقر الْأَمِير طقزدمر عوضه أَمِير مجْلِس. فِي سادس عشر ربيع الآخر. وَتُوفِّي الْمسند بدر الدّين المحاسن يُوسُف بن عمر بن حسان بن أبي بكر عَليّ الْحَنَفِيّ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر صفر بِالْقَاهِرَةِ، وَهُوَ آخر من حدث عَن سبط ابْن السُّفْلى.(3/147)
وَتُوفِّي الْأَمِير حسام الدّين لاجين زيرباج الجاشنكير فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر صفر. وَتُوفِّي الْأَمِير بغجار الساقي فِي رَابِع ربيع الأول وأنعم بطلبخاناته على أَمِير عمر بن أرغون النَّائِب. وَتُوفِّي سنجر البرواني أحد أُمَرَاء الطبلخاناه فِي الْحمام فَجْأَة يَوْم السبت ثامن ربيع الآخر فأنعم بإمرته على أيدمر العلائي. وَتُوفِّي ضِيَاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان بن ربيعَة الْأَذْرَعِيّ الشَّافِعِي بالرملة فِي ثَالِث عشريه ومولده بنابلس فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَكَانَ قَاضِيا سِتِّينَ سنة ونظم كثاب التَّنْبِيه فِي الْفِقْه فَبلغ سِتَّة عشر ألف بَيت وَله أزجال ومو شحات. وَمَات الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي المنصوري يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن رَجَب وَهُوَ أحد مقدمي الألوف. وَتُوفِّي الآمير نور الدّين مَحْمُود بن هِلَال الدولة الريداني أحد أُمَرَاء العشرات بِدِمَشْق. وَتُوفِّي الْأَمِير أرغون الدوادار نَائِب حلب بهَا فِي لَيْلَة السبت ثامن عشر ربيع الآخر وَمَات ابْنه نَاصِر الدّين مُحَمَّد قبله وَقدم إِلَى الْقَاهِرَة أَرْبَعَة من أَوْلَاده. وَتُوفِّي جمال الدّين أَبُو عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن الْخضر الْمَعْرُوف بِابْن السَّابِق الْحلَبِي فِي لَيْلَة الْأَحَد رَابِع عشريه فَجْأَة بحلب ومولده بالإسكندرية سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ولي نظر بعلبك وَنظر بَيت المَال بِدِمَشْق. وَتُوفِّي الشَّيْخ الْمسند شرف الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فَخر الدّين عبد المحسن بن الرّفْعَة بن أبي الْمجد الْعَدوي فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثامن عشريه ومولده سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَأَبوهُ عبد المحسن ينْسب جَامع ابْن الرّفْعَة بَين الْقَاهِرَة ومصر. وَتُوفِّي القَاضِي عز الدّين الْخضر بن عِيسَى بن عمر بن الْخضر الهكاري بالأشمونين فِي عاشره بعد عَزله من قَضَائهَا وَقد نَيف على التسعين.(3/148)
وَتُوفِّي القَاضِي تَاج الدّين عَليّ بن نظام الدّين يُوسُف ابْن القَاضِي الْمُوفق فَخر الدّين ابْن عَليّ ابْن القَاضِي الْأمين مفضل بن مِقْدَام بن مَحْمُود بن يَعْقُوب اللَّخْمِيّ فِي تَاسِع عشريه بَعْدَمَا كف بَصَره ولي نظر الخزانة الْكُبْرَى ودرس بمدرسة الصاحب صفي الدّين بن شكر بِالْقَاهِرَةِ والمدرسة وَكَانَ مِقْدَام قَاضِي دمياط وناظرها أَيَّام خلفاء الْقَاهِرَة وَهُوَ أَخُو شكر. وَتُوفِّي الْأَمِير عَلَاء الدّين عَليّ بن آل ملك الْمُجَاهِد إِسْحَاق ابْن السُّلْطَان بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل فِي ثامنه خَارج مَدِينَة مصر ومولده يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرى الْمحرم سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة. وَتُوفِّي الْأَمِير ظلظيه وَالِي الْوُلَاة بِالْوَجْهِ القبلي فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَاسْتقر عوضه الْأَمِير غرس الدّين خَلِيل أَخُو طقصبا الناصري. وَتُوفِّي مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة نَاظر الدولة بعد عَزله فِي ثامن عشره فَجْأَة بَعْدَمَا خرج من الْحمام وَلبس ثِيَابه وَشرب قدح شراب. وَتُوفِّي الْمُقْرِئ نور الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمُقْرِئ شرف الدّين مُحَمَّد بن مُجَاهِد الْمَعْرُوف بِابْن الوارب أَمَام الْجَامِع الحاكمي فِي سادسه وَهُوَ أحد مَشَايِخ القرءات السَّبع. وَتُوفِّي الشَّيْخ الزَّاهِد موفق الدّين أَبُو الْفَتْح عِيسَى بن عبد الرَّحِيم بن جَعْفَر بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيم بن ثَعْلَب الْجَعْفَرِي الْمَالِكِي بِمصْر لَيْلَة الْأَحَد ثَانِيه وَدفن بالقرافة وَكَانَ لَا يتَنَاوَل نصِيبه من ديوَان الْأَشْرَاف. وَتُوفِّي تَاج الدّين إِسْحَاق ويدعى عبد الْوَهَّاب نَاظر الْخَاص فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل جُمَادَى الْآخِرَة وَولي نظر الْخَاص بعد القَاضِي كريم الدّين الْكَبِير وباشر بِسُكُون زَائِد وانجماع وسياسة وَقَامَ بمهمات عَظِيمَة وَولي بعده وكَالَة بَيت المَال عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وَولي نظر خزانَة الْخَاص عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن نصرالله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْجَوْهَرِي وَولي المكين بن قزوينة اسْتِيفَاء الصُّحْبَة وَالْخَاص. وَتُوفِّي ضِيَاء الدّين أَحْمد بن الشَّيْخ قطب الدّين مُحَمَّد بن عبد الصَّمد بن عبد الْقَادِر(3/149)
السنباطي الشَّافِعِي فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء تاسعه وَبِيَدِهِ تدريس الزاوية الخشابية بجابع مصر. وَتُوفِّي تَاج الدّين أَبُو بكر بن معِين الدّين مُحَمَّد بن الدماميني رَئِيس التُّجَّار الكارمية فِي ثَالِث عشرى جُمَادَى الْآخِرَة وَقد قَارب ثَمَانِينَ سنة وَترك مائَة ألف دِينَار عينا. وَتُوفِّي الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي دوادار كتبغا لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشريه فَجْأَة وَكَانَ لَهُ ثراء وَاسع جدا. وَتُوفِّي نور الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْحَنَفِيّ أَمِين الحكم بالحسينية ظَاهر القرافة فِي سلخه. وَتُوفِّي فَخر الدّين عُثْمَان إِبْرَاهِيم بن مصطفى التركماني الْحَنَفِيّ فِي حادي عشر شهر رَجَب وَهُوَ يَلِي نِيَابَة النّظر بالمارستان المنصوري. وَتُوفِّي القَاضِي جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الرَّزَّاق الْمَالِك أحد نواب الْقُضَاة الْمَالِكِيَّة فِي ثامن عشريه. وَتُوفِّي تَقِيّ الدّين عمر بن السلعوس نَاظر الدولة بعد عَزله فِي سادس عشرى ذِي الْقعدَة. وَتُوفِّي الْأَمِير ركن الدّين عمر بن الْأَمِير سيف الدّين بهادر آص المنصوري فِي تَاسِع عشر ذِي وَتُوفِّي زين الدّين عمر بن نجم الدّين البالسي الشَّافِعِي مدرس الْمدرسَة الطيبرسية فِي سلخه فولي عوضه أَخُوهُ نور الدّين عَليّ. وَمَات بلبان المهمندار عَتيق الدواداري فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ربيع الآخر. وَمَات ملك الْمغرب صَاحب فاس أَبُو سعيد عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو ابْن أبي بكر بن حمامة فِي ذِي الْحجَّة وَقَامَ من بعده ابْنه السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَليّ فَكَانَت مدَّته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة.(3/150)
سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة الْمحرم أَوله الْجُمُعَة: فِيهِ قدم مبشرو الْحَاج وأخبروا برخاء الأسعار وسلامة الْحجَّاج وَأَن الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي على خطة. وَفِي سَابِع عشرَة: توفّي مغلطاي الْمَذْكُور عِنْد نُزُوله بسطح عقبَة أيله فَصَبر وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فوصلها لَيْلَة الْخَمِيس حادي عشريه وَدفن من غده بمدرسته قَرِيبا من درب ملوخيا. وَاسْتقر عوضه فِي الأستادارية الْأَمِير عَلَاء الدّين أقبغا عبد الْوَاحِد وخلع عَلَيْهِ يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشريه وَأقر ألطقش مَمْلُوك الأفرم على نِيَابَة الأستادارية. ثمَّ بعد أَيَّام أضيف إِلَى الْأَمِير أقبغا تقدمة المماليك السُّلْطَانِيَّة مَعَ الأستادارية من أجل أَنه وجد بعض المماليك وَقد نزل من القلعة إِلَى الْقَاهِرَة إِذْ تنكر السُّلْطَان لما حدث من نزُول بعض المماليك من القلعة إِلَى الْقَاهِرَة وَضرب كثيرا من طواشية الطاق وطرد جمَاعَة مِنْهُم وَأنكر على الْمُقدم الْكَبِير وَهُوَ يَوْمئِذٍ الطواشي شُجَاع الدّين عنبر السحرتي تهاونه حَتَّى وَقع مَا وَقع وَصَرفه بالأمير أقبغا. فضبط أفبغا طباق المماليك بالقلعة وَضرب عدَّة مِنْهُم ضربا مبرحاً وَبَالغ فِي إهانة الخدام أَيْضا فَلم يَجْسُر أحد من المماليك أَن يتَجَاوَز طبقته. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير سيف الدّين بهادر الدمرداشي رَأس نوبَة الجمدارية عوضا عَن الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد بِحكم انْتِقَاله إِلَى الأستدارية وَكَانَ الْأَمِير بهادر قد حظي عِنْد السُّلْطَان حظوة مكينة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشريه: دَار نقيب الْجَيْش والحاجب بِجَامِع القلعة على الْأُمَرَاء وهم ينتظرون الصَّلَاة وقبضوا على من مَعَهم من مماليك دمرداش بن جوبان وسجنوهم. وَذَلِكَ أَن الْأَمِير طرغاي الجاشنكير كَانَ عِنْده جمَاعَة فَبَلغهُ من بعض مماليكه أَنه سمع أحد مماليك دمرداش يَقُول لآخر: أقد درنا على الصّبيان الْجَمِيع واتفقنا(3/151)
على كلمة وَاحِدَة فَقُمْ والبس قماشك فميعادنا بَاب الْقلَّة عِنْد خُرُوجهمْ من الْجَامِع. فَنقل ذَلِك لمخدومه الْأَمِير طرغاي فبادر وَقبض على من عِنْده من مماليك دمرداش ونهض إِلَى السُّلْطَان وأعلمه بالْخبر فسر بذلك. واستدعى السُّلْطَان نقيب الْجَيْش والحاجب وَأسر إِلَيْهِمَا أَن يقبضا على من حضر من مماليك دمرداش بالجامع ويتتبعا من غَابَ مِنْهُم فَقبض على الْجَمِيع قبل إِقَامَة الصَّلَاة. ثمَّ جمع الْأُمَرَاء بعد الصَّلَاة عِنْد السُّلْطَان وعرفهم السُّلْطَان مَا نَقله الْأَمِير طرغاي وَأمر السُّلْطَان أَمِير جندار بعقوبة من قبص عَلَيْهِ فعوقبوا ثمَّ قتل بَعضهم وسجن باقيهم فَإِنَّهُم اعْتَرَفُوا وهم فِي الْعقُوبَة بِأَنَّهُم أَرَادوا أَخذ ثأر استاذهم دمرداش وَقتل الْأُمَرَاء لتصير لَهُم بذلك سمعة فِي بِلَاد الْمشرق. فَخَالف على نَفسه الْأَمِير بهادر الدمرداش وتحرز من السُّلْطَان. شهر صفر أَوله يَوْم الْأَحَد: وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث عشريه: استدعى السُّلْطَان الْأُمَرَاء وأعلمهم أَنه يُرِيد أَن يعْهَد إِلَى وَلَده الإمير نَاصِر الدّين أنوك فأذعنوا لذَلِك كلهم فرسم بركوبه بشعار السلطنة وأحضرت الْخلْع لأرباب الوظالف. ثمَّ انثنى عزم السُّلْطَان عَن ذَلِك وأبطل الْجَمِيع ورسم أَن يلبس آنوك شعار الْأُمَرَاء وَلَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم السلطنة فَركب آنوك وَعَلِيهِ خلعة أطلس أَحْمَر بطرز ذهب وشربوش مكلل مزركش. وَخرج آنوك من بَاب القرافة والأمراء فِي خدمته حَتَّى مر بسوق الْخَيل تَحت القلعة فباس الأَرْض وطلع من بَاب الإسطبل إِلَى بَاب السِّرّ فطلع مِنْهُ وَنَثَرت عَلَيْهِ الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم. وخلع على الْأَمِير ألماس الْحَاجِب والأمير بيبرس الأحمد والأمير أيدغمش أَمِير أخور خلع أطلس وخلع أَيْضا على بَقِيَّة أَرْبَاب الْوَظَائِف وَمد لَهُم سماط عَظِيم وعملت الأفراح الجليلة مُدَّة أَيَّام. وَكَانَ قد رسم بِعَمَل المهم لعقد الْأَمِير آنوك على زَوجته بنت بكتمر الساقي فعقد العقد بِالْقصرِ على صدَاق مبلغه من الذَّهَب اثْنَا عشر ألف دِينَار الْمَقْبُوض مِنْهُ عشرَة أُلَّاف دِينَار. وَفِيه تقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير عَلَاء الدّين بن هِلَال الدولة بِجمع الدَّوَاوِين ليختار مِنْهُم من يستخدمه لآنوك فَإِنَّهُ أنعم عَلَيْهِ بإقطاع الْأَمِير مغلطاي الجمالي فَحَضَرَ من الْغَد عدَّة من الدَّوَاوِين فَأخذ السُّلْطَان يسْأَل كلا مِنْهُم ويتعرف خَبره إِلَى أَن وَقع اخْتِيَاره على شرف الدّين النشو فَإِنَّهُ كَانَ قد وقف بَين يَدَيْهِ غير مرّة فِي محاققة فِي خدمَة الْأُمَرَاء فأعجبه كَلَامه ومحاققته ورسم أَن يكون من جلة المستوفين. فَلَمَّا(3/152)
حضر النشو فِي هَذَا الْيَوْم أَشَارَ السُّلْطَان لِابْنِ هِلَال الدولة أَن يستخدمه بديوان الْأَمِير آنوك وَيكون الْأَمِير سيف الدّين ألطنقش أستادارا لَهُ وخلع عَلَيْهِمَا وَنزلا. شهر ربيع الأول أَوله يَوْم الْإِثْنَيْنِ: فِي سادسه: قدم الْحَاج أَحْمد بن سنقر رَسُولا من الْملك أبي سعيد وعَلى يَده كتاب بِسَبَب الخطة والمصاهرة. فَأُجِيب بِأَن ذَلِك يحْتَاج إِلَى مهلة وَأخذ مَا مَعَه من الْهَدِيَّة. وَهِي جمال بَخَاتِي ثَلَاثَة قطر وَعشرَة أرؤس من الْخَيل وَعشرَة مماليك وَعشر جوَار جنكيات وَعشرَة دبابيس وأعيد فِي ثَانِي عشريه. وَفِيه كتب إِلَى الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام أَن يحضر وَمَعَهُ نَائِب حماة لحضور مُهِمّ الْأَمِير أنوك على الْأَمِير بكتمر الساقي فشرع الْأُمَرَاء فِي الاحتفال للمهم وبعثوا إِلَى دمشق لعمل التحف. شهر ربيع الآخر أَوله يَوْم الْإِثْنَيْنِ: فِي عاشره: قدم الْملك الْأَفْضَل نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن الْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل صَاحب حماة بعد وَفَاة أَبِيه بهَا وَله من الْعُمر نَحْو الْعشْرين عَاما فَأكْرمه السُّلْطَان وَأَقْبل عَلَيْهِ. وَكَانَ وَالِده لما توفّي بحماة أخْفى أَهله مَوته وسارت أم الْأَفْضَل إِلَى دمشق وترامت على الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وقدمت لَهُ جوهراً رائعاً وَسَأَلته فِي إقامه وَلَدهَا الْأَفْضَل مَكَان أَبِيه فَقبل تنكز هديتها وَكتب فِي الْحَال إِلَى السُّلْطَان بوفاة الْمُؤَيد وتضرع إِلَيْهِ فِي إِقَامَة ابْنه مَكَانَهُ. فَلَمَّا قدم الْبَرِيد بذلك تأسف السُّلْطَان على الْمُؤَيد وَكتب إِلَى الْأَمِير تنكزلإجابة سُؤَاله وتجهيز ابْن الْمُؤَيد إِلَى مصر فجهزه تنكز إِلَى السُّلْطَان فقابله من الإنعام وإدرار الأرزاق بنظير مَا كَانَ لِأَبِيهِ. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشريه. ركب الْأَفْضَل من الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين وَهُوَ بشعار السلطنة وَبَين يَدَيْهِ الغاشية وَفد نشرت على رَأسه الْأَعْلَام الثَّلَاثَة مِنْهَا وَاحِد خليفتي أسود وَاثْنَانِ سلطانيان أصفران وَعَلِيهِ خلعة أطلس بطرز ذهب وعَلى رَأسه شربوش وَفِي وَسطه حياصة ذهب بِثَلَاثَة بيكارات. وَسَار الْأَفْضَل فِي موكب جليل بِالْقَاهِرَةِ إِلَى بَاب زويلة وَصعد إِلَى قلعة الْجَبَل وَقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان بِالْقصرِ. ثمَّ جلس الْأَفْضَل فَخلع على الْأُمَرَاء الَّذين مَشوا فِي(3/153)
خدمته: وهم الْأَمِير ألماس الْحَاجِب والأمير بيبرس الأحمد والأمير عَلَاء الدّين أيدغمش أَمِير آخور والأمير طغجي أَمِير سلَاح والأمير تمر رَأس نوبَة وَقد لبس كل مِنْهُم أطلسين. وخلع الْأَفْضَل على الْأَمِير شُجَاع الدّين عنبر مقدم المماليك طرد وَحش وخلع على جَمِيع أَرْبَاب الْوَظَائِف أَيْضا وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. ولقبه السُّلْطَان يَوْمئِذٍ بِالْملكِ الْأَفْضَل وجهزه إِلَى بِلَاده. وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشر جُمَادَى الأولى: خرجت التجريدة لكبس الإطفيحية وفيهَا نَحْو خَمْسَة عشر أَمِيرا. وَفِي أول شعْبَان: قدم تنكز نَائِب الشَّام لحضور عرس الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان. وَفِيه رسم بإحضار جَمِيع من بِالْقَاهِرَةِ ومصر من أَرْبَاب الملهى إِلَى الدّور السُّلْطَانِيَّة. وَوَقع الشُّرُوع فِي عمل الإخوان فَأَقَامَ المهم سَبْعَة أَيَّام بلياليها. واستدعى السُّلْطَان حَرِيم جَمِيع الْأُمَرَاء إِلَيْهِ فَكَانَ أمرا عَظِيما. فَلَمَّا كمانت لَيْلَة السَّابِع مِنْهُ: جلس السُّلْطَان على بَاب الْقصر وَتقدم الْأُمَرَاء على قدر مَرَاتِبهمْ وَاحِد بعد وَاحِد وَمَعَهُمْ الشموع فَإِذا قدم الْوَاحِد مَا أحضرهُ من الشمع قبل الأَرْض وَتَأَخر. ومازال السُّلْطَان بمجلسه حَتَّى انْقَضتْ تقادمهم فَكَانَت عدتهَا ثَلَاثَة أُلَّاف وَثَلَاثِينَ شمعة زنتها ثَلَاثَة أُلَّاف وَسِتُّونَ قِنْطَارًا فِيهَا مَا عني بِهِ وَنقش نقشاً بديعاً تنوع فِي تحسينه فَكَانَ أبهجها وأحسنها شمع الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي فَإِنَّهُ اعتنى بأمرها وَبعث إِلَى عَملهَا بِدِمَشْق فَجَاءَت من أبدع شَيْء. ثمَّ جلس السُّلْطَان فِي لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشر شعْبَان وَهِي لَيْلَة الْعرس على بَاب الْقصر وأشعلت تِلْكَ الشموع بأسرها. وَجلسَ ابْنه الْأَمِير آنوك تجاهه وَأَقْبل الْأُمَرَاء جَمِيعًا وكل أَمِير يحمل بِنَفسِهِ شمعه وَخَلفه مماليكه تحمل الشمع فتقدموا على قدر رتبهم وقبلوا الأَرْض وَاحِدًا بعد وَاحِد طول ليلهم حَتَّى إِذا كَانَ أخر اللَّيْل نَهَضَ السُّلْطَان وَعبر إِلَى حَيْثُ مُجْتَمع النِّسَاء فَقَامَتْ نسَاء الْأُمَرَاء بأسرهن وقبلن الأَرْض(3/154)
وَاحِدَة بعد أخر وَهِي تقدم مَا أحضرت من التحف الفاخرة والنقوط حَتَّى انْقَضتْ تقادمهن جَمِيعًا. ورسم السُّلْطَان برقصهن عَن آخِرهنَّ فرقصن حسن أَيْضا وَاحِدَة بعد وَاحِدَة والمغاني تضربن بدفوفهن وأنواع المَال من الذَّهَب وَالْفِضَّة وشقف الْحَرِير يلقى على الْمُغَنِّيَات فَحصل لَهُنَّ مَا يحل وَصفه ثمَّ زفت الْعَرُوس. وَجلسَ السُّلْطَان من بكرَة الْغَد وخلع على جَمِيع الْأُمَرَاء وأرباب الْوَظَائِف وأكابر الْأُمَرَاء ورسم لإمرأة كل أَمِير من الْأُمَرَاء بعبية قماش على قدر منزلَة زَوجهَا وخلع على الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وجهز صحبته الْخلْع لأمراء الشَّام. فَكَانَ هَذَا الْعرس من الأعراس الْمَذْكُورَة ذبح فِيهِ الْغنم وَالْبَقر وَالْخَيْل والأوز والدجاج مَا يزِيد على عشْرين ألفا وَعمل فِيهِ من السكر برسم الْحَلْوَى والمشروب ثَمَانِيَة عشر ألف قِنْطَار وَبَلغت قيمَة مَا حمله الْأَمِير بكتمر الساقي مَعَ ابْنَته من الشورة ألف ألف دِينَار مصرية. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع رَجَب: اسْتَقر الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف دوادار قبجق مهمندار عوضا عَن شهَاب الدّين أَحْمد بن آقوش العزيزي بعد وَفَاته. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشره: اسْتَقر شرف الدّين مُوسَى بن التَّاج اسحاق فِي نظر الْجَيْش بعد وَفَاة الْفَخر مُحَمَّد بن فضل الله وَاسْتقر شرف الدّين عبد الْوَهَّاب النشو فِي نظر الْخَاص عوضا عَن شرف الْمَذْكُور فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشره. وَكَانَ الْفَخر لما اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض بلغه عَن مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق أَنه سعى فِي نظر الْجَيْش فشق عَلَيْهِ ذَلِك وَركب وَقد انتهك من شدَّة الْمَرَض وَدخل على السُّلْطَان وَقَالَ: مَا أزعجت نَفسِي إِلَّا لنصحك ولأوصيك بعائلتي وأولادي وَعِنْدِي ذخيرة للسطان فَأَما نصيحتى فَهِيَ أَن أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق تواصوا على أكل مَال آل آص والدولة وَالْعَمَل على السُّلْطَان. وَبَالغ الْفَخر فِي الوقيعة فيهم وَعرف السُّلْطَان أَنه ادخر عشرَة أُلَّاف دِينَار وشيئاً من الْجَوَاهِر وَجَمِيع ذَلِك للسُّلْطَان فشكره السُّلْطَان وَأثر فِيهِ كَلَامه فِي أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق. ثمَّ قَامَ الْفَخر وَعَاد إِلَى دَاره ثمَّ طلب بعد ثَلَاثَة أَيَّام الْأَمِير عَلَاء الدّين بن هِلَال الدولة وَدفع إِلَيْهِ ورقة مختومة وأوصاه أَن يَدْفَعهَا إِلَى السُّلْطَان بعد مَوته فَأوقف ابْن هِلَال الدولة السُّلْطَان عَلَيْهَا وَتركهَا عِنْده. فَمَاتَ الْفَخر من الْغَد فَنزل ابْن هِلَال الدولة وَأَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق وعدة من الْأُمَرَاء إِلَى بَيت الْفَخر وَأَحَاطُوا بِهِ. فوجدا فِيهِ عشرَة أُلَّاف دِينَار وَهِي الَّتِي عين الْفَخر وموضعها للسُّلْطَان ووجدوا مَعهَا جَوَاهِر.(3/155)
فعادوا بذلك إِلَى السُّلْطَان وَمَعَهُمْ لُؤْلُؤ مَمْلُوك الْفَخر فَأمره السُّلْطَان أَن يعرفهُ بِمَا لأستاذه من الْأَمْوَال وهدده تهديداً كَبِيرا فالتزم أَنه لَا يخفي شَيْئا. وَنزل لُؤْلُؤ فَكتب عدَّة أوراق اشْتَمَلت على أَصْنَاف من البضائع للتِّجَارَة وعَلى عدد بساتين ودواليب ومعاصر بِأَرْض مصر وضياع بِالشَّام كدمشق وحماة وحلب وغزة والقدس وَغَيرهَا مِنْهَا مَا وَقفه وَمِنْهَا مَا هُوَ غير وقف. فأوقع السُّلْطَان الحوطة على جَمِيع موجوده بديار مصر وَكتب إِلَى نواب الشَّام بِمثل ذَلِك ورسم بيع الْأَصْنَاف فبلغت قيمَة مَا وجد لَهُ ألف ألف دِرْهَم سوى مَا تَركه السُّلْطَان لأولاده. وَكَانَ النشو فِي ابْتِدَاء أمره يتخدم لِابْنِ هِلَال الدولة شاد الدَّوَاوِين ويتردد إِلَيْهِ كثيرا ويبالغ فِي خدمته فاستخدمه ابْن هِلَال الدولة فِي الأشغال وَقدمه إِلَى السُّلْطَان وشكر من كِتَابَته إِلَى أَن استخدمه السُّلْطَان مُسْتَوْفيا فَصَارَ النشو يعد من إنْشَاء ابْن هِلَال الدولة. ثمَّ إِنَّه لما أسلم تسمى بِعَبْد الْوَهَّاب وتلقب بشرف الدّين فعندما اسْتَقر عِنْد الْأَمِير آنوك ابْن السُّلْطَان صَار يَخْلُو بالسلطان ويحادثه فِي أَمر الدولة. وَيكثر من الوقيعة فِي الدَّوَاوِين حَتَّى أثر كَلَامه فِي نفس السُّلْطَان وتصور فِي ذهنه مِنْهُ أَنه يحصل لَهُ مَالا كثيرا فَمَا هُوَ إِلَّا أَن اسْتَقر فِي نظر الْخَاص حَتَّى أَخذ يغري السُّلْطَان بأولاد التَّاج إِسْحَاق حَتَّى غَيره عَلَيْهِم فعزل السُّلْطَان شرف الدّين مُوسَى من نظر الْجَيْش فِي نصف شعْبَان بعد عشْرين يَوْمًا من تَوليته وَولي مكين الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة عوضه وَأمر بِالْقَبْضِ على شرف الدّين مُوسَى وَعلم الدّين إِبْرَاهِيم وَلَدي التَّاج ومصادرتهما فَقبض عَلَيْهِمَا فِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر شعْبَان. وَذَلِكَ أَنه اتّفق أَن السُّلْطَان. استدعى ابْن هِلَال الدولة وَأسر إِلَيْهِ أَن الْأُمَرَاء اذا دخلو إِلَى الْخدمَة وَخَرجُوا يمْضِي وَمَعَهُ الشُّهُود وناظر بَيت المَال ويحاط على بيُوت أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق. فَلَمَّا جلس الْقُضَاة ووقف الْأُمَرَاء وأرباب الدولة بِالْخدمَةِ وَشرف الدّين مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق فيهم - الْتفت السُّلْطَان إِلَى الْقُضَاة وَأخذ فِي الثَّنَاء على شرف الدّين وَقَالَ فِي أخر كَلَامه: أَنا ربيت هَذَا وعملته كاتبي فانفض أهل الْخدمَة وهم يستعظمون هَذَا من السُّلْطَان فِي حق نَاظر الْجَيْش وَحل مُوسَى فِي أَعينهم. فَمَا هُوَ إِلَّا أَن جلس مُوسَى بديوان الْجَيْش من القلعة حَتَّى بلغه أَن الحوطة قد وَقعت على(3/156)
بَيته وَأَن رسل الدِّيوَان على بَاب ديوَان الْجَيْش وَبلغ الْخَبَر أَيْضا إِلَى أَخِيه علم الدّين إِبْرَاهِيم وَهُوَ جَالس والدواوين بَين يَدَيْهِ فَنظر فَإِذا جمَاعَة من الرُّسُل قد وقفُوا مرسمين عَلَيْهِ فأغلق كل مِنْهُمَا دواته وَجلسَ ينْتَظر الْمَوْت إِلَى الْعَصْر. ثمَّ صعد ابْن هِلَال الدولة بأوراق الحوطة وَهِي تشْتَمل على شَيْء كثير جدا مِنْهَا لزوحة علم الدّين إِبْرَاهِيم أَرْبَعمِائَة سروال. فَسلم شرف الدّين مُوسَى وَعلم الدّين لإِبْرَاهِيم بن هِلَال الدولة وأحضرت المعاصير وَسُئِلَ مُوسَى عَن صندوق ذكر أَنه أَخذه من تَرِكَة أَبِيه فِيهِ من الْجَوَاهِر وَالذَّهَب مَا يبلغ مائَة ألف دِينَار صَارَت إِلَى أَبِيه من جِهَة المكين الترجمان بعد مَوته فَأنْكر مُوسَى ذَلِك وَحلف عَلَيْهِ. فرق لَهُ ابْن هِلَال الدولة وَلم ينله بمكروه فَأنْكر عَلَيْهِ شرف الدّين النشو عبد الْوَهَّاب ترك عُقُوبَته فَمَا زَالَ ابْن هِلَال الدولة يدافع عَنهُ وَهُوَ يحمل المَال من قبله وَمن قبل أَخِيه شَيْئا بعد شَيْء. وَفِي ثَانِي شعْبَان: خلع السُّلْطَان على شرف الدّين أبي بكر بن شمس الدّين مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود كَاتب سر فِي كِتَابَة السِّرّ بديار مصر عوضا عَن القَاضِي محيي الدّين ابْن فضل الله. وَاسْتقر ابْن الشهَاب مَحْمُود محيي الدّين فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق وخلع عَلَيْهِ بذلك بَعْدَمَا طيب السُّلْطَان خاطره وَأثْنى عَلَيْهِ وشكره. وَكَانَ ابْن الشهَاب مَحْمُود قد قدم مَعَ الْأَمِير تنكز وَمثل بَين يَدي السُّلْطَان فأعجب بشكله وَأخذ تنكز يثني عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَمِين مَأْمُون الغائلة. وَكَانَ محيي الدّين بن فضل الله قد ثقل سَمعه فَوَقع اخْتِيَار السُّلْطَان أَن يَنْقُلهُ إِلَى دمشق ويولي بَين يَدَيْهِ عوضه ابْن الشهَاب مَحْمُود فَحدث السُّلْطَان الْأَمِير تنكز فِي ذَلِك فَمَا وَسعه إِلَّا مُوَافقَة غَرَض السُّلْطَان فِيمَا أحب. وَفِيه رسم للأمير تنكز بِالْعودِ إِلَى دمشق فَتوجه من الْقَاهِرَة يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شعْبَان. وَفِي يَوْم الْأَحَد عشريه: خلع السُّلْطَان على القَاضِي مكين الدّين بن قزوينة وَاسْتقر فِي نظر الْجَيْش عوضا عَن شرف الدّين مُوسَى بن التَّاج نَاظر الْخَاص وَقد نقل ابْن قزوينة إِلَيْهَا من اسْتِيفَاء الْخَاص وَنظر ديوَان ابْن السُّلْطَان وَنظر ديوَان الْأَمِير بشتاك. وَفِيه أَمر النشو نَاظر الْخَاص وَابْن هِلَال الدولة شاد الدَّوَاوِين بتجهيز السُّلْطَان إِلَى سفر الْحجاز فشرعا فِي طلب العربان وإعداد الإقامات من البقسماط والدقيق وَالشعِير وَغير ذَلِك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي شعْبَان: استدعى السُّلْطَان الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف(3/157)
المهمندار وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر دوادارا عوضا عَن الْأَمِير يُوسُف الجاي بعد مَوته وَاسْتقر عوضه فِي المهمندارية الْأَمِير سيف الدّين جاريك مَمْلُوك قفجق الجوكندار. وَفِيه وَقع الْجد فِي أَمر السّفر إِلَى الْحجاز وكتبت أوراق بأسماء الخواتين وَبَعض السراري وَبَعض الْأُمَرَاء ليكونوا صُحْبَة السُّلْطَان فِي سَفَره. وَكتب إِلَى نواب الشَّام باستدعاء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فشرعوا فِي عمل ذَلِك وَحَمَلُوهُ وَهُوَ عدَّة أَصْنَاف وَكثير من الهجن بسلاسل الذَّهَب وَالْفِضَّة وعدة من الْخُيُول وَقدم أَيْضا عَامَّة أُمَرَاء مصر وَالشَّام تقادم جليلة على قدر مَرَاتِبهمْ وقدمت تقادم أُمَرَاء العربان من آل فضل وَآل مهنا وَآل عِيسَى وتنافسوا بأجمعهم فِي تقادمهم وَقصد كل أحد أَن يمتاز على الآخر. واستدعى السُّلْطَان الْأَمِير مُوسَى بن مهنا ليسافر فِي الصُّحْبَة وَحشر جَمِيع الصناع من الْقَاهِرَة ومصر للْعَمَل فِي هَذَا المهم. وَفِيه نقل مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم من عِنْد ابْن هِلَال الدولة إِلَى الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة. ورسم لَهُ بعقوبة مُوسَى حَتَّى يحضر الصندوق. فَأمره النشو أَن يبسط عَلَيْهِمَا أَنْوَاع الْعَذَاب وَيضْرب مُوسَى بالمقارع فَاسْتَأْذن السُّلْطَان على ذَلِك وعرفه مَا أمره بِهِ النشو فَمَنعه السُّلْطَان من ضربه بالمقارع لكنه يهدده ويضربه تَحت رجلَيْهِ نَحْو خمس عشرَة ضَرْبَة. فَبعث النشو عِنْدَمَا نزل من القلعة من يحضر ضرب مُوسَى بالمقارع غير أَن ابْن المحسني عمل بِمَا أَشَارَ بِهِ السُّلْطَان فأحضر مُوسَى وهدده وَأمر بِهِ فبطح وَضرب بِالْعِصِيِّ نَحْو عشْرين ضَرْبَة فتنكر عَلَيْهِ النشو وَاشْتَدَّ حنقه عَلَيْهِ. وَفِي سادس رَمَضَان: أفرج عَن الْأَمِير مغلطاي بَعْدَمَا سجن عشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام. وَفِي شَوَّال: خرج محمل الْحَاج إِلَى الْبركَة على الْعَادة مَعَ الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري أَمِير الركب ورحل فِي عشريه. وَكَانَ السُّلْطَان قد ركب فِي ثامن عشره تزل بسرياقوس ثمَّ اسْتقْبل بِالْمَسِيرِ إِلَى الْحجاز فِي الْإِثْنَيْنِ خَامِس عشريه بَعْدَمَا قدم حرمه صُحْبَة الْأَمِير طقتمر فِي عدَّة من الْأُمَرَاء. واستناب السُّلْطَان على ديار مصر سيف الدّين ألماس الْحَاجِب ورسم لَهُ أَن يُقيم فِي دَاره وَجعل الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد(3/158)
دَاخل بَاب الْقلَّة برسم حفظ الدّور وَجعل الْأَمِير جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك بالقلعة وَأمره أَلا ينزل مِنْهَا حَتَّى يحضر وَأخرج كل أَمِير من الْأُمَرَاء المقيمين إِلَى إقطاعه وَتقدم إِلَيْهِم أَلا يعودوا مِنْهَا حَتَّى يرجع من الْحجاز. وَتوجه مَعَ السُّلْطَان إِلَى الْحجاز الْملك الْأَفْضَل صَاحب حماة وَكَانَ قد قدم يَوْم الْأَحَد سادس عشرى شعْبَان وَمن الْأُمَرَاء جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وبيبرس الأحمد وبهادر المعزي وأيدغمش أَمِير أخور وبكتمر الساقي وطقزدمر وسنجر الجاولي وقوصون وطايربغا وطغاي تمر وبشتاك وأرنبغا وطغجي وَأحمد بن بكتمر الساقي وصوصون وبهادر النَّاصِر وجركتمر بن بهادر وطيدمر الساقي وأقبغا آص الجاشنكير وطقتمر الخازن وطوغان الساقي وسوسن السلحدار وبلك وبيبغا الشمسي وبيغرا وقماري وتمر الموسوي وأيدمر أَمِير جاندار وبيدمر البدري وطقبغا الناصري وأيتمش الساقي وأياز الساقي وألطقنش وَأنس وأيدمر ددقمان وطبيغا المحمدي وجاريك وقطز أَمِير آخور وبنيدمر وأيبك وأيدمر الْعمريّ ويحيي ابْن طايربغا ومسعود الْحَاجِب ونوروز وكجلي وبرلغي وبكجا ويوسف الدوادار وقطلقتمر السلحدار ونانق وساطلمش وبغاتمر وَمُحَمّد بن جنكل وَعلي بن أيدغمش وألجاي وأقسنقر النَّاصِر وقرا وعلاء الدّين عَليّ بن هِلَال الدولة وتمربغا الْعقيلِيّ وقماري الْحسن وَعلي بن أيدمر الخطيري وطقتمر اليوسفي وكل هَؤُلَاءِ مقدمون وطبلخاناه وَمن أُمَرَاء العشرات عَليّ بن السعيد وصاروجا النَّقِيب وآقسنقر الرُّومِي وأياجي الساقي وسنقر الخازن وَأحمد بن كجكن وأرغون العلائي وأرغون الْإِسْمَاعِيلِيّ وبغا وَمُحَمّد بن الخطير وَأحمد بن أيدغمش وطشبغا وقليجي. وَحج مَعَ السُّلْطَان أَيْضا قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي وَحج أَيْضا عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة وموافق الدّين الْحَنْبَلِيّ وَعز الدّين بن الْفُرَات الْحَنَفِيّ وفخر الدّين النويري الْمَالِكِي وَكَانُوا أربعتهم ينزلون فِي خيمة وَاحِدَة فَإِذا تقدّمت(3/159)
