ـ[عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية]ـ
المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ)
المحقق: إبراهيم الزيبق
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م
عدد الأجزاء: 5
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](1/1)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين
الْحَمد لله الَّذِي بِلُطْفِهِ تصلح الْأَعْمَال وبكرمه وجوده تدْرك الآمال وعَلى وفْق مَشِيئَته تتصرف الْأَفْعَال وبإرادته تَتَغَيَّر الْأَحْوَال وَإِلَيْهِ الْمصير والمرجع والمآل سُبْحَانَهُ هُوَ الْبَاقِي بِلَا زَوَال المنزه عَن الْحُلُول والانتقال عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال ذُو الْعَرْش والمعارج والطول وَالْإِكْرَام والجلال نحمده على مَا أَسْبغ من الإنعام والإفضال وَمن بِهِ من الْإِحْسَان والنوال حمدا لَا توازنه الْجبَال ملْء السَّمَوَات وَالْأَرْض وعَلى كل حَال وَنُصَلِّي على رَسُوله وَنبيه وَخيرته من خلقه وَصفيه وخليله ووليه وحبيبه المفضال سيدنَا أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله ذِي الشّرف الباذخ وَالْعلم الراسخ وَالْفضل الشامخ وَالْجمال والكمال صلى الله عَلَيْهِ وعَلى الْمَلَائِكَة المقربين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وعترتهم الطيبين مَا أفل كَوْكَب وطلع هِلَال وعَلى آل مُحَمَّد وَصَحبه خير صحب وَأكْرم آل وعَلى تابعيهم بِإِحْسَان وَجَمِيع الْأَوْلِيَاء والأبدال وَعَفا عَن الْمُقَصِّرِينَ من أمته أولي الكسل والملال وحشرنا فِي زمرته مُتَمَسِّكِينَ بشرعته مقتدين بسنته متعظين بِمَا ضرب من الْأَمْثَال مزدحمين تَحت لوائه فِي جملَة أوليائه يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال(1/21)
أما بعد فَإِنَّهُ بعد أَن صرفت جلّ عمري ومعظم فكري فِي اقتباس الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة واقتناص الفرائد الأدبية عَن لى أَن أصرف إِلَى علم التَّارِيخ بعضه فأحوز بذلك سنة الْعلم وفرضه اقْتِدَاء بسيرة من مضى من كل عَالم مرتضى فَقل إِمَام من الْأَئِمَّة إِلَّا ويحكى عَنهُ من أَخْبَار من سلف فَوَائِد جمة مِنْهُم إمامنا أَبُو عبد الله الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ قَالَ مُصعب الزبيرِي مَا رَأَيْت أحدا أعلم بأيام النَّاس من الشَّافِعِي ويروى عَنهُ أَنه قَامَ على تعلم أَيَّام النَّاس وَالْأَدب عشْرين سنة وَقَالَ مَا أردْت بذلك إِلَّا الِاسْتِعَانَة على الْفِقْه
قلت وَذَلِكَ عَظِيم الْفَائِدَة جليل العائدة وَفِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخْبَار الْأُمَم السالفة وأنباء الْقُرُون الخالفة مَا فِيهِ عبر لذوى البصائر واستعداد ليَوْم تبلى السرائر قَالَ الله عز وَجل وَهُوَ أصدق الْقَائِلين {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرسُل مَا نُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَجَاءَكَ فِي هَذِه الْحق وموعظة وذكرى للْمُؤْمِنين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَقَدْ جَاءَهم من الأنْبَاء مَاِ فِيهِ مزدجر حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر}
وَحدث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَدِيث أم زرع وَغَيره مِمَّا جرى فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْأَيَّام الإسرائيلية وَحكى عجائب مَا رَآهُ لَيْلَة أسرِي بِهِ وعرج وَقَالَ (حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج) وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سماك بن(1/22)
حَرْب قَالَ قلت لجَابِر بن سمُره أَكنت تجَالس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نعم كثيرا كَانَ لَا يقوم من مُصَلَّاهُ الَّذِي صلى فِيهِ الصُّبْح أَو الْغَدَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس فَإِذا طلعت قَامَ وَكَانُوا يتحدثون فَيَأْخُذُونَ فِي أَمر الْجَاهِلِيَّة فيضحكون ويبتسم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو رضى الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدثنا عَن بني إِسْرَائِيل حَتَّى يصبح مَا يقوم إِلَّا إِلَى عُظم صَلَاة
قلت وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون فَمن بعدهمْ يتفاوضون فِي حَدِيث من مضى ويتذاكرون مَا سبقهمْ من الْأَخْبَار وانقضى ويستنشدون الْأَشْعَار ويتطلبون الْآثَار وَالْأَخْبَار وَذَلِكَ بَين من أفعالهم لمن اطلع على أَحْوَالهم وهم السَّادة الْقدْوَة فلنا بهم أُسْوَة فاعتنيت بذلك وتصفحته وبحثت عَنهُ مُدَّة وتطلبته فوقفت وَالْحَمْد لله على جملَة كَبِيرَة من أَحْوَال الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْخُلَفَاء والسلاطين وَالْفُقَهَاء والمحدثين والأولياء وَالصَّالِحِينَ وَالشعرَاء والنحويين وأصناف الْخلق البَاقِينَ وَرَأَيْت أَن المطلع على أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين كَأَنَّهُ قد عاصرهم أَجْمَعِينَ وَأَنه عِنْدَمَا يفكر فِي أَحْوَالهم أَو يذكرهم كَأَنَّهُ مُشاهدهم ومحاضرهم فَهُوَ قَائِم لَهُ مقَام طول الْحَيَاة وَإِن كَانَ متعجل الْوَفَاة قَالَ(1/23)
نعيم بن حَمَّاد كَانَ عبد الله بن الْمُبَارك يكثر الْجُلُوس فِي بَيته فَقيل لَهُ أَلا تستوحش قَالَ كَيفَ استوحش وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَفِي رِوَايَة قَالَ قيل لِابْنِ الْمُبَارك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن تكْثر الْقعُود فِي الْبَيْت وَحدك فَقَالَ أَنا وحدي أَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يَعْنِي النّظر فِي الحَدِيث
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان
قلت وَقد أنشدت لبَعض الْفُضَلَاء
(كتاب أطالعه مؤنس ... أحب إِلَيّ من الآنسه)
(وأدرسه فيريني الْقُرُون ... حضورا وأعظمهم دارسه)
وَقد اخْتَار الله سُبْحَانَهُ لنا أَن نَكُون آخر الْأُمَم وأطلعنا على أنباء من تقدم لنَّتعظ بِمَا جرى على الْقُرُون الخلية {وتَعِيَها أذنٌ واعِيَة} {فَهَل تَرَى لَهُمْ من بَاقِيَة} ولنقتدي بِمن تقدمنا من الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة الصلحاء وَنَرْجُو بِتَوْفِيق الله عز وَجل أَن نَجْتَمِع بِمن يدْخل الْجنَّة مِنْهُم ونذاكرهم بِمَا نقل إِلَيْنَا عَنْهُم وَذَلِكَ على رغم أنف من عدم الْأَدَب وَلم يكن لَهُ فِي هَذَا الْعلم أرب بل أَقَامَ على غية وأكب والمرء مَعَ من أحب
هَذَا وَإِن الْجَاهِل بِعلم التَّارِيخ راكبُ عمياء خابط خبط عشواء ينْسب إِلَى من تقدم أَخْبَار من تَأَخّر ويعكس ذَلِك وَلَا يتدبر وَإِن رد عَلَيْهِ وهمه لَا يتأثر وَإِن ذكر فلجهله لَا يتَذَكَّر لَا يفرق بَين صَحَابِيّ وتابعي وحنفي ومالكي وشافعي وَلَا بَين خَليفَة وأمير وسلطان ووزير وَلَا يعرف من سيرة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَنه نَبِي مُرْسل فَكيف لَهُ بِمَعْرِِفَة أَصْحَابه وَذَلِكَ الصَّدْر(1/24)
الأول الَّذين بذكرهم ترتاح النُّفُوس وَيذْهب البوس وَلَقَد رَأَيْت مَجْلِسا جمع ثَلَاثَة عشر مدرسا وَفِيهِمْ قَاضِي الْقُضَاة لذَلِك الزَّمَان وَغَيره من الْأَعْيَان فَجرى بَينهم وَأَنا أسمع ذكر من تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة وهم ذَوُو الْقُرْبَى المذكورون فِي الْقُرْآن فَقَالَ جَمِيعهم بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَعدلُوا بأجمعهم فِي ذَلِك عَمَّا يجب فتعجبت من جهلهم حَيْثُ لم يفرقُوا بَين عبد الْمطلب وَالْمطلب وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْمطلب هُوَ عَم عبد الْمطلب وَأَن عبد الْمطلب هُوَ ابْن هَاشم فَمَا أحقهم بلوم كل لائم إِذْ هَذَا أصل من أصُول الشَّرِيعَة قد أهملوه وَبَاب من أَبْوَاب الْعلم جهلوه وَلزِمَ من قَوْلهم إِخْرَاج بني الْمطلب من هَذِه الفضيله فابتغيت إِلَى الله تَعَالَى الْوَسِيلَة وأنفت لنَفْسي من ذَلِك الْمقَام فأخذتها بِعلم أَخْبَار الْأَنَام وَتَصْحِيح نسبتها وإيضاح محجتها فَإِن كثيرا مِمَّن يحفظ شَيْئا من الوقائع يفوتهُ معرفَة نسبتها إِلَى أَرْبَابهَا وَإِن نَسَبهَا خلط فِيهَا وصرفها عَن أَصْحَابهَا وَهُوَ بَاب وَاسع غزير الْفَوَائِد صَعب المصادر والموارد زلت فِيهِ قدم كثير من نقلة الْأَخْبَار ورواة الْآثَار
ثمَّ أردْت أَن أجمع من هَذَا الْعلم كتابا يكون حاويا لما حصلته وأتقن فِيهِ مَا خبرته فعمدت إِلَى أكبر كتاب وضع فِي هَذَا الْفَنّ على طَريقَة الْمُحدثين وَهُوَ تَارِيخ مَدِينَة دمشق حماها الله عز وَجل الَّذِي صنفه الْحَافِظ الثِّقَة أَبُو الْقَاسِم على بن الْحسن العساكري رَحمَه الله وَهُوَ ثَمَانِي(1/25)
مئة جُزْء فِي ثَمَانِينَ مجلدا فاختصرته وهذبته وزدته فَوَائِد من كتب أُخْرَى جليلة وأتقنته ووقف عَلَيْهِ الْعلمَاء وسَمعه الشُّيُوخ والفضلاء وَمر بِي فِيهِ من الْمُلُوك المتاخرين تَرْجَمَة الْملك الْعَادِل نور الدّين فأطربني مَا رَأَيْت من آثاره وَسمعت من أخباره مَعَ تَأَخّر زَمَانه وَتغَير خلانه
ثمَّ وقفت بعد ذَلِك فِي غير هَذَا الْكتاب على سيرة سيد الْمُلُوك بعده الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فوجدتهما فِي المتاخرين كالعمرين رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُتَقَدِّمين فَإِن كل ثَان من الْفَرِيقَيْنِ حذا حَذْو من تقدمه فِي الْعدْل وَالْجهَاد واجتهد فِي إعزاز دين الله أَي اجْتِهَاد وهما ملكا بَلْدَتنَا وسلطانا خطتنا الله تَعَالَى بهما فَوَجَبَ علينا القايم بِذكر فضلهما فعزمت على إِفْرَاد ذكر دولتيهما بتصنيف يتَضَمَّن التقريظ لَهما والتعريف فَلَعَلَّهُ يقف عَلَيْهِ من الْمُلُوك من يسْلك فِي ولَايَته ذَلِك السلوك فَلَا أبعد أَنَّهُمَا حجَّة من الله على الْمُلُوك الْمُتَأَخِّرين وذكرى مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم قد يستبعدون من أنفسهم طَريقَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن حذا حذوهم من الْأَئِمَّة السَّابِقين وَيَقُولُونَ نَحن فِي الزَّمن الْأَخير وَمَا لأولئك من نَظِير فَكَانَ فِيمَا قدر الله سُبْحَانَهُ من سيرة هذَيْن الْملكَيْنِ إِلْزَام الْحجَّة عَلَيْهِم بِمن هُوَ فِي عصرهم من بعض مُلُوك دهرهم فَلَنْ يعجز عَن التَّشَبُّه بهما أحد إِن وفْق الله تَعَالَى الْكَرِيم وسدد وَأخذت ذَلِك من قَول أبي صَالح شُعَيْب بن حَرْب الْمَدَائِنِي رَحمَه الله وَكَانَ أحد السَّادة الأكابر فِي الْحِفْظ وَالدّين قَالَ إِنِّي لأحسب يجاء بسفيان الثَّوْريّ يَوْم الْقِيَامَة حجَّة من الله تَعَالَى على هَذَا الْخلق يُقَال لَهُم إِن لم تدركوا نَبِيكُم فقد أدركتم سُفْيَان أَلا اقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَهَكَذَا أَقُول هَذَانِ حجَّة على الْمُتَأَخِّرين من الْمُلُوك والسلاطين فَلِله درهما من ملكَيْنِ تعاقبا على حسن السِّيرَة وَجَمِيل السريرة وهما حَنَفِيّ وشافعي شفى الله بهما كل عي وَظَهَرت بهما من خالقهما الْعِنَايَة فتقاربا حَتَّى فِي(1/26)
الْعُمر وَمُدَّة الْولَايَة وَهَذِه نُكْتَة قل من فطن لَهَا وَنبهَ عَلَيْهَا ولطيفة هَدَانِي الله بتوفيقه إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَن نور الدّين رَحمَه الله ولد سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَتُوفِّي سنة تسع وَسِتِّينَ وَولد صَلَاح الدّين رَحمَه الله سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة وَتُوفِّي سنة تسع وَثَمَانِينَ فَكَانَ نور الدّين أسن من صَلَاح الدّين بِسنة وَاحِدَة وَبَعض أُخْرَى وَكِلَاهُمَا لم يستكمل سِتِّينَ سنة فَانْظُر كَيفَ اتّفق أَن بَين وفاتيهما عشْرين سنة وَبَين مولديهما إِحْدَى وَعشْرين سنة وَملك نور الدّين دمشق سنة تسع وَأَرْبَعين وملكها صَلَاح الدّين سنة سبعين فَبَقيت دمشق فِي المملكة النورية عشْرين سنة وَفِي المملكة الصلاحية تسع عشرَة سنة تمحى فِيهَا السَّيئَة وتكتب الْحَسَنَة وَهَذَا من عَجِيب مَا اتّفق فِي الْعُمر وَمُدَّة الْولَايَة ببلدة مُعينَة لملكين متعاقبين مَعَ قرب الشّبَه بَينهمَا فِي سيرتيهما وَالْفضل للمتقدم فَكَأَن زِيَادَة مُدَّة نور الدّين كالتنبيه على زِيَادَة فَضله والإرشاد إِلَى عظم مَحَله فَإِنَّهُ أصل ذَلِك الْخَيْر كُله مهد الْأُمُور بعدله وجهاده وهيبته فِي جَمِيع بِلَاده مَعَ شدَّة الفتق واتساع الْخرق وَفتح من الْبِلَاد مَا استعين بِهِ على مداومة الْجِهَاد فهان على من بعده على الْحَقِيقَة سلوك تِلْكَ الطَّرِيقَة لَكِن صَلَاح الدّين أَكثر جهادا وأعم بلادا صَبر وصابر ورابط وثابر(1/27)
وَذخر الله لَهُ من الْفتُوح أنفسه وَهُوَ فتح الأَرْض المقدسة فرضى الله عَنْهُمَا فَمَا أحقهما بقول الشَّاعِر
(كم ترك الأول للْآخر)
(وألبس الله هاتيك الْعِظَام وَإِن ... بلين تَحت الثرى عفوا وغفرانا)
(سقى ثرى أودعوه رَحْمَة مَلَأت ... مثوى قُبُورهم روحا وريحانا)
وَقد سبقني إِلَى تدوين مآثرهما جمَاعَة من الْعلمَاء والأكابر الْفُضَلَاء
فَذكر الْحَافِظ الثِّقَة أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن الدِّمَشْقِي فِي تَارِيخه تَرْجَمَة حَسَنَة لنُور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحْمَة الله ولأجله تمم ذَلِك الْكتاب وَذكر اسْمه فِي خطبَته
وَذكر الرئيس أَبُو يعلى حَمْزَة بن أَسد التَّمِيمِي فِي مذيل التَّارِيخ الدِّمَشْقِي قِطْعَة صَالِحَة من أَوَائِل الدولة النورية إِلَى سنة خمس وَخمسين(1/28)
وَخمْس مئة
وصنف الشَّيْخ الْفَاضِل عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عرف بِابْن الْأَثِير مجلدة فِي الْأَيَّام الأتابكية كلهَا وَمَا جرى فِيهَا وَفِيه شىء من أَخْبَار الدولة الصلاحية لتَعلق إِحْدَى الدولتين بِالْأُخْرَى لكَونهَا متفرعة عَنْهَا
وصنف القَاضِي بهاء الدّين أَبُو المحاسن يُوسُف بن رَافع بن تمبم الْموصِلِي عرف بِابْن شَدَّاد قَاضِي حلب مجلدة فِي الْأَيَّام الصلاحية وسَاق مَا تيَسّر فِيهَا من الْفتُوح واستفتح كِتَابه بشرح مَنَاقِب صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
وصنف الإِمَام الْعَالم عماد الدّين الْكَاتِب أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حَامِد الْأَصْفَهَانِي كتابين كِلَاهُمَا مسجوع متقن بالألفاظ الفصيحة والمعاني الصَّحِيحَة أَحدهمَا الْفَتْح الْقُدسِي اقْتصر فِيهِ على فتوح صَلَاح الدّين(1/29)
وَسيرَته فاستفتحه بِسنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَالثَّانِي الْبَرْق الشَّامي ذكر فِيهِ الوقائع والحوادث من الْغَزَوَات والفتوحات وَغَيرهمَا مِمَّا وَقع من سنة وُرُوده دمشق وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة إِلَى سنة وَفَاة صَلَاح الدّين وَهِي سنة تسع وَثَمَانِينَ فَاشْتَمَلَ على قِطْعَة كَبِيرَة من أَخْبَار أَوَاخِر الدولة النورية إِلَّا أَن الْعِمَاد فِي كِتَابيه طَوِيل النَّفس فِي السجع وَالْوَصْف يمل النَّاظر فِيهِ وَيذْهل طَالب معرفَة الوقائع عَمَّا سبق من القَوْل وينسيه فحذفت تِلْكَ الأسجاع إِلَّا قَلِيلا مِنْهَا استحسنتها فِي موَاضعهَا وَلم تَكُ خَارِجَة عَن الْغَرَض الْمَقْصُود من التَّعْرِيف بالحوادث والوقائع نَحْو مَا ستراه فِي أَخْبَار فتح بَيت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى وانتزعت الْمَقْصُود من الْأَخْبَار من بَين تِلْكَ الرسائل الطوَال والأسجاع المفضية إِلَى الملال وَأَرَدْت أَن يفهم الْكَلَام الْخَاص وَالْعَام واخترت من(1/30)
تِلْكَ الْأَشْعَار الْكَثِيرَة قَلِيلا مِمَّا يتَعَلَّق بالقصص وَشرح الْحَال وَمَا فِيهِ نُكْتَة غَرِيبَة وَفَائِدَة لَطِيفَة
ووقفت على مجلدات من الرسائل الْفَاضِلِيَّةِ وعَلى جملَة من الْأَشْعَار الْعمادِيَّة مِمَّا ذكره فِي ديوانه دون برقه وعَلى كتب أخر من دواوين وَغَيرهَا فالتقطت مِنْهَا أَشْيَاء مِمَّا يتَعَلَّق بالدولتين أَو بِإِحْدَاهُمَا وَبَعضه سمعته من أَفْوَاه الرِّجَال الثِّقَات وَمن المدركين لتِلْك الْأَوْقَات فاختصرت جَمِيع مَا فِي ذَلِك من أَخْبَار الدولتين وَمَا حدث فِي مدتهما من وَفَاة خَليفَة أَو وَزِير أَو أَمِير كَبِير أَو ذى قدر خطير وَغير ذَلِك فجَاء مجموعا لطيفا وكتابا ظريفا يصلح لمطالعة الْمُلُوك والأكابر من ذَوي المآثر والمفاخر
وسميته ((كتاب الروضتين فِي أَخْبَار الدولتين)) وَللَّه در حبيب بن أَوْس حَيْثُ يَقُول
(ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ السنون وَأَهْلهَا ... فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم أَحْلَام)
فصل
أما الدولة النورية فسلطانها الْملك الْعَادِل نور الدّين أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عماد الدّين أتابك وَهُوَ أَبُو سعيد زنكى بن قسيم الدولة آق سنقر(1/31)
التركي ويلقب زنكي أَيْضا بلقب وَالِده قسيم الدولة وَيُقَال لنُور الدّين ابْن القسيم وسنتكلم على أَخْبَار أسلافه عِنْد بسط أَوْصَافه وقدمت من إِجْمَال أَحْوَاله مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَفعاله
ذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه أَنه ولد سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَأَن جده آق سنقر ولي حلب وَغَيرهَا من بِلَاد الشَّام وَنَشَأ أَبوهُ زنكي بالعراق ثمَّ ولي ديار الْموصل والبلاد الشامية وَظَهَرت كِفَايَته فِي مُقَابلَة الْعَدو عِنْد نُزُوله على شيزر حَتَّى رَجَعَ خائبا وَفتح الرها والمعرة وكفرطاب وَغَيرهَا من الْحُصُون الشامية واستنقذها من أيدى الْكفَّار فَلَمَّا انْقَضى أَجله قَامَ ابْنه نور الدّين مقَامه وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس ومئة ثمَّ قصد نور الدّين حلب فملكها وَخرج غازيا فِي أَعمال تل بَاشر فَافْتتحَ حصونا كَثِيرَة من جُمْلَتهَا قلعة عزاز ومرعش وتل خَالِد وَكسر إبرنس أنطاكية وَقَتله وَثَلَاثَة آلَاف فرنجي مَعَه وَأظْهر بحلب السّنة وَغير الْبِدْعَة الَّتِي كَانَت لَهُم فِي التأذين وقمع بهَا الرافضة وَبنى بهَا الْمدَارِس ووقف الْأَوْقَاف وَأظْهر الْعدْل وحاصر دمشق مرَّتَيْنِ وَفتحهَا فِي الثَّالِثَة فضبط أمورها وحصن سورها وَبنى بهَا الْمدَارِس والمساجد وَأصْلح طرقها ووسع أسواقها وَمنع من أَخذ مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم من المغارم المغارم بدار الْبِطِّيخ وسوق الْغنم والكيالة وَغَيرهَا وعاقب على شرب الْخمر واستنقذ من الْعَدو ثغر بانياس والمنيطرة وَغَيرهمَا وَكَانَ فِي الْحَرْب ثَابت الْقدَم حسن الرمى صَلِيب الضَّرْب يقدم أَصْحَابه ويتعرض للشَّهَادَة وَكَانَ يسال الله تَعَالَى أَن يحشره من بطُون السبَاع وحواصل الطير ووقف رَحمَه الله تَعَالَى وقوفا على المرضى ومعلمي الْخط وَالْقُرْآن وساكني الْحَرَمَيْنِ وأقطع(1/32)
أُمَرَاء الْعَرَب لِئَلَّا يتَعَرَّضُوا للحجاج وَأمر بأكمال سور الْمَدِينَة واستخراج الْعين الَّتِي بِأحد وَبنى الرَّبْط والجسور والخانات وجدد كثيرا من قني السَّبِيل وَكَذَا صنع فِي غير دمشق من الْبِلَاد الَّتِي ملكهَا ووقف كتبا كَثِيرَة وَحصل فِي أسره جمَاعَة من أُمَرَاء الفرنج وَكسر الرّوم والأرمن والفرنج على حارم وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا ثمَّ فتح حارم وَأخذ أَكثر قرى أنطاكية ثمَّ فتح الديار المصرية وَكَانَ الْعَدو قد اشرف على أَخذهَا ثمَّ أظهر بهَا السّنة وانقمعت الْبِدْعَة وَكَانَ حسن الْخط كثير المطالعة للكتب الدِّينِيَّة مُتبعا للآثار النَّبَوِيَّة مواظبا على الصَّلَوَات فِي الْجَمَاعَات عاكفاً على تِلَاوَة الْقُرْآن حَرِيصًا على فعل الْخَيْر عفيف الْبَطن والفرج مقتصدا فِي الْإِنْفَاق متحريا فِي المطاعم والملابس لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وأشهى مَا إِلَيْهِ كلمة حق يسْمعهَا أَو إرشاد إِلَى سنة يتبعهَا
وَقَالَ أَبُو الْحسن ابْن الْأَثِير قد طالعت تواريخ الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين قبل الْإِسْلَام وَفِيه إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَلم أر فِيهَا بعد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَعمر بن عبد الْعَزِيز ملكا أحسن سيرة من الْملك الْعَادِل نور الدّين وَلَا أَكثر تحريا للعدل والإنصاف مِنْهُ قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره وَجِهَاد يتجهز لَهُ ومظلمة يزيلها وَعبادَة يقوم بهَا وإحسان يوليه وإنعام يسديه وَنحن نذْكر مَا نعلم بِهِ مَحَله فِي أَمر دُنْيَاهُ وأخراه فَلَو كَانَ فِي أمة لافتخرت بِهِ فَكيف بَيت وَاحِد
أما زهده وعبادته وَعلمه فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة ملكه وَكَثْرَة ذخائر بِلَاده وأموالها لَا يَأْكُل وَلَا يلبس وَلَا يتَصَرَّف فِيمَا يَخُصُّهُ إِلَّا من ملك كَانَ لَهُ قد اشْتَرَاهُ(1/33)
من سَهْمه من الْغَنِيمَة وَمن الْأَمْوَال المرصدة لمصَالح الْمُسلمين أحضر الْفُقَهَاء واستفتاهم فِي أَخذ مَا يحل لَهُ من ذَلِك فَأخذ مَا أفتوه بحله وَلم يتعده إِلَى غَيره الْبَتَّةَ وَلم يلبس قطّ مَا حرمه الشَّرْع من حَرِير أَو ذهب أَو فضَّة وَمنع من شرب الْخمر وَبَيْعهَا فِي جَمِيع بِلَاده وَمن إدخالها إِلَى بلد مَا وَكَانَ يحد شاربها الْحَد الشَّرْعِيّ كل النَّاس عِنْده فِيهِ سَوَاء
حَدثنِي صديق لنا بِدِمَشْق كَانَ رَضِيع الخاتون ابْنة معِين الدّين زَوْجَة نور الدّين ووزيرها قَالَ كَانَ نور الدّين إِذا جَاءَ إِلَيْهَا يجلس فِي الْمَكَان الْمُخْتَص بِهِ وَتقوم فِي خدمته لَا تتقدم إِلَيْهِ إِلَّا أَن يَأْذَن فِي أَخذ ثِيَابه عَنهُ ثمَّ تَعْتَزِل عَنهُ إِلَى الْمَكَان الَّذِي يخْتَص بهَا ويتفرد هُوَ تَارَة يطالع رقاع أَصْحَاب الأشغال أَو فِي مطالعة كتاب أَتَاهُ ويجيب عَنْهُمَا وَكَانَ يُصَلِّي فيطيل الصَّلَاة وَله أوراد فِي النَّهَار فَإِذا جَاءَ اللَّيْل وَصلى الْعشَاء ونام يَسْتَيْقِظ نصف اللَّيْل وَيقوم إِلَى الْوضُوء وَالصَّلَاة إِلَى بكرَة فَيظْهر للرُّكُوب ويشتغل بمهام الدولة قَالَ وَإِنَّهَا قلت عَلَيْهَا النَّفَقَة وَلم يكفها مَا كَانَ قَرَّرَهُ لَهَا فأرسلتني إِلَيْهِ أطلب مِنْهُ زِيَادَة فِي وظيفتها فَلَمَّا قلت لَهُ ذَلِك تنكر وأحمر وَجهه ثمَّ قَالَ من ايْنَ أعطيها أما يكفيها مَالهَا وَالله لَا أخوض نَار جَهَنَّم فِي هَواهَا إِن كَانَت تظن أَن الَّذِي بيدى من الْأَمْوَال هِيَ لي فبئس الظَّن إِنَّمَا هِيَ أَمْوَال الْمُسلمين مرصدة لمصالحهم ومعدة لفتق إِن كَانَ(1/34)
من عَدو الْإِسْلَام وَأَنا خازنهم عَلَيْهَا فَلَا أخونهم فِيهَا ثمَّ قَالَ لي بِمَدِينَة حمص ثَلَاثَة دكاكين ملكا وَقد وهبتها إِيَّاهَا فلتأخذها قَالَ وَكَانَ يحصل مِنْهَا قدر قَلِيل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ رَحمَه الله لَا يفعل فعلا إِلَّا بنية حَسَنَة كَانَ بالجزيرة رجل من الصَّالِحين كثير الْعِبَادَة والورع شَدِيد الِانْقِطَاع عَن النَّاس وَكَانَ نور الدّين يكاتبه ويراسله وَيرجع إِلَى قَوْله ويعتقد فِيهِ اعتقادا حسنا فَبَلغهُ أَن نور الدّين يدمن اللّعب بالكرة فَكتب إِلَيْهِ يَقُول مَا كنت أَظُنك تلهو وتلعب وتعذب الْخَيل لغير فَائِدَة دينية فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين بِخَط يَده يَقُول وَالله مَا يحملني على اللّعب بالكرة اللَّهْو والبطر إِنَّمَا نَحن فِي ثغر الْعَدو قريب منا وبينما نَحن جُلُوس إِذْ يَقع صَوت فنركب فِي الطّلب
وَلَا يمكننا أَيْضا مُلَازمَة الْجِهَاد لَيْلًا وَنَهَارًا شتاء وصيفا إِذْ لابد من الرَّاحَة للجند وَمَتى تركنَا الْخَيل على مرابطها صَارَت جماما لَا قدرَة لَهَا على إدمان السّير فِي الطّلب وَلَا معرفَة لَهَا أَيْضا بِسُرْعَة الانعطاف فِي الْكر والفر فِي المعركة فَنحْن نركبها ونروضها بِهَذَا اللّعب فَيذْهب جمامها وتتعود سرعَة الانعطاف وَالطَّاعَة لراكبها فِي الْحَرْب فَهَذَا وَالله الَّذِي بَعَثَنِي على اللّعب بالكرة(1/35)
قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذَا الْملك الْمَعْدُوم النظير الَّذِي يقل فِي أَصْحَاب الزوايا المنقطعين إِلَى الْعِبَادَة مثله فَإِن من يجىء إِلَى اللّعب يَفْعَله بنية صَالِحَة حَتَّى يصير من أعظم الْعِبَادَات وأكبر القربات يقل فِي الْعَالم مثله وَفِيه دَلِيل على أَنه كَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بنية صَالِحَة وَهَذِه أَفعَال الْعلمَاء الصَّالِحين العاملين
قَالَ وَحكي لي عَنهُ أَنه حمل إِلَيْهِ من مصر عِمَامَة من الْقصب الرفيع مذهبَة فَلم يحضرها عِنْده فوصفت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا وَبينا هم مَعَه فِي حَدِيثهَا وَإِذا قد جَاءَهُ رجل صوفي فامر بهَا لَهُ فَقيل لَهُ إِنَّهَا لَا تصلح لهَذَا الرجل وَلَو أعطي غَيرهَا كَانَ أَنْفَع لَهُ فَقَالَ أعطوها لَهُ فَإِنِّي أَرْجُو أَن أعوض عَنْهَا فِي الْآخِرَة فَسلمت إِلَيْهِ فَسَار بهَا إِلَى بَغْدَاد فَبَاعَهَا بست مئة دِينَار أَمِيري أَو سبع مئة دِينَار
قلت قَرَأت فِي حَاشِيَة هَذَا الْمَكَان من = كتاب ابْن الْأَثِير = بِخَط ابْن الْمُعْطِي إِيَّاهَا قَالَ أَعْطَاهَا لشيخ الصُّوفِيَّة عماد الدّين أَبى الْفَتْح بن حمويه بِغَيْر طلب وَلَا رَغْبَة فبعثها إِلَى همذان فبيعت بِأَلف دِينَار
قَالَ ابْن الْأَثِير وَحكى لنا الْأَمِير بهاء الدّين على بن السكرى وَكَانَ خصيصا بِخِدْمَة نور الدّين قد صَحبه من الصِّبَا وَأنس بِهِ وَله مَعَه انبساط(1/36)
قَالَ كنت مَعَه يَوْمًا فِي الميدان بالرها وَالشَّمْس فِي ظُهُورنَا فَكلما سرنا تقدمنا الظل فَلَمَّا عدنا صَار الظل وَرَاء ظُهُورنَا فاجرى فرسه وَهُوَ يلْتَفت وَرَاءه وَقَالَ لي أَتَدْرِي لأي شَيْء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت لَا قَالَ قد شبهت مَا نَحن فِيهِ بالدنيا تهرب مِمَّن يطْلبهَا وتطلب من يهرب مِنْهَا
قلت رضى الله عَن ملك يفكر فِي مثل هَذَا وَقد أنشدت بَيْتَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنى
(مثل الرزق الَّذِي تطلبه ... مثل الظل الَّذِي يمشي مَعَك)
(أَنْت لَا تُدْرِكهُ متَّبِعاً ... فَإِذا ولّيت عَنهُ تبعك)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ يعْنى نور الدّين رَحمَه الله يصلى كثيرا من اللَّيْل وَيَدْعُو ويستغفر وَيقْرَأ وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يركب
(جمع الشجَاعَة والخشوع لرَبه ... مَا أحسن الْمِحْرَاب فِي الْمِحْرَاب)
قَالَ وَكَانَ عَارِفًا بالفقه على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ عِنْده تعصب بل الْإِنْصَاف سجيته فِي كل شَيْء وَسمع الحَدِيث وأسمعه طلبا لِلْأجرِ وعَلى الْحَقِيقَة فَهُوَ الَّذِي جدد للملوك اتِّبَاع سنة الْعدْل والإنصاف وَترك الْمُحرمَات من المأكل وَالْمشْرَب والملبس وَغير ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا قبله كالجاهلية هم أحدهم بَطْنه وفرجه لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا حَتَّى جَاءَ الله بدولته فَوقف مَعَ أوَامِر الشَّرْع ونواهيه وألزم بذلك أَتْبَاعه وَذَوِيهِ فاقتدى بِهِ غَيره مِنْهُم واستحيوا أَن يظْهر عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ (وَمن سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة)(1/37)
قَالَ فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ يُوصف بالزهد من لَهُ الممالك الفسيحة وتجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة فليذكر نَبِي الله سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام مَعَ ملكه وَهُوَ سد الزاهدين فِي زَمَانه وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حكم على حَضرمَوْت واليمن والحجاز وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من حُدُود الشَّام إِلَى الْعرَاق وَهُوَ على الْحَقِيقَة سيد الزاهدين قَالَ وَإِنَّمَا الزّهْد خلو الْقلب من محبَّة الدُّنْيَا لَا خلو الْيَد عَنْهَا
قَالَ وَأما عدله فَإِنَّهُ كَانَ أحسن الْمُلُوك سيرة وأعدلهم حكما فَمن عدله أَنه لم يتْرك فِي بلد من بِلَاده ضريبة وَلَا مكسا وَلَا عشرا بل أطلقها رَحْمَة الله جَمِيعهَا فِي بِلَاد الشَّام والجزيرة جَمِيعهَا والموصل وأعمالها وديار مصر وَغَيرهَا مِمَّا حكم عَلَيْهِ وَكَانَ المكس فِي مصر يُؤْخَذ من كل مئة دِينَار خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ دِينَارا فأطلقها وَهَذَا لم تتسع لَهُ نفس غَيره
وَكَانَ يتحَرَّى الْعدْل وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم كَائِنا من كَانَ القوى والضعيف عِنْده فِي الْحق سَوَاء وَكَانَ يسمع شكوى الْمَظْلُوم ويتولى كشف حَاله بِنَفسِهِ وَلَا يكل ذَلِك إِلَى حَاجِب وَلَا أَمِير فَلَا جَرَمَ سَار ذكره فِي شَرق الأَرْض وغربها
قَالَ وَمن عدله أَنه كَانَ يعظم الشَّرِيعَة المطهرة وَيقف عِنْد أَحْكَامهَا وَيَقُول نَحن شحن لما نُمضي أوامرها فَمن اتِّبَاعه أَحْكَامهَا أَنه كَانَ يلْعَب بِدِمَشْق بالكرة فَرَأى إنْسَانا يحدث آخر ويومئ بِيَدِهِ إِلَيْهِ فارسل إِلَيْهِ يساله عَن حَاله فَقَالَ لي مَعَ الْملك الْعَادِل حُكُومَة وَهَذَا غُلَام القَاضِي(1/38)
ليحضره إِلَى مجْلِس الحكم يحاكمني على الْملك الْفُلَانِيّ فَعَاد إِلَيْهِ وَلم يتجاسر يعرفهُ مَا قَالَ ذَلِك الرجل وَعَاد يَكْتُمهُ فَلم يقبل مِنْهُ غير الْحق فَذكر لَهُ قَوْله فَألْقى الجوكان من يَده وَخرج من الميدان وَسَار إِلَى القَاضِي وَهُوَ حِينَئِذٍ كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَأرْسل إِلَى القَاضِي يَقُول لَهُ إِنَّنِي قد جِئْت محاكما فاسلك معي مثل مَا تسلكه مَعَ غَيْرِي فَلَمَّا حضر سَاوَى خَصمه وخاصمه وحاكمه فَلم يثبت عَلَيْهِ حق وَثَبت الْملك لنُور الدّين فَقَالَ نور الدّين حِينَئِذٍ للْقَاضِي وَلمن حضر هَل ثبَت لَهُ عِنْدِي حق قَالُوا لَا فَقَالَ اشْهَدُوا أنني قد وهبت لَهُ هَذَا الْملك الَّذِي قد حاكمني عَلَيْهِ وهُوَ لَهُ دوني وَقد كنت أعلم أَن لَا حق لَهُ عِنْدِي وَإِنَّمَا حضرت مَعَه لِئَلَّا يظنّ بِي أَنِّي ظلمته فَحَيْثُ ظهر أَن الْحق لي وهبته لَهُ
قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذَا غَايَة الْعدْل والإنصاف بل غَايَة الْإِحْسَان وَهِي دَرَجَة وَرَاء الْعدْل فرحم الله هَذِه النَّفس الزكية الطاهرة المنقادة إِلَى الْحق الواقفة مَعَه
قلت وَهَذَا مستكثر من ملك مُتَأَخّر بعد فَسَاد الْأَزْمِنَة وتفرق الْكَلِمَة وَإِلَّا فقد انْقَادَ إِلَى الْمُضِيّ إِلَى مجْلِس الحكم جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين مثل عمر وَعلي وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ حكى نَحْو ذَلِك عَن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور
وَقد نقلنا ذَلِك كُله فِي التَّارِيخ الْكَبِير وَفِيه عَن عبد الله بن(1/39)
طَاهِر قريب من هَذَا لكنه أحضر الْحَاكِم عِنْده وَلم يمض إِلَيْهِ وَقد بَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى استُدعى مرّة أُخْرَى بحلب إِلَى مجْلِس الحكم بِنَفسِهِ أَو نَائِبه فَدخل حَاجِبه عَلَيْهِ مُتَعَجِّبا وأعلمه أَن رَسُول الْحَاكِم بِالْبَابِ فَأنْكر عَلَيْهِ تعجبه وَقَامَ رَحمَه الله مسرعا وَوجد فِي أثْنَاء طَرِيقه مَا مَنعه من العبور من حفر جب بعض الحشوش واستخراج مَا فِيهِ فَوكل من ثمَّ وَكيلا واشهد عَلَيْهِ شَاهِدين بِالتَّوْكِيلِ وَرجع
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن عدله انه لم يكن يُعَاقب الْعقُوبَة الَّتِي يُعَاقب بهَا الْمُلُوك فِي هَذِه الْأَعْصَار على الظنة والتهمة بل يطْلب الشُّهُود على الْمُتَّهم فَإِن قَامَت الْبَيِّنَة الشَّرْعِيَّة عاقبه الْعقُوبَة الشَّرْعِيَّة من غير تعد فَدفع الله بِهَذَا الْفِعْل عَن النَّاس من الشَّرّ مَا يُوجد فِي غير ولَايَته مَعَ شدَّة السياسة وَالْمُبَالغَة فِي الْعقُوبَة وَالْأَخْذ بالظنة وَأمنت بِلَاده مَعَ سعتها وَقل المفسدون ببركة الْعدْل وَاتِّبَاع الشَّرْع المطهر
قَالَ وَحكى لي من أَثِق بِهِ أَنه دخل يَوْمًا إِلَى خزانَة المَال فَرَأى فِيهَا مَالا أنكرهُ فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِن القَاضِي كَمَال الدّين أرْسلهُ وَهُوَ من جِهَة كَذَا فَقَالَ إِن هَذَا المَال لَيْسَ لنا وَلَا لبيت المَال فِي هَذِه الْجِهَة شَيْء
وَأمر برده وإعادته إِلَى كَمَال الدّين ليَرُدهُ على صَاحبه فَأرْسلهُ مُتَوَلِّي الخزانة إِلَى كَمَال الدّين فَرده إِلَى الخزانة وَقَالَ إِذا سَالَ الْملك الْعَادِل عَنهُ فَقولُوا لَهُ(1/40)
عني إِنَّه لَهُ فَدخل نور الدّين الخزانة مرّة أُخْرَى فَرَآهُ فَأنْكر على النواب وَقَالَ ألم أقل لكم يُعَاد هَذَا المَال على أَصْحَابه فَذكرُوا لَهُ قَول كَمَال الدّين فَرده إِلَيْهِ وَقَالَ للرسول قل لكَمَال الدّين أَنْت تقدر على حمل هَذَا وَأما أَنا فرقبتي دقيقة لَا أُطِيق حمله والمخاصمة عَلَيْهِ بَين يَدي الله تَعَالَى يُعاد قولا وَاحِدًا
قَالَ وَمن عدله أَيْضا بعد مَوته وَهُوَ من أعجب مَا يحْكى أَن إنْسَانا كَانَ بِدِمَشْق غَرِيبا استوطنها وَأقَام بهَا لما رأى من عدل نور الدّين رَحمَه الله فَلَمَّا توفى تعدى بعض الأجناد على هَذَا الرجل فَشَكَاهُ فَلم ينصف فَنزل من القلعة وَهُوَ يستغيث ويبكي وَقد شقّ ثَوْبه وَيَقُول يَا نور الدّين لَو رَأَيْتنَا وَمَا نَحن فِيهِ من الظُّلم لرحمتنا أَيْن عدلك وَقصد تربة نور الدّين وَمَعَهُ من الْخلق مَا لَا يُحْصى وَكلهمْ يبكي ويصيح فوصل الْخَبَر إِلَى صَلَاح الدّين وَقيل لَهُ احفظ الْبَلَد والرعية وَإِلَّا خرج عَن يدك فَأرْسل إِلَى ذَلِك الرجل وَهُوَ عِنْد تربة نور الدّين يبكي وَالنَّاس مَعَه فطيب قلبه ووهبه شَيْئا وأنصفه فَبكى أَشد من الأول فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين لم تبْكي قَالَ أبكى على سُلْطَان عدل فِينَا بعد مَوته فَقَالَ صَلَاح الدّين هَذَا هُوَ الْحق وكل مَا ترى فِينَا من عدل فَمِنْهُ تعلمناه
قلت وَمن عدله أَن بنى دَار الْعدْل قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ نور الدّين رَحمَه الله أول من بنى دَارا للكشف وسماها دَار الْعدْل وَكَانَ سَبَب بنائها أَنه لما طَال مقَامه بِدِمَشْق وَأقَام بهَا أمراؤه وَفِيهِمْ أَسد الدّين شيركوه وَهُوَ أكبر أَمِير مَعَه وَقد عظم شَأْنه وَعلا مَكَانَهُ حَتَّى صَار كَأَنَّهُ شريك فِي(1/41)
الْملك واقتنوا الْأَمْلَاك وَأَكْثرُوا وتعدى كل وَاحِد مِنْهُم على من يجاوره فِي قَرْيَة أَو غَيرهَا فكثرت الشكاوى إِلَى كَمَال الدّين فأنصف بَعضهم من بعض وَلم يقدم على الْإِنْصَاف من أَسد الدّين شيركوه فأنهى الْحَال إِلَى نور الدّين فَأمر حِينَئِذٍ ببَناء دَار الْعدْل فَلَمَّا سمع أَسد الدّين بذلك أحضر نوابه جَمِيعهم وَقَالَ لَهُم اعلموا أَن نور الدّين مَا أَمر بِبِنَاء هَذِه الدَّار إِلَّا بسببي وحدي وَإِلَّا فَمن هُوَ الَّذِي يتمنع على كَمَال الدّين وَوَاللَّه لَئِن أحضرت إِلَى دَار الْعدْل بِسَبَب أحدكُم لأصلبنه فامضوا إِلَى كل من بَيْنكُم وَبَينه مُنَازعَة فِي ملك فَافْصِلُوا الْحَال مَعَه وأرضوه بِأَيّ طَرِيق أمكن وَلَو أَتَى ذَلِك على جَمِيع مَا بيَدي فَقَالُوا لَهُ إِن النَّاس إِذا علمُوا هَذَا اشتطوا فِي الطّلب
فَقَالَ خُرُوج أملاكي عَن يَدي أسهل على من أَن يراني نور الدّين بِعَين أَنِّي ظَالِم أَو يساوى بيني وَبَين آحَاد الْعَامَّة فِي الْحُكُومَة
فَخرج أَصْحَابه من عِنْده وفعلوا مَا أَمرهم وأرضوا خصماءهم وَأشْهدُوا عَلَيْهِم فَلَمَّا فرغت دَار الْعدْل جلس نور الدّين فِيهَا لفصل الحكومات وَكَانَ يجلس فِي الْأُسْبُوع يَوْمَيْنِ وَعِنْده القَاضِي وَالْفُقَهَاء وبقى كَذَلِك مُدَّة فَلم يحضر عِنْده أحد يشكو من أَسد الدّين فَقَالَ نور الدّين لكَمَال الدّين مَا أرى أحدا يشكو من شيركوه
فَعرفهُ الْحَال فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أَصْحَابنَا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنَا
قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذِه المعدلة مَا أحْسنهَا وَإِلَى هَذِه الهيبة مَا أعظمها وَإِلَى هَذِه السياسة مَا أسدها هَذَا مَعَ أَنه كَانَ لَا يريق دَمًا وَلَا يُبَالغ فِي عُقُوبَة وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا صدقه فِي عدله وَحسن نِيَّته
قَالَ وَأما شجاعته وَحسن رَأْيه فقد كَانَت النِّهَايَة إِلَيْهِ فيهمَا فَإِنَّهُ أَصْبِر(1/42)
النَّاس فِي الْحَرْب وَأَحْسَنهمْ مكيدة ورأيا وأجودهم معرفَة بِأُمُور الأجناد وأحوالهم وَبِه كَانَ يضْرب الْمثل فِي ذَلِك سَمِعت جمعا كثيرا من النَّاس لَا أحصيهم أَنهم لم يرَوا على ظهر الْفرس أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ خلق عَلَيْهِ لَا يَتَحَرَّك وَلَا يتزلزل
وَكَانَ من أحسن النَّاس لعبا بالكرة وأقدرهم عَلَيْهَا لم ير جوكانه يَعْلُو على رَأسه
وَكَانَ رُبمَا ضرب الكرة وَيجْرِي الْفرس ويتناولها بِيَدِهِ من الْهَوَاء ويرميها إِلَى آخر الميدان
وَكَانَت يَده لَا ترى والجوكان فِيهَا بل تكون فِي كم قبائه استهانة باللعب
وَكَانَ إِذا حضر الْحَرْب أَخذ قوسين وتركشين وباشر الْقِتَال بِنَفسِهِ وَكَانَ يَقُول طالما تعرضت للشَّهَادَة فَلم أدْركهَا
سَمعه يَوْمًا الإِمَام قطب الدّين النيسابورى الْفَقِيه الشَّافِعِي وَهُوَ يَقُول ذَلِك فَقَالَ لَهُ بِاللَّه لَا تخاطر بِنَفْسِك وَبِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فَإنَّك عمادهم وَلَئِن أصبت وَالْعِيَاذ بِاللَّه فِي معركة لَا يبْقى من الْمُسلمين أحد إِلَّا أَخذه السَّيْف وَأخذت الْبِلَاد فَقَالَ يَا قطب الدّين وَمن مَحْمُود حَتَّى يُقَال لَهُ هَذَا قبلى من حفظ الْبِلَاد وَالْإِسْلَام ذَلِك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله يكثر إِعْمَال الْحِيَل وَالْمَكْر وَالْخداع مَعَ الفرنج خذلهم الله تَعَالَى وَأكْثر مَا ملكه من بِلَادهمْ بِهِ وَمن جيد الرَّأْي مَا سلكه مَعَ مليح بن ليون ملك الأرمن صَاحب الدروب فَإِنَّهُ مَا زَالَ يخدعه ويستميله حَتَّى جعله فِي خدمته سفرا وحضرا وَكَانَ يُقَاتل بِهِ الإفرنج وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا حَملَنِي على استمالته أَن بِلَاده حَصِينَة وعسرة المسلك(1/43)
وقلاعه منيعة وَلَيْسَ لنا إِلَيْهَا طَرِيق وَهُوَ يخرج مِنْهَا إِذا أَرَادَ فينال من بِلَاد الْإِسْلَام فَإِذا طلب انحجر فِيهَا فَلَا يقدر عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَيْت الْحَال هَكَذَا بذلت لَهُ شَيْئا من الإقطاع على سَبِيل التَّالِف حَتَّى أجَاب إِلَى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج
قَالَ وَحَيْثُ توفّي نور الدّين رَحمَه الله وسلك غَيره غير هَذَا الطَّرِيق ملك الْمُتَوَلِي الأرمن بعد مليح كثيرا من بِلَاد الْإِسْلَام وحصونهم وَصَارَ مِنْهُ ضَرَر عَظِيم وخرق وَاسع لَا يُمكن رقعه
قَالَ وَمن أحسن الآراء مَا كَانَ يَفْعَله مَعَ أجناده فَإِنَّهُ كَانَ إِذا توفّي أحدهم وَخلف ولدا أقرّ الإقطاع عَلَيْهِ فَإِن كَانَ الْوَلَد كَبِيرا استبد بِنَفسِهِ وَإِن كَانَ صَغِيرا رتب مَعَه رجلا عَاقِلا يَثِق إِلَيْهِ فيتولى أمره إِلَى أَن يكبر
فَكَانَ الأجناد يَقُولُونَ هَذِه أملاكناً يَرِثهَا الْوَلَد عَن الْوَالِد فَنحْن نُقَاتِل عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك سبَباً عَظِيما من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للصبر فِي الْمشَاهد والحروب
وَكَانَ أَيْضا يثبت أَسمَاء أجناد كل أَمِير فِي ديوانه وسلاحهم خوفًا من حرص بعض الْأُمَرَاء وشحه أَن يحملهُ على أَن يقْتَصر على بعض مَا هُوَ مُقَرر عَلَيْهِ من الْعدَد وَيَقُول نَحن كل وَقت فِي النفير فَإِذا لم يكن أجناد كَافَّة الْأُمَرَاء كاملي الْعدَد وَالْعدَد دخل الوهن على الْإِسْلَام
قَالَ وَلَقَد صدق رَضِي الله عَنهُ فِيمَا قَالَ وَأصَاب فِيمَا فعل فَلَقَد رَأينَا مَا خافه عيَانًا
قَالَ وَأما مَا فعله فِي بِلَاد الْإِسْلَام من الْمصَالح مِمَّا يعود إِلَى حفظهَا وَحفظ الْمُسلمين فكثير عَظِيم من ذَلِك أَنه بنى أسوار مدن الشَّام جَمِيعهَا(1/44)
وقلاعها فَمِنْهَا حلب وحماة وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنبج وَغَيرهَا من القلاع والحصون وحصنها وَأحكم بناءها وَأخرج عَلَيْهَا من الْأَمْوَال مَا لَا تسمح بِهِ النُّفُوس
وَبنى أَيْضا الْمدَارِس بحلب وحماة ودمشق وَغَيرهَا للشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة
وَبنى الْجَوَامِع فِي جَمِيع الْبِلَاد فجامعه فِي الْموصل إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الْحسن والإتقان وَمن أحسن مَا عمل فِيهِ أَنه فوض أَمر عِمَارَته والخرج عَلَيْهِ إِلَى الشَّيْخ عمر الملاء رَحمَه الله وَهُوَ رجل من الصَّالِحين فَقيل لَهُ إِن هَذَا لَا يصلح لمثل هَذَا الْعَمَل فَقَالَ إِذا وليت الْعَمَل بعض أَصْحَابِي من الأجناد وَالْكتاب أعلم أَنه يظلم فِي بعض الْأَوْقَات وَلَا يَفِي الْجَامِع بظُلْم رجل مُسلم وَإِذا وليت هَذَا الشَّيْخ غلب على ظَنِّي أَنه لَا يظلم فَإِذا ظلم كَانَ الْإِثْم عَلَيْهِ لَا على قَالَ وَهَذَا هُوَ الْفِقْه فِي الْخَلَاص من الظُّلم
وَبنى أَيْضا بِمَدِينَة حماة جَامعا على نهر العَاصِي من أحسن الْجَوَامِع وأنزهها وجدد فِي غَيرهَا من عمَارَة الْجَوَامِع مَا كَانَ قد تهدم إِمَّا بزلزلة أَو غَيرهَا وَبنى البيمارستانات فِي الْبِلَاد وَمن أعظمها البيمارستان الَّذِي بناه بِدِمَشْق فَإِنَّهُ عَظِيم كثير الخرج جدا بَلغنِي أَنه لم يَجعله وَقفا على الْفُقَرَاء حسب بل على كَافَّة الْمُسلمين من غَنِي وفقير
قلت وَقد وقفت على كتاب وَقفه فَلم أره مشعرا بذلك وَإِنَّمَا هَذَا كَلَام شاع على أَلْسِنَة الْعَامَّة ليَقَع مَا قدره الله تَعَالَى من مزاحمة الْأَغْنِيَاء للْفُقَرَاء فِيهِ وَالله الْمُسْتَعَان
وَإِنَّمَا صرح بِأَن مَا يعز وجوده من الْأَدْوِيَة الْكِبَار(1/45)
وَغَيرهَا لَا يمْنَع مِنْهُ من احْتَاجَ إِلَيْهِ من الْأَغْنِيَاء والفقراء
فَخص ذَلِك بذلك فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَعَدَّى إِلَى غَيره لَا سِيمَا وَقد صرح قبل ذَلِك بِأَنَّهُ وقف على الْفُقَرَاء والمنقطعين وَقَالَ بعد ذَلِك من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي
وَرُوِيَ أَن نور الدّين رَحمَه الله شرب من شراب البيمارستان فِيهِ وَذَلِكَ مُوَافق لقَوْله فِي كتاب الْوَقْف من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي وَالله أعلم
وَبَلغنِي فِي أصل بنائِهِ نادرة وَهِي أَن نور الدّين رَحمَه الله وَقع فِي أسره بعض أكَابِر الْمُلُوك من الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَقطع على نَفسه فِي فدائه مَالا عَظِيما فَشَاور نور الدّين أمراءه فَكل أَشَارَ بِعَدَمِ إِطْلَاقه لما كَانَ فِيهِ من الضَّرَر على الْمُسلمين وَمَال نور الدّين إِلَى الْفِدَاء بَعْدَمَا استخار الله تَعَالَى فَأَطْلقهُ لَيْلًا لِئَلَّا يعلم أَصْحَابه وتسلم المَال فَلَمَّا بلغ الفرنجي مأمنه مَاتَ وَبلغ نور الدّين خَبره فَأعْلم أَصْحَابه فتعجبوا من لطف الله تَعَالَى بِالْمُسْلِمين حَيْثُ جمع لَهُم الحُسْنَيَين وهما الْفِدَاء وَمَوْت ذَلِك اللعين فَبنى نور الدّين رَحمَه الله بذلك المَال هَذَا البيمارستان وَمنع المَال الْأُمَرَاء لِأَنَّهُ لم يكن عَن إرادتهم كَانَ
وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَبنى أَيْضا الْخَانَات فِي الطّرق فأمن النَّاس وحفظت أَمْوَالهم وَبَاتُوا فِي الشتَاء فِي كن من الْبرد والمطر
وَبنى أَيْضا الأبراج على الطّرق بَين الْمُسلمين والفرنج وَجعل فِيهَا من يحفظها وَمَعَهُمْ الطُّيُور الهوادى فَإِذا رَأَوْا من الْعَدو أحدا أرْسلُوا الطُّيُور فَأخذ النَّاس حذرهم واحتاطوا لأَنْفُسِهِمْ فَلم يبلغ الْعَدو مِنْهُم غَرضا وَكَانَ هَذَا من ألطف الْفِكر وأكثرها نفعا(1/46)
قَالَ وَبنى الرَّبْط والخانقاهات فِي جَمِيع الْبِلَاد للصوفية ووقف عَلَيْهَا الْوُقُوف الْكَثِيرَة وأدر عَلَيْهِم الإدرارات الصَّالِحَة وَكَانَ يحضر مشايخهم عِنْده ويقربهم ويدنيهم ويبسطهم ويتواضع لَهُم وَإِذا أقبل أحدهم إِلَيْهِ يقوم لَهُ مذ تقع عينه عَلَيْهِ ويعتنقه ويجلسه مَعَه على سجادته وَيقبل عَلَيْهِ بحَديثه
وَكَذَلِكَ كَانَ أَيْضا يفعل بالعلماء من التَّعْظِيم والتوقير والاحترام ويجمعهم عِنْد الْبَحْث وَالنَّظَر فقصدوه من الْبِلَاد الشاسعة من خُرَاسَان وَغَيرهَا
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أهل الدّين عِنْده فِي أَعلَى مَحل وأعظمه وَكَانَ أمراؤه يحسدونهم على ذَلِك وَكَانُوا يقعون عِنْده فيهم فينهاهم وَإِذا نقلوا عَن إِنْسَان عَيْبا يَقُول وَمن الْمَعْصُوم وَإِنَّمَا الْكَامِل من تعد ذنُوبه
قَالَ وَبَلغنِي أَن بعض أكَابِر الْأُمَرَاء حسد قطب الدّين النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَ قد استقدمه من خُرَاسَان وَبَالغ فِي إكرامه وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ فحسده ذَلِك الْأَمِير فنال مِنْهُ يَوْمًا عِنْد نور الدّين فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا إِن صَحَّ مَا تَقول فَلهُ حَسَنَة تغْفر كل زلَّة تذكرها وَهِي الْعلم وَالدّين
وَأما أَنْت وَأَصْحَابك ففيكم أَضْعَاف مَا ذكرت وَلَيْسَت لكم حَسَنَة تغفرها وَلَو عقلت لشغلك عيبك عَن غَيْرك وَأَنا أحتمل سَيِّئَاتكُمْ مَعَ عدم حسناتكم أَفلا أحمل سَيِّئَة هَذَا إِن صحت مَعَ وجود حسنته على أنني وَالله لَا أصدقك فِيمَا تَقول وَإِن عدت ذكرته أَو غَيره بِسوء لأؤدبنك فَكف عَنهُ
قَالَ ابْن الْأَثِير هَذَا وَالله هُوَ الْإِحْسَان وَالْفِعْل الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكْتب على الْعُيُون بِمَاء الذَّهَب
وَبنى بِدِمَشْق أَيْضا دَار الحَدِيث ووقف عَلَيْهَا وعَلى من بهَا من المشتغلين بِعلم الحَدِيث وقوفا كَثِيرَة وَهُوَ أول من بنى دَارا للْحَدِيث فِيمَا(1/47)
علمنَا
وَبنى أَيْضا فِي كثير من بِلَاده مكَاتب للأيتام وأجرى عَلَيْهِم وعَلى معلميهم الجرايات الوافرة
وَبنى أَيْضا مَسَاجِد كَثِيرَة ووقف عَلَيْهَا وعَلى من يقْرَأ بهَا الْقُرْآن
قَالَ وَهَذَا فعل لم يسْبق إِلَيْهِ بَلغنِي من عَارِف بإعمال الشَّام أَن وقُوف نور الدّين فِي وقتنا هَذَا وَهُوَ سنة ثَمَان وست مئة كل شهر تِسْعَة آلَاف دِينَار صوريه لَيْسَ فِيهَا ملك غير صَحِيح شَرْعِي ظَاهرا وَبَاطنا فَإِنَّهُ وقف مَا انْتقل إِلَيْهِ وَوزن ثمنه أَو مَا غلب عَلَيْهِ من بِلَاد الفرنج وَصَارَ سَهْمه
قَالَ وَأما هيبته ووقاره فإليه النِّهَايَة فيهمَا
وَلَقَد كَانَ كَمَا قيل شَدِيد فِي غير عنف رَقِيق فِي غير ضعف
وَاجْتمعَ لَهُ مَا لم يجْتَمع لغيره فَإِنَّهُ ضبط ناموس الْملك مَعَ أجناده وَأَصْحَابه إِلَى غَايَة لَا مزِيد عَلَيْهَا وَكَانَ يلْزمهُم بوظائف الْخدمَة الصَّغِير مِنْهُم وَالْكَبِير وَلم يجلس عِنْده أَمِير من غير أَن يَأْمُرهُ بِالْجُلُوسِ إِلَّا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين يُوسُف وَأما من عداهُ كأسد الدّين شيركوه ومجد الدّين بن الداية وَغَيرهمَا فَإِنَّهُم كَانُوا إِذا حَضَرُوا عِنْده يقفون قيَاما إِلَى أَن يَأْمُرهُم بالقعود
وَكَانَ مَعَ هَذِه العظمة وَهَذَا الناموس الْقَائِم إِذا دخل عَلَيْهِ الْفَقِيه أَو الصُّوفِي أَو الْفَقِير يقوم لَهُ وَيَمْشي بَين يَدَيْهِ ويجلسه إِلَى جَانِبه كَأَنَّهُ اقْربْ النَّاس إِلَيْهِ
وَكَانَ إِذا أعْطى أحدهم شَيْئا يَقُول إِن هَؤُلَاءِ لَهُم فِي بَيت المَال حق فَإِذا قنعوا منا بِبَعْضِه فَلهم الْمِنَّة علينا
وَكَانَ مَجْلِسه كَمَا روى فِي صفة مجْلِس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجْلِس حلم وحياء لَا تؤبن فِيهِ الْحرم
وَهَكَذَا كَانَ مَجْلِسه لَا يذكر فِيهِ إِلَّا(1/48)
الْعلم وَالدّين وأحوال الصَّالِحين والمشاورة فِي أَمر الْجِهَاد وَقصد بِلَاد الْعَدو وَلَا يتَعَدَّى هَذَا
بَلغنِي أَن الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي رَضِي الله عَنهُ حضر مجْلِس صَلَاح الدّين يُوسُف لما ملك دمشق فَرَأى فِيهِ من اللَّغط وَسُوء الْأَدَب من الْجُلُوس فِيهِ مَا لَا حد عَلَيْهِ فشرع يحدث صَلَاح الدّين كَمَا كَانَ يحدث نور الدّين فَلم يتَمَكَّن من القَوْل لِكَثْرَة الِاخْتِلَاف من المتحدثين وَقلة استماعهم فَقَامَ وبقى مُدَّة لَا يحضر الْمجْلس الصلاحي وتكرر من صَلَاح الدّين الطّلب لَهُ فَحَضَرَ فَعَاتَبَهُ صَلَاح الدّين يُوسُف على انْقِطَاعه فَقَالَ نزهت نَفسِي عَن مجلسك فإنني رَأَيْته كبعض مجَالِس السُّوقة لَا يستمع إِلَى قَائِل وَلَا يرد جَوَاب مُتَكَلم وَقد كُنَّا بالْأَمْس نحضر مجْلِس نور الدّين فَكُنَّا كَمَا قيل كَأَنَّمَا على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة وَالْوَقار فَإِذا تكلم أنصتنا وَإِذا تكلمنا اسْتمع لنا فَتقدم صَلَاح الدّين إِلَى أَصْحَابه أَنه لَا يكون مِنْهُم مَا جرت بِهِ عَادَتهم إِذا حضر الْحَافِظ
قَالَ ابْن الْأَثِير فَهَكَذَا كَانَت أَحْوَاله جَمِيعهَا رَحمَه الله مضبوطة مَحْفُوظَة
وَأما حفظ أصُول الديانَات فَإِنَّهُ كَانَ مراعياً لَهَا لَا يهملها وَلَا يُمكن أحدا من النَّاس من إِظْهَار مَا يُخَالف الْحق وَمَتى أقدم مقدم على ذَلِك أدبه بِمَا يُنَاسب بدعته
وَكَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك وَيَقُول نَحن نَحْفَظ الطّرق من لص وقاطع طَرِيق والأذى الْحَاصِل مِنْهُمَا قريب أَفلا نَحْفَظ الدّين ونمنع عَنهُ مَا يناقضه وَهُوَ الأَصْل
قَالَ وَحكي أَن إنْسَانا بِدِمَشْق يعرف بِيُوسُف بن آدم كَانَ يظْهر(1/49)
الزّهْد والنسك وَقد كثر أَتْبَاعه أظهر شَيْئا من التَّشْبِيه فَبلغ خَبره نور الدّين فَأحْضرهُ وأركبه حمارا وَأمر بصفعه فطيف بِهِ فِي الْبِلَاد جَمِيعه وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من أظهر فِي الدّين الْبدع
ثمَّ نَفَاهُ من دمشق فقصد حران وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ
قَالَ ويسوق الله الْقصار الْأَعْمَار إِلَى الْبِلَاد الوخمة
قلت وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي أَوله كِتَابه الْبَرْق الشَّامي أَنه قدم دمشق فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمسين مئة فِي دولة الْملك نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَأخذ فِي وَصفه بِكَلَامِهِ المسجوع فَقَالَ كَانَ ملك بِلَاد الشَّام ومالكها وَالَّذِي بِيَدِهِ ممالكها الْملك الْعَادِل نور الدّين أعف الْمُلُوك وأتقاهم وأثقبهم رَأيا وأنقاهم وأعدلهم وأعبدهم وأزهدهم وأجهدهم وأظهرهم وأطهرهم وَأَقْوَاهُمْ وأقدرهم وأصلحهم عملا وأنجحهم أملا وأرجحهم رَأيا وأوضحهم آيا وأصدقهم قولا وأقصدهم طولا وَكَانَ عصره فَاضلا وَنَصره واصلا وَحكمه عادلا وفضله شَامِلًا وزمانه طيبا وإحسانه صيبا والقلوب بمهابته ومحبته ممتلية والنفوس بعاطفته وعارفته متملية وأموره مقتبلة وأوامره ممتثلة وجده منزه عَن الْهزْل ونوابه فِي أَمن من الْعَزْل ودولته مأمولة مَأْمُونَة وروضته مصوبة مصونة والرياسة كَامِلَة والسياسة شَامِلَة وَالزِّيَادَة زَائِدَة والسعادة مساعدة والعيشة ناضرة والشيعة ناصرة والإنصاف صَاف والإسعاف عاف وأزر الدّين قوي وظمأ الْإِسْلَام رُوِيَ وزند النجح وري وَالشَّرْع مَشْرُوع وَالْحكم مسموع وَالْعدْل مولى وَالظُّلم مَعْزُول والتوحيد مَنْصُور والشرك مخذول وللتقى شروق وَمَا للفسوق سوق وَهُوَ الَّذِي أعَاد رونق الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد الشَّام وَقد غلب(1/50)
الْكفْر وَبلغ الضّر فَاسْتَفْتَحَ معاقلها واستخلص عقائلها وأشاع بهَا شعار الشَّرْع فِي جَمِيع الْحل وَالْعقد والإبرام والنقض والبسط وَالْقَبْض والوضع وَالرَّفْع وَكَانَت للفرنج فِي أَيَّام غَيره على بِلَاد الْإِسْلَام بِالشَّام قطائع فقطعها وَعفى رسومها ومنعها وَنَصره الله عَلَيْهِم مرَارًا حَتَّى أسر مُلُوكهمْ وبدد سلوكهم وصان الثغور مِنْهُم وحماها عَنْهُم وَأَحْيَا معالم الدّين الدوارس وَبنى للأئمة الْمدَارِس وَأَنْشَأَ الخانقاهات للصوفية وكثرها فِي كل بلد وَكثر وقوفها وَقرر معروفها وَأدنى للوافدين من جنان جنابه قطوفها وَأَجد الأسوار والخنادق وأنمى الْمرَافِق وَحمى الْحَقَائِق وَأمر فِي الطرقات بِبِنَاء الرَّبْط والخانات وضافت ضيوف الْفَضَائِل وفاضت فيوض الْفَاضِل وَهُوَ الَّذِي فتح مصر وأعمالها وَأَنْشَأَ دولتها ورجالها
ثمَّ ذكر الْعِمَاد فِي أثْنَاء حوادث سنة تسع وَسِتِّينَ وَهِي السّنة الَّتِي توفى فِيهَا نور الدّين قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أَكثر نور الدّين من الْأَوْقَاف وَالصَّدقَات وَعمارَة الْمَسَاجِد المهجورة وتعفيه آثَار الآثام وَإِسْقَاط كل مَا يدْخل فِي شُبْهَة الْحَرَام فَمَا أبقى سوى الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَمَا تحصل من قسْمَة الغلات على قويم الْمِنْهَاج قَالَ وَأَمرَنِي بكتبة مناشير لجَمِيع أهل الْبِلَاد فَكتبت أَكثر من ألف منشور وحسبنا مَا تصدق بِهِ على الْفُقَرَاء فِي تِلْكَ الْأَشْهر فَزَاد على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار
وَكَانَت عَادَته فِي الصَّدَقَة أَن يحضر جمَاعَة من أماثل الْبَلَد من كل مَحَله ويسألهم عَمَّن يعْرفُونَ فِي جوارهم(1/51)
من أهل الْحَاجة ثمَّ يصرف إِلَيْهِم صَدَقَاتهمْ وَكَانَ برسم نَفَقَة الْخَاص فِي كل شهر من جِزْيَة أهل الذِّمَّة مبلغ ألفي قرطيس يصرفهُ فِي كسوته وَنَفَقَته وحوائجه المهمة حَتَّى أُجْرَة خياطه وجامكية طباخة ويستفضل مِنْهُ مَا يتَصَدَّق بِهِ فِي آخر الشَّهْر
وَأما مَا كَانَ يهدي إِلَيْهِ من هَدَايَا الْمُلُوك وَغَيرهم فَإِنَّهُ كَانَ لَا يتَصَرَّف فِي شَيْء مِنْهُ لَا قَلِيل وَلَا كثير بل إِذا اجْتمع يُخرجهُ إِلَى مجْلِس القَاضِي يحصل ثمنه وَيصرف فِي عمَارَة الْمَسَاجِد المهجورة
وَتقدم بإحصاء مَا فِي محَال دمشق فاناف على مئة مَسْجِد فَأمر بعمارة ذَلِك كُله وَعين لَهُ وقوفاً
قَالَ وَلَو اشتغلت بِذكر وُقُوفه وصدقاته فِي كل بلد لطال الْكتاب وَلم يبلغ إِلَى أمد ومشاهدة أبنيته الدَّالَّة على خلوص نِيَّته تغنى عَن خَبَرهَا بالعيان وَيَكْفِي أسوار الْبلدَانِ فضلا عَن الرَّبْط والمدارس على اخْتِلَاف الْمذَاهب وَاخْتِلَاف الْمَوَاهِب وَفِي شرح طوله طول وَعَمله لله ذَلِك مبرور مَقْبُول
وواظب على عقد مجَالِس الوعاظ وَنصب الْكُرْسِيّ لَهُم فِي القلعة فلإنذار والاتعاظ وأكبرهم الْفَقِيه قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَهُوَ مشغوف ببركة أنفاسه واغتنام كَلَامه واقتباسه
ووفد من بَغْدَاد ابْن الشَّيْخ أبي النجيب الْأَكْبَر وَبسط لَهُ فِي كل أُسْبُوع الْمِنْبَر وشاقه وعظه وراقه مَعْنَاهُ وَلَفظه
وَكَذَلِكَ وَفد إِلَيْهِ من أَصْبَهَان الْفَقِيه شرف الدّين عبد الْمُؤمن بن(1/52)
شوروه وَمَا أَيمن تِلْكَ الْأَيَّام وأبرك تِلْكَ الشتوة
قَالَ وَلما أسقط نور الدّين الْجِهَات المحظورة والشبه المحذورة عزل الشحن وَصرف عَن الرّعية بصرفهم المحن وَقَالَ للْقَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري انْظُر أَنْت فِي ذَلِك واحمل أُمُور النَّاس على الشَّرِيعَة
قَالَ وَلم يكن لمَال الْمَوَارِيث الحشرية حَاصِل وَلَا لديوانه طائل فَجعل نور الدّين ثلث مَا يحصل فِيهِ لكَمَال لكَمَال الدّين الْحَاكِم فوفره نوابه(1/53)
وكثروه وَمَا كَانَ نور الدّين يُحَاسب القَاضِي على شَيْء من الْوُقُوف وَيَقُول انا قلدته على أَن يتَصَرَّف بِالْمَعْرُوفِ
وَمَا فضل من مصارفها وشروط واقفها يَأْمُرهُ بصرفه فِي بِنَاء الأسوار وَحفظ الثغور وَكَانَت دولته نَافِذَة الْأَوَامِر منتظمة الْأُمُور
قلت وَحكى الشَّيْخ أَبُو البركات الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله أَنه حضر مَعَ عَمه الْحَافِظ أبي الْقَاسِم رَحمَه الله مجْلِس نور الدّين لسَمَاع شَيْء من الحَدِيث فَمر فِي أثْنَاء الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج مُتَقَلِّدًا سَيْفا فاستفاد نور الدّين أمرا لم يكن يعرفهُ وَقَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتقلد السَّيْف يُشِير إِلَى التَّعَجُّب من عَادَة الْجند إِذْ هم على خلاف ذَلِك يربطونه بأوساطهم
قَالَ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد مَرَرْنَا تَحت القلعة وَالنَّاس مجتمعون ينتظرون ركُوب السُّلْطَان فوقفنا نَنْظُر إِلَيْهِ مَعَهم فَخرج نور الدّين رَحمَه الله من القلعة وَهُوَ متقلد السَّيْف وَجَمِيع عسكره كَذَلِك
فرحمة الله على هَذَا الْملك الَّذِي لم يفرط فِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل هَذِه الْحَالة بل لما بلغته رَجَعَ بِنَفسِهِ ورد جنده عَن عوائدهم اتبَاعا لما بلغه عَن نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا الظَّن بِغَيْر ذَلِك من السّنَن
وَلَقَد بَلغنِي أَنه أَمر بِإِسْقَاط ألقابه فِي الدُّعَاء على المنابر وَرَأى لَهُ وزيره موفق الدّين خَالِد بن القيسراني الشَّاعِر فِي مَنَامه أَنه يغسل ثِيَابه وقص ذَلِك عَلَيْهِ
ففكر سَاعَة ثمَّ أمره بكتابه إِسْقَاط المكوس وَقَالَ هَذَا تَفْسِير مَنَامك
وَكَانَ فِي تَهَجُّده يَقُول ارْحَمْ العشار المكاس
وَبعد أَن أبطل ذَلِك استعجل من النَّاس فِي حل وَقَالَ وَالله مَا أخرجناها إِلَّا فِي جِهَاد عَدو الْإِسْلَام
يعْتَذر بذلك إِلَيْهِم عَن أَخذهَا مِنْهُم(1/54)
وعَلى الْجُمْلَة كَانَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَردا فِي زَمَانه من بَين سَائِر الْمُلُوك وَلَو لم يكن إِلَّا استماعه للموعظة وانقياده لَهَا وَإِن اشْتَمَلت على أَلْفَاظ قد أغْلظ لَهُ فِيهَا
قَرَأت فِي تَارِيخ إربل لشرف الدّين بن المستوفي رَحمَه الله قَالَ المنتجب الْوَاعِظ هُوَ أَبُو عُثْمَان المنتجب بن أبي مُحَمَّد البحتري الوَاسِطِيّ ورد إربل وَوعظ بهَا وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وسافر إِلَى نور الدّين مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر إِلَى الشَّام بِسَبَب الْغُزَاة وأنفذ لَهُ نور الدّين جملَة من مَال فَلم يقبلهَا وردهَا عَلَيْهِ
أَنْشدني لَهُ يحيى بن مُحَمَّد بن صَدَقَة قصيدة عَملهَا فِي نور الدّين وَحلف أَنه سَمعهَا من لَفظه
(مثل وقوفك أَيهَا الْمَغْرُور ... يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاء تمور)
(إِن قيل نور الدّين رحت مُسلما ... فاحذر بِأَن تبقى وَمَالك نور)
(أنهيت عَن شرب الْخُمُور وَأَنت من ... كأس الْمَظَالِم طافح مخمور)
(عطلت كاسات المدام تعففا ... وَعَلَيْك كاسات الْحَرَام تَدور)
(مَاذَا تَقول إِذا نقلت إِلَى البلى ... فَردا وجاءك مُنكر وَنَكِير)
(وتعلقت فِيك الْخُصُوم وَأَنت فِي ... يَوْم الْحساب مسحب مجرور)
(وَتَفَرَّقَتْ عَنْك الْجنُود وَأَنت فِي ... ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبور)(1/55)
(ووددت أَنَّك مَا وليت ولَايَة ... يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَام أَمِير)
(وَبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة ... فِي عَالم الْمَوْتَى وَأَنت حقير)
(وحشرت عُريَانا حَزينًا باكيا ... قلقا وَمَالك فِي الْأَنَام مجير)
(أرضيت أَن تحيا وقلبك دارس ... عافي الخراب وجسمك الْمَعْمُور)
(أرضيت أَن يحظى سواك بِقُرْبِهِ ... أبدا وَأَنت مبعد مهجور)
(مهد لنَفسك حجَّة تنجو بهَا ... يَوْم الْمعَاد لَعَلَّك الْمَعْذُور)
قلت وَلَعَلَّ هَذِه الأبيات كَانَت من أقوى الْأَسْبَاب المحركة إِلَى إبِْطَال تِلْكَ الْمَظَالِم والخلاص من تِلْكَ المآثم رَضِي الله عَن الْوَاعِظ والمتعظ بِسَبَبِهِ ووفق من رام الِاقْتِدَاء بِهِ
ونقلت من خطّ الصاحب الْعَالم كَمَال الدّين أبي الْقَاسِم عمر بن أَحْمد بن هبة الله ابْن أبي جَرَادَة فِي = كتاب تَارِيخ حلب = الَّذِي صنفه(1/56)
وَسمعت من لَفظه أَن نور الدّين رَحمَه الله كَانَ مَعَ أَبِيه بحلب فَلَمَّا حاصر أَبوهُ قلعة جعبر وَقتل عَلَيْهَا قصد حلب وَصعد قلعتها وملكها فِي شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَأحسن إِلَى الرّعية وَبث الْعدْل وَرفع الْجور وأبطل الْبدع واشتغل بالغزو وَفتح قلاعا كَثِيرَة من عمل حلب كَانَت بيد الفرنج وَحدث بحلب ودمشق عَن جمَاعَة من الْعلمَاء أَجَازُوا لَهُ مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن رِفَاعَة بن غَدِير السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ
روى عَنهُ جمَاعَة من شُيُوخنَا مثل أبي الْفضل أَحْمد وَأبي البركات الْحسن وَأبي مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن أَبى عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن هبه الله الشَّافِعِي
قَالَ ووقفت على رقْعَة بِخَط الْوَزير خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر بن القيسراني كتبهَا إِلَى نور الدّين وجوابها من نور الدّين على رَأس الورقة وَبَين السطور فنقلت جَمِيع مَا فِيهَا من خطيهما
قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله كتب رقْعَة يطْلب من ابْن القيسراني أَن يكْتب لَهُ صُورَة مَا يدعى لَهُ بِهِ على المنابر حَتَّى لَا يَقُول الْخَطِيب مَا لَيْسَ فِيهِ ويصونه عَن الْكَذِب وَعَما هُوَ مُخَالف لحاله
ونسخة الورقة بِخَط خَالِد أَعلَى الله قدر الْمولى فِي الدَّاريْنِ وبلغه آماله فِي نَفسه وَذريته وَختم لَهُ بِخَير فِي العاجلة والآجلة بمنه وجوده وفضله وحمده
وقف الْمَمْلُوك على الرقعة وتضاعف دعاؤه(1/57)
وابتهاله إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يرضى عَنهُ وَعَن وَالِديهِ وَأَن يسهل لَهُ السلوك إِلَى رِضَاهُ والقرب مِنْهُ والفوز عِنْده إِنَّه على كل شَيْء قدير
وَقد رأى الْمَمْلُوك مَا يعرضه على الْعلم الْأَشْرَف زَاده الله شرفا وَهُوَ أَن يذكر الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِذا أَرَادَ الدُّعَاء للْمولى اللَّهُمَّ أصلح عَبدك الْفَقِير إِلَى رحمتك الخاضع لهيبتك المعتصم بقوتك الْمُجَاهِد فِي سَبِيلك المرابط لأعداء دينك أَبَا الْقَاسِم مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر نَاصِر أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَإِن هَذَا جَمِيعه لَا يدْخلهُ كذب وَلَا تزيد والرأي أَعلَى وأسمى إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَكتب نور الدّين على رَأس الرقعة بِخَطِّهِ مَا هَذَا صورته مقصودى أَلا يكذب على الْمِنْبَر أَنا بِخِلَاف كل مَا يُقَال أفرح بِمَا لَا أعمل قله عقل عَظِيم الَّذِي كتبت جيد هُوَ اكْتُبْ بِهِ نسخ حَتَّى نسيره إِلَى جَمِيع الْبِلَاد
وَكتب فِي آخر الرقعة ثمَّ يبدؤوا بِالدُّعَاءِ اللَّهُمَّ أره الْحق حَقًا اللَّهُمَّ أسعده اللَّهُمَّ انصره اللَّهُمَّ وَفقه من هَذَا الْجِنْس
قَالَ وحَدثني وَالِدي قَالَ استدعانا نور الدّين أَنا وعمك أَبُو غَانِم وَشرف الدّين بن أبي عصرون إِلَى الميدان الْأَخْضَر وأشهدنا عَلَيْهِ بوقف حوانيت على سور حمص
فَلَمَّا شَهِدنَا عَلَيْهِ الْتفت إِلَيْنَا وَقَالَ بِاللَّه انْظُرُوا أَي شَيْء علمتموه من أَبْوَاب الْبر وَالْخَيْر دلونا عَلَيْهِ وأشركونا فِي الثَّوَاب فَقَالَ(1/58)
شرف الدّين بن أبي عصرون وَالله مَا ترك الْمولى شَيْئا من أَبْوَاب الْبر إِلَّا وَقد فعله وَلم يتْرك لأحد بعده فعل خير إِلَّا وَقد سبقه إِلَيْهِ
وَقَالَ قَالَ لي وَالِدي دخل فِي أَيَّام نور الدّين إِلَى حلب تَاجر مُوسر فَمَاتَ بهَا وَخلف بهَا ولدا صَغِيرا ومالا كثيرا فَكتب بعض من بحلب إِلَى نور الدّين يذكر لَهُ أَن قد مَاتَ هَا هُنَا رجل تَاجر مُوسر وَخلف عشْرين ألف دِينَار أَو فَوْقهَا وَله ولد عمره عشر سِنِين
وَحسن لَهُ أَن يرفع المَال إِلَى الخزانة إِلَى أَن يكبر الصَّغِير ويرضى مِنْهُ بِشَيْء ويمسك الْبَاقِي للخزانة
فَكتب على رقعته أما الْمَيِّت فرحمه الله وَأما الْوَلَد فأنشأه الله وَأما المَال فثمره الله وَأما السَّاعِي فلعنه الله
وبلغتني هَذِه الْحِكَايَة عَن غير نور الدّين أَيْضا
وحَدثني الْحَاج عمر بن سنقر عَتيق شاذبجت النوري قَالَ سَمِعت الطواشي شاذبخت الْخَادِم يحْكى لنا قَالَ كنت يَوْمًا أَنا وسنقرجا واقفين على رَأس نور الدّين وَقد صلى الْمغرب وَجلسَ وَهُوَ مفكر فكرا عَظِيما وَجعل ينْكث بِأُصْبُعِهِ فِي الأَرْض
فتعجبنا من فكره وَقُلْنَا ترى فِي أَي شَيْء يفكر فِي عائلته أَو فِي وَفَاء دينه فَكَأَنَّهُ فطن بِنَا فَرفع رَأسه فَقَالَ مَا تقولان فَقُلْنَا مَا قُلْنَا شَيْئا فَقَالَ بحياتي قولا لي
فَقُلْنَا عجبنا من إفراط مَوْلَانَا فِي الْفِكر وَقُلْنَا يفكر فِي عائلته أَو فِي نَفسه
فَقَالَ وَالله إِنَّنِي أفكر فِي وَال وليته أمرا من أُمُور الْمُسلمين فَلم يعدل فيهم أَو فِيمَن يظلم الْمُسلمين من أَصْحَابِي وأعواني وأخاف الْمُطَالبَة بذلك فبالله عَلَيْكُم وَإِلَّا فخبزي عَلَيْكُم حرَام لَا تريان قصَّة ترفع إِلَى أَو تعلمان مظْلمَة إِلَّا وأعلماني بهَا وارفعاها إِلَيّ
وَسمعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أَبَا المحاسن يُوسُف بن رَافع بن(1/59)
تَمِيم قَالَ كَانَ نور الدّين ينفذ كل سنة فِي شهر رَمَضَان يطْلب من الشَّيْخ عمر الملاء شَيْئا يفْطر عَلَيْهِ فَكَانَ ينفذ إِلَيْهِ الأكياس فِيهَا الفتيت والرقاق وَغير ذَلِك فَكَانَ نور الدّين يفْطر عَلَيْهِ
وَكَانَ إِذا قدم الْموصل لَا يَأْكُل إِلَّا من طَعَام الشَّيْخ عمر الملاء
قَالَ وَكَانَ نور الدّين لما صَارَت لَهُ الْموصل قد أَمر كمشتكين شحنة الْموصل أَلا يعْمل شَيْئا إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذا أمره القَاضِي بِهِ وَألا يعْمل القَاضِي والنواب كلهم شَيْئا إِلَّا بِأَمْر الشَّيْخ عمر الملاء
قَالَ فَكَانَ لَا يعْمل بالسياسة وَبَطلَت الشحنكية
فجَاء أكَابِر الدولة وَقَالُوا لكمشتكين قد كثر الدعار وأرباب الْفساد وَلَا يَجِيء من هَذَا شَيْء إِلَّا بِالْقَتْلِ والصلب فَلَو كتبت إِلَى نور الدّين وَقلت لَهُ فِي ذَلِك
فَقَالَ لَهُم أَنا لَا أكتب إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنى وَلَا أجسر على ذَلِك فَقولُوا للشَّيْخ عمر يكْتب إِلَيْهِ
فحضورا عِنْده وَذكروا لَهُ ذَلِك فَكتب إِلَى نور الدّين وَقَالَ لَهُ إِن الدعار والمفسدين وقطاع الطَّرِيق قد كَثُرُوا وَيحْتَاج إِلَى نوع سياسة فَمثل هَذَا لَا يَجِيء إِلَّا بقتل وصلب وَضرب وَإِذا أَخذ مَال إِنْسَان فِي الْبَريَّة من يشْهد لَهُ قَالَ فَقلب نور الدّين كِتَابه وَكتب على ظَهره إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق وَهُوَ أعلم بمصلحتهم وَشرع لَهُم شَرِيعَة وَهُوَ أعلم بِمَا يصلحهم وَإِن مصلحتهم تحصل فِيمَا شَرعه على وَجه الْكَمَال فِيهَا وَلَو علم أَن على الشَّرِيعَة زِيَادَة فِي الْمصلحَة لشرعه فَمَا لنا حَاجَة إِلَى زِيَادَة على مَا شَرعه الله تَعَالَى قَالَ فَجمع الشَّيْخ عمر الملاء أهل الْموصل وأقرأهم الْكتاب وَقَالَ انْظُرُوا فِي كتاب الزَّاهِد إِلَى الْملك وَكتاب الْملك إِلَى الزَّاهِد(1/60)
وَسمعت صقر الْمعدل يَقُول سَمِعت مُقَلدًا يَعْنِي الدولعي يَقُول لما مَاتَ الْحَافِظ الْمرَادِي وَكُنَّا جمَاعَة الْفُقَهَاء قسمَيْنِ الْعَرَب والأكراد فمنا من مَال إِلَى الْمَذْهَب وأردنا أَن نستدعي الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَكَانَ بالموصل وَمنا من مَال إِلَى علم النّظر وَالْخلاف وَأَرَادَ أَن نستدعي القطب النَّيْسَابُورِي وَكَانَ قد جَاءَ وزار الْبَيْت الْمُقَدّس ثمَّ عَاد إِلَى بِلَاد الْعَجم فَوَقع بَيْننَا كَلَام بِسَبَب ذَلِك وَوَقعت فتْنَة بَين الْفُقَهَاء
فَسمع نور الدّين بذلك فاستدعى جمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَى القلعة بحلب وَخرج إِلَيْهِم مجد الدّين يَعْنِي ابْن الداية عَن لِسَانه وَقَالَ نَحن مَا أردنَا بِبِنَاء الْمدَارِس إِلَّا نشر الْعلم ودحض الْبدع من هَذِه الْبَلدة وَإِظْهَار الدّين وَهَذَا الَّذِي جرى بَيْنكُم لَا يحسن وَلَا يَلِيق وَقد قَالَ الْمولى نور الدّين نَحن نرضى الطَّائِفَتَيْنِ ونستدعي شرف الدّين بن أبي عصرون وقطب الدّين النَّيْسَابُورِي فاستدعاهما جَمِيعًا وَولى مدرسة ابْن أبي عصرون لشرف الدّين ومدرسة النفري لقطب الدّين
قَالَ وعلقت أَيْضا من خطّ فَقِيه كَانَ معيدا بالنظامية يُقَال(1/61)
لَهُ أَبُو الْفَتْح بنجير بن أبي الْحسن بن بنجير الأشتري وَكَانَ ورد دمشق وَجمع لنُور الدّين سيرة مختصرة قَالَ كَانَ نور الدّين يقْعد فِي الْأُسْبُوع أَرْبَعَة أَيَّام أَو خَمْسَة أَيَّام فِي دَار الْعدْل للنَّظَر فِي أُمُور الرّعية وكشف الظلامة لَا يطْلب بذلك درهما وَلَا دِينَارا وَلَا زِيَادَة ترجع إِلَى خزانته وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضاة الله وطلبا للثَّواب والزلفى فِي الْآخِرَة وَيَأْمُر بِحُضُور الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَيَأْمُر بِإِزَالَة الْحَاجِب والبواب حَتَّى يصل إِلَيْهِ الضَّعِيف وَالْفَقِير وَالْقَوِي والغني ويكلمهم بِأَحْسَن الْكَلَام ويستفهم مِنْهُم بأبلغ النظام حَتَّى لَا يطْمع الْغَنِيّ فِي دفع الْفَقِير بِالْمَالِ وَلَا الْقوي فِي دفع الضَّعِيف بالقال
ويحضر فِي مَجْلِسه الْعَجُوز الضعيفة الَّتِي لَا تقدر على الْوُصُول إِلَى خصمها وَلَا المكالمة مَعَه فيأمر بمساواته لَهَا فتغلب خصمها طَمَعا فِي عدله ويعجز الْخصم عَن دَفعهَا خوفًا من عدله فَيظْهر الْحق عِنْده فيجرى الله على لِسَانه مَا هُوَ مُوَافق للشريعة وَيسْأل الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء عَمَّا يشكل عَلَيْهِ من الْأُمُور الغامضة فَلَا يجرى فِي مَجْلِسه إِلَّا مَحْض الشَّرِيعَة
قَالَ وَأما زَمَانه فَهُوَ مَصْرُوف إِلَى مصَالح النَّاس وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية والشفقة عَلَيْهِم وَأما فكره فَفِي إِظْهَار شعار الْإِسْلَام وتأسيس قَاعِدَة الدّين من بِنَاء الرَّبْط والمدارس والمساجد حَتَّى إِن بِلَاد الشَّام كَانَت خَالِيَة من الْعلم وَأَهله وَفِي زَمَانه صَارَت مقرا للْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والصوفية لصرف همته إِلَى بِنَاء الْمدَارِس والربط وترتيب أُمُورهم وَالنَّاس آمنون على أَمْوَالهم(1/62)
وأنفسهم وَلَو لم يكن من هَذِه الْخِصَال إِلَّا مَا علم مِنْهُ وشاع أَنه إِذا وعد وَفِي وَإِذا أوعد عَفا وَإِذا تحدث بِشَيْء يقف عَلَيْهِ وَلَا يُخَالف قَوْله وَلَا يرجع عَن لَفظه ومنطقه لكفى
وَلَا يجْرِي فِي مَجْلِسه الْفسق والفجور والشتم والغيبة والقدح فِي النَّاس وَالْكَلَام فِي أعراضهم كَمَا يجرى فِي مجَالِس سَائِر الْمُلُوك وَلَا يطْمع فِي أَخذ أَمْوَال النَّاس وَلَا يرضى بِأَن يَأْخُذ أحد من أَمْوَال الشَّرِيعَة شَيْئا بِغَيْر حق
قَالَ وبلغنا بأخبار التَّوَاتُر عَن جمَاعَة يعْتَمد على قَوْلهم أَنه أَكثر اللَّيَالِي يُصَلِّي ويناجي ربه مُقبلا بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوْقَاتهَا بِتمَام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها
قَالَ وبلغنا عَن جمَاعَة من الصُّوفِيَّة الَّذين يعْتَمد على أَقْوَالهم مِمَّن دخلُوا ديار الْقُدس للزيارة حِكَايَة عَن الْكفَّار أَنهم يَقُولُونَ ابْن القسيم لَهُ مَعَ الله سر فَإِنَّهُ مَا يظفر علينا بِكَثْرَة جنده وَعَسْكَره وَإِنَّمَا يظفر علينا بِالدُّعَاءِ وَصَلَاة اللَّيْل فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيرْفَع يَده إِلَى الله وَيَدْعُو وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب دعاءه وَيُعْطِيه سؤله وَمَا يرد يَده خائبة فيظفر علينا قَالَ فَهَذَا كَلَام الْكفَّار فِي حَقه
قَالَ وَحدثنَا الشَّيْخ دَاوُد الْمَقْدِسِي خَادِم قبر شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ حضرت فِي دَار الْعدْل فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَخمسين فَقَامَ رجل وَادّعى على نور الدّين الْملك الْعَادِل أَن أَبَاهُ أَخذ من مَاله شَيْئا بِغَيْر حق قَالَ وَأَنا مطَالب لَك بذلك فَقَالَ نور الدّين أَنا مَا أعلم ذَلِك فَإِن كَانَ لَك بَيِّنَة تشهد بذلك فهاتها وَأَنا أرد إِلَيْك مَا يخصني فَإِنِّي مَا ورثت جَمِيع مَاله كَانَ هُنَاكَ وَارِث غَيْرِي فَمضى الرجل ليحضر الْبَيِّنَة فَقلت فِي نَفسِي هَذَا هُوَ الْعدْل قَالَ وَحضر رجل زاهد فِيهِ سمة الْخَيْر مَعْرُوف بالسداد وَالصَّلَاح فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا أَخُو(1/63)
الشَّيْخ أبي الْبَيَان وَكَانَ قد أودع عِنْد أَخِيه أبي الْبَيَان وَدِيعَة وَقد توفّي فَادّعى الْمُودع على هَذَا الشَّيْخ أَنه يعلم بالوديعة وطالبه بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَأنْكر هَذَا الرجل علمه بالوديعة فَأوجب عَلَيْهِ القَاضِي كَمَال الدّين حكم الشَّرْع أَن يحلف أَنه لَا علم لَهُ بِهَذِهِ الْوَدِيعَة فَحلف على ذَلِك فَجعل الْمُودع يشنع عَلَيْهِ وَيَقُول إِنَّه حلف كَاذِبًا وَيتَكَلَّم فِي عرضه وَيَقُول فِي حَقه من التنمس وَغَيره فَحَضَرَ عِنْد الْملك الْعَادِل شاكياً مِنْهُ وذاكرا سيرته وطريقته وَمن الَّذِي يقدر أَن يَقُول فِي حَقي هَذَا
ويتعرض بالتماسه من الْملك الْعَادِل التَّقَدُّم بإحضاره وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ فِيمَا يَقُول فِي حَقه
فَلَمَّا فرغ من الْكَلَام وَرمى مَا كَانَ فِي جعبته من دَعْوَى الْحَقِيقَة والطريقة وَكَانَ حَاصله التمَاس الْإِنْكَار عَلَيْهِ فَقَالَ الْملك الْعَادِل أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه {وَإِذَا خَاطَبَهُم الَجْاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً} فَإِذا كَانَ هُوَ يجهل عَلَيْك وَيَقُول فِي حَقك بِالْجَهْلِ مَا لَا يجوز فَيجب عَلَيْك أَلا تعْمل مَعَه مثل مُعَامَلَته فَتكون مثله فكأنك قابلت الْإِسَاءَة بالإساءة وَمن حَقك أَن تقَابل الْإِسَاءَة بِالْإِحْسَانِ
فَقلت فِي نَفسِي الْحق مَا قَالَ الْملك الْعَادِل إِمَّا قَرَأَ هَذَا فِي كتب التفاسير فَثَبت فِي قلبه أَو أجراه الله على لِسَانه وأنطقه بِهِ
قَالَ وَحضر جمَاعَة من التُّجَّار وَشَكوا أَن الْقَرَاطِيس كَانَ سِتُّونَ مِنْهَا بِدِينَار فَصَارَ سَبْعَة وَسِتُّونَ بِدِينَار وتزيد وتنقص فيخسرون
فَسَأَلَ الْملك الْعَادِل عَن كَيْفيَّة الْحَال فَذكرُوا أَن عقد الْمُعَامَلَة على اسْم الدِّينَار وَلَا يرى الدِّينَار فِي الْوسط وَإِنَّمَا يعدون الْقَرَاطِيس بالسعر تَارَة سِتِّينَ بِدِينَار وَتارَة(1/64)
سَبْعَة وَسِتِّينَ بِدِينَار وَأَشَارَ كل وَاحِد من الْحَاضِرين على نور الدّين أَن يضْرب الدِّينَار باسمه وَتَكون الْمُعَامَلَة بِالدَّنَانِيرِ الملكية وَتبطل الْقَرَاطِيس بِالْكُلِّيَّةِ
فَسكت سَاعَة وَقَالَ إِذا ضربت الدِّينَار وأبطلت الْمُعَامَلَة بالقراطيس فَكَأَنِّي خربَتْ بيُوت الرّعية فان كل وَاحِد من السوقة عِنْده عشرَة آلَاف وَعِشْرُونَ ألف قرطاس أيش يعْمل بِهِ فَيكون سَببا لخراب بَيته قَالَ فَأَي شَفَقَة تكون أعظم من هَذَا على الرّعية
قَالَ وَحضر صبي وَبكى عِنْد الْملك الْعَادِل وَذكر أَن أَبَاهُ مَحْبُوس على أُجْرَة حجرَة من حجر الْوَقْف
فَسَأَلَ عَن حَاله قَالُوا هَذَا الصَّبِي ابْن الشَّيْخ أَبى سعد الصُّوفِي وَهُوَ رجل زاهد قَاعد فِي حجرَة الْوَقْف وَلَيْسَ لَهُ قدرَة على الْأُجْرَة وَقد حَبسه وَكيل الْوَقْف لِأَنَّهُ اجْتمع عَلَيْهِ أُجْرَة سنة
قَالَ الْملك الْعَادِل كم أُجْرَة السّنة فَقَالُوا مئة وَخَمْسُونَ قرطاسا وَذكروا سيرته وطريقته وَفَقره
فرق لَهُ وأنعم عَلَيْهِ وَقَالَ نَحن نُعْطِيه كل سنة هَذَا الْقدر ليصرفه إِلَى الْأُجْرَة وَيقْعد فِيهَا
وَتقدم بذلك وبإخراجه من الْحَبْس فوصل إِلَى قلب كل وَاحِد من الْحَاضِرين الْفَرح حَتَّى كَأَن الإنعام كَانَ فِي حَقه
أخبرنَا افتخار الدّين عبد الْمطلب بن الْفضل بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي قَالَ كَانَ عِنْد القَاضِي تَاج الدّين عبد الغفور بن لُقْمَان الكردري قَاضِي حلب غُلَام قد جعله لمجلس الحكم يَدعِي سويداً يحضر(1/65)
الْخُصُوم إِلَى مجْلِس الحكم
فَحَضَرَ بعض التُّجَّار وَادّعى أَن لَهُ على نور الدّين دَعْوَى
فَقَالَ الكردري لسويد الْمَذْكُور امْضِ إِلَى نور الدّين وادعه إِلَى مجْلِس الحكم وعرفه أَنه حضر شخص يطْلب حُضُوره وَكَانَ نور الدّين فِي الميدان فجَاء سُوَيْد إِلَى بَاب الميدان فَخرج إِسْمَاعِيل الخزندار فَوَجَدَهُ فَتقدم سُوَيْد إِلَيْهِ وَقَالَ قد سيرني تَاج الدّين القَاضِي وَذكر أَنه حضر تَاجر وَذكر أَن لَهُ دَعْوَى على الْمولى نور الدّين وَقد أنفذني تَاج الدّين وَقَالَ لي كَذَا وَكَذَا فَضَحِك إِسْمَاعِيل الخزندار وَدخل على نور الدّين ضَاحِكا وَقَالَ لَهُ مستهزئا يقوم الْمولى فَقَالَ إِلَى أَيْن فَقَالَ قد حضر سُوَيْد غُلَام تَاج الدّين الكردري وَقَالَ إِن تَاج الدّين أرْسلهُ يطْلب الْمولى إِلَى مجْلِس الحكم فَأنْكر نور الدّين على إِسْمَاعِيل استهزاءه وَقَالَ تستهزئ بطلبي إِلَى مجْلِس الحكم وَقَالَ نور الدّين يحضر فرسي حَتَّى نركب إِلَيْهِ السّمع وَالطَّاعَة
قَالَ الله تَعَالَى {إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إِذا دُعُوا إلىَ الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا} ثمَّ نَهَضَ وَركب حَتَّى دخل بَاب الْمَدِينَة فاستدعى سويدا وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى القَاضِي تَاج الدّين وَسلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ إِنِّي جِئْت إِلَى هَا هُنَا امتثالا لأمر الشَّرْع وأحتاج فِي الْحُضُور الى مَجْلِسه إِلَى سلوك هَذِه الْأَزِقَّة وفيهَا الأطيان وَهَذَا وَكيلِي يسمع الدَّعْوَى وَإِن تَوَجَّهت على يَمِين أحضر إِن شَاءَ الله
قَالَ فَحَضَرَ الْوَكِيل وَسمع الدَّعْوَى وتوجهت الْيَمين فَقَالَ الْكرْدِي قد تَوَجَّهت الْيَمين فليحضر
فَلَمَّا بلغ نور الدّين ذَلِك وَعلم أَنه لَا مندوحة عَن حُضُور مَجْلِسه للْيَمِين استدعى ذَلِك التَّاجِر وَأصْلح الْأَمر فِيمَا بَينه وَبَينه وأرضاه(1/66)
سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين يَقُول حكى لي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قَالَ أَرْسلنِي الْملك الْعَادِل نور الدّين إِلَى عمي أَسد الدّين شيركوه وَكَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بمشورته فَقَالَ امْضِ وَقل لأسد الدّين قد خطر فِي بالي أَن أبطل هَذِه الضمانات بأسرها والمؤن والمكوس
وَخذ رَأْيه فِي ذَلِك
قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي فَقَالَ امْضِ وَقل لَهُ يَا مَوْلَانَا إِذا فعلت ذَلِك فالأجناد الَّذين أَرْزَاقهم على هَذِه الْجِهَات من أَيْن تعطيهم وتحتاج إِلَيْهِم للغزاة وَخُرُوج العساكر فَقَالَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين فَقلت لِعَمِّي هَذَا أَمر قد ألهمه الله إِيَّاه فساعده عَلَيْهِ
فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فعدت إِلَى نور الدّين فأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي عمي فَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ إِذا كُنَّا نغزو من هَذِه الْجِهَات نتركها ونقعد وَلَا نخرج قَالَ فعدت إِلَى عمي وَقلت لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ قل لَهُ إِن تركوك تقعد فجيد هُوَ فراجعته فِي أَلا يثبطه عَن ذَلِك فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وَقلت لَهُ ذَلِك فَترك ذَلِك مُدَّة ثمَّ أمضى مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ
قَالَ لي صقر بن يحيى بَلغنِي أَن موفق الدّين خَالِدا رأى فِي النّوم كَأَن نور الدّين دفع إِلَيْهِ ثِيَابه ليغسلها فَقص مَنَامه على نور الدّين فتمعر وَجه نور الدّين فَخَجِلَ موفق الدّين وَبَقِي أَيَّامًا على غَايَة من الخجل فاستدعاه يَوْمًا نور الدّين وَقَالَ تعال قد آن لَك أَن تغسل ثِيَابِي اقعد واكتب بِإِطْلَاق الْمُؤَن والمكوس والأعشار واكتب للْمُسلمين إِنَّنِي قد رفعت(1/67)
عَنْكُم مَا رَفعه الله عَنْكُم وَأثبت عَلَيْكُم مَا أثْبته الله تَعَالَى عَلَيْكُم قَالَ فَكتب موفق الدّين توقيعا
سَمِعت خَليفَة بن سُلَيْمَان بن خَليفَة الْفَقِيه يَقُول سَمِعت أبي يَقُول لما كسر نور الدّين يَعْنِي كسرة كسرة البقيعة تكلم الْبُرْهَان الْبَلْخِي فَقَالَ أتريدون أَن تنصرُوا وَفِي عسكركم الْخُمُور والطبول والزمور كلا
وكلاما مَعَ هَذَا فَلَمَّا سَمعه نور الدّين قَامَ وَنزع عَنهُ ثِيَابه تِلْكَ وَعَاهد الله تَعَالَى على التَّوْبَة وَشرع فِي إبِْطَال المكوس إِلَى أَن خرج فِي نوبَة حارم وَكسر الإفرنج
وَسمعت صديقنا شمس الدّين إِسْمَاعِيل بن سودكين بن عبد الله النوري وَكَانَ أَبوهُ أحد مماليك نور الدّين وعتيقه يَقُول سَمِعت وَالِدي يَقُول كَانَ نور الدّين مَحْمُود رَحمَه الله يلبس فِي اللَّيْل مسحا وَيقوم يُصَلِّي فِيهِ قِطْعَة من اللَّيْل قَالَ وَكَانَ يرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء ويبكي ويتضرع وَيَقُول ارْحَمْ العشار المكاس(1/68)
قَالَ لي قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين سير نور الدّين إِلَى بَغْدَاد كتابا يعلم الْخَلِيفَة بِمَا أطلق وبمقدار مَا أطلق ويسأله أَن يتَقَدَّم إِلَى الوعاظ بِأَن يستجعلوا من التُّجَّار وَمن جَمِيع الْمُسلمين لَهُ فِي حل مِمَّا كَانَ قد وصل إِلَيْهِ يعْنى من أَمْوَالهم فَتقدم بذلك وَجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك
حَدثنِي رضى الدّين أَبُو سَالم عبد الْمُنعم بن الْمُنْذر أَن نور الدّين حِين خرج لأخذ شيزر خرج أَبُو غَانِم بن الْمُنْذر صحبته فَأمره نور الدّين رَحمَه الله بِكِتَابَة منشور بِإِطْلَاق الْمَظَالِم بحلب ودمشق وحمص وحران وسنجار والرحبة وعزاز وتل بَاشر وعداد الْعَرَب فَكتب عَنهُ توقيعا نسخته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذَا مَا تقرب بِهِ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صافحا وَأطْلقهُ مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا رعاهم الله لضعفهم عَن عمَارَة مَا أخربته أَيدي الْكفَّار أبادهم الله تَعَالَى عِنْد استيلائهم على الْبِلَاد وَظُهُور كلمتهم فِي الْعباد رأفة بِالْمُسْلِمين المثاغرين ولطفا بالضعفاء المرابطين الَّذين خصهم الله سُبْحَانَهُ بفضيلة الْجِهَاد واستمحنهم بمجاورة أهل العناد اختبارا لصبرهم وإعظاما لأجرهم فصبروا احتسابا وأجزل الله لَهُم أجرا وثوابا {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} وَأعَاد عَلَيْهِم مَا اغتصبوا عَلَيْهِ من أملاكهم الَّتِي أَفَاء الله عَلَيْهِم بهَا من الْفتُوح العمرية واقرها فِي الدولة الإسلامية بَعْدَمَا طَرَأَ عَلَيْهَا من الظلمَة الْمُتَقَدِّمين واسترجعه بِسَيْفِهِ من الْكَفَرَة الملاعين فطمس عَنْهُم بذلك معالم الْجور(1/69)
وَهدم أَرْكَان التَّعَدِّي واقر الْحق مقره لقَوْله تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثاَلهاَ} {واللهُ يُضاَعِفُ لُمِنَ يَشَاءُ} ثمَّ لما أَعَانَهُ الله بعونه وأيده بنصره وقمع بِهِ عَادِية الْكفْر وَأظْهر بهمته شَعَائِر الْإِسْلَام وأظفره بالفئة الطاغية وَأمكنهُ من مُلُوكهَا الباغية فجعلهم بَين قَتِيل غير مقاد وهارب مَمْنُوع الرقاد {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِين فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنن أَو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسَاب وَإن لَهُ عِنْدَنا لَزُلفى وَحُسْن مآب} علم أَن الدُّنْيَا فانية فاستخدمها للآخرة الْبَاقِيَة واستبقى ملكه الزائل بَان قدمه أَمَامه وَجعله ذخْرا للمعاد فالتقوى مَادَّة دارة إِذا انْقَطَعت الْموَاد وجاًدة وَاضِحَة حِين تَلْتَبِس الْجواد {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} فصفح لكافة الْمُسَافِرين وَجَمِيع الْمُسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه وحرمها على كل متطاول إِلَيْهَا ومتهافت عَلَيْهَا تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها فَكَانَ مبلغ مَا سامح بِهِ وَأطْلقهُ وأنفذ الْأَمر فِيهِ اتبَاعا لكتاب الله وَسنة نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل سنة من الْعين مئة ألف وَسِتَّة وَخمسين ألف دِينَار جِهَة ذَلِك حلب خَمْسُونَ ألف دِينَار عزاز عَن مكس جددته الفرنج خذلهم الله على الْمُسَافِرين عشرَة آلَاف دِينَار تل بَاشر أحد وَعِشْرُونَ ألف دِينَار المعرة ثَلَاثَة آلَاف دِينَار دمشق المحروسة لما استنجد بِهِ أَهلهَا واستصرخ من فِيهَا خوفًا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ من اسْتِيلَاء الْعَدو وضعفهم عَن مقاومة مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم فِي كل(1/70)
سنة وَهُوَ رسم يسمونه الفسة عشرُون ألف دِينَار حمص سِتَّة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار حران خَمْسَة آلَاف دِينَار سنجار ألف دِينَار الرحبة عشرَة آلَاف دِينَار عداد الْعَرَب عشرَة آلَاف دِينَار وَمَا وَقفه وَتصدق بِهِ وأجراه فِي سبل الْخيرَات ووجوه الْبر وَالصَّدقَات تَقْدِير ثمنه مئتا ألف دِينَار وَتَقْدِير الْحَاصِل من ارتفاعه فِي كل سنة ثَلَاثُونَ ألف دِينَار من ذَلِك مَا وَقفه على الْمدَارِس الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والملكية والحنبلية وأئمتها ومدرسيها وفقهائها وَمَا وَقفه على آدر الصُّوفِيَّة والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار وَمَا وَقفه على السَّبِيل فِي طَرِيق الْحجاز وَمَا وَقفه على فكاك الأسرى وَتَعْلِيم الْأَيْتَام ومقر الغرباء وفقراء الْمُسلمين وَمَا وَقفه على الْأَشْرَاف العلويين والعباسيين وَمَا ملكه لجَماعَة من الْأَوْلِيَاء والغزاة والمجاهدين
هَذَا جَمِيعه سوى مَا أنعم بِهِ على أهل الثغور حرسها الله تَعَالَى من أملاكهم الَّتِي تقدم ذكرهَا فَإِنَّهُ يضاهي هَذَا الْمبلغ وَزِيَادَة عَلَيْهِ جعل ذَلِك ذَرِيعَة عِنْد الله تَعَالَى وتقربا إِلَيْهِ مُضَافا إِلَى مَا أنفقهُ فِي الْغُزَاة وَالْجهَاد واستئصال شأفة الْكفْر والعناد من خزانته المعمورة وأمواله الموروثة المذخورة طلبا لما عِنْد الله {وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب} فَالْوَاجِب على كل إِمَام عَادل وسلطان قَادر أَن يمده ويوده ويشد عضده وَيُقَوِّي عزمه وَينفذ حكمه وعَلى كل مُسلم أَن يواصله بِالدُّعَاءِ آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَكتب خَادِم دولته وغذي نعْمَته عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُنعم بن رضوَان بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن الْمُنْذر الْحلَبِي غفر الله لَهُ ورحمه وَرَضي عَنهُ إِلَى كل من يصل إِلَيْهِ من أَئِمَّة الدّين وفقهاء الْمُسلمين وَأَصْحَاب الزوايا(1/71)
المتعبدين وكافة التُّجَّار والمسافرين أحسن الله توفيقهم وسدد إِلَى أغراض الْخَيْر تفويقهم ليشعروا بذلك من حضرهم من التُّجَّار والمترددين إِلَيْهِم من الْأَسْفَار ليعرفوا قدر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} ويمدوه بأدعيتهم ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق من أَخذ مؤنتهم فَإِنَّهُ لم يصرف ذَلِك إِلَّا فِي وَجه بر وتجهيز جَيش ومعونة مُجَاهِد وردع كَافِر ومعاند فهم شركاؤه فِي الثَّوَاب
قَالَ لي رضى الدّين أَبُو سَالم بن الْمُنْذر فَلَمَّا وقف نور الدّين على قَوْله ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق
اسْتحْسنَ ذَلِك كثيرا ووعده بإقطاع حسن وَاتفقَ مَوته بعد ذَلِك
قلت ونقلت من خطّ الشَّيْخ الْأمين أَبى الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن الْخضر بن الْحُسَيْن بن عَبْدَانِ الأزدى الدِّمَشْقِي وقف الْمولى نور الدّين بُسْتَان الميدان سوى الغيضة الَّتِي من قبليه بعد عِمَارَته وَإِصْلَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ على تطييب الْمَسَاجِد الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا وَهِي جَامع دمشق المحروسة جَامع قلعة دمشق مدرسة الْحَنَفِيَّة الَّتِي جددها نور الدّين مَسْجِد ابْن عَطِيَّة دَاخل بَاب الْجَابِيَة مَسْجِد ابْن لبيد بالفسقار مَسْجِد سوق الرماحين الْمَسْجِد الْمُعَلق بسوق الصاغة مَسْجِد دَار الْبِطِّيخ الْمُعَلق مَسْجِد العباسي بسوق الْأَحَد مَسْجِد جدده نور الدّين جوَار بيعَة(1/72)
الْيَهُود جَامع الصَّالِحين بجبل قاسيون يبْتَاع بذلك طيب وعود وَيفرق على هَذِه الْأَمَاكِن النّصْف للجامع بِدِمَشْق وَالنّصف الثَّانِي يَنْقَسِم على أحد عشر جُزْءا جزءان للمدرسة وَتِسْعَة أَجزَاء لتسعة الْمَسَاجِد الْبَاقِيَة لكل مَسْجِد جُزْء وَاحِد تطيب هَذِه الْأَمَاكِن فِي الْأَوْقَات الشَّرِيفَة ومواسم الاجتماعات وليالي شهر رَمَضَان والأعياد وَأَيَّام الْجمع وَقت عقد الْجُمُعَة فِي الْجَوَامِع وليالي الْجُمُعَة وَالْخَمِيس والاثنين
ونقلت من خطه أَيْضا أَن نور الدّين رَحمَه الله الله تَعَالَى حضر عِنْده بقلعة دمشق يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر صفر سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة القَاضِي زكي الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي وَالْفُقَهَاء الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون والخطيب عز الدّين أَبُو البركات بن عبد وَالْإِمَام عز الدّين أَبُو الْقَاسِم على بن الْحسن بن(1/73)
الماسح الشافعيون وَشرف الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى الْمَالِكِي وَشرف الْإِسْلَام نجم بن عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ وَرَضي الدّين أَبُو غَالب عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أَسد التَّمِيمِي رَئِيس دمشق ونظام الدّين أَبُو الْكِرَام المحسن بن أبي المضاء مُتَوَلِّي الوزارة بِدِمَشْق والأعيان من شُهُود الْعَدَالَة بِدِمَشْق وهم عبد الصَّمد بن تَمِيم وَعبد الْوَاحِد بن هِلَال والصائن أَبُو الْحُسَيْن وَغَيرهم
فَسَأَلَهُمْ نور الدّين عَن الْمُضَاف إِلَى أوقاف الْمَسْجِد الْجَامِع بِدِمَشْق من الْمصَالح الَّتِي لَيست وَقفا عَلَيْهِ وَأَن يظْهر كل وَاحِد مِنْهُم مَا يُعلمهُ من ذَلِك ليعْمَل بِهِ وَيَقَع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُم لَيْسَ يجوز لأحد مِنْكُم أَن يعلم من ذَلِك شَيْئا إِلَّا ويذكره(1/74)
وَلَا يُنكر شَيْئا مِمَّا يَقُوله غَيره إِلَّا وينكره والساكت مِنْكُم مُصدق للناطق ومصوب لقَوْله وَلَيْسَ الْعَمَل إِلَّا على مَا تتفقون عَلَيْهِ وتشهدون بِهِ وعَلى هَذَا كَانَ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم يَجْتَمعُونَ ويتشاورون فِي مصَالح الْمُسلمين
فَكل من الْحَاضِرين شكره على مَا قَصده وَأثْنى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالْبَقَاءِ ثمَّ أَمر نور الدّين مُتَوَلِّي أوقاف الْجَامِع والمساجد والبيمارستان وقني السَّبِيل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك أَن يقْرَأ عَلَيْهِ بِمحضر من الْمَذْكُورين ضريبة الْأَوْقَاف موضعا موضعا ليفرد مَا يعلمُونَ أَنه للْمصَالح دون الْوَقْف فَافْتتحَ بِالسوقِ المستجد تَحت المئذنة الغربية جوَار البيمارستان فَقَالَ الصائن وَابْن تَمِيم وَابْن هِلَال هَذَا السُّوق بِكَمَالِهِ لمصَالح الْمُسلمين وَلَيْسَ من وقف الْجَامِع لِأَنَّهُ احدث فِي طَرِيق الْمُسلمين وَقد صرف فِي الْجَامِع من أجوره أوفى مِمَّا غرم على عِمَارَته من وَقفه
فَصَدَّقَهُمْ الْحَاضِرُونَ على مَا شهدُوا بِهِ ومبلغ ذَلِك خمس وَعِشْرُونَ عضادة ثمَّ عين للْمصَالح أَيْضا مَا فِي زِيَادَة الْجَامِع الْقبلية وَزِيَادَة بَاب الْبَرِيد فِي الصَّفّ القبلي والشامي من العضائد والحوانيت وَالْحجر الَّتِي طباقها وطباق الطَّرِيق بحضرتها وَجَمِيع بيُوت الخضراء من قبْلَة الْجَامِع والفرن المستجد بهَا وَدَار الْخَيل والمساكن والحوانيت الْمُجَاورَة لدار الْخَيل وحانوت فِي الخواصين فِي الصَّفّ الغربي وَاثنا عشر حانوتا متلاصقات فِي الصَّفّ الشَّرْقِي تعرف بالمعتصميات وَنصف حَانُوت والفرجة المستجدة بِحَضْرَة دَار الْوكَالَة إِلَى سوق على وعدتها ثَلَاثَة عشر حانوتا ومصطبة وَثَلَاثَة حوانيت فِي الصَّفّ(1/75)
الشَّامي من سوق على بلصق الفرجة من شرقها وحانوت بالفسقار فِي الصَّفّ القبلي يعرف بسكنى ثَعْلَب الفقاعي وحوانيت اللبادين وَالَّتِي بحضره الفوارة وَتَحْت اللبادين وقيسارية العقيقي بسوق الْأَحَد وتعرف بدار الشَّجَرَة وحانوتان فِي الصَّفّ الشَّرْقِي بِحَضْرَة فندق الزَّيْت من غرب درب التمارين وحانوت بقنطرة الشماعين فِي الصَّفّ الشَّامي بِحَضْرَة البياطرة وَقطعَة جوَار المأمونية من غربها والعضائد الَّتِي فِي الصَّفّ الشَّامي من سوق الْأَحَد وَهِي خَمْسَة عشر عضادة وَسِتَّة أسْهم من طاحونة السَّقِيفَة
وَذَلِكَ كُله بعضه مِيرَاث عَن بني أُميَّة كالخضراء وَدَار الْخَيل وَبَعضه اشْترِي بِمَال الْوَقْف والمصالح وَبَعضه أَخذ مِمَّن باد أَهله الْمَوْقُوف عَلَيْهِم وَلم يكن لَهُ مَال وَبَعضه أحدث فِي الطَّرِيق قَالَ فَلَمَّا شهدُوا بِصِحَّة جَمِيع مَا ذكر وَأَن مَنَافِع ذَلِك وأجوره جَارِيَة فِي الْمصَالح قَالَ نور الدّين إِن أهم الْمصَالح سد ثغور الْمُسلمين وَبِنَاء السُّور الْمُحِيط بِدِمَشْق والقل وَالْخَنْدَق لصيانة الْمُسلمين وحريمهم وَأَمْوَالهمْ فصوبوا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وشكروه
ثمَّ سَأَلَهُمْ عَن فواضل الْأَوْقَاف هَل يجوز صرفهَا فِي عمَارَة الأسوار وَعمل الخَنْدَق للْمصْلحَة المتوجهة للْمُسلمين فَأفْتى شرف الدّين عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي بِجَوَاز ذَلِك وَمِنْهُم من روى فِي مهلة النّظر وَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين بن أَبى عصرون الشَّافِعِي لَا يجوز أَن يصرف وقف مَسْجِد إِلَى غَيره وَلَا وقف معِين إِلَى جِهَة غير تِلْكَ الْجِهَة وَإِذا لم يكن بُد من ذَلِك فَلَيْسَ طَرِيقه إِلَّا أَن يقترضه من إِلَيْهِ الْأَمر فِي بَيت مَال الْمُسلمين فيصرفه فِي(1/76)
الْمصَالح وَيكون الْقَضَاء وَاجِبا من بَيت المَال
فوافقه الْأَئِمَّة الْحَاضِرُونَ مَعَه على ذَلِك
ثمَّ سَالَ ابْن أَبى عصرون نور الدّين هَل أنْفق شَيْء قبل الْيَوْم على سور دمشق وعَلى بِنَاء الكلاسة من شام الْجَامِع وعَلى إنْشَاء السّقف المقرنص تَحت النسْر بالجامع وعَلى الرصاص الْمَعْمُول على سطح الرواق الشَّامي من الْجَامِع وَسَائِر العمارات الْمُتَعَلّقَة بالجامع الْمَعْمُور بِغَيْر إِذن مَوْلَانَا وَهل كَانَ إِلَّا مبلغا لِلْأَمْرِ العالي فِي عمل ذَلِك فَقَالَ نور الدّين لم تنْفق ذَلِك وَلَا شَيْء مِنْهُ إِلَّا بإذني وَأَنا أمرت بِهِ وبفتح المشهدين من غربي الْجَامِع الْمَعْمُور اللَّذين كَانَا مخزنين وَكنت مبلغا عني ومؤديا أَمْرِي
قلت هَذَا مُخْتَصر الْمحْضر الَّذِي كتب فِيهِ صُورَة مَا جرى فِي ذَلِك الْمجْلس وَهُوَ مُشْتَمل على فَوَائِد حَسَنَة وتأكيد لما نقل من سيرة هَذَا الْملك فِي وُقُوفه مَعَ أوَامِر الشَّرِيعَة
وَفِي ذَلِك الْمحْضر خطوط الْجَمَاعَة الْحَاضِرين
وَصُورَة مَا كتبه الْمَالِكِي الْمُفْتِي حضرت الْمجْلس الْمَذْكُور عمره الله وزينه بِالْعَدْلِ أبدا مَا عَاشَ صَاحبه وَشهِدت على مَا تضمنه من المشورة الْمُبَارَكَة وَمَا نسب إِلَى الْجَمَاعَة الشَّهَادَة بِهِ من الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة كَمَا نسب إِلَيْهِم وَقد أخل بِذكر دَار الْحِجَارَة وَقد ذكروها فِي الْمصَالح وَمَا نسب إِلَى من الْفَتْوَى فقد كنت قيدته بِالْحَاجةِ وفراغ بَيت المَال أَو ضعفه عَن الْقيام بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ ومهماتهم الدِّينِيَّة كتبه عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى بن مُحَمَّد الْمَالِكِي(1/77)
فصل
وَقد مدح نور الدّين رَحمَه الله باشعار كَثِيرَة وأوصافه فَوق مَا مدح بِهِ
وَكَانَ فِي أول دولته شَاعِرًا زمانهما أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صَغِير وَأَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير وَلَهُمَا فِيهِ أشعار فائقة ستأتي جملَة مِنْهَا فِي موَاضعهَا وَقد رَأَيْت أَن أقدم مِنْهَا شَيْئا هُنَا
قَرَأت فِي ديوَان مُحَمَّد بن نصر القيسراني كتب إِلَى نور الدّين سَلام الله وحنانه ورأفته وامتنانه وروحه وريحانه على من عصم ثغر العواصم وخصم بحجته الدَّهْر المخاصم وألجم بهيبته العائب والواصم الَّذِي انتضى فِي سَبِيل الله سيوف الْجِهَاد وارتضى بعز سُلْطَانه شعار الْعباد والزهاد واهتدى إِلَى طَاعَة الله وَلَيْسَ غير الله من هاد وَمن أَصبَحت أَطْرَاف الْبِلَاد أوساطا لمملكته ومعاقل الْكفَّار فِي عقال ملكته ومركز الشُّكْر مراكز أَعْلَامه وألويته وَمن عَادَتْ بِهِ ثغور الشَّام ضاحكة عَن ثغور النَّصْر وممالك الْإِسْلَام متوجة بتيجان الْفَخر وصعاب الْأُمُور منقادة إِلَيْهِ بأزمة الْقَهْر وَمن رأى الحكم دارسة فَبنى مدارسها والهمم يابسة فسقى منابتها ومغارسها والمنابر شامسة فَأمكن من صهواتها فوارسها وَمن عمر ربع السّنَن بَعْدَمَا عَفا وأنقذ من الْفِتَن من كَانَ مِنْهَا على شفى وَمن نشر أَعْلَام الْفضل وأنشر بعد الْوَفَاة أَيَّام الْعدْل وَمن أنار بِوَجْهِهِ الْإِيمَان وَأخذ النَّاس بِهِ من الزَّمَان توقيع الْأمان(1/78)
(ذُو الجهادين من عَدو وَنَفس ... فَهُوَ طول الْحَيَاة فِي هيجاء)
(أَيهَا الْمَالِك الَّذِي ألزم النَّاس ... سلوك المحجة الْبَيْضَاء)
(قد فضحت الْمُلُوك بِالْعَدْلِ لما ... سرت فِي النَّاس سيرة الْخُلَفَاء)
(قاسماً مَا ملكت فِي النَّاس حَتَّى ... لقسمت التقى على الأتقياء)
(شيم الصَّالِحين فِي جنن التّرْك ... وَكم من سكينَة فِي قبَاء)
(أَنْت حينا تقاس بالأسد الْورْد ... وحينا تعد فِي الْأَوْلِيَاء)
(صاغك الله من صميم الْمَعَالِي ... حَيْثُ لَا نِسْبَة سوى الآلاء)
(وَكَأن القباء مِنْك لما ضم ... من الطُّهْر مَسْجِد بقباء)
(أَنْت إِلَّا تكن نَبيا فَمَا فاتك ... إِلَّا خلائق الْأَنْبِيَاء)
(رأفة فِي شهامة وعفاف ... فِي اقتدار وسطوة فِي حَيَاء)
(وجمال ممنطق بِجلَال ... وَكَمَال متوج ببهاء)
(وَإِذا مَا الْمُلُوك خَافت سِهَام الذَّم
(م) زرت عَلَيْك درع الثَّنَاء)
(عجب النَّاس مِنْك أَنَّك فِي الْحَرْب ... شهَاب الكتيبة الشَّهْبَاء)
(وَكَأن السيوف من عزمك الْمَاضِي ... أفادت مَا عِنْدهَا من مضاء)
(ولعمري لَو اسْتَطَاعَ فدَاك الْقَوْم ... بالأمهات والآباء) وَله فِيهِ
(لله عزمك أَي سيف وغى ... طبعت مضاربه على الْقَهْر)
(مَا زفت الْحَرْب الْعوَان بِهِ ... إِلَّا انجلت عَن معقل بكر)(1/79)
(هَل وَجه نور الدّين غير سنى ... صدع الدجى عَن خجله الْبَدْر)
(ملك مهابته طليعته ... أبدا أَمَام جيوشه تسرى)
(كم فل كيدهم بصاعقة ... شغلت قُلُوبهم عَن الْفِكر)
(تركت حصونهم سجونهم ... فالقوم قبل الْأسر فِي أسر)
(عصم العواصم فَهِيَ ضاحكة ... تجلو الظبي ثغرا على الثغر)
(وَإِذا سَرَايَا خيله قفلت ... نهضت سَرَايَا الْخَوْف والذعر)
(وَرمى القلاع بِمثل جندلها ... حَتَّى استكان الصخر بالصخر)
(يَا سائلي عَن نهج سيرته ... هَل غيرُ مفرق هَامِه الْفجْر)
(عدل حقيقُ من تَأمله ... أَن يُحْيِىَ العُمَريْن بِالذكر)
(وشهامة فِي الله خَالِصَة ... عقدت عَلَيْهِ تمائم الْأجر)
(وندى يَد مَا ضرّ واردها ... أَلا يبيت مجاور الْبَحْر)
(هَذَا المخيم فِي ذرا حلب ... وثناؤه أبدا على ظهر)
وَله فِيهِ وَقد وصف دَاره
(دَار تغار الشَّمْس فِي أفقها ... من حسنها وَالشَّمْس مغيار)
(يزأر فِيهَا ضيغم مَا لَهُ ... غير سيوف الْهِنْد أظفار)
(تمسي وتضحي وَهُوَ جَار لَهَا ... وَالله ذُو الْعَرْش لَهُ جَار)
(لسيفه الباتر من دهره الجائر ... مَا يهوى ويختار)
(قد مَلأ الْأَسْفَار من ذكره ... نشر لَهُ فِي الرَّوْض إسفار)
(حمد يضوع الجوُّ من طيبه ... كَأَنَّمَا رَاوِيه عطار)
(إِن خطرت فِي قلبه خطرة ... أجابها مَاض وخطار)(1/80)
(وَإِن دَعَا داعيه يَوْم الوغى ... سيوفه لبَّتْه أقدار)
(كَأَنَّمَا صارمه مرسلُ ... لَهُ من التأييد أنصار)
(يَا مَالك الدُّنْيَا وَلكنهَا ... دنيا لَهَا فِي الدّين آثَار)
(وَيَا جوادا مَا لآلائه ... غير فضاء الْحَمد مضمار)
وَله فِيهِ
(تدارك مِلَّة الْعَرَبِيّ ذبا ... إِلَى أَن عده مِنْهُ معد)
(وَحل ذرى العواصم وَهِي نُهْبى ... فَأجلى الشّرك حَتَّى لَيْسَ ضِدٌّ)
(ثنى يَده عَن الدُّنْيَا عفافا ... وَمَال بهَا عَن الْأَمْوَال زهد)
(رأى حط المكوس عَن الرعايا ... فأهدر قبل مَا أنشاه بعد)
(وَمد لَهَا رواق الْعدْل شرعا ... وَقد طوي الرواق وَمن يمد)
(وَبَات وَعند بَاب الْعَرْش مِنْهَا ... لدولته دُعَاء لَا يرد)
وَله فِيهِ
(ملك أشبه الملائك فضلا ... وشبيه بِمَالك الْأَمر جندُه)
(عَم إحسانه فَأصْبح يُتْلى ... شكره فِي الورى ويدرس حَمده)
(فسقى الله ذكره أَيْنَمَا حل ... وَلَا فَاتَهُ من النَّصْر رفده)
وَله
(ضحِكت تباشير الصَّباح كَأَنَّهَا ... قَسَماتُ نور الدّين خير النَّاس)
(المُشْتَرِي العقبى بأنفس قيمَة ... وَالْبَائِع الدُّنْيَا بِغَيْر مكاس)
(وسرى دُعَاء الْخلق يحرس نَفسه ... إِن الدُّعَاء يعد فِي الحراس)
(رَاض الخطوب الصُّم بعد جماحها ... وألان من قلب الزَّمَان القاسي)
(وَأعَاد نور الْحق فِي مشكاته ... وَأقَام وزن الْعدْل بالقسطاس)
(وَاخْتَارَ مجد الدّين سائس ملكه ... فحمى الرياسة مِنْهُ طود راسي)(1/81)
(فَهُوَ الْخَبِير بِكُل دَاء معضل ... يأسو جراح زَمَاننَا ويواسي)
(وأذل سُلْطَان النِّفَاق بعزة ... خضعت لَهَا الآساد فِي الآخياس)
(وعرته أَقْرَان الخطوب فصدها ... ألوى يمارسها أَشد مراس)
(وَلَو أَن فيض النّيل فائض نيله ... لم تفْتَقر مصر إِلَى مقياس)
(سكنت شغب الدَّهْر بعد تخمط ... والنت من عطفيه بعد شماس)
(وَفتحت بَاب الْحَظ بعد رتاجه ... وأذنت للأطماع بعد الياس)
(حَتَّى منحت الْخلق كل مَسَرَّة ... فَالنَّاس فِي عرس من الأعراس)
وَله
(سَام الشَّام وَيَا لَهَا من صَفْقَة ... لولاه مَا عنت على يَد سائم)
(ولشمرت عَنْهَا الثغور وأصبحت ... فِيهَا العواصم وَهِي غير عواصم)
(تِلْكَ الَّتِي جمحت على من راضها ... ودعوت فانقادت بِغَيْر شكائم)
(وَإِذا سعادتك احتبت فِي دولة ... قَامَ الزَّمَان لَهَا مقَام الْخَادِم)
(حصِّن بلادك هَيْبَة لَا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم)
(هَيْهَات يطْمع فِي محلك طامع ... طَال الْبناء على يَمِين الهادم)
(كلفت همتك السُّمُوَّ فحَّلَقت ... فَكَأَنَّمَا هِيَ دَعْوَة فِي ظَالِم)
(وأظن أَن النَّاس لما لم يرَوا ... عدلا كعدلك أرجفوا بالقائم)(1/82)
وَله
(قلت بقول الله لَا خَائفًا ... مَعَ حكم الْقُرْآن حكم القِران)
(لَا رَاقِب النَّجْم وَلَا سَائِلًا ... مَا فعل السعدان والنيران)
(بل غِرْت لِلْإِسْلَامِ حَتَّى لقد ... دَان لَهُ من بِالطَّوَاغِيتِ دَان)
(رعت نواميس نواقيسها ... بجلبة الآذان وَقت الْأَذَان)
(تمحو تصاوير الدُّمى عَن يَد ... تبني المحاريب خلال المجان)
(هَذَا وَكم أنشأت من مِنْبَر ... فارسه فَارس سحر الْبَيَان)
(من نَالَ بالإخلاص مَا نلته ... كَانَ من الله مكين الْمَكَان)
(يَا شائماً بِالشَّام صوب الحيا ... ودانيا من كل قاص ودان)
(هذى سجوف الْملك مَرْفُوعَة ... عَن ملك أخباره كالعيان)
(أوضح سُبْلَ الْعدْل مفتنة ... فللبرايا بِالدُّعَاءِ افتنان)
(ألغى حقوقا كلهَا بَاطِل ... إِلَى ضَمَان حط مَال الضَّمَان)
(عطفا ورفقا بالرعايا وَإِن ... أصبح تَأْدِيب مُلُوك الزَّمَان)
(كم بَين من نَام على نشوة ... وساهد فِي صهوة من حصان)
(فِي كل يَوْم يبتني سَيْفه ... ببلدة بكر وَأُخْرَى عوان)
وقرأت فِي ديوَان أَحْمد بن مُنِير الطرابلسي من قصائد يمدح بهَا نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى(1/83)
يَا محيي الْعدْل وَيَا منشره ... من بَين أطباق البلى وَقد همد)
(وركن الْإِسْلَام الَّذِي وطده ... طَال وأرسى الْعِزّ فِيهِ ووطد)
(وشارع الْمَعْرُوف إِذْ لَا شفة ... تجنح لِلْقَوْلِ وَلَا تشمخ يَد)
(محوت مَا أثْبته الْجور مضى ... عَلَيْهِ إخلاد اللَّيَالِي فخلد)
(من كل مكاس يظل قَاعِدا ... لما يسوء الْمُسلمين بالرصد)
(كَانَت لأرجاس الْيَهُود دولة ... أزالها مِنْك الهصور ذُو اللبد)
(الْملك الْعَادِل لفظ طابق الْمَعْنى ... وَفِي الْوَصْف معار مسترد)
(خير النعوت مَا جرى الْوَصْف على ... صفحته جرى النسيم فِي الومد)
(عدل جنيت الْيَوْم حُلْو ريعه ... وسوف يجنى لَك أحلى مِنْهُ غَد)
(لَا زَالَ لِلْإِسْلَامِ مِنْك عدَّة ... تقيم مِنْهُ كل زيغ وأود)
(النَّاس أَنْت والملوك شَرط ... تعد ليثا ويعدون نقد)
0 - مثلك لَا يسخو بِهِ زَمَانه ... وَمثل مَا أُوتيت لم يُؤْت أحد)
وَله
(أيا نور دين خبا نوره ... ومذ شاع عدلك فِيهِ اتقد)
(رآك الصَّلِيب صَلِيب الْقَنَاة ... أَمِين العثار متين الْعمد)
(تهم فتسلبه مَا اقتنى ... وتأذي فتثكله مَا احتشد)
(زبنتهم أمس عَن صرخد ... ففضوا كَأَن نعاما شرد)(1/84)
(وَيَوْم العريمة أقبلتهم ... عراما تثعلب مِنْهُ الْأسد)
(جنبت مليكهم فِي الصفاد ... وعفوك عَنهُ أَعم الصفد)
(وَقبل أزرتهم فِي الرها ... موازق مزقن جُرد الجرد)
(بقيت ترقع خرق الزَّمَان ... قيَاما لأبنائه إِن قعد)
(تثقف من زيغه مَا التوى ... وَتصْلح من طبعه مَا فسد)
وَله
(أيا ملك الدُّنْيَا الحلاحل وَالَّذِي ... لَهُ الأَرْض دَار والبرية أعبد)
(وَلَيْسَت بِدَعْوَى لَا يقوم دليلها ... وَلكنه الْحق الَّذِي لَيْسَ يُجحد)
(أَخُو غزوات كالعقود تناسقت ... تحل بأجياد الْجِيَاد وتعقد)
(لِسَان بِذكر الله يكسو نَهَاره ... بهاء وجفن فِي الدجى لَيْسَ يرقد)
(وبذل وَعدل أغرقا وتألقا ... فَلَا الْورْد مثمود وَلَا الْبَاب موصد)
(مرام سمائي وحزم مُسَدّد ... ورأي شهابي وعزم مؤيد)
وَله
(أبدا تنكب عَن ضلال سادرا ... بثقوب زندك أَو تدل على هدى)
(سُدت الكهول من الْمُلُوك مراهقا ... وشأوت شِيبَهم البوازل أمردا)(1/85)
(إِن شيدوا صرحا أناف مناره ... أَو أسجدوا للكأس جدد مَسْجِدا)
(وَإِذا استهزتهم قلائد معبد ... هزته موعظة فَعرف معبدًا)
(قسما لشام الشَّام مِنْك مهندا ... أرضاه مَشْهُورا وراع مُقَلدًا)
(وَتمسك الْإِسْلَام مِنْك بِعُرْوَة ... الله أبرم حبلها فاستحصدا)
(أشفى فَكنت شفاءه من حَادث ... غاداه عَارضه مردى بالردى)
(كنت الصَّباح لليله لما دجا ... والغيث كف لظاه حِين توقدوا)
(لله يَوْم أطلعتك بِهِ النَّوَى ... تجتاب من مهج الأصافر مجسدا)
(نشوان غنتك الظبى مفلولة ... وأمال عطفيك الوشاح مقصدا)
(فِي معرك مَا قَامَ بأسك دونه ... إِلَّا أَقَامَ الْمُشْركين وأقعدا)
(وَلكم مكر قُمْت فِيهِ معلما ... أرْضى إلهك والمسيح وأحمدا)
(يَوْم العريمة والخطيم وحارم ... وشعاب باسوطا وهاب وصرخدا)
(لَا يعْدم الأشراك حدك إِنَّه ... ماسل فيهم حَاكما إِلَّا اعْتدى)(1/86)
(أهمدتهم من بعد مَا ملؤوا الملا ... زجلا فَهَل كَانَت سيوفك مرقدا)
(طلعت نُجُوم الْحق من آفاقها ... وأعادها كرّ العصور كَمَا بدا)
(وَهوى الصَّلِيب وَحزبه وتبختر الْإِسْلَام ... من بعد التسافف أغيدا)
(سبق المجلي للخطي فرفعه ... نسق بثم وَقد رفعت بالابتدا)
وَله
(مَحْمُود المربى على أسلافه ... إِن زَاد فِي حسب الحسيب نجار)
(ملك إِذا تليت مآثر قومه ... كسد اللطيم وهجن النوار)
(مَلأ الفرنجة جور سَيْفك فيهم ... فَلهم على سيف الْمُحِيط جؤار)
(يَوْمًا يزيرك جون عرقة معلما ... جون لَهُ خلف الدروب أوار)
(ويجر فِي الْأُرْدُن فضلَة ذيله ... نقع باكناف الأرنط مثار)
(إِمَّا يُبِيح حَرِيم أنطاكية ... أَو يفجأ الداروم مِنْك دمار)
(عفى جهادك رسم كل مخوفة ... وعفت بصفوة عدلك الأكدار)
(ومحا الْمَظَالِم مِنْك نظرة رَاحِم ... لله فِي خطراته أسرار)
(غَضْبَان لِلْإِسْلَامِ مَال عموده ... فلنوره مِمَّا عراه نوار)(1/87)
(وجذمت كل يَد تسور على يَد ... فأحلت ذَاك السُّور وَهُوَ سوار)
(لم يبْق ماكس مُسلم سلعا وَلَا ... ساع لمظلمة وَلَا عشار)
(همدوا كَمَا همدت ثَمُود وقادهم ... لخسارهم مِمَّا أَتَوْهُ قدار)
(الْعَار فِي الدُّنْيَا شَقوا بلباسه ... ولباسهم يَوْم الْحساب النَّار)
(كم سيرة أحييتها عمرية ... رفعت لَهَا فِي الْخَافِقين منار)
(ونوافل صيرتهن لوازما ... بِأَقَلِّهَا تستعبد الْأَحْرَار)
(لَا زلت تقفو الصَّالِحين مسابقا ... لَهُم وتطلع خَلفك الْأَبْرَار)
(نفس السِّيَادَة زهد مثلك فِي الَّذِي ... فِيهِ تفانت يعرب ونزار)
(وَمَتى أدعى مَا تدعيه مُحكم ... أَوْهَى مَعاقِد دِينِه دِينَار)
(لله مَا ظَفرت بِهِ مِنْك المنى ... وتكنفت من ركنك الأستار)
(وَسَقَى الْغَمَام ثرى ابيك فَإِنَّهُ ... أزكى ثرى قطرت عَلَيْهِ قطار)
(شهِدت نضارة عودك الغض الجنى ... أَن الَّذِي استخلصت مِنْهُ نضار)
(أما نهارك فَهُوَ ليل مُجَاهِد ... وَاللَّيْل من طول الْقيام نَهَار)
(فَلذَلِك النَّصْر الْعَزِيز أَدِلَّة ... أَنى اتجهت وللفتوح أمار)(1/88)
وَله أَيْضا فِيهِ رَحمَه الله تَعَالَى
(رَأينَا الْمُلُوك وَقد ساجلوك ... تمنوا منونا ووغروا غرُورًا)
(أَبى لَك أَن يدركوها أَب ... يزير فينسى الْأسود الزئيرا)
(وجد إِذا جد يَوْم الرِّهَان ... أبقى لتاليه جدا عثورا)
(تصب عصاك على من عصاك ... يَوْمًا عبوسا بهَا قمطريرا)
(لقد ألبس الشَّام هَذَا الإباء ... لبوسا من الْأَمْن لينًا وثيرا)
(تداركت أرماقه والقلوب ... نوافر أَن تستجن الصدورا)
(أَقمت جثاثا وَكَانَت جثى ... وشدت قصورا وَكَانَت قبورا)
(وَكم لَك من غضبة للهدى ... تميت الْهوى وَتجب الذكورا)
(إِذا قطب الْبَأْس كَانَت ردى ... وَإِن ضحك الْعَفو عَادَتْ نشورا)
(كملت فوْفيت عين الْكَمَال ... تبيد السنين وتفني العصورا)
(وجاد لنا بك رب براك ... للكفر نَارا وللدين نورا)
(إِذا مَا خدمت فمولى كَرِيمًا ... وَإِمَّا عبدت فعبدا شكُورًا)
(أَمَام المحاريب برا حصورا ... وَتَحْت الحروب هزبرا هصورا)
(تبَارك من شاد هذي الْخلال ... فِي ظلة الْملك طودا وقورا)
(وَألف فِي معقد التَّاج مِنْك ... سطوا سعيرا وعفوا نميرا)(1/89)
وَله
(عقل الْحق ألسن المدعينا ... أَنْت خير الْمُلُوك دنيا ودينا)
(وَأسد الْأَنَام قولا وأفعالا ... ونفسا وَنِيَّة ويقينا)
(أَنْت أسناهم إباء ... أمرأ وأمرأ حَيا وأمرع حينا)
(بسط الرزق فِي البسيطة كَفاك ... فكلتا يَديك تُلفى يَمِينا)
(فيد تحسم النوائب عَنَّا ... وَيَد تقسم الرغائب فِينَا)
(أَيهَا الْبَحْر لَو تساحلك الأبحر ... عامت فِي ساحليك سفينا)
(ولكان الْمُحِيط مِنْهَا محاطا ... مثل نون الهجاء أَو خيل نونا)
(مشرعا مترعا وَمنا مهنا ... ورباعا فيحا وكفا لبونا)
(ومحيا طلقا ومالا طليقا ... وانتهاجا قصدا وحبلا متينا)
(بَين ذب يُمِيت عَادِية الشّرك ... وهب يحيا بِهِ المسلمونا)
(تتبدى من الْفتُوح ألوفا ... أَنْت أَعلَى من أَن تعد المئينا)
(كلما اجتبت ثوب نصر عَزِيز ... من مرام أَقبلت فتحا مُبينًا)
(صرف الله عَنْك صرف زمَان ... أَنْت علمت صرفه أَن يهونا)
(يَا ابْن من طبق البسيطة آثارا ... وعل المنابذيه الأجونا)
(وغدت حصنه على سرج هَذَا الدّين ... من شكة الأعادى حصونا)
(كم تَعَالَى صهيلها فِي رَبًّا الشَّام ... فأعلى خلف الخليج الرنينا)(1/90)
(كَانَ صنو الرشيد أبقاك للحكمة ... والبأس بعده المأمونا)
(سمع الله فِيك دَعْوَة سكن ... أوطنوا من حماك حصنا حصينا)
(عَرَقتهم مدى الخطوب فأحييت ... رفاتا من التُّرَاب دَفِينا)
(لبسوا عدلك المدبج فاختالوا ... بَنَات فِي وشيه وبنينا)
(سهرت عَيْنك الكلوء وناموا ... تَحت أكناف رعيها آمنينا)
قلت فَهَذَا أنموذج من أشعار هذَيْن الفحلين فِيهِ مَعَ أَنَّهُمَا مَاتَا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قبل أَن يفتح نور الدّين دمشق وَبَقِي نور الدّين حَيا بعدهمَا إِحْدَى وَعشْرين سنة يترقى كل عَام فِي ازدياد من جِهَاد واجتهاد وَلَو كَانَا أدْركَا ذَلِك لأتيا فِي وَصفه بعجائب المدائح مَعَ أَنه قد تولى ذَلِك غَيرهمَا مِمَّن لم يبلغ شأوهما
وَلأبي الْمجد الْمُسلم بن الْخضر بن الْمُسلم بن قسيم الْحَمَوِيّ من قصيدة فِيهِ
(تبدو الشجَاعَة من طلاقة وَجهه ... كالرمح دلّ على القساوة لينه)(1/91)
(ووراء يقظته أَنَاة مجرب ... لله سطوة بأسه وسكونه)
(هَذَا الَّذِي فِي الله صَحَّ جهاده ... هَذَا الَّذِي بِاللَّه صَحَّ يقينه)
(هَذَا الَّذِي بخل الزَّمَان بِمثلِهِ ... والمشمخر إِلَى الْعلَا عرنينه)
(ملك الورى ملكٌ أغَرُّ متوج ... لَا غدره يُخشى وَلَا تلوينه)
(إِن حل فالشرف التليد أنيسه ... أَو سَار فالظفر الطريف قرينه)
(فالدهر خاذل من اراد عناده ... أبدا وجبار السَّمَاء معينه)
(وَالدّين يشْهد إِنَّه لمعزه ... والشرك يعلم أَنه لمهينه)
(مَا زَالَ يقسم أَن يبدد شَمله ... وَالله يكره أَن تمين يَمِينه)
(فتح الرها بالْأَمْس فانفتحت لَهُ ... أَبْوَاب ملك لَا يذال مصونه)
وممادح نور الدّين رَحمَه الله كَثِيرَة
وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم أَنه كَانَ قَلِيل الابتهاج بالشعر بالشعر
وَمَات حادي عشر شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَدفن بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى قُبَّته بمدرسته جوَار الخواصين
قلت وَقد جرب استجابة الدُّعَاء عِنْد قَبره
وَهَذَا ذكر طرف من مناقبه جملَة وَنحن بعد ذَلِك نأتي بأخباره وأخبار سلفه مفصلة مرتبَة وَمَا جرى فِي زمانهم على سَبِيل الِاخْتِصَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى(1/92)
فصل
أصل الْبَيْت الأتابكي هُوَ قسيم الدولة آق سنقر جد نور الدّين رَحمَه الله فنذكره وَمَا تمّ فِي أَيَّامه ثمَّ نذْكر وَلَده زنكي وَمَا تمّ فِي أَيَّامه ثمَّ نذْكر وَلَده مَحْمُود بن زنكي ثمَّ نذْكر مَا بعده وَهِي الدولة الصلاحية الأيوبية وَمَا تمّ فِي أَيَّامهَا فَنَقُول
كَانَ آق سنقر تركيا من أَصْحَاب السُّلْطَان ركن الدّين ملكشاه بن ألب أرسلان وَهُوَ عَم دقاق بن تتش بن ألب أرسلان الَّذِي كَانَ سُلْطَان دمشق وقبره بقبة الطواويس بهَا بنتهَا والمشهد والدته وَكَانَ السُّلْطَان ملكشاه من جملَة الْمُلُوك السلجوقية المتغلبين على الْبِلَاد بعد نَبِي بويه بالعراق فَكَانَ قسيم الدولة من أَصْحَابه وأترابه وَمِمَّنْ رَبِّي مَعَه فِي صغره وَاسْتمرّ فِي صحبته إِلَى حِين كبره
فَلَمَّا أفضت السلطنة إِلَيْهِ بعد أَبِيه جعله من أَعْيَان أمرائه وَمن أخص أوليائه وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي مهماته وَزَاد قدره علوا إِلَى أَن صَار يتقيه مثل نظام الْملك الْوَزير مَعَ تحكمه على السُّلْطَان وتمكنه من المملكة
فَأَشَارَ نظام الْملك على السُّلْطَان أَن يولي آق سنقر مَدِينَة حلب(1/93)
وأعمالها وَأَرَادَ بذلك أَن يبعده عَن خدمَة السُّلْطَان ويتخذ عِنْده بذلك يدا
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن الدَّلِيل على علو مرتبته تلقبه قسيم الدولة وَكَانَت الألقاب حِينَئِذٍ مصونة لَا تُعْطى إِلَّا لمستحقيها
وَفِي سنة سبع وَسبعين وَأَرْبع مئة سير السُّلْطَان ملكشاه الْوَزير فَخر الدولة بن جهير وَزِير الْخَلِيفَة إِلَى ديار بكر ليتملكها وسير عميد الدولة بن فَخر الدولة بن جهير وَكَانَ زوج ابْنة نظام الْملك إِلَى الْموصل وسير مَعَه جَيْشًا عَظِيما وَجعل الْمُقدم على الْجَيْش قسيم الدولة آق سنقر
فَسَارُوا نَحْو الْموصل ولقيهم فِي الطَّرِيق الْأَمِير أرتق التركماني جد مُلُوك الْحصن وماردين فاستصحبوه مَعَهم فحصروا الْموصل وصالحوا من بهَا وتسلموها وَسَار صَاحبهَا إِلَى السُّلْطَان فَردهَا عَلَيْهِ وَكَانَت يَوْمئِذٍ لأحد أُمَرَاء بني عقيل وَهُوَ شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش بن بدران الْعقيلِيّ وَكَانَ ملكة من السندية بالعراق على نهر عِيسَى إِلَى منبج وَمَا بَينهمَا من الْبِلَاد الفراتية كهيت والأنبار وَغَيرهَا وَملك الْموصل وديار بكر والجزيرة بأسرها وَملك مَدِينَة حلب وَكَانَ عادلا حسن السِّيرَة عَظِيم السياسة وَاتفقَ أَن وَقع بَينه وَبَين صَاحب أنطاكية وَذَلِكَ أَن أنطاكية كَانَ الرّوم قد استولوا عَلَيْهَا سنة ثَمَان وَخمسين وَثَلَاث مئة وَلم يزَالُوا بهَا إِلَى هَذِه السّنة فَفَتحهَا(1/94)
سُلَيْمَان بن قتلمش وَهُوَ جد الْملك غياث الدّين كيخسرو صَاحب قونية وَغَيرهَا
وَكَانَ لشرف الدولة صَاحب حلب على صَاحب أنطاكية الرُّومِي جِزْيَة يَأْخُذهَا كل سنة فَانْقَطَعت عَنهُ بِسَبَب أَخذ سُلَيْمَان الْبَلَد فَأرْسل شرف الدولة يطْلب مِنْهُ مَا كَانَ يَأْخُذهُ من الرّوم ويهدده فَقَالَ أَنا فِي طَاعَتك وَهَذَا الْفَتْح بسعادتك وَالْخطْبَة وَالسِّكَّة لَك وَلست بِكَافِر حَتَّى أُعْطِيك مَا كنت تَأْخُذهُ من الرّوم
فلج شرف الدولة فى طلب المَال فَالْتَقَيَا فَقتل شرف الدولة وَانْهَزَمَ عسكره وَسَار سُلَيْمَان إِلَى حلب فحصرها وَسَار إِلَيْهَا من دمشق تَاج الدولة تتشن بن ألب أرسلان أَخُو السُّلْطَان ملكشاه
فَالتقى عَسْكَر تتش وَسليمَان فَقتل سُلَيْمَان وَانْهَزَمَ عسكره وَملك تتش مَدِينَة حلب دون القلعة فَأرْسل أهل القلعة إِلَى ملكشاه ليسلموها إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بالرها وَكَانَ سَبَب مسيره إِلَيْهَا أَن ابْن عطير النميري كَانَ قد بَاعهَا من الرّوم بِعشْرين ألف دِينَار وَسلمهَا إِلَيْهِم فَدَخَلُوهَا وأخربوا الْمَسَاجِد وأجلوا الْمُسلمين عَنْهَا
فَسَار ملكشاه إِلَيْهَا فِي هَذِه السّنة فحصرها وَفتحهَا واقطعها للأمير بزان فَلَمَّا أَتَاهُ رسل أهل قلعة حلب بِالتَّسْلِيمِ سَار إِلَيْهِم فَلَمَّا بلغ(1/95)
مسيره إِلَى أَخِيه تَاج الدولة رَحل عَن حلب إِلَى دمشق وَوصل السُّلْطَان إِلَى حلب وبالقلعة سَالم بن مَالك بن بدران الْعقيلِيّ وَهُوَ ابْن عَم شرف الدولة فسلمها إِلَى السُّلْطَان بعد قتال وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان عوضا عَنْهَا قلعة جعبر وَكَانَ قد ملكهَا فِي هَذِه السفرة من صَاحبهَا جعبر النميري وَكَانَ شَيخا كَبِيرا أعمى فَبَقيت بيد سَالم وَأَوْلَاده إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم الْملك الْعَادِل نور الدّين كَمَا سَيَأْتِي
فَلَمَّا ملك السُّلْطَان حلب أرسل إِلَيْهِ الْأَمِير نصر بن عَليّ بن الْمُقَلّد بن منقذ الْكِنَانِي صَاحب شيزر وَدخل فِي طَاعَته وَسلم إِلَيْهِ اللاذقية وفامية وكفرطاب
ثمَّ إِن نظام الْملك أَشَارَ على السُّلْطَان بِتَسْلِيم حلب وأعمالها وحماة ومنبج واللاذقية وَمَا مَعهَا إِلَى قسيم الدولة آق سنقر فأقطعه الْجَمِيع وَبقيت فِي يَده إِلَى أَن قتل سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة كَمَا سَيَأْتِي
وأقطع السُّلْطَان مَدِينَة أنطاكية للأمير ياغي سغان
وَلما اسْتَقر قسيم الدولة فِي الشَّام ظَهرت كِفَايَته وحمايته وهيبته فِي جَمِيع بِلَاده
ثمَّ إِن السُّلْطَان استدعاه إِلَى الْعرَاق فَقدم إِلَيْهِ فِي تجمل عَظِيم لم يكن فِي عَسْكَر السُّلْطَان من يُقَارِبه فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَعظم مَحَله عِنْده ثمَّ أمره بِالْعودِ إِلَى حلب فَعَاد إِلَيْهَا(1/96)
فَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَان ملكشاه سير قسيم الدولة جَيْشًا إِلَى تكريت فملكها
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ قصد قسيم الدولة شيزر فنهبها وَعَاد إِلَى حلب
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ اجْتمع قسيم الدولة وبزان وحصروا مَدِينَة حمص فملكوها وَمضى ابْن ملاعب إِلَى مصر
وَفِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ ملك قسيم الدولة حصن فامية من الشَّام وَملك الرحبة
فصل
وَفِي عَاشر رَمَضَان سنة خمس وَثَمَانِينَ قتل الْوَزير نظام الْملك أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن إِسْحَاق قَتله صبي ديلمي بعد الْإِفْطَار وَقد تفرق عَن طَعَامه الْفُقَهَاء والأمراء والفقراء وَغَيرهم من أَصْنَاف النَّاس وَحمل فِي محفة لنقرس كَانَ بِهِ إِلَى خيمة الْحرم فَلَقِيَهُ صبي ديلمي مستغيثا بِهِ فقربه مِنْهُ ليسمع شكواه فَقتله وَقتل الصَّبِي أَيْضا فعدمت الدُّنْيَا وَاحِدهَا الَّذِي لم تَرَ مثله
وَكَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة قد حكى لَهُ بعض الصَّالِحين أَنه رأى(1/97)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ أَتَاهُ وَأَخذه من محفته فَتَبِعَهُ
فَاسْتَبْشَرَ نظام الْملك بذلك وَأظْهر السرُور بِهِ وَقَالَ هَذَا أبغي وإياه أطلب
وَبلغ من الدُّنْيَا مبلغا عَظِيما لم ينله غَيره وَكَانَ عَالما فَقِيها دينا خيرا متواضعا عادلا يحب أهل الدّين ويكرمهم ويجزل صلَاتهم
وَكَانَ أقرب النَّاس مِنْهُ وأحبهم إِلَيْهِ الْعلمَاء وَكَانَ يناظرهم فِي المحافل ويبحث عَن غوامض الْمسَائِل لِأَنَّهُ اشْتغل بالفقه فِي حَال حداثته مُدَّة
وَأما صدقاته ووقوفه فَلَا حد عَلَيْهَا ومدارسه فِي الْعَالم مَشْهُورَة لم يخل بلد من شَيْء مِنْهَا حَتَّى جَزِيرَة ابْن عمر الَّتِي هِيَ فِي زَاوِيَة من الأَرْض لَا يؤبه لَهَا بنى فِيهَا مدرسة كَبِيرَة حَسَنَة وَهِي الَّتِي تعرف الْآن الْآن بمدرسة رَضِي الدّين
وأعماله الْحَسَنَة وصنائعه الجميلة مَذْكُورَة فِي التواريخ لم يسْبقهُ من كَانَ قبله وَلَا أدْركهُ من كَانَ بعده
وَكَانَ من جملَة عباداته أَنه لم يحدث إِلَّا تَوَضَّأ وَلَا تَوَضَّأ إِلَّا صلى
وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن حفظا ويحافظ على أَوْقَات الصَّلَوَات مُحَافظَة لَا يتقدمه فِيهَا المتفرغون لِلْعِبَادَةِ حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا غفل الْمُؤَذّن أمره بِالْأَذَانِ وَإِذا سمع الْأَذَان أمسك عَن كل مَا هُوَ فِيهِ واشتغل بإجابته ثمَّ بِالصَّلَاةِ
وَكَانَ قد وزر للسُّلْطَان عضد الدولة ألب أرسلان وَالِد ملكشاه قبل أَن يَلِي السلطنة فِي حَيَاة عَمه السُّلْطَان طغرلبك أول الْمُلُوك السلجوقية بِبَغْدَاد
فَلَمَّا توفى طغرلبك سعى نظام الْملك فِي أَخذ السلطنة لصَاحبه ألب أرسلان وَقَامَ الْمقَام الَّذِي تعجز عَنهُ الجيوش الْكَثِيرَة واستقرت السلطنة لَهُ وبقى مَعَه إِلَى أَن توفى ثمَّ وزر بعده لوَلَده السُّلْطَان ملكشاه إِلَى أَن قتل
وَكَانَ قد تحكم عَلَيْهِ إِلَى حد لَا يقدر السُّلْطَان على خِلَافه لِكَثْرَة مماليكه(1/98)
ومحبة العساكر لَهُ والأمراء وميل الْعَامَّة والخاصة إِلَيْهِ لحسن سيرته وعدله
هَذَا كَلَام أبي الْحسن بن الْأَثِير
وقرأت فِي = كتاب المعارف الْمُتَأَخِّرَة = وَيُسمى عنوان السّير لمُحَمد بن عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الهمذاني قَالَ وزر نظام الْملك أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن إِسْحَاق الطوسي للسُّلْطَان ألب أرسلان ولولده السُّلْطَان ملكشاه أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَقتل بِالْقربِ من نهاوند وعمره سِتّ وَسَبْعُونَ سنة وَعشرَة أشهر وَتِسْعَة عشر يَوْمًا اغتاله أحد الباطنية وَقد فرغ من فطوره قَالَ وَقيل إِن السُّلْطَان ملكشاه ولف عَلَيْهِ من قَتله لانه سئم طول عمره وَمَات بعده بِشَهْر وَخَمْسَة أَيَّام
وَقد تقدم نظام الْملك فِي الدُّنْيَا التَّقَدُّم الْعَظِيم وَأفضل على الْخلق الإفضال الْكثير وَعم النَّاس بمعروفه وَبنى الْمدَارِس لأَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ووقف عَلَيْهِم الْوُقُوف وَزَاد فِي الْحلم وَالدّين على من تقدمه من الوزراء وَلم يبلغ أحد مِنْهُم مَنْزِلَته فِي جَمِيع أُمُوره وَعبر جيحون فَوَقع على الْعَامِل بأنطاكية بِمَا يصرف إِلَى الملاحين وَملك من الغلمان الأتراك ألوفا وَكَانَ جُمْهُور العساكر وشجعانهم وفتاكه من مماليكه(1/99)
قلت وَأنْشد أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي = ذيل تَارِيخ بَغْدَاد = قَالَ أَنْشدني عمي الإِمَام أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ غير مرّة من لَفظه للأمير شبْل الدولة يَعْنِي مقَاتل بن عَطِيَّة بن مقَاتل الْبكْرِيّ
(كَانَ الْوَزير نظام الْملك لؤلؤة ... ثمينة صاغها الرَّحْمَن من شرف)
(عزت وَلم تعرف الْأَيَّام قيمتهَا ... فردّها غيرَة مِنْهُ إِلَى الصدف)
فصل
عَاشَ السُّلْطَان ملكشاه بعد نظام الْملك خَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَمَات فِي منتصف شَوَّال سنة خمس وَثَمَانِينَ وعمره ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ عَاما وَنصف عَام
وَكَانَت مَمْلَكَته قد اتسعت اتساعا عَظِيما وخطب لَهُ من حُدُود الصين إِلَى الداروم من أَرض الشَّام وأطاعه الْيمن والحجاز
وَكَانَ يَأْخُذ الْخراج من ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وأطاعه صَاحب طراز وأسبيجاب وكاشغر وبلاسغون وَغَيرهَا من الممالك الْبَعِيدَة وَملك سَمَرْقَنْد وَجَمِيع مَا وَرَاء النَّهر
ثمَّ ان صَاحب كاشغر عصى عَلَيْهِ فَسَار السُّلْطَان إِلَيْهِ فَلَمَّا قَارب كاشغر هرب صَاحبهَا مِنْهُ فَسَار فِي طلبه وَلم يزل حَتَّى ظفر بِهِ وَأحسن(1/100)
إِلَيْهِ واستصحبه مَعَه إِلَى أصفهان وَعمل السُّلْطَان من الْخيرَات وأبواب الْبر كثيرا مِنْهَا مَا اصلحه وَعَمله من المصانع بطرِيق مَكَّة وحفر من الابار وَبنى مدرسة عِنْد قبر الإِمَام أبي حنيفَة رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَبنى الْجَامِع الَّذِي بِظَاهِر بَغْدَاد عِنْد دَار السلطنة وَهُوَ الَّذِي بنى مَنَارَة الْقُرُون فِي طرف الْبر مِمَّا يَلِي الْكُوفَة بمَكَان يعرف بالسبعي وَبنى مثلهَا بسمرقند أَيْضا قيل إِنَّه خرج سنة من الْكُوفَة لتوديع الحجيج فجاوز العذيب وَبلغ السبعية بِقرب الواقصة وَبنى هُنَاكَ مَنَارَة نزل فِي أَثْنَائِهَا قُرُون الظبي وحوافر الْحمر الوحشية الَّتِي اصطادها فِي طَرِيقه
وَبعد مَوته تنَازع ابناه بكيارق وَمُحَمّد ودامت الحروب بَينهمَا نَحْو ثِنْتَيْ عشرَة سنة إِلَى أَن توفّي بكيارق واستقرت السلطنة لمُحَمد
وَفِي مُدَّة تِلْكَ الحروب ظَهرت الفرنج بالسَّاحل وملكوا أنطاكية أَولا ثمَّ غَيرهَا من الْبِلَاد
وَكَانَ السُّلْطَان قد أقطع أَخَاهُ تتش تَاج الدولة مَدِينَة دمشق وأعمالها وَمَا جاورها كطبرية وَالْبَيْت الْمُقَدّس فَلَمَّا توفى ملكشاه طمع تَاج الدولة فِي السلطنة فَسَار إِلَى حلب وَبهَا قسيم الدولة فَصَالحه وراسل بوزان صَاحب حران وياغي سغان صَاحب أنطاكية فسارا مَعَه نَحْو الرحبة ونصيبين فَأَخذهُمَا وراسل صَاحب الْموصل إِبْرَاهِيم بن قُرَيْش بن(1/101)
بدران يَأْمُرهُ بِالْخطْبَةِ لَهُ وَأَن يُعْطِيهِ طَرِيقا إِلَى بَغْدَاد فَامْتنعَ فَالْتَقَيَا فَهزمَ صَاحب الْموصل
وَقتل وَأخذت بِلَاده
وَسَار إِلَى ميافارقين فملكها وَسَائِر ديار بكر
ثمَّ سَار إِلَى أذربيجان فَالتقى هُوَ وَابْن أَخِيه بكيارق بن ملكشاه فانتقل قسيم الدولة وبوزان إِلَى بكيارق فَرجع تَاج الدولة إِلَى الشَّام ورجعا إِلَى بلادهما بِأَمْر بكيارق ليمنعا تَاج الدولة عَن الْبِلَاد إِن قَصدهَا
فَجمع تَاج الدولة العساكر وَسَار عَن دمشق نَحْو حلب فَاجْتمع قسيم الدولة وبوزان وأمدهما السُّلْطَان ركن الدّين بكيارق بالأمير كربوقا وَهُوَ الَّذِي صَار فِيمَا بعد صَاحب الْموصل فَالْتَقوا بِالْقربِ من تل السُّلْطَان وَبَينه وَبَين حلب نَحْو من سِتَّة فراسخ فَانْهَزَمَ جَيش قسيم الدولة وَأخذ أَسِيرًا فَقتله تَاج الدولة صبرا وَدخل بوزان وكربوقا حلب فحصرهما تَاج الدولة حَتَّى فتحهَا وَأَخذهمَا أسيرين
وَأرْسل إِلَى حران والرها وكانتا لبوزان فَامْتنعَ من بهما من التَّسْلِيم فَقتل بوزان وأنفذ رَأسه وتسلم البلدين
وَأما كربوقا فَإِنَّهُ سجنه بحمص فَلم يزل إِلَى أَن أخرجه الْملك رضوَان بعد قتل أَبِيه تَاج الدولة
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ قسيم الدولة أحسن النَّاس سياسة لرعيته وحفظا لَهُم وَكَانَت بِلَاده بَين عدل عَام وَرخّص شَامِل وَأمن وَاسع وَكَانَ قد شَرط على أهل كل قَرْيَة فِي بِلَاده مَتى أَخذ عِنْد أحدهم قفل أَو أحد من النَّاس غرم أَهلهَا جَمِيع مَا يُؤْخَذ من الْأَمْوَال من قَلِيل وَكثير فَكَانَت السيارة إِذا بلغت قَرْيَة من بِلَاده ألقوا رحالهم وناموا آمِنين وَقَامَ أهل الْقرْيَة يَحْرُسُونَهُمْ إِلَى أَن يرحلوا فأمنت الطّرق وتحدث الركْبَان بِحسن سيرته
وَفِي الْمحرم من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة توفّي الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي(1/102)
بِأَمْر الله فَجْأَة وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن الْقَائِم بِأَمْر الله وعمره تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَكَانَت خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَأمه تركية وبويع من بعده وَلَده المستظهر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد
ويلقب مُحَمَّد بن الْقَائِم وَالِد الْمُقْتَدِي بِاللَّه الذَّخِيرَة مَاتَ فِي حَيَاة أَبِيه فَلم يل الْخلَافَة
ذكر أَخْبَار زنكي
وَالِد نور الدّين رحمهمَا الله تَعَالَى على طَرِيق الِاخْتِصَار فِي فُصُول إِلَى حِين وَفَاته
ثمَّ نذْكر أَخْبَار نور الدّين على تَرْتِيب السنين
لما قتل قسيم الدولة آق سنقر لم يخلف من الْأَوْلَاد غير وَاحِد وَهُوَ عماد الدّين زنكي وَالِد نور الدّين وَكَانَ حِينَئِذٍ صَبيا لَهُ من الْعُمر نَحْو عشر سِنِين فَاجْتمع عَلَيْهِ مماليك وَالِده وَأَصْحَابه وَفِيهِمْ زين الدّين عَليّ وَهُوَ صبي أَيْضا ثمَّ إِن الْأَمِير كربوقا خلص من السجْن بعد قتل تَاج الدولة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَتوجه إِلَى حران وَقد اجْتمع مَعَه عَسْكَر صَالح فملكها ثمَّ سَار إِلَى نَصِيبين فملكها ثمَّ إِلَى الْموصل فملكها وأزال عَنْهَا عَليّ بن شرف الدولة الْعقيلِيّ وَسَار نَحْو ماردين فملكها وَعظم شَأْنه وَهُوَ فِي طَاعَة ركن الدولة بكيارق
فَلَمَّا ملك الْبِلَاد أحضر مماليك قسيم الدولة آق سنقر وَأمرهمْ بإحضار(1/103)
عماد الدّين زنكي وَقَالَ هُوَ ابْن أخي وَأَنا أولى النَّاس بتربيته فأحضروه عِنْده فأقطعهم الإقطاعات السّنيَّة وجمعهم على عماد الدّين زنكي واستعان بهم فِي حروبه وَكَانُوا من الشجَاعَة فِي أَعلَى درجاتها
فَلم يزَالُوا مَعَه فَتوجه بهم إِلَى آمد وصاحبها من أُمَرَاء التركمان فاستنجد بِمعين الدّين سقمان بن أرتق جد صَاحب الْحصن فكسرهم قوام الدولة كربوقا وَهُوَ أول مصَاف حَضَره زنكي بعد قتل وَالِده وَلم يزل مَعَ كربوقا إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبع مئة
وَملك بعده مُوسَى التركماني فَلم تطل مدَّته وَقتل
وَملك الْموصل شمس الدولة جكرمش وَهُوَ أَيْضا من مماليك السُّلْطَان ملكشاه فَأخذ زنكي فقربه وأحبه واتخذه ولدا لمعرفته بمكانة وَالِده فبقى مَعَه إِلَى أَن قتل سنة خمس مئة فَلَا جرم أَن زنكي رعى هَذَا لجكرمش لما ملك الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد فَإِنَّهُ أَخذ وَلَده نَاصِر الدّين كوري فَأكْرمه وَقدمه واقطعه إقطاعا كثيرا وَجعل مَنْزِلَته أَعلَى الْمنَازل عِنْده واتخذه صهراً ثمَّ ملك الْموصل بعد جكرمش جاولى سقاوه فاتصل بِهِ عماد الدّين زنكي وَقد كبر وَظَهَرت عَلَيْهِ أَمَارَات السَّعَادَة والشهامة وَلم يزل مَعَه حَتَّى عصى على السُّلْطَان مُحَمَّد
وَكَانَ جاولي قد عبر إِلَى الشَّام ليملكه من الْملك فَخر الْملك رضوَان فَأرْسل السُّلْطَان إِلَى(1/104)
الْموصل الْأَمِير مودودا واقطعه إِيَّاهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمْس مئة
فَلَمَّا اتَّصل الْخَبَر بجاولي فَارقه زنكي وَغَيره من الْأُمَرَاء
فَلَمَّا اسْتَقر مودود بالموصل واتصل بِهِ زنكي أكْرمه وَشهد مَعَه حروبه فَسَار مودود إِلَى الْغُزَاة بِالشَّام فَفتح فِي طَرِيقه قلاعا لَهُم من شبختان كَانَت للفرنج وَقتل من كَانَ بهَا مِنْهُم
ثمَّ سَار إِلَى الرها فحصرها وَلم يفتحها فَرَحل وَعبر الْفُرَات فحصر تل بَاشر خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ سَار إِلَى معرة النُّعْمَان فحصرها ثمَّ حضر عِنْده أتابك طغتكين صَاحب دمشق فَسَار إِلَى طبرية وحاصروها وقاتلوها قتالا شَدِيدا وَظهر من أتابك زنكي شجاعة لم يسمع بِمِثْلِهَا مِنْهَا أَنه كَانَ فِي نفر وَقد خرج الفرنج من الْبَلَد فَحمل عَلَيْهِم هُوَ وَمن مَعَه وَهُوَ يظنّ أَنهم يتبعونه فَتَخَلَّفُوا عَنهُ وَتقدم وَحده وَقد انهزم من بِظَاهِر الْبَلَد من الفرنج فَدَخَلُوا الْبَلَد وَوصل رمحه إِلَى الْبَاب فأثر فِيهِ وَقَاتلهمْ عَلَيْهِ وبقى ينْتَظر وُصُول من كَانَ مَعَه فَحَيْثُ لم ير أحدا حمى نَفسه وَعَاد سالما فَعجب النَّاس من إقدامه أَولا وَمن سَلَامَته آخرا
ثمَّ التقى الْجَمْعَانِ فَهزمَ الفرنج لعنهم الله ووصلوا إِلَى مضيق دون طبرية فاحتموا بِهِ وجاءتهم نجدة فَأذن الْأَمِير مودود للعسكر فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ والاجتماع إِلَيْهِ فِي الرّبيع
فَلَمَّا تفَرقُوا دخل دمشق وَأقَام بهَا فَخرج يَوْمًا يُصَلِّي الْجُمُعَة فَلَمَّا صلاهَا وَخرج إِلَى صحن الْجَامِع وَيَده بيد طغتكين وثب عَلَيْهِ إِنْسَان فَضَربهُ بسكين مَعَه فجرحه أَربع جراحات وَكَانَ صَائِما فَحمل إِلَى دَار طغتكين واجتهد بِهِ ليفطر فَلم يفعل وَقَالَ(1/105)
لَا لقِيت الله إِلَّا صَائِما فإننى ميت لَا محَالة سَوَاء أفطرت أَو صمت
وَتُوفِّي فِي بَقِيَّة يَوْمه رَحمَه الله
فَقيل إِن الباطنية بِالشَّام خافوه فَقَتَلُوهُ وَقيل بل خافه طغتكين فَوضع عَلَيْهِ من يقْتله وَكَانَ خيرا عادلا حسن السِّيرَة
قَالَ ابْن الْأَثِير فحدثنى وَالِدي رَحمَه الله قَالَ كتب ملك الفرنج إِلَى طغتكين إِن أمه قتلت عميدها يَوْم عيدها فِي بَيت معبودها لحقيق على الله أَن يبيدها
فَلَمَّا قتل الْأَمِير مودود أقطع السُّلْطَان الْبِلَاد الْموصل وَغَيرهَا للأمير جيوش بك وسير مَعَه وَلَده الْملك مَسْعُود إِلَى الْموصل
ثمَّ إِنَّه جهز آق سنقر البرسقي فِي العساكر وسيره إِلَى قتال الفرنج وَكتب إِلَى عَسَاكِر الْموصل وَغَيرهَا يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ مَعَه فَسَارُوا وَفِيهِمْ عماد الدّين زنكي وَكَانَ يعرف فِي عَسَاكِر الْعَجم بزنكي الشَّامي فَسَار البرسقي إِلَى الرها فِي خَمْسَة عشر ألف فَارس فحصرها وَقَاتل من بهَا من الفرنج والأرمن وَضَاقَتْ الْميرَة عَن الْعَسْكَر فَرَحل إِلَى سميساط وَهِي أَيْضا للفرنج فأخرب بَلَدهَا وبلد سروج وَعَاد إِلَى شبختان فأخرب مَا فِيهِ للفرنج
وأبلى زنكي فِي هَذِه المواقف كلهَا بلَاء حسنا ثمَّ عَادَتْ العساكر تَتَحَدَّث بِمَا فعله وَعَاد البرسقي إِلَى بَغْدَاد وَأقَام زنكي بالموصل مَعَ الْملك مَسْعُود والأمير جيوش بك إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخمْس مئة وَقد علا قدره وَظهر اسْمه(1/106)
فصل
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة ولد الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله تَعَالَى
وفيهَا غرقت سنجار من سيل الْمَطَر وَهلك مِنْهَا خلق كثير وَمن أعجب مَا يحْكى أَن السَّيْل حمل مهداً فِيهِ طِفْل فعلق المهد فِي شَجَرَة وَنقص المَاء فَسلم ذَلِك الطِّفْل وغرق غَيره من الماهرين بالسباحة
وفيهَا أَيْضا زلزلت إربل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الْمُجَاورَة لَهَا زَلْزَلَة عَظِيمَة
وفيهَا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذى الْحجَّة توفى السُّلْطَان غياث الدّين مُحَمَّد بن ملكشاه وعمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام
وَأول مَا خطب لَهُ بِبَغْدَاد فِي ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَقطعت خطبَته عدَّة مرار وَلَقي من المشاق والأخطار مَا لم يلقه أحد إِلَى أَن توفى أَخُوهُ بكيارق فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّتْ لَهُ السلطنة وصفت لَهُ ودانت الْبِلَاد وَأَصْحَاب الْأَطْرَاف لطاعته وَكَانَ اجْتِمَاع النَّاس عَلَيْهِ بعد موت أَخِيه اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر
وَكَانَ عادلا حسن السِّيرَة شجاعا وَأطلق المكوس والضرائب فِي جَمِيع الْبِلَاد
وَمن عدله أَنه اشْترى عدَّة مماليك من بعض التُّجَّار وَأمر أَن يُوفى الثّمن من عَامل خوزستان فأوصل إِلَيْهِ الْبَعْض ومطل بِالْبَاقِي فَحَضَرَ(1/107)
التَّاجِر مجْلِس الحكم وَأخذ غُلَام الْحَاكِم ووقف بطرِيق السُّلْطَان واستغاث إِلَيْهِ فَأمر من يستعلم حَاله فَعَاد الْحَاجِب وَأعلم السُّلْطَان حَاله فَعظم عَلَيْهِ وضاق صَدره وَأمر فِي الْحَال أَن يحضر عَامل خوزستان وَيلْزم بِمَال التَّاجِر
ثمَّ إِنَّه نَدم على تَأَخره عَن مجْلِس الحكم وَكَانَ يَقُول كثيرا لقد نَدِمت على تركي حُضُور مجْلِس الحكم وَلَو فعلته لاقتدى بِي غَيْرِي وَلم يمْتَنع أحد عَن أَدَاء الْحق
قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذِه الْفَضِيلَة ذخرها الله تَعَالَى لهَذَا الْبَيْت الأتابكى فَإِن الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فعل مَا نَدم السُّلْطَان مُحَمَّد على تَركه وَقد تقدم ذَلِك وَلما علم الْأُمَرَاء وَغَيرهم من خلق السُّلْطَان محبَّة الْعدْل وَأَدَاء الْحق وكراهية الظُّلم ومعاقبة من يَفْعَله اقتدوا بِهِ فأمن النَّاس وَظهر الْعدْل
وَولى بعد السُّلْطَان مُحَمَّد وَلَده مَحْمُود وعمره يَوْمئِذٍ أَربع عشرَة سنة فَقَامَ بالسلطنة وَجرى بَينه وَبَين عَمه سنجر حَرْب انهزم فِيهَا مَحْمُود وَعَاد إِلَى عَمه بِغَيْر عهد فَأكْرمه وأقطعه من الْبِلَاد من حد خُرَاسَان إِلَى الداروم بأقصى الشَّام وَهِي من الممالك همذان وأصبهان وبلد الْجبَال(1/108)
جَمِيعه وبلاد فَارس وكرمان وخوزستان وَالْعراق واذربيجان وأرمينية وديار بكر وبلاد الْموصل والجزيرة وديار مُضر وديار ربيعَة وَالشَّام وبلد الرّوم الَّذِي بيد أَوْلَاد قليج أرسلان وَمَا بَين هَذِه الممالك من الْبِلَاد
قَالَ ابْن الْأَثِير وَرَأَيْت منشوره بذلك
وَفِي سادس عشر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخمْس مئة توفّي الإِمَام المستظهر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله وَكَانَ عمره إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة وَسِتَّة أشهر وَسِتَّة أَيَّام
وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا
وَمضى فِي أَيَّامه ثَلَاث سلاطين خطب لَهُم بَغْدَاد من السلجوقية وهم أَخُو ملكشاه تَاج الدولة تتش وركن الدولة بكيارق بن ملكشاه وَأَخُوهُ غياث الدّين مُحَمَّد بن ملكشاه
وَكَانَ المستظهر رَحمَه الله كريم الْأَخْلَاق لين الْجَانِب مشكور المساعي يحب الْعلم وَالْعُلَمَاء وصنفت لَهُ التصانيف الْكَثِيرَة فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَغَيرهمَا وَكَانَ يُسَارع إِلَى أَعمال الْبر والمثوبات حسن الْخط جَيِّدَة التوقيعات وَلما توفّي صلى عَلَيْهِ وَلَده المسترشد بِاللَّه وَدفن فِي حجرَة كَانَت لَهُ يألفها(1/109)
وَفِي أَيَّامه توفى جمَاعَة من الْعلمَاء فَفِي شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة توفى قَاضِي الْقُضَاة أَبُو بكر مُحَمَّد بن المظفر الشَّامي وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفى القَاضِي عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي المعتزلى مُصَنف حدائق ذَات بهجة فِي تَفْسِير الْقُرْآن يزِيد على ثَلَاث مئة مُجَلد
قَالَ ابْن الْأَثِير رَأَيْت مِنْهُ تَفْسِير الْفَاتِحَة فِي مُجَلد كَبِير
وَفِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفى الإِمَام أَبُو نصر الْحميدِي مُصَنف الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ وَفِي شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين توفى الْكَامِل نقيب النُّقَبَاء طراد بن مُحَمَّد الزَّيْنَبِي وَله نَحْو تسعين سنة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمْس مئة توفّي أَبُو زَكَرِيَّا(1/110)
التبريزي اللّغَوِيّ
وَفِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفى أَبُو الفوارس الْحُسَيْن بن عَليّ الخازن صَاحب الْخط الْحسن الْمَشْهُور
وَفِي سنة خمس وَخمْس مئة توفّي الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ
وَفِي سنة سبع وَخمْس مئة توفّي الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الشَّاشِي الْفَقِيه رَحِمهم الله أَجْمَعِينَ
فصل
لما ولى السُّلْطَان مَحْمُود السلطنة أقرّ أَخَاهُ مسعودا على الْموصل مَعَ أتابكه جيوش بك فبقى مُطيعًا لِأَخِيهِ إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخمْس مئة فَحسن لَهُ الْخُرُوج عَن طَاعَته وَطلب السلطنة فأظهر الْعِصْيَان وخطب للْملك مَسْعُود بالسلطنة
وَكَانَ زنكي يُشِير بِطَاعَة السُّلْطَان وَترك الْخلاف عَلَيْهِ ويحذرهم عَاقِبَة الْعِصْيَان فَلم ينفع
فَالتقى الأخوان فِي عسكريهما فَهزمَ عَسْكَر مَسْعُود وَأسر جمَاعَة من الْأُمَرَاء والأعيان مِنْهُم الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْمَاعِيل الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الطغرائي وَزِير مَسْعُود فَقتله السُّلْطَان(1/111)
مَحْمُود وَقَالَ قد صَحَّ عِنْدِي فَسَاد اعْتِقَاده وَدينه
وَكَانَ قد جَاوز سِتِّينَ سنة وَكَانَ حسن الْكِتَابَة جيد الشّعْر
قلت وَقيل إِنَّه قتل سنة ثَلَاث عشرَة أَو أَربع عشرَة أَو ثَمَانِي عشرَة وَخمْس مئة وَقيل إِن الَّذِي قَتله هُوَ السُّلْطَان طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه
ذكر ذَلِك كُله أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَارِيخه وَسَماهُ الْحُسَيْن بن عَليّ بن عبد الصَّمد الديلمي وَأنْشد لَهُ أشعاراً حسانا مِنْهَا
(إِذا مَا لم تكن ملكا مُطَاعًا ... فَكُن عبدا لمَالِكه مُطيعًا)
(وَإِن لم تملك الدُّنْيَا جَمِيعًا ... كَمَا تهواه فاتركها جَمِيعًا)
(هما سببان من ملك ونسك ... ينيلان الْفَتى الشّرف الرفيعا)
(وَمن يقنع من الدُّنْيَا بِشَيْء ... سوى هذَيْن يَحْىَ بهَا وضيعا)
ثمَّ استأمن مَسْعُود وأتابكه جيوش بك فأمنهما السُّلْطَان وَأخذ الْموصل مِنْهُمَا فأقطعهما آق سنقر البرسقي مَعَ أَعمالهَا كالجزيرة وسنجار ونصيبين وَغَيرهَا فِي صفر سنة خمس عشرَة وسيره إِلَيْهَا وَأمره بِحِفْظ عماد الدّين زنكي وتقديمه وَالْوُقُوف عِنْد إِشَارَته فَفعل البرسقي ذَلِك وَزَاد(1/112)
عَلَيْهِ لمَكَان زنكي من الْعقل والشجاعة وَتقدم وَالِده فِي الْأَيَّام الركنية وَكَانَت سيرة ملكشاه عِنْدهم كالشريعة المتبعة فأعظم النَّاس عِنْدهم أَكْثَرهم ابتاعا لسيرته
وَفِي سنة سِتّ عشرَة وَخمْس مئة أقطع أتابك زنكي مَدِينَة وَاسِط وشحنكية الْبَصْرَة وَظهر من كِفَايَته فِي البلدين مَا لم يَظُنّهُ أحد فازداد شَأْنه عظما
وهاب الْأَمِير دبيس بن صَدَقَة الْأَسدي صَاحب الْحلَّة ناحيته وَجَرت بَينه وَبَين البرسقي حروب ومواقفات وهم دبيس بِقصد بَغْدَاد فَسَار البرسقي إِلَيْهِ وَتَبعهُ الْخَلِيفَة المسترشد بِاللَّه بِنَفسِهِ فَانْهَزَمَ عَسْكَر دبيس وَقتل مِنْهُم وَأسر خلق كثير وَكَانَ لعماد الدّين زنكي أثر حسن فِي هَذِه الْوَقْعَة أَيْضا بَين يَدي الْخَلِيفَة وَذَلِكَ فِي أول الْمحرم سنة سبع عشرَة
وَأما دبيس فَإِنَّهُ لما انهزم لحق بِالْملكِ طغرل بن السُّلْطَان مُحَمَّد وَصَارَ مَعَه من خَواص أَصْحَابه وَكَانَ عَاصِيا على أَخِيه السُّلْطَان مَحْمُود
وَأمر السُّلْطَان مَحْمُود البرسقي أَن يرجع إِلَى الْموصل فَعَاد واستدعى زنكي من الْبَصْرَة ليسير مَعَه إِلَى الْموصل فَقَالَ زنكي لأَصْحَابه قد ضجرنا مِمَّا نَحن فِيهِ كل يَوْم قد ملك الْبِلَاد أَمِير ونؤمر بِالتَّصَرُّفِ على اخْتِيَاره وإرادته ثمَّ تَارَة بالعراق وَتارَة بالموصل وَتارَة بالجزيرة وَتارَة بِالشَّام
فَسَار من الْبَصْرَة إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود فَأَقَامَ عِنْده وَكَانَ يقف(1/113)
إِلَى جَانب تخت السُّلْطَان عَن يَمِينه لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ أحد وَهُوَ مقَام وَالِده قسيم الدولة من قبله وَبَقِي لوَلَده من بعده
ثمَّ أُتِي السُّلْطَان الْخَبَر أَن الْعَرَب قد اجْتمعت ونهبت الْبَصْرَة فَأمر زنكي بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا وأقطعه إِيَّاهَا لما بلغه عَنهُ من الحماية لَهَا فِي الْعَام الْمَاضِي وَقت اخْتِلَاف العساكر والحروب فَفعل ذَلِك فَعظم عِنْد السُّلْطَان وَزَاد مَحَله وَكَانَ قد جرى بَين يرنقش الزكوي شحنة بَغْدَاد وَبَين الْخَلِيفَة السترشد بِاللَّه نفرة فتهدده السترشد فَسَار عَن بَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان فِي رَجَب سنة تسع عشرَة شاكيا من المسترشد وحذر السُّلْطَان جَانِبه وأعلمه أَنه قد جمع العساكر عَازِمًا على مَنعه من الْعرَاق
فَسَار السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد وَجرى بَينه وَبَين المسترشد حروب ووقائع ثمَّ اصطلحا وعادا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ واقام السُّلْطَان بِبَغْدَاد إِلَى عَاشر ربيع الآخر وَنظر فِيمَن يصلح أَن يَلِي شحنكية بَغْدَاد وَالْعراق يَأْمَن مَعَه من الْخَلِيفَة ويضبط الْأُمُور
فولى ذَلِك زنكي مُضَافا إِلَى مَا بِيَدِهِ من الإقطاع وَسَار السُّلْطَان عَن بَغْدَاد
وَفِي سنة عشْرين وَخمْس مئة قتل آق سنقر البرسقي بالجامع الْعَتِيق بالموصل بعد الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة ثار بِهِ من الباطنية مَا يزِيد على عشرَة أنفس فَقتل بِيَدِهِ مِنْهُم ثَلَاثَة وَقتل رَحمَه الله
وَكَانَ عادلا لين الْأَخْلَاق حسن الْعشْرَة وَكَانَ يصلى كل لَيْلَة صَلَاة كَثِيرَة وَلَا يَسْتَعِين فِي وضوئِهِ(1/114)
بِأحد فقرر السُّلْطَان وَلَده عز الدّين مسعوداً على مَا كَانَ لِأَبِيهِ من الْأَعْمَال وَهِي الْموصل وديار الجزيرة وحلب وحماة وجزيرة ابْن عمر وَغَيرهَا
وَكَانَ شَابًّا عَاقِلا فضبط الْبِلَاد وَلم تطل ايامه وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَولي الْأَمر بعده أَخُوهُ الصَّغِير وَقَامَ بتدبير دولتيهما الْأَمِير جاولي وَهُوَ مَمْلُوك تركي من مماليك أَبِيهِمَا فجرت الْأُمُور على أحسن نظام
فصل فِي ولَايَة زنكي الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد البرسقي
وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان من سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسبب ذَلِك أَن عز الدّين بن البرسقي لما توفّي وَقَامَ بالبلاد بعده أَخُوهُ الصَّغِير وَتَوَلَّى أمره جاولى أرسل إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود يطْلب أَن يقر الْبِلَاد عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُرْسل بذلك القَاضِي بهاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الشهرزوي وَصَلَاح الدّين مُحَمَّد الياغبساني
فحضرا بَغْدَاد ليخاطبا السُّلْطَان فِي ذَلِك وَكَانَا يخافان جاولى وَلَا يرضيان بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّف بِحكمِهِ
وَكَانَ بَين(1/115)
الصّلاح وَبَين نصير الدّين جقر مصاهرة فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا أَن يطلبا الْبِلَاد لعماد الدّين زنكي ففعلا وَقَالا للوزير قد علمت أَنْت وَالسُّلْطَان أَن بِلَاد الجزيرة وَالشَّام قد استولى الإفرنج على أَكْثَرهَا وتمكنوا مِنْهَا وقويت شوكتهم وَكَانَ البرسقي يكف بعض عاديتهم فمنذ قتل ازْدَادَ طمعهم وَهَذَا وَلَده طِفْل صَغِير وَلَا بُد للبلاد من شهم شُجَاع يذب عَنْهَا ويحمي حوزتها وَقد أنهينا الْحَال إِلَيْكُم لِئَلَّا يجْرِي خلل أَو وَهن على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فنحصل نَحن بالإثم من الله تَعَالَى واللوم من السُّلْطَان
فأنهى الْوَزير ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فأعجبه وَقَالَ من تريان يصلح لهَذِهِ الْبِلَاد فذكرا جمَاعَة فيهم عماد الدّين زنكي وعظما مَحَله أَكثر من غَيره
فَأجَاب السُّلْطَان إِلَى تَوليته لما علم من شهامته وكفايته فولي الْبِلَاد جَمِيعهَا وَكتب منشوره بهَا وَسَار من بَغْدَاد إِلَى البوازيج ليملكها ويتقوى بهَا ويجعلها ظَهره إِن مَنعه جاولى عَن الْبِلَاد
فَلَمَّا استولى عَلَيْهَا سَار عَنْهَا إِلَى الْموصل فَخرج جاولى إِلَى لِقَائِه وَعَاد فِي خدمته إِلَى الْموصل فسيره إِلَى الرحبة وأعمالها وَأقَام هُوَ بالموصل يصلح أمورها ويقرر قواعدها
فولى نصير الدّين دزدارية قلعة الْموصل وفوض إِلَيْهِ أَمر الْولَايَة جَمِيعهَا وَجعل الدزدارية فِي الْبِلَاد جَمِيعهَا لَهُ وَجعل الصّلاح مُحَمَّد الياغبساني أَمِير حَاجِب الدولة وَجعل بهاء الدّين قَاضِي قُضَاة بِلَاده جَمِيعهَا وَمَا يَفْتَحهُ من الْبِلَاد ووفي لَهُم بِمَا وعدهم
وَكَانَ بهاء الدّين أعظم النَّاس عِنْده منزلَة وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ وَأَكْثَرهم انبساطا مَعَه وقربا مِنْهُ ورتب الْأُمُور على أحسن نظام وَأحكم قَاعِدَة(1/116)
وَكَانَ الفرنج قد اتسعت بِلَادهمْ وَكَثُرت أجنادهم وعظمت هيبتهم وزادت صولتهم وامتدت إِلَى بِلَاد الْمُسلمين أَيْديهم وَضعف أَهلهَا عَن كف عاديهم وَتَتَابَعَتْ غزواتهم وساموا الْمُسلمين سوء الْعَذَاب واستطار فِي الْبِلَاد شرر شرهم وامتدت مملكتهم من نَاحيَة ماردين وشبختان إِلَى عَرِيش مصر لم يتخلله من ولَايَة الْمُسلمين غير حلب وحماة وحمص ودمشق
وَكَانَت سراياهم تبلغ من ديار بكر إِلَى آمد وَمن ديار الجزيرة إِلَى نَصِيبين وَرَأس عين
أما أهل الرقة وحران فقد كَانُوا مَعَهم فِي ذل وهوان وانقطعت الطّرق إِلَى دمشق إِلَّا على الرحبة وَالْبر
ثمَّ زَاد الْأَمر وَعظم الشَّرّ حَتَّى جعلُوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وإتاوة يأخذونها مِنْهُم ليكفوا أذيتهم عَنْهُم
ثمَّ لم يقنعوا بذلك حَتَّى أرْسلُوا إِلَى مَدِينَة دمشق واستعرضوا الرَّقِيق مِمَّن أَخذ من الرّوم والأرمن وَسَائِر بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وخيروهم بَين الْمقَام عِنْد أربابهم وَالْعود إِلَى أوطانهم فَمن اخْتَار الْمقَام تَرَكُوهُ وَمن آثر الْعود إِلَى أَهله أَخَذُوهُ وناهيك بِهَذِهِ الْحَالة ذلة للْمُسلمين وصغارا
وَأما أهل حلب فَإِن الفرنج أخذُوا مِنْهَا مُنَاصَفَة أَعمالهَا حَتَّى فِي الرحا الَّتِي على بَاب الْجنان وَبَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرُون خطْوَة
وَأما بَاقِي بِلَاد الشَّام فَكَانَ حَال أَهلهَا أَشد من حَال هذَيْن البلدين
فَلَمَّا نظر الله سُبْحَانَهُ إِلَى بِلَاد الْمُسلمين ولاها عماد الدّين زنكي فغزا الفرنج فِي عقر دِيَارهمْ وَأخذ للموحدين مِنْهُم بثارهم واستنقذ مِنْهُم حصونا(1/117)
ومعاقل وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك وَمَا فَتحه من الْبِلَاد الإسلامية هُوَ وَابْنه من بعده إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل
ثمَّ شرع زنكي رَحمَه الله فِي أَخذ الْبِلَاد فَافْتتحَ جَزِيرَة ابْن عمر ثمَّ مَدِينَة إربل فِي رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين ثمَّ عَاد إِلَى الْموصل
وَسَار فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَعشْرين إِلَى سنجار فتسلمها وسير مِنْهَا الشحن إِلَى الخابور فملكة ثمَّ قصد الرحبة فملكت قسرا ثمَّ افْتتح نَصِيبين وَسَار إِلَى حران وَكَانَت الرها وسروج وَغَيرهمَا من ديار الجزيرة للفرنج لعنهم الله وَأهل حران مَعَهم فِي ضيق عَظِيم فراسلوا زنكي بِالطَّاعَةِ واستحثوه على الْوُصُول إِلَيْهِم فَفعل وهادن الفرنج مُدَّة يسيرَة بِعلم أَنه يفرغ فِيهَا من الِاسْتِيلَاء على مَا بَقِي لَهُ من الْبِلَاد الشامية والجزرية
وَكَانَ أهم الْأَشْيَاء عِنْده عبور الْفُرَات وَملك مَدِينَة حلب وَغَيرهَا من الْبِلَاد الشامية فَلَمَّا عبر الْفُرَات ملك مَدِينَة منبج وحصن بزراعة وحاصر حلب ثمَّ فتحت لَهُ فرتب أمورها وَسَار عَنْهَا إِلَى حماة فملكها وَقبض على صَاحب حمص وحصرها وَذَلِكَ سنة ثَلَاثِينَ وَعشْرين
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين اتّفق صَاحب آمد مَعَ صَاحب حصن كيفا وَغَيرهمَا من الْمُلُوك وجمعوا عَسَاكِر نَحْو عشْرين ألفا وقصدوا زنكي فَلَقِيَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَملك سرجة ودارا
ثمَّ صمم على الْجِهَاد فنازل حصن الأثارب وَكَانَ أضرّ شَيْء على أهل حلب فَجمع الفرنج جمعا عَظِيما(1/118)
فَهَزَمَهُمْ وقتلهم مقتلة عَظِيمَة بقيت عِظَام الْقَتْلَى بِتِلْكَ الأَرْض مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْحصن فملكه عنْوَة فأخربه ومحا أَثَره وأزال من تِلْكَ الأَرْض ضَرَره
ثمَّ رَحل إِلَى حصن حارم فحصره فأنفذ من لم يحضر المعركة من الفرنج وَمن نجا مِنْهَا يسْأَلُون الصُّلْح ويبذلون لَهُ المناصفة على ولَايَة حارم فأجابهم إِلَى ذَلِك لِأَن عسكره كَانَ قد كثرت فيهم الْجِرَاحَات وَالْقَتْل فَأَرَادَ أَن يستريحوا ويريحوا فهادنهم وَعَاد عَنْهُم وَقد أَيقَن الْمُسلمُونَ بِالشَّام بالأمن وحلول النَّصْر وسيرت البشائر إِلَى الْبِلَاد بذلك
وفيهَا استولى زنكي على مَدِينَة حماة وَمَا فِيهَا وَكَانَ فِيهَا بهاء الدّين سونج بن تَاج الْمُلُوك بورى فَأَخذه وَرِجَاله ثمَّ طلب فِي إِطْلَاقهم خمسين ألف دِينَار فاتفق حُضُور دبيس بن صَدَقَة بن مزِيد أَمِير الْعرَاق بِدِمَشْق مُنْهَزِمًا فَطَلَبه زنكي وَأطلق من كَانَ عِنْده من سونج وَأَصْحَابه ذكر ذَلِك الرئيس أَبُو يعلى
وَفِي سنة خمس وَعشْرين وَخمْس مئة توفّي السُّلْطَان مَحْمُود بهمذان وَكَانَ عمره نَحْو ثَمَانِي وَعشْرين سنة وَكَانَت ولَايَته مَا يُقَارب أَربع عشرَة سنة وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلا عادلا كثير الِاحْتِمَال
وَطلب السلطنة بعد وَفَاته ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود وأخواه مَسْعُود وسلجوق شاه ابْنا مُحَمَّد وعمهما سنجر بن ملكشاه وَمَعَهُ طغرل ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد
فجرت بَينهم حروب واختلافات كَثِيرَة ظفر فِيهَا سنجر وخطب لِابْنِ أَخِيه طغرل بالسلطنة فِي همذان وأصفهان والري وَسَائِر بِلَاد الْجَبَل(1/119)
وَفِي سنة سبع وَعشْرين سَار الْخَلِيفَة المسترشد بِنَفسِهِ إِلَى الْموصل فِي ثَلَاثِينَ ألف فَارس فحاصرها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَلم يبلغ غَرضا
وَفِي سنة تسع وَعشْرين استولى زنكي على سَائِر قلاع الحميدية وولاياتهم وَمِنْهَا قلعة الْعقر وقلعة شوش وحاصر مَدِينَة آمد ثمَّ مَدِينَة دمشق
وفيهَا توفيت والدته بالموصل
وَفِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين توفى السُّلْطَان طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه فَخرج السُّلْطَان مَسْعُود والتقى هُوَ والخليفة المسترشد فِي عسكرين عظيمين عَاشر رَمَضَان فَهزمَ عَسْكَر الْخَلِيفَة وَقبض عَلَيْهِ وعَلى خواصه وأنفذ السُّلْطَان شحنة إِلَى بَغْدَاد فَقبض جَمِيع أَمْلَاك الْخَلِيفَة وهجم جمَاعَة من الباطنية على المسترشد وَهُوَ فِي الْخَيْمَة فَقَتَلُوهُ
وَكتب السُّلْطَان إِلَى شحنة بَغْدَاد يَأْمُرهُ بالبيعة لِابْنِهِ أَبى جَعْفَر الْمَنْصُور بن المسترشد فَبَايعهُ فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة ولقب بالراشد
وَكَانَ عمر المسترشد ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة وَثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام وَكَانَت خِلَافَته سبع عشرَة سنة وَسَبْعَة اشهر
وَكَانَ شهما شجاعا مقداما فصيحا وَتمكن فِي خِلَافَته تمَكنا عَظِيما لم يره أحد مِمَّن تقدمه من الْخُلَفَاء من عهد الْمُنْتَصر بِاللَّه إِلَى خِلَافَته إِلَّا أَن يكون المعتضد والمكتفي لِأَن المماليك كَانُوا قَدِيما يخلعون الْخُلَفَاء ويحكمون عَلَيْهِم وَلم يزَالُوا كَذَلِك إِلَى ملك(1/120)
الديلم واستيلائهم على الْعرَاق فَزَالَتْ هَيْبَة الْخلَافَة بالمرة إِلَى انْقِرَاض دولة الديلم
فَلَمَّا ملك السلجقية جددوا من هَيْبَة الْخلَافَة مَا كَانَ قد درس لَا سِيمَا فِي وزارة نظام الْملك فَإِنَّهُ أعَاد الناموس والهيبة إِلَى أحسن حالاتها إِلَّا أَن الحكم والشحن بالعراق كَانَ إِلَى السُّلْطَان وَكَذَلِكَ العمداء وَضَمان الْبِلَاد وَلم يكن للخلفاء إِلَّا إقطاع يَأْخُذُونَ دخله
وَأما المسترشد فَإِنَّهُ استبد بالعراق بعد السُّلْطَان مَحْمُود وَلم يكن للسُّلْطَان مَحْمُود مَعَه فِي كثير من الْأَوْقَات سوى الْخطْبَة وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وقاد الجيوش وباشر الحروب
وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَخمْس مئة سَار الراشد إِلَى الْموصل صُحْبَة زنكي ملتجئا إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن جمَاعَة حسنوا لَهُ الْخُرُوج من بَغْدَاد لمحاربة السُّلْطَان مَسْعُود فأجابهم إِلَى ذَلِك وَظهر مِنْهُ تنقل فِي الْأَحْوَال وتلون فِي الآراء وَقبض على جمَاعَة من أَعْيَان أَصْحَابه وخافه الْبَاقُونَ وَتقدم السُّلْطَان مَسْعُود وَحصر بَغْدَاد وَاسْتظْهر عَلَيْهَا فَخرج الراشد ملتجئا إِلَى زنكي فَسَار بِهِ إِلَى الْموصل وَدخل مَسْعُود بَغْدَاد وَأمر بخلع الراشد ومبايعة عَمه أبي عبد الله مُحَمَّد بن المستظهر بِاللَّه فَفعل ذَلِك ولقب المقتفي لأمر الله
وَأما الراشد فَإِن السُّلْطَان سنجر أرسل إِلَى أتابك يَأْمُرهُ بِإِخْرَاجِهِ عَن بَلَده فَسَار إِلَى اذربيجان ثمَّ إِلَى همذان فَاجْتمع إِلَيْهِ مُلُوك وعساكر كَثِيرَة وَسَار السُّلْطَان إِلَيْهِم فتصافوا فَانْهَزَمَ الراشد وَقصد أَصْبَهَان(1/121)
فَقتله الباطنية بهَا فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة وَدفن بأصبهان
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَيْضا تزوج زنكي بالخاتون صفوة الْملك زمرد ابْنة الْأَمِير جاولي أم شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل وَإِخْوَته بني تَاج الْمُلُوك بوري بن ظهيرالدين طغتكين أتابك وَهِي أُخْت الْملك دقاق لأمه وإليها ينْسب مَسْجِد خاتون الَّذِي هُوَ مدرسة لأَصْحَاب أَبى حنيفَة بِأَعْلَى الشّرف القبلي بِأَرْض دمشق بِأَرْض صنعاء وتسلم قلعة حمص
فصل
فِي جِهَاد زنكي للفرنج
لما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ خرج ملك الرّوم من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمَعَهُ خلق عَظِيم لَا يُحصونَ كَثْرَة من الرّوم والفرنج وَغَيرهم من أَنْوَاع النَّصَارَى فقصد الشَّام فخافه النَّاس خوفًا عَظِيما
وَكَانَ زنكي مَشْغُولًا بِمَا تقدم ذكره لَا يُمكنهُ مُفَارقَة الْموصل فقصد ملك الرّوم مَدِينَة بزاعة وحصرها وَهِي على مرحلة من حلب وَفتحهَا عنْوَة وَقتل الْمُقَاتلَة وسبى الذُّرِّيَّة فِي شعْبَان ثمَّ سَار عَنْهَا إِلَى شيزر وَهِي(1/122)
حصن منيع على مرحلة من مَدِينَة حماة فحصرها منتصف شعْبَان وَنصب عَلَيْهَا ثَمَانِيَة عشر منجنيقا وَأرْسل صَاحبهَا أَبُو العساكر سُلْطَان بن عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ إِلَى زنكي يستنجده فَنزل على حماة فَكَانَ يركب كل يَوْم فِي عساكره ويسير إِلَى شيزر بِحَيْثُ يرَاهُ ملك الرّوم وَيُرْسل السَّرَايَا يتخطف من يخرج من عساكرهم لِلْمِيرَةِ والنهب ثمَّ يعود آخر النَّهَار وَكَانَ الرّوم والإفرنج قد نزلُوا على شَرْقي شيزر فَأرْسل إِلَيْهِم زنكي يَقُول لَهُم إِنَّكُم قد تحصنتم بِهَذِهِ الْجبَال فاخرجوا عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء حَتَّى نَلْتَقِي فَإِن ظفرتم أَخَذْتُم شيزر وَغَيرهَا وَإِن ظَفرت بكم أرحت الْمُسلمين من شركم وَلم يكن لَهُ بهم قُوَّة لكثرتهم وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا ترهيبا لَهُم فَأَشَارَ الفرنج على ملك الرّوم بلقائه وقتاله وهونوا أمره فَقَالَ لَهُم الْملك أتظنون أَن مَعَه من العساكر مَا ترَوْنَ وَله الْبِلَاد الْكَثِيرَة وَإِنَّمَا هُوَ يريكم قلَّة من مَعَه لتطمعوا وتصحروا لَهُ فَحِينَئِذٍ ترَوْنَ من كَثْرَة عسكره مَا يعجزكم
وَكَانَ أتابك زنكي مَعَ هَذَا يراسل فرنح الشَّام ويحذرهم ملك الرّوم وَيُعلمهُم أَنه إِن ملك بِالشَّام حصنا وَاحِدًا أَخذ الْبِلَاد الَّتِي بِأَيْدِيهِم مِنْهُم وَكَانَ يراسل ملك الرّوم يتهدده ويوهمه أَن الفرنج مَعَه فاستشعر كل وَاحِد من الفرنج وَالروم من صَاحبه فَرَحل ملك الرّوم عَنْهَا فِي رَمَضَان وَكَانَ مقَامه عَلَيْهَا أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَترك المجانيق والآت الْحصار بِحَالِهَا فَسَار زنكي خَلفهم فظفر بطَائفَة مِنْهُم فِي ساقة الْعَسْكَر فغنم مِنْهُم وَقتل وَأسر وَأخذ جَمِيع مَا خلفوه وَرَفعه إِلَى قلعة حلب {وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال}
وَكَانَ الْمُسلمُونَ بِالشَّام قد اشْتَدَّ خوفهم وَعَلمُوا أَن الرّوم إِن ملكوا(1/123)
حصن شيزر لَا يبْقى لمُسلم مَعَهم مقَام لَا سِيمَا مَدِينَة حماة لقربها
وَلما يسر الله تَعَالَى هَذَا الْفَتْح مدح الشُّعَرَاء الشَّهِيد أتابك فَأَكْثرُوا مِنْهُم أَبُو الْمجد الْمُسلم بن الْخضر بن الْمُسلم بن قسيم التنوخي الْحَمَوِيّ لَهُ قصية قد ذكرتها فِي تَرْجَمته فِي التَّارِيخ أَولهَا
(بعزمك أَيهَا الْملك الْعَظِيم ... تذل لَك الصعاب وتستقيم)
(ألم تَرَ أَن كلب الرّوم لما ... تبين أَنه الْملك الرَّحِيم)
(فجَاء يطبق الفلوات خيلا ... كَأَن الجحفل اللَّيْل البهيم)
(وَقد نزل الزَّمَان على رِضَاهُ ... فَكَانَ لخطبه الْخطب الجسيم)
(فحين رميته بك فِي خَمِيس ... تَيَقّن أَن ذَلِك لَا يَدُوم)
(وابصر فِي المفاضة مِنْك جَيْشًا ... فأحرن لَا يسير وَلَا يُقيم)
(كَأَنَّك فِي العجاج شهَاب نور ... توقد وَهُوَ شَيْطَان رجيم)
(أَرَادَ بَقَاء مهجته فولى ... وَلَيْسَ سوى الْحمام لَهُ حميم)
(يؤمل أَن تجود بهَا عَلَيْهِ ... وَأَنت بهَا وبالدنيا كريم)
(أيلتمس الفرنج لديك عفوا ... وَأَنت بِقطع دابرها زعيم)
(وَكم جرعتها غصص المنايا ... بِيَوْم فِيهِ يكتهل الفطيم)
(وَلما أَن طلبتهم تمنى الْمنية ... جوسلينهم اللَّئِيم)(1/124)
(أَقَامَ يطوف الْآفَاق حينا ... وَأَنت على معاقله مُقيم)
(فَسَار وَمَا يعادله مليك ... وَعَاد وَمَا يعادله سقيم)
(إِذا خطرت سيوفك فِي نفوس ... فَأول مَا تفارقها الجسوم)
وَله أَيْضا من قصيدة يمدح بهَا صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن أَيُّوب الْعِمَادِيّ التوتان صَاحب حماة
(وَمَا جَاءَ كلب الرّوم إِلَّا ليحتوي ... حماة وَمَا يَسْطُو على الْأسد الْكَلْب)
(أَرَادَ بهَا أَن يملك الشَّام عنْوَة ... وَقد غلبت عَنهُ الضراغمة الغلب)
(وَمَا ذمّ فِيهَا الْعَيْش حَتَّى صدمته ... فَمَال جنَاح الْجَيْش وانكسر الْقلب)
(فولى وأطراف الرماح كَأَنَّهَا ... نُجُوم عَلَيْهِ بالمنية تنصب)
وَلابْن مُنِير من قصيدة فِي مدح أتابك زنكي رَحمَه الله سَيَأْتِي بَعْضهَا عِنْد ذكر فَتحه لمدينة الرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(وَمَا يَوْم كلب الرّوم إِلَّا أَخُو الَّذِي ... أزحت بِهِ مَا فِي الجناجن من تبل)
(أَتَاك بِمثل الرمل حشدا وَإنَّهُ ... ليفضل أضعافا كثيرا عَن الرمل)
(فقاتلته بِاللَّه ثمَّ بعزمة ... تعل قُلُوب العاشقين بِمَا يسلي)(1/125)
(توهم أَن الشَّام مرعى وَمَا درى ... بأنك أمضى مِنْهُ فِي الشزر والسحل)
(فطار وَخير المغنمين ذماؤه ... إِذا رد عَنهُ مغنم المَال والأهل)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن عَجِيب مَا يحْكى فِي هَذِه الْحَادِثَة أَن الْخَبَر لما وصل بِقصد الرّوم شيزر قَالَ الْأَمِير مرشد بن عَليّ أَخُو صَاحبهَا وَهُوَ ينْسَخ مُصحفا فرفعه بِيَدِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ بِحَق من أنزلته عَلَيْهِ إِن قضيت بمجيء الرّوم فاقبضني إِلَيْك
فتوفى بعد أَيَّام وَنزل الرّوم بعد وَفَاته
وَلما عَاد الرّوم إِلَى بِلَادهمْ نزل أتابك إِلَى حصن عرقة وَهُوَ من أَعمال طرابلس فحصره وفتحه عنْوَة وَنهب مَا فِيهِ واسر من بِهِ من الفرنج وأخربه وَعَاد سالما غانما
وفيهَا ملك قلعة دَارا من حسام الدّين تمرتاش
وفيهَا توفى بهاء الدّين عَليّ بن الْقَاسِم الشهرزوري قَاضِي الممالك الأتابكية وَكَانَ أعظم النَّاس منزلَة عِنْده
وفيهَا ولد صَلَاح الدّين يُوسُف بن ايوب بتكريت(1/126)
فصل فِي فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشق
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت شهرزور وأعمالها وَمَا يجاورها من الْبِلَاد وَالْجِبَال فِي يَد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني وَكَانَ مَالِكهَا نَافِذ الحكم على قاصي التركمان ودانيهم يرَوْنَ طَاعَته فرضا حتما فتحامى الْمُلُوك قصد ولَايَته وَلم يتَعَرَّضُوا لَهَا لحصانتها فَعظم شَأْنه وازداد جمعه
فَلَمَّا كَانَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ بلغ الشَّهِيد أتابك عَنهُ مَا اقْتضى أَن يقْصد بِلَاده فَهزمَ عسكره وَملك بِلَاد شهرزور وَغَيرهَا فأضافها إِلَى بِلَاده واصلح أَحْوَال أَهلهَا وخفف عَنْهُم مَا كَانُوا يلقونه من التركمان
وَعَاد إِلَى الْموصل عَازِمًا على الْمسير إِلَى الشَّام فَإِنَّهُ كَانَ لَا يرى الْمقَام بل لَا يزَال ظَاعِنًا إِمَّا لرد عَدو يَقْصِدهُ وَإِمَّا لقصد بِلَاد عَدو وَإِمَّا لغزو الفرنج وسد الثغور
وَكَانَت مياثر السُّرُوج آثر عِنْده من وثير المهاد والسهر فِي حراسة المملكة أحب إِلَيْهِ من عرض الوساد وأصوات السِّلَاح ألذ فِي مسمعه من الْغناء لَا يجد لذَلِك كُله عناء
وَفِي هَذِه السّنة وَهِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ ولد تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاذي
وفيهَا سَار الشَّهِيد فِي جُنُوده بعد ملك شَهْرَزَوْرَ إِلَى مَدِينَة دمشق(1/127)
فحصرها وصاحبها حِينَئِذٍ جمال الدّين مُحَمَّد بن بورى بن طغتكين وَكَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَالْغَالِب على أمره معِين الدّين أنر مَمْلُوك جده طغتكين
وَكَانَ أتابك قد أَمر كَمَال الدّين أَبَا الْفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جمَاعَة من مقدمي أحداثها وزناطرتها واستمالتهم وإطماعهم فِي الرغائب والصلات
فَفعل ذَلِك فَأَجَابَهُ مِنْهُم خلق كثير إِلَى تَسْلِيم الْبَلَد وَخَرجُوا مُتَفَرّقين إِلَى كَمَال الدّين وجدد عَلَيْهِم العهود وتواعدوا يَوْمًا يزحف فِيهِ الشَّهِيد إِلَى الْبَلَد ليفتحوا لَهُ الْبَاب ويسلموا الْبَلَد إِلَيْهِ فَأعْلم كَمَال الدّين الشَّهِيد أتابك بذلك فَقَالَ لَا أرى هَذَا رَأيا فَإِن الْبَلَد ضيق الطرُق والشوارع وَمَتى دخل الْعَسْكَر إِلَيْهِ لَا يتمكنون من الْقِتَال فِيهِ لضيقه وَرُبمَا كثر الْمُقَاتِلُونَ لنا فنعجز عَن مقاومتهم لأَنهم يُقَاتلُون على الأَرْض والسطوحات وَإِذا دَخَلنَا الْبَلَد اضطررنا إِلَى التَّفَرُّق لضيق المسالك فيطمع فِينَا أَهله
وَعَاد عَن ذَلِك الْعَزْم بحزمه وحذره
وَمن الْعجب أَن مُحَمَّد بن بورى صَاحب دمشق توفّي وأتابك يحصره فضبط أنر الْأُمُور وساس الْبَلَد فَلم يتَغَيَّر بِالنَّاسِ حَال وَأرْسل إِلَى بعلبك فأحضر وَلَده مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد بن بورى ورتبه فِي الْملك مَكَان أَبِيه فَمشى الْحَال بتمكين معِين الدّين أنر وَحسن تَدْبيره
وَهَذَا مجير الدّين آبق هُوَ الَّذِي مِنْهُ أَخذ نور الدّين بن زنكي دمشق كَمَا سَيَأْتِي(1/128)
وَلما دخل مجير الدّين دمشق أقطع بعلبك معِين الدّين أنر فَأرْسل إِلَيْهَا نَائِبه وتسلمها
فَلَمَّا علم الشَّهِيد ذَلِك سَار إِلَى بعلبك وحصرها عدَّة شهور فملكها عنْوَة وَترك بهَا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين دزدارا وعزم على الْعود عَنْهَا إِلَى دمشق فَجَاءَتْهُ رسل صَاحبهَا ببذل الطَّاعَة وَالْخطْبَة فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَعَاد عَن قصد دمشق وَقد خطب لَهُ فِيهَا وَصَارَ أَصْحَابهَا فِي طَاعَته وَتَحْت حكمه
قَالَ يحيى بن أَبى طي الْحلَبِي وَاتفقَ أَن الْأُمَرَاء لما نزلُوا من بعلبك أفسدوا ذخائرها فَقبض عَلَيْهِم أتابك زنكي وَقتل بَعضهم وصلبهم وَكَانَ ولى قَتلهمْ صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن أَيُّوب الياغبساني فَحكى أَنه أحضر إِلَيْهِ فِي جملَة الامراء شيخ مليح الشيبة وَمَعَهُ ولد لَهُ أَمْرَد كَأَنَّهُ فلقَة قمر فَقَالَ الشَّيْخ لصلاح الدّين سَأَلتك بحياة الْمولى أتابك إِلَّا صلبتني قبل وَلَدي لِئَلَّا أرَاهُ يعالج سَكَرَات الْمَوْت
وَبكى وَكَانَ نجم الدّين أَيُّوب وَاقِفًا فرحم الشَّيْخ وَبكى وَسَأَلَ صَلَاح الدّين فِي إِطْلَاقه فَقَالَ مَا أفعل خوفًا من الْمولى أتابك
فَذهب نجم الدّين إِلَى أتابك وَسَأَلَهُ فِي الشَّيْخ وَولده وقص عَلَيْهِ مَا قَالَه فَأذن بِإِطْلَاقِهِ وَإِطْلَاق من بَقِي من الْجَمَاعَة ووهبه نصف بعلبك
وَقيل إِن نجم الدّين ورد على أتابك وَهُوَ قد ملك بعلبك فَسَأَلَهُ فِي الْأُمَرَاء فَأَطْلَقَهُمْ لَهُ وولاه بعلبك وَكتب لَهُ ثلثهَا ملكا وَاسْتقر فِيهَا هُوَ وَأَهله وَلم يزل بهَا إِلَى أَيَّام نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَأخْرجهُ مِنْهَا على مَا سَنذكرُهُ(1/129)
ثمَّ إِن أتابك بعد ملكة بعلبك سَار إِلَى دمشق فَنزل الْبِقَاع فوردت هَدِيَّة صَاحب دمشق وَطلب الْعود وَيُعْطِيه خمسين ألف دِينَار وَيُعْطِيه حمص فَأَشَارَ نجم الدّين على زنكي بِقبُول ذَلِك وَقَالَ هَذَا مَال كثير وَقد حصل بِلَا تَعب وبلد كَبِير بِلَا عناء ودمشق بلد عَظِيم وَقد ألف أَهله هَذَا الْبَيْت وتمرنوا على سياستهم وَقد بلغتهم الْأَحْوَال الَّتِي جرت ببعلبك فَامْتنعَ زنكي من قبُول مَا أَشَارَ بِهِ ففاته ذَلِك وَلم يظفر بغرضه
فصل
ثمَّ سَار أتابك الشَّهِيد فِي هَذِه السّنة وَهِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ إِلَى بِلَاد الفرنج فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَاجْتمعَ مُلُوك الفرنج وَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَقِيَهُمْ بِالْقربِ من حصن بارين وَهُوَ للفرنج فَصَبر الْفَرِيقَانِ صبرا لم يسمع بِمثلِهِ إِلَّا مَا يحْكى عَن لَيْلَة الهرير وَنصر الله الْمُسلمين وهرب مُلُوك الفرنج وفرسانهم فَدَخَلُوا حصن بارين وَفِيهِمْ ملك الْقُدس لِأَنَّهُ كَانَ أقرب حصونهم واسلموا عدتهمْ وعتادهم وَكثر فيهم الْجراح
ثمَّ سَار الشَّهِيد إِلَى حصن بارين فحصره حصرا شَدِيدا فراسلوه فِي طلب الْأمان ليسلموا ويسلموا الْحصن فَأبى إِلَّا أَخذهم قهرا
فَبَلغهُ أَن من بالسَّاحل من الفرنج قد سَارُوا إِلَى الرّوم والفرنج يستنجدونهم وَينْهَوْنَ إِلَيْهِم مَا فِيهِ مُلُوكهمْ من الْحصْر فَجمعُوا وحشدوا وَأَقْبلُوا إِلَى السَّاحِل وَمن بالحصن لَا يعلمُونَ شَيْئا من ذَلِك لقُوَّة الْحصْر عَلَيْهِم
فَأَعَادُوا مراسلته فِي طلب الْأمان(1/130)
فأجابهم وتسلم الْحصن وَسَارُوا فلقيتهم أَمْدَاد النَّصَارَى فَسَأَلُوهُمْ عَن حَالهم فَأَخْبرُوهُمْ بِتَسْلِيم الْحصن فلاموهم وَقَالُوا عجزتم عَن حفظه يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ فَحَلَفُوا لَهُم إِنَّا لم نعلم بوصولكم وَلم يبلغنَا عَنْكُم خبر مُنْذُ حصرنا وَإِلَى الْآن فَلَمَّا عميت الْأَخْبَار عَنَّا ظننا أَنكُمْ قد أهملتم أمرنَا فحقنا دماءنا بِتَسْلِيم الْحصن
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ حصن بارين من أضرّ بِلَاد الفرنج على الْمُسلمين فَأن أَهله كَانُوا قد أخربوا مَا بَين حماة وحلب من الْبِلَاد ونهبوها وتقطعت السبل فأزال الله تَعَالَى بالشهيد رَحمَه الله هَذَا الضَّرَر الْعَظِيم
وَفِي مُدَّة مقَامه على حصن بارين سير جنده إِلَى المعرة وكفرطاب وَتلك الْولَايَة جَمِيعهَا فاستولى عَلَيْهَا وملكها وَهِي بِلَاد كَثِيرَة وقرايا عَظِيمَة
قلت وَقد قَالَ القيسراني يذكر هزيمَة الفرنج ويمدح زنكي قصيدة أَولهَا
(حذار منا وأنى ينفع الحذر ... وَهِي الصوارم لَا تبقي وَلَا تذر)
(واين تنجو مُلُوك الشّرك من ملك ... من خيُله النَصُر لَا بل جُندُه الْقدر)
(سلُّوا سيوفا كأغماد السيوف بهَا ... صالوا فماَ غمدوا نصلا وَلَا شهروا)
(حَتَّى إِذا مَا عمادُ الدّين أرهقهم ... فِي مأزق من سناه يَبْرق الْبَصَر)
(ولوا تضيق بهم ذرعا مسالكهم ... وَالْمَوْت لَا ملْجأ مِنْهُ وَلَا وزر)
(وَفِي الْمسَافَة من دون النجَاة بهم ... طول وَإِن كَانَ فِي أقطارها قصر)
(وَأصْبح الدّين لَا عينا وَلَا أثرا ... يخَاف وَالْكفْر لَا عين وَلَا أثر)(1/131)
(فَلَا تخف بعْدهَا الإفرنج قاطبة ... فالقوم إِن نفروا ألوى بهم نفر)
(إِن قَاتلُوا قُتِلوا أَو حَاربُوا حربوا ... أَو طاردوا طردوا أَو حاصروا حصروا)
(وطالما استفحل الْخطب البهيم بهم ... حَتَّى أَتَى ملك آراؤه غرر)
(وَالسيف مفترع أبكار أنفسهم ... وَمن هُنَالك قيل الصارم الذّكر)
(لَا فَارَقت ظِلَّ محيى الْعدْل لامعة ... كالصبح تطوى من الْأَعْدَاء مَا نشرُوا)
(ولآ انثنى النّصْرُ عَن أنصار دولته ... بِحَيْثُ كَانَ وَإِن كَانُوا بِهِ نصروا)
(حَتَّى تعود ثغور الشَّام ضاحكة ... كَأَنَّمَا حل فِي أكنافها عمر)
وَقَالَ ابْن مُنِير
(فدتك الْمُلُوك وأيامها ... ودان لنقضك إبرامها)
(وزلت لعينك أَقْدَامهَا ... وَزَالَ لبطشك إقدامها)
(وَلَو لم تُسلم إِلَيْك الْقُلُوب ... هَواهَا لما صَحَّ إسْلَامهَا)
(أيا محيى الْعدْل لما نعاه ... أيامي البرايا وأيتامها)
(ومستنقذ الدّين من أمة ... أذال المحاريب أصنامها)
(دلفت لَهَا تقتفيك الْأسود ... وَالْبيض والسمر آجامها)
(جزرت جزيرتها بِالسُّيُوفِ ... حَتَّى تشاءمها شامها)
(وَصَارَت عوارى أكنافه ... مَتى شِئْت أرخص مستامها)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما وصل الرّوم والفرنج إِلَى الشَّام وَرَأَوا الْأَمر قد فَاتَ أَرَادوا جبر مصيبتهم بمنازلة بعض بِلَاد الْمُسلمين فنازلوا حلب وحصروها فَلم ير الشَّهِيد أَن يخاطر بِالْمُسْلِمين ويلقاهم لأَنهم كَانُوا فِي جمع عَظِيم فانحاز عَنْهُم وَنزل قَرِيبا مِنْهُم يمْنَع عَنْهُم الْميرَة ويحفظ أَطْرَاف(1/132)
الْبِلَاد من انتشار الْعَدو فِيهَا والإغارة عَلَيْهَا
وَأرْسل القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود يُنْهِي إِلَيْهِ حَال الْبِلَاد وَكَثْرَة الْعَدو وَيطْلب مِنْهُ النجدة وإرسال العساكر
فَقَالَ لَهُ كَمَال الدّين أَخَاف أَن تخرج الْبِلَاد من أَيْدِينَا وَيجْعَل السُّلْطَان هَذَا حجَّة وَينفذ العساكر فَإِذا توسطوا الْبِلَاد ملكوها فَقَالَ الشَّهِيد إِن هَذَا الْعَدو قد طمع فِي الْبِلَاد وَإِن أَخذ حلب لم يبْق بِالشَّام إِسْلَام وعَلى كل حَال فالمسلمون أولى بهَا من الْكفَّار
قَالَ فَلَمَّا وصلت إِلَى بَغْدَاد وَأديت الرسَالَة وَعَدَني السُّلْطَان بإنفاذ العساكر ثمَّ أهمل ذَلِك وَلم يَتَحَرَّك فِيهِ بِشَيْء وَكتب الشَّهِيد إِلَى مُتَّصِلَة يحثني على الْمُبَادرَة بإنفاذ العساكر وَأَنا أخاطب فَلَا أزاد على الْوَعْد
قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت قلَّة اهتمام السُّلْطَان بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم أحضرت فلَانا وَهُوَ فَقِيه كَانَ يَنُوب عَنهُ فِي الْقَضَاء فَقلت خُذ هَذِه الدَّنَانِير وفرقها فِي جمَاعَة من أوباش بَغْدَاد والأعاجم وَإِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَصعد الْخَطِيب الْمِنْبَر بِجَامِع الْقصر قَامُوا وَأَنت مَعَهم واستغاثوا بِصَوْت وَاحِد وَا إسْلاماه وَا دين مُحمّدَاه وَيخرجُونَ من الْجَامِع ويقصدون دَار السلطنة مستغيثين
