لاسداء الْجُود وإبداء السُّعُود وَبث المكارم وكشف الْمَظَالِم وبرز إِلَى الصَّيْد شَرْقي دمشق بزاد خَمْسَة عشر يَوْمًا واستصحب مَعَه أَخَاهُ الْعَادِل وَأبْعد فِي الْبَريَّة وَظهر عَن ضمير ضمير إِلَى الْجِهَة الشرقية وَطَابَتْ لَهُ الفرص وَوَافَقَ مُرَاده القنص
ثمَّ عَاد يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر صفر وَوَافَقَ ذَلِك عود الْحَاج الشَّامي فَخرج للتلقي وسعاداته فِي الترقي وَلما لَقِي الْحجَّاج استعبرت عَيناهُ كَيفَ فَاتَهُ من الْحَج مَا تمناه وسألهم عَن أَحْوَال مَكَّة وأميرها وَأَهْلهَا وخصبها ومحلها وَكم وصلهم من غلات مصر وصدقاتها والفقراء والمجاورين ورواتبها وإدراراتها وسر بسلامة الْحَاج ووضوح ذَلِك الْمِنْهَاج وَوصل من الْيمن ولد أَخِيه سيف الْإِسْلَام فَتَلقاهُ بالاكرام
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَخرجت من الْقُدس الشريف يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم وَكَانَ الْوُصُول إِلَى دمشق ثَانِي عشر صفر وَكَانَ الْأَفْضَل حَاضرا فِي الإيوان الشمالي وَفِي خدمته خلق من الْأُمَرَاء وأرباب المناصب ينتظرون جُلُوس السُّلْطَان فَلَمَّا شعر بحضوري واستحضرني وَهُوَ وَحده قبل أَن يدْخل إِلَيْهِ أحد فَدخلت عَلَيْهِ رَحمَه الله فَقَامَ ولقيني ملقى مَا رَأَيْت أَشد من بشره فِيهِ وَلَقَد ضمني إِلَيْهِ ودمعت عينه(4/357)
وَفِي ثَالِث عشر صفر طلبني فَحَضَرت فَسَأَلَنِي عَمَّن فِي الإيوان فَأَخْبَرته أَن الْملك الْأَفْضَل جَالس فِي الْخدمَة والأمراء وَالنَّاس فِي خدمته فَاعْتَذر إِلَيْهِم على لِسَان جمال الدولة إقبال ثمَّ استحضرني بكرَة الْخَمِيس رَابِع عشر صفر وَهُوَ فِي صفة الْبُسْتَان وَعِنْده أَوْلَاده الصغار فَسَأَلَ عَن الْحَاضِرين فَقيل رسل الفرنج وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء والأكابر
فَاسْتَحْضر رسل الفرنج إِلَى ذَلِك الْمَكَان فَحَضَرُوا وَكَانَ لَهُ ولد صَغِير وَكَانَ كثير الْميل إِلَيْهِ يُسمى الْأَمِير أَبَا بكر وَكَانَ حَاضرا وَكَانَ رَحمَه الله عَلَيْهِ يداعبه فَلَمَّا وَقع بَصَره على الفرنج وَرَأى أشكالهم خَافَ مِنْهُم وَبكى فَاعْتَذر إِلَيْهِم وصرفهم بعد أَن حَضَرُوا وَلم يسمع كَلَامهم وَقَالَ لي أكلت الْيَوْم شَيْئا وَكَانَت عَادَته رَحمَه الله هَذِه المباسطة ثمَّ قَالَ أحضروا لنا مَا تيَسّر فأحضروا أرزا بِلَبن وَمَا يشبه ذَلِك من الْأَطْعِمَة الْخَفِيفَة فَأكل رَحمَه الله وَكنت أَظن أَن مَا عِنْده شَهْوَة
وَكَانَ فِي هَذِه الْأَيَّام يعْتَذر إِلَى النَّاس لثقل الْحَرَكَة عَلَيْهِ وَكَانَ بدنه ممتلئا وَعِنْده تكسل فَلَمَّا فَرغْنَا من الطَّعَام قَالَ مَا الَّذِي عنْدك من خبر الْحَاج فَقلت قد اجْتمعت بِجَمَاعَة مِنْهُم فِي الطَّرِيق وَلَوْلَا كَثْرَة الوحل لدخلوا الْيَوْم وَلَكنهُمْ فِي غَد يدْخلُونَ فَقَالَ نخرج إِن شَاءَ الله إِلَى لقائهم وَتقدم بتنظيف طرقاتهم من الْمِيَاه فَإِنَّهَا كَانَت سنة كَثِيرَة الأنداء وَقد سَالَتْ الْمِيَاه فِي الطّرق كالأنهار وانفصلت عَن خدمته وَلم أجد عِنْده من النشاط مَا أعهده مِنْهُ(4/358)
ثمَّ بكر فِي يَوْم الْجُمُعَة فَركب ثمَّ لحقته وَقد لَقِي الْحَاج وَلم أجد عَلَيْهِ كزاغنده وَمَا كَانَ لَهُ عَادَة يركب بِدُونِهِ وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما قد اجْتمع فِيهِ للقاء الْحَاج والتفرج على السُّلْطَان مُعظم من فِي الْبَلَد فأذكرته ذَلِك فَكَأَنَّهُ اسْتَيْقَظَ فَطلب الكزاغند فَلم يُوجد وأوقع الله فِي قلبِي تطيرا بذلك
ثمَّ سَار رَحمَه الله بَين الْبَسَاتِين يطْلب جِهَة المنيبع حَتَّى أَتَى القلعة فَعبر على الجسر إِلَيْهَا وَهُوَ طَرِيقه الْمُعْتَاد وَكَانَت آخر ركباته رَحمَه الله
فصل فِي مرض السُّلْطَان ووفاته أحله الله بحبوحة جناته
قَالَ القَاضِي لما كَانَت لَيْلَة السبت وجد كسلا عَظِيما فَمَا انتصف اللَّيْل حَتَّى غَشيته حمى صفراوية كَانَت فِي بَاطِنه أَكثر مِنْهَا فِي ظَاهره وَأصْبح يَوْم السبت سادس عشر صفر عَلَيْهِ أثر الْحمى وَلم يظْهر ذَلِك للنَّاس لَكِن حضرت عِنْده أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل وَدخل وَلَده الْأَفْضَل وَطَالَ جلوسنا عِنْده وَأخذ يشكو من قلقه بِاللَّيْلِ وطاب لَهُ الحَدِيث إِلَى قريب الظّهْر ثمَّ انصرفنا والقلوب عِنْده فَتقدم إِلَيْنَا بالحضور على الطَّعَام فِي خدمَة وَلَده الْأَفْضَل وَلم يكن للْقَاضِي عَادَة بذلك فَانْصَرف(4/359)
وَدخلت إِلَى الايوان القبلي وَقد مد الطَّعَام وَولده الْأَفْضَل قد جلس فِي مَوْضِعه فَانْصَرَفت وَمَا كَانَ لي قُوَّة للجلوس استيحاشا
وَبكى فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة تفاؤلا بجلوس وَلَده فِي مَوْضِعه ثمَّ أَخذ الْمَرَض فِي تزايد من حِينَئِذٍ وَنحن نلازم التَّرَدُّد فِي طرفِي النَّهَار وَأدْخل إِلَيْهِ أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل فِي النَّهَار مرَارًا وَيُعْطى الطَّرِيق فِي بعض الْأَيَّام الَّتِي يجد فِيهَا خفَّة وَكَانَ مَرضه فِي رَأسه وَكَانَ من أَمَارَات انْتِهَاء الْعُمر غيبَة طبيبه الَّذِي كَانَ قد ألف مزاجه سفرا وحضرا وَرَأى الْأَطِبَّاء فصده ففصدوه فِي الرَّابِع فَاشْتَدَّ مَرضه وَقلت رطوبات بدنه وَكَانَ يغلبه النَّفس غَلَبَة عَظِيمَة وَلم يزل الْمَرَض فِي تزايد حَتَّى انْتهى إِلَى غَايَة الضعْف
وَلَقَد أجلسناه فِي السَّادِس من مَرضه وأسندنا ظَهره إِلَى مخدة وأحضر مَاء فاتر يشربه عقيب شراب يلين الطَّبْع فشربه فَوَجَدَهُ شَدِيد الْحَرَارَة فَشَكا من شدَّة حره فَغير وَعرض عَلَيْهِ ثَانِيًا فَشَكا من برده وَلم يغْضب وَلم يصخب رَحمَه الله وَلم يقل سوى هَذِه الْكَلِمَات سُبْحَانَ الله لَا يُمكن أحدا تَعْدِيل المَاء
فَخرجت أَنا وَالْقَاضِي من عِنْده وَقد اشْتَدَّ منا الْبكاء وَالْقَاضِي الْفَاضِل يَقُول لي أبْصر هَذِه الْأَخْلَاق الَّتِي قد أشرف الْمُسلمُونَ على مفارقتها وَالله لَو أَن هَذَا بعض النَّاس كَانَ قد ضرب بالقدح رَأس من أحضرهُ(4/360)
وَاشْتَدَّ مَرضه فِي السَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن وَلم يزل متزايدا وتغيب ذهنه وَلما كَانَ التَّاسِع حدثت ربه رعشة وَامْتنع من تنَاول المشروب وَاشْتَدَّ الارجاف فِي الْبَلَد وَخَافَ النَّاس ونقلوا الأقمشة من الْأَسْوَاق وَغشيَ النَّاس من الكآبة والحزن مَا لَا يُمكن حكايته
وَلَقَد كنت أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل نقعد كل لَيْلَة إِلَى أَن يمْضِي من اللَّيْل ثلثه اَوْ قريب مِنْهُ ثمَّ نحضر فِي بَاب الدَّار فَإِن وجدنَا طَرِيقا دَخَلنَا وشاهدناه وانصرفنا وَإِلَّا تعرفنا أَحْوَاله وانصرفنا وَكُنَّا نجد النَّاس يرتقبون خروجنا إِلَى بُيُوتنَا حَتَّى يقرؤوا أَحْوَاله من صفحات وُجُوهنَا
وَلما كَانَ الْعَاشِر من يَوْم مَرضه حقن دفعتين وَحصل من الحقنة رَاحَة وَحصل بعض الْخُف وَتَنَاول من مَاء الشّعير مِقْدَارًا صَالحا وَفَرح النَّاس فَرحا شَدِيدا فَأَقَمْنَا على الْعَادة إِلَى أَن مضى من اللَّيْل هزيع ثمَّ أَتَيْنَا بَاب الدَّار فَوَجَدنَا جمال الدولة إقبالا فالتمسنا مِنْهُ تَعْرِيف الْحَال المتجدد فَدخل ثمَّ أنفذ إِلَيْنَا مَعَ الْملك الْمُعظم تورانشاه يَقُول إِن الْعرق قد أَخذ فِي سَاقيه فشكرنا الله تَعَالَى على ذَلِك وانصرفنا طيبَة قُلُوبنَا ثمَّ أَصْبَحْنَا فَأخْبرنَا أَن الْعرق أفرط حَتَّى نفذ فِي الْفرش وتأثرت بِهِ الأَرْض وَأَن اليبس قد تزايد بِهِ تزايدا عَظِيما وخارت الْقُوَّة واستشعر الْأَطِبَّاء(4/361)
وَلما رأى الْملك الْأَفْضَل مَا حل بوالده وَتحقّق الْيَأْس مِنْهُ شرع فِي تَحْلِيف النَّاس وَجلسَ فِي دَار رضوَان الْمَعْرُوفَة بسكنه واستحضر الْقُضَاة وَعمل لَهُ نُسْخَة يَمِين مختصرة محصلة للمقاصد تَتَضَمَّن الْحلف للسُّلْطَان مُدَّة حَيَاته وَله من بعد وَفَاته وَاعْتذر إِلَى النَّاس بِأَن الْمَرَض قد اشْتَدَّ وَمَا نعلم مَا يكون وَمَا نَفْعل هَذَا إِلَّا احْتِيَاطًا على جاري عَادَة الْمُلُوك
ثمَّ سمى القَاضِي مِمَّن حلف لَهُ جمَاعَة مِنْهُم سعد الدّين مَسْعُود أَخُو بدر الدّين مودود الشّحْنَة وناصر الدّين صَاحب صهيون وسابق الدّين صَاحب شيزر وخشترين الهكاري ونوشروان الزرزاري وعلكان ومنكلان ثمَّ مد الخوان وأكلوا
وَلما كَانَ الْعَصْر أُعِيد مجْلِس التَّحْلِيف وأحضر مَيْمُون القصري وشمس الدّين سنقر الْكَبِير وسامة وسنقر المشطوب واليكي الْفَارِس وأيبك الْأَفْطَس وأخو الْأَمِير سياروخ وحسام الدّين بِشَارَة وَبَعْضهمْ اشْترط فِي يَمِينه وَبَعْضهمْ لم يشْتَرط وَلم يحضر أحد من الْأُمَرَاء المصريين وَلم يتَعَرَّض لَهُم
وَلما كَانَت لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر وَهِي لَيْلَة الثَّانِي عشر من مَرضه اشْتَدَّ مَرضه وضعفت قوته وَوَقع فِي أَوَائِل(4/362)
الْأَمر من أَوَائِل اللَّيْل وَحَال بَيْننَا وَبَينه النِّسَاء واستحضرت أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَابْن الزكي وَلم تكن عَادَته الْحُضُور فِي ذَلِك الْوَقْت
وَعرض علينا الْملك الْأَفْضَل أَن نبيت عِنْده فَلم ير الْفَاضِل ذَلِك رَأيا فَإِن النَّاس كَانُوا فِي كل لَيْلَة ينتظرون نزولنا من القلعة فخاف أَن لَا ننزل فَيَقَع الصَّوْت فِي الْبَلَد وَرُبمَا نهب النَّاس بَعضهم بَعْضًا فَرَأى الْمصلحَة فِي نزولنا واستحضار الشَّيْخ أبي جَعْفَر إِمَام الكلاسة وَهُوَ رجل صَالح يبيت بالقلعة حَتَّى إِن احْتضرَ بِاللَّيْلِ حضر عِنْده وَحَال بَينه وَبَين النِّسَاء وَذكره بِالشَّهَادَةِ وَذكر الله تَعَالَى فَفعل ذَلِك فنزلنا وكل منا يود لَو فدَاه بِنَفسِهِ وَبَات فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على حَال المنتقلين إِلَى الله تَعَالَى وَالشَّيْخ أَبُو جَعْفَر يقْرَأ عِنْده الْقُرْآن ويذكره بِاللَّه تَعَالَى وَكَانَ ذهنه غَائِبا من لَيْلَة التَّاسِع لَا يكَاد يفِيق إِلَّا فِي الأحيان
وَذكر الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر أَنه لما انْتهى إِلَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} سَمعه وَهُوَ يَقُول صَحِيح وَهَذِه يقظة فِي وَقت الْحَاجة وعناية من الله تَعَالَى بِهِ فَللَّه الْحَمد على ذَلِك(4/363)
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله عَلَيْهِ بعد صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وبادر القَاضِي الْفَاضِل بعد طُلُوع الصُّبْح فَحَضَرَ وَفَاته ووصلت أَنا وَقد مَاتَ وانتقل إِلَى رضوَان الله وَمحل كرامته
وَلَقَد حُكيَ لي أَنه لما بلغ الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر إِلَى قَوْله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} تَبَسم وتهلل وَجهه وَسلمهَا إِلَى ربه وَكَانَ يَوْمًا لم يصب الْإِسْلَام والمسلمون بِمثلِهِ مُنْذُ فقد الْخُلَفَاء الراشدون وَغشيَ القلعة والبلد وَالدُّنْيَا من الوحشة مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى
وتالله لقد كنت أسمع من بعض النَّاس أَنهم يتمنون فدَاء من يعز عَلَيْهِم بنفوسهم فَكنت أحمل ذَلِك على ضرب من التَّجَوُّز والترخص إِلَى ذَلِك الْيَوْم فَإِنِّي علمت من نَفسِي وَمن غَيْرِي أَنه لَو قبل الْفِدَاء لفدي بِالنَّفسِ
ثمَّ جلس وَلَده الْأَفْضَل للعزاء فِي الإيوان الشمالي وَحفظ بَاب القلعة إِلَّا عَن الْخَواص من الْأُمَرَاء والمعممين وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما قد شغل كل إِنْسَان مَا عِنْده من الْحزن والأسف والبكاء والاستغاثة عَن أَن ينظر إِلَى غَيره وَحفظ الْمجْلس عَن أَن ينشد فِيهِ شَاعِر أَو يتَكَلَّم فِيهِ فصَال أَو وعاظ
وَكَانَ أَوْلَاده يخرجُون مستغيثين بَين النَّاس فتكاد النُّفُوس(4/364)
تزهق لهول منظرهم ودام الْحَال على ذَلِك إِلَى بعد صَلَاة الظّهْر ثمَّ اشْتغل بتغسيله وتكفينه فَمَا مكنا أَن ندخل فِي تَجْهِيزه مَا قِيمَته حَبَّة وَاحِدَة إِلَّا بالقرض حَتَّى فِي ثمن التِّبْن الَّذِي يلت بِهِ الطين وغسله الدولعي الْفَقِيه وندبت إِلَى الْوُقُوف على غسله فَلم يكن لي قُوَّة تحمل ذَلِك المنظروأخرج بعد صَلَاة الظّهْر فِي تَابُوت مسجى بِثَوْب فوط وَكَانَ ذَلِك وَجَمِيع مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ من الثِّيَاب فِي تكفينه قد أحضرهُ الْفَاضِل من وَجه حل عرفه
وَارْتَفَعت الْأَصْوَات عِنْد مشاهدته وَعظم الضجيج حَتَّى إِن الْعَاقِل يتخيل أَن الدُّنْيَا كلهَا تصيح صَوتا وَاحِدًا وَغشيَ النَّاس من الْبكاء والعويل مَا شغلهمْ عَن الصَّلَاة وَصلى عَلَيْهِ النَّاس أَرْسَالًا وَكَانَ أول من أم بِالنَّاسِ القَاضِي محيي الدّين بن الزكي ثمَّ أُعِيد رَحمَه الله عَلَيْهِ إِلَى الدَّار الَّتِي فِي الْبُسْتَان الَّتِي كَانَ متمرضا بهَا وَدفن فِي الصّفة الغربية مِنْهَا وَكَانَ نُزُوله فِي حفرته قَرِيبا من صَلَاة الْعَصْر ثمَّ نزل فِي أثْنَاء النَّهَار وَلَده الظافر وعزى النَّاس فِيهِ وَسكن قُلُوب النَّاس
وَكَانَ النَّاس قد شغلهمْ الْحزن والبكاء عَن الِاشْتِغَال بالنهب وَالْفساد فَمَا يُوجد قلب إِلَّا حَزِين وَلَا عين إِلَّا باكية إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ رَجَعَ النَّاس إِلَى بُيُوتهم أقبح رُجُوع وَلم يعد منا أحد(4/365)
فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا أَنا حَضَرنَا وقرأنا وجددنا حَالا من الْحزن واشتغل ذَلِك الْيَوْم الْملك الْأَفْضَل بكتب الْكتب إِلَى إخْوَته وَعَمه يُخْبِرهُمْ بِهَذَا الْحَادِث
وَفِي الْيَوْم الثَّانِي جلس للعزاء جُلُوسًا عَاما وَأطلق بَاب القلعة للفقهاء وَالْعُلَمَاء وَتكلم المتكلمون وَلم ينشد شَاعِر ثمَّ انفض الْمجْلس فِي ظهيرة ذَلِك الْيَوْم وَاسْتمرّ الْحَال فِي حُضُور النَّاس بكرَة وَعَشِيَّة لقِرَاءَة الْقُرْآن وَالدُّعَاء لَهُ رَحمَه الله
وَقَالَ الْعِمَاد جلس السُّلْطَان لَيْلَة السبت سادس عشر صفر وَنحن عِنْده حَتَّى مضى من اللَّيْل ثلثه وَهُوَ يحدثنا وَنحن نحدثه ثمَّ صلى بِهِ وبنا إِمَامه وحان قِيَامه وانفصلنا بإحسانه مغتبطين وبامتنانه مرتبطين وأصبحنا يَوْم السبت وَجَلَسْنَا فِي الإيوان نَنْتَظِر خُرُوجه لوضع الخوان ووجدناه وَقد أغلق بإغلاق بَابه رَهنه وَلم نشعر بِمَا قَضَاهُ الْقدر وأجنه وَخرج من خدمه من أخبر بسقمه وَدخُول الْخَوْف إِلَى حرمه
وَأمر الْملك الْأَفْضَل بِأَن يجلس فِي الإيوان لبسط الخوان فَجَلَسَ فِي مَكَان وَالِده متربعا وَكَانَ من شَرط الْأَدَب أَن يخلي لَهُ(4/366)
موضعا فتطيرنا من تِلْكَ الْحَالة وتكرهنا مِنْهَا سوء الدّلَالَة فتلاعبت فِيهِ الْعُيُون وتراجمت الظنون ودخلنا إِلَيْهِ لَيْلَة الْأَحَد للعيادة ومرضه فِي الزِّيَادَة وَفِي كل يَوْم تضعف الْقُلُوب وتتضاعف الكروب وانتقل من دَار الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء فِي سحرة يَوْم الْأَرْبَعَاء ونابت الظلماء عَن الضياء وَدخل قمره لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين فِي السرَار ودجت مطالع الْأَنْوَار وَمَات لمَوْته رَجَاء الرِّجَال وأظلم بغروب شمسه فضاء الأفضال وغاضت الأيادي وفاضت الأعادي وَدفن بقلعة دمشق فِي مَسْكَنه وَدفن جماع الْكَرم وَالْفضل وَالدّين بمدفنه ثمَّ بنى الْملك الْأَفْضَل قبَّة شمَالي الْجَامِع بجواره بشباك إِلَى الْجَامِع لزواره وَنَقله إِلَيْهَا يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين واسترجعنا وَقُلْنَا مَا لنا إِلَّا أَن نستعيذ بِاللَّه ونستعين
قَالَ وَمِمَّا قلته ربَاعِية فِي المرثية
(قَالَ الْملك النَّاصِر من كلفني ... فِي الْجُود بشيمتي فَمَا أنصفني)
(مَا يعلم أَن ذَا الْملك فني ... لم يبْق من الْجُود إِلَّا كفني)
وَقَالَ الْعِمَاد أَيْضا فِي رسَالَته الموسومة بعتبى الزَّمَان وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله لما توفّي دفن بالقلعة فِي منزله وَمَا(4/367)
زَالَ الْأَفْضَل يتروى فِي مَوضِع يَنْقُلهُ إِلَيْهِ وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِك فأشير عَلَيْهِ فِي سنة وَتِسْعين بِأَن تبنى تربته عِنْد مَسْجِد الْقدَم ويبنى عِنْدهَا مدرسة للشَّافِعِيَّة وَقَالُوا إِذا وصل الْملك الْعَزِيز اسْتغنى بزيارتها عَن الدُّخُول إِلَى دمشق لأَجلهَا
وَقَالُوا إِن السُّلْطَان رَحمَه الله لما مرض سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بحران وصّى أَن يدْفن بِدِمَشْق قبلي ميدان الْحَصَى وَيكون قَبره على النهج السابل وَطَرِيق القوافل ليدعو لَهُ الْوَارِد والصادر والبادي والحاضر وَتجوز عَلَيْهِ فِي الْغَزَوَات العساكر
قَالُوا وَإِن تناءت هَذِه الأَرْض عَن مَكَان الْوَصِيَّة فَهِيَ مِنْهُ قريبَة فَأمر الْأَفْضَل بِبِنَاء التربة عِنْد مَسْجِد الْقدَم وَتَوَلَّى عمارتها بدر الدّين مودود وَالِي دمشق فاتفق وُصُول الْعَزِيز تِلْكَ السّنة للحصار وهم قد شرعوا فِي عمارتها فخرب مَا كَانَ قد ارْتَفع من الْبناء ثمَّ استقرى الْأَفْضَل حُدُود الْجَامِع ليجعل التربة فِيهَا فوفق لداركانت لبَعض الصَّالِحين وَهِي فِي حد الْمَكَان الَّذِي زَاده الْأَجَل الْفَاضِل فِي الْمَسْجِد فاشتراها مِنْهُ وَأمر بعمارتها فِيهِ فعمرت وَنقل إِلَيْهَا السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين بكرَة الْخَمِيس وَمَشى الْأَفْضَل بَين يَدي تابوته
وَأَرَادَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء حمله على أَعْنَاقهم الَّتِي فِيهَا منته فَقَالَ الْأَفْضَل كفته أدعيتكم الصالحه الَّتِي هِيَ فِي الْمعَاد جنته وَحمله مماليكه وخدمه وأولياؤه وحشمه وَأخرج من بَاب القلعة فِي الْبَلَد(4/368)
على دَار الحَدِيث إِلَى بَاب الْبَرِيد وَأدْخل مِنْهُ إِلَى الْجَامِع وَوضع قُدَّام بَاب النسْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي بِإِذن الْأَفْضَل ثمَّ حمل مِنْهُ على الرؤوس إِلَى بطن ملحده ثمَّ جَاءَ الْأَفْضَل وَحده وَدخل لحده وأودعه وَخرج وسد الْبَاب على أَبِيه وَجلسَ هُنَاكَ فِي الْجَامِع ثَلَاثَة أَيَّام للعزاء وأنفقت سِتّ الشَّام أُخْت السُّلْطَان فِي هَذِه النّوبَة أَمْوَالًا كَثِيرَة
قَالَ مُحَمَّد بن القادسي وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشر ربيع الأول شاعت الْأَخْبَار يَعْنِي بِبَغْدَاد بوفاة صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَذكر أَنه دفن مَعَه سَيْفه الَّذِي كَانَ مَعَه فِي الْجِهَاد وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي الْفَاضِل وَقيل عَنهُ هَذَا يتَوَكَّأ عَلَيْهِ إِلَى الْجنَّة وَأَن الْفَاضِل كَفنه من مَاله وَتَوَلَّى غسله الْفَاضِل وخطيب دمشق
قلت وَحكي لي أَنه رُؤِيَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم زاروا قبر صَلَاح الدّين رَحمَه الله وَأَنَّهُمْ لما صَارُوا عِنْد الشباك سجدوا وَوجدت فِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ أَن رجلا رأى لَيْلَة وَفَاة السُّلْطَان كَأَن قَائِلا يَقُول لَهُ قد خرج اللَّيْلَة يُوسُف من السجْن وَهُوَ من الْأَثر النَّبَوِيّ الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر(4/369)
قَالَ وَمَا كَانَ يوسفنا رَحْمَة الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بالاضافة إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة إِلَّا فِي سجن رَضِي الله عَن تِلْكَ الرّوح وَفتح لَهُ بَاب الْجنَّة فَهُوَ آخر مَا كَانَ يَرْجُو من الْفتُوح
وَمن كَلَام غَيره فِي وَفَاة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى أفلت الشَّمْس عِنْد الصَّباح وَذَهَبت روح الدُّنْيَا الَّذِي ذهب بذهابها كثيرمن الْأَرْوَاح وَتلك سَاعَة ظلت لَهَا الْأَلْبَاب حائرة وتمثلت فِيهَا السَّمَاء مائرة وَالْجِبَال سائرة وأغمد سيف الله الَّذِي كَانَ على أعدائه دَائِم التَّجْرِيد وَخفت الأَرْض من جبلها الَّذِي كَانَ يمْنَعهَا أَن تميد وَأصْبح الْإِسْلَام وَقد فقد ناصره فَهُوَ أعظم فَاقِد لأعظم فقيد وَلَيْسَ أحد من النَّاس إِلَّا وَقد صم عَن الْخَبَر وَأُصِيب فِي سَواد الْقلب وَالْبَصَر وَقَالَ وَقد توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول عمر
وَختم الْعِمَاد كِتَابه الْبَرْق الشَّامي بقصيدة رثى بهَا السُّلْطَان رَحمَه الله عَددهَا فِي ديوانه بِخَطِّهِ مئتان وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْتا أَولهَا
(شَمل الْهدى وَالْملك عَم شتاته ... والدهر سَاءَ وأقلعت حَسَنَاته)
(أَيْن الَّذِي مذ لم يزل مخشية ... مرجوة هباته وهباته)
(أَيْن الَّذِي كَانَت لَهُ طاعاتنا ... مبذولة ولربه طاعاته)
(بِاللَّه أَيْن النَّاصِر الْملك الَّذِي ... لله خَالِصَة صفت نياته)
(أَيْن الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانا لنا ... يُرْجَى نداه وتتقى سطواته)(4/370)
(أَيْن الَّذِي شرف الزَّمَان بفضله ... وسمت على الْفُضَلَاء تشريفاته)
(أَيْن الَّذِي عنت الفرنج لِبَأْسِهِ ... ذلا وَمِنْهَا أدْركْت ثاراته)
(أغلال أَعْنَاق العدى أسيافه ... أطواق أجياد الورى مناته)
(لم يجد تَدْبِير الطَّبِيب وَكم وَكم ... أَجدت لطب الدَّهْر تدبيراته)
(من فِي الْجِهَاد صفاحه مَا أغمدت ... بالنصر حَتَّى أغمدت صفحاته)
(من فِي صُدُور الْكفْر صدر قناته ... حَتَّى تَوَارَتْ بالصفيح قناته)
(لذا المتاعب فِي الْجِهَاد وَلم تكن ... مذ عَاشَ قطّ لذاته لذاته)
(مسعودة غدواته محمودة ... روحاته مَيْمُونَة ضحواته)
(فِي نصْرَة الْإِسْلَام يسهر دَائِما ... ليطول فِي روض الْجنان سباته)
(لَا تحسبوه مَاتَ شخص وَاحِد ... فممات كل الْعَالمين مماته)
(ملك عَن الْإِسْلَام كَانَ محاميا ... أبدا لماذا أسلمته حماته)
(قد أظلمت مذ غَابَ عَنْهَا دوره ... لما خلت من بدره داراته)
(دفن السماح فَلَيْسَ تنشر بَعْدَمَا ... أودى إِلَى يَوْم النشور رفاته)
(الدّين بعد أبي المظفر يُوسُف ... أقوت قواه وأقفرت ساحاته)
(جبل تضعضع من تضعضع رُكْنه ... أركاننا وتهدنا هداته)
(مَا كنت أعلم أَن طودا شامخا ... يهوي وَلَا تهوي بِنَا مهواته)
(مَا كنت أعلم أَن بحرا طاميا ... فِينَا يطم وتنتهي زخراته)(4/371)
(بَحر خلا من وارديه وَلم تزل ... محفوفة بوفوده حَافَّاته)
(من لِلْيَتَامَى والأرامل رَاحِم ... متعطف مفضوضة صدقاته)
(لَو كَانَ فِي عصر النَّبِي لأنزلت ... فِي ذكره من ذكره آيَاته)
(فعلى صَلَاح الدّين يُوسُف دَائِما ... رضوَان رب الْعَرْش بل صلواته)
(لضريحه سقيا السَّحَاب فَإِن يغب ... تحضر لرحمة ربه سقياته)
(وكعادة الْبَيْت الْمُقَدّس يحزن الْبَيْت ... الْحَرَام عَلَيْهِ بل عرفاته)
(من للثغور وَقد عَداهَا حفظه ... من للْجِهَاد وَلم تعد عاداته)