إِلَيْهِم فتوي كتبُوا عَلَيْهَا وَهَذَا من غَرِيب الِاتِّفَاق. وَقدم السُّلْطَان الْأَمِير أيتمش إِلَى عقبَة أَيْلَة وَمَعَهُ مائَة رجل من الحجارين حَتَّى وسعهَا وأزال وعرها وَمن يَوْمئِذٍ سهل صعودها. وفيهَا بلغ مَاء النّيل عشرَة أَصَابِع من تِسْعَة عشر ذِرَاعا. وفيهَا طلب الشَّيْخ شمس الدّين الْأَصْفَهَانِي من دمشق على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة. وفيهَا كملت عمَارَة جَامع الْأَمِير سيف الدّين الْحَاج آل ملك بالحسينية خَارج الْقَاهِرَة. وفيهَا اسْتَقر عَلَاء الدّين عَليّ بن منجا فِي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق. وفيهَا قبض على الصاحب شمس الدّين غبريال وأحيط بأمواله وأسبابه. وَكَانَ وَفَاء النّيل سِتَّة عشر ذِرَاعا وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر ذِي الْقعدَة وَهُوَ ثَانِي عشر مسرى. وَبلغ ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَإِحْدَى عشر أصبعاً. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي ويلقب خرز الْوَزير عِنْد نُزُوله من سطح الْعقبَة فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر الْمحرم وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَدفن بخانكاته فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشريه وَهُوَ من المماليك الناصرية نَقله السُّلْطَان وَهُوَ شَاب من الخاصكية إِلَى أمرة بهادر الإبراهيمي الْمَعْرُوف بربرابة نقيب المماليك وَبَعثه فِي مهماته ثمَّ ولاه أستاداراً ووزيراً وَحكمه فِي جَمِيع المملكة وَكَانَ جواد عَارِفًا يمِيل إِلَى الْخَيْر حشماً وانتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرَة فِي ولَايَته لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ على ولَايَة المباشرات المَال فقصده النَّاس لذَلِك وَكَانَ إِذا ولي أحدا وَجَاء من يزِيد عَلَيْهِ عَزله وَولي الَّذِي زَاد بَعْدَمَا يعلم أَنه قد استوفى مَا قَامَ لَهُ بِهِ من المَال وَمن لم يسْتَوْف ذَلِك لَا يعزله وَلم يصادر أحدا فِي مُدَّة ولَايَته وَلَا عرف أَنه ظلم أحد بل كَانَت أَيَّامه مشكورة وَكَانَ المستولي عَلَيْهِ مجد الدّين إِبْرَاهِيم بن لفيتة وَترك عدَّة أَوْلَاد من ابْنة الْأَمِير أسندمر كرجي نَائِب طرابلس وَإِلَيْهِ تنْسب مدرسة الجمالية بِالْقربِ من درب ملوخيا بِالْقَاهِرَةِ.(3/160)
وَتُوفِّي الْملك الْمُؤَيد عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْملك الْأَفْضَل عَليّ بن المظفر مَحْمُود بن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدّين أَيُّوب بن شادي صَاحب حماة فِي سَابِع عشرى الْمحرم عَن نَحْو سِتِّينَ سنة كَانَ أَولا بِدِمَشْق من جملَة أمرائها ثمَّ أعطَاهُ السُّلْطَان مملكة حماة ولقبه بِالْملكِ الصَّالح ثمَّ لقبه بِالْملكِ الْمُؤَيد وأركبه فِي الْقَاهِرَة بشعار السلطنة والأمراء مشَاة فِي خدمته حَتَّى الْأَمِير أرغون النَّائِب وَقَامَ بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأمر نواب الشَّام أَن يكاتبوه بتقبيل الأَرْض وَكتب هُوَ إِلَيْهِ: أَخُوهُ مُحَمَّد بن قلاوون وَكَانَ كَرِيمًا فَاضلا فِي الْفِقْه وَتُوفِّي برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عمر بن إِبْرَاهِيم الربيعي الجعبري شيخ الْقرَاءَات فِي شهر رَمَضَان. وَتُوفِّي صدر الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الدندري الشَّافِعِي فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن جُمَادَى الآخر. وَكَانَ من شُيُوخ الْقرَاءَات وفضلاء الْفُقَهَاء بقوص. وَتُوفِّي الْأَمِير سيف الدّين الجاي الدوادار يَوْم الْإِثْنَيْنِ مستهل شعْبَان. وَمَات الديستي والكنجار فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس شهر ربيع الأول. وَتُوفِّي القَاضِي فَخر الدّين مُحَمَّد بن فضل الله نَاظر الْجَيْش يَوْم الْأَحَد سادس عشر رَجَب. وَتُوفِّي سونتاي نوين حَاكم ديار بكر عَن نَحْو الْمِائَة سنة وَحكم بعده عَليّ بادشاه خَال بوسعيد. وَتُوفِّي ياقوت بن عبد الله الحسني الشاذلي تلميذ أبي الْعَبَّاس المرسي لَيْلَة الثَّامِن(3/161)
عشر من جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ شَيخا صَالحا مُبَارَكًا ذَا هَيْئَة ووقار لم يخلف فِي الْإسْكَنْدَريَّة مثله. وَتُوفِّي الشَّيْخ عبد العال خَليفَة أَحْمد البدوي بطنطا فِي ذِي الْحجَّة وَله شهرة بالصلاح ويقصد للزِّيَادَة والتبرك بِهِ. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي المَسْعُودِيّ يَوْم السبت سَابِع ذِي الْقعدَة بعد خُرُوجه من السجْن بِقَلِيل.(3/162)
سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
(فِي ثامن الْمحرم)
قدم الْأَمِير بلك الجمدار المظفري مبشراً بسلامة السُّلْطَان فدقت البشائر وخلعت عَلَيْهِ خلع كَثِيرَة وَاطْمَأَنَّ النَّاس بَعْدَمَا كَانَت بَينهم أراجيف وعينت الإقامات للسُّلْطَان والأمراء. وَكَانَ السُّلْطَان لما قرب فِي مسيره من عقبَة أَيْلَة بلغه اتفاف الْأَمِير بكتمر الساقي على الفتك بِهِ مَعَ عدَّة من المماليك فتمارض وعزم على الرُّجُوع إِلَى مصر فوافقه الْأُمَرَاء على ذَلِك إِلَّا بكتمر الساقي فَإِنَّهُ أَشَارَ بإتمام السّفر وشنع عوده قبل الْحَج. فسير السُّلْطَان ابْنه آنوك وَأمه إِلَى الكرك صُحْبَة الْأَمِير ملكتمر السرجواني نَائِب الكرك وَكَانَ قدم إِلَى الْعقبَة وَمَعَهُ ابْنا السُّلْطَان أَبُو بكر وَأحمد ثمَّ مضى السُّلْطَان فِي يَوْم هُوَ مُحْتَرز غَايَة التَّحَرُّز بِحَيْثُ أَنه ينْتَقل فِي اللَّيْل عدَّة مَرَّات من مَكَان إِلَى أخر ويخفي مَوضِع مبيته من غير أَن يظْهر أحدا على مَا نَفسه مِمَّا بلغه إِلَى أَن وصل إِلَى يَنْبع. فَتَلقاهُ الْأَشْرَاف من أهل الْمَدِينَة بحريمهم وَقدم عَلَيْهِ الشريف أَسد الدّين رميثة من مَكَّة وَمَعَهُ قواده وحريمه فأكرمهم السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِم وَسَارُوا مَعَه إِلَى أَن نزل خليص فِي ثَلَاثِينَ مَمْلُوكا إِلَى جِهَة الْعرَاق. فَلَمَّا قدم السُّلْطَان مَكَّة أَكثر بهَا من الإنعام على الْأُمَرَاء وَأنْفق فِي جَمِيع من مَعَه من الأجناد والمماليك ذَهَبا كثيرا وَعم بصدقاته أهل الْحرم. فَلَمَّا قضي النّسك عَاد يُرِيد مصر فَلَمَّا وصل إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة هبت بهَا فِي اللَّيْل ريح شَدِيدَة جدا أَلْقَت الخيم كلهَا وتزايد اضْطِرَاب النَّاس وفر مِنْهُم عدَّة من المماليك واشتدت ظلمَة الجو فَكَانَ أمرا مهولاً. فَلَمَّا كَانَ النَّهَار سكن الرّيح فَظهر أَمِير الْمَدِينَة بِمن فر من المماليك فَخلع السُّلْطَان عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مَعَ المماليك من مَال وَغَيره. وَبعث السُّلْطَان بالمماليك إِلَى الكرك وَكَانَ أخر الْعَهْد بهم. وَقدم السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم السبت ثامن عشر الْمحرم بَعْدَمَا ورد الْخَبَر بِمَوْت(3/163)
بكتمر الساقي وَولده وَكَثُرت الإشاعات. وَقد خرج مُعظم النَّاس فِي لِقَائِه بِحَيْثُ غلقت أسواق الْقَاهِرَة ومصر وَخرج شرف الدّين النشو فَبسط الشقاق الْحَرِير والزر بفت الَّتِي جباها من الْأُمَرَاء المقيمين وأرباب الدولة من بَين العروستين إِلَى بَاب الإصطبل. فَلَمَّا توَسط السُّلْطَان بَين الجبلين صاحت الْعَامَّة: هوإياه مَا هوإياه بِاللَّه اكشف لثامك وأرنا وَجهك. وَكَانَ السُّلْطَان قد تلثم فحسر اللثام عَن وَجهه فصاحوا بأجمعهم: الْحَمد لله على السَّلامَة وبالغوا فِي إِظْهَار الْفرج بِهِ وَالدُّعَاء لَهُ فسره ذَلِك مِنْهُم. وَصعد السُّلْطَان القلعة فدقت البشائر وعملت الأفراح ثَلَاثَة أَيَّام. وَكَانَت حجَّة السُّلْطَان هَذِه يضْرب بهَا الْأَمْثَال: أبيع بِمَكَّة فِيهَا الأردب من الشّعير من عشرَة دَرَاهِم إِلَى عشْرين درهما وأبيع البقسمات بِالْعَدْلِ فَكَانَ يقف كل رَطْل مِنْهُ بفلس وَاحِد وأبيع السكر كل رَطْل بِدِرْهَمَيْنِ والعلبة الْحَلْوَى بِثَلَاثَة دَرَاهِم. وقدمت تنكز نَائِب الشَّام افي خليص فعمت النَّاس وأنعم السُّلْطَان على جَمِيع أهل مَكَّة وَكَانَ إنعامه على الشريف رميثة بِخَمْسَة أُلَّاف دِينَار وعَلى زَوجته بِخَمْسِمِائَة دِينَار وَذَلِكَ سوى مَا أنعم بِهِ على الْبَنَات وَغَيرهَا. فَقدم لَهُ رميثة مائَة فرس وَألف رَأس من الْغنم فَرد الْجَمِيع وَأخذ مِنْهَا فرسين لَا غير. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ عشريه: جلس السُّلْطَان بدار الْعدْل وخلع على جَمِيع الْأُمَرَاء والمقدمين وأنعم عَلَيْهِم إنعامات كَثِيرَة. وَفِيه منع السُّلْطَان النشو من التَّعَرُّض لمباشري بكتمر الساقي وَسَائِر ألزامه وَطلب الْمُهَذّب كَاتب بكتمر وألزمه بِكِتَابَة مَا خَلفه فَوجدَ لَهُ سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف أردب غلَّة وَمن السِّلَاح والجوهر وَغَيره مَا زَادَت قِيمَته على مائَة ألف دِينَار واتهم مُوسَى الصير فِي أَنه خصّه مِمَّا سَرقه مباشروه خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار. ثمَّ عرض السُّلْطَان مماليك بكتمر وأخذلهم جمَاعَة وأنعم على الْأَمِير بشتاك بإقطاع بكتمر وَجَمِيع حواصله ومغله ثمَّ زوجه زَوجته بعد وَفَاء عدتهَا. وَفِي ثَالِث عشريه: سَافر الْأَفْضَل صَاحب حماة. وَفِيه قدم الْبَرِيد من تنكز نَائِب الشَّام بتهنئة السُّلْطَان بقدومه سالما وَطلب الْإِذْن لَهُ فِي الْقدوم إِلَى الْقَاهِرَة وشكا تنكز من الْأَمِير طينال نَائِب طرابلس لترفعه عَلَيْهِ وخرق(3/164)
حرمته وإعراضه عَمَّا يكاتبه فِيهِ. فَأُجِيب بالشكر وَالْإِذْن لَهُ بالحضور وعزل طينال وَاسْتقر الْأَمِير قرطاي عوضه وَنقل طينال إِلَى نِيَابَة غَزَّة إهانة لَهُ. وَركب الْأَمِير يبغرا الْبَرِيد لتقليد الْمَذْكُورين وَقد أوصاه السُّلْطَان إِلَى رَأْي من طينال كَرَاهَة لنيابة غَزَّة يقبضهُ ويحضر بِهِ مُقَيّدا. وَفِيه كتب بِإِضَافَة غَزَّة إِلَى نِيَابَة الشَّام وَأَن نائبها يُكَاتب نَائِب الشَّام فِيمَا يعن لَهُ من الْأُمُور وَلَا يُكَاتب السُّلْطَان. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس صفر: قدم الصاحب أَمِين الدّين عبد الله بن الغنام باستدعاء وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي نظر الشَّام وَنظر الْخَاص بهَا وذظر الْأَوْقَاف عوضا عَن الشَّمْس غبريال وَكتب توقيعه من إنْشَاء الصّلاح خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي وسافر فِي حادي عشره. وَفِيه أنعم على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْأَمِير جنكلي بن البابا بإمرة طبلخاناه وأنعم بِعشْرَة على أَخِيه. وَفِي هَذَا الشَّهْر: كثرت مصادرات النشو للنَّاس: فَأَقَامَ من شهد على التَّاج إِسْحَاق أَنه تسلم من المكين الترجمان صندوقاً فِيهِ ذهب وزمرد وجوهر مثمن فرسم لِابْنِ المحسني بعقوبة مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق حَتَّى يحضر الصندوق. وَطلب النشو وُلَاة الْأَعْمَال وألزمهم بِحمْل المَال وَبعث أَخَاهُ لكشف الدواليب بالصعيد وتتبع حَوَاشِي ابْن التَّاج إِسْحَاق فَقدم قنغلي وَالِي البهنسا وقتشمر وَالِي الغربية وفخر الدّين إِيَاس مُتَوَلِّي المنوفية وعدة من المباشرين فتسلمهم ابْن هِلَال الدولة ليستخلص مِنْهُم الْأَمْوَال. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الأول: توجه الْأَمِير سيف الدّين بيغرا لتقليد الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي نِيَابَة طرابلس عوضا عَن طينال وَقد نقل قرطاي إِلَيْهَا من أمرة بِدِمَشْق وَاسْتقر طينال فِي نِيَابَة غَزَّة. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع عشرى جُمَادَى الأولى: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام فَأكْرمه السُّلْطَان إِكْرَاما زَائِدا على عَادَته.(3/165)
وَفِيه تفاوض شرف الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود كَاتب السِّرّ والأمير صَلَاح الدّين يُوسُف الدوادار حَتَّى توحش مَا بَينهمَا وارتفعا إِلَى السُّلْطَان. فَسَأَلَ كَاتب السِّرّ أَن يعود إِلَى الشَّام فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَكتب بِطَلَب محيي الدّين يحيى بن فضل الله كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق ليستقر فِي كِتَابَة السِّرّ. وَفِيه قدم الْبَرِيد بِمَوْت قطب الدّين مُوسَى ابْن شيخ السلامية نَاظر الْجَيْش بِدِمَشْق فتروى السُّلْطَان أَيَّامًا فِيمَن يُولى عوضه إِلَى أَن تعين فَخر الدّين مُحَمَّد بن بهاء الدّين عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ بن الْحلِيّ فَخلع عَلَيْهِ فِي أول صفر وسافر إِلَيْهَا فِي تَاسِع عشر صفر. وَفِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة: خلع على الْأَمِير تنكز خلعة السّفر وَتوجه إِلَى دمشق وصحبته ابْن الْحلِيّ نَاظر الْجَيْش وَشرف الدّين بن الشهَاب مَحْمُود كَاتب السِّرّ. وَفِي سلخ جُمَادَى الْآخِرَة: قدم محيي الدّين يحيى بن فصل الله الْعمريّ من دمشق بأولاده فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ عوضا عَن ابْن الشهَاب مَحْمُود وخلع على أَوْلَاده. وَفِيه قدم نَاظر حلب وَعَامة مباشريها فتسلمهم ابْن هِلَال الدولة لعمل الْحساب وَسبب ذَلِك أَنه لما مَاتَ فندش ضَامِن دَار الطّعْم وعداد الأغنام بحلب قَامَ بعده من ضمن الْجِهَتَيْنِ فسعى بدر الدّين لُؤْلُؤ الْحلَبِي مَمْلُوك فندش فِي الضَّمَان فَلم يجب إِلَيْهِ لسوء سيرته فَكتب إِلَى السُّلْطَان بِأَنَّهُ يعين فِي جِهَة مباشري حلب أَمْوَالًا عَظِيمَة أهملوها وصالحوا عَلَيْهَا فطلبوا لذَلِك. وَكَانَ لُؤْلُؤ قد حضر إِلَى الْقَاهِرَة فعينه السُّلْطَان شاد الدَّوَاوِين بحلب فسافر إِلَيْهَا صَحبه الْأَمِير سيف الدّين جركتمر النَّاصِر وَأخذ فِي كشف أَحْوَال المباشرين ومحاققتهم بِنَاء عَن أَمر السُّلْطَان. وَفِيه قدم المخلص أَخُو النشو من كشف الدواليب والزراعات بِالْوَجْهِ القبلي فأغرى النشو السُّلْطَان بمباشري الْوَجْه القبلي وَأَنَّهُمْ فرطوا فِي مباشراتهم وأتلفوا عدَّة أَمْوَال للسُّلْطَان. فَكتب بالحوطة على جَمِيع مباشري الْوَجْه القبلي شاديه وعماله وشهوده والمتحدثين وَحَملهمْ وَحمل الْأَمِير أَحْمَر عينه وإيقاع الحوطة على موجوده كُله وَكَانَ قديم الْمُبَاشرَة فِي الدواليب وَله سَعَادَة جليلة وَحمل عز الدّين أيبك شاد الدواليب وَكَانَ أَيْضا صَاحب أَمْوَال جزيلة فأوقعت الحوطة على أَمْوَال الْجَمِيع وحملوا إِلَى الْقَاهِرَة. وَفِيه طلب النشو تجار الْقَاهِرَة ومصر وَطرح عَلَيْهِم عدَّة أَصْنَاف من الْخشب(3/166)
والجوخ والقماش بِثَلَاثَة أَمْثَال قِيمَته وَركب إِلَى دَار القند وَاعْتبر أوزان القنود الْوَاصِلَة إِلَى الْأُمَرَاء من معاصرهم وَغَيرهَا وَكَانَت شَيْئا كثيرا. وَكَانَ السُّلْطَان قد رسم لِلْأُمَرَاءِ بمسامحتهم بمما عَلَيْهَا للديوان فألزم النشو مباشريهم بِمَا عَلَيْهِم للديوان عَنْهَا وَلم يمتثل مَا فِي المراسيم السُّلْطَانِيَّة من مسامحتهم. ثمَّ ركب النشو إِلَى السُّلْطَان وعرفه بِأَن الَّذِي للديوان على القنود الَّتِي اعتبرها فِي يَوْمه مبلغ سِتَّة أُلَّاف دِينَار وَأَنه كل قَلِيل يرد لِلْأُمَرَاءِ من القنود مثل ذَلِك وَأكْثر مِنْهُ وَأَن مَال السُّلْطَان يذهب فِي هَذَا وَأَمْثَاله فَإِن الدَّوَاوِين تسرق بِحجَّة مُسَامَحَة الْأُمَرَاء شَيْئا كثيرا. فأثر ذَلِك فِي نفس السُّلْطَان وَمكن النشو من عمل مَا يختاره وَألا يسامح أحدا بِشَيْء مِمَّا عَلَيْهِ للديوان فشق ذَلِك على الْأَمِير قوصون وَحدث السُّلْطَان فِي إِمْضَاء مَا رسم لَهُ بِهِ من المسوح عَن القند فَلم يجبهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك ووعده أَنه يعوضه عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. فانكفت الْأُمَرَاء عَن السُّؤَال وَعظم النشو بِهَذَا فِي أعين النَّاس. واستدعى النشو ابْن الْأَزْرَق نَاظر الْجِهَات وَكَانَ ظلوماً غشوماً فَكتب لَهُ أَسمَاء أَرْبَاب الْأَمْوَال من التُّجَّار وَطرح عَلَيْهِم قماشاً استدعي بِهِ من الْإسْكَنْدَريَّة بِثَلَاثَة أَمْثَال قِيمَته وأخرق بِمن عَارضه مِنْهُم وَحمل النشو للسُّلْطَان من هَذَا وَشبهه أَمْوَالًا عَظِيمَة. وَفِيه قدم الصاحب شمس الدّين عبد الله غبريال بن أبي سعيد بن أبي السرُور من دمشق فألزم بِحمْل أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَضعهَا كريم الدّين عِنْده ليتجر لَهُ بهَا وَحمل مَا أَخذه فِي مُبَاشَرَته من مَال السُّلْطَان وَكَانَ ذَلِك بإغراء النشو. فَقَامَ فِي أمره الْأَمِير بتشاك والأمير قوصون حَتَّى يُقرر عَلَيْهِ مَا يحملهُ من غير أهنة فَحمل ألف ألف دِرْهَم. وعمت مضرَّة النشو النَّاس جَمِيعًا وانتمى إِلَيْهِ عدَّة من الأشرار ونموا على الكافة من أهل القبلي وَالْوَجْه البحري ودلوه على من عِنْده شَيْء من الْجَوَارِي المولدات لشغف السُّلْطَان بِهن فَحملت إِلَيْهِ عدَّة مِنْهُنَّ بطلبهن من أربابهن وَسعوا عِنْده بأرباب الْأَمْوَال أَيْضا فدهى النَّاس مِنْهُ بلَاء عَظِيم. وفى سلخ شَوَّال: أخرج صَلَاح الدّين الدوادار على الْبَرِيد منفياً إِلَى صفد وخلع على سيف الدّين بغا الدوادار الصَّغِير عوضه وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ مترفعاً يُعَامل رفقاءه بشمم وتكبر. وَكَانَ شهَاب الدّين أَحْمد بن محيي الدّين يحيي بن فضل الله كَاتب(3/167)
السِّرّ يُبَاشر عَن أَبِيه وَعَن جده فِي مزاحة وَقُوَّة نفس فسلك صَلَاح الدّين مَعَه مسلكه مَعَ ابْن الشهَاب مَحْمُود فَلم يحْتَمل شهَاب الدّين ذَلِك مِنْهُ وَصَارَ بَينهمَا شنان إِلَى أَن اتّفق فِي بعض الْأَيَّام ذكر السُّلْطَان الْفَخر نَاظر الْجَيْش فترحم عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَاح الدّين: يَا خوند لَا تترجم على ذَلِك فَإِنَّهُ مَا كَانَ مُسلما. فَغَضب السُّلْطَان من معارضته لَهُ وَقَالَ: وَالله يَا صَلَاح الدّين هُوَ أَيْضا كَانَ يَقُول عَنْك أَنَّك لست بِمُسلم وَتبين فِي وَجه السُّلْطَان الْغَضَب وانفض الْمجْلس. فَذكر بعد ذَلِك صَلَاح الدّين عِنْد السُّلْطَان فَقَالَ عَنهُ: ذَاك مَا يتحدث عَن أحد بِخَير فانتهز ابْن فضل الله الفرصة فِي صَلَاح الدّين ومازال بِهِ حَتَّى أبعده السُّلْطَان وعزله فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر رَمَضَان وَأقَام سيف الدّين بغا دوادارا عوضه ثمَّ أخرج صَلَاح الدّين أَمِيرا بصفد فِي سلخ شَوَّال. وَفِي هَذِه السّنة: أَخذ الْأَمِير قوصون دَار الْأَمِير بيسري بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَت وَقفا فَعمل محْضر بِشُهُود الْقيمَة أَن قيمتهَا مبلغ مائَة وَتِسْعين ألف دِرْهَم وَتَكون الْغِبْطَة للأيتام عشرَة أُلَّاف دِرْهَم فكملت مِائَتَان ألف فَحكم القَاضِي شرف الدّين الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ بِبَيْعِهَا وَشِرَاء عقار بِثمنِهَا. وَهَذَا بعد أَن كَانَ كتاب وقف بيسري لَهَا فِيهِ من الشُّهُود عدَّة اثْنَيْنِ وَسبعين عدلا مِنْهُم تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد وتقي الدّين بن رزين وتقي الدّين ابْن بنت الْأَعَز وَذَلِكَ قبل بلوغهم دَرَجَة الْقَضَاء فَكَانَ هَذَا مِمَّا شنع ذكره فَإِنَّهَا دَار يجل وصفهَا ويتعذر وجود مثلهَا.(3/168)
وفيهَا عمل السُّلْطَان بَاب من خشب السنط الْأَحْمَر وصفحه بِفِضَّة زنتها خَمْسَة وَثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم وثلاثمائة دِرْهَم وَمضى بِهِ الْأَمِير سيف الدّين برسبغا الساقي إِلَى مَكَّة فَقلع بَاب الْكَعْبَة الْعَتِيق وَركب هَذَا الْبَاب وَأخذ بَنو شيبَة الْبَاب الْعَتِيق وَكَانَ من خشب الساسم المصفح بِالْفِضَّةِ فوجدوا عَلَيْهِ سِتِّينَ رطلا من فضَّة تقاسموها وَترك خشب ذَلِك دَاخل الْكَعْبَة وَعَلِيهِ اسْم صَاحب الْيمن فِي الفردتين وَاحِدَة عَلَيْهَا: اللَّهُمَّ يَا ولي يَا عَليّ اغْفِر ليوسف بن عمر بن عَليّ. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرى ذِي الْقعدَة وحادي عشر مسرى: كَانَ وَفَاء النّيل وَبلغ سَبْعَة عشر ذِرَاعا وثماني أَصَابِع. وفيهَا هدمت قاعة الصاحب وقاعة الْإِنْشَاء بقلعة الْجَبَل ورسم أَن تكون دَار الوزارة وقاعة الْإِنْشَاء بدار التيابة. وَكَانَت دَار الوزارة قد عمرت فِي الْأَيَّام الأشرفية برسم ابْن السلعوس. وَفِي عشرى ذِي الْحجَّة: قبض الْأَمِير ألماس الْحَاجِب وَأَخُوهُ قرا وسجنا مقيدين ثمَّ أخرج قرا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي رَابِع عشريه. وَفِي حادي عشريه: خلع على الْأَمِير بدر الدّين مَسْعُود بن خطير وَاسْتقر حاجباً عوضا عَن ألماس. نَاظر الْجَيْش بِدِمَشْق قطب الدّين بن مُوسَى بن أَحْمد بن الْحسن الْمَعْرُوف بِابْن شيخ السلامية عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين سنقر المرزوقي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر رَمَضَان.(3/169)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعدالله بن جمَاعَة الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي فِي حادي عشر جُمَادَى الأولى وَهُوَ مَعْزُول بَعْدَمَا عمي. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن عبَادَة الْبكْرِيّ النويري الشَّافِعِي صَاحب كتاب التَّارِيخ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان. وَمَات الْأَمِير أَحْمد بن بكتمر الساقي بوادي عنتر من طَرِيق الْحجاز فِي الْمحرم واتهم السُّلْطَان بِأَنَّهُ سمه فَحمل مصبراً. وَمَات الآمير بكتمر الساقي بعد موت وَلَده بِثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ موت وَلَده الْأَمِير أَحْمد فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سَابِع الْمحرم ورحل إِلَى نخل فَدفن بهَا وَمَوْت الْأَمِير بكتمر يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم وَقد حمل إِلَى عُيُون الْقصب فَدفن بهَا ثمَّ نقل بكتمر وَولده إِلَى خانكاته من القرافة بِالْقَاهِرَةِ فدفنا بهَا يَوْم الْأَحَد سَابِع ربيع الآخر واتهم السُّلْطَان بِأَنَّهُ سم بكتمر أَيْضا وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد عظم أمره بِحَيْثُ أَن السُّلْطَان فِي هَذِه الحجه كَانَ مَعَه ثَلَاثَة أُلَّاف وَمِائَة عليقة وَكَانَ مَعَ بكتمر ثَلَاثَة أُلَّاف عليقة وَبَلغت عدَّة خيوله مائَة طوالة بِمِائَة سايس بِمِائَة سطل وَكَانَ عليق خيله دَائِما ألفا وَمِائَة عليقة كل يَوْم. فَلَمَّا توجه مَعَ السُّلْطَان إِلَى الْحَج وشي بِهِ أَنه يُرِيد قتل السُّلْطَان فتحرز السُّلْطَان على نَفسه غَايَة التَّحَرُّز وَكَانَ فِيهِ من الدهاء وَالْمَكْر مَا لَا يُوصف(3/170)
فَأخذ يدبر على بكتمر ويلازمه بِحَيْثُ عجز بكتمر أَن ينظر إِلَى زَوجته فَإِنَّهُ كَانَ إِذا ركب أَخذ يسايره بجانبه وَإِذا نزل جلس مَعَه فَإِن مضى إِلَى خيامه بعث فِي طلبه بِحَيْثُ إِنَّه استدعي بِهِ وَهُوَ يتَوَضَّأ بِوَاحِد بعد الآخر من الجمدارية حَتَّى كمل عِنْده عدَّة اثنى عشر جداراً. فَلَمَّا ثارت الرّيح بِالْمَدِينَةِ قصد السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة اغتيال بكتمر وَولده وَأعد لذَلِك جمَاعَة فَهَجَمُوا على أَحْمد بن بكتمر فَلم يتمكنوا مِنْهُ وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم رَأَوْا حرامية وَقد أخذُوا لَهُم مَتَاعا فَمروا فِي طَلَبهمْ فداخل الصَّبِي مِنْهُم فزع كثير غشي عَلَيْهِ مِنْهُ. وَزَاد احْتِرَاز السُّلْطَان على نَفسه وَتقدم بِأَن تنام الْأُمَرَاء بمماليكهم على بَابه. وَسَار السُّلْطَان من الْمَدِينَة فَيُقَال إِنَّه سقى الصَّبِي مَاء بَارِدًا فِي مسيره كَانَت فِيهِ منيته ثمَّ بعد قَلِيل سقِِي بكتمر بعد موت وَلَده مشروباً فلحق بِهِ. واشتهر ذَلِك حَتَّى أَن زَوْجَة بكتمر لما مَاتَ صاحت وَقَالَت للسُّلْطَان بِصَوْت سَمعه كل من حضر: ياظالم أَيْن تروح من الله وَلَدي وَزَوْجي زَوجي كَانَ مملوكك وَلَدي إيش كَانَ بَيْنك وَبَينه وكررت هَذِه مرَارًا فَلم يجبها. وَقد ذكرنَا تَرْجَمته فِي كتَابنَا الْكَبِير المقفي بِمَا فِيهِ كِفَايَة مَاتَ علم الدّين المشطوب يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشرى ذِي القعده. وَمَات جمال الدّين أَبُو الْحُسَيْن بن مَحْمُود بن أبي الْحُسَيْن مَحْمُود بن أبي سعيد بن أبي الْفضل بن أبي الرِّضَا الربعِي البالسي إِمَام السُّلْطَان فِي سَابِع عشر رَمَضَان ومولده سَابِع عشر رَجَب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة واسْمه كنيته وَكَانَ فَاضلا كتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة. وَمَات جدي الشَّيْخ محيي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن تَمِيم بن عبد الصَّمد بن أبي الْحسن بن عبد الصَّمد بن تَمِيم المقريزي بِدِمَشْق فِي ثامن عشرى ربيع الأول وَكَانَ فَقِيها حنبلياً مُحدثا جَلِيلًا سمع بعلبك من زَيْنَب بنت كندي وبدمشق من عمر بن القواس وَجَمَاعَة وَحدث وَكتب بِخَطِّهِ كثيرا وَقَرَأَ كثيرا وَقدم الْقَاهِرَة وعد من أَعْيَان الْفُقَهَاء الْمُحدثين.(3/171)
فارغة(3/172)
(سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة)
فِي أول الْمحرم: أحيط بحواصل الْأَمِير ألماس الحاحب وَكَانَ قبض عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه الْأَمِير قرا وَسبب التَّغَيُّر على ألماس أَنه كَانَ نَائِب الْغَيْبَة مُدَّة سفر السُّلْطَان بالحجاز وَسكن فِي دَار النِّيَابَة بالقلعة وَسكن الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد دَاخل بَاب الْقلَّة من القلعة فحفظ أقبغا عَلَيْهِ أَشْيَاء غير بهَا قلب السُّلْطَان لوجدة كَانَت بَينه وَبَين ألماس: مِنْهَا أَنه كَانَ يتراسل هُوَ والأمير جمال الدّين آقوش الْمَعْرُوف بنائب الكرك لميل كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر وَمِنْهَا كَثْرَة أَفعَال ألماس للأمور القبيحة من انهماكه فِي الْميل إِلَى الْأَحْدَاث وإسرافه فِي ذَلِك حَتَّى إِنَّه كَانَ بجوار دَار النِّيَابَة مَسْجِد فَفتح مِنْهُ بَابا وَصَارَ يعبر بالأحداث من ذَلِك إِلَيْهِ وَاشْتَدَّ شغفه بِغُلَام يدعى عُمَيْر من أَوْلَاد الحسينية وَأكْثر من النُّزُول من القلعة وَجمع الأويراتية مَعَ الْمَذْكُور للشُّرْب هَذَا مَعَ مَا حفظ عَلَيْهِ من الْكَلَام السيء فِي وَقت الإرجاف بالسلطان وَهُوَ مُسَافر وَكَثْرَة مَاله وتنميته من وُجُوه مُنكرَة فَإِنَّهُ غرس بساتين بناحيتي بهواش والنعناعية من المنوفية وجلب عددا كثيرا من الْخَنَازِير وسمنهم بهَا وباعهم على الفرنج بِبَضَائِع وَحمل سِلَاحا كثيرا إِلَى بِلَاد الشرق تعوض بِهِ أصنافاً للمتجر فاتسعت أَمْوَاله وتكثر بهَا وَقَالَ غير مرّة لِلْأُمَرَاءِ: عِنْدِي الذَّهَب وَالدَّرَاهِم وَمن فِيكُم مثلي وَزَاد فِي هدا الْمَعْنى وأقبغا عبد الْوَاحِد يضْبط عَلَيْهِ مساوئه وَيسْعَى بِهِ إِلَى السُّلْطَان حَتَّى غَيره عَلَيْهِ. وَيُقَال أَن السُّلْطَان وجد فِيمَا خَلفه الْأَمِير بكتمر الساقي جزدان فِيهِ كتب من جُمْلَتهَا كتاب ألماس إِلَيْهِ يتَضَمَّن أنني أحفظ لَك القلعة حَتَّى يرد على لَك مَا أعتمده فَلم يصبر لَهُ السُّلْطَان على هَذَا. وَلما قَبضه السُّلْطَان وَقبض على أَخِيه قرا وَكَانَ ظَالِما غشوماً خماراً نزل النشو وَابْن هِلَال الدولة وَشَاهد الخزانة لضبط موجوده فَوجدَ لَهُ سِتّمائَة ألف دِرْهَم فضَّة وَمِائَة ألف دِرْهَم فلوس وَأَرْبَعَة أُلَّاف دِينَار مصرية وَثَلَاثُونَ حياصة ذهب كَامِلَة بكلفتاتها الذَّهَب وخلعها الْحَرِير وَبَعض جَوْهَر وعدة أَشْيَاء ثمينة وَقبض(3/173)
على عبد لَهُ رباه صَغِيرا فعاقبه السُّلْطَان حَتَّى اعْترف على كل من كَانَ يحضر إِلَيْهِ من الْأَحْدَاث وَغَيرهم. وَفِيه قدم مبشرو الْحَاج وأخبروا بقتل ياسور أحد مُلُوك الْمغل وَقت رمي الجمرات. وَكَانَ من خَبره أَن ملك الشرق أَبَا سعيد بن خربندا لما قتل جوبان أَرَادَ إِقَامَة ياسور لِأَنَّهُ من عُظَمَاء القان فخوف من شجاعته وَأَن جوبان كَانَ يُرِيد إِقَامَته فِي الْملك فنفر مِنْهُ أَبُو سعيد ثمَّ إِنَّه استأذنه فِي الْحَج فَأذن لَهُ وَقَامَ لَهُ بِمَا يَلِيق بِهِ. ثمَّ طلب أَبُو سعيد الْمجد السلَامِي وَكتب إِلَى السُّلْطَان يعرفهُ بِأَمْر ياسور ويخوفه مِنْهُ أَن يجْتَمع عَلَيْهِ الْمغل ويسأله قَتله. فَدفع السلَامِي كتاب أبي سعيد إِلَى مَمْلُوكه قطلوبك السلَامِي فَقدم على السُّلْطَان أول ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَاضِيَة فأركبه السُّلْطَان النجيب فِي عاشره إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ كتاب إِلَى الْأَمِير برسبغا الْحَاجِب وَقد حج من مصر بِطَلَب الشريف رميثه وموافقته سرا على قتل ياسور فَقدم قطلوبك مَكَّة أول ذِي الْحجَّة فَلم يُوَافق رميثة على ذَلِك وَاعْتذر بالخوف. فأعد برسبغا بعض نجابته من العربان لذَلِك ووعده بِمَا مَلأ عينه. فَلَمَّا قضى الْحَاج النّسك من الْوُقُوف والنحر وَركب ياسور فِي ثَانِي يَوْم النَّحْر لرمي الْجمار ركب برسبغا أَيْضا فعندما قَارب ياسور الْجَمْرَة وثب عَلَيْهِ النجاب وضربه فَأَلْقَاهُ إِلَى الأَرْض وهرب نَحْو الْجَبَل فَتَبِعَهُ مماليك برسبغا وقتلوه أَيْضا خشيَة من أَن يعْتَرف عَلَيْهِ. فاضطرب حجاج الْعرَاق وَركبت فرسانهم وَأخذُوا ياسور قَتِيل فِي دمائه وَسَارُوا إِلَى برسبغا منكرين مَا حل بِصَاحِبِهِمْ فتبرأ برسبغا من ذَلِك وَأظْهر الترغم لَهُ وَقرر عِنْدهم. أَن هَذَا الَّذِي قتل هُوَ من لَهُ عَلَيْهِ ثأر أَو أحد غُرَمَائه وَإِنَّكُمْ كفيتم أمره فَإِنِّي أخذت لكم بثأره وَقتل قَاتله. فانصرفوا عَنهُ وَفِي نُفُوسهم مِنْهُ شَيْء ومازالو لَهُ بالمرصاد وَهُوَ مِنْهُم مُحْتَرز مِنْهُم حَتَّى افترق ركب الْحَاج الْعِرَاقِيّين من المصريين بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة فأمن برسبغا على نَفسه وَتقدم الْحَاج إِلَى السُّلْطَان مَعَ المبشرين. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشرى ربيع الآخر: خلع على الْأَمِير سيف الدّين جاريك المهندار وَاسْتقر حاجباً وترتب عوضه مهمندارا الْأَمِير سيف الدّين طقتمر الأحمدي شاد الشَّرَاب خاناه. وَفِي عشرى رَجَب: خلع على الْأَمِير سيف الدّين مَحْمُود بن خطير أَخُو الْأَمِير بدر(3/174)
