وزوّر عَلَيْهِ علامته إِلَى زيد بن عَمْرو بن حَاتِم صَاحب صنعاء يَقُول فِيهِ إِن شمس الدولة سَائِر إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر إِلَى الشَّام وَسبب خُرُوجه ضعفه عَن الْيمن فأمسكوا مَا كُنْتُم تحملون إِلَيْهِ من الأتاوة والرشوة يبْق لكم واحتال حتّى وصل الْكتاب إِلَى شمس الدولة وَكَانَ نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره
فَلَمَّا وقف شمس الدولة على الْكتاب استدعى ياسراً وَقَالَ لَهُ هَذَا خطك وعلامتك قَالَ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ فَبِأَي شَيْء استحققت مِنْك هَذَا وَقد قرّبت منزلتك وأبقيت عَلَيْك بلادك وَرفعت بضبعك على أهل إقليمك وَأرَاهُ الْكتاب فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ يَاسر حلف أَنه مَا كتبه وَلَا يعرفهُ وَلَا أملاه لأحد وَلم يعلم خَبره فَلم يصدقهُ شمس الدولة وَأمر بِهِ فَقتل صبرا بَين يَدَيْهِ فهاب شمس الدولة مُلُوك الْيمن وحملوا إِلَيْهِ الْأَمْوَال وحلفوا لَهُ على الطَّاعَة
ثمَّ إِن شمس الدولة خرج إِلَى تهَامَة وَتوجه إِلَى الشَّام واستخلف على تهَامَة سيف الدولة مبارك بن كَامِل بن منقذ وَعُثْمَان بن عَليّ الزنجيلي على عدن وَتوجه إِلَى حَضرمَوْت فَفَتحهَا واستناب عَنهُ بهَا رجلا كرديا يُسمى هَارُون وَكَانَ مقَامه بشبام واستمرّ الْكرْدِي بهَا مُدَّة(2/416)
ثمَّ أَن صَاحب حَضرمَوْت تحرّك وَجمع فَقتل وعاث هَارُون فِي تِلْكَ الْبِلَاد واستقام أمره وَولى شمس الدولة ثغر تعز مَمْلُوكه ياقوت وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْجند وَولى قلعة تعكر مَمْلُوكه قايماز
قَالَ وَكَانَ وُصُول شمس الدولة إِلَى السُّلْطَان قبل وقْعَة المواصلة وكسرتهم وَكَانَ شمس الدولة هُوَ سَبَب الظفر وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان سرادق سيف الدّين صَاحب الْموصل بِمَا كَانَ فِيهِ من الْفرش والأثاث والالات وولاه دمشق وأعمالها والشَّام وَأمره أَن يكون فِي وَجه الفرنج لِأَن السُّلْطَان خَافَ من الحلبيين أَن يكاتبوا الفرنج كعادتهم
قَالَ وفيهَا قتل صدّيق بن جَوْلَة صَاحب بُصرى وصَرْخد قَتله ابنُ أَخِيه وَملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا فكاتبه شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان وَحلف لَهُ على مَا يُريدهُ من إقطاع واقترح شمس الدولة أَن يكْتب هُوَ مَا يُريدهُ ليحلف عَلَيْهِ فأنفذ من بُصْرى نُسْخَة يَمِين كتبهَا قَاضِي بصرى وَكَانَ قَلِيل الْمعرفَة بالفقه والتصرّف فِي القَوْل فَلم يستقص فِيهَا وُجُوه التَّأْوِيل فَلَمَّا استوثق بهَا من شمس الدولة وَخرج إِلَيْهِ تأوَّل عَلَيْهِ شمس الدولة فِي الْيَمين وَقَبضه ثمَّ أقطعه عشْرين ضَيْعَة ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ بعد أَيَّام
قَالَ وفيهَا عصى الْأَمِير غرس الدّين قليج بتلّ خَالِد بِسَبَب كَلَام جرى(2/417)
بَينه وَبَين كمشتكين فأنهد إِلَيْهِ من حلب عسكرا فحاصروه أَيَّامًا وَسلم الْحصن وصلحت حَاله
قَالَ وَلما ملك شمس الدّولة الْيمن سمت نفس ابْن أَخِيه تقيِّ الدِّين إِلَى الْملك وَجعل يرتاد مَكَانا يحتوى عَلَيْهِ فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هِيَ فَم درب الْمغرب وَكَانَت خرابا فأشير عَلَيْهِ بعمارتها وَقيل لَهُ مَتى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة وَإِذا ملكت برقة ملك مَا وَرَاءَهَا فأنفذ مَمْلُوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جمَاعَة من أجناده ومماليكه فصاروا إِلَى القلعة الْمَذْكُورَة وشرعوا فِي عمارتها
وَاجْتمعَ بقراقوش رجل من الْمغرب فحدّثه عَن بِلَاد الجريد وفزّان وَذكر لَهُ كَثْرَة خَيرهَا وغزارة أموالها وَضعف أَهلهَا ورغبّه فِي الدُّخُول إِلَيْهَا فَأخذ جمَاعَة من أَصْحَابه وَسَار فِي حادي عشر المحرّم من هَذِه السّنة فَكَانَ يكمن النَّهار ويسير اللَّيْل مدّة خَمْسَة أَيَّام وأشرف على مَدِينَة أوجلة فَلَقِيَهُ ملكهَا وأكرمه واحترمه وَسَأَلَهُ الْمقَام عِنْده ليعتضد بِهِ ويزوجه بنته ويحفظ الْبِلَاد من الْعَرَب وَله ثلث ارتفاعها فَفعل قراقوش ذَلِك فَحصل لَهُ من ثلث الِارْتفَاع ثَلَاثُونَ ألف دِينَار فَأخذ عشرَة آلَاف لنَفسِهِ وفرّق على رِجَاله عشْرين ألفا(2/418)
وَكَانَ إِلَى جَانب أوجلة مَدِينَة يُقَال لَهَا الأزراقية فَبلغ أَهلهَا صَنِيع قراقوش فِي أوجلة وَأَنه حرس غلالهم فصاروا إِلَيْهِ ووصفوا لَهُ بلدهم وَكَثْرَة خَيره وَطيب هوائه ورغبوه فِي الْمصير إِلَيْهِم على انهم يملكونه عَلَيْهِم فَأجَاب إِلَى ذَلِك واستخلف على أوجلة رجلا من أَصْحَابه يُقَال لَهُ صباح وَمَعَهُ تِسْعَة فوارس من أَصْحَابه فَحصل لقراقوش أَمْوَال كَثِيرَة
وَاتفقَ أنّ صَاحب أوجلة مَاتَ فَقتل أهل أوجلة أَصْحَاب قراقوش فجَاء قراقوش وحاصرها حَتَّى افتتحها عنْوَة وَقتل من أَهلهَا سبع مئة رجل وغنم أَصْحَابه مِنْهَا غنيمَة عَظِيمَة وَاسْتولى على الْبَلَد
ثمّ إِن أَصْحَابه رَغِبُوا فِي الرّجوع إِلَى مصر وخشى قراقوش أَن يُقيم وَحده فَرجع مَعَهم فَلَمَّا حصل بِمصْر طَابَ لَهُ الْمقَام وَثقل عَلَيْهِ الْعود وزوّجه تقيّ الدّين بِإِحْدَى جواريه وَكَانَ استناب بأوجلة وَقَالَ لأَهْلهَا أَنا أمضى إِلَى مصر لتجديد رجال وأعود إِلَيْكُم
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَسبعين استوزر سيف الدّين صَاحب الْموصل جلال الدّين أَبَا الْحسن عَليّ بن جمال الدّين الْوَزير رحمهمَا الله تَعَالَى ومكنّه فِي ولَايَته فظهرت مِنْهُ كِفَايَة لم يُظَّنها النَّاس وبدا مِنْهُ معرفَة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين وَتَقْرِير الْأُمُور والاطلاع على دقائق الحسبانات وَالْعلم بصناعة الْكِتَابَة الحسابية والإنشاء حيّرت الْعُقُول وَوضع فِي كِتَابَة الإنشاد وضعا لم يعرفوه
وَكَانَ عمره حِين ولي الوزارة خمْسا وَعشْرين سنة ثمّ قبض عَلَيْهِ فِي(2/419)
شعْبَان سنة ثَلَاث وَسبعين وشفع فِيهِ كَمَال الدّين بن نيسان وَزِير صَاحب آمد وَكَانَ قد زوجه بنته فأُطلق وَسَار إِلَيْهِ وَبَقِي بآمد يَسِيرا مَرِيضا ثمَّ فَارقهَا وتُوفي بدنيسر سنة أَربع وَسبعين وحُمل إِلَى الْموصل فَدفن بهَا ثمّ حُمل مِنْهَا فِي موسم الحجّ إِلَى الْمَدِينَة وَدفن عِنْد وَالِده وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وَمعنى رَحمَه الله تَعَالَى
قَالَ ثمّ إِن سيف الدّين استناب دُزْدَاراً بقلعة الْموصل الْأَمِير مُجَاهِد الدّين قايماز فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وردّ إِلَيْهِ أزمة الْأُمُور فِي الحلّ وَالْعقد وَالرَّفْع والخفض وَكَانَ بِيَدِهِ قبل هَذِه الْولَايَة مَدِينَة إربل وأعمالها وَمَعَهُ فِيهَا ولدٌ صَغِير لزين الدَّين على لقبه أَيْضا زين الدِّين فَكَانَ الْبَلَد لولد زين الدِّين اسْما لَا معنى تَحْتَهُ وَهُوَ لمجاهد الدِّين صُورَة وَمعنى
قلت وَفِي حادي عشر رَجَب توفيّ حَافظ الشَّام أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن عَسَاكِر صَاحب التَّارِيخ الدِّمَشْقِي رَحمَه الله تَعَالَى وَحضر السُّلْطَان صَلَاح الدّين جنَازَته وَدفن فِي مَقَابِر بَاب الصَّغِير
وفيهَا قدم دمشق أَبُو الْفتُوح عبد السَّلام بن يُوسُف بن(2/420)
مُحَمَّد بن مقلد الدّمشقي الأَصْل الْبَغْدَادِيّ المولد التنوخي الجماهري الصُّوفِي ابْن الصُّوفِي ذكره الْعِمَاد فِي الخريدة وَقَالَ كَانَ صديقي وَجلسَ للوعظ وَحضر عِنْده صَلَاح الدّين وَأحسن إِلَيْهِ وَعَاد إِلَى بَغْدَاد
وَذكر الْعِمَاد من أشعاره مقطعات مِنْهَا فِي الْحَقَائِق وأنشدها فِي مَجْلِسه
(يَا مَالِكًا مهجتي يَا مُنْتَهى أملي ... يَا حَاضرا شَاهدا فِي الْقلب والفكر)
(خلقتني من تُرَاب أَنْت خالقه ... حَتَّى إِذا صرتُ تمثالاً من الصُّور)
(أجريت فِي قالبي رُوحاً منورة ... تمرُّ فِيهِ كَجَرْي المَاء فِي الشّجر)
(جمعت بَين صفا روح منورة ... وهيكل صغته من مَعْدن كدر)
(إِن غبت فِيك فيافخري وَيَا شرفي ... وَإِن حضرت فيا سَمْعِي وَيَا بَصرِي)
(أَو احْتَجَبت فَسرِّي مِنْك فِي ولهٍ ... وإنْ خطرتُ فقلبي مِنْك فِي خطر)
(تبدو فتمحوُ رسومي ثمَّ تثبتُها ... وَإِن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر)(2/421)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد والسّلطان مُقيم بِظَاهِر حلب فَعرف أَهلهَا أنّ العقُوبة أليمة وَالْعَاقبَة وخيمة فَدَخَلُوا من بَاب التذلل ولاذوا بالتوسل وخاطبوا فِي التّفّضل وطلبوا الصُّلح فأجابهم وَعَفا وعفّ وَكفى وكفّ وَأبقى للْملك الصَّالح حلب وأعمالها واستقرى كل عَثْرَة لَهُم وأقالها وَأَرَادَ لَهُ الإعزاز فَرد عَلَيْهِ عزاز
وَقَالَ ابْن شَدَّاد أخرجُوا إِلَيْهِ ابْنة لنُور الدّين صَغِيرَة سَأَلت مِنْهُ عزاز فَوَهَبَهَا إِيَّاهَا
قَالَ ابْن أبي طيّ لما تمّ الصُّلْح وانعقدت الْأَيْمَان عوّل الْملك الصَّالح على مراسلة السُّلْطَان وَطلب عزاز مِنْهُ فَأَشَارَ الْأُمَرَاء عَلَيْهِ بإنفاذ أُخْته وَكَانَت صَغِيرَة فأُخرجت إِلَيْهِ فأكرمها السُّلْطَان إِكْرَاما عَظِيما وَقدم لَهَا أَشْيَاء كَثِيرَة وَأطلق لَهَا قلعة عزاز وَجَمِيع مَا فِيهَا من مَال وَسلَاح وميرة وَغير ذَلِك
وَقَالَ غَيره بعث الْملك الصَّالح أُخْته الخاتون بنت نور الدّين إِلَى صَلَاح الدّين فِي اللَّيْل فَدخلت عَلَيْهِ فَقَامَ قَائِما وقبّل الأَرْض وَبكى على نور الدّين فَسَأَلت أَن يرد عَلَيْهِم أعزاز فَقَالَ سمعا وَطَاعَة فَأَعْطَاهَا إِيَّاهَا وقدّم لَهَا من الْجَوَاهِر والتحف وَالْمَال شَيْئا كثيرا وَاتفقَ مَعَ الْملك الصَّالح أنّ لَهُ من حماة وَمَا فَتحه إِلَى مصر وَأَن يُطلق الْملك الصَّالح أَوْلَاد الداية(2/422)
قَالَ الْعِمَاد وحلفوا لَهُ على كل مَا شَرطه وَاعْتَذَرُوا عَن كلّ مَا أسخطه وَكَانَ الصُّلح عَاما لَهُم وللمواصلة وَأهل ديار بكر وكُتب فِي نُسْخَة الْيَمين أَنه إِذا غدر مِنْهُم واحدٌ وَخَالف وَلم يفِ بِمَا عَلَيْهِ حَالف كَانَ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ يدا وَاحِدَة وعزيمة متعاقدة حَتَّى يفِيء إِلَى الْوَفَاء والوفاق وَيرجع إِلَى مرافقة الرّفاق
فَلَمَّا انتظم الصُّلْح ذكر السُّلْطَان ثَأْره عِنْد الاسماعيلية وَكَيف قصدوه بِتِلْكَ البلية فَرَحل يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من المحرّم فحصر حصنهمْ مصياث وَنصب عَلَيْهِ المجانيق الْكِبَار وأوسعهم قتلا وأسراً وسَاق أبقارهم وخرّب دِيَارهمْ وَهدم أعمارهم وهتك أستارهم حتّى شفع فيهم خَاله شهَاب الدّين مَحْمُود بن تكش صَاحب حماة وَكَانُوا قد راسلوه فِي ذَلِك لأَنهم جِيرَانه فَرَحل عَنْهُم وَقد انتقم مِنْهُم
قَالَ وَكَانَ الفرنج قد أَغَارُوا على الْبِقَاع فَخرج إِلَيْهِم شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك الْمَعْرُوف بِابْن الْمُقدم وَهُوَ مُتَوَلِّي بعلبك ومقطع أَعمالهَا ومدبّر أحوالها والمتحكم فِي أموالها فَقتل مِنْهُم وَأسر أَكثر من مئتي أَسِير وأحضرهم عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ على حِصَار مصياث فجدّد مِنْهُ إِلَى غَزْو الفرنج الانبعاث(2/423)
قَالَ ابْن أبي طي وهذ أكبر الدَّوَاعِي فِي مصالحة السُّلْطَان لسنان وَخُرُوجه من بِلَاد الاسماعيلية لِأَن السُّلْطَان خَافَ أَن تهيج الفرنج فِي الشَّام الْأَعْلَى وَهُوَ بعيد عَنهُ فرُبما ظفروا من الْبِلَاد بطائل فَصَالح سِنَانًا وَعَاد إِلَى دمشق
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ قد خرج شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان من دمشق حِين سمع أَن الفرنج على الْخُرُوج وباسطهم عِنْد عين الْجَرّ فِي تِلْكَ المروج وَوَقع من أَصْحَابه عدّة فِي الأسار مِنْهُم سيف الدّين أَبُو بكر بن السلار
وَوصل السُّلْطَان إِلَى حماة وَقد اسْتكْمل الظَّفر وَاجْتمعَ فِيهَا بأَخيه شمس الدولة ثَانِي صفر وَهُوَ أول لِقَائِه بَعْدَمَا أزمع عَنهُ إِلَى الْيمن السّفر وتعانق الأخوان فِي المخيّم بالميدان وتحدّثا فِي الْحدثَان وروعات الْفِرَاق ولوعات الأشواق
وَكَانَ قد وصل إِلَى السُّلْطَان من أَخِيه هَذَا عِنْد مُفَارقَته بِلَاد الْيمن كتاب ضمنّه أبياتا أظنها من شعر ابْن المنجم الْمصْرِيّ أَولهَا(2/424)
(الشوق أولع بالقلوب وأوجع ... فَعَلاَمَ أدفَع مِنْهُ مَا لايدفع)
مِنْهَا
(وحملت من وجد الْأَحِبَّة مُفردا ... مَا لَيْسَ تحمله الْأَحِبَّة أجمع)
(لَا يسْتَقرّ بيَ النّوى فِي مَوضِع ... إِلَّا تقاضاني التَّرَّحلَ مَوضِع)
(فَإلَى صَلَاح الدّين أَشْكُو أنني ... من بعده مُضْنى الجوانح موجع)
(جزعا لبعد الدَّار مِنْهُ وَلم أكن ... لَوْلَا هَوَاهُ لبعد دارٍ أجزع)
(فلأركبنَّ إِلَيْهِ متن عزائمي ... ويُخبّ بِي ركبُ الغرام وَيُوضَع)
(حتّى أشاهد مِنْهُ أسعد طلعة ... من أفقها صبح السَّعَادَة يطلع)
قَالَ الْعِمَاد فَسَأَلَنِي السُّلْطَان أَن أكتب لَهُ فِي جوابها على رَوِيها ووزنها فَقلت فَذكر قصيدة مِنْهَا
(مولَايَ شمس الدولة الْملك الَّذِي ... شمس السِّيَادَة من سناه تطلع)
(مَالِي سواك من الْحَوَادِث ملجأُ ... مَالِي سواك من النّوائب مفزع)
(وَلأَنت فَخر الدّين فخري فِي الْعلَا ... وملاذُ آمالي ورُكني الأمنع)
(إِلَّا بخدمتك الْمجلة موقعي ... وَالله مَا للْملك عِنْدِي موقع)
(وَبِغير قُربك كلُّ مَا أرجوه من ... دَرك المُنى مُتَعَذر متمنع)
(النَّصْر إِن أَقبلت نحوي مُقْبل ... واليمنُ إِن أسرعت نحوي مسرع)
قَالَ ثمّ سرنا إِلَى دمشق ووصلنا إِلَيْهَا سَابِع عشر صفر وفوّض ملك دمشق إِلَى أَخِيه الْملك الْمُعظم شمس الدولة وعزم إِلَى مصر السّفر(2/425)
فصل فِي ذكر جمَاعَة من الْأَعْيَان تجدّد لَهُم مَا أقتضى ذكرهُ فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد فِي السَّادِس من المحرّم توفيّ بِدِمَشْق القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري وعمره ثَمَانُون سنة لِأَن مولده فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَكَانَ فِي الْأَيَّام النُّورية بِدِمَشْق هُوَ الْحَاكِم المتحكم وَصَلَاح الدّين إِذا ذَاك يتَوَلَّى الشحنكية بِدِمَشْق وَكَمَال الدّين يعكس مقاصده بتوخيّه الْأَحْكَام الشرّعية وَرُبمَا كسر أغراضه وَأبْدى عَن قبُوله إعراضه ويقصد فِي كلّ مَا يعرض لَهُ اعتراضه وَكم صَبر على جماحه بِحمْلِهِ وراضه إِلَى أنْ نَقله الله سُبْحَانَهُ من نِيَابَة الشحنكية إِلَى المُلك وَصَارَ كَمَال الدّين من قُضَاة ممالكه المنتظمة فِي السلك وَكَانَ فِي قلبه مِنْهُ مَا فِيهِ وَمَا فرط مِنْهُ فَاتَ وَقت تلافيه فَلَمَّا ملك دمشق أجراه على حكمه ولمْ يؤاخذه بجرمه واحترم نوّابه وَأكْرم أَصْحَابه وَفتح للشرّع بَابه وخاطبه وَاسْتحْسن جَوَابه وَلم يزل يستفتيه ويستهديه ويعرض على رَأْيه مَا يُعِيدهُ ويبديه
وَكَانَ ابْن أَخِيه ضِيَاء الدّين بن تَاج الدّين الشهرزوري قد هَاجر إِلَى(2/426)
صَلَاح الدّين بِمصْر فِي ريعان ملكه وأذنت هجرته فِي دَرك إِرَادَته بإدارة فلكه وأنعم عَلَيْهِ هُنَاكَ بِجَزِيرَة الذَّهَب وَمن دَار الْملك بِمصْر بدار الذَّهَب ووفرَّ حَظه من الذَّهَب وَملكه دَارا بِالْقَاهِرَةِ نفيسةً جميلَة جليَّة جليلة ورتّب لَهُ وظائف وخصّه بلطائف وَوصل مَعَ صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام وَأمره جارٍ على النظام
وَلما أَشْتَدّ بِكَمَال الدّين الْمَرَض وَكَاد يُفَارق جوهره الْعرض أَرَادَ أنْ يبْقى الْقَضَاء فِي ذويه فوّصى مَعَ حُضُور وَلَده بِالْقضَاءِ لضياء الدّين ابْن أَخِيه علما مِنْهُ بِأَن السُّلْطَان يُمضي حُكمه لأجل سوالفه ويجعله عِنْده من عوائد عوارفه وَمَات وَلم يخلف مثله وَمن شَاهده شَاهد الْعقل وَالْفضل كلّه بارًّا بالأبرار مُخْتَارًا للأخيار مكرما للكرام مَاضِيا فِي الْأَحْكَام وَقد قوّاه نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَولده فِي أَيَّامه وسدد مرامي مرامه
وَهُوَ الَّذِي سنّ دَار الْعدْل لتنفذ أَحْكَامه بِحَضْرَة السُّلْطَان فَلَا يبْقى عَلَيْهِ مغمز وَلَا ملمز لِذَوي الشنآن وَهُوَ الَّذِي تولى لَهُ بِنَاء أسوار دمشق ومدارسها والبيمارستان فاستمرت عَادَته واستقرت قَاعِدَته فِي دولة السُّلْطَان وَتُوفِّي وَنحن بحلب محاصرون
وَذكر الْعِمَاد فِي الخريدة لِابْنِهِ محييّ الدّين قصيدة فِي مرثيته مِنْهَا
(ألِمُّوا بِسَفْحِي قاسيون فَسَلمُوا ... على جدثٍ بَادِي السنا وترحموا)(2/427)
(وبالرغم مني أَن أناجيه بالمنى ... وأسأل مَعَ بعد المدى من يُسلم)
(لقد عدمت مِنْك الْبَريَّة والدا ... أحن من الْأُم الرؤوف وأرحم)
(وَلَا سِيمَا إخْوَان صدق بجلق ... همُ فِي سَمَاء الْمجد والجود أنجم)
(نشرت لِوَاء الْعدْل فَوق رؤوسهم ... فَمَا كَانَ فيهم من يضام وَيظْلم)
(لقِيت من الرّحمن عفوا وَرَحْمَة ... كَمَا كنت تَعْفُو مَا حييت وترحم)
قَالَ الْعِمَاد وَجلسَ ابْن أَخِيه ضِيَاء الدّين مَكَانَهُ وَأحسن إحسانه وَأبقى نُوّاب عَمه وأنفذ أَحْكَامه بنافذ حكمه
وَكَانَ الْفَقِيه شرف الدّين أَبُو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هَاجر من حلب إِلَى السُّلْطَان وَقد أنزلهُ عِنْده بِدِمَشْق فِي ظلّ الْإِحْسَان وَهُوَ شيخ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ والأقوم بالفتيا وأعرفهم بِمَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَة من أَمر الدّين والدُّنيا وَالسُّلْطَان يُؤثر أَن يفوّض إِلَيْهِ منصب الْقَضَاء وَلَا يرى عزل الضياء فأفضى بسرّ مُرَاده إِلَى الْأَجَل الْفَاضِل وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى أَيْضا يتعصب لشيخه فاستشعر الضياء من الْعَزْل وأشير عَلَيْهِ بالاستعفاء فَفعل فأعفى وَبقيت عَلَيْهِ الْوكَالَة الشَّرْعِيَّة عَنهُ فِي بيع الْأَمْلَاك
قَالَ الْعِمَاد وَأول مَا أشتريت مِنْهُ بوكالة السُّلْطَان الأَرْض الَّتِي ببستان بقر الْوَحْش الَّتِي بنيت فِيهَا الْمَوَاضِع من الْحمام والدور والاصطبل والخان وَكنت قد احتكرتها فِي الْأَيَّام النورية فملكتها فِي الْأَيَّام الصلاحية(2/428)
قلت قد خربَتْ هَذِه الْأَمَاكِن فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وست مئة بِسَبَب الْحصار واستمرّ خرابها وعفت آثارها وَصَارَت طَرِيقا على حافة بردى وَأَنت خَارج من جسر الصفي خَارج بَاب الْفرج مارًّا إِلَى نَاحيَة الميدان
قَالَ فَلَمَّا استعفى ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري من الْقَضَاء لم يبْق فِي منصب الْقَضَاء إِلَّا فَقِيه يعرف بالأوحد دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن بِلَال الشَّافِعِي وَكَانَ يَنُوب عَن كَمَال الدّين فَأمره السُّلْطَان أَن يجْرِي على رسمه ويتصّرف فِي حكمه
وَكَانَ السُّلْطَان لإحياء الْقَضَاء فِي الْبَيْت الزكوي مؤثرا وَلذكر مناقبه مكثرا وَقد سبق مِنْهُ الْوَعْد للشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَهُوَ راج وبطلب نجاز عِدَته مناج ففوض إِلَيْهِ الْقَضَاء وَالْحكم والإنفاذ والإمضاء على أَن يتَوَلَّى محيي الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن زكي الدّين والأوحد دَاوُد قاضيين فِي دمشق يحكمان وهما عَن نيابته يوردان ويصدران وتوليتهما بتوقيع من السُّلْطَان وَلم يزل الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون مُتَوَلِّيًا للْقَضَاء مُنْفَردا بالحكم والإمضاء سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاث وَسبعين فِي ولَايَة أخي السُّلْطَان الْملك الْمُعظم فَخر الدّين(2/429)
فَلَمَّا عدنا إِلَى الشَّام تكلم النَّاس فِي ذهَاب نور بَصَره وَأَنه لايقوم فِي الْقَضَاء بورده وصدره ففوض السُّلْطَان الْقَضَاء بِالْإِشَارَةِ الْفَاضِلِيَّةِ إِلَى ابْنه محيي الدّين أبي حَامِد مُحَمَّد كَأَنَّهُ نَائِب أَبِيه وَلَا يظْهر للنَّاس صرفه عَمَّا هُوَ متوليه وَاسْتمرّ الْقَضَاء لَهُ إِلَى انْقِضَاء أشهر من سنة سبع وَثَمَانِينَ ثمَّ صُرف واستقلّ بِهِ ابْن زكي الدّين فَأَقَامَ فِي مُدَّة ولَايَته للشَّرْع الْقَوَاعِد والقوانين وفوّض ديوَان الْوُقُوف بِجَامِع دمشق وَغَيره من الْمَسَاجِد والمشاهد إِلَى أَخِيه مجد الدّين بن الزكي فتولاه إِلَى أَن انْتقل من أَعمال الْوُقُوف إِلَى موقف اعْتِبَار الْأَعْمَال وتوّلاها بعده أَخُوهُ محيي الدّين على الِاسْتِقْلَال إِلَى آخر عهد السُّلْطَان وَبعده
قلت وَفِي صفر وقف السُّلْطَان قَرْيَة حزم باللوى من حوران على الْجَمَاعَة الَّذين يشتغلون بِعلم الشَّرِيعَة أَو بِعلم يحْتَاج إِلَيْهِ الْفَقِيه أَو يحضر لسَمَاع الدُّرُوس بالزاوية الغربية من جَامع دمشق الْمَعْرُوفَة بالفقيه الزَّاهِد نصر الْمَقْدِسِي رَحمَه الله تَعَالَى وعَلى من هُوَ مدرّسهم بِهَذَا الْموضع من أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَجعل النّظر لقطب الدّين النَّيْسَابُورِي رَحمَه الله وَرَأَيْت كتاب الْوَقْف بذلك على هَذِه الصُّورَة وَعَلِيهِ عَلامَة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى الْحَمد لله وَبِه توفيقي(2/430)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي عشر من صفر وَنحن فِي طَرِيق الْوُصُول إِلَى دمشق توفّي شمس الدّين ابْن الْوَزير أبي المضاء بِدِمَشْق وَهُوَ أول خطيب بالديار المصرية للدولة العباسية وَكَانَ يتَوَلَّى الرسَالَة إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز ويقصده الشُّعَرَاء ويحضره الكرماء فيكثر خلعهم وجوائزهم وَيبْعَث على مدحه غرائزهم فَحمل السُّلْطَان همه وقرّب وَلَده وجبر بِتْربيته يُتْمه
ثمَّ تعين ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري بعده للرسالة إِلَى الدِّيوَان وَصَارَت منصبا لَهُ ينافس عَلَيْهِ واستتبت لَهُ هَذِه السفارة إِلَى آخر الْعَهْد السلطاني وَذَلِكَ بعد الْمُضِيّ إِلَى مصر وَالْعود إِلَى الشَّام فَإِنَّهُ بعد ذَلِك خَاطب فِي هَذَا المرام فَأَما فِي هَذِه السّنة فَإِنَّهُ كَانَ فِي مسيرنا إِلَى مصر الصُّحْبَة وَهُوَ متودد إِلَيّ بصفاء الْمحبَّة
وَفِي آخر صفر تزوّج السُّلْطَان بالخاتون المنعوته عصمَة الدّين بنت الْأَمِير معِين الدّين أنر وَكَانَت فِي عصمَة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَلَمَّا(2/431)
توفّي أَقَامَت فِي منزلهَا بقلعة دمشق رفيعة الْقدر مُسْتَقلَّة بأمرها كَثِيرَة الصَّدقَات والأعمال الصَّالِحَات فَأَرَادَ السُّلْطَان حفظ حرمتهَا وصيانتها وعصمتها فأحضر شرف الدّين بن أبي عصرون وعُدُوله وزوجه إِيَّاهَا بحضرتهم أَخُوهَا لأَبِيهَا الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن أنر بِإِذْنِهَا وَدخل بهَا وَبَات عِنْدهَا وَقرن بسعده سعدها وَخرج بعد يَوْمَيْنِ إِلَى مصر
وَذكر الْعِمَاد بعد وَفَاة ابْن الشهرزوري وَابْن أبي المضاء الْأَمِير مؤيد الدولة أَبَا الْحَارِث أُسَامَة بن مرشد بن سديد الْملك أبي الْحسن عليّ بن منقذ وَعوده إِلَى الشَّام عِنْد علمه بوصول السُّلْطَان فَقَالَ هَذَا مؤيد الدولة من الْأُمَرَاء الْفُضَلَاء والكرماء الكبراء والسادة القادة العظماء وَقد متعهُ الله بالعمر وَطول الْبَقَاء وَهُوَ من الْمَعْدُودين من شجعان الشَّام وفرسان الْإِسْلَام
وَلم يزل بَنو منقذ ملاك شيزر وَقد جمعُوا السِّيَادَة والمفخر وَلما تفرّد بالمعقل مِنْهُم من تولاه لم يرد أَن يكون مَعَه فِيهِ سواهُ فَخَرجُوا مِنْهُ فِي سنة أَربع وَعشْرين وَخمْس مئة وَسَكنُوا دمشق وَغَيرهَا من الْبِلَاد(2/432)
وَكلهمْ من الأجواد الأمجاد وَمَا فيهم إِلَّا ذُو فضل وبذل وإحسان وَعدل وَمَا مِنْهُم إِلَّا من لَهُ نظمٌ مطبوع وَشعر مَصْنُوع وَمن لَهُ قصيدة وَله مَقْطُوع
وَهَذَا مؤيد الدولة أعرقهم فِي الْحسب وأعرفهم فِي الْأَدَب وَكَانَت جرت لَهُ نبوة فِي أَيَّام الدمشقيين وسافر إِلَى مصر وَأقَام هُنَاكَ سِنِين فِي أَيَّام المصريين فتمت نوبَة قتل المنعوت بالظافر وَقتل عَبَّاس وزيرهم إخْوَته وَإِقَامَة المنعوت بالفائز وَمَا ردف ذَلِك من الهزاهز فَعَاد مؤيد الدوّلة إِلَى الشَّام وَسَار إِلَى حصن كيفا وتوطن وَلما سمع بِالْملكِ الصلاحيّ جَاءَ إِلَى دمشق وَذَلِكَ فِي سنة سبعين وَقَالَ
(حمدت على طول عمري المشيبا ... وَإِن كنت أكثرت فِيهِ الذنوبا)
(لِأَنِّي حييت إِلَى أَن لقِيت ... بعد الْعَدو صديقا حبيبا)
قَالَ وَكنت أسمع بفضله وَأَنا بأصبهان فِي أَيَّام الشبيبة وأنشدني لَهُ مجد الْعَرَب العامري بأصفهان فِي سنة خمس وَأَرْبَعين هذَيْن الْبَيْتَيْنِ(2/433)
وهما من مبتكرات مَعَانِيه فِي سنّ قلعهَا
(وَصَاحب لَا أَملَّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي وَيسْعَى سَعي مُجْتَهد)
(لم ألقه مُذْ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فُرقة الْأَبَد)
قَالَ فَلَمَّا لَقيته بِدِمَشْق فِي سنة سبعين أنشدنيهما لنَفسِهِ مَعَ كثير من شعره المبتكر من جنسه
قلت وَمن عَجِيب مَا اتّفق أَنِّي وجدت هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مَعَ بَيْتَيْنِ آخَرين الْمَجْمُوع أَرْبَعَة أَبْيَات فِي ديوَان أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير الأطرابلسي وَمَات ابْن مُنِير سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قَرَأت فِي ديوانه وَقَالَ فِي الضرس
(وَصَاحب لَا أمل الدَّهْر صحبته ... يشقي لنفعي وأجني ضره بيَدي)
ثمَّ قَالَ
(أدنى إِلَى الْقلب من سَمْعِي وَمن بَصرِي ... وَمن تلادي وَمن مَالِي وَمن وَلَدي)
(أَخْلو ببثي من خَال بوجنته ... مداده زَائِد التَّقْصِير للمدد)
لم أره مذ تصاحبنا الْبَيْت(2/434)
فالأشبه أَن ابْن مُنِير أخذهما وَزَاد عَلَيْهِمَا وَلِهَذَا غير فيهمَا كَلِمَات وَقد وجدت هَذَا الْبَيْت الأول على صُورَة أُخْرَى حَسَنَة
(وَصَاحب نَاصح لي فِي معاملتي ... )
وَيجوز أَن يكون أُسَامَة أنشدهما متمثلاً فنسبا إِلَيْهِ لما كَانَ مَظَنَّة ذَلِك وَيجوز أَن يكون اتِّفَاقًا وَالله أعلم
قَالَ الْعِمَاد وشاهدت وَلَده عضد الدّين أَبَا الفوارس مرهفا وَهُوَ جليس صَلَاح الدّين وأنيسه وَقد كتب ديوَان شعر أَبِيه لصلاح الدّين وَهُوَ لشغفه بِهِ يفضله على جَمِيع الدوّاوين وَلم يزل هَذَا الْأَمِير الْعَضُد مرهف مصاحباً لَهُ بِمصْر وَالشَّام وَإِلَى آخر عصره وتوطن بِمصْر فَلَمَّا جَاءَ مؤيد الدولة أَبوهُ أنزلهُ أرحب منزل وَأوردهُ أعذب منهل وَملكه من أَعمال المعرّة ضَيْعَة زعم أَنَّهَا كَانَت قَدِيما تجْرِي فِي أملاكه وَأَعْطَاهُ بِدِمَشْق دَارا وإدراراً وَإِذا كَانَ بِدِمَشْق جالسه وآنسه وذاكره فِي الْأَدَب ودارسه
وَكَانَ ذَا رَأْي وتجربة وحنكة مهذبة فَهُوَ يستشيره فِي نوائيه ويستنير بِرَأْيهِ فِي غياهبه وَإِذا غَابَ عَنهُ فِي غَزَوَاته كَاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته ويستخرج رَأْيه فِي كشف مهماته وحلّ مشكلاته وَبلغ عمره ستّا وَتِسْعين سنة فَإِن مولده سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَتُوفِّي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة(2/435)
قلت وَقد تقدم من أخباره فِي قتل الْأسد فِي شبيبته أَيَّام كَونه بشيزر وَذكرت لَهُ أَيْضا تَرْجَمَة حَسَنَة فِي تَارِيخ دمشق
فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر
خرج من دمشق يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شهر ربيع الأول
قَالَ الْعِمَاد وَلما استتمت للسُّلْطَان بِالشَّام أُمُور ممالكه وَأمن على مناهج أمره ومسالكه أزمع إِلَى مصر الإياب وَقد أَمْحَلت بعده من جوده جَود السَّحَاب وتقدمه الْأُمَرَاء والملوك وَخرج بكرَة يَوْم الْجُمُعَة وَنزل بمرج الصّفّر ثمَّ رَحل عَنهُ قبل الْعَصْر إِلَى قريب الصنمين وَخرجت مَعَه وقلبي نزوع إِلَى أَهلِي فَمَا نزلت منزلا إِلَّا نظمت أبياتاً فَقلت يَوْم الْمسير وَقد عبرت بالخيارة
(أَقُول لِركبٍ بالخيارةٍ نُزَّل ... أثيروا فَمَا لي فِي الْمقَام خِيَار)
(همُ رحلُوا عَنْك الْغَدَاة وَمَا دروا ... بِأَنَّهُم قد خلفوك وَسَارُوا)
(حَلِيف اشتياق لَا ترى من تحبّه ... وَفِي الْقلب من نَار الغرام أوار)(2/436)
(أجيروا من الْبلوى فُؤَادِي فعندكم ... ذمام لَهُ يَا سادتي وَجوَار)
وَقلت وَقد نزلنَا بالفقيع
(رَأَيْتنِي بالفقيع مُنْفَردا ... أضيع من فقع قاعها الضائع)
(بِعْت بِمصْر دمشق عَن غرر ... مني فيا غبن صَفْقَة البَائِع)
(صبْري والقلبُ عاصيان وَمَا ... غير همومي وأدمعي طائع)
وَقلت بالفوّار
(تحّدر بالفوّار دمعي على الفوْر ... فَقلت لجيراني أجيروا من الْجور)
(وأصعب مَا لاقيت أَنِّي قَانِع ... من الطيف مذ بنتم بزور من الزُّور)
وَقلت بالزرقاء
(ولمَ أنسَ بالزرقاء يَوْم وداعنا ... أنامل تدمى حيْرةً للتندم)
(أعدتُك يَا زرقاء حمراءَ إِنَّنِي ... بكيتك حَتَّى شيب ماؤك بِالدَّمِ)
(تَأَخّر قلبِي عِنْدهم مُتخلفا ... وخالفتهمُ فِي عزْمتي والتقدم)
(فياليت شعري هَل أَعُود إِلَيْهِم ... وَهل لَيْت شعري نافعٌ للمتيم)
قَالَ وَقلت وَقد عبرنا على مسالك قريبَة من قلعة الشوبك وفيهَا تخطف الفرنج القاصدين إِلَى مصر
(طَرِيق مصر ضيّق المسْلك ... سالكه لَا شكّ فِي مهلك)
(وَحب مصر صَار حبا لمن ... أوقعه فِي شَبكَ الشوبك)
(لكنما من دونهَا كعبة ... محجوجة مبرورة المنسك)(2/437)
(بهَا صَلَاح الدّين يُشكى الَّذِي ... إِلَيْهِ من أَيَّامه يشتكى)
قَالَ ونظمت فِي طَرِيق مصر قصيدة مشتمله على ذكر الْمنَازل بالترتيب وإيراد الْبعيد مِنْهَا والقريب وَاتفقَ أَن السُّلْطَان سير إِلَى مصر الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وَكَانَ لايستدعي من شاديه إِلَّا إنشادها فِي نَادِيه ويطرب لسماعها ويعجب بإبداعها وَكَانَ قد فَارق أَهله بِدِمَشْق كَمَا فَارَقت بهَا أَهلِي وَجمع الله بهم بعد ذَلِك شملي وَهِي
(هجرتكم لَا عَن ملال وَلَا غدر ... وَلَكِن لمقْدُور أُتيح منَ الْأَمر)
(وَأعلم أَنِّي مخطيء فِي فراقكم ... وعّذري فِي ذَنبي وذنبي فِي عُذْري)
(أرى نُوباً للدّهر تُحصى وَلَا أرى ... أَشد من الهجران فِي نُوب الدَّهْر)
(بعيني إِلَى لقيا سواكم غشاوةٌ ... وسمعي عنْ نجوْى سواكم لذُو وقر)
(وقلبي وصبري فارقاني لبُعدكم ... فَلَا صَبر فِي قلبِي وَلَا قلب فِي صَدْرِي)
(وَإِنِّي على الْعَهْد الَّذِي تعهدونه ... وسرّي لكم سرّي وجهري لكم جهري)
(تجرعت صرف الهمّ من كأس شوقكم ... وَهَا أَنا فِي صحوي نزيف من السّكر)
(وَإِن زَمَانا لَيْسَ يعْمر موْطني ... بسُكناكمُ فِيهِ فَلَيْسَ من الْعُمر)
(وَأقسم لَو لم يقسم الْبَين بَيْننَا ... جوى الهمّ مَا أمسيت مقتسم الْفِكر)
(أَسِير إِلَى مصر وقلبي أسيركمُ ... ومِنْ عجبٍ أسرِي وقَلبيَ فِي أسر)
(أخلاي قد شط المزار فأرسلوا الخيال ... وزورُوا فِي الْكرَى واربحوا أجري)
(تذكرت أحبابي بجلق بَعْدَمَا ... ترحلت والمشتاق يأنسُ بِالذكر)
(وناديت صبري مستغيثا فَلم يجب ... فأسبلت دمعي للبكاء عَلَى صَبْري)
(ولمّا قصدنا من دمشق غباغبا ... وبتنا من الشوق المُمِضِّ على الْجَمْر)(2/438)
(نزلنَا بِرَأْس المَاء عِنْد وداعنا ... موارد من مَاء الدُّمُوع الَّتِي تجْرِي)
(نزلنَا بصحراء الفقيع وغودرت ... فواقع من فيض المدامع فِي الْغدر)
(ونهنهت بالفوّار فيض مدامعي ... فَفَاضَتْ وباحت بالمكتَّم من سرّي)
(سرينا إِلَى الزَّرْقَاء مِنْهَا وَمن يصب ... أواماً يَسِرْ حَتَّى يرى الْوِرد أَو يسري)
(تذكرت حمّام القُصير وَأَهله ... وَقد جزت بالحمام فِي الْبَلَد القفر)
(وبالقريتين القرْيتَين وَأَيْنَ من ... مغاني الغواني منزل الْأدم والعفر)
(وَرْدنا من الزَّيْتُون حسمي وأيلة ... وَلم نسترح حَتَّى صدرنا إِلَى صدر)
(غشينا الغواشي وَهِي يابسة الثّرى ... بعيدَة عهد الْقطر بالعهد والقطر)
(وضنّ علينا بالندى ثَمد الْحَصَى ... وَمن يرتجى ريَّاً من الثمد النّزْر)
(فَقلت اشرحي بالخمس صَدرا مطيّتي ... بصدر وَإِلَّا جادك النّيل للعشر)
(رَأينَا بهَا عيْن الْمُوَاسَاة إننا ... إِلَى عين مُوسَى نبذل الزّاد للسّفر)
(وَمَا جسرت عَيْني على فيض عبرةٍ ... أكفكفها حَتَّى عبرنا على الجسر)
(وملنا إِلَى الأَرْض السّدير وجنّة ... هُنَالك من طلحٍ نضيدٍ وَمن سدر)
(وجبنا الفلا حَتَّى أصبْنَا مُبَارَكًا ... على بركَة الجبّ المبشر بِالْقصرِ)
(ولمّا بدا الْفسْطَاط بشرت رفقتي ... بِمن يتلقي الْوَفْد بالوفر والبشر)
(بَكت أمّ عَمْرو من وشيك ترَّحلي ... فيا خجلتي من أمّ عْمرو وَمِنَ عَمْرو)
(تَقول إِلَى مصر تصير تعجبَّا ... وماذا الَّذِي تبغي ومنْ لَك فِي مصر)(2/439)
(فَقلت ملاذي النَّاصِر الْملك الَّذِي ... حصلت بجدواه على الْملك والنصر)
(فَقَالَت أقِم لَا تعدم الْخَيْر عندنَا ... فَقلت وَهل تغني السّواقي عَن الْبَحْر)
(ثقي بِرُجُوع يضمن الله نجحه ... وَلَا تقنطي أَن يُبدل العُسر باليسر)
(عطيَّته قد ضاعفت مُنَّة الرّجا ... ومنته قد أضعفت مُنَّة الشُّكْر)
قَالَ وَكَانَ الدُّخُول إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم السبت سادس عشر ربيع الأول بالزي الأجمل والعزّ الْأَكْمَل
وتلّقى السُّلْطَان أَخُوهُ ونائبه الْملك الْعَادِل سيف الدّين إِلَى صدر وَعبر إِلَيْنَا عِنْد بَحر القلزم الجسر وتلقانا خير مصر وجلبت إِلَيْنَا ثمراتها وجليت علينا زهراتها فَظهر بِنَا نشاطها وَزَاد اغتباطها وَدخل السُّلْطَان دَاره ووفق الله فِي جَمِيع الْأُمُور إِيرَاده وإصداره
وَكَانَت قد صعبت عليّ مُفَارقَة دمشق وَأَهْلهَا لقلَّة الوثوق بِأَنِّي أحصل بِمِثْلِهَا فنظمت يَوْم خروجي مِنْهَا أبياتا إِلَى نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن(2/440)
شيركوه مِنْهَا
(بمهجتي خنث الْعَطف ... مستلد الدّلال)
(يَقُول لي بانكسارٍ ... ورقّةٍ واعتلال)
(معاتباً بحديثٍ ... أصفى من السلسال)
(مَا مصر مثل دمشقٍ ... بعتَ الْهدى بالضلال)
(فَقلت عنّت أمورٌ ... عَجِيبَة الأشكال)
(أسيرُ فِي طلب العزّ ... مثل سير الْهلَال)
(لم يبلغ الْبَدْر لَوْلَا الْمسير ... أوجَ الْكَمَال)
(وَكَيف أترك شغلي ... وَإنَّهُ رَأس مَالِي)
(صَلَاح حَالي صَلَاح الدّين ... الغزير النّوال)
(مَالِي أُفَارِق مَلْكاً ... ملكته آمالي)
(يَا نَا صر الدّين قلبِي ... عَلَيْهِ فِي بلبال)
ثمَّ ذكر الْعِمَاد الْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وسيّدهم الْمولى الْأَجَل الْفَاضِل وَقد مدحه بقصيدة مِنْهَا
(كَيفَ لَا يغتدي لي الدَّهْر عبدا ... وَأَنا عبدُ عبِدْ عَبِدْ الرَّحِيم)
(بدوام الْأَجَل سيدنَا الْفَاضِل ... يَا دولة الأفاضل دومي)
(إِن آراءه تنوب لَدَى الْملك ... مناب الْأَرْوَاح عِنْد الجسوم)
(مَالك الحلّ فِي الممالك وَالْعقد ... وَحكم التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم)
(مُعْمِلٌ للنفاذ فِي كلّ قطر ... قَلما حَاكما على إقليم)
(يتلَقَّى الملوكُ فِي كل أَرض ... كتبه القادمات بالتعظيم)(2/441)
(ناحل الْجِسْم ذُو خطاب بِهِ يصغر ... للدهر كلُّ خطب جسيم)
ثمَّ ذكر الْأَخَوَيْنِ تَقِيّ الدّين عمر وَعز الدّين فرخشاه وهما أبنا أخي السُّلْطَان وَهُوَ شاهنشاه بن أَيُّوب وَهَمَّام الدّين بزغش الشنباشي والى الْقَاهِرَة ومدح فرخشاه بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا
(شادنٌ كالقضيب لدْن المهزه ... سلبت مقلتاه قلبِي بغمزه)
(كلّما رُمْت وَصله رام هجري ... وَإِذا زدتُ ذلة زَاد عزه)
(للصبا من عذاره نسج حُسن ... رقم الْمسك فِي الشقائق طرزه)
(وعزيزٌ عليّ أَن اصْطِبَارِي ... فِيهِ قد عزه الغرام وبزه)
(مَا رأى مَا رَأَيْت مجنونُ ليلى ... فِي هَوَاهُ وَلَا كثير عَزّه)
(مَا ذكرنَا الْفسْطَاط إِلَّا نَسِينَا ... مَا رَأينَا بالنيربين والارزه)
(فمها الجيزة الجوازي لَهَا الميزة ... حسنا على ظباء المزه)
(ونصيري عَلَيْهِ نائل عز الدّين ... ذِي الْفضل خلّد الله عزه)
(فرّغ الْكَنْز من ذخائر مالٍ ... مالئاً من نفائس الْحَمد كنزه)
مِنْهَا
(همةٌ مستهامة بالمعالي ... للدَِّنايا أبيّة مشمئزه)
قَالَ الْعِمَاد وتوفرنا على الِاجْتِمَاع فِي المغاني لاستماع الأغاني والتنزه فِي الجزيرة والجيزة والأماكن العزيزة ومنازل الْعِزّ(2/442)
وَالرَّوْضَة وَدَار الْملك والنيل والمقياس ومراسي السفن ومجاري الْفلك والقصور بالقرافة وربوع الضِّيَافَة وَرِوَايَة الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والمباحثة فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة والمغاني الأدبية
قَالَ واقترحنا على القَاضِي ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري أَن يفرجنا فِي الأهرام فقد كُنَّا شغفنا بأخبارها فِي الشَّام فَخرج بِنَا إِلَيْهَا ودرنا تِلْكَ البرابي والبراري والرمال والصحاري وأحمدنا المقارَّ والمقاري وهالنا أَبُو الهول وضاق فِي وَصفه مجَال القَوْل ورأينا الْعَجَائِب وروينا الغرائب واستصغرنا فِي جنب الهرمين كلَّ مَا استعظمناه وتداولنا الحَدِيث فِي الْهَرم وَمن بناه فَكل يَأْتِي فِي وصفهما بِمَا نَقله لَا بِمَا عقله واجتهدوا فِي الصعُود إِلَيْهِ فَلم يُوجد من توقله وحارت الْعُقُول فِي عقوده وطارت الأفكار عَن توهم حُدُوده فيا لَهُ من مَوْلُود للدهر قبل الطوفان انقرضت الْقُرُون الخالية على آبَائِهِ وجدوده وسمار الْأَخْبَار تذكر حَدِيث أَحْدَاث عَاده وثموده ويُدل إحكامه وعلّوه على همة بانيه فِي بأسه وجوده وَإِن فِي الأَرْض الهرمين كَمَا أَن فِي السَّمَاء الفرقدين وهما كالطودين الراسخين وكالجبلين الشامخين قد فنيت الدُّهور وهما باقيان وتقاصرت الْقُصُور وهما راقيان وكأنهما لأُمّ الأَرْض ثديان وعَلى ترائب التُّرَاب نهدان ولسلطان الْعَالم علمَان وَإِلَى مراقي الْأَمْلَاك سُلمان وهما لِليْل وَالنَّهَار(2/443)
رقيبان ولرضوي ولشمام نسيبان وَمن زحل والمريخ قريبان ولعوادي الخطوب خطيبان ولثور الْفلك روقان ولشخص الكرة الترابية ساقان
قلت ثمَّ ذكر الْعِمَاد جمَاعَة مِمَّن كَانَ يُقيم الضِّيَافَة لَهُ ولمثله من الْفُضَلَاء الْأَعْيَان فَذكر مِنْهُم الناصح مؤدب أَوْلَاد السُّلْطَان وَله دارٌ مشرفة على النّيل وَذكر مِنْهُم اللِّسَان الصُّوفِي الْبَلْخِي وَكَانَ لَهُ صُحْبَة قديمَة بِنَجْم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان وَله دارٌ أَيْضا على شاطىء النّيل برسم ضِيَافَة من نزل بِهِ
قَالَ ثمَّ وقف السُّلْطَان دَاره على الصُّوفِيَّة من بعده وانتقل بعد سِنِين إِلَى النَّعيم وخُلده
فصل فِي بيع الْكتب وَعمارَة القلعة والمدرسة والبيمارستان
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ لبيع الْكتب فِي الْقصر كلّ أُسْبُوع يَوْمَانِ وَهِي تبَاع بأرخص الْأَثْمَان وخزائنها فِي الْقصر مرتَّبة الْبيُوت مقسمة الرّفوف مفهرسة بِالْمَعْرُوفِ فَقيل للأمير بهاء الدّين قراقوش مُتَوَلِّي الْقصر(2/444)
والحالّ والعاقد لِلْأَمْرِ هَذِه الْكتب قد عاث فِيهَا العث وتساوى سمينها والغث وَلَا غنى عَن تهويتها ونفضها وإخراجها من بيُوت الخزانة إِلَى أرْضهَا وَهُوَ تركي لاخبرة لَهُ بالكتب وَلَا دربة لَهُ بأسفار الْأَدَب وَكَانَ مَقْصُود دلالي الْكتب أَن يوكسوها ويخرموها ويعكسوها فأخرجت وَهِي أَكثر من مئة ألف من أماكنها وغُربت من مساكنها وخرّبت أوكارها وأذهبت أنوارها وشتت شملها وبتُ حبلها وَاخْتَلَطَ أدبيها بنجوميها وشرعيُّها بمنطقيها وطبيُّها بهندسيِّها وتواريخها بتفاسيرها ومجاهيلها بمشاهيرها
وَكَانَ فِيهَا من الْكتب الْكِبَار وتواريخ الْأَمْصَار ومصنفات الْأَخْبَار مَا يشْتَمل كل كتاب على خمسين أَو سِتِّينَ جُزْءا مجلدا إِذا فقد مِنْهَا جُزْء لَا يخلف أبدا فاختلطت واختبطت فَكَانَ الدَّلال يخرج عشرَة عشرَة من كل فن كتبا مبترة فتسام بالدون وتباع بالهُون والدلال يعرف كلّ شدَّة وَمَا فِيهَا من عدَّة وَيعلم أَن عِنْده من أجناسها وأنواعها وَقد شَارك غَيره فِي ابتياعها حَتَّى إِذا لفق كتابا قد تقوم عَلَيْهِ بِعشْرَة بَاعه بعد ذَلِك لنَفسِهِ بمئة
قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت الْأَمر حضرت الْقصر واشتريت كَمَا أشتروا ومريت الْأَطِبَّاء كَمَا مروا واستكثرت من الْمَتَاع الْمُبْتَاع وحويت نفائس الْأَنْوَاع وَلما عرف السُّلْطَان مَا ابتعته وَكَانَ بمئين أنعم عليَّ بهَا وَأَبْرَأ ذمَّتى من ذهبها ثمَّ وهب لي أَيْضا من خزانَة الْقصر مَا عينت عَلَيْهِ من كتبهَا
وَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا وَبَين يَدَيْهِ مجلدات كَثِيرَة انتقيت لَهُ من الْقصر وَهُوَ ينظر فِي بَعْضهَا وَبسط يَدي لقبضها وَقَالَ كنت طلبت كتبا عينتها فَهَل(2/445)
فِي هَذِه مِنْهَا شَيْء فَقلت كلهَا وَمَا أستغنى عَنْهَا فأخرجتها من عِنْده بحمال وَكَانَ هَذَا مِنْهُ بِالْإِضَافَة إِلَى سماحه أقل نوال
قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان لما تملك مصر رأى أَن مصر والقاهرة لكلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا سور لَا يمْنَعهَا فَقَالَ إِن أفردت كلّ وَاحِدَة بسور احْتَاجَت إِلَى جند مُفْرد يحميها وَإِنِّي أرى أَن أدير عَلَيْهِمَا سورا وَاحِدًا من الشاطىء إِلَى الشاطىء
فَأمر بِبِنَاء قلعة فِي الْوسط عِنْد مَسْجِد سعد الدولة على جبل المقطم فابتدأ من ظَاهر الْقَاهِرَة ببرج فِي الْمقسم وانْتهى بِهِ إِلَى أَعلَى مصر ببروج وَصلهَا بالبرج الْأَعْظَم وَوجدت فِي عهد السُّلْطَان ثبتا رَفعه النواب وتكمل فِيهِ الْحساب ومبلغه وَهُوَ دائر البلدين مصر والقاهرة بِمَا فِيهِ من سَاحل الْبَحْر والقلعة بِالْجَبَلِ تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَثَلَاث مئة وذراعان من ذَلِك مَا بَين قلعة الْمقسم على شاطىء النّيل والبرج بالكوم الْأَحْمَر بساحل مصر عشرَة آلَاف وَخمْس مئة ذِرَاع وَمن القلعة بالمقسم إِلَى حَائِط القلعة بِالْجَبَلِ بِمَسْجِد سعد الدولة ثَمَانِيَة آلَاف وَثَلَاث مئة وَاثْنَانِ وَتسْعُونَ ذِرَاعا وَمن جَانب حَائِط القلعة من جِهَة مَسْجِد سعد الدولة إِلَى البرج بالكوم(2/446)
الْأَحْمَر سبع آلَاف ومئتا ذِرَاع ودائر القلعة بجبل مَسْجِد سعد الدولة ثَلَاثَة آلَاف ومئتان وَعشرَة أَذْرع وَذَلِكَ طول قوسه فِي أبدانه وأبراجه من النّيل إِلَى النّيل على التَّحْقِيق وَالتَّعْدِيل وَذَلِكَ بالذراع الْهَاشِمِي بتولي الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الْأَسدي
وَبنى القلعة على الْجَبَل وَأَعْطَاهَا حَقّهَا من إحكام الْعَمَل وَقطع الخَنْدَق وتعميقه وحفر واديه وتضييق طَرِيقه وَهُنَاكَ مَسَاجِد يعرف أَحدهَا بِمَسْجِد سعد الدولة فاشتملت القلعة عَلَيْهَا وَدخلت فِي الْجُمْلَة وحفر فِي رَأس الْجَبَل بِئْرا ينزل فِيهَا بالدرج المنحوتة من الْجَبَل إِلَى المَاء الْمعِين وَلم يتأت لَهُ هَذَا كُله فِي سِنِين مُتَقَارِبَة لَوْلَا أَعَانَهُ ربُّه المعُين
وَتُوفِّي السُّلْطَان وَقد بَقِي من السُّور مَوَاضِع والعمارة فِيهِ مستمرة ووظائف نفقاتها مستدرة
قَالَ وَأمر بِبِنَاء الْمدرسَة بالتربة المقدسة الشَّافِعِيَّة ورتب قواعدها بفرط الألمعية وتولاها الْفَقِيه الزَّاهِد نجم الدّين الخبوشاني وَهُوَ الشَّيْخ(2/447)
الصَّالح الْفَقِيه الْوَرع النقي التقي
قَالَ وَأمر باتخاذ دَار فِي الْقصر بيمارستانا للمرضى واستغفر الله تَعَالَى بذلك واسترضى ووقف على البيمارستان والمدرسة وقوفاً وَقد أبطل مُنْكرا وأشاع مَعْرُوفا وأضرب عَن ضَرَائِب فمحاها وهبّ إِلَى مواهب فأسداها واهتم بفرائض ونوافل فأداها
فصل فِي خُرُوج السُّلْطَان إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَغير ذَلِك من بواقي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ خرج من الْقَاهِرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان واستصحب ولديه الْأَفْضَل عليَّاً والعزيز عُثْمَان وَجعل طَرِيقه على دمياط وَرَأى فِي الْحُضُور بالثغر الْمَذْكُور ومشاهدته الِاحْتِيَاط وَكَانَ لَهُ بهَا سبيّ كثير جلبه الأسطول فمتد بِظَاهِر الْبَلَد يَوْمَيْنِ ووهب لي مِنْهُ جَارِيَة
ثمَّ وصلنا إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة وترددنا مَعَ السُّلْطَان إِلَى الشَّيْخ الْحَافِظ أبي طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد السلَفِي وداومنا الْحُضُور عِنْده واجتلينا من(2/448)
وَجهه نور الايمان وسعده وَسَمعنَا عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام الْخَمِيس وَالْجُمُعَة والسبت رَابِع شهر رَمَضَان واغتنمنا الزَّمَان فَتلك الْأَيَّام الثَّلَاثَة هِيَ الَّتِي حسبناها من الْعُمر فَهِيَ آخر مَا اجْتَمَعنَا بِهِ فِي ذَلِك الثغر
وشاهدنا مَا استجده السُّلْطَان من السُّور الدائر وَمَا أبقاه من حسن الْآثَار والمآثر وَمَا انْصَرف حَتَّى أَمر بإتمام الثغور وتعمير الأسطول
قَالَ ابْن أبي طيّ وَلما نوى السُّلطان الْمقَام بالإسكندرية ليصوم فِيهَا رأى انه لَا يخلي نَفسه من ثَوَاب يقوم لَهُ مقَام الْقَصْد إِلَى بِلَاد الْكفَّار وَالْجهَاد فِي الْمُشْركين فَرَأى الأسطول وَقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته فَأمر بتعمير الأسطول وَجمع لَهُ من الأخشاب والصَّناع أَشْيَاء كَثِيرَة وَلما تمَّ عملُ المراكب أَمر بِحمْل الآلآت فَنقل من السِّلَاح وَالْعدَد مَا يحْتَاج الأسطول إِلَيْهِ وشحنه بِالرِّجَالِ وولىّ فِيهِ أحد أَصْحَابه وأفرد لَهُ إقطاعا مَخْصُوصًا وديوانا مُنْفَردا وَكتب إِلَى سَائِر الْبِلَاد المصرية بِقبُول قَول صَاحب الأسطول وَأَن لَا يمْنَع من أَخذ رِجَاله وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأمر صَاحب الأسطول أَن لَا يبارح الْبَحْر ويغزي إِلَى جزائر الْبَحْر
قَالَ الْعِمَاد وَقلت فِي معنى تنقلي فِي الْبِلَاد
(يَوْمًا بجي وَيَوْما فِي دمشق وبالفسطاط ... يَوْمًا وَيَوْما بالعراقين)
(كَأَن جسمي وقلبي الصبّ مَا خلقا ... إِلَّا ليُقتسما بالشوق والبين)(2/449)
وَقلت يَوْم الْخُرُوج من الْقَاهِرَة
(يَا باخلاً عِنْد الْوَدَاع بوقفة ... لَو سامني روحي بهَا لم أبخل)
(مَا كَانَ ضرك لَو وقفت لسائل ... ترك الْفُؤَاد بدائه فِي الْمنزل)
(هلاّ وقفت لقلب من أحرقته ... مِقْدَار إطفار الْحَرِيق المشعل)
(إِن أسر مرتحلا فَفِي أسر الْهوى ... قلبِي لديك مُقَيّدا لم يرحل)
(عذب الْعَذَاب لَدَى فُؤَادِي الْمُبْتَلى ... إِذْ كنت أَنْت معذبي والمبتلي)
وَقلت وَقد نزلنَا بَين منية غمر ومنية سمنود
(نزلت بِأَرْض المنيتين ومنيتي ... لقاؤكم الشافي ووصلكم المجدي)
(سأبلى وَلَا تبلى سريرة ودكم ... وتؤنسني إِن مت فِي وَحْشَة اللَّحْد)
قَالَ وعدنا من الْإسْكَنْدَريَّة فِي شهر رَمَضَان فصمنا بَقِيَّة الشَّهْر بِالْقَاهِرَةِ وَالسُّلْطَان متوفر فِي ليله ونهاره على نشر الْعدْل وإنشاره وإفاضة الْجُود واغزاره وَسَمَاع أَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخباره وإشاعة الْعلم والإعلان بأسراره وإبداء شعار الشَّرْع وإظهاره وإبقاء الْمَعْرُوف على قراره وإعدام الْبَاطِل وإنكاره
وَقَالَ وَمن مدائحي فِي السُّلْطَان مَا أنشدته إِيَّاه سادس شَوَّال
(فديتك من ظَالِم منصف ... وناهيك من باخل مُسْرِف)
وَمِنْهَا
(أيبلغ دهري قصدي وَقد ... قصدت بِمصْر ذرا يُوسُف)(2/450)
(ويوسف مصر بِغَيْر التقى ... وبذل الصَّنَائِع لم يُوصف)
(فسر وَافْتَحْ الْقُدس واسفك بِهِ ... دِمَاء مَتى تجرها ينظف)
(واهد إِلَى الإسبتار التبار ... وهدّ السقوف على الأسقف)
(وخلّص من الْكفْر تِلْكَ الْبِلَاد ... يخلصك الله فِي الْموقف)
قَالَ وفيهَا وصل رُسُل المواصلة وصاحبي الْحصن وماردين إِلَى دمشق فاستوثقوا بتحليف أخي السُّلْطَان شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب ثمَّ قصدُوا مصر وَوَقع رَسُول صَاحب حصن كيفا فِي الْأسر
قَالَ ابْن أبي طيّ وصل رَسُول الْموصل القَاضِي عماد الدّين بن كَمَال الدّين بن الشهرزوري بهدية وقود فَخرج الموكب إِلَى لِقَائِه وأكرمه السُّلْطَان واحترمه وَقدم بعده رَسُول نور الدّين قرا أرسلان وَرَسُول صَاحب ماردين بِهَدَايَا واجتمعوا فِي دمشق وَخَرجُوا إِلَى السُّلْطَان بِمصْر فاعترضهم الفرنج فَأسر رَسُول صَاحب الْحصن وَلم يزل فِي الْأسر حَتَّى فتح السُّلْطَان بَيت الأحزان فَأَطْلقهُ وَأحسن إِلَيْهِ
قَالَ وفيهَا رَجَعَ قراقوش إِلَى أوجلة وَتلك الْبِلَاد(2/451)
فَجمع أَمْوَالًا وَرجع إِلَى مصر ثمَّ أَرَادَ الرُّجُوع فَمَنعه الْعَادِل ثمَّ خلصه فرخشاه فَرجع وَفتح بِلَاد فزّان بأسرها
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ خرج السُّلْطَان إِلَى موج فاقوس من اعمال مصر الشرقية لإرهاب العدوّ وَهُوَ يركب للصَّيْد والقنص والتطلع إِلَى أَخْبَار الفرنج لانتهاز الفرص واقترح عليّ أَن أمدح عز الدّين فرخشاه بقصيدة موسومة ألزم فِيهَا الشين قبل الْهَاء فَعمِلت ذَلِك فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة فَقلت
(مولَايَ عزَّ الدّين فرخشه ... الدَّهْر من يرجك لَا يخشه)
(تَلقاهُ سمح الْكَفّ دفاقها ... طلق المحيَّا كرماً بشه)
(إِن شِئْت فوتاً بالرّدى فالقه ... أَو شِئْت فوزاً بالعلا فاغشه)
(يديم بِالْأَيْدِي وبالأيد فِي ... حَرْبِيّ لهاه والعدى بطشه)
(كم ملكٍ عاداكم لم يبت ... إِلَّا جعلتم عَرْشه نعشه)
(خوفتم الشّرك فَلَا قمصه ... أمنتم يَوْمًا وَلَا فنشه)
(أورثك السؤدد يَا ابْن الْعلَا ... والدك السَّيِّد شاهنشه)
وَقَالَ فِي الخريدة كُنَّا مخيمين بمرج فاقوس مصممين على الْغُزَاة إِلَى غَزَّة وَقد وصلت أساطيل ثغرى دمياط والإسكندرية بسبي الْكفَّار وَقد أوفت على ألف رَأس عدَّة من وصل فِي قيد الأسار فَحَضَرَ ابْن رَوَاحَة(2/452)
منشداً مهنئاً بعيد النَّحْر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ومعرضا بِمَا وهبه الْملك النَّاصِر من الْإِمَاء وَالْعَبِيد بقصيدة مِنْهَا
(لقد خبر التجارب مِنْهُ حزم ... وقلبّ دهره ظهرا لبطن)
(فساق إِلَى الفرنج الْخَيل برا ... وأدركهم على بَحر بسفن)
(لقد جلب الْجَوَارِي بالجواري ... يمدن بِكُل قدٍ مرجحن)
(يزيدهم اجْتِمَاع الشمل بؤسا ... فَمر نان تنوح على مرن)
(زهت إسكندرية يَوْم سيقوا ... ودمياط فَمَا منيا بِغَبن)
(يرَوْنَ خياله كالطيف يسري ... فَلَو هجعوا أَتَاهُم بعد وَهن)
(أبادهم تخوفه فأمسى ... مُنَاهُمْ لَو يبيتهم بأمن)
(تملك حَولهمْ شرقا وغربا ... فصاروا لاقتناص تَحت رهن)
قَالَ الْعِمَاد يُشِير إِلَى أَنه مَالك الشَّام ومصر والفرنج بَينهمَا
(أَقَامَ بآل أَيُّوب رِبَاطًا ... رَأَتْ مِنْهُ الفرنج مضيق سجن)
(رجا أقْصَى الْمُلُوك السّلم مِنْهُم ... وَلم ير جهده فِي الْبَأْس يُغني)
وَفِي هَذِه السّنة أبطل السُّلْطَان المكس الَّذِي كَانَ بِمَكَّة على الْحَاج وَسَيَأْتِي ذكره فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين
قَالَ أبن الْأَثِير وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين شرع مُجَاهِد الدّين يعْنى(2/453)
قايماز دزدار قلعة الْموصل فِي عمَارَة جَامعه بِظَاهِر الْموصل بِبَاب الجسر وَهُوَ من أحسن الْجَوَامِع ثمَّ بني بعد ذَلِك الرِّبَاط والمدرسة والبيمارستان وَكلهَا متجاورات
قَالَ وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول من سنة خمس وَتِسْعين بقلعة الْموصل وَهُوَ متوليها وَالْحَاكِم فِي الدولة الأتابكية النورية وَكَانَ ابْتِدَاء ولَايَته القلعة فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين ثمَّ قبض عَلَيْهِ سنة تسع وَثَمَانِينَ وأعيد إِلَى ولايتها بعد الإفراج عَنهُ وَبَقِي إِلَى الْآن وَكَانَ أَصله من أَعمال شبختان وَأخذ مِنْهَا وَهُوَ طِفْل وَكَانَ عَاقِلا خيّرا دينا فَاضلا يعلم الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ ويحفظ من الْأَشْعَار والحكايات والنوادر والتواريخ شَيْئا كثيرا إِلَى غير ذَلِك من المعارف الْحَسَنَة وَكَانَ يكثر الصَّوْم وَله ورد يصليه كل لَيْلَة وَيكثر الصَّدَقَة وَبنى عدَّة جَوَامِع مِنْهَا الَّذِي بِظَاهِر الْموصل وَبنى عدَّة خانقاهات مِنْهَا الَّتِي بالموصل ومدارس وقناطر على الْأَنْهَار إِلَى غير ذَلِك من الْمصَالح ومناقبه كَثِيرَة
قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة نزلنَا ببركة الْجب لقصد فرض الْجِهَاد وَعرض الأجناد فَكتب الأسعد بن مماتي إِلَيّ أبياتا فِي الْملك النَّاصِر(2/454)
ويعرض بالشطرنج فَإِنَّهُ يشْتَغل بِهِ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين
(يَا كريم الخيم فِي الخيم ... أهيف كالريم ذُو شمم)
(عجبي للشمس إِذْ طلعت ... مِنْهُ فِي داج من الظُّلم)
(كَيفَ لَا تصمي لواحظه ... ورماة الطّرف فِي الْعَجم)
(لَا تصد قلب الْمُحب لكم ... لَا يحل الصَّيْد فِي الْحرم)
(يَا صَلَاح الدّين يَا ملكا ... قد براه الله للأمم)
(أضحت الْكفَّار فِي نقم ... وَغدا الْإِسْلَام فِي نعم)
(إِن يَك الشطرنج مشغلة ... لعليّ الْقدر والهمم)
(فَهِيَ فِي ناديك تذكرة ... لأمور الْحَرْب وَالْكَرم)
(فلكم ضاعفت عدتهَا ... بالعطاء الجم لَا الْقَلَم)
(ونصبت الْحَرْب نصبتها ... فانثنت كَفاك بالقمم)
(فابق للأقدار ترفعها ... وَأمر الأقدار كالخدم)
وفيهَا توفّي بالإسكندرية القَاضِي الشريف أَبُو مُحَمَّد عبد الله العثماني الديباجي من ولد الديباج مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنْهُم وَيعرف بِابْن أبي إلْيَاس من بَيت الْقَضَاء وَالْعلم وَكَانَ وَاسع الباع فِي علم الْأَحَادِيث كثير الرِّوَايَة قيمًا بالأدب متصرفا فِي النّظم(2/455)
والنثر إِلَّا أَنه مقلّ من النّظم أوحد عصره فِي علم الشُّرُوط وَقَوله هُوَ المقبول على كل الْعُدُول ذكر ذَلِك الْعِمَاد رَحمَه الله فِي الخريدة
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين [ل / 243 / ب] وَخمْس مئة
وَالسُّلْطَان مخيم بمرج فاقوس فنظم الْعِمَاد فِي الْأَجَل الْفَاضِل قصيدة ميمية فِي منتصف الْمحرم وخدمه بهَا هُنَاكَ فِي المخيم أَولهَا
(ريم هضيم يروم هضمي ... من سقم عَيْنَيْهِ عين سقمي)
(ان رمت يَا عاذلي صلاحي ... فخلني والهوى وزعمي)
(لومك يذكي الغرام قل لي ... أَنْت نصيحي أم أَنْت خصمي)
(أيا زماني الغشوم اقصر ... انك لَا تَسْتَطِيع غشمي)
(عبد الرَّحِيم الرَّحِيم اضحى ... عوني على خَطبك الملم)
(بالفاضل الافضل الاجل ... الْمفضل الاشرف الاشم)(2/456)
(غيث غياث وجود جود ... وبحر علم وطود حلم)
(يراعه فِي الْيَمين مِنْهُ ... يسْتَخْرج الدّرّ من خضم)
قَالَ وَكَانَ عندنَا بالمخيم بالعباسة فِي الْمحرم علم الدّين الشاتاني وَهُوَ من أدباء الْموصل وشعرائها وفصحائها وظرفائها وَفد سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين إِلَى مصر وَأهْدى النّظم والنثر واصطعنه عز الدّين فرخشاه وانزله فِي جواره وَجمع لَهُ من رفده وَمن الامراء الف دِينَار فمدح السُّلْطَان بالمخيم بِكَلِمَة مطْلعهَا
(غَدا النَّصْر معقودا برايتك الصفرا ... فسر وَافْتَحْ الدُّنْيَا فَأَنت بهَا احرى)
قلت لم يذكر الْعِمَاد من هَذِه القصيدة غير هَذَا الْبَيْت وانه لقائم مقَام قصائد كَثِيرَة
والشاتاني هُوَ ابو على الْحسن بن سعيد لَهُ تَرْجَمَة فِي تَارِيخ دمشق وَذكره الْعِمَاد فِي الخريدة وَذكر فِيهَا من هَذِه القصيدة(2/457)
(يَمِينك فِيهَا اليُمن واليُسر فِي اليُسرى ... فبُشرى لمن يَرْجُو النّدى مِنْهُمَا بُشرى)
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت الْأَعْلَام السُّلْطَانِيَّة صفرا لَا يُفَارق نشرها نصرا
قلت وفيهَا يَقُول بعض الْفُضَلَاء
(إِذا اسود خطب دونه الْمَوْت أَحْمَر ... أَتَت بالأيادي الْبيض أَعْلَامه الصفر)
(فمذ ظَهرت مَنْصُوبَة جزمت بهَا ... ظُهُور العدى من رَفعهَا انخفض الْكفْر)
(وَلم لَا يحوز الأَرْض شرقاً ومغربا ... وَللَّه فِي إعلاءِ رتْبته سر)
وَقَالَ الْعِمَاد وَعَاد السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا ثمَّ اهتمت بالغزاة همتّه إِلَى غَزَّة وعسقلان فَخرج يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث جُمَادَى الأولى بعد الصَّلَاة وخيم بِظَاهِر بلبيس فِي خامسه بخميسه ثمَّ تقدمنا مِنْهُ إِلَى السدير وخيمنا بالمبرز ثمَّ نُودي خُذُوا زَاد عشرَة أَيَّام أُخْرَى زِيَادَة للاستظهار ولإعواز ذَلِك عِنْد توَسط ديار الْكفَّار
قَالَ الْعِمَاد فركبت إِلَى سوق الْعَسْكَر للابتياع وَقد أَخذ السّعر فِي الِارْتفَاع فَقلت لغلامي قد بدا لي وَقد خطر الرّجوع من الْخطر ببالي فاعرض للْبيع أجمالي وأثقالي وانتهز فرْصَة هَذَا السّعر الغالي وَأَنا صَاحب قلم لَا صَاحب علم وَقد استشعرت نَفسِي فِي هَذِه الْغَزْوَة من عَاقِبَة نَدم والمدى بعيد والخطب شَدِيد وَهَذِه نوبَة السيوف(2/458)
لَا نوبَة الأقلام وَفِي سلامتنا سَلامَة الْإِسْلَام وَالْوَاجِب على كل منا أَن يلْزم شغله وَلَا يتَعَدَّى حَده وَلَا يتَجَاوَز مَحَله لَا سِيمَا ونواب الدّيوان قد اسْتَأْذنُوا فِي العودة وأظهروا قلّة العِدّة وأظهرت سرّي للْمولى الْأَجَل الْفَاضِل فسره إشفاقاً عليّ وإحساناً إلىّ وَكَانَ السّلطان أَيْضا يُؤثر إيثاري ويختار اخْتِيَاري فَقَالَ لي أَنْت مَعنا أَو عزمت أَن تدعنا وَلَا تتبعنا فَقلت الْأَمر للْمولى وَمَا يختاره لي فَهُوَ أولى فَقَالَ تعّود وَتَدْعُو لنا وتسأل الله أَن يبلغنَا فِي النَّصْر سؤلنا
وَكنت قد كثبت أبياتا إِلَى المخدوم الْفَاضِل وَنحن بالمبرز فِي الْعشْرين من الشَّهْر
(قيَل فِي مصر نائلٌ عدد الرمل ... ووفرْ كنيلها الموفور)
(فاغتررنا بهَا وسرّنا إِلَيْهَا ... ووقعنا كَمَا ترى فِي الْغرُور)
(وحظينا بالرّمل والسيّر فِيهِ ... ومنعنا من نيلها الميسور)
(وبرزنا إِلَى المبرز نشكو ... سدرا من نزولنا بالسدير)
(قيل لي سِر إِلَى الْجِهَاد وماذا ... بالغٌ فِي الْجِهَاد جهدُ مسيري)
(لَيْسَ يقوى فِي الْجَيْش جأشي وَلَا قوسي ... يرى موترا إِلَى موتور)
(أَنا للكتب لَا الْكَتَائِب إقدامي ... وللصُّحف لَا الصفاح حضوري)
(كَاد فضلي يضيع لَوْلَا اهتمام الْفَاضِل ... الفائض النّدى بأموري)(2/459)
(فَأَنا مِنْهُ فِي ملابس جاهٍ ... رافلاً مِنْهُ فِي حبير حبور)
(فَهُوَ رقيّ من الحضيض حظوظي ... وسما بِي إِلَى سَرِير السُّرور)
وَقَالَ وَمَا انْقَطَعت عَن السُّلْطَان فِي غَزَوَاته إِلَّا فِي هَذِه الْغَزْوَة وَقد عصم الله فِيهَا من النُّبُوَّة وَكَانَت غزوات السُّلْطَان بعْدهَا مؤيدة والسّعادات فِيهَا مجددة
وَكنت لما فَارَقت الْقَاهِرَة استوحشت وتشوقت إِلَى أصدقائي وتشوشت وكتبت من المخيم ببلبيس إِلَى القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الفرّاش وَقد أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ صاحباً لي من الْأَيَّام النورية واستشرته فِي التَّأَخُّر عَن السُّلْطَان فَكتب فِي الْجَواب رافقه ولاتفارقه فَكرِهت رَأْيه فَكتبت إِلَيْهِ
(إِذا رَضِيتُمْ بمكروهي فَذَاك رضَا ... لَا أَبْتَغِي غير مَا تبغون لي غَرضا)
(وَإِن رَأَيْتُمْ شِفَاء الْقلب فِي مرضِي ... فإنني مُستطيبٌ ذَلِك المرضا)
(أَنْتُم أشرتم بتعذيبي فصرت لَهُ ... مُسْتعذباً أستلذ الْهم والمضضا)
(أَصبَحت ممتعضا من أجل أَنِّي لَا ... أرى صديقا لما أَلْقَاهُ ممتعضا)
(إِن رمتم عوضا بِي فِي محبتكم ... فحاش لله أَن أبغى بكم عوضا)
(لله عيشٌ تقضَّى عنْدكُمْ وَمضى ... وَكَانَ مثل سحابٍ برْقهُ ومضا)(2/460)
(الْعَيْش دَان جناه الغضّ عنْدكُمْ ... والقلبُ محترقُ مني بجمر غضا)
(مَا كنت أَعهد مِنْكُم ذَا الْجفَاء وَلَا ... حسبت أنّ ودادي عنْدكُمْ رُفضا)
(قد أظلم الْأُفق فِي عَيْني لغيبتكم ... فَإِن أَذِنت لشخصي فِي الْحُضُور أضا)
(وَلست أول صبّ من أحبتَّه ... لمَّا جفوا مَا قضى أوطاره وَقضى)
(مُروا بِمَا شِئْتُم من محنة وأذىً ... فقد رَأَيْت امْتِثَال الْأَمر مفترضا)
(طُوبَى لكم مصرُ والدارّ الَّتِي قضيت ... فِيهَا المآرب والعيش الَّذِي خُفضا)
(بعيشكم إِن خلوتم بانبساطكم ... تَذكرُوا ضجراً بالعيش منقبضا)
(رَضِيتُمْ سَفَرِي عَنْكُم وأعهدكم ... بسفرتي عَنْكُم لَا تظْهرُونَ رضَا)
(هلا تكلَّفتم قولا أُسرُّ بِهِ ... هَيْهَات جوهركم قد عَاد لي عرضا)
(تفضلوا واشرحوا صَدْرِي بقربكم ... أَو فاشرحوا لي ذَا الْمَعْنى الذَّي غمضا)
فَكتب إليَّ فِي جوابها أبياتاً مِنْهَا
(لَا تنسبوني إِلَى إِيثَار بعدكم ... فلست أرْضى إِذا فارقتكم عوضا)
(ولي ودادٌ تولَّى الصّدق عقدته ... فَمَا ترَاهُ على الْأَيَّام منتقضا)
(يلقاك قلبِي على سبل العتاب لَهُ ... بِصِحَّة لَيْسَ يخْشَى بعْدهَا مَرضا)
(وصرت كالدَّهر يجنى أَهله أسفا ... ويلتقي من عتاب المذنب المضضا)
قَالَ ثمّ ودّعت وعُدْت ونهضوا وَقَعَدت(2/461)
فصل فِي نوبَة كسرة الرَّملة
وَكَانَت على الْمُسلمين بِالْجُمْلَةِ وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة أَو ثَانِيَة
ورحل السُّلْطَان بعساكره فَنزل على عسقلان يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى فسبى وسلب وغنم وَغلب وَأسر وقسر وَكسب وَكسر وَجمع هُنَاكَ من كَانَ مَعَه من الأسرى فَضرب أَعْنَاقهم وتفرَّق عسكره فِي الْأَعْمَال مغيرين ومبيدين فَلَمَّا رَأَوْا أَن الفرنج خامدون استرسلوا وانبسطوا
وتوَّسط السُّلطان الْبِلَاد واستقل يَوْم الْجُمُعَة مستهلّ جُمَادَى الْآخِرَة بالرّملة راحلاً ليقصد بعض المعاقل فاعترضه نهرٌ عَلَيْهِ تلّ الصافية فازدحمت على العبور أثقال العساكر المتوافية فَمَا شعروا إِلَّا بالفرنج طالبةً بأطلابها حازبةً بأحزابها ذابَّةً بذئابها عاويةً بكلابها وَقد نفر نفيرهم وَزفر زفيرهم وسرايا الْمُسلمين فِي الضّيَاع مُغيرَة ولرِحا الْحَرْب عَلَيْهِم فِي دُورهمْ مديرة فَوقف الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وتلقاهم بصدره وباشرهم ببيضه وسُمره فاستشهد من أَصْحَابه عدَّة من الْكِرَام انتقلوا إِلَى نعيم دَار الْمقَام وَهلك من الفرنج أضعافها(2/462)
وَكَانَ لتقي الدّين ولدٌ يُقَال لَهُ أَحْمد أول مَا طر شَاربه فاستشهد بَعْدَمَا أردى فَارِسًا
قَالَ وَكَانَ لتقي الدّين أَيْضا ولد آخر اسْمه شاهنشاه وَقع فِي أسر الفرنج وَذَلِكَ أَن بعض مستأمني الفرنج بِدِمَشْق خدعه وَقَالَ لَهُ تَجِيء إِلَى الْملك وَهُوَ يعطيك الْملك وزور لَهُ كتابا فسكن إِلَى صدقه وَخرج مَعَه فَلَمَّا تفرد بِهِ شدّ وثَاقه وغلّه وقيَّده وَحمله إِلَى الداوية وَأخذ بِهِ مَالا وجدد عِنْدهم لَهُ حَالا وجمالا وَبَقِي فِي الْأسر أَكثر من سبع سِنِين حَتَّى فكّه السُّلْطَان بِمَال كثير وَأطلق للداوّية كلّ من كَانَ لَهُم عِنْده من أَسِير فغلط الْقلب التقوّى على ذَلِك الْوَلَد جرّ هَلَاك أَخِيه وَلما عَاد من الْغَزْوَة زرناه للتعزية فِيهِ
قَالَ وَلَو أَن لتقي الدّين ردْءًا لأردى الْقَوْم لَكِن النّاس تفَرقُوا وَرَاء أثقالهم ثمَّ نَجوا برحالهم وصوّب العدوّ بجملتهم حملتهم على السُّلْطَان فَثَبت ووقف على تقدمه من تخلف وسمعته يَوْمًا يصف تِلْكَ النّوبَة ويشكر من جماعته الصُّحْبَة وَيَقُول رَأَيْت فَارِسًا يحثّ نحوي حصانه وَقد صوّب إِلَى نحري سنانه فكاد يبلغنِي طعانه وَمَعَهُ آخرَانِ قد جعلا شَأْنهمَا شانه فَرَأَيْت ثَلَاثَة من أَصْحَابِي خرج كلّ وَاحِد إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم فبادروه وطعنوه وَقد تمكن من قربي فَمَا مكَّنوه وهم إِبْرَاهِيم بن قنابر وَفضل الفيضي وسُويد بن غشم الْمصْرِيّ وَكَانُوا فرسَان الْعَسْكَر وشجعان المعشر وأتفق لسعادة السُّلْطَان أنّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رافقوه وَمَا فارقوه وقارعوا العدوّ دونه وضايقوه(2/463)
فَمَا زَالَ السُّلْطَان يسير وَيقف حَتَّى لم يبْق من ظنّ أَنه يتَخَلَّف وَدخل اللَّيْل وسلك الرمل وَلَا مَاء وَلَا دَلِيل وَلَا كثير من الزَّاد والعلف وَلَا قَلِيل وتعسفوا السلوك فِي تِلْكَ الرمال والأوعاث والأوعار وبقوا أَيَّامًا وليالي بِغَيْر مَاء وَلَا زَاد حَتَّى وصلوا إِلَى الديار وَأذن ذَلِك بِتَلف الدّواب وترجل الركاب ولُغوب الْأَصْحَاب وفقد كثير مِمَّن لم يعرف لَهُ خبر وَلم يظْهر لَهُ أثر وفقد الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى وَأَخُوهُ الظهير وَمن كَانَ فِي صُحبتهم فضّل الطَّرِيق عَنْهُم وَكَانُوا سائرين إِلَى وَرَاء فَأَصْبحُوا بِقرب الْأَعْدَاء فأكمنوا فِي مغارة وَانْتَظرُوا من يدلهم من بلد الْإِسْلَام على عمَارَة فدّل عَلَيْهِم الفرنج من زعم أَنه يدل بهم وسعى فِي أسرهم وعطبهم فأسروا وَمَا خلص الْفَقِيه عِيسَى وَأَخُوهُ إِلَّا بعد سِنِين بستين سبعين ألف دِينَار وفكاك جمَاعَة من الْكفَّار
قَالَ وَمَا اشتدت هَذِه النّوبَة بكسرة وَلَا عدم نُصرة فَإِن النكاية فِي العدوّ وبلاده بلغت مُنْتَهَاهَا وَأدْركت كلُّ نفسٍ مُؤمنَة مُشتهاها لَكِن الْخُرُوج من تِلْكَ الْبِلَاد شتت الشمل وأوعر السهل وسلك مَعَ عدم المَاء وَالدَّلِيل الرمل
وَمِمَّا قدره الله تَعَالَى من أَسبَاب السّلامة وَالْهِدَايَة إِلَى الاسْتقَامَة أَن الْأَجَل الْفَاضِل استظهر فِي دُخُول بِلَاد الْأَعْدَاء باستصحاب الكنانية(2/464)
والأدلاء وانهم مَا كَانُوا يفارقونه فِي الْغَدَاء وَالْعشَاء فَلَمَّا وَقعت الْوَاقِعَة خرج بدوابه وغلمانه وَأَصْحَابه وأدلائه وأثقاله وَبث أَصْحَابه فِي تِلْكَ الرمال والوهاد والتلال حَتَّى أَخذ خبر السُّلْطَان وقصده وأوضح بأدلائه جدده وَفرق مَا كَانَ مَعَه من الأزواد على المنقطين وجمعهم فِي خدمَة السُّلْطَان أَجْمَعِينَ فسُهل ذَلِك الوعر وَأنس بعد الوحشة القفر وجبر الْكسر
وَكَانَ النَّاس فِي مبدأ توجُّه السُّلْطَان إِلَى الْجِهَاد وَدخُول الْأَجَل الْفَاضِل مَعَه إِلَى الْبِلَاد رُبمَا تحدثُوا وَقَالُوا لَو قعد وتخلف كَانَ أولى بِهِ فَإِن الْحَرْب لَيست من دأبه ثمّ عُرف أنّ السَّلامة وَالْبركَة والنجاة كَانَت فِي استصحابه
وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْقَاهِرَة مَعَ نجابين فَخلع عَلَيْهِم وأركبوا وأُشيع بِأَن السُّلْطَان نَصره الله وَأَن الفرنج خذلهم الله كسروا وغلبوا فركبت لأسْمع حَدِيث النجّابين وَكَيف نصر الله الْمُسلمين وَإِذا هم يَقُولُونَ أَبْشِرُوا فَإِن السُّلْطَان وَأَهله سَالِمُونَ وَإِنَّهُم واصلون غانمون فَقلت لرفيقي مَا بُشر بسلامة السُّلْطَان إِلَّا وَقد تمت كسرة وَمَا ثمَّ سوى سَلَامَته نُصرة
وَلما قرب خرجنَا لتلقيه وشكرنا الله على مَا يسره من ترقيه وتوقيه وَدخل الْقَاهِرَة يَوْم الْخَمِيس منتصف الشَّهْر ونابت سَلَامَته مناب النَّصْر وسيرنا بهَا البشائر وأنهضنا ببطاقاتها الطَّائِر لإخراس أَلْسِنَة الأراجيف(2/465)
وإبدال التَّأْمِين من التخويف فقد كَانَت نوبتها هائلة ووقعتها غائلة
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد خرج السُّلْطَان يطْلب السَّاحِل حَتَّى وافى الفرنج على الرّملة وَذَلِكَ فِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى وَكَانَ مقدم الفرنج البرنز أرناط وَكَانَ قد بيع بحلب فَإِنَّهُ كَانَ أَسِيرًا بهَا من زمن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَجرى خللٌ فِي ذَلِك الْيَوْم على الْمُسلمين وَلَقَد حكى السُّلْطَان قدّس الله روحه صُورَة الكسرة فِي ذَلِك الْيَوْم وَذَلِكَ أنّ الْمُسلمين كَانُوا قد تعَبَّوا تعبئة الْحَرْب فَلَمَّا قَارب العدوّ رأى بعض الْجَمَاعَة أَن يُغير الميمنة إِلَى جِهَة الميسرة والميسرة إِلَى جِهَة الْقلب ليكونوا حَال اللِّقَاء وَرَاء ظُهُورهمْ تل مَعْرُوف بِأَرْض الرملة فَبينا اشتغلوا بِهَذِهِ التعبئة هجمهم الفرنج وَقدر الله تَعَالَى كسرهم فانكسروا كسرةً عَظِيمَة وَلم يكن لَهُم حصن قريب يأوون إِلَيْهِ فطلبوا جِهَة الديار المصرية وَضَلُّوا فِي الطَّرِيق وتبددوا وأُسر مِنْهُم جمَاعَة مِنْهُم الْفَقِيه عِيسَى وَكَانَ وَهَناً عَظِيما جبره الله تَعَالَى بوقعة حطين الْمَشْهُورَة وَللَّه الْحَمد
قلت وَذَلِكَ بعد عشر سِنِين فكسرة الرّملة هَذِه كَانَت فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وكسرة حطين كَانَت فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ
قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَحَيْثُ كَانَت للْملك المظفر تَقِيّ الدّين فِي هَذِه الْغَزْوَة الْيَد الْبَيْضَاء أنشدته قصيدة مِنْهَا
(سقى الله الْعرَاق وساكنيه ... وحيّاه حَيا الْغَيْث الهتون)(2/466)
(وجيرانا أمنت الْجور مِنْهُم ... وَمَا فيهم سوى وافٍ أَمِين)
(صفوا والدهر ذُو كدرٍ وقدما ... وفوا بالعهد فِي الزَّمن الخؤون)
(بَنو أَيُّوب زانوا الْملك مِنْهُم ... بحلية سؤدد وتُقى وَدين)
(ملوكٌ أَصْبحُوا خير البرايا ... لخير رعية فِي خير حِين)
(أَسَانِيد السِّيَادَة عَن علاهم ... مُعَنْعَنَةٌ مصححةُ الْمُتُون)
(بَنو أَيُّوب مثلُ قُرَيْش مجداً ... وَأَنت لَهَا كأنزعها البطين)
(أخفت الشّرك حَتَّى الذّعر مِنْهُم ... يُرى قبل الْولادَة فِي الْجَنِين)
(ويومَ الرّملة المرهوبَ بَأْسا ... تركت الشّرك منزعج القطين)
(وكنتَ لعسكر الْإِسْلَام كهفاً ... أَوَى مِنْهُ إِلَى حصن حُصَيْن)
(وَقد عرف الفرنج سطاك لما ... رَأَوْا آثارها عين الْيَقِين)
(وَأَنت ثَبت دون الدّين تحمى ... حماه أَوَان ولى كلُّ دون)
قَالَ واهتم السُّلْطَان بعد ذَلِك بإفاضة الْجُود وتفريق الْمَوْجُود وافتقاد النَّاس بالنقود والنسايا الصادقة الوعود وجبر الكسير وَفك الْأَسير وتوفير الْعدَد وتكثير المدد وتعويض مَا وقف من الدَّوَابّ(2/467)
فَسَلُوا مَا نابهم وَلم يأسوا على مَا أَصَابَهُم
قَالَ ابْن أبي طيّ وَقَالَ ابْن سَعْدَان الحلبيّ يمدح السُّلْطَان وَيذكر مَا فعله على عسقلان ويهوّن عَلَيْهِ أَمر هَذِه الكسرة من قصيدة
(قرَّبت من عسقلان كلّ نائبة ... باتت تقل بوكاف من الأسل)
(فاض النجيع عَلَيْهَا وَهِي ممحلة ... فَأَصْبَحت مرتعا للخيل وَالْإِبِل)
(قل للفرنجية الخذلى رويدكم ... بالثأر أَو تخرج الشعري من الْحمل)
(ترقبوها من الفوار طالعة ... خوارق الأَرْض تمحو رونق الأَصْل)
(كأنني بنواصيهنّ يقدمهَا ... كاسٍ من الْجُود عُرْيَان من الْبُخْل)
(حسب العدى يَا صَلَاح الدّين حسبهم ... أَن يقرفوك بِجرح غير مندمل)
(وَهل يخَاف لِسَان النَّحْل ملتمسٌ ... مرّت على أصبعيه لَذَّة الْعَسَل)
فصل فِي وَفَاة كمشتكين وَخُرُوج السُّلْطَان من مصر بِسَبَب حَرَكَة الفرنج
قَالَ الْعِمَاد وَقعت المنافسة بَين الحلبيين مدبري الْملك الصَّالح(2/468)
وَاسْتولى على أمره الْعدْل ابْن العجمي أَبُو صَالح وَكَانَ سعد الدّين كمشتكين الْخَادِم مقدم الْعَسْكَر وأمير المعشر وَهُوَ صَاحب حصن حارم وَقد حسده أَمْثَاله من الْأُمَرَاء والخدام فَسَلمُوا لِابْنِ العجمي الاستبداد بتدبير الدولة فقفز عَلَيْهِ الاسماعيلية يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة فِي جَامع حلب فَقَتَلُوهُ
واستقل كمشتكين بِالْأَمر فَتكلم فِيهِ حسّاده وَقَالُوا للْملك الصَّالح مَا قتل وزيرك ومشيرك ابْن العجمي إِلَّا كمشتكين فَهُوَ الَّذِي حسن ذَلِك للاسماعيلية وَقَالُوا لَهُ أَنْت السُّلْطَان وَكَيف يكون لغيرك حُكمٌ أَو أَمر فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قبض عَلَيْهِ وطالبوه بِتَسْلِيم قلعة حارم وأوقعوا بهَا لأَجله العظائم فَكتب إِلَى نوابه بهَا فنبوا وأبوا فَحَمَلُوهُ ووقفوا بِهِ تَحت القلعة وخوّفوه بالصرعة فَلَمَّا طَال أمره قصر عمره واستبد الصغار بعده بالأمور الْكِبَار وامتنعت عَلَيْهِ قلعة حارم وجرد إِلَيْهَا العزائم وَنزل عَلَيْهِ الفرنج ثمَّ رحلوا بقطيعةٍ بذلها لَهُم الْملك الصَّالح واستنزل عَنْهَا أَصْحَاب كمشتكين وَولى بهَا مَمْلُوكا لِأَبِيهِ يُقَال لَهُ سرخك
وَقَالَ ابْن الْأَثِير سَار الْملك الصَّالح من حلب إِلَى حارم وَمَعَهُ كمشتكين فعاقبه ليأمرَ من بهَا بِالتَّسْلِيمِ فَلم يجب إِلَى مَا طلب مِنْهُ فعلق(2/469)
منكوسا ودخن تَحت أَنفه فَمَاتَ وَعَاد الْملك الصَّالح عَن حارم وَلم يملكهَا ثمَّ أَنه أَخذهَا بعد ذَلِك
قَالَ ابْن شَدَّاد أما الْملك الصَّالح فَإِنَّهُ تخبط أمره وَقبض كمشتكين صَاحب دولته وَطلب مِنْهُ تَسْلِيم حارم إِلَيْهِ فَلم يفعل فَقتله وَلما سمع الفرنج بقتْله نزلُوا على حارم طَمَعا فِيهَا وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة وقابل عَسْكَر الْملك الصَّالح العساكر الإفرنجية وَلما رأى أهل القلعة خطرها من جَانب الفرنج سلموها إِلَى الْملك الصَّالح فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر رَمَضَان وَلما عرف الفرنج ذَلِك رحلوا عَن حارم طَالِبين بِلَادهمْ ثمّ عَاد الصَّالح إِلَى حلب ولمْ يزلْ أَصْحَابه على اخْتِلَاف بميل بَعضهم إِلَى جَانب السُّلْطَان قدّس الله روحه
قَالَ الْعِمَاد وَوصل فِي هَذِه السّنة إِلَى السَّاحِل من الْبَحْر كند كَبِير يُقَال لَهُ افلندس أكبر طواغيت الْكفْر واعتقد خلو الشَّام من ناصري الْإِسْلَام وَمن جملَة شُرُوط هدنة الفرنج أَنهم إِذا وصل لَهُم ملك أَو كَبِير مَا لَهُم فِي دَفعه تَدْبِير أَنهم يعاونونه وَلَا يباينونه ويحالفونه وَلَا يخالفونه فَإِذا عَاد عَادَتْ الْهُدْنَة كَمَا كَانَت وهانت الشدَّة ولانت وبحكم هَذَا الشَّرْط حشدوا الحشود وجندوا الْجنُود ونزلوا على حماة فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأولى وصاحبها شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي مَرِيض ونائب السُّلْطَان بِدِمَشْق يَوْمئِذٍ أَخُوهُ الْأَكْبَر تورانشاه وَهُوَ والأمراء مشغولون بلذاتهم وَكَانَ(2/470)
سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب بِالْقربِ فَدَخلَهَا وَخرج للحرب وَاجْتمعَ إِلَيْهَا رجال الطعْن وَالضَّرْب وَجَرت ضروبٌ من الحروب وَكَاد الفرنج تهجم الْبَلَد فأخرجوهم من الدروب وَنصر الله أهل الْإِسْلَام بعد حصارهم لَهُم أَرْبَعَة أَيَّام فَانْهَزَمَ الملاعين ونزلوا على حصن حارم كَمَا تقدم ذكره فرحلهم عَنهُ الْملك الصَّالح بعد حصاره أَرْبَعَة أشهر
وَمن كتاب فاضليّ إِلَى بَغْدَاد خرج الكفّار إِلَى الْبِلَاد الشَّامية فاسخين لعقد كَانَ محكماً غادرين غدرا صَرِيحًا مقدرين أَن يجهزوا على الشَّام لما كَانَ بالجدب جريحا ونزلوا على ظَاهر حماة يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وزحفوا إِلَيْهَا فِي ثَانِيَة فَخرج إِلَيْهِم أَصْحَابنَا وتضَّمن كتاب سيف الدّين يعْنى المشطوب أَن الْقَتْلَى من الفرنج تزيد على ألف رجل مَا بَين فَارس وراجل شفى الله مِنْهُم الصُّدُور ورزق عَلَيْهِم النَّصْر والظهور ثمَّ انصرفوا مجموعا لَهُم بَين تنكيس الصُّلُب وتحطيم الأصلاب مفرّقة أحزابهم عَن الْمَدِينَة المحروسة كَمَا افْتَرَقت عَن الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة الْأَحْزَاب
قَالَ الْعِمَاد وتسامع الحلبيون بِيَوْم رحيلنا من مصر لقصد الشَّام لنُصْرة الْإِسْلَام وَقَالُوا أول مَا يصل صَلَاح الدّين يتسلم حارم فراسلوا الإفرنج وقاربوهم وأرغبوهم وأرهبوهم وَقَالُوا لَهُم صَلَاح الدّين وَاصل وَمَا لكم بعد حُصُوله عنْدكُمْ حَاصِل فَرَحل الفرنج بقطيعة من المَال أخذوها وعدّة من الْأُسَارَى خلَّصوها(2/471)
ثمَّ تُوفى خَال السُّلطان شهَاب الدّين مَحْمُود بن تكش الحارمي فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَتُوفِّي وَلَده تكش ابْن خَال السُّلطان قبله بِثَلَاثَة أيَّام وَذَلِكَ أَوَان وقْعَة الرملة
وَلما سمع السُّلطان بنزول الفرنج على حارم رَحل من الْبركَة يَوْم عيد الْفطر بعساكره وَوصل أَيْلَة فِي عَاشر الشَّهْر واستناب بِمصْر أَخَاهُ الْعَادِل وَأقَام بهَا أَيْضا القَاضِي الْفَاضِل بنيَّة الْحَج فِي السّنة الْقَابِلَة وَوصل السُّلطان إِلَى دمشق فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من شوّال
وَمِمَّا نظمه الْعِمَاد فِي التشوق إِلَى مصر قَوْله
(سَاكِني مصر هُنَاكُم طيبها ... إِن عيشي بعدكم لمْ يطب)
(لاعدمتم رَاحَة من قربهَا ... فَأَنا من بعْدهَا فِي تَعب)
(بعد الْعَهْد بأخباركم ... فَابْعَثُوا أخباركم فِي الْكتب)
(لَيْت مصرا عرفت أَنِّي وَإِن ... غبتُ عَنْهَا فالهوى لم يغب)
وَمن ذَلِك
(تذكرت فِي جلَّقٍ داركم ... بِمصْر وَيَا بُعْد مَا بَيْننَا)
(وَمَا أَتَمَنَّى سوى قُربكم ... وَذَلِكَ وَالله كلُّ المنى)
(لكم بالجنان وَطيب الْمقَام ... وَحسن النَّعيم بِمصْر الهنا)(2/472)
وَمن ذَلِك
(يَا سَاكِني مصر قد فقتم بفضلكم ... ذَوي الْفَضَائِل من سكان أَمْصَار)
(لله درّكمُ من عُصْبة كرُمت ... ودرُّ مصركم الْغناء من دَار)
وَمن ذَلِك
(يَا حبذا مصر وبركتها ... وَصدر والعريش)
(فهناك أملاكي الَّذين ... سَمَتْ بعزّهم العُروش)
قَالَ وَوصل كتاب من الْفَاضِل يذكر فِيهِ أنّ العدوّ خذله الله تَعَالَى نَهَضَ وَوصل إِلَى صدر وَقَاتل القلعة وَلم يتم لَهُ أَمر فصرف الله شَره وَكفى أمره
وَوصل من الفرنج مستأمن وَذكر أنَّهم يُرِيدُونَ الْغَارة على فاقوس فاستقلوا أنفسهم وعرّجوا وَذكر أَنهم مضوا بنية تَجْدِيد الحشد ومعاودة الْقَصْد
قَالَ وَأما نوبَة العدوّ فِي الرّملة فقد كَانَت عَثْرَة علينا ظَاهرهَا وعَلى الْكفَّار بَاطِنهَا ولزمنا مَا نسى من اسْمهَا ولزمهم مَا بقى من غرمها وَلَا دَلِيل أدلّ على القوّة من الْمسير بعد شَهْرَيْن من تَارِيخ وقعتها إِلَى الشَّام نَخُوض بِلَاد الفرنج بالقوافل الثَّقِيلَة والحشود الْكَثِيرَة والحريم المستور وَالْمَال الْعَظِيم الموفور(2/473)
قَالَ الْعِمَاد وَلما دَخَلنَا دمشق وجدنَا رُسُل دَار الْخلَافَة قد وصلوا بِأَسْبَاب العاطفة والرأفة وَكَانَ حِينَئِذٍ صَاحب المخزن ظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن نصر العطَّار وَهُوَ من ذَوي الأخطار وَله التحكم فِي الْإِيرَاد والإصدار وَقد توفَّر على محبَّة السُّلطان وتربية رجائه وتلبية دُعَائِهِ وَوصل كِتَابه وَرَسُوله بِكُل مَا سر السَّرائر ونوّر البصائر
فصل فِي ذكر أَوْلَاد السُّلْطَان
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السَّنة ولد بِمصْر للسُّلطان ابْنه أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد
وَكتب الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان يهنئه بِهِ وَيَقُول إِنَّه وُلد لِسَبْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَهَذَا الولدُ المُبارك هُوَ المُوفى لاثني عشر ولدا بل لاثني عشر نجماً متوقداً فقد زَاد الله فِي أنجمه على أنجم يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام نجماً ورآهم الْمولى يقظة وَرَأى تِلْكَ الأنجم حلما ورآهم ساجدين لَهُ ورأينا الْخلق لَهُ سجوداً وَهُوَ قادرٌ سُبْحَانَهُ أَن يزِيد جدود الْمولى إِلَى أَن يراهم أباءً وجدوداً
قَالَ الْعِمَاد وَكنت فِي بعض اللَّيَالِي عِنْد السُّلطان فِي آخر عَهده وَجرى ذكر أَوْلَاده واعتضاده بهم واعتداده فَقلت لَهُ لَو عرفت أَيَّام(2/474)
مواليدهم فِي أعوامها لأنشأت رِسَالَة على نظامها فَذكر لي مَا أثْبته على تَرْتِيب اسنانهم
الْملك الْأَفْضَل نور الدّين أَبُو الْحسن عليّ ولدُ بِمصْر لَيْلَة عيد الْفطر عِنْد الْعَصْر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان عماد الدِّين ولد بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ
الظافر أَبُو الْعَبَّاس خضر مظفر الدِّين ولد بِمصْر فِي خَامِس شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَهُوَ أَخُو الْأَفْضَل لِأَبَوَيْهِ
الظَّاهِر أَبُو مَنْصُور غَازِي غياث الدّين ولد بِمصْر منتصف رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ
الْمعز أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق فتح الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبعين.
الْمُؤَيد أَبُو الْفَتْح مَسْعُود نجم الدّين وُلد بِدِمَشْق فِي ربيع الأول سنة(2/475)
إِحْدَى وَسبعين وَهُوَ أَخُو الْعَزِيز لِأَبَوَيْهِ
الأعزُّ أَبُو يُوسُف يَعْقُوب شرف الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهُوَ لأم الْعَزِيز
الزَّاهر أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد مجير الدِّين ولد بِمصْر فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَهُوَ لأم الظَّاهِر
الْمفضل أَبُو مُحَمَّد مُوسَى قطب الدِّين ثمَّ نعت بالمظفَّر ولد بِمصْر سنة ثَلَاث وَسبعين وَهُوَ لأم الْأَفْضَل
الْأَشْرَف أَبُو عبد الله مُحَمَّد عز الدّين ولد بِالشَّام سنة خمس وَسبعين
المحسن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ظهير الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَهُوَ لأم الْأَشْرَف(2/476)
المعظَّم أَبُو مَنْصُور تورانشاه فَخر الدّين ولد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبع وَسبعين أَيْضا
قلت وَمَات سنة ثَمَان وَخمسين وست مئة وَهِي السّنة الَّتِي أخرب الْعَدو من التتار خذلهم الله تَعَالَى فِيهَا مَدِينَة حلب وَغَيرهَا وَالله أعلم
الْجواد أَبُو سعيد أَيُّوب ركن الدِّين ولد فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ لأم الْمعز
الْغَالِب أَبُو الْفَتْح ملكشاه نصير الدِّين مولده بالشَّام فِي رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ لأم الْمُعظم
الْمَنْصُور أَبُو بكر وَهُوَ أَيْضا أَخُو الْمُعظم لِأَبَوَيْهِ ولد بحرّان بعد وَفَاة السُّلْطَان
قلت فَهَذِهِ خَمْسَة عشر ولدا ذكرهم الْعِمَاد فِي هَذَا الْموضع(2/477)
وَقَالَ فِي آخر كتاب الْفَتْح القُدسي على مَا سَنذكرُهُ فِي آخر هَذَا الْكتاب إِن السُّلْطَان لما توفّي خلَّف سَبْعَة عشر ولدا وَابْنَة صَغِيرَة
فقد فَاتَهُ هُنَا ذكر اثْنَيْنِ وهما عماد الدّين شاذي لأم ولد ونصرة الدّين مَرْوَان لأم ولد وَأما الْبِنْت فَهِيَ مؤنسة خاتون تزَوجهَا الْملك الْكَامِل مُحَمَّد على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ ابْن عَمها الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب
وللسلطان غير هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد مِمَّن درج فِي حَيَاته كالملك الْمَنْصُور حسن وَسَيَأْتِي ذكر وَفَاته والأمير أَحْمد وَهُوَ الَّذِي رثاه العرقلة بقوله
(أيّ هِلَال كُسفا ... وَأي غصنٍ قصفا)
(كَانَ سِرَاجًا قد طفا ... على الورى ثمّ انطفا)
(لم يركب الْخَيل وَلم ... يقلدوه مرهفاً)
(قل للنحاة وَيحكم ... أحمدكم قد صرفا)
(صبرا صَلَاح الدّين يَا ... ربّ السماح والوفا)(2/478)
قَالَ الْعِمَاد وَورد من الْفَاضِل كتاب تَارِيخه منتصف ذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاث وَسبعين ذكر فِيهِ فصولا مُتعَدِّدَة مِنْهَا للْمولى أولادٌ وَقد صَارُوا رجَالًا وَيجب أَن يستجيد للقلاع رجَالًا كَمَا فعل السَّابِقُونَ أعماراً وأعمالا وَقيل القلاع أنوفٌ من حلهَا شمخ بهَا
(مَا فِي الرِّجَال على النِّسَاء أَمِين ... )
وَمِنْهَا أَبْيَات فِي ذكر السَّلَام
(مَمْلُوك مَوْلَانَا ومملوكُ ابْنه ... وأخيه وَابْن أَخِيه وَالْجِيرَان)
(طيّ الْكتاب إِلَيْهِ مِنْهُ إِجَابَة ... لسلام مَوْلَانَا ابْنه عُثْمَان)
(وَالله قد ذكر السَّلَام وَأَنه ... يَجْزِي بِأَحْسَن مِنْهُ فِي الْقُرْآن)
(وغريبة قد جِئْت فِيهَا أوّلا ... وَمن اقتفاها كَانَ بعدِي الثَّانِي)
(فرسولي السُّلْطَان فِي إرسالها ... وَالنَّاس رسلهم إِلَى السُّلْطَان)
قلت وَوصف الْفَاضِل الْملك الْمُؤَيد فِي كتاب آخر فَقَالَ وَقد تمطت بِهِ السن وامتدت وتأهبت السَّعَادَة لخطبته واعتدت وَلَا حظته الْعُيُون بالوقار وطرفت دون جلالته وارتدت
وَفِي بعض كتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى وَلَده الْأَفْضَل إعزازه لأهل الْفضل دليلٌ على فَضله وأنّ الأولى أَن تكون كتب الْأَدَب عِنْد أَهله وَمَا أبهجنا إِذْ جال فِي فضاء الْفَضَائِل وخطب من أبكار الْمعَانِي كرائم العقائل وآخى بَين السَّيْف والقلم وَصَارَ فِي موكبه الْعلم وَالْعلم(2/479)
وَمن كتاب آخر فِي الْمَعْنى فَلَقَد زَادَت هَذِه المنقبة فِي مناقبه ونظمت عُقُود سؤدد فِي ترائبه
(فَمَا ترْجم الْإِنْسَان عَن سرّ فَضله ... بِأَفْضَل من تقريبه لأولى الْفضل)
قَالَ الْعِمَاد وَخرج السُّلْطَان للصَّيْد فِي ذِي الْحجَّة نَحْو قارا فشكوت ضرسي وعدمت أنسي فَرَجَعت مَعَ عزّ الدّين فرخشاه لحميّ عرته فَشَكا مِنْهَا أَلا تزور إِلَّا نَهَارا جهارا وَلَا تفارق بعرق بالضد من الحمي الَّتِي وصفهَا أَبُو الطّيب المتنبي فنظمت فِيهِ كلمة طَوِيلَة أَولهَا
(يَمِينك دأبها بذل الْيَسَار ... وكفك صوبها بدر النضار)
(وَإنَّك من مُلُوك الأَرْض طُرَّا ... بِمَنْزِلَة الْيَمين من الْيَسَار)
(وَأَنت الْبَحْر فِي بَث العطايا ... وَأَنت الطود فِي نَادِي الْوَقار)
وَمِنْهَا فِي وصف الْحمى
(وزائرة وَلَيْسَ بهَا حَيَاء ... فَلَيْسَ تزور إِلَّا فِي النَّهَار)
(وَلَو رهبت لَدَى الْإِقْدَام جوري ... لما رغبت جهارا فِي جواري)
(أَتَت وَالْقلب فِي وهج اشتياق ... لتظهر مَا أواري من أواري)(2/480)
(وَلَو عرفت لظى سطوات عزمي ... لكَانَتْ من سطاي على حذار)
(تقيم فحين تبصر من أناتي ... ثبات الطود تسرع فِي الْفِرَار)
(تُفَارِقنِي على غير اغتسال ... فَلم أحلل لزورتها إزَارِي)
(أيا شمس الْمُلُوك بقيت شمساً ... تنير على الممالك والديار)
(أحماك استعارت لفح نَار ... لعزمك لم تزل ذَات اسْتعَار)
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْعشْر الأول من ذِي الْقعدَة قتل عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء وَزِير الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد على أَيدي الْمَلَاحِدَة وَكَانَ قد توجه إِلَى الْحَج فَوقف لَهُ فِي مضيق قطفتا غربي دجلة كهلٌ فِي يَده قصّة يزْعم(2/481)
أَنه يُرِيد رَفعهَا إِلَى الْوَزير من يَده إِلَى يَده فَأَوْمأ ليوصل قصَّته فانتهز فِيهِ فرصته فَقتله وَبدر كَمَال الدّين أَبُو الْفضل بن الْوَزير فَقتل قَاتل أَبِيه بِسَيْفِهِ وَكَانَ مَعَ ذَلِك الْجَاهِل الملحد رفيقان لَهُ فجرح أَحدهمَا حَاجِب الْبَاب ابْن المعوج فَمَاتَ وجرح آخر ولد قَاضِي الْقُضَاة وَقطع الْمَلَاحِدَة وأحرقوا واستقلَّ ظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْعَطَّار صَاحب المخزن بالدولة وَكَانَ للسُّلْطَان خدنا مصافيا
قلت وَابْن الْعَطَّار هَذَا هُوَ المرجوم المسحوب بعد مَوته بِبَغْدَاد كَمَا سَيَأْتِي ذكره فِي آخر حوادث سنة خمس وَسبعين
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكنت حِينَئِذٍ بِبَغْدَاد عَازِمًا على الْحَج فَعبر عضد الدّين دجلة فِي شبارة فَلَمَّا ركب دَابَّته وَالنَّاس مَعَه مَا بَين رَاكب وراجل تقدم إِلَيْهِ بعض الْعَامَّة ليدعو لَهُ فَمَنعه أَصْحَابه فزجرهم وَأمرهمْ أَلا يمنعوا أحدا عَنهُ فَتقدم إِلَيْهِ الباطنية فَقَتَلُوهُ بالجانب الغربي وقُتل الباطنية(2/482)
وأحرقوا وَحمل من مَوْضِعه إِلَى دَار لَهُ بقطفتا فِي الْجَانِب الغربي فَتوفي بهَا
قَالَ الْعِمَاد ووردت مطالعة الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان تَتَضَمَّن التوجع لقتل الْوَزير عضد الدّين وفيهَا {وَمَا رَبك بِظَلاَّمٍ للعْبيِد} فقد كَانَ عَفا الله عَنهُ قتل وَلَدي الْوَزير ابْن هُبَيْرَة وأزهق أَنفسهمَا وَجَمَاعَة لَا تحصى
(من ير يَوْمًا ير بِهِ ... والدهر لَا يغتر بِهِ)
وَهَذَا الْبَيْت بَيت ابْن الْمسلمَة عريق فِي الْقَتْل وجده هُوَ الْمَقْتُول بيد البساسيري فِي وَقت إِخْرَاج الْخَلِيفَة الْقَائِم فِي أَيَّام الملقب بالمستنصر بِمصْر فَهُوَ من ذُرِّيَّة لم تزل قاتلة مقتولة وَمَا زَالَت السيوف عَلَيْهَا وَمِنْهَا(2/483)
مسلولة فهم فِي هَذِه الْحَادِثَة المسمعة المصمة كَمَا قَالَ دُرَيْد
(أَبى الْمَوْت إِلَّا آل صمه ... )
والأبيات الْمولى يحفظها وَهِي فِي الحماسة وَقد ختمت لَهُ السَّعَادَة بِمَا ختمت بِهِ لَهُ الشَّهَادَة لَا سِيمَا وَهُوَ خَارج من بَيته إِلَى بَيت الله قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله}
(إِن المساءة قد تسرّ وَرُبمَا ... كَانَ السرُور بِمَا كرهت جَدِيرًا)
(إِن الْوَزير وَزِير آل مُحَمَّد ... أودى فَمن يشناك كَانَ وزيرا)
وَهَذَانِ البيتان قيلا فِي أبي سَلمَة الْخلال أول وَزِير لبني الْعَبَّاس
قلت وَبَلغنِي أنّ الْفَاضِل كَانَ ينشد
(وَأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حَيَاة تريه مصرع الوزراء)
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ ضِيَاء الدّين بن الشَّهْرَزوْري قد سَار فِي الرسَالَة(2/484)
إِلَى بَغْدَاد وَتوقف فِي الْموصل لحادثة الْوَزير وَوَافَقَ وُصُوله إِلَى الْموصل وَفَاة ابْن عَمه القَاضِي عماد الدّين أَحْمد ابْن القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَكَانَ شَابًّا وَجَاء كتاب الْفَاضِل يذكر ذَلِك وَفِيه
(يدلى ابْن عشْرين فِي لحده ... وَتسْعُونَ صَاحبهَا راتع)
اغتبط الْوَلَد مَعَ نضارة الشَّبَاب المقتبل وعُمرّ الْوَالِد مَعَ ذبول المشيب الْمُشْتَمل
(ليُعْلم أَن الشيب لَيْسَ بِمُسلم ... وَأَن الشَّبَاب الغض لَيْسَ بمانع)
وليكون العَبْد حذرا من بغتات الْآجَال فِي كلّ الْأَحْوَال وَالله يُطِيل للْمولى الْعُمر كَمَا أَطَالَ لَهُ فِي الْقدر وَيسمع مِنْهُ وَلَا يسمع فِيهِ ويبقيه سنداً للدّين الحنيفي فَإِن بَقَاءَهُ يَكْفِيهِ(2/485)
آخر الْجُزْء الأول من الأَصْل الْمَنْقُول مِنْهُ الَّذِي هُوَ بِخَط الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى يتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْجُزْء الثَّانِي
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ شمس الدّين بن الْمُقدم من أكَابِر الْأُمَرَاء
وَوَافَقَ الْفَرَاغ مِنْهُ فِي سَابِع شهر ذِي الْحجَّة من سنة سِتّ وَسبعين وست مئة غفر الله تَعَالَى لمؤلفه وكاتبه وَصَاحبه والمنتفع بِهِ والمطلع عَلَيْهِ وَجَمِيع الْمُسلمين وَصلى الله على نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ [نجزء الْجُزْء الثَّانِي من كتاب الروضتين ويليه الْجُزْء الثَّالِث وَيبدأ بحوادث سنة (574 هـ) ](2/486)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ شمس الدّين بن الْمُقدم من أكَابِر الْأُمَرَاء وَهُوَ السَّابِق إِلَى مُكَاتبَة السُّلْطَان فِي تصويب رَأْيه فِي الْوُصُول إِلَى الشَّام وتدارك أَمر الْإِسْلَام
وَكَانَ السُّلْطَان عِنْد تسلم بعلبك أنعم بهَا عَلَيْهِ ورد أمورها إِلَيْهِ فَأَقَامَ بهَا مُسْتَقرًّا ولأخلاف أَعمالهَا مستدرا
وَلما وصل السُّلْطَان فِي هَذِه النّوبَة إِلَى الشَّام لم يحضر كَمَا جرت الْعَادة للْخدمَة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ كَانَ نمى إِلَيْهِ أَن الْملك الْمُعظم فَخر الدّين شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب طلبَهَا من أَخِيه وَأَنه لَا يُمكنهُ الرَّد فخاف من الْحُضُور أَن تتمّ الْأُمُور وروجع فِي ذَلِك مرَارًا سرا وجهارا وَالْتزم لَهُ أَن يعوض عَنْهَا مَا هُوَ أوفى مِنْهَا فَأبى إِلَّا الإباء وشارف السُّلْطَان مِنْهُ وَمن أَخِيه الْحيَاء
وشمس الدولة لَا يقبل عذرا وَلَا يرى عَمَّا طلبه صبرا
ثمَّ اسْتَأْذن أَخَاهُ فِي التَّوَجُّه إِلَيْهَا فَأذن لَهُ وَتوجه عز الدّين فرخشاه إِلَى حوران لحفظ الثغور وَسَار السُّلْطَان إِلَى حمص وَنزل على العَاصِي عَازِمًا على الْجِهَاد
ووردت من الْفَاضِل كتب من بعض فصولها وَأما سور الْقَاهِرَة فعلى(3/5)
مَا أَمر بِهِ الْمولى شرع فِيهِ وَظهر الْعَمَل وطلع الْبناء وسلكت بِهِ الطَّرِيق المؤدية إِلَى السَّاحِل بالمقسم وَالله يعمر الْمولى إِلَى أَن يرَاهُ نطاقا مستديرا على البلدين وسورا بل سوارا يكون بِهِ الْإِسْلَام محلى الْيَدَيْنِ محلا الضدين
والأمير بهاء الدّين قراقوش ملازم الاستحثاث بِنَفسِهِ وَرِجَاله لَازم لما يعنيه بِخِلَاف أَمْثَاله قَلِيل التثقيل مَعَ حمله لأعباء التَّدْبِير وأثقاله
وَمِنْهَا فِي حق نقل الْقَضَاء من شرف الدّين بن أبي عصرون لما ذهب بَصَره إِلَى وَلَده لن يَخْلُو الْأَمر من قسمَيْنِ وَالله يخْتَار للْمولى خيرة الْأَقْسَام وَلَا ينسى لَهُ هَذَا التحرج الَّذِي لَا يبلغهُ ملك من مُلُوك الْإِسْلَام إِمَّا إبْقَاء الْأَمر باسم الْوَالِد بِحَيْثُ يبْقى رَأْيه ومشاورته وفتياه وبركته ويتولى وَلَده النِّيَابَة وَيشْتَرط عَلَيْهِمَا المجازاة لأوّل زلَّة وَترك الْإِقَالَة لأوّل عَثْرَة فطالما بعث حب المنافسة الراجحة على اكْتِسَاب الْأَخْلَاق الصَّالِحَة
وَإِمَّا أَن يُفَوض الْأَمر إِلَى الإِمَام قطب الدّين فَهُوَ بَقِيَّة الْمَشَايِخ وَصدر الْأَصْحَاب وَلَا يجوز أَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ فِي بلد إِلَّا من هُوَ أرفع طبقَة فِي الْعلم مِنْهُ
وَمِنْهَا فِي إِقَامَة عذر التَّأَخُّر عَن الْجِهَاد وَأما تأسف الْمولى على(3/6)
أَوْقَات تَنْقَضِي عاطلة من الْفَرِيضَة الَّتِي خرج من بَيته لأَجلهَا وتجدد الْعَوَائِق الَّتِي لَا يُوصل إِلَى آخر حبلها فللمولى نِيَّة رشده وأليس الله الْعَالم بِعَبْدِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يسْأَل الْفَاعِل عَن تَمام فعله لِأَنَّهُ غير مَقْدُور لَهُ وَلَكِن عَن النِّيَّة لِأَنَّهَا مَحل تَكْلِيف الطَّاعَة وَعَن مَقْدُور صَاحبهَا من الْفِعْل بِحَسب الِاسْتِطَاعَة
وَإِذا كَانَ الْمولى آخِذا فِي أَسبَاب الْجِهَاد وتنظيف الطّرق إِلَى المُرَاد فَهُوَ فِي طَاعَة قد امتن الله عَلَيْهِ بطول أمدها وَهُوَ مِنْهُ على أمل فِي نجح موعدها وَالثَّوَاب على قدر مشقته وَإِنَّمَا عظم الْحَج لأجل جهده وَبعد شقته وَلَو أَن الْمولى فتح الْفتُوح الْعِظَام فِي أقل الْأَيَّام وَفصل الْقَضِيَّة بَين أهل الْإِسْلَام وأعداء الْإِسْلَام لكَانَتْ تكاليف الْجِهَاد قد قضيت وصحائف الْبر المكتسبة بالمرابطة والانتظار طويت
وَمِنْهَا فِي ذكر أَوْلَاد السُّلْطَان وَقبل الْإِجَابَة عَن الْفُصُول فنبشر بِمَا جرت الْعَادة بِهِ لَا قطع الله تِلْكَ الْعَادة من سَلامَة وَصِحَّة وعافية شملت موالينا أَوْلَاده السَّادة أطاب الله الْخَبَر إِلَيْهِم عَن الْمولى وَإِلَى الْمولى عَنْهُم وَعجل لقاءه لَهُم ولقاءهم لَهُ فَإِنَّهُم من يلق مِنْهُم بل كل مِنْهُم ملك دسته برجه وَفَارِس مهده سَرْجه فهم بِحَمْد الله بهجة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَرَيْحَان الْحَيَاة وزهرتها وَإِن فؤادا وسع فراقهم لواسع وَإِن قلبا قنع بأخبارهم لقانع وَإِن طرفا نَام على الْبعد عَنْهُم لهاجع وَإِن ملكا ملك تصبره عَنْهُم لحازم وَإِن نعْمَة الله فيهم لنعمة بهَا الْعَيْش ناعم أما يشتاق(3/7)
جيد الْمولى أَن يتطوق بدررهم أما تظمأ عينه إِلَى أَن تتروى بنظرهم أما يحن قلبه على قلبه أما يلتقط هَذَا الطَّائِر بتقبيلهم مَا خرج من حبه وللمولى أبقاه الله تَعَالَى أَن يَقُول
(وَمَا مثل هَذَا الشوق تحمل مُضْغَة ... وَلَكِن قلبِي فِي الْهوى بقلوب)
وَفِي أُخْرَى والملوك الْأَوْلَاد فِي كَفَالَة الْعَافِيَة لَا رفعت عَنْهُم كفالتها وَعَلَيْهِم جلالة السلطنة لَا فَارَقْتهمْ جلالتها وكل من الموَالِي السَّادة الْأُمَرَاء الْأَوْلَاد والقلادة كلهَا جَوْهَر وَكلهمْ الْمُقدم وَلَيْسَ فيهم بِحَمْد الله من يُؤَخر على مَا عود الله من صِحَة وسلامة وكفاية ووقاية وَلُزُوم المستقل مِنْهُم لمشهد الْكتاب ولموقف الأماج ومخايل الخفر فيهم من تَحت ليل الصِّبَا أنور دلَالَة من ضوء السراج وَالله تَعَالَى يمد فِي عمر الْمولى إِلَى أَن يرى من ظُهُورهمْ مَا رأى جدهم رَحمَه الله فِي أهل بَيته من الْبَطن الرَّابِع فوارس الْحَرْب الرائعة وملوك الْإِسْلَام الَّتِي مِنْهُم لِلْإِسْلَامِ أكاسرة وتبابعة
(مَا فيهم عِنْد الْعَلَاء صَغِير ... وصغار أَبنَاء الْكِبَار كبار)
نُجُوم الأَرْض وذرية بَعْضهَا من بعض وَالْخلف الصَّالح الْمَحْض وهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فرسَان الْقُوَّة والتقى يَوْم الْحَرْب وَيَوْم الْعرض(3/8)
وَمِنْهَا فِي ذمّ مَاء دمشق ووخمها عرف الْمَمْلُوك من الْكتب الْوَاصِلَة التياث جسم الْمولى الْأَمِير عُثْمَان والحقير مِمَّا ينَال ذَلِك الْجِسْم الْكَرِيم يُوقد فِي قُلُوب الْأَوْلِيَاء الْأَثر الْعَظِيم
و (قَلِيل قذاة الْعين غير قَلِيل ... )
وماذا يَقُول فِي بلد لَو صحت الحمية من مَائه لكَانَتْ من أكبر أَسبَاب صِحَة المحتمي وشفائه فَإِنَّهُ مَاء يُؤْكَل وَبَقِيَّة الْمِيَاه تشرب ويجد وخامته من ينصف وَلَا يتعصب
وَمِنْهَا وَأما الْمَأْمُور بِهِ فِي معنى الْمُنْكَرَات الظَّاهِرَة وَإِزَالَة أَسبَابهَا وإغلاق أَبْوَابهَا وتحصين كل مبتوتة من عصمَة وتطهير كل موسومة بوصمة فَالله يثيب الْمولى ثَوَاب من غضب ليرضيه بغضبه وَحمل الْخلق على منهاج شَرعه وأدبه
ثمَّ أورد الْعِمَاد فصولا كَثِيرَة وَقَالَ إِنَّمَا أوردت الْفُصُول الْفَاضِلِيَّةِ لِأَن فِي كل فصل مِنْهَا ذكر سيرة وفوائد كَثِيرَة
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَمن جملَة مَا أغفلته ذكر مَا أسْقطه السُّلْطَان من مكس(3/9)
مَكَّة شرفها الله تَعَالَى عَن الْحَاج وتعويض أميرها بجلاب غلَّة تحمل إِلَيْهِ فِي كل سنة وَتَعْيِين ضيَاع مَوْقُوفَة عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ المصرية
كَانَ الرَّسْم بِمَكَّة أَن يُؤْخَذ من حَاج الْمغرب على عدد الرؤوس مَا ينْسب إِلَى الضرائب والمكوس فَإِذا دخل حَاج حبس حَتَّى يُؤَدِّي مكسه ويفك بِمَا يطلبونه مِنْهُ نَفسه وَإِذا كَانَ فَقِيرا لَا يملك فَهُوَ يحبس وَلَا يتْرك وتفوته الوقفة بِعَرَفَة وَلَا تدْرك
فَقَالَ السُّلْطَان نُرِيد أَن نعوض أَمِير مَكَّة عَن هَذَا المكس بِمَال ونغنيه عَنهُ بنوال وَإِن أعطيناه ضيَاعًا استوعبها ارتفاعا وانتفاعا فَلَا يكون لأهل مَكَّة فِيهَا نصيب
فقرر مَعَه أَن يحمل إِلَيْهِ فِي كل سنة مبلغ ثَمَانِيَة آلَاف إِرْدَب قَمح إِلَى سَاحل جدة فَإِن الْأَمِير بهَا يحْتَاج إِلَى بيعهَا للِانْتِفَاع بأثمانها ويثق أهل الْحَرَمَيْنِ من الدولة بدوام إحسانها
وَقرر أَيْضا حمل الغلات إِلَى المجاورين بالحرمين والفقراء وَمن هُنَاكَ من الشرفاء ووقف لَهَا وقوفا وخلد بهَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعْرُوفا فَسَقَطت المكوس واغتبطت النُّفُوس وَزَاد الْبشر وَزَالَ العبوس واستمرت النعمى وَمر البوس وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين
وَمن كَلَام الْفَاضِل فِي ذَلِك فِي بعض كتبه من البشائر الَّتِي لَا عهد لحاج ديار مصر بِمِثْلِهَا وَلَا عهد لملك من مُلُوك الديار المصرية بالحصول على فخرها وأجرها انْقِطَاع المكاسين عَن جدة وَعَن بَقِيَّة السواحل وَيَكْفِي(3/10)
أَن تَمام هَذِه المثوبة مُوجب الِاسْتِطَاعَة مُقيم لحجة الله فِي الْحَج فقد كَانَت الْفتيا على سُقُوطه مَعَ وجود الْحَامِل وَمَا أَكثر مَا أجْرى الله لِلْخَلَائِقِ على يَد الْمولى من الأرزاق الَّتِي تفضل عَن الِاسْتِحْقَاق وَمَا أولاه أَن يتوخى بِالْمَعْرُوفِ مَكَانَهُ من هذَيْن الْحَرَمَيْنِ الشريفين المهجورين من إسعاف أهل الاقتدار والمحروم من قدر فيهمَا على خير فأضاع فرصته بترك البدار
وَغير خَافَ عَن مَوْلَانَا همة الفرنج بالقدس برا وبحرا ومركبا وظهرا وسلما وحربا وبعدا وقربا وتوافيهم على حمايته وَهُوَ أنف فِي وَجه الْإِسْلَام ومسارعتهم إِلَى نصْرَة أهليه بالأرواح وَالْأَمْوَال على مر الْأَيَّام
ومعاذ الله أَن يستبصروا فِي الضلال ونصرف نَحن عَن الْحق وتضيق بِنَا فِي التَّوسعَة على أَهله سَعَة المجال
الْمَمْلُوك فِي مستهل رَجَب بِمَشِيئَة الله تَعَالَى يعول على السّفر إِلَى الْحجاز لقَضَاء الْفَرِيضَة قولا وفعلا والسائرون فِي هَذِه السّنة بطمعة وَقْفَة الْجُمُعَة وبفسحة وضع المكس خلق لَا يُحْصى وَالْمولى شريك فِي أجرهم فليهنه أَن الْمُلُوك عمرت بيوتها فخربت وَأَن الْمولى عمر بَيت الله فَمن كرمه سُبْحَانَهُ أَن يعمر بَيت الْمولى وَمَا أَشد خجل الْمُلُوك من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّقْصِير فِي قوت جِيرَانه فِي هَذِه السّنة وَمَا هَكَذَا وصّى ابْن(3/11)
اللمطي وَلَكِن للْغَائِب حجَّته
قلت وَفِي هَذِه المكرمة الَّتِي فعلهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله بالحاج يَقُول الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جُبَير الأندلسي من قصيدة لَهُ يمدح بهَا صَلَاح الدّين وَسَتَأْتِي فِيمَا بعد أَخْبرنِي بهَا ثِقَة نقلهَا من خطه
(رفعت مغارم مكس الْحجاز ... بإنعامك الشَّامِل الغامر)
(وَأمنت أكناف تِلْكَ الْبِلَاد ... فهان السَّبِيل على العابر)(3/12)
(وسحب أياديك فياضة ... على وَارِد وعَلى صادر)
(فكم لَك بالشرق من حَامِد ... وَكم لَك بالغرب من شَاكر)
(وَكم بِالدُّعَاءِ لكم كل عَام ... بِمَكَّة من معلن جاهر)
(وَقد بقيت حسبَة فِي فلَان ... وَتلك الذَّخِيرَة للذاخر)
(يعنف حجاج بَيت الْإِلَه ... ويسطو بهم سطوة الجائر)
(ويكشف عَمَّا بِأَيْدِيهِم ... وناهيك من موقف صاغر)
(وَقد وقفُوا بَعْدَمَا كشفوا ... كَأَنَّهُمْ فِي يَد الآسر)
(ويلزمهم حلفا بَاطِلا ... وعقبى الْيَمين على الْفَاجِر)
(وَإِن عرضت بَينهم حُرْمَة ... فَلَيْسَ لَهَا عَنهُ من سَاتِر)
(أَلَيْسَ يخَاف غَدا عرضه ... على الْملك الْقَادِر القاهر)
(أَلَيْسَ على حرم الْمُسلمين ... بِتِلْكَ الْمشَاهد من غائر)
(أَلا حَاضر نَافِع زَجره ... فيا ذلة الشَّاهِد الْحَاضِر)
(أَلا نَاصح مبلغ نصحه ... إِلَى الْملك النَّاصِر الظافر)
(ظلوم تضمن مَال الزَّكَاة ... لقد تعست صَفْقَة الخاسر)
(يسر الْخِيَانَة فِي بَاطِن ... ويبدي النَّصِيحَة فِي الظَّاهِر)
(فأوقع بِهِ حَادِثا إِنَّه ... يقبح أحدوثة الذاكر)
(فَمَا للمناكر من زاجر ... سواك وبالعرف من آمُر)
(وحاشاك إِن لم تزل رسمها ... فَمَا لَك فِي النَّاس من عاذر)
(ورفعك أَمْثَالهَا موسع ... رِدَاء فخارك للناشر)
(وآثارك الغر تبقى بهَا ... وَتلك المآثر للآثر)
(نذرت النَّصِيحَة فِي حقكم ... وَحقّ الْوَفَاء على النَّاذِر)
(وحبك أنطقني بالقريض ... وَمَا أَبْتَغِي صلَة الشَّاعِر)(3/13)
(وَلَا كَانَ فِيمَا مضى مكسبي ... وَبئسَ البضاعة للتاجر)
(إِذا الشّعْر صَار شعار الْفَتى ... فناهيك من لقب شاهر)
(وَإِن كَانَ نظمي لَهُ نَادرا ... فقد قيل لَا حكم للنادر)
(ولكنما خطرات الْهوى ... تعن فتلعب بالخاطر)
(أما وَقد زَان تِلْكَ الْعلَا ... فقد فَازَ بالشرف الباهر)
(وَإِن كَانَ مِنْك قبُول لَهُ ... فَتلك الْكَرَامَة للزائر)
(ويكفيه سَمعك من سامع ... ويكفيه لحظك من نَاظر)
(ويزهى على الرَّوْض غب الحيا ... بِمَا حَاز من ذكرك العاطر)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْمحرم من هَذِه السّنة توفّي الْحَكِيم مهذب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى الْمَعْرُوف بِابْن النقاش الْبَغْدَادِيّ بِدِمَشْق وَكَانَ(3/14)
كنعته مهذبا وَمن الْمُلُوك لِتَفَرُّدِهِ بفضله مقربا وَهُوَ مبرز فِي فنه حَتَّى إِن من شدا شَيْئا من الطِّبّ تبجح بِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ وَتردد لاستفادته إِلَيْهِ وَقد راضته الْعُلُوم الرياضية وأحكمت أخلاقه المعارف الْحكمِيَّة
وَفِي الثَّانِي عشر من جُمَادَى الأولى توفّي الْأَمِير نجم الدّين بن مصال بِمصْر وجاءنا نعيه وَنحن بحمص فجاوز اغتمام السُّلْطَان برزئه حَده وَجلسَ فِي بَيت الْخشب مستوحشا وَحده وَقَالَ لَا يخلف الدَّهْر لي صديقا مثله بعده
وأجرى مَا كَانَ لَهُ جَمِيعه لوَلَده وَحفظ عَهده وَكَانَ لجَماعَة من الْأَعْيَان وَالشعرَاء والأماثل والأدباء بعنايته ووساطته من السُّلْطَان رزق بقاه عَلَيْهِم كَأَنَّهُ عَلَيْهِ مُسْتَحقّ
وَفِي الْعشْر الأول من ربيع الآخر أغارت طَائِفَة من الفرنج على بلد حماة فَخرج إِلَيْهَا مُتَوَلِّي عَسْكَر حماة الْأَمِير نَاصِر الدّين منكورس بن خمارتكين صَاحب حصن بو قبيس فَأسر المقدمين وَسَفك بِسَيْفِهِ دم البَاقِينَ وَجَاء إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بِظَاهِر حمص وسَاق مَعَه الْأُسَارَى فَأمر السُّلْطَان بِضَرْب أَعْنَاقهم وَأَن يتَوَلَّى ذَلِك أهل التقى وَالدّين من الْحَاضِرين
فَتقدم إِمَامه الضياء الطَّبَرِيّ وَضرب عنق بَعضهم وتلاه الشَّيْخ سُلَيْمَان المغربي ثمَّ الْأَمِير ايطغان بن ياروق واستدعي الْعِمَاد وَأمر(3/15)
بذلك فَلم يفعل وَطلب أَن يملكهُ السُّلْطَان مِنْهُم صَغِيرا فعوض عَنهُ
ثمَّ رَحل السُّلْطَان على طَرِيق الزِّرَاعَة إِلَى بعلبك فنازلها محاصرا من غير قتال فطال أمرهَا وَلم يسمح بهَا صَاحبهَا وَدخل فصل الشتَاء فَرَحل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى دمشق ووكل بهَا من يحصرها بِالْمَنْعِ من الْخُرُوج وَالدُّخُول من غير تال وهم جمَاعَة مَعَ طغرل الجاندار وَدخل إِلَى دمشق فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَجَب وَتَمَادَى الْأَمر إِلَى أَن رَضِي ابْن الْمُقدم بحصن بعرين وأعماله وببلد كفرطاب وأعيان نواح وقرى من بلد المعرة وَسلم بِتَسْلِيم بعلبك من الْمضرَّة والمعرة
وَكَانَ الَّذِي أَخذه أَكثر وأنفع من الَّذِي خلاه وَمَا خطر بِبَالِهِ مَا حصل لَهُ وَلَا ترجاه وَلَا تمناه
فصل كَالَّذي قبله فِي حوادث مُتَفَرِّقَة
قَالَ الْعِمَاد وَكتب النواب بِدِمَشْق إِلَى السُّلْطَان أَن الْأَمْوَال ضائعة وَأَن الأطماع فِيهَا راتعة وَأَن فِي أَرْبَاب الصَّدقَات أَغْنِيَاء لَا يستحقونها وَمَا لَهُم رَقَبَة من الله يتقونها وَأَن أَرْبَاب العنايات استوعبوها وَمَا استوجبوها وان الْمصلحَة تَقْتَضِي إِفْرَاد جِهَات لما يسنح من مهمات
وَكَانَت الصَّدقَات مبلغ أحد عشر ألف دِينَار فَقَالَ لي اكْتُبْ عَلَيْهَا جَمِيعهَا بالإمضاء وَلَا تكدر على ذَوي الآمال موارد الْعَطاء
فَقلت أما أتلو عَلَيْك الْأَسْمَاء فَقَالَ لَا بل نزهني عَن هَذِه الْأَشْيَاء
فَبَقيت تِلْكَ الرسوم(3/16)
دارة والآمال بهَا سارة
قَالَ وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة توفّي مُتَوَلِّي المقياس بِمصْر ففوض السُّلْطَان منصبه إِلَى أَخِيه
قَالَ وَهَذَا المقياس مَوضِع مَبْنِيّ من عهد خلفاء بني الْعَبَّاس لتعرف زِيَادَة المَاء ونقصانه بِالْقِيَاسِ وَهُنَاكَ عَمُود فِي المَاء مقسوم بالأذرع والأذرع مقسومة بالأصابع فِي مَسْجِد يَنُوب فِي الجزيرة عَن الْجَامِع تصلى فِيهِ الْجَمَاعَات وَالْجمع ويتولاه من الْعَهْد الْقَدِيم متول من بني أبي الرداد مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالنزاهة وَالْعلم والسداد وَله راتب دَار ورسم وقرار
قلت بَلغنِي أَن أَبَا الرداد هَذَا كَانَ معلما من أهل الصدْق وَالصَّلَاح رتبه جَعْفَر المتَوَكل على الله فِي ولَايَة المقياس وَبَقِي من بعده على وَلَده وقرأت فِي تَارِيخ الغرباء الَّذين قدمُوا مصر لأبي سعيد بن يُونُس قَالَ عبد الله بن عبد السَّلَام بن الرداد الْعمي بَصرِي قدم مصر وَحدث بهَا(3/17)
وَكَانَ قد جعل على قياسة النّيل توفّي بِمصْر لسبع بَقينَ من رَجَب سنة سِتّ وَسِتِّينَ ومئتين
وَذكره أَبُو سعيد فِي أهل مصر أَيْضا وَقَالَ فِيهِ ولد هُوَ وَأَبوهُ بِمصْر
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة اشْتَدَّ الغلاء وَعم أَكثر الْبِلَاد الْعرَاق ومصر وديار بكر وديار الجزيرة وَالشَّام وَغير ذَلِك من الْبِلَاد ودام إِلَى أَن انْقَضى أَكثر سنة خمس وَسبعين وَخرج النَّاس فِي الْبِلَاد يستسقون فَلم يسقوا ثمَّ إِن الله تَعَالَى رحم عباده ولطف بهم وَأنزل عَلَيْهِم الْغَيْث وأرخص الأسعار
وَمن عَجِيب مَا رَأَيْت تِلْكَ السّنة أنني كنت فِي الجزيرة فَأقبل إِنْسَان تركماني قد أثر فِيهِ الْجُوع وَكَأَنَّهُ قد أخرج من قبر فَبكى وشكا الْجُوع فَأرْسلت من اشْترى لَهُ خبْزًا فَتَأَخر إِحْضَاره لعدمه وَهُوَ يبكي ويتمرغ على الأَرْض فتغيمت السَّمَاء وَجَاءَت نقط مطر مُتَفَرِّقَة وضج النَّاس ثمَّ جَاءَ الْخبز فَأكل التركماني وَأخذ الْبَاقِي مَعَه وَمَشى وَاشْتَدَّ الْمَطَر ودام من تِلْكَ السَّاعَة فرخصت الأسعار وَوجدت الأقوات بعد أَن كَانَت مَعْدُومَة
ثمَّ تعقب الغلاء وباء شَدِيد كثير وَكَانَ مرض النَّاس شَيْئا وَاحِدًا هُوَ سرسام فَمَاتَ فِيهِ من كل بلد أُمَم لَا يُحصونَ كَثْرَة وَلَقي النَّاس مِنْهُ مَا أعجزهم حمله ثمَّ إِن الله تَعَالَى رَفعه(3/18)
فِي سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة وَقد ضعضع الْعَالم
فصل فِي عمَارَة حصن بَيت الأحزان ووقعة الهنفري
قَالَ الْعِمَاد وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان على بعلبك واشتغاله بِهِ انتهز الفرنج الفرصة فبنوا حصنا على مخاضة بَيت الأحزان وَبَينه وَبَين دمشق مَسَافَة يَوْم وَبَينه وَبَين صفد وطبرية نصف يَوْم وَقيل للسُّلْطَان مَتى أحكم هَذَا الْحصن تحكم من الثغر الإسلامي الوهن وغلق الرَّهْن
فَيَقُول إِذا أتموه نزلنَا عَلَيْهِ وهدمناه إِلَى الأساس وجعلناه من الرسوم الأدراس
فَكَانَ الْأَمر بعد سنة على مَا جرى على لَفظه من عدَّة حَسَنَة
فَلَمَّا انْقَضى أَمر بعلبك وصل السُّلْطَان دمشق فَأَقَامَ بهَا وَأمر الْحصن من همه وَقصد حصاره من عزمه وَكَانَ الْعَام مجدبا والجدب عَاما وَقيل للسُّلْطَان لَيْسَ هَذِه سنة جِهَاد فَإِن استمنحوك السَّلامَة فامنح وَإِن جنحوا للسلم فاجنح
فَقَالَ السُّلْطَان إِن الله أَمر بِالْجِهَادِ وكفل بالرزق فَأمره وَاجِب الِامْتِثَال ووعده ضَامِن الصدْق فنأتي بِمَا كلفنا لنفوز بِمَا كفله وَمن أغفل أمره أغفله(3/19)
قَالَ وَوصل فِي هَذِه السّنة رَسُول دَار الْخلَافَة وَهُوَ الْخَادِم فَاضل وَكَانَ من أفضل الخدم ندب بِأَفْضَل الخدم
وَفَرح السُّلْطَان بِهِ واستصحبه مَعَه إِلَى الْغُزَاة ووقف بِهِ على الْحصن الَّذِي استجده الفرنج بالمشهد اليعقوبي وتخطف من حوله من الفرنج جمَاعَة وَأقَام على أهل الْمعْصِيَة بجهاده الطَّاعَة وَعَاد وَقد عرف مَا يعزم عَلَيْهِ من أَمر فَتحه
قَالَ وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة كَانَت وقْعَة هنفري ومقتله وَذَلِكَ أَن الْأَخْبَار تَوَاتَرَتْ بِأَن الفرنج قد تجمعُوا فِي جمع عَظِيم وَأَنَّهُمْ عازمون على الْخُرُوج إِلَى الْمُسلمين على غرَّة
فَقدم السُّلْطَان ابْن أَخِيه فرخشاه على عَسَاكِر دمشق وَأمره أَن يخرج إِلَى الثغر فَفعل وَأمره إِن علم بخروجهم أَن ينفذ إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بذلك وَلَا يلقاهم بل يتركهم حَتَّى يتوسطوا الْبِلَاد
فَلم تشعر طلائع فرخشاه إِلَّا وَقد خالطوهم على غرَّة فَوَقَعت الْوَقْعَة فَقتل صَاحب الناصرة وَجَمَاعَة من مقدميهم وَطلب الْملك فَطرح حصانه وجرح فرسانه وَجَاء الهنفري ليحميه فَوَقَعت فِيهِ جراحات أَحدهَا نشابة وَقعت فِي مارنه فجدعته ونفذت إِلَى فِيهِ وَمَرَّتْ بضرسه فقلعته وَخرجت من تَحت فكه وَوَقعت أُخْرَى فِي مشط رجله فنفذت إِلَى أَخْمُصُهُ وَأُخْرَى فِي ركبته وَضرب بلت فِي جنبه فَكسر لَهُ ضلعين
وَقتلت عدَّة من الرجالة والخيالة وَرجعت الفرنج بخزي عَظِيم لَيْسَ فيهم(3/20)
إِلَّا مَجْرُوح وكل يَوْم ترد بشرى بِمَوْت مقدم من جِرَاحَة أَصَابَته
ووردت بطاقة الطير فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى دمشق فَخرج السُّلْطَان فَمَا وصل إِلَى الْكسْوَة إِلَّا ورؤوسهم وأسراؤهم قد جِيءَ بهَا فَرجع مظفرا منصورا وذلت الفرنج بعْدهَا وانكسرت لمَوْت الهنفري
ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى الْحصن الَّذِي بنوه فأزعجهم وذعرهم وَعَاد على عزم الْعود إِلَيْهِ
قَالَ ثمَّ وَجه السُّلْطَان أَخَاهُ الْأَمِير تورانشاه من الشَّام إِلَى مصر بِمن ضعف من الأجناد لأجل مَحل الْبِلَاد
فرتب فِي بعلبك نوابه وودعه السُّلْطَان من مرج الصفر وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة وَمر على بصرى وَمِنْهَا إِلَى الْأَزْرَق وَمِنْه إِلَى الجفر إِلَى أَيْلَة إِلَى صدر وَوصل مَعَه خلق كثير من التُّجَّار وَالرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال
فصل
قَالَ الْعِمَاد وسافر الْفَاضِل إِلَى الْحَج فِي هَذِه السّنة وَركب الْبَحْر فَكتبت إِلَيْهِ كتابا فِيهِ طُوبَى للحجر والحجون من ذِي الْحجر والحجا(3/21)
منيل الجدا ومنير الدجى ولندي الْكَعْبَة من كَعْب الندى وللهدايا المشعرات من مشْعر الْهدى وللمقام الْكَرِيم من مقَام الْكَرِيم وَمن حاطم فقار الْفقر للحطيم وَمَتى رئي هرم فِي الْحرم وحاتم ماتح زَمْزَم وَمَتى ركب الْبَحْر الْبَحْر وسلك الْبر الْبر لقد عَاد قس إِلَى عكاظه وَعَاد قيس لحفاظه وَيَا عجبا لكعبة تقصدها كعبة الْفضل والإفضال ولقبلة تستقبلها قبْلَة الْقبُول والإقبال
قلت ومدحه أَبُو الْحسن بن الذروي عِنْد عوده من الْحَج بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا
(علم الْبَحْر أَنَّك الْخلق وافاه ... فأمسى حشاه يخْفق رعْبًا)
(وَغدا دره لَدَيْهِ حَقِيرًا ... إِذْ رأى الدّرّ مِنْك ينشىء سحبا)
(وَلَو اخْتَار قَطْرَة مِنْك يَا بَحر ... لأضحى أجاجه الْملح عذبا)
(هائج لم يزل دعاؤك حَتَّى ... هون الله مِنْهُ مَا كَانَ صعبا)
(وَلَقَد نَام إِذْ ركبت وللريح ... هبوب وَحَيْثُ أرسيت هبا)
(حبذا مَا صَنعته من أياد ... عَاد جَدب الْحجاز مِنْهُنَّ خصبا)
(رمت كتمانها فذاعت وَهل يقدر ... غيث يخفي عَن الأَرْض سكبا)
(قد رَأَتْ مِنْك كعبة الله لما ... جِئْتهَا حاتما وَإِن شِئْت كَعْبًا)(3/22)
(بل رأى مِنْك بَيته بَيت مجد ... أحرم الْجُود حوله ثمَّ لبّى)
(وَرَأى الرُّكْن من يَمِينك ركنا ... جَاءَ للثم أَبيض اللَّوْن رَضِي الله عَنهُ طِبًّا)
(وزهت زَمْزَم بشربك مِنْهَا ... وَعَجِيب أَن يظْهر المَاء عجبا)
(وتوجهت للمدينة عَن مكرمَة ... لما تشاركا فِيك حبا)
(وأتيت الشَّام تلو فتوح ... سَار شرقا بهَا الهناء وغربا)
(إِن تكن غبت عَنهُ وَالله يبقيك ... لأمثاله فَمَا غبت قلبا)
(سرت والرأي فِيهِ مِنْك مُقيم ... بعثت الدُّعَاء فِي اللَّيْل كتبنَا)
وَقد وقفت على الرقعة الَّتِي كتبهَا القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله بِخَطِّهِ إِلَى السُّلْطَان يلْتَمس مِنْهُ الْأذن لَهُ فِي سفر الْحَج فَأَحْبَبْت نقلهَا هُنَا وَمَا كتبت السُّلْطَان عَلَيْهَا وَمَا كتب بِسَبَبِهَا إِلَى بعض نوابه
نقلت من خطّ الْفَاضِل رَحمَه الله
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كتب الْمَمْلُوك هَذِه الرقعة بعد أَن استخار الله سُبْحَانَهُ من مستهل رَجَب فِي أَكثر لياليه وَإِلَى آخر هَذِه السَّاعَة وَهُوَ يُنْهِي أَنه قد شَارف الْأَرْبَعين وَمَا يدْرِي لَعَلَّهَا عقبَة اللِّقَاء وَفرض الله فِي الْحَج قد تعين ووعد الْمولى بِهِ قد سبق عِنْد أَيْلَة وَمُدَّة الْغَيْبَة قَصِيرَة والنائب ينفذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي السّفر والحضر والثقة بِهِ حَاصِلَة فِي المرادين من الْكَاتِب وهما الكتمان والمعرفة وحظ الْمولى فِي حجه وَالله أَضْعَاف حَظه فِي مقَامه لِأَنَّهُ إِن كَانَ ينفع هُنَا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ ينفع هُنَاكَ فِي الْآخِرَة وَإِن لم يكن أَهلا لِأَن يُسْتَجَاب مِنْهُ فَالله أهل لِأَن يُجيب فِي الْمولى والمملوك فَمَا ثقل قطّ فِي سُؤال وَلَيْسَ لِأَن الْمولى لَا يَقْضِيهَا وَلَكِن لِأَنَّهُ يُغْنِيه عَن السُّؤَال فِيهَا وَهَذِه حَاجَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَبعدهَا ينشد
(مَتى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَة ... لنَفْسي إِلَّا قد قضيت قضاءها)
وَمَا أَرَادَ الْمَمْلُوك أَن يستشفع بِمن يُشَارك الْمولى فِي الْأجر وَمَا يُرِيد إِلَّا دستورا عَن نفس طيبَة ورضى ظَاهر وباطن وَلَا يُرِيد خلاف الْفَرْض فَمَا يقي لَهُ بِقَضَاء المفترض وَالله الْمعِين برحمته الْحَمد لله وَحده وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه
وعَلى رَأس الرقعة فِي سطر الْبَسْمَلَة بِخَط السُّلْطَان رَحمَه الله مَا صورته على خيرة الله تَعَالَى يَا لَيْتَني كنت مَعكُمْ فأفوز فوزا عَظِيما
نقلته من خطه
ونقلت من خطّ بعض الْكتاب مَا نَقله من خطّ السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى بعض النواب
فصل
من كتاب كريم بالخط العالي الناصري أَعْلَاهُ الله ورد بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة
وصلني كتاب القَاضِي الْفَاضِل وَهُوَ يذكر أَنه مصمم على الْحَج الله يَجعله مُبَارَكًا ميمونا وَلَكِن لَا أفسح لَهُ فِيهِ إِلَّا بعد ثِنْتَيْنِ وَاحِدَة أَنه لَا يركب بَحر يسير من الْعَسْكَر إِلَى أَيْلَة وَمِنْهَا يتَوَجَّه وَيُقِيم الْعَسْكَر على أَيْلَة لَيْلَة وعَلى إرم وَدون إرم لَيْلَة وقاطع إرم لَيْلَة فَيكون هُوَ(3/23)
(مَتى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَة ... لنَفْسي إِلَّا قد قضيت قضاءها)
وَمَا أَرَادَ الْمَمْلُوك أَن يستشفع بِمن يُشَارك الْمولى فِي الْأجر وَمَا يُرِيد إِلَّا دستورا عَن نفس طيبَة ورضى ظَاهر وباطن وَلَا يُرِيد خلاف الْفَرْض فَمَا يَفِي لَهُ بِقَضَاء المفترض وَالله الْمعِين برحمته الْحَمد لله وَحده وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه
وعَلى رَأس الرقعة فِي سطر الْبَسْمَلَة بِخَط السُّلْطَان رَحمَه الله مَا صورته على خيرة الله تَعَالَى يَا لَيْتَني كنت مَعكُمْ فأفوز فوزا عَظِيما
نقلته من خطه
ونقلت من خطّ بعض الْكتاب مَا نَقله من خطّ السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى بعض النواب
فصل
من كتاب كريم بالخط العالي الناصري أَعْلَاهُ الله ورد بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة
وصلني كتاب القَاضِي الْفَاضِل وَهُوَ يذكر أَنه مصمم على الْحَج الله يَجعله مُبَارَكًا ميمونا وَلَكِن لَا أفسح لَهُ فِيهِ إِلَّا بعد ثِنْتَيْنِ وَاحِدَة أَنه لَا يركب بَحر يسير من الْعَسْكَر إِلَى أَيْلَة وَمِنْهَا يتَوَجَّه وَيُقِيم الْعَسْكَر على أَيْلَة لَيْلَة وعَلى إرم لَيْلَة وَدون إرم لَيْلَة وقاطع إرم لَيْلَة فَيكون هُوَ(3/24)
قد بعد وَمَا يبْقى عَلَيْهِ خوف إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وثانية تَأْخُذ يَده وتحلفه برأسي أَنه لَا يجاور
وثالثة تعطيه من مَال الجوالي ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَتقول لَهُ لَا بُد مَا تخرج هَذَا عني لَا عَنْك فِي المجاورين بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَفِي أَهلهَا هَذَا أَمر لَا بُد مِنْهُ فَإِن النَّاس لَا بُد لَهُم من الطّلب وَلَا بُد لَك من الْعَطاء وَإِن قَالَ إِن الشَّيْء قَلِيل
فَأَنت تقرضني هَذَا الْمبلغ من مَالك وتعطيه إِيَّاه فَلَا بُد وَإِلَّا فَلَا إِذن لَهُ فِي الرواح إِلَى الْحَج إِلَّا على هَذِه الشُّرُوط الَّتِي قد شرطتها وَأما مَجِيئه فَيَجِيء إِلَى الشَّام فَأَنا مَا بَقِي لي دَار إِلَّا هِيَ حَتَّى يقْضِي الله بَيْننَا وَبَين الفرنج {وَهُوَ خير الْحَاكِمين}
وَكتب الْفَاضِل إِلَى بعض مَشَايِخ مَكَّة بعد رُجُوعه سقى الله الْحجاز وَحيا كعبته وَيَا طول مَا ترشقني سِهَام الشوق الَّذِي أصبح الذّكر جعبته آها على تِلْكَ المواقف وتبا لمن رَضِي أَن يكون مَعَ الْخَوَالِف فرعيا ونعمى وحسنة وحسنى لمجاوري ذَاك الْحرم ولعامري أَيَّامه الَّتِي هِيَ الْأَيَّام لَا أَيَّام ذِي سلم
فيالهف الصُّدُور وَطول غليلها إِلَى وُرُود مَاء زمزمه وطوبى لمن استضاء فِي مضال الظُّلم بِعِلْمِهِ وَمهما نسيت فَلَا أنسى برد الكبد بَحر صيفها وموسم الْأنس بِثَلَاث مناها وخيفها
(آها عَلَيْهَا لَيَال مَا تركن لنا ... إِلَّا الأسى وعلالات من الْحلم)
(عَسى الرِّيَاح إِذا سَارَتْ مبلغة ... توفّي فقد غدر الأحباب بالذمم)
ثمَّ قَالَ فَأَما الطَّرِيق الْمُبَارَكَة فقد جرى فِيهَا خطوب وشؤون وَأَحَادِيث كلهَا شجون وَكَانَت العقبى إِلَى سَلامَة وَلما قاربنا الكرك نَهَضَ الْعَدو فَلم تمكن الرّجْعَة وَلَا التعريج جانبا ثمَّ من الله تَعَالَى بانجلاء(3/25)
النّوبَة ووصلنا إِلَى بِلَاد السُّلْطَان ولقينا ذَلِك الْوَجْه فَلَا عدمنا بشره وَذَلِكَ الْفضل فَلَا فَارَقت أَعيننَا فجره ووجدناه فِي الْغُزَاة جاهدا وللعدو مُجَاهدًا أوقاته مستغرقة وعزماته مُحَققَة
فصل فِيمَا فعل مَعَ الفرنج فِي بَاقِي هَذِه السّنة وَأول الْأُخْرَى ووقعة مرج عُيُون
قَالَ ابْن أبي طي كَانَت الفرنج قد عمرت بَيت الأحزان وَكَانَ على الْمُسلمين مِنْهُ ضَرَر عَظِيم فراسل السُّلْطَان الفرنج فِي هَدمه فَأَجَابُوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى هَدمه إِلَّا أَن يُعْطِينَا مَا غرمنا عَلَيْهِ
فبذل لَهُم السُّلْطَان سِتِّينَ ألف دِينَار فامتنعوا فَزَادَهُم إِلَى أَن بلغ مئة ألف دِينَار وَكَانَ هَذَا الْحصن للداوية وَكَانُوا يقوون من فِيهِ بالأموال والنفقات لقطع الطرقات على قوافل الْمُسلمين فَأَشَارَ تَقِيّ الدّين على السُّلْطَان ببذل هَذَا المَال لأجناد الْمُسلمين وَنخرج بهم إِلَى الْحصن ونهدمه
فَفعل ذَلِك كَمَا سَنذكرُهُ
قَالَ الْعِمَاد وَلما ودع السُّلْطَان أَخَاهُ وَرجع أغار فِي طَرِيقه على بِلَاد الفرنج وَقصد الْحصن الَّذِي بنوه وَرجع بالأسرى والغنائم وخيم السُّلْطَان بمروج الشُّعَرَاء ثمَّ انْتقل إِلَى بانياس وَبَلغت الخيم إِلَى حُدُود بِلَاد الْكَفَرَة وأضرم عَلَيْهِم لَهب النيرَان المستعرة وَكَانَ كل يَوْم يركب بِحجَّة الصَّيْد وَينزل على النَّهر ويجرد فرسَان الجلاد والقهر ويسير قبائل الْعَرَب(3/26)
إِلَى بلد صيدا وبيروت حَتَّى يحصدوا غلات الْعَدو وَلَا يبرح مَكَانَهُ حَتَّى يعودوا بجمالهم وأحمالها موثقة بأثقالها حَتَّى خف زرع الْكفَّار
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اقْتضى رَأْي الفرنج أَن يرعبوا الْمُسلمين فِي كل نَاحيَة خوفًا من اجْتِمَاعهم على جِهَة وَاحِدَة فغدر إبرنس أنطاكية وأغار على شيزر وغدر القومص بطرابلس بِجَمَاعَة من التركمان بعد الْأمان
فرتب السُّلْطَان ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر فِي ثغر حماة وَمَعَهُ شمس الدّين بن الْمُقدم وَسيف الدّين عَليّ المشطوب
ورتب ابْن عَمه نَاصِر الدّين فِي ثغر حمص فِي مُقَابلَة القومص وَكتب السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَهُوَ نَائِبه بِمصْر أَن ينتخب لَهُ من عَسْكَر مصر ألفا وَخمْس مئة فَارس يتقوى بهم مَعَ عَسْكَر الشَّام على الْعَدو
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخمْس مئة
وَالسُّلْطَان نَازل على تل القَاضِي ببانياس فأجمع رَأْيه مَعَ بَقِيَّة الْمُسلمين على أَن يقتحموا على الْكفَّار دِيَارهمْ ويستوعبوا مَا بَقِي فِي أَيْديهم من الغلات فِي يَوْم وَاحِد ثمَّ يرجِعوا فيرحلوا صوب الْبِقَاع
فنهضوا تِلْكَ اللَّيْلَة وَهِي لَيْلَة الْأَحَد ثَانِي محرم فَلَمَّا أصبح السُّلْطَان جَاءَهُ الْخَبَر(3/27)
بِأَن الفرنج قد خرجت فالتقاهم وَأنزل الله نَصره على الْمُسلمين وَأسر فرسانهم وشجعانهم وانهزمت رجالتهم فِي أول اللِّقَاء فَكَانَ من جملَة الأسرى مقدم الداوية ومقدم الإسبتارية وَصَاحب طبرية وأخو صَاحب جبيل وَابْن القومصية وَابْن بارزان صَاحب الرملة وَصَاحب جينين وقسطلان يافا وَابْن صَاحب مرقية وعدة كَثِيرَة من خيالة الْقُدس وعكا من البارونية وَغَيرهم من المقدمين الأكابر مَا زَاد على مئتين ونيف وَسبعين سوى غَيرهم
ثمَّ قدمت الْأُسَارَى وهم يتهادون كَأَنَّهُمْ سكارى
قَالَ الْعِمَاد وَأَنا جَالس بِقرب السُّلْطَان استعرضهم بقلمي وَمن ألطاف الله تَعَالَى أَنا وخواصه الْحَاضِرين لم نزد على عشْرين والأسرى قد أنافوا على سبعين وَقد أنزل الله علينا السكينَة وخصهم بالذلة المستكينة وطلع الصَّباح وَرفع الْمِصْبَاح وقمنا وصلينا بِالْوضُوءِ الَّذِي صلينَا بِهِ الْعشَاء ثمَّ عرض الْبَاقُونَ من الأسرى ثمَّ نقلوا إِلَى دمشق فَأَما ابْن بارزان فَإِنَّهُ بعد سنة بذل فِي نَفسه مئة وَخمسين ألف دِينَار صورية وَإِطْلَاق ألف أَسِير من الْمُسلمين وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى من نوبَة الرملة عِنْدهم(3/28)
من المأسورين فالتزم إِدْرَاكه وَأَن يُؤَدِّي من قطيعة الْمَذْكُور القطيعة الَّتِي قرر بهَا فكاكه
وَأما ابْن القومصية فَإِنَّهُ استفكته أمه بِخَمْسَة وَخمسين ألفا من الدَّنَانِير الصورية
وَأما أود مقدم الداوية فَإِنَّهُ انْتقل من سجنه إِلَى سِجِّين فطلبت جيفته فَأَخَذُوهَا بِإِطْلَاق أَسِير من مقدمي الْمُؤمنِينَ وَطَالَ أسر البَاقِينَ فَمنهمْ من هلك وَهُوَ عان وَمِنْهُم من خرج بقطيعة وأمان
وَهَذِه هِيَ وقْعَة مرج عُيُون وَكَانَ الْعَدو فِي عشرَة آلَاف مقَاتل وَانْهَزَمَ ملكهم مجروحا
وَكَانَ لعزّ الدّين فرخشاه فِي هَذِه الْوَقْعَة بلَاء حسن
حكى حسام الدّين تميرك بن يُونُس وَكَانَ مَعَ عز الدّين قَالَ كُنَّا فِي أقل من ثَلَاثِينَ فَارِسًا قد تقدمنا الْعَسْكَر فشاهدنا خيل الفرنج فِي سِتّ مئة فَارس واقفين على جبل وبيننا وَبينهمْ المَاء فَأَشَارَ عز الدّين أَن نعبر النَّهر إِلَيْهِم فَفَعَلْنَا ولحقنا عَسْكَر السُّلْطَان فهزمناهم
وَمن أحسن مَا اتّفق أَن الْيَوْم الَّذِي كسرت فِيهِ الفرنج بمرج عُيُون ظفر الأسطول الْمصْرِيّ ببطسة كَبِيرَة فاستولى عَلَيْهَا وعَلى أُخْرَى وَعَاد إِلَى الثغر مستصحبا ألف رَأس من السَّبي
فَمَا أقرب مَا بَين النصرين فِي المصرين وَمَا أعذب عَذَاب الفئتين وتجريعهما الْأَمريْنِ الْأَمريْنِ لقد عَم النَّصْر وتساوى فِيهِ الْبر وَالْبَحْر(3/29)
وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان فِي هَذَا الْفَتْح مِدْحَة سَيرهَا من مصر إِلَيْهِ فَخر الْكتاب أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ الْعِرَاقِيّ الْجُوَيْنِيّ أَولهَا
(لَك رب السَّمَاء خير معِين ... وكفيل بِمَا تحب ضمين)
(فَلهُ الْحَمد أَي نصر عَزِيز ... قد حبانا بِهِ وَفتح مُبين)
(أدْرك الثأر حِين نازله المغوار ... حتف الْكفَّار لَيْث العرين)
(الْهمام الغضنفر الْملك النَّاصِر ... مولى الورى صَلَاح الدّين)
(يَا مليكا أضحى الزَّمَان يناجيه ... بِلَفْظ الْمُذَلل المستكين)
(قذفت أَهلهَا الْحُصُون إِلَى بأسك ... حَتَّى عوضتهم بالسجون)
(وأراهم رب السَّمَاء بأسيافك ... مالم يجل لَهُم فِي ظنون)
(لَك قلب عِنْد اللِّقَاء مكين ... وَله من تقاه ألف كمين)
(يَا مليكا يلقى الحروب بحول الله ... مستعصما وَصدق الْيَقِين)
(إِن هَذَا الْفَتْح الْمُبين شِفَاء ... لصدور وقرة لعيون)
(هُوَ يَوْم أضحى كَيَوْم حنين ... سهل الله نَصره فِي الحزون)(3/30)
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ تَقِيّ الدّين غَائِبا عَن هَذِه الْوَقْعَة واشتغل عَنْهَا بغَيْرهَا وَذَلِكَ أَن سُلْطَان الرّوم قليج أرسلان طلب حصن رعبان وَادّعى أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين رَحمَه الله على خلاف مُرَاده وَأَن الْملك الصَّالح وَلَده قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ وَرَضي بعوده إِلَيْهِ
فَلم يفعل السُّلْطَان
وَكَانَ هَذَا الْحصن مَعَ ابْن الْمُقدم فَأرْسل قليج أرسلان عسكرا مجمعا فِي عشْرين ألفا لحصار الْحصن فَلَقِيَهُمْ تَقِيّ الدّين وَمَعَهُ سيف الدّين عَليّ المشطوب فِي ألف مقَاتل فَهَزَمَهُمْ
قَالَ وَلم يزل تَقِيّ الدّين يدل بِهَذِهِ النُّصْرَة فَإِنَّهُ هزم بآحاد ألوفا وأرغم بأعداد من الْأَعْدَاء أنوفا
وَقَالَ ابْن أبي طي واتصل بالسلطان أَن قليج أرسلان قد طمع فِي أَخذ رعبان وكيسون فَلَمَّا دخل دمشق وَصله رَسُوله يطلبهما مِنْهُ وَيَدعِي أَن نور الدّين بن زنكي اغتصبهما مِنْهُ وَأَن الْملك الصَّالح قد أنعم عَلَيْهِ بهما
فاغتاظ السُّلْطَان وزبر الرَّسُول وتوعد صَاحبه فَعَاد الرَّسُول وَأخْبر قليج أرسلان فَغَضب وسير عسكرا إِلَى رعبان فحاصرها وَسمع السُّلْطَان فندب تَقِيّ الدّين عمر فِي ثَمَانِي مئة فَارس فَسَار فَلَمَّا قَارب رعبان أَخذ مَعَه جمَاعَة من أَصْحَابه مِقْدَار مئتي فَارس وَتقدم عسكره وَسَار حَتَّى أشرف على عَسْكَر قليج أرسلان لَيْلًا فَرَآهُمْ قد سدوا الفضاء وهم(3/31)
قَارون آمنون وادعون فَقَالَ تَقِيّ الدّين لأَصْحَابه هَؤُلَاءِ على مَا ترَوْنَ من الطُّمَأْنِينَة والأمن والغفلة وَقد رَأَيْت أَن نحمل فيهم بعد أَن نتفرق فِي جَوَانِب عَسْكَرهمْ ونصيح فيهم فَإِنَّهُم لَا يثبتون لنا
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فأنفذ وَاحِدًا من أَصْحَابه إِلَى بَاقِي عسكره وَأمرهمْ أَن يتفرقوا أطلابا وَأَن يَجْعَل فِي كل طلب قِطْعَة من الكوسات والبوقات فَإِذا سمعُوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدوا فِي السّير حَتَّى يلْحقُوا بِهِ
فَفَعَلُوا مَا أَمرهم
ثمَّ إِنَّه حمل فِي عَسْكَر قليج أرسلان وصرخ أَصْحَابه فِي جوانبه وَكَانَ عدَّة عَسْكَر قليج أرسلان ثَلَاثَة آلَاف فَارس
فَلَمَّا سمعُوا الضجة وحس الكوسات والبوقات وَشدَّة وَقع حوافر الْخَيل وجلبة الرِّجَال واصطكاك أجرام الْحَدِيد هالهم ذَلِك وظنوا أَنهم قد فوجئوا بعالم عَظِيم فَلم يكن لَهُم إِلَّا أَن جالوا فِي كواثب خيولهم عريا وطلبوا النجَاة وأخذتهم السيوف فتركوا خيامهم وأثقالهم بِحَالِهَا وَأكْثر تَقِيّ الدّين فيهم الْقَتْل والأسر وَحصل على جَمِيع مَا تَرَكُوهُ
فَلَمَّا أصبح جمع المأسورين وَمن عَلَيْهِم بِأَمْوَالِهِمْ وكراعهم وسرحهم إِلَى بِلَادهمْ
قَالَ وَقيل إِن الْخَبَر بِهَذِهِ الكسرة وصل إِلَى السُّلْطَان فِي الْيَوْم الَّذِي كسر فِيهِ السُّلْطَان الفرنج على مرج عُيُون فتوافت البشارتان إِلَى الْبِلَاد
قَالَ وَقد مدح ابْن التعاويذي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بقصيدة أنفذها إِلَيْهِ من بَغْدَاد يذكر فِيهَا وقْعَة مرج عُيُون يَقُول فِيهَا(3/32)
(كَاد الأعادي أَن يصيبك كيدها ... لَو لم تكدك برأيها المأفون)
(تخفي عداوتها وَرَاء بشاشة ... فتشف عَن نظر لَهَا مشفون)
(دفنت حبائل مكْرها فرددتها ... تدوى بغيظ صدورها المدفون)
(وَعلمت مَا أخفوا كَأَن قُلُوبهم ... أفضت إِلَيْك بسرها المخزون)
(كمنوا وَكم لَك من كمين سَعَادَة ... فِي الْغَيْب يظْهر من وَرَاء كمين)
(فهوت نُجُوم سعودهم وَقضى لَهُم ... بالنحس طائرهم بمرج عُيُون)
قلت هَكَذَا أنْشدهُ وَهُوَ حسن وَقد كشفته من نُسْخَة من ديوَان ابْن التعاويذي فَوجدت آخر هَذَا الْبَيْت
(طَائِر جدك الميمون ... )
وَأول هَذِه القصيدة
(إِن كَانَ دينك فِي الصبابة ديني ... فقف الْمطِي برملتي يبرين)
ثمَّ قَالَ بعد تَمام الْغَزل
(لَيْت الضنين على الْمُحب بوصله ... لقن السماحة من صَلَاح الدّين)
(ملك إِذا علقت يَد بذمامه ... علقت بِحَبل فِي الْحفاظ متين)
(قاد الْجِيَاد معاقلا وَإِن اكْتفى ... بمعاقل من رَأْيه وحصون)(3/33)
(سهرت جفون عداهُ خيفة ماجد ... خلقت صوارمه بِغَيْر جفون)
(لَو أَن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إِلَى غَابَ لَهُ وعرين)
(أضحت دمشق وَقد حللت بجوها ... مأوى الطريد وموئل الْمِسْكِين)
(لَك عفة فِي قدرَة وتواضع ... فِي عزة وشراسة فِي لين)
(وأريتنا بجميل صنعك مَا روى ... الراوون عَن أُمَم خلت وقرون)
(وضمنت أَن تحيي لنا أيامهم ... بالمكرمات فَكنت خير ضمين)
قَالَ ابْن أبي طي نزل السُّلْطَان على تل القَاضِي ببانياس على المرج الَّذِي يعرف بمرج عُيُون وأنفذ فِي ثَانِي الْمحرم قِطْعَة من عسكره مَعَ عز الدّين فرخشاه لشن الْغَارة على بِلَاد الفرنج
فَلَمَّا أصبح ركب يستوكف أَخْبَار فرخشاه فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج من الخيم حَتَّى رأى أَغْنَام بانياس قد أَقبلت من المراعي هاجة على وجوهها من الغياض والأودية
فَقَالَ هَذِه غَارة
فَأمر بِلبْس السِّلَاح والاستعداد للحرب فوصل بعض الرُّعَاة فَأخْبر أَن الفرنج قد عبروا وصاروا قَرِيبا مِنْهُ على هَيْئَة المتغفلة فَسَار حَتَّى أشرف على الفرنج فَإِذا هم فِي ألف رمح فَأَخَذتهم السيوف والدبابيس حَتَّى فرشت الأَرْض مِنْهُم وَألقى جمَاعَة مِنْهُم سِلَاحهمْ وسلموا أنفسهم أُسَارَى وَنَجَا ملك الفرنج هنفري هَارِبا
وَيُقَال إِنَّه وقف بِهِ فرسه(3/34)
فَحَمله أحد خيالته على ظَهره ثمَّ رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مُعَسْكَره وسيفه يقطر دَمًا وَجلسَ لاستعراض الْأُسَارَى
فَذكر نَحْو مَا سبق
وَفِي كتاب الْفَاضِل إِلَى صَاحب لَهُ بِمَكَّة وَقد سبق بعضه قَالَ وَجَرت نوبه مِنْهَا نوبَة قتل الهنفري لَعنه الله وَتَمام سبعين فَارِسًا من كبار الخيالة وَطرح ملك الفرنج من على ظهر دَابَّته وتحامله بآخر رَمق مَعَ بَقِيَّة من نجا من خيالته
وَمِنْهَا نوبَة وَادي الْحَرِيق وَقد جمع الله الْعَدو فارسه وراجله
وَمِنْهَا نصر الله الَّذِي مَا كَانَ قبله لملك من مُلُوك الأَرْض قتل ابْن بارزان ومقدم الداوية وَابْن صَاحب طبرية وأخو أَسْقُف صور وَصَاحب جبيل وَأَصْحَاب الْحُصُون والقلاع ومقطعو الأقاليم والضياع وَحصل تَحت الْيَد الناصرية أَعْلَاهَا الله مئة وَسِتُّونَ كلهم تثنى عَلَيْهِم الخناصر وتقطر بهم العساكر
وَمِنْهَا دُخُول العساكر إِلَى عمل بيروت وصور وغارتها على غرَّة من أَهلهَا وَقطع كل شَجَرَة مثمرة من أَصْلهَا
قَالَ وَكَانَت الأساطيل المنصورة قد تضاعفت عدتهَا إِلَى أَن بلغت سِتِّينَ شينيا وَعشْرين طريدة فسارت الشواني خَاصَّة فَدخلت الْبِلَاد الرومية ودوخت السواحل الفرنجية وأسرت ألف علج أحضرتهم أسرى(3/35)
فِي قيد الإسار وَقتلت الرفاق الْكِبَار وغنمت من هَذِه الْغَزْوَة أَقوام كَانَت أَعينهم لَا تعرف عين الدِّرْهَم وَلَا وَجه الدِّينَار
فصل فِي تخريب حصن بَيت الأحزان وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول
قَالَ الْعِمَاد جمع السُّلْطَان جموعا كَثِيرَة من الخيالة والرجالة وَسَار فوصل إِلَى المخاضة يَوْم السبت تَاسِع عشر الشَّهْر والحصن مَبْنِيّ دونهَا من الغرب فخيم مِنْهَا بِالْقربِ وضاق ذَلِك المرج عَن الْعَسْكَر وَاحْتَاجَ إِلَى نصب ستائر لأجل المنجنيقات فَركب السُّلْطَان بكرَة الْأَحَد إِلَى ضيَاع صفد وَكَانَت قلعة صفد يَوْمئِذٍ للداوية وَهُوَ عش البلية
وَأمر بِقطع كرومها وَحمل أخشابها فَأخذ كل مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَرجع بعد الظّهْر وزحفوا إِلَى الْحصن بعد الْعَصْر فَمَا أَمْسَى الْمسَاء إِلَّا وهم قد استولوا على الباشورة وانتقلوا بكليتهم إِلَيْهَا وَبَاتُوا طول اللَّيْل يَحْرُسُونَ وخافوا أَن تفتح الفرنج الْأَبْوَاب ويغيروا عَلَيْهِم على غرَّة وَإِذا الفرنج قد أوقدوا خلف كل بَاب نَارا ليأمنوا من الْمُسلمين اغْتِرَارًا
فاطمأن الْمُسلمُونَ وَقَالُوا مَا بَقِي إِلَّا نقب البرج
ففرقه السُّلْطَان على الْأُمَرَاء فَأخذ فرخشاه الْجَانِب القبلي وَأخذ السُّلْطَان الْجَانِب الشمالي وَقصد نَاصِر الدّين بن شيركوه بِقُرْبِهِ نقبا وَكَذَلِكَ تَقِيّ الدّين وكل كَبِير فِي الدولة جعل لَهُ قسما وَكَانَ البرج مُحكم الْبناء فصعب نقبه لَكِن مَا انْقَضى يَوْم الْأَحَد إِلَّا وَقد تمّ نقب السُّلْطَان وعلق وَحشِي بالحطب لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَحرق وَكَانَ النقب فِي طول ثَلَاثِينَ ذِرَاعا فِي عرض ثَلَاث أَذْرع وَكَانَ عرض السُّور تسع أَذْرع فَمَا تأثر(3/36)
بذلك فَاحْتَاجَ السُّلْطَان صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ إِلَى إطفاء النيرَان ليتم نقبه وَقَالَ من جَاءَ بقربة مَاء فَلهُ دِينَار
قَالَ الْعِمَاد فَرَأَيْت النَّاس للقرب حاملين ولأوعية المَاء ناقلين حَتَّى أغرقوا تِلْكَ النقوب فخمدت فَعَاد نقابوها وَقد بردت فخرقوه وعمقوه وفتحوه وفتقوه وشقوا حجره وفلقوه ثمَّ حشوه وعلقوه واستظهروا فِيهِ يومي الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء ثمَّ أحرقوه
وَاشْتَدَّ الْحِرْص عَلَيْهِ لِأَن الْخَبَر أَتَاهُم بِأَن الفرنج قد اجْتَمعُوا بطبرية فِي جمع كثير فَلَمَّا أصبح يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَتَعَالَى النَّهَار انقض الْجِدَار وتباشرت الْأَبْرَار
وَكَانَ الفرنج قد جمعُوا وَرَاء ذَلِك الْوَاقِع حطبا فَلَمَّا وَقع الْجِدَار دخلت الرِّيَاح فَردَّتْ النَّار عَلَيْهِم وأحرقت بُيُوتهم وَطَائِفَة مِنْهُم فَاجْتمعُوا إِلَى الْجَانِب الْبعيد من النَّار وطلبوا الْأمان
فَلَمَّا خمدت النيرَان دخل النَّاس وَقتلُوا وأسروا وغنموا مئة ألف قِطْعَة من الْحَدِيد من جَمِيع أَنْوَاع الأسلحة وشيئا كثيرا من الأقوات وَغَيرهَا وَجِيء بالأسارى إِلَى السُّلْطَان فَمن كَانَ مُرْتَدا أَو راميا ضربت عُنُقه وَأكْثر من أسر قَتله فِي الطَّرِيق الْغُزَاة المطوعة وَكَانَ عدَّة الْأُسَارَى نَحْو سبع مئة وخلص من الْأسر أَكثر من مئة مُسلم وسير بَاقِي الْأُسَارَى إِلَى دمشق
وَأقَام السُّلْطَان بِمَنْزِلَتِهِ حَتَّى هُدُوا الْحصن إِلَى الأساس وطم جب مَاء معِين كَانُوا حفروه فِي وَسطه وَرمى فِيهِ الْقَتْلَى
وَكَانَ عِنْد السُّلْطَان رَسُول القومص معافى وَهُوَ يُشَاهد بلية أهل مِلَّته
وَقد كَانَ السُّلْطَان بذل لَهُم فِي هَدمه سِتِّينَ ألف دِينَار فَلم يَفْعَلُوا فَزَادَهُم حَتَّى بلغ مئة ألف فَأَبَوا
وَكَانَ مُدَّة الْمقَام على الْحصن فِي أَيَّام فَتحه وَبعدهَا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا(3/37)
وَبعد ذَلِك سَار السُّلْطَان إِلَى أَعمال طبرية وصور وبيروت وَغَيرهَا فَأَغَارَ عَلَيْهَا وأرجف قُلُوبهم بوصوله إِلَيْهَا وَرجع السُّلْطَان إِلَى دمشق يَوْم الْأَرْبَعَاء وَمرض جمَاعَة من ذَلِك الوباء لِأَن الْحر كَانَ شَدِيدا وأنتنت جيف الْقَتْلَى
وَطول السُّلْطَان الْمقَام عَلَيْهِ بعد فَتحه لأجل تتميم هَدمه فَتوفي أَكثر من عشرَة أُمَرَاء وَعَاد المشهد اليعقوبي كَمَا كَانَ مزورا وبتكبير الْمُسلمين وصلاتهم معمورا
وهنأ الشُّعَرَاء السُّلْطَان بِفَتْح هَذَا الْحصن فَمن ذَلِك مَا أنْشدهُ نشو الدولة أَحْمد بن نفاذة الدِّمَشْقِي من جملَة مدائحه
(هَلَاك الفرنج أَتَى عَاجلا ... وَقد آن تكسير صلبانها)
(وَلَو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بَيت أحزانها)
وَلأبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن رستم الساعاتي الْخُرَاسَانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي من قصيدة أَولهَا(3/38)
(بجدك أعطاف القنا تتعطف ... وطرف الأعادي دون مجدك يطرف)
(شهَاب هدى فِي ظلمَة الشَّك ثاقب ... وَسيف إِذا مَا هزه الله مرهف)
(وقفت على حصن الْمَخَاض وَإنَّهُ ... لموقف حق لَا يوازيه موقف)
(فَلم يبد وَجه الأَرْض بل حَال دونه ... رجال كآساد الشرى وَهِي تزحف)
(وجرداء سلهوب وَدرع مضاعف ... وأبيض هندي ولدن مثقف)
(وَمَا رجعت أعلامك الصفر سَاعَة ... إِلَى أَن غَدَتْ أكبادها السود ترجف)
(كبا من أعاليه صَلِيب وبيعة ... وشاد بِهِ دين حنيف ومصحف)
(صليبة عباد الصَّلِيب ومنزل النزال ... لقد غادرته وَهُوَ صفصف)
(أيسكن أوطان النَّبِيين عصبَة ... تمين لَدَى أيمانها وَهِي تحلف)
وَمِنْهَا
(نصحتكم والنصح فِي الدّين وَاجِب ... ذَروا بَيت يَعْقُوب فقد جَاءَ يُوسُف)(3/39)
وَمن قصيدة لسعادة الضَّرِير الْحِمصِي
(حللت فَكنت الألمعي المسددا ... وسرت فَكنت الشمري المؤيدا)
(وَقمت بأعباء الممالك ناهضا ... فأقعدت أَعدَاء وَلم تخش مقْعدا)
(تعودت ضرب السَّيْف والطعن بالقنا ... وكل امرىء مغرى بِمَا قد تعودا)
(نصرت الْهدى لما تخاذل حزبه ... فناداك حزب الله يَا نَاصِر الْهدى)
(غضِبت لدين أَنْت حَقًا صَلَاحه ... فأرضيت لما أَن غضِبت مُحَمَّدًا)
(فيا يُوسُف الْخَيْر الَّذِي فِي يَمِينه ... من الْخَيْر مَا قد غَار فِينَا وأنجدا)
(وصلت لذِي سلم وصلت لذِي وغى ... ففقت جَمِيع النَّاس بالبأس والندى)
(وقدت إِلَى الْأَعْدَاء جَيْشًا عرمرما ... إِذا أبرقت فِيهِ الصوارم أرعدا)
(فَلم تبْق للطغيان شملا مجمعا ... وَلم تبْق للْإيمَان شملا مبددا)
(فناهيك من جَيش نهضت بعبئه ... فأقعدت لما أَن نهضت بِهِ العدى)
(حملت ذبالا فِي ذوابل سمره ... فَلَمَّا دجا ليل العجاج توقدا)
(وزرت بِهِ الْحصن الَّذِي لَو تحصنت ... فوارسه بِالنَّجْمِ أوردته الردى)
(قصمت بِهِ صلب الصَّلِيب ورعته ... وسهدته لما غفا فتسهدا)(3/40)
(وفض بِمَا قد فضه من سهامه ... نواجذ ثغر الهنفري وقددا)
(هببت إِلَيْهِ هبة يوسفية ... تعيد هباء كل مَا كَانَ جلمدا)
قَالَ وَمِنْهُم الْأَمِير نجم الدّين مَحْمُود بن الْحسن بن نَبهَان الْعِرَاقِيّ من أهل الْحلَّة المزيدية كَانَ حَاضرا فِي نوبَة ابْن بارزان لَهُ من قصيدة أَولهَا
(هَنِيئًا صَلَاح الدّين بِالْفَتْح والنصر ... ونيل الْأَمَانِي الغر والفتكة الْبكر)
(وَمَا حزت فِيهَا من فخار وَمن علا ... وَحسن ثَنَا يبْقى إِلَى آخر الدَّهْر)
(سموت لَهَا بالمشرفية والقنا ... سمو أبي لَا ينَام على وتر)
(وصلت بهَا حَبل المفاخر مِثْلَمَا ... قطعت بهَا يَوْم الوغى دابر الْكفْر)
(سللت بَيَاض الصُّبْح وَهُوَ صوارم ... وخضت سَواد اللَّيْل وَهُوَ دم يجْرِي)
(وَقد عرف الإفرنج بأسك فِي الوغى ... وجرعتهم مِنْهُ أَمر من الصَّبْر)
(وظنوا بِنَاء الْحصن صونا لملكهم ... فَأصْبح بالشعراء منهتك السّتْر)
(فَمَا قبضت مِنْهُم يَد الْغدر قطعت ... أناملها إِلَّا على صَفْقَة الخسر)
(هِيَ الفتكة الغراء لَا زلت قَائِما ... بأمثالها للدّين فِي السِّرّ والجهر)
(وَأصْبح فِي أقْصَى خُرَاسَان ذكرهَا ... وَفِي كل قلب مِنْهُ جَيش من الذعر)
(فَلَا ترض مِنْهُم بعْدهَا بذل طَاعَة ... فَمَا خلقُوا إِلَّا على شِيمَة الْغدر)
(وسر واملك الأَرْض الَّتِي لَو تركتهَا ... لأغضت عُيُون الْمجد مِنْهَا على أَمر)(3/41)
(فيا آل أَيُّوب حويتم مناقبا ... بأخمصها تعلو على الأنجم الزهر)
(إِذا عد أَرْبَاب الفخار فَأنْتم ... ذَوُو الفعلات الغر والنائل الْغمر)
(وَأَنت الَّذِي أَصبَحت بالبأس والتقى ... وبذل اللهى عالي السنا عطر الذّكر)
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد فِي وصف الْحصن وَقد عرض حَائِطه إِلَى أَن زَاد على عشرَة أَذْرع وَقطعت لَهُ عِظَام الْحِجَارَة كل فص مِنْهَا من سبع أَذْرع إِلَى مَا فَوْقهَا وَمَا دونهَا وعدتها تزيد على عشْرين ألف حجر لَا يسْتَقرّ الْحجر فِي مَكَانَهُ وَلَا يسْتَقلّ فِي بُنْيَانه إِلَّا بأَرْبعَة دَنَانِير فَمَا فَوْقهَا وَفِيمَا بَين الحائطين حَشْو من الْحِجَارَة الصم المرغم بهَا أنوف الْجبَال الشم وَقد جعلت تسقيته بالكلس الَّذِي إِذا أحاطت قَبضته بِالْحجرِ مازجه بِمثل جِسْمه وَصَاحبه بأوثق وأصلب من جرمه وأوعز إِلَى خَصمه من الْحَدِيد بَالا يتَعَرَّض لهدمه
وَمِنْه فِي وصف النَّار قَالَ وَبَات النَّاس فِي لَيْلَة الْجُمُعَة مطيفين بالحصن وَالنَّار بِهِ مطيفة وَعَلِيهِ مُشْتَمِلَة وعذبات ألسنتها على تاجه منسدلة وعَلى خَلفه مسبلة ونارهم قد أطفأها الله بِتِلْكَ النَّار الواقدة ومنعتهم قد أذهبها الله بِتِلْكَ الأبرجة الساجدة وبنفسج الظلماء قد اسْتَحَالَ جلنارا والشفق قد عَم اللَّيْلَة فَلم يخْتَص آصالا وَلَا أسحارا
ونفحاتها حميمية وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة وَالْبَلَاء يُنَادي بِلِسَان مصابها إياك أَعنِي(3/42)
واسمعي يَا جَارة
فولجت النَّار موالج تضيق مِنْهَا الْفِكر وتعجز عَنْهَا الإبر ونقلت النبأ من الْعين إِلَى الْأَثر وَقَالَ الْكفْر إِنَّهَا لإحدى الْكبر
وخولف الْمثل إِن السَّعَادَة لتلحظ الْحجر
وأغنى ضوؤها لِسَان كل إمعة أَن يسْأَل هَذَا وَهَذَا مَا الْخَبَر وقذفت بشرر كالجمالات الصفر وزفرت بغيظ تعفر لَهُ خدود الْجبَال الصغر وتلحقها بالكثب العفر
وَبَات اللَّيْل وَالنَّهَار يشله وَكلما أغمده الخمود جعل الْوقُود يَسلهُ إِلَى أَن بدا الصَّباح كَأَنَّهُ مِنْهَا امتار الْأَنْوَار وَانْشَقَّ الشرق وَمن عصفرها صبغ الْإِزَار فَحِينَئِذٍ تقدم الْخَادِم فاقتلع شده الْأَحْجَار من أسها ومحا حُرُوف الْبُنيان من طرسها وَتَبعهُ الْجَيْش ورفاقه وكافة من اشْتَمَل عَلَيْهِ نطاقه
وَفِي كتاب آخر وَكَانَ مَبْنِيا على تل وَفِيه صهريج لما فتح الْمُسلمُونَ الْحصن رموا فِيهِ مَا يناهز ألف قَتِيل ودابة محرقة بالنَّار فَمَا سدت عرصته وَلَا مَلَأت حفرته وَكَانَ فِيهِ نَحْو ألف زردية والمقاتلة ثَمَانُون فَارِسًا بغلمانهم وَخَمْسَة عشر مقدما للرِّجَال مَعَ كل مقدم خَمْسُونَ رجلا هَذَا إِلَى الصناع مَا بَين بِنَاء ومعمار وحداد ونجار وصيقل وسيوفي وصناع أَنْوَاع الأسلحة
وَكَانَ بِهِ من أسرى الْمُسلمين مَا يزِيد على مئة رجل نزعت الْقُيُود من أَرجُلهم وَجعلت فِي أرجل الفرنج
وَكَانَت فِيهِ أقوات لعدة سِنِين وأنواع اللحوم الطّيبَة والخبيثة فِيهَا بَلَاغ ومتاع إِلَى حِين
وَلما قوتل(3/43)
أول يَوْم هجم حوشه وَفِيه جمَاعَة من الْمُقَاتلَة فَضربت رقابهم وَأخذت دوابهم وَفِي الْحَال علقت النقوب على خمس جِهَات وحشيت بالنيران وَتَأَخر وُقُوع الجدران لفرط عرض الْبُنيان وَلم تزل النَّار توقد ثمَّ تخرج ثمَّ تشعل ثمَّ تخمد إِلَى أَن تمكنت النقوب وحشيت بالأحطاب وأطلقت فِيهَا النيرَان فِي يَوْم الْخَمِيس فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة وانشقت الأبرجة فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية وَملك الْمُسلمُونَ الْحصن بِمَا فِيهِ وَمن فِيهِ واشتعلت النيرَان فِي أرجائه ونواحيه
وَكَانَ الطاغية مقدم الْحصن يُشَاهد مَا حل ببنيانه وَمَا نزل من الْبلَاء بِأَصْحَابِهِ وأعوانه
وَلما وصلت النَّار إِلَى جِهَته ألْقى نَفسه فِي خَنْدَق نَار صَابِرًا على حرهَا فَفِي الْحَال نقلته هَذِه النَّار إِلَى تِلْكَ النَّار وَلما أَخذ أُسَارَى الإفرنج وهم عدَّة تزيد على سبع مئة بعد المقتولين وَمَا تقصر عدتهمْ عَن مثلهَا توفرت الهمة على هدم هَذَا الْحصن وتعفيه أَثَره وَإِزَالَة ضَرَره فألحقت أعاليه بقواعده وَصَارَ أثرا بعد عين فِي عين مشاهده هَذَا والفرنج مجتمعون فِي طبرية يشاهدون الْأَمر عيَانًا وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْحصن قد مَلِيء نيرانا وارتفع دخانا
وسارت العساكر إِلَى أَعمال صيدا وبيروت وصور فأنثنت مُغيرَة فاستثارت كل غامضة ووصلت إِلَى كل ذخيرة وَصَارَت بِلَاد الفرنج لَا يسكن مِنْهَا إِلَّا كل قلعة أَو مَدِينَة وَلَا يُقيم فِيهَا إِلَّا من نَفسه لشدَّة الْخَوْف معتقلة فِي نَفسه أَو مشحونة
وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد تَأَخّر فلَان(3/44)
لضرورات مِنْهَا أمراض كَانَت قد عَمت بهَا الْبلوى وَكَثُرت بهَا الشكوى وَكَانَ أَكْثَرهَا خَاصّا بالعائدين من العساكر من نوبَة فتح الْحصن
وَكَانَ خَادِمًا الْمجْلس السَّامِي ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وَابْن عَمه نَاصِر الدّين قد جهدا وأثخنا وبلغا حد الْيَأْس وامتحنا وكادا يسقطان من ضمير المنى فَمن الله تَعَالَى بالشفا وَهَذِه الْبُشْرَى بِفَتْح الْحصن وَإِن كَانَت شريفة مواقفها عَامَّة مَنَافِعهَا فقد تَجَدَّدَتْ بعْدهَا بِشَارَة طلعت بِشَارَة رائقة وَجَاءَت فِي مَكَان الرديف لأخرى لَا فرق بَينهمَا إِلَّا أَن تِلْكَ سَابِقَة وَهَذِه لاحقة وَذَلِكَ أَن الأسطول الْمصْرِيّ غزا غَزْوَة أُخْرَى غير الأولى وَتوجه عَن السواحل الإسلامية مرّة أُخْرَى من الله فِيهَا منَّة أُخْرَى
وَكَانَت عدته فِي هَذِه السّنة قد أضعفت وقويت واستفرغت فِيهَا عزائم الْجِهَاد واستقصيت واحتلت بِهِ الرِّجَال الَّذين يعْملُونَ فِي الْبَحْر ويفتكون فِي الْبر وَمن هُوَ مَعْرُوف من المغاربة لغزو بِلَاد الْكفْر فسارت على سوار هِيَ كنائن إِلَّا أَنَّهَا تمرق مروق السِّهَام ورواكد هِيَ مَدَائِن إِلَّا أَنَّهَا تمر مر السَّحَاب غير الجهام فَلَا أعجب مِنْهَا تسمى غربانا وتنشر من ضلوعها أَجْنِحَة الْحمام وَتسَمى جواري وَكم مُبشر مجريها من النَّصْر بِغُلَام
وطوقت فِي الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى ميناء عكا وَهِي قسطنطينية الفرنج وَدَار كفرهم أبدلها الله من الْكفْر إسلاما وخلع عَنْهَا الشّرك الْبَالِي وخلع عَلَيْهَا من التَّوْحِيد أعلاما
وَكَانَت مفروسة فَأَصْبَحت مفترسة(3/45)
وباتت جَمِيع الفرنج محترسة وغدت مترسة فَمَا هِيَ إِلَّا أَن حذفت والجة على المينا وَفِيه المراكب والبضائع فاستولت على عدَّة من المراكب تحطيما وتكسيرا ونطاحا يقلقل وَلَو كَانَ ثبيرا وأخلت سَاحل الفرنج بقتالها وباشرت مثل المَاء بنزولها ونزالها وَهَذَا مِمَّا لم يعْهَد من الأسطول الإسلامي مثله فِي سالف الدَّهْر لَا فِي حَالَة قُوَّة إِسْلَام وَلَا ضعف كفر وَمِمَّا سَبيله أَن تطرز السّير الْكَرِيمَة بفخره كَمَا طرز الله الصَّحِيفَة الشَّرِيفَة بأجره
وَقتل على قلعة عكا ثَلَاثَة نفر بأليم السِّهَام أبعد مَا كَانُوا وقفُوا عَنْهَا وآمن مَا كَانُوا مِنْهَا فصرعتهم الْأَيْدِي والأفواه وخروا سجدا على الجباه سجودا لَا يرفعون مِنْهُ الرؤوس وَلَا ينتقلون مِنْهُ إِلَى حَالَة الْجُلُوس وَلَا يرفع فِيمَا يرفع لَهُم من عمل وَلَا لَهُم فِيهِ من قبْلَة وَلَا لَهُم بِهِ من قبل
وأقامت المراكب يَوْمَيْنِ تقَابلهَا وتقاتلها وتناضلها
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
مِنْهَا حجَّة الْفَاضِل الثَّانِيَة ووفاة الْخَلِيفَة المستضيء بِاللَّه وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْعشْر الْأَخير من شَوَّال خرج الْفَاضِل من دمشق إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد إِلَى مصر من مَكَّة
قلت وقفت على نُسْخَة كتاب الْفَاضِل إِلَى الصفي بن الْقَابِض(3/46)
يصف لَهُ مَا لَقِي فِي طَرِيقه إِلَى مصر وركوب الْبَحْر وَكَانَت جماله ذهبت بِمَكَّة فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة فَقَالَ خرجنَا من مَكَّة شرفها الله يَوْم الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي هَذِه الْأَيَّام زَاد تبسط المفسدين وإسراف المسرفين وَظهر من هوان أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَمن ضعف نَفسه وانخفاض جنَاحه مَا أطمع الْمُفْسد وأخاف المصلح
ووصلنا إِلَى جدة يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وركبنا الْبَحْر يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وبتنا فِيهِ لَيْلَتي الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس ورمتنا الرّيح إِلَى جَزِيرَة بِالْقربِ من بِلَاد الْيمن تسمى دبادب
وَكَانَت إِحْدَى الليلتين فِي الْبَحْر من ليَالِي الْبلَاء وَبِاللَّهِ أقسم لقد شَاب بعض رُؤُوس أَصْحَابنَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَيِسُوا من الْأَنْفس وتمنوا معاجلة الْأَمر وتقصير الْعَذَاب وظنوا أَنهم أحيط بهم وعاتبوا أنفسهم ثمَّ احْتَجُّوا عَلَيْهَا بالأقدار الَّتِي لَا حِيلَة فِيهَا