(بَكت الصوارم والصواهل إِذْ خلت ... من سلها وركوبها غَزَوَاته)
(وبسيفه صدأ لحزن مصابه ... إِذْ لَيْسَ يشفى بعده صدياته)
(يَا وحشتا للبيض فِي أغمادها ... لَا تنتضيها للوغى عزماته)
(يَا وَحْشَة الْإِسْلَام يَوْم تمكنت ... فِي كل قلب مُؤمن روعاته)
(يَا حسرتا من يأس راجيه الَّذِي ... يقْضى الزَّمَان وَمَا انْقَضتْ حسراته)
(مَلَأت مهابته الْبِلَاد فَإِنَّهُ ... أَسد وَإِن بِلَاده غاباته)
(مَا كَانَ أسْرع عصره لما انْقَضى ... فَكَأَنَّمَا سنواته ساعاته)
(لم أنس يَوْم السبت وَهُوَ لما بِهِ ... يُبْدِي السبات وَقد بَدَت غشياته)
(والبشر مِنْهُ تبلجت أنواره ... وَالْوَجْه مِنْهُ تلألأت سبحاته)
(وَيَقُول لله الْمُهَيْمِن حكمه ... فِي مَرضه حصلت بهَا مرضاته)
(وقف الْمُلُوك على انْتِظَار ركُوبه ... لَهُم فَفِيمَ تَأَخَّرت ركباته)(4/372)
(كَانُوا وقوفا أمس تَحت ركابه ... وَالْيَوْم هم حول السرير مشاته)
(وممالك الْآفَاق ساعية لَهُ ... فَمَتَى تَجِيء بفتحهن سعاته)
(هذي مناشير الممالك تَقْتَضِي ... توقيعه فِيهَا فَأَيْنَ دواته)
(هذي الجيوش من الْبِلَاد تواصلت ... فعلام لَا تسمو لَهَا راياته)
(قد كَانَ وَعدك فِي الرّبيع بجمعها ... هَذَا الرّبيع وَقد دنا مِيقَاته)
(والجند فِي الدِّيوَان جدد عرضه ... وَإِذا أمرت تَجَدَّدَتْ نفقاته)
(والقدس طامحة إِلَيْك عيونه ... عجل فقد طمحت إِلَيْهِ عداته)
(والغرب منتظر طلوعك نَحوه ... حَتَّى تفيء إِلَى هداك بغاته)
(والشرق يَرْجُو غرب عزمك مَاضِيا ... فِي ملكه حَتَّى تطيع عصاته)
(مغرى بإسداء الْجَمِيل كَأَنَّمَا ... فرضت عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ صلَاته)
(هَل للملوك مضاؤه فِي موقف ... شدت على أعدائه شداته)
(وَإِذا الْمُلُوك سعوا وَقصر سَعْيهمْ ... رجحت وَقد نجحت بِهِ مسعاته)
(كم جَاءَهُ التَّوْفِيق فِي وقعاته ... من كَانَ بالتوفيق توقيعاته)
قَالَ بِخَط الْعِمَاد فِي حَاشِيَة ديوانه كَانَت علامته الْحَمد لله وَبِه توفيقي
(يَا رَاعيا للدّين حِين تمكنت ... مِنْهُ الذئاب وأسلمته رعاته)
(مَا كَانَ ضرك لَو أَقمت مراعيا ... دينا تولى مذ رحلت ولاته)
(أضجرت منا أم أنفت فَلم تكن ... مِمَّن تصاب لشدَّة ضجراته)
(أرضيت تَحت الأَرْض يَا من لم تزل ... فَوق السَّمَاء علية درجاته)
(فَارَقت ملكا غير بَاقٍ متعبا ... ووصلت ملكا بَاقِيا راحاته)(4/373)
(أعزز على عَيْني بِرُؤْيَة بهجة الدُّنْيَا ... ووجهك لَا ترى بهجاته)
(أبني صَلَاح الدّين إِن أَبَاكُم ... مَا زَالَ يَأْبَى مَا الْكِرَام أباته)
(لَا تقتدوا إِلَّا بِسنة فَضله ... لتطيب فِي مهد النَّعيم سناته)
(وردوا موارد عدله وسماحه ... لِترد عَن نهج الشمات شماته)
(وَلَئِن هوى جبل لقد بنيت لنا ... ببنيه من هضباته ذرواته)
(وبفضل أفضله وَعز عزيزه ... وَظُهُور ظَاهره لنا سرواته)
(الْأَفْضَل الْملك الَّذِي ظَهرت على الدُّنْيَا ... بزهر جَلَاله جلواته)
(وَالدّين بِالْملكِ الْعَزِيز عماده ... عُثْمَان حَالية لنا حالاته)
(وَالْملك غَازِي الظَّاهِر العالي الَّذِي ... صحت لاظهار العلى مغزاته)
(وَلنَا بِسيف الدّين أظهر نصْرَة ... بالعادل الْملك المطهر ذَاته)
وللعماد فِيهِ من قصيدة أُخْرَى
(من للعلا من للذرى من للهدى ... يحميه من للبأس من للنائل)
(طلب الْبَقَاء لملكه فِي آجل ... إِذْ لم يَثِق بِبَقَاء ملك العاجل)
(بَحر أعَاد الْبر بحرا بره ... وبسيفه فتحت بِلَاد السَّاحِل)
(من كَانَ أهل الْحق فِي أَيَّامه ... وبعزه يردون أهل الْبَاطِل)
(وفتوحه والقدس من أبكارها ... أبقت لَهُ فضلا بِغَيْر مساجل)
(مَا كنت أستسقي لقبرك وابلا ... وَرَأَيْت جودك مخجلا للوابل)
(فسقاك رضوَان الْإِلَه لإنني ... لَا أرتضي سقيا الْغَمَام الهاطل)(4/374)
فصل فِي تَرِكَة السُّلْطَان وَوصف أخلاقه رَحمَه الله
ذكر القَاضِي ابْن شَدَّاد أَنه لما مَاتَ لم يخلف فِي خزانته من الذَّهَب وَالْفِضَّة إِلَّا سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما ناصرية وجرما وَاحِدًا ذَهَبا صوريا وَلم يخلف ملكا لَا دَارا وَلَا عقارا وَلَا بستانا وَلَا قَرْيَة وَلَا مزرعة يَعْنِي لَا فِي الْبَلَد مسقفا وَلَا ظَاهرا مستغلا من أَنْوَاع الْأَمْلَاك
وَقَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح خلف السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله سَبْعَة عشر ولدا ذكرا وَابْنَة صَغِيرَة وَأبقى لَهُ مآثر أثيرة ومحاسن كَثِيرَة وَلم يخلف فِي خزانته سوى دِينَار وَاحِد وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما فَإِنَّهُ كَانَ بِإِخْرَاج مَا يدْخل من الْأَمْوَال فِي المكرمات والغرامات مغرما
وَكَانَ يجود بِالْمَالِ قبل الْحُصُول ويقطعه عَن خزانته بالحوالات عَن الْوُصُول وَإِذا عرف بوصول حمل وَقع عَلَيْهِ بأضعافه وَخص الْآحَاد من ذَوي الْغناء فِي الْجِهَاد بآلافه وَلَا جبه(4/375)
أحدا بِالرَّدِّ إِذا سَأَلَهُ بل تلطف لَهُ كَأَنَّهُ استمهله فَإِنَّهُ يَقُول مَا عندنَا شَيْء السَّاعَة وَمَفْهُومه أَنه يُعْطي وَإِن كَانَ يبطي وَأَنه يُصِيبهُ بالنوال وَلَا يخطي
وَكَانَ مشغوفا فِي سَبِيل الله بالانفاق مَوْقُوفا عزمه فِي الْأَعْدَاء بادناء الْآجَال وَفِي الْأَوْلِيَاء باجراء الأرزاق وَمَا عقر فِي سَبِيل الله فرس أَو جرح إِلَّا وَعوض مَالِكه مثله وزاده من زَاده فضلَة
وَحسب مَا وهبه من الْخَيل العراب والأكاديش الْجِيَاد للحاضرين مَعَه فِي صف الْجِهَاد مُدَّة ثَلَاث سِنِين وَشهر مذ نزل الفرنج على عكا فِي رَجَب سنة خمس وَثَمَانِينَ إِلَى يَوْم انفصالهم بالسلم فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَكَانَ تَقْدِيره اثْنَي عشر ألف رَأس من حصان وَحجر وإكديش وَذَلِكَ غير مَا أطلقهُ من المَال فِي أَثمَان الْخَيل المصابة فِي الْقِتَال
وَلم يكن لَهُ فرس يركبه إِلَّا وَهُوَ موهوب أَو مَوْعُود بِهِ وَصَاحبه ملازم فِي طلبه وَمَا حضر اللِّقَاء إِلَّا اسْتعَار فرسا فَرَكبهُ وهجر جياده فَإِذا نزل جَاءَ صَاحبه واستعاده فكلهم يركب خيله وَيطْلب خَيره وَهُوَ يستعير جوادا ويستعر فِي الْجِهَاد اجْتِهَادًا
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَحَضَرت بعده عِنْد بعض الْمُلُوك وَقد(4/376)
قيدت إِلَيْهِ عراب فَقيل لَهُ كَانَ السُّلْطَان يضيع هَذِه وَمَا عِنْده لَهَا حِسَاب ونسبوا جوده بهَا إِلَى السَّرف وعدوه من معايبه وأعرضوا عَن ذكر مفاخره ومناقبه وبمثل ذَلِك استتبت لَهُ الْفتُوح وخلصت لَهُ طَاعَة كتائبه
قَالَ فِي الْفَتْح وَكَانَ لَا يلبس إِلَّا مَا يحل لبسه وتطيب بِهِ نَفسه كالكتان والقطن وَالصُّوف وَكسوته يُخرجهَا فِي إسداء الْمَعْرُوف
وَكَانَت محاضره مصونة من الْحَظْر وخلواته مُقَدَّسَة بِالطُّهْرِ ومجالسه منزهة من الهزء والهزل ومحافله حافلة آهلة بِأَهْل الْفضل وَمَا سَمِعت لَهُ قطّ كلمة تسْقط وَلَا لَفْظَة فظة تسخط ويغلظ على الْكَافرين الفاجرين ويلين للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ
ويؤثر سَماع الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ ويكلم الْعلمَاء عِنْده فِي الْعلم الشَّرْعِيّ الْمُفِيد وَكَانَ لمداومة الْكَلَام مَعَ الْفُقَهَاء ومشاركة الْقُضَاة فِي الْقَضَاء أعلم مِنْهُم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة والأسباب المرضية والأدلة المرعية
وَكَانَ من جالسه لَا يعلم أَنه جليس السُّلْطَان بل يعْتَقد أَنه جليس أَخ من الإخوان وَكَانَ حَلِيمًا مقيلا للعثرات متجاوزا عَن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا ويغضي وَلَا يغْضب ويبشر وَلَا(4/377)
يتقطب مَا رد سَائِلًا وَلَا صد نائلا وَلَا أخجل قَائِلا وَلَا خيب آملا
قَالَ وَمن جملَة مناقبه أَنه تَأَخّر عَنهُ فِي بعض سفراته الْأَمِير أَيُّوب بن كنان فَلَمَّا وصل سَأَلَهُ عَن سَبَب تخلفه فَذكر دينا فأحضر غرماءه وَتقبل بِالدّينِ وَكَانَ أثني عشر ألف دِينَار مصرية وكسرا
قَالَ وَلما كُنَّا بالقدس فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ كتب إِلَيْهِ سيف الدولة بن منقذ نَائِبه بِمصْر أَن وَاحِدًا ضمن مُعَاملَة بمبلغ فاستنض مِنْهَا ألفي دِينَار وتسحب وَرُبمَا وصل إِلَى الْبَاب فتحيل وتمحل وَكذب فجَاء من أخبر السُّلْطَان بِأَن الرجل بِالْبَابِ فَقَالَ قل لَهُ إِن ابْن منقذ يطلبك فاجتهد أَن لَا تقع فِي عينه فعجبنا من حلمه وَكَرمه بعد أَن قُلْنَا قدم الرجل إِلَى حِينه بقدمه
قَالَ وَمِمَّا أذكرهُ لَهُ فِي أول سفرتي مَعَه إِلَى مصر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين أَنه حُوسِبَ صَاحب ديوانه عَمَّا تولاه فِي زَمَانه فَكَانَت سِيَاقَة الْحساب عَلَيْهِ سبعين ألف دِينَار بَاقِيَة عَلَيْهِ فَمَا طلبَهَا وَلَا ذكرهَا وَأرَاهُ أَنه مَا عرفهَا على أَن صَاحب الدِّيوَان مَا أنكرها(4/378)
وَكَانَ يرضى من الْأَعْمَال بِمَا يحمل صفوا عفوا وَيحصل عذبا حلوا وَكله يخرج فِي الْجُود وَالْجهَاد ثمَّ لم يرض لَهُ بالعطلة فولاه ديوَان جَيْشه
قَالَ وَلما كُنَّا بِظَاهِر حران عَم بصدقاته الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَكتب إِلَى نوابه فِي الولايات بِإِخْرَاج الصَّدقَات وَقَالَ لي اكْتُبْ إِلَى الصفي بن الْقَابِض بِدِمَشْق أَن يتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار صورية فَقلت لَهُ الذَّهَب الَّذِي عِنْده مصري فَقَالَ فَيتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار مصرية وأشفق من صرف الْمصْرِيّ بالصوري فَيكون حَرَامًا ويرتكب فِي كسب الْأجر آثاما فسمح ومنح وتاجر الله وَربح
وَلما عزم على الرحيل من حران أَفَاضَ بهَا الْفضل وَبث الاحسان وَقَالَ لي انْظُر يَوْم الرحيل كم بَقِي بِالْبَابِ من الوافدين أَبنَاء السَّبِيل وَهَذِه ثَلَاث مئة دِينَار اقسمها عَلَيْهِم بالقلم على أقدارهم وَكَانُوا عدَّة يسيرَة لم تبلغ عشرَة فعينت لكل اسْم قسما فَبلغ أَربع مئة دِينَار فأعلمته وَقلت أنقص من كل اسْم ربعا فَقَالَ أجر مَا جرى بِهِ الْقَلَم
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله إِذا أطلق لعاف عارفه وَقلت لَهُ هَذِه مَا تكفيه ردهَا مضاعفة(4/379)
قَالَ وَكَانَ يغْضب للكبائر وَلَا يغضي عَن الصَّغَائِر ويرشد إِلَى الْهدى وَيهْدِي إِلَى الرشاد ويسدد الْأَمر وَيَأْمُر بالسداد فَكَانَ مماليكه وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد والعباد
قَالَ وَرَأى لي يَوْمًا دَوَاة محلاة بِالْفِضَّةِ فأنكرها فَقلت لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد وَالِد أبي الْمَعَالِي قد ذكر وَجها فِي جَوَازهَا ثمَّ لم أكتب بهَا عِنْده بعْدهَا
وَكَانَ محافظا على الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوَائِل أَوْقَاتهَا مواظبا على أَدَاء مفروضاتها ومسنوناتها فَمَا رَأَيْته صلى إِلَّا فِي جمَاعَة وَلم يُؤَخر لَهُ صَلَاة من سَاعَة إِلَى سَاعَة وَكَانَ لَهُ إِمَام راتب ملازم مواظب فَإِن غَابَ يَوْمًا صلى بِهِ من حَضَره من أهل الْعلم إِذا عرفه متقيا متجنبا للاثم
وَكَانَ يَأْخُذ بِالشَّرْعِ وَيُعْطِي بِهِ وَلم يكن إِلَى المنجم مصغيا وَلم يزل لقَوْله ملغيا وَلَا يتعيف وَلَا يتطير وَلَا يعين وَلَا يتَخَيَّر بل إِذا عزم توكل على الله فَلَا يفضل يَوْمًا على يَوْم وَلَا زَمَانا على زمَان إِلَّا بتفضيل الشَّرْع وَمَا زَالَ ناصرا للتوحيد وقامعا جمع أهل الْبدع بالتبديد(4/380)
شَافِعِيّ الْمَذْهَب أصولا وفروعا مُعْتَقدًا لَهُ معقولا ومسموعا يدني أهل التَّنْزِيه ويقصي أهل التَّشْبِيه ويديم استفادة فقه الْفَقِيه واستزادة نباهة النبيه ووجاهة الْوَجِيه فالعالمون فِي عدله والعالمون فِي فَضله والبلاد فِي أَمنه والعباد فِي مِنْهُ
فصل
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ مولد السُّلْطَان رَحمَه الله فِي شهور سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة بقلعة تكريت وَكَانَ وَالِده أَيُّوب بن شاذي واليا بهَا وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا حَلِيمًا حسن الْأَخْلَاق مولده بدوين ثمَّ اتّفق لَهُ الِانْتِقَال من تكريت إِلَى الْموصل وانتقل وَلَده الْمَذْكُور مَعَه وَأقَام بهَا إِلَى ان ترعرع
وَكَانَ وَالِده مُحْتَرما مقدما هُوَ وَأَخُوهُ أَسد الدّين شيركوه عِنْد أتابك زنكي وَاتفقَ لوالده الِانْتِقَال إِلَى الشَّام وَأعْطِي بعلبك وَأقَام بهَا مُدَّة وَمَعَهُ وَلَده الْمَذْكُور فَأَقَامَ فِي خدمَة وَالِده يتربى تجت حجره ويرتضع ثدي محَاسِن أخلاقه حَتَّى بَدَت مِنْهُ أَمَارَات السَّعَادَة ولاحت عَلَيْهِ لوائح التَّقَدُّم والسيادة وَقدمه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله وعول عَلَيْهِ وَنظر إِلَيْهِ وقربه وخصصه وَلم يزل كلما تقدم قدما تبدو مِنْهُ أَسبَاب تَقْتَضِي تَقْدِيمه إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ حَتَّى اتّفق لِعَمِّهِ أَسد الدّين شيركوه(4/381)
الْحَرَكَة إِلَى مصر والنهوض إِلَيْهَا وَقد مضى ذَلِك
ثمَّ قَالَ ذكر مَا شَاهَدْنَاهُ من مواظبته على الْقَوَاعِد الدِّينِيَّة وملاحظته للأمور الشَّرْعِيَّة ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْحج إِلَى بَيت الله الْحَرَام
وَكَانَ رَحمَه الله حسن العقيدة كثير الذّكر لله تَعَالَى قد أَخذ عقيدته عَن الدَّلِيل بِوَاسِطَة الْبَحْث مَعَ مَشَايِخ أهل الْعلم وأكابر الْفُقَهَاء وَيفهم من ذَلِك مَا يحْتَاج إِلَى تفهمه بِحَيْثُ كَانَ إِذا جرى الْكَلَام بَين يَدَيْهِ يَقُول فِيهِ قولا حسنا وَإِن لم يكن بِعِبَارَة الْفُقَهَاء فَتحصل من ذَلِك سَلامَة عقيدته عَن كدر التَّشْبِيه والتعطيل جَارِيَة على نمط الاسْتقَامَة
وَكَانَ قد جمع لَهُ الشَّيْخ الامام قطب الدّين النَّيْسَابُورِي رَحمَه الله عقيدة تجمع جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَاب وَكَانَ من شدَّة حرصه عَلَيْهَا يعلمهَا الصغار من أَوْلَاده حَتَّى تترسخ فِي أذهانهم من الصغر ورأيته وَهُوَ يَأْخُذهَا عَلَيْهِم وهم يقرؤونها من حفظهم بَين يَدَيْهِ(4/382)
وَأما الصَّلَاة فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيد الْمُوَاظبَة عَلَيْهَا بِالْجَمَاعَة حَتَّى إِنَّه ذكر رَحمَه الله يَوْمًا أَن لَهُ سِنِين مَا صلى إِلَّا جمَاعَة وَكَانَ إِذا مرض يَسْتَدْعِي الامام وَحده ويكلف نَفسه الْقيام وَيُصلي جمَاعَة
وَكَانَ يواظب على السّنَن الرَّوَاتِب وَكَانَ لَهُ رَكْعَات يُصليهَا إِن اسْتَيْقَظَ بِوَقْت من اللَّيْل وَإِلَّا أَتَى بهَا قبل صَلَاة الصُّبْح وَمَا كَانَ يتْرك الصَّلَاة مَا دَامَ عقله عَلَيْهِ وَلَقَد رَأَيْته يُصَلِّي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَائِما وَمَا ترك الصَّلَاة إِلَّا فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة الَّتِي تغيب فِيهَا ذهنه وَكَانَ إِذا أَدْرَكته الصَّلَاة وَهُوَ سَائِر نزل وَصلى
وَأما الزَّكَاة فَإِنَّهُ مَاتَ رَضِي الله عَنهُ وَلم يحفظ مَا وَجَبت عَلَيْهِ بِهِ الزَّكَاة وَأما صَدَقَة النَّفْل فانها استنفذت جَمِيع مَا ملكه من الْأَمْوَال
وَأما صَوْم رَمَضَان فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ فوائت بِسَبَب أمراض تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ فِي رمضانات مُتعَدِّدَة
وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل قد تولى ثَبت تِلْكَ الْأَيَّام وَشرع رَحمَه الله فِي قَضَاء فوائت ذَلِك فِي الْقُدس الشريف فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا وواظب على الصَّوْم مِقْدَارًا زَائِدا على شهر فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ فوائت رمضانين شغلته الْأَمْرَاض وملازمة الْجِهَاد عَن قَضَائهَا(4/383)
وَكَانَ الصَّوْم لَا يُوَافق مزاجه فألهمه الله الصَّوْم لقَضَاء الْفَوَائِت فَكَانَ يَصُوم وَأَنا أثبت الْأَيَّام الَّتِي يصومها فَإِن القَاضِي كَانَ غَائِبا والطبيب يلومه وَهُوَ لَا يسمع وَيَقُول مَا أعلم مَا يكون فَكَأَنَّهُ كَانَ ملهما بَرَاءَة ذمَّته وَلم يزل حَتَّى قضى مَا عَلَيْهِ رَحمَه الله
وَأما الْحَج فَإِنَّهُ لم يزل عَازِمًا عَلَيْهِ وناويا لَهُ لَا سِيمَا فِي الْعَام الَّذِي توفّي فِيهِ فَإِنَّهُ صمم الْعَزْم عَلَيْهِ وَأمر بالتأهب وعملت الزوادة وَلم يبْق إِلَّا الْمسير فاعتاق عَن ذَلِك بِسَبَب ضيق الْوَقْت وفراغ الْيَد عَمَّا يَلِيق بأمثاله فَأَخَّرَهُ إِلَى الْعَام الْمُسْتَقْبل فَقضى الله مَا قضى قَالَ وَهَذَا شَيْء اشْترك فِي الْعلم بِهِ الْخَاص وَالْعَام
وَكَانَ رَحمَه الله يحب سَماع الْقُرْآن الْعَظِيم حَتَّى إِنَّه كَانَ يستخير إِمَامه وَيشْتَرط عَلَيْهِ أَن يكون عَالما بعلوم الْقُرْآن الْعَظِيم متقنا لحفظه وَكَانَ يستقرىء من يحضرهُ فِي اللَّيْل وَهُوَ فِي برجه الجزأين وَالثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وَهُوَ يسمع وَكَانَ يستقرىء فِي مَجْلِسه الْعَام من جرت عَادَته بذلك الْآيَة وَالْعِشْرين وَالزَّائِد على ذَلِك وَلَقَد اجتاز على صَغِير بَين يَدي أَبِيه وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن فَاسْتحْسن قِرَاءَته فقربه وَجعل لَهُ حظا من خَاص طَعَامه ووقف عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه جُزْءا من مزرعة
وَكَانَ رَحمَه الله خاشع الْقلب رَقِيق الدمعة إِذا سمع الْقُرْآن الْعَزِيز يخشع قلبه وتدمع عينه فِي مُعظم أوقاته
وَكَانَ شَدِيد الرَّغْبَة فِي سَماع الحَدِيث وَمَتى سمع عَن شيخ(4/384)
ذِي رِوَايَة عالية وَسَمَاع كثير فَإِن كَانَ مِمَّن يحضر عِنْده استحضره وَسمع عَلَيْهِ وأسمع من يحضرهُ فِي ذَلِك الْمَكَان من أَوْلَاده ومماليكه والمختصين بِهِ وَكَانَ يَأْمر النَّاس بِالْجُلُوسِ عِنْد سَماع الحَدِيث إجلالا لَهُ وَإِن كَانَ الشَّيْخ مِمَّن لَا يطْرق أَبْوَاب السلاطين ويتحامى عَن الْحُضُور فِي مجَالِسهمْ سعى إِلَيْهِ وَسمع عَلَيْهِ تردد إِلَى الْحَافِظ السلَفِي بالاسكندرية وروى عَنهُ أَحَادِيث كَثِيرَة
وَكَانَ يحب أَن يقْرَأ الحَدِيث بِنَفسِهِ فَكَانَ يستحضرني فِي خلوته ويحضر شَيْئا من كتب الحَدِيث وَيقْرَأ هُوَ فاذا مر بِحَدِيث فِيهِ عِبْرَة رق قلبه ودمعت عينه
وَكَانَ كثير التَّعْظِيم لشعائر الدّين قَائِلا ببعث الْأَجْسَام ونشورها ومجازاة المحسن بِالْجنَّةِ والمسيىء بالنَّار مُصدقا لجَمِيع مَا وَردت بِهِ الشَّرَائِع منشرحا بذلك صَدره مبغضا للفلاسفة والمعطلة والدهرية وَمن يعاند الشَّرِيعَة المطهرة
وَلَقَد أَمر وَلَده الظَّاهِر صَاحب حلب بقتل شَاب كَانَ نَشأ يُقَال لَهُ السهروردي قيل عَنهُ إِنَّه كَانَ معاندا للشرائع مُبْطلًا وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ وَلَده الْمَذْكُور لما بلغه من خَبره وَعرف السُّلْطَان بِهِ فَأمر بقتْله وصلبه أَيَّامًا فَقتله(4/385)
وَكَانَ حسن الظَّن بِاللَّه كثير الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ عَظِيم الانابة إِلَيْهِ وَلَقَد شاهدت من آثَار ذَلِك مَا أحكيه فَحكى التجاءه إِلَى الله تَعَالَى عِنْد خَوفه من قصد الفرنج بَيت الْمُقَدّس وَامْتِنَاع أَصْحَابه من دُخُوله للحصر فصلى ودعا فكفي ذَلِك وَقد تقدم ذكره
ثمَّ قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله عادلا رؤوفا رحِيما ناصرا للضعيف على الْقوي وَكَانَ يجلس للعدل فِي كل يَوْم اثْنَيْنِ وخميس فِي مجْلِس عَام يحضرهُ الْفُقَهَاء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَيفتح الْبَاب للمتحاكمين حَتَّى يصل إِلَيْهِ كل أحد من كَبِير وصغير وعجوز هرمة وَشَيخ كَبِير وَكَانَ يفعل ذَلِك سفرا وحضرا على أَنه كَانَ فِي جَمِيع زَمَانه قَابلا لما يعرض عَلَيْهِ من الْقَصَص كاشفا لما ينْهَى إِلَيْهِ من الْمَظَالِم وَكَانَ يجمع الْقَصَص فِي كل يَوْم ثمَّ يجلس مَعَ الْكَاتِب سَاعَة إِمَّا فِي اللَّيْل أَو فِي النَّهَار ويوقع على كل قصَّة بِمَا يُطلق الله على قلبه وَمَا اسْتَغَاثَ إِلَيْهِ أحد إِلَّا وقف وَسمع ظلامته وَأخذ قصَّته وكشف قَضيته
وَلَقَد رَأَيْته وَقد اسْتَغَاثَ إِلَيْهِ إِنْسَان من أهل دمشق يُقَال لَهُ ابْن زُهَيْر على تَقِيّ الدّين ابْن أَخِيه وأنفذ إِلَيْهِ ليحضره فِي مجْلِس الحكم فَمَا خلصه إِلَّا أَن أشهد عَلَيْهِ شَاهِدين أَنه وكل القَاضِي أَمِين الدّين أَبَا الْقَاسِم قَاضِي حماة فِي الْمُخَاصمَة فأقاما(4/386)
الشَّهَادَة عِنْدِي فِي مَجْلِسه فَأمرت أَبَا الْقَاسِم بمساواة الْخصم فساواه وَكَانَ من خَواص جلساء السُّلْطَان ثمَّ جرت المحاكمة بَينهمَا واتجهت الْيَمين على تَقِيّ الدّين وَكَانَ تَقِيّ الدّين من أعز النَّاس عَلَيْهِ وأعظمهم عِنْده وَلم يحابه فِي الْحق
قَالَ وَكنت يَوْمًا فِي مجْلِس الحكم بالقدس الشريف إِذْ دخل عَليّ شيخ حسن تَاجر مَعْرُوف يُسمى عمر الخلاطي وَمَعَهُ كتاب حكمي سَأَلَ فَتحه وَقَالَ خصمي السُّلْطَان وَهَذَا بِسَاط الشَّرْع وَقد سمعنَا أَنَّك لَا تحابي فَقلت وَفِي أَي قَضِيَّة هُوَ خصمك فَقَالَ إِن سنقر الخلاطي كَانَ مملوكي وَلم يزل على ملكي إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فِي يَده أَمْوَال عَظِيمَة كلهَا لي وَمَات عَنْهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا السُّلْطَان وَأَنا مطالبه بهَا
فَقلت يَا شيخ وَمَا الَّذِي أقعدك إِلَى هَذِه الْغَايَة فَقَالَ الْحُقُوق لَا تبطل بِالتَّأْخِيرِ وَهَذَا الْكتاب الْحكمِي ينْطق بِأَنَّهُ لم يزل فِي ملكي إِلَى أَن مَاتَ فَأخذت الْكتاب مِنْهُ وتصفحت مضمونه فَوَجَدته يتَضَمَّن حلية سنقر الخلاطي وَأَنه قد اشْتَرَاهُ من فلَان التَّاجِر بأرجيش فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ من شهر كَذَا من سنة كَذَا وَأَنه لم يزل فِي ملكه إِلَى أَن شَذَّ عَن يَده فِي سنة كَذَا وَمَا عرف شُهُود هَذَا الْكتاب خُرُوجه عَن ملكه بِوَجْه وتمم الشَّرْط إِلَى آخِره(4/387)
فتعجبت من هَذِه الْقِصَّة وأعلمت السُّلْطَان بذلك فَأحْضرهُ واستدناه حَتَّى جلس بَين يَدي وَكنت إِلَى جَانِبه ثمَّ انفرك من طراحته حَتَّى ساواه رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ ادّعى الرجل وَفتح كِتَابه وقرىء تَارِيخه
فَقَالَ السُّلْطَان إِن لي من يشْهد أَن هَذَا سنقر فِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ فِي ملكي وَفِي يَدي بِمصْر وَأَنِّي اشْتَرَيْته مَعَ ثَمَانِيَة أنفس فِي تَارِيخ مُتَقَدم على هَذَا التَّارِيخ بِسنة وَأَنه لم يزل فِي يَدي وملكي إِلَى أَن أَعتَقته
ثمَّ استحضر جمَاعَة من أَعْيَان الْأُمَرَاء الْمُجَاهدين فَشَهِدُوا بذلك وحكوا الْقَضِيَّة كَمَا ذكرهَا وَذكروا التَّارِيخ كَمَا إدعاه فَأبْلسَ الرجل فَقلت لَهُ يَا مَوْلَانَا هَذَا الرجل مَا فعل ذَلِك إِلَّا طلبا لمراحم السُّلْطَان وَقد حضر بَين يَدي الْمولى وَمَا يحسن أَن يرجع خائب الْقَصْد فَقَالَ هَذَا بَاب آخر وَتقدم لَهُ بخلعة وَنَفَقَة بَالِغَة