الدّين مَسْعُود الْحَاجِب وَاسْتقر حاجباً وَكَانَ قد قدم من دمشق فِي سَابِع عشرى ربيع الآخر. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام إِلَى غَزَّة وَقدم مَمْلُوكه يسْتَأْذن فِي دُخُوله كَمَا هِيَ عَادَته فرسم لَهُ بِسُرْعَة الْحُضُور وَألا يتحدث فِي شَيْء من أَمر ابْن هِلَال الدولة فَإِن السُّلْطَان قد تغير عَلَيْهِ فَقدم. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: شفع الْأَمِير قوصون فِي عود جمال الدّين عبد الله ابْن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين من دمشق بدخلة أَبِيه عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَأَجَابَهُ السُّلْطَان. وَقدم جمال الدّين إِلَى الْقَاهِرَة على الْبَرِيد فَأقبل على عَادَته من اللَّهْو وعثر دَارا على النّيل بجوار دَار أَبِيه وتجاهر بِمَا لَا يَلِيق. فَتقدم أَمر السُّلْطَان إِلَى ابْن المحسني وَالِي الْقَاهِرَة أَن يتحيل فِي كبسه وإشهاره وأحس عبد الله بذلك فَكف عَمَّا كَانَ يعانيه من اللّعب. وَفِي يَوْم السبت نصف رَجَب: قدم بدر الدّين لُؤْلُؤ الْحلَبِي مَمْلُوك فندش بفاء مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة بعْدهَا شين مُعْجمَة وَسيف الدّين الأكز من الشَّام. فأحضرهما السُّلْطَان وَطلب مباشري حلب وهم النَّقِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة الْحُسَيْن وَالْقَاضِي جمال الدّين بن رَيَّان نَاظر الْجَيْش وناصر الدّين مُحَمَّد بن قرناص عَامل الْجَيْش وَعَمه المحبي عبد الْقَادِر عَامل المحلولات والحاج إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن العزازي والحاج عَليّ بن السقا وَغَيرهم. فحاققهم لُؤْلُؤ وَالِي فِي رميهم بِأخذ الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة وجاهرهم بالسوء من القَوْل بَين يَدي السُّلْطَان وَالْتزم بِأَنَّهُ إِن مكن مِنْهُم استخلص مِنْهُم مائَة ألف دِينَار. فَطلب النشو بعد إِخْرَاجه وَوَقع الْكَلَام بَينه وَبَين السُّلْطَان فِي ذَلِك وَأَمْثَاله من تَحْصِيل الْأَمْوَال فَأخذ النشو يُقرر مَعَه أَن الْأُمَرَاء قد أخذُوا مساميح بمتاجرهم ويتحصل من هَذَا إِذا ضبطت عَلَيْهَا فِي كل سنة للديوان زِيَادَة على مِائَتي ألف دِينَار وَأَنه لَا يتَمَكَّن مَعَ قيام الْأَمِير قوصون والأمير بشتاك أَن يجمع للسُّلْطَان شَيْئا من ذَلِك المَال فَإِنَّهُمَا وأمثالهما قد اعتادوا من الْمُبَاشر للسُّلْطَان أَن ينْفق المباشرون عَلَيْهِم نصف متحصل الدِّيوَان برطيلاً وَأَنه فَقير لَيْسَ لَهُ مَال يبرطل بِهِ لَهُ وَلَا هُوَ مِمَّن يبرطل بِمَال السُّلْطَان وَأَنه لَو سلم مِنْهُم لملأ خزانَة السُّلْطَان وحواصله أَمْوَالًا لكنه يخشاهم أَن يُغيرُوا السُّلْطَان عَلَيْهِ. وَرمى النشو المباشرين مَعَ ذَلِك بعظائم من كَثْرَة أَمْوَالهم ونعمهم مِمَّا أَخَذُوهُ فِي مباشراتهم من مَال السُّلْطَان. فَأذن لَهُ السُّلْطَان فِي عمل مَا يختاره وَأَن يتَصَرَّف فِي الدولة وَلَا يُبَالِي بِأحد ووعده بتقوية يَده وتمكينه وَمنع من يُعَارضهُ.(3/175)
ثمَّ استدعى السُّلْطَان بالمخلص أخي النشو ورتبه مباشراً عِنْد الْأَمِير سيف الدّين ألناق واستخدم أَخَاهُ رزق الله عِنْد الْأَمِير ملكتمر الْحجاز واستخدم صهره ولي الدولة عِنْد الْأَمِير أرغون شاه وخلع عَلَيْهِم. وانبسطت يَد النشو واشتدت وطأته وَأخذ فِي التَّدْبِير على ابْن هِلَال الدولة ورتب عَلَيْهِ أَنه أَخذ من مَال السُّلْطَان جملَة وَأَنه أهمل فِي الْمُحَافظَة على أُمُور السُّلْطَان وَأَن مَا ضَاعَ بِسَبَبِهِ من مَال السُّلْطَان كثير وَأَنه تواطأ مَعَ أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق على مَال السُّلْطَان. وَندب النشو لتحَقّق ذَلِك أَمِين الدولة بن قرموط المستوفي والشمى بن الْأَزْرَق نَاظر الْجِهَات وَقرر مَعَ السُّلْطَان إِقَامَة لُؤْلُؤ لاستخلاص الْأَمْوَال وَطلب المباشرين للمحاققة فَجَمعهُمْ السُّلْطَان. فبرز قرموط وواجهه ابْن هِلَال الدولة بِأَنَّهُ أهمل الْأُمُور وبرطل بالأموال وَنَحْو هَذَا من القَوْل فأثر كَلَامه فِي نفس السُّلْطَان وَصرف المباشرين وَبعث إِلَى ابْن هِلَال الدولة يَأْمُرهُ بِأَن يلْزم بَيته. وخلع على الأكز وَاسْتقر شاد الدَّوَاوِين عوضا عَن ابْن هِلَال الدولة وخلع على بدر الدّين لُؤْلُؤ الْحلَبِي ليَكُون مستخلص الْأَمْوَال وخرجا إِلَى دَار الوزارة بالقلعة وطلبا الضَّمَان وَالْكتاب والمعاملين وأرباب الْوَظَائِف. ورتبت على ابْن هِلَال الدولة أوراق. مِمَّا أهمله وفرط فِيهِ وَطلب وصودر هُوَ وَجَمِيع ألزامه وقبص على مقدم الدولة خَالِد بن الزراد وَمن يلوذ بِهِ فحملوا الْأَمْوَال. وخلع على ابْن صابر وَاسْتقر مقدم الدولة. وَاشْتَدَّ لُؤْلُؤ على أهل حلب وَأهل مصر وعسفهم وَتجَاوز الْمِقْدَار فِي عُقُوبَة المصادرين خُصُوصا أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث رَجَب: سَافر الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام بَعْدَمَا أنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان بِمِائَة ألف دِرْهَم وَتوجه صحبته الْأَمِير آقول الْحَاجِب ليستقر حَاجِب الْحجاب بِدِمَشْق. وَفِي يَوْم الْأَحَد خَامِس الْمحرم: اسْتَقر الْأَمِير تجماس الجوكندار المنصوري الملقب بشاش فِي نِيَابَة حمص عوضا عَن بهادر السنجري بِحكم وَفَاته. وَفِي يَوْم الْأَحَد أول الْمحرم: أفرج عَن الْأَمِير بهاء الدّين أصلم وَعَن أَخِيه الْأَمِير قرمجي. وَفِيه أَيْضا أفرج عَن الْأَمِير بكتوت القرماني. وَكَانَت مُدَّة اعتقال أصلم وقرمجي سته سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَمُدَّة اعتقال القرماني سبع سِنِين وَسَبْعَة شهور.(3/176)
وَفِي سادس الْمحرم: رسم للأمير جمال الدّين آقوش الأشرفي الْمَعْرُوف بنائب الكرك بنيابة طرابلس بعد موت قرطاي وخلع عَلَيْهِ فِي تاسعه وسافر فِي تَاسِع عشره. وَكَانَ ذَلِك لأمور: مِنْهَا صحبته مَعَ الْأَمِير ألماس الْحَاجِب وَمِنْهَا ثقله على السُّلْطَان فَإِن السُّلْطَان كَانَ يجله ويحترمه وَيقوم لَهُ كلما دخل إِلَى الْخدمَة وَمِنْهَا معارضته للسُّلْطَان فِي أغراضه لاسيما فِي أَمر النشو فَإِنَّهُ كَانَ يبلغ السُّلْطَان كَثْرَة ظلمه وقبح سيرته فِي النَّاس. فَأَرَادَ السُّلْطَان أَن يستريح مِنْهُ فَخلع عَلَيْهِ وَبعث لَهُ بِأَلف دِينَار وَأخرج برسبغا مُسْفِرًا لَهُ على الْعَادة. فَلَمَّا وصل برسبغا بِهِ إِلَى طرابلس وَعَاد خلع السُّلْطَان عَلَيْهِ وَاسْتقر حاجباً صَغِيرا. وَفِيه خلع على الْأَمِير مَسْعُود بن خطير وَاسْتقر حاجباً كَبِيرا عوضا عَن الْأَمِير ألماس. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي شعْبَان: اسْتَقر أيدكين الأزكشي البريدي فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المحسني بسفارة النشو. فعظمت مهابته وكبس عدَّة بيُوت من بيُوت النَّاس صَار يتنكر فِي اللَّيْل وَيَمْشي فِي أَزِقَّة الْقَاهِرَة فَإِذا سمع صَوت غناء أَو ريح خمر فِي بَيت كبسه وَأخذ من أَهله مَالا كثيرا بِحَسب حَالهم. واعتنى بِهِ النشو ومكنه من عمل أغراضه فنال بِهِ مَقَاصِد كَثِيرَة. مِنْهَا أَن بعض تجار قيسارية جهاركس بِالْقَاهِرَةِ تَأَخّر لَهُ فِي الخزانة السُّلْطَانِيَّة عَن ثمن مَبِيع نَحْو تسعين ألف دِرْهَم. وألح على النشو فِي الْمُطَالبَة بهَا مَعَ كَثْرَة انهماكه فِي اللَّهْو فَقَبضهُ أيدكين وَهُوَ غير حَاضر الذِّهْن وسجنه فِي دَار الْولَايَة واستدعى بالعدول ليكتب عَلَيْهِ مشروحاً بِأَنَّهُ سَكرَان ويشهره فَافْتدى مِنْهُ بِأَن أشهد عَلَيْهِ أَنه أبر بَيت المَال مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ موقع هَذَا الْإِبْرَاء من النشو وَمن السُّلْطَان بمَكَان وَلما شنع أَمر أيدكين شكاه الْأَمِير قوصون إِلَى السُّلْطَان فَتغير السُّلْطَان على قوصون وَقَالَ لَهُ: أَنْتُم كلما وليت أحدا يَنْفَعنِي أردتم إِخْرَاجه وَلَو أَنه من جهتكم لشكرتم مِنْهُ كل وَقت وأسمعه مَعَ ذَلِك مَا يكره. ثمَّ أضيفت إِلَيْهِ ولَايَة مصر وَفِي يَوْم الْأَحَد عشرى ذِي الْحجَّة: قدم الْأَمِير مهنا بن عِيسَى وَسبب قدومه(3/177)
أَن السُّلْطَان كَانَ يحرص على قدومه إِلَيْهِ ويبذل لأولاده الْأَمْوَال الْعَظِيمَة فيرغبونه فِي الْقدوم على السُّلْطَان وَهُوَ يَأْتِي ذَلِك عَلَيْهِم. فَكَانَ إِذا أعيا السُّلْطَان أمره طرده من الْبِلَاد حَتَّى طرده أَربع مَرَّات وَكَانَت تجرد لَهُ العساكر فتخرجه ثمَّ تحضر أَوْلَاده وَتصْلح أمره فَيَعُود إِلَى الْبِلَاد ثمَّ يَأْخُذ السُّلْطَان فِي استجلابه فَلَا يَأْتِي لَهُ. فَيَعُود إِلَى إِخْرَاجه وَكَانَ السُّلْطَان يبْعَث فِي طلب الْخُيُول مِنْهُ فيرسلها إِلَى السُّلْطَان فَتحمل إِلَيْهِ أثمانها بِزِيَادَة كَثِيرَة وَمَا زَالَ أمره على هَذَا الْحَال إِلَى أَن قدم مُوسَى وَأحمد وفياض أَوْلَاده إِلَى الْقَاهِرَة وَبَالغ السُّلْطَان فِي الإنعام عَلَيْهِم فَحَلَفُوا لَهُ على إِحْضَار أَبِيهِم إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَتَوا أباهم اجْتَمعُوا عَلَيْهِ مَعَ عمومتهم وأرادوه على الْحُضُور إِلَى السُّلْطَان بجهدهم فَلم يوافقهم فكاتبوا السُّلْطَان بأمرهم مَعَه فَكتب السُّلْطَان إِلَى نَائِب حلب بِإِخْرَاجِهِ من الْبِلَاد فَسَار مهنا إِلَى أبي سعيد بالعراق فَأكْرمه وأجله عِنْد قدومه فتعمد وزيره مَعَ الْمجد السلَامِي عَلَيْهِ حَتَّى فَارق بِلَادهمْ رِعَايَة لخاطر السُّلْطَان وكتبا بذلك إِلَى السُّلْطَان فسره ذَلِك وَلما عَاد مهنا من الْعرَاق تَلقاهُ ابْنه مُوسَى فَوجدَ أَنه قد أزمع أمره على الْقدوم على السُّلْطَان فَلم يشْعر الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام إِلَّا ومهنا قد قدم عَلَيْهِ هُوَ وَالْملك الْأَفْضَل مُحَمَّد صَاحب حماة فَركب إِلَى لِقَائِه وأنزله بِالْقصرِ الأبلق. وَقدم البريدي إِلَى السُّلْطَان بِخَبَر قدومه فكاد يطير فَرحا بِهِ. ثمَّ أركبه الْأَمِير تنكز وَالْملك الْأَفْضَل خيل الْبَرِيد وسيرهما إِلَى السُّلْطَان. فَحملت للأمير مهنا الإقامات وجنبت لَهُ الْخُيُول وَضربت لَهُ الخيم وَخرج أَمِير: اندار والمهمندار إِلَى لِقَائِه وَركب الْأَمِير بشتاك لَهُ إِلَى قبَّة النَّصْر خَارج الْقَاهِرَة وَسَار بِهِ إِلَى بَاب السِّرّ من القلعة فَإِذا الْأَمِير قوصون قد وقف بِهِ فِي انْتِظَاره فَأخذ بِيَدِهِ حَتَّى عبر إِلَى السُّلْطَان فَرَحَّبَ بِهِ السُّلْطَان وأكرمه وعتبه على فراره مِنْهُ فَاعْتَذر مهنا وَذكر أَن قدومه بِسَبَب رُؤْيَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامه وَأمره لَهُ بالقدوم. فسر السُّلْطَان بذلك وخلع عَلَيْهِ وعَلى(3/178)
من مَعَه مائَة خلعة ورد إِلَيْهِ أَمرته وَزَاد فِي إقطاعه. وأنزله السُّلْطَان بالميدان وَأمر لَهُ بسماط جليل فسم لَهُ فِيهِ فَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا وَاعْتذر بِأَن عَادَته أكل لبن الْجمال وقرص الْملَّة لَا غير. ثمَّ طلع مهنا إِلَى السُّلْطَان فِي خَامِس يَوْم من قدومه فأنعم عَلَيْهِ بقرية دومة من عمل دمشق لتَكون لَهُ ولأولاده من بعده وَاتفقَ موت أسندمر الْعمريّ فَوجدَ لَهُ تِسْعَة أُلَّاف دِينَار مصرية وطلع بهَا النشو فسلمها لحاجب مِنْهَا إنعاماً على مهنا برسم زوادته. وَكتب لَهُ القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله منشوراً بدومة ثمَّ سَافر. وَفِي ذِي الْحجَّة: ركب أيدكن وَالِي الْقَاهِرَة إِلَى النجيلة خَارج الْقَاهِرَة وَهِي يَوْمئِذٍ متنزه الْعَامَّة وبدايرها أخصاص للفرجة وكبسها وَقت الْمغرب فَمَا قبض على أحد إِلَّا وسلبة ثِيَابه وَتَركه وَفِي هَذِه السّنة: جَاءَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة سيل عَظِيم أَخذ جمالاً كَثِيرَة وَعشْرين فرسا وَخَربَتْ عدَّة دور. وفيهَا اسْتَقر جمال الدّين عبد الله بن كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن أَحْمد ابْن سعيد بن مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَثِير فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن شرف الدّين أبي بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود. وَفِي يَوْم عَرَفَة: اسْتَقر نجم الدّين بن أبي الطّيب فِي الْوكَالَة بِدِمَشْق وَاسْتقر عز الدّين بن منجا فِي نظر جَامع بني أُميَّة وَاسْتقر فِي حسبَة دمشق عماد الدّين بن الشيراز وخلع عَلَيْهِم جَمِيعًا. وفيهَا ورد الْخَبَر من بَغْدَاد بَان صَاحبهَا ألزم النَّصَارَى بِبَغْدَاد أَن يلبسوا العمائم الزرق وَالْيَهُود أَن يلبسوا العمائم الصفر اقْتِدَاء بالسلطان الْملك النَّاصِر بِهَذِهِ السّنة الْحَسَنَة.(3/179)
وفيهَا ولى تدريس الشَّافِعِي بالقرافة شمس الدّين مُحَمَّد بن القماح بعد وَفَاة الْمجد حرمي وَاسْتقر عوضه فِي وكَالَة بَيت المَال النَّجْم الأسعردي الْمُحْتَسب وَفِي تدريس الْمدرسَة القطبية بهاء الدّين بن عقيل. وَفِيه اسْتَقر عَلَاء الدّين مغلطاي فِي تدريس الحَدِيث بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة بعد موت فتح الدّين مُحَمَّد بن سيد النَّاس بعناية قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن الْقزْوِينِي فاستعظم النَّاس ذَلِك وَفِيه انْتَهَت زِيَادَة مَاء النّيل إِلَى سِتَّة عشر ذِرَاعا. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان الْأَمِير ألماس الْحَاجِب الناصري كَانَ جاشنكيرا وتنقل حَتَّى صَار حَاجِب الْحجاب فِي مَحل النَّائِب لشغور منصب النِّيَابَة بعد الْأَمِير أرغون وَكَانَ أكَابِر الْأُمَرَاء يركبون مَعَه فِي خدمته وَيجْلس فِي بَاب الْقلَّة وَيقف الْحجاب بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ وَحبس قطع عَنهُ الطَّعَام ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ خنق فِي لَيْلَة الثَّانِي عشر من صفر حمل من الْغَد حَتَّى دفن بجامعه وَكَانَ أغتم لَا يعرف بِالْعَرَبِيَّةِ شَيْئا. وَتُوفِّي وَكيل بَيت المَال ومدرس الشَّافِعِي مجد الدّين حرمي بن هَاشم بن يُوسُف العامري الفاقوسي الْفَقِيه الشَّافِعِي عَن محو سبعين سنة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي ذِي الْحجَّة ولي وكَالَة بَيت المَال ونيابة الحكم وبرع فِي الْفِقْه وَالْأُصُول ودرس بالشافعي.(3/180)
وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين سُلَيْمَان بن الْخَطِيب مجد الدّين عمر بن سَالم بن عمر عُثْمَان الْأَذْرَعِيّ الْمَعْرُوف بالزرعي فِي سادس صفر بِالْقَاهِرَةِ عَن مرض السكتة وَهُوَ يَوْمئِذٍ قَاضِي الْعَسْكَر مولده بأذرعات سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سُلَيْمَان بن مهنا وَمَات الْملك الظَّاهِر أَسد الدّين عبد الله بن الْمَنْصُور نجم الدّين أَيُّوب بن المظفر يُوسُف ابْن عمر بن عَليّ بن رَسُول متملك الْيمن بَعْدَمَا قبض عَلَيْهِ الْملك الْمُجَاهِد بقلعة دملوه وَصَارَ يركب فِي خدمته ثمَّ سجنه مُدَّة شَهْرَيْن ثمَّ خنقه بقلعة تعز. وَتُوفِّي قَاضِي الْحَنَفِيَّة بحماة نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن هبة الله ابْن أَحْمد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن العديم عَن خَمْسَة وَأَرْبَعين سنة.(3/181)
وَمَات الْأَمِير طغاي تمر الْعمريّ زوج ابْنة السُّلْطَان لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثامن عشرى ربيع الأول. وَمَات الْأَمِير صوصون أَخُو الْأَمِير قوصون أحد الألوف فِي لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الأولى. وَتُوفِّي الْحَافِظ فتح الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن يحيى بن سيد النَّاس الْيَعْمرِي الأشبيلي الْعَلامَة المتقن المُصَنّف الأديب البارع فِي يَوْم السبت الْحَادِي عشر من شعْبَان. وَمَات الْأَمِير قرطاي الأشرفي نَائِب طرابلس وَقد جَاوز سِتِّينَ سنة بهَا فِي ثامن عشرى صفر. وَمَات أَمِير طبر جمال الَّذين يُوسُف بن علم الدّين فِي لَيْلَة السبت ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ من أُمَرَاء العشراوات. وَمَات الْأَمِير بدر الدّين بيليك أَبُو غُدَّة وَكَانَ أحد أستادارية السُّلْطَان وَمن أُمَرَاء الطبلخاناه وَمَات الْأَمِير يُوسُف الدّين خَاص ترك الناصري أَحْمد مقدمي الألوف فِي عَاشر وَجب بِدِمَشْق. وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيدمر دقماق العلائي نقيب الْجَيْش وَكَانَ أحد المماليك الأشرفية لَيْلَة الْأَحَد سادس رَجَب وَاسْتقر عوضه فِي نقابة الْجَيْش الْأَمِير صَار وجانقيب المماليك وَاسْتقر المماليك عوضا عَن صاروجا مُحَمَّد بن لاجين المحمدي. وَمَات الْأَمِير قجماس الجوكندار الْمَعْرُوف بشاش نَائِب حمص أحد أُمَرَاء البرجية. وَمَات الْأَمِير بلبان طرنا أَمِير جاندار وَكَانَ نَائِب صفد فِي حادي عشْرين الأول وَهُوَ من أُمَرَاء الألوف بِدِمَشْق. وَمَات القَاضِي صدر الدّين سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم ابْن سُلَيْمَان بن دواد بن عَتيق بن عبد الْجَبَّار الْمَالِك قَاضِي الشرقية والغربية فِي حادي عشرى شعْبَان وَبَعثه السُّلْطَان رَسُولا إِلَى بَغْدَاد.(3/182)
سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع الْمحرم: قبض على الطواشي شُجَاع الدّين عنبر السحرتي مقدم المماليك بسعاية النشو وأنعم بطبلخاناته عَليّ الطواشي سنبل قلي وَاسْتقر نَائِب الْمُقدم. وخلع على الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد باستقراره فِي تقدمة المماليك مُضَافا إِلَى الأستادارية. فَعرض آقبغا الطباق وَأخرج من كَانَ من الأتباع الأويراتية فِي خدمَة المماليك وَضرب جمَاعَة من المماليك السِّلَاح دارية والجمدارية لامتناعهم من إِخْرَاج أتباعهم وَنَفَوْا إِلَى صفد. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشرى جُمَادَى الأولى: عزل أيدكين وَالِي الْقَاهِرَة لتغير الْأَمِير قوصون عَلَيْهِ وَأخرج إِلَى الشَّام منفياً. وَفِيه طلب بلبان الحسامي البريدي أحد مماليك طرنطاي النَّائِب إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان فَلم يجد فرسا يركبه فَركب حمارا إِلَى القلعة فَخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر وَالِي الْقَاهِرَة عوضا عَن أيدكن وَأخرج لَهُ فرس. وَفِيه أفرج عَن الْأُمَرَاء المعتقلين فَركب على الْبَرِيد الْأَمِير بيبرس السِّلَاح دَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَقدم بهم فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشْرين رَجَب: وهم الْأَمِير بيبرس الْحَاجِب وَله فِي السجْن من سنة خمس وَعشْرين والأمير طغلق التتري أحد الْأُمَرَاء الأشرفية وَله فِي السجْن ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة من سنة اثْنَتَيْ عشرَة فَمَاتَ بعد أُسْبُوع من قدومه والأمير غَانِم بن أطلس خَان وَله فِي السجْن من سنة عشر مُدَّة خمس وَعِشْرُونَ سنة والأمير برلغي الصَّغِير وَله فِي السجْن من سنة اثنتى عشره والأمير بلاط الجوكندار والأمير أيدمر اليونسي أحد الْأُمَرَاء البرجية المظفرية والأمير لاجين الْعمريّ والأمير طشتمر أَخُو بتخاص والأمير بيبرس العلمي من أكَابِر الْأُمَرَاء البرجية وقطلوبك الأوجاقي وَالشَّيْخ عَليّ مَمْلُوك الْأَمِير سلار والأمير تمر الساقي نَائِب طرابلس أحد المنصوريه وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ سنة أَربع عشرَة فَكَانَت مُدَّة سجنه إِحْدَى وَعشْرين سنة. فأنعم على تمر الساقي بطبلخاناه فِي الشَّام وأنعم على بيبرس الْحَاجِب بأمرة فِي حلب عوضا عَن أقسنقر شاد العمائر فسافر فِي سَابِع شعْبَان وَكَانَ قد رسم بِالْقَبْضِ على آقسنقر فَقبض عَلَيْهِ وسجن بقلعة حلب وأحيط بموجوده ورسم للأمير غَانِم أَن يُقيم بِالْقَاهِرَةِ.(3/183)
وَفِي هَذِه السّنة: قدمت رسل أزبك بكتابه يعتب فِيهِ بِسَبَب طَلَاق خاتون طولبية بنت تقطاي أخي أزبك الَّتِي قدمت من جِهَته وتزويجها من بعض المماليك وَطلب أزبك عودهَا إِلَيْهِ فَأُجِيب بِأَنَّهَا قد مَاتَت وسير إِلَيْهِ بهدية. وَكَانَت قد مَاتَ زَوجهَا الْأَمِير صوصون فَزَوجهَا السُّلْطَان للأمير عمر بن أرغون النَّائِب فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر الْمحرم وَدخل عَلَيْهَا لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشرى صفر. وَقد كَانَت تَحت السُّلْطَان ثمَّ طَلقهَا فَتَزَوجهَا الْأَمِير منكلي بغا ثمَّ الْأَمِير صوصون ثمَّ تزوجت بعمر هَذَا. وَفِي ثَانِي عشر ربيع الآخر: خلع على الْأَمِير سيف الدّين جركتمر رَأس نوبَة الجمدارية بنيابة غَزَّة عوضا عَن الْأَمِير طينال وسافر فِي عشريه. وَفِي سادس عشره: توجه الْأَفْضَل صَاحب حماة إِلَى مَحل ولَايَته بَعْدَمَا خلع عَلَيْهِ وَكَانَ قد قدم صُحْبَة مهنا وَتَأَخر بِسَبَب الصَّيْد مَعَ السُّلْطَان. وَفِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع ربيع الأول: أنعم السُّلْطَان على وَلَده أبي بكر بإمرة فَركب بالشربوش من إصطبل الْأَمِير قوصون وَسَار فِي الرملية إِلَى بَاب القرافة وطلع إِلَى القلعة من الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب القرافة والأمراء والخاصكية بخدمته وَعمل الْأَمِير قوصون يَوْمئِذٍ لَهُم مهما عَظِيما فِي إصطبله. وَفِي يَوْم الْخَمِيس نصف جُمَادَى الْآخِرَه: قبض على الْأَمِير جمال الدّين آقوش الأشرفي الْمَعْرُوف بنائب الكرك وَهُوَ يَوْمئِذٍ نَائِب طرابلس وسجن بقلعة صرخد ثمَّ نقل فِي مستهل شَوَّال إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فسجن بهَا وَنزل النشو إِلَى بَيته بِالْقَاهِرَةِ وَأخذ موجوده كُله وموجود حريمه وعاقب أستادراه. وَاسْتقر عوضه فِي نِيَابَة طرابلس الْأَمِير طينال على عَادَته وَنقل بكتمر العلائي إِلَى نِيَابَة حمص عوضا عَن بشاش المتوفي. وَسبب ذَلِك أَنه ترَاءى بطرابلس مركب للفرنج فِي الْبَحْر فَركب الْعَسْكَر إِلَى الميناء فَدفعت الرّيح الْمركب عَن الميناء ثمَّ أَخذ الْأَمِير آقوش فِي تَجْدِيد عمَارَة مركب(3/184)
هُنَاكَ وَأنْفق فِيهِ من مَاله أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم فَقدمت مركب الفرنج فَركب الْعَسْكَر فِي الْمركب المستجد وقاتلوا الفرنج فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وغنموا مركبهم بِمَا فِيهَا. فَادّعى صَاحبهَا أَنه تَاجر قدم بتجارته. فنهبت أَمْوَاله وَقتلت رِجَاله وَذكر عَنهُ بعض التُّجَّار أَنه متحرم لَا تَاجر وَأَنه قدم فِي السّنة الْمَاضِيَة إِلَى ميناء طرابلس وَأخذ مِنْهَا مركبا. فَكتب آقوش بذلك إِلَى السُّلْطَان فَأُجِيب بالشكر وَحمل الفرنجي إِلَى السُّلْطَان فَحَمله آقوش مُقَيّدا على الْبَرِيد. فَأكْثر الفرنجي من التظلم وتبرأ من التَّحَرُّم فِي الْبَحْر وَأَنه قدم بِتِجَارَة وهدية للسُّلْطَان فظلمه نَائِب طرابلس وَأخذ مَا كَانَ مَعَه من التحف وَغَيرهَا فَصدقهُ السُّلْطَان وَكتب بِإِعَادَة مركبه إِلَيْهِ وَجَمِيع مَا أخد لَهُ فَأجَاب النَّائِب بِأَن الْمَذْكُور حرامي يقطع الطَّرِيق على الْمُسلمين فَلَا يسمع السُّلْطَان قَوْله وَكتب إِلَيْهِ بالتأكيد فِي رد الْمركب عَلَيْهِ فَردهَا النَّائِب عَلَيْهِ وشق ذَلِك عَلَيْهِ. ثمَّ طلب آقوش الإعفاء من نِيَابَة طرابلس فَأُجِيب بتخييره بَين نِيَابَة صرخد وبعلبك وَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِ الْأَمِير برسبعا الْحَاجِب فَسَار بِهِ إِلَى دمشق فقبص عَلَيْهِ تنكز بدار السَّعَادَة وَحمله إِلَى صرخد. وَفِي صفر: هدم السُّلْطَان الْجَامِع بقلعة الْجَبَل وَهدم المطبخ أَيْضا. وجدد السُّلْطَان عمَارَة الْجَامِع وَصَارَ يقف بِنَفسِهِ كل يَوْم وَندب لذَلِك الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد. فَحمل إِلَيْهِ الْعمد الْعَظِيمَة من الأشمونين ووسع مَوْضِعه فَأدْخل فِيهِ قِطْعَة من حارة مُخْتَصّ والطشتخاناه ورخمه جَمِيعه وظل الْعَمَل جَارِيا فِي هَذَا الْجَامِع حَتَّى كمل فِي أخر شعْبَان على أكمل هندام وأبدع تَرْتِيب. ووقف عَلَيْهِ السُّلْطَان حوانيت القلعة وَغَيرهَا ورتب فِيهِ الْقُرَّاء والمؤذنين والقومة وانتخبهم بِنَفسِهِ بَعْدَمَا عرض طوائفهم فصلى فِيهِ أول شهر رَمَضَان. وَفِيه جدد السُّلْطَان عمَارَة المطبخ بِالْحجرِ وَزَاد فِي سعته. وفيهَا خرج الْبَرِيد بِطَلَب بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني من طرابلس ليباشر مَعَ النشو فأفرج عَنهُ يَوْم السبت رَابِع عشر رَجَب وَكَانَ لَهُ سنة وَتِسْعَة أَيَّام موسم عَلَيْهِ بالقلعة وَهُوَ يحمل المَال. وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام لما قدم على عَادَته فِي عَاشر رَجَب وعرفه السُّلْطَان همة النشو ولؤلؤ فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال الَّتِي كَانَت مُهْملَة ضائعة ورطل بهَا ذكر لَهُ تنكز نَائِب الشَّام مَا تجدّد من الْمَظَالِم وَحسن لَهُ طلب ابْن التركماني لضبط مَا(3/185)
عساه يخفي عَن السُّلْطَان من الْأَمْوَال الَّتِي تُؤْخَذ وَوضع من لُؤْلُؤ بِأَنَّهُ مَمْلُوك ضَامِن وَكَانَ الأكز ولؤلؤ تسلما الْوُلَاة والمباشرين وَالْكتاب وَأَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق وَابْن هِلَال الدولة وأقاربه كَمَا تقدم وأخرقا بهم: فَحمل قشتمر وَالِي الغربية ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم وَأَفْرج عَنهُ بعناية سنجر الخازن فَإِنَّهُ صهره وَضرب قنغلي وَالِي البهنسا عدَّة مرار حَتَّى حمل خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَضرب فَخر الدّين أياس الدويداري بالمقارع فَحمل ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم وَهلك تَحت الْعقُوبَة أَيْضا شاد سوق الْغنم بَعْدَمَا أخد مِنْهُ نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم وَأخذ من خَالِد الْمُقدم مبلغ ثَلَاثمِائَة وثلانين ألف دِرْهَم بَعْدَمَا ضرب بالمقارع ضربا مبرحاً ثمَّ أفرج عَنهُ على أَن يحمل كل يَوْم عشرَة أُلَّاف دِرْهَم فَحمل فِي مُدَّة شهر مائَة ألف دِرْهَم وَأخذ من بكتوت الصَّائِغ مائَة ألف دِرْهَم وَمن عبد الرَّزَّاق وَولده نَحْو مائَة ألف دِرْهَم وَأخذ من ألزام ابْن هِلَال الدولة نَحْو مائَة وَخمسين ألف دِرْهَم. وَحمل ابْن خلال الدولة ثلاثماثة ألف وَعشرَة أُلَّاف دِرْهَم من غير أَن يضْرب واتهمه النشو بِأَنَّهُ أَخذ من الأهراء أَرْبَعَة أُلَّاف أردب فولا وَأخذ من مخلف الْأَمِير ألماس الْحَاجِب حياصة فظهرت بَرَاءَته من ذَلِك. وشق على النشو سَلَامَته من الضَّرْب وبذل جهده فِي ضربه وَالله يدْفع عَنهُ بِمَا كَانَ فِيهِ من كَثْرَة الصَّدَقَة. فَرَمَاهُ النشو بعد ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ يتحدث مَعَ الْأَمِير جمال الدّين آقوش نَائِب الكرك بِأَنَّهُ يتسلطن ويجتمع مَعَه على ذَلِك وَمَعَهُ منجم قدم بِهِ من دمشق واستخدمه فِي بَيت السُّلْطَان فَطلب المنجم وَقتل فِي السجْن وَمنع مُتَوَلِّي القاعة جَمِيع الَّذين يَجْلِسُونَ بالطرقات ويضربون بالرمل من التكسب بذلك. ورسم بِضَرْب ابْن هِلَال الدولة حَتَّى يقر على نَائِب الكرك بِمَا قيل عَنهُ فرفق بِهِ الأكز وضربه مقرعه وَاحِدَة ثمَّ ضربه بالعصا قَلِيلا وَهُوَ يحلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَنه لَيْسَ عِنْده علم بِمَا رمي بِهِ. ثمَّ إِن النشو تنكر على مُسْتَوْفِي الدولة أَمِين الدّين قرموط وعَلى رَفِيقه ابْن أبي الزين من أجل أَن قرموط أَكثر من الِاجْتِمَاع بالسلطان فخاف عاقبته. وأغرى النشو بِهِ السُّلْطَان وَقرر فِي دهنه أَنه جمع كثيرا من مَال السُّلْطَان لنَفسِهِ وَأَن خَالِدا الْمُقدم يحاققه ورفيقه على أَنه أَخذ مائَة ألف دِينَار. فَقبض عَلَيْهِمَا فِي رَابِع ربيع الأول وَقبض مَعَهُمَا على الشَّمْس ابْن قزوينة وَالْعلم المستوفي والنشو كَاتب الرَّوَاتِب والبرهان ابْن الْبُرُلُّسِيّ ورفيقه ابْني الأقفاصي نَاظر الدولة. وَقَامَ خَالِد الْمُقدم بمحاققتهم وَالْتزم أَنه يستخلص من قرموط أَرْبَعِينَ ألف دِينَار فَعُوقِبَ وَضرب بالمقارع. فَقَالَ خَالِد للأكز ولؤلؤ: هَذَا جلد مَا يقر اضربوا وَلَده قدامه حَتَّى يزن المَال فَإِنَّهُ مَا يهون بِهِ ضرب(3/186)
وَلَده. فَلَمَّا ضرب قرموط أَمر الأكز بإحضار وَلَده وضربه فَضرب وَهُوَ يتحسر عَلَيْهِ جَزَاء بِمَا تقدم مِنْهُ. فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْبلَاء ضرب نَفسه بسكين فِي حلقومه ليهلك فبادر الأعوان وأخذوها مِنْهُ وَقد جرحت حلقه فأسرف الأكز فِي عُقُوبَته وعقوبة رفقائه وَضرب الْقصب فِي أظفار ابْن أبي الزين. ثمَّ خرج النشو إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة. فَقدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر رَجَب وَهُوَ مقدمه الْعَاشِر فَقَامَ فِي خلاص ابْن هِلَال الدولة وساعده الْأَمِير قوصون حَتَّى أفرج عَنهُ. ثمَّ قدم النشو من الْإسْكَنْدَريَّة فشق عَلَيْهِ أَن ابْن هِلَال الدولة قد أفرج عَنهُ وأغرى بِهِ السُّلْطَان حَتَّى أَمر الْوَالِي بإحضاره إِلَى القلعة وَخرج إِلَيْهِ الأكز وأخرق بِهِ وبلغه عَن السُّلْطَان أَنه مَتى اجْتمع بِهِ أحد شنقه فَنزل وَأقَام بالقرافة منجمعاً بهَا عَن النَّاس. وَأَفْرج عَن أَقَاربه وألزمه وَعَن تجار الشرابشيين بَعْدَمَا كتب النشو عَلَيْهِم إشهادات بِأَنَّهُم لَا حق لَهُم فِي جِهَة بَيت المَال وَكَانَ قد تجمع لَهُم عَن ثمن تشاريف مبلغ بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم على الخزانة فَذهب عَلَيْهِم وصودروا مَعَ ذَلِك وَاحْتج عَلَيْهِم النشو بِأَنَّهُم ربحوا على السُّلْطَان فِيمَا تقدم أَمْوَالًا جمة وَضرب مِنْهُم جمَاعَة بالمقارع واستأصل أَمْوَال كثير مِنْهُم. وَفِيه كتب إِلَى نَائِب الشَّام بعد سَفَره فِي يَوْم السبت حادي عشر رَجَب بِحمْل عَلَاء الدّين عَليّ بن حسن المرواني وَالِي بر دمشق لستقر فِي كشف الشرقية بِتَعْيِين الْأَمِير مَسْعُود بن خطير. فَقدم المرواني وخلع عَلَيْهِ بكشف الْوَجْه البحري فكبس الْبِلَاد وَجمع سِتِّينَ رجلا من المفسدين ووسطهم بِمَدِينَة بلبيس. وعلقهم على الْخشب وأحدث عقوبات مشنعة: مِنْهَا أَنه كَانَ ينعل الرجل فِي قَدَمَيْهِ كَمَا ينعل الْفرس ويمشيه حَتَّى يشهره وَمِنْهَا أَنه كَانَ يعلق الرجل فِي خطَّاف من حَدِيد يحتكه حَتَّى يَمُوت فأرهب النَّاس بالشرقية والغربية والبحيرة والمنوفية وأشوم بِكَثْرَة أثاره المهولة فِيهَا. وفيهَا صرف شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود كَاتب السِّرّ(3/187)
بِدِمَشْق وَكتب نَائِب الشَّام يطْلب غَيره فعين السُّلْطَان لكتابة السِّرّ بِدِمَشْق جمال الدّين عبد الله بن كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن سعيد بن الْأَثِير من حَملَة الموقعين بعد عرضهمْ وخلع عَلَيْهِ ووصاه وَصَايَا كَثِيرَة.