وصبرنا إِلَى أَن فرج الله سُبْحَانَهُ ونزلنا الْبَريَّة بِحَيْثُ لَا مَاء يشرب وَلَا جمل يركب وَنفذ إِلَى البجاة النازلين على سَاحل الْبَحْر فأحضروا جمالا ضَعِيفَة أجرتهَا أَكثر من ثمنهَا وَثمن مَا تحمله فَرَكبْنَا ووصلنا إِلَى عيذاب بعد عشرَة أَيَّام وَقد هلكنا ضعفا وتعبا وجوعا وعطشا لِأَن الْخلق كَانُوا كثيرا والزاد يَسِيرا
وركبنا الْبَريَّة من عيذاب إِلَى أسوان فَكَانَت أشق من كل طَرِيق سلكناها وَمن كل مَسَافَة قَطعْنَاهَا لأَنا وردنا المَاء فِي إِحْدَى عشرَة لَيْلَة مرَّتَيْنِ وَكَانَت الهمة قَاصِرَة فِي المزاد وَكَانَت الْبلوى عَظِيمَة فِي الْعَطش
فَأَما الحزون والوعر فَهِيَ تزيد على مَا فِي(3/47)
بَريَّة الشَّام بِكَوْنِهَا طَرِيقا بَين جبلين كالدرب المتضايق والزقاق المتقارب وحر الشَّمْس شَدِيد وَقَرِيب الْوَعْد بَينهمَا بعيد ولطف الله إِلَى أَن وصلنا مصر فِي السَّابِع عشر من صفر
قلت وللوجيه ابْن الذروي فِي الْفَاضِل
(لَك الله إِمَّا حجَّة أَو وفادة ... فَمن مشْهد يُرْضِي الْإِلَه وموسم)
(ترى تَارَة بَين الصوارم والقنا ... وطورا ترى بَين الْحطيم وزمزم)
(وَكم لَك يَا عبد الرَّحِيم مآثر ... لَهَا فِي سَمَاء الْفَخر إشراق أنجم)
(كَأَنَّك لم تخلق لغير عبَادَة ... وَإِظْهَار فضل فِي الورى وتكرم)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان عماد الدّين بن السُّلْطَان وَكَانَ أحب أَوْلَاده إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي قَامَ بتدبير الْملك بعده وَولد بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة كَمَا سبق ذكره
وَكَانَ السُّلْطَان لما قدم الشَّام زَاد شوقه إِلَيْهِ فاستقدمه فَقدم عَلَيْهِ عَاشر رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَأنْشد الْعِمَاد السُّلْطَان عِنْد قدومه قصيدة مِنْهَا
(يَا أسدا يحمي عرين الْعلَا ... هنيت جمع الشمل بالشبل)
(عُثْمَان ذِي النورين بَين الورى ... من سؤدد سَام وَمن فضل)
(يحكيك إقداما وبأسا فَمَا ... أشبه هَذَا الْفَرْع بِالْأَصْلِ)(3/48)
(مخايل الرشد على بشره ... شاهدة بِالْفَضْلِ والنبل)
(ملك قضى الله لَهُ أَنه ... على مُلُوك الأَرْض يستعلي)
(بِالْملكِ النَّاصِر سلطاننا ... طَالَتْ يَد الْإِحْسَان وَالْعدْل)
ثمَّ لم يُفَارِقهُ واستصحبه إِلَى مصر فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ثمَّ عَاد بِهِ مَعَه إِلَى الشَّام فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وَاتخذ لَهُ معلما من مصر وَهُوَ نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن المجاور فَحصل من صحبته رزقا وَاسِعًا لَا سِيمَا فِي عَام الطّهُور فَإِنَّهُ عَم فِيهِ السرُور والحبور وَكَانَ مُتَوَلِّي الْإِنْفَاق فِي الطّهُور صفي الدّين بن الْقَابِض لِأَنَّهُ كَانَ مُتَوَلِّي الخزانة والديوان والأعمال بِدِمَشْق
قَالَ وَحج يَعْنِي ابْن الْقَابِض سنة أَربع وَسبعين وفيهَا حج(3/49)
الْفَاضِل من مصر يَعْنِي حجَّته الأولى وَعَاد إِلَى الشَّام وَمَعَهُ ابْن الْقَابِض
قلت فَلَمَّا رجعا مَعًا فِي حجَّة الْفَاضِل الأولى إِلَى الشَّام ثمَّ انْفَرد الْفَاضِل بِالْحَجِّ ثَانِيًا من الْعَام الْمقبل وَهُوَ سنة خمس وَسبعين وَتمّ لَهُ فِي رُجُوعه مَا تمّ كَاتبه بِالْكتاب الَّذِي سبق ذكره يصف لَهُ مَا لَقِي فِي رُجُوعه
وَكَانَت حجَّة الْفَاضِل الأولى من مصر وَرجع إِلَى الشَّام وَكَانَت الثَّانِيَة من الشَّام وَرجع إِلَى مصر
وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْملك الْمَنْصُور حسن بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين وقبره الْقَبْر القبلي من الْقُبُور الْأَرْبَعَة بالقبة الَّتِي فِيهَا شاهنشاه بن أَيُّوب بالمقبرة النجمية بالعوينة ظَاهر دمشق
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا خَرجُوا إِلَى بعلبك لتسليمها إِلَى عز الدّين فرخشاه فسلكوا طَرِيق الرواديف وَهِي طَرِيق شاقة
وفيهَا أغار عز الدّين على صفد ثامن عشر ذِي الْقعدَة وَكَانَ قد جمع لَهُم من رجال بانياس وَمَا حولهَا وَرجع غانما سالما
قَالَ وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة أَو ثَانِيه توفّي بِبَغْدَاد الْخَلِيفَة الإِمَام المستضيء بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ واستخلف وَلَده النَّاصِر لدين الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد
وَكَانَ رَسُول السُّلْطَان ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري حَاضرا فَحَضَرَ(3/50)
وَبَايع وَأخْبر بجلية الْحَال فبادر السُّلْطَان إِلَى الْخطْبَة لَهُ فِي جَمِيع الْبِلَاد وَمضى صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل من بَغْدَاد رَسُولا إِلَى بهلوان وألزمه حَتَّى خطب بهمذان وأصفهان وعمت الدعْوَة الهادية فِي جَمِيع بِلَاد خُرَاسَان
ثمَّ لما رَجَعَ شيخ الشُّيُوخ جَاءَ إِلَيْنَا رَسُولا فِي سنة سِتّ وَسبعين وَأَخذه السُّلْطَان مَعَه إِلَى مصر وَحج مِنْهَا وَركب الْبَحْر كَمَا سَيَأْتِي ذكره
وللعماد فِي مدح الإِمَام النَّاصِر قصائد مِنْهَا قصيدة بائية مدحه بهَا سنة فتح الْقُدس وَسَيَأْتِي مِنْهَا أَبْيَات عِنْد ذكر فَتحه وَمِنْهَا
(الدَّهْر ينصرني مَا دَامَ ينسبني ... لخدمة النَّاصِر الْمَنْصُور نساب)
(بِطَاعَة النَّاصِر بن المستضيء أبي الْعَبَّاس ... أَحْمد للأيام إصحاب)
وَقَالَ مُحَمَّد بن القادسي فِي تذييل تَارِيخ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ(3/51)
مولد المستضيء ثَالِث عشري شعْبَان من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر وواحدا وَعشْرين يَوْمًا
بُويِعَ تَاسِع ربيع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَكَانَ كَرِيمًا رحوما بارا بالرعية يعْفُو عَن الجرائم الْكِبَار عادلا
ظهر يَوْم مبايعته من رد الْمَظَالِم والأملاك المقبوضة والإفراج عَن المسجونين وَإِسْقَاط الضرائب والمكوس مَا شاع واشتهر
قَالَ وَتقدم إِلَى شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم وَإِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ فَصَليَا عَلَيْهِ
ثمَّ بَايع النَّاصِر أَخُوهُ الْأَمِير أَبُو مَنْصُور هَاشم ثمَّ بَنو أَعْمَامه وخواصه ثمَّ الْوُلَاة وأرباب المناصب والأعيان والوافدون لِلْحَجِّ من بِلَاد خُرَاسَان وَغَيرهم
وَكَانَ وَالِده المستضيء قد عهد إِلَيْهِ قبل وَفَاته بِيَوْم وَاحِد
قلت كَذَا نقلته من خطه وَلَعَلَّه أَرَادَ بأسبوع وَاحِد فَسبق بِهِ قلمه فَإِن ابْن الدبيثي ذكر أَنه خطب للناصر بِولَايَة الْعَهْد يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال
ثمَّ قَالَ ابْن القادسي وَفِي سَابِع ذِي الْقعدَة قبض على صَاحب المخزن ظهير الدّين أبي بكر بن الْعَطَّار ووكل بِهِ وتتبع أَصْحَابه وَمن يتَعَلَّق بِهِ(3/52)
وَقتل النَّقِيب مَسْعُود الَّذِي كَانَ بَين يَدَيْهِ وَكَانَ أحد الأعوان بِبَاب النوبي قد نزعت الرَّحْمَة من قلبه فَقطع قطعا وربط فِي رجله حَبل وسحبته الْعَامَّة فِي الدروب ثمَّ أحرق بعد ذَلِك
قَالَ وَفِي حادي عشره حمل ابْن الْعَطَّار مَيتا وَعلم بِهِ الْعَامَّة فرجموا تابوته بالآجر فَأَلْقَاهُ الحمالون وهربوا فَأَخذه الْعَامَّة وشدوا فِي رجله شريطا وسحب فِي جَمِيع بَغْدَاد ومنافذها ودروبها ومحالها وَقطع لَحْمه قطعا
قَالَ وَتوجه شيخ الشُّيُوخ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحِيم إِلَى البهلوان بن إيلدكز شحنة همذان لأجل الْخطْبَة فتوقف عَن ذَلِك فهاجت الْعَامَّة عَلَيْهِ ووثب أهل الْمَذْكُور وخطبوا
وَجَاء كتاب شيخ الشُّيُوخ إِلَى الدِّيوَان سطرها فلَان وَالْحَال فِي الجنوح كقصة نوح من قَرَأَ السُّورَة عرف الصُّورَة
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ الغلاء وَكثر الوباء بِبَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَذكر أَن رجلا بواسط ذبح بِنْتا لَهُ وأكلها وَآخر بقر بطن صبي وَأخذ كبده وشواها وأكلها
قَالَ وَفِي رَابِع عشر ربيع الآخر زلزلت الأَرْض بعد الْعَتَمَة فَوق بِلَاد(3/53)
إربل فَلَمَّا أصبح النَّاس عَادَتْ الزلزلة فِي الْجبَال فتصادمت وَوَقع مِنْهَا الْحِجَارَة وَسَقَطت قلاع كَثِيرَة وَهَلَكت قرى بِمن فِيهَا وَكَانَ يكون بَين الْجمل والجمل عشرُون ذِرَاعا فتقذفهما الزلزلة فيتصادمان ويعودان إِلَى مكانهما
قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أَهلهَا بذلك وَكَانَت إِحْدَى الجوائح الَّتِي أَصَابَت حلب وَأَهْلهَا
قَالَ وفيهَا خرج قراقوش التقوي إِلَى طرابلس الْمغرب فَفتح بلادا وَصلى حروبا مَعَ إِبْرَاهِيم السِّلَاح دَار الَّذِي دخل بِلَاد الْمغرب أَيْضا من أَصْحَاب تَقِيّ الدّين لِأَن نَفسه أطمعته أَن يفعل فعل قراقوش فِي تملك الْبِلَاد ثمَّ أصلح بَينهمَا
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة
وفيهَا توفّي الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله بالإسكندرية وَقد زرت قَبره بهَا دَاخل الْبَاب الْأَخْضَر
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا هادن السُّلْطَان صَلَاح الدّين الفرنج وَتوجه إِلَى بلد(3/54)
الرّوم فَأصْلح بَين نور الدّين مُحَمَّد بن قَرَأَ أرسلان بن دَاوُد بن أرتق صَاحب حصن كيفا وَبَين زوج ابْنَته السُّلْطَان عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان واجتمعوا على نهر يُقَال لَهُ كوك سو وَكَثُرت ثمَّ الْهَدَايَا والدعوات والأفراح والهبات
وفيهَا دخل السُّلْطَان بِلَاد الأرمن لقلع ملكهم ابْن لاون لِأَنَّهُ كَانَ استمال قوما من التركمان حَتَّى يرعوا فِي مرَاعِي بِلَاده بالأمان ثمَّ صبحهمْ بغدره وحصلوا بأسرهم فِي أسره
فَدخل السُّلْطَان بِلَاده وأذل أعوانه وأجناده وَنصر الله الْمُسلمين بِالرُّعْبِ فَأحرق من الْخَوْف قلعة شامخة تعرف بالمانقير وبادر الْمُسلمُونَ إِلَى إِخْرَاج مَا فِيهَا من الْآلَات والغلات فَتَقووْا بهَا وتمموا هدمها إِلَى الأساس(3/55)
قَالَ ابْن أبي طي وَوجد الْمُسلمُونَ فِي أرْضهَا صهريجا مملوءا آلَات نُحَاس وَفِضة وَذهب لَهَا زمن طَوِيل
قَالَ وبذل للسُّلْطَان جملَة من المَال وَأَنه يُطلق من عِنْده من الْأُسَارَى
فَلم يرض السُّلْطَان بِمَا بذله فَزَاد فِي المَال وَأَنه يَشْتَرِي خمس مئة أَسِير من بِلَاد الفرنج ويعتقهم فَأجَاب السُّلْطَان وَأخذ مِنْهُم رهينة على ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وأذعن الأرمني وذل وَأطلق مَا بِيَدِهِ من الْأُسَارَى وَرجع السُّلْطَان مؤيدا منصورا وَوصل إِلَى حماة فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة
وَكَانَ الْجمال الوَاسِطِيّ أَبُو غَالب مُحَمَّد بن سُلْطَان بن الْخطاب المقرىء شَاهدا هَذِه الْغُزَاة فنظم قصيدة فِي السُّلْطَان مِنْهَا
(لقد جمل الله مِنْك الورى ... بأوفى مليك وَفِي هجان)
(تهش إِلَى نغمات السيوف ... فِي الْهَام لَا نغمات القيان)
(أزرت ابْن لاون لأواءه ... فأضحى بِهِ خَبرا عَن عيان)
(ودان من الذل لَا يرعوي ... حذارا من الراعفات اللدان)
(فَلَا قدم عِنْده للثبات ... وَلَيْسَ لَهُ بسطاكم يدان)(3/56)
(وأخلى لهيبتك المانقير ... وغادر للهدم تِلْكَ المباني)
(وَأرْسل بالأسراء العناة ... يسْأَل إِطْلَاقه فَهُوَ عاني)
(رتقت بعزمك والمكرمات ... فتوقا من الأرتقي الهجان)
(ورعت ابْن سلجق فِي ملكه ... فقعقع من رعبه بالشنان)
قَالَ وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى حمص وخيم بالعاصي أَتَاهُ الْفَقِيه مهذب الدّين عبد الله بن أسعد الْموصِلِي وأنشده وَله فِي السُّلْطَان مدائح مِنْهَا قصيدة غراء مطْلعهَا
(أما وجفونك المرضى الصِّحَاح ... وسكرة مقلتيك وَأَنت صاحي)
(لقد أَصبَحت فِي العشاق فَردا ... كَمَا أَصبَحت فَردا فِي الملاح)
(يهز الْغُصْن فَوق نقى ويرنو ... بِحَدّ ظبى ويبسم عَن أقاح)
(وَقد غرس الْقَضِيب على كثيب ... فأثمر بالظلام وبالصباح)
(وَمَال مَعَ الوشاة وَلَا عَجِيب ... لغصن أَن يمِيل مَعَ الرِّيَاح)
(قَطعنَا اللَّيْل فِي عتب وشكوى ... إِلَى أَن قيل حَيّ على الْفَلاح)
(ولاح الصُّبْح يَحْكِي فِي سناه ... صَلَاح الدّين يُوسُف ذَا الصّلاح)
(وَلما ضَاقَ حد عَن مداه ... لقيناه بآمال فساح)(3/57)
(فَمن هرم وَكَعب وَابْن سعدى ... رعاء الشَّاء وَالنعَم المراح)
(جواد بالبلاد وَمَا حوته ... إِذا جادوا بألبان اللقَاح)
(ليفد حَيَاء وَجهك كل وَجه ... إِذا سُئِلَ الندى جهم وقاح)
(مُلُوك جلهم مغرى بظُلْم ... ومشغول بلهو أَو مزاح)
(إِذا مَا جالت الْأَبْطَال ولى ... وَيقدم نَحْو حائلة الوشاح)
(وبون بَين مَالك بَيت مَال ... وَمَالك رق أَمْلَاك النواحي)
(هم جمعُوا وَقد فرقت لَكِن ... جمعت بِهِ الرِّجَال مَعَ السِّلَاح)
(وَمَا خضع الفرنج لديك حَتَّى ... رَأَوْا مَا لَا يُطَاق من الكفاح)
(وَمَا سألوك عقد الصُّلْح ودا ... وَلَكِن خوف معلمة رداح)
(مَلَأت بِلَادهمْ سهلا وحزنا ... أسودا تَحت غابات الرماح)(3/58)
وَقَالَ ابْن شَدَّاد لما عَاد السُّلْطَان بعد الكسرة يَعْنِي كسرة الرملة إِلَى الديار المصرية وَأقَام فِيهَا ريثما لم النَّاس شعثهم وَعلم تخبط الشَّام عزم على الْعود إِلَيْهِ وَكَانَ عوده للغزاة فوصله رسل قليج أرسلان يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ الْمُوَافقَة ويستغيث إِلَيْهِ من الأرمن
فَاشْتَمَلَ نَحْو بِلَاد ابْن لاون لنصرة قليج أرسلان عَلَيْهِ وَنزل بقراحصار وَأخذ عَسْكَر حلب فِي خدمته لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْترط فِي الصُّلْح ذَلِك واجتمعوا على نهر الْأَزْرَق بَين بهسنى وحصن مَنْصُور وَعبر مِنْهُ إِلَى النَّهر الْأسود طرف بِلَاد ابْن لاون فَأخذ مِنْهُم حصنا وأخربه وبذلوا لَهُ أُسَارَى والتمسوا مِنْهُ الصُّلْح وَعَاد عَنْهُم
ثمَّ راسله قليج أرسلان فِي صلح الشرقيين بأسرهم وَاسْتقر الصُّلْح فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَدخل فِي الصُّلْح قليج أرسلان والمواصلة وَأهل ديار بكر وَكَانَ ذَلِك على نهر سنجة(3/59)
وَهُوَ نهر يَرْمِي إِلَى الْفُرَات وَسَار السُّلْطَان نَحْو دمشق
فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل
قَالَ الْعِمَاد وَفِي أَوَائِل هَذِه السّنة توفّي صَاحب الْموصل سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي وَالسُّلْطَان مخيم على كوك سو من حُدُود بِلَاد الرّوم وَجلسَ مَكَانَهُ أَخُوهُ عز الدّين مَسْعُود بن مودود
وَجَاء رَسُول مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ الشَّيْخ الْفَقِيه فَخر الدّين أَبُو شُجَاع بن الدهان الْبَغْدَادِيّ إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يكون مَعَه كَمَا كَانَ مَعَ أَخِيه من إبْقَاء سروج والرها والرقة وحران والخابور ونصيبين فِي يَده فَلم يفعل السُّلْطَان
وَقد كَانَت لَهُ بِإِطْلَاق الْخَلِيفَة وَإِنَّمَا جعلهَا فِي يَد سيف الدّين غَازِي بالشفاعة على شَرط أَن يُقَوي السُّلْطَان بالعساكر
فَلَمَّا مَاتَ سيف الدّين كتب السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر يُعلمهُ بذلك وَأَن هَذِه الْبِلَاد لم يزل يتقوى بهَا ثغر الشَّام
ففوضت إِلَيْهِ على مَا أَرَادَ
وَكَانَ الْكتاب إِلَى صدر الدّين عبد الرَّحِيم شيخ الشُّيُوخ من إنْشَاء(3/60)
الْعِمَاد وَفِيه قد عرف اختصاصنا من الطَّاعَة والعبودية للدَّار العزيزة النَّبَوِيَّة بِمَا لم يخْتَص بِهِ أحد وامتدت الْيَد منا فِي إِقَامَة الدعْوَة الهادية بِمصْر واليمن وَالْمغْرب بِمَا لم تمتد إِلَيْهِ يَد وأزلنا من الأقاليم الثَّلَاثَة ثَلَاثَة أدعيا وخلفناهم للردى حَيْثُ دعوا بِلِسَان الغواية خلفا
وَلَا خَفَاء أَن مصر إقليم عَظِيم وبلد كريم بقيت مئتين وَخمسين سنة مضيمة وعانت كل هضيمة وعاينت كل عَظِيمَة حَتَّى أنقذها الله عز وَجل بِنَا من عبيد بني عبيد وأطلقها بمطلقات أعنتنا إِلَيْهَا من عناء كل قيد وفيهَا شيعَة الْقَوْم وهم غير مأموني الشَّرّ إِلَى الْيَوْم
وَطَوَائِف أقاليم الرّوم والفرنج من الْبر وَالْبَحْر بهَا مطيفة فَمن حَقّهَا أَن يتوفر عسكرها فَلَو حصل وَالْعِيَاذ بِاللَّه فتق لأعضل رتقه واتسع على الراقع خرقه
واحتجنا لحفظ بِلَاد الشَّام وثغور الْإِسْلَام إِلَى اسْتِصْحَاب الْعَسْكَر الْمصْرِيّ إِلَيْهَا وَله مُدَّة خمس سِنِين فِي بيكارها منتقما من كفارها متحملا لمشاقها على غلاء أسعارها
وَإِنَّمَا أحْوج إِلَى ذَلِك أَن بِلَاد هَذَا الثغر قد اقتطعت عَنهُ وعساكرها أخذت مِنْهُ وَكَانَت فِي تولي نور الدّين رَحمَه الله
ثمَّ ذكرهَا كَمَا سبق ففوضت إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي
وَقَالَ ابْن الْأَثِير توفّي سيف الدّين يَوْم الْأَحَد ثَالِث صفر سنة سِتّ وَسبعين وَكَانَ مَرضه السل وَطَالَ بِهِ
قَالَ وَمن الْعَجَائِب أَن النَّاس لما خَرجُوا يستسقون بالموصل سنة(3/61)
خمس وَسبعين للغلاء الْحَادِث فِي الْبِلَاد خرج سيف الدّين فِي موكبه فثار النَّاس وقصدوه مستغيثين بِهِ وطلبوا مِنْهُ أَن يَأْمر بِالْمَنْعِ من بيع الْخمر فأجابهم إِلَى ذَلِك
فَدَخَلُوا الْبَلَد وقصدوا مسَاكِن الخمارين وخربوا أَبْوَابهَا ونهبوها وأراقوا الْخُمُور وكسروا الْأَوَانِي وَعمِلُوا مَا لَا يحل
فاستغاث أَصْحَاب الدّور إِلَى نواب السُّلْطَان وخصوا بالشكوى رجلا من الصَّالِحين يُقَال لَهُ أَبُو الْفرج الدقاق وَلم يكن لَهُ فِي الَّذِي فعله النَّاس من النهب فعل إِنَّمَا هُوَ أراق الْخُمُور وَلما رأى فعل الْعَامَّة نَهَاهُم فَلم يسمعوا مِنْهُ
فَلَمَّا شكي أحضر بالقلعة وَضرب على رَأسه فَسَقَطت عمَامَته فَلَمَّا أطلق لينزل من القلعة نزل مَكْشُوف الرَّأْس فأرادوا تغطيته بعمامته فَلم يفعل وَقَالَ وَالله لَا غطيته حَتَّى ينْتَقم الله لي مِمَّن ظَلَمَنِي
فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى توفّي الدزدار الْمُبَاشر لأذاه ثمَّ بعقبه مرض سيف الدّين ودام مَرضه إِلَى أَن توفّي
وَكَانَ عمره نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت ولَايَته عشر سِنِين وشهورا
وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة تَامّ الْقَامَة مليح الشَّمَائِل أَبيض اللَّوْن مستدير اللِّحْيَة متوسط الْبدن بَين السمين والدقيق
وَكَانَ عَاقِلا وقورا قَلِيل الِالْتِفَات إِذا ركب وَإِذا جلس عفيفا لم يذكر عَنهُ شَيْء من الْأَسْبَاب الَّتِي تنَافِي الْعِفَّة
وَكَانَ غيورا شَدِيد الْغيرَة لم يتْرك أحدا من الخدم يدْخل دور نِسَائِهِ إِذا كبر إِنَّمَا يدْخل عَلَيْهِنَّ الخدم الصغار
وَكَانَ لَا يحب سفك الدِّمَاء وَلَا أَخذ الْأَمْوَال مَعَ شح فِيهِ
قَالَ وَلما اشْتَدَّ مَرضه أَرَادَ أَن يعْهَد بِالْملكِ لوَلَده معز الدّين سنجرشاه فخاف من ذَلِك لِأَن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب كَانَ قد(3/62)
تمكن بِالشَّام وقويت شوكته وَامْتنع أَخُوهُ عز الدّين من الإذعان والإجابة إِلَى ذَلِك فَأَشَارَ الْأُمَرَاء الْكِبَار وَمُجاهد الدّين قايماز بِأَن يَجْعَل الْملك بعده لِأَخِيهِ لما هُوَ عَلَيْهِ من كبر السن والشجاعة وَالْعقل وَقُوَّة النَّفس وَحسن سياسة الْملك وَأَن يُعْطي ابنيه بعض الْبِلَاد وَيكون مرجعهما إِلَى عَمهمَا عز الدّين ليبقى لَهما ذَلِك
فَفعل ذَلِك وَحلف النَّاس لِأَخِيهِ
فَلَمَّا توفّي سيف الدّين كَانَ مُجَاهِد الدّين هُوَ الْمُدبر للدولة والنائب فِيهَا والمرجع إِلَى قَوْله ورأيه فَركب إِلَى الْخدمَة العزية وَعَزاهُ وَركبهُ إِلَى دَار المملكة وَمَشى فِي ركابه رَاجِلا فَدَخلَهَا وَجلسَ للعزاء
وَكَانَت الرّعية تخافه قبل أَن يملك لإقدامه وجرأته وحدة كَانَت فِيهِ وَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَى أَخِيه سيف الدّين إِذا أَرَادَ أمرا فَلَمَّا تولى تَغَيَّرت أخلاقه وَصَارَ رَفِيقًا بالرعية محسنا إِلَيْهِم قَرِيبا مِنْهُم
قَالَ ابْن شَدَّاد وَفِي عَاشر الْمحرم سنة سِتّ وَسبعين بلغ الْملك الصَّالح بن نور الدّين عصيان غرس الدّين قليج بتل خَالِد فَأخْرج إِلَيْهِ الْعَسْكَر ثمَّ بلغه وَفَاة ابْن عَمه صَاحب الْموصل ثَالِث صفر
فصل فِي وَفَاة شمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان الْأَكْبَر وقدوم رسل الدِّيوَان بالتفويض إِلَى السُّلْطَان مَا طلبه
قَالَ ابْن أبي طي كَانَ السُّلْطَان قد أنفذ أَخَاهُ شمس الدولة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَجعل إِلَيْهِ ولايتها فَلَمَّا حصل بهَا لم توافقه وَكَانَ يعتاده(3/63)
القولنج فَهَلَك بِهِ وَدفن بقصر الْإسْكَنْدَريَّة
وَكَانَ أحد الأجواد الكرماء الْأَفْرَاد شجاعا باسلا عَظِيم الهيبة كَبِير النَّفس وَاسع الصَّدْر ممدحا فِيهِ يَقُول ابْن سَعْدَان الْحلَبِي من قصيدة
(هُوَ الْملك إِن تسمع بكسرى وَقَيْصَر ... فَإِنَّهُمَا فِي الْجُود والبأس عبداه)
(وَمَا حَاتِم مِمَّن يُقَاس بِمثلِهِ ... فَخذ مَا رَأَيْنَاهُ ودع مَا روينَاهُ)
(ولذ بذراه مستجيرا فَإِنَّهُ ... يجيرك من جور الزَّمَان وعدواه)
(فَلَا تتحمل للسحائب منَّة ... إِذا هطلت جودا سحائب جدواه)
(وَيُرْسل كفيه بِمَا اشتق مِنْهُمَا ... فلليمن يمناه ولليسر يسراه)
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي الْمحرم توفّي بثغر الْإسْكَنْدَريَّة تورانشاه أَخُو صَلَاح الدّين وَوصل الْخَبَر بذلك إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ نَازل بِظَاهِر حمص فَحزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا وَجعل يكثر إنشاد أَبْيَات المراثي وَكَانَ كتاب الحماسة من حفظه وَكَانَ صَلَاح الدّين لما ملك مصر أرْسلهُ إِلَى الْيمن فملكها ثمَّ استناب فِيهَا وَقدم الشَّام سنة إِحْدَى وَسبعين فَلَمَّا وصل تيماء جَاءَ مِنْهُ كتاب وَفِيه أَبْيَات لشاعره ابْن المنجم مِنْهَا
(فَهَل لأخي بل مالكي علم أنني ... إِلَيْهِ وَإِن طَال التَّرَدُّد رَاجع)
(وَإِنِّي بِيَوْم وَاحِد من لِقَائِه ... لملكي على عظم المزية بَائِع)
(وَلم يبْق إِلَّا دون عشْرين لَيْلَة ... وتجني المنى أبصارنا والمسامع)
(لَدَى ملك تعنو الْمُلُوك إِذا بدا ... وتخشع إعظاما لَهُ وَهُوَ خاشع)(3/64)
(كتبت وأشواقي إِلَيْك بِبَعْضِهَا ... تعلمت النوح الْحمام السواجع)
(وَمَا الْملك إِلَّا رَاحَة أَنْت زندها ... تضم على الدُّنْيَا وَنحن الْأَصَابِع)
قلت وقبر تورانشاه الْآن بالتربة الحسامية بالعوينة ظَاهر دمشق نقلته إِلَيْهَا أُخْته سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب وَبنت الْقبَّة عَلَيْهِ وعَلى زَوجهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه وَهُوَ ابْن عَمها وعَلى قبرها وقبر ابْنهَا حسام الدّين عمر بن لاجين وَسَيَأْتِي ذكره وَإِلَيْهِ تنْسب التربة فَهِيَ ثَلَاثَة قُبُور القبلي لتورانشاه والأوسط لِابْنِ شيركوه والشامي لست الشَّام وَابْنهَا رَحِمهم الله
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي رَجَب وصلت رسل الدِّيوَان الْعَزِيز الناصري صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحِيم وَمَعَهُ شهَاب الدّين بشير الْخَاص بالتفويض والتقليد والتشريف الْجَدِيد فتلقيناهم بالتعظيم(3/65)
والتمجيد وَركب السُّلْطَان للتلقي وعَلى صفحاته بشائر الترقي فَلَمَّا ترَاءى لَهُ الرُّسُل الْكِرَام وَوَجَب لَهُ الإجلال والإعظام نزل وترجل وَأبْدى الخضوع وتوجل وَنزل الرُّسُل إِلَيْهِ وسلموا عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ فَتقبل الْفَرْض وَقبل الأَرْض ثمَّ ركبُوا ودخلوا الْمَدِينَة
قَالَ ابْن أبي طي وَكَانَت هَذِه أول خلعة قدمت من الإِمَام النَّاصِر على الْملك النَّاصِر وَكَانَت ثوب أطلس أسود وَاسع الْكمّ مَذْهَب وبقيار أسود مَذْهَب وطيلسان أسود مَذْهَب ومشدة سَوْدَاء مذهبَة وطوق وتخت وسرفسار وجواد كميت من مراكب الْخَلِيفَة عَلَيْهِ سرج أسود وسلال أسود وطوق مجوهر وقصبة ذهب وَعلم أسود وعدة خُيُول وبقج وَركب السُّلْطَان بالخلعة وزينت لَهُ دمشق وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما
قَالَ الْعِمَاد وظفر السُّلْطَان من صدر الدّين بصديق صَدُوق وَكَانَ قد عزم على قصد الديار المصرية وسلوك طَرِيق أَيْلَة والبرية فَحسن لشيخ الشُّيُوخ مصاحبته ورغبه فِي زِيَارَة قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ قد عزمت فِي هَذِه السّنة على الْحَج فَأصل مَعكُمْ إِلَى الْقَاهِرَة بِشَرْط إِقَامَة يَوْمَيْنِ وَلَا أدخلها وَإِنَّمَا أسكن بالتربة الشَّافِعِيَّة وأسير مِنْهَا إِلَى بَحر عيذاب(3/66)
فلعلي أدْرك صَوْم رَمَضَان بِمَكَّة
فالتزم لَهُ ذَلِك وَأعَاد أَصْحَابه إِلَى بَغْدَاد ليأتوه من طريقها إِلَى الْحجاز وَرجع شهَاب الدّين بشير فِي جَوَاب رسَالَته وَمَعَهُ رَسُوله ضِيَاء الدّين الشهرزوري وَأَنْشَأَ الْعِمَاد كتابا فِي الْجَواب إِلَى الدِّيوَان وَفِيه وَقد توجه الْخَادِم إِلَى الديار المصرية لتجديد النّظر فِيهَا ثمَّ يستخير الله فِي الْحَج وأدائه وَيعود إِلَى مجاهدة أعدائه
فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر مرّة ثَانِيَة
قَالَ الْعِمَاد وَلما عزم السُّلْطَان على الرحيل استناب بِالشَّام ابْن أَخِيه عز الدّين فرخشاه وَكَانَ عَزِيز الْمثل غزير الْفضل
وَقَالَ فِيهِ الْعِمَاد عِنْد توديعه قصيدة مِنْهَا
(أسأَل الله ذَا الْعلَا أَن تعيشا ... ألف عَام لنصره مستجيشا)
وَمِنْهَا
(مَا أكدي شَيْئا سوى فَرْوَة مِنْك ... وأبغي لسفرتي إكديشا)(3/67)
(كَيفَ يَخْلُو من دفء ظهر وَظهر ... سالك طرق أَيْلَة والعريشا)
ووقفت على ثَلَاثَة كتب للفاضل عَن الْملك الْعَادِل إِلَى الْوُلَاة بِالْيمن يعلمهُمْ أَن مُلُوك الشرق قد دخلُوا فِي طَاعَة السُّلْطَان وَأَنه عازم على الْقدوم إِلَى مصر وَصَوْم رَمَضَان بهَا وَالْحج إِلَى بَيت الله الْحَرَام مِنْهَا وَيَأْمُرهُمْ بالاستكثار مِمَّا يحمل لأَجله إِلَى مَكَّة من المَال والأزواد وَالْخلْع مِمَّا تشْتَمل عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَال
ووقفت على كتابين أُخْرَيَيْنِ أَحدهمَا إِلَى أَمِير مَكَّة وَالْآخر إِلَى أَمِير يَنْبع يعلمهما بذلك ليتأهبا لقدومه
ووقفت على كتاب سادس للفاضل إِلَى السُّلْطَان فِي ذَلِك يَقُول فِيهِ جعل الله الْمُلُوك ذمَّة لسيفه وشرد مَنَام الْأَعْدَاء مِنْهُم بطيفه وَأمن أهل الْإِسْلَام بعدله من جور الدَّهْر وحيفه وأشهده موقف الْحَج الْأَكْبَر وزان بمحضره مشْهد خيفه وَجعل وفده الأكرم وضيف بَيته منتظمين فِي هَذِه السّنة فِي وفده وضيفه
ثمَّ هنأه بِمَا فتح الله عَلَيْهِ من محبَّة الْجِهَاد وَمَا أَثَره فِي بِلَاد الأرمن وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَمَا تبع ذَلِك من نِيَّة الْحَج بلغه الله مِنْهُ المُرَاد(3/68)
وَدخُول السُّلْطَان بِلَاد الأرمن كَانَ فِي هَذِه السّنة كَمَا سبق فَلَعَلَّهُ سنح لَهُ الْحَج مَعَ شيخ الشُّيُوخ ثمَّ حصل لَهُ مَا مَنعه مِنْهُ
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان إِلَى مصر يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشر رَجَب وَمَعَهُ صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ كَمَا ذكر وَتوجه مِنْهَا إِلَى مَكَّة على الْبَحْر فَأدْرك الصَّوْم
قَالَ الْعِمَاد ووصلنا إِلَى الْقَاهِرَة على طَرِيق أَيْلَة ثَالِث عشر شعْبَان واستقبلنا أَهلهَا ولقينا الأكابر والأعيان وَالْملك الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان حِينَئِذٍ بهَا نَائِبه وتلقتنا مواكبه ومواهبه وخدمته بقصيدة ذكرت فِيهَا الْمنَازل والمناهل من يَوْم الرحيل من دمشق إِلَى الْوُصُول بِالْقَاهِرَةِ مِنْهَا
(أحبة قلبِي طَال ليلِي بعدكم ... أسى فَمَتَى ألْقى بوجهكم الفجرا)
(فقدت حَياتِي مذ فقدت لقاءكم ... فَهَل لحياتي مِنْكُم نشأة أُخْرَى)
(أجيران جيرون المجيرين جارهم ... من الْجور حوزوا فِي مشوقكم الأجرا)
(محبكم قد خانه الصَّبْر فَاطْلُبُوا ... محبا سواهُ عَنْكُم يحسن الصبرا)
(ومذ غبت عَن مقرى مقري قد نبا ... سقى ورعى رَبِّي مقري فِي مقرى)
(أحن إِلَى عذرا وعذري وَاضح ... لِأَن الْهوى العذري مني فِي عذرا)(3/69)
(إِن الْقدر المحتوم من جلق بِنَا ... إِلَى مصر أسرى فالقلوب بهَا أسرى)
(رحلنا فَمَا باحت بأسرارنا سوى ... عبارَة عين خوف يَوْم النَّوَى عبرى)
(تركنَا دمشقا والجنان وَرَاءَنَا ... وقدامنا بالكسوة الرّفْقَة السفرا)
(وَجِئْنَا إِلَى المرج الَّذِي طَابَ نشره ... فَلَا زَالَ من أحبابنا طيبا نشرا)
(رحلنا بمرج الصفر العيس غدْوَة ... فسارت وحطت فِي محجتها ظهرا)
(وَقد قطعت تبنى إِلَى الدَّيْر بعْدهَا ... وَمَا عرست حَتَّى أناخت على بصرى)
(نزلنَا الدناح والجلاعب بعْدهَا ... وبعدهما غدر البشامية الغزرا)
(وَرَأس الحسا والقريتين وَكلهَا ... موارد فِيهَا السحب قد غادرت غدرا)
(وردنا من الزَّيْتُون حسمى وأيلة ... وجزنا عقَابا كَانَ مسلكها وعرا)
(إِلَى قلتة الرَّاعِي إِلَى نابع إِلَى ... جراول فالنخل الَّذِي لم يزل قفرا)
(إِلَى منزل فِي رَوْضَة الْجمل اغتدت ... بِهِ عيسنا فِي صدر شَارِحه صَدرا)
(وَدون حثا لما حثثنا رِكَابنَا ... عُيُون لمُوسَى لم يزل مَاؤُهَا مرا)
(هُنَاكَ تلقانا الْوُفُود ببرهم ... فسروا بِنَا نفسا وَزَادُوا بِنَا بشرا)(3/70)
(قَطعنَا إِلَى بَحر الندى بَحر قلزم ... وَمن قَصده بَحر الندى يقطع البحرا)
(عبرنا إِلَى من كاثر الرمل جوده ... وجزنا إِلَيْهِ ذَلِك الرمل والجسرا)
(وَلم يرونا مَاء الثماد بعجرد ... وَلم يقتنع بالقل من يأمل الكثرا)
(وَجِئْنَا البويب والمصانع قبله ... إِلَى بركَة الْجب الَّتِي قربت مصرا)
(إِلَى عَزمَة فِي الْمجد غير قَصِيرَة ... وَكَانَ قصارى أمرنَا أَن نرى القصرا)
(وَلما نزلنَا مصر فِي شهر طوبة ... وردنا بكف الْعَادِل النّيل فِي مسرى)
(غَدا قاصرا عَن قصره قصر قَيْصر ... وإيوان كسْرَى عِنْد إيوانه كسرا)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة بِمصْر عربت كتاب كيمياء السَّعَادَة تصنيف الإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ فِي مجلدين وفزت من تعريبه وَعلم مَا فِيهِ بسعادتين وَذَلِكَ بِأَمْر فاضلي لزمني امتثاله وشملني فِي إِتْمَامه إقباله
قَالَ وفيهَا فِي خَامِس عشر شَوَّال توفّي صَاحِبي الْمُعْتَمد إِبْرَاهِيم بِدِمَشْق وَأَنا بِمصْر
قلت وَهَذَا غير وَالِي دمشق الْمَعْرُوف بالمبارز إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ويلقب أَيْضا بالمعتمد(3/71)
ورثى الْعِمَاد صَاحبه بقصيدة مِنْهَا
(أرى الْحزن لَا يجدي على من فقدته ... وَلَو كَانَ فِي حزني مزِيد لزدته)
(تَغَيَّرت الْأَحْوَال بعْدك كلهَا ... فلست أرى الدُّنْيَا على مَا عهدته)
(عقدت بك الآمال بالنجح واثقا ... فَحلت يَد الأقدار مَا قد عقدته)
(وَكَانَ اعتقادي أَنَّك الدَّهْر مسعدي ... فخانتني الْأَيَّام فِيمَا اعتقدته)
(أردْت لَك الْعُمر الطَّوِيل فَلم يكن ... سوى مَا أَرَادَ الله لَا مَا أردته)
(وداع دَعَاني باسمه ذَاكِرًا لَهُ ... فأطربني ذكر اسْمه فاستعدته)
(فقدت أحب النَّاس عِنْدِي وَخَيرهمْ ... فَمن لائمي فِيهِ إِذا مَا نشدته)
قَالَ ورثيته ببيتين وَذكرت العناصر الْأَرْبَعَة فِي وَاحِد مِنْهُمَا
(لهفي على من كَانَ صبحي وَجهه ... فعدمت حِين عدمته أنواره)
(سكن التُّرَاب وغاض مَاء حَيَاته ... مذ أطفات ريح الْمنية ناره)
قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة سَافر قراقوش إِلَى قابس
فَذكر محاصرته لجملة من القلاع وَقَتله جمَاعَة من البربر وَمِمَّا ذكره أَنه أسر جمَاعَة على حصن وَأمر بِقَتْلِهِم وَفِيهِمْ صبي أَمْرَد فبذل فِيهِ أهل القلعة عشرَة آلَاف دِينَار على أَن لَا يقْتله فَأبى فزادوه إِلَى مئة ألف فَأبى وَقَتله(3/72)
فَمَا استتم قَتله حَتَّى نزل شيخ من القلعة وَمَعَهُ مفاتيحها وقدمها لقراقوش فَسَأَلَهُ عَن الْخَبَر فَقَالَ هَذَا الصَّبِي الَّذِي قَتله وَلَدي وَلم يكن لي سواهُ ولأجله كنت أحفظ هَذِه القلعة فَلَمَّا قتلته علمت إِن بقيت هَذِه القلعة بيَدي ومت صَارَت إِلَى أَوْلَاد أخي وَأَنا أبْغضهُم
فَرده إِلَى القلعة وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بِالْقَاهِرَةِ وَقد عين لسَمَاع الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة بِقِرَاءَة الإِمَام تَاج الدّين البندهي المَسْعُودِيّ ميقاتا وَجمع بِهِ(3/73)
من الْعلم وَالْعُلَمَاء عِنْده أشتاتا
وَورد كتاب عز الدّين فرخشاه من الشَّام يذكر مَا من الله بِهِ على الْأَنَام من الإنعام بِكَثْرَة ولادَة التوأم فِي ذَلِك الْعَام وجبر الله بِهِ مَا كَانَ قبله من الوباء وتفاءلوا بِالْخصْبِ بعد الجدب والغلاء
قَالَ وَدخلت الْحمام الَّذِي بناه زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن نجا الْوَاعِظ فِي دَاره خَارج بَاب زويلة بِالْقَاهِرَةِ فِي ذِي الْقعدَة فَقلت
(مَا منزل من يرى فِيهِ ... غير عَار فعار)
(بِهِ تماط الأذايا ... وترخص الأوضار)
(والعيش فِيهِ قَرَار ... والطيش فِيهِ وقار)
(والسبت فِي كل يَوْم ... لمن يرى مُخْتَار)
(نَار تطيب أَلا اعْجَبْ ... لجنة هِيَ نَار)
وَله فِيهِ
(ومنزل يدْخلهُ ... لشغله كل أحد)
(يُوجد فِيهِ السبت فِي ... كل خَمِيس وَأحد)(3/74)
فصل فِي ذكر وَفَاة الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين رحمهمَا الله وَمَا تمّ فِي بِلَاده بعده وَذَلِكَ بحلب
قَالَ ابْن شَدَّاد وَكَانَ مَرضه بالقولنج وَكَانَ أول مَرضه فِي تَاسِع رَجَب وَفِي الثَّالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ أغلق بَاب قلعة حلب لشدَّة مَرضه واستدعى الْأُمَرَاء وَاحِدًا وَاحِدًا واستحلفوا لعز الدّين صَاحب الْموصل
وَفِي الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ توفّي رَحمَه الله وَكَانَ لمَوْته وَقع عَظِيم فِي قُلُوب النَّاس
وَقَالَ ابْن أبي طي كَانَ سَبَب مَوته أَن علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر سقَاهُ سما فِي عنقود عِنَب وَهُوَ فِي الصَّيْد
وَقيل الَّذِي سقَاهُ ياقوت الْأَسدي فِي شراب
وَقيل إِنَّه أطْعمهُ خشكنانكه وَهُوَ فِي الصَّيْد
قَالَ وَدفن بالْمقَام الْكَبِير الَّذِي فِي القلعة وحزن النَّاس لَهُ حزنا عَظِيما وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وألبقهم أعطافا
قلت وَبَلغنِي أَنه كَانَ يُقَال إِن موت الْملك الصَّالح صَغِيرا كَانَ من(3/75)
كرامات نور الدّين رَحمَه الله فَإِنَّهُ سَأَلَ الله تَعَالَى أَلا يعذب شَيْئا من أَجْزَائِهِ بالنَّار وَولده جزؤه فَمَاتَ قبل أَن يطول عمره على أحسن سيرة وَحَالَة رحمهمَا الله
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلم يبلغ عشْرين سنة وَلما اشْتَدَّ مَرضه وصف لَهُ الْأَطِبَّاء شرب الْخمر تداويا بهَا فَقَالَ لَا أفعل حَتَّى استفتي الْفُقَهَاء
وَكَانَ عِنْده عَلَاء الدّين الكاساني الْفَقِيه الْحَنَفِيّ بِمَنْزِلَة كَبِيرَة يعْتَقد فِيهِ اعتقادا حسنا ويكرمه فاستفتاه فأفتاه بِجَوَاز شربهَا
فَقَالَ لَهُ يَا عَلَاء الدّين إِن كَانَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قرب أَجلي هَل يُؤَخِّرهُ شرب الْخمر قَالَ لَا وَالله
قَالَ وَالله لَا لقِيت الله تَعَالَى وَقد اسْتعْملت مَا حرمه عَليّ
قلت يحْتَمل أَنه ذكر لَهُ أَن من الْعلمَاء من ذهب إِلَى جَوَاز ذَلِك لَا أَنه كَانَ يرى ذَلِك فَإِن مذْهبه بِخِلَافِهِ وَالله أعلم(3/76)
ثمَّ قَالَ ابْن الْأَثِير فَلَمَّا أيس من نَفسه أحضر الْأُمَرَاء كلهم وَسَائِر الأجناد واستحلفهم لِابْنِ عَمه أتابك عز الدّين وَأمرهمْ بِتَسْلِيم مَمْلَكَته جَمِيعهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم إِن ابْن عمك عز الدّين لَهُ الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد من همذان إِلَى الْفُرَات فَلَو أوصيت بحلب لِابْنِ عمك عماد الدّين لَكَانَ أحسن ثمَّ هُوَ تربية والدك وَزوج أختك وَهُوَ أَيْضا عديم الْمثل فِي الشجَاعَة وَالْعقل وَالتَّدْبِير وَشرف الأعراق وطهارة الْأَخْلَاق والخلال الَّتِي تفرد بهَا
فَقَالَ إِن هَذَا لم يغب عني وَلَكِن قد علمْتُم تغلب صَلَاح الدّين على عَامَّة بِلَاد الشَّام سوى مَا بيَدي وَمَعِي فَإِن سلمت حلب إِلَى عماد الدّين يعجز عَن حفظهَا من صَلَاح الدّين وَإِن ملكهَا صَلَاح الدّين فَلَا يبْقى لأهلنا مَعَه مقَام وَإِذا سلمتها إِلَى عز الدّين أمكنه أَن يحفظها لِكَثْرَة عساكره وبلاده وأمواله
فَاسْتحْسن الْحَاضِرُونَ قَوْله وَعَلمُوا صِحَّته وعجبوا من جودة رَأْيه مَعَ شدَّة مَرضه وَمن أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم
فَلَمَّا توفّي أرسل دزدار حلب وَهُوَ شاذبخت وَسَائِر الْأُمَرَاء إِلَى أتابك عز الدّين يَدعُونَهُ إِلَى حلب ليسلموها إِلَيْهِ فورد الْخَبَر وَمُجاهد الدّين قايماز قد سَار إِلَى ماردين لمهم عرض فلقي القاصدين عِنْدهَا فأخبروه الْخَبَر فَسَار إِلَى الْفُرَات وَأرْسل إِلَى أتابك عز الدّين يعرفهُ الْحَال وَيُشِير بتعجيل الْحَرَكَة وَأقَام(3/77)
على الْفُرَات ينتظره وَسَار أتابك مجدا فَلَمَّا وصل إِلَى الْمنزلَة الَّتِي بهَا مُجَاهِد الدّين أَقَامَ مَعَه وَأرْسل إِلَى حلب يستحضر الْأُمَرَاء فَحَضَرُوا كلهم عِنْده وجددوا الْيَمين لَهُ فَسَار حِينَئِذٍ إِلَى حلب ودخلها وَكَانَ يَوْمًا مشهودا
وَلما عبر الْفُرَات كَانَ تَقِيّ الدّين عمر بن أخي صَلَاح الدّين بِمَدِينَة منبج فَسَار عَنْهَا هَارِبا إِلَى مَدِينَة حماة وثار أهل حماة وَنَادَوْا بشعار أتابك
وَكَانَ صَلَاح الدّين بِمصْر فَأَشَارَ عَسْكَر حلب على عز الدّين بِقصد دمشق وأطمعوه فِيهَا وَفِي غَيرهَا من الْبِلَاد الشامية وأعلموه محبَّة أَهلهَا للبيت الأتابكي فَلم يفعل وَقَالَ بَيْننَا يَمِين فَلَا نغدر بِهِ
وَأقَام بحلب عدَّة شهور ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى الرقة فَأَقَامَ بهَا وجاءته رسل أَخِيه عماد الدّين يطْلب مِنْهُ أَن يسلم إِلَيْهِ حلب وَيَأْخُذ عوضهَا \ مَدِينَة سنجار فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك ولج عماد الدّين وَقَالَ إِن سلمتم إِلَيّ حلب وَإِلَّا سلمت أَنا سنجار إِلَى صَلَاح الدّين فَأَشَارَ حِينَئِذٍ الْجَمَاعَة بتسليمها إِلَيْهِ وَكَانَ أَكْثَرهم فِي ذَلِك مُجَاهِد الدّين قايماز فَإِنَّهُ لج فِي تَسْلِيمهَا إِلَى عماد الدّين وَلم يُمكن أتابك عز الدّين مُخَالفَته لتمكنه فِي الدولة وَكَثْرَة عساكره وبلاده فوافقه وَهُوَ كَارِه فَسلم حلب إِلَى أَخِيه وتسلم سنجار وَعَاد إِلَى الْموصل
وَكَانَ صَلَاح الدّين بِمصْر وَقد أيس من الْعود إِلَى الشَّام فَلَمَّا بلغه ذَلِك برز عَن الْقَاهِرَة إِلَى الشَّام فَلَمَّا سمع أتابك عز الدّين بوصول(3/78)
صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام جمع عساكره وَسَار عَن الْموصل خوفًا على حلب من صَلَاح الدّين
فاتفق أَن بعض الْأُمَرَاء الأكابر مَال إِلَى صَلَاح الدّين وَعبر الْفُرَات إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى أتابك ذَلِك لم يَثِق بعده إِلَى أحد من أمرائه إِذْ كَانَ ذَلِك الْأَمِير أوثقهم فِي نَفسه فَعَاد إِلَى الْموصل
وَعبر صَلَاح الدّين الْفُرَات وَملك الْبِلَاد الجزرية ونازل الْموصل فَلم يتَمَكَّن من النُّزُول عَلَيْهَا وَعَاد إِلَى حلب وحصرها فسلمها عماد الدّين إِلَيْهِ وَسبب ذَلِك أَن عز الدّين لما تسلم حلب لم يتْرك فِي خزائنها من السِّلَاح وَالْأَمْوَال شَيْئا إِلَّا نَقله إِلَى الْموصل وتسلمها عماد الدّين وَهِي كَمَا يُقَال بطن حمَار فَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي تَسْلِيمهَا لصلاح الدّين وَأخذ عوضهَا سنجار والخابور ونصيبين وسروج والرقة وَغير ذَلِك
قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما توفّي الْملك الصَّالح سارعوا إِلَى إِعْلَام عز الدّين مَسْعُود بن قطب الدّين بذلك وَبِمَا جرى لَهُ من الْوَصِيَّة إِلَيْهِ وتحليف النَّاس لَهُ فسارع سائرا إِلَى حلب مبادرا خوفًا من السُّلْطَان فَكَانَ أول قادم من أمرائه إِلَى حلب مظفر الدّين بن زين الدّين وَصَاحب سروج وَوصل مَعَهُمَا من حلف جَمِيع الْأُمَرَاء لَهُ وَكَانَ وصولهم فِي ثَالِث شعْبَان(3/79)
وَفِي الْعشْرين مِنْهُ وصل عز الدّين إِلَى حلب وَصعد القلعة وَاسْتولى على خزائنها وذخائرها وَتزَوج أم الْملك الصَّالح فِي خَامِس شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة
ثمَّ أَقَامَ عز الدّين بقلعة حلب إِلَى سادس عشر شَوَّال وَعلم أَنه لَا يُمكنهُ حفظ الشَّام مَعَ الْموصل لِحَاجَتِهِ إِلَى مُلَازمَة الشَّام لأجل السُّلْطَان وألح عَلَيْهِ الْأُمَرَاء فِي طلب الزِّيَادَات وَرَأَوا أنفسهم أَنهم قد اختاروه وضاق عطنه
وَكَانَ صَاحب أمره مُجَاهِد الدّين قايماز وَكَانَ ضيق العطن لم يعْتد مقاساة أُمَرَاء الشَّام فَرَحل من حلب طَالب الرقة وَخَلفه وَلَده ومظفر الدّين بن زين الدّين بهَا فَأتى الرقة ولقيه أَخُوهُ عماد الدّين عَن قَرَار بَينهمَا وَاسْتقر مقايضة حلب بسنجار وَحلف عز الدّين لِأَخِيهِ عماد الدّين على ذَلِك فِي حادي عشر شَوَّال وَسَار من جَانب عماد الدّين من تسلم حلب وَمن جَانب عز الدّين من تسلم سنجار وَفِي ثَالِث عشر الْمحرم سنة ثَمَان وَسبعين صعد عماد الدّين قلعة حلب
قلت ووقفت على كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين(3/80)
فرخشاه وَهُوَ نَائِبه دمشق وقفنا على كِتَابه وَعلمنَا مَا تجدّد من الْخَبَر بِمَرَض الْملك الصَّالح واشتداد حَاله وَانْقِطَاع الدَّاخِل عَلَيْهِ
ثمَّ أَشَارَ بتنفيذ عَسْكَر إِلَى جِهَة أَخِيه تَقِيّ الدّين على إِظْهَار قَاعِدَة النّظر فِي الْقَضِيَّة يالحادثة بَين أهل ديار بكر وَابْن قرا أرسلان والتوجه لفصلها قَالَ فَيكون ظَاهر حَرَكَة الْعَسْكَر لهَذَا السَّبَب الْمُتَقَدّم وباطنها لهَذَا السَّبَب الْمُتَأَخر
وَقد كُوتِبَ الْوَلَد تَقِيّ الدّين أَن يتَوَجَّه إِلَى منبج على الظَّاهِر وَالْبَاطِن الْمَذْكُورين وَأَن يحفظ الْمَغَازِي ويرابط الْفُرَات وَيمْنَع المعابر وَلنَا بالس وقلعة جعبر ومنبج وتل بَاشر وَهِي جُمْهُور الطّرق بل كلهَا وَقد أوعزنا إِلَى تَقِيّ الدّين بِأَن يكون حمام حماة فِي حلب وحمام دمشق فِي حماة
وَإِلَى الْأَجَل نَاصِر الدّين بِأَن يكون حمام دمشق فِي حمص وحمام حمص فِي حلب
وولدنا عز الدّين يُؤمر بِأَن يكون حمام بصرى فِي دمشق
وَقد بعثنَا نجابين يكونُونَ منبجين ببصرى فَإِن تحققت الْوَفَاة فَنحْن أسبق إأليكم من الْجَواب قولا وفعلا ووعدا ونجحا فالعلة مزاحة والعساكر مستريحة وَالظّهْر قد استعد والمصلحة فِي الْحَرَكَة ظَاهِرَة وحجج انتقاد المنتقدين فِي هَذِه الْقَضِيَّة سَاقِطَة
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ قصد السُّلْطَان إصْلَاح حَال الْملك الصَّالح وَأَنه الْقَائِم مقَام أَبِيه فصده عَنهُ مماليكه فَأخذت بِلَاده بلجاجهم ومرضت دولته لسوء علاجهم فَامْتنعَ بحلب إِلَى أَن توفّي
وَوصل ابْن عَمه عز الدّين(3/81)
مَسْعُود صَاحب الْموصل إِلَى حلب فَجمع ظَاهره وباطنه وَأخذ خزائنه واستخرج دفائنه وأخلى كنائنه ثمَّ إِنَّه عرف أَنه لَا يسْتَقرّ لَهُ بهَا أَمر فَرغب أَخَاهُ عماد الدّين تزنكي صَاحب سنجار فِي تعويضها لَهُ بحلب فَمَال إِلَى بذله وَرغب
وَلما سمع السُّلْطَان فِي مصر بوفاة الْملك الصَّالح تحرّك عزمه وَنَدم على النزوح من الشَّام مَعَ قرب هَذَا المرام فَكتب إِلَى ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وَهُوَ يتَوَلَّى لَهُ المعرة وحماة وَأمره بالتأهب والنهوض وَكَذَلِكَ شحذ عزائم نوابه بِالشَّام بتجديد المكاتبات لَهُم وبعثهم على الاستعداد وَحَملهمْ
وَكَانَ نَائِبه بِدِمَشْق ابْن أَخِيه عز الدّين مزخشاه قد نَهَضَ فِي مُقَابلَة الفرنج بالكرك فَإِن الإبرنس الكركي كَانَ يحدث نَفسه بِقصد تيماء فِي الْبَريَّة فَمَا زَالَ فرخشاه فِي مُقَابلَته حَتَّى نكص اللعين على عَقِبَيْهِ ذليلا وَلم يجد إِلَى مَا حدثته بِهِ نَفسه سَبِيلا فَعرف السُّلْطَان اشْتِغَاله بِهَذَا المهم
فَكتب كتابا بشرح الْحَال إِلَى بَغْدَاد بِاللَّفْظِ الْعِمَادِيّ يَقُول فِيهِ وشاع الْخَبَر بغارة فرنج أنطاكية على حارم وَأتوا من السَّبي والنهب بالعظائم وشاع أَيْضا أَن عَسْكَر حلب أغار على الراوندان وَهِي فِي عَملنَا ورسولهم عِنْد الفرنج يستنجد بهم ويغريهم بِنَا وَقد راسلوا الحشيشية وَالْمرَاد من الرسَالَة(3/82)
غير خَافَ وَالْعلم بالمعتاد مِنْهُ كَاف
وَابْن أخينا غَائِب فِي أقْصَى بِلَاد الفرنج فِي أول بَريَّة الْحجاز فَإِن طاغية مِنْهُم جمع خيله وَرجله وحدثته نَفسه الخبيثة بِقصد تيماء وَهِي دهليز الْمَدِينَة على ساكنها السَّلَام واغتنم كَون الْبَريَّة معشبة مخصبة فِي هَذَا الْعَام
وَالْعجب أَنا نحامي عَن قبر النَّبِي صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه مشتغلين بمهمه وَالْمَذْكُور يَعْنِي صَاحب الْموصل يُنَازع فِي ولَايَة هِيَ لنا ليأخذها بيد ظلمه وَكم بَين من يحارب الْكفْر وَيحمل إِلَيْهِم قواصم الْآجَال وَبَين من يتخذهم بطانة دون الْمُؤمنِينَ وَيحمل إِلَيْهِم كرائم الْأَمْوَال
هَذَا مَعَ مَا نعد فِي الْملَّة الحنيفية والدولة الهادية العباسية من آثَار لَا يعد مثلهَا أَولا لأبي مُسلم لِأَنَّهُ أقدم ثمَّ خام ووالى ثمَّ ولى وَلَا آخرا لطغرلبك فَإِنَّهُ نصر وَنصب ثمَّ حجر وحجب وَقد عرف(3/83)
مَا فضلنَا الله بِهِ عَلَيْهِمَا فِي نصر الدولة وَقطع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وتطهير المنابر من رِجْس الأدعياء وَلم نَفْعل مَا فعلنَا لأجل الدُّنْيَا غير أَن التحدث بِنِعْمَة الله وَاجِب والتبجح بِالْخدمَةِ الشَّرِيفَة والافتخار بالتوفيق فِيهَا على السجية غَالب
وَلَا غنى عَن بروز الْأَوَامِر الشَّرِيفَة إِلَى الْمَذْكُور بِأَن يلْزم حَده وَلَا يتَجَاوَز حَقه فَإِن دُخُول الْأَيْدِي الْمُخْتَلفَة عَن الْأَعْدَاء المتفقة شاغل وَيحْتَاج إِلَى مغرم ينْفق فِيهِ الْعُمر بِغَيْر طائل فَإِن الْأَعْمَال تمر مر السَّحَاب والفرص تمض ومض السراب
وبقاؤنا فِي هَذِه الدَّار الْقَلِيل اللّّبْث الْقصير الْمكْث نؤثر أَنْت نغتنمه فِي مجاهدة الْعَدو الْكَافِر الَّذِي صَار بِهِ الْبَيْت الْمُقَدّس محلا للأرجاس وَمَضَت عَلَيْهِ دهور وملوك لم يحصلوا من رَجَاء تَطْهِيره إِلَّا على الياس وَإِن كَانَ الْقَوْم قد بذلوا للدَّار العزيزة بذولا معارة فقد أسلف الْخَادِم خدمات لَيست بعوار فَإِنَّهُم لَو بذلوا بِلَادهمْ كلهَا مَا وفت بِفَتْح مصر الَّتِي رجل بهَا أسامي الأدعياء الراكبة أعوادها وَأعَاد إِلَى عينهَا بعد بَيَاض عماها من نور الشعار العباسي سوادها فَإِن اقْتَضَت الْأَوَامِر الشَّرِيفَة أَن يوعز للمذكور فِي حلب بتقليد فَالْأولى أَن يُقَلّد الْجَمِيع فَلَا رَغْبَة فِيمَا لَا يُؤمن مَعَه شَرّ الشَّرِيك ولمالك الْأَمر الحكم فِي ممالك المماليك
وَكَانَ فِي الْكتاب أَيْضا مَا مَعْنَاهُ إِن حلب من جملَة الْبِلَاد الَّتِي اشْتَمَل(3/84)
عَلَيْهَا تَقْلِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء بِأَمْر الله لَهُ وَإِنَّمَا تَركهَا فِي يَد ابْن نور الدّين لأجل أَبِيه والآن فَليرْجع كل إِلَى حَقه وليقنع برز قه
وَمن كتاب آخر فاضلي فقد صرف وجهنا فِي هَذَا الْوَقْت عَن جِهَاد لَو كُنَّا بصدده وَعَن فرض لَو وصلنا يَوْمه بغده لَكَانَ الْإِسْلَام قد أعفي من شركَة الشّرك وانفك أَهله من ربقة أهل الْإِفْك
ولكانت الْأَسْمَاء الشَّرِيفَة قد قرعت مَنَابِر طالما عزلت الصلب خطباءها ولكان الدّين الْخَالِص قد خلص إِلَى بِلَاد صَار الْمُشْركُونَ متوطنيها والمسلمون غرباءها
وَفِي كتاب آخر لَهُ وَقد علم الله سُبْحَانَهُ أَنا لهدنتهم كَارِهُون وَفِي مصلحَة أهل الْإِسْلَام وَفِي مصالحهم راغبون وَلَكنَّا قد بلينا بِقوم كالفراش أَو أخف عقولا وكالأنعام أَو أضلّ سَبِيلا إِن بني مَعَهم فعلى غير أساس وَإِن عدد الْغدر مِنْهُم فَهُوَ أَكثر من الأنفاس
وَفِي كتاب آخر وَالْخَادِم وَالْحَمْد لله يعدد سوابق فِي الْإِسْلَام والدولة العباسية لَا تعدها أولية أبي مُسلم لِأَنَّهُ والى ثمَّ وارى وَلَا آخرية طغرلبك لِأَنَّهُ نصر ثمَّ حجر
وَالْخَادِم بِحَمْد الله خلع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وأساغ الغصة الَّتِي ذخر الله للإساغة فِي سَيْفه ماءها فَرجل الْأَسْمَاء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فَكسر الْأَصْنَام(3/85)
الْبَاطِنَة بِسَيْفِهِ الظَّاهِر لَا السَّاتِر وَفعل وَمَا فعل للدنيا وَلَا معنى للاعتداد بِمَا هُوَ متوقع الْجَزَاء عَنهُ فِي الْيَوْم الآخر
وَمن كتاب آخر عِنْد دُخُول صَاحب الْموصل حلب واستيلائه عَلَيْهَا وَكَانَت دَاخِلَة فِي تَقْلِيد السُّلْطَان السَّابِق فَقَالَ دخل حلب مستوليا وَحصل بهَا معتديا وعقود الْخُلَفَاء لَا تحل وَالسُّيُوف فِي أوجه أَوْلِيَائِهِمْ لَا تسل وَإنَّهُ إِن فتح بَاب الْمُنَازعَة أدني من ندامة وَأبْعد من سَلامَة وخرق مَا يعيي على الراقع وجذب الرِّدَاء فَلم تغن فِيهِ إِلَّا حِيلَة الخالع
وَلَيْسَ الِاسْتِيلَاء بِحجَّة فِي الولايات لطالبها وَلَا الدُّخُول إِلَى الدَّار بِمُوجب ملك غاصبها إِلَّا أَن تكون الْبِلَاد كالديار المصرية حِين فتحهَا الْخَادِم وَأَهله حَيْثُ الْجُمُعَة مستريبة والخلافة فِي غير أَهلهَا غَرِيبَة والعقائد لغير الْحق مستجيبة فَتلك الْولَايَة أولى بهَا مِمَّن منحها من فتحهَا وَكَانَ سلطانها من أَدخل فِي خبر كَانَ شيطانها
وَأما حلب الَّتِي الْكَلِمَة فِيهَا عالية والمنابر فِيهَا بِالِاسْمِ الشريف حَالية فَإِنَّمَا تكون لمن قلدها لَا لمن توردها وَلمن بِالْحَقِّ تسلمها لَا لمن بِالْبَاطِلِ تسنمها وَلَو كَانَت حلب كَمَا كَانَت مصر لدخلها الْخَادِم وَلم يشاور ولولجها وَلم يناظر وَلكنه أَتَى الْبيُوت من أَبْوَابهَا واستمطر القطار من سحابها
ثمَّ ذكر أَن المواصلة راسلوا الْمَلَاحِدَة الحشيشية واتخذوهم بطانة من دون الْمُؤمنِينَ وواسطة بَينهم وَبَين الفرنج الْكَافرين ووعدوهم بقلاع من يَد(3/86)
الْإِسْلَام تقلع وبضياع من فَيْء الْمُسلمين تُوضَع وبدار دَعْوَة بحلب ينصب فِيهَا علم الضَّلَالَة وَيرْفَع وياللعجب من الْخصم يهدم دولة حق وَهِي تبنيه وَمن العَبْد يَبْنِي ملكهَا بِنَفسِهِ وَمَاله وَذَوِيهِ وَهِي تراقب أعداءه فِيهِ ودعواه فِي رسائلهم وغوائلهم لَيست بِدَعْوَى لَا يقوم شَاهدهَا وَلَا هِيَ بشناعة لَا يَهْتَدِي قائدها بل هَذَا رسولهم عِنْد سِنَان صَاحب الْمَلَاحِدَة ورسولهم عِنْد القومص ملك الفرنج وَهَذِه الْكتب الْوَاصِلَة بذلك قد سيرت ولاستنجاب الْولَايَة طرق أما السَّبق إِلَى التَّقْلِيد فللخادم السَّبق
وَأما الْعَدَالَة وَالْعدْل فَلَو وَقع الْفرق لوقع الْحق
وَأما بالآثار بِالطَّاعَةِ فَلهُ فِيهَا مَا لَوْلَا مَعُونَة الْخَالِق فِيهِ لقصرت عَنهُ أَيدي الْخلق وَمَتى استمرت الْمُشَاركَة فِي الشَّام أفضت إِلَى ضعف التَّوْحِيد وَقُوَّة الْإِشْرَاك وترامت إِلَى أخطار تعجز عَنْهَا خواطر الِاسْتِدْرَاك وأحوجت قَابض الأعنة إِلَى أَن يعليها الجدد ويرسلها العراك
وَطَرِيق الصّلاح والمصالحات الْأَيْمَان والمشار إِلَيْهِم لَا يلتزمون ربقتها وَلَا يوجبون صفقتها فَكفى بالتجريب ناهيا عَن الْغرَّة وَلَا يلْدغ الْمُؤمن إِلَّا مرّة وَإِذا اجْتمعت فِي الشَّام أيد ثَلَاث يَد عادلة وَيَد ملحدة وَيَد كَافِرَة نَهَضَ الْكفْر بتثليثه وَقصرت عَن(3/87)
الْإِسْلَام يَد مغيثه وَلم ينفع الْخَادِم حِينَئِذٍ تَصْحِيح حسابه وتصديق حَدِيثه وَمَا يُرِيد الْخَادِم إِلَّا من تكون يَد الله عَلَيْهِ وَهِي الْجَمَاعَة وَلَا يُؤثر إِلَّا مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ الطَّاعَة وَلَا يتوخى إِلَّا مَا تقوم بِهِ الْحجَّة الْيَوْم وَيَوْم تقوم السَّاعَة
وَمن كتاب آخر قد أحَاط الْعلم بِمَا طالع بِهِ أَولا عِنْد وَفَاة ولد نور الدّين رَحمَه الله أَن التَّقْلِيد الشريف المستضيء لما وَصله بالبلاد وَكَانَ قد فتح أَكْثَرهَا قلاعا وأمصارا وحصونا وديارا وَلم يبْق إِلَّا قَصَبَة حلب وَهُوَ على أَخذهَا عدل ولد نور الدّين عَن الْقِتَال إِلَى النوال وَعَن النزال إِلَى الإستنزال وَقصد الْقَصْد الَّذِي مَا أوجبت الْمُحَافظَة أَن يتلَقَّى بِالرَّدِّ فأقره على الْولَايَة فرعا لَا أصلا ونائبا لَا مُسْتقِلّا وَسلم إِلَيْهِ الْبِلَاد وَيَده الْغَالِبَة لَا المغلوبة وسيوفه السالبة لَا المسلوبة وَمَشى الْأَمر مَعَه مُسْتَقِيمًا ومائلا وجائرا وعادلا إِلَى أَن قضى نحبه وَلَقي ربه فَبَدَا من المواصلة نقض الْأَيْمَان والابتداء بالعدوان والتعرض للبلاد وَالتَّصَرُّف فِيهَا بِغَيْر حجَّة يكون عَلَيْهَا الِاعْتِمَاد
فطالع الدِّيوَان بالقضية وَاسْتشْهدَ بدلالات قوانينه الجلية فِي هَذَا التَّقْلِيد الَّذِي تهادته المحاضر وأشاعته المنابر وسيرت إِلَى الشرق والغرب نسخه وغلت الْأَيْدِي الَّتِي تحدث أَنْفسهَا أَنَّهَا تفسخه
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَتوجه السُّلْطَان بعد شهر رَمَضَان إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة على(3/88)
طَرِيق الْبحيرَة وخيم عِنْد السَّوَارِي وَشَاهد الأسوار الَّتِي جددها والعمارات الَّتِي مهدها وَأمر بالإتمام والاهتمام
وَقَالَ السُّلْطَان نغتنم حَيَاة الشَّيْخ الإِمَام أبي طَاهِر بن عَوْف
فحضرنا عِنْده وَسَمعنَا عَلَيْهِ موطأ مَالك رَضِي الله عَنهُ بروايته عَن الطرطوشي فِي الْعشْر الْأَخير من شَوَّال وَتمّ لَهُ ولأولاده وَلنَا بِهِ السماع والوالي يَوْمئِذٍ بهَا فَخر الدّين قراجا
قلت وَوجدت للْقَاضِي الْفَاضِل كتابا كتبه إِلَى السُّلْطَان تهنئة بِهَذَا السماع يَقُول فِيهِ أدام الله دولة الْمولى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ وأسعده برحلته للْعلم وأثابه عَلَيْهَا وأوصل ذخائر الْخَيْر إِلَيْهِ وأوصله إِلَيْهَا وأوزع الْخلق شكرا لنعمته فِيهِ فَإِنَّهَا نعْمَة لَا يُوصل إِلَى شكرها إِلَّا بإيزاعه وأودع قلبه نور الْيَقِين فَإِنَّهُ مُسْتَقر لَا يودع فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُسْتَندا إِلَى إيداعه وَللَّه(3/89)
فِي الله رحلتاه وَفِي سَبِيل الله يوماه وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أغر محجل وَالْحَمْد لله الَّذِي جعله ذَا يَوْمَيْنِ يَوْم يسفك دم المحابر تَحت قلمه وَيَوْم يسفك دم الْكَافِر تَحت علمه فَفِي الأول يطْلب حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيجْعَل أَثَره عينا لَا تستر وَفِي الثَّانِي يَجْعَل لنصره شَرِيعَته هداه على الضلال فَيجْعَل عينه أثرا لَا يظْهر وَقد اسْتغْرب النَّاس همم الْعلمَاء فِي رحلتهم لنقل الحَدِيث وسماعه والموالاة فِي طلب ثقته وانتجاعه وصنفوا فِي ذَلِك تصانيف قصدُوا بهَا التحريض للهمم والتنبيه وَالرَّفْع من أقدار أَهله والتنويه فَقَالُوا رَحل فلَان لسَمَاع مُسْند فلَان وَسَار زيد إِلَى عَمْرو على بعد الْمَكَان هَذَا وَصَاحب الرحلة قد نصب نَفسه للْعلم وشغل بِهِ دهره ووقف عَلَيْهِ فكره فَلَا تتجاذب عنان همته الْكَبَائِر فَمَا القَوْل فِي ملك خواطره كأبوابه مطروقة وَأُمُور خلق الله كأمور دينه بِهِ معذوقة إِذْ هَاجر إِلَى بَقِيَّة الْخَيْر فِي أضيق أوقاته وَترك للْعلم أَشد ضروراته ووهب لَهُ أَيَّامًا مَعَ أَنه فِي الْغُزَاة يُحَاسب لَهَا نَفسه على لحظاته وساعاته وَمَا يحْسب الْمَمْلُوك أَن كَاتب الْيَمين كتب لملك قطّ رحْلَة فِي طلب الْعلم إِلَّا للرشيد هَارُون رَحْمَة الله عَلَيْهِ على أَنه خلط زِيَارَة نبوية بِطَلَب ورحل بولديه إِلَى مَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ لسَمَاع هَذَا الْمُوَطَّأ الَّذِي اتّفقت الهمتان الرشيدية والناصرية على الرَّغْبَة فِي سَمَاعه والرحلة لانتجاعه
وَقد كَانَ الرشيد سَام مَالِكًا رَحمَه الله أَن يَجْعَل لَهُ ولولديه الْأمين والمأمون مَجْلِسا خَاصّا لإسماع مُصَنفه فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ إِنَّهَا سنة ابْن عمك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيْرك من سترهَا وَمثلك من نشرها
فَهَذِهِ رحْلَة ثَانِيَة فِي الزَّمَان وَأولى فِي الْإِيمَان يَكْتُبهَا الله للْمولى بقلم كَاتب الْيَمين(3/90)
وَيقوم فِيهَا مقَام الرشيد وَيقوم عَلَيْهِ وعثمانه مقَام ولديه الْمَأْمُون والأمين
وَكَانَ أصل الْمُوَطَّأ بِسَمَاع الرشيد على مَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ فِي خزانَة الْكتب المصرية فَإِن كَانَ قد حصل بالخزانة الناصرية فَهُوَ بركَة عَظِيمَة ومنقبة كَرِيمَة وذخيرة قديمَة وَإِلَّا فليلتمس وَكَذَلِكَ خطّ مُوسَى بن جَعْفَر فِي فتيا الْمَأْمُون رحمهمَا الله كَانَ أَيْضا فِيهَا وَهُوَ مِمَّا يتبرك بِمثلِهِ وَيعلم بِهِ فضل الْعلم لَا خلا الْمولى أبقاه الله من فَضله
وقف الْمَمْلُوك على مَا بشر بِهِ من صنع الْمولى وتوفيقه وَصِحَّة مزاجه فِي طَرِيقه وَانْقِطَاع مَا كَانَ من دم واسترواح الْقلب من كل هم وَقد استفتحت هَذِه الطَّرِيق بِكُل فأل مباركة الْبكر والفأل مأثورة عَن سيد الْبشر فَمن ذَلِك صِحَة جِسْمه فلتهنه الصِّحَّة وفسحة قلبه دَامَت لَهُ الفسحة وَانْقِطَاع الدَّم وَطَرِيقه إِلَى الشَّام يَنْقَطِع بهَا الدَّم ويتصل النَّصْر لَهُ وينتظم السّلم
وَأُخْرَى أَنه رَحل إِلَى الْمُوَطَّأ رحم الله مَالِكه ويرحل فِيمَا يطْلب من الشَّام إِلَى الْمُوَطَّأ أسعد الله بِهِ ممالكه الله تَعَالَى يُحَقّق الْخَيْر وَيصرف الضير ويبارك لمولانا فِي الْمقَام وَالسير إِن شَاءَ الله
قلت هَكَذَا يَقع فِي كتب الْفَاضِل رَحمَه الله كثيرا وَهُوَ أَنه يختمها بالأدعية مُتَّصِلَة بقوله إِن شَاءَ الله
وَالتَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ غير لَائِق بالأدعية فَفِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ(3/91)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقل أحدكُم اللَّهُمَّ اغْفِر لي إِن شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِن شِئْت اللَّهُمَّ ارزقني إِن شِئْت ليعزم مَسْأَلته فَإِنَّهُ يفعل مَا يَشَاء لَا مكره لَهُ)
فصل فِي أُمُور تتَعَلَّق بولاة الْيمن فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد كَانَ الْأَمِير مجد الدّين سيف الدولة مبارك بن كَامِل بن منقذ نَائِبا لشمس الدولة أخي السُّلْطَان بزبيد وَحصل لَهُ من أموالها الطريف والتليد
ثمَّ ابْتَاعَ من السُّلْطَان النَّاحِيَة الْمَعْرُوفَة بالعدوية بِمصْر لما عَاد إِلَيْهَا(3/92)
وَبَقِي أَخُوهُ حطَّان بزبيد واليا عَلَيْهَا فَصنعَ دَعْوَة عَظِيمَة بهَا ذكر الْعِمَاد أَنه حضرها هُوَ وَغَيره من الْفُضَلَاء الْأَعْيَان فَبَيْنَمَا هم عِنْده فِي أسر حَال إِذْ أحدق بهم الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش فَقبض على سيف الدولة واعتقل بِالْقصرِ
وَكَانَ سَببه أَن أقَارِب السُّلْطَان وخواصه كَثُرُوا عَلَيْهِ عِنْده أَنه استوعب مَال زبيد وَأَن لَهُ كنوزا لَا تبيد وأشاروا عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ وَهُوَ يدافع عَنهُ إِلَى أَن أَكْثرُوا وَقيل فِيهِ إِن لم تُدْرِكهُ فَاتَ
فَأمر بِهِ فاعتقل فسمح للسُّلْطَان خَاصَّة من النَّقْد الْمصْرِيّ بِثَمَانِينَ ألف دِينَار لم يظْهر فِيهَا بيع دَار وَلَا مَتَاع وَلَا استدانة من تجار
وَغرم لأخوي السُّلْطَان الْعَادِل وتاج الْمُلُوك مَا حَافظ بِهِ على نهج الْكَرم المسلوك وَخرج مشرفا مكرما مصرفا مُحْتَرما وَزَاد السُّلْطَان فِي تكرمته وَنفذ إِلَيْهِ بِمَا قَبضه مِنْهُ خطّ يَده بِأَن الْمبلغ دين فِي ذمَّته ثمَّ بَاعه أملاكا بِمصْر بِتَقْدِير ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وبذل لَهُ كل مَا طلب عَن إِيثَار وَاخْتِيَار وَزَاد فِي إقطاعه وَبَارك الله لَهُ فِي أشيائه وأشياعه(3/93)
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ هَذَا الْأَمِير من رجاحة عقله وحصافة فَضله مَا سَمِعت مِنْهُ شكوى وَلَا حِكَايَة فِي بلوى وَقتل أَخُوهُ حطَّان بزبيد وَأخذ مَاله فَلم يظْهر مِنْهُ للسُّلْطَان كَرَاهَة وكل شيمته نزاهة ونباهة
قَالَ وَكَانَ لما توفّي الْملك الْمُعظم شمس الدولة أشْفق السُّلْطَان من نوابه بِالْيمن وَذكر مَا بَين ولاتها من الإحن وَوصل الْخَبَر بِمَا يجْرِي بَين الْأَمِير عُثْمَان بن الزنجيلي وَالِي عدن وَبَين الْأَمِير حطَّان وَالِي زبيد من الْفِتَن فندب إِلَى زبيد عدَّة من الْأُمَرَاء لحفظ الْبِلَاد وَإِصْلَاح الْأُمُور الَّتِي يخْشَى عَلَيْهَا من الْفساد وَمن جُمْلَتهمْ وَالِي مصر صارم الدّين خطلبا وَبقيت الْولَايَة لَهُ بهَا فِي غيبته يقوم بهَا نوابه وَيرجع إِلَى رَأْي أَهله أَصْحَابه فشرعت زَوجته فِي عمَارَة دَار عَظِيمَة سنية
وَذكر الْعِمَاد أَنه حصل لَهُ وَلغيره من الْأَعْيَان بهَا ضِيَافَة جليلة اتفاقية
وَقَالَ ابْن أبي طي كَانَت نفس سيف الْإِسْلَام طغتكين أخي السُّلْطَان تشرئب إِلَى الْيمن من حَيْثُ مَاتَ أَخُوهُ شمس الدولة ويشتهي أَن يصير إِلَيْهَا فَأمر ابْن سَعْدَان الْحلَبِي أَن يعْمل لَهُ قصيدة يعرض فِيهَا بإنفاذ سيف الْإِسْلَام إِلَى الْيمن فَعمل القصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا(3/94)
(جرد لَهَا السَّيْف الصَّقِيل فتْنَة ... فالسيف لَا يذخر إِلَّا للفتن)
(شدّ بِهِ أزر الْعلَا فَإِنَّهُ ... نعم فَتى من شرع الْجُود وَسن)
(الْقَائِل المسمع فِي مقاله ... والصادق النّدب الْأمين المؤتمن)
(بَادِي الْفُؤَاد كَيْفَمَا سيرته ... حن إِلَى دَار الوغى ثمت أَن)
وفيهَا يَقُول
(يَا ابْن الْكِرَام النجباء وَالَّذِي ... تلقف العلياء فِيهَا ولقن)
(لَا تعد عَيْنَاك عَن الْملك فَمَا ... يُخَاطب العلياء إِلَّا من وَمن)
(قد فسد الْملك وَقد طَال العدى ... واقتسموا بعْدك أَمْوَال الْيمن)
قَالَ فَلَمَّا سمع السُّلْطَان هَذِه القصيدة أذن لسيف الْإِسْلَام فِي الْمسير إِلَى الْيمن
وَقَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة تقرر مَعَ سيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين بن أَيُّوب أَن يمْضِي إِلَى بِلَاد الْيمن وزبيد وعدن وَأَن يقطع بهَا الْفِتَن ويتولاها ويولي ويعزل وَيحسن ويعدل
فَسَار بعد مسيرنا إِلَى الشَّام وَجَرت مَمْلَكَته فِيهَا على أحسن نظام وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان
وَوصل إِلَى زبيد وَحط حطَّان عَن رتبته وأمنه وطمنه ثمَّ أذن لَهُ فِي الِانْفِصَال إِلَى الشَّام فَجمع حطَّان كل مَاله من سبد ولبد ومطرف(3/95)
ومتلد ولجين وعسجد وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد وآلات وَعدد وحصن وحجور عراب وَمَال اعتقده من الْيمن بِغَيْر حِسَاب
ثمَّ أَنَاخَ جماله ورحل عَلَيْهَا أحماله وَقدم قدامه أثقاله وَظن أَنه نجا وفاز وَركب الأوفاز فزده إِلَيْهِ ليودعه ثمَّ يشيعه ويركب مَعَه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ اعتقله وسير وَرَاء مَاله من أقفله وَإِلَى خزانته نَقله ثمَّ أنفذه إِلَى بعض معاقله فحبسه ثمَّ قَتله
وَفِيمَا ذكر للسُّلْطَان من خبر ذهبه وَمَاله الذَّاهِب مَا يعيي بحصر تفاصيل جمله أنمل الحاسب أَن نيفا وَسبعين غلافا من غلف الزرد كَانَت مَمْلُوءَة بِالذَّهَب الْأَحْمَر المنتقد وَقوم الْمَأْخُوذ بِقِيمَة ألف ألف دِينَار
وَأما صَاحب عدن الْأَمِير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجيلي فَإِنَّهُ لما(3/96)
سمع بِسيف الْإِسْلَام توجه إِلَى الشَّام
قلت وَلِهَذَا الْأَمِير أوقاف وصدقات بِمَكَّة واليمن ودمشق فإليه تنْسب الْمدرسَة والرباط المتقابلات بِبَاب الْعمرَة بِمَكَّة والمدرسة الَّتِي خَارج بَاب توما بِدِمَشْق رَحمَه الله
وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَيْهِ الْبِلَاد لَك فِيهَا عدَّة سِنِين وَأَنت فِيهَا مؤتمن على مَال الله فأده إِلَى من يُجَاهد بِهِ أَعدَاء الله وَيُقِيم بِهِ كلمة الله ويحفظ بِهِ الْبَيْضَة ويذب بِهِ عَن الْملَّة وَيُقَاتل بِهِ أَعدَاء الْقبْلَة وَيضْرب بالأسداد بَين الْكفْر وَالْإِسْلَام وَينصب وَجهه بَين الهجير والزمهرير عَاما فِي إِثْر عَام وَمَا نطلب مِنْك الْبَاطِل الَّذِي لَا يجوز لنا أَن(3/97)
نطلبه وَلَا لَك أَن تَدْفَعهُ وَلَا نُرِيد إِلَّا الْحق الَّذِي لَا يحل لنا أَن نتركه وَلَا لَك أَن تَمنعهُ
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وصل إِلَى السُّلْطَان من دمشق الْعلم خطيب المزة وَكَانَ قد زور على السُّلْطَان مِثَالا يتَضَمَّن لَهُ منالا وَرَفعه إِلَى عز الدّين فرخشاه فَمَا خَفِي تزويره عَلَيْهِ وهم بالإيقاع بِهِ فقصد السُّلْطَان بِمصْر وأطلعه على حَاله فَمَا اكترث بِهِ وَقَالَ نحقق مَا زورت
وَأمر أَن يكْتب لَهُ توقيع بِضعْف ذَلِك الإدرار
قَالَ وَكَانَ لَهُ إِمَام يُصَلِّي بِهِ وَهُوَ يكْتب مثل خطه فَأطلق بِهِ أَمْوَالًا وَأصْلح وأنجح بتزويره لأصدقائه أحوالا وَمَا يشك صَاحب ديوَان وَلَا مُتَوَلِّي خزانَة فِي أَنه صَحِيح فَلَمَّا دَامَ سِنِين انْكَشَفَ وشارف التّلف وَجلسَ إخْوَة السُّلْطَان وأمراؤه عِنْده يغرونه بِهِ فَقلت لَهُ بالعجمية سرا تهبه لِلْقُرْآنِ
فَقَالَ نعم
فَنَفْس من خناقه وَأمر بِإِطْلَاقِهِ وَأبقى عَلَيْهِ خَيره حِين استبدل بِهِ غَيره وَصَارَ بعده للعادل إِمَامًا وَبَقِي شغله مَعَه مستداما(3/98)
قَالَ وفيهَا غدر الفرنج وَنَقَضُوا عَهدهم واستولوا على تجار فِي الْبَحْر وَغَيرهم وَسَهل الله تَعَالَى بطسة لَهُم عَظِيمَة من المراكب الفرنجية مقلعة من بلد لَهُم يُقَال لَهُ بوليه تحتوي على أَلفَيْنِ وَخمْس مئة نفس من رجال الْقَوْم وأبطالهم وأتباعهم وهم على قصد زِيَارَة الْقُدس فِي السَّاحِل وتكثير حزب الْبَاطِل فألقتهم الرّيح إِلَى ثغر دمياط فغرق مِنْهُم الشّطْر وَشَمل البَاقِينَ الْأسر فَحصل فِي الْأسر مِنْهُم زهاء ألف وست مئة وست وَسبعين نفسا وَاتفقَ ذَلِك أَمَام الاهتمام بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّام
قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا ولد للسُّلْطَان الْملك الْمُعظم تورانشاه وَالْملك المحسن أَحْمد بَينهمَا سَبْعَة أَيَّام واتصل الْفَرح بهما أَرْبَعَة عشر يَوْمًا
وفيهَا سَار قراقوش إِلَى إفريقية فأوغل فِي بلادها وانتهب مَا قدر عَلَيْهِ وَحَارب عَسْكَر ابْن عبد الْمُؤمن بالقيروان ثمَّ بلغه أَن إِبْرَاهِيم السِّلَاح دَار احتوى على أهل قراقوش وبلده فَرجع إِلَيْهِ فهرب إِبْرَاهِيم(3/99)
وَسَار إِلَى خدمَة ابْن عبد الْمُؤمن وَملك قراقوش مَا كَانَ بيد إِبْرَاهِيم
قَالَ ابْن القادسي وفيهَا عَشِيَّة الْخَمِيس ثامن شعْبَان توفّي الإِمَام كَمَال الدّين أَبُو البركات عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي السعادات الْأَنْبَارِي النَّحْوِيّ وَكَانَ فَقِيها نحويا زاهدا عابدا خشن الْعَيْش صبورا على الْفقر وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَلَا يقبل من أحد شَيْئا وَكَانَ يحضر فِي نوبَة الصُّوفِيَّة بدار الْخلَافَة المعظمة فِي الْوَقْت فَينفذ إِلَيْهِ بالتشريف وَالذَّهَب فيعيده وَلَا يقبله وَكَانَ يجْتَهد بِهِ الْوَزير ابْن رَئِيس الرؤساء أَن يقبل لوَلَده شَيْئا فَمَا كَانَ يفعل
وَكَانَ يفْطر على الْخبز الخشكار ويبتاع برغيف أرزا وَمَا شَاءَ
وَكَانَ بَابه مَفْتُوحًا لطالبي الْعلم يعلمهُمْ لوجه الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا أحضر أحدهم فِي الصَّيف مروحة يتروح بهَا فَإِذا خرج يَقُول لَهُ خُذ مروحتك مَعَك
فيجتهد بِهِ ذَلِك أَن يَجْعَلهَا عِنْده إِلَى غَد فَمَا يفعل
وصنف تصانيف كَثِيرَة وَدفن فِي تربة أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ(3/100)
رَضِي الله عَنهُ
قلت وفيهَا توفّي بِمصْر الشَّاعِر ابْن الذروي وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى الْمصْرِيّ وسنه حول الْأَرْبَعين وَقد تقدم من شعره فِي حج الْفَاضِل وَفِي مدح ابْن منقذ وَغَيرهمَا
وَمن ظريف شعره قَوْله فِي أحدب
(يَا أخي كَيفَ غيرتنا اللَّيَالِي ... كَيفَ حَالَتْ مَا بَيْننَا بالمحال)(3/101)
(حاش لله أَن أصافي خلا ... فيراني فِي وده ذَا اختلال)
(زَعَمُوا أنني أتيت بهجو ... فِيك نمقته بِسم خلال)
(كذبُوا إِنَّمَا وصفت الَّذِي حزت ... من النبل والسنا والكمال)
(لَا تَظنن حدبة الظّهْر عَيْبا ... فَهِيَ لِلْحسنِ من صِفَات الْهلَال)
(وكذاك القسي محدودبات ... وَهِي أنكى من الظبى والعوالي)
(ودناني الْقُضَاة وَهِي كَمَا تعلم ... كَانَت موسومة بالجمال)
(وَإِذا مَا علا السنام فَفِيهِ ... لقروم الْجمال أَي جمال)
(وَأرى الإنحناء فِي منسر الكاسر ... يلفى ومخلب الرئبال)
(وَأَبُو الْغُصْن أَنْت لَا شكّ فِيهِ ... وَهُوَ رب القوام والإعتدال)
(قد تحليت بانحناء فَأَنت الرَّاكِع ... المستمر فِي كل حَال)
(وتعجلت حمل وزرك فِي الظّهْر ... فأمنا فِي موقف من الْأَهْوَال)
(إِن حمل الذُّنُوب أَهْون فِي الدُّنْيَا ... على أَنه من الأثقال)
(كَون الله حدبة فِيك إِن شِئْت ... من الْفضل أَو من الإفضال)
(فَأَتَت ربوة على طود حلم ... مِنْك أَو موجة ببحر نوال)(3/102)
(مَا رأتها النِّسَاء إِلَّا تمنت ... لَو غَدَتْ حلية لكل الرِّجَال)
(عد إِلَى ودنا الْقَدِيم وَلَا تصغ ... لقيل من الوشاة وَقَالَ)
فصل فِي عود السُّلْطَان من الديار المصرية إِلَى الشَّام
قَالَ الْعِمَاد وعدنا من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة فِي ذِي الْقعدَة وَشرع السُّلْطَان فِي الاستعداد لسفر الشَّام فَجمع العساكر وَالسِّلَاح واستصحب نصف الْعَسْكَر وَأبقى النّصْف الآخر لحفظ ثغور مصر وَأمر قراقوش بإتمام الأسوار الدائرة على مصر والقاهرة
قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان عَشِيَّة توديعه لأهل مصر جَالِسا فِي سرادقه(3/103)
وكل ينشده بَيْتا فِي الْوَدَاع فَأخْرج أحد مؤدبي أَوْلَاده رَأسه وَأنْشد مظْهرا لَهُ فَضله ورافعا بِهِ مَحَله
(تمتّع من شميم عرار نجد ... فَمَا بعد العشية من عرار)
فَلَمَّا سَمعه خمد نشاطه وتبدل بالانقباض انبساطه وَنحن مَا بَين مغضب ومغض ينظر بَعْضنَا إِلَى بعض وَلَا نقضي الْعجب من مؤدب ترك الْأَدَب فَكَأَنَّهُ نطق بِمَا هُوَ كَائِن فِي الْغَيْب فَإِنَّهُ مَا عَاد بعْدهَا إِلَى الديار المصرية حَتَّى اتَّصل بنجح المنى فِي الْمنية
قَالَ وَمن جملَة تسمح المعلمين فِي القَوْل مَا حَكَاهُ لنا شَيخنَا أَبُو مُحَمَّد بن الخشاب قَالَ وصلت إِلَى تبريز فأحضرني يَوْمًا رئيسها فِي دَاره وأجلس وَلَده بَين يَدي ليقرا بعض مَا تلقنه عَليّ فَقلت فرخ(3/104)
البط سابح
فَقَالَ معلمه وَكَانَ حَاضرا نعم وجرو الْكَلْب نابح
فخجلت من خطاء خطابه وَإِذا بِهِ على دأبه فِي سوء آدابه ومقصوده أَن يذكر قرينَة وَلَا يُبَالِي بِعَيْنِه قريرة أم سخينة ودأب أدباء أَوْلَاد الْمُلُوك لاجترائهم على أعزة أَوْلَادهم الاجتراء على الْآبَاء وَيحْتَمل مَا يصدر مِنْهُم لعزة الْأَبْنَاء وَإِنَّمَا يصلح لمجالسة الْمُلُوك من يتحفظ فِي كَلَامه ويتيقظ حَتَّى فِي مَنَامه
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي خَامِس الْمحرم مِنْهَا رَحل السُّلْطَان من الْبركَة قَاصِدا إِلَى الشَّام وَلم يعد بعْدهَا إِلَى مصر حَتَّى أدْركهُ الْحمام
وَأخذ على طَرِيق صدر وأيلة فِي المفاوز فَبَاتَ بالبويب ثمَّ كَانَت مَنَازِله على الجسر ووادي مُوسَى وحثا وَصدر وَبعد خمس لَيَال وصل عقبَة أَيْلَة وَهُنَاكَ سمع باجتماع الْكفَّار بالكرك لقصد قطع الطَّرِيق فاحترز بِحِفْظ الْأَطْرَاف وَجَاز بحسمى ثمَّ عقبَة شتار ثمَّ القريتين وأغار فِي تِلْكَ الْأَيَّام على أَطْرَاف بِلَاد الْعَدو ثمَّ تجرد السُّلْطَان فِي كماته وسلك بهم سمت الكرك(3/105)
إِلَى الحسا وَأمر أَخَاهُ تَاج الْمُلُوك بوري على النَّاس وَأمره أَن يسير بهم يمنة مِنْهُ ثمَّ اجْتَمعُوا بالسلطان بالأزرق بعد أُسْبُوع
وَوصل الْخَبَر بظفر الْملك الْمَنْصُور عز الدّين فرخشاه قَالَ الْعِمَاد ويلقب أَيْضا معز الدّين بِمَا غنمه أَيْضا من بِلَاد الْعَدو وَذَلِكَ أَن الفرنج لما سمعُوا بمسير السُّلْطَان من مصر وَمَعَهُ خلق من التُّجَّار اجْتَمعُوا بالكرك للقرب من الطَّرِيق لَعَلَّهُم ينتهزون فرْصَة فيقتطعون من الْقَافِلَة قِطْعَة
فَخرج فرخشاه من دمشق واغتنم خلو دِيَارهمْ فَأَغَارَ على بِلَاد طبرية وعكا وَفتح دبورية وَجَاء إِلَى حبيس جِلْدك بِالسَّوَادِ وَهُوَ شقيف يشرف على بِلَاد الْمُسلمين ففتحه وَأَسْكَنَهُ الْمُسلمين فَبَقيَ عينا على الْكفَّار بَعْدَمَا كَانَ لَهُم وَرجع بالغنائم والأسرى مظفرا منصورا وَمَعَهُ ألف أَسِير وَعِشْرُونَ ألف رَأس من الْأَنْعَام
ثمَّ وصل السُّلْطَان بصرى وَدخل دمشق سَابِع عشر صفر
قَالَ وَفِي الْعشْر الأول من ربيع الأول خرج السُّلْطَان وأغار على بِلَاد طبرية وبيسان والتحم بَينهم الْقِتَال تَحت حصن كَوْكَب وَاسْتشْهدَ جمَاعَة(3/106)
من الْمُسلمين وَلَكِن كَانَت الدائرة على الْكَافرين وَرجع السُّلْطَان بِحَمْد الله ظافرا
وَكتب بالمثال الفاضلي إِلَى الدِّيوَان كَانَ الْخَادِم طالع بِخُرُوجِهِ من مصر طَالبا للغزاة الْمَفْرُوضَة والمسافة بَين مصر وَالشَّام لمن يرفق فِي الْمسير لَا تقصر عَن ثَلَاثِينَ يَوْمًا فحشد الفرنج ونزلوا بالكرك على إرجاف بالمصاف وَلم يزل الْخَادِم على مداومة الإعمال إِلَى أوساط الْأَعْمَال فَحل بهَا وَشن الْغَارة فأبعد وأذكى النَّار فَأوقد وَطلب المَاء المحمي أزرقه بأزرقهم فأورد وَسَفك دم الخصب بالنَّار وَأخذ فِيهَا عدل السَّيْف الْجَار بالجار وَعلم أَن الفرنج قد تسللوا لِوَاذًا وتعللوا بالحصون احتجازا ولياذا وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتلُون إِلَّا فِي قرى مُحصنَة وَلَا يُقَاتلُون إِلَّا على نجاة متيقنة وسرح الْخَادِم إِلَى تِلْكَ الذَّرَارِي واستنفر لَهَا من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة وَسَارُوا فِي طَرِيق على الْعَدو غير خافية وَمِنْهُم غير خائفة وَركب هُوَ وحمية الْإِسْلَام الحامية الَّتِي تستنهض أَرْوَاح الْكفْر إِلَى نَار الله الحامية(3/107)
وسلك الْبِلَاد المؤدية أَوديتهَا إِلَى سيول الشّرك الطامية وسيوف الضلال الدامية فجثموا جثوم الكسير وجدعوا أنوف الْأنف جدعا قصر فِيهِ رَأْي قصير
وَجَاز الْخَادِم الْمسَافَة الْمُقَابلَة لَهُم الَّتِي كَانَت تجاز فِي يَوْم وَاحِد فِي أَيَّام وَأورد عَلَيْهِم طيف الْخَوْف غير لابس ثِيَاب الأحلام وَيسر الله الْوُصُول ورقاب عصبَة الْكفْر تكَاد تتوثب عَلَيْهَا رقاقها وعيون الْأَعْيَان مِنْهُم قد قيدها للذل إطراقها
وَتوجه يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع شهر ربيع الأول وَنزل أَمَام طبرية لَيْلَة الثُّلَاثَاء تَاسِع عشر ربيع الأول فَجَاءَهُ الْخَبَر بِأَن الفرنج رحلوا فِي ليل ركبوه جملا ولبسوه سترا دون اللِّقَاء مسبلا وأصبحت الأطلاب الإسلامية طالبة الْأُرْدُن وأشرف عَلَيْهِم الْمَمْلُوك فرخشاه وَكَانَ على ميسرَة الْإِسْلَام فَمَا خرج مِنْهُم من أخرج كفا وَلَا تطرف مِنْهُم من أجال طرفا وَلَا من ركض طرفا وَلم يزل الْخَادِم مُقيما يُنَادي لِلْخُرُوجِ الصم الَّذين لَا يسمعُونَ الدُّعَاء إِلَى أَن طوى النَّهَار ملاءته وَمد عَلَيْهِم كلاءته فَإِنَّهُ رعى مَا بَينه(3/108)
وَبَين مُنَاسبَة وُجُوههم وصحائفهم بسواده وَلِأَن اللَّيْل يدعى كَافِرًا فهداهم وخبأهم فِي فُؤَاده وانبرى لَهُم من المماليك ذَوُو سِهَام كل رمية مِنْهَا طعنة وكل أنة من قوسها تجاوبها للحين أنة فَاسْتَخْرَجُوا ضمائر كنائنهم وقصدوا بهَا ضمائر ضغائنهم فمرت كَأَن التَّوْفِيق يَقُودهَا إِلَى حَيْثُ أمت فأماتت وطارت جَرَادًا ترعى زرع الْحَيَاة فبتت وَمَا أباتت وَلم يرَوا مضاجع ذَوَات حسك كمضاجع حسكها السِّهَام وَلَا لَيْلَة هم ذَات أَحْلَام كليلة حلمها يقظة الْحمام وأصابت خيولهم صوائبها وتعلقت نصالهم بدهمها فكأنهم فِي ظلماتها كواكبها فَلَمَّا انْشَقَّ الصُّبْح غيظا من شقَاق كفرهم شوهدوا نازلين من حصنهمْ الَّذِي كَانُوا إِلَيْهِ آوين وطالبي التباعد عَنهُ إِلَى حصن الطّور الَّذِي كَانُوا إِلَيْهِ ناوين فساقت إِلَيْهِم أطلاب الميسرة صُحْبَة الْمَمْلُوك فرخشاه
وسَاق الْمَمْلُوك عمر من الميمنة طَالبا لحومة الْقِتَال فَرَأَوْا الخطة عَلَيْهِم متضايقة وشهادات الْبلَاء إِلَى فئتهم متناسقة وَأنزل الله النَّصْر من سمائه على مطيعه فِي أرضه ومنح نَافِلَة الموهبة لمن قَامَ فِي الْجِهَاد بفرضه
وتوالت من الفرنج حملات ألجأهم إِلَيْهَا الِاضْطِرَار لَا الِاخْتِيَار وَثَبت من دنا مِنْهُم من الْمُسلمين من الأطلاب ولقوهم وهم الْأَعْدَاء لِقَاء الأحباب وتعانقت لغير الوداد فَصَارَت أيديها أوشحة وطارت إِلَى أقرانها فَصَارَت أرجل الْخَيل لَهَا أَجْنِحَة وصرعت للفرنج أبطال وخيالة وتمت الحملة الإسلامية على من كَانَ وَرَاءَهُمْ من الرجالة فَأخذ الْقَتْل كثيرا وقليلا ترك وفر روح الْكَافِر من الْجَسَد وَعلمت النَّار أَنه سلك وألجأهم(3/109)
الْبلَاء إِلَى حصن يعرف بعفربلا وسع الْخَوْف مِنْهُ مَا هُوَ ضيق وَتعلق بِالْحَيَاةِ مِنْهُم من هُوَ بِهِ مُتَعَلق وَلم تَنْصَرِف صُدُور الْخَيل دون أَن اعتقلتهم فِي سجنه وألزمتهم بِهِ فصاروا قرطا فِي أُذُنه وَكَانَ الْيَوْم من الْأَيَّام الَّتِي اضطرمت فِيهَا نيران الْجَحِيم ارتياحا لمن قدمهَا من أَرْوَاح الْكفَّار
وَكَانَ قَائِم الظهيرة فِي الْغَوْر قد منع من استتمام عودة المغار ومورد المَاء بعيد من غَرِيمه والري وَلَو أَنه من حميم أحب إِلَى الْمَرْء من حميمه فمالت الْجنُود إِلَى المناهل مُتَفَرِّقَة عَلَيْهَا ومنصرفة إِلَيْهَا وحافة بهَا من حواليها وأذعن الْكفَّار بالحصر والتفادي من الإصحار والاعتماد على المطاولة والأضجار والاستعصام بِمَا لَا يُطَاق من أنفاس الهجير الْحرار
وَبَات الْخَادِم والمسلمون على الْحصن الْمَذْكُور الَّذِي يَأْتُوا بِهِ نازلين قد حققوا من أَحْوَال اللِّقَاء مَا كَانُوا بِهِ جاهلين وَفعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِه النّوبَة مَا عواقبه مسفرة عَن المُرَاد ودلائله مُحَققَة لقَوْله تَعَالَى {لَا يغرنك تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد} وَأَن الْكفْر مذ قَامَ قائمه وَالشَّام مذ حلّه ظالمه لم يعبر أحد من وُلَاة الْأَمر هَذَا الْحَد إِلَّا على حِين غَفلَة من أَهله وَلم يواجه الْكفْر وَهُوَ مُجْتَمع فِي خيله فضلا عَن رجله وَلم يهدد الْعَدو بِضَرْب مصَاف إِلَّا واستكانت العزائم لتهديده وَلم يجمع أمره على اللِّقَاء إِلَّا صرفه عَنهُ الْآمِر بصرفه بذهبه لَا بحديده فَأَما الْآن فقد أنس الْمُسلمُونَ بحزبه وتمرنوا بحربه(3/110)
فصل فِي مسير السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الْمشرق مرّة ثَانِيَة
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن السُّلْطَان عزم على الْمسير إِلَى حلب وبلغه أَن المواصلة كاتبوا الفرنج ورغبوهم فِي الْخُرُوج إِلَى الثغور ليشغلوا السُّلْطَان عَن قصدهم
فَتوجه على سمت بعلبك وخيم بالبقاع وَكَانَ قد وَاعد أسطول مصر أَن يتجهز إِلَى بِلَاد السَّاحِل فَبَلغهُ الْخَبَر أَنه وصل إِلَى بيروت فبادره السُّلْطَان بعسكره جَرِيدَة قبل أَن يفوت فَلَمَّا وصل رأى أَن أَمر بيروت يطول وَكَانَ قد سبى الأسطول مِنْهَا وسلب وظفر من غنيمتها بِمَا طلب فَأَغَارَ السُّلْطَان على تِلْكَ الْبِلَاد وَرجع وَأعَاد فرخشاه إِلَى دمشق ورحل إِلَى بعلبك وَمِنْهَا إِلَى حمص فَخرج الْفَقِيه الْمُهَذّب عبد الله بن أسعد بن الدهان وَله فِي السُّلْطَان مدائح مِنْهَا قصيدة أَولهَا
(أعلمت بعْدك وقفتي بالأجرع ... ورضى طلولك عَن دموعي الهمع)
(مطرَت غضى فِي منزليك فذاويا ... فِي أَربع ومؤججا فِي أضلع)(3/111)
(هَل يعلم المتحملون لنجعة ... أَن الْمنَازل أخصبت من أدمعي)
(دَعْنِي وَمَا شَاءَ التَّلَذُّذ والأسى ... وأقصد بلومك من يطيعك أَو يعي)
(لَا قلب لي فأعي الملام فإنني ... أودعته بالْأَمْس عِنْد مودعي)
(قل للبخيلة بِالسَّلَامِ تورعا ... كَيفَ استبحت دمي وَلم تتورعي)
(وبديعة الْحسن الَّتِي فِي وَجههَا ... دون الْوُجُوه عناية للمبدع)
(مَا بَال مُعْتَمر بربعك دائبا ... يقْضِي زيارته بِغَيْر تمتّع)
وَمِنْهَا
(ووعدتني إِن عدت عود وصالنا ... هَيْهَات مَا أبقى إِلَى أَن تَرْجِعِي)
(هَل تسمحين ببذل أيسر نائل ... أَن اشتكي وجدي إِلَيْك وتسمعي)
(فتيقني أَنِّي بحبك مغرم ... ثمَّ اصنعي مَا شِئْت بِي أَن تصنعي)
وَمِنْهَا
(فسقى الرّبيع الجون ربعا طالما ... أَبْصرت فِيهِ الْبَدْر لَيْلَة أَربع)
(وَلَو اسْتَطَعْت سقيته سبل الْغنى ... من كف يُوسُف بالأدر الأنقع)
(بيَدي فَتى لَو أَن جود يَمِينه ... للغيث لم يَك ممسكا عَن مَوضِع)
(فَإِذا اتبسم قَالَ يَا جودا ندفق ... فيضا وَيَا سحب الندى لَا تقلعي)(3/112)
(وَإِذا تنمر قَالَ يَا أَرض أرجفي ... بالصاهلات وَيَا جبال تزعزعي)
(وَإِذا علا فِي الْمجد أَعلَى غَايَة ... قَالَت لَهُ الهمم الجسام ترفع)
(كم وَقْفَة لَك فِي الوغى محمودة ... أبدا وَكم جود حميد الْموقع)
(وَالنَّاس بعْدك فِي المكارم والندى ... رجلَانِ إِمَّا سَارِق أَو مدعي)
قَالَ ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى حماة واستصحب مَعَه ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فَلَمَّا قرب من حلب أقبل مظفر الدّين كوكبري بن عَليّ كوجك صَاحب حران حِينَئِذٍ فَاجْتمع بالسلطان وَصَارَ فِي خدمته من جملَة الأعوان وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يعبر الْفُرَات وَيجوز مَا وَرَاءَهَا وَيتْرك حلب إِلَى مَا بعد ذَلِك لِئَلَّا تشغله عَن غَيرهَا
فاستصوب السُّلْطَان رَأْيه وَعبر الْفُرَات
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد نزل السُّلْطَان على حلب فِي ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَسبعين فَأَقَامَ ثَلَاثَة أَيَّام ورحل فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ يطْلب الْفُرَات وَاسْتقر الْحَال بَينه وَبَين مظفر الدّين بن زين(3/113)
الدّين وَكَانَ صَاحب حران وَكَانَ قد استوحش من جَانب الْموصل وَخَافَ من مُجَاهِد الدّين فالتجأ إِلَى السُّلْطَان وَعبر إِلَيْهِ إِلَى قَاطع الْفُرَات وقوى عزمه على الْبِلَاد وَسَهل أمرهَا عِنْده فَعبر الْفُرَات وَأخذ الرها والرقة ونصيبين وسروج ثمَّ شحن على الخابور وأقطعه
وَقَالَ ابْن أبي طي فِي أول السّنة أَرَادَ مظفر الدّين بن زين الدّين وَكَانَ إِلَيْهِ شحنكية حلب الِاسْتِيلَاء على قلعة حلب بِأَن يهجمها فَلم يتَمَكَّن وَظهر أمره وَبعد هَذِه الْوَقْعَة اجْتمع الأخوان عز الدّين وعماد الدّين على الرقة وتحالفا على بِسَاط وَاحِد وَسلم عماد الدّين مَا كَانَ بِيَدِهِ من سنجار وَغَيرهَا إِلَى عز الدّين وَسلم عز الدّين إِلَيْهِ حلب فَسَار إِلَيْهَا ودخلها فَخرج مظفر الدّين عَنْهَا وَصَارَ إِلَى الْفُرَات فَلَمَّا اتَّصل بِهِ قصد السُّلْطَان حلب سَار إِلَى خدمته وَاجْتمعَ بِهِ على جباب التركمان وَأَشَارَ على السُّلْطَان بعبور الْفُرَات والاستيلاء على بِلَاد الشرق وَتَأْخِير أَمر حلب فَفعل
ورحل عَن حلب بعد أَن أَقَامَ عَلَيْهَا سِتَّة أَيَّام وَأقَام على تل خَالِد ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ رَحل إِلَى البيرة وفيهَا شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الياس الأرتقي فَنزل إِلَيْهِ وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَسَأَلَهُ الصعُود إِلَى قلعة البيرة فَأَجَابَهُ وَقدم لَهُ مَفَاتِيح القلعة فَردهَا إِلَيْهِ ووعده باستخلاص مَا كَانَ صَاحب ماردين غَلبه عَلَيْهِ(3/114)
ورحل السُّلْطَان إِلَى سروج فَنزل إِلَيْهِ صَاحبهَا ابْن مَالك مستأمنا فَأَعَادَهُ إِلَى بَلَده وراسل صَاحب ماردين فِي رد مَا كَانَ تغلب عَلَيْهِ من أَعمال البيرة فَفعل
ثمَّ أَخذ الرها ثمَّ الرقة ثمَّ سلم الرها إِلَى ابْن زين الدّين والرقة إِلَى صَاحب الرها لِأَنَّهُ سَأَلَ أَن يكون فِي خدمَة السُّلْطَان
وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين فرخشاه يُعلمهُ بِالْحَال وَفِي آخِره ولتعجل بِحمْل مَا هُنَاكَ من الْأَمْوَال فَكلما فتحت الْبِلَاد أَبْوَابهَا قد فتحت المطامع أفواهها واستوعبت الخزائن إخراجا وإنفاقا واستنفدت الحواصل إِعْطَاء وإطلاقا وَقدمنَا على بَحر لَا يسده إِلَّا بَحر وعَلى أيد إِن كَانَ بهَا الْغنى فَفِي أَنْفسهَا الْفقر
وَمن كتاب آخر إِلَى الْعَادِل يعلم مِقْدَار الْحَاجة إِلَى الأنفاق وَكَثْرَة الخرج الَّذِي اشْترك فِيهِ أهل الْآفَاق وَأَنه مَتى نضبت الْموَاد وقفت الْأُمُور الَّتِي قد شارفت نهاياتها وَتَفَرَّقَتْ الجموع الَّتِي تناذرت الْأَعْدَاء نكاياتها وَمَا دون تملك الْبِلَاد إِلَّا الْوُصُول إِلَيْهَا وَالنُّزُول عَلَيْهَا
قَالَ الْعِمَاد وَقَالَ مظفر الدّين للسُّلْطَان مازلت شوقا إِلَيْك فِي حران حران وَإِلَى الرّيّ من ورد خدمتك ظمآن وَهِي لَك مبذولة وبأوليائك(3/115)
من أهل الدّين وَالدُّنْيَا مأهولة والرها لَا يعسر أمرهَا والرقة لرقك وَبَعض حَقك والخابور فِي انْتِظَار خبرك ودارا دَارك ونصيبين نصيبك وَملك الْموصل موصلك إِلَى الْملك وَمَا هَذَا أَوَان الونى فادن إِلَيْنَا وكل بعيد قد دنا
قَالَ وَوصل الْبَحْر إِلَى الْفُرَات وخيم عَلَيْهَا من غربي البيرة وَمد الجسر وَكَانَت البيرة قد طمع فِيهَا صَاحب ماردين وَاسْتولى على مَوَاضِع من أَعمالهَا فَلَمَّا سمع بالسلطان تخلى عَنْهَا فَأَعَادَ إِلَيْهَا صَاحبهَا شهَاب الدّين مُحَمَّد بن إلْيَاس الأرتقي
وَكتب السُّلْطَان بالمثال الفاضلي إِلَى الدِّيوَان عِنْد عبور الْفُرَات كتابا فائقا طَويلا يَقُول فِيهِ خدم الْخَادِم مُتَوَالِيَة إِلَى الْأَبْوَاب الشَّرِيفَة خلد الله سلطانها شارحا لأحواله ومعتدا بهَا من صَالح أَعماله ومتوقعا من الْأَجْوِبَة عَنْهَا مَا يُهَيِّئ لَهُ من أمره رشدا وَيفرق الْأَعْدَاء إِذْ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا فَإِن الآراء الشَّرِيفَة لَو لم تفصح عَنْهَا الإنشاءات وتتضمنها الإجابات والابتداءات لأفصحت عَنْهَا مُوالَاة الْخَادِم الَّتِي استفتحت الدولة بعقائل الْفتُوح قبل خطبتها وَردت الْأَسْمَاء الشَّرِيفَة إِلَى أوطانها من المنابر(3/116)
بعد طول غربتها فَتلك الْأَعْمَال كالهجرة وَلكُل امْرِئ مَا هَاجر إِلَيْهِ وَنِيَّة الْمَرْء ثَوْبه فَلَا يلبس إِلَّا مَا خلعته النِّيَّة عَلَيْهِ
وَكتاب الْخَادِم الْآن من البيرة بَعْدَمَا قطع الْفُرَات وَكَانَ من لَا تقرب عَلَيْهِ العزائم مَا هُوَ بعيد وَلَا يلقِي السّمع وَهُوَ شَهِيد يظنّ أَن سَاكن النّيل يحول الْفُرَات بَينه وَبَين قَصده وَأَنه ينسى عَزِيمَة رَأْيه إِذا ذكر طول مدَّته وهول مده وكيفما كَانَ هَذَا الْمخْرج المحرج فقد أَحْسَنت إِلَى الْخَادِم إساءته إِلَيْهِ وقربه من مَحل دَار السَّلَام بل الْإِسْلَام فَمَا أَكثر مَا قَالَ السَّلَام عَلَيْهِ واستشرف جنانه من جنابه أمنا وذعرا أوجبتهما الْمُوَالَاة والمهابة وطالعت عينه أنواء وأنوارا تنْسب إِلَى بركاتها كل سَحَابَة وَكَاد ينزل عَن السُّرُوج والأكوار وَيقبل الثرى لأجل شرف الْجوَار وتستنفد غَلَّته مَاء الْفُرَات لِأَنَّهُ يمر بِتِلْكَ الديار وَيقْرَأ من صفائه صفاء تِلْكَ الخواطر الْعَظِيمَة الأخطار وَمن عذوبته ذَلِك الإنعام الَّذِي هُوَ أَعم وأغمر للأقطار من القطار وتنور دَار الْإِسْلَام من مَنْزِلَته فأدناه النّظر العالي وأسفلته آماله حوز الْفَوْز بِمَا قربه نجيا من قربهَا والآمال أمالي وَالله تَعَالَى(3/117)
يشرف أَرضًا هُوَ واطئها ويرعى سروجا هُوَ كالئها ويسعد بِهِ أمة هُوَ بارها طَاعَة لمن هُوَ بارئها
وَلما تحقق الْخَادِم أَن المواصلة قد واصلوا الفرنج مُوَاصلَة أَخْلصُوا فِيهَا الضمائر وَلم يستطيعوا فِيهَا كتمان السرائر وخصمتهم خطوط الْأَيْدِي المتمسكة بعصم الكوافر وعقدوا مَعَهم عقدا شهده من هُوَ حاضره وَنَقله إِلَى من سَمعه من هُوَ ناظره وَكَانَ عقدهم إِحْدَى عشرَة سنة والمستقر لَهُم فِي كل سنة عشرَة آلَاف دِينَار على أَن تسلم ثغور الْمُسلمين إِلَى الْكفَّار مِنْهَا بانياس وشقيف تيرون وحبيس جِلْدك وأسارى الفرنج فِي كل بَلْدَة بِأَيْدِيهِم وَفِي كل بلد يسترجعونه من الْخَادِم بمساعدة الفرنج
وَلما تمّ لَهُم هَذَا العقد وحملوا إِلَى الفرنج ذَلِك النَّقْد ظنُّوا أَن الْحق يجادله الْبَاطِل فيدحضه وَأَن يَد الْكفْر تنبسط إِلَى الْإِسْلَام فتقبضه وَأَن الْخَادِم لَا يُمكنهُ أَن يتَوَجَّه إِلَيْهِم إِلَّا بِأَن تكون الفرنج سلما وَلَا يَسْتَطِيع أَن يقسم العساكر فَيجْعَل بِإِزَاءِ الفرنج قسما وبإزائهم قسما وَعمِلُوا على هَذَا الْوَهم وبنوا على هَذَا الحكم واستنهضوا الفرنج على تثاقل الخطوة واستخرجوهم على مَا بهم من كلوم الْغَزْوَة بعد الْغَزْوَة فتحاملت أرجل الْكفْر على ظلعها وَخرجت على طمعها إِلَى قرعها وأنفقت فِي رجالها مَالا حملوه إِلَيْهِم(3/118)
جما وَجَرت إِلَى الْإِسْلَام جَيْشًا جهزه من يَدعِي الْإِسْلَام لفظا ويفارقه حكما وتواعد المواصلة مَعَ الفرنج ليطلبوا ولَايَة الْخَادِم من جَانب ويطلبها الفرنج من جَانب ونظروا فِيمَا يُوصل المساءة إِلَى الْخَادِم وَلم ينْظرُوا لِلْإِسْلَامِ فِي العواقب فوصل المواصلة إِلَى نَصِيبين مجدين محفلين وحركوا الفرنج لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّام متطرفين ومتوغلين فَلَا جرم أَن أُمَرَاء جانبهم وخواص صَاحبهمْ لم يسعهم المروق من الدّين وَلَا الْخُرُوج عَن زمرة الْمُوَحِّدين فأرضوا الله بإسخاطهم وَأَشْفَقُوا على دينهم إشفاقا دلّ على تحرزهم لَهُ واحتياطهم فاتبعوا الْحق وسلكوا سَبيله وَرفع لَهُم الْهدى مناره فاقتفوا دَلِيله {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} فاستعان الْخَادِم عَلَيْهِم بِاللَّه الَّذِي استعانوا على دينه بأعدائه وَلما رأى أَنهم قد أملوا النَّصْر من أَرضهم أمله من سمائه فرتب الْخَادِم فِي رَأس المَاء بِدِمَشْق بِإِزَاءِ الفرنج الْمَمْلُوك فرخشاه ابْن أَخِيه وَأبقى عَسْكَر الشَّام وحاميته فِيهِ واستنهض أَخَاهُ من مصر إِلَى مَا يَلِيهِ من بِلَاد الْكفْر فَنَهَضَ وَقَامَ للخادم بِمَا أَقَامَهُ لَهُ وَللَّه عز وَجل بِمَا فرض وَسَار الْخَادِم بالعسكر الْمصْرِيّ إِلَى هَذَا الْجَانِب الَّذِي هُوَ الْآن فِيهِ وَكَانَ أيسره يَكْفِيهِ وتثاقل فِي الطَّرِيق انتظارا لِأَن يَأْتُوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا(3/119)
ويفرجوا عَن الْولَايَة أَيدي اغتصابها وتعتذر إِلَى السَّيْف أَلْسِنَة تشفق على رقابها فَأَبَوا إِلَّا الإباء وَرَأَوا الْملك إِرْثا مَا ادعوا فِيهِ تَقْلِيد الْخُلَفَاء بل الْآبَاء
وَلما قرب الْخَادِم من الْفُرَات وصل إِلَيْهِ صَاحب حران ابْن زين الدّين عَليّ كوجك مقدم عَسْكَرهمْ وَابْن أَمِير معشرهم وَكَذَلِكَ صَاحب سروج وَصَاحب البيرة وكل بِيَدِهِ مَفَاتِيح بَلَده وأمامه أَمَان الْخَادِم لَهُ قد استبدله من مقلده ووراءه عسكره على كَمَال عدده وعدده وتوالت كتب أمرائهم الَّذين يَأْخُذُونَ إقطاعاتهم خدما ومصانعات ورعاياهم الَّذين يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم جنايات ومقاطعات ومكوسا وعشورا واحتكارات يرغبون إِلَى الْخَادِم فِي الإنفاذ ويحثونه فِي الْمسير على الأغذاذ ويشكون أَنهم مَعَ جوَار دَار الْخلَافَة المعظمة لَا يسْلك فيهم سننها وَلَا يقتفى فيهم شرائعها وسننها ونمي إِلَى الْخَادِم من تفاصيل المغارم الَّتِي تلْزم الْفَرِيقَيْنِ ويعدل بهَا عَن أقصد الطَّرِيقَيْنِ مَا يروع السَّامع وَيسمع الرائع ويسجل عَلَيْهِم بِالْخِلَافِ وَيشْهد لَهُم بالانحراف لأَنهم إِن ادعوا تقليدا فقد نقضه كَونهم ابتدعوا وَمَا اتبعُوا وَنَقَضُوا وَمَا افترضوا ومثلوا بِالْحَقِّ وَمَا امتثلوا وَأمرُوا بكف الْأَيْدِي وَقد بسطوها وبأخذ الْأَمْوَال من حلهَا وَقد خلطوها وبرعاية أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أسخطوه فِيهَا وأسخطوها
وَابْن الدعْوَة العباسية من رعاها لَا من ادَّعَاهَا والعهود وَصَايَا وَمَا الأولى بهَا من سَمعهَا بل من وعاها وَأي عهد لمن لَا عهد لَهُ بِالطَّاعَةِ وَأي ولَايَة(3/120)
لمأمور بِأَن يجمع أهل الْفرْقَة فَفرق أهل الْجَمَاعَة فالجندي تُؤْكَل الأَرْض باسمه وَلَا شَيْء بيدَيْهِ والعامي يرفع إِلَى السَّمَاء استغاثة مَا لَا يُمْهل الله عَلَيْهِ وَلَقَد تعجب الْخَادِم من إسفاف الْأَنْفس الغنية إِلَّا أَنَّهَا الفقيرة والارتفاق بِتِلْكَ الطّعْم الجليلة وَهِي على الْحَقِيقَة الحقيرة {يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم} الْآيَة
هَذَا إِلَى طامة أُخْرَى لَا تقر عَلَيْهَا الْجنُوب وَلَا تدر عَلَيْهَا الحلوب وَلَا ينَام على سهر بارقها وَإِن كَانَ الخلوب وَهُوَ أَن الْخَادِم بلغه أَنهم كاتبوا جِهَة من الْجِهَات الَّتِي الدولة منحرفة عَنْهَا وبذلوا الطَّاعَة لَهَا وَقد أمروا بالامتناع مِنْهَا وَهَذَا نَص فِي الْخلاف لَا يدْخلهُ التَّأْوِيل وَقَول قد أحَاط بِهِ الْعلم فَلَا يختلجه التقويل وكل صَغِيرَة من هَذِه الْكَبَائِر وكل وَاحِد من هَذَا الْجمع المتكاثر ينْقض الْولَايَة ويجرح الْعَدَالَة ويسلب الرشد وَيثبت الضَّلَالَة ويمضي نِيَّة الْوَلِيّ فِيمَا هُوَ لَهُ مَاض وَيبْعَث عزمه فَيَقْضِي مَا هُوَ قَاض ويسخطه وَكَيف لَا يسْخط وَالْمولى غير رَاض ويغيظه بِمَا لَا عذر لَهُ لمغتاظ منغاض
وَمَا أنهى الْخَادِم مِمَّا اتَّصل بِهِ الْأَوَائِل والأطراف وَمَا عول إِلَّا على مَا صححته النَّفس دون مَا خيله الإرجاف وَإِذ قد سَاق الله إِلَى هَذِه الْولَايَة حظها من معدلة كَانَ الزَّمَان بهَا طَويلا مطله وأنشأها(3/121)
سَحَاب إِحْسَان كَانَ بَعيدا عَلَيْهَا هطله فقد كفيت الخواطر الشَّرِيفَة مَا كَانَت بِهِ على اهتمامها كَمَا يجب للْأمة على إمامها وَإِلَيْهِ بتفويض الله يرجع أمرهَا وَبِيَدِهِ يجلب نَفعهَا ويجلى ضرها وَقد تَجَدَّدَتْ للدولة الشَّرِيفَة قُوَّة واستظهار وبسطة واقتدار وَسيف بِهِ يناضل من يسيء الْجوَار ولسان يُجَادِل بِهِ من يُرِيد الدَّار
وَكَانَ الْخَادِم طالع بوصول الأسطول الْمصْرِيّ إِلَى الشَّام الفرنجي وَمَا فعله فِي موانيه وسواحله وَمَا غنمه من مراكبه وقوافله وَورد كتاب من مصر بِأَنَّهُ كسب بطسة فرنجية خرج من فِيهَا هَارِبا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة لفتنة وَقعت فِيهَا بَين رومها وفرنجها فَقتل مِنْهُم خَمْسُونَ ألف فرنجي وأفلتت مِنْهُم بطس مِنْهَا هَذِه البطسة وفيهَا رجال أكَابِر ومقدمون لَهُم فِيهَا ذكر سَائِر وغنم المجاهدون مِنْهُم مَا مَلأ أَيْديهم من سبي وذخائر وانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل وحازت القبضة من الْأُسَارَى مَا يزِيد على أَربع مئة بعد من درج بِالْقَتْلِ
فصل
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ كَاتب السُّلْطَان الْمُلُوك بالوفود للاتفاق فَمن جَاءَ مستسلما سلمت بِلَاده على أَن يكون من أجناد السُّلْطَان وَأَتْبَاعه فِي جِهَاد الْكفَّار فجَاء رَسُول صَاحب حصن كيفا بالإذعان وَهُوَ نور الدّين(3/122)
مُحَمَّد بن قرا أرسلان
ثمَّ رَحل السُّلْطَان من البيرة وَنزل على الرها وَكَانَ فِيهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزّعفراني فأذعن وانقاد وتسلمها مظفر الدّين مُضَافَة لَهُ إِلَى حران
ثمَّ وصل السُّلْطَان إِلَى حران فرتبها وانفصل مِنْهَا إِلَى الرقة وفيهَا الْأَمِير قطب الدّين ينَال بن حسان فأذعن أَيْضا وَسلم وَلم يُوَافق مُرَاعَاة لصَاحبه فأصلحها السُّلْطَان
ورحل مِنْهَا إِلَى مشْهد الرُّمَّان ثمَّ إِلَى عرابان فتسلمها وَأصْلح من شَأْنهَا
وتواصلت أَخْبَار وُصُول السُّلْطَان الخابور وَمَا نشر من الْعدْل فِي الْبِلَاد الَّتِي فتحهَا ففتحت رَأس الْعين ودورين وماكسين والشمسانية والفدين والمجدل وَالْحصين
قَالَ وقطعنا نهر الخابور على قنطرة التنينير إِلَى نَصِيبين فاستعصت قلعتها أَيَّامًا ثمَّ فتحت استسلاما وولاها السُّلْطَان حسام الدّين أَبَا الهيجاء السمين وَولى الخابور جمال الدّين خوشترين
ثمَّ سرنا إِلَى الْموصل وقطعنا أَعمال بَين النهرين ثمَّ أَعمال الْبقْعَة ثمَّ سرنا إِلَى بلد وأشرفنا على دجلة وَكُنَّا أوردنا خَيْلنَا فِي أشهر من تِلْكَ السّنة نيل(3/123)
مصر والفرات ودجلة ثمَّ صممنا على قصد الْموصل فَلَمَّا قربنا من الْوُصُول كبرنا تَكْبِير من ظفر بالسول وَتقدم السُّلْطَان فِي الْأُمَرَاء ذَوي الآراء وَدَار حول السُّور وَعين لكل مقدم مقَاما فَنزل هُوَ وَرَاء الْبَلَد وتقي الدّين من شرقيه وَأَخُوهُ تَاج الْمُلُوك بوري عِنْد بَاب الْعمادِيَّة فحصلت المحاصرة والمضايقة وَتَوَلَّى مُجَاهِد الدّين قايماز حفظ الْبَلَد بِأَحْسَن تَدْبِير وَكَاتب الدِّيوَان الْعَزِيز فِي أَن يشفع لَهُم إِلَى السُّلْطَان فَقدم فِي ذَلِك صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير فِي الشَّفَاعَة فَرَحل السُّلْطَان عَنْهَا فِي شعْبَان وَقصد سنجار وَقدم أَمَامه تَقِيّ الدّين
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ نزُول السُّلْطَان على الْموصل فِي هَذِه الدفعة يَوْم الْخَمِيس حادي عشر رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وَكنت إِذْ ذَاك بالموصل فسيرت رَسُولا إِلَى بَغْدَاد قبيل نُزُوله بأيام قَلَائِل فسرت مسرعا فِي دجلة وأتيت بَغْدَاد فِي يَوْمَيْنِ وساعتين من الْيَوْم الثَّالِث مستنجدا بهم فَلم يحصل مِنْهُم سوى الإنفاذ إِلَى شيخ الشُّيُوخ وَكَانَ فِي صحبته رَسُولا من جانبهم يأمرونه بِالْحَدِيثِ مَعَه وتلطف الْحَال مَعَه وسير إِلَى بهلوان رَسُول من الْموصل يستنجده فَلم يحصل من جَانِبه(3/124)
سوى تشرط كَانَ الدُّخُول تَحْتَهُ أخطر من حَرْب السُّلْطَان
ثمَّ أَقَامَ السُّلْطَان على الْموصل أَيَّامًا وَعلم أَنه بلد عَظِيم لَا يتَحَصَّل مِنْهُ شَيْء بالمحاصرة على هَذَا الْوَجْه وَرَأى أَن طَرِيق أَخذه أَخذ قلاعه وَمَا حوله من الْبِلَاد وإضعافه بطول الزَّمَان فَرَحل عَنهُ وَنزل على سنجار فِي سادس عشر شعْبَان فَأَقَامَ يحاصرها وفيهَا شرف الدّين بن قطب الدّين وَجَمَاعَة وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمر حَتَّى كَانَ ثَانِي شهر رَمَضَان فَأَخذهَا عنْوَة وَخرج شرف الدّين وجماعته محترمين محفوظين إِلَى الْموصل وَأَعْطَاهَا السُّلْطَان ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين ورحل عَنْهَا إِلَى نَصِيبين
وَقَالَ الْعِمَاد لما قصد السُّلْطَان سنجار نزل بارنجان فَوجدَ بهَا عسكرا من الْموصل سائرا إِلَيْهَا فأحاط بِهِ وَأخذ خيلهم وعددهم وردهم إِلَى الْموصل رجالة وَوصل إِلَى سنجار وَمَعَهُ رسل دَار الْخلَافَة وَنور الدّين صَاحب حصن كيفا وَكَانَ فِي سنجار شرف الدّين أَخُو صَاحب الْموصل فَامْتنعَ من تَسْلِيمهَا فحوصر ورميت القلعة بالمنجنيق فانهدم مِنْهَا ثلمة من السُّور فَوكل بهَا من يحفظها وَدخل شهر رَمَضَان فَكف السُّلْطَان عَن الْقِتَال ثمَّ جَاءَهُ الْخَبَر لَيْلَة أَن الموكلين بِحِفْظ تِلْكَ الثلمة نيام فَأرْسل إِلَيْهِم من أوثقهم وَحَملهمْ إِلَيْهِ وَكَانَ فيهم جمَاعَة من المقدمين والأعيان فَلَمَّا أصبح صَاحب سنجار أذعن وَسلم ورحل بأَهْله وَمَاله وَدخل السُّلْطَان(3/125)
القلعة ورتبها وَأمر بعمارتها وولاها الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن أنر وَكَانَ السُّلْطَان يعْتَمد عَلَيْهِ وَأُخْته ابْنة معِين الدّين كَانَت فِي حبالة السُّلْطَان وَكَانَ رُؤَسَاء سنجار بني يَعْقُوب فَتركت الرياسة فيهم وَولى الْقَضَاء مِنْهُم نظام الدّين نصر بن المظفر بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى نَصِيبين فَأَقَامَ بهَا لِأَن الْأَيَّام كَانَت بَارِدَة وَمِنْهَا ودع رسل دَار الْخلَافَة وشكا أهل نَصِيبين من أميرها أبي الهيجاء السمين فاستصحبه السُّلْطَان مَعَه وَسَار إِلَى دَارا وأميرها صمصام الدّين بهْرَام الأرتقي فَتلقى السُّلْطَان بِأَحْسَن ملقى فَأكْرمه وَسَار إِلَى حران وَأقَام بهَا للاستراحة وَعَاد كل إِلَى بَلَده وَسَار تَقِيّ الدّين إِلَى حماة
هَذَا والمواصلة فِي جد من جمع الجموع وبغاء الغوائل للسُّلْطَان
فصل فِي وَفَاة فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة فِي جُمَادَى الأولى توفّي بِدِمَشْق الْملك الْمَنْصُور عز الدّين فرخشاه وَوصل خَبره إِلَى السُّلْطَان عِنْد عبوره(3/126)
الْفُرَات فَأقر السُّلْطَان وَلَده الْملك الأمجد بهرامشاه على بعلبك وأعمالها مَكَان أَبِيه وَنفذ شمس الدّين بن الْمُقدم واليا مَكَانَهُ على دمشق وأعمالها
قَالَ ابْن أبي طي كَانَ فرخشاه من أكْرم النَّاس يدا وأطهرهم أَخْلَاقًا وأسدهم رَأيا وأشجعهم قلبا وَمِمَّا يحْكى من كرمه أَنه دخل الْحمام يَوْمًا فَرَأى رجلا قد قعد بِهِ الزَّمَان وَكَانَ يعرفهُ من أهل الْيَسَار وَشَاهد عَلَيْهِ ثيابًا رثَّة يبين مِنْهَا بعض جسده فاستدعى بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج الرجل إِلَى لبسه
وببغلة مسرجة وبألف دِينَار وَقَالَ لبَعض غلمانه اجْعَل هَذَا كُله فِي مَوضِع ثِيَاب الرجل وَخذ ثِيَابه وَاجعَل هَذَا الْغُلَام وَالْبَغْلَة لَهُ
فَفعل
فَلَمَّا تغسل الرجل وَخرج رأى مَوضِع ثِيَابه تِلْكَ الثِّيَاب فَسَأَلَ الحمامي عَن ثِيَابه فَقَالَ انبدلت بِهَذِهِ الثِّيَاب
فَتقدم إِلَيْهِ الْغُلَام وَأخْبرهُ بِجَمِيعِ مَا صنعه عز الدّين وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ قد أجْرى عَلَيْهِ معيشة عشْرين دِينَارا فِي كل شهر فَلبس الثِّيَاب وَخرج من الْحمام وَهُوَ من أغْنى النَّاس
قَالَ وَكَانَ فرخشاه ممدحا مدحه ابْن سَعْدَان بعدة قصائد من جُمْلَتهَا الَّتِي يَقُول فِيهَا
(تخذ السابري لبدا وعود الزَّمَان ... نابا والهندواني ظفرا)(3/127)
(أعجمي الْأَنْسَاب قصرت الْأَعْرَاب ... عَنهُ سجعا ونظما ونثرا)
(هزمت كتبه الْكَتَائِب جفلا ... وأعادت دجى الْحَوَادِث فجرا)
(فَهُوَ كالمازني علما وكالأحنف ... حلما وكالفرزدق شعرًا)
قَالَ وَكَانَ فرخشاه مُضَافا إِلَى شجاعته عَالما متفننا كثير الْأَدَب مطبوع النّظم والنثر فَمن شعره قَوْله
(أَنا فِي أسر السقام ... من هوى هَذَا الْغُلَام)
(رشأ ترشق عَيناهُ ... فُؤَادِي بسهام)
(كلما أرشفني فَاه ... على حر الأوام)
(ذقت مِنْهُ الثَّلج فِي الشهد ... الْمُصَفّى فِي المدام)
قلت ونبغ ابْنه الأمجد أَيْضا شَاعِرًا وَكَانَ السُّلْطَان كثير الِاعْتِمَاد على فرخشاه(3/128)
وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَيْهِ وصل كِتَابه يتَضَمَّن خُرُوج الفرنج وَمَا دبره من الْأَحْوَال وأعده من مكايد الْقِتَال ولسنا نستبعد أَن يدني الله بِهِ كل بعيد من المُرَاد وَأَن يُقَابل بتدبيره تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد وَأَن يجْرِي على يَده أول النَّحْل الَّذِي توعد بِهِ آخر صَاد وَأَن يصب بِهِ على الْمُشْركين سَوط عَذَاب إِن رَبك لبالمرصاد
وَقَالَ الْعِمَاد وَكَانَ عز الدّين فرخشاه من أهل الْفضل ويفضل على أَهله ويغني الْكِرَام عَن الابتذال بكرم بذله
وَمن أخص خواصه وَذَوي اصطفائه واستخلاصه الصَّدْر الْكَبِير الْعَالم تَاج الدّين أَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ أوحد عصره ونسيج وَحده وقريع دهره وعلامة زَمَانه وَحسان إحسانه ووزير دسته ومشير وقته وجليس أنسه ورفيق درسه وشعاع شمسه وحبِيب نَفسه ولي فِي هَذَا الْملك قصائد مِنْهَا قصيدة هائية موسومة مدحته بهَا فِي أول سنة صَحِبت فِيهَا السُّلْطَان إِلَى مصر وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وعارضها تَاج الدّين أَبُو الْيمن بِكَلِمَة بديعة فِي وَزنهَا ورويها وَحسن زيها فَأَما كلمتي فَهِيَ(3/129)
(بَين أَمر حلاوة الْعَيْش الشهي ... وَهوى أحَال غضارة الزَّمن الْبَهِي)
(وصبابة لَا أستقل بشرحها ... عَن حصرها حصر البليغ المدره)
(أأحبتي إِن غبت عَنْكُم فالهوى ... دَان لقلب بالغرام موله)
(أنهِي إِلَيْكُم أَن صبري منتىء ... بل منته والشوق لَيْسَ بمنته)
(أما عُقُود مدامعي فَلَقَد وهت ... وأبت عُقُود الود مني أَن تهي)
(وَلَقَد دهيت ببينكم فاشتقتكم ... يَا من لمشتاق ببينكم دهي)
(فِي شوقكم أَبَد الزَّمَان تفكري ... وبذكركم عِنْد الْكِرَام تفكهي)
(لَو قيل لي مَا تشْتَهي من هَذِه الدُّنْيَا ... لَقلت سواكم لَا اشتهي)
(مَا كَانَ أرفه عيشتي وألذها ... من ذَا الَّذِي يبْقى بعيش أرفه)
(وَمن السفاهة أنني فارقتكم ... من أَيْن ذُو الْحلم الَّذِي لم يسفه)
وَمِنْهَا
(وعقاب أَيْلَة لَا يُفَارق جلقا ... أحد إِلَيْهَا غير غر أبله)
(مَالِي ومصر وللمطامع إِنَّمَا ... ملكت قيادي حَيْثُ لم أتنزه)
(لَا تنهني يَا عاذلي فَأَنا الَّذِي ... تبع الْهوى وأتى بِمَا عَنهُ نهي)
(قد قلت للحادي وَقد ناديته ... فِي مهمه أقصر وصلت مَه مَه)
(حتام جذبك للزمام فأرخه ... فَلَقَد أنخت إِلَى ذرى فرخشه)
(متكرم بالطبع لَا متكره ... شتان بَين تكرم وَتكره)
(إِحْسَان ذِي مجد وهمة محسن ... مجد وتقوى عَابِد متأله)(3/130)
وَهِي ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ بَيْتا وَالْقَصِيدَة التاجية تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا أَولهَا
(هَل أَنْت رَاحِم عِبْرَة وتوله ... ومجير صب عِنْد مأمنه دهي)
(هَيْهَات يرحم قَاتل مقتوله ... وسنانه فِي الْقلب غير منهنه)
(من بل من دَاء الغرام فإنني ... مذ حل بِي مرض الْهوى لم أنقه)
(إِنِّي بليت بحب أغيد سَاحر ... بلحاظه رخص البنان برهره)
(أبغي شِفَاء تدلهي من دله ... وَمَتى يرق مدلل لمدله)
(يَا مُفردا بالْحسنِ إِنَّك منته ... فِيهِ كَمَا أَنا فِي الصبابة منتهي)
(قد لَام فِيك معاشر أفأنتهي ... باللوم عَن حب الْحَيَاة وَأَنت هِيَ)
(أبْكِي لَدَيْهِ فَإِن أحس بلوعة ... وتشهق أوما بِطرف مقهقه)
(أَنا من محاسنه وحالي عِنْده ... حيران بَين تفكه وتفكه)
(ضدان قد جمعا بِلَفْظ وَاحِد ... لي فِي هَوَاهُ بمعنيين موجه)
قلت يُقَال تفكهت بالشَّيْء أَي تمتعت بِهِ وتفكهت أَي تعجبت وَيُقَال تندمت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فظلتم تفكهون} فَهُوَ فِي تفكه أَي تمتّع بالمحاسن وَفِي تعجب من حَاله وتندم عَلَيْهَا
ثمَّ قَالَ
(أَنا عبد من شهد الزَّمَان بعجزه ... عَن أَن يَجِيء لَهُ بند مشبه)
(عبد لعز الدّين ذِي الشّرف الَّذِي ... ذل الْمُلُوك لعزه فرخشه)(3/131)
(طابت موارده فغص فناؤه ... وشدا الحداة بِذكرِهِ فِي المهمه)
(يفديك كل مملك متتايه ... أبدا بألسنة الرعاع ممده)
(لَا يفقه النَّجْوَى إِذا حدثته ... وَإِذا بدا بحَديثه لم يفقه)
قلت وَذكر الْعِمَاد فِي ديوانه أبياتا حَسَنَة فِي مدح الشَّيْخ تَاج الدّين أبي الْيمن رحمهمَا الله
(تَذَاكر من وراد مصر عِصَابَة ... حَدِيث فَتى طَابَ الندي بِذكرِهِ)
(وَقَالُوا رَأينَا فَاضلا ذَا نباهة ... أديبا يفوق الفاضلين بفخره)
(يدين حبيب والوليد لنظمه ... وَيَحْمَدهُ عبد الحميد لنثره)
(وَلَو عَاشَ قس فِي زمَان بَيَانه ... لَكَانَ مشيدا فِي الْبَيَان بشكره)
(فضائله كَالشَّمْسِ نورا وَلم تزل ... مناقبه فِي الدَّهْر أعداد زهره)
(بَيَان هُوَ السحر الْحَلَال وإننا ... نرى معجزا من فَضله حل سحره)
(ذَوُو الْفضل هم عِنْد الْحَقِيقَة أبحر ... وَلَكنهُمْ أضحوا جداول بحره)(3/132)
(يضوع مهب الْحَمد من عرف عرفه ... وتأرج أرجاء الرَّجَاء بنشره)
(فَقلت لَهُم هَذَا الَّذِي تصفونه ... أَبُو الْيمن تَاج الدّين أوحد عصره)
قلت وَبَلغنِي أَن أول معرفَة فرخشاه بِهِ أَنه كَانَ فِي مجْلِس القَاضِي الْفَاضِل بِالْقَاهِرَةِ فجَاء فرخشاه إِلَى الْفَاضِل فَجرى ذكر بَيت من شعر أبي الطّيب المتنبي فَتكلم فِيهِ تَاج الدّين بِمَا يَلِيق بِهِ فأعجب فرخشاه وَسَأَلَ القَاضِي الْفَاضِل عَنهُ فَقَالَ هَذَا فلَان
وعرفه بفضله فَلَمَّا قَامَ فرخشاه من مجْلِس الْفَاضِل أَخذ بيد الشَّيْخ تَاج الدّين وَخرج بِهِ وَلَزِمَه إِلَى أَن توفّي رَحِمهم الله أَجْمَعِينَ
فصل فِي أَخذ السالكين الْبَحْر لقصد الْحجاز
قَالَ الْعِمَاد وَفِي شَوَّال سنة ثَمَان وَسبعين كَانَت نصْرَة الأسطول المتوجه إِلَى بَحر القلزم والمقدم فِيهِ الْحَاجِب حسام الدّين لُؤْلُؤ(3/133)
لطلب الفرنج السالكين بَحر الْحجاز وَذَلِكَ أَن الإبرنس صَاحب الكرك لما صَعب عَلَيْهِ مَا توالى عَلَيْهِ من نكاية أَصْحَابنَا المقيمين بقلعة أَيْلَة وَهِي فِي وسط الْبَحْر لَا سَبِيل عَلَيْهَا لأهل الْكفْر أفكر فِي أَسبَاب احتياله وَفتح أَبْوَاب اغتياله فَبنى سفنا وَنقل أخشابها على الْجمال إِلَى السَّاحِل ثمَّ ركب المراكب وشحنها بِالرِّجَالِ وآلات الْقِتَال ووقف مِنْهَا مركبين على جَزِيرَة القلعة فَمنع أَهلهَا من استقاء المَاء وَمضى الْبَاقُونَ فِي مراكب نَحْو عيذاب فَقطعُوا طَرِيق التُّجَّار وشرعوا فِي الْقَتْل والنهب والإسار ثمَّ توجهوا إِلَى أَرض الْحجاز فَتعذر على النَّاس وَجه الِاحْتِرَاز فَعظم الْبلَاء وأعضل الدَّاء وأشرف أهل الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة مِنْهُم على خطر وَوصل الْخَبَر إِلَى مصر وَبهَا الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان فَأمر الْحَاجِب حسام الدّين لُؤْلُؤ فعمر فِي بَحر القلزم مراكب بِالرِّجَالِ البحرية ذَوي التجربة من أهل النخوة للدّين وَالْحمية وَسَار إِلَى أَيْلَة فظفر بالمركب الفرنجي عِنْدهَا فخرق السَّفِينَة وَأخذ جندها ثمَّ عدى إِلَى عيذاب وَشَاهد بِأَهْلِهَا الْعَذَاب وَدلّ على مراكب الْعَدو فتبعها فَوَقع بهَا بعد أَيَّام فأوقع بهَا وواقعها وَأطلق المأسورين من التُّجَّار ورد عَلَيْهِم كل مَا أَخذ لَهُم ثمَّ صعد إِلَى الْبر فَوجدَ أعرابا قد نزلُوا مِنْهُ شعابا فَركب خيلهم وَرَاء الهاربين وَكَانُوا فِي أَرض تِلْكَ الطّرق ضاربين فحصرهم فِي شعب لَا مَاء فِيهِ فأسرهم بأسرهم وَكَانَ ذَلِك فِي أشهر الْحَج فساق مِنْهُم أسيرين إِلَى منى(3/134)
كَمَا يساق الْهَدْي وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَمَعَهُ الْأُسَارَى فَكتب السُّلْطَان إِلَيْهِ بِضَرْب رقابهم وَقطع أسبابهم بِحَيْثُ لَا تبقى مِنْهُم عين تطرف وَلَا أحد يخبر طَرِيق ذَلِك الْبَحْر أَو يعرف
قلت وَلأبي الْحسن بن الذروي فِي الْحَاجِب لُؤْلُؤ بِسَبَب هَذِه الْوَقْعَة أشعار مِنْهَا
(مر يَوْم من الزَّمَان عَجِيب ... كَاد يُبْدِي فِيهِ السرُور الجماد)
(إِذا أَتَى الْحَاجِب الْأَجَل بأسرى ... قرنتهم فِي طيها الأصفاد)
(بِجَمَال كأنهن جبال ... وعلوج كَأَنَّهُمْ أطواد)
(قلت بعد التَّكْبِير لما تبدى ... هَكَذَا هَكَذَا يكون الْجِهَاد)
(حبذا لُؤْلُؤ يصيد الأعادي ... وسواه من اللآلي يصاد)
وَمِنْهَا
(قلت وَقد سَافَرت يَا من غَدا ... جهاده يعضد من حجه)
(إِذْ قيل سَار الْحَاجِب المرتجى ... فِي الْبَحْر يَا رب السما نجه)(3/135)
(الْبَحْر لَا يعدو على لُؤْلُؤ ... لِأَنَّهُ كَون من لجه)
وَمِنْهَا
(يَا حَاجِب الْمجد الَّذِي مَاله ... لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الندى حجبه)
(وَمن دَعوه لؤلؤا عِنْدَمَا ... صحت من الْبَحْر لَهُ نسبه)
(لله مَا تعْمل من صَالح ... فِيهِ وَمَا تظهر من حَسبه)
(كفيت أهل الْحَرَمَيْنِ العدى ... وذدت عَن أَحْمد والكعبة)
وَمِنْهَا
(لَئِن كنت من ذَا الْبَحْر يَا لُؤْلُؤ الْعلَا ... نتجت فَإِن الْجُود فِيك وَفِيه)
(وَإِن لم تكن مِنْهُ لأجل مذاقه ... فَإنَّك من بَحر السماح أَخِيه)
وَمِنْهَا
(إِنَّمَا أَنْت لُؤْلُؤ للمعالي ... جَاءَ من أبحر السماح الْعَذَاب)
وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل من كَلَام الْفَاضِل وصل كِتَابه المؤرخ بخامس ذِي الْقعدَة المسفر عَن المسفر من الْأَخْبَار المتبسم عَن المتبسم من الْآثَار وَهِي نعْمَة تَضَمَّنت نعما ونصرة جعلت الْحرم حرما وكفاية مَا كَانَ الله ليؤخر معْجزَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتأخيرها وعجيبة من عجائب الْبَحْر الَّتِي تحدث عَن تسييرها وتسخيرها وَمَا كَانَ الْحَاجِب لُؤْلُؤ فِيهَا إِلَّا سَهْما أصَاب وَحمد مسدده وسيفا قطع وشكر مجرده ورسولا عَلَيْهِ الْبَلَاغ وَإِن لم يجهل مَا أثرته يَده وَقد غبطناه بِأَجْر جهاده ونجح اجْتِهَاده
ركب السَّبِيلَيْنِ برا(3/136)
وبحرا وامتطى السَّابِقين مركبا وظهرا وخطا فأوسع الخطو وغزا فأنجح الْغَزْو وحبذا الْعَنَان الَّذِي فِي هَذِه الْغَزْوَة أطلق وَالْمَال الَّذِي فِي هَذِه الكرة أنْفق وَهَؤُلَاء الْأُسَارَى فقد ظَهَرُوا على عَورَة الْإِسْلَام وكشفوها وتطرقوا بِلَاد الْقبْلَة وتطوفوها وَلَو جرى فِي ذَلِك سَبَب وَالْعِيَاذ بِاللَّه لضاقت الْأَعْذَار إِلَى الله والخلق وَانْطَلَقت الألسن بالمذمة فِي الغرب والشرق وَلَا بُد من تَطْهِير الأَرْض من أرجاسهم والهواء من أنفاسهم بِحَيْثُ لَا يعود مِنْهُم مخبر يدل الْكفَّار على عورات الْمُسلمين وَإِن هَذَا الْعدَد الْقَلِيل قد نَالَ ذَلِك المنال الْجَلِيل وَهَذَا مقَام إِن روعي فِيهِ حراسة الظَّاهِر وَالْوَفَاء للْكَافِرِ حدث الفتق الَّذِي لَا يُمكن فِي كل الْأَوْقَات سَده ورتقه ولدغ الْمُؤمن مرَّتَيْنِ وَالْأولَى تَكْفِي لمن لَهُ فِي النّظر تفقه
وَفِي كتاب آخر إِلَى الْعَادِل أَيْضا وَنحن نهنىء الْمجْلس السَّامِي بظفره وَلم لَا نكمله وبنصره وَلم لَا نشكره شكرا نعجله وَلَيْسَ فِي قتل هَؤُلَاءِ الْكفَّار مُرَاجعَة وللشرع فِي إبقائهم فسحة وَلَا فِي اسْتِبْقَاء وَاحِد مِنْهُم مصلحَة وَلَا فِي التغاضي عَنْهُم عِنْد الله عذر مَقْبُول وَلَا حكم الله فِي أمثالهم عِنْد أهل الْعلم بمشكل وَلَا مَجْهُول فليمض الْعَزْم فِي قَتلهمْ ليتناهى أمثالهم عَن فعلهم وَقد كَانَت عَظِيمَة مَا طرق الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا وَقد أَتَى الله بعْدهَا بلطيفة أجراها على يَد من رَآهُ من أَهلهَا
وَفِي كتاب آخر إِلَى الْعَادِل وَقد تكَرر القَوْل فِي معنى أُسَارَى بَحر الْحجاز فَلَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا وَلَا توردهم بعد(3/137)
مَاء الْبَحْر إِلَّا نَارا فأقلهم إِذا بَقِي جنى الْأَمر الأصعب وَمَتى لم تعجل الرَّاحَة مِنْهُم وعدت الْعَاقِبَة بالأشق الأتعب
وَمن كتاب آخر إِلَى بَغْدَاد وسارت المراكب الإسلامية طالبة شَوْكَة المراكب الحربية المتعرضة للمراكب الحجازية واليمنية
وَكَانَت مراكب الْعَدو قد أوغلت فِي الْبَحْر ودلها على عورات الساحلين من الْعَرَب من أشبه ركابهَا فِي الْكفْر فوصلت إِلَى عيذاب فَلم تنَلْ مِنْهَا مرَادا غير أَن مَا وجدته فِي طريقها أَو فِي فرضة عيذاب نَالَتْ مِنْهُ وشعثت وأفسدت فِيهِ وعتت وتمادت فِي السَّاحِل الْحِجَازِي إِلَى رابغ إِلَى سواحل الْحَوْرَاء وَهُنَاكَ وَقع عَلَيْهَا أَصْحَابنَا وأوقعوا بهَا أَشد إِيقَاع وَأخذُوا المراكب الفرنجية على حكم البدار والإسراع وفر فرنجها إِلَى السَّاحِل فَركب أَصْحَابنَا وَرَاءَهُمْ خُيُول العربان الَّتِي وجدوها وَأخذُوا الْكفَّار من شعاب وجبال اعتصموا بهَا وقصدوها وكفي الْمُسلمُونَ أَشد فَسَاد فِي أَرضهم وأقطع قَاطع لفرضهم وانبسطت أمالهم بقبضهم وعميت على الْكفَّار هَذِه الطَّرِيق الَّتِي لَو كشف لَهُم غطاؤها قدما وَلَو أحاطوا بهَا علما لاشتطت نكايتهم واشتدت جنايتهم وَعز على قدماء مُلُوك مصر أَن يصرعوا هَذِه الأقران ويطفؤوا هَذِه النيرَان ويركبوا غوارب اللجج(3/138)
ويرخصوا غوالي المهج ويقتنصوا هَذَا الطَّائِر من جوه الَّذِي لَا يُدْرِكهُ لوحه ويدركوا هَذَا الْعَدو الَّذِي لَا يدْرك إِلَّا أَن ينجد عَلَيْهِ مَلَائِكَة الله وروحه
وَفِي كتاب آخر إِلَى بَغْدَاد كَانَ الفرنج قد ركبُوا من الْأَمر نكرا وافتضوا من الْبَحْر بكرا وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد وضربوا بهَا سواحل الْيمن والحجاز وأثختوا وأوغلوا فِي الْبِلَاد واشتدت مَخَافَة أهل تِلْكَ الجوانب بل أهل الْقبْلَة لما أومض إِلَيْهِم من خلل العواقب وَمَا ظن الْمُسلمُونَ إِلَّا أَنَّهَا السَّاعَة وَقد نشر مطوي أشراطها وَالدُّنْيَا قد طوي منشور بساطها وانتظر غضب الله لفناء بَيته الْمحرم ومقام خَلِيله الأكرم وتراث أنبيائه الأقدم وضريح نبيه الْأَعْظَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجوا أَن تشحذ البصائر آيَة كآية هَذَا الْبَيْت إِذْ قَصده أَصْحَاب الْفِيل ووكلوا إِلَى الله الْأَمر وَكَانَ حسبهم وَنعم الْوَكِيل
وَكَانَ للفرنج مقصدان أَحدهمَا قلعة أَيْلَة الَّتِي هِيَ على فوهة بَحر الْحجاز ومداخله وَالْآخر الْخَوْض فِي هَذَا الْبَحْر الَّذِي تجاوره بِلَادهمْ من ساحله وانقسموا فريقين وسلكوا طَرِيقين فَأَما الْفَرِيق الَّذِي قصد قلعة أَيْلَة فَإِنَّهُ قدر أَن يمْنَع أَهلهَا من مورد المَاء الَّذِي بِهِ قوام الْحَيَاة ويقاتلهم بِنَار الْعَطش المشبوب الشباة وَأما الْفَرِيق القاصد سواحل الْحجاز واليمن فَقدر أَن يمْنَع طَرِيق الْحَاج عَن حجه ويحول بَينه وَبَين فجه وَيَأْخُذ تجار الْيمن وأكارم عدن ويلم بسواحل الْحجاز فيستبيح وَالْعِيَاذ بِاللَّه(3/139)
الْمَحَارِم ويهيج جَزِيرَة الْعَرَب بعظيمة دونهَا العظائم
وَكَانَ الْأَخ سيف الدّين بِمصْر قد عمر مراكب وفرقها على الْفَرِيقَيْنِ وأمرها بِأَن تطوي وَرَاءَهُمْ الشقتَيْنِ فَأَما السائرة إِلَى قلعة أَيْلَة فَإِنَّهَا انْقَضتْ على مرابطي المَاء انقضاض الْجَوَارِح على بَنَات المَاء وقذفتها قذف شهب السَّمَاء مسترقي سمع الظلماء فَأخذت مراكب الْعَدو برمتها وَقتلت أَكثر مقاتلتها إِلَّا من تعلق بهضبة وَمَا كَاد أَو دخل فِي شعب وَمَا عَاد فَإِن العربان اقتصوا آثَارهم والتزموا إحضارهم فَلم ينج مِنْهُم إِلَّا من ينْهَى عَن المعاودة وَمن قد علم أَن أَمر السَّاعَة وَاحِدَة
وَأما السائرة إِلَى بَحر الْحجاز فتمادت فِي السَّاحِل الْحِجَازِي إِلَى رابغ إِلَى سواحل الْحَوْرَاء فَأخذت تجارًا وأخافت رفاقا ودلها على عورات الْبِلَاد من الْأَعْرَاب من هُوَ أَشد كفرا ونفاقا وَهُنَاكَ وَقع عَلَيْهَا أَصْحَابنَا وَأخذت المراكب بأسرها وفر فرنجها بعد إِسْلَام المراكب وسلكوا فِي الْجبَال مهاوي المهالك ومعاطن المعاطب وَركب أَصْحَابنَا وَرَاءَهُمْ خيل الْعَرَب يشلونهم شلا ويقتنصونهم أسرا وقتلا وَمَا زَالُوا يتبعونهم خَمْسَة أَيَّام خيلا ورجلا وَنَهَارًا وليلا حَتَّى لم يتْركُوا عَنْهُم مخبرا وَلم يبقوا لَهُم أثرا {وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا} وَقيد(3/140)
مِنْهُم إِلَى مصر مئة وَسَبْعُونَ أسرا
وَمن كتاب آخر وَمن جملَة البشائر الْوَاصِلَة من مصر عود الأسطول مرّة ثَانِيَة كاسرا كاسبا غانما غَالِبا بعد نكايته فِي أهل الجزائر وإخراب مَا وجده فِيهَا من الْأَعْمَال والعمائر وَمن جملَة مَا ظفر بِهِ فِي طَرِيقه بطسة من مراكب الفرنج تحمل أخشابا منجورة إِلَى عكا وَمَعَهَا نجارون ليبنوا مِنْهَا شواني فَأسر النجارون وَمن مَعَهم وهم نَيف وَسَبْعُونَ
وَأما الأخشاب فقد انْتفع بهَا المجاهدون وكفي شَرها الْمُؤْمِنُونَ وللخادم فِي الْمغرب عَسْكَر قد بلغت أقْصَى أفريقية فتوحه وعاود بِهِ شخص الدّين فِي تِلْكَ الْبِلَاد روحه
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وَهِي سنة ثَمَان وَسبعين أنعم السُّلْطَان على نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بأعمال الْهَيْثَم وَكَانَت جَارِيَة فِي عمل الْموصل فَلَمَّا تسلمها جعلهَا من نصِيبه
وَقد كَانَ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله حِين توجه إِلَى الْموصل فِي أَوَائِل سنة سِتّ وَسِتِّينَ عِنْد وَفَاة أَخِيه مودود وعد ابْن قَرَأَ أرسلان بقلعة الْهَيْثَم ثمَّ(3/141)
سلمهَا إِلَيْهِ دون أَعمالهَا تَحِلَّة ليمينه ووفاء بوعده الْكَرِيم وَدينه وَلما جَاءَ لمساعدتنا فِي هَذَا الْعَام خصّه السُّلْطَان عَاجلا بِهَذَا الإنعام ثمَّ وهب لَهُ قلعة الجديدة وَهِي قريبَة من نَصِيبين ووعده بِفَتْح آمد لَهُ فوفى بوعده كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ وَكَانَ شاه أرمن صَاحب خلاط ظهير الدّين سكمان وَهُوَ خَال صَاحب ماردين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش وَصَاحب ماردين هَذَا هُوَ ابْن خَال صَاحب الْموصل عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي فنفذ شاه أرمن يشفع إِلَى السُّلْطَان فِي الْموصل وسنجار وَهُوَ على سنجار وَأرْسل إِلَيْهِ سيف الدّين بكتمر وَهُوَ من أعز أَصْحَابه عَلَيْهِ فَلم يسمع السُّلْطَان شَفَاعَته فَاجْتمع هُوَ وَصَاحب ماردين وَصَاحب الْموصل وَصَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم من عَسْكَر حلب وجمعوا جموعا وعزموا على لِقَاء السُّلْطَان ونزلوا ضَيْعَة من أَعمال ماردين يُقَال لَهَا حرزم فَجمع السُّلْطَان عساكره وجاءه تَقِيّ الدّين من حماة إِلَى حران فِي خمس لَيَال فَسَارُوا إِلَيْهِم بعد الْعِيد الْأَكْبَر فَلَمَّا وصل السُّلْطَان رَأس عين وسمعوا بمجيئه تفَرقُوا وافترقوا وَعَاد الخلاطي إِلَى خلاطه(3/142)
باختلاطه وَرجع الْموصِلِي إِلَى موصله لمواصلة احتياطه واعتصم الماردي بحصنه المارد وهتكوا حرز حرزم للصادر والوارد وهاب عَسْكَر حلب الْعود إِلَيْهَا وَنحن على طَرِيقه فآذن جمعه بتفريقه وَمضى معظمهم إِلَى الْموصل فَعبر الْفُرَات عِنْد عانة وَلم يَجدوا إِعَانَة ونسفتهم ريحنا وهم جبال وذهبوا بقلوب النِّسَاء وَقد جاؤوا وهم رجال ثمَّ نزل السُّلْطَان منزلَة الْقَوْم بحرزم وفيهَا قصر لصَاحب ماردين كَانَ يتنزه فِيهِ فَأَقَامَ فِيهِ تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان
قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة نزل قراقوش على بلد زالوت وقاتله إِلَى أَن ملكه وَانْهَزَمَ مِنْهُ أَهله وَدخل الْمَدِينَة ليقضي بهَا أَيَّام الشتَاء فَأصْبح يَوْمًا فَإِذا حول الْمَدِينَة عَسْكَر مِقْدَاره خَمْسَة آلَاف رجل فَقَامَ وافتقد أَصْحَابه فَلم يجد إِلَّا جمَاعَة من البوابين والركابدارية وَبَاقِي النَّاس سكارى وَرَأى أحد البوقيه فَأمره أَن يضْرب بالبوق وَفتح الْبَاب وَخرج فَظن الْعَسْكَر أَن قراقوش وَعَسْكَره قد شعروا بهم فَانْهَزَمُوا
قَالَ ثمَّ إِنَّه قصد طرابلس فحاصرها وضيق عَلَيْهَا وَكَانَ شيخها عبد الْمجِيد بن مطروح قد راسل قراقوش وَطلب مِنْهُ الْأمان وَسَأَلَهُ أَن ينفذ إِلَيْهِ قوما يُقرر مَعَهم أَمر التَّسْلِيم
فأنفذ إِلَيْهِ وزيره وَثَلَاثَة من وُجُوه أَصْحَابه فَأَخذهُم عبد الْمجِيد وأنزلهم فِي دَار أخلاها لَهُم وَأمر لَهُم بِجَمِيعِ مَا(3/143)
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَلَمَّا خلا لَهُم اللَّيْل أخذُوا المخاد وتصافعوا بهَا حَتَّى قطعوها وَقَامَ بَعضهم إِلَى صهريج مَمْلُوء مَاء للشُّرْب فأحدث فِيهِ فَأخْبرت الرقباء عبد الْمجِيد بِمَا كَانَ مِنْهُم فأحضر وُجُوه الْبَلَد وقص عَلَيْهِم مَا كَانَ مِنْهُم وَقَالَ إِذا كَانَ هَؤُلَاءِ خيارهم فَمَا ظنكم بشرارهم وَكَانَ أهل الْبَلَد قد أشاروا على عبد الْمجِيد بِتَسْلِيم الْبَلَد فامتنعوا حِينَئِذٍ
وَحضر ابْن مطروح من الْغَد إِلَيْهِم إِلَى الدَّار وَمَعَهُ وُجُوه الْبَلَد فَقَالَ لصَاحب ضيافته لم أحضرت لهَؤُلَاء السَّادة مخاد مقطعَة فَقَالَ مَا أحضرت لَهُم إِلَّا مخاد جددا وَلَكِن الْقَوْم أكلُوا طَعَام الصُّوفِيَّة الَّذِي لَا نعرفه فِي بِلَادنَا
فاستحيا الْقَوْم وَعَلمُوا أَنهم قد فطنوا بحالهم وَنزل رجل إِلَى الصهريج فَرَأى الْعذرَة على وَجه المَاء فَقَالَ من فعل هَذَا فَلم يرد وَاحِد مِنْهُم جَوَابا فَقَالَ ابْن مطروح يَا قوم مَا أدخلناكم إِلَيْنَا إِلَّا عازمين على تَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْكُم وَأَن نَكُون لكم رعايا وَقد شاهدنا مِنْكُم أفعالا مَا نرضاها فَإِن قُلْتُمْ إِن هَذِه الفعلة من غلماننا وعبيدنا فَمَا أقبح هَذِه الأحدوثة عَن خِيَار أَصْحَاب هَذَا الرجل وَإِن كَانَ عِنْده من هُوَ خير مِنْكُم فَلم بعثكم إِلَيْنَا هَذَا طعن فِي عقله
ثمَّ أَمر بإخراجهم فأخرجوا من الْمَدِينَة فَلَمَّا صَارُوا إِلَى قراقوش وَعلم الْقِصَّة عظم عَلَيْهِ الْأَمر وَأَرَادَ الفتك بهم وَعلم أَنهم قد فتقوا عَلَيْهِ فتقا لَا يُمكنهُ رتقه أبدا وتيقن أَنه لَا يملك الْبَلَد أبدا
وأنفذ عبد الْمجِيد إِلَى قراقوش إِنَّك لست بِقَادِر على أَخذ هَذَا الْبَلَد لأجل مَا نفر بِهِ أَصْحَابك قُلُوب أَهله فَإِن رَأَيْت أَن نجْعَل(3/144)
لَك جعَالَة نحملها إِلَيْك فِي كل سنة وترحل عَنَّا فعلنَا فَأجَاب إِلَى ذَلِك ورحل عَنْهُم بعد أَن احتوى عَلَيْهِم
قَالَ وتوافت إِلَيْهِ الفرسان من مصر حَتَّى صَار فِي ثَمَانِي مئة فَارس من الأتراك وَسَار من جبل نفوسة إِلَى قابس فِي يَوْمَيْنِ ثمَّ إِلَى قصر الرّوم وَغَيره من الْمَوَاضِع والقلاع فهجم وَنهب وغنم وَغلب وخافه أهل تِلْكَ النواحي
فصل فِي فتح آمد
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى آمد وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْحجَّة بعد أَن اسْتَأْذن الْخَلِيفَة فِي ذَلِك فَأذن لَهُ فنصب السُّلْطَان عَلَيْهَا المجانيق وضايقهم وَطَالَ حصارهم ثمَّ أَخذهَا فِي السّنة الْآتِيَة كَمَا سَيَأْتِي
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن أبي طي وَالسُّلْطَان منَازِل لآمد وَاشْتَدَّ قتال الْعَامَّة بهَا فَأمر السُّلْطَان بكتب رقاع فِيهَا إبراق وإرعاد ووعد وإيعاد إِن داموا على الْقِتَال ليستأصلن شأفتهم وَإِن اعتزلوا وسلموا الْبَلَد ليحسنن إِلَيْهِم وليضعن مَا عَلَيْهِم من الكلف والضرائب
وَأمر أَن تعلق تِلْكَ الرّقاع على السِّهَام(3/145)
وترمى إِلَى آمد فَرمي من ذَلِك شَيْء كثير فكفوا عَن الْقِتَال وأشاروا على أبن نيسان بِطَلَب الْأمان فأومن على أَن يخرج بِجَمِيعِ أَمْوَاله دون الذَّخَائِر وَالسِّلَاح وأمهل ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا عول على نقل أَمْوَاله قعد بِهِ أَصْحَابه فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان فأنفذ إِلَيْهِ غلمانا ودواب وَضربت لَهُ خيمة بِظَاهِر آمد وَجعل ينْقل مَا يقدر على نَقله من المَال والقماش وآلات الذَّهَب وَالْفِضَّة مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام بعالم عَظِيم كَانُوا يزِيدُونَ على ثَلَاث مئة إِنْسَان وَلم ينْقل عشر مَا كَانَ لَهُ وسرق من أَمْوَاله أَكثر مِمَّا حصل لَهُ لِأَنَّهُ مَا أخرج أحد شَيْئا إِلَّا وَأخذ نصفه أَو أَكثر
وَكَانَ ابْن نيسان قد حصل فِي آمد أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن وصفهَا من الأسلحة وَالْأَمْوَال والغلال والكتب وَلما انْقَضى الْأَجَل أَخذ مَا حصل وَسَار قَاصِدا بِلَاد الرّوم وتسلم السُّلْطَان مَدِينَة آمد بأموالها وذخائرها وَنصب أَعْلَامه على سورها وَذَلِكَ فِي رَابِع عشر محرم وَوجد فِيهَا من الغلال وَالسِّلَاح وآلات الْحصار من المناجيق واللعب والعرادات أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن أَن تُوجد فِي يلد مثلهَا وَوجد فِيهَا برج من أبراجها فِيهِ مئة ألف شمعة وبرج مَمْلُوء نصول النشاب وَأَشْيَاء يطول شرحها
وَكَانَ فِيهَا خزانَة كتب كَانَ فِيهَا ألف ألف وَأَرْبَعُونَ ألف كتاب فوهب السُّلْطَان الْكتب للْقَاضِي الْفَاضِل فانتخب مِنْهَا حمل سبعين جمازة وَيُقَال إِن ابْن قرا أرسلان بَاعَ من ذخائر آمد وخزائنها مِمَّا لَا حَاجَة لَهُ بِهِ مُدَّة سبع سِنِين حَتَّى(3/146)
امْتَلَأت الأَرْض من ذخائرها
وَكَانَ السُّلْطَان لما تسلم آمد وَهبهَا لنُور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بِمَا فِيهَا وَكتب لَهُ بهَا وبأعمالها توقيعا ووفى لَهُ بِمَا وعده بِهِ
وَقيل للسُّلْطَان إِنَّك وعدته بآمد وَمَا وعدته بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر وفيهَا من الذَّخَائِر مَا يُسَاوِي ثَلَاثَة آلَاف ألف دِينَار
فَقَالَ لَا أضن عَلَيْهِ بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَإِنَّهُ قد صَار من أتباعنا وأصحابنا
قَالَ وَفِي فتح آمد يَقُول سعيد الْحلَبِي من قصيدة فِي السُّلْطَان
(رمى آمدا بالصافنات فأذعنت ... لَهُ طَاعَة آكامها ووعورها)
(فَمَا عز ناديها وَلَا اعتاص ثغرها ... وَلَا جاش طاميها وَلَا رد سورها)
(وأنزلت بالكره ابْن نيسان محرجا ... كَمَا أنزل الزباء كرها قصيرها)
(نهدت لَهَا حَتَّى إِذا انْقَادَ صعبها ... وقر على طول الشماس نفورها)
(سمحت بهَا جودا لمن ظلّ بُرْهَة ... يغاورها طورا وطورا يغيرها)
(وملكت مَا ملكت مِنْهَا تخولا ... وَكَانَ قَلِيلا فِي نداك كثيرها)
(وَإِن بلادا تجتديك مُلُوكهَا ... لأجدر أَن يَرْجُو نداك فقيرها)
وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي يذكر فتح آمد يَقُول(3/147)
(فيا سَاكِني الرعناء من سفح آمد ... أرى عارضا ينهل بِالْمَوْتِ هاطله)
(لَئِن غضِبت يَوْمًا عَلَيْكُم عروشها ... فَهَذَا ابْن أَيُّوب وهذي معاقله)
(وَلَو رامها يَوْمًا سواهُ لَقطعت ... أباهره من دونهَا وأباجله)
قلت وَقَالَ آخر
(لَو عرفت آمد من جاءها ... يخْطب فِي الْإِسْلَام تَسْلِيمهَا)
(لصيرت أَعلَى شراريفها ... لمن على الأَرْض سلاليمها)
قَالَ الْعِمَاد وَأما آمد فَحصل فتحهَا يَوْم الْأَحَد فِي الْعشْر الأول من الْمحرم وَكَانَ مُدبر آمد ابْن نيسان فَهُوَ رئيسها والقائم بأمرها وَكَانَ لآمد أَمِير قديم يُقَال لَهُ إيكلدي من أَيَّام السلاطين القدماء وَولده مَحْمُود شيخ كَبِير عِنْده يطعمهُ ويسقيه وَيَدعِي أَنه من غلمانه ومصطنعيه وَأَنه يحفظ الْبَلَد لَهُ وَأَنه لَا يغدر بِهِ وَلَا يُؤثر بدله وَإِذا جَاءَ رَسُول يحضرهُ عِنْد أميره ويسند مَا يدبره إِلَى تَدْبيره وَيَقُول إِنَّه غُلَام وَمَا مَعَه كَلَام
وحافظ على سر هَذِه السريرة وَأمن باحتياطه من جور الجيرة بل مَا مِنْهُم إِلَّا من يخَاف مكره ويحفظ مِنْهُ وَكره وينكر عرفه وَيعرف نكره
وَلم يزل الْحصار عَلَيْهِم إِلَى أَن أذعنوا للانقياد وَخرجت نِسَاؤُهُم سحرًا إِلَى المخيم الفاضلي يطلبن الْأمان فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على أَنهم(3/148)
يخرجُون بعد ثَلَاث ويحملون مَا قدرُوا عَلَيْهِ من المَال والأثاث وَأَعَانَهُمْ السُّلْطَان على نقل الْأَمْوَال بالدواب وَالرِّجَال
فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْأمان تسلمها السُّلْطَان وَسلمهَا إِلَى نور الدّين بن قرا أرسلان وأعمالها وَمَا فِيهَا
وَكَانَ السُّلْطَان وعده بهَا قبل ذَلِك فأنجز لَهُ الْوَعْد وَقد كَانَ أَبوهُ عاناها مُدَّة وتمناها فَمَا قدر عَلَيْهَا
ثمَّ وصف الْعِمَاد مَا كَانَ فِي قلعة آمد من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال والحواصل والأمتعة وَأَن أَصْحَابهَا لم يقدروا فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة إِلَّا على تَحْويل مَا خف مِنْهَا وَاسْتغْنى المساعدون لَهُم فِي تحويلها إِلَيْهِم
وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان بِبَغْدَاد ورد إِلَى الْخَادِم التَّقْلِيد الشريف بِولَايَة آمد فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده قَالَ هَذَا مفتاحها
وَسمع الْوَصَايَا فاستضاء بهَا فِي ظلمات الْقَصْد وَقَالَ هَذَا مصباحها
وتناوله فَمَا ظَنّه إِلَّا كتابا أنزل عَلَيْهِ من السَّمَاء فِي قرطاس وَمَا تيقنه إِلَّا نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس فَسَار بِهِ وَلَوْلَا الْعَادة مَا استصحب جنديا وعول عَلَيْهِ وَلَوْلَا الزِّينَة مَا تقلد هنديا وطرق بَابه بإقليده ولولاه مَا اسطاع الْأَوْلِيَاء أَن يظهروه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا وناشد الْمُقِيم بتقليده ثَلَاثَة أَيَّام بِثَلَاث رسائل فَلَو كَانَ ذَا سمع أصغى وَلَو كَانَ ذَا لب لبّى
فَلَمَّا انْقَضتْ ضِيَافَة أَيَّام النذارة واحتقر من بآمد نَار الْحَرْب جَاهِلا أَن وقودها النَّاس(3/149)
وَالْحِجَارَة عمد لَهَا فِي الْيَوْم الرَّابِع فزلزل عمدها وقاتلها فأزال جلدهَا وزيل جلمدها ثمَّ رأى أَن الشَّوْكَة رُبمَا أَصَابَت غير ذَات الشَّوْكَة من جندها وَأَن الْمُسلم قد آمنهُ الله من عَذَاب الْحَرِيق وَلَا يَأْمَن أَن تحرقه القسي من السِّهَام بشرار زندها فَعدل إِلَى منجنيقه الَّذِي أمل صَاحبهَا مِنْهُ منجى نيقه وَرَأى أَنه سَوط سطوته يضْرب الْحجر وَيضْرب عَن أَن يُبَاشر الْبشر وَتلك الأبرجة قد شمخت بأنفها ونأت بعطفها وتاهت على وامقها وغضت عين رامقها فَهِيَ فِي عِقَاب لوح الجو كالطائر إِلَّا أَن المنجنيق أغرى بهَا عقابيه وضغمها بمخلبيه وجثم أمامها يخاصمها وَقَامَ إِلَى الْغَيْر يحاكمها وَيضْرب بعصاه الْحجر فتنبجس من النقوب أعين لَا ترسل المَاء وَلَكِن تروي العطاش إِلَى منهل الْمَدِينَة وتنهل الظماء كَذَلِك أَيَّامًا حَتَّى محا من الشرفات شنب ثغرها وتناوبها كأس فتك تبين بهز أبراجها آثَار سكرها وعلت الْأَيْدِي الرامية لَهَا وغلت الْأَيْدِي المحامية عَنْهَا فَلم يبْق على سورها من يفتح جفنا وَشن المنجنيق عَلَيْهَا غارته إِلَى أَن صَارَت شنا وفضت صناديق الْحِجَارَة المقفلة وفصلت مِنْهَا أَعْضَاء السُّور الْمُتَّصِلَة وَوَجَب الْقِتَال لِئَلَّا يظنّ بالخادم أَلا جند لَهُ إِلَّا جندله فأوعز بالتقدم إِلَيْهَا وَدخُول النقابين فِيهَا فأثخنت جراحا بالنقوب وهتك الْحجاب من أضالع الْبَلَد فكاد يُوصل إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْقُلُوب وخشيت معرة الْجَيْش فِي(3/150)
وَقت هجمه وروسل صَاحبهَا بِأَنَّهُ كشف لَهُ الخذلان حَتَّى بصر على شكه بِعِلْمِهِ فَأَعَادَ الرَّسُول مستكنفا بحجب النجَاة بإرسال ذَوَات الْحجاب وإبرازهن ومستكفا ليد الْقَتْل بِمن لم يكن جَوَابه غير إحرازه وإحرازهن وَلم يُعَارض فِي نَفسه وَلَا فِي قومه وَلَا فِي أَمْوَاله وَهِي مَا هِيَ ذخائر موفرة ومكاسب من أرباح مخسرة كَانَت الْحُقُوق عَنْهَا مذودة والآمال دونهَا مطرودة
وغض الْخَادِم كل عين عَن عينه وورقه وصانه فِي مخيمه من الْفقر صيانته فِي ذَات سوره وخندقه وَاسْتوْفى شَرط الْوَفَاء بِمَا أعطَاهُ من موثقه
وَهَذِه آمد فَهِيَ مَدِينَة ذكرهَا بَين الْعَالم متعالم وطالما صادم جَانبهَا من تقادم فَرجع مقدوعا أَنفه وَإِن كَانَ فحلا وقرعها فريد الهمة واستصحب حفلا وَرَأى حجرها فَقدر أَنه لَا يفك لَهُ حجر وسوادها فَحسب أَنه لَا ينسخه فجر وحمية أنف أنفها فَاعْتقد أَنه لَا يستجيب لزجر من مُلُوك كلهم طوى صَدره على الغليل إِلَى موردها ووقف بهَا وقُوف الْمُحب الْمسَائِل فَلم يفز بِمَا أمل من جَوَاب معهدها
ثمَّ ذكر تَسْلِيمهَا إِلَى ابْن قرا أرسلان ثمَّ قَالَ وَلما رأى صَاحب ميافارقين أَن أُخْت صاحبته قد ابتني بهَا خَافَ أَن يجمع لَهُ بَين الْأُخْتَيْنِ(3/151)
فراسل ببذل الْخدمَة الَّتِي يكون فِيهَا لنُور الدّين ثَانِي اثْنَيْنِ
ثمَّ ذكر اجْتِمَاع المواصلة وشاه أرمن وَصَاحب ماردين وَصَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم على قصد الْخَادِم ونزلوا تَحت الْجَبَل فَلَمَّا صَحَّ عِنْدهم قَصده ظنُّوا أَنه وَاقع بهم فَأخذُوا أَعِنَّة الْفِرَار بِقُوَّة وَذكروا مَا فِي لِقَائِه من عوائد كَانَت عِنْدهم مخوفة وَعِنْده مرجوة وَسَار كل فريق على طَرِيق بنية عَدو وَفعل صديق وَالْخَادِم يَقُول مهما أَرَادَت فِيهِ الآراء الشَّرِيفَة أَتَاهُ وَمهما نَوَت فِيهِ من إِحْسَان قرب عَلَيْهِ مَا نَوَاه فَهَذِهِ آمد لما أرسل إِلَيْهِ مفتاحها وَهُوَ التَّقْلِيد فتحهَا وَهَذِه الْموصل لما تَأَخّر عَنهُ الْمِفْتَاح منعهَا وَمَا منحها وَلَو أعين بِهِ لعظمت على الْإِسْلَام عائدته وَظَهَرت فِي رفع مناره فَائِدَته لِأَن الْيَد كَانَت تكون بِهِ على عَدو الْحق وَاحِدَة والهمة لآلات النَّصْر واجدة
فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُمَيّز بَين أوليائه وَينظر أَيهمْ أبر بأوليائه وَأَشد على أعدائه وأقوم بِحقِّهِ وَحقّ آبَائِهِ وَأثبت رَأيا وروية فِي مَوَاقِف راياته ومجالس آرائه وَأعظم إقداما على ملحدين كلهم كَانَ ينازعه رِدَاء علائه وَكَانَ السَّابِق من وُلَاة الدولة العباسية قَاصِر السَّيْف عَن أَن نسيغ الغصة بمائه وأيهم أترك للْفراش الممهد وأهتك للطراف الممدد وأهجر فِي سَبِيل الله لراحه وأصبر فِي جِهَاد عَدو الله على مضض جراحه وأسلى عَن رَيْحَانَة فؤاد وَأكْثر ممارسة لحية وَاد فيختار لهَذِهِ الْأمة الَّتِي جعله الله لَهَا إِمَامًا وأميرا أسعد من أجْرى فِي طَاعَته ضامرا وملأ بولائه ضميرا فَمن عدله أَن يولي عَلَيْهَا الْعدْل الَّذِي يقر عينهَا وَمن فَضله أَن(3/152)
لَا ينسى الْفضل بَينهَا
وَقد ورد ذَلِك المنشور بآمد فأورد الميسور بِأَن ورده المنشور الْمشَار إِلَيْهِ بالجزيرة وَمَا وسقت فَإِنَّهُ نور على نور وَمَا يحْسب الْخَادِم أَن كيدا لِلْعَدو الْكَافِر أكيد وَلَا جهدا لأهل الضلال أجهد وَلَا عَائِدَة بغيظ رُؤَسَاء أهل الْإِلْحَاد أَعُود من تفخيم أَمر الْخَادِم بمزيد الِاسْتِخْدَام وَإِلَّا فَلْينْظر هَل يشق على الْكفَّار مزِيد أحد سواهُ من وُلَاة الْإِسْلَام فَكل ذِي سُلْطَان هُوَ الطاعم الكاسي المحمي بالمناصل لَا الحامي المكفي لَا الْكَافِي يقْضِي عمره وَهُوَ لَا يشْهد الطعْن إِلَّا فِي الميدان وَلَا يتَمَثَّل الْهَام طائرا لَوْلَا الكرة فِي الصولجان وَلَا يشقى بسهمه إِلَّا قرطاسه وَلَا يحظى برفده إِلَّا أكياسه فَأَعَادَ الله بأمير الْمُؤمنِينَ هَذَا الدّين إِلَى معالم حَقه الأولى وَأطَال يَد سُلْطَانه الطُّولى إِلَى أَن تَأْخُذ الْأُمُور مآخذها عدلا واعتدالا وسلما وقتالا فتعود إِلَى الْإِسْلَام عوائد ارتياحه وَأَيَّام منصوره وسفاحه
وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد أصدر هَذِه الْوَسِيلَة إِلَى الْمجْلس السَّامِي معولا على كرمه فِيمَا حَملته من اللبانة مستغنيا بشهرة الْحَال المتجددة عَن الْإِبَانَة فَإِن آمد قصر الأمد فِي الظفر بهَا وإنقاذها من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت تلبس نَهَارهَا نقبة غيهبها وَسَار إِلَيْهَا بِبَقِيَّة العساكر يعد الَّذين سَارُوا إِلَى الشَّام وَأَقَامُوا قبالة الْكفَّار بعدة اقْتصر عَلَيْهَا أَكْثَرهَا من عَسَاكِر الديار المصرية على بعد تِلْكَ الديار ليظْهر(3/153)
لمن نوى المناواة ويتبين لمن كَانَ على مُنَافَاة الملاقاة أَن رجَالًا من مصر فتحُوا آمد بعد سنة من البيكار وَبعد غزوتين قد طولع بهما فِي تواريخهما إِلَى الْكفَّار فَفِي ذَلِك مَا يغص الْحَاسِد ويغض الحاقد وَيعلم أَن فِي أَوْلِيَاء الدولة مَا رد كل مارد
فَلَمَّا حل بعقوتها أَرَادَ أَن يجْرِي الْأَمر على صَوَابه ويلج الْأَمر من بَابه وَأَن ينذر المغتر ويوقظه ويعظه بالْقَوْل الَّذِي رأى من الرِّفْق أَلا يغلظه فَبعث إِلَيْهِ أَن يهب من كراه ويعد لضيف التَّقْلِيد قراه وينجو بِنَفسِهِ منجى الذُّبَاب وَلَا يتَعَرَّض لِأَن يكون منتجى للذباب فَإِذا عريكته لَا تلين إِلَّا بالعراك وطريدته لَا تصاد إِلَّا بالأشراك فهناك رأى عَاجلا مَا هُنَاكَ وقوتل حق الْقِتَال فِي يَوْم وَاحِد عرف مَا بعده من الْأَيَّام وَوَقع الإشفاق من روعة الْحَرِيم وَسَفك الدَّم الْحَرَام وَنصب المنجنيقات فَأرْسل عارضها مطره وَفطر السُّور بقدرة الَّذِي فطره وخطب أمامها خطيب خطبه وأغمد الصارم اكْتِفَاء بضربه وترفه أهل الْحَرْب لحسن المناب مِنْهُ عَن حربه فَصَارَ فِي أقرب الْأَوْقَات جبلها كثيبا مهيلا وعفرت الأبرجة وَجها تربا وَنظرت القلعة نظرا كليلا حَتَّى إِذا أمكنت النقوب أَن تُؤْخَذ وكبد السُّور أَن تفلذ رأى الَّذِي لَا يصبر(3/154)
على بعضه وَاعْتذر إِلَيْهِ الْبناء الَّذِي بِنَاء الْأَمر إِن لم يقضه فَلَا بُد من نقضه وَسَأَلَ فَأُجِيب إِلَى الْأمان على نَفسه وَخرج مِنْهَا وَإِنَّمَا أخرجه الظُّلم وَسلم وَهُوَ يرى السَّلامَة إِمَّا من الْحلم وَإِمَّا من الْحلم
ثمَّ قَالَ وَلَوْلَا تَقْلِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ لما فتح لَهُ الْبَاب الَّذِي قرعه وَلَا أنزل عَلَيْهِ النَّصْر الَّذِي أنزل مَعَه وَلَا ساعد سَيْفا ساعد وَلَا نَالَتْ يَد مدت من مصر فَأخذت آمد وَمن بآمد وَلَو قبلت مَسْأَلته فِي تَقْلِيد الْموصل لَكَانَ ولجها وَلَو بدلجة ادلجها وَأَخذهَا وَلَو بحصاة نبذها وَهُوَ يتَوَقَّع فِي جَوَاب هَذَا الْفَتْح أَن يمد بِجَيْش هُوَ الْكَلَام ورماح هِيَ الأقلام وَنصر هُوَ وَافد الْأَمر وترشيد هُوَ فك الْحجر وَلَيْسَ ذَلِك لوسائل تقدّمت من دولة أَقَامَهَا بعد ميل عروشها وَلَا لدَعْوَة قَامَ فِيهَا بِمَا تصاغرت دونه همم جيوشها وَلَكِن لِأَن هَذِه الجزيرة الصَّغِيرَة مِنْهَا تنبعث الجريرة الْكَبِيرَة وَهِي دَار الْفرْقَة ومدار الشقة وَلَو انتظمت فِي السلك لانتظم جَمِيع عَسْكَر الْإِسْلَام فِي قتال الشّرك ولكان الْكفْر يلقِي بيدَيْهِ وينقلب على عَقِبَيْهِ ويغشاه الْإِسْلَام من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ ويغزى من مصر برا وبحرا وَمن الشَّام سرا وجهرا وَمن الجزيرة مدا وجزرا وَيكون خادمه قد وَجب أَن يتَمَثَّل بقوله تَعَالَى {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى}
وَمن كتاب آخر كتَابنَا هَذَا وَالْمَدينَة قد فتحت أَبْوَابهَا وعذقت بدولتنا أَسبَابهَا وَتكلم لِسَان علمنَا فِي فَم قلعتها
وَبعد أَن لبستها دولتنا وَفينَا بموعد خلعتها فَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ النِّعْمَة بِحَمْدِهِ وينجح الأمل(3/155)
بِقَصْدِهِ {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده}
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة آمد وَجلسَ فِي دَار الْإِمَارَة وَحلف نور الدّين بن قرا أرسلان على أَنه يظْهر بهَا الْعدْل ويقمع الْجور وَيكون سَامِعًا مُطيعًا للسُّلْطَان من معاداة الْأَعْدَاء ومصافاة الخلان فِي كل وَقت وزمان وَأَنه مَتى استمده من آمد لقِتَال الفرنج وجده لذَلِك يقظان وَإِلَيْهِ عطشان
قَالَ وَكَانَ هَذَا نور الدّين فِي خدمَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَعَسْكَره مُنْذُ عبر الْفُرَات ثمَّ إِن رسل مُلُوك الْأَطْرَاف اجْتمعت عِنْد السُّلْطَان كل يطْلب لصَاحبه الْأمان وَأَن يَتَّخِذهُ من جملَة الأعوان مِنْهُم صَاحب ماردين وَصَاحب ميافارقين وهما قَرِيبا ابْن قرا أرسلان فَرد السُّلْطَان كل رَسُول بسوله وَأجَاب إقباله بقبوله
ثمَّ رَحل السُّلْطَان من آمد وَعبر الْفُرَات لقصد حلب وولاياتها فتسلم فِي طَرِيقه تل خَالِد بِالرُّعْبِ وَلم يكن مِنْهُم بِالْقربِ فَأقر أَهلهَا فِيهَا ثمَّ نزل على عين تَابَ فبادر صَاحبهَا نَاصح الدّين مُحَمَّد بن خمارتكين إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ بِالْإِحْسَانِ
وَقَالَ ابْن أبي طي تسلم السُّلْطَان تل خَالِد فِي رَابِع عشر محرم(3/156)
وَسلمهَا إِلَى بدر الدّين دلدرم
وَمن كتاب فاضلي نزلنَا تل خَالِد يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر محرم وَكَانَ قد تقدمنا الْأَجَل تَاج الْمُلُوك إِلَيْهَا وأناخ عَلَيْهَا وقابلها وقاتلها وعالجها وَلَو شَاءَ لعاجلها وَلما أطلت عَلَيْهَا راياتنا ألْقى من فِيهَا بِيَدِهِ وأنجز النَّصْر صَادِق موعده وأرسلتها حلب مُقَدّمَة لفتحها وَقد أنعم الله علينا بنعم لَا نحصيها تعدادا وَلَا نستقصيها اعتدادا وَلَا نستوعبها وَلَو كَانَ النَّهَار طرسا وَالْبَحْر مدادا ورايتنا المنصورة قد صَارَت مغناطيس الْبِلَاد تجذبها بطبعها وسيوفنا قد صَارَت مفاتح الْأَمْصَار تفتحها بنصر الله لَا بحدها وَلَا بقطعها
قلت وَمَا أحسن مَا قَالَ التلعفري من قصيدة لَهُ فِي السُّلْطَان
(قل للملوك تنحوا عَن ممالككم ... فقد أَتَى آخذ الدُّنْيَا ومعطيها)
فصل فِي فتح حلب
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما عَاد السُّلْطَان بَدَأَ بتل خَالِد فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها وَأَخذهَا فِي ثَانِي عشر محرم سنة تسع وَسبعين ثمَّ سَار إِلَى حلب(3/157)
فَنزل عَلَيْهَا فِي سادس عشري الْمحرم وَكَانَ أول نُزُوله بالميدان الْأَخْضَر وسير الْمُقَاتلَة يُقَاتلُون ويباسطون عَسْكَر حلب ببانقوسا وَبَاب الْجنان غدْوَة وَعَشِيَّة
وَفِي يَوْم نُزُوله جرح أَخُوهُ تَاج الْمُلُوك
وَكَانَ عماد الدّين زنكي قبل ذَلِك قد خرج وَخرب قلعة عزاز فِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَخرب حصن كفرلاثا وَأَخذهَا من بكمش فَإِنَّهُ كَانَ قد صَار مَعَ السُّلْطَان وَقَاتل تل بَاشر فَلم يقدر عَلَيْهَا وَجَرت غارات من الفرنج على الْبِلَاد بِحكم اخْتِلَاف العساكر
قَالَ وَلما نزل السُّلْطَان على حلب استدعى العساكر من الجوانب فَاجْتمع خلق كثير وقاتلها قتالا شَدِيدا وَتحقّق عماد الدّين زنكي أَنه لَيْسَ لَهُ بِهِ قبل وَكَانَ قد ضرس من اقتراح الْأُمَرَاء عَلَيْهِ وجبههم فَأَشَارَ إِلَى حسام الدّين طمان أَن يسفر لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي إِعَادَة بِلَاده وَتَسْلِيم حلب إِلَيْهِ واستقرت الْقَاعِدَة وَلم يشْعر أحد من الرّعية وَلَا من الْعَسْكَر حَتَّى تمّ الْأَمر ثمَّ أعلمهم وَأذن لَهُم فِي تَدْبِير أنفسهم فأنفذوا عَنهُ وَعَن الرّعية عز الدّين جرديك وزين الدّين بلك فبقوا عِنْده إِلَى اللَّيْل واستحلفوه على الْعَسْكَر وعَلى أهل الْبَلَد وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر صفر وَخرجت العساكر إِلَى خدمته إِلَى الميدان الْأَخْضَر ومقدمو حلب وخلع عَلَيْهِم وَطيب قُلُوبهم وَأقَام عماد الدّين بالقلعة يقْضِي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إِلَى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري صفر(3/158)
وَفِيه توفّي تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان من الْجرْح الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ وشق عَلَيْهِ أَمر مَوته وَجلسَ للعزاء
قلت وَكَانَ أَصْغَر أَوْلَاد أَيُّوب ذكر ابْن القادسي أَن مولده سنة سِتّ وَخمسين فِي ذِي الْحجَّة فَيكون عمره اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وشيئا وَأنْشد لَهُ شعرًا
وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فِي كتاب الخريدة إِنَّه لم يبلغ الْعشْرين سنة وَله نظم لطيف وَفهم شرِيف
ثمَّ قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن وَفِي ذَلِك الْيَوْم نزل عماد الدّين إِلَى خدمته وَعَزاهُ وَسَار مَعَه بالميدان الْأَخْضَر وتقررت بَينهمَا قَوَاعِد وأنزله عِنْده بالخيمة وَقدم لَهُ تقدمة سنية وخيلا جميلَة وخلع على جمَاعَة من أَصْحَابه
وَسَار عماد الدّين من يَوْمه إِلَى قرا حِصَار سائرا إِلَى سنجار وَأقَام السُّلْطَان بالمخيم بعد مسير عماد الدّين غير مكترث بِأَمْر حلب وَلَا مستعظم لشأنها إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشري صفر ثمَّ صعد فِي ذَلِك الْيَوْم قلعة حلب مَسْرُورا منصورا وَعمل لَهُ حسام الدّين طمان دَعْوَة سنية وَكَانَ قد تخلف لأخذ مَا تخلف لعماد الدّين من قماش وَغَيره
وَقَالَ الْعِمَاد وصل السُّلْطَان إِلَى حلب وفيهَا عماد الدّين زنكي بن(3/159)
مودود الَّذِي كَانَ صَاحب سنجار وَقد تحصن بِكَثْرَة الأجناد وَالْعدَد وَأَرَادَ مُقَابلَة السُّلْطَان ومقاتلته وَأَرَادَ السُّلْطَان أَن يظفر بهَا بِدُونِ ذَلِك من الْقِتَال وعداوة الرِّجَال لَكِن الشَّبَاب وجهال الْأَصْحَاب راموا الْقِتَال وأحبوا النزال وتقدموا وأقدموا وَالسُّلْطَان ينهاهم فَلَا ينتهون وَكَانَ فيهم تَاج الْمُلُوك بوري أَخُو السُّلْطَان فطعن فِي فَخذه ثمَّ مَاتَ بعد ذَلِك بأيام بعد فتح الْبَلَد
وَكَانَ السُّلْطَان ذَلِك الْيَوْم قد صنع وَلِيمَة لعماد الدّين زنكي وَكَانَ السُّلْطَان أول مَا نزل على حلب نزل فِي صدر الميدان الْأَخْضَر وَذَلِكَ فِي زمن الرّبيع الأنضر ثمَّ رَحل وَنزل على جبل جوشن وَنهى عَن الْقِتَال وَقَالَ نَحن هَاهُنَا نستغل الْبِلَاد وَمَا علينا من الْحصن الَّذِي بلغ مِنْهُ هَذَا العناد
وَنفذ رسل التَّرْهِيب إِلَيْهِم ففكر عماد الدّين زنكي فِي أمره وَرَأى أَن الصَّوَاب مصالحة السُّلْطَان فنفذ سرا إِلَيْهِ حسام الدّين طمان وَصَالَحَهُ وحلفه على أَن يسلم إِلَيْهِ حلب وَيرد عَلَيْهِ بَلْدَة سنجار
فَفعل وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج وَاشْترط عَلَيْهِ إرْسَال الْعَسْكَر فِي الْخدمَة للغزاة
وَمن كتب فاضلية تسلمنا مَدِينَة حلب وقلعتها بسلم وضعت بِهِ الْحَرْب أَوزَارهَا وَبَلغت بهَا الهمم أوطارها وَعوض صَاحبهَا بِمَا لم يخرج عَن الْيَد لِأَنَّهُ مشترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة بِنَفسِهِ وَعَسْكَره ومختلط بِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أحد الْأَوْلِيَاء فِي مغيبه ومحضره عوض عماد الدّين عَنْهَا من بِلَاد الجزيرة(3/160)
سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فَهُوَ صرف بِالْحَقِيقَةِ أَخذنَا فِيهِ الدِّينَار وأعطينا الدَّرَاهِم ونزلنا عَن المبيحات وأحرزنا العواصم وسرنا أَنَّهَا انجلت وَالْكَافِر الْمُحَارب وَالْمُسلم المسالم
واشترطنا على عماد الدّين الْخدمَة والمظاهرة والحضور فِي مَوَاقِف الْغَزْو والمصابرة فانتظم الشمل الَّذِي كَانَ نثيرا وَأصْبح الْمُؤمن بأَخيه كثيرا وَزَالَ الشغب وأخمد اللهب واتصل السَّبَب وَأخذت للغزاة الأهب ووصلت إِلَى غايتها همة الطّلب والألفة وَاقعَة والمصلحة جَامِعَة وأشعة أنوار الِاتِّفَاق شائعة
فتحنا مَدِينَة حلب بسلم مَا كشفت لحرمتها قناعا وتسلمنا قلعتها الَّتِي ضمنت أَن نتسلم بعْدهَا بِمَشِيئَة الله قلاعا وَعوض صَاحبهَا من بِلَاد الجزيرة مَا اشْترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة فِي الْجِهَاد بالعدة الموفورة فَهِيَ بيدنا بِالْحَقِيقَةِ لِأَن مرادنا من الْبِلَاد رجالها لَا أموالها وشوكتها لَا زهرتها ومناظرتها لِلْعَدو لَا نضرتها وَأَن تعظم فِي الْعَدو الْكَافِر نكايتها لَا أَن تعذق بالولي الْمُسلم ولايتها
والأوامر بحلب نَافِذَة والرايات بأطراف قلعتها آخذة
وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون وَقد بلغُوا مَا كَانُوا يؤملون وأمنوا مَا كَانُوا يحذرون وَعوض صَاحبهَا بِبِلَاد من الجزيرة على أَن تكون(3/161)
العساكر مجتمعة على الْأَعْدَاء مرصدة للاستدعاء فالبلاد بِأَيْدِينَا لنا مغنمها ولغيرنا مغرمها وَفِي خدمتنا مَا لَا نسمح بِهِ وَهُوَ عسكرها وَفِي يَده مَا لَا نضن بِهِ وَهُوَ درهمها
شرطنا على عماد الدّين النجدة فِي أَوْقَاتهَا والمظاهرة على العداة عِنْد ملاقاتها فَلم يخرج منا بلد إِلَّا إِلَيْنَا عَاد عسكره وَإِنَّمَا استنبنا فِيهِ من يحمل عَنَّا مُؤْنَته ويدبره وَيكون عساكره إِلَى عساكرنا مُضَافَة ونتمثل قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة}
ونشعر الْأَمِير بِمَا من الله بِهِ من فتح مَدِينَة حلب الَّتِي هِيَ مِفْتَاح الْبِلَاد وتسلم قلعتها الَّتِي هِيَ أحد مَا رست بِهِ الأَرْض من الْأَوْتَاد فَللَّه الْحَمد وَأَيْنَ يَقع الْحَمد من هَذِه الْمِنَّة ونسأل الله الْغَايَة الْمَطْلُوبَة بعد هَذِه الْغَايَة وَهِي الْجنَّة
وصدرت هَذِه الْبُشْرَى والموارد قد أفضت إِلَى مصادرها وَالْأَحْكَام فِي مَدِينَة حلب نَافِذَة فِي باديها وحاضرها وقلعتها قد أناف لواؤنا على أنفها وقبضت على عقبه بكفها واعتذرت من لِقَائِه أمس برشفها ورأينا أَن نتشاغل بِمَا بورك لنا فِيهِ من الْجِهَاد وَأَن نوسع المجال فِيمَا يضيق بِهِ تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد
قلت وَلأبي الْحسن بن الساعاتي فِي مدح السُّلْطَان عِنْد إِرَادَة فتح حلب قصيدة مِنْهَا(3/162)
(مَا بعد لقياك للعافين من أمل ... ملك الْمُلُوك وهذي دولة الدول)
(فانهض إِلَى حلب فِي كل سَابِقَة ... سُرُوجهَا قلل تغني عَن القلل)
(مَا فتحهَا غير إقليد الممالك والداعي ... إِلَيْهِ جَمِيع الْخلق والملل)
(وَمَا عَصَتْ مَنْعَة لكنه غضب ... علام أهملتها إهمال مبتذل)
(غارت وحقك من جاراتها فشكت ... مَا باله باقتضاضي غير محتفل)
قلت وَهَذَا معنى حسن يُشِير إِلَى أَنَّهَا كَانَت من آخر الْبِلَاد الإسلامية فتحا على يَدَيْهِ فَلهَذَا غضِبت إِذْ كَانَ من حَقّهَا لجلالة قدرهَا أَن تخْطب أَولا
وللقاضي السعيد ابْن سناء الْملك من قصيدة
(بدولة التّرْك عزت مِلَّة الْعَرَب ... وبابن أَيُّوب ذلت بيعَة الصلب)(3/163)
(إِن العواصم كَانَت أَي عَاصِمَة ... معصومة بتعاليها عَن الرتب)
(جليسة النَّجْم فِي أَعلَى مراتبه ... وطالما غَابَ عَنْهَا وَهِي لم تغب)
(وَمَا نَعته كمعشوق تَمنعهُ ... أحلى من الشهد أَو أشهى من الضَّرْب)
(فَمر عَنْهَا بِلَا غيظ وَلَا حنق ... وَسَار عَنْهَا بِلَا حقد وَلَا غضب)
(تطوي الْبِلَاد وأهليها كتائبه ... طيا كَمَا طوت الْكتاب للكتب)
(أَرض الجزيرة لم تظفر ممالكها ... بِمَالك فطن أَو سائس درب)
(ممالك لم يدبرها مدبرها ... إِلَّا بِرَأْي خصي أَو بعقل صبي)
(حَتَّى أَتَاهَا صَلَاح الدّين فانصلحت ... من الْفساد كَمَا صحت من الوصب)
(وَقد حواها وَأعْطى بَعْضهَا هبة ... فَهُوَ الَّذِي يهب الدُّنْيَا وَلم يهب)
(ومذ رَأَتْ صده عَن ربعهَا حلب ... وَوَصله لبلاد حلوة الخلب)
(غارت عَلَيْهِ ومدت كف مفتقر ... مِنْهَا إِلَيْهِ وأبدت وَجه مكتئب)
(واستعطفته فوافتها عواطفه ... وأكثب الصُّلْح إِذْ نادته عَن كثب)
(وَحل مِنْهَا بأفق غير منخفض ... للصاعدين وبرج غير مُنْقَلب)
(فتح الْفتُوح بلامين وَصَاحبه ... ملك الْمُلُوك ومولاها بِلَا كذب)
وَقَالَ ابْن أبي طي وَكَانَ كثير من الشُّعَرَاء يحرضون السُّلْطَان على فتح حلب مِنْهُم أَبُو الْفضل بن حميد الْحلَبِي لَهُ من قصيدة
(يَا ابْن أَيُّوب لَا بَرحت مدى الدَّهْر ... رفيع الْمَكَان وَالسُّلْطَان)
(حلب الشَّام نَحْو مرآك ولهى ... وَله الصب ريع بالهجران)(3/164)
وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي فِي قصيدة
(دُونك والحسناء من أم الْقرى ... وبازها الْأَشْهب والطود الأشم)
(واركب إِلَى العلياء كل صعبة ... أَبيت لعنا وخلاك كل ذمّ)
(وارم فَكل الصَّيْد فِي جَوف الفرا ... لَا صارد السهْم وَلَا نابي الحكم)
(مد إِلَى أُخْت السهاء زورة ... لَا فرق يعقبها وَلَا نَدم)
(فيا لَهَا شماء مشمخرة ... تطارح الْبَرْق وساحات الديم)
(ايه صَلَاح الدّين شدّ أزرها ... واعزم عَلَيْهَا فالزمان قد عزم)
(ودونك المنعة من قبابها ... وبابها المغلق فِي وَجه الْأُمَم)
قَالَ وَفِي آخر يَوْم السبت ثامن عشر صفر نشر سنجق السُّلْطَان الْأَصْفَر على سور قلعة حلب وَضربت لَهُ البشائر وَفِي ذَلِك الْوَقْت تخفى عماد الدّين وَخرج من القلعة لَيْلًا إِلَى الخيم وَأخذ فِي إِخْرَاج مَا كَانَ لَهُ فِي القلعة من مَال وَسلَاح وأثاث
وَكَانَ استناب الْأَمِير حسام الدّين طمان فِي القلعة حَتَّى توافي رسله بِتَسْلِيم سنجار ونصيبين والخابور إِلَى نوابه وَأعْطى السُّلْطَان طمان الرقة لوساطته فِي أَمر عماد الدّين
وَكَانَ السُّلْطَان(3/165)
شَرط أَنه مَا يُرِيد من حلب إِلَّا الْحجر فَقَط وَأذن لعماد الدّين فِي أَخذ جَمِيع مَا فِي القلعة وَمَا يُمكنهُ حمله فَلم يتْرك عماد الدّين فِيهَا شَيْئا وَبَاعَ فِي السُّوق كل مَا لم يتَمَكَّن من حمله وَأطلق لَهُ السُّلْطَان بغالا وجمالا وخيلا برسم حمل مَا يحْتَاج إِلَى حمله وَعمل لَهُ يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر صفر دَعْوَة عَظِيمَة فِي الميدان الْأَخْضَر وأحضرها جَمِيع الْأُمَرَاء ومقدمي حلب
قَالَ وبينما السُّلْطَان على لذته بالدعوة وَالْأَخْذ وَالعطَاء والإنعام والحباء إِذْ حضر إِلَيْهِ من عَرَفَة وَفَاة أَخِيه تَاج الْمُلُوك بِسَبَب الضَّرْبَة الَّتِي أَصَابَته على حلب فَلم يتَغَيَّر لذَلِك وَلَا اضْطِرَاب وَلَا انْقَطع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من البشاشة والفرح وبذل الْإِحْسَان وَأمر بستر ذَلِك وتوعد عَلَيْهِ إِن ظهر وكظم حزنه وأخفى رزيته وصبر على مصيبته وَلم يزل على طلاقته وبشاشته إِلَى وَقت الْعَصْر وَفِي ذَلِك الْوَقْت انْقَضتْ الدعْوَة وتفرق النَّاس فَحِينَئِذٍ قَامَ رَحمَه الله واسترجع وَبكى على أَخِيه ثمَّ أَمر بِهِ فَغسل وكفن وَصلى عَلَيْهِ وَأمر بِهِ فَدفن فِي مقَام إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِظَاهِر حلب ثمَّ حمله بعد ذَلِك إِلَى دمشق وَدَفنه بهَا
قَالَ وَكَانَ تَاج الْمُلُوك شَابًّا حسن الشَّبَاب مليح الأعطاف عذب الْعبارَة حُلْو الفكاهة مليح الرَّمْي بِالْقَوْسِ والطعن بِالرُّمْحِ وَكَانَ شجاعا باسلا مقداما على الْأَهْوَال وَكَانَ قد جمع إِلَى ذَلِك الْكَرم والتفنن فِي الْأَدَب وَله ديوَان شعر حسن متوسط فَمِنْهُ
(يَا هَذِه وأماني النَّفس قربكم ... يَا ليتها بلغت مِنْكُم أمانيها)
(إِن كَانَت الْعين مذ فارقتكم نظرت ... إِلَى سواكم فخانتني أماقيها)(3/166)
قَالَ وَلما انْقَضتْ تَعْزِيَة السُّلْطَان بأَخيه خلع على النَّاس فِي الْيَوْم الرَّابِع وَفرق فِي وُجُوه الحلبيين الْأَمْوَال
وَفِي سادس عشر صفر ورد أَصْحَاب عماد الدّين وأحضروا إِلَيْهِ العلائم بتسلم سنجار ونصيبين والخابور فَفِي ذَلِك الْيَوْم سلم قلعة حلب وَأنزل مِنْهَا الْأَمِير طمان وَأَصْحَابه وَلما سلمهَا إِلَى نواب السُّلْطَان ركب عماد الدّين فِي وُجُوه أَصْحَابه وأمرائه وَخرج إِلَى خدمَة السُّلْطَان ظَاهرا وَركب السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه فاجتمعا عِنْد مشْهد الدُّعَاء الَّذِي بِظَاهِر حلب من جِهَة الشمَال فتسالما وَلم يترجل أحد مِنْهُمَا لصَاحبه
ثمَّ جَاءَ بعد عماد الدّين وَلَده قطب الدّين فترجل للسُّلْطَان وترجل السُّلْطَان لَهُ وأعتنقه وعادا فركبا وَسَار هُوَ وَأَبوهُ فِي خدمَة السُّلْطَان إِلَى المخيم بالميدان الْأَخْضَر فأجلس السُّلْطَان عماد الدّين مَعَه على طراحته وَقدم لَهُ تقدمة حَسَنَة عشْرين بقجة صفراء فِيهَا مئة ثوب من العتابي والأطلس وَالْمُعتق والممرش وَغير ذَلِك وَعشرَة جُلُود قندس وَخمْس خلع خَاص برسمه ورسم وَلَده ومئة قبَاء ومئة كمة وحجرتين عربيتين بأداتهما وبغلتين مسروجتين وَعشرَة أكاديش وَخمْس قطر بغال وَثَلَاث قطر جمال عربيات وقطار بخت
وَلما فرغ السُّلْطَان من عرض الْهَدِيَّة قدم الطَّعَام فَلَمَّا أصَاب مِنْهُ عماد الدّين نَهَضَ للرُّكُوب وَخرج السُّلْطَان مَعَه وَركب لوداعه وَسَار مَعَه إِلَى قريب من بأبلى وودعه وَعَاد وَسَار عماد الدّين إِلَى بِلَاده(3/167)
قَالَ وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر صفر ركب السُّلْطَان وَصعد إِلَى قلعة حلب وَكَانَ صُعُوده إِلَيْهَا من بَاب الْجَبَل وَسمع وَهُوَ صاعد إِلَى قلعة حلب يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء} الْآيَة وَقَالَ وَالله مَا سررت بِفَتْح مَدِينَة كسروري بِفَتْح هَذِه الْمَدِينَة والآن قد تبينت أنني أملك الْبِلَاد وَعلمت أَن ملكي قد اسْتَقر وَثَبت
وَقَالَ صعدت يَوْمًا مَعَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى هَذِه القلعة فَسَمعته يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} الْآيَة
قَالَ وَلما بلغ السُّلْطَان بَاب دَار عماد الدّين قَرَأَ {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وأرضا لم تطؤوها} ثمَّ صَار إِلَى الْمقَام فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود ثمَّ خرج وَدَار فِي جَمِيع القلعة ثمَّ عَاد إِلَى المخيم وَأطلق المكوس والضرائب وسامح بأموال عَظِيمَة وَجلسَ للهناء بِفَتْح حلب وأنشده جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم يُوسُف البزاعي لَهُ من قصيدة
(شرفت بسامي مجدك الشَّهْبَاء ... وتجللتها بهجة وضياء)
(أَلْقَت إِلَيْك قيادها وَبهَا على ... كل الْمُلُوك ترفع وإباء)(3/168)
وَمِنْهُم سعيد بن مُحَمَّد الحريري لَهُ من قصيدة تقدم بَعْضهَا
(وصبحت شهباء العواصم مُصْلِتًا ... قواضب عزم لَا يفل شهيرها)
(فأمطتك مِنْهَا غازيا فِيك رَاغِبًا ... وَعَاد يَسِيرا فِي يَديك عسيرها)
(وأوطأت مِنْهَا أخمصيك تنوفة ... يعز على الشعرى العبور عبورها)
(ورد إِلَيْهَا روح عدلك روحها ... وَكَانَت رميما لَا يُرْجَى نشورها)
قَالَ وَقَالَ وَالِدي أَبُو طي النجار من قصيدة
(حلب شامة الشآم وَقد زيدت ... جلالا بِيُوسُف وجمالا)
(هِيَ آس الفخار من نَالَ أَعْلَاهَا ... تَعَالَى فخامة وتغالا)
(وَمحل الْعَلَاء من حل فِيهَا ... تاه كبرا وَعزة وجلالا)
(من حواها مملكا ملك الأَرْض ... اقتسارا سهولة وجبالا)
(فافترعها مهنأ بِمحل ... سمق الأنجم الوضاء وطالا)
قَالَ وحَدثني جمَاعَة من الحلبيين مِنْهُم الرُّكْن ابْن جهبل الْعدْل
قَالَ كَانَ الْفَقِيه مجد الدّين بن جهبل الشَّافِعِي الْحلَبِي قد وَقع إِلَيْهِ تَفْسِير(3/169)
الْقُرْآن لأبي الحكم المغربي فَوجدَ فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الرّوم} الْآيَة أَن أَبَا الحكم قَالَ إِن الرّوم يغلبُونَ فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَيفتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَيصير دَارا لِلْإِسْلَامِ إِلَى آخر الْأَبَد
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بأَشْيَاء ذكرهَا فِي كِتَابه
فَلَمَّا فتح السُّلْطَان حلب كتب إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل ورقة تبشره بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس على يَدَيْهِ ويعين فِيهِ الزَّمَان الَّذِي يَفْتَحهُ فِيهِ وَأعْطى الورقة للفقيه عِيسَى فَلَمَّا وقف الْفَقِيه عِيسَى عَلَيْهَا لم يتجاسر على عرضهَا على السُّلْطَان وَحدث بِمَا فِي الورقة لمحيي الدّين بن زكي الدّين القَاضِي الدِّمَشْقِي وَكَانَ ابْن زكي الدّين واثقا بعقل ابْن جهبل وَأَنه لَا يقدم على هَذَا القَوْل حَتَّى يحققه ويثق بِهِ فَعمل قصيدة مدح السُّلْطَان بهَا حِين فتح حلب فِي صفر وَقَالَ فِيهَا
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... قضى لكم بافتتاح الْقُدس فِي رَجَب)(3/170)
وَلما سمع السُّلْطَان ذَلِك تعجب من مقَالَته ثمَّ حِين فتح السُّلْطَان الْبَيْت الْمُقَدّس خرج إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل مهنئا لَهُ بفتحه وحدثه حَدِيث الورقة فتعجب السُّلْطَان من قَوْله وَقَالَ قد سبق إِلَى ذَلِك محيي الدّين بن زكي الدّين غير أَنِّي أجعَل لَك حظا لَا يزاحمك فِيهِ أحد
ثمَّ جمع لَهُ من فِي الْعَسْكَر من الْفُقَهَاء وَأهل الدّين ثمَّ أدخلهُ إِلَى الْقُدس والفرنج بعد مَا خَرجُوا مِنْهُ وَأمره أَن يذكر درسا من الْفِقْه على الصَّخْرَة
فَدخل وَذكر درسا هُنَاكَ وحظي بِمَا لم يحظ بِهِ غَيره
قلت وَسَيَأْتِي فِي فتح بَيت الْمُقَدّس فِي فصل الْمِنْبَر ذكر مَا قَالَه أَبُو الحكم فِي تَفْسِيره وَغَيره مِمَّا يُنَاسِبه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَقَالَ الْعِمَاد تمّ فتح حلب فِي صفر من هَذِه السّنة ومدح القَاضِي محيي الدّين بن الزكي السُّلْطَان بِأَبْيَات مِنْهَا
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب)
فَوَافَقَ فتح الْقُدس كَمَا ذكره فَكَأَنَّهُ من الْغَيْب ابتكره
قَالَ وَيُشبه هَذَا أنني فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين طلبت من السُّلْطَان جَارِيَة من سبي الأسطول الْمَنْصُور فِي الأبيات وَهِي
(يؤمل الْمَمْلُوك مَمْلُوكَة ... تبدل الوحشة بالأنس)
(تخرجه من ليل وسواسه ... بطلعة تشرق كَالشَّمْسِ)
(فوحدة الْعزبَة قد حركت ... سواكن البلبال والمس)(3/171)
(فَلَا تدع يهدم شَيْطَانه ... مَا أحكم التَّقْوَى من الأس)
(فَوَقع الْيَوْم بمطلوبه ... مِمَّا سبى الأسطول بالْأَمْس)
(لَا زلت وهابا لما حازه ... سَيْفك من حور وَمن لعس)
(وإنني آمل من بعْدهَا ... كرائم السَّبي من الْقُدس)
قَالَ فجَاء الْأَمر على وفْق الأمل فوهب لي عَام الْقُدس مَا أملت
فصل فِيمَا جرى بعد فتح حلب
قَالَ ابْن أبي طي كَاتب الْوَالِي بحارم الفرنج واستدعاهم إِلَيْهِ مطمعا لَهُم فِي الِاسْتِيلَاء على حارم بِشَرْط أَن يعصموه من الْملك النَّاصِر وَعلم الأجناد بقلعة حارم بِمَا عزم عَلَيْهِ فتآمروا بَينهم فِي الْقَبْض عَلَيْهِ
وَكَانَ هَذَا الْوَالِي ينزل من القلعة ويصعد إِلَيْهَا فِي أُمُوره ولذاته فاتفق أَنه نزل مِنْهَا لبَعض شَأْنه فَوَثَبَ أهل القلعة لما خرج وَأَغْلقُوا بَابهَا وَنَادَوْا بشعار السُّلْطَان
وَكَانَ السُّلْطَان راسل وَالِي حارم وبذل لَهُ فِي تَسْلِيم حارم إِلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا ولَايَة بصرى وضيعة فِي دمشق يملكهُ إِيَّاهَا وَدَار العقيقي الَّتِي كَانَ نجم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان يسكنهَا وحمام العقيقي بِدِمَشْق وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار عينا ولأخيه عشرَة آلَاف دِينَار
فاشتط فِي السّوم وتغالى فِي الْعِوَض فأنفذ إِلَيْهِ السُّلْطَان وتوعده وتهدده فكاتب الفرنج يطْلب نجدتهم وَقيل إِن نقيب القلعة أَرَادَ أَن تنْفق سوقه عِنْد السُّلْطَان وَيحصل مِنْهُ شَيْئا فكاتب السُّلْطَان بِالْعَمَلِ على الْوَالِي فَكتب(3/172)
إِلَيْهِ السُّلْطَان بتتميم ذَلِك ووعده بأَشْيَاء سكن إِلَيْهَا وَجرى الْأَمر على مَا ذَكرْنَاهُ من إغلاق الْبَاب فِي وَجه الْوَالِي
وَقيل إِن النَّقِيب وَأهل القلعة لما أغلقوا الْبَاب فِي وَجهه شنعوا عَلَيْهِ بمكاتبة الفرنج وَلم يكن فعل ذَلِك إِقَامَة لعذرهم وقذفوه بِالْحِجَارَةِ وَنَادَوْا بشعار السُّلْطَان
وَلما اتَّصل بالسلطان هَذِه الْأَحْوَال أنفد تَقِيّ الدّين إِلَى حارم ليتسلمها فَامْتنعَ النَّقِيب وَأهل القلعة من تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فَرَحل السُّلْطَان إِلَيْهَا بِنَفسِهِ جَرِيدَة فَلَمَّا أشرف عَلَيْهَا نزل إِلَيْهِ النَّقِيب ووجوه القلعيين وسلموها إِلَيْهِ فِي تَاسِع عشر صفر
وَلما حَضَرُوا عِنْد السُّلْطَان حدثوه بكيفية الْحَال وَكَانَ بدر الدّين حسن ابْن الداية حَاضرا فَقَالَ للسُّلْطَان يَا مَوْلَانَا لَا تلْتَفت إِلَى هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم آذوا هَذَا الْوَالِي وكذبوا عَلَيْهِ حَتَّى فوتوه مَا كَانَ السُّلْطَان وعده بِهِ وَمَا قلت هَذَا إِلَّا عَن تجربة فإنني لما كنت مُتَوَلِّيًا لهَذِهِ القلعة جرى عَليّ من كذبهمْ فِي حَقي وتخرصهم عَليّ أمورا كدت بهَا أهلك مَعَ نور الدّين وهم كَانُوا سَبَب خروجي من هَذِه القلعة وَأَنا أرى أَن السُّلْطَان يقرهم فِي القلعة على هَذِه التجربة فَضَحِك السُّلْطَان وَأمر لَهُم بِمَا كَانَ وعدهم بِهِ وَأفضل عَلَيْهِم وَولى القلعة غَيرهم وَقَالَ لِابْنِ الداية إِن بَين أَيْدِينَا أمكنة نُرِيد أَخذهَا وَمَتى لم نف بِمَا نعد ونجزل الْعَطاء لم يَثِق بِنَا أحد
وَبَات السُّلْطَان بقلعة حارم لَيْلَتَيْنِ وَعَاد إِلَى حلب فِي ثَالِث ربيع الأول فرتبها وَقرر وَلَده الظَّاهِر سُلْطَانا بهَا وَقرر لَهُ فِي كل شهر أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَعشْرين كمة وقباء وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام وَغَيره وَجعل(3/173)
مَعَه واليا سيف الدّين أزكش الْأَسدي وَولى حسام الدّين تميرك الخليفتي شحنة حلب وَولى الدِّيوَان نَاصح الدّين إِسْمَاعِيل بن العميد الدِّمَشْقِي وَدَار الضَّرْب فَضرب الدِّرْهَم الناصري الَّذِي سكته خَاتم سُلَيْمَان وَنقل الخطابة من بني العديم إِلَى أبي البركات بن الْخَطِيب هَاشم بسفارة القَاضِي الْفَاضِل وَولى الْقَضَاء لمحيي الدّين بن زكي الدّين الدِّمَشْقِي فاستناب فِيهِ ابْن عمته أَبَا الْبَيَان نبأ بن البانياسي وَولى الْجَامِع وَالْوُقُوف لأبي عَليّ بن العجمي
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ فِي قلعة صارم مَمْلُوك من مماليك نور الدّين رَحمَه الله فعصى وتأبى عَن تَسْلِيمهَا فَأخْرجهُ مِنْهَا أَهلهَا لما اتَّهَمُوهُ بمكاتبة الفرنج وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان فتسلمها ودبر أمرهَا وأحكمها
وَقَالَ ابْن شَدَّاد أنفذ إِلَى حَازِم من يتسلمها ودافعهم الْوَالِي فأنفذ الأجناد الَّذين بهَا يستحلفونه فوصل خبرهم إِلَيْهِ يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشري صفر فَحلف لَهُم وَسَار من وقته إِلَى حارم فوصلها تَاسِع عشري صفر فتسلمها وَبَات بهَا لَيْلَتَيْنِ وَقرر قواعدها وَولى فِيهَا إِبْرَاهِيم بن شروه وَعَاد إِلَى حلب فَدَخلَهَا ثَالِث ربيع الأول
ثمَّ أعْطى العساكر دستورا فَسَار(3/174)
كل مِنْهُم إِلَى بَلَده وَأقَام يُقرر قَوَاعِد حلب وَيُدبر أمورها
قَالَ الْعِمَاد ورجفت أنطاكية بعد ذَلِك رعْبًا فَأرْسل صَاحبهَا جمَاعَة من أُسَارَى الْمُسلمين وانقاد وسارع إِلَى أَمَان السُّلْطَان
وَولى السُّلْطَان الْقَضَاء بحلب محيي الدّين بن الزكي فاستناب فِيهَا زين الدّين نبأ بن الْفضل بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن البانياسي وكشف السُّلْطَان عَن حلب الْمَظَالِم وأزال المكوس وَولى قلعتها سيف الدّين يازكوج وَولى الدِّيوَان نَاصح الدّين إِسْمَاعِيل بن العميد وَجعل حلب باسم وَلَده الْملك الظَّاهِر غَازِي وَكَانَ استصحبه من مصر عِنْد وُصُوله إِلَى الشَّام وَأقر عين تَابَ على صَاحبهَا وَأعْطى تل خَالِد وتل بَاشر بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق وَأعْطى قلعة عزاز علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر
قلت وَفِي توقيع إِسْقَاط المكوس عَن حلب من كَلَام الْفَاضِل عَن السُّلْطَان وانْتهى إِلَيْنَا أَن بِمَدِينَة حلب رسوما استمرت الْأَيْدِي على تنَاولهَا والألسنة على تداولها وفيهَا بالرعاة إرفاق وبالرعايا إِضْرَار وَلها مِقْدَار إِلَّا عِنْد من كل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار مِنْهَا مَا هُوَ على الأثواب المجلوبة وَمِنْهَا مَا هُوَ على الدَّوَابّ المركوبة وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي المعايش الْمَطْلُوبَة
وَقد رَأينَا بِنِعْمَة الله علينا أَن نبطلها ونضعها ونعطلها وندعها ونضرب عَنْهَا فِي أيامنا ونضرب عَلَيْهَا بأقلامنا ونسلك مَا هُوَ(3/175)
أهْدى سبلا ونقول مَا هُوَ أقوم قيلا ونكره مَا كرهه الله ونحظر مَا حظره الله ونتاجره سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ من ترك لله شَيْئا عوضه الله أَمْثَاله وأربح متجره فِي الرّعية الْيَوْم بِمَا يوضع عَنْهُم من إصرها وَلنَا غَدا بِمَشِيئَة الله بِمَا يرفع من أجرهَا
فعلى كَافَّة أوليائنا وولاتنا وأمرائنا والمتصرفين من قبلنَا أَلا يهووا إِلَيْهَا يدا وَلَا يردوا وَلَو بلغ الظمأ مِنْهَا موردا وَلَا يثقلوا بهَا ميزَان المَال فيخف ميزَان الْأَعْمَال وَلَا يَرْغَبُوا فِي كثير الْحَرَام فَإِن الله يُغني عَنهُ بِقَلِيل الْحَلَال وليعلم أَن ذَلِك من الْأَمر الْمُحكم وَالْقَضَاء المبرم والعزم المتمم
وَفِي منشور أهل الرقة بِمثل ذَلِك أَشْقَى الْأُمَرَاء من سمن كيسه وأهزل الْخلق وأبعدهم من الْحق من أَخذ الْبَاطِل من النَّاس وَسَماهُ الْحق وَمن ترك شَيْئا عوضه الله وَمن أقْرض الله قرضا حسنا وفاه مَا أقْرضهُ
وَلما انْتهى أمرنَا إِلَى فتح الرقة أَشْرَفنَا مِنْهَا على سحت يُؤْكَل وظلم مِمَّا أَمر الله بِهِ أَن يقطع وَأمر الظَّالِمُونَ أَن يُوصل فأوجبنا على أَنْفُسنَا وعَلى كَافَّة الْوُلَاة من قبلنَا أَن يضعوا هَذِه الرسوم بأسرها ويلقوا الرعايا من بشائر أَيَّام ملكنا بأسرها ونعتق بلد الرقة من رقها وَنثْبت أَحْكَام المعدلة فِيهَا بمحو هَذِه الرسوم ومحقها
وَقد أمرنَا بِأَن تسد هَذِه الْأَبْوَاب وتعطل وتنسخ هَذِه الْأَسْبَاب وَتبطل وتستمطر سحائب الخصب بِالْعَدْلِ وتستنزل ويعفى خبر هَذِه الضرائب من الدَّوَاوِين ويسامح بهَا جَمِيعهَا جَمِيع الْأَغْنِيَاء وَالْمَسَاكِين مُسَامَحَة مَاضِيَة الْأَحْكَام مستمرة الْأَيَّام دائمة الخلود خالدة(3/176)
الدَّوَام تَامَّة الْبَلَاغ بَالِغَة التَّمام مَوْصُولَة على الأحقاب مسنونة فِي الأعقاب ملعونا من يطمح إِلَيْهَا ناظره وتتناولها يَده أَو يمسك عَنْهَا الْيَوْم على طمع لَا يوصله إِلَيْهِ غده
قَالَ الْعِمَاد وَورد على السُّلْطَان وَهُوَ نَازل على حلب بشارتان إحدهما أَن الأسطول الْمصْرِيّ غزا فِي خَامِس عشر محرم وَرجع بعد تِسْعَة أَيَّام وَقد ظفر ببطسة مقلعة من الشَّام فِيهَا ثَلَاث مئة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ علجا من خيالة وتجار وَالثَّانيَِة أَن فرنج الداروم نهضوا فَنَذر بهم وَالِي الشرقية فَخرج إِلَيْهِم فَالْتَقوا على مَاء يعرف بالعسيلة فاستولى عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ بعد أَن كَادُوا يهْلكُونَ عطشا لِأَن الفرنج كَانُوا قد ملكوا المَاء فأرواهم الله بِمَاء السَّمَاء
قلت وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد بِهَاتَيْنِ البشارتين بِفَتْح حلب وحارم كتابا شافيا أَوله أدام الله أَيَّام الدِّيوَان الْعَزِيز وَلَا زَالَت منَازِل مَمْلَكَته منَازِل التَّقْدِيس والتطهير وَالْوُقُوف بأقصى المطارح من أبوابه مُوجبا للتقديم وَالتَّقْدِير وَالْأمة مَجْمُوعَة الشمل بإمامته جمع السَّلامَة لَا جمع التكسير
الْخَادِم يُنْهِي أَن الَّذِي يفتتحه من الْبِلَاد ويتسلمه إِمَّا بِسُكُون التغمد أَو بحركة مَا فِي الأغماد إِنَّمَا يعده طَرِيقا إِلَى الاستنفار إِلَى بِلَاد الْكفَّار ويحسبه جنَاحا يُمكنهُ بِهِ المطار إِلَى مَا يلابسه الْكفَّار من الأقطار
وعَلى هَذِه الْمُقدمَة فَهُوَ يستفتح بِذكر ظفرين لِلْإِسْلَامِ بري وبحري
شَامي ومصري أَحدهمَا وَهُوَ البحري عود أحد الأسطولين اللَّذين أغزاهما أَخُو الْخَادِم(3/177)
أَبُو بكر بِمصْر وَكَانَت مُدَّة غيبته من حِين خُرُوجه إِلَى وَقت عوده إِلَى دمياط تِسْعَة أَيَّام فظفر ببطسة مقلعة من الشَّام فِيهَا ثَلَاث مئة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ علجا مِنْهُم خيالة ذَوُو شكة وازعة وتجار ذَوُو ثروة وَاسِعَة
وَالثَّانِي وَهُوَ الْبري نهوض فرنج الداروم إِلَى أَطْرَاف بعيدَة فَنَذر بهم وَالِي الشرقية فَركب إِلَيْهِم اللَّيْل فرسا كَمَا ركبوه جملا وسروا ثقيلا وسرى رملا فتوافى الْفَرِيقَانِ إِلَى مَاء يعرف بالعسيلة سبق الفرنج إِلَى موردته وَالسَّابِق إِلَى المَاء محاصر للمسبوق ووردوا أزرقه فتغضب لأزرقهم فَظن الْمُؤمن أَن الْكَافِر مَرْزُوق
وَاشْتَدَّ بِالْمُسْلِمين الْعَطش ثمَّ ثابوا إِلَى الفرنج بِقُوَّة إنجاد السَّمَاء بِالْمَاءِ فَلم ينج من الفرنج إِلَّا رجلَانِ أَحدهمَا الدَّلِيل وَالثَّانِي الذَّلِيل وَعَاد الْمُسلمُونَ برؤوس عدوهم فِي رُؤُوس القنا وَقد اجتنوا ثمراتها وبأرواحهم فِي رُؤُوس الظبى وَقد أطفؤوا بِمَائِهَا جمراتها
ثمَّ قَالَ ويثني الْخَادِم بِذكر مَا امتثله من الْأَوَامِر الْعلية فِي إغماد سيف مجرده من استدعى تجريده ومورده من عرض لَهُ وريده ثمَّ ذكر تسلمه حلب وَأَنه لَا يُؤثر إِلَّا أَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا لَا غير وثغور الْمُسلمين لَهَا الرعايا وَلَا ضير وَلَا يخْتَار إِلَّا أَن تغدوا جيوش الْمُسلمين متحاشدة على عدوها لَا متحاسدة بعتوها
وَلَو أَن أُمُور الْحَرْب تصلحها الشّركَة لما عز عَلَيْهِ أَن يكون كثير المشاركين وَلَا سَاءَهُ أَن تكون الدُّنْيَا كَثِيرَة(3/178)
المالكين وَإِنَّمَا أُمُور الْحَرْب لَا تحْتَمل فِي التَّدْبِير إِلَّا الْوحدَة فَإِذا صَحَّ التَّدْبِير لم يحْتَمل فِي اللِّقَاء إِلَّا الْعدة فعوض عماد الدّين من بِلَاد الجزيرة سنجار وخابورها ونصيبين والرقة وسروج على أَن الْمَظَالِم تَمُوت فَلَا ينشر مقبورها والعساكر تنشر راية غزوها فَلَا يطوى منشورها
وَأجَاب الْخَادِم عماد الدّين إِلَى مَا سَأَلَ فِيهِ من أَن يُصَالح المواصلة مهما استقاموا لعماد الدّين لِأَنَّهُ لم يَثِق بهم وَإِن كَانَ لَهُم أَخا وَلم يطمئن إِلَى مجاورتهم إِلَى أَن يضْرب بَينه وَبينهمْ من عنايته برزخا فليلح الْآن عذر الْأَجْنَبِيّ إِذا لم يَثِق ولتكن هَذِه مصحية من عوتب فِي سكره حسن الظَّن فَلم يفق وَمن شَرطه على المواصلة المعونة بعسكرهم فِي غَزَوَاته وَالْخُرُوج عَن الْمَظَالِم فَمَا زَاد على أَن قَالَ سالموا مُسلما وحاربوا كَافِرًا واسكنوا لتَكون الرّعية سَاكِنة وأظهروا ليَكُون حزب الله ظَاهرا
وَهَذِه الْمَقَاصِد الثَّلَاثَة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله والكف عَن مظالم عباد الله وَالطَّاعَة لخليفة الله هِيَ مُرَاد الْخَادِم من الْبِلَاد إِذا فتحهَا ومغنمه من الدُّنْيَا إِذا منحها وَالله الْعَالم أَنه لَا يُقَاتل لعيش أَلين من عَيْش وَلَا لغضب يمْلَأ الْعَنَان من نزق وطيش وَلَا يُرِيد إِلَّا هَذِه الْأُمُور الَّتِي قد توسم أَنَّهَا تلْزم وَلَا يَنْوِي إِلَّا هَذِه النِّيَّة الَّتِي هِيَ خير مَا يسطر فِي الصَّحِيفَة ويرقم
وَكتب الْخَادِم هَذِه الْخدمَة بعد أَن بَات بحلب لَيْلَة وَخرج مِنْهَا إِلَى حارم وَكَانَت استحفظت مَمْلُوكا لَا يملكهُ دين وَلَا عقل غرا مَا هذبته نفس وَلَا أهل فَاعْتقد أَن يُسَلِّمهَا إِلَى صَاحب أنطاكية يسر الله فتحهَا اعتقادا صرح بِفِعْلِهِ وشهره بكتبه وَرُسُله وواطأ على ذَلِك نَفرا من رجال يعْرفُونَ بالشمسية لَا يعْرفُونَ خَالِقًا إِلَّا من عرفوه رازقا وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لمن يرونه فِي نهر النَّهَار سابحا وَفِي بَحر الظلام غارقا فشعر بِهِ من فِيهَا(3/179)
من الأجناد الْمُسلمين فشردوه وَمن تَابعه على فعله وظفر بِهِ الْمَمْلُوك عمر ابْن أَخِيه فِي ضواحي الْبَلَد فَأَخذه وأرسله إِلَى قلعة حلب وَسَار الْخَادِم إِلَيْهَا فتسلمها ورتب بهَا حامية ورابطة وَلم يعْمل على أَنَّهَا للْعَمَل طرف بل أَنَّهَا للْعقد وَاسِطَة وَالْخَادِم كَمَا طالع بماضيه الَّذِي حازه الأمس الْمَذْكُور يطالع بمستقبله الَّذِي يُنجزهُ بِمَشِيئَة الله الْغَد المشكور فَهُوَ متأهب لِلْخُرُوجِ نَحْو الْكفَّار لَا تسأم رايته النصب وَلَا جِهَة سيره الرّفْع وَلَا جَيْشه الْجَرّ وَلَا يصغي إِلَى قَول خاطر الرَّاحَة المفند لَا تنفرُوا فِي الْحر وَلَا يُجيب دَعْوَة الْفراش الممهد وَلَا يعرج على الظَّن الْمَمْدُود وَلَا دمية الطراف الممدد وَلَا يعْطف على رَيْحَانَة فؤاد يُفَارِقهُ حولا ويلقاه يَوْمًا وَلَا يُقيم على زهرَة ولد اسْتهلّ فَمَتَى ذكره الْفطر على رَاحَته قَالَ {إِنِّي نذرت للرحمن صوما}
وَمن كتاب آخر أنفذه من نَصِيبين سنة ثَمَان وَسبعين إِلَى بَغْدَاد سَبِيل الْخَادِم أَن يبْنى وَلَا يهدم ويوفر جَانِبه وَلَا يثلم وَأَن يفرق بَينه وَبَين من يمسكون أَعِنَّة الْجِيَاد المسومة وَلَا يطلقونها ويكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة(3/180)
وَلَا يُنْفِقُونَهَا فقد علم أَن الْخَادِم بيُوت أَمْوَاله فِي بيُوت رِجَاله وَأَن مَوَاطِن نُزُوله فِي مَوَاقِف نزاله ومضارب خيامه لَا أكنة ظلاله
وَأَنه لَا يدّخر من الدُّنْيَا إِلَّا شكته وَلَا ينَال من الْعَيْش إِلَّا مسكته وعدو الْإِسْلَام شَدِيد على الْإِسْلَام كَلْبه مضطرم على أَهله لهبه زجل إِذا أصغت أسماع التَّأَمُّل لجبه
وَلَو أَن أحد من يَدعِي الْملك مِيرَاثا ويعد الْبِلَاد لَهُ تراثا دفع إِلَى مدافعة هَذَا الْعَدو الْكَافِر وَإِلَى منافرة هَذَا الْفَرِيق النافر لعرفته الْأَيَّام مَا هُوَ جاهله ولقلدته الْحَرْب مَا هُوَ قَاتله ولحملته الْأَهْوَال مَا تخور تَحْتَهُ محامله
وَفِي كتاب آخر وَإِذا ولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ ثغرا لم يبت فِي وَسطه وَأصْبح فِي طرفه وَإِذا سوغه بَلَدا هجر فِي ظلّ خيمه وَلم يقم فِي ظلّ غرفه وَإِذا بَات بَات السَّيْف لَهُ ضجيعا وَإِذا أصبح أصبح ومعترك الْقِتَال لَهُ ربيعا لَا كَالَّذِين يغبون أَبْوَاب الْخلَافَة إغباب الاستبداد وَلَا يؤامرونها فِي تصرفاتهم مُؤَامَرَة الاستعباد وَكَأن الدُّنْيَا لَهُم إقطاع لَا إِيدَاع وَكَأن الْإِمَارَة لَهُم تخليد لَا تَقْلِيد وَكَأن السِّلَاح عِنْدهم زِينَة لحامله ولابسه وَكَأن مَال الْخلق عِنْدهم وَدِيعَة فَلَا عذر عِنْدهم لمانعه وَلَا لحابسه وَكَأَنَّهُم فِي الْبيُوت دمى مصورة فِي لُزُوم جدرها لَا فِي مستحسنات صورها راضين من(3/181)
الدّين بالغزوة اللقبية وَمن إعلاء كَلمته بِمَا يسمعونه على الدَّرَجَات الخشبية وَمن جِهَاد الخارجين على الدولة باستحسان الْأَخْبَار المهلبية وَمن قتال الْكفَّار بِأَنَّهُ فرض كِفَايَة تقوم بِهِ طَائِفَة فَيسْقط عَن الْأُخْرَى فِي أخراها وَمن طَاعَة الْخلَافَة بِذكر اسْمهَا وَالْخُرُوج عَن سيماها فَلَا يقنعون بِأَنَّهُم لَا يجاهدون إِلَى أَن يمنعوا من يُجَاهد عَنْهُم ويثاغر وبأنهم لَا يساعدون الْمُسلمين إِلَى أَن يساعدوا عَلَيْهِم عدوهم الْكَافِر فقد توالوا الشَّيْطَان تليدا وطريفا ووطئوا الْإِسْلَام وَأَهله وطأ عنيفا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة جَاءَ الله بهم فِي زمرة الشَّيْطَان لفيفا
وَقَالَ فِي هَذَا الْكتاب إِن المواصلة مَا فزعوا إِلَى دَار الْخلَافَة إِلَّا بعد أَن فزعوا وَإِلَّا فطالما طمع أَوَّلهمْ كَمَا طمعوا وقديما دعوا إِلَى طاعتها فَمَا سمعُوا وسمعوا فَمَا اتبعُوا حَتَّى إِن الْأَوَّلين مِنْهُم علمُوا أَوْلِيَاء الدولة من الأتراك ضد مَا جبلت أَخْلَاقهم عَلَيْهِ من عقوقها وسنوا لَهُم إِضَاعَة حُقُوق الله بإضاعة حُقُوقهَا فَأَيْنَ كَانَ التَّعَلُّق بِالدَّار العزيزة وهم يحاصرون دَار السَّلَام بأحزابهم ويرامون التَّاج الشريف بنشابهم ويمدون محاصريها بالأسلحة والمنجنيقات والأزواد والإقامات ويصافون الْخُلَفَاء مصافة المواقف ويكاشفونهم مكاشفة الْمُخَالف ويغرون دزدار تكريت وَهِي من أَهْون بِلَاد الله بجور الْجوَار ويجعلونها سجنا(3/182)
لمماليك الْخلَافَة ذَوي الأقدار وَلَو تحرّك الْيَوْم متحرك لكانوا لَهُ كنَانَة ولكانت بِلَادهمْ لَهُ خزانَة ويرجو الْخَادِم بالموصل أَن تكون الْموصل إِلَى الْقُدس وسواحله ومستقر الْكفْر فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة على بعد مراحله وبلاد الكرج فَلَو أَن لَهُم من الْإِسْلَام جارا لاستباح الدَّار وبلاد أَوْلَاد عبد الْمُؤمن فَلَو أَن لَهَا مَاء سيف لأطفأ مَا فِيهَا من النَّار إِلَى أَن تعلو كلمة الله الْعليا وتملأ الْولَايَة العباسية الدُّنْيَا وتعود الْكَنَائِس مَسَاجِد والمذابح المستعبدة معابد والصليب الْمَرْفُوع حطبا فِي المواقد والناقوس الصهل أخرس اللهجة فِي الْمشَاهد
ويضيف إِلَى الدِّيوَان بِمَشِيئَة الله مَا يُجَاوز أكنافه ويمد أَطْرَافه مثل تكريت ودقوقا والبوازيج وخوزستان وكيش وعمان وَالَّذِي وَقع أعظم من الَّذِي يتَوَقَّع وَالَّذِي طلع أَكثر من الَّذِي يتطلع وَالَّذِي رئي أمس أكبر من الَّذِي يسمع
قلت يَعْنِي أَن مَا فَتحه من الْبِلَاد أعظم من هَذِه الَّتِي يرجوها
وَأَشَارَ بِفعل أول المواصلة إِلَى مَا سبق من فعل زنكي فِي حِصَار بَغْدَاد ومساعدته للسلجوقية على الْعَادة فِي ذَلِك الزَّمَان وَالله أعلم
وَفِي آخر كتاب فاضلي إِلَى حطَّان بن منقذ بِالْيمن عَن السُّلْطَان فتح الله علينا ممالك وأضافها وبلادا آمنها بِنَا مِمَّا أخافها وبلغنا غرائب صنع لَا نبلغ أوصافها مِنْهَا بِلَاد الشَّام بأسرها ومملكة حلب بجملتها وَالْمَدينَة بقلعتها وبلاد الجزيرة إِلَى دجلتها
فَمِنْهَا مَا أُعِيد على من اشْترط عَلَيْهِ اسْتِخْدَام عسكره فِي بيكارنا وَمِنْهَا مَا اسْتمرّ فِي الْيَد وولاته من(3/183)
أوليائنا وأنصارنا
وَلما لم يبْق فِي الْبِلَاد الإسلامية إِلَّا مَا هُوَ فِي يدنا أَو فِي يَد مُطِيع لنا كَانَ من شكر هَذِه النِّعْمَة أَن نصرف الْقُوَّة ونثني العزمة ونحد الشَّوْكَة ونلبس الشكة للفرنج الملاعين فتنازلهم ونقارعهم ونخاصمهم إِلَى الله وننازعهم فنطهر الأَرْض المقدسة من رجسهم بدمائهم إِلَى أَن ترق السيوف للصخرة الشَّرِيفَة لما مر بهَا من قسوة كفرهم واعتدائهم
فَنحْن نرجو أَن نَكُون عين الطَّائِفَة من الْأمة الَّتِي أخبر نَبينَا صلوَات الله عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تزَال على الْحق ظَاهِرَة وبثواب الله وعدوه ظافرة وَالله تَعَالَى يعيننا على مَا يعنينا ويلهمنا الاستجابة لدعوته إِلَى مَا يحيينا
فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى دمشق وَخُرُوجه مِنْهَا للغزاة بمخاضة الْأُرْدُن
رَحل السُّلْطَان من حلب فَمر على حماة ثمَّ حمص ثمَّ بعلبك ثمَّ دمشق
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لم يقم السُّلْطَان فِي حلب إِلَّا إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَأَنْشَأَ عزما على الْغُزَاة فَخرج فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى الوضيحي مبرزا نَحْو دمشق واستنهض العساكر فَخَرجُوا يتبعونه
ثمَّ رَحل فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ إِلَى حماة فوصلها ثمَّ رَحل فِي بَقِيَّة يَوْمه وَلم يزل يواصل بَين الْمنَازل حَتَّى دخل دمشق فِي ثَالِث جُمَادَى الأولى فَأَقَامَ بهَا متأهبا إِلَى السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ
ثمَّ برز فِي ذَلِك الْيَوْم وَنزل على جسر الْخشب وتبعته العساكر مبرزة وَأقَام بِهِ تِسْعَة أَيَّام ثمَّ رَحل فِي ثامن جُمَادَى الْآخِرَة حَتَّى أَتَى الفوار وتعبى فِيهِ للحرب وَسَار(3/184)
حَتَّى نزل الْقصير فَبَاتَ بِهِ وَأصْبح على الْمَخَاض وَعبر وَسَار حَتَّى أَتَى بيسان فَوجدَ أَهلهَا قد نزحوا عَنْهَا وَتركُوا مَا كَانَ من ثقيل الأقمشة والغلال والأمتعة بهَا فنهبها الْعَسْكَر وغنموا وأحرقوا مَا لم يُمكن أَخذه
وَسَار حَتَّى أَتَى الجالوت وَهِي قَرْيَة عامرة وَعِنْدهَا عين جَارِيَة فخيم بهَا
وَكَانَ قد قدم عز الدّين جرديك وَجَمَاعَة من المماليك النورية وجاولي مَمْلُوك أَسد الدّين حَتَّى يكشفوا خبر الفرنج فاتفق أَنهم صادفوا عَسْكَر الكرك والشوبك سائرين نجدة للفرنج فَوَقع أَصْحَابنَا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وأسروا مِنْهُم زهاء مئة نفر وعادوا وَلم يفقد من الْمُسلمين سوى شخص وَاحِد يدعى بهْرَام الشاووش فوصل إِلَيْهِ فِي بَقِيَّة يَوْم الكسرة وَهُوَ الْعَاشِر من جُمَادَى الْآخِرَة
وَفِي حادي عشرَة وصل الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أَن الفرنج قد اجْتَمعُوا فِي صفورية ورحلوا إِلَى الفولة وَهِي قَرْيَة مَعْرُوفَة وَكَانَ غَرَضه المصاف فَلَمَّا سمع بذلك تعبى لِلْقِتَالِ وَسَار للقاء الْعَدو فَالْتَقوا وَجرى قتال عَظِيم وَقتل من الْعَدو جمَاعَة وجرح جمَاعَة وهم يَنْضَم بَعضهم إِلَى بعض يحمي راجلهم فارسهم وَلم يخرجُوا للمصاف وَلم يزَالُوا سائرين حَتَّى أَتَوا الْعين فنزلوا عَلَيْهَا وَنزل السُّلْطَان حَولهمْ وَالْقَتْل وَالْجرْح يعْمل فيهم لِيخْرجُوا إِلَى المصاف وهم لَا يخرجُون لخوفهم من الْمُسلمين فَإِنَّهُم كَانُوا فِي كَثْرَة عَظِيمَة فَرَأى السُّلْطَان الانتزاح عَنْهُم لَعَلَّهُم(3/185)
يرحلون فَيضْرب مَعَهم مصَاف فَرَحل نَحْو الطّور سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة فَنزل تَحت الْجَبَل مترقبا رحيلهم ليَأْخُذ مِنْهُم فرْصَة فَأصْبح الفرنج رَاجِعين على أَعْقَابهم ناكصين فَرَحل رَحمَه الله نحوهم وَجرى من رمي النشاب واستنهاضهم للمصاف أُمُور عَظِيمَة فَلم يخرجُوا وَلم يزل السُّلْطَان حَولهمْ حَتَّى نزلُوا الفولة رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ وَعَاد السُّلْطَان منصورا وَقد نَالَ مِنْهُم قتلا وأسرا وَخرب عفربلا وبيسان وزرعين وقرى عدَّة فَنزل الفوار وَأعْطى النَّاس دستورا فَسَار من آثر الْمسير وأتى هُوَ دمشق يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة
قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الهمة الَّتِي لم يشغلها عَن الْغُزَاة أَخذ حلب وَلَا الظفر بهَا بل كَانَ غَرَضه رَحْمَة الله عَلَيْهِ الِاسْتِعَانَة بالبلاد على الْجِهَاد فَالله يحسن جزاءه فِي الْآخِرَة كَمَا وَفقه للأعمال المرضية فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ الْعِمَاد خرج السُّلْطَان إِلَى الْغَزْو ورابط الْعَدو بِعَين الجالوت وَعبر المخاضة الحسينية تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة فوصل إِلَى بيسان وَقد أخلاها أَهلهَا فَأطلق النَّاس فِيهَا النيرَان ونهبوا مَا فِيهَا وَكَذَلِكَ فعلوا بأبراج وقلاع غَيرهَا
وصادفت مُقَدّمَة العساكر خيلا ورجلا للفرنج عابرين من نابلس ومقدمهم ابْن هنفري فَقتل مِنْهُم وَأسر وتوقل الْبَاقُونَ فِي الْجبَال وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج قد أَقبلُوا فِي ألف وَخمْس مئة رمح وَمثله تركبلي وَخَمْسَة عشر ألف راجل فَأَتَاهُم الْمُسلمُونَ وَذَلِكَ على عين(3/186)
الجالوت فَأَخذهُم الرعب وخاموا عَن الْإِقْدَام عَلَيْهِم فخندقوا حَولهمْ وأسندوا ظُهُورهمْ إِلَى الْجَبَل وَأَقَامُوا كَذَلِك خَمْسَة أَيَّام
فَلَمَّا رأى الْمُسلمُونَ مِنْهُم ذَلِك رجعُوا عَنْهُم فتنفس خناقهم ونكصوا على أَعْقَابهم إِلَى الناصرة وَعَاد الْمُسلمُونَ بالغنائم وَالْأسَارَى لم يخلص الْعَدو مِنْهَا شَيْئا وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة
وَقد كَانُوا مُدَّة مقامهم يتخطفهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب ويرمونهم بِالنَّبلِ وينتظرون أَن يحملوا أَولا كَمَا هُوَ عَادَتهم فَمَا فعلوا
وَفِي كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد لما كَانَ بتاريخ الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة سَار الْخَادِم من أدنى الْمنَازل من بِلَاد الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد الْكفْر وَقد تكاملت جنود الْإِسْلَام وتعينت ميامنه ومياسره وَأخذت أهبه وشحذت قضبه وَبَاعُوا الله مَا اشْتَرَاهُ وَمثل لأعينهم ثَوَابه فَكَأَنَّهَا ترَاهُ وَسَارُوا تَحت ليل عجاج ستر السائر تَحْتَهُ سراه وَأصْبح الْخَادِم وإياهم بِعَين الله فِي سَبيله على مَاء الْأُرْدُن وَهُوَ النَّهر الْفَاصِل بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر والمخاضة الْمَضْرُوب مِنْهَا بسور على ذَلِك الْقطر فَخَاضَ ذَلِك الْبَحْر وَذَلِكَ النَّهر وأمدته نطف الْحَدِيد فَإِذا المَاء يَرْمِي بالشرر ويقذف بالجمر وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي يَوْم الْمسير وَهُوَ تَاسِع الشَّهْر
وَلما جَازَ المخاضة أَخذ الْبِلَاد ضرب الْمَخَاض وزلزلت أرْضهَا فَهِيَ بالقوم ترض أَو للقيامة ترَاض وَأخذت رجال الْمُسلمين تنقص الأَرْض من أطرافها وتقلع قلاع الْجبَال وَتَطير رؤوسها من أكتافها فَإِذا الْبِلَاد قد انهزم أَهلهَا فألحقها الْمُسلمُونَ(3/187)
مساكنها فِي الْهَزِيمَة وعولوا فِيهَا على سيوف المعاول فَإِذا هِيَ رَاحِلَة وَكَأَنَّهَا مُقِيمَة وَهَذِه الْبِلَاد مدن مَا كَانَ غرم قبل مِنْهَا مدنيا وعمارات مَا كَانَ أمل إِلَيْهَا مفضيا بل طالما كَانَ عَنْهَا مغضيا مثل بيسان وعفربلا وزرعين وجينين كلهَا بِلَاد مشاهير لَهَا قرى مغلة وبساتين مظلة وأنهار مقلة وقلاع مطلة وأسوار قد ضربت على جهاتها وأحاطت بجنباتها واتخذتها المدن سياجا على قصباتها فغنم الْمُسلمُونَ مَا فِيهَا من أقوات مختزنة وشفوا مِنْهَا حزازات الْقُلُوب المضطغنة وأحرقوا أوعية كفرها بالنَّار وعذبوها عَذَاب أَهلهَا من الْكفَّار وقتلوها وَكَانَ الضرام لَهَا دَمًا وَكَتَبُوا عَلَيْهَا الخراب وَكَانَ السَّيْف فِيهَا قَلما فأجلوا عَن حماها حمما وتساقطت جدرها فَكَأَنَّمَا أسارت فِيهَا النَّوَى لمما
وَلما كَانَ يَوْم السبت الْحَادِي عشر ورد الْخَبَر بِأَن عَسْكَر الْكَافرين قد ركب من مَكَان مجتمعه وزحف بلابسه ومدرعه فَركب الْخَادِم يبوىء الْمُؤمنِينَ مَوَاقِف الْقِتَال ومنازل النزال فَمن متسرع يطوف عَلَيْهِم بصفاح ليطاف عَلَيْهِ بصحاف وَمن متثبت يمشي إِلَى الْمَوْت مشي الْعَرُوس سَاعَة الزفاف وهنالك منظر ود الْمُؤْمِنُونَ لَو أَن أَمِيرهمْ لَهُ نَاظر كَمَا هُوَ بِهِ أَمر وَلَا غرو أَن يصفه الْخَادِم ليسر المخدوم لَا ليوصف الْخَادِم وَمن وصف ضَرْبَة السَّيْف فَإِنَّمَا وصف الضَّارِب وَلم يصف الصارم وَنزل الْعَدو إِلَى الأَرْض منحطا عَن سَرْجه ومنحازا عَن فجه وسالكا نهجا غير نهجه وأحدق بِهِ راجله وَهُوَ زهاء عشْرين ألف راجل وركز صَلِيب صلبوته فَاسْتَوَى فِي الْعَجز الْمَحْمُول وَالْحَامِل وَنزل محصورا وَخَنْدَق فَكَأَنَّمَا(3/188)
أصبح الْكَافِر فِي حفر ذَلِك الخَنْدَق مقبورا وَأقَام بإزائه خَمْسَة أَيَّام تماسيه الوقائع وتصاحبه وتماشيه الروائع وتصافحه ويفزع فِيهِ إِلَى الحفير ويتكرر إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الْوَاحِد النفير وَيبْعَث إِلَيْهِ السهْم وَهُوَ فِي الْحَرْب السفير فَيقبل تَحِيَّة الضَّرْب مترددة وَلَا يردهَا وتتبسم إِلَيْهِ صفيحة النصل متوددة فَلَا يودها ويجتهد فِي استخراجه وَقد رأى العزائم وَلم يخرج لدعوتها والمكارم وَلم يرحل لبغيتها
وَمن كتاب آخر إِلَى وَزِير بَغْدَاد أثاروا على يَوْم الْكفْر لَيْلَة عجاج جعلت ليل من وَرَاءَهُمْ من الْإِسْلَام سكنا وصبروا وَصَابِرُوا فَكَأَنَّمَا كَانَ السَّيْف لَهُم أليفا وَكَانَ المعترك لَهُم وطنا وَأخذت فِي الْبِلَاد النَّار مأخذها ونفذت فِيهَا الْغَيْر منافذها وثلت عروشها وثلت غروسها وجليت فِي مصبغات النيرَان عروسها وأصبحت تناجي الْعُيُون ثواكلها وتصف النَّوَازِل منازلها دمنا على الأطلال مطلولة وصرعى بسيوف الْبلَاء مقتولة
وَجَاء الْعَدو فأحدقت بِهِ الْأَبْطَال وتنجزت عَادَة حَملته فمطلت وَمَا كَانَ خلقهَا المطال فَلَمَّا كثر الله الْمُسلمين فِي عيونهم وَرَأَوا بهَا مَا لم يَكُونُوا يرونه قبلهَا بظنوهم وَاسْتَمَدُّوا مغاني الشكوى لتبوح بهَا ألسنتهم إِذا خلوا إِلَى شياطينهم فأخلدوا إِلَى الأَرْض نازلين وقعدوا عَن الحملة ناكلين وَاتَّقَى فارسهم براجله ورامحهم بنابله ولاذ سيفهم بجفنه وَلَا خير فِي حامله ولاذ جفْنه بأطراقه خوفًا من كحله بِسَهْم قَاتله
وَأَقَامُوا مَحْصُورين لَا يَسْتَطِيعُونَ وردا وَلَا صَدرا وَلَا يَجدونَ مُتَقَدما وَلَا مُتَأَخِّرًا فَمَا كَانَ للكفر فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ منتصرا وعزف النصل فِي لحن(3/189)
السَّيْف أَن الشجَاعَة والنكول أَمْرَانِ يقذفهما الله فِي الْقُلُوب فَلَا يقل النَّاس كَيفَ
فصل فِي ولَايَة الْملك الْعَادِل حلب وَولَايَة تَقِيّ الدّين مصر وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وَقد كَانَ الْعَادِل نَائِبا بِمصْر فَلَمَّا فتح السُّلْطَان حلب كتب الْعَادِل إِلَيْهِ يطْلبهَا مِنْهُ مَعَ أَعمالهَا ويدع الديار المصرية فَكتب السُّلْطَان إِلَيْهِ أَن يوافيه إِلَى الكرك فَإِنَّهُ سَائِر إِلَى فَتحه فَأَشَارَ القَاضِي الْفَاضِل على السُّلْطَان أَن يَسْتَنِيب فِي الديار المصرية مَوضِع أَخِيه الْعَادِل ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فاستصحبه السُّلْطَان مَعَه إِلَى الكرك فِي رَجَب من هَذِه السّنة وَحَازَ فِي طَرِيقه قبل وُصُوله إِلَيْهَا غَنَائِم وخيم على الربة ثمَّ حصر الكرك ورماه بالمجانيق صباحا وَمَسَاء وتناوب عَلَيْهِ الْأُمَرَاء حَتَّى خرج شهر رَجَب وَمَا حصل مِنْهُ الطّلب لَكِن عظمت النكاية فِي الْكفَّار بِأخذ أَمْوَالهم وتخريب الديار
وَوصل الْخَبَر أَن الفرنج قد استجمعوا وتجمعوا بالموضع الْمَعْرُوف بالواله على قصد الْمُسلمين وخلاص الكرك من أَيْديهم وَرَأى السُّلْطَان أَن أَمر حصره يطول فعول على الرحيل إِلَى دمشق وَوصل الْعَادِل إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بعد على الكرك فَجهز تَقِيّ الدّين إِلَى(3/190)
الديار المصرية واليا عَلَيْهَا وقوى عضده بِصُحْبَة القَاضِي الْفَاضِل لَهُ وَتَوَلَّى الْعَادِل حلب وأعمالها ومنبج وَجَمِيع قلاعها وَسَار إِلَيْهَا فِي رَمَضَان وَرجع مِنْهَا إِلَى دمشق الْملك الظَّاهِر ونواب السُّلْطَان
قلت وَكتب الْعَادِل إِلَى الْفَاضِل يستشيره فِي التعوض عَن مصر بحلب
فَكتب إِلَيْهِ الْفَاضِل كتابا فِيهِ
(إِنَّمَا أَنْت كغيث ماطر ... حَيْثُمَا صرفه الله انْصَرف)
وَالْمولى أعلم وبسياسة الدُّنْيَا أقوم وَقد تكَرر الْكتاب الناصري إِلَيْهِ بِمَا نَص عَلَيْهِ وكشف لَهُ الغطاء وسنى لَهُ الْعَطاء وَقَالَت لَهُ المخطوبة هيت لَك
وَأدّى إِلَيْهِ مَالك الْأَمر مَا قد ملك فَلَا زَالَت سعادته أنور من شمس وأدور من فلك وَلَا زَالَ رابحا على الدَّهْر إِن امْرُؤ خسر وباقيا إِن امْرُؤ هلك
وَمن كتاب آخر إِلَيْهِ أدام الله دولة حامي الْحمى وَثَبت الدولة الناصرية الَّتِي يقوم بهَا ملكان همامان هما هَذَا صَلَاح يمْنَع فَسَادًا وَهَذَا سيف يحقن دَمًا
قَالَ ابْن أبي طي كَانَ السُّلْطَان يعظم الْملك الْعَادِل وَيعْمل بِرَأْيهِ فِي(3/191)
جَمِيع أُمُوره ويتيمن بمشورته وَلَا يعلم بِأَنَّهُ أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَمْر فخالفه
حَدثنِي قَاضِي الْيمن جمال الدّين قَالَ كَانَ السُّلْطَان يجمع الْأُمَرَاء للمشورة فَإِن كَانَ الْعَادِل حَاضرا سمع من رَأْيه وَإِن لم يكن حَاضرا لم يقطع أمرا فِي الْمُهِمَّات حَتَّى يكاتبه بجلية الْأَحْوَال ثمَّ يسمع رَأْيه فِيهَا
قَالَ وحَدثني أبي قَالَ حَدثنِي جمَاعَة قَالُوا كَانَ السُّلْطَان لَيْسَ لَهُ غناء عَن الْعَادِل وَلَا عَن رَأْيه فَلَمَّا حصل الْعَادِل بِمصْر وَبعد عَن السُّلْطَان هُنَاكَ صَار السُّلْطَان يتَكَلَّف فِي مُكَاتبَته بالأخبار وَيُؤَخر الْأُمُور إِلَى أَن يرد عَلَيْهِ جَوَابه فيفوته بذلك كثير من الْمَنَافِع الْحَاصِلَة للدولة وللجهاد
فَلَمَّا حصر الكرك فِي هَذِه السّنة كَاتبه بالحضور إِلَيْهِ بعياله وأمواله وَجَمِيع أَصْحَابه وَولى مصر تَقِيّ الدّين وَلما حصل الْعَادِل عِنْد السُّلْطَان وَقع فِي نَفسه أَن يعوضه عَن ولَايَة مصر ثمَّ حَار فِي أَي ولَايَة يوليه
قَالَ وحَدثني علم الدّين قَيْصر الصلاحي قَالَ إِنَّمَا أقدم السُّلْطَان الْعَادِل من مصر لأجل ولَايَة حلب وَبِذَلِك كَاتبه وَلأَجل هَذَا خرج الْعَادِل بأمواله وَعِيَاله وأثقاله
قَالَ وحَدثني غَيره قَالَ لما حصل الْعَادِل عِنْد السُّلْطَان بأمواله وأثقاله كَانَت الْأَمْوَال قد قلت على السُّلْطَان وَقد حصلت عِنْده عَسَاكِر عَظِيمَة فأحضر الْعَادِل لَيْلًا وَقَالَ أُرِيد أَن تقرضني مئة وَخمسين ألف دِينَار إِلَى الميسور فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة
ثمَّ قَامَ وَخرج من عِنْده وَكتب إِلَيْهِ يَقُول أَمْوَالِي جَمِيعهَا بَين يَديك وَأَنا مملوكك وأشتهي أَن أحمل هَذَا(3/192)
المَال إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَيكون عوضا عَنهُ مَدِينَة حلب وقلعتها
فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِنَّنِي وَالله مَا أقدمتك إِلَّا لأوليك حلب وَإِذ قد اقترحت ذَلِك فقد وَافق مَا عِنْدِي
فَلَمَّا أصبح الْعَادِل أنفذ وَسَأَلَ السُّلْطَان أَن يكْتب لَهُ بِمَدِينَة حلب كتابا ويجعله ككتاب البيع والشرى
فَامْتنعَ السُّلْطَان وَقَالَ إِنَّمَا تكون حلب إقطاعا وَالْمَال عَليّ لَهُ
فَاعْتَذر الْعَادِل إِلَى السُّلْطَان وَلما اجْتمعَا قَالَ لَهُ السُّلْطَان أظننت أَن الْبِلَاد تبَاع أَو مَا علمت أَن الْبِلَاد لأَهْلهَا المرابطين بهَا وَنحن خَزَنَة للْمُسلمين ورعاة للدّين وحراس لأموالهم أَو مَا علمت أَن السُّلْطَان ملكشاه السلجوقي لما وقف طبرية على جَامع خُرَاسَان لم يحكم بِهِ أحد من الْقُضَاة وَلَا من الْفُقَهَاء ثمَّ قرر السُّلْطَان ولَايَة الْعَادِل بحلب وأعمالها إِلَى رعبان إِلَى الْفُرَات إِلَى حماة وَكتب لَهُ التوقيع وَقرر عَلَيْهِ مَالا يحملهُ برسم الزردخاناه وخزانة الْجِهَاد ورجالة من الحلبيين
ورحل السُّلْطَان إِلَى دمشق واستدعى وَلَده الظَّاهِر من حلب فَلَمَّا حضر أمره بِالْعودِ إِلَى حلب وتسليمها إِلَى عَمه الْعَادِل فَفعل وَعَاد إِلَى دمشق وَسَار الْعَادِل إِلَى حلب فَالْتَقَيَا بالرستن وباتا فِيهِ
فَكَانَت مُدَّة ولَايَة الظَّاهِر بحلب فِي هَذِه النّوبَة نَحْو سِتَّة أشهر وَلما وصل الظَّاهِر إِلَى دمشق أقبل على خدمَة وَالِده والتقرب إِلَيْهِ إِلَّا أَن الانكسار(3/193)
لخُرُوج حلب من يَده ظَاهر عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يظْهر شَيْئا إِلَّا الطَّاعَة لوالده والانقياد لمرضاته
حَدثنِي أبي عَن مجد الدّين بن الخشاب قَالَ حَدثنِي الْملك الظَّاهِر قَالَ لما بَلغنِي أَن السُّلْطَان أعْطى حلب للْملك الْعَادِل جرى عَليّ مَا قدم وَمَا حدث وأصابني من الْهم مَا لم أقدر على النهوض بِهِ ووددت أَنِّي لم أكن رَأَيْتهَا وَلَا دخلت إِلَيْهَا لِأَن قلبِي أحبها وَقبلهَا وطاب لي هواؤها وَلما فارقتها كنت أحن إِلَيْهَا واشتاقها
قَالَ وَدخل الْعَادِل حلب فِي رَمَضَان وخلع على المقدمين والأعيان وَكَانَ قد قدم بَين يَدَيْهِ كَاتبه الْمَعْرُوف بالصنيعة ليسلم حلب وقلعتها من الْملك الظَّاهِر وَولى القلعة صارم الدّين بزغش وَولى الدِّيوَان والإقطاعات شُجَاع الدّين بن الْبَيْضَاوِيّ صباغ دقنه وَولى الْإِنْشَاء وَمَا يتَعَلَّق بِأُمُور السِّرّ للصنيعة ابْن النحال وَكَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ أسلم على يَد الْعَادِل فولى ابْن النحال الْوَظَائِف لجَماعَة من النَّصَارَى
وَفِي ذَلِك يَقُول الشَّاعِر
(فاق دين الْمَسِيح فِي دولة الْعَادِل ... حَتَّى علا على الْأَدْيَان)
(ذَا أَمِير وَذَا وَزِير وَذَا وَال ... وَذَا مشرف على الدِّيوَان)
قَالَ وَلم يزل الْعَادِل يهذب أُمُور حلب إِلَى سادس عشر ذِي الْقعدَة ثمَّ خرج مُتَوَجها إِلَى دمشق بِسَبَب أَن السُّلْطَان اجْتمع عِنْده فِي ذِي الْقعدَة(3/194)
عدَّة رسل مِنْهُم رسل الْخَلِيفَة ورسل طغرل بن البهلوان ورسل قزل أخي البهلوان ورسل شاه آرمن صَاحب خلاط ورسل المواصلة ورسل عماد الدّين صَاحب سنجار ورسل قليج أرسلان صَاحب الشمَال فَأَرَادَ السُّلْطَان إِحْضَار الْعَادِل لسَمَاع الرسائل ولحضور الْأَجْوِبَة عَنْهَا ولتقرير أُمُور الفرنج وَيَوْم وصل الْعَادِل إِلَى دمشق أحضرهُ السُّلْطَان لسَمَاع الرسائل وَسمع مَا عِنْده من الْأَجْوِبَة وَلما قضى أجوبة الرُّسُل ودع السُّلْطَان وَعَاد إِلَى حلب
قَالَ وَلما بلغ سيف الْإِسْلَام أَن السُّلْطَان كتب لتقي الدّين عهدا بِولَايَة مصر عتب لأجل ذَلِك فَكتب السُّلْطَان لَهُ عهدا بِبِلَاد الْيمن جَمِيعهَا
قَالَ وأقطع السُّلْطَان تَقِيّ الدّين الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط وَجعل لخاصته الْبحيرَة والفيوم وبوش ثمَّ عوضه عَن بوش سمنود وحوف رمسيس وَذكر غير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد أنعم السُّلْطَان على تَقِيّ الدّين بِالْأَعْمَالِ الفيومية وَسَائِر نَوَاحِيهَا بِجَمِيعِ جهاتها وجواليها وزاده القايات وبوش وَأبقى عَلَيْهِ بالبلاد الشامية مَدِينَة حماة وقلعتها وَجَمِيع أَعمالهَا
وَلما وصل تَقِيّ الدّين إِلَى مصر اقْتدى بِالتَّدْبِيرِ الفاضلي وَكَانَ السُّلْطَان لَا يُؤثر مُفَارقَته فَلَمَّا لم يجد من تَوْجِيه تَقِيّ الدّين إِلَى مصر بدا وَكَانَت فِيهِ حِدة لم تكن فِي الْعَادِل احْتَاجَ فِي تقويمه إِلَى تَدْبِير الْأَجَل الْفَاضِل(3/195)
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَقتل على الكرك فِي هَذِه الكرة شرف الدّين بزغش النوري شَهِيدا رَحمَه الله ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهَا مستصحبا أَخَاهُ الْعَادِل إِلَى دمشق فَدخل دمشق فِي رَابِع عشري شعْبَان وَأعْطى الْعَادِل حلب فِي ثَانِي شهر رَمَضَان فَسَار فِي ذَلِك الْيَوْم نَحْوهَا فوصلها وَصعد القلعة فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَكَانَ بهَا ولد السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر وَمَعَهُ سيف الدّين يازكوج يدبر أمره وأبن العميد فِي الْبَلَد وَكَانَ الظَّاهِر أحب أَوْلَاده إِلَى قلبه لما قد خصّه الله بِهِ من الشهامة والفطنة وَالْعقل وَحسن السمت والشغف بِالْملكِ وَظُهُور ذَلِك عَلَيْهِ وَكَانَ من أبر النَّاس بوالده وأطوعهم لَهُ وَلَكِن أَخذ مِنْهُ حلب لمصْلحَة رَآهَا فَخرج من حلب لما دَخلهَا عَمه الْعَادِل هُوَ ويازكوج سائرين إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَدخل دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشري شَوَّال فَأَقَامَ فِي خدمَة وَالِده لَا يظْهر لَهُ إِلَّا الطَّاعَة والانقياد مَعَ انكسار فِي بَاطِنه لَا يخفى عَن نظر وَالِده
قَالَ وَفِي ذَلِك الشَّهْر وردنا على السُّلْطَان رسلًا من جَانب الْموصل وَكُنَّا قد ترسلنا إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله فِي إِنْفَاذ شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين رَسُولا وشفيعا إِلَى السُّلْطَان فسيره مَعنا من بَغْدَاد وَكَانَ غزير الْمُرُوءَة عَظِيم الْحُرْمَة فِي دولة الْخلَافَة وَفِي سَائِر الْبِلَاد وَكَانَت(3/196)
مكانته عِنْد السُّلْطَان بِحَيْثُ يتَرَدَّد إِلَيْهِ إِذا كَانَ عِنْده فِي مُعظم الْأَيَّام
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ قد وصل إِلَى الْموصل وَسَار مِنْهَا بعد أَن سَار فِي صحبته القَاضِي محيي الدّين بن كَمَال الدّين وَكَانَ بَينهمَا صُحْبَة من الصِّبَا وَكنت مَعَ الْقَوْم وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا دمشق وَخرج السُّلْطَان إِلَى لِقَاء الشَّيْخ وَنحن فِي خدمته وأقمنا أَيَّامًا نراجع فِي فصل حَال فَلم يتَّفق صلح فِي تِلْكَ الدفعة وَخَرجْنَا رَاجِعين إِلَى الْموصل وَخرج السُّلْطَان إِلَى وداع الشَّيْخ إِلَى الْقصير واجتهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم أَن يَنْقَضِي شغل فَلم يتَّفق
وَكَانَ الْوُقُوف من جَانب محيي الدّين فَإِن السُّلْطَان اشْترط أَن يكون صَاحب إربل والجزيرة على خيرتهما فِي الانتماء إِلَيْهِ أَو إِلَى صَاحب الْموصل فَقَالَ محيي الدّين لَا بُد من ذكرهمَا فِي النُّسْخَة
فَوقف الْحَال
وَكَانَ مسيرنا يَوْم الْخَمِيس سَابِع ذِي الْحجَّة
قَالَ وَفِي تِلْكَ الدفعة عرض عَليّ السُّلْطَان مَوَاضِع الْبَهَاء الدِّمَشْقِي بِمصْر على لِسَان الشَّيْخ فاعتذرت وَلم أفعل خوفًا من أَن يُحَال توقف الْحَال عَليّ وَمن تِلْكَ الدفعة ثَبت فِي نَفسه الشَّرِيفَة مني أَمر لم أعرفهُ إِلَّا بعد خدمتي لَهُ
وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق ترد عَلَيْهِ الرُّسُل من الجوانب فوصله رَسُول سنجر شاه صَاحب الجزيرة فاستحلفه لنَفسِهِ وانتمى إِلَيْهِ ورسل(3/197)
إربل وَحلف لَهُم وَسَارُوا وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِل يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ عِنْده
وَعِيد وَعَاد إِلَى حلب
قَالَ الْعِمَاد ووصلت رسل صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي ورسل صَاحب إربل زين الدّين يُوسُف بن عَليّ كوجك بن بكتكين ورسل صَاحِبي الحديثة وتكريت يَشكونَ من صَاحب الْموصل وَيطْلبُونَ أَن يَكُونُوا من أَوْلِيَاء السُّلْطَان المنتمين إِلَيْهِ فَفعل السُّلْطَان ذَلِك
وَكَانَ أَبُو سنجر شاه سيف الدّين غَازِي هُوَ صَاحب الْموصل بعد وَالِده مودود كَمَا تقدم ذكره فعهد إِلَى ابْنه سنجرشاه بهَا فغلبه عَلَيْهَا عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود فَبَقيت الجزيرة بيد سنجرشاه وَهُوَ تَحت يَد عَمه وَفِي قلبه مِنْهُ مَا فِيهِ وَكَانَت إربل وأعمالها وَمَا يَليهَا كلهَا مُضَافَة إِلَى الْموصل وَصَاحب الْموصل هُوَ الْحَاكِم على جَمِيعهَا فَمن ثمَّ طلب هَؤُلَاءِ الانحياز إِلَى خدمَة السُّلْطَان فأجابهم وَسمع بذلك صَاحب الْموصل فاستشفع بدار الْخلَافَة إِلَى أَن أرسل مِنْهَا شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير إِلَى السُّلْطَان أَن يجدد لصَاحب الْموصل الْأَيْمَان وَيكون لَهُ من جملَة الأعوان حَربًا لمن حاربه سلما لمن سالمه
وَجَاء رَسُول صَاحب الْموصل قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين أَبُو(3/198)
حَامِد مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشَّهْرَزَوْرِي وترفع فِي أَدَاء الرسَالَة وَأَغْلظ فِي الْكَلَام فألان لَهُ السُّلْطَان وَقَالَ أَنا أَقْْضِي حَاجته على مَا أَرَادَ وَلَكِن قد سبق مني يَمِين لأولئك السلاطين فَأَنا أستثنيهم وأردهم إِلَى اختيارهم لي أَو لَهُ
فَأبى ذَلِك وَأَرَادَ أَن تكون الصداقة لَهُ دون سَائِر ذَوي الممالك وَأَشَارَ إِلَى أَن لَهُم من ينصرهم من جِهَة البهلوان ملك الْعَجم
فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان وَكَانَ ذَلِك محركا لَهُ إِلَى أَن يعود إِلَى الْموصل وَرجعت الرُّسُل على ذَلِك غير ظافرين بطائل
وَكَانَ منزل شيخ الشُّيُوخ بالرباط على المنيبع ومنزل القَاضِي محيي الدّين فِي جوسق بُسْتَان الخلخال وشهاب الدّين بشير بجوسق الميدان وَتُوفِّي ولد شيخ الشُّيُوخ بِدِمَشْق وَكَانَ فِي صحبته فدفنه فِي الْمقْبرَة المحاذية للرباط وَحضر عِنْده السُّلْطَان وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء للعزاء
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت شتوة هَذِه السّنة كَثِيرَة الأمطار
وَكَثُرت مكاتبات الْعِمَاد للفاضل وَأورد فِي بَعْضهَا أبياتا مِنْهَا
(عذر الزَّمَان بِأَيّ وَجه يقبل ... ومحبكم بالصد فِيهِ يقتل)(3/199)
(مَا لي سوى إِنْسَان عَيْني مسعدا ... بالدمع إِنْسَان عَلَيْهِ أعول)
(الدَّهْر ليل كُله فِي ناظري ... لَا صبح إِلَّا وَجهك المتهلل)
(خيرتم بَين الْمنية والمنى ... لَا تهجروا فالموت عِنْدِي أسهل)
(يَا غائبين وهم بفكري حضر ... يَا راحلين وهم بقلبي نزل)
(مَا للسلو إِلَى فُؤَادِي مَنْهَج ... مَا للصبابة غير قلبِي منهل)
(لَا تعدلوا عني فَمَالِي معدل ... عَنْكُم وَلَيْسَ سواكم لي موئل)
(كل الخطوب دَفعته بتجلدي ... إِلَّا التَّفَرُّق فَهُوَ خطب معضل)
(إِن لم يجدني طيفكم فِي زورة ... فلأنني مِنْهُ أدق وأنحل)
(لَا صَبر لي لَا قلب لي لَا غمض لي ... لَا علم لي بالبين مَاذَا أفعل)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي جُمَادَى الأولى من سنة تسع وَسبعين قبض عز الدّين اتابك على مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ حِينَئِذٍ نَائِبه فِي بِلَاده وابتع فِي ذَلِك هوى من أَرَادَ الْمصلحَة لنَفسِهِ وَلم ينظر فِي مضرَّة صَاحبه
وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ بِهِ عز الدّين مَحْمُود زلفندار وَشرف الدّين أَحْمد بن أبي الْخَيْر الَّذِي كَانَ أَبوهُ صَاحب بلد الغراف وهما من أكَابِر الْأُمَرَاء فَلَمَّا قَبضه كَانَ بِيَدِهِ إربل وشهرزور ودقوقا وجزيرة ابْن عمر وَكَانَ بهَا معز الدّين سنجرشاه بن سيف الدّين صَغِيرا وَالْحكم فِيهَا إِلَى مُجَاهِد الدّين(3/200)
وَلَهُم أَيْضا قلعة الْعقر فحين قبض امْتنع زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين عَليّ بإربل وَكَانَ فِيهَا لَا حكم لَهُ مَعَ مُجَاهِد الدّين وَامْتنع معز الدّين بالجزيرة وَأرْسل الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عسكرا حصر دقوقا فملكها وَلم يحصل لعز الدّين من جَمِيع مَا كَانَ لمجاهد الدّين إِلَّا شهرزور وَصَارَت هَذِه الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بِيَدِهِ أضرّ شَيْء على الْموصل وَبَقِي مَقْبُوضا نَحْو عشرَة أشهر وَنَدم أتابك على قَبضه فَأخْرجهُ وَأَعَادَهُ إِلَى ولَايَة قلعة الْموصل إِلَّا أَن الَّذِي أَخذ من الْبِلَاد لم يعد إِلَى طَاعَته وَقبض عز الدّين على من كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَبض مُجَاهِد الدّين
قَالَ ابْن الْأَثِير وعَلى الْحَقِيقَة فَلَيْسَ على الدول شَيْء أضرّ من إِزَالَة مُدبر لَهَا وَإِقَامَة غَيره فَإِن الأول يكون كالطبيب الحاذق الْعَارِف بمزاج الْإِنْسَان ومرضه وعلاجه وَمَا يُوَافقهُ ويؤذيه وَيكون الثَّانِي وَإِن كَانَ كَافِيا بِمَنْزِلَة الطَّبِيب الَّذِي لَا يعرف مزاج الْإِنْسَان وَمَا يُوَافقهُ ويؤذيه فَإلَى أَن يعرف حَاله ينفسد أَكثر مِمَّا ينصلح
قَالَ ابْن القادسي وَفِي هَذِه السّنة فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الأبله(3/201)
الشَّاعِر وَهُوَ من أَسمَاء الأضداد واسْمه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن بختيار بن عبد الله وَكَانَ فصيحا هجاء وَله أشعار رقيقَة مِنْهَا
(زار من أَحْيَا بزورته ... والدجى فِي لون طرته)
(يَا لَهَا من زورة قصرت ... فأماتت طول جفوته)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَقد تقوض الْبرد فَلَمَّا طَابَ الزَّمَان تجهز السُّلْطَان بالعساكر المنصورة إِلَى الكرك مرّة أُخْرَى وَأرْسل إِلَى تَقِيّ الدّين فجَاء بالعساكر المصرية وَالْأَجَل الْفَاضِل وَتَتَابَعَتْ العساكر المشرقية وَالْملك الْعَادِل وَجَاء نور الدّين بن قرا أرسلان صَاحب الْحصن وآمد وَصَاحب(3/202)
دَارا وأخو صَاحب سنجار وعسكر ماردين فاجتمعت العساكر بِرَأْس المَاء وأشفق السُّلْطَان على ابْن قرا أرسلان من اقتحام المشاق فأقامه بِرَأْس المَاء بحوران إِلَى حِين الْعود وَأمر الْعَادِل بِالْإِقَامَةِ مَعَه
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد سير السُّلْطَان إِلَى العساكر يطْلبهَا فوصل ابْن قرا أرسلان نور الدّين إِلَى حلب ثامن عشر صفر فَأكْرمه الْعَادِل إِكْرَاما عَظِيما وأصعده القلعة وباسطه ورحل مَعَه طَالبا دمشق
وَكَانَ السُّلْطَان قد مرض أَيَّامًا ثمَّ شفَاه الله تَعَالَى وَلما بلغه وُصُول ابْن قرا أرسلان خرج إِلَى لِقَائِه وَكَانَ رَحمَه الله يكارم النَّاس مكارمة عَظِيمَة فالتقاه على الجسر بالبقاع فِي تَاسِع ربيع الأول ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَخلف نور الدّين واصلا مَعَ الْعَادِل فتأهب للغزاة وَخرج مبرزا إِلَى جسر الْخشب وَوصل الْعَادِل وَابْن قرا أرسلان دمشق فأقاموا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رحلوا يلتحقون بالسلطان ورحل السُّلْطَان من رَأس المَاء ثَانِي ربيع الآخر طَالبا للكرك فَأَقَامَ قَرِيبا مِنْهَا أَيَّامًا ينْتَظر وُصُول الْملك المظفر من مصر إِلَى تَاسِع عشر الشَّهْر فوصل تَقِيّ الدّين وَاجْتمعَ بِهِ وَمَعَهُ بَيت الْعَادِل وخزائنه فسيرهم إِلَيْهِ وَتقدم إِلَيْهِ وَإِلَى بَقِيَّة العساكر بالوصول إِلَيْهِ إِلَى الكرك فتتابعت العساكر إِلَى خدمته حَتَّى أَحدقُوا بالكرك فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى وَركب المجانيق عَلَيْهِ وَقد الْتَقت العساكر المصرية والشامية والجزرية
وَلما بلغ الفرنج ذَلِك خَرجُوا براجلهم وفارسهم إِلَى الذب عَن الكرك وَكَانَ على الْمُسلمين فِيهِ ضَرَر عَظِيم فَإِنَّهُ كَانَ يقطع عَن قصد مصر بِحَيْثُ كَانَت القوافل لَا يُمكنهَا الْخُرُوج إِلَّا مَعَ العساكر الجمة فاهتم السُّلْطَان بأَمْره(3/203)
لتَكون الطَّرِيق سابلة وَيسر الله ذَلِك وَله الْحَمد والْمنَّة وَلَكِن كَانَ فتحهَا بعد ذَلِك وَلما بلغ السُّلْطَان خبر خُرُوج الفرنج تعبى لِلْقِتَالِ وَأمر العساكر أَن تخرج إِلَى ظهر الكرك وسير الثّقل نَحْو الْبِلَاد وَبَقِي الْعَسْكَر جَرِيدَة ثمَّ سَار السُّلْطَان يقْصد الْعَدو
وَكَانَ الفرنج قد نزلُوا بِموضع يُقَال لَهُ الواله وَسَار حَتَّى نزل بالبلقاء على قَرْيَة يُقَال لَهَا حسبان قبالة الفرنج فِي طريقهم ورحل مِنْهَا إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ ماعين والفرنج مقيمون بالواله إِلَى السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة ثمَّ رحلوا قَاصِدين الكرك فَسَار بعض العساكر وَرَاءَهُمْ فقاتلوهم إِلَى آخر النَّهَار
وَلما رأى رَحمَه الله تصميم الفرنج على الكرك أَمر الْعَسْكَر أَن يدْخل السَّاحِل لخلوه عَن العساكر فَهَجَمُوا نابلس ونهبوها وغنموا مَا فِيهَا وَلم يبْق فِيهَا إِلَّا حصناها وَأخذُوا جينين والتحقوا بالسلطان بِرَأْس المَاء
قلت وَقد وصف القَاضِي الْفَاضِل حصن الكرك فِي بعض كتبه فَقَالَ هُوَ شجا فِي الْحَنَاجِر وقذى فِي المحاجر قد أَخذ من الآمال بمخنقها وَقعد بأرصاد العزائم وطرقها وَصَارَ ذئبا للدهر فِي ذَلِك الْفَج وعذرا لتارك فَرِيضَة الله من الْحَج وَهُوَ وحصن الشوبك يسر الله الآخر كبيت الواصف للأسدين
(مَا مر يَوْم إِلَّا وَعِنْدَهُمَا ... لحم رجال أَو يولغان دَمًا)(3/204)
وَفِي كتاب آخر وَأما الكرك فكفات المنجنيقات عَلَيْهِ متضافرة وحجارتها على من فِيهِ حاجرة وَقد جدعت أنوف الأبرجة وأسبلت قناع الستائر وجوهها المتبرجة وكل جوانبها وعرة المرتقى صعبة المختطى وَالسُّلْطَان يستعذب المشقات الَّتِي تتفادى مِنْهَا الهمم ويباشر جمرات الشتَاء الكالح بِوَجْهِهِ المبتسم
وَمن كتاب آخر وَقد جمعت الْحِجَارَة فِي الْإِسْقَاط بَين رُؤُوس الأبراج ورؤوس الأعلاج فرمت الشراريف والواقفين عَلَيْهَا لحمايتها وأرت الفرنج باهتدائها إِلَى أردائها غَايَة غوايتها فَمَا أخرج أحد مِنْهُم رَأْسا إِلَّا دخل فِي عينه نصل وَمَا هجر قرَاب الْإِسْلَام إِلَّا سيف وَله مَعَ رِقَاب الْكفْر عِنْد قطعهَا وصل وَمَا على الْحجر فِي الْإِسْرَاف والتبذير حجر وَلكُل لَيْلَة من نقع الحوافر من سنا الأسنة فجر وَلَقَد أَخذنَا من الْعَدو بالمخنق وشرعنا فِي طم الخَنْدَق والحائط وَاقع والواقعة بهم مُحِيطَة والمدرع بِالسُّيُوفِ مفصلة وبالجروخ مخيطة
وَمن كتاب آخر عَذَاب الله بالحصن وَأَهله وَاقع مَا لَهُ من دَافع وَإِن دَلِيل النَّصْر قد ظهر وَمَا دونه من مَانع وَأما المنجنيقات فقد نكأت فِي الأبراج بالهدم وَفِي الأعلاج بالهتك فَلم تبْق لَهَا الْحِجَارَة الطائرة إِلَيْهَا حِجَارَة قَائِمَة وَإِن لَهَا من إمطارها عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا دِيمَة دائمة وأطفنا عَلَيْهَا بالزرجون حَتَّى وَقعت الأسوار من سكرها وضربنا دونهَا(3/205)
الستائر حَتَّى ترنمت لصخرها وعاطتها كفة المنجنيق عقار عقرهَا فالسور الْمُقَابل للمنجنيقات قد انْهَدَمت أبراجه وأبدانه وانهدت قَوَاعِده وأركانه وَلَوْلَا الخَنْدَق الَّذِي هُوَ وَاد من الأودية وَاسع عميق لما تعذر إِلَى الزَّحْف إِلَيْهِم والهجم عَلَيْهِم طَرِيق
وَمن كتاب آخر الْحصن الَّذِي نَحن حاضروه وحاصروه فِي حصانة الحصانة قد هدت الْحِجَارَة مِنْهُ مَا أحكموه بِالْحِجَارَةِ وَغدا عَلَيْهِ بالتخريب مَا أعدوه للعمارة فقسي المنجنيقات ترمي وَلَا ترنم سهامها ويستديم من أَعدَاء الله ومعقلهم بِالْقَتْلِ وَالْهدم انتقامها فَمَا قَابل المنجنيقات من الأبراج والأبدان قد أَتَى التخريب على مَا فِيهِ من الْعمرَان فَلم يبْق إِلَّا طم الخَنْدَق وَالْأَخْذ بعد ذَلِك من الْعَدو بالمخنق والقلوب واثقة بِحُصُول الْفَتْح وَقد علم كل وَاحِد منا أَن متجره قد فَازَ بِالرِّبْحِ فَمَا يسمع منا بِحَمْد الله من أحد ملل وَلَا ضجر وَلَا تسفر هَذِه النّوبَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَّا عَن نصر وظفر
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان من رَأس المَاء على طَرِيق الظليل والزرقاء وعمان والبلقاء ثمَّ الرقيم وزيزاء والنقوب واللجون ثمَّ أدر ثمَّ الربة وَذَلِكَ فِي بلد مآب فَلَمَّا تلاحقت العساكر نزل على وَادي الكرك وَنصب عَلَيْهَا تِسْعَة مجانيق صفا قُدَّام الْبَاب فهدمت السُّور الْمُقَابل لَهَا وَلم يبْق مَانع إِلَّا الخَنْدَق الْوَاسِع العميق وَهُوَ من الأودية الهائلة والمهاوي الحائلة والمهالك الغائرة الغائلة وَلم يكن فِي الرَّأْي إِلَّا طمه وملؤه بِكُل مُمكن وردمه فعد ذَلِك من الْأُمُور الصعاب وَتعذر لحزونة(3/206)
الأَرْض وتحجرها حفر الأسراب فَأمر السُّلْطَان بِضَرْب اللَّبن وَجمع الأخشاب وَبِنَاء الْحِيطَان الْمُقَابلَة من الربض إِلَى الخَنْدَق وتسقيفها وتلفيق ستائرها وتأليفها فتمت دروبا وَاسِعَة لَا يزحم فِيهَا الجائي الذَّاهِب وتوافدت رجال الْعَسْكَر وَأَتْبَاعه وغلمانه وأشياعه على نقل مَا يرْمى فِي الخَنْدَق وَهَان طم الخَنْدَق بالدبابات الَّتِي قدمت والأسراب الَّتِي بنيت وأحكمت فَوجدَ النَّاس إِلَى الخَنْدَق طَرِيقا مهيعا فهم يزدحمون آمِنين من الْجراح عاملين بانشراح وَالنَّاس تَحت القلعة على شَفير الخَنْدَق لَا يستشعرون حذرا وَلَا يَخْشونَ سَهْما وَلَا حجرا وَقد امْتَلَأَ الخَنْدَق حَتَّى إِن أَسِيرًا مُقَيّدا رمى بِنَفسِهِ إِلَيْهِ وَنَجَا بَعْدَمَا توالى من الفرنج رمي الْحِجَارَة عَلَيْهِ
وَفِي بعض الْكتب الْعمادِيَّة وَلَوْلَا الخَنْدَق الْمَانِع من الْإِرَادَة وَأَنه لَيْسَ من الْخَنَادِق الْمُعْتَادَة بل هُوَ وَاد من الأودية وَاسع الأفنية لسهل المشرع وهجم الْموضع فَلم يبْق إِلَّا تَدْبِير طم الخَنْدَق وَالْأَخْذ بعد ذَلِك من الْعَدو بالمخنق فعملنا دبابات قدمناها وبنينا إِلَى شَفير الخَنْدَق ثَلَاثَة أسراب بِاللَّبنِ سقفناها وأحكمناها فَصَارَت مِنْهَا إِلَى طرف الخَنْدَق طرق آمِنَة وَشرع النَّاس فِي طم الخَنْدَق مِنْهَا ونفوسهم مطمئنة وَقُلُوبهمْ سَاكِنة
وَكَانَ الشُّرُوع فِيهِ يَوْم الْخَمِيس سَابِع جُمَادَى الأولى وَقد تسنى طمه وتهيأ ردمه وتسارع النَّاس إِلَيْهِ وازدحموا عَلَيْهِ وَلم يبْق صَغِير وَلَا كَبِير(3/207)
إِلَّا وَهُوَ مُسْتَبْشِرٍ بِالْعَمَلِ منتظر لبشرى نجح الأمل وَقد تجاسروا حَتَّى ازدحموا تَحت القلعة نَهَارا كازدحامهم فِي الْمصلى يَوْم الْعِيد وليلا كحضورهم فِي جَامع دمشق لَيْلَة النّصْف السعيد وهم بِحَمْد الله من الْجراح سَالِمُونَ وبنصر الله موقنون عالمون وَإِن أَبْطَأَ الْعَدو عَن النجدة فالنصر سريع والحصن وَمن فِيهِ صريع وَقد خرقت الْحِجَارَة حجابه وَقطعت بهم أَسبَابه وناولته من الْأَجَل كِتَابه وحسرت لثام سوره وحلت نقابه فآناف الأبرجة مجدوعة وثنايا الشرفات مقلوعة ورؤوس الْأَبدَان محزوزة وحروف العوامل مَهْمُوزَة وبطون السقوف مبقورة وأعضاء الأساقف معقورة ووجوه الْجدر مسلوخة وجلود البواشير منشورة
(والنصر أشهر من نَار على علم ... وَالْحَرب أقوم من سَاق على قدم)
قَالَ وأشرف السُّلْطَان على أَخذهَا فوصل الْخَبَر أَن الفرنج قد تجمعُوا وجاؤوا منجدين لأهل الكرك ليزحزحوه عَن حصارها فَثنى السُّلْطَان عنان الْعَزْم إِلَيْهِم وَكَانُوا فِي منزلَة الواله وَتلك الْمَوَاضِع ضيقَة صعبة المسلك فانتظر السُّلْطَان أَن يخرجُوا إِلَى أَرض البلقاء وَتقدم عَنْهُم بأميال فَرَجَعُوا وَتَفَرَّقُوا وَلم يقدموا وعَلى قصد الكرك عزموا وَلما رأى السُّلْطَان أَن الفرصة من الفئتين فَاتَت مر على نابلس فَأَغَارَ وغنم وَفِي طَرِيق عوده نزل على سبسطية وفيهَا مشْهد زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام وَقد اتَّخذهُ الفرنج كَنِيسَة وأودعوها أَمْتعَة نفيسة وَبهَا من الفرنج سكان وأقساء(3/208)
وَرُهْبَان فقدوها بِأسَارَى الْمُسلمين ولاذوا بالأمان معتصمين ثمَّ أَنَاخَ على جينين فأهبط أوجها وَهدم برجها وآب بالنهاب والسبايا والمرباع والصفايا وَاجْتمعَ بِأَصْحَابِهِ على الفوار وتحدث بالإنجاد لحوادث الْغَوْر فِي الغوار
فصل
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى دمشق للاجتماع برسل الْخلَافَة شيخ الشُّيُوخ وَبشير وَكَانُوا وصلوا وَالسُّلْطَان محاصر الكرك فَاجْتمع بهم وَأكْرمهمْ وَكَانُوا قد مرضوا وَمَات جمَاعَة من أَصْحَابهم وَعَاد السُّلْطَان شيخ الشُّيُوخ كل يَوْم وَلَيْلَة فِي الرِّبَاط بالمنيبع وَاسْتَأْذَنُوا فِي الْعود قبل الشِّفَاء فضاقت الصُّدُور بصدر ذَلِك الصَّدْر على تِلْكَ الْحَالة وعجزت تِلْكَ العثرة كَمَا شَاءَ الله عَن الْإِقَالَة ثمَّ اسْتَقل مودعا وداع الْأَبَد
وَكَانَ حسام الدّين طمان مقدم عَسْكَر سنجار مَعَ السُّلْطَان حَاضرا فِي الْجِهَاد فَأذن لَهُ فِي الْعود وَأمره بمرافقة صدر الدّين وَالرسل مَعَه والرفق بهم فِي مَسِيرهمْ فَسَارُوا على سمت الرحبة فاغتنم الْأَمِير طمان بركَة تِلْكَ الصُّحْبَة فأدركت الْمنية شهَاب الدّين بشيرا بالسخنة ووصلوا بشيخ الشُّيُوخ إِلَى الرحبة وَهُنَاكَ لَقِي ربه
قَالَ وَلَقَد توفاه الله على الْوَفَاء بعهده والوفاق لعقده مشيم الْكَرم كريم الشيم صَالح الْعَمَل ناجح الأمل مفارقا للدنيا فِي حَيَاته مُقبلا على الْآخِرَة قبل وَفَاته فَهُوَ مِمَّن رفعت سَرِيره الملائك وَوضعت لَهُ فِي عليين(3/209)
الأرائك وَكَانَت وَفَاته فِي شعْبَان بوأه الله الْجنان
قلت كَانَ صدر الدّين هَذَا أحد السَّادة وَأَبوهُ وجده من أكَابِر الْأَعْيَان وشيوخ مَشَايِخ الزَّمَان وَهُوَ عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعد أَحْمد بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي وَقد ذكرت تَرْجَمَة وَالِده فِي تَارِيخ دمشق وألحقتها من أَخْبَار جده مِمَّا ذكره أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَارِيخه
وَقَالَ ابْن القادسي توفّي صدر الدّين فِي رَجَب برحبة مَالك بن طوق وَدفن فِي قبَّة إِلَى جَانب قبر الشَّيْخ موفق الدّين مُحَمَّد بن المتقنة الرَّحبِي وَكَانَ مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَخمْس مئة وَكَانَ شَيخا ماثلا فِي الْعلم وَالدّين والسداد ثَابت الْجنان فِي الْحَوَادِث المزعجة والوقائع الباغتة المجلجلة سديد البديهة صافي الفكرة وَجمع بَين نظم الشّعْر ونثر الترسل وَكَانَ يُرْسل إِلَى الْأَطْرَاف ورتب فِي مشيخة الشُّيُوخ مُنْذُ توفّي وَالِده فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَتَوَلَّى بعده مشيخة الرِّبَاط صفي الدّين إِسْمَاعِيل
وَمن شعره يَعْنِي صدر الدّين
(وَلم أخضب مشيبي وَهُوَ زين ... لإيثاري جهالات التصابي)(3/210)
(وَلَكِن كي يراني من أعادي ... فأرهبه بوثبات الشَّبَاب)
قلت ووقفت على كتاب فاضلي إِلَيْهِ جَوَابا عَن كتاب عتب فِيهِ وقف على التَّحِيَّة الطّيبَة والكرامة الصيبة والألفاظ الْعَذَاب إِلَّا أَنَّهَا الغضاب وَالنَّعِيم إِلَّا أَنه الْعَذَاب والمسامحة إِلَّا أَنَّهَا الْحساب والمتشابهات اللواتي تأولها أحسن تَأْوِيلهَا والمحكمات اللواتي هن أُمَّهَات الْكتاب وَيَكْفِي أَنه مزج الصاب بعسله وأرعف قلمه بِمَا لَا يرعفه الشجاع من أنوف أسله
وَهَذَا بَاب قد آن سَده وسبيل قد وَجب صده وَعين دهر أَصَابَت هَذِه الْمَوَدَّة وَقد آن لَهَا أَن تنطرف وتنصرف وبادرة هم قد حَان أَن تنكشف وتنكشف فَلَا نظر بعْدهَا للعين الَّتِي أَصَابَت وَلَا خطرات فِي أَثَرهَا للخطرة الَّتِي رابت وَلَا كَانَ للأيام فِي فضل سيدنَا على عَبده نصيب وَلَا عدا أبدا على شباب الرضى عَنهُ مشيب وَلَا تمكن من حبيب وده إِلَى الْقلب رَقِيب وَلَا ملك رقّه غير تِلْكَ الْيَد الْكَرِيمَة وَلَا سَمِعت حَدِيث الْحَوَادِث تِلْكَ الْمَوَدَّة الْقَدِيمَة
قَالَ الْعِمَاد وَخَرجْنَا من دمشق فِي شعْبَان وخيمنا على سعسع ودعا تَقِيّ الدّين فَأمره أَن يرجع بالعسكر إِلَى مصر فَسَار فِي منتصف الشَّهْر ثمَّ رَجعْنَا من فرض الْجِهَاد إِلَى فرض الصّيام بِدِمَشْق وَرجع كل عَسْكَر إِلَى مركزه(3/211)
ومدح الْعِمَاد تَقِيّ الدّين فِي هَذِه الْمرة بقصيدة ثائية نَحْو خَمْسَة وَثَمَانِينَ بَيْتا أَولهَا
(إِذا شئتما عَن غير قلبِي تحدثا ... فَمَا حل فِيهِ الْهم إِلَّا ليلبثا)
(خذا شَاهِدي صدق على صِحَة الْهوى ... ضنى ساكتا مني ودمعا مُحدثا)
(مريضكما أشفى على الْيَأْس سقمه ... فَلَا تعجلا فِي أمره وتريثا)
(رثى لي عدوي من جفَاء أحبتي ... وناهيك من حَال عدوي لَهَا رثى)
وَمِنْهَا
(عهودكم بعد النَّوَى مَا تشعثت ... وحاشى لذاك الْعَهْد أَن يتشعثا)
(وأملك بِالْملكِ المظفر ظافرا ... من الْجد والجدوى قَدِيما ومحدثا)
(مخوف السطا صَعب الإبا حسن الثنا ... مرجى الندى سهل الرضى طيب النثا)
(صفا آخر العمرين من عمر الَّذِي ... بِهِ الْعمرَان الْيَوْم فِي الْعدْل ثلثا)
(هم أَحْدَثُوا قمع الضَّلَالَة بِالْهدى ... فمذ ملكوا لم تلق فِي الدّين مُحدثا)
(غثائي وغثي أَنْت حَامِل نَقصه ... بِفَضْلِك إِن الْبَحْر يحْتَمل الغثا)
وَمِنْهَا فِي وصف القصيدة
(وَقد سهلت والثاء أوعر مرتقى ... فَلَا فرق عِنْدِي بَين رَاء وَبَين ثا)(3/212)
فصل يحتوي على ذكر المفاضلة بَين مصر وَالشَّام والتعريف بِحَال زين الدّين الْوَاعِظ
الَّذِي كَانَ صَلَاح الدّين يكاتبه بوقائعه وَهُوَ الَّذِي نم على عمَارَة وَأَصْحَابه بِمَا كَانُوا عزموا عَلَيْهِ من قلب الدولة الناصرية مصرية كَمَا سبق
وَسبب ذكره هُنَا أَنه هُوَ الَّذِي شرع فِي تَفْضِيل مصر بِكِتَاب كتبه إِلَى السُّلْطَان فِي هَذَا الْعَام وَقد تقدم للْقَاضِي الْفَاضِل كَلَام فِي تَفْضِيل مصر وذم الشَّام فِي أَوَائِل أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين
وَله من كتاب آخر فدعونا من بعلبك الْبَلَد الأعسر وَمن رَأس عينهَا الضيقة المحجر وَمن ثلجها الَّذِي تنفش الْجبَال بعهنه وَمن بردهَا الَّذِي لَا يشفع الْجَمْر عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ وعودوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم فَإِنَّهَا قد علتها وَحْشَة لقطينها فَسَأَلت مطالع دسوتها عَن أقمار سلاطينها واذْكُرُوا النّيل الَّذِي وفى لكم فِي هَذِه السّنة بنقصه وأبى أَن يكون مَاؤُهُ ذخيرة لغير جودكم الَّذِي أَحْصَاهُ الله وَلم نحصه واذْكُرُوا قُرْطهَا وَمَاء طوبتها فقد كَاد يُقيم الْحجَّة على ثلج الشَّام ووخمه ويتغلغل برده فيسري إِلَى قلب الغليل وَكَأَنَّهُ جَار على غير طَرِيق فَمه واذْكُرُوا صِحَة هوائها وتعصبه لأيامكم حَتَّى أنعم الله عَلَيْكُم قبل صِحَة أجسامنا بِصِحَّة أجسامكم(3/213)
وَمن كتاب آخر وَأما أحوالي فإنني لم أزل ملتاثا مُنْذُ دخلت دمشق لتغير مَائِهَا وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها وأودائها وقراها وقرنائها
وَمن لي بِمصْر فَإِنِّي أقنع بِمَا تنبته أرْضهَا من بقلها وقثائها وأبيع بردى وَمَا عساه بِشَربَة من مَائِهَا وأمتطي متن السَّيْف فِي هجر سوادها وسودائها فالطلل هائل وَلَا طائل وَمَا كُنَّا نسْمع بِهِ من تِلْكَ الْفَضَائِل متضائل حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا فَهِيَ بِلَاد تستجدي وَلَا تجدي وَفعل المَال بهَا لَازم للتعدي
وَقَالَ الْعِمَاد هَذَا زين الدّين عَليّ بن نجا الْوَاعِظ من أهل دمشق وَمن سَاكِني مصر وَهُوَ ذُو لهجة فِي الْوَعْظ فصيحة وبهجة فِي الْفضل صَبِيحَة وَقبُول من الْقُلُوب وفصول فِي فصل الْخطاب للخطوب وَقد تأثث وتأثل وَقبل وَأَقْبل وَأحسن السُّلْطَان إِلَيْهِ بالأعطيات والإقطاعات وأجمل وَأَعْطَاهُ وأجزل وَأتم لَهُ مُرَاده وأكمل
وَكَانَ السُّلْطَان يستشيره ويروقه تَدْبيره ويميل إِلَيْهِ لقديم مَعْرفَته وكريم سجيته
وَوصل مِنْهُ فِي هَذِه السّنة كتاب يشوق إِلَى مصر ونيلها وَنَعِيمهَا وسلسبيلها وَدَار ملكهَا ودارة فلكها وبحرها وخليجها ونشرها وأريجها ومقسمها ومقياسها وإيناس ناسها وقصور معزها ومنازل عزها وجيزتها وجزيرتها وخيرتها وجيرتها وبركتها وبركتها وعدوتها وعدويتها وَتعلق الْقُلُوب بقليوبها واستلاب نفائس النُّفُوس بأسلوبها وملتقى الْبَحْرين ومرتقى الهرمين وروضة جنانها وجنة رضوانها ومساجدها وجوامعها ومشاهدها ومرابعها ونواظر بساتينها ومناظر ميادينها وساحات سواحلها وآيات فضائلها(3/214)
ورحاب شوارعها وحلاب مشارعها وشروق غربيتها وغروب شرقيتها وَطيب طوبتها ومسار مسراها ومجرى فلكها وَمرْسَاهَا وعجائب بناها وغرائب مناها وَبَيَان عيانها بِلِسَان بلسانها وكياسة أخلاقها ونفاسة أعلاقها وشتاؤها فِي الْفَصْل ربيع نضير وغبارها عبير وماؤها كوثري وترابها عنبري
ثمَّ وصف الْعِمَاد غير ذَلِك ثمَّ قَالَ وَذكر زين الدّين الْوَاعِظ فِي كِتَابه مَا دلّ بِهِ على فَضِيلَة تِلْكَ الديار من الْآيَات وَالْأَخْبَار والآداب والْآثَار وَلَو ظَفرت بِهِ لأوردته بِلَفْظِهِ وجلوته بوعظه لكنني فقدته فعرمت مَعَانِيه وأحكمت مبانيه
قَالَ فَكتبت إِلَى زين الدّين الْوَاعِظ فِي جَوَابه عَن السُّلْطَان عرفنَا طيب الديار المصرية ورقة هوائها وَنحن نسلم لَهُ الْمَسْأَلَة فِي طيبها وتوفر نصِيبهَا ورقة نسيمها ورائق نسيبها لَكِن لَا ريب أَن الشَّام أفضل وَأَن أجر ساكنه أجزل وَأَن الْقُلُوب إِلَى قبله أميل وَأَن الزلَال الْبَارِد بِهِ أعل وأنهل وَأَن الْهَوَاء فِي صيفه وشتائه أعدل وان الزهر بِهِ أشب والنبت بِهِ أكهل وَأَن الْجمال فِيهِ أكمل والكمال فِيهِ أجمل وَأَن الْقلب بِهِ أروح وَالروح بِهِ أقبل ودمشق عقيلته الممشوطة وعقلته المنشوطة وحديقته الناضرة وحدقته الناظرة وَهِي عين إنسانه بل إِنْسَان عينه(3/215)
وصيرفي نقوده فِي عين نضاره ولجينه فمستامها مستهام وَمَا على محبها ملام وَمَا فِي ربوتها رِيبَة وَفِي كل حبوة مِنْهَا جنيبة وَلكُل شائب من نورها شبيبه وعَلى كل ورقة وَرقا وعَلى كل معانقة من قدود البانات عنقًا وشادياتها على الأعواد تطري وتطرب وساجعاتها بالأوراد تعجم وتعرب وَكم فِيهَا من جوَار ساقيات وسواق جاريات وأثمار بِلَا أَثمَان وروح وَرَيْحَان وَفَاكِهَة ورمان وخيرات حسان وَجَمِيع مَا فِي سُورَة الرَّحْمَن وَنحن نتلو عَلَيْهَا آلاءها إِلَى أَن يرجع إِلَيْنَا فنتلو على منكرها {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَقد تمسكنا بِالْآيَةِ وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وغنينا بِهَذِهِ الْأَدِلَّة عَن الاختراع والابتداع أما أقسم الله تَعَالَى بِدِمَشْق فِي قَوْله تَعَالَى {والتين وَالزَّيْتُون} وَالْقسم من الله لَهَا أدل دَلِيل على فَضلهَا المصون أما قاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّام خيرة الله من أرضه يَسُوق الله إِلَيْهَا خيرته من عباده)
وَهَذَا أوضح برهَان قَاطع على انه خير بِلَاده
أما الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجمعُوا على اخْتِيَار السُّكْنَى بِالشَّام أما فتح دمشق بكر الْإِسْلَام وَمَا ننكر أَن الله تَعَالَى ذكر مصر وسماها أَرضًا فَمَا الذّكر وَالتَّسْمِيَة فِي فَضِيلَة الْقسم وَلَا الْإِخْبَار عَنْهَا دَلِيلا على الْكَرم وَإِنَّمَا اكْتسبت الْفَضِيلَة من الشَّام بِنَقْل يُوسُف الصّديق إِلَيْهَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ الْمقَام بِالشَّام أقرب للرباط وَأوجب للنشاط وَأجْمع للعساكر(3/216)
السائرة من سَائِر الْجِهَات للْجِهَاد وَأَيْنَ قطوب المقطب من سناء سنير وَأَيْنَ ذرى منف المشرف من ذرْوَة الشّرف المنيف الْمُنِير وَأَيْنَ الْهَرم الْهَرم من الْحرم الْمُحْتَرَم وَبَينهمَا فرق مَا بَين الْفرق والقدم وَهل للنيل مَعَ طول نيله وَطول ذيله واستطالة سيله برد بردى فِي نقع الغليل ونفع العليل وَمَا لذاك الْكثير طلاوة هَذَا الْقَلِيل وسيل هَذَا السلسبيل وَإِذا فاخرنا بالجامع وقبة النسْر ظهر عِنْد ذَلِك قصر الْقصر على أَن بَاب الفراديس فِي الْحَقِيقَة بَاب النَّصْر وَمَا رَأس الطابية كباب الْجَابِيَة وَلَو كَانَ لناسها باناس لم يحتاجوا إِلَى قِيَاس المقياس وَنحن لَا نجفوا الوطن كَمَا جفاه وَلَا نأبى فَضله كَمَا أَبَاهُ وَحب الوطن من الْإِيمَان وَمَعَ هَذَا فَلَا ننكر أَن مصر إقليم عَظِيم الشان وَأَن مغلها كثير وماءها غزير وَأَن عدهَا نمير وَأَن ساكنها ملك أَو أَمِير وَلَكِن نقُول كَمَا قَالَ الْمجْلس السَّامِي الأجلي الفاضلي أسماه الله أَن دمشق تصلح أَن تكون بستانا لمصر
وَلَا شكّ أَن أحسن مَا فِي الْبِلَاد الْبُسْتَان
وزين الدّين وَفقه الله قد تعرض للشام فَلم يرض أَن يكون الْمسَاوِي حَتَّى شرع وعد الْمسَاوِي وَلَعَلَّه(3/217)
يرجع إِلَى الْحق وَيُعِيد سعد إسعاده ووفاقه إِلَى الْأُفق إِن شَاءَ الله
قلت وَقد قيل فِي وصف دمشق شَيْء كثير من النّظم والنثر واشتمل مَا جمعته فِي أول تَارِيخ دمشق على قِطْعَة حَسَنَة كَبِيرَة من ذَلِك وصنف شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي رَحمَه الله مقامة تشْتَمل على الْمُفَاخَرَة بَين دمشق ومصر وَوصف كلا من البلدين بِمَا يَلِيق بِهِ وَكَانَ أول مَا قدم دمشق يذمها فِي مكاتباته إِلَى مصر نظما ونثرا حبا للوطن
ثمَّ لما اسْتَقر فِيهَا قرت عينه وفضلها فِي بعض مكاتباته وَقد ذكرت كل ذَلِك فِي جُزْء مُسْتَقل بِهِ
وَأما القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله فقد قَالَ فِي بعض مكاتباته إِلَى مصر وَمِمَّا أسر بِهِ قلبه الْكَرِيم أنني وصلت إِلَى دمشق المحروسة حِين شرد بردهَا وَورد وردهَا واخضل نبتها وَحسن نعتها وَصفا مَاؤُهَا وضفا رداؤها وتغنت أطيارها وتبسمت أزهارها وافتر زهر أقحوانها فَحكى ثغور غزلانها ومالت قضب بانها فانثنت تثني ولدانها فَلَمَّا قربت من بساتينها ولاح لي فيح ميادينها وتوسطت جنَّة واديها وَرَأَيْت مَا أبدعه الله فِيهَا سَمِعت عِنْد ذَاك حَماما يغرد وهزارا يشدو ويردد وقمريا ينوح(3/218)
وبلبلا بأشجانه يبوح فوقفت أثني على باريها وأكاد بالدمع أباريها أسفا على أَيَّام خلت بَعْدَمَا حلت مِنْهَا وفيهَا فَعِنْدَ ذَلِك عَايَنت روحي وَزَالَ أنيني ولوحي
(وَكَانَت النَّفس قد مَاتَت بغصتها ... فَعِنْدَ ذَلِك عَادَتْ روحها فِيهَا)
قلت وَوصف أَيْضا دمشق من أهل مصر من يرجع إِلَى قَوْله ويرضى بِحكمِهِ لفضله وفصله وَهُوَ الْوَزير العادلي صفي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن شكر فِي كتاب البصائر لَهُ فَقَالَ دمشق نزهة الْأَبْصَار وعروس الْأَمْصَار ومجرى الْأَنْهَار ومغرس الْأَشْجَار ومعرس السفار ومعبد الْأَبْرَار المستغفرين بالأسحار ظلها الْمَمْدُود ومقامها الْمَحْمُود وماؤها المسكوب وعيبها المسلوب ومحاسنها الْمَجْمُوعَة وفضائلها المروية المسموعة ودرجتها المرفوعة وفاكهتها الْكَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة ونسيمها العليل وهجيرها الْأَصِيل وماؤها السلسبيل
وَقد شرفها الله تَعَالَى بِالذكر فِي كِتَابه وآوى إِلَيْهَا من اخْتَار من أنبيائه وأحبابه فَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين {وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين} وَلم تزل مقرّ البركات ومعدن النبوات
ومنزل الرسالات ومسكن أَرْبَاب الكرامات وَورد فِي تَفْضِيل بقعتها من الْأَخْبَار مَا لَا يشك فِي(3/219)
صِحَة إِسْنَاده قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّام صفوة الله من بِلَاده فِيهَا خيرة الله من عباده)
وَنبهَ فِي خبر آخر على عظم فَضله فَقَالَ (إِن الله تكفل لي بِالشَّام وَأَهله) وَركب فِي سكناهَا أهل الْإِسْلَام بقوله عَلَيْهِ السَّلَام الْبركَة فِي الشَّام
وَذهب بعض الْمُفَسّرين من أهل الِاجْتِهَاد إِلَى أَنَّهَا {إرم ذَات الْعِمَاد الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد}
قَالَ وَلما أنعم الله تَعَالَى عَليّ بإسكاني فِي فنائها وتخيري لبنائها ونزهني فِي أفنائها وآنسني بإنسانها مضيت إِلَى جَامعهَا الْجَامِع وشفعت بِإِدْرَاك الْبَصَر مِنْهَا إِدْرَاك المسامع فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ وحللت الحبى لَدَيْهِ رَأَيْت مرأى صغر الرِّوَايَة ورونقا حصل من الْحسن على النِّهَايَة ونورا يجلو الْأَبْصَار وجمعا يفضل على جموع الْأَمْصَار وَعبادَة مَوْصُولَة على الِاسْتِمْرَار وقرآنا يُتْلَى فِي آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار ومنقطعين إِلَيْهِ قد أَنْفقُوا فِي الِاعْتِكَاف بِهِ نفائس الْأَعْمَار
والبركات تحف بجوانبه والعلوم تنشر فِي زواياه ومحاربه وَالْأَحَادِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسند وتروى والمصاحف بَين أَيدي التالين تنشر وَلَا تطوى وأعلام الْبر فِيهِ ظَاهِرَة(3/220)
فَلَا تخفى وَلَا تزوى والخلق منقسمون إِلَى حلق قد نبذ أَهلهَا مَا وَرَاءَهُمْ من العلق
وَالْإِسْلَام فِيهِ فَاش وَالْجهل بِهِ متلاش وَهُوَ مِمَّا بناه الْأَولونَ لعبادتهم وجعلوه ذخْرا لآخرتهم وَمَا برح معبدًا لكل مِلَّة اتخذته الْمَجُوس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى قبل الْإِسْلَام هيكلا وقبلة وَهُوَ بَيت الْمُتَّقِينَ وسوق المتصدقين ليله للمتهجدين ونهاره للْعُلَمَاء الْمُجْتَهدين
قَالَ وعاشرت أَهلهَا وباشرتهم ثمَّ كاشرتهم وكاشفتهم فَرَأَيْت سادة أدباء وعلماء نجباء ورأيتهم يتناظرون فِي الْفِقْه مناظرة الْوَالِد مَعَ وَلَده ويقفون عِنْد كتاب الله فَلَا يعدلُونَ عَن وَاضح جدده ويفسرونه عَن علم واستبصار ويحتاطون فِي علمهمْ بِصَحِيح الْأَخْبَار ويتبعون مَا وَردت بِهِ ثِقَات الْآثَار
وعامتهم مشغولون بالمعاش آخذون من زينتهم عِنْد كل مَسْجِد أفضل الرياش لَا يَخُوضُونَ فِي لغط وَلَا إكثار وَلَا يَجْتَمعُونَ على فَسَاد نِيَّة فِي مُقيم وَلَا بعيد الدَّار
قَالَ فأقمت مِنْهَا فِي أشرف الْبلدَانِ الَّتِي هِيَ أنموذج الْجنان وعنوان الدَّار الَّتِي خازنها رضوَان والقلوب فِيهَا عِنْد ذكر الله حَاضِرَة والنفوس بِالْخَيرِ دون الشَّرّ آمرة
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد كَانَت إربل وَمَا يجْرِي مَعهَا من الْبِلَاد والقلاع من(3/221)
ولايات الْموصل مَعْدُودَة فَأَرَادَ صَاحب إربل أَن ينْفَرد عَنهُ ويستبد بالبلاد فاعتزى إِلَى السُّلْطَان وكاتبه وَطلب مِنْهُ منشورا ببلاده فَكَتبهُ لَهُ وَفِيه إِن الله لما مكن لنا فِي الأَرْض ووفقنا فِي إعزاز الْحق وإظهاره لأَدَاء الْفَرْض رَأينَا أَن نقدم فرض الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فنوضح سَبيله ونقبل على إعلاء الدّين وننصر قبيله وندعو أَوْلِيَاء الله من بِلَاد الْإِسْلَام إِلَى غَزْو أعدائه ونجمع كلمتهم فِي رفع كَلمته الْعليا فِي أرضه على استنزال نَصره من سمائه فَمن ساعدنا على أَدَاء هَذِه الْفَرِيضَة واقتناء هَذِه الْفَضِيلَة يحظى من عوارفنا الجزيلة بِحسن الصنيعة ونجح الْوَسِيلَة وَمن أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ وَأعْرض عَن حق دينه بالإقبال على بَاطِل دُنْيَاهُ فَإِن أناب قبلناه وَإِن أصر على غوايته أزلنا يَده وعزلناه
تَفْصِيل مَا كتب فِي منشوره إربل وقلعتها وأعمالها جَمِيع مَا قطعه الزابي الْكَبِير شهرزور وأعمالها معايش بَيت قفجاق معايش بَيت القرابلي الدشت والزرزارية
قَالَ الْعِمَاد وَفِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة توفّي صَاحب ماردين وَهُوَ قطب الدّين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق والأمراء الأرتقية هم الَّذين رتقوا فتوق الْإِسْلَام أَولا وَكَانُوا يتولون بَيت الْمُقَدّس وحموه من الفرنج قبل المصريين وَإِنَّمَا أَخذه الفرنج سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة من المصريين فَبَقيَ السَّاحِل كُله مَعَ أهل الشّرك فحمت الأرتقية ديار بكر وَمَا والاها وحلب وأعمالها وتوارثوا ديار بكر كَابِرًا عَن كَابر إِلَى أَن انْتهى إِلَى هَذَا قطب الدّين أَعمال ميافارقين(3/222)
وماردين فَلَمَّا مَاتَ بقيت على وَلَده وَله عشر سِنِين وانْتهى إِلَى ابْن عَمه نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سكمان بن أرتق حصن كيفا وخرتبرت والبلاد الَّتِي تناسبها وأضاف السُّلْطَان إِلَيْهِ آمد
وَقد كَانَ قطب الدّين أَولا على مصافاة صَاحب الْموصل لما بَينهمَا من الْقَرَابَة ثمَّ أذعن للسُّلْطَان وَدخل تَحت طَاعَته
قلت وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا توفّي خَليفَة الْمغرب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَولي ابْنه يَعْقُوب
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَبعد عود السُّلْطَان من حِصَار الكرك وصل رسل الْخَلِيفَة وَمَعَهُمْ الْخلْع فلبسها السُّلْطَان وألبس أَخَاهُ الْعَادِل وَابْن أَسد الدّين خلعا جَاءَت لَهما ثمَّ خلع السُّلْطَان خلعة الْخَلِيفَة على نور الدّين بن قرا أرسلان وَأَعْطَاهُ دستورا فَسَار إِلَى بِلَاده ووصلت رسل زين الدّين بن زين الدّين مستصرخا إِلَى السُّلْطَان يخبر أَن عَسْكَر الْموصل وعسكر قزل نزلُوا على إربل مَعَ مُجَاهِد الدّين قايماز وَأَنَّهُمْ نهبوا وأحرقوا وَأَنه نصر عَلَيْهِم وكسرهم
فَلَمَّا سمع ذَلِك سَار من دمشق يطْلب الْبِلَاد وَتقدم إِلَى العساكر فتبعته وَسَار على طَرِيق المغار ويبوس الْبِقَاع إِلَى بعلبك وَمرض الْعِمَاد(3/223)
فَانْقَطع بهَا وَسَار السُّلْطَان إِلَى حمص ثمَّ إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن شفي الْعِمَاد ولحقه بهَا
وَكَانَ الْأَجَل الْفَاضِل بِدِمَشْق فَأرْسل الْحَكِيم الْمُوفق بن المطران واسْمه أسعد بن إلْيَاس إِلَى الْعِمَاد ببعلبك لما سمع بمرضه فَسَار من دمشق إِلَى بعلبك فِي يَوْم وَلَيْلَة وَعمل مَعَه عمل من طب لمن حب فبرىء بعون الله تَعَالَى فَرجع إِلَى دمشق فَلَمَّا استقام مزاجه رَحل إِلَى السُّلْطَان فوافقه بحماة
وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مخيم بِظَاهِر حماة فَسَار إِلَى حلب وتلقاه أَخُوهُ الْعَادِل وَاجْتمعت لَهُ بهَا العساكر فَخرج مِنْهَا فِي صفر لقصد الْموصل فَسَار وَقطع الْفُرَات وَأقَام الْعَسْكَر ثَلَاثَة أَيَّام للعبور بهَا وَكَانَ السُّلْطَان قد سير إِلَى معاقل الْفُرَات وقلاعه ونواحيه وضياعه وَأمر أَهلهَا بعمارة كل سفينة فِي الْفُرَات وزورق ومركب وَجَمعهَا من كل مشرق ومغرب
ثمَّ وصل إِلَى حران وفيهَا مظفر الدّين بن زين الدّين وَهُوَ أَخُو زين الدّين يُوسُف صَاحب إربل وَقد كَانَ أول من دخل فِي خدمَة السُّلْطَان أول مَا قصد تِلْكَ الْبِلَاد فِي الْمرة الأولى واقتدى بِهِ أَخُوهُ وَغَيره من أَصْحَاب الْأَطْرَاف فِي الانتماء إِلَى السُّلْطَان وَحضر مَعَه حِصَار عدَّة بِلَاد كالموصل وسنجار وآمد وحلب وَأظْهر من الْمَوَدَّة فَوق مَا كَانَ فِي(3/224)
الْحساب وَهُوَ كَانَ كثير الْحَث للسُّلْطَان على الْمسير إِلَى الْموصل هَذِه الْمرة بِرَسُولِهِ وَكتابه وَقَالَ رَسُوله للسُّلْطَان إِن مظفر الدّين إِذا عبرتم الْفُرَات يسْتَدرك كل مَا فَاتَ وَيقوم بِكُل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من النَّفَقَات والغرامات والأزواد وَيقدم يَوْم الْوُصُول إِلَى حران خمسين ألف دِينَار وَكتب خطه بذلك
فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى حران لم ير مِنْهُ مَا الْتَزمهُ الرَّسُول فارتاب بِهِ وَظن أَنه مَال مَعَ المواصلة ووشت الْأَعْدَاء فِيهِ بذلك وَأَن نِيَّته قد تَغَيَّرت فَحلف للسُّلْطَان أَنه لم يتَغَيَّر وَأَن مَا الْتَزمهُ الرَّسُول لم يكن بأَمْره وَهُوَ ابْن ماهان فانعزل عِنْده عَن مرتبته وَهَان فَقبض السُّلْطَان على مظفر الدّين ليتبين أمره وشاور فِيهِ أَصْحَابه فَأَشَارَ بَعضهم بإتلافه وَبَعْضهمْ باستبقائه واستئلافه فَعَفَا السُّلْطَان عَنهُ على أَن يسلم قلعتي الرها وحران فَفعل ذَلِك وَهُوَ مسرور بِبَقَاء نَفسه ثمَّ أُعِيدَت إِلَيْهِ القلعتان فِي آخر السّنة لما رأى السُّلْطَان من حركاته المستحسنة
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَسَار السُّلْطَان حَتَّى أَتَى حران على طَرِيق البيرة والتقاه مظفر الدّين بالبيرة فِي ثَانِي عشر الْمحرم وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَعْنِي الْموصِلِي رَسُولا واسْمه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عبد السَّلَام ويكنى بِأبي الْخَلِيل فَلَقِيَهُ بحماة يعْتَذر مِمَّا جرى فَأعْطَاهُ دستورا بعد أَن أكْرمه وَسَار من غير غَرَض(3/225)
قلت وَصَحب ابْن عبد السَّلَام فِي هَذِه السفرة من الْموصل عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة فمدح السُّلْطَان بقصيدة أَولهَا
(سَلام مشوق قد براه التشوق ... على الْحَيّ من وَادي الغضا إِذْ تفَرقُوا)
فَلَمَّا بلغ من مديحها إِلَى قَوْله
(وَقَالَت لي الآمال إِن كنت لاحقا ... بأبناء أَيُّوب فَأَنت الْمُوفق)
قَالَ لَهُ السُّلْطَان لقد وفقت
وَأَجَازَهُ جَائِزَة سنية
ثمَّ قَالَ القَاضِي وَتقدم السُّلْطَان إِلَى سيف الدّين المشطوب أَن يسير فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر إِلَى رَأس عين وَوصل السُّلْطَان حران فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر
وَفِي السَّادِس وَالْعِشْرين مِنْهُ قبض على مظفر الدّين لشَيْء كَانَ جرى مِنْهُ وَحَدِيث بلغه عَنهُ رَسُوله وَلم يقف عَلَيْهِ وَأنْكرهُ وَأخذ مِنْهُ حران والرها ثمَّ أَقَامَ فِي الاعتقال تأديبا إِلَى مستهل ربيع الأول ثمَّ خلع عَلَيْهِ وَطيب قلبه وَأعَاد عَلَيْهِ قلعة حران وبلاده الَّتِي كَانَت بِيَدِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى قانونه فِي الاحترام وَالْإِكْرَام وَلم يتَخَلَّف لَهُ سوى قلعة الرها ووعده السُّلْطَان بهَا(3/226)
ثمَّ رَحل السُّلْطَان ثَانِي ربيع الأول من حران إِلَى رَأس عين وَوَصله فِي ذَلِك الْيَوْم رَسُول قليج أرسلان يُخبرهُ أَن مُلُوك الشرق بأسرهم قد اتّفقت كلمتهم على قصد السُّلْطَان إِن لم يعد عَن الْموصل وماردين وَأَنَّهُمْ على عزم ضرب المصاف مَعَه إِن أصر على ذَلِك فَرَحل السُّلْطَان يطْلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدّين بن قرا أرسلان وَمَعَهُ عَسْكَر نور الدّين فالتقاهم السُّلْطَان واحترمهم ثمَّ رَحل من دنيسر نَحْو الْموصل حَتَّى نزل بِموضع يعرف بالإسماعيليات قريب الْموصل بِحَيْثُ يصل من الْعَسْكَر كل يَوْم نوبَة جَرِيدَة تحاصر الْموصل فَبلغ عماد الدّين بن قرا أرسلان موت أَخِيه نور الدّين فَطلب من السُّلْطَان دستورا طَمَعا فِي ملك أَخِيه فَأعْطَاهُ دستورا
وَقَالَ الْعِمَاد خرج السُّلْطَان من حران فِي ربيع الأول فَمر على رَأس عين ودارا فَخرج أميرها بِأَصْحَابِهِ فِي الْخدمَة وَقدم عماد الدّين أَبُو بكر بن قرا أرسلان بعساكر ديار بكر وآمد نِيَابَة عَن أَخِيه نور الدّين فَإِنَّهُ كَانَ مَرِيضا ثمَّ رَحل إِلَى نَصِيبين وَقدم صَاحب الجزيرة سنجر شاه بن أخي صَاحب الْموصل فَأكْرمه السُّلْطَان ثمَّ سَار من أقرب الطّرق من دجلة وتنكب طَرِيق الدولعية فَنزل على بلد آخر ربيع الأول ثمَّ توجه إِلَى الْموصل وخيم على الإسماعيليات
وَقدم على السُّلْطَان زين الدّين صَاحب إربل وَأول مَا بَدَأَ بِهِ السُّلْطَان يَوْم نُزُوله على بلد قبل الإسماعيليات إرْسَال ضِيَاء الدّين أبي الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله بن الشهرزوري إِلَى الْخَلِيفَة بِمَا عزم عَلَيْهِ من حصر الْموصل فَإِن(3/227)
أَهلهَا يواصلون الْأَعَاجِم وخاطبون لسلطانهم الْقَائِم وناقشو اسْمه فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وَأَنَّهُمْ يتعززون بالبهلوان ويعجزون إِلَّا عَن الطَّاعَة لَهُ والإذعان وَأَنَّهُمْ يرسلون إِلَى الفرنج ويقوون نُفُوسهم على قصد الثغور وتفريق الْجُمْهُور وَأَنه مَا جَاءَ طَمَعا فِي استضافة ملك وَلَا استزادة سلك وَلَا قلع بَيت قديم وَلَا قطع أصل كريم وَإِنَّمَا مَقْصُوده الْأَصْلِيّ ومطلوبه الْكُلِّي ردهم إِلَى طَاعَة الإِمَام ونصرة الْإِسْلَام وكشف مَا اعتادوه واعتوروه من الظُّلم والظلام وفطمهم عَن استحلال الْحَرَام وقطعهم عَن مُوَاصلَة الأعجام وإلزامهم بِمَا يجب عَلَيْهِم من حفظ الْجَار وصلَة الْأَرْحَام فَهَذَا صَاحب الجزيرة وَهُوَ ابْن أخي صَاحب الْموصل ولي عهد أَبِيه لم يرع فِيهِ ذمَّة أَخِيه وأبعده عَمَّا اسْتَحَقَّه بِالْإِرْثِ وَالتَّوْلِيَة وَحرمه مَا يستوجبه من التربية والتلبية وأخاف حرمه وَقطع رَحمَه وَلَو تمكن مِنْهُ لأطاح دَمه وَلَوْلَا خَوفه من جَانِبه وتوقيه من دَبِيب عقاربه لما التجأ إِلَى هَذَا الْجَانِب وَلما اخْتَار الْأَجَانِب على الْأَقَارِب
وَهَذَا صَاحب إربل جَار الْموصل أَبوهُ زين الدّين عَليّ هُوَ الَّذِي حفظ بَيتهمْ وَخلف فِي إحيائهم ميتهم وَهَذَا وَلَده فِي جوارهم يشكو جَوْرهمْ وَحَدِيث صَاحب الحديثة فِي حَادِثَة لَا تخفى وَعين من بتكريت من مخافتهم وآفتهم لَا تكرى
قلت وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان وَكَانَ قد تحيز إِلَى الْخَادِم فِي وَقت حركته صَاحب تكريت والحديثة وَهُوَ يسْتَأْذن فِي استتباعهما بِحكم التَّقْلِيد الَّذِي تنَاول هَذَا وَغَيره وَلم يسْتَأْذن فِي ذَلِك استئذانا مُخَصّصا إِلَّا لمحلهم من جوَار دَار الْخلَافَة وَلِأَنَّهُمَا مِمَّا يرى الْخَادِم إِضَافَته إِلَى مَا يجْرِي فِي خَاص الدِّيوَان الْعَزِيز مَعَ غَيرهمَا مِمَّا يجْرِي(3/228)
مجراهما فِي الْقرب من الْجوَار وَالدُّخُول فِي ذمام شرف تِلْكَ الدَّار فَإِن أذن لَهُ استثناهما فِي صلح إِن تمّ مَعَهم أَو حماهما مَعَ مباينته إِن اخْتَار الْمشَار إِلَيْهِم الْبَقَاء عَلَيْهَا وَهَذَا برد شرف قد أعوزه علمه وتاج إِذا أسلمه الْخط الشريف نظم الفخار منتظمه
وَمن كتاب آخر وَمَا كُنَّا بِشَهَادَة الله فِي قتال الْمَذْكُورين إِلَّا كقاطع كَفه ليسلم سَائِر جِسْمه وكراكب حد السنان مُضْطَرّا فِي حكمه
وأصحب الْعِمَاد الرَّسُول قصيدة مدح بهَا الصاحب مجد الدّين أَبَا الْفَضَائِل أَولهَا
(قضى الوجد لي أَن لَا أفِيق من الوجد ... فيا ضلة اللاحي إِذا ظن أَن يهدي)
(محبكم جلد على كل حَادث ... وَلَكِن على هجرانكم لَيْسَ بِالْجلدِ)
(بِبَغْدَاد حطوا رحلكم ليخصكم ... أَبُو الْفضل مجد الدّين بِالْفَضْلِ وَالْمجد)
(رَآهُ الإِمَام النَّاصِر الدّين ناصرا ... فحاول تعويلا على مجده المجدي)
وَمِنْهَا
(إِلَيْك صَلَاح الدّين ألجأ أمره ... فحط رُكْنه وَالْعقد بالشد والشد)
(مليك على حَرْب الْعَدو مصمم ... وَمَا زَالَ فِيهِ غَالب الْجد والجند)
(تساور أَفْوَاه الْجراح رماحه ... مساورة الأميال للأعين الرمد)
(يحل المنايا الْحمر بالْكفْر مجريا ... دم الْأَصْفَر الرُّومِي بالأبيض الْهِنْدِيّ)(3/229)
(وَمَا لأمير الْمُؤمنِينَ كيوسف ... فَتى فِي مراضيه بمهجته يفْدي)
قَالَ وَشرع السُّلْطَان فِي إقطاع الْبِلَاد والتوقيع بهَا على الأجناد وسير الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالمشطوب الهكاري وَمَعَهُ الْأُمَرَاء من قبيلته والأكراد من شيعته إِلَى بلد الهكارية وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء الحميدية إِلَى الْعقر وأعمالها لاستفتاح قلاعها واستغلال ضياعها
وَنصب الجسر وَملك الْأَمر وَعبر مظفر الدّين صَاحب حران وَغَيره من الْأُمَرَاء وخيموا بالجانب الغربي وَكَانَ الْحر إِذْ ذَاك شَدِيدا فَأمر السُّلْطَان بِالصبرِ عَن الْقِتَال إِلَى أَن يطيب الزَّمَان
وَأهل الْموصل فِي الْحصار وأشير عَلَيْهِ بتحويل دجلة وَكَانَ مَاؤُهَا قد قل بطرِيق ذكره خَبِير بهَا زعم أَنه يُمكن سد دجلة وسكرها وبثق فرضة أُخْرَى وَكسرهَا ونقلها وَتَحْوِيلهَا إِلَى دجلة نِينَوَى وتعطش الْموصل إِذا المَاء عَنْهَا انزوى وَعرض ذَلِك على رَأْي الْفَقِيه الْعَالم فَخر الدّين أبي شُجَاع ابْن الدهان الْبَغْدَادِيّ وَكَانَ مهندس زَمَانه وإنسان عين الْفضل وَعين إنسانه وَكَانَ مُنْذُ عهد قديم سكن الْموصل فِي ظلّ كَبِير من أَصْحَاب زين الدّين عَليّ وَلما سمع بكرم السُّلْطَان تفيأ بظله وتعرف إِلَى فَضله فَصدق المشير بذلك وَقَالَ هَذَا مُمكن وَلَا يتَعَذَّر ويتيسر وَلَا يتعسر
وَمن كتاب عمادي إِلَى بَغْدَاد وَذكر المهندسون أهل الْخِبْرَة أَنه يسهل تَحْويل دجلة الْموصل عَنْهَا بِحَيْثُ يبعد مستقى المَاء مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يضْطَر أَهلهَا إِلَى تَسْلِيمهَا بِغَيْر قتال وَلَا حُصُول ضَرَر فِي تضييق وَلَا نزال(3/230)
فصل فِيمَا فعل السُّلْطَان فِي أَمر خلاط وميافارقين وَغَيرهمَا من الْبِلَاد
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ وصل خبر وَفَاة شاه أرمن صَاحب خلاط فتحول إِلَيْهَا الْعَزْم وترجح بهَا الحزم
وَكَانَ وُرُود مَوته فِي الْعشْرين من ربيع الآخر وَكَانَ مَوته فِي التَّاسِع مِنْهُ وَلم يخلف ولدا ولاذا قرَابَة يكون خلفا لَهُ فِيهَا ووردت كتب الْأَوْلِيَاء من أهل بدليس وَغَيرهَا إِلَى السُّلْطَان يخطبونه لَهَا وهم خائفون من الْعَجم أَن يتولوها فَاخْتلف النَّاس على السُّلْطَان فَمن مشير بِالْإِقَامَةِ إِلَى انْفِصَال أَمر الْموصل وَمن مشير بِالْمَسِيرِ إِلَى بِلَاد الأرمن فَإِن الْموصل غير فَائِتَة وَمن قَائِل بانقسام الْعَسْكَر فِي الْجِهَتَيْنِ فترجح رَأْي السُّلْطَان على الْمسير إِلَيْهَا فَكتب إِلَى الْخَلِيفَة يطْلب مِنْهُ كتاب تَقْلِيد بِبِلَاد الأرمن وديار بكر والموصل فَجَاءَهُ بعد فتح ميافارقين مِثَال شرِيف بتقليده النّظر فِي أَمر ديار بكر وَالنَّظَر فِي مصَالح أَيْتَام مُلُوكهَا
ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَن الْموصل فِي أَوَاخِر شهر ربيع الآخر وَقدم فِي مقدمته نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه ابْن عَمه ومظفر الدّين صَاحب حران وَأَمرهمَا أَن يَسِيرا إِلَى خلاط من أقرب الطّرق فَلَمَّا وصلا وجدا سيف الدّين بكتمر من مماليك شاه أرمن قد دَخلهَا وحماها وتغلب عَلَيْهَا وَجَاء بهلوان فِي عَسَاكِر الشرق وَهُوَ شمس الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إيلدكز مُتَوَلِّي تِلْكَ الْبِلَاد فَنزل من الْجَانِب الآخر وَكَانَ وَزِير خلاط مجد الدّين بن الْمُوفق بن رَشِيق يظْهر للسُّلْطَان الْمَوَدَّة والمناصحة وَهُوَ على خلاف ذَلِك وَكتب إِلَى نَاصِر الدّين أَن يُقيم على الْقرب فَهُوَ أَشد للإرهاب والرعب فَفعل وَلَو خلاه لسبق إِلَيْهَا(3/231)
وَقيل إِن هَذَا الْوَزير أنفذ إِلَى بهلوان وَأمره بالإتيان وَأظْهر لَهُ الْمَوَدَّة وَالْإِحْسَان وَلما تَمَادى الزَّمَان وَقرب مِنْهَا البهلوان راسله بكتمر وَحمل إِلَيْهِ مَعَ ابْنَته زَوْجَة شاه أرمن من الْأَمْوَال الَّتِي أودعت المخزن وَندب السُّلْطَان إِلَيْهَا الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى فَدَخلَهَا وتخللها وتأملها وَتكلم مَعَ الْوَزير وشاوره فأحال الْحَال على البهلوان وَأَنه جَاءَ ليتملك الْمَكَان وَلَو استعجلتم لسهل الْأَمر مَا صَعب الْآن وَهَان
ثمَّ جرت مراسلة بَين السُّلْطَان والبهلوان وانفصل الْأَمر كَأَنَّهُ مَا كَانَ
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي ربيع الآخر توفّي صَاحب خلاط وَولي بعده غُلَام لَهُ يدعى بكتمر وَهُوَ الَّذِي كَانَ وصل رَسُولا إِلَى خدمَة السُّلْطَان بسنجار فَعدل وَأحسن إِلَى أهل خلاط وَكَانَ متصونا فِي طَرِيقَته فأطاعه النَّاس ومالوا إِلَيْهِ
وَلما ملك خلاط امتدت نَحوه الأطماع فَسَار نَحوه البهلوان بن الدكز فَلَمَّا بلغه ذَلِك سير إِلَى خدمَة السُّلْطَان من يُقرر مَعَه تَسْلِيم خلاط إِلَيْهِ واندراجه فِي جملَته فطمع السُّلْطَان بخلاط وارتحل عَن الْموصل مُتَوَجها نَحْوهَا وسير إِلَيْهِ الْفَقِيه عِيسَى وغرس الدّين قليج لتقرير الْقَاعِدَة وتحريرها فوصلت الرُّسُل وبهلوان وَقد قَارب الْبِلَاد جدا فخوف بهلوان من السُّلْطَان وَأَشْعرهُ أَنه إِن قَصده سلم الْبِلَاد إِلَى السُّلْطَان
فَطلب بهلوان إِصْلَاحه وزوجه ببنت لَهُم وولاه وَأعَاد الْبِلَاد إِلَيْهِ وَاعْتذر إِلَى رسل السُّلْطَان وعادوا من غير زبدة
وَكَانَ السُّلْطَان قد(3/232)
نزل على ميافارقين فحاصرها وقاتلها قتالا عَظِيما وَنصب عَلَيْهَا مجانيق وملكها فِي آخر جُمَادَى الأولى
قَالَ الْعِمَاد واستشعر مُلُوك ديار بكر من حَرَكَة السُّلْطَان وَكَانَ قد مَاتَ صَاحب ماردين كَمَا تقدم وَبقيت الْولَايَة لوَلَده الْكَبِير وَله عشر سِنِين وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه نظام الدّين بن البقش
وَمَات أَيْضا صَاحب آمد نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان رَابِع عشر ربيع الأول من هَذِه السّنة وَتَوَلَّى ابْنه قطب الدّين سكمان فاحترزوا من السُّلْطَان وخافوا أَن يسْتَردّ بِلَاد آمد مِنْهُم فنفذ السُّلْطَان إِلَيْهِم شمس الدّين بن الْفراش ليختبر حَالهم فِي الْمُحَاربَة والمسالمة فَوَجَدَهُمْ على الطَّاعَة مقيمين وَإِلَيْهِ راغبين وَمِنْه راهبين
وَوصل السُّلْطَان فِي جُمَادَى الأولى إِلَى ميافارقين وَكَانَ قد دَخلهَا من أُمَرَاء صَاحب ماردين أَسد الدّين يرنقش واستعصى فِيهَا على السُّلْطَان فحاصره وقاتله ثمَّ رأى أَن الْقِتَال يطول فراسل أميرها الْأسد ورغبه فِي الْمُوَادَعَة وَنَهَاهُ عَن المقاطعة وَكَانَ فِي الْمَدِينَة خاتون ابْنة قرا أرسلان وَهِي زَوْجَة قطب الدّين صَاحب ماردين الَّذِي توفّي فأحال الْأسد الْأَمر على الخاتون فراسلها السُّلْطَان ورغبها وَضمن لَهَا كل مَا تطلبه مِنْهُ ووعدها أَن يصاهر إِلَيْهَا فَمَا زَالَ بهَا وبالأسد حَتَّى لانا فقرر السُّلْطَان لَهَا كل مَا كَانَ باسمها وَاسم خدامها وَطلبت حصن الهتاخ(3/233)
ليَكُون لَهَا عشا للأفراخ وَزوج السُّلْطَان ابْنه معز الدّين إِسْحَاق بِإِحْدَى كرائمها وأبرم الْعَهْد وَأحكم العقد وسارع السُّلْطَان إِلَى بذل كل مَا اقترحوه وَفتحت ميافارقين
وَأَقْبل صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن نور الدّين على صغر سنه إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأكْرمه وَأَعَادَهُ إِلَى منصبه وَكَانَ مَعَه وزيره قوام الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سماقة وَقتل غيلَة فِي رَمَضَان من هَذِه السّنة كَمَا سَيَأْتِي
ثمَّ سَار السُّلْطَان لقصد الْموصل وَولى تِلْكَ الديار مَمْلُوكه حسام الدّين سنقر الخلاطي فَنزل السُّلْطَان على دجلة بِكفْر زمار بِقرب الْموصل فِي شعْبَان وعزم على أَن يشتي فِي ذَلِك الْمَكَان فَخرجت من الْموصل نسَاء أتابكيات معرضات للشفاعة فأكرمهن السُّلْطَان ووعدهن بِالْإِحْسَانِ وَقَالَ قد قبلت شفاعتكن لَكِن لَا بُد من مصلحَة تتمّ وَمُصَالَحَة نَفعهَا يعم
وَاسْتقر الْأَمر على أَن يكون عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار أَخُو صَاحب الْموصل وَسِيطًا فِي الْبَين وَحكما فِيمَا يعود بمصلحة الْجَانِبَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَت شَفَاعَته سَابِقَة وَرَأى بِهَذَا الرَّأْي قَضَاء الْحَقَّيْنِ وَتعطف وتلطف لأجلهن وإجلالهن وأتى من الْكَرَامَة بِمَا يَلِيق بأمثالهن
وَكن ظنن أَنه لَا يُقيم لحُرْمَة قصدهن وَيصدق ظنونهن وَأَنه يعرف حقوقهن وَيَقْضِي بمكارمه ديونهن وَلَا يشْتَغل بِأَمْر لَا يُؤذن بمرادهن دونهن
فدخلن الْبَلَد متلومات متذممات وبلطف الله لائذات معتصمات(3/234)
فصل فِي انتظام الصُّلْح مَعَ أهل الْموصل وَمرض السُّلْطَان المرضة الْمَشْهُورَة بحران
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لما دخل شهر رَمَضَان داوم قِرَاءَة الْقُرْآن وَحفظه واشتغل بالصيام والتقليل من الطَّعَام فَظهر انزعاجه وَتغَير مزاجه وَتعذر علاجه وَطَالَ مَرضه وَنَدم على رد الشوافع وسير إِلَى عماد الدّين صَاحب سنجار فِي إِنْفَاذ رسله ليوعز بِكُل مَا يعود بسؤله
فوصل وزيره شمس الدّين بن الْكَافِي وَكَانَ من قبل قد سبق القَوْل فِي تَسْلِيم بِلَاد شهرزور وقلاعها وحصونها وضياعها وَكَذَلِكَ مَا وَرَاء الزابين من البوازيج والرستاق وبلد القرابلية وَبني قفجاق فَدخل شمس الدّين بن الْكَافِي وشمس الدّين قَاضِي الْعَسْكَر من جانبنا إِلَى الْموصل لأخذ الْعَهْد على هَذَا الْمُلْتَزم ورحل السُّلْطَان قبل عيد الْفطر بِيَوْم وَهُوَ من بَحر بحرانه فِي عوم وخيمنا على نَصِيبين فِي شَوَّال وَلم نترقب عود الرَّسُول بنجاز الاشغال بل كَانَ الارتحال على الارتجال ثمَّ اسْتمرّ الصُّلْح وَصلح الْأَمر وخطب فِي جَمِيع بِلَاد الْموصل للسُّلْطَان بعد قطع خطْبَة السلجوقية وَفِي ديار بكر أَيْضا والولايات الأرتقية وَضرب باسمه الدِّينَار وَالدِّرْهَم وانحل الْإِشْكَال وانكشف الْمُبْهم(3/235)
وَكتب الْعِمَاد عَن السُّلْطَان كتابا إِلَى أَخِيه سيف الْإِسْلَام بِالْيمن بشرح الْحَال وَفِيه وَنزل لنا صَاحب الْموصل عَن جَمِيع مَا وَرَاء الزاب من الْبِلَاد والقلاع والحصون والضياع وشهرزور ومعاقلها وأعمالها وَولَايَة بني قفجاق وَولَايَة القرابلي والبوازيج وعانة وقررنا عَلَيْهِ الْموصل وأعمالها على أَنه يكون بحكمنا وَينفذ عسكره إِلَى خدمتنا وَتَكون الْخطْبَة وَالسِّكَّة باسمنا وَأَن يُطلق الْمَظَالِم وَلَا يرتكب المآثم وَقد حصل لنا من صَاحب الْموصل وَمن جَمِيع من بالجزيرة وديار بكر الطَّاعَة وَالسِّكَّة وَالْخطْبَة وعمت الهيبة والرهبة والعزائم إِلَى الْجِهَاد فِي سَبِيل الله نوازع وَقد زَالَت الْعَوَائِق وَارْتَفَعت الْمَوَانِع
قَالَ وَنفذ السُّلْطَان إِلَى شهرزور مَمْلُوكه مُجَاهِد الدّين أياز سربك فتملا بهَا وتملك ونال الْمَقَاصِد وَأدْركَ وَكَانَ التركمان الإيوانية مستولية بهَا فشتت شملها وَندب للنَّظَر فِي تِلْكَ الْأَعْمَال القَاضِي شمس الدّين بن الْفراش وأقطع البوازيج لبَعض خواصه المماليك وسير إِلَى الْبِلَاد نوابه ورتب فِيهَا لإِقَامَة سنَن الْعدْل وَالْإِحْسَان أَصْحَابه ووقف ضَيْعَة بالبوازيج تعرف ببافيلا على وَرَثَة شيخ الشُّيُوخ بِبَغْدَاد
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما أيس السُّلْطَان من أَمر خلاط وَعَاد إِلَى الْموصل فَنزل بَعيدا عَنْهَا وَهِي الدفعة الثَّالِثَة بِموضع يُقَال لَهُ كفر زمار وَكَانَ الْحر شَدِيدا فَأَقَامَ مُدَّة وَفِي هَذِه الْمنزلَة أَتَاهُ سنجر شاه من الجزيرة وَاجْتمعَ بِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَده وَمرض السُّلْطَان بِكفْر زمار مَرضا(3/236)
شَدِيدا خَافَ من غائلته فَرَحل طَالب حران وَهُوَ مَرِيض وَكَانَ يتجلد وَلم يركب فِي محفة وَوصل حران شَدِيد الْمَرَض وَبلغ إِلَى غَايَة الضعْف وأيس مِنْهُ وأرجف بِمَوْتِهِ وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِل من حلب وَمَعَهُ الْأَطِبَّاء
قَالَ وَكَانَ سَبَب صلحه مَعَ المواصلة أَن عز الدّين صَاحب الْموصل سيرني إِلَى الْخَلِيفَة يستنجد بِهِ فَلم يحصل مِنْهُ زبدة وسير إِلَى الْعَجم فَلم يحصل مِنْهُم زبدة فَلَمَّا وصلت من بَغْدَاد وَأديت جَوَاب الرسَالَة أيس من نجدة فَلَمَّا بَلغهُمْ مرض السُّلْطَان رَأَوْا ذَلِك فرْصَة وَعَلمُوا رقة قلبه وَسُرْعَة انقياده فِي ذَلِك الْوَقْت فندبوني لهَذَا الْأَمر وبهاء الدّين الربيب وفوض إِلَيّ أَمر النُّسْخَة وَقَالُوا أمض مَا يصل جهدكم وطاقتكم إِلَيْهِ
فسرنا حَتَّى أَتَيْنَا الْعَسْكَر وَالنَّاس كلهم آيسون من السُّلْطَان وَكَانَ وصولنا فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة فاحترمنا احتراما عَظِيما وَجلسَ لنا وَكَانَ أول جُلُوسه من مَرضه وَحلف فِي يَوْم عَرَفَة وأخذنا مِنْهُ بَين النهرين أَخذهَا من سنجر شاه وَأَعْطَاهَا المواصلة وحلفته يَمِينا تَامَّة وَحلفت أَخَاهُ الْعَادِل وَمَات قدس الله روحه وَهُوَ على ذَلِك الصُّلْح لم يتَغَيَّر عَنهُ وسرنا عَنهُ وَهُوَ بحران قد تماثل وَوَصله خبر موت ابْن أَسد الدّين صَاحب حمص وَكَانَت وَفَاته يَوْم عَرَفَة وَنحن فِي الْعَسْكَر وَجلسَ الْعَادِل فِي العزاء
وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام كَانَت وقْعَة التركمان والأكراد وَقتل بَينهم خلق عَظِيم
وَفِي هَذَا الشَّهْر وصل خبر وَفَاة بهلوان بن الدكز وَكَانَت وَفَاته فِي(3/237)
سلخ ذِي الْحجَّة
قَالَ الْعِمَاد وَأقَام السُّلْطَان على نَصِيبين أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ رَحل إِلَى حران فألقينا بهَا عَصا النَّوَى والقلوب بِمَرَض السُّلْطَان متخاذلة القوى متواصلة الجوى وَالْفضل خَائِف من كساده آسَف على عتاده مُشفق من انخفاض قدره وانقراض عصره والسماح يَقُول هَذَا أَوَان كسوف سمائي ونضوب مائي وَالدّين ينْدب وَالْملك يصخب وَالْأَيْدِي إِلَى الله تَعَالَى مَرْفُوعَة والنيات بالإخلاص مشفوعة وَالْكفْر فِي أراجيف وَالْقدر فِي تصاريف وَالسُّلْطَان كلما زَاد ألمه زَاد فِي لطف الله أمله وَكلما بَان ضعفه قوي على الله توكله وَأَنا ملازمه لَيْلًا وَنَهَارًا سرا وجهارا وَهُوَ يملي عَليّ فِي كل وَقت وَصَايَاهُ وَيفرق بقلمي على عفاته عطاياه وَمن جملَة ذَلِك أَنه اشتدت بِهِ الْحَال لَيْلَة أيس بهَا مِنْهُ الْأَطِبَّاء وَغلب الْقنُوط وَعدم الرَّجَاء فَلَمَّا أصبح اجْتمع المعتفون والوافدون إِلَى بَابه والقاصدون المرتجون جنى جنابه وضجوا ضجة ارتجت مِنْهَا الدهماء ولانت لسماعها الصَّخْرَة الصماء فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل هَؤُلَاءِ وفدك قد اجْتَمعُوا على بابك متأسفين على مابك
فدعاني وَأَمرَنِي بكتب اسمائهم وتفريق مَا اجْتمع فِي خزائنه من الْأَمْوَال عَلَيْهِم وأمسينا وَمَا على الْبَاب سَائل وَكُنَّا نظن أَن مَا بِهِ من الْأَلَم شغل شاغل فَوجدَ بِتِلْكَ السماحة رَاحَة وَاسْتمرّ مُدَّة اسْتِمْرَار مَرضه على بذل جَوْهَر مَاله وَعرضه
وَكَانَ خلقه أحسن مَا كَانَ فِي حَال الصِّحَّة يخاطبنا بسجاياه السهلة السمحة وَلَا يَخْلُو مَجْلِسه من أولي فضل وَذَوي نباهة ونبل يتجاذبون بِحَضْرَتِهِ أَطْرَاف الْفَوَائِد ويهزون لمكارمه أعطاف المحامد فَتَارَة فِي أَحْكَام شَرْعِيَّة ومسائل فقهية وآونة فِي صناعات(3/238)
شعرية وألفاظ عَرَبِيَّة وَمَعَان أدبية وَمرَّة فِي أَحَادِيث الأجواد وشيم الأمجاد ودفعة فِي ذكر فَضَائِل الْجِهَاد وفرائض التأهب لَهُ والاستعداد وينذر أَنه إِن خلصه الله من نبوة هَذِه النّوبَة وأعفاه من كدر هَذِه المرضة ومرارتها بالعافية الصافية الحلوة اشْتغل بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس وَلَو ببذل نفائس الْأَمْوَال والأنفس وَأَنه لَا يصرف بَقِيَّة عمره إِلَّا فِي قتال أَعدَاء الله وَالْجهَاد فِي سَبيله وإنجاد أهل الْإِسْلَام والإقبال على قبيله وَأَنه لَا يتْرك شِيمَة الْجُود والسماحة بالموجود وَالْوَفَاء بِالْعُقُودِ والمحافظة على العهود وإنجاز الْمَوْعُود
قَالَ وَرُبمَا استروح فِي بعض سَاعَات اللَّيْل أَو النَّهَار إِلَى السماع لإشارة الْأَطِبَّاء بِهِ لأجل التَّفْرِيج والإمتاع وَلَقَد كَانَ ذَلِك الْمَرَض تمحيصا من الله للذنوب وتنزيها وَتَذْكِرَة موقظة من سنة الْغَفْلَة وتنبيها
قَالَ وَلما سمع الْعَادِل فِي حلب بِمَرَض أَخِيه السُّلْطَان ووصوله إِلَى حران بَادر بالوصول وصادف وَقت الْقبُول وَقَامَ بضبط الْأُمُور وسياسة الْجُمْهُور وَالْجُلُوس فِي كل يَوْم فِي النوبتية السُّلْطَانِيَّة لتولي مصَالح الرّعية وَإِقَامَة وَظِيفَة السماط وَالْعَمَل فِي كل يَوْم بِالِاحْتِيَاطِ والتصدي لكشف الْمَظَالِم وَبث المكارم وتنفيذ مَا يخرج من المراسم ورقع كل خرق ورتق كل فتق وَحفظ المهابة وَالْقِيَام عَن السُّلْطَان فِي كل مُهِمّ بِحسن النِّيَابَة وَلَقَد نفعنا حُضُوره ورفعنا تَدْبيره فقد كُنَّا على خوف من إرجاف يقوى وانتشار خبر سوء لَا يطوى لَا سِيمَا إِذا خرج الْأَطِبَّاء وَقَالُوا مَا فِيهِ أمل وَلكُل عمر أجل
فهناك ترى النَّاس يستشعرون وبإبعاد مَا يعز(3/239)
عَلَيْهِم من أعلاقهم ودوابهم يستظهرون فَزَالَ بِحُضُور الْعَادِل كل مَخَافَة وَسلم الله برأفته من كل آفَة
وَكَانَ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ولد السُّلْطَان مَعَ أَبِيه مقتد بمعاليه مقتف لمراضيه وَكَانَ من جملَة وَصَايَاهُ عِنْد إشفائه وإرجاء ترجي شفائه إِن أدركني المحتوم ودنا الْيَوْم الْمَعْلُوم فقد خلفت أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعليا وَكلهمْ أرَاهُ بمرادي فِي إِقَامَة الْجِهَاد مَلِيًّا فعنى بِأبي بكر سيف الدّين أَخَاهُ وبعمر تَقِيّ الدّين ابْن أَخِيه وبعثمان وَعلي ولديه الْملكَيْنِ الْعَزِيز وَالْأَفْضَل وَرَأى عَلَيْهِمَا بكفالة سيف الدّين وتقي الدّين فِي الشَّام ومصر الْمعول
وَأقَام الْعَادِل إِلَى أَن وضح الْمِنْهَاج وَصَحَّ المزاج وَطَابَتْ الْقُلُوب وَغَابَتْ الكروب ثمَّ وصل مَعَ أَخِيه إِلَى حلب وَتمّ مَعَه إِلَى حمص ودمشق وهب لَهُ نسيم مصر فاستجد إِلَى نشره النشق
وَسَيَأْتِي ذكر مضيه إِلَى مصر مَعَ الْملك الْعَزِيز فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ووصول الْملك الْأَفْضَل من مصر وَبعده الْملك المظفر تَقِيّ الدّين
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت صدقاته الرَّاتِبَة دارة وبالأبرار بارة على أَن جوده مستوعب الْمَوْجُود وَلَا يتْرك فضلا للوفود وَلما مرض وَعرض لَهُ من الْأَلَم مَا عرض قَالَ لي اكْتُبْ إِلَى الْوُلَاة والنواب بالديار المصرية والشامية أَن يتصدقوا على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من المَال الْمعد للْحَمْل بِمَا نَص على قدره فِي التَّعْيِين
فَلم يبْق فِي الممالك إِلَّا من وصل إِلَيْهِ نصيب ودعا بالصالحات من الله لدعائه مُجيب
فَدفع بِالصَّدَقَةِ الْبلَاء وَرفع للصدق(3/240)
الْوَلَاء وَنظر الله إِلَى النيات وأسنى سناء مننه السنيات وَمن جملَة تِلْكَ الصَّدقَات أَنه أَمرنِي أَن أكتب إِلَى نَائِبه بِدِمَشْق الصفي بن الْقَابِض أَن يتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار صورية فَقلت مَا عِنْده غير دَنَانِير مصرية فَقَالَ يتَصَدَّق بهَا مصرية خَمْسَة آلَاف لنفوز من الثَّوَاب بأضعاف
قَالَ وَلما امْتَدَّ زمَان مَرضه أَمر بِبِنَاء دَار عِنْد سرادقه وحمام فبنيت فِي أَرْبَعَة خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ قد استحضر من دمشق ولديه الصغيرين تورانشاه وملكشاه وأمهما وأسكنهم فِيهَا مُدَّة مقَامه وسماها دَار الْعَافِيَة للبرء فِيهَا من سقامه ثمَّ خَلاهَا لمن ينزل بهَا ضيفا وَجعلهَا للآوين إِلَيْهَا وَقفا
وَبعدهَا اتَّصَلت المواصلة بَين السُّلْطَان والمواصلة وَأهْدى السُّلْطَان لَهُم هَدَايَا عَظِيمَة لصَاحب الْموصل ولوالدته ولصاحبته ولابنة نور الدّين رَحمَه الله وَقوم مَا سيره إِلَيْهِم بِمَا يُربي على عشرَة آلَاف دِينَار سوى الْخَيل وَالطّيب وَالشَّيْء البديع والغريب وَجرى أَمر المواصلة على السداد وتجهزوا فِي النُّصْرَة الناصرية على مَا سَيَأْتِي شَرحه إِلَى الْجِهَاد وَأول بَرَكَات الِاتِّفَاق فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَسَائِر الْبِلَاد وتجددت الْفتُوح وأنجدت الْمَلَائِكَة وَالروح وامتحت باليسر الْعسرَة وَصحت بحطين الكسرة وَخص الله السُّلْطَان بفضيلة فتح الْقُدس وَقضى حاجاته الَّتِي كَانَت فِي النَّفس وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله شرح كل فتح فِي مَوْضِعه وَكَيف أشرق سنا النَّصْر فِي مطلعه
وَكتب الْفَاضِل من دمشق إِلَى تَقِيّ الدّين بِمصْر إِن الْعَافِيَة الناصرية قد(3/241)
استفاضت أَخْبَارهَا وفاضت أنوارها وآثارها وَوَلَّتْ الْعلَّة وَللَّه الْحَمد وأطفئت نارها وانجلى غبارها وخمد شِرَارهَا وَمَا كَانَت إِلَّا فلتة وقى الله شَرها وعظيمة كفي الْإِسْلَام أمرهَا ونوبة امتحن الله بهَا نفوسنا فَرَأى أقل مَا عندنَا صبرها وَمَا كَانَ الله لِيُضيع الدُّعَاء وَقد أخلصته الْقُلُوب وَلَا ليوقف الْإِجَابَة وَإِن سدت طريقها الذُّنُوب وَلَا ليخلف وعد فرج وَقد أيس الصاحب والمصحوب
(نعي زَاد فِيهِ الدَّهْر ميما ... فَأصْبح بعد بؤساه نعيما)
(وَمَا صدق النذير بِهِ لِأَنِّي ... رَأَيْت الشَّمْس تطلع والنجوما)
وَقد اسْتقْبل مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الْعَافِيَة غضة جَدِيدَة والعزمة مَاضِيَة حَدِيدَة والنشاط إِلَى الْجِهَاد وَالْجنَّة مبسوطة الْبسَاط وَقد انْقَضى الْحساب وجزنا الصِّرَاط وعرضنا نَحن على الْأَهْوَال الَّتِي من خوفها كَاد الْجمل يلج فِي سم الْخياط
وَمن كتاب آخر الْأَحْوَال بالحضرة مُسْتَقِيمَة وَالنعْمَة بالعافية عَظِيمَة عَظِيمَة والبقية الْمَوْهُوبَة من الْعُمر الناصري كَرِيمَة الْقيمَة عرف وَعرف النَّاس قدرهَا وَلزِمَ ولزموا شكرها فسيوف الْجِهَاد قد كَادَت تهتز فِي أغمادها وخيل الله قد كَادَت تنادي أَهلهَا ارْكَبِي لميعاد طرادها(3/242)
وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى مُبشر تأنيسه بِمَا استوحش مِنْهُ من الْقُرْآن وتطهيره مِمَّا استولى عَلَيْهِ من رِجْس الصلبان
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَمن توفّي فِيهَا من الْأَعْيَان
قَالَ الْعِمَاد فِي هَذِه السّنة توفيت الخاتون العصمية بِدِمَشْق فِي ذِي الْقعدَة وَهِي عصمَة الدّين ابْنة معِين الدّين أنر وَكَانَت فِي عصمَة الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله فَلَمَّا توفّي وَخَلفه السُّلْطَان بِالشَّام فِي حفظ الْبِلَاد ونصرة الْإِسْلَام تزوج بهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهِي من أعف النِّسَاء وأعصمهن وأجلهن فِي الصيانة وأحزمهن مستمسكة من الدّين بالعروة الوثقى وَلها أَمر نَافِذ ومعروف وصدقات ورواتب للْفُقَرَاء وإدرارات وَبنت للفقهاء والصوفية بِدِمَشْق مدرسة ورباطا
قلت وَكِلَاهُمَا ينْسب إِلَيْهَا فالمدرسة دَاخل دمشق بمحلة حجر الذَّهَب قريب الْحمام الشركسي والرباط خَارج بَاب النَّصْر رَاكب على نهر باناس فِي أول الشّرف القبلي
وَأما مَسْجِد خاتون فِي آخر الشّرف القبلي من الغرب فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى خاتون أُخْرَى قديمَة تقدم ذكرهَا(3/243)
وَهِي زمرد بنت جاولي أُخْت الْملك دقاق لأمه وَزوج زنكي وَالِد نور الدّين رَحِمهم الله
قَالَ الْعِمَاد وَذَلِكَ سوى وقوفها على معتقيها وعوارفها وأياديها وَكَانَ السُّلْطَان حِينَئِذٍ بحران فِي بَحر الْمَرَض وبحرانه وعنف الْأَلَم وعنفوانه فَمَا أخبرناه بوفاتها خوفًا من تزايد علته وتوقد غَلَّته وَهُوَ يَسْتَدْعِي فِي كل يَوْم درجا وَيكْتب إِلَيْهَا كتابا طَويلا ويلقي على ضعفه من تَعب الْكِتَابَة والفكر حملا ثقيلا حَتَّى سمع نعي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه ابْن عَمه فنعيت إِلَيْهِ الخاتون وَقد تعدت عَنهُ إِلَيْهِمَا الْمنون وَكَانَت وَفَاة نَاصِر الدّين بحمص فِي تَاسِع ذِي الْحجَّة فَجْأَة من غير مرض وأجرى السُّلْطَان أَسد الدّين شيركوه وَلَده على مَا كَانَ لوالده ومقابلته بِأَحْسَن عوائده
قلت وقبر الخاتون الْمَذْكُورَة فِي التربة المنسوبة إِلَيْهَا بسفح جبل قاسيون قبلي الْمقْبرَة الشركسية
وَأما نَاصِر الدّين فنقلته زَوجته ابْنة عَمه سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب فدفنته فِي مقبرتها بمدرستها بالعوينة فَهُوَ الْقَبْر الْأَوْسَط بَين قبرها وقبر أَخِيهَا رَحِمهم الله
وَكَانَت سِتّ الشَّام كَثِيرَة الْمَعْرُوف وَالْبر وَالصَّدقَات
وَكتب الْفَاضِل إِلَى تَقِيّ الدّين ورد الْخَبَر عَشِيَّة يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي(3/244)
عشر من ذِي الْحجَّة من حمص بِأَنَّهُ لما كَانَ عَشِيَّة يَوْم الْأَحَد وَقت الوقفة انْتقل إِلَى رَحْمَة الله ورضوانه الْمولى الْأَجَل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْمولى أَسد الدّين رحمهمَا الله بِمَرَض حاد أعجل من لمح الْبَصَر ومرد النّظر فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَشَاهد الْمَمْلُوك كتابا من وَلَده أَسد الدّين شيركوه أَحْيَاهُ الله إِلَى كَاتب أَبِيه رَحمَه الله يَقُول فِي وكتبته وَقد صَار فِي حفرته وَاسْتقر فِي قَبره
فنسأل الله حسن الْمرجع وكفاية هول المطلع والمعونة على سَاعَة هَذَا المصرع ونشكر الله ثمَّ نشكره ونذكره بِأَحْسَن مَا يذكرهُ بِهِ من يذكرهُ إِذْ وقى النَّفس الْكَرِيمَة الْعَالِيَة الشَّرِيفَة الناصرية وَقدم قبلهَا من لَا يسره التَّقَدُّم بَين يَدَيْهِ وَجعل الله أَنْفُسنَا فداها فَإِن تِلْكَ نعْمَة علينا كَمَا هِيَ نعْمَة عَلَيْهِ وَلَا فرق الله لهَذَا الْبَيْت شملا وَلَا قضب لَهُ حبلا وَأعظم الله أجر الْملك المظفر فِي ابْن عَمه وأمتعه بِبَقَاء عَمه وأعاذه من مُقَابلَة مَقْدُور الله بهمه وهمه فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيم لما لَا يَسْتَطِيع الْخلق لَهُ دفعا وتفويض أَمر هَذِه الْأَنْفس إِلَيْهِ تَعَالَى فَإنَّا لَا نملك لَهَا ضرا وَلَا نفعا ولخوف الْمَمْلُوك أَن يلتبس الْخَبَر فِي مطالعه ويحرف الْكَلم عَن موَاضعه عجل بالإنهاء والإشعار وَسبق بِمَا لَا يسره السَّبق بِهِ من هَذِه الْأَخْبَار
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي أَخُو الخاتون الْمَذْكُورَة سعد الدّين مَسْعُود بن أنر وَنحن قد فتحنا ميافارقين بهَا وَلَقَد كَانَ من الأكارم الأكابر وَمن ذَوي المآثر والمفاخر وَمَا رَأَيْت أحسن مِنْهُ خلقا وأزكى عرقا وَلم يزل فِي الدولتين النورية والصلاحية أَمِيرا مقدما وعظيما مكرما ولسفور فضائله ووفور فواضله وجد شهامته وحد صرامته رغب(3/245)
السُّلْطَان وَهُوَ زوج أُخْته أَن يكون هُوَ أَيْضا زوج أُخْته فَزَوجهُ بِالَّتِي تزَوجهَا مظفر الدّين كوكبري بعده
قلت وَهِي ربيعَة خاتون بنت أَيُّوب عمرت إِلَى أَن توفيت بِدِمَشْق بدار أَبِيهَا وَهِي دَار العقيقي فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وست مئة وَهِي آخر أَوْلَاد أَيُّوب لصلبه موتا وَكَانَ يحترمها الْمُلُوك من أَوْلَاد أخوتها وَأَوْلَادهمْ ويزورونها فِي دارها
قَالَ وفيهَا توفّي الْأَمِير عز الدّين جاولي وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء وَله مَوَاقِف حميدة فِي الهيجاء ومقامات فِي الْغُزَاة حَقِيقَة بالثناء وَهُوَ أكبر أَمِير للأسدية وَلم يزل فِي الهيجاء يحسن بلاؤه وَيصدق غناؤه
وَلما عدنا بعد فتح ميافارقين إِلَى الْموصل طرقه الْبلَاء فِي طَرِيقه قفز بحصانه بعض السواقي فعثر بِهِ وانكسرت رجله ثمَّ عملت عَلَيْهِ قدمه وَاشْتَدَّ ألمه وَطَالَ بِهِ سقمه وانتقل إِلَى دمشق وَتُوفِّي بهَا فِي آخر هَذِه السّنة أَو فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَلَقَد فجع الْإِسْلَام مِنْهُ بذمر مشيح لذمار الْكفْر مُبِيح
قَالَ وفيهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن رَمَضَان قتل بآمد وَزِير ابْن قرا أرسلان وَهُوَ قوام الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سماقة قتلته مماليك مخدومه غيلَة وتمحلوا لَهُ فِي مباغتته بِالْقَتْلِ حِيلَة وَذَلِكَ أَنه كَانَ جَالِسا فِي ديوانه(3/246)
وإيوانه متصدرا بمكانته فِي مَكَانَهُ وَعِنْده الأكابر والأماثل فَدخل عَلَيْهِ وَاحِد مِنْهُم وَقَالَ لَهُ الْملك يَدْعُوك وَحدك
فَقَامَ فَدخل الدهليز وَقد أغلق الْبَاب الَّذِي يصل مِنْهُ إِلَى الْأَمِير وأغلق وَرَاءه الْبَاب الآخر وقتلوه ثمَّ أخرجُوا الصّلاح من حَبسه وَهُوَ أحد الْأُمَرَاء الأكابر فَقتل أُولَئِكَ القاتلين وَكَانُوا بِهِ واثقين
قَالَ وفيهَا توفّي الْفَقِيه مهذب الدّين عبد الله بن أسعد الْموصِلِي بحمص وَكَانَ الْمدرس بهَا وَكَانَ عَلامَة زَمَانه فِي علمه ونسيج وَحده فِي نظمه وَقد أوردت من شعره فِي صدر الْكتاب مَا يسْتَدلّ بِهِ على فَضله وَأَنه مِمَّن عقم الدَّهْر بِمثلِهِ واشتريت كتبه بأغلى الْأَثْمَان وَلكم أخرج بحره قلائد اللُّؤْلُؤ والمرجان
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة رد السُّلْطَان قلعتي الرها وحران إِلَى مظفر الدّين كوكبوري بن زين الدّين لتوفره فِي الْخدمَة على حفظ القوانين وَظهر مِنْهُ كل مَا حقق بِهِ الِاسْتِظْهَار وَأوجب لأَمره الإمرار وَرغب فِي مصاهرة السُّلْطَان وقلده طوق الامتنان
قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد سكنت نَفسه بالْمقَام وَأَرَادَ أَن تكون حركته بعد استكمال السّكُون وَعِنْده أَوْلَاده الأصاغر وَالْملك الْعَزِيز وَالْملك(3/247)
الظَّاهِر بِدِمَشْق وَالْأَفْضَل بِمصْر فَلَمَّا ورد نعي الخاتون وناصر الدّين وخلا شبله أَسد الدّين بعده فِي العرين وَخيف على بِلَاده لصِغَر أَوْلَاده واحتيج أَيْضا إِلَى الِاحْتِيَاط على مَا فِي خزائنه واستخراج دفائنه وَكَذَلِكَ الخاتون خلفت أملاكا وتراثا وأوقافا وأمتعة وأثاثا لم يكن من الْحَرَكَة بُد وَقدم الْكتب إِلَى الْبِلَاد بِمَا صمم عَلَيْهِ عزمه وأجرى بِهِ حكمه وَأمر بالاستعداد لترقب الاستدعاء ووصاهم فِي سَائِر الْمَقَاصِد والأنحاء
وَكتب إِلَى ولد نَاصِر الدّين قد عرفنَا الْمُصَاب بوالده رَحمَه الله وَأعظم أجرنا وأجره فِيهِ وَإِن مضى لسبيله فولدنا أَسد الدّين أَحْيَاهُ الله نعم الْخلف الصَّالح وَإِن انْتقل وَالِده إِلَى دَار الْبَقَاء فَهُوَ فِي مَكَانَهُ المستقر من الْمجد والْعَلَاء والولايات والبلاد والمعاقل بَاقِيَة عَلَيْهِ مسلمة إِلَيْهِ مقررة فِي يَدَيْهِ وَمَا مضى من وَالِده رَحمَه الله إِلَّا عينه وولدنا قُرَّة الْعُيُون وَبِه اسْتِقْرَار السّكُون وَالْحَمْد لله الَّذِي جبر بِهِ كسر الْمُصَاب وألبسنا وإياه ثوب الثَّوَاب فليشرح ولدنَا صَدره وَلَا يشغل سره وَيعرف خواصه وَأَصْحَابه وولاته ونوابه بحمص والرحبة وَغَيرهمَا أَنهم باقون على عَادَتهم
وَكَانَ الْمَنْدُوب إِلَيْهِ القَاضِي نجم الدّين أَبُو البركات بن الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَلم يُفَارق الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة فِي هَذِه السّنة
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة لما كُنَّا على ميافارقين وَقد فتحناها ورد للسُّلْطَان مِثَال شرِيف إمامي ناصري بتفويض ولَايَة ماردين والحصن وَهُوَ(3/248)
حصن كيفا والعلامة الشَّرِيفَة الناصرية فِي ثَانِي سطره بالقلم الشريف النَّاصِر الله
قلت وفيهَا فِي جُمَادَى الأولى توفّي الْحَافِظ أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد الْمَدِينِيّ الْأَصْبَهَانِيّ مُحدث مَشْهُور لَهُ تصانيف كَثِيرَة
وَفِي هَذِه السّنة توفّي بِمصْر فِي شعْبَان الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو الْفَتْح أَبُو الثَّنَاء أَبُو مُحَمَّد مَحْمُود بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن المحمودي الْمَعْرُوف بِابْن الصَّابُونِي وَدفن بِسَارِيَة من القرافة ومولده بِبَغْدَاد سنة خمس مئة وجد أَبِيه لأمه شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي فِيهِ عرف بِابْن الصَّابُونِي وَكَانَ جده صحب السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه ونسبته بالمحمودي إِلَيْهِ
وَدخل ابْن الصَّابُونِي هَذَا دمشق زمن الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله وَاجْتمعَ بِهِ وَنزل إِلَى زيارته وَسَأَلَهُ الْإِقَامَة بِدِمَشْق فَذكر لَهُ أَن قَصده زِيَارَة الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِمصْر فجهزه وسيره صُحْبَة الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين سنة سَار إِلَى وَلَده بِمصْر وَصَارَ بَينه وَبَينه صُحْبَة أكيدة ومحبة عَظِيمَة بِحَيْثُ أَنه مَا كَانَ يصبر عَنهُ سَاعَة وَاحِدَة(3/249)
وَأَقْبل عَلَيْهِ
وَلما ملك وَلَده الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين رَحمَه الله مصر لم يُمكنهُ من الْعود إِلَى الشَّام ووقف عَلَيْهِ وَقفا بالديار المصرية وعَلى عقبه وَهُوَ بَاقٍ بِأَيْدِيهِم إِلَى الْآن
وقرأت بِخَط صَلَاح الدّين رَحمَه الله مَا كتبه فِي حَقه إِلَى أَخِيه الْملك الْعَادِل لما كَانَ نَائِبه بِمصْر الْأَخ الْأَجَل الْملك الْعَادِل أدام الله دولته غير خَافَ عَنهُ قَضِيَّة الْوَقْف الَّذِي أوقفهُ الْوَالِد نجم الدّين تغمده الله برحمته ورضوانه على الشَّيْخ الْفَقِيه ابْن الصَّابُونِي وَأَنه لما جرى لَهُ من الْمُخَاصمَة مَعَ الشَّيْخ الْفَقِيه نجم الدّين يَعْنِي الخبوشاني مَا جرى اقْتَضَت الْمصلحَة لتسكين الْفِتْنَة وَقطع الْكَلَام انْتِقَاله إِلَى مَوضِع غَيره لنقطع الْفِتْنَة وَالْخُصُومَة بَينهم بأمرنا إِلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْوَقْف فِي تصرفه وَتصرف من عِنْده من الْفُقَهَاء
وَالْأَخ الْأَجَل الْملك الْعَادِل يتَقَدَّم بمراعاته وَحفظ جَانِبه وتمكينه من التَّصَرُّف فِي الْوَقْف الْمشَار إِلَيْهِ وَمنع من يَعْتَرِضهُ فِيهِ بِوَجْه من وُجُوه التأويلات وحسم مَادَّة الشكوى مِنْهُ مِمَّن يتَعَدَّى عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وقرأت بِخَط الشَّيْخ عمر الملاء الْموصِلِي رَحمَه الله كتابا كتبه إِلَى ابْن الصَّابُونِي هَذَا بشيراز يطْلب مِنْهُ فِيهِ الدُّعَاء ويصف حَاله أَوله أَخُوهُ عمر بن مُحَمَّد الملاء يَقُول فِيهِ وَبعد فَالَّذِي يتطلع إِلَيْهِ من معرفَة أحوالي فجملتها خير وسلامة غارق فِي بحار النعماء ومغمور فِي هواطل الآلاء(3/250)
غير أَن أَيدي الْبلوى بِالنعَم ترفعني تَارَة إِلَى مقَام الصديقين وتضعني تَارَة أُخْرَى إِلَى مقامات المتخلفين وَمَعَ هَذَا فَطلب النجَاة لَا يفتر وَالْحَرَكَة فِي طلب الْفَوْز لَا تسكن والعمر يَنْقَضِي بالعنا والمنى وَمَا أشبه حَالي بِحَال الْقَائِل
(آمل فِي يومي إِدْرَاك المنى ... حَتَّى إِذا ولى تمنيت غَدا)
(لَا وطرا أَقْْضِي من الدُّنْيَا وَلَا ... أفعل لِلْأُخْرَى فعال السعدا)
(والعمر يمْضِي بَين هَاتين فَلَا ... ضَلَالَة خَالِصَة وَلَا هدى)
يَا أخي مَا أَخْبَرتك بأحوالي هَذِه إِلَّا رَجَاء أَن تتحرك همتك لي بالشفقة والرأفة فتدعو الله لي بقلب حَاضر منور بِنور الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة ويؤمن على دعائك من حضر من السَّادة الأخوان وَتقول اللَّهُمَّ عَبدك الضَّعِيف عمر بن مُحَمَّد الملاء يَدْعُوك وَيَقُول
(لَا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عَادَة منقطعه)
وَقد توسل بِنَا إِلَيْك نَسْأَلك أَن تبلغه آماله وَأَن تحييه حَيَاة السُّعَدَاء وَأَن تميته موت السُّعَدَاء وتحشره فِي زمرة السُّعَدَاء وَأَن تجْعَل خير عمره آخِره وَخير أَعماله خواتيمها وَخير أَيَّامه يَوْمًا يلقاك فِيهِ(3/251)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد فَرَحل السُّلْطَان إِلَى الشَّام وودع مظفر الدّين صَاحب حران من الْفُرَات ورحل صوب حلب والعادل صَاحبهَا على الْمُقدمَة وَقد هيأ أَسبَاب التكرمة فوصل حلب فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم ثمَّ رتب الْعَادِل فِي حلب نوابه وَصَحب السُّلْطَان فوصلوا حماة وفيهَا نَائِب تَقِيّ الدّين نَاصِر الدّين منكورس بن نَاصح الدّين خمارتكين وَهُوَ صَاحب بوقبيس وَقد جمع النهضة وَالْأَمَانَة
ثمَّ وصل السُّلْطَان إِلَى حمص وَقرر أَمر الْمُجَاهِد أَسد الدّين أبي الْحَارِث شيركوه بن نَاصِر الدّين وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك ثَلَاث عشرَة سنة سَمَّاهُ أَبوهُ باسم جده ولقبه بلقبه وَكتب لَهُ منشورا بِمَا قرر عَلَيْهِ من الْبِلَاد وَذَلِكَ حمص وسلمية وتدمر ووادي بني حُصَيْن والرحبة وزلبيا
وَكتب منشورا آخر بِإِسْقَاط المكوس بالرحبة وَفِيه وَهَذَا دأب السُّلْطَان فِي جَمِيع الْبِلَاد اقْتصر مِنْهَا على الرسوم الَّتِي يبيحها الشَّرْع وَهِي الْخراج والأجور وَالزَّرْع
وَاعْتمد على الْأَمِير الْحَاجِب بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن شروه الهكاري فِي ولَايَة قلعة حمص ثمَّ نَقله إِلَى قلعة حلب فَبَقيَ واليا بهَا سِتّ سِنِين ورتبه الْعَزِيز فِي آخر عهد السُّلْطَان بقوص
قَالَ ورتب السُّلْطَان مَعَ أَسد الدّين بحمص أَمِيرا من الأَسدِية يعرف بأرسلان بوغا فقدمه على أَصْحَابه بتولي مصَالح بَابه حَتَّى تفرد الْأسد(3/252)
بِالْأَمر لسداده وَبلغ مدى رشاده ونعت بِالْملكِ الْمُجَاهِد ونهض بمحامل المحامد
قَالَ وأقمنا بحمص حَتَّى استعرضنا خَزَائِن نَاصِر الدّين وَقَسمنَا مِيرَاثه وَكَانَت أُخْت السُّلْطَان الحسامية زَوْجَة نَاصِر الدّين وَهِي مُسْتَحقَّة الثّمن وَالْبَاقِي بَين الْبِنْت وَالِابْن وَخلف عينا وورقا مجتمعا ومفترقا ومبلغ التراث فِي الْملك وَالْعين والأثاث عظم أَن يقدر بِمِقْدَار وأناف على ألف ألف دِينَار فَمَا أَعَارَهُ السُّلْطَان طرفه بل تَركه على أهل التَّرِكَة
قَالَ وَلما شاع بِدِمَشْق خبر دنونا احتفل أَهلهَا وَاجْتمعَ بالمسار شملها وطلعت أعيانها ونبعت عيونها ووافت أبكارها وعونها وَظهر مكنونها ومخزونها وترامت إِلَيْنَا ثمراتها ومكرماتها سهولها وحزونها ودخلنا الْمَدِينَة وزينة الدُّنْيَا خَارِجَة وسكينة النعمى فارجة ودمشق كالهدي مزفوفة وبالهدى محفوفة وبالحسن مَوْصُوفَة
وَكَانَ النَّاس قد ساءهم خبر الْمَرَض فسرهم عيان السَّلامَة وأسهرهم الْهم للإشفاق فراجعوا للشفاء كرى الْكَرَامَة وَمَا ألذ الرَّجَاء بعد الإبلاس والثراء غب الإفلاس والأمل عقيب الياس وَأَنَّهُمْ ظفروا فِي حَالَة الإيحاش بالإيناس وأمنوا بمشاهدة الْأَنْوَار السُّلْطَانِيَّة حنادس الوسواس
وَاجْتمعَ السُّلْطَان فِي القلعة بأَهْله وأقلع المرجف عَن جَهله وَحسنت الْأَحْوَال وَأمنت الْأَهْوَال وشاهدنا الْفضل وَالْكَرم بِالْمُشَاهَدَةِ الْفَاضِلِيَّةِ الْكَرِيمَة وعدنا إِلَى(3/253)
عَادَة السَّعَادَة الْقَدِيمَة وَاجْتمعَ السُّلْطَان بِهِ فبثه أسراره واستزال بصفو رَأْيه أكداره وَدخل جنته وجنى ثماره وزاره مرّة واستزاره وراجعه فِي مصَالح دولته واستشاره وَجلسَ السُّلْطَان فِي دَار الْعدْل لكشف الْمَظَالِم وَبث المكارم وإحياء المعالم وَإِقَامَة مواسم المراسم
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما وجد السُّلْطَان نشاطا من مَرضه رَحل يطْلب جِهَة حلب وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم الْأَحَد رَابِع عشر الْمحرم وَكَانَ يَوْمًا مشهودا لشدَّة فَرح النَّاس بعافيته ولقائه فَأَقَامَ بهَا أَرْبَعَة أَيَّام ثمَّ رَحل فِي ثامن عشره نَحْو دمشق فَلَقِيَهُ أَسد الدّين شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بتل السُّلْطَان وَمَعَهُ أُخْته وَقد صَحبه خدمَة عَظِيمَة وَقرب زَائِدَة وَمن عَلَيْهِ بحمص وَأقَام أَيَّامًا يعْتَبر تَرِكَة أَبِيه ثمَّ سَار يطْلب جِهَة دمشق وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا فِي ثَانِي ربيع الأول وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فَرحا وسرورا
فصل فِي ذكر مَا استأنفه السُّلْطَان بِمصْر وَالشَّام من نقل الولايات بَين أَوْلَاده
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لملازمة أَخِيه الْعَادِل لَهُ قد مَال إِلَى رَأْيه(3/254)
وَكَانَ الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بِمصْر وَهُوَ وَلَده الْأَكْبَر وَقد بَدَأَ يظْهر وعَلى تجويد الْخط وَالْأَدب وَسَمَاع الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة يتوفر وَقد مَالَتْ إِلَيْهِ بِمصْر جمَاعَة وَله مِنْهُم طَاعَة وَرُبمَا نقم تَقِيّ الدّين النَّائِب هُنَاكَ من أحد أمرا فَوَقَعت مِنْهُ فِيهِ شَفَاعَة فَكتب يشكو من اختلال أمره واشتغال سره وَكَانَ فِي نفس السُّلْطَان أَن ينْقل وَلَده الْملك الْعَزِيز عُثْمَان إِلَى مصر ليَكُون عزيزها وليحرز مملكتها ويحوزها وَهُوَ مفكر فِي طَرِيق تَدْبيره وَوجه تَقْرِيره حَتَّى بدا لَهُ نقل الْأَفْضَل إِلَى الشَّام فَكتب إِلَيْهِ يتشوقه ويستدعيه بِجَمِيعِ أَهله وجماعته ووالدته وحشمه وَأَصْحَابه فَخرج وَوصل دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وَخرج السُّلْطَان لاستقباله وأنزله بالقلعة فِي دَار رضوَان وَكتب إِلَى تَقِيّ الدّين أَنه قد اسْتَقل أمره وَزَالَ عذره
فابتهج بتفرده وخفي عَنهُ أَنه كَانَ فِي ذمَّة ولد السُّلْطَان وعصمته وَأَن تَمام حرمته بحرمته
قَالَ وَلما وصلنا إِلَى دمشق كَانَ بهَا من أَوْلَاد السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر غَازِي غياث الدّين فزاره عَمه الْعَادِل وَهُوَ صهره وَقد اشْتَدَّ بمصاهرته ظَهره فَقَالَ لَهُ قد نزلت عَن حلب لَك وَأَنا قَانِع من أخي بإقطاع أَيْن كَانَ وألزم الْخدمَة وَلَا أُفَارِق السُّلْطَان فاطلبها من أَبِيك إِن كَانَت ترضيك
وَجَاء إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ هَذِه حلب مَعَ رغبتي فِيهَا ومحبتي لتوليها أرى أَن أحد أولادك بهَا أَحَق وَهَذَا ولدنَا الْملك الظَّاهِر أحب أَن أوثره بهَا
فَقَالَ السُّلْطَان المهم الْآن تَدْبِير أَمر وَلَدي الْملك الْعَزِيز فَإِن مصر لَا بُد أَن يكون لي بهَا ولد أعْتَمد عَلَيْهِ وَأسْندَ ملكهَا إِلَيْهِ
ورحل إِلَى الزَّرْقَاء(3/255)
وَمَعَهُ ولداه الْعَزِيز وَالظَّاهِر وَأَخُوهُ الْعَادِل فالتمس الْعَادِل عوض حلب بلادا عينهَا ونواحي بِمصْر بَينهَا
وَكَانَ قد مَال الْملك الْعَزِيز إِلَيْهِ لإشفاقه عَلَيْهِ فَسَأَلَ أَبَاهُ أَن يسير مَعَه الْعَادِل فَإِنَّهُ نعم الْكَافِي الكافل فَأعْطَاهُ السُّلْطَان بِمصْر الْبِلَاد الْمَعْرُوفَة بالشرقية وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي نيابته فِي سَائِر الممالك المصرية
وَلما سمع تَقِيّ الدّين هَذَا الْخَبَر نبا وَنَفر وذم الْغَيْر واستبدل من الصفو الكدر وغار من تغير الرَّأْي فِيهِ وَإِذا تولى أَبُو بكر فَلَا عمر
فَعبر إِلَى الجيزة مظْهرا أَنه يمْضِي إِلَى بِلَاد الْمغرب ليملكها وَكتب وَسَأَلَ السُّلْطَان أَن لَا يمنعهُ من سلوك مسلكها وسمت همته إِلَى مملكة جَدِيدَة وأقاليم ذَات ظلال مديدة وبلاد وَاسِعَة ومدن شاسعة
وَقد كَانَ أحد مماليكه الْمَعْرُوف بقراقوش قد جمع من قبل الجيوش وَسَار إِلَى بِلَاد برقة فملكها وهدته الأمنية إِلَى النفائس من بِلَاد نفوسة فأدركها وَتجَاوز إِلَى إفريقية وَهُوَ يكْتب أبدا إِلَى مَالِكه الْملك المظفر يرغبه فِي تِلْكَ المملكة وَيَقُول إِن الْبِلَاد سائبة
فَلَمَّا تجدّد لتقي الدّين مَا تجدّد وتمهد لِعَمِّهِ الْعَادِل مَا تمهد عَاد لَهُ ذكر الْمغرب فَعبر بعسكره ومالت إِلَيْهِ عَسَاكِر مصر لبذله وَقدم مَمْلُوكه يوزبا فِي الْمُقدمَة
فَلَمَّا انْتهى إِلَى السُّلْطَان خبر عزمه قَالَ لعمري إِن فتح الْمغرب مُهِمّ لَكِن فتح الْبَيْت الْمُقَدّس أهم والفائدة بِهِ أتم والمصلحة مِنْهُ أخص وأعم وَإِذا توجه تَقِيّ الدّين واستصحب مَعَه رجالنا الْمَعْرُوفَة ذهب الْعُمر(3/256)
فِي اقتناء الرِّجَال وَإِذا فتحنا الْقُدس والساحل طوينا إِلَى تِلْكَ الممالك المراحل
وَعلم لجاج تَقِيّ الدّين فِي ركُوب تِلْكَ اللجة فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ وجهز وَلَده الْعَزِيز إِلَى مصر وَقرر لَهُ قوص وأعمالها وَسَار وَمَعَهُ عَمه الْعَادِل فدخلا الْقَاهِرَة فِي خَامِس شهر رَمَضَان
وَأما الْملك الظَّاهِر فسيره السُّلْطَان إِلَى حلب وأنعم عَلَيْهِ بهَا وبسائر قلاعها وأقاليمها وَندب مَعَه الْحَاجِب شُجَاع الدّين عِيسَى بن بلاشو وَعَاد السُّلْطَان وَمَعَهُ الْأَفْضَل
وَقدم تَقِيّ الدّين فِي آخر شعْبَان وتلقاه السُّلْطَان وخيم على الْمصْرِيّ فَوق قصر أم حَكِيم فَلَمَّا قرب ركب إِلَى موكبه ورحب بِهِ وَدخل دمشق وَعَاد إِلَى مَا كَانَ لَهُ من الْبِلَاد حماة ومنبج والمعرة وَسَائِر أَعمالهَا ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ ميافارقين وَجَمِيع مَا فِي ذَلِك الإقليم من المعاقل وَكتب إِلَى مصر باستدعاء رِجَاله وإعلامهم بِتَأْخِير عزم الْمغرب بل إِبْطَاله
فامتثلوا الْأَمر وفارقوا إِلَى الشَّام مصر سوى مَمْلُوكه زين الدّين يوزبا فَإِنَّهُ رتب لَهُ عسكرا إِلَى الْمغرب فَمضى واستصحبه وَغلب على بِلَاد إفريقية ثمَّ قَصده صَاحب الْمغرب فَأَخذه مأسورا ثمَّ أغزاه مَعَ الغز فِي ثغر من الثغور فألفاه مَشْهُورا مشكورا فقدمه عَلَيْهِم(3/257)
قلت وَكتب الْفَاضِل إِلَى تَقِيّ الدّين سَبَب هَذِه الْخدمَة مَا اتَّصل بالمملوك من تردد رسائل مَوْلَانَا فِي التمَاس السّفر إِلَى الْمغرب والدستور إِلَيْهِ
(يَكْفِي الزَّمَان فمالنا نستعجل ... )
يَا مَوْلَانَا مَا هَذَا الْوَاقِع الَّذِي وَقع وَمَا هَذَا الْغَرِيم من الْهم الَّذِي مَا انْدفع بالْأَمْس مَا كَانَ لكم من الدُّنْيَا إِلَّا الْبلْغَة وَالْيَوْم قد وهب الله هَذِه النِّعْمَة وَقد كَانَ الشمل مجموعا والهم مَقْطُوعًا مَمْنُوعًا أفتصبح الْآن الدُّنْيَا ضيقَة علينا وَقد وسعت والأسباب بِنَا مَقْطُوعَة وَلَا وَالله مَا انْقَطَعت يَا مَوْلَانَا إِلَى أَيْن وَمَا الْغَايَة وَهل نَحن فِي ضائقة من عَيْش أَو فِي قلَّة من عدد أَو فِي عدم من بِلَاد أَو فِي شكوى من عدم كَيفَ نَخْتَار على الله وَقد اخْتَار لنا وَكَيف ندبر لأنفسنا وَهُوَ دبر لنا وَكَيف ننتجع الجدب وَنحن فِي دَار الخصب وَكَيف نعدل إِلَى حَرْب الْإِسْلَام الْمنْهِي عَنْهَا وَنحن فِي الْمَدْعُو إِلَيْهَا من حزب أهل الْحَرْب معاشر الخدام والجلساء وأرباب الْعُقُول والآراء {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد}