قَالَ فَانْظُر إِلَى مَا فِي طي هَذِه الْقَضِيَّة من الْمعَانِي الغريبة العجيبة من التَّوَاضُع والإنقياد إِلَى الْحق وإرغام النَّفس وَالْكَرم فِي مَوضِع الْمُؤَاخَذَة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة رَحْمَة الله عَلَيْهِ
قَالَ وَكَرمه كَانَ أظهر من أَن يسطر كَانَ رَحمَه الله(4/388)
يهب الأقاليم وَفتح آمد فطلبها مِنْهُ ابْن قرا أرسلان فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا ورأيته وَقد اجْتمع عِنْده وُفُود بالقدس وَلم يكن فِي الخزانة مَا يعطيهم فَبَاعَ قَرْيَة من بَيت المَال وفضضنا ثمنهَا عَلَيْهِم وَلم يفضل مِنْهُ دِرْهَم وَاحِد
وَكَانَ يُعْطي فِي وَقت الضائقة كَمَا يُعْطي فِي حَال السعَة وَكَانَ نواب خزانته يخفون عَنهُ شَيْئا من المَال خوفًا أَن يفجأهم مُهِمّ لعلمهم أَنه مَتى علم بِهِ أخرجه وسمعته يَوْمًا يَقُول يُمكن أَن يكون فِي النَّاس من ينظر إِلَى المَال كَمَا ينظر إِلَى التُّرَاب فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بذلك نَفسه
وَكَانَ يُعْطي فَوق مَا يؤمل الطَّالِب وَمَا سمعته قطّ يَقُول أعطينا لفُلَان وَكَانَ يُعْطي الْكثير ويبسط وَجهه للمعطى بسط من لم يُعْطه شَيْئا وَكَانَ النَّاس يستزيدونه فِي كل وَقت وَمَا سمعته قطّ يَقُول قد زِدْت مرَارًا فكم أَزِيد وَأكْثر الرسائل فِي ذَلِك كَانَ يكون على لساني ويدي وَكنت أخجل من كَثْرَة مَا يطْلبُونَ وَلَا أخجل مِنْهُ لعلمي بِعَدَمِ مؤاخذته بذلك وَمَا خدمه أحد قطّ إِلَّا وأغناه عَن سُؤال غَيره
وَأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فَلَا تطمع فِيهِ أصلا وَلَقَد سَمِعت من صَاحب ديوانه يَقُول لي وَقد تجارينا عطاياه فَقَالَ حصرنا عدد مَا وهب من الْخَيل بمرج عكا لَا غير فَكَانَ(4/389)
عشرَة آلَاف فرس وَمن شَاهد مواهبه يسْتَقلّ هَذَا الْقدر اللَّهُمَّ إِنَّك ألهمته الْكَرم وَأَنت أكْرم الأكرمين فتكرم عَلَيْهِ بِرَحْمَتك ورضوانك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَقَالَ وَكَانَ رَحمَه الله من عُظَمَاء الشجعان قوي النَّفس شَدِيد الْبَأْس عَظِيم الثَّبَات لَا يهوله أَمر وَلَقَد رَأَيْته مرابطا فِي مُقَابلَة عدَّة عَظِيمَة من الفرنج ونجدتهم تتواصل وعساكرهم تتواتر وَهُوَ لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة نفس وصبرا
وَلَقَد وصل فِي لَيْلَة وَاحِدَة مِنْهُم نَيف وَسَبْعُونَ مركبا على عكا وَأَنا أعدهَا من بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس وَهُوَ لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة نفس
وَلَقَد كَانَ يُعْطي دستورا فِي أَوَائِل الشتَاء وَيبقى فِي شرذمة يسيرَة فِي مُقَابلَة عدتهمْ الْكَثِيرَة وَلَقَد سَأَلت باليان بن بارزان وَهُوَ من كبار مُلُوك السَّاحِل وَهُوَ جَالس بَين يَدَيْهِ يَوْم انْعِقَاد الصُّلْح عَن عدتهمْ فَقَالَ الترجمان عَنهُ إِنَّه يَقُول كنت أَنا وَصَاحب صيدا وَكَانَ أَيْضا من مُلُوكهمْ وعقلائهم قَاصِدين عسكرنا من صور فَلَمَّا أَشْرَفنَا عَلَيْهِ تحازرناه فحزره هُوَ بِخمْس مئة ألف وحزرته أَنا بست مئة ألف أَو قَالَ عكس ذَلِك فَقلت فكم هلك مِنْهُم فَقَالَ(4/390)
أما بِالْقَتْلِ فقربت من مئة ألف وَأما بِالْمَوْتِ وَالْغَرق فَلَا يعلم وَمَا رَجَعَ من هَذَا الْعَالم إِلَّا الْأَقَل
قَالَ وَكَانَ لَا بُد لَهُ من أَن يطوف حول الْعَدو كل يَوْم مرّة أَو مرَّتَيْنِ إِذا كُنَّا قَرِيبا مِنْهُم وَكَانَ إِذا اشْتَدَّ الْحَرْب يطوف بَين الصفين وَمَعَهُ صبي وَاحِد وعَلى يَده جنيب ويخرق العساكر من الميمنة إِلَى الميسرة يرتب الأطلاب وَيَأْمُرهُمْ بالتقدم وَالْوُقُوف فِي مَوَاضِع يَرَاهَا وَكَانَ يشارف الْعَدو ويجاوره
وَلَقَد قرىء عَلَيْهِ جُزْء من الحَدِيث بَين الصفين وَذَلِكَ أَنِّي قلت لَهُ قد سمع الحَدِيث فِي جَمِيع المواطن الشَّرِيفَة وَمَا نقل أَنه سمع بَين الصفين فَإِن رأى الْمولى أَن يُؤثر عَنهُ ذَلِك كَانَ حسنا فَأذن فِي ذَلِك فأحضر جُزْء هُنَاكَ من لَهُ بِهِ سَماع فقرى عَلَيْهِ وَنحن على ظُهُور الدَّوَابّ بَين الصفين يمشي تَارَة وَيقف أُخْرَى
وَمَا رَأَيْته استكثر الْعَدو أصلا وَلَا استعظم أَمرهم قطّ وَكَانَ مَعَ ذَلِك فِي حَال الْفِكر وَالتَّدْبِير يذكر بَين يَدَيْهِ الْأَقْسَام كلهَا ويرتب على كل قسم مُقْتَضَاهُ من غير حِدة وَلَا غضب يَعْتَرِيه وَلَقَد انهزم الْمُسلمُونَ فِي يَوْم المصاف الْأَكْبَر بمرج عكا حَتَّى الْقلب وَرِجَاله وَوَقع الكوس وَالْعلم وَهُوَ ثَابت الْقدَم فِي نفر يسير وَقد انحاز إِلَى الْجَبَل يجمع النَّاس ويردهم ويخجلهم حَتَّى يرجِعوا وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى عكر الْمُسلمُونَ على الْعَدو فِي ذَلِك الْيَوْم وَقتل مِنْهُم زهاء سَبْعَة آلَاف مَا بَين راجل وَفَارِس(4/391)
وَلم يزل مصابرا لَهُم وهم فِي الْعدة الوافرة إِلَى أَن ظهر لَهُ ضعف الْمُسلمين فَصَالح وَهُوَ مسؤول من جانبهم فَإِن الضعْف والهلاك كَانَ فيهم أَكثر وَلَكنهُمْ كَانُوا يتوقعون النجدة وَنحن لَا نتوقعها وَكَانَت الْمصلحَة فِي الصُّلْح
وَكَانَ رَحمَه الله يمرض وَيصِح وتعتريه أَحْوَال مهولة وَهُوَ مصابر مرابط وتتراءى الناران ونسمع مِنْهُم صَوت الناقوس ويسمعون منا صَوت الْأَذَان إِلَى أَن انْقَضى الْأَمر
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله شَدِيد الْمُوَاظبَة على الْجِهَاد عَظِيم الاهتمام بِهِ وَلَو حلف حَالف أَنه مَا أنْفق بعد خُرُوجه إِلَى الْجِهَاد دِينَارا وَلَا درهما إِلَّا فِي الْجِهَاد أَو فِي الارفاد لصدق وبر فِي يَمِينه
وَلَقَد كَانَ الْجِهَاد وحبه والشغف بِهِ قد استولى على قلبه وَسَائِر جوانحه اسْتِيلَاء عَظِيما بِحَيْثُ مَا كَانَ لَهُ حَدِيث إِلَّا فِيهِ وَلَا نظر إِلَّا فِي آلَته وَلَا اهتمام إِلَّا بِرِجَالِهِ وَلَا ميل إِلَّا إِلَى من يذكرهُ ويحث عَلَيْهِ وَلَقَد هجر فِي محبَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله أَهله وَأَوْلَاده ووطنه وسكنه وَسَائِر بِلَاده وقنع من الدُّنْيَا بِالسُّكُونِ فِي ظلّ خيمة تهب بهَا الرِّيَاح يمنة ويسرة وَلَقَد وَقعت عَلَيْهِ الْخَيْمَة فِي لَيْلَة ريحة على مرج عكا فَلَو لم يكن فِي البرج وَإِلَّا قتلته وَلَا يزِيدهُ ذَلِك إِلَّا رَغْبَة ومصابرة واهتماما(4/392)
قلت وشواهد مَا ذكر القَاضِي من ذَلِك كَثِيرَة وَقد سبقت مفرقة فِي وقعاته رَحمَه الله مِنْهَا مَا قاساه على حِصَار حصن كَوْكَب من الأمطار والأوحال
وَقَالَ الرشيد ابْن النابلسي من قصيدة لَهُ
(مَا أبهج الدّين وَالدُّنْيَا بمالكها الصّديق ... يُوسُف لَا لاذت بِهِ الْغَيْر)
(ملك تساوى جُمَادَى فِي الْجِهَاد وتموز ... لَدَيْهِ وضاهى ناجرا صفر)
(فَلَيْسَ يثنيه حر إِن توقد عَن ... رضَا الْإِلَه وَلَا إِن أغدق الْمَطَر)
(وَلَا ينهنهه عَمَّا يكابده ... ضج أعيذ معاليه وَلَا ضجر)
(وَلَا يرى الرّوح إِلَّا ظهر سلهبة ... فِي بطن معركة مركوبها وعر)
(صَبر جميل كطعم الشهد فِي فَمه ... وَعند كل مليك طعمه الصَّبْر)
قَالَ القَاضِي وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يتَقرَّب إِلَيْهِ يحثه على الْجِهَاد أَو يذكر شَيْئا من أَخْبَار الْجِهَاد وَلَقَد ألف لَهُ كتب عدَّة فِي الْجِهَاد وَأَنا مِمَّن جمع لَهُ فِيهِ كتابا جمعت فِيهِ آدابه وكل آيَة وَردت فِيهِ وكل حَدِيث رُوِيَ فِيهِ وشرحت غريبها وَكَانَ رَحمَه الله كثيرا مَا يطالعه حَتَّى أَخذه مِنْهُ وَلَده الْأَفْضَل(4/393)
قَالَ ولأحكين عَنهُ مَا سَمِعت مِنْهُ فِي ذَلِك وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد أَخذ كَوْكَب فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأعْطى العساكر دستورا وَأخذ عَسْكَر مصر فِي الْعود إِلَى مصر وَكَانَ مقدمه أَخَاهُ الْعَادِل فَسَار مَعَه ليودعه ويحظى بِصَلَاة الْعِيد فِي الْقُدس فَفعل وَوَقع لَهُ أَنه يمْضِي مَعَهم إِلَى عسقلان ويودعهم ثمَّ يعود على طَرِيق السَّاحِل يتفقد الْبِلَاد الساحلية إِلَى عكا ويرتب أحوالها فأشاروا عَلَيْهِ أَن لَا يفعل فَإِن العساكر إِذا فارقتنا نبقى فِي عدَّة يسيرَة والفرنج كلهم بصور وَهَذِه مخاطرة عَظِيمَة فَلم يلْتَفت وودع أَخَاهُ والعسكر بعسقلان ثمَّ سرنا على السَّاحِل طالبي عكا وَكَانَ الزَّمَان شتاء عَظِيما وَالْبَحْر هائجا هيجانا عَظِيما وموجه كالجبال كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَكنت حَدِيث عهد بِرُؤْيَة الْبَحْر فَعظم أَمر الْبَحْر عِنْدِي حَتَّى خيل لي أنني لَو قَالَ لي قَادر لَو جزت فِي الْبَحْر ميلًا وَاحِدًا مَلكتك الدُّنْيَا لما كنت أفعل واستخففت رَأْي من يركب الْبَحْر رَجَاء كسب دِينَار أَو دِرْهَم واستحسنت رَأْي من لَا يقبل شَهَادَة رَاكب الْبَحْر
هَذَا كُله خطر لي لعظم الهول الَّذِي شاهدته من حَرَكَة البحروتموجه فَبينا أَنا فِي ذَلِك إِذْ الْتفت إِلَيّ وَقَالَ فِي نَفسِي أَنه مَتى يسر الله تَعَالَى فتح بَقِيَّة السَّاحِل قسمت الْبِلَاد وأوصيت وودعت وَركبت هَذَا الْبَحْر إِلَى جزائرهم أتتبعهم فِيهَا حَتَّى لَا أُبْقِي على(4/394)
وَجه الأَرْض من يكفر بِاللَّه أَو أَمُوت
فَعظم وَقع هَذَا الْكَلَام عِنْدِي حَيْثُ نَاقض مَا كَانَ يخْطر لي وَقلت لَهُ لَيْسَ فِي الأَرْض أَشْجَع نفسا من الْمولى وَلَا أقوى نِيَّة مِنْهُ فِي نصْرَة دين الله وحكيت لَهُ مَا خطر لي ثمَّ قلت مَا هَذِه إِلَّا نِيَّة جميلَة وَلَكِن الْمولى يسير فِي الْبَحْر العساكر وَهُوَ سور الْإِسْلَام وَلَا يَنْبَغِي أَن يخاطر بِنَفسِهِ فَقَالَ أَنا أستفتيك مَا أشرف الميتات فَقلت الْمَوْت فِي سَبِيل الله فَقَالَ غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن أَمُوت أشرف الميتات
قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الطوية مَا أطهرها وَإِلَى هَذِه النَّفس مَا أشجعها وأجسرها اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه بذل جهده فِي نصْرَة دينك رَجَاء رحمتك فارحمه
قَالَ وَأما صبره فَلَقَد رَأَيْته بمرج عكا وَهُوَ على غَايَة من مرض اعتراه بِسَبَب كَثْرَة دماميل كَانَت ظَهرت عَلَيْهِ من وَسطه إِلَى ركبته بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الْجُلُوس وَإِنَّمَا يكون مُتكئا على جَانِبه إِذا كَانَ فِي الْخَيْمَة وَامْتنع من مد الطَّعَام بَين يَدَيْهِ لعَجزه عَن الْجُلُوس وَكَانَ يَأْمر أَن يفرق على النَّاس وَكَانَ مَعَ ذَلِك كُله يركب من بكرَة النَّهَار إِلَى صَلَاة الظّهْر يطوف على الأطلاب وَمن الْعَصْر إِلَى صَلَاة الْمغرب وَهُوَ صابر على شدَّة الْأَلَم وَقُوَّة ضَرْبَان الدماميل وَكُنَّا نعجب من ذَلِك فَيَقُول رَحمَه الله إِذا ركبت يَزُول عني ألمها حَتَّى أنزل قَالَ وَهَذِه عناية ربانية(4/395)
وَلَقَد مرض وَنحن على الخروبة وَكَانَ قد تَأَخّر عَن تل الحجل بِسَبَب مَرضه فَبلغ الفرنج ذَلِك فَخَرجُوا طَمَعا فِي أَن ينالوا من الْمُسلمين شَيْئا بِسَبَب مَرضه وَهِي نوبَة النَّهر فَخَرجُوا فِي مرحلة إِلَى الْآبَار الَّتِي تَحت التل ثمَّ رَحل الْعَدو فِي الْيَوْم الثَّانِي يطلبنا فَركب رَحمَه الله على مضض ورتب العساكر للحرب وَجعل أَوْلَاده فِي الْقلب وَنزل هُوَ وَرَاء الْقَوْم بِطَلَبِهِ
وَكلما سَار الْعَدو يطْلب رَأس النَّهر سَار هُوَ يستدير إِلَى ورائهم حَتَّى يقطع بَينهم وَبَين خيامهم وَهُوَ رَحمَه الله يسير سَاعَة ثمَّ ينزل يستريح ويظلل بمنديل على رَأسه من شدَّة وَقع الشَّمْس وَلَا تنصب لَهُ خيمة حَتَّى لَا يرى الْعَدو ضعفا وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى نزل الْعَدو بِرَأْس النَّهر وَنزل هُوَ على تل قبالتهم مطل عَلَيْهِم إِلَى أَن دخل اللَّيْل
ثمَّ أَمر العساكر أَن تعود إِلَى مَحل المصابرة وَأَن يبيتوا تَحت السِّلَاح وَتَأَخر هُوَ إِلَى قمة الْجَبَل وَضربت لَهُ خيمة لَطِيفَة وَبت تِلْكَ اللَّيْلَة أجمع أَنا والطبيب نمرضه ونشاغله وَهُوَ ينَام تَارَة وَيَسْتَيْقِظ أُخْرَى حَتَّى لَاحَ الصَّباح ثمَّ ضرب البوق وَركب رَحمَه الله وَركبت العساكر وَأَحْدَقَتْ بالعدو ورحل الْعَدو عَائِدًا إِلَى خيمه من الْجَانِب الغربي للنهر وضايقه الْمُسلمُونَ مضايقة شَدِيدَة(4/396)
وَفِي ذَلِك الْيَوْم قدم أَوْلَاده بَين يَدَيْهِ احتسابا الْأَفْضَل وَالظَّاهِر والظافر وَجَمِيع من حَضَره مِنْهُم وَلم يزل يبْعَث من عِنْده حَتَّى لم يبْق عِنْده إِلَّا أَنا وطبيب وعارض الْجَيْش والغلمان بِأَيْدِيهِم الْأَعْلَام والبيارق لَا غير فيظن الرَّائِي لَهَا عَن بعد أَن تحتهَا خلقا كثيرا وَلَيْسَ تحتهَا إِلَّا وَاحِد بِخلق عَظِيم رَحمَه الله
وَبَقِي فِي مَوْضِعه والعساكر على ظُهُور الْخَيل قبالة الْعَدو إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ أَمرهم أَن يبيتوا على مثل مَا باتوا عَلَيْهِ بارحتهم وبتنا على مَا بتنا عَلَيْهِ إِلَى الصَّباح وَعَاد الْعَسْكَر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ بالْأَمْس من مضايقة الْعَدو
قَالَ وَلَقَد رَأَيْته لَيْلَة على صفد وَهُوَ يحاصرها وَقَالَ لَا ننام اللَّيْلَة حَتَّى ينصب لنا خَمْسَة مجانيق ورتب لكل منجنيق قوما يتولون نَصبه وَكُنَّا طول اللَّيْل فِي خدمته فِي ألذ فكاهة وأرغد عَيْش وَالرسل تتواصل مخبرة بِأَنَّهُ نصب من المنجنيق الْفُلَانِيّ كَذَا وَمن الآخر كَذَا حَتَّى أَتَى الصَّباح وَقد فرغ مِنْهَا وَكَانَت من أطول اللَّيَالِي وأشدها بردا ومطرا
قَالَ وَلَقَد رَأَيْته وَقد جَاءَهُ خبر وَفَاة ولد لَهُ بَالغ أَو مراهق يُسمى إِسْمَاعِيل فَوقف على الْكتاب وَلم يعرف أحدا وَلم نَعْرِف حَتَّى سمعناه من غَيره وَلم يظْهر عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك سوى أَنه لما قَرَأَ الْكتاب دَمَعَتْ عينه رَحمَه الله
قَالَ وَلَقَد رَأَيْته وَقد وَصله خبر وَفَاة تَقِيّ الدّين وَنحن فِي مُقَابلَة الفرنج جَرِيدَة على الرملة وَفِي كل لَيْلَة تقع الصَّيْحَة فتقلع(4/397)
الْخيام وَيقف النَّاس على ظهر إِلَى الصَّباح والعدو بيازور بَيْننَا وَبَينه شوط فرس لَا غير فأحضر الْعَادِل وَابْن جندر وَابْن الْمُقدم وَابْن الداية سَابق الدّين وَأمر بِالنَّاسِ فأبعدوا عَن الْخَيْمَة بِحَيْثُ لم يبْق حولهَا أحد عَن غلوة سهم ثمَّ أظهر الْكتاب ووقف عَلَيْهِ وَبكى بكاء شَدِيدا حَتَّى أبكانا من غير أَن نعلم السَّبَب ثمَّ قَالَ رَحمَه الله وَالْعبْرَة تخنقه توفّي تَقِيّ الدّين
فَاشْتَدَّ بكاؤه وبكاء الْجَمَاعَة ثمَّ عدت إِلَى نَفسِي فَقلت اسْتَغْفرُوا الله من هَذِه الْحَالة وانظروا أَيْن أَنْتُم وفيم أَنْتُم واعرضوا عَمَّا سواهُ فَقَالَ رَحمَه الله نعم أسْتَغْفر الله وَأخذ يكررها ثمَّ قَالَ لَا يعلم هَذَا أحد
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله شَدِيد الشوق والشغف بأولاده الصغار وَهُوَ صابر على مفارقتهم رَاض ببعدهم عَنهُ وَكَانَ صَابِرًا على مر الْعَيْش وخشونته مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة على غير ذَلِك احتسابا لله تَعَالَى اللَّهُمَّ إِنَّه ترك ذَلِك كُله ابْتِغَاء لمرضاتك فارض عَنهُ
قَالَ وَلَقَد كَانَ رَحمَه الله حَلِيمًا متجاوزا قَلِيل الْغَضَب وَلَقَد كنت بخدمته بمرج عُيُون قبل خُرُوج الفرنج إِلَى عكا يسر الله فتحهَا وَكَانَ من عَادَته أَنه يركب فِي وَقت الرّكُوب ثمَّ ينزل فيمد الطَّعَام وَيَأْكُل مَعَ النَّاس ثمَّ ينْهض إِلَى خيمة خَاص لَهُ(4/398)
ينَام فِيهَا ثمَّ يَسْتَيْقِظ من مَنَامه وَيُصلي وَيجْلس خلْوَة وَأَنا فِي خدمته نَقْرَأ شَيْئا من الحَدِيث أَو شَيْئا من الْفِقْه
وَلَقَد قَرَأَ عَليّ كتابا مُخْتَصرا لسليم الرَّازِيّ يشْتَمل على الأرباع الْأَرْبَعَة من الْفِقْه فَنزل يَوْمًا على عَادَته وَمد الطَّعَام بَين يَدَيْهِ ثمَّ عزم على النهوض فَقيل لَهُ إِن وَقت الصَّلَاة قد قرب فَعَاد إِلَى الْجُلُوس وَقَالَ نصلي وننام
ثمَّ جلس يتحدث حَدِيث متضجر وَقد أخلي الْمَكَان إِلَّا عَن لزم فَتقدم إِلَيْهِ مَمْلُوك كَبِير مُحْتَرم عِنْده وَعرض عَلَيْهِ قصَّة لبَعض الْمُجَاهدين فَقَالَ لَهُ أَنا الْآن ضجر أَخّرهَا سَاعَة فَلم يفعل وقدمها إِلَى قريب من وَجهه الْكَرِيم بِيَدِهِ وَفتحهَا بِحَيْثُ يقْرؤهَا فَوقف على الِاسْم الْمَكْتُوب فِي رَأسهَا فَعرفهُ وَقَالَ رجل مُسْتَحقّ فَقَالَ يُوقع لَهُ الْمولى فَقَالَ لَيست الدواة حَاضِرَة الْآن وَكَانَ رَحمَه الله جَالِسا فِي بَاب الخركاه بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع أحد الدُّخُول إِلَيْهَا والدواة فِي صدر الخركاه والخركاه كَبِيرَة فَقَالَ لَهُ الْمُخَاطب هَا هِيَ الدواة فِي صدر الخركاه(4/399)
قَالَ القَاضِي فَلَيْسَ لهَذَا معنى إِلَّا أمره إِيَّاه بإحضار الدواة لَا غير فَالْتَفت رَحمَه الله فَرَأى الدواة فَقَالَ وَالله لقد صدق ثمَّ امْتَدَّ على يَده الْيُسْرَى وَمد يَده الْيُمْنَى وأحضرها وَوَقع لَهُ فَقلت قَالَ الله تَعَالَى فِي حق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَمَا أرى الْمولى إِلَّا قد شَاركهُ فِي هَذَا الْخلق فَقَالَ مَا ضرنا شَيْء قضينا حَاجته وَحصل الثَّوَاب
قَالَ القَاضِي وَلَو وَقعت هَذِه الْوَاقِعَة لآحاد النَّاس لقام وَقعد وَمن الَّذِي يقدر أَن يُخَاطب أحدا هُوَ تَحت حكمه بِمثل ذَلِك وَهَذَا غَايَة الاحسان والحلم وَالله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ
قَالَ وَلَقَد كَانَت طراحته تداس عِنْد التزاحم عَلَيْهِ لعرض الْقَصَص وَهُوَ لَا يتأثر لذَلِك وَلَقَد نفرت يَوْمًا بغلتي من الْجمال وَأَنا رَاكب فِي خدمته فزحمت وركه حَتَّى آلمته وَهُوَ يتبسم
وَلَقَد دخلت بَين يَدَيْهِ فِي يَوْم ريح مطير إِلَى الْقُدس كثيرالوحل فنضحت البغلة عَلَيْهِ من الطين حَتَّى أهلكت جَمِيع مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يتبسم وَأَرَدْت التَّأَخُّر عَنهُ بِسَبَب ذَلِك فَمَا تركني
وَلَقَد كَانَ يسمع من المستغيثين إِلَيْهِ والمتظلمين أغْلظ مَا يُمكن أَن يسمع ويلقى ذَلِك بالبشر وَالْقَبُول(4/400)
ثمَّ قَالَ القَاضِي وَهَذِه حِكَايَة ينْدر أَن يسطر مثلهَا فَذكر مَا تقدم من امْتنَاع عسكره من الهجوم على الإنكلتير وَهُوَ فِي جمع يسير من أَصْحَابه بعد أَن أطافوا بهم وواجه الْجنَاح السُّلْطَان بذلك الْكَلَام الخشن فَرجع السُّلْطَان مغضبا وَظن أَنه رُبمَا صلب وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم فَنزل بيازور وَقد وَصله من دمشق فَاكِهَة كَثِيرَة فَطلب الْأُمَرَاء ليأكلوا فَحَضَرُوا فَرَأَوْا من بشره وانبساطه مَا أحدث لَهُم الطُّمَأْنِينَة والأمن وَالسُّرُور
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله كثير الْمُرُوءَة ندي الْوَجْه كثير الْحيَاء منبسطا لمن يرد عَلَيْهِ من الضيوف يكرم الْوَافِد عَلَيْهِ وَإِن كَانَ كَافِرًا وَلَقَد وَفد عَلَيْهِ الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية فَمَا أحس بِهِ إِلَّا وَهُوَ وَاقِف على بَاب خيمته بعد وُقُوع الصُّلْح فِي شَوَّال عِنْد مُنْصَرفه من الْقُدس إِلَى دمشق وَقد تقدم ذَلِك عرض لَهُ فِي الطَّرِيق وَطلب مِنْهُ شَيْئا فَأعْطَاهُ العمق وَهِي بِلَاد كَانَ أَخذهَا مِنْهُ عَام فتح السَّاحِل سنة أَربع وَثَمَانِينَ
وَلَقَد رَأَيْته وَقد دخل إِلَيْهِ صَاحب صيدا فاحترمه وأكرمه وَأكل مَعَه وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَذكر لَهُ طرفا من محاسنه وحثه عَلَيْهِ(4/401)
وَكَانَ يكرم من يرد عَلَيْهِ من الْمَشَايِخ وأرباب الْعلم وَالْفضل وَذَوي الأقدار وَكَانَ يوصينا لِئَلَّا نغفل عَمَّن يجتاز بالخيم من الْمَشَايِخ المعروفين حَتَّى نحضرهم عِنْده وينالهم من إحسانه
وَلَقَد مر بِنَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ رجل جمع بَين الْعلم والتصوف وَكَانَ من ذَوي الأقدار وَكَانَ أَبوهُ صَاحب توزير فَأَعْرض هُوَ عَن فن أَبِيه واشتغل بِالْعلمِ وَالْعَمَل وَحج وَوصل زَائِرًا لبيت الله الْمُقَدّس وَلما قضى لبانته مِنْهُ وَرَأى آثَار السُّلْطَان فِيهِ وَقع لَهُ زيارته فوصل إِلَيْنَا إِلَى الْعَسْكَر فَلَقِيته ورحبت بِهِ وَعرفت السُّلْطَان وُصُوله فَاسْتَحْضرهُ وشكره عَن الْإِسْلَام وحثه على الْخَيْر وَانْصَرف وَبَات عِنْدِي فِي الْخَيْمَة
فَلَمَّا صلينَا الصُّبْح أَخذ يودعني فقبحت لَهُ الْمسير دون وداع السُّلْطَان فَلم يلْتَفت وَلم يلو على ذَلِك وَقَالَ قضيت حَاجَتي مِنْهُ وَلَا غَرَض لي فِيمَا عدا رُؤْيَته وزيارته ثمَّ انْصَرف من سَاعَته وَمضى على ذَلِك لَيَال فَسَأَلَ السُّلْطَان عَنهُ فَأَخْبَرته بِفِعْلِهِ فَظهر عَلَيْهِ آثَار التعتب كَيفَ لم أخبرهُ برواحه وَقَالَ كَيفَ يطرقنا مثل هَذَا الرجل وينصرف عَنَّا من غير إِحْسَان يمسهُ منا وشدد النكير عَليّ فِي ذَلِك فَمَا وجدت بدا من أَن أكتب كتابا إِلَى محيي الدّين قَاضِي دمشق كلفته فِيهِ السُّؤَال عَن حَال الرجل وإيصال رقْعَة كتبتها إِلَيْهِ طي كتابي أخْبرته فِيهَا بانكار السُّلْطَان(4/402)
رَوَاحه من غير اجْتِمَاع بِهِ وَحسنت لَهُ فِيهَا الْعود وَكَانَ بيني وَبَينه صداقة تَقْتَضِي مثل ذَلِك فَعَاد وَاجْتمعَ بالسلطان فَرَحَّبَ بِهِ وانبسط مَعَه واستوحش لَهُ وأمسكه أَيَّامًا ثمَّ خلع عَلَيْهِ خلعة حَسَنَة وَأَعْطَاهُ مركوبا لائقا وثيابا كَثِيرَة ليحملها إِلَى أهل بَيته وَأَتْبَاعه وجيرانه وَنَفَقَة يرتفق بهَا وَانْصَرف عَنهُ وَهُوَ أشكر النَّاس لَهُ وأخلصهم دُعَاء لأيامه
قَالَ وَلَقَد رَأَيْته رَحمَه الله وَقد مثل بَين يَدَيْهِ أَسِير فرنجي وَقد هابه بِحَيْثُ ظهر عَلَيْهِ أَمَارَات الْخَوْف والجزع فَقَالَ لَهُ الترجمان من أَي شَيْء تخَاف فَأجرى الله على لِسَانه أَن قَالَ كنت أَخَاف قبل أَن أرى هَذَا الْوَجْه فَبعد رؤيتي لَهُ وحضوري بَين يَدَيْهِ أيقنت أَنِّي مَا أرى إِلَّا الْخَيْر فرق لَهُ وَمن عَلَيْهِ وَأطْلقهُ
قَالَ وَكنت رَاكِبًا فِي خدمته فِي بعض الْأَيَّام قبالة الفرنج وَقد وصل بعض اليزكية وَمَعَهُ إمرأة شَدِيدَة التحرق كَثِيرَة الْبكاء متواترة الدق على صدرها فَذكر قصَّة أم الرَّضِيع الَّذِي سرق وَقد مَضَت
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله لَا يرى الاساءة إِلَى من صَحبه(4/403)
وَإِن أفرط فِي الْجِنَايَة وَلَقَد قلب فِي خزانته كيسَان من الذَّهَب الْمصْرِيّ بكيسين من الْفُلُوس فَمَا عمل بالنواب شَيْئا سوى أَنه صرفهم من عَمَلهم لَا غير