(وَفِي خَامِس رَمَضَان)
قدم الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن التركماني فَلم يقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان وَذَلِكَ بسعاية النشو عَلَيْهِ أَنه جمع من المباشرات أَمْوَالًا جمة وَأَن متاجره الْآن بطرابلس تنيف على مائَة ألف دِينَار وَأَن عِنْده من الْكتاب من يُحَقّق فِي جِهَته مبلغ مِائَتي ألف وَسِتِّينَ ألف دِينَار أَخذهَا من مَال السُّلْطَان فَنزل ابْن التركماني وَلزِمَ بَيته. وَفِي تَاسِع عشر شَوَّال. خلع عَليّ بالشريف عطيفة بن أبي نمي الحسني وَكَانَ قد قدم وشكا من أَخِيه رميثة أَمِير مَكَّة فَأَشْرَف بَينهمَا فِي الإمرة. وفيهَا اشتدت الْعقُوبَة على أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق وعَلى قرموط ورفيقه حَتَّى أظهرُوا مَالا كثيرا. وأنعم على لُؤْلُؤ بإمرة طبلخاناه وَكَثُرت الْخلْع عَلَيْهِ من السُّلْطَان وَعظم الْبلَاء بِهِ. وفيهَا أَقَامَ النشو رجلا لمرافعة الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن المحسني وَالِي دمياط بِأَنَّهُ أخرب أساساً قَدِيما فِي الْبَحْر بَين البرجين كَانَت عَلَيْهِ طلسمات تمنع بَحر الْملح عَن النّيل حَتَّى تلفت طلسمات وَغلب الْبَحْر على النّيل فَتلفت الْبَسَاتِين وَأَنه نَالَ من ثمن حِجَارَة هَذَا الأساس مَالا وفيهَا قبض النشو على زَوْجَة مُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق وعوقبت وَهِي حَامِل عُقُوبَة شَدِيدَة على إِحْضَار المَال حَتَّى طرحت مَا فِي بَطنهَا ولدا ذكرا وَقبض أَيْضا على أَوْلَاد ابْن الجيعان كتاب الإسطبل. وَذَلِكَ أَن النشو كَانَت لَهُ عَجَائِز يتجسسن فِي بيُوت الْكِبَار فبلغنه عَن أَوْلَاد ابْن الجيعان أَن نِسَاءَهُ يذكرن كَثْرَة ظلمه وعسفه وأنهن يدعونَ عَلَيْهِ وبلغنه أَيْضا أَن أحد أَوْلَاد ابْن الجيعان يسْعَى فِي نظر الْجَيْش وَالْآخر يسْعَى فِي نظر الْخَاص. فَطلب النشو كَاتب الإسطبل مِنْهُم وألزمه بِكِتَابَة حِسَاب الإسطبل فَامْتنعَ عَلَيْهِ وخاشنة فِي القَوْل. فسعى بِهِ النشو إِلَى السُّلْطَان حَتَّى قَالَ لَهُ مشافهة من شباك الْقصر: لم لَا تعْمل حِسَاب الإسطل وتعطيه النَّاظر يَعْنِي النشو فَقَالَ: يَا خوند بدل مَا تطلب حِسَاب العبي والمقاود اطلب حِسَاب الذَّهَب الَّذِي يدْخل فِي خزائنك وَأَغْلظ فِي حق النشو حَتَّى قَالَ لَهُ: ونعمة مَوْلَانَا السُّلْطَان أظهر فِي جهتك مِائَتي ألف دِينَار فَقَامَتْ قِيَامَة النشو وانفض الْمجْلس على ذَلِك. فمازال(3/188)
النشو بأولاد ابْن الجيعان حَتَّى سلمهم إِلَى لُؤْلُؤ فعاقبهم حَتَّى هَلَكُوا وَأخذ موجودهم فَلم يكتف بذلك فَقبض على أقاربهم وألزامهم وصودر جمَاعَة بسببهم. وَفِيه خلع عَليّ عَلَاء الدّين عَليّ بن حسن المرواني الكاشف وَاسْتقر فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن بلبان المحسني. وَتَوَلَّى المرواني هدم قناطر السبَاع الَّتِي عمرها الظَّاهِر بيبرس على الخليح بَين الْقَاهِرَة ومصر وزيدت فِي سعتها عشرَة أَذْرع وأعيدت أحسن مَا كَانَت وَركبت السبَاع الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا من عهد الظَّاهِر على حَالهَا. وفيهَا كثر شغف السُّلْطَان بمملوكه ألطنبغا المارديني شغفاً زَائِدا وَقَاه فَأحب أَن ينشئ لَهُ جَامعا تجاه ربع الْأَمِير سيف الدّين طغي خَارج بَاب زويلة وَاشْترى عدَّة دور من ملاكها برضاهم. فَانْتدبَ السُّلْطَان لذَلِك النشو فَطلب أَرْبَاب الْأَمْلَاك وَقَالَ لَهُم: الأَرْض للسُّلْطَان وَلكم قيمَة الْبناء ومازال بهم حَتَّى ابتاعها مِنْهُم بِنصْف مَا فِي مكاتيبهم من الثّمن وَكَانُوا قد أَنْفقُوا فِي عمارتها بعد مشتراها جملَة فَلم يعْتد لَهُم مِنْهَا بِشَيْء. وَقَامَ المارديني فِي عمَارَة الْجَامِع حَتَّى تمّ فِي أحسن هندام فجَاء مصرفه ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم ونيف سوى مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ السُّلْطَان من الْخشب والرخام وَغَيره. وخطب بِهِ الشَّيْخ ركن الدّين عمر بن إِبْرَاهِيم الجعبري من غير أَن يتَنَاوَل لَهُ مَعْلُوما. وفيهَا عمرت قلعة جعبر الْمَعْرُوفَة قَدِيما بدوسر وَكَانَت قد تلاشت بعد أَخذ الْمغل لَهَا فَلَمَّا كملت رتب فِي نيابتها الْأَمِير صارم الدّين بكتوت السنجري نَائِب الرحبة وفيهَا وَقعت قصَّة بدار الْعدْل تَتَضَمَّن الوقيعة فِي النشو وتذكر ظلمه وتسلط أَقَاربه على النَّاس وَكَثْرَة أَمْوَالهم وتعشق صهره ولي الدولة لشاب تركي. وَكَانَ قبل ذَلِك قد ذكر الْأَمِير قوصون للسُّلْطَان أَن عُمَيْرًا الَّذِي شغف بِهِ الْأَمِير ألماس قد ولع بِهِ أقَارِب النشو وأنفقوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة فَلم يقبل السُّلْطَان فِيهِ قَول قوصون أَو غَيره من الْأُمَرَاء لمعرفته بكراهتهم لَهُ. فَلَمَّا قُرِئت عَلَيْهِ الْقِصَّة قَالَ: أَنا أعرف من كتبهَا وأستدعي النشو وَدفعهَا إِلَيْهِ وَأعَاد لَهُ مَا رَمَاه بِهِ الْأَمِير قوصون. فَحلف النشو على بَرَاءَة أَقَاربه من هَذَا الشَّاب وَإِنَّمَا هَذَا وَمثله مِمَّا يَنْقُلهُ حَوَاشِي الْأَمِير قوصون إِلَيْهِ ليبلغه قوصون إِلَى السُّلْطَان حَتَّى يتَغَيَّر خاطره ويوقع بِهِ وبأقاربه وَبكى وَانْصَرف. فَطلب(3/189)
السُّلْطَان الْأَمِير قوصون وَأنكر عَلَيْهِ إصغاءه لما يُقَال فِي النشو وَنَقله للسُّلْطَان حَتَّى يتَغَيَّر عَلَيْهِ مَعَ منفعَته بِهِ وَأخْبرهُ بِحلف النشو. فَحلف قوصون أَن النشو يكذب فِي حلفه وَلَئِن قبض على هَذَا الشَّاب وعوقب ليصدقن السُّلْطَان فِي تَعْيِينه من يعاشره من أقَارِب النشو. فَغَضب السُّلْطَان وَطلب الْأَمِير بدر الدّين مَسْعُود بن خطير الْحَاجِب وَأمره بِطَلَب الشَّاب وضربه بالمقارع حَتَّى يعْتَرف بِجَمِيعِ من يَصْحَبهُ وَكِتَابَة أسمائهم وألزمه أَلا يكتم عَنهُ شَيْئا مِنْهُم فَطَلَبه ابْن خطير وأحضر إِلَيْهِ المعاصير فأملى عَلَيْهِ عدَّة كَثِيرَة من الْأَعْيَان مِنْهُم ولي الدولة فخشي مَسْعُود على النَّاس من الفضيحة وَقَالَ للسُّلْطَان: هَذَا الْكذَّاب مَا ترك أحد فِي الْمَدِينَة حَتَّى أعترف عَلَيْهِ وإنني أعتقد أَنه يكذب عَلَيْهِم. وَكَانَ السُّلْطَان حشم النَّفس يكره الْفُحْش فَقَالَ: يَا بدر الدّين من ذكر من الدوارين فَقَالَ: وَالله يَا خوند! مَا خلى من خَوفه أحدا حَتَّى ذكره. فرسم السُّلْطَان بِإِخْرَاج عُمَيْر وَأَبِيهِ إِلَى غَزَّة وَكتب إِلَى نائبهما أَن يقطعهما خبْزًا هُنَاكَ. وَاتفقَ أَيْضا أَن طيبغا القاسمي من المماليك الناصرية كَانَ يسكن بجوار النشو وَله مَمْلُوك جميل الصُّورَة فاعتشر بِهِ ولي الدوله من إخْوَة النشو فترصده أستاذه حَتَّى هجم يَوْمًا عَلَيْهِم وَهُوَ مَعَهم فأخد مِنْهُم وَخرج فبلغوا النشو ذَلِك فبادر بالشكوى إِلَى السُّلْطَان بِأَن طيبغا القاسمي يعشق مَمْلُوكه ويتلف عَلَيْهِ مَاله ثمَّ إِنَّه هجم وَهُوَ سَكرَان على بَيْتِي وحريمي وَقد شهر سَيْفه وَبَالغ فِي السب. وَكَانَ السُّلْطَان يمقت على السكر فَأمر فِي الْحَال باخراج طيبغا ومملوكه إِلَى الشَّام منفياً. وفيهَا قدم إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان من الكرك يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث ذِي الْحجَّة. وفيهَا أَمر السُّلْطَان بإنشاء قناطر بِنَاحِيَة شيبين الْقصر على بَحر أبي المنجا فأنشئت تسع قناطر فِي شعْبَان وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء بِحمْل الْحِجَارَة إِلَيْهَا فَحمل كل من الْأُمَرَاء مَا وظف عَلَيْهِ من ذَلِك وفيهَا وَقع بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وباء فَكَانَ يَمُوت فِي كل يَوْم خمسه عشر بِمَرَض الخوانيق وَلم يعْهَد مثل هَذَا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة. وفيهَا بلغت زِيَادَة النّيل ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَإِحْدَى عشر أصبعاً فَعم نَفعه(3/190)
عَامَّة الْأَرَاضِي وَكَانَ الْوَفَاء يَوْم الْأَرْبَعَاء ناسع عشر ذِي الْحجَّة، وَهُوَ سادس عشر مسرى. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان بهاء الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن حمايل الْمَعْرُوف بِابْن غَانِم كَاتب السِّرّ بطرابلس فِي ثامن صفر بهَا. وَتُوفِّي الْوَاعِظ شمس الدّين حُسَيْن بن أَسد بن مبارك بن الْأَثِير. بِمصْر يَوْم الْخَمِيس سادس جُمَادَى الْآخِرَة عَن أَربع وَثَمَانِينَ سنة حدث عَن الْحَافِظ عبد الْعَظِيم وَغَيره. وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر الخازن وَالِي الْقَاهِرَة وَهُوَ مَعْزُول يَوْم السبت ثامن جُمَادَى الْآخِرَة عَن نَحْو تسعين سنة أَصله من الممالك المنصورية قلاوون وترقى حَتَّى صَار خَازِنًا ثمَّ شاد الدَّوَاوِين ثمَّ وَالِي ثمَّ اسْتَقر وَالِي الْقَاهِرَة وشاد الْجِهَات فَأَقَامَ عدَّة سِنِين وَإِلَيْهِ ينْسب حكر الخازن خَارج الْقَاهِرَة على بركَة الْفِيل وَكَانَ حسن السِّيرَة وَمَات عَن نَحْو تسعين سنة وتربته بِالْقربِ من قبَّة الشَّافِعِي بالقرافة. وَمَات الْأَمِير صَلَاح الدّين طرخان ابْن الْأَمِير بدر الدّين بيسري بسجنه فِي الْإسْكَنْدَريَّة فِي جُمَادَى الأولى بعد مَا أَقَامَ بِهِ أَربع عشرَة سنة. وَتُوفِّي الْحَافِظ قطب الدّين عبد الْكَرِيم بن عبد النُّور بن مُنِير بن عبد الْكَرِيم الْحَنَفِيّ وَله تَارِيخ مصر مقفى وَشرح البُخَارِيّ وَشرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِلْحَافِظِ عبد الْغَنِيّ ومشيخة فِي عدَّة أَجزَاء اشْتَمَلت على ألف شيخ. وَتُوفِّي زين الدّين عبد الْكَافِي بن الضياء عَليّ بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام الْأنْصَارِيّ الخزرجي السُّبْكِيّ بالمحلة الْكُبْرَى وَهُوَ على قَضَائهَا وَهُوَ وَالِد التقي السُّبْكِيّ.(3/191)
وَمَات الْملك الْعَزِيز عُثْمَان بن المغيث عمر ابْن الْعَادِل أبي بكر ابْن الْكَامِل مُحَمَّد ابْن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بن شادي بِالْقَاهِرَةِ ومولده سنة اثْنَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة. وَمَات الْأَمِير طغلق الأشرفي السِّلَاح دَار بِالْقَاهِرَةِ بعد الإفراج عَنهُ بأسبوع. وَمَات الصاحب شمس الدّين عبد الله واسْمه غبريال أبي سعيد بن أبي السرُور الْأَسْلَمِيّ نَاظر الشَّام بَعْدَمَا صودر اتضع حَاله حَتَّى استجدى من الْأُمَرَاء وَنَحْوهم وَكَانَ النشو يغري بِهِ السُّلْطَان بِأَنَّهُ يكذب وَأَن تسلمه أظهر لَهُ مَالا كَبِيرا فاشتملت تركته على ألف دِرْهَم وبسببها استطال النشو على السُّلْطَان وَصَارَ قَوْله عِنْده لَا ينْقض. وَتُوفِّي الْمسند أَمِين الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الخلاطي الوان الْمُؤَذّن بالجامع الآموي فِي حادي عشرى ربيع الأول بِدِمَشْق سمع بِمصْر وَالشَّام والحجاز وَحدث عَن جمَاعَة. وَمَات مُحَمَّد بن بكتوت الظَّاهِرِيّ القلندري بطرابلس فِي خَامِس عشر ربيع الأول كَانَ كَاتبا مجوداً وَيذكر أَنه كتب على ابْن الوحيد وَكَانَ يضع المحبرة فِي يَده الْيُسْرَى والمجلد من كتاب الْكَشَّاف للزمخشري على زنده وَيكْتب مِنْهُ مَا شَاءَ الله وَهُوَ يُغني وَلَا يغلط وَكَانَ عِنْد الْمُؤَيد بحماة مده ثمَّ طرده. وَتُوفِّي شيخ الْكِتَابَة بهاء الدّين مَحْمُود بن الْخَطِيب محيي الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم ابْن عبد الْوَهَّاب بن عَليّ بن أَحْمد بن عقيل السّلمِيّ الْمَعْرُوف بِابْن خطيب بعلبك الدِّمَشْقِي بهَا فِي سلخ ربيع الأول عَن سبع وَأَرْبَعين سنة. وَمَات الْأَمِير مهنا بن عِيسَى بن مهنا فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن عشر ذِي الْقعدَة بسلمية وَدفن بهَا عَن ثَمَانِينَ سنة وَترك سِتَّة عشر ولدا وَكَانَ عفيفاً مشكور السِّيرَة. وَتوفيت ناصرية إبنة إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن السُّبْكِيّ وَالِدَة التقي بعد زَوجهَا زين الدّين عبد الْكَافِي السُّبْكِيّ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا حدثت عَن عَليّ بن الصَّواف ودفنت بالقرافة. وَتوفيت زَيْنَب بنت الْخَطِيب يحيى ابْن الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام عَن سبع وَثَمَانِينَ سنة وَقد تفردت بالرواية عَن جمَاعَة وَقتل ترمشين بن دوار الْمغل(3/192)
صَاحب بَلخ وبخارا وسمرقند ومرو وَكَانَ قد أسلم وَحسن إِسْلَامه وأبطل المكوس وَعدل فِي رَعيته وَملك بعده بزان.(3/193)
فارغة(3/194)
سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِي الْمحرم: قدم مَمْلُوك الْمجد السلَامِي من الْعرَاق بِكِتَاب أستاذه وصحبته بيرم رَسُول بوسعيد فَنزلَا بدار الضِّيَافَة وسافرا يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشريه. وَكَانَ الْكتاب يتَضَمَّن أَن بوسعيد مرض فَتصدق بِمَال كثير وَكتب بِإِسْقَاط المكوس من توريز وبغداد والموصل بِوَاسِطَة الْوَزير مُحَمَّد بن الرشيد وَأَن سديد الدولة ديان الْيَهُود مر بقارئ يقْرَأ قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَخلق مِنْهَا زَوجهَا وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيباً فَوقف واستعاده قرَاءَتهَا وَبكى بكاء شَدِيدا وَقد اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس ثمَّ أعلن بِكَلِمَة الْإِسْلَام فارتجت بَغْدَاد لإسلامه وغلقت أسواقها وَخرج النِّسَاء وَالْأَوْلَاد فَأسلم بِإِسْلَامِهِ سِتَّة من أَعْيَان الْيَهُود وسارعت الْعَامَّة بِبَغْدَاد إِلَى كنائس الْيَهُود فخربوها ونهبوا مَا فِيهَا. وفيهَا تمّ بِنَاء خانكاه الْأَمِير قوصون بجوار جَامعه من دَاخل بَاب القرافة وتمت عمَارَة حمامها أَيْضا. فقرر قوصون فِي مشيختها الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن مَحْمُود الْأَصْفَهَانِي فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي صفر وَعمل بهَا سماط جليل. وَفِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر ربيع الآخر: توجه السُّلْطَان إِلَى الْوَجْه القبلي حَتَّى وصل إِلَى دندرا وَعَاد فطلع القلعة فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الأولى وَكَانَت غيبته خَمْسَة وَأَرْبَعين وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ربيع الأول: عزل الْأَمِير سيف الدّين بغا عَن الدوادارية وَاسْتقر عوضه سيف الدّين طاجار المارديني ثمَّ أخرج بغا عَن إمرة(3/195)
عشرَة بصفد فِي لَيْلَة الْجُمُعَة سادس ربيع الآخر. وَسَببه أَن بعض تجار قيسارية جهاركس طرح عَلَيْهِ النشو ثيابًا بضعفي قيمتهَا كَمَا هِيَ عَادَته فَرفع قصَّة للسُّلْطَان على يَد بغا وأحضره بغا بَين يَدَيْهِ فَشَكا حَاله. فاستدعى السُّلْطَان النشو بِحُضُور التَّاجِر وَقَالَ لَهُ: كم تَشْكُو النَّاس مِنْك اسْمَع مَا يَقُول هَذَا عَنْك من طرح القماش عَلَيْهِ بأغلى الْأَثْمَان. فَقَالَ: يَا خوندا هَذَا مَا يشتكي من أَمر القماش لكنه عَلَيْهِ للسُّلْطَان مبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَقد هرب مني وَأَنا أتطلبه. وَهَذَا الْمبلغ من إِرْث جَارِيَة تزَوجهَا التَّاجِر - وَهِي من جواري الشَّهِيد الْملك الْأَشْرَف خَلِيل - مَاتَت عِنْده وخلفت نَحْو مائَة ألف دِينَار وَمَا بَين جَوَاهِر وَغَيرهَا فأخد الْجَمِيع وَلم يظْهر السُّلْطَان على شَيْء. ثمَّ الْتفت النشو إِلَى التَّاجِر وَقَالَ لَهُ: بحياة رَأس السُّلْطَان مَا كنت متزوجاً بفلانة - يَعْنِي الْجَارِيَة الْمَذْكُورَة - فَقَالَ: نعم! . فَأمره السُّلْطَان أَن يُسلمهُ لِابْنِ صابر الْمُقدم حَتَّى يستخلص مِنْهُ المَال فَأَخذه ابْن صابر وشهره بِالْقَاهِرَةِ وعاقبه بالقيسارية مرَارًا حَتَّى أَخذ مِنْهُ مبلغ خمسين ألف دِرْهَم. ثمَّ تحول النشو على بغا وسعى بِهِ أَنه يَأْخُذ البراطيل وَكَانَ السُّلْطَان لَا يرتشي ويمقت من يرتشي ويعاقبه أَشد الْعقُوبَة فأثر كَلَامه عِنْد السُّلْطَان حَتَّى أخرجه. وسعى النشو أَيْضا بطقتمر الخازن حَتَّى غير السُّلْطَان عَلَيْهِ وَأخرجه إِلَى قلعة حلب نَائِبا بهَا فِي تَاسِع عشرى رَجَب. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة: رسم للأمير سيف الدّين أيتمش المحمدي(3/196)
بنيابة صفد عوضا عَن أرقطاي المرسوم بنقله إِلَى مصر فَخلع عَلَيْهِ يَوْم السبت حادي عشره وودع السُّلْطَان يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر رَجَب. وَخرج أيتمش إِلَى الريدانية ثمَّ رَحل مِنْهَا يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره فَقدم صفد يَوْم السبت ثامن شعْبَان. وَقدم الْأَمِير أرقطاي إِلَى قلعة الْجَبَل يَوْم الْأَحَد سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة وأنعم عَلَيْهِ بإقطاع أيتمش وتقدمته وأكرمه السُّلْطَان. وَفِيه أخرج بلبان الحسامي وَالِي الْقَاهِرَة كَانَ - إِلَى ولَايَة دمياط ثامن عشره وَاسْتقر عوضه فِي ولَايَة الْقَاهِرَة عَلَاء الدّين بن حسن المرواني وَهُوَ وَالِي الْوُلَاة بِالْوَجْهِ البحري يَوْمئِذٍ. وَفِي لَيْلَة ثَالِث عشر رَجَب: قبض على ابْن هِلَال الدولة وعَلى نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن المحسن وَأَخْرَجَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة بسعاية النشو عَلَيْهِمَا. وَسَببه أَن النَّاس توقفت أَحْوَالهم فِي الْقَاهِرَة من جِهَة الْفُلُوس وتحسنت أسعار الغلال وَتعذر شِرَاء الْخبز إِلَّا بِمَشَقَّة. فَوجدَ النشو سَبِيلا إِلَى القَوْل وَرمي ابْن هِلَال الدولة بِأَنَّهُ تحول من القرافة إِلَى جوَار نَاصِر الدّين بن المحسني بِخَط البندقانيين من الْقَاهِرَة وأنهما يَجْتَمِعَانِ لَيْلًا ويندبان عدَّة من الْعَامَّة لإغلاق دكاكين الْقَاهِرَة والتعنت فِي أَمر الْفُلُوس وَأَن نَاصِر الدّين بن المحسني قد بَاطِن جمَاعَة من الحرامية على الفتك بِي وَأَن إِقَامَة الْإِثْنَيْنِ بِالْقَاهِرَةِ توجب فَسَادًا كَبِيرا. ومازال النشو بالسلطان حَتَّى إخرجهما بَعْدَمَا قبض عَلَيْهِمَا وَكَانَ ابْن هِلَال الدولة من ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ فِي الترسيم بالقلعة ثمَّ أخرج بدر الدّين وَالِد ابْن المحسني وَإِخْوَته إِلَى طرابلس. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث رَمَضَان: دخل الْأَمِير الشريف بدر الدّين ودي بن جماز ابْن شيحة الحسني أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة شاكياً من ابْن أَخِيه طفيل بن مَنْصُور بن جماز أَنه(3/197)
لم يُوَافق على مَا رسم بِهِ من شركتهما فِي الإمرة. وَكَانَ قد رسم فِي سادس عشر الْمحرم لودي بِنصْف الإمرة شركَة بَينه وَبَين ابْن أَخِيه طفيل وخلع عَلَيْهِ وَكتب لَهُ توقيع بِوَاسِطَة الْأَمِير شرف الدّين مُوسَى بن مهنا عِنْد قدومه فَقدم طفيل من الْمَدِينَة فِي جُمَادَى الأولى ليَكُون بمفرده فِي الإمرة فَلم يجب إِلَى ذَلِك. ثمَّ آل الْأَمر إِلَى أَن اسْتَقر ودي بمفرده فِي الإمرة بِغَيْر شريك وخلع عَلَيْهِ فِي عَاشر شَوَّال وَتوجه مَعَ الركب ورسم لطفيل بإقطاع فِي بِلَاد حوران بِالشَّام فسكنها بعياله. وَفِي تَاسِع شهر رَمَضَان: أنعم على إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان بإمره وَنزل الْأَمِير قوصون والأمير بشتاك بِهِ إِلَى الْمدرسَة المنصورية بَين القصرين وَعمل مُهِمّ عَظِيم. وألبس الْأَمِير إِبْرَاهِيم الشربوش على الْعَادة وشق الْقَاهِرَة فِي موكب جليل وَقد زينت بالشموع والقناديل حَتَّى صعد القلعة. وفيهَا رَافع التَّاج كَاتب الْأَمِير بكتوت التَّاج محيي الدّين بن فضل الله كَاتب السِّرّ وَولده شهَاب الدّين أَحْمد بِوَرَقَة قَرَأَهَا السُّلْطَان تَتَضَمَّن أَنَّهُمَا عزلاه بِغَيْر علم السُّلْطَان. فطلبهما السُّلْطَان وأوقفهما عَلَيْهِمَا فعرفاه أَن هَذَا كَانَ يكْتب الْإِنْشَاء بغزة فَكتب تواقيع بِغَيْرِهِ بذلك بِمُقْتَضى قصَّة مشمولة بالخط الشريف وأحضرا الْقِصَّة فَأخْرج الرجل وَوجد النشو طَرِيقا للوقوع فِي ابْن فضل الله فتسلط عَلَيْهِ بالْكلَام السَّيئ. وفيهَا اشتدت وَطْأَة النشو على النَّاس وابتكر مظلمه لم يسْبق إِلَيْهَا. وَهِي أَنه ألزم الصاغة وَدَار أهل الضَّرْب أَلا يبْتَاع أحد مِنْهُم ذَهَبا بل يحمل الذَّهَب جَمِيعه إِلَى دَار الضَّرْب ليصك بصكة السُّلْطَان وَيضْرب دَنَانِير هرجة ثمَّ تصرف بِالدَّرَاهِمِ فَجمع من ذَلِك مَالا كَبِيرا للديوان. ثمَّ تتبع النشو الذَّهَب الْمَضْرُوب فِي دَار الضَّرْب فَأخذ مَا(3/198)
كَانَ مِنْهُ للتجار والعامه وعوضهم عَنهُ بضائع وَحمل ذَلِك كُله للسُّلْطَان. وانحصر ذهب مصر بأجمعه فِي دَار الضَّرْب فَلم يَجْسُر أحد على بيع شَيْء مِنْهُ فِي الصاغة وَلَا غَيرهَا. ثمَّ إِن السُّلْطَان استدعى مِنْهُ بِعشْرَة أُلَّاف دِينَار فَاعْتَذر عَنْهَا فَلم يقبل عذره ونهره فَنزل النشو وألزم أَمِين الحكم بِكِتَابَة مَا تَحت يَده من مَال الْأَيْتَام وَطلب مِنْهُ عشرَة أُلَّاف دِينَار قرضا فِي ذمَّته فدله على مبلغ أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم لأيتام الدواداري تَحت ختم بهاء الدّين شَاهد الْجمال فَأَخذهَا مِنْهُ وعوضه عَنْهَا بضائع. ثمَّ بعث النشو إِلَى قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن عِيسَى الإخنائي الْمَالِكِي فِي تَمْكِينه من مَال أَوْلَاد الْأَمِير أرغون النَّائِب وَهُوَ سِتَّة أُلَّاف دِينَار وَكَانُوا تَحت حجره فَامْتنعَ وَقَالَ: السُّلْطَان مَا يجل لَهُ أَخذ مَال الْأَيْتَام فَرد عَلَيْهِ: بِأَن السُّلْطَان إِنَّمَا يطْلب المَال الَّذِي سَرقه أَخُوك من خزانَة الْخَاص حَيْثُ كَانَ ناظرها فَإِن الْحساب يشْهد عَليّ بِمَا سَرقه من الخزانة وَقَامَ فِي فورة إِلَى السُّلْطَان ومازال بِهِ حَتَّى بعث إِلَى القَاضِي يلْزمه يحمل المَال الَّذِي سَرقه أَخُوهُ من الخزانة وَيَقُول لَهُ: أَنْت إيش كنت من مملوكي فَلم يجد قَاضِي الْقُضَاة بدا من تَمْكِين النشو من أَخذ المَال. وفيهَا أَمر السُّلْطَان أَيْضا بتَشْديد الْعقُوبَة على أَوْلَاد التَّاج إِسْحَاق وألزامهم. وفيهَا تحركت أسعار الغلال من نصف جُمَادَى الْآخِرَة وارتفع الْقَمْح من خَمْسَة عشر درهما الأردب إِلَى عشْرين درهما ثمَّ إِلَى ثَلَاثِينَ درهما فوقفت أَحْوَال النَّاس. وارتفع الْقَمْح إِلَى أَرْبَعِينَ درهما فَأمْسك الْأُمَرَاء وَغَيرهم من البيع طلبا للفائدة فخاف السُّلْطَان عَاقِبَة ذَلِك فَطلب نجم الدّين مُحَمَّد بن حُسَيْن بن على الأسعردي الْمُحْتَسب وَقد بلغ الأردب خمسين درهما وَأنكر عَلَيْهِ وَأقَام مَعَه وَالِي الْقَاهِرَة عَلَاء الدّين عَليّ بن حسن المرواني وَكَانَ ظَالِما غشوماً. فَضرب الْوَالِي عدَّة من الطحانين والخبازين بالمقارع فَاشْتَدَّ الْأَمر وغلقت الحوانيت بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَتعذر شِرَاء الْخبز إِلَّا بِمَشَقَّة عَظِيمَة. فَكتب السُّلْطَان بِحمْل الغلال من غَزَّة والكرك والشوبك وبلاد دمشق وَألا يتْرك بهَا غلَّة مخزونة حَتَّى تحمل إِلَى الْقَاهِرَة. وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر أَلا يُبَاع الْقَمْح بِأَكْثَرَ من ثَلَاثِينَ درهما الأردب وَمن بَاعَ بِأَكْثَرَ من ثَلَاثِينَ نهب مَاله وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأُمَرَاء بألا يخالفوا ذَلِك. فَأمْسك مباشرو الْأُمَرَاء أَيْديهم عَن البيع وصاروا يَجْلِسُونَ بِأَبْوَاب الشون وَلَا يبيعون مِنْهَا شَيْئا فَاشْتَدَّ الْأَمر. وَبَاعَ السماسرة الأردب بستين وبسبعين خُفْيَة وَصَارَ الْأُمَرَاء يخرجُون الْغلَّة من الشون على أَنَّهَا جراية لمخاديمهم وَمَا هِيَ إِلَّا مَبِيع بِمَا ذكر. فاهتم السُّلْطَان بالغلاء وشق عَلَيْهِ مَا بِالنَّاسِ من ذَلِك وَعلم أَن أَكثر الغلال إِنَّمَا هِيَ لِلْأُمَرَاءِ فَطلب ضِيَاء الدّين يُوسُف أبي بكر بن مُحَمَّد الشهير بالضياء ابْن خطيب(3/199)
بَيت الْآبَار الشَّامي نَاظر المارستان وناظر الْأَوْقَاف وَقد اشتهرت نهضته وكفايته وأمانته وفوض إِلَيْهِ الْحِسْبَة بِمصْر بعد امْتِنَاعه مِنْهُمَا وأكد عَلَيْهِ فِي الْقيام بِمَا نَدبه إِلَيْهِ وخلع عَلَيْهِ فِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة. وَنزل الضياء وَمَعَهُ الأكز شاد الدَّوَاوِين إِلَى مصر فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَأول مَا بَدَأَ بِهِ الضياء أَن ختم شون الْأُمَرَاء كلهَا بعد أَن كتب مَا فِيهَا من عدَّة الأرادب وَكتب مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْأَمِير من الجراية لمئونته والعليق لدوابه إِلَى حِين قدوم الْمغل الْجَدِيد ثمَّ طلب الشماسرة والأمناء والكيالين وَأشْهد عَلَيْهِم أَلا تفتح شونة إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَصَارَ الضياء يركب فِي كل يَوْم إِلَى شونة وَيخرج مَا فِيهَا فَيبْدَأ بتكفية الطحانين وَلَا يَبِيع الأردب إِلَّا بِثَلَاثِينَ درهما فَلم يقدر أحد على بَيْعه بِأَكْثَرَ من ذَلِك. ثمَّ بلغ الضياء أَن سمساري الأميرين قوصون وبشتاك باعا بِأَكْثَرَ من ذَلِك فاستدعي الْأَمِير الأكز إِلَى مصر فضربهما بالمقارع واشهرهما. ثمَّ عرف الضياء السُّلْطَان بأمرهما فَاشْتَدَّ غَضَبه وَطلب الْأَمِير قوصون حَضْرَة الْأُمَرَاء وصرخ عَلَيْهِ: وَيلك أَنْت تُرِيدُ أَن تخرب على مصر وتخالف مرسومي وسبه ولعنه وَشهر عَلَيْهِ السَّيْف وضربه على أكتافه وَرَأسه وَصَارَ يَقُول: هاتوا أستاداره فسارع النُّقَبَاء لإحضاره وَمن شَره غضب السُّلْطَان صَار يقوم وَيقْعد وَيَقُول هاتوا أستاداره حَتَّى خرج أَمِير مَسْعُود الْحَاجِب بِنَفسِهِ إِلَى بَاب القلعة والحاجب الآخر. وارتجت القلعة بأسرها وَخَافَ الْأُمَرَاء كلهم فَلم ينْطق أحد مِنْهُم لشدَّة مَا رَأَوْا من غضب السُّلْطَان. فَلم يكن أسْرع من حُضُور قطلو أستادار قوصون فَأمر السُّلْطَان الأكز بضربه بالمقارع ثمَّ أَمر بِهِ فبطح بَين يَدَيْهِ وَضرب خوفًا عَلَيْهِ من إفحاش الأكز فِي ضربه فَلم يتجاسر أحد بعْدهَا من الْأُمَرَاء أَن يفتح شونته إِلَّا بِأَمْر ثمَّ بلغ الضياء أَن الْأَمِير طشتمر الساقي أخرج من شونته أَرْبَعمِائَة أردب فَأنْكر على ديوانه وَحلف أَنهم إِن لم يُعِيدُوا الأربعمائة أردب إِلَى الشونة وَإِلَّا عرف السُّلْطَان ذَلِك فَلَمَّا بلغ الْأَمِير طشتمر هَذَا رد الْغلَّة إِلَى الشونة. وَكتب السُّلْطَان إِلَى وُلَاة الْأَعْمَال أَن يركبُوا بِأَنْفسِهِم إِلَى جَمِيع النواح ويحملوا مَا بهَا من الغلال بِحَيْثُ لَا يدعونَ غلَّة فِي مطمورة وَلَا مخزن وَلَا أحد عِنْده غلَّة حَتَّى يحمل ذَلِك كُله إِلَى مصر وتحضر أَرْبَابهَا لأخذ أثمانها عَن كل أردب مبلغ ثلانين درهما وَنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصر: من كَانَ عِنْده غلَّة وَلَا يَبِيعهَا نهبت.(3/200)