(تعقب الرَّأْي وَانْظُر فِي أواخره ... فطالما اتهمت قدما أَوَائِله)
لَا زَالَ مَوْلَانَا يمْضِي الآراء صائبة ويلحظها بادية وعاقبة وَلَا خلت مِنْهُ دَار إِن خلت فهيهات أَن تعمر وَلَا عدمته أَيَّام إِن لم تطلع فِيهَا شمس وَجهه دخلت فِي عداد اللَّيَالِي فَلم تذكر(3/258)
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي سَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وصل الْملك الْأَفْضَل إِلَى دمشق وَلم يكن رأى الشَّام قبل ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان رأى رواح الْملك الْعَادِل إِلَى مصر فَإِنَّهُ كَانَ آنس بأحوالها من الْملك المظفر فَمَا زَالَ يفاوضه فِي ذَلِك وَهُوَ على حران مَرِيض وَحصل ذَلِك فِي نفس الْعَادِل فَإِنَّهُ كَانَ يحب الديار المصرية
فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق وَمن الله بعافيته سير يطْلب الْعَادِل إِلَى دمشق فَخرج من حلب جَرِيدَة وَأقَام بِدِمَشْق فِي خدمَة السُّلْطَان يجْرِي بَينهمَا أَحَادِيث ومراجعات فِي قَوَاعِد تقرر إِلَى جُمَادَى الْآخِرَة فاستقر عود الْعَادِل إِلَى مصر وَيسلم بِلَاد حلب إِلَى الْملك الظَّاهِر وَسلم السُّلْطَان إِلَيْهِ وَلَده الْملك الْعَزِيز وَجعله أتابكه
قَالَ وَلَقَد قَالَ لي الْملك الْعَادِل لما اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْقَاعِدَة اجْتمعت بِخِدْمَة الْملك الْعَزِيز وَالْملك الظَّاهِر وَجَلَست بَينهمَا وَقلت للعزيز اعْلَم يَا مولَايَ أَن السُّلْطَان قد أَمرنِي أَن أَسِير فِي خدمتك إِلَى مصر وَأَنا أعلم أَن المفسدين كثير وَغدا فَمَا يَخْلُو مِمَّن يَقُول عني مَا لَا يجوز ويخوفك مني فَإِن كَانَ لَك عزم تسمع فَقل لي حَتَّى لَا أجيء
فَقَالَ لَا أسمع وَكَيف يكون ذَلِك ثمَّ الْتفت وَقلت للْملك الظَّاهِر أَنا أعرف أَن أَخَاك رُبمَا سمع فِي أَقْوَال المفسدين وَأَنا فَمَالِي إِلَّا أَنْت وَقد قنعت مِنْك بمنبج مَتى ضَاقَ صَدْرِي من جَانِبه
فَقَالَ مبارك
وَذكر كل خير
ثمَّ إِن السُّلْطَان سير وَلَده الظَّاهِر إِلَى حلب وأعادها إِلَيْهِ وَكَانَ رَحمَه الله يعلم أَن حلب هِيَ أصل الْملك وجرثومته وقاعدته وَلِهَذَا دَاب(3/259)
فِي طلبَهَا ذَلِك الدأب وَلما حصلت أعرض عَمَّا عَداهَا من بِلَاد الشرق وقنع مِنْهُم بِالطَّاعَةِ والمعونة على الْجِهَاد فسلمها إِلَيْهِ علما مِنْهُ بحذاقته وحزمه وَحفظه فَسَار إِلَيْهَا حَتَّى أَتَى الْعين الْمُبَارَكَة وسير فِي خدمته شحنة حسام الدّين بِشَارَة وواليا شُجَاع الدّين عِيسَى بن بلاشو وَنزل يَوْم الْجُمُعَة بِالْعينِ الْمُبَارَكَة وَخرج النَّاس إِلَى لِقَائِه بكرَة يَوْم السبت تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وَصعد القلعة ضاحي نَهَاره وَفَرح النَّاس بِهِ فَرحا شَدِيدا وَمد على النَّاس جنَاح عدله وأفاض عَلَيْهِم وابل فَضله
وَأما الْملك الْعَزِيز والعادل فَإِن السُّلْطَان قرر حَالهمَا وَكتب إِلَى الْملك المظفر يُخبرهُ بمسيرهما إِلَى مصر ويأمره بالوصول إِلَى الشَّام
فشق ذَلِك عَلَيْهِ حَتَّى ظهر للنَّاس وعزم على الْمسير إِلَى ديار الغرب إِلَى برقة فقبح ذَلِك عَلَيْهِ جمَاعَة من أكَابِر الدولة وعرفوه أَن عَمه السُّلْطَان يخرج من يَده فِي الْحَال وَالله يعلم مَا يكون مِنْهُ بعد ذَلِك فَرَأى الْحق يعين البصيرة وَأجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَسلم الْبِلَاد ورحل واصلا إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَسَار السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه فَلَقِيَهُ بمرج الصفر وَفَرح بوصوله فَرحا شَدِيدا وَذَلِكَ فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان وَأَعْطَاهُ حماة وَسَار إِلَيْهَا وَكَانَ عقد بَين الظَّاهِر وَبَعض بَنَات الْعَادِل عقد نِكَاح فتمم ذَلِك وَدخل بهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان وَدخل الْملك الْأَفْضَل على زَوجته بنت نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فِي شَوَّال من هَذِه السّنة
وَمن كتاب فاضلي إِلَى السُّلْطَان الْملك الْعَادِل وَالْملك المظفر(3/260)
الْمَذْكُورَان مَا هما أَخ وَلَا ابْن أَخ بل هما ولدان لَا يعرفان إِلَّا الْمولى والدا ومنعما وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ عش كثير الْفِرَاخ وَبَيت كرقعة الشطرنج فِيهِ صغَار وكبار كالبياذق والرخاخ فَلَا يقنع كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا طرف يملكهُ وإقليم ينْفَرد بِهِ فيدبر مَوْلَانَا فِي ذَلِك بِمَا يَقْتَضِيهِ صَدره الْوَاسِع وجوده الَّذِي مَا نظر مثله النَّاظر وَلَا سمع السَّامع وَلَا ينس قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مرو الْقَرَابَة أَن يتزاوروا وَلَا يتجاوروا
وَمَا على مَوْلَانَا عجلة فِي تَدْبِير يدبره وَلَا فِي أَمر يبته
وستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت عَارِفًا وَفِي غَد مَا لَيْسَ فِي الْيَوْم وَللَّه أقدار وَلها أمد وَقد رزق الله مَوْلَانَا ذُرِّيَّة تود لَو قدمت أَنْفسهَا بَين يَدَيْهِ وَلَو اكتحلت أجفانها بغبار قَدَمَيْهِ مَا فِيهَا من يشتكى مِنْهُ إِلَّا التزيد فِي الطّلب وَهُوَ من بَاب الثِّقَة بكرم الْمُنعم وَلَهُم أَوْلَاد وَالْمولى مد الآمال لَهُم كَمَا قَالَ مولى الْأمة لَهَا تناكحوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم طالما قَالَ لَهُم الْمولى لدوا وَعلي تجهيز الْإِنَاث وغنى الذُّكُور وَسَوَاء على أفق هَذَا الْبَيْت طُلُوع الشموس والبدور
قَالَ الْعِمَاد ومدحت تَقِيّ الدّين بقصيدة سينية سنية قطوفها دانية جنية تشْتَمل على مئة وَأَرْبَعين بَيْتا أنشدته إِيَّاهَا فِي ثَالِث شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة بِدِمَشْق وأوردت بَعْضهَا ومطلعها(3/261)
(عَفا الله عَن ذَوي الشوق نفسوا ... فقد تلفت منا قُلُوب وأنفس)
وَمِنْهَا
(ألم تعلمُوا أَنِّي من الشوق مُوسر ... ألم تعلمُوا أَنِّي من الصَّبْر مُفلس)
(ظننتم بعيني أَنَّهَا تألف الْكرَى ... فَهَلا بعثتم طيفكم يتجسس)
(وَلَيْسَ لقلبي فِي السرُور تصرف ... فقلبي على الأحزان وقف محبس) وَمِنْهَا
(لفتك محبيه تيقظ طرفه ... وتحسبه من سقم عَيْنَيْهِ يَنْعس)
(لَهُ نَاظر عِنْد الْخلاف مناظر ... يَقُول دَلِيل الدل عِنْدِي أَقيس)
(إِذا درست ألحاظه السحر أَصبَحت ... رسوم اصْطِبَارِي حِين تدرس تدرس)
(وَلم أنس أنسي بالحمى رعي الْحمى ... عَشِيَّة لي مجنى ومجلى ومجلس)
(لحا الله أَبنَاء الزَّمَان فكلهم ... صَحِيفَته أودى بهَا المتلمس)
(وَلَوْلَا ابتسامات المظفر بالندى ... لما راق نَفسِي صبحه المتنفس)
(جلت شمس لقيَاهُ الحنادس بَعْدَمَا ... عرتنا وَهل يبْقى مَعَ الشَّمْس حندس)
(وَصَارَ بِهِ هَذَا الزَّمَان جَمِيعه ... نَهَارا فَمَا للنَّاس ليل معسعس)
(إِذا صال فالمغلول ألف مدرع ... وَإِن جاد فالمبذول ألف مكيس)
(وَلَيْسَ بمغبون على فضل رَأْيه ... ويغبن فِي الْأَمْوَال مِنْهُ ويبخس)
(إِذا أطلق الْملك المظفر فِي الوغى ... أعنته فالشمس بالنقع تحبس)
(فدَاك مُلُوك لَا يلبون دَاعيا ... وَكلهمْ عَن دَعْوَة الْحق يخنس)(3/262)
(تشكى إِلَيْك الغرب جور ملوكه ... فأشكيته والجور بِالْعَدْلِ يعكس)
(سيهدى إِلَى المهدية النَّصْر وَالْهدى ... بهديكم فِيهَا وتونس تؤنس)
(رددت كراديس الفرنج وَكلهمْ ... لَدَى الْأسر فِي غل الصغار مكردس)
(وبيضت وَجه الدّين يَوْم لقيتهم ... وأبيضكم من أسود الْقصر أشوس)
(أَفَادَ دم الأنجاس طهر سُيُوفكُمْ ... وَمَا تستفيد الطُّهْر لَوْلَا التنجس)
(شموس ظبى تَغْدُو لَهَا الْهَام سجدا ... فَللَّه نَصْرَانِيَّة تتمجس)
(وَكم كفي الْإِسْلَام سوءا بملككم ... كفيتم على رغم المعادين كل سو)
(وَلَا يفتح الْبَيْت الْمُقَدّس غَيْركُمْ ... وبيتكم من كل عَابَ مقدس)
(لَهُم كل يَوْم فِي جِهَاد مثلث ... إِذا نصروا التَّوْحِيد فَيْء مخمس)
(إِذا مَا تَقِيّ الدّين صال تساقطت ... لأقدامه من عصبَة الشّرك أرؤس)
(وَمَا عمر إِلَّا شَبيه سميه ... شَدِيد على اللأواء ثَبت عمرس)
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد كَانَ المنجمون فِي جَمِيع الْبِلَاد يحكمون بخراب الْعَالم فِي هَذِه السّنة فِي شعْبَان عِنْد اجْتِمَاع الْكَوَاكِب السِّتَّة فِي الْمِيزَان بطوفان الرّيح فِي سَائِر الْبلدَانِ وخوفوا من ذَلِك من لَا وثوق لَهُ بِالْيَقِينِ وَلَا إحكام لَهُ فِي الدّين من مُلُوك الْأَعَاجِم وَالروم وأشعروهم من تأثيرات النُّجُوم فشرعوا فِي حفر مغارات فِي التخوم وتعميق بيُوت فِي الأسراب(3/263)
وتوثيقها وسد منافسها على الرّيح وَقطع طريقها ونقلوا إِلَيْهَا المَاء والأزواد وانتقلوا إِلَيْهَا وَانْتَظرُوا الميعاد وَكلما سمعنَا بأخبارهم استغربنا فِي الضحك من عُقُولهمْ وسلطاننا متنمر من أباطيل المنجمين موقن أَن قَوْلهم مَبْنِيّ على الْكَذِب والتخمين فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي عينهَا المنجمون لمثل ريح عَاد وَقد شارفنا الميعاد وَنحن جُلُوس عِنْد السُّلْطَان فِي فضاء وَاسع وناد للشموع الزاهرات جَامع وَمَا يَتَحَرَّك لنا نسيم وَلَا لسرح الْهَوَاء فِي رعي منابت الْأَنْوَار مسيم وَمَا رَأينَا لَيْلَة مثلهَا فِي ركودها وركونها وهدوها وهدونها
قَالَ ابْن القادسي وَحكم أَصْحَاب النُّجُوم أَن فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة تقترن الْكَوَاكِب السيارة الْخَمْسَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي برج الْمِيزَان ويؤثر ذَلِك هَوَاء عَظِيما وخيما سموميا
وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين تهْلك الْبِلَاد وَيحمل الرمل ونسبوا ذَلِك إِلَى الخازمي وَقَالُوا يكون أَشد ذَلِك من لَيْلَة الثُّلَاثَاء إِلَى نصف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فاستعد لذَلِك أَقوام فِي الْبِلَاد وجمعوا الكعك وحفروا السراديب فَأهل رَجَب وَمَا جرى مِمَّا قَالُوا شَيْء فخزي أهل التنجيم لذَلِك وَلم يهب فِي ذَلِك الْيَوْم هَوَاء الْبَتَّةَ وَكَانَ الزَّمَان حارا وَاشْتَدَّ الْحر(3/264)
فِي ذَلِك الْيَوْم وَبعده وَلم يظْهر مِمَّا قَالُوا شَيْء
وَعمل الشُّعَرَاء فِي ذَلِك شعرًا يزرون عَلَيْهِم فِي حكمهم مِنْهُم أَبُو الْغَنَائِم مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمعلم الهرثي وفخر الدّين عِيسَى بن مودود دزدار قلعة تكريت وَأَبُو الْفَتْح سبط ابْن التعاويذي
قَالَ أَبُو الْغَنَائِم بن الْمعلم
(قل لأبي الْفضل قَول معترف ... مضى جُمَادَى وجاءنا رَجَب)
(وَمَا جرت زعزعا كَمَا حكمُوا ... وَلَا بدا كَوْكَب لَهُ ذَنْب)
(كلا وَلَا أظلمت ذكاء وَلَا ... أبدت أَذَى فِي قرانها الشهب)
(يقْضِي عَلَيْهَا من لَيْسَ يعلم مَا ... يقْضى عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْعجب)
(فارم بتقويمك الْفُرَات والإصطرلاب ... خير من صفره الْخشب)
(قد بَان كذب المنجمين وَفِي ... أَي مقَال قَالُوا فَمَا كذبُوا)
(مُدبر الْأَمر وَاحِد لَيْسَ للسبعة ... فِي كل حَادث سَبَب)
(لَا المُشْتَرِي سَالم وَلَا زحل ... بَاقٍ وَلَا زهرَة وَلَا قطب)
(تبَارك الله حصحص الْحق وانجاب ... التَّمَادِي وزالت الريب)(3/265)
(فليبطل المدعون مَا وضعُوا ... فِي كتبهمْ ولتخرق الْكتب)
وَقَالَ عِيسَى بن مودود
(مزق التَّقْوِيم والزيج ... فقد بَان الخفاء)
(إِنَّمَا التَّقْوِيم والزيج ... هباء وهواء)
(قلت للسبعة إبرام ... وَمنع وَعَطَاء)
(وَمَتى ينزلن فِي الْمِيزَان ... يستولي الْهَوَاء)
(وتثير الرمل حَتَّى ... يمتلي مِنْهُ الفضاء)
(ويعم الأَرْض خسف ... وخراب وبلاء)
(وَيصير القاع كالقف ... وكالطود العراء)
(وحكمتم فَأبى الْحَاكِم ... إِلَّا مَا يَشَاء)
(مَا أَتَى الشَّرْع وَلَا جَاءَت ... بِهَذَا الْأَنْبِيَاء)
(فبقيتم ضحكة تضحك ... مِنْهَا الْعلمَاء)
(حسبكم خزيا وعارا ... مَا يَقُول الشُّعَرَاء)
(ثمَّ مَا أطمعكم فِي الحكم ... إِلَّا الْأُمَرَاء)
(لَيْت إِذْ لم يحسنوا فِي الدّين ... ظنا مَا أساؤوا)
(فعلى اصطرلاب بطليموس ... والزيج العفاء)
(وَعَلِيهِ الخزي مَا جَادَتْ ... على الأَرْض السَّمَاء)
وَلم يذكر شعر سبط ابْن التعاويذي(3/266)
قَالَ وَفِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن بري بن عبد الْجَبَّار النَّحْوِيّ وَكَانَ آيَة فِي النَّحْو ثِقَة عَالما صَالحا وَكَانَ مبلدا فِي أَمر دُنْيَاهُ حدث عَن ابْن الْحطاب ومرشد أبي صَادِق وَغَيرهمَا(3/267)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة جَاءَ نعي أتابك شمس الدّين مُحَمَّد بن أتابك الدكز الْمَعْرُوف بالبهلوان وَهُوَ الَّذِي كَانَ نزل على خلاط فِي الْعَام الْمَاضِي وَكَانَت حَيَاته مُتَّصِلَة الْجد والجدا واضطربت من بعده تِلْكَ الممالك واحتربت أصفهان وَإِلَى الْيَوْم من سنة أَربع وَتِسْعين مَا وضعت أَوزَارهَا وَتَوَلَّى بعده أَخُوهُ قزل أرسلان فأزال مهابة الْملك السلجقي وسلك السعيد نهج الشقي إِلَى أَن ذهب فاتضع الْملك وَانْقطع السلك واتسع الهلك وطمعت خُرَاسَان فِي الْعرَاق وعدمت الْإِفَاقَة من الْآفَاق وأظلمت مطالع الْإِشْرَاق
قَالَ واشتغل السُّلْطَان فِي بَقِيَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بِدِمَشْق بالصيد والقنص والانتهاز فِيهِ لبوادر الفرص وَكَانَ يركب إِلَى تل راهط للصَّيْد بالبزاة والشواهين مَعَ مماليكه الْخَواص الميامين وَله شاهين بحري كَأَنَّهُ بَحر إِذا حلق فشرار وَإِن أحرق فجمر فكم صَاد ليوسف يعقوبا وعقر بإنجاز وعد صَيْده عرقوبا فطلبته من السُّلْطَان فَقَالَ أَنْت للقلم والدواوين فَمَا لَك وللبزاة والشواهين فَقلت يكون فِي ملكي وكل مَا يقنصه يَأْمر لي(3/268)
بِهِ الْمولى وَهَذَا أربح لي وأنفع وَأولى
فَقَالَ نعم
فَلَمَّا أصبح سير لي سبع عشرَة قِطْعَة من طير وحجل وَقَالَ هَذَا صيد شاهينك فِي طلق وَاحِد على عجل
فملكت ذَلِك الشاهين خمس سِتّ سِنِين وَالسُّلْطَان يصطاد بِهِ ولي قنصه لَهُ مطلعه ولي مخلصه فَمَا زَالَ لي على هَذَا الْحق محافظا ولهذه النُّكْتَة ملاحظا إِلَى أَن أودى الْجَارِح وانقطعت تِلْكَ المنايح فيالله دره من سُلْطَان لم ينس ذكر هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي أعَاد مزحها جدا واعتده لي حَقًا معدا فدون حَقه على مثله أَن يؤسف وَمن حَقنا بعده أَن نتلو {يَا أسفى على يُوسُف}
قَالَ وَلما دخل شهر رَمَضَان نوع أَقسَام الإنعام وَاتفقَ أَن بعض التُّجَّار كَانَت بضاعته بقايير رفيعة وَمَا لَهَا نفاق وَهِي أَكثر من مئة قِطْعَة فحملها إِلَى الخزانة السُّلْطَانِيَّة فِي بضاعات وَقَالَ خذوها واكتبوا لي بأثمانها فِي مصر على بعض الْجِهَات
فاشتريت مِنْهُ بِمَا كَانَ يرجوه من الرِّبْح
وَكَانَ من كرم شيم السُّلْطَان إِذا عرف فِي خزانته مَوْجُودا أَنه لَا يَسْتَطِيب تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى يفرقه جودا
فَقَالَ لي قد اجْتمعت لنا بقايير وعمائم وَقد تقاضتني بخلعها على أهل الْفضل المكارم فنبدأ بِأَهْل الدّين وَالتَّقوى ونجعل لَهُم أوفر حَظّ من الجدوى
وَكَانَ فِي الوافدين وَمن أهل الْبَلَد وعاظ وعلماء وحفاظ فَيكون كل يَوْم بكرَة نوبَة لمن يتَكَلَّم(3/269)
على الْمِنْبَر ويذكرنا بالحلال وَالْحرَام والبعث والمحشر ثمَّ يخلع عَلَيْهِم وعَلى الْقُرَّاء
فاشتغل مُدَّة أسبوعين بالمواعظ وَوضع الْمِنْبَر فِي إيوَان القلعة فَقلت بَقِي إِحْضَار الْفُقَهَاء فِي الْمدَّة الْبَاقِيَة من الشَّهْر فَقَالَ إِنَّهُم يُفْضِي بهم الْخلاف إِلَى التشاحن والتضاغن
فَقلت أَنا أضمنهم وَلَا يحضر إِلَّا أوقرهم وأوزنهم
فاستدل أول يَوْم برهَان الدّين مَسْعُود مدرس الْحَنَفِيَّة فِي الْمدرسَة المعمورة النورية وَاعْترض عَلَيْهِ الْعِمَاد الْكَاتِب وَفِي الْيَوْم الثَّانِي اسْتدلَّ أكبر مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة بدر الدّين عَسْكَر وَاعْترض عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين بن الزكي فَكَانَ السُّلْطَان يجلس فِي كل يَوْم لطائفة فَلَمَّا دنا الْعِيد أَمر بابتياع العمائم وَغَيرهَا وصرفها إِلَيْهِم
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي شهر ربيع الأول من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَقعت وقعات كَثِيرَة بَين التركمان والأكراد بِأَرْض نَصِيبين وَغَيرهَا وَقتل من الفئتين خلق عَظِيم
وَبلغ السُّلْطَان أَن معِين الدّين بن معِين الدّين قد عصى بالراوندان فَكتب إِلَى عَسْكَر حلب أَن حاصروه
وَكَانَ نزولهم عَلَيْهِ فِي الْعشْر الأول من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأعْطى برج الرصاص لتميرك فِي(3/270)
بَقِيَّة ذَلِك الشَّهْر وَفِي ثامن جُمَادَى الأولى وصل معِين الدّين من الراوندان وَقد سلمهَا إِلَى علم الدّين سُلَيْمَان ثمَّ مضى إِلَى خدمَة السُّلْطَان
قَالَ ابْن القادسي وَقدم الْحَاج فِي عَاشر صفر فَأخْبرُوا أَن سيف الْإِسْلَام أَخا صَلَاح الدّين ملك مَكَّة وَضرب الدَّنَانِير فِيهَا باسم أَخِيه وَمنع من قَوْلهم حَيّ على خير الْعَمَل وَشرط على العبيد أَن لَا يؤذوا الْحَاج
وَأخْبر الْحَاج أَن قفل بَاب الْكَعْبَة تعسر حَتَّى فتح وَلما فتح مَاتَ فِي الدوسة أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ شخصا من بَين رجل وَامْرَأَة
قَالَ وَوصل الْخَبَر أَن ريحًا هبت بِالْبَصْرَةِ فَكسرت نخيلا كثيرا وَمَاتَتْ بهائم كَثِيرَة وَوصل الْخَبَر إِلَى بَغْدَاد بقتل البهلوان وَأَن الْقِتَال وَقع هُنَاكَ وأحرقت الْمحَال ونهبت الْأَمْوَال واقتتل أهل الْمذَاهب واحترقت مدارس وَبَقِي الْأَمر على ذَلِك من سَابِع محرم إِلَى ربيع الآخر فأحصوا من الْقَتْلَى أَرْبَعَة آلَاف رجل وَسبع عشرَة امْرَأَة بعد أَن أحترق أَطْفَال فِي المهود بِاللَّيْلِ وَقَامَ قزل أَخُو البهلوان فَكف النَّاس وَكَانَ قزل قد رتب شحنة فِي أصفهان بعد الْفِتْنَة الَّتِي وَقعت بهَا وَمَعَهُ ألف فَارس فَمَا زَالَ يهذب الْبَلَد والرساتيق بِالْقَتْلِ والصلب وصادرهم وأشير على قزل بِأَن يلْزم أهل الْبَلَد سبعين ألف دِينَار فَقَالَ لَهُ الشّحْنَة أهل الْبَلَد فُقَرَاء
فَقَالَ بعض الْمُصَالحَة لقزل مَا نَأْخُذ إِلَّا من الْأَغْنِيَاء
فَوَثَبَ عيار فَقتل المصلحي وَكَانَ الْعيار مُتَعَلقا على قَاضِي الْبَلَد فَوكل الشّحْنَة بدار القَاضِي فجَاء ابْن الخجندي إِلَى دَار القَاضِي فَحسن لَهُ إِخْرَاج الموكلين بهَا وتحالفا على إِخْرَاج الشّحْنَة من الْبَلَد وَأَن يقطعوا خطْبَة السُّلْطَان الَّذِي نَصبه قزل
فَفعل ذَلِك(3/271)
فِي سَابِع شَوَّال ثمَّ كثر الْقَتْل فِي الْبَلَد فَكل من فِي قلبه على أحد شَرّ وثب عَلَيْهِ فَقتله من رجل أَو امْرَأَة وَكَانَ الْقَتْل الْكثير فِي أَصْحَاب ابْن الخجندي وَكَانَ الْحَرِيق والنهب وإحراق الدّور فِي أَصْحَاب القَاضِي وَجرى الْقِتَال يَوْم عَرَفَة وَيَوْم الْعِيد ودام وَبَطل النَّاس من المعايش وَخَربَتْ الْأَسْوَاق وَوَقع الغلاء وَمَات النَّاس من الْجُوع وَبَقِي أهل أصفهان على قدم الْخَوْف وَأخذت ثِيَاب النَّاس فَلَا يتجاسر أحد أَن يلبس ثوبا جَدِيدا والعيارون يَأْخُذُونَ أَمْوَال النَّاس مقاواة وهرب النَّاس من أصفهان
فصل
قَالَ الْعِمَاد مِمَّا قدره الله تَعَالَى من أَسبَاب نصْرَة الْإِسْلَام ووهن الْكفْر أَن قومص طرابلس رغب فِي مصافاة السُّلْطَان والالتجاء إِلَيْهِ والمساعدة لَهُ على أهل مِلَّته بِسَبَب أَنه كَانَ تزوج بالقومصية صَاحِبَة طبرية وَكَانَ أَخُوهَا الْملك المجذوم لما هلك أوصى بِالْملكِ لِابْنِ أُخْته هَذِه وَهُوَ صَغِير فَتزَوج القومص أمه ورباه فَمَاتَ الصَّغِير وانتقل الْملك إِلَى(3/272)
أمه ثمَّ إِنَّهَا مدت عينهَا إِلَى بعض المقدمين من الغرب فتزوجته وفوضت الْملك إِلَيْهِ فشرع يطْلب حِسَاب الْبِلَاد من القومص فَوَقع الِاخْتِلَاف بَينهم لذَلِك فالتجأ القومص إِلَى ظلّ السُّلْطَان فَصَارَ لَهُ من جملَة الأتباع فَقبله السُّلْطَان وَقواهُ وَشد عضده بِإِطْلَاق من كَانَ فِي الْأسر من أَصْحَابه فَقَوِيت مناصحته للْمُسلمين حَتَّى كَاد لَوْلَا خوف أهل مِلَّته يسلم وَصَارَ بدولة السُّلْطَان وَملكه يقسم وَمَال إِلَيْهِ من الفرنج جمَاعَة وَظَهَرت لَهُ مِنْهُم للطماعية طَاعَة وَدخلت إِلَى بِلَادهمْ من جَانِبه السَّرَايَا وَخرجت بالغنائم والسبايا وَأعْطى الدنية فِي دينه بِمَا استدناه من العطايا فَصَارَ الفرنج يدْفَعُونَ شَره ويحذرون مكره فَتَارَة يدارونه وآونة يمارونه وللقومص قوم صدق يساعدونه فِي كل حق وباطل فبلي مِنْهُم أهل السَّاحِل بشغل شاغل وَهَذَا الْملك المجذوم هُوَ ابْن الْملك أماري بن فلك وَهُوَ مري الَّذِي تقدم ذكره وَتُوفِّي أماري فِي آخر سنة تسع وَسِتِّينَ سنة مَاتَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَخلف الملعون هَذَا الْوَلَد المجذوم فَبَقيَ(3/273)
بَينهم زهاء عشر سِنِين ملكا مُطَاعًا فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت أوصى لِابْنِ أُخْته بِالْملكِ
قَالَ وَكَانَ إبرنس الكرك أرناط أغدر الفرنجية وأخبثها وأفحصها عَن الردى والرداءة وأبحثها وأنقضها للمواثيق المحكمة والأيمان المبرمة وأنكثها وأحنثها وَمَعَهُ شرذمة لَهَا شَرّ ذمَّة وَهِي من شَرّ أمة وهم على طَرِيق الْحجاز وَمن نهج الْحَج على الْمجَاز وَكُنَّا فِي كل سنة نغزوه وبالبوائق نعروه ويصيبه منا الْمَكْرُوه فأظهر أَنه على الْهُدْنَة وجنح للسلم وَأخذ الْأمان لبلده وَأَهله وَقَومه وروحه وَبَقِي الْأَمْن لَهُ شَامِلًا والقفل من مصر فِي طَرِيق بَلَده متواصلا وَهُوَ يمكس الجائي والذاهب حَتَّى لاحت لَهُ فرْصَة فِي الْغدر فَقطع الطَّرِيق وأخاف السَّبِيل وَوَقع فِي قافلة ثَقيلَة مَعهَا نعم جليلة فَأَخذهَا بأسرها وَكَانَ مَعهَا جمَاعَة من الأجناد فأوقعهم فِي الشّرك وَحَملهمْ إِلَى الكرك وَأخذ خيلهم وَالْعدة وسامهم الشد والشدة فَأَرْسَلنَا إِلَيْهِ وذممنا فعاله وقبحنا احتياله واغتياله فَأبى إِلَّا الْإِصْرَار والإضرار فَنَذر السُّلْطَان دَمه ووفى فِي إِرَاقَة دَمه بِمَا الْتَزمهُ وَذَلِكَ فِي السّنة الْآتِيَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق بَقِيَّة هَذِه السّنة وَهُوَ فِي الاستعداد للْجِهَاد وَقد أرسل فِي طلب العساكر من الْبِلَاد المشرقية والمصرية فانتظمت أُمُوره على أحسن قَضِيَّة(3/274)
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بعض إخوانه كتبت هَذِه الْمُكَاتبَة من جسر الْخشب ظَاهر دمشق وَقد ورد السُّلْطَان أعز الله أنصاره للغزاة إِلَى بِلَاد الْكفْر فِي عَسْكَر فِيهِ عَسَاكِر وَفِي جمع البادي فِيهِ كَأَنَّهُ حَاضر وَفِي حشد يتَجَاوَز أَن يحصله النَّاظر إِلَى أَن لَا يحصله الخاطر وَقد نهضت بِهِ همة لَا يُرْجَى غير الله لإنهاضها ونجحت بِهِ عَزمَة الله المسؤول فِي حسم عوارض اعتراضها وَبَاعَ الله نفسا يسْتَمْتع أهل الْإِسْلَام بهيئتها وَيذْهب الله الشّرك بهيبتها وَأَرْجُو أَن يتمخض عَن زبدة تستريح الْأَيْدِي بعْدهَا عَن المخض وَأَن يكون الله قد بعث سفتجة نصْرَة الْإِسْلَام وسلطانه قد نَهَضَ للقبض
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
وَهِي سنة كسرة حطين وَفتح السَّاحِل وَالْأَرْض المقدسة للْمُسلمين
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق وَهِي السّنة الْحَسَنَة المحسنة وَالزَّمَان الَّذِي تقضت على انْتِظَار إحسانه الْأَزْمِنَة وطهر فِيهِ الْمَكَان الْمُقَدّس الَّذِي سلمت بسلامته الْأَمْكِنَة وخلصت بمنحة الله من المحنة الأَرْض المقدسة الممتحنة وَكفى الله شَرّ الشّرك وَحكم على دِمَاء الْكَفَرَة بالسفك ونصرت الدولة الناصرية وخذلت الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وانتقم التَّوْحِيد من التَّثْلِيث وشاع فِي الدُّنْيَا بمحاسن الْأَيَّام الصلاحية حسن الْأَحَادِيث(3/275)
ثمَّ ذكر فِي كتابي الْفَتْح والبرق مَا جملَته أَن قَالَ فبرز السُّلْطَان من دمشق يَوْم السبت أول الْمحرم فِي الْعَسْكَر العرمرم وَمضى بِأَهْل الْجنَّة لجهاد أهل جَهَنَّم فَلَمَّا وصل إِلَى رَأس المَاء أَمر وَلَده الْملك الْأَفْضَل بِالْإِقَامَةِ هُنَاكَ ليستدني إِلَيْهِ الْأُمَرَاء الواصلين والأملاك وَيجمع الْأَعْرَاب والأعاجم والأتراك وَسَار السُّلْطَان إِلَى بصرى وخيم على قصر السَّلامَة وَأقَام على ارتقاب اقتراب الْحجَّاج وَكَانَ فيهم حسام الدّين مُحَمَّد بن عمر بن لاجين ووالدته أُخْت السُّلْطَان مَعَ جمَاعَة من الْخَواص وَقد تقدم ذكر غدر إبرنس الكرك وَهُوَ على طريقي الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَالْحجاج
وَوصل الْحَاج فِي آخر صفر وخلا سر السُّلْطَان من شغلهمْ ثمَّ سَار وَنزل على الكرك وأخاف أَهله وَأخذ مَا كَانَ حوله ورعى زرعهم وَقطع أَشْجَارهم وكرمهم ثمَّ سَار إِلَى الشوبك وَفعل بِهِ مثل ذَلِك وَوصل عَسْكَر مصر فَتَلقاهُ بالقريتين وفرقه على أَعمال القلعتين وَأقَام على هَذِه الْحَالة فِي ذَلِك الْجَانِب شَهْرَيْن وَالْملك الْأَفْضَل وَلَده مُقيم بِرَأْس المَاء فِي جمع عَظِيم من العظماء وَعِنْده الجحافل الحافلة والحواصل الْحَاصِلَة والعساكر الكاسرة والقساور القاسرة وَهُوَ ينْتَظر أمرا من أَبِيه وَيكْتب إِلَيْهِ ويقتضيه وانقضى من السّنة شَهْرَان وَطَالَ بهم انْتِظَار السُّلْطَان فأنهض مِنْهُم سَرِيَّة سَرِيَّة وأمرها بالغارة على أَعمال طبرية ورتب على خيل الجزيرة وَمن جَاءَ من الشرق وديار بكر مظفر الدّين كوكبري صَاحب حران وعَلى عَسْكَر حلب والبلاد الشامية بدر الدّين دلدرم بن ياروق وعَلى عَسْكَر(3/276)
دمشق وبلادها صارم الدّين قايماز النجمي فَسَارُوا مدججين وسروا مدلجين وصبحوا صفورية وساء صباح الْمُنْذرين فَخرج إِلَيْهِم الفرنج فِي حشدهم فآتاهم الله النَّصْر الهني وَالظفر السّني وشفوا مِنْهُم حنين الحنايا وأدركوا فيهم منى المنايا وفازوا وظفروا وَقتلُوا وأسروا وَهلك مقدم الإسبتار وَحصل جمَاعَة من فرسانهم فِي قَبْضَة الإسار وأفلت مقدم الداوية وَله حصاص وَوَقع الْبَاقُونَ وَلم يكن لَهُم من الْهَلَاك خلاص وعادوا سَالِمين سالبين غَانِمِينَ غَالِبين فَكَانَت هَذِه النّوبَة باكورة البركات ومقدمة مَا بعْدهَا من ميامن الحركات
وجاءتنا الْبُشْرَى وَنحن فِي نواحي الكرك والشوبك فَسَار السُّلْطَان وَوصل السّير بالسرى وخيم بعشترا وَالْقدر يَقُول لَهُ تعيش وَترى
وَقد غصت بخيل الله الوهاد والذرى وامتد الْعَسْكَر فراسخ عرضا وطولا وملأ بالملأ حزونا وسهولا وَمَا رَأَيْت عسكرا أبرك مِنْهُ وَلَا أكبر وَلَا أكرث للكفر وَلَا أَكثر وَكَانَ يَوْم عرضه مذكرا بِيَوْم الْعرض وَمَا شَاهده إِلَّا من تَلا {وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَعرض الْعَسْكَر فِي اثْنَي عشر ألف مدجج فِي ليل العجاج مُدْلِج وَلما تمّ الْعرض وحم الْفَرْض وسالت بأفلاك السَّمَاء الأَرْض وَتعين الْجِهَاد وَتبين الِاجْتِهَاد ثمَّ رتب السُّلْطَان الْعَسْكَر أطلابا وَحزبه أحزابا وَسَار يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر ربيع الآخر عَازِمًا على دُخُول السَّاحِل فَأَنَاخَ لَيْلَة السبت على خسفين ثمَّ سَار فِي الْأُرْدُن إِلَى ثغر الأقحوانة وَأقَام هُنَاكَ(3/277)
خَمْسَة أَيَّام وَقد عين مَوَاقِف الْأُمَرَاء وشعارهم وأحاط ببحيرة طبرية بحره الْمُحِيط وضاق ببسائط خيامه ذَلِك الْبَسِيط
وَلما سمع الفرنج باجتماع كلمة الْإِسْلَام عَلَيْهِم وسير تِلْكَ العساكر إِلَيْهِم علمُوا أَنه قد جَاءَهُم مَا لَا عهد لَهُم بِمثلِهِ وَأَن الْإِيمَان كُله قد برز إِلَى الشّرك كُله فَاجْتمعُوا واصطلحوا وحشدوا وجمعوا وانتخوا وَدخل القومص مَعَهم بعد أَن دخل عَلَيْهِ الْملك وَرمى بِنَفسِهِ عَلَيْهِ وصفوا راياتهم بصفورية ولووا الألوية وحشدوا الْفَارِس والراجل والرامح والنابل وَرفعُوا صَلِيب الصلبوت فَاجْتمع إِلَيْهِ عباد الطاغوت وضلال الناسوت واللاهوت وَنَادَوْا فِي نوادي أهل أقاليم أهل الأقانيم وصلبوا للصليب الْأَعْظَم بالتعظيم وَمَا عصاهم من لَهُ عَصا وَخَرجُوا عَن الْعد والإحصا وَكَانُوا عدد الْحَصَى وصاروا فِي زهاء خمسين ألفا وَيزِيدُونَ ويكيدون مَا يكيدون قد توافوا على صَعِيد ووافوا من قريب وبعيد وهم هُنَاكَ مقيمون لَا يريمون وَالسُّلْطَان فِي كل صباح يسير إِلَيْهِم ويشرف عَلَيْهِم ويراميهم وينكي فيهم ويتعرض لَهُم ليتعرضوا لَهُ ويردوا عَن رقابهم سيوفه وَعَن شعابهم سيوله فربضوا مَا نبضوا وقعدوا وَمَا نهضوا فَلَو برزوا للمصاف لطالت عَلَيْهِم يَد الانتصاف
فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أَنهم لَا يبرحون وَمن قرب صفورية وَلَا ينزحون أَمر أمراءه أَن يقيموا فِي مقابلتهم ويدوموا على عزم مُقَاتلَتهمْ وَنزل هُوَ فِي خواصه العبسية على(3/278)
مَدِينَة طبرية وَعلم أَنهم إِذا علمُوا بنزوله عَلَيْهَا بَادرُوا للوصول إِلَيْهَا فَحِينَئِذٍ يتَمَكَّن من قِتَالهمْ ويجهد فِي استئصالهم ثمَّ أحضر الجاندارية والنقابين والخراسانية والحجارين وأطاف بسورها وَشرع فِي تخريب معمورها وَأخذ النقابون النقب فِي برج فهدوه وهدموه وتسلقوا فِيهِ وتسلموه وَدخل اللَّيْل وصباح الْفَتْح مُسْفِر وليل الويل على الْعَدو معتكر وامتنعت القلعة بِمن فِيهَا من القومصية صَاحِبَة طبرية وبنيها
وَلما سمع القومص بِفَتْح طبرية وَأخذ بَلَده سقط فِي يَده وَخرج عَن جلد جلده وسمح للفرنج بسبده ولبده وَقَالَ لَهُم لَا قعُود بعد الْيَوْم وَلَا بُد لنا من لِقَاء الْقَوْم وَإِذا أخذت طبرية أخذت الْبِلَاد وَذَهَبت الطراف والتلاد وَمَا بَقِي لي صَبر وَمَا بعد هَذَا الْكسر من جبر
وَكَانَ الْملك قد حالفه فَمَا خَالفه وَوَافَقَهُ فَمَا نافقه ورحل بجمعه وَأَتْبَاعه وشياطينه وأشياعه فمادت الأَرْض بحركته وغامت السَّمَاء من غبرته وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا ووثبوا ففرح السُّلْطَان وَقَالَ جَاءَنَا مَا نُرِيد وَنحن أولُوا بَأْس شَدِيد وَإِذا صحت كسرتهم فطبرية وَجَمِيع السَّاحِل مَا دونه مَانع وَلَا عَن فَتحه وازع(3/279)
واستخار الله تَعَالَى وَسَار وَعدم الْقَرار وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري ربيع الآخر والفرنج سائرون إِلَى طبرية بقضهم وقضيضهم وهم كالجبال السائرة والبحار الزاخرة أمواجها ملتطمة وأفواجها مزدحمة فرتب السُّلْطَان فِي مقابلتهم أطلابه وَحصل بعسكره قدامهم وحجز بَينهم وَبَين المَاء وَالْيَوْم قيظ وَلِلْقَوْمِ غيظ وحجز اللَّيْل بَين الْفَرِيقَيْنِ وحجرت الْخَيل على الطَّرِيقَيْنِ وهيئت دركات النيرَان وهنئت دَرَجَات الْجنان وانتظر مَالك واستبشر رضوَان فَهِيَ لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر تنزل فِيهَا الْمَلَائِكَة وَالروح وَفِي سحرها نشر الظفر يفوح وَفِي صباحها الْفتُوح فَمَا أبهجنا بِتِلْكَ اللَّيْلَة الفاخرة فقد كُنَّا مِمَّن قَالَ الله تَعَالَى فيهم {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} وبتنا وَالْجنَّة معروضة وَالسّنة مَفْرُوضَة والكوثر واقفة سقاته والخلد قاطفة جناته والسلسبيل وَاضح سَبيله والإقبال ظَاهر قبيله والظهور قَائِم دَلِيله وَالله نَاصِر الْإِسْلَام ومديله
وسهر السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى عين الجاليشية من كل طلب وملأ جعابها وكنائنها بالنبال وَكَانَ مَا فرقه من النشاب أَربع مئة حمل ووقف سبعين جمازة فِي حومة الوغى يَأْخُذ مِنْهَا من خلت جعابه وَفرغ نشابه حَتَّى إِذا أَسْفر الصَّباح خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النَّار ورنت القسي وغنت الأوتار ذَاك وَالْيَوْم ذَاك والجيش شَاك وللقيظ عَلَيْهِم فيض وَمَا للغيظ مِنْهُم غيض وَقد وَقد الْحر واستشرى الشَّرّ وَوَقع(3/280)
الْكر والفر والسراب طافح والظمأ لافح والجو محرق والجوى مقلق ولأولئك الْكلاب من اللهب لهث وبالغيث عَبث وَفِي ظنهم أَنهم يردون المَاء فاستقبلتهم جَهَنَّم بشرارها واستظهرت عَلَيْهِم الظهيرة بنارها وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة بجموع أَهلهَا المجتمعة ووراء عسكرنا بحيرة طبرية والورد عد وَمَا مِنْهُ بعد
وَقد قطعت على الفرنج طَرِيق الْوُرُود وبلوا من الْعَطش بالنَّار ذَات الْوقُود فوقفوا صابرين مصابرين مكابرين مضابرين فكلبوا على ضراوتهم وَشَرِبُوا مَا فِي إداوتهم وشفهوا مَا حَولهمْ من موارد المصانع واستنزفوا حَتَّى مَاء المدامع وأشرفوا على الْمصير إِلَى المصارع وَدخل اللَّيْل وَسكن السَّيْل وَبَاتُوا حيارى وَمن الْعَطش سكارى وهم على شعف الْبحيرَة بحيرة وقووا أنفسهم على الشدَّة واستعدوا بالعزائم المحتدة وَقَالُوا غَدا نصب عَلَيْهِم مَاء المواضي ونقاضيهم إِلَى القواضب القواضي فأحدوا عزم الْبلَاء وطلبوا الْبَقَاء بالتورط فِي الفناء
وَأما عسكرنا فَإِنَّهَا اجترأت وَمن كل مَا يعوقها بَرِئت فَهَذَا لسنانه شاحذ وَهَذَا لعنانه آخذ وَهَذَا سهم مفوق وَهَذَا شهم موفق وَهَذَا مكثر للتكبير ومنتظر للتبكير وَهَذَا نَاجٍ للسعادة وَهَذَا راج للشَّهَادَة فيالله تِلْكَ من لَيْلَة حراسها الْمَلَائِكَة وَمن سحرة أنفاسها ألطاف الله المتداركة(3/281)
وَالسُّلْطَان رَحمَه الله قد وثق بنصر الله فَهُوَ يمْضِي بِنَفسِهِ على الصُّفُوف ويحضهم ويعدهم من الله بنصره المألوف ويغري المئين بالألوف وهم بمشاهدته إيَّاهُم يجيدون ويجدون ويصدون الْعَدو ويردون
وَكَانَ للسُّلْطَان مَمْلُوك اسْمه منكورس حمل فِي أول النَّاس وَكَانَ حصانه قوي الراس فأبعد عَن إخوانه وَلم يُتَابِعه أحد من أقرانه فَانْفَرد بِهِ الفرنج فَأثْبت فِي مستنقع الْمَوْت رجله وَقَاتل إِلَى أَن بلغُوا قَتله فَلَمَّا أخذُوا رَأسه ظنُّوا أَنه أحد أَوْلَاد السُّلْطَان وانتقل الشَّهِيد إِلَى جوَار الرَّحْمَن
وَلما شَاهد الْمُسلمُونَ استشهاده وَجلده وجلاده حميت حميتهم وخلصت لله نيتهم وَأصْبح الْجَيْش على تعبئته والنصر على تلبيته وَذَلِكَ يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَهُوَ يَوْم النُّصْرَة وَوُقُوع الكسرة وبرح بالفرنج الْعَطش وأبت عثرتها تنتعش وَكَانَ النسيم من أمامها والحشيش تَحت أَقْدَامهَا فَرمى بعض مطوعة الْمُجَاهدين النَّار فِي الْحَشِيش فتأجج عَلَيْهِم استعارها وتوهج أوارها فبلوا وهم أهل التَّثْلِيث من الدُّنْيَا بِثَلَاثَة الْأَقْسَام فِي الاصطلاء والاصطلام نَار الضرام ونار الأوام ونار السِّهَام فرجا الفرنج فرجا وَطلب طَلَبهمْ المحرج مخرجا فَكلما خَرجُوا جرحوا وبرح بهم حر الْحَرْب فَمَا برحوا وهم ظماء وَمَا لَهُم مَاء سوى مَا بِأَيْدِيهِم من مَاء الفرند مَاء فشوتهم نَار السِّهَام وأشوتهم وصممت عَلَيْهِم قُلُوب القسي القاسية وأصمتهم وأعجزوا وأزعجوا وأحرجوا وأخرجوا وَكلما حملُوا ردوا وأردوا وَكلما سَارُوا وشدوا أَسرُّوا(3/282)
وشدوا وَمَا ذبت مِنْهُم نملة وَلَا ذبت عَنْهُم حَملَة واضطرموا واضطربوا والتهفوا والتهبوا وناشبهم النشاب فَعَادَت أسودهم قنافذ وضايقتهم السِّهَام فوسعت فيهم الْخرق النَّافِذ فآووا إِلَى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار فأحاطت بحطين بوارق الْبَوَار ورشفتهم الظبى وفرشتهم على الربى ورشقتهم الحنايا وقشرتهم المنايا وقرشتهم البلايا ورقشتهم الرزايا
وَلما أحس القومص بالكسرة حسر عَن ذِرَاع الْحَسْرَة واقتال من الْعَزِيمَة واحتال فِي الْهَزِيمَة وَكَانَ ذَلِك قبل اضْطِرَاب الْجمع واضطرام الْجَمْر فَخرج بِطَلَبِهِ يطْلب الْخُرُوج واعوج إِلَى الْوَادي وَمَا ود أَن يعوج وَمضى كومض الْبَرْق ووسع خطى خرقه قبل اتساع الْخرق وأفلت فِي عدَّة مَعْدُودَة وَلم يلْتَفت إِلَى ردة مَرْدُودَة وَكَانَ قَالَ لأَصْحَابه أَنا أسبق بالحملة وأفصلهم من الْجُمْلَة
فَاجْتمع هُوَ ومؤازروه وَجَمَاعَة من المقدمين هم مضافروه وَصَحبه صَاحب صيدا وباليان بن بارزان وَتَآمَرُوا على أَنهم يحملون ويبلغون الطعان
فَحمل القومص وَمن مَعَه على الْجَانِب الَّذِي فِيهِ الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وَهُوَ مؤيد من الله بالتوفيق والتمكين فَفتح لَهُم طَرِيقا وَرمى من أتباعهم فريقا فَمَضَوْا على رؤوسهم ونجوا بنفوسهم
وَلما عرف الفرنج أَن القومص أَخذ بالعزيمة وَنفذ فِي الْهَزِيمَة وهنوا وهانوا ثمَّ اشتدوا وَمَا لانوا وثبتوا على مَا كَانُوا واستقبلوا واستقتلوا واستلحموا وحملوا ووقعنا عَلَيْهِم وُقُوع النَّار فِي(3/283)
الحلفاء وصببنا مَاء الْحَدِيد للإطفاء فَزَاد فِي الإذكاء فحطوا خيامهم على غارب حطين حِين رأونا بهم محيطين فأعجلناهم عَن ضرب الْخيام بِضَرْب الْهَام ثمَّ استحرت الْحَرْب واشتجر الطعْن وَالضَّرْب وأحيط بالفرنج من حواليهم ودارت الدَّوَائِر عَلَيْهِم وترجوا خيرا فترجلوا عَن الْخَيل وجرفهم السَّيْف جرف السَّيْل وَملك عَلَيْهِم الصَّلِيب الْأَعْظَم وَذَاكَ مصابهم الْأَعْظَم
وَلما شاهدوا الصَّلِيب سليبا ورقيب الردى قَرِيبا أيقنوا بِالْهَلَاكِ وأثخنوا بِالضَّرْبِ الدراك فَمَا برحوا يؤسرون وَيقْتلُونَ ويخمدون ويخملون وللوثوب يخفون وبالجراح يثقلون وَمن مصَارِع الْقَتْل إِلَى معاصر الْأسر ينقلون
ووصلنا إِلَى مقدمهم وملكهم وإبرنسهم فتم أسر الْملك وإبرنس الكرك وَأخي الْملك جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري بن هنفري وَابْن صَاحب إسكندرونة وَصَاحب مرقية وَأسر من نجا من الْقَتْل من الداوية ومقدمها وَمن الإسبتارية ومعظمها وَمن البارونية وَمن أخطأه الْبَوَار فَأَصَابَهُ وسآءه الإسار وَأسر الشَّيْطَان وَجُنُوده وَملك الْملك وكنوده وجبر الْإِسْلَام بكسرتهم وَقتلُوا وأسروا بأسرهم فَمن شَاهد الْقَتْلَى قَالَ مَا هُنَاكَ أَسِير وَمن عاين الأسرى قَالَ مَا هُنَاكَ قَتِيل ومذ استولى الفرنج على سَاحل الشَّام مَا شفي للْمُسلمين كَيَوْم حطين غليل
فَالله عز وَجل سلط السُّلْطَان وأقدره على مَا أعجز عَنهُ الْمُلُوك وهداه من التَّوْفِيق لامتثال أمره وَإِقَامَة فَرْضه النهج المسلوك ونظم لَهُ فِي حتوف أعدائه والفتوح لأوليائه السلوك وَخَصه بِهَذَا الْيَوْم الْأَغَر والنصر الأبر واليمن الْأسر والنجح الأدر وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا فَضِيلَة هَذَا الْيَوْم لَكَانَ(3/284)
متفردا على الْمُلُوك السالفة فَكيف مُلُوك الْعَصْر فِي السمو والسوم غير أَن هَذِه النّوبَة الْمُبَارَكَة كَانَت لِلْفَتْحِ الْقُدسِي مُقَدّمَة ولمعاقد النَّصْر وقواعده مبرمة محكمَة
وَمن عجائب هَذِه الْوَقْعَة وغرائب هَذِه الدفعة أَن فارسهم مَا دَامَ فرسه سالما لم يدل للصرعة فَإِنَّهُ من لبسه الزردي من قرنه إِلَى قدمه كَأَنَّهُ قِطْعَة حَدِيد ودراك الضَّرْب وَالرَّمْي إِلَيْهِ غير مُفِيد لَكِن فرسه إِذا هلك فرس وَملك فَلم يغنم من خيلهم ودوابهم وَكَانَت ألوفا مَا هُوَ سَالم وَمَا ترجل فَارس إِلَّا والطعن وَالرَّمْي لمركوبه كالم وغنمنا مَا لَا يحصر من بيض مَكْنُون وزغف موضون وبلاد وحصون وسهول وحزون وابتذلنا مِنْهُم بِهَذَا الْفَتْح كل إقليم مصون وَذَلِكَ سوى مَا استبيح من مَال مخزون واستخرج من كنز مدفون
وَصحت هَذِه الكسرة وتمت هَذِه النُّصْرَة يَوْم السبت وَضربت ذلة أهل السبت على أهل الْأَحَد وَكَانُوا أسودا فعادوا من النَّقْد فَمَا أفلت من تِلْكَ الآلاف إِلَّا آحَاد وَمَا نجا من أُولَئِكَ الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وامتلأ الملا بالأسرى والقتلى وانجلى الْغُبَار عَنْهُم بالنصر الَّذِي تجلى وقيدت الْأُسَارَى فِي الحبال وَاجِبَة الْقُلُوب وفرشت الْقَتْلَى فِي الوهاد وَالْجِبَال وَاجِبَة الْجنُوب وحطت حطين تِلْكَ الْجِيَف عَن(3/285)
متنها وطاب نشر النَّصْر بنتنها وعبرت بهَا فألفيتها مَحل الِاعْتِبَار وشاهدت مَا فعل أهل الإقبال بِأَهْل الإدبار وعاينت أعيانهم خَبرا من الْأَخْبَار وَرَأَيْت الرؤوس طائرة والنفوس بائرة والعيون غائرة والجسوم رمستها السوافي والرسوم درستها العوافي وأشلاء المشلولين فِي الْمُلْتَقى ملقاة بالعراء عُرَاة ممزقة بالمآزق مفصلة المفاصل مفرقة الْمرَافِق مفلقة المفارق محذوفة الرّقاب مقصوفة الأصلاب مقطعَة الْهَام موزعة الْأَقْدَام مجدوعة الآناف منزوعة الْأَطْرَاف مفقوءة الْعُيُون مبعوجة الْبُطُون منصفة الأجساد مقصفة الأعضاد مقلصة الشفاه مخلصة الجباه سَائِلَة الأحداق مائلة الْأَعْنَاق عديمة الْأَرْوَاح هشيمة الأشباح كالأحجار بَين الْأَحْجَار عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار
وَلما أَبْصرت خدودهم ملصقة بِالتُّرَابِ وَقد قطعُوا آرابا تلوث قَول الله تَعَالَى {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} فَمَا أطيب نفحات الظفر من ذَلِك الْخبث وَمَا ألهب عذبات الْعَذَاب فِي تِلْكَ الجثث وَمَا أحسن عمارات الْقُلُوب بقبح ذَلِك الشعث وَمَا أَجْزَأَ صلوَات البشائر بِوُقُوع ذَلِك الْحَدث هَذَا حِسَاب من قتل فقد حصرت أَلْسِنَة الْأُمَم عَن حصره وعده وَأما من أسر فَلم تكف أطناب الخيم لقيده وشده وَلَقَد رَأَيْت فِي حَبل وَاحِد ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين يقودهم فَارس وَفِي بقْعَة وَاحِدَة مئة ومئتين يحميهم حارس وهنالك العتاة عناة والعداة عُرَاة وذوو الأسرة أسرى وَأولُوا الأثرة عثرى والقوامص قنائص والفوارس فرائس وغوالي الْأَرْوَاح رخائص ووجوه الداوية عوابس والرؤوس تَحت الأخامص فكم أصيد صيد(3/286)
وقائد قيد وَقيد وَملك مَمْلُوك وهاتك مهتوك وحر فِي الرّقّ ومبطل فِي يَد المحق وَلم يؤسر الْملك حَتَّى أَخذ صَلِيب الصلبوت وَأهْلك دونه الطاغوت وَهُوَ الَّذِي إِذا نصب وأقيم وَرفع سجد لَهُ كل نَصْرَانِيّ وَركع وهم يَزْعمُونَ أَنه من الْخَشَبَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَنه صلب عَلَيْهَا معبودهم وَقد غلفوه بِالذَّهَب الْأَحْمَر وكللوه بالدر والجوهر وأعدوه ليَوْم الروع الْمَشْهُود ولموسم عَلَيْهِم الْمَوْعُود فَإِذا أخرجته القسوس وَحَمَلته الرؤوس تبَادرُوا إِلَيْهِ وانثالوا عَلَيْهِ وَلَا يسع أحدهم عَنهُ التَّخَلُّف وَلَا يسوغ للمتخلف عَن اتِّبَاعه فِي نَفسه التَّصَرُّف وَأَخذه عِنْدهم أعظم من أسر الْملك وَهُوَ أَشد مصاب لَهُم فِي ذَلِك المعترك فَإِن الصَّلِيب السليب مَا لَهُ عوض وَلَا لَهُم فِي سواهُ غَرَض والتأله لَهُ عَلَيْهِم مفترض فَهُوَ إلههم وتعفر لَهُ جباههم وتسبح لَهُ أَفْوَاههم يتغاشون عِنْد أحضاره ويتعاشون لإبصاره ويتلاشون لإظهاره ويتغاضون إِذا شاهدوه ويتواجدون إِذا وجدوه ويبذلون دونه المهج وَيطْلبُونَ بِهِ الْفرج بل صاغوا على مثله صلبانا يعبدونها ويخشعون لَهَا فِي بُيُوتهم ويشهدونها
فَلَمَّا أَخذ هَذَا الصَّلِيب عظم مصابهم ووهت أصلابهم وَكَانَ الْجمع المكسور عَظِيما والموقف الْمَنْصُور كَرِيمًا فكأنهم لما عرفُوا إِخْرَاج هَذَا الصَّلِيب لم يتَخَلَّف أحد عَن يومهم العصيب فهلكوا قتلا وأسرا وملكوا قهرا وقسرا
وَلما صَحَّ الْكسر وَقضي الْأَمر وَتمكن النَّصْر وَسكن الْبَحْر ضرب السُّلْطَان فِي تِلْكَ الحومة دهليز السرادق وتوافت إِلَيْهِ حماة الْحَقَائِق وَنزل السُّلْطَان وَصلى للشكر وَسجد وجدد الاستبشار بِمَا وجد وأحضر(3/287)
عِنْده من الْأُسَارَى الْملك والبرنس وأجلس الْملك بجنبه
وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان لعرض أكَابِر الْأُسَارَى وهم يتهادون فِي الْقُيُود تهادي السكارى فَقدم بداية مقدم الداوية وعدة كَثِيرَة مِنْهُم وَمن الاسبتارية وأحضر الْملك كي وَأَخُوهُ جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري والإبرنس أرناط صَاحب الكرك وَهُوَ أول من وَقع فِي الشّرك وَكَانَ السُّلْطَان نذر دَمه وَقَالَ لأعجلن عِنْد وجدانه عَدمه
فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ أجلسه إِلَى جنب الْملك وَالْملك بجنبه وقرعه على غدره وَذكره بِذَنبِهِ وَقَالَ لَهُ كم تحلف وتحنث وتعهد وتنكث وتبرم الْمِيثَاق وتنقض وَتقبل على الْوِفَاق ثمَّ تعرض فَقَالَ الترجمان عَنهُ إِنَّه يَقُول قد جرت بذلك عَادَة الْمُلُوك وَمَا سلكت غير السّنَن المسلوك
وَكَانَ الْملك يَلْهَث ظمأ ويميل من سكرة الرعب منتشيا فآنسه السُّلْطَان وحاوره وفثأ سُورَة الوجل الَّذِي ساوره وَسكن رعبه وَأمن قلبه وَأمر لَهُ بِمَاء مثلوج فشربه وأطفأ بِهِ لهبه ثمَّ ناول الْملك الإبرنس الْقدح فاستشفه وَبرد بِهِ لهفه فَقَالَ السُّلْطَان للْملك لم تَأْخُذ فِي سقيه مني إِذْنا فَلَا يُوجب ذَلِك لَهُ مني أمنا
ثمَّ ركب وخلاهما وبنار الوهل أصلاهما وَلم ينزل إِلَى أَن ضرب سرادقه وركزت أَعْلَامه وبيارقه وعادت إِلَى الْحمى عَن الحومة فيالقه
فَلَمَّا دخل سرادقه استحضر الإبرنس فَقَامَ إِلَيْهِ وتلقاه بِالسَّيْفِ فَحل عَاتِقه وَحين صرع أَمر بِرَأْسِهِ فَقطع وجر بِرجلِهِ قُدَّام الْملك حِين أخرج(3/288)
فارتاع الْملك وانزعج فَعرف السُّلْطَان أَنه خامره الْفَزع وساوره الْهَلَع وسامره الْجزع فاستدعاه واستدناه وأمنه وطمنه ومكنه من قربه وسكنه وَقَالَ لَهُ وَذَاكَ رداءته أردته وغدرته كَمَا ترَاهُ غادرته وَقد هلك بغيه وبغيه
ونبا زند حَيَاته ووردها عَن ريه ووريه
ثمَّ جمع الْأُسَارَى المعروفين وسلمهم إِلَى وَالِي قلعة دمشق الناصح الغيدي فَقَالَ لَهُم أَنْتُم تَحت قيدي
وسلمهم إِلَى أَصْحَابه فتسلمتهم الْأَيْدِي وَأمرهمْ أَن يَأْخُذُوا خطّ الصفي بن الْقَابِض فِي دمشق بوصولهم ويحتاط عَلَيْهِم فِي أغلالهم وكبولهم
فَتفرق الْعَسْكَر بِمن ضمته أَيدي السَّبي أَيدي سبا وهادتهم الوهاد والربى
قَالَ وَلما أصبح السُّلْطَان يَوْم الْأَحَد استقام على الجدد وخيم على طبرية وراسل القومصية وأخرجها من حصنها بالأمان ووفى لَهَا وللفرسان بنيها بِشُرُوط الْأمان فَخرجت بمالها ورحالها ونسائها ورجالها وسارت إِلَى طرابلس بلد زَوجهَا القومص بمالها وحالها
وَولى طبرية قايماز النجمي
وَكَانَت طبرية فِي عهد الفرنج تقاسم على نصف مغل الْبِلَاد من الصَّلْت والبلقاء وجبل عَوْف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وَمَا يقربهَا إِلَى بلد حوران فخلصت المناصفات وصفت الصفاة وَأمنت الْآفَات هَذَا وَالسُّلْطَان نَازل ظَاهر طبرية وَقد طب الْبَريَّة وَعَسْكَره قد طبق الْبَريَّة(3/289)
فَلَمَّا أصبح يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْفَتْح بيومين طلب الْأُسَارَى من الداوية والاستبارية وَقَالَ أَنا أطهر الأَرْض من هَذِه الجنسين النجسين فَمَا جرت عَادَتهمَا بالمفاداة وَلَا يقلعان عَن المعاداة وَلَا يخدمان فِي الْأسر وهما أَخبث أهل الْكفْر
فَتقدم بإحضار كل أَسِير داوي واسبتاري ليمضي فِيهِ حكم السَّيْف وَرَأى البقيا عَلَيْهِم عين الحيف ثمَّ علم أَن كل من عِنْده أَسِير لَا يسمح بِهِ وَأَنه يضن بعطبه فَجعل لكل من يَأْتِيهِ بأسير مِنْهُمَا من الدَّنَانِير الْحمر خمسين فَأتوهُ فِي الْحَال بمئين فَأمر بإعطابهم وَضرب رقابهم ومحو حسابهم وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ جمَاعَة من المتطوعة المتورعة والمتصونة المتصوفة والمتعممة المتصرفة وَمن يمت بالزهد والمعرفة فَسَأَلَ كل وَاحِد فِي قتل وَاحِد وسل سَيْفه وحسر عَن ساعد وَالسُّلْطَان جَالس وَوَجهه بَاشر وَالْكفْر عَابس والعساكر صُفُوف والأمراء فِي السماطين وقُوف فَمنهمْ من فرى وبرى وشكر وَمِنْهُم من أَبى ونبا وَعذر وَمِنْهُم من يضْحك مِنْهُ وينوب سواهُ عَنهُ وشاهدت هُنَاكَ الضحوك الْقِتَال وَرَأَيْت مِنْهُ القوال الفعال فكم وعد أنجزه وَحمد أحرزه وَأجر استدامه بِدَم أجراه وبر أعنق إِلَيْهِ بعنق براه
وسير ملك الفرنج وأخاه وهنفري وَصَاحب جبيل ومقدم الداوية وَجَمِيع أكابرهم المأسورين إِلَى دمشق ليودعوا السجون وتستبدل حركاتهم السّكُون وَتَفَرَّقَتْ العساكر بِمَا حوت أَيْديهم من السَّبي وَسبق بهم إِلَى الْبِلَاد النَّاس وَلم يَقع على عَددهمْ الْقيَاس فَكتب إِلَى الصفي بن الْقَابِض نَائِبه بِدِمَشْق أَن يضْرب عنق من يجد من الداوية والاسبتارية فامتثل الْأَمر فِي إزهاقهم وَضرب أَعْنَاقهم فَمَا قتل إِلَّا من عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام(3/290)
فَأبى أَن يسلم وَمَا أسلم إِلَّا آحَاد حسن إسْلَامهمْ وتأكد بِالدّينِ غرامهم
قَالَ الْعِمَاد وَمَا زلت أبحث عَن سَبَب نذر السُّلْطَان إِرَاقَة دم الإبرنس حَتَّى حَدثنِي الْأَمِير الْعَزِيز عبد الْعَزِيز بن شَدَّاد بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس وَهُوَ ذُو الْبَيْت الْكَبِير والحسب الْجَلِيل وَكَانَ جده صَاحب إفريقية والقيروان وَكَانُوا يتوارثون ملكه إِلَى قريب من هَذَا الزَّمَان ذكر أَن الْأَجَل الْفَاضِل حَدثهُ أَن السُّلْطَان لما عَاد إِلَى دمشق من حران بعد المرضة الَّتِي صَار بهَا كل قلب عَلَيْهِ حران وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ من عقابيل سقمه لَا يُفَارق الأنين فَقلت لَهُ مَا مَعْنَاهُ قد أيقظك الله وَمَا يعيذك من هَذَا السوء سواهُ فانذر أَنَّك إِذا أبللت من هَذَا الْمَرَض تقوم بِكُل مالله من المفترض وَأَنَّك لَا تقَاتل من الْمُسلمين أحدا أبدا وَتَكون فِي جِهَاد أَعدَاء الله مُجْتَهدا وَأَنَّك إِذا نصرك الله فِي المعترك وظفرت بالقومص وإبرنس الكرك تتقرب إِلَى الله بإراقة دمهما فَمَا يتم وجود النَّصْر إِلَّا بعدمهما
فَأعْطَاهُ يَده على هَذَا النّذر ونجاه الله ببركة هَذَا الْعذر من الذعر وخلصه إخلاصه فِي مرضاة الله فأبل من مرضته واستقل بنهضته واستقبل السّنة الْقَابِلَة بِسنة الْغَزْو وفريضته ثمَّ جرى من مُقَدمَات الْجِهَاد ونتائجها مَا جرى وخيم السُّلْطَان فِي جموع الْإِسْلَام بعشترا وَركب يَوْمًا فِي عسكره وعزم على نشر القساطل وطي المراحل وَدخُول السَّاحِل وَالْقَذْف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فَبَدَأَ بلقاء الطلعة الْمُبَارَكَة من الْأَجَل الْفَاضِل فَقَالَ لَهُ ليكن نذرك على ذكرك واستزد نعْمَة الله عِنْده بمزيد شكرك وَلَا تخطر غير قمع أهل الْكفْر بفكرك فَمَا أنقذك الله من تِلْكَ الورطة ونعشك من تِلْكَ(3/291)
السقطة إِلَّا ليوفر حظك من هَذِه الْغِبْطَة
فتوكل على الله عَازِمًا وَجَاز الْأُرْدُن حازما وأرعب جأش الْكفْر وَكسر جيوشه وثل عروشه وَوَقع فِي الشّرك إبرنس الكرك فوفى بِضَرْب عُنُقه نَذره
وَأما القومص فَإِنَّهُ أَخذ فِي الْمُلْتَقى بالهزيمة حذره وَلما وصل إِلَى طرابلس أخافه فِي مأمنه الْقدر وفجأة فِي صَفوه الكدر وتسلمه مَالك إِلَى سقر
فصل
هَذَا الَّذِي تقدم من وصف كسرة حطين هُوَ عين مَا ذكره عماد الدّين رَحمَه الله فِي كِتَابيه الْفَتْح والبرق اختصرته مِنْهُمَا وَهُوَ مطول فيهمَا وَقد وقفت على كَلَام لغيره فِي ذَلِك فَأَحْبَبْت إِيرَاده على وَجهه لما فِيهِ من شرح مَا تقدم وتقويته وَرُبمَا اشْتَمَل على زيادات من فَوَائِد تتَعَلَّق بذلك لم يتَعَرَّض لَهَا أَو مُخَالفَة لبَعض مَا ذكره
قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن بن شَدَّاد لما كَانَ الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ عزم السُّلْطَان على قصد الكرك فسير إِلَى حلب من يستحضر الْعَسْكَر وبرز من دمشق فِي منتصف الْمحرم فَسَار حَتَّى نزل بِأَرْض الكرك منتظرا لِاجْتِمَاع العساكر المصرية والشامية وَأمر العساكر المتواصلة إِلَيْهِ بشن الْغَارة على مَا فِي طريقهم من الْبِلَاد الساحلية فَفَعَلُوا ذَلِك وَأقَام رَحمَه الله بِأَرْض الكرك حَتَّى وصل الْحَاج الشَّامي إِلَى الشَّام وأمنوا(3/292)
غائلة الْعَدو
وَوصل قفل مصر وَمَعَهُ بنت الْملك المظفر وَمَا كَانَ لَهُ بالديار المصرية وتأخرت عَنهُ العساكر الحلبية بِسَبَب اشتغالها بالفرنج بِأَرْض أنطاكية وبلاد ابْن لاون وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد مَاتَ ووصى لِابْنِ أَخِيه لاون بِالْملكِ وَكَانَ الْملك المظفر بحماة وَبلغ الْخَبَر السُّلْطَان فَأمره بِالدُّخُولِ إِلَى بِلَاد الْعَدو وإخماد نائرته
فوصل تَقِيّ الدّين حلب وَنزل فِي دَار الْعَفِيف ابْن زُرَيْق وانتقل إِلَى دَار طمان وَفِي تَاسِع صفر خرج بعسكر حلب إِلَى حارم ليعلم الْعَدو أَن هَذَا الْجَانِب لَيْسَ بمهمل
وَعَاد السُّلْطَان فوصل إِلَى السوَاد وَنزل بعشترا سَابِع عشر ربيع الأول ولقيه وَلَده الْأَفْضَل ومظفر الدّين وَجَمِيع العساكر وَكَانَ تقدم إِلَى الْملك المظفر بمصالحة الْجَانِب الْحلَبِي مَعَ الفرنج ليتفرغ البال مَعَ الْعَدو فِي جَانب وَاحِد فَصَالحهُمْ وَتوجه إِلَى حماة يطْلب خدمَة السُّلْطَان للغزاة فسارت العساكر الشرقية فِي خدمته وهم عَسْكَر الْموصل مقدمهم مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي وعسكر ماردين إِلَى أَن أَتَوا عشترا فَلَقِيَهُمْ السُّلْطَان وَأكْرمهمْ
ثمَّ عرض السُّلْطَان العساكر منتصف ربيع الآخر على تل يعرف بتل تسيل ورتبهم واندفع قَاصِدا إِلَى بِلَاد الْعَدو فِي وسط نَهَار الْجُمُعَة وَكَانَ أبدا يقْصد بوقعاته الْجمع لَا سِيمَا أَوْقَات صَلَاة الْجُمُعَة تبركا بِدُعَاء الخطباء على المنابر فَرُبمَا كَانَت أقرب إِلَى الْإِجَابَة
وبلغه أَن الفرنج اجْتَمعُوا فِي مرج صفورية بِأَرْض عكا فقصد(3/293)
نحوهم للمصاف مَعَهم فَسَار وَنزل على بحيرة طبرية عِنْد قَرْيَة تسمى الصنبرة ورحل من هُنَاكَ وَنزل على غربي طبرية على سطح الْجَبَل لتعبئة الْحَرْب منتظرا أَن الفرنج إِذا بَلغهُمْ ذَلِك قصدوه فَلم يتحركوا من مَنْزِلَتهمْ فَنزل جَرِيدَة على طبرية وَترك الأطلاب على حَالهَا قبالة وَجه الْعَدو ونازل طبرية وزحف عَلَيْهَا فهجمها وَأَخذهَا فِي سَاعَة من نَهَار وامتدت الْأَيْدِي إِلَيْهَا بالنهب والأسر والحريق وَالْقَتْل واحتمت القلعة وَحدهَا
فَرَحل الفرنج وقصدوا طبرية للدَّفْع عَنْهَا فَأخْبرت الطَّلَائِع الإسلامية الْأُمَرَاء بحركة الفرنج فسيروا إِلَى السُّلْطَان من عرفه ذَلِك فَترك على طبرية من يحفظ قلعتها وَلحق الْعَسْكَر هُوَ وَمن مَعَه فَالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي مِنْهَا وَحَال اللَّيْل بَين الفئتين فباتتا على مصَاف شاكين فِي السِّلَاح إِلَى صَبِيحَة الْجُمُعَة فَركب العسكران وتصادما وَذَلِكَ بِأَرْض قَرْيَة تسمى اللوبيا وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن حَال بَينهم الظلام
وَجرى فِي ذَلِك الْيَوْم من الوقائع الْعَظِيمَة والأمور الجسيمة مَا لم يحك عَمَّن تقدم وَبَات كل فريق فِي سلاحه ينْتَظر خَصمه فِي كل سَاعَة وَقد أقعده التَّعَب عَن النهوض حَتَّى كَانَ صباح السبت الَّذِي بورك فِيهِ فَطلب كل من الْفَرِيقَيْنِ مقَامه وَعلمت كل طَائِفَة أَن الْمَكْسُورَة مِنْهَا مدحورة الْجِنْس مَعْدُومَة النَّفس وَتحقّق الْمُسلمُونَ أَن من ورائهم الْأُرْدُن وَمن بَين أَيْديهم بِلَاد الْقَوْم وَلَا ينجيهم إِلَّا الله
وَكَانَ الله قد قدر نَصره للْمُسلمين فيسره وأجراه على وفْق مَا قدره(3/294)
فَحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وَحمل الْقلب وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوب الْكَافرين {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ}
وَكَانَ القومص ذكي الْقَوْم وألمعيهم فَرَأى أَمَارَات الخذلان قد نزلت بِأَهْل دينه وَلم يشْغلهُ ظن محاسنة جنسه عَن يقينه فهرب فِي أَوَائِل الْأَمر قبل اشتداده وَأخذ طَرِيقه نَحْو صور وَتَبعهُ جمَاعَة من الْمُسلمين فنجا وَحده وَأمن الْإِسْلَام كَيده واحتاط أهل الْإِسْلَام بِأَهْل الْكفْر والطغيان من كل جَانب وانهزمت مِنْهُم طَائِفَة فتبعها أبطال الْمُسلمين فَلم ينج مِنْهَا وَاحِد واعتصمت الطَّائِفَة الْأُخْرَى بتل حطين وَهِي قَرْيَة عِنْده وَعِنْدهَا قبر النَّبِي شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام فضايقهم الْمُسلمُونَ على التل وأشعلوا حَولهمْ النيرَان وقتلهم الْعَطش وضاق بهم الْأَمر حَتَّى كَانُوا يستسلمون للأسر خوفًا من الْقَتْل فَأسر مقدموهم وَقتل الْبَاقُونَ وأسروا وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم الْعَظِيم يخلد إِلَى الْأسر خوفًا على نَفسه وَلَقَد حكى لي من أَثِق بقوله أَنه لَقِي بحوران شخصا وَاحِدًا وَمَعَهُ طُنب خيمة وَفِيه نَيف وَثَلَاثُونَ أَسِيرًا يجرهم وَحده لخذلان وَقع عَلَيْهِم
وَأما القومص الَّذِي هرب فَإِنَّهُ وصل إِلَى طرابلس وأصابه ذَات الْجنب فَأَهْلَكَهُ الله بهَا
وَأما مقدمو الإسبتارية والداوية فَإِن السُّلْطَان اخْتَار قَتلهمْ فَقتلُوا عَن بكرَة أَبِيهِم(3/295)
وَأما البرنز أرناط فَكَانَ السُّلْطَان قد نذر أَنه إِن ظفر بِهِ قَتله وَذَلِكَ انه كَانَ عبر بِهِ بالشوبك قفل من الديار المصرية فِي حَالَة الصُّلْح فنزلوا عِنْده بالأمان فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الله وَالصُّلْح الَّذِي بَينه وَبَين الْمُسلمين فَقَالَ مَا يتَضَمَّن الاستخفاف بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ قُولُوا لمحمدكم يخلصكم
وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَحَمله الدّين وَالْحمية على أَنه نذر إِن ظفر بِهِ قَتله فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ بالنصر وَالظفر جلس فِي دهليز الْخَيْمَة فَإِنَّهَا لم تكن نصبت وَالنَّاس يَتَقَرَّبُون إِلَيْهِ بالأسارى وبمن وجدوه من المقدمين ونصبت الْخَيْمَة وَجلسَ فَرحا مَسْرُورا شاكرا لما أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ استحضر الْملك جفري وأخاه والبرنز أرناط وناول الْملك شربة من جلاب بثلج فَشرب مِنْهَا وَكَانَ على أَشد حَال من الْعَطش ثمَّ ناول بَعْضهَا البرنز أرناط فَقَالَ السُّلْطَان للترجمان قل للْملك أَنْت الَّذِي تسقيه وَإِلَّا أَنا ماسقيته وَكَانَ على جميل عَادَة الْعَرَب وكريم أَخْلَاقهم أَن الْأَسير إِذا أكل أَو شرب من مَال من أسره أَمن فقصد بذلك الجري على مَكَارِم الْأَخْلَاق ثمَّ أَمر بمسيرهم إِلَى مَوضِع عين لنزولهم فَمَضَوْا وأكلوا شَيْئا ثمَّ عَاد واستحضرهم وَلم يبْق عِنْده أحد سوى بعض الخدم فَأقْعدَ الْملك فِي الدهليز واستحضر البرنز أرناط وَأَوْقفهُ على مَا قَالَ وَقَالَ لَهُ هَا أَنا أنتصر لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَلم يفعل ثمَّ سل النمجاة وضربه بهَا فَحل كتفه وتمم عَلَيْهِ من حضر وَعجل الله بِرُوحِهِ إِلَى النَّار فَأخذ وَرمي على بَاب الْخَيْمَة فَلَمَّا رَآهُ الْملك قد أخرج على تِلْكَ الصُّورَة لم(3/296)
يشك فِي أَنه يثني بِهِ فَاسْتَحْضرهُ وَطيب قلبه وَقَالَ لم تجر عَادَة الْمُلُوك أَن يقتلُوا الْمُلُوك وَأما هَذَا فَإِنَّهُ جَاوز حَده فَجرى مَا جرى
وَبَات النَّاس تِلْكَ اللَّيْلَة على أتم سرُور وأكمل حبور ترْتَفع أَصْوَاتهم بِالْحَمْد لله وَالشُّكْر لَهُ وَالتَّكْبِير والتهليل حَتَّى طلع الصُّبْح فِي يَوْم الْأَحَد فَنزل رَحمَه الله على طبرية وتسلم فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم قلعتها وَأقَام بهَا إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء
قلت وَذكر مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه أَنه ورد فِي هَذِه السّنة كتب إِلَى بَغْدَاد فِي وصف هَذِه الْوَقْعَة مِنْهَا كتاب من عبد الله بن أَحْمد الْمَقْدِسِي يَقُول فِيهِ كتبت هَذَا الْكتاب من عسقلان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَفِيه
وَلَو حمدنا الله عز وَجل طول أعمارنا مَا وَفينَا بِعشر معشار نعْمَته الَّتِي أنعم بهَا علينا من هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم فَإنَّا خرجنَا إِلَى عَسْكَر صَلَاح الدّين وتلاحق الأجناد حَتَّى جَاءَ النَّاس من الْموصل وديار بكر وإربل فَجمع صَلَاح الدّين الْأُمَرَاء وَقَالَ هَذَا الْيَوْم الَّذِي كنت أنتظره وَقد جمع الله لنا العساكر وَأَنا رجل قد كَبرت وَمَا أَدْرِي مَتى أَجلي فاغتنموا هَذَا الْيَوْم وقاتلوا لله تَعَالَى لَا من أَجلي
فَاخْتَلَفُوا فِي الْجَواب وَكَانَ رَأْي أَكْثَرهم لِقَاء الْكفَّار فَعرض جنده ورتبهم وَجعل تَقِيّ الدّين فِي الميمنة ومظفر الدّين فِي الميسرة وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَجعل بَقِيَّة الْعَسْكَر فِي الجناحين ثمَّ(3/297)
سَارُوا على مَرَاتِبهمْ حَتَّى نزلُوا الأقحوانة فتركوا بهَا أثقالهم وَسَارُوا حَتَّى نزلُوا بِكفْر سبت فأقاموا يَوْمَيْنِ ينتظرون أَن يبرز لَهُم الْكفَّار وَكَانَ عَسْكَر الْكفَّار على صفورية فَلم يبرزوا فَعَاد صَلَاح الدّين حَتَّى نزل على طبرية فَتقدم فرسانه وحماته ورماته والنقابون فَدَخَلُوا حَتَّى الْحصن فَلَمَّا تمكن النقب مِنْهُ انهار من غير وقود نَار وَدخل الْمُسلمُونَ فانتهبوا يَوْم الْخَمِيس وَأَصْبحُوا فِي يَوْم الْجُمُعَة فشرعوا فِي نقب القلعة فَلَمَّا كَانَ وَقت الصَّلَاة جَاءَ الْخَبَر أَن الْكفَّار قد توجهوا إِلَيْنَا فارتحل صَلَاح الدّين على صفوفه فَلَقِيَهُمْ ثمَّ لم يزَالُوا يتقدمون حَتَّى صَار الْمُسلمُونَ محيطين بهم وَصَارَ قلب الْمُسلمين خَلفهم فتراموا سَاعَة وَبَات كل فريق على مَصَافهمْ ثمَّ أَصْبحُوا فَسَار الْكفَّار يقصدون طبرية والمسلمون حَولهمْ يلحون عَلَيْهِم بِالرَّمْي فاقتلع الْمُسلمُونَ مِنْهُم فوارس وَقتلُوا خيالة ورجالة فانحاز الْمُشْركُونَ إِلَى تل حطين فنزلوا عِنْده ونصبوا الْخيام وَأقَام النَّاس حَولهمْ إِلَى أَن انتصف النَّهَار وهبت الرِّيَاح فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فَانْهَزَمُوا لَا يلوون على شَيْء وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا نَحْو من مئتين وَكَانُوا كَمَا قيل اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَقيل ثَلَاثَة وَعشْرين ألفا لم يتْركُوا فِي بِلَادهمْ من يقدر على الْقِتَال إِلَّا قَلِيلا
وَكَانَ الَّذِي أسر الْملك درباس الْكرْدِي وَغُلَام الْأَمِير إِبْرَاهِيم المهراني أسر الإبرنس وَقتل صَلَاح الدّين الإبرنس بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قد غدر وَأخذ قافلة من طَرِيق مصر
ثمَّ عَاد صَلَاح الدّين إِلَى طبرية فَأخذ قلعتها بالأمان ثمَّ ضرب أَعْنَاق الأسرى الَّذين كَانُوا فِي الْعَسْكَر وَأرْسل إِلَى دمشق فَضربت أَعْنَاق الَّذين بهَا مِنْهُم(3/298)
قَالَ وَورد كتاب آخر فِيهِ هَذِه الْفتُوح الَّتِي مَا سمع بهَا قطّ وَهَذَا ذكر بَعْضهَا مُخْتَصرا مَعَ أَنه لَا يقدر أحد يصف ذَلِك لِأَن الْأَمر أكبر من ذَلِك الَّذِي يبشر بِهِ الْمُسلمُونَ أَن مَدِينَة طبرية فتحت بِالسَّيْفِ وَأخذت قلعتها بالأمان وَاجْتمعَ عَسْكَر الفرنج جَمِيعهم والتقوا بِالْمُسْلِمين عِنْد قبر شُعَيْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقتل من الإفرنج ثَلَاثُونَ ألفا
وَكَانَ عدد الإفرنج ثَلَاثَة وَسِتِّينَ ألفا بَين فَارس وراجل وَأسر مِنْهُم ثَلَاثُونَ ألفا وَبلغ ثمن الْأَسير بِدِمَشْق ثَلَاثَة دَنَانِير وَاسْتغْنى عَسْكَر الْإِسْلَام من الأسرى وَالْأَمْوَال والغنائم بِحَيْثُ لَا يقدر أحد يصف ذَلِك وَمَا سلم من عَسْكَر الفرنج سوى قومص إطرابلس مَعَ أَرْبَعَة نفر وَهُوَ مَجْرُوح ثَلَاث جراحات
وَأخذ جَمِيع أُمَرَاء الفرنج وَكم قد سبي من النِّسَاء والأطفال يُبَاع الرجل وَزَوجته وَأَوْلَاده فِي المناداة بيعَة وَاحِدَة وَلَقَد بيع بحضوري رجل وَامْرَأَة وَخَمْسَة أَوْلَاد ثَلَاث بَنِينَ وابنتان بِثَمَانِينَ دِينَارا وَأخذ صَلِيب الصلبوت فعلق على قنطارية مُنَكسًا وَدخل بِهِ القَاضِي ابْن أبي عصرون إِلَى دمشق وكل يَوْم يرى من رُؤُوس الفرنج مثل الْبِطِّيخ وَأخذ من الْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال مَا لم يَجِيء من يَشْتَرِيهَا من كَثْرَة السَّبي والغنائم
قَالَ وَفِي كتاب آخر وَكَانَ الفرنج خَمْسَة وَأَرْبَعين ألفا فَلم يسلم مِنْهُم سوى ألف وَقتل الْبَاقُونَ واستأسروهم وَكَذَلِكَ الْمُلُوك
قلت وَبَلغنِي أَن بعض فُقَرَاء الْعَسْكَر وَقع بِيَدِهِ أَسِير وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى نعل فَبَاعَهُ بهَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أردْت أَن يذكر ذَلِك وَيُقَال بلغ من هوان أسرى الفرنج وكثرتهم أَن بيع وَاحِد مِنْهُم بنعل وَللَّه الْحَمد(3/299)
وَمَا أحسن مَا قَالَ أَبُو الْحسن بن الذروي الْمصْرِيّ من قصيدة
(شرحت صَلَاح الدّين بالسمر والظبى ... من الْمجد معنى كَانَ من قبل يغمض)
(وَمَا كَاد جَيش الرّوم يبرم كَيده ... إِلَى أَن سرت مِنْك المهابة تنقض)
(حميت ثغور الْمُسلمين فَأَصْبَحت ... ثغورا بأمواه الْحَدِيد تمضمض)
(أسرت مُلُوك الْكفْر حَتَّى تركته ... وَمَا فِيهِ عرق عَن قوى النَّفس ينبض)
وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل غَائِبا عَن هَذِه الكسرة بِدِمَشْق فَلَمَّا بلغته كتب إِلَى السُّلْطَان لِيهن الْمولى أَن الله قد أَقَامَ بِهِ الدّين الْقيم وَأَنه كَمَا قيل أَصبَحت مولَايَ وَمولى كل مُسلم وَأَنه قد أَسْبغ عَلَيْهِ النعمتين الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وأورثه الْملكَيْنِ ملك الدُّنْيَا وَملك الْآخِرَة
كتب الْمَمْلُوك هَذِه الْخدمَة والرؤوس إِلَى الْآن لم ترفع من سجودها والدموع لم تمسح من خدودها وَكلما فكر الْمَمْلُوك أَن البيع تعود وَهِي مَسَاجِد وَالْمَكَان الَّذِي كَانَ يُقَال فِيهِ إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة يُقَال الْيَوْم فِيهِ إِنَّه وَاحِد جدد لله شكرا تَارَة يفِيض من لِسَانه وَتارَة يفِيض من جفْنه وجزى يُوسُف خيرا عَن إِخْرَاجه من سجنه والمماليك ينتظرون أَمر الْمولى فَكل من أَرَادَ أَن يدْخل الْحمام بِدِمَشْق قد عول على دُخُول حمام طبرية
(تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن ... وَذَلِكَ الْفَتْح لَا عمان واليمن)
(وَذَلِكَ السَّيْف لَا سيف ابْن ذِي يزن ... )(3/300)
وللألسنة بعد فِي هَذَا الْفَتْح سيح طَوِيل وَقَول جليل
وللعماد رَحمَه الله قصائد يذكر فِيهَا وقْعَة حطين لم يذكر مِنْهَا شَيْئا هُنَا بل ذكر بَعْضهَا عِنْد ذكر فتح نابلس وَبَعضهَا عِنْد ذكر فتح الْقُدس فنقلت مِنْهَا إِلَى هَذَا الْمَكَان مَا يتَعَلَّق بِهِ وَالْبَاقِي يذكر فِي مَكَانَهُ إِن شَاءَ الله قَالَ
(يَا يَوْم حطين والأبطال عابسة ... وبالمعجاجة وَجه الشَّمْس قد عبسا)
(رَأَيْت فِيهِ عَظِيم الْكفْر محتقرا ... معفرا خَدّه وَالْأنف قد تعسا)
(يَا طهر سيف بَرى رَأس الْبُرْنُس فقد ... أصَاب اعظم من بالشرك قد نجسا)
(وغاص إِذْ طَار ذَاك الرَّأْس فِي دَمه ... كَأَنَّهُ ضفدع فِي المَاء قد غطسا)
(مَا زَالَ يعطس مزكوما بغدرته ... وَالْقَتْل تسميت من بالغدر قد عطسا)
(عرى ظباه من الأغماد مهرقة ... دَمًا من الشّرك رداها بِهِ وكسا)
(من سَيْفه فِي دِمَاء الْقَوْم منغمس ... من كل من لم يزل فِي الْكفْر منغمسا)
(أفناهم قَتلهمْ والأسر فانتكسوا ... وَبَيت كفرهم من خبثهمْ كنسا)
وَقَالَ أَيْضا يُخَاطب صَلَاح الدّين رَحمَه الله
(سحبت على الْأُرْدُن ردنا من القنا ... ردينية ملدا وخطية ملسا)
(حططت على حطين قدر مُلُوكهمْ ... وَلم تبْق من أَجنَاس كفرهم جِنْسا)(3/301)
(وَنعم مجَال الْخَيل حطين لم تكن ... معاركها للجرد ضرسا وَلَا دهسا)
(غَدَاة أسود الْحَرْب تعتقل القنا ... أساود تبغي من نحور العدى نهسا)
(أتواشكس الْأَخْلَاق خشنا فلينت ... حُدُود الرقَاق الخشن أخلاقها الشكسا)
(طردتهم فِي الْمُلْتَقى وعكستهم ... مجيدا بِحكم الْعَزْم طردك والعكسا)
(فَكيف مكست الْمُشْركين رؤوسهم ... ودأبك فِي الْإِحْسَان أَن تطلق المكسا)
(كسرتهم إِذْ صَحَّ عزمك فيهم ... ونكستهم إِذْ صَار سهمهم نكسا)
(بواقعة رجت بهَا الأَرْض تَحْتهم ... دمارا كَمَا بست جبالهم بسا)
(بطُون ذئاب الأَرْض صَارَت قُبُورهم ... وَلم ترض أَرض أَن تكون لَهُم رمسا)
(وطارت على نَار المواضي فراشهم ... ضلالا فزادت من خمودهم قبسا)
(وَقد خَشَعت أصوات أبطالها فَمَا ... يعي السّمع إِلَّا من صليل الظبى همسا)
(تقاد بَدَأَ مَاء الدِّمَاء مُلُوكهمْ ... أُسَارَى كسفن اليم نطت بهَا القلسا)
(سَبَايَا بِلَاد الله مَمْلُوءَة بهَا ... وَقد شريت بخسا وَقد عرضت نخسا)
(يُطَاف بهَا الْأَسْوَاق لَا رَاغِب لَهَا ... لكثرتها كم كَثْرَة توجب الوكسا)(3/302)
(شكا يبسا رَأس الْبُرْنُس الَّذِي بِهِ ... تندى حسام حاسم ذَلِك اليبسا)
(حسا دَمه ماضي الغرار لغدره ... وَمَا كَانَ لَوْلَا غدره دَمه يحسى)
(فَللَّه مَا أهْدى يدا فتكت بِهِ ... وأطهر سَيْفا معدما رجسه النجسا)
(نسفت بِهِ رَأس الْبُرْنُس بضربة ... فَأشبه رَأْسِي رَأسه العهن والبرسا)
(تبوغ فِي أوداجه دم بغيه ... فصَال عَلَيْهِ السَّيْف يلحسه لحسا)
(بعثت أَمَام أمة النَّار نَحْوهَا ... إمَامهمْ أرناطها ذَلِك الجبسا)
(وَللَّه نَص النَّصْر جَاءَ لنصله ... فَلَا قونسا أبقى لرأس وَلَا قنسا)
(حكى عنق الداوي صل بضربة ... طرير الشبا عودا بمضرابه حسا)
(أيوم وغى يَدعُوهُ أم يَوْم نائل ... وَأَنت وهبت الْغَانِمين بِهِ الخمسا)
(وَقد طَابَ ريانا على طبرية ... فيا طيبها ريا وَيَا حسنها مرسى)
وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة سَيَأْتِي بَعْضهَا فِي مدح صَلَاح الدّين رَحمَه الله(3/303)
(جَاشَتْ جيوش الشّرك يَوْم لقيتهم ... يتدامرون على متون الضمر)
(أوردت أَطْرَاف الرماح صُدُورهمْ ... فولغن فِي علق النجيع الْأَحْمَر)
(فهناك لم ير غير نجم مقبل ... فِي إِثْر عفريت رجيم مُدبر)
(فَمن الَّذِي من جيشهم لم يخترم ... وَمن الَّذِي من جَمِيعهم لم يؤسر)
(حَتَّى لقد بِيعَتْ عقائل أرهقت ... بِالسَّبْيِ بِالثّمن الأخس الأحقر)
(سقت المماليك الْكِرَام مُلُوكهمْ ... كأسا بِهِ سقت اللَّئِيم الهنفري)
(وعجمت عود صليبهم فَكَسرته ... وَسوَاك ألفاه صَلِيب المكسر)
(أغْلى الأداهم من أسرت وأرخصت ... بيض الصوارم من نهاب الْعَسْكَر)
(وَجعلت شَرق الأَرْض يحْسد غربها ... بك فَهُوَ دَاع دَعْوَة الْمُسْتَنْصر)
(لَا يعدمنك الْمُسلمُونَ فكم يَد ... أوليتهم معروفها لم يُنكر)
(أمنت سربهم وصنت حريمهم ... ودرأت عَنْهُم قاصمات الْأَظْهر)
(مَا إِن رآك الله إِلَّا آمرا ... فيهم بِمَعْرُوف ومنكر مُنكر)
(متواضعا لله جلّ جَلَاله ... وَبِك اضمحلت سطوة المتكبر)
(لم تخل سمعا من هناء مهنىء ... للْمُسلمين وَمن سَماع مُبشر)
(واستعظم الْأَخْبَار عَنْك معاشر ... فاستصغروا مَا استعظموا بالمخبر)
(مَضَت الْمُلُوك وَلم تنَلْ عشر الَّذِي ... أُوتِيتهُ من منجح أَو مفخر)
وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الساعاتي فِي فتح طبرية(3/304)
(جلت عزماتك الْفَتْح المبينا ... فقد قرت عُيُون المؤمنينا)
(رددت أخيذة الْإِسْلَام لما ... غَدا صرف الْقَضَاء بهَا ضمينا)
(وَهَان بك الصَّلِيب وَكَانَ قدما ... يعز على العوالي أَن يهونا)
(يُقَاتل كل ذِي ملك رِيَاء ... وَأَنت تقَاتل الْأَعْدَاء دينا)
(غَدَتْ فِي وجنة الْأَيَّام خالا ... وَفِي جيد الْعلَا عقدا ثمينا)
(فيالله كم سرت قلوبا ... ويالله كم أبكت عيُونا)
(وَمَا طبرية إِلَّا هدي ... ترفع عَن أكف اللامسينا)
(حصان الذيل لم تقذف بِسوء ... وسل عَنْهَا اللَّيَالِي والسنينا)
(فضضت ختامها قسرا وَمن ذَا ... يصد اللَّيْث أَن يلج العرينا)
(لقد أنكحتها صم العوالي ... فَكَانَ نتاجها الْحَرْب الزبونا)
(منال بذ أهل الأَرْض طرا ... سواك وَمَعْقِل أعيا القرونا)
(قست حَتَّى رَأَتْ كُفؤًا فَلَانَتْ ... وَغَايَة كل قَاس أَن يلينا)
(قضيت فَرِيضَة الْإِسْلَام مِنْهَا ... وصدقت الْأَمَانِي والظنونا)
(تهز معاطف الْقُدس ابتهاجا ... وترضي عَنْك مَكَّة والحجونا)
(فَلَو أَن الجماد يُطيق نطقا ... لنادتك ادخلوها آمنينا)
(جعلت صباح أهليها ظلاما ... وأبدلت الزئير بهَا أنينا)
(تخال حماة حوزتها نسَاء ... بموضون الْحَدِيد مقنعينا)
(لبيضك فِي جماجمهم غناء ... لذيذ علم الطير الحنينا)
(تميل إِلَى المثقفة العوالي ... فَهَل أمست رماحا أم غصونا)
(يكَاد النَّقْع يذهلها فلولا ... بروق القاضبات لما هدينَا)(3/305)
(فكم حازت قدود قناك مِنْهَا ... قدودا كالقنا لونا ولينا)
(وغيدا كالجآذر آنسات ... كغيد نداك أَبْكَارًا وعونا)
(وَلما باكرتها مِنْك نعمى ... بنان تفضج الْغَيْث الهتونا)
(أعدت بهَا اللَّيَالِي وَهِي بيض ... وَقد كَانَت بهَا الْأَيَّام جونا)
(فَلَيْسَ بعادم مرعى خصيبا ... أَخُو سغب وَلَا مَاء معينا)
(فَلَا عدم الشَّام وساكنوه ... ظبى تشفي بهَا الدَّاء الدفينا)
(سهاد جفونها فِي كل فتح ... سهاد يمنح الغمض الجفونا)
(فألمم بالسواحل فَهِيَ صور ... إِلَيْك وَألْحق الْهَام المتونا)
(فَقلب الْقُدس مسرور وَلَوْلَا ... سطاك لَكَانَ مكتئبا حَزينًا)
(أدرت على الفرنج وَقد تلاقت ... جموعهم عَلَيْك رحى طحونا)
(فَفِي بيسان ذاقوا مِنْك بؤسا ... وَفِي صفد أتوك مصفدينا)
(لقد جَاءَتْهُم الْأَحْدَاث جمعا ... كَأَن صروفها كَانَت كمينا)
(وخانهم الزَّمَان وَلَا ملام ... فلست بمبغض زَمنا خؤونا)
(لقد جردت عزما ناصريا ... يحدث عَن سناه طور سينا)
(فَكنت كيوسف الصّديق حَقًا ... لَهُ هوت الْكَوَاكِب ساجدينا)
(لقد أَتعبت من طلب الْمَعَالِي ... وحاول أَن يسوس المسلمينا)(3/306)
(وَإِن تَكُ آخرا وخلاك ذمّ ... فَإِن مُحَمَّد فِي الآخرينا)
قَالَ ابْن أبي طي حَدثنِي وَالِدي حميد النجار قَالَ كنت بالموصل فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة فزرت الشَّيْخ عمر الملاء فَدخل إِلَيْهِ رجل فَقَالَ أَيهَا الشَّيْخ رَأَيْت البارحة فِي النّوم كَأَنِّي بِأَرْض غَرِيبَة لَا أعرفهَا وَكَأَنَّهَا مَمْلُوءَة بالخنازير وَكَأن رجلا بِيَدِهِ سيف وَهُوَ يقتل الْخَنَازِير وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ
فَقلت لرجل هَذَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَذَا الْمهْدي قَالَ لَا
فَقلت من هَذَا قَالَ هَذَا يُوسُف مَا زادني على ذَلِك
قَالَ فتعجبت الْجَمَاعَة من هَذِه الرُّؤْيَا وَقَالُوا إِنَّه سيقتل النَّصَارَى رجل يُقَال لَهُ يُوسُف
وحدست الْجَمَاعَة أَنه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن صَاحب الْمغرب وَكَانَ المستنجد بِاللَّه قد ولي الْخلَافَة تِلْكَ السّنة فحدس بعض الْجَمَاعَة عَلَيْهِ قَالَ وأنسيت أَنا هَذِه الْوَاقِعَة فَلَمَّا كَانَت سنة كسرة حطين ذكرتها وَكَانَ يُوسُف الْملك النَّاصِر رَحمَه الله
قَالَ وحَدثني ظئر لي من نسَاء الحلبيين كَانَت تدَاخل أُخْت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر قَالَت كَانَت وَالِدَة السُّلْطَان تخبر أَنَّهَا أتيت فِي نومها وَهِي حَامِل بالسلطان فَقيل لَهَا إِن فِي بَطْنك سَيْفا من سيوف الله تَعَالَى(3/307)
فصل فِي فتح عكا وَغَيرهَا
وَهِي بِالْألف الممدودة وَيدل على ذَلِك أَنه يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا عكاوي وَقد وجدت ذَلِك فِي شعر قديم وَمِنْهُم من يَقُول عكه بِالْهَاءِ وَمثل ذَلِك حصن عرقه وَبَعْضهمْ يَقُول عرقا بِالْألف ونهر ثورا وَبَعْضهمْ يَقُول نهر ثوره بِالْهَاءِ
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان طَالبا عكا وَكَانَ نُزُوله عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ ربيع الآخر وقاتلها بكرَة الْخَمِيس مستهل جُمَادَى الأولى فَأَخذهَا واستنقذ من كَانَ فِيهَا من الْأُسَارَى وَكَانُوا زهاء أَرْبَعَة آلَاف نفر وَاسْتولى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر والبضائع والتجائر فَإِنَّهَا كَانَت مَظَنَّة التُّجَّار وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي بِلَاد السَّاحِل يَأْخُذُونَ الْحُصُون والقلاع والأماكن المنيعة فَأخذُوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وَكَانَ ذَلِك لخلو الرِّجَال بِالْقَتْلِ والأسر
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء والتوحيد ظَاهر على التَّثْلِيث وَالطّيب قد امتاز من الْخَبيث وَنزل بِأَرْض لوبية عَشِيَّة وأعادها بأزهار بنوده وأنوار جُنُوده رَوْضَة موشية
ثمَّ أصبح سائرا إِلَى عكا سارا سره وبارا بِأَهْل الدّين بره وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة صلوَات الله على ساكنها فِي موكبه فَكَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سير للْفَقِير إِلَى نصرته من يثرى بِهِ(3/308)
من يثربه وَهَذَا الْأَمِير عز الدّين أَبُو فليتة الْقَاسِم بن المهنا الْحُسَيْنِي قد وَفد فِي تِلْكَ السّنة أَوَان عود الْحَاج وَهُوَ ذُو شيبَة تقد كالسراج وَمَا برح مَعَ السُّلْطَان ماثور المآثر مَيْمُون الصُّحْبَة مَأْمُون الْمحبَّة مبارك الطلعة مشاركا فِي الْوَقْعَة فَمَا تمّ فتح فِي تِلْكَ السنين إِلَّا بِحُضُورِهِ وَلَا أشرق مطلع من النَّصْر إِلَّا بنوره فرأيته فِي ذَلِك الْيَوْم للسُّلْطَان مسايرا وَرَأَيْت السُّلْطَان لَهُ مشاورا محاورا وَأَنا أَسِير مَعَهُمَا وَقد دَنَوْت مِنْهُمَا ليسمعاني وأسمعهما ولاحت أَعْلَام عكا وَكَأن بيارق الفرنج المركوزة عَلَيْهَا أَلْسِنَة من الْخَوْف تتشكى وَكَأن عذبات النيرَان تصاعدت لعذاب أَهلهَا وَقد توافرت عَسَاكِر الْإِسْلَام إِلَيْهَا من وعرها وسهلها
وَلما أَشْرَفنَا عَلَيْهَا مستبشرين أيقنا بِفَتْحِهَا مسبشرين فَمَا كَانَ فِيهَا من يحميها فَمَا صدقنا كَيفَ نملكها ونحويها
وَظهر على السُّور أَهلهَا لأجل الممانعة والثبات على المدافعة وخفقان ألويتها يشْعر بقلوبها الخافقة وأرواح جلدهمْ الزاهقة
ووقفنا نتأمل طلولها ونؤمل حُصُولهَا وخيم السُّلْطَان بقربها وَرَاء التل وانبثت عساكره فِي الوعث والسهل
وبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد هزتنا الأطراب ونقول مَتى يجْتَمع الصَّباح وَالْأَصْحَاب فَمَا هجدنا وَلَا غرارا وَلَا وجدنَا من الْفَرح قرارا وَالسُّلْطَان جَالس وَنحن عِنْده وَهُوَ يحض جنده ويقدح مَعَهم فِي اقتباس الآراء زنده وَمنا من يستنجز وعده وَمنا من يستميح رفده وَمنا من يواصله بِالدُّعَاءِ وَمنا من يشافهه بالهناء
وَأصْبح يَوْم الْخَمِيس وَركب فِي خميسه ووقف كالأسد فِي عريسه ووقفنا بِإِزَاءِ(3/309)
الْبَلَد صُفُوفا وأطللنا على أطلاله وقوفا فَخرج أهل الْبَلَد يطْلبُونَ الْأمان ويبذلون الإذعان فآمنهم وَخَيرهمْ بَين الْمقَام والإنتقال ووهب لَهُم عصمَة الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وَكَانَ فِي ظنهم أَنه يستبيح دِمَاءَهُمْ وَيَسْبِي ذُرِّيتهمْ ونساءهم وأمهلهم أَيَّامًا حَتَّى ينْتَقل من يخْتَار النقلَة فاغتنموا تِلْكَ المهلة وَفتح الْبَاب للخاصة وَاسْتغْنى بِالدُّخُولِ إِلَى الْبَلَد جمَاعَة من ذَوي الْخَصَاصَة فَإِن الْقَوْم مَا صدقُوا من الْخَوْف المزعج وَالْفرق المحرج كَيفَ يتركون دُورهمْ بِمَا فِيهَا ويسلمون وَعِنْدهم أَنهم إِذا نَجوا بِأَنْفسِهِم أَنهم يغنمون
فَلَمَّا دخل الْجند ركز كل على دَار رمحه وأسام فِيهَا سرحه فحصلوا على دور أخلاها أَرْبَابهَا وأموال خَلاهَا أَصْحَابهَا وَكُنَّا لأجل الْأمان نهابها فطاب لاولئك نهابها
وَجعل السُّلْطَان للفقيه عِيسَى الهكاري كل مَا كَانَ للداوية من منَازِل وضياع ومواضع وَربَاع فَأَخذهَا بِمَا فِيهَا من غلال ومتاع وَاسْتَخْرَجُوا الدفائن وولجوا المخازن وداروا الْأَمَاكِن وَكَذَلِكَ مماليك الْملك الْأَفْضَل وَأَصْحَابه وولاته ونوابه نبشوا المحارز وفتشوا المراكز واستباحوا الأهراء واجتاحوا الْأَشْيَاء
وَكَانَ السُّلْطَان قد فوض عكا وضياعها ومعاقلها وقلاعها إِلَى وَلَده الْأَكْبَر الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ
ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنْوَاع مَا استولوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال ثمَّ قَالَ وَمن جملَة ذَلِك أَنهم احتاطوا بِغَيْر علمي على دَار باسمي فباعوا مِنْهَا مَتَاعا بِسبع مئة دِينَار وأخلوها مِمَّا كَانَ فِيهَا من آلَات وأدخار وقلدوني الْمِنَّة فِي تَحْصِيل(3/310)
تِلْكَ الدَّار فَإِنَّهَا كَانَت من أنفس الْعقار وسلموها إِلَى غُلَام صديق لي ليصونها وَيقوم بحفظها والذب عَنْهَا والدفاع دونهَا
فَذكر أَن الْغُلَام انْتفع من آلاتها بعد خلوها بِمَا قِيمَته سَبْعُونَ دِينَارا وَأَن الْأَوَّلين نقلوا مِنْهَا من الذخر أوقارا
قَالَ وَإِنَّمَا وصفت هَذَا ليعلم مَا غنموه والتهبوا على حيازته والتهموه وَتصرف الْملك المظفر تَقِيّ الدّين فِي دَار السكر فأفنى قنودها واستوعب موجودها وَنقل قدورها وأنقادها وحوى جواهرها وأعراضها
وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وخلى سكان الْبَلَد دُورهمْ ومخزونهم ومذخورهم وتركوها لمن أَخذهَا ونبذوا مَا حووه لمن حواها وَمَا نبذها وافتقر من الفرنج أَغْنِيَاء وَاسْتغْنى من أجنادنا فُقَرَاء وَلَو ذخرت تِلْكَ الحواصل وحصلت تِلْكَ الذَّخَائِر وَجمع لبيت المَال ذَلِك المَال الْمَجْمُوع الوافر لَكَانَ عدَّة ليَوْم الشدائد وعمدة لنجح الْمَقَاصِد
فرتعت فِي خضرائها بل صفرائها وبيضائها سروح الأطماع وَطَالَ لمستحليها ومستجليها الإمتاع بذلك الْمَتَاع
قَالَ فِي الْبَرْق وقرىء على السُّلْطَان لَيْلَة من كتاب الْفَتْح وَنحن(3/311)
بالقدس نعني هَذَا الْمَكَان وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَقَالَ السُّلْطَان هَذِه رفيعة على ثَلَاثَة اثْنَان مِنْهُم فِي جوَار الرَّحْمَة وَالْآخر بَاقٍ فِي مقرّ الْعِصْمَة
يَعْنِي بالاثنين الْفَقِيه عِيسَى وتقي الدّين وبالآخر الْبَاقِي وَلَده نور الدّين
قَالَ ولعمري هُوَ كَمَا ذكره لَكِن الْأَفْضَل مَا حصل لَهُ لخاصه بل لِذَوي اخْتِصَاصه واستخلاصه
وفتحوا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة مستهل جُمَادَى الأولى فَجِئْنَا إِلَى كنيستها الْعُظْمَى فأزحنا عَنْهَا البؤسى بالنعمى وَحضر الْأَجَل الْفَاضِل فرتب بهَا الْمِنْبَر والقبلة وَهِي أول جُمُعَة أُقِيمَت بالسَّاحل بعد يَوْم الْفَتْح وَكَانَ الْخَطِيب وَالْإِمَام فِيهَا الْفَقِيه جمال الدّين عبد اللَّطِيف بن الشَّيْخ أبي النجيب السهروردي وولاه السُّلْطَان مناصب الشَّرِيعَة بعكا تولى الخطابة وَالْقَضَاء والحسبة وَالْوَقْف
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد بعد فتح عكا يصف كسرة حطين(3/312)
صبح الْخَادِم طبرية فاقتض عذرتها بِالسَّيْفِ وهجم عَلَيْهَا هجوم الطيف وتفرق أَهلهَا بَين الْأسر وَالْقَتْل وعاجلهم الْأَمر فَلم يقدروا على الخداع والختل وَجَاء الْملك وَمن مَعَه من كفاره وَلم يشْعر أَن ليل الْكفْر قد آن وَقت إسفاره فأضرم الْخَادِم عَلَيْهِم نَارا ذَات شرار أذكرت بِمَا أعد الله لَهُم فِي دَار الْقَرار فترجل هُوَ وَمن مَعَه عَن صهوات الْجِيَاد وتسنموا هضبة رَجَاء أَن تنجيهم من حر السيوف الْحداد ونصبوا للْملك خيمة حَمْرَاء وضعُوا على الشّرك عمادها وتولت الرِّجَال حفظ أطنابها فَكَانُوا أوتادها فَأخذ الْملك أَسِيرًا {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} وَأسر الإبرنس لَعنه الله فحصد بذره وَقَتله الْخَادِم بِيَدِهِ ووفى بذلك نَذره وَأسر جمَاعَة من مقدمي دولته وكبراء ضلالته وَكَانَ الْقَتْلَى تزيد على أَرْبَعِينَ ألفا وَلم يبْق أحد من الداوية فَللَّه. هُوَ من يَوْم تصاحب فِيهِ الذِّئْب والنسر وتداول فِيهِ الْقَتْل والأسر
أصدر الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من ثغر عكا وَالْإِسْلَام قد اتَّسع مجاله وَتصرف أنصاره وَرِجَاله وَالْكفْر قد ثبتَتْ أوجاله وَدنت آجاله
قَالَ الْعِمَاد وَمن جملَة البشائر بكسرة حطين وَلما أحيط بالقوم آوى ملكهم إِلَى جبل يعصمه من العوم فأسمعه السَّيْف لَا عَاصِم الْيَوْم وَاسْتولى الخذلان عَلَيْهِم بأسرهم وَبَردت أَيدي الْمُؤمنِينَ بَحر قَتلهمْ وأسرهم وَلم يبْق لَهُم بَاقِيَة وغصت بقتلاهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَرض الله الواسعة ونار الله الحامية فَمَا يطَأ من يصل إِلَى خيمنا إِلَّا على رممهم البالية(3/313)
وَأسر الْملك وَأَخُوهُ وبارونيته ومقدموه وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا القومص وَهُوَ مسلوب وَلَا بُد ان ندركه فَهُوَ مَطْلُوب
وَقد كُنَّا نذرنا ضرب رَقَبَة الإبرنس صَاحب الكرك الغدار كَافِر الْكفَّار ونشيدة النَّار فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ ضربنا عُنُقه سَرِيعا وسرنا إِلَى عكا وَهِي بَيْضَة ملكهم وواسطة سلكهم ومركز دَائِرَة كفرهم وَمجمع جمع برهم وبحرهم فتسلمناها بالأمان والصخرة المقدسة الْآن بِنَا تصرخ وتستغيث وَعباد الله الصالحون قد وصلت إِلَيْهِم بوعد الله الصَّادِق الْمَوَارِيث والبشارة بِفَتْح الْقُدس لَا تتأخر والهمم بعد هَذَا الْفَتْح السّني على ذَلِك تتوفر وَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ الصَّالِحَات بِحَمْدِهِ {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده}
فصل فِي فتح نابلس وَجُمْلَة من الْبِلَاد الساحلية بعد فتح عكا وطبرية وَذكر بعض كتب البشائر الشاهدة لذَلِك
قَالَ الْعِمَاد أَقَامَ السُّلْطَان أَيَّامًا بِبَاب عكا بعد فتح عكا على التل مخيما وعَلى فتح سَائِر بِلَاد السَّاحِل مصمما
وَكَانَ قد كتب إِلَى أَخِيه الْعَادِل بِمصْر بِمَا فَتحه الله عَلَيْهِ فوصل بعسكره وَفتح فِي طَرِيقه حصن(3/314)
مجدل يابا ومدينة يافا عنْوَة فقصده من عسكرنا القصاد ووفد إِلَيْهِ الوفاد وَأمره السُّلْطَان أَن يُقيم فِي ذَلِك الْجَانِب جَامعا للكتائب ليجتمع بِهِ الواصلون من مصر الآملون مَعَه النَّصْر
قَالَ وَتوجه عدَّة من الْأُمَرَاء والعسكرية إِلَى الناصرة وقيسارية والبلاد الْمُجَاورَة لعكا وطبرية وَمضى كل فريق فِي صوب وآبوا بِالْغَنِيمَةِ والسبي خير أَوب
قَالَ فَأَما الفولة فَهِيَ قلعة للداوية حَصِينَة وفيهَا ذخائرهم فَلَمَّا خرج الداوية مِنْهَا وَقتلُوا لم يبْق فِيهَا إِلَّا أَتبَاع وغلمان فسلموها وَجَمِيع مَا يجاورها كدبورية وجينين وزرعين وَالطور
وَزَاد فِي كتاب الْفَتْح واللجون وبيسان والقيمون وَجَمِيع مَا لعكا وطبرية من الولايات والزيب ومعليا والبعنة وإسكندرونة ومنواث
قَالَ وَتوجه مظفر الدّين كوكبري إِلَى الناصرة فاستباحها وصفرت صفورية من سكانها وَتوجه بدر الدّين دلدرم وغرس الدّين قليج وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى قيسارية فافتتحوها بِالسَّيْفِ وتسلمت بعْدهَا حيفا وأرسوف وَاسْتولى على تِلْكَ الشموس والأقمار الْكُسُوف والخسوف وحيفا بَين عكا وقيسارية على الْبَحْر
قَالَ وَأما نابلس فَإِن أهل ضياعها ومعظم أَهلهَا كَانُوا مُسلمين وَفِي سلك الرّعية مَعَ الفرنج منتظمين وهم يجبونَ كل عَام مِنْهُم قرارا(3/315)
وَلَا يغيرون لَهُم شرعا وَلَا شعارا فَلَمَّا عرفُوا كسرتهم وَأَنَّهُمْ لَا يرجون جبرهم خَافُوا من مساكنة الْمُسلمين فَتَفَرَّقُوا وكبسهم أهل الضّيَاع فِي الدّور والرباع وغنموا مَا وجدوه من الذَّخَائِر وَالْمَتَاع وأوقعوا بضعفائهم وضايقوا الْحُصُون على أقويائهم وطلبها من السُّلْطَان ابْن أُخْته حسام الدّين عمر بن مُحَمَّد بن لاجين وَهُوَ عَزِيز عِنْد خَاله مَلِيء بفضله وأفضاله فأقطعة السُّلْطَان نابلس وأعمالها وضياعها ونواحيها وقلاعها فَتوجه إِلَيْهَا بعسكره فَأول مَا أَنَاخَ على سبسطية وَبهَا مشْهد زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام قد اتَّخذهُ الأقساء كَنِيسَة مُنْذُ فَارقه الْإِسْلَام وَهُوَ متعبدهم الْمُعظم والمشهد المكرم وَقد حجبوه بالأستار وحلوه بِالْفِضَّةِ والنضار وعينوا لَهُ مواسم الزوار وقومته من الرهابين فِيهِ مُقِيمَة وَلَا يُؤذن فِي الزِّيَارَة إِلَّا لمن مَعَه هَدِيَّة لَهَا قيمَة فدخله وحوى مَا فِيهِ وَأبقى مَا لَا يحسن أَن يَخْلُو من مثله الْمَسْجِد وَفتح للْمُسلمين أبوابه وَأظْهر للمصلين محرابه
ثمَّ سَار إِلَى نابلس فَفَتحهَا بالأمان واستمال من سكانها من صرف عَلَيْهِ الْجِزْيَة بعد زمَان وأجراهم على مَالهم من الْعِمَارَة والبنيان وَبقيت بِيَدِهِ إِلَى آخر عَهده وعمرت بعدله ورفده
قَالَ الْعِمَاد وأنشدته يَوْم فتح الْقُدس قصيدة أَولهَا
(استوحش الْقلب مذ غبتم فَمَا أنسا ... وأظلم الْيَوْم مذ بنتم فَمَا شمسا)
(مَا طبت نفسا وَلَا استحسنت بعدكم ... شَيْئا نفيسا وَلَا استعذبت لي نفسا)
(قلبِي وصبري وغمضي والشباب وَمَا ... ألفتم من نشاطي كُله خلسا)
(وَكَيف يصبح أَو يُمْسِي محبكم ... وشوقكم يَتَوَلَّاهُ صباح مسا)
(عَادَتْ معاهدكم بالجزع دارسة ... وَإِن معهدكم فِي الْقلب مَا درسا)
(وَكنت أحدس مِنْكُم كل داهية ... وَمَا دهانا من الهجران مَا حدسا)(3/316)
(لما هدت نَار شوقي ضيف طيفكم ... قريته بالكرى إِذْ زار مقتبسا)
(ورمت تأنيسه حَتَّى وهبت لَهُ ... إِنْسَان عَيْني أفديه فَمَا أنسا)
(أَنا الخيال نحولا فالخيال إِذا ... مَا زارني كَيفَ يلقى من بِهِ التبسا)
(لهفي على زمن قَضيته طَربا ... إِذْ لم أكن من صروف الدَّهْر محترسا)
(عَسى يعود شَبَابِي ناضرا وَمَتى ... أَرْجُو نضارة عود للشباب عَسى)
(وشادن يفرس الآساد ناظره ... فديته شادنا للأسد مفترسا)
(فِي الْعَطف لين وَفِي أخلاقه شوس ... يَا لين عطفيه جنب خلقه الشوسا)
وَمِنْهَا
(إِن نَاب لبس مضينا لاجئين إِلَى الْفَتى ... الحسام ابْن لاجين بنابلسا)
(يُمِيت أعداءه بَأْسا ونائله ... يحيي رَجَاء الَّذِي من نجحه أيسا)
(ممزق المازق المنسوج عثيره ... وَقد محا الْيَوْم ليل النَّقْع فانطمسا)
(لَا زلت مستويا فَوق الحصان وَفِي ... حصن الْحفاظ وَمن عاداك منتكسا)
وَهِي طَوِيلَة وَقد تقدّمت مِنْهَا أَبْيَات فِي وصف كسرة حطين وَسَيَأْتِي مِنْهَا أَيْضا أَبْيَات عِنْد فتح الْقُدس فِي مدح السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله
وَمن كتاب عَن السُّلْطَان إِلَى سيف الْإِسْلَام أَخِيه كاتبنا أخانا الْعَادِل(3/317)
أَن يدْخل بالعسكر الْمصْرِيّ من ذَلِك الْجَانِب فَلَمَّا بشر بِكَسْر الفرنج وَفتح عكا وطبرية كَانَ قد وصل إِلَى السوَاد فَجَاز الْعَريش وزار الداروم وأجفلت قدامه الْبِلَاد وَوصل إِلَى يافا فَفَتحهَا عنْوَة ثمَّ حصر مجدل يابا فطلبت مِنْهُ الْأمان
وَقد اشْتَمَل الْفَتْح على الْبِلَاد الْمعينَة وَهِي طبرية عكا الزيب معليا إسكندرونه تبنين هونين الناصرة الطّور صفورية الفولة جينين زرعين دبورية عفربلا بيسان سبسطية نابلس اللجون أرِيحَا سنجل البيرة يافا أرسوف قيسارية حيفا وصرفند صيدا بيروت قلعة أبي الْحسن جبيل مجدل يابا جبل الْجَلِيل مجد حباب الداروم غَزَّة عسقلان تل الصافية التل الْأَحْمَر الأطرون بَيت جِبْرِيل جبل الْخَلِيل بَيت لحم لد الرملة قرتيا الْقُدس صوبا هُرْمُز سلع عفرى الشقيف
قَالَ وَلم نذْكر مَا تخللها من الْقرى والضياع والأبراج الحصينة الْجَارِيَة مجْرى الْحُصُون والقلاع وَلكُل وَاحِدَة من الْبِلَاد الَّتِي ذَكرنَاهَا أَعمال وقرى ومزارع وأماكن ومواضع قد جاس الْمُسلمُونَ خلالها واستوعبوا ثمارها وغلالها
قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا أنشأته فِي هَذَا التَّارِيخ من شرح الْفتُوح وكتبت بِهِ إِلَى الدِّيوَان وبدأت بقوله تَعَالَى {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} الْحَمد لله على مَا أنْجز من هَذَا(3/318)
الْوَعْد وعَلى نصرته لهَذَا الدّين الحنيف من قبل وَمن بعد وَجعل بعد عسر يسرا وَقد أحدث الله بعد ذَلِك أمرا وهون الْأَمر الَّذِي مَا كَانَ الْإِسْلَام يَسْتَطِيع عَلَيْهِ صبرا وخوطب الدّين بقوله {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى} فَالْأولى فِي عصر النَّبِي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة وَالْأُخْرَى هَذِه الَّتِي عتق فِيهَا من رق الكآبة فَهُوَ قد أصبح حرا رَيَّان الكبد الحرى وَالزَّمَان كَهَيْئَته اسْتَدَارَ وَالْحق ببهجته قد استنار وَالْكفْر قد رد مَا كَانَ عِنْده من الْمُسْتَعَار فَالْحَمْد لله الَّذِي أعَاد الْإِسْلَام جَدِيدا ثَوْبه بعد أَن كَانَ جذيذا حبله مبيضا نَصره مخضرا نصله متسعا فَضله مجتمعا شَمله
وَالْخَادِم يشْرَح من نبأ هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والنصر الْكَرِيم مَا يشْرَح صُدُور الْمُؤمنِينَ ويمنح الحبور لكافة الْمُسلمين ويورد الْبُشْرَى بِمَا أنعم الله بِهِ من يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الآخر إِلَى يَوْم الْخَمِيس منسلخه وَتلك سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما سخرها الله على الْكفَّار {فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت الْبِلَاد على عروشها خاوية ورأيتها إِلَى الْإِسْلَام ضاحكة كَمَا كَانَت من الْكفْر باكية فَيوم الْخَمِيس الأول فتحت طبرية وَيَوْم الْجُمُعَة والسبت نوزل الفرنج فكسروا الكسرة الَّتِي مَا لَهُم بعْدهَا قَائِمَة وَأخذ الله(3/319)
أعدائه بأيدي أوليائه أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة
وَفِي يَوْم الْخَمِيس منسلخ الشَّهْر فتحت عكا بالأمان وَرفعت بهَا أَعْلَام الْإِيمَان وَهِي أم الْبِلَاد وَأُخْت إرم ذَات الْعِمَاد
وَقد اصدر هَذِه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور وقلب ملك الْكفْر الْأَسير بجيشه المكسور مكسور وَالْحَدِيد الْكَافِر الَّذِي كَانَ فِي يَد الْكفْر يضْرب وَجه الْإِسْلَام قد صَار حديدا مُسلما يعوق خطوَات الْكفْر عَن الْإِقْدَام وأنصار الصَّلِيب وكباره وكل من المعمودية عمدته والدير دَاره قد أحاطت بِهِ يَد القبضة وغلق رَهنه فَلَا يقبل فِيهِ القناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وطبرية قد رفعت أَعْلَام الْإِسْلَام عَلَيْهَا وَنَكَصت من عكا مِلَّة الْكفْر على عقبيها وعمرت إِلَى أَن شهِدت يَوْم الْإِسْلَام وَهُوَ خير يوميها
وَقد صَارَت البيع مَسَاجِد يعمرها من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَصَارَت المذابح مَوَاقِف لخطباء المنابر واهتزت أرْضهَا لموقف الْمُسلم فِيهَا وطالما ارتجت لموقف الْكَافِر
فَأَما الْقَتْلَى والأسرى فَإِنَّهَا تزيد على ثَلَاثِينَ ألفا وَأما فرسَان الداوية والاسبتار فقد أمضى حكم الله فيهم وَقطع بهم سوق نَار الْجَحِيم ورحل الراحل مِنْهُم إِلَى الشَّقَاء الْمُقِيم وَقتل الإبرنس الْكفَّار ونشيدة النَّار من يَده فِي الْإِسْلَام كَمَا كَانَت يَد الكليم
والبلاد والمعاقل الَّتِي فتحت طبرية عكا الناصرة صفورية قيسارية نابلس حيفا معليا الفولة الطّور الشقيف وقلاع بَين هَذِه كَثِيرَة
وَالْملك المظفر تَقِيّ الدّين ظفره الله مضايق لصور(3/320)
وحصن تبنين وَالْأَخ الْعَادِل سيف الدّين نَصره الله قد كُوتِبَ بالوصول بِمن عِنْده من العساكر وَينزل فِي طَرِيقه على غَزَّة وعسقلان ويجهز مراكب الأسطول المنصورة إِلَى عكا وَمَا يتَأَخَّر النهوض إِلَى الْقُدس فَهَذَا هُوَ أَوَان فَتحه وَلَقَد دَامَ عَلَيْهِ ليل الضلال وَقد آن أَن يسفر فِيهِ الْهدى عَن صبحه
فصل فِي فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل وَغَيرهَا ومجيء المركيس إِلَى صور
قَالَ الْعِمَاد أرسل السُّلْطَان إِلَى تبنين ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فضايقها وَكتب إِلَى السُّلْطَان أَن يَأْتِيهِ بِنَفسِهِ فوصل إِلَيْهَا فِي ثَلَاث مراحل وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى فراسلوا السُّلْطَان وسألوا الْأمان واستمهلوا خَمْسَة أَيَّام لينزلوا بِأَمْوَالِهِمْ فأمهلوا وبذلوا رهائن من مقدميهم ووفوا بِمَا بذلوا وتقربوا بِإِطْلَاق الْأُسَارَى من الْمُسلمين فَخرج الْأُسَارَى مسرورين فسر بهم السُّلْطَان وسربهم وأقرهم وقربهم وكساهم وحباهم وآتاهم بعد ردهم إِلَى مغانيهم غناهم وَهَذَا دأبه فِي كل بلد يَفْتَحهُ وَملك يربحه أَنه يبْدَأ بالأسارى فيفك قيودها وَيُعِيد بعد عدمهَا وجودهَا فخلص تِلْكَ السّنة من الْأسر أَكثر من عشْرين ألف أَسِير وَوَقع فِي أسره من الْكفَّار مئة ألف وَلما خلوا القلعة وأخلو الْبقْعَة سيرهم وَمَعَهُمْ(3/321)
من الْعَسْكَر الْمَنْصُور من أوصلهم إِلَى صور وتسلمها يَوْم الْأَحَد الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى وَكَانَ شَرط عَلَيْهِم تَسْلِيم الْعدَد وَالدَّوَاب والخزائن
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد فتحهَا السُّلْطَان عنْوَة وَكَانَ بهَا رجال أبطال شديدون فِي دينهم فاحتاجوا إِلَى معاناة شَدِيدَة وَنَصره الله عَلَيْهِم وَأسر من بَقِي بهَا بعد الْقَتْل ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى مَدِينَة صيدا فَنزل عَلَيْهَا وَمن الْغَد تسلمها وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
قَالَ الْعِمَاد سنحت لَهُ صيدا فتصدى لصيدها وَكَانَت همته فِي قيدها وبادرها إشفاقا من مكر العداة وكيدها
ووصلنا فِي يَوْمَيْنِ إِلَى صيدا إِلَى منهل فتحهَا صادين وَعَن حمى الْحق دونهَا لأهل الْبَاطِل صادين وَلما نزلنَا من الوعر إِلَى السهل سهل مَا توعر وَصفا من الْأَمر مَا ظن أَنه تكدر فصرفنا الأعنة إِلَى صرفند وَهِي مَدِينَة لَطِيفَة على السَّاحِل مورودة المناهل ذَات بساتين وأشجار ورياحين وأزهار فأخذناها وخيمنا على صيدا وَقد جَاءَت رسل صَاحبهَا بمفاتيحها وَقد طلعت الرَّايَة الصَّفْرَاء على أسوارها وأقيمت بهَا الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة واستديمت بهَا بدل الْعِصْيَان لله الطَّاعَة
ثمَّ سَار فِي يَوْمه على سمت بيروت فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْخَمِيس وضايقها وحاصرها ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ(3/322)
وتسلمها يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى
وَمرض الْعِمَاد فأملى كتاب صلح بيروت وَرجع إِلَى دمشق للمداواة ثمَّ وجد الشِّفَاء وَعَاد إِلَى السُّلْطَان يَوْم فتح الْقُدس كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ وسلمت بيروت بحضوري فَكَانَ من سَبَب إبلالي سروري بِفَتْحِهَا وحبوري وَخرج مِنْهَا وَمن قلعتها الفرنج وامتلأ بهم إِلَى صور النهج وَعَاد الْإِسْلَام الْغَرِيب فِيهَا إِلَى وَطنه وتوطن الدّين بهَا فِي مأمنه وَسكن فِي مَسْكَنه
وَأما جبيل فَإِن صَاحبهَا أوك كَانَ فِي جملَة من نقل إِلَى دمشق مَعَ الْملك الْأَسير فَضَاقَ ذرعا بسجنه الَّذِي تعجل لَهُ فِيهِ عَذَاب السعير فَتحدث مَعَ الصفي بن الْقَابِض فِي أمره وباح إِلَيْهِ بسره وَقَالَ مالكم فِي اسري فَائِدَة وَلَا غنيمَة على فتح جبيل زَائِدَة وانا أسلمها بِشَرْط سلامتي فخذوها وَلَا تقعدوني فقد قَامَت قيامتي
فأنهى الصفي حَاله واستصوب مَا قَالَه فَأمر بإحضاره فِي قَيده والاحتراز من كَيده فوصل بِهِ وَنحن على بيروت فَسلم جبيل وَسلم وَربح نجاته وغنم وَمضى إِلَيْهَا من تولاها وانسل مِنْهَا صَاحبهَا وسلاها وتبعها فتح بيروت وتلاها فانتظمت هَذِه الْبِلَاد المتناسقة بالسَّاحل فِي سلك من الْفتُوح متسق وَأمر من الاسْتقَامَة مُتَّفق
وَكَانَ مُعظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مُسلمين مَسَاكِين لمساكنة الفرنج مستسلمين فذاقوا الْعِزَّة بعد الذلة وفاقوا الْكَثْرَة بعد الْقلَّة وصدقت البشائر وصدحت المنابر وَظهر عيب البيع وَشهر جمع الْجمع وقرىء(3/323)
الْقُرْآن واستشاط الشَّيْطَان وخرست النواقيس وَبَطلَت النواميس وَرفع الْمُسلمُونَ رؤوسهم وَعرفُوا نُفُوسهم
وَكَانَ كل من استأمن من الْكفَّار يمْضِي إِلَى صور محمي الذمار فَصَارَت صور عش غشهم ووكر مَكْرهمْ وملجأ طريدهم ومنجى شريدهم وَهِي الَّتِي فر القومص إِلَيْهَا يَوْم كسرتهم بل يَوْم حسرتهم وَلما عرف القومص قرب السُّلْطَان مِنْهَا أخلاها وخلاها وآوى إِلَى طرابلس وثواها فَمَا متع بِمَا ملك وَكَانَ كَمَا قيل
(رَاح يَبْغِي نجوة ... من هَلَاك فَهَلَك)
وتعوضت صور عَن القومص بالمركيس كَمَا يتعوض عَن الشَّيْطَان بإبليس فَأدْرك ذماء الْكفْر بَعْدَمَا أشفى وَأَيْقَظَ روع الروع بَعْدَمَا أغفى وَضبط صور بِمن فِيهَا من مهزومي الفرنج ومنفيها
وَكَانَ المركيس من أكبر طواغيت الْكفْر وأغوى شياطينه وأضرى سراحينه وأخبث ذئابه وانجس كلابه وَهُوَ الطاغية الداهية الَّذِي خلقت لَهُ ولأمثاله الهاوية وَلم يكن وصل إِلَى السَّاحِل قبل هَذَا الْعَام وَاتفقَ وُصُوله إِلَى ميناء عكا وَهُوَ بِفَتْحِهَا جَاهِل وَعَمن فِيهَا من الْمُسلمين ذاهل فعزم على إرساء الشيني بالمينا ثمَّ تعجب وَقَالَ مَا نرى أحدا من أَهلهَا يلتقينا وَرَأى زِيّ النَّاس غير الَّذِي يعرفهُ فارتاب وارتاع وَحدث عَن الدُّخُول توقفه وَبَان تندمه وَتَأَخر تقدمه وَسَأَلَ عَن الْحَال فَأخْبر(3/324)
بهَا ففكر فِي النجَاة والهواء راكد وَالْقَضَاء عَنهُ رَاقِد فَإِنَّهُ لَو خرج إِلَيْهِ مركب لأَخذه وَلَو وقف لَهُ قَاصد لوقذه فاحتال كَيفَ يخرج بسفينته وَلَا يدْخل مَعَ فقد سكينته فَسَأَلَ عَن مُتَوَلِّي الْبَلَد وَقَالَ خُذُوا لي مِنْهُ أَمَانًا حَتَّى أَدخل وَأَرْفَع مَا معي من الْمَتَاع وأنقل
فجيء إِلَيْهِ من الْأَفْضَل بالأمان فَقَالَ مَا أَثِق إِلَّا بِخَط يَده وَلَا أنزل إِلَّا بعهده إِلَى بَلَده وَهُوَ ينْتَظر هبوب الرّيح الْمُوَافقَة فَمَا زَالَ يردد الرُّسُل وَيُدبر الْحِيَل حَتَّى وافقته الرّيح فأقلع وأفلت من الشّرك بَعْدَمَا وَقع وَصَارَ فِي صور فزم الْأُمُور وجرأ الْكفْر بعد خوره وبصر الشَّيْطَان بعد عماه وعوره وَأرْسل رسله إِلَى الجزائر وَذَوي الجرائر يَسْتَعْدِي ويستدعى ويستودع مِلَّة الصَّلِيب عباده ويسترعي ويستثير ويستزير ويستنفر ويستنصر وَثَبت فِي صور وَنبت وَجمع إِلَيْهِ من الفرنج من تشَتت وَمَا فتح بلد بالأمان إِلَّا سَار أَهله فِي حفظ السُّلْطَان حَتَّى يصيروا بصور ويأمنوا الْمَحْذُور فَاجْتمع إِلَيْهَا أهل الْبِلَاد الْمَفْتُوحَة بالقلوب المقفلة المغلقة المقروحة فامتلأت وَكَانَت خاليه وانتشأت وَكَانَت بالية وتعللت وَكَانَت معتلة وتعقدت وَكَانَت منحلة وَلم يحتفل بهَا فَأخر فتحهَا فاستجدت رمقا بالمهلة وتصعبت بعد مقادتها السهلة وألهى عَن طلبَهَا طلب مَا هُوَ أشرف وَهُوَ الْبَيْت الْمُقَدّس فَإِن فَتحه من كل فتح أنفس والمركيس فِي أثْنَاء ذَلِك يحْفر الخَنْدَق ويحكمه ويعقد الموثق ويبرمه وَيجمع المتفرق وينظمه(3/325)
فصل فِي فتح عسقلان وغزة والداروم وَغَيرهَا
قَالَ الْعِمَاد لما فرغ السُّلْطَان من فتح بيروت وجبيل ثنى عنانه عَائِدًا على صيدا وصرفند وَجَاء إِلَى صور نَاظرا إِلَيْهَا وعابرا عَلَيْهَا غير مكترث بأمرها وَلَا متحدث فِي حصرها ودلته الفراسة على أَن محاولتها تصعب ومزاولتها تتعب وَلَيْسَ بالسَّاحل بلد مِنْهَا أحصن فعطف الأعنة إِلَى مَا هُوَ مِنْهَا أَهْون
وَكَانَ قد استحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية فِي قيودهما وَشرط مَعَهُمَا واستوثق مِنْهُمَا أَن يطلقهما من الْأسر والبلية مَتى تمكن بإعانتهما من الْبِلَاد الْبَقِيَّة وَعبر والعيون صور إِلَى صور وَمَا شكّ المركيس أَنه بهَا محسور مَحْصُور فَلَمَّا أرْخى من وثَاقه واتسع ضيق خناقه حلق فِي مطار أوطاره وحرك لغواته أوتار أوتاره
وَاجْتمعَ السُّلْطَان بأَخيه الْعَادِل واتفقا على طي المراحل وَنشر القساطل فَنزل على عسقلان يَوْم الْأَحَد سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وشديدها قد لَان فتجلد من بهَا على الْحصار وتربصوا وتصبروا فنصب السُّلْطَان عَلَيْهَا مجانيق وَرَمَاهُمْ بهَا وجسر النقاب فحسر الثقاب وباشر الباشورة فَرفع الْحجاب وَاشْتَدَّ الْقِتَال واحتد المصال
وراسلهم عِنْد ذَلِك الْملك المأسور وَقَالَ قد بَان عذركم حِين نقب السُّور
وَجَرت حالات وتكررت حوالالت وترددت رسالات وَقَالَ لَهُم الْملك الْأَسير لَا تخالفوا مَا بِهِ أُشير واحفظوا رَأْسِي فَهُوَ رَأس مالكم وَلَا تخطروا غَيْرِي ببالكم فَإِنِّي إِذا تخلصت خلصت وَإِذا استنقذت استنقذت وَخرج مقدمون وشاوروا الْملك ونهجوا فِي التَّسْلِيم نهجا سلك وسلموا عسقلان على خُرُوجهمْ بِأَمْوَالِهِمْ سَالِمين واستوفوا بذلك الْمِيثَاق وَالْيَمِين وَذَلِكَ يَوْم السبت(3/326)
لانسلاخ جُمَادَى الْآخِرَة وَخَرجُوا بنسائهم وَأَمْوَالهمْ
وَمِمَّنْ اسْتشْهد على عسقلان من الْأُمَرَاء الكبراء حسام الدّين إِبْرَاهِيم بن حُسَيْن المهراني وَهُوَ أول أَمِير افْتتح بِالشَّهَادَةِ واختتم بالسعادة
وَكَانَ السُّلْطَان قد أَخذ فِي طَرِيقه إِلَيْهَا الرملة ويبنى وَبَيت لحم والخليل وَأقَام بهَا حَتَّى تسلم حصون الداوية غَزَّة والنطرون وَبَيت جِبْرِيل وَكَانَ قد استصحب مَعَه مقدم الداوية وَشرط مَعَه أَنه مَتى سلم معاقلهم أطلقهُ فَسلم هَذِه الْمَوَاضِع الْوَثِيقَة لما اخذ موثقه كَذَا قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح
وَقَالَ فِي كتاب الْبَرْق وَمَا برح السُّلْطَان مُقيما بِظَاهِر عسقلان حَتَّى تسلم المعاقل الْمُجَاورَة لَهَا والبلاد
فَذكر الداروم وغزة والرملة ويبنى وَبَيت لحم ومشهد الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام ولد وَبَيت جِبْرِيل والنطرون
قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما فرغ بَال السُّلْطَان من هَذَا الْجَانِب يَعْنِي نَاحيَة بيروت رأى قصد عسقلان وَلم ير الِاشْتِغَال بصور بعد أَن نزل عَلَيْهَا ومارسها لِأَن الْعَسْكَر كَانَ قد تفرق فِي السَّاحِل وَذهب كل إِنْسَان يَأْخُذ لنَفسِهِ شَيْئا وَكَانُوا قد ضرسوا من الْقِتَال وملازمة الْحَرْب وَكَانَ قد اجْتمع فِي صور يسر الله فتحهَا كل فرنجي بَقِي فِي السَّاحِل فَرَأى قصد عسقلان لِأَن أمرهَا كَانَ أيسر وتسلم فِي طَرِيقه مَوَاضِع كَثِيرَة كالرملة ويبنى(3/327)
والداروم فَأَقَامَ عَلَيْهَا المنجنيقات وقاتلها قتالا شَدِيدا وتسلمها سلخ جُمَادَى الْآخِرَة وَأقَام عَلَيْهَا إِلَى أَن تسلم أَصْحَابه غَزَّة وَبَيت جبرين والنطرون بعد قتال
قَالَ وَكَانَ بَين فتح عسقلان وَأخذ الفرنج لَهَا من الْمُسلمين خمس وَثَلَاثُونَ سنة فَإِن الْعَدو ملكهَا فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
وَذكر ابْن القادسي نُسْخَة كتاب كتبه السُّلْطَان إِلَى بعض أَهله وَفِيه انتقلنا إِلَى الْجَانِب الَّذِي فِيهِ الْقُدس وعسقلان ففتحنا قلاعه كلهَا وحصونه جَمِيعهَا ومعاقله بجملتها ومدنه بأسرها حيفا وقيسارية وأرسوف ويافا والرملة ولد وتل الصافية وَبَيت جِبْرِيل والدير والخليل ونازلنا عسقلان وَهِي المعقل المنيع والحصن الْحصين والتل الرفيع وَفِيهِمْ من الْقُوَّة وَالْعدة وَالْعدَد مَا تتقاصر الآمال عَن نيل مثلهَا فافتتحناها سلما لتَمام أَرْبَعَة عشر يَوْمًا من يَوْم نزولنا عَلَيْهَا ونصبت أَعْلَام التَّوْحِيد على أبراجها وأسوارها وعمرت بِالْمُسْلِمين وخلت من مشركيها وكفارها وَكبر المؤذنون فِي أقطارها وَلم يبْق فِي السَّاحِل من جبيل إِلَى أَوَائِل حُدُود مصر سوى الْقُدس وصور والعزم مصمم على قصد الْقُدس فَالله يسهله ويعجله فَإِذا يسر الله تَعَالَى فتح الْقُدس ملنا إِلَى صور وَالسَّلَام
وَفِي كتاب آخر تقدم ذكر بعضه قَالَ وَقد تفرق الْعَسْكَر قوم إِلَى(3/328)
الْقُدس وَابْن زين الدّين وتقي الدّين نازلان على صور وَفتحت هونين بِالسَّيْفِ وتبنين بِالسَّيْفِ وإسكندرونة بِالسَّيْفِ
وَفِي كتاب آخر ونزلوا على صور وكاتبهم ملك بَيت الْمُقَدّس يطْلب الْأمان فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين أَنا أجيء إِلَيْكُم فَقَالَ لَهُ المنجمون على نجمك أَن تدخل بَيت الْمُقَدّس وَتذهب عين وَاحِدَة مِنْك فَقَالَ قد رضيت بِأَن أعمى وآخذ الْبَلَد
قَالَ وَلم يمنعهُ من ذَلِك إِلَّا فتح صور وَمَا هِيَ شَيْء يقف عَلَيْهِ
وَقد خطب لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله على ثَلَاثِينَ منبرا من بِلَاد الفرنج
قَالَ الْعِمَاد وفوض السُّلْطَان الْقَضَاء وَالْحكم والخطابة وَجَمِيع الْأُمُور الدِّينِيَّة بِمَدِينَة عسقلان وأعمالها إِلَى جمال الدّين أبي مُحَمَّد عبد الله بن عمر الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بقاضي الْيمن
قَالَ وَوصل إِلَى السُّلْطَان من مصر وَلَده الْملك الْعَزِيز عُثْمَان وَاجْتمعَ بِهِ على عسقلان فقرت عينه بولده واعتضد بعضده وَوضع يَده بتأييد الله فِي يَده
وَكَانَ قد استدعى بالأساطيل المنصورة فوافت كالفتخ الكواسر بالفلك المواخر وَجَاءَت كَأَنَّهَا أمواج تلاطم أمواجا وأفواج(3/329)
تزاحم أَفْوَاجًا تدب على الْبَحْر عقاربها وتخب كَقطع اللَّيْل سحائبها والحاجب لُؤْلُؤ مقدمها ومقدامها وضرغام غابها وهمامها فَطَفِقَ يكسر ويكسب ويسل ويسلب وَيقطع الطَّرِيق على سفن الْعَدو ومراكبه وَيقف لَهُ فِي جزائر الْبَحْر على مذاهبه وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فتح الْبَيْت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما تسلم السُّلْطَان عسقلان والأماكن الَّتِي هِيَ مُحِيطَة بالقدس شمر عَن سَاق الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي قَصده وَاجْتمعت إِلَيْهِ العساكر الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي السَّاحِل بعد قَضَاء لبانتها من النهب والغارة فَسَار نَحوه مُعْتَمدًا على الله مفوضا أمره إِلَى الله منتهزا فرْصَة فتح بَاب الْخَيْر الَّذِي حث على انتهازه إِذا فتح بقوله عَلَيْهِ السَّلَام من فتح لَهُ بَاب خير فلينتهزه فَإِنَّهُ لَا يعلم مَتى يغلق دونه وَكَانَ نُزُوله عَلَيْهِ قدس الله روحه يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب فَنزل بالجانب الغربي وَكَانَ مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وَلَقَد تحازر أهل الْخِبْرَة عدَّة من كَانَ فِيهِ من الْمُقَاتلَة بِمَا يزِيد على سِتِّينَ ألفا مَا عدا النِّسَاء وَالصبيان
ثمَّ انْتقل رَحمَه الله لمصْلحَة رَآهَا إِلَى الْجَانِب الشمالي وَكَانَ انْتِقَاله يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من رَجَب وَنصب عَلَيْهِ المنجنيقات وضايقه بالزحف والقتال(3/330)
وَكَثْرَة الرُّمَاة حَتَّى أَخذ النقب فِي السُّور مِمَّا يَلِي وَادي جَهَنَّم فِي قرنة شمالية
وَلما رأى أَعدَاء الله مَا نزل بهم من الْأَمر الَّذِي لَا ينْدَفع وَظَهَرت لَهُم أَمَارَات نصْرَة الْحق على الْبَاطِل وَكَانَ الله قد ألْقى فِي قُلُوبهم الرعب بِمَا جرى على أبطالهم ورجالهم من السَّبي وَالْقَتْل والأسر وَمَا جرى على حصونهم من الِاسْتِيلَاء وَالْأَخْذ علمُوا أَنهم إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ صائرون وبالسيف الَّذِي قتل بِهِ إخْوَانهمْ يقتلُون فاستكانوا وأخلدوا إِلَى طلب الْأمان واستقرت الْقَاعِدَة بالمراسلة بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَكَانَ تسلمه لَهُ يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَلَيْلَته كَانَت لَيْلَة الْمِعْرَاج الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن الْمجِيد فَانْظُر إِلَى هَذَا الِاتِّفَاق العجيب كَيفَ يسر الله عوده إِلَى أَيدي الْمُسلمين فِي مثل زمَان الْإِسْرَاء بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه عَلامَة قبُول هَذِه الطَّاعَة من الله تَعَالَى
قلت هَذَا أحد الْأَقْوَال فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج وَفِي ذَلِك اخْتِلَاف كثير ذَكرْنَاهُ فِي مَوَاضِع غير هَذَا وَالله أعلم
ثمَّ قَالَ القَاضِي وَكَانَ فتوحا عَظِيما شهده من أهل الْعلم خلق عَظِيم وَمن أَرْبَاب الْخرق والحرق وَذَلِكَ أَن النَّاس لما بَلغهُمْ مَا من الله بِهِ(3/331)
على يَده من فتوح السَّاحِل شاع قَصده للقدس فقصده الْعلمَاء من مصر وَالشَّام بِحَيْثُ لم يتَخَلَّف مَعْرُوف عَن الْحُضُور وَارْتَفَعت الْأَصْوَات بالضجيج وَالدُّعَاء والتهليل وَالتَّكْبِير وخطب فِيهِ وَصليت فِيهِ الْجُمُعَة يَوْم فَتحه وَحط الصَّلِيب الَّذِي كَانَ على قبَّة الصَّخْرَة وَكَانَ شكلا عَظِيما وَنصر الله الْإِسْلَام نصر عَزِيز مقتدر
وَكَانَ قَاعِدَة الصُّلْح أَنهم قطعُوا على أنفسهم عَن كل رجل عشرَة دَنَانِير وَعَن كل امْرَأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن كل صَغِير ذكر اَوْ أُنْثَى دِينَارا وَاحِدًا
قلت كَذَا قَالَ وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْعِمَاد أَن على كل صَغِير دينارين وَكَذَا قَالَ أَن الْجُمُعَة صليت بِبَيْت الْمُقَدّس يَوْم فَتحه وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْعِمَاد التَّصْرِيح بِأَن يَوْم الْفَتْح ضَاقَ عَن ذَلِك فَصليت فِي يَوْم الْجُمُعَة الْآتِي
ثمَّ قَالَ القَاضِي فَمن أحضر القطيعة سلم بِنَفسِهِ وَإِلَّا أَخذ أَسِيرًا وَفرج الله عَمَّن كَانَ فِيهِ من أسرى الْمُسلمين وَكَانُوا خلقا عَظِيما زهاء ثَلَاثَة آلَاف أَسِير وَأقَام عَلَيْهِ رَحْمَة الله يجمع الْأَمْوَال ويفرقها على الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء ويوصل من دفع قطيعته مِنْهُم إِلَى مأمنه وَهُوَ صور
قَالَ وَلَقَد بَلغنِي انه رَحمَه الله رَحل عَنهُ وَلم يبْق مَعَه من ذَلِك المَال شَيْء وَكَانَ مئتي الف دِينَار وَعشْرين ألفا وَكَانَ رحيله عَنهُ يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة(3/332)
كَمَا سَيَأْتِي
فصل
هَذَا الَّذِي ذكره القَاضِي فِي أَمر فتح بَيت الْمُقَدّس مُخْتَصر مُجمل وَقد بَسطه الْعِمَاد فَقَالَ رَحل السُّلْطَان من عسقلان للقدس طَالبا وبالعزم غَالِبا وللنصر مصاحبا ولذيل الْعِزّ ساحبا وَالْإِسْلَام يخْطب من الْقُدس عروسا ويبذل لَهَا فِي الْمهْر نفوسا وَيحمل إِلَيْهَا نعمى ليحمل عَنْهَا بوسى وَيهْدِي بشرا ليذْهب عبوسا وَيسمع صرخة الصَّخْرَة المستدعية المستعدية لإعدائها على أعدائها وَإجَابَة دعائها وتلبية ندائها وإطلاع زهر المصابيح فِي سمائها وإعادة الْإِيمَان الْغَرِيب مِنْهَا إِلَى وَطنه ورده إِلَى سكونه وسكنه وإقصاء الَّذين أَقْصَاهُم الله تَعَالَى بلعنته من الْأَقْصَى وجذب قياد فَتحه الَّذِي استعصى وإسكات الناقوس مِنْهُ بإنطاق الْأَذَان وكف كف الْكفْر عَنهُ بأيمان الْإِيمَان وتطهيره من أنجاس تِلْكَ الْأَجْنَاس وأدناس أدنى النَّاس
وطار الْخَبَر إِلَى الْقُدس فطارت قُلُوب من بِهِ رعْبًا وطاشت وخفقت أفئدتهم خوفًا من جَيش الْإِسْلَام وجاشت وتمنت الفرنج لما شاعت الْأَخْبَار أَنَّهَا مَا عاشت وَكَانَ بِهِ من مقدمي الفرنج باليان بن بارزان وَهُوَ وملكهم فِي التسلط سيان والبطرك الْأَعْظَم وَهُوَ الشاني الْعَظِيم الشان وَالَّذين أغفلتهم حياطة حطين من الفرسان الداوية والاسبتارية والبارونية من ذَوي الْكفْر والشنان وَقد حشروا وحشدوا ونشروا ونشدوا وحميت(3/333)
حميتهم وأبت الضيم أبيتهم وحارت غيرتهم وَغَارَتْ خيرتهم وتبلدوا وتلددوا وَقَامُوا وقعدوا وصوبوا وصعدوا فاشتغل بَال باليان واشتعل بالنيران وخمدت نَار بطر البطرك وَضَاقَتْ بالقوم مَنَازِلهمْ فَكَأَن كل دَار مِنْهَا شرك للمشرك وَقَامُوا للتدبير فِي مقَام الأدبار وتقسمت أفكار الْكفَّار وأيس الفرنج من الْفرج وَأَجْمعُوا على بذل المهج وَقَالُوا هَاهُنَا نطرح الرؤوس ونسبك النُّفُوس ونسفك الدِّمَاء ونهلك الدهماء وَنَصْبِر على اقتراح القروح واجتراح الجروح ونسمح بالأرواح شحا بِمحل الرّوح فَهَذِهِ قمامتنا فِيهَا مقامتنا وَمِنْهَا تقوم قيامتنا وتصيح هامتنا وَتَصِح ندامتنا وتسيح علامتنا وتسح غمامتنا وَبهَا غرامنا وَعَلَيْهَا غرامتنا وبإكرامها كرامتنا وبسلامتها سلامتنا وباستقامتها استقامتنا وَفِي استدامتها استدامتنا وَإِن تخلينا عَنْهَا لَزِمت لآمتنا وَوَجَبَت ملامتنا فَفِيهَا المصلب وَالْمطلب والمذبح والمقرب وَالْمجْمَع والمعبد والمهبط والمصعد والمرقى والمرقب وَالْمشْرَب والملعب والمموه وَالْمذهب والمطلع والمقطع والمربى والمربع والمرخم والمخرم والمحلل وَالْمحرم والصور والأشكال والأنظار والأمثال والأشباه والأشباح والأعمدة والألواح والأجسام والأرواح وفيهَا صور الحواريين فِي حوارهم والأحبار فِي أخبارهم والرهابين فِي صوامعهم والأقساء فِي مجامعهم والسحرة وحبالها والكهنة وخيالها وَمِثَال السيدة وَالسَّيِّد والهيكل والمولد والمائدة والحوت والمنعوت والمنحوت والتلميذ(3/334)
والمعلم والمهد وَالصَّبِيّ الْمُتَكَلّم وَصُورَة الْكَبْش وَالْحمار وَالْجنَّة وَالنَّار والنواقيس والنواميس
قَالُوا وفيهَا صلب الْمَسِيح وَقرب الذَّبِيح وتجسد اللاهوت وتأله الناسوت واستقام التَّرْكِيب وَقَامَ الصَّلِيب وَنزل النُّور وَزَالَ الديجور وازدوجت الطبيعة بالأقنوم وامتزج الْمَوْجُود بالمعدوم وعمدت معمودية المعبود ومخضت البتول بالمولود وأضافوا إِلَى متعبدهم من هَذِه الضلالات مَا ضلوا فِيهِ بالشبه عَن نهج الدلالات وَقَالُوا دون مَقْبرَة رَبنَا نموت وعَلى خوف فَوتهَا منا نفوت وعنها ندافع وَعَلَيْهَا نقارع ومالنا أَلا نُقَاتِل وَكَيف لَا ننازع وَلَا ننازل ولأي معنى نتركهم حَتَّى يَأْخُذُوا وندعهم حَتَّى يستخلصوا مَا استخلصناه مِنْهُم ويستنقذوا وتأهبوا وتباهوا وَمَا انْتَهوا بل تناهوا ونصبوا المجانيق على الأسوار وستروا بظلمات الستائر وُجُوه الْأَنْوَار واستشاطت شياطينهم وسرحت سراحينهم وطغت طواغيتهم وأصليت مصاليتهم وهاج هائجهم وماج مائجهم وحضتهم قسوسهم وحرضتهم رؤوسهم وحركتهم نُفُوسهم وجاءتهم بجوى السوء جواسيسهم
ونصبوا على كل نيق منجنيقا وحفروا فِي الخَنْدَق حفرا عميقا وشادوا فِي كل جَانب ركنا وثيقا وَفرقُوا على كل برج فريقا وَجعلُوا إِلَى كل طَارق بالردى للرَّدّ طَرِيقا وأعادوا كل نهج وَاسع بِمَا وعروه وعوروه بِهِ مضيقا وَتحمل كل مِنْهُم مَا لم يكن لَهُ من قبل مطيقا وَخرج جمَاعَة مِنْهُم(3/335)
على سَبِيل اليزك فأدلجوا لَيْلًا واعترضوا عدَّة من أَصْحَابنَا غَارة على طَرِيق السَّلامَة مارة وَكَانَ قد شَذَّ من الْمُقدمَة المنصورة أَمِير تقدم وَمَا تحرز وَلَا تحزم وَمَا ظن أَن قدامه من لَهُ جرْأَة الْإِقْدَام وَمن يعْتَقد أَن ربح كفره خسارة الْإِسْلَام وَهُوَ الْأَمِير جمال الدّين شروين بن حسن الزرزاري فوقعوا عَلَيْهِ فِي مَوضِع يعرف بالقبيبات فاستشهد رَحمَه الله
وَلما بلغ السُّلْطَان خَبره سَاءَهُ وغمه
ثمَّ أقبل بإقبال سُلْطَانه وأبطال شجعانه وأقيال أَوْلَاده وإخوانه وأشبال مماليكه وغلمانه وكبار أمرائه وَعِظَام أوليائه وَأصْبح يسْأَل عَن الْأَقْصَى وَطَرِيقه الْأَدْنَى وفريقه الْأَسْنَى وَيذكر مَا يفتح الله عَلَيْهِ بِحسن فَتحه من الْحسنى وَقَالَ إِن أسعدنا من الله على إِخْرَاج أعدائه من بَيته الْمُقَدّس فَمَا أسعدنا وَأي يَد لَهُ عندنَا إِذا أيدنا وَإنَّهُ مكث فِي أَيدي الْكفْر إِحْدَى وَتِسْعين سنة لم يتَقَبَّل الله فِيهِ من عَابِد حَسَنَة ودامت همم الْمُلُوك دونه متوسنة وخلت الْقُرُون عَنهُ متخلية وخلت الفرنج بِهِ متولية فَمَا ادخر الله فَضِيلَة فَتحه إِلَّا لآل أَيُّوب ليجمع لَهُم بِالْقبُولِ الْقُلُوب
وَكَيف لَا يهتم بافتتاح الْبَيْت الْمُقَدّس وَالْمَسْجِد الاقصى المؤسس على التَّقْوَى وَهُوَ مقَام الْأَنْبِيَاء وموقف الْأَوْلِيَاء ومعبد الأتقياء ومزار أبدال الأَرْض وملائكة السَّمَاء وَمِنْه الْمَحْشَر والمنشر ويتوافد إِلَيْهِ من أَوْلِيَاء الله بعد المعشر المعشر وَفِيه الصَّخْرَة الَّتِي صينت جدة أبهاجها من(3/336)
الإنهاج وَمِنْهَا منهاج الْمِعْرَاج وَلها الْقبَّة الشماء الَّتِي هِيَ على رَأسهَا كالتاج وَفِيه ومض البارق وَمضى الْبراق وأضاءت لَيْلَة الْإِسْرَاء بحلول السراج الْمُنِير فِيهِ الْآفَاق
وَمن أبوابه بَاب الرَّحْمَة الَّذِي يسْتَوْجب دَاخله إِلَى الْجنَّة بِالدُّخُولِ الخلود وَفِيه كرْسِي سُلَيْمَان ومحراب دَاوُد وَفِيه عين سلوان الَّتِي تمثل لواردها من الْكَوْثَر الْحَوْض المورود وَهُوَ أول الْقبْلَتَيْنِ وَثَانِي البنيتين وثالث الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ أحد الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي جَاءَ فِي الْخَبَر النَّبَوِيّ انها تشد إِلَيْهَا الرّحال وتعقد الرَّجَاء بهَا الرِّجَال
وَلَعَلَّ الله يُعِيدهُ بِنَا إِلَى أحسن صُورَة كَمَا شرفه بِذكرِهِ مَعَ أشرف خلقه فِي أول سُورَة فَقَالَ عز من قَائِل {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} وَله فَضَائِل ومناقب لَا تحصى وَمِنْه كَانَ الْإِسْرَاء ولأرضه فتحت السَّمَاء وَعنهُ تُؤثر أنباء الْأَنْبِيَاء وآلاء الْأَوْلِيَاء ومشاهد الشُّهَدَاء وكرامات الكرماء وعلامات الْعلمَاء وَفِيه مبارك المبار ومسارح المسار وصخرتها الطُّولى الْقبْلَة الأولى وَمِنْهَا تعالت الْقدَم النَّبَوِيَّة وتوالت الْبركَة العلوية وَعِنْدهَا صلى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنبيين وَصَحب الرّوح الْأمين وَصعد مِنْهَا إِلَى أَعلَى عليين وَفِيه محراب مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام الَّذِي قَالَ الله فِيهِ {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب} ولنهاره التَّعَبُّد ولليله الْمحيا وَهُوَ(3/337)
الَّذِي أسسه دَاوُد وَأوصى ببنائه سُلَيْمَان وَلأَجل إجلاله أنزل الله سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ} وَهُوَ الَّذِي افتتحه الْفَارُوق وافتتحت بِهِ سُورَة من الْفرْقَان
فَمَا أَجله وأعظمه وأشرفه وأفخمه وَأَعلاهُ وَأَجْلَاهُ وأسماه وأسناه وأيمن بركاته وأبرك ميامنه وَأحسن حالاته وَأحلى محاسنه وأزين مباهجه وأبهج مزاينه وَقد أظهر الله طوله وَطوله بقوله {الَّذِي باركنا حوله} وَكم فِيهِ من الْآيَات الَّتِي أَرَاهَا الله نبيه وَجعل مسموعنا من فضائله مرئية وَوصف للسُّلْطَان من خَصَائِصه ومزاياه مَا وثق على استعادة آلائه مواثيقه وألاياه وَأقسم لَا يبرح حَتَّى يبر قسمه وَيرْفَع بأعلاه علمه وتخطو إِلَى زِيَارَة مَوضِع الْقدَم النَّبَوِيَّة قدمه ويصغي إِلَى صرخة الصَّخْرَة وَسَار واثقا بِكَمَال النُّصْرَة
فصل فِي نزُول السُّلْطَان على الْبَيْت الْمُقَدّس وحصره وَمَا كَانَ من أمره
قَالَ الْعِمَاد نزل السُّلْطَان على غربي الْقُدس يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر(3/338)
رَجَب وَكَانَ فِي الْقُدس حِينَئِذٍ من الفرنج سِتُّونَ ألف مقَاتل من فَارس وراجل وسائف ونابل فاستهدفوا للسهام واستوقفوا للحمام وَقَالُوا كل وَاحِد منا بِعشْرين وكل عشرَة بمئتين وَدون الْقِيَامَة تقوم الْقِيَامَة ولحب سلامتها تقلى السَّلامَة
وَأقَام السُّلْطَان خَمْسَة أَيَّام يَدُور حول الْبَلَد وَيقسم على حصاره أهل الْجلد وَأبْصر فِي شماليه أَرضًا رضيها للحصار متسعة لمجال الأسماع والأبصار مُمكنَة للدنو من النقب إِن صَار من حيّز الْأَنْصَار
فانتقل إِلَى الْمنزل الشمالي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من شهر رَجَب فَمَا أصبح يَوْم السبت إِلَّا على منجنيقات قد نصبت بِلَا نصب فدام الْقِتَال والنزال وفرسانهم فِي كل يَوْم يباشرون دون الباشورة أَمَام جموعهم المحصورة المحسورة المحشورة ويبرزون ويبارزون ويطاعنون ويحاجزون والمطيعون لله عَلَيْهِم يحملون وَمن دِمَائِهِمْ ينهلون وينهلون كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَمِمَّنْ اسْتشْهد مبارزا وَلم يشْهد بَينه وَبَين الْجنَّة حاجزا الْأَمِير عز الدّين عِيسَى بن مَالك كَانَ أَبوهُ صَاحب قلعة جعبر فَإِنَّهُ حَاز بِشَهَادَتِهِ فِي الْمَحْشَر المفخر وَأكْثر وُرُود الْمَوْت إِلَى أَن ورد الْكَوْثَر وَكَانَ فِي كل يَوْم يفرس فوارس ويلقى ببشر وَجهه وُجُوه الْمنون العوابس فَاغْتَمَّ الْمُسلمُونَ من صرعته وَهَان عَلَيْهِم إِتْلَاف المهج بعد تلاف مهجته فَرَكبُوا أكتاف الرهج حَتَّى وصلوا إِلَى(3/339)
الخَنْدَق فخرقوه وبددوا جمعه وفرقوه والتصقوا بالسور فنقبوه وعلقوه وحشوه وأحرقوه وَصَدقُوا وعد الله فِي الْقِتَال لأعدائه فصدقوه وَلما عضتهم الْحَرْب وَقع السُّور واتسع النقب فصعب عَلَيْهِم الهين وَهَان لنا الصعب عقدوا مَا بَينهم مشورة وقعدوا مَا بَينهم ضَرُورَة وَقَالُوا مالنا إِلَّا الاستئمان فقد أَخذ لنا بِخَطِّهِ الخذلان والحرمان
وأخرجوا كبراءهم ليؤخذ لَهُم الْأمان فَأبى السُّلْطَان إِلَّا قِتَالهمْ وتدميرهم واستئصالهم وَقَالَ مَا آخذ الْقُدس إِلَّا كَمَا أَخَذُوهُ من الْمُسلمين مُنْذُ إِحْدَى وَتِسْعين سنة فَإِنَّهُم استباحوا الْقَتْل وَلم يتْركُوا طرفا يستزير سنة فَأَنا أفني رِجَالهمْ قتلا وأحوي نِسَائِهِم سبيا فبرز ابْن بارزان ليأمن من السُّلْطَان بموثقه وَطلب الْأمان لِقَوْمِهِ وتمنع السُّلْطَان وتسامى فِي سومه وَقَالَ لَا أَمن لكم وَلَا أَمَان وَمَا هوانا إِلَّا أَن نديم لكم الهوان وَغدا نملككم قسرا ونوسعكم قتلا وأسرا ونسفك من الرِّجَال الدِّمَاء ونسلط على الذُّرِّيَّة وَالنِّسَاء السباء
وأبى فِي تأمينهم إِلَّا الإباء فتعرضوا للتضرع وخوفوا عَاقِبَة التسرع وَقَالُوا إِذا أيسنا من أمانكم وخفنا من سلطانكم وخبنا من إحسانكم وأيقنا أَنه لَا نجاة وَلَا نجاح وَلَا صلح وَلَا صَلَاح وَلَا سلم وَلَا سَلامَة وَلَا نعْمَة وَلَا كَرَامَة فَإنَّا نستقتل فنقاتل قتال الدَّم والندم ونقابل الْوُجُود بِالْعدمِ ونلقي أَنْفُسنَا على النَّار وَلَا نلقي بِأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَة والعار وَلَا يجرح منا وَاحِد حَتَّى يجرح عشرَة وَإِنَّا نحرق الدّور ونخرب الْقبَّة وونترك عَلَيْكُم فِي سبينَا السبة ونقلع الصَّخْرَة ونوجدكم عَلَيْهَا الْحَسْرَة وقبة الصَّخْرَة نرميها وَعين سلوان نعميها والمصانع نخسفها والمطالع نكسفها وَعِنْدنَا من الْمُسلمين خَمْسَة آلَاف أَسِير مَا بَين غَنِي وفقير وكبير وصغير فنبدأ(3/340)
بِقَتْلِهِم وشت شملهم وَأما الْأَمْوَال فَأَنا نعطبها وَلَا نعطيها وَأما الذَّرَارِي فَإنَّا نسارع إِلَى إعدامها وَلَا نستبطيها فَلَا يحصل لكم سبي وَلَا يقبل لكم سعي وَلَا يسلم عمر وَلَا عمَارَة وَلَا نضار وَلَا نضارة وَلَا نسَاء وَلَا صبيان وَلَا جماد وَلَا حَيَوَان فَأَي فَائِدَة لكم فِي هَذَا الشُّح وكل خسر لكم فِي هَذَا الرِّبْح وَرب خيبة جَاءَت من رَجَاء النجح وَلَا يصلح السوء سوى الصُّلْح فَشَاور السُّلْطَان أَصْحَابه فَقيل لَهُ الصَّوَاب أَن نحسبهم أسارانا فنبيعهم نُفُوسهم ونعمم بصغار الْجِزْيَة رؤوسهم وَيدخل فِي القطيعة مرؤوسهم وَرَئِيسهمْ
وَاسْتقر بعد مراودات ومعاودات ومفاوضات وتفويضات وضراعات من الْقَوْم وشفاعات على قطيعة تكمل بهَا الْغِبْطَة وَيحصل مِنْهَا الحوطة اشْتَروا بهَا منا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وخلصوا بهَا رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ وأطفالهم على أَنه من عجز بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَمَّا لزمَه أَو امْتنع مِنْهُ وَمَا سلمه ضرب عَلَيْهِ الرّقّ وَثَبت فِي تملكه لنا الْحق وَهُوَ عَن كل رجل عشرَة دَنَانِير وَعَن كل امْرَأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن كل صَغِيرَة أَو صَغِير دِينَارَانِ الذّكر وَالْأُنْثَى فِي ذَلِك سيان وَدخل ابْن بارزان والبطرك ومقدما الداوية والاسبتار فِي هَذَا الضَّمَان وبذل ابْن بارزان ثَلَاثِينَ ألف دِينَار عَن الْفُقَرَاء وَقَامَ بِالْأَدَاءِ وَلم ينكل عَن الْوَفَاء فَمن سلم خرج من بَيته أمنا وَلم يعد إِلَيْهِ سَاكِنا وسلموا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب على هَذِه القطيعة وردوه بالرغم رد الْغَصْب لَا الْوَدِيعَة وَكَانَ فِيهِ أَكثر من مئة ألف إِنْسَان من(3/341)
رجال وَنسَاء وصبيان فأغلقت دونهم الْأَبْوَاب ورتب لعرضهم واستخراج مَا يلْزمهُم النواب ووكل بِكُل بَاب أَمِير ومقدم كَبِير يحصر الخارجين ويحصي الوالجين فَمن استخرج مِنْهُ خرج وَمن لم يقم بِمَا عَلَيْهِ قعد فِي الْحَبْس وَعدم الْفرج وَلَو حفظ ذَلِك المَال حق حفظه لفاز مِنْهُ بَيت المَال بأوفر حَظه لكنما تمّ التَّفْرِيط وَعم التَّخْلِيط فَكل من رشا مَشى وتنكب الْأُمَنَاء نهج الرشد بالرشا فَمنهمْ من أدلي من السُّور بالحبال وَمِنْهُم من حمل مخفيا فِي الرّحال وَمِنْهُم من غيرت لبسته فَخرج مخفيا فِي زِيّ الْجند وَمِنْهُم من وَقعت فِيهِ شَفَاعَة مطاعة لم تقَابل بِالرَّدِّ والثقات الأكابر استنابوا أصاغر فأقاموا فِي تقصيرهم المعاذر وقنوا لأَنْفُسِهِمْ الذَّخَائِر وأدعى مظفر الدّين كوكبوري أَن مِنْهُم جمَاعَة من أرمن الرها وعددها ألف نسمَة فَجعل إِلَيْهِ أمرهَا وَكَذَلِكَ صَاحب البيرة ادّعى بالعدة الْكَثِيرَة زهاء خمس مئة أرمني ذكر أَنهم من بَلَده وَأَن الْوَاصِل مِنْهُم إِلَى الْقُدس لأجل متعبده وَكَذَلِكَ كل من استوهب عدَّة استطلقها وَحصل لَهُ مرفقها ثمَّ تولى الْملك الْعَادِل استخراجهم وَقوم على الْأَدَاء منهاجهم وَسَهل على السُّلْطَان لفرط جوده الاستخراج والإخراج وتوفر لعامة النَّاس وخاصتهم ببهجة سماحه الابتهاج وَمَا فِينَا إِلَّا من فَازَ بأوفى نصيب ورعى مِنْهُ فِي مرعى خصيب
وَكَانَ السُّلْطَان قد رتب عدَّة دواوين فِي كل ديوَان مِنْهَا عدَّة من النواب المصريين وَفِيهِمْ من الشاميين فَمن أَخذ من أحد الدَّوَاوِين خطا بِالْأَدَاءِ انْطلق مَعَ الطُّلَقَاء بعد عرض خطه على من بِالْبَابِ من الْأُمَنَاء(3/342)
والوكلاء فَذكر لي من لَا أَشك فِي مقاله أَنه كَانَ يحضر فِي الدِّيوَان ويطلع على حَاله فَرُبمَا كتبُوا خطا لمن نَقده فِي كيسهم وتلبس أَمر تلبيهم فَكَانُوا شُرَكَاء بَيت المَال لَا أمناءه وخانوه على مَا حصل لكل من الْغنى والنفع وَمَا أضرّ غناءه وَمَعَ ذَلِك حصل لبيت المَال مَا يُقَارب مئة ألف دِينَار وَبَقِي من بَقِي تَحت رق وإسار ينْتَظر بِهِ انْقِضَاء الْمدَّة المضروبة وَالْعجز عَن الْوَفَاء بالقطيعة الْمَطْلُوبَة
وَكَانَت بالقدس ملكة رُومِية متعبدة مترهبة فِي عبَادَة الصَّلِيب متصلبة وعَلى مصابها متلهبة وَفِي التَّمَسُّك بملتها متعصبة متعصبة أنفاسها متصاعدة للحزن وعبراتها متحدرة تحدر القطرات من المزن وَلها حَال وَمَال ومتاع وَأَشْيَاء وأشياع وَأَتْبَاع فعاذت بالسلطان فأعاذها وَمن عَلَيْهَا وعَلى كل من مَعهَا بالإفراج وَأذن فِي إِخْرَاج كل مَا لَهَا فِي الأكياس والإخراج وَأبقى عَلَيْهَا من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها فَخرجت بِجَمِيعِ مَالهَا وحالها ونسائها ورجالها وأسفاطها وأعدالها والصناديق بأقفالها وتبعها من لم يكن من أتباعها فراحت فرحى وَإِن كَانَت من شجنها قرحى
وَكَذَلِكَ خرجت زَوْجَة الْملك المأسور كي وَهِي ابْنة الْملك أماري وَكَانَت مُقِيمَة فِي جوَار الْقُدس مَعَ مَالهَا من الخول والخدم والجواري فاستأذنت فِي الْإِلْمَام بزوجها وَكَانَ بقيده مُقيما فِي برج نابلس موكلا بِهِ ليَوْم وعد تسريحه فَأذن لَهَا فخلصت هِيَ وَمن تبعها وأقامت عِنْد زَوجهَا(3/343)
وَكَذَلِكَ خرجت الإبرنساسة أم هنفري وَهِي ابْنة فليب وَزَوْجَة الإبرنس الَّذِي سفك دَمه يَوْم حطين وَهِي صَاحِبَة الكرك والشوبك وَهِي بنوابها محوطة وبرأيها منوطة فَجَاءَت سَائِلَة فِي وَلَدهَا العاني فوعدت أَنَّهَا إِن سمحت بحصنها سمح لَهَا بابنها ثمَّ أعفيت وأطلقت وعصمت واستحضر ابْنهَا هنفري بن هنفري من دمشق إِلَيْهَا وَأقر بِرُؤْيَتِهِ عينيها وَسَار مَعهَا من الْأُمَرَاء والأمناء من يتسلم مِنْهُم تِلْكَ المعاقل فَخرجت فمضت إِلَى حصونها لتسلمها فمانعها أَهلهَا ودافعوها وردوها ذليلة خائبة فسكنت صور واستودعت السُّلْطَان ابْنهَا المأسور ووعدها بِإِطْلَاقِهِ إِذا تسلم تِلْكَ الْحُصُون
فصل فِي ذكر يَوْم الْفَتْح وَبَعض كتب البشائر إِلَى الْبِلَاد
قَالَ الْعِمَاد تسلم الْمُسلمُونَ الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة أَوَان وجوب صلَاتهَا وطلعت الرَّايَات الناصرية على شرفاتها وأغلقت أَبْوَابهَا لحفظ ناسها فِي طلب القطيعة والتماسها وضاق وَقت الْفَرِيضَة وَتعذر أَدَاؤُهَا وللجمعة مُقَدمَات وشروط لم يُمكن استيفاؤها وَكَانَ الْأَقْصَى لَا سِيمَا محرابه مَشْغُولًا بالخنازير والخنا مملوءا بِمَا أَحْدَثُوا من الْبَنَّا مسكونا مِمَّن كفر وغوى وضل وظلم وجنى مغمورا بالنجاسات الَّتِي حرم علينا فِي تَطْهِيره مِنْهَا الونى فَوَقع الإشتغال بالأهم الأنفع والأتم الأنجح الأنجع وَهُوَ حفظهم وضبطهم إِلَى أَن يُوجد شرطهم وَيُؤْخَذ قسطهم(3/344)
وَاتفقَ فتح الْبَيْت الْمُقَدّس فِي يَوْم كَانَ فِي مثل ليلته مِنْهُ الْمِعْرَاج وَتمّ بِمَا وضح من منهاج النَّصْر الابتهاج وَجلسَ السُّلْطَان بالمخيم ظَاهر الْقُدس للهناء وللقاء الأكابر والأمراء والمتصوفة وَالْعُلَمَاء وَهُوَ جَالس على هَيْئَة التَّوَاضُع وهيبة الْوَقار بَين الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم جُلَسَائِهِ الْأَبْرَار وَوَجهه بِنور الْبشر سَافر وأمله بعز النجح ظافر وبابه مَفْتُوح ورفده ممنوح وحجابه مَرْفُوع وخطابه مسموع ونشاطه مقبل وبساطه مقبل ومحياه يلوح ورياه يفوح وَقد جلت لَهُ حَالَة الظفر وَكَأن دسته بِهِ هَالة الْقَمَر والقراء جُلُوس يقرؤون ويرشدون وَالشعرَاء وقُوف ينشدون وينشدون والأعلام تبرز لتنشر والاقلام تزبر لتبشر والعيون من فرط المسرة تَدْمَع والقلوب للفرح بالنصرة تخشع والألسنة بالابتهال إِلَى الله تضرع وَبشر الْمَسْجِد الْحَرَام بخلاص الْمَسْجِد الْأَقْصَى وتلي {شرع لكم من الدّين مَا وصّى} وهنئ الْحجر الْأسود بالصخرة الْبَيْضَاء ومنزل الْوَحْي بِمحل الْإِسْرَاء ومقر سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين بمقر الرُّسُل والأنبياء ومقام إِبْرَاهِيم بِموضع قدم الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وأدام أهل الْإِسْلَام بشرف بنيته مستمتعين
وتسامع النَّاس بِهَذَا النَّصْر الْكَرِيم وَالْفَتْح الْعَظِيم فوفدوا للزيارة من كل فج عميق وسلكوا إِلَيْهِ فِي كل طَرِيق وأحرموا من الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق وتنزهوا من زهر كراماته فِي الرَّوْض الأنيق
وَقد سبق أَن الْعِمَاد كَانَ توجه إِلَى دمشق وَالسُّلْطَان على بيروت(3/345)
للألم الَّذِي ألم بِهِ فَلَمَّا سمع بنزول السُّلْطَان على الْقُدس أبل من مَرضه وَتوجه إِلَيْهِ فوصل يَوْم السبت ثَانِي يَوْم الْفَتْح قَالَ وطلعت عَلَيْهِ صبحا عِنْد طُلُوع الصُّبْح فَاسْتَبْشَرَ بقدومي وخلع على البشير قبل رؤيتي وَكَانَ أَصْحَابه يطالبونه بكتب البشائر ليغربوا بهَا ويشرقوا وَهُوَ يَقُول لهَذِهِ الْقوس بار ولهذه المأدبة قار
قَالَ فَكتبت فِي ذَلِك الْيَوْم سبعين كتاب بِشَارَة كل كتاب بِمَعْنى بديع وَعبارَة فَمِنْهَا الْكتاب إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بِبَغْدَاد أفتتحه بِهَذِهِ الْآيَة {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}
الْحَمد لله الَّذِي أنْجز لِعِبَادِهِ الصَّالِحين وعد الِاسْتِخْلَاف وقهر بِأَهْل التَّوْحِيد أهل الشّرك وَالْخلاف وَخص سُلْطَان الدِّيوَان الْعَزِيز بِهَذِهِ الْخلَافَة وَمكن دينه المرتضى وَبدل الْأَمْن من المخافة وَذخر هَذَا الْفَتْح الْأَسْنَى والنصر الأهنى للعصر الإمامي النَّبَوِيّ الناصري على يَد الْخَادِم أخْلص أوليائه وأخص من اعتزازه باعتزائه إِلَيْهِ وانتمائه
وَهَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والنجح الْكَرِيم قد انقرض من الْمُلُوك الْمَاضِيَة والقرون الخالية على حسرة تمنيه وحيرة ترجيه ووحشة الْيَأْس من تسنيه وتقاصرت عَنهُ طوال الهمم وتخاذلت عَن الِانْتِصَار لَهُ أَمْلَاك الْأُمَم فَالْحَمْد لله الَّذِي أعَاد الْقُدس(3/346)
إِلَى الْقُدس وأعاذه من الرجس وحقق من فَتحه مَا كَانَ فِي النَّفس وَبدل وَحْشَة الْكفْر فِيهِ من الْإِسْلَام بالأنس وَجعل عز يَوْمه ماحيا ذل الأمس وَأَسْكَنَهُ الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء بعد الْجُهَّال والضلال من البطرك والقس وَعَبدَة الصَّلِيب ومستقبلي الشَّمْس وَقد أظهر الله على الْمُشْركين الضَّالّين جُنُوده الْمُؤمنِينَ الْعَالمين وَقطع دابر الْقَوْم الظَّالِمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَكَأَن الله شرف هَذِه الْأمة وَقَالَ لَهُم اعزموا على اقتناء هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي بهَا فَضلكُمْ وحقق فِي حَقهم امْتِثَال أمره فِي قَوْله الْكَرِيم {ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم}
وَهَذَا الْفَتْح قد أقدره الله على افتضاضه بِالْحَرْبِ الْعوَان وَجعل مَلَائكَته المسومة لَهُ من أعز الْأَنْصَار وَأظْهر الأعوان وَأخرج يَوْم الْجُمُعَة من بَيته الْمُقَدّس أهل الْأَحَد وقمع من كَانَ يَقُول إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة بِمن يَقُول هُوَ الله أحد
وأعان الله بإنزال الْمَلَائِكَة وَالروح وأتى بِهَذَا النَّصْر الممنوح الَّذِي هُوَ فتح الْفتُوح وَقد تَعَالَى أَن يُحِيط بِهِ وصف البليغ نظما ونثرا وَعبد الله فِي الْبَيْت الْمُقَدّس سرا وجهرا وملكت بِلَاد الْأُرْدُن وفلسطين غورا ونجدا وَبرا وبحرا وملئت إسلاما وَكَانَت قد ملئت كفرا وتقاضى الْخَادِم دين الدّين الَّذِي غلق رَهنه دهرا وَالْحَمْد لله شكرا حمدا يجدد لِلْإِسْلَامِ كل يَوْم نصرا وَيزِيد وُجُوه أَهله ببشرى فتوحه بشرا وأبى الْخَادِم إِلَّا اسْتِبَاحَة أَمْوَالهم وأرواحهم وحسم دَاء اجتراحهم باجتياحهم وَأَنه لَا بُد من تَطْهِير الأَرْض المقدسة برجس دِمَائِهِمْ وَقتل رِجَالهمْ وَسبي(3/347)
ذَرَارِيهمْ وَنِسَائِهِمْ وَلما أيسوا من النجَاة وَفتح أَبْوَابهَا المرتجة من أَسبَابهَا المرتجاة خوفوا بقتل الْأُسَارَى الْمُسلمين وهم أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف وَأَنَّهُمْ يفسدون جَمِيع مَا فِي الْبَلَد من مَال وَبِنَاء بهدم وإحراق وَإِتْلَاف وَعرف أَن جهلهم على كل نكر شنيع وَأَنَّهُمْ تدعوهم فظاظتهم إِلَى كل ضرّ فظيع وبذلوا إِطْلَاق الأسرى وشرطوا حمل مَال الفدا وَمَا زَالُوا يبتهلون ويضرعون ويذلون ويخشعون حَتَّى اسْتَقر الْأَمر أَنهم يفادون وأجيبت الصَّخْرَة المقدسة عِنْد استصراخها وبركت الْبركَة الناهضة إِلَيْهَا فِي مناخها وغسلت من أوضارها وأوزارها بعبرات الْعُيُون وَرجع اضطرابها إِلَى السّكُون وفديت بنواظر أهل الْإِيمَان وصوفحت للوفاء بعهدها المجدد بالأيمان وَذكرت فِي يَوْم خلاصها من رَجَب بليلة الْمِعْرَاج وتجلى إظلامها بإنارة سنا السراج وأعيدت الْكَنَائِس مدارس وأضحت بإحياء رَمِيم التَّوْحِيد رسوم الْكفْر عَافِيَة دوارس وزالت ضجرة الصَّخْرَة ونعشها الله من العثرة وَبدل بالأنس فِيهَا مَا كَانَ من الوحشة وَالْحَسْرَة فَالْحَمْد لله على هَذِه النُّصْرَة والْمنَّة لَهُ على هَذِه المبرة
وَقد تسلمنا مَعَ بَيت الْمُقَدّس جَمِيع المعاقل من حد الداروم إِلَى حد طرابلس وكل مَا كَانَ جَارِيا فِي مملكة ملك الْقُدس ونابلس وَلم يبْق إِلَّا صور فَإِنَّهَا قد تَأَخّر انتزاعها وَتقدم امتناعها والفرنج فِيهَا قد ضريت بآمالها أطماعها وَهِي بتأييد الله مستفتحة والقلوب بتذليل جامحها منشرحة
وَمن كتب أخر فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي عجز الْمُلُوك عَن تمنيه فَكيف تسنيه وَمَاتَتْ الأطماع دونه فَلم تطمع فِيهِ فَمن الله علينا بتذليل صعبه وإعذاب شربه وتسهيل وعره وَتَحْصِيل فخره وَقضى الْمُلُوك فِي(3/348)
ليله وَجِئْنَا نَحن عِنْد إسفار فجره وَقد كَانَت الصَّخْرَة مستصرخة ومطايا الْكفْر بكلاكلها عَلَيْهَا منوخة فأجيبت دعوتها وأصينت حظوتها وتناثرت على حجرها يَوَاقِيت الشفاه وقوبلت قبلتها بقبل الأفواه ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى للقاصي والداني وَزَالَ رين العائن وقرت عين الراني
هَذَا فتح عَظِيم قدره جسيم فخره فَاضل عصره كَامِل نَصره غير منسي إِلَى يَوْم الْحَشْر ذكره وَقد اقتض بِنَا بكره واقتضي بسيفنا وتره وزهر زهره وَظهر قهره وَهلك الْكَافِر وكفره وَجَاء من نعم الله مَا لزم على الْأَبَد شكره
أَبينَا إِلَّا إحراقهم بنيران الصوارم وإغراقهم فِي أمواه الطلى والجماجم وتسلمنا الْقُدس فِي يَوْم كَانَت فِي مثل ليلته لَيْلَة الْمِعْرَاج وحنت الصَّخْرَة حنين جذع المعجزة الأولى فِي ظلمَة لَيْلهَا إِلَى ذَلِك السراج الْوَهَّاج وَالْحَمْد لله على سلوك مَا وضح من الْمِنْهَاج ونضوب مَا كَانَ نبع من الأجاج وخلا بَيت الله لقصد الْحَاج وَصدق الْحَاج
مبشرة بِمَا فضل الله بِهِ عصرنا وَعجل بِهِ نصرنَا ونظم بِهِ سلكنا وطرز بِهِ ملكنا وَهُوَ فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق رَهنه دهرا واغتصبت من الْإِسْلَام قهرا وارتد كفرا وامتدت بِهِ الْأَيَّام عمرا فعمرا وتقاصرت الهمم عَن استفتاحه وأصلد زند الْمُلُوك فِيهِ فعجزوا عَن اقتداحه ونزلوا بالرغم على التمَاس الْكفْر واقتراحه وَاحْتَملُوا لحفظ(3/349)
مواضعهم نكاية اجترامه واجتراحه فَلَا جرم أعده الله لأيامنا وذخره لمواسم اعتزامنا وفتحه بِنَا إِظْهَارًا لفضيله هَذِه الْأَيَّام وإيثارا لما نَحن نؤثره من إعلاء كلمة الْإِسْلَام فأصرخنا الصَّخْرَة وأهدينا إِلَيْهَا النُّصْرَة ومكنا من قَلبهَا وَإِن كَانَ من الْحجر المسرة
وتسلمنا الْقُدس يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وقضينا من حق هَذَا الْبَيْت مَا وَجب وَجَاء الْقُدس إِلَى الْقُدس وَزَالَ الرجس وَذهب وَتَوَلَّى فِيهِ الْإِسْلَام وَتَوَلَّى عَنهُ الْكفْر وَعظم الْأجر وفخم الْفَخر وطاب النشر وَزَاد الْبشر ومحي الرجس وَثَبت الطُّهْر وَهلك الْمُشرك وذل البطرك وأقصي من الْمَسْجِد الْأَقْصَى الساجد إِلَى الشَّمْس وتجلى الْحق بنوره الكاشف للبس
عَاد بَيت الله الْمُقَدّس إِلَى طَهَارَته ونطق مِنْهُ لِسَان التَّقْدِيس بعبارته وتهلل وَجه السعد بنضارته وخصنا الْقدر فِي إتْمَام أمره بخطابه وإشارته وزادت الْوُجُوه بشرا ببشارته وَقد أعَاد الله إِلَى الْإِسْلَام الْمَسْجِد الْأَقْصَى وملكنا أدناه وأقصاه وأسنى دولتنا بِمَا سناه من فَتحه وهناه وَعَلمُوا أَنهم هالكون وَأَنا لَهُم بالقهر مالكون وَفِي سَبِيل الْقَتْل والأسر والسبي سالكون فَخَرجُوا يطْلبُونَ الْأمان ويبذلون الإذعان حَتَّى يسلمُوا الْمَكَان فَقيل لَهُم الْآن وَقد عصيتم ورضيتم بِمَا فِيهِ هلاكهم وَأَبَيْتُمْ فروعوا بقتل أُسَارَى الْمُسلمين وهم أُلُوف وعرفنا أَنهم لَا يقصرون عَن شَرّ فَإِن جهلهم مَعْرُوف فتضرعوا وتشفعوا وتعفروا فِي تُرَاب الذل ووقعوا وتقرر(3/350)
عَلَيْهِم مَال اشْتَروا بِهِ أنفسهم فنزعوا بِهِ من الْخَوْف ملبسهم وسلموا الْقُدس فأعدناه إِلَى الْقُدس وطهرناه من الرجس وأجبنا دَعْوَة الصَّخْرَة وغسلنا عَنْهَا وضر الْكفْر بعبرات الْعبْرَة
فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق رَهنه وَطَالَ فِي يَد الْكفْر أسره وسجنه واستهل بغر أيامنا مزنه وأنار يمنه وَعَاد بإحساننا حسنه وَزَالَ بِنَا خَوفه وَزَاد أَمنه وَبَقِي قريب مئة سنة فِي يَد الْكفْر مسجونا وبرجس الشّرك مشحونا حَتَّى أعَاد الله بِنَا رونقه وأذهب قلقه وأعدم فرقه وَهَذَا فتح لم يكن مُنْذُ عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَهُ نَظِير وأفق الدّين بِهِ منيف مُنِير وَشرف أيامنا بِهِ كَبِير وَهُوَ إِمَام فتوحنا المدخرة لنا وَمَا لَهَا بتأييد الله تَأْخِير
فتح الْبَيْت الْمُقَدّس الَّذِي لم يخْطر تمنيه بخاطر الْمُلُوك وتوعر على عزائمهم نهج طَرِيقه المسلوك وحالت دونه قنطاريات الفرنج وطوارقها وجنت على الْإِسْلَام فِيهِ حوادث اللَّيَالِي وطوارقها حَتَّى دَعَانَا الله لفتحه فأجبناه ووعدنا بالفوز فأصبناه وأوردنا مشرع صفائه فاستعذبناه وعرفنا طيب عرفه فاستطبناه وَذخر لعصرنا هَذَا الْفَتْح فاستقبلناه
رَأَوْا أَحْجَار المنجنيقات قد أنزلت الأسوار بالأسوار وَغَارَتْ الصخور للصخرة الْمُبَارَكَة فجدت فِي إنقاذها من الأسار وهتمت ثنايا الأبراج وأعضل بهَا فِي علاج دَاء العلاج فعاينوا الْحمام وشاهدوا الْمَوْت الزؤام(3/351)
أَقَامَت المنجنيقات على حصانته جد الرَّجْم وواقعت ثنايا شرفاته بالهتم وتطايرت الصخور من نصْرَة الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة وحجرت على حكم السُّور بِسَفَه الْأَحْجَار المتداركة وحسرت النقوب عَن عروس الْبَلَد نقب الأسوار وانكشفت للعيون انكشاف الْأَسْرَار
نهضت لإصراخ الصَّخْرَة المقدسة الصخور وطارت من أوكار المجانيق كَأَنَّهَا الصقور مَا أسر الْبَيْت الْحَرَام بفكاك أَخِيه من الْأسر وإجراء مَاء الْإِسْلَام فِيهِ لغسل أوضار الْكفْر وإنقاذ الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة مِمَّن قُلُوبهم كالحجارة أَو أَشد قسوة وإلحافها من الْبَهَاء والرونق والعز الإسلامي كسْوَة وَلَقَد غسلت من أدران الْكفْر وأدناسه وطهرت من أرجاس أنجاسه بمياه الْعُيُون الَّتِي بهَا قذفت وصقلت بشفاه الْمُؤمنِينَ وطالما بأيدي الْكفْر صديت وأعيد إِلَيْهَا ذكر الله تَعَالَى بعد طول الغربة وتذكرت بِصُحْبَة الاولياء مَا سلف لَهَا فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من حسن الصُّحْبَة ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى فأقصي مِنْهُ الساجد للشمس وَسكن الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء فِي مَوَاطِن البطرك والقس وأبدل الناقوس بِالْأَذَانِ بل الْكفْر بِالْإِيمَان وَصلى محراب الْإِسْلَام فِي الْمِحْرَاب الَّذِي أسلم وَقد سنى الله تَعَالَى هَذَا الْفَتْح الْأَعْظَم والنجح الأفخم
وَقد ندب فلَان فِي الرسَالَة القدسية والبشارة العرسية الَّتِي تمّ بهَا ماتم الْكفْر وعرس الْإِسْلَام وَعَاد بهَا الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى مداناة الْمَسْجِد الْحَرَام وتجلت عروس الصَّخْرَة لعيون الناظرين وفاضت عَلَيْهَا مياه أحداق(3/352)
الْأَوْلِيَاء فرحضت عَنْهَا أوضار الْكَافرين وَكَانَ الْإِسْلَام مِنْهُ غَرِيبا فَرجع إِلَى وَطنه وَسكن مِنْهُ إِلَى التوطن فِي مَسْكَنه وزالت مخاوفه وَعَاد إِلَى مأمنه وفاض الْعرف من منبعه وأنار التَّوْحِيد من مطلعه وَعلا سنا السّنة وحلا جنى الْجنَّة وخلصت مَوَاضِع المخلصين من أَوْلِيَاء الْأمة وَخرج البطاركة والقسيسون من مَسَاجِد الْأَئِمَّة وعادت الْكَنَائِس مدارس وآيات التَّثْلِيث بهَا دوارس ووجوه الْإِيمَان باشرة ووجوه أهل الصَّلِيب عوابس ومحت أيامن هَذِه الْأَيَّام تِلْكَ اللَّيَالِي الدوامس وَقد أُقِيمَت الْجمع وَالْجَمَاعَات ونظفت بل طهرت تِلْكَ الساحات وَصلى فِي محرابه المحرب ودرس فِيهِ الْخلاف وَالْمذهب فَالْحَمْد لله الَّذِي تسنى بفضله هَذَا الْمطلب وتيسر بتأييده الْأَمر الأصعب
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الْمولى الْأَجَل الْفَاضِل مُتَأَخِّرًا بِدِمَشْق لعَارض من الله بشفائه فَمن جملَة مَا كتب السُّلْطَان إِلَيْهِ أما الْفَتْح فَمن جملَة بَرَكَات همته وآثار جذبات عزمته فَأن الله تَعَالَى سهل مَا سجل أهل الدَّهْر بِأَنَّهُ صَعب وَأهب نسيم النَّصْر إبان يُقَال لَيْسَ لَهُ مهب وخصنا بِهَذَا الشّرف وألحقنا فِي هَذِه الْفَضِيلَة بصالحي السّلف وَقد بدل الْكفْر بِالْإِيمَان والناقوس بِالْأَذَانِ وَجلسَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء فِي مجَالِس الرهبان وَفتحت بِهَذَا الْفَتْح من بَيت الله الْمُقَدّس أَبْوَاب الْجنان وتزاحم الخارجون من الْبَلَد(3/353)
من الفرنج وَالنَّصَارَى فِي دُخُول أَبْوَاب النيرَان وَصلى محَارب الدّين فِي الْمِحْرَاب وَرفع الْمَلَائِكَة مَا كَانَ تكاثف بِأَنْفَاسِ الْكفْر من الْحجاب وغسلت الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة من أوضارها بِمَاء الْعُيُون الفائض الْفَائِق غزارة الأمواه وَقبلت بالشفاه وبوشرت بالأفواه وطهرت بِأَهْل الْعلم والحلم من أدناس أهل الْجَهْل والسفاه
وَالْحَمْد لله ثمَّ الْحَمد لله وَمَا كَانَ يعوزنا ويعوزه إِلَّا حُضُور الْمجْلس السَّامِي أسماه الله فَمَا لهَذَا الْأَمر رواء إِلَّا بروائه وَلَا للأنس لِقَاء إِلَّا بأنس لِقَائِه وَكَاد يصحف الْفَتْح لَوْلَا صَالح دُعَائِهِ وَحسن آلائه
وَالْحَمْد لله الَّذِي خصنا بِهَذِهِ الخاصية وفضلنا بالنصرة القدسية وَذخر لنا هَذَا الْبر الَّذِي عجز بل قصر عَنهُ مُلُوك الْبَريَّة
وَالْحَمْد لله على هَذِه النِّعْمَة السّنيَّة فَمَا أشوقنا وأشوق الْقُدس إِلَى قدومه وَمَا أظمأنا وأظمأه إِلَى خُصُوص الرّيّ بِهِ وعمومه وَيَا حَظّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي هُوَ أَخُو الْبَيْت الْحَرَام من زيارته وَمَا آنق روضه وأوفق رِضَاهُ إِذا فَازَ بنظره ونضارته وَنحن نَعْرِف أَن همته الْعَالِيَة تحدوه وَأَن دينه إِلَى إِجَابَة دَعوته تَدعُوهُ ونسأل الله تَعَالَى أَن يكمل صِحَّته وينعش نهضته وَيُقَوِّي قوته وَمَا أَقَمْنَا بِهَذَا الْبَلَد إِلَّا لتطهيره وترتيب أمره وتدبيره
وَمن كتب أخر نصرنَا الله بملائكته المسومين وأوليائه الْمُؤمنِينَ واستخلصنا بتأييده الْبِلَاد وانتزعناها واقتضضناها بالبيض الذُّكُور من الْحَرْب(3/354)
الْعوَان أبكار الْفتُوح وافترعناها وَهَذِه موهبة مذهبَة ومنقبة لَا تبلغ إِلَى وصفهَا بلاغة موجزة وَلَا مسهبة ونوبة مَا لِلْإِسْلَامِ بعْدهَا نبوة وحظوة فِي مذاق أهل التَّقْوَى وَالْمَغْفِرَة حلوة وبشرى تجلو الْوُجُوه ببشرها وتضوع مهاب المحاب بنشرها ويغرق أهل الشرق والغرب سِجَال غربها وتقر عين الْمُؤمنِينَ فِي الْبعد والقرب بأنوار قربهَا
عَاد التَّقْدِيس إِلَى الأَرْض الَّتِي بِهِ وصفت وأحاطت الْبركَة بالبقعة الَّتِي بقوله تَعَالَى {باركنا حوله} عرفت وَظَهَرت الصَّخْرَة المقدسة وطهرت وزهيت أيامن هَذِه الْأَيَّام وزهرت وقمعت الطَّائِفَة الباغية من أهل التَّثْلِيث بِأَهْل التَّوْحِيد وقهرت واستبشر الْمِحْرَاب والمنبر بخطبته وإمامه وافتخر الزَّمَان بعصر مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأيامه وَقد تملكنا الْبِلَاد الساحلية وتسلمناها حصنا حصنا ونقضنا من الْكفْر ركنا ركنا وأجلينا الْكفَّار مِنْهَا فاجتلينا بهَا من الْحسنى حسنا
فتح شرف الله بِهِ هَذِه الْأمة وجلا بِهِ الْغُمَّة وكشف الملمة بل شرفنا بفخره وأعدنا لذخره وخصنا بفضيلته فِي عصره وأجرى لنا مَا كَانَ قد أَبْطَأَ من عَادَة نَصره وقمع بِأَهْل دينه من عساكرنا أهل كفره وَقَامَت بواترنا بوتره وغرق الْبِلَاد الساحلية من دم الْكفْر ببحره وأصرخت الصَّخْرَة وحفت بهَا النُّصْرَة وزالت عَنْهَا الْمضرَّة وعادت إِلَيْهَا المبرة ونعشت مِنْهَا العثرة وفاضت لَهَا من عين الْمُؤمنِينَ الْعبْرَة وزفت عروسها الْبكر مُحصنَة(3/355)
لم تقتض مِنْهَا الْعذرَة وحالت العرة ولاحت الْغرَّة وَظَهَرت من صدف قبتها الدرة وصوفحت آثَار الْقدَم النَّبَوِيَّة بِالْإِيمَان وجددت بعهدها صَفْقَة الْإِيمَان وَبَطل الناقوس بِحَق الْأَذَان وَفتحت أَبْوَاب الْجنان لأَهْلهَا وَأخرج مِنْهَا أهل النيرَان وَالْحَمْد لله على هَذَا الْإِحْسَان حمدا مستمرا على مر الزَّمَان