وَكَانَ رَحمَه الله حسن الْعشْرَة لطيف الْأَخْلَاق طيب الفكاهة حَافِظًا لأنساب الْعَرَب ووقائعهم عَارِفًا بسيرهم وأحوالهم حَافِظًا لأنساب خيلهم عَالما بعجائب الدُّنْيَا ونوادرها بِحَيْثُ كَانَ يَسْتَفِيد محاضره مِنْهُ مَا لَا يسمعهُ من غَيره
وَكَانَ يسْأَل الْوَاحِد منا عَن مَرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أَحْوَاله
وَكَانَ طَاهِر الْمجْلس لَا يذكر بَين يَدَيْهِ أحد إِلَّا بِالْخَيرِ وطاهر السّمع فَلَا يحب أَن يسمع عَن أحد إِلَّا بِالْخَيرِ وطاهر اللِّسَان فَمَا رَأَيْته أولع بشتم قطّ وطاهر الْقَلَم فَمَا كتب بقلمه أَذَى لمُسلم قطّ وَكَانَ حسن الْعَهْد وَالْوَفَاء فَمَا أحضر بَين يَدَيْهِ يَتِيم إِلَّا وترحم على مخلفه وجبر قلبه وَأَعْطَاهُ خبز مخلفه إِن كَانَ لَهُ من أَهله كَبِير يعْتَمد عَلَيْهِ وَسلمهُ إِلَيْهِ وَإِلَّا أبقى لَهُ من الْخبز مَا يَكْفِي حَاجته وَسلمهُ إِلَى من يكفله ويعتني بتربيته
وَكَانَ مَا يرى شَيخا إِلَّا ويرق لَهُ وَيُعْطِيه وَيحسن إِلَيْهِ وَلم يزل على هَذِه الْأَخْلَاق إِلَى أَن توفاه الله عز وَجل إِلَى مقرّ رَحمته وَمحل رضوانه(4/404)
قلت ولجعفر ابْن شمس الْخلَافَة من قصيدة رثاء بهَا
(أَلَسْت ترى كَيفَ انبرى الْخطب ثائرا ... وَمد يدا مِنْهُ إِلَى دَافع الْخطب)
(إِلَى النَّاصِر الْملك الَّذِي ملئت بِهِ ... قُلُوب البرايا من رَجَاء وَمن رعب)
(كريم أَتَاهُ الْمَوْت ضيفا فَلم يكن ... لينزله إِلَّا على السهل والرحب)
(وَلَو خَابَ مِنْهُ قبل ذَلِك سَائل ... لخاب وَلَيْسَ الْبُخْل من شيم السحب)
(قضى فَقضى الْمَعْرُوف وانقرض الندى ... وحطت رحال الْوَفْد فِي الشرق والغرب)
(أَفَاضَ على الدُّنْيَا سِجَال نواله ... فَفَاضَتْ عَلَيْهِ أعين الْعَجم وَالْعرب)
(وَلَو أَنه يبكى على قدر حَقه ... أسَال دموع المزن من أعين الشهب)
(جزاه عَن الْإِسْلَام خيرا إلهه ... فَمَا كل عَنهُ من دفاع وَمن ذب)
(تَدَارُكه بعد ابتذال فقد غَدا ... وَكَانَ شَدِيد الْخَوْف فِي أمنع الْحجب)
(وَأصْبح للبيت الْمُقَدّس منقذا ... بأصلب عزم من مُقَارنَة الصلب)
(أذلّ لَهُ الله العدى مذ أطاعه ... وَسَهل مِنْهُم كل مُمْتَنع صَعب)
(فَفِي الْخلد عِنْد الله دَار مقره ... يمتع مِنْهُ بالجوار وبالقرب)
فصل فِي انقسام ممالكه بَين أَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَعض مَا جرى بعد وَفَاته
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق خلف السُّلْطَان سَبْعَة عشر ولدا(4/405)
أكبرهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين أَبُو الْحسن عليّ ومولده بِمصْر يَوْم عيد الْفطر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَتَوَلَّى بعده دمشق إِلَى أَن خرج مِنْهَا إِلَى صرخد وتولاها عَمه الْعَادِل فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين مُضَافَة إِلَى ممالكه بالبلاد الشرقية والجزيرة وديار بكر
ثمَّ الْملك الْعَزِيز عماد الدّين أَبُو الْفَتْح عُثْمَان ومولده بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتُوفِّي بهَا فِي ملكه لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من محرم سنة خمس وَتِسْعين وَتَوَلَّى بعده أحد أَوْلَاده الصغار
ثمَّ الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي ومولده بِمصْر منتصف شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها
قَالَ وَلَقَد أنشأت الرسَالَة الموسومة بالعتبى والعقبى فِيمَا طَرَأَ بعد السُّلْطَان إِلَى آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين
وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح تولى الْملك الْأَفْضَل دمشق والساحل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك من الْبِلَاد وَهُوَ الَّذِي حضر وَفَاة وَالِده وَقَامَ بِسنة العزاء وَفرض الِاقْتِدَاء بِأَبِيهِ فِي إِيلَاء الآلاء وإدناء الْأَوْلِيَاء وخلع على الأماثل والأمراء والأفاضل وَالْعُلَمَاء وآوى إِلَيْهِ إخْوَته وَضم جماعته وجهز أَخَاهُ الظافر خضرًا مظفر الدّين وأنهضه لإنجاد عَمه الْعَادِل كَمَا سَنذكرُهُ وَكَانَت(4/406)
حمص والمناظر والرحبة وبعلبك وَمَا يجْرِي مَعهَا فِي المملكة الْأَفْضَلِيَّة دَاخِلَة وَقدم عَلَيْهِ سلطاناهما الْملك الْمُجَاهِد والأمجد إِلَى دمشق فتأكدت بَينهم الْقَرَابَة والألفة
وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق فِي مقَام وَالِده قدم إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز نجابين بإنهاء الْحَال ثمَّ ندب ضِيَاء الدّين ابْن الشهرزوري فِي الرسَالَة وأصحبه عدَّة وَالِده فِي الْغُزَاة وسيفه وَدِرْعه وحصانه وأضاف إِلَى ذَلِك من الْهَدَايَا والتحف وَالْخَيْل العراب مَا استنفد وَسعه وإمكانه فَمَا تهَيَّأ مسير الرَّسُول إِلَّا فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة حَتَّى حصل كل مَا أَرَادَ من الْهَدَايَا الفاخرة وَحَتَّى كَاتب مصر وحلب وَأعلم بمسير رَسُوله حَتَّى لَا يظنّ أَنه انْفَرد بسوله وَقصد مداراة إخْوَته وَفضل بِفضل نخوته وَذَلِكَ بعد أَن جدد نقش الدِّينَار وَالدِّرْهَم بسمتي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَولي الْعَهْد عدَّة الدّين
وَقَالَ ابْن القادسي وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء مستهل رَمَضَان حمل ابْن الشهرزوري مَا كَانَ أَصْحَبهُ الْأَفْضَل من حمل الشَّام إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَهُوَ صَلِيب الصلبوت الَّذِي كَانَ قد أَخذه وَالِده وَذكر أَنه ذهب يزِيد على الْعشْرين رطلا مرصعا بالجواهر(4/407)
وَمَعَهُ خَادِم مُخْتَصّ بخدمته وَحمل فرس أَبِيه وزرديته وخوذته وَكَانَت صفراء مذهبَة ودبوس حَدِيد وَسيف وَأَرْبع زرديات وَقَالُوا هَذِه تركته وَبهَا كَانَ يُقَاتل وتحفا جمة من الثِّيَاب وَحمل فِي جملَة التحف أَربع جوَار من بَنَات مُلُوك الرّوم فِيهِنَّ ابْنة بيرزان وَبنت صَاحب جبلة
قَالَ الْعِمَاد وَأَمرَنِي بإنشاء الْكتب وتحريرها وتقريب الْمَقَاصِد وتقريرها مِنْهَا أصدر العَبْد هَذِه الْخدمَة وصدره منشرح بِالْوَلَاءِ وَقَلبه معمور بالصفاء وَيَده مَرْفُوعَة إِلَى السَّمَاء للابتهال بِالدُّعَاءِ وَلسَانه نَاطِق بشكر النعماء وجنانه ثَابت من المهابة والمحبة على الْخَوْف والرجاء وطرفه مغض من الْحيَاء وَهُوَ للْأَرْض مقبل وللفرض متقبل وَهُوَ يمت بِمَا قدمه وأسلفه من الخدمات وذخره ذخر الأقوات لهَذِهِ الْأَوْقَات
وَقد أحاطت الْعُلُوم الشَّرِيفَة بِأَن الْوَالِد السعيد الشَّهِيد الشَّديد السديد المبير للشرك المبيد لم يزل أَيَّام حَيَاته وَإِلَى سَاعَة وَفَاته مُسْتَقِيمًا على جدد الْجد مستنيما فِي صون فَرِيضَة الْجِهَاد إِلَى بذل الْجهد ومصر بل الْأَمْصَار بِاجْتِهَادِهِ فِي الْجِهَاد شاهدة والأنجاد والأغوار فِي نظر عزمه وَاحِدَة وَالْبَيْت الْمُقَدّس من فتوحاته وَالْملك الْعَقِيم من نتائج عزماته(4/408)
وَهُوَ الَّذِي ملك مُلُوك الشّرك وغل أعناقها وَأسر طواغيت الْكفْر وَشد خناقها وقمع عَبدة الصلبان وقصم أصلابها وَجمع كلمة الايمان وعصم جنابها ونظم أَسبَابهَا وسد الثغور وسدد الْأُمُور وَقبض وعدله مَبْسُوط وَأمره محوط ووزره محطوط وَعَمله بالصلاح مَنُوط
وَمَا خرج من الدُّنْيَا إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الطَّاعَة الامامية دَاخل وبمتجرها الرابح إِلَى دَار المقامة راحل وَلم تكن لَهُ وَصِيَّة إِلَّا بالاستمرار على جادتها والاستكثار من مادتها وَإِن مضى الْوَالِد على طَاعَة إِمَامه فالمماليك أَوْلَاده وأخواه فِي مقَامه
قَالَ وَتَوَلَّى وَلَده الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان مصر وَجَمِيع أَعمالهَا وأبقاها على اعتدالها ونفاها من شوائب اختلالها واعتلالها وَأَحْيَا سنتي الْجُود والباس وَثَبت الْقَوَاعِد من حسن السياسة على الأساس وَأطلق كل مَا كَانَ يُؤْخَذ من التُّجَّار وَغَيرهم باسم الزَّكَاة وضاعف مَا كَانَ يُطلق برسم العفاة
وَقدم أَمر بَيت الله الْمُقَدّس وَعجل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار مصرية لتصرف فِي وُجُوه ضَرُورِيَّة ثمَّ أمده بِالْحملِ وأفاض عَلَيْهِ(4/409)
من الْفضل وَقرر واليه عز الدّين جرديك على ولَايَته وقوى يَده برعايته ووالى حمل الغلات من مصر إِلَى الْقُدس وأبدل وحشته بوفاة وَالِده من وَفَاته بالأنس
ثمَّ أشْفق من غدر الفرنج فِي فسخ الْهُدْنَة فَأتى من تجهيز العساكر إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس بِكُل مَا فِي المكنة ثمَّ سمع بحركة المواصلة وَمن تَابعهمْ وبايعهم وشايعهم وَقد خَرجُوا فِي إِيمَانهم حانثين ولعقد أَيْمَانهم ناكثين فخيم ببركة الْجب وَاسْتَشَارَ أمراءه أهل الرَّأْي واللب وجهز جَيْشًا فوصلوا إِلَى دمشق وَقد فرغ الْعَادِل من حَرْب الْقَوْم وسلمهم وهز مِنْهُم أعطاف الاستكانة لَهُ بعد هَزَمَهُمْ فَرَأى أَن الْحَمد أَعُود وَالْعود أَحْمد
قَالَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها وحصونها ومعاقلها وكرائم الْبِلَاد وعقائلها الْملك الظَّاهِر غَازِي وَهُوَ برجاحته وسماحته الطود والجود الموازن الموازي وَملك مملكة أقطارها وَاسِعَة وأمصارها شاسعة فحماها وحواها وبماء الْعدْل رَوَاهَا وقواها وَأقر البيرة وأعمالها وَمَا يجْرِي مَعهَا على أَخِيه الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد وَدخل فِي أمره صَاحب حماه ابْن تَقِيّ الدّين فأعزه وحماه(4/410)
قلت وَهُوَ مأوى ذُرِّيَّة وَالِده وَبَقِي الْملك مِنْهُم فِي عقبه وأنحاز كل من إخْوَته وَأَوْلَادهمْ إِلَيْهِ وعولوا فِي تمشية أُمُورهم عَلَيْهِ وَالْأَمر مُسْتَمر على ذَلِك فِي عقبه إِلَى الْآن وَالله تَعَالَى ولي الْإِحْسَان
ثمَّ زَالَ ملك هَذَا الْبَيْت فِي صفر سنة ثَمَان وَخمسين وست مئة بِسَبَب غَلَبَة التتار الْكَفَرَة على الْبِلَاد {وَالله بَصِير بالعباد}
وَمن كَلَام القَاضِي الْفَاضِل فِي جَوَاب كتاب ورد عَلَيْهِ مِنْهُ بعد موت السُّلْطَان مَتى رأى الْمَمْلُوك خطّ مَوْلَانَا طالعا فِي كتاب وطليعة على خطاب تمثل ذَلِك الشَّخْص الْكَرِيم وَذَلِكَ السُّلْطَان الْعَظِيم وَذَلِكَ الْخلق الْكَرِيم وَذَلِكَ الْعَهْد الْقَدِيم فحيي بعد مَوته وَسبح من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم وَرفع يَده بِمَا الله رافعه ودعا بِصَالح الله سامعه
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الْملك الْعَادِل مَعَ السُّلْطَان فِي الصَّيْد قبل وَفَاته وَكَانَ موافقه ومرافقه فِي مقتضياته فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق ودعه وَمضى إِلَى حصنه بالكرك فنابه النَّائِب وَلم يحضر وَقت احتضاره الْأَخ الْغَائِب فَلَمَّا عرف وصل إِلَى دمشق بعد أَيَّام وَلم يطلّ الْمقَام ورحل طَالبا لبلاده بالجزيرة حذرا عَلَيْهَا من أهل الجريرة(4/411)
وَكَانَ السُّلْطَان جعل لَهُ كل مَا هُوَ شَرْقي الْفُرَات من الْبِلَاد والولايات فَلَمَّا وصل إِلَى الْفُرَات وجد مِمَّا خافه دَلَائِل الفترات فَأَقَامَ بقلعة جعبر وسير إِلَى الولايات الْوُلَاة ووصى برعاياه الرُّعَاة واستناب فِي ميافارقين وحاني وسميساط وحران والرها وشحنها بالشحن وَعلم العدى أَنه فِي خف فخفوا وعرضوا وصفوا وَكَانَ سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط قد استبشر بِمَوْت السُّلْطَان وتلقب بِالْملكِ النَّاصِر وَحدث أمله بجر العساكر وراسل صَاحِبي الْموصل وسنجار وطير إِلَيْهِم كتب الاستنفار وَضم إِلَيْهِ من ماردين ماردين وطار وطاش وارتاش وانتاش فَبينا هُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك قتلته الاسماعيلية بخلاط رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَأول من بَدَأَ أمره بِالْخرُوجِ على بِلَاد السُّلْطَان مُتَوَلِّي ماردين وَنزل على حصن الموزر وَهَذَا الْحصن كَانَ السُّلْطَان اقتطعه عَن أَعمال ماردين حِين صَالح أَهلهَا وأضافه إِلَى نَائِبه بالرها ثمَّ تحرّك عز الدّين أتابك صَاحب الْموصل وَأَخُوهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار بنصيبين وَأَرْسلُوا إِلَى الْعَادِل تخرج من بِلَادنَا وَتدْخل فِي مرادنا(4/412)
فَكتب إِلَى بني أَخِيه يستنجدهم ويستنفرهم فأنجدوه وَكَانَ إنجاد حلب أقرب وَتقدم ذكر نجدة الْأَفْضَل مَعَ أَخِيه الظافر ونجدة الْعَزِيز الْوَاصِلَة إِلَى دمشق بعد نجاز الْأَمر
ووصلت المواصلة إِلَى رَأس عين والعادل بحران وتقارب العسكران حَتَّى إِن الطَّلَائِع تتواجه وتتجابه فَمَرض صَاحب الْموصل وَلم يطق الاقامة فَعَاد وَرجع عماد الدّين أَخُوهُ وتضرع صَاحب ماردين وَتشفع بالأمراء الأكابر فَرضِي الْعَادِل عَنهُ
وبلغه قدوم ابْن أَخِيه الظافر إِلَى الْفُرَات فَكتب إِلَيْهِ بمنازلة سروج وَهِي من أَعمال ماردين وأمده بِابْن تَقِيّ الدّين وَابْن الْمُقدم فنزلوا عَلَيْهَا ثامن رَجَب وفتحوها تاسعه
ورحل الْعَادِل منتصف رَجَب إِلَى الرقة وتسلمها ثمَّ تملك بلد الخابور جَمِيعه وَجَاء إِلَى نَصِيبين فَنزل بظاهرها وَشرع فِي ضم ذخائرها فَجَاءَت الرُّسُل الْعمادِيَّة فِي طلب الصُّلْح فَرَحل وَنزل دَارا وَأَتَاهُ وَفَاة صَاحب الْموصل وَتَسْلِيم بَلَده إِلَى وَلَده نور الدّين أرسلان شاه وَجرى بَينهم وَبَينه صلح
ثمَّ كَاتبه أهل خلاط فَرَحل إِلَيْهَا فَرَأى أَن الْبرد يشْتَد وأمد الْحصار يَمْتَد فَعَاد إِلَى حران والرها وَأعْرض عَن مُخَالطَة خلاط وَتَأَخر إِلَى الرّبيع أمرهَا(4/413)
قَالَ وإقليم الْيمن مُسْتَقر للْملك ظهير الدّين سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان وَهُوَ هُنَاكَ سُلْطَان عَظِيم الشان مستول على جَمِيع الْبلدَانِ وَكَانَ قد وصل وَلَده مَعَ الْحَاج قبل وَفَاة السُّلْطَان بأيام فَلَمَّا اسْتَقر الْملك الْأَفْضَل على سَرِير أَبِيه كَاتب عَمه سيف الْإِسْلَام
فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل وتتمة أَخْبَار هَذِه الْفِتْنَة بِبِلَاد الشرق
قَالَ عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الْأَثِير لما وصل خبر وَفَاة صَلَاح الدّين إِلَى صَاحب الْموصل عز الدّين اسْتَشَارَ فِي الَّذِي يَفْعَله فَأَشَارَ عَلَيْهِ أخي مجد الدّين أَبُو السعادات بالاسراع فِي الْحَرَكَة وَقصد الْبِلَاد الجزرية فَإِنَّهَا لَا مَانع لَهَا مِنْهُ
وَقَالَ مُجَاهِد الدّين قايماز لَيْسَ هَذَا بِرَأْي فَإنَّا نَتْرُك وَرَاءَنَا مثل الْمولى عماد الدّين صَاحب سنجار ومعز الدّين صَاحب الجزيرة ومظفر الدّين صَاحب إربل ونسير إِنَّمَا الرَّأْي أَنا نراسلهم ونستميلهم ونأخذ رَأْيهمْ وَنَنْظُر مَا يَقُولُونَ
فَقَالَ أخي إِن كُنْتُم تَفْعَلُونَ مَا يشيرون بِهِ ويرونه فَاقْعُدْ فَإِنَّهُم لَا يرَوْنَ إِلَّا هَذَا لأَنهم لَا يؤثرون حركتكم وَلَا قوتكم إِنَّمَا الرَّأْي أَن يبرز هَذَا السُّلْطَان ويكاتبهم ويراسلهم ويستميلهم ويبذل(4/414)
لَهُم الْيَمين على مَا بِأَيْدِيهِم وَيُعلمهُم أَنه على الْحَرَكَة فَلَيْسَ فيهم من يُمكنهُ يُخَالف خوفًا من قصد ولَايَته لَا سِيمَا إِذا رَأَوْا جدة وخلو الْبِلَاد الجزرية من مَانع وَحَام فهم لَا يَشكونَ أَنه يملكهَا سَرِيعا فيحملهم ذَلِك على مُوَافَقَته وَمَتى أَرَادَ الْإِنْسَان أَن يفعل فعلا لَا تتطرق إِلَيْهِ الِاحْتِمَالَات بطلت أَفعاله إِنَّمَا إِذا كَانَت الْمصلحَة أَكثر من الْمضرَّة أقدم وَإِن كَانَ الْعَكْس أحجم فظهرت أَمَارَات الغيظ على مُجَاهِد الدّين فَسكت أخي لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ مخدوم الْجَمِيع على الْحَقِيقَة وَالْحَاكِم فيهم وَاتبع المرحوم يَعْنِي صَاحب الْموصل قَول مُجَاهِد الدّين وَأقَام بالموصل عدَّة شهور يراسل الْمَذْكُورين فَلم يَنْتَظِم بَينه وَبَين أحد مِنْهُم حَال غير أَخِيه عماد الدّين فَإِنَّهُمَا اتفقَا على قَوَاعِد اسْتَقَرَّتْ بَينهمَا فَإلَى أَن انْفَصل الْحَال وصل الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى حران وَأقَام هُنَاكَ وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة وحلب وامتنعت الْبِلَاد بِهِ
وَسَار عز الدّين عَن الْموصل إِلَى نَصِيبين وَقد ابْتَدَأَ بِهِ إسهال قريب وَاجْتمعَ بهَا بأَخيه عماد الدّين وسارا فِي عساكرهما إِلَى تل موزن من شبختان لقصد الرها فَأرْسل الْعَادِل حِينَئِذٍ يطْلب الصُّلْح وَأَن تكون الْبِلَاد الجزرية الرها وحران والرقة وَمَا مَعهَا بِيَدِهِ على سَبِيل الاقطاع من عز الدّين فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك(4/415)
وَقَوي الْمَرَض بِهِ وَاشْتَدَّ إِلَى أَن عجز عَن الْحَرَكَة فَعَاد إِلَى الْموصل فِي طَائِفَة يسيرَة من الْعَسْكَر فَلَمَّا وصل دنيسررأى ضعفا شَدِيدا فأحضر أخي وَكتب وَصِيَّة ثمَّ سَار إِلَى الْموصل فوصلها مَرِيضا بالاسهال وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ وَلم أسمع عَن أحد من النَّاس بِمثل حَاله فِي مَرضه فَإِنَّهُ كَانَ لَا يزَال ذَاكِرًا لله تَعَالَى حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا تحدث مَعَ إِنْسَان يقطع حَدِيثه مرَارًا وَيَقُول أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله وَأشْهد أَن الْمَوْت حق وَعَذَاب الْقَبْر حق وسؤال مُنكر وَنَكِير حق والصراط حق وَالْمِيزَان حق {وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَيَقُول لمن عِنْده يخاطبه أشهد لي بِهَذَا عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ يعود إِلَى حَدِيثه وأحضر عِنْده من يقْرَأ الْقُرْآن فَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل مُقَابل دَار المملكة وَهِي لِلْفَرِيقَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة
وَكَانَت مَمْلَكَته نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ أسمر مليح الْوَجْه حسن اللِّحْيَة خَفِيف العارضين وَحكى لي(4/416)
وَالِدي قَالَ هُوَ أشبه النَّاس بجده الشَّهِيد قدس الله روحه
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله دينا خيرا قد ابتنى فِي دَاره مَسْجِدا يخرج إِلَيْهِ فِي اللَّيْل وَيُصلي أورادا كَانَت لَهُ ويلبس فرجية كَانَ قد أَخذهَا من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الصُّوفِي وَيُصلي فِيهَا وَكَانَ قد حج وَلبس بِمَكَّة حرسها الله خرقَة التصوف من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ من الصَّالِحين
وَأوصى بِالْملكِ لِابْنِهِ نور الدّين أرسلان شاه وَأَرَادَ أَخُوهُ شرف الدّين بن مودود بن زنكي أَن يوليه فَلم يفعل وَبَقِي نور الدّين إِلَى سنة سبع وست مئة فَتوفي فِي شهر رَجَب مِنْهَا وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل حذاء دَار السلطنة وَكَانَ عهد بِالْملكِ لِابْنِهِ القاهر عز الدّين مَسْعُود وَجعل الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ الْقَائِم بِأَمْر دولته وولاه إِمَارَة الجيوش والعساكر وسياسة الْقَبَائِل والعشائر ثمَّ توفّي الْملك القاهر فِي ربيع الأول من سنة خمس عشرَة وست مئة فَجْأَة وَخلف ثَلَاثَة بَنِينَ صغَارًا
قَالَ وَأما عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صهر نور الدّين رَحمَه الله وَهُوَ صَاحب سنجار فَإِنَّهُ توفّي فِي الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ عدله قد عَم الْبِلَاد وغمر(4/417)
الْعباد وأريقت الْخُمُور وحد شاربها وَكَانَت صدقاته تصل إِلَى أقاصي الْبِلَاد وَتَوَلَّى بعده وَلَده الْأَكْبَر قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي وَكَانَ مُتَوَلِّي أمره مُجَاهِد الدّين يرنقش الْعِمَادِيّ
قَالَ وحاضر الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب ماردين فِي سنة خمس وَتِسْعين فَبَقيَ محاصرا لَهَا أحد عشر شهرا وَلم يبْق إِلَّا الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فَبَيْنَمَا الْعَادِل يحاصرها إِذْ توفّي ابْن أَخِيه الْملك الْعَزِيز صَاحب مصر وَكَانَ عسكره مَعَ عَمه الْعَادِل على ماردين فَلَمَّا توفّي ملك أَخُوهُ الْأَفْضَل مصر وَكَانَ بَينه وَبَين عَمه الْعَادِل نفرة فَلَمَّا ملك مصر أرسل إِلَى الْعَسْكَر الْمصْرِيّ الَّذِي مَعَ عَمه يَأْمُرهُم بمفارقته ففارقوه وعادوا إِلَى مصر فَقل جمعه وَعَسْكَره
ثمَّ خرج الْأَفْضَل من مصر عَازِمًا على حصر دمشق واستعادتها من عَمه فَسَار الْعَادِل عَن ماردين جَرِيدَة إِلَى دمشق ليحفظها بَعْدَمَا كَانَ قد طلع سنجقه إِلَى قلعة ماردين وَترك وَلَده الْملك الْكَامِل مُحَمَّدًا محاصرا لَهَا إِلَى أَن اجْتمع صَاحب سنجار وَصَاحب الْموصل على ترحيله عَنْهَا فَرَحل
قَالَ وَفِي سنة سِتّ وست مئة سَار الْملك الْعَادِل بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى سنجار فِي العساكر الشامية والمصرية والجزرية والديار بكرية فحصرها وَنزل عَلَيْهَا من كل جَانب وَنصب أحد عشر منجنيقا ثَلَاثَة أشهر وانتخى صَاحب الْموصل وَصَاحب إربل(4/418)
لصَاحب سنجار وأنفذ الْخَلِيفَة رسله فَأصْلح الْأَمر وانتظم الصُّلْح وَللَّه الْحَمد
فصل
وَأما رِسَالَة الْعِمَاد الْكَاتِب الْمَعْرُوفَة بالعتبى والعقبى الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي آخر كتاب الْبَرْق فِيمَا جرى بعد وَفَاة السُّلْطَان إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين فقد وقفت عَلَيْهَا وَحَاصِل مَا فِيهَا أَن قَالَ
لما توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله وملكت أَوْلَاده كَانَ الْعَزِيز بِمصْر يقرب أَصْحَاب أَبِيه ويكرمهم وَالْأَفْضَل بِدِمَشْق يفعل ضد ذَلِك يقرب الْأَجَانِب وَيبعد الْأَقَارِب وَأَشَارَ عَلَيْهِ بذلك جمَاعَة داروا حوله كالوزير الْجَزرِي الَّذِي استوزه
قلت هُوَ الضياء ابْن الْأَثِير أَخُو عز الدّين المؤرخ ومجد الدّين أبي السعادات وَفِيه يَقُول الشهَاب فتيَان الشاغوري
(مَتى أرى وزيركم ... وَمَا لَهُ من وزر)
(يقلعه الله فَذا ... أَوَان قلع الجزر)(4/419)
قَالَ الْعِمَاد فَلَمَّا طلب من الْأُمَرَاء أَن يحلفوا لَهُ أظهرُوا لَهُ أيمانا وهم قد أضمروا الْحِنْث فِيهَا وَلم يخف ذَلِك عَلَيْهِ وَلما رأى الْفَاضِل أُمُور الْأَفْضَل مختلة تَركه وَسَار إِلَى مصر وَشرع الْوَزير الْجَزرِي فِي تَفْرِيق الْعصبَة الناصرية وَمَا مِنْهُم إِلَّا من فَارق إِلَى الديار المصرية
وَكَانَ قد أُشير على الْأَفْضَل باخلاء الْبَيْت الْمُقَدّس لنواب الْعَزِيز بِأَعْمَالِهِ حذرا عَلَيْهِ من تكاليفه وأثقاله فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَقد كَانَت نابلس وأعمالها قد وقف السُّلْطَان ثلثهَا على مصَالح الْقُدس وباقيها على ابْن الْأَمِير عَليّ بن أَحْمد المشطوب فشاركه أحد الْأُمَرَاء الأكراد فِيهِ فمدوا أَيْديهم إِلَى الْوَقْف وَسَاءَتْ سيرتهم وتخوفوا من إِنْكَار الْملك الْعَزِيز عَلَيْهِم فلجؤوا إِلَى الْأَفْضَل فأفضل عَلَيْهِم وَسكن إِلَيْهِم فتأثر الْملك الْعَزِيز لذَلِك