ثمَّ وضعت إنْسَانا آخر يفعل مثل ذَلِك فِي جَامع السُّلْطَان فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة وَصعد الْخَطِيب الْمِنْبَر قَامَ ذَلِك الْفَقِيه وشق ثَوْبه وَألقى عمَامَته عَن رَأسه وَصَاح وَتَبعهُ أُولَئِكَ النَّفر بالصياح والبكاء فَلم يبْق بالجامع إِلَّا من قَامَ يبكي وَبَطلَت الْجُمُعَة وَسَار النَّاس كلهم إِلَى دَار السُّلْطَان
وَقد فعل أُولَئِكَ الَّذين بِجَامِع السُّلْطَان مثلهم فَاجْتمع أهل بَغْدَاد وكل من بالعسكر عِنْد دَار السُّلْطَان يَبْكُونَ ويصرخون ويستغيثون وَخرج الْأَمر عَن الضَّبْط وَخَافَ السُّلْطَان فِي دَاره وَقَالَ مَا الْخَبَر فَقيل لَهُ إِن النَّاس قد ثَارُوا حَيْثُ لم ترسل(1/133)
العساكر إِلَى الْغُزَاة
فَقَالَ أحضروا ابْن الشهرزوري
قَالَ فَحَضَرت عِنْده وَأَنا خَائِف مِنْهُ إِلَّا أنني قد عزمت على صدقه وَقَول الْحق
فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ يَا قَاضِي مَا هَذِه الْفِتْنَة فَقلت إِن النَّاس قد فعلوا هَذَا خوفًا من الْفِتْنَة وَالشَّر وَلَا شكّ أَن السُّلْطَان مَا يعلم كم بَينه وَبَين الْعَدو وَإِنَّمَا بَيْنكُم نَحْو أُسْبُوع وَلَئِن أخذُوا حلب انحدروا إِلَيْك فِي الْفُرَات وَفِي الْبر وَلَيْسَ بَيْنكُم بلد يمنعهُم عَن بَغْدَاد
وعظمت الْأَمر عَلَيْهِ حَتَّى جعلته كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهِم فَقَالَ ارْدُدْ هَؤُلَاءِ الْعَامَّة عَنَّا وَخذ من العساكر مَا شِئْت وسر بهم والأمداد تلحقك
قَالَ فَخرجت إِلَى الْعَامَّة وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم وعرفتهم الْحَال وأمرتهم بِالْعودِ فعادوا وَتَفَرَّقُوا
وانتخبت من عسكره عشرَة آلَاف فَارس وكتبت إِلَى الشَّهِيد أعرفهُ الْخَبَر وَأَنه لم يبْق غير الْمسير وأجدد اسْتِئْذَانه فِي ذَلِك
فَأمرنِي بتسييرهم والحث على ذَلِك فعبرت العساكر الْجَانِب الغربي فَبَيْنَمَا نَحن نتجهز للحركة وَإِذا قد وصل نجاب من الشَّهِيد يخبر أَن الرّوم والفرنج قد رحلوا عَن حلب خائبين لم ينالوا مِنْهَا غَرضا ويأمرني بترك اسْتِصْحَاب العساكر فَلَمَّا خُوطِبَ السُّلْطَان فِي ذَلِك أصر على إِنْفَاذ العساكر إِلَى الْجِهَاد وَقصد بِلَاد الفرنج وَأَخذهَا وَكَانَ قَصده أَن تطَأ عساكره الْبِلَاد بِهَذِهِ الْحجَّة فيملكها
قَالَ فَلم أزل أتوصل مَعَ الْوَزير وأكابر الدولة حَتَّى أعدت العساكر إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وسرت إِلَى الشَّهِيد(1/134)
قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ خير من عشرَة آلَاف فَارس يعْنى كَمَال الدّين رحم الله الشَّهِيد فَلَقَد كَانَ ذَا همة عالية ورغبة فِي الرِّجَال ذَوي الرَّأْي وَالْعقل يرغبهم ويخطبهم من الْبِلَاد ويوفر لَهُم الْعَطاء حكى لي وَالِدي قَالَ قيل للشهيد إِن هَذَا كَمَال الدّين يحصل لَهُ فِي كل سنة مِنْك مَا يزِيد على عشرَة آلَاف دِينَار أميرية وَغَيره يقنع مِنْك بِخمْس مئة دِينَار
فَقَالَ لَهُم بِهَذَا الْعقل والرأي تدبرون دَوْلَتِي إِن كَمَال الدّين يقل لَهُ هَذَا الْقدر وَغَيره يكثر لَهُ خمس مئة دِينَار فَإِن شغلا وَاحِدًا يقوم فِيهِ كَمَال الدّين خير من مئة ألف دِينَار
وَكَانَ كَمَا قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى
فصل
قَالَ وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة سَار الشَّهِيد إِلَى بلد الهكارية وَكَانَ بيد الأكراد وَقد أَكْثرُوا فِي الْبِلَاد الْفساد إِلَّا إِن نصير الدّين جقر نَائِب السُّلْطَان الشَّهِيد بالموصل كَانَ قد ملك كثيرا من بِلَادهمْ
فَلَمَّا بلغَهَا الشَّهِيد حصر قلعة الشَّعْبَانِي وَهِي من أعظم قلاعهم وأحصنها فملكها وأخربها وَأمر بِبِنَاء قلعة الْعمادِيَّة عوضا عَنْهَا
وَكَانَت هَذِه الْعمادِيَّة حصنا كَبِيرا عَظِيما فأخربه الأكراد لعجزهم عَن حفظه لكبره
فَلَمَّا(1/135)
ملك أتابك الشَّهِيد الْبِلَاد الَّتِي لَهُم قَالَ إِذا عجز الأكراد عَن هَذَا الْحصن فَأَنا بحول الله لَا أعجز عَنهُ
فَأمر ببنائه وَكَانَ رَحمَه الله ذَا عزم ونفاذ أَمر فَبنِي وَسَماهُ القلعة الْعمادِيَّة نِسْبَة إِلَى لقبه عماد الدّين
وَفِي هَذِه السّنة خطب لأتابك بآمد وَكَانَ قد أرسل إِلَى صَاحبهَا يطْلب مِنْهُ الِانْفِصَال عَن مُوَافقَة ركن الدولة دَاوُد صَاحب الْحصن والانتماء إِلَى خدمته وَالْخطْبَة لَهُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك
وفيهَا ملك الشَّهِيد مَدِينَة عانة
وفيهَا حصر مَدِينَة حمص مرّة أُخْرَى وَفتحهَا فِي شَوَّال وَقصد ولَايَة دمشق فشتى بهَا
وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ عزم السُّلْطَان مَسْعُود على قصد الْموصل بعساكره وَكَانَ قد وَقع بَينه وَبَين الشَّهِيد وَحْشَة
فترددت الرُّسُل بَينهمَا حَتَّى اسْتَقَرَّتْ الْحَال على مئة ألف دِينَار أمامية يحملهَا الشَّهِيد إِلَى السُّلْطَان وَطلب أَن يحضر الشَّهِيد فِي خدمته فَامْتنعَ وَاعْتذر باشتغاله بالفرنج فعذره وَشرط عَلَيْهِ فتح الرها
وَكَانَ من أعظم الْأَسْبَاب فِي تَأَخّر السُّلْطَان عَن قصد الْموصل أَنه قيل لَهُ إِن تِلْكَ الْبِلَاد لَا يقدر على حفظهَا من(1/136)
الفرنج غير أتابك عماد الدّين فَإِنَّهَا قد وَليهَا قبله مثل جاولي سقاوه ومودودو وجيوش بك والبرسقي وَغَيرهم من الأكابر وَكَانَ السلاطين يمُدونهم بالعساكر الْكَثِيرَة وَلَا يقدرُونَ على حفظهَا وَلَا يزَال الفرنج يَأْخُذُونَ مِنْهَا الْبَلَد بعد الْبَلَد إِلَى أَن وَليهَا أتابك
فَلم يمده أحد من السلاطين بِفَارِس وَاحِد لَا بِمَال وَمَعَ هَذَا فقد فتح من بِلَاد الْعَدو عدَّة حصون وولايات وَهَزَمَهُمْ غير مرّة واستضعفهم وَعز الْإِسْلَام بِهِ
وَمن الْأَسْبَاب الْمَانِعَة لَهُ أَيْضا أَن الشَّهِيد كَانَ لَا يزَال وَلَده الْأَكْبَر سيف الدّين غَازِي فِي خدمَة السُّلْطَان مَسْعُود بِأَمْر وَالِده وَكَانَ السُّلْطَان يُحِبهُ ويقربه ويعتمد عَلَيْهِ ويثق بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ الشَّهِيد يَأْمُرهُ بالهرب والمجيء إِلَى الْموصل وَأرْسل إِلَى نَائِبه بالموصل يَأْمُرهُ أَن يمنعهُ من دُخُول الْموصل وَمن الْمسير إِلَيْهِ أَيْضا
فَفعل ذَلِك وَقَالَ لَهُ ترسل إِلَى والدك تستأذنه فِي الَّذِي تَفْعَلهُ
فَأرْسل إِلَيْهِ فَعَاد الْجَواب إِنَّنِي لَا أريدك مهما السُّلْطَان ساخط عَلَيْك
وألزمه بِالْعودِ إِلَيْهِ فَعَاد وَمَعَهُ رَسُول إِلَى السُّلْطَان يَقُول لَهُ إِنَّنِي لما بَلغنِي أَن وَلَدي فَارق الْخدمَة بِغَيْر إِذن لم أجتمع بِهِ ورَدَدْته إِلَى بابك
فَحل هَذَا عِنْد السُّلْطَان محلا كَبِيرا وَأجَاب إِلَى مَا أَرَادَ الشَّهِيد
وَلما اسْتَقر المَال حمل مِنْهُ نَحْو عشْرين ألف دِينَار
ثمَّ إِن الْأُمُور تقلبت وَعَاد أَصْحَاب الْأَطْرَاف خَرجُوا على السُّلْطَان فَاحْتَاجَ إِلَى مداراة الشَّهِيد فَأطلق لَهُ الْبَاقِي استمالة لَهُ(1/137)
وَفِي هَذِه السّنة سَار الشَّهِيد إِلَى ديار بكر فَفتح عدَّة بِلَاد مِنْهَا طنزة وإسعرد وَملك مَدِينَة الْمَعْدن الَّذِي يعْمل مِنْهُ النّحاس من إرمينية ومدينة حيزان وَأخذ من أَعمال مادرين عدَّة مَوَاضِع ورتب أُمُور الْجَمِيع وَملك مَدِينَة حاني وحاصر آمد وَأرْسل عسكرا إِلَى مَدِينَة عانة فملكها لَهُ وَقد تقدم ذكرهَا فِي السّنة قبلهَا
فصل
فِي فتح الشَّهِيد الرها فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة
وَكَانَت لجوسلين وَهُوَ عاتي الفرنج وشيطانهم والمقدم على رِجَالهمْ وفرسانهم وَكَانَ مُدَّة حصاره لَهَا ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا وأعادها إِلَى حكم الْإِسْلَام
وَهَذِه الرها من أشرف المدن عِنْد النَّصَارَى وَأَعْظَمهَا محلا وَهِي إِحْدَى الكراسي عِنْدهم فأشرفها الْبَيْت الْمُقَدّس ثمَّ أنطاكية ثمَّ رُومِية وقسطنطينية والرها
وَكَانَ على الْمُسلمين من الفرنج الَّذين بالرها شَرّ عَظِيم وملكوا من نواحي ماردين إِلَى الْفُرَات على طَرِيق شبختان عدَّة حصون كسروج والبيرة وجملين والموزر
وَكَانَت غاراتهم تبلغ مَدِينَة آمد من ديار بكر وماردين ونصيبين وَرَأس عين والرقة وَأما حران فَكَانَت مَعَهم فِي الخزي كل يَوْم قد صبحوها بالغارة
فَلَمَّا رأى الشَّهِيد الْحَال هَكَذَا أنف مِنْهُم وَعلم أنة لَا ينَال مِنْهَا غَرضا مَا دَامَ جوسلين بهَا
فَأخذ فِي إِعْمَال الْحِيَل وَالْخداع لَعَلَّ(1/138)
جوسلين يخرج مِنْهَا إِلَى بعض الْبِقَاع فتشاغل عَنْهَا بِقصد مَا جاورها من ديار بكر الَّتِي بيد الْإِسْلَام كحاني وجبل جور وآمد فَكَانَ يُقَاتل من بهَا قتالا فِيهِ إبْقَاء وَهُوَ يسر حسوا فِي ارتغاء فَهُوَ يخطبها وعَلى غَيرهم يحوم ويطلبها وسواها يروم
ووكل بهَا من يُخبرهُ بخلو عرينها من آساده وفراغ حصنها من أنصاره وأجناده
فَلَمَّا رأى جوسلين اشْتِغَال الشَّهِيد بِحَرب أهل ديار بكر ظن أَنه لَا فرَاغ لَهُ إِلَيْهِ وَأَنه لَا يُمكنهُ الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَفَارَقَ الرها إِلَى بِلَاده الشامية ليلاحظ أَعماله ويتعهد ذخائره وأمواله فَأقبل الشَّهِيد مسرعا بعساكره إِلَى الرها
ثمَّ وصف ابْن الْأَثِير الْجَيْش وَأنْشد
(بجيشٍ جاش بالفرسان حَتَّى ... ظَنَنْت الْبر بحرا من سلَاح)
(وألسنة من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرِّيَاح)
(وأروع جَيْشه ليل بهيم ... وغرته عَمُود للصباح)
(صفوح عِنْد قدرته وَلَكِن ... قَلِيل الصفح مَا بَين الصفاح)
(فَكَانَ ثباته للقلب قلبا ... وهيبته جنَاحا للجناح)
وألح الشَّهِيد فِي حصارها فملكها عنْوَة فاستباحها ونكس صلبانها وأباد قسوسها ورهبانها وَقتل شجعانها وفرسانها وملأ النَّاس أَيْديهم من النهب والسبي ثمَّ إِنَّه دخل الْبَلَد فِرَاقه فَأَنف لمثله من الخراب فَأمر بِإِعَادَة مَا أَخذ مِنْهُ من أثاث وَمَال وَسبي وَرِجَال وَجوَار وَأَطْفَال فَردُّوا عَن أخرهم لم يفقد مِنْهُم إِلَّا الشاذ والنادر فَعَاد الْبَلَد عَامِرًا بعد أَن كَانَ داثراً
ثمَّ رتب الْبَلَد وَأصْلح من شَأْنه وَسَار عَنهُ فاستولى على مَا كَانَ بيد الفرنج من المدن والحصون والقرايا كسروج وَغَيرهَا وأخلى(1/139)
ديار الجزيرة من معرة الفرنج وشرهم واصبح أَهلهَا بعد الْخَوْف آمِنين وَكَانَ فتحا عَظِيما طَار فِي الْآفَاق ذكره وطاب بهَا نشره وشهده خلق كثير من الصَّالِحين والأولياء
قَالَ ابْن الْأَثِير حكى لي جمَاعَة أعرف صَلَاحهمْ أَنهم رَأَوْا يَوْم فتح الرها الشَّيْخ أَبَا عبد الله بن عَليّ بن مهْرَان الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَ من الْعلمَاء العاملين والزاهدين فِي الدُّنْيَا المنقطعين عَنْهَا وَله الكرامات الظَّاهِرَة
ذكرُوا عَنهُ أَنه غَابَ عَنْهُم فِي زاويته يَوْمه ذَلِك ثمَّ خرج عَلَيْهِم وَهُوَ مُسْتَبشر مسرور عِنْده من الارتياح مَا لم يروه أبدا فَلَمَّا قعد مَعَهم قَالَ حَدثنِي بعض إِخْوَاننَا أَن أتابك زنكي فتح مَدِينَة الرها وَأَنه شهد مَعَه فتحهَا يَوْمنَا هَذَا ثمَّ قَالَ مَا يَضرك يَا زنكي مَا فعلت بعد الْيَوْم
يرُدد هَذَا القَوْل مرَارًا فضبطوا ذَلِك الْيَوْم فَكَانَ يَوْم الْفَتْح
ثمَّ إِن نَفرا من الأجناد حَضَرُوا عِنْد هَذَا الشَّيْخ وَقَالُوا لَهُ مُنْذُ رَأَيْنَاك على السُّور تكبر أيقنا بِالْفَتْح
وَهُوَ يُنكر حُضُوره وهم يقسمون أَنهم رَأَوْهُ عيَانًا
قَالَ وَحكى لي بعض الْعلمَاء بالأخبار والأنساب وَهُوَ أعلم من رَأَيْت بهَا قَالَ كَانَ ملك جَزِيرَة صقلية من الفرنج لما فتحت الرها وَكَانَ بهَا بعض الصَّالِحين من المغاربة الْمُسلمين وَكَانَ الْملك يحضرهُ ويكرمه وَيرجع إِلَى قَوْله ويقدمه على من عِنْده من الرهبان والقسيسين
فَلَمَّا كَانَ الْوَقْت الَّذِي فتحت فِيهِ الرها سير هَذَا ملك الإفرنج جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى إفريقية فنهبوا وأغاروا واسروا وَجَاءَت الْأَخْبَار إِلَى الْملك وَهُوَ جَالس وَعِنْده هَذَا الْعَالم المغربي وَقد نعس وَهُوَ شَبيه النَّائِم فأيقظه الْملك وَقَالَ يَا فَقِيه(1/140)
قد فعل أَصْحَابنَا بِالْمُسْلِمين كَيْت وَكَيْت أَيْن كَانَ مُحَمَّد عَن نَصرهم فَقَالَ لَهُ كَانَ قد حضر فتح الرها فتضاحك من عِنْده من الفرنج فَقَالَ لَهُم الْملك لَا تَضْحَكُوا فوَاللَّه مَا قَالَ عَن غير علم
وَاشْتَدَّ هَذَا على الْملك فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى أَتَاهُم الْخَبَر بِفَتْحِهَا على الْمُسلمين فأنساهم شدَّة هَذَا الوهن رخاء ذَلِك الْخَبَر لعلو منزلَة الرها عِنْد النَّصْرَانِيَّة
قَالَ وَحكى لي أَيْضا غير وَاحِد مِمَّن أَثِق إِلَيْهِم أَن رجلا من الصَّالِحين قَالَ رايت الشَّهِيد بعد قَتله فِي الْمَنَام فِي أحسن حَال فَقلت لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لي قلت بِمَاذَا قَالَ بِفَتْح الرها
قلت وهنأه القيسراني عِنْد فتح الرها بقصيدة أَولهَا
(هُوَ السَّيْف لَا يُغْنِيك إِلَّا جلاده ... وَهل طوق الْأَمْلَاك إِلَّا نجاده)
(وَعَن ثغر هَذَا النَّصْر فلتأخذ الظبى ... سناها وَإِن فَاتَ الْعُيُون اتقاده)
(سمت قبَّة الْإِسْلَام فخرا بِطُولِهِ ... وَلم يَك يسمو الدّين لَوْلَا عماده)
(وَذَادَ قسيم الدولة ابْن قسيمها ... عَن الله مَا لَا يُسْتَطَاع ذياده)
(لِيهن بنى الْإِيمَان أَمن ترفعت ... رواسيه عزا وَاطْمَأَنَّ مهاده)
(وَفتح حَدِيث فِي السماع حَدِيثه ... شهىٌّ إِلَى يَوْم الْمعَاد مُعادُه)
(أراح قلوباً طرن من وُكُناتها ... عَلَيْهَا فَوَافى كل صدر فُؤَاده)
(لقد كَانَ فِي فتح الرُّهاء دلَالَة ... على غير مَا عِنْد العلوج اعْتِقَاده)(1/141)
(يرجون مِيلَاد ابْن مَرْيَم نصْرَة ... وَلم يغن عِنْد الْقَوْم عَنْهُم ولاده)
(مَدِينَة إفْك مُنْذُ خمسين حجَّة ... يفل حَدِيد الْهِنْد عَنْهَا حداده)
(تفوت مدى الْأَبْصَار حَتَّى لَو أَنَّهَا ... ترقت إِلَيْهِ خَان طرفا سوَاده)
(وجامحة عز الْمُلُوك قيادُها ... إِلَى أَن ثناها من يعز قياده)
(فأوسعها حر القراع مؤيد ... بَصِير بتمرين الألد لداده)
(كَأَن سنا لمع الأسنة حوله ... شرار وَلَكِن فِي يَدَيْهِ زناده)
(فأضرمها نارين حَربًا وخدعة ... فَمَا رَاع إِلَّا سورها وانهداده)
(فصدت صدود الْبكر عِنْد افتضاضها ... وهيهات كَانَ السَّيْف حتما سفاده)
(فيا ظفراً عَم الْبِلَاد صلاحُه ... بِمن كَانَ قد عَم الْبِلَاد فَسَاده)
(فَلَا مُطلق إِلَّا وَشد وثَاقه ... وَلَا موثق إِلَّا وَحل صفاده)
(وَلَا مِنْبَر إِلَّا ترنح عوده ... وَلَا مصحف إِلَّا أنار مداده)
(فَإِن يثكل الإبرنز فِيهَا حَيَاته ... وَإِلَّا فَقل للنجم كَيفَ سهاده)
(وباتت سَرَايَا القمص تقمص دونهَا ... كَمَا يتنزى عَن حريق جراده)
(إِلَى أَيْن يَا أسرى الضَّلَالَة بعْدهَا ... لقد ذل غاويكم وَعز رشاده)
(رويدكم لَا مَانع من مظفر ... يعاند أَسبَاب الْقَضَاء عناده)
(مُصيبُ سِهَام الرَّأْي لَو أَن عزمه ... رمى سد ذِي القرنين أصمي سداده)
(وَقل لملوك الْكفْر تُسِلمُ بعْدهَا ... ممالكها إِن الْبِلَاد بِلَاده)
(كَذَا عَن طَرِيق الصُّبْح أيتها الدُّجى ... فيا طالما غال الظلام امتداده)(1/142)
(وَمن كَانَ أَمْلَاك السَّموات جنده ... فأية أَرض لم تَرضهَا جياده)
(وَللَّه عزم مَاء سيحان ورده ... وروضه قسطنطينة مستراده)
وَله من قصيدة هَنأ بهَا القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري أَولهَا
هِيَ جنَّة المأوى فَهَل من خَاطب
يَقُول فِيهَا
(إِن الصفائح يَوْم صافحت الرها ... عطفت عَلَيْهَا كل أشوس ناكب)
(فتح الفُتوح مبشراً بِتَمَامِهِ ... كالفجر فِي صدر النَّهَار الآيب)
(لله أَيَّة وقفةٍ بدرّيةِ ... نصرت صحابتها بأيمن صَاحب)
(ظفر كَمَال الدّين كنت لقاحه ... كم ناهض بِالْحَرْبِ غير محَارب)
(وأمدكم جَيش الملائك نصْرَة ... بكتائب محفوفة بكتائب)
(جَنبُوا الدبور وقدتم ريح الصِّبَا ... جندُ النُّبُوَّة هَل لَهَا من غَالب)(1/143)
(أَتَرَى الرها الورهاء يَوْم تمنعت ... ظنت وجوب السُّور سُورَة لاعب)
(لَا أَيْن يَا أسرى المهالك بعْدهَا ... ضَاقَ الفضاء على نجاة الهارب)
(شدا إِلَى أَرض الفرنجة بعْدهَا ... إِن الدُّرُوب على الطَّرِيق اللاحب)
(أفغركم والثار رهن دمائكم ... مَا كَانَ من إطراق لحظ الطَّالِب)
(وَإِذا رَأَيْت اللَّيْث يجمع نَفسه ... دون الفريسة فَهُوَ عين الواثب)
وَقَالَ ابْن مُنِير
(صِفَات مجدك لفظ جلّ مَعْنَاهُ ... فَلَا اسْتردَّ الَّذِي أعطاكهُ الله)
(يَا صَارِمًا بِيَمِين الله قائمه ... وَفِي أعالي أعادي الله حداه)
(أصْبَحْتَ دْون مُلُوك الأَرْض مُنْفَردا ... بِلَا شَبيه إِذْ الْأَمْلَاك أشباه)
(فدَاك من حاولت مسعاك همته ... جهلا وَقصر عَن مسعاك مسعاه)
(قل للأعادي أَلا موتوا بِهِ كمدا ... فَللَّه خيبكم وَالله أعطَاهُ)
(ملك تنام عَن الْفَحْشَاء همته ... تقى وتسهر للمعروف عَيناهُ)
(مَا زَالَ يسمك وَالْأَيَّام تخدمه ... فِيمَا ابتلاه وتدني مَا توخاه)
(حَتَّى تعالت عَن الشعري مشاعره ... قدرا وجاوزت الجوزاء نعلاه)
(وَقد روى النَّاس أَخْبَار الْكِرَام مضوا ... وَأَيْنَ مِمَّا رَوَوْهُ مَا رَأينَا)
(أَيْن الخلائف عَن فتح أتيح لَهُ ... مظلل أفق الدُّنْيَا جناحاه)(1/144)
(على المنابر من انبائه أرج ... مقطوبة بفتيق الْمسك رياه)
(فتح أعَاد على الْإِسْلَام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه)
(يهدى بمعتصم بِاللَّه فتكته ... حَدِيثهَا نسخ الْمَاضِي وأنساه)
(إِن الرها غير عمورية وَكَذَا ... من رامها لَيْسَ مغزاه كمغزاه)
(أُخْت الْكَوَاكِب عزا مَا بغى أحدٌ ... من الْمُلُوك لَهَا وقما فواتاه)
(حَتَّى دلفت لَهَا بالعزم يشحذه ... رأى يبيت فويق النَّجْم مسراه)
(مشمرا وَبَنُو الْإِسْلَام فِي شُغُل ... عَن بَدْء غرس لَهُم أثمار عقباه)
(يَا مُحيي الْعدْل إِذْ قَامَت نوادبه ... وعامر الْجُود لما مح مَعْنَاهُ)
(يَا نعْمَة الله يستصفى الْمَزِيد بهَا ... للشاكرين ويستقني صفاياه)
(أبقاك للدّين وَالدُّنْيَا تحوطهما ... من لم يتوجك هَذَا التَّاج إِلَّا هُوَ)
وَلابْن مُنِير أَيْضا من قصيدة تقدم بَعْضهَا وَهِي
(أيا ملكا ألْقى على الشّرك كلكلا ... أَنَاخَ على أَمَاتَهُ كلكل الثكل)
(جمعت إِلَى فتح الرها سد بَابه ... بجمعك بَين النهب والأسر وَالْقَتْل)
(هُوَ الْفَتْح أنسى كل فتح حَدِيثه ... وتوج مسطور الرِّوَايَة وَالنَّقْل)(1/145)
(فضضت بِهِ نقش الْخَوَاتِم بعده ... جزيت جَزَاء الصدْق عَن خَاتم الرّسْل)
(تجردت لِلْإِسْلَامِ دون ملوكه ... تبتك أَسبَاب المذلة والخذل)
(أَخُو الْحَرْب غذته القراع مفطًّما ... يشوب بإقدام الْفَتى حنكة الكهل)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(بعماد الدّين أضحت عُرْوَة الدّين ... معصوبا بهَا الْفَتْح الْمُبين)
(واستزادت بقسيم الدولة الْقسم ... من إدْحاض كيدْ المارقين)
(ملك أسْهَر عينا لم يزل ... همها تشريد هم الرّاقدين)
(لَا خَلتْ من كَحَل النَّصْر فقد ... فقأت غيظا عُيُون الحاسدين)
(كلُّ يَوْم مر من أَيَّامه ... فَهُوَ عيدٌ عَائِد للْمُسلمين)
(لَو جرى الْإِنْصَاف فِي أَوْصَافه ... كَانَ أولاها أَمِير الْمُؤمنِينَ)
(مَا روى الرّاوُون بل مَا سطّروا ... مثل مَا خطت لَهُ أَيدي السنين)
(إِذْ أَنَاخَ الشّرك فِي أكنافه ... بمئي ألفٍ تَلَاهَا بمئين)
(وقْعَة طاحت بكلب الرّوم من ... قِطْعَة التِّين إِلَى قطع الوتين)
(إِن حمت مصر فقد قَامَ لَهَا ... وَاضح الْبُرْهَان أَن الصّين صين)
(والرها لَو لم تكن إِلَّا الرها ... لكفت حسما لشك الممترين)
(درج الدَّهْر عَلَيْهَا معصرا ... لم تدنس بمرام اللامسين)(1/146)
(هم قسطنطين أَن بفرعها ... وَمضى لم يحو مِنْهَا قسط طين)
(وَلكم من ملك حاولها ... فتحلى الْحِين وسما فِي الجبين)
(هِيَ أختُ النّجم إِلَّا أَنَّهَا ... مِنْهُ كالنجم لرَأى المُبْصرين)
(مُنِيَتْ مِنْهُ بليثٍ قَائِد ... بعران الذل أساد العرين)
(زارها يزأر فِي أَسد وغى ... تبدل الْأسد من الزأر الأنين)
(صولجوا الْبيض بِضَرْب نثر الْهَام ... فِي ساحاتها نثر الكرين)
(يَا لَهَا هِمّةُ ثغرِ أضحكت ... من بنى القلف ثغور الشامتين)
(برنست رَأس برنس ذلة ... بَعْدَمَا جاست حوايا جوسلين)
(وسروج مذ وعت أسراجه ... فرقت جِمَاعهَا عَنْهَا عضين)
(تِلْكَ أقفال رَمَاهَا الله من ... عزمه الْمَاضِي بِخَير الفاتحين)
(شام مِنْهُ الشَّام برقاً ودْقُه ... مُؤمن الْخَوْف مخيف الْآمنينَ)
(كم كنيس كنست آرامها ... مِنْهُ بعد الرّوح فِي ظلّ السفين)(1/147)
(دنت الْآجَال من آجالها ... فأحلّتها القطا بعدَ القطين)
(ومنار يجتلى صلبانه ... بَين بيض تتبارى فى البرين)
(قرعته الْبيض حَتَّى بدلت ... قرعَة الناقوس تثويب الأذين)
(بالقسيميّات مقسوما لَهَا الدَّهْر ... فِي علك لجين أَو لجين)
(سل بهَا حران كم حرى سقت ... بردا يَوْم ردَّتْ من ماردين)
(سمطت أمس سُمَيْسَاط بهَا ... نظم جَيش مبهج للناظرين)
(وَغدا يلقِي على الْقُدس لَهَا ... كلكل يدرسها درس الدرين)
(همة تمسي وتضحي عَزمَة ... لَيْسَ حصن إِن نحته بحصين)
(قل لقوم غرهم إمهاله ... ستذوقون شذاه بعد حِين)
(إِنَّه الْمَوْت الَّذِي يدْرك من ... فر مِنْهُ فشجا للغافلين)
(وَهُوَ يُحيى مُمْسكى عروته ... إِنَّهَا حَبل لمن تَابَ متين)
(من يطع ينج وَمن يعْص يكن ... من غَدَاة عِبْرَة للآخرين)
(بك يَا شمس الْمَعَالِي ردَّتْ الرّوح ... فِي المَيْتَيْن من دنيا وَدين)
(أقسم الْجد بِأَن تبقى لكَي ... تملك الأَرْض يَمِينا لَا يَمِين)(1/148)
(وَتفِيض الْعدْل فِي أقطارها ... منسيا مؤلم عسف الجائرين)
(لَا تزل دَارك كَيفَ انْتَقَلت ... كعبة محفوفة بالطائفين)
(كل يَوْم يتحلى جيدها ... من نظيم الْمَدْح بالدر الثمين)
(كلما أخْلص فِيهَا دَعْوَة ... لَك قَالَت ألْسُنُ الْخلق أَمِين)
فصل
لما فرغ الشَّهِيد من أَخذ الرها وَإِصْلَاح حَالهَا والاستيلاء على مَا وَرَاءَهَا من الْبِلَاد والولايات سَار إِلَى قلعة البيرة وَهِي حصن حُصَيْن مطل على الْفُرَات وَهُوَ لجوسلين أَيْضا فحصره وضايقه فَأَتَاهُ الْخَبَر بقتل نَائِبه بالموصل والبلاد الشرقية نصير الدّين جقر بن يَعْقُوب فَرَحل عَنْهَا خوفًا من أَن يحدث بعده فِي الْبِلَاد فتق يحْتَاج إِلَى الْمسير إِلَيْهَا
فَلَمَّا رَحل عَنْهَا سير إِلَيْهَا حسام الدّين تمرتاش بن إيلغازي صَاحب ماردين عسكراً فسلمها الفرنج إِلَيْهِم خوفًا من الشَّهِيد أَن يعود إِلَيْهِم فيأخذها
وَكَانَ قتل النصير فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَببه أَن الْملك ألب أرسلان الْمَعْرُوف بالخفاجي ولد السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد كَانَ عِنْد الشَّهِيد وَهُوَ أتابكه ومربيه وَكَانَ هُوَ يظْهر للخلفاء وللسلطان مَسْعُود وَأَصْحَاب الْأَطْرَاف أَن الْبِلَاد الَّتِي بِيَدِهِ للْملك ألب أرسلان وَأَنه نَائِبه فِيهَا وَكَانَ إِذا أرسل رَسُولا أَو أجَاب عَن رِسَالَة فَإِنَّمَا يَقُول قَالَ الْملك كَذَا وَكَذَا(1/149)
وَكَانَ ينْتَظر وَفَاة السُّلْطَان مَسْعُود ليجمع العساكر باسمه وَيخرج الْأَمْوَال وَيطْلب السلطنة فعاجلته الْمنية قبل ذَلِك
وَكَانَ هَذَا الْملك بالموصل هَذِه السّنة وَبهَا نصير الدّين وَهُوَ ينزل إِلَيْهِ كل يَوْم يَخْدمه وَيقف عِنْده سَاعَة ثمَّ يعود فَحسن المفسدون للْملك قَتله وَقَالُوا لَهُ إِنَّك إِن قتلته ملكت الْموصل وَغَيرهَا ويعجز أتابك أَن يُقيم بَين يَديك وَلَا يجْتَمع مَعَه فارسان عَلَيْك فَوَقع هَذَا فِي نَفسه وظنه صَحِيحا فَلَمَّا دخل نصير الدّين إِلَيْهِ على عَادَته وثب عَلَيْهِ جمَاعَة فِي خدمَة الْملك فَقَتَلُوهُ وألقوا رَأسه إِلَى أَصْحَابه ظنا مِنْهُم أَن أَصْحَابه إِذا رَأَوْا رَأسه تفَرقُوا وَيملك الْملك الْبِلَاد
وَكَانَ الْأَمر بِخِلَاف مَا ظنُّوا فَإِن أَصْحَابه وَأَصْحَاب أتابك الَّذين مَعَه لما رَأَوْا رَأسه قَاتلُوا من بِالدَّار مَعَ الْملك وَاجْتمعَ مَعَهم الْخلق الْكثير وَكَانَت دولة الشَّهِيد مَمْلُوءَة بِالرِّجَالِ الأجلاد ذوى الرَّأْي والتجربة فَلم يتَغَيَّر عَلَيْهِ بِهَذَا الفتق شَيْء
وَكَانَ فِي جملَة من حضر القَاضِي تَاج الدّين يحيى بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري أَخُو كَمَال الدّين فَدخل إِلَى السُّلْطَان وخدعه حَتَّى أصعده إِلَى القلعة وَهُوَ يحسن لَهُ الصعُود إِلَيْهَا وَحِينَئِذٍ يسْتَقرّ لَهُ ملك الْبَلَد فَلَمَّا صعد القلعة سجنوه بهَا وَقتل الغلمان الَّذين قتلوا النصير وَأَرْسلُوا إِلَى أتابك يعرفونه الْحَال فسكن جأشه وَاطْمَأَنَّ قلبه وَأرْسل زين الدّين على بن بكتكين واليا على قلعة الْموصل وَكَانَ كثير الثِّقَة بِهِ والاعتماد عَلَيْهِ فسلك بِالنَّاسِ غير الطَّرِيق الَّتِي سلكها النصير وَسَهل الْأَمر فاطمأن النَّاس وأمنوا وازدادت الْبِلَاد مَعَه عمَارَة
وَلما رأى الشَّهِيد(1/150)
صَلَاح أَمر الْموصل سَار إِلَى حلب فَجهز مِنْهَا جَيْشًا إِلَى قلعة شيزر وَبَينهَا وَبَين حماة نَحْو أَرْبَعَة فراسخ فحصرها
قلت كَذَا وَقع فِي كتاب ابْن الْأَثِير وَقد وهم فِي قَوْله ألب أرسلان الْمَعْرُوف بالخفاجي فالخفاجي غير ألب أرسلان على مَا ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب السلجوقية = فَإِنَّهُ قَالَ كَانَ مَعَ زنكي ملكان من أَوْلَاد السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه أَحدهمَا يُسمى ألب أرسلان وَهُوَ فِي معقل من معاقل سنجار وَالْآخر يُسمى فرخشاه وَيعرف بالخفاجي الْملك وَهُوَ بالموصل وَكَانَ هَذَا الْملك مُسلما إِلَى الْأَمِير دبيس بن صَدَقَة فانتزعه مِنْهُ زنكي فِي حَرْب جرت فَكَانَت زَوْجَة زنكي خاتون السكمانية تربيه حَتَّى بلغ وَكَانَ النصير يقبض عنانه ويبسط فِيهِ لِسَانه وَيَقُول إِن عقل وَإِلَّا عقلته وَإِن نقل طبعه وَإِلَّا نقلته
فدبر فِي قَتله مَعَ اصحابه فقطعوه فِي دهليز دَاره لما دخل للسلام على الْملك
ثمَّ أصعد القَاضِي تَاج الدّين الْملك إِلَى القلعة فَلم ير لَهُ اثر والتقط مماليكه
ثمَّ عطف زنكي على الْملك الآخر ألب أرسلان فاستخرجه من معقله وعني بتفاصيل أمره وجمله وَضرب لَهُ نوبتية ونوبا ورتب لَهُ فِي حالتي ركُوبه وجلوسه رتبا وأغري بتولي إكرامه وتوخيه وغرضه خَفَاء مَا جرى من هَلَاك أَخِيه
ثمَّ ذكر قصَّة موت زنكي على قلعة جعبر كَمَا سَيَأْتِي
وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَخمْس مئة أرسل أتابك إِلَى زين الدّين عَليّ يَأْمُرهُ(1/151)
بإرسال عَسْكَر إِلَى حصن فنك يحصره فسير خلقا كثيرا من الفرسان والرجالة فأقاموا عَلَيْهِ يحصرونه إِلَى أَن أَتَاهُم الْخَبَر بقتل الشَّهِيد أتابك
وَهَذَا الْحصن هُوَ مجاور جَزِيرَة ابْن عمر وَهُوَ للأكراد البشنوية وَله مَعَهم مُدَّة طَوِيلَة يَقُولُونَ نَحْو ثَلَاث مئة سنة وَهُوَ من أمنع الْحُصُون مطل على دجلة وَله سرب إِلَى عين مَاء لَا يُمكن أَن يُحَال بَين أَهله وَبَينهَا
قلت وَفِي هَذِه السّنة أنْشد ابْن مُنِير بالرقة عماد الدّين زنكي يهنئه بالعافية من مرض عرض لَهُ فِي يَده وَرجله قصيدة أَولهَا
(يَا بدر لَا أفل وَلَا محاق ... وَلَا يرم مشرقك الْإِشْرَاق)
(بِالدّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِي تَشْكُو وَهل ... يَهْتَز فرع لم يقمه سَاق)
(لن تورق القضب وَيجْرِي مَاؤُهَا ... فِيهَا إِذا مَا التاثت الأعراق)
(إِن الرعايا مَا سلمت فِي حمى ... للخطب عَن طروقه إطراق)
(غرست بِالْعَدْلِ لَهُم خمائلا ... ترتع فِي حديقها الحداق)
(يَا هضبة الدّين الَّتِي عاذ بهَا ... فَعَاد لَا بَغت وَلَا إرهاق)
(لَو لم تحطه راحلا وقافلا ... أصبح لَا شام وَلَا عراق)
(عماد دين مذ أَقَامَ زيغه ... حَيّ وَمَات الشّرك والنفاق)
(يَا محيي الْعدْل الَّذِي فِي ظله ... تسربلت زينتها الْآفَاق)
(يفديك من لاَنَ مِهاد جنبه ... لما نبا بجنبك الإقلاق)
(من بِشَبَا سَيْفك أنبطْت لَهُ العذب ... وَمَاء عيشه زعاق)(1/152)
(تجرع السم وَلَو لم تحمه ... بحده لَعزّهُ الدرياق)
(مُلُوك أَطْرَاف حمى أطرافها ... عزمك هَذَا اللَّاحِق السّبّاق)
(لَو لم ترق مَاء كرى الْعين لما ... ساغت بأفواههم الأرْياق)
(شققت من دونهم موج الردى ... وشق أكبادهم الشقاق)
(أقسم لَو كلفتهم أَن يسمعوا ... حَدِيث أيامك مَا أطاقوا)
(لما اشتكيت دب فِي أهوائهم ... توجس للسمع واستراق)
(تطاولوا لَا عدمت آمالهم ... قصرا وَلَا جَانبهَا الإخفاق)
(توهموها غسقا ثمَّ انجلت ... والصفو من مشربهم غساق)
(لَئِن ألم ألم بقدم ... خد السها لنعلها طراق)
(أَو كَانَ مدَّ يَده إِلَى يَد ... تجْرِي بهَا ألاجال والأرزاق)
(فالنصل يعلى صدأ وَتَحْته ... حد حسام وسنا رقراق)
(رمى الصَّليبَ بصليب الرَّأي عَن ... زوراءَ أوفى نَزعهَا الإغراق)
(ونوم من خلف الخليج سهر ... والعيش فِي فرنجة سِيَاق)
(مَاتُوا فَلَا همسٌ وَلَا إِشَارَة ... خوف هموس زأره إزهاق)
(لَا سلبت مِنْك اللَّيَالِي مَا كست ... وَلَا عرا جدتك الإخلاق)(1/153)
فصل فِي وَفَاة زنكي رَحمَه الله
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت قلعة جعبر قد سلمهَا السُّلْطَان ملكشاه إِلَى الْأَمِير سَالم بن مَالك الْعقيلِيّ لما ملك قسيم الدولة مَدِينَة حلب فَلم تزل بِيَدِهِ وَيَد أَوْلَاده إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين
فَسَار الشَّهِيد إِلَيْهَا فحصرها وَكَانَ الْبَاعِث لَهُ على حصرها وَحصر فنك أَلا يبْقى فِي وسط بِلَاده مَا هُوَ لغيره وَإِن قل للحزم الَّذِي كَانَ عِنْده وَالِاحْتِيَاط وَأقَام عَلَيْهِ يحصره بِنَفسِهِ إِلَى أَن مضى من شهر ربيع خمس لَيَال
فَبينا هُوَ نَائِم دخل عَلَيْهِ نفر من مماليكه فَقَتَلُوهُ غيلَة وَلم يجهزوا عَلَيْهِ وهربوا من ليلتهم إِلَى القلعة وَلم يشْعر أَصْحَابه بقتْله
فَلَمَّا صعد أُولَئِكَ النَّفر إِلَى القلعة صَاح من بهَا إِلَى الْعَسْكَر يعلمهُمْ بقتْله فبادر أَصْحَابه إِلَيْهِ فأدركه أوائلهم وَبِه رَمق
ثمَّ ختم الله بِالشَّهَادَةِ أَعماله
(لَاقَى الْحمام وَلم أكن مُسْتَيْقنًا ... أَن الْحمام سيبتلى بحمام)
فأضحى وَقد خانه الأمل وأدركه الْأَجَل وتخلى عَنهُ العبيد والخول فَأَي نجم لِلْإِسْلَامِ أفل وَأي نَاصِر للْإيمَان رَحل وَأي بَحر ندى نضب وَأي بدر مَكَارِم غرب وَأي أَسد افترس وَلم ينجه قلَّة حصن وَلَا صهوة فرس
فكم أجهد نَفسه لتمهيد الْملك وسياسته وَكم أدبها فِي حفظه وحراسته فَأَتَاهُ مبيد الْأُمَم ومفنيها فِي الْحَدث والقدم فأصاره بعد الْقَهْر لِلْخَلَائِقِ(1/154)
مقهورا وَبعد وثير الْمضَاجِع فِي التُّرَاب معفراً مقبوراً رهين جدث لَا يَنْفَعهُ إِلَّا مَا قدم قد طويت صحيفَة عمله فَهُوَ موثوق فِي صُورَة مستسلم
ثمَّ دفن بصفين عِنْد أَصْحَاب على أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ
قلت وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب السلجوقية = قَالَ قصد زنكي حِصَار قلعة جعبر فنازلها وَكَانَ إِذا نَام ينَام حوله عدَّة من خُدَّامه الصَّباح وَهُوَ يُحِبهُمْ ويحبوهم وَلكنه مَعَ الْوَفَاء مِنْهُم يجفوهم وهم أَبنَاء الفحول القروم من التّرْك والأرمن وَالروم
وَكَانَ من دأبه أَنه إِذا نقم على كَبِير أرداه وأقصاه واستبقى وَلَده عِنْده وخصاه
فَنَامَ لَيْلَة مَوته وَهُوَ سَكرَان فشرع الخُدام فِي اللّعب فزجرهم وزبرهم وتوعدهم فخافوا من سطوته
فَلَمَّا نَام رَكبه كَبِيرهمْ واسْمه يرنقش فذبحه وَخرج وَمَعَهُ خَاتمه فَركب فرس النّوبَة مُوِهماً أَنه يمْضِي فِي مُهِمّ وَهُوَ لَا يرتاب بِهِ لِأَنَّهُ خَاص زنكي
فَأتي الْخَادِم أهل القلعة فَأخْبرهُم وَذكر الحَدِيث
قلت ثمَّ نقل إِلَى الرّقة فَدفن بهَا وقبره الْآن فِيهَا
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ حسن الصُّورَة اسمر مليح الْعَينَيْنِ قد وخطه الشيب طَويلا وَلَيْسَ بالطويل الْبَائِن وَخلف من الْأَوْلَاد سيف الدّين غازيا وَهُوَ الَّذِي ولى بعده وَنور الدّين مَحْمُودًا الْملك الْعَادِل وقطب الدّين مودودا وَهُوَ أَبُو الْمُلُوك بالموصل ونصرة الدّين أَمِير أميران وبنتا فانقرض عقب سيف الدّين من الذُّكُور وَالْإِنَاث وَنور الدّين من الذُّكُور وَلم يبْق الْملك إِلَّا فِي عقب قطب الدّين
وَلَقَد أَنْجَب رَحمَه الله فَإِن أَوْلَاده الْمُلُوك لم يكن مثلهم(1/155)
قلت وَمن عَجِيب مَا حكى أَنه لما اشْتَدَّ حِصَار قلعة جعبر جَاءَ فِي اللَّيْل ابْن حسان المنبجي ووقف تَحت القلعة ونادى صَاحبهَا فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ هَذَا الْمولى أتابك صَاحب الْبِلَاد وَقد نزل عَلَيْك بعساكر الدُّنْيَا وَأَنت بِلَا وزر وَلَا معِين وَأَنا أرى أَن أَدخل فِي قضيتك وآخذ لَك من الْمولى أتابك مَكَانا عوض هَذَا الْمَكَان وَإِن لم تفعل فَأَي شَيْء تنْتَظر فَقَالَ لَهُ صَاحب القلعة أنْتَظر الَّذِي انْتظر أَبوك
وَكَانَ بلك بن بَهرام صَاحب حلب قد نزل على أَبِيه حسان وحاصره فِي منبج أَشد حِصَار وَنصب عَلَيْهِ عدَّة مجانيق وَقَالَ يَوْمًا لحسان وَقد أحرقه بحجارة المنجنيق أَي شَيْء تنْتَظر مَا تسلم الْحصن فَقَالَ لَهُ حسان أنْتَظر سَهْما من سِهَام الله
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بَينا بلك يرتب المنجنيق إِذْ أَصَابَهُ سهم غرب وَقع فِي لبته فَخر مَيتا وَلم يكن من جسده شَيْء ظَاهر إِلَّا ذَلِك الْمَكَان لِأَنَّهُ كَانَ قد لبس الدرْع وَلم يزرها على صَدره
فَلَمَّا سمع ابْن حسان ذَلِك من مقَالَة صَاحب قلعة جعبر رَجَعَ عَنهُ
وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة قتل أتابك فَكَانَ هَذَا من الاتفاقات العجيبة والعبر الغريبة
ذكر ذَلِك يحيى بن أَبى طي فِي = كتاب السِّيرَة الصلاحية =(1/156)
فصل فِي ذكر بعض سيرة الشَّهِيد أتابك زنكي
وَكَانَت من أحسن سير الْمُلُوك وأكثرها حزما وضبطا للأمور وَكَانَت رَعيته فِي أَمن شَامِل يعجز القوى عَن التَّعَدِّي على الضَّعِيف
قَالَ أبن الْأَثِير حَدثنِي وَالِدي قَالَ قدم الشَّهِيد أتابك زنكي إِلَيْنَا بِجَزِيرَة ابْن عمر فِي بعض السنين وَكَانَ زمن الشتَاء فَنزل بالقلعة وَنزل الْعَسْكَر فِي الْخيام
وَكَانَ فِي جملَة أمرائه الْأَمِير عز الدّين أَبُو بكر الدبيسي وَهُوَ من أكَابِر أمرائه وَمن ذَوي الرَّأْي عِنْده فَدخل الدبيسي الْبَلَد وَنزل بدار إِنْسَان يَهُودِيّ وَأخرجه مِنْهَا فاستغاث الْيَهُودِيّ إِلَى الشَّهِيد وَهُوَ رَاكب فَسَأَلَ عَن حَاله فَأخْبر بِهِ وَكَانَ الشَّهِيد وَاقِفًا والدبيسي إِلَى جَانِبه لَيْسَ فَوْقه أحد فَلَمَّا سمع أتابك الْخَبَر نظر إِلَى الدبيسي نظر مغضب وَلم يكلمهُ كلمة وَاحِدَة فَتَأَخر الْقَهْقَرَى وَدخل الْبَلَد فَأخْرج خيامه وَأمر بنصبها وَلم تكن الأَرْض تحْتَمل وضع الْخيام عَلَيْهَا لِكَثْرَة الوحل والطين
قَالَ فَلَقَد رَأَيْت الفراشين وَهُوَ ينقلون الطين لينصبوا خيمته فَلَمَّا رَأَوْا كثرته جعلُوا على الأَرْض تبنا ليقيموها ونصبوا الْخيام وَخرج إِلَيْهَا من سَاعَته
قَالَ وَكَانَ ينْهَى أَصْحَابه عَن اقتناء الْأَمْلَاك وَيَقُول مهما كَانَت الْبِلَاد لنا فَأَي حَاجَة لكم إِلَى الْأَمْلَاك فَإِن الاقطاعات تغني عَنْهَا وَإِن خرجت الْبِلَاد عَن أَيْدِينَا فَإِن الْأَمْلَاك تذْهب مَعهَا وَمَتى صَارَت الْأَمْلَاك لأَصْحَاب السُّلْطَان ظلمُوا الرّعية وتعدوا عَلَيْهِم وغصبوهم أملاكهم
ثمَّ ذكر مَا تجدّد فِي أَيَّامه من عمَارَة الْبِلَاد لَا سِيمَا بالموصل وَذَلِكَ(1/157)
لحسن سيرته فَكَانَ يَقْصِدهُ النَّاس ويتخذون بِلَاده دَار إِقَامَة
وَهُوَ الَّذِي أَمر بِبِنَاء دور المملكة بالموصل وَلم يكن بهَا للسُّلْطَان غير الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار الْملك مُقَابل الميدان
ثمَّ رفع سورها وعمق خندقها
وَهُوَ الَّذِي فتح الْبَاب الْعِمَادِيّ وَإِلَيْهِ ينْسب
قَالَ وَكَانَت الْموصل اقل بِلَاد الله فَاكِهَة وَكَانَ الَّذِي يَبِيع الْفَوَاكِه يكون عِنْده مقراض يقص بِهِ الْعِنَب لقلته إِذا أَرَادَ أَن يزنه فَلَمَّا عمرت الْبِلَاد عملت الْبَسَاتِين بِظَاهِر الْموصل وَفِي ولايتها
قَالَ وَمن حسن آرائه أَنه كَانَ شَدِيد الْعِنَايَة بأخبار الْأَطْرَاف وَمَا يجرى لأصحابها حَتَّى فِي خلواتهم وَلَا سِيمَا دركاه السُّلْطَان وَكَانَ يغرم على ذَلِك المَال الجزيل فَكَانَ يطالع وَيكْتب إِلَيْهِ بِكُل مَا يَفْعَله السُّلْطَان فِي ليله ونهاره من حَرْب وَسلم وهزل وجد وَغير ذَلِك فَكَانَ يصل إِلَيْهِ كل يَوْم من عيونه عدَّة قَاصِدين
وَكَانَ مَعَ اشْتِغَاله بالأمور الْكِبَار من أُمُور الدولة لَا يهمل الِاطِّلَاع على الصَّغِير وَكَانَ يَقُول إِذا لم يعرف الصَّغِير ليمنع صَار كَبِيرا
وَكَانَ لَا يُمكن رَسُول ملك يعبر فِي بِلَاده بِغَيْر أمره وَإِذا استأذنه رَسُول فِي العبور فِي بِلَاده أذن لَهُ وَأرْسل إِلَيْهِ من يسيره وَلَا يتْركهُ يجْتَمع بِأحد من الرّعية وَلَا غَيرهم فَكَانَ الرَّسُول يدْخل بِلَاده وَيخرج مِنْهَا وَلَا يعلم من أحوالها شَيْئا الْبَتَّةَ(1/158)
وَكَانَ يتعهد أَصْحَابه ويمتحنهم سلم يَوْمًا خشكنانكة إِلَى طشت دَار لَهُ وَقَالَ احفظ هَذِه فبقى نَحْو سنة لَا تُفَارِقهُ الخشكنانكة خوفًا أَن يطْلبهَا مِنْهُ
فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ لَهُ أَيْن الخشكنانكة فأخرجها من منديل وقدمها بَين يَدَيْهِ فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَقَالَ مثلك يَنْبَغِي أَن يكون مستحفظا لحصن
وَأمر لَهُ بدُزْدَاريةَّ قلعة كواشي فبقى فِيهَا إِلَى أَن قتل أتابك
وَكَانَ لَا يُمكن أحدا من خدمه من مُفَارقَة بِلَاده وَكَانَ يَقُول إِن الْبِلَاد كبستان عَلَيْهِ سياج فَمن هُوَ خَارج السياج يهاب الدُّخُول فَإِذا خرج مِنْهَا من يدل على عورتها ويطمع الْعَدو فِيهَا زَالَت الهيبة وتطرق الْخُصُوم إِلَيْهَا
قَالَ وَمن صائب رَأْيه وجيده أَن سير طَائِفَة من التركمان الإيوانية مَعَ الْأَمِير اليارق إِلَى الشَّام وأسكنهم بِولَايَة حلب وَأمرهمْ بجهاد الفرنج وملكهم كل مَا استنقذوه من الْبِلَاد الَّتِي للفرنج وَجعله ملكا لَهُم فَكَانُوا يغادون الفرنج بِالْقِتَالِ ويراوحونهم وَأخذُوا كثيرا من السوَاد وسدوا ذَلِك الثغر الْعَظِيم وَلم يزل جَمِيع مَا فتحوه فِي أَيْديهم إِلَى نَحْو سنة سِتّ مئة
قَالَ وَمن آرائه أَنه لما اجْتمع لَهُ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة أودع بَعْضهَا بالموصل وَبَعضهَا بسنجار وَبَعضهَا بحلب وَقَالَ إِن جرى على بعض(1/159)
هَذِه الْجِهَات خرق أَو حيل بيني وَبَينه استعنت على سد الْخرق بِالْمَالِ فِي غَيره
قَالَ وَأما شجاعته وإقدامه فإليه النِّهَايَة فيهمَا وَبِه كَانَ تضرب الْأَمْثَال وَيَكْفِي فِي معرفَة ذَلِك جملَة أَن ولَايَته أحدق بهَا الْأَعْدَاء والمنازعون من كل جَانب الْخَلِيفَة المسترشد وَالسُّلْطَان مَسْعُود وَأَصْحَاب أرمينية وأعمالها بَيت سكمان وركن الدولة دَاوُد صَاحب حصن كيفا وَابْن عَمه صَاحب ماردين ثمَّ الفرنج ثمَّ صَاحب دمشق
وَكَانَ ينتصف مِنْهُم ويغزو كلا مِنْهُم فِي عقر دَاره وَيفتح من بِلَادهمْ مَا عدا السُّلْطَان مَسْعُود فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُبَاشر قَصده بل كَانَ يحمل أَصْحَاب الْأَطْرَاف على الْخُرُوج عَلَيْهِ فَإِذا فعلوا عَاد السُّلْطَان مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَطلب مِنْهُ أَن يجمعهُمْ على طَاعَته فَيصير كالحاكم على الْجَمِيع وكل يداريه ويخضع لَهُ وَيطْلب مِنْهُ مَا تَسْتَقِر الْقَوَاعِد على يَده
قَالَ وَأَنا غيرته فَكَانَت شَدِيدَة وَلَا سِيمَا على نسَاء الأجناد فَإِن التَّعَرُّض إلَيْهِنَّ كَانَ من الذُّنُوب الَّتِي لَا يغفرها وَكَانَ يَقُول إِن جندي لَا يُفَارِقُونِي فِي أسفاري وقلما يُقِيمُونَ عِنْد أَهْليهمْ فَإِن نَحن لم نمْنَع من التَّعَرُّض إِلَى حرمهم هلكن وفسدن
قلت وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أَبى سعيد الْخُدْرِيّ وَذكر حَدِيث رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماعزا قَالَ ثمَّ قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبًا قَالَ(1/160)
(أَو كُلَّماَ انطلقنا غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيالنا لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التيس عَليّ أَن لَا أُوتى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِك إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ قد أَقَامَ بقلعة الجزيرة دزدارا اسْمه نور الدّين حسن البربطي وَكَانَ من خواصه وَأقرب النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ غير مرضى السِّيرَة فَبَلغهُ عَنهُ أَنه يتَعَرَّض للحرم فَأمر حَاجِبه صَلَاح الدّين الياغبساني أَن يسير مجدا وَيدخل الجزيرة فَإِذا دَخلهَا أَخذ البربطي وَقطع ذكره وَقلع عَيْنَيْهِ عُقُوبَة لنظره بهما إِلَى الْحرم ثمَّ يصلبه
فَسَار الصّلاح مجدا فَلم يشْعر البربطي إِلَّا وَقد وصل إِلَى الْبَلَد فَخرج إِلَى لِقَائِه فَأكْرمه الصّلاح وَدخل مَعَه الْبَلَد وَقَالَ لَهُ الْمولى أتابك يسلم عَلَيْك وَيُرِيد أَن يعلي قدرك وَيرْفَع منزلتك وَيسلم إِلَيْك قلعة حلب ويوليك جَمِيع الْبِلَاد الْبِلَاد الشامية لتَكون هُنَاكَ مثل نصير الدّين فتجهز وتحدر مَالك فِي المَاء إِلَى الْموصل وتسير إِلَى خدمته
ففرح ذَلِك الْمِسْكِين فَلم يتْرك لَهُ قَلِيلا وَلَا كثيرا إِلَّا نَقله إِلَى السفن ليحدرها إِلَى الْموصل فِي دجلة
فحين فرغ من جَمِيع ذَلِك أَخذه الصّلاح وأمضى فِيهِ مَا أَمر بِهِ وَأخذ جَمِيع مَاله
فَلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شَيْء من أَفعاله
قَالَ وَأما صدقاته فقد كَانَ يتَصَدَّق كل جُمُعَة بمئة دِينَار أَمِيري ظَاهرا وَيتَصَدَّق فِيمَا عداهُ من الْأَيَّام سرا مَعَ من يَثِق بِهِ
وَركب يَوْمًا فَعَثَرَتْ بِهِ دَابَّته فكاد يسْقط عَنْهَا فاستدعى أَمِيرا كَانَ مَعَه فَقَالَ لَهُ كلَاما لم يفهمهُ وَلم(1/161)
يتجاسر على أَن يَسْتَفْهِمهُ مِنْهُ فَعَاد عَنهُ إِلَى بَيته وودع أَهله عَازِمًا على الْهَرَب فَقَالَت لَهُ زَوجته مَا ذَنْبك وَمَا حملك على هَذَا الْهَرَب فَذكر لَهَا الْحَال فَقَالَت لَهُ إِن نصير الدّين لَهُ بك عناية فاذكر لَهُ قصتك وَافْعل مَا يَأْمُرك بِهِ
فَقَالَ أَخَاف أَن يَمْنعنِي من الْهَرَب فَأهْلك
فَلم تزل زَوجته تراجعه وتقوي عزمه فَعرف النصير حَاله فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ لَهُ خُذ هَذِه الصرة الدَّنَانِير واحملها إِلَيْهِ فَهِيَ الَّتِي أَرَادَ
فَقَالَ الله الله فِي دمي وَنَفْسِي
فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك فَإِنَّهُ مَا أَرَادَ غير هَذِه الصرة
فحملها إِلَيْهِ فحين رَآهُ قَالَ أَمَعَك شَيْء قَالَ نعم
فَأمره أَن يتَصَدَّق بِهِ
فَلَمَّا فرغ من الصَّدَقَة قصد النصير وشكره وَقَالَ من أَيْن علمت أَنه أَرَادَ الصرة فَقَالَ لَهُ إِنَّه يتَصَدَّق هَذَا الْيَوْم بِمثل هَذَا الْقدر وَيُرْسل إِلَيّ يَأْخُذهُ من اللَّيْل وَفِي يَوْمنَا هَذَا لم يَأْخُذهُ ثمَّ بَلغنِي أَن دَابَّته عثرت بِهِ حَتَّى كَاد يسْقط على الأَرْض وأرسلك إِلَيّ فَعلمت أَنه ذكر الصَّدَقَة
قَالَ وَحكي لي من شدَّة هيبته مَا هُوَ أَشد من هَذَا
قَالَ وَالِدي خرج يَوْمًا الشَّهِيد من قلعة الجزيرة من بَاب السّر خلْوَة وملاح لَهُ نَائِم فأيقظه بعض الجاندارية وَقَالَ لَهُ اقعد فحين رأى الشَّهِيد سقط إِلَى الأَرْض فحركوه فوجدوه مَيتا
قَالَ وَكَانَ الشَّهِيد قَلِيل التلون والتنقل بطيء الْملَل والتغير شَدِيد الْعَزْم لم يتَغَيَّر على أحد من أَصْحَابه مُذْ مَلَكَ إِلَى أَن قتل إِلَّا بذنب(1/162)
يُوجب التَّغَيُّر والأمراء والمقدمون الَّذين كَانُوا مَعَه أَولا هم الَّذين بقوا أخيراً من سلم مِنْهُم من الْمَوْت فَلهَذَا كَانُوا ينصحونه ويبذلون نُفُوسهم لَهُ
وَكَانَ الْإِنْسَان إِذا قدم عسكره لم يكن غَرِيبا إِن كَانَ جنديا اشْتَمَل عَلَيْهِ الأجناد وأضافوه وَإِن كَانَ صَاحب ديوَان قصد أهل الدِّيوَان وَإِن كَانَ عَالما قصد الْقُضَاة بني الشهرزوري فُيحسنون إِلَيْهِ ويؤنسون غربته فَيَعُود كَأَنَّهُ آهل وَسبب ذَلِك جَمِيعه أَنه كَانَ يخْطب الرِّجَال ذَوي الهمم الْعلية والآراء الصائبة والأنفس الأبية ويوسع عَلَيْهِم فِي الأرزاق فيسهل عَلَيْهِم فعل الْجَمِيل واصطناع الْمَعْرُوف
قلت وَمَا أحسن مَا وَصفه بِهِ أَحْمد بن مُنِير من قَوْله فِي قصيدة
(فِي ذرا ملك هُوَ الدَّهْر ... عَطاء واستلابا)
(من لَهُ كف تبذ الْغَيْث ... سَحا وانسكابا)
(فاتح فِي كل وَجه ... أمه للنصر بَابا)
(ترجف الدُّنْيَا إِذا حرك ... للسير الركابا)
(وتخر المشمخرات ... اختلالا واضطرابا)
(وَترى الْأَعْدَاء من هيبته ... تأوي الشعابا)
(وَإِذا مَا لفحتهم ... ناره صَارُوا كبابا)
(يَا عماد الدّين لَا زلت ... على الدّين سحابا)
(جاعلا من دونه سَيْفك ... إِن ريع حِجَابا)(1/163)
(فالبس النعماء فِي الْأَمْن ... الَّذِي طبت وطابا)
(واصف عَيْشًا إِن أعداءك ... قد صَارُوا تُرَابا)
وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب استولى زنكي على الشَّام من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين إِلَى أَن قتل فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين
وَهُوَ الَّذِي فتح الرها عنْوَة واحتل بهَا من السَّعَادَة ذرْوَة فتسنى بِفَتْح الرها للْمُسلمين جوس بِلَاد جوسلين وَعَاد جَمِيعهَا إِلَى الْإِسْلَام فِي عهد ولد زنكي نور الدّين وَصَارَت عُقُود الفرنج من ذَلِك الْحِين تَنْفَسِخ وأمورها تنتسخ ومعاقلها تفرع وعقائلها تفترع
وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى التَّمِيمِي كَانَت الْأَعْمَال بعد قتل زنكي قد اضْطَرَبَتْ والمسالك قد اختلت بعد الهيبة الْمَشْهُورَة والأمنة المشكورة وَانْطَلَقت أَيدي التركمان والحرامية فِي الْإِفْسَاد فِي الْأَطْرَاف والعيث فِي سَائِر النواحي والأكناف ونظمت فِي صفة هَذَا الْحَال أبياتا من قصيدة
(كَذَاك عماد الدّين زنكي تنافرت ... سعادته عَنهُ وخرت دعائمه)
(وَكم بَيت مَال من نضار وجوهر ... وأنواع ديباج حوتها مخاتمه)
(وأضحت بِأَعْلَى كل حصن مصونة ... يُحامى عَلَيْهَا جنده وخوادمه)
(وَمن صافنات الْخَيل كل مطهم ... يروع الأعادي حليه وبراجمه)
(فَلَو رامت الْكتاب وصف شياتها ... بأقلامها مَا أدْرك الْوَصْف ناظمه)(1/164)
(وَكم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصن لم تفته غنائمه)
(ودانت وُلَاة الأَرْض فِيهَا لأَمره ... وَقد أمنتهم كتبه وخواتمه)
(وَأمن من فِي كل قطر بهيبة ... يراع بهَا أعرابه وأعاجمه)
(وظالم قوم حِين يذكر عدله ... فقد زَالَ عَنْهُم ظلمه وخصائمه)
(وَأصْبح سُلْطَان الْبِلَاد بِسَيْفِهِ ... وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا نَظِير يزاحمه)
(وَزَاد على الْأَمْلَاك بَأْسا وسطوة ... وَلم يبْق فِي الْأَمْلَاك ملك يقاومه)
(فَلَمَّا تناهي ملكه وجلاله ... وراعت وُلَاة الأَرْض مِنْهُ لوائمه)
(أَتَاهُ قَضَاء لَا ترد سهامه ... فَلم تنجه أَمْوَاله ومغانمه)
(وأدركه للحين فِيهَا حمامه ... وحامت عَلَيْهِ بالمنون حوائمه)
(وأضحى على ظهر الْفراش مُجدلا ... صَرِيعًا تولى ذبحه فِيهِ خادمه)
(وَقد كَانَ فِي الْجَيْش اللهام مبيته ... وَمن حوله أبطاله وصوارمه)
(
(وَسمر العوالي حوله بأكفهم ... تذود الردى عَنهُ وَقد نَام نائمه)
(وَمن دون هَذَا عصبَة قد ترتَّبَت ... بأسهمها يُرْدى من الطير حائمه)
(وَكم رام فِي الْأَيَّام رَاحَة سره ... وهمته تعلو وتقوى شكائمه)
(وَكم مَسْلَك للسَّفر أَمن سبله ... ومسرح حَيّ أَن تراع سوائمه)
(وَكم ثغر إِسْلَام حماه بِسَيْفِهِ ... من الرّوم لما أَدْرَكته مراحمه)
(فَمن ذَا الَّذِي يَأْتِي بهيبة مثله ... وتنفذ فِي أقْصَى الْبِلَاد مراسمه)
(فَلَو رقيت فِي كل مصر بِذكرِهِ ... أراقمه ذلت هُنَاكَ أراقمه)
(فَمن ذَا الَّذِي ينجو من الدَّهْر سالما ... إِذا مَا أَتَاهُ الْأَمر وَالله حاتمه)(1/165)
(وَمن رام صفواً فِي الْحَيَاة فَمَا يرى ... لَهُ صفو عَيْش وَالْحمام يحاومه)
(فإياك لَا تغبط مليكا بِملكه ... ودعه فَإِن الدَّهْر لَا شكّ قاصمه)
(وَقل للَّذي يَبْنِي الْحُصُون لحفظه ... رويدك مَا تبني فدهرك هادمه)
(وَفِي مثل هَذَا عِبْرَة ومواعظ ... بهَا يَتَناسى الْمَرْء مَا هُوَ عازمه)
قَالَ وَفِي ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وصل الْخَادِم يرنقش الْقَاتِل لعماد الدّين زنكي وانفصل من قلعة جعبر لخوف صَاحبهَا من طلبه مِنْهُ فوصل دمشق متيقنا أَنه قد أَمن بهَا ومدلا بِمَا فعله وظنا مِنْهُ أَن الْحَال على مَا توهمه فَقبض عَلَيْهِ وأنفذ إِلَى حلب صُحْبَة من حفظه وأوصله إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ حمل إِلَى الْموصل وَذكر أَنه قتل بهَا
قلت وللحكيم أَبى الحكم المغربي قصيدة فِي مرثية الشَّهِيد عماد الدّين زنكي رَحمَه الله مِنْهَا(1/166)
(عين لَا تذخري الدُّمُوع وبكي ... واستهلي دَمًا على فقد زنكي)
(لم يهب شخصه الردى بعد أَن كَانَت ... لَهُ هَيْبَة على كل تركي)
(خيرُ ملك ذِي هَيْبَة وبهاء ... وعظيم بَين الْأَنَام بزرك)
(يهب المَال والجياد لمن يممه مادحا بِغَيْر تلكي)
(إِن دَارا تمدنا بالرزايا ... هِيَ عِنْدِي أَحَق دارٍ بِتَرْك)
(فاسكبوا فَوق قَبره مَاء ورد ... وانضحوه بزعفران ومسك)
(أَي فتك جرى لَهُ فِي الأعادي ... بعد مَا استفتح الرُّها أَي فتك)
(كل خطب أَتَت بِهِ نوب الدَّهْر ... يسير فِي جنب مصْرع زنكي)
(بعد مَا كَاد أَن تدين لَهُ الرّوم ... ويحوي الْبِلَاد من غير شكّ)
فصل فِيمَا جرى بعد زنكي من تفرق أَصْحَابه وتملك ولديه غَازِي ومحمود
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى توجه الْملك ولد السُّلْطَان الْمُقِيم كَانَ مَعَه فِيمَن صَحبه وانضم إِلَيْهِ إِلَى نَاحيَة الْموصل وَمَعَهُ سيف الدّين غَازِي بن عماد الدّين أتابك وَامْتنع عَلَيْهِم الْوَالِي بالموصل على كوجك أَيَّامًا إِلَى حِين تقررت الْحَال بَينهم
ثمَّ فتح الْبَاب وَدخل وَلَده واستقام لَهُ الْأَمر وانتصب منصبه
وَعَاد الْأَمِير سيف الدولة سوار وَصَلَاح الدّين يَعْنِي(1/167)
مُحَمَّد بن أَيُّوب الياغبساني فِي تِلْكَ الْحَال إِلَى نَاحيَة حلب ومعهما الْأَمِير نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَحصل بهَا وَشرع فِي جمع العساكر وإنفاق المَال فِيهَا واستقام لَهُ الْأَمر وسكنت الدهماء
وَفصل عَنهُ الْأَمِير صَلَاح الدّين وَحصل بحماة ولَايَته على سَبِيل الاستيحاش وَالْخَوْف على نَفسه من أَمر يدبر عَلَيْهِ
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لما راهق نور الدّين لزم خدمَة وَالِده إِلَى ان انْتَهَت مدَّته على قلعة جعبر وسير فِي صَبِيحَة الْأَحَد الْملك ألب أرسلان بن السُّلْطَان مَحْمُود إِلَى الْموصل مَعَ جمَاعَة من أكَابِر دولة أَبِيه وَقَالَ لَهُم إِن وصل أخي سيف الدّين غَازِي إِلَى الْموصل فَهِيَ لَهُ وَأَنْتُم فِي خدمته وَإِن تَأَخّر فَأَنا أقرر أُمُور الشَّام وأتوجه إِلَيْكُم
ثمَّ قصد حلب وَدخل قلعتها يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر ورتب النواب فِي القلعة وَالْمَدينَة
وَقَالَ ابْن أَبى طي الْحلَبِي لما اتَّصل قتل أتابك بأسد الدّين شيركوه ركب من سَاعَته وَقصد خيمة نور الدّين وَقَالَ لَهُ اعْلَم ان الْوَزير جمال الدّين قد أَخذ عَسْكَر الْموصل وعزم على تَقْدِيم أَخِيك سيف الدّين وقصده إِلَى الْموصل وَقد انضوى إِلَيْهِ جلّ الْعَسْكَر وَقد أنفذ إِلَيّ جمال الدّين وأرادني على اللحاق بِهِ فَلم أعرج عَلَيْهِ وَقد رَأَيْت أَن أصيرك إِلَى حلب وتجعلها كرْسِي ملكك وتجتمع فِي خدمتك عَسَاكِر الشَّام ووأنا أعلم أَن الْأَمر يصير جميعُه إِلَيْك لِأَن ملك الشَّام يحصل(1/168)
بحلب وَمن ملك حلب استظهر على بِلَاد الشرق
فَركب وَأمر أَن يُنَادى فِي اللَّيْل فِي عَسَاكِر الشَّام بالاجتماع فَاجْتمعُوا وَسَارُوا فِي خدمَة نور الدّين إِلَى حلب ودخلوها سَابِع ربيع الأول
وَلما دخلُوا حلب جَاءَ أَسد الدّين إِلَى تَحت القلعة ونادى واليها وأصعد نور الدّين إِلَيْهَا وَقرر أمره وَمَشى أَحْوَاله فَكَانَ نور الدّين يرى لَهُ ذَلِك وَأسد الدّين يمت بِأَنَّهُ كَانَ السَّبَب فِي تَوليته
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل أتابك الشَّهِيد ركب الْملك ألب أرسلان بن السُّلْطَان مَحْمُود وَكَانَ مَعَ الشَّهِيد وَاجْتمعت العساكر عَلَيْهِ وخدموه فَأرْسل جمال الدّين الْوَزير إِلَى الصّلاح يَقُول لَهُ الْمصلحَة أَن نَتْرُك مَا كَانَ بَيْننَا وَرَاء ظُهُورنَا ونسلك طَرِيقا نبقي بِهِ الْملك فِي أَوْلَاد صاحبنا ونعمر بَيته جَزَاء لإحسانه إِلَيْنَا فَإِن الْملك قد طمع فِي الْبِلَاد وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وَلَئِن لم نتلاف هَذَا الْأَمر فِي أَوله ونتداركه فِي بدايته لَيَتَّسِعَنَّ الْخرق وَلَا يُمكن رقعه فَأَجَابَهُ الصّلاح إِلَى ذَلِك وَحلف كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه
فَركب الْجمال إِلَى الْملك فخدمه وَضمن لَهُ فتح الْبِلَاد وأطعمه فِيهَا وَمَعَهُ الصّلاح وَقَالا لَهُ إِن أتابك كَانَ نَائِبا عَنْك فِي الْبِلَاد وباسمك كُنَّا نطيعه
فَقبل قَوْلهمَا وظنه حَقًا وقربهما طَمَعا أَن يَكُونَا عونا لَهُ على تَحْصِيل غَرَضه
وأرسلا إِلَى زين الدّين بالموصل يعرفانه قتل الشَّهِيد ويأمرانه بِالْإِرْسَال إِلَى سيف الدّين غَازِي وَهُوَ ولد عماد الدّين زنكي الْأَكْبَر وإحضاره إِلَى الْموصل وَكَانَ بشهرزور وَهِي إقطاعُه من أَبِيه
فَفعل زين الدّين ذَلِك وَكَانَ نور الدّين مَحْمُود بن الشَّهِيد قد سَار لما قتل وَالِده إِلَى حلب فملكها وَذَلِكَ بِإِشَارَة أَسد الدّين شيركوه عَلَيْهِ بذلك وَقَالَ الْجمال(1/169)
للْملك إِن من الرَّأْي أَن تسير الصّلاح إِلَى مملوكك نور الدّين بحلب يدبر أمره وَكَانَت حماة إقطاع الصّلاح فَأمره فَسَار وَبَقِي الْجمال وَحده مَعَ الْملك فَأَخذه وَقصد الرقة
فاشتغل بِشرب الْخمر وَالْخلْوَة بِالنسَاء وَأَرَادَ أَن يُعْطي الْأُمَرَاء شَيْئا فَمَنعه خوفًا من أَن تميل قُلُوبهم إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُم الإقطاع الجزيل وَالنعَم الوافرة
وَشرع الْجمال يستميل الْعَسْكَر وَيحلف المراء لسيف الدّين بن أتابك الشَّهِيد وَاحِدًا بعد وَاحِد وكل من حلف يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْموصل هَارِبا من الْملك
وَأقَام بِالْملكِ فِي الرقة عدَّة أَيَّام ثمَّ سَار بِهِ إِلَى ماكسين فَتَركه بهَا عدَّة أَيَّام أَيْضا قد اشْتغل بلذاته عَن طلب الْملك ثمَّ سَار بِهِ نَحْو سنجار
وَكَانَ سيف الدّين غَازِي قد دخل الْموصل وَاسْتقر بهَا فقوى حِينَئِذٍ جنان جمال الدّين وَوصل هُوَ وَالْملك إِلَى سنجار فَأرْسل إِلَى دُزدارها وَقَالَ لَهُ لَا تسلم الْبَلَد وَلَا تمكن أحدا من دُخُوله وَلَكِن أرسل إِلَى الْملك وَقل لَهُ إِنَّا تبع الْموصل فَمَتَى دخلت الْموصل سلمت إِلَيْك الْبَلَد
فَفعل الدزدار ذَلِك
فَقَالَ الْجمال للْملك الْمصلحَة أَنا نسير إِلَى الْموصل فَإِن مملوكك غَازِي إِذا سمع بقربنا مِنْهُ خرج إِلَى الْخدمَة فَحِينَئِذٍ نقبض عَلَيْهِ ونتسلم الْبِلَاد
فَسَارُوا عَن سنجار وَكثر رحيل الْعَسْكَر إِلَى الْموصل هاربين من الْملك فبقى فِي قلَّة من الْعَسْكَر فَسَارُوا إِلَى مَدِينَة بلد وَعبر الْملك دجلة من هُنَاكَ فَلَمَّا عبرها دخل الْجمال الْموصل وَأرْسل الْأَمِير عز الدّين أَبَا بكر الدبيسي فِي عَسْكَر إِلَى الْملك وَهُوَ فِي نفر يسير فَأَخذه وَأدْخلهُ الْموصل فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ
وَاسْتقر أَمر سيف الدّين(1/170)
واقر زين الدّين على مَا كَانَ عَلَيْهِ من ولَايَة الْموصل وَجعل وزيره الْجمال وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود فاستحلفوه لسيف الدّين فَحلف لَهُ وَأقرهُ على الْبِلَاد وَأرْسل لَهُ الْخلْع
وَكَانَ هَذَا سيف الدّين قد لَازم خدمَة السُّلْطَان مَسْعُود فِي أَيَّام أَبِيه سفرا وحضرا وَكَانَ السُّلْطَان يُحِبهُ كثيرا ويأنس بِهِ ويبسطه
فَلَمَّا خُوطِبَ فِي الْيَمين وَتَقْرِير الْبِلَاد لم يتَوَقَّف
قَالَ ابْن الْأَثِير فانظروا إِلَى فعل جمال الدّين وَحسن عَهده وَكَمَال مروءته ورعايته لحقوق مخدومه وَهَذَا الْمقَام الَّذِي ثَبت فِيهِ يعجز عَنهُ عشرَة آلَاف فَارس وَلَقَد قلل من قَالَ من النَّاس ألف مِنْهُم كواحد
وَهُوَ مَعْذُور لِأَنَّهُ لم ير مثل جمال الدّين
قَالَ وَلما اسْتَقر سيف الدّين فِي الْملك أطاعه جَمِيع الْبِلَاد مَا عدا مَا كَانَ بديار بكر كالمعدن وحيزان وإسعرد وَغير ذَلِك فَإِن المجاورين لَهَا تغلبُوا عَلَيْهَا
قَالَ وَلما فرغ سيف الدّين من إصْلَاح أَمر السلطنة وتحليفه وَتَقْرِير أَمر الْبِلَاد عبر إِلَى الشَّام لينْظر فِي تِلْكَ النواحي ويقرر الْقَاعِدَة بَينه وَبَين أَخِيه نور الدّين وَهُوَ بحلب وَقد تَأَخّر عَن الْحُضُور عِنْد أَخِيه وخافه فَلم يزل يراسله ويستميله فَكلما طلب نور الدّين شَيْئا أَجَابَهُ إِلَيْهِ استمالة لِقَلْبِهِ
واستقرت الْحَال بَينهمَا على أَن يجتمعا خَارج الْعَسْكَر السيفي وَمَعَ كل(1/171)
وَاحِد مِنْهُمَا خمس مئة فَارس فَلَمَّا كَانَ يَوْم الميعاد بَينهمَا سَار نور الدّين من حلب فِي خمس مئة فَارس وَسَار سيف الدّين من مُعَسْكَره فِي خَمْسَة فوارس فَلم يعرف نور الدّين أَخَاهُ سيف الدّين حَتَّى قرب مِنْهُ فحين رَآهُ عرفه فترجل لَهُ وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَأمر أَصْحَابه بِالْعودِ عَنهُ فعادوا
وَقعد سيف الدّين وَنور الدّين بعد أَن اعتنقا وبكيا فَقَالَ لَهُ سيف الدّين لم امْتنعت من الْمَجِيء إِلَيّ أَكنت تخافني على نَفسك وَالله مَا خطر ببالي مَا تنكره فَلِمَنْ أُرِيد الْبِلَاد وَمَعَ من أعيش وبمن أعتضد إِذا فعلت السوء مَعَ أخي وَأحب النَّاس إِلَيّ فاطمأن نور الدّين وَسكن روعه وَعَاد إِلَى حلب فتجهز وَعَاد بعسكره إِلَى خدمَة أَخِيه سيف الدّين فَأمره سيف الدّين بِالْعودِ وَترك عسكره عِنْده وَقَالَ لَا غَرَض لي فِي مقامك عِنْدِي وَإِنَّمَا غرضي أَن يعلم الْمُلُوك والفرنج اتفاقنا فَمن يُرِيد السوء بِنَا يكف عَنهُ
فَلم يرجع نور الدّين وَلَزِمَه إِلَى أَن قضيا مَا كَانَا عَلَيْهِ وَعَاد كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى بَلَده
قلت وَمن قصيدة لِابْنِ مُنِير فِي نور الدّين
(أيا خير الْمُلُوك أَبَا وجدا ... وأنقعهم حَيا لغليل صَاد)
(علوا وغلوا وَقَالَ النَّاس فيهم ... شوارد من ثَنَاء أَو أحاد)
(وَمَا اقتسموا وَمَا عَمدُوا بناهم ... بمنصبك القسيمي الْعِمَادِيّ)(1/172)
(وَهل حلب سوى نفس شُعَاع ... تقسمها التَّمَادِي والتعادي)
(نفى ابْن عماد دين الله عَنْهَا الشكاة ... فَأَصْبَحت ذَات الْعِمَاد)
(تبختر فِي كسا عدل وبذل ... مدبجة التهائم والنجاد)
(وَفِي مِحْرَابهَا دَاوُد مِنْهُ ... يهذب حِكْمَة آيَات صَاد)
(تجاوزت النُّجُوم فَأَيْنَ تبغي ... ترق فَلَا خلوت من ازدياد)
فصل فِيمَا جرى بعد وَفَاة زنكي من صَاحب دمشق والإفرنج المخذولين
قَالَ ابْن أَبى طي فِي سَابِع يَوْم من اسْتِقْرَار نور الدّين بحلب اتَّصل خبر مقتل أتابك بِصَاحِب انطاكية أنطاكية البيمند فَخرج ليومه فِي عَسَاكِر أنطاكية وَقسم عسكره قسمَيْنِ قسما نفذه إِلَى جِهَة حماة وقسما أغار بِهِ على جِهَة حلب وعاث فِي بلادها وَكَانَ النَّاس آمِنين فَقتل وسبى عَالما عَظِيما وَتَمَادَى حَتَّى وصل إِلَى صلدى ونهبها
وَوصل الْخَبَر إِلَى حلب فَخرج أَسد الدّين شيركوه فِيمَن كَانَ بحلب من العساكر وجد فِي السّير ففاته الفرنج وَأدْركَ جمَاعَة من الرجالة يسوقون الأسرى فَقَتلهُمْ واستنقذ كثيرا مِمَّا كَانَت الفرنج أَخَذته وَسَار مجنبا عَن طَرِيق الفرنج إِلَى أَن شن الْغَارة على بلد أرتاح وَاسْتَاقَ جَمِيع مَا كَانَ للفرنج فِيهِ وَعَاد إِلَى حلب مظفرا(1/173)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل الشَّهِيد سَار مجير الدّين صَاحب دمشق فِي عَسْكَر إِلَى بعلبك وحاصرهم وَبهَا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان صَلَاح الدّين فسلمها إِلَيْهِ وَأخذ مِنْهُ مَالا وَملكه قرايا من أَعمال دمشق وانتقل أَيُّوب إِلَى دمشق وَأقَام بهَا
وَقَالَ ابْن أَبى طي اشْتَدَّ صَاحب دمشق فِي الْقِتَال وصبر نجم الدّين أَيُّوب أحسن صَبر فاتفق أَن المَاء لما شَاءَ الله من حصن بعلبك غَار حَتَّى لم يبْق مِنْهُ شَيْء فَصَارَ أهل القلعة يستمدون من الْبَلَد فَلَمَّا ملك الْبَلَد منع من يُرِيد المَاء من القلعة فَاشْتَدَّ الْأَمر فطلبوا الْأمان والمصالحة فاستخلف صَاحب دمشق نجم الدّين وَأقر لَهُ الثُّلُث الَّذِي كَانَ أتابك قد جعله لَهُ فِيهَا وَأقرهُ فِيهَا
وَلما بلغ ذَلِك نور الدّين خَافَ أَن يفْسد عَلَيْهِ أَسد الدّين إِلَى صَاحب دمشق لحُصُول أَخِيه نجم الدّين عِنْده وَمَال نور الدّين إِلَى مجد الدّين أَبى بكر بن الداية حَتَّى ولاه جَمِيع أُمُوره وَجَمِيع مَمْلَكَته فشق ذَلِك على أَسد الدّين
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى لما اتَّصل خبر موت زنكي بِمعين الدّين أنر شرع فِي التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فِيهَا بآلات الْحَرْب والمنجنيقات
فَنزل عَلَيْهَا وضايقها وَلم يمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى قل المَاء فِيهَا قلَّة دعتهم إِلَى النُّزُول على حكمه
وَكَانَ الْوَالِي بهَا ذَا حزم وعقل وَمَعْرِفَة بالأمور فَاشْترط مَا قَامَ لَهُ بِهِ من إقطاع وَغَيره وَسلم الْبَلَد والقلعة إِلَيْهِ ووفى لَهُ بِمَا قرر الْأَمر عَلَيْهِ وتسلم مَا فِيهِ من غلَّة وَآلَة فِي أَيَّام من جُمَادَى الأولى من السّنة
وراسل معِين الدّين الْوَالِي بحمص وتقررت بَينه وَبَينه مهادنة وموادعة يعودان بصلاح الْأَحْوَال وَعمارَة الْأَعْمَال
وَوَقعت(1/174)
المراسلة فِيمَا بَينه وَبَين صَلَاح الدّين بحماة وتقرر بَينهمَا مثل ذَلِك
ثمَّ انكفأ بعد ذَلِك إِلَى الْبَلَد عقيب فَرَاغه من بعلبك وترتيب من رتبه لحفظها وَالْإِقَامَة فِيهَا
قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي أَيَّام من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة بِأَن ابْن جوسلين جمع الإفرنج من كل نَاحيَة وَقصد مَدِينَة الرها على غَفلَة بموافقة من النَّصَارَى المقيمين فِيهَا فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَقتل من فِيهَا من الْمُسلمين
فَنَهَضَ نور الدّين صَاحب حلب فِي عسكره وَمن انضاف إِلَيْهِ من التركمان وَغَيرهم فِي زهاء عشرَة آلَاف فَارس ووقفت الدَّوَابّ فِي الطرقات من شدَّة السّير ووافوا الْبَلَد وَقد حصل ابْن جوسلين وَأَصْحَابه فِيهِ فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَوَقع السَّيْف فيهم
وَقتل من أرمن الرها وَالنَّصَارَى من قتل وَانْهَزَمَ إِلَى برج يُقَال لَهُ برج المَاء فَحصل فِيهِ ابْن جوسلين فِي تَقْدِير عشْرين فَارِسًا من وُجُوه أَصْحَابه وأحدق بهم الْمُسلمُونَ وشرعوا فِي النقب عَلَيْهِم حَتَّى تعرقب البرج فَانْهَزَمَ ابْن جوسلين فِي الْخفية من اصحابه وَأخذ الْبَاقُونَ ومحق السَّيْف كل من ظفر بِهِ من نَصَارَى الرها واستخلص من كَانَ فِيهِ أَسِيرًا من الْمُسلمين وَنهب مِنْهَا شَيْء كثير من المَال والأثاث والسبي وانكفأ الْمُسلمُونَ بالغنائم إِلَى حلب وَسَائِر الْأَطْرَاف
قَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل زنكي كَانَ جوسلين الفرنجي الَّذِي كَانَ صَاحب الرها فِي ولَايَته غرب الْفُرَات فِي تل بَاشر وَمَا جاورها فراسل أهل الرها وَكَانَ عامتهم من الأرمن وواعدهم يَوْمًا يصل إِلَيْهِم فِيهِ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَسَار فِي عساكره إِلَيْهَا وملكها وامتنعت عَلَيْهِ القلعة بِمن فِيهَا من الْمُسلمين فَقَاتلهُمْ وجد فِي قِتَالهمْ فَبلغ الْخَبَر نور الدّين وَهُوَ يَوْمئِذٍ(1/175)
بحلب فَسَار إِلَيْهَا بعسكره فهرب جوسلين وَدخل نور الدّين مَدِينَة الرها ونهبها وسبى أَهلهَا
وَفِي هَذِه الدفعة نهبت وَخَربَتْ وخلت من أَهلهَا وَلم يبْق مِنْهُم بهَا إِلَّا الْقَلِيل
وَوصل خبر الفرنج إِلَى سيف الدّين غَازِي بالموصل فَجهز العساكر إِلَى الرها فوصلت وَقد ملكهَا نور الدّين فَبَقيت بِيَدِهِ وَلم يُعَارضهُ فِيهَا أَخُوهُ سيف الدّين
قَالَ وَمن عَجِيب مَا جرى أَن نور الدّين أرسل من غنائمها إِلَى الْأُمَرَاء وَأرْسل إِلَى زين الدّين عَليّ جملَة من الْجَوَارِي فحملن إِلَى دَاره وَدخل لينْظر إلَيْهِنَّ فَخرج وَقد اغْتسل وَهُوَ يضْحك فسُئل عَن ذَلِك فَقَالَ لما فتحنا الرها مَعَ الشَّهِيد كَانَ فِي جملَة مَا غنمت جَارِيَة مَالَتْ نَفسِي إِلَيْهَا فعزمت على أَن أَبيت مَعهَا فَسمِعت مُنَادِي الشَّهِيد وَهُوَ يَأْمر بِإِعَادَة السَّبي والغنائم وَكَانَ مهيبا مخوفا فَلم أجسر على إتيانها وأطلقتها
فَلَمَّا كَانَ الْآن أرسل إِلَى نور الدّين سهمي من الْغَنِيمَة وَفِيه تِلْكَ الْجَارِيَة فوطئتها خوفًا من الْعود
قلت وللقيسراني قصيدة مدح بهَا جمال الدّين وَزِير الْموصل ذكر فِيهَا فتح الرها أَولهَا
(أما آن أَن يزهق الْبَاطِل ... وَأَن ينجز الْعدة الماطل)
(إِلَى كم يغب مُلُوك الضلال ... سيف بأعناقها كافل)
(فَلَا تحفلن بصول الذئاب ... وَقد زأر الْأسد الباسل)
(وَهل يمْنَع الدّين إِلَّا إِلَى فَتى ... يصول انتقاماً فيستاصل)
(أَبَا جَعْفَر أشرقت دولة ... أَضَاء لَهَا بدرك الْكَامِل)
(فإمَّا نصبت لرفع اسْمهَا ... فإنكما الْفِعْل وَالْفَاعِل)(1/176)
لِيَهنك مَا أفرج النَّصْر عَنهُ ... وَمَا ناله الْملك الْعَادِل)
(فَقل للحقاق الطَّرِيق الطَّرِيق ... فقد دلف المقرم البازل)
(وجاهد فِي الله حق الْجِهَاد ... محتسب بالعلا قافل)
(وَهل يمْنَع السُّور من طالع ... يُشايِعُه الْقدر النارل)
(فَإِن يَك فتح الرها لُجَّة ... فساحلها الْقُدس والساحل)
(فَهَل علمت علم تِلْكَ الديار ... أَن الْمُقِيم بهَا راحل)
(أرى القمص يأمل فَوت الرماح ... وَلَا بُد أَن تضرب الشائل)
(يُقَوي معاقله جاهدا ... وَهل عَاقل بعْدهَا عَاقل)
(وَكَيف بضبط بواقي الْجِهَات ... لمن فَاتَ حسبته الْحَاصِل)
وَلابْن مُنِير من قصيدة فِي نور الدّين
ملك مَا أذلّ بِالْفَتْح أَرضًا ... قطّ إِلَّا أعزها إغلاقه)
(والوهى فِي الرهاء أزجي إِلَيْهَا ... عارضاً شيب الدجى إبراقه)
(جارت جأرة إِلَيْهِ فحلى ... عطلا من إعناقها إعناقه)
(تِلْكَ بكر الْفتُوح فالشام مِنْهَا ... شامه وَالْعراق بعد عراقه)
(أَيْن كَانَ الْمُلُوك عَن وَجههَا الطلق ... يُرينا إضاءة إِطْلَاقه)(1/177)
(سنة سنّهَا أَبوهُ بكلب الرّوم ... لما أظلهُ إرهاقه)
(خافقا قلبه إِلَى أمل عاجله ... دون نيله إخفاقه)
(قسمت راية المواضي القسيميات ... وابتز من لهاه عراقه)
(وَكَذَا أَنْت يَا بْنَه مَا عدا من ... خلقه فِيك خصْلَة خلاقه)
(وَكفى الْبَحْر أَنه ابْن سَحَاب ... مَا وَنَى سَحُّه وَلَا إصْعَاقه)
(لم يمت من سددت ثلمته يَا ... من على الدّين كظه إشفاقه)
(رهبة لم تدع على الأَرْض قلبا ... خلف صدر ينشق عَنهُ شقاقه)
(كلما طن ذكرهَا مِنْهُ فِي السّمع ... تكمى فِي النافقاء نفَاقه)
(وَجِهَاد عَن حوزة الدّين لم يأل ... لَهُ ركضه وَلَا إِنْفَاقه)
وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى
(بِنور الدّين روض كل مَحل ... من الدُّنْيَا وجدد كل بَال)
(أَقَامَ على ثنية كل خوف ... سهادا بَات يكلأ كل كال)
(وَصوب عدله فِي كل أَوب ... فعوض عاطلا مِنْهُ بِحَال)
(ينكس رايه راي المحامي ... وَيقتل خَوفه قبل الْقِتَال)
(لقد أحصدت لِلْإِسْلَامِ عزا ... يفوت سنامه يَد كل قَالَ)
(وأصبحت العواصم ملحفات ... عصاما غير منتكث الحبال)(1/178)
فصل
وقفت على توقيع كتب فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين عَن خَليفَة مصر يَوْمئِذٍ وَهُوَ الملقب بِالْحَافِظِ وَعَلِيهِ علامته الْحَمد لله رب الْعَالمين
إِلَى القَاضِي الْأَشْرَف أَبى الْمجد عَليّ بن الْحسن بن الْحُسَيْن بن أَحْمد البيساني وَهُوَ وَالِد القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُتَوَلِّي الْقَضَاء وَالْحكم بِمَدِينَة عسقلان يَقُول فِيهِ انْتهى إِلَى حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن قوما من أهل ثغر عسقلان حماه الله قد صَارُوا يؤدون توقيعات بِقبُول أَقْوَالهم من غير تَزْكِيَة من شُهُوده المعروفين بالتزكية لَهُم مَعَ كَونهم غير مستوجبين للشَّهَادَة وَلَا مستحقين لسَمَاع القَوْل أنكر أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَلِك من فعلهم وَخرج عالي أمره بِأَن لَا يسمع قَول شَاهد وَلَا من تقدم لخطابة وَلَا لصَلَاة بِالنَّاسِ وَلَا لتلاوة فِي مَوضِع شرِيف إِلَّا من زَكَّاهُ أَعْيَان شُهُود الثغر المحروس وهم فلَان وَفُلَان فعد ثَمَانِيَة أنفس عبد السَّاتِر بن عبد الرَّحْمَن عبد الْعَزِيز بن مفضل عَليّ بن قُرَيْش أَحْمد بن حسن أَحْمد بن عَليّ عبد الرَّحْمَن بن محسن أُسَامَة بن عبد الصَّمد عَليّ بن عبد الله
قلت وَهَذَا من أحسن مَا يؤرخ عَن أَيَّام تِلْكَ الدولة المبانية للشريعة على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى(1/179)
وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي شَوَّال من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ترددت المراسلات بَين نور الدّين ومعين الدّين أنر إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال بَينهمَا على أجمل صفة وَأحسن قَضِيَّة وانعقدت الوصلة بَين نور الدّين وَبَين ابْنة معِين الدّين وتأكدت الْأُمُور على مَا اقترح كل مِنْهُمَا وَكتب كتاب العقد فِي دمشق بِمحضر من رسل نور الدّين فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال وَشرع فِي تَحْصِيل الجهاز وَعند الْفَرَاغ مِنْهُ تَوَجَّهت الرُّسُل عَائِدَة إِلَى حلب وَفِي صحبتهم ابْنة معِين الدّين وَمن فِي جُمْلَتهَا من خَواص الْأَصْحَاب فِي النّصْف من ذِي الْقعدَة
قَالَ وَتوجه معِين الدّين إِلَى نَاحيَة صرخد وَبصرى بِالْخَيْلِ وَالرجل وآلات الْحَرْب وَنزل على صرخد وَبهَا الْمَعْرُوف بالتونتاش غُلَام أَمِين الدولة كمشتكين الأتابكي الَّذِي كَانَ واليها أَولا
قلت هُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْمدرسَة الأمينية قبلي الْجَامِع بِدِمَشْق
قَالَ وَكَانَت نفس ألتونتاش قد حدثته بجهله أَنه يُقَاوم من يكون مستولياً على دمشق وَأَن الإفرنج يعينونه على مُرَاده وَكَانَ قد خرج من حصن صرخد إِلَى نَاحيَة الفرنج للاستنصار بهم وَتَقْرِير أَحْوَال الْفساد مَعَهم فحال معِين الدولة بَينه وَبَين الْعود إِلَى أحد الحصنين
وراسل نور الدّين فِي إنجاده على الْكفْر فَأَجَابَهُ وَكَانَ مبرزاً بِظَاهِر حلب فِي عسكره فَثنى إِلَيْهِ الأعنة وأغذ الْمسير فوصل دمشق فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ أَيَّامًا يسيرَة(1/180)
وَدخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
فَتوجه نور الدّين نَحْو صرخد وَلم يُشَاهد أحسن من عسكره وهيئته وعدته ووفور عدته
وَاجْتمعَ العسكران وَأرْسل من بصرخد إِلَيْهِمَا يَلْتَمِسُونَ الْأمان والمهلة أَيَّامًا وتسلم الْمَكَان وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم على سَبِيل المغالطة والمخاتلة إِلَى أَن يصل عَسْكَر الإفرنج لترحيلهم
وَقضى الله تَعَالَى وُصُول من أخبر بتجمع الفرنج واحتشادهم ونهوضهم فِي فارسهم وراجلهم مجدين السّير إِلَى نَاحيَة بصرى وَعَلَيْهَا فرقة وافرة من الْعَسْكَر محاصرة لَهَا
فَنَهَضَ الْعَسْكَر فِي الْحَال إِلَى نَاحيَة بصرى فسبقوا الفرنج إِلَيْهَا فحالوا بَينهم وَبَينهَا
وَوَقعت الْعين على الْعين فَانْهَزَمَ الْكفَّار وولوا الأدبار وتسلم معِين الدّين بصرى وَعَاد إِلَى صرخد فتسلمها وَعَاد العسكران إِلَى دمشق فوصلاها يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم
وَفِي هَذَا الْوَقْت وصل ألتونتاش الَّذِي خرج من صرخد إِلَى الفرنج بجهله وسخافة عقله إِلَى دمشق من بِلَاد الفرنج من غير أَمَان وَلَا تَقْرِير واستئذان توهما مِنْهُ أَنه يكرم ويصطنع بعد الْإِسَاءَة القبيحة والارتداد عَن الْإِسْلَام فاعتقل فِي الْحَال وطالبه أَخُوهُ خطلخ بِمَا جناه عَلَيْهِ من سمل عَيْنَيْهِ وَعقد لَهما مجْلِس حَضَره الْفُقَهَاء والقضاة وأوجبوا عَلَيْهِ الْقصاص فسمل كَمَا سمل أَخَاهُ وَأطلق إِلَى دَار لَهُ بِدِمَشْق فَأَقَامَ بهَا
قلت وَقد ذكر ابْن مُنِير وقْعَة بصرى هَذِه وَغَيرهَا من الوقعات الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا فِي قصيدة قد تقدم بَعْضهَا مِنْهَا
(أَي شأو أدْركْت يَا نور دين الله ... أعيا على الْمُلُوك لحاقه)(1/181)
(نطق الحاسدون بِالْعَجزِ عَن ملك ... محلى بالنيرات نطاقه)
(غض أَبْصَارهم لحاق جواد ... لَيْسَ إِلَّا إِلَى الْمَعَالِي سباقه)
(سل بَصيرًا كم أعتقت يَوْم بصرى ... من أسار الْمَوْت الزؤام عتاقه)
(كم عرام على العريمة شبت ... ضَاقَ مِنْهُ على الصَّلِيب خناقه)
(وَلكم هبوة بهاب وأختيها ... لَهَا صكت الْأُسَارَى رباقه)
(بسط الذل فَوق بسطة باسوطا ... وَلَكِن طواه عَنهُ ارتفاقه)
وَفِي هَذِه السّنة ولد ببعلبك الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب وَقيل فِي سنة فتح زنكي الرها
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّالِث من ربيع الأول توفى الْفَقِيه شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْفَتْح نصر الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقوي المصِّيصِي بِدِمَشْق وَكَانَ بَقِيَّة الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء الْمُفْتِينَ على مَذْهَب الشَّافِعِي وَلم يخلف بعده مثله
قَالَ وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة تقررت ولَايَة حصن صرخد للأمير مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين على مبلغ من المَال وَالْغلَّة وشروط وأيمان دخل فِيهَا وَقَامَ بهَا واستبشر أهل تِلْكَ النَّاحِيَة بِهِ لما هُوَ عَلَيْهِ من حب الْخَيْر وَالصَّلَاح والتدين والعفاف(1/182)
قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال وَهُوَ مستهل نيسان أظلم الجو وَنزل غيث سَاكن ثمَّ أظلمت الأَرْض فِي وَقت الْعَصْر ظلاما شَدِيدا بِحَيْثُ كَانَ ذَلِك كالغدرة بَين العشاءين وَبقيت السَّمَاء فِي عين النَّاظر إِلَيْهَا كصفرة الورس وَكَذَلِكَ الْجبَال وأشجار الغوطة وكل مَا ينظر إِلَيْهِ من حَيَوَان وجماد ونبات
ثمَّ جَاءَ فِي أثر ذَلِك من الرَّعْد القاصف والبرق الخاطف والهدات المزعجة والرجفات المفزعة مَا ارتاع لَهَا الشيب والشبان فَكيف الْولدَان والنسوان وقلقت لذَلِك الْخُيُول فِي مرابطها وَبَقِي الْأَمر على هَذِه الْحَال إِلَى وَقت الْعشَاء الْآخِرَة ثمَّ سكن بقدرة الله تَعَالَى واصبح على الأَرْض وَالْأَشْجَار وَسَائِر النَّبَات غُبَار فِي رقة الْهَوَاء بَين الْبيَاض والغبرة
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فتح نور الدّين أرتاح بِالسَّيْفِ وحصن باراة وبصرفوث وكفرلاثا وَكَانَ الفرنج قد طمعوا وظنوا أَنهم بعد قتل الشَّهِيد يستردون مَا أَخذ مِنْهُم فَلَمَّا رَأَوْا من نور الدّين هَذَا الْجد علمُوا أَن مَا أَملوهُ بعيد(1/183)
فصل فِي نزُول الفرنج على دمشق ورجوعهم وَقد خذلهم الله تَعَالَى عَنْهَا
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي هَذِه السّنة تواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وبلاد الفرنج وَالروم وَمَا والاها بِظُهُور مُلُوك الإفرنج من بِلَادهمْ مِنْهُم الألمان والفنش وَجَمَاعَة من كبارهم فِي الْعدَد الَّذِي لَا يحصر لقصد بِلَاد الْإِسْلَام بعد أَن نادوا فِي سَائِر بِلَادهمْ ومعاقلهم النفير النفير إِلَيْهَا والإسراع نَحْوهَا
وخلوا بِلَادهمْ وأعمالهم خَالِيَة شاغرة من حماتها والحفظة لَهَا ثمَّ استصحبوا من ذخائرهم وَأَمْوَالهمْ وعددهم الشَّيْء الْكثير الَّذِي لَا يُحْصى بِحَيْثُ يُقَال إِن عدتهمْ ألف ألف من الرجالة والفرسان وَيُقَال أَكثر من ذَلِك
وغلبوا على أَعمال قسطنطينية وَاحْتَاجَ ملكهَا إِلَى الدُّخُول فِي مداراتهم ومسالمتهم وَالنُّزُول على أحكامهم
وَحين شاع خبرهم واشتهر أَمرهم شرعت وُلَاة الْأَعْمَال المصاقبة لَهُم والأطراف الإسلامية الْقَرِيبَة مِنْهُم فِي التأهب للمدافعة لَهُم والاحتشاد على المجاهدة فيهم وقصدوا منافذهم ودروب معابرهم لكَي يمنعوهم من العبور والنفوذ إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وواصلوا شن الغارات على أَطْرَافهم واستحر الْقَتْل فيهم والفتك بهم إِلَى أَن هلك مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَحل بهم من عدم الْقُوت والعلوفات والمير وَغَلَاء السّعر إِذا وجدوه مَا أفنى الْكثير مِنْهُم بِالْجُوعِ وَالْمَرَض(1/184)
وَلم تزل أخبارهم تتواصل بهلاكهم وفناء أعدادهم إِلَى أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين بِحَيْثُ سكنت النُّفُوس بعض السّكُون
وَدخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين
وتواترت الْأَخْبَار بوصول مراكب الفرنج وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا واجتماعهم مَعَ من بهَا من الفرنج
وَيُقَال إِنَّهُم بعد مَا فني مِنْهُم بِالْقَتْلِ وَالْمَرَض والجوع وصل تَقْدِير من مئة ألف وقصدوا الْبَيْت الْمُقَدّس فقضوا حجهم وَعَاد من عَاد مِنْهُم إِلَى بِلَادهمْ فِي الْبَحْر وَقد هلك مِنْهُم بِالْمَوْتِ وَالْمَرَض الْخلق الْعَظِيم وَهلك من مُلُوكهمْ من هلك وَبَقِي الألمان أكبر مُلُوكهمْ وَمن هُوَ دونه
وَاخْتلفت الآراء بَينهم فِيمَا يقصدون منازلته من الْبِلَاد الإسلامية إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال على منازلتهم دمشق وَبلغ ذَلِك معِين الدّين فاستعد لحربهم فجاؤوا فِي تَقْدِير خمسين ألفا ودنوا من الْبَلَد وقصدوا المنزله الْمَعْرُوفَة بنزول العساكر فِيهَا فصادفوا المَاء مَقْطُوعًا فقصدوا نَاحيَة المزة فخيموا عَلَيْهَا لقربها من المَاء وزحفوا إِلَى الْبَلَد بخيلهم ورجلهم ووقف الْمُسلمُونَ بازائهم فِي يَوْم السبت سادس ربيع الأول ونشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ وَاجْتمعَ عَلَيْهِم من الْأَعْمَال والأجناد والأتراك والفتاك وأحداث الْبَلَد والمطوعة والغزاة الجم(1/185)
الْغَفِير وَاسْتظْهر الْكفَّار على الْمُسلمين بِكَثْرَة الْأَعْدَاد وغلبوا على المَاء وانتشروا فِي الْبَسَاتِين وخيموا فِيهَا وقربوا من الْبَلَد وحصلوا مِنْهُ بمَكَان لم يتَمَكَّن أحد من العساكر قَدِيما وحديثا مِنْهُ وَاسْتشْهدَ فِي هَذَا الْيَوْم الْفَقِيه الإِمَام يُوسُف الفندلاوي الْمَالِكِي رَحمَه الله قريب الربوة على المَاء لوقوفه فِي وُجُوههم وَترك الرُّجُوع عَنْهُم اتبع أوَامِر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم وَقَالَ بعنا وَاشْترى وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن الحلحولي الزَّاهِد رَحمَه الله جرى أمره هَذَا المجرى
قلت وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = أَن ملك الألمان الفرنجي لما وصل إِلَى الشَّام اجْتمع إِلَيْهِ كل من بِالشَّام من الإفرنج وَقصد(1/186)
دمشق فَخرج عسكرها وَأَهْلهَا لقتالهم وَفِي جُمْلَتهمْ الْفَقِيه الفندلاوي الْمَالِكِي وَالشَّيْخ الزَّاهِد عبد الرَّحْمَن الحلحولي رحمهمَا الله وَكَانَا من خِيَار الْمُسلمين فَلَمَّا قاربوهم قَالَ الْفَقِيه يَا عبد الرَّحْمَن أما هَؤُلَاءِ الرّوم قَالَ بلَى قَالَ فَإلَى مَتى نَحن وقُوف قَالَ سر على اسْم الله فَتَقَدما فَقَاتلا حَتَّى قتلا فِي مَكَان وَاحِد رحمهمَا الله تَعَالَى
ثمَّ قَالَ أَبُو يعلى وشرعوا فِي قطع الْأَشْجَار والتحصن بهَا وهدوا الفطائر وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة على هَذِه الْحَال وَقد لحق النَّاس من الارتياع لهول مَا شاهدوه والروع بِمَا عاينوه مَا ضعفت بِهِ الْقُلُوب وحرجت مَعَه الصُّدُور وباكروا الظُّهُور إِلَيْهِم فِي غَد ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ الْأَحَد تاليه وزحفوا إِلَيْهِم وَوَقع الطراد بَينهم وَاسْتظْهر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَأَكْثرُوا الْقَتْل والجراح فيهم وأبلى الْأَمِير معِين الدّين فِي حربهم بلَاء حسنا وَظهر من شجاعته وَصَبره وبسالته مَا لم يُشَاهد فِي غَيره بِحَيْثُ لَا يني فِي جهادهم(1/187)
وَلَا ينثني عَن ذيادهم
وَلم تزل رَحا الْحَرْب دَائِرَة بَينهم وخيل الْكفَّار محجمة عَن الحملة الْمَعْرُوفَة لَهُم حَتَّى تتهيأ الفرصة لَهُم إِلَى أَن مَالَتْ الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب وَأَقْبل اللَّيْل وَطلبت النُّفُوس الرَّاحَة وَعَاد كل مِنْهُم إِلَى مَكَانَهُ وأبت الْجند بإزائهم وَأهل الْبَلَد على أسوارهم للحرس وَالِاحْتِيَاط وهم يشاهدون أعداءهم بِالْقربِ مِنْهُم
وَكَانَت المكاتبات قد نفذت إِلَى وُلَاة الْأَطْرَاف بالاستصراخ والاستنجاد وَجعلت خيل التركمان تتواصل ورجالة الْأَطْرَاف تتتابع
وباكرهم الْمُسلمُونَ وَقد قويت نُفُوسهم وَزَالَ عَنْهُم روعهم وثبتوا بإزائهم وأطلقوا فيهم السِّهَام ونبل الجرخ بِحَيْثُ يَقع فِي مخّيمهم فِي راجل أَو فَارس أَو فرس أَو جمل
وَوصل فِي هَذَا الْيَوْم من نَاحيَة الْبِقَاع وَغَيرهَا رجالة كَثِيرَة من الرُّمَاة فزادت بهم الْعدة وتضاعفت الْعدة وانفصل كل فريق إِلَى مستقره فِي هَذَا الْيَوْم وباكروهم من غده يَوْم الثُّلَاثَاء وَأَحَاطُوا بهم فِي مخيمهم وَقد تحَصَّنُوا بأشجار الْبَسَاتِين وأفسدوها رشقا بالنشاب وحذفا بالأحجار وَقد أحجموا عَن البروز وخافوا وفشلوا وَلم يظْهر مِنْهُم أحد وَظن أَنهم يعْملُونَ مكيدة أَو يدبرون حِيلَة وَلم يظْهر مِنْهُم إِلَّا النَّفر الْيَسِير من الْخَيل وَالرجل على سَبِيل المطاردة والمناوشة خوفًا من المهاجمة إِلَى أَن يَجدوا لحملتهم مجالا
وَلَيْسَ يدنو مِنْهُم أحد إِلَّا صُرع برشقة أَو طعنة
وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الْأَحْدَاث والضياع وَجعلُوا يقصدونهم فِي المسالك وَقد أمنُوا فيقتلون من ظفروا بِهِ ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عَنْهَا
وَحصل من رؤوسهم الْعدَد الْكثير
وتواترت إِلَيْهِم أَخْبَار العساكر الإسلامية بالمسارعة إِلَى جهادهم واستئصال(1/188)
شأفتهم فَأَيْقنُوا بِالْهَلَاكِ والبوار وحلول الدمار وأعملوا الآراء بَينهم فَلم يَجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة الَّتِي حصلوا فِيهَا غير الرحيل فرحلوا سحر يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّالِي مفلولين
وَحين عرف الْمُسلمُونَ ذَلِك برزوا إِلَيْهِم فِي بكرَة هَذَا الْيَوْم وسارعوا فِي آثَارهم بِالسِّهَامِ بِحَيْثُ قتلوا فِي أَعْقَابهم من الرِّجَال والخيول وَالدَّوَاب الْعدَد الْكثير
ووجدوا فِي آثَار مَنَازِلهمْ وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وخيولهم مَا لَا عدد لَهُ وَلَا حصر يلْحقهُ بِحَيْثُ لَهَا أراييح من جيفتهم تكَاد تصرع فِي الجو
وَكَانُوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودية فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
واستبشر النَّاس بِهَذِهِ النِّعْمَة الَّتِي أسبغها الله عَلَيْهِم وَأَكْثرُوا من الشُّكْر لَهُ تَعَالَى على مَا أولاهم من إِجَابَة دُعَائِهِمْ الَّذِي واصلوه فِي أَيَّام هَذِه الشدَّة
فَللَّه الْحَمد على ذَلِك وَالشُّكْر
وَاتفقَ عقيب هَذِه الرَّحْمَة اجْتِمَاع معِين الدّين مَعَ نور الدّين عِنْد قربه من دمشق للإنجاد لَهَا
وَقَالَ ابْن الْأَثِير خرج ملك الألمان من بِلَاد الفرنج فِي جيوش كَبِيرَة عَظِيمَة لَا تحصى كَثْرَة من الفرنج إِلَى بِلَاد الشَّام فاتفق هُوَ وَمن بساحل الشَّام من الفرنج فَاجْتمعُوا وقصدوا مَدِينَة دمشق ونازلوها وَلَا يشك ملك الألمان إِلَّا أَنه يملكهَا وَغَيرهَا لِكَثْرَة جموعه وعساكره
قَالَ وَهَذَا النَّوْع من الفرنج هُوَ أَكْثَرهم عددا وأوسعهم بلادا وملكهم أَكثر عددا وعددا وَإِن كَانَ غير ملكهم أشرف مِنْهُ عِنْدهم وَأعظم محلا
فَلَمَّا حاصروا دمشق وَبهَا صَاحبهَا مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد بن بورى بن طغتكين وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمر إِلَى مَمْلُوك جده طغتكين وَهُوَ معِين الدّين أنر فَهُوَ كَانَ الْحَاكِم وَالْمُدبر للبلد والعسكر وَكَانَ عَاقِلا دينا خيرا حسن السِّيرَة(1/189)
فَجمع الْعَسْكَر وَحفظ الْبَلَد وحصرهم الفرنج وزحفوا إِلَيْهِم سادس ربيع الأول فَخرج الْعَسْكَر وَأهل الْبَلَد لمنعهم
وَكَانَ فِيمَن خرج الشَّيْخ الْفَقِيه حجَّة الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن ذوناس المغربي الفندلاوي شيخ الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وَكَانَ شَيخا كَبِيرا زاهدا عابدا خرج رَاجِلا فَرَآهُ معِين الدّين فقصده وَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا شيخ أَنْت مَعْذُور وَنحن نكفيك وَلَيْسَ بك قُوَّة على الْقِتَال فَقَالَ قد بِعْت وَاشْترى فَلَا نُقيله وَلَا نَسْتَقِيلهُ
يعْنى قَول الله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} الْآيَة
وَتقدم فقاتل الفرنج حَتَّى قتل رَحمَه الله عِنْد النيرب شَهِيدا
وَقَوي أَمر الفرنج وتقدموا فنزلوا بالميدان الْأَخْضَر وَضعف أهل الْبَلَد عَن ردهم عَنهُ
وَكَانَ معِين الدّين قد أرسل إِلَى سيف الدّين يستغيث بِهِ ويستنجده ويسأله الْقدوم عَلَيْهِ ويعلمه شدَّة الْأَمر
فَجمع سيف الدّين عساكره وَسَار مجدا إِلَى مَدِينَة حمص وَأرْسل إِلَى معِين الدّين يَقُول لَهُ قد حضرت وَمَعِي كل من يُطيق حمل السِّلَاح من بلادي فَإِن أَنا جِئْت إِلَيْك ولقينا الفرنج وَلَيْسَت دمشق بيد نوابي وأصحابي وَكَانَت الْهَزِيمَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه علينا لَا يسلم منا أحد لبعد بِلَادنَا عَنَّا وَحِينَئِذٍ يملك الفرنج دمشق وَغَيرهَا فَإِن أردتم أَن ألقاهم وأقاتلهم فتسلم الْبَلَد إِلَى من أَثِق إِلَيْهِ وَأَنا أَحْلف لَك إِن كَانَت النُّصْرَة لنا على الفرنج أنني لَا آخذ دمشق وَلَا أقيم لَهَا إِلَّا مِقْدَار مَا يرحل الْعَدو عَنْهَا وأعود إِلَى بلادي
فماطله معِين الدّين لينْظر مَا يكون من الفرنج
فَأرْسل سيف الدّين إِلَى الفرنج(1/190)
الغرباء يتهددهم وَيُعلمهُم أَنه على قصدهم إِن لم يرحلوا
وَأرْسل معِين الدّين إِلَيْهِم أَيْضا يَقُول لَهُم قد حضر ملك الشرق وَمَعَهُ من العساكر مَا لَا طَاقَة لكم بِهِ فَإِن أَنْتُم رحلتم عنّا وَإِلَّا سلمت الْبَلَد إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ لَا تطمعون فِي السَّلامَة مِنْهُ
وَأرْسل إِلَى فرنج الشَّام يخوفهم من أُولَئِكَ الفرنج الخارجين إِلَى بِلَادهمْ وَيَقُول لَهُم أَنْتُم بَين أَمريْن مذمومين إِن ملك هَؤُلَاءِ الفرنج الغرباء دمشق لَا يبقون عَلَيْكُم مَا بِأَيْدِيكُمْ من الْبِلَاد وَإِن سلمت أَنا دمشق إِلَى سيف الدّين فَأنْتم تعلمُونَ أَنكُمْ لَا تقدرون على مَنعه من الْبَيْت الْمُقَدّس
وبذل لَهُم أَن يسلم إِلَيْهِم بانياًس أَن رحلوا ملك الألمان عَن دمشق فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَعَلمُوا صدقه واجتمعوا بِملك الألمان وخوفوه من سيف الدّين وَكَثْرَة عساكره وتتابع أمداده وَأَنه رُبمَا ملك دمشق فَلَا يبْقى لَهُم مَعَه مقَام بالسَّاحل
فأجابهم إِلَى الرحيل عَن دمشق فَرَحل ورحل فرنج السَّاحِل وتسلموا حصن بانياس من معِين الدّين وَبَقِي مَعَهم حَتَّى فَتحه نور الدّين مَحْمُود رَحمَه الله كَمَا سَنذكرُهُ
قلت وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر رَحْمَة الله فِي تَارِيخه أَن الْفَقِيه الفندلاوي رُؤِيَ فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ أَيْن انت قَالَ فِي جنَّات عدن على سُرُرٍ مُتَقَابلين