وَمن كتاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق نيفا وَتِسْعين سنة مَعَ الْكفْر رَهنه وَطَالَ فِي أسره سجنه واستحكم وهنه وَقَوي نكره وَضعف رُكْنه وَزَاد حزنه وَزَالَ حسنه وأجدبت من الْهدى أرضه وأخلف مزنه وواصله خَوفه وفارقه أَمنه واشتغل خاطر الْإِسْلَام بِسَبَبِهِ وساء ظَنّه وَذكر فِيهِ الْوَاحِد الْأَحَد الَّذِي تَعَالَى عَن الْوَلَد أَن الْمَسِيح ابْنه وَربع فِيهِ التَّثْلِيث فعز صليبه وصلبه وأفرد عَنهُ التَّوْحِيد فكاد يهي مَتنه ودرج الْمُلُوك المتقدمون على تمني استنقاذه فَأبى الشَّيْطَان غير استيلائه واستحواذه وَكَانَ فِي الْغَيْب الإلهي أَن معاده فِي الْآخِرَة إِلَى معاذه وطنت أوطانه وبقراءة الْقُرْآن وَرِوَايَة الحَدِيث وَذكر الدُّرُوس وجليت الصَّخْرَة المقدسة جلوة الْعَرُوس وزارها شهر رَمَضَان مضيفا لَهَا نَهَار صَومهَا بالتسبيح وليل فطرها بالتراويح
وَمن كتب أخر الْبَيْت الْمُقَدّس صَار مقدسا وَأصْبح لِلْإِسْلَامِ معرسا وَرجع أهل التَّقْوَى إِلَيْهِ فقد كَانَ بهَا مؤسسا وخرس الجرس وَذهب الدنس وَبَطل الناقوس وَخرج القسوس وَزَالَ الْأَذَى بِالْأَذَانِ وصوفحت الصَّخْرَة المقدسة بأيمان أهل الْإِيمَان وَمَا صلت فِي محراب الْبَيْت الْمُقَدّس(3/356)
التقاة حَتَّى صلت فِي محاريب رِقَاب الْكفْر المشرفيات وَمَا تمّ الرضى بِفَتْح الْمَسْجِد الْأَقْصَى حَتَّى أقصي مِنْهُ من أقصاه الله عَن رِضَاهُ وَمَا تبوأ الْمُسلم الْمُصَلِّي فِيهِ مثواه من الْجنَّة حَتَّى تبوأ الْكَافِر الْمصلى بالنَّار مثواه
صوفح مَوضِع الْقدَم الْمُبَارَكَة لَيْلَة الْمِعْرَاج بِالْأَيْدِي وَقَالَ لأولياء الله أهل الْإِخْلَاص أَهلا بكم فَمَا أحسن الْخَلَاص من ولَايَة أهل التَّعَدِّي وَعَاد الْمَسْجِد الْأَقْصَى للمصلين المقربين جنَّة ومنارا بعد أَن كَانَ للمقصين المضلين نَارا ودارا وتسلم محرب الْإِسْلَام محرابه وأصبحت لألافه لما ألفى أَصْحَابه وترنح الْمِنْبَر لترنم الْخَطِيب وانجبر الدّين بانكسار صلب عَابِد الصَّلِيب السليب
خلا باله من أَمر الْقُدس بإعادته إِلَى قدسه وإخلائه من رجز الشّرك ورجسه وإجلاء داويه واسيتاره وبطركه وقسه وتعويضه من وَحْشَة الضَّلَالَة من الْهدى بأنسه ورد الْإِسْلَام الْغَرِيب إِلَى بَيته الْمُقَدّس وَنفي الْكَافِر مِنْهُ كاسف البال راغم المعطس وَنصب الْمِنْبَر بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لإِقَامَة الْخطْبَة الإمامية وَرفع مَا رفع قدره من الْأَعْلَام العباسية والإفراج عَن محرابه بهدم مَا بني دونه من مباني الشّرك وكشف أَسْتَار الْكَفَرَة الَّتِي حجبت بالهتك والفتك وَإِقَامَة الْجمع فِيهِ وَالْجَمَاعَات وإدامة أوراد الْعِبَادَات بِهِ ووظائف الطَّاعَات وَغسل الصَّخْرَة المقدسة بِدَم الْكَافِر ودمع الْمُؤمن وَنزع لِبَاس بَأْس الْمُسِيء عَنْهَا بإفاضة ثوب ثَوَاب المحسن وتنزيه تِلْكَ الْجنَّة من دنس أهل النَّار وإعلاء مَا كَانَ درس من معالم الْأَبْرَار ومطالع الْأَنْوَار(3/357)
وَقد رَجَعَ الْإِسْلَام الْغَرِيب مِنْهُ إِلَى دَاره وَخرج قمر الْهدى بِهِ من سراره وَذَهَبت ظلم الضَّلَالَة بأنواره وعادت الأَرْض المقدسة إِلَى مَا كَانَت مَوْصُوفَة بِهِ من التَّقْدِيس وَأمنت المخاوف فِيهَا وَبهَا فَصَارَت صباح السرى ومناخ التَّعْرِيس وَقد اقصي عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى الأقصون من الله الأبعدون وتوافى إِلَيْهِ المصطفون الأقربون وَالْمَلَائِكَة المقربون وخرس الناقوس بزجل المسبحين وَخرج المفسدون بِدُخُول المصلحين وَقَالَ الْمِحْرَاب لأَهله مرْحَبًا وَأهلا وَشَمل جمَاعَة الْمُسلمين من إِقَامَة الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة مَا جمع لِلْإِسْلَامِ فِيهِ شملا وَرفعت الْأَعْلَام العباسية على منبره فَأخذت من بره أوفى نصيب وتلت بألسنة عذبها {نصر من الله وَفتح قريب} وغسلت الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة بدموع الْمُتَّقِينَ من دنس الْمُشْركين وَبعد أهل الْأَحَد من قربهَا بِقرب الْمُوَحِّدين فَذكر بهَا مَا كَاد ينسى من عهد الْمِعْرَاج النَّبَوِيّ وأقامت بدلائلها براهين الإعجاز المحمدي
عَاد الْإِسْلَام بِإِسْلَام الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى تقديسه وَرجع بُنْيَانه من التَّقْوَى إِلَى تأسيسة وَزَالَ ناموس ناقوسه وَبَطل بِنَصّ النَّصْر قِيَاس قسيسه وَفتح بَاب الرَّحْمَة لأَهْلهَا وَدخلت فِيهِ الصَّخْرَة لفضلها وباشرت الْحَيَاة بهَا مَوَاضِع سجودها وصافحت أَيدي الْأَوْلِيَاء آثَار الْقدَم النَّبَوِيَّة بتجديد عهودها وَشهد مقَام الْمِعْرَاج وموطئ براقه ورؤيء نور الْإِسْلَام ومطلع إشراقه ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى للراكع والساجد وامتلأ ذَلِك الفضاء بالأتقياء الأماجد(3/358)
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد تقلص ظلّ الْكَافِر الْمَبْسُوط وَصدق الله أهل دينه فَلَمَّا وَقع الشَّرْط وَقع الْمَشْرُوط وَجَاء أَمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمة وأدلجت السيوف والآجال نَائِمَة واسترد الْمُسلمُونَ تراثا كَانَ عَنْهُم آبقا وظفروا يقظة بِمَا لم يصدقُوا أَنهم يظفرون بِهِ طيفا على النأي طَارِقًا
وَمِنْه فِي وصف نقب السُّور فأخلي السُّور من السيارة وَالْحَرب من النظارة وَأمكن النقاب أَن يسفر للحرب النقاب وَأَن يُعِيد الْحجر إِلَى سيرته من التُّرَاب فَتقدم إِلَى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله وَحل عقده بضربه الأخرق الدَّال على لطافة أنمله وأسمع الصَّخْرَة الشَّرِيفَة حنينه فاستغاثته إِلَى أَن كَادَت ترق لمقتله وتبرأ بعض الْحِجَارَة من بعض وَأخذ الخراب عَلَيْهَا موثقًا فَلَنْ يبرح الأَرْض
ثمَّ قَالَ واستقرت على الْأَعْلَى أَقْدَامهم وخفقت على الْأَقْصَى أعلامهم وتلاقت على الصَّخْرَة قبلهم وشفيت بهَا وَإِن كَانَت صَخْرَة كَمَا يشفى بِالْمَاءِ غللهم وَملك الْإِسْلَام خطة كَانَ عَهده بهَا دمنة سكان فخدمها الْكفْر إِلَى أَن صَارَت رَوْضَة جنان لَا جرم أَن الله أخرجهم مِنْهَا وأهبطهم وأرضى أهل الْحق وأسخطهم وأوعز الْخَادِم برد الْأَقْصَى إِلَى عَهده الْمَعْهُود وَأقَام لَهُ من الْأَئِمَّة من يُوفيه ورده المورود وأقيمت الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شعْبَان فَكَادَتْ السَّمَوَات للسجوم يتفطرن وَالْكَوَاكِب مِنْهَا للطرب ينتثرن وَرفعت إِلَى الله كلمة التَّوْحِيد وَكَانَت طريقها مسدودة وطهرت قُبُور الْأَنْبِيَاء وَكَانَت بالنجاسات مكدودة وأقيمت الْخمس وَكَانَ(3/359)
التَّثْلِيث يقعدها وجهرت الألسن بِاللَّه أكبر وَكَانَ سحر الْكفْر يعقدها وجهر باسم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي وَطنه الْأَشْرَف من الْمِنْبَر فَرَحَّبَ بِهِ ترحيب من بر بِمن بر وخفق علماه فِي حفافيه فَلَو طَار سُرُورًا لطار بجناحيه
وَكَانَ الْخَادِم لَا يسْعَى سَعْيه إِلَّا لهَذِهِ الْعُظْمَى وَلَا يقاسي تِلْكَ البؤسى إِلَّا رَجَاء هَذِه النعمى وَلَا يحارب من يستظلمه إِلَّا لتَكون الْكَلِمَة مَجْمُوعَة فَتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وليفوز بجوهر الْآخِرَة لَا بِالْعرضِ الْأَدْنَى من الدُّنْيَا وَكَانَت الألسن رُبمَا سلقته فأنضج قلوبها بالأحتقار وَكَانَت الخواطر رُبمَا رُبمَا غلت عَلَيْهِ مراجلها فأطفأها بِالِاحْتِمَالِ والاصطبار وَمن طلب خطيرا خاطر وَمن رام صَفْقَة رابحة جاسر وَمن سما لِأَن يجلي غمرة غامر
وَوصف فِيهِ يَوْم حطين فَقَالَ وَكَانَ الْيَوْم مشهودا وَكَانَت الْمَلَائِكَة لَهُ شُهُودًا وَكَانَ الصَّلِيب صَارِخًا وَكَانَ الْإِسْلَام مولودا وَأسر الْملك وَبِيَدِهِ أوثق وثائقه وآكد وَصله بِالدّينِ وعلائقه وَهُوَ صَلِيب الصلبوت وقائد أهل الجبروت مَا دهموا قطّ بِأَمْر إِلَّا وَقَامَ بَين دهمائهم يحرضهم يبسط لَهُم بَاعه وَكَانَ مد الْيَدَيْنِ فِي هَذِه الدفعة وداعه لَا جرم أَنه يتهافت على ناره فراشهم ويجتمع فِي ظلّ ظلامه خشاشهم ويقاتلون تَحت ذَلِك الصَّلِيب أَصْلَب قتال وأصدقه ويرونه ميثاقا يبنون عَلَيْهِ أَشد عقد وأوثقه ويعدونه سورا تحفر حوافر الْخَيل خندقه وَلم يفلت مِنْهُم مَعْرُوف إِلَّا القومص وَكَانَ لَعنه الله مَلِيًّا يَوْم الظفر بِالْقِتَالِ ومليا يَوْم الخذلان بالاحتيال فنجا وَلَكِن كَيفَ وطار خوفًا من أَن يلْحقهُ منسر الرمْح وَجَنَاح(3/360)
السَّيْف ثمَّ أَخذه الله بعد أَيَّام بِيَدِهِ وأهلكه لموعده وَكَانَ لعدتهم فَذَلِك وانتقل من ملك الْمَوْت إِلَى مَالك وَبعد الكسرة مر الْخَادِم على الْبِلَاد فطواها بِمَا نشر عَلَيْهَا من الرَّايَة السَّوْدَاء صبغا الْبَيْضَاء صنعا الخافقة هِيَ وَقُلُوب أعدائها الْعَالِيَة هِيَ وعزائم أوليائها
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَمن قصائدي الَّتِي هنأت بهَا السُّلْطَان بِفَتْح الْقُدس وَهُوَ مخيم عَلَيْهِ
(أطيب بِأَنْفَاسِ تطيب لكم نفسا ... وتعتاض من ذكراكم وحشتي أنسا)
(وأسأل عَنْكُم عافيات دوارس ... غَدَتْ بِلِسَان الْحَال ناطقة خرسا)
(معاهدكم مَا بالها كعهودكم ... وَقد كررت من درس آثارها درسا)
(وَقد كَانَ فِي حدسي لكم كل طَارق ... وَمَا جئْتُمْ من هجركم خَالف الحدسا)
(أرى حدثان الدَّهْر ينسى حَدِيثه ... وَأما حَدِيث الْغدر مِنْكُم فَلَا ينسى)
(تَزُول الْجبَال الراسيات وثابت ... رسيس غرام فِي فُؤَادِي لكم أرسى)
(حسبت حَبِيبِي قاسي الْقلب وَحده ... وقلب الَّذِي يهوى بِحمْل الْهوى أقسى)
(أما لكم يَا مالكي الرّقّ رقة ... يطيب بهَا مملوككم مِنْكُم نفسا)
(وَإِن سروري كنت أسمع حسه ... فمذ سرت عَنْكُم مَا سَمِعت لَهُ حسا)(3/361)
(وَأَن نهاري صَار لَيْلًا لبعدكم ... فَمَا أَبْصرت عَيْني صباحا وَلَا شمسا)
(بَكَيْت على مستودعات قُلُوبكُمْ ... كَمَا قد بَكت قدما على صخرها الخنسا)
(فَلَا تحبسوا عني الْجَمِيل فإنني ... جعلت على حبي لكم مهجتي حبسا)
(رَأَيْت صَلَاح الدّين أشرف من غَدا ... وَأفضل من أضحى واكرم من أَمْسَى)
(وَقيل لنا فِي الأَرْض سَبْعَة أبحر ... ولسنا نرى إِلَّا أنامله الخمسا)
(سجيته الْحسنى وشيمته الرِّضَا ... وبطشته الْكُبْرَى وعزته القعسا)
(فَلَا عدمت أيامنا مِنْهُ مشرقا ... ينير بِمَا يولي ليالينا الدمسا)
(جنودك أَمْلَاك السَّمَاء وظنهم ... عداتك جن الأَرْض فِي الفتك لَا الإنسا)
(فَلَا يسْتَحق الْقُدس غَيْرك فِي الورى ... فَأَنت الَّذِي من دونهم فتح القدسا)
(وَمن قبل فتح الْقُدس كنت مقدسا ... فَلَا عدمت أخلاقك الطُّهْر والقدسا)
(وطهرته من رجسهم بدمائهم ... فأذهبت بالرجس الَّذِي ذهب الرجسا)
(نزعت لِبَاس الْكفْر عَن قدس أرْضهَا ... وألبستها الدّين الَّذِي كشف اللبسا)
(وعادت بِبَيْت الله أَحْكَام دينه ... فَلَا بطركا أبقيت فِيهَا وَلَا قسا)
(وَقد شاع فِي الْآفَاق عَنْك بِشَارَة ... بِأَن أَذَان الْقُدس قد بَطل النقسا)
(جرى بِالَّذِي تهوى الْقَضَاء وظاهرت ... مَلَائِكَة الرَّحْمَن أجنادك الحمسا)
(وَكم لبني أَيُّوب عبد كعنتر ... فَإِن ذكرُوا بالبأس لَا يذكرُوا عبسا)
(وَقد طَابَ ريانا على طبرية ... فياطيبها مغنى وَيَا حسنها مرسى)(3/362)
(وعكا وَمَا عكا فقد كَانَ فتحهَا ... لإجلائهم عَن مدن ساحله كنسا)
(وصيدا وبيروت وتبنين كلهَا ... بسيفك ألفى أَنفه الرغم والتعسا)
(ويافا وأرسوف ويبنى وغزة ... تخذت بهَا بَين الطلى والظبى عرسا)
(وَفِي عسقلان الْكفْر ذل بملككم ... فمنظره بل أمره أَرْبَد وأرجسا)
(وَصَارَ بصور عصبَة يرقبونكم ... فَلَا تبطئوا عَنْهَا وحسوهم حسا)
(توكل على الله الَّذِي لَك أَصبَحت ... كلاءته درعا وعصمته ترسا)
(وَدَمرَ على البَاقِينَ واجتث أصلهم ... فَإنَّك قد صيرت دينارهم فلسًا)
(وَلَا ينس شرك الشرق غربك مرويا ... بِمَاء الطلى من صاديات الظبى الخمسا)
(وَإِن بِلَاد الشرق مظْلمَة فَخذ ... خُرَاسَان والنهرين وَالتّرْك والفرسا)
(وَبعد الفرنج الكرج فاقصد بِلَادهمْ ... بعزمك واملأ من دِمَائِهِمْ الرسا)
(أَقَامَت بغاب الساحلين أسودكم ... وَقد طردت عَنهُ ذئابهم الطلسا)
وَهِي طَوِيلَة وَقد تقدم بَعْضهَا فِي ذكر كسرة حطين
وللعماد أَيْضا من جملَة القصيدة الَّتِي مدح بهَا حسام الدّين بن لاجين وَقد تقدم بَعْضهَا
(قل للمليك صَلَاح الدّين أكْرم من ... يمشي على الأَرْض أَو من يركب الفرسا)
(من بعد فتحك بَيت الْقُدس لَيْسَ سوى ... صور فَإِن فتحت فاقصد طرابلسا)(3/363)
(أثر على يَوْم أنطرسوس ذَا لجب ... وأبعث إِلَى ليل أنطاكية العسسا)
(وأخل سَاحل هَذَا الشَّام أجمعه ... من العداة وَمن فِي دينه وكسا)
(وَلَا تدع مِنْهُم نفسا وَلَا نفسا ... فَإِنَّهُم يَأْخُذُونَ النَّفس والنفسا)
(نزلت بالقدس فاستفتحته وَمَتى ... تقصد طرابلسا فَانْزِل على قدسا)
وَمن قصيدة أُخْرَى لَهُ نفذها إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر
(أبشر بِفَتْح أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتَى ... وَصيته فِي جَمِيع الأَرْض جَوَاب)
(مَا كَانَ يخْطر فِي بَال تصَوره ... واستصعب الْفَتْح لما أغلق الْبَاب)
(وخام عَنهُ الْمُلُوك الأقدمون وَقد ... مَضَت على النَّاس أحقاب وأحقاب)
(وَجَاء عصرك وَالْأَيَّام مقبلة ... فَكَانَ فِيهِ لفيض الْكفْر إنضاب)
(نصر أعَاد صَلَاح الدّين رونقه ... إيجازه ببليغ القَوْل إسهاب)
(قرع الظبى بالظبى فِي الْحَرْب يطربه ... لَا قينة صنع باللحن مطراب)
(أَحْيَا الْهدى وأمات الشّرك صارمه ... لقد تجلى الْهدى والشرك منْجَاب)
(بفتحه الْقُدس لِلْإِسْلَامِ قد فتحت ... فِي قمع طاغية الْإِشْرَاك أَبْوَاب)
(فَفِي مُوَافقَة الْبَيْت الْمُقَدّس للبيت ... الْحَرَام لنا تيه وَإِعْجَاب)
(والصخرة الْحجر الملثوم جَانِبه ... كِلَاهُمَا لاعتمار الْخلق محراب)
(نفى من الْقُدس صلبانا كَمَا نفيت ... من بَيت مَكَّة أزلام وأنصاب)
وَكثر مدح الْفُضَلَاء للسُّلْطَان عِنْد فتح الْقُدس وَقد ذكر الْعِمَاد من ذَلِك جملَة فِي أَوَاخِر كتاب الْبَرْق فَرَأَيْت تَقْدِيم مَا اخترته مِنْهَا هُنَا وزدت عَلَيْهِ مَا لم يذكرهُ فَمن ذَلِك قصيدة الْحَكِيم أبي الْفضل(3/364)
عبد الْمُنعم بن عمر بن حسان الأندلسي الجلياني مِنْهَا
(أَبَا المظفر أَنْت المجتنى لهدى ... أُخْرَى الزَّمَان على خبر بخبرته)
(فَلَو رآك وَقد حزت الْعلَا عمر ... فِي قلَّة التل قضى كنه عبرته)
(وَلَو رآك وَأهل الْقُدس فِي وَله ... أَبُو عُبَيْدَة فدى من مسرته)
(غَدَاة جزوا النواصي فِي قمامته ... وأعولوا بالتباكي حول صخرته)
(دارت بك الْملَّة الْحسنى فَنحْن على ... عهد الصَّحَابَة فِي اسْتِمْرَار مرته)
(وَأَنت كأسمك صديق وَصَاحبه الْملك ... المظفر سَام فِي مبرته)
(وَفِي السلالة عُثْمَان يُؤَيّدهُ ... علا عَليّ على إِيثَار نصرته)
(وَكم لديك ذَوي قربى رقوا شرفا ... وَكم بعيد رأى الزلفى بهجرته)
(يشبه القبج مَا بَين البزاة لقى ... ملك الفرنج أخيذا بَين عترته)
(أما رَأَيْت معالي يُوسُف نسقت ... حَتَّى رمت كل ذِي ملك بحسرته)
(أضحى لنشر الْهدى فِي فتح منهجه ... وَبَات يطوي العدى فِي سد ثغرته)
(واستقبح الرجس ممنوا بمشهده ... فَاسْتَفْتَحَ الْقُدس محشوا بزمرته)
(لَكِن بَأْس صَلَاح الدّين أذهلهم ... بوقعة التل واستشرى بسورته)
(تعيا الْجَوَارِح والفرسان وَهُوَ على ... بَدْء النشاط عشيا مثل بكرته)
(يَا فاتح الْمَسْجِد الْأَقْصَى على بهم ... وقانص الْجَيْش لَا يُحْصى بقفزته)(3/365)
(أبشر بِملك كَظهر الشَّمْس مطلع ... على البسيطة فتاح بنشرته)
(حَتَّى يكون لهَذَا الدّين ملحمة ... تحكي النُّبُوَّة فِي أَيَّام فترته)
قَالَ وَنفذ من مصر نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن ابْن المجاور الْوَزير العزيزي قصيدة وعرضتها على السُّلْطَان بالقدس وفيهَا ذكر الإنكليز وَفتح يافا وَذكر الْهُدْنَة الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا فِي آخر الْكتاب فَمِنْهَا وَسَيَأْتِي الْبَاقِي الْمُخْتَار أَيْضا
(الْوَقْت أضيق من سَماع قصيدة ... موسومة بِصِفَات أغيد أهيف)
(الْجد فِي هَذَا الزَّمَان مُبين ... والهزل فِيهِ مَعَ الغواية مختف)
(بالناصر الْمهْدي وَالْهَادِي إِلَى ... سبل الْجِهَاد أبي المظفر يُوسُف)
(المستعين بربه والواثق الْمَنْصُور ... والمستظهر الْبر الوفي)
(شدت قوى أَرْكَان مِلَّة أَحْمد ... وتجملت بجهاده فِي الْموقف)
(ملك إِذا أم الْمُلُوك جنابه ... لاذوا بأكرم من يؤم وأشرف)
(وَإِذا أَتَوا أسرى إِلَى أبوابه ... وقفُوا بأعظم من يصول وأرأف)
(مولى غَدا للدّين أكْرم وَالِد ... حدب على أبنائه مترفرف)
(عزل الفرنجة ثمَّ ولى جَيْشه ... أعظم بِهِ من صَارف ومصرف)
(قد أنصف التَّوْحِيد من تثليثهم ... وَأقَام فِي الْإِنْجِيل حد الْمُصحف)
(مغرى بتجريح الرِّجَال لانه ... يروي أَحَادِيث العوالي الرعف)
(ملك لَهُ فِي الْحَرْب تفقه ... وَله غَدَاة السّلم زهد تصوف)(3/366)
(وَعَلِيهِ أنزل فِي الْجِهَاد مفصل ... فلذاك يَقْرَؤُهُ بسبعة أحرف)
(عزم وحلم أنسيا مَا كَانَ من ... عزم ابْن مرداس وحلم الْأَحْنَف)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي لطباعه ... وسيوفه خلقا رضى وتعسف)
(لله يَوْم عرُوبَة إِذْ أعربت ... ساعاته عَن نصرك المتعرف)
(سنت سيوفك فِي الرؤوس ختانة ... ذهبت بمهجة كل علج أقلف)
(آفاتهم وآفت يأخذك مِنْهُم ... يافا فكم من حسرة وتاسف)
(أَو مَا رأى الأعلاج حِين دعوتها ... بِلِسَان سيف فِي الكريهة ملحف)
(لم تستطع عصيان أَمرك بل أَتَت ... منقادة طَوْعًا وَلم تتخلف)
(فاستدع جارتها وثن بأختها ... وكذاك حَتَّى الْأَرْبَعين ونيف)
(مَا للسواحل غير بحرك حَافظ ... بشبا سِنَان أَو بصفحة مرهف)
(هَذَا الطّراز الْأَخْضَر استفتحته ... فزها بِثَوْب من علاك مسجف)
(أَحييت دين مُحَمَّد وأقمته ... وسترته من بعد طول تكشف)
(وضبطت ديوَان الْجِهَاد بعامل ... من عَامل وبمشرف من مشرفي)
(وبجهبذ الْعَزْم الَّذِي لَا ينثني ... وبناظر الرَّأْي الَّذِي لم يطرف)(3/367)
(فَخذ الْخراج من البسيطة كلهَا ... واستأد فَرضِي جِزْيَة وموظف)
(واقبض على الدُّنْيَا بكف زهادة ... وابسط لرحمتها جنَاح تعطف)
(جَاءَت جنود الله تطلب ثأرها ... وصدورها بك عَن قَلِيل تشتفي)
(فانهض بهَا وتقاض حَقك موقنا ... أَن الْإِلَه بِمَا تؤمله حفي)
(هم فتية الأتراك كل مجفجف ... يغشى الكريهة فَوق كل مجفجف)
(قوم يَخُوضُونَ الْحمام شجاعة ... لَا ينظرُونَ إِلَيْهِ من طرف خَفِي)
(إِن صبحوا الْأَعْدَاء فِي أوطانهم ... تركُوا دِيَارهمْ كقاع صفصف)
(أَنْت اصطفيتهم لنصرة ديننَا ... لله در الْمُصْطَفى والمصطفي)
قلت وَذكرت بقوله هَذَا الطّراز الْأَخْضَر استفتحته حِكَايَة حَسَنَة لائقة بِالْحَال حَدثنِي بهَا شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي قَالَ قَرَأت بِخَط شَيخنَا أبي الْفَضَائِل بن رَشِيق بِمصْر عقيب مَوته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ رأى إِنْسَان كَأَن شخصا ذَا جهامة وَاقِف على حَائِط بِجَامِع دمشق يُسمى النسْر وَهُوَ يَقُول
(ملك الصَّيَاصِي والنواصي نَاصِر ... للدّين بعد إياسه أَن ينصرا)
(وسيفتح الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... يطوى الطّراز لَهُ وَيقتل قيصرا)
قلت وَهَذَا قبل أَن يفتح صَلَاح الدّين الْبِلَاد بِعشر سِنِين وقرأت بِخَط بعض أَصْحَابنَا قَالَ وجدت على حَاشِيَة كتاب يرْوى عَن خطيب كَانَ بالرقة(3/368)
أَنه رأى من ينشده هَذَا الشّعْر فِي النّوم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة فَذكر الْبَيْتَيْنِ وَهَذَا قبل الْفَتْح بِاثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَقبل مولد صَلَاح الدّين بِسنة وَالْمعْنَى بالطراز بِلَاد السَّاحِل المصطفة على بِلَاد الْبَحْر من الداروم وغزة وعسقلان وعكا وصيدا وبيروت وجبيل وَغير ذَلِك وَلم يبْق من الطّراز فِي أثْنَاء ذَلِك سوى صور بَين صيدا وعكا وَهَكَذَا كَانَ الْأَمر على مَا سبق بَيَانه فتح هَذَا الطّراز أَولا ثمَّ فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وكنى بقيصر عَن الإبرنس الَّذِي قَتله بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ من رُؤُوس الْكفْر وملوكهم وغلاتهم فِي معاداة الْإِسْلَام وَالله أعلم
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ فَخر الْكتاب أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ الْجُوَيْنِيّ الْمُقِيم بِمصْر من أهل بَغْدَاد ينفذ إِلَيّ قصائده لأعرضها فَرَأَيْت أَن أثبت لَهُ هَذِه القصيدة فِي الْفَتْح وَهِي مُشْتَمِلَة على ذكر مُلُوك الْإِسْلَام وإهمالهم لَهُ تسعين عَاما حَتَّى تجرد لَهُ سلطاننا فَذكر مِنْهَا
(جند السَّمَاء لهَذَا الْملك أعوان ... من شكّ فيهم فَهَذَا الْفَتْح برهَان)
(مَتى رأى النَّاس مَا نحكيه فِي زمن ... وَقد مَضَت قبل أزمان وأزمان)
(هذي الْفتُوح فتوح الْأَنْبِيَاء وَمَا ... لَهَا سوى الشُّكْر بالأفعال أَثمَان)(3/369)
(أضحت مُلُوك الفرنج الصَّيْد فِي يَده ... صيدا وَمَا ضعفوا يَوْمًا وَمَا هانوا)
(كم من فحول مُلُوك غودروا وهم ... خوف الفرنجة ولدان ونسوان)
(استصرخت بملكشاة طرابلس ... فخام عَنْهَا وَصمت مِنْهُ آذان)
(هَذَا وَكم ملك من بعده نظر ... الْإِسْلَام يطوى ويحوى وَهُوَ سَكرَان)
(تسعون عَاما بِلَاد الله تصرخ ... وَالْإِسْلَام نصاره صم وعميان)
(فَالْآن لبّى صَلَاح الدّين دعوتهم ... بِأَمْر من هُوَ للمعوان معوان)
(للناصر ادخرت هذي الْفتُوح وَمَا ... سمت لَهَا همم الْأَمْلَاك مذ كَانُوا)
(حباه ذُو الْعَرْش بالنصر الْعَزِيز فَقَالَ ... النَّاس دَاوُد هَذَا أم سُلَيْمَان)
(فِي نصف شهر غَدا للشرك مصطلما ... فطهرت مِنْهُ أقطار وبلدان)
(فاين مسلمة عَنْهَا وَإِخْوَته ... بل أَيْن والدهم بل أَيْن مَرْوَان)
(وعد عَمَّا سواهُ فالفرنجة لم ... يبذهم من مُلُوك الأَرْض إِنْسَان)
(لَو أَن ذَا الْفَتْح فِي عصر النَّبِي لقد ... تنزلت فِيهِ آيَات وَقُرْآن)
(يَا قبح أوجه عباد الصَّلِيب وَقد ... غَدا يبرقعها شُؤْم وخذلان)
(خزنت عِنْد إِلَه الْعَرْش سَائِر مَا ... ملكته وملوك الأَرْض خزان)
(فَالله يبقيك لِلْإِسْلَامِ تحرسه ... من أَن يضام ويلفى وَهُوَ حيران)
(وَهَذِه سنة أكْرم بهَا سنة ... فالكفر فِي سنة والنصر يقظان)
(يَا جَامعا كلمة الْإِيمَان قامع من ... معبوده دون رب الْعَرْش صلبان)
(إِذا طوى الله ديوَان الْعباد فَمَا ... يطوى لأجر صَلَاح الدّين ديوَان)
وللشريف النسابة الْمصْرِيّ مُحَمَّد بن أسعد بن عَليّ بن معمر الْحُسَيْنِي(3/370)
الْمَعْرُوف بالجواني نقيب الْأَشْرَاف بالديار المصرية من قصيدة
(أَتَرَى مناما مَا بعيني أبْصر ... الْقُدس يفتح والفرنجة تكسر)
(وقمامة قُمْت من الرجس الَّذِي ... بزواله وزوالها يتَطَهَّر)
(ومليكهم فِي الْقَيْد مصفود وَلم ... ير قبل ذَاك لَهُم مليك يؤسر)
(قد جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح الَّذِي ... وعد الرَّسُول فَسَبحُوا وَاسْتَغْفرُوا)
(فتح الشآم وطهر الْقُدس الَّذِي ... هُوَ فِي الْقِيَامَة للأنام الْمَحْشَر)
(من كَانَ هَذَا فَتحه لمُحَمد ... مَاذَا يُقَال لَهُ وماذا يذكر)
(يَا يُوسُف الصّديق أَنْت لفتحها ... فاروقها عمر الإِمَام الأطهر)
(ولأنت عُثْمَان الشَّرِيعَة بعده ... ولأنت فِي نصر النُّبُوَّة حيدر)
(ملك غَدا الْإِسْلَام من عجب بِهِ ... يختال وَالدُّنْيَا بِهِ تتبختر)
(نثر ونظم طعنه وضرابه ... فالرمح ينظم والمهند ينثر)
(حَيْثُ الرّقاب خواضع حَيْثُ الْعُيُون ... خواشع حَيْثُ الجباه تعفر)
(غاراته جمع فَإِن خطبت لَهُ ... فِيهَا السيوف فَكل هام مِنْبَر)
(إِذْ لَا ترى إِلَّا طلى بسنابك ... تحذى نعالا أَو دِمَاء تهدر)(3/371)
(وصوافنا تخْتَار أَن تطَأ الثرى ... فيصدها عَنهُ طلى وسنور)
(تمشي على جثث العدى عرجا وَلَا ... عرج بهَا لَكِنَّهَا تتعثر)
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن جُبَير الأندلسي
(أطلت على أفقك الزَّاهِر ... سعود من الْفلك الدائر)
(فأبشر فَإِن رِقَاب العدى ... تمد إِلَى سَيْفك الباتر)
(وَعَما قريب يحل الردى ... بكندهم الناكث الغادر)
(وخصب الورى يَوْم تَسْقِي الثرى ... سحائب من دَمهَا الهامر)
(وَكم لَك من فتكة فيهم ... حكت فتكة الْأسد الخادر)
(كسرت صليبهم عنْوَة ... فَللَّه دَرك من كاسر)
(وغيرت آثَارهم كلهَا ... فَلَيْسَ لَهَا الدَّهْر من جَابر)
(وأمضيت جدك فِي غزوهم ... فتعسا لجدهم العاثر)
(وَأدبر ملكهم بالشآم ... وَولى كأمسهم الدابر)
(جنودك بِالرُّعْبِ منصورة ... فناجز مَتى شِئْت أَو صابر)
(فكلهم غرق هَالك ... بتيار عسكرك الذاخر)
(ثأرت لدين الْهدى فِي العدى ... فآثرك الله من ثَائِر)
(وَقمت بنصر إِلَه الورى ... فسماك بِالْملكِ النَّاصِر)
(وجاهدت مُجْتَهدا صَابِرًا ... فَللَّه أجرك من صابر)
(تبيت الْمُلُوك على فرشهم ... وترفل فِي الزرد السابري)
(وتؤثر جَاهد عَيْش الْجِهَاد ... على طيب عيشهم الناضر)
(وتسهر ليلك فِي حق من ... سيرضيك فِي جفنك الساهر)(3/372)
(فتحت الْمُقَدّس من أرضه ... فَعَادَت إِلَى وصفهَا الطَّاهِر)
(وَجئْت إِلَى قدسه المرتضى ... فخلصته من يَد الْكَافِر)
(وأعليت فِيهِ منار الْهدى ... وأحييت من رسمه الداثر)
(لكم ذخر الله هذي الْفتُوح ... من الزَّمن الأول الغابر)
(وخصك من بعد فاروقه ... بهَا لاصطناعك فِي الآخر)
(محبتكم ألقيت فِي النُّفُوس ... بِذكر لكم فِي الورى طَائِر)
(فكم لَهُم عِنْد ذكر الْمُلُوك ... لمثلك من مثل سَائِر)
وَبَاقِي القصيدة تقدم فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين
وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الساعاتي
(أعيا وَقد عاينتم الْآيَة الْعُظْمَى ... لأية حَال تذخروا النثر والنظما)
(وَقد سَاغَ فتح الْقُدس فِي كل منطق ... وشاع إِلَى أَن أسمع الأسل الصما)
(حبا مَكَّة الْحسنى وثنى بِيَثْرِب ... وأطرب ذياك الضريح وَمَا ضما)
(فليت فَتى الْخطاب شَاهد فتحهَا ... فَيشْهد أَن السَّيْف من يُوسُف أصمى)
(وَمَا كَانَ إِلَّا الدَّاء أعيا دواؤه ... وَغير الحسام العضب لَا يحسن الحسما)
(وَأصْبح ثغر الدّين جذلان باسما ... وألسنة الأغماد توسعه لثما)
(سلو السَّاحِل المغشي عَن سطواته ... فَمَا كَانَ إِلَّا ساحلا صَادف اليما)
وَله من قصيدة أُخْرَى فِي السُّلْطَان
(عصفت بِهِ ريح الخطوب زعارعا ... فلقين طودا لَا تخف أناته)(3/373)
(هُوَ منقذ الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... طَالَتْ فَمَا وجد الشفا شكاته)
(بَيت تأسس بِالسُّكُونِ وَإِنَّمَا ... عِنْد الزحاف تحركت سكناته)
(أمشتت الْأَعْدَاء وَهِي جحافل ... عَن شَمل دين جمعت أشتاته)
(أُوتيت عزما فِي الحروب مُسَددًا ... لَا زيغه يخْشَى وَلَا هفواته)
(أَحْسَنت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق ويثرب ... وَلَك الفعال كَثِيرَة حَسَنَاته)
(هذي سيوفك مُحرمَات دونه ... لبكائهن تبسمت حجراته)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(هُوَ الفاتح الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... تحامته سَادَات الدنا ومسودها)
(فَضِيلَة فتح كَانَ ثَانِي خَليفَة ... من الْقَوْم مبديها وَأَنت معيدها)
وَله من قصيدة فِي بعض أقَارِب السُّلْطَان
(أَلَسْت من الْقَوْم الألى بسيوفهم ... ثنوا صَخْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس مَسْجِدا)
وللعماد الْكَاتِب من قصيدة مدت بهَا الْملك الْأَفْضَل
(والقدس أعضل داؤه من قبلكُمْ ... فوفيتم بشفاء ذَاك المعضل)
(درج الْمُلُوك على تمني فَتحه ... زَمنا وغلتهم بِهِ لم تبلل)
(وأتى زمانكم فَأمكن آخرا ... مَا قد تعذر فِي الزَّمَان الأول)
(مَا كَانَ قطّ وَلَا يكون كفتحكم ... للقدس فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبل)
(أوجدتم مِنْهُ الَّذِي عدم الورى ... وفعلتم فِي الْفَتْح مَا لم يفعل)(3/374)
(أَيدي الْمُلُوك تقاصرت عَن مفخر ... طلتم بِهِ فبلوا بعض الأنمل)
(أحييتم شرع الْكِرَام وَلم يزل ... نصر المحق بكم وقهر الْمُبْطل)
وَله من قصيدة فِي مدح الْملك الْمُؤَيد مَسْعُود بن صَلَاح الدّين
(وَكم لبني صَلَاح الدّين فِينَا ... على الْإِسْلَام من حق تَأَكد)
(وَإِن لَهُم على الْأَمْلَاك طرا ... بِفَتْح الْقُدس فضلا لَيْسَ يجْحَد)
وَله من أُخْرَى فِي مدح الْملك الظَّاهِر غَازِي
(هم الْمُلُوك ذَوُو بَأْس ومكرمة ... إِن سالموا أمنُوا أَو حَاربُوا خيفوا)
(أغناهم الْقُدس عَن قَول الورى فتحت ... عكا وصيدا وبيروت وأرسوف)
(جَيش الفرنج إِذا لَاقَى سوابقهم ... كانه جبل بِالرِّيحِ منسوف)
وقرأت على شَيخنَا أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي رَحمَه الله من جملَة قصيدة مدح بهَا بعض ولد السُّلْطَان أَظُنهُ الْملك المحسن ظهير الدّين أَحْمد بن صَلَاح الدّين رحمهمَا الله
(ملك بِهِ وَأَبِيهِ يفتخر الْعلَا ... ويفوق فخرهما السها والفرقدا)
(مَا يُوسُف مِمَّن يُقَاس بحاتم ... أَنى وَقد وهب الْحُصُون وأصفدا)
(أَو أَن يُقَال كَأَنَّهُ يَوْم الوغى ... والروع كالأسد الهصور إِذا عدا)(3/375)
(أَو من يشبه جوده بغمامة ... أَو من يُقَال لمثله غمر الردا)
(بل مَالك الدُّنْيَا ومالىء رحبها ... خيلا ورجلا ناصرا دين الْهدى)
(ومخلص الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... رفع الصَّلِيب على ذراه ومجدا)
(وَمن الْمُلُوك الصَّيْد تلقاهم إِذا ... رفع السرادق راكعين وَسجدا)
(وَبِه أَتَى الْبَيْت الْحَرَام وفوده ... من كل فج آمِنين المردا)
(من بعد مَا درست معالم سبله ... دهرا وَعز لخوفها أَن يقصدا)
فصل فِي صفة إِقَامَة الْجُمُعَة بالأقصى شرفه الله تَعَالَى فِي رَابِع شعْبَان ثامن يَوْم الْفَتْح
وَقد وهم مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه فِيمَا قرأته بِخَطِّهِ فَإِنَّهُ قَالَ فتح صَلَاح الدّين بَيت الْمُقَدّس وخطب على الْمِنْبَر فِيهِ بِنَفسِهِ وَصلى فِيهِ وَلبس خلعة سَوْدَاء
وَلم يكن السُّلْطَان هُوَ الَّذِي بَاشر الْخطْبَة على مَا سَنذكرُهُ وَقد تقدم أَن يَوْم الْفَتْح وَإِن كَانَ يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن الْوَقْت ضَاقَ عَن إِقَامَة فرض صَلَاة الْجُمُعَة فِيهِ
قَالَ الْعِمَاد لما تسلم السُّلْطَان الْقُدس أَمر بِإِظْهَار الْمِحْرَاب وَكَانَ الداوية قد بنوا فِي وَجهه جدارا وتركوه للغلة هريا وَقيل كَانُوا(3/376)
اتخذوه مستراحا عُدْوانًا وبغيا وَكَانُوا قد بنوا من غربي الْقبْلَة دَارا وسيعة وكنيسة رفيعة فأوعز بِرَفْع ذَلِك الْحجاب وكشف النقاب عَن عروس الْمِحْرَاب وَهدم مَا قدامه من الْأَبْنِيَة وتنظيف مَا حوله من الأفنية بِحَيْثُ يجْتَمع النَّاس للْجُمُعَة فِي الْعَرَصَة المتسعة
وَنصب الْمِنْبَر وَأظْهر الْمِحْرَاب المطهر وَنقض مَا أحدثوه بَين السَّوَارِي وفرشوا تِلْكَ البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الْحصْر والبواري وعلقت الْقَنَادِيل وتلي التَّنْزِيل وَحقّ الْحق وَبَطلَت الأباطيل وَتَوَلَّى الْفرْقَان وعزل الْإِنْجِيل وصفت السجادات وصفت الْعِبَادَات وأقيمت الصَّلَوَات وأديمت الدَّعْوَات وتجلت البركات وانجلت الكربات وانجابت الغيابات وانثابت الهدايات وتليت الْآيَات وأعليت الرَّايَات
ونطق الْأَذَان وخرس الناقوس وَحضر المؤذنون وَغَابَ القسوس وَزَالَ العبوس والبوس وَطَابَتْ الأنفاس والنفوس وَأَقْبَلت السُّعُود وأدبرت النحوس وَعَاد الْإِيمَان الْغَرِيب مِنْهُ إِلَى موطنه وَطلب الْفضل من معدنه وَورد الْقُرَّاء وقرىء الأوراد وَاجْتمعَ الزهاد والعباد والأبدال والأوتاد وَعبد الْوَاحِد ووحد العابد وتوافد الرَّاكِع والساجد والخاشع والواجد والزاهي والزاهد وَالْحَاكِم وَالشَّاهِد والجاهد والمجاهد والقائم والقاعد والمتهجد والساهد والزائر والوافد
وصدح الْمِنْبَر وصدع الْمُذكر وانبعث المعشر وَذكر الْبَعْث(3/377)
والمحشر وأملى الْحفاظ وابكى الوعاظ وتذاكر الْعلمَاء وتناظر الْفُقَهَاء وتحدثت الروَاة وروى المحدثون وتحنف الهداة وَهدى المتحنفون وأخلص الداعون ودعا المخلصون وَأخذ بالعزيمة المترخصون ولخص الْمُفَسِّرُونَ وَفسّر الملخصون وانتدى الْفُضَلَاء وانتدب الخطباء وَكثر المتوحشون للخطابة المتوشحون بالإصابة المعروفون بالفصاحة الموصوفون بالحصافة فَمَا فيهم إِلَّا من خطب الرُّتْبَة ورتب الْخطْبَة وَأَنْشَأَ معنى شائقا ووشى لفظا رائقا وَسوى كلَاما بالموضع لائقا وروى مبتكرا من البلاغة فائقا وَفِيهِمْ من عرض عَليّ خطبَته وَطلب مني نصبته وَتمنى أَن ترجح فضيلته وتنجح وسيلته وتسبق منيته فِيهَا أمنيتهم وَكلهمْ طَال إِلَى الالتهاء بهَا عُنُقه وسال من الالتهاب عَلَيْهَا عرقه
وَمَا مِنْهُم إِلَّا من يتأهب ويترقب ويتوسل ويتقرب وَفِيهِمْ من يتَعَرَّض ويتضرع ويتشوف ويتشفع وكل قد لبس وقاره وَوقر لِبَاسه وَضرب فِي أخماسه أسداسه وَرفع لهَذِهِ الرياسة راسه وَالسُّلْطَان لَا يعين وَلَا يبين وَلَا يخص وَلَا ينص وَمِنْهُم من يَقُول لَيْتَني خطبت فِي الْجُمُعَة الأولى وفزت بِالْيَدِ الطُّولى وَإِذا ظَفرت بطالع سعدي فَمَا أُبَالِي بِمن خطب بعدِي
فَلَمَّا دخل يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شعْبَان أصبح النَّاس يسْأَلُون فِي تعْيين الْخَطِيب السُّلْطَان وامتلأ الْجَامِع واحتفلت المجامع وتوجست الْأَبْصَار والمسامع وفاضت لرقة الْقُلُوب المدامع وراعت لحلية تِلْكَ الْحَالة وبهاء(3/378)
تِلْكَ الْبَهْجَة الروائع وغصت بالسابقين إِلَيْهَا الْمَوَاضِع وتوسمت الْعُيُون وتقسمت الظنون وَقَالَ النَّاس هَذَا يَوْم كريم وَفضل عميم وموسم عَظِيم هَذَا يَوْم تجاب فِيهِ الدَّعْوَات وتصب البركات وتسال العبرات وتقال العثرات ويتيقظ الغافلون ويتعظ الْعَامِلُونَ وطوبى لمن عَاشَ حَتَّى حضر هَذَا الْيَوْم الَّذِي فِيهِ انْتَعش الْإِسْلَام وارتاش وَمَا أفضل هَذِه الطَّائِفَة الْحَاضِرَة والعصبة الطاهرة وَالْأمة الظَّاهِرَة وَمَا أكْرم هَذِه النُّصْرَة الناصرية والأسرة الإمامية والدولة العباسية والمملكة الأيوبية والدولة الصلاحية وَهل فِي بلد الْإِسْلَام أشرف من هَذِه الْجَمَاعَة الَّتِي شرفها الله بالتوفيق لهَذِهِ الطَّاعَة
وَتَكَلَّمُوا فِيمَن يخْطب وَلمن يكون المنصب وتفاوضوا فِي التَّفْوِيض وتحدثوا بالتصريح والتعريض
والأعلام تعلى والمنبر يكسى ويجلى والأصوات ترْتَفع وَالْجَمَاعَات تَجْتَمِع والأفواج تزدحم والأمواج تلتطم وللعارفين من الضجيج مَا فِي عَرَفَات للحجيج حَتَّى حَان الزَّوَال وَزَالَ الِاعْتِدَال وحيعل الدَّاعِي وَأعجل السَّاعِي نصب السُّلْطَان الْخَطِيب بنصه وَأَبَان عَن اخْتِيَاره بعد فحصه وأوعز إِلَى القَاضِي محيي الدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن زكي الدّين عَليّ الْقرشِي بِأَن يرقى ذَلِك المرقى وَترك جباه البَاقِينَ بتقديمه عرقى فأعرته من عِنْدِي أهبه سَوْدَاء من تشريف الْخلَافَة حَتَّى يكمل لَهُ شرف الْإِفَاضَة وَالْإِضَافَة فرقي الْعود وَلَقي السُّعُود واهتزت أعطاف الْمِنْبَر واعتزت أَطْرَاف المعشر(3/379)
وخطب وأنصتوا ونطق وسكتوا وأفصح وأعرب وأبدع وَأغْرب وأعجز وأعجب وأوجز وأسهب وَوعظ فِي خطبتيه وخطب بموعظتيه وَأَبَان عَن فضل الْبَيْت الْمُقَدّس وتقديسه وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى من أول تأسيسه وتطهيره بعد تنجيسه وإخراس ناقوسه وَإِخْرَاج قسيسه ودعا للخليفة وَالسُّلْطَان وَختم بقوله تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} وَنزل وَصلى فِي الْمِحْرَاب وافتتح بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أم الْكتاب فَأم بِتِلْكَ الْأمة وَتمّ نزُول الرَّحْمَة وكمل وُصُول النِّعْمَة
وَلما قضيت الصَّلَاة انْتَشَر النَّاس واشتهر الإيناس وانعقد الْإِجْمَاع واطرد الْقيَاس وَكَانَ قد نصب للوعظ تجاه الْقبْلَة سَرِير ليفرعه كَبِير فَجَلَسَ عَلَيْهِ زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن نجا فَذكر من خَافَ وَمن رجا وَمن سعد وَمن شقي وَمن هلك وَمن نجا وَخَوف بِذِي الْحجَّة ذَوي الحجا وجلا بِنور عظاته من ظلم الشُّبُهَات مَا دجا وأتى بِكُل عظة للراقدين موقظة وللظالمين محفظة ولأولياء الله مرققة ولأعداء الله مُغَلّظَة
وضج المتباكون وعج المتشاكون ورقت الْقُلُوب وحقت الكروب وتصاعدت النعرات وتحدرت العبرات وَتَابَ المذنبون وأناب المتحوبون وَصَاح التوابون وناح الأوابون وَجَرت حالات جلت وجلوات حلت ودعوات علت وضراعات قبلت وفرص من الْولَايَة الإلهية انتهزت وحصص من الْعِنَايَة الربانية أحرزت(3/380)
وَصلى السُّلْطَان فِي قبَّة الصَّخْرَة والصفوف على سَعَة الصحن بهَا مُتَّصِلَة وَالْأمة إِلَى الله بدوام نَصره مبتهلة وَالْوُجُوه الموجهة إِلَى الْقبْلَة عَلَيْهِ مقبلة وَالْأَيْدِي إِلَى الله مَرْفُوعَة والدعوات لَهُ مسموعة ثمَّ رتب فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى خَطِيبًا استمرت خطبَته واستقرت نصبته
قلت هَذِه أَلْفَاظ الْعِمَاد فِي هَذَا الْفَصْل من كتاب الْفَتْح وَذكره فِي كتاب الْبَرْق بِعِبَارَة أُخْرَى تشْتَمل على فَوَائِد زَائِدَة وَفِي تكْرَار مَا تقدم أَيْضا بِغَيْر تِلْكَ الْعبارَة فَائِدَة فَإِنَّهَا معَان جليلة كلما كررت حلت
فصل
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة التالية لجمعة الْفَتْح تقدم السُّلْطَان فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى ببسط العراص وإخلائها لأهل الْإِخْلَاص وتنظيفها من الأدناس وكنس مَا فِي أرجائها من الأرجاس
وَقد كَانَ سبق أمره من مبدأ الْأَمر بهدم مَا هُنَاكَ من أبنية الْكفْر وإبراز الْمِحْرَاب الْقَدِيم وإعادة مَوْضِعه إِلَى الْوَضع الْكَرِيم فقد كَانَ الداوية بنوا غربية دَارا وادخلوه فِيهَا وخلطوه بمبانيها وَاتَّخذُوا مِنْهُ جانبا مستراحا للأعلال وجانبا هريا للغلال فَأمر فِي العاجل بكشف قناعه وَرفع الوضيع من أوضاعه وَنقل مَا وَقع من أنقاضه وَنقض مَا اعتور ذَلِك الْجَوْهَر النفيس من أعراضه حَتَّى طهر مَوضِع الْمِنْبَر والمحراب وَاسْتظْهر بِإِزَالَة مَا قدامه من الْحجاب وَاجْتمعَ الْخلق فِي ذَلِك الْأُسْبُوع على تَفْرِيق ذَلِك الْهدم(3/381)
الْمَجْمُوع وتعاونوا حَتَّى كشفوه ونظفوه ورشوه وفرشوه وَكَانَ قد أَمر باتخاذ مِنْبَر فِي تِلْكَ الْأَيَّام فنجزوه وركبوه
وَلما أَصْبَحْنَا يَوْم الْجُمُعَة وجدنَا الْعِلَل مزاحة والهمم مراحة والخواطر إِلَى وردهَا ملتاحة مرتاحة وَهُنَاكَ فضلاء بلغاء وعلماء أتقياء وكل مِنْهُم قد سبق بِخطْبَة الْخطْبَة وأمل الْفَوْز بفضيلة تِلْكَ الرُّتْبَة وَأعد لذَلِك الْمقَام مقَالا ونشط بشقشقة فَصَاحَته من قرم حصافته عقَالًا حَتَّى إِذا حيعل الدَّاعِي وَتعين الْفَرْض على السَّاعِي حضر السُّلْطَان للصَّلَاة قبَّة الصَّخْرَة بادية على أساريره أسرار سروره بالأسرة وامتلأت تِلْكَ العراص والصحون واستعبرت للفرح بِمَا يسره الله الْعُيُون وآن لدين الله أَن تقضى لَهُ الدُّيُون وَتَفُك الرهون ووجلت الْقُلُوب وخشعت الْأَصْوَات وَحسنت الظنون وَعين السُّلْطَان القَاضِي محيي الدّين أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي الزكي بن الزكي للصَّلَاة وَالْخطْبَة وَفرع تِلْكَ الرُّتْبَة فَصَعدَ وَسعد وَحمد وَأحمد وَأَدت الْمعَانِي الشَّرِيفَة أَلْفَاظه وَنبهَ الأقاصي والأداني إيقاظه وجلا المسامع وجلت المدامع وأتى بالخطبتين المفروضتين على الْوَجْه الْمَشْرُوع والمنهج الْمَتْبُوع وَالشّرط الْمَوْضُوع وَذكر فِي الْفَتْح الْبكر مَا اقتض بِهِ أبكار الأستعارات بأبدع البراعات وأبرع الْعبارَات وصدح بِالصّدقِ ونطق بِالْحَقِّ وفاز بِالسَّبقِ وَحَازَ الْفَضِيلَة على فضلاء الغرب والشرق فَهُوَ لنشر الْمعَانِي أضم خطيب لَهُ بنشر الْمَعَالِي أضمخ طيب فَأَيْنَ قس فِي عكاظة من قِيَاس أَلْفَاظه وَأَيْنَ سحبان من سجعاته وَابْن نَبَاته من نَبَاته وَلَو عاشا لافتقرا إِلَى فقره واحتقرا أعراضهما عِنْد(3/382)
جوهره ودعا لأمير الْمُؤمنِينَ ثمَّ لسلطان الْمُسلمين وَنزل وَقَامَ إِمَامًا أكمل بِصَلَاتِهِ الْفَرْض وأرضى بسمت دعواته والطمأنينة فِي ركعاته وسجداته أهل السَّمَاء وَالْأَرْض وسر السُّلْطَان بنصبه وَرَفعه وامتلأ صَدره حبورا مِنْهُ بجلاء بَصَره وسَمعه فقد أخذت بالأبصار أشعة أنوار الْخطْبَة فِي سَواد الأهبة وعظمت أخطار المهابة فِي خواطر الْمحبَّة وكرمت سرائر الزلفى إِلَى الله والقربة
ثمَّ رتب السُّلْطَان بعده خَطِيبًا تستمر إِقَامَته للْجمع وَالْجَمَاعَات وتستقر ملازمته لأَدَاء الصَّلَوَات
وَلما قضيت الصَّلَاة تِلْكَ الْجُمُعَة نصب سَرِير للوعظ أبقى تِلْكَ الْأمة المجتمعة وَتقدم السُّلْطَان إِلَى زين الدّين الْوَاعِظ ليفرع السرير وينفع بعظاته الصَّغِير وَالْكَبِير وَحضر الْمجْلس بمرأى مِنْهُ ومسمع فَكَانَ أنور مجْلِس ومجلى وأشرف جمع وَمجمع فحقق ورقق وَأشْهد وأشهق وحلب بعباراته الحلوة العبرات وشار الْعَسَل بمعسول الإشارات وَبشر الْبشر بِشَارَة البشارات وَذكر الْفَتْح وبكارته والقدس وطهارته وَالدّين وجسارته وَالْكفْر وخسارته وَالْقدر وإعانته وَالظفر وإبانته والصخرة وإصراخها والروعة وإفراخها وَالنَّار وصراطها وَالْقِيَامَة وأشراطها وَالرَّحْمَة وبابها من بَاب الرَّحْمَة وَالْجنَّة وجناها لهَذِهِ الزحمة وَمَا أعده الله لهَذِهِ الطَّائِفَة وَمَا أنزلهُ من الْأَمْن على الْقُلُوب الخائفة وَوصف ببلاغته مَا لَا يبلغ إِلَيْهِ نطق الْأَلْسِنَة الواصفة وَوصف الْجِهَاد وفرائضه وفضائله وَالْخَيْر ودلائله والنجح ووسائله وَالشَّرْع ومسائله والذنب وغوائله وإحسان السُّلْطَان وفواضله وَالْبَحْر وساحله وَالدّين وَحقه وَالْكفْر وباطله وَكَانَ يَوْمًا راجحا وسوما رابحا(3/383)
فصل فِي إِيرَاد مَا خطب بِهِ القَاضِي محيي الدّين رَحمَه الله
قَالَ الْعِمَاد وخطب القَاضِي محيي الدّين بن زكي الدّين أَربع خطب فِي أَربع جمع كلهَا من إنشائه وأودعها سر بلاغة عنيت بإفشائه وَذكرت الْخطْبَة الأولى وَيَد الفصاحة فِيهَا طولى افتتاحها بِهَذِهِ الْآيَات {فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} {الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين} {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور} {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} الْآيَة {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب} {قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى} {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} {الْحَمد لله فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
وَالْخطْبَة الْحَمد لله معز الْإِسْلَام بنصره ومذل الشّرك بقهره ومصرف الْأُمُور بأَمْره ومديم النعم بشكره ومستدرج الْكَافرين بمكره(3/384)
الَّذِي قدر الْأَيَّام دولا بعدله وَجعل الْعَاقِبَة لِلْمُتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله وَأظْهر دينه على الدّين كُله القاهر فَوق عباده فَلَا يمانع وَالظَّاهِر على خليقته فَلَا يُنَازع وَالْأَمر بِمَا يَشَاء فَلَا يُرَاجع وَالْحَاكِم بِمَا يُرِيد فَلَا يدافع
أَحْمَده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه وَنَصره لأنصاره وتطهيره بَيته الْمُقَدّس من أدناس الشّرك وأوضاره حمد من استشعر الْحَمد بَاطِن سره وَظَاهر جهاره
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْأَحَد الصَّمد الَّذِي {لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} شَهَادَة من طهر بِالتَّوْحِيدِ قلبه وأرضى بِهِ ربه
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله رَافع الشَّك وداحض الشّرك وراحض الْإِفْك الَّذِي أسرِي بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى هَذَا الْمَسْجِد الْأَقْصَى وعرج بِهِ مِنْهُ إِلَى السَّمَوَات الْعلَا إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى مَا زاع الْبَصَر وَمَا طَغى
صلى الله عَلَيْهِ وعَلى خَلِيفَته أبي بكر الصّديق السَّابِق إِلَى الْإِيمَان وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب أول من رفع عَن هَذَا الْبَيْت شعار(3/385)
الصلبان وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان ذِي النورين جَامع الْقُرْآن وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب مزلزل الشّرك ومكسر الْأَوْثَان وعَلى آله وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان
أَيهَا النَّاس أَبْشِرُوا برضوان الله الَّذِي هُوَ الْغَايَة القصوى والدرجة الْعليا لما يسره الله على أَيْدِيكُم من اسْتِرْدَاد هَذِه الضَّالة من الْأمة الضَّالة وردهَا إِلَى مقرها من الْإِسْلَام بعد ابتذالها فِي أَيدي الْمُشْركين قَرِيبا من مئة عَام وتطهير هَذَا الْبَيْت الَّذِي أذن الله أَن يرفع وَأَن يذكر فِيهِ أُسَمِّهِ وإماطة الشّرك عَن طرقه بعد أَن أمتد عَلَيْهَا رواقه وَاسْتقر فِيهَا رسمه وَرفع قَوَاعِده بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ بني عَلَيْهِ وبالتقوى فَإِنَّهُ أسس على التَّقْوَى من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ فَهُوَ موطن أبيكم إِبْرَاهِيم ومعراج نَبِيكُم مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وقبلتكم الَّتِي كُنْتُم تصلونَ إِلَيْهَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَهُوَ مقرّ الْأَنْبِيَاء ومقصد الْأَوْلِيَاء ومفر الرُّسُل ومهبط الْوَحْي ومنزل تنزل الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ فِي أَرض الْمَحْشَر وصعيد المنشر وَهُوَ فِي الأَرْض المقدسة الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه الْمُبين وَهُوَ الْمَسْجِد الَّذِي صلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَلَائِكَةِ المقربين وَهُوَ الْبَلَد الَّذِي بعث الله إِلَيْهِ عَبده وَرَسُوله وكلمته الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروحه عِيسَى الَّذِي شرفه الله برسالته وَكَرمه بنبوته وَلم يزحزحه عَن رُتْبَة عبوديته فَقَالَ تَعَالَى {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله} وَقَالَ {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم}(3/386)
وَهُوَ أول الْقبْلَتَيْنِ وَثَانِي المسجدين وثالث الْحَرَمَيْنِ لَا تشد الرّحال بعد المسجدين إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا تعقد الخناصر بعد الموطنين إِلَّا عَلَيْهِ وَلَوْلَا أَنكُمْ مِمَّن اخْتَارَهُ الله من عباده واصطفاه من سكان بِلَاده لما خصكم بِهَذِهِ الْفَضِيلَة الَّتِي لَا يجاريكم فِيهَا مجار وَلَا يباريكم فِي شرفها مبار فطوبى لكم من جَيش ظَهرت على أَيْدِيكُم المعجزات النَّبَوِيَّة والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية جددتم لِلْإِسْلَامِ أَيَّام الْقَادِسِيَّة والوقعات اليرموكية والمنازلات الْخَيْبَرِية والهجمات الخالدية فجزاكم الله عَن نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْجَزَاء وشكر لكم مَا بذلتموه من مهجكم فِي مقارعة الْأَعْدَاء وَتقبل مِنْكُم مَا تقربتم بِهِ إِلَيْهِ من مهراق الدِّمَاء وأثابكم الْجنَّة فَهِيَ دَار السُّعَدَاء فاقدروا رحمكم الله هَذِه النِّعْمَة حق قدرهَا وَقومُوا لله تَعَالَى بِوَاجِب شكرها فَلهُ النِّعْمَة عَلَيْكُم بتخصيصكم بِهَذِهِ النِّعْمَة وترشيحكم لهَذِهِ الْخدمَة فَهَذَا هُوَ الْفَتْح الَّذِي فتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء وتبلجت بأنواره وُجُوه الظلماء وابتهج بِهِ الْمَلَائِكَة المقربون وقر بِهِ عينا الْأَنْبِيَاء والمرسلون فَمَاذَا عَلَيْكُم من النِّعْمَة بِأَن جعلكُمْ الْجَيْش الَّذِي يفتح عَلَيْهِ الْبَيْت الْمُقَدّس فِي آخر الزَّمَان والجند الَّذِي تقوم بسيوفهم بعد فَتْرَة من النُّبُوَّة أَعْلَام الْإِيمَان فيوشك أَن تكون التهاني بِهِ بَين أهل الخضراء أَكثر من التهاني بِهِ بَين أهل الغبراء أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي ذكره الله فِي كِتَابه وَنَصّ عَلَيْهِ فِي خطابه فَقَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من}(3/387)
الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي باركنا حوله) الْآيَة أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي عَظمته الْمُلُوك وأثنت عَلَيْهِ الرُّسُل وتليت فِيهِ الْكتب الْأَرْبَعَة الْمنزلَة من إِلَهكُم عز وَجل أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي أمسك الله عز وَجل الشَّمْس على يُوشَع لأَجله أَن تغرب وباعد بَين خطواتها ليتيسر فَتحه وَيقرب أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي أَمر الله مُوسَى أَن يَأْمر قومه باستنقاذه فَلم يجبهُ إِلَّا رجلَانِ وَغَضب عَلَيْهِم لأَجله فألقاهم فِي التيه عُقُوبَة للعصيان فاحمدوا الله الَّذِي أمضى عزائمكم لما نكلت عَنهُ بَنو إِسْرَائِيل وَقد فَضلهمْ على الْعَالمين ووفقكم لما خذل فِيهِ من كَانَ قبلكُمْ من الْأُمَم الماضين وَجمع لأَجله كلمتكم وَكَانَت شَتَّى وأغناكم بِمَا أمضته كَانَ وَقد عَن سَوف وَحَتَّى فليهنكم أَن الله قد ذكركُمْ بِهِ فِيمَن عِنْده وجعلكم بعد أَن كُنْتُم جُنُودا لأهويتكم جنده وشكركم الْمَلَائِكَة المنزلون على مَا أهديتم إِلَى هَذَا الْبَيْت من طيب التَّوْحِيد وَنشر التَّقْدِيس والتحميد وَمَا أمطتم عَن طرقهم فِيهِ من أَذَى الشّرك والتثليث والاعتقاد الْفَاجِر الْخَبيث فَالْآن يسْتَغْفر لكم أَمْلَاك السَّمَوَات وَتصلي عَلَيْكُم الصَّلَوَات المباركات
فاحفظوا رحمكم الله هَذِه الموهبة فِيكُم واحرسوا هَذِه النِّعْمَة عنْدكُمْ بتقوى الله الَّتِي من تمسك بهَا سلم وَمن اعْتصمَ بعروتها نجا وعصم وإحذروا من اتِّبَاع الْهوى وموافقة الردى وَرُجُوع الْقَهْقَرَى والنكول عَن العدى وخذوا فِي انتهاز الفرصة وَإِزَالَة مَا بَقِي من الغصة وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده وبيعوا عباد الله أَنفسكُم فِي رِضَاهُ إِذْ جعلكُمْ من(3/388)
عباده وَإِيَّاكُم أَن يستزلكم الشَّيْطَان وَأَن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أَن هَذَا النَّصْر بسيوفكم الْحداد وبخيولكم الْجِيَاد وبجلادكم فِي مَوَاطِن الجلاد لَا وَالله {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم}
واحذروا عباد الله بعد أَن شرفكم بِهَذَا الْفَتْح الْجَلِيل والمنح الجزيل وخصكم بِهَذَا الْفَتْح الْمُبين وأعلق أَيْدِيكُم بحبله المتين أَن تقترفوا كَبِيرا من مناهيه وَأَن تَأْتُوا عَظِيما من مَعَاصيه فتكونوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا وَالَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين وَالْجهَاد الْجِهَاد فَهُوَ من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم انصروا الله ينصركم اذْكروا الله يذكركم اشكروا الله يزدكم ويشكركم جدوا فِي حسم الدَّاء وَقطع شأفه الْأَعْدَاء وتطهير بَقِيَّة الأَرْض الَّتِي أغضبت الله وَرَسُوله واقطعوا فروع الْكفْر واجتثوا أُصُوله فقد نادت الْأَيَّام بالثارات الإسلامية وَالْملَّة المحمدية
الله أكبر فتح الله وَنصر غلب الله وقهر أذلّ الله من كفر
وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن هَذِه فرْصَة فانتهزوها وفريسة فناجزوها ومهمة فأخرجوا لَهَا هممكم وبرزوها وسيروا إِلَيْهَا سَرَايَا عزماتكم(3/389)
وجهزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أَظْفَرَكُم الله بِهَذَا الْعَدو المخذول وهم مثلكُمْ أَو يزِيدُونَ فَكيف وَقد أضحى فِي قبالة الْوَاحِد مِنْهُم مِنْكُم عشرُون وَقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} أعاننا الله وَإِيَّاكُم على اتِّبَاع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشر الْمُسلمين بنصر من عِنْده {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده} وَتَمام الْخطْبَة وَالْخطْبَة الثَّانِيَة قريب مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة وَقَالَ بعد الدُّعَاء للخليفة اللَّهُمَّ وأدم سُلْطَان عَبدك الخاضع لهيبتك الشاكر لنعمتك الْمُعْتَرف بموهبتك سَيْفك الْقَاطِع وشهابك اللامع والمحامي عَن دينك المدافع والذاب عَن حَرمك الممانع السَّيِّد الْأَجَل الْملك النَّاصِر جَامع كلمة الْإِيمَان وقامع عَبدة الصلبان صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين مطهر الْبَيْت الْمُقَدّس أبي المظفر يُوسُف بن أَيُّوب محيي دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ
اللَّهُمَّ عَم بدولته البسيطة وَاجعَل ملائكتك براياته مُحِيطَة وَأحسن عَن الدّين الحنيفي جزاءه واشكر عَن الْملَّة المحمدية عزمه ومضاءه
اللَّهُمَّ أبق لِلْإِسْلَامِ مهجته ووق للْإيمَان حوزته وانشر فِي الْمَشَارِق والمغارب دَعوته
اللَّهُمَّ كَمَا فتحت على يَده الْبَيْت الْمُقَدّس بعد أَن ظنت الظنون وابتلي(3/390)
الْمُؤْمِنُونَ فافتح على يَده أداني الأَرْض وأقاصيها وَملكه صياصي الْكَفَرَة ونواصيها فَلَا تَلقاهُ مِنْهُم كَتِيبَة إِلَّا مزقها وَلَا جمَاعَة إِلَّا فرقها وَلَا طَائِفَة بعد طَائِفَة إِلَّا ألحقها بِمن سبقها
اللَّهُمَّ اشكر عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَعْيه وأنفذ فِي الْمَشَارِق والمغارب أمره وَنَهْيه اللَّهُمَّ وَأصْلح بِهِ أوساط الْبِلَاد وأطرافها وأرجاء الممالك وأكنافها
اللَّهُمَّ ذلل بِهِ معاطس الْكفَّار وأرغم بِهِ أنوف الْفجار وانشر ذوائب ملكه على الْأَمْصَار وابثث سَرَايَا جُنُوده فِي سبل الأقطار
اللَّهُمَّ ثَبت الْملك فِيهِ وَفِي عقبه إِلَى يَوْم الدّين واحفظه فِي بنيه وَبني أَبِيه الْمُلُوك الميامين وَاشْدُدْ عضده ببقائهم واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم
اللَّهُمَّ كَمَا أجريت على يَده فِي الْإِسْلَام هَذِه الْحَسَنَة الَّتِي تبقى على الْأَيَّام وتتخلد على مر الشُّهُور والأعوام فارزقه الْملك الأبدي الَّذِي لَا ينْفد فِي دَار الْمُتَّقِينَ وأجب دعاءه فِي قَوْله (رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين)
ثمَّ دَعَا بِمَا جرت بِهِ الْعَادة(3/391)
فصل فِي الْمِنْبَر
قَالَ الْعِمَاد لما فتحنا الْقُدس أَمر بتعمير الْمِحْرَاب وترخيمه وتكميل حسنه وتتميمه وَوضع مِنْبَر رسمي فِي أول يَوْم قضى بِهِ الْفَرْض واحتيج بعد ذَلِك إِلَى مِنْبَر حسن رائق بحسنه لَائِق وبجماله شائق وبكماله فائق فَذكر السُّلْطَان الْمِنْبَر الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله لبيت الْمُقَدّس قبل فَتحه بنيف وَعشْرين سنة وأودعه لَهُ من ذخائره عِنْد الله حَسَنَة فَأمر أَن يكْتب إِلَى حلب وَيطْلب فَحمل وَعمل على مَا أَمر بِهِ وامتثل فجَاء كالروض النَّضِير والوشي الحبير عديم النظير
وَكَانَ من حَدِيث إحداثه مَا ألهم الله نور الدّين رَحمَه الله لَا رتياح خاطره إِلَيْهِ وانبعاثه وَقد أوقع فِي روعه من النُّور الفائض من ينبوع ضلوعه أَن الْبَيْت الْمُقَدّس بعده سيفتح وَأَن صُدُور الْمُسلمين الحرجة لأَجله ستشرح وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله الملهمين وعباده الْمُحدثين الْمُكرمين وَكَانَ بحلب نجار يعرف بالأختريني من ضَيْعَة تعرف بأخترين لم يلف لَهُ فِي براعته وصنعته قرين فَأمره نور الدّين بِعَمَل مِنْبَر لبيت الله الْمُقَدّس وَقَالَ لَهُ اجْتهد أَن تَأتي بِهِ على النَّعْت المهندم والنحت المهندس
فَجمع الصناع وَأحسن الإبداع وأتمه فِي سِنِين وَاسْتحق بِحسن إحسانه التحسين وَالنَّاس يَقُولُونَ هَذَا أَمر مُسْتَحِيل وَحكم مَاله دَلِيل وَذكر جميل وَأجر جزيل لَو كَانَ إِلَيْهِ سَبِيل وهيهات أَن يعود الْقُدس إِلَى الْإِسْلَام وَيَقْضِي الإصباح فِيهِ على الإظلام فَإِن الفرنج مستولون مستعلون ويكثرون على الْأَيَّام وَلَا يقلون أما ناصفونا على أَكثر أَعمال حوران وَقَابَلُوا بالْكفْر الْإِيمَان وَقد أعجزوا مُلُوك الْإِسْلَام إِلَى الْيَوْم فَمَا(3/392)
أصعب وأتعب وقم الْقَوْم
وَيَقُول من لَهُ قُوَّة الْيَقِين وَعرف أَن الله كافل بنصره الدّين اصْبِرُوا فلسر هَذِه الْأمة نبأ وَهُوَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {ويصنع الْفلك وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ}
وَلم يزل لنُور الدّين فِي قلبه من الدّين نور وَأثر تقواه لِلْمُتقين مأثور أزهد الْعباد وأعبد الزهاد وَمن الْأَوْلِيَاء الْأَبْرَار والأتقياء الأخيار وَقد نظر بِنور الفراسة أَن الْفَتْح قريب وَأَن الله لدعائه وَلَو بعد وَفَاته مُجيب ويزيده قُوَّة عزمه جدا وتمده بحياء الْحَيَاة الربانية مدا قد طهره الله من الْعَيْب وأطلعه على سر الْغَيْب ونزهه من الريب لنقاء الجيب وشملت الْإِسْلَام بعده بركته وختمت بافتتاح ملك صَلَاح الدّين مَمْلَكَته وَهُوَ الَّذِي رباه ولياه وأحبه وحباه وَهُوَ الَّذِي سنّ الْفَتْح وسنى النجح
وَاتفقَ أَن جَامع حلب فِي الْأَيَّام النورية احْتَرَقَ فاحتيج إِلَى مِنْبَر ينصب فنصب ذَلِك الْمِنْبَر وَحسن المنظر وَتَوَلَّى حِينَئِذٍ النجار عمل الْمِحْرَاب على الرقم وشابه الْمِحْرَاب الْمِنْبَر فِي الرَّسْم وَمن رأى حلب الْآن شَاهد مِنْهُ على مِثَال الْمِنْبَر الْقُدسِي الْإِحْسَان
وَلما فتح السُّلْطَان الْقُدس تقدم بِحمْلِهِ وَصَحَّ بِهِ فِي الْمِحْرَاب الْأَقْصَى اجْتِمَاع شَمله وَظهر سر الْكَرَامَة فِي فوز الْإِسْلَام بالسلامة وتناصرت الألسن بِالدُّعَاءِ لنُور الدّين بِالرَّحْمَةِ ولصلاح الدّين بالنصرة وَالنعْمَة
وَقَالَ الْعِمَاد فِي مَوضِع آخر من كتاب الْبَرْق وَكَانَ الْملك الْعَادِل(3/393)
نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله فِي عَهده عرف بِنور فراسته فتح الْبَيْت الْمُقَدّس من بعده فَأمر فِي حلب باتخاذ مِنْبَر للقدس تَعب النجارون والصناع والمهندسون فِيهِ سِنِين وأبدعوا فِي تركيبه الإحكام والتزيين وَأنْفق فِي إبداع محاسنه وإبداء مزاينه ألوفا وَكَانَ لترديد النّظر فِيهِ على الْأَيَّام ألوفا وَبَقِي ذَلِك الْمِنْبَر بِجَامِع حلب مَنْصُوبًا سَيْفا فِي صوان الْحِفْظ مقروبا حَتَّى أَمر السُّلْطَان فِي هَذَا الْوَقْت بِالْوَفَاءِ بِالنذرِ النوري وَنقل الْمِنْبَر إِلَى مَوْضِعه الْقُدسِي فَعرفت بذلك كرامات نور الدّين الَّتِي أشرق نورها بعده بسنين وَكَانَ من الْمُحْسِنِينَ الَّذين قَالَ الله فيهم {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ}
قلت وَهَذَا الَّذِي نسبه إِلَى نور الدّين رَحمَه الله من أَنه كَرَامَة من كراماته لَائِق بمحله ومنزلته من الدّين وَلَيْسَ بالبعيد من مثل ذَلِك
وَكَانَ رَحمَه الله قد بَدَت لَهُ مخايل ذَلِك بِمَا تسنى لَهُ من فتح الْبِلَاد الشامية والمصرية وقهر الْعَدو بَين يَدَيْهِ مرَارًا وَكَانَ فتح الْقُدس فِي همته من اول ملكه فَإِن لم يكن حصل لَهُ مُبَاشرَة فقد حصل لَهُ تسببا فَإِن الفاتحين لَهُ رَحِمهم الله بنوا على مَا أسسه لَهُم من الْملك وَالتَّدْبِير وهم أمراؤه وَأَتْبَاعه وأجناده وأشياعه
ثمَّ يحْتَمل أَن يكون رَحمَه الله وقف على مَا ذكره أَبُو الحكم بن برجان الأندلسي فِي تَفْسِيره فَإِنَّهُ أخبر عَن فتح الْقُدس فِي السّنة الَّتِي فتح فِيهَا وَعمر نور الدّين إِذْ ذَاك إِحْدَى عشرَة سنة وَقد رَأَيْت أَنا ذَلِك فِي(3/394)
كِتَابه ذكر فِي تَفْسِير أول سُورَة الرّوم أَن الْبَيْت الْمُقَدّس استولت عَلَيْهِ الرّوم عَام سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَأَشَارَ إِلَى أَنه يبْقى بِأَيْدِيهِم إِلَى تَمام خمس مئة وَثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة قَالَ وَنحن فِي عَام اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخمْس مئة فَلم يستبعد نور الدّين رَحمَه الله لما وقف عَلَيْهِ أَن يَمْتَد عمره إِلَيْهِ فَهَيَّأَ أَسبَابه حَتَّى مِنْبَر الخطابة فِيهِ تقربا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا يبديه من طَاعَته ويخفيه
وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو الحكم الأندلسي فِي تَفْسِيره من عجائب مَا اتّفق لهَذِهِ الْأمة المرحومة وَقد تكلم عَلَيْهِ شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد فِي تَفْسِيره الأول فَقَالَ وَقد وَقع فِي تَفْسِير أبي الحكم الأندلسي فِي أول سُورَة الرّوم إِخْبَار عَن فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَأَنه ينْزع من أَيدي النَّصَارَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ وَقَالَ لي بعض الْفُقَهَاء إِنَّه استخرج ذَلِك من فَاتِحَة السُّورَة قَالَ فَأخذت السُّورَة وكشفت عَن ذَلِك فَلم أره أَخذ ذَلِك من الْحُرُوف وَإِنَّمَا أَخذه فِيمَا زعم من قَوْله تَعَالَى {غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} فَبنى الْأَمر على التَّارِيخ كَمَا يفعل المنجمون ثمَّ ذكر انهم يغلبُونَ فِي سنة كَذَا ويغلبون فِي سنة كَذَا على مَا تَقْتَضِيه دوائر التَّقْدِير
قَالَ وَهَذِه نجامة وَافَقت إِصَابَة إِن صَحَّ أَنه قَالَ ذَلِك قبل وُقُوعه(3/395)
وَكَانَ فِي كِتَابه قبل حُدُوثه وَلَيْسَ ذَلِك بمأخوذ من الْحُرُوف وَلَا هُوَ من قبيل الكرامات أَيْضا فَإِن الْكَرَامَة لَا تكتسب بِحِسَاب وَلَا تفْتَقر إِلَى تَارِيخ وَلذَلِك لم يُوَافق الصَّوَاب لما أدَار الْحساب على الْقِرَاءَة الْأُخْرَى الشاذة الَّتِي هِيَ بِفَتْح الْغَيْن من {غلبت الرّوم} ويوضح ذَلِك أَنه قَالَ فِي سُورَة الْقدر لَو علم الْوَقْت الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن لعلم الْوَقْت الَّذِي يرفع فِيهِ
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَأما الصَّخْرَة المقدسة فَإِن الفرنج كَانُوا بنوا عَلَيْهَا كَنِيسَة وأعادوا رسومها الْقَدِيمَة دريسة وستروها بالأبنية وعوجوا أوضاعها بزعم التَّسْوِيَة وكسوها صورا هِيَ أشنع من التعرية وملؤوها بتصاريف التصاوير ونبتوا فِي ترخيمها أشباه الْخَنَازِير وَجعلُوا المذبح لَهَا مذبحا وَلم يتْركُوا فِيهَا للأيدي المتبركة وَلَا للعيون المدركة ملمسا وَلَا مطمحا وَقد زينوها بالصور والتماثيل وعينوا بهَا مَوَاضِع الرهبان ومحط الْإِنْجِيل وكملوا بهَا(3/396)
أَسبَاب التَّعْظِيم والتبجيل وأفردوا فِيهَا لموْضِع الْقدَم قبَّة صَغِيرَة مذهبَة بأعمدة الرخام منصبة وَقَالُوا مَحل قدم الْمَسِيح وَهُوَ مقَام التَّقْدِيس وَالتَّسْبِيح وَكَانَ فِيهَا صور الْأَنْعَام منبتة فِي الرخام والصخرة الْمَقْصُودَة المزورة بِمَا عَلَيْهَا من الْأَبْنِيَة مستورة وبتلك الْكَنِيسَة المعمورة مغمورة
فَأمر السُّلْطَان بكشف نقابها وَرفع حجابها وحسر لثامها وقشر رخامها ومحي صورها ورحض وضرها وَنقض أبنيتها وَنقل حجرها وإبرازها للزائرين وإظهارها للناظرين فَبَانَت من الشين وَبَانَتْ للعين وحبيت بالقبل وفديت بالمقل فَعَادَت كَمَا كَانَت فِي الزَّمن الْقَدِيم وَشهِدت حِين شوهدت بحسبها الْكَرِيم وَمَا كَانَ يظْهر مِنْهَا قبل الْفَتْح إِلَّا قِطْعَة من تحتهَا وَقد أَسَاءَ الْكفْر فِي نحتها وَظَهَرت الْآن احسن ظُهُور وسفرت أَيمن سفور وأشرقت الْقَنَادِيل من فَوْقهَا نورا على نور وعملت عَلَيْهَا حَظِيرَة من شبابيك حَدِيد والاعتناء بهَا إِلَى كل يَوْم فِي مزِيد
قَالَ وَكَانَ الفرنج قد قطعُوا من الصَّخْرَة قطعا وحملوا مِنْهَا إِلَى قسطنطينية ونقلوا مِنْهَا إِلَى صقلية وَقيل باعوها بوزنها ذَهَبا وَاتَّخذُوا ذَلِك مكسبا
وَلما طهرت ظَهرت موَاضعهَا وَقطعت الْقُلُوب لما بَانَتْ مقاطعها فَهِيَ الْآن مبرزة للعيون بحزها بَاقِيَة على الْأَيَّام بعزها مصونة لِلْإِسْلَامِ فِي خدرها وحرزها
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَلما ظَهرت الصَّخْرَة وجدناها وَقد أبقت لَهَا(3/397)
النوائب حزوزا وأودعت ضميرها من شَرّ أهل الشّرك سرا مرموزا فَإِن الفرنج نقلوا إِلَى بِلَادهمْ قطعا وأبدعوا فِيهَا بدعا حَتَّى قيل إِنَّهَا بِيعَتْ بوزنها ذَهَبا وأفضى الْأَمر بهَا أَن يكون حجرها منتهبا فغطاها بعض مُلُوكهمْ إشفاقا عَلَيْهَا لِئَلَّا تمتد يَد ضيم إِلَيْهَا فأبقت حزوزها فِي الْقلب حزازات وَسَار حَدِيث حادثها فِي الْآفَاق بروايات وإجازات وتولاها بعد ذَلِك الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى فصانها بشبابيك من حَدِيد وَثَبت أَرْكَانهَا بِكُل تسديد
وَقَالَ فِي الْفَتْح ورتب السُّلْطَان فِي قبَّة الصَّخْرَة إِمَامًا حسنا ووقف عَلَيْهِ دَارا وأرضا وبستانا وَحمل إِلَيْهَا وَإِلَى محراب الْمَسْجِد الْأَقْصَى مصاحف وختمات وربعات معظمات لَا تزَال بَين أَيدي الزائرين على كراسيها مَرْفُوعَة وعَلى أسرتها مَوْضُوعَة ورتب لهَذِهِ الْقبَّة خَاصَّة وللبيت الْمُقَدّس عَامَّة قومه من العارفين العاكفين القائمين بِالْعبَادَة الواقفين فَمَا أبهج لَيْلهَا وَقد حضرت الجموع وزهرت الشموع وَبَان الْخُشُوع ودان الخضوع وَدرت من الْمُتَّقِينَ الدُّمُوع واقشعرت من العارفين الضلوع
فهناك كل ولي يعبد ربه ويؤمل بره وكل أَشْعَث اغبر لَا يؤبه لَهُ لَو أقسم على الله لَأَبَره وَهُنَاكَ كل من يحيي اللَّيْل ويقومه ويسمو بِالْحَقِّ ويسومه وَهُنَاكَ كل من يخْتم الْقُرْآن ويرتله ويطرد الشَّيْطَان ويبطله وَمن عَرفته لمعرفته الأسحار وَمن ألفته لتهجده الأوراد والأذكار وَمَا أسعد نَهَارهَا(3/398)
حِين تسْتَقْبل الْمَلَائِكَة زوارها وتلحق الشَّمْس أنوارها وَتحمل الْقُلُوب إِلَيْهَا أسرارها
قَالَ وتنافس مُلُوك بني أَيُّوب فِيمَا يؤثرونه فِيهَا من الْآثَار الْحَسَنَة وَفِيمَا يجمع لَهُم ود الْقُلُوب وشكر الْأَلْسِنَة فَمَا مِنْهُم إِلَّا من أجمل وَأحسن وَفعل مَا أمكن وجلى وَبَين وحلى وزين وأتى الْعَادِل أَبُو بكر بِكُل صنع بكر وتقي الدّين عمر بِكُل مَا عَم وغمر وَمن جملَة أَفعاله المشكورة ومكرماته الْمَشْهُورَة أَنه حضر يَوْمًا فِي قبَّة الصَّخْرَة وَمَعَهُ من مَاء الْورْد أحمال وَلأَجل الصَّدَقَة والرفد مَال فانتهز فرْصَة هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي ابتكرها وَتَوَلَّى بِيَدِهِ كنس تِلْكَ الساحات والعراص ثمَّ غسلهَا بِالْمَاءِ مرَارًا حَتَّى تطهرت ثمَّ أتبع المَاء بِمَاء الْورْد صبا حَتَّى تعطرت وَكَذَلِكَ طهر حيطانها وَغسل جدرانها ثمَّ أَتَى بمجامر الطّيب فتبخرت وتضوعت ثمَّ فرق ذَلِك المَال فِيهَا على ذَوي الِاسْتِحْقَاق وافتخر بِأَن فاق الْكِرَام بِالْإِنْفَاقِ
وَجَاء الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بِكُل نور جلي وكرم ملي وَبسط بهَا الصنيعة وفرش فِيهَا الْبسط الرفيعة وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك مَا اعْتَمدهُ من بِنَاء أسوار الْقُدس وحفر خنادقه وأعجز بِمَا أعجب من سوابق معروفه ولواحقه
وَأما الْملك الْعَزِيز عُثْمَان فَإِنَّهُ لما عَاد إِلَى مصر ترك خزانَة سلاحه بالقدس كلهَا وَلم ير بعد حُصُولهَا بِهِ نقلهَا وَكَانَت أحمالا بأموال وأثقالا كجبال وذخائر وافية وعددا واقية وَكَانَ من جملَة مَا شَرط على الفرنج أَن يتْركُوا لنا خيلهم وعدتهم فتوفر بذلك عدد الْبَلَد وَاسْتغْنى بِهِ عَمَّا يصل من المدد(3/399)
قَالَ وَأما محراب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خَارج الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَإِنَّهُ فِي حصن عِنْد بَاب الْمَدِينَة منيع وَمَوْضِع عَال رفيع وَهُوَ الْحصن الَّذِي يُقيم بِهِ الْوَالِي فرتب السُّلْطَان لَهُ إِمَامًا ومؤذنين وقواما وَهُوَ مثابة الصَّالِحين ومزار الغادين والرائحين فأحياه وجدده ونهج لقاصديه جدده وَأمر بعمارة جَمِيع الْمَسَاجِد وصون الْمشَاهد وإنجاح الْمَقَاصِد وإصفاء الْمَوَارِد للقاصد والوارد وَكَانَ مَوضِع هَذِه القلعة دَار دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام وَكَانَ ينتابهما فيهمَا الْأَنَام
وَكَانَ الْملك الْعَادِل نازلا فِي كَنِيسَة صهيون وأجناده على بَابهَا مخيمون
وفاوض السُّلْطَان جُلَسَاؤُهُ من الْعلمَاء الْأَبْرَار والأتقياء الأخيار فِي مدرسة للفقهاء الشَّافِعِيَّة ورباطا للصلحاء الصُّوفِيَّة فعين للمدرسة الْكَنِيسَة الْمَعْرُوفَة بصند حنة عِنْد بَاب أَسْبَاط وَعين دَار البطرك وَهُوَ بِقرب كَنِيسَة قمامة للرباط ووقف عَلَيْهِمَا وقوفا وأسدى بذلك إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعْرُوفا وارتاد أَيْضا مدارس للطوائف ليضيفها إِلَى مَا أولاه من العوارف
فصل
قَالَ فِي الْبَرْق وَشرع الفرنج فِي إخلاء الْبيُوت وَبيع مَا ذخروه من الأثاث والقوت وأمهلوا حَتَّى باعوا بأرخص الْأَثْمَان وَكَانَ خُرُوجهَا شَبِيها بالمجان لَا سِيمَا مَا تعذر لثقله نَقله وصعب حمله وَكَانَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {كم تركُوا من جنَّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين كَذَلِك وأورثناها قوما آخَرين} فباعوا مَا تهَيَّأ على البيع إِخْرَاجه(3/400)
رخيصا وابقوا مَا لم يَجدوا من تَركه محيصا وغلبوا على مَا فِي الدّور من الماعون والمذخور
وَأما الصناديق والأخشاب والرخام وَمَا يجْرِي مجْراهَا مِمَّا توفرت مِنْهُ الْأَنْوَاع والأقسام فَإِنَّهَا بقيت بِحَالِهَا متروكة وَلمن يسكن تِلْكَ الْأَمَاكِن مَمْلُوكَة
وَكَانَت قمامة وَهِي كنيستهم الْعُظْمَى ومتعبدهم الَّتِي يَجْتَمعُونَ بهَا للدّين وَالدُّنْيَا مفروشة بالبسط الرفاع مكسوة بالستور النسيج وَالْحَرِير الممزوج من سَائِر الْأَنْوَاع وَالَّذِي يذكرُونَ أَنه قبر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام محلى بصفائح الْفضة وَالْعين ومصوغات الذَّهَب واللجين مصفح بالنضار مثقل من نفائس الْحلِيّ بالأوقار فَأَعَادَهُ البطرك مِنْهُ عاطلا وَتَركه طللا ماثلا فَقلت للسُّلْطَان هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أخذُوا الْأمان على أَمْوَالهم فَمَا بَال هَذَا المَال وَهُوَ بألوف يحملونه فِي أثقالهم فَقَالَ هم مَا يعْرفُونَ هَذَا التَّأْوِيل وينسبون إِلَيْنَا لما حرمناه التَّحْلِيل وَيَقُولُونَ إِنَّهُم لم يحفظوا الْعَهْد وَلم يلحظوا العقد وَنحن نجريهم على ظَاهر الْأمان ونغريهم بِذكر محَاسِن الْإِيمَان وَكَانَت المهلة أَنه من عجز بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَن أَدَاء مَا عَلَيْهِ من القطيعة ضرب عَلَيْهِ الرّقّ بِحكم الشريطة ووفق الشَّرِيعَة فتولاهم النواب بعد خروجنا من الْقُدس وَبَقِي مِنْهُم مِمَّن ضرب عَلَيْهِ الرّقّ زهاء خَمْسَة عشر ألفا فِي الْحَبْس ففرقهم السُّلْطَان وَتَنَاهَتْ بهم الْبلدَانِ وَحصل لي مِنْهُم سَبَايَا نسوان وصبيان وَذَلِكَ بعد أَن وفى ابْن بارزان بِالضَّمَانِ(3/401)
وَأدّى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأخرج من ذكر أَنه فَقير بِحَسب الْإِمْكَان وَكَانُوا تَقْدِير ثَمَانِيَة عشر ألفا واعتقد أَنه لم يبْق فَقير وَبَقِي بعد أَدَائِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ كثير
وَأما النَّصَارَى الساكنون بالقدس فَإِنَّهُم بذلوا مَعَ القطيعة الْجِزْيَة ليسكنوا وَلَا يزعجوا ويؤمنوا وَلَا يخرجُوا فأقروا بِوَاسِطَة الْفَقِيه وَأقر من قسوس النَّصَارَى أَرْبَعَة قوام لقمامة وأعفاهم وَلم يكلفهم الغرامة وَأقَام بِمَدِينَة الْقُدس وأعمالها مِنْهُم أُلُوف فشمروا وعمروا وعرشوا وغرسوا فَلهم مِنْهَا مجان وقطوف وَكَانَت لأمراء الفرنج ومقدميهم مجاورة للصخرة وَعند بَاب الرَّحْمَة مَقْبرَة وقباب معمرة فعفينا آثارها ورحضنا أوضارها
وَقَالَ فِي الْفَتْح وَأمر السُّلْطَان بإغلاق كَنِيسَة قمامة وَحرم على النَّصَارَى زيارتها وَلَا إلمامة وتفاوض النَّاس عِنْده فِيهَا فَمنهمْ من أَشَارَ بهدم مبانيها وتعفية آثارها وتعمية نهج مزارها وَقَالُوا إِذا هدمت ونبشت الْمقْبرَة وعفيت وحرثت أرْضهَا وَدَمرَ طولهَا وعرضها انْقَطَعت عَنْهَا أَمْدَاد الزوار وانحسمت عَن قَصدهَا مواد أطماع أهل النَّار وَمهما استمرت الْعِمَارَة استمرت الزِّيَارَة وَقَالَ أَكثر النَّاس لَا فَائِدَة فِي هدمها وهدها فَإِن متعبدهم مَوضِع الصَّلِيب والقبر لَا مَا يُشَاهد من الْبناء وَلَا يَنْقَطِع عَنْهَا قصد أَجنَاس النَّصْرَانِيَّة وَلَو نسفت أرْضهَا فِي السَّمَاء وَلما فتح أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْقُدس فِي صدر الْإِسْلَام أقرهم على هَذَا الْمَكَان وَلم يَأْمر بهدم الْبُنيان(3/402)
قَالَ وَأقَام السُّلْطَان على الْقُدس حَتَّى تسلم مَا بقربها من حصون واستباح كل مَا للكفر بهَا من مصون ثمَّ عمد إِلَى مَا جمعه ففرقه وَأخرجه فِي ذَوي الِاسْتِحْقَاق وأنفقه فَأَكْثرُوا عذله على بذله واستكثروا مَا فضه بفضله فَقَالَ كَيفَ أمنع الْحق مستحقيه وَهَذَا الَّذِي أنفقهُ هُوَ الَّذِي أبقيه وَإِذا قبله الْمُسْتَحق فالمنة لَهُ عَليّ فِيهِ فَإِنَّهُ يخلصني من الْأَمَانَة ويطلقني من وثاقها فَإِن الَّذِي فِي يَدي وَدِيعَة أحفظها لِذَوي اسْتِحْقَاقهَا
وَقيل لَهُ لَو ذخرت هَذَا المَال لِلْمَالِ
فَقَالَ أملي قوي من الله الكافل بنجح الآمال وَجمع الأسراء المطلقين وَكَانُوا ألوفا من الْمُسلمين فكساهم وأساهم وواساهم وأذهب أساهم فَانْطَلق كل مِنْهُم إِلَى وَطنه ووطره ناجيا من ضره وضرره
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَسمعت الْملك الْعَادِل يَوْمًا فِي أثْنَاء حَدِيثه فِي نَادِيه وَهُوَ يجْرِي ذكر إفراط السُّلْطَان فِي أياديه يَقُول إِنِّي توليت اسْتِيفَاء قطيعة الْقُدس فأنفذت لَهُ لَيْلَة سبعين ألف دِينَار فَجَاءَنِي خازنه بكرَة وَقَالَ نُرِيد الْيَوْم مَا نخرجهُ فِي الْإِنْفَاق فَمَا عندنَا مِمَّا كَانَ بالْأَمْس بَاقٍ
فنفذت لَهُ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار أُخْرَى فِي الْحَال ففرقتها على رجال الرَّجَاء يَد النوال
فصل
قَالَ الْعِمَاد وللحكيم أبي الْفضل قصائد قدسيات طوال كَثِيرَة الْفَوَائِد(3/403)
قلت قد وقفت على بَعْضهَا
وَقدم قبل ذَلِك أَن قَالَ لم أزل من أول مَا ولي الْملك النَّاصِر الْأَمر فِي مصر أعلم أَنه مؤيد بعناية من الله سُبْحَانَهُ فامتدحته فِي سنة خمس وَسِتِّينَ بقصيدة تنيف على مئة بَيت مِنْهَا فِي التباشير
(لتظفرن بِمَا لم يحوه ملك ... أَبَا المظفر حظا خطه الْأَزَل)
(دَلِيل ذَلِك آراء لَك اقترنت ... بالحزم والعزم لم يخصص بهَا الأول)
وفيهَا
(قد سَاد إسكندر أهل الزَّمَان مَعًا ... فِي سنّ عشْرين وامتدت لَهُ الْحِيَل)
(وافى الثَّلَاثِينَ والأقطار أجمعها ... طَوْعًا لَهُ وملوك الأَرْض والملل) قَالَ ومدحته سنة سبع وَسِتِّينَ عِنْد قفوله من غزَاة غَزَّة بقصيدة مِنْهَا
(أَبَا المظفر فاهنأ حَظّ منتخب ... أُخْرَى الزَّمَان لدين كَاد ينبتر)
(زهدت فِيمَا سبى الْأَمْلَاك منكدرا ... علما بِملك نعيم مَاله كدر)
(وطبت نفسا عَن الدُّنْيَا وزخرفها ... وَجئْت تقدم حَيْثُ الهول والخطر)
قَالَ ومدحته سنة ثَمَان وَسِتِّينَ بقصيدة تنيف أَيْضا على مئة بَيت مِنْهَا فِي التباشير
(أرى الرَّايَة الصَّفْرَاء يَرْمِي اصطفاقها ... بني أصفر بالراعفات اللهاذم)
(فتسبي فلسطينا وتجبي جزائرا ... وتملك من يونان أَرض الأساحم)
(وتعنوا لَهَا الْأَمْلَاك شرقا ومغربا ... بذا حكمت حذاق أهل الْمَلَاحِم)(3/404)
قَالَ وَبعثت إِلَيْهِ فِي غرَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ على حمص بقصيدة هناته فِيهَا بالعافية مِنْهَا
(فيا ملكا لم يبْق للدّين غَيره ... وهت عمد الْإِسْلَام فاشدد لَهَا دعما)
(فشؤم فريق الشّرك فِي الشَّام طَائِر ... فَقص جناحيه بأقصى القوى قصما)
(خصصت بتمكين فَعم العدى ردى ... فَإِنَّهُم يَأْجُوج أفرغ بهَا ردما)
(إِذا صفرت من آل الْأَصْفَر ساحة ... الْمُقَدّس ضاهت فتح أم الْقرى قدما)
(فَذا الْمَسْجِد الْأَقْصَى وهمتك العلى ... وعزمتك القصوى ورميتك الأصمى)
(فَمَا هُوَ إِلَّا أَن تهم وَقد أَتَت ... فتوح كَمَا فاض الخضم الَّذِي طما)
(وَإِن أَنْت لم ترد الفرنج بوقعة ... فَمن ذَا الَّذِي يقوى لبنيانها هدما)
(وَمَا كل حِين تمكن الْمَرْء فرْصَة ... وَلَا كل حَال أمكنت تَقْتَضِي غنما)
(وَلَيْسَ كفتح الْقُدس منية قَادر ... وَمَا آن يلقاها سوى يُوسُف حزما)
قَالَ وأنشأت قصيدة أُخْرَى فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَحَضَرت بهَا بَين يَدَيْهِ مِنْهَا
(الله أكبر أَرض الْقُدس قد صفرت ... من آل الْأَصْفَر إِذْ حِين بِهِ حانوا)
(أَسْبَاط يُوسُف من مصر أَتَوا وَلَهُم ... من غير تيه بهَا سلوى وأمنان)
(لَهُم فلسطين إِن يخرج عداتهم ... عَنْهَا وَإِلَّا عدت بيض وخرصان)
(حَتَّى بنيت رتاج الْقُدس منفرجا ... ويصعد الصَّخْرَة الغراء عُثْمَان)
(واستقبل النَّاصِر الْمِحْرَاب يعبد من ... قد تمّ من وعده فتح وَإِمْكَان)
(وَجَاز بعض بنيه الْبَحْر تجفل من ... غاراته الرّوم والصقلاب واللان)
(حَتَّى يوحد أهل الشّرك قاطبة ... ويرهب القَوْل بالثالوث رُهْبَان)
(وَلابْن أَيُّوب فِي الإفرنج ملحمة ... دلّت عَلَيْهَا أساطير وحسبان)(3/405)
(وَمن أَحَق بِملك الأَرْض من ملك ... كَأَنَّهُ ملك فِي الْخلق حنان)
ثمَّ قَالَ وَأما القصيدة الفتحية الناصرية فأولها
(فِي بَاطِن الْغَيْب مَا لَا تدْرك الْفِكر ... فذو البصيرة فِي الْأَحْدَاث يعْتَبر)
(مَالِي أرى ملك الإفرنج فِي قفص ... أَيْن القواضب والعسالة السمر)
(والاسبتار إِلَى الداوية التأموا ... كَأَنَّهُمْ سد يَأْجُوج إِذا اشتجروا)
(وَالنَّفس مولعة عجبا بسيرتها ... وَفِي الْمَقَادِير مَا تسلى بِهِ السّير)
(يَا وقْعَة التل مَا أبقيت من عجب ... جحافل لم يفت من جمعهَا بشر)
(وَيَا ضحى السبت مَا للْقَوْم قد سبتوا ... تهودوا أم بكأس الطعْن قد سَكِرُوا)
(وَيَا ضريح شُعَيْب مَالهم جثموا ... كمدين أم لقوا رجفا بِمَا كفرُوا)
(حطوا بحطين ملاكا فيا عجبا ... فِي سَاعَة زَالَ ذَاك الْملك وَالْقدر)
(أَهْوى إِلَيْهِم صَلَاح الدّين مفترسا ... وَهُوَ الغضنفر أعدى ظفره الظفر)
(أمْلى عَلَيْهِم فصاروا وسط كفته ... كسرب طير حواها القانص الذّكر)
(وأنجز الله للسُّلْطَان موعده ... ونذره فِي كفور دينه البطر)
(وعاين الْملك الإبرنس فِي دَمه ... فَمَاتَ حَيا وَحيا وَهُوَ يعْتَذر)
(رأى مليكا مُلُوك الأَرْض تتبعه ... والنجم يَخْدمه وَالشَّمْس وَالْقَمَر)
(إِذا بدا تبهر الْأَعْيَان هيبته ... ويختفي وَهُوَ فِي الأذهان مشتهر)
(تقدم الجيل فِي أُخْرَى الزَّمَان بِهِ ... على صُدُور علا من قبلنَا صدرُوا)
(أما رَأَيْتُمْ فتوح الْقَادِسِيَّة فِي ... أكناف لوبية تجلى وَذَا عمر)
(وَالْحق يعرس والطغيان منتحب ... وَالْكفْر يطمس وَالْإِيمَان مزدهر)
(هَذَا المليك الَّذِي بشرى النَّبِي بِهِ ... فِي فتْنَة الْبَغي لِلْإِسْلَامِ ينتصر)
(أنسى ملاحم ذِي القرنين وَاعْتَرَفت ... لَهُ الروَاة بِمَا لم ينمه أثر)
(أعين إسكندر بالخضر وَهُوَ لَهُ ... عون من الله يَسْتَغْنِي بِهِ الْخضر)(3/406)
(وصنع ذِي الْعَرْش إبداع بِلَا سَبَب ... فَلَا تقل كَيفَ هَذَا الْحَادِث الْخطر)
(بَينا سباياه تجلى فِي دمشق إِذا ... ملك الفرنج مَعَ الأتراك محتجر)
(إزاءه زعماء الساحلين مَعًا ... مصفدين بِحَبل الْقَهْر قد أَسرُّوا)
(يتلوهم صلبوت سيق منتكسا ... وَحَوله كل قسيس لَهُ زبر)
(وَنحن فِي ذَا إِذا طير صَحِيفَته ... بِفَتْح عكا الَّتِي سدت بهَا الثغر)
(تغزو أساطيلنا مِنْهَا صقلية ... فيذعر الرّوم والصقلاب والخزر)
(من ذَا يَقُول لَعَلَّ الْقُدس منفتح ... إِلَيْك بل سبت يَعْقُوب لَهُ السّفر)
(أَبُو المظفر ينويها فَخذ سفنا ... من بَاب عكا إِلَى طرطوس تَنْتَشِر)
(يسبي فرنجة من أقطارها وَله ... مَعَ الْمَجُوس حروب قدحها سعر)
(وَبَعض أبنائه بالقدس منتدب ... وَبَعْضهمْ رومة الْكُبْرَى لَهُ وطر)
(براية تخرق الأَرْض الْكَبِيرَة فِي ... جمع تَقول لَهُ الْأَجْسَام لَا وزر)
(قَالُوا أطلت مديحا فِيهِ قلت كَمَا ... بدأت فالصب للمحبوب مدكر)
وَأما القصائد القدسيات الَّتِي لَهُ فَمِنْهَا التائية وَقد تقدم ذكرهَا وَمِنْهَا القدسية الْكُبْرَى عَددهَا مئة وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ بَيْتا أَولهَا
(تصاريف دهر أعربت لمن اهْتَدَى ... وبسطة أَمر أغربت من تمردا)
(لسرعة فتح الْقُدس سر مغيب ... وَفِي صرعة الإفرنج مُعْتَبر بدا)
(أَتَوا بجبال أبرمت لإسارنا ... فسقناهم فِيهَا قطينا محددا)
(وساموا تجارًا تشترينا غواليا ... فبعناهم بالرخص جَهرا على الندا)(3/407)
(وجروا جيوشا كالسيول على الصوى ... فاضت غثاء فِي البطاح مبددا)
(وَقَالُوا مُلُوك الأَرْض طوع قيادنا ... إِذا الْكل مِنْهُم فِي الْقُيُود معبدًا)
(وَقد أقطع الكند الْعرَاق موقعا ... فأودع سجنا وسط جلق موصدا)
(وَأقسم أَن يسْقِي بدجلة خيله ... فَمَا ورد الْأُرْدُن إِلَّا مصفدا)
(فكم واثق خجلان قهقه خَصمه ... وَكم سَابق عجلَان قهقر مقْعدا)
(أَتَى الكند من بيسان يحمي قمامة ... فَكَانَ تقضى ملكه قبل يبتدا)
(فَمَا عقد الرَّايَات إِلَّا محللا ... وَلَا حلل الرَّايَات إِلَّا معقدا)
(ووقعة يَوْم التل إِذْ قبضت بِهِ ... جبابرة الإفرنج حيرى وشردا)
(عَلَيْهِم من الْبلوى سرادق ذلة ... وَمن ذل مَاتَت نَفسه فتقيدا)
(ترى المنسر الديوي يلقِي سلاحه ... وينساق مَا بَين السبايا ملهدا)
(يباعون أسرابا شرائح أحبل ... كشكة عُصْفُور من الريش جردا)
(فَتلقى نَصَارَى جلق فِي مآتم ... يسرونها إِلَّا شجى وتنهدا)
(ألم تَرَ للسُّلْطَان صدق نَذره ... دم الغادر الإبرنس فاقتيد أربدا)
(وباشره بِالْقَتْلِ وسط خبائه ... وعاينه الكند المليك فأرعدا)
(وَضَاقَتْ بِنَفس القومص الأَرْض مهربا ... فأدركه الْمَوْت المفاجىء مكمدا)
(وَمَا طرق الأسماع من عهد آدم ... كملحمة التل الَّتِي تلت العدى)
(أَتَوا وَاديا مَا زَالَ يَنْفِي خبائثا ... ويصفي بعقبى الدَّار طَائِفَة الْهدى)
(بِهِ جثمت أَصْحَاب ليكة وَهِي فِي ... ذراه وَذَا فِيهِ شُعَيْب تأيدا)(3/408)
(أرى الله فِيهِ معجز النَّصْر مخلصا ... لأمر صَلَاح الدّين فِي النَّاس مخلدا)
(وأعدى جنود الرعب تردى عداته ... وَسلم جمع الْمُسلمين مجندا)
(وَمن عجب خَمْسُونَ ألف مقَاتل ... سبتهم جيوش لَيْسَ فِيهَا من ارتدا)
وللرشيد بن بدر النابلسي
(هَذَا الَّذِي كَانَت الآمال تنْتَظر ... فليوف لله أَقوام بِمَا نذروا)
(بِمثل ذَا الْفَتْح لَا وَالله مَا حكيت ... فِي سالف الدَّهْر أَخْبَار وَلَا سير)
(حِين بِهِ حَان هلك الْمُشْركين فيا ... لله طيب العشايا مِنْهُ وَالْبكْر)
(الْآن قرت جنوب فِي مضاجعها ... ونام من لم يزل حلفا لَهُ السهر)
(يَا بهجة الْقُدس إِن أضحى بِهِ علم ... الْإِسْلَام من بعد طي وَهُوَ منتشر)
(يَا نور مَسْجده الْأَقْصَى وَقد رفعت ... بعد الصَّلِيب بِهِ الْآيَات والسور)
(شتان مَا بَين ناقوس يدان بِهِ ... وَبَين ذِي منطق يصغي لَهُ الْحجر)
(الله أكبر صَوت تقشعر لَهُ ... شم الذرى وتكاد الأَرْض تنفطر)
(يَا مَالك الأَرْض مهدها فَمَا أحد ... سواك من قَائِم للمهد ينْتَظر)
(مَا اخضر هَذَا الطّراز الساحلي ثرى ... إِلَّا لتعلو بِهِ أعلامك الصفر)
(أضحى بَنو الْأَصْفَر الأنكاس موعظة ... فِيهَا لأعدائك الْآيَات وَالنّذر)
(صَارُوا حَدِيثا وَكَانُوا قبل حَادِثَة ... على الورى يتقيها البدو والحضر)
(سلبتهم دولة الدُّنْيَا وعيشتها ... حَتَّى لقد ضجرت من وفدهم سقر)
(هَذَا الَّذِي سلب الإفرنج دولتهم ... وملكهم يَا مُلُوك الأَرْض فاعتبروا)(3/409)
(مراكز مَا اختطاها الْخَوْف مذ مئة ... عَاما وَلَا ريع أهلوها وَلَا ذعروا)
(وَلم أصرح بأسماء الْبِلَاد فقد ... اسهبت وَالْقَائِل المنطيق يختصر)
(يُغْنِيك مُجمل قولي عَن مفصله ... فِي لَفْظَة الْبَحْر معنى تَحْتَهُ الدُّرَر)
وَهِي طَوِيلَة وَله من قصيدة أُخْرَى
(ألمم بدار النَّاصِر الْملك الَّذِي ... فِي كَفه للجود سَبْعَة أبحر)
(فَإِذا مَرَرْت بِملكه وفتوحه ... فاسخر بِمَا يرْوى عَن الْإِسْكَنْدَر)
(وَإِذا بصرت بجأشه وجيوشه ... فاحث التُّرَاب على ذؤابة سنجر)
(كسرت على كسْرَى لعدلك دولة ... قصرت مهابتها تطاول قَيْصر)
وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة
(أهْدى صَلَاح الدّين لِلْإِسْلَامِ إِذْ ... أردى قبيل الْكفْر مَا لم يكفر)
(رب الْمَلَاحِم لم يؤرخ مثلهَا ... الْعلمَاء قدما فِي قديم الأعصر)
(خلعت عَلَيْهِ خلعة الْملك الَّتِي ... زيدت بهاء بالطراز الْأَخْضَر)
(راياته صفرا يردن وتنثني ... حمرا تمج نجيع آل الْأَصْفَر)
(لم لم تدن شوس الْمُلُوك لَهُ وَقد ... ملك السواحل فِي ثَلَاثَة أشهر)
(واستنقذ الْبَيْت المطهر عنْوَة ... من كل ذِي نجس بِكُل مطهر)(3/410)
(وأريتهم لما التقى الْجَمْعَانِ ... بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس هول يَوْم الْمَحْشَر)
(ورددت دين الله بعد قطوبه ... بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِوَجْه مُسْفِر)
(وأعدت مَا أبداه قبلك فاتحا ... عَمْرو فَأَنت شَرِيكه فِي المتجر)
(حَتَّى جمعت لمعشر الْإِسْلَام ... بَين الصَّخْرَة الْعُظْمَى وَبَين الْمشعر)
(فلصخرة الْبَيْت الْمُقَدّس كفؤها ... الْحجر الْمفضل عِنْد أفضل معشر)
(فَكَأَنَّهُ إِنْسَان عين صُورَة ... يلقاك أسوده بِمَعْنى أنور)
فصل فِي حِصَار صور وَفتح هونين وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن السُّلْطَان مَا زَالَ مُقيما بِظَاهِر الْقُدس يُحَقّق الآمال وَيفرق الْأَمْوَال حَتَّى وَردت كتب سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب وَكَانَ نَائِب السُّلْطَان لصيدا وبيروت وهما مجاورتان لصور فَكتب يحرض السُّلْطَان على حِصَار صور فَرَحل السُّلْطَان عَن الْقُدس يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان وَأخذ صوب عكا وَسَبقه إِلَيْهَا الْأَفْضَل وتقي الدّين وودع السُّلْطَان وَلَده الْعَزِيز ورده إِلَى مصر فَكَانَ آخر عَهده بِهِ
واستصحب السُّلْطَان أَخَاهُ الْعَادِل فوصلا إِلَى عكا مستهل رَمَضَان فَأصْلح من شَأْنهَا ثمَّ رَحل فَنزل على صور يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَمَضَان وخيم بِإِزَاءِ السُّور بَعيدا مِنْهُ على النَّهر ومعظم الْبَلَد فِي الْبَحْر وَهِي مَدِينَة حَصِينَة متوسطة فِي الْبَحْر كَأَنَّهَا سفينة وَكَانَ المركيس الَّذِي فِي صور قد حفر لَهَا خَنْدَقًا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وَبنى بواشيره وَأحكم فِي التَّعْمِير تَدْبيره وَاسْتظْهر بتكثير الْعدَد(3/411)
وَالْعدَد واغتنم اشْتِغَال السُّلْطَان بِفَتْح الْقُدس
فَأَقَامَ السُّلْطَان بِتِلْكَ الْمنزلَة على صور ثَلَاثَة عشر يَوْمًا حَتَّى تلاحقت الأمداد وَكَثُرت الْعدَد وآلات الْجِهَاد ورتبت المنجنيقات ثمَّ حول السُّلْطَان مضاربه إِلَى تل قريب من السُّور يشرف مِنْهُ ثمَّ حَاصَرَهُمْ وَقبل كلا من الْمُلُوك بِجَانِب يَكْفِيهِ مِنْهُم الْأَفْضَل والعادل وتقي الدّين فحاصروهم وضايقوهم
وَوصل فِي تِلْكَ الْأَيَّام من حلب الْملك الظَّاهِر غَازِي ولد السُّلْطَان بعسكره الْحلَبِي فاستظهر السُّلْطَان بِهِ واستدعى الأسطول الْمصْرِيّ وَكَانَ بعكا فجَاء مِنْهُ عشرَة شواني وَكَانَ للفرنج فِي الْبَحْر مراكب وحراريق وفيهَا رُمَاة الجروخ والزنبوركات يرْمونَ من دنا من الْبَحْر فَلَمَّا جَاءَ أسطول السُّلْطَان استطال عَلَيْهَا وأبعدها فأحاط بهم الْمُسلمُونَ وقاتلوهم برا وبحرا فَبَيْنَمَا هم فِي أحلى ظفر وأهنأ ورد وَصدر إِذْ ملك الفرنج خَمْسَة من شواني الْمُسلمين وأسروا مقدميها ورئيسها عبد السَّلَام المغربي ومتوليه بدران الْفَارِس وَألقى جمَاعَة أنفسهم فِي الْبَحْر فَمن نَاجٍ وهالك وَذَلِكَ أَنهم سهروا تِلْكَ اللَّيْلَة بِإِزَاءِ ميناء صور إِلَى السحر ثمَّ غلبهم النّوم فَمَا انتبهوا إِلَّا والفرنج قد ركبتهم ونكبتهم فَأصْبح الْمُسلمُونَ وَقد وجموا وأتاهم من الْأَمر مَا لم يعلمُوا وَنفذ السُّلْطَان إِلَى المراكب الْبَاقِيَة أَن يَسِيرُوا إِلَى بيروت وَخَافَ عَلَيْهَا لقلتهَا أَن يستولي عَلَيْهَا عَبدة الطاغوت فنجا مِنْهَا شيني رَئِيس جبيل وَالْبَاقُونَ نظرُوا إِلَى الفرنج وَرَاءَهُمْ فَألْقوا أنفسهم فِي المَاء وَخَرجُوا إِلَى الْبر على وُجُوههم
ثمَّ إِن الفرنج بعد هَذَا طمعت فَخرجت يَوْمًا وَقت الْعَصْر مستعدة لِلْقِتَالِ فالتقاهم الْمُسلمُونَ فَكَانَت الدائرة على الْكَافرين واسر مقدم كَبِير(3/412)
لَهُم وَظن أَنه المركيس فسلمه السُّلْطَان إِلَى وَلَده الظَّاهِر ليحفظه فَضرب عُنُقه وَكَانَ اللَّيْل قد دخل فَلَمَّا أَصْبحُوا تبين لَهُم ان المركيس بعد فِي الْحَيَاة فطال حصاره حَتَّى ضجر كثير من أُمَرَاء الْمُسلمين لأَنهم رَأَوْا مَا لم يألفوه من تعسر الْفَتْح عَلَيْهِم فأشاروا على السُّلْطَان بالرحيل لِئَلَّا تفنى الرِّجَال وتقل الْأَمْوَال وَكَانَ الْبرد قد اشْتَدَّ عَلَيْهِم وَكَانَ رَأْي السُّلْطَان والأتقياء من الْأُمَرَاء كالفقيه عِيسَى وحسام الدّين طمان وَعز الدّين جرديك النوري الثَّبَات إِلَى الْفَتْح لِئَلَّا يضيع مَا تقدم من الْأَعْمَال وإنفاق الْأَمْوَال وَقَالَ السُّلْطَان قد هدمنا السُّور وقاربنا الْأُمُور فَاصْبِرُوا تُفْلِحُوا وَصَابِرُوا تفتحوا وَلَا تعجلوا
فأظهروا الْمُوَافقَة وَفِي انفسهم مَا فِيهَا فَلم يصدقُوا الْقِتَال وتعللوا بِأَن الرِّجَال جرحى والعلوفات قد قلت فَلم يسع السُّلْطَان بعد ذَلِك إِلَّا الرحيل فَأمر بِنَقْل الأثقال فَحمل بَعْضهَا إِلَى صيدا وبيروت وأحرق الْبَاقِي لِئَلَّا يَنَالهُ الْعَدو ورحل فِي أخر شَوَّال وَهُوَ أول يَوْم من كانون الأول وَسَار تَقِيّ الدّين إِلَى دمشق على طَرِيق هونين واستصحب مَعَه عَسَاكِر الشرق وديار بكر والموصل والجزيرة وسنجار وماردين ورحل السُّلْطَان إِلَى عكا فوصلها فِي ثَلَاث مراحل لِأَنَّهُ سلك طَرِيق الناقورة وَهِي طَرِيق ضيقَة مطلة على الْبَحْر بهَا يضْرب الْمثل لَا يعبر بهَا إِلَّا جمل جمل فعبرت بهَا الأثقال والأحمال فِي أُسْبُوع
وَكَانَ عين يَوْم رحيله من صور أُمَرَاء يُقِيمُونَ عَلَيْهَا إِلَى أَن يعرفوا عبور الثّقل
وخيم السُّلْطَان عِنْد التل وَسَار الْعَادِل إِلَى مصر وَالظَّاهِر إِلَى حلب وَبدر الدّين دلدرم الياروقي إِلَى بِلَاده
قَالَ وَفِي مُدَّة رحيل السُّلْطَان عَن صور جَاءَهُ خبر سيف الدّين مَحْمُود أخي عز الدّين جاولي أَنه اسْتشْهد فِي عفربلا تَحت حصن كَوْكَب كبسه(3/413)
الفرنج فِيهَا لَيْلًا وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد بَقِي على السُّلْطَان بَعْدَمَا فتح من بِلَاد الْعَدو من جملَة أَعمال طبرية والغور حصنا صفد وكوكب وَكَانَ فِي صفد جَمْرَة الداوية وَفِي كَوْكَب جَمْرَة الاسبتارية فَاحْتَاجَ السُّلْطَان فِي فتحهما إِلَى المطاولة فَوكل بصفد جمَاعَة يعْرفُونَ بالناصرية مقدمهم مَسْعُود الصلتي ووكل بكوكب هَذَا الْأَمِير سيف الدّين مَحْمُودًا فَأَقَامَ فِي حصن عفربلا وَهُوَ قريب من حصن كَوْكَب ونغص على المقيمين فِيهِ الْمطعم وَالْمشْرَب وضيق عَلَيْهِم الْمَذْهَب إِلَى أَن دخل الشتَاء فاختلت الحراسة واعتلت السياسة فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة آخر شَوَّال وَكَانَت بَارِدَة ماطرة حرس أَصْحَاب سيف الدّين حَتَّى ضجروا فَغَلَبَهُمْ النعاس فَمَا استيقظوا إِلَّا وفرنج كَوْكَب عَلَيْهِم باركة فدافعوا عَن أنفسهم حَتَّى اسْتشْهدُوا واخذ الفرنج غنيمَة الْمُسلمين ودخلوا بهَا كَوْكَب
وَكَانَ هَذَا الْأَمِير مَحْمُود ذَا دين متين وَمَكَان من النّسك مكين وَهُوَ يسهر اكثر ليله متهجدا وَقد جعل منزله مَسْجِدا فَجمع بَين التَّهَجُّد وَالْجهَاد وَكَانَ كثير الِاجْتِهَاد فَاغْتَمَّ السُّلْطَان بمصابه وَزَاد تألما إِلَى مابه وَتقدم إِلَى صارم الدّين قايماز النجمي أَن يرابط كَوْكَب فِي خمس مئة فَارس فَفعل وَلم يزل بهَا إِلَى ان فتحت كَمَا سياتي
قَالَ وَفتحت هونين وَالسُّلْطَان محاصر صور وَكَانَ لما فتح تبنين قد امْتنعت عَلَيْهِ هونين فَوكل بهَا من رابطها وضايقها حَتَّى طلبُوا الْأمان وَجَاء خَبَرهَا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ على صور فنفذ الْأَمِير بدر الدّين دلدرم فَفَتحهَا وَخرج الفرنج مِنْهَا سَالِمين آمِنين
وَكَانَ قد بَقِي أَيْضا من عمل صيدا قلعة أبي الْحسن وشقيف أرنون وَأقَام السُّلْطَان بِظَاهِر عكا نَاظرا(3/414)
فِي أُمُور رَعيته ثمَّ دَخلهَا وَسكن بالقلعة وَسكن الْأَفْضَل برج الداوية وَولى عكا عز الدّين جرديك ووقف دَار الاسبتار نِصْفَيْنِ نصفا على الْفُقَهَاء وَنصفا على الصُّوفِيَّة ووقف دَار الأسقف بيمارستان ووقف على كل من ذَلِك كِفَايَته واظهر بِهِ عنايته وَسلم جَمِيع ذَلِك إِلَى قاضيها جمال الدّين بن الشَّيْخ أبي النجيب وَهُوَ فِي ذَلِك مُصِيب
فصل فِي وُرُود رسل التهاني من الْآفَاق وقدوم الرَّسُول العاتب من الْعرَاق
قَالَ الْعِمَاد ووردت رسل الْآفَاق من الرّوم وخراسان وَالْعراق وَكلهمْ يهني السُّلْطَان بِمَا أفرده الله بِهِ من الْفَضِيلَة وأقدره عَلَيْهِ من نجح الْوَسِيلَة وَهُوَ فتح الْقُدس الَّذِي درج على حسرته الْقُرُون الأولى وتقاصرت عَنهُ أَيْديهم المتطاولة وتمكنت مِنْهُ يَده الطُّولى فَمَا مِنْهُم إِلَّا من يعْتَرف بيمنه ويغترف من يمه ويقر بِحكم التَّنْزِيل لَهُ وَينزل على حكمه ويخطب صداقته ويتقرب بِالْوَفَاءِ والوفاق ويتباعد عَن الشَّقَاء والشقاق فَمن جُمْلَتهمْ رَسُول صَاحب الرّيّ وَرَسُول المستولي على ممالك همذان وأذربيجان وأران فَمَا من يَوْم يمْضِي وَشهر يَنْقَضِي إِلَّا ويصل مِنْهُم رَسُول ويتصل بِهِ سَوَّلَ
وَذكر الْعِمَاد فِي الْبَرْق انه وصل إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بعكا رَسُول(3/415)
أتابك مظفر الدّين قزل أرسلان وَهُوَ عُثْمَان بن أتابك إيلدكز المستولي على بِلَاد الْعَجم بعد أَخِيه البهلوان
ثمَّ ذكر من خرقه فِي كرمه شَيْئا كثيرا ثمَّ قَالَ وَهَذَا كُله لَا يكون فِي بَحر سلطاننا جدولا كَانَ السُّلْطَان مَذْهَب الْمَذْهَب ظَاهر المحفل والموكب قد خصّه الله بالصدر الأرحب والنصر الْأَغْلَب عزمه إِلَى الْجِهَاد مَصْرُوف وخلقه بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف وهمه بالسماح مشغوف مَا يَفْتَحهُ بِالسَّيْفِ فِي الْبِلَاد يَهبهُ لمن يضْرب مَعَه بِالسَّيْفِ فِي الْجِهَاد وللخالق تقواه وللمخلوقين جدواه وَإِنَّمَا يُرِيد للآخرة دُنْيَاهُ فَلَا جرم ختم الله بِالْحُسْنَى عقباه
قَالَ وَلم يكن فِي الْمُلُوك السالفة أمضى مِنْهُ عزما وأجدى فضلا واعم جدوى واكمل جهدا فِي الْجِهَاد وأملك جلدا على الجلاد فَإِنَّهُ بَاشر بِنَفسِهِ الْحَرْب ومارس الصعب وَقذف بِالْحَقِّ حِين حَقَّقَهُ على الْبَاطِل فأزهقه وَلَا حد وَلَا عد لما فِي سَبِيل الله من نفائس النُّفُوس وَالْأَمْوَال أنفقهُ وَمن أول هَذَا الْعَام إِلَى منتهاه لم يجِف لورده لبد وَلم ينضب من ورده عد وَلم يقر لَهُ جنب بل لَقِي فِي فَصلي القيظ والقر مض الْحر وعض الْبرد بَحر وَجهه الْكَرِيم وَقضى حق الدّين موفيا بِصدق غرامه حق الْغَرِيم وكل مَا تمّ من النَّصْر يَوْم حطين وَفتح الْقُدس وتسلم بِلَاد السَّاحِل(3/416)
إِنَّمَا تسنى بِشَهْر سَيْفه فِي فصل الصَّيف وشهوره واستظهاره بِظُهُور الْإِسْلَام وَشد طهوره
وَأنْشد الْعِمَاد للْقَاضِي الْفَاضِل فِي وصف أسيافه
(ماضيات على الدَّوَام دوامي ... هِيَ فِي النَّصْر نجدة الْإِسْلَام)
(فِي يَمِين السُّلْطَان إِن جردتها ... أشبهتها صواعق فِي غمام)
(تنثر الْهَام كالحروف فَمَا ... أشبه هذي السيوف بالأقلام)
(فِي محاريب حربه الْبيض صلت ... وركوع الظبى سُجُود الْهَام)
وَذكر من كَلَامه فِي التَّوَسُّط بَين الأصدقاء مَا أَدخل بَيْنكُم إِلَّا كدخول المرود فِي الأجفان يرد إِلَيْهَا مَا ذهب مِنْهَا من النُّور والغمض أَو كالنسيم بَين الأغصان يعْطف بَعْضهَا على بعض
قَالَ الْعِمَاد وَوصل أخي تَاج الدّين أَبُو بكر حَامِد من دَار الْخلَافَة برسالة فِي العتب على أَحْدَاث ثقلت وَأَحَادِيث نقلت ووشايات أثرت وسعايات فِي السُّلْطَان شعثت وَذَلِكَ فِي شَوَّال وَنحن على حِصَار صور وَسبب ذَلِك أَنه لما تمّ الْفَتْح الْأَكْبَر وَخص وَعم النجح الْأَظْهر وَقطع دابر الْمُشْركين وَحط إقبال الْمُسلمين أوزار أدبار الْكَافرين بحطين أَمرنِي السُّلْطَان بإنشاء كتب البشائر إِلَى الْآفَاق وَتَقْدِيم الْبُشْرَى بِهِ إِلَى الْعرَاق فَقلت هَذَا فتح كريم ومنح من الله عَظِيم فَلَا يَنْبَغِي ان يكون مُبشر دَار الْخلَافَة بِمَا أنزلهُ الله علينا من الرَّحْمَة والرأفة إِلَّا من هُوَ عندنَا أجل وَأجلى وَأعلم وَأَعْلَى وَأجْمع لفنون الْفَضَائِل وَأعرف بأَدَاء الرسائل فَلَا يرفع(3/417)
الْعَظِيم إِلَّا بالعظيم الرفيع فَإِن الشريف يتضع شرفه بمقارنة الوضيع
فَقَالَ هَذِه نصْرَة مبتكرة وموهبة مبشرة بدرت وندرت فَنحْن نعجل بهَا بشيرا ونؤخر للإجلال كَمَا ذكرت سفيرا
وَكَانَ فِي الْخدمَة شَاب بغدادي من الأجناد قد هَاجر للاسترفاد وَتوجه بعد وُصُوله وَنبهَ بعد خموله فَسَأَلَ فِي الْبشَارَة إِلَى بَغْدَاد وَزعم أَنه يداوم إِلَيْهَا الإغذاذ وشفع لَهُ جمَاعَة من الأكابر حَتَّى خص بأشرف البشائر فَقلت هَذَا لَا يحصل لَهُ وَقع وَلَا يصل إِلَيْهِ نفع وَالْوَاجِب أَن يسير فِي مثل هَذَا الخطير خطير وَفِي هَذِه النُّصْرَة الْكُبْرَى كَبِير
ثمَّ سَار الْمَنْدُوب وشغلت عَن إرْسَال سواهُ الْفتُوح والحروب وَلما فتح الْبَيْت الْمُقَدّس أرسل ببشارته نجاب وَنفذ بهَا كتاب وَوصل البشير الجندي فحقروه وَمَا وقروه فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدهم بِعَين فنظروه بِتِلْكَ الْعين وحبوه بِمَا يَلِيق من الرقة وَالْعين ونقم على السُّلْطَان إرْسَال مثله وتسمح الْمَنْدُوب بِكَلَام أَخذ عَلَيْهِ وبدرت مِنْهُ أَحَادِيث نسبت إِلَيْهِ
وَقَالَ فِي سكره وَحَالَة نكره مَا نعرض عَن ذكره فخيل وموه وتنكر وَتكره وَظن أَن لكَلَامه أصلا ولقطعه منا وصلا وأنهيت إِلَى الْعرض الْأَشْرَف مقالاته وَعلمت جهالاته وتجني على السُّلْطَان بإرساله وطرق إِلَى هداه مَا أنكروه من مقَال الْمَذْكُور وضلاله وَوجد الْأَعْدَاء حِينَئِذٍ إِلَى السّعَايَة طَرِيقا وطلبوا لشمل استسعاده بِالْخدمَةِ تفريقا واختلقوا أضاليل ولفقوا أباطيل وَقَالُوا(3/418)
هَذَا يزْعم أَنه يقلب الدولة ويغلب الصولة وَأَنه ينعَت بِالْملكِ النَّاصِر نعت الإِمَام النَّاصِر وَيدل بِمَالِه من الْقُوَّة والعساكر
فأشفق الدِّيوَان الْعَزِيز على السُّلْطَان من هَذِه وبرز الْأَمر المطاع بإرسال أخي وإنفاذه وَقَالُوا هَذَا تَاج الدّين أَخُو الْعِمَاد يكفل لنا فِي كشف سر الْأَمر بالمراد فَإِن أَخَاهُ هُنَاكَ مطلع على الْأَسْرَار وَهُوَ مُنْتَظم فِي سلك الْأَوْلِيَاء الْأَبْرَار
وعول عَلَيْهِ الدِّيوَان فِي السفارة ورد مَعَه جَوَاب الْبشَارَة وكتبت لَهُ تذكرة بموجبات مَقَاصِد العتب ومكدرات موارد الْقرب والمخاطبة فِيهَا وَإِن كَانَت حَسَنَة خشنة والمعاتبة مَعَ شدتها للعواطف الإمامية لينَة
فَسَار الْأَخ إِلَى دمشق وَكَانَ قد عَاد الْمَنْدُوب نادبا عاديا جاحدا للنعمة شاكيا وَقَالَ أَخُو الْعِمَاد قد وصل بِكُل عتب وَغَضب وَلَفظ فظ وَمَعَهُ الملامات المؤلمات فَقلت لَهُ اسْكُتْ واصمت وَقلت للسُّلْطَان سمعا وَطَاعَة لأمر الدِّيوَان فَإِن إِظْهَار سر العتب لَك من غَايَة الْإِحْسَان فَقَالَ نعم مَا قلت
وَلما قرب أخي أَصبَحت لقدومه أنتخي فَأمر السُّلْطَان الْأُمَرَاء على مَرَاتِبهمْ باستقباله وَتقدم لجلالة قدومه بإحلاله وتلقاه الْمُلُوك الْحَاضِرُونَ الْعَادِل والمظفر وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر
ثمَّ ركب وتلقاه بِنَفسِهِ وَخَصه من تقريبه بأنسه وَلم يزل حَتَّى أرَاهُ مَوَاضِع الْحصار ومصارع الْكفَّار ثمَّ نزل وأنزله بِالْقربِ ثمَّ حضر عِنْده وَقد أخلى مَجْلِسه لي وَله وَحده فَأدى الْأَمَانَة فِي مشافهته وَوجه مقاصده فِي مواجهته وأحضر التَّذْكِرَة وَقد جمعت الْمعرفَة والنكرة فقرأتها عَلَيْهِ وَكَانَت فِي الْكتب غلظة عدت من الْكَاتِب غلطة(3/419)
وخيلت سقطه وجلبت سخطه وَقَالَ إِن الإِمَام أجل أَن يَأْمر بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ الفظاظ والأسجاع الْغِلَاظ فقد أمكن إِيدَاع هَذِه الْمعَانِي فِي أرق مِنْهَا لفظا وأرفق وأوفى مِنْهَا فضلا وأوفق ومعاذ الله أَن يحبط عَمَلي أَو يهْبط أملي وامتعض وارتمض ثمَّ أعرض عَمَّا عرض وَرجع إِلَى الاستعطاف وانتجع بأرق الاستسعاف
وَقَالَ أما مَا تمحله الْأَعْدَاء وَعدا بِهِ المتمحلون فَمَا عرف مني إِلَّا الِاعْتِرَاف بالعارفة
وَذكر السُّلْطَان أياديه السالفة فِي الفتوحات وَإِقَامَة الدعْوَة العباسية بِمصْر واليمن وَإِزَالَة الأدعياء وإبادة الْأَعْدَاء وَفتح الْبَيْت الْمُقَدّس
قَالَ وَأما النَّعْت الَّذِي أنكر وَنبهَ على مَوضِع الْخَطَأ فِيهِ وَذكر فَهَذَا من عهد الإِمَام المستضيء والآن كل مَا يشرفني بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ من السمة فَإِنَّهُ أسمي الَّذِي هُوَ أسمى وأشرف وَأَرْفَع وَأعرف وَمَا عزمي إِلَّا استكمال الْفتُوح لأمير الْمُؤمنِينَ وَقطع دابر الْمُنَافِقين وَالْمُشْرِكين
ثمَّ ندب مَعَ أخي من سَار فِي خدمته لزيارة الْقُدس ثمَّ ودعه وأودعه من شفاهه كل مَا فِي النَّفس وَظَهَرت بعد ذَلِك بِالْقبُولِ أثار الرضى وَمضى مَا مضى وَكَانَ جمَاعَة من الْمُلُوك والأمراء كالعادل ومظفر الدّين قد نخوه لما قيل فِي حَقه وَأَرَادُوا أَن يغضبوه فَمَا غضب بل غاض غيظه ونضب وتلقى ذَلِك بصدر رحيب وَلَفظ مُصِيب(3/420)
قلت ووقفت على كتاب كتبه الصاحب قوام الدّين بن زِيَادَة من الدِّيوَان الْعَزِيز بِبَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَكَانَ قوام الدّين يَوْمئِذٍ أستاذ الدَّار العزيزة يَقُول فِيهِ لَوْلَا مَكَان صَلَاح الدّين من الْخدمَة وَالشح بِهِ والمنافسة فِيهِ لما جَوْهَر بالعتاب وَلَا رفع دونه هَذَا الْحجاب بل كَانَ يتْرك مَعَه الْأَمر على اختلاله ويدمل الْجرْح على اعتلاله وَقد ذكرت الْأَسْبَاب الَّتِي أَخذهَا الدِّيوَان الْعَزِيز عَلَيْهِ واستغرب وُقُوعهَا من كَمَاله ليرعيها سَمعه الْكَرِيم ويستوري فِيهَا رَأْيه الْأَصِيل وينصف فِي استماعها والإجابة عَنْهَا غير عائج على الجدل وَلَا مؤتم بالمراء المذمومين عقلا وَشرعا بل يحمل قولي هَذَا على سَبِيل المماحضة والانتصاح وَصدق النِّيَّة فِي رأب الثأي والإصلاح فَإِن إبجار الدَّوَاء الْمقر لَا يتهم فِيهِ الطَّبِيب المجتلب للعافية
ثمَّ ذكر من تِلْكَ الْأُمُور ان من انتقى من الْعرَاق بِسَبَب من الْأَسْبَاب لَجأ إِلَى صَلَاح الدّين فَوجدَ عِنْده الإقبال عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَدَب يُوجب إبعاد من أبعده عَنهُ وتقريب من قربه إِلَيْهِ
ثمَّ قَالَ وَإِن مِمَّا أضْحك ثغر الاستعبار مَا انْتهى عَن الْعَوام وَأَشْبَاه الْأَنْعَام وطغام الشَّام من الْخَوْض فِي الْمذَاهب والانتهاء فِي التشنيع إِلَى اخْتِلَاق كل قَول كَاذِب وَمِنْهَا مَا جرى من سيف الْإِسْلَام بالحجاز من إزعاج الْحجَّاج وإرهاج تِلْكَ الفجاج والإقدام على مَنَاسِك الله وشعائره وَإِيقَاد سعير الْفِتْنَة فِيهَا ونوائره واحتذاء السِّيرَة القاسطة وإحياء بدع القرامطة مَا(3/421)
نفر مِنْهُ كل طبع ومجه كل سمع فَكيف جَازَ لصلاح الدّين أَن يُرْخِي عنان أَخِيه فِيمَا يقْرض سوابقه وأواخيه وَمِنْهَا مَا قضى النَّاس مِنْهُ الْعجب وفورق فِيهِ الحزم وَالْأَدب وَهُوَ مَا أوجب التلقب باللقب الَّذِي اسْتَأْثر بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ
ثمَّ قَالَ وَقد ساوق زمَان الدولة العباسية ثبتها الله خوارج دوخوا الْبِلَاد وأسرفوا فِي العناد وجاسوا خلال الديار وأخافوا المسالك واستضاموا الممالك واقتحموا من الشقاق أشق المهالك فَمَا انْتهى أحدهم فِيمَا احتقب وارتكب إِلَى الْمُشَاركَة فِي اللقب وَمن الحكم الذائعة فِي وجيز الْكَلَام الَّذِي يصلح للْمولى على العَبْد حرَام
وَمِنْهَا مُكَاتبَة كل طرف يتاخم أَعمال الدِّيوَان من مَوَاطِن التركمان والأكراد ومراسلتهم ومهاداتهم وقرع أسماعهم بِمَا يعود باستزلال أَقْدَامهم وفل عزائمهم وهم لَا يعْرفُونَ إِلَّا أَنهم رعية للعراق وخول للديوان يَرِثُونَ الطَّاعَة خالفا عَن سالف
ثمَّ قَالَ فِي آخر الْكتاب وَهَذَا كُله لَا أقوله إنكارا لجلائل مقامات صَلَاح الدّين ومشاهير مَوَاقِف جهاده فِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أدام الله علوه رجل وقته ونسيج وَحده والمربي على من سلف من صنائع الدولة على من يَأْتِي بعده وَهُوَ الْوَلِيّ المخلص الَّذِي عهد فوفى واستكفي فَكفى وطب فشفى فَكيف يجوز لَهُ بسعادته أَن يهجن مساعيه الغر المحجلة وَيخرج من مكانته المكرمة المبجلة وَتبطل حُقُوقه الثَّابِتَة المسجلة
ثمَّ قَالَ فقد علم كل من نظر فِي التواريخ والْآثَار ونصحته بصيرته فِي التبصر وَالِاعْتِبَار أَن هَذَا الْبَيْت الْعَظِيم مَا زَالَ يرفع الأقدار الخاملة فينزون عَلَيْهِ بطرا فيغار الله لَهُ منتصرا ويعقبه عَلَيْهِم إظفارا وظفرا كدأب(3/422)
آل طولون وَآل سامان وَآل بويه وَآل سجلوق وقرونا بَين ذَلِك كثيرا فَمن الَّذِي زلزلوه فَثَبت وَمن الَّذِي حصدوه فنيت وَأي نَار أوقدوها فَمَا خبت
ثمَّ قَالَ فِي آخِره اللَّهُمَّ هَل بلغت وللرأي الصلاحي علوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَذكر ابْن القادسي أَن الجندي الَّذِي أرْسلهُ صَلَاح الدّين بالبشارة يعرف بالرشيد بن البوشنجي
قَالَ وَكَانَ صَبيا كثير الإدبار مشمرا فِي دروب بَغْدَاد ثمَّ توجه إِلَى الشَّام هَارِبا من الْفقر فحين وصل إِلَى بَغْدَاد رَسُولا قَامَت الْقِيَامَة برسالته وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين بالإنكار عَلَيْهِ وَقيل لَهُ مَا كَانَ فِي أَصْحَابك أميز من هَذَا ترسله إِلَى الدِّيوَان فَاعْتَذر صَلَاح الدّين ووصلت كتبه بالاعتذار وَقبل عذره وَأما ابْن البوشنجي فَإِنَّهُ حِين وُصُوله إِلَى الشَّام أَكثر الْكَلَام عِنْد صَلَاح الدّين فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا مضى الْأُسْبُوع جَاءَتْهُ نشابة ذبحته
فصل فِي بَاقِي حوادث سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا قتل الْأَمِير شمس الدّين بن الْمُقدم وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الْملك يَوْم عَرَفَة بهَا(3/423)
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لما فرغ من فتح الْقُدس ودنا موسم الْحَج قَالَ الموفقون نحرم من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام ونفوز بِالْحَجِّ مَعَ إِدْرَاك فَضِيلَة فتح الْبَيْت الْمُقَدّس فِي هَذَا الْعَام فالحج وَالْجهَاد ركنا الْإِسْلَام
فَاجْتمع جمع جم من أهل ديار بكر والجزيرة وَالشَّام وَسَار بهم الْأَمِير شمس الدّين بن الْمُقدم شيخ أُمَرَاء الْإِسْلَام الْكِرَام فودعه السُّلْطَان على كره من مُفَارقَته واستمهله ليحج فِي السّنة الْأُخْرَى على مرافقته
فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إِن الْعُمر قد فرغ والأمد قد بلغ والشيب قد أنذر وَالْفَرْض قد أعذر فأغتنم فرْصَة الْإِمْكَان قبل أَن يتَعَذَّر
فَمضى والسعادة تقوده وَالشَّهَادَة تروده حَتَّى وصل إِلَى عَرَفَات وَمَا عرف الْآفَات وشاع وُصُوله وراع قبُوله وَضربت طبوله وسالت سيوله وجالت خيوله وَضربت خيامه وخفقت أَعْلَامه فَلَمَّا أَصْبحُوا نقرت على الْعَادة نقاراته ونعرت بوقاته فغاظ ذَلِك أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ فَركب إِلَيْهِ فِي أحزابه فأوقع بِهِ وبأصحابه وأبلاهم بجراحه ونهابه وَجرى حكم الله الَّذِي كَانَ ضرب الطبل أوكد أَسبَابه وَقتل جمَاعَة من حَاج الشَّام وجرحوا وهتكت أستارهم وافتضحوا
وَنقل أَمِير الْحَاج طاشتكين شمس الدّين بن الْمُقدم إِلَى خيمته وَهُوَ مَجْرُوح وَفِيه روح وَحمله مَعَه إِلَى منى فَقضى وَدفن بالمعلى وَتمّ ذَلِك بِقَضَاء الله وَقدره فِي تقلب حوادث الدَّهْر وَغَيره وارتاع أَمِير الْحَاج بِمَا اجترمه وَكَيف لم يراقب الله وَأحل(3/424)
حرمه وَكَيف عدا على الْحَاج العائذ بِاللَّه وَسَفك دَمه فَكتب محضرا على مَا اقترحه بِعُذْرِهِ فِيمَا اجترحه وألزم أَعْيَان الْحَاج من سَائِر الْبِلَاد بِوَضْع خطوطهم على مَا عينه من المُرَاد فَكَتَبُوا مكرهين غير مشتهين
وَكَانَ عذره أَنه أنكر عَلَيْهِ ضرب الطبل فَأبى
فَلَمَّا انْتَهَت تِلْكَ الْحَالة إِلَى الْخَلِيفَة أنكرها إنكارا شَدِيدا ونسبها إِلَى طيش طاشتكين وَلم يجد لَهُ رَأيا سديدا فَلَا جرم اتضع عِنْده قدره واتضح لَهُ وزره ووهى أمره وَذُخْرهَا لَهُ حَتَّى نكبه بهَا بعد سِنِين وحبسه وَأطَال سجنه ثمَّ عَفا عَنهُ بعد مُدَّة مديدة وَشدَّة شَدِيدَة وولاه حَرْب بِلَاد خوزستان وخراجها وَولى إِمَارَة الْحَاج غَيره
وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان خبر استشهاد ابْن الْمُقدم وجماعته لامه على ترك الحزم وإضاعته فاحتسبه عِنْد الله غازيا شَهِيدا ساعيا إِلَى الْجنَّة بقدمه سعيدا وَأقَام ابْنه عز الدّين إِبْرَاهِيم فِي بِلَاده مقَامه وَأقر عَلَيْهِ إنعامه
وَقَالَ مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه ونقلته من خطه أَرَادَ أَمِير الْحَاج بِالشَّام وَهُوَ ابْن الْمُقدم أَن يرفع علما على الْجَبَل بالموقف فَمَنعه أَمِير الْحَاج طاشتكين وَجَرت بَينهمَا مراجعات أفضت إِلَى الْخُصُومَة بَين حَاج الْعرَاق وحاج الشَّام وَنهب الْبَعْض للْبَعْض وَجَرت جراحات فجرح ابْن الْمُقدم وَلم تغير الْعَادة فِي ذَلِك وأفاض النَّاس وَمَات ابْن الْمُقدم بمنى فِي الْيَوْم الثَّانِي ووصلت النجابة من مَكَّة فَأخْبرُوا بِمَا جرى من(3/425)
أَصْحَاب ابْن الْمُقدم وَقد شهد الشُّهُود بذلك من الْحجَّاج فقرىء ذَلِك بِجَامِع الْقصر الشريف
قَالَ وَفِي ثَانِي شَوَّال من هَذِه السّنة توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبيد الله بن عبد الله سبط ابْن التعاويذي الشَّاعِر وَكَانَ كَاتبا بديوان المقاطعات وخدم بَيت ابْن رَئِيس الرؤساء وأضر فِي آخر عمره ومولده عَاشر رَجَب سنة تسع عشرَة وَخمْس مئة
قَالَ وَفِي خَامِس رَمَضَان توفّي الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ أَبُو الْفَتْح نصر بن فتيَان بن مطر الْمَعْرُوف بِابْن الْمَنِيّ وَكَانَ فَقِيها زاهدا صَالحا عَالما مولده سنة إِحْدَى وَخمْس مئة وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة من أَئِمَّة الْحَنَابِلَة كالحافظ(3/426)
عبد الْغَنِيّ بن عبد الْوَاحِد بن سرُور وأخيه إِبْرَاهِيم وَالشَّيْخ الْمُوفق عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة وَمُحَمّد بن خلف بن رَاجِح والناصح عبد الرَّحْمَن بن نجم بن عبد الْوَهَّاب وَعبد الرَّزَّاق بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي وَغَيرهم(3/427)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد فَخرج السُّلْطَان من عكا فَنزل على كَوْكَب فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم فحاصرها وصابرها أَيَّامًا فَلم يتَمَكَّن مِنْهَا لمنعتها وحصانتها وَرَآهَا تحْتَاج إِلَى طول مصابرة ومرابطة وَلم يكن مَعَه جَمِيع أمرائه وأوليائه وَإِنَّمَا كَانَ فِي خواصه فَوكل بهَا قايماز النجمي ووكل بصفد طغرل الجاندار كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي خمس مئة وسير إِلَى الكرك والشوبك سعد الدّين كمشبة الْأَسدي وَكَانَت هَذِه الْحُصُون الْأَرْبَعَة ضيقَة المسلك صعبة الْمدْرك
قَالَ ثمَّ إِن السُّلْطَان اشْتغل بلقاء الرُّسُل الواصلين من جُمْلَتهمْ رَسُول صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَكَانُوا خَائِفين على آمد أَن يسترجعها مِنْهُم السُّلْطَان لِأَنَّهَا كَانَت لَهُم من مواهبه كَمَا سبق فاستوثقوا(4/5)
بالوصلة باحدى بَنَات الْعَادِل وَكَانَ الْعَادِل قد وكل أَخَاهُ السُّلْطَان فِي ذَلِك لما سَار إِلَى مصر وَقدم رسولهم فِي ذَلِك فتمت الوصلة بَينهمَا
قَالَ وَأول من وصل وَالسُّلْطَان بكوكب اخْتِيَار الدّين حسن بن غفراس مُدبر دولة قليج أرسلان بالروم وَكَانَ هَذَا الرَّسُول مغرى بِلبْس الْحلِيّ والديباج والوشي وَفِي يَدَيْهِ زنود وخواتيم مرصعة بزينة ثَقيلَة بجواهر ويواقيت ثمينة وَفِي عقودها درة يتيمة وَفِي يَده عَمُود من العسجد وكل عدته تبرها مجوهر وَكَانَ إِذا شَاهده السُّلْطَان تَبَسم وعامله بخلقه وَقَالَ هَذَا سَافر بنضاره لينْظر وبديناره ليبصر
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ رأى السُّلْطَان الِاشْتِغَال بِأخذ هَذِه الْحُصُون الْبَاقِيَة لَهُم مِمَّا يضعف قُلُوب من فِي صور ويهي أمرهَا بِهِ فاشتغل بذلك وَنزل رَحمَه الله على كَوْكَب فِي أَوَائِل الْمحرم
وَكَانَ سَبَب بداءته بكوكب أَنه كَانَ قد جعل حولهَا جمَاعَة يحفظونها من أَن تدخل إِلَيْهِم قُوَّة أَو جمَاعَة فَخرج الفرنج لَيْلًا وَأخذُوا غرتهم وكبسوهم بعفربلا وَقتلُوا مقدمهم وَكَانَ من الامراء يعرف بِسيف الدّين أخي جاولي وَأخذُوا أسلحتهم فَسَار(4/6)
رَحمَه الله من عكا وَنزل عَلَيْهَا بِمن كَانَ بَقِي مَعَه من خواصه بعكا فَإِنَّهُ كَانَ قد أعْطى العساكر دستورا وَلَقي فِي طَرِيقه شدَّة من الثَّلج وَالْبرد فَحملت السُّلْطَان مَعَ ذَلِك الحمية على النُّزُول عَلَيْهَا وَأقَام يقاتلها مُدَّة
قَالَ وَفِي تِلْكَ الْمنزلَة وصلت إِلَى خدمته فَإِنِّي كنت قد حججْت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَكَانَت وقْعَة ابْن الْمُقدم وجرح يَوْم عَرَفَة على عَرَفَة لخلف جرى بَينه وَبَين أَمِير الْحَاج طاشتكين على ضرب الكوس والدبدبة فان أَمِير الْحَاج نَهَاهُ عَن ذَلِك فَلم ينْتَه ابْن الْمُقدم وَكَانَ من أكبر أُمَرَاء الشَّام وَكَانَ كثير الْخَيْر كثير الْغُزَاة فَقدر الله أَنه جرح بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة ثمَّ حمل إِلَى منى مجروحا فَمَاتَ بمنى يَوْم الْخَمِيس يَوْم عيد الله الْأَكْبَر وَصلي عَلَيْهِ فِي مَسْجِد الْخيف فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَدفن بالمعلى وَهَذَا من أتم السعادات
وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان قدس الله روحه فشق عَلَيْهِ
قَالَ ثمَّ اتّفق لي الْعود من الْحَج على الشَّام لقصد الْقُدس وزيارته وَالْجمع بَين زِيَارَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة أَبِيه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فوصلت إِلَى دمشق ثمَّ خرجت إِلَى الْقُدس فَبَلغهُ خبر وصولي فَظن أَنِّي وصلت من جَانب الْموصل فِي حَدِيث فاستحضرني عِنْده وَبَالغ فِي الْإِكْرَام والاحترام وَلما ودعته ذَاهِبًا إِلَى الْقُدس خرج إِلَيّ بعض خواصه وأبلغني تقدمه إِلَيّ بِأَن أَعُود أمثل فِي خدمته عِنْد الْعود من الْقُدس فَظَنَنْت أَنه يوصيني بمهم إِلَى(4/7)
الْموصل وانصرفت إِلَى الْقُدس الشريف يَوْم رحيله عَن كَوْكَب ورحل رَحمَه الله لِأَنَّهُ علم أَن هَذَا الْحصن لَا يُؤْخَذ إِلَّا بِجمع العساكر عَلَيْهِ وَكَانَ حصنا قَوِيا وَفِيه رجال شَدَّاد من بقايا السَّيْف وميرة عَظِيمَة فَرَحل إِلَى دمشق وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا فِي سادس ربيع الأول وَفِي ذَلِك الْيَوْم أتفق دخولي إِلَى دمشق عَائِدًا من الْقُدس فَأَقَامَ رَحمَه الله فِي دمشق خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ لَهُ غَائِبا عَنْهَا سِتَّة عشر شهرا
قَالَ وَفِي الْيَوْم الْخَامِس بلغه خبر الفرنج أَنهم قصدُوا جبيل واغتالوها فَخرج منزعجا سَاعَة بُلُوغ الْخَبَر وَكَانَ قد سير إِلَى العساكر يستدعيها من سَائِر الجوانب وَسَار يطْلب جبيل فَلَمَّا عرف الفرنج بِخُرُوجِهِ كفوا عَن ذَلِك وَكَانَ بلغه وُصُول عماد الدّين وعسكر الْموصل ومظفر الدّين إِلَى حلب قَاصِدين الْخدمَة للغزاة فَسَار نَحْو حصن الأكراد فِي طلب السَّاحِل الفوقاني
وَلما كَانَ مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ثمَّ سير إِلَى الْملك الظَّاهِر وَلَده وَالْملك المظفر بِأَن يجتمعا وينزلا بتيزين قبالة أنطاكية لحفظ ذَلِك الْجَانِب ففعلا وسارت عَسَاكِر الشرق حَتَّى اجْتمعت بِخِدْمَة السُّلْطَان فِي هَذِه الْمنزلَة(4/8)
ووصلت اليه رَحمَه الله فِي هَذِه الْمنزلَة فَإِنَّهُ كَانَ قد سير إِلَيّ إِلَى دمشق يَقُول تلحقنا نَحْو حمص فَخرجت على عزم الْمسير إِلَى الْموصل متجهزا لذَلِك فوصلت إِلَيْهِ إمتثالا لأَمره فَلَمَّا حضرت عِنْده فَرح بِي وأكرمني
وَكنت قد جمعت لَهُ كتابا فِي الْجِهَاد بِدِمَشْق مُدَّة مقَامي فِيهَا يجمع آدابه وَأَحْكَامه فقدمته بَين يَدَيْهِ فأعجبه وَكَانَ يلازم مطالعته وَمَا زلت أطلب دستورا فِي كل وَقت وَهُوَ يدافعني عَن ذَلِك ويستدعيني للحضور فِي خدمته فِي كل وَقت ويبلغني على أَلْسِنَة الْحَاضِرين ثَنَاؤُهُ عَليّ وَذكره إيَّايَ بالجميل فَأَقَامَ فِي مَنْزِلَته تِلْكَ شهر ربيع الآخر أجمع وَصعد فِي أَثْنَائِهِ إِلَى حصن الأكراد وحاصره يَوْمًا يجسه بِهِ فَمَا رأى الْوَقْت يحْتَمل حصاره وَاجْتمعت العساكر من الجوانب
وأغار على بلد طرابلس فِي هَذَا الشَّهْر دفعتين وَدخل الْبِلَاد مغيرا ومختبرا لمن بهَا من العساكر وتقوية للعساكر بالغنائم ثمَّ نَادَى فِي النَّاس فِي أَوَاخِر الشَّهْر إِنَّا داخلون إِلَى السَّاحِل وَهُوَ قَلِيل الأزواد وَهُوَ مُحِيط بِنَا فِي بِلَاده من سَائِر الجوانب فاحملوا زَاد شهر
ثمَّ سير إِلَيّ مَعَ الْفَقِيه عِيسَى وكشف لي أَنه لَيْسَ فِي عزمه أَن يمكنني من الْعود إِلَى بلادي وَكَانَ الله تَعَالَى قد أوقع فِي قلبِي(4/9)
محبته مُنْذُ رَأَيْته وَحب الْجِهَاد فأجبته إِلَى ذَلِك وخدمته من تَارِيخ مستهل جُمَادَى الأولى وَهُوَ يَوْم دُخُوله السَّاحِل الْأَعْلَى وَجَمِيع مَا حكيته من قبل إِنَّمَا هُوَ روايتي عَمَّن أَثِق بِهِ مِمَّن شاهدوه وَمن هَذَا التَّارِيخ مَا أسطر إِلَّا مَا شاهدته أَو أَخْبرنِي بِهِ من أَثِق بِهِ خَبرا يُقَارب العيان وَالله الْمُوفق
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ جمَاعَة من أهل الحزم وأولي الْعَزْم قد أشاروا على السُّلْطَان لما فتح عكا بتخريبها وتعفية آثارها وَأَن يبْقى المرابطون المحامون مَكَانهَا فَلَا نَأْمَن عود الفرنج إِلَيْهَا وتملكها وَأَن تبنى قلعة القيمون فكاد يُجيب فَقيل لَهُ هَذِه مَدِينَة كَبِيرَة وَعمارَة كَثِيرَة فأشير عَلَيْهِ بتبقيتها وَأَن تعمر وتحصن فولى أَمر عمارتها وتدبيرها الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ الَّذِي أدَار السُّور على مصر والقاهرة فاستدعاه من مصر وَأمره أَن يَسْتَنِيب فِي تِلْكَ الْعِمَارَة فَقدم عَلَيْهِ وَهُوَ بكوكب ففوض إِلَيْهِ عمَارَة عكا فشرع فِي تَجْدِيد سورها وتعلية أبراجها وَكَانَ قدم من مصر وَمَعَهُ أُسَارَى الْعَمَل وأنفاره وآلاته ودوابه وأبقاره
قَالَ وَلما رتب السُّلْطَان الْأُمُور على كَوْكَب رَحل مستهل ربيع الأول وَدخل دمشق فِي سادسه وَكَانَ الْعَسْكَر الْغَائِب على(4/10)
مواعدة المعاودة فِي الرّبيع وَأَنه يجْتَمع على حمص بِالْجَمِيعِ وَكَانَت طَرِيق السُّلْطَان على بحيرة طبرية من شرقيها وتجنب عقبَة فيق لاستصعاب رقيها وَلما قَارب السُّلْطَان دمشق تَلقاهُ النَّاس أحسن لِقَاء فقد كَانُوا متعطشين إِلَى رُؤْيَته ومتشوقين إِلَى طلعته لِأَنَّهُ غَابَ عَنْهُم سنة وشهرين وَخَمْسَة أَيَّام فَكسر فِيهَا الْكفْر ونصرالإسلام وَفتح فِيهَا الأَرْض المقدسة وأشباهها من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بأوضار الْكفْر نَجِسَة فَأَصْبَحت بالايمان مؤسسة
فَلَمَّا اسْتَقر قراره أَمر بإنشاء الْكتب لاستدعاء الأجناد من الْجِهَات للْجِهَاد من سَائِر الْبِلَاد وابتدأ بِالْجُلُوسِ فِي دَار الْعدْل وبحضرته الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء من أهل الْفضل
قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى دمشق بدر الدّين مودودا الْمَعْرُوف بالشحنة وَهُوَ أَخُو عز الدّين فرخشاه لأمه وفوض إِلَيْهِ فِي هَذِه الْأَيَّام ولَايَة الدِّيوَان وَكَانَ مَعَ الصفي بن الْقَابِض مبقيت مَعَه الخزانة وَحدهَا وَكَانَ الصفي قد بنى للسُّلْطَان دَارا مطلة على الشرفين بالقلعة وَأنْفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وَبَالغ فِي تحبيرها وتحسينها وَظن أَنَّهَا تقع من السُّلْطَان بمَكَان فَمَا أعارها طرفا(4/11)
وَلَا استحسنها وَكَانَت من جملَة ذنُوبه عِنْد السُّلْطَان الَّتِي أوجبت عَزله عَن الدِّيوَان وَقَالَ مَا يصنع بِالدَّار من يتَوَقَّع الْمَوْت وَمَا خلقنَا إِلَّا لِلْعِبَادَةِ وَالسَّعْي للسعادة وَمَا جِئْنَا دمشق لنقيم وَمَا نروم أَن لَا نريم
قَالَ ثمَّ هم بالغزاة فَبَدَأَ بزيارة القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ مُقيما بجوسق ابْن الْفراش بالشرف الْأَعْلَى فِي بستانه فاستضاء بِرَأْيهِ فِيمَا يُرِيد فعله وَكَانَ لَا يَأْتِي أمرا إِلَّا من بَابه فَأَقَامَ عِنْده إِلَى الظّهْر ثمَّ ودعه ورحل
قلت وَمَا أحسن مَا قَالَ ابْن الذروي فِي الآراء الْفَاضِلِيَّةِ من قصيدة مدحه بهَا
(لرأيك هَذَا النَّصْر للدّين ينتمي ... فَلَا يَنْتَحِلهُ كل عضب ولهذم)
(وَإِن كَانَ فِيهِ للأسنة والظبى ... مساعدة فالفضل للمتقدم)
(تُشِير على الْإِسْلَام مِنْك فراسة ... لَهَا حزم طب واحتراز منجم)
(وتحميه أَلْفَاظ لديك كَأَنَّهَا ... قواطع بتر أَو نوافذ أسْهم)
(أَلا حبذا فتح نشرت لِوَاءُهُ ... وَقلت لخيل ألله يَا خيل أقدمي)
(وَقمت وَقد نَام الْأَنَام مناجيا ... لمولاي نج الْمُسلمين وَسلم)(4/12)
فصل فِي دُخُول السُّلْطَان رَحمَه الله السَّاحِل الآخر وَفتح مَا يسر الله تَعَالَى من بِلَاده
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان فسلك فِي جبل يبوس إِلَى عين الْجَرّ إِلَى الدلهمية على الْبِقَاع وأتى بعلبك وخيم بمرج عدوسة ثمَّ رَحل على سمت اللبوة ثمَّ أَتَى الزِّرَاعَة وَوصل الْخَبَر بوصول عماد الدّين صَاحب سنجار فِي جموعه وَجُنُوده ونزوله على قدس من عمل حمص على نهر العَاصِي وَلما ترَاءى موكبه لموكب السُّلْطَان تقَابل القمران ثمَّ تقارن النيرَان وَاجْتمعَ السعدان وَسعد الْجَمْعَانِ فخيم السُّلْطَان عِنْد مخيمه وَسَأَلَ أَن يزوره السُّلْطَان بموكبه فَأجَاب دَعوته ثمَّ رتب السُّلْطَان يَوْمًا لحضوره عِنْده وتهاديا وتصافيا
وَكَانَ أَيَّام المشمش وَقد وصل من دمشق فَأَفْرَح قدومه وطلعت فِي أبراج الأطباق نجومه كَأَنَّهَا كرات من التبر مصوغة أَو بالورس مصبوغة صفر كَأَنَّهَا ثَمَر الرَّايَات الناصرية حلا منْظرًا وذوقا وَلَو نظم جوهره لَكَانَ طوقا كَأَنَّمَا خرط من الصندل وخلط بالمندل وجمد من الثَّلج وَالْعَسَل(4/13)
وتصاحب هُوَ وَالسُّلْطَان فِي الرّكُوب وَالْجُلُوس والتناجي بِمَا فِي النُّفُوس وتكررت الْمُشَاورَة فِي الْموضع الَّذِي يبتدأ بِقَصْدِهِ وَاتَّفَقُوا على عرقا وعقرها وَالنُّزُول بعقرها وَأَنَّهَا اذا ملكت ملكت طرابلس فأقاموا بقدس إِلَى آخر الشَّهْر حَتَّى اجْتمعت الجموع ووصلت قبائل العربان ثمَّ سَار السُّلْطَان أول ربيع الآخر وخيم بِقرب حصن الأكراد على البقيعة ثمَّ شن الاغارة على نواحي الْحصن وصافيثا والعريمة وَتلك الْحُصُون فاستخرج مَا فِيهَا من المخزون وَفتح حصن يحمور وسامه الدمور وَلم تزل الاغارات والغنائم وهم فِي تِلْكَ الْمنزلَة إِلَى آخر الشَّهْر فوصل قَاضِي جبلة مَنْصُور بن نبيل وَجَمَاعَة مَعَه فَأَشَارَ على السُّلْطَان بقصدها وتكفل بِفَتْحِهَا وَفتح اللاذقية وَتلك الْحُصُون والمعاقل الشمالية
وَكَانَت تِلْكَ الْبِلَاد قد سلمهَا إِلَيْهِ ابرنس أنطاكية وعول عَلَيْهِ فِيهَا وَقَالَ إِن الِاشْتِغَال بطرابلس مَعَ احتراسها يذهب الزَّمَان ويفوت الامكان والمسلمون بجبلة مجبولون على التَّسْلِيم مؤملون أَن يتبدل شقاؤهم مِنْك بالنعيم فأصغى السُّلْطَان إِلَى قَوْله وأصفى لَهُ ورد طوله وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ مقدمو جبل بهرا فوفر لَهُم رواتبهم وأجرى فندبوا إِلَى أتباعهم وَكَتَبُوا إِلَى أشياعهم(4/14)
فصل فِي فتح أنطرطوس
قَالَ الْعِمَاد وَأجْمع السُّلْطَان على دُخُول السَّاحِل بِتِلْكَ العساكر والجحافل فَرَحل يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الأولى فسرنا فِي آجام مؤتشبة وآكام معشبة وحزون وسهول وشعاب وتلول حَتَّى خرجنَا إِلَى ساحة السَّاحِل ونزلنا بهَا وسرنا السَّاحِل السَّاحِل فِي ثَلَاث مراحل حَتَّى وصلنا أنطرطوس سادس الشَّهْر فأحدقنا بهَا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر فأخلى الفرنج الْبَلَد وَمَا أحوجوا إِلَى الْحصْر واجتمعوا فِي برجين عظيمين هما لأنطرطوس كالقلعتين ونقلوا إِلَيْهِمَا من الْأَمْوَال مَا قدرُوا عَلَيْهِ فحصر مظفر الدّين كوكبري أحد البرجين حَتَّى أنزلهم بالأمان ثمَّ نقبه من أساسه وألقاه على أم راسه وَعجل دماره وَألقى فِي الْبَحْر أحجاره وَملك جَمِيع مَا فِيهِ وَامْتنع البرج الآخر وَفِيه الداوية وشوكتهم ومقدمهم الَّذِي أسر يَوْم حطين وَأطلق لما سلم مَا اشْترط عَلَيْهِ من الْبِلَاد ثمَّ اجْتمع بِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا البرج وَقواهُ بالآت الْحصْر فَامْتنعَ فَتحه فاشتغل الْمُسلمُونَ بتعفية الْبَلَد واخلائه
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد دخل السُّلْطَان السَّاحِل على تعبية لِقَاء(4/15)
الْعَدو ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أَولا ومقدمها عماد الدّين زنكي وَالْقلب فِي الْوسط والميسرة فِي الْأَخير ومقدمها مظفر الدّين بن زين الدّين وَسَار الثّقل فِي وسط العسكرحتى أَتَى الْمنزل فبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة فِي بلد الْعَدو ثمَّ رَحل فِي صَبِيحَة السبت وَنزل على العريمة فَلم يقاتلها وَلم يعرض لَهَا وَلَكِن أَقَامَ عَلَيْهَا بَقِيَّة يَوْمه ورحل يَوْم الْأَحَد
وَوصل أنطرطوس فَوقف قبالتها ينظر إِلَيْهَا وَكَانَ فِي عزمه الاجتياز إِلَى جبلة فاستهان بأمرها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جَانب الْبَحْر وَأمر الميسرة بالنزول على الْبَحْر من الْجَانِب الآخر فَمَا استتم نصب الخيم حَتَّى صعد النَّاس السُّور وغنم الْعَسْكَر جَمِيع من بهَا وَمَا بهَا وَخرج النَّاس والأسرى بِأَيْدِيهِم وَأَمْوَالهمْ وَترك الغلمان نصب الخيم وَاشْتَغلُوا بِالْكَسْبِ والنهب ووفى بقوله رَحمَه الله فَإِنَّهُ كَانَ قد عرض عَلَيْهِ الْغَدَاء فَقَالَ نتغدى بأنطرطوس إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَعَاد إِلَى خيمته فَرحا مَسْرُورا وحضرنا عِنْده للهناء بِمَا جرى وَمد الطَّعَام وَحضر النَّاس وأكلوا على عَادَتهم ورتب على البرجين الباقيين الْحصار فَسلم أَحدهمَا إِلَى مظفر الدّين فَمَا زَالَ يحاصره حَتَّى أخربه وَأخذ من كَانَ فِيهِ وَأمر السُّلْطَان باخراب سور الْبَلَد وقسمه على الْأُمَرَاء وَكَانَ البرج الآخر حصينا منيعا مَبْنِيا(4/16)
بِالْحجرِ النحيت وَقد اجْتمع من كَانَ فِيهَا من الخيالة والمقاتلة فِيهِ وخندقه فِيهِ المَاء وَفِيه جروخ كَثِيرَة تجرح النَّاس عَن بعد فَرَأى السُّلْطَان تَأْخِير أمره والاشتغال بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ فَاشْتَدَّ فِي خراب السُّور حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ وَخرب الْبيعَة وَهِي بيعَة عَظِيمَة عِنْدهم محجوج إِلَيْهَا من أقطار بِلَادهمْ وَأمر بِوَضْع النَّار فِي الْبَلَد فَأحرق جَمِيعه والأصوات مُرْتَفعَة بالتهليل وَالتَّكْبِير وَأقَام عَلَيْهَا يخربها إِلَى رَابِع عشر الشَّهْر وَسَار يُرِيد جبلة وَعرض لَهُ وَلَده الظَّاهِر فِي أثْنَاء طَرِيق جبلة وَمَعَهُ العساكر الَّتِي كَانَت بتيزين
فصل فِي فتح جبلة وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ وُصُول السُّلْطَان إِلَى جبلة يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر الشَّهْر وَمَا استتم نزُول الْعَسْكَر حَتَّى أَخذ الْبَلَد وَكَانَ فِيهِ مُسلمُونَ مقيمون فِيهِ وقاض يحكم بَينهم وَكَانَ قد عمل على الْبَلَد فَلم يمْتَنع وَبقيت القلعة ممتنعة وَنزل الْعَسْكَر محدقا بِالْبَلَدِ وَقد دخله الْمُسلمُونَ واشتغل بِقِتَال القلعة فقوتلت قتلا يُقيم عذرا لمن كَانَ فِيهَا وسلمت بالأمان يَوْم السبت تَاسِع عشر الشَّهْر وَأقَام عَلَيْهَا إِلَى الثَّالِث وَالْعِشْرين وَسَار عَنْهَا يطْلب اللاذقية
وَقَالَ الْعِمَاد بعد فتح أنطرطوس وصل إِلَيْنَا رجال حماة(4/17)
فَرَحل السُّلْطَان يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر الشَّهْر وَنزل على مرقية وَقد أخلاها سكانها فخيم فِيهَا أهل الْإِسْلَام وطاب لَهُم فِيهَا الْمقَام وَكَانَت الطَّرِيق إِلَى جبلة على السَّاحِل ضيقَة المسالك صعبة المراحل وَهُنَاكَ للفرنج الاسبتارحصن يُقَال لَهُ المرقب مأهول معمور وَلَا طَرِيق إِلَّا تَحت تله
وَاتفقَ أَن طاغية صقلية لما شجاه مَا تمّ على الفرنج فِي السَّاحِل جهز أسطولا يشْتَمل من الشواني على سِتِّينَ قِطْعَة تحسب كل وَاحِدَة مِنْهَا قلعة أَو تلعة وَقدم عَلَيْهَا طاغية يُقَال لَهُ المرغريط فوصل وَمَا ضرّ وَلَا نفع فَإِن فرنج السَّاحِل مَا رفعوا بِهِ رَأْسا وتضجروا مِنْهُ وَكَانَ فِي عشرَة آلَاف رجل يَحْتَاجُونَ إِلَى ميرة وكلف كَبِيرَة فَصَارَ إِلَى صور ثمَّ رَجَعَ إِلَى طرابلس وَتردد فِي الْبَحْر وتلدد وأبلس واضطرب أشهرا لَا يظْهر لَهُ رَأْي وَلَا يرى لَهُ مظْهرا فَلَمَّا سمع بعبور عَسَاكِر الْمُسلمين على السَّاحِل إِلَى جبلة جَاءَ بالشواني وصفهَا على موازاة الطَّرِيق ومباراة الْمضيق وفيهَا الرُّمَاة فَأمر السُّلْطَان بِنَقْل الجفاتي إِلَى هُنَاكَ وتصفيفها وتكثير ستائرها وأجلس الرُّمَاة من وَرَائِهَا فَمَا زَالَ الْأَمر على ذَلِك وَالرُّمَاة ترمي وتصمي وَعَامة الْمُسلمين فِي سلوك ذَلِك الْمضيق حَتَّى خفت الأثقال وعبرت الْأَحْمَال(4/18)
وخلص الْمُسلمُونَ من ذَلِك الشق بِغَيْر مشقة وجازوا على مَدِينَة يُقَال لَهَا بلنياس وَقد انجلى عَنْهَا النَّاس فخيم الْمُسلمُونَ فِيهَا ثمَّ اصبحوا على الرحيل فاعترضهم نهر عريض عميق مَا فِيهِ طَرِيق وَهُوَ مطرد من الْجَبَل إِلَى الْبَحْر وَفِيه قنطرة وَاحِدَة فتنكبها السُّلْطَان بالجحفل وَمضى يَمِينا إِلَى الْجَبَل وَأبْعد حَتَّى عبر فَوق رَأس الْعين واحتاطت العساكر بالنهر من الْجَانِبَيْنِ وتزاحمت الأثقال على القنطرة فَمَا خلصوا تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى آخرهَا وَنزل السُّلْطَان قبل وُصُول الأثقال على بَلْدَة وَهِي بَلْدَة كاسمها بَلْدَة وَهِي بليدَة من غربي النَّهر وعَلى شاطىء الْبَحْر وجانباها الْآخرَانِ خَنْدَق يلتقي فِيهِ البحران وَقد أخلاها أَيْضا أَهلهَا وتفرق شملها
وَأصْبح السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر جُمَادَى الأولى على جبلة فتسلمها الْمُسلمُونَ فِي الْوَقْت وَذَلِكَ أَن قاضيها كَانَ قد سبق ودخلها وَقرن بالنجح للْمُسلمين أملهَا فَلَمَّا وصلوا أَعلَى الْأَعْلَام الناصرية على سورها وخلص الْمُسلمُونَ بهَا من مساكنة الْكَفَرَة وتحصن الفرنج بحصنيها واحتموا بقلعتيها فَمَا زَالَ قَاضِي جبلة يخوفهم ويرغبهم حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ بِشَرْط أَن يسترهنهم إِلَى أَن يردوا من أنطاكية رهائن جبلة من الْمُسلمين فضبط عِنْده جمَاعَة من رُؤُوس الفرنج والمقدمين حَتَّى أعَاد(4/19)
صَاحب أنطاكية الرهائن الَّتِي عِنْده ففك بهَا رهائنه وَتَوَلَّى قَاضِي جبلة الْأَمر فاستخرج ذخائر الْكفْر ودفائنه واستنظفهم من كل سلَاح وعدة وخيل وَقُوَّة
وَجَاء مقدمو الْجَبَل سَامِعين مُطِيعِينَ وَفِي الْجَبَل على سمت طَرِيق حماة حصن يعرف ببكسرائيل وَكَانَ أهل الْجَبَل استعادوه من الفرنج مُنْذُ سِنِين فتسلمه السُّلْطَان أَيْضا مِنْهُم ثمَّ سلم جبلة إِلَى سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وبجل قَاضِي جبلة وشرفه وَحبس عَلَيْهِ ملكا نفيسا وَوَقفه وَصَرفه فِي أَمْلَاك آبَائِهِ وَحكمه فِي ولَايَة حكمه وقضائه
فصل فِي فتح اللاذقية
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهِي بلد مليح خَفِيف على الْقلب غير مسور وَله ميناء مَشْهُور وَله قلعتان متصلتان على تل يشرف على الْبَلَد فَنزل السُّلْطَان رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى محدقا بِالْبَلَدِ وَأخذ العسكرمنازلهم مستديرين على القلعتين من جَمِيع نَوَاحِيهَا إِلَّا من نَاحيَة الْبَلَد وَاشْتَدَّ الْقِتَال وَعظم الزَّحْف وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَقَوي(4/20)
الضجيج إِلَى آخر النَّهَار وَأخذ الْبَلَد دون القلعتين وغنم النَّاس مِنْهُ غنيمَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ كَانَ بلد التُّجَّار
وَفرق بَين النَّاس اللَّيْل وهجومه وَأصْبح يَوْم الْجُمُعَة مُقَاتِلًا مُجْتَهدا فِي أَخذ النقوب من شمَالي القلاع وَتمكن مِنْهَا النقب حَتَّى بلغ طوله على مَا حكى لي من ذرعه عشْرين ذِرَاعا وَعرضه أَربع أَذْرع فَاشْتَدَّ الزَّحْف عَلَيْهِ حَتَّى صعد النَّاس الْجَبَل وقاربوا السُّور وتواصل الْقِتَال حَتَّى صَارُوا يتحاذفون بحجارة الْيَد فَلَمَّا رأى عَدو الله مَا حل بِهِ من الصغار والبوار اسْتَغَاثُوا بِطَلَب الْأمان وطلبوا قَاضِي جبلة يدْخل إِلَيْهِم ليقرر لَهُم قَاعِدَة الْأمان فأجيبوا إِلَى ذَلِك
وَكَانَ رَحمَه الله مَتى طلب مِنْهُ الْأمان لَا يبخل بِهِ فَعَاد النَّاس عَنْهُم إِلَى خيامهم وَقد أَخذ مِنْهُم التَّعَب فَبَاتُوا إِلَى صَبِيحَة السبت وَدخل قَاضِي جبلة إِلَيْهِم وَاسْتقر الْحَال مَعَهم على أَنهم يطلقون بِأَنْفسِهِم وذراريهم وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ خلا الغلال والذخائر وآلات السِّلَاح وَالدَّوَاب وَأطلق لَهُم دَوَاب يركبونها إِلَى مأمنهم ورقي عَلَيْهَا الْعلم الإسلامي الْمَنْصُور فِي بَقِيَّة يَوْم السبت وأقمنا عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى
وَقَالَ الْعِمَاد رَحل السُّلْطَان إِلَى اللاذقية يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى فَبَاتَ بِالْقربِ مِنْهَا وصبحها يَوْم(4/21)
الْخَمِيس وَقد لَاذَ أَهلهَا بقلاعها وَهِي ثَلَاث قلاع متلاصقات على طول التل متناسقات كأنهن على رَأس راس راسخ وذروة أَشمّ شامخ فسهل الله لنا فرعها وشرعنا نستأصل أَصْلهَا وفرعها فطلبوا السنجق الناصري ونصبوه على السُّور عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة فَلَمَّا أَصْبحُوا صعد إِلَيْهِم قَاضِي جبلة وأنزلهم بالأمان وتسلمت تِلْكَ القلاع بِمَا فِيهَا من عدَّة وذخيرة وأسلحة وميرة وخيل ودواب كَثِيرَة وأمنوا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وَانْصَرفُوا بنسائهم ورجالهم وذريتهم وأطفالهم وخفوا من أثقالهم وَدخل جمَاعَة مِنْهُم فِي عقد الذِّمَّة وتمسكوا بِحَبل الْعِصْمَة وانتقل الْبَاقُونَ إِلَى أنطاكية ثمَّ ولى السُّلْطَان بهَا مَمْلُوكه سنقر الخلاطي وَركب السُّلْطَان إِلَى الْبَلَد وطافه وهز إِلَى إحسانه اعطافه وأمنه بَعْدَمَا أخافه
قَالَ ورأيتها بَلْدَة وَاسِعَة الأفنية جَامِعَة الْأَبْنِيَة متناسقة المغاني متناسبة الْمعَانِي فِي كل دَار بُسْتَان وَفِي كل قطر بُنيان أمكنتها مخرمَة وأزقتها مرخمة وعقودها محكمَة ومساكنها مهندسة مهندمة وسقوفها عالية وقطوفها دانية وأسواقها فضية وآفاقها مضية وأرجاؤها فسيحة وأهواؤها صَحِيحَة لَكِن الْعَسْكَر شعث عمارتها وأذهب نضارتها وَوَقع من عدَّة من الْأُمَرَاء الزحام على الرخام ونقلوا مِنْهُ أحمالا إِلَى مَنَازِلهمْ بِالشَّام فشوهوا وُجُوه الْأَمَاكِن ومحوا سنا المحاسن(4/22)
قَالَ وبظاهر اللاذقية كَنِيسَة عَظِيمَة نفيسة قديمَة بأجزاء الأجزاع مرصعة وبألوان الرخام مجزعة وأجناس تصاويرها متنوعة وأصول تماثيلها متفرعة وَهِي متوازية الزوايا متوازنة البنايا قد تخيرت بهَا أشباح الْأَشْبَاه وصورت فِيهَا أمواج الأمواه وزينت لاخوان الشَّيْطَان وعينت لعبدة الْأَوْثَان والصلبان وَلما دَخلهَا النَّاس أخرجُوا رخامها وشوهوا أعلامها وحسروا لثامها وكسروا أجرامها وأهدوا الأسى لهد أساسها وأفاضوا عَلَيْهَا لِبَاس إبلاسها وحكموا بعد الْغنى بافلاسها وافتقرت وأقفرت وَخَربَتْ وتربت ثمَّ لما طابت النُّفُوس وتجلى عَن الْبَلَد بفتحه البوس عَاد إِلَى هَذِه الْكَنِيسَة بالأمان القسوس وَهِي متشوهة متشعثة مستمسكة بأركانها وقواعدها متشبثة
قَالَ وَلَقَد كثر أسفي على تِلْكَ العمارات كَيفَ زَالَت وعَلى تِلْكَ الْحَالَات الحاليات كَيفَ حَالَتْ ولكنما زَاد سروري بِأَنَّهَا عَادَتْ لِلْإِسْلَامِ مرابع ولشموسه مطالع فَلَو بقيت بحليتها وحالتها بَعْدَمَا تبدلت رشدها من ضلالتها لشاقت وراقت وكما أفاقت فاقت وَرغب فِي إِعْطَاء الْجِزْيَة سكان الْبَلَد من النَّصَارَى والأرمن حبا للوطن وَلما أَرَادَ السُّلْطَان الرحيل دخل الْمَدِينَة ورد إِلَى سكانها السكينَة وَدَار خلال ديارها وخرق أسواقها فِي سَائِر أقطارها ووقف على الْبَحْر للنَّظَر إِلَى موانيها وشوانيها وأقاصيها وأدانيها وشكر الله على تَمْكِينه من ملكهَا وتخصيصه بملكها(4/23)
وَفِي كتاب عمادي إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن عَن السُّلْطَان قَالَ وَهَذِه اللاذقية مَدِينَة وَاسِعَة وخطة جَامِعَة معاقلها لَا ترام وأعلاقها لَا تستام وَهِي أحسن بِلَاد السَّاحِل وأحصنها وأزيدها أعمالا وضياعا وأزينها وَمَا فِي الْبَحْر مثل ميناها وَلَا للمراكب الْوَارِدَة إِلَيْهِ مثل مرْسَاها وَهِي جنَّة كَانَ يسكنهَا أهل الْجَحِيم وطالما مكثت بالْكفْر دَار بؤس فَعَادَت بِالْإِسْلَامِ دَار نعيم
قَالَ وَكَانَت شواني صقلية قد قابلت فِي الْبَحْر اللاذقية طَمَعا فِي امتناعها فَلَمَّا خابت خبت نارها وقصدت لجهلها أَخذ مراكب من يخرج من أَهلهَا حنقا عَلَيْهِم كَيفَ سلمُوا الْبَلدة وسمحوا ببذلها فَكَانَ ذَلِك مقتضيا لبَقَاء ساكنيها بالجزية تؤديها
وَلما وقف السُّلْطَان على شاطىء الْبَحْر بعساكره طلب مقدم تِلْكَ الشواني أَمَانه ليصعد ويشاهد سُلْطَانه فَأَمنهُ فَصَعدَ وعفر وَكفر وتروى سَاعَة وتفكر وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ أَنْت سُلْطَان عَظِيم وَملك رَحِيم وَقد شاع عدلك وذاع فضلك وقهر سلطانك وَظهر إحسانك فَلَو مننت على هَذِه الطَّائِفَة الساحلية الخائفة لملكت قيادها إِذا أعدت إِلَيْهَا بلادها وصاروا لَك عبيدا وأطاعوك قَرِيبا وبعيدا وَإِلَّا جَاءَك من وَرَاء الْبحار فِي عدد الأمواج أَفْوَاج بعد أَفْوَاج وَسَار إِلَيْك مُلُوك ذَوي الأقانيم من سَائِر الممالك والأقاليم وَهَؤُلَاء أَهْون مِنْهُم فاتركهم(4/24)
وَاصْفَحْ عَنْهُم فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان قد أمرنَا الله بتمهيد الأَرْض وَنحن قائمون فِي طَاعَته بِالْفَرْضِ وعلينا الِاجْتِهَاد فِي الْجِهَاد وَهُوَ الَّذِي يقدرنا على فتح الْبِلَاد وَلَو اجْتمع أهل الأَرْض ذَات الطول وَالْعرض لتوكلنا على الله فِي اللِّقَاء وَلم نبال بأعداد الْأَعْدَاء فصلب على وَجهه وَركب بكربه وَلم يغن خطابه عَن خطبه
فصل فِي فتح صهيون وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد رَحل السُّلْطَان عَن اللاذقية ظهيرة الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى طَالب صهيون فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين فَاسْتَدَارَ الْعَسْكَر بهَا من جَمِيع نَوَاحِيهَا بكرَة الْأَرْبَعَاء وَنصب عَلَيْهَا سِتَّة مناجيق وَهِي قلعة حَصِينَة منيعة فِي طرف جبل خنادقها أَوديَة هائلة وَاسِعَة عميقة وَلَيْسَ لَهَا خَنْدَق محفور إِلَّا من جَانب وَاحِد مِقْدَار طوله سِتُّونَ ذِرَاعا وَلَا يبلغ وَهُوَ نقر فِي حجر وَلها ثَلَاثَة أسوار سوران دون ربضها وسور دون الْقلَّة وسور الْقلَّة وَكَانَ على قلتهَا علم طَوِيل مَنْصُوب فحين أقبل الْعَسْكَر الإسلامي شاهدته وَقد وَقع فَاسْتَبْشَرَ بذلك الْمُسلمُونَ وَعَلمُوا أَنه النَّصْر وَالْفَتْح وَاشْتَدَّ الْقِتَال عَلَيْهَا من(4/25)
سَائِر الجوانب فضربها منجنيق وَلَده الْملك الظَّاهِر وَكَانَ نَصبه قبالة قرينَة من سورها قَاطع الْوَادي وَكَانَ صائب الْحجر فَلم يزل يضْربهَا حَتَّى هدم من السُّور قِطْعَة جَيِّدَة عَظِيمَة تمكن الصاعد فِي السُّور من الترقي إِلَيْهِ مِنْهَا
وَلما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة عزم السُّلْطَان على الزَّحْف وَركب وَتقدم وتواترت المنجنيقات بِالضَّرْبِ وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَعظم الضجيج بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى رقي الْمُسلمُونَ على أسوار الربض وَاشْتَدَّ الزَّحْف وَعظم الْأَمر وهجم الْمُسلمُونَ الربض
وَلَقَد كنت أشاهد النَّاس وهم يَأْخُذُونَ الْقدر وَقد اسْتَوَى فِيهَا الطَّعَام فيأكلونها وهم يُقَاتلُون القلعة وانضم من كَانَ فِي الربض إِلَى القلعة بِمَا أمكنهم أَن يحملوه من أَمْوَالهم وَنهب الْبَاقِي واستدار الْمُقَاتلَة حول أسوار القلعة فَلَمَّا عاينوا الْهَلَاك اسْتَغَاثُوا بِطَلَب الْأمان فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على أَن يسلمُوا بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ وَيُؤْخَذ من الرجل مِنْهُم عشرَة دَنَانِير وَعَن الْمَرْأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن الصَّغِير دِينَارَانِ فَسلمت القلعة وَأقَام السُّلْطَان حَتَّى تسلم عدَّة قلاع كالعيذو وبلاطنس وَغَيرهمَا من القلاع والحصون فتسلمها النواب فانها كَانَت تتَعَلَّق بصهيون
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ الطَّرِيق إِلَى صهيون فِي أَوديَة وشعاب(4/26)
ومنافذ صعاب وأوعاث وأوعار وأنجاد وأغوار فقطعنا تِلْكَ الطَّرِيق فِي يَوْمَيْنِ ووصلنا لَيْلَة الثُّلَاثَاء بليلة الأثنين وخيمنا على صهيون يَوْم الثُّلَاثَاء وَهِي قلعة على ذرْوَة جبل بَين واديين عميقيين يَلْتَقِيَانِ عَلَيْهَا ويدوران حواليها والجانب الْجبلي مَقْطُوع مِنْهُ بخندق عَظِيم عميق وسور وثيق مَا إِلَيْهِ سوى للْقَضَاء وَالْقدر من طَرِيق والقلعة ذَات أسوار خَمْسَة كَأَنَّهَا خمس هضاب ممتلئة بذئاب سغاب وَأسد غضاب وأحاط الْعَسْكَر بهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء من نَوَاحِيهَا الْأَرْبَع وَهِي ممتنعة علينا بالركن الأمنع والسمو الأمتع
وَنقل السُّلْطَان خيمته إِلَى جَانب الْجَبَل وَأقَام الْملك الظَّاهِر غَازِي صَاحب حلب منجنيقين ونهج بهما من جَانب الْوَادي إِلَى ردى الأعادي طَرِيقين وَكَانَ لَهُ فِي فتح هَذِه القلعة الْجد العالي وَالْجد الْوَالِي فانه اتَّصل بِنَا قبل الْوُصُول إِلَى جبلة من طَرِيق حماة وَقد استصحب الكماة الحماة وَمَعَهُ الرِّجَال الحلبية والمنجنيقية والجرخية والجاندارية والخراسانية واستصحب الحدادين والحجارين والنجارين فأظهر على صهيون الْيَد الْبَيْضَاء وأنار فِي فضاء الْفَضَائِل وأضاء وَكَانَ نازلا على جَانب الْوَادي مُقَابل الْحصن وَشرع الْجِدَار فِي الأنقضاض واصبحنا يَوْم الْخَمِيس وللجلاميد وُقُوع وللسور سُجُود وركوع وَمَا زَالَت المجانيق من جَانِبه وجانبنا ترمي والحنايا بسهام المنايا تصمي(4/27)
حَتَّى قتل وجرح أَكثر مقاتلة الْحصن وَهَان بِمَا دب فِيهِ من الوهن
وأصبحنا يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة وبحر الْحَرْب فِي أمواجه الزاخرة وتطرق اصحابنا من قرنة خفيت عَلَيْهِم من الخَنْدَق لم تحكم عمارتها كَأَن الله أعماهم عَنْهَا حَتَّى يسْلك الحتف إِلَيْهِم مِنْهَا فتعلقوا فِي الصخور وتسلقوا السُّور وملكوا عَلَيْهِم ثَلَاثَة أسوار واحتووا على كل مَا فِيهَا من ذخائر وغلال ودواب وأبقار وازدحم الفرنج فِي الْقلَّة وتفادوا من الْخَوْف لَا من الْقلَّة وصاحوا الْأمان وبذلوا الاذعان وَنَادَوْا مكنونا من السَّلامَة وتسلموا الْمَكَان
فَمَا أمنُوا على المَال وَالنَّفس حَتَّى قَررنَا عَلَيْهِم مثل قطيعة الْقُدس وأغلقت دونهم الْأَبْوَاب وسيرت إِلَيْهِم النواب وَمَا اسْتَقر خُرُوجهمْ حَتَّى استخرج الْقَرار وجبي الدِّرْهَم وَالدِّينَار وَعم الصغار الْكِبَار وَالصغَار وَتَوَلَّى ذَلِك شُجَاع الدّين طغرل الجاندار ثمَّ سلم حصن صهيون بِجَمِيعِ أَعماله وَسَائِر مَا حواه من ذخائره وأمواله إِلَى الْأَمِير نَاصِر الدّين منكورس بن خمارتكين صَاحب بوقبيس فأحكمه وحصنه وَحفظه وَحسنه وتسلم يَوْم السبت قلعة العيذو وَيَوْم الْأَحَد قلعة الجماهريين وَيَوْم الِاثْنَيْنِ حصن بلاطنس وَندب إِلَى كل حُصَيْن من تسلمه وسلكه فِي سلك الْفتُوح ونظمه
قَالَ وبفتح صهيون حصل الْأَمْن على اللاذقية وَقَوي الأمل(4/28)
فِي فتح أنطاكية فَإِنَّهُ قفل مُحكم على بَابهَا وَسبب قوي من أَسبَابهَا فَفتح الرتاج ووضح الْمِنْهَاج
فصل فِي فتح بكاس والشغر وسرمانية
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا بكاس وَهِي قلعة حَصِينَة على جَانب العَاصِي وَلها نهر يخرج من تحتهَا وَكَانَ النُّزُول بذلك الْمنزل على شاطىء العَاصِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس جُمَادَى الْآخِرَه وَصعد السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى القلعة وَهِي على جبل مطل على العَاصِي فأحدق بهَا من كل جَانب وقاتلها قتالا شَدِيدا بالمنجنيقات والزحف المضايق إِلَى يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَه وَيسر الله فتحهَا عنْوَة وَأسر من فِيهَا بعد قتل من قتل مِنْهُم وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَكَانَ لَهَا قليعة تسمى الشغر قريبَة مِنْهَا يعبر إِلَيْهَا مِنْهَا بجسر وَهِي فِي غَايَة المنعة لَيْسَ إِلَيْهَا طَرِيق فسلطت عَلَيْهَا المنجنيقات من الجوانب وَرَأَوا أَنهم لَا نَاصِر لَهُم فطلبوا الْأمان وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره وسألوا أَن يؤخروا ثَلَاثَة أَيَّام لاستئذان من بأنطاكية يسر الله فتحهَا فَأذن فِي ذَلِك وَكَانَ تَمام فتحهَا وصعود الْعلم السلطاني على قلتهَا يَوْم الْجُمُعَة سادس عشره(4/29)
ثمَّ عَاد السُّلْطَان إِلَى الثّقل وسير وَلَده الظَّاهِر إِلَى قلعة تسمى السرمانية يَوْم السبت سَابِع عشره فقاتلها قتالا شَدِيدا وضايقها مضايقة عَظِيمَة وتسلمها أَيْضا يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشري الشَّهْر الْمَذْكُور
قَالَ فاتفق فتوحات السَّاحِل من جبلة إِلَى سرمانية فِي أَيَّام الْجمع وَهِي عَلامَة قبُول دُعَاء خطباء الْمُسلمين وسعادة السُّلْطَان حَيْثُ يسر الله لَهُ الْفتُوح فِي الْيَوْم الَّذِي يُضَاعف فِيهِ ثَوَاب الْحَسَنَات
قَالَ وَهَذَا من نَوَادِر الفتوحات فِي الْجمع المتوالية لم يتَّفق مثلهَا فِي تَارِيخ
وَقَالَ الْعِمَاد سَار السُّلْطَان ثَانِي يَوْم فتح صهيون على سمت القرشيه وَنزل على العَاصِي فِي طَاعَة الله على تل كشفهان فتسلم حصن بكاس يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع الشَّهْر وحول خيمة خَفِيفَة إِلَى الْجَبَل لحصار قلعة الشغر وَهِي قلَّة شامخة من أَعلَى القلل مطلة على وَاد عميق وَكَانَ الْكفَّار قد أخلوا بكاس من الرعب واحتموا بقلعة الشغر وَهِي عالية حَصِينَة منيعة لَا تصل المجانيق إِلَيْهَا فاستصعب السُّلْطَان أَخذهَا وَخَافَ من طول أمرهَا فَبَيْنَمَا هُوَ مفكر فِي ذَلِك والفرنج قد داخلهم الرعب فأرسلوا فِي طلب الْأمان واستمهلوا ثَلَاثَة أَيَّام فَكبر الْمُسلمُونَ وفرحوا وَأَصْبحُوا يَوْم الْجُمُعَة والشغر شاغر وَالْكفْر صاغر فتسلمها الْمُسلمُونَ وتصرفوا فِيهَا وَفِيمَا تحويه من ذخائر وَعدد ودواب وأنعام وأنعم(4/30)
السُّلْطَان بهَا وبقلعة بكاس وَتلك الْأَعْمَال على غرس الدّين قليج وَكَانَ هَذَا قليج قد تسلم كفردبين وَهُوَ معقل حُصَيْن يسكنهُ الأرمن فِي ذَلِك الصقع وبذل فِي استخلاصه غَايَة الوسع فولاه السُّلْطَان تِلْكَ الْحُصُون وحاط بايالته أمرهَا المصون وَعَاد إِلَى مخيمه يَوْم السبت وَهُوَ حسن السمت كريم النَّعْت
قَالَ وَكَانَ الْملك الظَّاهِر عِنْد اشتغالنا بِفَتْح قلعة الشغر قد نزل على سرمانية مضايقا لَهَا بالحصر فتسلمها يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشري الشَّهْر وَذَلِكَ بعد قطيعة قررها وَقَبضهَا وَلما أخرجهم مِنْهَا دَخلهَا فَأبْطل عمارتها وعطلها وَهدم بنيانها وهد أَرْكَانهَا وَمَا برح حَتَّى سواهَا بِالْأَرْضِ وخلط طولهَا بِالْعرضِ
قَالَ وَهَذِه سِتّ مدن وقلاع فتحت فِي سِتّ جمع تبَاع جبلة واللاذقية وصهيون وبكاس والشغر وسرمانية وَأطلق بهَا الْأَنْفس والنفائس العانية فقد كَانَ فِي هَذِه المعاقل من أُسَارَى الْمُسلمين عدَّة لَوْلَا فتحهَا لما زَالَت عَنْهُم تِلْكَ الشدَّة وَهَذَا أقليم جبلة واللاذقية هُوَ عين أنطاكية الَّتِي فقئت ونحرها الَّذِي عَنهُ حلئت وَلم يبْق لأنطاكية من الْحُصُون سوى ثَلَاثَة الْقصير وبغراس ودربساك وَقد أَصبَحت مَعْدُومَة الْأَطْرَاف قد قطعت أيديها وأرجلها من خلاف(4/31)
فصل فِي فتح حصن برزيه
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى قلعة برزيه وَهِي قلعة حَصِينَة فِي غَايَة القوه والمنعة على متن جبل شَاهِق يضْرب بهَا الْمثل فِي جَمِيع بِلَاد الفرنج وَالْمُسْلِمين يُحِيط بهَا أَوديَة من سَائِر جوانبها وذرع علو قلتهَا فَكَانَ خمس مئة ذِرَاع ونيفا وَسبعين ذِرَاعا ثمَّ حرر عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثّقل فَنزل تَحت جبلها
وَفِي بكرَة الْأَحَد الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة صعد السُّلْطَان جَرِيدَة مَعَ الْمُقَاتلَة والمنجنيقات والآت الْحصار إِلَى الْجَبَل فأحدق بالقلعة من سَائِر نَوَاحِيهَا وَركب الْقِتَال عَلَيْهَا من كل جَانب وَضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضَّرْب لَيْلًا وَنَهَارًا وقاتلها حَتَّى كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين فقسم الْعَسْكَر ثَلَاثَة أَقسَام ورتب كل قسم يُقَاتل شطرا من النَّهَار ثمَّ يستريح ويتسلم الْقِتَال الشّطْر الآخر بِحَيْثُ لَا يفتر الْقِتَال عَنْهَا أصلا