وَأقوى الْأَسْبَاب فِيمَا حدث من النفار نفار الْأُمَرَاء الناصرية الْكِبَار ومفارقتهم دمشق إِلَى مصر على سَبِيل الِاضْطِرَاب والاضطرار فأعزهم الْعَزِيز ورفعهم فاتفقوا على أَن تكون كلمة الْإِسْلَام مجتمعة على الْملك الْعَزِيز لاحياء سنة وَالِده فِي الْجُود والبأس وَالْكَرم
وَمن جملَة الْأَسْبَاب الباعثة تسلم الفرنج ثغر جبيل من بعض مستحفظيه وَضعف الْأَفْضَل عَن استخلاصه فَقيل للعزيز إِن توانيت استولت الفرنج على الْبِلَاد(4/420)
فَخرج الْعَزِيز بعساكره وَبلغ الْأَفْضَل فَضَاقَ صَدره وَاجْتمعَ بِمن فِي خدمته من الْأُمَرَاء بِرَأْس المَاء وَأَرَادَ أَن يستعطف قايماز النجمي وَكَانَ فِي إقطاعه بِالسَّوَادِ وَكَانَ بَينه وَبَين الْأَفْضَل شقَاق وعناد فَأرْسل إِلَيْهِ فَلم يقبل ورحل إِلَى عَسْكَر الْعَزِيز وَرَأى الْأَفْضَل أَن يكْتب إِلَى أَخِيه بِكُل مَا يحب من إعلاء كَلمته والاجتماع عَلَيْهِ وَيكون الْأَفْضَل من بعض القائمين بَين يَدَيْهِ طلبا لتسكين الْفِتَن ورغبة فِي ذهَاب الاحن فأشير عَلَيْهِ بِغَيْر الصَّوَاب وَقيل أَنْت الْكَبِير وَإِلَيْك التَّدْبِير فجد واجتهد وَلَا تعلم أَصْحَابك بِهَذَا الخور الَّذِي داخلك والجبن الَّذِي نازلك وَنحن بَين يَديك وكلنَا عاقدون بالخناصر عَلَيْك
وَوصل رَسُول الْملك الظَّاهِر والكتب من الْمُلُوك الأكابر بالانجاد المتظاهر للأفضل وسير الْأَفْضَل إِلَى عَمه الْعَادِل وَهُوَ بحران والرها كتبا ورسلا فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ سير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجيلي على نجيب ليسرع وَيَأْتِي بِهِ عَن قريب وَكتبه واصلة بعزمه على نَصره ونجدته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل جُمَادَى الْآخِرَة من شهور سنة تسعين وَلم يشْعر الْأَفْضَل إِلَّا والعزيز بعساكره قد وصل إِلَى الفوار فَعجل الرحيل وَقد خالطت عَسَاكِر الْعَزِيز ساقة جَيش الْأَفْضَل فأسرع وَدخل دمشق يَوْم الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى وَنزل الْعَزِيز يَوْم(4/421)
السبت بالكسوة وَنزل على دمشق يَوْم الْأَحَد فَلم يزل الْأَفْضَل يمانع ويدافع حَتَّى وصل عَمه الْعَادِل فَكتب إِلَى الْعَزِيز يسْأَله الِاجْتِمَاع فتواعدا واجتمعا راكبين بصحراء المزة فعذله فِي أَخِيه واستنزله عَمَّا كَانَ فِيهِ فَقَالَ عَليّ رضاك وَاتِّبَاع هَوَاك فَقَالَ نفس عَن الْبَلَد الخناق وَكَانَ قد بلي الْبَلَد مِنْهُم بِمَا لَا يُطَاق من قطع الْأَنْهَار وقطف الثِّمَار فَتَأَخر الْعَزِيز إِلَى صوب داريا والأعوج
وَكَانَ قد اجْتمع عِنْد الْأَفْضَل من الْمُلُوك عَمه الْعَادِل والمجاهد أَسد الدّين شيركوه بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بن شاذي صَاحب حمص والأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاذي صَاحب بعلبك والمنصور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب حماة ثمَّ وصل الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي بن السُّلْطَان فاتفقوا على عقد يُؤَكد وعهد يمهد
ورحل الْعَزِيز إِلَى مرج الصفر لكَون الْمقَام بِهِ أرْفق فَمَرض حَتَّى أيس مِنْهُ ثمَّ أَفَاق وَأرْسل من جَانِبه الْأَمِير فَخر الدّين أياز جركس وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي هَذِه النّوبَة فوصل إِلَى الْعَادِل فِي تَعْدِيل الْأُمُور فتقرر بَينهم الصُّلْح وَتزَوج الْعَزِيز ابْنة عَمه الْعَادِل
وَخرج الْمُلُوك لتوديع الْملك الْعَزِيز فِي أول شعْبَان وَاحِدًا بعد(4/422)
وَاحِد فَخرج الظَّاهِر أَولا والتقيا وَنزلا بمرج الصفر وَبَات عِنْده لَيْلَة ثمَّ رَجَعَ وَخرج الْعَادِل ثمَّ الْأَفْضَل فَلَمَّا اجْتمع بأَخيه فَارقه وَمَا ثوى وَرجع كل إِلَى بَلَده
وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق قضى حُقُوق الْجَمَاعَة وشكرهم ورحل الظَّاهِر صوب حلب رَابِع عشر شعْبَان وَأقَام الْعَادِل إِلَى تَاسِع شهر رَمَضَان ورحل إِلَى بَلَده الرها وحران
ثمَّ إِن الْأَفْضَل نظم أبياتا يَكْتُبهَا إِلَى أَخِيه الْعَزِيز فِي استعطافه واستمالته وَقَالَ كنت فَارَقت أخي مذ تسع سِنِين وَمَا الْتَقَيْنَا إِلَّا فِي هَذِه السّنة
(نظرتك نظرة من بعد تسع ... تقضت بالتفرق من سِنِين)
(وغض الدَّهْر عَنْهَا طرف غدر ... مَسَافَة قرب طرف من جبين)
(وَعَاد إِلَى سجيته فَأجرى ... بفرقتنا الْعُيُون من الْعُيُون)
(فويح الدَّهْر لم يسمح بوصل ... يعود بِهِ الهجوع إِلَى الجفون)
(فراقا ثمَّ يعقبه ببين ... يُعِيد إِلَى الحشا عدم السّكُون)
(وَلَا يُبْدِي جيوش الْقرب حَتَّى ... يرتب جَيش بعد فِي كمين)
(وَلَا يدني محلي مِنْك إِلَّا ... إِذا دارت رحى الْحَرْب الزبون)
(فليت الدَّهْر يسمح لي بِأُخْرَى ... وَلَو أمضى بهَا حكم الْمنون)
قَالَ ثمَّ كثر الشَّرّ مِمَّن حول الْأَفْضَل فِي حق الْأُمَرَاء الْكِبَار ذَوي الأقدار فأنفوا من ذَلِك وأزمعوا على الِانْفِصَال لسوء تِلْكَ(4/423)
الْحَال فَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر عز الدّين سامة وحرض الْعَزِيز على الْقيام لنصرة الدولة الناصرية وعرفه أَن أَخَاهُ الْأَفْضَل مسلوب الِاخْتِيَار مَعَ من حوله من الأشرار
وَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن أبي عصرون وَتَوَلَّى بعد أشهر قَضَاء الْقُضَاة بِمصْر وأعمالها وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين فاستمرت ولَايَته إِلَى أَن عَاد الْعَزِيز من الشَّام وَتَبعهُ الْعَادِل فَصَرفهُ وَأعَاد الْقَضَاء إِلَى زين الدّين عَليّ بن شرف الدّين يُوسُف الدِّمَشْقِي وَكَانَ نَائِبا لصدر الدّين عبد الْملك بن عِيسَى بن درباس ثمَّ اسْتَقل ثمَّ عزل بِابْن أبي عصرون ثمَّ أُعِيد إِلَيْهِ
وَكَانَ الْأَفْضَل قد اشْتغل بعد انصراف أَخِيه باللذات وتشاغل عَن أُمُور النَّاس بادمان الشَّرَاب مَعَ من حوله من الْأَصْحَاب ثمَّ أقلع عَن ذَلِك وَتَابَ وجد فِي الذّكر والزهد وأناب وَشرع فِي كتب مصحف بِخَطِّهِ وَحسنت طَرِيقَته وَظَهَرت حَقِيقَته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وَفِي هَذِه السّنة فِي ربيع الآخر وصل الْخَبَر بِأَن الْعَزِيز قادم(4/424)
لحصر دمشق ثَانِيَة فَاشْتَدَّ غم الْأَفْضَل فأشير عَلَيْهِ بِأَن يرحل إِلَى عَمه الْعَادِل وَيَأْتِي بِهِ لدفع هَذَا الْقَضَاء النَّازِل فَرَحل رَابِع عشر جُمَادَى الأولى والتقى بِعَمِّهِ بصفين وَطلب مِنْهُ الرُّجُوع مَعَه إِلَى دمشق فَفعل وَوصل الْعَادِل إِلَيْهَا تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وتخلف عَنهُ الْأَفْضَل وَقد قصد حلب للاستظهار بأَخيه الظَّاهِر فوثق مَعَه الْأَيْمَان على مَا كَانَا عَلَيْهِ من الصفاء وَكَذَلِكَ فعل بِابْن تَقِيّ الدّين بحماة وَوصل إِلَى دمشق وَاجْتمعَ مَعَ عَمه الْعَادِل
وَكَانَ الْعَادِل أبدا يُشِير بِصَرْف الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قد استولى على الْأَفْضَل فَلم يقبل فَكَانَ الْعَادِل أبدا مغتما لذَلِك فَبَالغ الْأَفْضَل فِي إكرام عَمه وَإِزَالَة غمه حَتَّى ترك لَهُ سنجقه وَصَارَ يركب فِي خدمَة عَمه وضاق أَخُوهُ الظافر من هَذِه الْحَال
وَكَانَ الظَّاهِر قد نفر عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمُلُوك والأمراء مِمَّن هم فِي طَاعَته من جُمْلَتهمْ صَاحب حماة وَعز الدّين بن الْمُقدم صَاحب بارين فراسلا الْعَادِل فِي الِاعْتِصَام بِهِ وَكَانَ من جَمَاعَتهمْ بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق صَاحب تل بَاشر فاعتقله الظَّاهِر وَبني عَمه وَطلب مِنْهُ تَسْلِيم حصنه فشفع الْعَادِل فيهم وكفل أَنه يَكفهمْ ويكفيهم واستصحبهم إِلَى دمشق فَطلب مِنْهُ الظَّاهِر الْوَفَاء بضمانه فَتعذر عَلَيْهِ ردهم وتيسر لَهُ ودهم فَغَضب الظَّاهِر لذَلِك وراسل الْعَزِيز يحثه على الاسراع فِي الْقدوم فَأقبل الْعَزِيز وخيم بالفوار(4/425)
وَشرع الْعَادِل فِي تَدْبِير أُمُور الْأَفْضَل فكاتب الْأُمَرَاء الأَسدِية من أَصْحَاب الْعَزِيز يحثهم على تَركه والانقطاع إِلَى حزب الْأَفْضَل وسلكه وَكَانَت الأَسدِية أبدا فِي عناء من تقدم الناصرية عَلَيْهَا وراسل الْعَادِل أَيْضا الْعَزِيز بخوفه من قبل الأَسدِية ويعرفه مَا انطوت عَلَيْهِ قُلُوبهم من الغل فَكَانُوا إِذا لَقِيَهُمْ عرفُوا فِي وَجهه التَّغَيُّر عَلَيْهِم فرغبوا عَنهُ وحسنوا للأكراد مرافقتهم فِي الِانْصِرَاف عَنهُ فَفَعَلُوا
وَكَانَ أَمِير أُمَرَاء الأكراد أَبُو الهيجاء السمين فدارت الأكراد حوله وَقَالُوا لَا نَأْمَن عَلَيْك من الناصرية فأبرموا أَمرهم وعجلوا رحيلهم فَرَحل أَبُو الهيجاء والمهرانية والأسدية عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ رَابِع شَوَّال وَكَانُوا أَكثر الْعَسْكَر وَعلم الْعَزِيز بهم فَمَا بالى بانصرافهم وَقَالَ صُفُونا من أكدارهم وَلم يَأْمر أَصْحَابه باتبَاعهمْ وردهم وَبَقِي فِي خواصه مُقيما فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ رَحل عَائِدًا إِلَى مصر فجَاء رَسُول أبي الهيجاء السمين إِلَى الْعَادِل يُعلمهُ برحيل الْعَزِيز خَائفًا ويأمره بالقدوم ليلحقوه ويأخذوه ويتسلموا ملك الديار المصرية فتحالف الْعَادِل وَالْأَفْضَل على ملك مصر على أَن يكون للعادل الثُّلُث وللأفضل الثُّلُثَانِ وخرجا يَوْم الْأَرْبَعَاء فِي الجيوش واستناب الْأَفْضَل بِدِمَشْق أَخَاهُ الْأَصْغَر قطب الدّين مُوسَى
وَأما الْعَزِيز فَإِنَّهُ سَار وَأخذ طَرِيق اللجون والرملة وَفرق من(4/426)
الأَسدِية الَّذين بِالْقَاهِرَةِ أَن يَفْعَلُوا فعل إخْوَانهمْ فيمنعوه من دُخُول الْبَلَد وَكَانَ مقدمهم الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ أكبر الْأُمَرَاء الأَسدِية قد استنابه الْعَزِيز بالديار المصرية فَهُوَ مُقيم على الصفاء والمودة وإلاخاء فَلَمَّا وصل الْعَزِيز تلقوهُ وَإِلَى ذرْوَة سلطنته رقوه
وَأما الْعَادِل وَالْأَفْضَل فاجتمعا بالمتخلفين عَن الْعَزِيز وحرصت الأَسدِية أَن يسْبقُوا الْعَزِيز فَلم يقدروا واجتهدوا أَن يدركوه ويتقدموا فتأخروا فَأَمرهمْ الْعَادِل بالثبات وتسلم الْقُدس وأعماله وَمَا يجاوره من أَعمال السَّاحِل أَبُو الهيجاء السمين بِأَمْر الْأَفْضَل والعادل فرتب فِيهَا نوابه وأسكنها أَصْحَابه وصحبهم إِلَى الديار المصرية لمحالفة الأَسدِية وَمُخَالفَة الناصرية فَنزل الْعَادِل بهم على بلبيس وَكَانَ أَوَان أَخذ زِيَادَة النّيل فِي الِانْتِهَاء والسعر غال وَظَهَرت ندامة الأَسدِية وضعفت معونتهم وضوعفت مؤونتهم فخاف من مَكْرهمْ والعدول إِلَى مستقرهم فَأرْسل إِلَى القَاضِي الْفَاضِل يستوفده للاستزارة ويسترشده بالاستشارة
فألزمه الْعَزِيز باجابة سُؤَاله فَخرج إِلَيْهِ واستبشر النَّاس بِخُرُوجِهِ رَجَاء الصُّلْح وَركب الْعَادِل وتلقاه على فراسخ واجتمعا وأصلحا الْأُمُور على مَا يحب الْفَرِيقَانِ وَعَفا الْعَزِيز عَن الأَسدِية وَأقَام الْعَادِل عِنْد الْعَزِيز
وَأما الْأَفْضَل فَإِن الْعَزِيز خرج إِلَيْهِ وودعه فَانْصَرف وَمَعَهُ(4/427)
أَبُو الهيجاء السمين وَتَوَلَّى الْقُدس وَوصل الْأَفْضَل إِلَى دمشق غرَّة الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين
ثمَّ إِن الْأَفْضَل لَازم صِيَامه وقيامه وقلل شرابه وَطَعَامه وَحسن شعاره واستوى ليله ونهاره ووزيره الْجَزرِي قد بلي النَّاس مِنْهُ ببلايا وَهُوَ فِي غَفلَة عَن تِلْكَ القضايا وَكَانَ يدْخل إِلَيْهِ ويوهمه من قبل أَقوام أَنهم عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يميلون إِلَى أَخِيه فيصدقه الْأَفْضَل فِيمَا يَدعِيهِ
فَصَارَ يبلغ الْعَادِل عَنهُ أَحْوَال مَا تعجبه بل تغضبه وَصَارَ يتَّصل بِهِ كل من هَاجر من الشَّام إِلَى مصر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من يشكو من الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قايماز النجمي قد لصق بالعادل وَكَذَلِكَ عز الدّين سامة وصاهر الْعَادِل وَظَاهره وَكَانَ الْعَادِل بِمصْر مستوطنا للقصر فوعد الْجَمَاعَة بازالة يَد الْوَزير الْجَزرِي ورده إِلَى بِلَاده وَقرر مَعَ الْعَزِيز تسيير عسكره مَعَه إِلَى الشَّام ليمهد لَهُ قَاعِدَة الْملك فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام فَأخْرج الْعَادِل العساكر إِلَى بركَة الْجب وَخرج الْعَزِيز لتشييعه وَذَلِكَ مستهل ربيع الأول
وَوصل الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد من حلب إِلَى أَخِيه الْعَزِيز من جَانب الظَّاهِر لتسكين هَذَا الرهج الثائر وَمَعَهُ سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَالْقَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد(4/428)
ثمَّ إِن الْعَادِل أَشَارَ على الْعَزِيز بِأَن يُوَافقهُ على الْمسير ويرافقه فِيهِ فَرَآهُ عين التَّدْبِير فسارا بالعساكر نَحْو الشَّام وَلما انصرفت رسل الظَّاهِر من مصر بِمَا طلبُوا مروا بِدِمَشْق فأعلموا الْملك الْأَفْضَل بِمَا أبرم من الْأَمر فَضَاقَ صَدره وَطَالَ فكره وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه فَأَشَارَ عَلَيْهِ شُيُوخ الدولة بِأَن يسْتَقْبل أَخَاهُ وَعَمه وَيسلم لَهما حكمه
وَأَشَارَ الْجَزرِي وَأَصْحَابه بالتصميم على مُخَالفَة وَترك المجاملة والملاطفة ثمَّ دخل عَلَيْهِ أَخُوهُ الْملك الظافر خضر فشجعه وَصَبره وَتَوَلَّى أَسبَاب التحصين وحلفوا الْأُمَرَاء والمقدمين وَقَطعُوا مَا فَوق الْمصلى عِنْد مَسْجِد فلوس بفصيل ورتبوا رجَالًا حوالي الْبَلَد يتناوبون لحفظه فِي البكرة والأصيل وتفرق الْأُمَرَاء على الأسوار والأبراج وَجَاءَت الرُّسُل الظَّاهِرِيَّة لاظهار المظاهرة وَندب الْأَفْضَل فلك الدّين أَخا الْعَادِل إِلَيْهِ مِنْهُ رَسُولا فوصل إِلَى الْعَسْكَر العزيزي بالداروم وغزة وَلَقي عِنْد الْعَزِيز من قبُوله الْعِزَّة فَبَقيَ فلك الدّين هُنَاكَ أَيَّامًا فِي إصْلَاح ذَات الْبَين وَلَا شكّ أَنهم اشترطوا على الْأَفْضَل شُرُوطًا وردوه بهَا وَأَقَامُوا ينتظرون الْجَواب فنفذ من ذكر أَن الْأَفْضَل أَبى ذَلِك فَلَمَّا رأى الأكابر وشيوخ الدولة أَن الْأَفْضَل لَا يسمع من رَأْيهمْ وَأَنه عازم على الْمُحَاربَة وَلَا يعدل عَن رَأْي وزيره مَعَ مَا قد عرفه من شُؤْم(4/429)
تَدْبيره شرعوا فِي إصْلَاح أُمُورهم فِي الْبَاطِن فراسلوا الْعَزِيز والعادل وَاسْتظْهر كل لنَفسِهِ
وَأقَام الْعَسْكَر مذ عَاشر رَجَب على الْبَلَد مستظهرا بِالْعدَدِ وَالْعدَد لَا يحدث حَدثا وَلَا يعبث بِالْبَلَدِ إِلَّا عَبَثا فَكتب الْأَوْلِيَاء من الْبَلَد إِلَى الْعَزِيز والعادل بانتهاز الفرصة فَرَكبُوا وتأهبوا يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَاقُوا فَمَا صدهم عَن قصد الْبَلَد أحد وَمَا كَانَ فِي طريقهم إِلَّا الْملك الظافر وَمَعَهُ عَسْكَر حلب فقاتل على ظن قتال الْجَمَاعَة وَمَا عِنْده علم بِمَا دبروه من المخامرة فجاوزا وَلم يكترثوا
وَوصل الْعَزِيز إِلَى الميدان الْأَخْضَر وَوصل الْعَادِل إِلَى بَاب توما وَكَانَ الْأَمِير الْأمين بِهِ قد استنهضه إِلَيْهِ بكتبه ففتحه لَهُ فَدخل الْعَادِل وَأَصْحَابه من بَاب توما وَالْبَاب الشَّرْقِي وَبَات الْعَادِل فِي الدَّار الأَسدِية وَدخل الْعَزِيز من بَاب الْفرج وَبَات فِي دَار عمته الحسامية وَخرج إِلَيْهِ الْأَفْضَل ولقيه وتجرع من هم زَوَال ملكه مَا سقيه
فَلَمَّا ملك الْعَزِيز دمشق أَقَامَ أَيَّامًا بالميدان الْأَخْضَر الْكَبِير إِلَى أَن انْتقل الْأَفْضَل من القلعة بأَهْله وَأَصْحَابه وَأخرج وزيره الْجَزرِي مخفيا فِي صناديقه إشفاقا عَلَيْهِ من قَتله وتحريقه وتحول الْأَفْضَل تِلْكَ الْأَيَّام إِلَى مَسْجِد خاتون وَمَا يجاوره وَمَعَهُ وزيره فهرب لَيْلًا إِلَى بِلَاده وَقد ادخر فِيهَا أَمْوَال دمشق وأعمالها ثَلَاث سِنِين
قَالَ وَكَانَ الْعَزِيز قرر مَعَ الْعَادِل أَن يُقيم الْعَزِيز بِدِمَشْق(4/430)
ويستنيب الْعَادِل بِمصْر فَلَمَّا ملك دمشق نَدم على مَا قَرَّرَهُ وَرجع عَمَّا دبره وَنفذ إِلَى أَخِيه الْأَفْضَل فِي السِّرّ يعْتَذر إِلَيْهِ وَيُشِير عَلَيْهِ بِمَا كَانَ اشْترط عَلَيْهِ فأظهر الْأَفْضَل هَذَا السِّرّ لصحبه والمخصوصين بِقُرْبِهِ فَقَالُوا لَا تنخدع بِهَذَا القَوْل فَرُبمَا كَانَت خديعة وأطلع عمك الْعَادِل على هَذَا السِّرّ فَإِنَّهُ يرى ذَلِك عين الْبر
فَأرْسل إِلَى الْعَادِل من أعلمهُ بذلك فعزت عَلَيْهِ مراسلة الْعَزِيز الْأَفْضَل وَاجْتمعَ بالعزيز وعتبه وقرعه بِمَا أنبىء بِهِ وأنبه وَقَالَ أبني وتهدم وأوجد مصالحك وتعدم
فَأنْكر الْحَال وأحالها وانتقض الْأَمر قبل إبرامه وَوجه إِلَى الْأَفْضَل من أزعجه وَإِلَى صرخد أخرجه وسد طَرِيق الاستنصار على أَخِيه الظافر حَتَّى أسلم فِي تَسْلِيم بصرى الظفر بسلامته وبذلها وَلم يتبعهَا بندامته ورحل إِلَى حلب وَأظْهر الظَّاهِر الاحتفال بِهِ
وَأما الْأَفْضَل فَإِنَّهُ سَار إِلَى قلعة صرخد وسكنها وحول أَهله وأخاه قطب الدّين إِلَيْهَا وتوطنها وَعند خُرُوج الْأَفْضَل من قلعة دمشق دخل الْعَزِيز إِلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع شعْبَان وَجلسَ يَوْم الْجُمُعَة فِي دَار الْعدْل واعتقد النَّاس أَنه يطول مقَامه عِنْدهم فَلم يشعروا بِهِ إِلَّا وَقد برز للرحيل وَتقدم إِلَى الْعَادِل بِأَن يتَوَلَّى الْبِلَاد وَفَارق دمشق عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ تَاسِع الشَّهْر وَنزل بالمخيم فَوق(4/431)
مَسْجِد الْقدَم ثمَّ تحول إِلَى الْكسْوَة وودعه بهَا يَوْم السبت رَابِع عشر الشَّهْر
فَلَمَّا عَاد الْعَادِل من وداع الْعَزِيز قرىء بالجامع منشورة العزيزي بالبلاد والأعمال وَالنَّظَر فِي جَمِيع الْأَحْوَال وأشاع أَنه نَائِب الْعَزِيز وَهُوَ سُلْطَانه وَأبقى الْخطْبَة باسم الْعَزِيز خَالِيَة من اسْمه حَالية برسمه وَضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم على سكته وَأظْهر أَنه قوي بشوكته وشكته وَجلسَ يومي الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس للعدل وَبسط يَده لجمع الْأَمْوَال وخزنها لوقت عُمُوم الْحَاجة إِلَى صرفهَا
فصل
هَذَا آخر مَا انطوت عَلَيْهِ رِسَالَة العتبى من أَخْبَار مَا جرى بعد موت السُّلْطَان رَحمَه الله
وللعماد أَيْضا كتاب آخر سَمَّاهُ نحلة الرحلة ذكر فِيهِ أَيْضا نَحوا من ذَلِك وَهُوَ أَن الْأَحْوَال اختلت وتغيرت بعد موت السُّلْطَان وَأَرَادَ الْعِمَاد الرحيل إِلَى مصر فأصحبه الْأَفْضَل رِسَالَة إِلَى أَخِيه الْعَزِيز فَمضى إِلَيْهِ وَعِنْده عَمه الْعَادِل فَلم يتَمَكَّن من الرُّجُوع إِلَّا مَعَهُمَا لما خرجا بالعساكر فَذكر الحَدِيث فِي أَخذ الْبَلَد(4/432)
قَالَ وَخرج الْملك الْأَفْضَل وَاجْتمعَ بالعزيز فِي الميدان ودخلا من بَاب الْفرج متصاحبين إِلَى الضريح الناصري وَصعد الْعَزِيز القلعة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَصلى هَذِه الْجُمُعَة عِنْد ضريح وَالِده فِي هَيْئَة الْمُودع وَأظْهر بالبكاء والنحيب عِنْده سر الْقلب الموجع وَدخل دَار الْأَمِير أُسَامَة فِي جوَار تِلْكَ الْقبَّة وَأمر القَاضِي محيي الدّين بن الزكي بِأَن يبنيها مدرسة للتربة
قلت هِيَ الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بالعزيزية ووقفها قَرْيَة عَظِيمَة تعرف بمحجة فَهَذَا قدر مَا فِي كتاب النحلة مِمَّا يتَعَلَّق بهما نَحن فِيهِ وَلم يكن ذكر مثل هَذَا من شَرط كتَابنَا هَذَا لانه مَوْضُوع للدولتين النيرتين إِلَّا أَنه لَا بُد من ذكر مَا يتَعَلَّق يهما مِمَّا وَقع فيهمَا وعقبيهما وتبعنا الْعِمَاد فِيمَا ذكر فِي العتبى لكَونه أَشَارَ إِلَيْهَا فِي كتاب الْبَرْق واستوفينا مَا فِي كتاب الْبَرْق وَالْفَتْح الْقُدسِي والتاريخ الأتابكي وَكتاب القَاضِي أبي المحاسن وأتينا على مَا فِيهَا من المحاسن واتصاف إِلَى ذَلِك قِطْعَة كَبِيرَة من مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة كَثِيرَة من عدَّة مصنفات ودواوين ومراسلات(4/433)
وَالله تَعَالَى يوفق مُلُوكنَا للاقتداء بسيرة سلفنا فِي إِقَامَة فرض الْجِهَاد وتخليص الْبِلَاد من أَيدي الْكَفَرَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْعباد
وَمن كتاب فاضلي أما هَذَا الْبَيْت فَإِن الْآبَاء مِنْهُ اتَّفقُوا فملكوا وَإِن الْأَبْنَاء مِنْهُم اخْتلفُوا فهلكوا وَإِذا غرب نجم فَمَا فِي الْحِيلَة تشريقه وَإِذا بَدَأَ خريق ثوب فَمَا يَلِيهِ إِلَّا تمزيقه وهيهات أَن يسد على قدر طَرِيقه وَقد قدر طروقه وَإِذا كَانَ الله مَعَ خصم على خصم فَمن كَانَ الله مَعَه فَمن يطيقه
فصل
بعد انْتِهَاء هَذَا الْكتاب وإسماعه مرّة وقفت على مَا حسن لي إِلْحَاقه بِهَذَا الْكتاب من ذَلِك أَن القَاضِي الْفَاضِل كتب فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين إِلَى القَاضِي محيي الدّين بن الزكي كتابا قَالَ فِيهِ وَمِمَّا جرى فِي هَذِه الْمدَّة من المثلات الْجَارِيَة والمعضلات العادية بَأْس من الله طرق بياتا وَنحن نيام وَظن النَّاس أَن الْيَوْم الْمَوْعُود قد طرق فِي اللَّيْل الْمَمْدُود فَإِذا هم قيام إِن الله تَعَالَى أَتَى بساعة كالساعة كَادَت تكون للدنيا كساعة فِي الثُّلُث الأول من لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة وَذَلِكَ أَنه أَتَى عَارض فِيهِ ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة ورياح عَاصِفَة قوي ألهوبها وَاشْتَدَّ هبوبها وَارْتَفَعت لَهَا صعقات(4/434)
وتدافعت لَهَا أَعِنَّة مطلقات فرجفت لَهَا الجدران واصطفقت وتلاقت على بعْدهَا واعتنقت وثار من السَّمَاء وَالْأَرْض عجاج فَقيل لَعَلَّ هَذِه على هَذِه قد انطبقت
وتوالت البروق من جِهَة المقطم على نظام وَتبع الْوَاحِدَة الْأُخْرَى وتقفى الثَّانِيَة على أثر الأولى وَترى البروق واقفة وَهِي تتعاقب وقائمة وَهِي تتجاذب وَلَا تحسب إِلَّا أَن جَهَنَّم قد سَالَ مِنْهَا وَاد وَعدا مِنْهَا عَاد
وَزَاد عصف الرّيح إِلَى أَن انطفأت سرج النُّجُوم ومزقت أَدِيم السَّمَاء ومحت مَا كَانَ فَوْقه من الرقوم وَلَا تزَال هَذِه الرّيح تسكن سكونا خَفِيفا ثمَّ تعاود عودا عنيفا فَكُنَّا كَمَا قَالَ الله تعاى {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} وكما قُلْنَا ويردون أَيْديهم على أَعينهم من البوارق لَا عَاصِم من الخطف للأبصار وَلَا ملْجأ من الْخطب إِلَّا معاقل الاسْتِغْفَار
وفر النَّاس رجَالًا وَنسَاء وَأَطْفَالًا ونهضوا من دُورهمْ خفافا وثقالا لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا إِذْ يستغيثون رَبهم ويذكرون ذنبهم لَا يستغربون الْعَذَاب لانهم على موجباته مصرون وَفِي وَقت وُقُوع واقعاته باستحقاقه مقرون معتصمين بالمساجد الجامعة ومتلقين الْآيَة النَّازِلَة من السَّمَاء بالأعناق الخاضعة بِوُجُوه عانية ونفوس عَن الْأَمْوَال والأهل سالية {ينظرُونَ}(4/435)