وَكَانَ قد بلغ السُّلْطَان أَن الأجناد عِنْدهم غلال وهم يبيعونها بالويبة فَبَاعَ بَعضهم بعد النداء وتهاون طَائِفَة مِنْهُم فَلم يبيعوا شَيْئا. فنم عَلَيْهِم جيرانهم حَتَّى كَانَ مِنْهُم من تهجم السوقة الحرافيش عَلَيْهِ وتنهبه وَمِنْهُم من يغمز عَلَيْهِ فيأتيه الْوَالِي وَيخرج غَلَّته حَتَّى تفرق على الطحانين. وأقيم فِي كل فرن شَاهد لحصر مَا يحمل إِلَيْهِ من الدَّقِيق الْمُرَتّب لَهُ وَعمل معدل كِفَايَة الْبَلَد فِي كل يَوْم وَفرق الْقَمْح فيهم على قدر كفايتهم فسكن مَا كَانَ بَين النَّاس من العناء فِي طلب الْخبز وَمن ضرب الطحانين والخبازين. فَلَمَّا كَانَ فِي آخر شهر رَجَب: قدم من الشَّام أَربع أُلَّاف غرارة قَمح. ثمَّ قدم فِي أخر شعْبَان أحمال كَثِيرَة من بِلَاد الصَّعِيد وتبعها الْحمل فِي الْبر وَالْبَحْر من الشرقية والغربية والبحيرة. وَخَافَ أَرْبَاب الغلال على أنفسهم فأخرجوها للْبيع حَتَّى إِذا أهل شهر رَمَضَان قدمت التراويج فِي أَوَائِل الْحَصاد. وَوَافَقَ ذَلِك النداء على النّيل بِالزِّيَادَةِ فعبرت المراكب فِيهِ بالغلال إِلَى سَاحل مصر وزفت بالمغاني وَكَانَ الْخبز يُبَاع سِتَّة أَرْطَال بدرهم فَبيع من الْغَد ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم. فَلم يَنْسَلِخ لشهر رَمَضَان حَتَّى فرج الله عَن عباده وَنزل السّعر قَلِيلا قَلِيلا بَعْدَمَا ظن كثير من النَّاس أَنه نَظِير غلاء الْعَادِل كتبغا فَسلم الله بمنه. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر شَوَّال: قدم رسل الْملك مُوسَى الَّذِي ملك بعد أربا كاؤن وَرَسُول عَليّ بادشاه. فَخلع عَلَيْهِمَا وأنعم على جماعته بِمَال كثير. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة: ركبُوا من القلعة بعد الصَّلَاة ومضوا فزاروا الإِمَام الشَّافِعِي والسيدة نفيسة وعادوا إِلَى التربة المنصورية بَين القصرين فزاروا قبر السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون وعدوا المارستان وطلعوا إِلَى القلعة ودقت الكوسات عِنْد نزولهم مِنْهَا ثمَّ عِنْد عودهم إِلَيْهَا وسافروا فِي تَاسِع عشريه. وَمُلَخَّص كتبهمْ الْخَبَر بِمَوْت ملك الشرق القان بوسعيد ابْن القان مُحَمَّد خربندا بن أرغون أبغا ابْن عَدو الله هولاكو بن طلوخان ابْن عَدو الله جنكز خَان بِالْبَابِ الْحَدِيد وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى لِقَاء أزبك خَان(3/201)
وَأَنه قَامَ من بعده أربا كاؤن بن صوصا بن سنجقان بن ملكتمر بن أريغبغا أخي هولاكو بمساعدة الْوَزير غياث الدّين بن رشيد الدّين. فَلم يُوَافقهُ عَليّ بادشاه حَاكم بَغْدَاد فِي الْبَاطِن واستمال أَوْلَاد سونتاي فَلم يوافقوه فَجمع على بادشاه الْمغل عَلَيْهِ وَكتب إِلَى السُّلْطَان النَّاصِر يعده بِأَنَّهُ يسلم بَغْدَاد وَيكون نَائِبا عَنهُ بهَا وَسَأَلَهُ فِي إعانته بنجدة على أَوْلَاد سونتا تكون مُقِيمَة على الْفُرَات. ففرح السُّلْطَان بذلك وأجابه بالشكر وَبعث إِلَيْهِ خَمْسَة قواقل وَخَمْسَة سيوف. فقوي عزم عَليّ بادشاه وَركب إِلَى أَوْلَاد سونتاي فَاجْتمعُوا على الشَّيْخ حسن بن أقبغا أيلخان سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو الْمَعْرُوف بالشيخ حسن بك الْكَبِير النوين - بالأردو وعرفوه انتماء عَليّ بادشاه لصَاحب مصر ونصرته لَهُ. فَكتب الشَّيْخ حسن الْكَبِير إِلَى السُّلْطَان يرغبه فِي نصرته على عَليّ بادشاه ويمت إِلَيْهِ بقرابته من أمه فمطل بِالْجَوَابِ رَجَاء حُضُور خبر عَليّ بادشاه. فَقدم الْخَبَر بِأَن عَليّ بادشاه لما ركب لِحَرْب أَوْلَاد سونتاي بلغه اجْتِمَاعهم وَالشَّيْخ حسن مَعَ عدَّة من الْأُمَرَاء وَأَن أربا كاؤن هرب لتفلل أَصْحَابه عَنهُ وَأشيع عَنهُ أَنه قتل. وَقَوي عَليّ بادشاه بِمن أنضم إِلَيْهِ من الْمغل فَسَار أَوْلَاد سونتاي وَالشَّيْخ حسن إِلَى جِهَة الرّوم وَانْفَرَدَ عَليّ بادشاه بالحكم فِي الأردو وَأقَام مُوسَى بن عَليّ بن بيدو بن طرغاي بن هولاكو على تخت الْملك. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع شَوَّال: تغير السُّلْطَان على الْأَمِير الأكز شاد الدَّوَاوِين وضربه وحبسه مُقَيّدا. وَسبب ذَلِك أَن الْأَمِير قوصون غضب على الأكز من أجل أَنه أخرق بقطلو أستاداره عِنْدَمَا بَاعَ شماسرة الْقَمْح بأزيد من ثَلَاثِينَ درهما الأردب فعندما رأه فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة سبه فَرد عَلَيْهِ الأكز ردا فَاحِشا سبه فِيهِ كَمَا سبه فَاشْتَدَّ حنق قوصون مِنْهُ وهم أَن يلكمه فبدر إِلَيْهِ وهم فِي ذَلِك وَإِذا بالسلطان قد جلس وَسمع الجلبة فَتقدم إِلَيْهِ الأكز وَعرف بِمَا فعله سمسار قوصون وضربه لَهُ وَأَن قوصون غضب عَليّ بِسَبَب ذَلِك وَشَتَمَنِي. فَكَانَ من السُّلْطَان فِي حق قوصون مَا تقدم ذكره وَصَارَ يَقُول: إِذا كَانَ مملوكي يفعل شَيْئا بِغَيْر مرسومي ويعترض على أَي حُرْمَة تبقي لي وَحط على قوصون. فَتَأَخر قوصون عَن الْخدمَة آخر النَّهَار فاستدعاه السُّلْطَان بجمدار فَوَجَدَهُ محموماً وَأقَام بالحمى ثَلَاثَة أَيَّام فَبعث إِلَيْهِ الْأَمِير بشتاك(3/202)
وَطيب خاطره وَهُوَ يشكو مِمَّا جرى عَلَيْهِ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى دخل إِلَى الْخدمَة فَأقبل السُّلْطَان عَلَيْهِ ووعده بالإيقاع بالأكز. ثمَّ طلب السُّلْطَان النشو بعد ذَلِك وحدثه فِي أَمر الأكز وغض مِنْهُ فعين النشو لَهُ لؤلؤا عوض الأكز وَقَامَ عَنهُ وَطلب لؤلؤا وعرفه مَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان وَكَانَ لُؤْلُؤ خَفِيفا أَحمَق فَوضع من الأكز وَدخل من الْغَد إِلَى السُّلْطَان مَعَ الأكز وَأخذ يجبهه بالْكلَام ويرافعه وينكيه حَتَّى حرج مِنْهُ وسبه. فَغَضب السُّلْطَان بِسَبَب ذَلِك وَأمر بِهِ فَضرب بَين يَدَيْهِ وَقيد وسجن بالزردخاناه وخلع على لُؤْلُؤ عوضه فِي شدّ الدَّوَاوِين وخلع على شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن قزوينة ورسم لَهما أَن يمتثلا مَا يرسم بِهِ النشو وَلَا يعملا شَيْئا إِلَّا بمشورته وَنزلا. فَأول مَا بَدَأَ بِهِ لُؤْلُؤ أَن أوقع الحوطة على مَوْجُود الأكز وَقبض على مباشريه وعاقب مُوسَى ابْن التَّاج اسحاق وَنَوع عَذَابه تقرباً لخاطر النشو وعاقب قرموط وطالبه بِحمْل المَال.
(وَفِي ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة)
اسْتَقر عَلَاء الدّين كندغدي الْعمريّ فِي ولَايَة القلعة عوضا عَن بيبرس الأوحدي. وفيهَا سقط طَائِر حمام بالميدان وعَلى جنَاحه ورقة تَضَمَّنت الوقيعة فِي النشو وأقاربه والقدح فِي السُّلْطَان بِأَنَّهُ قد أخرب دولته. فَغَضب السُّلْطَان من ذَلِك غَضبا شَدِيدا وَطلب النشو وَأَوْقفهُ على الورقة وتنمر عَلَيْهِ لِكَثْرَة مَا يشكى مِنْهُ فَقَالَ: ياخوند النَّاس معذورون وَحقّ رَأسك لقد جَاءَنِي خبر هَذِه الورقة لَيْلَة كتبت وَهَذِه فعلة الْعلم أبي شَاكر بن سعيد الدولة نَاظر الْبيُوت كتبهَا فِي بَيت الصفي كَاتب الْأَمِير قوصون وَقد اجْتمع هُوَ وأقاربه. وَأخذ النشو يعرف السُّلْطَان بِمَا كَانَ من أَمر سعيد الدولة فِي أَيَّام بيبرس الجاشنكير وأغراه بِهِ حَتَّى طلبه وَسلمهُ إِلَى الْوَالِي عَلَاء الدّين عَليّ بن حسن المرواني فعاقبه عُقُوبَة مؤلمة. وَطلب السُّلْطَان الْأَمِير قوصون وعنفه على فعل الصفي كَاتبه فَطَلَبه قوصون وهدده فَحلف بِكُل يَمِين على بَرَاءَته مِمَّا رمي بِهِ فتتبع النشو عدَّة من الْكتاب وَجَمَاعَة من الباعة وقبص عَلَيْهِم بِسَبَب أبي شَاكر وَنَوع الْعَذَاب عَلَيْهِم بيد الْوَالِي وَخرب دُورهمْ وحرثها بالمحراث. وَقبض النشو على الْمُوفق هبة الله بن سعيد الدولة ثمَّ أفرج عَنهُ بعناية الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد وعذب ابْن الْأَزْرَق نَاظر الْجِهَات.(3/203)
واشتدث وَطْأَة النشو على النَّاس جَمِيعًا وأوحش مَا بَينه وَبَين الْأُمَرَاء كلهم وثلب أعراضهم عِنْد السُّلْطَان حَتَّى غَيره عَلَيْهِم. ثمَّ رتب النشو ضَامِن دَار الفاكهه فِي أَن وقف للسُّلْطَان وَسَأَلَ أَن يسامح بِمَا تَأَخّر عَلَيْهِ فَإِن دَار الْفَاكِهَة أوقف حَاله فِيهَا من أجل أَن الأعناب الْوَاصِلَة من نَاحيَة مرصفا وَغَيرهَا عصرت خمرًا بِنَاحِيَة شبْرًا فتعطل مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهَا للديوان. فَطلب السُّلْطَان النشو ولؤلؤاً وسألهما عَن ذَلِك وَعَن نَاحيَة شبْرًا فَقَالَا: هِيَ للأمير بشتاك وديوانه إِبْرَاهِيم جمال الكفاة هُوَ الَّذِي يعصر فِيهَا. فرسم للوالي ولؤلؤ أَن يكسرا جَمِيع مَا بشبرا من جرار الْخمر وإحضار من هِيَ عِنْده فَطلب لُؤْلُؤ أستادار بشتاك وأخرق بِهِ فشق ذَلِك على بشتاك وشكاه للسُّلْطَان فَلم يلْتَفت إِلَى شكواه وَقَالَ: أستادارك وديوانك يعصران الْخمر ويتجوهان بك وَنَحْو هَذَا وَمضى الْوَالِي ولؤلؤ إِلَى شبْرًا وكسرا فِيهَا ألف جرة خمر وَوجدت جرار كَثِيرَة عَلَيْهَا ختم المخلص أخي النشو وَوجد لَهُ أَيْضا قند وسِتمِائَة جرة فِيهَا خمر عَتيق وَكَانَ مَعَهم أستادار الْأَمِير بشتاك ثمَّ ندب النشو بكتوت من مماليك الخازن وَهُوَ يَوْمئِذٍ شاد شونة الْأَمِير بشتاك لمرافعة إِسْمَاعِيل أستادار بشتاك وَإِبْرَاهِيم جمال الكفاة ديوانه فَخَلا بكتوت ببشتاك وعرفه أَن الْمَذْكُورين أخذا من الْخُصُوص خَمْسَة أُلَّاف أردب ومبلغ خمسين ألف دِرْهَم وأخذا من الشونة مائَة ألف دِرْهَم عِنْدَمَا رسم السُّلْطَان بِبيع الأردب بِثَلَاثِينَ درهما فباعوه بستين وبسبعين درهما وَذكر بِهِ أَشْيَاء من هَذَا النَّوْع. فانفعل لَهُ بشتاك وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك وأحضر بكتوت مَعَه فَطلب السُّلْطَان حمال الكفاة وَإِسْمَاعِيل وَطلب النشو أَيْضا وَذكر لَهُ مَا قَالَ بكتوت وَأثْنى عَلَيْهِ وشكره فَاشْتَدَّ بأسه وَأخذ يجبهُ مباشري بشتاك بِمَا رماهم بِهِ. فَثَبت جمال الكفاة لمحاققته وَكَانَ مقداماً طلق الْعبارَة وَقَالَ للسُّلْطَان: أَنا الْمَطْلُوب بِكُل مَا يَقُوله هَذَا فَبَدَأَ النشو يذكر من أوراق المرافعة مَا يتَعَلَّق بالخصوص فَأجَاب بِأَن الَّذِي تولى قبضهَا الأستادار وممالكيه مَعَ مباشري النَّاحِيَة وَهَذِه أوراقهم مشمولة بخطوط الْعُدُول والمقبوض مِنْهَا أَزِيد مِمَّا كَانَ يقبض فِي أَيَّام الْأَمِير بكتمر الساقي بِكَذَا وَكَذَا. ثمَّ ذكر جمال الكفاة حَدِيث مَبِيع الشونة فَقَالَ: مُنْذُ باشرت عِنْد الْأَمِير مَا تنزلت إِلَى الشونة وَالَّذِي أبيع مِنْهَا كَذَا وَكَذَا أردب بِحُضُور شَاهد ديوَان الْأَمِير وَمَعَهُ شَاهدا إِضَافَة وَأَرْبَعَة أُمَنَاء وسماسرة من جِهَة الْمُحْتَسب. وَالسُّلْطَان يحضرهم ويكشف من دفاترهم عَمَّا قلته فَإِن وجده بِخِلَاف مَا قلته كَانَ فِي جِهَة وَكَانَ جزائي الشنق. فَلَمَّا فلج جمال الكفاة بِالْحجَّةِ قَالَ(3/204)
بكتوت: ياخوند هَذَا يعصر أَرْبَعَة أُلَّاف جرة خمر فِي شبْرًا فنهره السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ. إيش صَحَّ من كلامك حَتَّى يَصح هَذَا وَأمر بِهِ فَأخْرج وَعرف بشتاك بِأَن النشو قد نَدبه لذَلِك فأسرها فِي نَفسه. فَالْتَفت النشو بعد ذَلِك إِلَى جِهَة الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد ونم عَلَيْهِ للسُّلْطَان بِأَن معامل ناحيتي أبيار والنحراوية قد انْكَسَرَ عَلَيْهِ مَال نَحْو ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم من جِهَة أَن الْأَمِير أقبغا صَار يَأْخُذ من قزازي نَاحيَة طوخ مزِيد الَّتِي فِي إقطاعه عَن التفاصيل الَّتِي تعْمل بهَا مَا كَانَ يُؤْخَذ عَلَيْهَا إِذا حملت إِلَى أبيار والنحراوية وَأَنه عمل ختما بَاعه بدل ختم السُّلْطَان يخْتم بِهِ التفاصيل الْمَذْكُورَة وَذكر لَهُ عَنهُ أَشْيَاء تشبه هَذَا وأحضر بالحسام العلائي شاد أبيار والنحراوية ليحاقق آقبغا. فَأمر السُّلْطَان بإحضار آقبغا وَأَغْلظ لَهُ وَأمر الشاد بمحاققته فجبهه بِمَا رَمَاه بِهِ النشو واستطال عَلَيْهِ فخاف آقبغا وَلم يَأْتِ بِعُذْر يقبل فطرده السُّلْطَان عَنهُ وَأخذ يضع مِنْهُ والأمير بشتاك يسد خلله حَتَّى كف عَن الْقَبْض عَلَيْهِ. فشق ذَلِك على الخاصكية ووقعوا فِي النشو وَقد علمُوا أَن ذَلِك من أَفعاله. وفيهَا قدم كتاب الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام يشكو من الْأَمِير أيتمش نَائِب صفد من أجل أَنه مَا يمتثل أمره ويستبد بِغَيْر مُرَاجعَته فَأُجِيب بمراعاته وإكرامه. فَلم تطل مُدَّة أيتمش بعد ذَلِك سوى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَمَات فَخلع على الْأَمِير طشتمر الساقي وَاسْتقر فِي نِيَابَة صفد وَزيد على إقطاع النِّيَابَة وأنعم على ولديه بإمرتين. وفيهَا خلع على الْأَمِير طيبغا حاجي وَاسْتقر فِي نِيَابَة غَزَّة عوضا عَن جركتمر فِي سَابِع عشرى ذِي الْحجَّة وَنقل جركتمر إِلَى نِيَابَة حمص. وفيهَا أخرج الأكز على إمرة طبلخاناه بِدِمَشْق فِي يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشرى ذِي الْقعدَة فَكَانَت مُدَّة اعتقاله شهرا وَنصف شهر. وفيهَا عزل الْجمال ابْن الْأَثِير من كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق إِلَى الْقَاهِرَة وَاسْتقر عوضه علم الدّين مُحَمَّد بن القطب.(3/205)
وَفِي ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة: نقل الْخَلِيفَة المستكفي بِاللَّه أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان من سكنه بمناظر الْكَبْش إِلَى قلعة الْجَبَل وَأنزل حَيْثُ كَانَ أَبوهُ الْحَاكِم نازلاً فسكن برج السبَاع دَائِما بعياله ورسم على الْبَاب جاندار بالنوبة وَسكن ابْن عَمه إِبْرَاهِيم فِي برج بجواره وَمَعَهُ عِيَاله ورسم عَلَيْهِ جاندار الْبَاب ومنعا من الِاجْتِمَاع بِالنَّاسِ. وَفِي ثَالِث عشرى ذِي الْقعدَة: اسْتَقر عز الدّين أيبك الحسامي البريدي أحد مقدمي الْحلقَة فِي ولَايَة قطيا عوضا عَن الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطبرس الدِّمَشْقِي الزمردي وَاسْتقر ألطبرس من جملَة وَفِي أول ذِي الْحجَّة: قدم الْملك الْأَفْضَل صَاحب حماة وَحصل من الاحتفال بِهِ أَكثر من كل مرّة. وَفِي ثالثه: اسْتَقر الشَّيْخ مُحَمَّد الْقُدسِي فِي مشيخة خانكاه الْأَمِير بشتاك وعملت فِيهَا وَلِيمَة عِنْد فرَاغ بنائها. وَفِي يَوْم عيد النَّحْر: أقيم على مملكة الْعرَاق مُحَمَّد يلقطلو بن تيمور بن عنبرجي ابْن منكوتمر بن هولاكو وَقَامَ بأَمْره الشَّيْخ حسن بك الْكَبِير فحاربه الْملك مُوسَى فِي رَابِع عشره فَانْهَزَمَ مُوسَى بَعْدَمَا قتل بَينهمَا خلائق وَقتل عَليّ بادشاه مُدبر دولة مُوسَى وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة قَرِيبا من توريز عِنْد بَلْدَة ناوشهر على جبل الأداغ. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير بكتاش فِي نقابة الْجَيْش بعد وَفَاة صاروجا. وفيهَا انْتَهَت زِيَادَة النّيل إِلَى ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا.(3/206)
وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان القان بوسعيد بن القان مُحَمَّد خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغلي ملك التتار صَاحب الْعرَاق والجزيرة وأذربيحان وخراسان وَالروم فِي ربيع الآخر بأذربيحان وَقد أناف على الثَّلَاثِينَ وَكَانَت دولته عشْرين سنة كَانَ جُلُوسه على التخت فِي أول جُمَادَى الأولى سنة سبع عشر بِمَدِينَة السُّلْطَانِيَّة وعمره إِحْدَى عشرَة سنة وَكَانَ جميلاً كَرِيمًا يكْتب الْخط الْمَنْسُوب ويجيد ضرب الْعود وصنف مَذَاهِب فِي النغم وأبطل عدَّة مكوس وأراق الْخُمُور وَمنع من شربهَا وَهدم كنائس بَغْدَاد وَورث ذَوي الْأَرْحَام فَإِنَّهُ كَانَ حنفياً وَلم تقم بعده للمغل قَائِمَة. وَمَات أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمرَادِي الْقُرْطُبِيّ العشاب وَزِير أبي يحيى زَكَرِيَّا اللحياني متملك تونس بالإسكندرية فِي شهر ربيع الأول وَقد برع فِي النَّحْو وَحدث. وَتُوفِّي عز الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد القلانسي محتسب دمشق بهَا. وَمَات الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر بن برق وَالِي دمشق بهَا. وَتُوفِّي عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الصاحب فتح الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر بن القيسراني كَاتب الدست بقلعة الْجَبَل ثمَّ كَاتب السِّرّ بحلب فِي ذِي الْقعدَة ومولده سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة.(3/207)
وَمَات الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأشرفي الْمَعْرُوف بنائب الكرك مسجوناً بالإسكندرية فِي يَوْم الْأَحَد سَابِع جُمَادَى الأولى. وَمَات الْأَمِير أيتمش المحمدي نَائِب صفد فِي لَيْلَة الْجُمُعَة سادس عشر ذِي الْقعدَة. وَمَات الْأَمِير بلبان الحسامي وَالِي دمياط الَّذِي كَانَ وَالِي الْقَاهِرَة وَهُوَ أَخُو بدر الدّين المحسني فِي نصف شهر رَمَضَان وَهُوَ فِي الاعتقال. وَمَات الْأَمِير عَلَاء الدّين الشَّيْخ عَليّ التتري مَمْلُوك سلار فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس ربيع الآخر. وَمَات نقيب الْجَيْش الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد بن صاروجا فَجْأَة وَهُوَ فِي الصَّيْد فَحمل إِلَى الْقَاهِرَة وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين ألناق الناصري هُوَ أحد مقدمي الألوف فِي ثامن عشرى شَوَّال. وَتُوفِّي الشَّيْخ سيف الدّين عبد اللَّطِيف بلبان بن عبد الله البيسري شيخ زَاوِيَة أبي السُّعُود لَيْلَة الثُّلَاثَاء سَابِع عشر ربيع الآخر وَكَانَ يَلِي مشيخة زَاوِيَة أبي السُّعُود ثمَّ عزل عَنْهَا وَهُوَ أحد مماليك الْأَمِير بدر الدّين بيسري الشمسي الصَّالِحِي فَلَمَّا قبض على بيسري أَقَامَ الشَّيْخ سيف الدّين بِهَذِهِ الزاوية مُدَّة خمس وَخمسين سنة. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين بن نصر الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن الْجَوْجَرِيّ نَاظر الخزانة فِي تَاسِع الْمحرم. وَتُوفِّي أَمِين الدّين عبد المحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَحْمُود بن أَحْمد بن الصَّابُونِي بِمصْر وَقد بلغ ثَمَانِينَ سنة وَانْفَرَدَ بِرِوَايَة أَشْيَاء. وَتُوفِّي شيخ الْكِتَابَة عماد الدّين مُحَمَّد بن الْعَفِيف مُحَمَّد بن الْحسن بِالْقَاهِرَةِ عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة. وَتُوفِّي نقي الدّين سُلَيْمَان سُلَيْمَان بن مُوسَى بن بهْرَام السمهودي الْفَقِيه الشَّافِعِي الفرضي الْعَرُوضِي الأديب عَن ثَمَانِينَ سنة بِنَاحِيَة سمهود. وَمَات الْأَمِير سنقر النوري نَائِب بهسنا وَترك اثْنَيْنِ وَعشْرين ذكرا وَأُنْثَى وَسِتِّينَ سَرِيَّة. وَتُوفِّي الشَّيْخ الصَّالح المعمر الرحلة شمس الدّين مُحَمَّد ابْن الْمُحدث محب الدّين مُحَمَّد بن مَمْدُود بن جَامع الْبَنْدَنِيجِيّ الْبَغْدَادِيّ فِي سَابِع الْمحرم بِدِمَشْق عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنه.(3/208)
وَمَات علم الدّين قَيْصر العلائي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَقتل أربا كاؤن سُلْطَان الْعرَاق وأذربيجان وَالروم وَكَانَ القان بوسعيد لما مَاتَ أَقَامَ الْوَزير غياث الدّين مُحَمَّد أربا كاؤن هَذَا لِأَنَّهُ من ذُرِّيَّة جنكز خَان وَقد قتل أَبوهُ وَنَشَأ فِي غمار النَّاس فَقتل أربا كاؤن بَغْدَاد خاتون وجبي الْأَمْوَال وَقصد أَن يَأْخُذ بِلَاد الشَّام فَهَلَك دون ذَلِك بعد شهيرات من جُلُوسه على التخت وَكَانَ يتهم بِأَنَّهُ كَافِرًا وأقيم بعده مُوسَى بن عَليّ بن بيدو بن طوغاي بن هولاكو.(3/209)
فارغة(3/210)
سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة الْمحرم أَوله السبت: فِي سابعه: رسم بنيابة صفد للأمير طشتمر البدري أحد مقدمي الألوف عوضا عَن أيتمش المحمدي وَتوجه وَمَعَهُ طاجار الدوادار فِي ثَالِث عشره. وَفِي ثَانِي عشرَة: قدم الْخَبَر بالواقعة الَّتِي كَانَت قرب توريز على مَا تقدم ذكره. ثمَّ قدم فِي سَابِع عشره: مُضر بن خضر رَسُول الشَّيْخ حسن بك الْكَبِير ابْن أَمِير حُسَيْن وَهُوَ ابْن أُخْت غازان وَهُوَ الْقَائِم بِأَمْر مُحَمَّد بن يلقطون بن عنبرجي فَخلع عَلَيْهِ وسافر فِي ثَالِث صفر. وَفِي سَابِع عشر الْمحرم: عقد عقد الْأَمِير أبي بكر ابْن السُّلْطَان على ابْنة الْأَمِير سيف الدّين طقزدمر أَمِير مجْلِس بدار الْأَمِير قوصون. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عشريه: وَهُوَ يَوْم النوروز كَانَ وَفَاء النّيل. وانتهت الزِّيَادَة فِي سَابِع عشر بَابه إِلَى سَبْعَة عشر ذِرَاعا وَسِتَّة عشر إصبعاً. وَفِي سادس عشرى الْمحرم: قدم الْأَمِير سيف الدّين طينال نَائِب طرابلس وأخلع عَلَيْهِ عِنْد وفيهَا كتب بأخبار آل مهنا وَآل فضل لعدة من أُمَرَاء الشَّام تنكز والأمير نَائِب الشَّام وَذَلِكَ من أجل أَن الْعَرَب قطعُوا الطَّرِيق على قافلة وَأخذُوا مَا فِيهَا فَلَمَّا ألزم آل مهنا بذلك اعتذروا بِأَن الَّذِي فعل هَذَا عرب زبيد وَلَيْسوا من عرب الطَّاعَة. وفيهَا كَانَت وَاقعَة الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْمُؤمن بن اللبان فِي شهر الْمحرم وَذَلِكَ أَنه نسبت إِلَيْهِ عظائم: مِنْهَا أَنه قَالَ فِي ميعاده بِجَامِع مصر إِن السُّجُود للصنم غير محرم وَأَنه يفضل الشَّيْخ ياقوت الْعَرْش شَيْخه على بعض الصَّحَابَة(3/211)
وَشهد عَلَيْهِ بهَا. واستؤذن السُّلْطَان عَلَيْهِ فمكن مِنْهُ فترامى على الْأَمِير جنكلي بن البابا والأمير الْحَاج آل ملك والأمير أيدمر الخطير حَتَّى حكم بتوبته وَمنع من الْوَعْظ هُوَ وَالشَّيْخ زكي الدّين إِبْرَاهِيم بن معضاد الجعبري وَجَمَاعَة من الوعاظ. وَفِيه قدم ركب الْحَاج على الْعَادة وأخبروا بِأَن الشريف رميثة كَانَ قد أَقَامَ بِبَطن مر وَأقَام أَخُوهُ الشريف عطيفة بِمَكَّة فتسلط وَلَده مبارك على المجاورين وَأخذ مَال التُّجَّار فَركب إِلَيْهِ رميثة وحاربه فَقتل بَينهم جمَاعَة وفر رميثة ودلك فِي ثامن عشرى رَمَضَان من السّنة الْمَاضِيَة. وفيهَا قبض على الْأَمِير بهادر البدري بِدِمَشْق وَضرب وسجن لجرأته على الْأَمِير قطلوبغا الفخري وعَلى الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وإفحاشه لَهما. وفيهَا أجدبت زراعة الفول فألزم النشو سماسرة الغلال أَلا يُبَاع الفول إِلَّا للسُّلْطَان فَقَط فتضرر أَرْبَاب الدواليب. وفيهَا صادر النشو جمَاعَة من أَرْبَاب الدواليب بِالْوَجْهِ القبلي وَأخذ من محتسب البهنسا وأخيه مِائَتي ألف دِرْهَم وَألف أردب غلَّة. فرافع ابْن زعازع من أُمَرَاء الصَّعِيد أَوْلَاد قمر الدولة عِنْد النشو فَاقْتضى رَأْيه فصادره ابْن زعازع لِكَثْرَة مَاله وأوقع الحوطة على موجوده وَكتب إِلَى مُتَوَلِّي البهنسا ليعاقبه أَشد الْعقُوبَة. فلف وَالِي البهنسا على أَصَابِعه الخروق وغمسها فِي القطران وأشعل فِيهَا النَّار ثمَّ عراه ولوحه على النَّار حَتَّى أَخذ مِنْهُ مَا قِيمَته ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف دِرْهَم وَوجد لَهُ أَرْبَعمِائَة مرجية بِفَرْوٍ وَمِائَة وَعشْرين جَارِيَة وَسِتِّينَ عبدا ثمَّ كتب عَلَيْهِ حجَّة بعد ذَلِك بمبلغ مائَة دِرْهَم وَاحْتج النشو لمصادرته بِأَنَّهُ وجد كنزاً. وفيهَا كتب بِطَلَب الْأَمِير سنجر الْحِمصِي. وفيهَا ارْتَفع سعر اللَّحْم لقلَّة حلب الأغنام حَتَّى أبيع الرطل بدرهم وَربع وَسبب ذَلِك أَن النشو كَانَ يَأْخُذ الْغنم بِنصْف قيمتهَا فَكتب إِلَى نَائِب الشَّام ونائب حلب بجلب الأغنام. ثمَّ إِن النشو أستجد للسواقي الَّتِي بالقلعة أبقاراً وأحضر أبقارها الَّتِي قد ضعفت وعجزت مَعَ الأبقار الَّتِي ضعفت بالدواليب وطرحها على التُّجَّار والباعة بقياسر الْقَاهِرَة ومصر وأسواقها حَتَّى لم يبْق صَاحب حَانُوت حَتَّى خصّه مِنْهَا شَيْء على قدر حَاله فَبلغ كل رَطْل مِنْهَا دِرْهَمَيْنِ وَثلثا ورميت تِلْكَ الأبقار على الطواحين(3/212)
والحمامات كل رَأس بِمِائَة دِرْهَم وَلَا تكَاد تبلغ عشْرين درهما فبلي النَّاس من ذَلِك بِمَشَقَّة وخسارة كَبِيرَة. وَاتفقَ أَن النشو أغرى السُّلْطَان بمُوسَى بن التَّاج إِسْحَاق حَتَّى رسم بضربه إِلَى أَن يَمُوت فَضرب زِيَادَة على مِائَتَيْنِ وَخمسين شيباً حَتَّى سقط كالميت ثمَّ ضرب من الْغَد أَشد من ذَلِك وَحمل على أَنه قد مَاتَ فسر النشو بذلك سُرُورًا زَائِدا وَذهب ليرى مُوسَى وَهُوَ ميت فَوجدَ بِهِ حَرَكَة. وَفِي أثْنَاء طلب السُّلْطَان إِحْضَار الْأَمِير لؤلؤاً فَأخْبرهُ بِأَن مُوسَى قد بَدَأَ يَئِن وَبعد سَاعَة يَمُوت فرسم أَلا يضْرب بعد ذَلِك فشق هَذَا على النشو. وَفِي سَابِع عشرى صفر: ابتدئ بهدم الطَّبَقَة الحسامية الْمُجَاورَة لدار النِّيَابَة بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَت قد عمرت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَفِي رَابِع عشر ربيع الأول: قدم حَمْزَة رَسُول الْملك مُحَمَّد بن بلقطلو بن عنبرجي وصحبته عماد الدّين السكرِي نَائِب عَليّ بادشاه بالموصل فأدوا رسالتهم وسافروا أول ربيع الآخر. وَفِي ثامن عشر ربيع الأول. سَافر الْأَفْضَل صَاحب حماة إِلَى مَحل ولَايَته بحماة وَكَانَ قد حضر فِي مستهل ذِي الْحجَّة من السّنة الحالية. وَفِي سلخ ربيع الأول: عزل بدر الدّين بن التركماني عَن الْكَشْف بِالْوَجْهِ البحري. وَفِي ثَالِث ربيع الآخر: قدم رَسُول ملك الْحَبَشَة. وَفِي خَامِس عشره: قدم الْأَمِير سيف الدّين أَبُو بكر البابيري وخلع عَلَيْهِ بِولَايَة الْقَاهِرَة عوضا عَن ابْن التركماني. وَفِي سادس عشره: اسْتَقر نكبيه البريدي فِي ولَايَة قطيا عوضا عَن أيبك الحسامي بإمره عشرَة. وَفِي سلخ جُمَادَى الأولى: قدم مُرَاد قجا رَسُول أزبك ملك التّرْك فَأَقَامَ خَمْسَة(3/213)