وَكَانَ صَاحب النّوبَة الأولى عماد الدّين صَاحب سنجار فقاتلها قتالا شَدِيدا حَتَّى استوفى نوبَته وضرس النَّاس من الْقِتَال وتراجعوا عَنهُ(4/32)
وتسلم النّوبَة الثَّانِيَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَركب وتحرك خطوَات عدَّة وَصَاح فِي النَّاس فحملوا عَلَيْهَا حَملَة الرجل الْوَاحِد وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وقصدوا السُّور من كل جَانب فَلم يكن إِلَّا بعض سَاعَة حَتَّى رقي النَّاس على الأسوار وهجموا القلعة وَأخذت عنْوَة واستغاثوا الْأمان وَقد ملئت الْأَيْدِي مِنْهُم {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} وَنهب جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَأسر جَمِيع من كَانَ بهَا وَكَانَ قد أَوَى إِلَيْهَا خلق عَظِيم وَكَانَت من قلاعهم الْمَذْكُورَة وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما
وَعَاد النَّاس إِلَى خيامهم غَانِمِينَ وَعَاد السُّلْطَان إِلَى الثّقل وأحضر بَين يَدَيْهِ صَاحب القلعة وَكَانَ رجلا كَبِيرا مِنْهُم فَكَانَ هُوَ وَمن أَخذ من أهليه سَبْعَة عشر نفسا فَمن عَلَيْهِم السُّلْطَان ورق لَهُم وأنفذهم إِلَى صَاحب أنطاكية استمالة لَهُ فَإِنَّهُم كَانُوا يتعلقون بِهِ وَمن أَهله
وَقَالَ الْعِمَاد وصف للسُّلْطَان قلعة برزيه وَأَنَّهَا لحصن أفامية متاخمة وَله مُنَاصَفَة مقاسمة وَأَن الْمُسلمين فِي جوارها فِي جور وَفِي حور بعد كور ووصفوا علوها فَركب السُّلْطَان إِلَيْهَا وأشرف عَلَيْهَا فألفاها كَمَا وصفوها وبالغوا فِيهَا وَمَا(4/33)
أنصفوها فنصب عَلَيْهَا المجانيق فَوَقَعت أحجارها دونهَا وَلم تحرّك سكونها وَكَيف تهدد الخنساء بصخر والعنقاء بصقر وَحجر الْجَبَل بِحجر ومدار الْفلك بمدر
فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك قوي رَأْيه على أَن يفرق الْعَسْكَر ثَلَاث فرق ويتناوبون على قِتَالهمْ زحفا ليتعبوهم ويضجروهم فَإِنَّهُ عدد مَحْصُور عَمَّا قَلِيل تفنى عدتهمْ وتقل عدتهمْ فَفعل ذَلِك وَكَانَت النّوبَة الأولى لصَاحب سنجار وَالثَّانيَِة للسُّلْطَان وخواصه ثمَّ امتزجت الثالثه بِالثَّانِيَةِ وعادت رجال النّوبَة الأولى وتناصرت أنصار الله على النزال لاستنزال النَّصْر وأحمدوا عَاقِبَة الصَّبْر فِي الْحصْر فَطلب الْعَدو الْأمان وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان وَكَانَ أَصْحَابنَا خالطوهم وباسطوهم وَأَحَاطُوا بهم
وَهُنَاكَ جمَاعَة من دهاة الْعَسْكَر أشاعوا للنَّاس أَن السُّلْطَان يؤمنهم فَرجع الْعَالم عَنْهُم وَلم ينالوا مِنْهُم فَلَمَّا رد السُّلْطَان رسولهم وَلم يؤمنهم سَاق أُولَئِكَ السبايا قدامهم كَمَا يسوقون أغنامهم وخانوا اخوانهم وراموا حرمانهم وَتَفَرَّقُوا بِالسَّبْيِ أَيدي سبأ وسافروا بهَا من الْعَسْكَر إِلَى الْبِلَاد وباعوها فِي سوق الكساد وتسلم السُّلْطَان حصن برزيه ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة وولاه الْأَمِير عز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم وَهُوَ صَاحب حصن أفامية مناظر برزيه وَهُوَ على الثغر(4/34)
وَمَا بَين الحصنين بحيرة تحجز الْجَانِبَيْنِ وصيادوها الْمُسلمُونَ بأفامية فخلص للاسلام الثغر وَسكن الدَّهْر
قَالَ وَكَانَت صَاحِبَة حصن برزيه أُخْت زَوْجَة الابرنس صَاحب أنطاكية وَقد سبيت وخبيت فَمَا زَالَ يطْلبهَا حَتَّى اظهروها وأحضروها وَزوجهَا وَابْنَة لَهَا وَجَمَاعَة من أَصْحَابهَا وصهرها وَكَانَت أمْرَأَة ابرنس أنطاكية تعرف بدام سَبِيل فِي مولاة السُّلْطَان عينا لَهُ على الْعَدو تهاديه وتناصحه وتطلعه على أسرارهم وَالسُّلْطَان يكرمها لذَلِك وَيهْدِي لَهَا أنفس الْهَدَايَا فَلَمَّا فتح حصن برزيه وَحصل فِي أسره هَذِه الْجَمَاعَة وافترقت بهم أَيدي الْمُسلمين تتبعهم السُّلْطَان وخلصهم من الْأسر وأنعم عَلَيْهِم وجهزهم وسيرهم إِلَى أنطاكية لأجل امْرَأَة الابرنس فشكرته على ذَلِك ودامت مودتها ونفعها للْمُسلمين
وَفِي بعض كتب البشائر الْعمادِيَّة آخر مَا فتحناه حصن برزيه الَّذِي تضرب بحصانته الْأَمْثَال وَلَا ترقى إِلَى ذرْوَة تمنيه الآمال وَقد أخذناه بِالسَّيْفِ عنْوَة وفتحناه ضحوة فيا لَهَا ضحوة ليَوْم الثُّلَاثَاء أظلمت على أهل التَّثْلِيث وألهى ألله الْمُؤمنِينَ عَن ذكر الْفتُوح الْقَدِيمَة بِحَدِيث هَذَا الْفَتْح الحَدِيث وَلَو وكلنَا ألله إِلَى اجتهادنا فِي الْفَتْح لتعذر وَلكنه سُبْحَانَهُ سهل وَيسر
وَمن كتاب فاضلي إِلَى السُّلْطَان وصلت كتب الْبشَارَة بِفَتْح(4/35)
حصن برزيه وَهُوَ الَّذِي تضرب بِهِ الْأَمْثَال وتضرب عَنهُ الآمال ويكاد يحرن إِذا قادت أَيدي السلَاسِل أزمة الْجبَال ويكاد يذم ساكنيه من خطرات الأوجال بل من خطوَات الْآجَال وَكَانَ للكفر درعا حَصِينَة طالما كَانَت تهزأ بالنصال فعظمت الْمِنَّة السُّلْطَانِيَّة عِنْد أهل الْإِسْلَام ودعوا بِأَن يفلج الله حجَّة سَيْفه الألد الْخِصَام
وَقد كَانَ النَّاس يعدون مواهبه مِمَّا لَا تحصى فقد لحقت بهَا فتوحاته فَهِيَ ايضا لَا تحصر فمرحبا بفتوح يَقُول غائبها الْحَمد لله وحاضرها الله أكبر وَمَا بَقِي الْمَمْلُوك يستبطىء خبر أنطاكية فقد أَلْقَت الأَرْض أفلاذها وَقد ولدت لكرمه ذهبها ولنصره فولاذها وَلم نر فِي نعم الله مثلهَا نعْمَة كَرِيمَة وجيهة وَلَا نَعْرِف بعْدهَا للزمن سَيِّئَة وَلَا كريهة إِلَّا أَنا نرْجِع فِي معرفَة قدرهَا وإخلاص شكرها إِلَى مَا رضيه الله شكرا مِمَّن نجاه من أهوال يَوْم الْقِيَامَة وَأدْخلهُ دارالمقامة بِأَنَّهُم قَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَكَانَ آخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين فَرضِي بِالْحَمْد مِنْهُم وَرَضي عَنْهُم وَأثْنى(4/36)
عَلَيْهِم بِأَنَّهُم اختتموا بِهِ وافتتحوا وقدسوا بِهِ وسبحوا وثقلت بِهِ مَوَازِين أَعْمَالهم فرجحت ورجحوا
وَنحن نقُول الْحَمد لله على بهجة الدُّنْيَا بمولانا ونضرتها وعَلى عزة الْملَّة بِهِ ونضرتها وعَلى بهجة الْقُلُوب بِهِ ومسرتها وعَلى غنى الْأَيْدِي بِهِ وميرتها وعَلى روعة قُلُوب الْأَعْدَاء بِهِ وحسرتها {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها}
وفتوح مَوْلَانَا من تِلْكَ النعم وَإِن قَصرنَا فِي شكرها فَمَا نقصر فِي ذكرهَا وَإِن عجزنا عَن حصرها فَمَا نعجز عَن الْمعرفَة بِفضل قدرهَا وَتلك النعم بِحَمْد الله منتظمة الْعُقُود مطردَة السُّعُود متوافية الرُّسُل عامرة السبل خارقة العوائد قارنة المساعي بالمساعد كَادَت الْعُيُون قبل وُقُوعهَا تلحظها وكادت المنابر لما يدرس عَلَيْهَا من كتبهَا تحفظها فَمَا يشْرَح صدر من خَبَرهَا فيسمعه ذُو صدر إِلَّا انْشَرَحَ وَمَا يسْأَل النَّاس هَل فتح الْملك النَّاصِر وَإِنَّمَا يُقَال مَا أسم الْبَلَد الَّذِي فتح فَمن عِنْد مَوْلَانَا الْجنان وَمن عندنَا اللِّسَان وَعَلِيهِ الْجهد وعلينا الْحَمد فَهِيَ فتوح كثمرات الْجنَّة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة وأعمالها المبرورة إِلَى الله تَعَالَى مَرْفُوعَة
وَمن قصيدة لِلشِّهَابِ فتيَان الشاغوري وَقد تقدم بَعْضهَا(4/37)
(لما ملكت حصون أنطاكية ... يئس الصَّلِيب وَحزبه من مظهر)
(أرديت كل مثلث متكبر ... بموحد متواضع فمكبر)
(برزت إِلَى برزيه عزمتك الَّتِي ... مدت يدا عَن مطلب لم يقصر)
(فتناولته بأيدها من باذخ ... فِي الْأُفق ذِي مثل يروع مسير)
(فأنهد لصور فَهِيَ أحسن صُورَة ... فِي هيكل الدُّنْيَا بَدَت لمصور)
(مَا سور صور عَاصِم مِنْهُ وَهل ... سور المعاصم عَاصِم لمسور)
فصل فِي فتح حصن دربساك
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار السُّلْطَان حَتَّى أَتَى جسر الْحَدِيد وَأقَام عَلَيْهِ أَيَّامًا وَسَار حَتَّى نزل على دربساك يَوْم الْجُمُعَة ثامن شهر رَجَب وَهِي قلعة منيعة قَرِيبه من أنطاكية يسر الله فتحهَا فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها قتالا شَدِيدا بالمنجنيقات وضايقها مضايقة عَظِيمَة وَأخذ النقب تَحت برج مِنْهَا وَتمكن النقب مِنْهُ حَتَّى وَقع وحموه بِالرِّجَالِ والمقاتلة ووقف فِي الثغرة رجال يحمونها عَمَّن يصعد فِيهَا
قَالَ وَلَقَد شاهدتهم وَكلما قتل رجل مِنْهُم قَامَ غَيره مقَامه وهم قيام عوض الْجِدَار مكشوفين وَاشْتَدَّ الْأَمر حَتَّى طلبُوا الْأمان واشترطوا مُرَاجعَة أنطاكية وَكَانَت الْقَاعِدَة أَن ينزلُوا بِأَنْفسِهِم وَثيَاب أبدانهم لَا غير ورقي عَلَيْهَا الْعلم الإسلامي يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا ثَانِي عشري رَجَب وَأَعْطَاهَا علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر وَسَار عَنْهَا(4/38)
من الْغَد بكرَة السبت
وَقَالَ الْعِمَاد ثمَّ عبر نهر العَاصِي إِلَى شرقيه عِنْد شقيف دركوش وَهُوَ ثغر على الْفُرَات لِلْإِسْلَامِ منيع فجزناه وخيمنا على جسر الْحَدِيد أَيَّامًا حَتَّى اسْتكْمل الْعَسْكَر راحاته وتكامل وَنحن بِقرب أنطاكية وَقد صوبنا إِلَيْهَا عزائمنا الناكية ثمَّ قُلْنَا قدامها حصون وحماها بحمايتها مصون فَإِذا ذهبت معاقلها جاءتها غوائلها فنزلنا على دربساك وَهُوَ حصن للداوية وَقد اعتصموا بعصمته وامتنعوا بمنعته فنصبنا عَلَيْهِ المنجنيقات فَمَا زَالُوا يجالدون ويجتلدون إِلَى أَن ضَاقَ بهم الخناق وتسلق النقابون إِلَى الباشورة وهدوا بالنقب برجا ووسعوا للزحف نهجا فطلبوا الْأمان وفدوا أنفسهم بألوف فَأمنُوا على أَنهم يخرجُون بهوانهم وَثيَاب أبدانهم وَيدعونَ كل مَا فِي الْحصن من خيل وعدة وذخيرة وغلة وأثاث وقماش وَذهب وَفِضة وأمهلوا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ اخْرُجُوا من دِيَارهمْ وتسلم السُّلْطَان الْحصن يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب
وَفِي بعض الْكتب الْعمادِيَّة الْمُكَاتبَة مبشرة بِالْفَتْح الأهنى والنصر الْأَسْنَى وَهُوَ فتح دربساك الَّذِي لم يكن لأنطاكية إِلَّا بِهِ الامتساك وَقد حص الْآن جناحها وفل سلاحها وَحقّ قرحها وَبَطل اقتراحها وَخرجت بِإِخْرَاج حصونها من ولايتها(4/39)
أرواحها وَقد بقيت غَرضا للعسكر وعرضا بِلَا جَوْهَر وشبحا بِغَيْر روح وصدرا غير مشروح وَالْكفْر مفجوع بِالنَّفسِ والبلد والأهل وَالْولد وَنحن لَا رَاحَة لنا إِلَّا فِي هَذَا التَّعَب وَلَا أرب لنا فِي غير هَذَا الأرب وَلَا اجْتِهَاد لنا إِلَّا فِي الْجِهَاد وَلَا مغزى لنا غير الْغُزَاة وَمَا نرجو من الله إِلَّا إنجاز العدات فِي جَمِيع العداة
فأصبحنا يَوْم الثُّلَاثَاء وَقد سَاءَ صباح المثلثين وَبَان صباح الْمُوَحِّدين وأبينا أمانهم إِلَّا أَن يفدوا نُفُوسهم وينزعوا من الْحَرْب لبوسهم ويخلعوا بأسهم ويلبسوا بوسهم وينجوا بِثِيَاب أبدانهم وَقد أَدّوا خَمْسَة الآف دِينَار من أثمانهم
فصل فِي فتح بغراس
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهِي أَيْضا قلعة منيعة أقرب إِلَى أنطاكية من دربساك وَكَانَت كَثِيرَة الْعدة وَالرِّجَال فَنزل الْعَسْكَر فِي مرج لَهَا وأحدق الْعَسْكَر بهَا جَرِيدَة مَعَ أَنا احتجنا فِي تِلْكَ الْمنزلَة إِلَى يزك يحفظ من جَانب أنطاكية لِئَلَّا يخرج مِنْهَا من يهجم على الْعَسْكَر فَضرب يزك الْإِسْلَام على بَاب أنطاكية بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ من يخرج مِنْهَا
قَالَ وَأَنا مِمَّن كَانَ فِي اليزك فِي بعض الْأَيَّام لرؤية الْبَلَد وزيارة حبيب النجار المدفون فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يزل(4/40)
يُقَاتل بغراس مقاتلة شَدِيدَة حَتَّى طلبُوا الْأمان على اسْتِئْذَان أنطاكية ورقي الْعلم السلطاني عَلَيْهَا فِي ثَانِي شعْبَان
وَقَالَ الْعِمَاد وَلما فتحت دربساك لم يبْق لنا همه إِلَّا بغراس وَقد شَارف رَجَاء أَكثر النَّاس فِي فَتحه الْيَأْس وَهُوَ حصن حُصَيْن وَمَكَان مكين هُوَ للداوية وجار ضباعها وَغَابَ سباعها وَهُوَ بِقرب أنطاكية حصاره وحصارها سَوَاء وَمَا لداء داويته دَوَاء
فَنزل الْعَسْكَر بَين أنطاكية وَبَينه يتقاضون مِنْهُمَا للدّين دينه ويشنون الغارات ويسنون النكايات وَلَا يبرحون بِإِزَاءِ أنطاكية صفا يرْمونَ لَهَا ولأهلها فتحا وحتفا يتناوبون على سَبِيل اليزك وَيدعونَ العدى إِلَى المعترك وَلَيْسَ بَينهمَا إِلَّا النَّهر
فَصَعدَ السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى الْجَبَل وَأمر بِنصب المجانيق حولهَا على تِلْكَ القلل وَنقل إِلَيْهَا أحواض المَاء ورواياه وَبث فِي النواحي سراياه وَفرق على الْجَمِيع عطاياه وأقمنا عَلَيْهِ أسبوعا نجري إِلَيْهِ من كل منجنيق من فيض الْحِجَارَة ينبوعا وَنحن نفكر فِيمَا يكون وَمَتى تتمّ الْحَرَكَة وفيم السّكُون وَهَذَا بيكار يطول(4/41)
وتعب لَا يَزُول إِذْ رَأينَا بَاب الْحصن وَقد فتح وَخرج من الْحصن من أَخذ الْأمان لأَهله وَسلم الْحصن بِمَا فِيهِ من الْأَمْوَال وَقدر مَا فِيهِ من الْغلَّة تخمينا بِاثْنَيْ عشر ألف غرارة وَسلمهَا السُّلْطَان مَعَ دربساك إِلَى صَاحب عزاز علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر وكتبت عَلَيْهِ جَمِيع مَا فِي القلعتين من الْمَوْجُود من الْمكيل وَالْمَوْزُون والمعدود
وَكَانَت الْغلَّة بأنطاكية غَالِيَة السّعر فَقلت كَأَنِّي بِمن تولى القلعة وَقد بَاعَ الْغلَّة وشفى من فقره بهَا الْغلَّة ثمَّ أَشَارَ بتخريبها وهدمها وَلم يلْتَزم بحكمها وَقَالَ إبقاؤها غرر وحفظها على الْمُسلمين ضَرَر وخطر فجَاء الْأَمر على مَا حسبته بعد سِنِين وَعَاد إخلاؤها بمضرة الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أظهر ذَلِك الْوَقْت أَنه أخلاها وَأَنه للتخريب خَلاهَا فجَاء إِلَيْهَا مقدم الأرمن ابْن لاون فَدَخلَهَا وَأتم غارته وكملها وَذَلِكَ فِي سنة وَسبع أَو ثَمَان وَثَمَانِينَ
وَهَذَانِ الحصنان دربساك وبغراس كَانَا لأنطاكية جناحين ولطاغية الْكفْر سلاحين فتم للسُّلْطَان فتح هَذِه الْحُصُون الْمَذْكُورَة مَعَ أبراج ومغارات وشقفان كَثِيرَة حَتَّى خلص ذَلِك الاقليم وَتمّ الْفَتْح الْعَظِيم وعادت الْكَنَائِس مَسَاجِد وَالْبيع معابد والصوامع جَوَامِع والمذابح لعبدة الصلبان مصَارِع(4/42)
فصل فِي عقد الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية وعود السُّلْطَان
قَالَ الْعِمَاد كَانَ السُّلْطَان قد عزم على قصد أنطاكية فَرَأى همم الأجناد لَا سِيمَا الغرباء قد ضعفت ونياتهم فِي الْجِهَاد قد فترت وتشوقوا إِلَى بِلَادهمْ والراحة من جهادهم وَكَانَ صَاحب أنطاكية قد أشرف على الْهَلَاك وَعلم أَنه إِن قصد غلب فنفذ أَخا زَوجته رَسُولا إِلَى السُّلْطَان متذللا يطْلب الْهُدْنَة على أَنه يُطلق من عِنْده من أُسَارَى الْمُسلمين وهم جمع كثير فعقدها مَعَهم مُدَّة يسيرَة ثَمَانِيَة أشهر من تشرين الأول إِلَى انْقِضَاء أيار فَيكون انْقِضَاء الهدنه قبل إِدْرَاك الْغلَّة وَأَوَان حصادها فيستريح فِيهَا الأجناد ويعودون بعْدهَا إِلَى فرض الْجِهَاد فتم كتاب الهدنه وَتوجه شمس الدولة ابْن منقذ لتخليص الأسرى وإنقاذهم مِنْهُ
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم يَعْنِي يَوْم فتح بغراس وَهُوَ ثَانِي شعْبَان عَاد السُّلْطَان إِلَى المخيم الْأَكْبَر وراسله أهل أنطاكية فِي طلب الصُّلْح فَصَالحهُمْ لشدَّة ضجر الْعَسْكَر وَقُوَّة(4/43)
قلق عماد الدّين صَاحب سنجار فِي طلب الدستور وَعقد الصُّلْح بَيْننَا وَبَين أهل أنطاكية لَا غير على أَن يطلقوا جَمِيع أُسَارَى الْمُسلمين الَّذين عِنْدهم وَكَانَ إِلَى سَبْعَة أشهر فَإِن جَاءَهُم من ينصرهم وَإِلَّا سلمُوا الْبَلَد إِلَى السُّلْطَان
ثمَّ رَحل عَنهُ يطْلب دمشق وَسَأَلَهُ وَلَده الظَّاهِر صَاحب حلب أَن يجتاز بِهِ فَأَجَابَهُ فَدَخلَهَا فِي حادي عشر شعْبَان وَأقَام بقلعتها ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار إِلَى دمشق فاعترضه ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وأصعده إِلَى قلعة حماة وَبَات بهَا لَيْلَة وَاحِدَة فَأعْطَاهُ جبلة واللاذقية وَسَار إِلَى بعلبك وَأقَام ببرجها يَوْمًا وَدخل حمامها ثمَّ أَتَى دمشق فَأَقَامَ بهَا حَتَّى دخل شهر رَمَضَان وَمَا كَانَ يرى تبطيل وقته عَن الْجِهَاد مهما أمكنه وَكَانَ قد بَقِي لَهُ من القلاع القريبه من حوران الَّتِي يخَاف عَلَيْهَا من جَانبهَا صفد وكوكب فَرَأى أَن يشغل الزَّمَان بِفَتْح المكانين فِي الصَّوْم
وَقَالَ الْعِمَاد وودع السُّلْطَان عماد الدّين صَاحب سنجار والعساكر الغريبة وأتحفهم بالتحف العجيبة وارتاح إِلَى العبور على أرتاح وَوصل إِلَى حلب وَقد خرج كل من بهَا للتلقي مستبشرين بالاقبال المتضاعف المترقي وشاهدنا من النظارة عيُونا للمحاسن ناظرة ووجوها ناضرة وَقُلُوبًا حَاضِرَة وألسنا شاكرة وأيديا فِي بسطها إِلَى الله للإبتهال بِالدُّعَاءِ متظاهرة فَأَقَامَ بقلعتها أَيَّامًا يسيرَة وألفى وَلَده الظَّاهِر قد سَار فِيهَا أحسن سيرة(4/44)
ثمَّ سَار مِنْهَا على طَرِيق المعرة وَقصد زِيَارَة الشَّيْخ الزَّاهِد أبي زَكَرِيَّا المغربي عِنْد مشْهد عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله فتبرك بزيارة الْمَيِّت والحي ثمَّ وصل إِلَى حماة فَنزل بقلعتها وَمَعَهُ أَمِير المدينه النَّبَوِيَّة على ساكنها السَّلَام وَهُوَ عز الدّين أَبُو فليتة الْقَاسِم بن المهنا وَكَانَ للسُّلْطَان فِي جَمِيع الْغَزَوَات مصاحبا وعَلى معاضدته مواظبا وَمَا حضر مَعنا على بلد أَو حصن إِلَّا فتحناه وَكَانَ السُّلْطَان يستوحش لغيبته ويأنس بشيبته وَكَانَ بِجنب السُّلْطَان جَالِسا ولنظره عَلَيْهِ حابسا
وَكَانَت قلعة حماة ذَات تل منبطح فَلَمَّا تولاها تَقِيّ الدّين رفع تلها وعمق خندقها وحصنها فطلع السُّلْطَان تِلْكَ الليله إِلَى القلعة وسر بِمَا رأى من الحصانة والرفعة ووقف الْملك المظفر لِعَمِّهِ وَجرى فِي الْخدمَة على رسمه وَأصْبح السُّلْطَان راحلا وَلم يقم بحمص وَجَاء إِلَى بعلبك على طَرِيق الزِّرَاعَة واللبوة وَوصل إِلَى دمشق قبل رَمَضَان وأشير على السُّلْطَان بِأَن يرِيح عسكره فقد أَحْمد فِي عَامه مورده ومصدره وأربح فِي سَبِيل الله متجره فَقَالَ إِن الْقدر غير مَأْمُون والعمر غير مَضْمُون وللفرص أَوْقَات وللدهر آفَات وَقد بقيت مَعَ الْكفْر هَذِه الْحُصُون وان لم نبادرها اخْتَلَّ أمرنَا المصون لَا سِيمَا صفد وكوكب فانهما للداوية(4/45)
والاسبتارية فِي وسط الْبِلَاد والثغور الإسلامية بهما واهية السداد فنخرج ونشتوا عِنْدهمَا ونقصد قصدهما فَإِذا فتحناهما خلصت هَذِه الْبِلَاد وصفت الأوراد
قَالَ فَمَا لبث السُّلْطَان وَلَا مكث وَلَا نقض عهد عزمه على الْغُزَاة وَلَا نكث وَقَالَ لَا نبطل الْغَزْوَة وَلَا نعطل هَذِه الشتوة
فصل فِي فتح الكرك وحصونه
قَالَ الْعِمَاد ووردت الْبُشْرَى بنجح الدَّرك فِي تَسْلِيم حصن الكرك وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي مُدَّة غيبتنا فِي بِلَاد أنطاكية لم تعدم من محاصرتها المضايقة الناكية وَكَانَ الْملك الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان مُقيما بتبنين فِي العساكر محترزا على الْبِلَاد من غائلة الْعَدو الْكَافِر أَقَامَهُ السُّلْطَان هُنَالك عِنْد توجهه إِلَى الْبِلَاد الشمالية لقصد جبلة واللاذقية فَأَقَامَ بتبنين مقويا لِلْأُمَرَاءِ المرتبين على الْحُصُون حَافِظًا على الدهماء بحركته فِي الْأُمُور عَادَة السّكُون وَكَانَ صهره سعد الدّين كمشبة بالكرك موكلا وبأهله منكلا قد غلق رَهنه وَبَقِي داؤه معضلا وَأمره مُشكلا حَتَّى فنيت أَزْوَادهم ونفدت موادهم ويئسوا من نجدة تأتيهم وأمحلت عَلَيْهِم مصايفهم ومشاتيهم فتوسلوا بِالْملكِ الْعَادِل وأبدوا لَهُ ضراعة السَّائِل فَمَا(4/46)
زَالَت الرسالات تَتَرَدَّد والاقتراحات تتجدد وَالْقَوْم يلينون والعادل يتشدد حَتَّى دخلُوا فِي الحكم وَخَرجُوا على السّلم وسلموا الْحصن وتحصنوا بالسلامة وخلصوا بِإِقَامَة عذرهمْ عِنْد قَومهمْ من الملامه وتسلم سعد الدّين بعْدهَا الْحُصُون الَّتِي بقربها كالشوبك وهرمز والوعر وسلع
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي أثْنَاء شهر رَمَضَان سلمت الكرك من جَانب نواب صَاحبهَا وخلصوه بهَا من الْأسر وَكَانَ أسر فِي وقْعَة حطين الْمُبَارَكَة
وَكتب الْعِمَاد فِي بعض البشائر سلم حصن الكرك وَهُوَ الْحصن الَّذِي كَانَ طاغيته يحدث نَفسه بِقصد الْحجاز وَقد نصب أشراك اشراكه(4/47)
مِنْهُ على طرق الاجتياز فأذقناه عَام أول كأس الْحمام وملكنا حصنه الَّذِي كَانَ يعتصم بِهِ فِي هَذَا الْعَام واضطر الْكفْر فِي اسلامه إِلَى الْإِسْلَام وَتمّ بِحل هَذَا الْبَيْت أَمن الْبَيْت الْحَرَام
وَكتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان شَفَاعَة أدام الله سُلْطَان مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر وثبته وَتقبل عمله بِقبُول حسن وأنبته وَأَخذه عدوه قَائِلا أَو بَيته وأرغم أَنفه بِسَيْفِهِ وكبته
خدمَة الْمَمْلُوك هَذِه وَارِدَة على يَد فلَان خطيب عيذاب وَلما نبا بِهِ الْمنزل مِنْهَا وَقل عَلَيْهِ الْمرْفق فِيهَا وَسمع بِهَذِهِ الفتوحات الَّتِي طبق الأَرْض ذكرهَا وَوَجَب على أَهلهَا شكرها وَحصل لمن جرت على يَده أجرهَا هَاجر من هجير عيذاب وملحها ساريا فِي لَيْلَة أمل كلهَا صباح فَلَا يسْأَل عَن صبحها وَقد رغب فِي خطابة الكرك وَهُوَ خطيب وتوسل بالمملوك فِي هَذَا الملتمس وَهُوَ قريب وَنزع من مصر إِلَى الشَّام وَمن عيذاب إِلَى الكرك وَهُوَ عَجِيب والفقر سائق عنيف وَالْمَذْكُور عائل ضَعِيف ولطف الله تَعَالَى بالخلق بِوُجُود مَوْلَانَا لطيف ورأيه أَعلَى ان شَاءَ الله تَعَالَى
فصل فِي فتح صفد
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار فِي أَوَائِل رَمَضَان من دمشق(4/48)
يُرِيد صفد وَلم يلْتَفت إِلَى مُفَارقَة الْأَهْل وَالْأَوْلَاد والوطن فِي هَذَا الشَّهْر الَّذِي يُسَافر الانسان أَيْن كَانَ ليجتمع فِيهِ بأَهْله فَأَتَاهَا وَهِي قلعة منيعة وَقد تقاطعت حولهَا أَوديَة من سَائِر جوانبها فأحدق الْعَسْكَر بهَا ونصبت عَلَيْهَا المجانيق وَكَانَت الأمطار شَدِيدَة والوحول عَظِيمَة وَلم يمنعهُ ذَلِك عَن جده
وَلَقَد كنت لَيْلَة فِي خدمته وَقد عين مَوَاضِع خَمْسَة مجانيق حَتَّى تنصب فَقَالَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مَا ننام حَتَّى ننصب الْخَمْسَة وَسلم كل منجنيق إِلَى قوم وَرُسُله تتواتر إِلَيْهِم يخبرونه ويعرفونهم كَيفَ يصنعون حَتَّى أطلنا الصَّباح وَقد فرغت المنجنيقات وَلم يبْق إِلَّا تركيب خنازيرها فِيهَا فرويت لَهُ الحَدِيث الْمَشْهُور فِي الصِّحَاح وبشرته بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((عينان لَا تمسهما النَّار عين باتت تحرس فِي سَبِيل الله وَعين بَكت من خشيَة الله))
قَالَ وَلم يزل الْقِتَال متواصلا بالنوب مَعَ الصَّوْم حَتَّى سلمت بالأمان فِي رَابِع عشر شَوَّال
وَقَالَ الْعِمَاد لما خرج السُّلْطَان من دمشق صَحبه الْفَاضِل(4/49)
وَجعل طَرِيقه على مرج برغوث وَعبر مخاضة الأحزان وَجَاء إِلَى صفد وَقد لَان من فِيهَا من الفرنج وَزَادَهُمْ نفد فَنزل عَلَيْهِ فِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان فضايقها وَنصب المجانيق إِلَى أَن سلمهَا مقدمها فِي ثامن شَوَّال بالأمان وَرَاح إِلَى صور
وَقد كَانُوا عدموا الْقُوت ووجدوا الْمَوْت الموقوت وَعَلمُوا أَنهم ان لم تخرج صفد من أَيْديهم دخلت أَرجُلهم فِي الأصفاد فتبرؤوا من الْجِدَار والجلاد وانها كَانَت فِي عين الْإِسْلَام قذى لَا يتَوَقَّع مِنْهَا على الْأَيَّام الا مضرَّة وأذى فسهل الله صعبها وأوطأ هضبها وكشف عَن الْبِلَاد كربها وَقذف فِي قُلُوب أَهلهَا رعبها فَخَرجُوا مذعنين واستسلموا مُسلمين وتبرؤوا من حصنهمْ ونزلوا بهوانهم ووهنهم وأحضروا رهائنهم للاستمهال فِي نقل مَتَاعهمْ وندموا على مَا كَانَ من امتناعهم
قَالَ وَاجْتمعَ الفرنج بصور وَنحن نضايق حصن صفد وَقَالُوا مَتى فتحت صفد فَإِن كَوْكَب لَا تمْتَنع وأملنا عَن حفظهَا يَنْقَطِع والرأي أَن نجرد لَهَا نجدة فلعلها تثبت إِلَى أَن توافينا من الْبَحْر مُلُوكنَا
فسيروا مئتي رجل فَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ الأودية يكمنون فِي الشعاب والهضاب وَاتفقَ أَن أَمِيرا من أَصْحَابنَا خرج متقنصا فَوَقع أحدهم فِي قنصه وَحصل طَائِر مِنْهُم فِي قفصه فاستغرب وجوده(4/50)
فِي ذَلِك الْمَكَان فهدده وتوعده وأقامه للعذاب وَأَقْعَدَهُ حَتَّى دلّ على مكمن ذئابه فَمَا أحسوا إِلَّا بصارم الدّين قيماز النجمي وأجناده وَقد نزلُوا عَلَيْهِم فِي آكام ذَلِك الشّعب ووهاده فتلقطوهم من كل غَار ووجار وَلم يهتد أحد من أُولَئِكَ الضلال إِلَى نهج فرار فَمَا شعرنَا وَنحن على صفد للحصار حَتَّى وصل صَاحب قايماز بالأسارى مُقرنين فِي الأصفاد مقودين فِي الأقياد وَكَانَ فيهم مقدمان من الاسبتار وَقد أشفيا على التبار فان السُّلْطَان رَحمَه الله مَا كَانَ يبقي على أحد من الاسبتارية والداوية
فأحضرا عِنْد السُّلْطَان للمنية فأنطقهما الله بِمَا فِيهِ حياتهما وناجياه بِمَا بِهِ نجاتهما وَقَالا عِنْد دخولهما مَا نظن أننا بَعْدَمَا شافهناك يلحقنا سوء فَعرفت أَن بقاءهما مرجو فَمَال إِلَى مقالهما وَأمر باعتقالهما فَإِن تِلْكَ الْكَلِمَة حركت مِنْهُ الْكَرم وحقنت مِنْهُمَا الدَّم وَفتح الله علينا صفد ثامن شَوَّال حِين فَرغْنَا من صَوْم سِتّ مِنْهُ بعد رَمَضَان وجمعنا بَين فضيلتي الصَّوْم وَالْجهَاد وسلمت قلعة صفد إِلَى شُجَاع الدّين طغرل الجاندار واستبشرنا بانعكاس مَا أحكمه الْكفَّار(4/51)
فصل فِي فتح حصن كَوْكَب
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار رَحمَه الله عَلَيْهِ يُرِيد كَوْكَب فَنزل على سطح الْجَبَل وجرد الْعَسْكَر وأحدق بالقلعة وضايقها بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ اتخذ لَهُ موضعا يتجاوزه نشاب الْعَدو وَبنى لَهُ حَائِطا من حِجَارَة وطين يسْتَتر وَرَاءه والنشاب يتجاوزه وَلَا يقدر أحد يقف على بَاب خيمته إِلَّا أَن يكون ملبسا وَكَانَت الأمطار متواترة والوحول بِحَيْثُ تمنع الْمَاشِي والراكب إِلَّا بِمَشَقَّة عَظِيمَة وعانى شَدَائِد وأهوالا من شدَّة الرِّيَاح وتراكم الأمطار وَكَون الْعَدو متسلطا عَلَيْهِم بعلو مَكَانَهُ وجرح وَقتل جمَاعَة وَلم يزل رَاكِبًا مركب الْجد رَحمَه الله حَتَّى تمكن النقب من سورها
وَلما أحس الْعَدو المخذول بالنقب وَقد تمكن من السُّور علم أَنه مخذول مَأْخُوذ فَطلب الْأمان فَأَمنَهُمْ وتسلمها فِي منتصف ذِي الْقعدَة وَنزل إِلَى الْغَوْر إِلَى الثّقل وَكَانَ قد أنزل الثّقل من شدَّة الوحل وَالرِّيح فِي سطح الْجَبَل
وَقَالَ الْعِمَاد وَجِئْنَا إِلَى كَوْكَب ووجدناها فِي منَاط الْكَوْكَب كَأَنَّهَا وكر العنقاء ومنزل العواء قد نزلتها كلاب عاوية ونزغت بهَا ذئاب غاوية وَقَالُوا لَو بَقِي منا وَاحِد لحفظ بَيت الاسبتار وخلصه إِلَى الْأَبَد من الْعَار وَلَا بُد من عود الفرنج إِلَى(4/52)
هَذِه الديار فنتشدد للانتظار
ثمَّ وصف الْقِتَال بِالرَّمْي والمنجنيق والنقب وَالتَّعْلِيق والحفر والتعميق والحصر والتضييق
ثمَّ قَالَ وَكَانَ الْوَقْت صعبا والغيث سكبا وتكاثرت السُّيُول وتكاثفت الوحول ودامت الديم لدموعها مريقة وَبقيت الخيم فِي الطين غريقة وَكُنَّا فِي شغل شاغل من تقلع الْأَوْتَاد وتوتد الْأَقْدَام ووهاء الْأَطْنَاب وَوُقُوع الْخيام وَقد عَادَتْ الْخيام مناخل الأنداء والأنوار معدومه لوُجُود الأنواء وَمَاء الشّرْب مَفْقُود مَعَ سيول المَاء والرواحل فِي الطين باركة وَهِي للعلف تاركة والطرق زلقة لزقة وَهِي مَعَ سعتها ضيقَة
فَنقل السُّلْطَان خيمته إِلَى قرب الْمَكَان لتقريب وُجُوه الامكان وَبنى لَهُ من الْحِجَارَة مَا صَار لَهُ كالستارة وَنزلت الأثقال والخيم إِلَى أَسْفَل التل بالغور
وَأقَام السُّلْطَان على محاصرة الْحصن ومصابرته وَنحن نركب إِلَيْهِ من الْخيام بكرَة وَعَشِيَّة للسلام وتنفيذ المهام حَتَّى بلغ الرِّجَال أَمَاكِن النقوب وَتمكن لَهُم الْمَطْلُوب فشرع الْكَفَرَة فِي التذلل وسلموا الْحصن بالأمان وَعرضه على جمَاعَة فَلم يقبل ولَايَته أحد سوى قايماز النجمي على كره مِنْهُ وَذَلِكَ فِي منتصف ذِي الْقعدَة وَنزل السُّلْطَان إِلَى المخيم بالغور(4/53)
وَمن كتاب فاضلي إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن عَن السُّلْطَان مِمَّا تجدّد بحضرتنا فتح كَوْكَب وَهِي كرْسِي الاسبتارية وَدَار كفرهم ومستقر صَاحب أَمرهم وَمَوْضِع سِلَاحهمْ وذخرهم وَكَانَ بمجمع الطّرق قَاعِدا ولملتقى السبل راصدا فتغلقت بفتحه بِلَاد الْفَتْح واستوطنت وسلكت طرقها وَأمنت وعمرت بلادها وسكنت وَلم تبْق فِي هَذَا الْجَانِب الا صور وَلَوْلَا أَن الْبَحْر ينجدها والمراكب تردها لَكَانَ قيادها قد أمكن وجماحها قد أذعن وَمَا هم بِحَمْد الله فِي حصن يحميهم بل فِي سجن يحويهم بل هم أُسَارَى وَإِن كَانُوا طلقاء وأمواتا وَإِن كَانُوا أَحيَاء قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تعجل عَلَيْهِم إِنَّمَا نعد لَهُم عدا}
وَكَانَ نزولنا على كَوْكَب بعد أَن فتحنا صفد بلد الديوية وفتحنا الكرك وحصونه والمجلس السَّامِي أعلم بِمَا كَانَ على الْإِسْلَام من مُؤْنَته المثقلة وَقَضيته المشكلة وعلته المعضلة وَالله تَعَالَى المشكور على مَا طوى من كلمة الْكفْر وَنشر من كلمة الْإِسْلَام فان بِلَاد الشَّام الْيَوْم لَا يسمع فِيهَا لَغْو وَلَا تأثيم إِلَّا قيلا سَلاما سَلاما فادخلوها بِسَلام(4/54)
وَكَانَ نزولنا على كَوْكَب والشتاء فِي كوكبه وَقد طلع من الأنواء فِي موكبه والثلوج تنشر على الْجبَال ملأها والأودية قد عجت بِمَائِهَا وفاضت عِنْد امتلائها فشمخت أنوفها سيولا فخرقت الأَرْض وَبَلغت الْجبَال طولا والأوحال اعتقلت الطرقات وَمَشى الْمُطلق فِيهَا مشْيَة الْأَسير فِي الحلقات فتجشمنا العناء نَحن وَرِجَال العساكر وكابرنا الْعَدو وَالزَّمَان وَقد يحرز الْحَظ المكابر وَعلم الله النِّيَّة فأنجدها بِفِعْلِهَا وَضمير الْأَمَانَة فَأَعَانَ على حملهَا ونزلنا من رُؤُوس الْجبَال منَازِل كَانَ الِاسْتِقْرَار عَلَيْهَا أصعب من نقلهَا
ثمَّ قَالَ والآن فالمجلس السَّامِي يعلم أَن الفرنج لَا يسلون عَمَّا فتحنا وَلَا يصبرون على مَا جرحنا وَأَنَّهُمْ لعنهم الله أُمَم لَا تحصى وجيوش لَا تستقصى و {يَد الله فَوق أَيْديهم} و {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} وَمَا هم إِلَّا كلاب قد تعاوت وشياطين قد تغاوت وَإِن لم يقذفوا من كل جَانب استأسدوا واستكلبوا وَكَانُوا لباطلهم الداحض أنْصر منا لحقنا الناهض وَكتب المستخدمون بالاسكندرية وَصَاحب قسطنطينية والثغور المغربية ينذرون بِأَن الْعَدو قد أجمع أمرا وحاول نكرا وغضبوا زادهم الله غَضبا وأوقدوا نَارا للحرب جعلهَا الله عَلَيْهِم حطبا وسلوا سيوفا للبغي لَا يبعد ان يَكُونُوا أغمادها وتواعدت جموع ضلالتهم أخلف الله ميعادها(4/55)
وَأما نَحن فبالله ندفع مَا نطيق وَمَا لَا نطيق وَإِلَيْهِ نرغب فِي أَن يثبت قُلُوبنَا إِذْ كَادَت تزِيغ قُلُوب فريق وَنحن الْآن نستجذب أخانا وندعوه إِلَى مَا لَهُ دعينا ونؤمل من الله ان ينصرنا دنيا ودينا وَأَن يمدنا بِنَفسِهِ سَرِيعا وبعسكره جَمِيعًا وبذخره الَّذِي كَانَ لمثله مجموعا وَأَن يلبيها دَعْوَة إِمَّا أَن يُطِيع بهَا ربه لِأَنَّهَا دَعوته وَإِمَّا أَن ينصر بهَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا شَرِيعَته وَإِمَّا أَن يعين بهَا أَخَاهُ فَإِنَّهَا شدَّة الْإِسْلَام لَا شدته
هَذَا وَإِن كَانَ الْمجْلس قد قعد عَنَّا وَلم يعدنا فِي مرض الْأَجْسَام فَلَا يقْعد عَنَّا فِي مرض الْإِسْلَام فالبدار البدار فَإِن لم يكن الشَّام لَهُ بدار فَمَا الْيمن لَهُ بدار وَالْجنَّة الْجنَّة فانها لَا تنَال إِلَّا بايقاد الْحَرْب على أهل النَّار والهمة الهمة فان الْبحار لَا تلقى إِلَّا بالبحار والملوك الْكِبَار لَا يقف فِي وجوهها إِلَّا الْمُلُوك الْكِبَار وَفِي هَذِه السّنة ننزل على أنطاكية وَينزل ولدنَا المظفر تَقِيّ الدّين أطرابلس ويستقر الركاب الملكي العادلي بِمصْر لِأَنَّهَا مَذْكُورَة عِنْد الْعَدو وَأَنَّهَا تطرق وَأَن الطّلب على مصر وَالشَّام مِنْهُ يفرق وَلَا غنى عَن أَن يكون الْمجْلس السيفي بحرا فِي بِلَاد السَّاحِل يزخر سِلَاحا ويجرد سَيْفا يكون على مَا فتحناه قفلا وَلما لم يفتح مفتاحا وَمَا يدعى للعظيم إِلَّا الْعَظِيم وَلَا يُرْجَى] لموقف الصَّبْر الْكَرِيم إِلَّا الْكَرِيم
هَذَا والأقدار جَارِيَة ومشيئة الله مَاضِيَة فَإِن يَشَأْ ينصرنا على الْعدَد المضعف بِالْعدَدِ الأضعف فَإنَّا لَا نرتاب بِأَن الله تَعَالَى(4/56)
مَا فتح علينا هَذِه الْفتُوح ليغلقها وَلَا جمع علينا هَذِه الْأمة ليفرقها وَإِنَّمَا نؤثر أَن يتساهم آل أَيُّوب فِي ميراثهم مِنْهُ مَوَاقِف الصَّبْر ومطالع النَّصْر وَلَا يسرنَا أَن يَنْقَضِي عمره فِي قتال غير الْكَافِر ونزال غير الكفؤ المناظر فَإِنَّمَا هِيَ سفرة قاصدة وزجرة واحده فَإِذا هُوَ قد بيض الصَّحِيفَة وَالْوَجْه وَالذكر فليحضر وليشاهد أَوْلَادًا يستشعرون لفراقه غما قد عاشوا مَا عاشوا وَلَا يعْرفُونَ أَن لَهُم مَعَ عمهم عَمَّا
وَله إِلَيْهِ من كتاب آخر وَكَأَنَّهُ بعد اعتذاره عَن الْحُضُور الْمولى على حسب اخْتِيَاره وَإِن سَار فَمثله من سَار وسر وقاد الْجَيْش وجر ونفع الْوَلِيّ وضر الْعَدو الَّذِي أضرّ وَإِن أَقَامَ فالعذر الَّذِي أقعده وإشفاق السُّلْطَان عز نَصره الَّذِي رده عَن وَجهه والرأي الَّذِي ردده فَلَا يكن فِي صَدره من الْأَمريْنِ حرج وَلَا يخف استقصار عزمه إِن ركد أَو خرج فمكانه مَكَانَهُ من الْقلب ووده وده وَله من اللِّسَان حَمده وَهُوَ سيف الْإِسْلَام إِن ضرب بحده أَو صين فِي غمده لَا زَالَ الْمولى منوها باسمه ومرفها فِي جِسْمه ومجردا سيف عزمه وسعيدا بِحكم التَّوْفِيق فَلَا خرج التَّوْفِيق عَن حكمه
وَمن كتاب عمادي إِلَى الدِّيوَان بِفَتْح الكرك والشوبك وصفد وكوكب يَقُول فِيهِ والآن فقد خلص جَمِيع مملكة الْقُدس وَحدهَا فِي سمت مصر من الْعَريش وعَلى صوب الْحجاز من الكرك والشوبك وتشتمل على الْبِلَاد الساحلية إِلَى مُنْتَهى أَعمال بيروت وَلم يبْق من هَذِه المملكة إِلَّا صور(4/57)
وَفتح أَيْضا جَمِيع إقليم أنطاكية ومعاقلها الَّتِي للفرنج والأرمن وَحده من أقْصَى بِلَاد جبلة واللاذقية إِلَى بِلَاد ابْن لاون وَبقيت أنطاكية بمفردها والقصير من حصونها وَلم يبْق من الْبِلَاد الَّتِي لم تفتح أَعمالهَا وَلم تحل عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ حَالهَا سوى طرابلس فَإِنَّهَا لم يفتح مِنْهَا إِلَّا مَدِينَة جبيل وَقد سحبت عَلَيْهَا المهلة الذيل ومعاقلها بَاقِيَة وَلَيْسَ لَهَا من عَذَاب الله الْوَاقِع واقية
وَالْخَادِم الْآن على التَّوَجُّه إِلَيْهَا وعزم النُّزُول عَلَيْهَا وَأَنه قد رتب الْجَانِب القبلي والبلد الْقُدسِي وشحن الثغور من حد جبيل إِلَى عسقلان بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَال وآلات الْعدَد وَالْعدَد المتواصل المدد ورتب فِيهَا وَلَده الْأَفْضَل عليا لحمايتها وَحفظ ولايتها وقلد وَلَده الْعَزِيز عُثْمَان ولَايَة مصر ومملكة أقاليمها لتهذيب أحوالها وتقويمها
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَلما فرغ السُّلْطَان من شغل القلاع وَنزل إِلَى الوهاد من التلاع تجدّد للأجل الْفَاضِل عزم مصر فَركب السُّلْطَان مَعَه للوداع ثمَّ تحول إِلَى صحراء بيسان وَأقَام بهَا إِلَى مستهل ذِي الْحجَّة ثمَّ رَحل يَوْم الْجُمُعَة مستهل الشَّهْر وَمَعَهُ أَخُوهُ الْعَادِل وسلكا طَرِيق الْغَوْر إِلَى الْقُدس وَوَصله يَوْم الجمعه ثامن الشَّهْر(4/58)
وَهُوَ يَوْم التَّرويَة وَصلى الْجُمُعَة فِي قبَّة الصَّخْرَة وَعِيد بهَا يَوْم الْأَحَد الْأَضْحَى وَسَار يَوْم الأثنين إِلَى عسقلان للنَّظَر فِي مهامها ونظم أَسبَاب أَحْكَامهَا ثمَّ أذن للعادل فِي الْعود إِلَى مصر لمساعدة وَلَده الْعَزِيز وودعه وَأَعْطَاهُ الكرك وَأخذ مِنْهُ عسقلان قَالَه ابْن شَدَّاد ورحل على سمت عكا بعسكره موفقا فِي مورده ومصدره فَمَا عبر بِبَلَد إِلَّا قوى عدده وَكثر عدده
وانفصل الْعِمَاد عَن خدمته إِلَى دمشق عِنْد رحيله من بيسان لعَارض مرض سلبه الامكان وَمَا زَالَ مُنْفَصِلا عَنهُ إِلَى أَن وصل السُّلْطَان دمشق بعد شَهْرَيْن مستهل صفر من السّنة الجديدة
وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَمَضَان توفّي الْأَمِير مجد الدّين مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن عَليّ بن منقذ وَكَانَ مولده بشيزر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة فَبلغ عمره سِتا وَتِسْعين سنة(4/59)
وفيهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى توفّي الْحَافِظ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى بن عُثْمَان بن حَازِم الْحَازِمِي الهمذاني بِبَغْدَاد صَاحب المصنفات على صغر سنه مِنْهَا العجالة والناسخ وَغَيرهمَا ومولده سنة ثَمَان أَو تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة رحمهمَا الله تَعَالَى
قَالَ الْعِمَاد وَوصل كتاب من مصر وَنحن على حِصَار صفد أَن اثْنَي عشر رجلا أعْلنُوا بشعار أهل الْقصر ودخلوا من بَاب زويلة إِلَى قرب الصياقلة مجذوبي السيوف لادالة الدولة الزاهقة ونصرة الدعْوَة الْبَاطِلَة وهم ينادون بآل عَليّ وَفِي زعمهم أَنهم يقيلون بالصولة ويقلبون بالبأس لِبَاس الدولة ويخالون أَنهم إِذا ثَارُوا أثاروا وَإِذا داروا أداروا فَمَا اكترث بهم مكترث وَلَا انْبَعَثَ إِلَيْهِم منبعث فَلَمَّا تحققوا أَنهم لَا مُجيب لَهُم وَلَا دَاع تفَرقُوا فِي الدروب واضمحلوا وَكَانُوا عقدوا على الْوَفَاء فانحلوا ثمَّ أخذُوا ووقذوا واعتقلوا وَلم يستنقذوا(4/60)
وَلما علم السُّلْطَان بِهَذَا الْأَمر عراه الْهم وتضجر بِمن على بَابه من وُفُود مصر وَقَالَ إِلَى مَتى نتحمل مِنْهُم هَذَا وهم بطردهم وردعهم وردهم وَكَانَ قد وَفد إِلَى الْبَاب السلطاني جمَاعَة من أَوْلَاد الوزراء المصريين والأمراء بهَا المقدمين وَمن أهل الْمَعْرُوف المعروفين وَوَافَقَ ذَلِك دُخُول الْفَاضِل إِلَيْهِ فَأخْبرهُ بالْخبر فَقَالَ لَهُ يجب أَن تشكر الله على هَذِه النِّعْمَة فقد عرفت بِهَذَا طَاعَة رعيتك وموافقة نياتهم لنيتك أَلَيْسَ لم يلب دعوتهم أحد وَلم يكن من ورائهم مدد فطب نفسا وزد بمنزلتك عِنْد الله أنسا
فَقَالَ السُّلْطَان كَانَ الْمُلُوك قبلي تخافهم وتهرب مِنْهُم الرّعية وتتوقع مِنْهُم البلية والآن فقد تكاثروا علينا وتوافدوا إِلَيْنَا حَتَّى أضجرونا وأملونا ونفرونا فَإِذا ركبنَا أَو نزلنَا تعاورونا بالقصص وساورونا بالغصص
فَقَالَ لَهُ أَنْت أولى بشكر الله على هَذِه العارفة كَانَ بِمصْر من صَاحب الْقصر وأشياعه وخدمه وَأَتْبَاعه وأمرائه وخواصه وَذَوي استخلاصه وجهاته وإلزامه كل من كَانَ يرتع الْخلق فِي رياض إنعامه وَكَانَ بِالشَّام فِي كل بلد وَال وَصَاحب لَهُ على أَهله نعم ومواهب وملوك يلوذ بهم الْأَقَارِب والأجانب وَالْيَوْم أَنْت سُلْطَان الْجَمِيع وَقد رد الله الآمال فِي تِلْكَ الصَّنَائِع كلهَا إِلَى مَا لَك من حسن الصَّنِيع وَقد اجْتمع اولئك المتفرقون على بابك ووفدوا إِلَى جنابك فَلَا يَجدونَ بعد الله إِلَّا وجودك وجودك فَأكْرم وفودك
فاغرورقت بالدموع عَيناهُ وبالسماح يَدَاهُ وَأقسم أَنه مَا عَاشَ(4/61)
لَا يرد قَاصِدا وَلَا يصد وافدا وَتقدم فِي الْحَال بِقَضَاء حُقُوق الوافدين وإنجاح آمال القاصدين
قلت وَكتب إِلَى السُّلْطَان فِي هَذَا الْمَعْنى أَبُو الْفَتْح سبط ابْن التعاويذي من بَغْدَاد
(فَلَا يضجرنك ازدحام الْوُفُود ... عَلَيْك وَكَثْرَة مَا تبذل)
(فَإنَّك فِي زمن لَيْسَ فِيهِ ... جواد سواك وَلَا مفضل)
(وَقد قل فِي أَهله المنعمون ... وَقد كثر البائس المرمل)
(وَمَا فِيهِ غَيْرك من يستماح ... وَمَا فِيهِ إلاك من يسْأَل)
وقرأت رقْعَة بِخَط الْفَاضِل الْمَمْلُوك يُنْهِي وُصُول فَخر الْكتاب الْجُوَيْنِيّ وَقد كَاد يهْلك من لَهب الْحر وَالْمَشَقَّة فِي السّير وَكَيف يكون حَال ابْن السّبْعين مَعَ الْمَرَض اللَّازِم والقولنج الدَّائِم ونحافة الاعضاء وَضعف الْقُوَّة واستشعار انْقِطَاع الرزق الَّذِي هُوَ نَظِير انْقِطَاع الْعُمر وَمَا أَظن أَن الله أجْرى على يَد الْمولى وَلَا فَرح عدوا لَهُ بِأَن يَنْقَطِع رزق مثل هَذَا الْبَقِيَّة الْحَسَنَة والضيف الراحل والأديب الْفَاضِل فِي أَيَّام مَوْلَانَا الَّتِي هِيَ تَارِيخ الْكَرم ومواسم النعم(4/62)
وَفِي آخرهَا وَمِمَّا يجب أَن يعلم الْمولى أَن أرزاق أَرْبَاب العمائم فِي دولته إقطاعا وراتبا يتَجَاوَز مئتي ألف دِينَار بِشَهَادَة الله وَرُبمَا كَانَت ثَلَاث مئة ألف دِينَار
وَفِي الرقعة بالخط الصلاحي وقفت على رقْعَة القَاضِي الْفَاضِل وَمَا نقطع لأحد رزق إِن شَاءَ الله تَعَالَى بل هِيَ علالات نَحن مثل الْغَرِيم المنكسر نرضى لذا بِمَال ذَا وعَلى الْجُمْلَة مَا تقدّمت بِقطع رزق أحد وَقد علمت فِيهَا اكْتُبْ فِيهَا الَّذِي لَهما ولغيرهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى
كَانَ فِي آخر الرقعة ذكر الْجمال الْحَنَفِيّ وَكَأَنَّهُ كَانَ لَهُ مثل حَاجَة الْجُوَيْنِيّ رحم الله الْكل أَجْمَعِينَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان فِي عكا نَافِذ الْأَمر نابه الْقدر فأحكم أمرهَا وكشف ضرها واستحضر جمَاعَة من مصر يحمي بهم الثغر فَمَا انْفَصل حَتَّى وصلوا وَاتبعُوا أمره وامتثلوا وَتقدم بهاء الدّين قراقوش بإتمام العمارات وَولى حسام الدّين بِشَارَة وعول عَلَيْهِ فِي الْولَايَة وَالْحِفْظ والحماية
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد أَقَامَ بعكا مُعظم الْمحرم يصلح(4/63)
أحوالها ورتب فِيهَا بهاء الدّين قراقوش واليا وَأمره بعمارة السُّور والإطناب فِيهِ وَمَعَهُ حسام الدّين بِشَارَة وَسَار يُرِيد دمشق فَدَخلَهَا مستهل صفر
قَالَ الْعِمَاد وَولى مَمْلُوكه فَارس الدّين كشتفدي شهرزور وأعمالها وَكَانَ قد تزوج بأخت عز الدّين حسن بن يَعْقُوب بن قفجاق فولاه ذَلِك لقرب الْولَايَة القفجاقية من الشهرزورية وَقصد حُصُول المناصرة بِحكم الْمُصَاهَرَة
قَالَ وَحكم السُّلْطَان بدر الدّين مودودا فِي ولَايَة دمشق وجدد لَهُ منشورا بإنشائي وَفِيه وَقد قلدناه أَمر دمشق وجهاتها وأعمالها والحشري والزكوات وكل مَا يجْرِي فِي الدِّيوَان وَمَا يبْتَاع للخزانة وَولَايَة المرج والغوطة وَمَا يُضَاف إِلَيْهَا من الْأَعْمَال وَولَايَة الْجَبَل ووادي بردى ويبوس وتولي الشحنكيات وَحفظ الطرقات
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى طبرية فألحقها بمعدلته العمرية ثمَّ وصل وَأقَام بِدِمَشْق شهر صفر وَوجه الدّين بِهِ قد سفر وَعز من آمن وذل من كفر وَبَدَأَ بِحُضُور دَار الْعدْل وَحكم بِالشَّرْعِ المطهر
وَوصل فِي ثَانِي عشر صفر رَسُول الدِّيوَان ضِيَاء الدّين عبد الْوَهَّاب بن سكينَة والوزير يَوْمئِذٍ معز الدّين بن حَدِيدَة(4/64)
يَأْمر بِالْخطْبَةِ لوَلِيّ الْعَهْد عدَّة الدّين أبي نصر مُحَمَّد ابْن الإِمَام النَّاصِر فَاسْتَقْبلهُ السُّلْطَان وَأَوْلَاده وأمراؤه وأجناده وخطب لَهُ بذلك يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر صفر خطيب دمشق ضِيَاء الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْملك بن زيد الدولعي فَلَمَّا انْقَضتْ الْخطْبَة وَعَاد الرَّسُول سير السُّلْطَان مَعَه رَسُوله ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري وسيرت مَعَه الْهَدَايَا والتحف السنايا وأسارى الفرنج الفوارس وعددها النفائس وتاج ملكهم السليب والملبوس وَالطّيب والصليب وَهُوَ الَّذِي كَانَ فَوق قبَّة الصَّخْرَة المقدسة ليدل على تَطْهِير مَا كَانَ هُنَاكَ من الْأَسْبَاب المدنسة وَسَار الضياآن رسولهم وَرَسُول السُّلْطَان ودخلا بَغْدَاد وأسارى الفرنج على هيئتها يَوْم قراعها راكبة حصنها فِي طوارقها وبيارقها وأدراعها قد نكست بنودها وأتعست أنوفها وهيئت على هَيْئَة فتوحنا حتوفها
قلت وَقَالَ ابْن القادسي قدم ابْن الشهرزوري وَمَعَهُ صَلِيب الصلبوت الَّذِي تعظمه النَّصَارَى فَدفن تَحت عتبَة بَاب النوبى الشريف يبين مِنْهُ شَيْء قَلِيل وَكَانَ من نُحَاس وَقد طلي بِالذَّهَب فَجعل يداس بالأرجل ويبصق النَّاس عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي سادس عشر ربيع الآخر(4/65)
كَذَا قَالَ صَلِيب الصلبوت وَقد نَص الْعِمَاد فِي (الْبَرْق) على أَنه الصَّلِيب الَّذِي كَانَ فَوق الصَّخْرَة وَهَذَا غير ذَلِك وَالله أعلم
ثمَّ إِن الْخَلِيفَة النَّاصِر اعتقل ابْنه هَذَا بعد مُدَّة فِي سنة إِحْدَى وست مئة وأراده على خلع نَفسه من ولَايَة الْعَهْد فَفعل وَأشْهد على نَفسه بذلك ثمَّ قضى الله سُبْحَانَهُ أَن أعَاد إِلَيْهِ ولَايَة الْعَهْد فِي أَوَاخِر عمره فَخَطب لَهُ بذلك وَنقش اسْمه على الدِّينَار وَالدِّرْهَم إِلَى أَن توفّي النَّاصِر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتَوَلَّى بعده فَأَقَامَ نَحْو تِسْعَة أشهر ولقب بِالظَّاهِرِ ثمَّ توفّي وَولي ابْنه الْمُسْتَنْصر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمدرسَة بِبَغْدَاد ثمَّ توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَولي ابْنه المستعصم بِاللَّه وَهُوَ الْخَلِيفَة الْآن
قَالَ الْمُؤلف ثمَّ أهلكه التتار عَام استولوا على بَغْدَاد فِي أول سنة سِتّ وَخمسين وست مئة وَالله الْمُسْتَعَان
فصل فِي فتح شقيف أرنون
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهُوَ مَوضِع حُصَيْن قريب من بانياس خرج السُّلْطَان من دمشق بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي الثَّالِث من ربيع الأول فَسَار حَتَّى نزل فِي مرج فلوس وَنزل من الْغَد يَوْم(4/66)
السبت فِي مرج برغوث فَأَقَامَ بِهِ والعساكرتتتابع إِلَى حادي عشره ورحل إِلَى بانياس وَمِنْهَا إِلَى مرج عُيُون فخيم بِهِ وَهُوَ قريب من شقيف أرنون بِحَيْثُ يركب كل يَوْم يشارفه وَيعود والعساكر تَجْتَمِع وتطلبه من كل صوب
فَأَقَمْنَا أَيَّامًا نشرف كل يَوْم على الشقيف والعساكر الإسلاميه فِي كل يَوْم تصبح متزايدة الْعدَد وَالْعدَد وَصَاحب الشقيف يرى مَا يتَيَقَّن مَعَه عدم السَّلامَة فَرَأى أَن إصْلَاح حَاله مَعَه قد تعين طَرِيقا إِلَى سَلَامَته فَنزل بِنَفسِهِ وَمَا أحسسنا بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِم على بَاب خيمة السُّلْطَان فَأذن لَهُ فَدخل فاحترمه وأكرمه وَكَانَ من كبار الفرنجية وعقلائها وَكَانَ يعرف بِالْعَرَبِيَّةِ وَعِنْده اطلَاع على شَيْء من التواريخ وَالْأَحَادِيث
قَالَ وَبَلغنِي أَنه كَانَ عِنْده مُسلم يقْرَأ لَهُ ويفهمه وَكَانَ عِنْده تأت فَحَضَرَ بَين يَدي السُّلْطَان وَأكل مَعَه الطَّعَام ثمَّ خلا بِهِ وَذكر أَنه مَمْلُوكه وَتَحْت طَاعَته وَأَنه يسلم الْمَكَان إِلَيْهِ من غير تَعب وَاشْترط أَن يعْطى موضعا يسكنهُ بِدِمَشْق فَإِنَّهُ لَا يقدر بعد ذَلِك على مساكنة الفرنج وإقطاعا بِدِمَشْق يقوم بِهِ وبأهله وَأَنه يُمكن من الاقامة بموضعه وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَى الْخدمَة ثَلَاثَة أشهر من تَارِيخ الْيَوْم الَّذِي كَانَ فِيهِ حَتَّى يتَمَكَّن من تَخْلِيص أَهله وجماعته من صور وَيَأْخُذ مغل هَذِه السّنة فَأُجِيب إِلَى ذَلِك كُله وَأقَام يتَرَدَّد إِلَى خدمَة السُّلْطَان فِي كل وَقت ويناظرنا فِي دينه ونناظره فِي بُطْلَانه وَكَانَ حسن المحاورة متأدبا فِي كَلَامه(4/67)
ثمَّ استفاض بَين النَّاس أَن صَاحب الشقيف فعل مَا فعله من المهلة غيلَة لَا أَنه صَادِق فِي ذَلِك وَإِنَّمَا قصد بِهِ تدفيع الزَّمَان وَظَهَرت لذَلِك مخايل كَثِيرَة من الْخَوْض فِي تَحْصِيل الْميرَة وإتقان الْأَبْوَاب فَرَأى السُّلْطَان أَن يصعد إِلَى سطح الْجَبَل ليقرب من الْمَكَان وَيمْنَع من دُخُول نجدة وميرة إِلَيْهِ وَأظْهر أَن سَبَب ذَلِك شدَّة حمو الزَّمَان والفرار من وخم المرج فَنزل صَاحبه وَسَأَلَ أَن يُمْهل تَمام سنة فماطله السُّلْطَان وَمَا آيسه وَقَالَ نفكر فِي ذَلِك ونجمع الْجَمَاعَة ونأخذ رَأْيهمْ ثمَّ وكل بِهِ من حَيْثُ لَا يشْعر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا سنذكر
قَالَ وَفِي أثْنَاء ربيع الأول وصل الْخَبَر بِتَسْلِيم الشوبك وَكَانَ قد أَقَامَ السُّلْطَان عَلَيْهِ جمعا عَظِيما يحاصرونه مُدَّة سنة حَتَّى فرغت أَزْوَادهم وسلموه بالأمان
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ الشقيف فِي يَد صَاحب صيدا أرناط وَقد أكمل فِي حفظه الِاحْتِيَاط فَنزل إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَسَأَلَ أَن يُمْهل ثَلَاثَة أشهر يتَمَكَّن فِيهَا من نقل من بصور من أَهله وَأظْهر أَنه مُحْتَرز من علم المركيس - لَعنه الله - بِحَالهِ فَلَا يسلم من جَهله وَحِينَئِذٍ يسلم الْموضع بِمَا فِيهِ وَيدخل فِي طَاعَة السُّلْطَان ومراضيه ويخدمه على إقطاع يُغْنِيه وَعَن حب أهل دينه يسليه فَأكْرمه وقربه وَقضى أربه وأجابه إِلَى مَا سَأَلَهُ وَقبل مِنْهُ عَزِيزًا مَا بذله(4/68)
بذله واقتنع بقوله وَلم يَأْخُذ رهينة وَوجد إِلَيْهِ سكونا وسكينة فشرع أرناط فِي إذالة حصنه وَإِزَالَة وهنه وترميم مستهدمه وتوفير غلاله وتدبير أَحْوَاله وَنحن فِي غرَّة من تحفظه وَفِي سنة من تيقظه
وَكَانَ يبْتَاع من عسكرنا الْميرَة وَيكثر فِيهِ الذَّخِيرَة وَقد أضمر الْغدر وَظن أَن لَهُ النَّصْر وَالسُّلْطَان حسن الظَّن بِهِ يحمل صدق الواشي بِهِ على كذبه وَكَانَ انْتِهَاء الْمدَّة يَوْم الْأَحَد ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَأقَام السُّلْطَان بالمرج ينْتَظر انسلاخ الْهُدْنَة وَتَسْلِيم الْحصن وَخَافَ إِن فَارقه أَن تَجِيء أَمْدَاد الفرنج إِلَيْهِ وَكَانَ مشفقا أَيْضا من جَانب أنطاكية لانْتِهَاء أشهر هدنتها فَكتب إِلَى تَقِيّ الدّين بالْمقَام فِي تِلْكَ الخطة وسير بذلك الْفَقِيه عِيسَى الهكاري وَلم يستدع إِلَّا صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن قرا أرسلان فجَاء فِي أمداده وأعداده ولازم السُّلْطَان فَلَمَّا قرب انْتِهَاء مُدَّة صَاحب الشقيف أحضرهُ السُّلْطَان فتضرع وَقَالَ إِن قومِي إِلَى الْآن لم يخلصوا من صور وَقد أَنْعَمت فأتمم وَسَأَلَ أَن تكون المهلة سنة فَعرف السُّلْطَان من فحوى الْخطاب أَمَارَات الارتياب فَكَلمهُ بإيناس وَمَا رده بياس فَأرْخى طوله وأرجى أمله(4/69)
وَأمر السُّلْطَان بتحويل الخيم إِلَى ظهر الْجَبَل ليقرب من الْحصن وَقد بَقِي من الْهُدْنَة يَوْمَانِ فتضور صَاحب الْحصن فَقيل لَهُ تقيم عندنَا فِي كنف الآمان فَبكى وتألم من ضَبطه وانكشفت سَرِيرَته الغادرة فَأمر بِحمْلِهِ إِلَى الشقيف حَتَّى يُسلمهُ ووكل بِهِ وَحفظ من حَيْثُ لَا يعلم وَقيل لَعَلَّه يحسن وَلَا يحوج إِلَى المقابحه وَيسلم وَقيل لَهُ قد بَقِي يَوْمَانِ من الْمدَّة تقيم حَتَّى تَنْتَهِي وتسلم فأبدى ضَرُورَة وضراعة وَقَالَ سمعا وَطَاعَة
وَكَانَ لَهُ ملقى وملق وَفِي لِسَانه ذلق وَمَا عِنْده من كل مَا يفرق مِنْهُ فرق وَقَالَ أَنا أنفذ إِلَى نوابي فِي التَّسْلِيم وَهُوَ قد تقدم إِلَيْهِم بِالْوَصِيَّةِ والتعليم فأظهروا عصيانه وَقَالُوا يبْقى مَكَانَهُ
فقيد وَحمل إِلَى قلعة بانياس وَبَطل الرَّجَاء فِيهِ وَبَان الياس ثمَّ استحضره فِي سادس رَجَب وهدده وتوعده فَلَمَّا لم يفد خطابه وَلم يجد عَذَابه سيره إِلَى دمشق وسجنه ورتب عدَّة من الْأُمَرَاء بملازمة حصر الْحصن فِي الصَّيف والشتاء إِلَى أَن تسلمه بعد سنة بِحكم السّلم وَأطلق صَاحبه وأجرى عَلَيْهِ حكم الْحلم
فصل
وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان على مرج عُيُون لمحاصرة شقيف أرنون اجْتمعت الفرنج وَجَرت لَهُم مَعَ الْمُسلمين وقائع(4/70)
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ السُّلْطَان قد اشْترط على نَفسه حِين تسلم عسقلان أَنه إِن أَمر الْملك من بهَا بتسليمها أطلقهُ فَأَمرهمْ بتسليمها وسلموها فطالبه الْملك باطلاقه فَأَطْلقهُ وَفَاء بِالشّرطِ وَنحن على حصن الأكراد أطلقهُ من أنطرطوس وَاشْترط عَلَيْهِ أَن لَا يشهر فِي وَجهه سَيْفا أبدا وَأَن يكون مَمْلُوكه وطليقه فنكث لعنة الله وَجمع الجموع وأتى صور يطْلب الدُّخُول إِلَيْهَا فخيم على بَابهَا يُرَاجع المركيس الَّذِي كَانَ بهَا فِي ذَلِك وَكَانَ المركيس اللعين رجلا عَظِيما ذَا رَأْي وبأس شَدِيد وصرامة عَظِيمَة فَقَالَ لَهُ إِنَّنِي نَائِب الْمُلُوك الَّذين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أذنوا لي فِي تَسْلِيمهَا إِلَيْك
وطالت الْمُرَاجَعَة واستقرت الْقَاعِدَة بَينهمَا على أَن يتفقوا جَمِيعًا على الْمُسلمين وتجتمع العساكر الَّتِي بصور وَغَيرهَا من الفرنجية على الْمُسلمين وعسكروا على بَاب صور
وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر جُمَادَى الأولى بلغ السُّلْطَان من جَانب اليزك أَن الفرنج قد قطعُوا الجسر الْفَاصِل بَين أَرض صور وَأَرْض صيدا وَهِي الأَرْض الَّتِي نَحن عَلَيْهَا فَركب السُّلْطَان بعسكره نَحْو اليزك فوصل وَقد انفصلت الْوَقْعَة وَذَلِكَ أَن الفرنج عبر مِنْهُم جمَاعَة الجسر فَنَهَضَ إِلَيْهِم يزك الْإِسْلَام وَكَانُوا فِي عدَّة وَقُوَّة فقاتلوهم فَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وجرحوا أَضْعَاف مَا قتلوا ورموا فِي النَّهر جمَاعَة فَغَرقُوا وَلم يقتل من الْمُسلمين إِلَّا مَمْلُوك للسُّلْطَان يعرف بأيبك الأخرش وَكَانَ شجاعا باسلا(4/71)
مجربا للحرب ممارسا فتقطر بِهِ فرسه فلجأ إِلَى صَخْرَة فقاتل بالنشاب حَتَّى فني ثمَّ بِالسَّيْفِ حَتَّى قتل جمَاعَة ثمَّ تكاثروا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى ركب السُّلْطَان يشرف على الْقَوْم على عَادَته فتبع الْعَسْكَر خلق عَظِيم من الرجالة والغزاة والسوقة وحرص رَحمَه الله فِي ردهم فَلم يَفْعَلُوا وَخَافَ عَلَيْهِم فَإِن الْمَكَان كَانَ حرجا لَيْسَ للراجل فِيهِ ملْجأ ثمَّ هجم الرجالة إِلَى الجسر وناوشوا الْعَدو وَعبر مِنْهُم جمَاعَة إِلَيْهِم وَجرى بَينهم قتال شَدِيد وإجتمع لَهُم من الفرنج خلق عَظِيم وهم لَا يَشْعُرُونَ وكشفوهم بِحَيْثُ علمُوا أَن لَيْسَ وَرَاءَهُمْ كمين فحملوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة على غرَّة من السُّلْطَان فانه كَانَ بَعيدا عَنْهُم وَلم يكن مَعَه عَسْكَر فَإِنَّهُ لم يخرج لِلْقِتَالِ وَإِنَّمَا ركب مستشرفا عَلَيْهِم على الْعَادة فِي كل يَوْم
وَلما بَان لَهُ الْوَقْعَة وَظهر لَهُ غبارها بعث إِلَيْهِم من كَانَ مَعَه ليردوهم فوجدوا الْأَمر قد فرط والفرنج قد تكاثروا حَتَّى خَافت مِنْهُم السّريَّة الَّتِي بعثها السُّلْطَان وظفروا بالرجالة ظفرا عَظِيما وأسروا جمَاعَة وعد من قتل من الرجالة فِي ذَلِك الْيَوْم فَكَانَ عدد الشُّهَدَاء مئة وَثَمَانِينَ نَفرا وَقتل أَيْضا من الفرنج عدَّة عَظِيمَة وغرق أَيْضا مِنْهُم عدَّة(4/72)
وَكَانَ مِمَّن قتل مِنْهُم مقدم الألمانية وَكَانَ عِنْدهم عَظِيما مُحْتَرما وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم من المعروفين من الْمُسلمين الْأَمِير غَازِي بن سعد الدّين مَسْعُود بن البصار وَكَانَ شَابًّا حسنا شجاعا واحتسبه وَالِده فِي سَبِيل الله وَلم تقطر من عينه عَلَيْهِ دمعة على مَا ذكره جمَاعَة لازموه
قَالَ وَهَذِه الْوَقْعَة لم يتَّفق للفرنج مثلهَا فِي هَذِه الوقائع الَّتِي حضرتها وشاهدتها وَلم ينالوا من الْمُسلمين مثل هَذِه الْوَقْعَة فِي هَذِه الْمدَّة
وَلما رأى السُّلْطَان مَا حل بِالْمُسْلِمين من هَذِه الْوَقْعَة النادرة جمع أَصْحَابه وشاورهم وَقرر مَعَهم أَنه يهجم على الفرنج ويعبر على الجسر ويقاتلهم ويستأصل شأفتهم
وَكَانَ الفرنج قد رحلوا عَن صور ونزلوا قريب الجسر وَبَين الجسر وصور مِقْدَار فَرسَخ وزائد على فَرسَخ فَلَمَّا صمم الْعَزْم على ذَلِك رَحل الفرنج عائدين إِلَى صور ملتجئين إِلَى سورها فَرَأى رَحمَه الله أَن يسير إِلَى عكا ليلحظ مَا بني من سورها ويحث على الْبَاقِي فراح على تبنين وَلم يرجع على مرج عُيُون فَمضى إِلَى عكا فرتب أحوالها وَعَاد إِلَى الْعَسْكَر بمرج عُيُون منتظرا مهلة صَاحب الشقيف
وَلما كَانَ يَوْم السبت سادس جُمَادَى الْآخِرَة بلغه أَن جمَاعَة من رجالة الفرنج يتبسطون وَيصلونَ إِلَى جبل تبنين يحتطبون(4/73)
وَفِي قلبه من رجالة الْمُسلمين وَمَا جرى عَلَيْهِم أَمر عَظِيم فَرَأى أَن يُقرر قَاعِدَة كمين يرتبه لَهُم وبلغه أَنهم يخرج وَرَاءَهُمْ أَيْضا خيل يحفظهم فَعمل كمينا يصلح للقاء الْجَمِيع ثمَّ أنفذ إِلَى عَسْكَر تبنين أَن يخرجُوا فِي نفر يسير غائرين على تِلْكَ الرجالة وَأَن خيل الْعَدو إِذا تبعتهم ينهزمزن إِلَى جِهَة عينهَا لَهُم وَأَن يكون ذَلِك صَبِيحَة الِاثْنَيْنِ ثامن جُمَادَى الْآخِرَة وَأرْسل إِلَى عَسْكَر عكا أَن يسير حَتَّى يكون وَرَاء عَسْكَر الْعَدو حَتَّى إِن تحركوا فِي نصْرَة أَصْحَابهم قصدُوا خيمهم
وَركب هُوَ وجحفله إِلَى الْجِهَة الَّتِي عينهَا لهزيمة عَسَاكِر تبنين حَتَّى قطع تبنين ورتب الْعَسْكَر ثَمَانِيَة أطلاب واستخرج من كل طلب عشْرين فَارِسًا وَأمرهمْ أَن يتراءوا حَتَّى يظهروا إِلَيْهِم ويناوشوهم وينهزموا بَين أَيْديهم حَتَّى يصلوا إِلَى الكمين فَفَعَلُوا ذَلِك وَظهر لَهُم من الفرنج مُعظم عَسْكَرهمْ يقدمهم الْملك لَعنه الله وَجرى بَينهم وَبَين هَذِه السّريَّة الْيَسِيرَة قتال شَدِيد والتزمت السّريَّة الْقِتَال وأنفوا من الانهزام بَين أَيْديهم وحملتهم الحمية على مُخَالفَة السُّلْطَان
واتصل الْخَبَر بالسلطان فِي أَوَاخِر الْأَمر وَقد هجم اللَّيْل فَبعث بعوثا كَثِيرَة فَعَاد الفرنج ناكصين على أَعْقَابهم وَقتل من(4/74)
الفرنج عشرَة أنفس وَمن الْمُسلمين سِتَّة اثْنَان من التّرْك وَأَرْبَعَة من الْعَرَب مِنْهُم الْأَمِير زامل وَكَانَ شَابًّا تَاما حسن الشَّبَاب يتَقَدَّم عشيرته وَكَانَ سَبَب قَتله أَنه تقطرت بِهِ فرسه فَفَدَاهُ أبن عَمه بفرسه فتقطرت بِهِ أَيْضا وَأسر هُوَ وَثَلَاثَة من أَهله فَلَمَّا بصر الفرنج بمدد الْعَسْكَر قتلوهم خشيَة الاستنقاذ وجرح خلق كثير من الطَّائِفَتَيْنِ وخيل كَثِيرَة
قَالَ وَمن نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة أَن مَمْلُوكا من مماليك السُّلْطَان يُقَال لَهُ أيبك أثخن بالجراح حَتَّى وَقع بَين الْقَتْلَى وجراحاته تثعب دَمًا وَبَات ليله أجمع على تِلْكَ الْحَال إِلَى صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء فتفقده أَصْحَابه فَلم يجدوه فعرفوا السُّلْطَان فَقده وأنفذ من يكْشف عَن حَاله فوجدوه بَين الْقَتْلَى فَحَمَلُوهُ إِلَى المخيم وَعَافَاهُ الله وَعَاد السُّلْطَان إِلَى المخيم يَوْم الْأَرْبَعَاء عَاشر الشَّهْر فَرحا مَسْرُورا
وَقَالَ الْعِمَاد أجتمع من كَانَ سلم من الفرنج وَنَجَا على ملكهم الَّذِي خلص من الْأسر وَقَالُوا نَحن فِي جمع جم خَارج عَن الْحصْر وَقد تواصلت إِلَيْنَا أَمْدَاد الْبَحْر فثر بِنَا للثار وأعرنا من هَذَا الْعَار وَجَاء من كَانَ بطرابلس وخيموا على صور وَاتَّفَقُوا على أَنهم يقصدون بَلَدا إسلاميا من السَّاحِل ويقيمون عَلَيْهِ(4/75)
والمركيس يمدهُمْ من صور بالمدد وَالْعدَد ثمَّ جَاءَ الْخَبَر أَنهم على قصد صيدا للحصر وَقد جسروا على عبور الجسر وَوَقعت عَلَيْهِم اليزكية فردوهم وَوَقع فِي الْأسر من سباعهم سَبْعَة فحملوا إِلَى سجن دمشق ثمَّ ذكر قَتلهمْ للغزاة المطوعة على الجسر
وَقَالَ لم يصب الْكفَّار من الْمُسلمين مذ أصيبوا غير هَذِه الكره وأذاقونا بعد أَن حلا لنا جنى الفتوحات مرَارَة هَذِه الْمرة فأيقظنا الله من رقدة الْغرَّة وَأخذ النَّاس حذرهم وَقَالُوا بِهَذَا وعد الله حَيْثُ قَالَ {فيقتلون وَيقْتلُونَ} وعباده هم الَّذين يتبعُون أمره ويمتثلون ثمَّ ذكر وقْعَة الكمين
قَالَ وَكَانَ مَعَ الْمُسلمين أَرْبَعَة من أُمَرَاء الْعَرَب فحملوا كَمَا وصاهم السُّلْطَان على عزم الطراد ليقصدوا الكمين وسلكوا أَسْفَل الْوَادي وَإِنَّمَا الطَّرِيق أَعْلَاهُ وَلَا خبْرَة لَهُم بِتِلْكَ الأَرْض فَعرف الفرنج أَنهم ضائعون فطاردوهم وردوهم إِلَى الْمضيق وأنفت الْعَرَب من الْهَزِيمَة فاستشهدوا
قَالَ وَكَانَ مَعَهم مَمْلُوك للسُّلْطَان يُقَال لَهُ أيبك الساقي فاعتزل إِلَى صَخْرَة واحتمى بهَا ونكب كِنَانَته وَرَمَاهُمْ بنشابها وهم لَا(4/76)
يقدرُونَ على الاقتحام إِلَيْهِ بِالْخَيْلِ فَرَمَوْهُ بالزنبورك حَتَّى كثرت فِيهِ الْجِرَاحَات وظنوا أَنه قد مَاتَ وَوصل الْخَبَر إِلَى الْمُسلمين فأدركوهم ووقفوا على الشُّهَدَاء وقبروهم وجاؤوا إِلَى أيبك فوجدوا فِيهِ الرّوح فنقلوه إِلَى الْخيام وهم يظنون أَنه لَا خلاص لَهُ من الْحمام وَكَانَ فِي أَجله بَاقِيَة فَمن الله عَلَيْهِ بالعافية
فصل فِي نزُول الفرنج - خذلهم الله - على عكا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ بلغنَا بعد ذَلِك أَن الفرنج بصور وَمن كَانَ مَعَ الْملك قد سَارُوا نَحْو النواقير يُرِيدُونَ جِهَة عكا وَأَن بَعضهم نزل بإسكندرونه وَجرى بَينهم وَبَين رجالة الْمُسلمين مناوشة وَقتل مِنْهُم الْمُسلمُونَ نَفرا يَسِيرا وَأَقَامُوا هُنَاكَ
وَلما بلغ السُّلْطَان حركتهم إِلَى تِلْكَ الْجِهَة عظم عَلَيْهِ وَلم ير المسارعة خوفًا من أَن يكون قصدهم ترحيله عَن الشقيف لَا قصد الْمَكَان فَأَقَامَ مستكشفا للْحَال إِلَى يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر رَجَب فوصل قَاصد أخبر أَن الفرنج فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم رحلوا ونزلوا عين بصة وَوصل أوائلهم إِلَى الزيب فَعظم ذَلِك عِنْده وَكتب إِلَى سَائِر أَرْبَاب الْأَطْرَاف بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى الثّقل أَن سَار بِاللَّيْلِ وَأصْبح هُوَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر رَجَب سائرا إِلَى عكا على(4/77)
طَرِيق طبرية اذ لم يكن ثمَّ طَرِيق يسع الْعَسْكَر إِلَّا هُوَ وسير جمَاعَة على طَرِيق تبنين يستشرفون الْعَدو ويواصلون بأخباره
وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا الحولة منتصف النَّهَار فَنزل بهَا سَاعَة ثمَّ رَحل وَسَار طول اللَّيْل حَتَّى أَتَى موضعا يُقَال لَهُ منية صَبِيحَة الثُّلَاثَاء وَفِيه بلغنَا نزُول الفرنج على عكا وسير صَاحب الشقيف إِلَى دمشق بعد الاهانة الشَّدِيدَة على سوء صَنِيعه وَاشْتَدَّ حنقه عَلَيْهِ بِسَبَب تَضْييع ثَلَاثَة أشهر عَلَيْهِ وعَلى عسكره لم يعملوا فِيهَا شَيْئا وَسَار السُّلْطَان جَرِيدَة من الْمنية حَتَّى اجْتمع بِبَقِيَّة الْعَسْكَر الَّذِي كَانَ أنفذه على طَرِيق تبنين بمرج صفورية فَإِنَّهُ كَانَ واعدهم إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى الثّقل أَن يلْحقهُ إِلَى مرج صفورية وَلم يزل حَتَّى شَارف العدومن الخروبة وَبعث بعض الْعَسْكَر وَدخل عكا على غرَّة من الْعَدو تقويه لمن فِيهَا وَلم يزل يبْعَث إِلَيْهَا بعثا بعد بعث حَتَّى حصل فِيهَا خلق كثير
وَسَار من الخروبة إِلَى تل كيسَان فِي أَوَائِل مرج عكا فَنزل عَلَيْهِ وَأمر النَّاس أَن ينزلُوا على التعبية فَكَانَ آخر الميسرة على طرف النَّهر الحلو وَآخر الميمنة مقارب تل العياضية واحتاط الْعَسْكَر الإسلامي بالعدو وَأخذُوا عَلَيْهِم الطّرق من الجوانب وتلاحقت العساكر الإسلامية وَاجْتمعت ورتب اليزك الدَّائِم وَحصر الْعَدو فِي خيامه بِحَيْثُ لَا يخرج مِنْهَا أحد إِلَّا ويجرح أَو يقتل(4/78)
وَكَانَ عَسْكَر الْعَدو على شطر من عكا وخيمة ملكهم على تل المصلبين قَرِيبا من بَاب الْبَلَد وَكَانَ عدد راكبهم ألفي فَارس وَعدد راجلهم ثَلَاثِينَ ألفا
قَالَ وَمَا رَأَيْت من نقصهم عَن ذَلِك وَرَأَيْت من حزرهم بِزِيَادَة على ذَلِك ومددهم من الْبَحْر لَا يَنْقَطِع وَجرى بَينهم وَبَين اليزك مقاتلات عَظِيمَة متواترة والمسلمون يتهافتون على قِتَالهمْ وَالسُّلْطَان يمنعهُم من ذَلِك إِلَى وقته والبعوث من عَسَاكِر الْمُسلمين تتواصل والملوك والأمراء من الأقطار تتتابع وَوصل تَقِيّ الدّين من حماة ومظفر الدّين بن زين الدّين
وَفِي أثْنَاء هَذِه الْحَال توفّي الحسام سنقر الخلاطي باسهال شَدِيد وَكَانَ شجاعا دينا فأسف الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ
وَلما استفحل أَمر الفرنج استداروا بعكا بِحَيْثُ منعُوا من الدُّخُول وَالْخُرُوج مِنْهَا وَذَلِكَ سلخ رَجَب فَعظم على السُّلْطَان وضاق صَدره وثارت همته الْعَالِيَة فِي فتح الطَّرِيق إِلَى عكا لتستمر السابلة إِلَيْهَا بالميرة والنجدة فباكرهم مستهل شعْبَان وضايقهم مضايقة شَدِيدَة فَكَانَت الحملة بعد صَلَاة الْجُمُعَة وانتشر عَسْكَر الْعَدو إِلَى أَن ملكوا التلول وَكَانَت ميسرَة عَسْكَرهمْ إِلَى النَّهر الحلو آخذة إِلَى الْبَحْر وميمنتهم قبالة القلعة الْوُسْطَى الَّتِي لعكا واتصلت الْحَرْب إِلَى أَن حَال بَين الفئتين هجوم اللَّيْل وَبَات النَّاس(4/79)
على حَالهم من الْجَانِبَيْنِ شاكين فِي السِّلَاح تحرس كل طَائِفَة نَفسهَا من الْأُخْرَى
وَأَصْبحُوا ثَانِي شعْبَان يَوْم السبت على الْقِتَال وأنفذ السُّلْطَان طَائِفَة من شجعان الْمُسلمين إِلَى الْبَحْر من شمَالي عكا وَلم يكن هُنَاكَ لِلْعَدو خيم لَكِن عسكره كَانَ قد امْتَدَّ جَرِيدَة شمَالي عكا إِلَى الْبَحْر فَحمل شجعان الْمُسلمين على عَسْكَر الفرنج الْوَاقِف شمَالي عكا فانكسروا بَين أَيْديهم كسرة عَظِيمَة وَقتلُوا مِنْهُم جمعا كَبِيرا وانكف السالمون مِنْهُم إِلَى خيامهم وهجم الْمُسلمُونَ خَلفهم إِلَى أَوَائِل خيامهم ووقف اليزك الإسلامي مَانِعا من أَن يخرج من عَسْكَرهمْ خَارج أَو يدْخل إِلَيْهِ دَاخل وَانْفَتح الطَّرِيق إِلَى عكا من بَاب القلعة الْمُسَمَّاة بقلعة الْملك إِلَى بَاب قراقوش الَّذِي جدده وَصَارَ الطَّرِيق مهيعا يمر فِيهِ السوقى وَمَعَهُ الْحَوَائِج ويمر بِهِ الراجل الْوَاحِد وَالْمَرْأَة واليزك بَين الطَّرِيق وَبَين الْعَدو
وَدخل السُّلْطَان فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى عكا ورقي على السُّور وَنظر إِلَى عَسْكَر الْعَدو وتراجع النَّاس عَن الْقِتَال بعد صَلَاة الظّهْر لسقي الدَّوَابّ وَأخذ الرَّاحَة وَلم يعودوا إِلَى الْقِتَال
وَأَصْبحُوا يَوْم الْأَحَد فَرَأى بعض الْأُمَرَاء تَأْخِير الْقِتَال إِلَى أَن يدْخل الراجل كُله إِلَى عكا ويخرجوا مَعَ الْعَسْكَر الْمُقِيم بهَا من أَبْوَاب الْبَلَد على الْعَدو من وَرَائه وتركب العساكر من خَارج من(4/80)
سَائِر الجوانب ويحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد وَالسُّلْطَان رَحمَه الله يعاني هَذِه الْأُمُور كلهَا بِنَفسِهِ ويصافحها بِذَاتِهِ لَا يتَخَلَّف عَن مقَام من هَذِه المقامات وَهُوَ من شدَّة حرصه ووفور همته كالوالدة الثكلى
وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أطبائه أَنه بَقِي من يَوْم الْجُمُعَة إِلَى يَوْم الْأَحَد لم يتَنَاوَل من الْغذَاء إِلَّا شَيْئا يَسِيرا لفرط اهتمامه وفعلوا مَا كَانَ عزموا عَلَيْهِ واشتدت مَنْعَة الْعَدو وَحمى نَفسه فِي خيامه وَلم تزل سوق الْحَرْب قَائِمَة تبَاع فِيهَا النُّفُوس بالنفائس وتمطر سَمَاء حربها الرؤوس من كل رَئِيس ومترائس حَتَّى كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثامن شعْبَان عزم الْعَدو على الْخُرُوج بجموعهم فَخرج راجلهم وفارسهم وامتدوا على التلول وَسَارُوا الهوينا غير مفرطين فِي نُفُوسهم وَلَا خَارِجين من راجلهم والرجالة حَولهمْ كالسور الْمَبْنِيّ يَتْلُو بَعضهم بَعْضًا حَتَّى قاربوا خيام اليزك فصاح السُّلْطَان بالعساكر الإسلامية فَرَكبُوا بأجمعهم وحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد فَعَاد الْعَدو ناكصا على عَقِبَيْهِ وَالسيف يعْمل فيهم فالسالم مِنْهُم جريح والعاطب طريح يَشْتَدُّونَ هزيمَة يعثر جريحهم بقتيلهم وَلَا تلوي الْجَمَاعَة مِنْهُم على قبيلهم حَتَّى لحق بخيامهم من سلم مِنْهُم وانكفوا عَن الْقِتَال أَيَّامًا وَكَانَ قصاراهم أَن يحفظوا نُفُوسهم ويحرسوا رؤوسهم وَاسْتمرّ فتح طَرِيق عكا والمسلمون يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا(4/81)
قَالَ وَكنت مِمَّن دخل ورقي على السُّور ودام الْقِتَال بَين الفئتين مُتَّصِلا اللَّيْل مَعَ النَّهَار حَتَّى كَانَ الْحَادِي عشر من شعْبَان وَرَأى السُّلْطَان رَحمَه الله توسيع الدائرة عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يخرجُون إِلَى مصَارِعهمْ فَنقل الثّقل إِلَى تل العياضية وهوتل قبالة تل المصلبين مشرف على عكا وخيام الْعَدو وَفِي هَذِه الْمنزلَة توفّي حسام الدّين طمان وَكَانَ من شجعان الْمُسلمين وَدفن فِي سطح هَذَا التل وَصليت عَلَيْهِ مَعَ جمَاعَة من الْفُقَهَاء لَيْلَة نصف شعْبَان
وَبلغ السُّلْطَان أَن جمعا من الْعَدو يخرجُون للاحتشاش من طرف النَّهر مِمَّا ينْبت عَلَيْهِ فكمن لَهُم جمَاعَة من الْعَرَب وَقصد الْعَرَب لخفتهم على خيلهم فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم خلقا عَظِيما وأسروا جمَاعَة وأحضروا رؤوسا عدَّة بَين يَدَيْهِ وَذَلِكَ يَوْم السبت سادس عشر شعْبَان
وَفِي عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَقع بَين الْعَدو وَبَين أهل الْبَلَد حَرْب عَظِيمَة قتل فِيهَا جمع عَظِيم من الطَّائِفَتَيْنِ وَطَالَ الْأَمر بَين الفئتين وَمَا يَخْلُو يَوْم عَن قتل وجرح وَسبي وَنهب وَأنس الْبَعْض بِالْبَعْضِ بِحَيْثُ إِن الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتَا تتحدثان وتتركان الْقِتَال وَرُبمَا غنى الْبَعْض ورقص الْبَعْض لطول المعاشرة ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْقِتَال بعد سَاعَة وسئموا يَوْمًا فَقَالُوا إِلَى كم يتقاتل الْكِبَار وَلَيْسَ للصغار(4/82)
حَظّ نُرِيد أَن يصطرع صبيان صبي منا وَصبي مِنْكُم فَأخْرج صبيان من الْبَلَد إِلَى صبين من الفرنج فَوَثَبَ أحد الصَّبِيَّيْنِ الْمُسلمين على أحد الصَّبِيَّيْنِ الْكَافرين فَاحْتَضَنَهُ وَضرب بِهِ الأَرْض وَأَخذه أَسِيرًا فَاشْتَرَاهُ بعض الفرنج بدينارين وَقَالُوا هُوَ أسيرك حَقًا فَأخذ الدينارين وَأطْلقهُ
قَالَ وَوصل مركب فِيهِ خيل فهرب مِنْهَا فرس وَوَقع فِي الْبَحْر وَمَا زَالَ يسبح وهم حوله يردونه حَتَّى دخل ميناء عكا وَأَخذه الْمُسلمُونَ
قلت وَذكر الْعِمَاد كل هَذِه الوقائع والنوادر فِي كِتَابه بألفاظه المسجوعة
وَقَالَ وَكَانَ من رَأْي السُّلْطَان أَن يسايرهم فِي الطَّرِيق ويواقعهم عِنْد الْمضيق ويقطعهم عَن الْوُصُول ويدفعهم عَن النُّزُول فانهم إِذا نزلُوا صَعب نزالهم وأتعب قِتَالهمْ وَقَالُوا - يَعْنِي أمراءه - بل نمضي على أسهل الطّرق فَسَار الثّقل من اللَّيْل على طَرِيق الملاحة وسرنا على جب يُوسُف إِلَى الْمنية وَجِئْنَا عصر يَوْم الثُّلَاثَاء وَالسُّلْطَان نَازل بِأَرْض كفركنا وَنزل يَوْم الْأَرْبَعَاء على جبل الخروبة وَنزل الفرنج على عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر محيطين بهَا للحصر وَضرب الْملك الْعَتِيق خيمة على تل المصلبة وربطت مراكبهم بشاطىء الْبَحْر فَكَانَت كالآجام المؤتشبة
ثمَّ عبأ السُّلْطَان جَيْشه وَنزل بمرج عكا على تل كيسَان(4/83)
وصرنا محاصرين للمحاصرين قد أحطنا الْعَدو وَهُوَ بِالْبَلَدِ مُحِيط واستشطنا مِنْهُ وَهُوَ مستشيط وأحطنا بأولئك الْكَفَرَة إحاطة النَّار بِأَهْلِهَا ومنعنا الطّرق من ورائهم فِي وعرها وسهلها ورتبنا بالزيب والنواقير رجَالًا يصدونهم عَن سبلها ودمنا نصدهم ونصدمهم ويوجدهم الْبَحْر ونعدمهم واستدارت الفرنج بعكا كالدائرة بالمركز وَزَادُوا من جانبنا فِي التحرس والتحرز وَذَلِكَ فِي آخر رَجَب لانسلاخه وَالْإِسْلَام ينادينا باستصراخه
وَأصْبح السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة مستهل شعْبَان واتفقت الآراء على أَن يكون اللِّقَاء وَقت الصَّلَاة عِنْد ارْتِفَاع الدَّعْوَات على المنابر الإسلامية فأحاط الْعَسْكَر الإسلامي بجوانبهم فكدر عَلَيْهِم صفو مشاربهم وفلل مضاء مضاربهم وهم فِي مواضعهم واقفون وعَلى مصَارِعهمْ عاكفون وَفِي مواطنهم ثابتون كالبنيان المرصوص مَا فِيهِ خلل وكالحلقة المفرغة مَا إِلَيْهَا مدْخل وكالسور الْمُحِيط مَا عَلَيْهِ متسلق وكالجبل الأشم مَا فِيهِ مُتَعَلق
فزحفنا إِلَيْهِم فَلم يبرجوا وقربنا مِنْهُم فَلم ينزحوا وحملنا عَلَيْهِم فَأخذُوا الضَّرْبَة وَلم يعطوها وَكلما قتل وَاحِد وقف آخر مقَامه حَتَّى دخل اللَّيْل وحجز
وحملوا من الْغَد من جَانب الْبَحْر شمَالي عكا فَانْهَزَمَ الفرنج إِلَى تل المصلبة نَحْو الْقبَّة وثبتوا عِنْد الوثبة وَانْفَتح لنا طَرِيق عكا فَدَخلَهَا الرِّجَال وحملت إِلَيْهَا الغلال والفرنج قد رهبوا(4/84)
وَلَو قدرُوا لهربوا وأصحابنا رَأَوْا أَن انفتاح بَاب الْبَلَد غنيمَة فتوقفوا عَن إتْمَام الْعَزِيمَة وَلَو أَنهم استمروا لبادوا الْعَدو بِسُرْعَة فَإِن للصدمة الأولى فِي الروع روعة فَبَلع الْعَدو رِيقه وَوجد إِلَى الْجلد طَريقَة ووقفوا كالسور من وَرَاء الجنويات والتراس والقنطاريات وصوبوا الجروخ وفوقوها وجمعوا الْعدَد وعَلى الرِّجَال فرقوها وَكَانُوا فِي عدد الرمل ومدد النَّمْل وهم كل يَوْم فِي ازدياد وَالْبَحْر يمدهُمْ بالأمداد وشرعوا فِي حفر الْخَنَادِق وسد المضائق وَنصب الطوارق وَالسُّلْطَان ساهر للْمُسلمين فِي ليلهم قَائِم بأمرهم فِي نهارهم
وَمن كتاب فاضلي فِي بعض الوقعات فاستدارت بهم رجال الجاليشية تقذف شياطينهم بشهابها وتهوي إِلَى أوكار أفئدتهم طير نشابها وتجنيهم من القنا والنشاب ثَمَر الردى متشابها وَقد ارْتَفع الْإِسْلَام إِلَى دَرَجَات سَيذكرُ أمرهَا وانخفض الْكفْر إِلَى دركات سيمر ذكرهَا فالنصرخافق علمه وَكتاب الْبشَارَة قد استمد قلمه وَقد وثقنا بلطف الله تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي فتأهبت الخواطر لمعاني المسار وأعدت أَلْفَاظ الْبُشْرَى المهداة إِلَى كَافَّة الْبشر من(4/85)
الاستبشار فَإِن الفرنج محصورون والنازل المحصور كالمركب المكسور والنصر قد أعرب لعسكر الْإِسْلَام وَالْكفْر جَار ومجرور
فصل فِي المصاف الْأَعْظَم على عكا وَهِي الْوَقْعَة الْكُبْرَى الَّتِي بدأت بالسوأى وختمت بِالْحُسْنَى
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان تحركت عَسَاكِر الفرنج حَرَكَة لم يكن لَهُم بِمِثْلِهَا عَادَة فارسهم وراجلهم وَكَبِيرهمْ وصغيرهم وَاصْطَفُّوا خَارج خيمهم قلبا وميمنة وميسرة وَفِي الْقلب الْملك وَبَين يَدَيْهِ الانجيل مَحْمُول مَسْتُور بِثَوْب أطلس نقطي يمسك أَرْبَعَة أنفس أَرْبَعَة أَطْرَافه وهم يَسِيرُونَ بَين يَدي الْملك
وامتدت الميمنة فِي مُقَابلَة ميسرَة الْمُسلمين من أَولهَا إِلَى آخرهَا وامتدت ميسرَة الْعَدو فِي مُقَابلَة ميمنتنا إِلَى آخرهَا وملكوا رُؤُوس التلال فَكَانَ طرف ميمنتهم إِلَى النَّهر وطرف ميسرتهم إِلَى الْبَحْر وَأمر السُّلْطَان الجاووش أَن يُنَادي فِي النَّاس يَا للاسلام وعساكر الْمُوَحِّدين فَركب النَّاس وَقد باعوا أنفسهم بِالْجنَّةِ وامتدت الميمنة إِلَى الْبَحْر كل قوم يركبون ويقفون بَين يَدي خيامهم والميسرة إِلَى النَّهر كَذَلِك أَيْضا(4/86)
وَكَانَ السُّلْطَان قد أنزل النَّاس فِي الخيم ميمنة وميسرة وَقَلْبًا تعبية الْحَرْب حَتَّى إِذا وَقعت صَيْحَة لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيد تَرْتِيب وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَفِي ميمنة الْقلب وَلَده الْأَفْضَل ثمَّ وَلَده الظافر ثمَّ عَسْكَر المواصلة مقدمهم ظهير الدّين ابْن البلنكري ثمَّ عَسْكَر ديار بكر فِي خدمَة قطب الدّين صَاحب الْحصن ثمَّ حسام الدّين عمر بن لاجين صَاحب نابلس ثمَّ قايماز النجمي وجموع عَظِيمَة متصلين بِطرف الميمنة وَكَانَ فِي طرفها الْملك المظفر تَقِيّ الدّين بجحفله وَعَسْكَره وهومطل على الْبَحْر
وَأما أَوَائِل الميسرة فَكَانَ مِمَّا يَلِي الْقلب سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب من كبار مُلُوك الأكراد ومقدميهم والأمير مجلي وَجَمَاعَة المهرانية والهكارية وَمُجاهد الدّين يرنقش مقدم عَسْكَر سنجار وَجَمَاعَة من المماليك ثمَّ مظفر الدّين بن زين الدّين بجحفله وَعَسْكَره
وأواخر الميسرة كبار المماليك الأَسدِية كسيف الدّين يازكوج ورسلان بغا وَجَمَاعَة الأَسدِية الَّذين يضْرب بهم الْمثل وَفِي مُقَدّمَة الْقلب الْفَقِيه عِيسَى وَجمعه هَذَا وَالسُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى يطوف على الأطلاب بِنَفسِهِ يحثهم على الْقِتَال ويدعوهم إِلَى النزال ويرغبهم فِي نصْرَة دين الله
وَلم يزل الْقَوْم يتقدمون والمسلمون يقدمُونَ حَتَّى علا النَّهَار وَمضى فِيهِ أَربع سَاعَات وَعند ذَلِك تحركت ميسرَة الْعَدو على ميمنة الْمُسلمين وَأخرج لَهُم تَقِيّ الدّين الجاليش وَجرى بَينهم(4/87)
قلبات كَثِيرَة وتكاثروا على تَقِيّ الدّين وَكَانَ فِي طرف الميمنة على الْبَحْر فتراجع عَنْهُم شَيْئا إطماعا لَهُم لَعَلَّهُم يبعدون عَن أَصْحَابهم فينال مِنْهُم غَرضا فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان قد تَأَخّر ظن بِهِ ضعفا فأمده بأطلاب عدَّة من الْقلب حَتَّى قوي جَانِبه وتراجعت ميسرَة الْعَدو وَاجْتمعت على تل مشرف على الْبَحْر وَلما رأى الَّذين فِي مُقَابلَة الْقلب ضعف الْقلب وَمن خرج مِنْهُ من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نَحْو ميمنة الْقلب وحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد راجلهم وفارسهم
قَالَ وَلَقَد رَأَيْت الرجالة تسير سير الخيالة وَلَا يسبقونها وهم يَسِيرُونَ خببا
وَجَاءَت الحملة على الدياربكرية كَمَا يَشَاء الله تَعَالَى وَكَانَ بهم غرَّة عَن الْحَرْب فتحركوا بَين يَدي الْعَدو وانكسروا كسرة عَظِيمَة وسرى الْأَمر حَتَّى انْكَسَرَ مُعظم الميمنة وَاتبع الْعَدو المنهزمين إِلَى العياضية فَإِنَّهُم استداروا حول التل وَصعد طَائِفَة من الْعَدو إِلَى خيم السُّلْطَان فَقتلُوا طشت دَار كَانَ هُنَاكَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد إِسْمَاعِيل المكبس وَابْن رَوَاحَة رحمهمَا الله تَعَالَى وَأما الميسرة فَإِنَّهَا ثبتَتْ فَإِن الحملة لم تصادفها(4/88)
وَأما السُّلْطَان رَحمَه الله فَإِنَّهُ أَخذ يطوف على الأطلاب ينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الْجِهَاد وينادي فيهم يَا للاسلام وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خَمْسَة أنفس وَهُوَ يطوف ويتخرق الصُّفُوف وَأَوَى إِلَى تَحت التل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْخيام
وَأما المنهزمون من الْعَسْكَر فَإِنَّهُم بلغت هزيمتهم إِلَى القحوانة قَاطع جسر طبرية وَتمّ مِنْهُم قوم إِلَى دمشق وَأما المتبعون لَهُم فانهم اتَّبَعُوهُمْ إِلَى العياضية فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قد صعدوا الْجَبَل رجعُوا عَنْهُم عائدين إِلَى عَسْكَرهمْ فَلَقِيَهُمْ جمَاعَة من الغلمان والخربندية والساسة منهزمين على بغال الْحمل فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة ثمَّ جاؤوا على رَأس السُّوق فَقتلُوا جمَاعَة وَقتل مِنْهُم جمَاعَة فَإِن السُّوق كَانَ فِيهِ خلق عَظِيم وَلَهُم سلَاح
وَأما الَّذين صعدوا الخيم السُّلْطَانِيَّة فَإِنَّهُم لم يلتمسوا مِنْهَا شَيْئا أصلا سوى أَنهم قتلوا من ذَكرْنَاهُ وهم ثَلَاثَة نفر ثمَّ رَأَوْا ميسرَة الْإِسْلَام ثَابِتَة فَعلم وَا أَن الكسرة لم تتمّ فعادوا منحدرين من التل يطْلبُونَ عَسْكَرهمْ
وَأما السُّلْطَان فانه كَانَ وَاقِفًا تَحت التل وَمَعَهُ نفر يسير وَهُوَ يجمع النَّاس ليعودوا إِلَى الحملة على الْعَدو فَلَمَّا رأى الفرنج نازلين من التل أَرَادوا لقاءهم فَأَمرهمْ بِالصبرِ إِلَى أَن ولوا ظُهُورهمْ واشتدوا يطْلبُونَ أَصْحَابهم فصاح فِي النَّاس وحملوا(4/89)
عَلَيْهِم وطرحوا مِنْهُم جمَاعَة وَاشْتَدَّ الطمع فيهم وتكاثر النَّاس ورائهم حَتَّى لَحِقُوا أَصْحَابهم والطرد وَرَاءَهُمْ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ منهزمين والمسلمون وَرَاءَهُمْ فِي عدد كثير ظنُّوا أَن من حمل مِنْهُم قد قتل وَأَنه إِنَّمَا نجا مِنْهُم هَذَا النَّفر فَقَط وَأَن الْهَزِيمَة قد عَادَتْ عَلَيْهِم فاشتدوا فِي الْهَرَب والهزيمة وتحركت الميسرة عَلَيْهِم
وَعَاد الْملك المظفر بجمعه من الميمنة وتحايا الرِّجَال وتداعت وتراجع النَّاس من كل جَانب وَكذب الله الشَّيْطَان وَنصر الايمان وظل النَّاس فِي قتل وَطرح وَضرب وجرح إِلَى أَن اتَّصل المنهزمون السالمون إِلَى عَسْكَر الْعَدو فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فِي الْخيام فَخرج مِنْهُم أطلاب كَانُوا أعدوها - خشيَة من هَذَا الْأَمر - مستريحة فَردُّوا الْمُسلمين وَكَانَ التَّعَب قد أَخذ من النَّاس وَالْخَوْف والعرق قد ألجمهم فتراجع النَّاس عَنْهُم بعد صَلَاة الْعَصْر يَخُوضُونَ فِي الْقَتْلَى وَدِمَائِهِمْ فرحين مسرورين
وَعَاد السُّلْطَان وجلسوا فِي خدمته يتذاكرون من فقد مِنْهُم فَكَانَ مِقْدَار من فقد مِنْهُم من الغلمان والمجهولين مئة وَخمسين نَفرا وَمن المعروفين اسْتشْهد فِي ذَلِك الْيَوْم ظهير الدّين أَخُو الْفَقِيه عِيسَى - رَحمَه الله - وَلَقَد رَأَيْته وهوجالس يضْحك وَالنَّاس يعزونه وَهُوَ يُنكر عَلَيْهِم وَيَقُول هَذَا يَوْم الهناء لَا يَوْم العزاء وَكَانَ قد وَقع هُوَ من فرسه - رَحمَه الله - وأركبه وَقتل عَلَيْهِ جمَاعَة من أَقَاربه وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم الْأَمِير مجلي يَعْنِي ابْن مَرْوَان
وَزَاد العما والحاجب خَلِيل الهكاري(4/90)
ثمَّ قَالَ القَاضِي هَذَا الَّذِي قتل من الْمُسلمين وَأما الْعَدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلَاف نفر ورأيتهم وَقد حملُوا إِلَى شاطىء النَّهر ليلقوا فِيهِ فحرزتهم بِدُونِ سَبْعَة آلَاف
وَلما تمّ على الْمُسلمين من الْهَزِيمَة مَا تمّ راى الغلمان خلو الْخيام عَمَّن يعْتَرض عَلَيْهِم فان الْعَسْكَر انقسم إِلَى منهزمين ومقاتلين فَلم يبْق فِي الخيم أحد وَرَأَوا الكسرة قد وَقعت ظنُّوا أَنَّهَا تتمّ وَأَن الْعَدو ينهب جَمِيع مَا فِي الخيم فوضعوا أَيْديهم فِي الخيم ونهبوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَذهب من النَّاس أَمْوَال عَظِيمَة وَكَانَ ذَلِك أعظم من الكسرة وَقعا
فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى الخيم وَرَأى مَا قد تمّ على النَّاس من نهب الْأَمْوَال والهزيمة سارع فِي الْكتب وَالرسل فِي رد المنهزمين وتتبع من شَذَّ من الْعَسْكَر وَالرسل يتتابع فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى بلغت عقبَة فيق فردوهم وأخبروهم بالكرة للْمُسلمين فعادوا
وَأمر بِجمع الأقمشة من أكف الغلمان وَجمع الأقمشة فِي خيمته حَتَّى جلالات الْخَيل والمخالي وَهُوَ جَالس وَنحن حوله وَهُوَ يتَقَدَّم إِلَى كل من عرف شَيْئا وَحلف عَلَيْهِ يسلم إِلَيْهِ وَهُوَ يتلَقَّى هَذِه الْأَحْوَال بقلب صلب وَصدر رحب وَوجه منبسط ورأي مُسْتَقِيم واحتساب لله تَعَالَى وَقُوَّة عزم فِي نصْرَة دينه
وَأما الْعَدو المخذول فانه عَاد إِلَى خيمه وَقد قتلت(4/91)
شجعانهم وفقدت مُلُوكهمْ وطرحت مقدموهم وَأمر السُّلْطَان أَن يخرج من عكا عجل يسْحَبُونَ عَلَيْهِ] الْقَتْلَى مِنْهُم إِلَى طرف النَّهر ليلقوا فِيهِ
قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض من ولي أَمر الْعجل أَنه أَخذ خيطا وَكَانَ كلما أَخذ قَتِيل عقد عقدَة فَبلغ عدد قَتْلَى الميسرة أَرْبَعَة آلَاف ومئة وكسرا وَبَقِي قَتْلَى الميمنة وقتلى الْقلب لم يعدهم فَإِنَّهُ ولي أَمرهم غَيره وَبَقِي من الْعَدو بعد ذَلِك من حمى نَفسه وَأَقَامُوا فِي خيمهم لم يكترثوا بجحافل الْمُسلمين وعساكرهم وتشذب من عَسَاكِر الْمُسلمين خلق كثير بِسَبَب الْهَزِيمَة فَإِنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْهَا إِلَّا رجل مَعْرُوف خَافَ على نَفسه وَالْبَاقُونَ ذَهَبُوا فِي حَال سبيلهم
وَأخذ السُّلْطَان فِي جمع الْأَمْوَال المنهوبة وإعادتها إِلَى أَصْحَابهَا وَأقَام المنادية فِي العساكر وَقرن النداء بالوعيد والتهديد وَهُوَ يتَوَلَّى تفرقتها بِنَفسِهِ بَين يَدَيْهِ وَاجْتمعَ من الأقمشة عدد كثير فِي خيمته حَتَّى إِن الْجَالِس فِي أحد الطَّرفَيْنِ لَا يرى الْجَالِس فِي الطّرف الآخر وَأقَام من يُنَادي على من ضَاعَ مِنْهُ شَيْء] فَحَضَرَ(4/92)
الْخلق وَصَارَ من عرف شَيْئا وَأعْطى علامته حلف عَلَيْهِ وَأَخذه من الْحَبل والمخلاة إِلَى الْهِمْيَان والجوهرة وَلَقي من ذَلِك مشقة عَظِيمَة وَلَا يرى ذَلِك إِلَّا نعْمَة من الله تَعَالَى يشْكر عَلَيْهَا ويسابق بيد الْقبُول إِلَيْهَا وَلَقَد حضرت يَوْم تَفْرِقَة الأقمشة على أربهابها فَرَأَيْت سوقا للعدل قَائِمَة لم ير فِي الدُّنْيَا أعظم مِنْهَا وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان
قَالَ وَعند انْقِضَاء هَذِه الْوَقْعَة وَسُكُون نائرتها أَمر السُّلْطَان بالثقل حَتَّى تراجع إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ الخروبة خشيَة على الْعَسْكَر من أراييح الْقَتْلَى وآثار الْوَقْعَة من الوخم وَهُوَ مَوضِع قريب من مَكَان الْوَقْعَة إِلَّا أَنه أبعد عَنْهَا من الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ بِقَلِيل وَضربت لَهُ خيمة عِنْد الثّقل وَأمر اليزك أَن يكون مُقيما فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ واستحضر الْأُمَرَاء وأرباب المشورة فِي سلخ الشَّهْر ثمَّ أَمرهم بالاصغاء إِلَى كَلَامه وَكنت من جملَة الْحَاضِرين ثمَّ قَالَ بِسم الله وَالْحَمْد الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله اعلموا أَن هَذَا عَدو الله وعدونا قد نزل فِي بلدنا وَقد وطىء أَرض الْإِسْلَام وَقد لاحت لوائح النُّصْرَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد بَقِي فِي هَذَا الْجمع الْيَسِير وَلَا بُد من الاهتمام بقلعه وَالله قد أوجب علينا ذَلِك وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن هَذِه(4/93)
عساكرنا لَيْسَ وَرَاءَنَا نجدة ننتظرها سوى الْملك الْعَادِل وَهُوَ وَاصل وَهَذَا الْعَدو إِن بَقِي وَطَالَ أمره إِلَى أَن ينفتح الْبَحْر جَاءَهُ مدد عَظِيم والرأي كل الرَّأْي عِنْدِي مناجزته فليخبرنا كل مِنْكُم مَا عِنْده فِي ذَلِك
وَكَانَ ذَلِك فِي ثَالِث عشر تشرين - يَعْنِي الثَّانِي - من الشُّهُور الشمسية فانفصلت آراؤهم على أَن الْمصلحَة تَأَخّر الْعَسْكَر إِلَى الخروبة وَأَن يبْقى الْعَسْكَر أَيَّامًا حَتَّى يستجم من حمل السِّلَاح وَترجع نُفُوسهم إِلَيْهِم فقد أَخذ مِنْهُم التَّعَب وَاسْتولى على نُفُوسهم الضجر وتكليفهم أمرا على خلاف مَا تحمله القوى لَا تؤمن غائلته وَالنَّاس لَهُم خَمْسُونَ يَوْمًا تَحت السِّلَاح وَفَوق الْخَيل وَالْخَيْل قد ضجرت من عَرك اللجم وَعند أَخذ حَظّ من الرَّاحَة ترجع نفوسها إِلَيْهَا ويصل الْملك الْعَادِل ويشاركنا فِي الرَّأْي وَالْعَمَل ونستعيد من شَذَّ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا فِي مُقَابلَة الرجالة وَكَانَ بالسلطان - رَحمَه الله - التياث مزاجي قد عراه من كَثْرَة مَا حمل على قلبه وَمَا عاناه من التَّعَب بِحمْل السِّلَاح والفكر فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَوَقع لَهُ مَا قَالُوهُ وَرَآهُ مصلحَة فَأَقَامَ يصلح مزاجه وَيجمع العساكر إِلَى عَاشر رَمَضَان
قَالَ وَكَانَ لما بلغه خبر الْعَدو وقصده عكا جمع الْأُمَرَاء وَأَصْحَاب الرَّأْي بمرج عُيُون وشاورهم فِيمَا يصنع وَكَانَ رَأْيه -(4/94)
رَحمَه الله - أَن قَالَ الْمصلحَة مناجزة الْقَوْم ومنعهم من النُّزُول على الْبَلَد وَإِلَّا إِن نزلُوا جعلُوا الرجالة سورا لَهُم وحفروا الْخَنَادِق وصعب علينا الْوُصُول إِلَيْهِم وَخيف على الْبَلَد مِنْهُم وَكَانَت إِشَارَة الْجَمَاعَة أَنهم إِذا نزلُوا وَاجْتمعت العساكر قلعناهم فِي يَوْم وَاحِد وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ وَالله لقد سَمِعت مِنْهُ هَذَا القَوْل وشاهدت الْفِعْل كَمَا قَالَ
وَقَالَ الْعِمَاد عبأ السُّلْطَان ميمنته وميسرته وَطلب من الله نصرته وَهُوَ يمر بالصفوف وَيَأْمُر بِالْوُقُوفِ ويحض على حَظّ الْأَبَد ويحث على الجلاد وَالْجَلد
قَالَ وَكنت فِي جمَاعَة من أهل الْفضل قد ركبنَا فِي ذَلِك الْيَوْم ووقفنا على التل نشاهد الْوَقْعَة وَنحن على بغال بِغَيْر أهبة قتال فَرَأَيْنَا الْعَسْكَر موليا والمنهزم عَمَّا تَركه من خيامه ورحله متخليا فوصلنا إِلَى طبرية فِيمَن وصل وَوجدنَا ساكنها قد أجفل فسقنا إِلَى جسر الصنبرة ونزلنا على شرقيه وكل منا ذاهل عَن شبعه وريه وَمن المنهزمين من بلغ عقبَة فيق وَهُوَ غير مُفِيق وَمِنْهُم من وصل إِلَى دمشق وَهُوَ غير معرج على طَرِيق
وَوصل جمَاعَة من الفرنج إِلَى خيمة السُّلْطَان وجالوا جَوْلَة ثمَّ رَأَوْا انْقِطَاع أشياعهم عَنْهُم فانحدروا عَن التل واستقبلهم أَصْحَابنَا فَرَكبُوا أكتافهم وحكموا فِي رقابهم أسيافهم وَكَانَ ميسرتنا(4/95)
عَسْكَر سنجار والأسدية فَمَا زلوا وَلَا زَالُوا بل وصلوا وصالوا وحملت عَلَيْهِم ميمنة الفرنج فَكَأَنَّمَا مرت الرِّيَاح بالجبال وَعَاد من كَانَ من الميمنة مثل تَقِيّ الدّين وقايماز النجمي والحسام بن لاجين وَمن ثَبت من أبطال الْمُجَاهدين فَلم يفلت من الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وَلم ينج من آلافها إِلَّا آحَاد وَفرس مِنْهُم زهاء خَمْسَة آلَاف فَارس مِنْهُم مقدم الداوية الَّذِي كُنَّا أطلقناه وَذكر أَنهم فِي مئة ألف وَعشْرين ألف حِين سألناه ثمَّ ضربنا عُنُقه وقا فِي الْفَتْح وَعشرَة الآف
وَقَالَ الْعِمَاد وَمن الْعجب أَن الَّذين ثبتوا منا لم يبلغُوا ألفا فَردُّوا مئة ألف وآتاهم الله قُوَّة من بعد ضعف وَكَانَ الْوَاحِد يَقُول قتلت من المثلثين ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين وتركتهم مصرعين وَكَانَ السُّلْطَان من الثابتين فِي تِلْكَ الجولة الكابتين لأهل الصولة وَقد بَقِي وَحده عِنْد تولي الْمُسلمين وَلَا شكّ أَن الله أنزل مَلَائكَته المسومين
حكى بَعضهم قَالَ كنت مُنْهَزِمًا من فَارس مدجج قد لز بقربي حصانه وهز لصلبي سنانه فأيست من الْبَقَاء ثمَّ أَبْطَأت عَليّ طعنته فَالْتَفت فاذا هُوَ وحصانه كِلَاهُمَا ملقى وَمَا بِالْقربِ أحد فَعرفت أَنه نصر إلهي وصنع رباني(4/96)
قَالَ وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مضاربه وَأمر بموارة الشُّهَدَاء وَمن جُمْلَتهمْ الْفَقِيه أَبُو عَليّ بن رَوَاحه وَكَانَ غزير الْفضل قد أكمل الشجَاعَة والرجاحة وَهُوَ شَاعِر مفلق وفقيه مُحَقّق من ولد عبد الله بن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ الْأنْصَارِيّ فِي الشَّهَادَة وَالشعر معرق فطرفه الْأَعْلَى يَوْم مُؤْتَة مَعَ جَعْفَر الطيار وطرفه الْأَقْرَب يَوْم عكا فِي لِقَاء الْكفَّار
قَالَ فِي الْبَرْق وَكَانَ السُّلْطَان قد أنعم عَلَيْهِ فِي حلب بمزرعة وكتبت توقيعه وَأَرَادَ الله تعويقه إِذْ قرب إِلَى الْآخِرَة طَرِيقه وحملت توقيعه إِلَى السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة ليعلم فِيهِ فَمَا علم(4/97)
وراجعته فِي مَعْنَاهُ فَسكت وَمَا تكلم وَكَانَ سَاعَة الْوَقْعَة رَاكِبًا مَعنا ثمَّ قَالَ وقوفنا يطول فَمضى إِلَى خيمته يتودع فَلَمَّا علم باندفاعنا سَاق وَرَاءَنَا فَقطع عمره قبل أَن يقطع الْوَادي وَكَانَ قَالَ لنا لما أصبح رَأَيْت كَأَن رجلا يحلق رَأْسِي فِي الْمَنَام فَقُلْنَا لَهُ هَذَا من أضغاث الأحلام فنقله الله بعد سَاعَة إِلَى دَار السَّلَام
قلت وَلَيْسَ هُوَ من أَوْلَاد ابْن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ ذَاك لم يعقب وَإِنَّمَا فِي أجداده من اسْمه رَوَاحَة وَقد بَيناهُ فِي التَّارِيخ وَالله أعلم
قَالَ وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل الصُّوفِي الْأمَوِي المكبس وَشَيخ من الْحَاشِيَة فِي بَيت الطشت وَغُلَام فِي الخزانة أَمِين على الْبَيْت وَآخَرُونَ صودفوا عِنْد التل فجاءتهم السَّعَادَة وفجأتهم الشَّهَادَة وَهَؤُلَاء سوى من وَقع فِي الْوَقْعَة وَذهب قبل الرّجْعَة
وَأجْمع السُّلْطَان وذوو الآراء على أَنه يصبح الْقَوْم فتفقدوا الْعَسْكَر فَإِذا هُوَ قد غَابَ لما نَاب من الْأَمر وراب وَذَلِكَ أَن غلْمَان العسكرية والأوباش ظنُّوا أَن تِلْكَ الفورة هزيمَة فنهبوا الاثقال وعدوها غنيمَة فَمن عَاد إِلَى رَحْله وجده منهوبا مسلوبا وَكَانَ فِي ظَنّه أَنه فرغ من لِقَاء خطب فلقي خطوبا وأصبحنا وَإِذا الْعَسْكَر مفترق(4/98)
وَالثَّابِت قلق والآمن فرق والغني معدم والجريء متندم
فَهَذَا خلف مَا ذهب من مَاله ذَاهِب وَهَذَا لمن طلب الطَّرِيق بأثقاله طَالب فتفتر ذَلِك الْعَزْم وَتَأَخر ذَلِك الحكم وانتعش الفرنج فِي تِلْكَ الْمدَّة وانتشلوا من تِلْكَ الشدَّة وجاءتهم فِي البحرمراكب أخلفت من عدم وَبنت مَا هدم
وشكونا نَتن رَائِحَة تِلْكَ الْجِيَف فَحملت على الْعجل إِلَى النَّهر ليشْرب من صديدها أهل الْكفْر فَحمل أَكثر من خَمْسَة آلَاف جثة حملت إِلَى النَّار قبل يَوْم الْبعْثَة وأشير على السُّلْطَان بالانتقال إِلَى الخروبة عِنْد خيم الأثقال المضروبة فَسَار إِلَيْهَا رَابِع رَمَضَان وَأمر أهل عكا بإغلاق أَبْوَابهَا وإحكام أَسبَابهَا فَوجدَ الفرنج بذلك الْفرج وشرعوا فِي حفر خَنْدَق على معسكرهم حوالي عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وأخرجوا مَا كَانَ فِي مراكبهم من آلَات الْحصْر وَفِي كل يَوْم يأتينا اليزكية بخبرهم وَبِمَا ظهر من أَثَرهم وَالْجد فِي تعميق الخَنْدَق وتتميم محتفرهم فَكَانَ من قَضَاء الله أَنا أغفلناهم وأمهلناهم بل أهملناهم حَتَّى عمقوا الحفور ووثقوا من ترابها السُّور فَكَانُوا يخندقون ويعمقون ويعملون من تُرَاب الحفرحولهم سورا فَعَاد مخيمهم بَلَدا مَسْتُورا معمورا فملؤوه بالستائر ومنعوه من الطير الطَّائِر وَبَنوهُ وأسسوه وستروه وترسوه ورتبوا عَلَيْهِ رجَالًا وَلم يتْركُوا إِلَيْهِ لواغل مجالا وَتركُوا فِيهِ ابوابا وفروجا ليظهروا مِنْهَا إِذا أَرَادوا خُرُوجًا
وَلما فرغوا من هَذَا الْأَمر اشتغلوا بالحصر وانقطعت الطَّرِيق(4/99)
على الْمُسلمين إِلَى عكا وَبَان ضعف رَأْي الِانْتِقَال فَإِنَّهُ بَعْدَمَا أضْحك أبكى
وَجَاء كتاب من الْفَاضِل إِلَى الْعِمَاد جَوَابا عَن كِتَابه الْمخبر فِيهِ بوقعة مرج عكا يَقُول فِيهِ وَعرفت مَا جرى على قَضيته فسبحت الله تَعَالَى فَإِن من عجائب قدرته سَلامَة سيدنَا على ضعف حركته وَالْأَمر كَانَ عَظِيما والمدفع أعظم والسلامة كَانَت غَرِيبَة إِلَّا أَن نقُول وَلَكِن الله سلم وَالسُّلْطَان - أعزه الله - إِذا سلم فَكل النَّاس قد سلمُوا وَإِذا وجد وَقد عدم النَّاس كلهم فقد وجدوا وَمَا عدموا وكل جَوْهَر بالاضافة إِلَيْهِ عرض وَهُوَ جَوْهَر بِالْحَقِيقَةِ مَا عَنهُ من كل جَوْهَر عرض
وَمن كتاب لَهُ إِلَى السُّلْطَان أَوله {ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} الْآيَة {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ورد الْكتاب بِخَط مَوْلَانَا من معترك حربه وتوفيق جهاده قبل أَن تضع الْحَرْب أَوزَارهَا وهرع النَّاس إِلَى المجلسين العادلي والعزيزي يَسْتَمِعُون الْأَخْبَار ويستوضحون من وُجُوههمَا الْأَنْوَار ويسألون كَيفَ كَانَ عَاقِبَة أهل الْجنَّة وعاقبة أهل النَّار ويشكرون الله على سَلامَة أديانهم وَقُلُوبهمْ وأبدانهم وسلامة سلطانهم وَمَا أَدْرَاك(4/100)
مَا سَلامَة سلطانهم ونصرة كلمة إِيمَانهم وَدَلَائِل الْخَيْر لَا تخفى وَقد يقْرَأ الْكتب وَمَا يلمح قَارِئهَا مِنْهَا حرفا وتصور النَّاس الْأَمر الَّذِي وقاهم الله شَره وكفاهم أمره
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة بمرج عكا وَغَيره
قَالَ الْعِمَاد وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث رَمَضَان أَخذ أَصْحَابنَا بعكا مركبا للفرنج إِلَى صور مقلعا محتويا على ثَلَاثِينَ رجلا وأمرأة وَاحِدَة ورزمة من الْحَرِير وَجَاءَت حظوة حلوة وغنيمة صفوة وَقد كَانَ انْكَسَرَ نشاطهم وانقبض انبساطهم فَلَمَّا عثروا بالمركب انتعشوا وصاروا يخرجُون وَيقْتلُونَ ويجرحون وَيُمْسُونَ على الْقِتَال ويصبحون وَنَدم الفرنج على تِلْكَ الْحَرَكَة فَإِنَّهَا أفضت بهم إِلَى الهلكة فَإِنَّهُم مَا داموا رابضين وعَلى يَد الصَّبْر قابضين يتَعَذَّر الْوُصُول إِلَيْهِم وَالدُّخُول عَلَيْهِم
وَفِي بعض الْكتب إِلَى بعض الْأَطْرَاف والمرجو من الله سُبْحَانَهُ تَحْرِيك همم الْمُؤمنِينَ فِي تسكين ثائرهم وتخريب عامرهم وَمَا دَامَ الْبَحْر يمدهُمْ وَالْبر لَا يصدهم فبلاء الْبِلَاد بهم دَائِم وَمرض الْقُلُوب بأدوائهم ملازم فَأَيْنَ حمية الْمُسلمين ونخوة أهل الدّين وغيرة أهل الْيَقِين
وَمَا يَنْقَضِي عجبنا من تظافر الْمُشْركين وقعود الْمُسلمين فَلَا(4/101)
ملبي مِنْهُم لمناد وَلَا مثقف لمناد فانظروا إِلَى الفرنج أَي مورد وردوا وَأي حشد حشدوا وَأي ضَالَّة نشدوا وَأي نجدة أنجدوا وأية أَمْوَال غرموها وأنفقوها وجدات جمعوها وتوزعوها فِيمَا بَينهم وفرقوها وَلم يبْق ملك فِي بِلَادهمْ وجزائرهم وَلَا عَظِيم وَلَا كَبِير من عظمائهم وأكابرهم إِلَّا جارى جَاره فِي مضمار الانجاد وبارى نَظِيره فِي الْجد وَالِاجْتِهَاد واستقلوا فِي صون ملتهم بذل المهج والأرواح وأمدوا أجناسهم الأنجاس بأنواع السِّلَاح مَعَ أكفاء الكفاح وَمَا فعلوا مَا فعلوا وَلَا بذلوا مَا بذلوا إِلَّا لمُجَرّد مُتَّصِلَة مَعَ بَعْضهَا الحمية لمتعبدهم والنخوة لمعتقدهم
وَلَيْسَ أحد من الفرنجية يستشعر أَن السَّاحِل إِذا ملك وَرفع فِيهِ حجاب عزهم وهتك يخرج بلد عَن يَده وتمتد يَد إِلَى بَلَده
والمسلمون بِخِلَاف ذَلِك قد وهنوا وفشلوا وغفلوا وكسلوا ولزموا الْحيرَة وعدموا الْغيرَة وَلَو انثنى - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - للاسلام عنان أَو خبا سنا ونبا سِنَان لما وجد فِي شَرق الْبِلَاد وغربها وَبعد الْآفَاق وقربها من لدين الله يغار وَمن لنصرة الْحق على الْبَاطِل يخْتَار
وَهَذَا أَوَان رفض التواني واستدناء أولي الحمية من الأقاصي والأداني على أَنا بِحَمْد الله لنصره راجون وَله باخلاص السِّرّ وسر الاخلاص مناجون وَالْمُشْرِكُونَ - بِإِذن الله - هالكون والمؤمنون آمنون ناجون(4/102)
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب إِلَى مصر يَسْتَدْعِي بأَخيه الْعَادِل فِي رِجَاله فَقدم عَلَيْهِ منتصف شَوَّال وَكتب ايضا فِي طلب الأسطول الْمصْرِيّ فَقدمت خَمْسُونَ قِطْعَة مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ منتصف ذِي الْقعدَة فَجَاءَت فَجْأَة على مراكب الفرنج وبغتتها وسحقتها وبددتها وكبستها وسلبتها وظفر ببطستين كبيرتين بِمَا فيهمَا من أَمْوَالهم ورجالهم وغلالهم
قَالَ وَهَذَا لُؤْلُؤ قد اشتهرت بالْكفْر فتكاته وشكرت فِي الْعَدو نكاياته وَقد تفرد بغزوات لم يُشَارِكهُ فِيهَا أحد وَهُوَ الَّذِي رد الفرنج عَن بَحر الْحجاز ووقف لَهُم على طرق الْمجَاز وَلم يتْرك مِنْهُم عينا تطرف وَلم يبْق لَهُم دَلِيلا يعرف وغزواته مَشْهُورَة وفتكاته مَذْكُورَة وأمواله مبذولة وأكياسه لعقد الانفاق فِي سَبِيل الله محلولة
قَالَ وَنقل السُّلْطَان إِلَى الْبَلَد فِي المراكب جمَاعَة من الْأُمَرَاء بأجنادهم وعددهم وأزوادهم وَاسْتظْهر الْبَلَد أَيْضا بِرِجَال الأسطول وَكَانُوا زهاء عشرَة آلَاف هَذَا ورجالة الْمُسلمين يتطرقون إِلَيْهِم لَيْلًا ويذيقونهم من الْقَتْل والأسر وَالسَّرِقَة ويلا حَتَّى كَانَ رجالنا يختفون(4/103)
بالحشيش فِي أجراف الْأَنْهَار فَإِذا صادفوا فَارِسًا ورد المَاء فاجؤوه بِالْقَتْلِ والاسار
قَالَ وَلما عرف صَاحب الْموصل مَا شرع فِيهِ السُّلْطَان من تَكْثِير الْعدة وتقوية النجدة بِكُل مَا يُمكنهُ من أَسبَاب الْبَأْس والشدة سير من أحمال النفط الْأَبْيَض مَعَ عزة وجوده مَا وجده وَمن التراس والرماح من كل جنس أحكمه وأقومه وأجوده
وكتبنا فِي شكره وصل السِّلَاح وَتمّ للاسلام من قُرُوح الْكفْر الاقتراح فَإِن الْحَرْب المتطاولة المدد أَتَت على جَمِيع الْعدَد وَمن الْعجب أَن الْعدة تفنى وَمَا يفنى العداة وتنمو على الْحَصاد كَأَنَّهَا النَّبَات فالبحر يمدهُمْ وَالْكفْر إِلَى الردى يردهم
وَمن كتاب إِلَى الدِّيوَان قد مَضَت ثَلَاثَة أشهر شهر بهَا التَّثْلِيث على التَّوْحِيد سلاحه وَبسط الْكفْر جنَاحه وَقتل من الفرنج وَعدم فِي الوقعات الَّتِي روعت والروعات الَّتِي وَقعت أكثرمن عشْرين ألف مقَاتل من فَارس وراجل ورامح ونابل فَمَا أثرذلك فِي نقصهم وَلَا أرث إِلَّا نَار حرصهم
وَلَيْسَ هَذَا الْعَدو بِوَاحِد فينجع فِيهِ التَّدْبِير وَيَأْتِي عَلَيْهِ(4/104)
التدمير وَإِنَّمَا هُوَ كل من وَرَاء الْبَحْر وَجَمِيع من فِي دَار الْكفْر فَإِنَّهُ لم يبْق لَهُم مَدِينَة وَلَا بَلْدَة وَلَا جَزِيرَة وَلَا خطة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا جهزت مراكبها وأنهضت كتائبها وتحرك ساكنها وبرز كامنها وثار ثائرها وَسَار سائرها وطار طائرها ونفضت خزائنها وانفضت معادنها وحملت ذخائرها وبذلت أخايرها ونثلت كنائن كنائسها واستخرجت دفائن نفائسها وَخرج يصلبانهم أساقفها وبطاركها وغصت بالأفواج فجاجها ومسالكها وتصلبت للصليب السليب وتعصبت للمصاب الْمُصِيب وَنَادَوْا فِي نواديهم بِأَن الْبلَاء دهم بِلَادهمْ وَأَن إخْوَانهمْ بالقدس أبارهم الْإِسْلَام وأبادهم وَأَنه من خرج من بَيته مُهَاجرا لِحَرْب الْإِسْلَام وهبت لَهُ ذنُوبه وَذَهَبت عَنهُ عيوبه وَمن عجز عَن السّفر سفر بعدته وثروته من قدر فجاؤوا لابسين للحديد بعد أَن كَانُوا لابسين للحداد وتواصلت مِنْهُم الأمداد
قَالَ ووصلت فِي مركب ثَلَاث مئة امْرَأَة فرنجية مستحسنة اجْتَمعْنَ من الجزائر وانتدبن للجرائر واغتربن لاسعاف الغرباء وقصدن بخروجهن تسبيل أَنْفسهنَّ للأشقياء وأنهن لَا يمتنعن من العزبان ورأين أَنَّهُنَّ لَا يتقربن بِأَفْضَل من هَذَا القربان وزعمن أَن هَذِه قربَة مَا فَوْقهَا قربَة لَا سِيمَا فِيمَن اجْتمعت فِيهِ عزبة وغربة
قَالَ وأبق من عسكرنا من المماليك الأغبياء والمدابير الجهلاء(4/105)
جمَاعَة جذبهم الْهوى وَاتبعُوا من غوى فَمنهمْ من رَضِي للذة بالذلة وَمِنْهُم من نَدم على الزلة فتحيل فِي النقلَة فان يَد من لَا يرْتَد لَا تمتد وَأمر الهارب إِلَيْهِم لاتهامه يشْتَد وَبَاب الْهوى عَلَيْهِ يستد وَمَا عِنْد الفرنج على العزباء إِذا أمكنت مِنْهَا العزب حرج وَمَا أزكاها عِنْد القسوس إِذا كَانَ للعزبان المضيقين من فرجهَا فرج
قَالَ ووصلت أَيْضا فِي الْبَحْر امْرَأَة كَبِيرَة الْقدر وافرة الوفر وَفِي جُمْلَتهَا خمس مئة فَارس بخيولهم وأتباعهم وغلمانهم وأشياعهم وَهِي كافلة بِكُل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْمُؤْنَة زَائِدَة بِمَا تنفقه فيهم على المعونة وهم يركبون بركباتها ويحملون بحملاتها ويثبون لوثباتها
وَفِي الفرنج نسَاء فوارس لَهُنَّ دروع وقوانس وَكن فِي زِيّ الرِّجَال ويبرزن فِي حومة الْقِتَال ويعملن عمل أَرْبَاب الحجا وَهن ربات الحجال وكل هَذَا يعتقدنه عبَادَة ويخلن أَنَّهُنَّ يعقدن بِهِ سَعَادَة ويجعلنه لَهُنَّ عَادَة فسبحان الَّذِي أضلهن وَعَن نهج الْهدى أزلهن وَفِي يَوْم الْوَقْعَة قلعت مِنْهُنَّ نسْوَة لَهُنَّ بالفرسان أُسْوَة وفيهن مَعَ لينهن قسوة وَلَيْسَ لَهُنَّ سوى السوابغ كسْوَة(4/106)
فَمَا عرفن حَتَّى سلبن وعرين ومنهن عدَّة سبين واشترين وَأما الْعَجَائِز فقد امْتَلَأت بِهن المراكز وَهن يشددن تَارَة ويرخين ويحرضن وينخين وَيَقُلْنَ إِن الصَّلِيب لَا يرضى إِلَّا بالاباء وَإنَّهُ لَا بَقَاء إِلَّا بالفناء وَإِن قبر معبودهم تَحت اسْتِيلَاء الْأَعْدَاء فَانْظُر إِلَى الِاتِّفَاق فِي الضلال بَين الرِّجَال مِنْهُم وَالنِّسَاء
قَالَ وَفِي آخر هَذِه السّنة ندب السُّلْطَان الرُّسُل إِلَى الأقطار والأمصار للاستنفار والاستنصار وَبث الْكتب وَكتب بالبث وحث الرُّسُل وراسل بالحث وسرح عدنان النجاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن وَشرح فِي الْكتاب إِلَيْهِ مَا جرى من حوادث الزَّمن وَوصف لَهُ جلية الْحَال وَطلب مِنْهُ الاعانة بِالْمَالِ وكوتب مظفر الدّين قزل أرسلان بهمذان بِمَا دنا مِنْهُ عزمه ودان وَحكم على كل ملك بِحجَّة الايمان وَهدى إِلَى محجة الاحسان
وَوصل إِلَى السُّلْطَان رَسُول ابْن أَخِيه لأمه ركن الدّين طغرل بن أرسلان بن طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه وَهُوَ آخر السلاطين السلجوقية يتظلم من عَمه قزل أرسلان وَيطْلب من السُّلْطَان إعانته فَاعْتَذر السُّلْطَان بِمَا هُوَ فِيهِ من شغل الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار وَأرْسل رَسُولا فِي السفارة بَينه وَبَين عَمه جمال الدّين(4/107)
أَبَا الْفَتْح إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد كويه نسيب الْعِمَاد وَكتب إِلَى صَاحب إربل وَإِلَى حسن بن قفجاق ونائبه بشهرزور بالتوفر على خدمته والارتياد لمصلحته وإشاعة معونته
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْأَمِير حسام الدّين سنقرالخلاطي أخص مماليك السُّلْطَان وأخلصهم وَقد قدمه على مماليكه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب
قَالَ وَفِي ثَالِث عشر شعْبَان توفّي الْأَمِير حسام الدّين طمان صَاحب الرقة وَهُوَ من الْمُجَاهدين الْمُجْتَهدين والأتقياء المتهجدين وَلما حَضرته الْوَفَاة تأسف من مَوته على فرَاشه وَطلب حصانه ليركبه وينتقل سعيدا شَهِيدا إِلَى معاده من معاشه
قَالَ وَفِي تَاسِع عشر شعْبَان توفّي الْأَمِير عز الدّين موسك بن جكو الهذباني وَهُوَ ابْن خَال السُّلْطَان وَهُوَ من أكَابِر أَقَاربه ومقدمي كتائبه وَكَانَ لِلْقُرْآنِ حَافِظًا وعَلى الاحسان محافظا ولقضاء حُقُوق النَّاس ملاحظا وَلم يزل للسُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزَوَات ملازما وعَلى قمع جمع الْكفْر عَازِمًا وَلما اشْتَدَّ بِهِ مَرضه اسْتَأْذن فِي الدُّخُول إِلَى دمشق فَمَاتَ بهَا وَدفن فِي جبل قاسيون
قَالَ وَفِي حادي عشر رَمَضَان توفّي بِدِمَشْق القَاضِي(4/108)
شرف الدّين بن أبي عصرون ومولده فِي أَوَائِل سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة فَبلغ عمره ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة وَنصفا وأضر قبل وَفَاته مُدَّة عشر سِنِين وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِدِمَشْق قبالة دَاره بَينهمَا عرض الطَّرِيق وَكَانَ شيخ الْمَذْهَب وَقد ختمت بِهِ الْفتيا وأوحشت غيبته الدّين وَالدُّنْيَا
قَالَ وَفِي تَاسِع ذِي الْقعدَة توفّي الْأَمِير الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى الهكاري فِي الْعَسْكَر بِمَنْزِلَة الخروبة وَكَانَ صَاحب(4/109)
أَسد الدّين شيركوه وَمضى مَعَه إِلَى مصر حِين ملكهَا ثمَّ اخْتصَّ بالسلطان بعده وَتَوَلَّى حلّه وعقده وَدرت بوساطته وشفاعته للنَّاس أرزاق وَنقل إِلَى الْقُدس فَدفن بِظَاهِرِهِ وَلَقَد كَانَ من الْأَعْيَان وَمن أهل الْجد فِي نصْرَة الايمان فنقله الله إِلَى الْجنان
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أقطع السُّلْطَان مَمْلُوكه مُجَاهِد الدّين أياز ولَايَة شهرزور وأعمالها وَولى جمال الدّين بن المحسن نقابة الْأَشْرَاف بِدِمَشْق
قَالَ وَفِي عَاشر جُمَادَى الأولى مِنْهَا كَانَ مولد نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْملك الْعَزِيز بِمصْر الَّذِي أجتمع عَلَيْهِ أَصْحَابه بعد وَفَاة أَبِيه فِي محرم سنة خمس وَتِسْعين وَورد بذلك إِلَى السُّلْطَان جده كتاب كريم فاضلي من مصر نسخته الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بَين يَدي مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر دَامَ رشاده وإرشاده وَزَاد سعده وإسعاده وَكَثُرت أولياؤه وَعبيدَة وأعداده وَاشْتَدَّ بإعضاده فيهم اعتضاده وأنمى الله عدده حَتَّى يُقَال هَذَا آدم الْمُلُوك وَهَذِه أَوْلَاده
وَيُنْهِي أَن الله - وَله الْحَمد - رزق الْملك الْعَزِيز - عز نَصره - ولدا مُبَارَكًا عليا ذكرا سويا برا زكيا تقيا نقيا من ذُرِّيَّة كَرِيمَة بَعْضهَا من بعض وَمن بَيت شرِيف كَادَت ولاته تكون وُلَاة فِي السَّمَاء ومماليكه تكون ملوكا فِي الأَرْض وَكَانَ مقدمه الميمون فِي لَيْلَة(4/110)
الْأَحَد وَهِي من الْجُمُعَة أولى الْعدَد وَبِه وبآله يعز الله أهل الْجُمُعَة ويذل أهل الْأَحَد ثمَّ ذكر بَاقِي الْكتاب
فصل فِي وُرُود خبر خُرُوج ملك الألمان
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما دخل شهر رَمَضَان من سنة خمس وَثَمَانِينَ وصل من حلب كتب من وَلَده الظَّاهِر يخبر فِيهَا أَنه قد صَحَّ أَن ملك الألمان خرج إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي عدَّة عَظِيمَة - قيل مئتا ألف وَقيل مئتان وَسِتُّونَ ألفا - يُرِيد الْبِلَاد الإسلاميه فَاشْتَدَّ ذَلِك على السُّلْطَان وَعظم عَلَيْهِ وَرَأى استنفار النَّاس للْجِهَاد وإعلام خَليفَة الْوَقْت بِهَذِهِ الحادثه فاستندبني لذَلِك وَأَمرَنِي بِالْمَسِيرِ إِلَى صَاحب سنجار وَصَاحب الجزيرة وَصَاحب الْموصل وَصَاحب إربل واستدعائهم إِلَى الْجِهَاد بِأَنْفسِهِم وعساكرهم وَأَمرَنِي بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاد فسرت حادي عشر رَمَضَان وَيسر الله تَعَالَى الْوُصُول إِلَى الْجَمَاعَة وإبلاغ الرسَالَة إِلَيْهِم فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك بنفوسهم وسير صَاحب الْموصل علأ الدّين ابْنه بمعظم عسكره ووعد الدِّيوَان بِكُل جميل وعدت إِلَيْهِ فِي خَامِس ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسبقت العساكر وأخبرته بإجابتهم وتأهبهم للمسير فسر بذلك(4/111)
وَقَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح ونمى الْخَبَر بوصول ملك الألمان إِلَى قسطنطينية فِي ثَلَاث مئة ألف مقَاتل على قصد العبور إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَقطع بِلَاد الرّوم والأرمن إِلَى الشَّام وَفِيهِمْ سِتُّونَ ألف فَارس مدرع وَمَعَهُمْ مُلُوك وكنود وكل شَيْطَان لرَبه كنُود
وَكتب صَاحب قلعة الرّوم مقدم الأرمن وَهُوَ فِي قلعته على الْفُرَات وَبَين أهل الذِّمَّة فِي المأمن يُبْدِي تنصحا وإشفاقا وتخوفا على الْبِلَاد واحتراقا وَيقطع أَن الواصلين فِي كَثْرَة وَأَن الناهضين إِلَى طريقهم فِي عَثْرَة وأبرق فِي كِتَابه وأرعد وأبدع فِي خطابه وَأبْعد وَلَا شكّ أَنه إِلَى جنسه النَّجس مائل وبملاءة أهل مِلَّته قَائِل
وَلما وصل هَذَا النبأ وَقيل إِنَّه عَظِيم وَورد هَذَا الْخَبَر وخيل أَنه أَلِيم كَاد النَّاس يضطربون على أَنهم يصدقون ويكذبون وَمن طرف كل حَبل من الرَّأْي يجذبون وَقُلْنَا إِن وضح هَذَا الْخطر وَصَحَّ هَذَا الْخَبَر فالمسلمون يقومُونَ لنا وَلَا يَقْعُدُونَ ويغضبون لله وَلَا يرضون أَنهم لَا يعضدون على أَن الله ناصرنا ومؤازرنا ومظاهرنا
وحققنا بِإِظْهَار الْقُوَّة لمن استوحش التأنيس وبثثنا بالارسال إِلَى بِلَاد الرّوم عيُونا وجواسيس وندبنا رسل الاستنصار وبعثنا كتب الاستنفار إِلَى جَمِيع الْأَمْصَار والأقطار وَقُلْنَا مَا هَذِه الْمرة إِلَّا(4/112)
مرّة لَا يسيغها إِلَّا كل مر أبي وَمَا هَذِه الكرة مثل كل كرة وَلَا يحضرها إِلَّا كل كميش كميى
قَالَ وعول السُّلْطَان على إرْسَال القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم ليَكُون كِتَابه إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز مَعَ رَسُول كريم وَقَالَ لَهُ مَا أحتاج أوصِي وَأَنت تستوفي القَوْل وتستقصي وَجعل لَهُ إِلَى كل طرف فِي طَرِيقه رِسَالَة وأودعه إِلَيْهِ مقَالَة
فَسَار وَوصل إِلَى حلب وَالْقَاضِي ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري رَسُول السُّلْطَان بِبَغْدَاد قد عَاد وَذكر أَنه قد بلغ المُرَاد فَمَا هَذَا الرَّسُول الرَّائِح وَوصل وَهُوَ مغتاظ وَتغَير عَليّ وَنسب إِنْفَاذ القَاضِي بهاء الدّين إِلَيّ ثمَّ اجْتمع بالسلطان وندمه على مَا قدمه وأعلمه بِمَا عمله وَعلمه وَقَالَ لَهُ الشّغل قد فرغ وَالْقَصْد قد بلغ
وَقرر مَعَ السُّلْطَان أمرا وَعَاد على النجب إِلَى بَغْدَاد وصادف بهَا القَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد فَلم يسفر أَمر سفارته عَن سداد وَقيل جَوَاب مَا أتيت فِيهِ مَعَ ضِيَاء الدّين نسيره ونندبه فِيمَا نتخيره(4/113)
وَقَالَ فِي كتاب الْبَرْق وصل الْخَبَر بِخُرُوج ملك الألمان من بِلَاده فِي مئتي ألف دارع وَفِي راجل فِي دَبِيب رجل الدبى فِي عدد رمل اللوى فَأَقَامَ بمحشرهم الْقِيَامَة واستثارهم لثأر كنيستهم بالقدس قمامة وَسَارُوا فِي شهور حَتَّى وصلوا قسطنطينية
وَكَانَ ملك الرّوم يكْتب إِلَيْنَا بأخبارهم ونبأ خُرُوجهمْ من دِيَارهمْ وَيَقُول أَنا لَا أمكنهم من العبور فَلَمَّا جاؤوا لم يقدر على مَنعهم فصد عَنْهُم الأزواد وحرمهم الاسعاد وعبروا الخليج وَقد كثرت أمدادهم وَقلت أَزْوَادهم
وَلما وصلوا إِلَى حُدُود بِلَاد الْإِسْلَام وسلكوا فِي الأودية وَالْآجَام والوهاد والآكام تسلمهم تركمان الأوج وتراكم الثلوج وشتاء الْكلاب فِي كلب الشتَاء واحتاجوا إِلَى أكل الدَّوَابّ وإحراق عَددهمْ لاعواز الأحطاب وعدموا الْعلف وَمَا وجدوا الْخلف ومناهل الزلَال جامدة وهم بالبلاد جاهلون وَمن الْبلَاء ناهلون لَا يقطعون فِي يَوْمَيْنِ فرسخا وَقد أذهب الله عَنْهُم الْبركَة وصعب عَلَيْهِم الْحَرَكَة وَخرج الْأَمر عَن حسابهم وهم كل يَوْم فِي نقص من أنفسهم ودوابهم(4/114)
وَكَانُوا يدفنون من أعلاقهم النفيسة وعددهم الْكَرِيمَة الرئيسة مَا يعجزون عَن نَقله وَلَا يخفون يثقله فاتخذوا لأسرارها من أضلاع تِلْكَ الشعاب وصدور تِلْكَ الوهاد والهضاب ضمائر لَا تبوح بهَا أبدا وَلَا تطلع على مكنونها ومدفونها أحدا
هَذَا وبحرهم عباب الموج هباب الفوج فَلَمَّا خلصوا بعد أشهر كَأَنَّهُمْ زخروا بموج سَبْعَة أبحر هَذَا وَقد نقص شطرهم وَانْقطع ظهْرهمْ لكِنهمْ عرضوا فِي سِتِّينَ ألف مدرع مدجج مقنع ذَلِك وَقد باد أَكثر راجلهم وترجل مُعظم أبطال باطلهم وَسَيَأْتِي بَاقِي أخبارهم
قلت وَمن قصيدة للحكيم أبي الْفضل الجلياني
(يَا منقذ الْقُدس من أَيدي جبابرة ... قد أَقْسمُوا بِذِرَاع الرب تدخله)
(فأكذبوا كذبهمْ فِي وصف رَبهم ... وَصدق الْوَعْد مَأْمُونا تحوله)
وَمِنْهَا
(أما رَأَيْت ابْن أَيُّوب اسْتَقل بِمَا ... يعيي الزَّمَان وأهليه تحمله)
(هاج الفرنج وَقد خاروا لفتكته ... فاستنفروا كل مرهوب تغلغله)
(لما سبى الْقُدس قَالُوا كَيفَ نتركها ... والرب فِي حُفْرَة مِنْهَا نمثله)
(فكم مليك لَهُم شقّ الْبحار سرى ... لينصر الْقَبْر والأقدارتخذله)(4/115)
(وَكم ترحل مِنْهُم فيلق بفلا ... إِلَى الخوامع أَلْقَاهُ ترحله)
(استصرخوا الْأَهْل والعدوى تمزقهم ... واستكثروا المَال والهيجا تنفله)
(هم الْفراش لهيب الْحَرْب تصرعه ... وَكلما لج صدما جلّ مَقْتَله)
(سيف أَمَام فلسطين بَرى أمما ... خلف الْبحار لقد أمهاه صيقله)
(كم قد أعدُّوا وَكم قد فل جمعهم ... من غير ضرب وَلَا طعن يُزِيلهُ)
(وَإِنَّمَا اسْم صَلَاح الدّين يذكر فِي ... جَيش الْعَدو فيسبيهم تخيله)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد - رَحمَه الله - وَالسُّلْطَان مُقيم بعسكره بِمَنْزِلَة الخروبة فِي خيامه المضروبه على الْحَالة المحبوبة وَعِنْده الْعَادِل وَالْأَفْضَل والمظفر وعكا محصورة وانقرضت هَذِه السّنة وَهُوَ على مرابطة المحاصرين لعكا وَاتفقَ فِي اوائل هَذِه السّنة وَقبلهَا انصراف العساكر الغريبة إِلَى بلادها الْبَعِيدَة والقريبة لهجوم الشتَاء وتوالي الأنداء والأنواء وحالت الوحول عَن الرّكُوب وَالنُّزُول وَكَانَت نوب اليزك مترتبة وَالْأَحْوَال متهذبة وَرُبمَا ركب السُّلْطَان يَوْمًا للقنص بالبزاة ثمَّ يعود لانتهاز فرْصَة الْغُزَاة(4/116)
ثمَّ وَقعت وقْعَة الرمل وَذَلِكَ أَنه ركب يَوْمًا فِي صفر فتصيد وطاب لَهُ قرب القنص فأبعد واليزكية على الرمل وساحل الْبَحْر فَخرج الفرنج فِي وَقت الْعَصْر فِي عدد لَا يدْخل فِي الْحصْر وتسامع أَصْحَابنَا بهم فزحفوا إِلَيْهِم وحكموا عَلَيْهِم وطردوهم إِلَى خيامهم وَأخذُوا عَلَيْهِم من خَلفهم وأمامهم وَلَهُم فِي كل دفْعَة من الْعَدو قلائع وللفرنج فِي كل كرة على الرمل مصَارِع حَتَّى فني النشاب وَبَقِي الانتشاب
وشاع نِدَاء الْأَصْحَاب باستدعاء النشاب والفرنج لَا يعجزهم إِلَّا الرماء وَلَا يهتكهم إِلَّا الاصماء فَلَمَّا أنسوا بخلو الجعاب تجاسروا على الدنو من تِلْكَ الشعاب وحملوا حَملَة وَاحِدَة ردوا بهَا أَصْحَابنَا إِلَى النَّهر وكادت تعبث بهم يَد الْقَهْر فَثَبت من العادلية فِي وُجُوه الْقَوْم صف مرصوص الْبُنيان وَاسْتشْهدَ جمَاعَة من الشجعان وَذَلِكَ أَنهم لما ردوا الفرنج قلعوا فُرْسَانًا وصرعوا أقرانا فنزلوا بعد فرسهم لسلب لبسهم فمرت بهم الحملة فِي الأوبة وأعجلتهم عَن الرّكْبَة والوثبة وأظلم اللَّيْل وافترق الْجَمْعَانِ وَكثر التأسف على من فقد وَمِنْهُم الْحَاجِب أيدغمش المجدي(4/117)
قَالَ وَمن عجائب هَذِه الْوَقْعَة أَن مَمْلُوكا للسُّلْطَان يُقَال لَهُ سراسنقر عثر بِهِ جَوَاده فَقبض من أسره شعره ليجذبه وسل آخر سَيْفه ليضربه فَضرب يَد قَابض شعره فسيبه وَاشْتَدَّ سراسنقر يعدو وهم خَلفه فَلم يدركوه وَعَاد السُّلْطَان من الصَّيْد وَقد انْفَصل الْأَمر
قَالَ وَفِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر ربيع الأول تسلم شقيف أرنون بالأمان وَكَانَ الْحصار قد اسْتمرّ عَلَيْهِ حَتَّى فني زَاده وَصَاحبه أرناط فِي الْأسر فسلمه بخلاصه وَصَارَ إِلَى صور
قَالَ واغتنم السُّلْطَان هيجان البحروحضور مراكب الأسطول من مصر فَمَا زَالَ يُقَوي عكا بتسيير الغلات والقوات إِلَيْهَا فِي المراكب وملأها بالذخائر والأسلحة والكماة فَلَمَّا سكن البحرعادت مراكب الفرنج إِلَى مراسيها ودبت عقاربها وأفاعيها وشدت مراكبنا فِي موانيها وَانْقطع خبر الْبَلَد وَامْتنع عَلَيْهِ دُخُول المدد فَانْتدبَ الْعَوام بالسباحة وَحَملهمْ على ذَلِك من السُّلْطَان السماحة حَتَّى صَارُوا يحملون نفقات الأجناد على أوساطهم ويخاطرون بِأَنْفسِهِم مَعَ احتياطهم ويحملون كتبا وطيورا ويعودون بكتب وطيور ونكتب ويكتبون إِلَيْهِم إِلَيْنَا على أَجْنِحَة الْحمام بالترجمة المصطلح عَلَيْهَا
وَكَانَ فِي الْعَسْكَر من اتخذ حَماما يطوف على خيمته وَينزل فِي مَنْزِلَته وَعمل لَهَا برجا من خشب وهوادي من قصب(4/118)
ويدرجها على الطيران من الْبعد وَكُنَّا نقُول مَا لهَذَا الولع بِمَا لَا ينفع حَتَّى جَاءَت نوبَة عكا فنفعت وشفت الغليل ونقعت وَأَتَتْ بالكتب سارحة شارحة وَكُنَّا نطلبها مِنْهُ مَعَ اللَّيْل وَالنَّهَار حَتَّى قل وجودهَا عِنْده لِكَثْرَة الارسال وَلَقَد عطب عوامون فَمَا ارتدع الْبَاقُونَ وَمِنْهُم من سلم مرَارًا من الْقَوْم فاجترأ وَأنس بالعوم
فصل فِي قدوم الْمُلُوك وحريق الأبراج
قَالَ الْعِمَاد وَلما انْقَضى الشتَاء وَانْفَتح الْبَحْر وحان زمَان الْقِتَال جَاءَت العساكر الإسلامية من الْبِلَاد فَكَانَ أول من وصل الْملك الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص والرحبة وسابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَعز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْمُقدم ووفد مَعَهم جموع من الأجناد والأعيان وحشود من الْعَرَب والتركمان
فَرَحل السُّلْطَان وَتقدم وعزم على طلب الْعَدو وصمم وَنزل على تل كيسَان يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ربيع الأول ورتب عسكره فَكَانَ تَقِيّ الدّين فِي آخر الميمنة والعادل فِي آخر(4/119)
الميسرة وَالْأَفْضَل فِي أول ميمنة الْقلب وَأَخُوهُ الظافر فِي أول الميسرة على الْجنب
ثمَّ وصل الظَّاهِر فِي عَسَاكِر حلب وعماد الدّين مَحْمُود بن بهْرَام الأرتقي صَاحب دَارا وَغَيرهم من الْمُلُوك والمقاتلين وَوصل رَسُول الْخَلِيفَة يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشر ربيع الأول وَهُوَ الشريف فَخر الدّين نقيب مشْهد بَاب التِّبْن بِبَغْدَاد وَوصل مَعَه حملان من النفط الطيار وحملان من القنا الخطار وتوقيع بِعشْرين ألف دِينَار يقترض على الدِّيوَان الْعَزِيز من التُّجَّار وَخَمْسَة من الزراقين النفاطين المتقنين صناعَة الاحراق بالنَّار فاعتد السُّلْطَان بِكُل مَا أحضرهُ وأخلص الدُّعَاء للديوان الْعَزِيز وشكره غير أَنه أبدى رد التوقيع وَقَالَ كل مَا معي من نعْمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَوْلَا صرف أَمْوَال هَذِه الْبِلَاد إِلَى الْجِهَاد لكَانَتْ مَحْمُولَة إِلَى الدِّيوَان
وأركب الرَّسُول مَعَه مرَارًا وَأرَاهُ مبارك النزال ومعارك الْقِتَال حَتَّى يشْهد بِمَا يُشَاهد ويتبين لَهُ الْمُجْتَهد والمجاهد وَأقَام طَويلا ثمَّ اسْتَأْذن فِي الْعود فَرجع
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد قبل السُّلْطَان جَمِيع مَا وصل مَعَ الرَّسُول واستعفى من الرقعة والتثقيل بهَا
قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم بلغ السُّلْطَان أَن الفرنج قد زحفوا على(4/120)
الْبَلَد وضايقوه فَركب إِلَيْهِم ليشغلهم بِالْقِتَالِ عَن الْبَلَد فَقَاتلهُمْ قتالا شَدِيدا إِلَى اللَّيْل وَخَافَ السُّلْطَان أَن يهجم الْعَدو الْبَلَد فانتقل إِلَى تل الحجل فِي خَامِس عشر ربيع الأول للقرب
قَالَ وَفِي صَبِيحَة هَذَا الْيَوْم وصل من الْبَلَد عوام مَعَه كتب تَتَضَمَّن أَنه قد طم الْعَدو بعض الخَنْدَق وَقد قوي عزم الْعَدو على منازلة الْبَلَد ومضايقته فجدد السُّلْطَان الْكتب إِلَى العساكر بالحث على الْوُصُول
وَفِي سحر لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع عشري ربيع الأول وصل وَلَده الظَّاهِر وَفِي آخر ذَلِك الْيَوْم وصل مظفر الدّين وَكَانَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - مَا تقدم عَلَيْهِ عَسْكَر إِلَّا ويعرضهم ويسير بهم إِلَى الْعَدو وَينزل بهم فِي خيمته ويمد لَهُم الطَّعَام وينعم عَلَيْهِم بِمَا تطيب بِهِ قُلُوبهم إِذا كَانُوا أجانب ثمَّ تضرب خيامهم حَيْثُ يَأْمر وينزلون بهَا مكرمين
قَالَ وَكَانَ الْعَدو قد اصْطنع ثَلَاثَة أبرجه من خشب وحديد وألبسها الْجُلُود المسقاة بالخل على مَا ذكر بِحَيْثُ لَا تنفذ فِيهَا النيرَان وَكَانَت هَذِه الأبراج كَأَنَّهَا الْجبَال نشاهدها من مواضعنا عالية على الأسوار وَهِي مركبة على عجل يسع الْوَاحِد مِنْهَا من الْمُقَاتلَة مَا يزِيد على خمس مئة نفر على مَا قيل ويتسع سطحه لِأَن(4/121)
ينصب عَلَيْهِ منجنيق وَكَانَ ذَلِك قد عمل فِي قُلُوب الْمُسلمين وأودعها من الْخَوْف على الْبَلَد مَالا يُمكن شَرحه وأيس النَّاس من الْبَلَد بِالْكُلِّيَّةِ وتقطعت قُلُوب الْمُقَاتلَة فِيهِ وَكَانَ قد فرغ عَملهَا وَلم يبْق إِلَّا جرها إِلَى قريب السُّور
وَكَانَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - قد أعمل فكرة فِي إحراقها وإهلاكها وَجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وباحثهم فِي الِاجْتِهَاد فِي إحراقها وَوَعدهمْ عَلَيْهِ بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة وَضَاقَتْ حيلهم عَن ذَلِك
وَكَانَ من جملَة من حضر شَاب نُحَاس دمشقي فَذكر أَن لَهُ صناعَة فِي إحراقها وَأَنه إِن مكن من الدُّخُول إِلَى عكا وَحصل لَهُ الْأَدْوِيَة الَّتِي يعرفهَا أحرقها
فَحصل لَهُ جَمِيع مَا طلبه وَدخل إِلَى عكا وطبخ تِلْكَ الْأَدْوِيَة مَعَ النفط فِي قدور من النّحاس حَتَّى صَار الْجَمِيع كَأَنَّهُ جَمْرَة نَار ثمَّ ضرب البرج الْوَاحِد يَوْم وُصُول الْملك الظَّاهِر بقدرفاشتعل من سَاعَته وَوَقته وَصَارَ كالجبل الْعَظِيم من النَّار طالعة ذؤابته نَحْو السَّمَاء فاستغاث الْمُسلمُونَ بالتهليل وَالتَّكْبِير وغلبهم الْفَرح حَتَّى كَادَت عُقُولهمْ تذْهب فَبَيْنَمَا النَّاس ينظرُونَ ويتعجبون إِذْ رمى البرج الثَّانِي بِالْقُدْرَةِ الثَّانِيَة وَالثَّالِث بالثالثة فاحترقا كَالْأولِ(4/122)
وَركب السُّلْطَان والعساكر وَسَار إِلَيْهِم وانتظرأن يخرجُوا فيناجزهم عملا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فتح لَهُ بَاب خير فلينتهزه فَلم يظْهر الْعَدو من خيامهم وَحَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ اللَّيْل وَاسْتمرّ ركُوب السُّلْطَان إِلَيْهِم فِي كل يَوْم وَطلب نزالهم وقتالهم وهم لَا يخرجُون من خيامهم لعلمهم بتباشير النَّصْر وَالظفر بهم والعساكر الإسلامية تتواتر وتتواصل فوصل فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صَاحب سنجار وَهُوَ ابْن أخي نور الدّين - رَحمَه الله - وصهره زوج ابْنَته فَلَقِيَهُ السُّلْطَان بالاحترام والتعظيم ورتب لَهُ الْعَسْكَر فِي لِقَائِه وَسَار بِهِ حَتَّى وَقفه على الْعَدو وَعَاد مَعَه إِلَى خيمته وأنزله عِنْده
وَكَانَ صنع لَهُ طَعَاما لائقا بذلك الْيَوْم فَحَضَرَ هُوَ وَجَمِيع أَصْحَابه وَقدم لَهُ من التحف واللطائف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ غَيره وَكَانَ قد أكْرمه بِحَيْثُ طرح لَهُ طراحة مُسْتَقلَّة إِلَى جَانِبه وَبسط لَهُ ثوبا اطلس عِنْد دُخُوله وَضربت خيمته على طرف الميسرة على جَانب النَّهر
وَفِي سَابِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن أَخِيه صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي فَلَقِيَهُ السُّلْطَان وأنزله إِلَى جَانب عَمه عماد الدّين(4/123)
وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن صَاحب الْموصل وَهُوَ عَلَاء الدّين خرم شاه بن عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي نَائِبا عَن أَبِيه ففرح السُّلْطَان بِهِ فَرحا شَدِيدا وتلقاه عَن بعيد هُوَ وَأَهله وَاسْتحْسن أدبه واستنجبه وأنزله عِنْده فِي الْخَيْمَة وكارمه مكارمة عَظِيمَة وَقدم لَهُ تحفا حَسَنَة وَأمر بِضَرْب خيمته بَين ولديه الْأَفْضَل وَالظَّاهِر
وَفِي أَوَاخِر الشَّهْر وصل صَاحب إربل زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين عَليّ فَأكْرمه السُّلْطَان وأنزله عِنْد أَخِيه مظفر الدّين يَعْنِي فِي الميسرة
وَذكر الْعِمَاد قدوم هَؤُلَاءِ الْمُلُوك بِمَعْنى مَا تقدم قَالَ وَكَانَ الفرنج مذ نزلُوا على عكا صمموا على الْإِقَامَة والحصر فشرعوا فِي بِنَاء الأبراج الْعِظَام الْعَالِيَة ونقلوا فِي الْبَحْر آلاتها وأخشابها الجافية وأقطاع الْحَدِيد وبنوا ثَلَاثَة أبراج عالية فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من أقطار الْبَلَد فتعبوا فِيهَا سَبْعَة أشهر فَلم يفرغوا مِنْهَا إِلَّا فِي ربيع الأول فعلت كَأَنَّهَا ثَلَاثَة أطواد قد ملئت طبقاتها بِعَدَد وأعداد وكل برج لَا بُد لَهُ فِي أَرْكَانه من أَربع أسطوانات عاليات غِلَاظ جافيات طول كل وَاحِدَة خَمْسُونَ ذِرَاعا ليشرف على ارْتِفَاع سور الْبَلَد وبسطوها على دوائر الْعجل ثمَّ كسوها بعد الْحَدِيد والوثوق الشَّديد بجلود الْبَقر والسلوخ وكل يَوْم يقربونها(4/124)
وَلَو ذِرَاعا على حسب التَّيْسِير فِي تيسيرها وسقوها بالخل وَالْخمر وكشفوا من جوانبها الثَّلَاثَة سور الْبَلَد وشرعوا فِي طم الخَنْدَق
وَجَاء عوام من عكا فَأخْبر السُّلْطَان فَركب بالعسكر ولازمهم من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يقاتلهم صباحا وَمَسَاء ليشغلهم فافترقوا قسمَيْنِ فريق لِلْقِتَالِ وفريق آخر مَعَ الأبراج فأشفى الْبَلَد وَبَقِي لَهُ رَمق ضَعِيف ورميت الأبراج بِكُل قَارُورَة نفط فَمَا أثرت
وَلم نشعر يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالأبراج إِلَّا وَقد اشتعلت والتهبت وَوَقعت وَكَانَت آيَة من قدرَة الله تَعَالَى ظَهرت وَذَلِكَ أَنه كَانَ بعكا شَاب من أهل دمشق يعرف بعلي ابْن عريف النحاسين وَكَانَ أبدا بِجمع آلَات الزراقين مُولَعا ولتحصيل عقاقيرها متتبعا وكل من عرفه عذله وينكر عمله وَكَانَ قد ألف مِنْهَا مقادير وقدورا وملأ بغيظ من أهل تِلْكَ الصِّنَاعَة صدورا وَلم يكن النفط من صناعته وَلَكِن الله وَفقه لسعادته
فَلَمَّا كَانَ يَوْم حريقها جَاءَ إِلَى أَمِير قراقوش وَهُوَ مغتاظ وأخلاقه فظاظ غِلَاظ وَقَالَ تَأذن لي فِي تصويب المنجنيق لأحرق البروج وَالله ولي التَّوْفِيق
فزجره وزبره وَنَهَاهُ ونهره وَقَالَ صناع هَذَا الشّغل قد(4/125)
خاروا وحاروا وَبَعْدَمَا أنجدوا غاروا فَقَالَ النَّاس دَعه وشأنه وَمَا يدْريك أَن الله وَفقه وأعانه
فَرمى ابْن العريف البرج الأول قدور نفط خَالِيَة من نَار حَتَّى عرف أَنه سقَاهُ وَرَوَاهُ ثمَّ رَمَاه بِقدر محرقة وأردفها بِأُخْرَى مزهقة فتسلطت النَّار على طبقاتها فأضرم على أهل السعير سعيرا وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا
ثمَّ أحرق الثَّانِي وَالثَّالِث فَاجْتمع عَلَيْهِ الْأَصْحَاب يفدونه وَمن أَوْلِيَاء الله يعدونه وَحَمَلُوهُ بعد ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَلم يقبل عَطاء وَقَالَ عملته لله فَمَا أُرِيد بِهِ سواهُ جَزَاء وَقيل احْتَرَقَ فِي البرج الأول سَبْعُونَ فَارِسًا بعدتها فحبطت أَعْمَالهم وخابت آمالهم وَخرج رجالنا من الْبَلَد فنظفوا الخَنْدَق وسدوا الثغر وأظهروا الْقدر بِظُهُور الْقدر وجاؤوا إِلَى مَوَاضِع الأبراج وأماكنها وَاسْتَخْرَجُوا الْحَدِيد من مكامنها ونبشوا الرماد عَن الزرديات الَّتِي انسبكت وكشفوا عَن الستائر الَّتِي تهتكت فَأخذُوا مَا وجدوا وحصلوا مَا نشدوا(4/126)
قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب بالاستظهار من شواني الأسطول والاسراع بِهِ فِي الْوُصُول فوصل الْخَبَر بوصوله يَوْم الْخَمِيس ثامن الشَّهْر فاستظهر بِهِ الأسطول الأول الَّذِي بالثغر فَركب السُّلْطَان بِجَمِيعِ كتائبه وأحاط بالْكفْر من جَمِيع جوانبه واشتغل الفرنج عَنَّا بِمَا دهمهم فِي الْبَحْر فجدوا فِي الْأَمر وجهزوا أسطولا بِعَدَد الرِّجَال وَعدد الْقِتَال وَخرج لتلقي الأسطول الْوَاصِل وَقَابَلُوا الْحق بِالْبَاطِلِ وَجَاءَت شواني الْمُسلمين فنطحت وطحنت وَأخذت مركبا لِلْعَدو بِرِجَالِهِ وَأخذُوا لنا قِطْعَة وَمَا زَالَت الْحَرْب قرعَة وقرعة وصرعة وصرعة حَتَّى دخل اللَّيْل فتحاجز الْفَرِيقَانِ وتفرق الأسطولان وَكَانَت المقتلة فِي الْكفْر شَدِيدَة والسطوة مبيدة
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما كَانَ ظهيرة يَوْم وُصُول عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل ظَهرت فِي الْبَحْر قلوع كَثِيرَة وَكَانَ رَحمَه الله فِي نظرة وُصُول الأسطول من مصر فَإِنَّهُ كَانَ قد أَمر بتعميره ووصوله فَعلم أَنه هُوَ فَركب وَالنَّاس فِي خدمته وتعبى تعبية الْقِتَال وَقصد مضايقة الْعَدو ليشغله عَن قصد الأسطول
وَلما علم الْعَدو بالأسطول استعد لَهُ وَعمر أسطوله لقتاله وَمنعه من دُخُول عكا(4/127)
وَخرج أسطول الْعَدو وَاشْتَدَّ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ من خَارج وَسَار النَّاس على جَانب الْبَحْر تَقْوِيَة للأسطول وايناسا لَهُ ولرجاله والتقى الأسطولان فِي الْبَحْر والعسكران فِي الْبر واضطرمت نَار الْحَرْب واستعرت وَبَاعَ كل فريق روحه براحته الأخروية وَجرى قتال شَدِيد أقشع عَن نصْرَة الأسطول الإسلامي وَأخذ مِنْهُ شيني وَقتل من بِهِ وَنهب جَمِيع مَا فِيهِ وظفر من الْعَدو بمركب أَيْضا كَانَ واصلا من قسطنطينية وَدخل الأسطول الْمَنْصُور إِلَى عكا وَكَانَ قد صَحبه مراكب من السَّاحِل فِيهَا مير وذخائر وَطَابَتْ قُلُوب أهل الْبَلَد بذلك وانشرحت صُدُورهمْ فَإِن الضائقة كَانَت قد أخذت مِنْهُم
واتصل الْقِتَال بَين العسكرين من خَارج الْبَلَد إِلَى أَن فصل بَينهمَا اللَّيْل وَعَاد كل فريق إِلَى خيمه وَقد قتل من عَدو الله وجرح فِي ذَلِك الْيَوْم خلق عَظِيم فَإِنَّهُم قَاتلُوا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فَإِن أهل الْبَلَد اشتدوا فِي قِتَالهمْ ليشغلوهم عَن الأسطول أَيْضا والأسطولان يتقاتلان والعسكر من الْبر يقاتلهم وَكَانَ النَّصْر بِحَمْد الله للْمُسلمين
قَالَ الْعِمَاد وقتلنا مِنْهُم مُدَّة مقامنا على عكا فِي سنتَيْن أَكثر من سِتِّينَ ألف وزرناهم بِكُل حتف وَكلما بادوا فِي الْبر زادوا من(4/128)
الْبَحْر وَكم جسروا فخسروا وَقتلُوا وأسروا وهزموا وكسروا وخلفهم خلف وَيقوم مقَام مئتهم ألف وَقد أفنينا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وقطعنا أَرْزَاقهم ووصلنا آجالهم
فصل فِيمَا كَانَ من أَمر ملك الألمان
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ تواصلت الْأَخْبَار بوصول ملك الألمان إِلَى بِلَاد قليج أرسلان وَأَنه انتهض للقائه جمع عَظِيم من التركمان وقصدوا مَنعه من عبور النَّهر وَأَنه أعجزهم لِكَثْرَة خلقه وَعدم مقدم لَهُم يجمع كلمتهم وَكَانَ قليج أرسلان يظْهر شقاقه وَهُوَ فِي الْبَاطِن قد أضمر وفاقه ثمَّ لما عبر إِلَى الْبِلَاد أظهر مَا كَانَ أضمره وَوَافَقَهُ وَأَعْطَاهُ رهائن مَعَه على أَنه ينفذ مَعَه من يوصله إِلَى بِلَاد ابْن لاون وأنفذ مَعَه أَدِلَّة يدلون بِهِ وعراهم فِي الطَّرِيق جوع عَظِيم وأعوزهم الزَّاد وَقل بهم الظّهْر حَتَّى إِنَّهُم ألقوا بعض أقمشتهم
وَلَقَد بلغنَا وَالله أعلم أَنهم جمعُوا عددا كَثِيرَة من زرديات وخوذ وآلات وَسلَاح عجزوا عَن حملهَا وجعلوها بيدرا وَاحِدًا وأضرموا فِيهَا النَّار لتتلف وَلَا ينْتَفع بهَا أحد وَأَنَّهَا بقيت بعد ذَلِك رابية من حَدِيد
وَسَارُوا على هَذِه الْحَال حَتَّى وصلوا إِلَى طرسوس فأقاموا على نهر ليعبروه وَأَن ملكهم الملعون عَن لَهُ أَن يسبح فِيهِ وَكَانَ(4/129)
مَاء شَدِيد الْبرد وَكَانَ ذَلِك عقيب مَا ناله من التَّعَب وَأَنه عرض لَهُ بِسَبَب ذَلِك مرض عَظِيم اشْتَدَّ بِهِ إِلَى أَن قَتله وَلما رأى مَا حل بِهِ أوصى إِلَى ابْنه الَّذِي كَانَ فِي صحبته
وَلما مَاتَ أَجمعُوا رَأْيهمْ على أَنهم سلقوه فِي خل وجمعوا عِظَامه فِي كيس حَتَّى يحملوه إِلَى الْقُدس الشريف ويدفنوه فِيهِ وترتب ابْنه مَكَانَهُ على خلف من أَصْحَابه فَإِن وَلَده الْأَكْبَر كَانَ خَلفه فِي بِلَاده وَكَانَ جمَاعَة من أَصْحَابه يميلون إِلَيْهِ واستقرت قدم وَلَده الْحَاضِر فِي تقدمه فِي الْعَسْكَر
وَلما أحس لافون بِمَا جرى عَلَيْهِم من الْخلَل وَمَا حل بهم من الْجُوع وَالْمَوْت والضعف بِسَبَب موت ملكهم مَا رأى أَن يلقِي نَفسه بَينهم فانه لَا يعلم كَيفَ يكون الْأَمر وهم فرنج وَهُوَ أرمني فاعتصم عَنْهُم فِي بعض قلاعه المنيعة
وَلَقَد وصل إِلَى السُّلْطَان كتاب الكاغيكوس وَهُوَ مقدم الأرمن وهوصاحب قلعة الرّوم الَّتِي على طرف الْفُرَات وَمعنى هَذَا الِاسْم الْخَلِيفَة ونسخة الْكتاب كتاب الدَّاعِي المخلص الكاغيكوس مِمَّا أطالع بِهِ عُلُوم مَوْلَانَا ومالكنا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر جَامع كلمة الايمان رَافع علم الْعدْل والاحسان صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين من أَمر ملك الألمان(4/130)
وَمَا جرى لَهُ عِنْد ظُهُوره وَذَلِكَ أَنه أول مَا خرج من دياره دخل بِلَاد الهنكر غصبا ثمَّ دخل أَرض مقدم الرّوم وَفتح الْبِلَاد ونهبها وأحوج ملك الرّوم إِلَى أَن أطاعه وَأخذ رهائنه وَلَده وأخاه وَأَرْبَعين نَفرا من خلصائه وَأخذ مِنْهُ خمسين قِنْطَارًا ذَهَبا وَخمسين قِنْطَارًا فضَّة وَثيَاب طلس مبلغا عَظِيما واغتصب المراكب وعدى بهَا إِلَى هَذَا الْجَانِب وصحبته الرهائن إِلَى أَن دخل حُدُود بِلَاد الْملك قليج أرسلان ورد الرهائن وَبَقِي ثَلَاثَة أَيَّام سائرا وتركمان الأوج يلقونه بالأغنام والأبقار وَالْخَيْل والبضائع فتداخلهم الطمع وجمعوا من جَمِيع الْبِلَاد
وَوَقع الْقِتَال بَين التركمان وَبينهمْ وضايقوه ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ سَائِر وَلما قرب من قونية جمع قطب الدّين ولد قليج أرسلان العساكر وقصده وَضرب مَعَه مصافا عَظِيما فظفر بِهِ ملك الألمان وكسره كسرة عَظِيمَة وَسَار حَتَّى أشرف على قونية فَخرج إِلَيْهِ جموع عَظِيمَة من الْمُسلمين فردهم مكسورين وهجم قونية بِالسَّيْفِ وَقتل مِنْهَا عَالما عَظِيما من الْمُسلمين وَالْفرس وَأقَام بهَا خَمْسَة أَيَّام فَطلب قليج أرسلان مِنْهُ الْأمان فَأَمنهُ الْملك وَاسْتقر بَينهم قَاعِدَة أكيدة وَأخذ مِنْهُ الْملك رهائن عشْرين من أكَابِر دولته وَأَشَارَ على الْملك أَن يَجْعَل طَرِيقه على طرسوس والمصيصة فَفعل
وَقبل وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد نفذ كِتَابه وَرَسُوله يشْرَح حَاله(4/131)
وَأَيْنَ قَصده وَمَا لقِيه فِي طَرِيقه وَأَنه لابد مجتاز بِهَذِهِ الْبِلَاد اخْتِيَارا أَو كرها فَاقْتضى الْحَال انفاذ الْمَمْلُوك خَاتم وصحبته مَا سَأَلَ وَمَعَهُ من الْخَواص جمَاعَة للقاء الْملك فِي جَوَاب كِتَابه وَكَانَت الْوَصِيَّة مَعَهم أَن يحرفوه عَن بِلَاد قليج أرسلان إِن أمكن
فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِالْملكِ الْكَبِير وأعادوا عَلَيْهِ الْجَواب وعرفوه الْأَحْوَال أَبى الانحراف ثمَّ كثر عَلَيْهِ العساكر والجموع وَنزل على شط بعض الْأَنْهُر وَأكل خبْزًا ونام سَاعَة وانتبه فتاقت نَفسه إِلَى الاستحمام فِي المَاء الْبَارِد فَفعل ذَلِك وَخرج وَكَانَ أَمر الله أَنه تحرّك عَلَيْهِ مرض عَظِيم من المَاء الْبَارِد فَمَكثَ أَيَّامًا قَلَائِل وَمَات
وَأما لافون فَكَانَ سائرا يلتقي الْملك فَلَمَّا جرى هَذَا المجرى هرب الرُّسُل من الْعَسْكَر وتقدموا إِلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِالْحَال فَدخل فِي بعض حصونه واحتمى هُنَاكَ
وَأما ابْن الْملك فَكَانَ أَبوهُ مُنْذُ توجه لقصد هَذِه الديار نصب وَلَده الَّذِي مَعَه عوضه وتأطدت قَوَاعِده وبلغه هرب رسل لافون فأنفذ واستعطفهم وأحضرهم وَقَالَ إِن أبي كَانَ شَيخا كَبِيرا وَإِنَّمَا قصد هَذِه الديار لأجل حج بَيت الْمُقَدّس وَأَنا الَّذِي دبرت الْملك وعانيت المشاق فِي هَذِه الطَّرِيق فَمن أَطَاعَنِي وَإِلَّا بدأت بِقصد دياره(4/132)
واستعطف لافون وَاقْتضى الْحَال الِاجْتِمَاع بِهِ ضَرُورَة وَفِي الْجُمْلَة هم فِي عدد كثير وَلَقَد عرض عسكره فَكَانَ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف مجفجف وَأما الرجالة فَلَا يُحْصى عَددهمْ وهم أَجنَاس متفاوته وَخلق غَرِيبَة وهم على قصد عَظِيم وجد فِي أَمرهم وسياسة هائلة حَتَّى إِن من جنى مِنْهُم جِنَايَة لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا أَن يذبح مثل الشَّاة
وَلَقَد بَلغهُمْ أَن بعض اكابرهم أَنه جنى على غُلَام لَهُ وَجَاوَزَ الْحَد فِي ضربه فاجتمعت القسوس للْحكم عَلَيْهِ فَاقْتضى الْحَال وَالْحكم الْعَام ذبحه وشفع إِلَى الْملك مِنْهُم خلق عَظِيم فَلم يلْتَفت إِلَى ذَلِك وذبحه
وَقد حرمُوا الملاذ على أنفسهم حَتَّى إِن من بَلغهُمْ عَنهُ بُلُوغ لَذَّة هجروه وعزروه وكل ذَلِك كَانَ حزنا على بَيت الْمُقَدّس وَلَقَد صَحَّ عَن جمع مِنْهُم أَنهم هجروا الثِّيَاب مُدَّة طَوِيلَة وحرموها على أنفسهم وَلم يلبسوا إِلَّا الْحَدِيد حَتَّى أنكر عَلَيْهِم الأكابر ذَلِك وهم من الصَّبْر على الذل والشقاء والتعب على حَال عَظِيم
وَقَالَ الْعِمَاد لما قاربوا بِلَاد عز الدّين قليج أرسلان نَهَضَ إِلَيْهِم ابْنه قطب الدّين ملكشاه فَوَقع بَينهم الْحَرْب ثمَّ انْدفع عَنْهُم إِلَى مَدِينَة قونية فساقوا وَرَاءه ودخلوها وحرقوا أسواقها(4/133)
ونزلوها فنفذوا إِلَى السُّلْطَان قليج أرسلان إِنَّا لم نصل لأخذ بلادك وَإِنَّمَا ثرنا لثأر بَيت الْمُقَدّس ونفذوا إِلَيْهِ هَدَايَا وطلبوا الْهُدْنَة فهادنهم فَتَقووْا من تِلْكَ الْبِلَاد بِمَا أَرَادوا من الْعدَد والأزواد وَنفذ قليج أرسلان وَابْنه يعتذران إِلَى السُّلْطَان من تمكينهم من العبور وَأَنَّهُمْ غلبوا على ذَلِك
ثمَّ إِن الألمانية طلبُوا من قليج أرسلان إِنْفَاذ جمَاعَة من الْأُمَرَاء مَعَهم يمنعونهم من لصوص التركمان حَتَّى يصلوا إِلَى بِلَاد الأرمن فنفذ مَعَهم خَمْسَة وَعشْرين وَوَافَقَ ذَلِك غَرَض قطب الدّين فَإِنَّهُ كَانَ كَارِهًا لجَماعَة من المقدمين فَتقدم إِلَيْهِم بِأَن يَكُونُوا فِي صُحْبَة ملك الألمان فحملهم على الْخطر وأوقعهم فِي الْغرَر وورطهم فِي الضَّرَر فَإِنَّهُم مَا قدرُوا فِي الطَّرِيق على دفع كل سَارِق وَقد تبعتهم اللُّصُوص حَتَّى وصلوا إِلَى بِلَاد الأرمن ومقدمهم لافون بن اصطفانة بن لاون فَأخذُوا أُولَئِكَ الرهائن وقيدوهم وجعلوهم فِي الْأسر وجردوهم فَمنهمْ من خلص بعد حِين بِمَال جزيل وَمِنْهُم من بَقِي مأسورا حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين
وَوصل مقدم الأرمن إِلَى خدمته وَدخل فِي طَاعَته وهداهم لمقصدهم وَأقَام لَهُم بالضيافات والعلوفات وَذَلِكَ فِي طرسوس فتمكثوا بهَا ليريحوا النُّفُوس فَعَن لملك الألمان أَن يسبح فِي النَّهر لاماطة مَا بِهِ من الضَّرَر فَعرض لَهُ مرض سلك بِهِ فِي سقر(4/134)
وَقيل لما عبرت جموعه النَّهر ازدحموا والتطم الموج بهم واقتحموا وَطلب هُوَ موضعا يعبر فِيهِ وَحده ويتبعه من بعده فَنزل على مخاضة ذَات مَخَافَة لَا يَخْلُو من هجمها من آفَة فَجرى إِلَيْهَا واجترى عَلَيْهَا فجذبته سُورَة المَاء إِلَى شَجَرَة شجت رَأسه ومحت أنفاسه وأخرجوه وَنَفسه على الْخُرُوج وعمره على الدروج فتسلم مَالك ملك الألمان بألمه وَحمله إِلَى جهنمه وَجلسَ ابْنه مَكَانَهُ وَاتبع شَأْنه واستتبع رِجَاله وفرسانه
وَقيل عرض فِي نَيف وَأَرْبَعين ألف كمي وَانْقطع عَنهُ ابْن لاون وَاخْتلف عَلَيْهِ أَصْحَاب أَبِيه ميلًا مِنْهُم إِلَى أَخِيه وَسَارُوا على سمت أنطاكية فِي فرق ثَلَاث كَأَنَّهُمْ من الْمَرَض قد نبشوا من أجداث وَأَكْثَرهم حَملَة عَصا وركاب حمير وكل بِالْأَرْضِ الَّتِي يسلكها غير خَبِير فتبرم بهم صَاحب أنطاكية وثقلت عَلَيْهِ وطأتهم المفاجية وَحسن لَهُم طَرِيق بِلَاد حلب فَلم يرَوا لَهُم فِي ذَلِك الأرب
وَطلب مِنْهُ الْملك قلعة أنطاكية لينقل إِلَيْهَا مَاله وخزائنه وأثقاله فأخلاها لَهُ وَسلمهَا إِلَيْهِ طَمَعا فِي مَاله وأموال رِجَاله وَكَانَ على مَا حدسه فانه لم يعد إِلَيْهَا وَاسْتولى الابرنس بأنطاكية عَلَيْهَا
وَجَاءَت فرقة مِنْهُم لَيْلًا إِلَى حصن بغراس وظنوا أَنه فِي أَيدي أجناسهم الأنجاس فَفتح وَالِي القلعة الْبَاب وَأخرج الْأَصْحَاب(4/135)
وتسلم تِلْكَ الْأَمْوَال بأحمالها والصناديق بأقفالها وَأسر مِنْهُم وَقتل كثير وَخرج بعد ذَلِك أهل حلب وجندها إِلَى طرقهم وَفرقُوا بَين فرقهم والتقطوهم من الْخمر والغياض وَكَانَ الْوَاحِد يستأسر مِنْهُم ثَلَاثَة وَلَا يرى وَرَاءَهُمْ من رفقائهم إغاثة فهانت الألمانية بعد تِلْكَ المهابة فِي الْأَنْفس وباعوهم فِي الْأَسْوَاق بِالثّمن الأبخس
وَلما تَكَامل وُصُول السالمين إِلَى أنطاكية سلكوا إِلَى طَرِيق طرابلس جبلة واللاذقية فَخرج عَلَيْهِم رجالها فَقتلُوا مِنْهُم وأسروا فَمَا وصلوا إِلَى طرابلس إِلَّا فِي خف وَلم يصف مِمَّن جَاءَ مَعَ الْملك غير ألف
وجاؤوا إِلَى النازلين على عكا فَغَرقُوا فِي لجهم وخمدوا فِي وهجهم ثمَّ هلك على عكا بعد انْقِضَاء مُدَّة واقتضاء شدَّة بتاريخ ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ
وَقَالَ فِي الْفَتْح وَجبن الْملك عَن الْمسير على الطَّرِيق لما لقِيت جموعه فِي طرقاتهم من التَّفْرِيق فَركب فِي الْبَحْر فِي عدد يسير لَا يزِيد على الْألف برعب قلب وقصور يَد وَرَغمَ أنف وَاخْتَلَطَ مَعَ الفرنج على عكا فَسقط اسْمه وَسخط حكمه وَهلك بعد قَلِيل وَلم يحظ بنقع غليل(4/136)
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد مرض ولد ملك الألمان الَّذِي قَامَ مقَامه مَرضا عَظِيما وَأقَام بِموضع يُسمى التينات من بِلَاد لافون وَأقَام مَعَه خَمْسَة وَعِشْرُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ داويا وجهز عسكره نَحْو أنطاكية حَتَّى يقطعوا الطَّرِيق ورتبهم ثَلَاث فرق لكثرتهم
ثمَّ إِن الْفرْقَة الأولى اجتازت تَحت قلعة بغراس ومقدمها كند عَظِيم عِنْدهم وَأَن عَسْكَر بغراس مَعَ قلته أَخذ مِنْهُم مئتي رجل نهبا وقهرا وَكَتَبُوا يخبرون عَنْهُم بالضعف الْعَظِيم وَالْمَرَض الشَّديد وَقلة الْخَيل وَالظّهْر وَالْعدَد والآلات
وَلما اتَّصل هَذَا الْخَبَر بالنواب فِي الْبِلَاد الشامية أنفذوا إِلَيْهِم عسكرا يكشفون أخبارهم فَوَقع الْعَسْكَر على جمع عَظِيم قد خَرجُوا لطلب العلوفة فَأَغَارُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا وأسروا زهاء خمس مئة نفس وَلَقَد حضرت من يخبر السُّلْطَان عَنْهُم وَيَقُول هم عدد كثير لكِنهمْ ضعفاء قليلو الْخَيل وَالْعدة وَأكْثر ثقلهم على حمير وخيل ضَعِيفَة
قَالَ وَلَقَد وقفت على جسر يعبرون عَلَيْهِ لأعتبرهم فَعبر مِنْهُم جمع عَظِيم مَا وجدت مَعَ وَاحِد مِنْهُم طارقة وَلَا رمحا إِلَّا النَّادِر فسألتهم عَن ذَلِك فَقَالُوا أَقَمْنَا بمرج وخم أَيَّامًا وَقلت(4/137)
أزوادنا وأحطابنا فأوقدنا مُعظم عددنا وَمَات منا خلق عَظِيم واحتجنا إِلَى الْخَيل فذبحناها وأكلناها وَمَات الكند الَّذِي وصل إِلَى أنطاكية وطمع لافون فيهم حَتَّى عزم على أَخذ مَال الْملك لمرضه وَضَعفه وَقلة جمعه الَّذِي تَأَخّر مَعَه وَلم تزل أخبارهم تتواتر بالضعف وَالْمَرَض
قَالَ وَلما تحقق السُّلْطَان وُصُول ملك الألمان إِلَى بِلَاد لافون وقربه من الْبِلَاد الإسلامية جمع أُمَرَاء دولته وأرباب الآراء وشاورهم فِيمَا يصنع فاتفق الرَّأْي على أَن الْعَسْكَر يسير بعضه إِلَى الْبِلَاد المتاخمة لطريق عَسْكَر الْعَدو الْوَاصِل وَأَن يُقيم هُوَ رَحمَه الله على منازلة الْعَدو بباقي الْعَسْكَر الْمَنْصُور فَكَانَ أول من سَار صَاحب منبج نَاصِر الدّين بن تَقِيّ الدّين ثمَّ عز الدّين ابْن الْمُقدم صَاحب كفر طَابَ وبارين وَغَيرهمَا ثمَّ مجد الدّين صَاحب بعلبك ثمَّ سَابق الدّين صَاحب شيزر ثمَّ الياروقية من جملَة عَسْكَر حلب ثمَّ عَسْكَر حماة
وَسَار إِلَى دمشق وَلَده الْأَفْضَل لمَرض عرض لَهُ وَكَذَا بدر الدّين شحنة دمشق ثمَّ سَار الْملك الظَّاهِر إِلَى حلب لايالة الطَّرِيق وكشف الْخَبَر وَحفظ مَا يَلِيهِ من الْبِلَاد وَسَار بعده الْملك المظفر لحفظ مَا يَلِيهِ من الْبِلَاد وتدبير أَمر الْعَدو المجتاز(4/138)
وَلما سَارَتْ هَذِه العساكر خفت الميمنة فَإِن مُعظم من سَار مِنْهَا فَأمر رَحمَه الله الْملك الْعَادِل فانتقل إِلَى منزلَة تَقِيّ الدّين فِي طرف الميمنة وَكَانَ عماد الدّين زنكي فِي طرف الميسرة وَوَقع فِي الْعَسْكَر مرض عَظِيم فَمَرض مظفر الدّين بن زين الدّين صَاحب حران وشفي وَمرض بعده الْملك الظافر ولد السُّلْطَان وشفي وَمرض خلق كثير من الأكابر وَغَيرهم إِلَّا أَن الْمَرَض كَانَ سليما بِحَمْد الله تَعَالَى وَكَانَ الْمَرَض عِنْد الْعَدو أعظم وَأكْثر وَكَانَ مقترنا بموتان عَظِيم وَأقَام السُّلْطَان مصابرا على ذَلِك مرابطا لِلْعَدو
قَالَ الْعِمَاد وَتقدم السُّلْطَان بهدم سور طبرية وَهدم يافا وأرسوف وقيسارية وَهدم سور صيدا وجبيل وَنقل أهلهما إِلَى بيروت
وَفِي بعض الْكتب السُّلْطَانِيَّة قد عرفنَا خبر الْعَدو المشؤوم الْوَاصِل من جَانب الرّوم وَهَذَا أَوَان تحرّك ذَوي الحمية ونهوض أهل الهمم الأبية الْعلية فَإِن الْقَوْم فِي كَثْرَة مستنون فِي طَرِيق العثرة والسيل إِذا وصل إِلَى الْجَبَل الراسي وقف وَاللَّيْل إِذا بلغ إِلَى الصُّبْح المسفر انْكَشَفَ فَأَيْنَ المؤدون فرض الْجِهَاد الْمُتَعَيّن وَأَيْنَ المهتدون فِي نهج الرشاد المتبين وَأَيْنَ الْمُسلمُونَ وحاشى أَن يَكُونُوا للاسلام مُسلمين وَأَيْنَ المقدمون فِي الدّين ومعاذ الله أَلا(4/139)
يَكُونُوا فِي نصرته على الْمَوْت مقدمين وَلَوْلَا التقيد بِهَذَا الْعَدو الرابض لأطلقت أَعِنَّة النهضة إِلَى الْعَدو الناهض وَلَا بُد من لِقَائِه قبل تلفق الجمعين وإراءة الملاعين وُجُوه حتفهم ملْء الْعين
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد وَمن خبر الفرنج أَنهم الْآن على عكا يمدهُمْ الْبَحْر بمراكب أَكثر عدَّة من أمواجه وَيخرج للْمُسلمين أَمر من أَجَابَهُ وَقد تعاضدت مُلُوك الْكفْر على أَن ينهضوا إِلَيْهِم من كل فرقة طَائِفَة ويرسلوا إِلَيْهِم من كل سلَاح شَوْكَة فَإِذا قتل الْمُسلمُونَ وَاحِدًا فِي الْبر بعث ألفا عوضه الْبَحْر فالزرع أَكثر من الْحَصاد وَالثَّمَرَة أنمى من الجداد وَهَذَا الْعَدو الْمُقَابل قَاتله الله قد زر عَلَيْهِ من الْخَنَادِق دروعا متينة واستجن من الجنويات بحصون حَصِينَة فَصَارَ مصحرا ومتمنعا حاسرا ومتدرعا مواصلا ومنقطعا وعددهم الجم قد كاثر الْقَتْل ورقابهم الغلب قد قطعت النصل لشدَّة مَا قطعهَا النصل
وأصحابنا قد أثرت فيهم الْمدَّة الطَّوِيلَة والكلف الثَّقِيلَة فِي استطاعتهم لَا فِي طاعتهم وَفِي أَحْوَالهم لَا فِي شجاعتهم وكل من(4/140)
يعرفهُمْ يناشد الله فيهم المناشدة النَّبَوِيَّة فِي الصُّحْبَة البدرية اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة ويخلص الدُّعَاء ويرجو على يَد سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الاجابة وَقد حرم باباهم لعنة الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم كل مُبَاح واستخرج مِنْهُم كل مذخور وأغلق دونهم الْكَنَائِس وَلبس وألبسهم الْحداد وَحكم عَلَيْهِم أَن لَا يزَالُوا كَذَلِك أَو يستخلصوا الْمقْبرَة ويعيدوا القمامة فيا عصبَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخلفه فِي أمته بِمَا تطمئِن بِهِ مضاجعه ووفه الْحق فِينَا فَإنَّا والمسلمون عنْدك ودائعه
وَمَا مثل الْخَادِم نَفسه فِي هَذَا القَوْل إِلَّا بِحَالهِ لَو وقف بالعتبات ضارعا وَقبل ترابها خَاشِعًا وناجاها بالْقَوْل صادعا وَلَو رفعت عَنهُ الْعَوَائِق لهاجر وشافه طَبِيب الْإِسْلَام بل مسيحه بالداء الَّذِي خامر وَلَو أَمن عَدو الْإِسْلَام أَن يَقُول قولا آخر لسافر وَلَوْلَا أَن فِي التَّصْرِيح مَا يعود على العدى لَهُ بالتجريح لقَالَ مَا يبكي الْعُيُون وينكي الْقُلُوب وَلكنه صابر محتسب منتظر لنصر الله مرتقب قَائِم من نَفسه بِمَا يجب قَائِل رب إِنِّي لَا املك إِلَّا(4/141)