من طرف خَفِي) ويتوقعون أَي خطب جلي قد انْقَطَعت من الْحَيَاة علقهم وعميت عَن النجَاة طرقهم وَوَقعت الفكرة فِيمَا هم عَلَيْهِ قادمون وندموا وَنَحْمَد الله أَن نفعهم بِأَنَّهُم نادمون وَقَامُوا إِلَى صلَاتهم وودوا أَن لَو كَانُوا من الَّذين عَلَيْهَا دائمون
وَلم يزل ذَلِك دأبهم كلما سكنت الرِّيَاح تحركت وَكلما قيل اسْتَقَلت بَركت وَكلما أخذت قيل مَا تركت حَتَّى الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة والقلوب إِلَى الْحَنَاجِر بَالِغَة والأبصار عَن سننها زائغة إِلَى أَن أذن الله فِي الركود وأسعف الهاجدين بِالْأَمر لَهَا بالهجود وَأصْبح كل يسلم على رَفِيقه ويهنيه بسلامة طَرِيقه وَيرى أَنه قد بعث بعد النفخة وأفاق بعد الصَّيْحَة والصرخة وَأَن الله قد رد لَهُ الكرة وأدبه بعد أَن كَاد يَأْخُذهُ على الْغرَّة
وَورد من الْخَبَر أَن المراكب كسرهَا مَا كَانَ مُعْتَرضًا مِنْهَا فِي الْبَحْر للعارض وَالْأُصُول العادية من الشّجر عدت عَلَيْهَا الرّيح بحماها النافض وَأَن فِي الطّرق من الْمُسَافِرين من كَانَ نَائِما فدفنته الرِّيَاح حَيا وَركب فَمَا أغْنى عَنهُ الْفِرَار مِمَّا هُوَ أَمَامه شيا(4/436)
وَلَا يحْسب الْمجْلس أَنِّي أرْسلت الْقَلَم محرفا وَالْقَوْل مجزفا فَالْأَمْر أعظم وَلَكِن الله سلم والخطب أشق وَمَا بلغت وَلَا قضيت بِهَذَا التكثير بعض الْحق ونرجوا أَن الله سُبْحَانَهُ قد أيقظنا بِمَا وعظنا وَنَبَّهنَا بِمَا ولهنا فَمَا من عبَادَة من رأى الْقِيَامَة عيَانًا وَلم يلْتَمس عَلَيْهَا من بعده برهانا إِلَّا أهل بِلَادنَا فَمَا اقْتصّ الْأَولونَ مثلهَا فِي المثلات وَلَا سبقت لَهَا سَابِقَة فِي المعضلات
وَالْحَمْد لله الَّذِي من فَضله أَن جعلنَا نخبر عَنْهَا وَلَا تخبرعنا ونسأل الله أَن يصرف عَنَّا عَارض الْحِرْص والغرور إِذا عَنَّا
وشغلت خدمته بِهَذَا المهم وَجَعَلته على علم من هَذَا الْعلم فالسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ وَقد كَانَت لنا وَفينَا الموعظة وللذكرى حُدُود ونعوذ بِاللَّه من إِقَامَة حُدُودهَا الْمُغَلَّظَة
وَمن كتاب لَهُ آخر إِلَى الْعَادِل فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين أَيْضا وَقد تجدّد من وصال الْعَدو اللعين وحركته إِلَى جَانب بيروت وخطره الْبِلَاد مَا أذهل كل مرضعه وأوقع فِي ضائقة تنْفق الأفكار فِيهَا من سَعَة وللإسلام الْيَوْم قدم إِن زلت زل وهمة إِن قلت فَإِن النَّصْر مِنْهُ مل وَتلك الْقدَم الْقدَم العادلية وَتلك الهمة الهمة الْمُسَابقَة السيفية فَالله الله ثبتوا ذَلِك الْفُؤَاد ودمثوا ذَلِك المهاد واسهروا فِي الله فَلَيْسَتْ بليلة رقاد(4/437)
وَلَا ينظر فِي حَدِيث زيد وَلَا عَمْرو وَلَا أَن فلَانا نفع وَلَا ضرّ وَلَا أَن من الْجَمَاعَة من جَاءَ وَلَا أَن فيهم من مر انْظُرُوا إِلَى أَنكُمْ الْإِسْلَام كُله قد برز إِلَى الشّرك كُله وأنكم ظلّ الله فَإِن صححتم تِلْكَ النِّسْبَة فَإِن الله لَا نَاسخ لظله واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين وَلَا تهنوا وَإِن ذهب النَّاصِر فان الله خير الناصرين فَمَا هِيَ إِلَّا غمرة وتنجلي وهيعة وتنقضي وَلَيْلَة وتصبح وتجارة وتربح
وَمن كتاب لَهُ آخر إِلَى الْملك الْعَادِل أدام الله ذَلِك الِاسْم تاجا على مفارق المنابر والطروس وحياة للدنيا وَمَا فِيهَا من الأجساد والنفوس وَعرف الْمَمْلُوك مَا عرفه بِهِ من الْأَمر الَّذِي اقتضته الْمُشَاهدَة وحرست بِهِ الْعَاقِبَة فِي بيروت وَلَا مزِيد على تَشْبِيه الْحَال بقوله
(ألم تَرَ أَن الْمَرْء تدوى يَمِينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره)
وَلَو كَانَ فِيهَا تَدْبِير لَكَانَ مَوْلَانَا قد سبق إِلَيْهِ وَمن قلم من الاصبع ظفرا فقد جلب إِلَى الْجَسَد بِفِعْلِهِ نفعا وَدفع عَنهُ ضرا
(وتجشم الْمَكْرُوه لَيْسَ بضائر ... مَا خلته سَببا إِلَى الْمَحْمُود)(4/438)
وَآخر كل شتوة أول كل غَزْوَة فَلَا يسأم مَوْلَانَا نِيَّة الرِّبَاط وفعلها وتجشم الكلف وَحملهَا فَهُوَ إِذا صرف وَجهه إِلَى وَجه وَاحِد وَهُوَ وَجه الله صرف الله إِلَيْهِ الْوُجُوه كلهَا {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ}
وَمن الْكتاب لَهُ آخر هَذِه الْأَوْقَات الَّتِي أَنْتُم فِيهَا عرائس الْأَعْمَار وَهَذِه النَّفَقَات الَّتِي تجْرِي على أَيْدِيكُم مُهُور الْحور فِي دَار الْقَرار وَمَا أسعد من أودع يَد الله مَا فِي يَدَيْهِ فَتلك نعم الله عَلَيْهِ وتوفيقه الَّذِي مَا كل من طلبه وصل إِلَيْهِ وَسَوَاد العجاج فِي هَذِه المواقف بَيَاض مَا سودته الذُّنُوب من الصحائف فَمَا أسعد تِلْكَ الوقفات وَمَا أَعُود بالطمأنينة تِلْكَ الرجفات
فصل
وللعماد الْكَاتِب رَحمَه الله كتاب آخر سَمَّاهُ خطْفَة البارق وعطفة الشارق ذكر فِيهِ أَشْيَاء من حوادث سنة ثَلَاث وَتِسْعين إِلَى أَن توفّي هُوَ رَحمَه الله فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة واشتمل ذَلِك على فَوَائِد تتَعَلَّق بِمَا تقدم فَأَحْبَبْت إلحاقها بِهِ من ذَلِك وَفَاة سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب بِالْيمن فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتَوَلَّى ابْنه شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل(4/439)
هَذَا وَالْملك الْعَادِل بِدِمَشْق وَقد انْتقل الْملك الظافر إِلَى حلب بعد أَخذ عَمه مِنْهُ بصرى وعزم على قصد بَغْدَاد فَصَرفهُ أَخُوهُ الظَّاهِر عَن ذَلِك
وَذهب الْأَمِير أَبُو الهيجاء السمين إِلَى بَغْدَاد بِأَصْحَابِهِ فَأكْرم ثمَّ سير فِي جَيش إِلَى همذان ثمَّ بعد رُجُوعه مَاتَ بدقوقا
وَانْقَضَت مُدَّة هدنة الفرنج الَّتِي عقدوها مَعَ الْملك النَّاصِر رَحمَه الله فَخَرجُوا والتقوا مَعَ الْملك الْعَادِل بِرَأْس الْعين بمرج عكا فكسرهم وَفتح يافا عنْوَة
وَكَانُوا كاتبوا ملك الألمان وَكَانَ قد ملك صقلية فأنهوا إِلَيْهِ تِلْكَ البلية وَقَالُوا إِن عِظَام أَبِيه إِلَى الْآن فِي صور فِي تَابُوت مكلل بالديباج وَكَأَنَّهُ فِي الْأسر منتظر الافراج فَإِنَّهُ لَا يقبر إِلَّا بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس إِذا استخلص والآن مَا كَانَ غلا مِنْهُ استرخص فَإِن الْمُسلمين قد اشْتغل بَعضهم بِبَعْض ولهوا عَن كل سنة وَفرض
فتدافعت إِلَى عكا سفنهم وتدفق مزنهم وامتلأت بهم فِي السَّاحِل مدنهم وقصدوا بيروت وَبهَا الْأَمِير عز الدّين سامة فَلَمَّا سمع بوصولهم إِلَى صيدا خرج بجماعته مِنْهَا وَسَار بأَهْله وَمَال عَن وعر الْأَمر إِلَى سهله ودخلها الفرنج بعد يَوْم من غير مطاولة سوم وَلَا مماطلة روم وَكثر فِيهِ الحَدِيث وَذكر الطّيب والخبيث فَمن قَائِل تجبن وتجنب وَمن قبل أَن ينكب تنكب وَمن قَائِل(4/440)
رِجَاله هابوا فغابوا وَلَو أَنه دعاهم لما أجابوا واتسع القَوْل وَوَقع الهول حَتَّى نظم بَعضهم والفرنج على تبنين
(سلم الْحصن مَا عَلَيْك ملامة ... مَا يلام الَّذِي يروم السَّلامَة)
(فعطاء الْحُصُون من غير حَرْب ... سنة سنّهَا ببيروت سامة)
وتصرفت الفرنج فِي بيروت وأعمالها الساحلية وَبَقِي لسامة جَمِيع الْولَايَة الجبلية ثمَّ توجه إِلَى مصر
وَدخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَخمْس مئة
فَنزل الفرنج سادس عشر الْمحرم على تبنين وَأرْسل الْعَادِل القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي إِلَى الْملك الْعَزِيز بِمصْر فَخرج بجيوشه وَوصل فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الأول فجفلت الفرنج بعد أَن كَانُوا ضايقوا الْحصن ورحلوا
وجاءهم الْخَبَر بِهَلَاك ملك الألمان ثمَّ انْتقل عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى جَانب الطّور وَمَعَ الْعَزِيز إخْوَته الظافر والمعز والمؤيد
وَكَانَ الْأَفْضَل قد جَاءَ إِلَى عَمه قبلهم وَكَانَ مَعَهم على تبنين الْمُجَاهِد صَاحب حمص والأمجد صَاحب بعلبك وَعز الدّين بن الْمُقدم وَبدر الدّين دلدرم وَغَيرهم من الْأَعْيَان ثمَّ تراجعوا إِلَى بِلَادهمْ بعد عقد الْهُدْنَة وَرجع الْعَزِيز إِلَى مصر بعد أَن خلع على(4/441)
ابْن عَمه الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل وَخَصه بالسنجق واللواء المنشور لطي اللأواء
وَعَاد الْمُعظم إِلَى دمشق وَقد قرت بِهِ الْعُيُون وَحسنت فِيهِ الظنون وَكَانَ أعز أَوْلَاد الْعَادِل عِنْده وأعلقهم بِقَلْبِه وأخصهم بحبه قد ولاه سلطنة دمشق وأطاب فِيهَا بنشر كرمه النشق وَأقَام الْعَادِل حَتَّى اسْتَقَرَّتْ الْهُدْنَة وَظَهَرت فِي عمَارَة تبنين المكنة ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَأقَام قَلِيلا ثمَّ شَرق ورقع بهَا من الْأَمر مَا تخرق ورتق مَا تفتق
ورد بِلَاد أَوْلَاد عماد الدّين زنكي إِلَيْهِم لانه توفّي فِي هَذِه السّنة وَاسْتولى عَلَيْهَا ابْن عمهم صَاحب الْموصل فأنجدهم عَلَيْهِ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل
وَتُوفِّي جمَاعَة من أُمَرَاء الْموصل مِنْهُم الْأَمِير الْكَبِير عز الدّين جرديك وَكَانَ فَارس الْإِسْلَام ومقدامه وشجاعه وهمامه وَمَا برح من أَيَّام نور الدّين إِلَى آخر أَيَّام صَلَاح الدّين رحمهمَا الله لَيْث العرين أَشمّ الْعرنِين وَهُوَ الَّذِي أعَان صَلَاح الدّين على الْقَبْض على شاور وولاه صَلَاح الدّين الْقُدس فِي آخر عَهده فَقَامَ بمصالحه من بعده ثمَّ تسلمه مِنْهُ الْملك الْأَفْضَل وَسلمهُ إِلَى أبي الهيجاء السمين فَلَمَّا خرج الْأَفْضَل من دمشق وصل إِلَى الْموصل وانتقل من حَوْض الْكَوْثَر إِلَى أعذب منهل(4/442)
قَالَ وَنزل السُّلْطَان الْعَادِل على قلعة ماردين فِي شهر رَمَضَان وَملك ربضها ومدنها وولاياتها وصاف عَلَيْهَا وشتى وصبر وصابر وَلم يقل كَيفَ وَمَتى وَمَا شكّ أحد أَن ماردين فِي ملكه مُضَافَة إِلَى ملكه وَقد هنأه بهَا الشُّعَرَاء مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن مَرْوَان من أهل رَأس عين وَله من قصيدة
(فَإِن تَكُ مصر أم ملك فمارد ... إِذا نسب الْبلدَانِ فَحل المماليك)
(تقاعس عَنْهَا سنجر وَابْن عَمه ... وَقصر عَنْهَا عزم زنكي الأتابك)
(فَإِن تَكُ قد شوركت فِي فتح غَيرهَا ... فَمَا لَك فِي أَمْثَالهَا من مشارك)
وَدخلت سنة خمس وَتِسْعين وَخمْس مئة
وَالْملك الْعَادِل نَازل على ماردين وَقد وصل إِلَيْهِ أَصْحَاب الْأَطْرَاف مساعدين وَقد أصلح بَين صَاحب الْموصل وَبني عَمه عماد الدّين وردهم إِلَى سنجار والخابور ونصيبين وَقد أذعن لَهُ الْجَمَاعَة بِالطَّاعَةِ ونائبه فِي تِلْكَ الْبِلَاد وديار بكر وَلَده الْملك الْكَامِل مُحَمَّد
قَالَ وفيهَا لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من الْمحرم توفّي الْملك الْعَزِيز بداره بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ على عزم الصَّيْد فِي أَعمال الفيوم فخيم تِلْكَ اللَّيْلَة عِنْد الأهرام فَقيل إِنَّه أصبح وركض خلف صيد فكبا بِهِ(4/443)
الْفرس مرّة بعد أُخْرَى فتمت لَهُ سقطة عَمت بهَا على الزَّمَان سخطه فتفاقم ألمه وَأقَام يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة لَا يَسْتَطِيع لَهُ مَخْلُوق إِعَانَة وَلَا إغاثة ثمَّ حم حمامه وأظلمت بفجيعته أَيَّامه وقبر فِي دَاره لينقل مِنْهَا إِلَى دَار قراره ثمَّ حول مِنْهَا فِي الْأَيَّام الْأَفْضَلِيَّة إِلَى التربة المقدسة الشَّافِعِيَّة
وَورد كتاب القَاضِي الْفَاضِل تَعْزِيَة بِهِ للْملك الْعَادِل أدام الله سُلْطَان مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل وَبَارك فِي عمره وَأَعْلَى أمره بأَمْره وأعز نَصره الْإِسْلَام بنصره وفدت الْأَنْفس نَفسه الْكَرِيمَة وأصغر الله العظائم بنعمته فِيهِ الْعَظِيمَة وأحياه الله حَيَاة طيبَة يقف هُوَ فِيهَا وَالْإِسْلَام فِي مَوَاقِف الْفتُوح الجسيمة وينقلب عَنْهَا بالأمور الْمسلمَة والعواقب السليمة وَلَا نقص لَهُ رجَالًا وَلَا عددا وَلَا أعدمه نفسا وَلَا ولدا وَلَا قصر لَهُ ذيلا وَلَا يدا وَلَا أسخن لَهُ قلبا وَلَا كبدا وَلَا كدر لَهُ خاطرا وَلَا موردا
وَلما قدر الله ماقدر فِي الْملك الْعَزِيز رَحْمَة الله عَلَيْهِ وتحياته مكررة إِلَيْهِ من انْقِضَاء مهله وَحُضُور أَجله كَانَت بديهة الْمُصَاب عَظِيمَة وطالعة الْمَكْرُوه أليمة فرحم الله ذَلِك الْوَجْه ونضره ثمَّ إِلَى السَّبِيل إِلَى الْجنَّة يسره
(وَإِذا محَاسِن أوجه بليت ... فَعَفَا الثرى عَن وَجهه الْحسن)(4/444)
فأعزز على الْمَمْلُوك وعَلى الْأَوْلِيَاء بل على قلب مَوْلَانَا لَا سلبه الله ثوب العزاء بِسُرْعَة مصرعه وانقلابه إِلَى مضجعه ولباسه ثوب البلى قبل أَن يبْلى ثوب الشَّبَاب وزفه إِلَى التُّرَاب وسريره محفوف باللذات والأتراب
وَكَانَت مُدَّة الْمَرَض بعد الْعود من الفيوم أسبوعين وَكَانَت فِي السَّاعَة السَّابِعَة من لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من الْمحرم والمملوك فِي حَال تسطيرها مَجْمُوع لَهُ بَين مرض قلب وجسد ووجع أَطْرَاف وغليل كبد وَقد فجع بِهَذَا الْمولى والعهد بوالده رَحمَه الله غير بعيد والأسى عَلَيْهِ فِي كل يَوْم جَدِيد
وَوصل قبل هَذَا إِلَى الْعِمَاد كتاب من الْفَاضِل فِيهِ وَأَنا على مَا يُعلمهُ من الْعُزْلَة إِلَّا أَنَّهَا بِلَا سُكُون وَفِي الزاوية المسنونة لأهل الْعَافِيَة إِلَّا أَنِّي على مثل حد الْمنون وَكَيف يعِيش الْعَاقِل فِي الزَّمَان الْمَجْنُون وَنحن على انْتِظَار الْبَرْق الشَّامي أَن يمطر وحاشى ذمَّة الْوَعْد بِهِ أَن تحفر واشتغال سيدنَا فِي هَذَا الْوَقْت بالدرس والتدريس والتصوير والتكييف والتصانيف الَّتِي تصرف فِيهَا البلاغة أحسن التصاريف نعْمَة عين شكرها على الْعلمَاء وَيخْتَص باللذة بهَا سادتهم من الْفُقَهَاء
قَالَ الْعِمَاد وَلما توفّي الْملك الْعَزِيز خلف بَنِينَ صغَارًا يزِيدُونَ على الْعشْرَة وَولده الْأَكْبَر نَاصِر الدّين مُحَمَّد قد أنافت سنوه على عشر وَكَانَ إِلَى أَبِيه أحب أَوْلَاده يشيم من شِيمَة مخيله سداده وَقد اخْتصَّ لَدَيْهِ وَنَصّ عَلَيْهِ فَاجْتمع الْأُمَرَاء الصلاحية(4/445)
وَكَبِيرهمْ ومقدمهم فَخر الدّين أياز سركس وَمِنْهُم أَسد الدّين سراسنقر وزين الدّين قراجه
وعقدوا الْأَمر لوَلَده نَاصِر الدّين ونعتوه بِالْملكِ الْمَنْصُور وَأخذُوا لَهُ أَيْمَان الْجُمْهُور
قَالَ وَكَانَت الأَسدِية فِي الْأَيَّام العزيزية بالناصرية مغمورين وبالاستيلاء عَلَيْهِم مقهورين وَكَبِيرهمْ سيف الدّين يازكوج وَكَانَ عِنْد وَفَاة الْعَزِيز غَائِبا بأسوان فَلَمَّا بلغه ذَلِك حضر وَجمع الأَسدِية واجتمعوا هم والصلاحية فِي ظَاهر الْقَاهِرَة فَقَالَ لَهُم نعم مَا رَأَيْتُمُوهُ من حفظ عهد الْعَزِيز فِي وَلَده لكنه صَغِير السن لَا يحْتَمل ثقل هَذَا الْفَنّ وَلَا بُد من كَبِير من أهل الْبَيْت يربيه ويدير الدَّوَاوِين ويرتب القوانين وَمَا هَا هُنَا إِلَّا الْملك الْعَادِل وَهُوَ الْآن فِي بِلَاد الشرق مَشْغُول وَهَا هُنَا من هُوَ أقرب مِنْهُ وَهُوَ الْملك الْأَفْضَل
فَقَالَ الأَسدِية هَذَا هُوَ الرَّأْي الرَّاجِح وَلم يسع الصلاحية مُخَالفَته فاتفقوا على استدعاء الْأَفْضَل من صرخد فَخرج مِنْهَا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من صفر وسلك الْبَريَّة فوصل إِلَى الْقُدس يَوْم الْخَمِيس وَخرج إِلَيْهِ عسكره وَسَارُوا مَعَه إِلَى بَيت جِبْرِيل ثمَّ أغذ السّير فَلَمَّا قرب مِنْهُم فِي تَاسِع ربيع الأول تلقوهُ وَإِلَى أَعلَى مراقي الْعَلَاء رقوه وسروا بقدومه وجروا لمرسومه
قَالَ وَكَانَ الناصرية كتبُوا إِلَى رفقائهم بِالشَّام إِنَّا أحوجنا إِلَى(4/446)
الْوِفَاق وتأكيد الْمِيثَاق وَقد كتب إِلَى نور الدّين بالحضور وَضبط الْأُمُور وهوعندكم فِي صرخد وَإِن وصل إِلَيْنَا انتظم أمره وتمهد فاجتهدوا فِي حصره وَهُوَ فِي حصنه وَلَا تسمحوا بفك رَهنه وَوصل إِلَى دمشق بعض الْكتب يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر فَخرج عسكرها إِلَى صرخد فوصلوا إِلَى بصرى يَوْم الْأَرْبَعَاء فَقيل لَهُم إِن الْأَفْضَل أدْلج لَيْلًا واستصحب نجبا وخيلا فَرَجَعُوا إِلَى دمشق
وَقيل لما عبر الْأَفْضَل بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس وجد فِي طَرِيقه نجابا مسرعا فَاسْتَحْضرهُ واستكشف ورده وصدره فَقَالَ أَنا نجاب فَخر الدّين أياز سركس وَمَعِي كتبه إِلَى من يأنس بِهِ وَيُحِبهُ فتسلم مِنْهُ الْكتب وَعَاد النجاب فِي خدمته فَلَمَّا وصل إِلَى الْقَاهِرَة احتفل سركس لَهُ وأضاف وَقدم وَغرم أَمْوَالًا ثمَّ أبْصر نجابه وَاقِفًا بِبَابِهِ فَأخْبرهُ الْخَبَر فاستشعر من ذَلِك وتضور فَمضى وَتَبعهُ عسكره وزين الدّين قراجه فوصلا إِلَى الْقُدس وسكنا بِهِ وَعرف الناصرية جلية الْحَال فَأخذُوا فِي الِانْتِقَال وتوهم الْأَفْضَل من البَاقِينَ فقبضهم وحوى جوهرهم وعرضهم فتفرقت الْكَلِمَة المجتمعة وتوقفت الهمم المسرعة وَأمر الْأَفْضَل بِالْخطْبَةِ لِابْنِ الْعَزِيز على جَمِيع المنابر ثمَّ الدُّعَاء لَهُ فِي الآخر ونقشت السِّكَّة أَيْضا باسم الْوَلَد فِي الْبَلَد وَغير الْبَلَد(4/447)
قَالَ وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِمصْر حملوه على قصد دمشق وحصرها وَقَالُوا لَهُ اطلب بلدك الَّذِي مِنْهُ أخرجت وَعَن الْمقَام فِيهِ أزعجت وَمَالك فِي مصر مَا يَكْفِيك ودمشق لَك بِوَصِيَّة أَبِيك وجاءته رسل أَخِيه الظَّاهِر من حلب وهداياه وَقَالَ لَهُ انتهز الفرصة فعمنا عَنَّا مَشْغُول وَإِلَى أَن يتم من ماردين مُرَاده وينضم إِلَى بياضه سوَاده تخرج دمشق عَن يَده وتعجله الْيَوْم فِيهَا عَن غده وَأَنا أصل إِلَيْك وأقدم عَلَيْك بالبنود والجنود والأساود وَالْأسود فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى خرج بالعسكر واستناب سيف الدّين يازكوج مَكَانَهُ
قَالَ وَوصل إِلَى الْملك الْعَادِل الْأَمِير سراسنقر أحد الْأُمَرَاء الناصرية المفارقين فاستحثه على مُفَارقَة ماردين وتواصل من الناصرية جمَاعَة بعده وَعِنْدهم من الاستحثاث مَا عِنْده فحركه القَوْل وتجرد عَن الْعَسْكَر واستصحب مَعَه الأميرين عز الدّين بن الْمُقدم وَبدر الدّين دلدرم وسرى لَيْلًا لخمس بَقينَ من رَجَب وَأوصى وَلَده الْكَامِل أَن يسير فِي مضايقة حصن ماردين بسيرته ويقتدي بعزمته
وَوصل إِلَى دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر شعْبَان وَأخذ فِي تحصين الْبِلَاد ووصلت العساكر المصرية يَوْم الْخَمِيس وأحاطت بِدِمَشْق ودخلها جمَاعَة مِنْهُم من بَاب السَّلامَة بلغُوا إِلَى السُّوق الْكَبِير وأعلنوا الْفَتْح بِالتَّكْبِيرِ وَلم يتبعهُم أحد على هَذَا التَّدْبِير فَخَرجُوا من بَاب الفراديس وكروا على أَعْقَابهم لمن وقف لَهُم من الكراديس(4/448)
وَأما الْأَفْضَل فَإِنَّهُ وصل إِلَى الميدان الْأَخْضَر وَضرب فِيهِ دهليز سرادقه وأقدم برواعده وبوارقه فَأَشَارَ عَلَيْهِ أمراؤه بالتأخر عَن تِلْكَ الْمنزلَة وَكَانَت مِنْهُم زلَّة فنزلوا عِنْد ميدان الْحَصَى ثمَّ تَأَخَّرُوا إِلَى مَسْجِد الْقدَم وامتلأ ذَلِك الفضاء بمضارب الخيم ففترت الصدمة الأولى وَقصرت الصدعة الطُّولى وخمد الْجَمْر فَصَارَ رَمَادا واستحالت تِلْكَ الأمواج المتلاطمة ثمادا ولزموا مَنَازِلهمْ أَكثر من سِتَّة أشهر هُنَاكَ وتمت فوارط عدمت الِاسْتِدْرَاك وامتدت خيامهم من أقْصَى داريا إِلَى الغوطة وظنوا أَنهم آخذون بمخنق دمشق المضغوطة
وَكَاتب الْملك الْعَادِل جمَاعَة من أُمَرَاء الْعَسْكَر الْمصْرِيّ ففارقوه ودخلوا دمشق فأكرمهم واحترمهم مِنْهُم طغرل المهراني وأياز البانياسي وَابْن كهدان ومثقال الْخَادِم وَابْن أُخْت السُّلْطَان ابْن سعد الدّين كمشبه وَكثر الواصلون القاطعون لمن وَرَاءَهُمْ وَأحسن الْعَادِل جزاءهم فتكاثرت الأطماع وَتَتَابَعَتْ الرؤوس والأتباع
وَوصل الْملك الظَّاهِر وَمَعَهُ أَخَوَاهُ الظافر والمعز وجاءهم الْملك الْمُجَاهِد صَاحب حمص وعسكر حماة دون سلطانها وحسام الدّين بِشَارَة صَاحب بانياس وَهُوَ شيخ الدولة وكبيرها(4/449)
وأمينها وأميرها وَفِي حمايته حصنا تبنين وهونين وَمَا يزَال أسرى من كبراء أهل الْكفْر بدين الله عِنْده مرهونين فرغبهم فِي السَّلامَة وَالسّلم وَالِاحْتِمَال والحلم وَأَشَارَ على كل من الْجَانِبَيْنِ بتجنب المجانبة والتقرب بالمقاربة والمراقبة وجاءهم أَيْضا سعد الدّين مَسْعُود صَاحب صفد وَأَخُوهُ نور الدّين مودود
قَالَ وَلما جبنوا عَن مضايقة الْحصار واصلوا قطع الْأَشْجَار وَكسر الْأَنْهَار وَمنع كل مَا يدْخل إِلَى الْبَلَد من نعْمَة وَنعم وغنيمة وغنم حَتَّى ردوا القوافل وصدوا الْفُرُوض والنوافل
قَالَ وَكَانَ الناصرية المقيمون بالقدس قد استولوا عَلَيْهِ ونظفوا مِمَّن ارْتَابُوا بِهِ حواليه وأخرجوا مِنْهُ المغاربة وَرِجَاله وأجناده الرَّاتِبَة وَمَعَهُمْ الْأَمِير فَارس الدّين مَيْمُون صَاحب نابلس وَعز الدّين سامة صَاحب كَوْكَب وبيسان
ثمَّ وصل الْخَبَر بِأَن سركس وَمن مَعَه واصلون إِلَى دمشق فتجرد من المحاصرين عَسْكَر إِلَى طريقهم وَكَانُوا قد وصلوا إِلَى طبرية وعبروا مِنْهَا إِلَى الْبِقَاع وتكمنوا خلال تِلْكَ الضّيَاع وسيروا إِلَى بعلبك مَا صحبهم من الأثقال والأحمال وَكَانَ صَاحبهَا الأمجد فِي جَانب الْملك الْعَادِل وتجردوا خيلا وقطعوها لَيْلًا وتوقلوا الْجبَال حَتَّى أشرفوا على دمشق من عقبَة دمر وَقد فاتوا الْعَسْكَر فتقوى عَسْكَر الْبَلَد فصاروا يبكرون ويركبون(4/450)
ويقربون من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَلَا يرقبون وحفر المحاصرون حَولهمْ خَنْدَقًا عميقا فَصَارَ لَهُم بِهِ عَن الْحصار شغل شاغل
قَالَ وعَلى الْجُمْلَة فَمَا ظهر مِنْهُم صنع إِلَّا فِي قطع المَاء وَمنع الْميرَة والمضايقة الْكَثِيرَة وإحراق الْبَسَاتِين وتخريب الطواحين حَتَّى إِذا انحسمت الْموَاد وفنيت فِي الْبَلَد الأزواد اضطروا إِلَى التَّسْلِيم واضطربوا على التَّأْخِير والتقديم فتسلط الرّعية على الْملك الْعَادِل وَحَمَلُوهُ على التَّسْلِيم والاستسلام
فتباينت آراء الْمُلُوك المحاصرين بِمَا دبره الْملك الْعَادِل سيف الدّين وَلَا بُد للكبار من الاحتيال إِذا صمم الصغار على الاغتيال وَلَيْسَ فِي ذَلِك بِدعَة لَان الْحَرْب خدعة
فنفذ إِلَى الظَّاهِر فِي الْبَاطِن وَقَالَ لَهُ أَنْت السُّلْطَان وحكمك على جَمِيع الْأَمَاكِن والمواطن وَأَنا أسلم إِلَيْك دمشق على أَنَّهَا تكون لَك لَا لغيرك فَقَالَ الظَّاهِر لِأَخِيهِ الْأَفْضَل قلدني فِي الانعام بِدِمَشْق منَّة المتفضل فَقَالَ لَهُ هَذِه لَا تَخْلُو من أَقسَام جالبات لأسقام أَجلك أَن تتولاها تَوْلِيَة النَّائِب وَإِن أَخَذتهَا دوني فَمن النوائب وَإِن أَعْطَيْتنِي عوضا مِمَّا أعرف لَك فِيهِ غَرضا فَمَا لَك مَا يصلح أَن تقايض بِهِ دمشق وَأَنت لَا تَدعِي لَهَا الْعِشْق فَتغير بِهَذَا رَأْي الظَّاهِر وَالله المطلع على الضمائر(4/451)