أشهر وَنصف شهر وسافر فِي رَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَمن ثَالِث ربيع الآخر سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة لم يحضر من عِنْد أزبك إِلَّا هَذَا. وَفِي سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة: اسْتَقر بهاء الدّين قراقوش الجيشي فِي ولَايَة البهنساوية عوضا عَن عَليّ بن حسن المرواني. وفيهَا هدمت دَار النِّيَابَة بالقلعة وَهِي الَّتِي عمرت فِي الْأَيَّام المنصورية قلاوون سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وأزيل ألشباك الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ طرنطاي النَّائِب وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد ثامن ربيع الآخر. وفيهَا أغرى النشو السُّلْطَان بالصفي كَاتب الْأَمِير قوصون بِأَنَّهُ يظْهر فِي جِهَته للديوان عَمَّا كَانَ يحضر إِلَيْهِ من أَصْنَاف المتجر أَيَّام مُبَاشَرَته بديوان الْأَمِير قجليس وَهُوَ جملَة كَثِيرَة وَإِن بعض الْكتاب يحاققه على ذَلِك. فَطلب السُّلْطَان الْأَمِير قوصون وَأَغْلظ فِي مخاطبته وَقَالَ: كاتبك يَأْكُل مَالِي وحقوقي وينجوه بك وَذكر لَهُ مَا قَالَ عَنهُ النشو فتخلى عَنهُ قوصون وَلم يساعده. فَأمر السُّلْطَان النشو ولؤلؤاً والمستوفين أَن يمضوا إِلَى عِنْد الْأَمِير قوصون وَمَعَهُمْ الرجل المحاقق للصفي ويطالعوا السُّلْطَان بِمَا يظْهر فَاجْتمعُوا لذَلِك وَقَامَ المرافع للصفي فَلم يظْهر لما ادَّعَاهُ صِحَة. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَجَب: قدم الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام وَالسُّلْطَان بسرياقوس فطلع وَهُوَ مَعَه فِي يَوْمه إِلَى القلعة وَهِي القدمة الْحَادِيَة عشرَة وسافر فِي ثَانِي عشريه. وَفِي يَوْم عشريه: عزل شهَاب الدّين بن الأقفهسي وعلاء الدّين الْبُرُلُّسِيّ عَن نظر الدولة وَولي شمس الدّين بن قزوينه النّظر بمفرده وَكَانَ بطالاً ورسم لَهُ أَلا يتَصَرَّف فِي شَيْء إِلَّا بعد مُشَاورَة شرف الدّين النشو نَاظر الْخَاص. وَفِي تَاسِع عشريه: اسْتَقر عَلَاء الدّين بن الكوراني فِي ولَايَة الأشمونين عوضا عَن أبي بكر الردادي نقل إِلَيْهَا من ولَايَة أشموم الرُّمَّان. وفيهَا عدم فرو السنجاب فَلم يقدر على شَيْء مِنْهُ لعدم جلبه. فَأمر النشو بِأخذ مَا على التُّجَّار من الفرجيات المفراة فكبست حوانيت التُّجَّار والبيوت حَتَّى أَخذ مَا على الفرجيات من السنجاب. فَبلغ النشو وُقُوع التُّجَّار فِيهِ ودعاؤهم عَلَيْهِ فسعى عِنْد السُّلْطَان عَلَيْهِم وَنسب جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الرِّبَا فِي المقارضات وَأَنَّهُمْ جمعُوا من ذَلِك وَمن الْفَوَائِد على الْأُمَرَاء شَيْئا كثيرا وَأَن عِنْده أَصْنَاف الْخشب وَالْحَدِيد وَغَيره واستأذنه فِي بيعهَا عَلَيْهِم. فَأذن لَهُ السُّلْطَان فَنزل وَطلب تجار الْقَاهِرَة ومصر وَكَثِيرًا(3/214)
من أَرْبَاب الآموال ووزع عَلَيْهِم من ألف دِينَار كل وَاحِد إِلَى ثَلَاثَة أُلَّاف دِينَار ليحضروا بهَا ويأخذوا عَنْهَا صنفا من الْأَصْنَاف فبلغت الْجُمْلَة خمسين ألف دِينَار عاقب عَلَيْهَا غير وَاحِد بالمقارع حَتَّى أَخذهَا. وَقَامَ عدَّة من الْأُمَرَاء الأكابر فِي حق جمَاعَة من التُّجَّار فَلم يسمع السُّلْطَان لأحد مِنْهُم قولا. وَقَامَت سِتّ حدق وَأم آنوك ابْن السُّلْطَان فِي رفع الْخشب عَن تَاجر ألزمهُ النشو بألفي دِينَار وعرفتاه بظُلْم النشو وَهُوَ أَن هَذَا الْخشب قِيمَته مبلغ ألفي دِرْهَم. فَطلب السُّلْطَان النشو وَأنكر عَلَيْهِ ذَلِك وتجهم لَهُ فَانْصَرف على غير رضى ثمَّ ندب النشو رجلا مضى إِلَى ذَلِك التَّاجِر وَسَأَلَهُ فِي قرض مبلغ مَال فَأخذ التَّاجِر فِي الشكوى مِمَّا بِهِ من إِلْزَامه بألفي دِينَار عَن ثمن خشب طَرحه عَلَيْهِ النشو فَقَالَ لَهُ الرجل: أَرِنِي الْخشب فَإِنِّي مُحْتَاج إِلَيْهِ فَلَمَّا رأه أعجبه وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بفائدة ألف دِرْهَم إِلَى شهر فَامْتَلَأَ التَّاجِر فَرحا وَأشْهد عَلَيْهِ بذلك. وَمضى الرجل ليَأْتِي بِثمن الْخشب فَدخل على النشو وَأخْبرهُ الْخَبَر وَدفع إِلَيْهِ نُسْخَة الْمُبَايعَة فَقَامَ من فوره إِلَى السُّلْطَان وأعلمه أَنه نزل ليرْفَع الْخشب من حَاصِل التَّاجِر فَوَجَدَهُ قد بَاعه بفائدة ألف دِرْهَم. فَطلب السُّلْطَان التَّاجِر وَسَأَلَهُ عَمَّا رَمَاه عَلَيْهِ النشو فاغتر البائس وَأخذ يَقُول: ظَلَمَنِي وَأَعْطَانِي خشباً بألفي دِينَار يُسَاوِي ألفي دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: وَأَيْنَ الْخشب قَالَ: بِعته بِالدّينِ فَقَالَ النشو: قل الصَّحِيح فَإِن هَذِه معاقدتك بِبيعِهِ فَلم يجد بدا من الِاعْتِرَاف. فحنق عَلَيْهِ السُّلْطَان وَقَالَ وَيلك تقيم الغاثة وَأَنت تبيع بضاعتي بفائدة ثمَّ أَمر النشو بضربه وَأخذ الألفي دِينَار مِنْهُ مَعَ مثلهَا وَعظم النشو عِنْد السُّلْطَان ثمَّ عبر السُّلْطَان إِلَى نِسَائِهِ وسبهن وعرفهن مَا جرى وَقَالَ: مِسْكين النشو مَا وجدت لَهُ أحدا يُحِبهُ كَونه ينصحني وَيحصل مَالِي. وفيهَا ترافع يَعْقُوب الْأَسْلَمِيّ مُسْتَوْفِي الْجِهَات والأمير بن المجاهدي وَالِي دمياط فرسم بمصادرتهما فعوقبا عُقُوبَة شَدِيدَة وغرما مَالا جزيلاً. وفيهَا كثر ضبط علم الدّين سنجر الجاولي لأوقاف المارستان وتوقفه فِيمَا يصرف مِنْهُ للصدقات. فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ لَهُ: المارستان كُله صَدَقَة وَلم يقبل لَهُ عذرا. وفيهَا امْتنع ابْن الأقفهسي نَاظر الدولة من الْكِتَابَة على توقيع الضياء الْمُحْتَسب وَقد عمل مَعْلُومَة على الجوالي فشق ذَلِك على السُّلْطَان وَأمر الْأَمِير طاجار الدوادار أَن يبطحه ويضربه وَيَقُول لَهُ: كَيفَ يعلم السُّلْطَان على شَيْء وتأبى أَن تكْتب عَلَيْهِ {}(3/215)
فَضَربهُ ضربا مؤلماً. وَكَانَ السُّلْطَان لَا يتغاضي فِي خرق حرمته ويعاقب من فعل ذَلِك. وفيهَا شكا المماليك السُّلْطَانِيَّة من تَأَخّر كسوتهم فَطلب النشو وألزمه بِحمْل كسوتهم من الْغَد وَمَعَهَا مبلغ عشْرين ألف دِينَار. فَنزل النشو وألزم الطَّيِّبِيّ نَاظر الْمَوَارِيث بتحصيل خَمْسَة أُلَّاف دِينَار وَبعث المقدمين إِلَى الْأَسْوَاق ففتحوا حوانيت التُّجَّار وَأخذُوا كسْوَة المماليك وحوائصهم وأخفافهم ونعالهم وَغير ذَلِك وَأخذُوا مركبا لبَعض الكارم فِيهِ عدَّة بضائع طرحوها على النَّاس بِثَلَاثَة أَمْثَال قيمتهَا. وأحيط بتركة نجم الدّين مُحَمَّد الأسعردي - وَقد مَاتَ وَترك زَوْجَة وَابْنَة ابْن - وَأخذت كلهَا. وَأخذت وَدِيعَة من تركته لأَوْلَاد أَيْتَام تَحت حجره مبلغها نَحْو خمسين ألف دِرْهَم وأنفقت فِي يَوْمهَا على المماليك والخدام. وَفتحت قيسارية جهاركس وَأخذ مِنْهَا مقاطع الشّرْب برسم الْكسْوَة. فارتجت الْمَدِينَة بِأَهْلِهَا وَترك كثير من التُّجَّار حوانيتهم وغيبوا فَصَارَت مفتحة والأعوان تنهب لأنفسها مَا أَرَادَت فَلم ير يَوْمئِذٍ بِالْقَاهِرَةِ ومصر إِلَّا باك أَو شَاك أَو صائح أَو نائح فَكَانَا يَوْمَيْنِ شنعين. وعول أَرْبَاب الحوانيت على وَقع مَا فِيهَا وخلوها فَعرف النشو السُّلْطَان ذَلِك فَنُوديَ: من أغلق حانوته أَخذ مَاله وشنق ففتحوها. ثمَّ أخرج النشو من الأهراء عشرَة أُلَّاف أردب قمحاً وطرحها على أَصْحَاب الطواحين والأبازرة وَقبض على ابْن فَخر السُّعَدَاء نَاظر قليوب وَأخذ مِنْهُ نَحْو ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم. وَفِي جُمَادَى الأولى: استدعى الضياء ابْن خطيب بَيت الْآبَار محتسب مصر وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي حسبَة الْقَاهِرَة مُضَافا لما بِيَدِهِ من نظر الْأَوْقَاف وَنظر المارستان عوضا عَن نجم الدّين مُحَمَّد بن حُسَيْن بن عَليّ الأسعردي. وَكَانَ الشهَاب أَحْمد بن الْحَاج عَليّ الطباخ قد سعى فِي حسبَة الْقَاهِرَة وَقَامَ مَعَه الْأَمِير بشتاك والأمير قوصون والأمير أقبغا عبد الْوَاحِد فَلَمَّا ولي السُّلْطَان الضياء رسم أَن يسْتَقرّ ابْن الطباخ فِي حسبَة الدُّخان على الطباخين والحلاويين وَنَحْوهم وخلع عَلَيْهِ وَجلسَ فِي دكة الْحِسْبَة وَعرض أَرْبَاب الدُّخان. وَأنزل الضياء الحلاويين والفكاهين أَلا يشعلوا سرجهم فِي اللَّيْل بالزيت الْحَار وألزم حواس الحمامات بِعَمَل فوط سابغة طَوِيلَة ورتب القبانيين فِي جِهَات مُعينَة بجلس كل قباني فِي مَوضِع من الْبَلَد. وَفِيه قدم خَلِيل بن الطرفي من أُمَرَاء التركمان بِنَاحِيَة أبلستين وَقدم سَبْعمِائة(3/216)
إكديش وعدة تحف وَسَأَلَ أَن يسْتَقرّ فِي نِيَابَة الأبلستين بِأَلف فَارس وَعشرَة أُمَرَاء فَقبلت تقدمته وخلع عَلَيْهِ وَكتب منشوره بذلك. وَفِيه قدم من جِهَة بدر الدّين لُؤْلُؤ الفندشي الْحلَبِي شاد الدَّوَاوِين ثَلَاثَة أُلَّاف رَأس من الْغنم الضَّأْن فمشت حَال الدولة وَصَارَت سَببا للوقيعة بَين لُؤْلُؤ وَبَين النشو. وتحدث لُؤْلُؤ مَعَ الْأَمِير بشتاك أَنه إِن أسلم إِلَيْهِ النشو وحاشيته قَامَ بأربعمائة ألف دِينَار مِنْهُم فَقَامَتْ قِيَامَة النشو ومازال بالسلطان حَتَّى غَيره عَلَيْهِ. وَاتفقَ مَعَ ذَلِك وُصُول سنجر الْحِمصِي من حلب باستدعاء فأجلسه السُّلْطَان وَعرض عَلَيْهِ شدّ الدَّوَاوِين فَقبل الأَرْض وَطلب الإعفاء مِنْهَا وَكَانَ أَمينا ناهضاً فَلم يزل السُّلْطَان بِهِ حَتَّى خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر عوضا عَن لؤلو فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة. فَأول مَا بَدَأَ بِهِ سنجر أَن قبض على لؤلو وأوقع الحوطة على بَيته وألزمه بِالْحملِ وَأخذت حواصله وَهُوَ يُورد شَيْئا بعد شَيْء. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء جُمَادَى عشرى ربيع الأول: أفرج عَن الْخَلِيفَة من سجنه بالقلعة فَكَانَت مُدَّة اعتقاله خَمْسَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام. ثمَّ أَمر بِهِ فَأخْرج إِلَى قوص وَمَعَهُ أَوْلَاده وَابْن عَمه وَكتب لوالي قوص أَن يحْتَفظ بهم. وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن السُّلْطَان لما نزل عَن الْملك فِي سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَحصل الِاجْتِمَاع على المظفر بيبرس وقلده المستكفي بالسلطنة نقمها عَلَيْهِ السُّلْطَان النَّاصِر وأسرها لَهُ ثمَّ لما قَامَ السُّلْطَان لاسترجاع ملكه جدد المستكفي للمظفر الْولَايَة ونسبت فِي السُّلْطَان أَقْوَال إِلَيْهِ حملت السُّلْطَان على التحامل عَلَيْهِ. فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى الْملك فِي سنة تسع وَسَبْعمائة أعرض عَن المستكفي كل الْإِعْرَاض وَلم يزل يكدر عَلَيْهِ المشارب حَتَّى تَركه فِي برج بالقلعة فِي بَيته وَحرمه وخاصته فَقَامَ الْأَمِير قوصون فِي أمره وتلطف بالسلطان إِلَى أَن أنزلهُ إِلَى دَاره. ثمَّ نسب إِلَى ابْنه صَدَقَة أَنه تعلق بِبَعْض خَاصَّة السُّلْطَان وَأَن ذَلِك الْغُلَام يتَرَدَّد إِلَيْهِ فنفي الْغُلَام وَبلغ السُّلْطَان أَنه هُوَ يكثر من اللَّهْو فِي دَاره الَّتِي عمرها على النّيل بِخَط جَزِيرَة الْفِيل وَأَن أحد الجمدارية يُقَال لَهُ أَبُو شامة جميل الْوَجْه يَنْقَطِع عِنْده ويتأخر عَن الْخدمَة فَقبض على الجمدار وَضرب وَنفي إِلَى صفد وَضرب رجل من مؤذني القلعة - اتهمَ أَنه كَانَ السفير بَين الجمدار وَبَين الْخَلِيفَة - حَتَّى مَاتَ واعتقل الْخَلِيفَة كَمَا تقدم. ثمَّ لما أفرج عَنهُ اتهمَ أَنه كتب على قصَّة رفعت إِلَيْهِ يحمل مَعَ غَرِيمه إِلَى الشَّرْع فَأحْضرهُ السُّلْطَان إِلَى القلعة ليجتمع بِهِ بِحَضْرَة الْقَضَاء فخيله قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْقزْوِينِي من حُضُوره أَن يفرط مِنْهُ كَلَام فِي غَضَبه يصعب(3/217)
تَدَارُكه. فأعجب السُّلْطَان ذَلِك وَأمر بِهِ أَن يخرج إِلَى قوص فَسَار صُحْبَة الْأَمِير سيف الدّين قطلوا تمرقلي فِي يَوْم السبت تَاسِع عشر ذِي الْحجَّة بِجَمِيعِ عِيَاله وهم مائَة شخص. وَكَانَ مرتبه فِي كل شهر خَمْسَة أُلَّاف دِرْهَم فَعمل لَهُ بقوص ثَلَاثَة أُلَّاف دِرْهَم ثمَّ اسْتَقر ألف دِرْهَم فَاحْتَاجَ حَتَّى بَاعَ نساؤه ثيابهن. وفيهَا كتب إِلَى الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام أَن يحضر بأولاده وَأَهله لعمل عرس الْأَمِير أبي بكر ابْن السُّلْطَان على ابْنة الْأَمِير طقزتمر واحتفل السُّلْطَان لقدومه احتفالاً زَائِدا. وَكَانَت عَادَته أَن يصرف عَلَيْهِ إِذا قدم مبلغ خمسين ألف دِينَار مَا بَين خلع وإنعام فرسم أَن يكون فِي هَذِه السّنة مبلغ سبعين ألف دِينَار. ثمَّ خرج السُّلْطَان لملاقاته وَنزل قُصُور سرياقوس حَتَّى سقط الطَّائِر بنزول الْأَمِير تنكز إِلَى الصالحية فَركب الْأَمِير قوصون إِلَى لِقَائِه وصحبته جَمِيع مَا يَلِيق من الْأَطْعِمَة والمشروب فَلَمَّا لقِيه مد بَين يَدَيْهِ سماطاً جَلِيلًا إِلَى الْغَايَة وَأَقْبل بِهِ حَتَّى دنا من سرياقوس. فَركب السُّلْطَان إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَوْلَاده وَقدم إِلَيْهِ الحاحب ليخبره بِأَنَّهُ لَا يترجل عَن فرسه حَتَّى يرسم لَهُ وَتَقَدَّمت أَوْلَاد السُّلْطَان إِلَيْهِ أَولا. فَلَمَّا قرب تنكز نزل السُّلْطَان عَن فرسه إِلَى الأَرْض على حِين غَفلَة من الْأُمَرَاء فَألْقوا أنفسهم عَن خيولهم وَأُلْقِي تنكز نَفسه إِلَى الأَرْض وَعدا فِي مَشْيه جهد قدرته وَهُوَ يقبل الأَرْض وَيقوم إِلَى أَن قبل رجْلي السُّلْطَان وَقد دهش فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: اركب فرسك. وَركب السُّلْطَان والأمراء وسايره وَهُوَ يحادثه فَلم يسمع عَن ملك أَنه فعل مَعَ مَمْلُوكَة من التَّعْظِيم مَا فعله السُّلْطَان فِي هَذَا الْيَوْم مَعَ الْأَمِير تنكز. وَكَانَ الْعرس يَوْم الْإِثْنَيْنِ سلخ صفر وَالدُّخُول لَيْلَة الثُّلَاثَاء أول ربيع الأول. وَفِي خَامِس عشر شعْبَان: تَوَجَّهت التجريدة إِلَى بِلَاد سيس وخراب مَدِينَة. وَسبب ذَلِك وُصُول رَسُول القان مُوسَى وَعلي بادشاه بِطَلَب النجدة على الشَّيْخ حسن الْكَبِير وطغاي بن سونتاي وَأَوْلَاد دمرداش ليَكُون عَليّ بادشاه نَائِب السلطنة بِبَغْدَاد. فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان نَائِب الشَّام والأمراء وَاسْتقر الرَّأْي على تَجْرِيد الْعَسْكَر نَحْو سيس فَإِن تكفور نقض الْهُدْنَة بِقَبْضِهِ على عدَّة مماليك وإرسالهم إِلَى مَدِينَة آياس فَلم يعلم خبرهم وَقطع الْحمل الْمُقَرّر عَلَيْهِ وَيكون فِي ذَلِك إِجَابَة عَليّ بادشاه إِلَى مَا قَصده(3/218)
من نزُول الْعَسْكَر قَرِيبا من الْفُرَات مَعَ معرفَة الشَّيْخ حسن بِأَنا لم نساعد عَليّ بادشاه عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بعثنَا الْعَسْكَر لغزو سيس. وَعمل مقدم الْعَسْكَر الْأَمِير أرقطاي وَيكون فِي السَّاقَة ويتقدم الجاليش صُحْبَة الْأَمِير طوغاي الطباخ ومعهما من الْأُمَرَاء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطَّوِيل وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير وَمن أُمَرَاء الشَّام قطلوبغا الفخري مقدم الْجَيْش الشَّامي. وَكتب بِخُرُوج عَسْكَر دمشق وحماة وحلب وحمص وطرابلس إِلَى نَاحيَة جعبر فَإِذا وصل عَسْكَر مصر إِلَى حلب عَادَتْ عَسَاكِر الشَّام ثمَّ مضوا جَمِيعًا إِلَى سيس فَيكون فِي ذَلِك صدق مَا وعد بِهِ عَليّ بادشاه وبلوغ الغرص من غَزْو سيس فَسَار الْعَسْكَر من الْقَاهِرَة فِي ثَانِي عشر شعْبَان وَتوجه الْأَمِير تنكز إِلَى مَحل ولَايَته. وفيهَا أفرج عَن طرنطاي المحمدي بَعْدَمَا أَقَامَ فِي السجْن سبعا وَعشْرين سنة وَأخرج إِلَى دمشق وَأَفْرج عَن عَلَاء الدّين بن هِلَال الدولة وَأخرج إِلَى الشَّام وَأَفْرج عَن ابْن المحسني وَأخرج إِلَى طرابلس وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي رَمَضَان. وَكَانَ ابْن هِلَال الدولة وَابْن المحسني معتقلين بالإسكندرية من ثَالِث عشر رَجَب سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ فَخلع السُّلْطَان عَلَيْهِمَا ورسم أَن يُقيم ابْن المحسني مَعَ أَبِيه بطرابلس وَيُقِيم ابْن هِلَال الدولة بِدِمَشْق فَسَار كل مِنْهُمَا فِي حادي عشريه صُحْبَة بريدي وَكَانَ هَذَا كُله بشفاعة نَائِب الشَّام. وفيهَا كتب سنجر الْحِمصِي شاد الدَّوَاوِين أوراقاً بِمَا على السُّلْطَان من الْقَرْض للتجار فَبلغ ألفي دِرْهَم فَلم يعْتَرف السُّلْطَان بهَا وَقَالَ: هَذِه أَخذهَا الدَّوَاوِين على اسْمِي ورسم أَن توزع على المباشرين فَنزل بهم من ذَلِك شدَّة وحملوا الْمبلغ شَيْئا بعد شَيْء وَكَانَ هَذَا من فعلات النشو بهم. وفيهَا رسم أَلا يضْرب أحد بالمقارع وطردت الرُّسُل والأعوان من بَاب شدّ الدَّوَاوِين وَكَانُوا قد كثرت مضرتهم وَاشْتَدَّ تسلطهم على النَّاس وحصلوا من ذَلِك مَالا كَبِيرا. وَكَانَ هَذَا بسفارة سنجر الْحِمصِي فَكثر الثَّنَاء عَلَيْهِ. وَفِيه توجه النشو ليتفقد نَاحيَة فَارس كور والمنزلة ودمياط فَقبض على عَلَاء الدّين بن توتل وَالِي أشوم وعَلى أقبغا وَالِي الْمحلة وصادرهما فَأخذ من وَالِي أشوم خمسين ألف دِرْهَم وَمن وَالِي الْمحلة مائَة ألف دِرْهَم.(3/219)
وَفِيه كتب النشو بالحوطة على مباشري المعاصر والدواليب وَجَمِيع أَعمال الصَّيْد والفيوم وألزم ابْن المشنقص مدولب مطبغ الْأَمِير قوصو بِمِائَة ألف دِرْهَم وَاحْتج بِأَنَّهُ يعْمل الزغل فِي السكر وَالْعَسَل فحنق من ذَلِك قوصون وَقَامَ مَعَ السُّلْطَان فِي أمره حَتَّى أفرج عَنهُ. فشق هَذَا على النشو وَأثبت محضراً على القَاضِي ابْن مِسْكين بِأَن أَبَا الدراليب مَاتَ على غير الْملَّة وَأَن ابْنه لَا يسْتَحق إِرْثه بِحكم أَنه لبيت المَال وطلع بالمحضر إِلَى السُّلْطَان. فَطلب السُّلْطَان قوصون وَأَغْلظ عَلَيْهِ فاحتد قوصون وهال. أَنا مَا أسلم مَالِي الَّذِي عِنْده. فوهب السُّلْطَان قوصون مَا أثْبته النشو فأوقع الحوطة على جَمِيع موجوده وَأَخذه. وفيهَا وقفت الْعَامَّة للسُّلْطَان فِي الفار ضَامِن الْمُعَامَلَات وَشَكوا مَا أحدثه على الْقصب والمقاثي وصاحوا: يكفينا النشو فَلَا تسلط علينا الفار وتحبسه وتكتب على قَيده مخلد وتضمن غَيره بناقص عشرَة أُلَّاف دِرْهَم فَطلب السُّلْطَان النشو وَأنكر عَلَيْهِ ورسم لسنجر الْحِمصِي أَن يضْرب الفار ويحبسه وَيكْتب على قَيده مخلد وَيضمن غَيره بناقص عشرَة أُلَّاف دِرْهَم فَفعل ذَلِك ومشت أَحْوَال النَّاس. وفيهَا طرح النشو الفدان القلقاس على القلاقسية بِأَلف ومائتي دِرْهَم وصادر الشماسرة وَأخذ عدَّة مخازن للتجار وَأخرج مَا فِيهَا من البضائع وطرحها بِثَلَاثَة أَمْثَال قيمتهَا وَعوض أَرْبَابهَا سفانج على الْخشب والبوري فَكَانَ مِنْهَا مخزن فِيهِ حَدِيد قومه بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم على المارستان فَأبى الْأَمِير سنجر الجاولي نَاظر المارستان أَن يَأْخُذهُ فألزمه السُّلْطَان بِأَخْذِهِ للْوَقْف فَأَخذه وَوزن ثمنه. وَفِي ئالث عشر شَوَّال قدمت مَفَاتِيح القلاع الَّتِي كَانَت بيد صَاحب سيس. وَهِي آياس الجوانية وآياس البرانية والهارونية وكوارة وحميضة ونجيمة(3/220)
وسرفندكار فرسم بخراب بَعْضهَا وأقامت النواب بباقيها. وَفِي تَاسِع ذِي الْقعدَة: أضيف شدّ الصيارف للأمير نجم الدّين بن الزيبق عوضا عَن بهادر البكتمري ثمَّ أضيف إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك ولَايَة مصر عوضا عَن شمس الدّين جنغر ابْن بكجري. وَفِي تَاسِع عشره: خلع عَليّ شهَاب الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين أَحْمد ابْن قَاضِي القضاه تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز وَاسْتقر فِي حَسبه مصر عوضا عَن القَاضِي ضِيَاء الدّين محتسب الْقَاهِرَة. وَفِي سادس ذِي الْحجَّة: اسْتَقر نجم الدّين أَيُّوب فِي ولَايَة الفيوم عوضا عَن بهادر أستادار الجمالي وَكَانَ أَيُّوب هَذَا أستادر الأكز. وَفِيه قدم الْخَبَر بِأَن القان مُوسَى لما كَانَت الْوَاقِعَة بَينه وَبَين الشَّيْخ حسن الْكَبِير وانكسر هُوَ وَعلي بادشاه صَار إِلَى بَغْدَاد وصادر النَّاس بهَا ثمَّ خرج عَليّ بادشاه إِلَى الْموصل فَسَار إِلَيْهِ الشَّيْخ بِمن مَعَه ولقبه شمَالي توريز فَكَانَت حَرْب شَدِيدَة فر مِنْهَا القان مُوسَى وَقتل عَليّ بادشاه وَخلق كثير فَكَانَت دولتهما ثَلَاثَة أشهر. وَلما انْكَسَرت عساكرهما مضى الشَّيْخ الْكَبِير إِلَى بَغْدَاد فملكها وَقد أَقَامَ سُلْطَانا مُحَمَّد بن يلقطلو بن هلاكو بن عنبرجي وَبعث الشَّيْخ حسن إِلَى السُّلْطَان بهدية فَأكْرم رسله وجهزهم بهدية سنية وَكتب بتهنئة. وَفِيه خلع عَليّ نجم الدّين دَاوُد بن أبي بكر مُحَمَّد بن الزبيق وَاسْتقر فِي ولَايَة الصِّنَاعَة والأهراء وخلع عَليّ صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن صُورَة وَاسْتقر فِي نظر الأهراء رَفِيقًا لَهُ.(3/221)
وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر رَمَضَان: ركب النشو على عَادَته فِي السحر فاعترضه فِي طَرِيقه فَارس هُوَ عبد الْمُؤمن بن عبد الْوَهَّاب السلَامِي الَّذِي ولي قوص وَقيل أَبُو بكر بن الناصري مُحَمَّد وضربه فَأَخْطَأَ سَيْفه رَأس النشو وَسَقَطت عِمَامَة النشو عَن رَأسه وَقد جرح كتفه ثمَّ خر إِلَى الأَرْض وَنَجَا الْفَارِس وَفِي ظَنّه أَن رَأس النشو قد سَقَطت عَن بدنه. فَغَضب السُّلْطَان من ذَلِك وَلم يحضر السماط وَبعث إِلَى النشو بعدة من الجمدارية بالجرائحية فقطب ذراعه بست إبر وجبينه باثنتي عشرَة إبرة. وألزم السُّلْطَان وَالِي الْقَاهِرَة ومصر بإحضار غَرِيم النشو وَأَغْلظ على الْأُمَرَاء بالْكلَام ومازال يشْتَد ويحتد حَتَّى عَادَتْ القصاد بسلامة النشو فسكن مَا بِهِ ثمَّ بعث النشو مَعَ أَخِيه رزق الله يخبر السُّلْطَان بِأَن هَذَا من فعل الْكتاب بموافقة لُؤْلُؤ فَطلب السُّلْطَان ابْن المرواني وَالِي الْقَاهِرَة ورسم بمعاقبة الْكتاب الَّذين فِي المصادرة على الِاعْتِرَاف بغريم النشو وعقوبة لُؤْلُؤ مَعَهم. فَضرب لُؤْلُؤ ضربا مبرحاً وعوقب الْعلم أَبُو شَاكر وعلق والمقايرات فِي يَدَيْهِ وعوقب قرموط وعدة من الْكتاب وحرثت بُيُوتهم وَأخذ رخامها وَخرجت بالمحاريث لإِظْهَار مَا فِيهَا من الخبايا. ثمَّ أَن النشو عوفي من جراحه وطلع إِلَى القلعة فَخلع عَلَيْهِ وَنزل وَقد رتب السُّلْطَان الْمُقدم إِبْرَاهِيم بن أبي بكر شَدَّاد بن صابر أَن يمشي فِي ركابه وَمَعَهُ عشرَة من رِجَاله وَكَانَ لَا يطلع الْفجْر إِلَّا وهم على بَابه فَإِذا ركب كَانُوا مَعَه حَتَّى يدْخل القلعة فَإِذا نزل مَشوا فِي ركابه حَتَّى يدْخل بَيته. وعندما نزل النشو إِلَى الْقَاهِرَة كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَن عاقب المقدمين وَغَيرهم حَتَّى مَاتَ عدَّة مِنْهُم تَحت الْعقُوبَة. وَفِي حادي عشرى ذِي الْحجَّة: سَافر خواجا عمر وسرطقطاي مقدم البريدية بهدية إِلَى أزبك ومعهما مبلغ عشْرين ألف دِينَار لشراء مماليك وجواري من بِلَاد التّرْك. وفيهَا كملت عمَارَة جَامع الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري على شاطئ النّيل بمنية بولاق وَكَانَ مَوْضِعه ساقية لشرف الدّين مُوسَى بن زنبور. وأصل بِنَاء هَذَا الْجَامِع أَنه لما أنشئت العمائر ببولاق عمر الْحَاج مُحَمَّد بن عز الْفراش بجوار الساقية المذكوره دَارا على النّيل ثمَّ انْتَقَلت تِلْكَ الدَّار بعد مَوته إِلَى ابْن الْأَزْرَق فَعرفت بدار الْفَاسِقين من كَثْرَة اجْتِمَاع النَّصَارَى بهَا على مَا لَا يرضى الله فَلَمَّا صادره النشو بَاعهَا فِيمَا بَاعه. فاشتراها الْأَمِير أيدمر الخطيري بِثمَانِيَة أُلَّاف دِرْهَم وهدمها وَبنى مَكَانهَا وَمَكَان الساقية جَامعا أنْفق فِيهِ مَالا جزيلاً وَأخذ أَرَاضِي حوله من بَيت المَال وَأَنْشَأَ عَلَيْهَا(3/222)
الحوانيت والرباع والفنادق وأنعم السُّلْطَان عَلَيْهِ بعدة أَصْنَاف من خشب وَغَيره. فَلَمَّا تمّ بِنَاء الْجَامِع قوي عَلَيْهِ النّيل فهدم جانباً مِنْهُ فَأَنْشَأَ الخطيري تجاهه زريبة رمى بهَا ألف مركب موسوقة بِالْحِجَارَةِ وَسَماهُ جَامع النّوبَة فجَاء من أحسن مباني مصر وأبدعها وأنزهها. فَلَمَّا أفرج عَن ابْن الْأَزْرَق ادعِي أَنه كَانَ مكْرها فِي بَيْعه فَأعْطَاهُ الخطيري ثَمَانِيَة أُلَّاف دِرْهَم أُخْرَى فمازال بِهِ النشو حَتَّى قبض عَلَيْهِ مرّة ثَانِيَة وحبسه فَمَاتَ بعد قَلِيل فِي حَبسه. وفيهَا فرغ بِنَاء جَامع الْأَمِير سيف الدّين بشتاك بِخِلَاف قبو الْكرْمَانِي على بركَة الْفِيل خَارج الْقَاهِرَة وَكَانَ مَوْضِعه مسَاكِن للفرنج وَالنَّصَارَى ومسالمة الْكتاب. وَعمر بشتاك تجاه هَذَا الْجَامِع خانكاه على الخليج ورتب فِيهَا شَيخا وصوفية وَقرر لَهُنَّ المعاليم الْجَارِيَة ونظم مَا بَين الْجَامِع والخانكاه بساباط على الطَّرِيق المسلوك فجَاء من أحسن شَيْء بنى وتحول كثير من النَّصَارَى من هُنَاكَ. وفيهَا أُعِيدَت إِلَى عربان آل فضل وَآل مهنا إقطاعاتها الَّتِي أقطعت لِلْأُمَرَاءِ. وفيهَا خلع عَليّ عز الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع شعْبَان وَاسْتقر فِي وكَالَة بَيت المَال عوضا عَن نجم الدّين الأسعردي مُضَافا لما بِيَدِهِ من وكَالَة الْخَاص. وَفِيه اسْتَقر جمال الدّين بن العديم فِي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماة عوضا عَن التقي مَحْمُود ابْن مُحَمَّد بن الْحَكِيم. وفيهَا مَاتَ متملك تلمسان أَبُو تاشفين عبد الرَّحْمَن بن مُوسَى بن عُثْمَان بن(3/223)
يغمراسن من عبد الواد الزياني قَتِيلا فِي محاربة سُلْطَان الْمغرب أبي الْحسن المريني أخر شهر رَمَضَان بَعْدَمَا ملك نيفا وَعشْرين سنة. وفيهَا وَقع الغلاء فِي جُمَادَى الأولى وأبيع الأردب الْقَمْح بِأَرْبَعِينَ درهما. وَالشعِير بِثمَانِيَة وَعشْرين درهما والفول بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ درهما والبرسيم الْأَخْضَر كل فدان بِنَحْوِ مائَة وَسبعين درهما والحمص المسلوق بِثَلَاثَة دَرَاهِم الْقدح. وفيهَا كبست الفيوم فِي أخريات جُمَادَى الأولى وأحضر مِنْهَا ألف ومائتان فرس. ثمَّ قدم وَالِي الفيوم وأمراء العربان وأحضروا سِتِّينَ حمل سلَاح وَمِائَة فرس وَغير ذَلِك. وَفِي سَابِع ذِي الْحجَّة: وَردت الفصاد بِأَن الْملك مُوسَى قدم إِلَيْهِ من خُرَاسَان طغاي تمر وسارا لمحاربة مُحَمَّد بن عنبرجي فانكسرا فِي رَابِع عشر ذِي الْقعدَة واستقل مُحَمَّد بِالْملكِ وَكَانَت الْوَقْعَة قَرِيبا من السُّلْطَانِيَّة بِموضع يُقَال لَهُ صولق. وَفِي رَابِع عشريه: اسْتَقر الجمالي عبد الله أَخُو ظلظية فِي ولَايَة الْبحيرَة عوضا عَن الْغَرْس خَلِيل. وَمَات فِيهَا من الْأَعْيَان قطب الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مطهر بن نَوْفَل التغلبي الأدفوي بعد كف بَصَره فِي يَوْم عَرَفَة بأدفو وَله شعر. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن حمائل بن غَانِم بِدِمَشْق فِي ثَالِث عشر الْمحرم وَله شعر ونثر ورحل إِلَى مصر وَغَيرهَا. وَتُوفِّي شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن الخولي القوصي الشَّافِعِي بقوص. وَمَات الْأَمِير سيف الدّين الأكز بِدِمَشْق فِي نصف رَمَضَان. وَتُوفِّي الشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحَاج الفاسي(3/224)