نَفسِي وَهَا هِيَ فِي سَبِيلك مبذولة وَأخي وَقد هَاجر إِلَيْك هِجْرَة يرجوها مَقْبُولَة وَوَلَدي وَقد بذلت لعدوك صفحات وُجُوههم وَهَان على محبوبك بمكروهي فيهم ومكروههم ونقف عِنْد هَذَا الْحَد {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد}
فصل فِي الْوَقْعَة العادلية على عكا ظهر يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد علم عَدو الله أَن العساكر قد تَفَرَّقت فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَأَن الميمنة قد خفت لِأَن مُعظم من سَار كَانَ مِنْهَا بِحكم قرب بِلَادهمْ من طَرِيق الْعَدو فَأَجْمعُوا رَأْيهمْ واتفقت كلمتهم على أَنهم يخرجُون بَغْتَة ويهجمون على طرف الميمنة فَجْأَة فَخَرجُوا واستخفوا طرف الميمنة وفيهَا مخيم الْعَادِل فَلَمَّا بصر النَّاس بهم صَاح صائحهم وَخَرجُوا من خيامهم كالأسود من آجامها وَركب السُّلْطَان ونادى مناديه يَا لِلْإِسْلَامِ
وَكَانَ رَحمَه الله أول رَاكب وَلَقَد رَأَيْته وَقد ركب من خيمته وَحَوله نفر يسير من خواصه وَالنَّاس لم يستتم ركوبهم وَهُوَ كالفاقدة وَلَدهَا الثاكلة وَاحِدهَا ثمَّ ضرب الكوس فأجابته(4/142)
كوسات الْأُمَرَاء من أماكنها وَركب النَّاس وسارع الفرنج فِي قصد الميمنة حَتَّى وصلوا إِلَى المخيم العادلي قبل استتمام ركُوب العساكر ودخلوا فِي وطاقه وامتدت أَيْديهم فِي السُّوق وأطراف الخيم بالنهب والغارة وَقيل وصلوا إِلَى خيمة الْخَاص وَأخذُوا من شرابخاناته شَيْئا
وَركب الْعَادِل واستركب من يَلِيهِ من الميمنة كالطواشي قايماز النجمي وَعز الدّين جرديك النوري وَمن يجْرِي مجْرَاه ووقف وقُوف مخادع حَتَّى يوغل بهم طمعهم فِي المخيم ويشتغلوا بالنهب وَكَانَ كَمَا ظن فَإِنَّهُ عاثت أَيْديهم فِي الْخيام والأقمشة والفواكه وَالطَّعَام فَلَمَّا علم اشتغالهم بذلك صَاح بِالنَّاسِ وَحمل بِنَفسِهِ يقدمهُ وَلَده الْكَبِير شمس الدّين مودود وَحمل بحملته من كَانَ يَلِيهِ من الميمنة واتصل الْأَمر بِجَمِيعِ الميمنة حَتَّى وصل الصائح إِلَى عَسْكَر الْموصل وهجموا على الْعَدو هجمة الْأسود على فرائسها وأمكنهم الله مِنْهُم وَوَقعت الكسرة فعادوا يَشْتَدُّونَ نَحْو خيامهم هاربين وعَلى أَعْقَابهم ناكصين وَسيف الله يقتل فيهم وَصَاح صائح السُّلْطَان فِي النَّاس يَا أبطال الْمُوَحِّدين هَذَا عَدو الله قد أمكن الله مِنْهُ وَقد دَاخله الطمع حَتَّى غشي خيامكم بِنَفسِهِ
فبادر إِلَى إجَابَته حلقته وخاصته ثمَّ طلب عَسْكَر الْموصل يقدمهم عَلَاء الدّين ولد عز الدّين ثمَّ عَسْكَر مصر يقدمهم(4/143)
سنقر الْحلَبِي وَتَتَابَعَتْ العساكر وتجاوبت الْأَبْطَال وَقَامَت سوق الْحَرْب فَلم يكن إِلَّا سَاعَة حَتَّى رَأينَا الْقَوْم صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية وامتدوا مطروحين من خيام الْعَادِل إِلَى خيامهم أَوَّلهمْ فِي الخيم الإسلامية وَآخرهمْ فِي خيم الْعَدو صرعى على التلول والوهاد وَكَانَ مِقْدَار مَا امْتَدَّ فِيهِ الْقَتْلَى بَين المخيمين فرسخا وَرُبمَا زَاد على ذَلِك وَلم ينج من الْقَوْم إِلَّا النَّادِر
قَالَ وَلَقَد خضت فِي تِلْكَ الدِّمَاء بدابتي وَاجْتَهَدت على أَن أعدهم فَمَا قدرت على ذَلِك لكثرتهم وتفرقهم وشاهدت مِنْهُم امْرَأتَيْنِ مقتولتين وَحكى لي من شَاهد مِنْهُم أَربع نسْوَة يقاتلن وَأسر مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ وَأسر من الرِّجَال فِي ذَلِك الْيَوْم نفر يسير فَإِن السُّلْطَان كَانَ أَمر النَّاس أَلا يستبقوا أحدا
هَذَا كُله فِي الميمنة وَبَعض الْقلب وَأما الميسرة فَمَا اتَّصل الصائح بهم إِلَّا وَقد نجز الْأَمر وَقضي الْقَضَاء على الْعَدو لبعد مَا بَين المسافتين وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة فِيمَا بَين الظّهْر وَالْعصر فَإِن الْعَدو ظهر فِي قَائِم الظهيرة وانفصلت الْحَرْب بعد الْعَصْر وانكسر الْقَوْم حَتَّى دخلت طَائِفَة من الْمُسلمين وَرَاءَهُمْ إِلَى مخيمهم على مَا قيل(4/144)
ثمَّ ان السُّلْطَان أَمر النَّاس بالتراجع وَلم يفقد أحد من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم سوى عشرَة أنفس غير معروفين
وَلما أحس جند الله بعكا بِمَا جرى بَين الْمُسلمين وَبَين الْعَدو من الْوَقْعَة فَإِنَّهُم كَانُوا يشاهدون الوقعات من أعالي السُّور خَرجُوا إِلَى مخيم الْعَدو من الْبَلَد وَجرى بَينهم مقتلة عَظِيمَة وَكَانَت النُّصْرَة وَالْحَمْد لله للْمُسلمين بِحَيْثُ هجموا خيام الْعَدو ونهبوا مِنْهَا جمعا من النسوان والأقمشة حَتَّى الْقُدُور وفيهَا الطَّعَام وَوصل كتاب من عكا يخبر بذلك
وَاخْتلف النَّاس فِي عدد الْقَتْلَى مِنْهُم فَذكر قوم أَنهم ثَمَانِيَة آلَاف وَقَالَ آخَرُونَ سَبْعَة آلَاف وَلم ينقصهم حازر عَن خَمْسَة آلَاف وَلَقَد شاهدت مِنْهُم خَمْسَة صُفُوف أَولهَا فِي خيم الْعَادِل وَآخِرهَا فِي خيم الْعَدو وَلَقَد لقِيت إنْسَانا عَاقِلا جنديا يسْعَى بَين صُفُوف الْقَتْلَى ويعدهم فَقلت لَهُ كم عددت فَقَالَ إِلَى هَاهُنَا أَرْبَعَة آلَاف ونيفا وَسِتِّينَ قَتِيلا وَكَانَ قد عد صفّين وَهُوَ فِي الصَّفّ الثَّالِث لَكِن مَا مضى من الصُّفُوف أَكثر عددا من الْبَاقِي
قَالَ وَجَاء من الْغَد نجاب لَهُ عَن حلب خَمْسَة أَيَّام بِكِتَاب يتَضَمَّن أَن جمَاعَة عَظِيمَة من الْعَدو الشمالي خَرجُوا للنهب بأطراف الْبِلَاد الإسلامية ونهض الْعَسْكَر الْحلَبِي إِلَيْهِم وَأخذ عَلَيْهِم الطَّرِيق فَلم ينج مِنْهُم أحد إِلَّا من شَاءَ الله(4/145)
قَالَ وَجَاء فِي لَيْلَة ذَلِك الْيَوْم من اليزك من ذكر أَن الْعَدو قد سَأَلَ من جَانب السُّلْطَان من يصل إِلَيْهِم ليسمع مِنْهُم حَدِيثا فِي سُؤال الصُّلْح لضعف حل بهم وَلم يزل الْعَدو من حِينَئِذٍ مكسور الْجنَاح منهاض الْجَانِب حَتَّى وصلهم كند يُقَال لَهُ كندهري وَسَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ الْعِمَاد وَلما شاع عِنْد الفرنج خبر وُصُول الألمانية قَالُوا إِذا وصل ملكهم وَنكى فِي الْمُسلمين انْكَسَرَ ناموسنا وتطأطأت عِنْده رؤوسنا
فَذكر الْوَقْعَة بِمَعْنى مَا تقدم إِلَى أَن قَالَ وَوصل السُّلْطَان وَشَاهد من مساءة الفرنج مَا سره وَعرف لطف الله وبره وَنَصره وعاين هُنَاكَ مصَارِع الْأَعْدَاء ومشارع الْبلَاء وَكَانُوا مفروشين فِي مدى فَرسَخ على الأَرْض وهم فِي تِسْعَة صُفُوف من تلال الرمل إِلَى الْبَحْر بِالْعرضِ وكل صف يزِيد على ألف قَتِيل وشاع الْقَتْل فِي الفرنج فِي كل قبيل وَكَانَت هَذِه النّوبَة بِلَا نائبة والغزوة بِلَا شَائِبَة وَقتل مِنْهُم زهاء عشرَة آلَاف وَلم يبلغ من اسْتشْهد من أَتبَاع الْعَسْكَر عشرَة فاغتنمها تِجَارَة رابحة وغنيمة ميسرَة
قَالَ وَلما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثَلَاثِينَ أَرْبَعِينَ كتابا بالبشارات بأبلغ الْمعَانِي وأبرع الْعبارَات وَقلت إِذا نزل السُّلْطَان وجد الْكتب حَاضِرَة ولأرى الْبشَارَة شائرة(4/146)
ركبت أَنا وَالْقَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد لمشاهدة مَا هُنَاكَ من أشلاء صرعى وأجساد فَمَا أعجل مَا سلبوا وأعروا وفروا وفروا وَقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم ورأينا امْرَأَة مقتولة لكَونهَا مقاتلة وسمعناها وَهِي خامدة بالعبرة قائلة وَمَا زلنا نطوف عَلَيْهِم ونعبر ونفكر فيهم ونعتبر حَتَّى ارتدى الْعشَاء بالظلام فعدنا إِلَى الْخيام وأطلنا الْوُقُوف على تِلْكَ الطلول الدارسة واستبشرت الْوُجُوه بِتِلْكَ الْوُجُوه العابسة وحزرناهم بِعشْرَة آلَاف قَتِيل لَا حزر تَكْثِير بل حزر تقليل وَكَانَ الَّذين حملُوا وهزموا وَقتلُوا أقل من ألف فَقتلُوا أضعافا مضاعفة وعدموا مِمَّن وَرَاءَهُمْ مساعدة ومساعفة
وَحكي من نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة أَن فرنجيا عقر فَجَثَا للصرعة فعثر بِهِ رَاكب برذون فعرقب الفرنجي فرسه بِسيف فِي يَده فَنزل بجده مستنا فِي جدده وَقتل ذَلِك الفرنجي وروى من دَمه الْهِنْدِيّ وَحل من وَسطه ثَمَانِينَ دِينَارا فَانْقَلَبَ ربحا مَا عده خسارا وامتلأت الْأَيْدِي بالأسلاب والأكساب وَحصل من الْعدَد مَا لم يكن فِي الْحساب وبيعت الزرديات ذَوَات الْأَثْمَان بالرخص
قَالَ وَشرع الفرنج فِي الخداع والمراسلة وسألوا فِي الصُّلْح وَأذن لَهُم السُّلْطَان فِي الْخُرُوج للنَّظَر إِلَى أُولَئِكَ الصرعى بِتِلْكَ المروج وَهِي قد تورقت وأنتنت وجافت وحميت الشَّمْس على(4/147)
جيفها وحافت وضافتها القشاعم والخوامع عَلَيْهَا أطافت فساءهم مَا سرنا ونفرهم مَا أقرنا
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الرَّأْي بعد هَذِه النُّصْرَة أَن ترد عَلَيْهِم الكرة مرّة بعد مرّة إِلَى أَن يهْلكُوا حسرة ويبيدوا فَلَا يبْقى لَهُم جَمْرَة فاشتغل السُّلْطَان بِمَا جَاءَهُ من المكاتبات بظفر التركمان وَغَيرهم بعسكر الألمان فَجَاءَت للفرنج نجدة من الْبَحْر ومدد أَضْعَاف مَا نقص مِنْهُم من الْعدَد وَالْعدَد فأضحوا كَأَن لم ينكبوا وثبتوا مكانهم وَلم يثبوا
وَوصل إِلَيْهِم الْمَعْرُوف بالكندهري فَفرق الْأَمْوَال واستخدم الرِّجَال وَأنْفق فِي عشرَة آلَاف راجل وَأظْهر أَنه يخرج إِلَى لِقَاء عَسْكَر الْإِسْلَام فتحول السُّلْطَان إِلَى منزلَة الخروبة ليوسع عَلَيْهِم الدائرة وَنصب الكند على عكا منجنيقات كَثِيرَة فأحرقها الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم من الفوارس سَبْعُونَ وَأسر عدَّة معروفون ثمَّ نصب منجنيقين فأحرقا أول شعْبَان وَكَانَ الكند قد أنْفق على أَحدهمَا ألفا وَخمْس مئة دِينَار
وَمن جملَة من وَقع فِي الْأسر فَارس كَبِير فَمَا أمهلوه حِين أَخَذُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ ونبذوه فَطَلَبه مِنْهُم الفرنج بالأموال وَلم يعرفوا(4/148)
بِالْحَال فأخرجوه إِلَيْهِم قَتِيلا فَأكْثر الفرنج عَلَيْهِ بعد العويل عويلا فَبَاتُوا يندبونه نوحًا ويذيعون سر تقدمه فيهم بوحا
وَحين وَقعت أَعينهم عَلَيْهِ قَتِيلا ضربوا بنفوسهم الأَرْض وحثوا على رؤوسهم التُّرَاب وَوَقعت عَلَيْهِم بِسَبَب ذَلِك خمدة عَظِيمَة وكتموا أمره وَلم يظْهر من كَانَ واستصغر الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك أَمرهم وهجم عَلَيْهِم الْعَرَب من كل جَانب يسرقون وينهبون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ
هَذَا والكتب متواصلة من عكا إِلَيْنَا وَمنا إِلَيْهَا على أَجْنِحَة الطُّيُور وأيدي السباح والمراكب اللطاف تخرج لَيْلًا وَتدْخل سَرقَة من الْعَدو
قَالَ الْعِمَاد وَوصل من ملك قسطنطينية كتاب يتَضَمَّن استعطافا واستسعافا وَيذكر تَمْكِينه من اقامة الْجُمُعَة فِي جَامع الْمُسلمين بقسطنطينية وَالْخطْبَة وَأَنه مُسْتَمر على الْمَوَدَّة رَاغِب فِي الْمحبَّة وَيعْتَذر عَن عبور الْملك الألماني وَأَنه قد فجع فِي طَرِيقه بالأماني ونال من الشدَّة وَنقص الْعدة مَا أضعفه وأوهاه وَأَنه لَا يصل إِلَى بِلَادكُمْ فينتفع بِنَفسِهِ أَو ينفع وَيكون مصرعه هُنَاكَ وَلَا يرجع ويمت بِمَا بِهِ كاده وَأَنه قد بلغ فِي أَذَاهُ اجْتِهَاده وَيطْلب رَسُولا يدْرك بِهِ من السُّلْطَان سولا فَأُجِيب فِي ذَلِك إِلَى مُرَاده وَوَقع الِاعْتِدَاد بِمَا ذكره من اعتداده(4/149)
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ بَين السُّلْطَان وَبَين ملك قسطنطينية مراسلة ومكاتبة وَكَانَ وصل مِنْهُ رَسُول إِلَى الْبَاب الْكَرِيم السلطاني بمرج عُيُون سنة خمس وَثَمَانِينَ فِي رَجَب فِي جَوَاب رَسُول كَانَ أنفذه السُّلْطَان بعد تَقْرِير الْقَوَاعِد وَإِقَامَة قانون الْخطْبَة فِي جَامع قسطنطينية
فَمضى الرَّسُول وَأقَام الْخطْبَة وَلَقي باحترام عَظِيم وإكرام زَائِد وَكَانَ قد أنفذ مَعَه فِي الْمركب الْخَطِيب والمنبر وجمعا من المؤذنين والقراء وَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ إِلَى قسطنطينية يَوْمًا عَظِيما من أَيَّام الْإِسْلَام شَاهده جمع كثير من التُّجَّار
ورقي الْخَطِيب الْمِنْبَر وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ المقيمون بهَا والتجار وَأقَام الدعْوَة الإسلامية العباسية ثمَّ عَاد فَعَاد مَعَه هَذَا الرَّسُول يخبر بانتظام الْحَال فِي ذَلِك فَأَقَامَ مُدَّة وَلَقَد شاهدته يبلغ الرسَالَة وَمَعَهُ ترجمان يترجم عَنهُ وَهُوَ شيخ من أحسن مَا يفْرض أَن يكون من صور الْمَشَايِخ وَعَلِيهِ زيهم الَّذِي يخْتَص بهم وَمَعَهُ كتاب وتذكره وَالْكتاب مختوم بِذَهَب وَلما مَاتَ وصل خبر وَفَاته إِلَى ملك قسطنطينية فأنفذ هَذَا الرَّسُول فِي تَتِمَّة ذَلِك
ثمَّ وصف القَاضِي الْكتاب وَعبر عَنهُ بألفاظه وَقد عبر الْعِمَاد عَن مَعَانِيه فأغنى عَن ذَلِك
ثمَّ قَالَ وَكَانَ من حَدِيث ملك الألمان أَنه بعد أَن اسْتَقر قدمه(4/150)
فِي أنطاكية أَخذهَا من صَاحبهَا وَحكم فِيهِ وَكَانَ بَين يَدَيْهِ فِيهَا ينفذ أوامره فَأَخذهَا مِنْهُ غيلَة وخديعة وأودعها خزائنه وَسَار عَنْهَا خَامِس عشري رَجَب نَحْو عكا فِي جيوشه وجموعه على طَرِيق اللاذقية حَتَّى أَتَى طرابلس وَكَانَ قد سَار إِلَيْهِ من معسكر الفرنج يلتقيه المركيس صَاحب صور وَكَانَ من أعظمهم حِيلَة وأشدهم بَأْسا وَهُوَ الأَصْل فِي تهييج الجموع وَذَلِكَ أَنه صور الْقُدس فِي ورقة عَظِيمَة وصور فِيهِ صُورَة الْقِيَامَة الَّتِي يحجون إِلَيْهَا ويعظمون شَأْنهَا وفيهَا قبر الْمَسِيح الَّذِي دفن فِيهِ بعد صلبه بزعمهم وَذَلِكَ الْقَبْر هُوَ أصل حجهم وَهُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ نزُول النُّور عَلَيْهِ فِي كل سنة فِي عيد من أعيادهم
فصور الْقَبْر وصور عَلَيْهِ فرسا عَلَيْهِ فَارس مُسلم رَاكب وَقد وطىء قبر الْمَسِيح وَقد بَال الْفرس على الْقَبْر وَأبْدى هَذِه الصُّورَة وَرَاء الْبَحْر فِي الْأَسْوَاق والمجامع والقسوس يحملونها ورؤوسهم مكشفة وَعَلَيْهِم المسوح وينادون بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور
وللصور عمل فِي قُلُوبهم فَإِنَّهَا أصل دينهم فهاج بذلك خلائق لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَكَانَ من جُمْلَتهمْ ملك الألمان وَجُنُوده فَلَقِيَهُمْ المركيس لكَونه أصلا فِي استدعائهم إِلَى هَذِه الْوَاقِعَة فَلَمَّا اتَّصل بِهِ قوى قلبه وبصره بالطرق وسلك بِهِ السَّاحِل خوفًا من أَنه إِذا أَتَى على بِلَاد حلب وحماة نازلهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب وَمَعَ ذَلِك لم يسلمُوا من شن الغارات عَلَيْهِم
وَاخْتلف حزر النَّاس لَهُم وَلَقَد وقفت على بعض كتب(4/151)
الخبيرين بِالْحَرْبِ وَقد حزر فارسهم وراجلهم بِخَمْسَة آلَاف بعد أَن كَانُوا قد خَرجُوا على مَا ذكر بمئتي ألف فَانْظُر إِلَى صَنِيع الله مَعَ أعدائه
وَلما سَارُوا من اللاذقية يُرِيدُونَ جبلة وجدوا فِي أَعْقَابهم نيفا وَسِتِّينَ فرسا قد عطبت وانتزع لَحمهَا وَلم يبْق فِيهَا إِلَّا الْعِظَام من شدَّة الْجُوع وَضعف الْخَيل وَلم يزَالُوا سائرين وأيدي الْمُسلمين تتخطفهم من حَولهمْ نهبا وأسرا وقتلا حَتَّى أَتَوا طرابلس فَأَقَامَ بهَا حَتَّى استجم عسكره وَأرْسل إِلَى النازلين على عكا يُخْبِرهُمْ بقدومه فوجموا من ذَلِك لِأَن المركيس صَاحب مشورته وَكَانَ الْملك جفري وَهُوَ ملك السَّاحِل بالمعسكر هُوَ الَّذِي يرجع إِلَيْهِ فِي الْأُمُور فَعلم أَن مَعَ قدوم الألماني لَا يبْقى لَهُ حكم
وَفِي أَوَاخِر شعْبَان نزل الألماني فِي المراكب هُوَ وَعَسْكَره فثارت عَلَيْهِم ريح أهلكت مِنْهُم ثَلَاثَة مراكب وَسَار الْبَاقُونَ إِلَى صور ثمَّ وصل إِلَى عكا فِي نفر يسير فِي سادس رَمَضَان وَكَانَ لقدومه وَقع عَظِيم عِنْدهم وَوصل خبر وصولهم إِلَى طرابلس ثامن شعْبَان وَالسُّلْطَان ثَابت الجأش راسخ الْقدَم لَا يزعزعه ذَلِك عَن حراسة عكا والحماية لَهَا ومراصدة الْعَسْكَر النَّازِل بهَا وَشن الغارات والهجوم عَلَيْهِم فِي كل وَقت مفوضا أمره إِلَى الله تَعَالَى مُعْتَمدًا عَلَيْهِ منبسط الْوَجْه لقَضَاء حوائج النَّاس مواصلا ببره من نفذ إِلَيْهِ من الْفُقَرَاء وَالْفُقَهَاء والمشايخ والأدباء وَلَقَد كنت إِذا بَلغنِي هَذَا الْخَبَر تأثرت حَتَّى إِذا دخلت عَلَيْهِ أجد من قُوَّة النَّفس وَشدَّة(4/152)
الْبَأْس مَا يشْرَح صَدْرِي وأتيقن مَعَه نصْرَة الْإِسْلَام وَأَهله
فصل فِي إِدْخَال البطس إِلَى عكا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ رَحمَه الله قد أعد ببيروت بطسة وعمرها وأودعها أَربع مئة غرارة من الْقَمْح وَوضع فِيهَا من الْجُبْن والبصل وَالْغنم وَغير ذَلِك من الْميرَة وَكَانَ الفرنج قد أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لَهَا عَن أَن يدخلهَا مركب للْمُسلمين وَكَانَ قد اشتدت حَاجَة من فِيهَا إِلَى الطَّعَام والميرة فَركب فِي بطسة بيروت جمَاعَة من الْمُسلمين وتزيوا بزِي الفرنج حَتَّى حَلقُوا لحاهم وَوَضَعُوا الْخَنَازِير على سطح البطسة بِحَيْثُ ترى من بعد وعلقوا الصلبان وجاؤوا قاصدي الْبَلَد من الْبعد حَتَّى خالطوا مراكب الْعَدو فَخَرجُوا إِلَيْهِم واعترضوهم فِي الحراقات والشواني وَقَالُوا لَهُم نَرَاكُمْ قَاصِدين الْبَلَد واعتقدوا أَنهم مِنْهُم فَقَالُوا أَو لم تَكُونُوا أَخَذْتُم الْبَلَد فَقَالُوا لَا لم نَأْخُذ الْبَلَد بعد فَقَالُوا نَحن نرد القلوع إِلَى الْعَسْكَر ووراءنا بطسة أُخْرَى فِي هوائها فأنذروهم حَتَّى لَا يدخلُوا الْبَلَد
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ بطسة فرنجية قد اتّفقت مَعَهم فِي الْبَحْر قَاصِدين الْعَسْكَر فنظروا فرأوها فقصدوها لينذروها فاشتدت البطسة(4/153)
الإسلامية فِي السّير واستقامت لَهَا الرّيح حَتَّى دخلت ميناء الْبَلَد وسلمت وَللَّه الْحَمد وَكَانَ فرجا عَظِيما فان الْحَاجة كَانَت قد أخذت من أهل الْبَلَد وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الآخر من رَجَب
قَالَ وَفِي الْعشْر الْأَوْسَط من شعْبَان كتب بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ وَالِي الْبَلَد والمقدم على الأسطول وَهُوَ الْحَاجِب لُؤْلُؤ يذكران للسُّلْطَان أَنه لم يبْق بِالْبَلَدِ ميرة إِلَّا قدر يَكْفِي الْبَلَد إِلَى لَيْلَة النّصْف من شعْبَان لَا غير فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لخاص وَلَا عَام خشيَة الشُّيُوع وَالْبُلُوغ إِلَى الْعَدو وتضعف بِهِ قُلُوب الْمُسلمين
وَكَانَ قد كتب إِلَى مصر بتجهيز ثَلَاث بطس مشحونة بالأقوات والادام والمير وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحصار بِحَيْثُ يكفيهم ذَلِك طول الشتَاء
فأقلعت البطس الثَّلَاث من الديار المصرية ولججت فِي الْبَحْر تتوخى النوتية بهَا الرّيح الَّتِي تحملهَا إِلَى عكا فطابت لَهُم الرّيح حَتَّى سَارُوا ووصلوا إِلَى عكا لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَقد فنيت الأزواد وَلم يبْق عِنْدهم مَا يطْعمُون النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم
وَخرج عَلَيْهَا أسطول الْعَدو يقاتلها والعساكر الإسلامية تشاهد ذَلِك من السَّاحِل وَالنَّاس فِي تهليل وتكبير وَقد كشف الْمُسلمُونَ رؤوسهم يبتهلون إِلَى الله تَعَالَى فِي الْقَضَاء بسلامتها إِلَى الْبَلَد وَالسُّلْطَان على السَّاحِل كالوالدة الثكلى يُشَاهد الْقِتَال وَيَدْعُو إِلَى ربه(4/154)
بنصره وَقد علم من شدَّة الْقَوْم مَا لم يُعلمهُ غَيره وَفِي قلبه مَا فِي قلبه وَالله يُثبتهُ وَلم يزل الْقِتَال يعْمل حول البطس من كل جَانب وَالله يدْفع عَنْهَا وَالرِّيح تشتد والأصوات قد ارْتَفَعت من الطَّائِفَتَيْنِ وَالدُّعَاء يخرق الْحجب حَتَّى وصلوا بِحَمْد الله سَالِمين إِلَى ميناء الْبَلَد وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عَن جذب وأمتاروا بِمَا فِيهَا وَكَانَت لَيْلَة بِليَال وَكَانَ دُخُولهَا الْعَصْر رَابِع عشر شعْبَان
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ السُّلْطَان قد أَمر نواب الاسكندرية بتجهيز بطس كبار وتعميرها من كل ميرة وغلة وتسييرها إِلَى عكا فأبطأت عَن الْمِيقَات وأضر بالمقيمين بِالْبَلَدِ إعواز الأقوات فأفكر فِيمَا يتعجل بِهِ الْغَرَض فَكتب إِلَى مُتَوَلِّي بيروت عز الدّين سامة فَجهز بطسة كَبِيرَة قد ملأها ميرة وغلة كَثِيرَة وأركبها جمَاعَة على زِيّ الفرنج ممسوحي اللحى ممسوخي الحلى وأصحبهم صلبانا وخيل بهم رهبانا
وَكَانَت هَذِه البطسة من الفرنج مَأْخُوذَة وَهِي بساحل بيروت منبوذة فَأمر السُّلْطَان بترميمها وتتميمها فملئت بالشحوم واللحوم وَأَرْبع مئة غرارة غلَّة وأحمال من النشاب والنفط ورتب فِيهَا(4/155)
رجال مُسلمُونَ ونصارى من أهل بيروت وَأَرَادُوا أَن تشتبه ببطس الْعَدو فِي الْبَحْر وشدوا زنانير واستصحبوا خنازير وَسَارُوا بهَا فِي الْبَحْر بمراكب الفرنج مختلطين وَإِلَى محادثتهم ومجاذبتهم منبسطين وَلما حاذوا بهَا عكا صوبوا بهَا نَحْوهَا وَالرِّيح تسوقها والفرنج من مراكبها تَقول مَا هَذِه طريقها
وَهِي كالسهم النَّافِذ قد سدد فَوْقهَا فَدخلت الثغر واجتزأ الْبَلَد بهَا نصف شهر وَظَهَرت رَابِع عشر شعْبَان من ثبج الْبَحْر ثَلَاثَة مراكب كَأَنَّهَا ثَلَاث هواضب فَجَاءَت فَجْأَة أعلامها كالأعلام طائرة كالسهام وَلم تبال بمراكب الْعَدو فخرقتها وَقربت مِنْهَا سفينة فغرقتها وعبرت وَعين الْكفْر عبرى وامتلأ الثغر بهَا وأثرى
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَوصل ملك الألمان ورام أَن يظْهر بمجيئه وَقعا ويبدي بِهِ نفعا فدبوا فِي راجل كَرجل الدبى وخيل أغصت الوهاد والربى وقربوا من تل العياضية وَعَلِيهِ خيم اليزكية والنوبة فِيهَا للحلقة المنصورة الناصرية والعصبة الموصلية فثارت إِلَيْهِم ودارت عَلَيْهِم وَركب السُّلْطَان وَتقدم إِلَى تل كيسَان وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن جن الظلام وكف الْكفْر وَسلم(4/156)
الْإِسْلَام وَكَانَت الدائرة على الْكَفَرَة
قَالَ القَاضِي وَقتل مِنْهُم وجرح خلق عَظِيم وَالسيف يعْمل فِي بَقِيَّتهمْ وهم هاربون حَتَّى وصل المخيم غرُوب الشَّمْس من ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ لَا يعْتَقد سَلامَة نَفسه من شدَّة خَوفه وَقتل من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم اثْنَان وجرح جمَاعَة كَثِيرَة
وَمن كتاب إِلَى بَغْدَاد قد بلي الْإِسْلَام مِنْهُم بِقوم قد استطابوا الْمَوْت واستجابوا الصَّوْت وفارقوا المحبوبين الأوطان والأوطار وهجروا المألوفين الْأَهْل والديار وركبوا اللجج ووهبوا المهج كل ذَلِك طَاعَة لقسيسهم وامتثالا لأمر مركيسهم وغيرة لمتعبدهم وحمية لمعتقدهم وتهالكا على مقبرتهم وتحرقا على قمامتهم الظبي
لَا يطْلبُونَ مَعَ شدَّة الاملاق مَالا وَلَا يَجدونَ مَعَ كَثْرَة المشاق ملالا بل يتساقطون على نيران الظبي تساقط الْفراش ويقتحمون الردى متدرعي الصَّبْر متثبتي الجاش حَتَّى خرجت النِّسَاء من بلادهن متبرزات وسرن إِلَى الشَّام فِي الْبَحْر وَالْبر متجهزات وَكَانَت مِنْهُنَّ ملكة استتبعت خمس مئة مقَاتل فَارس وراجل رامح ونابل والتزمت بمؤنتهم فصودف مركبها بِقرب الاسكندرية فَأخذت برجالها وأراح الله من شَرّ احتفالها(4/157)
ومنهن ملكة وصلت مَعَ ملك الألمان وَذَوَات المقانع من الفرنج مقنعات دارعات يحملن إِلَى الطعان الطوارق والقنطاريات وَقد وجدت فِي الوقعات الَّتِي جرت عدَّة مِنْهُنَّ بَين الْقَتْلَى وَمَا عرفن حَتَّى سلبن
وَإِن البابا الَّذِي برومية قد حرم عَلَيْهِم مطاعمهم ومشاربهم وَقَالَ من لَا يتَوَجَّه إِلَى الْقُدس مستخلصا فَهُوَ عِنْدِي محرم لَا منكح لَهُ وَلَا مطعم فلأجل هَذَا يتهافتون على الْوُرُود ويتهالكون على يومهم الْمَوْعُود وَقَالَ لَهُم إِنِّي وَاصل فِي الرّبيع جَامع على الاستنفار شَمل الْجَمِيع وَإِذا نَهَضَ هَذَا الملعون فَلَا يقْعد عَنهُ أحد ويصل مَعَه بأَهْله وَولده كل من يَقُول لله أهل وَولد
فَهَذَا شرح هَؤُلَاءِ وتعصبهم فِي ضلالتهم ولجاجتهم فِي غوايتهم بِخِلَاف أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُم يتضجرون وَلَا يصبرون بل يتفللون وَلَا يَجْتَمعُونَ ويتسللون وَلَا يرجعُونَ وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ ببذل نَفَقَة وَإِذا حَضَرُوا حَضَرُوا بقلوب غير متفقة ليعلم أَن الْإِسْلَام من عِنْد الله مَنْصُور وَأَن الْكفْر بارادة الله محسور ومدحور
قَالَ القَاضِي وَلما عرف ملك الألمان مَا جرى على أَصْحَابه من اليزك الَّذِي هُوَ من الْعَسْكَر رأى أَن يرجع إِلَى قتال الْبَلَد ويشتغل بمضايقته فَاتخذ من الْآلَات العجيبة والصنائع الغريبة مَا هال النَّاظر إِلَيْهِ وَخيف على الْبَلَد مِنْهُ فمما أحدثه آله(4/158)
عَظِيمَة تسمى دبابة يدْخل تحتهَا من الْمُقَاتلَة خلق عَظِيم ملبسة بصفائح الْحَدِيد وَلها من تحتهَا عجل تحرّك بهَا من دَاخل وفيهَا الْمُقَاتلَة حَتَّى يَنْطَح بهَا السُّور وَلها رَأس عَظِيم بِرَقَبَة شَدِيدَة من حَدِيد وَهِي تسمى كَبْشًا يَنْطَح بهَا السُّور بِشدَّة عَظِيمَة لانه يجرها خلق عَظِيم فتهدمه بتكرار نطحها
وَآلَة أُخْرَى وَهِي قبو فِيهِ رجال تسحب ذَلِك إِلَّا أَن رَأسهَا محدد على مِثَال السِّكَّة الَّتِي يحرث بهَا وَرَأس الْكَبْش مدور هَذَا يهدم بثقله وَتلك بحدتها وثقلها وَهِي تسمى سفودا وَمن الستائر والسلالم الْكِبَار الهائلة وَأَعدُّوا فِي الْبَحْر بطسة هائلة وصنعوا فِيهَا برجا بخرطوم إِذا أَرَادوا قلبه على السُّور انْقَلب بالحركات وَيبقى طَرِيقا إِلَى الْمَكَان الَّذِي يَنْقَلِب عَلَيْهِ يمشي عَلَيْهِ الْمُقَاتلَة وعزموا على تقريبه إِلَى برج الذبان ليأخذوه بِهِ
قَالَ وَنصب الْعَدو على الْبَلَد منجنيقات هائلة حاكمة على السُّور وتواترت حجارتها حَتَّى أثرت فِيهِ أثرا بَينا وَخيف من غائلته فَأخذ سَهْمَان من سِهَام الجرخ الْعَظِيم وأحرق نصلاهما حَتَّى بقيا كالشعلة من النَّار ثمَّ رميا فِي المنجنيق الْوَاحِد فعلقا فِيهِ واجتهد الْعَدو فِي اطفاء النَّار فَلم يقدر على ذَلِك وهبت ريح شَدِيدَة فاشتعل اشتعالا عَظِيما واتصلت لهبته بِالْآخرِ فَأَحْرَقتهُ وَاشْتَدَّ ناراهما بِحَيْثُ لم يقدر أحد أَن يقرب مكانهما ليحتال فِي(4/159)
إطفائهما وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما اشْتَدَّ فِيهِ فَرح الْمُسلمين وغم الْكَافرين
قَالَ وَمن نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة ومحاسنها يَعْنِي نَوَادِر مَا جرى فِي الْقِتَال على عكا أَن عواما مُسلما كَانَ يُقَال لَهُ عِيسَى كَانَ يدْخل الْبَلَد بالكتب والنفقات على وَسطه لَيْلًا على غرَّة من الْعَدو وَكَانَ يغوص وَيخرج من الْجَانِب الآخر من مراكب الْعَدو
وَكَانَ ذَات لَيْلَة شدّ على وَسطه ثَلَاثَة أكياس فِيهَا ألف دِينَار وَكتب للعسكر وعام فِي الْبَحْر فَجرى عَلَيْهِ أَمر أهلكه وَأَبْطَأ خَبره عَنَّا وَكَانَت عَادَته إِذا دخل الْبَلَد طَار طَائِر عرفنَا بوصوله فَأَبْطَأَ الطَّائِر فاستشعر هَلَاكه فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام بَينا النَّاس على طرف الْبَحْر فِي الْبَلَد وَإِذا الْبَحْر قد قذف إِلَيْهِم مَيتا غريقا فافتقدوه فوجدوه عِيسَى الْعَوام ووجدوا على وَسطه الذَّهَب ومشمع الْكتب وَكَانَ الذَّهَب نَفَقَة الْمُجَاهدين فَمَا رئي من أدّى الْأَمَانَة فِي حَال حَيَاته وَقدر الله لَهُ أداءها بعد وَفَاته إِلَّا هَذَا الرجل وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَجَب أَيْضا
وَقَالَ الْعِمَاد فَعدم يَعْنِي عِيسَى وَلم يسمع لَهُ خبر وَلم يظْهر لَهُ أثر فظنت بِهِ الظنون وَمَا تيقنت الْمنون وَكَانَت لَهُ لَا شكّ عِنْد الله منزلَة فَلم يرد أَن تبقى حَاله وَهِي مجملة مُحْتَملَة(4/160)
فَوجدَ فِي عكا مَيتا قد رَمَاه الْبَحْر إِلَى ساحلها وبرأه الله مِمَّا قَالُوا فَذهب حق الْيَقِين من الظنون بباطلها
فصل فِي إحراق مَا حوصر بِهِ برج الذبان وتحريق الْكَبْش
قَالَ القَاضِي وَفِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان جهز الْعَدو لَعنه الله بطسا مُتعَدِّدَة لمحاصرة برج الذبان وَهُوَ برج فِي وسط الْبَحْر مَبْنِيّ على الصخر على بَاب ميناء عكا يحرس مِنْهُ الميناء وَمَتى عبره الْمركب أَمن من غائلة الْعَدو فَأَرَادَ الْعَدو أَخذه ليبقى الميناء بِحكمِهِ وَيمْنَع من دُخُول شَيْء من البطس إِلَيْهِ فتنقطع الْميرَة عَن الْبَلَد
فَجعلُوا على صواري البطس برجا وملؤوه حطبا ونفطا على أَنهم يَسِيرُونَ البطس فَإِذا قاربت برج الذبان ولاصقته أحرقوا البرج الَّذِي على الصاري وألصقوه ببرج الذبان ليلقوه على سطحه وَيقتل من عَلَيْهِ من الْمُقَاتلَة ويأخذوه وَجعلُوا فِي البطسة وقودا كثيرا حَتَّى يلقى فِي البرج إِذا اشتعلت النَّار فِيهِ وعبوا بطسة ثَانِيَة وملؤوها حطبا ووقودا على أَنهم يدفعونها إِلَى أَن تدخل بَين البطس الإسلامية ثمَّ يلهبونها فتحرق البطس الإسلامية وَيهْلك مَا فِيهَا من المير
وَجعلُوا فِي بطسة ثَالِثَة مقاتلة تَحت قبو بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِم نشاب وَلَا شَيْء من آلَات السِّلَاح حَتَّى إِذا أحرقوا مَا أَرَادوا إحراقه(4/161)
دخلُوا تَحت القبو فَأمنُوا وأحرقوا أَرَادوا مَا أَرَادوا إحراقه وَقدمُوا البطسة نَحْو البرج الْمَذْكُور وَكَانَ طمعهم فأوقدوا مشتدا حَيْثُ كَانَ الْهَوَاء مسعدا لَهُم فَلَمَّا أحرقوا البطسة الَّتِي أَرَادوا يحرقون بهَا بطس الْمُسلمين والبرج الَّذِي أَرَادوا يحرقون بِهِ من على البرج فأقدوا النَّار وضربوا فِيهَا النفط فانعكس الْهَوَاء عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وَأَرَادَ واشتعلت البطسة الَّتِي كَانَ فِيهَا البرج بأسرها واجتهدوا فِي إطفائها فَمَا قدرُوا وَهلك من كَانَ بهَا من الْمُقَاتلَة إِلَّا من شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ احترقت البطسة الَّتِي كَانَت معدة لاحراق بطسنا ووثب أَصْحَابنَا عَلَيْهَا فَأَخَذُوهَا
وَأما البطسة الَّتِي فِيهَا القبو فَإِنَّهُم انزعجوا وخافوا وهموا بِالرُّجُوعِ وَاخْتلفُوا واضطربوا اضطرابا عَظِيما فَانْقَلَبت وَهلك جَمِيع من كَانَ بهَا لأَنهم كَانُوا فِي قبو لم يستطيعوا الْخُرُوج مِنْهَا وَكَانَ ذَلِك من أعظم آيَات الله وأندر الْعَجَائِب فِي نصْرَة دين الله وَللَّه الْحَمد وَكَانَ يَوْمًا مشهودا
وَقَالَ الْعِمَاد وَعند ميناء عكا فِي الْبَحْر برج يعرف ببرج الذبان وَهُوَ فِي حراسة المينا عَظِيم الشان وهومنفرد عَن الْبَلَد محمي بِالرِّجَالِ وَالْعدَد وَقصد الافرنج حصاره قبل مَجِيء ملك الألمان فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان ببطس كبار جهزوها ومراكب عِظَام الْآلَات أبرزوها ومكر مَكْرُوه ودبر دبروه(4/162)
وَأحد تِلْكَ المراكب قد ركب برج فَوق صاريه لَا يطاوله طود وَلَا يباريه وَقد حشي حشاه بالنفط والحطب وضيق عطنه لسعة العطب حَتَّى إِذا قرب من برج الذبان والتصق بشرفاته أعدى إِلَيْهِ بآفاته ورميت فِيهِ النَّار فَاحْتَرَقَ وَاحْتَرَقَ من الأخشاب والستائر مَا بِهِ الْتَصق وتستولي النَّار على مَوَاقِف الْمُقَاتلَة فتباعدوا عَنْهَا وَلم يقربُوا مِنْهَا وَأوقدت بطسة الْحَطب الَّتِي من وَرَائِهَا وعادت على الفرنج فالتهبوا وحمي عَلَيْهِم الْحَدِيد فاضطرموا واضطربوا وانقلبت بهم السَّفِينَة فاحترقوا وغرقوا والناجون مِنْهُم فارقوا وَفرقُوا وَلم يفرقُوا واحتمى برج الذبان فَلم يطر من بعْدهَا عَلَيْهِ ذُبَاب وَلم يفتح لِلْعَدو فِي الكيد لَهُ بَاب
وَمن كتاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن وَمن حَدِيث البرج أَنه يُحِيط بِهِ الْبَحْر من جوانبه وَهُوَ قفل ميناء الثغر على مراكبه وَقد رفعناه وأعليناه وبالعدد وَالرِّجَال قويناه فعمدوا إِلَى أكبر بطسة وَاتَّخذُوا فِيهَا مصقالا كَأَنَّهُ سلم وَهُوَ فِي مقدمها مركب مقدم وَقد جعلوها بِحَيْثُ إِذا قربت إِلَى البرج ركب رَأس السّلم على شراريفه وَصعد الرِّجَال إِلَيْهِ فِي تجاويفه وتعبوا فِي ذَلِك أَيَّامًا وأشبعوه توثيقا وإحكاما حَتَّى إِذا الْتَصق بالبرج ألصقت بِهِ قَوَارِير النفط وتوالت أمطار البلايا من الجروخ والمنجنيقات على أُولَئِكَ(4/163)
الرَّهْط ثمَّ عمل الفرنج برجا عَالِيا فِي أكبر مركب وحشوه بالحطب وَعمِلُوا على رَأس صاريه مَكَانا يقْعد فِيهِ الزراق وقدموه إِلَى برج الذبان وسلطوا على جوانبه النيرَان فأهب الله من مهب لطفه نكباء نكتب النَّار عَن البرج المحروس وكبت الفرنج على الْوُجُوه والرؤوس
قَالَ القَاضِي وَفِي ثَالِث رَمَضَان زحف الْعَدو على الْبَلَد فِي خلق لَا تحصى فأهملهم أهل الْبَلَد حَتَّى نشبت مخاليب أطماعهم فِيهِ وسحبوا آلاتهم الْمَذْكُورَة حَتَّى قاربوا أَن يلصقوها بالسور
وَتحصل مِنْهُم فِي الخَنْدَق جمَاعَة عَظِيمَة فأطلقوا عَلَيْهِم الجروخ والمجانيق والسهام والنيران وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وفتحوا الْأَبْوَاب وهجموا على الْعَدو من كل جَانب وكبسوهم فِي الْخَنَادِق فَهَرَبُوا وَوضع السَّيْف فِيمَن بَقِي فِي الخَنْدَق مِنْهُم ثمَّ هجموا على كبشهم فَألْقوا فِيهِ النَّار والنفط وتمكنوا من حريقه لهرب الْمُقَاتلَة عَنهُ فَأحرق حريقا شنيعا وَظَهَرت لَهُ لهبة نَحْو السَّمَاء وَارْتَفَعت الْأَصْوَات بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَالشُّكْر وسرت نَار الْكَبْش بقوتها إِلَى السفود فَاحْتَرَقَ وعلق الْمُسلمُونَ فِي الْكَبْش الكلاليب الْحَدِيد المصنوعة فِي الأسل فسحبوه وَهُوَ يشتعل حَتَّى حصلوه عِنْدهم فِي الْبَلَد وَكَانَ مركبا(4/164)
من آلَات هائلة عَظِيمَة وَأُلْقِي المَاء عَلَيْهِ حَتَّى برد حديده بعد أَيَّام
وبلغنا من الْبَلَد أَنه وزن مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحَدِيد فَكَانَ مئة قِنْطَار بالشامي وَالْقِنْطَار مئة رَطْل وَلَقَد أنفذوا رَأسه إِلَى السُّلْطَان وَمثل بَين يَدَيْهِ وشاهدته وقلبته وشكله على مِثَال السفود الَّذِي يكون بِحجر الْمدَار قيل إِنَّه يَنْطَح بِهِ السُّور فيهدم مَا يلاقيه وَكَانَ ذَلِك من أحسن أَيَّام الْإِسْلَام وَوَقع على الْعَدو خذلان عَظِيم وَرفعُوا مَا سلم من آلاتهم وسكنت حركاتهم الَّتِي ضيعوا فِيهَا نفقاتهم
وَقَالَ الْعِمَاد واستأنف الفرنج عمل دبابة هائلة وَآلَة للغوائل غائلة فِي رَأسهَا شكل عَظِيم يُقَال لَهُ الْكَبْش وَله قرنان فِي طول رُمْحَيْنِ كالعمودين الغليظين وَهَذِه الدبابة فِي هَيْئَة الخربشت الْكَبِير وَقد سقفوها مَعَ كبشها بأعمدة الْحَدِيد ولبسوا رَأس الْكَبْش بعد الْحَدِيد بِالنُّحَاسِ فَلم يبْق للنار إِلَيْهَا سَبِيل وَلَا للعطب عَلَيْهَا دَلِيل وملؤوها بالكماة وَالرُّمَاة وسحبوها وقربوها فَجَاءَت صُورَة مزعجة وبلي الْبَلَد مِنْهَا بالبلاء وَقَالُوا مَا فِي دَفعهَا حِيلَة
ونصبوا على صوبها مجانيق ورموا بِالْحِجَارَةِ الثَّقِيلَة ذَلِك النيق فأبعدت رجالها من حواليها ثمَّ رَمَوْهَا بحزم الْحَطب حَتَّى طموا مَا بَين القرنين وقذفوها بالنَّار فَبَاتُوا يطفئونها بالخل(4/165)
وَالْخمر وَقد تمكنت النَّار من أضلاعها ثمَّ خسفها المنجنيق وَخرج من بالثغر فَقطعُوا رَأس الْكَبْش وَاسْتَخْرَجُوا مَا تَحت الرماد من الْعدَد بالنبش وَقدر مَا نهب من الْحَدِيد بمئة قِنْطَار وَعلم الفرنج أَن أَعْمَالهم حبطت وآمالهم هَبَطت وَكَانَ ذَلِك فِي ثَالِث عشر رَمَضَان
وَفِيه قدم الظَّاهِر صَاحب حلب والأمجد صَاحب بعلبك وسابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَعز الدّين ابْن الْمُقدم والأمير حسام الدّين حُسَيْن بن باريك وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء والخواص والمماليك
فصل فِي حوادث أخر مُتَفَرِّقَة فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَوصل الْخَبَر فِي سادس عشر رَمَضَان من حلب أَن صَاحب أنطاكية أغار على غرَّة بشرة وشرة فرتب أَصْحَابنَا لَهُ كمينا ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِ شمالا ويمينا فَقتلُوا أَكثر رِجَاله وأفلت وباله فِي وباله
قَالَ القَاضِي خرج عَلَيْهِ نواب الْملك الظَّاهِر فَقتل من عسكره خَمْسَة وَسَبْعُونَ نَفرا وَأسر مِنْهُم خلق عَظِيم واستعصم(4/166)
بِنَفسِهِ فِي مَوضِع يُسمى شيح حَتَّى انْدَفَعُوا وَسَار إِلَى بَلَده
قَالَ وَفِي أثْنَاء الْعشْر الْأَوْسَط أَلْقَت الرّيح بطستين فيهمَا رجال وصبيان وَنسَاء وميرة عَظِيمَة وغنم كَثِيرَة قَاصِدين نَحْو الْعَدو فغنمها الْمُسلمُونَ وَكَانَ الْعَدو قد ظفر لنا ببركوس فِيهِ نَفَقَة وَرِجَال أَرَادَ الدُّخُول إِلَى الْبَلَد فَأَخَذُوهُ فَوَقع الظفر بِهَاتَيْنِ البطستين ماحيا لذَلِك وجابرا لَهُ
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذَا التَّارِيخ أَلْقَت الرّيح إِلَى سَاحل زيب بطستين خرجتا من عكا بِجَمَاعَة من الرِّجَال وَالصبيان وَالنِّسَاء وفيهَا امْرَأَة محتشمة غنية مُحْتَرمَة فأخذتا وَأخذُوا وَأخذت وجد الفرنج فِي استنقاذها فَمَا استنقذت
قَالَ وَفِي تَاسِع عشر الشَّهْر رحلنا إِلَى منزلَة تعرف بشفر عَم وَسَببه أَنه كثر المستأمنون من الفرنج وأخبروا أَنهم فِي عزم الْخُرُوج إِلَى المرج هائجين للثأر ثائرين إِلَى الهيجاء فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان أمراءه فَقَالُوا الصَّوَاب أَن نفسح لَهُم عَن هَذِه المروج حَتَّى يكون دُخُولهمْ إِلَيْهَا يَوْم الْخُرُوج فنصبحهم فِي الْيَوْم الآخر وَلَا يتَعَذَّر بهم إحداق العساكر(4/167)
فخيمنا هُنَاكَ ورحبت الْمنَازل وعذبت المناهل وعادت معالم تِلْكَ المجاهل وحللنا التلاع والآكام وركزنا بِتِلْكَ الْأَعْلَام الْأَعْلَام ونزلنا لمقام الشتَاء مستعدين ولأسباب التوقي من الأمطار مستنجدين
قَالَ وَمرض زين الدّين صَاحب إربل فِي شهر رَمَضَان وَتُوفِّي فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين مِنْهُ
قَالَ القَاضِي وَكَانَ اسْتَأْذن فِي الرواح فَلم يُؤذن لَهُ فَاسْتَأْذن فِي الِانْتِقَال إِلَى الناصرة فَأذن لَهُ فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا يمرض نَفسه ثمَّ توفّي وَعِنْده أَخُوهُ مظفر الدّين يُشَاهِدهُ وحزن النَّاس عَلَيْهِ لمَكَان شبابه وغربته
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا نحيا سخيا وبكرنا إِلَى مظفر الدّين نعزيه فِي أَخِيه وظننا بِهِ الْحزن فَقُلْنَا نعظه ونسليه فَإِذا هُوَ فِي شغل شاغل عَن العزاء مهتم بِالِاحْتِيَاطِ على مَا خَلفه وَتَركه من الأشياع والأشياء وهوجالس فِي مخيم أَخِيه الْمُتَوفَّى وَقد أشرف على حفظه وأوفى وَقد قبض على جمَاعَة من أمرائه واعتقلهم وَعجل عَلَيْهِم وَمَا أغفلهم مِنْهُم صارم الدّين بن بلداجي(4/168)
مُتَوَلِّي خفتيان كَانَ ليتسلم مِنْهُ الْمَكَان وَكَذَلِكَ كل حَاضر لَهُ حصن ليحصل لَهُ من طَاعَته أَمن
وخاطب فِي أَسبَاب ولَايَة إربل وأعمالها وَأَن يسْتَقلّ ببلادها وأموالها وَرغب فِي شهرزور واستضافتها لاستنارة وجاهته بهَا واستفاضتها وَأَنه ينزل على حران والرها وسميساط والموزر وَيجْعَل كل مَا فِي يَده من الْأَعْمَال فِي الموفر ويخدم بِخَمْسِينَ ألف دِينَار ويحضرها نَقْدا ويلتزم بهَا على الْمِيثَاق عقدا
فأجيبت رغبته وَأُصِيبَتْ طلبته وَعقد لِوَاؤُهُ ونجح رجاؤه وَأَرَادَ سرعَة الرحيل فاستمهل إِلَى حِين وُصُول الْملك المظفر تَقِيّ الدّين لينزل فِي مَنْزِلَته بجنده وَصَحبه الميامين فوصل يَوْم الْأَحَد ثَالِث شَوَّال وأضيف إِلَيْهِ مَا استعيد من مظفر الدّين من الْأَعْمَال وَكتب منشور إربل وَكتاب إِلَى صَاحب الْموصل فِيهِ لَا شكّ فِي إحاطة الْعلم بانتقال زين الدّين إِلَى جوَار الله ومقر رَحمته مُجَاهدًا(4/169)
فِي سَبِيل الله شاكرا لنعمته وَهُوَ من السُّعَدَاء الَّذين أنزل الله تَعَالَى فيهم {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله} فَمَا أفجع الْقُلُوب بمصابه وَمَا أنكى فِي النُّفُوس فلول شبا شبابه
وَلَقَد كَانَت الهمة متوفرة على تَرْبِيَته واعلاء دَرَجَته وَلَكِن الله تَعَالَى اسْتَأْثر بِهِ قبل ظُهُور حسن الْآثَار فِي ايثاره وبلي بدره التم بسراره وَأصْبح فِي ضمير البلى من أسراره
وَهَذِه إربل من إنعام الْبَيْت الْكَرِيم الأتابكي على الْبَيْت الزيني مذ سبعين عَاما لم يحلوا لعقد أنعامهم بهَا نظاما وَلم يزِيدُوا أَحْكَامه إِلَّا إحكاما وإبراما وَمَا أرى أَن يخرج هَذَا الْموضع مِنْهُم وَأَن يصدف بِهِ عَنْهُم والأمير الْأَجَل مظفر الدّين كَبِير الْبَيْت وحاميه والمقدم فِي الْولَايَة بِمُقْتَضى وَصِيَّة أَبِيه وَقد أنهض ليسد مسد أَخِيه
قَالَ وَكَانَ الْملك المظفر تَقِيّ الدّين مُتَوَلِّيًا مذ سِنِين أَعمال ميافارقين فَطلب من عَمه تَفْوِيض كل مَا وَرَاء الْفُرَات إِلَيْهِ والاعتماد فِيهِ عَلَيْهِ فأنعم عَلَيْهِ بذلك فَأَقَامَ عندنَا بالمنزلة المظفرية إِلَى أَن يُؤذن لَهُ فِي الْمُضِيّ إِلَى تِلْكَ الْولَايَة وسير نوابه إِلَيْهَا لابقاء رعاياها على شِيمَة الرِّعَايَة(4/170)
قَالَ وَلما أحس الْعَسْكَر الشَّرْقِي بالشتاء أبدوا خلق السَّآمَة وضجروا من الاقامة فَأَما عماد الدّين صَاحب سنجار فانه عرف كَرَاهِيَة السُّلْطَان لفراقه فَلم يجر إِلَّا على وفاقه وَأما صَاحب الجزيرة سنجر شاه فَإِنَّهُ استطال الْمقَام وأباه وَدخل يَوْم عيد الْفطر على السُّلْطَان فَقبل يَده وودعه من غير سَابِقَة الاسْتِئْذَان فأغضبه انْفِصَاله وساءه ارتحاله وَكَانَ تَقِيّ الدّين واصلا فلقي صَاحب الجزيرة عَنَّا فاصلا فَرده عَن طَرِيقه وجد فِي تعويقه وَرجع بِهِ إِلَى الرِّضَا وَعَفا الله عَمَّا مضى
وَقَالَ القَاضِي ترددت رسله ورقاعه إِلَى السُّلْطَان فِي طلب الدستور وَالسُّلْطَان يعْتَذر بِأَن رسل الْعَدو متكررة فِي معنى الصُّلْح وَلَا يجوز أَن تنفض العساكر حَتَّى نتبين على مَاذَا ينْفَصل الْحَال من سلم أَو حَرْب
فَلَمَّا كَانَ يَوْم عيد الْفطر دخل على السُّلْطَان وَهُوَ ملتاث الْجِسْم فَقبل يَده وَخرج وسارمن سَاعَته وَمَعَهُ أَصْحَابه فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان صَنِيعه كتب إِلَيْهِ إِنَّك أَنْت قصدت الانتماء إِلَيّ ابْتِدَاء وراجعتني فِي ذَلِك مرَارًا وأظهرت الخيفة على نَفسك وبلدك من أهلك فقبلتك وآويتك ونصرتك فبسطت يدك فِي أَمْوَال النَّاس وَدِمَائِهِمْ وأعراضهم فنفذت إِلَيْك ونهيتك عَن ذَلِك مرَارًا فَلم تَنْتَهِ فاتفق وُقُوع هَذِه الْوَاقِعَة للاسلام فدعوناك فَأتيت بعسكر قد عَرفته وعرفه النَّاس وأقمت هَذِه المديدة وقلقت هَذَا القلق وتحركت بِهَذِهِ الْحَرَكَة وانصرفت عَن غير طيب نفس وَغير فصل حَال مَعَ(4/171)
الْعَدو فَانْظُر لنَفسك وَأبْصر من تنتمي إِلَيْهِ غَيْرِي واحفظ نَفسك مِمَّن يقصدك فَمَا بَقِي لي إِلَى جَانِبك الْتِفَات
وَسلم الْكتاب إِلَى نجاب فَلحقه قَرِيبا من طبرية فَقَرَأَ الْكتاب وَلم يلْتَفت وَسَار فَلَقِيَهُ تَقِيّ الدّين عِنْد عقبَة فيق فَأخْبرهُ بأَمْره وتعتب على السُّلْطَان كَيفَ لم يخلع عَلَيْهِ وَلم يَأْذَن لَهُ فِي الرواح ففهم تَقِيّ الدّين انْفِصَاله عَن غير دستور من السُّلْطَان فَأمره بِالرُّجُوعِ وَقَالَ أَنْت صبي وَلَا تعلم غائلة هَذَا الْأَمر فَقَالَ مَا يمكنني الرُّجُوع فَقَالَ ترجع من كل بُد من غير اختيارك
وَكَانَ تَقِيّ الدّين شَدِيد الْبَأْس مقداما على الْأُمُور لَيْسَ فِي عينه من أحد شَيْء فَلَمَّا علم أَنه قابضه إِن لم يرجع رَجَعَ مَعَه وَسَأَلَ السُّلْطَان الصفح عَنهُ فَفعل وَطلب أَن يُقيم فِي جوَار تَقِيّ الدّين خشيَة على نَفسه فَأذن لَهُ فَأَقَامَ فِي جواره إِلَى حِين ذَهَابه
قَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح وَطَالَ على الْملك عماد الدّين صَاحب سنجار الْمقَام وجد فِي الاسْتِئْذَان فِي الرحيل مِنْهُ الاهتمام وتقرر ملاله وتكرر سُؤَاله فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان
(من ضَاعَ مثلي من يَدَيْهِ ... فليت شعري مَا استفادا)
فَلَمَّا قَرَأَ هَذَا الْبَيْت مَا راوح فِي الْخطاب وَلَا غادى(4/172)
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَفِي مستهل ذِي القعده أذن لعلاء الدّين خرم شاه ابْن صَاحب الْموصل ونعت بِالْملكِ السعيد لما تفرس فِيهِ من أَمَارَات السعد وَأقَام بعده عَمه عماد الدّين وَابْن عَمه معز الدّين سنجر شاه وهما صاحبا سنجار والجزيرة وحبوا بالحباء الوافر والعطايا الغزيرة وَمَا فارقا إِلَّا فِي السّنة الْأُخْرَى فِي ثَالِث صفر
قَالَ وغلت الأسعار عِنْد الفرنج حَتَّى بلغت الغرارة أَكثر من مئة دِينَار والسعر من الزِّيَادَة لديهم فِي اسْتعَار وبلوا بِأُمُور صعبة وهرب إِلَيْنَا مِنْهُم عصبَة بعد عصبَة فاستأمنوا إِلَيْنَا لفرط جوعهم وَلما شَبِعُوا عندنَا لم يَرْغَبُوا فِي رجوعهم فَمنهمْ من أسلم فَحسن إِسْلَامه وَمِنْهُم من خدم فَوَافَقَ استخدامه وَمِنْهُم من حن إِلَى إلفه فَرجع الْقَهْقَرَى إِلَى خَلفه
فصل
كَانَ القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله فِي هَذِه الْأَوْقَات بالديار المصرية يرتب للسُّلْطَان أُمُوره من تجهيز العساكر وتعمير الأسطول وَحمل المَال وَنقل المير إِلَى عكا وَالسُّلْطَان يكاتبه فِي مهماته وَترجع أجوبته بِأَحْسَن عباراته مُشِيرا وناصحا ومسليا وباحثا عَن مصَالح الْإِسْلَام متقصيا فَمن بعض كتبه(4/173)
الْمَمْلُوك يُنْهِي أَن الله تَعَالَى لَا ينَال مَا عِنْده إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَلَا تفرج الشدائد إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والامتثال لأمر شَرِيعَته والمعاصي فِي كل مَكَان بادية والمظالم فِي كل مَوضِع فَاشِية وَقد طلع إِلَى الله تَعَالَى مِنْهَا مَا لايتوقع بعْدهَا إِلَّا مَا يستعاذ مِنْهُ
وَقد أجْرى الله تَعَالَى على يَد مَوْلَانَا أبقاه الله من فتح الْبَيْت الْمُقَدّس مَا يكون بِمَشِيئَة الله لَهُ حجَّة فِي رِضَاهُ ونعوذ بِاللَّه أَن يكون حجَّة لَهُ فِي غَضَبه
بلغ الْمَمْلُوك من كل وَارِد مِنْهُ مُكَاتبَة ومخاطبة بِأَنَّهُ على صفة تقشعر مِنْهَا الأجساد وتتصدع بذكرها الأكباد والمملوك لَا يتَعَرَّض لتفصيل مَا بلغه من ظُهُور الْمُنْكَرَات فِيهِ وشيوع الْمَظَالِم فِي ضيَاعه وخراب الْبَلَد وَعدم الْقُدْرَة على المرمة لقبة الصَّخْرَة وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وبالغفلة من مرمتهما وبفقدهما فِي أشتية الْقُدس الْعَظِيمَة الجليلة المثلجة لَا يُؤمن سُقُوطهَا وافتضاح الْقُدْرَة فِي الْعَجز عَن إعادتهما والمرمة أقرب متناولا من الْإِنْشَاء والتجديد
وَلَا شُبْهَة أَن مَوْلَانَا عز نَصره فِي أشغال شاغلة وَأُمُور متشددة وقضايا غير وَاحِدَة وَلَا مُتعَدِّدَة وَلَكِن قد ابْتُلِيَ النَّاس فصبروا وأضجرتهم الْأَيَّام فَمَا ضجروا وَأي عبَادَة أعظم من عِبَادَته الَّتِي قَامَ بهَا وَالنَّاس عَنْهَا قعُود وصبر فِي طلب جنتها على نَارِي الْحَرْب وَالْوَقْت ذواتي الْوقُود غير أَن مَوْلَانَا إِذا ذكر نصِيبه من(4/174)
الاقدام فَلَا ينسى نصِيبه من الحزم وَلَا يعجل فِي الْأُمُور الخطيرة وَلَا يقدم بِالْعدَدِ الْقَلِيل على الْعدة الْكَثِيرَة فالمولى إِذا قَاتل كَانَ وَاحِدًا وَإِذا دبر كَانَ بالخلق وَلَا يطْمع بِأَن يقوم بِهِ الْألف وليذكر الْمولى نوبَة الرملة الَّتِي كَانَ وُقُوعهَا من الله سُبْحَانَهُ أدبا لَا غَضبا وتوفيقا لَا اتِّفَاقًا وَلَا يكره الْمولى أَن تطول مُدَّة الِابْتِلَاء بِهَذَا الْعَدو فثوابه يطول وحسناته تزيد وأثره فِي الْإِسْلَام يبْقى وفتوحاته بِمَشِيئَة الله يعظم موقعها وَالْعَاقبَة للتقوى {ولينصرن الله من ينصره}
وَالله تَعَالَى يشْكر لمولانا جهاده بِيَدِهِ وبرأيه وبولده وبخاصته وبعامة جنده والاعداء فِي أعدائه كجهاده بِصَاحِب صيدا فِي الفرنج فَهُوَ جِهَاد قد أربى فِيهِ رَأْي الْمولى فرجح وَالْحَدِيد بالحديد يفلح وأكيد مَا قوتل بِهِ الْعَدو سلاحه وأسرع جنَاح طَار لقبضه جنَاحه ودولة مَوْلَانَا كالبحر كرما وَظُهُور عجائب وكالسماء مَطَرا وأسنة كواكب
وَمن كتاب آخر الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بَين يَدي مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر لطف الله بِقَلْبِه وَحمل عَنهُ وروح سره وَوصل الرَّاحَة بِهِ ونسأل أَن يرحمه بِنَا الَّذِي رحمنا بِهِ فقد بلغت الْقُلُوب(4/175)
وَقد وقفت فِي طرقنا الذُّنُوب وبينما نَحن لنتظر من كتب الْمولى مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَن قلب الْمولى قد طَابَ وَقصد الْعَدو قد خَابَ إِذْ ترد كتب يكون الْوُقُوف عَلَيْهَا قَاطعا للأكباد مفتتا للقلوب وَلَو أَنَّهَا جماد
ثمَّ ذكر البطس الَّذِي تقدم ذكرهَا الْوَاصِلَة إِلَى عكا لَيْلَة نصف شعْبَان فَقَالَ وَبينا نَحن نعتقد أَن البطس فِي عكا وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط وَيَوْم وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط نَحن على انْتِظَار خُرُوجهَا مِنْهُ وَكتب البطائق بالاستحثاث والاستعجال وتحذيرهم من تمادي الْمقَام وَمَا تَيَقنا أخرجت أم هِيَ بَاقِيَة كَأَن الرّيح فِي بَيت مَا خرجت مِنْهُ فِي هَاتين الجمعتين وَلها من تَارِيخ خُرُوجهَا من الاسكندرية وَإِلَى تَارِيخ تسطير هَذِه الْخدمَة خَمْسَة عشر يَوْمًا والعيون ممدودة وَالْأَيْدِي مَرْفُوعَة بِأَن يفرج الله عَنَّا وعنكم بوصولها فَمن شبع فِي هَذِه الْأَيَّام فَمَا واسى الْمُسلمين وَمن نَام ملْء عَيْنَيْهِ فَمَا هُوَ من أخوة الْمُؤمنِينَ
والمملوك شفيق على البطس فِي وَقت الدُّخُول حذر أَن يعْتَرض الْعَدو طريقها فيحول بَينهَا وَبَين الْوُصُول فينعكس المُرَاد بهَا وَيحدث من الْمضرَّة بحرمانها أَضْعَاف مَا يحدث من النِّعْمَة بالفرج الْمسير فِيهَا وأكد هَذِه الْحَال فِي نفس الْمَمْلُوك وُقُوفه(4/176)
على كتب أَصْحَابنَا من عكا وَقد وَقع لَهُم هَذَا الْوَاقِع الَّذِي وَقع للمملوك من خوفهم عَلَيْهَا واستبعادهم دُخُولهَا فَمَا الْمَمْلُوك وكل من يعرف الْأَمر إِلَّا كَأَهل الصِّرَاط رب سلم رب سلم
فنسأل الله سُبْحَانَهُ أَلا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فنعجز وَلَا إِلَى النَّاس فنضيع ومجهود أهل الأَرْض قد انْتهى وَبَقِي مَا يَفْعَله الله وَالْخَيْر منتظر مِنْهُ والفرج بالقوت قد سير فِي الْبَحْر من خَمْسَة عشر يَوْمًا والفرج بِالنَّفَقَةِ قد سير فِي الْبر من عشرَة أَيَّام وَالله يَا مَوْلَانَا مَا ينجز شَيْء من هَذِه الْأُمُور إِلَى أَن تضرب الْوُجُوه بالشوك وتستحلب الْحِجَارَة وينبه النوام وتبح الْأَصْوَات من التذْكَار وتحفى الأقلام من الْكِتَابَة ويخضع لمن يلْزمه الشّغل كالخضوع لمن لَا يلْزمه وَالله الْمُسْتَعَان فَلْيخْلصْ الْمولى نِيَّته فِي الِاسْتِعَانَة فالأعوان قَلِيل (وَقد كَانُوا إِذا عدوا قَلِيلا ... فقد صَارُوا أقل من الْقَلِيل)
وَمن كتاب آخر وَمَا تجدّد لِلْعَدو من الشُّرُوع فِي آلَات الْحصار لعكا وَمَا أرجف بِهِ من النجدتين الفرنجيتين الْوَاصِلَة والبعيدة وافتراق العساكر فِي هَذَا الْوَقْت للضَّرُورَة والتماس الْعَسْكَر الشَّرْقِي الدستور للضجر وحاجة الْمولى من الانفاق إِلَى مَا لَا يَسعهُ التَّدْبِير ويضيق عَنهُ الامكان ومطالبة الْغَنِيّ بِالزِّيَادَةِ مَعَ(4/177)
الْغَنِيّ والضعيف بِأَكْثَرَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ وضياع فرْصَة بعد فرْصَة وَاخْتِلَاف رَأْي بَين المستشارين من الْجَمَاعَة وجود الْأَلْسِنَة بالآراء وبخل الْأَيْدِي بالمعونة وانفراد الْمولى بالتعب واشتراك النَّاس فِي الرَّاحَة وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ الْمُسلمُونَ من مرض أظهروه ليَكُون لَهُم عذرا فِي الْقعُود وكتمه الْمولى على نَفسه لِئَلَّا يجلب لِأَصْحَابِنَا ضعف النُّفُوس
فَهَذِهِ الْأُمُور وَإِن كَانَت شَدَائِد وزائدات على العوائد فقد ألهم الله مَوْلَانَا فِيهَا سَعَة الصَّدْر وَحسن الصَّبْر ليشعره أَن صبره يعقبه النَّصْر وحسبته يعقبه الْأجر وَلَو لم ير الله تَعَالَى أَن قُوَّة مَوْلَانَا أكمل القوى وَعُرْوَة عزمه أوثق العرى لما أَهله لِأَن ينصر مِلَّة لَا يعرف الْمَمْلُوك غير الله ينصرها وَغير مَوْلَانَا يُبَاشر النُّصْرَة ويحضرها فَلَيْسَ إِلَّا التجرد للدُّعَاء والتجلد للْقَضَاء فَلَا بُد من قدر مفعول وَدُعَاء مَقْبُول وَمن الْأَمْثَال الْمَنْظُومَة
(نَحن الَّذين إِذا علوا لم يبطروا ... يَوْم الْهياج وَإِن علوا لم يضجروا)
ومعاذ الله أَن يفتح علينا الْبِلَاد ثمَّ يغلقها وَأَن يسلم على يدينا الْقُدس ثمَّ ينصره ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على النَّصْر ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على الصَّبْر
واذا كَانَ مَا يقدم الله إِلَيْهِ المماليك قبله الْمولى لَا بُد(4/178)
مِنْهُ وَهُوَ لِقَاء الله سُبْحَانَهُ فَلِأَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة لنا خير من أَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة علينا فَلَا تعظم هَذِه الفتوق على مَوْلَانَا فتبهر صبره وتملأ صَدره {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون وَالله مَعكُمْ}
وَهَذَا دين مَا غلب بِكَثْرَة وَلَا نصر بثروة وَإِنَّمَا اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ أَرْبَاب نيات وَذَوي قُلُوب مَعَه وحالات فَلْيَكُن الْمولى نعم الْخلف لذَلِك السّلف {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} واشتدي أزمة تنفرجي والغمرات تذْهب ثمَّ لَا تجي وَالله تَعَالَى يسمع الْأذن مَا يسر الْقلب وَيصرف عَن الْإِسْلَام وَأَهله غاشية هَذَا الكرب ونستغفر الله الْعَظِيم فانه مَا ابتلى إِلَّا بذنب
وَمن كتاب آخر يَا مَوْلَانَا أعلم أَن الله تَعَالَى قد فعل لَك مَا فعله لنَفسِهِ وَدلّ على لطفه بك كَمَا دلّ على قدرته فانه تَعَالَى خلق الْخلق من غير مَادَّة وَأقَام السَّمَاء بِغَيْر عمد وَكَذَلِكَ فعل الله بك خلقك بِغَيْر شَبيه فِي الْمُلُوك كرما ودينا وَسَهل لَك من مصر مَالا من غير جِهَة وَحمى مِنْهَا بلادا بِغَيْر جند وَسكن لَك فِيهَا رعية بِغَيْر وُلَاة فاشكر الله وَلَا تحتقر خدمَة من يَبِيع الأنفاس وَالنَّوْم والراحة اجْتِهَادًا فِيمَا يريحك ويخفف عَنْك ثمَّ لَا يُرِيد الْعِوَض مِنْك إِنَّمَا يُريدهُ من الله عَنْك لِأَن خدمتك طَاعَة لَهُ(4/179)
وَالْوُجُوه الَّتِي وَقعت الاشارة إِلَيْهَا خضنا فِيهَا وَفِي غَيرهَا فَمَا وجدنَا أَكثر مِمَّا بلغنَا إِلَيْهِ
يَا مَوْلَانَا لَيْسَ لَك فِي مصر إِلَّا الثغور وَمَا عملت فِي هَذِه السّنة إِلَّا بِقدر ثمن حبال مَا سير إِلَيْك من الأساطيل إِن الله آخذ بيد الْكَرِيم والمعونة بِحَسب الْمُؤْنَة فليهن الْمولى الْعَافِيَة من الْحساب فشتان مَا حِسَاب من كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم ينفقها فِي سَبِيل الله وحساب من قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا فِي سَبِيل الله
وَمن كتاب آخر وَمَا فِي نفس الْمَمْلُوك شَائِبَة إِلَّا بَقِيَّة هَذَا الضعْف الَّذِي بجسم مَوْلَانَا فانه بقلوبنا ونفديه بأسماعنا وأبصارنا
(بِنَا معشر الخدام مَا بك من أَذَى ... وَإِن أشفقوا مِمَّا أَقُول فَبِي وحدي)
وَمن كتاب آخر إِنَّمَا أَتَيْنَا من قبل أَنْفُسنَا وَلَو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا وَلَو أطعناه لما عاقبنا بعدونا وَلَو فعلنَا مَا نقدر عَلَيْهِ من أمره لفعل لنا مَا لانقدر عَلَيْهِ إِلَّا بِهِ فَلَا يستخصم أحد إِلَّا عمله وَلَا يلم إِلَّا نَفسه وَلَا يرج إِلَّا ربه وَلَا ينْتَظر العساكر أَن تكْثر وَلَا الْأَمْوَال أَن تحضر وَلَا فلَان الَّذِي يعْتَقد عَلَيْهِ أَن يُقَاتل وَلَا فلَان الَّذِي ينْتَظر أَنه يُشِير فَكل هَذِه مشاغل عَن الله لَيْسَ النَّصْر بهَا وَلَا نَأْمَن أَن يكلنا الله إِلَيْهَا والنصر بِهِ واللطف مِنْهُ وَالْعَادَة الجميلة لَهُ ونستغفر الله سُبْحَانَهُ من ذنوبنا فلولا أَنَّهَا تسد طَرِيق دعائنا لَكَانَ جَوَاب دعائنا قد نزل وفيض دموع(4/180)
الخاشعين قد غسل وَلَكِن فِي الطَّرِيق عائق خار الله لمولانا فِي الْقَضَاء السَّابِق واللاحق
وَفِي كتاب آخر وصف فِيهِ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ابْن السُّلْطَان ثمَّ قَالَ وَلَو شَاهد مَوْلَانَا الْيَوْم شخصه الْكَرِيم وَصورته الجميلة وَنَفسه الطاهرة ونظرته المطرقة وصفحته الحيية وَسُكُون حركاته الموزونة لخلع مَوْلَانَا عَلَيْهِ فُؤَاده ووهبه عينه ورقاده
وَلَقَد يرد الْمولى عرصات الْقِيَامَة وثواب فِرَاقه لَهُ لوجه الله أعظم من ثَوَاب جهاده فِي سَبِيل الله وَإِن إِيمَانًا صبره عَن ذَلِك الْوَلَد الْكَرِيم لكريم وَإِن إِيمَانًا أسلى عَن ذَلِك الْملك الْعَظِيم لعَظيم
وَمن كتاب آخر وعسكرنا لَا يشكو وَالْحَمْد لله مِنْهُ خورا إِنَّمَا يشكو مِنْهُ ضجرا والقوى البشرية لَا بُد أَن يكون لَهَا حد والأقدار الالهية لَهَا قصد وكل ذِي قصد خَادِم قَصدهَا وواقف عِنْد حَدهَا وَإِنَّمَا ذكر الْمَمْلُوك هَذَا ليرْفَع الْمولى من خاطره مقت المتقاعس من رِجَاله كَمَا يثبت فِيهِ شكر المسارع من أبطاله قَالَ الله تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر}
يَا مَوْلَانَا أَلَيْسَ الله تَعَالَى اطلع على قُلُوب أهل الأَرْض فَلم يؤهل وَلم يستصلح وَلم يخْتَر وَلم يسهل وَلم يسْتَعْمل وَلم(4/181)
يستخدم فِي إِقَامَة دينه وإعلاء كَلمته وتمهيد سُلْطَانه وحماية شعاره وَحفظ قبْلَة موحديه إِلَّا أَنْت
هَذَا وَفِي الأَرْض من هُوَ أَحَق للنبوة قرَابَة وَمن لَهُ المملكة وراثة وَمن لَهُ فِي المَال كَثْرَة وَمن لَهُ فِي الْعدَد ثروة فَأَقْعَدَهُمْ وأقامك وكسلهم ونشطك وقبضهم وبسطك وحبب الدُّنْيَا إِلَيْهِم وبغضها إِلَيْك وصعبها عَلَيْهِم وهونها عَلَيْك وَأمْسك أَيْديهم وَأطلق يدك وأغمد سيوفهم وجرد سَيْفك وأشقاهم وأنعم عَلَيْك وثبطهم وسيرك {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين}
نعم وَأُخْرَى أهم من الأولى أَنه لما اجْتمعت كلمة الْكفْر من أقطار الأَرْض وأطراف الدُّنْيَا ومغرب الشَّمْس ومزخر الْبَحْر مَا تَأَخّر مِنْهُم مُتَأَخّر وَلَا استبعد الْمسَافَة بَيْنك وَبينهمْ مستبعد وَخَرجُوا من ذَات أنفسهم الخبيثة لَا أَمْوَال تنْفق فيهم وَلَا مُلُوك تحكم عَلَيْهِم وَلَا عَصا تسوقهم وَلَا سيف يزعجهم مهطعين إِلَى الدَّاعِي ساعين فِي أثر السَّاعِي وهم من كل حدب يَنْسلونَ وَمن كل بر وبحر يقبلُونَ كنت يَا مَوْلَانَا أبقاك الله كَمَا قيل (وَلست بِملك هازم لنظيره ... وَلَكِنَّك الْإِسْلَام للشرك هازم)(4/182)
هَذَا وَلَيْسَ لَك من الْمُسلمين كَافَّة مساعد إِلَّا بدعوة وَلَا مُجَاهِد مَعَك إِلَّا بِلِسَانِهِ وَلَا خَارج مَعَك إِلَّا بهم وَلَا خَارج بَين يَديك إِلَّا بِالْأُجْرَةِ وَلَا قَانِع مِنْك إِلَّا بِزِيَادَة تشتري مِنْهُم الخطوات شبْرًا بِذِرَاع وذراعا بباع تدعوهم إِلَى الله وكأنما تدعوهم إِلَى نَفسك وتسألهم الْفَرِيضَة وكأنك تكلفهم النَّافِلَة وَتعرض عَلَيْهِم الْجنَّة وكأنك تُرِيدُ أَن تستأثر بهَا دونهم
والآراء تخْتَلف بحضرتك والمشورات تتنوع بمجلسك فَقَائِل لم لَا نتباعد عَن الْمنزلَة وَآخر لم لَا نَمِيل إِلَى الْمُصَالحَة ومتندم على فَائت مَا كَانَ فِيهِ حَظّ ومشير بمستقبل مَا يلوح فِيهِ رشد ومشير بالتخلي عَن عكا حَتَّى كَأَن تَركهَا تغليق الْمُعَامَلَة وَمَا كَأَنَّهَا طَلِيعَة الْجَيْش وَلَا قفل الدَّار وَلَا خرزة السلك إِن وهت تداعى السلك وانبت فِي يَد الْملك فألهمك الله قتل الْكَافِر وَخلاف المخذل والتجلد وَتَحْت قدمك الْجَمْر وأفرشك الطُّمَأْنِينَة وَتَحْت جَنْبك الوعر
(وَلَكِن مَوْلَانَا صفيحة وَجهه ... كضوء شهَاب القابس المتنور)
(قَلِيل التشكي للمهم يُصِيبهُ ... كثير الْهوى شَتَّى النَّوَى والمسالك)
لَا شُبْهَة أَن الْمَمْلُوك قد أَطَالَ وَلَكِن قد اتَّسع المجال وَمَا مُرَاده إِلَّا أَن يشْكر الله على مَا اخْتَارَهُ لَهُ ويسره عَلَيْهِ وحببه إِلَيْهِ فَرب ممتحن بِنِعْمَة وَرب منعم عَلَيْهِ بِمَشَقَّة وَكم مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه ومرحوم من بلوى هِيَ دواؤه(4/183)
وَيُرِيد الْمَمْلُوك بِهَذَا أَن لَا يتَغَيَّر لمولانا أبقاه الله وَجه عَن بشاشة وَلَا صدر عَن سَعَة وَلَا لِسَان عَن حَسَنَة وَلَا ترى مِنْهُ ضجرة وَلَا تسمع مِنْهُ نهرة فالشدة تذْهب وَيبقى ذكرهَا والأزمة تنفرج وَيبقى أجرهَا
وكما لم يحدث اسْتِمْرَار النعم لمولانا عز نَصره بطرا فَلَا تحدث لَهُ سَاعَات الامتحان ضجرا والمملوك يستحسن بَيْتِي حَاتِم ومولانا أبقاه الله وخلد سُلْطَانه وَملكه يحفظهما
(شربنا بكأس الْفقر يَوْمًا وبالغنى ... وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا سقانا بِهِ الدَّهْر)
(فَمَا زادنا بغيا على ذِي قرَابَة ... غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر)
والمملوك بِأَن يسمع أَن مَوْلَانَا عز نَصره على مَا يعهده من سَعَة صَدره أسر مِنْهُ بِمَا يسمعهُ من بشائر نَصره وياليتني كنت مَعَهم وماذا كَانَت تصنع الْأَيَّام إِمَّا شيبا من مُشَاهدَة الحروب فقد شبنا وَالله من سَماع الْأَخْبَار أَو غرما يُمكن خَلفه من الوفر فقد غرمنا فِي بعد مَوْلَانَا مَا لَا خلف لَهُ من الْعُمر أَو مرض جسم فخيره مَا كَانَ الطَّبِيب حاضره وَلَقَد مرضنا أَشد الْمَرَض لفراقه إِلَّا أَن التجلد ساتره
وَمن كتب أخر الْمَمْلُوك يُوصي الْمولى بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَام هُوَ قلب الْمولى فيروحه وَلَا يحملهُ مَا يشْغلهُ ويثقله ويوصي الْمولى بقلوب الْمُسلمين وَقُلُوب الْمُسلمين جسم مَوْلَانَا أبقاه الله(4/184)
من علم أَنه لَا توفيه رواتب الْحَيَاة اشْتغل قلبه واستطار لبه وضعفت نَفسه فيحسب الْمولى من جهاده تفقد جِسْمه وإلانة مطعمه وترويح خطراته فقد بلغ الْمَمْلُوك من حمله على نَفسه مَا يخْشَى على مَوْلَانَا الاثم فِيهِ وَإِنَّمَا نتجشم كل مشقة لنسلم مِنْهُ وَنحن فِي ضرّ قد مسنا وَلَا نرجو لكشفه إِلَّا من ابْتُلِيَ بِهِ وَفِي طوفان فتْنَة وَلَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم
وَلنَا ذنُوب قد سدت طَرِيق دعائنا فَنحْن أولى بِأَن نلوم أَنْفُسنَا وَللَّه قدر لَا سلَاح لنا فِي دَفعه إِلَّا أَن نقُول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَقد أَشْرَفنَا على أهوال {قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب} وَقد جمع الْعَدو لنا وَقيل لنا اخشوه فَقُلْنَا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل متنجزين بذلك مَوْعُود الانقلاب بِنِعْمَة من الله وَفضل فَمَا نرجو إِلَّا ذَلِك الْفضل الْعَظِيم وَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِعَانَة بِاللَّه فَمَا دلنا الله فِي الشدائد إِلَّا على الدُّعَاء لَهُ وعَلى طروق بَاب كرمه وعَلى التضرع إِلَيْهِ {فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم}(4/185)
ونعوذ بِاللَّه من الْقَسْوَة وَمن الْقنُوط من الرَّحْمَة وَمن الْيَأْس من الْفرج فانه لَا ييأس مِنْهُ إِلَّا مسلوب الرشد مطرود عَن الله مَقْطُوع الْحَظ مِنْهُ
وَلَا حِيلَة إِلَّا بترك الْحِيلَة بل قصد من تمْضِي أقداره بِلَا حِيلَة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
إِن علم الله من جند مَوْلَانَا أَنهم قد بذلوا المجهود فقد عذرهمْ فيعذرهم الْمولى وَإِن علم أَنهم قد ذخروا قُوَّة أَو قصروا فِي نصْرَة كلمة الله فيكفيهم مقت الله
الْمَمْلُوك يذكر الْمولى بصبره وبرحب صَدره وبفضل خلقه وبتقواه لرَبه وبمداراة مزاجه وببرء الْقُلُوب الإسلاميه ببرء جِسْمه {وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم} الْآيَة إِلَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَالْمولى أولى بِهَذَا الْبَيْت
(لَا بطر إِن تَتَابَعَت نعم ... وصابر فِي الْبلَاء محتسب)
قيل للمهلب أَيَسُرُّك ظفر لَيْسَ فِيهِ تَعب فَقَالَ أكره عَادَة الْعَجز
وَلَا بُد أَن تنفذ مَشِيئَة الله فِي خلقه وَلَا راد لحكمه فَلَا يتسخط مَوْلَانَا بِشَيْء من قدره فَلِأَن يجْرِي الْقَضَاء وَهُوَ رَاض مأجور خير من أَن يجْرِي وَهُوَ ساخط موزور فيصطلي نَار الشدَّة أَعَاذَهُ الله مِنْهَا وَلَا يجد رَاحَة الثَّوَاب وفر الله حَظه مِنْهُ
من شكا بثه وحزنه إِلَى الله شكا إِلَى مشتكى واستغاث(4/186)
بِقَادِر وَمن دَعَا ربه دُعَاء خفِيا اسْتَجَابَ لَهُ استجابة ظَاهِرَة فلتكن شكوى مَوْلَانَا إِلَى الله خُفْيَة عَنَّا وَلَا يقطع الظُّهُور الَّتِي لَا تشتد إِلَّا بِهِ وَلَا يضيق صدورا لَا تنفرج إِلَّا مِنْهُ وَمَا شرد الْكرَى وَأطَال على الأفكار ليل السرى إِلَّا ضائقة الْقُوت بعكا
لم يبْق إِلَّا ضعف نعم الْمعِين عَلَيْهِ ترويح النَّفس واعفاؤها من الْفِكر فقد علم مَوْلَانَا بِالْمُبَاشرَةِ أَنه لَا يدبر الدَّهْر إِلَّا بِرَبّ الدَّهْر وَلَا ينفذ الْأَمر إِلَّا بِصَاحِب الْأَمر وَأَنه لَا يقل الْهم إِن كثر الْفِكر
(قد قلت للرجل الْمقسم أمره ... فوض إِلَيْهِ تنم قرير الْعين)
كل مقترح يُجَاب إِلَيْهِ إِلَّا ثغرا يصير نَصْرَانِيّا بعد أَن أسلم أَو بَلَدا يخرس فِيهِ الْمِنْبَر بعد أَن تكلم
يَا مَوْلَانَا هَذِه اللَّيَالِي الَّتِي رابطت فِيهَا وَالنَّاس كَارِهُون وسهرت فِيهَا والعيون هاجعة وَهَذِه الْأَيَّام الَّتِي يُنَادى فِيهَا يَا خيل الله ارْكَبِي وَهَذِه السَّاعَات الَّتِي تزرع الشيب فِي الرؤوس وَهَذِه الغمرات الَّتِي تفيض فِيهَا الصُّدُور بِمَائِهَا بل بنارها هِيَ نعْمَة الله عَلَيْك وغراسك فِي الْجنَّة ومجملات محضرك {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا} وَهِي مجوزاتك الصِّرَاط وَهِي مثقلات الْمِيزَان وَهِي دَرَجَات الرضْوَان(4/187)
فاشكر الله عَلَيْهَا كَمَا تشكره على الفتوحات الجليلة وَاعْلَم أَن مثوبة الصَّبْر فَوق مثوبة الشُّكْر وَمن ربط جأش أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَوْله لَو كَانَ الصَّبْر وَالشُّكْر بَعِيرَيْنِ مَا باليت أَيهمَا ركبت
وبهذه العزائم سبقُونَا وتركونا لَا نطمع بالغبار وامتدت خطاهم ونعوذ بِاللَّه من العثار
مَا اسْتعْمل الله فِي الْقيام بِالْحَقِّ إِلَّا خير الْخلق وَقد عرف مَا جرى فِي سير الْأَوَّلين وَفِي أنباء النَّبِيين وَأَن الله تَعَالَى حرض نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَهْتَدِي بهداهم وَأَن يسْلك سبيلهم ويقتدي بأولي الْعَزْم مِنْهُم وَمَا تغلو الْجنَّة بِثمن وَمَا ابتلى الله سُبْحَانَهُ من عباده إِلَّا من يعلم أَنه يصبر وَأُمُور الدُّنْيَا ينْسَخ بَعْضهَا بَعْضًا وَكَأن مَا قد كَانَ لم يكن وَيذْهب التَّعَب وَيبقى الْآجر
(وَإِنَّمَا يقظات الْعين كَالْحلمِ ... )
أهم الْوَصَايَا أَن لَا يحمل الْمولى هما يضعف بِهِ جِسْمه ويضر مزاجه وَالْأمة بُنيان وَهُوَ أبقاه الله قَاعِدَته وَالله يثبت تِلْكَ الْقَاعِدَة الْقَائِمَة فِي نصْرَة الْحق
وَمِمَّا يستحسن من وَصَايَا الْفرس إِن نزل بك مَا فِيهِ حِيلَة فَلَا تعجز وَإِن نزل بك مَا لَيْسَ فِيهِ حِيلَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَلَا تجزع(4/188)
وَرب وَاقع فِي أَمر لَو اشْتغل عَن حمل الْهم بِهِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ مَعَ مَقْدُور الله لانصرف همه وكفي خطبه {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله}
هَذَا سُلْطَان هُوَ بحول الله أوثق مِنْهُ بسلطانه قَاتَلت الْمُلُوك بطمعها وَقَاتل هَذَا بايمانه وَإِذا نظر الله إِلَى قلب مَوْلَانَا لم يجد فِيهِ ثِقَة بِغَيْرِهِ وَلَا تعويلا على قُوَّة إِلَّا على قوته فهنالك الْفرج ميعاده واللطف مِيقَاته فَلَا يقنط من روح الله وَلَا يقل {مَتى نصر الله} وليصبر فَإِنَّمَا خلق للصبر بل ليشكر فالشكر فِي مَوضِع الصَّبْر أَعلَى دَرَجَات الشُّكْر وَليقل لمن ابتلى أَنْت الْمعَافي وليرض عَن الله سُبْحَانَهُ فَإِن الرضي عِنْد الله هُوَ الْمُسلم الراضي فَأَما أَخْبَار فتْنَة بِلَاد الْعَجم فسبحان من ألحق قُلُوبهم بألسنتهم {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ}
وَكتب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي الْفَاضِل كتابا من بِلَاد الفرنج يُخبرهُ عَمَّا لَاحَ لَهُ من أَمَارَات النَّصْر وَيَقُول مَا أَخَاف إِلَّا من ذنوبنا أَن يأخذنا الله بهَا
فَكتب إِلَيْهِ الْفَاضِل فَأَما قَول مَوْلَانَا إننا نَخَاف أَن نؤخذ بذنوبنا فالذنوب كَانَت مثبتة قبل هَذَا الْمقَام وَفِيه محيت والآثام كَانَت مَكْتُوبَة ثمَّ عُفيَ عَنْهَا بِهَذِهِ السَّاعَات وعفيت فَيَكْفِي مُسْتَغْفِرًا لِسَان السَّيْف الْأَحْمَر فِي الْجِهَاد وَيَكْفِي قارعا لأبواب الْجنَّة صَوت(4/189)
مقارعة الأضداد وبعين الله موقفك وَفِي سَبِيل الله مقامك ومنصرفك وطوبى لقدم سعت فِي منهاجك وطوبى لوجه تلثم بمثار عجاجك وطوبى لنَفس بَين يَديك قتلت وَقتلت وَأَن الخواطربشكر الله فِيك عَن شكرها لَك قد شغلت
فصل
كَانَ بَلغنِي أَن السُّلْطَان رَحمَه الله لما اشْتَدَّ امْر الفرنج على عكا أرسل إِلَى ملك الْمغرب يستنجد بِهِ عَلَيْهِم ليقطع عَنهُ مادتهم من جِهَة الْبَحْر وَكنت أتطلب حَقِيقَة ذَلِك وأبحث عَن شرح الْحَال فِيهِ فَإِن الْعِمَاد وَالْقَاضِي لم يتعرضا لَهُ فِي كتبهما غير أَن الْعِمَاد ذكر كتابا كتبه القَاضِي الْفَاضِل إِلَى رسولهم بالمغرب يستنجز مِنْهُ مَا كَانَ أرسل لأَجله وَسَيَأْتِي
وغرضي كَانَ الِاطِّلَاع على نفس كتاب الرسَالَة ومضمونها ثمَّ أَرَانِي بعض الشُّيُوخ الصلحاء الثِّقَات بِخَطِّهِ مَا كنت أرومه فنقلته على وَجهه
قَالَ نُسْخَة كتاب كتبه القَاضِي الْفَاضِل ونقلته من خطه لِابْنِ منقذ يَأْمُرهُ فِيهِ بِالسَّفرِ إِلَى الْمغرب بِأَمْر الْملك النَّاصِر صَلَاح(4/190)
الدّين رَحمَه الله يستنصر بِملك الْمغرب يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن لما حصر الفرنج خذلهم الله عكا بعد كسرة حطين وَفتح بَيت الْمُقَدّس وَالْكتاب الَّذِي سير إِلَى الْمغرب والهدية الَّتِي حملت يَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْأَمِير الْأَجَل الاسفهسلار الْأَصِيل الْعَالم الْمُحْتَرَم شمس الدّين عدَّة الْإِسْلَام جمال الْأَنَام تَاج الدولة أَمِين الْملَّة صفوة الْمُلُوك والسلاطين شرف الْأُمَرَاء مقدم الْخَواص أدام الله توفيقه وَيسر طَرِيقه وأنجح مقْصده وأعذب مورده وحرس مغيبه ومشهده وأسعد يَوْمه وغده
تستخير الله سُبْحَانَهُ وتتوجه كَيْفَمَا يسر الله إِلَى الْجِهَة الإسلامية المغربية حرس الله جَانبهَا وَنصر كتائبها ومراكبها وتستقري فِي الطَّرِيق وَفِي الْبِلَاد من أَخْبَار الْقَوْم فِي أَحْوَالهم وآدابهم وأخلاقهم وأفعالهم وَمَا يحبونه من القَوْل نزره أَو جمه وَمن اللِّقَاء منبسطه أَو منقبضه وَمن الْقعُود بمجالسهم مخففه أَو مطوله وَمن التَّحِيَّات المتهاداة بَينهم مَا صيغته وَمَا موقعه وَهل هِيَ السّنَن الدِّينِيَّة أَو العوائد الملوكية
وَلَا تلقه إِلَّا بِمَا يُحِبهُ وَلَا تخاطبه إِلَّا بِمَا يسره وَالْكتاب قد نفذ إِلَيْهِ وَلم يخْتم لتعلم مَا خُوطِبَ بِهِ
وَالْمَقْصُود أَن تقص الْقَصَص عَلَيْهِ من أول وصولنا إِلَى مصر(4/191)
وَمَا أزلنا من الْبدع بهَا وعطلنا من الالحاد فِيهَا ووضعنا من الْمَظَالِم عَنْهَا وَإِقَامَة الْجُمُعَة وَعقد الْجَمَاعَة فِيهَا وغزواتنا الَّتِي تواصلت إِلَى بِلَاد الْكفْر من مصر فَكَانَت مُقَدّمَة لملك الشَّام الإسلامي باجتماع الْكَلِمَة علينا ومقدمة لملك الشَّام الفرنجي بانقياد الْمُسلمين لنا وإصفاق الْمُلُوك المجاورين على طاعتنا
وتفصل مَا جرى لنا مَعَ الفرنج من الْغَزَوَات الْمُتَقَدّمَة الَّتِي جسنا فِيهَا خلال دِيَارهمْ وَجعلهَا الله تَعَالَى مُقَدمَات لما سبق فِي علمه من أَسبَاب دمارهم وَمَا أعقبها من كسرتنا لَهُم الكسرة الْكُبْرَى وَفتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَتلك على الْإِسْلَام منَّة الله الْعُظْمَى إِلَى غير ذَلِك من أَخذ الثغور وافتتاح الْبِلَاد واثخان الْقَتْل فيهم والأسر لَهُم واستنجاد بَقِيَّتهمْ لفرنج الْمغرب وَخُرُوج نجداتهم وَكَثْرَتهَا وقوتها ومنعتها وَغِنَاهَا وثروتها ومسارعتها ومبادرتها وَأَنه لَا يمْضِي يَوْم إِلَّا عَن قُوَّة تتجدد وميرة تصل وأموال وَاسِعَة تخرج ومعونات كَثِيرَة تحمل
وَأَن ثغرنا حصره الْعَدو وحصرنا نَحن الْعَدو فَمَا تمكن من قتال الثغر وَلَا تمكن من قتالنا وَخَنْدَق على نَفسه عدَّة خنادق فَمَا تمَكنا من قِتَاله وَقدم إِلَى الثغر أبرجة أحرقها أَهله وَخرج مرَّتَيْنِ إِلَى عسكرنا فَكسر الْعَدو الْكثير أَقَله فانه اغتنم أوقاتا لم تكن(4/192)
العساكر فِيهَا مَجْمُوعَة وارتاد سَاعَات لم تكن الأهب فِيهَا مَأْخُوذَة وأقدم على غرَّة استيقظت فِيهَا نصْرَة الله لنا وخذلانه لَهُم فَقتل الله الْعَدو الْقَتْل الذريع وأوقع بِهِ الفتك الشنيع وأجلت إِحْدَى الحركتين عَن عشْرين ألف قَتِيل من الْكفَّار خرجت أَنْفسهَا إِلَى مصارعها وهمدت أجسامها فِي مضاجعها
والعدو وَإِن حصر الثغر فَإِنَّهُ مَحْصُور وَلَو أبرز صفحته لَكَانَ بِإِذن الله هُوَ المثبور المكسور
وتذكر مَا دخل الثغر من أساطيلنا ثَلَاث مَرَّات واختراقها مراكبهم وَهِي الْأَكْثَر ودخولها بالميرة بِحكم السَّيْف الأطهر وَأَن أَمر الْعَدو مَعَ ذَلِك قد تطاول وخطبه قد تَمَادى ونجدته تتواصل وَمِنْهَا ملك الألمان فِي جموع جماهيرها مجمهرة وأموال قناطيرها مقنطرة وَأَن عساكرنا لَو أَدْرَكته لما استدرك وَلَوْلَا سبقه لَهَا بِالدُّخُولِ إِلَى أنطاكية لتلف وَهلك
وتذكر أَن الله قَصم طاغية الألمان وَأَخذه أَخْذَة فرعونية بالاغراق فِي نهر الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ طَرِيقه إِلَى الاحراق فِي نَار الْآخِرَة
وَأَن هَذَا الْعَدو لَو أرسل الله عَلَيْهِ أسطولا قَوِيا مستعدا يقطع بحره وَيمْنَع ملكه لأخذنا الْعَدو بِالْجُوعِ والحصر أَو برز فأخذناه بيد الله تَعَالَى الَّتِي بهَا النَّصْر فان كَانَت الأساطيل بالجانب المغربي ميسرَة وَالْعدة مِنْهَا متوفرة وَالرِّجَال فِي اللِّقَاء فارهة وللمسير غيركارهة فالبدار البدار وَأَنت أَيهَا الْأَمِير فِيهَا أول من استخار الله وَسَار(4/193)
وَإِن كَانَت دون الأسطول مَوَانِع إِمَّا من قلَّة عدَّة وَإِمَّا من شغل هُنَاكَ بمهمة أَو بِمُبَاشَرَة عَدو إِمَّا تحصن مِنْهُ الْعَوْرَة أَو قد لاحت مِنْهُ الفرصة فالمعونة مَا طريقها وَاحِدَة وَلَا سَبِيلهَا مسدودة وَلَا أَنْوَاعهَا محصورة تكون تَارَة بِالرِّجَالِ وَتارَة بِالْمَالِ
وَمَا رَأينَا أَهلا لخطابنا وَلَا كُفؤًا لانجادنا وَلَا محقوقا بدعوتنا وَلَا ملبيا بنصرتنا إِلَّا ذَلِك الجناب فَلم ندعه إِلَّا لواجب عَلَيْهِ وَإِلَى مَا هُوَ مُسْتَقل بِهِ ومطيق لَهُ فقد كَانَت تتَوَقَّع مِنْهُ همة تقد فِي الغرب نارها ويستطير فِي الشرق سناها وتغرس فِي العدوة القصوى شجرتها فينال من فِي الْعَدو الدُّنْيَا جناها فَلَا ترْضى همته أَن يعين الْكفْر الْكفْر وَلَا يعين الْإِسْلَام الْإِسْلَام وَمَا اخْتصَّ بالاستعانة إِلَّا لِأَن الْعَدو جَاره وَالْجَار أقدر على الْجَار وَأهل الْجنَّة أولى بِقِتَال أهل النَّار وَلِأَنَّهُ بَحر والنجدة بحريّة وَلَا غرو أَن تجيش الْبحار
وَإِن سُئِلَ عَن المملوكين يوزبا وقراقوش وَذكر مَا فعلا فِي أَطْرَاف الْمغرب بِمن مَعَهُمَا من نفايات الرِّجَال الَّذين نفتهم مقامات الْقِتَال فيعلمهم أَن المملوكين وَمن مَعَهُمَا لَيْسُوا من وُجُوه المماليك والأمراء وَلَا من الْمَعْدُودين فِي الطواشية والأولياء وَإِنَّمَا كسدت سوقهما وتبعهما ألفاف أمثالهما وَالْعَادَة جَارِيَة أَن العساكر إِذا طَالَتْ ذيولها وَكَثُرت جموعها خرج مِنْهَا وانضاف إِلَيْهَا فَلَا يظْهر مزيدها وَلَا نَقصهَا(4/194)
وَلَا كَانَ هَذَانِ المملوكان مِمَّن إِذا غَابَ أحضر وَلَا مِمَّن إِذا فقد افْتقدَ وَلَا يقدر فِي مثلهمَا أَنه مِمَّن يَسْتَطِيع نكاية وَلَا يَأْتِي بِمَا يُوجب شكوى من جِنَايَة ومعاذ الله أَن نأمر مُفْسِدا بِأَن يفْسد فِي الأَرْض {إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت}
إِن سُئِلَ عَن النّوبَة المصرية وَمَا فعل بجندها فليعلمهم الْأَمِير أَن الْقَوْم راسلوا الْكفَّار وأطمعوهم فِي تَسْلِيم الديار فأشفى الْإِسْلَام على أَمر شَدِيد وَكَاد يقرب على الْكفْر أَمر بعيد فَلم يُعَاقب الْجَيْش بل أَعْيَان المفسدين فقوبلوا بِمَا يجب وَكَانُوا دعاة كفر وضلال ومحاربين لله بِمَا سعوا فِي الأَرْض من فَسَاد فَأَما بَقِيَّة الْجَيْش وَإِن كَانَ بَينهم من هُوَ تبع للمذكورين فِي الرِّضَا فَإِنَّهُم اقْتصر بهم على أَن لَا يَكُونُوا جندا وَمِنْهُم من أجريت عَلَيْهِ أرزاق تبلغه وشملته أَمَنَة تسكنه
وَأما الْهَدِيَّة المسيرة على يَد الْأَمِير فتفصيلها يرد فِي كتاب الأميرالأجل الاسفهسلار الْعَالم الْكَبِير مجد الدّين سيف الدولة أدام الله علوه مَقْرُونا بالهدية الْمَذْكُورَة وَمَعَ قرب الشتَاء فَلم يبْق إِلَّا الاستخارة وَالتَّسْمِيَة ومبادرة الْوَقْت قبل أَن يغلق الْبَحْر انفتاح الأشتية وَالله سُبْحَانَهُ يوفق الْأَمِير ويسهل سَبيله وَيهْدِي دَلِيله ويكلؤه بِعَيْنِه ويمده بعونه وَيحمل رَحْله ويبلغه أَهله ويشرح لَهُ صَدره وييسر لَهُ أمره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكتب فِي ثامن وَعشْرين شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة(4/195)
فصل فِي نُسْخَة الْكتاب إِلَى ملك الْمغرب والهدية
العنوان بَلَاغ إِلَى مَحل التَّقْوَى الطَّاهِر ومستقر حزب الله الظاهرمن الْمغرب أَعلَى الله بِهِ كلمة الايمان وَرفع بِهِ منار الْبر والاحسان
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه يُوسُف بن أَيُّوب أما بعد فَالْحَمْد لله الْمَاضِي المشية الممضي الْقَضِيَّة الْبر بالبرية الحفي بالحنيفية الَّذِي اسْتعْمل عَلَيْهَا من استعمر بِهِ الأَرْض وأغنى من أَهلهَا من سَأَلَهُ الْقَرْض وأجزل أجر من أجْرى على يَده النَّافِلَة وَالْفَرْض وزان سَمَاء الْملَّة بدراري الذَّرَارِي الَّتِي بَعْضهَا من بعض
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد الَّذِي أنزل عَلَيْهِ كتابا فِيهِ الشِّفَاء والتبيان وَبنى الْإِسْلَام بأمته الَّتِي شبهها صَاحبهَا بالبنيان وعَلى آله وَصَحبه الَّذين اصطفاهم وطهرهم ونصروه وظاهروا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنصرهم وأظهرهم وَيسر بهم السَّبِيل ثمَّ السَّبِيل يسرهم وَإِن الله بهم لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم {رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم}
وَهَذِه التَّحِيَّة الطّيبَة الْكَرِيمَة الصيبة الْوَاجِبَة الرَّد الْمُوجبَة(4/196)
للقصد العذبة الْورْد المتنفسة عَن العنبر الْورْد وقادة على دَار الْملك ومدار النّسك وَجل الْجَلالَة وأصل الْأَصَالَة وَرَأس الرياسة وَنَفس النفاسة وَحكم الحكم وَعلم الْعلم وقائم الدّين وقيمه ومقدم الْإِسْلَام ومقدمه ومقتضي دين الدّين ومثبت الْمُتَّقِينَ على الْيَقِين ومعلي الْمُوَحِّدين على الْمُلْحِدِينَ أدام الله لَهُ النُّصْرَة وجهز بِهِ الْعسرَة ورد لَهُ الكرة وَبسط لَهُ بَاعَ الْقُدْرَة وأوثق بِهِ حَبل الألفة ومهد لَهُ دَرَجَات الغرفة وعرفه فِي كل مَا يعتزمه صنعا جزيلا جميلا ولطفا خفِيا جَلِيلًا وَيسر عَلَيْهِ فِي سَبيله كل مَا هُوَ أَشد وطأ وأقوم قيلا
تَحِيَّة استنير مِنْهَا الْكتاب واستثيب عَنْهَا الْجَواب وحفز لَهَا حافزان أَحدهمَا شوق قديم كَانَ مطل غَرِيمه مُمكنا إِلَى أَن تيَسّر الْأَسْبَاب وَالْآخر مرام عَظِيم مَا كره إِذا استفتحت بِهِ الْأَبْوَاب وَكَانَ وَقت المواصلة وموسم الْمُكَاتبَة هناءة بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس وَسُكُون الْإِسْلَام مِنْهُ إِلَى المقيل والمعرس وَمَا فتح الله للاسلام من الثغور وَمَا شرح لأَهله من الصُّدُور وَمَا أنزلهُ عَلَيْهِم من النُّور وَلم يخل الْمُسلمُونَ فِيهِ من دعوات أسرار ذَلِك الصَّدْر وملاحظات أنوار ذَلِك الْبَدْر ومطالعات تِلْكَ الْجِهَة الَّتِي هِيَ وَإِن كَانَت غربية فَإِن الغرب مستودع الْأَنْوَار وكنز دِينَار الشَّمْس(4/197)
ومصب أَنهَار النَّهَار وَمن جَانِبه يَأْتِي سُكُون اللَّيْل ومستروح الْأَسْرَار وَعنهُ {يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار}
وَلم تتأخر الْمُكَاتبَة إِلَّا ليتم الله مَا بَدَأَ من فَضله وليفتح بَقِيَّة مَا لم يَنْقَطِع بتقطع يَد الشّرك من حبله والمفتتح بيد الله من الشَّام مدن وأمصار وبلاد كبار وصغار وثغور وقلاع كَانَت للشرك معاقل وللإسلام معاقر ولبني الْكفْر مصانع ولبني الْإِسْلَام مصَارِع وَالْبَاقِي بيد الْكفْر مِنْهَا ثغرا طرابلس وصور ومدينة أنطاكية يسر الله أمرهَا وَفك من يَد الْكفْر أسرها وَإِذا أَمن الْمُؤمن على هَذِه الدعْوَة رُجي ايجابها وَمَا يتَأَخَّر من الله سُبْحَانَهُ جوابها
فالدعاء أحد السلاحين وَمَعَ النِّيَّة يطير إِلَى وَكره من السَّمَاء بجناحين بعد أَن كسر الْعَدو الكسرة الَّتِي لم يجْبر بعْدهَا وألجىء إِلَى حصونه الَّتِي للحصر أعدهَا وَكَانَ يَوْمهَا كَرِيمًا ولطف الله فِيهَا عَظِيما قَضَت كل حَاجَة فِي النَّفس وأغنت الْمُسلمين فَأَما الْعَدو بعد يَوْمهَا فَكَأَن لم يغن بالْأَمْس وَكَانَت على أثر غزوات قبلهَا فَمَا الظَّن بالمجهزة بعد النكس
وَلم يُؤَخر فتح الْبِلَاد بعْدهَا إِلَّا أَن فرع الْكفَّار بِالشَّام استصرخ بِأَصْل الْكفَّار من الغرب فأجابوهم رجَالًا وفرسانا وشيبا وشبانا(4/198)
وزرافات ووحدانا وَبرا وبحرا ومركبا وظهرا وركبوا إِلَيْهِم سهلا ووعرا وبذلوا ماعونا وذخرا وَمَا احتاجوا ملوكا ترتادهم وَلَا أرسانا تقتادهم بل خرج كل يُلَبِّي دَعْوَة بطركه وَلَا يحْتَاج إِلَى عَزمَة ملكه
وَخرجت لَهُم عدَّة مُلُوك أقفلت العجمة على أسمائها وَأَتَتْ العزمة بِحَمْد الله على أشخاصها عِنْد لقائها وَمِنْهُم ملك الألمان خرج فِي جموع بَريَّة من الله تَعَالَى بَريَّة مَلَأت الفجاج وازدحمت فَمَا نفذها العجاج وَمِنْهُم من ركب ثبج الْبَحْر فَركب الأجاج العجاج وامتطى من الْبَحْر مَتنه الرجاج لينصر دينا مشبه الزّجاج يقبل الْكسر وَلَا يسْرع إِلَيْهِ الْجَبْر وراكب ذَلِك الدّين كراكب الْبَحْر بِلَا سَاحل سَلامَة وَإِلَى قاع كفر
وجلب الْكفَّار إِلَى المحصورين بِالشَّام كل مجلوب وملؤوا عَلَيْهِم ثغرتهم من كل مَطْلُوب مَا بَين أقوات وأطعمة وآلات وأسلحة وشكة وجنة وحديد مَضْرُوب وزبرة ونقدي ذهب وَفِضة إِلَى أَن شحنوا بِلَادهمْ رجَالًا مقاتلة وذخائر للعاجلة من حربهم والآجلة لَا تشرق شارقة إِلَّا طلعت على الْعَدو من الْبَحْر طالعة تعوض من الرِّجَال من قتل وتخلف من الزَّاد مَا أكل فهم كل يَوْم فِي حُصُول زِيَادَة ووفور مَادَّة وَقد هان عَلَيْهِم موقع(4/199)
الْحصْر وَأَعْطَاهُمْ الْبَحْر مَا مَنعهم الْبر وبطروا لما كَثُرُوا ونظروا فِي أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يلْقوا أَو يصحروا ويستطيعون أَن يحصروا على أَن ينحصروا
ونزلوا على عكا بِحَيْثُ يمدهُمْ الْبَحْر بإمداده ويصل إِلَى الْمقَاتل مَا يَحْتَاجهُ من أسلحته وأزواده وبمن تكْثر بِهِ من مقاتلته وأجناده فَانْقَطَعت مَادَّة عكا من الْبَحْر وحصرنا منازليهم من الْعَدو من جِهَة جَانب الْبر فخندقوا على نُفُوسهم وحثوا تُرَاب المصارع على رؤوسهم وعقدت عدتهمْ مئة الف أويزيدون كلما أفناهم الْقَتْل أخلفتهم النجدة فكأنهم بعد الْمَمَات يعودون
فاهتممنا بعمارة بحريّة لَقينَا عمارتهم بهَا فنفذت عمارتنا إِلَى الثغر وأوصلت إِلَيْهِ الأقوات الَّتِي حمل مِنْهَا الْبَحْر مَا لَا يحملهُ الظّهْر والأسلحة الَّتِي أمضاها الله عز وَجل بيد الْإِسْلَام فِي صدورالكفر وَمَا لَقينَا عمَارَة الْعَدو بأوفر مِنْهَا عدَّة فعد مراكبهم كَبِير وَلَكِن بأصدق مِنْهَا عَزمَة والقليل مَعَ الْعَزْم الصَّادِق كثير
وَاسْتمرّ مقَام الْعَدو محاصرا للثغر محصورا منا اشد الحصرلا يَسْتَطِيع قتال الثغر لأَنا من خَلفه وَلَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج إِلَيْنَا خوفًا من حتفه وَلَا نستطيع نَحن الدُّخُول إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قد سور وَخَنْدَق وحاجز من وَرَاء الحجرات وأغلق
وَلما خرج ملك الألمان بحشده وسمعته الَّتِي هِيَ مِنْهُ أحشد(4/200)
وَعَاد جَيْشه الملعون على رسم قديم إِلَى الشَّام فَكَانَ الْعود لأمة أَحْمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْمد قويت فِيهِ نُفُوسهم وجمحت بِهِ رؤوسهم وظنوا أَنه يزعجنا من مجثمنا ويخرجنا من مخيمنا فَبَعَثنَا إِلَيْهِ من يلقاه بعساكرنا الشمالية فسلك ذَات الشمَال متوعرا فِيهَا محتجزا عَن لقائها مظْهرا أَنه صريع دَاء وَمَا بِهِ غير دائها
وَكَانَ أَبوهُ الطاغية ملك الألمان شيبَة اللَّعْن اللعين قَائِد جَيْشه إِلَى سجن سِجِّين قد هلك فِي طَرِيقه غرقا وخاض المَاء فخاضه المَاء شرقا وَبَقِي لَهُ ولد هُوَ الْآن الْمُقدم الْمُؤخر وقائد الْجمع المكسر وَرُبمَا وصلهم إِلَى عكا فِي الْبَحْر تهيبا أَن يسْلك الْبر وَلَو سبق أَصْحَابنَا إِلَى عَسَاكِر الألمان قبل دُخُولهَا إِلَى أنطاكية لأخذوه أخذا سَرِيعا وَسبق مَاء بَحر سيوفهم إِلَى أَن يكون الطاغية فِيهِ لَا فِي النَّهر صَرِيعًا وَلَكِن لله الْمَشِيئَة فِي الْبَريَّة والطاغية إِنَّمَا يمشي إِلَى البلية فانه لَوْلَا احتجاز مقيمهم بالخنادق واجتياز واصلهم بالمضائق لَكَانَ لنا وَلَهُم شان وَكَانَ ليومنا فِي النُّصْرَة الْكُبْرَى بحول الله ثَان لَا يثنيه من الْعَدو ثَان
وَلما كَانَت حَضْرَة سُلْطَان الْإِسْلَام وقائد الْمُجَاهدين إِلَى دَار السَّلَام أولى من توجه إِلَيْهِ الْإِسْلَام بشكواه وبثه واستعان بِهِ على حماية نَسْله وحرثه وَكَانَت مساعيه ومساعي سلفه فِي الْجِهَاد الغر المحجلة المؤمرة المؤملة الكاسفة لكل معضلة الكاشفة لكل مشكلة الْأَخْبَار بذلك سائرة والْآثَار ظَاهِرَة والصحف عَنهُ باسمه وَالسير بِهِ معلمة وعالمة وكل بجهاده قد سكن إِلَّا السيوف فِي أغمادها(4/201)
وَقد أَمن إِلَّا كلمة الْكفْر فِي بلادها لَا يزَال فِي سَبِيل الله غاديا ورائحا ومواجها ومكافحا ومماسيا ومصابحا يجوز لجة الْبَحْر بالمجاهدين ملوكا على الأسرة وغزاة تصافح وجوهها السيوف فَلَا تخمد نور الأسرة يذود الْفرق الْكَافِرَة وَلَو ترك سَبِيلهَا لملأ قراره كل وَاد و {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} ولولاه لأخمدوا شرار كل زناد
كَانَ المتوقع من تِلْكَ الدولة الْعَالِيَة والعزمة الغادية مَعَ الْقُدْرَة الوافية والهمة المهدية الهادية أَن يمد غرب الْإِسْلَام الْمُسلمين بِأَكْثَرَ مِمَّا أمد بِهِ غرب الْكفَّار الْكَافرين فيملأها عَلَيْهِم جواري كالأعلام ومدنا فِي اللجج سوائر كَأَنَّهَا اللَّيَالِي مقلعة بِالْأَيَّامِ تطلع علينا معشر الْإِسْلَام آمالا وتطلع على الْكفَّار آجالا وتردنا إِمَّا جملَة وَإِمَّا أَرْسَالًا مسومة تمدها مَلَائِكَة مسومة ومعلمة تقدم حيازيمها إقدام حيزوم تحث أَصْحَابه الحزمة وَإِنَّمَا هِيَ مِنْهُ عَزمَة كَانَت تعين أَصْحَاب الميمنة على أَصْحَاب المشأمة وَكلمَة كَانَت تنفخ الرّوح فِي الْكَلِمَة وَلما استبطئت ظن أَنَّهَا توقفت على الاستدعاء فصرخنا بِهِ فِي هَذِه التَّحِيَّة فقد تحفل السَّحَاب(4/202)
وَلَا تمطر إِلَى أَن تحركها أَيدي الرِّيَاح وَقد ينزل الله النُّصْرَة فَلَا تظهر إِلَى أَن تضرع إِلَيْهَا أَلْسِنَة الصفاح
وسير لحضور مَجْلِسه الأطهر وَمحله الْأَنْوَار الْأَمِير الْأَجَل الْمُجَاهِد الْأمين الْأَصِيل شمس الدّين ثِقَة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين سفير الْمُلُوك والسلاطين أَبُو الحزم عبد الرَّحْمَن ابْن منقذ كتب الله سَلَامَته وَأحسن صحابته وَمَا اختير للوفادة إِلَّا من هُوَ أَهلهَا وَلَا حمل الْوَدِيعَة إِلَّا من هُوَ محلهَا وَلَا بعث لنهج الصِّلَة إِلَّا من هُوَ مفتاحها ولأداء الْأَمَانَة إِلَّا من هُوَ قفلها
وَمهما استوضح مِنْهُ وَسُئِلَ عَنهُ فَإِنَّهُ على نَفسه بَصِيرَة وَمن الْبَيَان ذُو ذخيرة وَفِي الْعَرَبيَّة ذُو بَيت وعشيرة والمشاهدة لَهُ أوصف على أَن تِلْكَ الْجَلالَة رُبمَا ذعرت الْبَيَان فأخلف وَمَا أجدره بِأَن يُصَادف بسطة على بساطه ونظرا يَأْذَن لَهُ فِي القَوْل على اختصاره وتوسطه وإفراطه فَكل هُوَ بِهِ واف وكل هُوَ للفهم الْكَرِيم كَاف وَالله تَعَالَى يَجْعَل هَذِه العزمة منا فِي استنهاض العزمة مِنْهُ بَالِغَة مبلغا يسر أهل دينه ويوزعهم بهَا اقْتِضَاء دُيُونه من الَّذين اتَّخذُوا إِلَهًا من دونه
وَالسَّلَام الصَّادِر عَن الْقلب السَّلِيم والود الصميم والعهد الْكَرِيم على حَضْرَة الْكَرم الْعلية وسدة السِّيَادَة الجلية سَلام مَوَدَّة(4/203)
مَا وَفد الْعَرَب قبلهَا ورسالة مَا خطرت إِلَى أَن بعثت وَرَاءَهَا الْمحبَّة رسلها وَليصل السَّلَام رَحمَه الله وَبَرَكَاته ورضوانه وتحياته إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَكتب فِي شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَالْحَمْد لله وَحده وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد نبيه وَآله وَسَلَامه
الْهَدِيَّة ختمة كَرِيمَة فِي ربعه مخيشة مسك ثَلَاث مئة مِثْقَال عنبر عشر قلائد عَددهَا سِتّ مئة حَبَّة عود فِي سفط عشرَة أُمَنَاء دهان بِلِسَان مئة دِرْهَم وَاحِدَة قسي بأوتارها مئة وقوسان سروج عشرُون نصول سيوف هندية عشرُون نشاب ياسج خَاص مريش كَبِير ومتوسط ضمن صندوقي خشب مجلدة محددة سبع مئة سهم
وَكَانَ إقلاعه من الاسكندرية فِي شيني عِمَارَته مئة وَعِشْرُونَ فِي ثَالِث عشر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَوصل إِلَى اطرابلس أول الْبِلَاد فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال وَأقَام بهَا إِلَى ثامن ذِي الْقعدَة وَتوجه إِلَى الْبِلَاد وَكَانَ الِاجْتِمَاع بالوزير أبي يحيى أبي بكر أبي مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص وَدفع كتاب(4/204)
السُّلْطَان إِلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس سَابِع ذِي الْحجَّة وَكَانَ الدُّخُول على يَعْقُوب وَالسَّلَام عَلَيْهِ فِي الْعشْرين من ذِي الْحجَّة
وَفِي هَذَا النَّهَار حملت هَدِيَّة السُّلْطَان إِلَى خزانته وَكَانَ انْفِصَاله من مراكش عَاشر الْمحرم سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَوصل إِلَى الاسكندرية فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ
فصل
لم يحصل من جِهَة سُلْطَان الغرب مَا التمس مِنْهُ النجدة وَبَلغنِي أَنه عز عَلَيْهِم كَونه لم يُخَاطب بأمير الْمُؤمنِينَ على جاري عَادَتهم وَقد كَانَ سُلْطَانا عادلا مظْهرا للشريعة غازيا وَتُوفِّي سنة خمس وَتِسْعين وَفِيه يَقُول شاعره
(أهل لِأَن يسْعَى إِلَيْهِ ويرتجى ... ويزار من أقْصَى الْبِلَاد على الوجا)
(ملك غَدا بالمكرمات مُقَلدًا ... وموشحا ومختما ومتوجا)
(عمرت مقامات الْمُلُوك بِذكرِهِ ... وتعطرت مِنْهُ الرِّيَاح تأرجا)
(وجد الْوُجُود وَقد دجا فأضاءه ... وَرَآهُ فِي الكرب الْعِظَام ففرجا)
وَفِيه يَقُول ابْن عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله بن عبد الْمُؤمن أَبُو الرّبيع من قصيدة أَولهَا
(هبت بنصركم الرِّيَاح الْأَرْبَع ... وَجَرت بسعدكم النُّجُوم الطّلع)(4/205)
(إِن قيل من خير الخلائف كلهَا ... فاليك يَا يَعْقُوب تومي الاصبع)
(إِن كنت تتلو السَّابِقين فَإِنَّمَا ... أَنْت الْمُقدم وَالْخَلَائِق تبع)
وَقد مدحه أَيْضا شمس الدّين ابْن منقذ هَذَا الْمُرْسل إِلَيْهِ من جِهَة السُّلْطَان بقصيدة مِنْهَا
(سأشكر بحرا ذَا عباب قطعته ... إِلَى بَحر جود مَا لنعماه سَاحل)
(إِلَى مَعْدن التَّقْوَى إِلَى كعبة الْهدى ... إِلَى من سمت بِالذكر مِنْهُ الْأَوَائِل)
(إِلَيْك أَمِير الْمُسلمين وَلم تزل ... إِلَى بابك المأمول تزجي الرَّوَاحِل)
(قطعت إِلَيْك الْبر وَالْبَحْر موقنا ... بِأَن نداك الْغمر بالنجح كافل)
(فَمَا راعني من وجبة الْبر رائع ... وَلَا هالني من زاخر الْبَحْر هائل)
(وَمن كَانَ غايات الْمَعَالِي طلابه ... يهون عَلَيْهِ كل أَمر يحاول)
(رَجَوْت بقصديك الْعلَا فبلغتها ... وَأدنى عطاياك الْعلَا والفضائل)
(فَلَا زلت للعلياء والجود ثَانِيًا ... تبلغك الْأَيَّام مَا أَنْت آمل)
وَابْن منقذ هَذَا من أهل بَيت وأدب وَشعر وَله على مَا وجدت بِخَط بعض الثِّقَات
(تصرم عمري فِي التغرب والنوى ... وأفنى ارتحالي طارفي وتلادي)
(وأخلقت الْأَيَّام برد شبيبتي ... وأصلد من وَقع الخطوب زنادي)
(وأشغلني الْحِرْص الْمُوكل فِي الورى ... عَن الْعَمَل المنجي ليَوْم معادي)
(فَلَا رَاحَة الْأُخْرَى تيقنت نيلها ... وَلَا أَنا فِي الدُّنْيَا بلغت مرادي)(4/206)
وَله على لِسَان بعض غلمانه
(وَرب قَمِيص دَعَاني إِلَى احْتِمَال ... الرثاثة مِنْهُ الْعَدَم)
(أقطب وَجْهي لَهُ كلما ... تهلل لي ضَاحِكا وابتسم)
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بعض إخوانه وَأما الْأَخْبَار الغربية وإخلال جَانبهَا وَضعف مطلوبها وطالبها فَإِذا انجرت الظلماء إِلَى الغرب فَبِحَق كَمَا أَن الْأَنْوَار الناصرية قد تناصرت فِي الشرق فَالله يسْعد بِلَاد الدُّنْيَا بالانخراط فِي سلك ملكه وَيُمكن من مؤمنها حكم عدله وَمن كافرها سيف فتكه وَالله يجزيها الْخَيْر عَن نِيَّتهَا فِي الْخَيْر وَيكْتب سَلامَة عزمها فِي طرق النَّفْع أتمه السّير
ثمَّ إِنِّي وقفت على كتاب فاضلي للسُّلْطَان يشْعر بِأَن الرسَالَة المغربية لم تكن بِرَأْي الْفَاضِل وَلَا هُوَ مُخْتَار لَهَا صورته
الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بالْمقَام العالي المولوي الملكي الناصري جعل الله لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة الْمقَام العالي وَأبقى دولته الَّتِي هِيَ الْأَيَّام بِالْحَقِيقَةِ وَالْأَيَّام قبلهَا هِيَ اللَّيَالِي وَيُنْهِي أَن الظَّاهِر بِأَن الْمَمْلُوك عِنْد الْمولى لَيْسَ من أهل الاتهام وَأَن لَهُ وَللَّه الْحَمد آثارا فِي دولته تشهد بهَا الْأَيَّام وآثار السيوف طاحت وَبقيت آثَار الْأَقْدَام
والرسالة المغربية لَيْسَ الْمَمْلُوك مُشِيرا بِتَرْكِهَا وَلَا كَارِهًا لسفر رسولها وَلَا مستبعدا مصلحَة قريبَة الْأَمر مِنْهَا لَكِن على وَجههَا وَقد نجزت الْهَدِيَّة المغربية على مَا أَمر بِهِ وَكتب الْكتاب على مَا مثل وفخم الْخطاب وَالْوَصْف فَوق الْعَادة وَبِمَا لَا يُمكن مُخَاطبَة مَخْلُوق بِأَكْثَرَ مِنْهُ(4/207)
وَعند وُصُول الْأَمِير نجم الدّين من المخيم الْمَنْصُور فاوضه الْمَمْلُوك فِي أَنه لَا يُمكن إِلَّا التَّعْرِيض لَا التَّصْرِيح بِمَا وَقع لَهُ أَنه لَا تنجح الْحَاجة إِلَّا بِهِ من لَفْظَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَن الَّذين أفاضوا فِي هَذَا الحَدِيث وأشاروا بِهِ قَالُوهُ نقلا وَلَا أحاطوا بِهِ قِيَاسا وَلَا عرفُوا مُكَاتبَة المصريين قَدِيما وَآخر مَا كتب فِي أَيَّام الصَّالح بن رزيك فخوطب فِيهِ أكبر أَوْلَاد عبد الْمُؤمن وَولي عَهده بالأمير الْأَصِيل النجار الجسيم الفخار وعادت الْأَجْوِبَة إِلَى ابْن رزيك وَهُوَ وَزِير سُلْطَان مصر الَّذِي فِي أَتبَاع مَوْلَانَا الْيَوْم مئة مثله مترجمة بمعظم أمره وملتزم شكره
هَذَا والصالح يتَوَقَّع أَن يَأْخُذ ابْن عبد الْمُؤمن الْبِلَاد من يَدَيْهِ مَا هُوَ أَن يهرب مملوكان طريدان منا فيستوليا على أَطْرَاف بِلَاده ويصل الْمشَار إِلَيْهِ بِالْأَمر من مراكش إِلَى القيروان فِي سِتَّة أشهر قيلقاهم فيكسر مرّة ويتماسك أُخْرَى
وَأعلم الْأَمِير نجم الدّين بذلك فَأمْسك مِقْدَار عشرَة أَيَّام ثمَّ أنفذ الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَيْهِ على يَد ابْن الجليس بِأَن الْهَدِيَّة أُشير عَلَيْهِ بِأَن لَا يستصحبها وَإِن استصحبها تكون هَدِيَّة برسم من حواليه وَأَن الْكتاب لَا يَأْخُذهُ إِلَّا بتصريح أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَن السُّلْطَان عز نَصره رسم لَهُ ذَلِك وَالْملك الْعَادِل دَامَت قدرته بِأَن لَا يسير إِلَّا بِهِ وَأَنه إِذا لَقِي الْقَوْم خاطبهم بِهَذِهِ التَّحِيَّة عَن السُّلْطَان أبقاه الله من لِسَانه
فَأَجَابَهُ الْمَمْلُوك بِأَن الْخطاب يَكْفِي وَطَرِيق جحدنا لَهُ مُمكن وَالْكِتَابَة حجَّة تقيد اللِّسَان عَن الانكار وَمَتى قُرِئت على(4/208)
مِنْبَر من مَنَابِر الغرب جعلنَا خالعين فِي مَكَان الْإِجْمَاع مبايعين من لَا ينصره الله وَلَا شَوْكَة فِيهِ وَلَا يحل اتِّبَاعه مرخصين الغالي منحطين عَن العالي شاقين عَصا الْمُسلمين مفرقين كلمة الْمُؤمنِينَ مُطِيعِينَ لمن لَا تحل طَاعَته متقلدين لمن لَا تصح ولَايَته فَيفْسد عُقُود الْإِسْلَام وينفتح بَاب تعجز موارده عَن الاصدار بل تمْضِي وتستشف الْأُمُور وَتكشف الْأَحْوَال
فَإِن رَأَيْت للْقَوْم شَوْكَة وَلنَا زبدة فعدهم بِهَذِهِ المخاطبة وَاجعَل كل مَا نَأْخُذهُ ثمنا للوعد بهَا خَاصَّة فَامْتنعَ وَقَالَ أَنا أَقْْضِي أشغالي وأتوجه إِلَى الاسكندرية وأنتظر جَوَاب السُّلْطَان عز نَصره وَمَا يفوت وَقت وَإِلَى أَن أنْجز أَمر المراكب وأرتاد الركاب
فسير الْمَمْلُوك النُّسْخَة فان وَافَقت فينعم الْمولى على الْمَمْلُوك بترجمة يلصقها على مَا كتبه وَيَأْمُر نجم الدّين بتسلم الْكتاب على أَن ابْن الجليس حَدثهُ عَنهُ أَنه مُمْتَنع من السّفر إِلَّا بالمكاتبة بهَا فَأَما الَّذِي يترجم بِهِ الْمولى عز نَصره فَيكون مثل الَّذِي يدعى بِهِ على الْمِنْبَر لمولانا وَهُوَ الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى يُوسُف بن أَيُّوب أدام الله غنى مَوْلَانَا بالفقر إِلَى ربه
وَإِذا كتب الصَّالح بن رز يَك إِلَيْهِم من السَّيِّد الْأَجَل الْملك الصَّالح قبح أَن يكْتب إِلَيْهِ مَوْلَانَا أبقاه الله الْخَادِم وَهَذَا(4/209)
مبلغ رَأْي الْمَمْلُوك وَالْمُؤمن لَا يذل نَفسه وقاسم الأرزاق يوصلها وَإِن رغم من جرت على يَده وَإِن كَانَ مَوْلَانَا أعز الله نَصره يَقُول أَنْت غافل وغائب وَمَا تعرف مَا الْإِسْلَام فِيهِ فَلَو حضرت وَعرفت مَا شققت الحَدِيث فجواب مَا نكتب بعد سنتَيْن فَمَا يتخلى الله عَنَّا وَلَا تستمر هَذِه الشدَّة وَلَا نسيء الظَّن بِاللَّه
وَإِذا كَانَت لنا إِن شَاءَ الله أخذت جالية من نطلب الْآن مواساته وَإِذا كَانَ الْمَمْلُوك مستجهلا وَغير مستنصح وللضرورة حكمهَا وَالْأَحْوَال الْمَمْلُوك غَائِب عَنْهَا فالمفهوم من الْأَمر للمملوك أَن يتَوَلَّى من الْمُكَاتبَة تَرْتِيب الْمَقَاصِد وتحرير الْأَلْفَاظ وتنضيد الْخَبَر عَمَّا أجراه الله تَعَالَى على يَد مَوْلَانَا عز نَصره والتأني للمطلوب فقد فعل هَذَا كُله فِي النُّسْخَة وَبقيت اللَّفْظَة الَّتِي لَيست كِتَابَة الْمَمْلُوك لَهَا شرطا فِيهَا والمملوك وعقبه مستجيرون بِاللَّه تَعَالَى ثمَّ بالسلطان عز نَصره من تعريضهم لكدر الْحَيَاة وتوقع الْخَوْف ومعاداة من لَا يخفى عَنهُ خبر وَلَا تقال بِهِ عَثْرَة
وَيَكْفِي أَن الْمولى بِخَطِّهِ فِي كِتَابه إِلَى الْمَمْلُوك وَفِيمَا هُوَ بِخَط حَضْرَة سيدنَا الْأَجَل عماد الدّين الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي حرسه الله لما وَصِيّ بِأَن لَا يناظر فِي الْخطاب مَا صرح باللفظة فَهِيَ إِمَّا تقية فالمملوك أولى بهَا وَإِمَّا استهانة فَنَفْس الْملك لَا تقاس بِنَفس الْمَمْلُوك(4/210)
فان كَانَ لَا بُد فالنسخة بَين يَدَيْهِ وَالْمَقْصُود فِيهَا من زِيَادَة هَذِه اللَّفْظَة مَا يحْتَاج إِلَى تَعْلِيم وَالْكتاب الَّذين يستقلون بِكِتَابَة النُّسْخَة معدومون وَقد نَاب الْمَمْلُوك عَنْهُم وَالْكتاب الَّذين يستقلون بالتبييض موجودون فينوبون عَن الْمَمْلُوك فِي التبييض وَإِلَّا فَكيف يسير رَسُول بِكِتَاب من مصر بِلَا خطّ سُلْطَان وَبِغير حَضرته كتب وَلَا بهدية سَار وبمحضر من البغاددة والمغاربة يعلمُونَ أَن الْكتاب كتب بِمصْر وَيشْهدُونَ بِمَا لم يروه وَمَا لم يقرؤوه من الْخطاب
وَإِذا وصل من الْمولى أدام الله أَيَّامه كتاب مختوم وسير وَلم يعلم مَا فِيهِ انْقَطع فضول كثير وخمدت أراجيف شنيعة وَلَا يعْتَقد الْمولى أَن الْمَمْلُوك يعظم الْقَصَص فَمَا للألسنة والأعين شغل إِلَّا السلاطين وأفعالهم وأقوالهم وَلَا لِلْخلقِ خوض إِلَّا فِي أوامرهم وأحوالهم
وَلَو علم الْمَمْلُوك أَن هَذَا الَّذِي استعفى مِنْهُ يضرّهُ بِحَيْثُ ينفع الْمولى أبقاه الله لهان عَلَيْهِ وَلكنه مضرَّة بِغَيْر مَنْفَعَة وَتعرض لما تذم عاقبته أَو يبْقى على الْخَوْف مِنْهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ حسن عهد الْمولى وَفضل رأفته فمقصود الْمولى أبقاه الله تَحْصِيل تبييضها بَين يَدَيْهِ وَرُبمَا حصل استتاره وَأمنت المكاره فِيهِ وغمضت الْعُيُون عَنهُ وشحت الْأَيَّام عَلَيْهِ طالع الْمَمْلُوك بذلك(4/211)
فصل
وللقاضي الْفَاضِل رَحمَه الله من كتب أخر يشْرَح لنا بعض مَا تقدم وَمَا لم نذكرهُ من السّير
مِنْهَا قَوْله كتاب بَغْدَاد كتاب بَارِد غث جامد مَا فِيهِ مَقْصُود لقاصد وَلَا صلَة لعائد وَنحن نطلب الذَّهَب الْحَار فَتضْرب فِي حَدِيد بَارِد
وَمِنْهَا فِيمَا خرب من الْبِلَاد الفرنجية المغنومة خراب الْبِلَاد فِي هَذَا الْوَقْت الضّيق لَا شُبْهَة فِي تقويته لنَفس الْعَدو وإضعافه لأنفس الْمُسلمين وكل من يسمعهُ يفجؤه من بديهة الْيَأْس مَا يقطع رَجَاءَهُ وَالْمولى يعلم أَن الْعَدو أَخذهَا من المصريين فِي تَمام سِتِّينَ سنة وحفظوها بالانحصار مرّة وبالهدنة أُخْرَى وبالقتال مَرَّات وبولاة سوء لَو كَانَ فيهم خير لما عجزوا عَنْهَا
وَنحن قد حملنَا عَن الْعَدو الْمُؤْنَة بتخريب الْبِلَاد الَّتِي كَانَ الْعَدو يُرِيد أَن يحاصرها وينازها وَينصب المنجنيق والبرج عَلَيْهَا وَيخَاف النجدة أَن تصلها وَقُوَّة الْإِسْلَام أَن تثوب إِلَيْهَا ويتوقع أَن يبدهه المصاف قبل النُّزُول عَلَيْهَا فعرفناه أَنه قادم على من لَا سلَاح لَهُ إِلَّا أَن يلقِي السِّلَاح وَلَا حفظ للبلاد إِلَّا أَن(4/212)
نخربها فقد نكلنا عَن اللِّقَاء وفررنا قبل المواجهة وزدنا زِيَادَة عَجِيبَة وَهُوَ أَن المنهزم ينهزم بِالرِّجَالِ وَنحن ننهزم بالبلاد
ثمَّ قَالَ وَثُبُوت مَوْلَانَا على عكا هُوَ حراستها وحفظها وَقُوَّة نفس من بهَا وأهون الْأَعْدَاء ملك الألمان لَا يشك مَوْلَانَا أَن جمعه لَا يَفِي بِعشر قراقر من سِتِّينَ قرقورة وصلت إِلَى الفرنج نجدة من بِلَاد الْمَجُوس فِي السّنة الْمَاضِيَة وَإِنَّمَا الزَّائِد سَمعه ملك وَقد هلك وَرَأس وَقد قطع وقائد جَيش وَقد كبا الْحمار
وَمِنْهَا عِنْد وُرُود كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ يبشر بعافيته من مرض فِي شهر رَمَضَان أسفرت بشارته عَن أَن الْمولى أَتَاهُ الْفرج وغذاه الْفروج واستقل بِحَمْد الله وَصَحَّ وَقَالَت الْعَافِيَة للمرض تَنَح
وَكَانَ مَا فِي كِتَابيه الْأَوَّلين من تَعْرِيف النُّون من الْحَمد لله رب الْعَالمين فِيهِ أثر ضعف ينتقده صيارفة الخطوط
فَأَما هَذَا الْكتاب الْمُبَارك فقد صحت فِيهِ التعريقة وقويت الْيَد وطلعت النُّون أهم إِلَيْنَا من مطلع الْهلَال الفطري الَّذِي يُشبههُ الشُّعَرَاء بالنُّون وَمِنْهُم من قَالَ
(ولاح هِلَال مثل نون أجادها ... بذوب النضار الْكَاتِب ابْن هِلَال)
وَهَذَا من أَنْوَاع الْفَرَاغ الَّذِي مَا أوجبه للمملوك إِلَّا مسرته بعافية الْمولى أدامها الله وأدام المسرة بهَا لَهُ وللخلق فَمَا يشبهها(4/213)
الْمَمْلُوك إِلَّا بِنور الشَّمْس الَّذِي لَهُ فِي كل مَكَان أثر وَلكُل عين بِهِ نظر فَلَا أخلى الله الدُّنْيَا من آثاره والعيون من أنواره
وَبعد عَافِيَة الْمولى قد انْتظر الْإِسْلَام عافيته بِهِ من الْمَرَض الَّذِي هُوَ الْعَدو فَيجمع الله تَعَالَى للْمولى وللخلق بَين العافيتين ويستخدم شكرهم للنعمتين فقد جلا الله سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْمَرَض سيف الله الَّذِي هُوَ الْمولى وَمَا صقله إِلَّا لتصدأ بِهِ قُلُوب أعدائه
وَمن فَوَائِد هَذَا الْمَرَض أَن الْمولى يسْتَأْنف الْعُمر جَدِيدا والعزم حديدا وَيسْتَقْبل التَّدْبِير بنشاط قد حضر وأعضاء قد فَارقهَا مَا كَانَ سَبَب الضجر
وَمِنْهَا وَأما تبرم مَوْلَانَا بِكَثْرَة المطالبات مِنْهُ فَلَا أخلى الله مَوْلَانَا من الْقُدْرَة عَلَيْهَا وهنيئا لَهُ أَن الله سُبْحَانَهُ يُطَالِبهُ بِحِفْظ دينه وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُطَالِبهُ بِحسن الْخلَافَة فِي أمته وَالسَّلَف الصَّالح من هَذِه الْأمة يطالبونه بِمُبَاشَرَة مَا لَو حَضَرُوهُ لما زادوا على مَا يَفْعَله الْمولى وَأهل الْحَرْب يطالبونه بإزاحة علتهم من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد وَبَقِيَّة الْأمة تطالبه بالأمن فِي سربهم والاستثامة فِي كسبهم والخفارة فِي سبلهم وَنَفسه الْكَرِيمَة تطالبه بِالْجنَّةِ بلغه الله إِلَيْهَا وبمعالي الْأُمُور أَعَانَهُ الله عَلَيْهَا
وَإِذا عدد مَا يُرَاد مِنْهُ فَلَا بُد أَن يعدد مَا يسر عَلَيْهِ فَهَل عدم(4/214)
من الله تَعَالَى قطّ نصْرَة فَهَل استمرت بِهِ قطّ عسرة فَهَل تمت لعدو قطّ عَلَيْهِ كرة هَل بَات قطّ إِلَّا راجيا هَل أصبح إِلَّا رَاضِيا
أَلا يعلم أَن الله تَعَالَى ذخر لَهُ من الصَّالِحَات مَا لم ير كفوءا لَهُ غَيره أَلا يحصي من سبقه من الْمُلُوك إِلَى الدُّنْيَا فعجزوا عَمَّا سبق إِلَيْهِ الْمولى من الْآخِرَة هَل يعرف راية يُقَاتل تحتهَا فِي سيبل الله إِلَّا رايته
هَل يعرف مَالا ينْفق فِي سَبِيل الله إِلَّا مَاله هَل يسمع فِي مَجْلِسه إِلَّا كتاب الله يُتْلَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقْرَأ أَو يرى بِهِ إِلَّا الْخَيل تعرض وَالسِّلَاح يقلب لَا أقداح الشاربين وَلَا أصوات المغنين وَلَا رقائع الْكَذَّابين وَلَا سعايات النمامين
وبحق إِذا خطّ مَوْلَانَا أبقاه الله على تَشْبِيه الْمَمْلُوك مجْلِس ابْن عبد الْمُؤمن بِالْمَسْجِدِ فَإِن مَجْلِسه أولى بِأَن يكون مَسْجِدا من كل مجْلِس وَلَا غرو أَن تعترف المدائح كَمَا تعترف الضوال وَأَن تتبع كَمَا تتبع الطرائد {ولينصرن الله من ينصره}
لَعَلَّ الْمولى عز نَصره قد نفذ إِلَى جَانب الشمَال جمَاعَة فَإِن صَاحب أنطاكية خذله الله عاث وشعث وخلا الجبان بِأَرْض فَطلب الطعْن وَحده(4/215)
لَو قرن أهل عكا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِمَشِيئَة الله مَا هم فِيهِ من جِهَاد بنية احتساب لما سبقهمْ إِلَى الْجنَّة سَابق وَلَا لحقهم بعدهمْ لَاحق فليهن مَوْلَانَا توفر ثَوَابه على كل حَال فَلهُ ثَوَاب نَفسه وثواب من جَاهد بِسَبَبِهِ
فَلَا أعدم الله الْخلق وَاحِدًا استقام بِهِ جَمِيعهم ومالكا قَامَ برعاياهم فَأقْعدَ مَا يروعهم وشفيقا يقيهم بِنَفسِهِ وبولده وبإخوته ويتقدم إِلَى الْأَهْوَال أَمَام مماليكه وأمرائه وَعَسْكَره وَحَمَلته كَأَنَّهُ مِنْهُم مَكَان بِسم الله من الْكتاب وَمَكَان الامام من الْمِحْرَاب وَمَكَان النواصي من وُجُوه الصواهل وَمَكَان الأسنة من وُجُوه الذوابل خير مَا كَانَ إِذا لم تظن نفس بِنَفس خيرا وأغير مَا كَانَ على محارم الله إِذا كَانَت أنفس الْمُلُوك غير غيرى
وَقد اطمأنت الْقُلُوب إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ قد كشف الْغُمَّة وأفرجها وأطفأ نَار الْحَرْب الَّتِي كَانَ الْعَدو أججها فَمَا يتَوَقَّع من كتب مَوْلَانَا أبقاه الله إِلَّا أَن الْإِسْلَام قد رَضِي بِمَا يسْخط الْكفْر وَلَا يسمع من قصصه الَّذِي هُوَ أحسن الْقَصَص إِلَّا أَن يَقُول مَا قَالَه سميه على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام {قضي الْأَمر}(4/216)
فَأَما ملك الألمان فقد سلبه الله مَا أضيف إِلَيْهِ كَمَا كَانَ الْمَمْلُوك رأى فِي مَنَامه على كَوْكَب وَأعلم بِهِ مَوْلَانَا رِسَالَة فَقَالَ أبقاه الله قد قبلت الْبُشْرَى
وَصُورَة الرُّؤْيَا أَن رَسُولا جَاءَ من جِهَة السُّلْطَان عز نَصره إِلَى الْمَمْلُوك فَقَالَ اكْتُبْ كتابا بِبِشَارَة ملك الألمان فَقلت حَتَّى أفكر فَقَالَ الرَّسُول اكْتُبْ بِأَن الله قد سلب ملك الألمان مَا اضيف إِلَيْهِ وَالْمَشْهُور أَن ملك الألمان خرج فِي مئتي ألف وَأَنه الْآن فِي دون خَمْسَة آلَاف
وَمِنْهَا ورد كتاب من المهدية إِلَى الاسكندرية ثَانِي رَجَب بعد سِتَّة عشر يَوْمًا من المهدية وَذكر من فِيهِ اخبارا وَقد طولع بهَا وَلما تَكَرَّرت علمت صِحَّتهَا وَهُوَ أَن عَسَاكِر الغرب الإسلامية نازلة على طليطلة وَقد افتتحت عدَّة حصون كَافِرَة وَأَن يوزبا شوهد بالمهدية موثقًا بالحديد وَقد نفذه قراقوش إِلَى صَاحب تونس ليسيره إِلَى بِلَاد الأندلس مَوضِع نزُول ابْن عبد الْمُؤمن بالعساكر
وَأَن أهل صقلية من الْمُسلمين إِلَى الْآن فِي حَرْب قَائِمَة بَينهم وَبَين فرنجها ومعتصمون بالجبال فِي أَعمالهَا وَأَن عَسْكَر الفرنج قد خرج لانجاد أَصْحَابهم بصقلية والمسلمون بهَا على توقع ورقبة وحذار وخيفة نصر الله كلمة التَّوْحِيد وَأهْلك كل جَبَّار عنيد
وَأَن مراكب فِيهَا أزواد للجنويين دخلت المهدية بِأَمَان من(4/217)
صَاحبهَا فباعت بهَا وتزودت مِنْهَا وَأَنَّهَا قاصدة الشَّام خيب الله قَصدهَا
وَمِنْهَا وَقد سيرالحمل الْآن من الْمجْلس العزيزي بِحُضُور فلَان وَفُلَان وَكلهمْ مُجْتَهد فِي الْخدمَة وَلما عرف الْمَمْلُوك أَنهم لَا يطرقون الْمَعْنى الَّذِي يطرقه الْمَمْلُوك من تَنْبِيه مَوْلَانَا على أَن يقتصد قي الانفاق وَيقدر الاخراج للْعلم أَن هَذَا الْحجر قد رمينَا بِعَدَمِهِ وَسمع بِخَبَر الْمولى فَانْهَزَمَ قرارا من سطوة كرمه
والبلاد لَيست الْآن كعهدها فِي انْقِطَاع أسفارها ووقوف معايشها وكساد أسواقها وانكسار تجارها وَلَو لم تكن الدَّرَاهِم سلْعَة لَا تخرج من مصر كَمَا يخرج الدِّينَار لما وجدت كَمَا لَا يُوجد الدِّينَار وَإِن تصريف الدَّرَاهِم بعد أَن تصير مستخرجا بِذَهَب شغل شاغل واستخراج ثَان غير الأول وَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أمرمن عِنْده يحدث للاسلام نصرا عَزِيزًا وللكفر خذلانا سَرِيعا وجيزا
مَوْلَانَا خلد الله ملكه من وَرَاء ضَرُورَة لَا تخفى عَن الْمَمْلُوك والمماليك من وَرَاء ضَرُورَة لَا تخفى عَن الْمولى وصدرالمولى بِحَمْد الله وَاسع وَفرج الله مِنْهُ قريب وَهَذِه الضائقة لما يُريدهُ الله تَعَالَى من حسن موقع الْفرج بعْدهَا(4/218)
فقد أنْفق الْمولى مَال مصر فِي فتح الشَّام وَأنْفق مَال الشَّام فِي فتح الجزيرة وَأنْفق مَال الْجَمِيع فِي فتح السَّاحِل وَينْفق إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَال الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي فتح رُومِية والملوك كلهم وكلاؤه وأمناؤه على خزائنهم إِلَى أَن يسلموها إِلَيْهِ فيشكره الله على مَا أخرجه فِي سَبِيل الله مِنْهَا ويمقتهم على مَا كنزوه من ذهبها وفضتها فَلَا يكن فِي صدر الْمولى حرج وَلَا فِي خلقه فَإِن الله سُبْحَانَهُ لَا يضيق رزقا على يَده الْكَرِيمَة لَا سِيمَا وَقد أجْرى عَلَيْهَا أرزاق خلقه
وَمِنْهَا يُنْهِي وُصُول رَسُول ملك الرّوم بِمَا فِي صحبته من هَدِيَّة وَبِمَا على لِسَانه من رِسَالَة وَبِمَا على يَده من كتاب وَحضر بَين يَدي الْملك الْعَادِل وَجرى من الْمُفَاوضَة مَا زبدته امتنان الْملك بِكَوْنِهِ لم يجب رَسُول ملك الألمان وَصَاحب صقلية وَغَيرهم من جيوش الفرنج إِلَى الْمُوَافقَة على حَرْب السُّلْطَان وَإِطْلَاق طريقهم وَامْتنع وسد الدربندات وَحفظ عَلَيْهِم الطّرق ووصى أَرْبَاب الْحُصُون بالتيقظ لَهُم وَالْمَنْع دونهم وَجعل عذره لملتمسي مُوَافَقَته أَن الْبِلَاد فِي هَذِه السّنة غَالِيَة السّعر والمصلحة تَقْتَضِي أَن لَا تكون الْحَرَكَة إِلَّا بِقُوَّة وعَلى تمكن من الْميرَة وتؤخر الْحَرَكَة إِلَى السّنة الْأُخْرَى(4/219)
ثمَّ قَالَ وَهَذَا ملك الرّوم خَائِف من الفرنج على بَلَده مدافع عَن نَفسه إِن تمّ لَهُ الدّفع ادّعى أَنه بسببنا وَإِن لم يتم ادّعى أَنه غلب عَن مقْصده ومقصدنا وَقد جعل مَا أوردهُ من أَن تُقَام البطركة فِي قمامة من قبله وَأَن تنقل من ولَايَة الفرنج إِلَى أَن يوليها الطاغية من أهل عمله سَببا يبسط بِهِ عذره بِزَعْمِهِ عِنْد أهل جنسه وَيدْفَع بِهِ عَن نَفسه لَا سِيمَا مَعَ إِقَامَة الْخطْبَة الإسلامية وَنَقله الْمِنْبَر وفسحته فِي الصَّلَاة وإعزاز الْكَلِمَة الإسلامية أرْغم الله بهَا أَنفه وَعجل بسيفها حتفه ومولانا أبقاه الله يثبت فِي الْأَجْوِبَة وَلَا يُجيب إِلَى مَا على الْإِسْلَام فِيهِ غَضَاضَة وَلَا إِلَى مَا للكفر فِيهِ قُوَّة {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم}
وَمن كتاب آخر وصل إِلَى الْمَمْلُوك كتاب يذكر وُصُول رسل الْملك الْعَتِيق من قبرس إِلَيْهِ يُخبرهُ بعصيانه على ملك إنكلتير ومكاشفته بالعداوة وَالْحَرب وَأَنه قد كَاتب السُّلْطَان أعز الله نَصره يبْذل لَهُ من نَفسه الْعُبُودِيَّة وَالطَّاعَة والمظاهرة على ملك إنكلتير وَالْأَخْبَار متواترة بِأَن الْعَتِيق أحرق موانىء قبرس ووعرها وَقطع الْميرَة عَن السَّاحِل(4/220)
وَلَا شُبْهَة ان مَوْلَانَا يتَقَبَّل من الْمَذْكُور وَيُقَوِّي نَفسه على هَذِه المباينة فان فِي تخاذلهم نصْرَة الْإِسْلَام وشغل بَعضهم بِبَعْض وافتراق كلمتهم المجتمعة وقطعا لِلْمِيرَةِ عَن الشَّام وَأمنا لجَانب كبيرمن جَوَانِب الْبَحْر
وهذ الْملك الْعَتِيق قد صَار لمولانا صديقا وَمَا سمي الْعَتِيق إِلَّا لِأَنَّهُ صَار لمولانا عتيقا وَلَا اعْتِبَار بحديثنا مَعَ صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي أَنا ننجده على قبرس فانا إِنَّمَا وعدناه بالنجدة عَلَيْهَا لما كَانَت بيد عدونا
وَوَاللَّه مَا أَفْلح ملك الرّوم قطّ ولانفع إِن يكن صديقا وَلَا ضرّ إِن يكن عدوا وَكَذَلِكَ صَاحب الغرب {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
وقف الْمَمْلُوك على كتاب بَغْدَاد وَالْمَقْصُود الَّذِي ندب لأَجله الرَّسُول مَا ألم بِذكرِهِ فِي الْكتاب وَهِي المعونة على الْجِهَاد وَعرف استدعاء المساعدة على تكريت وَلَو كَانَ لنا فرَاغ لَهَا لما كَانَ النّظر الصَّحِيح يقتضيها لِأَنَّهَا مهما بقيت فِي يَد من هُوَ الْآن بهَا فَهِيَ فِي يَد الْمولى أبقاه الله تَعَالَى وَمهما خرجت عَنهُ خرجت عَنْهَا وَمَا نقُول أَنه لَيْسَ لنا تطلع إِلَى مثلهَا لَا سِيمَا وَهِي طَرِيق إِلَى غَيرهَا وَقد فتح الله للْمولى بِبِلَاد هِيَ مَعَ سعتها ضيقَة عَن زبونها(4/221)
فللمولى أَوْلَاد كثر الله مِنْهُم مَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ متطلع إِلَى طرف وَله أهل مَا مِنْهُم إِلَّا من متطلع إِلَى طرف وَله أهل مَا مِنْهُم إِلَّا من متطلع إِلَى مملكة وأمراء مَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ متوقع زِيَادَة ومماليك مَا مِنْهُم إِلَّا من يُرِيد أَن يُوفي الْحق عَلَيْهِ فِي الْخدمَة
وَمن سيره الْمولى لهَذَا الْأَمر عدم من أَصْحَابه مَنْفَعَة فِيمَا هُوَ أهم مِمَّا سَار فِيهِ وَمَا يَلِيق أَن يسير إِلَّا من يُرِيهم مَا يعجزون عَنهُ وَيكون عنوانا لما لَعَلَّهُم فِي شكّ مِنْهُ من قُوَّة الْمولى على مَا يُرِيد وإمساكه مَعَ الْقُدْرَة وَيرى الْمَمْلُوك أَن مطلبهم نقد ومطلبنا مِنْهُم وعد وَإِن كَانَ وَلَا بُد من تسيير فَلَا يسير إِلَّا من يقْضِي الشّغل ويستزيد الْجعل
مَا تضمنه الْكتاب الْبَغْدَادِيّ من عزم الْخَلِيفَة على الْحَج فِي هَذِه السّنة الْمَمْلُوك يستبعده بالاضافة إِلَى الْوَقْت وَإِلَى عَادَة اهله آخِرهم حجا الرشيد رَحمَه الله ويستقربه بالاضافة إِلَى خلقه وَإِن سَار صلح أَن يهتم بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الشهرزوري وَلَا شكّ أَنه قد أنسي الرسَالَة الَّتِي توجه فِيهَا فَإنَّا بَعَثْنَاهُ يلْتَمس لنا نَفَقَة فالتمسها منا
فصل
وَكتب الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان(4/222)
يُنْهِي أَنه عرف تسحب رجل وَصبي من الْقصر الغربي وَأَن الْمُؤَيد يَعْنِي ابْن السُّلْطَان وَكَانَ يَنُوب عَن أَخِيه الْعَزِيز بِمصْر أحضر نَائِب الطواشي بهاء الدّين واستعلم أَمرهمَا فَذكر أَن هربهما صَحِيح وَأَن أَحدهمَا وَهُوَ الصَّبِي من جملَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ولدا كَانُوا اطفالا وَقت الحوطة عَلَيْهِم بِالْقصرِ الغربي وَقد بلغ هَذَا وَكبر وزاحم عشْرين سنة وَالْآخر كَانَ معتقلا فِي الايوان فَحدثت لَهُ خنازير فِي حلقه وأشفى على الْهَلَاك فَأمر الطواشي بنقله إِلَى الْقصر الغربي من الايوان وَفك حديده وَحمل ليتداوى فِي اوائل سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَاسْتمرّ مَرضه وَاشْتَدَّ ضعفه وَبَقِي فِي الْقصر الغربي إِلَى أَن علم أَنه تسحب
فَسَأَلَهُ الْمَمْلُوك عَن المستحفظ للقصر الغربي فَذكر أستاذين كَانَ الواشي أقامهما وَرَضي أمانتهما وأنهما يذكران أَن هَذَا الْقصر الغربي قد خرب ودثر وَكَثُرت التسليقات عَلَيْهِ ويجاوره إصطبلان فيهمَا جمَاعَة من الخربندية والمفسدين والتطرق مستمرمن هَذِه الاصطبلات إِلَى من فِي الْقصر من النِّسَاء وأنهما كَانَا أنهيا مرّة بعد أُخْرَى أَن الْمَكَان غير حريز والاعتقال فِيهِ غير وثيق
قَالَ وجمعت أَصْحَاب الأرباع وجيرة الْقصر ورجوت بترك الشناعة الظفر بهما والبحث وَاقع عَنْهُمَا
وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل وَهُوَ بِمصْر(4/223)
انْتهى إِلَيْنَا أَن بالديار المصرية وبالحضرة الْعلية جمَاعَة من الْفُقَهَاء قد اعتضدوا بِجَمَاعَة من أَرْبَاب السيوف وبسطوا ألسنتهم بالْقَوْل غير الْمَعْرُوف وأنشؤوا من العصبية مَا أطاعوا بِهِ القوى الغضبية وأحيوا بهَا مَا أَمَاتَهُ الله من اهل حمية الْجَاهِلِيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يَقُول وَكفى بقوله حجَّة على من كَانَ سميعا مُطيعًا {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا}
وَلم يزل التعصب للمذاهب يمْلَأ الْقُلُوب بالشحناء ويشحنها وَقد نهى الله عَن المجادلة لأهل الْخلاف فَكيف لأهل الْوِفَاق إِلَّا أَن يُقَال أحْسنهَا وَمَا علمنَا ان فِي ذَلِك نِيَّة تنجد وَلَا مصلحَة تُوجد وَلَا هِدَايَة تعتقد بدراسة تعقد ونارعداوة توقد وقلما أثمرت المشاجرة إِلَّا خلافًا فالمجلس أعزه الله يوعز بكف الْأَلْسِنَة الخائضة وعقل الأعنة الراكضة فَإِن أقنع بِلُطْفِهِ المرضى وَإِلَّا كَانَت همته الرائضة وَمن عَاد بعد الزّجر أبعد عَن مستقره وأزعج وليسع الْخلف مَا وسع السّلف من الْأَدَب وليعلم العَبْد أَنه يكْتب كتابا إِلَى ربه فليفكر فِيمَا كتب وَإِلَى من كتب
فصل فِي ذكر خُرُوج الفرنج - خذلهم الله - على عزم اللِّقَاء ووصولهم إِلَى رَأس المَاء
قَالَ الْعِمَاد وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر شَوَّال بعد أَن(4/224)
رتبوا على الْبَلَد من لَازم الْقِتَال مَعَ ملك الألمان وَخرج مَعَهم المركيس والكند هري وَأخذُوا مَعَهم عليق أَرْبَعَة أَيَّام وزادها واستصحبوا أنجاب الكريهة وأنجادها
وَكَانَ مخيم اليزك على تل العياضية فَرَكبُوا وأشعلوا الْقَوْم بنيران النصال وألهبوا فَنزل الْعَدو تِلْكَ اللَّيْلَة على آبار حفرناها عِنْد نزولنا هُنَاكَ وَبَاتُوا ترميهم وتشويهم وتصميهم الأنزاك وَأَصْبحُوا يَوْم الثُّلَاثَاء سائرين إِلَى اللِّقَاء وَرفع السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة الثّقل إِلَى نَاحيَة القيمون وَقد امتدت ميمنته إِلَى الْجَبَل صفا وميسرته إِلَى الْبَحْر زحفا وَعِنْده فِي يَمِين قلبه أَوْلَاده الْأَفْضَل وَالظَّاهِر والظافر وَأَخُوهُ الْعَادِل فِي أول الميمنة ويليه حسام الدّين بن لاجين ثمَّ صارم الدّين قايماز النجمي ثمَّ حسام الدّين بِشَارَة وَمَعَهُ بدر الدّين دلدرم الياروقي فَهَؤُلَاءِ عُظَمَاء دولته وكبراء مَمْلَكَته وَمَعَهُمْ أُمَرَاء ومقدمون جريئون مقدمون
وَكَانَ فِي الميمنة أَيْضا ابْن صَاحب الْموصل وَعز الدّين جرديك النوري وعَلى ميسرته صَاحب سنجار وَصَاحب الجزيرة وتقي الدّين والمشطوب سيف الدّين وخشترين والأمراء الهكارية والحميدية والزرزارية والمهرانية وأمراء الْقَبَائِل من الأكراد(4/225)
وَرِجَال الْحلقَة المنصورة واقفون فِي الْقلب وَضرب للسُّلْطَان خيمة لَطِيفَة بِقرب الخروبة على تل مشرف
وَفِي مرج عكا عين غزيرة المَاء يجْرِي مِنْهُ نهر كَبِير إِلَى الْبَحْر فَسَار الفرنج ذَلِك الْيَوْم شَرْقي النَّهر حَتَّى وصلوا إِلَى رَأس المَاء وشاهدوا مَوَاقِف الهائجين إِلَى الهيجاء فانحرفوا إِلَى غربي النَّهر ونزلوا واعتزوا بالاحتراز واعتزلوا فأنهض السُّلْطَان إِلَيْهِم الجالشية وانتظر من الله فِي كسرهم المشية فاستداروا بمركزهم وأثخنوا باللتوت رضَا وبالدبابيس فضا وبالنصال قرضا وبالأسنة وخزا وخضا وقضوا فيهم من حق الْجِهَاد سنة وفرضا
وَكَانَ المُرَاد أَن يحتموا فيثوروا حَتَّى يلقاهم ويبوروا فَمَا راموا مكانهم
وَأَصْبحُوا يَوْم الْأَرْبَعَاء راكبين وَعَن سَبِيل اللِّقَاء ناكبين ووقفوا على صهوات الْخَيل إِلَى ضحوة النَّهَار والراجل محدق بهم كالاسوار وأصحابنا قد قربوا مِنْهُم حَتَّى كَادُوا يخالطونهم وَأَرَادُوا أَن يباسطونهم وَالسُّلْطَان يمد الرُّمَاة بالرماة والكماة بالكماة وهم ثابتون نابتون ساكنون ساكتون وَنحن نقُول لَعَلَّهُم يحملون ويغضبون فيجهلون فنتمكن من تَفْصِيل جُمْلَتهمْ بحملتهم وتفريق جَمَاعَتهمْ
وأحس الْعَدو بالضعف وَأَنه متورط فِي الحتف فألجئوا لعجزهم عَن الدفاع إِلَى الاندفاع وَسَارُوا عائدين على هَيْئَة الِاجْتِمَاع وَالنّهر عَن يمينهم وَالْبَحْر عَن يسارهم وَقد أيقنوا إِن صَحَّ مِنْهُم الثَّبَات بانكسارهم وأصحابنا حواليهم وَمن ورائهم(4/226)
يغرقونهم فِي دِمَائِهِمْ ويشلونهم ويغلونهم وينهلونهم من مَاء الْحَدِيد ويعلونهم وهم يتحركون فِي سُكُون ويتظاهرون فِي كمون ويتذوبون فِي جمود ويتلهبون فِي خمود وَكلما صرع مِنْهُم قَتِيل حملوه وستروه وطموا مدفنه وطمروه حَتَّى يخفى أَمرهم وَلَا يَصح لدينا كسرهم
ونزلوا لَيْلَة الْخَمِيس على جسر دعوق وَقَطعُوا الجسر حَتَّى يمنعوا عبورنا إِلَيْهِم ويعوق وأبلى الْمُسلمُونَ فِي ذَلِك الْيَوْم فِي الْجِهَاد بلَاء حسنا وَأتوا كل مَا كَانَ فِيهِ مستطاعا مُمكنا وبذل أياز الطَّوِيل هَذَا الْيَوْم جهده وفل فِي فل حَدهمْ حَده وَكَذَلِكَ سيف الدّين يازكوج عَام فِي بحرهم وَقَامَ بأمرهم فَأَصْبحُوا يَوْم الْخَمِيس إِلَى نَار الْوَطِيس ووصلوا إِلَى مربضهم وَلم يحصلوا على غرضهم وَنقص مِنْهُم خلق وعدنا إِلَى الْخيام ظافرين ظفر الْكِرَام فرحين بذل الْكفْر وَعز الْإِسْلَام وَعرف الفرنج مساق خزيهم وإخفاق سَعْيهمْ فاحترزوا من الهلكة وَمَا عَادوا إِلَى مثل هَذِه الْحَرَكَة
قَالَ القَاضِي وَكَانُوا قد جعلُوا راجلهم سورا لَهُم يضْرب(4/227)
النَّاس بالزنبورك والنشاب حَتَّى لَا يتْرك أحدا يصل إِلَيْهِم إِلَّا بالنشاب فَإِنَّهُ كَانَ يطير عَلَيْهِم كالجراد وخيالتهم يَسِيرُونَ فِي وَسطهمْ بِحَيْثُ لم يظْهر مِنْهُم أحد فِي ذَلِك الْيَوْم أصلا وَعلم الْعَدو مُرْتَفع على عجلة وَهُوَ مغروس فِيهَا وَهِي تسحب بالبغال وهم يَذبُّونَ عَن الْعلم وَهُوَ عَال جدا كالمنارة خرقته بَيَاض ملمع بحمرة على شكل الصلبان
وَلم يزَالُوا سائرين على هَذَا الْوَجْه حَتَّى وصلوا وَقت الظهيرة إِلَى قبالة جسر دعوق وَقد ألجمهم الْعَطش من شدَّة الْحر وَأخذ مِنْهُم التَّعَب وأثخنتهم الْجراح وَكَانَ الْفِعْل معظمه للحلقة المنصورة فِي ذَلِك الْيَوْم فَإِنَّهُم أذاقوهم طعم الْمَوْت وجرح مِنْهُم جمَاعَة كأياز الطَّوِيل فَإِنَّهُ قَامَ فِي ذَلِك الْيَوْم أعظم مقَام يحْكى عَن الْأَوَائِل وجرح جراحات مُتعَدِّدَة وَهُوَ مُسْتَمر على الْقِتَال وجرح سيف الدّين يازكوج جراحات مُتعَدِّدَة وَهُوَ من فرسَان الْإِسْلَام وشجعانه وَله مقامات مُتعَدِّدَة وجرح خلق كثير فِي ذَلِك الْيَوْم
وعزم السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على كبس بَقِيَّتهمْ فِي الخيم وَكتب إِلَى الْبَلَد يعرفهُمْ ذَلِك حَتَّى يخرجُوا هم من ذَلِك الْجَانِب وَنحن من هَذَا الْجَانِب فَلم يصل من أهل الْبَلَد كتاب فَرجع عَن ذَلِك الْعَزْم بِسَبَب تَأَخّر الْكتاب فَلَمَّا أَصْبحُوا كف السُّلْطَان النَّاس عَن الْقِتَال خشيَة أَن يغتالوا فَإِن الْعَدو كَانَ قد قرب من خيمه ووقف الأطلاب فِي الْجَانِب الشَّرْقِي من النَّهر تسير قبالة(4/228)
الْعَدو حَتَّى وصل إِلَى مخيمه وَكَانَ لَهُم فِيهَا أطلاب مستريحة فَخرجت على اليزك الإسلامي وحملت عَلَيْهِم وانتشب الْقِتَال بَينهم فَقتل من الْعَدو وجرح خلق كثير مِنْهُم شخص كَبِير فيهم مقدم عِنْدهم وَكَانَ على حصان عَظِيم ملبس بالزرد إِلَى حَافره وَكَانَ عَلَيْهِ لبس لم ير مثله وطلبوه من السُّلْطَان بعد انْفِصَال الْحَرْب فَدفع لَهُم جثته وَطلب رَأسه فَلم يُوجد
وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مخيمه وأعيد الثّقل إِلَى مَكَانَهُ وَعَاد كل قوم إِلَى مَنْزِلَتهمْ
وَكَانَ عماد الدّين زنكي غَائِبا بِنَفسِهِ مَعَ الثّقل لمَرض كَانَ بِهِ وَبَقِي عسكره فَعَاد وَقد أقلعت حماه وَبَقِي التياث مزاج السُّلْطَان وَهُوَ كَانَ سَبَب سَلامَة هَذِه الطَّائِفَة الْخَارِجَة كَونه لَا يقدر على مُبَاشرَة الْأَمر بِنَفسِهِ
وَلَقَد رَأَيْته رَحمَه الله وَهُوَ يبكي فِي حَال الْحَرْب كَيفَ لم يقدر على مُخَالطَة الْقَوْم ورأيته وَهُوَ يَأْمر أَوْلَاده وَاحِدًا بعد وَاحِد بمصافحة الْأَمر ومخالطة الْحَرْب وَلَقَد سَمِعت مِنْهُ وَقَائِل يَقُول إِن الوخم قد عظم فِي مرج عكا بِحَيْثُ إِن الْمَوْت قد كثر فِي الطَّائِفَتَيْنِ فَأَنْشد متمثلا
(اقتلاني ومالكا ... واقتلا مَالِكًا معي)(4/229)
يُرِيد بذلك أنني قد رضيت بِأَن أتلف أَنا إِذا تلف أَعدَاء الله وَحدث بذلك قُوَّة عَظِيمَة فِي نفوس العساكر الإسلامية
وَكَانَ مرض السُّلْطَان هُوَ أحد الْأَسْبَاب الحاملة للفرنج على هَذِه الْحَرَكَة مُنْضَمًّا إِلَى كثرتهم وَشدَّة الغلاء والجدب عَلَيْهِم
فصل فِي وقْعَة الكمين وَغَيرهَا وَدخُول الْبَدَل إِلَى عكا
قَالَ الْعِمَاد لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من شَوَّال انتخب السُّلْطَان من أجناده عدَّة وَكثر لَهُم الْعدة وَأمرهمْ أَن يكمنوا فِي سفح تل هُوَ شمَالي عكا بعيد من عَسْكَر الْعَدو بِقرب الْمنزلَة العادلية الْقَدِيمَة عِنْد السَّاحِل فكمنوا تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أصبح الصَّباح ركب مِنْهُم عدَّة يسيرَة وَسَارُوا نَحْو الفرنج وصالوا عَلَيْهِم وأغاروا فَاسْتَقْبَلَهُمْ الفرنج فَخرج إِلَيْهِم زهاء أَربع مئة فَارس هَكَذَا قَالَ الْعِمَاد فِي الْبَرْق وَقَالَ فِي الْفَتْح مئتا قنطاري وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد مئتا فَارس وطمعوا فِي الْمُسلمين فتأخروا قدامهم قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى أوصلوهم إِلَى الكمين فَخرج عَلَيْهِم أَسد العرين وَقتلُوا وأسروا واستولوا عَلَيْهِم بأسرهم فَلم ينج مِنْهُم نَاجٍ(4/230)
وَوَقع فِي الْأسر مقدمون أكَابِر مِنْهُم خَازِن الْملك وَجَمَاعَة من الإفرنسيسية وَركب السُّلْطَان فَرحا بِهَذِهِ الْبشَارَة ووقف على تل كيسَان وَقد توافت إِلَيْهِ الأسرى والأسلاب فَترك الأسلاب والخيول لآخذيها وَكَانَت بأموال عَظِيمَة فَمَا أعارها طرفا وَلَا تردد أمره فِيهَا وَجلسَ وأحضر الأسرى وباسطهم وأطعمهم وكساهم وَأذن لَهُم فِي أَن يَسِيرُوا غلمانهم لاحضار مَا يُرِيدُونَ احضاره ثمَّ نقلهم إِلَى دمشق للاعتقال وحفظهم بالقيود الثقال
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما هجم الشتَاء وهاج الْبَحْر وَأمن الْعَدو من أَن يضْرب مصَاف وَأَن يُبَالغ فِي طلب الْبَلَد وحصاره من شدَّة الأمطار وتواترها أذن السُّلْطَان للعساكر فِي الْعود إِلَى بلادها ليأخذوا نَصِيبا من الرَّاحَة فَسَار عماد الدّين صَاحب سنجار خَامِس عشري شَوَّال وعقيبه ابْن أَخِيه صَاحب الجزيرة بعد أَن أفيض عَلَيْهِمَا من التشريف والانعام والتحف مَا لم ينعم بِهِ على غَيرهمَا
وَسَار عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل فِي أول ذِي الْقعدَة مشرفا مكرما وَسَار الظَّاهِر فِي الْمحرم من سنة سبع وتقي الدّين فِي صفر مِنْهَا وَلم يبْق عِنْد السُّلْطَان إِلَّا نفر يسير من الْأُمَرَاء وَالْحَلقَة الْخَاص
قَالَ واشتغل السُّلْطَان بِإِدْخَال الْبَدَل إِلَى عكا وَحمل المير(4/231)
والذخائر واخراج من كَانَ بهَا من الْأُمَرَاء لعظم شكايتهم من طول الْمقَام بهَا ومعاناة التَّعَب والسهر وملازمة الْقِتَال لَيْلًا وَنَهَارًا وَكَانَ مقدم الْبَدَل الدَّاخِل من الْأُمَرَاء سيف الدّين المشطوب دخل فِي سادس عشر الْمحرم سنة سبع وَفِي ذَلِك الْيَوْم خرج الْمُقدم الَّذِي كَانَ بهَا وَهُوَ الْأَمِير حسام الدّين أبوالهيجاء وَأَصْحَابه وَمن كَانَ بهَا من الْأُمَرَاء وَدخل مَعَ المشطوب خلق من الْأُمَرَاء وأعيان من الْخلق وَتقدم إِلَى كل من دخل أَن يصحب مَعَه ميرة سنة كَامِلَة
وانتقل الْعَادِل بعسكره إِلَى حيفا على شاطىء النَّهر وَهُوَ الْموضع الَّذِي تحمل مِنْهُ المراكب وَتدْخل إِلَى الْبَلَد وَإِذا خرجت تخرج إِلَيْهِ فَأَقَامَ ثمَّ يحث النَّاس على الدُّخُول ويحرس المير والذخائر لِئَلَّا يتَطَرَّق إِلَيْهَا من الْعَدو من يتعرضها
وَكَانَ مِمَّا دخل إِلَيْهَا سبع بطس مَمْلُوءَة ميرة وذخائر ونفقات كَانَت وصلت من مصر وَكَانَ دُخُولهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي ذِي الْحجَّة فانكسر مِنْهَا مركب على الصخر الَّذِي هُوَ قريب الميناء فَانْقَلَبَ كل من فِي الْبَلَد من الْمُقَاتلَة إِلَى جَانب الْبَحْر لتلقي البطس وَأخذ مَا فِيهَا
وَلما علم الْعَدو انقلاب الْمُقَاتلَة إِلَى جَانب الْبَحْر اجْتَمعُوا فِي خلق عَظِيم وزحفوا على الْبَلَد من جَانب الْبر زحفة عَظِيمَة(4/232)
وقاربوا الأسوار وصعدوا فِي سلم وَاحِد فاندق بهم السّلم كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وأدركهم أهل الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم خلقا عَظِيما وعادوا خائبين خاسرين
وَأما البطس فَإِن الْبَحْر هاج هيجانا عَظِيما وَضرب بَعْضهَا بِبَعْض على الصخر فَهَلَكت وَهلك جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَهلك فِيهَا خلق عَظِيم قيل كَانَ عَددهمْ سِتِّينَ نَفرا وَكَانَ فِيهَا ميرة عَظِيمَة لَو سلمت لكفت الْبَلَد سنة كَامِلَة وَدخل على الْمُسلمين من ذَلِك وَهن عَظِيم وحرج السُّلْطَان لذَلِك حرجا شَدِيدا وَكَانَ ذَلِك أول علائم أَخذ الْبَلَد
وَقَالَ الْعِمَاد لما دخل الشتَاء وعصفت الْأَهْوَاء وهاج الْبَحْر وَوَقع فِي سفن الفرنج الْكسر أنفذوها إِلَى الجزائر للِاحْتِيَاط وخافوا عَلَيْهَا من اختباط الْبَحْر
وَقَالَ فِي الْفَتْح نقل الفرنج سفنهم خوفًا عَلَيْهَا إِلَى صور فربطوها بهَا فَخَلا وَجه الْبَحْر من مراكبهم وَحصل الْأَمْن فِيهِ من جانبهم
وَكَانَ أَصْحَابنَا فِي الْبَلَد قد ملوا فشكوا ضررهم وضجرهم وَكَانُوا زهاء عشْرين ألف رجل من أَمِير ومقدم وجندي وأسطولي وبحري ومتعيش وتاجر وبطال وغلمان ونواب(4/233)
وعمال وَقد تعذر عَلَيْهِم الْخُرُوج فَرَأى السُّلْطَان أَن يفسح لَهُم فِيهِ رفقا بهم ورأفة وَمَا أفكر أَن فِي ذَلِك مَخَافَة وَآفَة
وأشير على السُّلْطَان بترتيب الْبَدَل وكفل الْعَادِل بذلك وانتقل بمخيمه إِلَى سفح جبل حيفا قَاطع النَّهر وَتقدم بِجمع السفن للنَّقْل وَاجْتمعَ المنتقلون بالسَّاحل على الرمل فَمن نجز أمره انْتقل
وَكَانَ الرَّأْي إزاحة عِلّة المقيمين فَإِنَّهُم قد جربوا وصبروا وخبروا وهم كَنَفس وَاحِدَة وَكَانُوا فِي ثروة وكرم ونخوة وَفِيهِمْ أَبُو الهيجاء السمين وَله أَتبَاع وأشياع وَله فِي شرع السماحة اقْتِدَاء بالسلطان أوضاع وَلَعَلَّه أنْفق من مَاله فِي تِلْكَ السّنة خمسين ألف دِينَار فَلَمَّا فسح لَهُم فِي الِانْتِقَال لأجل الِاسْتِبْدَال انْتَشَر ذَلِك الضَّم وانتثر ذَلِك النّظم وَدخل إِلَى عكا من لم يجرب حصارها وَلم يخبر مَنَافِعهَا ومضارها وَمَا ثَبت مِمَّن كَانَ مُقيما بهَا إِلَّا الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش
وَدخل عشرُون مقدما وأميرا شبه المكرهين عوض سِتِّينَ واستخدمت الرِّجَال وأنفقت الْأَمْوَال وتفاوت الداخلون والخارجون فَلَا جرم وَقع الوهن وَقضي الْأَمر وتكفل بالداخلين المشطوب وطاب الزَّمَان وَتعذر الامكان بِعُود مراكب الْعَدو فَلم يستتم الْبَلَد مَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ من الرِّجَال وَالْأَمْوَال فَإِن كل من(4/234)
عين للدخول كرهه وَصَارَ يتوسل فِي أَن يُعْفَى ويبذل فِي نَفسه الْفِدَاء ثمَّ لما حقت كلمة الدُّخُول على من تعين لَهُ اسْتمْهلُوا زَمَانا يتهيؤون فِيهِ للدخول ولانفاذ قَضَاء الله تَعَالَى أَسبَاب لَا بُد من وُقُوعهَا
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي لَيْلَة سَابِع ذِي الْحجَّة وَقعت قِطْعَة عَظِيمَة من سور عكا فانثلم الثغر وبادر الفرنج إِلَيْهَا فجَاء أهل الْبَلَد وسدوها بصدورهم وقاتلوا عَنْهَا إِلَى أَن بنوها وعادت أقوى مِمَّا كَانَت
وَفِي ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة هلك ابْن ملك الألمان وكند كَبِير يُقَال لَهُ كند بنياط وَمرض الكندهري وَصَارَ يَمُوت من الفرنج كل يَوْم مئة والمئتان وحزن الفرنج على ابْن ملك الألمان حزنا عَظِيما وأشعلوا نيرانا هائلة بِحَيْثُ لم تبْق خيمة إِلَّا اشتعل فِيهَا الناران وَالثَّلَاثَة بِحَيْثُ بَقِي عَسْكَرهمْ كُله نَارا تقد وَحصل للْمُسلمين غَنَائِم أخر كَثِيرَة فِي سَرَايَا سَرِيَّة وأساطيل مرضية وَمن(4/235)
جملَة ذَلِك ملوطة مكللة بِاللُّؤْلُؤِ منوطة وبأزرار الْجَوْهَر مربوطة قيل إِنَّهَا من ثِيَاب ملك الألمان
وَكَانَ قد استأمن من الفرنج خلق عَظِيم أخرجهم الْجُوع إِلَيْنَا وَقَالُوا للسُّلْطَان نَحن نَخُوض الْبَحْر فِي براكس ونكسب من الْعَدو وَيكون الْكسْب بَيْننَا وَبَين الْمُسلمين
فَأذن لَهُم وَأَعْطَاهُمْ بركوسا وَهُوَ الْمركب الصَّغِير فَرَكبُوا فِيهِ وظفروا بمراكب لتجار الْعَدو بضائعهم معظمها فضَّة مصوغة وَغير مصوغة فأسروهم وكسبوهم وأحضروهم بَين يَدي السُّلْطَان فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان جَمِيع مَا غنموه
قَالَ الْعِمَاد فَلَمَّا أكْرمُوا بِهَذِهِ المكرمة أثنوا على الْيَد المنعمة وَأسلم مِنْهُم شطرهم وأحضروا مائدة فضَّة عَظِيمَة وَعَلَيْهَا مكبة عالية وَمَعَهَا طبق يماثلها فِي الْوَزْن وَلَو وزنت تِلْكَ الفضيات قاربت قِنْطَارًا فَمَا أعارها السُّلْطَان طرفه احتقارا
قَالَ وَاسْتشْهدَ فِي عكا سَبْعَة من الْأُمَرَاء مِنْهُم الْأَمِير سوار(4/236)
والتقى فِي هَذِه السّنة شواني الْمُسلمين بشواني الفرنج فِي الْبَحْر فأحرقت للكفر شواني برجالها وَكَانَ عِنْد الْعود تَأَخّر لنا شيني مقدمه الْأَمِير جمال الدّين مُحَمَّد بن أرككز فأحاطت بِهِ مراكب الْعَدو فتواقع ملاحوه إِلَى المَاء وسلموه إِلَى الْبلَاء فقاتل وصبر فعرضوا عَلَيْهِ الْأمان فَقَالَ مَا أَضَع يَدي إِلَّا فِي يَد مقدمكم الْكَبِير فَلَا يخاطر الخطير إِلَّا مَعَ الخطير
فجَاء إِلَيْهِ الْمُقدم الْكَبِير وَظن أَنه قد حصل لَهُ الْأَسير فعاقره وعانقه وقوى عَلَيْهِ وَمَا فَارقه ووقعا فِي الْبَحْر وغرقا وترافقا فِي الْحمام واتفقا وعَلى طريقي الْجنَّة وَالنَّار افْتَرقَا
وَاسْتشْهدَ أَيْضا الْأَمِير نصير الْحميدِي
قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى قتل القَاضِي المرتضى بن قُرَيْش الْكَاتِب فِي خيمته قَتله شريك لَهُ فِي دَار بنابلس أَرَادَهُ على بيعهَا وَخرج من خيمته فَوجدَ قَاضِي نابلس فَقتله وضربه وَمَا أمهله وَمر لينجو فَأدْرك وَضرب بعمود خيمة فَأهْلك واستكتب السُّلْطَان أَخا المستشهد مَكَانَهُ فَلم يبلغ فِي الاحسان ميدانه
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة ورد كتاب سيف الْإِسْلَام أخي السُّلْطَان من الْيمن يذكر استيلاءه على صنعاء واستنابة وَلَده شمس الْمُلُوك فِيهَا(4/237)
قَالَ وَوصل القَاضِي الْفَاضِل من مصر إِلَى المعسكر الْمَنْصُور فِي ذِي الْحجَّة وَكَانَ السُّلْطَان متشوقا إِلَى قدومه وطالت مُدَّة الْبَين لغيبته عَنهُ سنتَيْن على أَن أُمُور الممالك بِمصْر كَانَت بِحُضُورِهِ مستتبة وَقد جمع للْملك الْعَزِيز بمقامه هَيْبَة ومحبة
وَكَانَ السُّلْطَان شَدِيد الوثوق بمكانه دَائِم الِاعْتِمَاد والاستناد على إحسانه وَإِلَى أَرْكَانه فان استقدمه خَافَ على مَا وَرَاءه من المهام وَإِن تَركه نَالَ وَحْشَة التفرد بالقضايا وَالْأَحْكَام
وَكَانَ يكاتبه بشرح الْأَحْوَال ويستشيره والنجابون مترددون بالمكاتبات والمخاطبات والاستشارة فِي الْمُهِمَّات فوصل إِلَى الْقُدس واعتاق بتوالي الأمطار ثمَّ وصل فِي ذِي الْحجَّة وَرجع الْفضل وَاجْتمعَ الشمل واستأنس الْملك بِصَاحِب تَدْبيره وتأسس رُكْنه بِرَأْي مشيره
قلت وَفِي جُمَادَى الأولى من هَذِه السّنة توفّي بالموصل قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَقد أثنى الْعِمَاد الْكَاتِب عَلَيْهِ فِي الخريدة(4/238)
ثَنَاء كثيرا وَأنْشد لَهُ أشعارا حَسَنَة مِنْهَا فِي التَّوْحِيد
(قَامَت بِإِثْبَات الصِّفَات أَدِلَّة ... قصمت ظُهُور أَئِمَّة التعطيل)
(وطلائع التَّنْزِيه لما أَقبلت ... هزمت ذَوي التَّشْبِيه والتمثيل)
(فَالْحق مَا صرنا إِلَيْهِ جميعنا ... بأدلة الْأَخْبَار والتنزيل)
(من لم يكن بِالشَّرْعِ مقتديا فقد ... أَلْقَاهُ فرط الْجَهْل فِي التضليل)
وَله فِي مدح الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
(لائمي فِي هوى الصَّحَابَة ... إرجع إِلَى سقر)
(لَا بلغت المنى وَلَا ... نلْت من رفضك الوطر)
(كَيفَ تنْهى عَن حب قوم ... هم السّمع وَالْبَصَر)
(وهم سادة الورى ... وهم صفوة الْبشر)
(فَأَبُو بكر الْمُقدم ... م من بعده عمر)
(ثمَّ عُثْمَان بعده ... وَعلي على الْأَثر)
(أَيهَا الرافضي حِسَابك ... فَالْحق قد ظهر)(4/239)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
وفيهَا وصل إِلَى الفرنج ملك إفرنسيس وَملك إنكلتير وَغَيرهمَا وَأخذت عكا يسر الله فتحهَا
قَالَ الْعِمَاد والغيم فِي هطلانه وَالْبَحْر فِي هيجانه وَالسُّلْطَان مُقيم بمخيمه على شفرعم ولطف الله بِهِ قد خص وَعم والعادل مخيم قَاطع نهر حيفا على الرمل وسفن الْبَدَل إِلَى عكا مُتَّصِلَة السبل والفرنج مستمرون على الْحصار متحرزون من الاصحار ونوب اليزك راتبة ووظائف الْجِهَاد مواظبة
وَوصل من الدِّيوَان الْعَزِيز مِثَال وَمَعَهُ مُكَاتبَة للْملك الْأَفْضَل وفيهَا إكرام وإجلال وَفضل وإفضال
وَفِي ثَالِث صفر رَحل تَقِيّ الدّين لتسلم الْبِلَاد الَّتِي أضيفت إِلَيْهِ شَرْقي الْفُرَات وَكَانَ لَهُ بِالشَّام المعرة وحماة وسلمية وجبلة واللاذقية وبالجزيرة وديار بكر حران والرها والموزر وسميساط وضياعها وميافارقين وحصونها وأعمالها وقلاعها
وَسَار على أَنه يرجع عَن قريب فَأَبْطَأَ وتشوف إِلَى افْتِتَاح مَا يجاوره من الْبِلَاد وَسَار إِلَى ميافارقين فَكَانَ السُّلْطَان ينْسب مَا جرى من اسْتِيلَاء الْكفَّار على عكا بعد قَضَاء الله تَعَالَى إِلَى غيبته فَإِنَّهُ تَأَخَّرت عَسَاكِر تِلْكَ الْبِلَاد الشرقية لخوف مضرته وجور مجاورته وَسَيَأْتِي ذكر وَفَاته فِي آخر السّنة(4/240)
وَوصل كتاب الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه أَنه أغار على جشير للفرنج بطرابلس فاستاقه وَلم يطق الْكفَّار لحاقه واقتطع لخاصته مِنْهُ أَربع مئة رَأس تلف فِي الطَّرِيق مِنْهَا أَرْبَعُونَ وغنم أبقارا وَغنما وأنفذ للعماد مِنْهَا بغلة وَذَلِكَ رَابِع صفر
وَفِي لَيْلَة هَذَا الْيَوْم أَلْقَت الرّيح مركبا لِلْعَدو على الزيب فَكَسرته وَكَانَ فِيهِ خلق عَظِيم مِنْهُم فغرق بَعضهم وَأسر بعض وَفِيهِمْ امْرَأَتَانِ سبيتا
وَفِي لَيْلَة أول ربيع الأول خرج أَصْحَابنَا من الْبَلَد وهجموا على الْعَدو وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وَأخذُوا مِنْهُم من خيمهم جمعا عَظِيما مِنْهُم اثْنَتَا عشرَة امْرَأَة
وَفِي ثَالِث ربيع الأول كَانَ اليزك للحلقة السُّلْطَانِيَّة وَخرج إِلَيْهِم من الْعَدو خلق عَظِيم وَجرى بَينهم وقْعَة شنيعة وَقتل فِيهَا لِلْعَدو جمَاعَة مِنْهُم مقدم كَبِير وَلم يفقد من الْمُسلمين إِلَّا خَادِم رومي صَغِير عثر بِهِ فِي الحملة فرسه يُسمى قراقوش وَكَانَ شجاعا لَهُ وقعات
وَفِي تَاسِع ربيع الأول بلغ السُّلْطَان أَن الْعَدو يخرج مِنْهُ طَائِفَة للآحتشاش فَأمر الْعَادِل أَن يكمن بالعسكر خلف التل الَّذِي كَانَت فِيهِ الْوَقْعَة الْمَعْرُوفَة بِهِ وَسَار هُوَ فكمن وَرَاء تل العياضية وَمَعَهُ من أَوْلَاده الصغار وَالْقَاضِي الْفَاضِل وَنذر الفرنج فَلم يخرج مِنْهُم أحد(4/241)
وَوصل فِي أثْنَاء ذَلِك الْيَوْم خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا من الفرنج أخذُوا فِي بيروت فيهم شيخ كَبِير هرم لم يبْق فِي فَمه ضرس وَلم يبْق فِيهِ قُوَّة إِلَّا مِقْدَار مَا يَتَحَرَّك فَسَأَلَهُ عَن مَجِيئه فَقَالَ لِلْحَجِّ إِلَى قمامة وبيني وَبَين بلادي مسيرَة أشهر فرق لَهُ وَأطْلقهُ وَأَعَادَهُ إِلَى الْعَدو رَاكِبًا على فرس وَطلب أَوْلَاده الصغار أَن يَأْذَن لَهُم فِي قتل أَسِير فَلم يَأْذَن وَسُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ لِئَلَّا يعتادوا من الصغر سفك الدَّم ويهون عَلَيْهِم وهم الْآن لَا يفرقون بَين الْمُسلم وَالْكَافِر
ثمَّ لما أقبل الرّبيع توافت العساكر وَفَاء بموعدها فوصلت فِي شهر ربيع الأول فَأول من قدم الْأَمِير علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر صَاحب قلعتي عزاز وبغراس وَهُوَ شيخ لَهُ رَأْي وتجربة ومنزلة كَبِيرَة ومرتبة وَالْملك الأمجد صَاحب بعلبك وَبدر الدّين مودود وَالِي دمشق فِي رِجَالهمْ وأبطالهم وَفِي كل يَوْم يقدم أَمِير بعد أَمِير وَالله يتَوَلَّى التَّدْبِير
وَكَانَ قد شاع الْخَبَر بِأَن مُلُوك الفرنج واصلون وهم حاشدون حافلون فوصل ملك إفرنسيس فيليب فِي عدَّة من عَبدة الصَّلِيب ثَانِي عشر ربيع الأول فِي سِتّ بطس عِظَام مَمْلُوءَة بفوارس ذَوي إقدام فَقُلْنَا مَا أحمل المَاء لأهل النَّار وَمَا أجلبه للدوائر إِلَى الديار وَكَانَ عَظِيما عِنْدهم من كبار مُلُوكهمْ ينقادون لَهُ بِحَيْثُ إِذا حضر حكم على الْجَمِيع وَمَا زَالُوا يتواعدونا بِهِ حَتَّى قدم وَصَحبه من بِلَاده باز عَظِيم عِنْده هائل الْخلق أَبيض اللَّوْن نَادِر(4/242)
الْجِنْس وَكَانَ يعزه وَيُحِبهُ حبا عَظِيما فطار من يَده حَتَّى سقط على سور عكا فاصطاده أَصْحَابنَا وأنفذوه إِلَى السُّلْطَان وبذل الفرنج فِيهِ ألف دِينَار فَلم يجابوا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلَقَد رَأَيْته وَهُوَ يضْرب إِلَى الْبيَاض مشرق اللَّوْن مَا رَأَيْت بازيا أحسن مِنْهُ
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ مَعَ هَذَا الْملك بازي أَشهب كَأَنَّهُ عِنْد إرْسَاله نَار تتلهب ففارقه يَوْم وُصُوله بِحَيْثُ عجز عَن حُصُوله وَكَانَ فِي ظن الفرنج أَنه يقدم فِي جمع جم فَلَمَّا رَأَوْا جمعه قليلاسقط فِي أَيْديهم فَوَعَدَهُمْ بالمدد خَلفه
قَالَ القَاضِي وَقدم بعده كند فرير وَكَانَ مقدما عَظِيما عِنْدهم مَذْكُورا كَانَ حاصر حماة وحارم عَام الرملة
وَفِي ثَانِي عشر ربيع الآخر وصل كتاب من اللاذقية أَن جمَاعَة من المستأمنين نزلُوا نَاحيَة من جَزِيرَة قبرس فِي عيد لَهُم وَقد اجْتمع جمع كثير فِي بيعَة قريبَة من الْبَحْر وَأَنَّهُمْ صلوا مَعَهم صَلَاة الْعِيد فَلَمَّا فرغوا من الصَّلَاة ضربوا على كل مَا كَانَ فِي الْبيعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء عَن آخِرهم حَتَّى القسيس وحملوهم إِلَى مراكبهم وَسَارُوا بهم إِلَى اللاذقية وَكَانَ فيهم سبع وَعِشْرُونَ امْرَأَة وَكَانُوا أغلقوا بَاب الْكَنِيسَة عَلَيْهِم ليأمنوا إفلاتهم وَأسرُوهُمْ بأسرهم(4/243)
وكسبوا جَمِيع مَا فِي الْكَنِيسَة من الْأَمْتِعَة والأعلاق النفيسة واقتسموها فوصل إِلَى كل واحدعلى مَا قيل أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم من الْفضة النقرة كَذَا فِي كتاب القَاضِي
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح وَقيل حصل لكل وَاحِد مِنْهُم على كثرتهم أَربع مئة دِرْهَم وهجم جمَاعَة من العسكرية على غنم لِلْعَدو فَأَخَذُوهَا وَكَانَ عَددهَا مئة وَعشْرين رَأْسا وركبوا فِي طلبَهَا بأسرهم بخيلهم ورجلهم فِي إثرهم فَلم يظفروا بطائل وَلم يرجِعوا بحاصل
قَالَ الْعِمَاد كَانَ عز الدّين سامة مُتَوَلِّي بيروت وَلم يكن لمراكب الْعَدو بُد من الْجَوَاز بهَا أَو بقربها وَإِذا عبرت أخذت وَإِن كَانَت مستعدة لحربها فغنم هُوَ وَرِجَاله مَغَانِم خلدت لَهُ ادخار الْغنى وَكَثُرت فِي الْبَحْر غَزَوَاته وَوصل ملك الإنكلتير إِلَى قبرس فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر واشتغل بهَا عَن الْوُصُول إِلَى عكا حَتَّى أَخذهَا عنْوَة من صَاحبهَا وَكَانَت مُقَدمَات سفنه قد وصلت فاستولى سامة على خمس مِنْهَا مَمْلُوءَة رجَالًا وَنسَاء وأموالا وخيلا وَكَانَ فِي الزيب وَهُوَ شمَالي عكا طَائِفَة من الْمُسلمين يجهزون السفن الدَّاخِلَة إِلَى عكا ويقطعون الطَّرِيق على الفرنج
قَالَ القَاضِي وَكَانَ للْمُسلمين لصوص يدْخلُونَ إِلَى خيام الْعَدو فيسرقون مِنْهُم حَتَّى الرِّجَال وَيخرجُونَ فَأخذُوا ذَات لَيْلَة طفْلا رضيعا لَهُ ثَلَاثَة أشهر فَلَمَّا فقدته أمه باتت مستغيثة بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور فِي طول تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى وصل خَبَرهَا إِلَى مُلُوكهمْ فَقَالُوا لَهَا إِنَّه رَحِيم الْقلب وَقد أذنا لَك فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ فاخرجي واطلبيه مِنْهُ فانه يردهُ عَلَيْك
فَخرجت تستغيث لليزك الإسلامي وَأَخْبَرتهمْ بواقعتها فأطلقوها وأنفذوها إِلَى السُّلْطَان فَأَتَتْهُ وَهُوَ رَاكب على تل الخروبة وَأَنا فِي خدمته وَفِي خدمته خلق عَظِيم فَبَكَتْ بكاء شَدِيدا ومرغت وَجههَا فِي التُّرَاب فَسَأَلَ عَن قصَّتهَا فأخبروه فرق لَهَا ودمعت عينه وَأمر باحضار الرَّضِيع فَمَضَوْا فوجدوه قد بيع فِي السُّوق فَأمر بِدفع ثمنه إِلَى المُشْتَرِي وَأَخذه مِنْهُ وَلم يزل وَاقِفًا رَحمَه الله حَتَّى أحضر الطِّفْل وَسلم إِلَيْهَا فَأَخَذته وبكت بكاء شَدِيدا وضمته إِلَى صدرها وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهَا ويبكون وَأَنا وَاقِف فِي جُمْلَتهمْ فأرضعته سَاعَة ثمَّ أَمر بهَا فَحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مَعَ طفلها
قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الرَّحْمَة الشاملة لجنس الانس اللَّهُمَّ إِنَّك خلقته رحِيما فارحمه رَحْمَة وَاسِعَة آمين
قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل ظهير الدّين بن البلكنكري وَكَانَ مقدما من أُمَرَاء الْموصل وصل مفارقا لَهُم طَالبا خدمَة السُّلْطَان(4/244)
قَالَ القَاضِي وَكَانَ للْمُسلمين لصوص يدْخلُونَ إِلَى خيام الْعَدو فيسرقون مِنْهُم حَتَّى الرِّجَال وَيخرجُونَ فَأخذُوا ذَات لَيْلَة طفْلا رضيعا لَهُ ثَلَاثَة أشهر فَلَمَّا فقدته أمه باتت مستغيثة بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور فِي طول تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى وصل خَبَرهَا إِلَى مُلُوكهمْ فَقَالُوا لَهَا إِنَّه رَحِيم الْقلب وَقد أذنا لَك فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ فاخرجي واطلبيه مِنْهُ فانه يردهُ عَلَيْك
فَخرجت تستغيث لليزك الإسلامي وَأَخْبَرتهمْ بواقعتها فأطلقوها وأنفذوها إِلَى السُّلْطَان فَأَتَتْهُ وَهُوَ رَاكب على تل الخروبة وَأَنا فِي خدمته وَفِي خدمته خلق عَظِيم فَبَكَتْ بكاء شَدِيدا ومرغت وَجههَا فِي التُّرَاب فَسَأَلَ عَن قصَّتهَا فأخبروه فرق لَهَا ودمعت عينه وَأمر باحضار الرَّضِيع فَمَضَوْا فوجدوه قد بيع فِي السُّوق فَأمر بِدفع ثمنه إِلَى المُشْتَرِي وَأَخذه مِنْهُ وَلم يزل وَاقِفًا رَحمَه الله حَتَّى أحضر الطِّفْل وَسلم إِلَيْهَا فَأَخَذته وبكت بكاء شَدِيدا وضمته إِلَى صدرها وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهَا ويبكون وَأَنا وَاقِف فِي جُمْلَتهمْ فأرضعته سَاعَة ثمَّ أَمر بهَا فَحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مَعَ طفلها
قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الرَّحْمَة الشاملة لجنس الانس اللَّهُمَّ إِنَّك خلقته رحِيما فارحمه رَحْمَة وَاسِعَة آمين
قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل ظهير الدّين بن البلنكري وَكَانَ مقدما من أُمَرَاء الْموصل وصل مفارقا لَهُم طَالبا خدمَة السُّلْطَان(4/245)
فصل فِي مضايقة الْعَدو - خذله الله - لعكا - يسر الله فتحهَا - واستيلائهم عَلَيْهَا
قَالَ الْعِمَاد لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس رَابِع جُمَادَى الأولى زحف الفرنج إِلَى عكا ونصبوا عَلَيْهَا سَبْعَة مجانيق ووصلت كتب من عكا إِلَى السُّلْطَان بالاستنفار الْعَظِيم والتماس شغل الْعَدو عَنْهُم فَركب السُّلْطَان بعسكره وَكَانَ هَذَا دأبه مَعَهم كلما نابوا الْبَلَد نابهم فَإِذا زحف إِلَيْهِم رجعُوا عَن الْحصْر وَإِذا رَجَعَ عَنْهُم عَادوا وَكَانَ عَلامَة مَا بَين السُّلْطَان وَأهل الْبَلَد أَنه مَتى زحف الفرنج عَلَيْهِم دقوا كوسهم فَيدق كوس السُّلْطَان إِجَابَة لَهُم واستبعد السُّلْطَان مَنْزِلَته فتحول إِلَى تل العياضية تَاسِع جماد الأولى
وَوصل ملك الإنكلتير ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى من قبرس وَمَعَهُ خمس وَعِشْرُونَ قِطْعَة وَهُوَ فِي جمع شَاك وجمر ذَاك فبلي الثغر مِنْهُ بِغَيْر الْبلَاء الأول هَذَا ومجانيق الْكفْر على الغي مُقِيمَة وللرمي مديمة وَتمكن الفرنج بهَا من الخَنْدَق فدنوا مِنْهُ دنو المحنق وشرعوا فِي هجمه وأسرعوا إِلَى طمه وداموا يرْمونَ فِيهِ جثث الْأَمْوَات وجيف الْخَنَازِير وَالدَّوَاب النافقات حَتَّى صَارُوا يلقون فِيهِ قتلاهم ويحملون إِلَيْهِ موتاهم وأصحابنا فِي مُقَاتلَتهمْ ومقابلتهم قد انقسموا فريقين وافترقوا قسمَيْنِ ففريق يلقِي من(4/246)