وقبره الْآن يزار بمقابر الْبَاب الصَّغِير من نَاحيَة حَائِط الْمصلى وَعَلِيهِ بلاطة كَبِيرَة منقورة فِيهَا شرح حَاله(1/191)
وَأما عبد الرَّحْمَن الحلحولي فقبره فِي بُسْتَان الشَّعْبَانِي فِي جِهَة شرقه وَهُوَ الْبُسْتَان المحاذي لمَسْجِد شعْبَان الْمَعْرُوف الْآن بِمَسْجِد طالوت
وَكَانَ مقَامه فِي حَيَاته فِي ذَلِك الْمَكَان رَحْمَة الله
وقرأت قصيدة فِي شعر أَبى الحكم الأندلسي شرح فِيهَا هَذِه الْقِصَّة مِنْهَا
(بشطى نهر داريا ... أُمُور مَا تواتينا)
(وأقوام رَأَوْا سفك الدَّم ... مَا فِي جلق دينا)
(أَتَانَا مئتا ألف ... عديدا أَو يزيدونا)
(فبعضهم من أندلس ... وَبَعض من فلسطينا)
(وَمن عكا وَمن صور ... وَمن صيدا وتبنينا)
(إِذا أبصرتهم أَبْصرت ... أَقْوَامًا مجانينا)
(وَلَكِن حرقوا فِي عَاجل ... الْحَال البساتينا)
(وجازوا المرج وَالتَّعْدِيل ... أَيْضا والميادينا)
(تخالهم وَقد ركبُوا ... فطائرها حراذينا)
(وَبَين خيامهم ضمُّوا الخنازر ... والقرابينا)
(ورايات وصلبانا ... على مَسْجِد خاتونا)(1/192)
(وَقُلْنَا إِذْ رأيناهم ... لَعَلَّ الله يكفينا)
(سَمَا لَهُم معِين قد ... أعَان الْخلق والدينا)
(وفتيان تخالهم ... لَدَى الهيجا شياطينا)
(فَوَلوا يطْلبُونَ المرج ... من شَرْقي جسرينا)
(وَلَكِن غادروا إلْيَاس ... تَحت الترب مَدْفُونا)
(وشيخا فندلاويا ... فَقِيها يعضد الدِّينَا)
(وفتيانا تفانوا من ... دمشق نَحْو سبعينا)
(وَمِنْهُم مئتا علج ... وخيل نَحْو تسعينا)
(وباقيهم إِلَى الْآن ... من الْقَتْل يفرونا)
وللعرقلة حسان فِي مدح مجير الدّين صَاحب دمشق حِينَئِذٍ قصيدة ذكر فِيهَا هَؤُلَاءِ الفرنج أَولهَا
(عرّج على نجد لَعَلَّك منجدى ... بنسيمها وبذكر سعدي مسعدى)
يَقُول فِيهَا
(من قَاتل الأفرنج دينا غَيره ... وَالْخَيْل مثلُ السّيل عِنْد المشهد)
(رد الْأمان بِكُل ندب باسل ... وَمن الْجِيَاد بِكُل نهد أجرد)
(وَمن السيوف بِكُل عضب أَبيض ... وَمن العجاج بِكُل نقع أسود)
(حَتَّى لوى الْإِسْلَام تَحت لوائه ... وَغدا بِحَمْد من شَرِيعَة أَحْمد)(1/193)
وقرأت فِي ديوَان مُحَمَّد بن نصر القيسراني قصيدة فِي مدح تَاج الْمُلُوك بورى جد مجير الدّين أنْشدهُ إِيَّاهَا عِنْد كسرة الفرنج على دمشق فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخمْس مئة وَهِي وَاقعَة تشبه الْوَاقِعَة فِي زمن مجير الدّين
أول القصيدة
(الْحق مبتهج وَالسيف مبتسم ... وَمَال أَعدَاء فَخر الدّين مقتسم)
يَقُول فِيهَا
(قدت الْجِيَاد وحصنت الْبِلَاد وَأمنت ... الْعباد فَأَنت الْحل وَالْحرم)
(وَجئْت بِالْخَيْلِ من أقْصَى مرابطها ... معاقد الحزم فِي أوساًطها الحُزُم)
(حَتَّى إِذا مَا أحَاط الْمُشْركُونَ بِنَا ... كالليل يلتهم الدُّنْيَا لَهُ ظلم)
(واقبلوا لَا من الإقبال فِي عدد ... يؤود حَاسبه الإعياء والسأم)
(أجريت بحرا من الماذي معتكرا ... أمواجه بأواسى الْبَأْس تلتطم)
(وسست جندك والرحمن يكلؤه ... سياسة مَا يُعْفَى إثْرهَا نَدم)
(وقفت فِي الْجَيْش والأعلام خافقة ... بالنصر كل قناة فَوْقهَا علم)
(يحوطك الله صونا عَن عيونهم ... وَالله يعْصم من بِاللَّه بعتصم)
(حَتَّى إِذا بَدَت الآراء ضاحكة ... وَأَقْبَلت أوجه الإقبال تبتسم)
(أتبعت جن سراياهم مضمرة ... فِيهَا نُجُوم إِذا وجد الوغى رجموا)(1/194)
(والنصر دَان وخيل الله مقبلة ... ترجو الشَّهَادَة فِي الهيجا وتغتنم)
(صاب الْغَمَام عَلَيْهِم والسهام مَعًا ... فَمَا دروا أيُّما الهطالة الدّيم)
(سروا لينتهبوا الْأَعْمَار فانتهبوا ... قتلا ويغتنموا الْأَمْوَال فاغتنموا)
(وَأَقْبَلت خَيْلنَا تردي بخيلهم ... مَجْنُونَة وعَلى أرماحنا القمم)
(وَأدبر الْملك الطاغي يزعزعه ... حر الأسنة وَهُوَ البادر الشبم)
(وافوا دمشق وظنوا أَنَّهَا جدة ... ففارقوها وَفِي أَيْديهم الْعَدَم)
(وأيقنوا مَعَ ضِيَاء الصُّبْح أَنهم ... إِن لم يزولوا سرَاعًا زَالَت الخيم)
(فغادروا أَكثر القربان وانجفلوا ... وخلفوا أكبر الصلبان وانهزموا)
(وحاولوا الْمَسْجِد الأدْنى فَمَا عبرت ... عَن مَسْجِد الْقدَم الْأَقْصَى لَهَا قدم)
(مستسلمين لأيدي الْمُسلمين وَقد ... أغرى القنا بتمادي خطفهم نهم)
(لَا يملك الجسُم دفعا عَن مقاتله ... كَأَنَّهُ حِين يغشاهُ الردى صنم)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير لما رَحل الفرنج عَن دمشق سَار معِين الدّين أنر إِلَى بعلبك وَأرْسل إِلَى نور الدّين وَهُوَ مَعَ أَخِيه سيف الدّين يسْأَله أَن يحضر عِنْده فاجتمعا فوصل إِلَيْهِمَا = كتاب القمص = صَاحب طرابلس يُشِير عَلَيْهِمَا(1/195)
بِقصد حصن العريمة وَأَخذه مِمَّن فِيهِ من الفرنج
وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن ولد الفنش صَاحب جَزِيرَة صقلية خرج مَعَ ملك الألمان إِلَى الشَّام وتغلب على العريمة وَأَخذهَا من القمص وَأظْهر أَنه يُرِيد أَخذ طرابلس مِنْهُ أَيْضا وجد هَذَا الَّذِي ملك العُريمة هُوَ الَّذِي غزا إفريقية وَفتح مَدِينَة طرابلس الغرب فَلَمَّا استولى هَذَا على العريمة كَاتب القومص نور الدّين ومعين الدّين فِي قَصده فسارا إِلَيْهِ مجدين فصبحاه وكتبا إِلَى سيف الدّين يستنجدانه ويطلبان مِنْهُ المدد فأمدهما
فحصروا الْحصن وَبِه ابْن الفنش ونقبوا السُّور فأذعن الفرنج واستسلموا وألقوا بِأَيْدِيهِم
فَملك الْمُسلمُونَ الْحصن وَأخذُوا كل من بِهِ من رجل وَصبي وَامْرَأَة وَفِيهِمْ ابْن الفنش وأخربوا الْحصن وعادوا إِلَى سيف الدّين
وافتتح نور الدّين أَيْضا باسوطا وهاب
وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى قتل أَكثر من كَانَ فِيهِ يَعْنِي فِي حصن العريمة واسروا وَأخذُوا ولد الْملك وَأمه وَنهب مَا فِيهِ من الْعدَد والخيول والأثاث
وَعَاد عَسْكَر سيف الدّين إِلَى مخيمه بحمص وَنور الدّين عَاد إِلَى حلب وَمَعَهُ ولد الْملك وَأمه وَمن اسر مَعَهُمَا وانكفأ معِين الدّين إِلَى دمشق(1/196)
قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي رَجَب من نَاحيَة حلب بِأَن نور الدّين صَاحبهَا كَانَ قد توجه فِي عسكره إِلَى نَاحيَة الْأَعْمَال الإفرنجية وَقصد فامية وظفر بعدة من الْحُصُون والمعاقل الإفرنجية وبعدة وافرة من الإفرنج وان صَاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حِين غَفلَة مِنْهُ فَنَال من عسكره وأثقاله وكراعه مَا أوجبته الأقدار النَّازِلَة وَانْهَزَمَ بِنَفسِهِ وَعَسْكَره وَعَاد إِلَى حلب سالما فِي عسكره لم يفقد مِنْهُ إِلَّا النَّفر الْيَسِير بعد قتل جمَاعَة وافرة من الإفرنج
وَأقَام بحلب أَيَّامًا بِحَيْثُ جدد مَا ذهب لَهُ من البرك وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من آلَات الْعَسْكَر وَعَاد إِلَى منزله وَقيل لم يعد
وَذكر ابْن أَبى طي أَن أَسد الدّين لما كَانَ فِي نَفسه على نور الدّين من تَقْدِيم ابْن الداية عَلَيْهِ لم ينصح يَوْمئِذٍ وَهِي وَاقعَة يغرا وَمر بِهِ نور الدّين فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْوُقُوف والغفلة فِي مثل هَذَا الْوَقْت والمسلمون قد انكسروا فَقَالَ يَا خوند إيش ننفع نَحن إِنَّمَا ينفع مجد الدّين أَبُو بكر فَهُوَ صَاحب الْأَمر
فاستدرك نور الدّين ذَلِك وَطيب قلب أَسد الدّين بعد ذَلِك والزم مجد الدّين أَن يعرف لأسد الدّين حَقه واصلح بَينهمَا
قَالَ وَقتل فِي هَذِه الكسرة شاهنشاه بن أَيُّوب أَخُو الْملك النَّاصِر وَقيل فِي كسرة البقيعة(1/197)
قلت وَهُوَ وَالِد عز الدّين فرخشاه وتقي الدّين عمر والست عذرا الْمَنْسُوب إِلَيْهَا الْمدرسَة الْمدرسَة العذراوية دَاخل بَاب النَّصْر بِدِمَشْق وقبره الْآن بالتربة النجمية جوَار الْمدرسَة الحسامية بمقبرة العوينة ظَاهر دمشق رَحِمهم الله تَعَالَى
قلت وَلابْن مُنِير من قصيدة تقدّمت اعتذارا عَمَّا جرى فِي هَذِه الْغُزَاة قَالَ
(لم يشنه من مَاء يغراء أَن فر ... الأشابات ذاد عَنْهَا انذلاقه)
(كَانَ فِيهَا لَيْث العرين حمى الأشبال ... مِنْهُ غَضْبَان كالنار ماقه)
(وشبيه النَّبِي يَوْم حُنيْن ... إِذْ تلافى أدواءهم درْيَاقه)
(وَهِي الْحَرْب فَحلهَا يحسن الكرة ... إِن عض بأسها لَا نياقه)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين أَيْضا سَار نور الدّين إِلَى يغرى وَقد اجْتمع بهَا الفرنج فِي قضهم وقضيضهم وَقد عزموا على قصد بِلَاد الْإِسْلَام فَالتقى بهم هُنَالك واقتتلوا أَشد قتال ثمَّ أنزل الله(1/198)
نَصره على الْمُسلمين وَانْهَزَمَ الفرنج وَكَانُوا بَين قَتِيل وأسير وَفِي هَذِه الْوَقْعَة يَقُول القيسراني من قصيدة أَولهَا
(يَا لَيْت أَن الصد مصدود ... أَو لَا فليت النّوم مَرْدُود)
(إِلَى مَتى تعرض عَن مغرم ... فِي خَدّه للدمع أخدُود)
(قَالُوا عُيُون الْبيض بيض الظبي ... قلت وَلَكِن هَذِه سود)
(يخَاف مِنْهَا وَهِي فِي جفنها ... وَالسيف يخْشَى وَهُوَ مغمود)
ثمَّ خرج إِلَى الْمَدْح فَقَالَ
(وَكَيف لَا نثني على عيشنا الْمَحْمُود ... وَالسُّلْطَان مَحْمُود)
(فليشكر النَّاس ظلال المنى ... إِن رواق الْعدْل مَمْدُود)
(ونيرات الْملك وهاجة ... وطالع الدولة مَسْعُود)
(وصارم الْإِسْلَام لَا ينثني ... إِلَّا وشْلوُ الْكفْر مقدود)
(مَنَاقِب لم تَكُ مَوْجُودَة ... إِلَّا وَنور الدّين مَوْجُود)
(مظفر فِي درعه ضيغم ... عَلَيْهِ تَاج الْملك مَعْقُود)
(نَالَ الْمَعَالِي حَاكما مَالِكًا ... فَهُوَ سُلَيْمَان وَدَاوُد)
(ترتشف الأفواه أسيافه ... أَن رُضاب الْعِزّ مورود)
(وَكم لَهُ من وقعةٍ يَوْمهَا ... عِنْد مُلُوك الشّرك مشهود)
(وَالْقَوْم إِمَّا مُرهق صرعة ... أَو موثق بالقد مشدود)
(حَتَّى إِذا عَادوا إِلَى مثلهَا ... قَالَت لَهُم هيبته عودوا)
(طَالب بثأر ضمنته الظبي ... فَكل مَا تضمن مَرْدُود)
(وَالْكر والفر سِجَال الوغى ... فطارد طورا ومطرود)(1/199)
(وَإِنَّمَا الإفرنج من بغيها ... عَاد وَقد عَاد لَهَا هود)
(قد حصحص الْحق فَمَا جَاحد ... فِي قلبه بأسك مجحود)
(فَكل مصر بك مستفتح ... وكل ثغر بك مسدود)
وَقَالَ أَيْضا قصيدة فِي نور الدّين وأنشده إِيَّاهَا بِظَاهِر حلب وَقد كسر الإفرنج على يغرا وَهَزَمَهُمْ إِلَى حصن حارم وَقد كَانَت الفرنج هزمت الْمُسلمين أَولا بِهَذَا الْموضع أَولهَا
(تفي بضمانها الْبيض الْحداد ... وتقضي دينهَا السمر الصعاد)
(وتدرك ثارها من كل بَاغ ... فوارس من عزائمها الجلاد)
(ويغشى حومة الهيجا همام ... تشد بضبعه السَّبع الشداد)
(أظنوا أَن نَار الْحَرْب تخبو ... وَنور الدّين فِي يَده الزِّنَاد)
(وجند كالصقور على صقور ... إِذا انقضوا على الْأَبْطَال صادوا)
(إِذا أخفوا مكيدتهم أخافوا ... وَإِن ابدوا عداوتهم أبادوا)
(ونصرة دولة حاميت عَنْهَا ... وَهل تخشى وَأَنت لَهَا عماد)
(وَإِن نتل القوافي مَا تلته ... بإنب مَا يؤبنها سناد)
(جرت بالنصر أَقْلَام العوالي ... وَلَيْسَ سوى النجيع لَهَا مداد)
(وطالت أرؤس الأعلاج خصبا ... فَنَادَى السَّيْف قد وَقع الْحَصاد)
(أحطت بهم فَكَانَ الْقَتْل صبرا ... وَلَا طعن هُنَاكَ وَلَا طراد)
(وللإبرنز فَوق الرمْح رَأس ... توسد والسنان لَهُ وساد)(1/200)
(ترجل للسلام ففرسوه ... وَلَيْسَ سوى الْقَنَاة لَهُ جواد)
(غضيض المقلتين وَلَا نُعَاس ... وغائرها وَلَيْسَ بِهِ سهاد)
(فسر واستوعب الدُّنْيَا فتوحا ... فَلَا هضب هُنَاكَ وَلَا وهاد)
(وزر ببني الوغى مثوى حبيب ... فَمَا عَن بَاب مسلمة ذياد)
(وَلَا فِي بَاب فَارس غير ثَكْلَى ... بفارسها يضيء بهَا الْحداد)
(أأنطاكية تَحْمِي ذراها ... وَقد دَانَتْ لسطوتك الْبِلَاد)
(وأذعنت الممالك واستجابت ... ملبية لدعوتك الْعباد)
قلت ووقعة إنب هَذِه كَانَت عَظِيمَة وَقد كثر ذكر الشُّعَرَاء وَسَيَأْتِي ذكرهَا قَرِيبا
فصل
قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وَفِي رَجَب من هَذِه السّنة ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بِأَن صَاحبهَا نور الدّين بن أتابك أَمر بابطال حَيّ على خير الْعَمَل فِي أَوَاخِر تأذين الْغَدَاة والتظاهر بسب الصَّحَابَة وَأنكر ذَلِك إنكارا شَدِيدا(1/201)
وساعده على ذَلِك جمَاعَة من السّنة بحلب وَعظم هَذَا الْأَمر على الإسماعيلية وَأهل التَّشَيُّع وَضَاقَتْ لَهُ صُدُورهمْ وهاجوا لَهُ وماجوا ثمَّ سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية الْمَشْهُورَة والهيبة المحذورة
قلت وأنشده ابْن مُنِير فِي شهر رَمَضَان
(فدَاك من صَامَ وَمن أفطرا ... وَمن سعى سعيك أَو قصرا)
(وَمَا الورى أَهلا فتفدى بهم ... وَهل يوازي عرض جوهرا)
(عدل تساوى تَحت أكنافه ... مطافل الْعين وَأسد الشرى)
(يَا نور دين الله كم حَادث ... دجا وأسفرت لَهُ فانسرى)
(وَكم حمى للشرك لَا يَهْتَدِي الْوَهم ... لَهُ غادرته مجزرا)
(يَا ملك الْعَصْر الَّذِي صَدره ... أفسح من أقطارها مصدرا)
(وَابْن الَّذِي طاول أفلاكها ... فَلم يجد من فَوْقه مظْهرا)
(مَنَاقِب تكسر كسْرَى كَمَا ... تقصر عَن إِدْرَاكهَا قيصرا)
(مَا عَام فِي أوصافها شَاعِر ... إِلَّا رأى أوصافها أشعرا)
(لله أصل أَنْت فرع لَهُ ... مَا أطب المجنى وَمَا أطهرا)
(مَا حلب الْبَيْضَاء مذ صنتها ... إِلَّا حرَام مثل أم الْقرى)(1/202)
(شيدت فِي معمور أرجائها ... لكل باغي عُمرة مشعرا)
(فَأصْبح الشادى إِذا ثوب الدَّاعِي ... لَهُ هلل أَو كبرا)
(لَا عدم الْإِسْلَام مَنْ كَفُّه ... كهفٌ لمن أرهق أَو أُحْصرا)
(كَأَنَّمَا ساحٌته جنَّة ... أجرت بهَا رَاحَته كوثرا)
(تصرم الشَّهْر الَّذِي كنت فِي ... أوقاته من قدره أشهرا)
(جِهَاد ليل فِي نَهَار فَفُزْ ... إِذْ كنت فِيهِ الأصْبرَ الأشكرا)
(أصدق مَا يرشفه سامع ... مَا هز من أوصافك المنبرا)
(ابقاك للدنيا وللدين من ... خلاك فِي ليلهما نيرا)
(حَتَّى ترى عِيسَى من الْقُدس قد ... لجا إِلَى سَيْفك مستنصرا)
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي رَجَب أذن لمن يتعاطى الْوَعْظ بالتكلم فِي الْجَامِع الْمَعْمُور بِدِمَشْق على جاري الْعَادة والرسم فَبَدَا من اخْتلَافهمْ فِي أَحْوَالهم وأغراضهم والخوض فِي قضايا لَا حَاجَة إِلَيْهَا من الْمذَاهب مَا أوجب صرفهم عَن هَذِه الْحَال وَإِبْطَال الْوَعْظ لما يتَوَجَّه مَعَه من الْفساد وطمع سُفَهَاء الأوغاد وَذَلِكَ فِي آخر شعْبَان مِنْهَا
قَالَ وَكثر فَسَاد الفرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية فِي الْأَعْمَال الدمشقية بعد رحيلهم عَن دمشق فَأَغَارَ معِين الدّين على أَعْمَالهم وخيم فِي نَاحيَة حوران بالعسكر وَكَاتب الْعَرَب واستدعى جمَاعَة وافرة من(1/203)
التركمان وَأطلق أَيْديهم فِي نهبهم والفتك بهم فَلم يزل على النكاية فيهم والمضايقة لَهُم إِلَى أَن ألجأهم إِلَى طلب الْمُصَالحَة
وَدخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة)
فجددت المهادنة فِي الْمحرم مُدَّة سنتَيْن وأنفذ نور الدّين إِلَى معِين الدّين يُعلمهُ أَن صَاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بِلَاده وَظهر يطْلب بهم الْإِفْسَاد فِي الْأَعْمَال الحلبية وَأَنه قد برز فِي عسكره إِلَى ظَاهر حلب للقائه وَالْحَاجة ماسة إِلَى معاضدته فندب معِين الدّين مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين فِي فريق وافر من الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي للمصير إِلَى جِهَته وبذل المجهود فِي طَاعَته ومناصحته وَبَقِي معِين الدّين فِي بَاقِي الْعَسْكَر بِنَاحِيَة حَوْرَان
قَالَ وَفِي صفر من السّنة وَردت البشائر من جِهَة نور الدّين بِمَا أولاه الله تَعَالَى وَله الْحَمد من الظُّهُور على حشد الإفرنج المخذول وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم وَذَلِكَ أَن نور الدّين اجْتمع لَهُ من العساكر سِتَّة آلَاف فَارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد فَنَهَضَ بهم إِلَى الفرنج فِي الْموضع الْمَعْرُوف بإنب وهم فِي نَحْو أَربع مئة فَارس وَألف راجل فَقَتَلُوهُمْ وغنموهم وَوجد اللعين الْبُرْنُس مقدمهم صَرِيعًا بَين حماته(1/204)
وأبطاله فَعرف وَقطع رَأسه وَحمل إِلَى نور الدّين
وَكَانَ هَذَا اللعين من أبطال الفرنج الْمَشْهُورين بالفروسية وَشدَّة الْبَأْس وَقُوَّة الْحِيَل وَعظم الْخلقَة مَعَ اشتهار الهيبة وَكَثْرَة السطوة والتناهي فِي الشَّرّ وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر
ثمَّ نزل نور الدّين فِي الْعَسْكَر على بَاب أنطاكية وَقد خلت من حماتها والذابين عَنْهَا وَلم يبْق فِيهَا غير أَهلهَا مَعَ كَثْرَة أعدادهم وحصانة بلدهم
وترددت المرسلات بَينه وَبينهمْ فِي طلب التَّسْلِيم إِلَيْهِ وَإِيمَانهمْ وصيانة أَمْوَالهم فَوَقع الِاحْتِجَاج مِنْهُم بِأَن هَذَا أَمر لَا يُمكنهُم الدُّخُول فِيهِ إِلَّا بعد انْقِطَاع آمالهم من النَّاصِر لَهُم والمعين على من يقصدهم
وحملوا مَا أمكنهم من التحف وَالْمَال واستمهلوا فأمهلوا
ثمَّ رتب نور الدّين بعض الْعَسْكَر للإقامة عَلَيْهَا وَالْمَنْع لمن يصل إِلَيْهَا ونهض فِي بَاقِيَة الْعَسْكَر إِلَى نَاحيَة أفامية وَقد كَانَ رتب الْأَمِير صَلَاح الدّين فِي فريق وافر من الْعَسْكَر لمنازلتها ومضايقتها فالتمسوا الْأمان فأومنوا على أنفسهم وسلموا الْبَلَد فِي ثامن عشر ربيع الأول وانكفأ نور الدّين فِي عسكره إِلَى نَاحيَة أنطاكية وَقد انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر بنهوض الفرنج من نَاحيَة السَّاحِل إِلَى صوب أنطاكية لإنجاد من بهَا فاقتضت الْحَال مهادنة من فِي أنطاكية وموادعتهم وَتَقْرِير أَن يكون مَا قرب من الْأَعْمَال الحلبية لَهُ وَمَا قرب من أنطاكية لَهُم ورحل عَنْهُم إِلَى جِهَة غَيرهم بِحَيْثُ كَانَ قد ملك فِي هَذِه النّوبَة مِمَّا حول أنطاكية من الْحُصُون والقلاع والمعاقل وَغَيرهَا الْمَغَانِم الجمة
وَفصل عَنهُ الْأَمِير مُجَاهِد الدّين بزان فِي الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي وَقد كَانَ لَهُ فِي هَذِه الْوَقْعَة وَلمن فِي جملَته الْبلَاء الْمَشْهُور وَلذكر المشكور لما هُوَ مَوْصُوف بِهِ من الشهامة والبسالة وإصابة الرَّأْي والمعرفة بمواقف الحروب(1/205)
وَقَالَ ابْن أَبى طي حمل أَسد الدّين على حَامِل صَلِيب الفرنج فَقتله وَقتل الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَجَمَاعَة من وُجُوه عسكره وَلم يقتل من الْمُسلمين من يؤبه لَهُ وَعَاد الْمُسلمُونَ بالغنائم وَالْأسَارَى
وَكَانَ لأسد الدّين فِي هَذِه الْحَرْب الْيَد الْبَيْضَاء ومدحه بهَا بعض الشُّعَرَاء الحلبيين بقصيدة يَقُول فِيهَا
(إِن كَانَ آل الفرنج أدركوا فلحا ... فِي يَوْم يغرا ونالوا منية الظفر)
(فَفِي الخطيم خطمت الْكفْر منصلتا ... أَبَا المظفر بالصمصامة الذّكر)
(نالوا بيغرا نهابا وانتهبت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر الأشر)
(واستقودوا الْخَيل عريا واستقدت لنا ... قوامص الْكفْر فِي ذل وَفِي صغر)
قَالَ وَحصل لأسد الدّين من هَذِه الكسرة سلَاح كثير وعدة أُسَارَى وخيول كَثِيرَة فأنفذ لِأَخِيهِ نجم الدّين مِنْهَا شَيْئا
وَفِي هَذِه السّنة عظم أَمر أَسد الدّين
وَقَالَ ابْن الْأَثِير سَار نور الدّين إِلَى حصن حارم وَهُوَ للفرنج فحصره وَخرب ربضه وَنهب سوَاده ثمَّ رَحل عَنهُ إِلَى حصن إنب فحصره فاجتمعت الفرنج مَعَ الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَسَارُوا إِلَيْهِ ليُرَحِّلُوه عَن إنب فَلم يرحل بل لَقِيَهُمْ وتصاف الْفَرِيقَانِ واقتتلوا وصبروا وَظهر من نور الدّين من الشجَاعَة وَالصَّبْر فِي الْحَرْب على حَدَاثَة سنه مَا تعجب مِنْهُ(1/206)
النَّاس وأجلت الْحَرْب عَن هزيمَة الفرنج وَقتل الْمُسلمُونَ مِنْهُم خلقا كثيرا وفيمن قتل الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَكَانَ عاتيا من عتاة الفرنج وَذَوي التَّقَدُّم فيهم وَالْملك
وَلما قتل الْبُرْنُس خلف ابْنا صَغِيرا وَهُوَ بيمند فبقى مَعَ أمه بأنطاكية فَتزوّجت أمه بإبرنس آخر وَأقَام مَعهَا بأنطاكية يدبر الْجَيْش ويقودهم وَيُقَاتل لَهُم إِلَى أَن يكبر بيمند
ثمَّ إِن نور الدّين غزا بلد الفرنج غَزْوَة أُخْرَى وَهَزَمَهُمْ وَقتل فيهم واسر وَكَانَ فِي الأسرى الْبُرْنُس الثَّانِي زوج أم بيمند
فَلَمَّا أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أَبِيه وَتمكن مِنْهُ وَبَقِي بهَا إِلَى أَن أسره نور الدّين بحارم سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأكْثر الشُّعَرَاء مدح نور الدّين وتهنئته بِهَذَا الْفَتْح وَقتل الْبُرْنُس وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ القيسراني الشَّاعِر من قصيدة أنْشدهُ إِيَّاهَا بجسر الْحَدِيد الْفَاصِل بَين عمل حلب وَعمل أنطاكية أَولهَا
(هذى العزائم لَا مَا تدعى القضب ... وَذي المكارم لَا مَا قَالَت الْكتب)
(وَهَذِه الهمم اللاّتي مَتى خَطبت ... تعثرت خلفهَا الْأَشْعَار والخطب)
(صافحت يَا ابْن عماد الدّين ذروتها ... براحة للمساعي دونهَا تَعب)
(مَا زَالَ جدك ينبي كل شاهقة ... حَتَّى ابتنى قبَّة أوتادها الشهب)(1/207)
(لله عزمك مَا أمضى وهمك مَا ... أقْصَى اتساعا بِمَا ضَاقَتْ بِهِ الحقب)
(يَا ساهد الطّرف والأجفان هاجعة ... وثابت الْقلب والأحشاء تضطرب)
(أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رُومِية الْكُبْرَى لَهَا يجب)
(ضربت كبشهم مِنْهَا بقاصمة ... أودى بهَا الصلب وانحطت بهَا الصلب)
(قل للطغاة وَإِن صمت مسامعها ... قولا لصُم القنا فِي ذكره أرب)
(مَا يَوْم إنب وَالْأَيَّام دائلة ... من يَوْم يغرا بعيد لَا وَلَا كثب)
(أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم اسْلَمْ الْجَهْل ظنا غره الْكَذِب)
(غضِبت للدّين حَتَّى لم يفتك رضى ... وَكَانَ دين الْهدى مرضاته الْغَضَب)
(طّهرت أَرض الأعادي من دِمَائِهِمْ ... طَهَارَة كل سيف عِنْدهَا جنب)
(حَتَّى استطار شرار الزند قادحُه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب)
(وَالْخَيْل من تَحت قتلاها تقر لَهَا ... قَوَائِم خانهن الركض والخبب)
(وَالنَّقْع فَوق صقال الْبيض مُنْعَقد ... كَمَا اسْتَقل دُخان تَحْتَهُ لَهب)
(وَالسيف هام على هاًم بمعركة ... لَا الْبيض ذُو ذمَّة فِيهَا وَلَا اليلب)
(والنبل كالوبل هطال وَلَيْسَ لَهُ ... سوى القسي وأيد فَوْقهَا سحب)
(وللظبي ظفر حلوٌ مذاقته ... كَأَنَّمَا الضَّرْب فِيمَا بَينهم ضرب)(1/208)
(وللأسنة عَمَّا فِي صُدُورهمْ ... مصَادر أقلوب تِلْكَ أم قُلُب)
(خانوا فخانت رماح الطعْن أَيْديهم ... فاستسلموا وَهِي لَا نبع وَلَا غرب)
(كَذَاك من لم يُوقَ الله مهجته ... لَاقَى العدى والقنا فِي كَفه قصب)
(كَانَت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يَا رب حائنة منجاتها العطب)
(حَتَّى الطوارق كَانَت من طوارقهم ... ثارت عَلَيْهِم بهَا من تحتهَا النوب)
(أَجْسَادهم فِي ثِيَاب من دِمَائِهِمْ ... مسلوبة وَكَأن الْقَوْم مَا سُلبوا)
(أنباء ملحمةٍ لَو أَنَّهَا ذكرت ... فِيمَا مضى نسيت أَيَّامهَا الْعَرَب)
(من كَانَ يَغْزُو بِلَاد الشّرك مكتسبا ... من الْمُلُوك فنور الدّين محتسب)
(ذُو غرَّة مَا سمت وَاللَّيْل معتكر ... إِلَّا تَمَزَّقَ عَن شمس الضُّحَى الْحجب)
(أَفعاله كاسمه فِي كل حَادِثَة ... وَوَجهه نَائِب عَن وَصفه الّلقب)
(فِي كل يَوْم لفكرى من وقائعه ... شغل فَكل مديحي فِيهِ مقتضب)
(من باتت الْأسد أسرى فِي سلاسله ... هَل يأسر الغُلْبَ إلاَّ من لَهُ الغَلَب)
(فملكوا سلب الإبرنز قَاتله ... وَهل لَهُ غير أنطاكية سلب)
(من للشقي بِمَا لاقت فوارسه ... وَإِن يسايرها من تَحْتَهُ قتب)
(عجبت للصَّعْدة السمراء مثمرة ... بِرَأْسِهِ إِن إثمار القنا عجب)(1/209)
سما عَلَيْهِم سمو المَاء أرهقهُ ... أنبوبُهُ فِي صَعُود أَصْلهَا صَبب)
(مَا فَارَقت عذبات التَّاج مفرقه ... إلاّ وهامتهُ تَاج وَلَا عذب)
(إِذا الْقَنَاة ابتغت فِي رَأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نَحره سَرَب)
(كُنَّا نعد حمى أطرافنا ظفرا ... فملكتك الظبى مَا لَيْسَ يحْتَسب)
(عَمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كَانَ تَسْلِيم هَذَا عِنْد ذَا جرب)
(لم يبْق مِنْهُم سوى نبض بِلَا رَمق ... كَمَا التوَى بعد رَأس الْحَيَّة الذَّنب)
(فانهض إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى بذى لجب ... يوليك أقْصَى المنى فالقدس مرتقب)
(وائذن لموجك فِي تَطْهِير ساحله ... فَإِنَّمَا أَنْت بَحر لجه لجب)
(يَا من أعَاد ثغور الشَّام ضاحكة ... من الظبي عَن ثغور زانها الشنب)
(مَا زلت تلْحق عاصيها بطائعها ... حَتَّى أَقمت وأنطاكية حلب)
(حللت من عقلهَا أَيدي معاقلها ... فاستجفلت وَإِلَى مِيثَاقك الْهَرَب)
(وأيقنت أَنَّهَا تتلو مراكزها ... وَكَيف يثبت بَيت مَا لَهُ طُنُب)
(أجريت من ثغر الْأَعْنَاق أَنْفسهَا ... جرى الجفوان امتراها بارح حصب)(1/210)
(وَمَا ركزت القنا إِلَّا ومنك على ... جسر الْحَدِيد هزبرٌ غيله أشب)
(فاسعد بِمَا نلته من كل صَالِحَة ... يأوى إِلَى جنَّة المأوى لَهَا حسب)
(إِلَّا تكن أحد الأبدال فِي فلك التَّقْوَى ... فَلَا يتمارى أَنَّك القطب)
(فَلَو تناسب أَمْلَاك السَّمَاء بهَا ... لَكَانَ بَيْنكُمَا من عفة نسب)
(هَذَا وَهل كَانَ فِي الْإِسْلَام مكرمَة ... إِلَّا شهِدت وَعباد الْهوى غُيُب)
وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى
(أَلا لله دَرك أَي در ... صَرِيح جَاءَ بِالْكَرمِ الصَّرِيح)
(وعسكرك الَّذِي استولى مشيحا ... على مَا بَين فامية وشيح)
(ووقعتك الَّتِي نبت العوالي ... صوادر عَن قَتِيل أَو جريح)
(بإنب يَوْم أبرزت المذاكى ... من النَّقْع الغزالة فِي مسوح)
(غَدَاة كَأَنَّمَا العاصى احمرارا ... من الدَّم عِبْرَة الجفن القريح)
(وَقد وافاك بالإبرنز حتف ... أتيح لَهُ من الْقدر المتيح)
(قتلت أشحهم بِالنَّفسِ إِذْ لَا ... يجود بِنَفسِهِ غير الشحيح)(1/211)
مَلَأت بهم ضرائحهم فأمسوا ... وَلَيْسَ سوى القشاعم من ضريح)
(وعدت إِلَى ذرا حلب حميدا ... سمو الْبَدْر من بعد الجنوح)
(فَإِن حَلِيَتْ بغرتك اللَّيَالِي ... فكم لِسَنَاك من زمن مليح)
(رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بِحَيْثُ تريح من تَعب المريح)
(فَأَنت وَإِن أرحت الْخَيل وقتا ... فهمك غير هم المستريح)
وَقَالَ أَحْمد بن مُنِير يمدحه وَيذكر ظفره بالبرنس وَأَصْحَابه وَحمل رَأسه إِلَى حلب وانشده إِيَّاهَا أَيْضا بجسر الْحَدِيد
(أقوى الضلال واقفرت عرصاته ... وَعلا الْهدى وتبلجت قسماته)
(وانتاش دين مُحَمَّد محموده ... من بعد مَا عُلت دَمًا عبراته)
(ردَّتْ على الْإِسْلَام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته)
(أرسى قَوَاعِده وَمد عماده ... صعدا وشيد سُورَة سوراته)
(وَأعَاد وَجه الْحق ابيض ناصعا ... إصلاته وَصلَاته وَصلَاته)
(لما تواكل حزبه وتخاذلت ... أنصاره وتقاصرت خطواته)
(رفعت لنُور الدّين نَار عَزِيمَة ... رجعت لَهَا عَن طبعها ظلماته)
(ملك مجَالِس لهوه شداته ... ومشوقة بَين الصُّفُوف شذاته)
(يغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إِن لذ حثحثة الكؤوس لداته)
(ويروقه ثغر العدى قان دَمًا ... لَا الثغر يعبق فِي لماه لثاته)(1/212)
(فصبوحه خمر الطلى وغبوقه ... نطف النُّفُوس تديرها نشواته)
(فتح تعممت السَّمَاء بفخره ... وهفت على أَغْصَانهَا عذباته)
(سبغت على الْإِسْلَام بيض حجوله ... واختال فِي أوضاحها جبهاته)
(وانهل فَوق الأبطحين غمامه ... وسرت إِلَى سكنيهما نفحاته)
(لله بلجة لَيْلَة مخضت بِهِ ... وَالْيَوْم دبج وشيه ساعاته)
(حط القوامص فِيهِ بعد قماصها ... ضرب يصلصل فِي الطلي صعقاته)
(نبذوا السِّلَاح لضيغم عاداته ... فرس الفوارس والقنا غاباته)
(لمجرب عمريه غضباته ... لله معتصمية غَزَوَاته)
(تجنا لضيق صفاده أسراؤه ... وَتفِيض مَاء شؤونها نغماته)
(بَين الْجبَال خواضعا أعناقها ... كالذود نابت عَن براه حداته)
(نشرت على حلب عُقُود بنودهم ... حلل الرّبيع تناسقت زهراته)
(روض جناه لَهَا مكر جياده ... واستوأرت حمالَة حملاته)(1/213)
(متساندين على الرِّجَال كَمَا انتشى ... شرْب أمالت هامه قهواته)
(لم تُنبت الآجام قبل رماحه ... شَجرا أصولُ فروعه ثمراته)
(فليحمد الْإِسْلَام مَا جدحت لَهُ ... شربات غرس هَذِه مجناته)
(وَسَقَى صدى ذَاك الحيا صوب الحيا ... خير الثرى مَا كنت أَنْت نَبَاته)
(نصب السرير وَمَال عَنهُ ومهدت ... لمقر منصبك السرى سراته)
(مَا ضرّ هَذَا الْبَدْر وَهُوَ محلق ... أَن الْكَوَاكِب فِي الذرا ضراته)
(فِي كل يَوْم تستطيل قناته ... فَوق السَّمَاء وتعتلي درجاته)
(وتظل ترقم فِي الضُّحَى آثاره ... مجدا وَالسّنة الزَّمَان رُوَاته)
(أَيْن الألى ملؤوا الطروس زخارفا ... عَن نزف بَحر هَذِه قطراته)
(عذقوا بأعناق العواطل مَا لَهُ ... من جَوْهَر فأتتهم فذاته)
(لَو فصلوا سمطا بِبَعْض فتوحه ... سخرت بِمَا افتعلوا لَهُ فعلاته)
(يُمسى قنانيه بَنَات قيونه ... فَوق القوانس والقنا قيناته)(1/214)
(صلتان من دون الْمُلُوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته)
(قعدت بهم عَن خطوه هماتهم ... وسمت بِهِ عَن قطوهم هماته)
(سكنوا مسجّفة الحجال وأسكنت ... زجل الرِّجَال مَعَ السها عزماته)
(لَو لَاحَ للطائي غرَّة فَتحه ... باءت بِحمْل تأوه باءاته)
(أَو هَب للطبري طيب نسيمه ... لاحتش من تَارِيخه حشواته)
(صدم الصَّلِيب على صلابة عوده ... فتفرقت أَيدي سبا خشباته)
(وَسَقَى الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... بالروج ممقر مَا جنت غدراته)
(فانقاد فِي خطم الْمنية أَنفه ... يَوْم الخطيم وأقصرت نزواته)
(وَمضى يؤنب تَحت إنب همة ... أمست زوافر غيها زفراته)
(أَسد تبوأ كالغريف فجأته ... فتبوأت طرف السنان شواته)
(دون النُّجُوم مغمضا ولطالما ... أغضت وَقد كرّت لَهَا لحظاته)
(فجلوته تبْكي الأصادق تَحْتَهُ ... بِدَم إِذا ضحِكت لَهُ شماته)(1/215)
(تمشي الْقَنَاة بِرَأْسِهِ وَهُوَ الَّذِي ... نظمت مدَار النيرين قناته)
(لَو عانق العيوق يَوْم رفعته ... لأرَاك شَاهد خفضه إخباته)
(مَا انْقَادَ قبلك أَنفه بخزامه ... كلا وَلَا هَمت لَهَا هدراته)
(طيان خلف السَّرْح طَال زئيره ... نطقت سُطاك لَهُ فطال صُماته)
(لما بدا مسود رايك فَوْقه ... مبيض نصرك نكست راياته)
(وَرَأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين فقلصت كراته)
(ولى وَقد شربت ظباك كماته ... تَحت العجاج واسلمته حماته)
(ترك الْكَنَائِس والكناس لناهب ... بالبيض ينهب مَا حواه عفاته)
(لغلاب أروع لَا يُميت عِدَاته ... دَاء المطال وَلَا تعيش عُداتُه)
(للوحش ملقى بالعرا يقتاته ... مَا كَانَ قبل بصيده يقتاته)
(الْيَوْم ملّكك القراع قلاعه ... متسنما مَا استشرفت شرفاته)
(وَغدا تحل لَك الحلائل أسْهم ... متوزعات بَينهُنَّ بَنَاته)
(أوطأت أَطْرَاف السّنابك هامه ... فتقاذفت بعنيقها قذفاته)(1/216)
(لَا زَالَ هَذَا الْملك يشمخ شَأْنه ... أبدا وتكفت فِي الحضيض شناته)
(مَا أَخْطَأتك يَد الزَّمَان فدونه ... من شَاءَ فلتسرع إِلَيْهِ هناته)
(أَنْت الَّذِي تحلي الْحَيَاة حَيَاته ... وتهب أَرْوَاح القصيد هباته)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا سَار نور الدّين إِلَى حصن أفامية وَهُوَ للفرنج أَيْضا وَبَينه وَبَين مَدِينَة حماة مرحلة وَهُوَ حصن منيع على تل مُرْتَفع عَال من أحصن القلاع وأمنعها وَكَانَ من بِهِ من الفرنج يغيرون على أَعمال حماة وشيزر وبنهبونها فَأهل تِلْكَ الْأَعْمَال مَعَهم تَحت الذل وَالصغَار
فَسَار نور الدّين إِلَيْهِ وحصره وضيق عَلَيْهِ وَمنع من بِهِ الْقَرار لَيْلًا وَنَهَارًا وتابع عَلَيْهِم الْقِتَال ليمنعوا الاسْتِرَاحَة فاجتمعت الفرنج من سَائِر بلادها وَسَارُوا نَحوه ليزحزحوه عَنْهَا فَلم يصلوا إِلَيْهِ إِلَّا وَقد ملك الْحصن وملأه ذخائر من طَعَام وَمَال وَسلَاح وَرِجَال وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
فَلَمَّا بلغه قرب الفرنج سَار نحوهم فحين رَأَوْا جده فِي لقائهم رجعُوا واجتمعوا ببلادهم وَكَانَ قصاراهم أَن صالحوه على مَا أَخذ
ومدحه الشُّعَرَاء واكثروا مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير قَالَ
(أَسْنَى الممالك مَا أطلت منارها ... وَجعلت مرهفة الشفار دثارها)
(وأحق من ملك الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... رؤف تكنف عدله أقطارها)
(من عَم سَام الْخَافِقين وحامها ... مننا وَزَاد هوى فخصّ نزارها)(1/217)
(مضرية طبعت مضاربه وَإِن ... عدته ذرْوَة فَارس أسوارها)
(آل الرّعية وَهِي تجْهَل آلها ... وتعاف نطفتها وَتكره دارها)
(فَأقر ضجعتها وَأنْبت نيها ... واساغ جرعتها واثبت زارها)
(ملك أَبوهُ سما لَهَا فسما بهَا ... واجارها فعلت سُهيلا جارها)
(نهج السَّبِيل لَهُ فَأَوْضَعَ خَلفه ... وشدا لَهُ يمن الْعلَا فأنارها)
(أنشرت يَا مَحْمُود مِلَّة أَحْمد ... من بعد مَا شَمل البلى أبشارها)
(إِن جانأت عدل السنان قوامها ... أَو نأنأت كَانَ الحسام جبارها)
(عقلت مَعَ العصم العواصم مذ غَدَتْ ... هذي العزائم أسرها وإسارها)
(وتكفلت لَك ضُمر أنضيتها ... فِي صونها أَن تسترد ضمارها)
(كلأت هواملها ورد مطارها ... مَا أريشته وثقفت آطاها)
(كم حاولت من كفتيها غرَّة ... غلب الْأسود فقلمت أظفارها)
(أَنى وحامي سرحها من لَو سمت ... للفلك بَسْطته أحَال مدارها)
(فِي كل يَوْم من فتوحك سُورَة ... للدّين يحمل سَفَره أسفارها)
(ومطيلة قصر المنابر إِن غَدا الخطباء ... تنثر فَوْقهَا تقصارها)(1/218)
(همم تحجلت الْمُلُوك وَرَاءَهَا ... بِدَم العثار وَمَا اقتفت آثارها)
(وعزائم تستوئر الآساد عَن ... نهش الفرائس إِن أحس أوارها)
(أبدا تقصر طول مشرفة الذرا ... بالمشرفية أَو تطيل قصارها)
(فغرت أفامية فَمَا فهتمته ... كوبار أجنادها الإران بوارها)
(أرهفت رَأْيك فَوق رايك تحتهَا ... فحططت من شعفاتها أعَفارها)
(أدْركْت ثأرك فِي الْبُغَاة وَكنت يَا ... مُخْتَار أمة احْمَد مختارها)
(عَارِية الزَّمن الْمُعير سما لَهَا ... مِنْك المغير فاسترد معارها)
(زأر الهزبر فقيدت عاناتها ... عصب الضلال وَأسْلمت أعيارها)
(ضاءت نجومك فَوْقهَا ولربما ... باتت تنافثها النُّجُوم سرارها)
(أمست مَعَ الشعرى العبور وأصبحت ... شعراء تستفلي الفحول شوارها)
(وَلكم فرعت بمقرباتك مثلهَا ... تلعا وقلدت الكماة عذارها)
(حَتَّى إِذا اشتملتك أشرق سورها عزا وحلاها سناك سوارها)
(خر الصَّلِيب وَقد علت نغماتها ... واستوبلت صلواته تكرارها)
(لما وعاها سمع أنطاكية ... سرت الْوَقار وكشفت أستارها)(1/219)
(فاليوم أضحت تستذم مجيرها ... من جوره وَغدا تذم جوارها)
(علمت بِأَن ستذوق جرعة أُخْتهَا ... إِن زر أطواق القباء وزارها)
(مَاض إِذا قرع الركاب لبلدة ... أَلْقَت لَهُ قبل القراع إزَارهَا)
(وَإِذا مجانقه ركعن لصعبة الملقاة ... أَسجد كالجدير جدارها)
(مَلأ الْبِلَاد مواهبا ومهابة ... حَتَّى استرقت آيُهُ أحرارها)
(يذكى الْعُيُون إِذا أَقَامَ لعونها ... أبدا ويفضي بالظبي أبكارها)
(أومى إِلَى رمم الندى فأعاشها ... وهمى لسابقة المنى فأزارها)
(نبوىّ تَشْبِيه الْفتُوح كانما ... أنصاره رجعت لَهُ أنصارها)
(أَحْيَا لصرح سلامها سلمانها ... وأماس تَحت عمارها عمارها)
(إِن سَار سَار وَقد تقدم جَيْشه ... رجف يقصع فِي اللها ذعارها)
(أَو حل حل حبا القروم بهيبة ... سَلَب البدور بدارها أبدارها)
(وَإِذا الْمُلُوك تنافسوا درج الْعلَا ... أربى بِنَفس أفرعته خِيَارهَا)
(وَنهى إِذا هيضت تدل بخيرها ... وسطى تُذل إِذا عنت جبارها)
(تهدى لمحمود السجايا كاسمه ... لَو لز فاعلة بهَا لأبارها)
(الْفَاعِل الفعلات ينظم فِي الدجى ... بَين النُّجُوم حسودها أسمارها)
(ساع سعى والسابقات وَرَاءه ... عنقًا فعصفر منتماه عثارها)
(كالمضرحي إِذا يصرصر رابئا ... خرس البغاث وَهَاجَرت أوكارها)
(عرفت لنُور الدّين نور وقائع ... تغشى إِذا اكتحلت بِهِ أبصارها)
(مَشْهُورَة سعطت وَقد حاولتها الأقدار ... عَجزا أَن تشق غبارها)
(لله وَجهك وَالْوُجُوه كَأَنَّمَا ... حطت بهَا أوقار هيت قارها)(1/220)
(وَالْبيض تخنس فِي الصُّدُور صدورها ... هبرا وتكتحل الشفور شفارها)
(وَالْخَيْل تدلج تَحت أرشية القنا ... جذب المواتح عاورت آبارها)
(فَبَقيت تستجلي الْفتُوح عرائسا ... متمليا صدر الْعلَا وصدارها)
(فِي دولة للنصر فَوق لوائها ... زبر تنمق فِي الطلى أسطارها)
(فالدين موماة رفعت بهَا الصوى ... وحديقة ضمنت يداك إبارها)
وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى
(خنس الثعالب حِين زمجر مصحر ... مَلأ الْبِلَاد هماهما وزئيرا)
(تركُوا مشاجرة الرماح لحاذق ... جعلت مخافته الْقُصُور قبورا)
(لربيب حَرْب لم تزل فعلاته ... كالراء يلْزم لَفظهَا التكريرا)
(أَسد إِذا مَا عَاد من ظفر بمفترس ... أحد لمثله أظفورا)
(يتناذر الْأَعْدَاء مِنْهُ سطوة ... ملْء الزَّمَان تغيظا وزفيرا)
(عرفُوا لنُور الدّين وَقع وقائع ... وَفِي بهَا الْإِسْلَام أمس نذورا)
(أبدا يظافرك الْقَضَاء على الَّذِي ... تبغي فترجع ظافرا منصورا)
(قوضت بالنقع الظهائر ظلمَة ... وقفلت فاشتعل الدياجر نورا)
(وعَلى العواصم من دفاعك عَاصِم ... ينسي الرشيد وينشر المنصورا)(1/221)
فصل فِي وَفَاة معِين الدّين أنر بِدِمَشْق وَمَا كَانَ من الرئيس ابْن الصُّوفِي فِي هَذِه السّنة
قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي فصل معِين الدّين من عسكره بحَوْرَان وَوصل إِلَى دمشق فِي أَوَاخِر ربيع الأول لأمر أوجب ذَلِك ودعا إِلَيْهِ وأمعن فِي الاكل فَلحقه عقيب ذَلِك انطلاق تَمَادى بِهِ وَحمله اجْتِهَاده فِيمَا يدبره على الْعود إِلَى عسكره بِنَاحِيَة حوران وَهُوَ على هَذِه الصّفة من الانطلاق وَقد زَاد بِهِ وضعفت قوته وتولد مَعَه مرض فِي الكبد فَأوجب الْحَال عوده إِلَى دمشق فِي محفة لمداواته فوصل وَقضى نحبه فِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَدفن فِي إيوَان الدَّار الأتابكية الَّتِى كَانَ يسكنهَا ثمَّ نقل بعد ذَلِك إِلَى الْمدرسَة الَّتِى عمرها
قلت قَبره فِي قبَّة بمقابر العوينة شمَالي دَار بطيخ الْآن واسْمه مَكْتُوب على بَابهَا فَلَعَلَّهُ نقل من ثمَّ إِلَيْهَا
وَفِيه يَقُول الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ وَكتب إِلَيْهِ من مصر لمّا لقى الفرنج فِي أَرض بصرى وصرخد مَعَ نور الدّين وَقد تقدم ذَلِك كتب إِلَيْهِ قصيدة يَقُول فِيهَا
(كل يَوْم فتح مُبين وَنصر ... واعتلاء على الأعادي وقهر)
(صدق النَّعْت فِيك أَنْت معِين الدّين ... إِن النعوت فأل وزجر)(1/222)
(أَنْت سيف الْإِسْلَام حَقًا فَلَا فل ... غراريك ايها السّيفُ دهر)
(لم تَزل تُضمر الْجِهَاد مُسِرَّا ... ثمَّ أعلنت حِين أمكن جهر)
(كل ذخر الْمُلُوك يفنى وذخراك ... هما الباقيان أجر وشكر)
قَالَ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَجَب قرئَ المنشور المنشأ عَن مجير الدّين بعد الصَّلَاة على الْمِنْبَر بِإِبْطَال الفسة المستخرجة من الرّعية وَإِزَالَة حكمهَا وتعفية رسمها وَإِبْطَال دَار الضَّرْب فَكثر دُعَاء النَّاس لَهُ وشكرهم
قَالَ واستوحش الرئيس مؤيد الدولة من مجير الدّين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سُفَهَاء الْأَحْدَاث والغوغاء وَحَملَة السِّلَاح من الجهلة الْعَوام وترتيبهم حول دَاره وَدَار أَخِيه زين الدولة حيدرة للاحتماء بهم من مَكْرُوه يتم عَلَيْهِمَا وَذَلِكَ فِي ثَالِث عشر رَجَب
وَوَقعت المراسلات من مجير الدّين بِمَا يسكنهَا ويطيب أَنفسهمَا فَمَا وثقا بذلك وجدا فِي الْجمع والاحتشاد من الْعَوام وَبَعض الأجناد وأثارا الْفِتْنَة فقصدوا بَاب السجْن وكسروا أغلاقه وأطلقوا من فِيهِ واستنفروا جمَاعَة من أهل الشاغور(1/223)
وَغَيرهم وقصدوا الْبَاب الشَّرْقِي وفعلوا مثل ذَلِك وحصلوا فِي جمع كثير وامتلأت بهم الْأَزِقَّة والدروب
فحين عرف مجير الدّين وَأَصْحَابه هَذِه الصُّورَة اجْتَمعُوا فِي القلعة بِالسِّلَاحِ الشاك وَأخرج مَا فِي خزائنه من السِّلَاح وَالْعدَد وَفرقت على العسكرية وعزموا على الزَّحْف على جمع الأوباش والإيقاع بهم والنكاية فيهم فَسَأَلَ جمَاعَة من المقدمين التمهل فِي هَذَا الْأَمر وَترك العجلة بِحَيْثُ تحقن الدِّمَاء وَيسلم الْبَلَد من النهب والحريق وألحوا عَلَيْهِ إِلَى أَن أجَاب سُؤَالهمْ
وَوَقعت المراسلة والتلطف فِي إصْلَاح ذَات الْبَين فَاشْترط الرئيس وَأَخُوهُ شُرُوطًا أجيبا إِلَى بَعْضهَا واعرض عَن بعض بِحَيْثُ يكون ملازما لداره وَيكون وَلَده وَولد أَخِيه فِي الْخدمَة فِي الدِّيوَان وَلَا يركب إِلَى القلعة إِلَّا مستدعي إِلَيْهَا وتقررت الْحَال على ذَلِك وسكنت الدهماء
ثمَّ حدث بعد هَذَا التَّقْرِير عود الْحَال إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من العناد وإثارة الْفساد وَجمع الْجمع الْكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وَاتَّفَقُوا على الزَّحْف إِلَى القلعة وَحصر من بهَا وَطلب من عين عَلَيْهِ من الْأَعْدَاء الْأَعْيَان فِي أَوَاخِر رَجَب ونشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ وجرح وَقتل بَينهم نفر يسير وَعَاد كل فريق مِنْهُم إِلَى مَكَانَهُ
وَوَافَقَ ذَلِك هروب السلار زين الدّين إِسْمَاعِيل الشّحْنَة وأخيه إِلَى نَاحيَة بعلبك وَلم تزل الْفِتْنَة ثائرة والمحاربة مُتَّصِلَة إِلَى أَن اقْتَضَت الصُّورَة إبعاد من التمس إبعاده من خَواص مجير الدّين وسكنت الْفِتْنَة وأطلقت أَيدي النهابة فِي دَار السلارين(1/224)
وأصحابهما وعمهما النهب والخراب ودعت الضَّرُورَة إِلَى تطييب نفس الرئيس وأخيه وَالْخلْع عَلَيْهِمَا وإعادة الرئيس إِلَى الوزارة والرياسة بِحَيْثُ لَا يكون لَهُ فِي ذَلِك معترض وَلَا مشارك
قلت وَفِي هَذِه الْفِتْنَة يَقُول العرقلة
(ذَر الأتراك والعربا ... وَكن فِي حزب من غلبا)
(بجلق أَصبَحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا)
(لَئِن تمت فوا أسفا ... وَلم تخرب فوا عجبا)
وَقَالَ فِي الرئيس لما زحف إِلَى القلعة
(زد علوا فِي الْمجد يَا ابْن عَليّ ... هَكَذَا من أَرَادَ أَن يتعالى)
(قد حوى الدّين يَا مؤيده مِنْك ... هزبرا وديمة وهلالا)
(وغدت جلق تناديك عجبا هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا)
(جبتها فِي الظلام خيلا ورجلا ... وحميت النُّفُوس والأموالا)
(لن تبالى من بعْدهَا بعدوّ ... إِنَّمَا ذَاك كَانَ قطعا فزالا)(1/225)
(قد بلغت المُرَاد من كل ضد ... وَكفى الله الْمُؤمِنِينَ الْقِتَاَلا)
قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وفيهَا ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بوفاة الْمُسْتَخْلف بهَا الملقب بِالْحَافِظِ واسْمه عبد الْمجِيد بن الْأَمِير أبي الْقَاسِم بن الْمُسْتَنْصر فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة وَولى الْأَمر بعده وَلَده الْأَصْغَر أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل ولقب بالظافر وَولي الوزارة أَمِير الجيوش أَبُو الْفَتْح بن مصال المغربي(1/226)
فصل فِي وَفَاة سيف الدّين غَازِي بن زنكي صَاحب الْموصل وَهُوَ أَخُو نور الدّين الْأَكْبَر
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ أتابك الشَّهِيد يَعْنِي زنكي ملك دَارا وَبقيت بِيَدِهِ إِلَى أَن قتل فَأَخذهَا صَاحب ماردين ثمَّ سَار إِلَيْهَا سيف الدّين بن الشَّهِيد فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين فحاصرها وملكها وَاسْتولى على كثير من بلد ماردين بِسَبَبِهَا ثمَّ حصر ماردين عَازِمًا على أَن، يدْخل ديار بكر ويستعيد مَا اخذ من الْبِلَاد بعد قتل وَالِده فَتفرق الْعَسْكَر فِي بَلَدهَا ينهبون ويخربون فَقَالَ صَاحب ماردين كُنَّا نشكو من أتابك وَأَيْنَ أَيَّامه فَلَقَد كَانَت أعياداً قد حَصَرَنا غير مرّة فَلم يَتَعَدَّ هُوَ وَعَسْكَره حَاصِل السُّلْطَان وَلَا أخذُوا كفا من التِّبْن بِغَيْر ثمن
(رُب دهرٍ بَكَيْت منهُ فَلَمَّا ... صِرْتُ فِي غيرِه بَكَيْت عَلَيْهِ)
ثمَّ إِنَّه راسل سيف الدّين وَصَالَحَهُ على مَا أَرَادَ وزوجه ابْنَته الخاتون ورحل سيف الدّين عَن ماردين وَعَاد إِلَى الْموصل وجهزت خاتون وسيرت إِلَيْهِ فوصلت إِلَى الْموصل وَهُوَ مَرِيض فَتوفي وَلم يدْخل بهَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ عمره نَحْو أَرْبَعِينَ سنة
وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل وَخلف ولدا ذكرا أَخذه نور الدّين مَحْمُود عَمه فرباه فَأحْسن تَرْبِيَته وزوجه ابْنة عَمه قطب الدّين مودود فَلم تطل أَيَّامه وأدركه أَجله فِي عنفوان شبابه فَتوفي وانقرض عقب سيف الدّين(1/227)
وَكَانَ كَرِيمًا شجاعا ذَا عزم وحزم
وَهُوَ أول من حمل على رَأسه سنجق من أَصْحَاب الْأَطْرَاف فَإِنَّهُ لم يكن فيهم من يَفْعَله لأجل السلاطين السلجوقية وَهُوَ أول من أَمر عسكره أَلا يركب أحدهم إِلَّا وَالسيف فِي وَسطه فَلَمَّا أَمر هُوَ بذلك اقْتدى بِهِ غَيره من أَصْحَاب الْأَطْرَاف
وَبنى بالموصل الْمدرسَة الأتابكية العتيقة وَهِي من أحسن الْمدَارِس وأوسعها وَجعلهَا وَقفا على الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة نِصْفَيْنِ
وَبنى رِبَاط الصُّوفِيَّة بالموصل أَيْضا وَهُوَ الرِّبَاط المجاور لباب المشرعة ووقف عَلَيْهِمَا الْوُقُوف الْكَثِيرَة
وَكَانَ كَرِيمًا قَصده شهَاب الدّين حيص بيص وامتدحه بقصيدته الْمَشْهُورَة وَهِي من جيد شعره فَأَجَازَهُ عَنْهَا ألف دِينَار أَمِيري سوى الْإِقَامَة والتعهد مُدَّة مقَامه وَسوى الْخلْع وَالثيَاب(1/228)
قلت أول تِلْكَ القصيدة
(إلاَمَ يراك الْمجد فِي زِيّ شَاعِر ... )
يَقُول فِي آخرهَا
(أتابك إِن سُميت فِي المهد غازيا ... فسابقه مَعْدُودَة فِي البشائر)
(وفيت بهَا وَالدّين قد مَال روقه ... وصدقتها وَالْكفْر بَادِي الشعائر)
وعزى أَبُو الْحُسَيْن أحمدُ بن مُنِير نور الدّين بأَخيه بقصيدة تقدم بَعْضهَا أَولهَا
(هُوَ الْجد بز التَّمام البدورا ... )
يَقُول فِيهَا
(شوى كل مَا جنت الحادثات ... مَا كنت ظلا علينا قريرا)
(أسأن وَأحسن عُكَن الْهلَال ... وملأننا مِنْك بَدْرًا منيرا)
(إِذا ثبج الْبَحْر أخطأنه ... فَلَا غرْو أَن ينتشفن الغديرا)
(واصغر بفقداننا الذاهبين ... مَا عِشْت تأتال ملكا كَبِيرا)
(وَمَا أغمد الدَّهْر ذَاك الحسام ... مَا سل حدَّاك عضْبا بتورا)
(قسيمُ عُلاك وَنعم القسيم ... أَخ ساف نزرا وَأعْطى كثيرا)
(وَكَانَ نظيرك غَار الزَّمَان ... من أَن يرى لَك فِيهِ نظيرا)
(فدتك نفوس بك استوطنت ... من الْأَمْن نورا وَقد كُنً بُورا)
(بقيت مُعزًّا من الهالكين ... تُوقّى الردى وَتوفى الأجورا)
(وَغَيْرك يمهد بسط العزاء ... ويولي المسلين سمعا وقورا)(1/229)
(وَمَا نقص الدَّهْر أعدادكم ... إِذا شف قطرا وَأبقى بُحُورا)
(وَلَو أنصف الْمجد مَوْتَاكُم ... لَخَطّ لَهُم فِي السَّمَاء القُبُورا)
(حياتُك أحيت رَمِيم الرّجاء ... وأمطت من الْجُود ظهرا ظهيرا)
وللقيسراني قصيدة مِنْهَا
(مَا أطرق الجو حَتَّى اشرق الْأُفق ... إِن أغمد السَّيْف فالصَّمصام يأتلق)
(دون الأسى مِنْك نور الدّين فِي حلب ... مملك ينجلى عَن وَجهه الغسق)
(كُنْتَ الشَّقِيق الشفيق الْغَيْب حِين ثوى ... أراق مَاء الْكرَى من جفنك الأرق)
(تلقى الأسى من لِبَاس الصبْر فِي جنن ... حَصِينَة تحتهَا الأحشاء تحترق)
(وَمُدَّة الْأَجَل المحتوم إِن خفيت ... فَإِن أيامنا من دونهَا طرق)
(وَإِنَّمَا نَحن فِي مضمار حلبتها ... خيل إِلَى غَايَة الْأَعْمَار تسْتبِق)
(شأو إِذا ابتدر الأقوام غَايَته ... كَانَ الْمُؤخر فِيهَا من لَهُ السَّبق)
(إِن كَانَ صنوك هَذَا قد ثوى فذوى ... فَفِي مغارسك الأثمار وَالْوَرق)
(أَو أَصبَحت بعده الْأَهْوَاء نافرة ... أيدى سبا فعلى علياك تّتفق)
(مَا غَابَ من غَابَ عَن آفَاق مطلعه ... إلاَّ لِيْفترَّ عَن أنوارك الْأُفق)
(مَا دَامَ شمسك فِينَا غير آفلةٍ ... فالدين مُنْتَظم وَالْملك متسق)(1/230)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما توفى سيف الدّين غَازِي كَانَ أَخُوهُ قطب الدّين مودود بالموصل فاتفقت كلمة جمال الدّين وزين الدّين على تَوليته وتمليكه طلبا للسلامة مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لين الْجَانِب حسن الْأَخْلَاق كثير الْحلم كريم الطباع
فأحضروه من دَاره وحلفوه لَهُم وحلفوا لَهُ وَنزل بدار المملكة وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والأجناد وَاسْتقر فِي الْملك وأطاعه جَمِيع مَا كَانَ لِأَخِيهِ سيف الدّين لِأَن الْمرجع كَانَ فِي جَمِيع المملكة إِلَى جمال الدّين وزين الدّين
وَلما ملك وَاسْتقر فِي الْملك تزوج امْرَأَة أَخِيه الَّتِي مَاتَ وَلم يدْخل بهَا الخاتون ابْنة حسام الدّين تمرتاش صَاحب مادرين فَولدت لقطب الدّين أَوْلَاده الَّذين ملكوا الْموصل بعده على مَا سَنذكرُهُ وَلم يملكهَا من أَوْلَاد قطب الدّين أحد غير أَوْلَادهَا
قَالَ وَكَانَت هَذِه الخاتون يحل لَهَا ان تضع خمارها عِنْد خَمْسَة عشر ملكا من آبائها وأجدادها وإخوتها وَبني إخوتها وأزواجها وَأَوْلَادهَا وَأَوْلَاد أَوْلَادهَا
ثمَّ ذكرهم ابْن الْأَثِير فِي كِتَابه وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَنَّهَا أشبهت فِي ذَلِك فَاطِمَة بنت عبد الْملك بن مَرْوَان زوج عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَهَا أَن تضع خمارها عِنْد ثَلَاثَة عشر خَليفَة وهم من مُعَاوِيَة رَضِي الله(1/231)
عَنهُ إِلَى آخر خلفاء بني أُميَّة سوى آخِرهم وَهُوَ مَرْوَان بن مُحَمَّد فَإِنَّهُ ابْن عَم لَهَا لَيْسَ بِمحرم وَالْبَاقُونَ محارم لَهَا وَمَا تمّ لَهُ ذَلِك إِلَّا بعد ذكره أَن أمهَا عَاتِكَة بنت يزِيد بن معلوية فمعاوية جد أمهَا وَيزِيد جدها لأمها وَمُعَاوِيَة بن يزِيد خالها ومروان جدها لأَبِيهَا لبيها وَعبد الْملك أَبوهَا والوليد وَسليمَان وَهِشَام وَيزِيد إخوتها وَعمر بن عبد الْعَزِيز زَوجهَا والوليد بن يزِيد وَيزِيد بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد أَوْلَاد أخويها وَهَؤُلَاء كلهم خلفاء وعدتهم ثَلَاثَة عشر
قلت وَهَذَا كُله مَبْنِيّ على أصل فِيهِ خلل وَهُوَ أَن فَاطِمَة بنت عبد الْملك لَيست أمهَا عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة بل أمهَا امْرَأَة مخزوميّة على مَا بَيناهُ فِي ترجمتها فِي = تَارِيخ دمشق =
وَلَكِن الصَّوَاب فِي ذَلِك أَن يُقَال كَانَ لفاطمة إِن تضع خمارها عِنْد عشرَة من الْخُلَفَاء وهم مَرْوَان بن الحكم ونسله سوى مَرْوَان بن مُحَمَّد وَأما عَاتِكَة فالجميع محرم لَهَا سوى عمر بن عبد الْعَزِيز ومروان بن مُحَمَّد بَقِي اثْنَا عشر خَليفَة كلهم محارم لَهَا مُعَاوِيَة جدها وَيزِيد أَبوهَا وَمُعَاوِيَة بن يزِيد أَخُوهَا ومروان حموها وَعبد الْملك زَوجهَا والوليد وَسليمَان وَهِشَام أَوْلَاد زَوجهَا وَيزِيد بن عبد الملك ابْنهَا والوليد بن يزِيد ابْن ابْنهَا وَيزِيد بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد ابْنا ابْن زَوجهَا
وَلَو أضيف إِلَى ذَلِك الْمُلُوك من محارم عَاتِكَة أَو فَاطِمَة كالإخوة والأعمام والأخوال وَبني الْإِخْوَة لتضاعف الْعدَد كخالد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة أخي عَاتِكَة وَعبد الْعَزِيز بن مَرْوَان عَم فَاطِمَة ومسلمة وَعبد الله ابْني عبد الْملك هما أخوا فَاطِمَة وربيبا عَاتِكَة وَعمر بن عبد الْوَلِيد بن عبد الْملك وَغَيرهم
وَذَلِكَ ظَاهر لمن عرف أَنْسَاب بني أُميَّة(1/232)
وَمَا ذكره ابْن الْأَثِير من أَمر بنت حسام الدّين فسِتُّ الشَّام بنت أَيُّوب أَكثر مِنْهَا محارم من الْمُلُوك يجْتَمع لَهَا من ذَلِك اكثر من ثَلَاثِينَ ملكا من إخوتها الْأَرْبَعَة الْمُعظم وَصَلَاح الدّين والعادل وَسيف الْإِسْلَام وَمن أَوْلَادهم وَأَوْلَاد أَوْلَادهم وَأَوْلَاد أَخِيهَا الْأَكْبَر شاهنشاه بن أَيُّوب تَقِيّ الدّين وَذريته أَصْحَاب حماة وفرخشاه وَابْنه الأمجد صَاحب بعلبك
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما ملك قطب الدّين الْموصل والبلاد الجزرية كَانَ أَخُوهُ نور الدّين بحلب وَهُوَ أكبر من قطب الدّين فكاتبه بعض الْأُمَرَاء وطلبوه إِلَيْهِم مِنْهُم الْأَمِير الْمُقدم وَالِد شمس الدّين بن الْمُقدم وَهُوَ حِينَئِذٍ دزدار سنجار
فَسَار نور الدّين جَرِيدَة فِي سبعين فَارِسًا من أكَابِر دولته مِنْهُم أَسد الدّين شيركوه ومجد الدّين أَبُو بكر بن الداية وَغَيرهمَا
فوصلوا إِلَى ماكِسِين فِي سِتَّة أنفس فِي يَوْم شَدِيد الْمَطَر وَعَلَيْهِم اللبابيد فَلم يعرفهُمْ الَّذين بِالْبَابِ وَأَرْسلُوا إِلَى الشّحْنَة واخبروه بوصول نفر من الأجناد وَكَأَنَّهُم تركمان فَلم يستتم القاصد كَلَامه حَتَّى وصل نور الدّين فحين رَآهُ الشّحْنَة قبّل يَده وَخرج عَن الدَّار فنزلها نور الدّين حَتَّى لحق بِهِ أَصْحَابه وَسَار مجدا إِلَى سنجار فوصلها وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا نفر يسير فَنزل بِظَاهِر(1/233)
الْبَلَد وَألقى نَفسه على محفورة صَغِيرَة من شدّة تَعبه وَأرْسل إِلَى الْمُقدم بالقلعة يعرفهُ وُصُوله وَكَانَ الْمُقدم قد استُدعى من الْموصل لِأَن خَبره مَعَ نور الدّين بلغ من بهَا فأرسلوا إِلَيْهِ فتوقف عدَّة أَيَّام فَلم يصل نور الدّين فَسَار إِلَى الْموصل وَترك ابْنه شمس الدّين بسنجار وَقَالَ لَهُ أَنا أتأخر فِي الطَّرِيق فَإِن وصل نور الدّين فَأرْسل من يعلمني فَلَمَّا فَارق سنجار وصل نور الدّين فَلَمَّا علم شمس الدّين بوصوله أرسل قَاصِدا إِلَى أَبِيه بالْخبر وأنهى الْحَال إِلَى نور الدّين فخاف فَوَات الْأَمر
وَوصل القاصد الَّذِي سيره ابْن الْمُقدم إِلَى أَبِيه فأدركه بتل يعفر فَعَاد إِلَى سنجار وَسلمهَا إِلَى نور الدّين وَكَاتب فَخر الدّين قرا أرسلان بن دَاوُد صَاحب الْحصن يستنجده وبذل لَهُ قلعة الْهَيْثَم فَسَار إِلَيْهِ بجنده
فَلَمَّا سمع قطب الدّين الْخَبَر جمع عساكره وَسَار عَن الْموصل نَحْو سنجار وَمَعَهُ الْجمال والزين ونزلوا بتل يعفر وَأَرْسلُوا إِلَى نور الدّين يُنكرُونَ عَلَيْهِ إقدامه وَأَخذه مَا لَيْسَ لَهُ ويهددوه بِقَصْدِهِ وإخراجه من الْبِلَاد قهرا إِن لم يرجع اخْتِيَارا فَأَعَادَ الْجَواب إِنَّنِي أَنا الْأَكْبَر وَأَنا أَحَق أَن أدبرا أَمر أخي مِنْكُم وَمَا جِئْت إِلَّا لما تَتَابَعَت إِلَى كتب الْأُمَرَاء يذكرُونَ كراهيتهم لولايتكم عَلَيْهِم يَعْنِي ولَايَة الْجمال والزين فَخفت أَن يحملهم الغيظ والأنفة على أَن يخرجُوا الْبِلَاد من أَيْدِينَا فَأَما تهدُّدُكم إياى بِالْقِتَالِ فَأَنا مَا أقاتلكم إِلَّا بجندكم
وَكَانَ قد هرب إِلَيْهِ جمَاعَة من أجنادهم فخافوا أَن يلقوه لِئَلَّا يخَامر عَلَيْهِم بَاقِي الْعَسْكَر وَدخل الْأُمَرَاء فِي الصُّلْح وَأَشَارَ بِهِ جمال الدّين الْوَزير وَقَالَ نَحن نظهر للسُّلْطَان والخليفة أننا تبع نور الدّين وَنور الدّين يظْهر للفرنج أَنه يحكمنا ويتهددهم بِنَا فَإِن كاشفناه وحاربناه فَإِن ظفر بِنَا طمع فِينَا السُّلْطَان وَإِن(1/234)
ظفرنا بِهِ طمع فِيهِ للفرنج وَلنَا بِالشَّام حمص وَقد صَار لَهُ عندنَا سنجار فَهَذِهِ أَنْفَع لنا من تِلْكَ وَتلك أَنْفَع لَهُ من هَذِه والرأي أَن نسلم إِلَيْهِ حمص ونأخذ سنجار وَهُوَ فِي ثغر بِإِزَاءِ الفرنج وَيتَعَيَّن مساعدته
فاتفق الْجَمَاعَة على هَذَا الرَّأْي وَسَار جمال الدّين إِلَى نور الدّين وابرم مَعَه الْأَمر وتسلم حمص وَسلم سنجار إِلَى أَخِيه وَعَاد نور الدّين وَأخذ مَا كَانَ بسنجار من المَال
وَلما تسلم قطب الدّين سنجار أقطعها لزين الدّين لِأَن حمص كَانَت لِأَخِيهِ ينَال وَهُوَ مُقيم بهَا
واتفقت كلمتهم واتحدت آراؤهم وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يصدر إِلَّا عَن أَمر أَخِيه
وَطلب نور الدّين أَن يكون الْجمال عِنْده فَقَالَ لَهُ الْجمال أَنْت عنْدك من الْكِفَايَة مَا تَسْتَغْنِي بِهِ عَن وَزِير ومشير وَلَيْسَ عنْدك من الْأَعْدَاء مثل مَا عِنْد أَخِيك لِأَن عَدوك كَافِر فَالنَّاس يدفعونه ديانَة وأعداء أَخِيك مُسلمُونَ فَيحْتَاج من يقوم بدفعهم وَإِذا كنت عِنْد أَخِيك فالنفع إِلَيْك عَائِد وَأُرِيد من بلادك مثل مَا لي من بِلَاد أَخِيك مَعُونَة على كَثْرَة خرجي فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك فَقَالَ لَهُ جمال الدّين أَنْت عَلَيْك خرج كثير لأجل الْكفَّار فَيجب مساعدتك وَأَنا أقنع مِنْك بِعشْرَة آلَاف دِينَار كل سنة
فَأمر لَهُ بهَا
فَكَانَ نَائِب جمال الدّين يقبضهَا كل سنة وَيَشْتَرِي بهَا أسرى من الفرنج ويطلقهم
قلت وقرأت فِي = ديوَان القيسراني = وَقَالَ فِي نور الدّين عِنْد قدومه وَقد استولى على سنجار وأعمال الرحبة والفرات وَذَلِكَ فِي منتصف ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
(هَذَا الَّذِي ولدت لَهُ الأفكار ... وتمخضت فألا بِهِ الْأَشْعَار)
(وَجَرت لَهُ خيل النهى فِي حلبة ... وَردت وصفو ضميرها الْمِضْمَار)(1/235)
(وَأَتَتْ بِهِ نذر القوافي بُرْهَة ... إِن القوافي وحيها إنذار)
(حكمت لسيفك بالممالك عنْوَة ... حكما لعمري مَا عَلَيْهِ غُبَار)
(يأيها الْملك الْمقل نجاده ... بر يدين بهديه الْأَبْرَار)
(يَا ابْن السيوف وَهل فخرت بِنِسْبَة ... إِلَّا سما بك قَائِم وغرار)
(فارقا دَار الْملك غير مفارق ... لَك من علاك بِكُل أَرض دَار)
(فِي عَسْكَر تخفي كواكب ليله ... نقعا فيطلعها القنا الخطار)
(جرار أذيال العجاج وَرَاءه ... وأمامه بل جحفلٌ جرّار)
(تدني لَك الغايات أكبر همة ... نورية همم الْمُلُوك كبار)
(حَتَّى مَلَأت الْخَافِقين مهابة ... دَانَتْ لعظم نظامها الأقطار)
(وملكت سنجارا وَمَا من بَلْدَة ... إِلَّا تمنى أَنَّهَا سنجار)
(وَبسطت بالأموال كفا طالما ... طَالَتْ بهَا الآمال وَهِي قصار)
(وَجَرت بأمداد الْجِيَاد شعابها ... جري السُّيُول وَمَا عداك قَرَار)
(وثنى الْفُرَات إِلَى يَديك عنانه ... وَالْبَحْر مَا اتَّصَلت بِهِ الْأَنْهَار)
(وملكت رحبة مَالك فتبرَّجت ... مِنْهَا لِعَيْنِك كاعبٌ مِعطار)
(جاءتك فِي حلل الرّبيع وحليها ... قبل الرّبيع شقائق وبهار)
(نثرت عَلَيْك هوى الْقُلُوب محبَّة ... وتود لَو أَن النُّجُوم نثار)
(فأقمت كَالشَّمْسِ المنيرة إِن نأت ... عَن أفْقها فَلَها بِهَ أقمار)
(من كَانَ نور الدّين ثمَّ أجَنَّه ... ليلُ السُّرى حفّت بِهِ الْأَنْوَار)
(تَدْعُو الْبِلَاد إِلَيْك السّنة الظبى ... فتجيبك الأنجاد والأغوار)(1/236)
(حَتَّى عَمَدت الدّين يَا ابْن عماده ... بقنا أسنتها عَلَيْهِ منار)
(وقفلت من أسفار جدك قادما ... كالصبح نمّ بثغره الْإِسْفَار)
(يغشى البصائر نور وَجهك بَعْدَمَا اعتركت ... على قسماته الْأَبْصَار)
(حَتَّى عمرت بِكُل قلب صَدره ... حِين الصُّدُور من الْقُلُوب قفار)
(إِن تُمسِ فِي حلب رياحك غضة ... فلهَا بأنطاكية إعصار)
(وغدت جيادك بِالشَّام مُقِيمَة ... وَلها بأطراف الدروب مغار)
(همم سبقت بهَا إِلَى مهج العدى ... صرف الردى ومسيره إِحْضَار)
(وَأرى صباح القمص كَانَ خديعة ... فطغى وجار وَلَيْسَ ثَمّ وِجَار)
(سَأَلَ الصنيعة غير محقوق بهَا ... والختر يهدم مَا بنى الختار)
(حَتَّى إِذا مَا غبت أقدم عائثا ... إقدام من لم يدْنُ مِنْهُ قَرَار)
(أمضى السّلاح على عدّوك بغيهُ ... بالغدر يُطعن فِي الوغى الغدار)
(فاحسم عناد ذَوي العناد بجحفل ... كالليل فِيهِ من الصفيح نَهَار)
(جند على جُرد أَمَام صدورها ... صدر عَلَيْهِ من الْيَقِين صِدَار)
(قد بَايع الْإِخْلَاص بيعَة نصْرَة ... وَلكُل هادي أمٍة أنصار)
(ملك لَهُ من عدله ووفائه ... جَيش بِهِ تستفتح الْأَمْصَار)
(وَإِذا الْمُلُوك تثاقلت عَن غَايَة ... وَأَرَادَهَا حفت بِهِ الأقدار)
(وَإِذا انتضته إِلَى الثغور عَزِيمَة ... قَامَت مقَام جُنُوده الْأَخْبَار)
وَلابْن مُنِير من قصيدة فِيهِ
(ترنح معطف الزَّوْرَاء لما ... دعَاك لزَوْرَ سنجار لمام)(1/237)
(وزلزلت الصّعيد وَرَاء مصر ... غَدَاة علتك فِي قطنا الْخيام)
(رَجَاء هز تيك وَتلك خوف ... وَلَو قد شِئْت ضمهما قرام)
(بعيشك يَا مبيد الْخَيل ركضا ... حَمامٌ هنّ تَحْتك أم حِمام)
وَقَالَ ابْن مُنِير يهنئه بتسلم قلعة حمص من ينَال وانشده فِي القلعة القصيدة أَولهَا
(أرحها فَهِيَ أزلام الْمَعَالِي ... لهنّ إِلَى الوغى توق المغالي)
(أما ومقيلهن بِكُل نقع ... يقوّض بِالْهدى عمر الضّلال)
(وَأي سيوفك الْحمر الْحَوَاشِي ... منزلَة مَتى دُعِيتْ نَزَال)
(مَواضٍ إِن سُللن سلكن جزما ... نَفَاهُ من الطلي لفظ اعتلال)
(لقد غلت الصَّلِيب بِحَرْ حَرْب ... يشيب أوارها لمَم اللَّيَالِي)
(وشمت لنصر هَذَا الدّين بَأْسا ... تحرم مِنْهُ كل حمى حَلَال)
وَمِنْهَا
(وقائع أترعت فِي كل فج ... وقائع جوها دامي العزالي)
(تسائل حمص عَن منسىّ دين ... تقاضاه لَك الْحجَج الخوالي)
(فواتت وَهِي أُخْت النَّجْم بعدا ... ووعدا صِيغ من مطل مطال)(1/238)
(تشامخ أنفها عزا وشدت ... على أَن لَا تنَال يدا ينَال)
(فَمَا زَالَت رقاك تجدّ نقضا ... لما تثنيه من مرر الحِبال)
(إِلَى أَن أطلق الْحَسْنَاء كرها ... وَآل إِلَى ملاوحة المآلي)
(يصد الْوَجْه عَن شمّاء أَلْقَت ... يدا لأشمّ ذِي بَاعَ طوال)
(شغلت بهَا يَمِينك والمواضي ... تكّفلُ أنّ مصرا للشمال)
(إِذا فتح الْقِتَال عَلَيْك أَرضًا ... أباحك أُخْتهَا لاَ عَنْ قتال)
فصل
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى اتَّصل الْخَبَر بِنور الدّين بإفساد الفرنج فِي الْأَعْمَال الحَوْرَانيّة بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم وَكتب إِلَى من بِدِمَشْق يعلمهُمْ مَا عزم عَلَيْهِ من الْجِهَاد ويستدعي مِنْهُم المعونة على ذَلِك بِأَلف فَارس تصل إِلَيْهِ مَعَ مقدم يعول عَلَيْهِ وَقد كَانُوا عَاهَدُوا الفرنج أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة على من يقصدهم من عَسَاكِر الْمُسلمين فاحتج عَلَيْهِ وغولط
فَلَمَّا عرف ذَلِك رَحل وَنزل بمرج يبوس وَبَعض العسكرية بيعفور
فَلَمَّا قرب من دمشق وَعرف من بهَا خَبره وَلم يعلمُوا أَيْن قَصده وَقد كَانُوا راسلوا الإفرنج بِخَبَرِهِ وقرروا مَعَهم الإنجاد عَلَيْهِ وَكَانُوا قد نهضوا إِلَى نَاحيَة عسقلان لعمارة غَزَّة ووصلت أوائلهم إِلَى بانياس
وَعرف نور الدّين خبرهم فَلم يحفل بهم وَقَالَ لَا أنحرف عَن جهادهم
وَهُوَ مَعَ ذَلِك كافّ أَيدي أَصْحَابه عَن العيث والإفساد فِي الضّيَاع وَأمر بِإِحْسَان الرَّأْي فِي(1/239)
الفلاحين وَالتَّخْفِيف عَنْهُم وَالدُّعَاء لَهُ مَعَ ذَلِك متواصل من أهل دمشق وأعمالها وَسَائِر الْبِلَاد وأطرافها
وَكَانَ الْغَيْث قد انحبس عَن حوران والمرج والغوطة ونزح أَكثر أهل حوران عَنْهَا للمحل واشتداد الْأَمر
فَلَمَّا وصل نور الدّين إِلَى بعلبك اتّفق نزُول الْمَطَر يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث ذِي الْحجَّة وَأقَام إِلَى مثله فروى الآكام والوهاد وَجَرت الأودية وزادت الْأَنْهَار وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها وَعَاد مَا صوح من النَّبَات وَالزَّرْع غضا طريا وجد النَّاس بِالدُّعَاءِ لنُور الدّين وَقَالُوا هَذَا ببركته وَحسن معدلته وَسيرَته
ثمَّ رَحل من منزله بالأعوج وَنزل بجسر الْخشب الْمَعْرُوف بمنازل العساكر فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَأرْسل إِلَى مجير الدّين والرئيس وَقَالَ إِنَّنِي مَا قصدت بنزولي هَذَا الْمنزل طلبا لمحاربتكم وَلَا منازلتكم وَإِنَّمَا دَعَاني إِلَى هَذَا الْأَمر كَثْرَة شكاية الْمُسلمين من أهل حوران والعربان بِأَن الفلاحين أخذت أَمْوَالهم وسبيت نِسَاؤُهُم وأطفالهم بيد الإفرنج وَعدم النَّاصِر لَهُم وَلَا يسعني مَعَ مَا أَعْطَانِي الله وَله الْحَمد من الاقتدار على نصْرَة الْمُسلمين وَجِهَاد الْمُشْركين وَكَثْرَة المَال وَالرِّجَال أَن أقعد عَنْهُم وَلَا أنتصر لَهُم مَعَ معرفتي بعجزكم عَن حفظ أَعمالكُم والذب عَنْهَا وَالتَّقْصِير الَّذِي دعَاكُمْ إِلَى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي وبذلكم لَهُم أَمْوَال الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين من الرّعية ظلما لَهُم وتعديا عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا يُرْضِي الله تَعَالَى وَلَا أحدا من الْمُسلمين وَلَا بُد من المعونة بِأَلف فَارس مُزاحِي العلّة تُجرّدُ مَعَ من يوثق بشجاعته من المقدّمين(1/240)
لتخليص ثغر عسقلان وغزة
قَالَ فَكَانَ الْجَواب عَن هَذِه الرسَالَة لَيْسَ بَيْننَا وَبَيْنك إِلَّا السَّيْف وسيوافينا من الإفرنج مَا يُعينُنا على دفعك إِن قصدتنا وَنزلت علينا
فَلَمَّا عَاد الرَّسُول بِهَذَا الْجَواب ووقف عَلَيْهِ أَكثر التَّعَجُّب مِنْهُ وَالْإِنْكَار لَهُ وعزم على الزَّحْف إِلَى البد ومحاربته فِي غَد ذَلِك الْيَوْم فَأرْسل الله من الأمطار وتداركها ودوامها مَا مَنعه من ذَلِك
وَدخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
فَفِي مستهل الْمحرم تقرر الصُّلْح بَين بَين نور الدّين وأرباب دمشق وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن نور الدّين أشْفق من سفك دِمَاء الْمُسلمين إِن أَقَامَ على حربها والمضايقة لَهَا بَعْدَمَا اتَّصل بِهِ من أَخْبَار دَعَتْهُ إِلَى ذَلِك
وَاتفقَ أَنهم بذلوا لَهُ الطَّاعَة وَإِقَامَة الْخطْبَة لَهُ على مِنْبَر دمشق بعد الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان وَكَذَا السِّكَّة وَوَقعت الْإِيمَان على ذَلِك
وخلع نور الدّين على مجير الدّين خلعة كَامِلَة بالطوق وَأَعَادَهُ مكرما مُحْتَرما وخطب لَهُ على مِنْبَر دمشق يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر محرم
ثمَّ استدعى الرئيس إِلَى المخيم وخلع عَلَيْهِ خلعة كَامِلَة أَيْضا وَأَعَادَهُ إِلَى الْبَلَد وَخرج إِلَيْهِ جمَاعَة من الأجناد والخواص إِلَى المخيم واختلطوا بِهِ وَوصل من استماحه من الطلاب والقرأة والضعفاء بِحَيْثُ مَا خَابَ قاصده وَلَا أكدى سائله ورحل عَن مخّيمه عَائِدًا إِلَى حلب بعد إحكام مَا قرر وتكميل مَا دبر(1/241)
قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القيسراني
(لَك الله إِن حَارَبت فالنصر وَالْفَتْح ... وَإِن شِئْت صلحا عد من حزمك الصُّلْح)
(وَهل أَنْت إِلَّا السَّيْف فِي كل حَالَة ... فطَوراً لَهُ حد وطورا لَهُ صفح)
(سقيت الرّدينيات حَتَّى رَددتهَا ... تَرَنَّحُ من سكر فَخَل القنا تصحو)
(وَمَا كَانَ كف الْعَزْم إِلَّا إِشَارَة ... إِلَى الحزم لَو لم يغْضب السَّيْف وَالرمْح)
(وَقد علم الْأَعْدَاء مُذ بِتَّ جانحا ... إِلَى السّلم مَا تنوي بِذَاكَ وَمَا تنحوا)
(إِذا مَا دمشق مَلكتك عنانها ... تَيَقّن من فِي إيليا أَنه الذّبْح)
(مَتى التف نقع الجحفلين على الْهدى ... فَلَا مهمهٌ يحوي الضلال وَلَا سفح)
(إِذا سَار نور الدّين فِي الْجَيْش غازيا ... فقولا لِليْل الْإِفْك قد طلع الصُّبْح)
(تركت قُلُوب الشّرك تَشْكُو جراحها ... فَلَا زَالَت الشكوى وَلَا اندمل الْجرْح)
(صبرت فَكَانَ الصَّبْر خير مغبة ... فسيق إِلَيْك الْملك يسْعَى بِهِ النجح)
(كَانَ القنا تجلو لَهُ وَجه أمره ... وَلَو أمهلت بلقيس مَا غرها الصرح)
(بدوليك الغراء أصبح ضدها ... بهيما وَلَوْلَا الْحسن مَا عرف الْقبْح)
(وَكم من قريح الْقلب لَو بَات وارداً موارد هَذَا الْعدْل مَا مَسّه قرح)
(سخا بك هَذَا الدَّهْر جودا على الورى ... على أَنه مَا زَالَ فِي طبعه شح)
(وَقد كَانَ يمحو رسم كل فَضِيلَة ... وَنحن نرَاهُ الْيَوْم يثبت مَا يمحو)
(بك ابتهج الْأَلْبَاب وابتهج الحجا ... وأثمرت الْآدَاب واطرد الْمَدْح)
(ولاذت بك التَّقْوَى وعاذت بك الْعلَا ... ودانت لَك الدُّنْيَا وَعز بك السَّرْح)
(فَلَا قلب إِلَّا قد تملكته هوى ... وَلَا صدر إِلَّا قد جلاه لَك النصح)
(وَمَا الْجُود فِي الْأَمْلَاك إِلَّا تِجَارَة ... فَمن فَاتَهُ حمد الورى فَاتَهُ الرِّبْح)
(وَلم أختصر مَا قلت إِلَّا لأنني ... اعبر عَمَّا لَا يقوم بِهِ الشَّرْح)(1/242)
فصل فِي فتح عزاز
قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر فِي الْخَامِس من الْمحرم من نَاحيَة حلب بِأَن عسكرها من التركمان ظفر بِابْن جوسلين صَاحب عزاز وَأَصْحَابه وحصلوا فِي قَبْضَة الْأسر فِي قلعة حلب فسر هَذَا الْفَتْح كَافَّة النَّاس وَتوجه نور الدّين فِي عسكره إِلَى عزاز وَنزل عَلَيْهَا وضايقها وواظب قتالها إِلَى أَن سهل الله تَعَالَى ملكهَا بالأمان وَهِي على غَايَة من المنعة والحصانة والرفعة
فَلَمَّا تسلمها رتب فِيهَا من ثقاته من وثق بِهِ ورحل عَنْهَا ظافراً مَسْرُورا عَائِدًا إِلَى حلب فِي أَيَّام من شهر ربيع الأول
قلت وَذكر ابْن مُنِير فتح عزاز وَغَيرهَا وَأمر دمشق فِي قصيدة أَولهَا
(فدتك الْقُلُوب بألبابها ... وساح الْمُلُوك بأربابها)
(كتائب ترمي جنود الصَّلِيب ... مِنْهَا بتقطيع أصلابها)
(إِذا مَا انْثَنَتْ منَّة قراع الكماة ... كست وفدها وشي أسلابها)
(تبرنس مِنْهَا الْبُرْنُس الثِّيَاب ... وحلبه وَقع أحلابها)
(عَشِيَّة غصت على إنّب ... نفوس النَّصَارَى بغصابها)
(وَقَامَ لِأَحْمَد محمودها ... بجدع موران أحزابها)
(تجلى لَهَا حيدري المصاع ... أغلب مُودٍ بغلابها)
(مورث أركاسها من أَب ... أكول الفوارس شرابها)
(همام إِذا اعصوصبت نبوة ... دهاها بهاشم أعصابها)(1/243)
(مضى وجنى لَك حُلْو الشهاد ... مِمَّا تمطق من صابها)
(وَأوصى بهَا لَك من بعد مَا ... تجرع ممقر أوصابها)
(واقسم جدك أَلا يَلِيق ... بغيرك ملبس أثوابها)
(صبحت دمشق بمشق الْجِيَاد ... زبور الوغى بَين أحدابها)
(وأصلت رَأْيك قبل الحسام ... فخمد جَمْرَة أجلابها)
(فأعطتك مَا لم تنله يدُ ... وفازت رقاك بأصحابها)
(وَأَنت تصرف فضل الزِّمَام ... من حمص ياخير ركابهَا)
(تخونها الْجور فاستدركت ... بعدلك أغبار ظبظابها)
(وفاجأت قُورُس بالشائلات ... تمج القنا سمّ أذنابها)
(فَمَا رِمت حَتَّى رَمَت بيضها ... إِلَيْك أزمّة ضرّابها)
(وعزت عزاز فأذللتها ... بمجر مضيق لأسهابها)
(بأشمخ من أنفها منكبا ... وَأكْثر من عد تورابها)
(دلفت لعيطاء أم النُّجُوم ... فِي الْأَمر إيطاء أترابها)
(وعذراء مذ عَمَرت مَا اهتدت ... ظنون الليالى لإخْرَابها)
(تفرعتها بِفُرُوع الوشيج ... مثمرة هام أوشابها)
(وعوج إِذا أنبضت أغمضت ... ذكاء لإرسال نشابها)
(ومحدودبات تطير الخطوب ... ملاقط ألسن خطابها)(1/244)
(تصوب عقبان ريب الْمنون ... مَتى زبَنَتْها بأعقابها)
(وَمَا ركعت حول شم الهضاب ... إِلَّا سجدن لأنصابها)
(فلاذت بمعتصم بِالْكتاب ... وهوب الممالك سلابها)
(بمعتصمي الندى وَالْهدى ... هموس السُّرى غير هيابها)
(محلى الْمحل بِوَصْف الْفتُوح ... وَوصف التهاني وأربابها)
(وتعجز مداحه أَن تحيط ... بآدابه فلك آدابها)
(بَدَائِع لَو رد دهر رمين ... بَنات حبيب بأحبابها)
(وَأَيْنَ ابْن أَوْس وأبياته ... من اللاء أودت بحسابها)
(من اللاء عَاد عَتيق لَهَا ... ورد عَلَيْهَا ابْن خطابها)
(فأيامه من حبور تكَاد ... يطير بهَا فرط إعْجَابهَا)
(لَك الْفضل إِن راسلتك الْجِيَاد ... وَقَامَت أَدِلَّة أنجابها)
(إِذا اعتسفت همم الجائرين ... أتيت السِّيَادَة من بَابهَا)
(أَبوك أَبوهَا وَأَنت ابْنهَا العريق ... ودمية مِحْرَابهَا)
(أَقُول لمؤجره بالغرور ... تمطت هَواهَا فَأَهوى بهَا)
(حذار فَعِنْدَ ابتسام الغيوث ... يخْشَى صواعق ألهابها)
(وَلَا تخدعوا بإفترار الليوث ... فَالنَّار فِي برد أنيابها)(1/245)
فصل فِي صفة أسر جوسلين
قَالَ ابْن الْأَثِير سَار نور الدّين إِلَى بِلَاد جوسلين وَهِي القلاع الَّتِي شمَالي حلب مِنْهَا تل بَاشر وَعين تَابَ وعزاز وَغَيرهَا من الْحُصُون
فَجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم ولقوا نور الدّين وَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة أجلت عَن انهزام الْمُسلمين وظفر الفرنج وَأخذ جوسلين سلَاح دَار كَانَ لنُور الدّين أَسِيرًا وَأخذ مَا مَعَه من السِّلَاح فأنفذه إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود بن قليج أرسلان السلجوقي صَاحب قونية وأقصرا وَغَيرهمَا من تِلْكَ الْأَعْمَال وَكَانَ نور الدّين قد تزوج ابْنَته وَأرْسل مَعَ السِّلَاح إِلَيْهِ يَقُول قد أنفذت لَك سلَاح صهرك وسيأتيك بعد هَذَا غَيره
فعظمت هَذِه الْحَادِثَة على نور الدّين وأعمل الْحِيلَة على جوسلين وَعلم أَنه إِن هُوَ جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وَامْتنع فَاحْضُرْ نور الدّين جمَاعَة من التركمان وبذل لَهُم الرغائب من الإقطاع وَالْأَمْوَال إِن هم ظفروا بجوسلين إِمَّا قتلا وَإِمَّا أسرا
فاتفق أَن جوسلين خرج فِي عسكره واغار على طَائِفَة من التركمان فنهب وسبى فَاسْتحْسن من السَّبي امْرَأَة مِنْهُم فَخَلا مَعهَا تَحت شَجَرَة فعاجله التركمان فَركب فرسه ليقاتلهم(1/246)
فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا فصانعهم على مَال بذله لَهُم فرغبوا فِيهِ وأجابوه إِلَى ذَلِك وأخفوا أمره عَن نور الدّين
فَأرْسل جوسلين فِي إِحْضَار المَال فَأتى بعض التركمان إِلَى نَائِب نور الدّين بحلب فَأعلمهُ الْحَال فسير مَعَه عسكرا أخذُوا جوسلين من التركمان قهرا وَكَانَ نور الدّين حِينَئِذٍ بحمص وَكَانَ أسره من اعظم الْفتُوح على الْمُسلمين فَإِنَّهُ كَانَ شَيْطَانا عاتيا من شياطين الفرنج شَدِيد الْعَدَاوَة للْمُسلمين وَكَانَ هُوَ يتَقَدَّم على الفرنج فِي حروبهم لما يعلمُونَ من شجاعته وجودة رَأْيه وَشدَّة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أَهلهَا
وَأُصِيبَتْ النَّصْرَانِيَّة كَافَّة بأسره وعظمت الْمُصِيبَة عَلَيْهِم بفقده وخلت بِلَادهمْ من حاميها وثغورهم من حافظها وَسَهل أَمرهم على الْمُسلمين بعده
وَكَانَ كثير الْغدر وَالْمَكْر لَا يقف على يَمِين وَلَا يَفِي بِعَهْد
طالما صَالحه نور الدّين وهادنه فَإِذا أَمن جَانِبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فَلَقِيَهُ غدره وحاق بِهِ مكره {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بِأَهْلِهِ} فَلَمَّا أسر تيَسّر فتح كثير من بِلَادهمْ وقلاعهم فَمِنْهَا عين تَابَ وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خَالِد وَكفر لاثا وَكفر سود وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الْجَوْز وبرج الرصاص
قَالَ وَكَانَ نور الدّين رَحمَه الله إِذا فتح حصنا لَا يرحل عَنهُ حَتَّى يملأه رجَالًا وذخائر تكفيه عشر سِنِين خوفًا من نصْرَة تتجدد للفرنج على الْمُسلمين فَتكون الْحُصُون مستعدة غير محتاجة إِلَى شَيْء وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي(1/247)
هَذِه الْحَادِثَة فَأَكْثرُوا مِنْهُم القيسراني
قَالَ يمدح نور الدّين بعد صدوره عَن دمشق واستقرار أمرهَا وَيذكر قتل البرنز وَأسر جوسلين وَأخذ بِلَاده
(دَعَا مَا ادّعى مَن غره النهى وَالْأَمر ... فَمَا الْملك إِلَّا مَا حباك بِهِ الْقَهْر)
(وَمن ثنت الدُّنْيَا إِلَيْهِ عنانها ... تصرف فِيمَا شَاءَ عَن إِذْنه الدَّهْر)
(وَمن رَاهن الأقدار فِي صهوة الْعلَا ... فَلَنْ تدْرك الشعري مداه وَلَا الشّعْر)
(إِذا الْجد أَمْسَى دون غَايَته المنى ... فَمَاذَا عَسى أَن يبلغ النّظم والنثر)
(وَلم لَا يَلِي أَسْنَى الممالك مَالك ... زعيم بِجَيْش من طلائعه النَّصْر)
(لِيهن دمشقا أَن كرْسِي ملكهَا ... حبي مِنْك صَدرا ضَاقَ عَن همة الصَّدْر)
(وَأَنَّك نور الدّين مُذْ زرت أرْضهَا ... سمت بك حَتَّى انحط عَن نسرها النسْر)
(خطبت فَلم يحجبك عَنْهَا وَليهَا ... وخطب الْعلَا بِالسَّيْفِ مَا دونه ستر)
(جلاها لَك الإقبال حورية السنا ... عَلَيْهَا من الفردوس أردية خضر)
(خلوب أكَنّت من هَوَاك محبَّة ... نمت فانتمت جَهرا وسر الْهوى جهر)
(فسقت إِلَيْهَا الْأَمْن وَالْعدْل نحلة ... فأمست وَلَا أسر تخَاف وَلَا إصر)
(فَإِن صافحت يمناك من بعد هجرها ... فأحلى التلاقي مَا تقدمه هجر)
(وَهل هِيَ إِلَّا كالحصان تمنعت ... دلالا وَإِن عز الحيا وغلا الْمهْر)
(وَلَكِن إِذا مَا قستها بصداقها ... فَلَيْسَ لَهُ قدر وَلَيْسَ لَهَا قدر)
(هِيَ الثغر أَمْسَى بالكراديس عَابِسا ... وَأصْبح عَن بَاب الفراديس يفترّ)
(على أَنَّهَا لَو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الْخَوْف والذعر)
(فإمَّا وقَفْت الْخَيل ناقعة الصّدى ... على بردى من فَوْقهَا الْوَرق النّضر)(1/248)
(فَمن بعد مَا أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها وَالْبيض من علق حمر)
(وجللتها نقعا أضاع شِيَاتها ... فَلَا شُهبها شُهبٌ وَلَا شُقرها شُقر)
(علا النَّهر لما كاثر الْقصب القنا ... مكاثرةً فِي كل نحرٍ لَهَا نحر)
(وَقد شَرقَتْ أجرافه بِدَم العدى ... إِلَى أَن جرى العَاصِي وضحضاحه غمر)
(صدعتهم صدع الزجاجة لَا يَد ... لجابرها مَا كل كسر لَهُ جبر)
(فَلَا ينتحل من بعْدهَا الْفَخر دائل ... فَمن بارز الإبرنز كَانَ لَهُ الْفَخر)
(وَمن بز أنطاكية من مليكها ... أَطَاعَته ألحاظ المؤلَّلة الخزرُ)
(أَخُو اللَّيْث لَوْلَا غدره نزعت بِهِ ... إِلَى الذِّئْب أَن الذِّئْب شيمته الْغدر)
(أُتِي رَأسه ركضا وغودر شلوه ... وَلَيْسَ سوى عافي النسور لَهُ قبر)
(وَقد كَانَ فِي استبقائه لَك منَّة ... هِيَ الفتك لَو لم تغْضب الْبيض والسمر)
(كَمَا أَهْدَت الأقدار للقمص أسره ... واسعد قرن من حواه لَك الْأسر)
(طَغى وبغى عدوا على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه وَالْكفْر)
(وَأَلْقَتْ بأيديها إِلَيْك حصونه ... وَلَو لم تجب طَوْعًا لجاء بهَا القسر)
(وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لَو أَنَّهَا الوكر)
(فسر واملأ الدُّنْيَا ضِيَاء وبهجة ... فبالأفق الداجي إِلَى ذَا السنا فقر)
(كَأَنِّي بِهَذَا الْعَزْم لَا فل حَده ... وأقصاه وَقد قضي الْأَمر)
(وَقد أصبح الْبَيْت الْمُقَدّس طَاهِرا ... وَلَيْسَ سوى جاري الدِّمَاء لَهُ طهر)(1/249)
(وَقد أدَّت الْبيض الْحداد فروضها ... فَلَا عُهْدَة فِي عْنق سيف وَلَا نذر)
(وصلت بمعراج النَّبِي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر)
(وَإِن تتيمم سَاحل الْبَحْر مَالِكًا ... فَلَا عجب أَن يملك السّاحلَ الْبَحْر)
(سللت سيوفا أثكلت كل بَلْدَة ... بصاحبها حَتَّى تَخوَّفك الْبَدْر)
(إِذا سَار نور الدّين فِي عزماته ... فقولا لِليْل الْإِفْك قد طلع الْفجْر)
(وَلَو لم يَسِر فِي عَسْكَر من جُنُوده ... لَكَانَ لَهُ من نَفسه عَسْكَر مَجْر)
(مليك سمت شم المنابر باسمه ... كَمَا زُهيت تِيهاً بِهِ الأنجم الزُّهر)
(فيا كعبة مَا زَالَ فِي عرصاتها ... مواسم حج لَا يروّعها النَّفر)
(خلعت على الْأَيَّام من حلل العلى ... ملابس من أعلامها الْحَمد وَالشُّكْر)
(وتوجت ثغر الشَّام مِنْك جلالة ... تمنّت لَهَا بغدادُ لَو أَنَّهَا ثغر)
(فَلَا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فُيمناك نيلٌ كل مصر بهَا مصر)
(رددت الْجِهَاد الصعب سهلا سَبيله ... وياطالما أَمْسَى ومسلكه وعر)
(وأطمعت فِي الإفرنج من كَانَ بأسه ... تخوف أَن يعتاده مِنْهُم فكر)
(وأقحمت جرد الْخَيل أَعلَى حصونها ... ولولاك لم تهجم على كَافِر كفر)
(وَمن يدعى فِي قَتلك الشّرك شركَة ... إِذا لم يكن عِنْد القوافي لَهُ ذكر)
(هِيَ القانتات الحافظات فروجها ... فشاهدها عدل ورائقها سحر)
(وَلَو لم يكن فِي فَضلهَا وكمالها ... سوى أَنَّهَا من بعد عمر الْفَتى عمر)
وَله من قصيدة يصف فِيهَا وقائعه أَولهَا
(أما وخيال زار مِمَّن أحبه ... لقد هاج من ذكرَاهُ مَا لَا أغبه)(1/250)
(إِذا مَا صبا قلب الْمُحب إِلَى الصّبا ... ذكرت نسيما بالثغور مهُّبهُ)
(فيا نفحات الشَّام رفقا بمهجة ... يحامى عَلَيْهَا مدنف الْقلب صّبه)
(فَلَا تسألن الصب أَيْن فُؤَاده ... فَإِن فؤاد الْمَرْء مَعَ من يُحِبهُ)
(وَفِي شعب الأكوار من هُوَ عَالم ... غَدَاة استطار الْبَرْق من طَار لبه)
(يشيم ثغور المزن تهمى كَأَنَّهَا ... سنا بشر نور الدّين تنهل سُحبه)
(إِذا مَا سما فِي مُبهم الْخطب وَجهه ... تمزق عَن بدر الدُّجٌنَّة حُجبه)
(تولد بَين الْغَيْث وَاللَّيْث والتقى ... منافسه أَي الثَّلَاثَة تربه)
(يعد مضاء فِي الظبى لَا وضربه ... بهَا قلل الْأَعْدَاء مَا السَّيْف ضربه)
(مكين الحجا رَاض الزَّمَان بِنَفسِهِ ... إِلَى الْآن حَتَّى لَان وانقاد صعبه)
(حمى قبَّة الْإِسْلَام بِالْخَيْلِ فاغتدت ... واوتادها جرد الطعان وقبه)
(فكم هبوة أوقعن بالْكفْر تحتهَا ... فَمَا انقشعت إِلَّا وللذل جنبه)
(كَيَوْم الرها الورهاء والهام يَانِع ... ملي برعي الهندواني خصبه)
(وشهباء هاجتها وغى صرخدية ... ثناها وليل الْحَرْب تنقض شهبه)
(وعارم يَوْمًا بالعُريمة فاغتدت ... كوادي ثَمُود إِذْ رغا فِيهِ سقبه)
(وعاصى على العَاصِي بأرْعن خَاطب ... دم الْإِفْك حَتَّى أنكح النصل خطبه)
(بإنب لما أكسب المَال وانثنى ... بِصَاحِب أنطاكية وَهُوَ كَسبه)
(غَدَاة هوى شطرين للسيف رَأسه ... وللرمح حَتَّى توج الرَّأْس قلبه)
(على حِين للخطي فِيهِ عوامل ... يُعَاقِبهُ خفض الحسام ونصبه)
(وقائع محمودية النَّصْر لم يزل ... غَرِيبا بهَا عَن موطن السّيف غربه)
(يقوم مقَام الْجَيْش فِيهَا وعيده ... وَتفعل أَفعَال الْكَتَائِب كتبه)
(وَحين انتضته عَزمَة من قرَابَة ... مضى وَهُوَ نصل والممالك قربه)
(إِلَى أَن دَعَتْهُ رَبهَا كل بَلْدَة ... فَلَيْسَ من الْأَمْصَار مَا لَا يربه)(1/251)
(وَلما نزا بالقمص عُجب هوى بِهِ ... على أم رَأس الْبَغي والغدر عُجبه)
(فاصبح فِي الحجلين يُنكر خطوه ... بعيد على الرجلَيْن فِي السَّعْي قربه)
(تعاقبه الْبُشْرَى بِأخذ حصونه ... فيا عانيا ضرب البشائر ضربه)
(تناجي عزاز باسمه تل بَاشر ... فيلعنه لعن الصَّرِيح وسبه)
(فَإِن يكن المقهور من ثل عَرْشه ... فَهَذَا عَمُود الْكفْر قد طاح طُنبه)
(فَقل لملوك الْخَافِقين نصيحة ... كَذَا عَن طَرِيق اللَّيْث تزأر غَلبه)
(وخلوا عَن الْآفَاق فالشرق شرقه ... بِحكم الردينيات والغرب غربه)
(وَلَا يعتصم بالدرب طاغ على القنا ... فَإِن القنا فِي ثغرة النَّحْر دربه)
(رحيب فضاء الْحلم عَن ذَات قدره ... إِذا ضَاقَ من صدر المملك رحبه)
(عَفْو عَن الْجَانِي يكَاد الَّذِي جنى ... يكرًّ بِهِ شوقا إِلَى الْعَفو ذَنبه)
(أمتخذ الْإِخْلَاص لله جنَّة ... وَمن يعتصم بِاللَّه فَالله حَسبه)
(أَبوك اسْتردَّ الشَّام بِالسَّيْفِ عنْوَة ... وللروم بَأْس طالما غال خطبه)
(إِذا ذب عَن أضغاث دُنْيَاهُ مَالك ... فَأَنت الَّذِي عَن حوزة الدّين ذبه)
(رَأَيْت ابْتَاعَ الْحق خيرا مغبة ... فأفرجت عَن رأى يَسُرك غبه)
(وأوضحت مَا بَين الْفَرِيقَيْنِ سنة ... بهَا عرف المربوب من هُوَ ربه)
(وبينت مَا قد كَانَ من كَانَ يَبْتَغِي ... دَلِيلا بِأَن الله من أَنْت حزبه)
وَقَالَ ابْن مُنِير يمدح نور الدّين بِظَاهِر حمص
(هَيْهَات يعْصم من أردْت حذار ... أَنى وَمن أوهاقك الأقدار)(1/252)
وَمِنْهَا
(طلعت عَلَيْك بجوسلين ذَرِيعَة ... لَا سحل انشاها وَلَا إمرار)
(وسعادة مَا زلت تمري خلفهَا ... فيشف وَهُوَ الناتق المدرار)
(فأرتك مَا يجني الوفي وفاؤه ... وأرته كَيفَ يُحًّين الغدار)
(عود أَمر على أبارك طلعه ... فاحيل ذَاك الْبر وَهُوَ بوار)
(مَا زلت تنعم وَهُوَ يكفر عاتيا ... وَالله يهدم مَا بنى الْكفَّار)
(حَتَّى أتاح لِقَوْمِهِ مَا جَرّه ... لثمود من عقر الفصيل قدار)
(أسرى فَأصْبح فِي براثن آسر ... مَا زَالَ يدُمى ظفره الْأَظْفَار)
(سَام كقرن الشَّمْس يُقبس نوره ... وتغض دون مَحَله الْأَبْصَار)
(يهب التلاد من الْبِلَاد وَمَا حوت ... إِن السماحة للبحار بحار)
(يقظان يخْشَى الله فِي خلواته ... لَا مُترف لاه وَلَا جَبَّار)
(نصب المراقب للعواقب نَاظرا فِيهَا كَذَلِك تربأ الْأَبْرَار)
(لَا كَالَّذِين تعجلوا حسواتها ... وتقلسوها بعد وَهِي خسار)
(درجوا وادرج فِي ملف رفاتهم ... سوأى تساء لذكرها الْآثَار)
(والمرء من يُطوى فيَنشر طيه ... مَا أودعته صدورها الأخيار)
(قل للألى نَامُوا على نأماته ... مَا كل هبة بارح إعصار)
(لَا تأمنوا فِي الله بطشة ثَائِر ... لله ملْء سَرِيره أسرار)
(صَاف إِذا كدر الْمَعَادِن عَادل ... إِن حاف حكام الْمُلُوك وجاروا)
(أَعلَى أَبوهُ لَهُ النجاد وشيد فِي ... صهواتها مِمَّا ابتناه منار)
(مَحْمُود الْمَحْمُود آثاراً إِذا ... نظمت على جيد الدجى الأسمار)(1/253)
(دَانَتْ لَهُ الْأَيَّام صاغرة كَمَا ... دَانَتْ لَهُ فِي ظله الْأَمْصَار)
وَله من أُخْرَى أَولهَا
(مَا الْملك إلاّ مَا حواه نجاده ... )
يَقُول فِيهَا
(وَتَدين حسده لمحكم آيه ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ حسّاده)
(شمس إِذا مَا الْحَرْب زر جيوبها ... حل المعاقد كره وطراده)
(ألوى أَلد حمى الشَّرِيعَة الشَّرِيعَة جهده ... وأذل نَاصِيَة الضلال جهاده)
(صعق الْبُرْنُس وَقد تلألأ برقه ... وأطار سَاكن جأشه إرعاده)
(ولى وَقد سُلَّت فَسَلَّت ضغنه ... زُبر تلقى فودهن فُؤَاده)
(مستلئما مستسلما لَا عدَّة ... رد المنى عَنهُ وَلَا استعداده)
(ولجوسلين احتثهن فَأَصْبَحت ... نهبى لَهُنَّ بِلَاده وتلاده)
(جَاءَت بِهِ بعد الشماس عوابس ... قَود يلين لعنقهن قياده)
(وتصيدته لَك السُّعُود وقلما ... ينجو بخيرٍ من أردْت مصاده)
(داني لَهُ قيناه أدهم كلما ... غناهُ طَار شماتة عوّاده)
(سلبت عزاز عزاءه وبقورس ... محجوبة فرشت لَهُ اقتاده)
(وبتل خَالِد يَوْم تل جبينها ... خلط الثرى بجبينه إخلاده)
(وَغدا يُبَاشر تل بَاشر قلُبه ... بأحر مَا حمل الْقُلُوب عداده)
(منت أمانيه بشائرك الَّتِي ... عَادَتْ لَهُنَّ مآتما أعياده)
(وحبوت ملكك من نظيم ثغوره ... حَلْياً تَتَايَه تَحْتَهُ أجياده)(1/254)
(لَا يخدعنك فَإِنَّمَا إصْلَاح من ... يخُشى انتشاط خناقه إفساده)
(أنزلهُ حَيْثُ قَضَت لَهُ غدراته ... واحله طغيانه وعناده)
(فِي حَيْثُ لَا يأوى لَهُ سجّانه ... حنقا ويكشط جلده جلاده)
(وثن هدمت بني الضلال بهدمه ... وغدت عِبَادك عنْوَة عباده)
(فتكت بِهِ آيَات مَن لمُحَمد ... ولدينه إبداؤه وعواده)
(لَو أنشط الْبَلَد الْحَرَام تواءمت ... تثني عَلَيْهِ تلاعه ووهاده)
(وَلَو ان منبره أطَاق تكلما ... نطقت بباهر فَضله أعواده)
(نَام الْخَلِيفَة واستطار لذبه ... عَن سدتيه واستطير رقاده)
(رجعت لَك الْعِزّ الْقَدِيم سيوفه ... مَا زَان رونق مَائِهَا أغماده)
(من بعد مَا نعق الصَّلِيب لحزبه ... وَرَأَيْت زرع الْملك حَان حَصَاده)
(أَنِّي تميل الحادثات رواقه ... بهبوبها وَابْن الْعِمَاد عماده)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما سَار نور الدّين إِلَى قلاع جوسلين ملك بَعْضًا وَبَقِي بعض فاجتمعت الفرنج فَالْتَقوا مَعَ نور الدّين بدلوك فَهَزَمَهُمْ وَاسْتولى على دلوك وَغَيرهَا فَفِيهَا يَقُول أَحْمد بن مُنِير قصيدة مِنْهَا
(هِيَ الْخَيل خير عتاد الْكَرِيم ... يحضر للهم إحضارها)(1/255)
(ضغمت فأدردت أفواهها ... وسرت فقلمت أظفارها)
(إلام وَلم تُبق مِمَّا غزوت ... قلوبا تكابد إذعارها)
(اما فِي مفصل آي القراع ... أَن تضع الْحَرْب أَوزَارهَا)
(عَسى أَن يُحم لهَذَا الْحمام ... أَن يتوكر أوكارها)
(وَمَا يَوْم من غَلَّته وَاحِد ... فتودعه الّلسْنُ أشعارها)
(وَأَيْنَ المَقَاول مِمَّا فعلت ... وَلَو شفع الْقطر إكثارها)
(فكم أجلبت خَلفك الجافخات ... فصلصل فخرك فخارها)
(أعدت بعصرك هَذَا الأنيق ... فتوح النَّبِي وأعصارها)
(وَكَانَ مهاجرها تابعيك ... وأنصار رَأْيك أنصارها)
(فجددت إِسْلَام سلمانها ... وَعمر جدك عمارها)
(وَمَا يَوْم إنب إِلَّا كتيك ... بل طَال بالبوع أشبارها)
(وأيامك الغر من بعده ... تعيد إِلَى الطي أغرارها)
(وَلما هببت ببصرى سمكت ... بأهباء خيلك أبصارها)
(وَيَوْم على الجون جون السراة ... عز فسعَّطها عارها)
(صدمت عُريمتها صدمة ... أذابت مَعَ المَاء أحجارها)
(وَفِي تل بَاشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها)
(وَإِن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أَخْبَارهَا)
(وشب التدامُر حَتَّى طلعت ... عَلَيْهَا فولتك أدبارها)
(مشَاهد مَشْهُورَة نمنمت ... على صفحة الدَّهْر أسطارها)
(يلذ الأغاني ترجيعها ... ويستسفر السّفر أسفارها)(1/256)
(بنيت لوفد المنى كعبة ... تجير الْمُعَلق أستارها)
(وملكت وَالْأَرْض مغبرة ... تكَاد تُحَدِّثُ أخْبَارَها)
(فَمَا زلت تدجن حَتَّى محوت ... دجاها وشعشعت أنوارها)
(وصلت فأعززت مسكينها ... وصلت فأذللت جبارها)
(وصغت حلى من علا أحكمت ... على عنق الدَّهْر أزرارها)
قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وَفِي رَجَب وَردت الْأَخْبَار من نَاحيَة نور الدّين بظفره بعسكر الإفرنج النازلين بإزائه قَرِيبا من تل بَاشر وعظيم النكاية فيهم والفتك بهم وامتلأت الْأَيْدِي من غنائمهم وَسَبْيهمْ وَاسْتولى على حصن خَالِد الَّذِي كَانَ مضايقه ومنازله
قَالَ وَفِي أَيَّام من الْمحرم وصل جمَاعَة من حجاج الْعرَاق وخراسان المأخوذين فِي طَرِيق الْحَج عِنْد عودهم بِجَمَاعَة من كفار العربان وحكوا مُصِيبَة مَا نزل مثلهَا بِأحد فِي السنين الخالية وَلَا يكون أبشع مِنْهَا
وَذكر أَنه كَانَ فِي هَذَا الْحَاج من وُجُوه خُرَاسَان وتنائها وفقهائها وعلمائها وقضاتها وخواتين أُمَرَاء العساكر السُّلْطَانِيَّة وَالْحرم الْعدَد الْكثير وَالْأَمْوَال الجمة والأمتعة الوافرة فَأخذ جَمِيع ذَلِك وَقتل الْأَكْثَر وَسلم الْأَقَل وهتكت النِّسَاء وسلبن وَهلك من هلك بِالْجُوعِ والعطش فضاقت الصُّدُور لهَذِهِ النَّازِلَة فكسي العارى مِنْهُم وَأطلق لَهُم مَا استعانوا بِهِ على عودهم إِلَى أوطانهم من أَصْحَاب الْمُرُوءَة بِدِمَشْق {ذَلِكَ تَقْدِيُر الْعَزِيز الْعَلِيم}(1/257)
قَالَ وَكَانَ مُجَاهِد الدّين بزان قد توجه إِلَى حصنه صرخد لتفقد أَحْوَاله فعرضت بعده نفرة بَين مجير الدّين والرئيس بسعايات أَصْحَاب الْأَغْرَاض وَالْفساد واقتضت الْحَال استدعاء مُجَاهِد الدّين لإِصْلَاح الْحَال فوصل وَتمّ ذَلِك بوساطته على شَرط إبعاد الْحَاجِب يُوسُف صَاحب مجير الدّين عَن الْبَلَد مَعَ أَصْحَابه وتوجهوا وَلم يعرض لشَيْء من أَمْوَالهم وَقصد بعلبك فَأكْرمه وإليها
قَالَ ووردت الْأَخْبَار من مصر بالخُلف المستمر بَين وزيرها ابْن مصال وَبَين الْأَمِير المظفر ابْن السلار وَوُقُوع الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء إِلَى أَن أسفرت الْحَال عَن قتل ابْن مصال الْوَزير وانتصاب ابْن السلار مَوْضِعه فِي الوزارة
قَالَ وَفِي سَابِع عشر رَجَب توفى القَاضِي بهاء الدّين عبد الْملك بن الْفَقِيه عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا مناظرا مُسْتقِلّا مفتيا على مَذْهَب الْإِمَامَيْنِ أَحْمد وَأبي حنيفَة بِحكم مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْد إِقَامَته بخراسان لطلب الْعلم والتقدم وَكَانَ يعرف اللِّسَان الْفَارِسِي مَعَ الْعَرَبِيّ وَهُوَ حسن الحَدِيث فِي الْجد والهزل وَكَانَ لَهُ يَوْم مشهود وَدفن فِي جوَار أَبِيه وجده فِي مَقَابِر الشُّهَدَاء(1/258)
قَالَ وَتُوفِّي عقيب وَفَاته الشريف القَاضِي النَّقِيب أَبُو الْحُسَيْن فَخر الدولة ابْن أبي الْجِنّ وتفجع النَّاس عَلَيْهِ لخيريته وَشرف بَيته
وَدخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
فَفِيهَا حاصر نور الدّين رَحمَه الله دمشق لمعاضدة اهلها الفرنج واستنصارهم بهم ومدحه ابْن مُنِير بقصيدة يحرضه فِيهَا عَلَيْهِم وكتبها إِلَيْهِ من حماة وَهُوَ محاصر دمشق وَقد تخلف عَن الْخدمَة لمَرض عرض لَهُ مِنْهَا
(أخليفة الله الَّذِي ضمنت لَهُ ... تَصْدِيق واصفه سراة الْمِنْبَر)
(لَا المستطيل بِمصْر ظلّ قصوره ... والمستطال إِلَيْهِ شقة صَرْصَر)
(يَا نور دين الله وَابْن عماده ... والكوثر بن الْكَوْثَر بن الْكَوْثَر)
(صفّر بِحَدّ السَّيْف دَار أشائب ... عقلوا جيادك عَن بَنَات الْأَصْفَر)
(هم شيدوا صرح النِّفَاق وأوقدوا ... نَارا تحش بهم غَدا فِي الْمَحْشَر)
(اذكوا بجلق حرّها واستشعرت ... لفحاتها بَين الصَّفَا والمشعر)
(شرد بهم من خَلفهم مستنجدا ... مَا ظَاهر الْكفَّار من لم يكفر)
(لَا تعف بل شقّ الْهدى نفس الَّذِي ادرع ... الضّلال على أغرّ مشهر)
(قَلّدهُ مَا اهدى على لمرحب ... فَلَقَد تهكم فِي الخداع الْخَيْبَرِيّ)(1/259)
(مَا الْغِشّ مِمَّن أمه نصرانة ... لم تختتن كالغش من تنصر)
(أذكت لنا هذي العزائم لَا خبت ... مَا غَار من سنَن الْمُلُوك الغبر)
(إثقاب آراء الْمعز وخفق رايات ... الْعَزِيز ويقظة الْمُسْتَنْصر)
(شمر فقد مدت إِلَيْك رقابها ... لَا يدْرك الغايات غير مشمر)
(أولست من مَلأ البسيطة عدله ... واجتثت بِالْمَعْرُوفِ أنف الْمُنكر)
(حدب الْأَب الْبر الْكَبِير ورأفة الْأُم ... الحفية باليتيم الْأَصْغَر)
(يَا هضبة الْإِسْلَام من يعْصم بهَا ... يُؤمن وَمن يتول عَنْهَا يكفر)
(كَانُوا على صلب الصَّلِيب سرادقا ... أنبت بنيته بِكُل مُذَكّر)
(آثَارهم نجس أذال الْمَسْجِد الْأَقْصَى ... فصن مَا دنسوه وطهر)
(حَار الْخَلِيل وَمن بغزة هَاشم ... بلهامك الْمُتَدَمْشق المتمصر)
(بعرمرم صلمت وعاوعه عرى ... أسماع جيحون وَسيف البربر)
(يفتر عَن ملك الْمُلُوك منحل الأنواء ... بل سعد السُّعُود الْأَكْبَر)
(عَن طَاعن الفرسان غير مكذب ... ومتمم الْإِحْسَان غير مكدر)
(بدر الجحافل والمحافل فَارس الآساد ... فِي غَابَ الوشيج الأسمر)
(ملك تَسَاوِي النَّاس فِي أَوْصَافه ... عذر الْمقل وَبَان عجز المكثر)
(يَا أَيهَا الْملك الْمُنَادِي جوده ... فِي سَائِر الْآفَاق هَل من مُعسر)
(إِن القصائد أَصبَحت أبكارها ... فِي ظلّ ملكك غاليات الأمهر)(1/260)
(إِن كنت أَحييت ابْن حمدَان لَهَا ... فَأَنا الَّذِي غبرت فِي وَجه السّري)
(ولأنت أكْرم من أنَاس نوهوا ... باسم ابْن أَوْس واستخصوا البحتري)
(ذلت لدولتك الرّقاب وَلَا تزل ... إِن تغز تغنم أَو تقَاتل تظفر)
وَكتب إِلَيْهِ من حماة أَيْضا وَهُوَ محاصر دمشق قصيدة ينَال فِيهَا من صَاحبهَا مِنْهَا
(أَبوك أَب لَو كَانَ للنَّاس كلهم ... أَبَا وَرَضوا وَطْء النُّجُوم لفندوا)
(وَمَا مَاتَ حَتَّى سد ثلمة ملكه ... بك الله ترمى مَا رَمَاه فتصرد)
(صدمت ابْن ذِي اللغدين فانحل عقده ... وكالسلك قد أَمْسَى يحل ويعقد)
(يقلب خلف السجف عينا سخينة ... ويبكي بِأُخْرَى ذَات شتر ويسهد)
(وَلَا غرو قد أبقى أَبوهُ وجده ... لَهُ كل يَوْم ثوب عجز يجدد)
(فيا رَاكِبًا إِمَّا عرضت فبلغن ... بُيُوتًا على جيرون بالذل تعمد)
(وَقل لمبير الدّين وَهُوَ مجيره ... بزعم لَهُ وَجه الْحَقِيقَة أَرْبَد)
(حملت الصَّلِيب بَاغِيا ونبذته ... وثغراك موطوس بِبَاب وأدرد)
(وحاربت حزب الله وَالله نَاصِر ... لناصره وَدين أَحْمد أَحْمد)
(تنصرت حينا وَالْبَلَاء مُوكل ... وَلَا بُد من يَوْم بِهِ تتهود)
(وَأقسم مَا ذاق الْيَهُود بإيليا ... وموضعها من بخْتنصر أسود)
(كبعض الَّذِي جرعته فسرطته ... وأيد فِيهِ من عماك الْمُؤَيد)(1/261)
(ولَايَته عزل إِلَيْك موجه ... وَتَصْحِيفه قتل عَلَيْك مؤبد)
(رماك بباقلا دمشق فَلم تكن ... سوى بقلة حمقاء بالحمق تحصد)
(وجالدت جلادا وانت مؤنث ... تذكرت والجلاد أدهى وَأجْلَد)
(تطاولت لَا نفس تسمى وَلَا أَب ... وَرَاءَك زحفا إِنَّمَا أَنْت مقْعد)
(أمسعاة نور الدّين تبغي ودونها الأسنة ... تبر والعوامل تعضد)
(بمحمود الْمَحْمُود سَيْفا وساعدا ... حملت لقد ناجتك صماء مؤيد)
(وَهل يَسْتَوِي سَار تأسد طاويا ... ونشوان يعلى معصما وَيُؤَيّد)
(تنصرت أما بل تمجست والدا ... وَعَما فعرق الْكفْر فِيك مردد)
(تخذت بني الصُّوفِي أسرا وأسرة ... لكَي يصلحوا مَا فِي يَديك فأفسدوا)
(لعمرى لَنِعْم العَبْد أَنْت تجيعه الموَالِي ... وتوليه هواناً فيحمد)
(إِلَيْكُم بني العلاّت عَن متُشاوس ... لَهُ الشَّام مرقا وَالْعراق مرقد)
(وَمَا مصر إِلَّا بعض أمصاره الَّتِي ... إِلَى أمره تسْعَى قماء وتحفد)
(انيبوا إِلَيْهِ فَهُوَ أرْحم قادرٍ ... لَهُ الصفح دين واقبلوا النصح تَرْشُدوا)
(وَلَا ترشفوا نفث الْمُؤَيد إِنَّه ... عَن الْخَيْر يزوي أَو إِلَى المْين يسند)
(وفروا إِلَى مولاكم وَالَّذِي لَهُ ... عَلَيْكُم أياد وَسْمُها لَيْسَ يجْحَد)
(وَلَا تكفروه إِنَّمَا أَنْتُم لَهُ ... وَمِنْه وَيَوْم عِنْد حوران يشْهد)
(غَدَاة على الجولان جول وللظبى ... رعود فريص الْمَوْت مِنْهُنَّ ترْعد)
(وَلما اكفهر الْيَوْم واربد وَجهه ... وعوذ مَرْهُون وفر مُزْبِد)(1/262)
(وأيقن من بَين السدير وجاسم ... بِأَن الْحرار السود بالجرد تجرد)
(ردتهم على بصرى وصرخد خيله ... وَقد أَبْصرت بصرى رداها وصرخد)
(وطاروا تهز المرهفات طلاهم ... كَمَا انصاع من أَسد نعام مشرد)
(وَلَيْلَة ألْقى الشّرك بالمرج بركه ... ومارج نيران الوغى يتوقد)
(رمى وَأَخُوهُ مغرب الشَّمْس دونكم ... بمشرقها غَضْبَان يعدو ويسئد)
(فمذ وَردت مَاء الأرنط مُغِذَّةً ... أثارت بثَوْرَا غلَّة لَيْسَ تبرد)
(أيا سيف شامته يَد الْملك صَارِمًا ... فيمهد إِذْ يسري ويسري فيمهد)
(دمشق دمشق إِنَّمَا الْقُدس سرحة ... ومركزها صرح عَلَيْهَا ممرد)
(حموها لكَي يحموا وَقد بلغ المدى ... بهم أجل حتم وَعمر محدد)
(مَتى أَنا رَاء طَائِر الْفَتْح صادحا ... يرفرف فِي أرجائها ويغرد)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(نذرك بالغوطتين قد ضمنت ... ربوتها ريعه ومقراها)
(أطلع لَهَا الشَّمْس من جبينك لم ... يرج سواهَا فِي النّوم جفناها)
(فالخيل صور إِلَى تساهم سهميها ... وملهى فِي بَيت لهياها)
(دولة من دَانَتْ الْبِلَاد لَهُ ... وعمها ظلّه فأغناها)
(لاَ بِسِواها تلِيق بهجتها ... وَلَا سواهُ تبغي رعاياها)(1/263)
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي عَاشر الْمحرم نزلت أَوَائِل عَسْكَر نور الدّين على أَرض عذراء من عمل دمشق وَمَا والاها وَفِي الْغَد قصد فريق وافر مِنْهُم نَاحيَة السهْم والنيرب وكمنوا عِنْد الْجَبَل لعسكر دمشق فَلَمَّا خرج مِنْهَا إِلَيْهِم أسْرع النذير إِلَيْهِم فَحَذَّرَهُمْ وَقد ظهر الكمين فَانْهَزَمُوا إِلَى الْبَلَد
وَفِي الْغَد نزل نور الدّين بعسكره على عُيُون فاسريا بَين عذراء ودومة وامتدوا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات ونزلوا من الْغَد فِي أَرَاضِي حجيرا وراوية فِي الْخلق الْكثير والجم الْغَفِير وانبثت أَيدي المفسدين من الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي والأوباش من أهل العيث وَالْفساد فِي زروع النَّاس فحصدوها وَفِي الثِّمَار فأفنوها بِلَا مَانع وَلَا دَافع وتحرك السّعر وانقطعت السابلة وَوَقع التأهب للحصار ووافت رسل نور الدّين إِلَى وُلَاة الْبَلَد يَقُول أَنا مَا أوثر إِلَّا صَلَاح أَمر الْمُسلمين وَجِهَاد الْمُشْركين وخلاص من فِي أَيْديهم من الْأُسَارَى فَإِن ظهرتم معي فِي عَسْكَر دمشق وتعاضدنا على الْجِهَاد فَذَلِك المُرَاد
فَلم يعد الْجَواب إِلَيْهِ بِمَا يرضاه فَنزل فِي أَرض مَسْجِد الْقدَم وَمَا وَالَاهُ من الشرق والغرب
وَبلغ مُنْتَهى الخيم إِلَى الْمَسْجِد الْجَدِيد قبلى الْبَلَد
قلت هُوَ الَّذِي يُسمى فِي زَمَاننَا بمقبرة الْمُعْتَمد بَين مَسْجِد الْقدَم وَمَسْجِد فلوس
قَالَ وَهَذَا منزل مَا نزله أحد من مقدمى العساكر فِيمَا سلف من السنين وأهمل الزَّحْف إِلَى الْبَلَد إشفاقا من قتل النُّفُوس
ووصلت الْأَخْبَار باحتشاد الفرنج واجتماعهم لإنجاد أهل دمشق فضاقت صُدُور أهل الصّلاح وَزَاد إنكارهم لمثل هَذِه الْأَحْوَال الْمُنكرَة والمناوشات فِي كل يَوْم(1/264)
مُتَّصِلَة من غير مزاحفة وَلَا محاربة
فَلم يزل ذَلِك إِلَى ثَالِث عشر صفر فَرَحل الْعَسْكَر النورى من هَذِه الْمنزلَة وَنزل فِي أَرَاضِي فذايا وحلقبلتين والخامسين المصاقبة للبلد وَمَا عرف فى قديم الزَّمَان من أقدم على الدنو مِنْهَا
ثمَّ رَحل فِي الْعشْرين من صفر إِلَى نَاحيَة داريا لتواصل الإرجاف بِقرب عَسَاكِر الإفرنج من الْبَلَد لقُوَّة عزمه على لقائهم
وَصَارَ الْعَسْكَر النوري فِي عدد لَا يُحْصى وَفِي كل يَوْم يزْدَاد بِمَا يتواصل من الْجِهَات وَطَوَائِف التركمان وَنور الدّين مَعَ هَذِه الْحَال لَا يَأْذَن لأحد من عسكره فِي التسرع إِلَى قتال أحد من الْمُسلمين وَكَانُوا يَعْنِي أهل الْبَلَد يحملهم الْجَهْل والغرور على التسرع والظهور وَلَا يعودون إِلَّا خاسرين مفلولين
وَأقَام على هَذِه الصُّورَة ثمَّ رَحل إِلَى نَاحيَة الأعوج لقرب عَسْكَر الإفرنج وعزمهم على قَصده وَاقْتضى رَأْيه الرحيل إِلَى نَاحيَة الزبداني استجرارا لَهُم وأفرق من عسكره فريقاً يناهز أَرْبَعَة آلَاف فَارس مَعَ جمإعة من المقدمين ليكونوا فِي أَعمال حوران مَعَ الْعَرَب لقصد الإفرنج ولقائهم وترقبا لوصولهم وَخُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم واجتماعهم بهم ثمَّ يقاطع عَلَيْهِم
وَاتفقَ أَن عَسْكَر الإفرنج رَحل عقيب رحيله إِلَى الأعوج وَنزل بِهِ فِي ثَالِث ربيع الأول وَدخل مِنْهُم خلق كثير إِلَى الْبَلَد لقَضَاء حوائجهم(1/265)
وَخرج مجير الدّين ومؤيده فِي خواصهما وَجَمَاعَة وافرة من الرّعية واجتمعا بملكهم وخواصه وَمَا صادفا عِنْده شَيْئا مِمَّا هجس فِي النُّفُوس من كَثْرَة وَلَا قُوَّة وتقرر بَينهم النُّزُول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال اعماله
ثمَّ رَحل عَسْكَر الإفرنج إِلَى رَأس المَاء وَلم يتهيأ خُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم لعجزهم وَاخْتِلَافهمْ وَقصد من كَانَ بحوران من الْعَسْكَر النوري وَمن انضاف إِلَيْهِم من الْعَرَب فِي خلق كثير نَاحيَة الإفرنج للإيقاع بهم والنكاية فيهم والتجأ عَسْكَر الإفرنج إِلَى لجاة حوران للاعتصام بهَا ونمي الْخَبَر إِلَى نور الدّين فَرَحل وَنزل على عين الْجَرّ من الْبِقَاع عَائِدًا إِلَى دمشق وطالبا قصد الفرنج والعسكر الدِّمَشْقِي
وَكَانَ الإفرنج حِين اجْتَمعُوا مَعَ الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي قد قصدُوا بصرى لمضايقتها ومحاربتها فَلم يتهيأ ذَلِك لَهُم وَظهر إِلَيْهِم سرخاك واليها فِي رِجَاله وعادوا عَنْهَا خاسرين وانكفأ عَسْكَر الفرنج إِلَى أَعماله وراسلوا مجير الدّين ومؤيده يَلْتَمِسُونَ بَاقِي القطيعة المبذولة لَهُم على ترحيل نور الدّين عَن دمشق وَقَالُوا لَوْلَا نَحن نَدفعه مَا رَحل عَنْكُم
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْخَبَر بوصول الأسطول الْمصْرِيّ إِلَى ثغور السَّاحِل فِي غايٍة من الْقُوَّة وَكَثْرَة من الْعدة وَالْعدة وَذكر أَن عدَّة مراكبه سَبْعُونَ مركبا حربية مشحنة بِالرِّجَالِ وَلم يخرج مثله فِي السنين الخالية وَقد أنْفق عَلَيْهِ فِيمَا حُكيَ وَقرب ثَلَاث مئة ألف دِينَار
وَقرب من يافا من ثغور الفرنج فَقتلُوا واسروا وأحرقوا مَا ظفروا بِهِ واستولوا على عدَّة وافرة من(1/266)
مراكب الرّوم والإفرنج ثمَّ قصدُوا ثغر عكا فَفَعَلُوا فِيهِ مثل ذَلِك وَحصل فِي أَيْديهم عدَّة وافرة من المراكب الحربية الفرنجية وَقتلُوا من حجاجهم وَغَيرهم خلقا عَظِيما وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فِي الْكل مثل ذَلِك ووعد نور الدّين بمسيره إِلَى نَاحيَة الأسطول الْمَذْكُور لإعانته على تدويخ الفرنجية فاتفق اشْتِغَاله بِأَمْر دمشق وَعوده إِلَيْهَا لمضايقتها وَحدث نَفسه بملكها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعية إِلَيْهِ وإشارتهم لولايته وعدله
قَالَ وَذكر أَن نور الدّين أَمر بِعرْض عسكره فَبلغ كَمَال ثَلَاثِينَ ألفا مقاتلة ثمَّ رَحل وَنزل بالدلهمية من عمل الْبِقَاع ثمَّ نزل بِأَرْض كوكبا غربي دارَيّا ثمَّ نزل بارض دارَيّا إِلَى جسر الْخشب وَنُودِيَ فِي الْبَلَد بِخُرُوج الأجناد والأحداث إِلَيْهِ فَلم يظْهر مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير مِمَّن كَانَ يخرج أَولا ثمَّ تقدم وَنزل القطيعة وَمَا والاها ودنا مِنْهَا بِحَيْثُ قرب من الْبَلَد وَوَقعت المناوشة بَين الْفَرِيقَيْنِ من غير زحف وَلَا شدّ فِي محاربة تحرجا من قتل الْمُسلمين وَقَالَ لَا حَاجَة إِلَى قتل الْمُسلمين بأيدي بَعضهم بَعْضًا وَأَنا أرفُههم ليَكُون بذل نُفُوسهم فِي مجاهدة الْمُشْركين
قَالَ وَورد الْخَبَر إِلَى نور الدّين بتسلم نَائِبه الْأَمِير حسان المنبجي مَدِينَة تل بَاشر بالأمان فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَورد مَعَ(1/267)
المبشر جمَاعَة من أَعْيَان تل بَاشر لتقرير الْأَحْوَال
وترددت المراسلات فِي عقد الصُّلْح مَعَ أهل دمشق على شُرُوط واقتراحات وَتردد فِيهَا الْفَقِيه برهَان الدّين عَليّ الْبَلْخِي والأمير أَسد الدّين شيركوه وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وتقارب الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال على قبُول الشُّرُوط المقترحة وَوَقعت الْأَيْمَان من الْجِهَتَيْنِ على ذَلِك وَالرِّضَا بِهِ فِي عَاشر ربيع الآخر
ثمَّ رَحل نور الدّين من الْغَد طَالبا نَاحيَة بصرى للنزول عَلَيْهَا وَالْتمس من دمشق مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من آلَات الْحَرْب لِأَن سرخاك كَانَ شاع خِلَافه وعصيانه وَمَال إِلَى الفرنج فاعتضد بهم فَأنْكر نور الدّين ذَلِك عَلَيْهِ وأنهض إِلَيْهِ فريقا وافراً من عسكره
قلت وَلابْن مُنِير فِي نور الدّين يذكر وقْعَة الجولان وَغَيرهَا قصيدة أَولهَا
(مَا برقتْ بيضك فِي غمامها ... إِلَّا وغيث الدّين لابتسامها) يَقُول فِيهَا
(مَحْمُود الْمَحْمُود جدا وجدا ... أرخص جلد الأَرْض حكم عامها)
(ملك أَزَال الرّوم عَن صلبانها ... دفاعه وكب من أصنامها)
(جال على الجولان أمس جَوْلَة ... صفرت الأدحي من نعامها)
(والجون قد جرعها أجونه ... وفل مشحوذا من اعتزامها)
(وَشد فِي الْقد لَهُ مليكها ... قَود عتود القوط فِي شبامها)(1/268)
(وَفِي الرّها صابت لَهُ سَحَابَة ... صَارُوا جُفَاء خف فِي التطامها)
(وهب فِي هاب لَهُ عواصف ... تجهمتها الهف من جهامها)
(وَكفر لاثا لاث فِي جبينها ... لثم ظبى أَتَت على لثامها)
(وقائع يرفضُّ تَحت وقعها ... نظم الثريا فِي فضا مصامها)
(فساعة الْبيض إِذا عدّدها ... سَوط عَذَاب صب فِي أَيَّامهَا)
(وَاعجبا لعُصب الشّرك الَّتِي ... لم يعصب الرشد على أحلامها)
(حِكْمَة استواؤها فِي غيّها ... فِي نقض مَا أحصد من إبرامها)
(مظفر الرَّايَات والرأي إِذا الحربُ ... مشت تعثر فِي خطامها)
(عدت بِهِ حد الْعَلَاء همم ... هن النُّجُوم أَو نواصي هامها)
(جلت لَهُ الدُّنْيَا حلى زبرجها ... عفوا فَلم يلو على حطامها)
(رَأَتْهُ وَهُوَ اللَّيْث يدمي ظفره ... أنفذ فِي الْمُشكل من حكامها)
(فتوجته الْعِزّ فِي مرتبَة ... تمنطق الجوزاء فِي نظامها)
(غَضْبَان لِلْإِسْلَامِ لَا يغيظه استسلامها ... للقسر من إسْلَامهَا)
(خطّ على مثل أَب طاعت لَهُ الْآفَاق واستشرف لاغتنامها)
(تصرف الدُّنْيَا على إيثاره ... وعراقها مستردفا بشامها)
(لَو لم تكن دون منى فَاتَ المنى ... وأقعد الفائز من قوامها)
(وامتك مَاء مَكَّة رواضع ... يقصر بَاعَ الدَّهْر عَن فطامها)
(وَصَارَ كالجمر الْجمار وخلا ... من أَهله الْأَشْرَف من مقَامهَا)
(حميتها لَا زلت ترقى فِي حمى ... من مؤلم الأرداء أَو لمامها)(1/269)
(تُلْبس بَيت الله وشى يَمَن ... يقْرَأ آياتك من أعلامها)
(فَإِنَّمَا الدّين رحى قطبتها ... وبازل مُكّنت من زمامها)
(أمّت بِنَا الآمال مِنْك كعبة ... سلم اللَّيَالِي آيَة استسلامها)
(وأرشفتنا بك ثغر نعْمَة ... لَا نسْأَل الله سوى دوامها)
وَقَالَ أَيْضا يمدحه
(بجدك أصحب الْجد الحزون ... وأطلع فجره الْفَتْح الْمُبين)
(وَفِي كنفيك سولمت اللَّيَالِي ... وَفَارق طبعه الزَّمن الخؤون)
(ومنك تعلم الْقطع المواضي ... وَقد زبنت بهَا الْحَرْب الزبون)
(وَأَنت السَّيْف لم تمسسه نَار ... وَلَا شحذت مضاربه القيون)
(ترَقْرقُ فَوق صفحته الْأَمَانِي ... وتقطر من غراريه الْمنون)
(وقبلك مَا سَمِعت بذى فقار ... يبُير الْفقر كَانَ وَلَا يكون)
(وَلَا غيث سماوته سَرِير ... وَلَا لَيْث وسادته عرين)
(وَلَا قمر لَهُ الهيجاء هال ... وَلَا تَاج لَهُ الدُّنْيَا جبين)
(جبلت ندى وعفوا وانتقاما ... وَمَاء كل مجبول وطين)
(وملكك عمم الأقطار قطرا ... فأمرعت الأواعث والحزون)
(تلألأ تَحْتَهُ غرر اللَّيَالِي ... إِذْ الْأَيَّام عِنْد سواك جون)
(وَأَنت أَقمت للجدوى مناراً يبين لشائميه وَلَا يبين)
(وعندك مشرب النعمى زلال ... إِذا عنفت مشاربها الأجون)
(تحكم فِي عطائك كل عاط ... وَقد شيدت من الُمنع الْحُصُون)
(لقد أشعرت دين الله عزا ... تتيه لَهُ المشاعر والحجون)(1/270)
(وَقَامَ بنصره وَالنَّاس فوضى ... قوى مِنْك فِي الجلى أَمِين)
(رجعت مُلُوكهمْ وهم خيوف ... أَسِير فِي صفادك أَو كنين)
(فبرنست الْبُرْنُس لقاع خسف ... وجرع مرّ جوسك جوسلين)
(إِذا مَا الْفِعْل عُلَّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاهُ أَو سُكُون)
(غنوا حَتَّى غزوتهم فغنى الصدى ... فِي أَرضهم خف القطين)
(وَكم عبر الصَّلِيب بهم صليبا ... فَردته قناك وَفِيه لين)
(وَمَا خطرت بدار الشّرك إِلَّا ... هوى الناقوس وارتفع الأذين)
(مَلَأت عِظَام ساحِهُم عظاما ... فَكل مَلأ لقوك بِهِ جرين)
(بإنب والقنا تجْرِي نجيعا ... كَأَن عُيُون أكعبها عُيُون)
(وَبَين حِرار صرخد ذُبْنَ حَرًّا ... لَهُ فِي كل خبخبة كمين)
(وفئن من العُرَيْمة فِي عَرام ... لَهُ فِي جونها الْأَقْصَى وجون)
(وَكم حرم بحارم غادرته ... ودارته لمنسفها درين)
(وَفِي شعراء قُورُس صغن شعرًا ... تدار على غراريه اللحون)
(وقائع صِرْن فِي صنعاء طيرا ... يوقعها على عدن عدون)
(نماك أَب إِذا عد انتسابا ... تراقى مصعدا وَالنَّاس دون)
(شمالا كَانَ أَمْلَاك البرايا ... وَقد قيسوا بِهِ وَهُوَ الْيَمين)
(قضى وقضاؤه فِي الأَرْض حتم ... وَطَاعَة أَهلهَا لِبَنِيهِ دين)
(لهَذَا الْيَوْم تنتخب القوافي ... ويذخر نَفسه الدّرّ المصون)
(وَنحن أَحَق مِنْك بِأَن نهنا ... إِذا قرّت برؤَيِتك الْعُيُون)
(سلمت لنا فَإنَّا كل صَعب ... نوازنه بِأَن تبقى يهون)
(ترابطنا بعقوتك التهاني ... وتغبطنا بدولتك الْقُرُون)(1/271)
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر من نَاحيَة ديار مصر بِأَن أهل دمياط حدث فيهم فنَاء مَا عهد مثله فِي حَدِيث وَلَا قديم بِحَيْثُ أحصي الْمَفْقُود مِنْهُم فِي سنة خمس وَأَرْبَعين سَبْعَة آلَاف شخص وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين مثلهم فَصَارَ الْجَمِيع أَرْبَعَة عشر ألفا وخلت دور كَثِيرَة من أَهلهَا وَبقيت مغلقة لَا سَاكن فِيهَا وَلَا طَالب لَهَا
قَالَ وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة توفى القَاضِي السديد الْخَطِيب أَبُو الْحُسَيْن بن أبي الْحَدِيد خطيب دمشق وَكَانَ خَطِيبًا بليغا صيتًا عفيفا وَلم يكن لَهُ من يقوم مقَامه فِي منصبه سوى أَبى الْحسن الْفضل ولد وَلَده وَهُوَ حدث السن فنصب مَكَانَهُ وخطب وَصلى بِالنَّاسِ وَاسْتمرّ الْأَمر لَهُ وَمضى فِيهِ
قَالَ ووردت الحكايات بحدوث زَلْزَلَة وأفت اللَّيْلَة الثَّالِثَة عشرَة من جُمَادَى الاخرة اهتزت الأَرْض لَهَا ثَلَاث رجفات فِي أَعمال بُصرى وحوران وَمَا والاها من سَائِر الْجِهَات وهدمت عدَّة وافرة من حيطان الْمنَازل ببصرى وَغَيرهَا ثمَّ سكنت بقدرة من حركها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى(1/272)
قَالَ وَفِي ثَانِي عشر رَجَب توجه مجير الدّين صَاحب دمشق إِلَى حلب فِي خواصه وَوصل إِلَيْهَا وَدخل على نور الدّين صَاحبهَا فَأكْرمه وَبَالغ فِي الْفِعْل الْجَمِيل فِي حَقه وَقرر مَعَه تقريرات اقترحها عَلَيْهِ بعد أَن بذل لَهُ الطَّاعَة وَحسن النِّيَابَة عَنهُ فِي دمشق وَرجع إِلَى دمشق مَسْرُورا فِي سادس شعْبَان
قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القيسراني
(وفت لَك الدُّنْيَا بميعادها ... باذلة أفلاذ أكبادها)
(وأوفدت غر سلاطينها ... عَلَيْك فِي بهمة أنجادها)
(تبغى سناء اقصدت قَصده ... طَائِعَة طَاعَة أجنادها)
(خاضعة تَعْتَد أعمارها ... يَوْم التلاقي يَوْم ميلادها)
(شامت دمشق بك بَرْق الْعلَا ... فَأرْسلت أصدق روّادها)
(رأتك نور الدّين نَار الْهدى ... قد اشرق الْأُفق بإيقادها)
(فيممت مِنْك حَيا مزنة ... بيض الأيادي ورد ورّادها)
(فاسأل مجير الدّين عَن خُبره ... أوردهَا مَحْمُود إيرادها)
(تبوأت من عزها قبَّة ... سُمر القنا أطناب أوتادها)
(تنافس النَّاس على دولة ... فت بهَا أعين حسادها)
(يَغْدُو المعُادي كالموالى لَهَا ... فوالها إِن شِئْت أَو عادها)
(يَا ملكا تزهى بأسمائه ... مَنَابِر تسمو بأعوادها)
(وَتَأْخُذ الأسماع أَوْصَافه ... عَن جمع الدُّنْيَا وأعيادها)(1/273)
(كمْ للمعالي فِيك من رغبةٍ ... تفنى الْأَمَانِي دون تعدادها)
(لَك المساعي الغر يَا جَامعا ... من طرفيها بَين أضدادها)
(تغشى الوغى أَفرس فرسانها ... وَفِي التقى أزْهد زهادها)
(فَأَنت نُسْكاً غيث أبدالها ... وَأَنت فتكا لَيْث آسادها)
(فِي أمّة أَنْت حِمَى دينهَا ... حينا وحينا شمس عبادها)
(يطوى بك العمرُ إِلَى غايةٍ ... حَسبك تقوى الله من زَادهَا)
(هَذَا وَكم من سنة بدعةٍ ... أعدمْتها من بعد إيجادها)
(مآثرٌ لَو عَدِمت رَاوِيا ... تكفَّل النّظم بإسنادها)
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي أَوَاخِر شعْبَان أغار بعض التّركمان على ظَاهر بانياس فَخرج إِلَيْهِم واليها من الإفرنج فِي أَصْحَابه وَظهر التركمان عَلَيْهِم فَقتلُوا وأسروا
وَفِي رَمَضَان قصد بعض الفرنج نَاحيَة من الْبِقَاع وأغاروا فأنهض إِلَيْهِم وَالِي بعلبك رجالة
فلحقوهم وَقد أرسل الله عَلَيْهِم من الثلوج المتداركة مَا ثبطهم فاستخلصوا مِنْهُم الْغَنِيمَة
قلت والى بعلبك هَذَا هُوَ نجم الدّين أيّوب وَالِد صَلَاح الدّين يُوسُف
قَالَ ابْن أبي طي فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين أغار التركمان على بانياس فَخرج أهل بانياس من الفرنج ليستنقذوا مَا أَخَذُوهُ فَعَاد التركمان عَلَيْهِم فكسروهم ونهبوهم واتصل ذَلِك بِصَاحِب دمشق فأغضبه فعل التركمان لِمَكان الْهُدْنَة المنعقدة بَينه وَبَين الفرنج فأنفذ عسكراً إِلَى التركمان(1/274)
استعاد مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ واتصل خبر التركمان بالفرنج فجيشوا وَخَرجُوا فِي جَيش عَظِيم وشنوا الْغَارة على الْبِقَاع وَالنَّاس غافلون فامتلأت أَيْديهم من الْغَنَائِم وَالْأسَارَى واتصل خبر غَارة الفرنج بِنَجْم الدّين أَيُّوب وَهُوَ فِي بعلبك وَعِنْده جمَاعَة من عَسْكَر دمشق وَأَصْحَابه فَقدم عَلَيْهِم وَلَده شمس الدولة فَخرج وأوقع بالفرنج وَاتفقَ أَنه كَانَ قد أصَاب الفرنج ثلج عَظِيم هلك بِهِ أَكْثَرهم وَجَاء شمس الدولة وهم متورطون فَقتل فيهم مقتلة عَظِيمَة وخلص من كَانَ مَعَ الفرنج من الْأُسَارَى
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة فَارق صَلَاح الدّين وَالِده وَصَارَ إِلَى خدمَة عَمه أَسد الدّين بحلب فقدّمه بَين يَدي نور الدّين فَقبله واقطعه إقطاعا حسنا
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي ثَانِي شَوَّال وَهُوَ الثّاني من شباط وافت قُبيل الظّهْر زَلْزَلَة اهتزت لَهَا الأَرْض ثَلَاث هزات هائلة وتحركت الدّور والجدران ثمَّ سكنت
قلت وَفِي هَذِه السّنة فِي غرَّة جُمَادَى الأولى كتب أَحْمد بن مُنِير من حماة إِلَى نور الدّين قصيدة يهنئه بوصول الْخلْع إِلَيْهِ من بَغْدَاد من عِنْد الْخَلِيفَة على يَد الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون ويصف الْفرس الْأَصْفَر الْأسود القوائم والمعارف وَالسيف الْعَرَبِيّ أَولهَا
(لعلائك التأييد والتأميل ... ولملكك التَّأْبِيد والتكميل)
(أبدا تهم وتقتفي فتنال مَا ... عز الورى إِدْرَاكه وتنيل)
(إِمَّا كتاب يسْتَقلّ بِهِ الْكَتَائِب ... أَو رَسُول للنجاح رسيل)(1/275)
(لَك من أبي سعد زعيم سَعَادَة ... فَمن تفاءل فِيك لَيْسَ يفيل)
(نعم الحسامُ جلوته وبلوته ... يرضيك حِين يصل ثمَّ يصول)
(سهم تُعّود فِي الكنانة عوده ... وَيقصر الْمَطْلُوب وَهُوَ طَوِيل)
(سددته فَمضى وقرطس صادرا ... كالنجم لَا وَهل وَلَا تهليل)
(فَثنى الْقُلُوب إِلَى ولائك حول ... مِنْهُ بِمَا يجني رضاك كَفِيل)
(وَأقَام ينشر فِي الْعرَاق ودجلة ... آيا تأولها لمصر النّيل)
(وكساك من رَأْي الْخَلِيفَة جنَّة ... لَا النّقص يُوهيها وَلَا التقليل)
(كنت الشريف أفضت فِي تشريفه ... مَاء عَلَيْهِ من سَناك دَلِيل)
(أليوسف لما طلعت مقرطقا ... طمثت حصانٌ واستخف أبيل)
(أم عَن سُلَيْمَان يفرج ضَاحِكا ... سجف الرواق وضعضع الكيول)
(ومملك فِي السرّج أم ملك سطت ... لبهائه عقلٌ وتاه عقول)
(وبرزت فِي لبس الْخلَافَة كالهلال ... جلاه فِي حلل الدجى التهليل)
(خلع خلعن على الْقُلُوب مَسَرَّة ... سدكا بهَا التَّعْظِيم والتبجيل)
(نثرت نضارا جَامِدا أعلامها ... وتكاد تجْرِي رقة وتسيل)
(لقضى لَهَا أَن لَا عديل لِفَخرها ... رب براك فَمَا تلاك عديل)
(أَنْت المهَّند مُنذ سَّلتْهُ العُلا ... لم يخلُ من مهج عَلَيْهِ تسيل)
(مذ هز قائمه الإِمَام تألقت ... غرر شدخن لملكه وحجول)
(والَيْت دولَته فتِهتَ بدولةٍ ... متُكلل بصعيدها الإكليل)(1/276)
(ونصرته فحَلاك أَبيض دونه ... صَرْف الزَّمَان إِذا استكل كليل)
(قلدته وكلاكما متلهذم ... عضب فزان المغمد المسلول)
(وحبا ركابك حِين قر بزحفه الْقُرْآن ... واستخذى لهُ الْإِنْجِيل)
(بأَقب أصفر مشرف الْهَادِي لَهُ التحجيل ... لون واللما تحجيل)
(قسم الدجى بَين الغدائر والشوى ... واعتام رونقه الْأَصِيل أصيل)
(وتقاسم الراؤوه تَحْتك أَنه ... حيزوم صرف عطفه جِبْرِيل)
(يختال فِي حبك الحُلىّ مخيلا ... أَن الشّوامخ للبدور خُيُول)
(مُرْخَى الذوائب كالعروس يزينُه ... طرف بأطراف الرّماح كحيل)
(تتصاعق النعرات تَحت لبانه ... إِن شب زفر واستجش صَهِيل)
(لم يحب مثلك مثله مهد وَلم ... يشلل على برق سواهُ شليل)
وأنشده فِي هَذِه السّنة أَيْضا بحمص قصيدة مِنْهَا
(الدَّهْر أَنْت ودارك الدُّنْيَا وَمن ... فِي الْعد بعد مُؤَمل وحسود)
(وأزمة الأقدار طوع يَديك وَالْأَيَّام ... جندك والأنام عبيد)
(فت الورى وعقدت نَاصِيَة المدى ... بمذمر الشعري فَأَيْنَ تُرِيدُ)
(تال أَبَاك فَهَل سليمانٌ يُرى ... فِي الدَّست مهد مُلكه دَاوُد)
(جَلَّى وسدت مُصَليا لَا يرفع الْمَعْدُوم ... مَا لم يشفع الْمَوْجُود)
(لم يخُترم جدٌّ نماك وَلَا أَب ... إِن النباهة فِي الخليف خُلُود)
(شمخت منارُك فِي اليفاع وَأمّهَا ... من لم يسُدْ فَأَرتْه كَيفَ يسود)
(وهَبَبْت لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ مصوح ... فاهتز أهضاب ورق نجود)
(وفثأت جَمْرَة صالمية بصيلم ... يضع الأجنةَ يومُها الْمَشْهُود)
(خطمتهم فَوق الخطيم لوافح نفس الأرين لَو أرهن)
(ورُمُوا على الجولان مِنْك بجولة ... توئيدها نسر الضلال وئيد)(1/277)
(ولحا عظامهم بعرقة عارق ... مَا زلت تمخض جوه فتجود)
(وشللت بالروج السُّرُوج وفوقها ... زرع تحصده الرماح حصيد)
(وعَلى عزاز عنوْا وثل عروشهم ... ملك مُقَيّد من عَصَاهُ مُقَيّد)
(وبتل باشِرَ باشُروك فعافسوا ... أهب الأساود حشوهنّ أسود)
(أودوا كَمَا أودى بعاد غيها ... وعقوا كَمَا استغوى الفصيل ثَمُود)
(إِن آلموا عقراً فَإنَّك صَالح ... أَو آلموا غدراً فَإنَّك هود)
(وزَّعتهم فبكُلّ مهِبط تَلْعَةٍ ... خدٌّ بِهِ من وازع أخدُود)
(وعصبتهم بعصائب ملْء الملا ... شَتَّى وَإِن خل البسالة عود)
(آثارها محمودة وإثارها ... مَشْهُودَة وشعارها مَحْمُود)
(لبست من اسْمك فِي الكريهة ملبسا ... يبْلى جَدِيد الدَّهْر وَهُوَ جَدِيد)
(وقصيرة الْآجَال طول بَاعهَا ... بوع يسامي هامها وقدود)
(مطرورة الأسلاب مذ هزعتها ... تاه الْهدى وتبختر التّوحيد)
(أشرعتها فعلي شَرِيعَة أَحْمد ... مِمَّا جنته بوارق وعقود)
(وَلكم نثرت نظيمها فِي موقف ... تغريد صالى حره التغريد)
(يجلو سناك ظلامه وَيحل مَا ... عقدت قناهُ لواؤك الْمَعْقُود)
(فِي هبوة زحم السَّمَاء رواقها ... وَالْأَرْض ترجف تَحْتَهُ وتميد)
(ضربت مخيمها فَكَانَ كماتها ... أوتاده القصوى وَأَنت عَمُود)
(فِي كل يَوْم من فتوحك صادِحٌ ... هزج الْغناء وطائر غريد)
(تهدي لغانة كأسه فرغانة ... وتسيغ زبدة مَا شداه زبيد)(1/278)
(فغرار سَيْفك للأحابش محبس ... ومثار نقعك للصعيد صَعِيد)
(لَا تَعْدَ من هَذَا الْمُقَلّد أمة ... ملقى إِلَيْهِ لرعيها الإقليد)
(الْورْد قر والمسارح رحبة ... والرفد مد والظلال مديد)
(والعيش ابلج مشرق القسمات وَالْأَشْجَار ... غر والأصائل غيد)
(وَالْملك مَمْدُود الرواق منور الْآفَاق ... وضاء المنى مَحْسُود)
(فِي دولة مُذْ هَبّ نشر ربيعها ... نُشِر الرَفاتُ وأثمر الجُلمود)
(محمودة الْآثَار محمودية ... كل المواسم عِنْدهَا تعييد)
وَقَالَ يهنئه بليلة الميلاد ويصف النازلين فِي الْجَبَل من قلعة حلب قصيدة مِنْهَا
(هنيت زوري ذراك صومك والميلاد ... جَاءَا والسعد فِي نسق)
(فَذَاك بخلت فِيهِ كل ند ... وَذَاكَ أخملت فِيهِ كل تَقِيّ)
(وَجه كصدر الحسام تصبو لَهُ الْعين ... وينقد الْقلب من فرق)
(ومقلة شوقها ليقظتها ... شوق لحسادها إِلَى الأرق)
(ومرتقى تَعْجبُ السَّمَاء لَهُ ... إِذا استطالت إِلَيْهِ كَيفَ رقي)
(توجت شهباءها بمشرقة ... مشرفة شهبها على الْأُفق)
(جو تهاوى مِنْهُ كواكبه ... طرفه طرف رجوم مُسترق)
(فوارس تذْهلُ الفوارس أَن ... تهافت من أرشاقها الرّشق)
(من راكضٍ فِي الْهَوَاء أَهْوى من الْفَتْح ... مجر من تَحْتَهُ لبق)
(شاو من الْحَضَر لَو تحاوله الْخضر ... لزلت عَن موطئ زلق)
(يَقُول من دينه الفروسة مَا ... لاقك إِلَّا ضرب من الإلق)
(بَدائعٌ تغبط السَّمَاء بهَا الأَرْض ... وتذكي الإشفاق فِي الشَّفق)(1/279)
(فِي دولة جمعت إيالتها ... من بدد الْحسن كل مفترق)
(تَزَّر أطواقُها على ملِك ... مكتفلٍ رزق كل مرتزق)
(مَحْمُود اسْما وميسما وندى ... واعتصب الدَّم كل مرتفق)
(طبّق طوفانُه فلسْت ترى ... إِلَّا مغيثا مشف على غرق)
(يَا بَحر لاَ خلق تدعى شبها ... فَاتَ المدى مَا حَويتَ من خُلُق)
(ملكك هَذَا الَّذِي تملأه ... صباه يجْرِي والدهر فِي طلق)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر فِي الْمحرم بنزول نور الدّين على حِصْن أنطرسوس فِي عسكره وافتتاحه وَقتل من كَانَ فِيهِ من الإفرنج وَطلب الْبَاقُونَ الْأمان على النُّفُوس فأجيبوا إِلَى ذَلِك ورتب فِيهِ الْحفظَة وَعَاد عَنهُ وَملك عدَّة من الْحُصُون بِالسَّبْيِ وَالسيف والإخراب والإحراق والأمان
قَالَ وَورد أَيْضا ظفر رجال عسقلان بالإفرنج المجاورين لَهُم بغَزة بِحَيْثُ هلك مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ
قلت وقرأت فِي ديوَان ابْن مُنِير يمدح نور الدّين ويهنئه بِفَتْح أنطرسوس ويحمور وعوْده عَنْهُمَا قصيدة مِنْهَا
(أبدا تباشر وَجه غزوك ضَاحِكا ... وتؤوب مِنْهُ مؤيداً منصورا)
(تدني لَك الأمل البعيدَ سواهُم ... محقت أهلتها وَكن بدورا)
(مثل السِّهَام لَو ابْتغى ذُو أرْبع ... فِي الجو مطلبا لَكِن طيورا)(1/280)
(نبذت علائقها بحمص وأعلقت ... سحرًا بمعرق عرقه الأظفورا)
(وعدون صافيثاء لَاحَ شوارها ... قد أتلعت عُنقاً إِلَيْك مُشِيرا)
(الْقلب أَنْت فَإِن تعامى عَن هدى ... عُضْوٌ أهَابَ بِه فَعَاد بَصيرًا)
(عرفُوا مَكَانك والظهيرة بَينهم ... يفري بَيَاض أديمها ديجورا)
(أَيْن الذبال من من الغزالة أشرقت ... وَجها وطبقت البسيطة نورا)
(غضبانُ اقْسمْ لَا يَشيم حسامه ... وَالْأَرْض تحمل فِي الكُفور كَفورا)
(غسل العواصم أمس من أدرانهم ... وَالْيَوْم رد بِهِ السواحل بورا)
(لم يُبْقِ بَين الحولتين وآمد ... وترا لِمُضْطغنٍ ولاَ مَوتورا)
(أخلى ديار الشّرك من أوثانها ... حَتَّى غَدا ثالوثهن نكيرا)
(رفع الْقُصُور على نضَائد هامِهِم ... من بعد مَا جعل الْقُصُور قبورا)
(بشواحِب الألياط تقطو فِي الظلام ... قطا وتهوي فِي الصَّباح نسورا)
(غادرت أنطرسوس كالطرس امحى ... رسما وحمر درعها يحمورا)
(وَهِي الزِّنَاد لفتنة كَانَت على الْإِسْلَام ... أحكم كَسره إكسيرا)
(هتمت طرابلسا فَأصْبح ثغرها البسام ... من عز الثغور ثغيرا)
(إقليدها كَانَت وَقد أنطيته ... واسأل بِهِ مِمَّن دهته خَبِيرا)
(إِن الألى أمنُوا وقاعك بعْدهَا ... غروا وَقد ركبُوا الأغَرّ غرُورًا)
(ألق الْعَصَا فِيمَن أطَاع وَمن عصى ... مِنْهُم وَدَمرَ أَرضهم تدميرا)
(لَا يلههم أَن قد مننت وشنها ... شعواء تُصلى الْكَافرين سعيرا)
(باكر برَكز قِنَا تنسف أسها ... وَالْخَيْل صور كي تزيرك صورا)
(وتريك لامعة التريك بِسَاحَة الْأَقْصَى ... مُطهرة لَهَا تَطْهِيرا)
(أولَستَ من قوم إِذا هزوا القنا ... فتلوا معاصمهم لَهَا تسويرا)(1/281)
(وَإِذا هم خطبوا اليراع عزيزة ... ساقوا الشفار على المهار مهورا)
(ألْقى قسيماهم إِلَيْك أزمة الْملك ... المطل على السُّها تَأْثِيرا)
(ضحِكت لَك الْأَيَّام واكتأب العدى ... قلقا فَجئْت مبشرا وَنَذِيرا)
(لَا ملك إِلَّا ملك مَحْمُود الّذي ... تَخِذَ الْكتاب مُظاهراً ووزيرا)
(تمشى وَرَاء حُدُوده أَحْكَامه ... تأتمهن فَيحكم التقديرا)
(بقظان ينشر عدله فِي دولةٍ ... جَاءَت لِمَطْوِىَّ السّماح نُشورا)
(خلف الخلائف قَائِما عَنْهُم بِمَا ... عَيُّوا بِهِ ألوى أَلد غيورا)
(الْبر والمعصوم وَالْمهْدِي والمأمون ... والسفاح والمنصورا)
(نشرُوا بِهِ فعهودهم وعهادهم ... يمْتَحن تَحت لوائه منشورا)
وأنشده بحلب فِي هَذِه السّنة قصيدة أوّلها
(المجدُ مَا أدرعت ثراك هضابه ... وتثقفتك شعوبه وشعابه)
(ملك تكنّفَ دين أَحْمد كنه ... فأضاء نِّيرهُ وصاب شهابه)
(فالعدل حَيْثُ تصرفت أَحْكَامه ... والأمن حَيْثُ تصرمت أسرابه)
(متهلل وَالْمَوْت فِي نبراته ... يُرْجَى ويرهب خَوفه وعقابه)
(عقد اللِّوَاء وَسَار يقدمهُ وَمَا ... حلت عقودَ تَميمِها أترابه)
(أَسد فرائسه الفوارس والظبى ... أَظْفَاره والسمهرية غابه)
(طبع الْحَدِيد فَكَانَ مِنْهُ جنانه ... وسنانه وإهابه وثيابه)
(ويهش إِن كبت الوجوهُ كانما ... أعداؤه تَحت الوغى أحبابه)
(نشرت بمحمود شَرِيعَة أَحْمد ... وَأرى الصّحابة مَا احتذاه صحابه)
(مَا غَابَ أصلع هَاشم فِيهَا وَلَا الْفَارُوق ... بَاء بخطبه خطّابه)(1/282)
(أَبنَاء قيلة قائمون بنصره ... إِن أجلبت من قاسط احزابه)
(صبحوا محلقة الْبُرْنُس بحالق ... حرش الضباب من الْقُلُوب ضبابه)
(مَا زَالَ يغلب من بغاه ضلاله ... حَتَّى أتيح من الْهدى غلابه)
(ملقى بوحش الأصرمين تزيلت ... آرابه وتزايلت آلابه)
(دون الأرنط سخت بِهِ نجداته ... ونجاده وقرابه وقرابه)
(سلبته دُرّةَ تاجه يدُ ضيغم ... لم تنْجه من بأسه أسلابه)
(واتته تجلب جُوسلين جنائبٌ ... هّبت فقلّ إِلَى الْقِتَال هبابه)
(أسرته لَا منعت سراه وغره ... بالقاع إِن رام الْوُرُود سرابه)
(يمشي فتسمعه قعاقع قَيده ... هزجا تقيء دَمًا لَهُ أندابه)
(لَا تل بَاشرهُ وَلَا كيسونه ... صدت منّى عَنهُ وَلَا عنتابه)
(ضمنت شقاوته سَعَادَة صافحٍ ... غطى على إعناته إعتابه)
(مَا زَالَ يغدر ثمَّ يغدر قَادِرًا ... حَتَّى أَتَاهُ بجامح أَصْحَابه)
(قصر الْأَمَانِي أَن يملئ عصرك الْإِسْلَام مَضْرُوبا عَلَيْهِ حجابه)
(مجر يجر إِلَى الْغَنَائِم قبه ... وَحمى يزار على الْفتُوح قبابه)
وأنشده بحلب أَيْضا فِي شَوَّال من هَذِه السّنة قصيدة مِنْهَا
(لقد أوطأت دين الله عزَّا ... أَدِيم الشعريين لَهُ رغام)
(دعَاك وَقد تناوشت الرزايا ... لَهُ اهًباً يوزعها العذام)(1/283)
(فَقُمْت بنصره وَالنَّاس فوضى ... فِئَام ذمّ مَا اقترفت فِئَام)
(جذبت بضْبِعه من قَعْر يّمٍ ... لَهُ من فَوق مقسمه التطام)
(صببت على الصَّلِيب صَلِيب بأسٍ ... قواه تَحت كلكله حطام)
(وملت على معاقلهم فخرت ... وَلَاء مثل مَا انْتقض النظام)
(بصرخد والخطيم وَفِي عزاز ... وقائع هز مشهدها الْأَنَام)
(وَلَو لم تعترق وتشم لأمسى ... واصبح لَا عراق وَلَا شآم)
(وَيَوْم بالعُرَيْمة كَانَ حتفاً ... على الْإِشْرَاك أمقره العرام)
(لقوك كَأَن مَا سلوه شيح ... وَمَا اعتقلوه من خور ثمام)
(وهاب وقورس وبكفر لاثا ... ذممت وَأَنت للجلىّ ذمام)
(صدمتهمُ بأرعنَ مُرجحَنّ ... كَأَن مطار أنسره غمام)
(وأية لَيْلَة لم تلف فِيهَا ... لَهُم طيفاً يروع بِهِ مَنَام)
(بِنور الدّين أنشر كل عدل ... تعفت فِي الثرى مِنْهُ الرمام)
(وَعَاد الْحق بعد كلال حدٍ ... حمى من أَن تراع لَهُ سوام)
(تألق عدله وذكت سطاه ... فَلاَ حيف يخَاف وَلَا اهتضام)
(بقأؤك خير مَا يرجوه راج ... وأنقع مَا يبل بِهِ أوام)(1/284)
فصل
وَفِي هَذِه السّنة ولد لنُور الدّين بحمص ابْن سَمَّاهُ أَحْمد وهنأه بِهِ ابْن مُنِير فِي بعض قصائده ثمَّ توفّي بِدِمَشْق وقبره خلف قبر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ دَاخل الحظيرة فِي مَقَابِر الْبَاب الصَّغِير
وقصيدة ابْن مُنِير قد تقدم بَعْضهَا فِي أول الْكتاب وَمِنْهَا فِي ذكر الْمَوْلُود
(توالت الأعيادُ لَا زلت لَهَا ... تبلي ديابيج الْبَقَاء وتجد)
(الْفطر والميلاد والمولود لَو ... قابله بدر التّمام لسجد)
(ثَلَاثَة تعرب عَن ثَلَاثَة ... لمثلهَا يذخر حمدا من حمد)
(فتح مُبين وطلاب مدرك ... ودولة مَا تَنْتَهِي إِلَى أمد)
وَله من أُخْرَى
(وَجئْت بأحمدٍ فملأت حمداً ... موارد كَانَ معدنُها عذَابا)
(تهلل وَجه ملكك يَوْم أَهْدَت ... قوابلُه لَك الْملك الّلبابا)
(شبيهك لَا يُغَادر مِنْك شَيْئا ... سنا وَحيا وبذلا واستلابا)
(قسيم الْحَمد إِلَّا أَن حرفا ... من اسْمك زَاد للمعنى منابا)
(أَلا لله يَوْم فَرَّ عَنهُ ... وَركب نصّ بالبشرى الرّكابا)
قَالَ أَبُو يعلى فِي أَوَاخِر صفر توجه مجير الدّين فِي الْعَسْكَر وَمَعَهُ مؤيد الدّين الْوَزير إِلَى نَاحيَة حصن بُصرى وَنزل عَلَيْهِ محاصرا لسرخاك واليه لمُخَالفَته وجوره وَأَرَادَ مجير الدّين الْمصير إِلَى حصن صرخد(1/285)
لمشاهدته فَاسْتَأْذن مُجَاهِد الدّين واليه فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ هَذَا الْمَكَان بحكمك وَأَنا فِيهِ وَال من قبلك
وأنفذ إِلَى وَلَده سيف الدّين مُحَمَّد النَّائِب فِيهِ بإعداد مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وتلقي مجير الدّين بِمَا يجب لَهُ
فَخرج إِلَيْهِ فِي أَصْحَابه وَمَعَهُ المفاتيح وأخلى الْحصن من الرِّجَال وَدخل إِلَيْهِ فِي خواصه وسر بذلك وتعجب من فعل مُجَاهِد الدّين وشكره على ذَلِك وَعَاد إِلَى مخيمه على بصرى وحاربها عدَّة أَيَّام إِلَى أَن اسْتَقر الصُّلْح وَالدُّخُول فِيمَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى دمشق
قَالَ وَفِي شَوَّال توفّي الْأَمِير سعد الدولة أَو عبد الله مُحَمَّد بن المحسن بن الملحي وَدفن فِي مَقَابِر الْكَهْف وَكَانَ فِيهِ أدب وافر وَكِتَابَة حَسَنَة ونظم جيد
وَتقدم وَالِده فِي حلب فِي التَّدْبِير والسياسة وَعرض الأجناد
قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا توفّي السُّلْطَان مَسْعُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بهمذان وعهد إِلَى ابْن أَخِيه ملكشاه بن السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد وخطب لَهُ بِبِلَاد الْجَبَل
وَكَانَ الْغَالِب على الْبِلَاد والعساكر أَيَّام السُّلْطَان مَسْعُود خاصبك بن بلنكرى فَقَامَ بِأَمْر ملكشاه وَلم يمهله غير قَلِيل حَتَّى قبض عَلَيْهِ وَكتب إِلَى أَخِيه الْملك مُحَمَّد بن مَحْمُود وَهُوَ بخوزستان يستدعيه إِلَيْهِ ليخطب لَهُ بالسلطنة وَكَانَ غَرَض خاصبك أَن يقبض عَلَيْهِ أَيْضا فيخلو وَجهه من مُنَازع من السلجوقية وَحِينَئِذٍ يطْلب السلطنة لنَفسِهِ
فَلَمَّا كَاتب مُحَمَّدًا أَجَابَهُ إِلَى الْحُضُور عِنْده وَسَار إِلَيْهِ وَهُوَ بهمذان وَاجْتمعَ(1/286)
بِهِ وخدمه خاصّبك خدمَة عَظِيمَة فَلَمَّا كَانَ الْغَد دخل عَلَيْهِ خاصبك فَقتله مُحَمَّد وَألقى رَأسه إِلَى أَصْحَابه فَتَفَرَّقُوا وَاسْتقر مُحَمَّد وَثبتت قدمه وَاسْتولى على بِلَاد الْجَبَل جَمِيعهَا
وَكَانَ قتل خاصبك سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَبَقِي مطروحا حَتَّى أَكلته الْكلاب
وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه كَانَ من بعض أَوْلَاد التركمان فخدم السُّلْطَان فَمَال إِلَيْهِ وَقدمه حَتَّى فاق سَائِر الْأُمَرَاء وَاسْتولى على أَكثر الْبِلَاد وَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي أَكثر الْحَوَادِث الشاغلة للسُّلْطَان مَسْعُود فَإِن الْأُمَرَاء الأكابر كَانُوا يأنفون من اتّباعه لما كَانَ يُقابلهم بِهِ من الهوان والاحتشام عَلَيْهِم
وَذكر الْوَزير يحيى بن هُبَيْرَة فِي = كتاب الإفصاح = أَنه لما تطاول على الْخَلِيفَة المقتفي أَصْحَاب مَسْعُود وأساؤوا الْأَدَب وَلم يُمكن المجاهرة بالمحاربة اتّفق الرأى على الدُّعَاء على مَسْعُود بن مُحَمَّد شهرا كَمَا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رعل وذكوان شهرا فابتدأ هُوَ والخليفة سِرّا كل وَاحِد فِي مَوْضِعه يَدْعُو سحرًا من لَيْلَة تسع وَعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَلِك كل لَيْلَة فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة تسع وَعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ موت مَسْعُود على سَرِيره لم يزدْ عَن الشَّهْر(1/287)
يَوْمًا وَلَا نقص يَوْمًا
وَوصل القُصّادُ بذلك من همذان إِلَى بَغْدَاد فِي سِتَّة أَيَّام فأزال الله يَده وَيَد اتِّبَاعه عَن الْعرَاق وأورثنا أَرضهم وديارهم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين مُجيب دَعْوَة الداعين
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن يحيى يَقُول لَا أدل على وجود مَوْجُود أعظم من إِن يُدعى فيجيب
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
فَفِيهَا أخذت الفرنج خذلهم الله تَعَالَى عسقلان وَبقيت فِي أَيْديهم إِلَى أَن فتحهَا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب رَحمَه الله سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى التَّمِيمِي وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة نور الدّين بِقُوَّة عزمه على جمع العساكر والتركمان من سَائِر الْأَعْمَال والبلدان للغزو فِي أحزاب الشّرك والطغيان ولنصرة أهل عسقلان على الإفرنج النازلين عَلَيْهَا وَقد ضايقوها بالزحف إِلَيْهَا بالبرج المخذول وهم فِي الْجمع الْكثير
واقتضت الْحَال توجه مجير الدّين صَاحب دمشق إِلَى نور الدّين فِي جُمْهُور عسكره للتعاضد على الْجِهَاد فِي ثَالِث عشر محرم وَاجْتمعَ مَعَه فِي نَاحيَة الشمَال وَقد ملك نور الدّين الْحصن الْمَعْرُوف بإفليس بِالسَّيْفِ وَهُوَ فِي(1/288)
غَايَة المنعة والحصانة وَقتل من كَانَ فِيهِ من الإفرنج والأرمن وَحصل للعسكر من المَال والسبي الشَّيْء الْكثير ونهضوا طَالِبين ثغر بانياس ونزلوا عَلَيْهِ فِي آخر صفر وَقد خلا من حماته وتسهلت أَسبَاب ملكته
وَقد تواصلت استغاثة أهل عسقلان واستنصارهم بِنور الدّين فَقضى الله تعإلى بالخلف بَينهم وَالْقَتْل وهم فِي تَقْدِير عشرَة آلَاف فَارس وراجل فأجفلوا عَنْهَا من غير طَارق من الإفرنج طرقهم وَلَا عَسْكَر رهقهم ونزلوا على الْمنزل الْمَعْرُوف بالأعوج وعزموا على معاودة النُّزُول على بانياس وَأَخذهَا ثمَّ أحجموا عَن ذَلِك من غير سَبَب وَلَا مُوجب وَتَفَرَّقُوا وَعَاد مجير الدّين إِلَى دمشق ودخلها سالما فِي نَفسه وَجُمْلَته حادي عشر ربيع الأول وَعَاد نور الدّين إِلَى حمص وَنزل بهَا فِي عسكره
ووردت الْأَخْبَار بوصول أسطول مصر إِلَى عسقلان فَقَوِيت نفوس من بهَا بِالْمَالِ وَالرِّجَال والغلال وظفروا بعدة وافرة من مراكب الفرنج فِي الْبَحْر وهم على حَالهم فِي محاصرتها ومضايقتها والزحف بالبرج إِلَيْهَا
وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن تيسرت لَهُم أَسبَاب الهجوم عَلَيْهَا من بعض جَوَانِب سورها فهدموه وهجموا الْبَلَد وَقتل من الْفَرِيقَيْنِ الْخلق الْكثير وألجأت الضَّرُورَة وَالْغَلَبَة إِلَى طلب الْأمان فأجيبوا إِلَيْهِ وَخرج من أمكنة الْخُرُوج فِي الْبر وَالْبَحْر إِلَى نَاحيَة مصر وَغَيرهَا
وَقيل إِن فِي هَذَا الثغر المفتتح من العُدد الحربية وَالْأَمْوَال والميرة والغلال مَا لَا يحصر فيذكر
وَلما شاع هَذَا الْخَبَر فِي الأقطار سَاءَ سَمَاعه وَضَاقَتْ الصُّدُور وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لَا يُردُّ نَافِذ قَضَائِهِ وَلَا يُدفع محتوم أمره عِنْد نُفُوذه ومضائه
قَالَ وَعرض بَين الرئيس ابْن الصُّوفِي وَبَين أَخَوَيْهِ عز الدولة وزينها(1/289)
مشاحنات ومشاجرات اقْتَضَت المساعاة إِلَى مجير الدّين فِي جُمَادَى الأولى فأنفذ مجير الدّين إِلَى الرئيس يستدعيه للإصلاح بَينهم فِي القلعة فَامْتنعَ من ذَلِك وَجلسَ فِي دَاره وهم بالتحصن عَنهُ بأحداث الْبَلَد والغوغاء وآلت الْحَال إِلَى تمكُّن زين الدولة مِنْهُ بمعاونة مجير الدّين عَلَيْهِ وتقرر بَينهمَا إِخْرَاج الرئيس من الْبَلَد وَجَمَاعَة إِلَى حصن صرخد مَعَ مُجَاهِد الدّين بزان واليه بعد أَن قرر لَهُ بَقَاء دَاره وبستانه وَمَا يَخُصُّهُ ويخص أَصْحَابه
وتقلد أَخُوهُ زين الدولة مَكَانَهُ وَأمر وَنهى وَنفذ الأشغال على عَادَته فِي الْعَجز وَالتَّقْصِير وَسُوء الفعال والتماس الرشا على أقل الْأَعْمَال
وَرَأى مجير الدّين عقيب ذَلِك التَّوَصُّل إِلَى بعلبك لتطييب نفس واليها عَطاء الْخَادِم واستصحابه مَعَه إِلَى دمشق لينوب عَنهُ فِي تَدْبِير الْأُمُور وَعَاد وَهُوَ مَعَه
واستشعر مُجَاهِد الدّين بزان أَن نِيَّة مجير الدّين قد تَغَيَّرت فِيهِ فاستوحش من عَوْده إِلَى الْبَلَد بِغَيْر يَمِين يحلف لَهُ بهَا على أَمَانه فِي نَفسه فوعد بالإجابة فَعَاد إِلَى دَاره بِدِمَشْق
ثمَّ هجس فِي خاطره من مجير الدّين وَأَصْحَابه مَا أوحشه مِنْهُم فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى الْخُرُوج من الْبَلَد سرا طَالبا صرخد فحين عرف خَبره أنهض فِي طلبه وقص أَثَره فَأدْرك وَقد قرب من صرخد فَقبض عَلَيْهِ وأعيد إِلَى القلعة بِدِمَشْق واعتقل بهَا اعتقالا جميلا
ثمَّ تجدّد من الرئيس الْوَزير حيدرة الْمُقدم ذكره اشياء ظَهرت عَنهُ مَعَ مَا فِي نفس الْملك مجير الدّين مِنْهُ وَمن أَخِيه الْمسيب من الْمعرفَة بالسعي(1/290)
وَالْفساد مَا اقْتَضَت الْحَال استدعاءه إِلَى القلعة على حِين غَفلَة عَن الْقَضَاء النَّازِل بِهِ لسوء أَفعاله وقبح ظلمه وخبثه
ثمَّ عدل بِهِ الجانْدَارِية إِلَى الْحمام بالقلعة مستهل ذِي الْقعدَة وَضربت عُنُقه صبرا وَأخرج رَأسه وَنصب على حافة الخَنْدَق ثمَّ طيف بِهِ وَالنَّاس يلعنونه ويصفون أَنْوَاع ظلمه وتفننه فِي الْفساد ومقاسمه اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق على أَمْوَال النَّاس المستباحة بتقديره وتدبيره وحمايته وَكثر السرُور بمصرعه وابتهج بِهِ
ثمَّ زحفت الْعَامَّة والغوغاء وَمن كَانَ من أعوانه على الْفساد من أهل العيث إِلَى مَنَازِله وخزائنه ومخازن غلاته وأثاثه وذخائره فانتبهوا مِنْهَا مَا لَا يُحْصى وغلبوا أعوان السُّلْطَان وجنده عَلَيْهَا بِالْكَثْرَةِ فَلم يحصل للسُّلْطَان من ذَلِك إِلَّا النزر الْيَسِير
ورد أَمر الرياسة وَالنَّظَر فِي الْبَلَد إِلَى الرئيس رضىّ الدّين أَبى غَالب عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أَسد بن عَليّ التَّمِيمِي فِي الْيَوْم الْمُقدم ذكره فَطَافَ فِي الْبَلَد مَعَ أَقَاربه وَأَهله وسكنت الدّهماء وبولغ فِي إخْراب منَازِل الظَّالِم وَنقل أخشابها
قَالَ وَكَانَ عَطاء الْخَادِم قد استبد بتدبير الْأُمُور وَمد يَده فِي الظُّلم وَأطلق لِسَانه بالهجر وافرط فِي الاحتجاب وَقصر فِي قَضَاء الأشغال فَتقدم مجير الدّين باعتقاله وتقييده والاستيلاء على مَا فِي دَاره ومطالبته بِتَسْلِيم بعلبك وَمَا فِيهَا من مَال وغلال ثمَّ ضربت عُنُقه ونهبت الْعَوام والغوغاء بيُوت أَسبَابه وَأَصْحَابه(1/291)
قَالَ وَورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بِأَن الْعَادِل الْمَعْرُوف بِابْن السّلار الَّذِي كَانَت رتبته قد علت ومنزلته فِي الوزارة قد تمكنت كَانَ لزوجته ولد يعرف بالأمير عَبَّاس قد قدمه وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي الْأَعْمَال ولعباس هَذَا ولد قدمه الْوَزير وأنعم عَلَيْهِ وَأذن لَهُ فِي الدُّخُول بِغَيْر إِذن إِلَيْهِ فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي فرشته فَقطع رَأسه وَحصل عّباس فِي منصب الْعَادِل ثمَّ كَانَ من أمره مَا سَيَأْتِي ذكره
قلت هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن السّلار وَزِير خَليفَة مصر وَهُوَ الَّذِي بنى مدرسة الشّافعية بالاسكندرية لِلْحَافِظِ أَبى طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله
وَكَانَ قَتله فِي سادس الْمحرم بمواطأةٍ من الْخَلِيفَة الملقب بالظافر بن الْحَافِظ
قَالَ وفيهَا فِي آخر شعْبَان توفى الْفَقِيه برهَان الدّين أَبُو الْحسن عَليّ الْبَلْخِي رَئِيس الْحَنَفِيَّة وَدفن فِي مَقَابِر الْبَاب الصَّغِير الْمُجَاورَة لقبور الشُّهَدَاء
وَكَانَ من التفقه على مذْهبه مَا هُوَ مَشْهُور شَائِع مَعَ الْوَرع(1/292)
وَالدّين والعفاف والتصون وَحفظ ناموس الْعلم والتواضع والتودد إِلَى النَّاس على طَريقَة مرضية وسجية محمودة
قَالَ وَورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة الأديب أَبى الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير الشَّاعِر فِي جُمَادَى الاخرة
وَوصل فِي ثَانِي عشر شعْبَان إِلَى دمشق الأديب الشَّاعِر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صَغِير القيسراني من حلب باستدعاء مجير الدّين لَهُ وَمَات بعد عشرَة أَيَّام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان
قلت هما شَاعِرًا الشَّام فِي وقتهما وَقد شبههما الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب الخريدة = بالفرزدق وَجَرِير وَكَذَلِكَ كَانَ اتّفق مَوْتهمَا فِي سنة وَاحِدَة وَمَات جرير بعد الفرزدق بِقَلِيل وَقد سبق من شعرهما فِي مدح نور الدّين رَحمَه الله قصائد حَسَنَة وَسَيَأْتِي غير ذَلِك فِي مَوْضِعه لغَرَض سَنذكرُهُ(1/293)
وَمِمَّا قَالَه ابْن مُنِير من قصيدة لَهُ
(أيا سَيْفا أعز الدّين مِنْهُ الغرار ... العضب وَالنَّوْم الغرار)
(مَلَأت جوانح الاقطار رجفاً ... كَأَن الأَرْض خامرها دوار)
(علاك حلى على الدُّنْيَا فتاج ... بمفرقها وَفِي يَدهَا سوار)
(أَضَاءَت شمس عدلك فِي دجاها ... فكلُّ زمَان ساكنها نَهَار)
(تُحرق من عصاك وَأَنت مَاء ... وتغرق من رجاك وَأَنت نَار)
(أَلا لله وَجهك والمنايا ... مكحلة وللبيض افترار)
(هتكت حجابه والنصر غيب ... وللهبوات طي وانتشار)
(بطعن للقلوب بِهِ انتظام ... وَضرب للرؤوس بِهِ انتثار)
(تبادره كَأَن الْمَوْت غنم ... وَمَا من عَادَة الْبَدْر البدار)
(أنخت على الصَّلِيب مطا صليبا ... بِهِ من صك مبركه هدار)
(بمشرفة المناكب مقربات ... لَهُنَّ بمتن كل وغى حِصَار)
(جَنِين بإنب أنب العناصي ... وإضن وللقنا مِنْهَا ثمار)
(وَفِي هاب أهْبت بهَا فَجَاءَت ... كَمَا أجلى من الكشم الصوار)
(وَكم فِي فج حارم من حريمٍ ... عفته فَلَا جدير وَلَا جِدَار)
(وأنطاكية استنت إِلَيْهَا ... فأجفل خيطها وَله عرار)
(وصبح فِي عزاز بهَا عزاز ... فأمسى وَهُوَ وعث أَو خبار)
(يشق بهَا دجى الغمرات عسفا ... جواد لَا يُشق لَهُ غُبَار)(1/294)
وَله من أُخْرَى
(وَمَا يَوْم الفرنجة مِنْك فذ ... فتحصر عدّهُ خطط الْحساب)
(أجاش الْأَرْبَعَاء لَهُم خميساً ... بعيد الْغَوْر ملتطم الْعباب)
(واحكم بالخطيم لَهُم خطاما ... أَمر بريمه مرّ الضراب)
(مَشوا متساندين إِلَى صَلِيب ... تبرقع هبوة الصمّ الصلاب)
(تُلفُّهم المنايا فِي الثنايا ... وتفجؤهم شَعوبُ من الشّعاب)
(أطاشت سهم كبشهم هناة ... فَكنت ذُبَاب طائشة الذّباب)
(حللت التّاج عَنهُ وَحل تاجا ... مَكَان العقد من عقد الكعاب)
(أناف على الْعقَاب فَكَانَ أشهى ... وأبهى مِنْهُ فِي ظلّ الْعقَاب)
(فاشرف وَهُوَ عَن شرف معوق ... واصعد وَهُوَ غَايَة الأنصباب)
(تكاشره الشوامت وَهُوَ مغض ... ثناه مناه عَن رَجَعَ الْجَواب)
(بَعيدا من قراع وافتراع ... يؤوب لَهُ إِلَى يَوْم المآب)
(وَكم سَوط بخيلك اقبلوه الصُّدُور ... فَكَانَ سَوْطًا من عَذَاب)
(تَركتهم بِأَرْض الشَّام شاما ... لِظُفٍر تتقيه أَو لِنَاب)
(هتكت حجابه وَالشَّمْس وسنى ... بشمس لَا توارى بالحجاب)
(بأبيض من حَبِيك الْهِنْد صافٍ ... مَصُون الْمَتْن مبتذل الذّباب)
(لَهُ سمة الشُّيُوخ صفاء شيب ... وَفِي خطراته نزق الشَّبَاب)
(ألاَ يَا نَاظر الدُّنْيَا بِعَين ... أرته علانها خدع السراب)
(تبطنها فطّلقَها ثَلَاثًا ... على عزّ التملق والخلاب)
(فَلَا يأوى إِلَى رأى شَعاعٍ ... وَلَا يثنى إِلَى أمل خراب)
(ترفع عَن محاورة الْأَمَانِي ... وَحلق عَن محاضرة التصابي)(1/295)
(صَلَاة الله كل ذرور شمس ... على مثوى أَبِيك من التّراب)
(فقد ألْقى إِلَى الْإِسْلَام عضباً ... يطّبق فِي النوائب غير نابي)
(تجيش لَهُ رَوَاسٍ كالرّواسي ... تمد لَهَا جِفان كالجوابي)
وَله من أُخْرَى
(مُظفر الْعَزْم مَمْدُود الرواق على ... معالم الدّين يرفيها ويبنيها)
(رد الْكَنَائِس كنسا للهدى فخبت ... نَار الضلال ووارتها أثافيها)
(وَأورد الْعلم عدا من ايالته ... فاستن وافتنّ عبّا فِي صوافيها)
(وَبث للشرك أشراكاً فَمَا درجت ... طريدة مِنْهُ إِلَّا استوهقت فِيهَا)
(يَا بدرُ مُذْ أشرقت فِي الدست غرته ... غيث الرّعية واخضلت مراعيها)
(أَقَامَ أَحْمد من محمودها علما ... بِهِ استقام على الْبَيْضَاء ساريها)
(محيى شَرِيعَته من بعد مَا انْهَدَمت ... واستعجمت بعد إفصاح مَعَانِيهَا)
(شابت مواهبه فِيهَا مهابته ... حَتَّى اسْتَقَرَّتْ على سمت سواريها)
وَله من أُخْرَى
(عزت سيوفك فالعراق عراقها ... وَالشَّام غير مدافعات شامهاً)
(إِن اغمدت حل العزائم حلهَا ... أَو جردت حرم الْكرَى إحرامها)
(شجيت عداك بهَا فَلَا إشراقها ... بمفازة مِنْهَا وَلَا إعتامها)
(سربت فصبحها بهَا يقظانُها ... هدأت فمستها بهَا أحلامها)
(كَالْمَاءِ إِلَّا أَن فِي رشفاته ... نَارا حشاشات النّفوس ضِرامها)
(خفت على أَيْمَانكُم أوزانها ... يَوْم الوغى واستثقلتها هامُها)
(حَتَّى أحلن الشَّام شاما صرصرت ... فِيهِ جنادبها وصدح هامها)
(ورحضن أدران الجزيرة بَعْدَمَا ... غمرت بهَا وهداتها وإكامها)(1/296)
(شطرا أبرت وَمثله أنظرته ... وَقع الخطوب تكرها أَيَّامهَا)
(بالخابطات الغاب تزأر أسده ... والمجفلي الْحَيّ اللقَاح صيامها)
(أوردتها أجمات أنطاكية ... عنقًا وَقد شب الصدا اجمامها)
(تلقى المشافر فِي مراشف كلما ... بردت بهَا الأكباد زَاد هيامها)
(فغدت وَقد عز السراح سراحها ... وتوزعت فِي كنسها آرامها)
(وَمَشى الضلال الْقَهْقَرِي واستأصل الآذان ... من رَجَعَ الْأَذَان صلامها)
(وَغدا يخللها الْخَيل سواحبا ... عذبا يمر لَهَا الْعَذَاب غمامها)
(غَضبا لدين الله حص جنَاحه ... بغيا وأدمى صفحتيه لدامها)
(فالان رد النُّور فِيهِ نوره ... وانجاب من تِلْكَ الهنات ظلامها)
(مَحْمُود الْمَحْمُود اقداما إِذا ... خام الكماة وزلزت أَقْدَامهَا)
(الفارج الكرب الْعِظَام تضاجمت ... أشداقها وفرى الْقُلُوب ضغامها)
وَله من أُخْرَى
(اما الرعايا فَإِنَّهَا رشفت ... لديك نعمى عذبا ثناياها)
(سلكت نهج الْعدْل القويم بهَا ... فاحمدت دينهَا ودنياها)
(وَكم أميتت خوفًا فَأَمَّنَهَا ... متالف الْخَوْف خوفك الله)
(لله اقطارك الَّتِي قطرت ... لَهَا مناها إِلَى مناياها)
(أنب فِي إنب فوارسها ... تردى فتردي أولاك أخراها)
(أشجت لهاة الْبُرْنُس هبوتها ... وَكم عتا عاتيا فأشجاها)
(وجوسلين استساغ نطفتها ... فاحتلب الذل تَحت مغداها)
(ردته صفرا من كل مَا ملكت ... يَدَاهُ ايد مَا ضل مسراها)
(جويس جاستك اوجه لَا رَأَتْ ... بؤسا وجاد الحيا محياها)
(فِي سَرِيَّة لَو تكون فارسها ... يَوْمئِذٍ مَا انْبَعَثَ اشقاها)
(لَا زَالَ ظلّ النعماء عَن ملك ... مَا الشَّمْس كُفؤًا لَهُ إِذا باهى)(1/297)
(وَللَّه جازيه عَن معبدة ... اعزها الله مذ تولاها)
(مَحْمُود المعتلى إِلَى فلك الْحَمد ... وثيرا لَهُ ولاياها)
(أعطاكه جدك المتوج بالجد ... وَنَفس لله مغزاها)
(نفس عزوف عَن الْخَنَا طبعت ... نزهها الله يَوْم سواهَا)
(أَنْت الَّذِي سلم الْأَنَام لَهُ ... يمنى طباق الْعلَا ويسراها)
(وَأَنت مولى الْمُلُوك قاطبة ... من كَانَ فَنًّا خسرو شاهنشاها)
(وَالشعر هَذَا لَا قَول أَحْمَده ... أوه بديل من قولتي واها)
وَله من أُخْرَى
(يَا ابْن الَّذِي لم يأل فِي نجدة الْإِسْلَام ... إدلاجا وتهجيرا)
(تكنف الشَّام وَقد شام برق ... الْخَوْف إنجادا وتغويرا)
(وكف كلب الرّوم من بعد أَن ... أنشبه نابا وأظفورا)
(فأهله رقك إِن أنصفوا ... رقا بِحَدّ السَّيْف مسطورا)
(بدر هوى واستخلف الشَّمْس فِي ... دستك إشراقا وتأثيرا)
وَله من أُخْرَى
(ملك كسا الْإِسْلَام من ذبه ... بردا بتدبيج الظبى معلما)
(من أصبح الشَّام بِهِ شامة ... يقطر من قتل عداهُ دَمًا)
(لَو لم يقم منصلتا دونه ... لم تلق فِي أقطارها مُسلما)(1/298)
وَله يمدحه بعد مصالحة صَاحب حماة واهتمامه بالعرس وَعوده إِلَى حلب
(الدَّهْر مَا رضته بالجود والباس ... مقسم بَين أغراس وأعراس)
(فتح يُعَاقِبهُ فتح ومطلب ... داني المنال وَملك ثَابت راسي)
(نصرا ببصرى وصفحا عَن حماة لقد ... أَحْسَنت للداء حسما أَيهَا الآسي)
(يَا ابْن الَّذِي عنت الدُّنْيَا لدولته ... من فاطمي أعزته وعباسي)
وَله فِيهِ
(غَدا الدّين بِاسْمِك سامي الْعلم ... أَمِين الْعِمَاد مكين الْقدَم)
(لذَلِك لقبت نورا لَهُ ... وَقد أغطش الظُّلم فِيهِ الظُّلم)
(أَضَاءَت بعدلك آفاقه ... وفضت عرى الدّين لما ادلهم)
(وَلم تمش رهوا لنصر الرها ... وَمثلك أدْرك لما عزم)
(وَيَوْم بسوطا بسطت الْحمام ... على الهضب من ركنها فانهدم)
(وَبصرى وصرخد لَو لم تثر ... دراكا لكانا رَديَفْى إرم)
(ومذ فض جيشك فِي الغوطتين ... فض الصَّلِيب لَهُ مَا نظم)
(وَفِي كفر لاثا وهاب حللت ... عقد الْبُرْنُس ببيض خذم)
(معودة أَنَّهَا لَا تسل ... إِلَّا مقمقمة للقمم)
(وَيَوْم بسرفود جرعتهم ... أجاجا أغصهم وَاصْطلمَ)
(وَفَوق العريمة غشاهم ... عرام جيوشك سيل العرم)
(وأبت بكلبهم فِي الكبول ... مُبَاح الْحَرِيم مذال الْحرم)
(وبارتهم آذَنت أَنَّهَا ... أبارتهم فليبؤوا بذم)(1/299)
(بنوها وأعلوا وَلم يعلمُوا ... بِمَا خطّ فِي اللَّوْح مِنْك الْقَلَم)
(وانك خارم مَا احكموه ... وَمن ديننَا راقع مَا انخرم)
(ترفع من بعد خفض هدى ... وتخفض من بعد رفع صنم)
(سمكت الْمدَارِس فَوق النُّجُوم ... فكم منجم تحتهَا قد نجم)
(وعاش الحنيفي وَالشَّافِعِيّ ... بِمَا شدت مِنْهَا وَكَانَا رمم)
(وَإِن لم تكن هاشمي الْأُصُول ... فَإنَّك فرع الهزبر الهشم)
(وَمن يَدعِي فِي الْعلَا مَا ادعيت ... وَأَنت ابْن من عز لما احتكم)
(واقسم مَا غَابَ ميت سقت ... مغارسه عين هذي الشيم)
قلت وقصائد ابْن مُنِير فِي مدح نور الدّين كَثِيرَة وَنَفسه فِيهَا طَوِيل وَلم يبْق بعد موت القيسراني وَابْن مُنِير فَحل من الشُّعَرَاء يصف مَنَاقِب نور الدّين كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا ابْن أسعد الموصلى وَسَيَأْتِي شَيْء من شعره إِلَى أَن قدم الْعِمَاد الْكَاتِب الشَّام فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فتسلم هَذَا الْأَمر وَعبر عَن أَوْصَاف نور الدّين ومناقبه وغزواته بِأَحْسَن الْعبارَات وأتمها نظما ونثرا وَسَيَأْتِي كل ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي هَذِه السّنة توفّي صَاحب ماردين حسام الدّين تمرتاش ووليها بعده نجم الدّين ألبي بن تمرتاش ابْن أرتق قلت وَقد مدحه القيسراني والعرقلة وَغَيرهمَا من الشُّعَرَاء(1/300)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فَفِيهَا ملك نور الدّين مَدِينَة دمشق وَأَخذهَا من صَاحبهَا مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد وَكَانَ الَّذِي حمل نور الدّين على الْجد فِي ملكهَا أَن الفرنج ملكوا فِي السّنة الخالية عسقلان وَهِي مَدِينَة فلسطين حسنا وحصانة
وَلما كَانُوا يحصرونها كَانَ نور الدّين يتلهف وَلَا يقدر على إزعاجهم عَنْهَا لِأَن دمشق فِي طَرِيقه وَلَيْسَ لَهُ على غَيرهَا معبر لاعتراض بِلَاد الإفرنج فِي الْوسط
وَقَوي الفرنج بملكها حَتَّى طمعوا فِي دمشق واستضعفوا مجير الدّين وتابعوا الْغَارة على أَعماله وَأَكْثرُوا الْقَتْل بهَا والنهب والسبي وَزَاد الْأَمر بِالْمُسْلِمين بهَا إِلَى أَن جعل الفرنج على أهل الْمَدِينَة قطيعة كل سنة وَكَانَ رسولهم يَجِيء إِلَى دمشق ويجبيها من أهل الْبَلَد
ثمَّ اشْتَدَّ الْبلَاء على أَهلهَا حِين أرسل الفرنج واستعرضوا عبيدهم وإماءهم الَّذين نهبوا من سَائِر بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وخيروهم بَين الْمقَام عِنْد مواليهم وَالْعود إِلَى أوطانهم فَمن أحب الْمقَام تَرَكُوهُ وَمن أحب وَطنه سَار إِلَيْهِ
وزالت طَاعَة مجير الدّين عَن أهل الْبَلَد إِلَى أَن حَضَرُوهُ فِي القلعة مَعَ إِنْسَان مِنْهُم كَانَ يُقَال لَهُ مؤيد الدّين بن الصُّوفِي فَلَمَّا كَانَت الْأُمُور بهَا هَكَذَا خَافَ أَهلهَا وَأَشْفَقُوا من الْعَدو فجأروا إِلَى الله تَعَالَى وَدعوهُ أَن يكْشف مَا بهم من الْخَوْف فَاسْتَجَاب لَهُم وَأذن فِي خلاصهم مِمَّا هم فِيهِ على يَد أحب عباده إِلَيْهِ وَأَحْسَنهمْ طَريقَة وأمثلهم سيرة وَهُوَ الْملك الْعَادِل حَقًا نور الدّين مَحْمُود فَحسن لَهُ السَّعْي فِي ملك الْبَلدة وألقاه فِي روعه
فَلَمَّا خطر لَهُ ذَلِك(1/301)
أفكر فِيهِ فَعلم أَنه أَن رام ملكه بِالْقُوَّةِ والحصار تعذر عَلَيْهِ لِأَن صَاحبه مَتى رأى شَيْئا من ذَلِك راسل الفرنج واستعان بهم واستمالهم
قلت وَكَانَ قد سبق لَهُ سوابق قد تقدم ذكر شَيْء مِنْهَا وَلذَلِك قَالَ العرقلة يمدح أتابكه معِين الدّين أنر من قصيدة
(يظنّ صَلَاح الدّين فرسَان جلق ... كفرسانه مَا الْأسد مثل الثعالب)
(غَدا تطلع الشَّام الفرنج بفيلق ... معودة أبطاله للمصائب)
(رجال إِذا قَامَ الصَّلِيب تصلبت ... رماحهم فِي كل ماش وراكب)
(لَهَا اللَّيْل نقع والأسنة أنجم ... فَمَا غير أبطال وَغير جنائب)
وَصَلَاح الدّين هَذَا الْمَذْكُور لَيْسَ هُوَ يُوسُف بن أَيُّوب الْمَشْهُور فَإِن ذَلِك حِينَئِذٍ لم يكن ملكا يَقُود الجيوش وَإِنَّمَا هَذَا صَلَاح الدّين مُحَمَّد ين أَيُّوب الياغبساني صَاحب حماة أحد أَصْحَاب زنكي وَقد تقدم ذكره مرَارًا وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي مُقَدّمَة الْجَيْش النوري لما قصد دمشق فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين أَو فِي إِحْدَاهمَا أَو فِي زمن حِصَار زنكي لَهَا وَالله أعلم
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ أبْغض الْأَشْيَاء إِلَى الفرنج أَن يملك نور الدّين دمشق لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ حصونهم ومعاقلهم وَلَيْسَت لَهُ دمشق فَكيف إِذا أَخذهَا وَقَوي بهَا وانضاف إِلَى ذَلِك كراهيته لسفك دِمَاء الْمُسلمين فَإِن الدَّم كَانَ عِنْده عَظِيما لما كَانَ قد جبل عَلَيْهِ من الرأفة وَالرَّحْمَة وَالْعدْل
فَلَمَّا رأى الْحَال هَكَذَا عمد إِلَى إِعْمَال الْحِيلَة فراسل مجير الدّين صَاحبهَا(1/302)
واستماله وواصله بالهدايا وَأظْهر لَهُ الْمَوَدَّة حَتَّى وثق إِلَيْهِ ثمَّ صَار يكاتبه فِي بعض الْأَوْقَات وَيَقُول لَهُ إِن فلَانا وَيذكر بعض الْأُمَرَاء الَّذين لمجير الدّين قد كاتبني فِي المخامرة عَلَيْك فاحذره
فَتَارَة يَأْخُذ إقطاع أحدهم وَتارَة يقبض عَلَيْهِ
فَلَمَّا خلت دمشق من الْأُمَرَاء قدم أَمِيرا كَانَ عِنْده يُسمى عَطاء بن حفاظ السّلمِيّ الْخَادِم وَكَانَ شهما شجاعا وفوض إِلَيْهِ أَمر دولته وَكَانَ نور الدّين لَا يتَمَكَّن من دمشق مَعَه
فَقبض عَلَيْهِ مجير الدّين وَقَتله فَقَالَ لَهُ عِنْد قَتله إِن الْحِيلَة قد تمت عَلَيْك فَلَا تقتلني فَإِنَّهُ سَيظْهر لَك مَا أَقُول
فَلم يصغ إِلَى قَوْله وَقَتله
قلت وَفِي بعض قصائد ابْن مُنِير مَا يدل على أَن عَطاء هَذَا كَانَ لَهُ مَعَ نور الدّين فِي دمشق حَدِيث فَإِنَّهُ قَالَ
(ودمشق فِي دمشق رجال سلم ... لحور نِسَائِهِم مِنْهُم نسَاء)
(هِيَ الفردوس اصبح وَهُوَ عاف ... من الْعَافِي وَمن خَال خلاء)
(جنان تعرف الجنات فِيهَا ... وَلَا رأى هُنَاكَ وَلَا رواء)
(لأسمح صعبها وَدنت قصاها ... وأمكنك اقتياد وامتطاء) وَيَا نعم الْعَطاء عَطاء رب ... توسطه فانشطه عَطاء)
(تفاءل بإسمه فالفال وعد ... يكون على ظباك بِهِ الْوَفَاء)
(هُوَ السَّبَب الَّذِي شزرت قواه ... وهذبه لخدمتك الصفاء)
(وَسيف إِن تشمه تشم حساما ... وَإِن تغمد فَنَار بل ذكاء)
(جنتة لَك السَّعَادَة قطف رَأْي ... لنقب الخادعيك بِهِ هناء)
وَيجوز أَنه لم يكن لعطاء فِي ذَلِك حَدِيث وَإِنَّمَا هَذِه الأبيات أَو مَا فِي مَعْنَاهَا كَانَت سَبَب قَتله لما بلغ مجير الدّين ذَلِك
وَعَطَاء هَذَا هُوَ الَّذِي ينْسب(1/303)
إِلَيْهِ مَسْجِد عَطاء خَارج الْبَاب الشَّرْقِي بِدِمَشْق وجورة عَطاء بِبَيْت أَبْيَات وَهِي أَرض فِيهَا أخشاب كبار من الْحور تربى أوتادا لجامع دمشق وَهِي وقف عَلَيْهِ
وَقد مدحه العرقلة وَغَيره من الشُّعَرَاء
قَالَ ابْن الْأَثِير فَلَمَّا قتل عَطاء قوى طمع نور الدّين فِي دمشق فراسل أَحْدَاث الْبَلَد وزناطرته واستمالهم فَأَجَابُوهُ إِلَى تَسْلِيم الْبَلَد فَسَار إِلَيْهِم وحاصرهم عشرَة أَيَّام
فكاتب مجير الدّين الفرنج وبذل لَهُم الْأَمْوَال وقلعة بعلبك إِن رحلوا نور الدّين عَنهُ
فَإلَى أَن اجْتَمعُوا وجاؤوا بَلغهُمْ أَخذ نور الدّين بِدِمَشْق فعادوا بخفي حنين
وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ لما حَاصَرَهُمْ وضيق عَليّ من بِهِ ثار الْأَحْدَاث الَّذين كاتبهم نور الدّين وسلموا إِلَيْهِ الْبَلَد من الْبَاب الشَّرْقِي فدخله بالأمان عَاشر صفر وَحصر مجير الدّين فِي القلعة وراسله وبذل لَهُ الإقطاع الْكثير من جملَته مَدِينَة حمص فَأجَاب إِلَى تَسْلِيم القلعة وَسَار إِلَى حمص
وَقَالَ ابْن أبي طي أنفذ نور الدّين أَسد الدّين شيركوه رَسُولا إِلَى صَاحب دمشق فَخرج فِي تجمل عَظِيم وَمَعَهُ ألف فَارس فَعظم على مجير الدّين ذَلِك وَقَالَ مَا هَذِه رِسَالَة هَذِه مكيدة
وَلم يتجاسر على الْخُرُوج إِلَى لِقَائِه وَلَا أحد من أُمَرَاء دمشق فاستوحش أَسد الدّين وَنزل بمرج الْقصب وَأَغْلظ لصَاحب دمشق فِي الْمقَال وانفذ إِلَى نور الدّين يعرفهُ بِمَا جرى عَلَيْهِ
فَسَار نور الدّين فِي عساكره وزحف إِلَى الْبَلَد من شرقيه وَكَانَت الْحَرْب فِي عَاشر صفر وَتَوَلَّى أَسد الدّين الْقِتَال وأبلى الْجهد فَكسر عَسَاكِر دمشق إِلَى(1/304)
الأسوار من قبلي الْبَلَد وَلم يكن أحد من الْمُقَاتلَة على السُّور من ذَلِك الْجَانِب لِأَن نور الدّين كَانَ من شرقيها وَجل الْعَسْكَر مُقَابِله وَرَأى من كَانَ مَعَ نور الدّين من الجاندارية والحلبيين خلو السُّور من الْمُقَاتلَة فتسرعوا إِلَى السُّور وتعلقوا بِهِ وحصلوا فِي الْحَال على الأسوار وَيُقَال إِن امْرَأَة كَانَت على السُّور فدلت حبلا فَصَعِدُوا فِيهِ وَصَارَ على السُّور جمَاعَة ونصبوا السلالم وَصعد جمَاعَة أُخْرَى ونصبوا علما وصاحوا بشعار نور الدّين فَوَقع على أهل الْبَلَد الخذلان وَكسر بَاب الْبَلَد وَدخلت الخيالة مِنْهُ وَملك نور الدّين دمشق
وَكَانَ لأسد الدّين الْيَد الطولي فِي فتحهَا فولاه نور الدّين أمرهَا ورد إِلَيْهِ جَمِيع أحوالها
وَفِي هَذِه السّنة أقطعه نور الدّين الرحبة
وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي الْعشْر الثَّانِي من الْمحرم وصل الْأَمِير أَسد الدّين شيركوه رَسُولا من نور الدّين إِلَى ظَاهر دمشق وخيم بِنَاحِيَة الْقصب من المرج فِي عَسْكَر يناهز الْألف فَأنْكر ذَلِك وَوَقع الاستيحاش مِنْهُ وإهمال الْخُرُوج إِلَيْهِ لتلقيه والاختلاط بِهِ وتكررت المراسلات فِيمَا اقتضته الْحَال وَلم تسفر عَن سداد وَلَا نيل مُرَاد وَعلا سعر الأقوات لانْقِطَاع الواصلين بالغلات
وَوصل نور الدّين بعسكره إِلَى شيركوه ثَالِث صفر وخيم بعيون الفاسريا عِنْد دومة ورحل فِي الْغَد وَنزل بَيت الْآبَار من الغوطة وزحف إِلَى الْبَلَد من شرقيه وزحف إِلَيْهِ من عسكره وأحداثه الْخلق الْكثير وَوَقع الطراد بَينهم ثمَّ عَاد كل من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى مَكَانَهُ ثمَّ زحف يَوْمًا بعد يَوْم وتأكد الزَّحْف يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر وَظهر إِلَيْهِ الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي فَانْدفع بَين أَيْديهم حَتَّى قربوا من سور بَاب كيسَان والدباغة من قبلي الْبَلَد وَلَيْسَ على السُّور أحد من العسكرية والبلدية لسوء تَدْبِير صَاحب الْأَمر غير نفر يسير لَا يؤبه لَهُم فتسرع بعض الرجالة إِلَى السُّور وَعَلِيهِ امْرَأَة يهوديه فَأرْسلت إِلَيْهِ حبلا فَصَعدَ فِيهِ وَحصل على السُّور وَلم يشْعر بِهِ أحد وَتَبعهُ(1/305)
من تبعه واطلعوا علما نصبوه على السُّور وصاحوا نور الدّين يَا مَنْصُور
وَامْتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عَلَيْهِ من الْمحبَّة لنُور الدّين وعدله وَحسن ذكره
وبادر بعض قطاعي الْخشب بفأسه إِلَى الْبَاب الشَّرْقِي فَكسر أغلاقه وفتحه فَدخل مِنْهُ الْعَسْكَر وَسعوا فِي الطرقات وَلم يقف أحد بَين أَيْديهم
وَفتح بَاب توما ايضا وَدخل النَّاس مِنْهُ ثمَّ دخل نور الدّين وخواصه وسر كَافَّة النَّاس من الأجناد والعسكرية لما هم عَلَيْهِ من الْجُوع وَغَلَاء الأسعار وَالْخَوْف من منازلة الفرنج الْكفَّار
وَكَانَ مجير الدّين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم فِي خواصه إِلَى القلعة وأنفذ إِلَيْهِ وأومن على نَفسه وَمَاله وَخرج إِلَى نور الدّين فطيب نَفسه ووعده الْجَمِيل
وَدخل نور الدّين القلعة فِي يَوْم الْأَحَد الْمُقدم ذكره وَأمر بالمناداة بالأمان للرعية وَالْمَنْع من انتهاب شَيْء من دُورهمْ وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إِلَى سوق عَليّ وَغَيره فعاثوا ونهبوا وانفذ نور الدّين إِلَى أهل الْبَلَد بِمَا طيب نُفُوسهم وأزال نفرتهم
واخرج مجير الدّين مَا كَانَ لَهُ فِي دوره بالقلعة والخزائن من المَال والآلات والأثاث على كثرته إِلَى الدَّار الأتابكية دَار جده وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ تقدم إِلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى حمص فِي خواصه وَمن أَرَادَ الْكَوْن مَعَه من أَسبَابه وَأَتْبَاعه بعد أَن كتب لَهُ المنشور بإقطاعه عدَّة ضيَاع بأعمال حمص برسمه ورسم جنده وَتوجه إِلَى حمص على القضيه المقررة
ثمَّ أحضر نور الدّين غذ ذَلِك الْيَوْم أماكل الرّعية من الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء والتجار وخوطبوا بِمَا زَاد فِي إيناسهم وسرور نُفُوسهم وَحسن النّظر لَهُم بِمَا يعود بصلاح أَحْوَالهم وَتَحْقِيق آمالهم فَأَكْثرُوا الدُّعَاء لَهُ وَالثنَاء عَلَيْهِ وَالشُّكْر لله تَعَالَى على مَا أصاره إِلَيْهِ
ثمَّ تَلا ذَلِك أبطال حُقُوق دَار الْبِطِّيخ(1/306)
وسوق البقل وَضَمان الْأَنْهَار وَأَنْشَأَ بذلك المنشور وقريء على الْمِنْبَر بعد صَلَاة الْجُمُعَة فَاسْتَبْشَرَ النَّاس بصلاح الْحَال وأعلن النَّاس بِرَفْع الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى بدوام أَيَّامه ونصرة أَعْلَامه
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما اسْتَقل نور الدّين فِي الْبَلَد عمل مَعَ أَهله مكرمَة عَظِيمَة واظهر فيهم عدلا عَاما
قلت قد تقدم ذكره فِي أول الْكتاب وَسَيَأْتِي مِنْهُ أَشْيَاء مفرقة فِيمَا بعد
قَالَ وَألقى الْإِسْلَام جرانه بِدِمَشْق وَثبتت أوتاده وأيقن الْكفَّار بالبوار ووهنوا واستكانوا وَصَارَ جَمِيع مَا بِالشَّام من الْبِلَاد الإسلامية بيد نور الدّين
وَأما مجير الدّين فَإِنَّهُ أَقَامَ بحمص وراسل أهل دمشق فِي إثارة الْفِتْنَة فَانْتهى الْأَمر إِلَى نور الدّين فخاف أَن يحدث مَا يشق تلافيه بل رُبمَا تعذر لاسيما مَعَ مجاورة الإفرنج فَأخذ حمص من مجير الدّين وعوضه عَنْهَا مَدِينَة بالس فَلم يرضها وَسَار عَن الشَّام إِلَى الْعرَاق فَأَقَامَ بِبَغْدَاد وابتنى دَارا تجاور الْمدرسَة النظامية وَتُوفِّي بهَا(1/307)
قَالَ وَلما ملك نور الدّين دمشق خافه الفرنج كَافَّة وَعَلمُوا أَنه لَا يقْعد عَن غَزْو بِلَادهمْ والمبادرة إِلَى قِتَالهمْ فراسله كل كند وقمص وتقربوا إِلَيْهِ
ثمَّ إِن من بتل بَاشر راسلوه وبذلوا لَهُ تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فَأرْسل إِلَى الْأَمِير حسان المنبجي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين وإقطاعه منبج فَأمره أَن يتسلمها مِنْهُم
فَسَار إِلَيْهَا وتسلمها وحصنها وَرفع إِلَيْهَا ذخائر كَثِيرَة
فصل
قَالَ الرئيس ابو يعلى وَقد كَانَ مُجَاهِد الدّين بزان أطلق يَوْم الْفَتْح من الاعتقال وأعيد إِلَى دَاره
وَوصل الرئيس مؤيد الدّين المسّيب إِلَى دمشق مَعَ وَلَده النَّائِب عَنهُ فِي صرخد إِلَى دَاره معولا على لُزُومهَا وَترك التَّعَرُّض لشَيْء من التَّصَرُّفَات والأعمال
فَبَدَا مِنْهُ من الْأَسْبَاب المعربة عَن إِضْمَار الْفساد والعدول إِلَى خلاف مناهج السداد والرشاد مَا كَانَ دَاعيا إِلَى فَسَاد النِّيَّة فِيهِ
وَكَانَ فِي إِحْدَى رجلَيْهِ فتح قد طَال بِهِ ونسيه ثمَّ لحقه مرض وانطلاق متدارك أفرط عَلَيْهِ واسقط قوته مَعَ فهاق مُتَّصِل وقلاع فِي فِيهِ زَائِد فَقضى نحبه فِي رَابِع ربيع الأول وَدفن فِي دَاره واستبشر النَّاس بهلاكه والراحة من سوء أَفعاله(1/308)
قَالَ ووردت الْأَخْبَار بقتل خَليفَة مصر الملقب بالظافر بن الْحَافِظ وأقيم وَلَده عِيسَى مقَامه وَهُوَ صَغِير يناهز ثَلَاث سِنِين ولقبوه بالفائز وعباس الْوَزير
ثمَّ ورد الْخَبَر بِأَن الْأَمِير فَارس الْمُسلمين طلائع بن رزيك وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء المقدمين والشجعان الْمَذْكُورين لما انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر وَهُوَ غَائِب عَن مصر قلق لذَلِك وامتعض وَجمع واحتشد وَقصد الْعود إِلَى مصر
فَلَمَّا عرف عَبَّاس بِمَا جمع خَافَ الْغَلَبَة فتأهب للهرب فِي خواصه واسبابه وَحرمه وَمَا تهَيَّأ من مَاله وَسَار مغذا فَلَمَّا قرب من أَعمال عسقلان وغزة خرج إِلَيْهِ جمَاعَة من خيالة الإفرنج فاغتر بِكَثْرَة من مَعَه وَقلة من قَصده فَلَمَّا حملُوا عَلَيْهِ فشل أَصْحَابه وأعانوا عَلَيْهِ وانهزموا اقبح هزيمَة هُوَ وَابْنه الصَّغِير وَأسر ابْنه الْكَبِير الَّذِي قتل الْعَادِل بن السلار مَعَ وَلَده وَحرمه وَمَاله وكراعه وحصلوا فِي أَيدي الفرنج وَمن هرب لَقِي من الْجُوع والعطش شدَّة وَمَات الْعدَد الْكثير من النَّاس وَالدَّوَاب وَوصل فِي أثر هروبهم فَارس الْمُسلمين وَوضع السَّيْف فِيمَن ظفر بِهِ من أَصْحَاب عَبَّاس وانتصب فِي الوزارة وتدبير الْأُمُور مَوْضِعه وَوصل إِلَى دمشق مِنْهُم من نجاه الْهَرَب على أشنع صفة من الْعَدَم والعري فِي آخر ربيع الآخر(1/309)
قلت وَفِي ذَلِك يَقُول عمَارَة الْيُمْنَى من قصيدة لَهُ
(لكم يَا بني رزيك لَا زَالَ ظلكم ... مَوَاطِن سحب الْمَوْت فِيهَا مواطر)
(سللتم على عَبَّاس بيض صوارم ... قهرتم بهَا سُلْطَانه وَهُوَ قاهر)
وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = أَن نصر بن عَبَّاس لما قتل ابْن السلار وتوزر أَبوهُ عَبَّاس كَانَ نصر يعاشر الْخَلِيفَة الظافر ويخالطه وعباس كَارِه لذَلِك مستوحش من ابْنه لعلمه بِمذهب الْقَوْم وَضرب بعض النَّاس بِبَعْض حَتَّى يفنوهم
وَشرع الظافر مَعَ ابْن عَبَّاس فِي حمله على أَبِيه ومواصلته بالعطايا الْكَثِيرَة ففاتحني فِي ذَلِك فنهيته فَأطلع وَالِده على الْأَمر فاستماله أَبوهُ ولطف بِهِ وَقرر مَعَه قتل الظافر وَكَانَا يخرجَانِ متنكرين وهما تربان سنهما وَاحِد
فَدَعَاهُ إِلَى دَاره ورتب من أَصْحَابه مَعَه فِي جَانب الدَّار نَفرا ثمَّ لما اسْتَقر بِهِ الْمجْلس خَرجُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَذَلِكَ سلخ محرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة ورماه فِي جب الدَّار
واصبح عَبَّاس جَاءَ إِلَى الْقصر ضحوة نَهَار للسلام فَجَلَسَ فِي مجْلِس الوزارة ينْتَظر جُلُوس الظافر فَلَمَّا تجَاوز وَقت جُلُوسه استدعى زِمَام الْقصر(1/310)
وَقَالَ مَا لمولانا مَا جلس للسلام فتلبد الْأُسْتَاذ فِي الْجَواب فصاح عَلَيْهِ وَقَالَ مَالك لَا تجاوبني قَالَ يَا مولَايَ مَوْلَانَا مَا نَدْرِي أَيْن هُوَ
قَالَ مثل مَوْلَانَا يضيع ارْجع واكشف الْحَال
فَمضى وَرجع فَقَالَ مَا وجدنَا مَوْلَانَا
فَقَالَ يبْقى النَّاس بِلَا خَليفَة ادخل إِلَى الموَالِي إخْوَته يخرج مِنْهُم وَاحِد لنبايعه
فَمضى وَعَاد وَقَالَ الموَالِي يَقُولُونَ لَك مَا لنا فِي الْأَمر شَيْء والدنا عَزله عَنَّا وَجعله فِي الظافر وَالْأَمر لوَلَده بعده
قَالَ أَخْرجُوهُ حَتَّى نُبَايِعهُ
قَالَ وعباس قد قتل الظافر وعزم على أَن يَقُول لإخوته أَنْتُم قَتَلْتُمُوهُ ويقتلهم
فَخرج ولد الظافر وَلَعَلَّ عمره خمس سِنِين يحملهُ الْأُسْتَاذ فَأَخذه عَبَّاس فَحَمله وَبكى النَّاس ثمَّ دخل بِهِ إِلَى مجْلِس أَبِيه وَهُوَ حامله وَفِيه أَوْلَاد الْحَافِظ
قَالَ ابْن منقذ وَنحن فِي الرواق جُلُوس وَفِي الْقصر أَكثر من ألف رجل من المصريين فَمَا رَاعنا إِلَّا قوم قد خَرجُوا من الْمجْلس مُجْتَمعين إِلَى القاعة فَإِذا السيوف تخْتَلف على إِنْسَان فَقلت لغلام لي أرمني ابصر من هَذَا الْمَقْتُول
فَمضى وَعَاد وَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ مُسلمين هَذَا مولَايَ أَبُو(1/311)
الْأَمَانَة جِبْرِيل بن الْحَافِظ قد قَتَلُوهُ وَوَاحِد قد شقّ بَطْنه يجذب مصارينه
ثمَّ خرج عَبَّاس وَهُوَ آخذ بِرَأْس الْأَمِير يُوسُف تَحت إبطه وَفِي رَأسه ضَرْبَة سيف وَالدَّم يفور مِنْهَا وَأَبُو الْبَقَاء ابْن أخيهم مَعَ ابْنه نصر ثمَّ أدخلوهما خزانَة فِي الْقصر فَقَتَلُوهُمَا وَفِي الْقصر ألف سيف مُجَرّد قَالَ وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم من أَشد الْأَيَّام الَّتِي جرت عَليّ لِأَنِّي رَأَيْت من الْفساد وَالْبَغي مَا يُنكره الله سُبْحَانَهُ وَجَمِيع خلقه
وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = ديوانه = قَالَ كَانَ لعباس أَربع مئة جمل تحمل أثقاله ومئتا بغل ومئتا جنيب فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج من مصر يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَقد قَامَ عَلَيْهِ أهل مصر وعسكريتها فارسهم وراجلهم تقدم بشد خيله وبغاله وجماله ليتحمل وَيخرج فَلَمَّا صَار الْجَمِيع على بَاب دَاره وَقد مَلَأت ذَلِك الفضاء إِلَى قصر السُّلْطَان إِلَى الايوان خرج غُلَام يُقَال لَهُ عنبر كَانَ على أشغاله وغلمانه كلهم تَحت يَده فَقَالَ للجمالين والخربندية والركابية روحوا إِلَى بُيُوتكُمْ وسيبوا الدَّوَابّ
فَفَعَلُوا ذَلِك وانحاز هُوَ إِلَى المصريين(1/312)
يقاتله مَعَهم
وَكَانَ مَا جرى من تهميل الدَّوَابّ لطفا من الله تَعَالَى بِهِ فَإِنَّهَا سدت الطَّرِيق بَينه وَبَين المصريين ومنعتهم من الْوُصُول إِلَيْهِ وهم فِي خلق كثير وَنحن فِي قلَّة مَا نبلغ خمسين رجلا وغلمان عَبَّاس مماليكه فِي ألف ومئتي غُلَام بالخيول الْجِيَاد وَالسِّلَاح التَّام وثماني مئة فَارس من الأتراك خَرجُوا كلهم من بَاب النَّصْر ووقفوا فِي الفضاء الَّذِي بَينه وَبَين رَأس الطابية فِرَارًا من الْقِتَال
فشرع المصريون فِي نهب الْخَيل وَالْجمال وَالْبِغَال فَلَمَّا فتحُوا طريقهم إِلَيْهِ خرج عَبَّاس من بَاب النَّصْر وجاؤوا فِي إثره حَتَّى أقفلوا الْبَاب وعادوا إِلَى نهب دوره
وَكَانَ عَبَّاس قد أحضر من الْعَرَب نَحوا من ثَلَاثَة آلَاف فَارس يتقوى بهم على المصريين واستحلفهم ووهبهم هبات عَظِيمَة
فَلَمَّا خرج من بَاب مصر غدروا بِهِ وقاتلوه أَشد قتال سِتَّة أَيَّام يقاتلهم من الْفجْر إِلَى اللَّيْل فَإِذا نزل أمهلوه إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ يركبون ويهدون خيلهم على جَانب النَّاس ويصيحون صَيْحَة وَاحِدَة فتجفل الْخَيل وتقطع وَيخرج إِلَيْهِم مِنْهَا مَا فِيهِ منَّة وَقُوَّة فيأخذونه فَكَانَ ذَلِك سَبَب هَلَاك خيله وَتمكن الإفرنج مِنْهُ واشتغاله عَن سلوك طَرِيق لَا يقْصد الفرنج إِلَيْهِ
قَالَ ودامت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ من يَوْم الْجُمُعَة ضحى نَهَار إِلَى آخر يَوْم الْخَمِيس ثمَّ جاؤوا إِلَيْهِ وَأخذُوا مِنْهُ حسبا على أَمْوَالهم وأنفسهم(1/313)
وَبُيُوتهمْ ظنا مِنْهُم أَن لَهُ عودة إِلَيْهِم وَانْصَرفُوا عَنهُ وهم أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف فَارس
وَيَوْم الْأَحَد صبحهمْ الإفرنج وَقد هلك النَّاس من الْجُوع والعطش وَمَاتَتْ خيلهم فَقتلُوا عباسا وَابْنه الْأَوْسَط واسروا ابْنه لأكبر وَقتلُوا خلقا كثيرا وَأخذُوا نسَاء عَبَّاس وخزائنه وأسروا أَوْلَادًا لَهُ صغَارًا وَانْصَرفُوا
قلت عَبَّاس هَذَا هُوَ عَبَّاس بن أَبى الْفتُوح بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس الْحِمْيَرِي ويلقب بالأفضل ركن الدّين ويكنى بأبى الْفضل وَرَأَيْت علامته فِي الْكتب أَيَّام وزارته الْحَمد لله وَبِه أَثِق وَفِيه يَقُول أُسَامَة بن منقذ
(لقد عَم جود الْأَفْضَل السَّيِّد الورى ... وأغنى غناء الْغَيْث حَيْثُ يصوب)
وَمن أَبْيَات لِابْنِ أسعد فِيهِ لما قتل الظافر
(وَأنْفق من إنعامهم فِي هلاكهم ... وَأظْهر مَا قد كَانَ عَنهُ ينافق)
(وَمد يدا هم طولوها إِلَيْهِم ... وحلت بِأَهْل الْقصر مِنْهُ البوائق)
(سقى ربه كاس المنايا وَمَا انْقَضى ... لَهُ الشَّهْر إِلَّا وَهُوَ للكأس ذائق)(1/314)
وَكَانَ عَبَّاس قد تخيل من أُسَامَة عِنْد خُرُوجه من مصر لما يُعلمهُ بَينه وَبَين الْملك الصَّالح من الْمَوَدَّة والمصافاة فَأحْضرهُ واستحلفه أَنه لَا ينْفَصل عَنهُ ثمَّ لم يقنعه ذَلِك حَتَّى نفذ من أستاذى دَاره من يدْخل على حرمه إِلَى دَاره فَأخذ أَهله وَأَوْلَاده فتركهم عِنْد أَهله وَأَوْلَاده وَقَالَ لَهُ قد حملت ثقلهم عَنْك لَهُم أُسْوَة بوالدة نَاصِر الدّين يَعْنِي وَلَده نَاصِر الدّين وبإخوانه
فَلَمَّا خَرجُوا ونهبت دُورهمْ ودوابهم عجز عَن حمل من يَخُصُّهُ فأعادهم أُسَامَة من بلبيس وَنفذ إِلَى الْملك الصَّالح يَقُول لَهُ قد نفذت أَهلِي وأولادي إِلَيْك وَأَنت ولى مَا ترَاهُ فيهم
فأنزلهم فِي دَار وأجرى عَلَيْهِم الْجَارِي الْوَاسِع واحسن إِلَيْهِم غَايَة الْإِحْسَان
وَكَانَ يكاتبه فِي الرُّجُوع إِلَى مصر وَهُوَ يتلطف الْأَمر مَعَه قصدا لخلاص أَهله وَأَوْلَاده فَلَمَّا عرف ذَلِك مِنْهُ نسبه إِلَى وَحْشَة قلبه من الْقُصُور ونفوره من المصريين
فنفذ إِلَيْهِ يَقُول لَهُ تصل إِلَى مَكَّة فِي الْمَوْسِم ويلقاك رَسُولي إِلَيْهَا يسلم إِلَيْك مَدِينَة أسوان وأنفذ إِلَيْك أهلك وأمدك بالأموال وَهِي كَمَا علمت الثغر بَيْننَا وَبَين السودَان وَمَا يسد ذَلِك الثغر مثلك
وَأكْثر من الْوَعْد وَذكر رغبته فِي قربه ورعايته مَا بَينه وَبَينه من قديم الصُّحْبَة
فَاسْتَأْذن أُسَامَة فِي ذَلِك الْملك الْعَادِل نور الدّين وَكَانَ فِي خدمته
فَقَالَ يَا فلَان مَا تَسَاوِي الْحَيَاة الشتات وَالرُّجُوع إِلَى الأخطار والبعد عَن الأوطان
وَمنعه من ذَلِك بإحسانه ووعده أَن يستخلص أَهله
فَكتب أُسَامَة إِلَى الْملك الصَّالح يعْتَذر ويسأله تسيير أَهله
وترددت بَينهمَا مكاتبات وأشعار متصلات إِلَى أَن سيرهم وهم نَيف وَخَمْسُونَ نسمَة فِي الْإِكْرَام والاحترام إِلَى آخر ولَايَته
وَذكر أَن أهل الْقُصُور والأمراء أَنْكَرُوا تسييرهم وَقَالُوا يكون أَهله رهائن عندنَا لنأمن مَا يكون مِنْهُ
وَوَصله بعض أَصْحَابه من دمشق وَهُوَ بالعسكر النوري بحلب فَأخْبرهُ أَن من كَانَ لَهُ بِمصْر من الْأَهْل وَالْأَوْلَاد وَالْأَصْحَاب وصلوا وَأَن الْمركب انْكَسَرَ بهم فِي سَاحل عكا وَنهب الفرنج كل مَا فِيهِ وَلم يصلوا إِلَى دمشق إِلَّا(1/315)
بِأَنْفسِهِم وَأَن متملك الإفرنج أَعْطَاهُم خمس مئة دِينَار اصلحوا مِنْهَا حَالهم واكتروا ظهرا ظهرا إِلَى دمشق فَقَالَ أُسَامَة
(إِلَى الله أَشْكُو فرقة دميت لَهَا ... جفوني وأذكت بالهموم ضميري)
(تمادت إِلَى أَن لاذت النَّفس بالمنى ... وطارت بهَا الأشواق كل مطير)
(فَلَمَّا قضى الله اللِّقَاء تعرضت ... مساءة دهري فِي طَرِيق سروري)
فصل
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي آخر ربيع الأول وصل الْأَمِير مجد الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد نَائِب نور الدّين فِي حلب إِلَى دمشق عقيب عوده من الْحَج وَأقَام أَيَّامًا وَعَاد إِلَى منصبه فِي حلب وتدبير أَعمالهَا