وَقيل أرسل الْعَادِل وَقَالَ أسلم إِلَيْكُم دمشق بعد سَبْعَة أشهر وتربص وتصبر فَخُذُوا يَمِيني وكلوني إِلَى ديني وَظن أَنهم لَا يوافقون وَفِي الْحصْر يضايقون فَلَمَّا أجابوه إِلَى هَذَا الملتمس وقعقعوا فِي الاستضاءة بِهَذَا القبس عرف أَنهم نادمون فِيمَا هم عَلَيْهِ من الْحصْر قادمون فَعَاد عَن هَذَا الْبَذْل وردهم إِلَى سنَن الْعدْل
وَقيل كَانَ يكْتب إِلَى الْأَفْضَل إِن الْأَمر انْفَصل مَعَ الظَّاهِر وانه يعاملك مُعَاملَة المسر لَا المجاهر فَخذ لنَفسك وأبدل معي وحشتك بأنسك وَيكْتب أَيْضا إِلَى الظَّاهِر إِن الْأَفْضَل قد صالحني وعَلى الرِّضَا صَافَحَنِي وَإنَّك تحصل على المضاغنة وستفضي بك المباينة إِلَى المعاينة
وَقيل إِنَّه كَانَ يكْتب فِي كل يَوْم أجوبة كتب قوم لم يكاتبوه ويجيبهم عَمَّا فِيهِ لم يخاطبوه وخبزت تِلْكَ الملطفات فِي عجين ثمَّ تفرق على من يقْصد الْعَسْكَر من الْمَسَاكِين فَإِذا فتشوا عثر على تِلْكَ الملطفات فبغت من كتب إِلَيْهِ وَلَا علم لَهُ بالآفات وعدوا من المخامرين فَصَارَ أَكثر الْعَسْكَر من المتهمين
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَخمْس مئة
وهم على ذَلِك والشتاء قد هجم وكل بأَمْره مهتم(4/452)
ودهمهم أَيْضا خبر وُصُول الْملك الْكَامِل من الشرق وَخرج من دمشق جمَاعَة يظهرون أَنهم من الناصحين وترددوا إِلَيْهِم وَمِنْهُم غادين ورائحين وأبرقوا وأرعدوا وَقَالُوا غَدا يكون قدوم الْملك الْكَامِل فِي الجحفل الحافل وَمَعَهُ من المَال الصَّامِت إِلَى أَبِيه الْعَادِل فيستظهر بولده وَالْمَال وَالرِّجَال فَلَا يقْعد عَن النهوض إِلَى الْقِتَال وَالصَّوَاب أَن نتأخر قَلِيلا
فرحلوا إِلَى سفح جبل الْعقبَة وَبقيت أسواقهم مَمْلُوءَة وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وهم لكل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ عادمون وعَلى مَا فرط مِنْهُم نادمون وَفقدُوا حَتَّى المَاء للشُّرْب وَكَانَت تِلْكَ الْحَالة كسرة قبل الْحَرْب فاضطربوا للمحل الْمُحِيل واضطروا إِلَى رَاحَة الرحيل
وَوصل الْكَامِل تَاسِع عشر صفر وَقد جمع التركمان واستصحب جند الرها وحران وَنزل فِي جوسق أَبِيه فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان برحيلهم وقدوم ابْنه وقضت خشيَة الله بأمنه وَأقَام الْكَامِل حَتَّى توجه أَبوهُ إِلَى مصر فَخرج مَعَه أَيَّامًا ثمَّ عَاد وَلم يُؤثر مقَاما وانتقل إِلَى حران والرها واستقام بِهِ أمرهَا وَذَلِكَ حادي عشر ربيع الأول
وَأما المحاصرون فَإِنَّهُم انتقلوا من الْكسْوَة إِلَى مرج الصفر وسير الْملكَانِ الظَّاهِر والمجاهد بعض الأثقال إِلَى بانياس وأصحبا(4/453)
بَقِيَّة أحمال الْملك الْأَفْضَل إِلَى مصر وودعاه وَكِلَاهُمَا سَار جَرِيدَة إِلَى مقره وَاسْتمرّ بعد ذَلِك على إمرار أمره
وَكلما رَحل الْقَوْم عَن منزل أحرقوا مَا لم يظفروا لَهُ بمحمل واستقلوا من مرج الصفر وَلم يلووا على أحد وَلم يعرجوا على بلد
وَأخذُوا فِي السّير والسرى وَذَهَبت آسادهم تروم معاودة الشرى وتبعهم الصلاحية ينزلون بعدهمْ فِي مَنَازِلهمْ ويخلفونهم فِي مناهلهم وَكَانَ الْقَوْم ظنُّوا أَنهم يقدرُونَ بمرج الصفر على الْإِقَامَة فَلَقوا من الْبرد مَا حضهم على النجَاة والسلامة وَهَذَا المرج بِقرب جبل الثَّلج فِي تموز لايقيم بِهِ إِلَّا لابس فَرْوَة فَكيف فِي كانون وَقد عرفُوا أَنهم الجانون حَيْثُ لم يلزموا القانون
وَأرْسلت الصلاحية إِلَى الْملك الْعَادِل يستعجلونه ويحثونه وَلَا يمهلونه فَخرج يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول وودع أَعْيَان الْبَلَد وَسَار وتلا من تقدمه إِلَى تل العجول وَأقَام حَتَّى اجْتمع أَتْبَاعه وَأرْسل إِلَى الْأَفْضَل الْعدْل النجيب أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ صَلَاح الدّين رَحمَه الله يعْتَقد فِي صَلَاح دينه ويمكنه من خَواص حاجاته ويرسله فِي مهام الرسائل وَكَانَ مَدْلُول الرسَالَة ارْفُقْ فِي السّير وَوَافَقَ على الْخَيْر فَمَا عنْدك الْيَوْم من يصدقك وَأَنا لَك كالوالد وأبلغك مقصودك وأحالفك وَلَا أخالفك وأوافقك وَلَا أُفَارِقك
فَأَشَارَ على الْأَفْضَل جماعته بِأَن يرد جَوَاب الرسَالَة إِن(4/454)
مقاربتي لَك بمباعدتك للصلاحية منوطة وموافقتي بمخالفتهم مَشْرُوطَة
فَلَمَّا سمع ذَلِك الصلاحية استشاطوا ونفروا وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على أَنهم ظفروا وجد جدهم واحتد حَدهمْ فطووا المراحل إِلَى السانح وَكَانَ الْأَفْضَل على بلبيس وَقد تفرق مُعظم أَصْحَابه إِلَى أخبارهم وَجَمَاعَة مِنْهُم مَعَ الْعَادِل فِي الْبَاطِن كاتبوه وعَلى الابطاء عاتبوه
فَسَار الْجَمْعَانِ بَعضهم إِلَى بعض والتقوا فانكسر أَصْحَاب الْأَفْضَل وانهزموا فَدَخَلُوا الْقَاهِرَة وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب للمحاصرة وانْتهى الى الْأَفْضَل ان جمَاعَة مِنْهُم أرْسلُوا إِلَى الْعَادِل فِي اصلاح أَحْوَالهم وإنجاح آمالهم فَقَالَ سيف الدّين يازكوج للأفضل لكل زمَان عمل وَلكُل أَوَان أمل فَأصْلح الْأَمر كَيفَ تهيا فَلَا ملام على اللبيب بِأَيّ زِيّ تزيا فشرع الْأَفْضَل فِي إصْلَاح الْأَمر مَعَ عَمه وراسله على أَن يكون بِحكمِهِ ثمَّ سلم الْأَمر وَمر سالما وَحصل لَهُ من التجربة مَا عَاد بِهِ للعواقب عَالما
قَالَ وخيم الْعَادِل بِالْبركَةِ واستبد بِملك مصر آمنا من الشّركَة وَنفذ المقطعين إِلَى إقطاعهم وَنظر للصلاحية فِي صَلَاح ضياعهم وَأرْسل إِلَى الْأَفْضَل إِن وافقتني على مَا أُعْطِيك وَقبلت سعدت فَهَؤُلَاءِ الَّذين عنْدك مَا مِنْهُم إِلَّا من كتب إِلَيّ وتقرب وانتظر يومي وترقب وَهَذِه إضبارة كتبهمْ فتأملها وَإِن لم تصدقني فسلها وَاعْلَم أَنهم غروك وضروك وساؤوك بِمَا سروك(4/455)
وَقيل لم يبْق من الْأُمَرَاء من لم يكْتب إِلَيْهِ وَلم يخَامر إِلَّا أَرْبَعَة أخلصهم سيف الدّين يازكوج فَلَمَّا عرف الْأَفْضَل صدق عَمه سلم الْمَسْأَلَة وَسَأَلَ المعدلة فقرر للأفضل فِي ديار بكر ميافارقين وأعمالها وجبل جور وحاني وجملين والمعاقل والحصون المحسوبة من ميافارقين فَرضِي بهَا مكْرها وَخرج إِلَى الشَّام مُتَوَجها لَيْلَة السبت سَابِع عشر ربيع الآخر فِي اللَّيْلَة الَّتِي دخل الْعَادِل فِي بكرتها الْقَاهِرَة فاستقر بدار السلطنة وَقدم سيف الدّين يازكوج وَحكمه واستبقى رضَا الناصرية بابقاء الْخطْبَة لِابْنِ الْعَزِيز وَلم ينافسهم مَعَ حُصُول الْمَعْنى لَهُ فِي التَّفْضِيل والتمييز وَأقَام وَهُوَ كل يَوْم فِي ارْتِفَاع وسيادة وقوته فِي نمو وَزِيَادَة
قَالَ ورد الْقَضَاء إِلَى القَاضِي صدر الدّين عبد الْملك بن درباس الْكرْدِي وَلم يزل قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية من الْأَيَّام الناصرية وَكَانَ نَائِبه القَاضِي زين الدّين عَليّ بن يُوسُف الدِّمَشْقِي وتعصب الْأُمَرَاء المتغلبون على الْملك الْعَزِيز فِي مراتبه بِصَرْف صدر الدّين وتوليه نَائِبه
وَلم يزل صدر الدّين مصروفا تاره بمحيي الدّين بن أبي عصرون وَتارَة بزين الدّين حَتَّى تعصب الْعَادِل لَهُ وَبعث الْعَزِيز على رده فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام الْعَزِيز وَجَاء الْأَفْضَل كَانَ أول ماحمل عَلَيْهِ أَن صدر الدّين يعْزل وتولي زين الدّين للْقَضَاء(4/456)
فَلَمَّا جَاءَت نوبَة الْعَادِل فِي هَذِه السّنة رد صدر الدّين إِلَى منصبه ورد التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الشَّافِعِيَّة فِي التربة المقدسة وبالمشهد الشريف الْحُسَيْنِي الَّذِي أجري عَلَيْهِ حكم الْمدرسَة إِلَى شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين ابْن حمويه وَكتب إِلَيْهِ وَهُوَ بِدِمَشْق فاستدعاه وَقد كَانَ قبل ذَلِك ولاه فِي ممالكه الجزريه أُمُور المناصب الشَّرْعِيَّة والأمور الدِّينِيَّة ومدارس الشَّافِعِيَّة وربط الصُّوفِيَّة وَهُوَ قَاضِي قضاتها ووالي هداتها وهادي ولاتها وَله فِي مناصبه نواب وَفِي مراتبه أَصْحَاب
قَالَ وَلما دخل الْعَادِل الْقَاهِرَة استشعر أَصْحَاب الدَّوَاوِين مهابة الْوَزير صفي الدّين بن شكر الظَّاهِرَة وَنزل فِي الدَّار السُّلْطَانِيَّة فِي الْحُجْرَة الْفَاضِلِيَّةِ وتصدر فِي مَكَان مكانته وَشهر من قلمه عضب شهامته وَسيف صرامته وقمع المتجبرين وَوضع المتكبرين وَأخذ قَوس الوزارة باريها وأجرى الله الْأُمُور بِهِ أحسن مجاريها
قَالَ وَندب الْعَادِل من الأَسدِية والصلاحية أميرين كبيرين إِلَى الشَّام لاصلاح ذَات الْبَين بحمص وحماة وحلب وَغَيرهمَا وهما سراسنقر وكرجي(4/457)
قَالَ وَلما ودع الْأَفْضَل عَمه بِالْبركَةِ سَار إِلَى صرخد وَأقَام بهَا وَندب إِلَى الْبِلَاد الَّتِي بديار بكر من يتسلمها وَوصل إِلَى ميافارقين وَلما انْفَصل عَن مصر وجد المواصلين لَهُ لصحبته مفارقين وَكَذَا الدُّنْيَا مَا تقبل على أحد وَلَا تمده بمدد إِلَّا تواردت على حياضة الجموع وتزاحم فِي رياضة الربوع فَإِذا صرفت عَنهُ وجوهها صرف أَهلهَا عَنهُ الْوُجُوه وَأَحلُّوا بِهِ فِيهَا مَكْرُوه الْمَكْرُوه
قَالَ وَأما الظافر فان عَمه أحسن إِلَيْهِ ووعده بعطاء جزيل وودعه بثناء جميل وأقطعه بأعمال دمشق حزرما وضياع السوَاد وشق عَلَيْهِ أَنه لَا يجد مَا يجود بِهِ وَهُوَ من الأجواد وَوصل إِلَى دمشق رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَسكن فِي جوسق بستانه بالنيرب وسلك طَريقَة الِاحْتِرَاز والاحتراس وَاخْتَارَ الْبعد عَن مقاربة النَّاس وَلزِمَ السكينَة وَلم يدْخل الْمَدِينَة وَطلب من القَاضِي بِجَامِع النيرب خَطِيبًا شافعيا ليَكُون بِالصَّلَاةِ فِيهِ عَن حُضُور الْجَامِع بِالْبَلَدِ غَنِيا واحتاط غَايَة الِاحْتِيَاط وطوى بِسَاط النشاط
فصل
قَالَ الْعِمَاد واستدعى الْعَادِل ابْنه الْكَامِل إِلَى مصر ليستنيبه فِيهَا وَكَانَ بحران وَهُوَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد نَائِب السُّلْطَان فَسلم تِلْكَ الْولَايَة إِلَى أَخِيه الفائز وَوصل إِلَى دمشق سادس عشر شعْبَان(4/458)
وَنزل بجوسق أَبِيه فِي بستانه وَمَعَهُ شمس الدّين الْمَعْرُوف بقاضي دَارا وَهُوَ وزيره ومستحثه على المكارم ومشيره
قَالَ وخدمته بِكَلِمَة أَولهَا
(أَنْتُم تحبون بالاعراض تعذيبي ... وتقصدون بِخلق الصد تهذيبي)
(سَارُوا فيا صحتي من مهجتي ارتحلي ... غَابُوا فيا سنتي عَن مقلتي غيبي)
(قد كَاد يهضمني دهري فأدركني ... مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب)
(الْكَامِل الْمَالِك الْأَمْلَاك حَيْثُ لَهُ ... رق الْأَعَاجِم مِنْهُم والأعاريب)
(معطر عرفه عرفا ومكرمه ... مخمر طينه بِالطُّهْرِ وَالطّيب)
(لَا يَدعِي جوده الْبَحْر الخضم وَلَا ... يلفى تأبيه فِي الشم الشناخيب)
(دعتك مصر إِلَى سلطانها فأجب ... دعاءها فَهُوَ حق غير مَكْذُوب)
قَالَ وعزمت على صحبته فِي هَذِه السفرة إِلَى مصر فَخرج فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان إِلَى الْكسْوَة وَخرج سُلْطَان دمشق الْملك الْمُعظم ليودع سُلْطَان مصر أَخَاهُ الْكَامِل وَصَحبه إِلَى رَأس المَاء مَعَ عدَّة من الْأُمَرَاء ثمَّ ودعه وَانْصَرف وتشوش مزاج الْكَامِل بعده وانحرف
وَوصل إِلَى العباسة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان والتقاه وَالِده الْعَادِل وأنزله بِالْقصرِ ثمَّ ركب إِلَيْهِ بعد يَوْمَيْنِ واستصحبه(4/459)
إِلَى الدَّار ورتب أَحْوَاله على الايثار وَكَانَ قد عقد لَهُ على ابْنة عَمه الْملك النَّاصِر رَحمَه الله فَأدْخلهُ عَلَيْهَا ليبني بهَا
قَالَ وَأصْبح الْعَادِل يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر شَوَّال وَركب بالسنجق السلطاني والمركب الخسرواني وَالسُّيُوف المسلولة والعقود المحلولة وَأمر الخطيبين بجامعي مصر والقاهرة بِالْخطْبَةِ لَهُ ولولده الْكَامِل من بعده وَلَيْسَ بعد دُعَاء الْخَلِيفَة إِلَّا الدُّعَاء لَهما وانقطعت الْخطْبَة لِابْنِ الْعَزِيز
وَكَانَ أحضر جمَاعَة من الْفُقَهَاء والقضاة والكبراء والولاة وَقَالَ لَهُم قَول المستفتي المستشير هَل تصح ولَايَة الصَّغِير فَقَالُوا هَذَا مولى عَلَيْهِ فَلَا يَلِي وغيابات الْحَوَادِث بنظره لَا تنجاب وَلَا تنجلي
فَقَالَ فَهَل يجوز للْمولى الْكَبِير أَن يَنُوب عَنهُ إِلَى أَن يكبر ويرتب الْأُمُور بِحكم النِّيَابَة وَيُدبر فَقَالُوا إِذا كَانَت الْولَايَة غير صَحِيحَة فَلَا تصح النِّيَابَة وَمن رَآهُ صَوَابا أَخطَأ بِهِ الاصابة لَا سِيمَا فِي السلطنة الَّتِي هِيَ خلَافَة الْخَلِيفَة فَلَا حق فِيهِ إِلَّا للكبير الَّذِي يعين على الْحَقِيقَة(4/460)
وَجرى مِنْهُم فِي هَذَا الْمَعْنى الامعان فَلَمَّا عرف الشَّرْع أحضر الْأُمَرَاء وَالْتمس مِنْهُم الطَّاعَة والسمع وخاطبهم فِي الْيَمين لَهُ والميثاق وألزمهم لَهُ بِالْوَفَاءِ والوفاق فَأَبَوا فخاطبهم بِمَا راعهم وملأ بالتقريع أسماعهم ثمَّ قَالَ قد علمْتُم مَا هُوَ الْوَاجِب من التظافر على حفظ ثغور الْإِسْلَام وتدبير المماليك بِمصْر وَالشَّام وَمَا هَذَا أَمر يناط بِهِ بالصبيان أَو يحاط بِغَيْر ذِي الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان فأذعنوا وأطاعوا وَحصل الائتلاف وَرفع الْخلاف
قَالَ وَلما أَصْبَحْنَا يَوْم السبت شاهدنا الْملك الْكَامِل قد ركب مثل وَالِده معقودا سنجقه بمعاقده والمناصل مجذوبة والصواهل مجنوبة والأعين ناظرة والألسن ذاكرة وَمَشى فِي ركابه من إِلَيْهِ تحبب وَإِلَى السُّلْطَان تقرب
قَالَ وَركب يَوْم الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال إِلَى برج الْمقسم والمقسم مَوضِع على شاطىء النّيل يزار وَهُنَاكَ مَسْجِد يتبرك بِهِ الْأَبْرَار وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي قسمت فِيهِ الْغَنِيمَة عِنْد اسْتِيلَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على مصر
وَلما أَمر صَلَاح الدّين رَحمَه الله بادارة السُّور على مصر والقاهرة وتولاه الْأَمِير قراقوش جعل نهايته الَّتِي تلِي الْقَاهِرَة عِنْد الْمقسم وَبنى فِيهِ برجا هُوَ مشرف على النّيل ذُو شرفات وَمَعْقِل ذُو طَبَقَات وثيق الْبناء رفيع الفناء وَبنى مَسْجده جَامعا واتصلت(4/461)
الْعِمَارَة مِنْهُ إِلَى الْبَلَد متتابعة المدد وَهُوَ متنزه عَن الأكدار والأقذار منزه وبالجنات مشبه وَإِلَى الْبَحْر وَالْبر بمناظرة الشبابيك موجه فَاخْتَارَ الْكَامِل أَن يجلس فِيهِ يَوْمًا للتفرج فَجَلَسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء والأعيان فِي الطَّبَقَة الدُّنْيَا ثمَّ مد السماط فِي الْجَامِع ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنه مدحه بِكَلِمَة أَولهَا
(مغرم الْقلب مدنف ... وجده لَيْسَ يُوصف)
(وعدونا وأخلفوا ... ووفينا وَلم يفوا)
قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال قدم فلك الدّين أَخُو الْعَادِل من دمشق
قلت هُوَ أَخُوهُ لأمه واسْمه أَبُو مَنْصُور سُلَيْمَان بن شروه بن جِلْدك وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الفلكية بنواحي بَاب الفراديس بِدِمَشْق وَبهَا قَبره
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذَا الْيَوْم خطب للعادل ولابنه الْكَامِل والعادل فِي مهامه يستشيره ويستدعيه والمرء كثير بأَخيه ثمَّ عَاد إِلَى دمشق بعد شهور
قَالَ وَفِي الْعشْرين من الشَّهْر خرج حَاج مصر إِلَى الْبركَة وَأمر عَلَيْهِم نصير الدّين الخضير بن بهْرَام وَكَانَ وَالِي الْمحلة وَهُوَ(4/462)
مُسْتَمر الْولَايَة من الْأَيَّام الصلاحية وَحج مَعَه من معروفي الأجناد وأمرائها عدَّة وَكَذَلِكَ حج فِي هَذِه السّنة حَاج دمشق وصحبهم الْأَمِير عز الدّين سامة وَكَانَت السّنة مباركة وَالنعَم متداركة وَالْخَيْر عَام وَالْخصب تَامّ
قَالَ وَانْتَظرْنَا زِيَادَة بَحر النّيل فِي أَوْقَاتهَا فَبلغ إِلَى إِحْدَى وَعشْرين أصبعا من ثَلَاث عشرَة ذِرَاعا فَعَاد بذلك كل قلب مرتاعا ثمَّ أَخذ فِي النَّقْص وَهُوَ مرجو الزِّيَادَة مأمول الْوَفَاء على الْعَادة فقنط النَّاس وَوَقع الياس وَاشْتَدَّ الْمحل وغلا السّعر ويئس الفلاحون من الْفَلاح فأجفلوا من الْبِلَاد للانتزاح وطاروا بأجنحة النَّجَاء فِي طلب النجاح
وَقيل إِن هَذَا النَّقْص لم يعْهَد من عهد الصَّحَابَة وشرعنا فِي الاسْتِغْفَار والإنابة وَصَامَ النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام قبل يَوْم التَّرويَة وكأنما أَصَابَتْهُم مُصِيبَة فهم فِي التَّعْزِيَة ثمَّ استسقوا ثَلَاثَة أَيَّام إِلَى الْعِيد وأفاض الْخَطِيب فِي ذكر الْوَعيد وغصت بالخلائق الْأَمْكِنَة وضجت بالأدعية والضراعات الْأَلْسِنَة
قَالَ وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا وَهِي سنة خمس وَتِسْعين استدعي القَاضِي ضِيَاء الدّين أَبُو الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري إِلَى بَغْدَاد وَولي قَضَاء الْقُضَاة وَكَانَ يتَوَلَّى(4/463)
الْقَضَاء بالموصل فَخرج فِي أَوَاخِر شعْبَان فَلَمَّا وصل بَغْدَاد بجل وَعظم وَكَانَ قد تردد إِلَى بَغْدَاد دفعات فِي الْأَيَّام الصلاحية بِسَبَب الرسَالَة فَهُوَ كَانَ الْمعِين لَهَا كَمَا تقدم ذكره
فصل فِي وَفَاة جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى توفّي فِي دَاره بِدِمَشْق الْأَمِير صارم الدّين قايماز النجمي وَكَانَ مُتَوَلِّي أَسبَاب صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِي مخيمه وبيوته يعْمل عمل أستاذ الدَّار وَإِذا فتح بَلَدا سلمه إِلَيْهِ واستأمنه عَلَيْهِ فَيكون أول من افتض عذرته وشام ديمته وَحصل لَهُ من بلد آمد عِنْد فَتحه وَمن ديار مصر عِنْد موت عاضدها أَمْوَال عَظِيمَة وَتصدق فِي يَوْم وَاحِد بسبعة آلَاف دِينَار مصرية عينا وَأظْهر أَنه قضى من حُقُوق الله فِي ذمَّته دينا
وَهُوَ بِالْعرْفِ مَعْرُوف وبالخير مَوْصُوف يحب اقتناء المفاخر بِبِنَاء الرَّبْط والقناطر وَمن جُمْلَتهَا رِبَاط خسفين ورباط نوى وَله مدرسة مجاورة دَاره وَلما كفى الله دمشق الْحصْر نَهَضَ وَرَاء(4/464)
الْعَادِل إِلَى مصر فَرده إِلَى دمشق ليلازم خدمَة الْملك الْمُعظم وَلَده وَيكون من أقوى عدده وأوفى عدده وَكَانَ فِي خلقه زعارة وَكَأن حصافته مستعارة
قَالَ وَلما دفن نبشت أَمْوَاله وفتشت رحاله وَحضر أُمَنَاء القَاضِي وضمناء الْوَالِي وأخرجوا خبايا الزوايا وسموط النُّقُود وخطوط النسايا وغيروا رسوم الْمنزل ومعالمه واستنبطوا دنانيره ودراهمه وحفروا أَمَاكِن فِي الدَّار وبركة الْحمام فِي الْجوَار فحملوا أوقارا من النضار وظهروا على الْكُنُوز المخفية والدفائن الألفية فَقيل زَادَت على مئة ألف دِينَار وَهُوَ قَلِيل فِي جنب مَا يحرز بِهِ من كَذَا وَكَذَا قِنْطَار
واستقل مَا طواه الخزن وأخفاه الدّفن وَقيل كَانَ يكنز فِي صحارى ضيَاعه ومغارات إقطاعه
قلت واتهم بعده جمَاعَة بِأَن لَهُ عِنْدهم ودائع وتأذى بذلك المتأبي مِنْهُم والطائع وداره بِدِمَشْق هِيَ الَّتِي بناها الْملك الْأَشْرَف أَبُو الْفَتْح مُوسَى بن الْعَادِل دَارا للْحَدِيث فِي سنة ثَلَاثِينَ وست مئة وأخرب الْحمام الَّذِي كَانَ مجاورا لَهَا وَأدْخلهُ فِي ربعهَا وَذَلِكَ فِي جوَار قلعة دمشق بَينهمَا الخَنْدَق وَالطَّرِيق وَثمّ مدرسته الْمَعْرُوفَة بالقيمازية(4/465)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة توفّي يَعْنِي بِمصْر الْحَاجِب لُؤْلُؤ وَكَانَ فِي الْأَيَّام الصلاحية أَشْجَع الشجعان وأفرس الفرسان وَله مقامات فِي الْغُزَاة ومواقف مَعَ العداة وَهُوَ الَّذِي نَهَضَ وَرَاء مراكب الفرنج الناهضة فِي بَحر أَيْلَة إِلَى بر الْحجاز وأتى فِي كسرهم وأسرهم بالاعجاب والاعجاز وَكَانُوا قطعُوا الطَّرِيق فِي بَحر عيذاب على التُّجَّار وحصلت أَمْوَالهم تَحت الِاسْتِيلَاء بعد حصولهم تَحت الاسار فأنقذ واستنقذ وَمَا نزل حَتَّى أَخذ وسَاق إِلَى الْقَاهِرَة أُولَئِكَ الْكفَّار مقهورين واعتقلهم بهَا مأسورين
قلت وَفِيه يَقُول الرضي بن أبي حَصِينَة الْمصْرِيّ يُخَاطب الفرنج
(عَدوكُمْ لُؤْلُؤ وَالْبَحْر مَسْكَنه ... والدر فِي الْبَحْر لَا يخْشَى من الْغَيْر)
(فَأمر حسامك أَن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كَانَ مَنْسُوب إِلَى النَّحْر)
وَقد قيل فِيهِ أشعار كَثِيرَة تقدم بَعْضهَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان(4/466)
وَسبعين
قَالَ الْعِمَاد وَمن دَلَائِل سماحه مَا شاهدته بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين من مبراته الظَّاهِرَة أَنه لما حط الْقَحْط رَحْله وَوصل الْمحل مَحَله وَتمّ الغلاء وَعم الْبلَاء ابتكر هَذَا الْحَاجِب الْكَبِير مكرمَة لم يسْبق إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَنه كَانَ يخبز كل لَيْلَة اثْنَي عشر ألف رغيف فَإِذا أصبح جلس على بَاب الْموضع الَّذِي فِيهِ حشر الْفُقَرَاء ثمَّ يفتح من الْبَاب مِقْدَار مَا يخرج مِنْهُ وَاحِد بعد وَاحِد وَيعلم أَنه غير عَائِد فَيتَنَاوَل كل مِنْهُم قرصة وَيرى ذَلِك من خيراته فرْصَة فَمَا يزَال قَاعِدا حَتَّى يفرق الألوف على الألوف
وَكَانَ هَذَا دأبه فِي هَذَا الغلاء حَتَّى هَب رخاء الرخَاء فَحِينَئِذٍ تنوعت صدقاته واستغرقت بالصلات أوقاته
وَكَانَ بهي الشيب نقي الجيب قد جعل الله الْبركَة فِي عمره وَخَصه مُدَّة حَيَاته بامرار أمره فأنجده فِي أَوَان ضعفه بِتَضْعِيف بره وَلَا شكّ أَنه من الْأَوْلِيَاء الأبدال وَالصَّالِحِينَ الصَّالِحِي الْأَعْمَال
قَالَ وَفِي يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَأَنا بالديار المصرية توفّي الْفَقِيه الْكَبِير شهَاب الدّين الطوسي وَهُوَ(4/467)
أكبر الْأَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ورئيسها وَإِلَيْهِ فتياها وتدريسها وَهُوَ من أَصْحَاب مُحَمَّد بن يحيى وَكم واجه الْمُلُوك بِالْحَقِّ المر وَأنكر عَلَيْهِم مَا ينكرونه من الْعرف ويعرفونه من النكر وَلما وصل إِلَى مصر كَانَ تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب متوليها فأعجبه سمت الْمَذْكُور فولاه مدرسته بِمصْر وَهِي الْمَعْرُوفَة بمنازل الْعِزّ فوليها وَأقَام فِيهَا مُفِيدا حَتَّى فَازَ فِي جنَّة النَّعيم بفوزه وخلت منَازِل الْعِزّ من منَازِل عزه وَأصْبح النَّاس حول سَرِيره مزدحمين وَعَلِيهِ متوجعين فوصلوا بِهِ إِلَى القرافة مَكَان الرَّحْمَة والرافة وَهُنَاكَ الأصاغر والأكابر من الْمُلُوك والأمراء مشَاة وجنازته بِمَا فِيهِ من لِبَاس التَّقْوَى مغشاة وَلما نفضوا أَيْديهم من ترابه انْفَضُّوا من أيادي بركته متربين وبنار اللهف والتلهب عَلَيْهِ مضطرمين مضطربين