المغربي الْعَبدَرِي الْفَقِيه الْمَالِكِي عرف بِابْن الْحَاج فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأولى وَدفن بالقرافة وَقد علت سنه وَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة وَحدث وَكَانَ زاهداً صَالحا وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو وَمَات الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري أحد الْأُمَرَاء مقدمي الألوف الْمَنْسُوب إِلَيْهِ جَامع الخطيري فِي أول رَجَب كَانَ مَمْلُوك الخطير الرُّومِي وَالِد الْأَمِير مَسْعُود بن خطير ثمَّ انْتقل إِلَى الْملك الْمَنْصُور قلاوون فرقاه حَتَّى صَار من أجل الْأُمَرَاء البرجية وَكَانَ جواداً كَبِير الهمة فِيهِ خير كثير. وَمَات الْأَمِير أزبك الْحَمَوِيّ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشرى ذِي الْقعدَة على أياس وَقد بلغ مائَة سنة فَحمل إِلَى حماة وَدفن بهَا وَكَانَ مهاباً كثير الْعَطاء. وَمَات الْأَمِير بغا الدوادار بصفد منفياً وَكَانَ مشكور السيده. وَتُوفِّي عمر بن الشَّيْخ برهَان الدّين أَبُو اسحاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن تَمِيم بن عبد الصَّمد بن أبي الْحسن بن عبد الصَّمد بن تَمِيم المقريزي البعلى الصُّوفِي ببعلبك فِي ذِي الْقعدَة ومولده فِي ثَانِي عشر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة سمع من الْمُسلم بن عَدْلَانِ وَحدث وَسمع مِنْهُ الْأَمِير الواني وَابْن الْفَخر وَغَيرهمَا. وَمَات الشيح حُسَيْن بن إِبْرَاهِيم بن حُسَيْن خطيب جَامع الحاكمي من سويقة لاريش فِي يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من شَوَّال فَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة جدا لِكَثْرَة صَلَاحه وقبره يزار خَارج بَاب النَّصْر. وَتُوفِّي الْمُحدث محب الدّين عبد الله بن أَحْمد بن الْمُحب الْمَقْدِسِي فِي ربيع الأول بِدِمَشْق حدث عَن الْفَخر وَغَيره. وَمَات أَسد الدّين عبد الْقَادِر بن عبد الْعَزِيز بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن(3/225)
أَيُّوب بن شادي فِي ثَانِي شَوَّال برملة فَدفن بالقدس ومولده فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة حدث بالسيرة النَّبَوِيَّة عَن خطيب مردا. وَتُوفِّي عَلَاء الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن حمائل بن غَانِم الدِّمَشْقِي المنشأ فِي ثَالِث الْمحرم بتبوك وَهُوَ عَائِد من الْحَج. وَتُوفِّي الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمجد إِبْرَاهِيم المرشدي صَاحب الْأَحْوَال والمكاشفات بِنَاحِيَة منية المرشد فِي ثامن رَمَضَان. وَتُوفِّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن معضاد بن شَدَّاد بن ماجد الجعبري الْوَاعِظ فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشرى الْمحرم. وَتُوفِّي شيخ الخانكاه الناصرية سعيد السُّعَدَاء كَمَال الدّين أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن حسن بن عَليّ الحويزاني فِي خَامِس عشر صفر وَاسْتقر عوضه شمس الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن النقجواني. وَتُوفِّي محتسب الْقَاهِرَة ووكيل بَيت المَال نجم الدّين مُحَمَّد بن حُسَيْن بن عَليّ الأسعردي فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر شعْبَان. وَتُوفِّي نجم الدّين أَحْمد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن الْأَمِير أحد كتاب الدرج فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشرى الْمحرم. وَتُوفِّي سعد الدّين سعيد بن الشَّيْخ محيي الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد ابْن عبد الله عرف جده بِابْن أكنس الْبَغْدَادِيّ المنجم كَاتب التقاويم وَكَانَت لَهُ إصابات فِي النجامة عَجِيبَة وَكَانَت وَفَاته فِي خَامِس عشر صفر.(3/226)
وَتُوفِّي مُسْند مصر شرف الدّين يحيى بن يُوسُف الْمَقْدِسِي وَالْمَعْرُوف بِابْن الْمصْرِيّ عَن نَيف وَسبعين سنة بِمصْر.(3/227)
فارغة(3/228)
سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة أول الْمحرم: قدم مبشرو الْحَاج بسلامة الْحجَّاج ورخاء الأسعار وَحسن سيرة الْأَمِير شمس الدّين آقسنقر السِّلَاح دَار أَمِير الْحَاج. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشريه: قدمت عَسَاكِر التجريدة من بِلَاد سيس. وَكَانَ من خبر ذَلِك أَنهم لما سَارُوا من الْقَاهِرَة فِي ثَانِي عشر شعْبَان وَقدمُوا دمشق تلقاهم الْأَمِير تنكز وَلم يعبأ تنكز بالأمير أرقطاي مقدم الْعَسْكَر لما فِي نَفسه مِنْهُ. ومضوا إِلَى حلب. فقدموها فِي رَابِع عشرى رَمَضَان وَأَقَامُوا بهَا يَوْمَيْنِ فَقدم الْأَمِير قطلوبغا الفخري بعساكر الشَّام وَقد وصل إِلَى جعبر ثمَّ سَارُوا جَمِيعًا يَوْم عيد الْفطر وَمَعَهُمْ الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطبغا نَائِب حلب وَهُوَ مقدم على الْعَسْكَر جَمِيعًا حَتَّى نزلُوا على الإسكندرونة أول بِلَاد سيس وَقد تقدمهم الْأَمِير مغلطاي الْغَزِّي إِلَيْهَا بشهرين حَتَّى جهز المجانيق والزحافات والجسور الْحَدِيد والمراكب وَغير ذَلِك لعبور نهر جهان. فَقدم عَلَيْهِم الْبَرِيد من دمشق بِأَن تكفرر وعد بِتَسْلِيم القلاع للسُّلْطَان فَلْتردَّ المجانيق وَجَمِيع ألات الْحصار إِلَى بغراس. وليقم الْعَسْكَر على مَدِينَة أياس حَتَّى يرد مرسوم السُّلْطَان بِمَا يعْتَمد فِي أَمرهم وَكَانَت التراكمين قد أَغَارُوا على بِلَاد سيس وَمَعَهُمْ عَسْكَر ابْن فرمان فتركوها أوحش من بطن حمَار فَبعث تكفور رسله فِي الْبَحْر إِلَى دمياط فَلم يَأْذَن السُّلْطَان لَهُم فِي الْقدوم عَلَيْهِ من أجل أَنهم لم يعلمُوا نَائِب الشَّام بحضورهم فعادوا إِلَى تكفور. فَبعث تكفور بهدية إِلَى تنكز نَائِب الشَّام وَسَأَلَهُ منع الْعَسْكَر من بِلَاده وَأَنه يسلم القلاع الَّتِي من وَرَاء نهر جهان جَمِيعًا للسُّلْطَان. فكاتب تنكز السُّلْطَان بذلك وَبعث أوحد المهمندار إِلَى الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطبغا نَائِب حلب وَهُوَ الْمُقدم على الْعَسْكَر جَمِيعًا بِمَنْع الْغَارة ورد الْآلَات إِلَى بغراس فَردهَا ألطبغا وَركب بالعسكر إِلَى آياس فَقَدمهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشر شَوَّال. وَكَانَت آياس قد تحصنت فبادر الْعَسْكَر وزحف عَلَيْهَا بِغَيْر أمره فَكَانَ يَوْمًا مهولاً جرح فِيهِ جمَاعَة كَثِيرَة. وَاسْتمرّ الْحصار إِلَى يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره وأحضر نَائِب حلب خمسن نجاراً وَعمل زحافتين وستارتين ونادى فِي النَّاس بالركوب للزحف. فَاشْتَدَّ الْقِتَال حَتَّى(3/229)
وصلت الزحافات وَالرِّجَال إِلَى قريب السُّور بَعْدَمَا اسْتشْهد جمَاعَة كَثْرَة. فترجل الْأُمَرَاء عَن الْخُيُول لأخذ السُّور وَإِذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نَائِب الشَّام فعادوا إِلَى مخيمهم فَبَلغهُمْ أوحد المهنمدار أَن يكفوا عَن الْغَارة فَلم يوافقوه على ذَلِك وَاسْتقر الْحَال على أَن تسلموا أياس بعد ثَمَانِيَة أَيَّام. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّامِن أرسل تكفور مَفَاتِيح القلاع على أَن يرد مَا سبي وَنهب من بِلَاده فَنُوديَ برد السب فأحضر كثير مِنْهُ وأخرب الجسر الَّذِي نصب على نهر جهان. وَتوجه الْأَمِير مغلطاي الْغَزِّي فتسلم قلعة كوارة وَكَانَت من أحصن قلاع الأرمن وَلها سور مساحته فدان وَثلث وَربع فدان وارتفاعه اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا بِالْعَمَلِ وَأنْفق تكفور على عِمَارَته أَرْبَعمِائَة ألف وَسِتِّينَ ألف دِينَار. وتسلم الْعَسْكَر آياس وَهدم البرج الأطلس فِي ثَمَانِيَة أَيَّام بَعْدَمَا عمل فِيهِ أَرْبَعُونَ حجاراً يَوْمَيْنِ وليلتين حَتَّى خرج مِنْهُ حجر وَاحِد. ثمَّ نقب البرج وعلق على الأخشاب وأضرمت فِيهِ النَّار فَسقط جَمِيعه وَكَانَ برجاً عَظِيما بلغ ضَمَانه فِي كل شهر لتكفور مبلغ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار حسابا عَن كل يَوْم ألف دِينَار سوى خراج الْأَرَاضِي. وَكَانَ ببلدة آياس أَرْبَعمِائَة خمارة وسِتمِائَة بغى وَكَانَ بهَا فِي ظَاهرهَا ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف دِرْهَم وَلها مِائَتي وَسِتَّة عشر بستاناً تغرس فِيهَا أَنْوَاع الْفَوَاكِه ودور سورها فدانان وَثلثا فدان. ثمَّ رَحل الْعَسْكَر عَن آياس بَعْدَمَا قَامُوا عَلَيْهَا اثْنَيْنِ وَسبعين يَوْمًا فَمر نَائِب حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وَقد أخربهما مغلطاي الْغَزِّي حَتَّى عبر بالعسكر إِلَى حلب فِي رَابِع عشرى ذِي الْحجَّة. فَعَاد الْعَسْكَر إِلَى مصر وَقد مرض كثير مِنْهُم وَمَات جمَاعَة. فَأكْرم السُّلْطَان الْأَمِير أرقطاي وخلع عَلَيْهِ وَبعث تَشْرِيفًا إِلَى نَائِب حلب. وأقطع السُّلْطَان أَرَاضِي سيس لنائب حلب ونائب الشَّام وَغَيرهمَا من أُمَرَاء الشَّام وَأمر فِيهَا جمَاعَة من التركمان والأجناد فاستعملوا الأَرْض فِي الفلاحة وحطوا عَنْهُم من الْخراج فعمرت ضياعها. وضمت بعض عَجَائِز الأرمن ألف دِرْهَم كل يَوْم فَلم يُوَافق السُّلْطَان على ذَلِك. وَعمل فِي كل قلعة من قلاع الأرمن نَائِب ورتب فِيهَا عَسْكَر. ثمَّ قدمت رسل تكفور فَخلع عَلَيْهِم وَكتب بترك الْخراج عَنْهُم ثَلَاث سِنِين ومهادنتهم عشر سِنِين. وفيهَا كالت حَرْب بَين خَلِيل الطرفي وَبَين خَلِيل بن دلغادر على أبلستين انتصر(3/230)
فِيهَا ابْن دلغادر. فانتمى الطرفي إِلَى نَائِب الشَّام. ووعد على نِيَابَة الأبلستين بألفي إكديش وَإِقَامَة ثَلَاثِينَ أَمِير طبلخاناه. فعني بِهِ نَائِب الشَّام حَتَّى قدم إِلَى قلعة الْجَبَل وخلع عَلَيْهِ وَكتب لَهُ ثَلَاثُونَ منشوراً بإمريات جمَاعَة عينهم وخلع على جَمِيع من مَعَه وَسَار. وَقدم الْخَبَر بِأَن القان مُوسَى لما فر بعد قتل عَليّ بادشاه لحق بخراسان فَقَامَ مَعَه طغاي تمر أميرها وَجمع لَهُ. فَسَار إِلَيْهِ الشَّيْخ حسن الْكَبِير وَأَوْلَاد دمردادش ولقوه بِالْقربِ من سلطانية فانكسر مُوسَى وَقتل من أَصْحَابه. فاختل فِي هَذِه الْفِتَن حَال بَغْدَاد والموصل وديار بكر وَقَوي أرتنا نَائِب الْمغل بِبِلَاد الرّوم لشغل الْمغل عَنهُ بِمَا هم فِيهِ. وفيهَا بعث النشو من كشف عَن أَرْبَاب دواليب القند فَوجدَ لأَوْلَاد فُضَيْل كثير من القند وَمِنْه أَرْبَعَة عشر ألف قِنْطَار قند عملت فِي هَذِه السّنة وَبَلغت زراعتهم فِي كل سنة ألف وَخَمْسمِائة فدان من الْقصب كَانُوا فِيمَا سلف يصالحون المباشرون على أَن قندهم ألف قِنْطَار يؤدون مَا عَلَيْهَا للديوان. فَلَمَّا علم النشو ذَلِك أوقع الحوطة على حواصلهم وَحمل القند إِلَى دَار القند وَكتب عَلَيْهِم حجَجًا بِثمَانِيَة أُلَّاف قِنْطَار للسُّلْطَان. فَلَمَّا تخلصوا مِنْهُ وجدوا لَهُم حَاصِلا لم يظفر بِهِ النشو وَفِيه عشرَة أُلَّاف قِنْطَار قند. وصادر النشو شاد دواليب الْخَاص بالصعيد وَأخذ مِنْهُ مائَة وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم حملهَا للسُّلْطَان. وفيهَا أنعم السُّلْطَان فِي يَوْم وَاحِد على أَرْبَعه من مماليكه بِمِائَتي ألف دِينَار مصرية وهم قوصون وألطنبغا وملكتمر الْحِجَازِي وبشتاك وأنعم على مُوسَى بن مهنا بضيعة بِأَلف ألف دِرْهَم وَكَانَ قد قدم لَهُ فرسا. فشق دلك على النشو وَقَالَ: خاطرت بروحي فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال وَهُوَ يفرقها. وفيهَا قدم أَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان من الكرك باستدعاء وَكَانَ قد بلغه عَنهُ أَنه يعاشر أوباش الكرك فعقد لَهُ السُّلْطَان على ابْنة الْأَمِير سيف الدّين طايربغا وَعقد لِابْنِهِ يُوسُف على ابْنة الْأَمِير جنكلي بن البابا وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من ربيع الآخر. وسير السُّلْطَان لكل أَمِير بِأَلف وَخَمْسمِائة دِينَار وثوب أطلس. وَفِيه سعى النشو بقاضي الْإسْكَنْدَريَّة عماد الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق البلبيسي شيخ خانكاه بهاء الدّين أرسلان من أجل أَنه عَارضه فِي أَخذ أَمْوَال الْأَيْتَام ورماه بِأَنَّهُ أَخذ مَالا للأيتام اشْترى بهَا عدَّة جواري. فَطلب البلبيسي من الْإسْكَنْدَريَّة وَسلم إِلَى ابْن(3/231)
المرواني وَالِي الْقَاهِرَة ليخلص مِنْهُ مَال الْأَيْتَام فَقَامَ بأَمْره الْأَمِير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك والأحمدي حَتَّى توجه الضياء الْمُحْتَسب وأقوش البريدي للكشف عَنهُ فَلم يظْهر لما رمي بِهِ صِحَة وَأكْثر مَا عيب عَلَيْهِ أَنه مطرح الاحتشام يمشي فِي الْأَسْوَاق لشراء حَاجته فأفرج عَنهُ. وَفِيه ولد للسُّلْطَان ابْنه صَالح من زَوجته بنت الْأَمِير تنكز فَعمل السُّلْطَان لَهَا بشخاناه وداير بَيت وَنَحْو ذَلِك بِمِائَة ألف وَأَرْبَعين ألف دِينَار وَعمل لَهَا الْفَرح مُدَّة أُسْبُوع حَضَره نسَاء الْأُمَرَاء وَمَا مِنْهُنَّ إِلَّا من عين لَهَا السُّلْطَان تعبية قماش على قدر رُتْبَة زَوجهَا. فَحصل للمغاني شَيْء كثير حَتَّى أَن مغنيات الْقَاهِرَة جَاءَ قسم كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ عشرَة أُلَّاف دِرْهَم سوى التفاصيل الْحَرِير والمقانع وَالْخلْع. وَقدم من الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام لابنته مقنعة وطرحة بسبعة آلَاف دِينَار. وَفِي هَذَا المهم اسْتعْمل السُّلْطَان للخركاه الْوَاصِلَة إِلَيْهِ من بِلَاد الشرق ثوبا من حَرِير أطلس وردي ورصعه بِاللُّؤْلُؤِ والجواهر وأسبل عَلَيْهَا سترا فَبلغ مَصْرُوف ذَلِك مائَة ألف دِينَار واثني عشر ألف دِينَار فنامت فِيهَا النِّسَاء. وَبلغ مَصْرُوف خَمْسمِائَة ألف دِينَار فَكَانَ شَيْئا لم يسمع بِمثلِهِ فِي الدولة التركية. وَفِيه اتّفق عدَّة من أَرْبَاب الجرائم بخزانة شمائل وَقتلُوا السحان وَخَرجُوا بعد الْمغرب من بَاب زويلة شاهرين السكاكين. فَركب الْوَالِي فِي طَلَبهمْ فَلم يظفر مِنْهُم سوى بِرَجُل أقطع فشنقه. وفيهَا استدعى السُّلْطَان من بِلَاد الصَّعِيد بألفي رَأس من الضَّأْن واستدعى من الْوَجْه البحري بِمِثْلِهَا وَشرع فِي عمل حوش برسمها ويرسم الأبقار البلق فَوَقع اخْتِيَاره على مَوضِع من قلعة الْجَبَل مساحته أَرْبَعَة أفدنة قد قطعت مِنْهُ بِالْحِجَارَةِ لعمارة القاعات الَّتِي بالقلعة حَتَّى صَار غوراً عَظِيما وَطلب السُّلْطَان كَاتب الْجَيْش ورتب على كل من الْأُمَرَاء المقدمين مائَة رجل وَمِائَة دَابَّة لنقل التُّرَاب وعَلى كل من أُمَرَاء(3/232)
الطبلخاناه بِحَسبِهِ وَأقَام الْأَمِير قبغا عبد الْوَاحِد شادا وَأَن يُقيم مَعَه من جِهَة كل أَمِير أستاداره بعدة من جنده وألزم الْأُمَرَاء بِالْعَمَلِ ورسم لوالي الْقَاهِرَة بتسخير الْعَامَّة. فَأَقَامَ الْأَمِير أقبغا عبد الْوَاحِد فِي خيمته على جَانب الْموضع واستدعى أستادارية الْأُمَرَاء وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم فَلم يمض ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى حضرت إِلَيْهِ رجال الْأُمَرَاء من نواحيهم وَنزل كل أستادار بخيمته وَمَعَهُ دوابه وَرِجَاله فقسمت عَلَيْهِم الأرص قطعا مُعينَة لكل وَاحِد مِنْهُم فجدا فِي الْعَمَل لَيْلًا وَنَهَارًا. هَذَا وأقبغا داير بفرسه عَلَيْهِم يستحثهم ويخرق بأستادارية الْأُمَرَاء وَيضْرب بَعضهم وَيضْرب أَكثر أجنادهم. ووكل الْمُقدم عنبر السحرتي بِالرِّجَالِ وَكَانَ ظَالِما غشوماً بهم وكلفهم السرعة فِي أَعْمَالهم من غير أَن يُوجد لَهُم رخصَة وَلَا مكنهم من الاسْتِرَاحَة. وَكَانَ الْوَقْت صيفاً حاراً فَهَلَك كثير مِنْهُم فِي الْعَمَل لعجز قدرتهم عَمَّا كلفوه. وَمَعَ ذَلِك كُله والولاة تسخر من تظفر بِهِ من الْعَامَّة وتسوقه إِلَى الْعَمَل فيزل بِهِ الْبلَاء مَا لَا قبل لَهُ بِهِ وَلَا عهد لَهُ بِمثلِهِ. وَكَانَ أحدهم إِذا عجز وَألقى بِنَفسِهِ إِلَى الأَرْض رمى أَصْحَابه عَلَيْهِ التُّرَاب فَمَاتَ لوقته هَذَا وَالسُّلْطَان يحضر كل يَوْم حَتَّى يرى الْعَمَل. وَكَانَ الْأَمِير ألطنبغا المارديني قد مرض وَأقَام بالميدان على النّيل أَيَّامًا حَتَّى برِئ وطلع إِلَى القلعة من بَاب القرافة. فاستغاث بِهِ النَّاس وسألوه أَن يخلصهم من هَذَا الْعَمَل فتوسط لَهُم عِنْد السُّلْطَان حَتَّى عفى السُّلْطَان النَّاس من السخرة وَأَفْرج عَمَّن قبض عَلَيْهِ مِنْهُم. فَأَقَامَ الْعَمَل سنة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَى أَن فرغ مِنْهُ وأجريت إِلَيْهِ الْمِيَاه وأقيمت بِهِ الأغنام الْمَذْكُورَة والأبقار البلق. وبنيت بِهِ بيُوت للأوز فَبلغ ثمن البقل المصروف من الدِّيوَان برسم أكل فراخها فِي كل يَوْم مائَة وَخمسين درهما وَعند فرَاغ الْعَمَل من الحوش وترتيبه استدعى السُّلْطَان الْأُمَرَاء وَعمل لَهُم سماطاً جَلِيلًا وخلع على جمَاعَة مِمَّن بَاشر الْعَمَل وَغَيرهم. وفيهَا وصل من متجر الْخَاص سِتّمائَة قِطْعَة قطران طرحت على الزياتين وَأَصْحَاب المطابخ بِمِائَتي دِرْهَم الْقطعَة. ثمَّ طرح النشو أَيْضا ألف مقطع شرب بِحِسَاب ثَلَاثمِائَة دِرْهَم المقطع وَقِيمَته مَا بَين مائَة وَخمسين وَمِائَة وَسِتِّينَ درهما المقطع. ثمَّ طرح النشو ثِيَاب المماليك الْخلقَة وأخفافهم العتيقة على أَرْبَابهَا بأغلى ثمن. وفيهَا جد النشو فِي السّعَايَة بالصفي كَاتب قوصون عِنْد السُّلْطَان وَأَنه يلْزمه فِي كل سنة للديوان عَن متاجره وزراعاً نَحْو مِائَتي ألف دِرْهَم حَتَّى ألزم السُّلْطَان الْأَمِير قوصون بمصادرته وَأخذ مَاله لنَفسِهِ فأوقع قوصون الحوطة على جَمِيع مَاله. وسعى(3/233)
النشو أَيْضا بقطلو أستادار قوصون أَنه لما توجه إِلَى الشَّام لزمَه مَال كثير بِمَا أتْلفه من مَال معاصر الْغَوْر وَعَما أَخذه من ثمَّ بعث السُّلْطَان إِلَى قُضَاة الْقُضَاة أَلا يثبت أحد مِنْهُم محضراً بِاسْتِحْقَاق مِيرَاث حَتَّى يرسم لَهُم بذلك. وَسَببه أَن صدر الدّين الطَّيِّبِيّ لما ولاه النشو نظر ديوَان الْمَوَارِيث الْتزم لَهُ بِحمْل لأموال الْكَثِيرَة وَصَارَ يحْتَاط على أَمْوَال التركات ويحملها إِلَى النشو من غير أَن يُعْطي الْوَرَثَة مِنْهَا شَيْئا فَإِن كَانَ للْوَارِث جاه وَكَانَ لَهُ ولد مَعْرُوف ألزمهُ أَن يثبت نسبه من الْمَيِّت واستحقاقه لميراثه فَإِذا أثبت ذَلِك أَحَالهُ على مَا يتَحَصَّل من الْمَوَارِيث فيماطل بذلك مُدَّة وَلَا ينَال غَرَضه فَلَمَّا فحش الْأَمر فِي هَذَا بلغ السُّلْطَان فَأنْكر على النشو ذَلِك فدافع عَن نَفسه بأعذار قبلت مِنْهُ ثمَّ رسم السُّلْطَان للقضاة أَلا يثبتوا من ذَلِك شَيْئا إِلَّا بمرسومه فاشتذ الْأُمَرَاء على النَّاس وَصَارَت التَّرِكَة تنهب بِحَضْرَة الْوَارِث وَلَا يجد سَبِيلا إِلَيْهَا فَإِن عجز الطَّيِّبِيّ عَن أَخذ المَال من التَّرِكَة لقُوَّة الْوَارِث وَشدَّة بأسه رَمَاه عِنْد النشو بِأَن مُوَرِثه لَقِي وَوجد لقية مَال فِي بَيته فَيلْزم الْوَارِث بإحضار ذَلِك حَتَّى يتْرك مِيرَاثه. وفيهَا كتب مرسوم بمساحة ضَمَان جِهَات دمشق بِمَا عَلَيْهِم من الْبَوَاقِي للديوان ومبلغه مِائَتَان ألف دِرْهَم فأهملت من الْحساب. وفيهَا أنعم السُّلْطَان على الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام بِثَلَاث ضيَاع من فتوح سيس وَهِي قلعة كوارة وقلعة نجيمة وقلعة سرفندكار ورسم أَن يحمل إِلَيْهَا من حماة وحمص وطرابلس عشرُون ألف غرارة غلَّة برسم تقاويها وتخضيرها وَعين لكل ضَيْعَة مَا يكفيها وَكتب مراسيم لكل حهة بِمَا هُوَ مُقَرر عَلَيْهَا. وفيهَا أوقع الْأَمِير تنكز بِعلم الدّين مُحَمَّد بن القطب كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق وضربه وصادره بمرافعة الْأَمِير حَمْزَة التركماني وَأخذ مِنْهُ عشْرين ألف دِينَار ومائتي ألف دِرْهَم. وفيهَا أعرس أَحْمد ابْن السُّلْطَان بابنة الْأَمِير طايربغا من غير عمل مُهِمّ. وأعرس كَذَلِك يُوسُف ابْن السُّلْطَان بابنة الْأَمِير جنكلي بن البابا. وفيهَا أنعم على قطلوبرس أستادار بكتمر الساقي بإمرة طبلخاناه وتسلم أَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان وَتوجه بِهِ إِلَى الكرك فَتوجه الْأَمِير بيغرا إِلَى الكرك على النجب حَتَّى أحضر جَمِيع مَا كَانَ بهَا من المَال. وفيهَا اتضع سعر الغلال حَتَّى أبيع الأردب الْقَمْح الصعيدي بِعشْرَة دَرَاهِم والبحري(3/234)
بِثمَانِيَة دَرَاهِم والفول وَالشعِير كل أردب بِسِتَّة دَرَاهِم وكسدت الغلال. فَكَانَ رزق الله أَخُو النشو - وَهُوَ كَاتب الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي وَولي الدولة صهره - وَهُوَ كَاتب المجدي - يطرحان الْقَمْح بِزِيَادَة دِرْهَمَيْنِ الأردب ويأخذان ثمنه بعسف وظلم فتوقفت أَحْوَال الْجند لرخص السّعر. وسعى النشو بالضياء الْمُحْتَسب أَن الدَّقِيق وَالْخبْز سعرهما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَمْح غال فرسم لوالي الْقَاهِرَة أَن يطْلب الْمُحْتَسب والطحانين وَيعْمل معدل الْقَمْح عِنْده فَلم يجد فِي الأسعار تَفَاوتا بَين الْقَمْح وَالْخبْز. وَفِي سَابِع عشر صفر: قدم من بَغْدَاد الْوَزير نجم الدّين مَحْمُود بن على بن شرْوَان وحسام الدّين الْحسن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغوري محتسب بَغْدَاد وفخر الدّين مَحْمُود نَائِب الْحلَّة. وعدة من الْأَعْيَان فِي خَمْسمِائَة عليقة. فَقدم الْوَزير للسُّلْطَان هَدِيَّة سنية. فِيهَا حجر بلخش يزن سَبْعَة وَعشْرين درهما فَخلع عَلَيْهِ وعَلى الْغَوْر وأنعم على مَحْمُود نَائِب الْحلَّة بإمرة طبلخاناه بِدِمَشْق وعَلى وَزِير بَغْدَاد بإمرة طبلخاناه بديار مصر ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف بعد وَفَاة طايربغا. وَكَانَ سَبَب قدومهم أَن نجم الدّين هَذَا كَانَ تمكن بِبَغْدَاد وَكثر مَاله فَلَمَّا قدم عَليّ بادشاه إِلَى بَغْدَاد وَمَعَهُ القان مُوسَى وصادر أَهلهَا ثمَّ جمع العساكر وَخرج بعث بشمس الدّين السهروردي نَائِب بَغْدَاد وَقد كتب لَهُ أَسمَاء ليَأْخُذ مَالهم مِنْهُم نجم الدّين ابْن شرْوَان فَخر الدّين مَحْمُود نَائِب الْحلَّة. فَلَمَّا بَلغهُمْ ذَلِك تواطئوا على قَتله وَالْخُرُوج إِلَى مصر وَخَرجُوا إِلَى لِقَائِه واحتفوا بِهِ وَسَارُوا مَعَه ثمَّ بدره نجم الدّين بِسَيْفِهِ فَضَربهُ ضَرْبَة حلت عَاتِقه فَسقط إِلَى الأَرْض وَأخذت السيوس أَصْحَابه فارتجت بَغْدَاد بِأَهْلِهَا. وَفِي الْوَقْت نَادَى نجم الدّين بالأمان وَلَا يَتَحَرَّك أحد فقد كَانَ لنا غَرِيم قَتَلْنَاهُ وَأخرج هُوَ وَأَصْحَابه حريمهم وَأَمْوَالهمْ ومروا بهم على حمية من بَغْدَاد وَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام يستأذنونه. فَبعث تنكز الْبَرِيد إِلَى السُّلْطَان بخبرهم فَأُجِيب بإكرامهم إِلَى الْقَاهِرَة فَحمل إِلَيْهِم من الإقامات مَا يَلِيق بهم حَتَّى قدمُوا عَلَيْهِ ثمَّ سيرهم مكرمين. وفيهَا أنعم على آقسفقر بِخبْز طنجي السِّلَاح دَار وأنعم على قماري أَمِير شكار بتقدمة ألف. وَفِيه أنشأ السُّلْطَان قصراً للأمير يلبغا اليحياوي وقصراً للأمير ألطبغا المارديني تجاه(3/235)
حمام الْملك السعيد قَرِيبا من الرميلة تَحت القلعة وَأخذ لذَلِك من إسطبل الْأَمِير أيدغمش قِطْعَة وَمن إسطبل الْأَمِير طشتمر الساقي قِطْعَة وَمن إسطبل الْأَمِير قوصون قِطْعَة وَنزل بِنَفسِهِ حَتَّى مرر أمره. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير قوصون أَن يَشْتَرِي الْأَمْلَاك الْمُجَاورَة لإسطبله بالرميلة تَحت القلعة ويضيفها إِلَى إسطبله وَأمر أَن يكون بَاب الإسطبلين اللَّذين أنشأهما أَيْضا للأميرين يلبغا وألنبغا تجاه حمام الْملك السعيد وَأقَام آقبغا عبد الْوَاحِد شادا بعمارة القصرين. فَاشْترى قوصون عدَّة أَمْلَاك وسع بمواضعها فِي اسطبله وَطرح النشو أنقاضها بأغلى الْأَثْمَان وَجعل قوصون بَاب إسطبله من الرميلة تجاه القلعة. وَأنْفق النشو على القصرين جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي عمارتها. وفيهَا قدمت عدَّة تجار من الشَّام بِثِيَاب بعلبكي كَثِيرَة فختم عَلَيْهَا وَأخذ عَنْهَا مَا جرت بِهِ الْعَادة للديوان من المكس. ثمَّ أَمر النشو بأخذها جَمِيعهَا بِقِيمَة اخْتَارَهَا ثمَّ طرحها على تجار الْقَاهِرَة بِثَلَاثَة أَمْثَال قيمتهَا وألزم مباشري الْخَتْم أَلا يختموا قماشاً حَتَّى يستأذنوه. فَقدم قفل عقيب ذَلِك فِيهِ تَاجر من جِهَة الْأَمِير بشتاك فَأخذ قماشه فِيمَا أَخذ وَطرح الْجَمِيع على التُّجَّار. فَادّعى ذَلِك التَّاجِر أَن قماشه إِنَّمَا هُوَ للأمير بشتاك فَضَربهُ النشو ضربا مبرحاً فشق ذَلِك على بشتاك وشكا أمره إِلَى السُّلْطَان. وَكَانَ النشو قد بلغ السُّلْطَان أَن تَاجِرًا يحضر كل سنة القماش على اسْم الْأَمِير بشتاك بِغَيْر مكس حَتَّى وَجب عَلَيْهِ للديوان مائَة ألف دِرْهَم وَقد أكسر مُعَاملَة السُّلْطَان وَأَنه قد أَخذ مَا أحضرهُ من القماش فانفعل السُّلْطَان لكَلَامه. وفيهَا عزل قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد الْقزْوِينِي. وَسبب ذَلِك وَلَده جمال الدّين عبد الله وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من كَثْرَة اللَّهْو والشره فِي المَال وَأَخذه الرِّشْوَة من الْقُضَاة وَنَحْوهم وتبسطه فِي الترف حَتَّى إِنَّه قد اقتنى عدَّة كَثِيرَة من الْخُيُول ورتب لَهَا عدَّة من الأجاقية والركابين وسابق بهَا. وَكَانَ جمال الدّين شغف أَيْضا بِسَمَاع الْغناء ومعاشرة الْأَحْدَاث من أَوْلَاد الأكابر ومماليك الْأُمَرَاء وتجاهر بالمنكرات. فرمعت فِيهِ للسُّلْطَان تَتَضَمَّن شعرًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَأخْرجهُ السُّلْطَان إِلَى الشَّام ثمَّ أَعَادَهُ بسعي(3/236)