الخَنْدَق مَا ألقِي فِيهِ وفريق يقارع الْعَدو ويلاقيه
قَالَ القَاضِي وَقد بلغ من مضايقتهم الْبَلَد ومبالغتهم فِي طم خندقه أَنهم كَانُوا يلقون فِيهِ موتى دوابهم وَكَانُوا إِذا جرح مِنْهُم وَاحِد جراحه مثخنة موئسة ألقوه فِيهِ وانقسم أهل الْبَلَد أقساما قسم ينزلون إِلَى الخَنْدَق ويقطعون الْمَوْتَى وَالدَّوَاب الَّتِي يلقونها فِيهِ قطعا ليسهل نقلهَا وَقسم ينقلون مَا يقطعهُ ذَلِك الْقسم ويلقونه فِي الْبَحْر وَقسم يَذبُّونَ عَنْهُم ويدافعون حَتَّى يتمكنوا من ذَلِك وَقسم فِي المنجنيقات وحراسة الأسوار وَأخذ مِنْهُم التَّعَب وَالنّصب وتواترت شكايتهم من ذَلِك
قَالَ وَهَذَا ابتلاء لم يبتل بِمثلِهِ أحد وَلَا يصبر عَلَيْهِ جلد
هَذَا وَالسُّلْطَان رَحمَه الله لَا يقطع الزَّحْف عَنْهُم والمضايقة على خنادقهم بِنَفسِهِ وخواصه وَأَوْلَاده لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى يشغلهم عَن الْبَلَد وصوبوا منجنيقاتهم إِلَى برج عين الْبَقر وتواترت عَلَيْهِ أَحْجَار المنجنيقات لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى أثرت فِيهِ الْأَثر الْبَين
وَكلما ازدادوا فِي قتال الْبَلَد ازْدَادَ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ وكبس خنادقهم والهجوم عَلَيْهِم ودام ذَلِك حَتَّى وصل ملك الإنكلتير
قَالَ وَفِي سادس عشر جُمَادَى وصلت بطسة من بيروت(4/247)
عَظِيمَة هائلة مشحونة بالآلات والأسلحة والمير وَالرِّجَال الْأَبْطَال الْمُقَاتلَة وَكَانَ السُّلْطَان قد أَمر بتعبئتها فِي بيروت وتسييرها وَوضع فِيهَا من الْمُقَاتلَة خلقا عَظِيما حَتَّى تدخل مراغمة لِلْعَدو
وَكَانَ عدَّة رجالها الْمُقَاتلَة سِتّ مئة وَخمسين رجلا فاعترضها الإنكلتير الملعون فِي عدَّة شواني قيل إِنَّه كَانَ فِي أَرْبَعِينَ قلعا فاحتاطوا بهَا من جَمِيع جوانبها واشتدوا فِي قتالها وَجرى الْقَضَاء بِأَن وقف الْهَوَاء فقاتلوها قتالا شَدِيدا وَقتل من الْعَدو عَلَيْهَا خلق عَظِيم وأحرقوا على الْعَدو شانيا كَبِيرا فِيهِ خلق فهلكوا عَن آخِرهم وتكاثروا على أهل البطسة وَكَانَ مقدمهم رجلا جيدا شجاعا مجربا فِي الْحَرْب اسْمه يَعْقُوب من أهل حلب فَلَمَّا رأى أَمَارَات الْغَلَبَة عَلَيْهِم قَالَ وَالله لَا نقْتل إِلَّا عَن عز وَلَا نسلم إِلَيْهِم من هَذِه البطسة شَيْئا فوقعوا فِي البطسة من جوانبها بالمعاول يهدمونها حَتَّى فتحوها من كل جَانب أبوابا فامتلأت مَاء وغرق جَمِيع من فِيهَا وَمَا فِيهَا من الْآلَات والمير وَلم يظفر الْعَدو مِنْهَا بِشَيْء أصلا وتلقف الْعَدو بعض من كَانَ فِيهَا وأخذوه إِلَى الشواني من الْبَحْر وخلصوه من الْغَرق ومثلوا بِهِ وأنفذوه إِلَى الْبَلَد ليخبرهم بالواقعة(4/248)
وحزن النَّاس لذَلِك حزنا شَدِيدا وَالسُّلْطَان يتلَقَّى ذَلِك بيد الاحتساب فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَالصَّبْر على بلائه
قَالَ وَكَانَ الْعَدو المخذول قد صنع دبابة عَظِيمَة هائلة أَربع طَبَقَات الأولى من الْخشب وَالثَّانيَِة من الرصاص وَالثَّالِثَة من الْحَدِيد وَالرَّابِعَة من النّحاس وَكَانَت تعلو على السُّور وتركب فِيهَا الْمُقَاتلَة وَخَافَ أهل الْبَلَد مِنْهَا خوفًا عَظِيما وحدثتهم نُفُوسهم بِطَلَب الْأمان من الْعَدو وَكَانُوا قد قربوها من السُّور بِحَيْثُ لم يبْق بَينهَا وَبَين السُّور إِلَّا مِقْدَار خمس أَذْرع على مَا نشاهد وَأخذ أهل الْبَلَد فِي تَوَاتر ضربهَا بالنفط لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى قدر الله تَعَالَى حريقها واشتعال النَّار فِيهَا وَظهر لَهَا ذؤابة نَار نَحْو السَّمَاء
واشتدت الْأَصْوَات بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَرَأى النَّاس ذَلِك جبرا لذَلِك الوهن ومحوا لذَلِك الْأَثر ونعمة بعد نقمة وإيناسا بعد يأس وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم غرق البطسة
قَالَ الْعِمَاد فَكَانَ ذَلِك تسميتا لتِلْك العطسة(4/249)
ثمَّ جرى بعد ذَلِك عدَّة وقعات فِي هَذَا الشَّهْر وَهُوَ جُمَادَى الأولى وهجم الْمُسلمُونَ خيام الْعَدو ونهبوها وَوصل رجل كَبِير من أهل مازندان يُرِيد الْغُزَاة فوصل وَالْحَرب قَائِمَة فَحمل حَملَة اسْتشْهد فِيهَا فِي تِلْكَ السَّاعَة
وَلم تزل الْأَخْبَار تتواصل من أهل الْبَلَد باستفحال أَمر الْعَدو والشكوى من ملازمتهم قِتَالهمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَذكر مَا ينالهم من التَّعَب الْعَظِيم من تَوَاتر الْأَعْمَال الْمُخْتَلفَة عَلَيْهِم من حِين قدوم الإنكلتير الملعون ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا أشفى فِيهِ على الْهَلَاك وجرح الافرنسيس وَلَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا اصرارا وعتوا
وهرب إِلَى السُّلْطَان خادمان ذكرا أَنَّهُمَا لأخت ملك الإنكلتير وأنهما كَانَا يكتمان إيمانهما فقبلهما السُّلْطَان وأكرمهما
وهرب أَيْضا المركيس مِنْهُم إِلَى صور وَكَانَ قد استشعر مِنْهُم أَن يخرجُوا ملكهَا عَن يَده
قَالَ الْعِمَاد فِي الْبَرْق وَلما أعوزت الفرنج الْحِيَل وأعجزتهم تفاصيل تدابيرهم والجمل وَذَلِكَ أَن أبرجتهم الخشبية أحرقت وستائرهم ودباباتهم وكباشهم وزعت ومزعت(4/250)
ومزقت أَقَامُوا قُدَّام خيامهم صوب عكا تَلا من التُّرَاب مستطيلا ورفعوه كثيبا مهيلا ثمَّ نقلوه وحولوه وَكَانُوا يقفون وَرَاءه ويحولون إِلَى قدامه ترابه ويرفعون إِلَى قرب الْبَلَد رقابه فهم من خَلفه من النكايات محجوبون يشبون ويذبون ويدبرون الْحَرْب الزبون والتل المتحول إِلَى الْبَلَد قد أعيا على أهل الْجلد لَا تعْمل فِيهِ النَّار وَلَا يصل إِلَى دَفعه الاقتدار حَتَّى صَار من الْمَدِينَة على نصف غلوة سهم وَرمي بِكُل جمر ورجم فَمَا يزِيد فِي كل يَوْم إِلَّا قربا وَمَا يجر فِي كل وَقت إِلَّا خطبا وحربا وَكَانَ الْأَصْحَاب يخرجُون من الْبَلَد إِلَيْهِ ويقاتلون عَلَيْهِ ويطيفون بحول الله حواليه
وَمن كتاب فاضلي إِلَى الدِّيوَان مَا قطع الْخَادِم الخدم إِلَّا أَنه قد أضجر وأسأم من المطالعة بِخَبَر هَذَا الْعَدو الَّذِي قد استفحل أمره واستشرى شَره فَإِن النَّاس مَا سمعُوا وَلَا رَأَوْا عدوا حاصرا محصورا غامرا مغمورا قد تحصن بخنادق تمنع الْجَائِز من الْجَوَاز وتعوق الفرص عَن الانتهاز وَلَا تقصر عدتهمْ عَن خَمْسَة آلَاف فَارس ومئة ألف راجل وَقد أفناهم الْقَتْل والأسر وأكلتهم الْحَرْب وَلَفْظهمْ النَّصْر وَقد أمدهم الْبَحْر بالبحار وأعان أهل النَّار أهل النَّار وَاجْتمعَ فِي هَذِه الجموع من الجيوش الغربية والألسنة الأعجمية من لَا يحصر معدوده وَلَا يصور فِي الدُّنْيَا وجوده فَمَا أحقهم بقول أبي الطّيب
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة ... فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)(4/251)
حَتَّى إِنَّه أسر الْأَسير وَاسْتَأْمَنَ الْمُسْتَأْمن احْتِيجَ فِي فهم لغته إِلَى عدَّة تراجم ينْقل وَاحِد عَن الآخر وَيَقُول ثَان مَا يَقُول أول وثالث مَا يَقُول ثَان وَالْأَصْحَاب كلوا وملوا وصبروا إِلَى أَن ضجروا وتجلدوا إِلَى أَن تبلدوا والعساكر الَّتِي تصل من الْمَكَان الْبعيد لَا تصل إِلَّا وَقد كل ظهرهَا وَقل وفرها وضاق بالبيكار صدرها وَلَا تستفتح إِلَّا بِطَلَب الدستور وَيصير ضجرها مضرا بالسمعة عِنْد الْعَدو المخذول وَلَهُم قَاتلهم الله تنوع فِي المكايد فَإِنَّهُم قَاتلُوا مرّة بالأبرجة وَأُخْرَى بالمنجنيقات ورادفة بالدبابات وتابعة بالكباش وآونة باللوالب وَيَوْما بالنقب وليلا بالسرابات وطورا بطم الْخَنَادِق وآنا بِنصب السلالم ودفعة بالزحوف فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَحَالَة فِي الْبَحْر بالمراكب
ثمَّ شرعوا فأقاموا فِي وسط خيامهم حَائِطا مستطيلا يشبه السُّور من التُّرَاب وتلالا تشبه الأبرجة مُدَوَّرَة ورفعوها بالأخشاب وعالوها بِالْحِجَارَةِ فَلَمَّا كملت أخذُوا التُّرَاب من وَرَائِهَا ورموه قدامها وهم يتقدمون أول أول وترتفع حَالا بعد حَال حَتَّى صَارَت مِنْهُ كَنِصْف غلوة سهم وَقد كَانَ الْحجر وَالنَّار تؤثران فِي أبرجة الْخشب وَهَذِه أبراج وستائر للرِّجَال والمنجنيقات من العطب لَا تُؤثر فِيهَا الْحِجَارَة الرامية وَلَا تعْمل فِيهَا النَّار الحامية
قَالَ وَوصل فِي آخر جُمَادَى الأولى من العساكر الإسلامية مُجَاهِد الدّين يرنقش وَمَعَهُ عَسْكَر سنجار(4/252)
وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة ابْن صَاحب الْموصل وَجَمَاعَة من أُمَرَاء مصر والقاهرة كعلم الدّين كرجي وَسيف الدّين سنقر الدووي وَغَيرهمَا من الأَسدِية والناصرية
وَأما عَسَاكِر دياربكر فَإِنَّهُم تَأَخَّرُوا وَاعْتَذَرُوا بالخوف من جوَار تَقِيّ الدّين وَكَانَ قد تعرض للسويداء وَغَيرهَا وصعب ذَلِك على السُّلْطَان وَقَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان وَفِي مثل هَذَا الْوَقْت يتَعَرَّض لهَذَا المقت وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْهِ فِي هَذِه السّنة حَيْثُ أَسَاءَ عِنْد إِمْكَان الْحَسَنَة
وَاشْتَدَّ مرض الإنكلتير بِحَيْثُ شغل الفرنج مَرضه عَن الزَّحْف وَكَانَ ذَلِك خيرة من الله عَظِيمَة فَإِن الْبَلَد كَانَ قد ضعف من فِيهِ ضعفا عَظِيما وهدمت المنجنيقات من السُّور مِقْدَار قامة الرجل فَكَانَ فِي هَذِه الفترة للبلد بَقَاء رَمق وَزَوَال فرق وانتعاش عَثْرَة وانجبار كسرة
قَالَ القَاضِي واللصوص يدْخلُونَ عَلَيْهِم إِلَى خيامهم وَيَسْرِقُونَ أقمشتهم ونفوسهم وَيَأْخُذُونَ الرِّجَال فِي عَافِيَة بِأَن يجيئوا إِلَى الْوَاحِد وَهُوَ نَائِم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظونه وَيَقُولُونَ لَهُ بالاشارة إِن تَكَلَّمت ذبحناك ويحملونه وَيخرجُونَ بِهِ إِلَى عَسْكَر الْمُسلمين وَجرى ذَلِك مرَارًا كَثِيرَة(4/253)
ثمَّ تَكَرَّرت الرسائل من الفرنج إِلَى السُّلْطَان شغلا للْوَقْت بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ مِنْهَا أَن ملك الإنكلتير طلب الِاجْتِمَاع بِهِ ثمَّ فتر بعده أَيَّامًا ثمَّ جَاءَ رَسُوله يطْلب الاسْتِئْذَان فِي إهداء جوارح جَاءَت من الْبَحْر وَيذكر أَنَّهَا قد ضعفت وتغيرت وَطلب أَن يحمل لَهَا دَجَاج وطير تَأْكُله لتقوى ثمَّ تهدى
ففهم أَنه مُحْتَاج إِلَى ذَلِك لنَفسِهِ لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بِمَرَض ثمَّ نفذ أَسِيرًا مغربيا عِنْده فَأَطْلقهُ السُّلْطَان ثمَّ أرسل فِي طلب فَاكِهَة وثلج فَأرْسل إِلَيْهِ ذَلِك
وَكَانَ غرضهم من ذَلِك تفتير العزمات وتضييع الْأَوْقَات على الْمُسلمين وهم مشتغلون بالحصر وموالاة الرَّمْي وَالْجد بالزحف حَتَّى تبدلت قُوَّة الْبَلَد بالضعف وتخلخل السُّور وأنهك التَّعَب والسهر أهل الْبَلَد لقلَّة عَددهمْ وَكَثْرَة الْأَعْمَال عَلَيْهِم حَتَّى إِن جمَاعَة مِنْهُم بقوا ليَالِي عدَّة لَا ينامون أصلا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا والعدو عدد كثير يتناوبون على قِتَالهمْ وَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِم سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة فَركب السُّلْطَان بالعسكر الإسلامي ورغبهم ونخاهم وزحف على خنادق الْعَدو حَتَّى دخل فِيهَا الْعَسْكَر(4/254)
وَجرى قتال عَظِيم وَهُوَ كالوالدة الثكلى يُحَرك فرسه من طلب إِلَى طلب ويحث النَّاس على الْجِهَاد وينادي بِنَفسِهِ ياللاسلاماه وَعَيناهُ قد فارت بالدمع
وَكلما نظر إِلَى عكا وَمَا حل بهَا من الْبلَاء وَمَا يجْرِي على من بهَا من الْمُصَاب الْعَظِيم اشْتَدَّ فِي الزَّحْف والحث على الْقِتَال وَلم يطعم فِي ذَلِك الْيَوْم طَعَاما الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا شرب شَيْئا أَشَارَ بِهِ الطَّبِيب
وَلما هجم اللَّيْل عَاد إِلَى الخيم وَقد أَخذ مِنْهُ التَّعَب والكآبة والحزن ثمَّ ركب سحرًا وصبحوا على مَا أَمْسوا عَلَيْهِ
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصلت مطالعة من الْبَلَد يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد بلغ بِنَا الْعَجز إِلَى غَايَة مَا بعْدهَا إِلَّا التَّسْلِيم وَنحن فِي الْغَد إِن لم تعملوا مَعنا شَيْئا نطلب الْأمان ونسلم الْبَلَد ونشتري مُجَرّد رقابنا وَكَانَ هَذَا أعظم خبر ورد على الْمُسلمين وأنكاه فِي قُلُوبهم فان عكا كَانَت قد احتوت على جَمِيع سلَاح السَّاحِل والقدس ودمشق وحلب ومصر أَيْضا فَرَأى السُّلْطَان مهاجمة الْعَدو فَلم يساعده الْعَسْكَر فَإِن الرجالة من الفرنج وقفُوا كالسور الْمُحكم الْبناء بِالسِّلَاحِ والزنبورك والنشاب من وَرَاء أسوارهم وهجم عَلَيْهِم بعض النَّاس من بعض أَطْرَافهم فثبتوا وذبوا غَايَة الذب(4/255)
وَحكى بعض من دخل عَلَيْهِم أسوارهم أَنه كَانَ هُنَاكَ وَاحِد من الفرنج صعد سور خندقهم وَجَمَاعَة يناولونه الْحِجَارَة وَهُوَ يرميها على الْمُسلمين وَوَقع فِيهِ زهاء خمسين سَهْما وحجرا وَهُوَ يتلقاها وَلم يمنعهُ ذَلِك عَمَّا هُوَ بصدده من الذب حَتَّى ضربه زراق بنفط فأحرقه ورؤيت امْرَأَة عَلَيْهَا ملوطة خضراءفما زَالَت ترمي بقوس من خشب حَتَّى جرحت جمَاعَة ثمَّ قتلت وحملت إِلَى السُّلْطَان فَعجب من ذَلِك
وَلم تزل الْحَرْب إِلَى اللَّيْل وضعفت نفوس أهل الْبَلَد وَتمكن الْعَدو من الْخَنَادِق فملؤوها ونقبوا سور الْبَلَد وحشوه وأحرقوه فَوَقَعت بَدَنَة من الباشورة وَدخل الْعَدو إِلَيْهَا وَقتل مِنْهُم فِيهَا زهاء مئة وَخمسين نفسا وَكَانَ مِنْهُم سِتَّة أنفس من كبارهم فَقَالَ لَهُم وَاحِد مِنْهُم لَا تقتلوني حَتَّى أرحل الفرنج عَنْكُم بِالْكُلِّيَّةِ فبادر رجل من الأكراد وَقَتله وَقتل الْخَمْسَة الْبَاقِيَة
وَفِي الْغَد ناداهم الفرنج احْفَظُوا السِّتَّة فَإنَّا نطلقكم كلكُمْ بهم فَقَالُوا إِنَّا قد قتلناهم فَحزن الفرنج وبطلوا عَن الزَّحْف ثَلَاثَة أَيَّام
وَخرج سيف الدّين المشطوب بِنَفسِهِ بِأَمَان إِلَى ملك الافرنسيس وَهُوَ كَانَ مقدم الْجَمَاعَة فِي الرُّتْبَة وَقَالَ لَهُ إِنَّا قد أَخذنَا مِنْكُم بلادا عدَّة وَكُنَّا نهدم الْبَلَد وندخل فِيهِ وَمَعَ هَذَا إِذا(4/256)
سألونا الْأمان أعطيناهم وحملناهم إِلَى مأمنهم وأكرمناهم وَنحن نسلم الْبَلَد وتعطينا الْأمان على أَنْفُسنَا فَقَالَ أرى فِيكُم رَأْيِي فَأَغْلَظ لَهُ المشطوب القَوْل وَانْصَرف عَنهُ
وَلما دخل المشطوب بِهَذَا الْخَبَر خَافَ جمَاعَة مِمَّن كَانُوا فِي الْبَلَد فَأخذُوا لَهُم بركوسا وَهُوَ مركب صَغِير وركبوا فِيهِ لَيْلًا خَارِجين إِلَى الْعَسْكَر الإسلامي مِنْهُم عز الدّين أرسل وحسام الدّين تمرتاش ابْن الجاولي وسنقر الوشاقي وَهُوَ من الأَسدِية الأكابر وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة
فَأَما أرسل وسنقر فتغيبا خوفًا من السُّلْطَان وَأما ابْن الجاولي فظفر بِهِ وَرمي فِي الزردخاناه وَكَانَ سَابًّا أول مَا توفّي وَالِده فَقطع السُّلْطَان إقطاعاتهم وأقطعها وَحبس عَنْهُم عِنْد الرِّضَا بعد مُدَّة مديدة بشاشة وَجهه ومنعها وَكَانَ من جملَة الهاربين عبد القاهر الْحلَبِي نقيب الجاندارية الناصرية فشفع فِيهِ على أَنه يضمن على نَفسه العودة فَعَاد من ليلته وَوَقع بعد ذَلِك فِي الاسار واستفكه السُّلْطَان بعد سنة بثماني مئة دِينَار
وَمن كتاب إِلَى صَاحب إربل مظفر الدّين لما عاين أَصْحَابنَا بِالْبَلَدِ مَا عَلَيْهِ من الْخطر وَأَنَّهُمْ قد أشفوا على الْغرَر فر من(4/257)
جمَاعَة الْأُمَرَاء من قل بِاللَّه وثوقه وأعمى قلبه فجوره وفسوقه وَلَقَد خانوا الْمُسلمين فِي ثغرهم وباؤوا بوبال غدرهم وَمَا قوى طمع الْعَدو فِي الْبَلَد إِلَّا هَرَبهمْ وَمَا أرهب قُلُوب البَاقِينَ من مقاتلته إِلَّا رهبهم والمقيمون من أَصْحَابنَا الْكِرَام قد استحلوا مر الْحمام وَأَجْمعُوا أَنهم لَا يسلمُونَ حَتَّى يقتلُوا من الْأَعْدَاء أَضْعَاف أعدادهم وَأَنَّهُمْ يبذلون فِي صون ثغرهم غَايَة اجتهادهم
وَكَانُوا تحدثُوا مَعَ الفرنجي فِي التَّسْلِيم فاشتطوا واشترطوا فصبروا بعد ذَلِك وَصَابِرُوا ومدوا أَيْديهم فِي الْقَوْم وبسطوا فَتَارَة يخرجونهم من الباشورة وَتارَة من النقوب وَالله تَعَالَى يسهل تَنْفِيس مَا هم فِيهِ من الكروب
قَالَ القَاضِي وَفِي سحرة تِلْكَ اللَّيْلَة ركب السُّلْطَان مشعرا أَنه يُرِيد كبس الْقَوْم وَمَعَهُ الْمساحِي وآلات طم الْخَنَادِق فَمَا ساعده الْعَسْكَر على ذَلِك وتخاذلوا وَقَالُوا نخاطر بِالْإِسْلَامِ كُله
وَفِي ذَلِك الْيَوْم خرج من عِنْد الإنكلتير رسل ثَلَاثَة طلبُوا فَاكِهَة وثلجا وَذكروا أَن مقدم الاسبتارية يخرج فِي الْغَد يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة يتحدث وَيَتَحَدَّثُونَ مَعَه فِي معنى الصُّلْح فأكرمهم السُّلْطَان ودخلوا سوق الْعَسْكَر وتفرجوا فِيهِ وعادوا تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى عَسْكَرهمْ(4/258)
وَفِي ذَلِك الْيَوْم تقدم إِلَى قايماز النجمي حَتَّى يدْخل هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى أسوارهم عَلَيْهِم وترجل جمَاعَة من أُمَرَاء الأكراد كالجناح وَأَصْحَابه وَهُوَ أَخُو المشطوب ولفيفهم وزحفوا حَتَّى بلغُوا أسوار الفرنج وَنصب قايماز علمه بِنَفسِهِ على سورهم وَقَاتل عَن الْعلم قِطْعَة من النَّهَار
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل عز الدّين جرديك النوري وسوق الزَّحْف قَائِمَة فترجل هُوَ وجماعته وَقَاتل قتالا شَدِيدا واجتهد النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم اجْتِهَادًا عَظِيما
قَالَ الْعِمَاد وَبَات الْعَسْكَر تِلْكَ اللَّيْلَة على الْخَيل تَحت الْحَدِيد منتظرا لنجح الأمل الْبعيد وَلما عرف السُّلْطَان أَنه لَا سَلامَة وَأَن عكا عدمت الاسْتقَامَة نفذ إِلَى جمَاعَة عكا سرا وَقَالَ لَهُم خُذُوا من الْعَدو حذرا وَاتَّفَقُوا واخرجوا لَيْلًا من الْبَلَد يدا وَاحِدَة وسيروا على جَانب الْبَحْر وصادموا الْعَدو بالقهر وخلوا الْبَلَد بِمَا فِيهِ واتركوه بِمَا يحويه
فشرعوا فِي ذَلِك واشتغل كل مِنْهُم باستصحاب مَا يملكهُ وَلم يعلم أَن التهاءه بِهِ يهلكه فَمَا تمكنوا من المُرَاد حَتَّى أَسْفر الصَّباح وَلم يَصح ذَلِك فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة لمصير السِّرّ إِلَى الْعَلَانِيَة
قَالَ وَلَو صَحَّ ذَلِك لنجح الْمَقْصد لَكِن الفرنج اطلعوا على هَذَا السِّرّ فحرسوا الجوانب والأبواب وَكَانَ سَبَب علمهمْ اثْنَيْنِ من(4/259)
غلْمَان الهاربين خرجا إِلَى الملاعين وأخبراهم بجلية الْحَال وعزيمة الرِّجَال
قَالَ وَخرج يَوْم الْجُمُعَة الْعَاشِر من الشَّهْر جمَاعَة من رسل الفرنج وَنحن على الْحَرْب ومحاولة الطعْن وَالضَّرْب وَفِيهِمْ صَاحب صيدا فَطلب نجيب الدّين الْعدْل وَكَانَ السُّلْطَان يعذق بِهِ فِي رسالات الفرنج العقد والحل وعول السُّلْطَان فِي سَماع الرسائل على وَلَده الْأَفْضَل وأخيه الْعَادِل وَتردد الْعدْل مرَارًا فِي الْخطاب وَالْجَوَاب فَلم ينْفَصل الْأَمر على الصَّوَاب وبذلنا لَهُم عكا على مَا فِيهَا دون من فِيهَا وَأَنا نطلق لَهُم أسرى بِعَدَد الْعدة الَّتِي تحويها فَأَبَوا غير الاشتطاط فزدناهم صَلِيب الصلبوت فَلم يحصل لَهُم بِهِ كَمَال الِاغْتِبَاط هَكَذَا قَالَ فِي الْبَرْق
وَقَالَ فِي الْفَتْح إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت وَقَالَ اشترطوا إِعَادَة جَمِيع الْبِلَاد وَإِطْلَاق أساراهم من الأقياد وَضعف الْبَلَد وَعجز من فِيهِ ضعفا لَا يُمكن تلافيه ووقف كرام أَصْحَابنَا وسدوا الثغر بصدورهم وشرعوا فِي بِنَاء سور يقتطع جانبا حَتَّى يَنْتَقِلُوا إِلَيْهِ إِذا شاهدوا الْعَدو غَالِبا
وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت الْحَادِي عشر
وَقَالَ لبست الفرنج بأسرها لِبَاس الْحَرْب وتحركوا حَرَكَة(4/260)
عَظِيمَة بِحَيْثُ اعْتقد أَنه رُبمَا كَانَ مصَاف وَاصْطَفُّوا وَخرج من الْبَاب الَّذِي تَحت الْقبَّة زهاء أَرْبَعِينَ نفسا واستدعوا جمَاعَة من المماليك وطلبوا مِنْهُم الْعدْل الزبداني وَذكروا أَنه يَعْنِي الْخَارِج صَاحب صيدا طليق السُّلْطَان فَذكر نَحْو مَا تقدم
قَالَ وتصرم نَهَار السبت وَلم ينْفَصل حَال
قَالَ وَلما كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر الشَّهْر وصل من الْبَلَد كتب يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد تبايعنا على الْمَوْت فاياكم أَن تخضعوا لهَذَا الْعَدو وتلينوا لَهُ فَأَما نَحن فقد فَاتَ أمرنَا وَذكر الْعَوام الْوَاصِل بِهَذِهِ الْكتب أَنه وَقع بِاللَّيْلِ صَوت انزعج مِنْهُ الطائفتان وَظن الفرنج أَن عسكرا عَظِيما قد عبر إِلَى عكا وَسلم وَصَارَ فِيهَا واندفع كيد الْعَدو فِي تِلْكَ الْأَيَّام بعد أَن كَانَ قد أشفى الْبَلَد على الْأَخْذ
وَوصل من عَسَاكِر الْإِسْلَام صَاحب شيزر سَابق الدّين وَبدر الدّين دلدرم وَمَعَهُ تركمان كثير كَانَ السُّلْطَان أنفذ إِلَيْهِ ذَهَبا أنفقهُ فيهم وَصَاحب حمص وَاشْتَدَّ ضعف الْبَلَد وَكَثُرت ثغر سوره فبنوا عوض الثلمة سورا من داخلها حَتَّى إِذا تمّ انهدامها قَاتلُوا عَلَيْهِ وَثَبت الفرنج - لعنهم الله - على أَنهم لَا يصالحون(4/261)
وَلَا يُعْطون الَّذين فِي الْبَلَد أَمَانًا حَتَّى يُطلق جَمِيع الأسرى الَّذين فِي أَيدي الْمُسلمين وتعاد الْبِلَاد الساحلية إِلَيْهِم
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر الشَّهْر خرج الْعَوام وَفِي كتبه أَن أهل الْبَلَد ضَاقَ بهم الْأَمر وتيقنوا أَنه مَتى أَخذ الْبَلَد عنْوَة ضربت رقابهم عَن آخِرهم وَأخذ جَمِيع مَا فِيهِ من الْعدَد والأسلحة والمراكب وَغير ذَلِك فصالحوهم على أَنهم يسلمُونَ إِلَيْهِم الْبَلَد وَجَمِيع مَا فِيهِ من الْآلَات وَالْعدَد والمراكب ومئتي ألف دِينَار وألفا وَخمْس مئة أَسِير مَجَاهِيل الْأَحْوَال ومئة أَسِير مُعينين من جانبهم يختارونهم وصليب الصلبوت على أَنهم يخرجُون بِأَنْفسِهِم سَالِمين وَمَا مَعَهم من الْأَمْوَال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم وَنِسَائِهِمْ وضمنوا للمركيس الملعون - فَإِنَّهُ كَانَ قد استرضي وَعَاد - عشرَة آلَاف دِينَار لانه كَانَ وَاسِطَة ولأصحابه أَرْبَعَة آلَاف دِينَار واستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك بَينهم وَبَين الفرنج
وَلما وقف السُّلْطَان على ذَلِك أنكرهُ وأعظمه وعزم على أَن يكْتب إِلَيْهِم فِي إِنْكَار ذَلِك عَلَيْهِم فَهُوَ فِي مثل هَذِه الْحَال وَقد جمع أُمَرَاء وَأَصْحَاب مشورته فَمَا أحس الْمُسلمُونَ إِلَّا وَقد ارْتَفَعت أَعْلَام الْكفْر وصلبانه وشعاره وناره على أسوار الْبَلَد وَذَلِكَ فِي ظهيرة نَهَار الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة(4/262)
وَصَاح الفرنج صَيْحَة وَاحِدَة وعظمت الْمُصِيبَة على الْمُسلمين وَاشْتَدَّ حزن الْمُوَحِّدين وانحصر كَلَام الْعُقَلَاء من النَّاس فِي تِلَاوَة {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون}
وَغشيَ النَّاس بهتة عَظِيمَة وحيرة شَدِيدَة وَوَقع فِي الْعَسْكَر الصياح والعويل والبكاء والنحيب وَكَانَ لكل قلب حَظّ فِي ذَلِك على قدر إيمَانه وَلكُل إِنْسَان نصيب من هَذَا الْحَظ على مِقْدَار ديانته ونخوته وأقشعت الْحَال على أَن المركيس - لَعنه الله - دخل الْبَلَد وَمَعَهُ أَرْبَعَة أَعْلَام للملوك فنصب علما على القلعة وعلما على مئذنة الْجَامِع فِي يَوْم الْجُمُعَة وعلما على برج الداوية وعلما على برج الْقِتَال عوضا عَن علم الْإِسْلَام وحيز الْمُسلمُونَ إِلَى بعض أَطْرَاف الْبَلَد وَجرى على أهل الْإِسْلَام المشاهدين لتِلْك الْحَال مَا كثر التَّعَجُّب من الْحَيَاة مَعَه
قَالَ ومثلت بِخِدْمَة السُّلْطَان - رَحمَه الله - عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وهوأشد حَالَة من الوالدة الثكلى والوالهة الحيرى فسليته بِمَا تيَسّر من التسلية وأذكرته الْفِكر فِيمَا قد استقبله من الْأَمر فِي معنى الْبِلَاد الساحلية والقدس الشريف وَكَيْفِيَّة الْحَال فِي ذَلِك وإعمال الْفِكر فِي خلاص الْمُسلمين فِي الْبَلَد وانفصل الْحَال(4/263)
على أَن رأى التَّأَخُّر عَن تِلْكَ الْمنزلَة مصلحَة فَإِنَّهُ لم يبْق غَرَض فِي المضايقة
فَتقدم بِنَقْل الأثقال لَيْلًا إِلَى الْمنزلَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَولا بشفرعم وَأقَام هُوَ جَرِيدَة مَكَانَهُ لينْظر مَاذَا يكون من أَمر الْعَدو وَحَال أهل الْبَلَد فانتقل النَّاس فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الصَّباح واشتغل الْعَدو بِالِاسْتِيلَاءِ على الْبَلَد وَأقَام السُّلْطَان إِلَى التَّاسِع عشر ثمَّ انْتقل إِلَى الثّقل وَوصل ثَلَاثَة نفر وَمَعَهُمْ أقوش حَاجِب بهاء الدّين قراقوش وَكَانَ لِسَانه فَإِنَّهُ كَانَ رجلا عَاقِلا - مستنجزين مَا وَقع عَلَيْهِ عقد الصُّلْح من المَال والأسرى فأقاموا لَيْلَة مكرمين وَسَارُوا إِلَى دمشق يبصرون الْأُسَارَى
قَالَ الْعِمَاد وَخرج سيف الدّين مشطوب وحسين بن باريك وأخذا أَمَان الفرنج يَعْنِي على القطيعة الْمُقدم ذكرهَا
قَالَ وَلم نشعر إِلَّا بالرايات الفرنجية على عكا مركوزة واعطاف أعلامها مهزوزة وَعم الْبلَاء وَتمّ الْقَضَاء وَعز العزاء وَقَنطَ الرَّجَاء وحضرنا عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ مُغْتَم وبالتدبير للمستقبل مهتم فعزيناه وسليناه وَقُلْنَا هَذِه بَلْدَة مِمَّا فَتحه الله قد استعادها عداهُ وَقلت لَهُ إِن ذهبت مَدِينَة فَمَا ذهب الدّين وَلَا ضعف فِي نصر الله الْيَقِين(4/264)
قَالَ ودخلوا عكا وتسلموها وَلم يقفوا على الشَّرَائِط الَّتِي أحكموها فَإِنَّهُم منعُوا أَصْحَابنَا من الْخُرُوج واحتاطوا عَلَيْهِم وعَلى أَمْوَالهم وبدؤوا بحبسهم واعتقالهم ثمَّ طلبُوا المَال فَجَمعه السُّلْطَان وكمله وأودعه خزانته بَعْدَمَا حصله وأحضر صليبهم الْمَطْلُوب المسلوب وَأتم شرطهم المخطوب فظهرت أَمَارَات غدرهم وبدت دَلَائِل مَكْرهمْ
وَفِي كتاب كتبه الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى شمس الدولة بن منقذ وَهُوَ بالمغرب فِي الرسَالَة لقد تجاوزت عدَّة من قتل على عكا - يَعْنِي من الفرنج - الْخمسين ألفا قولا لَا يُطلقهُ التسمح بل يحزره التصفح فانبروا فِي هَذِه السّنة ملكا إفرنسيس وإنكلتير وملوك آخَرُونَ فِي مراكب بحريّة وحمالة حملُوا فِيهَا الْخُيُول والخيالة والمقاتلة والآلة ووصلت كل سفينة تحمل كل مَدِينَة وَأَحْدَقَتْ بالثغر فمنعت النَّاقِل بِالسِّلَاحِ إِلَيْهِ والداخل بالميرة عَلَيْهِ
ثمَّ قَالَ وَأخذ الْبَلَد على سلم كالحرب ودخله الْعَدو وَلَو لم يدْخلهُ من الْبَاب دخل من النقب وَمَا وَهنا لما أَصَابَنَا فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفنا وَلَا رَجعْنَا وَرَاءَنَا وَلَا انصرفنا بل نَحن بمكاننا نَنْتَظِر أَن يبرزوا فنبارزهم ويخرجوا فنناجزهم وينتشروا فنطويهم وينبثوا فنزويهم وأقمنا على طرقهم وخيمنا على(4/265)
مخنقهم وأخذنا بأطرار خندقهم وأحوج مَا كُنَّا الْآن إِلَى النجدة البحرية والأساطيل المغربية فَإِن عاريتنا بهَا ترد وعاديتنا بهَا تشتد
والأمير يبلغ مَا بلغه من خطب الْإِسْلَام وخطوبه وَيقوم فِي الْبَلَاغ يَوْم الْجُمُعَة مقَام خَطِيبه ويعجل العودة وَقبلهَا الاجابة ويستصحب السهْم ويسبق ببشرى الاصابة ويشعر أَن الرَّايَة قد رفعت لنصر تقدم بِهِ عرابه فَإِن للاسلام نظرات إِلَى الْأُفق الغربي يقلبها وخطرات من اللطف الْخَفي يقربهَا وَيَكْفِي من حسن الظَّن أَنَّهَا نظرة ردَّتْ الْهوى الشَّرْقِي غربا وخطرة أوهمت أَن تِلْكَ الهمة لَو تلم بالسفائن لأخذت كل سفينة غصبا
قَالَ الْعِمَاد وعزم الْملك إفرنسيس على الْمسير إِلَى بِلَاده لأمر اخْتَلَّ عَلَيْهِ فَأخذ قسما من الْأُسَارَى وسلمهم إِلَى المركيس ووكله فِي قبض نصِيبه وَرَضي بتدبيره وترتيبه
وَخرج الفرنج يَوْم الْخَمِيس انسلاخ الشَّهْر من جَانب الْبَحْر وانتشروا بالمرج ووصلوا إِلَى الْآبَار الَّتِي حفرهَا اليزك وتواقعوا واواقعوا مَعَ اليزك وأمدهم السُّلْطَان ففلوا الْعَدو وصرع مِنْهُم خَمْسُونَ فَارِسًا(4/266)
قَالَ القَاضِي وجرح خلق عَظِيم وَلم يزل السَّيْف فيهم حَتَّى دخلُوا خنادقهم
قَالَ وَلم تزل الرُّسُل تَتَرَدَّد بَين الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى كَانَ يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَجَب فَخرج حسام الدّين حُسَيْن بن باريك المهراني وَمَعَهُ اثْنَان من أَصْحَاب الانكلتير فَأخْبر أَن ملك الافرنسيس صَار إِلَى صور وَذكروا أَشْيَاء من تَحْرِير أَمر الْأُسَارَى وطلبوا أَن يشاهدوا صَلِيب الصلبوت وَأَنه هَل هُوَ فِي الْعَسْكَر أَو حمل إِلَى بَغْدَاد
فأحضر صَلِيب الصلبوت وشاهدوه وعظموه ورموا نُفُوسهم إِلَى الأَرْض ومرغوا وُجُوههم على التُّرَاب وخضعوا خضوعا عَظِيما لم ير مثله وَذكروا أَن الْمُلُوك قد أجابوا السُّلْطَان إِلَى أَن يكون مَا وَقع عَلَيْهِ الْقَرار يدْفع فِي تروم ثَلَاثَة - أَي نُجُوم - كل ترم شهر
وَلم تزل الرُّسُل تتواتر فِي تَحْرِير الْقَاعِدَة وتنجيزها حَتَّى حصل لَهُم مَا التمسوه من الْأُسَارَى وَالْمَال الْمُخْتَص بذلك الترم وَهُوَ الصَّلِيب ومئة ألف دِينَار وَألف وست مئة أَسِير وأنفذوا(4/267)
ثقاتهم وشاهدوا الْجَمِيع ماعدا الْأُسَارَى المعينين من جانبهم فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا فرغوا من تعيينهم وَلم يكملوهم حَتَّى يحصلوا وَلم يزَالُوا يطاولون ويقضون الزَّمَان حَتَّى انْقَضى الترم الأول من ثامن عشر رَجَب
ثمَّ أنفذوا فِي ذَلِك الْيَوْم يطْلبُونَ ذَلِك فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان إِمَّا أَن تنفذوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا وتتسلموا الَّذِي عين لكم فِي هَذَا الترم ونعطيكم رهائن على الْبَاقِي يصل إِلَيْكُم فِي ترومكم الْبَاقِيَة وَإِمَّا أَن تعطونا رهائن على مَا نسلمه إِلَيْكُم حَتَّى تخْرجُوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا فَقَالُوا لَا نَفْعل شَيْئا من ذَلِك بل تسلمون مَا نقبضه بِهَذَا الترم وتقنعون بأمانتنا حَتَّى نسلم إِلَيْكُم أصحابكم فَأبى السُّلْطَان ذَلِك لعلمه أَنهم إِن تسلموا المَال والصليب والأسرى وأصحابنا عِنْدهم لَا يُؤمن غدرهم
فَلَمَّا رَأَوْهُ قد امْتنع من ذَلِك أخرجُوا خيامهم إِلَى ظَاهر خنادقهم مبرزين فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين الإنكلتير وَجَمَاعَة من الخيالة والرجالة والتركبل وركبوا فِي وَقت الْعَصْر السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَارُوا حَتَّى أَتَوا إِلَى الْآبَار الَّتِي تَحت تل العياضية وَقدمُوا خيامهم إِلَيْهَا وَسَارُوا حَتَّى توسطوا المرج بَين تل كيسَان(4/268)
وتل العياضية ثمَّ أحضروا من الْأُسَارَى الْمُسلمين من كتب الله شَهَادَته وَكَانُوا زهاء ثَلَاثَة آلَاف مُسلم فِي الحبال ووقفوهم وحملوا عَلَيْهِم حَملَة الرجل الْوَاحِد فَقَتَلُوهُمْ صبرا طَعنا وَضَربا بِالسَّيْفِ - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - واليزك الإسلامي يشاهدهم وَلَا يعلم مَاذَا يصنعون لبعده عَنْهُم
وَكَانَ اليزك قد أنفذ إِلَى السُّلْطَان وأعلمه بركوب الْقَوْم ووقوفهم فأنفذ إِلَى اليزك من قواه وَبعد أَن فرغوا مِنْهُم حمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَجَرت بَينهم حَرْب عَظِيمَة جرى فِيهَا قتل وجرح من الْجَانِبَيْنِ ودام الْقِتَال إِلَى أَن فصل اللَّيْل بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَأصْبح الْمُسلمُونَ يكشفون الْحَال فوجدوا الْمُسلمين الشُّهَدَاء فِي مصَارِعهمْ وَعرفُوا من عرفُوا مِنْهُم وَغشيَ الْمُسلمين بذلك حزن عَظِيم وَلم يبقوا من الْمُسلمين إِلَّا رجلا مَعْرُوفا مقدما أَو قَوِيا أيدا للْعَمَل فِي عمائرهم
قَالَ الْعِمَاد وَطلب السُّلْطَان مِنْهُم أَن يضمنهم الداوية فِي قبض المَال فَقَالَ الداوية مَا ندخل فِي الضَّمَان فاقنعوا مِنْهُم بالْقَوْل والأمان فَظهر من فحوى كَلَامهم الْخلف
ثمَّ ذكر قتل الْأُسَارَى قَالَ فشاهدناهم مستشهدين وبالعراء عرايا مجردين وَلَا شكّ أَن الله كساهم من سندس النَّعيم ونقلهم إِلَى دَار المقامة فِي الْعِزّ الْمُقِيم وَتصرف السُّلْطَان حِينَئِذٍ فِي الْحَال(4/269)
وَفرق مَجْمُوعَة فِي رَجَاء الرِّجَال وَأعَاد الْأُسَارَى إِلَى أَرْبَابهَا واحتوت عَلَيْهَا بِدِمَشْق أَيدي أَصْحَابهَا وَحفظ الصَّلِيب السليب ورده إِلَى مَكَانَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى صوانه لَا لعزه بل لهوانه فَإِنَّهُ لَا مصاب عِنْدهم أعظم من استيلائنا عَلَيْهِ وامتداد أَيْدِينَا إِلَيْهِ وَقد بذل فِيهِ الرّوم ثمَّ الكرج بذولا وأنفذوا بعد رَسُول رَسُولا فَمَا وجدوا قبولا وَلَا صادفوا سولا
وَمن كتاب عمادي عَن السُّلْطَان فِي ذَلِك
وللكرام آجال وَالْحَرب سِجَال وَللَّه من الْمُؤمنِينَ رجال والآن فقد ثارت الحميات وهبت النخوات وَوَجَب على كل مُسلم أَن ينْهض لنصرة الْإِسْلَام ويتدارك مَا حدث من الْكسر والوهن بالجبر والاحكام وَيُعِيد مَا وهى من عقدَة الْفتُوح إِلَى النظام فَأَيْنَ ذَوُو الأنفة وَالْحمية والهمم الْعلية والنفوس الأبية
أما يغتمون لمصرع من اسْتشْهد من إخْوَانهمْ أما يثورون لثأر إِيمَانهم أما تبْكي الْعُيُون لمن قتل من أماثلهم وأعيانهم فَإِن مصابهم عَظِيم ومقامهم عِنْد رَبهم الْكَرِيم كريم وَأَرَادَ الله بذلك تَنْبِيه الهمم الراقدة وإثارة العزائم الراكدة
فصل فِيمَا جرى بعد انْفِصَال أَمر عكا
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن الفرنج رحلت صوب عسقلان مستهل(4/270)
شعْبَان وَسَار السُّلْطَان فِي عراضهم والمسلمون يخطفونهم وَيقْتلُونَ مِنْهُم وَيَأْسِرُونَ ويجرحون ويسلبون وَيَسْرِقُونَ وكل أَسِير أُتِي بِهِ السُّلْطَان أَمر بقتْله ووصلوا إِلَى حيفا فأقاموا بهَا وَنزل الْمُسلمُونَ بالقيمون وَقدم السُّلْطَان ثقله إِلَى مجدل يابا وأضحى نازلا على النَّهر الْجَارِي إِلَى قيسارية وودع الْفَاضِل السُّلْطَان وَسَار إِلَى دمشق لِأَنَّهَا مدرج الوافدين من الأكابر والنواب بهَا رُبمَا جبنوا عَن إِقَامَة الْوَظَائِف وَكَانَ الْأَمر الفاضلي عِنْدهم كالأمر السلطاني فَإِذا استشاروه خلصوا من كل تبعة ودرك
وَفِي تَاسِع شعْبَان جَاءَ الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا وتألبوا وهم يَسِيرُونَ فِي السَّاحِل بالفارس والراجل وَعَن يمينهم الْبَحْر وَعَن يسارهم الرمل وَكَانَت الرجالة حَولهمْ كالسور وَعَلَيْهِم الكبورة الثخنية والزرديات السابغة المحكمة بِحَيْثُ يَقع فيهم النشاب وَلَا يتأثرون وهم يرْمونَ بالزنبورك فتجرح خُيُول الْمُسلمين وَغَيرهم
قَالَ القَاضِي وَلَقَد شاهدتهم وَفِي ظهر الْوَاحِد مِنْهُم النشابة وَالْعشرَة مغروزة وَهُوَ يسير على هينته من غير انزعاج وَثمّ قسم آخر من الرجالة مستريح يَمْشُونَ على جَانب الْبَحْر وَلَا قتال عَلَيْهِم فَإِذا تَعب هَؤُلَاءِ الْمُقَاتلَة أَو أثخنتهم الْجراح قَامَ مقامهم(4/271)
الْقسم المستريح واستراح الْقسم الْعمَّال
هَذَا والخيالة فِي وَسطهمْ لَا يخرجُون عَن الرجالة إِلَّا فِي وَقت الحملة لَا غير وَقد انقسموا أَيْضا ثَلَاثَة أَقسَام الأول الْملك الْعَتِيق جفري وَجَمَاعَة الساحلية مَعَه فِي الْمُقدمَة والانكتار والفرنسيسية مَعَه فِي الْوسط وَأَوْلَاد السِّت أَصْحَاب طبرية وَطَائِفَة أُخْرَى فِي السَّاقَة وَفِي وسط الْقَوْم برج على عجلة وعلمهم على مَا وَصفته من قبل يسير أَيْضا فِي وَسطهمْ على عجلة كالمنارة الْعَظِيمَة وَسَارُوا على هَذَا الْمِثَال وسوق الْحَرْب قَائِمَة بَين الطَّائِفَتَيْنِ والمسلمون يرمونهم من جوانبهم بالنشاب ويحركون عزائمهم حَتَّى يخرجُوا وهم يحفظون نُفُوسهم حفظا عَظِيما ويقطعون الطَّرِيق على هَذَا الْوَضع ويسيرون سيرا رَفِيقًا ومراكبهم تسير فِي مقابلتهم فِي الْبَحْر إِلَى أَن أَتَوا الْمنزل فنزلوا وَكَانَت مَنَازِلهمْ قريبَة لأجل الرجالة فَإِن المستريحين مِنْهُم كَانُوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلَّة الظّهْر عَلَيْهِم
قَالَ فَانْظُر إِلَى صَبر هَؤُلَاءِ الْقَوْم على الْأَعْمَال الشاقة من غير ديوَان وَلَا نفع وَطَاف الجاليش حَولهمْ من كل جَانب ولزوهم بالنشاب وَكلما ضعف قسم عاونه الَّذِي يَلِيهِ وهم يحفظ بَعضهم بَعْضًا والمسلمون محدقون بهم من ثَلَاثَة جَوَانِب(4/272)
وَرَأَيْت السُّلْطَان وَهُوَ يسير بِنَفسِهِ بَين الجاليشية ونشاب الْقَوْم يتجاوزه وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا صبيان بجنيبين لَا غير وَهُوَ يسير من طلب إِلَى طلب يحثهم على التَّقَدُّم وَيَأْمُرهُمْ بمضايقة الْقَوْم والصياح بالتهليل وَالتَّكْبِير يرْتَفع والعدو على أتم ثبات على ترتيبهم لَا يتغيرون وَلَا ينزعجون وَجَرت حملات كَثِيرَة ورجالتهم تجرح الْمُسلمين وخيولهم بالزنبورك والنشاب إِلَى أَن أَتَوا إِلَى نهر الْقصب فنزلوا عَلَيْهِ وَقد قَامَ قَائِم الظهيرة وضربوا خيامهم وتراجع النَّاس عَنْهُم فانهم كَانُوا إِذا نزلُوا أيس النَّاس من أَمر يتم مَعَهم
وَفِي ذَلِك الْيَوْم قتل من فرسَان الْمُسلمين وشجعانهم أياز الطَّوِيل وَهُوَ من مماليك السُّلْطَان وَكَانَ قد فتك بهم وَقتل خلقا من خيالتهم وشجعانهم وَكَانَ قد استفاضت شجاعته بَين العسكرين بِحَيْثُ إِنَّه جرت لَهُ وقعات كَثِيرَة صدقت أَخْبَار الْأَوَائِل وَصَارَ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا عرفه الفرنج فِي مَوضِع تجافوا عَنهُ فاتفق أَن تقطر بِهِ فرسه فاستشهد فِي ذَلِك الْيَوْم وَدفن على تل مشرف على الْبركَة وحزن الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ حزنا عَظِيما وَقتل عَلَيْهِ مَمْلُوك لَهُ
وَنزل السُّلْطَان بالثقل على الْبركَة وَهُوَ مَوضِع تَجْتَمِع فِيهِ مياه كَثِيرَة ثمَّ رَحل بعد الْعَصْر وأتى نهر الْقصب فَنزل عَلَيْهِ أَيْضا فَكُنَّا نشرب من أَعْلَاهُ والعدو يشرب من أَسْفَله لَيْسَ بَيْننَا إِلَّا مَسَافَة(4/273)
يسيرَة وَبَات الْفَرِيقَانِ هُنَاكَ
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت نوبَة اليزك لعز الدّين إِبْرَاهِيم ابْن الْمُقدم فِي السَّاقَة وَكَانَت الفرنج قد أنست بِانْقِضَاء الْحَرْب فَخرج مِنْهَا جمَاعَة مسترسلين وتقدموا على اليزكية مشرفين فَبَصر بهم ابْن الْمُقدم فَعبر إِلَيْهِم من ورائهم هُوَ وَمن مَعَه النَّهر وهم لم يَأْخُذُوا من خَلفهم الحذر ففجأهم وفجعهم وَفرغ من شغلهمْ قبل أَن يدركهم الصَّرِيخ وسلبهم وغنمهم ثمَّ نَهَضَ الفرنج إِلَيْهِ وحملوا عَلَيْهِ وَجَرت وقْعَة شَدِيدَة لحزب الضلال مبيدة جلبت لنا غنيمَة وَعَلَيْهِم هزيمَة
وأحضر الْأُسَارَى عِنْد السُّلْطَان بحزام الذل والهوان فَأخْبرُوا أَنهم جرح مِنْهُم بالْأَمْس ألف وسرى فيهم وَهن وَضعف ثمَّ رَحل السُّلْطَان وَعبر شعراء أرسوف وَنزل على قَرْيَة تعرف بدير الراهب
وَطلب ملك الإنكلتير الِاجْتِمَاع بِالْملكِ الْعَادِل خلْوَة فاجتمعا فَأَشَارَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَاصِل كَلَامه أَنه قد طَال بَيْننَا الْقِتَال وَنحن جِئْنَا فِي نصْرَة إفرنج السَّاحِل فَاصْطَلَحُوا أَنْتُم وهم وكل منا يرجع إِلَى مَكَانَهُ(4/274)
فَقَالَ على مَاذَا يكون الصُّلْح قَالَ على أَن يسلم إِلَى أهل السَّاحِل مَا أَخذ مِنْهُم من الْبِلَاد فَأبى الْملك الْعَادِل وَأخْبرهُ أَن دون ذَلِك قتل كل فَارس وراجل فَرجع مغضبا
وَفِي يَوْم السبت رَابِع عشر شعْبَان كَانَت وقْعَة أرسوف تأهب الْمُسلمُونَ للقائهم فأزعجوهم وأبلوهم ببلائهم فَلَمَّا رأى الْعَدو مَا هُوَ فِيهِ من الضيقة احتموا وحملوا حَملَة وَاحِدَة فانكشف من كَانَ قدامهم واندفعوا وَثَبت ذَلِك الْيَوْم الْعَادِل وَأَصْحَابه وقايماز النجمي وعسكر الْموصل ثمَّ كرت العساكر إِلَيْهِم وَجَرت النوائب عَلَيْهِم فجرت بَين الفئتين مقتلة عَظِيمَة فلجؤوا إِلَى جدران أرسوف وَلَوْلَا ذَلِك لاستوعبت فيهم الحتوف فَنزل السُّلْطَان على نهر العوجاء ورحل الْعَدو إِلَى يافا فنزلوها والمسلمون على الْعَادة فِي عراضهم مُقِيمَة على تبديد جموعهم واعتراضهم
وَقتل يَوْم أرسوف لَهُم كند كَبِير تَحت حكمه من الفرنج عدد كثير وَكَانَ من عظم شَأْنه وفخامة مَكَانَهُ أَنه يَوْم صرع قَاتل دونه جمَاعَة من المقدمين فَمَا قتل حَتَّى قتلوا وَلَا بذل روحه حَتَّى بذلوا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد رَأَيْتهمْ وَقد اجْتَمعُوا فِي وسط الرجالة وَأخذُوا رماحهم وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وَفرج لَهُم رجالتهم وحملوا حَملَة وَاحِدَة من الجوانب كلهَا فَانْدفع النَّاس(4/275)
بَين أَيْديهم وَلم يبْق فِي طلب السُّلْطَان إِلَّا سَبْعَة عشر مُقَاتِلًا والأعلام بَاقِيَة والكوس يدق لَا يفتر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان مَا نزل بِالْمُسْلِمين سَار حَتَّى أَتَى طلبه فَوقف فِيهِ وَالنَّاس يفرون من الجوانب وَكلما رأى فَارًّا أَمر من يحضرهُ عِنْده فَاجْتمع فِي الطّلب خلق عَظِيم ووقف الْعَدو قبالتهم على رُؤُوس التلول والروابي وَخَافَ الْعَدو أَن يكون فِي الشُّعَرَاء كمين وثابت العساكر كلهَا فتراجع الْعَدو إِلَى مَنْزِلَته وَجلسَ السُّلْطَان ينْتَظر النَّاس من الْعود من السَّقْي والجرحى يحْضرُون بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يتَقَدَّم بمداواتهم وَحَملهمْ وَقتل رجالة كَثِيرَة وجرح جمَاعَة من الطَّائِفَتَيْنِ وصدم الْملك الْأَفْضَل وَانْفَتح دمل كَانَ فِي وَجهه وسال مِنْهُ دم كثير على وَجهه وَهُوَ صابر محتسب فِي ذَلِك كُله وَقتل من الْعَدو جمَاعَة وَأسر وَاحِد فأحضر وَأمر بِضَرْب عُنُقه
وَفِي بعض الْكتب السُّلْطَانِيَّة سَار الْعَدو من عكا على قصد عسقلان وسقنا لمعارضتهم فِي كل طَرِيق ومضايقتهم فِي كل مضيق ومنازلتهم فِي كل منزل ومدافعتهم عَن كل منهل وهم يَسِيرُونَ الْبَحْر الْبَحْر لَا يفارقون ساحله وَلَا يتجاوزون مراحله والمواضع مضائق وشعراء ورمال وَمَا لِلْقِتَالِ فِيهَا مجَال وَمَا وجدنَا فسحة إِلَّا وضايقناهم فِيهَا وأخذنا عَلَيْهِم فِي نَوَاحِيهَا(4/276)
من جملَة أيامنا الْمَشْهُورَة المشهودة ومواسمنا الْمَعْرُوفَة المحمودة يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع شعْبَان عِنْد رحيلهم من قيسارية فَذكر الْوَاقِعَة السابقه وفيهَا أَنه نفق من خيلهم ألف رَأس ثمَّ ذكر يَوْم أرسوف وَحسن عَاقِبَة الْمُؤمنِينَ بعد الْيَأْس
ثمَّ رَحل السُّلْطَان سَابِع عشر شعْبَان وَنزل بالرملة وَاجْتمعت الأثقال كلهَا بهَا فِي تِلْكَ الرحلة ورحل لَيْلًا وَأصْبح على يبْنى وجاوزها إِلَى نهر أَمر أَن الْخيام عَلَيْهِ تبنى
قَالَ وزرنا بيبنى قبر أبي هُرَيْرَة رضوَان الله عَلَيْهِ وبادر النَّاس بالتيمن بِهِ إِلَيْهِ
قلت اعْتمد الْعِمَاد فِي هَذَا على مَا اشْتهر بَين الْعَامَّة من ذَلِك وَأما أهل الْعلم المصنفون فِي أَخْبَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَابْن سعد وَغَيره فَذكرُوا أَن أَبَا هُرَيْرَة توفّي بِالْمَدِينَةِ وَلم يذكرُوا غَيره على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته فِي التَّارِيخ وَالله أعلم
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان عبد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فان هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فأعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا نحرك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم
قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر
وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني(4/277)
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان بعد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فَإِن هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فاعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا تحرّك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم
قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر
وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني(4/278)
إِلَى خدمته سحرًا وَكنت فارقته بعد مُضِيّ نصف اللَّيْل فَحَضَرت وَبَدَأَ بِالْحَدِيثِ فِي معنى خرابها وأحضر وَلَده الْأَفْضَل وشاوره فِي ذَلِك وَطَالَ الحَدِيث وَلَقَد قَالَ لي رَحمَه الله وَالله لِأَن أفقد أَوْلَادِي بأسرهم أحب إِلَيّ من أَن أهدم مِنْهَا حجرا وَاحِدًا وَلَكِن إِذا قضى الله بذلك وعينه لحفظ مصلحَة الْمُسلمين طَرِيقا فَكيف أصنع
قَالَ ثمَّ استخار الله تَعَالَى فأوقع فِي نَفسه أَن الْمصلحَة فِي خرابها فَاسْتَحْضر الْوَالِي وَأمره بذلك فِي تَاسِع عشر شعْبَان وَلَقَد رَأَيْته وَقد اجتاز بِالسوقِ والوطاق بِنَفسِهِ يستنفر النَّاس للخراب وَقسم السُّور على النَّاس وَجعل لكل أَمِير وَطَائِفَة من الْعَسْكَر بَدَنَة مَعْلُومَة وبرجا مَعْلُوما يخربونه وَدخل النَّاس إِلَى الْبَلَد وَوَقع فِيهِ الضجيج والبكاء وَكَانَ بَلَدا نضرا خَفِيفا على الْقلب مُحكم الأسوار عَظِيم الْبناء مرغوبا فِي سكناهُ فلحق النَّاس عَلَيْهِ حزن عَظِيم
وَكَانَ هُوَ بِنَفسِهِ وَولده الْأَفْضَل يستعملان النَّاس فِي الخراب خشيَة أَن يسمع الْعَدو فيحضر وَلَا يُمكن من خرابها وأباح النَّاس الهري الَّذِي كَانَ ذخيرة فِي الْبَلَد للعجز عَن نَقله وضيق الْوَقْت وَالْخَوْف من هجوم الفرنج وَأمر بحريق الْبَلَد فأضرمت النَّار فِيهِ وَالْأَخْبَار تتواتر من جَانب الْعَدو بعمارة يافا(4/279)
وَخرب من سور عسقلان معظمه وَكَانَ عَظِيم الْبناء بِحَيْثُ إِنَّه كَانَ فِي مَوضِع تسع أَذْرع وَفِي مَوضِع عشرا وَذكر بعض الحجارين للسُّلْطَان وَأَنا حَاضر أَن عرض البرج الَّذِي ينقبون فِيهِ مِقْدَار رمح فَلم يزل الخراب والحريق يعْمل فِي الْبَلَد وأسواره إِلَى سلخ شعْبَان
وَعند ذَلِك وصل من جرديك كتاب يذكر فِيهِ أَن الْقَوْم قد تَفَسَّحُوا وصاروا يخرجُون من يافا ويغيرون على الْبِلَاد الْقَرِيبَة مِنْهَا فَلَو تحرّك السُّلْطَان لَعَلَّه يبلغ مِنْهُم غَرضا فِي غرتهم فعزم على الرحيل وعَلى أَن يخلف فِي عسقلان حجارين وَمَعَهُمْ خيل تحميهم يستقصون فِي الخراب ثمَّ رأى أَن يتَأَخَّر بِحَيْثُ يحرق البرج الْمَعْرُوف بالاسبتار وَكَانَ برجا عَظِيما مشرفا على الْبَحْر كالقلعة المنيعة وَلَقَد دَخلته وطفته فَرَأَيْت بناءه أحكم بِنَاء لَا تعْمل فِيهِ المعاول وَإِنَّمَا أحرق ليبقى بالحريق قَابلا للخراب وَبقيت النَّار تشعل فِيهِ يَوْمَيْنِ بليلتيهما
قَالَ الْعِمَاد وَنقص مِنْهَا الأبراج الَّتِي على سَاحل الْبَحْر ودخلتها فرأيتها أحسن مَدِينَة منيعة حَصِينَة فطال بُكَائِي على رسومها وفض ختومها وَقبض أرواحها من جسومها وحلول الدَّوَائِر بدورها ونزول السوء بسورها فَمَا برح السُّلْطَان مِنْهَا حَتَّى رَأينَا طلولها دوارس ورسومها طوامس والرؤوس حَيَاء من معاهدها نواكس(4/280)
قَالَ وَلَو حفظت لَكَانَ حفظهَا مُتَعَيّنا وصونها مُمكنا لَكِن وجد كلا لَهُ متجنبا متجبنا وَقد راعتهم نوبَة عكا وحفظها ثَلَاث سِنِين وعادت بعد ذَلِك بمضرة الْمُسلمين وَقَالَ من تعلل وَاعْتذر عَن دُخُولهَا تدْخلهَا أَنْت أَو أحد أولادك فندخلها اتبَاعا لمرادك فَحِينَئِذٍ لم يجد بدا من نقض أسوارها وفض سوارها وسكانها كَانُوا فِي رفاهية فانتقلوا عَنْهَا على كَرَاهِيَة وَبَاعُوا أنفس الأعلاق بأبخس الْأَثْمَان وفجعوا بالأوطار والأوطان
فصل فِيمَا جرى بعد خراب عسقلان
قَالَ الْعِمَاد فَارقهَا السُّلْطَان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَمَضَان وَنزل على يبْنى وَنزل بالرملة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَأمر بتخريب حصنها وتخريب كَنِيسَة لد وَركب جَرِيدَة إِلَى الْقُدس فَأَتَاهُ يَوْم الْخَمِيس وَأعَاد إِلَيْهِ رسوم التأنيس وَخرج مِنْهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن رَمَضَان وَبَات فِي بَيت نوبَة وَعَاد إِلَى المخيم يَوْم الثُّلَاثَاء
وَوصل معز الدّين قَيْصر شاه صَاحب ملطية ابْن قليج أرسلان وافدا عَلَيْهِ مستنصرا بِهِ على أَبِيه وَإِخْوَته فَإِنَّهُم كَانُوا يقصدون أَخذ بَلَده من يَده فَأَقَامَ فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مُدَّة وَتزَوج بابنة الْعَادِل على صدَاق مئة ألف دِينَار وَسَار مستهل ذِي الْقعدَة(4/281)
وَفِي ثامن الشَّهْر أَيْضا خرج الكمين على ملك الإنكلتير وَكَانَ خرج فِي فوارسه مخفرا للحطابة والحشاشة وَكَاد يُؤْخَذ الْملك لَكِن أحد خواصه فدَاه بِنَفسِهِ بِأَن أظهر حسن لِبَاسه فَظن أَنه الْملك فَأسر
وَقَالَ ابْن شَدَّاد حَال بَينهم وَبَينه فرنجي فَقتل الفرنجي وجرح هُوَ
وَفِي ثَانِي عشرَة جرت أَيْضا وقْعَة كَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وَقتل مقدم كَبِير من الْمُشْركين وَمَا زَالَ يَقع بَينهم وَبَين اليزك وقعات وتسرق الْعَرَب من خيولهم وبغالهم ورجالهم
وَمن كتاب إِلَى صَاحب سنجار قد تقدم الاعلام بِمَا جرى عِنْد رحيل الْعَدو على قصد عسقلان وَمَا تمّ عَلَيْهِ منا فِي طَرِيقه من النكاية والخذلان وَأَنه قطع فِي سَبْعَة عشر يَوْمًا مَسَافَة يَوْمَيْنِ لما لابسه وغامره من الْحِين وَمَا صدق كَيفَ وصل إِلَى يافا فأظهر بهَا الاستيطان وَأقَام يعمر الْمَكَان
وَهَذِه مَدِينَة يافا متوسطة بَين الْقُدس وعسقلان وَمِنْهَا إِلَى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَسَافَة نصف نَهَار وكلتاهما من الْعَدو على خوف وحذار وكل وَاحِد من الْمَوْضِعَيْنِ يحْتَاج فِي تحصينه إِلَى ثَلَاثِينَ(4/282)
ألف مقَاتل وَتعذر الْجمع بَين حفظ الثغرين وتحصين البلدين وتعينت فِي تخريب عسقلان عمَارَة الْقُدس وتحصينه وعصمته من الْعَدو وتأمينه
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى النطرون وخيم على تل عَال والنطرون حصن حُصَيْن كَانَ للداوية لَكِن لما فتح تشعثت أسواره وانقض جِدَاره فَأمر بهدمه فهدم
ثمَّ بعث ملك الإنكلتير رَاغِبًا فِي الْمُصَالحَة والمسالمة إِلَى الْعَادِل وَزعم أَن لَهُ أُخْتا عزيزة عَلَيْهِ كَبِيرَة الْقدر وَأَنَّهَا كَانَت زَوْجَة ملك كَبِير من مُلُوكهمْ وَهُوَ صَاحب صقلية توفّي عَنْهَا وَرغب أَن يَتَزَوَّجهَا الْعَادِل وَيجْعَل لَهُ الحكم على جَمِيع بِلَاد السَّاحِل ينفذ فِيهَا أمره وَهُوَ يقطع الداوية والاسبتار مَا أَرَادَ من الْبِلَاد والقرى دون الْحُصُون وَتَكون أُخْته مُقِيمَة بالقدس وَمَعَهَا فِيهِ قسيسون وَرُهْبَان حافظة لَهَا من آفَات الزَّمَان
فَرَأى الْعَادِل فِي ذَلِك عين الصَّوَاب وشاور السُّلْطَان فوافقه فِيمَا أجَاب
فنفذ الرَّسُول إِلَى الإنكلتير بالاجابة فَدخل الفرنج على الْمَرْأَة وخوفوها واتهموها فِي دينهَا وعنفوها وَقَالُوا لَهَا مَا مَعْنَاهُ هَذِه فضيحة فظيعة وسبة شنيعة وَقطع على النَّصْرَانِيَّة وَقَطِيعَة وَأَنت عاصية للمسيح لَا مطيعة فَرَجَعت عَن ذَلِك وَمَا(4/283)
أجابت فَاعْتَذر الإنكلتير بِعَدَمِ موافقتها إِلَّا أَن يدْخل الْعَادِل فِي دينهَا فَعرف أَنَّهَا خديعة كَانَت من الإنكلتير
قَالَ القَاضِي وَوصل رَسُول من المركيس يذكر أَنه يُصَالح الْإِسْلَام بِشَرْط أَن يعْطى صيدا وبيروت على أَن يُجَاهر الفرنج بالعداوة ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها مِنْهُم فَأُجِيب إِلَى ذَلِك على أَن يُطلق من بهَا وبصور من الْأُسَارَى وَلما سمع الإنكلتير بذلك رَجَعَ إِلَى عكا لفسخ هَذِه الْمُصَالحَة واسترجاع المركيس إِلَيْهِ
وَجَاء الْخَبَر أَن ملك الافرنسيس مَاتَ بأنطاكية
وَوصل كتاب من تَقِيّ الدّين يخبر فِيهِ أَن قزل صَاحب ديار الْعَجم ابْن الدكز قتل وَجرى بِسَبَب قَتله فِي بِلَاد الْعَجم خطب عَظِيم
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ محتقرا للعظائم مقترفا للمآثم وَاضِعا للشُّرْب والقصف المواسم وَقتل بأصفهان عشرَة من رُؤَسَاء الشَّافِعِيَّة المعروفين وكبرائهم الموصوفين
وَوصل من الدِّيوَان كتاب يُنكر فِيهِ قصد تَقِيّ الدّين خلاط(4/284)
وَيظْهر فِيهِ الْعِنَايَة التَّامَّة ببكتمر ويشفع فِي حسن بن قفجاق ويتقدم باطلاقه وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ مظفر الدّين باربل ويتقدم بمسيرالقاضي الْفَاضِل إِلَى الدِّيوَان لبت حَال وَفصل أَمر
فَأجَاب السُّلْطَان بِأَنا لم نأمر تَقِيّ الدّين بِشَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا عبر ليجمع العساكر وَيعود إِلَى الْجِهَاد وَأما ابْن قفجاق فقد تقدم إِلَى مظفر الدّين حَتَّى يحضرهُ إِلَى الشَّام فنقطعه فِيهِ وَيكون ملازما للْجِهَاد وَأما الْفَاضِل فَاعْتَذر عَنهُ بِأَنَّهُ كثير الْأَمْرَاض وقوته تضعف عَن الْحَرَكَة إِلَى الْعرَاق
قلت بَلغنِي أَن الْفَاضِل رَحمَه الله كتب فِي الِاعْتِذَار بالحضور إِلَى الدِّيوَان وتمثل فِي كِتَابه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(مَا كنت أول سَار غره قمر ... ورائد خدعته خضرَة الدمن)
(مثل لنَفسك شخصي إِنَّنِي رجل ... مثل المعيدي فاسمع بِي وَلَا ترني)
قَالَ القَاضِي وَأرْسل الإنكلتير إِلَى السُّلْطَان أَن الفرنج(4/285)
وَالْمُسْلِمين قد هَلَكُوا وَخَربَتْ الْبِلَاد وَتَلفت الْأَمْوَال والأرواح وَقد أَخذ هَذَا الْأَمر حَقه وَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيث سوى الْقُدس والصليب والبلاد والقدس متعبدنا مَا ننزل عَنهُ وَلَو لم يبْق منا وَاحِد وَأما الْبِلَاد فيعاد إِلَيْنَا مَا هُوَ قَاطع الْأُرْدُن وَأما الصَّلِيب فَهُوَ خَشَبَة عنْدكُمْ لَا مِقْدَار لَهُ وَهُوَ عندنَا عَظِيم فِيمَن السُّلْطَان بِهِ علينا ونستريح من هَذَا العناء الدَّائِم
فَأرْسل السُّلْطَان فِي جَوَابه الْقُدس لنا كَمَا هُوَ لكم وَهُوَ عندنَا أعظم مِمَّا هُوَ عنْدكُمْ فانه مسرى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجتمع الْمَلَائِكَة فَلَا يتَصَوَّر أَن ننزل عَنهُ وَلَا نقدر على أَن نتلفظ بذلك بَين الْمُسلمين وَأما الْبِلَاد فَهِيَ لنا أَيْضا فِي الأَصْل واستيلاؤكم كَانَ طارئا عَلَيْهَا لضعف من كَانَ بهَا من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْوَقْت وَأما الصَّلِيب فهلاكه عندنَا قربَة عَظِيمَة لَا(4/286)
يجوز أَن نفرط فِيهِ إِلَّا لمصْلحَة رَاجِعَة إِلَى الْإِسْلَام هِيَ أوفى مِنْهَا
وهرب شيركوه بن باخل الْكرْدِي من عكا وَكَانَ أَسِيرًا بهَا وَكَانَ ادخر حبلا فِي مخدته فَتَدَلَّى بِهِ من طَاقَة فِي بَيت الطَّهَارَة وَاشْتَدَّ هربا فِي قيوده إِلَى تل العياضية فكمن فِي الْجَبَل وَقد طلع عَلَيْهِ النَّهَار ثمَّ كسر قيوده وَسَار إِلَى الْمُسلمين
ثمَّ تَوَاتر الْخَبَر أَن الفرنج على عزم النهوض فَسَار السُّلْطَان من المخيم بالنطرون إِلَى الرملة سَابِع شَوَّال واقام بهَا عشْرين يَوْمًا فجرت وقعات وتمت دفعات مِنْهَا وقْعَة فِي نَاحيَة يازور وَكَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وفقد من الْمُسلمين ثَلَاثَة وَذَلِكَ ثامن شَوَّال
وَفِي سادس عشر شَوَّال وَقعت وقْعَة أُخْرَى عَظِيمَة قتل فِيهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَأسر فارسان من الْكَفَرَة معروفان بالبأس سوى غَيرهمَا وَقتل مِنْهُم زهاء سِتِّينَ نَفرا
وَفِي خَامِس شَوَّال وصل الْخَبَر أَن الأسطول الْمصْرِيّ استولى على مراكب الفرنج وفيهَا مركب يعرف بالمسطح قيل إِنَّه كَانَ فِيهِ خمس مئة نفر وزائد على ذَلِك وَأَنه قتل مِنْهُم خلق عَظِيم(4/287)
واستبقي مِنْهُم أَرْبَعَة نفر مذكورون
وَفِي ثامن عشر شَوَّال اجْتمع الْعَادِل والانكلتير على طَعَام ومحادثة وانفصلا عَن توادد ومطايبة وَطلب مِنْهُ الِاجْتِمَاع بِخِدْمَة السُّلْطَان فَامْتنعَ - رَحمَه الله - وَقَالَ الْمُلُوك إِذا اجْتَمعُوا تقبح بَينهم الْمُخَاصمَة بعد ذَلِك وَإِذا انتظم أَمر حسن الِاجْتِمَاع
ورحل الفرنج ثَالِث ذِي الْقعدَة إِلَى الرملة وأظهروا قصد الْقُدس بِتِلْكَ الرحلة ودامت الوقعات بَينهم وَبَين الْمُسلمين ورحل السُّلْطَان إِلَى الْقُدس بنية الْمقَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَكَانَ الشتَاء قد دخل والغيث قد اتَّصل فوصل إِلَى الْقُدس وَقت الْعَصْر وَنزل بدار الأقساء مجاورة كَنِيسَة قمامة
وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة وصل عَسْكَر من مصر بأموال وَرِجَال مَعَ أبي الهيجاء السمين وتحول الفرنج إِلَى النطرون فقوى السُّلْطَان اليزك فوقعوا على سَرِيَّة للفرنج فغنموها وسيق مِنْهُم إِلَى الْقُدس نَيف وَخَمْسُونَ أَسِيرًا سوى من قتل مِنْهُم وواقعهم سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر يَوْم عيد الْأَضْحَى فَنحر مِنْهُم وضحى واحتوى على عشرَة من مقدميهم أسرا وقتلا وتسلق بَاقِي الفرنج فِي الْجبَال وَتركُوا خيلهم فغنمها الْمُسلمُونَ(4/288)
وَلم يزل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم مستظهرين مُدَّة مقامهم بالنطرون وَجعل الْمُسلمُونَ يقطعون الطَّرِيق على تجارهم حَتَّى إِنَّهُم أخذُوا قافلة ثَقيلَة بِمَا فِيهَا وَلم يقدروا على تَخْلِيصهَا فرحلوا عائدين إِلَى الرملة فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل من الْموصل خَمْسُونَ رجل برسم قطع الصخور من الخَنْدَق فَإِن السُّلْطَان شرع فِي تحصين الْقُدس وَعمارَة أبراجه وأسواره وحفر خنادقه وَأرْسل إِلَى الْبِلَاد فِي جمع رجال هَذِه الْأَعْمَال وَتقبل الْأُمَرَاء فِيهِ الْعَمَل وَعمل فِيهِ السُّلْطَان بِنَفسِهِ بِنَقْل الْحِجَارَة هُوَ وَأَوْلَاده وأمراؤه وأجناده وَمَعَهُمْ الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء والولاة والأمراء
قلت وَفِي قصد الفرنج للسُّلْطَان بالقدس يَقُول الرشيد ابْن النابلسي من جملَة قصيدة لَهُ
(وَيْح الفرنجة بل ويل امهم أَو مَا ... فيهم لَبِيب على العلات يعْتَبر)
(فكم نثرتهم ضربا إِذا انتظموا ... وَكم نظمتهم طَعنا إِذا انتشروا)
(كم قد سقيتهم ذلا فَلَا عجب ... إِن عربدوا سفها فالقوم قد سَكِرُوا)(4/289)
(إِن يمموك فَلَا بدع لجهلهم ... تسْعَى إِلَى الْأسد فِي غاباتها الْحمر)
(زاروا نمورا وَلَا تغني وقاحتهم ... إِذا أسودك فِي أبطالهم زأروا)
(فحام عَن حوطة الْبَيْت الْمُقَدّس لَا ... خوف وحاشاك من خوف وَلَا ضَرَر)
(هُوَ الشريف وَقد ناداك معتصما ... فَمَا على مجده من بعْدهَا حذر)
(وسوف تستغفر الْأَيَّام هفوتها ... وتحصد الفئة الأوغاد مَا بذروا)
فصل فِي بقايا حوادث هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي ربيع الأول مِنْهَا تولى القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن الزكي قَضَاء دمشق
وفيهَا يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر رَمَضَان كَانَت وَفَاة تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي السُّلْطَان وَهُوَ على محاصرة منازكرد وَكَانَ - كَمَا تقدم - قد توجه إِلَى بِلَاده الَّتِي زَاده إِيَّاهَا السُّلْطَان وَرَاء الْفُرَات فامتدت عينه إِلَى بِلَاد غَيره وَاسْتولى على السويداء وعَلى مَدِينَة حاني وعزم على قصد خلاط وَكسر صَاحبهَا سيف الدّين بكتمر وتملك مُعظم تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ أَنَاخَ على منازكرد يحاصرها وَمَعَهُ عَسَاكِر كَثِيرَة فأناخت بجسده الْمنية بِسَبَب مرض اعتراه وَزَاد إِلَى أَن بلغ مِنْهُ المُرَاد(4/290)
وأخفى وَلَده الْملك الْمَنْصُور وَفَاته ورحل عَن الْبَلَد المحصور وَفَاته وَعَاد بِهِ إِلَى الْبِلَاد الَّتِي فِي يَده وَعجب النَّاس من حزمه وعزمه وثباته وَجلده وَجَاءَت رسله إِلَى السُّلْطَان يُخبرهُ بِأَنَّهُ قَامَ مقَام وَالِده فِيمَا كَانَ لَهُ من الْبلدَانِ وَطلب مِنْهُ شُرُوطًا نسبه بِسَبَبِهَا إِلَى الْعِصْيَان وَكَانَ أمره يضطرب وَقَلبه يكتئب وشأنه ينعكس وينقلب حَتَّى احتمى بِالْملكِ الْعَادِل فنصره وأظهره إِلَى الْوُجُود وأظهره
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَت وَفَاته فِي طَرِيق خلاط عَائِدًا إِلَى ميافارقين فَحمل مَيتا حَتَّى وصل بِهِ إِلَى ميافارقين ثمَّ عملت لَهُ تربة عَلَيْهَا مدرسة مَشْهُورَة بِأَرْض حماة وَحمل إِلَيْهَا فَدفن بهَا
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا توفّي ابْن أُخْت السُّلْطَان حسام الدّين مُحَمَّد بن عمر بن لاجين بِدِمَشْق لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشر رَمَضَان ففجع السُّلْطَان بِابْن أَخِيه وَابْن أُخْته فِي تَارِيخ وَاحِد وَكَانَا لَهُ من أعظم الأعوان على مَا يكابده من الشدائد
قلت وَدفن بالتربة الحسامية المنسوبة إِلَيْهِ من بِنَاء والدته سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب وَهِي الْمدرسَة الشامية ظَاهر دمشق بالعوينة(4/291)
قَالَ وفيهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر من أكَابِر أُمَرَاء حلب وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان بالقدس وَهُوَ شيخ الدولة وكبيرها وظهيرها ومشيرها وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بتخريب عسقلان لتتوفر الْعِنَايَة والاهتمام بالقدس ثمَّ مرض بالقدس وَطلب الْمسير إِلَى الوطن فَأَدْرَكته الْمنية بقرية غباغب على مرحلة من دمشق
وفيهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب كَانَت وَفَاة الصفي بن الْقَابِض نَائِب السُّلْطَان بِدِمَشْق وَكَانَ قد خدم السُّلْطَان فِي أَيَّام عَدمه وَهُوَ فِي كَفَالَة أَبِيه وَعَمه فَلَمَّا ملك مصر أمرحه فِي أموالها وَحكمه فِي أَعمالهَا حَتَّى نَالَ المنى وَوجد الْغنى وَكتب لمماليكه دوره وأملاكه وَجَمِيع أَمْوَاله
وفيهَا توفّي نسيب الْعِمَاد وَهُوَ جمال الدّين أَبُو الْفَتْح إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد كويه سَابِع عشر ذِي الْحجَّة بدمش قَالَ الْعِمَاد وَكنت استنبته فِي كِتَابَة الانشاء وخرجته وقلبته فِي مَرَاتِب الْمَعَالِي ودرجته وَاعْتمد السُّلْطَان عَلَيْهِ فِي الترسل إِلَى سلاطين الْعَجم وخواص الْأُمَرَاء مِنْهُم والخدم وَكَانَ نبيلا نبيها كَرِيمًا وجيها(4/292)
وفيهَا توفّي الْحَكِيم الْمُوفق أسعد بن المطران فِي شهر ربيع الأول وَكَانَ من أهل النَّظَافَة والظرافة وَمن ذَوي الفصاحة والحصافة وَفقه الله فِي بدايته لهداية الْإِسْلَام ونال أَسبَاب الاحترام وَتقدم عِنْد السُّلْطَان وَمَا شَأْنه كبر وَهُوَ كَبِير الشان
وَفِي أَوَاخِر هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه نجم الدّين الخبوشاني بِمصْر وَهُوَ الَّذِي عمر تربة الشَّافِعِي - رضوَان الله عَلَيْهِمَا - وَبنى الْمدرسَة فِي جوارها وَأَحْيَا شعار التَّوْحِيد وَبنى أمره على التسديد وَالتَّشْدِيد وَحفظ شَمل الشَّافِعِيَّة من التبديد وَكَانَ السُّلْطَان مجيبا لَهُ إِلَى كل مَا يستدعيه وَيَقْضِي لَهُ من الْحَوَائِج مَا يَقْتَضِيهِ(4/293)
ووقف على الْمدرسَة الَّتِي بناها وقوفا وَأَعْطَاهُ فِي بنائها ألوفا فَلَمَّا توفّي الخبوشاني طلب الْمدرسَة جمَاعَة من الْعلمَاء فَردُّوا وشفع الْعَادِل فِي صدر الدّين أبي الْحسن مُحَمَّد بن حمويه شيخ الشُّيُوخ فَكتب بهَا لَهُ ورتب بوقفها وتدريسها استقلاله وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ ثمَّ صرف بعد السُّلْطَان عَن الْمدرسَة وتبدلت الوحشة بالأنسة
قلت ثمَّ استمرت عَلَيْهَا يَد أَوْلَاده وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى الْآن
قَالَ وفيهَا توفّي الْوَجِيه ابْن النفيس مُسْتَوْفِي ديوَان دمشق بهَا وَكَانَ بهيا مهيبا نزها عَارِفًا مصيبا
وفيهَا توفّي القَاضِي أَمِين الدّين أَبُو الْقَاسِم بحماة فِي حادي عشر رَمَضَان وَكَانَ كَرِيمًا سخيا نابها سريا
وفيهَا نقلت تربة القَاضِي محيي الدّين أبي حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل السَّلَام وَكَانَ قَاضِي الْموصل وَقد بنى رِبَاطًا هُنَاكَ وَكَانَت وَفَاته بالموصل فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَقد تقدم ذَلِك(4/294)
وَسَأَلَ ابْن أَخِيه القَاضِي بعده كتابا إِلَى أَمِير الْمَدِينَة فَكتب لَهُ كتاب مِنْهُ سَبَب إصدارها إِلَى الْأَمِير مسير نَائِب القَاضِي كَمَال الدّين بضريح عَمه محيي الدّين من الْموصل إِلَى الْمَدِينَة المقدسة على ساكنها أفضل الصَّلَوَات ليدفن فِي الرِّبَاط الَّذِي أنشأه حَيْثُ يبْعَث مَعَ شَفِيع الْأمة يَوْم الْبَعْث والنشور ويأمن ظلام اللَّحْد المحفور فِي جوَار الضياء والنور ويحشر بِمَا يَنَالهُ من الْبركَة والحبور منشرح الصَّدْر إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور وَحصل مَا فِي الصُّدُور وَلَقَد وفْق فِي اخْتِيَاره أَيَّام حَيَاته نَقله إِلَى ذَلِك الْبَيْت الْمَعْمُور فليعن الْأَمِير على هَذِه المكرمة وليعتن بمواراته فِي التربة الْمُجَاورَة للبقعة المعظمة
قَالَ وَكَانَ هَذَا القَاضِي خرقا جوادا لبذل اللهى مُعْتَادا وَاسع الْمَرْوَة جَامع أشتات الفتوة يحب معالي الْأُمُور وفضائله متجاوزة حد الوفور
قَالَ ابْن القادسي وَوصل الْحَاج فِي صفر بَعْدَمَا اعتاقت أخبارهم وأخبروا أَن دَاوُد أَمِير مكه أَخذ مَا فِي الْكَعْبَة من الْأَمْوَال وَأخذ طوقا كَانَ يلْزم الْحجر الْأسود فَأوجب ذَلِك تشعثه وَكَانَ قد دخل بعض الباطنية بعد سنة أَربع مئة فَضَربهُ بدبوس وَقَالَ إِلَى(4/295)
كم حجر وَفِي يَد ذَلِك الرجل سيف فَمَا تجاسر أحد يقرب مِنْهُ فتطوع رجل وبذل نَفسه للْقَتْل وَتقدم إِلَيْهِ فَقتله فَأخذ الْحجر وجمعت شظاياه وألفت وَجعل لَهُ طوق فَأخذ أميرمكة دَاوُد ذَلِك الطوق فَلَمَّا وصل أَمِير الْحَاج عزل دَاوُد وَولى أَخَاهُ مكثرا وَنقض قلعة كَانَ بناها دَاوُد على جبل أبي قبيس وَهُوَ دَاوُد بن عِيسَى بن فليتة بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي هَاشم الحسني وَلما صرف عَن مَكَّة أَقَامَ بنخلة وَتُوفِّي بهَا فِي رَجَب سنة تسع وَثَمَانِينَ وَهُوَ أَمِير ابْن أَمِير إِلَى آخر مَا ذكرنَا من آبَائِهِ وهم بِهِ سِتَّة نفر
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ربيع الأول سنة سبع وَثَمَانِينَ سَار عز الدّين يَعْنِي صَاحب الْموصل إِلَى جَزِيرَة ابْن عمر فحصرها وَبهَا ابْن أَخِيه معز الدّين سنجر شاه لِأَنَّهُ كَانَ سيىء السِّيرَة مَعَه خَارِجا عَن طَاعَته مساعدا للأعداء عَلَيْهِ فعزم على أَخذهَا مِنْهُ فخضع وَطلب الْعَفو والصفح فَأَجَابَهُ وَصَالَحَهُ على قَاعِدَة اسْتَقَرَّتْ بَينهمَا وَعَاد عَنهُ إِلَى الْموصل فَعَاد سنجر شاه إِلَى حَالَته الأولى فَتَجَاوز عَنهُ واطرحه
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بالقدس وَقد قسم سور الْبَلَد(4/296)
على أَوْلَاده وأخيه وأجناده فشرعوا فِي إنْشَاء سور جَدِيد محدق بِهِ مديد وَكَانَ يركب كل يَوْم وينقل الصخر على قربوس سَرْجه فيستن الأكابر والأمراء فِي نقل الْحِجَارَة بنهجه وَلَو رَأَيْت وَهُوَ يحمل حجرا فِي حجره لعَلِمت أَن لَهُ قلبا كم حمل جبلا فِي فكره وَلَقَد جد فِي حماية الصَّخْرَة المقدسة حَتَّى حمل لَهَا الصخور وانشرح صَدره لانضمامها إِلَى صَدره حَتَّى بَاشر صُدُور مماليكه بهَا الصُّدُور وَمَا تغلو دَار يبنيها فِي الْجنَّة بِنَقْل حجارتها ليَكُون ملكا فِي دارها وقمرا فِي دارتها وداوم البكور بالركوب وَعرض وَجهه الْكَرِيم للشحوب
قَالَ وَفِي ثَالِث الْمحرم رَحل الفرنج على سمت عسقلان وأشاعوا أَنهم يعيدون بهَا الْعمرَان وهم نازلون بظاهرها جائلون فِي مواردها ومصادرها فَرَأى الإنكلتير دخانا على بعد فقصده وَكَانَ ثمَّ جمَاعَة من الأَسدِية وَسيف الدّين يازكوج وَعلم الدّين قَيْصر وهم غَارونَ عَمَّا دهمهم فوصل اللعين إِلَيْهِم وَقت الْمغرب فَوَقع عَلَيْهِم وَكَانُوا فريقين نازلين فِي موضِعين فَلَمَّا وَقع على أَحدهمَا ركب الْفَرِيق الثَّانِي ودافعه حَتَّى ركب الْفَرِيق الآخر فدافعوهم وواقعوهم وَسَاقُوا قدامهم أثقالهم وخلصوا ناجين وَسلم الله أنفسهم من أَيدي الملاعين وَلم يفقد من الْمُسلمين إِلَّا أَرْبَعَة وَكَانَت نوبَة عَظِيمَة دفع الله خطرها وهون ضررها(4/297)
وَفِي حادي عشر الْمحرم كبس عزالدين جرديك يبْنى على من نزل بهَا من الفرنج فأوقع بهم الْبلَاء وسَاق مِنْهُم اثْنَي عشرأسيرا ومتاعا كثيرا وأغار أَيْضا ثَانِي صفر على ظَاهر عسقلان وَجَاء بِثَلَاثِينَ أَسِيرًا
وَفِي لَيْلَة رَابِع عشر صفر كمنت سَرِيَّة مقدمها فَارس الدّين مَيْمُون القصري عِنْد يبْنى إِلَى أَن عبرت قوافل الفرنج فساقها بأحمالها وأثقالها ونسائها ورجالها
وَفِي مستهل ربيع الآخر وصل سيف الدّين المشطوب وَقد خلص من الْأسر وَقطعت عَلَيْهِ الفرنج خمسين ألف دِينَار عجل مِنْهَا عشْرين ألفا وَأَعْطَاهُمْ بِالْبَاقِي رهائن فَأحْسن السُّلْطَان لقاءه وأقطعه نابلس بأعمالها فَتوفي بهَا فِي آخر شَوَّال
وَفِي ثَالِث عشر ربيع الآخر قتل المركيس لَعنه الله بصور وَذَلِكَ أَن رجلَيْنِ دخلا صور وتنصرا وأظهرا التَّعَبُّد وَالتَّرَهُّب ولزما الْكَنِيسَة وشكرهما الأقساء والرهبان وأحبهما المركيس وَلم يكن يصبر عَنْهُمَا
فَفِي بعض الْأَيَّام وثبا عَلَيْهِ وقتلاه فأخذا وقتلا وَعرف أَنَّهُمَا كَانَا من الحشيشية فَجَلَسَ مَكَانَهُ الكند هري بِأَمْر الإنكلتير وسر الانكلتير بمصاب المركيس فَإِنَّهُ كَانَ يضاده ويراسل السُّلْطَان(4/298)
فِي الاعانة عَلَيْهِ فَلَمَّا قتل سكن روعه وَذهب عَنهُ ضره وَتزَوج الكند هري بالملكة زَوْجَة المركيس فِي ليلته وَدخل بهَا وَهِي حَامِل وَمَا الْحمل فِي مِلَّة الفرنج عَن النِّكَاح حَائِل وَيكون الْوَلَد مَنْسُوبا إِلَى الملكة هَذِه قَاعِدَة هَذِه الطَّائِفَة المشركة
وَهَذَا الكند هري ابْن أُخْت ملك إفرنسيس من أَبِيه وَملك إنكلتير من أمه وَدخل الفرنج فِي حكمه وعاش إِلَى آخر سنة أَربع وَتِسْعين وتولاهم دون سبع سِنِين
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح أَضَافَهُ الأسقف بصور فاستوفى رزقه وتعدى وَمَا درى أَنه يتردى وَأكل وَشرب وشبع وطرب وَخرج وَركب فَوَثَبَ عَلَيْهِ رجلَانِ وسكنا حركته بالسكاكين ودكاه عِنْد تِلْكَ الدكاكين وهرب أَحدهمَا وَدخل الْكَنِيسَة وَقد أخرج تِلْكَ النَّفس الخسيسة فَقَالَ المركيس وَهُوَ مَجْرُوح وَفِيه روح احْمِلُونِي إِلَى الْكَنِيسَة فَحَمَلُوهُ
فَلَمَّا أبصره أحد الجارحين وثب عَلَيْهِ وزاده جرحا على جرح وقرحا على قرح فَأخذ الفرنج الرفيقين فألفوهما من الفداوية الاسماعيلية مرتدين فسألوهما من وضعهما على تَدْبِير هَذَا التَّدْبِير فَقَالَا ملك الإنكلتير فقتلا شَرّ قتلة فيالله من كَافِرين سفكا دم كَافِر وفاجرين فتكا بفاجر
قَالَ وَلم يعجبنا قتل المركيس فِي هَذِه الْحَالة وَإِن كَانَ من(4/299)
طواغيت الضَّلَالَة لِأَنَّهُ كَانَ عَدو ملك الإنكلتير ومنازعه على الْملك والسرير ومناقشه على الْقَلِيل وَالْكثير
قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى استولى الفرنج على قلعة الداروم ثمَّ خربوها ورحلوا عَنْهَا وأسروا من فِيهَا وَكَانَ الإنكلتير الملعون قد استفسد من نوبَة عكا نقابين حلبيين فتمكنوا من نقب الْمَكَان وأحرقوا النقب وَطلب أهل الْحصن مهلة يشاورون فِيهَا السُّلْطَان فَلم يمهلهم
وَفِي رَابِع عشرَة خرجت اليزكية على الفرنج على قلعة تعرف بمجدل جناب - كَذَا قَالَ فِي الْفَتْح وَقَالَ فِي الْبَرْق بمجدل يابا وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد - وَقتل كند كَبِير ثمَّ نزلُوا تل الصافية ثمَّ إِلَى النطرون ثمَّ إِلَى بَيت نوبَة وَهِي وَطْأَة بَين جبال بَينهَا وَبَين الْقُدس مرحلة وَقد ألهبهم الْمُسلمُونَ بنهبهم وأضعفوهم بسلبهم يتسلطون عَلَيْهِم من كل نَاحيَة ويكمنون لَهُم تَحت كل رابية وَقد قويت قُلُوبهم بثبات السُّلْطَان بالقدس
وَفِي إنسلاخ الشَّهْر التقى الْجَمْعَانِ وَقد وصل الْعَدو إِلَى قلونية وَهِي من الْقُدس على فرسخين فَلَمَّا رأى الْعَدو مَا لَا يدان(4/300)
لَهُ بِهِ رَجَعَ ناكصا على عَقِبَيْهِ والمسلمون فِي إثرهم يكمنون لَهُم وينالون مِنْهُم وَكَانَ بدر الدّين دلدرم فِي اليزك فَبعث من كمن لَهُم عَن طَرِيق يافا فمرت بهم فوارس فاستولى عَلَيْهِم الكمين وَمَا سلم مِنْهُم أحد
وَفِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة كبست الكمناء قافلة فكسبت وسلبت وأسرت
وَفِي تاسعه وصل الْخَبَر أَن الفرنج رحلوا بأسرهم وأدلجوا لَيْلًا وَلم نعلم قصدهم فَعرف السُّلْطَان أَنه إِلَى طَرِيق الْعَسْكَر الْمصْرِيّ فندب الْأَمِير فَخر الدّين الطنبا العادلي وشمس الدّين أسلم الناصري حَتَّى يعلمَا الْعَسْكَر فَالْتَقَيَا بهم بالحسي وأخبراهم الْخَبَر فنزلوا وعرسوا وهم يظنون أَن لَا حس لِلْعَدو بِأَرْض الْحسي فَجَاءَهُمْ وفجأهم فاستولى على بعض الْأَمْوَال وخلص أَكْثَرهَا مَعَ الرِّجَال وَمن جملَة من كَانَ فِي الْعَسْكَر فلك الدّين أَخُو الْعَادِل لأمه فنجا بِمَا قدر عَلَيْهِ من القوافل
قَالَ الْعِمَاد وَجرى هَذَا كُله والملكان الْعَادِل وَالْأَفْضَل غائبان وعساكر الْموصل واسنجار وديار بكر متباطئة فِي الاتيان وَسَببه مَا كَانَ من تَقِيّ الدّين وَمَوته وتشرط وَلَده فِي بَقَاء بِلَاد أَبِيه عَلَيْهِ وَأَن الْملك الْأَفْضَل كَانَ طلب من وَالِده الْبِلَاد قَاطع(4/301)
الْفُرَات وَنزل عَن جَمِيع مَا لَهُ من الولايات وَأَنه إِذا عبر إِلَى الرها وحران ملك تِلْكَ الْبلدَانِ ورحل من الْقُدس فِي ثَالِث صفر وَأطلق لَهُ السُّلْطَان عشْرين ألف دِينَار سوى مَا أَصْحَبهُ برسم الْخلْع والتشريفات وَوصل إِلَى حلب فاحتفل أَخُوهُ الظاهرلقدومه وَأقَام لَهُ سنَن المكارم ورسومه ووقف بخدمته ماثلا وهز عطف الابتهاج إِلَيْهِ مائلا وأحضر لَهُ مَفَاتِيح بَلَده وَقدم لَهُ كل مَا فِي يَده
وَسمع نَاصِر الدّين بن تَقِيّ الدّين بِمَا أقلقه وَدفع مِنْهُ إِلَى مَا أرهجه وأرهقه وَوصل رَسُوله إِلَى الْعَادِل وَهُوَ بالقدس لاجئا إِلَى ظله راجيا لفضله لائدا بجنابه عائذا بِبَابِهِ فاحتمى لَهُ واحتمله وقوى فِي تقويته أمله وخاطب السُّلْطَان فِي حَقه واستعطفه
وَقَالَ أَنا أمضي إِلَيْهِ وأحضره وأؤمنه مِمَّا يحذرهُ وتبقي هَذِه السّنة عَلَيْهِ حران والرها وتعطيه فِي السّنة الْأُخْرَى حماة والمعرة ثمَّ قرر السُّلْطَان مَعَ أَخِيه الْعَادِل أَن يَأْخُذ هُوَ تِلْكَ الْبِلَاد وَينزل عَن إقطاعاته بِمصْر وَنصف خاصه فَفعل واستزاد قلعة جعبر فَامْتنعَ الْملك الظَّاهِر من تَسْلِيمهَا حَتَّى استظهر فَسَار الْعَادِل فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الأولى وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأَفْضَل بِالْعودِ فجَاء هَذَا رَاجعا وَذهب ذَلِك مسارعا وَوصل إِلَى حران والرها وَعَاد فِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة وَمَعَهُ ابْن تَقِيّ الدّين(4/302)
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد عَاد الْأَفْضَل منكسرا متعتبا فوصل دمشق وَلم يحضر إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَلَمَّا اشْتَدَّ خبر الفرنج سير إِلَيْهِ وَطَلَبه فَمَا وَسعه التَّأَخُّر فَسَار إِلَيْهِ مَعَ العساكر الْوَاصِلَة إِلَيْهِ من الشرق فَلَقِيَهُ السُّلْطَان وترجل لَهُ جبرا لِقَلْبِهِ وتعظيما لأَمره
قَالَ وَلما بلغ ابْن تَقِيّ الدّين موجدة السُّلْطَان أنفذ إِلَى الْعَادِل يستشفع بِهِ ليطيب قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ ويقترح أحد قسمَيْنِ إِمَّا حران والرها وسميساط وَإِمَّا حماة ومنبج وسلمية والمعرة مَعَ كَفَالَة إخْوَته فراجع الْعَادِل السُّلْطَان مرَارًا فَلم يفعل ذَلِك وَلم يجب إِلَى شَيْء مِنْهُ فكثرت الشَّفَاعَة إِلَيْهِ فَحلف لَهُ على حران والرها وسميساط على أَنه إِذا عبر الْفُرَات أعطي الْمَوَاضِع الَّتِي اقترحها وتكفل إخْوَته وتخلى عَن تِلْكَ الْمَوَاضِع الَّتِي فِي يَده ثمَّ التمس الْعَادِل خطّ السُّلْطَان فَأبى وألح عَلَيْهِ فخرق نُسْخَة الْيَمين وَانْقطع الحَدِيث وَأخذ من السُّلْطَان الغيظ كَيفَ يُخَاطب بِمثل ذَلِك من جَانب بعض أَوْلَاد أَوْلَاد أَخِيه ثمَّ أعطَاهُ خطه بِمَا اسْتَقر من الْقَاعِدَة
ثمَّ إِن الْعَادِل التمس من السُّلْطَان الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد ابْن تَقِيّ الدّين بعد انْتِقَاله وَجَرت مراجعات كَثِيرَة فِي الْعِوَض عَنْهَا وَكَانَ آخر مَا استقرأنه ينزل عَن كل مَا هُوَ شَامي الْفُرَات مَا خلا الكرك(4/303)
والشوبك والصلت والبلقاء وخاصة بِمصْر بعد النُّزُول عَن خبزه وَعَلِيهِ فِي كل سنة سِتَّة آلَاف غرارة غلَّة تحمل للسُّلْطَان من الصَّلْت والبلقاء إِلَى الْقُدس
فصل فِي عزم الفرنج على قصد الْقُدس وَسَببه
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ تقدم السُّلْطَان إِلَى عَسْكَر مصر بِالْمَسِيرِ وأوصاهم بالاحتراز عِنْد مقاربة الْعَدو فأقاموا ببلبيس أَيَّامًا حَتَّى اجْتمعت القوافل إِلَيْهِم واتصل خبرهم بالعدو ثمَّ سَارُوا طالبي الْبِلَاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إِلَيْهِم بالعرب المفسدين
وَلما تحقق الْعَدو أَمر القفل أَمر عسكره بالانحياز إِلَى سفح الْجَبَل وَركب فِي ألف رَاكب مُردفِينَ ألف راجل فَأتى تل الصافية فَبَاتَ ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى مَاء يُقَال لَهُ الْحسي فأنفذ السُّلْطَان إِلَى الْقَافِلَة ينذرهم نهضة الْعَدو وَأمرهمْ أَن يبعدوا فِي الْبَريَّة
وَركب الإنكلتير الملعون مَعَ الْعَرَب بِجمع يسير وَسَار حَتَّى أَتَى القفل وَطَاف حوله فِي صُورَة عَرَبِيّ ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فَعَاد واستركب عسكره وَكَانَت الكبسة قريبَة الصَّباح(4/304)
فبغت النَّاس وَوَقع عَلَيْهِم بخيله وَرجله فَكَانَ الشجاع الأيد الْقوي الَّذِي ركب فرسه وَنَجَا بِنَفسِهِ
وانقسم القفل ثَلَاثَة أَقسَام قسم قصدُوا الكرك مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم أوغلوا فِي الْبَريَّة مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم استولى الْعَدو عَلَيْهِم فساقهم بجمالهم وأحمالهم وَجَمِيع مَا مَعَهم وَكَانَت وقْعَة شنعاء لم يصب الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا من مُدَّة مديدة وتبدد النَّاس فِي الْبَريَّة ورموا أَمْوَالهم وَكَانَ السعيد مِنْهُم من نجا بِنَفسِهِ وَجمع الْعَدو مَا أمكنه جمعه من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْجمال والأقمشة وَسَائِر أَنْوَاع الْأَمْوَال وكلف الجمالين خدمَة الْجمال والخربندية خدمَة البغال والساسة خدمَة الْخَيل وَسَار فِي جحفل من غنيمَة يطْلب عسكره
وَلَقَد حكى من كَانَ أَسِيرًا مَعَهم أَنه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقع فيهم الصَّوْت أَن الْعَسْكَر السلطاني قد لحقهم فتركوا الْغَنِيمَة وأنهزموا وبعدوا عَنْهَا زَمَانا ثمَّ انْكَشَفَ الْأَمر فعادوا وَقد هرب جمع من الأسرى وَكَانَ الحاكي مِنْهُم وَأخْبر أَن الْأُسَارَى خمس مئة وَالْجمال تناهز ثَلَاثَة آلَاف جمل
وَوصل الْعَدو إِلَى مخيمه سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما عِنْدهم وَصَحَّ عزمهم على الْقُدس وقويت نُفُوسهم بِمَا حصلوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال وَالْجمال الَّتِي تنقل الْميرَة والأزواد ورتبوا(4/305)
جمَاعَة على لد يحفظون الطَّرِيق على من ينْقل الْميرَة وأنفذوا الكند هري إِلَى صور وأطرابلس وعكا يستحضر من فِيهَا من الْمُقَاتلَة ليصعدوا إِلَى الْقُدس حرسه الله تَعَالَى
وَلما عرف السُّلْطَان ذَلِك مِنْهُم عمد إِلَى الأسوار فَقَسمهَا على الْأُمَرَاء وَتقدم إِلَيْهِم بتهيئة أَسبَاب الْحصار وَأخذ فِي إِفْسَاد الْمِيَاه ظَاهر الْقُدس فخرب الصهاريج والجباب بِحَيْثُ لم يبْق حول الْقُدس مَاء يشرب أصلا وَأَرْض الْقُدس لَا يطْمع فِي حفر بِئْر فِيهَا مَاء معِين فِي جَمِيعهَا لِأَنَّهَا جبل عَظِيم وَحجر صلب وسير إِلَى العساكر يطْلبهَا من الجوانب والبلاد
قَالَ وَلما كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة أحضر السُّلْطَان الْأُمَرَاء عِنْده فَحَضَرَ الْأَمِير أَبُو الهيجاء السمين بِمَشَقَّة عَظِيمَة وَجلسَ على كرْسِي فِي خدمَة السُّلْطَان وَحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء ثمَّ أَمرنِي أَن أكلمهم وأحثهم على الْجِهَاد
فَذكرت مَا يسر الله من ذَلِك وَكَانَ مِمَّا قلته أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما اشْتَدَّ بِهِ الْأَمر بَايعه الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - على الْمَوْت فِي لِقَاء الْعَدو وَنحن أولى من تأسى بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمصلحة الِاجْتِمَاع عِنْد الصَّخْرَة والتحالف على الْمَوْت فَلَعَلَّ ببركة هَذِه النِّيَّة ينْدَفع هَذَا الْعَدو فَاسْتحْسن الْجَمَاعَة ذَلِك ووافقوا عَلَيْهِ(4/306)
ثمَّ شرع السُّلْطَان بعد أَن سكت زَمَانا فِي صُورَة فكر وَالنَّاس سكُوت كَأَن على رؤوسهم الطير ثمَّ شرع وَقَالَ
الْحَمد لله وَالصَّلَاة على رَسُول الله اعلموا أَنكُمْ جند الْإِسْلَام الْيَوْم ومنعته وَأَنت تعلمُونَ أَن دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وذراريهم معلقَة فِي ذممكم وَأَن هَذَا الْعَدو لَيْسَ لَهُ من الْمُسلمين من يلقاه إِلَّا أَنْتُم فان لويتم أعنتكم - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - طوى الْبِلَاد كطي السّجل للْكتاب وَكَانَ ذَلِك فِي ذمتكم فَإِنَّكُم أَنْتُم الَّذين تصديتم لهَذَا كُله وأكلتم مَال بَيت مَال الْمُسلمين فالمسلمون فِي سَائِر الْبِلَاد متعلقون بكم وَالسَّلَام
فَانْتدبَ لجوابه سيف الدّين المشطوب وَقَالَ يَا مَوْلَانَا نَحن مماليكك وعبيدك وَأَنت الَّذِي أَنْعَمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وأغنيتنا وَلَيْسَ لنا إِلَّا رقابنا وَهِي بَين يَديك وَالله مَا يرجع أحد منا عَن نصرتك إِلَى أَن يَمُوت
فَقَالَ الْجَمَاعَة مثل مَا قَالَ وانبسطت نفس السُّلْطَان بذلك الْمجْلس وطاب قلبه وأطعمهم ثمَّ انصرفوا
ثمَّ انْقَضى يَوْم الْخَمِيس على أَشد حَال فِي التأهب والاهتمام حَتَّى كَانَ الْعشَاء الْآخِرَة اجْتَمَعنَا فِي خدمته على الْعَادة وسمرنا حَتَّى مضى هزيع من اللَّيْل وَهُوَ غير منبسط على عَادَته ثمَّ صلينَا الْعشَاء وَكَانَت الصَّلَاة هِيَ الدستور الْعَام فصلينا وأخذنا فِي(4/307)
الِانْصِرَاف فدعاني - رَحمَه الله - وَقَالَ أعلمت مَا الَّذِي تجدّد قلت لَا قَالَ إِن أَبَا الهيجاء السمين أنفذ إِلَيّ الْيَوْم وَقَالَ إِنَّه اجْتمع عِنْدِي جمَاعَة المماليك الْأُمَرَاء وأنكروا علينا موافقتنا لَك على الْحصار وَالتَّأَهُّب لَهُ وَقَالُوا لَا مصلحَة فِي ذَلِك فانا نَخَاف أَن نحصر وَيجْرِي علينا مَا جرى على أهل عكا وَعند ذَلِك تُؤْخَذ بِلَاد الْإِسْلَام جمعا والرأي أَن نلقى مصَاف فَإِن قدر الله أَن نهزمهم ملكنا بَقِيَّة بِلَادهمْ وَإِن تكن الْأُخْرَى سلم الْعَسْكَر وَمضى الْقُدس وَقد انحفظت بِلَاد الْإِسْلَام بعساكرها مُدَّة بِغَيْر الْقُدس
وَكَانَ - رَحمَه الله - عِنْده من الْقُدس أَمر عَظِيم لَا تحمله الْجبَال فشق عَلَيْهِ هَذِه الرسَالَة وأقمت تِلْكَ اللَّيْلَة فِي خدمته حَتَّى الصَّباح وَهِي من اللَّيَالِي الَّتِي أَحْيَاهَا فِي سَبِيل الله - رَحمَه الله - وَكَانَ مِمَّا قَالُوهُ فِي الرسَالَة إِنَّك إِن أردتنا نُقِيم فَتكون مَعنا أَو بعض أهلك حَتَّى نَجْتَمِع عِنْده وَإِلَّا فالأكراد لَا يدينون للأتراك والأتراك لَا يدينون للأكراد
وانفصل الْحَال على أَن يُقيم من أَهله مجد الدّين بن فرخشاه صَاحب بعلبك وَكَانَ - رَحمَه الله - يحدث نَفسه بالْمقَام ثمَّ مَنعه رَأْيه عَنهُ لما فِيهِ من خطر الْإِسْلَام(4/308)
فَلَمَّا قَارب الصُّبْح أشفقت عَلَيْهِ وخاطبته فِي أَن يستريح سَاعَة لَعَلَّ الْعين تَأْخُذ حظها من النّوم وانصرفت عَنهُ إِلَى دَاري فَمَا وصلت إِلَّا والمؤذن قد أذن فَأخذت فِي أَسبَاب الْوضُوء فَمَا فرغت إِلَّا وَالصُّبْح قد طلع وَكنت أُصَلِّي الصُّبْح مَعَه فِي غَالب الْأَحْوَال فعدت إِلَى خدمته وَهُوَ يجدد الْوضُوء فصلينا ثمَّ قلت لَهُ قد وَقع لي وَاقع أعرضه فَأذن لي فِيهِ
فَقلت الْمولى فِي اهتمامه وَمَا قد حمل نَفسه من هَذَا الْأَمر مُجْتَهد فِيمَا هُوَ فِيهِ وَقد عجزت أَسبَابه الأرضية فَيَنْبَغِي أَن ترجع إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ أبرك أَيَّام الْأُسْبُوع وَفِيه دَعْوَة مستجابة فِي صَحِيح الْأَحَادِيث وَنحن فِي أبرك مَوضِع نقدر أَن نَكُون فِيهِ فِي يَوْمنَا هَذَا فالسلطان يغْتَسل للْجُمُعَة وَيتَصَدَّق بِشَيْء خُفْيَة بِحَيْثُ لَا يشعرأنه مِنْك وَتصلي بَين الْأَذَان والاقامة رَكْعَتَيْنِ تناجي فيهمَا رَبك وتفوض مقاليد أمورك إِلَيْهِ وتعترف بعجزك عَمَّا تصديت لَهُ فَلَعَلَّ الله يَرْحَمك ويستجيب دعاءك(4/309)
قَالَ وَكَانَ - رَحمَه الله - حسن العقيدة تَامّ الايمان يتلَقَّى الْأُمُور الشَّرْعِيَّة بأكمل انقياد وَقبُول ثمَّ انفصلنا فَلَمَّا كَانَ وَقت الْجُمُعَة صليت إِلَى جَانِبه فِي الْأَقْصَى وَصلى رَكْعَتَيْنِ ورأيته سَاجِدا وَهُوَ يذكر كَلِمَات ودموعه تتقاطر على مُصَلَّاهُ رَحمَه الله
ثمَّ انْقَضتْ الْجُمُعَة بِخَير فَلَمَّا كَانَ عشيتها وَنحن فِي خدمته على الْعَادة وصلت رقْعَة جرديك - وَكَانَ فِي اليزك - يَقُول فِيهَا إِن الْقَوْم ركبُوا بأسرهم ووقفوا فِي الْبر على ظهر ثمَّ عَادوا إِلَى خيامهم وَقد سيرنا جواسيس تكشف أخبارهم
وَلما كَانَ صَبِيحَة السبت وصلت رقْعَة أُخْرَى يخبر فِيهَا أَن الجواسيس رجعُوا واخبروا أَن الْقَوْم اخْتلفُوا فِي الصعُود إِلَى الْقُدس والرحيل إِلَى بِلَادهمْ فَذهب الفرنسيسية إِلَى الصعُود إِلَى الْقُدس وَقَالُوا نَحن إِنَّمَا جِئْنَا من بِلَادنَا بِسَبَب الْقُدس وَلَا نرْجِع دونه وَقَالَ الانكتار إِن هَذَا الْموضع قد أفسدت مياهه وَلم يبْق حوله مَاء أصلا فَمن أَيْن نشرب قَالُوا لَهُ نشرب من نهر نقوع وَبَينه وَبَين الْقُدس مِقْدَار فَرسَخ فَقَالَ كَيفَ نَذْهَب إِلَى السَّقْي فَقَالُوا ننقسم قسمَيْنِ قسم يذهب إِلَى السَّقْي مَعَ الدَّوَابّ وَقسم يبْقى على الْبَلَد مَعَ اليزك وَيكون الشّرْب فِي الْيَوْم مرّة
فَقَالَ الإنكلتير إِذا يُؤْخَذ الْعَسْكَر البراني الَّذِي يذهب مَعَ الدَّوَابّ وَيخرج عَسْكَر الْبَلَد على البَاقِينَ وَيذْهب دين النَّصْرَانِيَّة(4/310)
فانفصل الْحَال على أَنهم حكمُوا ثَلَاث مئة من أعيانهم وَحكم الثَّلَاث مئة اثْنَي عشر من أعيانهم وَحكم الاثنا عشر ثَلَاثَة مِنْهُم وَقد باتوا على حكم الثَّلَاثَة فَمَا يأمرونهم بِهِ يفعل فَلَمَّا أَصْبحُوا حكمُوا عَلَيْهِم بالرحيل فَلم يُمكنهُم الْمُخَالفَة وَأَصْبحُوا فِي بكرَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة راحلين إِلَى نَحْو الرملة ناكصين على أَعْقَابهم وَللَّه الْحَمد 0
ووقف عَسْكَرهمْ إِلَى أَن لم يبْق فِي الْمنزلَة إِلَّا الْآثَار ثمَّ نزلُوا بالرملة وتواتر الْخَبَر بذلك فَركب السُّلْطَان - قدس الله روحه - وَركب النَّاس وَكَانَ سرُور وَفَرح وَلَكِن السُّلْطَان خَافَ على مصر لما حصلوا عَلَيْهِ من الْجمال وَالظّهْر وَكَانَ قد ذكر الإنكلتير مثل هَذَا مرَارًا
فصل فِي تردد رسل الإنكلتير فِي معنى الصُّلْح وَمَا جرى فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى أَن تمّ وَللَّه الْحَمد
وَقد سَاق ذَلِك القَاضِي ابْن شَدَّاد أحسن سِيَاق واستقصى الْأَمر فِيهِ بِخِلَاف الْعِمَاد فَقَالَ إِن الإنكلتير جَاءَ مِنْهُ رَسُول يَقُول قد هلكنا نَحن وَأَنْتُم والأصلح حقن الدِّمَاء وَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَقد أَن(4/311)
ذَلِك عَن ضعف مني بل للْمصْلحَة وَلَا يغتر بتأخري عَن منزلي فالكبش يتَأَخَّر لينطح
ثمَّ جَاءَ رَسُوله يَقُول لَا يجوز لَك أَن تهْلك الْمُسلمين كلهم وَلَا يجوز لي أَن أهلك الفرنج كلهم وَهَذَا ابْن أُخْتِي الكندهري قد ملكته هَذِه الديار وسلمته إِلَيْك يكون هُوَ وَعَسْكَره بحكمك وَلَو استدعيتهم إِلَى الشرق سمعُوا وأطاعوا وَأَن جمَاعَة من الرهبان والمنقطعين قد طلبُوا مِنْك كنائس فَمَا بخلت عَلَيْهِم بهَا وَأَنا أطلب مِنْك كَنِيسَة وَتلك الْأُمُور الَّتِي كَانَت تضيق صدرك لما كَانَت تجْرِي المراسلة مَعَ الْملك الْعَادِل قد قلت بِتَرْكِهَا وأعرضت عَنْهَا وَلَو أَعْطَيْتنِي مقرعة أَو قَرْيَة قبلتها وقبلتها
فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان الْأُمَرَاء فِي جَوَابه فأشاروا بالمحاسنة وَعقد الصُّلْح لما كَانَ قد أَخذ الْمُسلمين من الضجر والتعب وعلاهم من الدُّيُون وَاسْتقر الْحَال على هَذَا الْجَواب إِنَّك إِذا دخلت مَعنا هَذَا الدُّخُول فَمَا جَزَاء الاحسان إِلَّا الاحسان ابْن أختك يكون عِنْدِي كبعض أَوْلَادِي وسيبلغك مَا أفعل فِي حَقه من الْخَيْر وَأَنا أُعْطِيك أكبر الْكَنَائِس وَهِي الْقِيَامَة وَبَقِيَّة الْبِلَاد نقسمها والساحلية الَّتِي بِيَدِك تكون بِيَدِك وَالَّتِي بِأَيْدِينَا من القلاع الجبلية تكون لنا وَمَا بَين العملين يكون مُنَاصَفَة وعسقلان وَمَا وَرَاءَهَا تكون خرابا لَا لنا وَلَا لكم وَإِن أردتم قراها كَانَت لكم وَالَّذِي كنت أكرهه حَدِيث عسقلان فانفصل الرَّسُول طيب الْقلب(4/312)
قَالَ واتصل الْخَبَر أَنهم بعد وُصُول الرَّسُول إِلَيْهِم راحلون إِلَى جِهَة عسقلان طالبون جِهَة مصر
وَوصل رَسُول من جَانب قطب الدّين بن قليج أرسلان يَقُول إِن البابا قد وصل إِلَى قسطنطينية فِي خلق لَا يعلم عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَقَالَ الرَّسُول إِنِّي قتلت فِي الطَّرِيق اثْنَي عشر فَارِسًا وَيَقُول تقدم إِلَى من يتسلم بلادي مني فَانِي قد عجزت عَن حفظهَا فَلم يصدق السُّلْطَان هَذَا الْخَبَر وَلَا اكترث بِهِ
ثمَّ جَاءَ رسوا الإنكلتير يطْلب أَن يكون فِي قلعة الْقُدس عشرُون نَفرا وَأَن من سكن من النَّصَارَى والفرنج فِي الْبَلَد لَا يتَعَرَّض لَهُم وَأما بَقِيَّة الْبِلَاد فلنا مِنْهَا الساحليات والوطاة والبلاد الجبلية لكم وَأخْبر الرَّسُول من عِنْد نَفسه مناصحة أَنهم قد نزلُوا عَن حَدِيث الْقُدس مَا عدا الزِّيَارَة وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا تصنعا وَأَنَّهُمْ راغبون فِي الصُّلْح وَأَن الإنكلتير لَا بُد لَهُ من الرواح إِلَى بَلَده
فَأُجِيب بِأَن الْقُدس لَيْسَ لكم فِيهِ حَدِيث سوى الزِّيَارَة فَقَالَ الرَّسُول وَلَيْسَ على الزوار شَيْء يُؤْخَذ مِنْهُم فَعلم من هَذَا القَوْل الْمُوَافقَة
وَأما الْبِلَاد فعسقلان وَمَا وَرَاءَهَا لَا بُد من خرابه فَقَالَ الرَّسُول قد خسر الْملك على سورها مَالا جزيلا فَسَأَلَ المشطوب(4/313)
أَن يَجْعَل مزارعها وقراها فِي مُقَابل خسارته فَأجَاب السُّلْطَان وَأَن الداروم وَغَيره يخرب وَيكون بَلَدهَا مُنَاصَفَة وَأما بَاقِي الْبِلَاد فَيكون لَهُم من يافا إِلَى صور بأعمالها وَمهما اخْتَلَفْنَا فِي قَرْيَة كَانَت مُنَاصَفَة
ثمَّ جَاءَ الرَّسُول يَقُول الْملك يَسْأَلك ويخضع لَك فِي أَن تتْرك لَهُ هَذِه الْأَمَاكِن الثَّلَاثَة عامرة وَأي قدر لَهَا عِنْد ملكك وعظمتك وَمَا سَبَب إصراره عَلَيْهَا إِلَّا أَن الفرنج لم يسمحوا بهَا وَهُوَ قد ترك الْقُدس بِالْكُلِّيَّةِ لَا يطْلب أَن يكون فِيهِ لَا رُهْبَان وَلَا قسوس إِلَّا فِي الْقِيَامَة وَحدهَا فَتتْرك لَهُ أَنْت هَذِه الْبِلَاد وَيكون الصُّلْح عَاما فَيكون لَهُم كل مَا فِي أَيْديهم من الداروم إِلَى أنطاكية وَلكم مَا فِي أَيْدِيكُم وينتظم الْحَال وَيروح وَإِن لم يَنْتَظِم الصُّلْح فالفرنج مَا يمكنونه من الرواح وَلَا يُمكنهُ مخالفتهم
قَالَ القَاضِي فَانْظُر إِلَى هَذِه الصِّنَاعَة فِي استخلاص الفرص باللين تَارَة وبالخشونة أُخْرَى وَكَانَ - لَعنه الله - مُضْطَرّا إِلَى الرواح وَهَذَا عمله مَعَ اضطراره وَالله المسؤؤل فِي أَن يَكْفِي الْمُسلمين مكره فَمَا بلوا بأعظم حِيلَة وَلَا أَشد إقداما مِنْهُ
فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بِأَن أنطاكية لنا مَعَهم حَدِيث وَرُسُلنَا(4/314)
عِنْدهم فَإِن عَادوا بِمَا نُرِيد أدخلناهم فِي الصُّلْح وَإِلَّا فَلَا وَأما الْبِلَاد الَّتِي سَأَلَهَا فَلَا يُوَافق الْمُسلمُونَ على دَفعهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا قدر لَهَا وَأما سور عسقلان فَيَأْخُذ فِي مُقَابلَة مَا خسر عَلَيْهِ لدا فِي الوطاة
ثمَّ عَاد الرَّسُول وَقَالَ إِن الْملك قَالَ لَا يمكننا أَن نخرب من عسقلان حجرا وَاحِدًا وَلَا يسمع عَنَّا فِي الْبِلَاد مثل ذَلِك وَأما الْبِلَاد فحدودها مَعْرُوفَة لَا مناكرة فِيهَا وَعند ذَلِك تأهب السُّلْطَان لِلْخُرُوجِ إِلَى جِهَة الْعَدو وَإِظْهَار الْقُوَّة وَشدَّة الْعَزْم على اللِّقَاء
وبلغه فِي الْعَاشِر من رَجَب أَن الفرنج - خذلهم الله - قد رحلوا طَالِبين نَحْو بيروت فبرز من الْقُدس إِلَى منزلَة يُقَال لَهَا الجيب وَجَاء الْعَادِل من الشرق وَالظَّاهِر من حلب ورحل من الجيب إِلَى بَيت نوبَة ثمَّ رَحل إِلَى الرملة فَنزل بهَا على تلال بَين الرملة ولد وَركب جَرِيدَة حَتَّى أَتَى يازور وَبَيت دجن وأشرف على يافا ثمَّ نزل عَلَيْهَا من الْغَد ورتب عسكره فِي الميمنة وَلَده الظَّاهِر وَفِي الميسرة أَخُوهُ الْعَادِل وَركب المنجنيقات وزحف عَلَيْهَا فَأرْسل الْعَدو رسولين نَصْرَانِيّا وفرنجيا يطلبان الصُّلْح فَطلب مِنْهُم قَاعِدَة الْقُدس وقطيعته فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك واشترطوا أَن ينْظرُوا إِلَى يَوْم السبت تَاسِع عشر رَجَب فَإِن جَاءَتْهُم نجدة وَإِلَّا تمت الْقَاعِدَة على مَا اسْتَقر(4/315)
فَأبى السُّلْطَان الانظار وَأمر بالنقب فخشي وأحرق فَوَقع بعض الْبَدنَة فَوضع الْعَدو أخشابا عَظِيمَة خلف النقب فالتهب فَمنع من الدُّخُول فِي الثلمة وقاتلت خَارج الْأَبْوَاب إِلَى اللَّيْل فَلَمَّا أَصْبحُوا وَقعت الْبَدنَة فعلا غُبَار مَعَ الدُّخان فأظلم الْأُفق وَمَا تجاسر أحد على الولوج خوفًا من اقتحام النَّار فَلَمَّا انكشفت الغبرة ظَهرت أسنة قد نابت مناب الأسوار ورماح قد سدت الثلمة حَتَّى عَن نُفُوذ الْأَبْصَار وَرَأى النَّاس هولا عَظِيما من صَبر الْقَوْم وثباتهم وَلَقَد رَأَيْت رجلَيْنِ على ممشى السُّور يمنعان المتسلق فِيهِ من حهة الثلمة وَقد أَتَى أَحدهمَا حجر المنجنيق فَأَخذه وَنزل إِلَى دَاخل فَقَامَ رَفِيقه فِي مقَامه متصديا لمثل مَا لحقه أسْرع من لمح الْبَصَر بِحَيْثُ لم يفرق بَينهمَا إِلَّا ناقد بَصِير
وَلما رأى الْعَدو مَا قد آل الْأَمر إِلَيْهِ سِيرُوا يطْلبُونَ الْأمان فَقَالَ - رَحمَه الله - الْفرس بِفَارِس والتركبلي بِمثلِهِ والراجل بالراجل وَالْعَاجِز فعلى قطيعة الْقُدس
فَنظر الرَّسُول وَرَأى الْقِتَال على الثلمة أَشد من إضرام النَّار فَسَأَلَ السُّلْطَان أَن يبطل الْقِتَال إِلَى أَن يعود فَقَالَ مَا أقدر على منع الْمُسلمين من هَذَا الْأَمر وَلَكِن ادخل إِلَى أَصْحَابك فَقل لَهُم ينحازون إِلَى القلعة ويتركون النَّاس يشتغلون بِالْبَلَدِ فَمَا بَقِي دونه(4/316)
مَانع فَفَعَلُوا وانحازوا إِلَى قلعة يافا بعد أَن قتل مِنْهُم جمَاعَة وَدخل النَّاس الْبَلَد عنْوَة ونهبوا مِنْهُ أقمشة عَظِيمَة وغلالا كَثِيرَة وأثاثا وبقايا قماش مَا نهب من الْقَافِلَة المصرية واستقرت الْقَاعِدَة على الْوَجْه الَّذِي قَرَّرَهُ السُّلْطَان
وَكَانَ قايماز النجمي فِي طرف الْغَوْر لحمايته من عَسْكَر الْعَدو الَّذِي بعكا فوصل مِنْهُ كتاب يخبر فِيهِ أَن الإنكلتير الملعون لما سمع خبر يافا أعرض عَن قصد بيروت وَعَاد على قصد يافا فَاشْتَدَّ عزم السُّلْطَان على تَتِمَّة الْأَمر وتسلم القلعة وَكنت مِمَّن لم ير الْأمان لانه قد لَاحَ أَخذهم وَكَانَ النَّاس لَهُم مُدَّة لم يظفروا من الْعَدو بمغنم يوثبهم عَلَيْهِ فَكَانَ أَخذهم عنْوَة مِمَّا يبْعَث همم الْعَسْكَر غير أَن الْأمان وَقع وَاتفقَ الصُّلْح فَكنت بعد ذَلِك مِمَّن يحث على إِخْرَاج الْعَدو من القلعة وتسلمها خوفًا من لُحُوق النجدة
وَكَانَ السُّلْطَان يشْتَد حرصه على ذَلِك غير أَن النَّاس قد أقعدهم التَّعَب عَن امْتِثَال الْأَمر وَأخذ مِنْهُم الْحَدِيد وَشدَّة الْحر ودخان النَّار بِحَيْثُ لم يبْق لَهُم استطاعة على الْحَرَكَة
وَسَمعنَا بوق الفرنج فِي السحر فَعلمنَا بوصول النجدة فسير السُّلْطَان معي عز الدّين جرديك وَعلم الدّين قَيْصر ودرباس المهراني وَعدل الخزانة شمس الدّين وَقَالَ امْضِ إِلَى الْملك الظَّاهِر وَقل لَهُ يقف ظَاهر الْبَاب القبلي وَتدْخل أَنْت وَمن ترَاهُ إِلَى القلعة وتخرجون الْقَوْم وتستولون على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والأسلحة وتكتبها بخطك إِلَى الظَّاهِر وَهُوَ ظَاهر الْبَلَد وَهُوَ يسيرها إِلَيْنَا(4/317)
فَفَعَلْنَا ودخلنا القلعة وأمرنا الفرنج بِالْخرُوجِ فَأَجَابُوا وتهيؤوا فَقَالَ جرديك لَا يَنْبَغِي أَن يخرج مِنْهُم أحد حَتَّى يخرج النَّاس من الْبَلَد خشيَة أَن يتخطفوهم وَكَانَ النَّاس قد داخلهم الطمع فِي الْبَلَد وَأخذ يشْتَد فِي ضرب النَّاس وإخراجهم وهم غير مضبوطين بعدة وَلَا مَحْصُورين فِي مَكَان فَكيف يُمكن إخراجهم
وَطَالَ الْأَمر إِلَى أَن، علا النَّهَار وَأَنا ألومه وَهُوَ لَا يرجع عَن ذَلِك وَالزَّمَان يمْضِي فَلَمَّا رَأَيْت الْوَقْت يفوت قلت لَهُ إِن النجدة قد وصلت والمصلحة المسارعة فِي إخراجهم فَأجَاب وأخرجنا خَمْسَة وَأَرْبَعين نَفرا بخيولهم وَنِسَائِهِمْ وسيرناهم ثمَّ اشتدت أنفس البَاقِينَ وحدثتهم نُفُوسهم بالعصيان وَكَانُوا استقلوا المراكب الَّتِي جَاءَتْهُم وظنوا أَن لَا نجدة لَهُم فِيهَا وَلم يعلمُوا أَن الإنكلتير مَعَ الْقَوْم ورأوهم قد تَأَخَّرُوا عَن النُّزُول إِلَى علو النهارفخافوا أَن يمتنعوا فيؤخذوا ويقتلوا فَخرج من خرج ثمَّ بعد ذَلِك قويت النجدة حَتَّى صَارُوا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ مركبا فَقَوِيت نفوس البَاقِينَ فِي الْحصن فظهرت مِنْهُم أَمَارَات الْعِصْيَان ودلائله
فَقلت لِأَصْحَابِنَا خُذُوا حذركُمْ فقد تَغَيَّرت عزائم الْقَوْم فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة بِحَيْثُ صرت خَارج الْبَلَد وَقد حمل الْقَوْم من القلعة وأخرجوا من كَانَ فِي الْبَلَد من الأجناد وَلَقَد ازْدحم النَّاس فِي الْبَاب حَتَّى كَاد يتْلف مِنْهُم جمَاعَة وَبَقِي فِي بعض الْكَنَائِس(4/318)
جمَاعَة من رعاع الْعَسْكَر مشتغلين بِمَا لَا يجوز فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم وأسروا وَعرف السُّلْطَان فَأمر النَّاس فزحفوا وَعَاد الْحصار كَمَا كَانَ وحشروا الْعَدو فِي القلعة واستبطؤوا نزُول النجدة إِلَيْهِم وخافوا خوفًا عَظِيما فأرسلوا بطركهم والقسطلان إِلَى السُّلْطَان يعتذران مِمَّا جرى ويسألانه الْقَاعِدَة الأولى
وَكَانَ سَبَب امْتنَاع نزُول النجدة أَنهم رَأَوْا الْبَلَد مشحونا ببيارق الْمُسلمين ورجالهم فخافوا أَن تكون القلعة قد أخذت وَكَانَ الْبَحْر يمْنَع من سَماع الصَّوْت وَكَثْرَة الضجيج والتهليل وَالتَّكْبِير فَلَمَّا رأى من فِي القلعة شدَّة الزَّحْف عَلَيْهِم وَامْتِنَاع النجدة من النُّزُول مَعَ كثرتها فَإِنَّهَا بلغت نيفا وَخمسين مركبا مِنْهَا خَمْسَة عشر من الشواني علمُوا أَن النجدة قد ظنُّوا أَن الْبَلَد قد أَخذ فوهب رجل مِنْهُم نَفسه للمسيح وقفز من القلعة إِلَى الميناء وَكَانَ رملا فَلم يصبهُ شَيْء وَعدا إِلَى الْبَحْر فَحدث الإنكلتير بِالْحَدِيثِ فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى نزل كل من فِي الشواني إِلَى الميناء هَذَا كُله وَأَنا أشاهد ذَلِك فحملوا على الْمُسلمين فأخرجوهم من الميناء فَقبض السُّلْطَان على الرُّسُل وَأمر بتأخر الثّقل والأسواق إِلَى يازور فَرَحل النَّاس وَتَأَخر لَهُم ثقل عَظِيم مِمَّا كَانُوا نهبوا من يافا
وَخرج الإنكلتير إِلَى مَوضِع السُّلْطَان الَّذِي كَانَ فِيهِ لمضايقة(4/319)
الْبَلَد وَأمر من فِي القلعة أَن يخرجُوا إِلَيْهِ ليعظم سوَاده
ثمَّ اجْتمع بِهِ جمَاعَة من المماليك طَلَبهمْ وَحضر الْحَاجِب أَبُو بكر العادلي وَكَانَ قد صَادِق جمَاعَة من خَواص المماليك وَدخل مَعَهم دُخُولا عَظِيما بِحَيْثُ كَانُوا يَجْتَمعُونَ بِهِ أَوْقَات مُتعَدِّدَة وَكَانَ قد صَادِق من الْأُمَرَاء جمَاعَة كبدر الدّين دلدرم وَغَيره فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْده جد وهزل وَمن جملَة مَا قَالَ
هَذَا السُّلْطَان عَظِيم وَمَا فِي الأَرْض للاسلام ملك أكبر وَلَا أعظم مِنْهُ كَيفَ رَحل عَن الْمَكَان بِمُجَرَّد وصولي وَوَاللَّه مَا لبست لأمة حَرْبِيّ وَلَا تأهبت لأمر وَلَيْسَ فِي رجْلي إِلَّا زربول الْبَحْر فَكيف تَأَخّر
ثمَّ قَالَ وَالله إِنَّه لعَظيم وَالله مَا ظَنَنْت أَنه يَأْخُذ يافا فِي شَهْرَيْن فَكيف أَخذهَا فِي يَوْمَيْنِ ثمَّ قَالَ لأبي بكر الْحَاجِب تسلم على السُّلْطَان وَتقول لَهُ بِاللَّه عَلَيْك أجب سُؤَالِي فِي الصُّلْح فَهَذَا أَمر لَا بُد لَهُ من آخر وَقد هَلَكت بلادي وَرَاء الْبَحْر وَمَا دوَام هَذَا مصلحَة لَا لنا وَلَا لكم
فَأرْسل السُّلْطَان إِلَيْهِ فِي الْجَواب إِنَّك كنت طلبت الصُّلْح أَولا على قَاعِدَة وَكَانَ الحَدِيث فِي يافا وعسقلان والآن فقد خربَتْ هَذِه يافا فَيكون لَك من قيسارية إِلَى صور(4/320)
فَأرْسل الإنكلتير يَقُول إِن قَاعِدَة الافرنج أَنه إِذا أعْطى وَاحِد لوَاحِد بَلَدا صَار تبعه وَغُلَامه وَأَنا أطلب مِنْك هذَيْن البلدين يافا وعسقلان وَتَكون عساكرهما فِي خدمتك دَائِما وَإِذا احتجت إِلَيّ وصلت إِلَيْك فِي أسْرع وَقت وخدمتك كَمَا تعلم خدمتي
فَقَالَ السُّلْطَان حَيْثُ دخلت هَذَا الْمدْخل فَأَنا أجيبك على أَن تجْعَل البلدين قسمَيْنِ أَحدهمَا لَك وَهُوَ يافا وَمَا وَرَاءَهَا وَالثَّانِي لي وَهُوَ عسقلان وَمَا وَرَاءَهَا ثمَّ رتب السُّلْطَان اليزك بيازور وَأمر بخرابها وخراب بَيت دجن ورتب النقابين لذَلِك وَسَار إِلَى الرملة فَعَاد رَسُول الإنكلتير يشْكر على إِعْطَائِهِ يافا ويجدد السُّؤَال فِي عسقلان وَيَقُول لَهُ إِن وَقع الصُّلْح فِي هَذِه الْأَيَّام السِّتَّة سَار إِلَى بِلَاده وَإِلَّا احْتَاجَ أَن يشتي هَا هُنَا
فَأَجَابَهُ السُّلْطَان فِي الْحَال وَقَالَ أما النُّزُول عَن عسقلان فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ وَأما تشتيته هَا هُنَا فَلَا بُد مِنْهَا لانه قد استولى على هَذِه الْبِلَاد وَيعلم أَنه مَتى غَابَ عَنْهَا أخذت بِالضَّرُورَةِ وَإِذا أَقَامَ أَيْضا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِذا سهل عَلَيْهِ أَن يشتي هَاهُنَا وَيبعد عَن أَهله ووطنه مسيرَة شَهْرَيْن وهوشاب فِي عنفوان شبابه وَوقت اقتناص لذاته مَا يسهل عَليّ أَن أشتي وأصيف وَأَنا فِي وسط بلادي وَعِنْدِي أَهلِي وأولادي وَيَأْتِي إِلَيّ مَا أريده وَمن أريده وَأَنا شيخ كَبِير قد كرهت لذات الدُّنْيَا وشبعت مِنْهَا ورفضتها عني والعسكر الَّذِي يكون عِنْدِي فِي الشتَاء غير الَّذِي يكون(4/321)
عِنْدِي فِي الصَّيف وَأَنا أعتقد أَنِّي فِي أعظم الْعِبَادَات وَلَا أَزَال كَذَلِك حَتَّى يُعْطي الله النَّصْر لمن يَشَاء
ثمَّ جَاءَ رَسُوله يَقُول كم أطرح نَفسِي على السُّلْطَان وَهُوَ لَا يقبلني وَأَنا كنت أحرص حَتَّى أَعُود إِلَى بلادي والآن فقد هجم الشتَاء وتغيرت الأنواء وعزمت على الاقامة وَمَا بَقِي بَيْننَا حَدِيث
ثمَّ بلغ السُّلْطَان أَن عَسْكَر الْعَدو قد رَحل من عكا قَاصِدا يافا فَسَار - رَحمَه الله - فَنزل على العوجاء وَوصل من أخبرهُ أَن الْعَدو دخل قيسارية وَلم يبْق فِيهِ طمع وبلغه أَن الإنكلتير نَازل خَارج يافا فِي نفر يسير فَوَقع لَهُ أَن يكبسه فَأَتَاهُ فَوجدَ خيمه نَحْو عشر خيم فحملوا عَلَيْهِم فثبتوا وَلم يتحركوا من أماكنهم وكشروا عَن أَنْيَاب الْحَرْب وَكَانُوا على الْمَوْت أَصْبِر فارتاع الْمُسلمُونَ مِنْهُم ووجموا من ثباتهم وداروا حَولهمْ حَلقَة وَكَانَت عدَّة الْخَيل سَبْعَة عشر وَقيل تِسْعَة والرجالة ثَلَاث مئة أَو أَكثر فَوجدَ السُّلْطَان من ذَلِك موجدة عَظِيمَة وَدَار على الأطلاب بِنَفسِهِ يحثهم على الحملة ويعدهم بِالْحُسْنَى على ذَلِك فَلم يجب دعاءه أحد سوى وَلَده الظَّاهِر(4/322)
قَالَ وَبَلغنِي أَنه قَالَ لَهُ الْجنَاح أَخُو المشطوب قل لغلمانك الَّذين ضربوا النَّاس يَوْم فتح يافا وَأخذُوا مِنْهُم الْغَنِيمَة يحملون وَكَانَ فِي قُلُوب الْعَسْكَر من صلح السُّلْطَان على يافا حَيْثُ فوتهم الْغَنِيمَة فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك أعرض عَن الْقِتَال وَغَضب وَسَار إِلَى يازور
قَالَ وَلَقَد بَلغنِي أَن الإنكلتير أَخذ رمحه ذَلِك الْيَوْم وَحمل من طرف الميمنة إِلَى طرف الميسرة فَلم يعرض لَهُ أحد
قلت وَوصل من الْفَاضِل كتاب من دمشق يَقُول فِيهِ كثر الارجاف بِهَلَاك ملك الإنكلتير فَإِن كَانَ كَذَلِك فجواب كل من قصر فِي يافا عَن أَخذه عَن السُّلْطَان {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} وَجَوَاب السُّلْطَان لَهُم عَن ملك الإنكلتير إِلَّا تقتلوه فقد قَتله الله وَلم يزل لطيفا وَلم يزل مَوْلَانَا يحمل الثّقل ثقيلا وخفيفا وَمن كَانَ الله عَلَيْهِ لم يكن قَوِيا وَمن كَانَ الله مَعَه لم يكن ضَعِيفا
قَالَ القَاضِي ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى النطرون ثمَّ إِلَى الْقُدس فَنظر العمائر ورتبها ثمَّ عَاد إِلَى النطرون وتوافت إِلَيْهِ فِيهِ العساكر وَوصل عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل ثمَّ قدم عَسْكَر مصر وَفِيهِمْ سيف الدّين يازكوج وَجَمَاعَة الأَسدِية فِي خدمَة وَلَده الْملك الْمُؤَيد مَسْعُود وَوصل الْمَنْصُور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ(4/323)
الدّين فَلَقِيَهُ الظَّاهِر إِلَى بَيت نوبَة وَدخل بِهِ على السُّلْطَان فَنَهَضَ واعتنقه وضمه إِلَى صَدره وغشيه الْبكاء فَصَبر نَفسه حَتَّى غَلبه الْأَمر فَبكى النَّاس لبكائه سَاعَة ثمَّ باسطه وَسَأَلَهُ عَن الطَّرِيق وَكَانَ مَعَه عَسْكَر جميل فقرت عين السُّلْطَان بِهِ ثمَّ سَار وَنزل فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر مِمَّا يَلِي الرملة
وَلما رأى السُّلْطَان العساكر قد اجْتمعت جمع أَرْبَاب الرَّأْي وَقَالَ إِن الإنكلتير قد مرض مَرضا شَدِيدا والافرنسيسية قد سَارُوا رَاجِعين ليعبروا الْبَحْر من غير شكّ ونفقاتهم قد قلت وَأرى أَن نسير إِلَى يافا فَإِن وجدنَا فِيهَا طَمَعا وَإِلَّا عدنا إِلَى عسقلان فَمَا تلحقها النجدة إِلَّا وَقد بلغنَا مِنْهَا غَرضا فوافقوه على ذَلِك فَأرْسل عز الدّين جرديك وجمال الدّين فرج سادس شعْبَان حَتَّى يَكُونَا قَرِيبا من يافا
هَذَا ورسل الإنكلتير لَا تَنْقَطِع فِي طلب الْفَاكِهَة والثلج وأوقع الله عَلَيْهِ فِي مَرضه شَهْوَة الكمثرى والخوخ وَكَانَ السُّلْطَان يمده بذلك ويقصد كشف الْأَخْبَار بتواتر الرُّسُل وَالَّذِي انْكَشَفَ لَهُ أَن فِيهَا ثَلَاث مئة فَارس على قَول المكثر ومئتي فَارس على قَول المقلل وَأَن الكندهري تردد بَينه وَبَين الفرنسيسية فِي مقامهم وهم عازمون على عبور الْبَحْر قولا وَاحِدًا
فَسَار السُّلْطَان إِلَى جِهَة الرملة وَجَاء رَسُول الإنكلتير مَعَ(4/324)
الْحَاجِب أبي بكر يشْكر السُّلْطَان على اسعافه بالفاكهة والثلج وَذكر أَبُو بكر أَنه انْفَرد بِهِ وَقَالَ لَهُ قل لأخي - يَعْنِي الْملك الْعَادِل - يبصر كَيفَ يتَوَصَّل إِلَى السُّلْطَان فِي معنى الصُّلْح ويستوهب لي مِنْهُ عسقلان وأمضي وَيبقى هُوَ هَا هُنَا مَعَ هَذِه الشرذمة الْيَسِيرَة وَيَأْخُذ الْبِلَاد مِنْهُم فَلَيْسَ غرضي إِلَّا إِقَامَة جاهي بَين الفرنجية وَإِن لم ينزل السُّلْطَان عَن عسقلان فتأخذ لي مِنْهُ عوضا عَن خسارتي على عمَارَة سورها فَأرْسل السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل إِن نزلُوا عَن عسقلان فَصَالحهُمْ فَإِن الْعَسْكَر قد ضجر من مُلَازمَة البيكار والنفقات قد نفدت
ثمَّ إِن الإنكلتير نزل عَن عسقلان وَعَن الْعِوَض عَنْهَا واستوثق مِنْهُ على ذَلِك فأحضر السُّلْطَان الدِّيوَان يَوْم السبت ثامن عشر شعْبَان وَذكر يافا وعملها وَأخرج الرملة مِنْهَا ولد ومجدل يابا ثمَّ ذكر قيسارية وأعمالها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها وَأخرج مِنْهَا الناصرة وصفورية وَأثبت الْجَمِيع فِي ورقة وَقَالَ للرسول هَذِه حُدُود الْبِلَاد الَّتِي تبقى فِي أَيْدِيكُم فَإِن صالحتم على ذَلِك فمبارك وَقد أَعطيتكُم يَدي فَينفذ الْملك من يحلف فِي بكرَة غَد وَإِلَّا فنعلم أَن هَذَا تدفيع ومماطلة
وَكَانَ من الْقَاعِدَة أَن تكون عسقلان خرابا وَأَن يتَّفق أَصْحَابنَا وأصحابهم على خرابها وَاشْترط دُخُول بِلَاد الاسماعيلية واشترطوا هم دُخُول صَاحب أنطاكية وطرابلس فِي الصُّلْح وَشرط أَن تكون الرملة ولد بَين الْمُسلمين وَبينهمْ مُنَاصَفَة(4/325)
واستقرت الْقَاعِدَة على أَنهم يحلفُونَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان وَرَضي الاستبارية والداوية وَسَائِر مقدمي الافرنجية بذلك وَلم يحلف الانكلتير بل أخذُوا يَده وَعَاهَدُوهُ وَاعْتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وقنع من السُّلْطَان بِمثل ذَلِك
ثمَّ حلف الْجَمَاعَة فَحلف الكند هري ابْن أُخْته الْمُسْتَخْلف عَنهُ فِي السَّاحِل وباليان بن بارزان ابْن صَاحِبَة طبرية وَوصل ابْن الهنفري وَابْن بارزان وَجَمَاعَة من مقدميهم إِلَى السُّلْطَان فَأخذُوا يَده على الصُّلْح واقترحوا حلف جمَاعَة الْعَادِل وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر والمنصور وَسيف الدّين المشطوب ودلدرم وَابْن الْمُقدم وَصَاحب شيزر وكل مجاور لبلادهم وَحلف لصَاحب أنطاكية وطرابلس وعلق الْيَمين بِشَرْط حلفهم للْمُسلمين
قَالَ وَوصل رَسُول سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط يُبْدِي الطَّاعَة والموافقة وتسيير الْعَسْكَر وَحضر رَسُول الكرج وَذكر فصلا فِي معنى الديارات الَّتِي لَهُم فِي الْقُدس وعمارتها وَشَكوا من أَنَّهَا أخذت من أَيْديهم وَيسْأل ردهَا إِلَى أَيدي نوابهم وَرَسُول صَاحب أرزن الرّوم يبْذل الطَّاعَة والعبودية
قَالَ الْعِمَاد وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر والسهل والوعر وَجعل لَهُم من يافا إِلَى قيسارية إِلَى عكا إِلَى صور وأدخلوا فِي الصُّلْح أطرابلس وأنطاكية وَوَقعت الْمُصَالحَة مُدَّة ثَلَاث(4/326)
سِنِين وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا مُبْتَدأ أيلول الْمُوَافق للحادي وَالْعِشْرين من شعْبَان
قَالَ وَكَانَ الفرنج قد ملؤوا يافا من الرِّجَال والأسلحة والأقوات ليتقووا بهَا على فتح الْقُدس لتَكون لَهُم ظهرا وعونا لقربها من الْبَيْت الْمُقَدّس
قلت وَمن الْأَلْفَاظ الْفَاضِلِيَّةِ وَقد فعلت الأقدار فِي رياضة عرائكهم مَا كَانَ سَببه هَذِه الحركات الْمُبَارَكَة وَكَيف يشنع ملك إنكلتير بالغدر وَهُوَ - لَعنه الله - قد أَتَى بأقبح الْغدر وأفحشه فِي أهل عكا نَهَارا جهارا وَشهد فِيهَا بخزيته وفضيحته الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى وغدر الفرنج مَعْلُوم
(إِذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... وَمن عهدها أَن لَا يَدُوم لَهَا عهد)
الْقَوْم هادنوا لما ضعفوا ويفسخون إِذا قووا وَنحن نَنْتَظِر فِي ملك إنكلتير مَا تفصح عَنهُ الْمَقَادِير فِي أمره إِمَّا الْهَلَاك وشاباش لَهَا فَيلقى الْأَحِبَّة المركيس ودوك وَملك الألمان وَيُؤْنس فِي النَّار غربتهم وَيكثر عدتهمْ وَإِمَّا أَن يعافى وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَهُوَ بَين أَمريْن إِمَّا أَن يرجع إِلَى لعنة الله وَإِلَى مُرُوءَة الْبَحْر فِي تغريقه وَإِمَّا أَن يُقيم فهنالك قد أبدى الشَّرّ(4/327)
ناجذيه ونكص الملعون من الْوَفَاء على عَقِبَيْهِ وانتظر الفرصة لتنتهز والعورة ليثب
وَمِمَّا قيل فِي هَذِه الْهُدْنَة أَبْيَات من قصيدة نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن ابْن المجاور الَّتِي تقدّمت فِي فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَهِي
(يَا صَاح قل للانكلتير الْكَلْب دع ... عَنْك الْجُنُون وَخذ مقَالَة منصف)
(الْقُدس مَا فِيهِ لسرجك مطمع ... كلا وَلَا نور الاله بمنطفي)
(وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى فَعَنْهُ تقص من ... وَقع الدبابيس الأليمة تعرف)
(واستفت نَفسك فَهِيَ أَخبث نَاصح ... واترك مُتَابعَة اللجاج الْمُتْلف)
(واعجب لرمح بالرؤوس معمم ... واطرب لسيف بالدماء مغلف)
(قد قلت لما قيل صلح قد جرى ... هَذَا حَدِيث مجزف ومحرف)
(سلف تولى السَّيْف عقد شُرُوطه ... أحبب بِهِ من مُسلم ومسلف)
(ظنوه سلما وَهُوَ فِي أَرْوَاحهم ... سلم إِلَى أجل لَهُم متخلف)
وَذكر أَبُو الْحسن ابْن الساعاتي الإنكلتير هَذَا فِي شعره فِي قصيدة مدح بهَا السُّلْطَان - رحمهمَا الله - يَقُول فِيهَا
(منعت ظباء المنحنى بأسوده ... وَأَشد مَا أشكوه فتك ظبائه)
(فعلت بِنَا وَهِي الصّديق لحاظها ... كضبي صَلَاح الدّين فِي أعدائه)(4/328)
(سل عَنهُ قلب الانكتار فَإِن فِي ... خفقانه مَا شِئْت من أنبائه)
(لولاك أم الْبَيْت غير مدافع ... ولسال سيل نداك فِي بطحائه)
(وبكت جفون الْقُدس ثَانِيَة دَمًا ... لترنم الناقوس فِي أفنائه)
فصل فِيمَا جرى بعد الْهُدْنَة
قَالَ القَاضِي أَمر السُّلْطَان أَن يُنَادى فِي الوطاقات والأسواق أَلا إِن الصُّلْح قد انتظم فَمن شَاءَ من بِلَادهمْ يدْخل بِلَادنَا فَلْيفْعَل وَمن شَاءَ من بِلَادنَا يدْخل إِلَى بِلَادهمْ فَلْيفْعَل وأشاع - رَحمَه الله - أَن طَرِيق الْحَج قد فتح من الشَّام وَوَقع لَهُ عزم الْحَج فِي ذَلِك الْمجْلس وَكنت حَاضرا ذَلِك جَمِيعه وَأمر أَن يسير مئة نقاب لتخريب سور عسقلان مَعَهم أَمِير كَبِير ولاخراج الفرنج مِنْهَا وَيكون مَعَهم جمَاعَة من الفرنج إِلَى حِين وُقُوع الخراب فِي السُّور خشيَة من استبقائه عَامِرًا فَفعل ذَلِك وَخَربَتْ
وَكَانَ يَوْم الصُّلْح يَوْمًا مشهودا غشي النَّاس من الطَّائِفَتَيْنِ من الْفَرح وَالسُّرُور مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى وَالله الْعَلِيم أَن الصُّلْح لم يكن من إيثاره فَإِنَّهُ قَالَ لي فِي عض محاوراته فِي الصُّلْح أَخَاف أَن أصالح وَمَا أَدْرِي أيش يكون مني فيقوى هَذَا الْعَدو وَقد بَقِي(4/329)
لَهُم هَذِه الْبِلَاد فَيخْرجُونَ لاستعادة بَقِيَّة بِلَادهمْ وَترى كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة قد قعد فِي رَأس تله - يَعْنِي حصنه - وَقَالَ لَا أنزل وَيهْلك الْمُسلمُونَ
فَهَذَا كَلَامه وَكَانَ كَمَا قَالَ - رَحمَه الله - لكنه رأى الْمصلحَة فِي الصُّلْح لسأم الْعَسْكَر ومظاهرتهم بالمخالفة وَكَانَ مصلحَة فِي علم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ اتّفقت وَفَاته بعيد الصُّلْح وَلَو كَانَ اتّفق ذَلِك فِي أثْنَاء الوقعات لَكَانَ الْإِسْلَام على خطر فَمَا كَانَ الصُّلْح إِلَّا تَوْفِيقًا وسعادة من الله رَحْمَة الله عَلَيْهِ
ورحل السُّلْطَان إِلَى النطرون وَاخْتَلَطَ العسكران وَذهب جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى يافا فِي طلب التِّجَارَة وَوصل خلق عَظِيم من الْعَدو إِلَى الْقُدس لِلْحَجِّ وَفتح السُّلْطَان لَهُم الْبَاب فِي ذَلِك وَنفذ مَعَهم الخفراء يحفظونهم حَتَّى يردوهم إِلَى يافا وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان بذلك أَن يقضوا وطرهم من الزِّيَارَة ويرجعوا إِلَى بِلَادهمْ فَيَأْمَن الْمُسلمُونَ شرهم
وَلما علم الْملك كَثْرَة من يزور مِنْهُم صَعب عَلَيْهِ ذَلِك وسير إِلَى السُّلْطَان يسْأَله منع الزوار واقترح أَن لَا يَأْذَن لأحد إِلَّا بعد حُضُور عَلامَة من جَانِبه أَو بكتابه وَعلمت الفرنجيه ذَلِك فَعظم عَلَيْهَا واهتموا فِي الْحَج فَكَانَ يرد فِي كل يَوْم مِنْهُم جموع كَثِيرَة مقدمون وأوساط وملوك متنكرون وَشرع السُّلْطَان فِي إكرام من يرد(4/330)
وَمد الطَّعَام لَهُم ومباسطتهم ومحادثتهم وعرفهم إِنْكَار الْملك ذَلِك وَأذن لَهُم السُّلْطَان فِي الْحَج وعرفهم أَنه لم يلْتَفت إِلَى منع الْملك من ذَلِك وَاعْتذر إِلَى الْملك بِأَن قوما قد وصلوا من ذَلِك الْبعد وَيسر لَهُم زِيَارَة هَذَا الْمَكَان الشريف لَا اسْتحلَّ مَنعهم
ثمَّ اشْتَدَّ الْمَرَض بِالْملكِ فَرَحل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من شعْبَان وَقيل إِنَّه مَاتَ وَسَار هُوَ والكند هري وَسَائِر المقدمين إِلَى جَانب عكا وَلم يبْق فِي يافا إِلَّا مَرِيض أَو عَاجز وَنَفر يسير ثمَّ أعْطى السُّلْطَان للنَّاس دستورا فَسَار عَسْكَر إربل والموصل وسنجار والحصن وأشاع - رَحمَه الله - أَمر الْحَج وَقَوي عزمه على بَرَاءَة الذِّمَّة مِنْهُ
قَالَ القَاضِي وَكَانَ هَذَا مِمَّا وَقع لي وبدأت بالاشارة بِهِ فِي يَوْم تَتِمَّة الصُّلْح وَوَقع مِنْهُ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - موقعا عَظِيما وَأمر الدِّيوَان أَن كل من عزم على الْحَج من الْعَسْكَر يثبت اسْمه حَتَّى نحصي عدَّة من يدْخل مَعنا الطَّرِيق وَكتب جرائد بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الطَّرِيق من الْخلْع والأزواد وَغير ذَلِك وسيرها إِلَى الْبِلَاد ليعدوها
ورحل من النطرون رَابِع شهر رَمَضَان وَسَار حَتَّى أَتَى مار صمويل يفتقد أَخَاهُ الْعَادِل وَكَانَ مَرِيضا بهَا فَوَجَدَهُ قد سَار إِلَى الْقُدس وَكَانَ قد انْقَطع عَن أَخِيه مُدَّة بِسَبَب الْمَرَض وَكَانَ قد تماثل فَعرف بمجيء السُّلْطَان إِلَى مار صمويل لعيادته فَحمل على(4/331)
نَفسه وَسَار حَتَّى لقِيه بذلك الْمَكَان وهوأول وُصُوله وَلم ينزل بعد وَنزل وَقبل الأَرْض وَعَاد ركب فاستدناه وَسَأَلَهُ عَن مزاجه وسارا جَمِيعًا حَتَّى أَتَيَا الْقُدس بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم
وَقَالَ الْعِمَاد عَاد السُّلْطَان بعد السّلم إِلَى الْقُدس لتفقد أَحْوَاله وَعرض رِجَاله واشتغل بتشييد أسواره وتحصينها وتخليد آثاره وتحسينها وتعميق خنادقه وتوثيق طرائقه وَزَاد فِي وقف الْمدرسَة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها وَكَذَلِكَ رتب أَحْوَال الصُّوفِيَّة فِي رعايتها وَالْوَقْف الكافل بكفايتها وَعين الْكَنِيسَة الَّتِي فِي شَارِع قمامة للبيمارستان وَنقل إِلَيْهِ العقاقير والأدوية من جَمِيع الْأَنْوَاع والألوان وأدار سور الْقُدس على قبَّة صهيون وأضافها إِلَى الْمَدِينَة وَأمر بإدارة الْخَنَادِق على الْجَمِيع وصمم الْعَزْم على الْحَج فَلم يُوَافقهُ الْقدر وتأسف على فَوَاته بعد أَن قدم مقدماته وَأقَام شهر رَمَضَان وأفاض الاحسان وفوض ولَايَة الْقُدس وأعمالها إِلَى عز الدّين جرديك حِين استعفى مِنْهَا حسام الدّين سياروخ وَولى مَمْلُوكه علم الدّين قَيْصر مَا دون الْقُدس كعمل الْخَلِيل وغزة والداروم وعسقلان
قلت وَلما بلغ القَاضِي الْفَاضِل من قبل السُّلْطَان أَنه عازم(4/332)
على الْحَج كتب إِلَيْهِ مُشِيرا بتبطيله إِن الفرنج لم يخرجُوا بعد من الشَّام وَلَا سلوا عَن الْقُدس وَلَا وثق بعهدهم فِي الصُّلْح فَلَا يُؤمن مَعَ بَقَاء الفرنج على حَالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلطاننا سفرا مُقَدرا مَعْلُوما مُدَّة الْغَيْبَة فِيهِ أَن يسروا لَيْلَة فيصبحوا الْقُدس على غَفلَة فيدخلوا إِلَيْهِ - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - ويفرط من يَد الْإِسْلَام وَيصير الْحَج كَبِيرَة من الْكَبَائِر الَّتِي لَا تغْفر وَمن العثرات الَّتِي لَا تقال
ثمَّ قَالَ وحاج الْعرَاق وخراسان أَلَيْسَ هم مئتي ألف أَو ثَلَاث مئة ألف أَو أَكثر هَل يُؤمن أَن يُقَال قد سَار السُّلْطَان لطلب ثار وَسَفك دم وتشويش موسم فاقعدوا فَيكون تَارِيخ سوء أعوذ بِاللَّه مِنْهُ مَا هَذِه الشناعة ممتنعة الْوُقُوع وَلَا مستبعدة من الْعُقُول السخيفة فينعم الْمولى بتأمل مَا أنهاه الْمَمْلُوك مَسْتُورا فانه يسْأَل مَوْلَانَا أَن لَا يُشَارك أحدا فِيمَا يَكْتُبهُ لَا من مُهِمّ وَلَا من غير مُهِمّ
يَا مَوْلَانَا مظالم الْخلق كشفها أهم من كل مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله وَمَا هِيَ بِوَاحِدَة فِي أَعمال دمشق من مظالم من الفلاحين مَا يستغرب مَعَه وُقُوع الْقطر وَمن تسلط المقطعين على المنقطعين مَا(4/333)
لَا يُنَادى وليده وَفِي وَادي بردى والزبداني من الفتنه الْقَائِمَة وَالسيف الَّذِي يقطر دَمًا مَا لَا زاجر عَنهُ وللمسلمين ثغور تُرِيدُ التحصين والذخيرة وَمن الْمُهِمَّات إِقَامَة وُجُوه الدخل وَتَقْدِير الخرج بحسبها فَمن المستحيل نَفَقَة من غير حَاصِل وَفرع من غير أصل وَهَذَا أَمر قد تقدم فِيهِ حَدِيث كثير وَعرضت للْمولى شواغل دونه ومشت الْأَحْوَال مشيا على ظلع فَلَمَّا خلت النوب - أعاذ الله من عودهَا - كَانَ خلو بَيت المَال أَشد مَا فِي الشدَّة وَلَيْسَ الْمَمْلُوك مطالبا بذخيرة تحصل إِنَّمَا يطْلب تمشية من حَيْثُ تَسْتَقِر
قلت وَلم يزل الْبَيْت الْمُقَدّس - شرفه الله تَعَالَى - ملحوظا بالعمارة والتحصين من عهد السُّلْطَان - رَحمَه الله - إِلَى سنة سِتَّة عشرَة وست مئة فَإِنَّهُ خرب فِي الْمحرم مِنْهَا بِسَبَب خُرُوج الفرنج - لعنهم الله - وانتشارهم فِي الْبِلَاد فخيف من استيلائهم عَلَيْهِ وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا توفّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب أَخُو السُّلْطَان وتشتت النَّاس بعد خرابه وَرَغبُوا عَن السُّكْنَى بِهِ(4/334)
ورثاه الرئيس الْفَاضِل شهَاب الدّين أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن مُحَمَّد المجاور بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا
(أعيني لَا ترقى من العبرات ... صلي فِي البكا الأصال بالبكرات)
(لَعَلَّ سيول الدمع يطفىء فيضها ... توقد مَا فِي الْقلب من جمرات)
(وَيَا قلب أَسعر نَار وَجدك كلما ... خبت بادكار يبْعَث الحسرات)
(وَيَا فَم بح بالشجو مِنْك لَعَلَّه ... يروح مَا ألْقى من الكربات)
(على الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي جلّ قدره ... على موطن الاخبات والصلوات)
(على منزل الْأَمْلَاك وَالْوَحي وَالْهدى ... على مشْهد الأبدال والبدلات)
(على سلم الْمِعْرَاج والصخرة الَّتِي ... أنافت بِمَا فِي الأَرْض من صخرات)
(على الْقبْلَة الأولى الَّتِي اتجهت لَهَا ... صَلَاة البرايا فِي اخْتِلَاف جِهَات)
(على خير معمور وَأكْرم عَامر ... وأشرف مَبْنِيّ لخير بناة)
(وَمَا زَالَ فِيهِ لِلنَّبِيِّينَ معبد ... يوالون فِي أرجائه السجدات)
(عَفا الْمَسْجِد الْأَقْصَى الْمُبَارك حوله الرفيع ... الْعِمَاد العالي الشرفات)
(عَفا بَعْدَمَا قد كَانَ للخير موسما ... وللبر والاحسان والقربات)
(يوافي إِلَيْهِ كل أَشْعَث قَانِت ... لمَوْلَاهُ بر دَائِم الخلوات)
(خلا من صَلَاة لَا يمل مقيمها ... توشح بِالْآيَاتِ والسورات)(4/335)
(خلا من حنين التائبين وحزنهم ... فَمن بَين نواح وَبَين بكاة)
(لتبك على الْقُدس الْبِلَاد بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات)
(لتبك عَلَيْهَا مَكَّة فَهِيَ أُخْتهَا ... وتشكو الَّذِي لاقت إِلَى عَرَفَات)
(لتبك على ماحل بالقدس طيبَة ... وتشرحه فِي أكْرم الحجرات)
(لقد أشمتوا عكا وصور بهدمها ... وَيَا طالما غادتهما بشمات)
(لقد شتتوا عَنْهَا جمَاعَة أَهلهَا ... وكل اجْتِمَاع مُؤذن بشتات)
(وَقد هدموا مجد الصّلاح بهدمها ... وَقد كَانَ مجدا باذخ الغرفات)
(وَقد أخمدوا صَوتا وصيتا أثاره ... لَهُم عظم مَا والوا من الْغَزَوَات)
(أما علمت أَبنَاء أَيُّوب أَنهم ... بمسعاته عدوا من السروات)
(وَأَن افْتِتَاح الْقُدس زهرَة ملكهم ... وَهل ثَمَر إِلَّا من الزهرات)
(فَمن لي بنواح يَنحن على الَّذِي ... شجاني بِأَصْوَات لَهُنَّ شجاة)
(يرددن بَيْتا للخزاعي قَالَه ... يؤبن فِيهِ خيرة الْخيرَات)
(مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة ... ومنزل وَحي مقفر العرصات)
قلت هَذَا الْبَيْت الْأَخير لدعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ فِي أول قصيدة يرثي بهَا أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/336)
وَهَذِه السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا الْعَادِل قبل الَّتِي خرب فِيهَا الْقُدس هِيَ السّنة الَّتِي نزل فِيهَا الفرنج - خذلهم الله - على ثغر دمياط حرسه الله تَعَالَى وَهِي الْمرة الأولى فِي زَمَاننَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استولوا عَلَيْهِ بعد أَن جرى لَهُم عَلَيْهِ نَحْو مِمَّا جرى لَهُم على عكا ثمَّ أَخذه الْمُسلمُونَ مِنْهُم وَقتلُوا وأسروا
ثمَّ إِن الفرنج استولوا عَلَيْهِ صلحا فِي سنة خمس وَعشْرين وست مئة وشرعوا فِي بِنَاء طَائِفَة مِنْهُ ثمَّ أخرجُوا مِنْهُ عنْوَة مرَّتَيْنِ أخرجهم فِي إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ مِنْهُ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد بن الْمُعظم شرف الدّين عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَقَالَ فِيهِ حِينَئِذٍ بعض شعراء الْعَصْر
هَذَا الشَّاعِر هوالصاحب جمال الدّين يحيى بن(4/337)
عِيسَى بن مطروح - رَحمَه الله تَعَالَى
(الْمَسْجِد الْأَقْصَى لَهُ عَادَة ... سَارَتْ فَصَارَت مثلا سائرا)
(إِذا غَدا للكفر مستوطنا ... أَن يبْعَث الله لَهُ ناصرا)
(فناصر طهره أَولا ... وناصر طهره آخرا)
ثمَّ استولى الفرنج أَيْضا على طبرية وعسقلان ثمَّ أخذتا مِنْهُم عنْوَة فِي شهور سنة خمس وَأَرْبَعين وست مئة فِي دولة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَقد استولوا أَيْضا على الشقيف وصفد وَالله يسهل عودهما إِلَى أهل الْإِسْلَام وَيُؤَيّد الدّين الحنيفي على ممر الْأَيَّام
فصل فِي مسير السُّلْطَان - رَحمَه الله - من الْقُدس إِلَى دمشق
قَالَ الْعِمَاد وَلما استتم السُّلْطَان النّظر فِي أَحْوَال الْقُدس وعمارته وفوض الْقَضَاء وَالنَّظَر فِي الْوُقُوف إِلَى القَاضِي بهاء الدّين يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم وعول مِنْهُ على أَمِين كريم آثر أَن يعود إِلَى دمشق على الثغور عابرا وَفِي أحوالها نَاظرا(4/338)
وَكَانَ عزم على الْحَج وصمم وَكتب إِلَى مصر واليمن بِمَا عَلَيْهِ عزم وَأمر أَن يحمل لَهُ فِي المراكب كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الأزواد والنفقات وَالثيَاب والكسوات فَقيل لَهُ لَو كتبت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمته بحجك وعرفته بنهجك حَتَّى لَا يظنّ بك أَمر أَنْت مِنْهُ بَرِيء وَيعلم أَن قصدك فِي الْمُضِيّ مضيء وَالْوَقْت قد ضَاقَ ويبلغ الْخَبَر الْآفَاق
ثمَّ هَذِه الْبِلَاد إِذا سَافَرت تركتهَا على مَا بهَا من الشعث وَهَذِه المعاقل الَّتِي فِي الثغور حفظهَا من أهم الْأُمُور وَلَا تغتر بِعقد الْهُدْنَة فَإِن الْقَوْم على ترقب المكنة والغدر دأبهم
فَمَا زَالَ بِهِ الْجَمَاعَة حَتَّى حلوا عقد عزمه على الْحَج فشرع فِي تَرْتِيب قَاعِدَة الْقُدس فِي ولَايَته وعمارته ثمَّ خرج من الْقُدس يَوْم الْخَمِيس خَامِس شَوَّال وَجَاوَزَ نَاحيَة البيرة وَبَات على بركَة الداوية وَنزل يَوْم الْجُمُعَة بِظَاهِر نابلس وَأقَام بهَا إِلَى ظهر يَوْم السبت حَتَّى كشف مظالم ووظف مَكَارِم وَكَانَ بهَا سيف الدّين المشطوب وشكا أَهلهَا نَوَائِب من جِهَته تنوب فأزال الشكوى وأزاح الْبلوى
ورحل بعد ظهر السبت وَبَات عِنْد عقبَة ظهر حمَار بِموضع يعرف بالفريديسة ورتعنا فِي مروجها الأنيسة وأصبحنا راحلين ونزلنا ضحوة على جينين وَهُنَاكَ وَدعنَا المشطوب وداع الْأَبَد فَإِنَّهُ انْتقل بعد أَيَّام إِلَى رَحْمَة الْوَاحِد الصَّمد(4/339)
وَجِئْنَا ضحوة الِاثْنَيْنِ إِلَى بيسان وَصعد إِلَى قلعتها المهجورة الخالية فأبصر قللها الْعَالِيَة وَقَالَ الصَّوَاب بِنَاء هَذِه وتخريب كَوْكَب
ثمَّ رَحل ظهرا وَبَات بقلعة كَوْكَب وَصعد نظر رَأْيه فِيهَا وَصوب ورحل ضحوة الثُّلَاثَاء وَنزل بطبرية وَقت الْعشَاء وَهُنَاكَ لَقينَا بهاء الدّين قراقوش وَقد خرج من الْأسر فتلقيناه بالبشر وَالْبر وَوصل مَعَ السُّلْطَان إِلَى دمشق وَأقَام إِلَى أَن خلص أَصْحَابه من الْأسر وَتوجه إِلَى مصر وَقد صان نَفسه ببذل مَاله وَأخرج ثروته وَدخل فِي إقلاله
قَالَ وتوالت تِلْكَ اللَّيْلَة الأمطار وواصلها النَّهَار فَأَقَمْنَا يَوْم الْأَرْبَعَاء وسرنا بكرَة الْخَمِيس ونزلنا بسفح الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ قلعة صفد وَصعد إِلَيْهَا وكمل فِيهَا الرِّجَال وَالْعدَد
ثمَّ سَار يَوْم الْجُمُعَة على طَرِيق جبل عاملة إِلَى قلعة تبنين وَجَاز يَوْم الْأَحَد على هونين وخيمنا على عين الذَّهَب عِنْد نزولنا من الْجَبَل واجتمعنا تِلْكَ اللَّيْلَة بالثقل ثمَّ سرنا إِلَى مرج عُيُون مرحلة وَإِلَى جسر كامد منزلَة وطريقنا بَين عمل صيدا ووادي التيم وطلعنا من تِلْكَ الأودية والشعاب طُلُوع الْأَنْوَار من الْغَيْم(4/340)
وَقَالَ فِي الْفَتْح عبرنا عمل صيدا يسرة وَعمل وَادي التيم يمنة وعرسنا على مرج تلفياثا مُقَابل مرج القنعبة ودفعنا إِلَى سلوك المسالك الصعبة ورحلنا يَوْم الثُّلَاثَاء إِلَى الْبِقَاع فخيمنا على جسر كامد وَيَوْم الْأَرْبَعَاء بِنَاحِيَة قب إلْيَاس وَدخل يَوْم الْخَمِيس بيروت وَبهَا وإليها عز الدّين سامة فاهتم لَهُ بالكرامة
وَلما أَرَادَ عَن بيروت الِانْفِصَال فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال قيل لَهُ إِن الابرنس الْأَنْطَاكِي بيمند مَعَ عِصَابَة من الْوَفْد وصل إِلَى الْخدمَة مستمسكا بِحَبل الْعِصْمَة
فَثنى عنانه وَنزل وَأقَام وَمَا ارتحل وَأذن للابرنس فِي الدُّخُول وشرفه فِي حَضرته بالمثول وقربه وآنسه وَرفع مَجْلِسه وَكَانَ مَعَه من مقدمي فرسانه أَرْبَعَة عشر بارونيا فوهب كلا مِنْهُم تَشْرِيفًا سريا وأجزل لَهُ وَلَهُم الْعَطاء وَأبْدى بهم الاعتناء وَكتب لَهُ من مناصفات أنطاكية معيشة بمبلغ عشْرين ألف دِينَار وَخص أَصْحَابه بمبار وَأَعْجَبهُ استرساله إِلَيْهِ ودخوله بِغَيْر أَمَان عَلَيْهِ فَلَا جرم تَلقاهُ بالاحسان وَوَافَقَهُ وودعه يَوْم الْأَحَد وفارقه
وَكَانَت الأثقال قد انْتَقَلت من قب إلْيَاس إِلَى مرج فلميطية من الْبِقَاع فَبَاتَ بمخيمه وَعبر يَوْم الِاثْنَيْنِ عين الْجَرّ إِلَى مرج يبوس وَقد زَالَ البوس وَهُنَاكَ توافد أَعْيَان دمشق وأماثلها وأفاضلها وفواضلها(4/341)
ونزلنا يَوْم الثُّلَاثَاء بالعرادة وَجرى الملتقون بالطرف والتحف على الْعَادة وأصبحنا يَوْم الْأَرْبَعَاء إِلَى جنَّة دمشق داخلين بِسَلام آمِنين لَوْلَا أننا غير خَالِدين وَكَانَت غيبَة السُّلْطَان عَنْهَا طَالَتْ أَربع سِنِين فأخرجت دمشق أثقالها وأبرزت نساءها ورجالها فَكَانَ يَوْم الزِّينَة وَخرج كل من فِي الْمَدِينَة وَحشر النَّاس ضحى وأشاعوا استبشارا وفرحا
وَكَانَت غيبَة السُّلْطَان فِي الْجِهَاد طَالَتْ فاهتزت بقدومه واختالت وقرت بفضائله الْأَعْين وأقرت بفواضله الألسن وأبدوا وُجُوه الاستبشار وألسن الاسْتِغْفَار وأعين الاستعبار وَرفعُوا أَيدي الابتهال بِصَالح الدُّعَاء عَن خَالص الْوَلَاء وَجَاء ربيع الْفضل فِي فصل الخريف واتصل تليد الْجد بالطريف واتسع فضاء الْفَضَائِل وارتدع جاه الْجَاهِل وَحل فِي القلعة حُلُول الشَّمْس فِي برجها وَأخذت بحار سماحه فِي موجها وَجلسَ فِي دَار الْعدْل فَأجَاب وأجار وأنال وأنار وَخرجت السّنة وَالسُّلْطَان فِي أَسْنَى سنائه وأبهى جَلَاله وَأجلى بهائه وَالنَّاس راتعون فِي رياض نعمائه ورسل المماليك الغربية والشرقية يخطبونه ويطلبونه وينتظرون عزمه ويرقبونه وَهُوَ يعدهم بانحسار الشتَاء وانكساره وابتسام ثغر الرّبيع وافتراره
وأقمنا على هَذَا الْعَزْم إِلَى آخر السّنة وَالسُّلْطَان مشتغل بالصيد والقنص منتهز من الْعُمر للفرص وَقرب الْعلمَاء وَأكْرم(4/342)
الْفُضَلَاء وَفضل الكرماء وَمَا كَانَ أحسن إِلَى الْحق إصغاءه وأسرع للباطل إلغاءه
وَقَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن أَقَامَ السُّلْطَان بالقدس يقطع النَّاس ويعطيهم دستورا ويتأهب للمسير إِلَى الديار المصرية وَانْقطع تشوفه إِلَى الْحَج وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى صَحَّ عِنْده إقلاع مركب الإنكلتير المخذول مُتَوَجها إِلَى بِلَاده فِي مستهل شَوَّال فَعِنْدَ ذَلِك حرر السُّلْطَان عزمه على أَن يدْخل السَّاحِل جَرِيدَة ويتفقد القلاع البحرية إِلَى بانياس وَيدخل دمشق يُقيم بهَا أَيَّامًا قَلَائِل وَيعود إِلَى الْقُدس الشريف سائرا إِلَى الديار المصرية لتفقد أحوالها وَتَقْرِير قواعدها وَالنَّظَر فِي مصالحها
قَالَ وَأَمرَنِي بالْمقَام بالقدس إِلَى حِين عوده لعمارة بيمارستان أنشأه فِيهِ وإدارة الْمدرسَة الَّتِي أَنْشَأَهَا فِيهِ إِلَى حِين عوده وَخرج من الْقُدس وودعته إِلَى البيرة وَنزل بهَا
ثمَّ ذكر إِزَالَته للمظالم عَن بلد نابلس ثمَّ رَحل وَنزل بسبسطية فتفقد أحوالها ثمَّ أَتَى فِي طَرِيقه إِلَى كَوْكَب فِي عَاشر شَوَّال وانفك بهاء الدّين قراقوش من الْأسر حادي عشر شَوَّال وَمثل بِالْخدمَةِ السُّلْطَانِيَّة ففرح بِهِ فَرحا شَدِيدا وَكَانَ لَهُ حُقُوق(4/343)
كَثِيرَة على السُّلْطَان وَالْإِسْلَام وَاسْتَأْذَنَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - فِي الْمسير إِلَى دمشق لتَحْصِيل القطيعة فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وَكَانَت القطيعة على مَا بَلغنِي ثَمَانِينَ ألفا
قَالَ وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى بيروت وصل إِلَى خدمته الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية مسترفدا فَبَالغ فِي إكرامه وإحترامه ومباسطته وأنعم عَلَيْهِ بالعمق وأرزغان ومزارع تعْمل خَمْسَة عشر ألف دِينَار
ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى دمشق بعد الْفَرَاغ من تصفح أَحْوَال القلاع الساحلية بأسرها والتقدم بسد خللها وَإِصْلَاح أُمُور أجنادها وإشحانها بِالرِّجَالِ فَدخل دمشق بكرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشري شَوَّال وفيهَا أَوْلَاده الْأَفْضَل والظافر وَالظَّاهِر وَأَوْلَاده الصغار وَكَانَ يحب الْبَلَد ويؤثر فِيهِ الاقامة على سَائِر الْبِلَاد
وَجلسَ للنَّاس فِي بكرَة الْخَمِيس وَحضر النَّاس عِنْده وبلوا شوقهم من رُؤْيَته وأنشده الشُّعَرَاء وَعم ذَلِك الْمجْلس الْخَاص وَالْعَام وَأقَام ينشر جنَاح عدله ويهطل سَحَاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا فِي الْأَوْقَات الْمُعْتَادَة(4/344)
وَاتخذ الْأَفْضَل يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل ذِي الْقعدَة دَعْوَة لِأَخِيهِ الظَّاهِر وَكَانَ الظَّاهِر لما وصل دمشق بلغه حَرَكَة السُّلْطَان إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا حَتَّى يتملى بِالنّظرِ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَكَأن نَفسه الشَّرِيفَة كَانَت قد أحست بدنو أجل السُّلْطَان فودعه فِي تِلْكَ الدفعة مرَارًا مُتعَدِّدَة وَهُوَ يعود إِلَيْهِ وَلما اتخذ الْأَفْضَل لَهُ الدعْوَة أظهر فِيهَا من بديع التجمل وغريبه مَا يَلِيق بهمته وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مجازاته عَمَّا خدمه بِهِ حِين وصل إِلَى حلب المحروسة وحضرها أَرْبَاب الدُّنْيَا وَأَبْنَاء الْآخِرَة وَسَأَلَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - الْحُضُور فَحَضَرَ جبرا لِقَلْبِهِ
قَالَ وَكَانَ الْعَادِل قد اسْتَأْذن السُّلْطَان فِي أَوَاخِر رَمَضَان فِي الْقُدس بالمضي إِلَى الكرك لتفقدها فَمضى وَأمر باصلاح مَا قصد إِصْلَاحه وَعَاد طَالبا الْمُضِيّ إِلَى الْبِلَاد الفراتية الَّتِي أعطَاهُ السُّلْطَان إِيَّاهَا فوصل دمشق سَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَخرج السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه وَأقَام يتصيد حول غباغب إِلَى الْكسْوَة حَتَّى لقِيه وسارا جَمِيعًا يتصيدان وَكَانَ دخولهما إِلَى دمشق فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ
وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق يتصيد هُوَ وَأَخُوهُ وَأَوْلَاده ويتفرجون فِي أَرَاضِي دمشق ومواطن الصِّبَا وَكَأَنَّهُ وجد بِهِ رَاحَة مِمَّا كَانَ فِيهِ من مُلَازمَة التَّعَب وَالنّصب وسهر اللَّيْل وَنصب النَّهَار وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه وَهُوَ لَا يشْعر - رَحْمَة الله(4/345)
عَلَيْهِ وَنسي عزمه الْمصْرِيّ وَعرض لَهُ أُمُور أخر وعزمات غير تِلْكَ ووصلني كِتَابه إِلَى الْقُدس يستدعيني إِلَى خدمته وَكَانَ شتاء شَدِيدا ووحلا عَظِيما
قلت وَفِي عيد الْأَضْحَى من هَذِه السّنة أنْشدهُ الرشيد النابلسي قصيدة حَسَنَة على وزن قصيدة التهامي
(حازك الْبَين حِين أَصبَحت بَدْرًا ... )
يَقُول فِيهَا يَعْنِي قصيدته
(وأبيها لَوْلَا تغزل عينيها ... لما قلت فِي التغزل شعرًا)
(ولكانت مدائح الْملك النَّاصِر ... أولى مَا فِيهِ أعمل فكرا)(4/346)
(ملك طبق الممالك عدلا ... مثل مَا أوسع الْبَريَّة برا)
ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا
(فتمل الأعياد صوما وفطرا ... وتلق الهناء عشرا ونحرا)
(يامسر الطَّاعَات لله إِن أضحى ... مليك على الهناة مصرا)
(نلْت مَا تبتغي من الدّين وَالدُّنْيَا ... فتيها على الْمُلُوك وفخرا)
(قد جمعت المجدين أصلا وفرعا ... وملكت الدَّاريْنِ دنيا وَأُخْرَى)
فصل فِي ذكر أُمُور جرت فِي هَذِه السّنة من وفيات وَغَيرهَا
قَالَ الْعِمَاد فِي شهر ربيع الآخر توفّي القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الْفراش من أهل دمشق قَاضِي الْعَسْكَر وَكَانَت وَفَاته بملطية وَهُوَ عَائِد من الرسَالَة إِلَى أَوْلَاد قليج أرسلان بالروم
وَكَانَ هَذَا القَاضِي من أصدق الأصدقاء وَأكْرم الكرماء وَمَا فارقني من أَيَّام الْملك الْعَادِل نور الدّين - رَحمَه الله - فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَكنت بأحواله شَدِيد الاعتناء وتوصلت لَهُ عِنْد السُّلْطَان فِي تَخْصِيصه بالمواصلة الموصلية والمراسلة فِي المهام الْخفية والجلية ثمَّ تولى نِيَابَة عَن السُّلْطَان فِي الْولَايَة الشهرزورية وَالْحكم(4/347)
على المقطعين بهَا وإنصاف الرّعية فَلَمَّا فوضت إِلَى مظفر الدّين صَاحب إربل رَجَعَ شمس الدّين ودامت غيبته عَن الحضرة مُدَّة سبع سِنِين
وَكَانَ تولى قَضَاء الْعَسْكَر مَوْضِعه بهاء الدّين بن شَدَّاد وَكَانَ خطب أَوْلَاد السُّلْطَان قليج أرسلان مهما عِنْد السُّلْطَان فاعتمد على القَاضِي شمس الدّين فِي الْوُصُول إِلَيْهِم وَالْحكم بتأليف ذَات بَينهم عَلَيْهِم فَمضى وَعَاد وأدركته الْمنية بِمَدِينَة ملطية
قَالَ وَفِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الهكاري الْمَعْرُوف بالمشطوب بنابلس وَقد سبق ذكر هَذَا الْأَمِير وبأسه وبسالته وإصابته وأصالته وإقدامه فِي الحروب وتقدمه فِي الخطوب
وَقد حضر مَعَ أَسد الدّين شيركوه النوب الثَّلَاث الَّتِي فتح فِي آخرهَا مصر ولازم صَلَاح الدّين إِلَى مُنْتَهى الْعُمر وَلما احْتِيجَ إِلَى الْبَدَل فِي عكا لما ضجر من أَقَامَ بِهِ وتشكى أجَاب إِلَى دُخُوله وقابل الْأَمر بقبوله وَحصل بِقَضَاء الله فِي الْأسر واحتوت عَلَيْهِ قَبْضَة الْكفْر وفدى نَفسه بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَنَجَا وآتاه الله من نعمه خلاصه مَا رجا وأنعم السُّلْطَان عَلَيْهِ بنابلس وأعمالها وَخص بأموالها وغلالها وَحين جزنا بِهِ وَدعنَا عِنْد جينين وداع الْأَبَد إِلَى جنَّة عليين(4/348)
وَإِنَّمَا سمي مشطوبا لشطبة فِي وَجهه من أثر طعنة فِي غزَاة حضرها وَله مَوَاقِف فِي الْجِهَاد كَثِيرَة موفورة ومقامات مَشْهُودَة مَشْهُورَة ووقف السُّلْطَان بعده ثلث نابلس وأعمالها على مصَالح الْقُدس وأقطع وَلَده وأميرين مَعَه الثُّلثَيْنِ مُحَافظَة على حَقه الَّذِي الْتَزمهُ الْتِزَام الدّين
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ السُّلْطَان خلف المشطوب بالقدس من جملَة الْعَسْكَر المقيمين بِهِ وَلم يكن واليه وَإِنَّمَا كَانَ واليه عز الدّين جرديك وَتُوفِّي المشطوب - رَحمَه الله - بالقدس يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال وَدفن فِي دَاره بعد أَن صلي عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى
قَالَ الْعِمَاد وَفِي منتصف شعْبَان توفّي سُلْطَان بِلَاد الرّوم عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان بقونية وَكَانَ أَوْلَاده لما كبروا تجبروا وَتفرد كل مِنْهُم باقليم فضعف بقوتهم وَعجز بقدرتهم وانخفض برفعتهم فانه فرق بِلَاده على جَمَاعَتهمْ طَمَعا فِي طاعتهم وَاخْتَارَ لتدبير ملكه اخْتِيَار الدّين حسن بن(4/349)
غفراس فحالفه عَلَيْهِ من أَوْلَاده قطب الدّين ملكشاه صَاحب سيواس فجَاء وَغلب على وَالِده وَأخذ عَلَيْهِ الأنفاس وَقَالَ لَهُ أَنا بَين يَديك عوض الأختيار ثمَّ أخلى مِنْهُ الديار ثمَّ أبعد عَن خدمَة وَالِده خواصه وأولياءه وأفنى بِالْقَتْلِ والاغتيال أمراءه وكبراءه واستخلصه لنَفسِهِ وَأَجْلسهُ على سَرِير ملكه وَهُوَ فِي حَبسه
ثمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى قيصرية ليأخذها من أَخِيه وَأظْهر أَنه بِأَمْر أَبِيه فَوجدَ قليج أرسلان فرْصَة فِي خلاصه فساق وَحده وَدخل الْبَلَد وَنَجَا من الْوَلَد إِلَى الْوَلَد فَعَاد ملكشاه إِلَى قونية وأقصرا دَاري ملك أَبِيه فتملكهما وَلم يزل قليج أرسلان يتَحَوَّل من ولد إِلَى ولد وَمن بلد إِلَى بلد يتَرَدَّد فِي بِلَاده فِي ضِيَافَة أَوْلَاده وَكلهمْ يضجر مِنْهُ ويعرض عَنهُ حَتَّى حصل عِنْد وَلَده غياث الدّين كيخسرو صَاحب برغلو فَلَمَّا حَضَره وأبصره آواه وَنَصره وَجَاء بِهِ إِلَى قونية فَدَخلَهَا وحلى عطلها وَمَات بهَا فَجَلَسَ مَكَان وَالِده وَقَوي على أَخِيه
قَالَ وَجَاء الرّبيع فِي شهر ربيع الأول فَكتب إِلَيّ نشو الدولة أَحْمد بن نفاذة أبياتا يدعوني إِلَى دمشق فِي خَامِس جُمَادَى الأولى وَقد دخل أَوَان المشمش وَهُوَ موسم دمشق الْمَشْهُود أَولهَا(4/350)
(دَعَا النَّاس للذات مشمش جلق ... فقد أَسْرعُوا من كل غرب ومشرق)
(فَقُمْ يَا عماد الدّين تحظ بِأَكْلِهِ ... وَلَا تثن عَنهُ عَزمَة السّير تسبق)
(وَقل حِين يَبْدُو أصفر اللَّوْن مشرقا ... وَيَا حسنه من أصفر اللَّوْن مشرق)
(لأكلك مَا يلقى الْفُؤَاد وَمَا لَقِي ... وللتوت مَا لم يبْق مني وَمَا بَقِي)
(فَلَيْسَ سوى الْحَلْوَاء فِي الْقُدس مأكل ... وَمَا جلبوه من زبيب وفستق)
قَالَ فعرضت أبياته على السُّلْطَان فَتَبَسَّمَ وَقَالَ مَا قلت فِي جَوَابه فَأَنْشَدته
(هلموا نسابق نَحْو مشمش جلق ... وَثمّ كَمَا نهوى على الْأكل نَلْتَقِي)
(تصفر شوقا لانتظار قدومنا ... وَمن يتعشق ذَا الْفَضَائِل يشتق)
(إِذا حضرت أطباقه غَابَ رشدنا ... لما يتلاقى من مشوق وشيق)
(حكى جمرات بالأضا قد تعلّقت ... فيا عجبي من جمره الْمُتَعَلّق)
(كَأَن نُجُوم الأَرْض فَوق غصونه ... فيا حيرتي من نجمه المتألق)
(وحباتها محمرة وجناتها ... فَمن يرهَا مثلي يحب ويعشق)
(بَدَت بَين أوراق الغصون كَأَنَّهَا ... كرات نضار فِي لجين مطرق)(4/351)
قَالَ فَلَمَّا أنشدت السُّلْطَان هَذَا الْبَيْت قَالَ تَشْبِيه الْوَرق باللجين غير مُوَافق فَإِن الْوَرق أَخْضَر فَقلت
(كرات نضار بالزمرد محدق ... )
(تساقطها أشجارها فَكَأَنَّهَا ... دَنَانِير فِي أَيدي الصيارف ترتقي)
(ومشمش بُسْتَان الزكي بشهده ... شَهَادَته تقضي فزك وَصدق)
(يَقُول رفيقي فِي دمشق تَعَجبا ... أما لَك بُسْتَان مقَالَة مُشفق)
(فَقلت إِلَى بَاب الْبَرِيد وسوقه ... لأمثالنا تجبى بساتين جلق)
(وَلَو كَانَ لي بِالسَّهْمِ سهم وجدت لي ... منالي بأيام الثِّمَار ومرفقي)
(إِذا كنت مبتاعا من السُّوق مشمشي ... فَمَا لي إِلَّا لَذَّة المتسوق)
(وَمَا لي بأرباب الْبَسَاتِين خلْطَة ... فَيُصْبِح فِي حيطانها متسلقي)
(كرام وثوقي فِي الشتَاء بودهم ... وَلَكنهُمْ فِي الصَّيف ينسون موثقي)
(وَمَا ثمَّ من يقري ويجدي ويقتني ... ثنائي سوى المحيي الْكَرِيم الْمُوفق)
(وَذَلِكَ يَوْم وَاحِد لَيْسَ غَيره ... أَمن أجل يَوْم وَاحِد قلت لي اسبق)
(على أنني لَو قيل بالصين دَعْوَة ... أثرت إِلَيْهَا لوعة المتحرق)
(فَإِن جِئْت قبلي جلقا فارم منعما ... حَدِيثي بنادي المنعمين وَحلق)
(لَعَلَّ كَرِيمًا ينتخي لضيافتي ... بمشمشة عِنْد الْقدوم وينتقي)
(فَلَا تنس نشو الدّين نشوة خاطري ... وَقل عَن صبوحي كَيفَ شِئْت ورقق)(4/352)
(وهات وساعدني وَخذ من قريحتي ... لطيمة دَاري من الْحَمد واعبق)
قَالَ فَقَالَ لي السُّلْطَان عَن صبوح ترقق كَأَنَّك تُرِيدُ تمْضِي إِلَى دمشق وتسبق فَقلت الْأَهْل وَالْولد وَقد عيل عَنْهُم الْجلد وَلَكِن مغيبي عَن الْخدمَة لَا يَدُور بِهِ الْخلد فظلك هُوَ السكن والبلد
قَالَ وكتبت أَيْضا فِي جَوَابه وَصفَة المشمش وَذكرت تشبيهاته وَقد أذن لي السُّلْطَان لمهم لَهُ أَيْضا اتّفق
(قد صَحَّ عزمي على الْمسير فَلَا ... أبغي مقَامي وَالْقلب قد رحلا)
(أمضي إِلَى دمية مقبلها ... أرشف مِنْهُ المدام والعسلا)
(مُصَور بل مدور عجب ... ترى بِهِ وَهُوَ جامد شعلا)
(فَفِي قُلُوب الْأَشْجَار مِنْهُ جذى ... وَفِي ظُهُور الغصون مِنْهُ كلا)
(طلوا بِمَاء النضار ظَاهره ... لباطن فِي حشاه نَار طلا)
(يخفى إِذا مَا بدا لعينك فِي ... فِيك وَفِيه النَّوَى إِذا وصلا)
(حلي تبر على عرائس أَغْصَان ... تشكت من قبلهَا عطلا)
(حمر حسان الْوُجُوه قد لبست ... من خضر أوراقها لَهَا حللا)(4/353)
(عرائس من خدورها برزت ... تحسب أشجارها لَهَا كللا)
(حلاوة لَا يمل آكلها ... إِذا الحلاوات أحدثت مللا)
(زهر كشهب السَّمَاء راجمة ... جن جناة بقطفها كفلا)
(عيونها الرمد فِي ترقبنا ... جاحظة أبرزت لنا مقلا)
(مَاذَا التواني وَذَا التَّأَخُّر والابطاء ... قدم مسيرنا عجلا)
(نغدو خفافا إِلَى مواسمها ... من قبل نبلى بِصُحْبَة الثقلا)
(قد انتظرنا من الخزانة مَا ... نعطى فأكدى نوابها البخلا)
(فَإِن عدمنا من عِنْدهم ذَهَبا ... فَمَا عدمنا عَنهُ بِهِ بَدَلا)
(وكلنَا فِي عوارف الْملك النَّاصِر ... نرعى ونسلك السبلا)
قَالَ وَقلت فِيهِ ربَاعِية
(المشمش لانتظارنا مصفر ... وَالرَّوْض إِلَى لقائنا مفتر)
(قُم نغتنم الْوَقْت فَهَذَا الْعُمر ... لَا لبث لَهُ فَمن بِهِ يغتر)
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة نصرت الأساطيل فِي الْبَحْر مرَارًا وأنفذ السُّلْطَان فِي استدعائها استظهارا
قَالَ مُحَمَّد بن القادسي وَفِي مستهل رَجَب وكل بأميرالحاج طاشتكين يَعْنِي الَّذِي قتل أَمِير حَاج الشَّام شمس الدّين ابْن الْمُقدم بِعَرَفَات سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَسَببه أَنه اتهمَ بمكاتبة السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِيمَا يتَعَلَّق بقلب الدولة وَأظْهر عَلَيْهِ أستاذ الدَّار أَبُو الظفر بن يُونُس كتابا قيل إِنَّه خطه وَفِيه الْمصلحَة مهادنة الفرنج والمجيء إِلَى الْبِلَاد فَمَا يقف بَين أَيْدِيكُم والبلاد لكم إِذا ملكتم الْعرَاق وَهَذَا وقتكم إِن كَانَ لكم نِيَّة وَأَنا مشدود الْوسط فِي الْخدمَة
ثمَّ ذكر ابْن القادسي أَن ذَلِك مستبعد فِي حق طاشتكين وزور وبهتان وَنسب ذَلِك إِلَى افتعال ابْن يُونُس عَلَيْهِ وَكَانَ طاشتكين أَمِير الْحَاج عشْرين سنة يخْطب لَهُ بِمَكَّة بعد الْخطْبَة لأمير الْمُؤمنِينَ وَله إقطاع بمئة ألف دِينَار
قَالَ وفيهَا فِي ربيع الآخر توفّي أَبُو المرهف نصر بن مَنْصُور النميري الشَّاعِر الأديب الزَّاهِد سمع قَاضِي البيمارستان(4/354)
اتهمَ بمكاتبة السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِيمَا يتَعَلَّق بقلب الدولة وَأظْهر عَلَيْهِ أستاذ الدَّار أَبُو المظفر بن يُونُس كتابا قيل إِنَّه خطه وَفِيه الْمصلحَة مهادنة الفرنج والمجيء إِلَى الْبِلَاد فَمَا يقف بَين أَيْدِيكُم والبلاد لكم إِذا ملكتم الْعرَاق وَهَذَا وقتكم إِن كَانَ لكم نِيَّة وَأَنا مشدود الْوسط فِي الْخدمَة
ثمَّ ذكر ابْن القادسي أَن ذَلِك مستبعد فِي حق طاشتكين وزور وبهتان وَنسب ذَلِك إِلَى افتعال ابْن يُونُس عَلَيْهِ وَكَانَ طاشتكين أَمِير الْحَاج عشْرين سنة يخْطب لَهُ بِمَكَّة بعد الْخطْبَة لأمير الْمُؤمنِينَ وَله إقطاع بمئة ألف دِينَار
قَالَ وفيهَا فِي ربيع الآخر توفّي أَبُو المرهف نصر بن مَنْصُور النميري الشَّاعِر الأديب الزَّاهِد سمع قَاضِي البيمارستان(4/355)
وروى عَن ابْن نَبهَان وَكَانَ قد رَبِّي بِالشَّام وخالط أهل الْأَدَب وأضر بالجدري وَله أَربع عشرَة سنة وَكَانَ يبصر الْأَشْيَاء الْقَرِيبَة مِنْهُ وَلَا يحْتَاج إِلَى قَائِد إِذا مَشى ثمَّ قدم الْعرَاق لمداواة عينه فآيسه الْأَطِبَّاء من ذَلِك فاشتغل بِالْقُرْآنِ وَحفظه وَصَاحب المتدينين والزهاد من أهل الْفِقْه والْحَدِيث واللغة وَله ديوَان شعر كَبِير وَسُئِلَ عَن مذْهبه فأملى
(أحب عليا والبتول وَوَلدهَا ... وَلَا أجحد الشَّيْخَيْنِ فضل التَّقَدُّم)
(وَأَبْرَأ مِمَّن نَالَ عُثْمَان بالأذى ... كَمَا أتبرا من وَلَاء ابْن ملجم)
(ويعجبني أهل الحَدِيث لصدقهم ... فلست إِلَى قوم سواهُم بمنتمي)
وَله أَيْضا فِي غير ذَلِك
(وزهدني فِي جَمِيع الْأَنَام ... قلَّة إنصاف من تصْحَب)
(هم النَّاس مَا لم تجربهم ... وطلس الذئاب إِذا جربوا)
(وليتك تسلم عِنْد البعاد ... مِنْهُم فَكيف إِذا تقرب)
قَالَ وَدفن بمقابر الشُّهَدَاء بِبَاب حَرْب
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بِدِمَشْق فِي دَاره وممالك الْآفَاق فِي انْتِظَاره والأنام مشرقة بمطالع أنواره ورسل الْأَمْصَار مجتمعون على بَابه منتظرون لجوابه والضيوف فِي فيوض إنعامه عائمون والفقراء فِي رياض صدقاته راتعون وَيجْلس فِي كل يَوْم وَلَيْلَة(4/356)