ونمى الْخَبَر إِلَى حماة وَعرف ابْن تَقِيّ الدّين فولى قَاضِي دمشق محيي الدّين بن الزكي بِمصْر وقُوف أَبِيه وسير نَائِبه لتسلم ذَلِك وتوليه وَكَانَ اتّفق حُضُوره عِنْده فِي الرسَالَة فاهتدى برشده إِلَى الضَّلَالَة(4/468)
قَالَ وَفِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الْفَقِيه الْعَالم بدر الدّين عَسْكَر رَئِيس الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق
قلت وَقيل كَانَت وَفَاته فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى وَيعرف بِابْن العقادة
قَالَ وَفِي سَابِع عشر شعْبَان توفّي بحلب الْفَقِيه الْكَبِير ظهير الدّين عبد السَّلَام الْفَارِسِي وَكَانَ أبرع فَقِيه وأفقه بارع ورد إِلَى أصفهان سنة تسع وَأَرْبَعين وَلَقي بهَا الْعلمَاء المبرزين وخالط صدورها بني الخجندي وَكَانَ تفقه بكرمان وَقَرَأَ على فَخر الدّين الرَّازِيّ من أكبر تلامذة مُحَمَّد بن يحيى وتنقل فِي بِلَاد خُرَاسَان وَالْعراق ولقيته بِمصْر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين فِي الْعَهْد الصلاحي وسامة السُّلْطَان الْمقَام بهَا ليفوض إِلَيْهِ التدريس بِقَبْر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَعبر وَمَا صَبر وَعَاد إِلَى الْبِلَاد ثمَّ وَفد إِلَى دمشق فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَتِسْعين ثمَّ سَار إِلَى حلب فِي ثَانِي شعْبَان فَكَانَ من وَفَاته بهَا مَا كَانَ(4/469)
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة توفّي بنيسابور الْفَقِيه الْكَبِير محيي الدّين بن محيي الدّين مُحَمَّد بن يحيى
وفيهَا توفّي أَيْضا صَاحب آمد قطب الدّين سكمان ابْن نور الدّين بن قرا أرسلان
وفيهَا مَاتَ بِدِمَشْق فِي الْعشْر الْأَوْسَط من شعْبَان الْهمام الْعَبْدي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن نصر بن عقيل بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الْقَيْس من ربيعَة وَقدم دمشق سنة خمس وَتِسْعين وَهُوَ أشعر من رَأَيْته فِي هَذَا الزَّمَان وسمعته ينشد الْملك الْعَادِل ودمشق محصورة كلمة شاعرة وصادفته ذَا سمت حسن وفصاحه وحصافه ولسن وَمَعَهُ ديوَان شعره يحوي قلائد دره وفرائد سحره وتوفر على مدح الأمجد صَاحب بعلبك وَمن شعره
(وَمَا النَّاس إِلَّا كَامِل الْحَظ نَاقص ... وَآخر مِنْهُم نَاقص الْحَظ كَامِل)
(وَإِنِّي لمثر من حَيَاء وعفة ... وَإِن لم يكن عِنْدِي من المَال طائل)(4/470)
قَالَ وَتُوفِّي فِي هَذِه السّنة قبل الْفَاضِل بِثَلَاثَة أَيَّام الْأَثِير بن بنان وَكَانَ مشمولا فِي الدولتين بِكُل قبُول واحترام وإحسان
وَكَانَ السُّلْطَان لما تصرف فِي الْقصر ولاه بيع موجوده وبذل فِي تصريفه غَايَة مجهوده وَلما فرغ من شغله أبقاه على رسم أنعامه كُله وَاسْتمرّ إمراره وَاسْتقر قراره وَجلسَ فِي بَيته يسمع عَلَيْهِ رواياته الْعَالِيَة حَتَّى أدْرك أَيَّام الْملك الْعَزِيز وَلم يدْرك فِي الْعِزّ أملا وَلم يملك عملا حَتَّى تغير خلقه وتقلل رزقه وَتبطل حَقه وَآل أمره إِلَى اعتقاله بالديوان واحتباسه فِي الرهون
وَمِمَّنْ غاظه وَزِير الْعَزِيز وَكَانَ مؤدبه فِي الصغر واستوزره فِي الْكبر فتجهمه وأسمعه مَا كرهه وَقَالَ لَهُ مَا أحسن مَا أدبت(4/471)
مخدومك وخرجته وعَلى مَرَاتِب أخلاقك دَرَجَته وَقَالَ للفاضل أَنا خلصتك فِي أَيَّام شاور مرَّتَيْنِ ودافعت عَنْك دفعتين وَهَذِه قصائدك فِي مدحي ومقاصدك لمنحي وَكَانَ يعرف لتقادم عَهده وانتقاله فِي الْحَالَات مبادىء أَرْبَاب المناصب فِي الغايات فكرهه النواب ودحضوه ولمعارض النوائب عرضوه
وَكَانَ بِالْقَاهِرَةِ جاري وَبَاب دَاره مُقَابل بَاب دَاري وَأَنا أعينه فِي الْأَيَّام الصلاحية بأصلح إِعَانَة وأصونه بأرجح صِيَانة
فصل فِي وَفَاة القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله
قَالَ الْعِمَاد وتمت فِي هَذِه السّنة الرزية الْكُبْرَى والبلية الْعُظْمَى وفجيعة أهل الْفضل بِالدّينِ وَالدُّنْيَا وَذَلِكَ بانتقال القَاضِي الْفَاضِل من دَار الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء فِي دَاره بالقاهره سادس ربيع الآخر يَوْم الثُّلَاثَاء وَكَانَ يَعْنِي ذَلِك الْيَوْم بمصاف الْأَفْضَل يَوْم الكسرة وبمصاب الْفَاضِل يَوْم الْحَسْرَة
وَذكر أَنه لَيْلَة الثُّلَاثَاء فِي مدرسته صلى الْعشَاء وَجلسَ مَعَ(4/472)
الْفَقِيه ابْن سَلامَة مدرسها وتحدث مَعَه مَا شَاءَ وشوهد من كل لَيْلَة أبش وأبسم وأهش وَقد طابت المحاضرة وطالت المسامرة
فانفصل إِلَى منزله صَحِيح الْبدن فصيح اللسن وَقَالَ لغلامه رتب حوائج الْحمام وعرفني حِين أَقْْضِي منى الْمَنَام فوافاه سحرًا للإعلام فَمَا اكترث بِصَوْت الْغُلَام وَلم يدر أَن كلم الْحمام حمى من الْكَلَام وَأَن وثوقه بِطَهَارَتِهِ من الْكَوْثَر أغناه عَن الْحمام
فبادر إِلَيْهِ وَلَده فألفاه وَهُوَ سَاكِت باهت فَعرف أَن الْقدر لَهُ باغت فَلبث يَوْمه لَا يسمع لَهُ إِلَّا أَنِين خَفِي علم مِنْهُ أَنه بِعَهْد الله وَفِي
ثمَّ قضى سعيدا وَمضى شَهِيدا حميدا فوقاه الله تَعَالَى الْوَصِيَّة فَكَانَت لَهُ بِسَيِّد الْأَوَّلين والآخرين أُسْوَة وَإِن يعرى عَن رِدَاء الْعُمر فَلهُ من حلل الْبَقَاء فِي عليين كسْوَة ولانه لم يبْق فِي مُدَّة حَيَاته عملا صَالحا إِلَّا وَقدمه وَلَا عهدا فِي الْجنَّة إِلَّا أحكمه وَلَا عقدا فِي الْبر إِلَّا أبرمه فَإِن صنائعه فِي الرّقاب وأوقافه على سَبِيل الْخيرَات متجاوزة عَن الْحساب لَا سِيمَا أوقافه لفكاك أُسَارَى الْمُسلمين إِلَى يَوْم الْحساب
وأعان طلبة الْعلم الشَّافِعِيَّة والمالكية عِنْد دَاره بِالْمَدْرَسَةِ والأيتام بِالْكتاب والخيرات الدارة على الْأَيَّام فَكَانَت حَيَاة لَهُ ثَانِيَة إِلَى يَوْم الْبَعْث وإعادة حَيَاة الْأَنَام
وَكَانَ رَحمَه الله للحقوق قَاضِيا وَفِي الْحَقَائِق مَاضِيا سُلْطَانه مُطَاع وَالسُّلْطَان لَهُ مُطِيع وفضله جَامع وَشَمل الْفضل بِهِ جَمِيع وَهُوَ وَاحِد الزَّمَان وَصَاحب الْقُرْآن قد خصّه الله بالمكانة ولامكان وَالسُّلْطَان رَحمَه الله من مفتتحات فتوحه ومختتماتها ومبادي أُمُور دولته وغاياتها مَا افْتتح الأقاليم إِلَّا بأقاليد آرابه وآرائه ومقاليد غناهُ وغنائه
وَكنت من حَسَنَاته محسوبا وَإِلَى مُنَاسِب آلائه مَنْسُوبا أعرف صناعته وَيعرف صناعتي وأعارض بضاعته الثمينة بمزجاة بضاعتي وَلم يزل يجذب بضبعي ويجلب نفعي وَمَا أوسع ذرعه للخطاب فِي شغلي إِذا ضَاقَ بالخطب الشاغل ذرعي
وَكَانَت كِتَابَته النَّصْر ويراعته رائعه الدَّهْر وبراعته بَارِية للبر وَعبارَته فِي عقد السحر وَكَانَت بلاغته للدولة مجملة وللمملكة مكملة وللعصر الصلاحي على سَائِر الْأَعْصَار مفضلة ومفتتحاته فِي الفتوحات البديعة بديعة ومخترعاته فِي الصَّنَائِع المخترعة صَنِيعَة وَإِنَّمَا نسجت على منواله ومزجت من جرياله وَرويت بزلاله
وَهُوَ الَّذِي نسخ أساليب القدماء بِمَا أقدمه من الأساليب وأغربه من الابداع وأبدعه من الْغَرِيب وَمَا ألفيته كرر ذكره فِي مُكَاتبَة وَلَا ردد لفظا فِي مُخَاطبَة بل تَأتي فصوله مبتكرة مبتدهة مبتدهة لَا مفتكرة بِالْعرْفِ والعرفان معرفَة لَا نكرَة(4/473)
وَكَانَ رَحمَه الله للحقوق قَاضِيا وَفِي الْحَقَائِق مَاضِيا سُلْطَانه مُطَاع وَالسُّلْطَان لَهُ مُطِيع وفضله جَامع وَشَمل الْفضل بِهِ جَمِيع وَهُوَ وَاحِد الزَّمَان وَصَاحب الْقُرْآن قد خصّه الله بالمكانة والامكان وَالسُّلْطَان رَحمَه الله من مفتتحات فتوحه ومختتماتها ومبادي أُمُور دولته وغاياتها مَا افْتتح الأقاليم إِلَّا بأقاليد آرابه وآرائه ومقاليد غناهُ وغنائه
وَكنت من حَسَنَاته محسوبا وَإِلَى مُنَاسِب آلائه مَنْسُوبا أعرف صناعته وَيعرف صناعتي وأعارض بضاعته الثمينة بمزجاة بضاعتي وَلم يزل يجذب بضبعي ويجلب نفعي وَمَا أوسع ذرعه للخطاب فِي شغلي إِذا ضَاقَ بالخطب الشاغل ذرعي
وَكَانَت كِتَابَته كتائب النَّصْر ويراعته رائعة الدَّهْر وبراعته بَارِية للبر وَعبارَته فِي نافثة عقد السحر وَكَانَت بلاغته للدولة مجملة وللمملكة مكملة وللعصر الصلاحي على سَائِر الْأَعْصَار مفضلة ومفتتحاته فِي الفتوحات البديعة بديعة ومخترعاته فِي الصَّنَائِع المخترعة صَنِيعَة وَإِنَّمَا نسجت على منواله ومزجت من جرياله وَرويت بزلاله
وَهُوَ الَّذِي نسخ أساليب القدماء بِمَا أقدمه من الأساليب وأغربه من الابداع وأبدعه من الْغَرِيب وَمَا ألفيته كرر دُعَاء ذكره فِي مُكَاتبَة وَلَا ردد لفظا فِي مُخَاطبَة بل تَأتي فصوله مبتكرة مبتدعة مبتدهة لَا مفتكرة بِالْعرْفِ والعرفان معرفَة لَا نكرَة(4/474)
وَكَانَت الدولة بادالته تدال والزلة بازالته تزَال والكرام فِي ظله يقيلون وَمن عثرات النوائب بفضله يستقيلون وبعز حمى حمايته يعزون ولهز عطف عطفه يهتزون فالى من الْوِفَادَة بعده وَمِمَّنْ الافادة وفيمن السِّيَادَة وَلمن السَّعَادَة وَالْحَمْد لله الَّذِي لَهُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة و {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} ولأمره منقادون
وَقد وَصفه الْعِمَاد أَيْضا فِي كتاب الخريدة فِي الْقسم الرَّابِع فِي ذكر محَاسِن فضلاء مصر وأعمالها فَقَالَ وَقبل شروعي فِي ذكر أَعْيَان مصر وأحاسنها ومزايا فضلائها ومزاينها أقدم ذكر من جَمِيع أفاضل الدَّهْر وأماثل الْعَصْر كالقطرة فِي تيار بحره بل كالذرة فِي أنوار فجره وَهُوَ الْمولى القَاضِي الْأَجَل الْفَاضِل الأسعد أَبُو عَليّ عبد الرَّحِيم بن القَاضِي الْأَشْرَف أَبى الْمجد عَليّ بن الْحسن البيساني صَاحب الْقُرْآن العديم الأقران وَوَاحِد الزَّمَان الْعَظِيم الشان رب الْقَلَم وَالْبَيَان واللسن وَاللِّسَان والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة وَالْفضل الَّذِي مَا سمع فِي الْأَوَائِل مِمَّن لَو عَاشَ فِي زَمَانه لتَعلق بغباره أَو جرى فِي مضماره فَهُوَ كالشريعة المحمدية الَّتِي نسخت الشَّرَائِع ورسخت بهَا الصَّنَائِع يخترع الأفكار ويفترع الْأَبْكَار ويطلع الْأَنْوَار ويبدع الأزهار
وَهُوَ ضَابِط الْملك بآرائه ورابط السلك بآلائه إِن شَاءَ أنشأ(4/475)
فِي يَوْم وَاحِد بل فِي سَاعَة مَا لَو دون لَكَانَ لأهل الصِّنَاعَة خير بضَاعَة أَيْن قس عِنْد فَصَاحَته وَأَيْنَ قيس فِي مقَام حصافته وَمن حَاتِم وَعَمْرو فِي سماحته ومماسته
فَضله بالافضال حَال وَنجم قبُوله فِي أفق الاقبال عَال لَا من فِي فعله وَلَا مين فِي قَوْله وَلَا خلف فِي وعده وَلَا بطء فِي رفده
الصَّادِق الشيم السَّابِق بِالْكَرمِ ذُو الْوَفَاء والمروة والصفاء والفتوة والتقى وَالصَّلَاح والندى والسماح
منشر رفات الْعلم وناشر راياته وجالي غيابات الْفضل وتالي آيَاته وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله الَّذين خصوا بكرامته وَأَخْلصُوا لولايته وَقد وَفقه الله للخير كُله وَفضل هَذَا الْعَصْر على الْأَعْصَار السالفة بفضله ونبله فَهُوَ مَعَ مَا يَتَوَلَّاهُ من أشغال المملكة الشاغلة ومهماته المستغرقة فِي العاجلة لَا يغْفل عَن الآجلة وَلَا يفتر عَن الْمُوَاظبَة على نوافل صلَاته ونوافل صلَاته وَحفظ أوراده ووظائفه وَبث أصفاده وعوارفه وَيخْتم كل يَوْم من الْقُرْآن الْمجِيد ويضيف إِلَيْهِ مَا شَاءَ الله من الْمَزِيد
وَأَنا أوثر أَن أفرد لنظمه ونثره كتابا فانني أغار من ذكره مَعَ الَّذين هم كالسها فِي فلك شمسه وذكائه وكالثرى عِنْد ثريا علمه(4/476)
وذكائه فَإِنَّمَا تبدو النُّجُوم إِذا لم تبرز الشَّمْس حاجبها ويحجب نور الغزالة عِنْد إشراقها كواكبها ولانه لَا يُؤثر أَيْضا إِثْبَات ذَلِك فَأَنا ممتثل لأَمره المطاع مُلْتَزم لَهُ قانون الِاتِّبَاع وَاضع أُذُنِي لإذنه قَابض يَمِيني على يمنه راكن بأملي إِلَى رُكْنه قاطن برجائي فِي ظلّ أَمنه أفترض رِضَاهُ وَلَا أعترض على مَا يحكم بِهِ وَيَرَاهُ وَلَا أقوم إِلَّا حَيْثُ يقيمني وَلَا أسوم إِلَّا مَا يسومني ولاأعرف يدا ملكتني غير يَده وَلَا أتصدى إِلَّا لما جعلني بصدده وأسأل الله التَّوْفِيق للثبات على هَذِه السّنَن وانتهاج جدده
وَهُوَ أَحَق ممدوحي بمدحي وأقضاهم لحقه وأسماهم فِي أفقه وأولاهم بصدقه وأهداهم إِلَى طرقه ولي فِيهِ مدائح منظومة ومنثورة ومقاصد معاهدها بفضله معمورة وقصائد قلائدها على مجده موفورة(4/477)
ثمَّ ذكر مِنْهَا بعض مَا تقدم ذكره فِي مَوَاضِع من هَذَا الْكتاب وَله فِيهِ من قصيدة أَولهَا
(بحياتكم مَا عنْدكُمْ بعدِي ... فسوى الأسى مَا بعدكم عِنْدِي)
(مَا للأحبة لَا عدمتهم ... رَغِبُوا عَن الاسعاد فِي الزّهْد)
(إِن لم يفوا فَلَقَد وفى كرما ... عبد الرَّحِيم بِذِمَّة الْمجد)
(ذُو الرُّتْبَة الشماء والشرف العالي ... السنا والسؤدد الْعد)
(النَّاس كلهم لَهُ تبع ... فِي فَضله والدهر كَالْعَبْدِ)
(كم غاص بَحر بنانه فغدا ... در الْبَيَان يساق فِي العقد)
(إِن سود الْبَيْضَاء بيض من ... ثوب اللَّيَالِي كل مسود)
(قلم أقاليم الْبِلَاد بِهِ ... وثغورها للضبط والسد)
(ملك كتيبته كِتَابَته ... فَرد بِجَيْش النَّصْر فِي جند)
(الأسمر الخطي تَابعه ... فِي حكمه والأبيض الْهِنْدِيّ)
(والنائبات بحده أبدا ... مثلومة مفلولة الْحَد)
وَهِي طَوِيلَة
ثمَّ قَالَ وَلَو أوردت من كَلَامه طرفا لظهر عجز الأفاضل(4/478)
وَاعْتَرَفت بالقصور ذَوُو الْفَضَائِل فَلَا يحسن ذكر الْبَحْر فِي الجداول وَلَا الْعَرْش فِي الْمنَازل فَأَنا أوثر أَن أفرده بقسم لَا يمتزج بسواه وَلَا يتبهرج بِهِ من فِي جملَته أوردناه وَلَعَلَّه يَأْذَن لي فِي ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا نَفاذ للتَّصَرُّف إِلَّا بعد الفكاك من رَهنه
قلت وَقد قَالَت الشُّعَرَاء فِيهِ فَأَكْثرُوا وَقد تقدم لأبي الْحسن بن الذروي فِيهِ أَبْيَات حَسَنَة عَامي حجه
وللتاج أبي الْفَتْح البلطي فِيهِ
(لله عبد رَحِيم ... يدعى بِعَبْد الرَّحِيم)
(على صِرَاط سوي ... من الْهدى مُسْتَقِيم)
(ينمى إِلَى شرف فِي ... ذرى الْمَعَالِي صميم)(4/479)
(مهذب حَاز مَا شِئْت ... من تقى وعلوم)
(نسك ابْن مَرْيَم عِيسَى ... وهدي مُوسَى الكليم)
(يرى التَّهَجُّد أنسا ... فِي جنح ليل بهيم)
(مسهد الطّرف يَتْلُو ... آي الْقُرْآن الْعَظِيم)
وللقاضي السعيد هبة الله بن سناء الْملك فِيهِ من قصيدة
(عبد الرَّحِيم على الْبَريَّة رَحْمَة ... أمنت بصحبتها حُلُول عقابها)
(يَا سَائِلًا عَنهُ وَعَن أَسبَابه ... نَالَ السَّمَاء فسله عَن أَسبَابهَا)
(والدهر يعلم أَن فيصل خطبه ... بخطى يراعته وَفصل خطابها)
(وَلَقَد علت رتب الْأَجَل على الورى ... بسمو منصبها وَطيب نصابها)
(واتته خاطبة إِلَيْهِ وزارة ... ولطالما أعيت على خطابها)
(مَا لقبوه بهَا لَان يَعْلُو بهَا ... أسماؤه أغنته عَن ألقابها)
(قَالَ الزَّمَان لغيره إِذْ رامها ... تربت يَمِينك لست من أترابها)
(اذْهَبْ طريقك لست من أَرْبَابهَا ... وارجع وَرَاءَك لست من أَصْحَابهَا)
(وبعز سيدنَا وَسيد عزنا ... ذلت من الْأَيَّام شمس صعابها)
(وَأَتَتْ سعادته إِلَى أبوابه ... لَا كَالَّذي يسْعَى إِلَى أَبْوَابهَا)
(تعنو الْمُلُوك لوجهه بوجوهها ... لَا بل تساق لبابه برقابها)(4/480)
(شغل الْمُلُوك بِمَا يَقُول وَنَفسه ... مَشْغُولَة بِالذكر فِي مِحْرَابهَا)
(فِي الصَّوْم والصلوات أتعب نَفسه ... وَضَمان رَاحَته على إتعابها)
(وتعجل الاقلاع عَن لذاته ... ثِقَة بِحسن مآلها ومآبها)
(فلتفخر الدُّنْيَا بسائس ملكهَا ... مِنْهُ ودارس علمهَا وكتابها)
(صوامها قوامها علامها ... عمالها بذالها وهابها)
وَله فِيهِ أَيْضا من أُخْرَى
(وَسَأَلت من أَي الْمَعَادِن ثغرها ... فَوجدت من عبد الرَّحِيم المعدنا)
(أَبْصرت جَوْهَر ثغرها وَكَلَامه ... فَعلمت حَقًا أَن هَذَا من هُنَا)
(ذَاك الْكَلَام من الْكَمَال بمنزل ... لَا يدْرك السَّاعِي إِلَيْهِ سوى العنا)
(يدنو من الأفهام إِلَّا أَنه ... يلقاه أبعد مَا يكون إِذا دنا)
قلت كَانَ وَالِده تولى الْقَضَاء بعسقلان وأنفذ وَلَده الْفَاضِل إِلَى مصر فاتصل بِكِتَاب الدولة المصرية أبي الْفَتْح ابْن قادوس وَغَيره وَفتح الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الصِّنَاعَة ففاق فِيهَا أهل عصره مُضَافا إِلَى مَا منحه الله تَعَالَى من علو قدره
وَقد سبق من ترسلاته مَا يشْهد لعَظيم أمره وقرأت من نظمه(4/481)
(وَسيف عَتيق للعلاء فَإِن يقل ... رَأَيْت أَبَا بكر فَقل وعتيق)
(فزر بَابه فَهُوَ الطَّرِيق إِلَى الندى ... ودع كل بَاب مَا إِلَيْهِ طَرِيق)
وَله أَيْضا
(سبقتم بإسداء الْجَمِيل تكرما ... وَمَا مثلكُمْ فِيمَن تحدث أَو حكى)
(وَقد كَانَ ظَنِّي أَن أسابقكم بِهِ ... وَلَكِن بَكت قبلي فهيج إِلَى البكا)
وَدفن رَحمَه الله بمقبرته بالقرافة
وقرأت فِي تَارِيخ أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل القليوبي الَّذِي ذيله على تَارِيخ أبي الْقَاسِم السمناني قَالَ حَدثنِي الْملك المحسن أَحْمد ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين أَن يَوْم مَاتَ الْفَاضِل اتّفق دُخُول السُّلْطَان الْملك الْعَادِل إِلَى مصر وَأَخذهَا من ابْن أَخِيه الْأَفْضَل قَالَ دخل الْعَادِل من بَاب وَخَرجْنَا نسرع بالجنازة من بَاب آخر
قَالَ وَأكْثر أهل مصر يذكرُونَ أَن كتبه الَّتِي جمعهَا مِقْدَار مئة ألف مُجَلد وَكَانَ يجمعها من سَائِر الْبِلَاد
قَالَ وَسمعت قَاضِي الْقُضَاة ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري بِبَغْدَاد أَيَّام ولَايَته يحدث أَن القَاضِي الْفَاضِل لما سمع(4/482)
أَن الْعَادِل أَخذ الديار المصرية دَعَا على نَفسه بِالْمَوْتِ خشيَة أَن يستدعيه وزيره صفي الدّين بن شكر إِلَيْهِ أَو يجْرِي فِي حَقه إهانة وَكَانَ بَينهمَا مقارصة فَأصْبح مَيتا وَكَانَت لَهُ مُعَاملَة حَسَنَة مَعَ الله تَعَالَى وَصَلَاة بِاللَّيْلِ كَمَا ذكرُوا عَنهُ رَحمَه الله
قلت وَأَخْبرنِي القَاضِي الشَّهِيد ضِيَاء الدّين ابْن أبي الْحجَّاج صَاحب ديوَان الْجَيْش رَحمَه الله أَن القَاضِي الْفَاضِل بعد صَلَاح الدّين لم يخْدم أحدا من أَوْلَاده وَكَانَت الدولة بأسرها تَأتي إِلَى خدمته إِلَى أَن توفّي
قَالَ وَلما قدم الْعَادِل إِلَى مصر وملكها بَات لَيْلَة ثمَّ أصبح فزار قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَجَاء إِلَى قبر الْفَاضِل فزاره قَالَ ابْن أبي الْحجَّاج وَأَنا حَاضر ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا توفّي الْأَمِير عز الدّين إِبْرَاهِيم بن(4/483)
شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم فِي حصن أفامية
وفيهَا أَو فِي سنة سِتّ قبلهَا توفّي السُّلْطَان خوارزم شاه بن تكش بن أيل أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد وَهُوَ الَّذِي زَالَت دولة السلجقية بِملكه وَاجْتمعَ لَهُ مَعَ خوارزم خُرَاسَان وَالْعراق وَلما مَاتَ قَامَ وَلَده عَلَاء الدّين مُحَمَّد مقَامه
قَالَ وفيهَا كتب السُّلْطَان الْعَادِل للأمير فَخر الدّين أياز سركس بأعمال تبنين وهونين وبانياس والحولة وَمَا يجْرِي مَعهَا وَكَانَت مَعَ الْأَمِير حسام الدّين بِشَارَة فحاصره وأنجده الْملك الْمُعظم عِيسَى ابْن السُّلْطَان من دمشق فَسلم الْبِلَاد وَخرج
قَالَ وفيهَا توفّي الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ من القدماء الكرماء وشيوخ الدولة الكبراء أَمِير الأَسدِية ومقدمها وكريمها ومكرمها وَلم أر غَيره خَصيا لم تقاومه الفحول وَلم تُؤثر فِي محَال مأثراته المحول وَله فِي الْغَزَوَات والفتوحات مَوَاقِف مَعْرُوفَة ومقامات مَوْصُوفَة وَهُوَ الَّذِي احتاط على الْقصر حِين استتبت على متوليه أَسبَاب النَّصْر وَذَلِكَ قبل موت العاضد بِمدَّة
وَلما خطب لبني الْعَبَّاس بالديار المصرية تسلم الْقصر بِمَا فِيهِ وَاسْتظْهر على أقَارِب العاضد وبنيه وَتَوَلَّى عمَارَة الأسوار المحيطة بِمصْر والقاهرة وأتى فِيهَا بالعجائب الظَّاهِرَة(4/484)
وَكَانَ معَاذ الالتجاء وملاذ الإرتجاء غير أَنه نسب إِلَى اللجاج لشدَّة ثباته وفرط جموده وَلَا يكَاد يعجم لصلابة عوده وَلما توفّي تسلم السُّلْطَان دَاره بِمَا حوته من الذَّخَائِر وَصَارَت إقطاعاته للْملك الْكَامِل
قَالَ وفيهَا نقل إِلَى السُّلْطَان عَن غُلَام الْأَمِير أيبك الفطيس أَن جمَاعَة قد عزموا على الفتك بالسلطان حَال ركُوبه وَأسْندَ أصل ذَلِك إِلَى الْملكَيْنِ الْمعز إِسْحَاق والمؤيد مَسْعُود وَلَدي صَلَاح الدّين رَحمَه الله فأحضر الْغُلَام وعصره فَمَاتَ وَلم يقر واعتقل الْمعز والمؤيد وَنزع من اتهمه فِي ذَلِك من الْأُمَرَاء الصلاحية وَتكلم النَّاس بِأَحَادِيث فِي هَذِه الْقَضِيَّة
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ الغلاء وامتد الْبلَاء وتحققت المجاعة وَتَفَرَّقَتْ الْجَمَاعَة وَهلك الْقوي فَكيف الضَّعِيف ونهك السمين فَكيف العجيف وَخرج النَّاس حذر الْمَوْت من الديار وتفرق فرق بِمصْر فِي الْأَمْصَار وَرَأَيْت الأرامل على تِلْكَ الرمال وَالْجمال باركة تَحت الْأَحْمَال ومراكب الفرنج على سَاحل الْبَحْر على اللقم تسْتَرق الجياع باللقم فَقل من إِلَى الشَّام خلص إِلَّا بعد أَن قل عدد أَهله وَنقص
قلت ثمَّ زَالَت تِلْكَ الشدَّة بعد مُدَّة
وَتُوفِّي الْعِمَاد الْكَاتِب رَحمَه الله مُصَنف هَذِه الْكتب الْفَتْح والبرق وَهَذِه الرسائل الثَّلَاث العتبى والنحلة(4/485)
والخطفة بِدِمَشْق فِي أول شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة وَهِي سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة وَدفن بمقابر الصُّوفِيَّة بالشرف القبلي
وَفِي هَذِه السّنة توفى الشَّيْخ أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن الْجَوْزِيّ الْوَاعِظ رَحمَه الله تَعَالَى وَغَيره
وَتُوفِّي الْملك الْأَفْضَل بسميساط فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وست مئة وَحمل إِلَى حلب فَدفن بهَا
وَتُوفِّي الْملك الظَّاهِر بحلب فِي سنة ثَلَاث عشرَة وست مئة
وفيهَا توفّي بِدِمَشْق الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَغَيره وَدفن بِالْجَبَلِ
وَتُوفِّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب بِدِمَشْق فِي سنة خمس عشرَة وست مئة
وَابْنه الْملك الْمُعظم فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَعشْرين وست مئة
وابناه الْأَشْرَف والكامل فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وست مئة رَحِمهم الله تَعَالَى ووفق من بَقِي من أهل بَيتهمْ وَأصْلح ذَات بَينهم آمين(4/486)
آخر الْكتاب وَالْحَمْد لله الْملك الْوَهَّاب
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آله وَأَصْحَابه خير آل وَأَصْحَاب
وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الْحساب وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم(4/487)