قلت هَذَا هُوَ ابْن الداية وَكَانَ نور الدّين كثير الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وعَلى أخوته وسيتكرر ذكرهم فِي هَذَا الْكتاب ومجد الدّين أكبر أخوته وَقد مدحه الشُّعَرَاء
قَالَ القيسراني من بعض مَا قَالَه فِيهِ
(دعوا مَا مضى من قبل هَذَا لما بعد ... فأقسم لَوْلَا الْمجد مَا عرف الْمجد)
(كريم سمت أَوْصَافه لعفاته ... قَرَائِن كل اثْنَيْنِ بَينهمَا عقد)
(محياه والبشرى ويمناه والندى ... ونجواه وَالدُّنْيَا وتقواه والزهد)(1/316)
(فَفِي قربه الزلفى وَفِي وعده الْغنى ... وَفِي نيله الْحسنى وَفِي رَأْيه الرشد)
(إِذا وَجه نور الدّين قَابل مجده ... فَقل فِي كَمَال الْبَدْر قابله السعد)
وَفِي موسم هَذِه السّنة مَاتَ أَمِير الْحَرَمَيْنِ هَاشم بن فليتة وَولى الْحَرَمَيْنِ وَلَده قَاسم بن هَاشم وَهُوَ الَّذِي أرسل عمَارَة الْيُمْنَى الْفَقِيه الشَّاعِر إِلَى الديار المصرية وَسَيَأْتِي ذكره
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي ثامن جُمَادَى الأولى ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بَان عدَّة وافرة من مراكب الفرنج من صقلية وصلت إِلَى مَدِينَة تنيس على حِين غَفلَة من أَهلهَا فهجمت عَلَيْهَا وَقتلت وأسرت وسبت ونهبت وعادت بالغنائم بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتركتها صفرا وَبعد ذَلِك عَاد من كَانَ هرب مِنْهَا فِي الْبَحْر بعد الْحَادِثَة وَمن سلم واختفى وَضَاقَتْ الصُّدُور عِنْد اسْتِمَاع هَذَا الْخَبَر الْمَكْرُوه
قَالَ وَفِي شهر رَمَضَان ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة القَاضِي فَخر الدّين أَبى مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الصَّمد بن الطرسوسي وَكَانَ ذَا همة مَاضِيَة ويقظة(1/317)
مضيئة ومروءة ظَاهِرَة فِي دَاره وَولده وَمن يلم بِهِ من غَرِيب ووافد وَقد نفذ أمره وتصرفه فِي أَعمال حلب فِي الْأَيَّام النورية واثر فِي الْوُقُوف أثرا حسنا توفر بِهِ ارتفاعها ثمَّ اعتزل عَن ذَلِك أجمل اعتزال
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخمْس مئة
فَفِيهَا تسلم نور الدّين بعلبك من واليها ضحاك وَذكر ابْن الْأَثِير أَن ذَلِك كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَقَالَ كَانَ ضحاك البقاعي يَنُوب ببعلبك عَن صَاحب دمشق فَلَمَّا ملك نور الدّين دمشق امْتنع بهَا وَلم يُمكن نور الدّين محاصرتها لقُرْبه من الفرنج فلطف الْحَال مَعَه إِلَى ذَلِك الْوَقْت فملكها وَاسْتولى عَلَيْهَا
وَقَالَ ابْن أَبى طي لما فتح نور الدّين دمشق اتَّصل ذَلِك بِنَجْم الدّين أَيُّوب فكاتب نور الدّين فِي تَسْلِيم بعلبك فأنفذ إِلَيْهِ وتسلمها مِنْهُ وألحقه بِأَصْحَابِهِ
قَالَ وَرَأَيْت بعض المؤرخين قد ذكر إِن مجير الدّين صَاحب دمشق أنزل نجم الدّين من القلعة وَجعله فِي الْبَلَد وَولى القلعة رجلا يُقَال لَهُ ضحاك
فَلَمَّا ملك نور الدّين دمشق خرج إِلَى بعلبك واستنزل مِنْهَا ضَاحِكا وتوسط أَسد الدّين فِي امْر أَخِيه نجم الدّين مَعَ نور الدّين فأقطعه إقطاعا وسيره إِلَى دمشق فَأَقَامَ فِيهَا ورد نظر دمشق إِلَيْهِ وَولى وَلَده(1/318)
تورانشاه شحنكية دمشق فساسها أحسن سياسة وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي فولى صَلَاح الدّين شحنكية دمشق
قلت هَذَا وهم
تورانشاه هُوَ الْملك الْمُعظم شمس الدولة الَّذِي فتح الْيمن فِي أَيَّام أَخِيه صَلَاح الدّين فَكيف يَقُول انه مَاتَ قبل أَن يَلِي صَلَاح الدّين شحنكية دمشق وَأما كَونه ولى الشحنكية بِدِمَشْق قبل صَلَاح الدّين فَهَذَا قريب وَقد رَأَيْت مَا يؤكده
قَرَأت فِي = ديوَان العرقلة = وَقَالَ يهنئه بالشحنكية بِدِمَشْق وَهُوَ فِي دَار عَمه أَسد الدّين شيركوه ابْن شاذي
(قلت لحسادك زيدوا فِي الْحَسَد ... قد سكن الدَّار وَقد حَاز الْبَلَد)
(لَا تعجبوا إِن حل دَار عَمه ... أما تحل الشَّمْس فِي برج الْأسد)
وَقَالَ فِي صَلَاح الدّين لما ولي الشحنكية الشحنكية
(لصوص الشَّام تُوبُوا من ذنُوب ... تكفرها الْعقُوبَة والأصفاد)
(لَئِن كَانَ الْفساد لكم صلاحا ... فمولاي الصّلاح لكم فَسَاد)
وَله فِيهِ
(رويدكم يالصوص الشّآم ... فَإِنِّي لكم نَاصح فِي مقالي)
(وَإِيَّاكُم وَسمي النَّبِي ... يُوسُف رب الحجا وَالْجمال)
(فَذَاك مقطع أَيدي النِّسَاء ... وَهَذَا مقطع أَيدي الرِّجَال)(1/319)
قَالَ ابْن أَبى طي وَولى صَلَاح الدّين شحنكية دمشق والديوان فَأَقَامَ فِيهِ أَيَّامًا ثمَّ تَركه وَصَارَ إِلَى حلب لأجل وَاقعَة جرت بَينه وَبَين صَاحب الدِّيوَان أَبى سَالم بن همام
فأنفذ نور الدّين وَأخذ ابْن همام وَحلق لحيته وطيف بِهِ فِي دمشق
قلت وَابْن همام هَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الشنباشي فِي قصيدته وَأَشَارَ إِلَى حلق لحيته بقوله
(كابى سَالم بن همام لما ... قَامَ للنصح عَاد يمشي ملثم)
ثمَّ قَالَ ابْن أبي طي واستخص نور الدّين صَلَاح الدّين وألحقه بخواصّه فَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي سفر وَلَا حضر وَكَانَ يفوق النَّاس جَمِيعًا فِي لعب الكرة وَكَانَ نور الدّين يحب لعب الكرة
قَالَ أَبُو يعلى وَنزل نور الدّين بعسكره بِالْأَعْمَالِ المختصة بِالْملكِ قليج أرسلان بن الْملك مَسْعُود بن قليج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قتلمش ملك قونية وَمَا والاها فَملك عدَّة من قلاعها وحصونها بِالسَّيْفِ والأمان وَكَانَ الْملك قليج أرسلان وأخواه ذُو النُّون ودولات مشتغلين بمحاربة أَوْلَاد(1/320)
الدانشمند ونصروا عَلَيْهِم فِي وقْعَة كَانَت بأقصرا فِي شعْبَان
فَلَمَّا عَاد قليج أرسلان وَعرف مَا كَانَ من نور الدّين فِي بِلَاده عظم عَلَيْهِ هَذَا الْأَمر واستبشعه مَعَ مَا بَينهمَا من الْمُوَادَعَة والمهادنة والصهر وراسله بالمعاتبة وَالْإِنْكَار والوعيد والتهديد فَأَجَابَهُ نور الدّين بِحسن الِاعْتِذَار وَجَمِيل الْمقَال وَبَقِي الْأَمر بَينهَا مستمرا على هَذِه الْحَال وَعَاد نور الدّين من حلب إِلَى دمشق
قَالَ وَولى الأسطول الْمصْرِيّ مقدم شَدِيد الباس بَصِير بأشغال الْبَحْر فَاخْتَارَ جمَاعَة من رجال الْبَحْر يَتَكَلَّمُونَ بِلِسَان الفرنج وألبسهم ثِيَابهمْ ونهض بهم فِي عدَّة من المراكب الأسطولية وأقلع فِي الْبَحْر لكشف الْأَمَاكِن والمكامن والمسالك الْمَعْرُوفَة بمراكب الرّوم وتعرف أحوالها ثمَّ قصد ميناء صور وَقد ذكر لَهُ أَن فِيهِ شختورة رُومِية كَبِيرَة فِيهَا رجال كثير وَمَال وافر فهجم عَلَيْهَا وملكها وَقتل من فِيهَا وَاسْتولى على مَا حوته وَأقَام ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أحرقها وَعَاد عَنْهَا فِي الْبَحْر فظفر بمراكب حجاج الفرنج فَقتل وانتهب وَأسر وَعَاد إِلَى مصر بالغنائم والأسرى
قلت وَفِي هَذِه السّنة ورد أَمر الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد وَهُوَ المقتفي إِلَى(1/321)
أَمِير الْحَرَمَيْنِ قَاسم بن هَاشم يَأْمُرهُ أَن يركب على بَاب الْكَعْبَة المكرمة بَاب سَاج جَدِيدا قد ألبس جَمِيع خشبه فضَّة وطلي بِذَهَب وَأَن يَأْخُذ أَمِير الْحَرَمَيْنِ حلية الْبَاب الْقَدِيم لنَفسِهِ ويسير إِلَيْهِ خشب الْبَاب الْقَدِيم مُجَردا ليجعله تابوتا يدْفن فِيهِ عِنْد مَوته
ذكر ذَلِك الْفَقِيه عمَارَة الشَّاعِر وَقَالَ سَأَلَني أَمِير الْحَرَمَيْنِ أَن أبيع لَهُ الْفضة الَّتِي أَخذهَا من الْبَاب فِي الْيمن ومبلغ وَزنهَا خَمْسَة عشر ألف دِرْهَم فتوجهت إِلَى زبيد وعدن من مَكَّة فِي صفر سنة إِحْدَى وَخمسين وَحَجَجْت فِي الْمَوْسِم مِنْهَا فَدفعت لأمير الْحَرَمَيْنِ مَاله وألزمني الترسل عَنهُ إِلَى مصر يعْنى مرّة ثَانِيَة بِسَبَب جِنَايَة جناها خدمه على حَاج مصر وَالشَّام
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا حاصر نور الدّين قلعة حارم وَهِي حصن غربي حلب بِالْقربِ من أنطاكية وضيق على أَهلهَا وَهِي من أمنع الْحُصُون وأحصنها فِي نحور الْمُسلمين فاجتمعت الفرنج من قرب مِنْهَا وَمن بعد وَسَارُوا نَحوه لمَنعه وَكَانَ بالحصن شَيْطَان من شياطين الفرنج يرجعُونَ إِلَى رَأْيه فَأرْسل إِلَيْهِم يعرفهُمْ قوتهم وَأَنَّهُمْ قادرون على حفظ الْحصن والذب عَنهُ بِمَا عِنْدهم من الْعدَد وَالْعدَد وحصانة القلعة وَيُشِير عَلَيْهِم بالمطاولة وَترك اللِّقَاء وَقَالَ لَهُم إِن لقيتموه هزمكم وَأخذ حارم وَغَيرهَا وَإِن حفظتم أَنفسكُم مِنْهُ أطقنا الِامْتِنَاع عَلَيْهِ
فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وراسلوا نور الدّين فِي الصُّلْح على أَن يعطوه حِصَّة من أَعمال حارم فَأبى أَن(1/322)
يُجِيبهُمْ إِلَّا على مُنَاصَفَة الْولَايَة فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَصَالحهُمْ وَعَاد
وفى ذَلِك يَقُول بعض الشُّعَرَاء من قصيدة
فَذكر أبياتا من قصيدة لِابْنِ مُنِير
وَقد سبق أَن ابْن مُنِير توفى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين فإمَّا أَن يكون ابْن مُنِير قَالَ هَذَا الشّعْر فِي غير هَذِه الْغُزَاة وَإِمَّا أَن تكون هَذِه الْغُزَاة فِي غير هَذِه السّنة
وَقد قَرَأت فِي ديوَان ابْن مُنِير وَقَالَ يمدحه ويهنئه بِالْعودِ من غزَاة حارم
(مَا فَوق شأوك فِي الْعلَا مزداد ... فعلام يقلق عزمك الإجهاد)
(همم ضربن على السَّمَاء سرادقا ... فالشهب اطنابٌ لَهَا وعماد)
(أَنْت الَّذِي خطبت لَهُ حساده ... وَالْفضل مَا اعْترفت بِهِ الحساد)
(قَامَ الدَّلِيل وَسلم الْخصم اليلندد ... وانجلى للآثر الْإِسْنَاد)
(زهرت لدولتك الْبِلَاد فروحها ... أرج المهب ودوحها مياد)
(أَحْيَا ربيع الْعدْل ميت ربوعها ... فالبرض لج والهشيم مُرَاد)
(فالعيش إِلَّا فِي جنابك ميتَة ... وَالنَّوْم إِلَّا فِي حماك سهاد)
(وَإِذا العدى زرعوا النِّفَاق وأحصدوا ... كيدا فعزمك نَاقض حصاد)
(بالمقربات كَانَ فَوق متونها ... جن الملا وَكَأَنَّهَا أطواد)
(تذأى وَمن وَحي الكماة صفورها ... فالزجر قيد والندا قياد)
(سحب إِذا سحبت بِأَرْض ذيلها ... فالحزن سهل والهضاب وهاد)(1/323)
(يهدى النواظر فِي دُجُنّة نقعها ... بدر بسرجك نير وقاد)
(ألبست دين مُحَمَّد يَا نوره ... عزا لَهُ فَوق السها إسآد)
(مَا زلت تسمكه بمياد القنا ... حَتَّى تثقف عوده المنآد)
(لم يبْق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع بِهِ وَلَا استعداد)
(إِن المنابر لَو تطِيق تكلما ... حمدتك عَن خطبائها الأعواد)
(وَلَئِن حمت مِنْك الأعادي مهلة ... فَلهم إِلَى المرعى الوبى معاد)
(وَلَكَمْ لَكُمْ فِي أَرضهم من مشْهد ... قَامَت بِهِ لِظُباكمُ الأشهاد)
(مُلقٍ بأطراف الفرنجة كلكلا ... طرفاه ضرب صَادِق وجلاد)
(حاموا فَلَمَّا عاينوا حَوْض الردى ... حاموا برائش كيدهم أَو كَادُوا)
(وَرَجا الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... حرما بحارم والمصاد مصاد)
(ضجت ثعالبه فأخرس جرسها ... بيض تناسب فِي الْحَدِيد حداد)
(وسواعد ضربت بِهن وبالقنا ... من دون مِلَّة أَحْمد الأسداد)
(يركزن فِي حلب وَمن أفنانها ... تجني فواكه أمنها بَغْدَاد)
(يَا من إِذا عصفت زعازع بأسه ... خمدت جحيم الشّرك فَهِيَ رماد)
(عجبا لقوم حاولوك وحاولوا ... عودا فواتاهم إِلَيْهِ مُرَاد)
(وَرَأَوا لِوَاء النَّصْر فَوْقك خافقا ... فَأَقَامَ مِنْهُم فِي الضلوع فؤاد)(1/324)
(من مُنكر أَن ينسف السَّيْل الزبى ... وَأَبوهُ ذَاك الْعَارِض المداد)
(أَو أَن يُعِيد الشَّمْس كاسفة السنا ... نَار لَهَا ذَاك الشهَاب زناد)
(لَا ينفع الْآبَاء مَا سمكوا من العلياء ... حَتَّى ترفع الْأَوْلَاد)
(ملك يُقيد خَوفه ورجاؤه ... ولقلما تتضافر الأضداد)
وَقَالَ يهنئه بالنصر يَوْم حارم قصيدة أَولهَا
(لملكك مَا نشَاء من الدَّوَام ... )
يَقُول فِيهَا
(حظيت من الْمَعَالِي بالمعاني ... ولاذ النَّاس بعْدك بالأسامي)
(عَزِيز المنتمى عالي المراقي ... بعيد المرتمى غالى المسامي)
(فَمَا أحد إِلَى العلياء يدلى ... بمحتدك القسيمى القسامى)
(أَبوك المعتلى قمم الأعادي ... إِذا استعرت مذامرة القمام)
(زكا عرق الْعرَاق وَقد تكنى ... بِهِ وَأطَال من شمم الشآم)
(وَجدك جد حَتَّى قَالَ قوم ... على الْفلك ابتنى عمد الْخيام)
(فخرت ففت آبَاء عظاما ... إِذا فَخر المنافر بالعظام)
(وقفنا والنواظر مسجدات ... وروح الْعِزّ دَاري الختام)
(أساطر كالزبور مفصلات ... كَانَا من صَلَاة فِي نظام)
(لَدَى ملك سجاياه سِجَال ... تعاقب بَين عَفْو وانتقام)(1/325)
(فأهللنا لسالفتي هِلَال ... وكفرنا لضاحكتي حسام)
(ذهلنا والسماط يخال سمطا ... وَقد سجد المقاول للسلام)
(هَل الدَّست اسْتَقل بليث غَابَ ... أم الْفلك ارتدى بدر التَّمام)
(كريم أكثرت يَده أيادي العفاة ... وقللت عدد الْكِرَام)
(وَخير سَمَاعه ضرب مدام ... إِذا طرب الْمُلُوك إِلَى المُدام)
(تطير بِهِ إِلَى العلياء نفس ... غرُوب عَن ملاءمة الملام)
(سقِِي الله العوامل من جبال ... شققْنَ النَّقْع عَن نقع الأوام)
(فكم أنتجت من أمل عقيم ... بهَا وحسمت من دَاء عقام)
(بإنب والرعال كَأَن ثولا ... تطاوح تَحت عير من إيام)
(وأيدي الْخَيل تذرع لج بَحر ... من الدَّم مُزْبِد الثَّجَّيْن طامى)
(مقَام كنت قطب رحاه ارجي ... مقَام بَين زَمْزَم وَالْمقَام)
(أحلّت الدّين فِيهِ وَكَانَ هما ... عَزِيز الْقَوْم معتدل القوام)
(رميتهم بأرعن مرجحن ... أبارهم وَكنت أبر رامي)
(وَفِي شجراء حارم شاجرتهم ... سواهُم كالسهام بكالسهام)
(نَظَائِر حممت لَهُم حَماما ... تطاير تَحْتَهُ مثل الْحمام)
(فَلَو قد مثل الْإِسْلَام شخصا ... لرشف مَا وطِئت من السَّلَام)
(حماه وَقد تناعس كل رَاع ... وَقَامَ وَقد تقاعس كل حام)
(فأكذب مدعين هفوا وغروا ... بِأَن الأَرْض تَخْلُو من إِمَام)(1/326)
(أولي الْأَبْصَار كم هَذَا التعاشي ... عَن النُّور الْمُبين بل التعامي)
(عَن الْقَمَر الَّذِي يجلوه ظلّ العواصم ... فِي ضيا اللَّيْل التهامي)
(هُوَ الْمهْدي لَا من ضل فِيهِ ... كثير واستخف سوى هِشَام)
(وقائم عصرنا لَا مَا تمنى ... بِهِ من صوغ أضغاث الْمَنَام)
(بِنور الدّين انشر كل حق ... أطيل ثواؤه تَحت الرجام)
(وطالت قبَّة الْإِسْلَام حَتَّى اسْتَوَت ... بَين الفوارس والنعام)
(تطابق لاسمه لفظ وَمعنى ... أحلاه الطباق على الْأَنَام)
(جرى قدامه ابْن سبكتكين ... وَقبل الوبل هينمة الرهام)
(وَكَانَ من النُّجُوم بِحَيْثُ تومى ... إِلَيْهِ من غيابات التكامي)
(وَجئْت فَصَارَ أشمخ مَا بناه ... لما شيدت الطأ من رغام)
(أطاعك إِذْ أَطَعْت الله جد ... ركبت بِهِ الزَّمَان بِلَا زِمَام)
(أَلا يَا رُبمَا اتّفق الْأَسَامِي ... وفاضل بَينهَا درج التسامي)
(جنى شرفا من استغواه حتف ... إِلَيْك وَكم حَيَاة من حمام)
(ترشفك الكماة وَأَنت موت ... كَأَنَّك من طعان فِي طَعَام)(1/327)
فصل
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة حلب فِي بعض عسكره فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر عِنْد انْتِهَاء خبر الفرنج إِلَيْهِ بعيثهم فِي أَعمال حلب وإفسادهم وصادفه فِي طَرِيقه المبشر بظفر عسكره الْحلَبِي بالإفرنج المفسدين على حارم وَقتل جمَاعَة مِنْهُم وأسرهم وَوصل مَعَ المبشر عدَّة وافرة من رُؤُوس الإفرنج الْمَذْكُورين وطيف بهَا فِي دمشق
قَالَ وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق فِي رَمَضَان سالما بعد تَهْذِيب حلب وأعمالها وتفقد أحوالها واستقرت الْمُوَادَعَة بَينه وَبَين ولد السُّلْطَان مَسْعُود صَاحب قونية وَزَالَ مَا كَانَ حدث بَينهمَا
وَفِي شَوَّال تقررت الْمُوَادَعَة والمهادنة بَينه وَبَين ملك الإفرنج مُدَّة سنة كَامِلَة أَولهَا شعْبَان وَأَن المقاطعة المحمولة إِلَيْهِم من دمشق ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار صورية وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأيمان والمواثيق الْمُشَدّدَة
قَالَ وَفِي الْعشْر الْأَخير من ذِي الْحجَّة غدر الإفرنج وَنَقَضُوا مَا كَانَ اسْتَقر من الْمُوَادَعَة والمهادنة بِحكم وُصُول عدَّة وافرة من الفرنج فِي الْبَحْر(1/328)
وَقُوَّة شوكتهم بهم ونهضوا إِلَى نَاحيَة الشُّعَرَاء الْمُجَاورَة لبانياس وَقد اجْتمع فِيهَا من جشارات خُيُول العسكرية والرعية وعوامل فلاحي الضّيَاع ومواشي الجلابين وَالْعرب والفلاحين الشَّيْء الْكثير الَّذِي لَا يُحْصى فيذكر للْحَاجة إِلَى الرَّعْي بهَا والسكون إِلَى الْهُدْنَة المستقرة وَوَقع للمندوبين بحفظها تَقْصِير فانتهزوا الفرصة وَاسْتَاقُوا جَمِيع مَا وجدوه وأفقروا أَهله مِنْهُ مَعَ من أسروه من تركمان وَغَيرهم وعادوا ظافرين غَانِمِينَ آثمين
وَالله عَادل فِي حكمه يتَوَلَّى الْمُكَافَأَة لَهُم والإدالة مِنْهُم
وَقد فعل سُبْحَانَهُ ذَلِك على مَا سَيَأْتِي فِي حوادث السّنة الْآتِيَة
قلت وَفِي هَذِه السّنة توفّي القَاضِي أَبُو الْفَتْح مَحْمُود بن إِسْمَاعِيل بن قادوس كَاتب الْإِنْشَاء بالحضرة المصرية وَأَصله من دمياط ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = الخريدة = وَأثْنى عَلَيْهِ
وَمن شعره فِي رجل كَانَ يكثر التَّكْبِير فِي أول الصَّلَاة
(وفاتر النِّيَّة عنينها ... مَعَ كَثْرَة الرعدة والهزه)
(مكبر سبعين فِي مرّة ... كَأَنَّهُ صلى على حمزه)(1/329)
وَله فِي صفة كتاب
(مداده فِي الطرس لما بدا ... قبله الصب وَمن يزهد)
(كَأَنَّمَا قد حل فِيهِ اللّمى ... أَو ذاب فِيهِ الْحجر الْأسود)
وَبَلغنِي أَن القَاضِي الْفَاضِل كَانَ يعظمه كثيرا ويسميه ذَا البلاغتين وَهُوَ أحد من اشْتغل الْفَاضِل عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يتَمَكَّن من اقتباس فَوَائده غَالِبا إِلَّا فِي ركُوبه من الْقصر إِلَى منزله بِمصْر وَمن منزله إِلَى الْقصر فيسايره الْفَاضِل ويجاريه فِي فنون الْكِتَابَة وَالْأَدب وَالشعر
قَالَ وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث من ربيع الأول من السّنة توفى الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْبَيَان نبا بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الحوراني وَكَانَ حسن الطَّرِيقَة مذ نَشأ صَبيا إِلَى أَن قضى متدينا تقيا عفيفا سخيا محبا للْعلم وَالْأَدب والمطالعة للغة الْعَرَب
وَكَانَ لَهُ عِنْد خُرُوج سَرِيره لقبره فِي مَقَابِر بَاب الصَّغِير الْمُجَاورَة لقبور الصَّحَابَة من الشُّهَدَاء رَضِي الله عَنْهُم يَوْم مشهود من كَثْرَة المتأسفين لَهُ والمثنين عَلَيْهِ
قلت وَفِي هَذِه السّنة وَالَّتِي بعْدهَا كثرت الزلازل بِالشَّام
قَالَ أَبُو يعلى فِي لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان وافت زَلْزَلَة(1/330)
هائلة وَجَاءَت قبلهَا وَبعدهَا مثلهَا فِي النَّهَار وَفِي اللَّيْل ثمَّ جَاءَ بعد ذَلِك ثَلَاث دونهن بِحَيْثُ أحصين سِتّ مَرَّات
وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ جَاءَت زَلْزَلَة ارتاع النَّاس مِنْهَا فِي أول النَّهَار وَآخره وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب وحماة بانهدام مَوَاضِع كَثِيرَة وانهدام برج من أبراج أفامية بِهَذِهِ الزلازل المباركه
وَذكر أَن الَّذِي أحصى عدده مِنْهَا تَقْدِير الْأَرْبَعين وَمَا عرف مثل ذَلِك فِي السنين الْمَاضِيَة والأعصار الخلية
وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر بِعَيْنِه وافت زَلْزَلَة آخر النَّهَار وبالليل ثَانِيَة فِي آخِره وَفِي أول شهر رَمَضَان زَلْزَلَة مروعة وثانية وثالثة وَفِي ثَالِث رَمَضَان ثَلَاث زلازل وَأُخْرَى وَقت الظّهْر وَأُخْرَى هائلة أيقظت النيام وروعت الْقُلُوب انتصاف اللَّيْل
وَفِي لَيْلَة نصف رَمَضَان زَلْزَلَة هائلة أعظم مِمَّا سبق وَعند الصَّباح أُخْرَى وَفِي اللَّيْلَة الَّتِي تَلِيهَا زلزلتان أَولهَا وَآخِرهَا وَفِي الْيَوْم الَّذِي بعد يَوْمهَا وَفِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين زَلْزَلَة مزعجة
وَفِي ثَانِي شَوَّال زَلْزَلَة أعظم مِمَّا تقدم وَفِي سابعه وسادس عشره وَفِي الْيَوْم الَّذِي جَاءَ بعده أَربع زلازل وَلَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين مِنْهُ
وَدفع الله تَعَالَى عَن دمشق وضواحيها مَا خَافَ أَهلهَا من توالي ذَلِك وتتابعه برأفته بهم وَرَحمته لَهُم فَلهُ الْحَمد وَالشُّكْر
لَكِن وَردت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب بِكَثْرَة ذَلِك فِيهَا وانهدام مساكنها
وَأما شيزر فَإِن الْكثير من مساكنها انْهَدم على سكانه بِحَيْثُ قتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير
وَأما كفر طَابَ فهرب أَهلهَا مِنْهَا خوفًا على(1/331)
أَرْوَاحهم
وَأما حماة فَكَانَت كَذَلِك
وَأما بَاقِي الْأَعْمَال الشامية فَمَا عرف مَا حدث فِيهَا من هَذِه الْقُدْرَة الباهرة
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخمْس مئة
فَفِي لَيْلَة تَاسِع عشر صفر وافت زَلْزَلَة عَظِيمَة وتلاها أُخْرَى وَكَذَا فِي لَيْلَة الْعشْرين وَالْيَوْم بعْدهَا وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بعظيم تَأْثِير هَذِه الزلازل
وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وافت أَربع زلازل وضج النَّاس بالتهليل وَالتَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس وَفِي لَيْلَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وافت زلزلتان
وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بِأَن هَذِه الزلازل أثرت فِي حلب تَأْثِيرا أزعج أَهلهَا وأقلقهم وَكَذَا فِي حمص وهدمت مَوَاضِع فِيهَا وَفِي حماة وَكفر طَابَ وأفامية وهدمت مَا كَانَ بني من مهدوم الزلازل الأول وَحكي أَن تيماء أثرت فِيهَا هَذِه الزلازل تَأْثِيرا مهولا
وَفِي رَابِع رَجَب نَهَارا وافت بِدِمَشْق زَلْزَلَة عَظِيمَة لم ير مثلهَا فِيمَا تقدم ودامت رجفاتها حَتَّى خَافَ النَّاس على أنفسهم ومنازلهم وهربوا من الدّور والحوانيت والسقائف وانزعجوا وأثرت فِي مَوَاضِع كَثِيرَة ورمت من فص الْجَامِع الشَّيْء الْكثير الَّذِي يعجز عَن إِعَادَة مثله ثمَّ وافت عقيبها زَلْزَلَة فِي الْحَال ثمَّ سكنتا بقدرة من حركهما
ثمَّ تبع ذَلِك فِي أول لَيْلَة الْيَوْم(1/332)
الْمَذْكُور زَلْزَلَة وَفِي وَسطه زَلْزَلَة وَفِي آخِره زَلْزَلَة وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن رَجَب زَلْزَلَة مهولة أزعجت النَّاس وتلاها فِي النّصْف مِنْهَا ثَانِيَة وَعند انبلاج الصُّبْح ثَالِثَة وَكَذَلِكَ فِي لَيْلَة السبت وَلَيْلَة الْأَحَد وَلَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَتَتَابَعَتْ بعد ذَلِك بِمَا يطول بِهِ الشَّرْح
ووردت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بِمَا يسوء سَمَاعه ويرعب النُّفُوس ذكره بِحَيْثُ انْهَدَمت حماة وقلعتها وَسَائِر دورها ومنازلها على أَهلهَا من الشُّيُوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير بِحَيْثُ لم يسلم مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل الْيَسِير
وَأما شيزر فَإِن ربضها سلم إِلَّا مَا كَانَ خرب أَولا وَأما حصنها الْمَشْهُور فَإِنَّهُ انْهَدم على واليها تَاج الدولة بن أبي العساكر بن منقذ وَمن تبعه إِلَّا الْيَسِير مِمَّن كَانَ خَارِجا
وَأما حمص فَإِن أَهلهَا كَانُوا قد اخْتلفُوا مِنْهَا إِلَى ظَاهرهَا فَسَلمُوا وَتَلفت مساكنهم وَتَلفت قلعتها
وَأما حلب فهدمت بعض دورها وَخرج أَهلهَا مِنْهَا إِلَى ظَاهر الْبَلَد وَكفر طَابَ وأفامية وَمَا والاها ودنا مِنْهَا وَبعد عَنْهَا من الْحُصُون والمعاقل إِلَى جبلة وجبيل فأثرت بهَا الْآثَار المستبشعة وأتلفت سلمية وَمَا اتَّصل بهَا إِلَى نَاحيَة الرحبة وَمَا جاورها وَلَو لم يدْرك الْعباد والبلاد رَحْمَة الله تَعَالَى ولطفه ورأفته لَكَانَ الْخطب أفظع
وَقد نظم فِي ذَلِك من قَالَ
(روعتنا زلازل حادثات ... بِقَضَاء قضاهُ رب السَّمَاء)
(هدمت حصن شيزر وحماة ... أهلكت أَهله بِسوء الْقَضَاء)
(وبلادا كَثِيرَة وحصونا ... وثغورا موثقات الْبناء)
(فَإِذا مَا رنت عُيُون إِلَيْهَا ... أجرت الدمع عِنْدهَا بالدماء)(1/333)
(وَإِذا مَا قضى من الله أَمر ... سَابق فِي عباده بالمضاء)
(حَار قلب اللبيب فِيهِ وَمن كَانَ ... لَهُ فطنة وَحسن ذكاء)
(وتراه مسبحا باكي الْعين ... مروعا من سخطَة وبلاء)
(جلّ رَبِّي فِي ملكه وَتَعَالَى ... عَن مقَال الْجُهَّال والسفهاء)
قَالَ وَأما أهل دمشق فَلَمَّا وافتهم الزلزلة فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب ارتاع النَّاس من هولها وأجفلوا من مَنَازِلهمْ والمسقف إِلَى الْجَامِع والأماكن الخالية من الْبُنيان خوفًا على أنفسهم ووافت بعد ذَلِك أُخْرَى فَفتح الْبَلَد وَخرج النَّاس إِلَى ظَاهره والبساتين والصحراء وَأَقَامُوا عدَّة لَيَال وَأَيَّام على الْخَوْف والجزع يسبحون ويهللون ويرغبون إِلَى خالقهم ورازقهم فِي اللطف بهم وَالْعَفو عَنْهُم
قَالَ وَفِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وافت دمشق زَلْزَلَة روعت النَّاس وأزعجتهم لما وَقع فِي نُفُوسهم مِمَّا قد جرى على بِلَاد الشَّام من تتَابع الزلازل فِيهَا
ووافت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب بَان هَذِه الزلزلة جَاءَت فِيهَا هائلة فقلقلت من دورها وجدرانها الْعدَد الْكثير وَأَنَّهَا كَانَت بحماة أعظم مِمَّا كَانَت فِي غَيرهَا وَأَنَّهَا هدمت مَا كَانَ عمر فِيهَا من بيُوت يلتجأ إِلَيْهَا وَأَنَّهَا دَامَت فِيهَا أَيَّامًا كَثِيرَة فِي كل يَوْم عدَّة وافرة من الرجفات الهائله يتبعهَا صيحات مختلفات توفى على أصوات الرعود القاصفة المزعجة فسبحان من لَهُ الحكم وَالْأَمر
وتلا ذَلِك ردفات مُتَوَالِيَة أخف من غَيْرهنَّ
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة السبت الْعَاشِر من شَوَّال وافت زَلْزَلَة هائلة بعد صَلَاة عشَاء الْآخِرَة أزعجت وأقلقت وتلاها فِي إثْرهَا هزة خَفِيفَة
وَكَذَا لَيْلَة الْعَاشِر من ذِي الْقعدَة وَفِي غدها(1/334)
زلازل وَلَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين وَالْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ أَيْضا زلازل نفر النَّاس من هولها إِلَى الْجَامِع والأماكن المنكشفة وضجوا بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَالتَّسْبِيح وَالدُّعَاء والتضرع إِلَى الله تَعَالَى
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة انسلاخ ذِي الْقعدَة وافت زَلْزَلَة رجفت لَهَا الأَرْض وانزعج لَهَا النَّاس
قَالَ ابْن الْأَثِير فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين كَانَ بِالشَّام زَلْزَلَة شَدِيدَة ذَات رجفات عَظِيمَة متتابعة أخربت الْبِلَاد وأهلكت الْعباد وَكَانَ أَشدّهَا بِمَدِينَة حماة وحصن شيزر فَإِنَّهُمَا خربا بِمرَّة وَكَذَا مَا جاورهما كحصن بارين والمعرة وَغَيرهمَا من الْبِلَاد والقرايا
وَهلك تَحت الْهدم من الْخلق مَالا يُحْصِيه إِلَّا الله تَعَالَى وتهدمت الأسوار والدور والقلاع وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى من على الْمُسلمين بِنور الدّين جمع العساكر وَحفظ الْبِلَاد وَإِلَّا كَانَ دَخلهَا الفرنج بِغَيْر حِصَار وَلَا قتال
قَالَ وَلَقَد بَلغنِي من كَثْرَة الهلكى أَن بعض المعلمين بحماة ذكر أَنه فَارق الْمكتب لمهم فَجَاءَت الزلزلة فأخربت الدّور وَسقط الْمكتب على الصّبيان جَمِيعهم قَالَ الْمعلم فَلم يَأْتِ أحد يسْأَل عَن صبي كَانَ لَهُ فِي الْمكتب
قلت وقرأت فِي ديوَان الْأَمِير الْفَاضِل مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن منقذ وَقَالَ فِي الزلازل الَّتِي أهلكت كثيرا من أهل الشَّام وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي شهر الله رَجَب سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة وَهلك بهَا من هلك من الْخلق فَكَانَ نَحوا من عشرَة آلَاف نسمَة قَالَ وَكتب هَذَا الْمَكْتُوب والزلازل إِلَى الْآن تتعاهد الْبِلَاد(1/335)
(نمنا عَن الْمَوْت والمعاد وأصبحنا ... نظن الْيَقِين احلاما)
(فحركتنا هذى الزلازل أَي ... تيقظوا كم ينَام من نَامَا)
وَقَالَ أَيْضا
(أَيهَا الغافلون عَن سكرة الْمَوْت ... وَإِذ لَا يسوغ فِي الْحلق ريق)
(كم إِلَى كم هَذَا التشاغل والغفلة ... حَار الساري وضل الطَّرِيق)
(إِنَّمَا هزت الزلازل هذي الأَرْض بالغافلين كي يستفيقوا)
وَقَالَ فِي الزلازل أَيْضا وَقد سكن النَّاس بعد الدّور والنزهة فِي أكواخ عملوها بالأخشاب لِئَلَّا تهدها الزلازل
(يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ ارْحَمْ عِبَادك من ... هذى الزلازل فَهِيَ الهلك والعطب)
(ماجت بهم أَرضهم حَتَّى كَأَنَّهُمْ ... ركاب بَحر مَعَ الأنفاس تضطرب)
(فنصفهم هَلَكُوا فِيهَا ونصفهم ... لمصرع السّلف الماضين يرتقب)
(تعوضوا من مشيدات الْمنَازل بالأكواخ ... فَهِيَ قُبُور سقفها خشب)
(كَأَنَّهَا سفن قد أَقبلت وهم ... فِيهَا فَلَا ملْجأ مِنْهَا وَلَا هرب)
وَقَالَ يرثى أَهله الَّذين هَلَكُوا بالزلازل بحصن شيزر قصيدة مِنْهَا
(مَا استدرج الْمَوْت قومِي فِي هلاكهم ... وَلَا تخرمهم مثنى ووحدانا)
(فَكنت أَصْبِر عَنْهُم صَبر محتسب ... وأحمل الْخطب فيهم عز أَو هانا)(1/336)
(وأقتدي بالورى قبلي فكم فقدوا ... أَخا وَكم فارقوا أَهلا وجيرانا)
(لَكِن سقب المنايا وسط جمعهم ... رغا فَخَروا على الأذقان إذعانا)
(وفاجأتهم من الْأَيَّام قَارِعَة ... سقتهم بكؤوس الْمَوْت ذيفانا)
(مَاتُوا جَمِيعًا كرجع الطّرف وانقرضوا ... هَل مَا ترى تَارِك للعين إنْسَانا)
(أعزز عَليّ بهم من معشر صَبر ... على الحفيظة إِن ذُو لوثة لانا)
(لم يتْرك الدَّهْر لي من عبد فقدهم ... قلبا أجشمه صبرا وسلوانا)
(فَلَو رأوني لقالوا مَاتَ أسعدنا ... وعاش للهم وَالْأَحْزَان أشقانا)
(لم يتْرك الْمَوْت مِنْهُم من يُخْبِرنِي ... عَنْهُم فيوضح مَا قَالُوهُ تبيانا)
(بادوا جَمِيعًا وَمَا شادوا فوا عجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا)
(هذى قصورهم أمست قُبُورهم ... كَذَاك كَانُوا بهَا من قبل سكانا)
(وَيْح الزلازل افنت معشري فَإِذا ... ذكرتهم خلتني فِي الْقَوْم سكرانا)
(لَا ألتقي الدَّهْر من بعد الزلازل مَا ... حييت إِلَّا كسير الْقلب حيرانا)
(أخنت على معشري الأدنين فاصطلمت ... مِنْهُم كهولا وشبانا وولدانا)
(لم يحمهم حصنهمْ مِنْهَا وَلَا رهبت ... بَأْسا تناذره الأقران أزمانا)
(إِن أقفرت شيزر مِنْهُم فهم جعلُوا ... منيع أسوارها بيضًا وخرصانا)
(هم حموها فَلَو شاهدتها وهم ... بهَا لشاهدت آسادا وخفانا)
(تراهم فِي الوغى أسدا وَيَوْم ندى ... غيثا مغيثا وَفِي الظلماء رهبانا)
(بَنو أبي وَبَنُو عمي دمي دمهم ... وَإِن أروني مناواة وشنآنا)(1/337)
(يطيب النَّفس عَنْهُم أَنهم رحلوا ... وخلفوني على الْآثَار عجلانا)
وَكتب إِلَيْهِ الصَّالح بن رزيك قصيدة يعزيه عَن أَهله مِنْهَا
(بَابي شخصك الَّذِي لَا يغيب ... عَن عياني فَهُوَ الْبعيد الْقَرِيب)
(يَا أخلاى بالشآم لَئِن غبتم ... فشوقي إِلَيْكُم لَا يغيب)
(غصبتنا الْأَيَّام قربكم منا ... وَلَا بُد أَن ترد الغصوب)
(كره الشَّام أَهله فَهُوَ محقوق ... بألا يُقيم فِيهِ لَبِيب)
(إِن تجلت عَنهُ الحروب قَلِيلا ... خلفتها زلازل وخطوب)
(رقصت أرضه عَشِيَّة غنى الرَّعْد ... فِي الجو والكريم طروب)
(وتثنت حيطانه إِذْ أمالتها ... شمال بزمرها وجنوب)
(لَا هبوب لنائم من أمانيه ... وللعاصفات فِيهَا هبوب)
(وَأرى الْبَرْق شامتا ضَاحِك السن ... وللجو بالغمام قطوب)
(ذكرُوا أَنه تذوب بِهِ السحب ... فَمَا للصخور أَيْضا تذوب)
(أبذنب أَصَابَهَا قدر الله ... فللأرض كالأنام ذنُوب)
(إِن ظَنِّي وَالظَّن مثل سِهَام الرَّمْي ... مِنْهَا المخطي وَمِنْهَا الْمُصِيب)
(إِن هَذَا لِأَن غَدَتْ ساحة الْقُدس ... وَمَا لِلْإِسْلَامِ فِيهَا نصيب)
(منزل الْوَحْي قبل بعث رَسُول الله ... فَهُوَ المحجوج والمحجوب)
(نزلت وَسطه الْخَنَازِير وَالْخمر ... وبارى الناقوس فِيهِ الصَّلِيب)
(لَو رَآهُ الْمَسِيح لم يرض فعلا ... ذكرُوا أَنه لَهُ مَنْسُوب)
(ابعد النَّاس عَن عبَادَة رب النَّاس ... قوم إلههم مصلوب)(1/338)
(لهف نَفسِي على ديار من السكان ... أقوت فَلَيْسَ فِيهَا عريب)
(فاحتسب مَا اصاب قَوْمك مجد الدّين ... واصبر فالحادثات ضروب)
(إِن تخصصكم نَوَائِب مَا زَالَت ... لكم دون من سواكم تنوب)
(فكذاك الْقَنَاة يكسر يَوْم الروع ... مِنْهَا صدر وَتبقى الكعوب)
وقرأت فِي = ديوَان العرقلة = كَانَ الْمولى صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب مَعَ عبيد غُلَام الْمولى وَكَانَ عبيد هَذَا مَوْصُوفا بالثقل فِي بَيت بِمَدِينَة حماة يَوْم الزلزلة فَوَقَعت الْمَدِينَة بأسرها سوى ذَلِك الْبَيْت الَّذِي هما فِيهِ
فَقَالَ العرقلة
(قل لصلاح الدّين رب الندى ... بلغ عبيدا كل مَا أمله)
(بثقله لما تصاحبتما ... سلمك الله من الزلزله)
وقرأت فِي بعض كتب أَبى الْحُسَيْن الرَّازِيّ عَن شُيُوخه أَنه وَقع بِدِمَشْق فِي ذِي الْقعدَة سنه خمس وَأَرْبَعين ومئتين زلازل عَظِيمَة حُكيَ عَنْهَا نَحْو مِمَّا مضى ذكره وَأكْثر نسْأَل الله تَمام الْعَافِيَة(1/339)
فصل
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي ثَالِث عشر ربيع الأول توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة بعلبك لتفقد أحوالها وَتَقْرِير أَمر المستحفظين لَهَا وتواصلت الْأَخْبَار إِلَيْهِ من نَاحيَة حمص وحماة بإغارة الفرنج الملاعين على تِلْكَ الْأَعْمَال
وَفِي خَامِس عشر ربيع الأول ورد المبشر من الْعَسْكَر الْمَنْصُور بِرَأْس المَاء بِأَن نصْرَة الدّين أَمِير أميران لما انْتهى إِلَيْهِ خبر الفرنج أَنهم قد أنهضوا سَرِيَّة وافرة الْعدَد إِلَى نَاحيَة بانياس لتقويتها أسْرع النهضة إِلَيْهِم وعدتهم سبع مئة فَارس سوى الرجالة فأدركهم قبل الْوُصُول إِلَى بانياس وَقد خرج إِلَيْهِم من كَانَ فِيهَا من حماتها فأوقع بهم وَقد كَانَ كمن لَهُم فِي مَوَاضِع كمناء من شجعان الأتراك واندفع الْمُسلمُونَ بَين أَيْديهم فِي أول المجال وَظهر عَلَيْهِم الكمناء فَأنْزل الله نَصره على الْمُسلمين بِحَيْثُ لم ينج مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وصاروا بأجمعهم بَين قَتِيل وجريح ومسلوب وأسير وَحصل فِي أَيدي الْمُسلمين من خيولهم وسلاحهم وَأَمْوَالهمْ وأسراهم ورؤوس قتلاهم مَا لَا يحد كَثْرَة ومحقت السيوف عَامَّة رجالتهم من الإفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إِلَيْهِم ووصلت الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وَالْعدَد إِلَى دمشق وطيف بهم وَقد اجْتمع لمشاهدتهم الْخلق وَكَانَ يَوْمًا مشهودا
وأنفذ إِلَى نور الدّين إِلَى بعلبك جمَاعَة من أسرى الْمُشْركين فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم صبرا(1/340)
قَالَ وَتبع هَذَا الْفَتْح وُرُود الْبُشْرَى الثَّانِيَة من أَسد الدّين باجتماع الْعدَد الْكثير إِلَيْهِ من شجعان التركمان وَأَنه قد ظفر من الْمُشْركين بسريه وافرة ظَهرت فِي معاقلهم من نَاحيَة الشمَال فانهزمت وتخطف التركمان مِنْهُم من ظفروا بِهِ
قَالَ وَوصل أَسد الدّين إِلَى بعلبك فِي الْعَسْكَر من مقدمي التركمان وأبطالهم للْجِهَاد وهم فِي الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير واجتمعوا بِنور الدّين وتقررت الْحَال على قصد بِلَاد الْمُشْركين لتدويخها والابتداء بالنزول على بانياس وَقدم نور الدّين دمشق فِي إِخْرَاج آلَات الْحَرْب وتجهيزها إِلَى الْعَسْكَر بِحَيْثُ يُقيم أَيَّامًا يسيرَة وَيتَوَجَّهُ
وَأمر بالنداء بِدِمَشْق فِي الْغُزَاة والمجاهدين فَتَبِعَهُ من الْأَحْدَاث والمطوعة وَالْفُقَهَاء والصوفية والمتدينين خلق كثير وَخرج يَوْم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول
وَفِي سَابِع ربيع الآخر عقيب نزُول نور الدّين على بانياس ومضايقته لَهَا بالمنجنيقات وَالْحَرب سقط بِدِمَشْق الطَّائِر من الْعَسْكَر الْمَنْصُور بِظَاهِر بانياس يتَضَمَّن كِتَابه الْإِعْلَام بورود المبشر من معسكر أَسد الدّين بِنَاحِيَة هونين فِي التركمان وَالْعرب بِأَن الفرنج خذلهم الله تَعَالَى أنهضوا سَرِيَّة من أَعْيَان مقدميهم وأبطالهم تزيد على مئة فَارس سوى أتباعهم لكبس الْمَذْكُورين ظنا مِنْهُم بِأَنَّهُم فِي قل وَلم يعلمُوا انهم فِي أُلُوف فَلَمَّا دنوا مِنْهُم وَثبُوا إِلَيْهِم كالليوث إِلَى فرائسها فأطبقوا عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والأسر(1/341)
وَالسَّلب وَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير ووصلت الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وعددهم من الْخُيُول المنتخبة والطوارق والقنطاريات إِلَى دمشق وطيف بهم فِيهِ يَوْم الِاثْنَيْنِ تالي الْيَوْم الْمَذْكُور
قَالَ وتلا هَذِه الموهبة المتجددة سُقُوط الطَّائِر من المعسكر المحروس ببانياس فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تلو الْمَذْكُور يذكر افْتِتَاح مَدِينَة بانياس بِالسَّيْفِ قهرا على مُضِيّ أَربع سَاعَات من يَوْم الثُّلَاثَاء الْمَذْكُور عِنْد تناهي النقب وَإِطْلَاق النَّار فِيهِ وَسُقُوط البرج المنقوب وهجوم الرِّجَال فِيهِ وبذل السَّيْف فِي قتل من فِيهِ وَنهب مَا حواه وانهزام من سلم إِلَى القلعة وانحصارهم بهَا وَأَن أَخذهم بِمَشِيئَة الله تَعَالَى لَا يبطئ وَالله يسهله ويعجله
قَالَ وَاتفقَ بعد ذَلِك أَن الفرنج تجمعُوا من معَاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صَاحب بانياس وَمن مَعَه من أَصْحَابه المحصورين بقلعة بانياس وَقد أشرفوا على الْهَلَاك وَبَادرُوا وبالغوا فِي السُّؤَال لنُور الدّين الْأمان ويسلمون مَا فِي أَيْديهم من القلعة وَمَا حوته لينجوا سَالِمين فَلم يجبهم إِلَى مَا سَأَلُوا وَرَغبُوا فِيهِ فَلَمَّا وصل ملك الإفرنج فِي جمعه من الْفَارِس والراجل من نَاحيَة الْجَبَل على حِين غفله من العسكرين النَّازِل على بانياس لحصارها والنازل على الطَّرِيق لمنع الْوَاصِل إِلَيْهَا اقْتَضَت السياسة الاندفاع عَنْهَا بِحَيْثُ وصلوا إِلَيْهَا واستخلصوا من كَانَ فِيهَا وَحين(1/342)
شاهدوا مَا عَم بانياس من إخراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها
قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى سَقَطت الأطيار بالكتب من المعسكر النوري تَتَضَمَّن الْإِعْلَام بِأَن الْملك الْعَادِل نور الدّين أعز الله نَصره لما عرف أَن معسكر الْكَفَرَة الإفرنج على الملاحة بَين طبرية وبانياس نَهَضَ فِي عسكره الْمَنْصُور من الأتراك وَالْعرب وجد فِي السّير فَلَمَّا شارفهم وهم غَارونَ وشاهدوا راياته قد أظلتهم بَادرُوا بِلبْس السِّلَاح وَالرُّكُوب وافترقوا أَربع فرق وحملوا على الْمُسلمين فَعِنْدَ ذَلِك ترجل الْملك نور الدّين فترجلت مَعَه الْأَبْطَال وأرهقوهم بِالسِّهَامِ وخرصان الرماح حَتَّى تزلزلت بهم الْأَقْدَام ودهمهم الْبَوَار وَالْحمام فَأنْزل الله تَعَالَى نَصره على الْمُسلمين وتمكنوا من فرسانهم قتلا وأسرا واستأصلت السيوف الرجالة وهم الْعدَد الْكثير فَلم يفلت مِنْهُم غير عشرَة نفر وَقيل إِن ملكهم لَعنه الله فيهم وَقيل إِنَّه فِي جملَة الْقَتْلَى وَلم يعرف لَهُ خبر وَلم يفقد من عَسْكَر الْإِسْلَام سوى رجلَيْنِ أَحدهمَا من الْأَبْطَال الْمَذْكُورين قتل أَرْبَعَة من شجعان الْكَفَرَة وَقتل عِنْد حُضُور أَجله إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَالْآخر غَرِيب لَا يعرف وكل مِنْهُمَا مضى شَهِيدا مثابا مأجورا رحمهمَا الله
وامتلأت أَيدي العساكر من خيولهم وعددهم وكراعهم وأثاث سوادهم وحصلت كنيستهم فِي يَد الْملك نور الدّين بالاتها الْمَشْهُورَة وَكَانَ فتحا مُبينًا ونصرا عَزِيزًا ووصلت(1/343)
الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى إِلَى دمشق يَوْم الْأَحَد تالي يَوْم الْفَتْح وَقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة وفيهَا من جُلُود رؤوسهم بشعرها عدَّة والمقدمون مِنْهُم وولاة المعاقل والأعمال كل وَاحِد مِنْهُم على فرس وَعَلِيهِ الزردية والخوذة وَفِي يَده راية والرجالة كل ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَأَقل وَأكْثر فِي حَبل وَخرج من أهل الْبَلَد الْخلق الَّذِي لَا يُحْصى لَهُم عدد من الشُّيُوخ والشبان وَالنِّسَاء وَالصبيان لمشاهدة مَا منح الله تَعَالَى ذكره كَافَّة الْمُسلمين من هَذَا النَّصْر الْمُبين وَأَكْثرُوا شكر الله تَعَالَى وَالدُّعَاء لنُور الدّين المحامي عَنْهُم والرامي دونهم وَالثنَاء على مكارمه وَالْوَصْف لمحاسنه
ونظم فِي ذَلِك أَبْيَات فِي هَذَا الْمَعْنى
(مَا رَأينَا فِيمَا تقدم يَوْمًا ... كَامِل الْحسن غَايَة فِي الْبَهَاء)
(مثل يَوْم الفرنج حِين علتهم ... ذلة الْأسر والبلا والفناء)
(وبراياتهم على العيس زفوا ... بَين ذل وحسرة وعناء)
(بعد عز لَهُم وهيبة ذكر ... فِي مصَاف الحروب والهيجاء)
(هَكَذَا هَكَذَا هَلَاك الأعادي ... عِنْد شن الإغارة الشعواء)
(شُؤْم أَخذ الجشار كَانَ وبالا ... عمهم فِي صباحهم والمساء)
(نقضوا هدنة الصّلاح بِجَهْل ... بعد تأكيدها بِحسن الْوَفَاء)
(فَلَقوا بغيهم بِمَا كَانَ مِنْهُم ... من فَسَاد بجهلهم واعتداء)(1/344)
(لَا حمى الله شملهم من شتات ... بمواض تفوق حد المضاء)
(فجزاء الكفور قتل واسر ... وَجَزَاء الشكُور خير الْجَزَاء)
(ولرب الْعباد حمد وشكر ... دَائِم مَعَ تواصل النعماء)
قَالَ وَشرع نور الدّين فِي قصد أَعْمَالهم لتملكها وتدويخها وَالله الْمعِين والموفق
وَقَالَ ابْن أبي طي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين أغارت الفرنج على بلد حمص وحماة وافسدوا وَأَكْثرُوا العيث واتصل ذَلِك بِنور الدّين فأنهد إِلَيْهِم عسكرا كثيفا فأوقع بهم وَهَزَمَهُمْ إِلَى أَرض بانياس وَخرج نور الدّين حَتَّى نزل على بانياس وحاصرها أَشد حِصَار حَتَّى افتتحها فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ للفرنج فِيهَا وأنفذ الْغَنِيمَة وَالْأسَارَى مَعَ أَسد الدّين إِلَى دمشق وأنفذ مَعَه مِقْدَار ألف رَأس واتصل ذَلِك بالفرنج فأنهضت إِلَى مُعَارضَة أَسد الدّين قِطْعَة من خيالتها واتصل هَذَا بأسد الدّين وَقد دهمته الفرنج فَلبس لأمته وَتقدم فِي جمَاعَة من مماليكه بَين يَدي الْعَسْكَر وَأمر الرِّجَال بلقاء الفرنج وناجزهم الْحَرْب فَلم يتماسكوا بَين يَدَيْهِ وَرَجَعُوا على أدبارهم وتبعهم مِقْدَار فرسخين يقتل ويأسر وغنم مِنْهُم غنيمَة حَسَنَة وَعَاد إِلَى أَصْحَابه ظافرا وَتوجه فِي وجهته مؤيدا(1/345)
فصل
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي الْعشْر الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة تواصلت الْأَخْبَار بوصول ولد السُّلْطَان مَسْعُود فِي خلق كثير للنزول على أنطاكية وأوجبت الصُّورَة تَقْرِير المهادنة بَين نور الدّين وَملك الإفرنج وتكررت المراسلات بَينهمَا والاقتراحات والمشاجرات بِحَيْثُ فسد الْأَمر وَلم يسْتَقرّ على مصلحَة وَوصل نور الدّين إِلَى مقرّ عزه فِي بعض عسكره وَأقر بَاقِيه ومقدميه مَعَ الْعَرَب بِإِزَاءِ أَعمال الْمُشْركين
قَالَ وَفِي ثَالِث رَجَب توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها وَالنَّظَر فِي حمايتها عِنْدَمَا عاث الْمُشْركُونَ فِيهَا وَقربت عَسَاكِر الْملك ابْن مَسْعُود مِنْهَا
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك قد تقدم من ذكر نور الدّين ونهوضه فِي عساكره من دمشق إِلَى بِلَاد الشَّام عِنْد انْتِهَاء الْخَبَر إِلَيْهِ بتجمع أحزاب الفرنج خذلهم الله تَعَالَى وقصدهم لَهَا وطمعهم فِيهَا بِحكم مَا حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لَهَا وَمَا هدمت من الْحُصُون والقلاع والمنازل فِي أَعمالهَا وثغورها لحمايتها والذب عَنْهَا وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وَكفر طَابَ وحماة وَغَيرهَا بِحَيْثُ اجْتمع إِلَيْهِم الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان وخيم بهم بِإِزَاءِ جمع الفرنج(1/346)
بِالْقربِ من أنطاكية وحصرهم بِحَيْثُ لم يقدر فَارس مِنْهُم على الْإِقْدَام على الْفساد فَلَمَّا مَضَت أَيَّام من شهر رَمَضَان عرض لنُور الدّين ابْتِدَاء مرض حاد فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَخَافَ مِنْهُ على نفسة استدعى أَخَاهُ نصْرَة الدّين أَمِير أميران وَأسد الدّين شيركوه وأعيان الْأُمَرَاء والمقدمين وَأوصى إِلَيْهِم مَا اقْتَضَاهُ رَأْيه واستصوبه وَقرر مَعَهم كَون أَخِيه نصْرَة الدّين الْقَائِم فِي منصبه من بعده والساد لثلمة فَقده لاشتهاره بالشهامة وَشدَّة الْبَأْس وَيكون مُقيما بحلب وَيكون أَسد الدّين فِي دمشق فِي نِيَابَة نصْرَة الدّين واستحلف الْجَمَاعَة على هَذِه الْقَاعِدَة
فَلَمَّا تقررت اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض فَتوجه فِي محفة إِلَى حلب وَحصل فِي قلعتها وَتوجه أَسد الدّين إِلَى دمشق لحفظ أَعمالهَا من فَسَاد الإفرنج
وتواصلت الأراجيف بِنور الدّين فقلقت النُّفُوس وانزعجت الْقُلُوب فتقرقت جموع الْمُسلمين واضطربت الْأَعْمَال وطمع الفرنج فقصدوا مَدِينَة شيزر وهجموها وحصلوا فِيهَا فَقتلُوا واسروا ونهبوا
وَتجمع من عدَّة جِهَات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وَغَيرهم وظهروا عَلَيْهِم فَقتلُوا مِنْهُم وأخرجوهم من شيزر
وَاتفقَ وُصُول نصْرَة الدّين إِلَى حلب فأغلق والى القلعة مجد الدّين فِي وَجهه الْأَبْوَاب وَعصى عَلَيْهِ فثارت أَحْدَاث حلب وَقَالُوا هَذَا صاحبنا وملكنا بعد أَخِيه
فزحفوا فِي السِّلَاح إِلَى بَاب الْبَلَد وكسروا أغلاقه وَدخل نصْرَة الدّين فِي أَصْحَابه وَحصل فِي الْبَلَد وَقَامَت الْأَحْدَاث على وَالِي القلعة باللوم وَالْإِنْكَار والوعيد واقترحوا على نصْرَة الدّين اقتراحات من جُمْلَتهَا إِعَادَة رسمهم فِي التأذين حَيّ على خير الْعَمَل مُحَمَّد وَعلي خَيْرُ الْبشر فأجابهم إِلَى مَا رَغِبُوا فِيهِ وَأحسن القَوْل لَهُم والوعد وَنزل فِي دَاره وأنفذ وَالِي القلعة إِلَيْهِ وَإِلَى الحلبيين يَقُول مَوْلَانَا نور الدّين حَيّ فِي نَفسه وَمَا كَانَ إِلَى مَا فعل حَاجَة
فَقيل الذَّنب فِي ذَلِك للوالي
وَصعد إِلَى القلعة من شَاهد نور الدّين حَيا(1/347)
يفهم مَا يَقُول وَمَا يُقَال لَهُ
فَأنْكر مَا جرى وَقَالَ أَنا أصفح للأحداث عَن هَذَا الخطل وَلَا أؤاخذهم بالزلل وَمَا طلبُوا إِلَّا صَلَاح حَال أخي وَولي عهدي من بعدِي وشاعت الْأَخْبَار وانتشرت البشائر فِي الأقطار بعافيته فأنست الْقُلُوب بعد الاستيحاش وابتهجت النُّفُوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت الْعَافِيَة وصرفت الهمم إِلَى مكاتبات المقدمين بِالْعودِ إِلَى جِهَاد الملاعين
وَكَانَ نصْرَة الدّين قد ولي مَدِينَة حران وَمَا أضيف إِلَيْهَا وَتوجه نَحْوهَا
وَلما تناصرت إلأخبار بالبشائر إِلَى أَسد الدّين بِدِمَشْق بعافية نور الدّين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للْجِهَاد سارع بالنهوض من دمشق إِلَى حلب وَوصل إِلَيْهَا فِي خيله وَاجْتمعَ بِنور الدّين فَأكْرم لقيَاهُ وشكر مسعاه وشرعوا فِي حماية الْأَعْمَال من شَرّ عصب الْكفْر والضلال
قَالَ ونظمت هَذِه الأبيات فِي هَذَا الْمَعْنى
(لقد حسنت صفاتك يَا زماني ... وفزت بِمَا رَجَوْت من الْأَمَانِي)
(فكم أَصبَحت مرتاعا لخوف ... فبدلت المخافة بالأمان)
(وجاءتنا أراجيف بِملك ... عَظِيم الشَّأْن مَسْعُود الزّمان)
(فروعت الْقُلُوب من البرايا ... وَصَارَ شجاعها مثل الجبان)
(وثارت فتْنَة يٌخشى أذاها ... على الْإِسْلَام فِي قاصٍ ودان)
(ووافى بعد ذَاك بشير صدق ... بعافية المليك مَعَ التهاني)
(فولى الْخَوْف منهدم المباني ... وَعَاد الْأَمْن معمور المغاني)
قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة كَانَت الزلزلة الَّتِي هدمت شيزر(1/348)
فَخرج نور الدّين وَأَخذهَا من بني منقذ وَسلمهَا إِلَى مجد الدّين ابْن الداية وَسَار إِلَى سرمين لِأَنَّهُ بلغه حَرَكَة الفرنج فاعترضه هُنَاكَ مرض أشفى مِنْهُ فأحضر شيركوه وأوصاه بالعساكر وَأَن يكون الْأَمر بعده لِأَخِيهِ نصْرَة الدّين أَمِير أميران
فَسَار أَسد الدّين إِلَى دمشق وَأقَام بمرج الصفر خوفًا أَن يَتَحَرَّك الفرنج إِلَى جِهَة دمشق أَو غَيرهَا وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى تعافى نور الدّين فَعَاد إِلَى خدمته مهنئا لَهُ بالعافية
وَكَانَ أَخُوهُ نصْرَة الدّين قد حاصر قلعة حلب فِي مُدَّة مرض نور الدّين فَلَمَّا أَفَاق نور الدّين من مَرضه سيرة إِلَى حران وَجعل ولي عَهده أَخَاهُ قطب الدّين صَاحب الْموصل
قَالَ وَكَانَ مجد الدّين طمع فِي الْملك لنَفسِهِ فتحزم لأَمره وتقرب إِلَى النَّاس وَجعل لَهُ أَصْحَاب أَخْبَار وشحن الطرقات والسبل بِالرِّجَالِ بتفتيش الخارجين من حلب وَغَيرهَا والداخلين إِلَيْهَا
قلت وَلابْن مُنِير تهنئة لنُور الدّين بالعافية من مرض غير هَذَا
(يَا شمس لَا كسف وَلَا تكدار ... وَلَا خلت من نورك الْأَنْوَار)
(الْبَدْر مَنْقُوص وَأَنت كَامِل ... لَك السَّرَايَا وَله السرَار)
(برؤك لِلْإِسْلَامِ من أدوائه ... برْء وَفِي أعدائه بوار)
(مَا أَنْت إِلَّا السَّيْف صد صدأ ... عَن مَتنه مضربه البتار)
(لَو كَانَ مَحْمُولا أَذَى عَن منفس ... لحملته دُونك الْأَبْصَار)
(وَلَو فدت أَرض سَمَاء ساقت الْمُلُوك ... فِي فدائك الْأَمْصَار)
(انت غياث محلهم إِن أجدبوا ... وَخَيرهمْ إِن ذكر الْخِيَار)
(وَفِي سَرِير الْملك مِنْهَا ملك ... لله فِي سرائه أسرار)(1/349)
(خير مُلُوك الأَرْض جدا وَأَبا ... إِن هز عطفي مَا جد نجار)
(مد على الدّين رواق دولة ... تنازعت أسمارها السمار)
(علت بناياه وحلت يَده ... فَهِيَ عَلَيْهِ السُّور والسوار)
(مَحْمُود الْمَحْمُود عصر ملكه ... فللحيا من مزنه اعتصار)
(يَا نور دين أظلمت آفاقه ... لَو لم تبلج هَذِه الْآثَار)
(لله أيامك مَا تخطه ... بالمسك من إسفارها الْأَسْفَار)
(سلمت لِلْإِسْلَامِ ترعى سرحه ... إِذا ونى رعاته وجاروا)
(شَكَوْت فالدنيا على سكانها ... قرارة جَانبهَا الْقَرار)
(كَادَت تَمُوت الأَرْض من إشفاقها ... لَوْلَا شِفَاء ردهَا تمار)
(زرت عَلَيْك التّرْك جيب نسب ... يحسدها بزيه نزار)
(لَا عَدِمت مِنْك الْأَمَانِي رَبهَا ... معطى من الإقبال مَا يخْتَار)
(مَا سمح الدَّهْر بِأَن تبقى لنا ... فَكل جرح مسنا جَبَّار)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(لَا نُؤَدِّي لأنعم الله شكرا ... بك يَا أعظم الْبَريَّة قدرا)
(زور عشر وافى لإقلاع دَاء ... جعلا الْمِنَّة الممناة عشرا)
(ام مغناك ضَامِنا أَن أيامك ... تفني الأحقاب عصرا فعصرا)
(فِي مَحل لَهُ السماكان سمك ... وجدود لَهَا المجرة مجْرى)
(أَيهَا الْعَادِل المظفر لاقصت ... شبا الدَّهْر من شباتك ظفرا)
(جعل الله مَا اسْتهلّ من الْأَشْهر ... ينهل فِي مغازيك نصرا)
(أبدا ينشر التهاني على ساحاتك ... الزهر فِي المواسم نشرا)(1/350)
(أَنْت أسرى الْمُلُوك نفسا وقنسا ... وَإِلَى أسرهم من الطيف أسرى)
(ملك عِنْده المشارب تستمرى ... وأخلاف الْجُود تمرى فتفرى)
(فلك الله من مثمر بذر ... يصطفي صَالحا ويحصد أجرا)
(عش لملك أَصبَحت فِي الدست مِنْهُ ... فَوق كسْرَى عدلا وشعبا وكسرا)
(تفطر الطَّيِّبَات للفطر فطرا ... وتعم الْأَعْدَاء فِي النَّحْر نحرا)
(يقتنى من كساك أنفس ملبوس ... ويقنيك مِنْهُ أطول عمرا)
(أَنْت تملي وَنحن ننظم مَا تنثره ... الغر من مساعيك نثرا)
(صرف الله عَنْك عين زمَان ... بك صَارَت بعد الْإِصَابَة عبرى)
(وتوالت لَك الْفتُوح إِلَى أَن ... تملأ الْخَافِقين نهيا وأمرا)
(كلما أنهجت ملابس نعمى ... وتميلتيهن جددت أُخْرَى)
وَقَالَ القيسراني من قصيدة
(أشرق البهو يَا جبين الْهلَال ... فحلاه لوجهك المتلالي)
(عَن لَيَال حجبن عَنَّا سناها ... إِنَّمَا غيبَة الْهلَال ليَالِي)
(لم يكن مَا ألم بالجسم شكوى ... فتهنا لوافد الإقبال)
(لَا وَلَا كَانَ زَائِرًا من سقام ... إِنَّمَا كَانَ طَائِفًا من خيال)
(وعكة أقلعت وَأَنت صَحِيح ... وَيصِح النسيم بالإعتلال)
(أَو مَا هَذِه السَّمَاء سرار الْبَدْر ... فِيهَا على طَرِيق الْكَمَال)
(نعْمَة الله لَا يخص بهَا الْخَالِق ... إِلَّا من كَانَ مِنْهُ ببال)
(ولباس من المثوبة والغفران ... ألبست ضافي الأذيال)
(فهنيئا لَك الْبَقَاء وَإِن كَانَ ... هناء يخص فِيهِ الْمَعَالِي)(1/351)
(والتقى والندى ومقربة الْخَيل ... وبيض الظبى وَسمر العوالي)
(والخلال الَّتِي إِذا مَا تخلت ... صدرت مِنْك عَن كريم الْخلال)
(إِن وقتك النُّفُوس مَا تتوقى ... فحقيق فدا الموالى الموَالِي)
(أَو تحصنت فِي شعار من التَّقْوَى ... فَمَا زلت مِنْهُ فِي سربال)
(فشفى الله من أجل دوائيه ... صَرِيح الدُّعَاء والإبتهال)
(ملك ابدل المخافة بالأمن ... وأضحى يعد فِي الأبدال)
(وَهُوَ تَاج الْمُلُوك فالملك العاطل ... حَال بِهِ على كل حَال)
(وَإِذا النيرَان غابا فنور الدّين ... شمس فجرية الآصال)
(قد أرت وَجهك الْعلَا مَا يريها ... وَهِي مرْآة صَالح الْأَعْمَال)
(وَقضى الله أَن نجمك فِي الأنجم ... سَام وَأَن جدك عَال)
(كل يَوْم هَذَا الْمحيا محيى ... بالتهاني على يَد الإقبال)
فصل فِي ذكر حصن شيزر وَولَايَة بني منقذ
قَالَ ابْن الْأَثِير وَهُوَ حصن قريب من حماة بَينهمَا نَحْو نصف نَهَار وَهُوَ من أمنع القلاع وأحصنها على حجر عَال لَهُ طَرِيق منقور فِي طرف الْجَبَل وَقد قطع الطَّرِيق فِي وَسطه وَجعل عَلَيْهِ جسر من خشب فَإِذا قطع ذَلِك الْخشب تعذر الصعُود إِلَيْهِ
وَكَانَ لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أَيَّام(1/352)
صَالح بن مرداس إِلَى أَن انْتهى الْأَمر إِلَى الْأَمِير أَبى المرهف نصر بن عَليّ بن الْمُقَلّد بن نصر بن منقذ بن نصر بن هَاشم بعد أَبِيه أَبى الْحسن عَليّ فبقى بِهِ مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن مَاتَ بشيزر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَكَانَ شجاعا كَرِيمًا صواما قواما
فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت اسْتخْلف أَخَاهُ الْأَمِير أَبَا سَلامَة مرشد بن عَليّ وَهُوَ وَالِد أُسَامَة فَقَالَ وَالله لَا وليتها ولأخرجن من الدُّنْيَا كَمَا دَخَلتهَا
وَكَانَ عَالما بِالْقُرْآنِ وَالْأَدب كثير الصّلاح فولاها اخاه أَبَا العساكر سُلْطَان بن عَليّ وَكَانَ أَصْغَر مِنْهُ فاصطحبا أجمل صُحْبَة مُدَّة من الزَّمَان فولد أَبُو سَلامَة مرشد عدَّة أَوْلَاد ذُكُور فكبروا وسادوا مِنْهُم عز الدولة أَبُو الْحسن عَليّ ومؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد وَغَيرهمَا وَلم يُولد لِأَخِيهِ سُلْطَان ولد ذكر إِلَى أَن كبر فَجَاءَهُ أَوْلَاد فحسد أَخَاهُ على ذَلِك فَكَانَ كلما رأى صغر أَوْلَاده وَكبر أَوْلَاد أَخِيه وسيادتهم سَاءَهُ ذَلِك وخافهم على أَوْلَاده وسعى المفسدون بَينهمَا فغيروا كلا مِنْهُمَا على أَخِيه فَكتب الْأَمِير سُلْطَان إِلَى أَخِيه شعرًا يعاتبه على أَشْيَاء بلغته عَنهُ فَأَجَابَهُ بِأَبْيَات جَيِّدَة فِي مَعْنَاهَا وَكلهمْ كَانَ أديبا شَاعِرًا فَمِنْهَا
(ظلوم أَبَت فِي الظُّلم إِلَّا تماديا ... وَفِي الصد والهجران إِلَّا تناهيا)(1/353)
(شكت هجرنا فِي ذَاك والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظَالِم جَاءَ شاكيا)
(وطاوعت الواشين فِي وطالما ... عصيت عذولا فِي هَواهَا وواشيا)
(وَمَال بهَا تيه الْجمال إِلَى القلى ... وهيهات أَن أَمْسَى لَهَا الدَّهْر قاليا)
(وَلَا نَاسِيا مَا أودعت من عهودها ... وَإِن هِيَ أبدت جفوة وتناسيا)
(وَلما أَتَانِي من قريضك جَوْهَر ... جمعت الْمَعَالِي فِيهِ لي والمعانيا)
(وَكنت هجرت الشّعْر حينا لِأَنَّهُ ... تولى برغمى حِين ولى شبابيا)
(وَأَيْنَ من السِّتين لفظ مفوف ... إِذا رمت أدْني القَوْل مِنْهُ عصانيا)
(وَقلت أخي يرْعَى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا)
(ويجزيهم مَا لم أكلفه فعله ... لنَفْسي فقد أعددته من تراثيا)
(فمالك لما أَن حَنى الدَّهْر صعدتي ... وثلم مني صَارِمًا كَانَ مَاضِيا)
(تنكرت حَتَّى صَار بِرٌّك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائيا)
(فَأَصْبَحت صفر الْكَفّ مِمَّا رجوته ... كَذَا الْيَأْس قد عفى سَبِيل رجائيا)
(على أنني مَا حلت عَمَّا عهدته ... وَلَا غيرت هذى السنون وداديا)
(فَلَا غرو عِنْد الحادثات فإنني ... أَرَاك يَمِيني والأنام شماليا)
(تهن بهَا عذراء لَو قرنت بهَا ... نُجُوم السَّمَاء لم تعد دراريا)
(تحلت بدر من صفاتك زانها ... كَمَا زَان منظوم الآلي الغوانيا)
(وعش بانيا للْجُود مَا كَانَ واهنا ... مُشيدا من الْإِحْسَان مَا كَانَ واهيا)(1/354)
قَالَ وَكَانَ الْأَمر فِيهِ فِي حَيَاة الْأَمِير مرشد بعض السّتْر فَلَمَّا مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة قلب أَخُوهُ لأولاده ظهر الْمِجَن وبادأهم بِمَا يسؤوهم وتمادت الْأَيَّام بَينهم إِلَى أَن قوى عَلَيْهِم فَأخْرجهُمْ من شيزر
وَكَانَ أعظم الْأَسْبَاب فِي إخراجهم مَا حدثت بِهِ عَن مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد قَالَ كنت من الشجَاعَة والإقدام على مَا قد علمه النَّاس فَبينا أَنا بشيزر وَإِذا قد أَتَانِي إِنْسَان فَأَخْبرنِي أَن بدجلة يقاربها أسدا ضاريا فركبت فرسي وَأخذت سَيفي وسرت إِلَيْهِ لأقتله وَلم أعلم أحدا من النَّاس لِئَلَّا أمنع من ذَلِك فَلَمَّا قربت من الْأسد نزلت عَن فرسي وربطته ومشيت نَحوه فَلَمَّا رَآنِي قصدني ووثب فضربته بِالسَّيْفِ على رَأسه فانفلق ثمَّ أجهزت عَلَيْهِ وَأخذت رَأسه فِي مخلاة فرسي وعدت إِلَى شيزر وَدخلت على والدتي وألقيت الرَّأْس بَين يَديهَا وحدثتها الْحَال
فَقَالَت يَا بني تجهز لِلْخُرُوجِ من شيزر فوَاللَّه لَا يمكنك عمك من الْمقَام وَلَا أحدا من إخْوَتك وَأَنْتُم على هَذِه الْحَال من الْإِقْدَام والجرأة
فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَمر عمي بإخراجنا من عِنْده والزمنا بِهِ إلزاما لَا مهلة فِيهِ فتفرقنا فِي الْبِلَاد
فقصدوا الْملك الْعَادِل نور الدّين وَشَكوا إِلَيْهِ مَا لقوه من عمهم فَلم يُمكنهُ قَصده وَلَا الْأَخْذ بثأرهم وإعادتهم إِلَى أوطانهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ولخوفه من أَن يسلم شيزر(1/355)
إِلَى الفرنج وَبَقِي فِي نَفسه
وَتُوفِّي الْأَمِير سُلْطَان وَولى بعده أَوْلَاده فَبلغ نور الدّين عَنْهُم مراسلة الفرنج فَاشْتَدَّ مَا فِي نَفسه وَهُوَ ينْتَظر الفرصة فَلَمَّا خربَتْ القلعة بالزلزلة وَلم يسلم مِنْهَا أحد كَانَ بالحصن فبادر إِلَيْهَا وملكها وأضافها إِلَى بِلَاده وعمرها وأسوارها وأعادها كَأَن لم تخرب وَكَذَلِكَ أَيْضا فعل بِمَدِينَة حماة وكل مَا خرب بِالشَّام بِهَذِهِ الزلزلة فَعَادَت الْبِلَاد كأحسن مَا كَانَت
قلت وَسَيَأْتِي ذكر أُسَامَة بن مرشد فِي أَخْبَار سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهِي السّنة الَّتِي قدم فِيهَا دمشق من بِلَاد الشرق وَذَلِكَ أَنه لما خرج من شيزر استوطن دمشق ثمَّ فَارقهَا إِلَى الديار المصرية وَكتب إِلَى معِين الدّين أنر أتابك صَاحب دمشق يعاتبه فِي أَسبَاب الْمُفَارقَة قصيدة أَولهَا
(وَلُوا فَلَمَّا رجونا عدلهم ظلمُوا ... فليتهم حكمُوا فِينَا بِمَا علمُوا)
(مَا مر يَوْمًا بفكري مَا يريبهم ... وَلَا سعت بِي إِلَى مَا ساءهم قدم)
(وَلَا أضعتُ لَهُم عهدا وَلَا اطَّلَعت ... على ودائعهم فِي صَدْرِي التهم)
(فَلَيْت شعري بِمَ استوجبتُ هجرهمُ ... ملوا فصدهم عَن وَصلي السأم)
(حفظت مَا ضيعوا أغضيت حِين جنوا ... وفَيْتُ إِذْ غدروا واصلت إِذْ صرموا)
(حُرِمتُ مَا كنت أَرْجُو من ودادهم ... مَا الرزق إِلَّا الَّذِي تجرى بِهِ الْقسم)
(وَبعد لَو قيل لي مَاذَا تحب وَمَا ... تخْتَار من زِينَة الدُّنيا لَقلت هم)
(لَهُم مجَال الْكرَى من مقلتي وَمن ... قلبِي مَحل المنى جاروا أَو اجترموا)
(تبدّلُوا بِي وَلَا أبغي بهم بَدَلا ... حسبي هم أنصفوا فِي الحكم أَو ظلمُوا)(1/356)
(بلغ أَمِيري معِين الدّين مَالِكه ... من نازح الدَّار لَكِن وده أُمَم)
(وَقل لَهُ أَنْت خير التّرْك فضلك الْحيَاء ... وَالدّين والإقدام وَالْكَرم)
(هلاَّ أنفت حَيَاء أَو مُحَافظَة ... من فعل مَا أنكرته الْعَرَب والعجم)
(أسلمتنا وسيوف الْهِنْد مغمدة ... وَلم يرو سِنَان السمهري دم)
(وَكنت أَحسب من والاك فِي حرم ... لَا يَعْتَرِيه بِهِ شيب وَلَا هرم)
(وَمَا طمان بِأولى من أُسَامَة بِالْوَفَاءِ ... لَكِن جرى بالكائن الْقَلَم)
(هبنا جَنِينا ذنوبا لَا يكفرهَا ... عذر فَمَاذَا جنى الْأَطْفَال وَالْحرم)
(ألقيتهم فِي رضَا الإفرنج مُتبعا ... رضَا عدى يسْخط الرَّحْمَن فعلهم)
(جرّبهمُ مثل تجريبي لتخبرهم ... فللرجال إِذا مَا جربوا قيم)
وَهِي طَوِيلَة وطمان الْمَذْكُور خَادِم تركي كَانَ لأتابك ملك الْأُمَرَاء زنكي بن آق سنقر هرب من خدمته إِلَى دمشق فَطَلَبه ولج فِيهِ فَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ معِين الدّين للجنسية وحماه فَلَمَّا لج فِيهِ سيره إِلَى الْعَرَب وَقَامَ لَهُ بِمَا يَحْتَاجهُ إِلَى أَن رده لخدمته بِدِمَشْق
وَبَقِي أُسَامَة بِمصْر إِلَى أَن خرج مِنْهَا مَعَ عَبَّاس كَمَا سبق ذكره وَأسر الفرنج أَخَاهُ نجم الدولة مُحَمَّد بن مرشد وَطلب من ابْن عَمه نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن سُلْطَان صَاحب شيزر الْإِعَانَة فِي فكاكه فَلم يفعل قَالَ وادخر الله سُبْحَانَهُ أجر خلاصه وَحسن ذكره للْملك الْعَادِل نور الدّين رَحمَه(1/357)
الله تَعَالَى فوهبه فَارِسًا من مقدمي الدّاوية يُقَال لَهُ المشطوب قد بذل الإفرنج فِيهِ عشرَة آلَاف دِينَار فاستخلص بِهِ أَخَاهُ من الْأسر
وَبلغ أُسَامَة أَن القَاضِي كَمَال الدّين ابْن الشهرزوري أنْشد نور الدّين
(ملكُ بنى منقذ تولى ... وَكَانَ فَوق السماك سمكه)
(فاعتبروا وانظروا وَقُولُوا ... سُبْحَانَ من لَا يَزُول ملكه)
وَالْمَعْرُوف ملك بني برمك فَغَيره المنشد لما تمثل بِهِ فِي غَرَضه فأجازهما أُسَامَة بِهَذِهِ الأبيات
(وكل ملك إِلَى زَوَال ... لَا يعتري ذَا الْيَقِين شكه)
(إِن لم يزل بانتقال حَال ... أَزَال ذَا الْملك عَنهُ هلكه)
(وَالله رب الْعباد بَاقٍ ... وهالك نده وشركه)
(فَقل لمن يظلم البرايا ... غَرَّك إمهاله وَتَركه)
(تنسى ذنوبا عَلَيْك تحصى ... يحصرها نَقده وحكه)
(كم ناسك نُسكه رِيَاء ... أوبقَه فِي الْمعَاد نُسكه)
(فاحذر فَمَا يختفي عَلَيْهِ ... من عَبده صدقه وإفكه)
وَمَا أحسن مَا قَالَ أُسَامَة فِي كبره
(مَعَ الثَّمَانِينَ عاث الضعْف فِي جلدي ... وساءني ضعف رجْلي واضطراب يدى)
(إِذا كتبت فخطى جد مُضْطَرب ... كخط مرتعش الْكَفَّيْنِ مرتعد)
(فاعجب لضعف يَدي عَن حملهَا قَلما ... من بعد حطم القنا فِي لبة الْأسد)(1/358)
(وَإِن مشيت وَفِي كفي الْعَصَا ثقلت ... رجْلي كَأَنِّي أخوض الوحل فِي الْجلد)
(فَقل لمن يتَمَنَّى طول مدَّته ... هذي عواقب طول الْعُمر والمدد)
فصل فِي بواقي حوادث سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى تناصرت الْأَخْبَار بِظُهُور أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفي على عَسْكَر السُّلْطَان الْمُخَالف لأَمره وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من عَسْكَر الْموصل وَغَيره بِحَيْثُ قتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير ورحلوا عَن بَغْدَاد مفرقين مفلولين خاسرين بعد المضايقة والتناهي فِي المحاصرة والمصابرة
قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي أَوَائِل رَجَب بوفاة السُّلْطَان غياث الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْحَارِث سنجر بن أبي الْفَتْح بن ألب أرسلان سُلْطَان خُرَاسَان عقيب خلاصه من الشدَّة الَّتِي وَقع فِيهَا والأسر الَّذِي حصل فِيهِ وَكَانَ يحب الْعدْل والإنصاف للرعايا حسن السِّيرَة جميل الْفِعْل وَقد علت سنه وَطَالَ عمره
وَكَانَ قد ورد كِتَابه فِي أَوَاخِر صفر من هَذِه السّنة إِلَى نور الدّين بالتشوق إِلَيْهِ والإحماد لخلاله وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ من جميل أَفعاله وإعلامه مَا من الله عَلَيْهِ بِهِ من خلاصه من الشدَّة الَّتِي وَقع فِيهَا والأسر الَّذِي بلَى بِهِ فِي أَيدي الْأَعْدَاء الْكَفَرَة من مُلُوك التركمان بحيلة دبرهَا وسياسة(1/359)
أحكمها وقررها بِحَيْثُ عَاد إِلَى منصبه من السلطنة الْمَشْهُورَة واجتماع العساكر المتفرقة عَنهُ إِلَيْهِ
قَالَ وَفِي شهر رَمَضَان ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة الشَّيْخ مخلص الدّين أَبى البركات عبد القاهر بن على بن أَبى جَرَادَة الْحلَبِي وَهُوَ الْأمين على خَزَائِن مَال نور الدّين وَكَانَ كَاتبا بليغا حسن البلاغة نظما ونثرا مستحسن الْفُنُون من التذهيب البديع وَحسن الْخط الْمُحَرر على الْأُصُول الْقَدِيمَة المستظرفة مَعَ صفاء الذِّهْن وتوقد الفطنة والذكاء
وَقَالَ وَفِي رَابِع عشر شَوَّال ورد الْخَبَر من نَاحيَة بَصرِي بِأَن واليها فَخر الدّين سرخاك قتل غيلَة بموافقة من أَعْيَان خاصته وَكَانَ فِيهِ إفراط فِي التَّحَرُّز وَاسْتِعْمَال التيقظ وَلَكِن الْقَضَاء لَا يغالب وَلَا يدافع
قَالَ وَفِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة ورد الْخَبَر من حمص بوفاة واليها الْأَمِير الملقب بصلاح الدّين وَكَانَ فِي أَيَّام شبيبته قد حظي فِي خدمَة عماد الدّين زنكي وَتقدم عِنْده بالمناصحة وسداد التَّدْبِير وَحسن السفارة وصواب الرَّأْي وَلما علت سنة ضعف عَن ركُوب الْخَيل وألجأته الضَّرُورَة إِلَى الْحمل فِي المحفة لتقرير الْأَحْوَال وَالنَّظَر فِي الْأَعْمَال وَلم ينقص من حسه(1/360)
وفهمه مَا يُنكر عَلَيْهِ إِلَى حِين وَفَاته وَخَلفه من بعده أَوْلَاده فِي منصبه وولايته
قَالَ وَورد إِلَى دمشق إِمَام من أَئِمَّة فُقَهَاء بَلخ فِي عنفوان شبابه وغضارة عوده مَا رَأَيْت أفْصح من لِسَانه ببلاغتيه الْعَرَبيَّة والفارسية وَلَا أسْرع من جَوَابه ببراعته وَلَا أطيش مِنْهُ قَلما فِي كِتَابَته أَبُو الْحَيَاة مُحَمَّد بن أَبى الْقَاسِم بن عمر السّلمِيّ وَوعظ فِي جَامع دمشق عدَّة أَيَّام وَالنَّاس يستحسنون وعظه ويستظرفون فنه وسلاطة لِسَانه وَسُرْعَة جَوَابه وحدة خاطره وصفاء حسه
قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير عز الدّين أَبُو بكر الدبيسى صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر وَكَانَ من أكَابِر الْأُمَرَاء ياخذ نَفسه ماخذ الْمُلُوك وَكَانَ عَاقِلا حازما ذَا رَأْي وَكيد ومكر وَملك الجزيرة قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل أَخُو نور الدّين
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي أَوَائِل الْمحرم تناصرت الْأَخْبَار من نَاحيَة الفرنج المقيمين بِالشَّام خذلهم الله تَعَالَى بمضايقتهم لحصن حارم(1/361)
ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق إِلَى ان ضعف وَملك بِالسَّيْفِ وتزايد طمعهم فِي شن الغارات فِي الْأَعْمَال الشامية وَإِطْلَاق الْأَيْدِي فِي العيث وَالْفساد فِي معاقلها وضياعها بِحكم تفرق العساكر الإسلامية وَالْخلف الْوَاقِع بَينهم باشتغال نور الدّين بعقابيل الْمَرَض الْعَارِض لَهُ وَللَّه الْمَشِيئَة الَّتِي لَا تدافع والأقضية الَّتِي لَا تمانع
وَقَالَ وَفِي صفر ورد الْخَبَر والمبشر بنزول نور الدّين من حلب للتوجه إِلَى دمشق وَاتفقَ للكفرة الملاعين تَوَاتر الطمع فِي شن الغارات على أَعمال حوران والإقليم وَإِطْلَاق أَيدي الْفساد والعيث والإحراق والإخراب فِي الضّيَاع والنهب والسبي والأسر وَقصد داريا وَالنُّزُول عَلَيْهَا فِي انسلاخ صفر وإحراق منازلها وجامعها والتناهي فِي إخرابها وَظهر إِلَيْهِم العسكرية والأحداث وهموا بقصدهم والإسراع إِلَى لقائهم وكفهم فمنعوا من ذَلِك بعد أَن قربوا مِنْهُم وَحين شَاهد الْكفَّار خذلهم الله تَعَالَى كَثْرَة الْعدَد الظَّاهِر إِلَيْهِم رحلوا فِي آخر النَّهَار الْمَذْكُور إِلَى نَاحيَة الإقليم
وَوصل نور الدّين إِلَى دمشق وَحصل فِي قلعته سادس ربيع الأول سالما فِي نَفسه وَجُمْلَته وَلَقي بِأَحْسَن زِيّ وترتيب وتجمل واستبشر الْعَالم بمقدمه المسعود وابتهجوا وبالغوا فِي شكر الله تَعَالَى على سَلَامَته وعافيته وَالدُّعَاء لَهُ بدوام أَيَّامه وَشرع فِي تَدْبِير أَمر الأجناد وَالتَّأَهُّب للْجِهَاد
قَالَ وَفِي أَوَائِل ربيع الأول ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بِخُرُوج فريق(1/362)
وافر من عسكرها إِلَى غَزَّة وعسقلان وأغاروا على أَعمالهَا وَخرج إِلَيْهِم من كَانَ بهما من الفرنج الملاعين فأظهر الله تَعَالَى الْمُسلمين عَلَيْهِم قتلا وأسرا بِحَيْثُ لم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير وغنموا مَا ظفروا بِهِ وعادوا سَالِمين ظافرين
وَقيل إِن مقدم الْغُزَاة فِي الْبَحْر ظفر بعدة من مراكب الْمُشْركين وَهِي مشحونة بالفرنج فَقتل واسر مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَحَازَ من أَمْوَالهم وعددهم وأثاثهم مَا لَا يكَاد يُحْصى وَعَاد ظافرا غانما
قلت وَأرْسل إِلَى مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ من مصر وزيرها الْملك الصَّالح أَبُو الغارات طلائع بن رزيك قصيدة يشْرَح فِيهَا حَال هَذِه الْغُزَاة ويحرض فِيهَا نور الدّين على قتال الْمُشْركين ويذكره بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من العافيه والسلامة من تِلْكَ المرضة الْمُقدم ذكرهَا وَكَانَ كثيرا مَا يكاتبه طَالبا مِنْهُ إِعْلَام نور الدّين بالغزاة لحثه عَلَيْهَا وَأول هَذِه القصيدة
(إِلَّا هَكَذَا فِي الله تمضى العزائم ... وتنضى لَدَى الْحَرْب السيوف الصوارم)
(وتستنزل الْأَعْدَاء من طود عزهم ... وَلَيْسَ سوى سمر الرماح سلالم)
(وتغزى جيوش الْكفْر فِي عقر دارها ... ويوطا حماها والأنوف رواغم)
(ويوفي الْكِرَام الناذرون بنذرهم ... وَإِن بذلت فِيهَا النُّفُوس الكرائم)
(نذرنا مسير الْجَيْش فِي صفرٍ فَمَا ... مضى نصفة حَتَّى انثنى وَهُوَ غَانِم)
(بَعَثْنَاهُ من مصر إِلَى الشَّام قَاطعا ... مفاوز وخد العيس فِيهِنَّ دَائِم)
(فَمَا هاله بعد الديار وَلَا ثنى ... عزيمته جهد الظما والسمائم)(1/363)
(يهجر والعصفور فِي قَعْر وَكره ... ويسري إِلَى الْأَعْدَاء وَاللَّيْل نَائِم)
(تباري خيولا مَا تزَال كانها ... إِذا مَا هِيَ انْقَضتْ نسور قشاعم)
(يسير بهَا ضرغام فِي كل مأزق ... وَمَا يصحب الضرغام إِلَّا الضراغم)
(ورفقته عين الزَّمَان وحاتم ... وَيحيى وَإِن لَاقَى الْمنية حَاتِم)
(وواجههم جمع الفرنج بحملة ... تهون على الشجعان فِيهَا الهزائم)
(فلقوهم زرق الاسنة وانطووا ... عَلَيْهِم فَلم يرجع من الْكفْر ناجم)
(وَمَا زَالَت الْحَرْب الْعوَان اشدها ... إِذا مَا تلاقي الْعَسْكَر المتضاجم)
(يشبههم من لَاحَ جمعهمُ لَهُ ... بلجة بَحر موجها متلاطم)
(وعادوا إِلَى سل السيوف فَقطعت ... رُؤُوس وحزت للفرنج غَلاَصِم)
(فَلم ينج مِنْهُم يَوْم ذَاك مخبر ... وَلَا قيل هَذَا وَحده الْيَوْم سَالم)
(نقتلهم بِالرَّأْيِ طورا وَتارَة ... تدوسهم منا المذاكى الصلادم)
(فَقولُوا لنُور الدّين لَا فل حَده ... وَلَا حكمت فِيهِ اللَّيَالِي الغواشم)(1/364)
(تجهز إِلَى أَرض الْعَدو وَلَا تهن ... وَتظهر فتورا إِن مَضَت مِنْك حارم)
(فَمَا مثلهَا تبدي احتفالا بِهِ وَلَا ... تعض عَلَيْهَا للملوك الاباهم)
(فعندك من الطاف رَبك مَا بِهِ ... علمنَا يَقِينا انه بك رَاحِم)
(اعادك حَيا بعد إِن زعم الورى ... بانك قد لاقيت مَا الله حَاتِم)
(بِوَقْت أصَاب الأَرْض مَا قد أَصَابَهَا ... وحلت بهَا تِلْكَ الدَّوَاهِي العظائم)
(وخيم جَيش الْكفْر فِي أَرض شيزر ... فسيقت سَبَايَا واستحلت محارم)
(وَقد كَانَ تَارِيخ الشآم وهلكه ... وَمن يحتويه أَنه لَك عادم)
(فَقُمْ واشكر الله الْكَرِيم بنهضه ... إِلَيْهِم فَشكر الله لِلْخلقِ لَازم)
(فَنحْن على مَا قد عهِدت نروعهم ... ونحلف جهدا أننا لَا نسالم)
(وغاراتنا لَيست تفتر عَنْهُم ... وَلَيْسَ يُنجى الْقَوْم منا الهزائم)
(فاسطولنا اضعاف مَا كَانَ سائرا ... إِلَيْهِم فَلَا حصن لَهُم مِنْهُ عَاصِم)
(وَنَرْجُو بِأَن نجتاح باقيهم بِهِ ... وتحوى الْأُسَارَى مِنْهُم والغنائم)
وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا
(يَا سيدا يسمو بهمته ... إِلَى الرتب العليه)
(فينال مِنْهَا حِين يحرم ... غَيره أوفى مزيه)
(أَنْت الصّديق وَإِن بَعدت ... وَصَاحب الشيم الرضيه)
(ننبيك إِن جيوشنا ... فعلت فعال الْجَاهِلِيَّة)
(سَارَتْ إِلَى الْأَعْدَاء من ... أبطالها مئتا سريه)
(فَتغير هذي بكرَة ... وتعاود الْأُخْرَى عشيه)
(فالويل مِنْهَا للفرنج ... فقد لقوا جهد البليه)(1/365)
(جَاءَت رؤوسهم تلوح ... على رُؤُوس السمهريه)
(وقلائع قد قسمت ... بَين الْجنُود على السويه)
(وخلائق كثرت من الأسرى ... تقاد إِلَى المنيه)
(فانهض فقد أنبيت مجد ... الدّين بِالْحَال الجليه)
(والمم بِنور الدّين واعلمه ... بهاتيك القضيه)
(فَهُوَ الَّذِي مَا زَالَ يخلص ... مِنْهُ أفعالا ونيه)
(ويبيد جمع الْكفْر بالبيض ... الرّقاق المشرفيه)
(فعساه ينْهض نهضه ... يفنى بهَا تِلْكَ البقيه)
(إِمَّا لنُصرة دينه ... أَو مُلكه أَو للحمية)
وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا
(أَيهَا المنقذي لأَنْت على الْبعد ... صديق لنا وَنعم الصّديق)
(لَيْسَ فِيمَا نأتيه من بر أفعالك ... للطَّالِب الْحُقُوق عقوق)
(فَلهَذَا نرى مُوَاصلَة الْكتب ... تباعا إِلَيْك مِمَّا يَلِيق)
(ونناجيك بالمهمات إِذْ أَنْت ... بإلقائها إِلَيْك خليق)(1/366)
(وأهم المهم أَمر جِهَاد الْكفْر ... فاسمع فعندنا التَّحْقِيق)
(وأصلتهم منا السَّرَايَا فأشجاهم ... بكور منا لَهُم وطروق)
(وأباحت دِيَارهمْ فأباد الْقَوْم ... قتل ملازم وحريق)
(وَانْتَظرْنَا بزحفنا برْء نور الدّين ... علما منا بِأَن سيفيق)
(وَهُوَ الْآن فِي أَمَان من الله ... وَمَا يَعْتَرِيه أَمر يعوق)
(مَا لهَذَا المهم مثلك مجد الدّين ... فانهض بِهِ فانت حقيق)
(قل لَهُ لَا عداهُ رَأْي وَلَا زَالَ ... لَدَيْهِ لكل خير طَرِيق)
(أَنْت فِي حسم دَاء طاغية الْكفَّار ... ذَاك المرجو والمرموق)
(فاغتنم بِالْجِهَادِ أجرك كي يلقى ... رَفِيقًا لَهُ وَنعم الرفيق)
فَأَجَابَهُ أُسَامَة بقصيدة مِنْهَا
(يَا أَمِير الجيوش مَا زَالَ لِلْإِسْلَامِ ... وَالدّين مِنْك ركن وثيق)
(أسمعت دَعْوَة الْجِهَاد فلباها ... مليك بالمكرمات خليق)
(ملك عَادل أنار بِهِ الدّين ... فَعم الْإِسْلَام مِنْهُ الشروق)
(مَا لَهُ عَن جهاده الْكفْر وَالْعدْل ... وَفعل الْخيرَات شغل يعوق)
(هُوَ مثل الحسام صدر صقيل ... لين مَسّه وحد ذليق)
(ذُو أَنَاة يخالها الغر إهمالا ... وفيهَا حتف الأعادى المحيق)
(فاسلما لِلْإِسْلَامِ كهفين مَا طرز ... ثوب الظلام برق خفوق)(1/367)
وَكتب الصَّالح إِلَيْهِ أَيْضا
(قل لِابْنِ منقذ الَّذِي ... قد حَاز فِي الْفضل الكمالا)
(فَلذَلِك قد أضحى الْأَنَام ... على مكارمه عيالا)
(كم قد بعثنَا نَحْوك الْأَشْعَار ... مسرعة عجالا)
(وصددت عَنْهَا حِين رامت ... من محاسنك الوصالا)
(هلا بذلت لنا مقَالا ... حِين لم تبذل فعالا)
(مَعَ أننا نوليك صبرا ... فِي الْمَوَدَّة واحتمالا)
(ونبثك الْأَخْبَار إِن ... أضحت قصاراً أَو طوَالًا)
(سَارَتْ سرايانا لقصد ... الشَّام تعتسف الرمالا)
(تزجي إِلَى الْأَعْدَاء جرد ... الْخَيل أتباعا توالى)
(تمْضِي خفافا للمغار ... بهَا وتأتينا ثقالا)
(حَتَّى لقد رام الأعادي ... من دِيَارهمْ ارتحالا)
(وعَلى الوعيرة معشر ... لم يعهدوا فِيهَا القتالا)
(لما نأت عَمَّن يحف ... بهَا يَمِينا أَو شمالا)
(نهضت إِلَيْهَا خَيْلنَا ... من مصر تحْتَمل الرجالا)
(وَالْبيض لامعة وبيض ... الْهِنْد والاسل النهالا)
(فغدت كَانَ لم يعهدوا ... فِي أرْضهَا حَيا حَلَالا)
(هَذَا وَفِي تل العجول ... ملأن بالقتلى التلالا)(1/368)
إِذْ مر مرى لَيْسَ يلوي ... نَحْو رفقته اشتغالا)
(وَاسْتَاقَ عسكرنا لَهُ ... أَهلا يُحِبهُمْ ومالا)
(وسرية ابْن فريج الطَّائِي ... طَال بهَا وصالا)
(سَارَتْ إِلَى أَرض الْخَلِيل ... فَلم تدع فِيهَا خلالا)
(فَلَو أَن نور الدّين يَجْعَل ... فعلنَا فيهم مِثَالا)
(ويسير الأجناد جَهرا ... كي ينازلهم نزالا)
(ووفى لنا وَلأَهل دولته ... بِمَا قد كَانَ قَالَا)
(لرأيت للافرنج طرا ... فِي معاقلها اعتقالا)
(وتجهزوا للسير نَحْو ... الغرب أَو قصدُوا الشمالا)
(وَإِذا أَبى إِلَّا اطراحا ... للنصيحة واعتزالا)
(عدنا بِتَسْلِيم الْأُمُور ... لحكم خالقنا تَعَالَى)
فاجابه ابْن منقذ بقصيدة مِنْهَا
(يَا اشرف الوزراء أَخْلَاقًا ... وَأكْرمهمْ فعالا)
(نبهت عبدا طالما ... نبهته قدرا وَحَالا)
(وعتبته فأنلته ... فخرا ومجدا لن ينالا)
(لَكِن ذَاك العتب يشعل ... فِي جوانحه اشتعالا)
(أسفا لجد مَال عَنهُ ... إِلَى مساءته ومالا)
(أما السَّرَايَا حِين ترجع ... بعد خفتها ثقالا)
(فكذاك عَاد وُفُود بابك ... مثقلين ثَنَا ومالا)(1/369)
(ومسيرها فِي كل أَرض ... تبتغي فِيهَا المجالا)
(فكذاك فضلك مثل عدلك ... فِي الدنا سارا وجالا)
(فَاسْلَمْ لنا حَتَّى نرى ... لَك فِي بني الدُّنْيَا مِثَالا)
(وَاشْدُدْ يَديك بود نور ... الدّين والق بِهِ الرجالا)
(فَهُوَ المحامي عَن بِلَاد ... الشَّام جمعا أَن تذالا)
(ومبيد أَمْلَاك الفرنج ... وجمعهم حَالا فحالا)
(ملك يتيه الدَّهْر وَالدُّنْيَا ... بدولته اختيالا)
(جمع الْخلال الصَّالِحَات ... فَلم يدع مِنْهَا خلالا)
(فَإِذا بدا للناظرين ... رَأَتْ عيونهم الكمالا)
(فبقيتما للْمُسلمين ... حمى وللدنيا جمالا)
وَكتب إِلَيْهِ الصَّالح فِي القصيدة الْمُقدم ذكرهَا فِي الزلازل
(ولعمري إِن المناصح فِي الدّين ... على الله أجره مَحْسُوب)
(وَجِهَاد الْعَدو بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل ... على كل مُسلم مَكْتُوب)
(وَلَك الرُّتْبَة الْعلية فِي الْأَمريْنِ ... مذ كنت إِذْ تشب الحروب)
(أَنْت فِيهَا الشجاع مَا لَك فِي الطعْن ... وَلَا فِي الضراب يَوْمًا ضريب)
(وَإِذا مَا حرضت فالشاعر المفلق ... فِيمَا تَقوله والخطيب)
(وَإِذا مَا أَشرت فالحزم لَا يُنكر ... أَن التَّدْبِير مِنْك مُصِيب)
(لَك رَأْي يقظان إِن ضعف الرَّأْي ... على حاملى الصَّلِيب صَلِيب)(1/370)
(فانهض الْآن مسرعا فبأمثالك ... مَا زَالَ يدْرك الْمَطْلُوب)
(الق منا رِسَالَة عِنْد نور الدّين ... مَا فِي إلقائها مَا يريب)
(قل لَهُ دَامَ ملكه وَعَلِيهِ ... من لِبَاس الإقبال برد قشيب)
(أَيهَا الْعَادِل الَّذِي هُوَ للدّين ... شباب وللحروب شبيب)
(وَالَّذِي لم يزل قَدِيما عَن الْإِسْلَام ... بالعزم مِنْهُ تجلى الكروب)
(وَغدا مِنْهُ للفرنج إِذا لاقوه ... يَوْم من الزَّمَان عصيب)
(إِن يرم نزف حقدهم فلأشطان ... قناة فِي كل قلب قليب)
(غَيرنَا من يَقُول مَا لَيْسَ يمضيه ... بِفعل وَغَيْرك المكذوب)
(قد كتبنَا إِلَيْك مَا وضح الْآن ... بِمَاذَا عَن الْكتاب تجيب)
(قصدنا أَن يكون منا ومنكم ... أجل فِي مسيرنا مَضْرُوب)
(فلدينا من العساكر مَا ضَاقَ ... بأدناهم الفضاء الرحيب)
(وعلينا أَن يستهل على الشَّام ... مَكَان الغيوث مَال صبيب)
(أَو ترَاهَا مثل الْعَرُوس ثراها ... كُله من دم العدى مخضوب)
(لطنين السيوف فِي فلق الصُّبْح ... على هام أَهلهَا تطريب)
(ولجمع الحشود من كل حصن ... سلب مهمل لَهُم ونهوب)(1/371)
(وبحول الْإِلَه ذَاك وَمن غَالب ... رَبِّي فَإِنَّهُ مغلوب)
وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا
(أَيهَا السائر الْمجد إِلَى الشَّام ... تبارى ركابه والخيول)
(خُذ على بَلْدَة بهَا دَار مجد الدّين ... لَا ريع ربعهَا المأهول)
(وتعرف أخباره واقره منا ... سَلاما فِيهِ العتاب يجول)
(قل لَهُ أَنْت نعم ذخر الصّديق الْيَوْم ... لكنك الصّديق الملول)
(مَا ظننا بِأَن حالك فِي الْقرب ... وَلَا الْبعد بالملال يحول)
(لَا كتاب وَلَا جَوَاب وَلَا قَول ... بِهِ لليقين منا حُصُول)
(غير أَنا نواصل الْكتب إِذْ قصر ... مِنْك الْبر الْكَرِيم الْوُصُول)
(ذاكرين الْفَتْح الَّذِي فتح الله ... علينا فالفضل مِنْهُ جميل)
(جَاءَنَا بعد مَا ذَكرْنَاهُ فِي كتب ... أَتَاكُم بِهن منا رَسُول)
(أَن بعض الأسطول نَالَ من الإفرنج ... مَا لَا يَنَالهُ التأميل)
(سَار فِي قلَّة وَمَا زَالَ بِاللَّه ... وَصدق النيات ينمي الْقَلِيل)
(وبقايا الأسطول لَيْسَ لَهُ بعد ... إِلَى جَانب الشَّام وُصُول)
(فحوى من عكآ وأنطرسوس ... عدَّة لم يحط بهَا التَّحْصِيل)
(جمع ديوية بهم كَانَت الإفرنج ... تسطو على الورى وتصول)
(قيد فِي وَسطهمْ مقدمهم مهدى ... إِلَيْنَا وجيده مغلول)(1/372)
(بعد مثوى جمَاعَة هَلَكُوا بِالسَّيْفِ ... مِنْهَا الغريق والمفلول)
(هَذِه نعْمَة الْإِلَه وتعديد ... أيادي الْإِلَه شَيْء يطول)
(أبلغن قَوْلنَا إِلَى الْملك الْعَادِل ... فَهُوَ المرجو والمأمول)
(قل لَهُ كم تماطل الدّين فِي الْكفَّار ... فأحذر أَن يغْضب الممطول)
(سر إِلَى الْقُدس واحتسب ذَاك فِي الله ... فبالسير مِنْك يشفى الغليل)
(وَإِذا مَا أَبْطَا مسيرك فَالله ... إِذا حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل)
فَأَجَابَهُ أُسَامَة بقصيدة مِنْهَا
(يَا أَمِير الجيوش يَا أعدل الْحُكَّام ... فِي فعله وَفِيمَا يَقُول)
(أَنْت حليت بالمكارم أهل الْعَصْر ... حَتَّى تعرف الْمَجْهُول)
(وَقسمت الفرنج بالغزو شطرين ... فَهَذَا عان وَهَذَا قَتِيل)
(بَالغ العَبْد فِي النِّيَابَة والتحريض ... وَهُوَ المفوه المقبول)
(فَرَأى من عَزِيمَة الْغَزْو مَا كَادَت ... لَهُ الأَرْض وَالْجِبَال تميل)
(وَإِذا عاقت الْمَقَادِير فَالله ... إِذا حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل)
وَكتب الصَّالح إِلَيْهِ جَوَابا قصيدته الطائية الَّتِي أَولهَا
(هِيَ الْبَدْر لَكِن الثريا لَهَا قرط ... وَمن أنجم الجوزاء فِي نحرها سمط)
ثمَّ قَالَ بعد وصف السيوف
(ذخرنا سطاها للفرنج لِأَنَّهَا ... بهم دون أهل الأَرْض أَجْدَر أَن تسطو)(1/373)
(وَقد كاتبوا فِي الصُّلْح لَكِن جوابهم ... بحضرتنا مَا تنْبت الْخط لَا الْخط)
(سطور خُيُول لَا تغب دِيَارهمْ ... بهَا بالمواضي والقنا الشكل والنقط)
(إِذا أرْسلت فرعا من النَّقْع فاحما ... أثيثا فأسنان الرماح لَهَا مشط)
(رددنا بِهِ ابْن الفنش عَنَّا وَإِنَّمَا ... يُثبتهُ فِي سَرْجه الشد والربط)
(فَقولُوا لنُور الدّين لَيْسَ لجائف الْجِرَاحَات ... إِلَّا الكي فِي الطِّبّ والبط)
(وحسم أصُول الدَّاء أولى بعاقل ... لَبِيب إِذا استولى على المدنف الْخَلْط)
(فدع عَنْك ميلًا للفرنج وهدنة ... بهَا أبدا يخطي سواهُم وَلم يخطوا)
(تَأمل فكم شَرط شرطت عَلَيْهِم ... قَدِيما وَكم غدر بِهِ نقض الشَّرْط)
(وشمر فَإنَّا قد أعنا بِكُل مَا ... سَأَلت وجهزنا الجيوش وَلنْ يبطوا)
قَالَ الْعِمَاد فِي = كتاب الخريدة = الصَّالح أَبُو الغارات طلائع بن رزيك سُلْطَان مصر فِي زمَان الفائز وَأول زمَان العاضد ملك مصر وَاسْتولى على أَمر صَاحب الْقصر ونفق فِي زَمَانه النّظم والنثر وَقرب الْفُضَلَاء واتخذهم جلساء ورحل إِلَيْهِ ذَوُو الرَّجَاء وأفاض على الداني والقاصي الْعَطاء
وَله قصائد كَثِيرَة مستحسنة نفذها إِلَى الشَّام يذكر فِيهَا قِيَامه بنصر الْإِسْلَام وَمَا يصدق أحد أَن ذَلِك شعره لجودته وإحكام مباني حكمته وأقسام مَعَاني(1/374)
بلاغته فَيُقَال إِن الْمُهَذّب ابْن الزبير كَانَ ينظم لَهُ وَأَن الجليس بن الْجبَاب كَانَ يُعينهُ وَله ديوَان كَبِير وإحسان كثير
وَلما جلس فِي دست الوزارة نظم هَذِه الأبيات بديهة
(انْظُر إِلَى ذِي الدَّار كم ... قد حل ساحتها وَزِير)
(وَلكم تبختر آمنا ... وسط الصُّفُوف بهَا أَمِير)
(ذَهَبُوا فَلَا وَالله مَا ... يبْقى الصَّغِير وَلَا الْكَبِير)
(ولمثل مَا صَارُوا إِلَيْهِ من الفناء غَدا نصير)
فصل
قَالَ أَبُو يعلى ورد الْخَبَر فِي خَامِس عشر ربيع الأول من نَاحيَة حلب بحدوث زَلْزَلَة روعت أَهلهَا وأزعجتهم وزعزعت مَوَاضِع من مساكنها ثمَّ سكنت بقدرة محركها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول وافت زَلْزَلَة فِي دمشق روعت وأقلقت ثمَّ سكنت(1/375)
وَفِي التَّاسِع من ربيع الآخر برز نور الدّين من دمشق إِلَى جسر الْخشب فِي الْعَسْكَر الْمَنْصُور بآلات الْحَرْب لجهاد الْكَفَرَة
وَقد كَانَ أَسد الدّين قبل ذَلِك عِنْد وُصُوله فِيمَن جمعه من فرسَان التركمان أغار بهم على أَعمال صيدا وَمَا قرب مِنْهَا فغنموا أحسن غنيمَة وأوفرها وَخرج إِلَيْهِم من كَانَ بهَا من خيالة الفرنج ورجالتها وَقد كمنوا لَهُم فغنموهم وَقتل أَكْثَرهم واسر الْبَاقُونَ وَفِيهِمْ ولد الْمُقدم الْمُتَوَلِي حصن حارم وعادوا سَالِمين بالأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وَالْغنيمَة وَلم يصب مِنْهُم غير فَارس وَاحِد
قَالَ وَفِي أَوَائِل شهر تموز الْمُوَافق لأوّل جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وافى فِي الْبِقَاع مطر هطال بِحَيْثُ حدث مِنْهُ سيل أَحْمَر كَمَا جرت بِهِ الْعَادة فِي تنبوك الشتَاء وَوصل إِلَى بردى وَوصل إِلَى دمشق وَكثر التَّعَجُّب من اثار قدرَة الله تَعَالَى بحدوث مثل ذَلِك فِي هَذَا الْوَقْت
قَالَ وَفِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب وافت زَلْزَلَة عِنْد تأذين الْغَدَاة ثمَّ أُخْرَى فِي اللَّيْلَة بعْدهَا وَقت صَلَاة الْغَدَاة
وَورد الْخَبَر من الْعَسْكَر بِأَن الفرنج تجمعُوا وزحفوا إِلَى الْعَسْكَر الْمَنْصُور وان الْمولى نور الدّين نَهَضَ فِي الْحَال فِي الْعَسْكَر والتقى الْجَمْعَانِ وَاتفقَ إِن عَسْكَر الْإِسْلَام حدث فِيهِ فشل لبَعض المقدمين فاندفعوا وَتَفَرَّقُوا بعد الِاجْتِمَاع وبقى نور الدّين ثَابتا مَكَانَهُ فِي عدَّة يسيرَة من شجعان غلمانه وأبطال خواصه(1/376)
فِي وُجُوه الفرنج وأطلقوا فيهم السِّهَام فَقتلُوا مِنْهُم وَمن خيولهم الْعدَد الْكثير ثمَّ ولوا منهزمين خوفًا من كمين يظْهر عَلَيْهِم من عَسْكَر الْإِسْلَام ونجى الله وَله الْحَمد نور الدّين من بأسهم بمعونة الله تَعَالَى وَشدَّة بأسه وثبات جأشه ومشهور شجاعته وَعَاد إِلَى مخيمه سالما فِي جماعته وَلَام من كَانَ السَّبَب فِي اندفاعه بَين يَدي الفرنج وتفرق جمع الفرنج إِلَى أَعْمَالهم وراسل ملكهم لنُور الدّين فِي طلب الصُّلْح والمهادنة وحرص على ذَلِك وترددت بَين الْفَرِيقَيْنِ مراسلات وَلم يسْتَقرّ بَينهمَا حَال وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق سالما
قلت وَذكر أَبُو الْفَتْح بنجير بن أبي الْحسن بن بنجير الأشترى المعيد كَانَ بِالْمَدْرَسَةِ النظامية فِي سيرة مختصرة جمعهَا لنُور الدّين وَقد تقدم شَيْء مِنْهَا رحمهمَا الله قَالَ وبلغنا أَن نور الدّين خرج إِلَى الْجِهَاد فِي سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة فَقضى الله بانهزام عَسْكَر الْمُسلمين وَبَقِي الْملك الْعَادِل مَعَ شرذمة قَليلَة وَطَائِفَة يسيرَة وَاقِفًا على تل يُقَال لَهُ تل حُبَيْش وَقد قرب عَسْكَر الْكفَّار بِحَيْثُ اخْتَلَط رجالة الْمُسلمين مَعَ رجالة الْكفَّار فَوقف الْملك الْعَادِل بحذائهم موليا وَجهه إِلَى قبْلَة الدُّعَاء حَاضرا بِجَمِيعِ قلبه مناجيا ربه بسره يَقُول يَا رب الْعباد أَنا العَبْد الضَّعِيف ملكتني هَذِه الْولَايَة وأعطيتني هَذِه النِّيَابَة عمرت بلادك وَنَصَحْت عِبَادك وأمرتهم بِمَا أَمرتنِي بِهِ ونهيتهم عَمَّا نهيتني عَنهُ فَرفعت الْمُنْكَرَات من بَينهم وأظهرت شعار دينك فِي بِلَادهمْ وَقد انهزم الْمُسلمُونَ وَأَنا لَا أقدر على دفع هَؤُلَاءِ الْكفَّار أَعدَاء دينك وَنَبِيك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أملك إِلَّا نَفسِي هَذِه وَقد سلمتها إِلَيْهِم ذابا عَن دينك وناصرا لنبيك
فَاسْتَجَاب الله(1/377)
تَعَالَى دعاءه وأوقع فِي قُلُوبهم الرعب وَأرْسل عَلَيْهِم الخذلان فوقفوا مواضعهم وَمَا جسروا على الْإِقْدَام عَلَيْهِ وظنوا أَن الْملك الْعَادِل عمل عَلَيْهِم الْحِيلَة وَأَن عَسْكَر الْمُسلمين فِي الكمين فَإِن أقدموا عَلَيْهِ تخرج عَسَاكِر الْمُسلمين من الكمين فَلَا ينفلت مِنْهُم أحد فوقفوا وَمَا أقدموا عَلَيْهِ