أَبِيه بعد مُدَّة بسفارة الْأَمِير بكتمر الساقي فَلم يقم إِلَّا نَحْو السّنة وَزَاد فِي قبح السِّيرَة فَأخْرجهُ السُّلْطَان ثَانِيًا وَأقَام سنة. فَلم يُطلق أَبوهُ غيبته عَنهُ وَكَانَ قد فتن بِهِ حَتَّى أَنه لشدَّة حبه إِيَّاه لَا يكَاد يصبر عَنهُ سَاعَة وَاحِدَة فَسَأَلَ السُّلْطَان فِي عوده مشافهة وَضمن تَوْبَته فَأَعَادَهُ السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة فَأَنْشَأَ بجوار بَيت أَبِيه على النّيل دَارا كلف قُضَاة الْأَعْمَال فِيهَا لحمل الرخام وَغَيره واستدعى لَهَا الصناع من الشَّام وَبَالغ فِي اتقانها فبلغت النَّفَقَة عَلَيْهَا زِيَادَة على خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم. وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَحدث الْأُمَرَاء. بِمَا بلغه وَأنكر على القَاضِي بتمكين وَلَده من هَذَا فَبعث الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري إِلَى القَاضِي يعنفه ويشنع عَلَيْهِ ويلومه على إِنْفَاق وَلَده هَذَا المَال الْكَبِير فَاعْتَذر عَنهُ بِأَنَّهُ اقْترض مَا عمر بِهِ هَذِه الدَّار فَإِن سُكْنى الْقَاهِرَة لم توافقهم واحتاجوا إِلَى السُّكْنَى على النّيل. ثمَّ إِنَّه أَيْضا اشْترى فِي الْقَاهِرَة دَارا وجددها بِمَا يزِيد على مِائَتي ألف دِرْهَم فَكثر الْكَلَام فِيهِ. هَذَا مَعَ جفائه للنَّاس وَقُوَّة نَفسه وَسُوء سيرته وسيرة إخْوَته أَيْضا وتغافل أَبِيهِم عَنْهُم وتصاممه عَن الشكوى فيهم فَكتب فِي القَاضِي عدَّة أوراق للسُّلْطَان وَنسب فِيهَا إِلَى أَنه لَا يولي نَائِبا عَنهُ فِي بلد حَتَّى يجْتَمع بأولاده وشنع فِيهَا أَن الْقُضَاة فِي أَيَّامه إِنَّمَا تلِي بالبراطيل وتتزايد فِي الولايات. وَكَانَ السُّلْطَان لَا يرشى ويعاقب من يرتشي أَشد الْعقُوبَة فَكَانَ يُرَاعِي الْقُضَاة لما فِي نَفسه من إجلالهم وتعظيمهم إِلَى أَن نعاط أَمر أَوْلَاد القَاضِي جلال الدّين الْقزْوِينِي وَكَثُرت الْقَصَص فيهم وَفِي مَمْلُوكه. وَعمل حسن الْغَزِّي الشَّاعِر فيهم قصيدة شنيعة وأوصلها إِلَى شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله فقصد نكاية الْقزْوِينِي وَقَالَ للسُّلْطَان عَنْهَا وَقرأَهَا عَلَيْهِ فأثرت فِي السُّلْطَان وغيرته على الْقزْوِينِي وَمِنْهَا وَهِي طَوِيلَة: قَاض على الْأَيَّام سل صَارِمًا بحده يلتقط الدراهما وَسن من أَوْلَاده لَهَا دَمًا جردهم فانتهكوا المحارما والشبل فِي الْمخبر مثل الْأسد وَابْنه البدري خطيب جلقي بِامْرَأَة الْكَامِل مشغوف شقي بادره بِالْعَزْلِ فَلَيْسَ يرتقي مَنَابِر الْإِسْلَام إِلَّا متقي متزر ثوب العفاف مُرْتَد يَا ملك الْإِسْلَام يَا ذَا الهمة أزل عَن الْملَّة هذي الْغُمَّة واحلل بِعَبْد الله سيف النقمَة فَإِنَّهُ حجاج هذي الْأمة واردعه ردع كل مُفسد(3/237)
فَلَمَّا حضر الْقُضَاة إِلَى دَار الْعدْل على الْعَادة لم يُؤذن لَهُم فِي دُخُوله وعندما نزلُوا بعث السُّلْطَان إِلَى الْقزْوِينِي مَعَ الدوادار بِأَن نَائِب الشَّام شكا من ابْن الْمجد قَاضِي دمشق وَقد اقْتضى رأية أَن أَن ترجع ابْنك عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ لَا ترجعه فَإِذا حضرت بدار الْعدْل استعف من الْقَضَاء بِحَضْرَة الْأُمَرَاء. وَاعْلَم أَنِّي آمُر نَائِب الشَّام أَنه إِذا رأى أولادك على سيرة مرضية قابلهم بِمَا يستحقونه. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس: وَحضر قَاضِي الْقُضَاة الْقزْوِينِي دَار الْعدْل سَأَلَ الْحَاجِب أَن يسْأَل لَهُ السُّلْطَان فِي تَمْكِينه من التَّوَجُّه إِلَى دمشق فَإِن مصر لم توافقه وَلَا وَافَقت أَهله فَأذن لَهُ السُّلْطَان فِي ذَلِك. وَنزل الْقزْوِينِي فَأخذ فِي وَفَاء دينه وَكَانَ عَلَيْهِ لجِهَة وقف التربة الأشرفية الْمُجَاورَة لمشهد السيدة نفيسة مبلغ مِائَتي ألف دِرْهَم وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فَبَاعَ أملاكه وأملاك أَوْلَاده وأثاثهم وتحفهم بِربع ثمنهَا وَكَانَت نفيسة. فباعوا من صنف الْأَوَانِي الصيني بمبلغ أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم وَبَاعَ عبد الله إِحْدَى عشرَة جَارِيَة مَا بَين ثَمَانِيَة أُلَّاف دِرْهَم الْجَارِيَة إِلَى أَرْبَعَة أُلَّاف وَبَاعَ من اللُّؤْلُؤ والجواهر والزركش مَا قِيمَته زِيَادَة على مائَة وَعشْرين ألف دِرْهَم وَبَاعَ دَاره بِالْقَاهِرَةِ بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وأدوا مَا عَلَيْهِم من الدّين للأيتام وَغَيرهم. وَسَار قَاضِي الْقُضَاة بأَهْله وَأَوْلَاده إِلَى دمشق وصحبته سِتُّونَ زوج محاير على الْجمال فِي كل محارة امْرَأَة. وتأسف النَّاس على فِرَاقه لمحبتهم لَهُ مَعَ بغضهم لأولاده فَإِنَّهُ كَانَ كَرِيمًا جواداً سخياً لَهُ صدقَات ومراعاة لأرباب الْبيُوت يهب الْألف دِرْهَم وَلم يعرف فِي دولة الأتراك بِمصْر قَاض لَهُ مثل سعادته وَلَا مثل حظوته من السُّلْطَان وَقُوَّة حرمته وَكَانَ سَفَره فِي جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثامن عشره: استدعى عز الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِي وخلع عَلَيْهِ وَاسْتقر قَاضِي الْقُضَاة عوضا عَن الْجلَال الْقزْوِينِي. وَكَانَ السُّلْطَان قد جمع بَين يَدَيْهِ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَفِيهِمْ عز الدّين(3/238)
وَحَدَّثَهُمْ فِيمَن يصلح للْقَضَاء وَقد تعين عِنْدهم شمس الدّين مُحَمَّد بن عَدْلَانِ. فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ السُّلْطَان وَذكر لَهُم عز الدّين فَأَثْنوا عَلَيْهِ خيرا. وَكَانَ السُّلْطَان من أَيَّام بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة يلهج بِذكر ابْنه عز الدّين وَيَقُول: لَوْلَا أَنه شَاب لوليته الْقَضَاء. وخلع فِيهِ أَيْضا على حسام الدّين الْحسن بن مُحَمَّد الغوري القادم من بَغْدَاد وَاسْتقر فِي قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة عوضا عَن برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عبد الْحق وَنزلا فِي موكب جليل. وَكَانَ سَبَب عزل ابْن عبد الْحق أَوْلَاده فَإِنَّهُم سَارُوا سيرة أَوْلَاد الْقزْوِينِي فَكَانَ السُّلْطَان يَقُول: ولينا قُضَاة جياداً أفسدهم ورسم بسفر ابْن عبد الْحق وَأَوْلَاده أَيْضا إِلَى الشَّام فسافروا. وَكَانَت قد وَقعت الشكوى فِي ابْن القَاضِي الْحَنْبَلِيّ من بَيْعه أوقاف الْأَيْتَام وَأخذ أثمانها وإتلافه فِي الْمُحرمَات فَطلب وَالِده تَقِيّ الدّين أَحْمد بن عز الدّين عمر بن مُحَمَّد الْمُقَدّس وَسُئِلَ عَن مَال الْأَوْقَاف الَّتِي بَاعهَا فَاعْتَذر بِمَا لَا يقبل وَسَأَلَ المهلة. فَأمر السُّلْطَان مُتَوَلِّي الْقَاهِرَة بِتَسْلِيمِهِ وضربه حَتَّى يحضر المَال جَمِيعه فأهانه ورسم عَلَيْهِ. وَأخذ السُّلْطَان يَقُول لِلْأُمَرَاءِ. انْظُر مَاذَا جرى علينا من أَوْلَاد الْقُضَاة وَذكر ابْن القَاضِي الْحَنْبَلِيّ وَمَا كَانَ مِنْهُ وهم أَن يُوقع بِهِ وبابنه الْمَكْرُوه فتلطفوا بِهِ فِي أَمرهمَا. والستر على القَاضِي لكبر سنه وشهرته. فعين الْأَمِير جنكلي بن البابا لولاية الْحَنَابِلَة موفق الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْملك الْمَقْدِسِي فَطَلَبه السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ مَعَ رَفِيقه. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثاسع عشره: طلع الْقُضَاة الْأَرْبَعَة وقبلوا يَد السُّلْطَان وَاسْتَأْذَنَ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة الشَّافِعِي فِي عزل نواب الحكم فَإِنَّهُم جيعهم إِنَّمَا ولوا ببذلهم المَال الجزيل لولد القزوين وَأَنَّهُمْ قد أفسدوا فِي الْأَعْمَال فَسَادًا كَبِيرا فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بِأَن يفعل مَا فِيهِ خلاصه من الله تَعَالَى. فَنزل ابْن جمَاعَة وَكتب(3/239)
بعزل قُضَاة الْوَجْه القبلي والبحري بأسرهم وعزل فَخر الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مِسْكين من نِيَابَة الحكم بِمصْر وَولي عرضه بهاء الدّين عبد الله بن عقيل وَعين لقَضَاء الْأَعْمَال جمَاعَة مِمَّن وَقع اخْتِيَاره عَلَيْهِم فَلم يَجْسُر أحد على معارضته وَلَا مُخَالفَته واستخلف عَنهُ فِي الْقَضَاء تَاج الدّين مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَنَاوِيّ وضياء الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَنَاوِيّ وعزل الضياء الْمُحْتَسب من نظر الْأَوْقَاف حَتَّى لم يدع أحدا بِالْقَاهِرَةِ ومصر وأعمالها مِمَّن ولاه الْقزْوِينِي. فانكف عَن النَّاس بدلك شَرّ كَبِير وَفَسَاد كثير. وَسَار رفقاؤه الْحَنَفِيّ والحنبلي مثل سيرته فِي النزاهة والصيانة. وعقيب ذَلِك قدم الْبَرِيد من الشَّام بِأَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة دِينَار من وقف الأشرفية. فَأَخذهَا النشو وَعرف السُّلْطَان بهَا وَأَنه تعوض عَنْهَا لجِهَة الْوَقْف فِيمَا بعد فَأَخذهَا السُّلْطَان مِنْهُ. وفيهَا جمع النشو الطحانين وعرفاء الجمالة وَطرح عَلَيْهِم مَا زرع بِنَاحِيَة قليوب من الفول الْأَخْضَر والبرسيم بِحِسَاب ثَلَاثمِائَة دِرْهَم الفدان الفول والبرسيم بِمِائَتي دِرْهَم وَضرب جمَاعه مِنْهُم بالمقارع لأجل شكواهم إِيَّاه للسُّلْطَان. وَطرح النشو مبلغ مِائَتي ألف دِرْهَم فُلُوسًا نحساً ضرب إسكندرية وتروجة وفوة وبلاد الصَّعِيد على التُّجَّار وأرباب الْمُعَامَلَات فوقفت الْأَحْوَال. وَذَلِكَ أَن الْفُلُوس كَانَت تُؤْخَذ بِالْعدَدِ وَقد كثر فِيهَا الزغل من الرصاص وَنَحْوه وَصَارَ الْفلس الْكَبِير يقص ثَلَاث قطع وَيخرج بِثَلَاثَة فلوس فَصَارَت الباعة تردها وتحسن سعر الْغلَّة دَرَاهِم الأردب. فَقَامَ وَالِي الْقَاهِرَة فِي ذَلِك وَضرب جمَاعَة وَنُودِيَ أَن يرد الْفلس المقصوص والرصاص وَلَا يتعامل بِهِ فمشت الْأَحْوَال. وَفِيه قدم الْبَرِيد من الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام. وَمَعَهُ مبلغ عشْرين ألف دِينَار الَّذِي أَخذ من علم الدّين بن القطب كَاتب السِّرّ بِدِمَشْق فَخلع السُّلْطَان على جمال الدّين عبد الله بن الْكَمَال مُحَمَّد بن الْعِمَاد إِسْمَاعِيل بن الْأَثِير وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ بِدِمَشْق عوضا عَن ابْن القطب. وفيهَا اتّفق بِدِمَشْق أَن قاضيها شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ الأربلي كَانَ غير مرضِي الطَّرِيقَة فَلَمَّا عزل وَاسْتقر الْقزْوِينِي عوضه ركب ابْن الْمجد قبل أَن يبلغهُ الْعَزْل يُرِيد مَكَانا فنقرت بغلته من كلب خرج عَلَيْهَا فِي الطَّرِيق وألقته عَن ظهرهَا فاندق عُنُقه وسر النَّاس بذلك.(3/240)
وفيهَا عزل الضياء من حسبَة الْقَاهِرَة بسعاية النشو بِهِ ورميه لَهُ بمحبة الْأَحْدَاث وخلع على الشريف شرف الدّين عَليّ بن حُسَيْن بن مُحَمَّد نقيب الْأَشْرَاف وَاسْتقر عوضه بَعْدَمَا أَقَامَت الْقَاهِرَة أَيَّامًا بِغَيْر محتسب. وفيهَا أفرج عَن الْأَمِير آقسنقر شاد العمائر من حَبسه بحلب وأنعم عَلَيْهِ بطلبخاناه فِي دمشق بعناية الْأَمِير قوصون. وفيهَا قدم الْبَرِيد بِأَن جَبَّار بن مهنا توجه فِي جماعته إِلَى بِلَاد الشرق وَصَارَ فِي جملَة الشَّيْخ حسن الْكَبِير بِسَبَب أَنه لما قدم بهديته إِلَى السُّلْطَان لم يجد مِنْهُ إقبالاً فَكتب إِلَّا إخْوَته بترجيعه إِلَى الْبِلَاد. وفيهَا قدم الْبَرِيد بِأَن الشَّيْخ حسن الْكَبِير قد جمع العساكر لمحاربة أرتنا صَاحب بِلَاد الرّوم وَأَن جَبَّار بن مهنا الْتزم لَهُ بِجمع الْعَرَب وَأَنه كتب لَهُ تقليداً بالإمرة على الْعَرَب. فَقدم بعد ذَلِك كتاب أرتنا وَمَعَهُ هَدِيَّة وَيسْأل فِيهِ أَن يكون نَائِب السُّلْطَان فِي بِلَاد الرّوم وَأَنه يضْرب السِّكَّة باسمه وَيُقِيم دَعوته على منابره. فَخلع على رسله وأنعم عَلَيْهِم وَكتب لَهُ تَقْلِيد بنيابة الرّوم من انشاء الشريف شهَاب الدّين الْحُسَيْن ابْن قَاضِي الْعَسْكَر. وَكَانَ الْحَامِل لِابْنِ أرتنا على ذَلِك أَنه عظم شَأْنه بِبِلَاد الرّوم وكثف جمعه حَتَّى خافه الشَّيْخ حسن الْكَبِير أَن ينْفَرد بمملكة الرّوم فَأخذ فِي التأهب لمحاربته. وَكَانَ ابْن دلغادر قد تمكن بأراضي أبلستين وَكَثُرت زراعاته بهَا وَأخذ يتخطف من أَطْرَاف الرّوم فخشى أرتنا مِنْهُ أَن ينازعه فِي مملكة الرّوم أَو يكون مَعَ الشَّيْخ حسن الْكَبِير فَرَأى الاتجاه إِلَى السُّلْطَان أقوى لَهُ وَأسلم فَإِنَّهُ إِمَّا يمده بعسكر يتقوى بِهِ على أهل الشرق أَو يأوي إِلَى بِلَاده إِن انهزم. وفيهَا بلغ النشو أَن النَّاس يَجْتَمعُونَ إِلَى الوعاظ بالجامع الْأَزْهَر وجامع الْحَاكِم وَغير ذَلِك وَيدعونَ الله عَلَيْهِ. فَلم يزل النشو بالسلطان حَتَّى منع الوعاظ بأجمعهم من الْوَعْظ وَأخرج رجلا كردياً كَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد إِلَى الشَّام. وفيهَا قدم الْمجد السلَامِي من الشرق صُحْبَة رسل الشَّيْخ حسن الْكَبِير باستدعاء السُّلْطَان لَهُ وَقد كلفه الشَّيْخ أَن يقوم لَهُ بِالصُّلْحِ بَينه وَبَين السُّلْطَان وجهز مَعَه هَدِيَّة جليلة. وفيهَا قدم نَاصِر الدّين خَليفَة بن خواجا عَليّ شاه وَزِير أبي سعيد فَأكْرمه السلطالن وأنعم عَلَيْهِ وَأخرج لَهُ راتباً بِدِمَشْق ثمَّ أنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف بهَا عوضا عَن برسبغا العادلي وأنعم على برسبغا بتقديمة آقول الْحَاجِب بعد مَوته.(3/241)
وفيهَا ندب النشو أحد مباشري العمائر السُّلْطَانِيَّة لمرافعة الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد فأنهى للسُّلْطَان عَنهُ أَنه عمر جَمِيع عمائر من مَال السُّلْطَان وَثَبت لمحاققته فَلم يجد آقبغا جَوَابا. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير أَخُو ظلظية فِي كشف الْوَجْه البحري عوضا عَن الْأَمِير سيف الدّين أبي بكر بن سُلَيْمَان البابيري وَأخرج البابيري إِلَى دمشق بِطَلَب الْأَمِير تنكز لَهُ وَكَانَت إِقَامَته فِي كشف الْوَجْه البحري سنة سَار فِيهَا سيرة سيئه. وَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَانِي عشرى ربيع الآخر: سقط بِمصْر والقاهرة مطر عَظِيم مُدَّة سِتَّة أَيَّام فتهدم مِنْهُ عدَّة أَمَاكِن وسال الْجَبَل وأعقب الْمَطَر رياحاً عَاصِفَة وَاشْتَدَّ الْبرد بِخِلَاف الْعَادة وَسقط الثَّلج بسبخة بردويل حَتَّى جهلت الطَّرِيق وَسقط بِمصْر ثلج كثير وحصا فِيهِ مَا يزن سِتَّة عشر درهما وَأكْثر إِلَى ثَمَانِيَة وَعشْرين درهما. وَاشْتَدَّ الرّيح بِنَاحِيَة دمياط فِي بَحر الْملح حَتَّى غلب على النّيل وَوصل المَاء إِلَى شار مساح وَفَارِس كور. وفيهَا كثر تسخير النَّاس للْعَمَل فِي عمائر السُّلْطَان بالقلعة وَقبض عَلَيْهِم من بَين القصرين وهم نيام وَمن أَبْوَاب الْجَوَامِع عِنْد خروحهم من صَلَاة الصُّبْح فابتلي من ذَلِك ببلاء عَظِيم وَكَثُرت الغاثة فَلم يَجْسُر أحد من الْأُمَرَاء يكلم السُّلْطَان فِيهِ. وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ رابعه: خلع عَليّ عَلَاء الدّين عَليّ بن محيي الدّين يحيى بن فضل الله وَاسْتقر فِي كِتَابَة السِّرّ عوضا عَن أَبِيه بعد وَفَاته وَركب مَعَه الْحَاجِب أَمِير مَسْعُود والدواداو طاجار إِلَى دَاره.
(وَفِي ثَانِي عشرى رَمَضَان)
قدمت الْحرَّة بنت السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان ابْن يَعْقُوب المريني صَاحب فاس تُرِيدُ الْحَج وَمَعَهَا جمع كَبِير وهدية جليلة إِلَى الْغَايَة نزل لحملها من الإسطبل السلطاني ثَلَاثُونَ قطاراً من بغال النَّقْل سوى الْجمال وَكَانَ(3/242)
من جُمْلَتهَا أَرْبَعمِائَة فرس مِنْهَا مائَة حجرَة وَمِائَة فَحل ومائتان بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَعضهَا سُرُوجهَا وركبها من الذَّهَب وَكَذَلِكَ لجمها وَكَانَ جُمْلَتهَا أَيْضا أبقار عدتهَا اثْنَان وَأَرْبَعُونَ رَأْسا وَمِنْهَا سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ بازاً وفيهَا سيف قرَابه من ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيهَا سِتّمائَة كسَاء وَغير دلك من القماش الغالي. وَكَانَ قد خرج المهمندار إِلَى لقائهم وأنزلهم بالقرافة قرب مَسْجِد الْفَتْح وهم جمع كَبِير جدا. وَكَانَ يَوْم طُلُوع الْهَدِيَّة من الْأَيَّام الْمَذْكُورَة فَفرق السُّلْطَان الْهَدِيَّة على الْأُمَرَاء بأسرهم على قدر مَرَاتِبهمْ حَتَّى نفدت كلهَا سوى الْجَوْهَر واللؤلؤ فَإِنَّهُ اخْتصَّ بِهِ فقدرت قيمَة هَذِه الْهَدِيَّة بِمَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار. ثمَّ نقلت الْحرَّة إِلَى الميدان بِمن مَعهَا ورتب لَهَا من الْغنم والدجاج وَالسكر والحلوى والفاكهة فِي كل يَوْم بكرَة وَعَشِيَّة مَا عمهم وَفضل عَنْهُم. فَكَانَ مرتبهم فِي كل يَوْم عدَّة ثَلَاثِينَ رَأْسا من الْغنم وَنصف أردب أرزاً وقنطار حب رمان وَربع قِنْطَار سكرا وثماني فانوسيات شمع وتوابل الطَّعَام وَحمل إِلَيْهَا برسم النَّفَقَة مبلغ خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَكَانَت أُجْرَة حمل أثقال ركبهَا قد بلغت سِتِّينَ ألف دِرْهَم. ثمَّ خلع على جَمِيع من قدم مَعَ الْحرَّة فَكَانَت عدَّة الْخلْع مِائَتَيْنِ وَعشْرين خلعة على قدر طبقاتهم حَتَّى على الرِّجَال الَّذين قادوا الْخُيُول. وَحمل إِلَى الْحرَّة من الْكسْوَة مَا يجل قدره وَقيل لَهَا أَن تملي مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَقَالَت إِنَّه لَا يعوزها شَيْء إِنَّمَا تُرِيدُ عناية السُّلْطَان بإكرامها وإكرام من مَعهَا حَيْثُ كَانُوا. فَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو وَالِي الْأَمِير آقبغا بتجهيزها اللَّائِق بهَا فقاما بذلك واستخدما لَهَا السقائين والضوية وهيئا كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي سفرها من أَصْنَاف الْحَلْوَى وَالسكر والدقيق والبشماط وطلبا الجمالة لحل جهازها وأزودتها. وَندب السُّلْطَان مَعهَا جمال الدّين مُتَوَلِّي الجيزة وَأمره أَن يرحل بهَا فِي ركب لَهَا بمفردها قُدَّام الْمحمل ويمتثل كل مَا تَأمر بِهِ وَكتب لأميري مَكَّة وَالْمَدينَة بخدمتها أتم خدمَة. وَفِيه تجهز الْأَمِير بشتاك والأمير ألطنبغا المارديني وخوند طغاي زَوْجَة السُّلْطَان وست حدق وعدة من الدّور وَمن الخدام لسفر الْحجاز.(3/243)
وَفِيه قرر الْأَمِير علم الدّين سنجر الجاولي شهَاب الدّين أَحْمد العسجدي فِي تدريس الحَدِيث بالقبه المنصورية بَين القصرين بعد وَفَاة زين الدّين عمر بن الكتاني. فتعصب عَلَيْهِ الْقُضَاة وَجَمَاعَة من شُيُوخ الْعلم وطعنوا فِي أَهْلِيَّته وَرفعُوا قصَّة للسُّلْطَان بالقدح فِيهِ. فَلَمَّا قُرِئت على السُّلْطَان بدار الْعدْل سَأَلَ السُّلْطَان من الْقُضَاة عَنهُ فثلبه قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فَقَامَ الجاولي بمعارضة القاصي وَأثْنى عَلَيْهِ فرسم السُّلْطَان أَن يعْقد لَهُ مجْلِس ويطالع بأَمْره. فَاجْتمع الْقُضَاة وَكثير من الْفُقَهَاء بالمدرسه المنصورية وجبه بَعضهم الجاولي بالغض من العسجدي ورماه ركن الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن القوبع بِأَنَّهُ لحن فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة ثَلَاث مَرَّات فَقَامَ قَاضِي الْقُضَاة حسام الدّين الغوري فِي نصْرَة العسجدي وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَنا أحكم بأهليته لهَذِهِ الوظيفه فدار بَينه وَبَين ابْن جمَاعَة مقاولة فِيهَا فحش وانفضوا على ذَلِك. فَأعْلم الغوري طاجار الدوادار بِأَن الْقَوْم تعصبوا على العسجدي وَأَنه يحكم بأهليته فَبلغ ا! سُلْطَان ذَلِك. فَلَمَّا حضرا سَأَلَ السُّلْطَان عَمَّا جرى فِي الْمجْلس من ابْن جمَاعَة والجاولي فتفاوضا وعارض كل مِنْهُمَا الآخر فَمَال السُّلْطَان إِلَى قَول ابْن جمَاعَة وَمنع العسجدي من التدريس. فشق ذَلِك على الجاولي وهم بعزل نَفسه من نظر المارستان فحذره الْأُمَرَاء عَاقِبَة ذَلِك. وفيهَا عمل جسر بالنيل على حكر ابْن الْأَثِير وَسَببه أَن الْميل قوي على نَاحيَة بولاق خَارج الْقَاهِرَة وَهدم جَامع الخطيري حَتَّى احْتِيجَ إِلَى تجديده وَحَتَّى احْتِيجَ إِلَى أَن رسم السُّلْطَان للسكان على شاطئ النّيل بِعَمَل الزرابي لجَمِيع تِلْكَ الدّور وَألا يُؤْخَذ عَلَيْهَا حكر. فَبنى صَاحب كل دَار زربية تجاه دَاره فَلم يفد ذَلِك شَيْئا. فَكتب بإحضار مهندسي الْبِلَاد الْقبلية وبلاد الْوَجْه البحري فَلَمَّا تكاملوا ركب السُّلْطَان النّيل وهم مَعَه وكشف الْبَحْر. فاتفق الرَّأْي على أَن يحْفر الرمل الَّذِي بالجزيرة حَتَّى يصير خليجاً يجْرِي فِيهِ المَاء وَيعْمل جسر فِي وسط النّيل يكون سداً يتَّصل بالجزيرة فَإِذا كَانَت زِيَادَة النّيل جرى المَاء فِي الخليج الَّذِي حفر وَكَانَ قدامه سد عَال يرد المَاء إِلَيْهِ حَتَّى يتراجع النّيل عَن سد الْقَاهِرَة إِلَى بر نَاحيَة منبابة وَعَاد السُّلْطَان إِلَى القلعة. وَخرجت الْبرد من الْغَد إِلَى الْأَعْمَال بإحضار الرِّجَال للْعَمَل صُحْبَة المشدين وَطلبت(3/244)
الحجارون بأجعهم لقطع الْحِجَارَة من الْجَبَل - وَكَانَت تِلْكَ الْحِجَارَة تحمل إِلَى السَّاحِل وتملأ بهَا المراكب وتغرق المراكب وَهِي ملأنة بِالْحِجَارَةِ حَيْثُ يعْمل الجسر -. فَلم يمض عشرَة أَيَّام حَتَّى قدمت الرِّجَال من النواح فتسلمهم الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد والأمير برسبغا الْحَاجِب. ورسم لوالي الْقَاهِرَة ووالي مصر بتسخيرهم للْعَمَل فركبا وقبضا على عدَّة كَثِيرَة مِنْهُم وَزَادا فِي ذَلِك حَتَّى صَارَت النَّاس تُؤْخَذ من الْمَسَاجِد والجوامع فِي السحر وَمن الْأَسْوَاق فتستر النَّاس ببيوتهم خوفًا من السخرة. وَوَقع الِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل وَاشْتَدَّ الاستحثاث فِيهِ حَتَّى إِن الرجل كَانَ يخر إِلَى الأَرْض وَهُوَ يعْمل لعَجزه عَن الْحَرَكَة فتردم عَلَيْهِ الرمال فَيَمُوت من سَاعَته. وَاتفقَ هَذَا لخلائق كَثِيرَة جدا وآقبغا رَاكب فِي الحراقة يستعجل المراكب المشحونة بِالْحِجَارَةِ وَالسُّلْطَان ينزل إِلَيْهِم ويباشرهم ويغلظ على آقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض الْعَمَل حَتَّى أكمل فِي مُدَّة شَهْرَيْن. وغرق فِيهِ اثْنَا عشر مركبا وسق كل مركب ألف أردب. وَكَانَت عدَّة المراكب الَّتِي أشحنت بِالْحِجَارَةِ المقطوعة من الْجَبَل - ورميت فِي الْبَحْر حَتَّى صَار جِسْرًا يمشي عَلَيْهِ ثَلَاثَة وَعشْرين ألف مركب حجر سوى مَا عمل فِيهِ من آلَات الْخشب والسرياقات والحلفاء وَنَحْو ذَلِك. وحفر الخليج بالجزيرة فَلَمَّا زَاد النّيل جرى فِي الخليج الَّذِي حفر وتراجع المَاء حَتَّى قوي على بر منبابة وبر بولاق التكرور فسر السُّلْطَان بذلك. وفيهَا اسْتَأْذن الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي والأمير يلبغا اليحياوي السُّلْطَان فِي الْمسير إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة بطيور السُّلْطَان الْجَوَارِح ليتصيدا فِي الْبَريَّة. فرسم للنشو بتجهيزهما فخاف من دخولهما إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة أَن يبلغهما عَنهُ من أعدائه مَا إِذا نَقَلَاه للسُّلْطَان تغير عَلَيْهِ. فَعرف النشو السُّلْطَان أَن مراكب التُّجَّار قد وصلت وَأَنه يحْتَاج إِلَى السّفر حَتَّى يَأْخُذ مَا عَلَيْهَا للديوان وَيقوم أَيْضا بِخِدْمَة الأميرين فَأذن لَهُ فِي السّفر فسافر من ليلته. وبدا للسُّلْطَان أَن يبْعَث الْأَمِير بشتاك بالطيور - وَمَعَهُ الْأَمِير قماري أَمِير شكار والأمير ألطبغا المارديني - ويعوض يلبغا والحجازي بركوب النّيل فِي عيد الشَّهِيد فسافر الْأُمَرَاء الثَّلَاثَة. وَكَانَ عيد الشَّهِيد بعد يَوْمَيْنِ فَركب يلبغا والحجازي المراكب فِي النّيل للفرجة وَخرجت مغاني الْقَاهِرَة ومصر بأسرها وتهتكوا بِمَا كَانَ خافياً مَسْتُورا من أَنْوَاع اللَّهْو وَقد حشر النَّاس للفرجة من كل جِهَة. وَألقى الْأُمَرَاء للنَّاس فِي مراكبهم من أَنْوَاع الْأَشْرِبَة والحلاوات وَغَيرهَا مَا يتَجَاوَز الْوَصْف فمرت ثَلَاث لَيَال بأيامها كَانَ فِيهَا من اللَّذَّات وأنواع المسرات مَا لَا يُمكن شَرحه.(3/245)
وَلما قدم الْأُمَرَاء بالطيور إِلَى ظَاهر الْإسْكَنْدَريَّة أخرج النشو إِلَى لقائهم عَامَّة أَهلهَا بِالْعدَدِ والآلات الحربية وَركب إِلَيْهِم حَتَّى عبروا الْمَدِينَة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. ثمَّ خَرجُوا بعد يَوْمَيْنِ وَقد قدم النشو لَهُم من الأسمطة وأنواع القماش مَا يَلِيق بهم. وَأخذ النشو فِي مصادرة أهل الْإسْكَنْدَريَّة وَطلب عشرَة أُلَّاف دِينَار من الصيارفة قرضا فِي ذمَّته وَطلب من ثَلَاثَة تجار عشرَة أُلَّاف دِينَار ثمَّ إِنَّه غرم ابْن الربعِي الْمُحْتَسب بهَا خَمْسَة آلَاف دِينَار سوى مَا ضرب عَلَيْهِ الحوطة من موجوده وضربه ضربا مبرحاً وسجنه فَمَاتَ بعد قَلِيل فِي السجْن ثمَّ عَاد النشو إِلَى الْقَاهِرَة. وَقدم الْخَبَر من ماردين بِكَثْرَة جمع الشَّيْخ حسن الصَّغِير وَأَوْلَاد دمرداش وَأَنَّهُمْ على حَرَكَة لِحَرْب طغاي بن سونتاي بديار بكر فَإِذا بلغُوا مُرَادهم مِنْهُ عدوا الْفُرَات إِلَى أَخذ حلب. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشرى شَوَّال: قدم مُوسَى بن مهنا طَائِعا وَقدم عدَّة خُيُول وَورد صحبته طَائِفَة من عرب الْبَحْرين بخيول قومت بمبلغ خَمْسمِائَة ألف وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم وقومت خيل مُوسَى بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم سوى مَا جرت الْعَادة بِهِ من الإنعام عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ بِعشْرين آلف دِينَار أَيْضا. وقومت من جِهَة أهل برقة بأربعمائة ألف دِرْهَم وقومت مماليك وجواري قدم بهَا التُّجَّار بستمائة ألف دِرْهَم. وَكَانَت جملَة ذَلِك كُله مَا عدا مَا أنعم بِهِ على مُوسَى بن مهنا ألفا ألف دِرْهَم وَسِتُّونَ ألف دِرْهَم مِنْهَا مائَة ألف دِينَار مصرية ونيف وَعشْرين ألف دِينَار وأحيل بذلك على النشو. وَلما كمل قصر يلبغا وَقصر المارديني جَاءَا فِي أحسن هَيْئَة فَإِن السُّلْطَان كَانَ ينزل إِلَيْهِمَا بِنَفسِهِ ويرتب عمارتهما. فَعمل أساس قصر يلبغا أَرْبَعِينَ ذِرَاعا وَبسطه حَصِيرا وَاحِدًا فجَاء مصروفه أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم. وَكَانَ جملَة المصروف على هَذَا الْقصر أَرْبَعمِائَة ألف ألف وَسِتِّينَ ألف دِرْهَم من ذَلِك لازورد خَاصَّة بِمِائَة ألف د رهم. فَركب السُّلْطَان إِلَيْهِ يَوْم فَرَاغه وأعجب بِهِ وأنعم على يلبغا بتقدمة طرغاي الطباخي نَائِب حلب وفيهَا عشرَة أَزوَاج بسط - مِنْهَا زوج بسط حَرِير - وعدة أواني بلور وَغَيره وعدة خُيُول وجمال بَخَاتِي. وَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير آقبغا عبد الْوَاحِد بِعَمَل سماط فِي قصر يلبغا فَنزل إِلَيْهِ وَنزل النشو أَيْضا حَتَّى تهَيَّأ ذَلِك وَحضر الْأُمَرَاء كلهم فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا يومهم إِلَى الْعَصْر. ثمَّ خلع السُّلْطَان على أحد عشر أَمِيرا أحد عشر تَشْرِيفًا أطلس. وأركبوا الْخُيُول بسروج الذَّهَب وخلع على بَقِيَّة الْأُمَرَاء مَا بَين خلع كَامِلَة(3/246)