قَالَ وَلَوْلَا ذَلِك الإلهام من الله تَعَالَى لكانوا قد استأسروا الْمُسلمين وَمَا كَانَ ينفلت وَاحِد من الْمُسلمين فَوقف عَسْكَر الْكفَّار وبرز اثْنَان مِنْهُم يجولان بَين الصفين يطلبان البرَاز من الْمُسلمين فَأمر الْملك الْعَادِل بخطلخ الزَّاهِد مولى الشَّهِيد بِالْخرُوجِ إِلَيْهِمَا فَخرج وجال بَينهمَا سَاعَة وَحمل على وَاحِد مِنْهُمَا فَقتله ثمَّ جال سَاعَة وَعمل حِيلَة وخدعه وَرجع إِلَى قريب صف الْكفَّار وَحمل على الآخر فَقتله وَرجع إِلَى الصَّفّ
قَالَ وَحدثنَا الشَّيْخ دَاوُد الْمَقْدِسِي خَادِم قبر شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام قَالَ كَانَ أَعْطَانِي ملك الْقُدس بغلة كنت رَاكِبًا عَلَيْهَا يَعْنِي فِي ذَلِك الْيَوْم وَاقِفًا مَعَ الْملك الْعَادِل فَلَمَّا وصل الْكفَّار وقربوا منا شمت بغلتي رَائِحَة خيل الْكفَّار فصهلت تطلب خيلهم فَسَمِعُوا صَهِيل بغلتي فَقَالُوا هَذَا دَاوُد رَاكب على البغلة مَعَ نور الدّين وَاقِف وَلَوْلَا الْحِيلَة والكمين من الْمُسلمين لما وقفُوا مَعَ هَذِه الشرذمة القليلة والطائفة الْيَسِيرَة فتحقق ذَلِك فِي قُلُوبهم فوقفوا وَمَا جسروا على الْإِقْدَام عَلَيْهِ قَالَ فترجل كل من كَانَ مَعَ الْملك الْعَادِل وتشفعوا إِلَيْهِ وباسوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَقَالُوا أَيهَا الْملك أَنْت بِجَمِيعِ الْمُسلمين فِي هَذَا الْموضع وَفِي هَذَا الإقليم فَإِن جرى وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَهن وَضعف من اسْتِيلَاء الْكفَّار على الْمُسلمين من الَّذِي يقدر على تَدَارُكه قَالَ وَحلف هَذَا الشَّيْخ دَاوُد أَنهم أخذُوا بعنان(1/378)
فرسه كرها ورحلوا من ذَلِك الْموضع وَمَا كَانَ فِي عزم الْملك الْعَادِل أَن يرحل من ذَلِك الْموضع
فَلَمَّا عرف الْكفَّار ذَلِك وَأَنه مَا كَانَ عَلَيْهِم حِيلَة وَلَا كمين ندموا على ذَلِك ندامة عَظِيمَة
قَالَ وَكَانَ قبل هَذِه الْوَقْعَة بِسنة كسر الْملك الْعَادِل الْكفَّار وَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة واسر مِنْهُم خلقا كثيرا على مَا حكى عَن صَلَاح الدّين صَاحب حمص أَنه قَالَ فد جَازَ التركمان علينا فَحصل فِي الجريدة ألف أَسِير مَعَ التركمان
هَذَا مَا جَازَ على بلد حمص وَحده وَكَانَ قد انفلت ملك الْقُدس وَدخل إِلَى قليعة فَمَا جن عَلَيْهِ اللَّيْل خرج من القلعة وَمضى
فصل
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي رَجَب تجمع قوم من السُّفَهَاء الْعَوام وعزموا على التحريض لنُور الدّين على إِعَادَة مَا كَانَ أبطل وسامح بِهِ أهل دمشق من رسوم دَار الْبِطِّيخ وعرصة البقل والأنهار وصانهم من إعنات شرار الضَّمَان وحوالة الأجناد
وكرروا لسخف عُقُولهمْ الْخطاب وضمنوا الْقيام بِعشْرَة آلَاف دِينَار بيض وَكَتَبُوا بذلك حَتَّى أجِيبُوا إِلَى مَا راموا وشرعوا فِي فَرضهَا على أَرْبَاب الْأَمْلَاك من المقدمين والأعيان والرعايا فَمَا اهتدوا إِلَى صَوَاب وَلَا نجح لَهُم قصد فِي خطاب وَلَا جَوَاب وعسفوا بِالنَّاسِ بجهلهم بِحَيْثُ تألموا وَأَكْثرُوا الضجيج والاستغاثة إِلَى نور الدّين فصرف همة إِلَى النّظر فِي هَذَا الْأَمر فنتجت لَهُ السَّعَادَة وإيثار الْعدْل فِي الرّعية الْإِعَادَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَأمر فِي عَاشر رَمَضَان بِإِعَادَة الرسوم الْمُعَادَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من إماتتها وتعفيه أثر ضَمَانهَا وأضاف إِلَى ذَلِك تَبَرعا من نَفسه إبِْطَال ضَمَان الهريسة والجبن(1/379)
وَاللَّبن ورسم بِكِتَابَة منشور يقْرَأ على كَافَّة النَّاس بِإِبْطَال هَذِه الرسوم جَمِيعهَا وتعفية ذكرهَا فَبَالغ الْعَالم عِنْد ذَلِك فِي مُوَاصلَة الْأَدْعِيَة وَالثنَاء عَلَيْهِ والنشر لمحاسنه
قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وصل الْحَاجِب مَحْمُود المسترشدي من نَاحيَة مصر بِجَوَاب مَا تحمله من المراسلات من الْملك الصَّالح مُتَوَلِّي أمرهَا وَمَعَهُ رَسُول من مقدمي أمرائها وَمَعَهُ المَال المنفذ برسم الخزانة النورية وأنواع الأثواب المصرية والجياد الْعَرَبيَّة
وَكَانَت فرقة من الإفرنج خذلهم الله قد ضربوا لَهُم فِي المعابر فأظفر الله بهم فَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل النزر
ثمَّ تَلا ذَلِك وُرُود الْخَبَر من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ بظفره بجملة وافرة من الفرنج تناهز أَربع مئة فَارس وتزيد على ذَلِك فِي نَاحيَة الْعَريش من الجفار بِحَيْثُ استولى عَلَيْهِم الْقَتْل والأسر وَالسَّلب
قَالَ وَقد كَانَت الْأَخْبَار تناصرت من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي ذِي الْحجَّة ببروز ملك الرّوم مِنْهَا بِالْعدَدِ الْكثير لقصد الْأَعْمَال والمعاقل الإسلامية ووصوله إِلَى مروج الديباج وتخييمه فِيهَا وَبث سراياه للإغارة على أَعمال أنطاكية وَمَا والاها وَأَن قوما من التركمان ظفروا بِجَمَاعَة مِنْهُم هَذَا بعد أَن افْتتح من أَعمال لاوين ملك الأرمن عدَّة من حصونه ومعاقله
وَلما عرف نور الدّين هَذَا شرع فِي مُكَاتبَة وُلَاة الْأَعْمَال والمعاقل بإعلامهم مَا حدث من الرّوم وبعثهم على اسْتِعْمَال التيقظ وَالتَّأَهُّب للْجِهَاد فيهم والاستعداد للنكاية بِمن يظْهر مِنْهُم(1/380)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين سَار الْملك مُحَمَّد بن السُّلْطَان مَحْمُود فحصر بَغْدَاد وَبهَا الْخَلِيفَة المقتفى لأمر الله وَمَعَهُ وزيره عون الدّين بن هُبَيْرَة فكاتب أَصْحَاب الْأَطْرَاف فتحركوا وَوصل الْخَبَر إِلَى الْملك مُحَمَّد بِأَن أَخَاهُ ملكشاه قصد همذان ودخلها فِي عَسْكَر كَبِير ونهبها وَأخذ نسَاء الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه وَأَوْلَادهمْ فاختلط الْعَسْكَر وَتَفَرَّقُوا وَعَاد مُحَمَّد نَحْو همذان وَخرج أهل بَغْدَاد فنهبوا أَوَاخِر الْعَسْكَر المنقطعين وشعثوا دَار السُّلْطَان
قلت وَفِي هَذِه السّنة توفى أَبُو الْوَقْت عبد الأول الْمُحدث الْمُنْفَرد بعلو رِوَايَة = كتاب الْجَامِع الصَّحِيح = للْبُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ أَبُو يعلى فِي أول يَوْم مِنْهَا وافت زَلْزَلَة عَظِيمَة ضحى نَهَاره وتلاها ثِنْتَانِ دونهَا(1/381)
وَكَانَ قد عرض لنُور الدّين مرض تزايد بِهِ بِحَيْثُ أَضْعَف قوته وَوَقع الإرجاف بِهِ من حساد دولته والمفسدين من عوام رَعيته وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد وَضَاقَتْ صُدُور قطان الثغور والبلاد خوفًا عَلَيْهِ وإشفاقا من سوء يصل إِلَيْهِ لَا سِيمَا مَعَ أَخْبَار الرّوم والفرنج وَلما أحس من نَفسه بالضعف تقدم إِلَى خَواص أَصْحَابه وَقَالَ لَهُم إِنَّنِي قد عزمت على وَصِيّه إِلَيْكُم بِمَا قد وَقع فِي نَفسِي فكونوا لَهَا سَامِعين مُطِيعِينَ وبشروطها عاملين
إِنِّي مُشفق على الرعايا وكافة الْمُسلمين مِمَّن يكون بعدى من الْوُلَاة الْجَاهِلين والظلمة الجائرين فَإِن أخي نصْرَة الدّين أعرف من أخلاقه وَسُوء أَفعاله مَا لَا أرتضي مَعَه بتوليته أمرا من أُمُور الْمُسلمين وَقد وَقع اخْتِيَاري على أخي الْأَمِير قطب الدّين مودود مُتَوَلِّي الْموصل لما يرجع إِلَيْهِ من عقل وسداد وَدين وَصِحَّة اعْتِقَاد
فَحَلَفُوا لَهُ وأنفذ رسله إِلَى أَخِيه بإعلامه صُورَة الْحَال ليَكُون لَهَا مستعدا
ثمَّ تفضل الله تَعَالَى بإبلاله من الْمَرَض وتزايد الْقُوَّة فِي النَّفس والحس وَجلسَ للدخول إِلَيْهِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ
وَكَانَ الْأَمِير مجد الدّين النَّائِب فِي حلب قد رتب فِي الطرقات من يحفظ السالكين فِيهَا فظفر الْمُقِيم فِي منبج بِرَجُل حمال من أهل دمشق وَمَعَهُ كتب فأنفذ بهَا إِلَى مجد الدّين مُتَوَلِّي حلب فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا أَمر بصلب متحملها وأنفذها فِي الْحَال إِلَى نور الدّين فَوَجَدَهَا من أَمِين الدّين زين الْحَاج أَبى الْقَاسِم مُتَوَلِّي ديوانه وَمن عز الدّين وَالِي القلعة مَمْلُوكه وَمن مُحَمَّد بن جفرى أحد حجابه إِلَى أَخِيه نصْرَة الدّين أَمِير أميران صَاحب حران بإعلامه بِوُقُوع الْيَأْس من أَخِيه ويحضونه على الْمُبَادرَة والإسراع إِلَى دمشق لتسلم إِلَيْهِ
فَلَمَّا عرف نور الدّين ذَلِك عرض الْكتب على أَرْبَابهَا فَاعْتَرفُوا بهَا فَأمر باعتقالهم وَكَانَ رابعهم سعد الدّين(1/382)
عُثْمَان وَكَانَ قد خَافَ فهرب قبل ذَلِك بيومين
وَورد فِي الْحَال = كتاب صَاحب قلعة جعبر = يخبر بِقطع نصْرَة الدّين الْفُرَات مجدا إِلَى دمشق فأنهض أَسد الدّين فِي الْعَسْكَر الْمَنْصُور لرده وَمنعه من الْوُصُول فاتصل بِهِ خبر عوده إِلَى مقره عِنْد مَعْرفَته بعافية أَخِيه فَعَاد أَسد الدّين إِلَى دمشق ووصلت رسل الْملك الْعَادِل من نَاحيَة الْموصل بِجَوَاب مَا تَحملُوهُ إِلَى أَخِيه قطب الدّين وفارقوه وَقد برز فِي عسكره مُتَوَجها إِلَى نَاحيَة دمشق فَلَمَّا فصل عَن الْموصل اتَّصل بِهِ خبر عافيته فَأَقَامَ بِحَيْثُ هُوَ وأنفذ وزيره جمال الدّين أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ لكشف الْحَال فوصل إِلَى دمشق يَوْم السبت الثَّامِن من صفر فِي أحسن زِيّ وأبهى تجمل وَخرج إِلَى لِقَائِه الْخلق الْكثير
قَالَ وَهَذَا الْوَزير قد ألهمه الله تَعَالَى من جميل الْأَفْعَال وَحميد الْخلال وكرم النَّفس وإنفاق أَمْوَاله فِي أَبْوَاب الْبر والصلات وَالصَّدقَات ومستحسن الْآثَار فِي مَدِينَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَمَكَّة ذَات الْحرم وَالْبَيْت الْمُعظم شرفه الله تَعَالَى مَا قد شاع ذكره وتضاعف عَلَيْهِ حَمده وشكره وَاجْتمعَ مَعَ نور الدّين وَجرى بَينهمَا من المفاوضات والتقريرات مَا انْتهى إِلَى عوده إِلَى جِهَته بعد الْإِكْرَام لَهُ وتوفيتة حَقه من الاحترام وأصحبه برسم قطب الدّين أَخِيه وخواصه من الملاطفة مَا اقتضته الْحَال الْحَاضِرَة وَتوجه مَعَه الامير أَسد الدّين
وَقَالَ ابْن أَبى طي لما وصل الْوَزير جمال الدّين إِلَى حلب تَلقاهُ(1/383)
موكب نور الدّين وَفِيه وُجُوه الدولة وكبراء الْمَدِينَة وَأنزل فِي دَار ابْن الصُّوفِي وَأكْرم غَايَة الْإِكْرَام وأعيد إِلَى صَاحبه شاكرا عَن نور الدّين وسير مَعَه الْأَمِير أَسد الدّين شيركوه رَسُولا إِلَى قطب الدّين بالشكر لَهُ وَالثنَاء عَلَيْهِ وأنفذت مَعَه هَدَايَا سنية فَسَار وَعَاد إِلَى حلب مكرما فَوجدَ نور الدّين عَازِمًا على الْخُرُوج إِلَى دمشق لما بلغه من إِفْسَاد الفرنج فِي بلد حوران فَسَار فِي صحابته وَوصل نور الدّين إِلَى دمشق فَأمر النَّاس بالتجهز لقِتَال الفرنج ثمَّ أنهض أَسد الدّين فِي قِطْعَة من الْعَسْكَر للإغارة على بلد صيدا فَسَار وَسَار مَعَه أَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وَأَوْلَاده وَلم يشْعر الفرنج إِلَّا وَهُوَ قد عاث فِي بلد صيدا وَقتل وَأسر عَالما عَظِيما وغنم غنيمَة جليلة وَعَاد فَاجْتمع بِنور الدّين على جسر الْخشب
قلت وَهَذَا هُوَ مَا تقدم ذكره بعد المرضة الأولى وَكَأن ابْن أَبى طي جعل المرضتين وَاحِدَة بحلب وَأَبُو يعلى ذكر أَن الأولى بحلب وَالثَّانيَِة بِدِمَشْق وَهُوَ الْأَصَح وَالله أعلم
فصل
قَالَ أَبُو يعلى كَانَ قد وصل من ملك الرّوم رَسُول من مُعَسْكَره وَمَعَهُ هَدِيَّة أتحف بهَا الْملك الْعَادِل من أَثوَاب ديباج وَغير ذَلِك وَجَمِيل خطاب وفعال وقوبل بِمثل ذَلِك
وَحكى عَن ملك الفرنج خذله الله إِن الْمُصَالحَة بَينه وَبَين ملك الرّوم تقررت والمهادنة انْعَقَدت وَالله يرد باس كل(1/384)
وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى نَحره ويذيقه عَاقِبَة غدره ومكره
قَالَ ووردت أَخْبَار من نَاحيَة ملك الرّوم باعتزامه على أنطاكية وَقصد المعاقل الإسلامية فبادر نور الدّين بالتوجه إِلَى الْبِلَاد الشامية لإيناس أَهلهَا من استيحاشهم من شَرّ الرّوم والإفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَسَار فِي الْعَسْكَر صوب حمص وحماة وشيزر
قَالَ وَفِي ثَالِث ربيع الأول وافت زَلْزَلَة هائلة ماجت أَربع موجات وأيقظت النيام وأزعجت اليقظى وَخَافَ كل ذِي مسكن مُضْطَرب على نَفسه وعَلى مَسْكَنه
قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى هبت ريح عاصف شَدِيدَة أَقَامَت يَوْمهَا وليلتها فأتلفت أَكثر الثِّمَار صيفيها وشتويها وأفسدت بعض الْأَشْجَار ثمَّ وافت آخر اللَّيْل زَلْزَلَة هائلة ماجت موجتين أزعجت وأقلقت
قَالَ وتجددت المهادنة الْمُؤَكّدَة لنُور الدّين مَعَ ملك الرّوم بعد تكَرر المراسلات والاقتراحات فِي التقريرات وَأجِيب ملك الرّوم إِلَى مَا التمسه من إِطْلَاق مقدمي الإفرنج المقيمين فِي حبس نور الدّين فأنفذهم بأسرهم
وقابل ملك الرّوم هَذَا الْفضل بِمَا يضاهيه من الإتحاف بأثواب الديباج الفاخرة الْمُخْتَلفَة الْأَجْنَاس الوافرة الْعدَد وَمن الْجَوْهَر النفيس وخيمة من الدبياج لَهَا قيمَة وافرة وَمَا اسْتحْسنَ من الْخُيُول الجبلية
ثمَّ رَحل عقيب ذَلِك(1/385)
فِي عساكره من منزله عَائِدًا إِلَى بِلَاده مشكورا مَحْمُودًا وَلم يؤذ أحدا من الْمُسلمين فِي الْعشْر الْأَوْسَط من جُمَادَى الأولى فاطمأنت الْقُلُوب بعد انزعاجها وقلقها
قَالَ وَورد بعد ذَلِك الْخَبَر بِأَن نور الدّين صنع لِأَخِيهِ قطب الدّين ولعسكره وَلمن ورد مَعَه من المقدمين والولاة وأصحابهم الواردين لجهاد الرّوم والإفرنج سماطا عَظِيما هائلا تناهى فِيهِ وَفرق من الْحصن الْعَرَبيَّة والخيول وَالْبِغَال الْعدَد الْكثير وَمن الْخلْع من أَنْوَاع الديباج الْمُخْتَلف وَغَيره والتخوت الذَّهَب الشَّيْء الْكثير الزَّائِد على الْكَثْرَة وَكَانَ يَوْمًا مشهودا فِي الْحسن والتجمل
وَاتفقَ أَن جمَاعَة من غرباء التركمان وجدوا من النَّاس غَفلَة باشتغالهم بالسماط وانتهابه فغاروا على الْعَرَب من بني سامة وَغَيرهم وَاسْتَاقُوا مَوَاشِيهمْ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك أنهض نور الدّين فِي أَثَرهم فريقا وافرا من الْعَسْكَر فأدركوهم واستخلصوا مِنْهُم جَمِيع مَا أَخَذُوهُ وأعيد إِلَى أربابه
قَالَ وتقرر الرَّأْي النورى على التَّوَجُّه إِلَى مَدِينَة حران لمنازلتها واستعادتها من يَد أَخِيه نصْرَة الدّين حَسْبَمَا رَآهُ فِي ذَلِك من الصّلاح فَرَحل فِي عسكره أول جُمَادَى الْآخِرَة فَلَمَّا نزل عَلَيْهَا وأحاط بهَا وَقعت المراسلات إِلَى أَن تقرر الْحَال على أَمَان من بهَا وسلمت فِي يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة وقررت أحوالها وَأحسن النّظر فِي أَحْوَال(1/386)
أَهلهَا وَسلمهَا للأمير زين الدّين عَليّ على سَبِيل الإقطاع وفوض إِلَيْهِ تَدْبِير أمورها
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي صفر توفى الْأَمِير مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين أحد مقدمي أُمَرَاء الأكراد وَهُوَ من ذوى الوجاهة فِي الدولة مَوْصُوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بَث الصلات وَالصَّدقَات فِي الْمَسَاكِين والضعفاء والفقراء مَعَ الزَّمَان فِي كل عصر يَنْقَضِي وَأَوَان جميل الْمحيا حسن الْبشر فِي اللِّقَاء
وَحمل من دَاره بِبَاب الفراديس إِلَى الْجَامِع للصَّلَاة ثمَّ إِلَى الْمدرسَة الْمَشْهُورَة باسمه فَدفن فِيهَا من الْيَوْم وَلم يخل من باك عَلَيْهِ ومؤبن لَهُ ومتأسف على فَقده لجميل أَفعاله وَحميد خلاله
قلت وَله أوقاف على أَبْوَاب الْبر مِنْهُ المدرستان المنسوبتان إِلَيْهِ إِحْدَاهمَا الَّتِي دفن فِيهَا وَهِي لزيق بَاب الفراديس المجدد وَالْأُخْرَى قبالة(1/387)
بَاب دَار سيف الغربى فِي صف مدرسة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
وَله وقف على من يقْرَأ السَّبع كل يَوْم بمقصورة الْخضر بِجَامِع دمشق وَغير ذَلِك وَقد مدحه العرقلة وَغَيره
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي مستهل صفر رفع القَاضِي زكى الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى بن عَليّ الْقرشِي قَاضِي دمشق إِلَى الْملك الْعَادِل نور الدّين رقْعَة يسْأَله فِيهَا الإعفاء من الْقَضَاء والاستبدال بِهِ فَأجَاب سُؤَاله وَولى قَضَاء دمشق القَاضِي كَمَال الدّين ابْن الشهرزوري وَهُوَ الْمَشْهُور بالتقدم ووفور الْعلم وصفاء الْفَهم والمعرفة بقوانين الْأَحْكَام وشروط اسْتِعْمَال الْإِنْصَاف وَالْعدْل والنزاهة وتجنب الْهوى وَالظُّلم
واستقام لَهُ الْأَمر على مَا يهواه ويؤثره ويرضاه على أَن الْقَضَاء من بعض أدواته وَاسْتقر أَن يكون النَّائِب عَنهُ عِنْد اشْتِغَاله وَلَده
قلت ولكمال الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الصَّدَقَة الْجَارِيَة بعده على الْفُقَرَاء كل يَوْم جُمُعَة وَإِلَيْهِ ينْسب الشباك الكمالي بِجَامِع دمشق من الغرب وَهُوَ الَّذِي حكمت فِيهِ الْقُضَاة مُدَّة وَيصلونَ فِيهِ الْجُمُعَة فِي زَمَاننَا
وَإِلَى هَهُنَا انْتهى مَا نَقَلْنَاهُ من كتاب الرئيس أبي يعلى التَّمِيمِي فَإِنَّهُ آخر كِتَابه
وَفِي هَذِه السّنة توفّي رَحمَه الله تَعَالَى(1/388)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة خمس وَخمسين توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفي بن المستظهر ومولده سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَكَانَت خِلَافَته أَرْبعا وَعشْرين سنة وشهرين وبويع وَلَده أَبُو المظفر يُوسُف ولقب المستنجد بِاللَّه فَأقر ابْن هُبَيْرَة على وزارته
قَالَ وفيهَا حج زين الدّين عَليّ وَأحسن إِلَى النَّاس فِي طَرِيق مَكَّة وَأكْثر الصَّدقَات فَلَمَّا وصل بَغْدَاد أكْرمه المستنجد بِاللَّه فَلَمَّا لبس الخلعة كَانَت طَوِيلَة وَكَانَ قَصِيرا جدا فَمد يَده إِلَى كمراته وَأخرج مَا شدّ بِهِ وَسطه وَقصر الْجُبَّة فَنظر المستنجد إِلَيْهِ وَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَقَالَ لمن عِنْده مثل هَذَا يكون الْأَمِير والجندي لَا مثلكُمْ
قلت وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْمُسْتَخْلف بِمصْر الملقب بالفائز بن الظافر بن الْحَافِظ وَولي بعده ابْن عَمه العاضد بن يُوسُف بن الْحَافِظ وَهُوَ أخر خلفاء مصر
وَوصل من الصَّالح بن رزيك كتاب إِلَى ابْن منقذ أُسَامَة بذلك فَكتب إِلَيْهِ
(هناء بنعمى قل عَن قدرهَا الشُّكْر ... وصبرا لرزء لَا يقوم بِهِ الصَّبْر)
(مضى الفائز الطُّهْر الإِمَام وَقَامَ بِالْإِمَامَةِ ... فِينَا بعده العاضد الطُّهْر)
(إِمَامًا هدى لله فِي نقل ذَا إِلَى ... كرامته وَفِي إِقَامَة ذَا سر)
(فعش أبدا واسلم لَهُم يَا كفيلهم ... تدافع عَنْهُم كل حَادِثَة تعرو)(1/389)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن أبي طي فِي هَذِه السّنة حج أَسد الدّين من الشَّام وَخرج فِي تجمل عَظِيم وشارة رائعة واستصحب مَعَه من الأزواد والكسى أَشْيَاء عَظِيمَة وَيُقَال إِنَّه كَانَ مَعَه ألف نفس يجرى عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب
وَحج على كوجك الْمَعْرُوف بزين الدّين من الْعرَاق وَحج ملهم أَخُو ضرغام وَزِير مصر فَكَانَ الْمَوْسِم بهؤلاء الثَّلَاثَة كثير الْخَيْر وَاسْتغْنى بسببهم أهل الْحجاز وَعَاد أَسد الدّين سالما وَخرج نور الدّين إِلَى لِقَائِه وَكَانَ يَوْم وُرُوده يَوْمًا عَظِيما
وَقَالَ أَيْضا فِيهَا قتل الصَّالح بن رزيك بِمصْر وَكَانَ سَبَب قَتله إِن عمَّة العاضد عملت على قَتله ونفذت الْأَمْوَال إِلَى الْأُمَرَاء فَبلغ ذَلِك الصَّالح فاستعاد الْأَمْوَال واحتاط على عمَّة العاضد
قَالَ وَإِنَّمَا كرهته عمَّة العاضد لاستيلائه على الْأُمُور والدولة وَحفظه للأموال وَقتل الصَّالح بِسَبَبِهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء ونكبهم وَتمكن من الدولة تمَكنا حسنا
ثمَّ إِن عمَّة العاضد عَادَتْ وأحكمت الْحِيلَة عَلَيْهِ وبذلت لقوم من السودَان مَالا جزيلا(1/390)
حَتَّى أوقعوا بِهِ الْفِعْل جَلَسُوا لَهُ فِي بَيت فِي دهليز الْقصر مختفين فِيهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم تَاسِع عشر رَمَضَان ركب إِلَى الْقصر ودخله وَسلم على العاضد وَخرج من عِنْده فَخرج عَلَيْهِ الْجَمَاعَة وَوَقعت الصَّيْحَة فعثر الصَّالح بأذياله فطعنه أحدهم بِالسَّيْفِ فِي ظَاهر رقبته فَقطع أحد عمودي الرَّقَبَة وَحمل إِلَى بَاب الْقصر وَأُصِيب وَلَده رزيك فِي كتفه
وَلما حصل الصَّالح فِي دَاره أوصى وَلَده رزيك وَمَات بعد سَاعَة من ذَلِك الْيَوْم
قَالَ الْعِمَاد وانكسفت شمس الْفَضَائِل وَرخّص سعر الشّعْر وانخفض علم الْعلم وضاق فضاء الْفضل وَعم رزء ابْن رزيك وَملك صرف الدَّهْر ذَلِك المليك فَلم تزل مصر بعده منجوسة الْحَظ منحوسة الْجد منكوسة الرَّايَة معكوسة الْآيَة إِلَى أَن ملكهَا يوسفها الثَّانِي وَجعلهَا مغاني الْمعَانِي وأنشر رميمها وعطر نسيمها وتسلم قصرهَا وَالْتزم خصرها
قَالَ زين الدّين الْوَاعِظ عمل فَارس الْمُسلمين أَخُو الصَّالح دَعْوَة فِي شبعان من السّنة الَّتِي قتل فِيهَا فَعمل هَذِه الأبيات وَسلمهَا إِلَيّ
(أنست بكم دهرا فَلَمَّا ظعنتم اسْتَقَرَّتْ ... بقلبي وَحْشَة للتفرق)
وَمِنْهَا
(وأعجب شَيْء أنني يَوْم بَيْنكُم ... بقيت وقلبي بَين جَنْبي مَا بقى)
(أرى الْبعد مَا بيني وَبَين أحبتي ... كبعد المدى مَا بَين غرب ومشرق)(1/391)
أَلا جددي يَا نفس وجدا وحسرة ... فَهَذَا فِرَاق بعده لَيْسَ نَلْتَقِي)
قَالَ فَلم يبْق بعْدهَا لَهُم اجْتِمَاع فِي مَسَرَّة وَقتل فِي شهر رَمَضَان
قلت ولعمارة اليمني وَلغيره فِي الصَّالح مدائح ومراث جليلة وَقد أثنى عَلَيْهِ كثيرا فِي = كتاب الوزراء الْمصْرِيّ = وَقَالَ لم يكن مجْلِس أنسه يَنْقَطِع إِلَّا بالمذاكرة فِي أَنْوَاع الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والأدبية وَفِي مذاكرة وقائع الحروب مَعَ أُمَرَاء دولته
قَالَ وَكَانَ مرتاضا قد شم أَطْرَاف المعارف وتميز عَن أجلاف الْمُلُوك وَكَانَ شَاعِرًا يحب الْأَدَب وَأَهله يكرم جليسه ويبسط أنيسه وَلكنه كَانَ مفرط العصبية فِي مَذْهَب الإمامية وَكَانَ مرتاضا حصيفا قد لَقِي فِي ولَايَته فُقَهَاء السّنة وَسمع كَلَامهم
قَالَ وَدخلت عَلَيْهِ قبل أَن يَمُوت بِثَلَاث لَيَال وَفِي يَده قرطاس قد كتب فِيهِ بَيْتَيْنِ من شعره عملهما فِي تِلْكَ السَّاعَة وهما
(نَحن فِي غَفلَة ونوم وللموت ... عُيُون يقظانة لَا تنام)
(قد رحلنا إِلَى الْحمام سنينا ... لَيْت شعري مَتى يكون الْحمام)
قَالَ وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق أَنِّي أنشدت ابْنه مجد الْإِسْلَام فِي دَار سعيد السُّعَدَاء ليله السَّادِس عشر من شهر رَمَضَان أَو السَّابِع عشر قصيدة أَقُول فِيهَا
(أَبوك الَّذِي تسطو اللَّيَالِي بحده ... وَأَنت يَمِين إِن سَطَا وشمال)
(لرتبته الْعُظْمَى وَإِن طَال عمره ... إِلَيْك مصير وَاجِب ومآل)
(تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شرِيف لَا انْقَضى وحجال)(1/392)
قَالَ فانتقل الْملك بعد ثَلَاث إِلَيْهِ
قَالَ وَمِمَّا رثيته بِهِ وَإِن كَانَ كثيرا قولي
(أفى أهل ذَا النادي عليم أسائله ... فَأَنِّي لما بِي ذَاهِب اللب ذاهله)
(سَمِعت حَدِيثا أحسد الصم عِنْده ... وَيذْهل واعيه ويخرس قَائِله)
(فقد رَابَنِي من شَاهد الْحَال أنني ... أرى الدست مَنْصُوبًا وَمَا فِيهِ كافله)
(وَأَنِّي أرى فَوق الْوُجُوه كآبة ... تدل على أَن الْوُجُوه ثواكله)
(دَعونِي فَمَا هَذَا بِوَقْت بكائه ... سَيَأْتِيكُمْ طل الْبكاء ووابله)
(وَلم لَا نبكيه ونندب فَقده ... وَأَوْلَادنَا أيتامه وأرامله)
(فيا لَيْت شعري بعد حسن فعاله ... وَقد غَابَ عَنَّا مَا بِنَا الدَّهْر فَاعله)
(أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم ... فيسكن أم تطوى ببين مراحله)
وَله من أُخْرَى يرثيه وَيذكر ولَايَة ابْنه
(طمع الْمَرْء فِي الْحَيَاة غرور ... وطويل الآمال فِيهَا قصير)
وَمِنْهَا
(وَلكم قدر الْفَتى فَأَتَتْهُ ... نوب لم يحط بهَا التَّقْدِير)
(فض ختم الْحَيَاة عَنْك حمام ... لَا يُرَاعى إِذْنا وَلَا يستشير)
(مَا تخطى إِلَى جلالك إِلَّا ... قدر أمره علينا قدير)
(يَا أَمِير الجيوش هَل لَك علم ... أَن حر الأسى علينا أَمِير)
(إِن قبرا حللته لغنى ... إِن دهرا فارقته لفقير)
(انطوى ذَلِك الْبسَاط وعهدي ... وَهُوَ بِالْعلمِ والندى معمور)(1/393)
(لَا تظن الْأَنَام أَنَّك ميت ... لم يمت من ثَنَاؤُهُ منشور)
(إِن مضى كافل فَهَذَا كَفِيل ... أَو وَزِير يغب فَهَذَا وَزِير)
(دولة صالحية خلفتها ... دولة عادلية لَا تجور)
(أعقب الدَّهْر بؤسه بنعيم ... رب حزن فِي الطي مِنْهُ سرُور)
(مَا شَكَوْنَا كسر النوائب حَتَّى ... قيل فِي الْحَال كسركم مجبور)
(نصر النَّاصِر الْعلَا بالعوالي ... ولنعم الْمولى وَنعم النصير)
وَقَالَ أَيْضا يرثيه وَيذكر الظفر بقاتليه ويصف نقل تابوته إِلَى مشهده بالقرافة قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(قد كنت أشرق من ثماد مدامعي ... أسفا فَكيف وَقد طمى التيار)
(عَم الورى يَوْم الْخَمِيس وخصني ... خطب بأنف الدَّهْر مِنْهُ صغَار)
(مَا أوحش الدُّنْيَا غدية فَارَقت ... قطبا رحى الدُّنْيَا عَلَيْهِ تدار)
(خربَتْ ربوع المكرمات لوَاحِد ... عمرت بِهِ الأجداث وَهِي قفار)
(نعش الجدود العاثرات مشيع ... عشيت بِرُؤْيَة نعشه الْأَبْصَار)
(نعش تود بَنَات نعش لَو غَدَتْ ... ونظامها أسفا عَلَيْهِ نثار)
(شخص الْأَنَام إِلَيْهِ تَحت جَنَازَة ... خفضت لرفعة قدرهَا الأقدار)
(سَار الإِمَام أمامها فَعلمت إِن ... قد شيعتها الْخَمْسَة الْأَبْرَار)
(وَمَشى الْمُلُوك بهَا حُفَاة بعد مَا ... حفت مَلَائِكَة بهَا أطهار)
(فَكَأَنَّهَا تَابُوت مُوسَى أودعت ... فِي جانبيه سكينَة ووقار)
(لكنه مَا ضم غير بَقِيَّة الْإِسْلَام ... وَهُوَ الصَّالح الْمُخْتَار)
(أقطنته دَار الوزارة ريثما ... بنيت لنقلته الْكَرِيمَة دَار)
(وتغاير الهرمان والحرمان فِي ... تابوته وعَلى الْكَرِيم يغار)
(آثرت مصرا مِنْهُ بالشرف الَّذِي ... حسدت قرافتها لَهُ الْأَمْصَار)
(وجعلتها أمنا بِهِ ومثابة ... ترجو مثابة قَصدهَا الزوار)(1/394)
(قد قلت إِذْ نقلوه نقلة ظاعن ... نزحت بِهِ دَار وشط مَزَار)
(مَا كَانَ إِلَّا السَّيْف جدد غمده ... بسواه وَهُوَ الصارم البتار)
(والبدر فَارق برجه مبتدلا ... برجا بِهِ تتشعشع الْأَنْوَار)
(والغيث روى بَلْدَة ثمَّ انتحى ... أُخْرَى فنوء سحابه مدرار)
(يَا مُسبل الأستار دون جَلَاله ... مَاذَا الَّذِي رفعت لَهُ الأستار)
(مَالِي أرى الزوار بعد مهابة ... فوضى وَلَا إِذن وَلَا استئمار)
(غضب الْإِلَه على رجال أقدموا ... جهلا عَلَيْك وَآخَرين أشاروا)
(لَا تَعَجبا لقدار نَاقَة صَالح ... فَلِكُل دهر نَاقَة وقدار)
(واخجلتا للبيض كَيفَ تطاولت ... سفها بأيدي السود وَهِي قصار)
(واحسرتا كَيفَ انْفَرَدت لأعبد ... وعبيدك السادات والأحرار)
(رصدوك فِي ضيق المجال بِحَيْثُ لَا الخطي ... متسع وَلَا الخطار)
(مَا كَانَ أقصر باعهم عَن مثلهَا ... لَو كنت متروكا وَمَا تخْتَار)
(وَلَقَد ثَبت ثبات مقتدر على ... خذلانهم لَو ساعد الْمِقْدَار)
(وتعثرت أَقْدَامهم بك هَيْبَة ... لَو لم يكن لَك بالذيول عثار)
(أحللت دَار كَرَامَة لَا تَنْقَضِي ... أبدا وَحل بقاتليك بوار)
(يَا لَيْت عَيْنك شاهدت أَحْوَالهم ... من بعْدهَا وَرَأَتْ إِلَى مَا صَارُوا)
(وَقع الْقصاص بهم وَلَيْسوا مقنعا ... يُرْضِي وَأَيْنَ من السَّمَاء غُبَار)
(ضَاقَتْ بهم سَعَة الفجاج وَرُبمَا ... نَام الْعَدو وَلَا ينَام الثار)
(وتوهموا أَن الْفِرَار مَطِيَّة ... تنجي وَأَيْنَ من الْقَضَاء فرار)
(طاروا فَمد أَبُو الشجاع لصيدهم ... شرك الردى فكأنهم مَا طاروا)
(فتهن بِالْأَجْرِ الجزيل وميتة ... درجت عَلَيْهَا قبلك الأخيار)(1/395)
(مَاتَ الْوَصِيّ بهَا وَحَمْزَة عَمه ... وَابْن البتول وجعفر الطيار)
(نلْت السَّعَادَة وَالشَّهَادَة والعلا ... حَيا وَمَيتًا إِن ذَا لفخار)
(وَلَقَد أقرّ الْعين بعْدك أروع ... لولاه لم يَك للعلا اسْتِقْرَار)
(النَّاصِر الْهَادِي الَّذِي حَسَنَاته ... عَن سيئات زَمَاننَا أعذار)
(لما استقام لحفظ أمة أَحْمد ... عمرت بِهِ الأوطان والأوطار)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا جمع نور الدّين العساكر بحلب وَسَار إِلَى قلعة حارم وحصرها وجد فِي قتالها فامتنعت عَلَيْهِ لحصانتها وَكَثْرَة من بهَا من فرسَان الفرنج وشجعانهم وَاجْتمعَ الفرنج من سَائِر الْبِلَاد وَسَارُوا نَحوه ليرحلوه عَنْهَا فَلَمَّا قاربوه طلب مِنْهُم المصاف فَلم يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِك وراسلوه وتلطفوا الْحَال مَعَه فَعَاد إِلَى بِلَاده
وَمِمَّنْ كَانَ مَعَه فِي هَذِه الْغُزَاة الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن منقذ وَكَانَ من الشجَاعَة فِي الْغَايَة الَّتِي لَا مزِيد عَلَيْهَا فَلَمَّا عَاد إِلَى حلب دخل إِلَى مَسْجِد سِيرِين وَكَانَ قد دخله فِي الْعَام الْمَاضِي سائرا إِلَى الْحَج فَلَمَّا دخله عامئذ كتب على حَائِطه
(لَك الْحَمد يَا مولَايَ كم لَك منَّة ... على وَفضل لَا يُحِيط بِهِ شكري)
(نزلت بِهَذَا الْمَسْجِد الْعَام قَافِلًا ... من الْغَزْو موفور النَّصِيب من الْأجر)
(وَمِنْه رحلت العيس فِي عَامي الَّذِي ... مضى نَحْو بَيت الله ذِي الرُّكْن وَالْحجر)
(فأديت مفروضي وأسقطت ثقل مَا ... تحملت من وزر الشبيبة عَن ظَهْري)(1/396)
قلت أذكرني هَذَا مَا كتبه أُسَامَة أَيْضا بِمَدِينَة صور وَقد دخل دَار ابْن أبي عقيل فرآها وَقد تهدمت وتغيرت زخرفتها فَكتب على لوح من رُخَام
(احذر من الدُّنْيَا وَلَا ... تغتر بالعمر الْقصير)
(وَتنظر إِلَى آثَار من ... صرعته منا بالغرور)
(عمروا وشادوا مَا ترَاهُ ... من الْمنَازل والقصور)
(وتحولوا من بعد سكناهَا ... إِلَى سكني الْقُبُور)
قلت ابْن أَبى عقيل هَذَا هُوَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله بن عِيَاض بن أَبى عقيل صَاحب صور ويلقب عين الدولة مَاتَ سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبع مئة وَاسْتولى على صور ابْنه النفيس
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا جمع نور الدّين عساكره وَدخل بِلَاد الفرنج فَنزل بالبقيعة تَحت حصن الأكراد وَهُوَ للفرنج عَازِمًا على دُخُول بِلَادهمْ ومنازلة طرابلس فَبَيْنَمَا النَّاس فِي بعض الْأَيَّام فِي خيامهم وسط النَّهَار لم يرعهم إِلَّا ظُهُور صلبان الفرنج من وَرَاء الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ الْحصن فكبسوهم فَأَرَادَ الْمُسلمُونَ دفعهم فَلم يطيقوا فَانْهَزَمُوا وَوضع الفرنج السَّيْف وَأَكْثرُوا الْقَتْل والأسر وقصدوا خيمة الْملك الْعَادِل فَخرج من ظهر خيمته عجلا بِغَيْر قبَاء فَركب فرسا هُنَاكَ للنوبة ولسرعته رَكبه وَفِي رجله شبحة فَنزل)(1/397)
إِنْسَان من الأكراد فقطعها فنجا نور الدّين وَقتل الْكرْدِي فَسَأَلَ نور الدّين عَن مخلفي ذَلِك الْكرْدِي فَأحْسن إِلَيْهِم جَزَاء لفعله وَكَانَ أَكثر الْقَتْل فِي السوقة والغلمان
وَسَار نور الدّين إِلَى مَدِينَة حمص فَأَقَامَ بظاهرها وأحضر مِنْهَا مَا فِيهَا من الْخيام ونصبها على بحيرة قدس على فَرسَخ من حمص وَبَينهَا وَبَين مَكَان الْوَقْعَة أَرْبَعَة فراسخ وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه لَا يقف دون حلب وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى أَشْجَع من ذَلِك وَأقوى عزما
وَلما نزل على بحيرة قدس اجْتمع إِلَيْهِ كل من نجا من المعركة فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه لَيْسَ من الرَّأْي أَن تقيم هَهُنَا فَإِن الفرنج رُبمَا حملهمْ الطمع على الْمَجِيء إِلَيْنَا وَنحن على هَذِه الْحَال
فوبخه وأسكته وَقَالَ إِذا كَانَ معي ألف فَارس فَلَا أُبَالِي بهم قلوا أَو كَثُرُوا وَوَاللَّه لَا أستظل بجدار حَتَّى اخذ بثأر الْإِسْلَام وثأري
ثمَّ إِنَّه أرسل إِلَى حلب ودمشق وأحضر الْأَمْوَال وَالدَّوَاب والأسلحة والخيام وَسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجند فَأكْثر وَفرق ذَلِك جَمِيعه على من سلم وَأما من قتل فانه أقرّ إقطاعه على أَوْلَاده فَإِن لم يكن لَهُ ولد فعلى بعض أَهله فَعَاد الْعَسْكَر كَأَنَّهُ لم يفقد مِنْهُ أحد
وَأما الفرنج فَإِنَّهُم كَانُوا عازمين على قصد حمص بعد الْهَزِيمَة لِأَنَّهَا أقرب الْبِلَاد إِلَيْهِم فَلَمَّا بَلغهُمْ مقَام نور الدّين عِنْدهَا قَالُوا إِنَّه لم يفعل هَذَا إِلَّا وَعِنْده من الْقُوَّة أَن يمنعنا
وَكَانَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قد أَكثر الخرج إِلَى أَن قسم فِي يَوْم وَاحِد مئتي ألف دِينَار سوى غَيرهَا من الدَّوَابّ والخيام وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك
وَتقدم إِلَى ديوانه أَن يحضروا الْجند ويسألوا كل وَاحِد مِنْهُم عَن الَّذِي أَخذ مِنْهُ فَكل من ذكر شَيْئا أَعْطوهُ عوضه فَحَضَرَ بعض الْجند وَادّعى شَيْئا كثيرا(1/398)
علم بعض النواب كذبه فِيمَا ادْعاه لمعرفتهم بِحَالهِ فأرسلوا إِلَى نور الدّين ينهون إِلَيْهِ الْقَضِيَّة ويستأذنونه فِي تَحْلِيف الجندي على مَا ادَّعَاهُ
فَأَعَادَ الْجَواب لَا تكدروا عطاءنا فَإِنِّي أَرْجُو الثَّوَاب وَالْأَجْر على قَلِيله وَكَثِيره
وَقَالَ لَهُ أَصْحَابه إِن لَك فِي بلادك إدرارتٍ كَثِيرَة وصلات عَظِيمَة للفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فَلَو استعنت بهَا لآن لَكَانَ أمثل فَغَضب من هَذَا وَقَالَ وَالله إِنِّي لَا أَرْجُو النَّصْر إِلَّا بأولئك فَإِنَّمَا ترزقون وتنصرون بضعفائكم
كَيفَ أقطع صلات قوم يُقَاتلُون عَنى وَأَنا نَائِم فِي فِرَاشِي بسهام لَا تخطئ وأصرفها إِلَى من يُقَاتل عَنى إِذا رَآنِي بسهام قد تخطئ وتصيب ثمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم نصيب فِي بَيت المَال أصرفه إِلَيْهِم كَيفَ أعْطِيه غَيرهم فَسَكَتُوا
ثمَّ إِن الفرنج أرْسلُوا إِلَى نور الدّين فِي المهادنة فَلم يجبهم إِلَيْهَا فتركوا عِنْد الْحصن من يحميه وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَتَفَرَّقُوا
قلت وَفِي هَذِه الْحَادِثَة تَحت حصن الأكراد يَقُول أَبُو الْفرج(1/399)
عبد الله بن أسعد الْموصِلِي نزيل حمص من جملَة قصيدة فائقة يمدح بهَا نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى أَولهَا
(ظبى المواضي وأطراف القنا الذبل ... ضوامن لَك مَا حازوه من نفل)
(وكافل لَك كَاف مَا تحاوله ... عز وعزم وبأس غير منتحل)
(وَمَا يعيبك مَا حازوه من سلب ... بالختل قد تؤسر الآساد بالحيل)
(وَإِنَّمَا أخلدوا جبنا إِلَى خدع ... إِذْ لم يكن لَهُم بالجيش من قبل)
(واستيقظوا وَأَرَادَ الله غفلتكم ... لينفذ الْقدر المحتوم فِي الْأَزَل)
(حَتَّى أَتَوْكُم وَلَا الماذي من أُمَم ... وَلَا الظبي كثب من مرهق عجل)
(قِنَا لقى وقسي غير موترة ... وَالْخَيْل عازبة ترعى مَعَ الهمل)
(مَا يصنع اللَّيْث لَا نَاب وَلَا ظفر ... بِمَا حواليه من عفر وَمن وعل)
(هلا وَقد ركب الْأسد الصقور وَقد ... سلوا الظبى تَحت غابات من الأسل)
(وَإِنَّمَا هم أضاعوا حزمهم ثِقَة ... بِجَمْعِهِمْ وَلكم من واثق خجل)
(بنى الأصافر مَا نلتم بمكركم ... وَالْمَكْر فِي كل إِنْسَان أَخُو الفشل)
(وَمَا رجعتم بأسرى خَابَ سعيكم ... غير الأراذل والأتباع والسفل)(1/400)
(سلبتم الجرد معراة بِلَا لجم ... والسمر مركوزة وَالْبيض فِي الْخلَل)
(هَل اخذ الْخَيل قد أردى فوارسها ... مِثَال آخذها فِي الشكل والطول)
(أم سالب الرمْح مركوزا كسالبه ... وَالْحَرب دَائِرَة من كف معتقل)
(جَيش أَصَابَتْهُم عين الْكَمَال وَمَا ... يَخْلُو من الْعين إِلَّا غير مكتمل)
(لَهُم بِيَوْم حنين أُسْوَة وهم ... خير الْأَنَام وَفِيهِمْ خَاتم الرُّسُل)
(سيقتضيكم بِضَرْب عِنْد أهونه ... الْبيض كالبيض والأدراع كالحلل)
(ملك بعيد من الأدناس ذُو كلف ... بِالصّدقِ فِي القَوْل وَالْإِخْلَاص فِي الْعَمَل)
وَمِنْهَا
(فالسمر مَا أَصبَحت وَالشَّمْس مَا أفلت ... وَالسيف مَا فل والأطواد لم تزل)
(كم قد تجلت بِنور الدّين من ظلم ... للظلم وإنجاب للإضلال من ظلل)
(قل لِلْمُولّين كفوا الطّرف من جبن ... عِنْد اللِّقَاء وغضوا الطّرف من خجل)
(طلبتم السهل تبغون النجَاة وَلَو ... لذتم بملككم لذتم إِلَى جبل)
(أسلمتموه ووليتم فسلمكم ... بثبتة لَو بغاها الطود لم ينل)
(فَقَامَ فَردا وَقد ولت جحافله ... فَكَانَ من نَفسه فِي جحفل زجل)
(فِي مشْهد لَوْ لُيُوث الغيل تشهده ... خرت لأذقانها من شدَّة الوهل)
(وسط العدى وَحده ثَبت الْجنان وَقد ... طارت قُلُوب على بعد من الوجل)
(يعود عَنْهُم رويدا غير مكثرث ... بهم وَقد كرّ فيهم غير محتفل)
(يزْدَاد قدما إِلَيْهِم من تيقنه ... أَن التَّأَخُّر لَا يحمى من الْأَجَل)(1/401)
(مَا كَانَ أقربهم من أسر أبعدكم ... لَو أَنهم لم يَكُونُوا مِنْهُ فِي شغل)
(ثباته فِي صُدُور الْخَيل أنقذكم ... لَا تحسبوا وثبات الضمّر الذلّل)
(مَا كل حِين تصاب الْأسد غافلة ... وَلَا يُصِيب الشَّديد الْبَطْش ذُو الشلل)
(وَالله عونك فِيمَا أَنْت مزمعه ... كَمَا أعانك فِي أيامك الأول)
(كم قد ملكت لَهُم ملكا بِلَا عوض ... وحزت من بلد مِنْهَا بِلَا بدل)
(وَكم سقيت العوالي من طلى ملك ... وَكم قريت العوافي من قرا بَطل)
(لَا نكبت سهمك الأقدار عَن غَرَض ... وَلَا ثنت يدك الْأَيَّام عَن أمل)
قلت حاول ابْن أسعد فِي هَذِه القصيدة مَا حاوله المتنبي فِي قَوْله
(غَيْرِي بِأَكْثَرَ هَذَا النَّاس ينخدع ... ) القصيدة
فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا اعتذر عَن أَصْحَابه ومدحهم وهم المنهزمون وَقد أحسنا مَعًا عَفا الله عَنْهُمَا
وَعبد الله بن أسعد هَذَا فَقِيه فَاضل وشاعر مفلق كَانَ مدرسا بحمص يعرف بِابْن الدهان وَله تَرْجَمَة فِي = تَارِيخ دمشق =
وَقد ذكره الْعِمَاد(1/402)
الْكَاتِب فِي = خريدته = فَأحْسن ذكره وَأكْثر الثَّنَاء على علمه وشعره وَسَيَأْتِي ذكره أَيْضا فِي هَذَا الْكتاب فِي أَخْبَار سنة سبعين وست وَسبعين وثمان وَسبعين إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَان وَخمسين توفى عبد الْمُؤمن بن عَليّ خَليفَة الْمهْدي مُحَمَّد بن تومرت صَاحب الْمغرب وَولى بعده ابْنه يُوسُف
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة
فَفِيهَا سَار أَسد الدّين شيركوه بن شاذي إِلَى مصر الْمرة الأولى وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء الَّذين فِي الْخدمَة النورية عَازِمًا على ملك الديار المصرية واستضافتها إِلَى المملكة النورية
وَكَانَ أَسد الدّين وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وَهُوَ الْأَكْبَر ابْنا شاذي من بلد دوين وَهِي بَلْدَة من آخر بِلَاد أذْرَبِيجان مِمَّا يَلِي الرّوم واصلهما من الأكراد الروادية وَهَذَا الْقَبِيل من اشرف الأكراد وقدما الْعرَاق وخدما(1/403)
مُجَاهِد الدّين بهروز الْخَادِم وَهُوَ شِحنة الْعرَاق فَرَأى من نجم الدّين عقلا ورأيا وَحسن سيرة فَجعله دزدارا بتكريت وَهِي لَهُ فَسَار إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ أَسد الدّين
فَلَمَّا انهزم أتابك زنكي الشَّهِيد وَالِد نور الدّين بالعراق من قراجه الساقي وَهُوَ أتابك دَاوُد بن السُّلْطَان مَحْمُود وَذَلِكَ زمن المسترشد بِاللَّه سنة سِتّ وَعشْرين وَخمْس مئة وصل إِلَى تكريت فخدمه نجم الدّين أَيُّوب وَأقَام لَهُ السفن فَعبر دجلة هُنَاكَ وَتَبعهُ أَصْحَابه فَأحْسن نجم الدّين صحبتهم وسيرهم
ثمَّ إِن أَسد الدّين قتل إنْسَانا نَصْرَانِيّا بتكريت لملاحاة جرت بَينهمَا فَأرْسل مُجَاهِد الدّين إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيه نجم الدّين فأخرجهما من تكريت
وَقيل إِن أَيُّوب كَانَ يحسن الرماية فَرمى شخصا من مماليك بهروز بِسَهْم فَقتله فخشى على نَفسه فَتوجه نَحْو الشَّام وخدم مَعَ زنكي وَقيل(1/404)
لما قتل أَسد الدّين شيركوه النَّصْرَانِي وَكَانَ عَزِيزًا عِنْد بهروز هرب إِلَى الْموصل والتحق أَيُّوب بِهِ وسنوضح هَذِه الْقَضِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى عِنْد ذكر وَفَاة أَيُّوب فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَسِتِّينَ
ثمَّ إِن أَيُّوب وشيركوه قصدا أتابك الشَّهِيد فَأحْسن إِلَيْهِمَا وَعرف لَهما خدمتهما وأقطعهما إقطاعاً حسنا وصارا من جملَة جنده فَلَمَّا فتح حصن بعلبك جعل نجم الدّين دزداراً فِيهِ فَلَمَّا قُتل الشَّهِيد حّصر عَسْكَر دمشق نجم الدّين فَأرْسل إِلَى سيف الدّين غَازِي وَقد قَامَ بِالْملكِ بعد وَالِده يُنْهِي الْحَال إِلَيْهِ فَلم يتفرغ لبعلبك وضاق الْأَمر على من بهَا وَخَافَ نجم الدّين أَن تُؤْخَذ عنْوَة ويناله أَذَى فَأرْسل فِي تَسْلِيم القلعة وَطلب إقطاعا ذكره فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَحلف لَهُ صَاحب دمشق عَلَيْهِ وَسلم القلعة ووفى لَهُ بِمَا حلف عَلَيْهِ من الإقطاع والتقدم وَصَارَ عِنْده من أكَابِر الْأُمَرَاء
واتصل أَخُوهُ أَسد الدّين شيركوه بِالْخدمَةِ النورية بعد قتل الشَّهِيد وَكَانَ يَخْدمه فِي أَيَّام وَالِده فقربه نور الدّين وأقطعه وَرَأى مِنْهُ فِي حروبه ومشاهده آثارا يعجز عَنْهَا غَيره لشجاعته وجرأته فزاده إقطاعاً وقرباً حَتَّى صَارَت لَهُ حمص والرحبة وَغَيرهمَا وَجعله مقدم عسكره
فَلَمَّا تعلّقت الهمة النورية بِملك دمشق أَمر أَسد الدّين فراسل أَخَاهُ نجم الدّين وَهُوَ بهَا فِي ذَلِك وَطلب مِنْهُ المساعدة على فتحهَا فَأجَاب إِلَى مَا يُرَاد مِنْهُ وَطلب هُوَ وَأسد الدّين من نور الدّين كثيرا من الإقطاع والأملاك بِبَلَد دمشق وَغَيرهَا فبذل لَهما مَا طلبا مِنْهُ وَحلف لَهما عَلَيْهِ ووفى لَهما لما ملكهَا وصارا عِنْده فِي أَعلَى الْمنَازل لاسيما نجم الدّين فَإِن(1/405)
جَمِيع الْأُمَرَاء كَانُوا لَا يَقْعُدُونَ عِنْد نور الدّين إِلَّا أَن يَأْمُرهُم أَو أحدهم بذلك إِلَّا نجم الدّين فَإِنَّهُ كَانَ إِذا دخل إِلَيْهِ قعد من غير أَن يُؤمر بذلك
فَلَمَّا كَانَ سنة تسع وَخمسين عزم نور الدّين على إرْسَال العساكر إِلَى مصر وَلم ير لهَذَا الْأَمر الْكَبِير أقوم وَلَا أَشْجَع من أَسد الدّين فسيره
وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن شاور بن مجير أَبَا شُجَاع السَّعْدِيّ وَهُوَ الملقب أَمِير الجيوش الَّذِي يَقُول فِيهِ عُمارة من جملَة قصيدة
(ضجر الْحَدِيد من الْحَدِيد وشاور ... فِي نصر آل مُحَمَّد لم يضجر)
(حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر)
وَهُوَ وَزِير الملقب بالعاضد لدين الله آخر المستخلفين بِمصْر كَانَ قد وصل إِلَى دمشق فِي سنة ثَمَان وَخمسين فِي سادس ربيع الأول إِلَى نور الدّين مستنجداً بِهِ على من أَخذ مِنْهُ منصبه قهرا
وَكَانَت عَادَة المصريين أَنه إِذا غلب شخص صَاحب المنصب وَعجز صَاحب المنصب عَن دَفعه وَعرفُوا عَجزه وَقَعُوا للقاهر مِنْهُم ورتبوه ومكنوه فَإِن قوتهم إِنَّمَا كَانَت تكون بعسكر وزيرهم وَهُوَ الملقب عِنْدهم بالسلطان وَمَا كَانُوا يرَوْنَ المكاشفة وأغراضهم مستتبة وقواعدهم مُسْتَقِرَّة من أول زمانهم على هَذَا الْمِثَال
وَكَانَ شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها من بني رزيك وَقتل(1/406)
الْعَادِل بن الصَّالح بن رزيك الَّذِي وزر بعد أَبِيه واسْمه رزيك ويلقب بالناصر أَيْضا وَهُوَ الَّذِي استحضر القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ من الْإسْكَنْدَريَّة واستخدمه بِحَضْرَتِهِ وَبَين يَدَيْهِ فِي ديوَان الْجَيْش على مَا ذكره عمَارَة اليمني فِي = كتاب الوزراء المصرية = وَقَالَ غرس مِنْهُ للدولة بل للملة شَجَرَة مباركة متزايدة النَّمَاء اصلها ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء
ثمَّ خرج على شاور نَائِب الْبَاب وَهُوَ أَمِير يُقَال لَهُ ضرغام بن سوار ويلقب بالمنصور فَجمع لَهُ جموعاً كَثِيرَة لم يكن لَهُ بهَا قبل فغلبه وَأخرجه من الْقَاهِرَة وَقتل وَلَده طيئا وَاسْتولى على الوزارة
فَرَحل شاور إِلَى الشَّام قَاصِدا خدمَة نور الدّين مستصرخا بِهِ ومستنصرا فَأحْسن لقاءه واكرم مثواه فَطلب مِنْهُ إرْسَال العساكر إِلَى مصر ليعود إِلَيْهَا وَيكون لَهُ فِيهِ حِصَّة ذكرهَا لَهُ ويتصرف على أمره وَنَهْيه واختياره
نور الدّين يقدم فِي ذَلِك رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى تَارَة تحمله رِعَايَة قصد شاور وَطلب الزِّيَادَة فِي الْملك والتقَّوى على الفرنج وَتارَة يمنعهُ خطر الطَّرِيق وَكَون الفرنج فِيهِ إِلَّا أَن يوغلوا فِي الْبر فيتعرضوا لخطر آخر مَعَ الْخَوْف من الفرنج أَيْضا
ثمَّ استخار الله تَعَالَى وَأمر أَسد الدّين بالتجهز للمسير مَعَه قَضَاء لحق الْوَافِد المستصرخ وجسا للبلاد وتطلعا على أحوالها
وَكَانَ هوى أَسد الدّين فِي ذَلِك وَعِنْده من الشجَاعَة وَقُوَّة النَّفس مَا لَا يُبَالِي بمخافة
فتجهز وَسَار مَعَ شاور فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع وَخمسين هَكَذَا ذكر ابْن الْأَثِير والعماد الْكَاتِب
وَقَالَ القَاضِي(1/407)
ابْن شَدَّاد كَانَ ذَلِك سنة ثَمَان وَخمسين وَالْقَوْل فِي ذَلِك قَوْلهمَا فقد بَينا أَن قدوم شاور إِلَى الشَّام كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وإرسال نور الدّين الْعَسْكَر كَانَ فِي جُمَادَى سنة تسع وَخمسين
قَالُوا وَأمر نور الدّين أَسد الدّين بِإِعَادَة شاور إِلَى منصبه والانتقام مِمَّن نازعه فِي الوزارة
وَسَارُوا جَمِيعًا وَسَار مَعَهم نور الدّين إِلَى أَطْرَاف بِلَاد الْإِسْلَام مِمَّا يَلِي الفرنج بعساكره ليشغلهم عَن التَّعَرُّض لأسد الدّين فَكَانَ قصارى الفرنج حفظ بِلَادهمْ من نور الدّين
وَوصل أَسد الدّين سالما إِلَى مصر هُوَ وَمن مَعَه فهرب المنازع لشاور فِي الوزارة وَقتل وطيف بِرَأْسِهِ وَعَاد شاور وزيرا وَتمكن من منصبه
وَكَانَ عمَارَة قد مدح ضرغاما بقصيدة مِنْهَا
(وأحق من وزر الْخلَافَة من نشا ... فِي حَضْرَة الْإِكْرَام والإجلال)
(واختص بالخلفاء وانكشفت لَهُ ... أسرارها بقرائن الْأَحْوَال)
(وَتصرف الوزراء عَن آرائه ... كتصرف الْأَسْمَاء بالأفعال)
قَالَ عمَارَة وَلما جازوا بِرَأْسِهِ على الخليج وَكنت أسكن صف الخليج بِالْقَاهِرَةِ قلت ارتجالا
(أرى حنك الوزارة صَار سَيْفا ... يجذ بحده صيد الرّقاب)
(كَأَنَّك رائد الْبلوى وَإِلَّا ... بشير بالمنية والمصاب)
ولعمارة اليمني من قصيدة مدح بهَا شاور وَذكر وزارتيه(1/408)
(فنصرت فِي الأولى بِضَرْب زلزل الْأَقْدَام ... وَهِي شَدِيدَة الْإِقْدَام)
(ونصرت فِي الْأُخْرَى بِضَرْب صَادِق ... أضحى يطير بِهِ غراب الْهَام)
(أدْركْت ثأرا وارتجعت وزارة ... نزعا بسيفك من يَدي ضرغام)
وَكَانَ ضرغام أَولا من أَصْحَاب شاور واتباعه وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عمَارَة فِي قَوْله من قصيدة لَهُ
(كَانَت وزارتك الْقَدِيمَة مشرعاً ... صفواً وَلَكِن كدرت غدرانها)
(غصبت رجال تاجه وسريره ... من بعد مَا سجدت لَهُ تيجانها)
وَله من قصيدة أُخْرَى فِي شاور
(وَزِير تمنته الوزارة أَولا ... وثانية عفوا بِغَيْر طلاب)
(فخانته فِي الأولى بطانة وده ... وَرب حبيب فِي قَمِيص حباب)
(وجاءته تبغى الصُّلْح ثَانِي مرّة ... فَلم يرض إِلَّا بعد ضرب رِقَاب)
وَلم يغلب وَزِير لَهُم وَعَاد غير شاور
وَكَانَ مُدَّة أَخذ الوزارة مِنْهُ إِلَى أَن عَادَتْ إِلَيْهِ تِسْعَة أشهر سَوَاء وَهِي مُدَّة الْحمل نَص عمَارَة على ذَلِك وَقَالَ قتل وَلَده طي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَجَاز رَأسه على رمح تَحت الطيقان وَالنِّسَاء يولولن بالصراخ وَكَانَ فِيهِنَّ وَاحِدَة تحفظ قولي فِي الصَّالح(1/409)
(أينسى وَفِي الْعَينَيْنِ صُورَة وَجهه الْكَرِيم ... وعهد الإنتقال قريب)
فَمَا زَالَت تكرره حَتَّى رَأَتْ رَأس ضرغام
قَالَ وَأدْركَ شاور ثَأْره فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة فَيكون بَينهمَا تِسْعَة أشهر
قَالَ وَقلت فِي ذَلِك
(ونزعت ملكك من رجال نازعوا ... فِيهِ وَكنت بِهِ أَحَق وأقعدا)
(جذبوا رداءك غاصبين فَلم تزل ... حَتَّى كسوت الْقَوْم أردية الردى)
(وَبَردت قَلْبك من حرارة حرقة ... أمرت نسيم اللَّيْل أَلا يبردا)
(تَارِيخ هَذَا نلته فِي مثله ... يَوْمًا بِيَوْم عِبْرَة لمن اهْتَدَى)
(حملت بِهِ الْأَيَّام تِسْعَة أشهر ... حَتَّى جعلن لَهُ جُمَادَى مولدا)
وَله فِيهِ أَيْضا فِي ذَلِك
(لله دَرك موتورا أقض بِهِ ... دست وسرج وأجفان ومضطجع)
(مَا غبت إِلَّا يَسِيرا ثمَّ لحت لنا ... والثأر مُسْتَدْرك وَالْملك مرتجع)
(قَضِيَّة لم ينل مِنْهَا ابْن ذِي يزن ... إِلَّا كَمَا نلْت والْآثَار تتبع)
(فافخر على الْحَيّ من قيس وَمن يمنٍ ... أَبَا شُجَاع فَلَيْسَ الْحق ينْدَفع)(1/410)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَأقَام أَسد الدّين بِظَاهِر الْقَاهِرَة وغدر بِهِ شاور وَعَاد عَمَّا كَانَ قَرَّرَهُ لنُور الدّين من الْبِلَاد المصرية ولأسد الدّين أَيْضا
وَأرْسل إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بِالْعودِ إِلَى الشَّام فَأَنف أَسد الدّين من هَذِه الْحَال وَأعَاد الْجَواب يطْلب مَا كَانَ اسْتَقر فَلم يجبهُ شاور إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى ذَلِك أرسل نوابه فتسلموا مَدِينَة بلبيس وَحكم على الْبِلَاد الشرقية فَأرْسل شاور إِلَى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدّين إِن ملك مصر
وَكَانَ الفرنج قد أيقنوا بِالْهَلَاكِ إِن ملكهَا نور الدّين فهم خائفون
فَلَمَّا أرسل شاور إِلَيْهِم يستنجدهم وَيطْلب مِنْهُم أَن يساعدوه على إِخْرَاج أَسد الدّين من الْبِلَاد جَاءَهُم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إِلَى تَلْبِيَة دَعوته والمبادرة إِلَى نصرته وطمعوا فِي ملك ديار مصر
وَكَانَ قد بذل لَهُم مَالا على الْمسير إِلَيْهِ فتجهزوا وَسَارُوا
فَلَمَّا بلغ نور الدّين خبر تجهزهم للمسير سَار بعساكره فِي أَطْرَاف بِلَاده مِمَّا يَلِي الإفرنج ليمتنعوا من الْمسير فَلم يمتنعوا لعلمهم أَن الْخطر فِي مقامهم إِذا ملك أَسد الدّين مصر أَشد من الْخطر فِي مَسِيرهمْ فتركوا فِي بِلَادهمْ من يحفظها وَسَار ملك الْقُدس فِي البَاقِينَ إِلَى مصر
وَكَانَ قد وصل إِلَى السَّاحِل جمع كثير من الفرنج فِي الْبَحْر لزيارة الْبَيْت المقدَّس فاستعان بهم ملك الإفرنج فأعانوه وَسَار بَعضهم مَعَه وَأقَام بعض فِي الْبِلَاد يحفظها
فَلَمَّا قَارب الفرنج مصر فَارقهَا أَسد الدّين وَقصد مَدِينَة بلبيس وَأقَام بهَا هُوَ وَعَسْكَره وَجعلهَا ظهرا يتحصن بِهِ فاجتمعت العساكر المصرية والفرنجية ونازلوا أَسد الدّين بِمَدِينَة بلبيس وحصروه بهَا ثَلَاثَة أشهر وَقد امْتنع أَسد الدّين بهَا وسورها من طين قصير جدا وَلَيْسَ لَهُ خَنْدَق(1/411)
وَلَا فصيل يحميها وَهُوَ يغاديهم الْقِتَال ويراوحهم فَلم يبلغُوا مِنْهُ غَرضا وَلَا نالوا مِنْهُ شَيْئا فَبينا هم كَذَلِك إِذْ أَتَاهُم الْخَبَر بهزيمة الفرنج بحارم وَملك نور الدّين الْحصن ومسيره إِلَى بانياس
فَحِينَئِذٍ سقط فِي أَيْديهم وَأَرَادُوا الْعود إِلَى الْبِلَاد ليحفظوها ولعلهم يدركون بانياس قبل أَخذهَا فَلم يدركوها إِلَّا وَقد ملكهَا على مَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وراسلوا أَسد الدّين فِي الصُّلْح وَالْعود إِلَى الشَّام ومفارقة مصر وَتَسْلِيم مَا بِيَدِهِ مِنْهَا إِلَى المصريين فأجابهم إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُ لم يعلم بِمَا فعله نور الدّين بالفرنج فِي السَّاحِل
قَالَ ابْن الْأَثِير فَحَدثني من رأى أَسد الدّين حِين خرج من بلبيس قَالَ رَأَيْته وَقد أخرج أَصْحَابه بَين يَدَيْهِ وَبَقِي فِي آخِرهم وَبِيَدِهِ لت من حَدِيد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرُونَ قَالَ فَأَتَاهُ فرنجي من الفرنج الغرباء فَقَالَ لَهُ أما تخَاف أَن يغدر بك هَؤُلَاءِ الْمُسلمُونَ والفرنج وَقد أحاطوا بك وبأصحابك فَلَا يبْقى لَك مَعَهم بَقِيَّة فَقَالَ شيركوه يَا ليتهم فعلوا حَتَّى كنت ترى مَا لم تَرَ مثله كنت وَالله أَضَع سَيفي فَلَا أُقتل حَتَّى أقتُل رجَالًا وَحِينَئِذٍ يقصدهم الْملك الْعَادِل نور الدّين وَقد ضعفوا وفني أبطالهم فَيملك بِلَادهمْ ويفني من بَقِي مِنْهُم وَوَاللَّه لَو أَطَاعَنِي هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابه لَخَرَجت إِلَيْكُم أول يَوْم لكِنهمْ امْتَنعُوا فصلّب الفرنجي على وَجهه وَقَالَ كُنَّا نعجب من فرنج هَذِه الديار ومبالغتهم فِي(1/412)
صِفَتك وخوفهم مِنْك والآن فقد عذرناهم
ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَسَار شيركوه إِلَى الشَّام وَعَاد سالما
وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وصل شاور إِلَى نور الدّين ملتجئا فألفاه على عدوه معديا مشكيا وسير مَعَه أَسد الدّين على قَرَار عينه وَأمر بَينه وبغية يُدْرِكهَا وخطة يملكهَا ومحجة وَاضِحَة فِي الْملك يسلكها
فَمضى مَعَه وَنَصره وأصفى لَهُ مشرعة واسترد لَهُ مَوْضِعه وأظهره بعلوه وأظفره بعدوه فَلَمَّا باد خَصمه بدا وصمه وغدر بعهده وأخلف فِي وعده
وَكَانَ قد راسل الفرنج وهداهم فِي حَرْب الْإِسْلَام فوصلوا فتحصن شيركوه وَمن مَعَه بِمَدِينَة بلبيس فحاصره شاور بِجُنُود مصر والفرنج ثَلَاثَة أشهر من مستهل رَمَضَان إِلَى ذِي الْحجَّة فبذلوا لَهُ قطيعة فَانْصَرف عَنْهُم وَعَاد إِلَى الشَّام وَفِي قلبه من شَرّ شاور الإحن وَكَيف تمت بغدره تِلْكَ المحن
قلت وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عُمارة فِي قَوْله فِي مدح شاور وَذكر الإفرنج فَقَالَ
(وأنقذت من مصر عدواًّ بِمثلِهِ ... فَللَّه من ظفر فللت وناب)
(صدمت جموع الْكفْر وَالشَّام صدمة ... أَقمت بهَا للْقَوْم سوق ضراب)
(وَقد جرّدت أجناد مصر عزائماً ... مضاربها فِي الصخر غير نوابي)
(تولّوا عَن الإفرنج فادح ثقلهَا ... ودارت رحاها مِنْهُم بهضاب)
(أَقَامَت دروع الْجند تسعين لَيْلَة ... ثيابًا لَهُم مَا بدلت بِثِيَاب)
(وهم بَين مطروح هُنَاكَ وطارح ... وَبَين مُصِيب خَصمه ومصاب)
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد سَار أَسد الدّين إِلَى مصر واستصحب مَعَه(1/413)
ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَجعله مقدم عسكره وَصَاحب رَأْيه وَكَانَ لَا يفصل أمرا وَلَا يُقرر حَالا إِلَّا بمشورته ورأيه لما لَاحَ لَهُ مِنْهُ من آثَار الإقبال والسعادة والفكرة الصَّحِيحَة واقتران النَّصْر بحركاته وسكناته
فَسَارُوا حَتَّى وصلوا مصر وشاور مَعَهم وَكَانَ لوصولهم إِلَى مصر وَقع عَظِيم وخافه أهل مصر وَنصر شاور على خَصمه وَأَعَادَهُ إِلَى منصبه ومرتبته وَقرر قَوَاعِده وَشَاهد الْبِلَاد وَعرف أحوالها وَعلم أَنَّهَا بِلَاد بِغَيْر رجال تمشي الْأُمُور فِيهَا بِمُجَرَّد الْإِيهَام والمحال
وَكَانَ ابْتِدَاء رحيله عَنْهَا مُتَوَجها إِلَى الشَّام فِي السَّابِع من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ بِالشَّام مُدبرا لأَمره مفكراً فِي كَيْفيَّة رُجُوعه إِلَى الْبِلَاد المصرية مُحدثا بذلك نَفسه مقرراً لقواعد ذَلِك مَعَ نور الدّين إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ
قلت ولفعل شاور مَا فعل مَعَ أَسد الدّين وَصفه الشُّعَرَاء بالغدر ووقعوا فِيهِ قبل قَتله وَبعده على مَا سَنذكرُهُ وَبَقِي متخوفاً من أَسد الدّين
فَقَالَ عرقلة الْكَلْبِيّ من جملَة قصيدة لَهُ
(وَهل هم يَوْمًا شيركوه بجلق ... إِلَى الصّيد إِلَّا ارتاع فِي مصر شاور)
(هُوَ الْملك الْمَنْصُور والأسد الَّذِي ... شذا ذكره فِي الشرق والغرب سَائِر)
فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة احترقت جيرون بعد رُجُوع أَسد الدّين إِلَى دمشق فَقَالَ العرقلة بمدحه وَيذكر ذَلِك
(جَازَ صرف الردى على جيرون ... وَسَقَى أَهلهَا كؤوس الْمنون)(1/414)
(أَصبَحت جنَّة وأمست جحيما ... تتلظى بِكُل قلب حَزِين)
(كَيفَ لَا تذرف الدُّمُوع عَلَيْهَا ... وَهِي فِي الشَّام نزهة للعيون)
(حبذا حصنها الْحصين لقد كَانَ ... جمالا لكل حصن حُصَيْن)
(أَي سيف سَطَا على دَار سيف ... وزبون أَتَى بِحَرب زبون)
(خلت نيرانها وكل ظلامٍ ... نَار ليلى تلوح للمجنون)
(كم غنيِّ الْيَمين أَمْسَى فَقِيرا ... وفقير أَمْسَى غنيَِّ الْيَمين)
(كل حِين لَهَا حريق جَدِيد ... لَيْت شعري مَاذَا لَهَا بعد حِين)
(كل هَذَا الْبلَاء عَاقِبَة الْفسق ... وَشرب الْخُمُور والتلحين)
(وَلَقَد ردهَا بعزم وحزم ... أَسد الدّين غَايَة الْمِسْكِين)
(وَحمى الْجَامِع الْمُقَدّس والمشهد ... من جمرها بِمَاء معِين)
(ملك فعله بدَلْجَة وَالْبَاب ... فعال الإِمَام فِي صفّين)
فصل فِي فتح حارم
قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَفِي تِلْكَ السّنة يَعْنِي سنة تسع وَخمسين اغتنم نور الدّين خلو الشَّام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فَضرب مَعَهم المصاف فرزقه الله تَعَالَى الانتقام مِنْهُم فأسرهم وقتلهم(1/415)
وَوَقع فِي الإسار إبرنس أنطاكية وقومص طرابلس وَابْن لجوسلين ودوك الرّوم وَذَلِكَ فِي رَمَضَان
وَقَالَ فِي = الخريدة = كَانَت نوبَة البقيعة نوبَة عَظِيمَة على الْمُسلمين وأفلت نور الدّين فِي قل من عسكره ثمَّ كسر الإفرنج بعد ثَلَاثَة أشهر على حارم وَقتل فِي معركة وَاحِدَة مِنْهُم عشرُون ألفا وَأسر من نجا وَأخذ القومص والإبرنس والدوقس وَجَمِيع مُلُوكهمْ وَكَانَ منحا عَظِيما وفتحا مُبينًا
قَالَ ابْن الْأَثِير وَالسَّبَب فِي هَذَا الْفَتْح أَن نور الدّين لما عَاد مُنْهَزِمًا على مَا سبق من غَزْوَة نَاحيَة حصن الأكراد اقبل على الْجد وَالِاجْتِهَاد والاستعداد للْجِهَاد وَالْأَخْذ بثاره وغزو الْعَدو فِي عقر دَاره وليرتق ذَلِك الفتق ويمحو سمة الوهن وَيُعِيد رونق الْملك
فراسل أَخَاهُ قطب الدّين بالموصل وفخر الدّين قرا أرسلان بالحصن وَنجم الدّين ألبي بماردين وَغَيرهم من أَصْحَاب الْأَطْرَاف(1/416)
أما قطب الدّين أتابك فَإِنَّهُ جمع عساكره وَسَار مجدا وعَلى مُقَدّمَة عسكره زين الدّين نَائِبه
واما فَخر الدّين قرا أرسلان فَإِنَّهُ بَلغنِي عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ خواصه على أَي شَيْء عزمت فَقَالَ على الْقعُود فَإِن نور الدّين قد تحشف من كَثْرَة الصَّوْم وَالصَّلَاة فَهُوَ يلقِي نَفسه وَالنَّاس مَعَه فِي المهالك
وَكلهمْ وَافقه على ذَلِك
فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَمر بالنداء فِي الْعَسْكَر بالتجهز للغزاة فَقَالَ لَهُ أُولَئِكَ مَا عدا مِمَّا بدا فارقناك بالْأَمْس على حَال ونرى الْآن ضدها فَقَالَ إِن نور الدّين قد سلك معي طَرِيقا إِن لم أنجده خرج أهل بلادي عَن طَاعَتي وأخرجوا الْبِلَاد عَن يَدي فَإِنَّهُ كَاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عَن الدُّنْيَا يذكر لَهُم مَا لَقِي الْمُسلمُونَ من الفرنج وَمَا نالهم من الْقَتْل والأسر والنهب ويستمد مِنْهُم الدُّعَاء وَيطْلب مِنْهُم أَن يحثُّوا الْمُسلمين على الْغُزَاة فقد قعد كل وَاحِد من أُولَئِكَ وَمَعَهُ أَتْبَاعه وَأَصْحَابه وهم يقرؤون كتب نور الدّين ويبكون ويلعنونني وَيدعونَ عَليّ فَلَا بُد من إِجَابَة دَعوته
ثمَّ تجهز أَيْضا وَسَار إِلَى نور الدّين بِنَفسِهِ
وَأما نجم الدّين ألبي فَإِنَّهُ سيّر عسكراً
فَلَمَّا اجْتمعت العساكر سَار نَحْو حارم فَنزل عَلَيْهَا وحصرها وَبلغ الْخَبَر إِلَى من بَقِي من الفرنج بالسَّاحل لم يسر إِلَى مصر فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية والقمص صَاحب طرابلس وأعمالها وَابْن جوسلين وَهُوَ من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك مَعَهم وَهُوَ رَئِيس الرّوم ومقدمها وجمعوا من الراجل مَا لَا يَقع عَلَيْهِ الإحصاء قد ملؤوا الأَرْض وحجبوا بقسطلهم السَّمَاء فحرض نور الدّين أَصْحَابه وَفرق نفائس الْأَمْوَال على شجعان الرِّجَال
فَلَمَّا قاربه الفرنج رَحل عَن حارم إِلَى ارْتَاحَ وَهُوَ إِلَى لقائهم مرتاح وَإِنَّمَا رَحل طَمَعا أَن يتبعوه ويتمكن مِنْهُم(1/417)
إِذا لقوه فَسَارُوا حَتَّى نزلُوا علم عِمَّ وَهُوَ على الْحَقِيقَة تَصْحِيف مَا لقوه من الْغم ثمَّ تيقنوا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم بقتاله وَلَا قدرَة لَهُم على نزاله فعادوا إِلَى حارم وَقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدّين
فَلَمَّا تقاربوا اصطفوا لِلْقِتَالِ وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة الْمُسلمين وَبهَا عَسْكَر حلب وفخر الدّين فبددوا نظامهم وزلزلوا أَقْدَامهم وولوا الأدبار وتبعهم الفرنج
وَكَانَت تِلْكَ الفرَّة من الميمنة عَن اتِّفَاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مَكْرُوه وَهُوَ أَن يبعدوا عَن راجلهم فيميل عَلَيْهِم من بَقِي من الْمُسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا مِنْهُم الأنوف فَإِذا عَاد فرسانهم من أثر المنهزمين لم يلْقوا رَاجِلا يلجؤون إِلَيْهِ وَيعود المنهزمون فِي آثَارهم وتأخذهم سيوف الله من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم
فَكَانَ الْأَمر على مَا دبروا فَإِن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدّين فِي عَسْكَر الْموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم وَلم يمنعوا فِي الطّلب خوفًا على راجلهم من العطب فصادفوا راجلهم على الصَّعِيد معفرين وبدمائهم مضرجين فَسقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا وخضعت رقابهم وذلوا
فَلَمَّا رجعُوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فَبَقيَ الْعَدو فِي الْوسط وَقد أحدق بهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب فَحِينَئِذٍ حمي الْوَطِيس وباشر الْحَرْب المرؤوس والرئيس وَقَاتل الفرنج قتال من يَرْجُو بإقدامه النجَاة وحاربوا حَرْب من أيس من الْحَيَاة
وَانْقَضَت العساكر الإسلامية عَلَيْهِم انقضاض الصقور على بغاث الطُّيُور فمزقوهم بددا وجعلوهم قدادا فَألْقى الفرنج بِأَيْدِيهِم إِلَى الإسار وعجزوا عَن الْهَزِيمَة والفرار وَأكْثر الْمُسلمُونَ فيهم الْقَتْل وزادت عدَّة الْقَتْلَى على عشرَة آلَاف(1/418)
وَأما الأسرى فَلم يحصوا كَثْرَة وَيَكْفِيك دَلِيلا على كثرتهم أَن مُلُوكهمْ أَسرُّوا وهم الَّذين من قبل ذكرُوا
وَسَار نور الدّين بعد الكسرة إِلَى حارم فملكها فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان واشار أَصْحَابه عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أنطاكية ليملكها لخلوها مِمَّن يحميها وَيدْفَع عَنْهَا فَلم يفعل وَقَالَ أما الْمَدِينَة فَأمرهَا سهل وَأما القلعة الَّتِي لَهَا فَهِيَ منيعة لَا تُؤْخَذ إِلَّا بعد طول حِصَار وَإِذا ضيقنا عَلَيْهِم ارسلوا إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة وسلموها إِلَيْهِ ومجاورة بيمند أحب إليّ من مجاورة ملك الرّوم
وَبث سراياه فِي تِلْكَ الْأَعْمَال والولايات فنهبوا وَسبوا وأوغلوا فِي الْبِلَاد حَتَّى بلغُوا اللاذقية والسويداء وَغير ذَلِك وعادوا سَالِمين
ثمَّ إِن نور الدّين أطلق بيمند صَاحب أنطاكية بِمَال جزيل أَخذه مِنْهُ وَأسرى كَثِيرَة من الْمُسلمين أطلقهُم
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم كسر نور الدّين الرّوم والأرمن والفرنج على حارم وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا
قَالَ وَوَقع بيمنت فِي أسره فِي نوبَة حارم وَبَاعه نَفسه بِمَال عَظِيم أنفقهُ فِي الْجِهَاد
قلت وَبَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى لما التقى الْجَمْعَانِ أَو قبيله انْفَرد تَحت تل حارم وَسجد لرَبه عز وَجل ومرغ وَجهه وتضرع وَقَالَ يَا رب هَؤُلَاءِ عبيدك وهم أولياؤك وَهَؤُلَاء عبيدك وهم أعداؤك(1/419)
فانصر أولياءك على اعدائك إيش فضول مَحْمُود فِي الْوسط يُشِير إِلَى أَنَّك يَا رب إِن نصرت الْمُسلمين فدينك نصرت فَلَا تمنعهم النَّصْر بِسَبَب مَحْمُود إِن كَانَ غير مُسْتَحقّ للنصر
وَبَلغنِي أَنه قَالَ اللَّهُمَّ انصر دينك وَلَا تنصر مَحْمُودًا من هُوَ مَحْمُود الْكَلْب حَتَّى ينصر وَجرى بِسَبَب ذَلِك مَنَام حسن نذكرهُ فِي أَخْبَار سنة خمس وَسِتِّينَ عِنْد رحيل الفرنج عَن دمياط بعد نزولهم عَلَيْهَا وَهَذَا فتح عَظِيم وَنصر عَزِيز أنعم الله بِهِ على نور الدّين وَالْمُسْلِمين مَعَ أَن جَيْشه عامئذ كَانَ مِنْهُ طَائِفَة كَبِيرَة بِمصْر مَعَ شيركوه كَمَا سبق وَهَذَا من عَجِيب مَا وَقع وَاتفقَ
فصل
فِي ذكر وَزِير الْموصل جمال الدّين الْجواد الممدح ووفاته فِي هَذِه السّنة رَحمَه الله تَعَالَى
وَقد ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي مَوَاضِع من مصنفاته وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء عَظِيما حسنا
فمما ذكره فِي كِتَابه الموسوم = بنصرة الفترة وعصرة الْفطْرَة فِي أَخْبَار الوزراء السلجوقية = أَن قَالَ ذكر جمال الدّين أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور
كَانَ وَالِده من أصفهان يدعى الْكَامِل عَليّ وَهُوَ صَاحب الْوَزير شمس المُلك بن نظام الْملك وَكَانَ أَبوهُ أَبُو مَنْصُور(1/420)
فهّاداً فِي عهد السُّلْطَان ملكشاه بن ألب أرسلان وَابْنه الْكَامِل أديب لَبِيب وزادت أَيَّامه فِي السمو وايامنه فِي النمو حَتَّى تنافس فِي استخدامه الْمُلُوك والوزراء واستضاءت بِرَأْيهِ فِي الْحَوَادِث الآراء
وَقد كَانَ زوّج بِنْتا لَهُ بِبَعْض أَوْلَاد أخوال الْعَزِيز يَعْنِي عَم الْعِمَاد الْكَاتِب قَالَ فَاشْتَمَلَ لذَلِك الْعَزِيز رَحمَه الله تَعَالَى على وَلَده جمال الدّين ابي جَعْفَر مُحَمَّد وخرجه فِي الْأَدَب ودرجه فِي الرتب فَأول مَا رتبه فِي ديوَان الْعرض السلطاني المحمودي وَغلب فِي تحليته ذكر الأبلج فنعته الأتراك بالأبلج واستقام فِي نجابته على الْمنْهَج
وَاتفقَ انه لما تولى زنكي بن آق سنقر الشَّام تزوج بِامْرَأَة الْأَمِير كندغدي وَوَلدهَا خاصبك بن كندغدي من أُمَرَاء الدولة وَأَبْنَاء المملكة وَهُوَ يسير مَعهَا فرتبه الْعَزِيز لخاصبك وزيرا فَسَار فِي الصُّحْبَة وَكَانَ مقبل الوجاهة مَقْبُول الفكاهة شهي الهشاشة بهي البشاشة فتوفرت منى زنكي على منادمته وَقصر صباحه ومساءه على مساهمته وعول عَلَيْهِ فِي آخر عمره فِي إشراف ديوانه وَزَاد المَال وزان الْحَال بتمكينه ومكانه فَلم يظْهر لجمال الدّين فِي زمَان زنكي جود وَلَا عرف لَهُ مَوْجُود فَإِنَّهُ كَانَ يقتنع بأقواته وتزجية أوقاته وَيرْفَع جَمِيع مَا يحصل لَهُ إِلَى خزانَة زنكي اسْتِبْقَاء لجاهه واستعلاء بِهِ على اشباهه فمكنه زنكي من أَصْحَاب ديوانه فَمنهمْ من استنصر بإساءته وَمِنْهُم من انْتفع بإحسانه
وَلما قتل زنكي صَار للدولة الأتابكية ملاذا وللبيت الآق سنقري معَاذًا(1/421)
واستوزره الْأَمِير غَازِي بن زنكي وآزره عَليّ كوجك على وزارته وَحلف لَهُ على مظاهرته ومظافرته
وَجرى بَين جمال الدّين الْوَزير وَبَين زين الدّين عَليّ كوجك وَبَين سيف الدّين غَازِي التعاقد على التعاضد والتعاهد على التساعد وَتَوَلَّى جمال الدّين وزارة الْموصل وَاسْتولى فَعَاشَ بنداه الْجُود وعشا إِلَى نَادِيه الْوُفُود وعادت بِهِ الْموصل قبْلَة الإقبال وكعبة الآمال فأنارت مطالع سعوده وسارت فِي الْآفَاق صنائع جوده وَعمر الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَشَمل بِالْبرِّ أهلهما وَجمع بالأمن شملهما وأجرى بَحر السماح ونادى حيّ على الْفَلاح فصاحت بأفضاله أَلْفَاظ الفصاح وَأتوا إِلَيْهِ من كل فج عميق وَقصد من كل بلد سحيق وقصده العظماء ومدحه الشُّعَرَاء
وَمِمَّنْ وَفد إِلَيْهِ أَبُو الفوارس سعد بن مُحَمَّد بن الصيفي الْمَعْرُوف بحيص بيص
قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ فِيهِ قصيدة أَولهَا
(يَا للصوارم والرماح الذبل ... نصرا وَمن أنجدتما لم يخذل)
(لَو شئتما ومشيئة بِمَشِيئَة ... جاد الزَّمَان وبالعلا لم يبخل)
(فاقني فخارك يَا مجاشع واعلمي ... أَنِّي لكم من همتي فِي جحفل)
(أَنا فَارس الْيَوْمَيْنِ يَوْم مقَالَة ... ووغى أصُول بصارمي وبمقولي)
(ظلمت فضائلي المقاول مِثْلَمَا ... ظلمت جمال الدّين مأوى العُيَّل)
(مدحوه كي يحووا مَنَاقِب نَفسه ... فَطَمَتْ فسالت بالمدائح من عل)
(فَأتيت ابذل مَا اسْتَطَعْت وَمن يرد ... نقل الخضم إِلَى المزادة يخجل)
(شمس من الْإِحْسَان عَم ضياؤها ... بل آيَة جَاءَت بِحجَّة مُرْسل)(1/422)
(يُعْطي الجزيل لسائلي معروفه ... ويجود بالنعمى إِذا لم يسْأَل)
(وتزيده شوس الخطوب طلاقة ... فَيكون أبسم مَا يرى فِي المعضل)
(ثقُلت بِهِ الْأَعْنَاق من منن الندى ... فالهام مطرقة لذاك المثقل)
(فَإِذا تلاقي النَّاس كَانَ حَدِيثهمْ ... عَن كل جفن بالحجالة مسدل)
(أسراء مَعْرُوف الْوَزير فكلهم ... عاف ترَاهُ مُطلقًا كمكبل)
(من سَمَرْقَنْد إِلَى تهَامَة شَاهد ... فضل الْجمال على الحيا المتهلل)
(السحب تمطر مَا تظل وجوده ... يسري وَدَار مقَامه بالموصل)
(وتقر عين مُحَمَّد بِمُحَمد ... محيي دريسي علمه والمنزل)
(معمار مرقده وحافظ دينه ... ومعين أمته بجود مُسبل)
(جعل الْمَدِينَة مصر ريف آهلا ... نشوان يمرح بالنعيم المخضل)
(فَكَأَنَّهَا بِالْخصْبِ من قرباته ... بلد على شط الْفُرَات السلسل)
(فَلَو انه فِي عصره نزلت لَهُ ... فِي مدحه سُور الْكتاب الْمنزل)
(عبد أخٌ فِي ضَيفه ووداده ... لَا يَسْتَحِيل وَسيد فِي المحفل)
(خرق يناط قَمِيصه وَرِدَاؤُهُ ... بعباب زخار وهضبة يذبل)
وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَكنت أَنا فِي ذَلِك الْعَهْد متفقها بِبَغْدَاد وَاتفقَ حضوري بالموصل فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَحَضَرت عِنْد جمال الدّين بالجامع فِي جمعتين وتكلمت عِنْده مَعَ الْفُقَهَاء فِي مَسْأَلَتَيْنِ
وَمِمَّا مدحته بِهِ قصيدة أَولهَا(1/423)
(أظنهم وَقد عزموا ارتحالا ... ثنوا عَنَّا جمالا لَا جمالا)
(سروا وَالصُّبْح مبيضٌ الْحَوَاشِي ... فَلَمَّا حَال عهد الْوَصْل حَالا)
(هم اعتادوا الملال فَكيف ملوا ... وصالهم وَمَا ملوا الملالا)
(أحادي عيسهم بِاللَّه رفقا ... فَإِن السّير اورثها الكلالا)
(وعُج نَحْو الْأَرَاك بهَا فَإِنِّي ... أرَاهُ لِاجْتِمَاع الشمل فالا)
(سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وحيَّا بالحمى تِلْكَ التلالا)
(سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وَحيا بالحمى تِلْكَ التلالا)
(أخلائي وَهل فِي النَّاس خل ... بِهِ أُخْلي من الأحزان بَالا)
(لَئِن لم أشف صَدْرِي من حسودي ... وَلم أذق العدى دَاء عضالاً)
(فَلَا أدْركْت من أدبي مرَادا ... وَلَا صادفت من حسبي منالا)
(وَلَا وخدت إِلَيْكُم بِي جِمال ... وَلَا واليت مَوْلَانَا الجَمالا)
(هُوَ المغنى إِذا مَا الْمَرْء أقوى ... هُوَ المنجي إِذا مَا الْخطب هالا)
(وقائلة أَفِي الدُّنْيَا كريم ... سواهُ فَقلت لَا وَأبي الْعلَا لَا)
(أطلت على الورى كرما وفخرا ... كَذَلِك من حوى هذَيْن طالا)
(وحزت الْمجد عَن كسب وإرث ... فيا صدر الورى حزت الكمالا)
(خصصت بِكُل منقبة وَفضل ... تَعَالَى من حباك بِهِ تَعَالَى)
قلت وَقد أَكثر الشُّعَرَاء فِي مدحه مِنْهُم العرقلة لَهُ من قصيدة
(يهوى تجنيه والصدود كَمَا ... يهوى الْمَعَالِي مُحَمَّد بن عَليّ)
(جمال دين الْإِلَه خير فَتى ... للرزق أقلامه وللأجل)
(معطي الْقرى والقرى لقاصده ... من غير من وَالْخَيْل والخول)
(مثل فتوح الْفَارُوق نائله ... شرقا وغربا فِي السهل والجبل)(1/424)
(من قَالَ لم يحو ذَا ويسكن ذِي ... اصبح مِمَّا يَقُول فِي خجل)
(مُحَمَّد حَاتِم الْكِرَام كَمَا ... سميه كَانَ خَاتم الرُّسُل)
وَفِيه يَقُول أَحْمد بن مُنِير من قصيدة
(كسا الْحَرَمَيْنِ لبسة عبد شمس ... وهَاشِم غرتي نسل الْخَلِيل)
(وللبلد الْأمين أجدَّ أمنا ... تكنَّف مثله جدث الرَّسُول)
(عشيتم يَا وُلَاة الْأَمر عمَّا ... أتيح لَهُ من الْأَثر الْجَمِيل)
(وطار لَهَا وأشفقتم فَشد الْيَدَيْنِ ... على عُرى الْمجد الأثيل)
(بيُوت بالحجاز مقدسات ... رَمَاهَا الدَّهْر بالخطب الْجَلِيل)
(وَكَانَ أذا لَهُنَّ فصاب صونا ... لمن آوته من ولد البتول)
(مآثر باقيات يَوْم يجنى الْمقَال ... ويجتنى طيب المقيل)
(وَكم للموصل الحدباء مِمَّا ... تُنيل يَدَاهُ من ريف ونيل)
(بَرُود الصفح ملتهب الْحَوَاشِي ... مهيب الْبَطْش فرَّاس الدُّخُول)
وَلأبي الْمجد بن قسيم الْحَمَوِيّ فِيهِ من قصيدة
(أغر تبصر مِنْهُ النَّاس فِي رجل ... وَاللَّيْث فِي بشر والبدر فِي غضن)
(سما بهمتَّه فِي المكرمات إِلَى ... علياء تقصر عَنْهَا همة الزَّمن)
(يلقاك واضحَ ليل الْفِكر رَاجِح نيل ... الْكَفّ طاهرَ ذيل السِّرّ والعلن)
(ماضي الْعَزِيمَة مَيْمُون النقيبة رئبال ... الكتيبة عين الْقَائِل اللسن)
(إِذا تكلم واستجليت غرته ... فِي محفل رحت حَالي الْعين وَالْأُذن)(1/425)
(كَأَن فِي الدست مِنْهُ حِين تنظره ... شمس النَّهَار وَصوب الْعَارِض الهتن)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة وَهِي سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة توفّي الْوَزير جمال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور الْأَصْفَهَانِي وَكَانَ قد خدم الشَّهِيد فولاه نَصِيبين وَظَهَرت كِفَايَته فأضاف إِلَيْهِ الرحبة فأبان عَن كِفَايَة وعفة وَكَانَ من خواصه فَجعله مشرف مَمْلَكَته كلهَا وَحكمه تحكيما لَا مزِيد عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ وَزِير الشَّهِيد وَالْحَاكِم فِي بِلَاده ضِيَاء الدّين بن الكَفَرْتُوثي يَحْكِي عَن جمال الدّين قَالَ كَانَ يدْخل إِلَى الشَّهِيد أتابك قبلي وَيخرج بعدِي
وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن قتل الشَّهِيد ثمَّ وزر لوَلَدي الشَّهِيد سيف الدّين ثمَّ قطب الدّين وَكَانَ بَينه وَبَين زين الدّين عَليّ كوجك عهود ومواثيق على المصافاة والاتفاق وَكَانَ أَصْحَاب زين الدّين يكرهونه ويقعون فِيهِ عِنْد زين الدّين فنهاهم
وَكَانَت الْموصل فِي أَيَّامه ملْجأ لكل ملهوف ومأمنا لكل خَائِف فسعى بِهِ الحساد إِلَى قطب الدّين حَتَّى أوغروا صَدره عَلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ إِنَّه يَأْخُذ أموالك فَيتَصَدَّق بهَا
فَلم يُمكنهُ أَن يغيِّر عَلَيْهِ شَيْئا بِسَبَب اتفاقه مَعَ زين الدّين فَوضع على زين الدّين من غَيره عَن مصافاته ومؤاخاته فَقبض عَلَيْهِ قطب الدّين وحبسه بقلعة الْموصل ثمَّ نَدم زين الدّين على الْمُوَافقَة على قَبضه لِأَن خَواص قطب الدّين وَأَصْحَابه كَانُوا يخَافُونَ جمال الدّين فَلَمَّا قُبض تبَّسطوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي على خلاف غَرَض زين الدّين
فَبَقيَ جمالُ الدّين فِي الْحَبْس نَحوا من سنة ثمَّ مرض وَمضى لسبيله عَظِيم الْقدر والخطر(1/426)
كريم الْورْد والصدر عديم النظير فِي سَعَة نفس لم يُروْ فِي كتب الْأَوَّلين أَن أحدا من الوزراء اتسعت نَفسه ومروءته لما اتسعت لَهُ نفس جمال الدّين فَلَقَد كَانَ عَظِيم الفتوة كَامِل الْمَرْوَة
قَالَ ابْن الْأَثِير حكى لي جمَاعَة عَن الشَّيْخ أبي الْقَاسِم الصُّوفِي وَهُوَ رجل من الصَّالِحين كَانَ يتَوَلَّى خدمَة جمال الدّين فِي محبسه قَالَ لم يزل الْجمال مَشْغُولًا بِأَمْر آخرته مُدَّة حَبسه وَكَانَ يَقُول كنت أخْشَى أَن أُنقل من الدست إِلَى الْقَبْر قَالَ فَلَمَّا مرض قَالَ لي بعض الْأَيَّام يَا أَبَا الْقَاسِم إِذا جَاءَ طَائِر أَبيض إِلَى الدَّار فعرِّفني فَقلت فِي نَفسِي قد اخْتَلَط الرجل
فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَكثر السُّؤَال عَن ذَلِك الطَّائِر وَإِذا طَائِر ابيض لم أر مثله قد سقط فَقلت لَهُ جَاءَ الطَّائِر
فَاسْتَبْشَرَ ثمَّ قَالَ جَاءَ الْحق
وَأَقْبل على الشَّهَادَة وَذكر الله تَعَالَى وَتُوفِّي
فَلَمَّا توفّي طَار ذَلِك الطَّائِر
قَالَ فَعلمت أَنه رأى شَيْئا فِي مَعْنَاهُ
وَدفن بالموصل نَحْو سنة وَكَانَ قد قَالَ للشَّيْخ أبي الْقَاسِم إِن بيني وَبَين أَسد الدّين شيركوه عهدا من مَاتَ منا قبل صَاحبه حمله الْحَيّ إِلَى الْمَدِينَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فدفنه بهَا فِي التربة الَّتِي عملتها فَإِن أَنا مت فَامْضِ إِلَيْهِ وَذكره
فَلَمَّا توفّي سَار الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم إِلَى أَسد الدّين فِي هَذَا الْمَعْنى فَأعْطَاهُ مَالا صَالحا ليحمله بِهِ إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة وَأمر أَن يحجّ مَعَه جمَاعَة من الصُّوفِيَّة وَمن يقْرَأ بَين يَدي تابوته عِنْد النُّزُول والرحيل وقدوم مَدِينَة تكون فِي الطَّرِيق وينادون فِي الْبِلَاد الصَّلَاة على فلَان فَفَعَلُوا ذَلِك فَكَانَ يصلى عَلَيْهِ فِي كل مَدِينَة خلق كثير فَلَمَّا كَانَ فِي الْحِلَّة اجْتمع النَّاس للصَّلَاة عَلَيْهِ فَإِذا شَاب قد ارْتَفع على مَوضِع عَال ونادى بِأَعْلَى صَوته(1/427)
(سرى نعشه فَوق الرّقاب وطالما ... سرى بره فَوق الركاب ونائله)
(يمر على الْوَادي فتثني رماله ... عَلَيْهِ وَفِي النادي فتبكي أرامله)
فَلم ير باكياً أَكثر من ذَلِك الْيَوْم ثمَّ وصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة فطافوا بِهِ حول الْكَعْبَة وصلوا عَلَيْهِ بِالْحرم وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَة فصلوا عيله أَيْضا ودفنوه بالرباط الَّذِي أنشأه بهَا وَبَينه وَبَين قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر ذِرَاعا
قلت كَذَا قَالَ ابْن الْأَثِير وَقد رَأَيْت الْمَكَان وَلَعَلَّه أَرَادَ الْحَائِط الشَّرْقِي من مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نفس الْقَبْر الشريف زَاده الله شرفا وَصلى على ساكنه
ثمَّ قَالَ كَانَ جمال الدّين رَحمَه الله أسخى النَّاس وَأَكْثَرهم عَطاء وبذلا لِلْمَالِ رحِيما بِالنَّاسِ متعطفاً عَلَيْهِم عادلا فيهم فَمن أَعماله الْحَسَنَة أَنه جدد(1/428)
بِنَاء مَسْجِد الْخيف بمنى وَغرم عَلَيْهِ أَمْوَالًا عَظِيمَة وَبنى الْحجر بِجَانِب الْكَعْبَة وَرَأَيْت اسْمه عَلَيْهِ ثمَّ غير وَبني غَيره سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة وزخرف الْكَعْبَة بِالذَّهَب والنقرة فَكل مَا فِيهَا من ذَلِك فَهُوَ عمله إِلَى سنة تسع وست مئة
وَلما أَرَادَ ذَلِك أرسل إِلَى الإِمَام المقتفي لأمر الله هَدِيَّة جليلة حَتَّى أذن لَهُ فِيهِ وَأرْسل إِلَى أَمِير مَكَّة عِيسَى بن أبي هَاشم خلعا سنية وهدية كَثِيرَة حَتَّى مكنه مِنْهُ
وَعمر أَيْضا الْمَسْجِد الَّذِي على جبل عَرَفَات وَعمل الدرج الَّتِي يصعد فِيهَا إِلَيْهِ وَكَانَ النَّاس يلقون شدَّة فِي صعودهم وَعمل بِعَرَفَات مصانع للْمَاء وأجرى المَاء إِلَيْهَا من نعْمَان فِي طَرِيق معمولة تَحت الْجَبَل مَبْنِيَّة بالكلس فغرم على ذَلِك مَالا كثيرا
وَكَانَ يُعْطي أهل نعْمَان كل سنة مَالا كثيرا ليتركوا المَاء يجْرِي إِلَى المصانع أَيَّام مقَام الْحجَّاج بِعَرَفَات فَكَانَ النَّاس يَجدونَ بِهِ رَاحَة عَظِيمَة
قَالَ وَمن أعظم الْأَعْمَال الَّتِي عَملهَا نفعا أَنه بنى سوراً على مَدِينَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا كَانَت بِغَيْر سور ينهبها الْأَعْرَاب وَكَانَ أَهلهَا فِي ضنك وضر مَعَهم
رَأَيْت بِالْمَدِينَةِ إنْسَانا يُصَلِّي الْجُمُعَة فَلَمَّا فرغ ترحم على جمال الدّين ودعا لَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَن سَبَب ذَلِك فَقَالَ يجب على كل من(1/429)
بِالْمَدِينَةِ أَن يَدْعُو لَهُ لأَنا كُنَّا فِي ضرّ وضيق ونكد عَيْش مَعَ الْعَرَب لَا يتركون لِأَحَدِنَا مَا يواريه ويشبع جوعته فَبنى علينا سوراً احتمينا بِهِ مِمَّن يريدنا بِسوء فاستغنينا فَكيف لَا نَدْعُو لَهُ
قَالَ وَكَانَ الْخَطِيب بِالْمَدِينَةِ يَقُول فِي خطبَته اللَّهُمَّ صُنْ حَرِيم من صان حرم نبيك بالسور مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور
قَالَ فَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا هَذِه المكرمة لكفاه فخرا فَكيف وَقد كَانَت صدقاته تجوب شَرق الأَرْض وغربها وَسمعت عَن مُتَوَلِّي ديوَان صدقاته الَّتِي يُخرجهَا على بَاب دَاره للْفُقَرَاء سوى الإدرارات والتعهدات قَالَ كَانَ لَهُ كل يَوْم مئة دِينَار أميرية يتَصَدَّق بهَا على بَاب دَاره
قَالَ وَمن أبنيته العجيبة الَّتِي لم ير النَّاس مثلهَا الجسر الَّذِي بناه على دجلة عِنْد جَزِيرَة ابْن عمر بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد والرصاص والكلس إِلَّا أَنه لم يفرغ لِأَنَّهُ قُبض قبل فَرَاغه
وَبنى أَيْضا جِسْرًا على نهر الأريار عِنْد الجزيرة أَيْضا
وَبنى الرَّبْط بالموصل وسنجار ونصيبين وَغَيرهَا وقصده النَّاس من أقطار الأَرْض
ويكفيه أَن صدر الدّين الخجندي رَئِيس(1/430)
أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بأصبهان وَابْن الْكَافِي قَاضِي قُضَاة همذان قصداه فَأخْرج عَلَيْهِمَا مَالا جزيلا وَكَذَلِكَ غَيرهمَا من الصُّدُور وَالْعُلَمَاء ومشايخ الصُّوفِيَّة وَصَارَت الْموصل فِي أَيَّامه مقصدا وملجأ
وَكَانَ أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ إِخْرَاج المَال فِي الصَّدقَات وَكَانَ يضيق على نَفسه وبيته ليتصدق
حكى لي وَالِدي قَالَ كنت يَوْمًا عِنْده وَقد أحضر بَين(1/431)
يَدَيْهِ قندز ليُعمل على وبر ليلبسه بِخَمْسَة دَنَانِير فَقَالَ هَذَا الثّمن كثير اشْتَروا لي قندزا بدينارين وتصدقوا بِثَلَاثَة دَنَانِير قَالَ فراجعناه غير مرّة فَلم يفعل
قَالَ وَحكى لي من أَثِق إِلَيْهِ من الْعُدُول بالموصل أَن الأقوات تَعَذَّرَتْ فِي بعض السنين بهَا وغلت الأسعار وَكَانَ بالموصل رجل من الصَّالِحين يُقَال لَهُ الشَّيْخ عمر الملاء فَأحْضرهُ جمال الدّين وَسلم إِلَيْهِ مَالا وَقَالَ لَهُ تخرج هَذَا المَال على مُسْتَحقّه وَكلما فرغ أرسل إِلَيّ لأنفذ غَيره فَلم تمض إِلَّا أَيَّام يسيرَة حَتَّى فرغ ذَلِك المَال لِكَثْرَة المحتاجين فأنفذ لَهُ شَيْئا آخر ففنى ثمَّ أرسل يطْلب مَا يُخرجهُ فَقَالَ جمال الدّين للرسول
وَالله مَا عِنْدِي شَيْء وَلَكِن خُذ هَذِه المحافر الَّتِي فِي دَاري فبيعوها وتصدقوا بِثمنِهَا إِلَى أَن يأتينا شَيْء آخر فنرسله إِلَى الشَّيْخ عمر فبيعت المحافر وتصدقوا بِثمنِهَا وعرفوه ذَلِك فَلم يكن عِنْده مَا يُرْسِلهُ فَأعْطَاهُ ثِيَابه الَّتِي كَانَ يلبسهَا مَعَ الْعِمَامَة الَّتِي كَانَت على رَأسه وَأرْسل الْجَمِيع وَقَالَ للرسول قل للشَّيْخ لَا يمْتَنع من الطّلب فَهَذِهِ أَيَّام مواساة
فَلَمَّا وصلت الثِّيَاب إِلَى الشَّيْخ عمر بَكَى وباعها وَتصدق بِثمنِهَا
قَالَ وَحكى لي بعض الصُّوفِيَّة مِمَّن كَانَ يصحب الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ شيخ الشُّيُوخ بالموصل قَالَ أحضرني الشَّيْخ فَقَالَ لي انْطلق(1/432)
إِلَى مَسْجِد الْوَزير وَهُوَ بِظَاهِر الْموصل واقعد هُنَاكَ فَإِذا أَتَاك شَيْء فاحفظه إِلَى أَن أحضر عنْدك
فَفعلت وَإِذا قد اقبل جمع كثير من الحمالين يحملون أحمالا من النصافي والخام وَإِذا قد جَاءَ نَائِب جمال الدّين مَعَ الشَّيْخ ومعهما قماش كثير وَثَمَانِية عشر ألف دِينَار وعدة كَثِيرَة من الْجمال
فَقَالَ لي تَأْخُذ هَذِه الْأَحْمَال وتسير إِلَى الرحبة فتوصل هَذِه الرزمة وَهَذَا الْكتاب إِلَى متوليها فلَان فَإِذا أحضر لَك فلَانا الْعَرَبِيّ فتوصل إِلَيْهِ هَذِه الرزمة الْأُخْرَى وَهَذَا الْكتاب وتسير مَعَه فَإِذا أوصلك إِلَى فلَان الْعَرَبِيّ فتوصل إِلَيْهِ هَذِه الرزمة وَهَذَا الْكتاب وَهَكَذَا إِلَى الْمَدِينَة على ساكنها السَّلَام توصَل إِلَى وَكيلِي فلَان هَذِه الْأَحْمَال وَهَذِه الكسوات وَالْمَال الَّذِي عَلَيْهِ اسْم الْمَدِينَة ليخرجها بِمُقْتَضى هَذِه الجريدة ثمَّ تَأْخُذ الْبَاقِي الَّذِي عَلَيْهِ اسْم الْمَدِينَة ليخرجها بِمُقْتَضى هَذِه الجريدة ثمَّ تَأْخُذ الْبَاقِي الَّذِي عَلَيْهِ اسْم مَكَّة وتسير إِلَيْهَا فَيتَصَدَّق بِهِ وَكيلِي بهَا بِمُوجب الجريدة الْأُخْرَى
قَالَ فسرنا كَذَلِك إِلَى وَادي القُرى فَرَأَيْنَا بِهِ نَحْو مئة جمل تحمل الطَّعَام إِلَى الْمَدِينَة وَقد مَنعهم خوف الطَّرِيق فَلَمَّا رأونا سَارُوا مَعنا إِلَيْهَا فوصلناها وَالْحِنْطَة بهَا كل صَاعَيْنِ بِدِينَار مصري والصاع خَمْسَة عشر رطلا بالبغدادي فَلَمَّا رَأَوْا الطَّعَام وَالْمَال اشْتَروا كل سَبْعَة آصَع بِدِينَار فَانْقَلَبت الْمَدِينَة بِالدُّعَاءِ لَهُ ثمَّ سرنا إِلَى مَكَّة فَفَعَلْنَا مَا أمرنَا
قَالَ وَحكى لي وَالِدي قَالَ رَأَيْت جمال الدّين وَقد حضر عِنْده رجل فَقِيه قبل أَن يصير وزيرا فَطلب مِنْهُ شَيْئا وَتردد إِلَيْهِ عدَّة أَيَّام ثمَّ انْقَطع فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سَافر
فشق ذَلِك عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ هَكَذَا تَنْصَرِف الْأَحْرَار عَن دور الْكلاب
وردد ذَلِك غير مرّة ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سَار نَحْو ماردين فَأرْسل إِلَيْهِ خلعة وَنَفَقَة إِلَى ماردين(1/433)
قَالَ وَلَو رُمت شرح مُفْرَدَات أَعماله لأطلت وأضجرت وَهِي ظَاهِرَة لَا تحْتَاج إِلَى بَيَان فَلهَذَا تركنَا أَكْثَرهَا
قلت وَقد ذكره الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = فَقَالَ اجْتمعت بِجَمَال الدّين فِي الْموصل سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة وَأَنا مُتَوَجّه إِلَى الْحَج وَكَانَت بيني وَبَينه مَوَدَّة قديمَة وَعشرَة ومؤانسة فَعرض عليّ الدُّخُول إِلَى دَار فِي الْموصل فامتنعت وَنزلت بخيمتي على الشط فَكَانَ مُدَّة مقَامي كل يَوْم يركب يجوز على الجسر نَحْو نِينَوَى وأتابك قد ركب إِلَى الميدان وَينفذ إليّ يَقُول أركب فَأَنا وَاقِف أنتظرك
فأركب فأسير أَنا وَهُوَ فنتحدث
فَوجدت يَوْمًا مِنْهُ خلْوَة من أَصْحَابِي فَقلت لَهُ فِي نَفسِي شَيْء يتَرَدَّد من حَيْثُ اجْتَمَعنَا أشتهي أَن أقوله لَك وَمَا يتَّفق لي خلْوَة وَقد خلونا السَّاعَة قَالَ قل قلت أَقُول لَك مَا قَالَه الشريف الرضي
(مَا ناصحتك خفايا الود من أحد ... مَا لم يصبك بمكروه من العذل)
(مودتي لَك تأبى أَن تسامحني ... بِأَن أَرَاك على شَيْء من الزلل)
وَقد بسطت يدك فِي إِنْفَاق المَال فِي الصَّدقَات ووجوه الْبر وَالْمَعْرُوف والسلاطين مَا يحْتَملُونَ إِخْرَاج المَال وَلَا تصبر نُفُوسهم عَلَيْهِ وَلَو أَن الْإِنْسَان يُخرجهُ من مِيرَاثه وَهَذَا الَّذِي أهلك البرامكة فَانْظُر لنَفسك كَيفَ(1/434)
الْمخْرج مِمَّا قد دخلت فِيهِ
فَأَطْرَقَ سَاعَة وَقَالَ جَزَاك الله خيرا لَكِن الْأَمر قد عَبَر عَمَّا تخافه
ففارقته وسرت إِلَى الْحجاز وعدت من مَكَّة على طَرِيق الشَّام ونكب جمال الدّين وَمَات فِي الْحَبْس
قلت ولعلم الدّين الْحسن بن سعيد الشاتاني فِي هَذَا الْوَزير الْجواد لما نكب
(مَا حط قدرك من أوج الْعلَا الْقدر ... كلا وَلَا غيرت أفعالك الْغَيْر)
(أَنْت الَّذِي عَم أهل الأَرْض نائله ... وَلم ينل شأوه فِي سؤدد بشر)
(سَارَتْ صفاتك فِي الْآفَاق واتضحت ... وَصدق السّمع عَنْهَا مَا رأى الْبَصَر)
(فاصبر لصرف زمَان قد منيت بِهِ ... فآخر الصَّبْر يَا طود النُّهى الظفر)
(فَمَا ترى أحدا فِي الْخلق يسلم من ... صروف دهر لَهُ فِي أَهله غير)
(سعوا بقصدك سرا لَو استتب لَهُم ... وَلَو سعوا نَحوه جَهرا لما قدرُوا)
(لَوْلَا الْأَمَانِي الَّتِي تحيا النُّفُوس بهَا ... لمتّ من لوعة فِي الْقلب تستعر)
وَمِنْهَا فِي ذكر الشَّيْخ عمر الملاء
(واصدق النَّاس فِي حفظ العهود إِذا ... ميزت بالفكر أَحْوَال الورى عُمَر)
(الزاهدُ العابدُ البَرُّ التقي وَمن ... يزوره وَيُقَوِّي أزره الْخضر)(1/435)
وَقَالَ العرقلة يرثى جمال الدّين الْوَزير والصالح بن رزيك
(لَا خير فِي الدُّنْيَا وَلَا أَهلهَا ... بعد جمال الدّين والصالح)
(بحران لَوْلَا دمع باكيهما ... مَا كَانَ مَاء الْبَحْر بالمالح)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَقَالَ وَالِدي كنت أرى من الْوَزير جمال الدّين فِي الْأَيَّام الشهيدية من الْكِفَايَة وَالنَّظَر فِي صَغِير الْأُمُور وكبيرها والمحاققة فِيهَا مَا يدل على تمكنه من الْكِفَايَة
فَلَمَّا وصل الْأَمر إِلَى الْملك قطب الدّين مودود بن أتابك الشَّهِيد وجمال الدّين وزيره حِينَئِذٍ وَقد تمكن زين الدّين عليّ بن بكتكين فِي الدولة تمَكنا عَظِيما وَتقدم عِنْد قطب الدّين جمَاعَة من أَصْحَابه فَكَانَ جمال الدّين مَعَ تمكنه وعلو مَحَله يهمل بعض الْأُمُور قَالَ فَقلت لَهُ يَوْمًا أَيْن تِلْكَ الْكِفَايَة الَّتِي كُنَّا نرَاهَا مِنْك فِي الْأَيَّام الشهيدية مَا أرى الْآن مِنْهَا شَيْئا فَقَالَ لي والآن مَا عِنْدِي كِفَايَة فَقلت مَا هَذَا الْعَمَل من ذَلِك بِشَيْء
فَقَالَ أَنْت صبي غرٌّ لَيست الْكِفَايَة عبارَة عَن فعل وَاحِد فِي كل زمَان إِنَّمَا الْكِفَايَة أَن يسْلك الْإِنْسَان فِي كل زمَان مَا يُنَاسِبه ذَلِك الْوَقْت كَانَ لنا صَاحب مُتَمَكن قوي الْعَزْم لَا يتجاسر أحد على الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وَلَا يَتلون بأقوال أَصْحَابه فحفظناه فَكَانَ مَا أَفعلهُ هُوَ الْكِفَايَة
وَأما الْآن فلنا سُلْطَان غير مُتَمَكن وَهُوَ مَحْكُوم عَلَيْهِ فَهَذَا الَّذِي أَفعلهُ هُوَ الْكِفَايَة(1/436)
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا فتح نور الدّين قلعة بانياس من الفرنج وَكَانَ قد سَار إِلَيْهَا بعد عوده من فتح حارم وَأذن لعسكر الْموصل وديار بكر بِالْعودِ إِلَى بِلَادهمْ وَأظْهر أَنه يُرِيد طبرية فَجعل من بَقِي من الفرنج هَمهمْ حفظهَا وتقويتها
فَسَار نور الدّين مجداً إِلَى بانياس لعلمه بقلة من فِيهَا من الحماة الممانعين عَنْهَا ونازلها وضيق عَلَيْهَا وقاتلها
وَكَانَ فِي جملَة عسكره أَخُوهُ نصْرَة الدّين أَمِير أميران فَأَصَابَهُ سهم أذهب إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ نور الدّين قَالَ لَهُ لَو كُشف لَك عَن الْأجر الَّذِي أعد لَك لتمنيت أَن تذْهب الْأُخْرَى
قلت وَفِي نصْرَة الدّين هَذَا يَقُول أَحْمد بن مُنِير من قصيدة لَهُ
(يَا نصْرَة الدّين الَّذِي عزمه ... مِنْهُ ترجى نصْرَة الدّين)
(وَابْن الَّذِي زلزل من خَوفه ... مَا بَين أغمات إِلَى الصين)
قَالَ ابْن الْأَثِير وجد فِي حصارها وَسمع الفرنج بذلك فَجمعُوا لَهُ فَلم تتكامل عدتهمْ حَتَّى فَتحه الله تَعَالَى
على أَن الفرنج كَانُوا قد ضعفوا بقتل رِجَالهمْ بحارم وأسرهم فَملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالا عدَّة
وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق وَفِي يَده خَاتم بفص ياقوت من أحسن الْجَوْهَر فَسقط من يَده فِي شعراء بانياس وَهِي كَثِيرَة الْأَشْجَار ملتفة الأغصان فَلَمَّا أبعد من الْمَكَان الَّذِي ضَاعَ فِيهِ الفص علم بِهِ فَأَعَادَ بعض أَصْحَابه فِي طلبه ودلهم على مَكَانَهُ وَقَالَ أَظُنهُ هُنَاكَ ضَاعَ
فعادوا إِلَيْهِ(1/437)
فوجدوه فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء الشاميين وَأَظنهُ أَحْمد بن مُنِير من جملَة قصيدة يمدحه بهَا ويهنئه بِهَذِهِ الْغُزَاة وعود الفص الْيَاقُوت
(إِن يِمتر الشكاك فِيك فَإنَّك الْمهْدي ... مطفئ جَمْرَة الدَّجَّال)
(فلعودة الْجَبَل الَّذِي أضللته ... بالْأَمْس بَين غياطل وجبال)
(مسترجعاً لَك بالسعادة آيَة ... ردَّتْ مطال الفال غير مطال)
(لم يُعْطهَا إِلَّا سُلَيْمَان وَقد ... نلْت الرفاء بموشك الإعجال)
(زجر جرى لسرير ملكك أَنه ... كسريره عَن كل جدر عَال)
(فَلَو الْبحار السَّبْعَة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه فِي الْحَال)
قلت هَذِه الأبيات لِابْنِ مُنِير بِلَا شكّ وَلَكِن فِي غير هَذِه الْغُزَاة فَإِن ابْن مُنِير قد سبق أَنه توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَفتح بانياس كَمَا ترَاهُ فِي سنة سِتِّينَ وَقد قَرَأت فِي ديوَان ابْن مُنِير وَقَالَ يمدحه يَعْنِي نور الدّين ويهنئه بِالْعودِ من غزَاة وضياع فص ياقوت جبل من يَده لاشتغاله بالصيد شراه ألف ومئة دِينَار
وَفِي نسخه ووجدان خَاتم ضَاعَ مِنْهُ فِي الصَّيْد قِيمَته ألف ومئة دِينَار وأنشده إِيَّاهَا بقلعة حمص
فَذكر القصيدة وأولها
(يوماك يَوْم ندى وَيَوْم نزال ... )
يَقُول فِيهَا
(أخرست شقشقة الضلال وقدته ... قَود الذلول أطَاع بعد صيال)
(ورميت دَار الْمُشْركين بصيلم ... ألقحت فِيهَا الْحَرْب بعد حِيَال)
(وسعرت بَين تريبهم وترابهم ... ذعرا يشيب نواصي الْأَطْفَال)
(فَوق الخطيم وَقد خطمت زعيمهم ... ضربا سوابقه بِغَيْر توالي)(1/438)
(ضربا مَلَأت فرنجةً من حرِّه ... رهباً بِهِ سيف الصقالب صالي)
(وبفج حارم أَحرمت لقراعهم ... هيم أحلن النّوم غير حَلَال)
(عجموا على الجسر الْحَدِيد حديدها ... نبعاً يعاذمه أديرد صال)
(زلزلت أَرضهم بِوَقع صواعق ... أعطيننا أمنا من الزلزال)
(فِي مأزق شمرت ذيلك تَحْتَهُ ... والنصر فَوْقك مُسبل الأذيال)
(فِي دولة غراء محمودية ... سحبت رِدَاء الْحَمد غير مذال)
(تنسى الْفتُوح بهَا الْفتُوح وتجتنى ... زُهر الْمقَال بباهر الْأَفْعَال)
(لبست بِنور الدّين نور حدائق ... ثمراتهن غرائب الأفضال)
(ملك تحجبّ فِي السرير بزأرة ... زرّت حواشيها على رئبال)
(تنجاب عَن ذِي لبدتين شذاته ... فِي بردتي بدل من الأبدال)
(رفع الرواق بروق أنطاكية ... فَرمى الخليج بمرهق البلبال)
(بدر لأَرْبَع عشرَة اقتبس السنا ... من خمس عشرَة سُورَة الْأَنْفَال)
(فوز الْمَآل أخاضه مَاء الطلى ... وسواه يُقعده احتيازُ المَال)
(متقسم بَين القسيمين الْعلَا ... عَن عَم عَم أَو مخايل خَال)
(لَا زلت تطلع من ثنايا جحفل ... يقفو لواءك كاللوى الْمنْهَال)
(تغزو فتنهب أَو تؤوب فتنهب العافين ... سلب قِنَا وَكسب نصال)
(لَك أَن تطل على الْكَوَاكِب راقيا ولحاسديك بكا على الأطلال)
وَمِمَّا يُنَاسب هَذِه السَّعَادَة فِي وجدان الْخَاتم بعد وُقُوعه فِي مَظَنَّة الْهَلَاك والضياع مَا بَلغنِي أَن مُوسَى الْهَادِي لما ولي الْخلَافَة سَأَلَ عَن خَاتم عَظِيم الْقيمَة كَانَ لِأَبِيهِ الْمهْدي فَبَلغهُ أَن أَخَاهُ الرشيد أَخذه فَطَلَبه مِنْهُ فَامْتنعَ فألح عَلَيْهِ فِيهِ فحنق الرشيد وَمر على جسر بَغْدَاد فَرَمَاهُ فِي دجلة
فَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي وَولي الرشيد الْخلَافَة أَتَى ذَلِك الْمَكَان بِعَيْنِه وَمَعَهُ خَاتم من رصاص فَرَمَاهُ ثَمَّ وَأمر الغطاسين أَن يلتمسوه فَفَعَلُوا فَاسْتَخْرَجُوا الْخَاتم الأول فعُد ذَلِك من سَعَادَة الرشيد وَبَقَاء ملكه(1/439)
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما فتح نور الدّين حصن بانياس كَانَ ولد معِين الدّين أنر الَّذِي سلم بانياس إِلَى الإفرنج قَائِما على رَأسه فَالْتَفت إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ للنَّاس بِهَذَا الْفَتْح فرحة وَاحِدَة وَلَك فرحتان فَقَالَ كَيفَ ذَلِك قَالَ لِأَن الله تَعَالَى الْيَوْم برد جلدَة والدك من نَار جَهَنَّم
وَقد تقدم أَنه كَانَ صانع بهَا عَن دمشق لما نزل الفرنج عَلَيْهَا
وفيهَا توفّي وَزِير بَغْدَاد عون الدّين أَبُو المظفر يحيى بن مُحَمَّد بن هُبَيْرَة الشَّيْبَانِيّ من بني ذهل بن شَيبَان بن ثَعْلَبَة بن الْحصن
وَكَانَ عَالما دينا مُدبرا حنبلي الْمَذْهَب وزر للمقتفي ثمَّ للمستنجد بعده وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا = الإفصاح فِي شرح الْأَحَادِيث الصِّحَاح =
وَكَانَ يجمع فِي مَجْلِسه أفاضل الْوَقْت من أَعْيَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والنحاة وَغَيرهم وَيجْرِي بحضرتهم فَوَائِد كَثِيرَة
توفّي وَهُوَ ساجد فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَحَد ثَالِث(1/440)
عشر جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة
ورئيت لَهُ منامات حَسَنَة ومدحه جمَاعَة من الْفُضَلَاء
ومولده فِي ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبع مئة بقرية من أَعمال دجيل تعرف بالدور وَهُوَ الَّذِي محا رسوم سلاطين الْعَجم من الْعرَاق وأجلاهم عَن خطتها بِحسن تَدْبيره
وَمن كَلَامه لبَعض من كَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ اجْتهد أَن تستر العصاة فَإِن ظُهُور معاصيهم عيب فِي الْإِسْلَام وَأولى الْأُمُور ستر الْعُيُوب(1/441)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِيهَا توفّي فتح الدّين بن أَسد الدّين شيركوه أَخُو نَاصِر الدّين وقبره بالمقبرة النجمية إِلَى جَانب قبر ابْن عَمه شاهنشاه بن أَيُّوب فِي قبَّة فِيهَا أَرْبَعَة قُبُور هما الأوسطان مِنْهَا
وَفِي هَذِه الْأَخَوَيْنِ نَاصِر الدّين وَفتح الدّين يَقُول العرقلة حسان
(لله شبلا أَسد خادر ... مَا فيهمَا جبن وَلَا شح)
(مَا أَقبلَا إِلَّا وَقَالَ الورى ... قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَاْلفَتْحُ)
وفيهَا سَار نور الدّين أَيْضا إِلَى حصن المنيطرة وَهُوَ للفرنج وَلم يحشد لَهُ وَلَا جمع عساكره إِنَّمَا سَار إِلَيْهِ على غرَّة من الفرنج وَعلم أَنه إِن جمع العساكر حذروا وجمعوا فانتهز الفرصة وَسَار إِلَى المنيطرة وحصرها وجد فِي قتالها وَأَخذهَا عنْوَة وقهراً وَقتل من بهَا وسبى(2/5)
وغنم غنيمَة كَثِيرَة لأَمِنْ من بِهِ فَأَخَذتهم خيل الله بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ وَلم يقدر الفرنج على أَن يجتمعوا لدفعه إِلَّا وَقد ملكه وَلَو علمُوا أَنه جَرِيدَة لأسرعوا وَإِنَّمَا ظنُّوا أَن نور الدّين فِي جمع كثير فَلَمَّا ملكه تفَرقُوا وَأَيِسُوا مِنْهُ
هَذَا قَول ابْن الْأَثِير وَذكر القَاضِي ابْن شَدَّاد أَن ذَلِك كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي وَالله أعلم
وفيهَا توفّي الجليس بن الْجبَاب بِمصْر قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة القَاضِي الجليس أَبُو الْمَعَالِي عبد الْعَزِيز بن الْحُسَيْن بن الْجبَاب الأغلبي السَّعْدِيّ التَّمِيمِي جليس صَاحب مصر فَضله مَشْهُور وشعره مأثور وَكَانَ أوحد عصره فِي مصره نظما ونثرا ترسلا وشعرا وَمَات بهَا فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَقد أناف على السّبْعين انشدني لَهُ الْأَمِير نجم الدّين بن مصال من قصيدة يَقُول فِيهَا(2/6)
(وَمن عجب أَن السيوف لديهُم ... تحيض دِمَاء وَالسُّيُوف ذُكُور)
(وأعجب من ذَا أَنَّهَا فِي أكفهم ... تأججُ نَارا والأكف بحور)
قَالَ وأنشدني لَهُ الشريف إِدْرِيس الإدريسي قصيدة سيَّرها إِلَى الصَّالح بن رزيك قبل وزارته يحرضه على إِدْرَاك ثأر الظافر وَكَانَ عَبَّاس وزيرهم قَتله وَقتل أَخَوَيْهِ يُوسُف وَجِبْرِيل يَقُول فِيهَا
(أصادفهُم قولا وغيباً ومشهداً ... نحوهم على عمد بِفعل أعادي)
(فَأَيْنَ بِنور رزيك عَنْهَا ونصرهم ... وَمَا لَهُم من مَنْعَة وذياد)
(تدارك من الْإِيمَان قبل دثُورِه ... حشاشة نفس آذَنت بنفاد)
(فَلَو عَايَنت عَيْنَاك بِالْقصرِ يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد)(2/7)
(فمزق جموع المارقين فَإِنَّهَا ... بقايا زروع آذَنت بحصاد)
وَله فِيهِ من أُخْرَى فِي هَذِه الْحَادِثَة
(وَلما ترامى الْبَرْبَرِي بجهله ... إِلَى فتكة مَا رامها قطّ رائم)
(ركبت إِلَيْهِ متن عزمتك الَّتِي ... بأمثالها تُلقى الخطوب العظائم)
(أعدت إِلَيْهِم ملكهم بعد مَا لوى ... بِهِ غَاصِب حق الْإِمَامَة ظَالِم)
وأنفذ إِلَيْهِ فِي الْمَعْنى
(أعدت إِلَى جسم الوزارة روحها ... وَمَا كَانَ يُرْجَى بعثها ونشورها)
(أَقَامَت زَمَانا عِنْد غَيْرك طامثاً ... فَهَذَا الأوان قرؤها وطهورها)
(من الْعدْل أَن يجتابها مستحقُّها ... ويخلعها مَرْدُودَة مستعيرها)
(إِذا ملك الْحَسْنَاء من لَيْسَ كفأها ... أَشَارَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاق مشيرها)
وَله يشكو طَبِيبا
(وأصل بليتي من قد غزاني ... من السَّقَم الملحّ بعسكرين)
(طَبِيب طبُّه كغراب بَين ... يفرق بَين عافيتي وبيني)(2/8)
(أَتَى الْحمى وَقد شاخت وباخت ... فَرد لَهَا الشَّبَاب بنسختين)
(ودبرها بتدبير لطيف ... حَكَاهُ عَن سِنَان أَو حنين)
(وَكَانَت نوبَة فِي كل يَوْم ... فصيّرها بحذق نوبتين)
قلت الأبيات الرائية تمثل بهَا الجليس وَهِي لصردر قرأتها فِي ديوانه وَهِي من قصيدة مدح بهَا وَزِير الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد فَخر الدولة أَبَا نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جهير ويهنئه بعوده إِلَى الوزارة وَأول القصيدة
(لجاجةُ قلب مَا يفِيق غرورها ... وحاجة نفس لَيْسَ يُقضي يسيرها)
وَهِي طَوِيلَة يَقُول فِيهَا متغزلا
(وقفنا صُفُوفا فِي الديار كَأَنَّهَا ... صَحَائِف ملقاة وَنحن سطورها)
(يَقُول خليلي والظباء سوانح ... أهذي الَّتِي تهوى فَقلت نظيرها)
(وَقد قلتما لي لَيْسَ فِي الأَرْض جنَّة ... أما هَذِه فَوق الركائب حورها)(2/9)
(أراكَ الحْمى قل لي بِأَيّ وَسِيلَة ... وصلت إِلَى أَن صادقتك ثغورها)
(وَمَا لي بهَا علم فَهَل أَنْت عَالم ... أأفواهها أولى بهَا أم نحورها)
(على رسلكُمْ فِي الهجر إنَّا عِصَابَة ... إِذا ظَفرت فِي الْحبّ عف ضميرها)
وَيَقُول فِي مديحها
(فَقل لليالي كَيفَ شِئْت تقلبَّي ... فَفِي يَد عبل الساعدين أمورها)
(أمانيُّ فِي نفس الوزارة بُلِّغت ... بِهِ كنهها حَتَّى اسْتحقَّت نذورها)
(لوَتْ وَجههَا عَن كل طَالب مُتْعَة ... إِلَى خاطبٍ حلُّ عَلَيْهِ سفورها)
(إِذا مثل الأقوام دون عرينه ... تساوى بِهِ ذُو طيشها ووقورها)
(تكَاد لما قد أُلبسْت من سكينَة ... ترف على تِلْكَ الرؤوس من طيورها)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِيهَا عَاد أَسد الدّين إِلَى مصر تَاسِع ربيع الآخر وَقد كَانَ بعد رُجُوعه من مصر لَا يزَال يحدث نَفسه بقصدها ومعاودتها حَرِيصًا على الدُّخُول إِلَيْهَا يتحدث بِهِ مَعَ كل من يَثِق إِلَيْهِ وَكَانَ مِمَّا يهيجه على الْعود زِيَادَة حقده على شاور وَمَا عمل مَعَه فَلَمَّا كَانَ هَذِه السّنة تجهز وَسَار إِلَيْهَا وسير نور الدّين مَعَه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
وَفِي ذَلِك يَقُول العرقلة
(أَقُول والأتراك قد ازمعت ... مصرَ إِلَى حَرْب الأعاريب)(2/10)
(رب كَمَا ملكتها يُوسُف الصّديق ... من أَوْلَاد يَعْقُوب)
(ملكهَا فِي عصرنا يُوسُف الصَّادِق ... من أَوْلَاد أَيُّوب)
(من لم يزل ضرّاب هام العدى ... حَقًا وضرّاب العراقيب)
ثمَّ إِن أَسد الدّين جدَ فِي السّير على البرّ وَترك بِلَاد الإفرنج عَن يَمِينه فوصل إِلَى الديار المصرية وَقصد إطفيح وَعبر النّيل عِنْدهَا إِلَى الْجَانِب الغربي وَنزل بالجيزة مُقَابل مصر وَتصرف فِي الْبِلَاد الغريبة وَأقَام بهَا نيفاً وَخمسين يَوْمًا
وَكَانَ شاور لما بلغه مَجِيء أَسد الدّين قد راسل الفرنج يستغيث بهم ويستصرخهم فَأتوهُ على الصعب والذلول فَتَارَة يحثهم طمعهم فِي ملك مصر على الْجد والتشمير وَتارَة يحدوهم خوفهم من أَن يملكهَا الْعَسْكَر النُّوري على الْإِسْرَاع فِي الْمسير فالرجاء يقودهم وَالْخَوْف يسوقهم فَلَمَّا وصلوا إِلَى مصر عبروا إِلَى الْجَانِب الغربي وَكَانَ أَسد الدّين والعسكر النُّوري قد سَارُوا إِلَى الصَّعِيد فبلغوا مَكَانا يعرف بالبابين وسارت العساكر المصرية والفرنج وَرَاءَهُمْ فأدركوهم بِهِ فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من جمادي الأولى وَكَانَ قد أرسل إِلَيْهِم جواسيس فعادوا وَأَخْبرُوهُ بِكَثْرَة عَددهمْ وعددُهم وجدهم فِي طلبه فعزم على لقائهم وقتالهم وَأَن تحكم السيوف بَينه وَبينهمْ إِلَّا أَنه خَافَ من أَصْحَابه أَن تضعف نُفُوسهم عَن(2/11)
الثَّبَات فِي هَذَا الْمقَام الْخطر الَّذِي عطبهم فِيهِ أقرب من السَّلامَة لقلَّة عَددهمْ وبعدهم عَن بِلَادهمْ فاستشارهم فكلهم أَشَارَ عَلَيْهِ بعبور النّيل إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وَالْعود إِلَى الشَّام وَقَالُوا لَهُ إِن نَحن انهزمنا وَهُوَ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فَإلَى أَيْن نلتجىء وبمن نحتمي وكل من فِي هَذِه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا ويودون لَو شربوا دماءنا وَحقّ لعسكر عدتهمْ ألفا فَارس قد بعدُوا عَن دِيَارهمْ ونأى ناصرهم أَن يرتاع من لِقَاء عشرات أُلُوف مَعَ أَن كل أهل الْبِلَاد عَدو لَهُم فَلَمَّا قَالُوا ذَلِك قَامَ إِنْسَان من المماليك النُّورية يُقَال لَهُ شرف الدّين بزغش وَكَانَ من الشجَاعَة بِالْمَكَانِ الْمَشْهُور وَقَالَ من يخَاف الْقَتْل والجراح والأسر فَلَا يخْدم الْمُلُوك بل يكون فلاحاً أَو مَعَ النِّسَاء فِي بَيته وَالله لَئِن عدتم إِلَى الْملك الْعَادِل من غير غَلَبَة وبلاء تعُذرون فِيهِ ليأخذن إقطاعاتكم وليعودنَّ عَلَيْكُم بِجَمِيعِ مَا أخذتموه إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَيَقُول لكم أتأخذون أَمْوَال الْمُسلمين وتفرون عَن عدوهم وتسلمون مثل هَذِه الديار المصرية يتَصَرَّف فِيهَا الْكفَّار قَالَ أَسد الدّين هَذَا رَأْيِي وَبِه أعمل وَوَافَقَهُمَا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ثمَّ كثر الموافقون لَهُم على الْقِتَال فاجتمعت الْكَلِمَة على اللِّقَاء فَأَقَامَ بمكانه حَتَّى أدْركهُ المصريون والفرنج وَهُوَ على تعبئة وَقد(2/12)
جعل الأثقال فِي الْقلب يتكثر بهَا وَلِأَنَّهُ لم يُمكنهُ أَن يَتْرُكهَا بمَكَان آخر فينهبها أهل الْبِلَاد
ثمَّ إِنَّه جعل صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه فِي الْقلب وَقَالَ لَهُ وَلمن مَعَه إِن الفرنج والمصريين يظنون أنني فِي الْقلب فهم يجْعَلُونَ جمرتهم بإزائه وحملتهم عَلَيْهِ فَإِذا حملُوا عَلَيْكُم فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ الْقِتَال وَلَا تهلكوا نفوسكم واندفعوا بَين أَيْديهم فَإِذا عَادوا عَنْكُم فَارْجِعُوا فِي أَعْقَابهم وَاخْتَارَ من شجعان أَصْحَابه جمعا يَثِق إِلَيْهِم وَيعرف صبرهم وشجاعتهم ووقف بهم فِي الميمنة فَلَمَّا تقَابل الطائفتان فعل الفرنج مَا ذكره أَسد الدّين وحملوا على الْقلب ظنا مِنْهُم أَنه فِيهِ فَقَاتلهُمْ من بِهِ قتالا يَسِيرا ثمَّ انْهَزمُوا بَين أَيْديهم فتبعوهم فَحمل حِينَئِذٍ أَسد الدّين فِيمَن مَعَه على من تخلف من الفرنج الَّذين حملُوا على الْقلب من الْمُسلمين والفرنج فَهَزَمَهُمْ وَوضع السَّيْف فيهم فأثخن وَأكْثر الْقَتْل والأسر وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ فَلَمَّا عَاد الفرنج من أثر المنهزمين الَّذين كَانُوا فِي الْقلب رَأَوْا مَكَان المعركة من أَصْحَابهم بلقعاً لَيْسَ بهَا مِنْهُم ديار فَانْهَزَمُوا أَيْضا وَكَانَ هَذَا من أعجب مَا يؤرخ أَن ألفي فَارس تهزم عَسَاكِر مصر وفرنج السَّاحِل
ثمَّ سَار أَسد الدّين إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة وجبى مَا فِي طريقها من القرايا والسواد من الْأَمْوَال وَوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فتسلمها من غير قتال سلمهَا أَهلهَا إِلَيْهِ فاستناب بهَا صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه وَعَاد إِلَى الصَّعِيد وتملكه وجبى أَمْوَاله وَأقَام بِهِ حَتَّى صَامَ رَمَضَان(2/13)
وَأما المصريون والفرنج فَإِنَّهُم عَادوا إِلَى الْقَاهِرَة وجمعوا أَصْحَابهم وَأَقَامُوا عوض من قتل مِنْهُم واستكثروا وحشدوا وَسَارُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَبهَا صَلَاح الدّين فِي عَسْكَر يمنعونها مِنْهُم وَقد أعانهم أَهلهَا خوفًا من الفرنج فَاشْتَدَّ الْحصار وَقل الطَّعَام بِالْبَلَدِ فَصَبر أَهله على ذَلِك
ثمَّ إِن أَسد الدّين سَار من الصَّعِيد نحوهم وَكَانَ شاور قد أفسد بعض من مَعَه من التركمان وَوَصله رسل المصريين والفرنج يطْلبُونَ الصُّلْح وبذلوا لَهُ خمسين ألف دِينَار سوى مَا أَخذه من الْبِلَاد فأجابهم إِلَى ذَلِك وَشرط أَن الفرنج لَا يُقِيمُونَ بِمصْر وَلَا يتسلمون مِنْهَا قَرْيَة وَاحِدَة وَأَن الْإسْكَنْدَريَّة تُعَاد إِلَى المصريين فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك واصطلحوا وَعَاد إِلَى الشَّام فوصل دمشق ثامن عشر ذِي الْقعدَة وتسلم المصريون الْإسْكَنْدَريَّة فِي النّصْف من شَوَّال
وَأما الفرنج فَإِنَّهُم اسْتَقر بَينهم وَبَين المصريين أَن يكون لَهُم بِالْقَاهِرَةِ شحنة وَتَكون أَبْوَابهَا بيد فرسانهم ليمتنع الْملك الْعَادِل من إِنْفَاذ عَسْكَر إِلَيْهِم وَيكون للفرنج من دخل مصر كل سنة مئة ألف دِينَار هَذَا كُله يجْرِي بَين الفرنج وشاور وَأما العاضد صَاحب مصر فَلَيْسَ إِلَيْهِ من الْأَمر شَيْء وَلَا يعلم بِشَيْء من ذَلِك قد حكم عَلَيْهِ شاور وحجبه وَعَاد الفرنج إِلَى بِلَادهمْ وَتركُوا جمَاعَة من فرسانهم ومشاهير أعيانهم بِمصْر والقاهرة على الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة
ثمَّ إِن الْكَامِل شُجَاع بن شاور راسل نور الدّين مَعَ شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء الْملك الْعَادِل وَهُوَ خَال صَلَاح الدّين يُوسُف ينْهَى محبته وولاءه ويسأله أَن يَأْمر بإصلاح الْحَال وَجمع(2/14)
الْكَلِمَة بِمصْر على من طَاعَته وبجمع كلمة الْإِسْلَام وبذل مَالا يحملهُ كل سنة فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وحملوا إِلَى نور الدّين مَالا جزيلا فَبَقيَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن قصد الفرنج مصر لتملكها فَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسِتِّينَ
قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن ذكر عود أَسد الدّين إِلَى مصر فِي الْمرة الثَّانِيَة وَهِي الْمَعْرُوفَة بوقعة البابيْن لم يزل أَسد الدّين يتحدث بذلك بَين النَّاس حَتَّى بلغ شاور ذَلِك وداخله الْخَوْف على الْبِلَاد من الأتراك وَعلم أَن أَسد الدّين قد طمع فِي الْبِلَاد وَأَنه لَا بُد لَهُ من قَصدهَا فكاتب الفرنج وَقرر مَعَهم أَنهم يجيئون إِلَى الْبِلَاد ويمكنونه فِيهَا تمكيناً كلياً ويعينونه على استئصال أعدائه بِحَيْثُ يسْتَقرّ قدمه فِيهَا وَبلغ ذَلِك نور الدّين وَأسد الدّين فَاشْتَدَّ خوفهما على مصر أَن يملكهَا الْكفَّار فيستولوا على الْبِلَاد كلهَا فتجهز أَسد الدّين وأنفذ نور الدّين مَعَه الْعَسْكَر وألزم صَلَاح الدّين رَحمَه الله بِالْمَسِيرِ مَعَه على كَرَاهِيَة مِنْهُ لذَلِك وَذَلِكَ فِي اثناء ربيع الأول وَكَانَ وصولهم إِلَى الْبِلَاد المصرية مُقَارنًا لوصول الفرنج إِلَيْهَا وَاتفقَ شاور مَعَ الفرنج على أَسد الدّين والمصريون بأسرهم وَجرى بَينهم حروب كَثِيرَة ووقعات شَدِيدَة وانفصل الفرنج عَن الديار المصرية وانفصل أَسد الدّين
وَكَانَ سَبَب عود الفرنج أَن نور الدّين قدس الله روحه جرد العساكر إِلَى بِلَاد الإفرنج وَأخذ المنيطرة وَعلم الفرنج ذَلِك فخافوا على بِلَادهمْ وعادوا وَكَانَ سَبَب عود أَسد الدّين ضعف عسكره بِسَبَب مواقعة الفرنج(2/15)
والمصريين وَمَا عانوه من الشدائد وعاينوه من الْأَهْوَال وَمَا عَاد حَتَّى صَالح الفرنج على أَن ينصرفوا كلهم عَن مصر وَعَاد إِلَى الشَّام فِي بَقِيَّة السّنة وَقد انْضَمَّ إِلَى قُوَّة الطمع فِي الْبِلَاد شدَّة الْخَوْف عَلَيْهَا من الفرنج لعلمه بِأَنَّهُم قد كشفوها كَمَا كشفها وعرفوها من الْوَجْه الَّذِي عرفهَا فَأَقَامَ بِالشَّام على مضض وَقَلبه مقلقل وَالْقَضَاء يجره إِلَى شَيْء قد قدر لغيره وَهُوَ لَا يشْعر بذلك
قَالَ وَفِي اثناء سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ملك نور الدّين قلعة المنيطرة بعد مسير أَسد الدّين فِي رَجَب وَخرب قلعة اكاف بالبرية
وَفِي رَمَضَان مِنْهَا اجْتمع نور الدّين وَأَخُوهُ قطب الدّين وزين الدّين بحماة للغزاة وَسَارُوا إِلَى بِلَاد الفرنج فخربوا هُونين فِي شَوَّال مِنْهَا
وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا كَانَ عود أَسد الدّين من مصر
وَفِيه مَاتَ قرا أرسلان بديار بكر
فصل
وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة قدم دمشق عماد الدّين الْكَاتِب ابو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد الاصفهاني مُصَنف كتابي الْفَتْح والبرق فأنزله قَاضِي(2/16)
الْقُضَاة كَمَال الدّين ابو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري بِالْمَدْرَسَةِ النورية الشَّافِعِيَّة عِنْد حمام الْقصير بِبَاب الْفرج المنسوبة الان الى الْعِمَاد وانما نسبت اليه لَان نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى ولاه إِيَّاهَا فِي رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ بعد الشَّيْخ الْفَقِيه ابْن عبد
وَكَانَ الْعِمَاد لَهُ معرفَة بِنَجْم الدّين ايوب واسد الدّين شيركوه ابْني شاذي من تكريت بِسَبَب ان عَمه الْعَزِيز احْمَد بن حَامِد اعتقله السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بقلعة تكريت وَنجم الدّين ايوب اذ ذَاك واليها فانتسجت الْمَوَدَّة بَينهم من هُنَاكَ فَلَمَّا سمع نجم الدّين بوصوله بكر الى منزله لتبجيله وَكَانَ شيركوه وَصَلَاح الدّين حِينَئِذٍ بِمصْر فمدح الْعِمَاد نجم الدّين ايوب بقصيدة مِنْهَا اولها
(يَوْم النَّوَى لَيْسَ من عمري بمحسوب ... وَلَا الْفِرَاق الى عيشي بمنسوب)(2/17)
(مَا اخْتَرْت بعْدك لَكِن الزَّمَان اتى ... كرها بِمَا لَيْسَ يَا مَحْبُوب محبوبي)
(ارجو ايابي اليكم ظافراً عجلا ... فقد ظَفرت بِنَجْم الدّين ايوب)
(موفق الرَّأْي ماضي الْعَزْم مُرْتَفع ... على الاعاجم مجداً والاعاريب)
(احبك الله اذ لازمت نجدته ... على جبين بتاج الْملك معصوب)
(اخوك وابنك صدقا مِنْهُمَا اعتصما ... بِاللَّه والنصر وعد غير مَكْذُوب)
(هما همامان فِي يومي وغى وقرى ... تعودا ضرب هام أَو عراقيب)
(غَدا يشبان فِي الْكفَّار نَار وغى ... بلفحها يصبح الشبَّان كالشيب)
(بِملك مصر وَنصر الْمُؤمنِينَ غَدا ... تحظى النُّفُوس بتأنيس وتطييب)
(ويستقر بِمصْر يُوسُف وَبِه ... تقر بعد التنائي عين يَعْقُوب)
(ويلتقي يُوسُف فِيهَا بأخوته ... وَالله يجمعهُمْ من غير تَثْرِيب)
وَكَانَ انشاده هَذِه القصيدة فِي اخر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَتمّ ملكهم مصر بعد سنتَيْن قَالَ فنظمت مَا فِي الْغَيْب تَقْدِيره
قَالَ وَكَانَ اسد الدّين قد جمع وَسَار الى مصر فِي الرمل فِي النّصْف من ربيع الاول وَوصل فِي سادس ربيع الاخر الى اطفيح وَعبر مِنْهَا الى الْجَانِب الغربي واناخ بالجيزة محاذاة مصر فَأَقَامَ عَلَيْهَا نيفاً وَخمسين يَوْمًا واستعان شاور بالفرنج ورتبوا لَهُم سوقاً بِالْقَاهِرَةِ وعبروا بهم من الْبِلَاد(2/18)
الشرقية الى الغرب وَعلم اسد الدّين فَسَار امامهم فَالْتَقوا بِموضع يعرف بالبابين فكسرهم اسد الدّين واصحابه وَقتلُوا من الفرنج وَمِمَّنْ تَبِعَهُمْ من المصريين الوفا وَحصل مِنْهُم فِي الاسار سَبْعُونَ فَارِسًا من بارونيتهم فَلَمَّا تمت لَهُم هَذِه الكسرة رحلوا الْإسْكَنْدَريَّة فوجدوا مساعدة أَهلهَا فَدَخَلُوهَا ثمَّ قَالَ أَسد الدّين أَنا لَا يمكنني أَن أحْصر نَفسِي فَأخذ الْعَسْكَر وَسَار بِهِ إِلَى بِلَاد الصَّعِيد فاستولى عَلَيْهَا وجبى خراجها وَأقَام صَلَاح الدّين بالإسكندرية فَسَار إِلَيْهِ شاور والفرنج فحاصروه أَرْبَعَة أشهر وَصدق أهل الْإسْكَنْدَريَّة الْقِتَال مَعَ صَلَاح الدّين وقوى أَسد الدّين بقوص واستنهض لقصد الْقَوْم الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَسمع الفرنج أَنه جَاءَ يقصدهم فرحلوا عَن الْحصار وَكَانَ شاور قد استمال جمَاعَة من التركمان الَّذين مَعَ أَسد الدّين بِالذَّهَب فَلَمَّا راسلوه فِي المهادنة أجَاب وَطلب مِنْهُم عوض مَا غرمه فبذلوا لَهُ خمسين ألف دِينَار فَخَرجُوا من الْإسْكَنْدَريَّة فِي النّصْف من شَوَّال ووصلوا إِلَى دمشق ثامن عشر ذِي الْقعدَة وعادوا إِلَى الْخدمَة النورية
فَاجْتمع الْعِمَاد بأسد الدّين وأنشده هَذِه القصيدة
(بلغت بالجد مَالا يبلغ الْبشر ... ونلت مَا عجزت من نيله القُدر)
(من يَهْتَدِي للَّذي أَنْت اهتديت لَهُ ... وَمن لَهُ مثل مَا أثرّته أثر)
(أسرِت أم بِسُراك الأرضُ قد طويت ... فَأَنت إسكندرٌ فِي السّير أم خَضِر)
(أوردت خيلا بأقصى النّيل صادرةً ... عَن الْفُرَات يقاضي وِرْدَها الصَّدَر)
(تناقلت ذكرك الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهَا ... إِلَّا حَدِيثك مَا بَين الورى سمر)(2/19)
(فَأَنت من زانت الْإِسْلَام سيرته ... وَزَاد فَوق الَّذِي جَاءَ بِهِ السيِّر)
(لَو فِي زمَان رَسُول الله كنت أَتَت ... فِي هَذِه السِّيرَة المحمودة السُّور)
(أَصبَحت بِالْعَدْلِ والإقدام مُنْفَردا ... فَقل لنا أعليٌّ أَنْت أم عمر)
(إسكندرٌ ذكرُوا أَخْبَار حكمته ... وَنحن فِيك رَأينَا كل مَا ذكرُوا)
(ورُسْتُمٌ خبرونا عَن شجاعته ... وَصَارَ فِيك عيَانًا ذَلِك الْخَبَر)
(اِفخر فَإِن مُلُوك الأَرْض أذهلهم ... مَا قد فعلت فَكل فِيك مفتكر)
(سهرت إِذْ رقدوا بل هجت إِذْ سكنوا ... وصُلت إِذْ جبنوا بل طُلت إِذْ قُصروا)
(يستعظمون الَّذِي أَدْرَكته عجبا ... وَذَاكَ فِي جنب مَا نرجوه محتقر)
(قضى الْقَضَاء بِمَا نرجوه عَن كثب ... حتما ووافقك التَّوْفِيق وَالْقدر)
(شكت خيولك إدمان السرى وَشَكتْ ... من فَلِّها البيضُ بل من حَطْمها السُّمر)
(يسرت فتح بِلَاد كَانَ أيسرها ... لغير رَأْيك قفلاً فَتحه عسر)
(قرنت بالحزم مِنْك الْعَزْم فاتسقت ... مَا رب لَك عَنْهَا أَسْفر السّفر)
(وَمن يكون بِنور الدّين مهتديا ... فِي امْرَهْ كَيفَ لَا يقوى لَهُ المرر)
(يرى بِرَأْيِك مَا فِي الْملك يبرمه ... فَأَنت مِنْهُ بِحَيْثُ السّمع والبَصر)
(لقد بَغت فئةُ الإفرنج فانتصفت ... مِنْهَا بإقدامك الْهِنْدِيَّة البتر)
(غرست فِي أَرض مصرٍ من جسومهمُ ... أَشجَار خطّ لَهَا من هامهم ثَمَر)
(وسال بَحر نجيع فِي مقَام وغي ... بِهِ الْحَدِيد غمامٌ وَالدَّم الْمَطَر)
(أنهرت مِنْهُم دِمَاء بالصعيد جرى ... مِنْهَا إِلَى النّيل فِي واديهمُ نهر)(2/20)
(رَأَوْا إِلَيْك عبور النّيل إِذْ عدموا ... نصرا فَمَا عبروا حَتَّى قد اعتبروا)
(تَحت الصوارم هامُ الْمُشْركين كَمَا ... تَحت الصوالج يَوْمًا خفتّ الأكر)
(أفنت سيوفك من لاقت فَإِن تركت ... قوما فهم نفر من قبلهَا نفروا)
(لم ينج إِلَّا الَّذِي عافته من خبث ... وَحش الفلا وَهُوَ للمحذور منتظر)
(والساكنون الْقُصُور القاهرية قد ... نَادَى القصورُ عَلَيْهِم أَنهم قُهروا)
(وشاورٌ شاوره فِي مكايدهم ... فكاده الكيد لما خانه الحذر)
(كَانُوا من الرعب موتى فِي جُلُودهمْ ... وَحين أمنتهم من خوفهم نُشروا)
(وَإِن من شيركوه الشّرك منخزلٌ ... والكفرَ منخذل وَالدّين منتصر)
(عوِّل على فئةٍ عِنْد اللِّقَاء وفت ... وعدِّ عَن تركمان قبله غدروا)
(وَكَيف يُخذل جَيش أَنْت مَالِكه ... والقائدان لَهُ التأييد وَالظفر)
(أجَاب فِيك إِلَه الْخلق دَعْوَة من ... يطيب بِاللَّيْلِ من أنفاسه السحر)
قَالَ الْعِمَاد واتصلت بيني وَبَين صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه مَوَدَّة تمت لي بهَا على الزَّمَان عُدة وَلم يزل يستهديني نظمي ونثري ويشعرني أَنه يمِيل إِلَى شعري فَأول مَا خدمته بِهِ هَذِه الْكَلِمَة
(كَيفَ قُلْتُمْ بمقلتيه فتور ... وأراها بِلَا فتور تجور)
وَمِنْهَا(2/21)
(مستجيز جوري وَإِنِّي مِنْهُ ... يَا ابْن أَيُّوب يُوسُف مستجير)
(فَضله فِي يَد الزَّمَان سوار ... مِثْلَمَا رَأْيه على الْملك سور)
(كرمٌ سابغ وجودٌ عميم ... وندىً سَائِغ وَفضل غزير)
(أَنْت من لم يزل يحن إِلَيْهِ ... وَهُوَ فِي المهد سَرْجه والسرير)
(من دم الغادرين غادرت بالْأَمْس ... صَعِيد الصَّعِيد وَهُوَ غَدِير)
(وَلكُل لما تطاولت فيهم ... أمل قَاصِر وَعمر قصير)
(لَاذَ بالنيل شاور مثل فِرْعَوْن ... فذل اللاجيّ وَعز العُبور)
(شَارك الْمُشْركين بغياُ وقدماً ... شاركتها قريظةٌ وَالنضير)
(وَالَّذِي يدعى الإمامةَ بِالْقَاهِرَةِ ... ارتاع أَنه مقهور)
(وَغدا الْمَلْك خَائفًا من سُطاكم ... ذَا ارتعاد كَأَنَّهُ مقرور)
(وَبَنُو الهنفري هانوا فَفرُّوا ... وَمن الْأسد كلُّ كلب فرور)
(إِنَّمَا كَانَ للكلاب عواء ... حَيْثُ مَا كَانَ للأسود زئير)
(وفليب عِنْد الْفِرَار سليب ... فَهُوَ بِالرُّعْبِ مُطلق مأسور)
(لم يبقوا سوى الأصاغر للسبي ... فودوا أَن الْكَبِير صَغِير)
(وحميت الْإسْكَنْدَريَّة عَنْهُم ... ورحى حربهم عَلَيْهِم تَدور)
(حاصروها وَمَا الَّذِي بَان من ذبك ... عَنْهَا وحفظها مَحْصُور)
(كحصار الْأَحْزَاب طيبَة قدماً ... ونبيُّ الْهدى بهَا مَنْصُور)
(فاشكر الله حِين أولاك نصرا ... فَهُوَ نعم الْمولى وَنعم النصير)
(وَلكم أرجف الأعادي فَقُلْنَا ... مَا لما تذكرونه تَأْثِير)
(ورقبنا كالعيد عودك فاليوم ... بِهِ للأنام عيد كَبِير)(2/22)
(عَاد من مصر يُوسُف وَإِلَى يَعْقُوب ... بالتهنئات جَاءَ البشير)
(فلأيوب من إياب صَلَاح الدّين ... يَوْم بِهِ توفيَّ النذور)
(وَلكم عودة إِلَى مصر بالنصر ... على ذكرهَا تمر العصور)
(فاستردوا حق الْإِمَامَة مِمَّن ... خَان فِيهَا فَإِنَّهُ مستعير)
(وافترعها بكرا لَهَا أَبَد الدَّهْر ... رواح فِي مدحكم وبكور)
(أَنا سيرت طالع الْعَزْم مني ... وَإِلَى قصدك انْتهى التسيير)
(وَأرى خاطري لمدحك إلفاً ... إِنَّمَا يألف الخطير الخطير)
وَهِي وَالَّتِي قبلهَا طويلتان جدا فانتظمت معرفَة الْعِمَاد بصلاح الدّين وَكَانَ لَهُ مساعداً عِنْد نور الدّين
وقرأت فِي ديوَان العرقلة وَقَالَ يمدح أَسد الدّين شيركوه وَقد أَخذ الشقيف ورحل طَالبا حصنا يُقَال لَهُ الْعرَاق
(رحلت من الشقيف إِلَى الْعرَاق ... بعزم كالمهندة الرقَاق)
(ونكست الأعادي مِنْهُ قهرا ... ومجدك فِي ذرا الجوزاء راق)
(بجأشك لَا بجيشك نلْت هَذَا ... وبالتوفيق لَا بالإتفاق)
(فداؤك من مضى بالحصن قبلي ... إِلَى دَار الخلود من الرفاق)
(وَمَا نخشى على الْإِسْلَام بؤساً ... إِذا هلك الْجَمِيع وَأَنت بَاقِي)
(أشاور كم تُشاور كل خب ... وتنفق عِنْد مثلك بالنفاق)(2/23)
(أتصبر إِن أتتك بحار خيل ... وقدماً مَا صبرت على السواقي)
(مَتى رفعت لَك السودَان رَأْسا ... وَقد خلاهم مثل الزقاق)
(وعيشك مَا لَهُ من مصر بُد ... وَمن عِنْدِي ثَلَاثًا بِالطَّلَاق)
(هُوَ الْأسد الَّذِي مَا زَالَ حَتَّى ... بنى مجداً على السَّبع الطباق)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي هَذِه السّنة أرسل نور الدّين إِلَى أَخِيه قطب الدّين يطْلب أَن يعبر الْفُرَات إِلَيْهِ بعساكره فتجهز وَسَار هُوَ وزين الدّين فِي العساكر الْكَثِيرَة فَاجْتمعُوا بِنور الدّين على حمص فَدخل بالعساكر الإسلامية بِلَاد الفرنج واجتاز على حصن الأكراد فَأَغَارُوا ونهبوا وأسروا وقصدوا عرقة ونزلوا عَلَيْهَا وحاصروها وحصروا جَبَلَة وأخربوها وتوجهت عَسَاكِر الْمُسلمين يَمِينا وَشمَالًا تغير وتخرب الْبِلَاد وَفتح العَرِيمة وصافيثا وَعَاد إِلَى حمص فصَام بهَا شهر رَمَضَان ثمَّ سَار إِلَى بانياس وَقصد قلعة هُونين وَهِي للفرنج ايضاً من قلاعهم المنيعة فَانْهَزَمَ الفرنج عَنْهَا وأحرقوها فقصدها نور الدّين فوصلها من الْغَد وَخرب سورها جَمِيعه وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَى بيروت فتجدد فِي الْعَسْكَر خُلف أوجب التَّفَرُّق فَعَاد وَسَار قطب الدّين إِلَى الْموصل وأقطعه مَدِينَة الرقة فَأَخذهَا فِي طَرِيقه
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة عصى الْأَمِير غَازِي بن حسان المنبجي صَاحب مَنْبِج على نور الدّين وَهُوَ كَانَ أقطعه إِيَّاهَا فَأرْسل إِلَيْهِ نور الدّين عسكرا(2/24)
حصروه بهَا وَأَخذهَا مِنْهُ وأقطعها أَخَاهُ قطب الدّين ينَال بن حسان وَكَانَ عَاقِلا خيرا حسن السِّيرَة فبقى بهَا إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ صَلَاح الدّين سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين كَمَا سَيَأْتِي
وَفِي هَذِه السّنة توفّي القَاضِي الرشيد أَحْمد بن عَليّ بن الزبير صَاحب كتاب الْجنان
قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة كَانَ ذَا علم غزير وَفضل كثير قَتله شاورَ صبرا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَنسب إِلَيْهِ أَنه شَارك أَسد الدّين شيركوه فِي قَصده
وَأَخُوهُ الْمُهَذّب أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ بن الزبير أشعر مِنْهُ وَتُوفِّي قبله بِسنة وَلم يكن فِي زَمَانه أشعر مِنْهُ أحد وَله شعر كثير مِنْهُ قصيدة غراء فِي مدح الصَّالح بن رزيك وَذكر فِيهَا نور الدّين أَولهَا(2/25)
(أعلمت حِين تجَاوز الْحَيَّانِ ... أَن الْقُلُوب مواقد النيرَان)
(يَا كاسر الْأَصْنَام قُم فانهض بِنَا ... حَتَّى تصير مكسِّر الصلبان)
(فالشام ملكك قد ورثت بِلَاده ... عَن قَوْمك الماضين من غَسَّان)
(وَإِذا شَككت بِأَنَّهَا أوطانهم ... قدما فسل عَن حَارِث الجولان)
(أَو رمت أَن تتلوا محَاسِن ذكرهم ... فاسند رِوَايَتهَا إِلَى حسان)
(مَا زلزلت أَرض العدى بل ذَاك مَا ... بقلوب أهليها من الخفقان)
(وَأَقُول إِن حصونهم سجدت لما ... أُوتيت من ملك وَمن سُلْطَان)
(وَلَقَد بعثت إِلَى الفرنج كتائباً ... كالأسد حِين تصول فِي خّفَّان)
(لبسوا الدروع وَلم نخل مِنْ قبلهم ... أَن الْبحار تحل فِي غُدران)
(عجلت فِي تل العَجُول قراهم ... وهم لَك الضيفان بالذِّيفان)
(وثللت فِي يَوْم الْعَريش عروشهم ... بشبا ضراب صَادِق وطعان)
(ألجأتهم للبحر لما أَن جرى ... مِنْهُ وَمن دمهم مَعًا بحران)
(وَلَقَد أَتَى الأسطول حِين غزا بِمَا ... لم يَأْتِ فِي حِين من الأحيان)
(وأعدت رُسل ابْن القسيم إِلَيْهِ فِي ... شعْبَان كي يتلاءم الشَّعبان)
(والفال يشْهد فِي اسْمه أَن سَوف يَغْدُو ... الشَّام وَهُوَ عَلَيْكُمَا قِسْمَانِ)
(ورآك من بعد الشَّهِيد أَبَا لَهُ ... وَجَعَلته من أقرب الإخوان)(2/26)
(وَهُوَ الَّذِي مَا زَالَ يفعل فِي العدى ... مَا لم يكن لِيُعَدَّ فِي الْإِمْكَان)
(قتل الْبُرْنُس وَمن عساه أَعَانَهُ ... لما عسا فِي الْبَغي والعدوان)
(وَأرى الْبَريَّة حِين عَاد بِرَأْسِهِ ... مُرَّ الجنى يَبْدُو على المران)
(وتعجبوا من زرقة فِي طرفه ... وَكَأن فَوق الرمْح نصلاً ثَانِي)
(عجبا لجود يَدَيْهِ إِذْ يَبْنِي الْعلَا ... والسيل يهدم ثَابت الْأَركان)
(قلدت أَعْنَاق الْبَريَّة كلهَا ... منناً تحمل ثقلهَا الثَّقَلَان)
(حَتَّى تساوى النَّاس فِيك وَأصْبح القاصي ... بِمَنْزِلَة الْقَرِيب الداني)
وَفِي هَذِه السّنة ذكر القَاضِي كَمَال الدّين بن الشَّهْرَزَوْرِي للسُّلْطَان نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى حَال الْعِمَاد الْكَاتِب وعرفه بِهِ وَعرض عَلَيْهِ قصيدة لَهُ فِي مدحه مطْلعهَا
(لَو حفظت يَوْم النَّوَى عهودها ... مَا مُطلت بوصلكم وعودها)
وَمِنْهَا
(وَإِنَّمَا يحمد عيشي بَلْدَة ... مَالِكهَا بعدله محمودها)
(مؤيد أُمُوره بعزمة ... من السَّمَوَات الْعلَا تأييدها)
(آثاره حميدة وَإِنَّمَا ... للمرء من آثاره حميدها)
(إِن الورى بحبه وبغضه ... يعرف من شقيها سعيدها)(2/27)
(قد جَاءَكُم نور من الله فَمن ... بِهِ اهْتَدَى فَإِنَّهُ رشيدها)
(جلا ظلام الظُّلم نور الدّين عَن ... أَرض الشآم فَلهُ تحميدها)
(إِن الرعايا مِنْهُ فِي رِعَايَة ... ونعمة مستوجب مزيدها)
(لنومها يسهر بل لأمنها ... يخَاف بل لخصبها يجودها)
(بِالدّينِ وَالْملك لَهُ قِيَامه ... وللملوك عَنْهُمَا قعودها)
(ودأبه ثلم ثغور الْكفْر لَا ... لثم ثغور ناقع برودها)
(قد أَسْبغ الله لنا بعدله ... ظلال أَمن وارف مديدها)
(غَدا مُلُوك الرّوم فِي دولته ... وهم على رغمهم عبيدها)
(لما أَبَت هاماتهم سجودها ... لله أضحى للظبي سجودها)
(إِن فَارَقت سيوفه غمودها ... فَإِن هاماتهم غمودها)
(كم مغلقات من حصون عزمه ... مفتاحها وسيفه إقليدها)
(قد ودَّت الفرنج لَو فرَّت نجت ... مِنْك وَلَكِن روعها مبيدها)
(قهرتها حَتَّى لودَّ حيُّها ... من ذلة لَو أَنه فقيدها)
(أماتها رعبك فِي حصونها ... كَأَنَّمَا حصونها لحودها)
(وَإِن مصرا لَك تعنوا بَعْدَمَا ... لسيفك العضب عَنَّا صعيدها)
(وَالْملَّة الغراء خَال بالها ... عَال سناها بك حالٍ جيدها)
(مفترة ثغورها مَمْنُوعَة ... ثغورها مَحْفُوظَة حُدُودهَا)
(وَإِن بغى جالوتها ضَلَالَة ... فَأَنت فِي إهلاكه داودها)
(يَا ابْن قسيم الدولة الْملك الَّذِي ... خرت لَهُ من الْمُلُوك صيدها)
(دع العدى بغيظها فَإِنَّمَا ... تذيب أكباد العدى حقودها)
(يَا دولة نورية أَمن الورى ... وخصبها وجودهَا وجودهَا)(2/28)
(مَا مثل الدُّنْيَا لمن يجمعها ... بالحرص إِلَّا قَزَّة ودودها)
(أَنْت الَّذِي ترفضها عَن قدرَة ... فَلَا يشوب زهده زهيدها)
(فابق لنا يَا ملكا بَقَاؤُهُ ... فِي كل عَام للرعايا عيدها)
(فِي نعْمَة جَدِيدَة سعودها ... ودولة سعيدة جدودها)
وَهِي طَوِيلَة فرتبه نور الدّين فِي ديوانه منشئاً لاستقبال سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ
قَالَ وَوجدت على الْأَيَّام مِنْهُ الإعزاز والتمكين
قلت وَذَلِكَ بعد أَن استعفى أَبُو اليُسر شَاكر بن عبد الله من الْخدمَة فِي كِتَابَة الْإِنْشَاء وَقعد فِي بَيته كَذَا ذكر الْعِمَاد فِي الخريدة
وَقَالَ تولى ديوَان الْإِنْشَاء بِالشَّام سِنِين كَثِيرَة وَله مَقَاصِد حَسَنَة فِي الْكتب وَهُوَ حميد السِّيرَة جميل السريرة
وفيهَا توفّي الْحَافِظ أَبُو سعد عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ الْمروزِي رَحمَه الله تَعَالَى(2/29)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَذكر الْعِمَاد أَن نور الدّين رَحل إِلَى حمص ثمَّ مضى إِلَى حماة ثمَّ شتَّى بقلعة حلب وَمَعَهُ الْأسد والصّلاح وَنزل الْعِمَاد بمدرسة ابْن العجمي وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَقد عثر فرسه فِي الميدان وَهُوَ يلْعَب بالكرة مَعَ نور نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
(لَا تنكرن لسابح عثرت بِهِ ... قدم وَقد حمل الخضم الزاخرا)
(ألْقى على السُّلْطَان طرِفك طرفه ... فهوى هُنَالك للسلام مبادرا)
(سبق الرِّيَاح بجريه وكففته ... عَنْهَا فَلَيْسَ على خِلافك قَادِرًا)
(ضعفت قواه إِذْ تذكر أَنه ... فِي السرج مِنْك يُقل ليثاً خادراً)
(وَمَتى تطِيق الرّيح طوداً شامخاً ... أَو يَسْتَطِيع الْبَرْق جوناً ماطرا)
(فاعذر سُقُوط الْبَرْق عِنْد مسيره ... فالبرق يسْقط حِين يخطف سائرا)
(وأّقِلْ جوادك عَثْرَة ندرت لَهُ ... إِن الجوادَ لَمَن يُقيل العاثرا)
(وتوقّ من عين الحسود وشرها ... لَا كَانَ ناظرها بِسوء نَاظرا)
(واسلم لنُور الدّين سُلْطَان الورى ... فِي الحادثات معاضدا ومؤازرا)
(وَإِذا صَلَاح الدّين دَامَ لأَهله ... لم يحذروا للدهر صَرفاً ضائرا)(2/30)
وَجَرت بَين الْعِمَاد وَبَين الإِمَام شرف الدّين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون مكاتبات كتب إِلَيْهِ الْعِمَاد
(أيا شرف الدّين إِن الشتا ... بكافاته كفّ آفاته)
(وكفك من كرم كافها ... لقد كفلت لي بكافاته)
(وَإنَّك مَن عرفه شكرنا ... غَدا عَاجِزا عَن مكافاته)
قَالَ فَكتب إليَّ شرف الدّين فِي جوابها
(إِذا مَا الشتَاء وأمطاره ... عَن الْخَيْر حابسة رادعه)
(فكافاته السِّت أُعطيتها ... وحوشيتَ من كافه الرابعه)
(وكف المهابة والإحتشام ... لكفِّيَ عَن بره مانعه)
(وهمة كل كريم النِّجار ... بميسور أحبابه قانعه)
(وَنَفْسِي فِي بسط عُذْري إِلَيْهِ ... جعلت الْفِدَاء لَهُ طامعه)
(وشوقي إِلَى قربه زَائِد ... ومعذرتي إِن جَفا واسعه)(2/31)
قَالَ فَكتبت إِلَيْهِ فِي جوابها
(أيا من لَهُ همة فِي الْعلَا ... لذروتها أبدا فارعة)
(وَمن كَفه دِيمَة مَا تزَال ... بِالْعرْفِ هامية هامعه)
(وللفضل فِي سوق أفضاله ... بضائع نافقة نافعه)
(وَهل كَابْن عَصْرون فِي عصرنا ... إِمَام أدلته قاطعه)
(فحبر فَوَائده جمة ... وبحر موارده واسعه)
(أيا شرف الدّين شرفتني ... بإهداء رائقة رائعه)
(أَطَعْت أوامرك الساميات ... وَمَا برحتْ همتي طائعه)
(أرى كل جارحة لي تودّ ... لَو أَنَّهَا أذن سامعه)
(وَأما الشتَاء وكافاته ... وكفُّك عَن كافه الرابعه)
(فنفسي منزهة بالعفاف ... عَنْهَا وَفِي غَيرهَا طامعه)
(وماذا تُطيق إِذا لم تكن ... بميسور سيدنَا قانعه)
وَهِي أَكثر من هَذَا
قَالَ وَكَانَ ابْن حسان صَاحب منبج قد ساءت أَفعاله فَبعث إِلَيْهِ نور الدّين من حاصره وانتزعها مِنْهُ ثمَّ توجّه نور الدّين إِلَيْهَا لتهذيب(2/32)
أحوالها ومدحه الْعِمَاد بقصيدة مِنْهَا
(بشرَى الممالك فتح قلعة منبج ... فلْيَهْنِ هَذَا النَّصْر كل متوج)
(أُعطيت هَذَا الْفَتْح مفتاحاً بِهِ ... فِي الْملك يفتح كل بَاب مرتج)
(وافي يبشر بالفتوح وَرَاءه ... فانهض إِلَيْهَا بالجيوش وعرِّج)
(أبشِر فبيت الْقُدس يَتْلُو منبجاً ... ولَمَنبج لسواه كالأنموذج)
(مَا أعجزتك الشهب فِي أبراجها ... طلبا فَكيف خوارج فِي أبرُج)
(ولقدرُ من يعصيك أَحْقَر أَن يرى ... أثر العبوس بِوَجْهِك المتبلج)
(لَكِن تهذب من عصاك سياسة ... فِي ضمنهَا تَقْوِيم كل معوج)
(فانهد إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس غازياً ... وعَلى طرابلسٍ ونابلسٍ عج)
(قد سرت فِي الْإِسْلَام أحسن سيرة ... مأثورة وسلكت أوضح مَنْهَج)
(وَجَمِيع مَا استقريت من سنَن الْهدى ... جددت مِنْهُ كل رسم مَنْهَج)
قَالَ الْعِمَاد وَسَار نور الدّين من منبج إِلَى قلعة نجم وَعبر الْفُرَات إِلَى الرُّها وَكَانَ بهَا ينَال صَاحب مَنْبِج وَهُوَ سديد الرَّأْي رشيد الْمنْهَج فنقله إِلَيْهَا مٌقْطَعاً ووالياً وَأقَام نور الدّين بقلعة الرها(2/33)
مُدَّة فمدحه الْعِمَاد بقصيدة وتحجَّب لَهُ صَلَاح الدّين فِي عرضهَا وَهِي
(أدْركْت من أَمر الزَّمَان المشتهى ... وَبَلغت من نيل الْأَمَانِي الْمُنْتَهى)
(وَبقيت فِي كنف السَّلامَة آمنا ... متكرماً بالطبع لَا متكرها)
(لَا زلت نور الدّين فِي فلك الهُدى ... ذَا غرَّة للْعَالمين بهَا الْبها)
(يَا محييَ الْعدْل الَّذِي فِي ظله ... مِن عَدْله رَعَت الأسودُ مَعَ المها)
(مَحْمُود الْمَحْمُود من أَيَّامه ... لبهائها ضحك الزَّمَان وقهقها)
(مولى الورى مولي الندى معلي الْهدى ... مردي العدى مسدي الجدا معطي اللها)
(آراؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائرُ فلك النهى)
(متلِّبس بحصافة وحصانة ... متقِّدس عَن شَوْب مكر أودها)
(يَا من أطَاع الله فِي خلواته ... متأوباً من خَوفه متأوها)
(أبدا تقدم فِي المعاش لوجهه ... عملا يبيض فِي الْمعَاد الأوجها)
(كل الْأُمُور وَهِي وأمرك مبرم ... مستحكم لَا نقض فِيهِ وَلَا وَهَا)
(مَا صين عَنْك الصّين لَِوْ حاولتها ... والمشرقان فَكيف منبجُ والرُّها)
(مَا للملوك لَدَى ظهورك رونق ... وَإِذا بَدْت شمس الضُّحَى خَفَى السُّها)
(إِن الْمُلُوك لَهْوا وَإنَّك من غَدا ... وبماله وَالْملك مِنْهُ مَاَلَها)(2/34)
(شرهت نفوسهُم إِلَى دنياهم ... وأبى لِنَفسِك زهدها أَن تشرها)
(مَا نمت عَن خير وَلم يَك نَائِما ... من لايزال على الْجَمِيل منبّها)
(أخملت ذكر الْجَاهِلين وَلم تزل ... ملكا بِذكر الْعَالمين منوها)
(وَرَأَيْت إرعاء الرعايا وَاجِبا ... تغنى فَقِيرا أَو تجير مدلها)
(لرضاهمُ متحفظا ولحالهم ... متفقداً ولدينهم متفقها)
(وَبِمَا بِهِ أمرَ الْإِلَه أَمرتهم ... من طَاعَة ونهيتهم عَمَّا نهى)
(عَن رَحْمَة لصغيرهم لم تشتغل ... عَن رأفة لكبيرهم لن تُشدها)
(باليأس عنْدك آمل لم يُمتحن ... بِالرَّدِّ دُونك سَائل لن يُجْبها)
(أَتعبت نَفسك كي تنَال رفاهة ... من لَيْسَ يتعب لَا يعِيش مرفهّا)
(فقت الْمُلُوك سماحة وحماسة ... حَتَّى عدمنا فيهُم لَك مشبها)
(وَلَك الفخار على الْجَمِيع فدونهم ... أَصبَحت عَن كل الْعُيُوب منزها)
(وأراك تحلمُ حِين تصبح ساخطا ... ويكاد غَيْرك ساخطاً أَن يسفها)
قلت رحم الله الْعِمَاد فقد نظم أَوْصَاف نور الدّين الجليلة بِأَحْسَن لفظ وأرقه وَهَذَا الْبَيْت الْأَخير مُؤَكد لما نَقَلْنَاهُ فِي أول الْكتاب من قَول الْحَافِظ أبي الْقَاسِم رَحمَه الله تَعَالَى فِي وصف نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِنَّه لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وقلَّ من الْمُلُوك من لَهُ حَظّ من هَذِه الْأَوْصَاف الفاضلة والنعوت الْكَامِلَة(2/35)
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ عَاد نور الدّين إِلَى حلب فِي شهر رَجَب وَضربت خيمته فِي رَأس الميدان الْأَخْضَر
قَالَ وَكَانَ مُولَعا بِضَرْب الكرة وَرُبمَا دخل الظلام فلعب بهَا بالشموع فِي اللَّيْلَة المسفرة ويركب صَلَاح الدّين مذكرا كل بكرَة وَهُوَ عَارِف بآدابها فِي الْخدمَة وشروطها الْمُعْتَبرَة وأقطعه فِي تِلْكَ السّنة ضيعتين إِحْدَاهمَا من ضيَاع حلب وَالْأُخْرَى من ضيَاع كفر طَابَ
قَالَ وكتبت إِلَيْهِ فِي طلب كنبوش
(أَصبَحت بغلتي تشكى من العري ... وأسراجها بِلَا كنبوش)
(قلت كفي فَخير يوميك عِنْدِي ... أَن تفوزي بالتبن أَو بالحشيش)
(وافرحي لَيْلَة الشّعير كَمَا يفرح ... قوم بليلة الماشوش)
(لَو تبصرت حالتي لتصبرت ... فإياك عِنْدهَا أَن تطيشي)(2/36)
(أوما مَاتَ فِي الشتَاء من الْبرد ... وَمن فرط جوعه إكديشي)
(فثقي واسكني بجود صَلَاح الدّين ... غرس الْمُلُوك مَلْك الجيوش)
(فَهُوَ يجلوك للعيون بكنبوش ... جَدِيد مستحسن منقوش)
(كم عَدو من بأسه فِي عثار ... وَولى بجوده منعوش)
(والموالي على الأسرة والأعداء ... تَحت الهوان فَوق النعوش)
قَالَ وأقطع أَسد الدّين حمص وأعمالها فَسَار إِلَيْهَا فسد ثغورها وَضبط أمورها وَحمى جمهورها وَكَانَ نور الدّين قد جدد سورها وحصن دورها وبلى الفرنج مِنْهُ بالمغاور المراوغ ذِي الْبَأْس الدامغ وَسَأَلَهُ نور الدّين فِي السلو عَن حب مصر وَقَالَ قد تعبت مرَّتَيْنِ وَاجْتَهَدت وَلم يحصل لَك مَا طلبت وَقد أذعنوا بِالطَّاعَةِ وشفعوا السُّؤَال بالشفاعة وسمحوا بِكُل مَا يدْخل تَحت الِاسْتِطَاعَة
قلت وَأنْشد الْعِمَاد أَسد الدّين فِي رَجَب من هَذِه السّنة
(دمت فِي الْملك آمراً ذَا نَفاذ ... أَسد الدّين شيركوه بن شاذي)
(يَا كَرِيمًا عَن كل شَرّ بطيئاً ... وَإِلَى الْخَيْر دَائِم الإغذاذ)
(وملاذ الْإِسْلَام أَنْت فَلَا زلت ... لأهل الْإِسْلَام خير ملاذ)(2/37)
(فِي نفوس الْكفَّار رعبك قد حلَّ ... بصَدع الأكباد والأفلاذ)
(لم تدع بالظبى رؤوسا وأصناما ... من الْمُشْركين غير جذاذ)
(أَنْت من نَازل الدعيين فِي مصر ... لنصر الإِمَام فِي بغذاذ)
(وبلاد الْإِسْلَام أنقذتها أَنْت ... من الشّرك أَيّمَا إنقاذ)
فصل فِي وَفَاة زين الدّين وَالِد مظفر الدّين صَاحب إربل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَغَيره فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ سَار زين الدّين عَليّ بن بكتكين نَائِب أتابك قطب الدّين عَن الْموصل إِلَى إربل وَسلم جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ من الْبِلَاد والقلاع إِلَى قطب الدّين مَا عدا إربل فَإِنَّهَا كَانَت لَهُ من أتابك زنكي رَحمَه الله تَعَالَى فَمن ذَلِك سنجار وحرَّان وقلعة عَقْر الحُمَيدية وقلاع الهكارية جَمِيعهَا وَكَانَ نَائِبه بتكريت الْأَمِير تبر فَأرْسل إِلَيْهِ ليسلمها فَقَالَ إِن الْمولى أتابك لَا يُقيم بتكريت وَلَا بُد لَهُ من نَائِب فِيهَا وَأَنا أكون ذَلِك النَّائِب فَلَيْسَ لَهُ مثلي فَمَا أمكن محاققته لأجل مجاورة بَغْدَاد وَأما شَهْرَزَوْر فَكَانَ بهَا الْأَمِير بوزان فَقَالَ مثله أَيْضا فأُقرَّت بِيَدِهِ فَكَانَا فِي طَاعَة قطب الدّين(2/38)
وَسبب فِرَاق زين الدّين أَنه أَصَابَهُ عمى وصمم وَأقَام بإربل إِلَى أَن توفّي بهَا فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة وَكَانَ قد استولى عَلَيْهِ الْهَرم وضعفت قوته
وَكَانَ خيِّراً عادلا حسن السِّيرَة جواداً محافظاً على حسن الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة قَلِيل الْغدر بل عديمه وَكَانَ إِذا وعد بِشَيْء لَا بُد لَهُ من أَن يَفْعَله وَإِن كَانَ فعله خطيراً وَكَانَ حَاله من أعجب الْأَحْوَال بَيْنَمَا يَبْدُو مِنْهُ مَا يدل على سَلامَة صَدره وغفلته حَتَّى يَبْدُو مِنْهُ مَا يدل على إفراط الذكاء وَغَلَبَة الدهاء بَلغنِي أَنه أَتَاهُ بعض أَصْحَابه بذنب فرس ذكر أَنه نفق لَهُ فَأمر لَهُ بفرس فَأخذ ذَلِك الذَّنب أَيْضا غَيره من الأجناد وأحضره وَذكر أَنه نفق لَهُ دَابَّة فَأمر لَهُ بفرس وتداول ذَلِك الذَّنب اثْنَا عشر رجلا كلهم يَأْخُذ فرسا فَلَمَّا أحضرهُ آخِرهم قَالَ لَهُم أما تستحيون مني كَمَا استحيي مِنْكُم قد أحضر هَذَا عِنْدِي اثْنَا عشر رجلا وَأَنا أتغافل لِئَلَّا يخجل أحدكُم أتظنون أنني لاأعرفه بلَى وَالله وَإِنَّمَا أردْت أَن يصلكم عطائي بِغَيْر من وَلَا تكدير فَلم تتركوني
(لَيْسَ الغبيّ بسيِّدٍ فِي قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي)(2/39)
قَالَ وَكَانَ يُعْطي كثيرا ويخلع عَظِيما وَكَانَ لَهُ الْبِلَاد الْكَثِيرَة فَلم يخلف شَيْئا بل أنفذه جَمِيعه فِي العطايا والإنعام على النَّاس وَكَانَ يلبس الغليظ ويشدّ على وَسطه كلّ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من سكين ودرفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وَغير ذَلِك وَكَانَ أَشْجَع النَّاس مَيْمُون النقيبة لم تنهزم لَهُ راية وَكَانَ يقوم الْمقَام الخطير فَيسلم مِنْهُ بِحسن نِيَّته وَكَانَ تركياً أسمر اللَّوْن خَفِيف العارضين قَصِيرا جدا وَبنى مدارس ورُبطاً بالموصل وَغَيرهَا وَبَلغنِي أَنه مدحه الحيص بيص فَلَمَّا أَرَادَ الإنشاد قَالَ لَهُ أَنا لاأدري مَا تَقول لَكِن أعلم أَنَّك تُرِيدُ شَيْئا وَأمر لَهُ بِخمْس مئة دِينَار وَأَعْطَاهُ فرسا وخلعا وثياباً يكون مَجْمُوع ذَلِك ألف دِينَار قَالَ ومكارمه كَثِيرَة
وَلما توفّي بإربل كَانَ الْحَاكِم بهَا خادمه مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ الْمُتَوَلِي لأمورها وَولى بعد زين الدّين وَلَده مظفر كوكبوري مُدَّة ثمَّ(2/40)
فَارقهَا لُخْلِفٍ كَانَ بَينه وَبَين مُجَاهِد الدّين قايماز وَجَرت أمورٌ يطول ذكرهَا
وَلما فَارق زين الدّين الْموصل استناب أتابك قطب الدّين بقلعة الْموصل بعده مَمْلُوكه فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فسلك غير طَرِيق زين الدّين فكرهه النَّاس وذموه وَلم تطل أَيَّامه وَسَيَجِيءُ ذكر عَزله فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسِتِّينَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِي أَولهَا ملك نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قلعة جعبر وَأَخذهَا من صَاحبهَا شهَاب الدّين مَالك بن عَليّ بن مَالك الْعقيلِيّ من آل عقيل من بني المسيّب وَكَانَت بِيَدِهِ وَيَد آبَائِهِ من قبله من أَيَّام السُّلْطَان ملكشاه وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَهِي من أمنع الْحُصُون وأحسنها مطلَّة على الْفُرَات لَا يطْمع فِيهَا بحصار وَقد أعجز جمَاعَة من الْمُلُوك أَخذهَا مِنْهُ وقُتِلَ عَلَيْهَا عماد الدّين زنكي وَالِد نور الدّين
ثمَّ اتّفق أَن خرج صَاحبهَا مِنْهَا يَوْمًا يتصيد فصاده بَنو كلب فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وأوثقوه وَحَمَلُوهُ إِلَى نور الدّين فتقربوا بِهِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي(2/41)
رَجَب من ثَلَاث وَسِتِّينَ فحبسه بحلب وَأحسن إِلَيْهِ ورغبه فِي الإقطاع وَالْمَال ليسلم إِلَيْهِ القلعة فَلم يفعل فَعدل بِهِ نور الدّين إِلَى الشدَّة والعنف وتهدده فَلم يفعل أَيْضا فسير إِلَيْهَا عسكرا مقدمه الْأَمِير فَخر الدّين مسعُود بن أبي عَليّ الزَّعْفَرَانِي فحصرها مُدَّة فَلم يظفر مِنْهَا بِشَيْء فَأَمَدَّهُمْ بعسكر آخر وَجعل على الْجَمِيع الْأَمِير مجد الدّين أَبَا بكر الْمَعْرُوف بِابْن الداية وَهُوَ أكبر أُمَرَاء نور الدّين ورضيعه ووالى معاقله فَأَقَامَ عَلَيْهَا وَطَاف حواليها فَلم ير لَهُ فِي فتحهَا مجالا وَرَأى أَخذهَا بالحصر متعذرا محالا فسلك مَعَ صَاحبهَا طَرِيق اللين وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأخذ الْعِوَض من نور الدّين وَلم يزل يتوسط مَعَه حَتَّى أذعن على أَن يعْطى سروج وأعمالها والملوحة الَّتِي فِي عمل حلب وَبَاب بزاعة وَعشْرين ألف دِينَار مُعجلَة فَأخذ جَمِيع مَا شَرطه مكْرها فِي صُورَة مُخْتَار قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذَا إقطاع عَظِيم جدا لكنه لَا حصن لَهُ فِيهِ
وتسلم مجد الدّين قلعة جعبر وَصعد إِلَيْهَا منتصف الْمحرم وَوصل كِتَابه إِلَى نور الدّين بحلب فَسَار إِلَيْهَا وَصعد القلعة فِي الْعشْرين من(2/42)
الْمحرم ثمَّ سلمهَا نور الدّين إِلَى مجد الدّين ابْن الداية فولاها أَخَاهُ شمس الدّين عليا وَكَانَ هَذَا آخر أَمر بني مَالك وَلكُل أَمر آخر وَلكُل ولَايَة نِهَايَة يُؤْتِي الله الْملك من يَشَاء وينزعه مِمَّن يَشَاء
قَالَ ابْن الْأَثِير بَلغنِي أَنه قيل لشهاب الدّين أيُّما أحب إِلَيْك وَأحسن مقَاما أسَرُوج وَالشَّام أم القلعة فَقَالَ هَذَا أَكثر مَالا والعز بالقلعة فارقناه
قَالَ الْعِمَاد وأنشدت نور الدّين بقلعة جعبر قصيدة أَولهَا
(اسْلَمْ لبكر الْفتُوح مفترعاً ... ودُمْ لملك الْبِلَاد منتزعا)
(فَإِن أولى الورى بهَا ملك ... غَدا بعبء الخطوب مضطلعاً)
(إِن ضَاقَ أَمر فَغير همته ... لكشف ضيق الْأُمُور لن يسعا)
(يَا محيي الْعدْل بعد ميتَته ... وَرَافِع الْحق بَعْدَمَا اتضعا)
(وَنور دين الْهدى الَّذِي قمع الشّرك ... وعفَّى الضلال والبدعا)
(أَنْت سُلَيْمَان فِي العفاف وَفِي الْملك ... وتحكي بزهدك اليسعا)
(حزت التقى وَالْحيَاء وَالْكَرم الْمَحْض ... وحُسن الْيَقِين والورعا)
(أسقطت أقساط مَا وجدت من المكس ... بعدلٍ والقاسط ارتدعا)(2/43)
وَلم تدع فِي ابْتِغَاء مصلحَة الدّين ... لنا بَاقِيا ولنْ تدعا)
(وكل مَا فِي الْمُلُوك مُفترق ... من الْمَعَالِي لملكك اجْتمعَا)
(همتك الرَّبْط والمدارس تبنيها ... ثَوابًا وتهدم البيعا)
(مَا زلت ذَا فطنة مؤيدة ... على غيوب الْأَسْرَار مطلعاً)
(ببأسك الْبيض والطُّلي اصطحبت ... بعدلك الذِّئْب والطَّلا رتعا)
(كم صائدٍ لم يَقع لَهُ قنص ... فِي شرك وَهُوَ فِيهِ قد وَقعا)
(ومالكٍ حِين رُمت قلعته ... غَدا مُطيعًا لِلْأَمْرِ متبَّعا)
(عَنَّا خُشُوعاً لرب مملكة ... لغير ربّ السَّمَاء مَا خشعا)
(كَانَ مُقيما مِنْهَا على الْفلك الْأَعْلَى ... شهاباً بنوره سطعا)
(لكنما الشهب مَا تنير إِذا ... لَاحَ عمودُ الصَّباح فانصدعا)
(يَدْفَعهَا طَائِعا إِلَيْك وَكم ... عَنْهَا إباءً بِجهْدِهِ دفعا)
(هِيَ الَّتِي فِي علوها زحل ... كرَّ على وردهَا وَمَا كرعا)
(وَهِي الَّتِي قاربت عُطَارِد فِي الْأُفق ... فلاحاً والفرقدين مَعًا)
(كَأَن مِنْهَا السُّها إِذا اسْترق السّمع ... أَتَاهَا فِي خُفْيَة ودعا)(2/44)
(هضبة عزّ لولاك مَا أرتقيت ... وطود ملك لولاك مَا فرعا)
(مَا قبلت فِي ارتقاء ذروتها ... من ملك لَا رقى وَلَا خدعا)
(عزت على الْمَالِك الشَّهِيد وأعطتك ... قيادا مَا زَالَ مُمْتَنعا)
(للْأَب لَو حل خطبهَا لغدا ... محرما لِابْنِهِ وَمَا شرعا)
(لَا زلت مَحْمُود فِي أمورك مَحْمُودًا ... بِثَوْب الإقبال مدرعا)
(وَفِي سَابِع عشر صفر من هَذِه السّنة توفّي بهاء الدّين عمر أَخُو مجد الدّين ابْن الداية وَفِيه وَفِي إخْوَته يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من قصيدة
(أَنْتُم لمحمود كآل مُحَمَّد ... متصادفي الْأَفْعَال والأسماء)
(يَتْلُو أَبَا بكر عَلَى حَسَنَاته ... عمرُ الممدَّح فِي سنا وسناء)
(ويليه عُثْمَان المرَّجي للعُلا ... وعليُّ المأمول فِي اللأواء)
(وَيقبل الْحسن الممجَّد مجدهم ... فهمُ ذُوو الْإِحْسَان والنعماء)
(فرعت بمجد الدّين إخْوَته الذرى ... دون الورى فِي الْمجد والعلياء)
(من سَابق كرماً وشمس سيادة ... شرفاً وَبدر دُجنة وبهاء)
(سُرُج الْهدى سُحُب النَّدى شُهُب النُّهى ... أسدُ الحروب ضراغم الهيجاء)
يُرِيد سَابق الدّين عُثْمَان وشمس الدّين عليا وَبدر الدّين حسنا وبهاء الدّين عمر ومجد الدّين الْأَكْبَر فهم خَمْسَة رَحِمهم الله تَعَالَى(2/45)
فصل
وَفِي هَذِه السّنة فتحت الديار المصرية سَار إِلَيْهَا أَسد الدّين مرّة ثَالِثَة فَهزمَ الْعَدو وَقتل شاوراً وَولى الوزارة مَكَانَهُ ثمَّ مَاتَ فوليها صَلَاح الدّين
وَسبب ذَلِك ان الْفرج كَانُوا فِي النوبتين الْأَوليين اللَّتَيْنِ اسْتَعَانَ بهم شاور فيهمَا على أَسد الدّين شيركوه قد خبروا الديار المصرية واطلعوا على عوراتها فطمعوا فِيهَا وَنَقَضُوا مَا كَانَ اسْتَقر بَينهم وَبَين المصريين وَأسد الدّين من الْقَوَاعِد فَجمعُوا وحشدوا وَقَالُوا مَا بِمصْر من يصدنا وَإِذا أردناها فَمن يردنا ثمَّ قَالُوا نور الدّين فِي الْبِلَاد الشمالية والجهة الفراتية وعسكر الشَّام متفرق كل مِنْهُم فِي بَلَده حَافظ لما فِي يَده وَنحن ننهض إِلَى مصر وَلَا نطيل بهَا الْحصْر فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا معقل وَلَا لأَهْلهَا منا موئل وَإِلَى أَن تَجْتَمِع عَسَاكِر الشَّام نَكُون قد حصلنا على المرام وقوينا بتملك الديار المصرية على سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام فتوجهوا إِلَيْهَا سائرين وَنَحْوهَا ثائرين وأظهروا أَنهم على قصد حمص وشايعهم على قصد مصر جمَاعَة من أَهلهَا كَابْن الْخياط وَابْن قرجلة وَغَيرهمَا من أَعدَاء شاور(2/46)
وَكَانَ الفرنج قد جعلُوا لَهُم شحنة بِمصْر والقاهرة وَسكن فرسانهم أَبْوَاب البلدين والمفاتيح مَعَهم على مَا سبق ذكره وتحكموا تحكما كثيرا فطمعوا فِي الْبِلَاد وَأَرْسلُوا إِلَى ملكهم مُرَّى وَلم يكن ملك الفرنج مذ خَرجُوا إِلَى الشَّام مثله شجاعة ومكراً ودهاءً يستدعونه ليملك الْبِلَاد وأعلموه خلوها من ممانع عَنْهَا وسهلوا أمرهَا عَلَيْهِ فَلم يجبهم إِلَى الْمسير وَاجْتمعَ فرسَان الفرنج وذوو الرَّأْي والتقدم وأشاروا عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا والاستيلاء عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُم الرَّأْي عِنْدِي أَلا نقصدها فَإِنَّهَا طعمة لنا وأموالها تساق إِلَيْنَا نتقوى بهَا على نور الدّين وَإِن نَحن قصدناها لنملكها فَإِن صَاحبهَا وعساكره وَعَامة أهل بِلَاده وفلاحيه لَا يسلمونها إِلَيْنَا ويقاتلوننا دونهَا ويحملهم الْخَوْف منا على تَسْلِيمهَا إِلَى نور الدّين وَإِن أَخذهَا وَصَارَ لَهُ فِيهَا مثل أَسد الدّين فَهُوَ هَلَاك الفرنج وإجلاؤهم من أَرض الشَّام فَلم يصغوا إِلَى قَوْله وَقَالُوا إِن مصر لاحافظ لَهَا وَلَا مَانع وَإِلَى أَن يصل الْخَبَر إِلَى نور الدّين ويجهز العساكر ويسيرهم إِلَيْنَا نَكُون نَحن قد ملكناها وفرغنا من أمرهَا وَحِينَئِذٍ يتَمَنَّى نور الدّين منا السَّلامَة فَلَا يقدر عَلَيْهَا وَكَانُوا قد عرفُوا الْبِلَاد وانكشف لَهُم أمرهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك على كره شَدِيد وتجهزوا وأظهروا أَنهم على قصد الشَّام وخاصة مَدِينَة حمص وتوجهوا من عسقلان فِي النّصْف من الْمحرم ووصلوا أول يَوْم من صفر إِلَى بلبيس ونازلوها وحصروها فملكوها قهرا ونهبوها وَسبوا أَهلهَا وَأَقَامُوا بهَا خَمْسَة أَيَّام ثمَّ أناخوا على الْقَاهِرَة وحصروها عَاشر صفر فخاف النَّاس مِنْهُم أَن يَفْعَلُوا بهم مثل فعلهم بِأَهْل بلبيس فحملهم(2/47)
الْخَوْف مِنْهُم على الِامْتِنَاع فحفظوا الْبَلَد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهمْ فِي حفظه وَلَو أَن الفرنج أَحْسنُوا السِّيرَة مَعَ أهل بلبيس لملكوا مصر والقاهرة سرعَة وَلَكِن الله تَعَالَى حسَّن لَهُم ذَلِك {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَكَانَ شاور أَمر بإحراق مَدِينَة مصر تَاسِع صفر قبل نزُول الفرنج عَلَيْهِم بِيَوْم وَاحِد خوفًا عَلَيْهَا من الفرنج فَبَقيت النَّار فِيهَا تحرقها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا إِلَى خَامِس ربيع الآخر
ثمَّ ضَاقَ الْحصار وَخيف الْبَوَار وَعرف شاور أَنه يضعف عَن الحماية فشرع فِي تمحل الْحِيَل وَأرْسل إِلَى ملك الإفرنج يذكر لَهُ مودته ومحبته الْقَدِيمَة وَأَن هَوَاهُ مَعَه وتخوفه من نور الدّين والعاضد وَإِنَّمَا الْمُسلمُونَ لَا يوافقونه على التَّسْلِيم إِلَيْهِ وَيُشِير عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ وَأخذ مَال لِئَلَّا تسلم الْبِلَاد إِلَى نور الدّين فَأَجَابَهُ إِلَى الصُّلْح على أَخذ ألف دِينَار مصرية يعجل الْبَعْض وَيُؤَخر الْبَعْض واستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك وَرَأى الفرنج أَن الْبِلَاد امْتنعت عَلَيْهِم وَرُبمَا سلمت إِلَى نور الدّين فَأَجَابُوا كارهين وَقَالُوا نَأْخُذ المَال نتقوى بِهِ ونكثر من الرِّجَال ثمَّ نعود إِلَى الْبِلَاد بِقُوَّة لَا نبالي مَعهَا بِنور الدّين وَلَا غَيره {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِين} فَعجل لَهُم شاور مئة ألف دِينَار وسألهم الرحيل عَن الْبَلَد ليجمع لَهُم المَال فرحلوا قَرِيبا
وَكَانَ خَليفَة مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إِلَى نور الدّين(2/48)
يستغيث بِهِ ويعرفه ضعف الْمُسلمين عَن الفرنج وَأرْسل فِي الْكتب شُعُور النِّسَاء وَقَالَ لَهُ هَذِه شُعُور نسَائِي من قصري يستغثن بك لتُنقذهن من الفرنج فَقَامَ نور الدّين لذَلِك وَقعد وَشرع فِي تجهيز العساكر إِلَى مصر وَلما صَالح شاور الفرنج على ذَلِك المَال عاود العاضد مراسلة نور الدّين وإعلامه بِمَا لَقِي الْمُسلمُونَ من الفرنج وبذل لَهُ ثلث بِلَاد مصر وَأَن يكون أَسد الدّين شيركوه مُقيما عِنْده فِي عَسْكَر وإقطاعهم عَلَيْهِ خَارِجا عَن الثُّلُث الَّذِي لنُور الدّين هَذَا قَول ابْن الْأَثِير
وَقَالَ الْعِمَاد عجل شاور لملك الفرنج بمئة ألف دِينَار حِيلَة وخداعا وإرغابا لَهُ وإطماعاً وواصل بكتبه إِلَى نور الدّين مستصرخاً مستنفراً وَبِمَا نَاب الْإِسْلَام من الْكفْر مخبرا وَيَقُول إِن لم تبادر ذهبت الْبِلَاد وسيَّر الْكتب مسودة بمدادها كاسية لِبَاس حدادها وَفِي طيها ذوائب مجزوزة وعصائب محزوزة ظن أَنَّهَا شُعُور أهل الْقصر للأشعار بِمَا عراهم من بليَّة الْحصْر وأرسلها تباعا وَأَرْدَفَ بهَا نجَّابين سرَاعًا وَأقَام منتظراً ودام متحيراً وعامل الفرنج بالمطال ينقذهم فِي كل حِين مَالا وَيطْلب مِنْهُم إمهالا وَمَا زَالَ يعطيهم ويستمهلهم حَتَّى أَتَى الْغَوْث بعساكر نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى(2/49)
فصل فِيمَا فعله نور الدّين
كَانَ نور الدّين لما أَتَاهُ الرُّسُل أَولا من العاضد قد أرسل إِلَى أَسد الدّين يستدعيه من حمص وَهِي إقطاعه فَلَمَّا خرج القاصد من حلب لَقِي أَسد الدّين قد وَصلهَا وَكَانَ سَبَب وُصُوله أَن كتب المصريين أَيْضا وصلته فِي هَذَا الْأَمر فَبَقيَ مسلوب الْقَرار مغلوب الاصطبار لِأَنَّهُ كَانَ قد طمع فِي بِلَاد مصر فخاف خُرُوجهَا من يَده وَأَن يستولي عَلَيْهَا الْكفْر فساق فِي لَيْلَة وَاحِدَة من حمص إِلَى حلب وَاجْتمعَ بِنور الدّين سَاعَة وُصُوله فتعجب نور الدّين من ذَلِك وتفاءل بِهِ وسرَّه وَأمره بالتجهز إِلَى مصر والسرعة فِي ذَلِك وَأَعْطَاهُ مئتي ألف دِينَار سوى الثِّيَاب وَالدَّوَاب والآلات والأسلحة وَحكمه فِي العساكر والخزائن فَاخْتَارَ من الْعَسْكَر ألفي فَارس وَأخذ المَال وَجمع من التركمان سِتَّة آلَاف فَارس وَكَانَ فِي مُدَّة حشده للتركمان سَار نور الدّين لتسلم قلعة جعبر ثمَّ سَار هُوَ وَنور الدّين إِلَى دمشق ورحلا فِي جَمِيع العساكر إِلَى رَأس المَاء وَأعْطى نور الدّين كل فَارس من الْعَسْكَر الَّذين مَعَ أَسد الدّين عشْرين دِينَارا مَعُونَة لَهُم على الطَّرِيق غير محسوبة من الْقَرار الَّذِي لَهُ وأضاف إِلَى أَسد الدّين جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمماليك مِنْهُم مَمْلُوكه عز الدّين جرديك وغرس الدّين قليج وَشرف الدّين بزغش(2/50)
وناصح الدّين خمارتكين وَعين الدولة بن الياروقي وقطب الدّين ينَال بن حسان المنبجي وَغَيرهم ورحلوا على قصد مصر مستنزلين من الله تَعَالَى النَّصْر وَذَلِكَ منتصف ربيع الأول
وخيم نور الدّين فِيمَن أَقَامَ مَعَه بِرَأْس المَاء وَأقَام ينْتَظر وُرُود الْمُبَشِّرَات فوصل المبشر برحيل الفرنج عَن الْقَاهِرَة عائدين إِلَى بِلَادهمْ لما سمعُوا بوصول عَسْكَر نور الدّين وسبَّ الْملك كل من أَشَارَ عَلَيْهِ بِقصد مصر وَأمر نور الدّين بِضَرْب البشائر فِي سَائِر بِلَاده وَبث رسله إِلَى الْآفَاق بذلك
وَقَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن لقد قَالَ لي السُّلْطَان يَعْنِي صَلَاح الدّين كنت أكره النَّاس لِلْخُرُوجِ فِي هَذِه الدفعة وَمَا خرجت مَعَ عمي باختياري قَالَ وَهَذَا معنى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ}
وَقَالَ ابْن الْأَثِير أحب نور الدّين مسير صَلَاح الدّين وَفِيه ذهَاب بَيته وَكره صَلَاح الدّين الْمسير وَفِيه سعادته وَملكه حُكى لي عَنهُ أَنه قَالَ لما وَردت الْكتب من مصر إِلَى الْملك الْعَادِل نور الدّين رَضِي الله عَنهُ(2/51)
مستصرخين ومستنجدين أحضرني وأعلمني الْحَال وَقَالَ تمْضِي إِلَى عمك أَسد الدّين بحمص مَعَ رَسُولي إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالحضور وتحثه أَنْت على الْإِسْرَاع فَمَا يحْتَمل الْأَمر التَّأْخِير قَالَ فَفعلت فَلَمَّا فارقنا حلب على ميل مِنْهَا لقيناه قادماً فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ لَهُ نور الدّين تجهز للمسير فَامْتنعَ خوفًا من غدرهم أَولا وَعدم مَا يُنْفِقهُ فِي العساكر ثَانِيًا فَأعْطَاهُ نور الدّين الْأَمْوَال وَالرِّجَال وَقَالَ لَهُ إِن تَأَخَّرت أَنْت عَن الْمسير إِلَى مصر فالمصلحة تَقْتَضِي أَن أَسِير أَنا بنفسي إِلَيْهَا فإننا إِن أهملنا أمرهَا ملكهَا الفرنج وَلَا يبْقى مَعَهم مقَام بِالشَّام وَغَيره قَالَ فَالْتَفت إليَّ عمي أَسد الدّين وَقَالَ تجهز يَا يُوسُف قَالَ فَكَأَنَّمَا ضرب قلبِي بسكين فَقلت وَالله لَو أَعْطَيْت ملك مصر مَا سرت إِلَيْهَا فَلَقَد قاسيت بالإسكندرية من المشاق مَا لَا أنساه أبدا فَقَالَ عمي لنُور الدّين لَا بُد من مسيره معي فترسم لَهُ فَأمرنِي نور الدّين وَأَنا استقيله فانقضى الْمجْلس ثمَّ جمع أَسد الدّين العساكر من التركمان وَغَيرهم وَلم يبْق غير الْمسير فَقَالَ لي نور الدّين لَا بُد من مسيرك مَعَ عمك فشكوت إِلَيْهِ الضائقة وَقلة الدَّوَابّ وَمَا أحتاج إِلَيْهِ فَأَعْطَانِي مَا تجهزت بِهِ وكأنما أساق إِلَى الْمَوْت وَكَانَ نور الدّين مهيباً مخوفا مَعَ لينه وَرَحمته فسرت مَعَه فَلَمَّا أستقر أمره وَتُوفِّي أَعْطَانِي الله من ملكهَا مَا لَا كنت أتوقعه(2/52)
قلت وحرضه أَيْضا حسان العرقلة بِأَبْيَات من شعره من جملَة قصيدة مدحه بهَا قَالَ
(وَهل أخْشَى من الأنواء بخلا ... إِذا مَا يوسفٌ بِالْمَالِ جادا)
(فَتى للدّين لم يبرح صلاحا ... وللأعداء لم يبرح فَسَادًا)
(لَئِن أعطَاهُ نور الدّين حصناً ... فَإِن الله يُعْطِيهِ البلادا)
(إِلَى كم ذَا التواني فِي دمشق ... وَقد جاءتكم مصرٌ تهادى)
(عروس بَعْلهَا أَسد هزبر ... يصيد الْمُعْتَدِينَ وَلنْ يصادا)
(أَلا يَا معشر الأجناد سِيرُوا ... وَرَاء لوائه تلقوا رشادا)
(فَمَا كل أمرىء صلى مَعَ النَّاس ... مَأْمُوما كمن صلى فُرَادَى)
فَلَمَّا سَافر صَلَاح الدّين إِلَى مصر عبر العرقلة على دَاره فَوَجَدَهَا مغلقة فَقَالَ
(عبرت على دَار الصّلاح وَقد خلت ... من الْقَمَر الوضاح والمنهل العذب)
(فوَاللَّه لَوْلَا سرعةٌ مثل عزمه ... لغرَّقها طرفِي وأحرقها قلبِي)
وَدَار صَلَاح الدّين هِيَ الَّتِي وَقفهَا رِبَاطًا للصوفية بحارة قطامش جوَار قيسارية القصاع وإليها يجْرِي المَاء من حمام نور الدّين رَحمَه الله فَقضى الله مَا قضى من رحيل الفرنج وتملك صَلَاح الدّين على مَا سَيَأْتِي(2/53)
وللأمير الْفَاضِل أُسَامَة بن منقذ فِي صَلَاح الدّين من قصيدة أَولهَا
(سلم على مصر لَا ربع بِذِي سلم ... )
يَقُول فِيهَا
(النَّاصِر الْملك الموفى بِذِمَّتِهِ ... وَمن ندى كَفه يُغني عَن الديم)
(وَمن إِذا جرد الْبيض الصوارم فِي الهيجاء ... أغمدها فِي الْبيض والقمم)
(وَمن حوى الْملك من بعد الطماعة فِي انْتِزَاعه ... بشبا الْهِنْدِيَّة الحذم)
(ورد طاغية الإفرنج يحْسب مَا ... رجاه من مُلك مصرٍ كَانَ فِي الْحلم)
(وليَّ وراحته صفر وَقد ملئت ... بعد الطماعة من يأس وَمن نَدم)
(يصعدون على مَا فاتهم نفسا ... لَو لافح الْبَحْر أضحى الموج كالحمم)
(وَفِي السَّلامَة لَوْلَا جهلهم ظفر ... لمن أَرَادَ نزال الْأسد فِي الأجم)
(وهم أسود الشرى لَكِن أذلّهم ... ملك لَدَيْهِ الْأسود الغُلب كالغنم)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(أَقمت عَمُود الدّين حِين أماله ... لطاغي الفرنج الغُتم طاغي بني سعد)(2/54)
(وجاهدت حزب الْكفْر حَتَّى رددتهم ... خزايا عَلَيْهِم خيبة الذل وَالرَّدّ)
(أفدت بِمَا قدمت ملكا مخلداً ... وذكراً مدى الْأَيَّام يقرن بِالْحَمْد)
(وذكرك فِي الْآفَاق يسري كَأَنَّهُ الصَّباح ... لَهُ نشر الألوة والنَّد)
وَلأبي الْحسن بن الذروي فِيهِ من قصيدة يذكر فِيهَا ملك الفرنج مُرِّي
(وَلكم أشمت الرّوم أشأم بارق ... أضحت مياه نفوسها من قطره)
(وافاك بَحر دروعها عَن مده ... وَمضى وَقد حكمت ظُباك بجزره)
(وَلَقِيت مُرِّياً وَطعم حَيَاته ... حُلْو فبدله الْقِتَال بمره)
(فاعقد إِلَيْهِ الرَّأْي فِي عذب القنا ... واحلل بهَا عِجلاً معاقد مكره)
(واطرده من وكر الشآم فَإِنَّهُ ... قد طَار مِنْك بخافق من ذعره)
فصل فِي الْقَبْض على شاور وَقَتله
وصل أَسد الدّين الْقَاهِرَة سَابِع ربيع الآخر وَاجْتمعَ بالعاضد خَليفَة مصر فَخلع عَلَيْهِ وأكرمه وأجريت عَلَيْهِ وعَلى عساكره الجرايات الْكَثِيرَة والإقامات الوافرة وَلم يُمكن شاور المُنع من ذَلِك لِأَنَّهُ رأى العساكر كَثِيرَة(2/55)
بِظَاهِر الْبَلَد وَرَأى هوى العاضد مَعَهم من دَاخله فَلم يتجاسر على إِظْهَار مَا فِي نَفسه فكتمه وَهُوَ يماطل أَسد الدّين فِي تَقْرِير مَا كَانَ بذل لَهُ من المَال والإقطاع للعساكر وإفراد ثلث الْبِلَاد لنُور الدّين وَهُوَ يركب كل يَوْم إِلَى أَسد الدّين ويسير مَعَه ويعده ويمنيه {وَمَا يَعِدُهُم الشَّيْطَان إلاَّ غُرُوراً}
ثمَّ إِنَّه عزم على أَن يعْمل دَعْوَة لأسد الدّين وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء وَيقبض عَلَيْهِم فَنَهَاهُ ابْنه الْكَامِل وَقَالَ لَهُ وَالله لَئِن عزمت على هَذَا الْأَمر لأعرفن أَسد الدّين فَقَالَ لَهُ أَبوهُ وَالله لَئِن لم أفعل لَنَقْتُلَنَّ جَمِيعًا فَقَالَ صدقت وَلِأَن نقْتل وَنحن مُسلمُونَ والبلاد بيد الْمُسلمين خير من أَن نقْتل وَقد ملكهَا الفرنج فَلَيْسَ بَيْنك وَبَين عود الفرنج إِلَّا أَن يسمعوا بِالْقَبْضِ على شركوه وَحِينَئِذٍ لَو مَشى العاضد إِلَى نور الدّين لم يُرْسل فَارِسًا وَاحِدًا ويملكون الْبِلَاد فَترك مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى الْعَسْكَر النُّوري المطل من شاور اتّفق صَلَاح الدّين يُوسُف وَعز الدّين جرديك وَغَيرهمَا على قتل شاور وأعلموا أَسد الدّين بذلك فنهاهم فَقَالُوا إِنَّا لَيْسَ لنا فِي الْبِلَاد شَيْء مهما هَذَا على حَاله فَأنْكر ذَلِك وَاتفقَ أَن أَسد الدّين سَار بعض الْأَيَّام إِلَى زِيَارَة قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقصد شاور عسكره على عَادَته للاجتماع بِهِ فَلَقِيَهُ صَلَاح الدّين وَعز الدّين جرديك ومعهما جمع من الْعَسْكَر فخدموه وأعلموه أَن أَسد الدّين فِي الزِّيَارَة فَقَالَ نمضي إِلَيْهِ فَسَار وهما مَعَه قَلِيلا ثمَّ ساوروه وألقوه عَن فرسه فهرب أَصْحَابه وَأخذ(2/56)
أَسِيرًا وَلم يُمكنهُم قَتله بِغَيْر أَمر أَسد الدّين فسجنوه فِي خيمة وتوكلوا بحفظه فَعلم أَسد الدّين الْحَال فَعَاد مسرعاً وَلم يُمكنهُ إِلَّا إتْمَام مَا عملوه وَأرْسل العاضد لدين الله صَاحب مصر فِي الْوَقْت إِلَى أَسد الدّين يطْلب مِنْهُ رَأس شاور ويحثه على قَتله وتابع الرُّسُل بذلك فَقتل شاور فِي يَوْمه وَهُوَ سَابِع عشر ربيع الآخر وَحمل رَأسه إِلَى الْقصر وَدخل أَسد الدّين إِلَى الْقَاهِرَة فَرَأى من كَثْرَة الْخلق واجتماعهم مَا خَافَ مِنْهُ على نَفسه فَقَالَ لَهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمركُم بِنَهْب دَار شاور فقصدها النَّاس ينهبونها فَتَفَرَّقُوا عَنهُ هَذَا قَول ابْن الْأَثِير
وَقَالَ ابْن شَدَّاد أَقَامَ أَسد الدّين بهَا يتَرَدَّد إِلَيْهِ شاور فِي الأحيان وَكَانَ وعدهم بِمَال فِي مُقَابلَة مَا خسروه من النَّفَقَة فَلم يُوصل إِلَيْهِم شَيْئا وعلقت مخاليب الْأسد فِي الْبِلَاد وَعلم أَن الفرنج مَتى وجدوا فرْصَة أخذُوا الْبِلَاد وَأَن ترددهم إِلَيْهَا فِي كل وَقت لَا يُفِيد وَأَن شاور يلْعَب بهم تَارَة وبالإفرنج أُخْرَى وملاكها قد كَانُوا على الْبِدْعَة الْمَشْهُورَة عَنْهُم وَعَلمُوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِيلَاء على الْبِلَاد مَعَ بَقَاء شاور فَأَجْمعُوا أَمرهم على قَبضه إِذا خرج إِلَيْهِم وَكَانُوا هم يَتَرَدَّدُونَ إِلَى خدمته دون أَسد الدّين وَهُوَ يخرج فِي الأحيان إِلَى أَسد الدّين يجْتَمع بِهِ وَكَانَ يركب على قَاعِدَة وزرائهم بالطبل والبوق وَالْعلم فَلم يتجاسر على قَبضه مِنْهُم إِلَّا السُّلْطَان نَفسه يعْنى صَلَاح الدّين وَذَلِكَ أَنه لما سَار إِلَيْهِم تَلقاهُ رَاكِبًا وَسَار إِلَى جَانِبه وَأخذ بتلابيبه وَأمر الْعَسْكَر أَن خُذُوا على أَصْحَابه فَفرُّوا ونهبهم(2/57)
الْعَسْكَر وَقبض على شاور وَأنزل إِلَى خيمة مُفْردَة وَفِي الْحَال جَاءَ التوقيع من المصريين على يَد خَادِم خَاص يَقُول لَا بُد من رَأسه جَريا على عَادَتهم فِي وزرائهم فِي تَقْرِير قَاعِدَة من قوى مِنْهُم على صَاحبه فحزت رقبته وأنفذ رَأسه إِلَيْهِم
وَقَالَ الْعِمَاد وَدخل أَسد الدّين فِي الرَّابِع من شهر ربيع الآخر الإيوان وخُلع عَلَيْهِ وَلَقي الْإِحْسَان وَتردد شاور إِلَى أَسد الدّين وتودد وتجدد بَينهمَا من الوداد مَا تَأَكد وَأقَام للعسكر الضيافات الْكَثِيرَة والأطعمة الواسعة والحلاوات والميرة فَقَالَ صَلَاح الدّين هَذَا أَمر يطول وَمَسْأَلَة فَرضهَا يُعول ومعنا هَذَا الْعَسْكَر الثقيل وإقامته بِالْإِقَامَةِ يقصر عَنْهَا الأمد الطَّوِيل وَلَا أَمر لنا مَعَ اسْتِيلَاء شاور لَا سِيمَا إِذا راوغ وغاور فنفذ أَسد الدّين الْفَقِيه عِيسَى إِلَى شاور يُشِير عَلَيْهِ بالاحتراس وَقَالَ لَهُ أخْشَى عَلَيْك من عِنْدِي من النَّاس فَلم يكترث بمقاله وَركب على سَبِيل انبساطه واسترساله فاعترضه صَلَاح الدّين فِي الْأُمَرَاء النورية وَهُوَ رَاكب(2/58)
على عَادَته فِي هَيئته الوزيرية فبغته وشحته وَقَبضه وأثبته ووكل بِهِ فِي خيمة ضربهَا لَهُ وحاول إمهاله فجَاء من الْقصر من يطْلب رَأسه ويعجل من الْعُمر يأسه وَجَاء الرَّسُول بعد الرَّسُول وأبوا أَن يرجِعوا إِلَّا بنجح السُّول فَحم حمامه وَحمل إِلَى الْقصر هامه
قلت وَبَلغنِي أَن الَّذِي بَاشر حز رَقَبَة شاور هُوَ عز الدّين جرديك وَكَانَ صَلَاح الدّين لما لقِيه فِي اصحابه سَار بجنبه وَأَرَادَ إِفْرَاده عَن الْعَسْكَر فالتمس مِنْهُ الْمُسَابقَة بفرسيهما فَأَجَابَهُ وَوَافَقَهُمَا فِي ذَلِك جُرديك وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر قد تقرر فحركوا خيلهم فَلَمَّا بعدوا عَن الْعَسْكَر ووقفوا قبض صَلَاح الدّين وجرديك على شاور وَأدْخل الْخَيْمَة
وَقد كثر هجاء شاور بغدره ومكره حَتَّى قَالَ عرقلة
(لقد فَازَ بِالْملكِ الْعَقِيم خَليفَة ... لَهُ شيركوه العاضديُّ وَزِير)
(كَأَن ابْن شاذي وَالصَّلَاح وسيفه ... عَليّ لَدَيْهِ شبر وشّبير)
(هُوَ الْأسد الضاري الَّذِي جلّ خطبه ... وشاور كلب للرِّجَال عقور)
(بغى وطغا حَتَّى لقد قَالَ قَائِل ... على مثلهَا كَانَ اللعين يَدُور)
(فَلَا رحم الرَّحْمَن تربة قَبره ... وَلَا زَالَ فِيهَا مُنكر وَنَكِير)(2/59)
وَقَالَ أَيْضا
(قل لأمير الْمُؤمنِينَ الَّذِي ... مصر حِماه وعليُّ أَبوهُ)
(نَص على شاور فرعونها ... وَنَصّ موساها على شيركوه)
وَقد وصف الْفَقِيه الشَّاعِر أَبُو حَمْزَة عمَارَة اليمني فِي كتاب الوزراء المصرية الَّذِي صنفه حَال شاور فِي وزارته الأولى ثمَّ قَالَ وزارة شاور الثَّانِيَة فِيهَا تكشفت صفحاته وأحرقت لفحاته وأغرقت نفحاته وغّضَّه الدَّهْر وعضه وأوجعه الثُّكل وأمضه وَبَان غمره وثماده وجمره ورماده وَلم يجِف من الأنكاد لبده وَلَا صفا من الأقذاء ورده وَمَا وَمَا هُوَ إِلَّا أَن تسلمها بالراحة وسُلمت لَهُ الهموم عوضا عَن الرَّاحَة وَفِي أول لَيْلَة دخل الْقَاهِرَة ارتحل أَسد الدّين طَالبا بلبيس فَأَقَامَ بهَا ثمَّ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة فَكسر النَّاس يَوْم التَّاج وَأسر أَخُوهُ صبح وَأُصِيب على بَاب القنطرة بِحجر كَاد يَمُوت مِنْهُ وَتعقب ذَلِك بِنَقْل الْقِتَال على الْقَاهِرَة حَتَّى دخلت من الثغرة ثمَّ تبع هَذَا مَجِيء الفرنج وَعمل البرج وحصار(2/60)
بلبيس ثمَّ تَلا ذَلِك قيام يحيى بن الْخياط طَالبا للوزارة ثمَّ تَلا ذَلِك نفاق لواته وَمن ضامها من قيس وَخُرُوج أَخِيه نجم وَابْنه سُلَيْمَان وَجَمَاعَة من غلمانه لحربهم ثمَّ خُرُوج ابْنه الْكَامِل فِي بَقِيَّة الْعَسْكَر وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة قبضُه على الْأَثِير بن جلب رَاغِب وَقَتله وَأسر معالي بن فُريج ثمَّ قَتله واتصل إِلَيْهِ الْخَبَر من قدوم أَسد الدّين إِلَى أطفيح بِأم النوائب الْكبر وَوَافَقَ مَجِيء الغز قدوم الفرنج ناصرين للدولة وتوجهوا من مصر فِي الْبر الشَّرْقِي تابعين للغزِّ ثمَّ لاحت الفرصة للفرنج فعادوا إِلَى مصر واقترحوا من المَال مَا تَنْقَطِع دونه الآمال وخيموا على سَاحل الْمقسم وأظهروا رجوعهم إِلَى الشَّام فتجهز الْكَامِل للمسير صُحْبَة الإفرنج حَدثنِي القَاضِي الْأَجَل الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني قَالَ أَنا أذكر وَقد خلونا فِي خيمة وَلَيْسَ مَعنا أحد إِنَّمَا هُوَ شاور وَابْنه الْكَامِل وَأَخُوهُ نجم فعزم الْكَامِل على النهوض مَعَ الفرنج وعزم نجم على التَّغْرِيب إِلَى سليم وَمَا وَرَاءَهَا وَقَالَ شاور لَكِن لَا أَبْرَح أقَاتل بِمن صفا معي حَتَّى أَمُوت فَنحْن فِي ذَلِك حَتَّى وصل إِلَيْنَا الدَّاعِي ابْن عبد القويّ وصنيعة المُلك جَوْهَر وعزُّ الْأُسْتَاذ وَقد التزموا المَال وتفرع على هَذَا الأَصْل مقَام الغز بالجيزة(2/61)
ونوبة الْبَابَيْنِ وحصار الْإسْكَنْدَريَّة وانصراف الغز رَاجِعين والفرنج بعدهمْ فَمَا هُوَ إِلَّا أَن توهم شاور أَن الدَّهْر قد نَام وغفا وصفح عَن عَادَته مَعَه وَعَفا وَإِذا الْأَيَّام لَا تخْطب إِلَّا زَوَاله وفوته وَلَا تُرِيدُ إِلَّا انْتِقَاله وَمَوته فَكَانَ من قدوم الفرنج إِلَى بلبيس وَقتل من فِيهَا وأسرهم بأسرهم مَا أوجب حريق مصر ومكاتبة الْأَجَل نور الدّين بن القسيم وإنجاده كلمة الْإِسْلَام بأسد الدّين وَمن مَعَه من الْمُسلمين الَّذين قلت فيهم وَقد ربط الإفرنج الطَّرِيق عَلَيْهِم
(أَخَذْتُم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الْخَيل مرِّي على مرِّي)
(لَئِن نصبوا فِي الْبر جِسْرًا فَإِنَّكُم ... عبرتم ببحر من حَدِيد على الجسر)
قلت وَهَذَانِ البيتان من قصيدة لَهُ ستأتي ومري هَذَا هُوَ أسم ملك الإفرنج
قَالَ عمَارَة فَقضى قدوم الغز برحيل الفرنج عَن الديار المصرية وَلم يلبث شاور ان مَاتَ قَتِيلا بعد قدوم الغز بِثمَانِيَة عشر يَوْمًا وَهَذِه السنوات الَّتِي وزر فِيهَا شاور وزارته الثَّانِيَة كَثِيرَة الوقائع والنوازل وفيهَا مَا هُوَ عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا هُوَ لَهُ
قَالَ وَلم يربِّ أحد رجال الدولة مثل مَا رباهم الصَّالح بن زريك وَلَا(2/62)
أفنى أعيانهم مثل ضرغام وَكَانَت وزارته تِسْعَة أشهر مُدَّة حمل الْجَنِين وَلَا أتلف أَمْوَالهم مثل آل شاور وشاور هُوَ الَّذِي أطمع الغز والإفرنج فِي الدولة حَتَّى انْتَقَلت عَن أَهلهَا
وَلما عَاد من حِصَار الْإسْكَنْدَريَّة أَكثر من سفك الدِّمَاء بِغَيْر حق كَانَ يَأْمر بِضَرْب الرّقاب بَين يَدَيْهِ فِي قاعة الْبُسْتَان من دَار الوزارة ثمَّ تسحب الْقَتْلَى إِلَى خَارج الدَّار
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لما خيف من شَرّ شاور ومكره لما عرف من غدره وختره واتضح الْأَمر فِي ذَلِك واستبان تمارض الْأسد ليقتنص الثعلبان فَجَاءَهُ قَاصِدا لعيادته جَارِيا فِي خدمته على عَادَته فَوَثَبَ جرديك وبزغش موليا نور الدّين فقتلا شاورا وأراحا الْعباد والبلاد من شَره وَمَا شاورا وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ أول من تولى الْقَبْض عَلَيْهِ وَمد يَده الْكَرِيمَة بالمكروه إِلَيْهِ وَصفا الْأَمر لأسد الدّين وَملك وخلع عَلَيْهِ الْخلْع وحنك وَاسْتولى أَصْحَابه على الْبِلَاد وَجَرت أُمُوره على السداد وَظهر مِنْهُ حميد السِّيرَة وَظَهَرت كلمة أهل السّنة(2/63)
فصل فِي وزارة أَسد الدّين
وَذَلِكَ عقيب قتل شاور وتنفيذ رَأسه إِلَى الْقصر أنفذ إِلَى أَسد الدّين خلعة الوزارة فلبسها وَسَار وَدخل الْقصر وترتب وزيرا ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور أَمِير الجيوش وَقصد دَار الوزارة فنزلها وَهِي الَّتِي كَانَ بهَا شاور فَمن قبله من الوزراء فَلم ير فِيهَا مَا يقْعد عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي الْأَمر وَلم يبْق لَهُ فِيهِ مُنَازع وَلَا مناوىء وَولى الْأَعْمَال من يَثِق إِلَيْهِ واستبد بِالْولَايَةِ فأقطع الْبِلَاد العساكر الَّتِي قدمت مَعَه وَصَلَاح الدّين مبَاشر للأمور مُقَرر لَهَا وزمام الْأَمر وَالنَّهْي مفوض إِلَيْهِ لمَكَان كِفَايَته ودرايته وَحسن تَأتيه وسياسته
قَالَ الْعِمَاد وكُتب لأسد الدّين منشور من الْقصر بسيط الشَّرْح طَوِيل الطي والنشر كتب العاضد فِي طرته بِخَطِّهِ وَلَا شكّ أَنه بإملاء كَاتبه هَذَا عهد لَا عهد لوزير بِمثلِهِ وتقلد أَمَانَة رآك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَهلا لحمله وَالْحجّة عَلَيْك عِنْد الله بِمَا أوضحه لَك من مراشد سبله فَخذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِقُوَّة واسحب ذيل الفخار بِأَن اعتزت خدمتك إِلَى بنوة النُّبُوَّة واتخذه للفوز سَبِيلا {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا}(2/64)
ونسخة المنشور من عبد الله ووليه أبي مُحَمَّد العاضد لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى السَّيِّد الْأَجَل الْملك الْمَنْصُور سُلْطَان الجيوش ولى الْأَئِمَّة مجير الْأمة أَسد الدّين كافل قُضَاة الْمُسلمين وهادي دعاة الْمُؤمنِينَ أبي الْحَارِث شيركوه العاضدي عضد الله بِهِ الدّين وأمتع بطول بَقَائِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وأدام قدرته وَأَعْلَى كَلمته سَلام عَلَيْك فَإِنَّهُ يحمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ويسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وَسيد الْمُرْسلين وعَلى آله الطاهرين وَالْأَئِمَّة المهديين وَسلم تَسْلِيمًا
ثمَّ ذكر بَاقِي المنشور وَهُوَ مُشْتَمل على كَلَام طَوِيل وحشو غير قَلِيل على عَادَة الْكتاب الْمُتَأَخِّرين الَّذين تراهم بالألفاظ الْكَثِيرَة عَن الْمَعْنى الْيَسِير معبرين والبلاغة عكس ذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت بجوامع الْكَلم واختُصر لي الْكَلَام اختصاراً
وَلما أستقل أَسد الدّين بالوزارة طلب من الْقصر كَاتب إنْشَاء فَأرْسل إِلَيْهِ بِالْقَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني وَكَانَ أَبوهُ من أهل بيسان الشَّام ثمَّ ولي قَضَاء عسقلان وَخرج الْفَاضِل إِلَى الديار المصرية فولي كَاتبا بالإسكندرية على بَاب السِّدرة ثمَّ إِنَّه أتصل بالكامل بن شاور(2/65)
فاستكتبه وزاحم بِهِ كتّاب الْقصر فثقل عَلَيْهِم أمره فَلَمَّا طلب أَسد الدّين كَاتبا أرسل بِهِ إِلَيْهِ وَظن رُؤَسَاء ديوَان المكاتبات أَن هَذَا أَمر لَا يتم وَأَن أَسد الدّين سيقتل كَمَا قتل من كَانَ قبله فأرسلوا بالفاضل إِلَيْهِ وَقَالُوا لَعَلَّه يُقتل مَعَه فنخلص من مزاحمته لنا فَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَاسْتمرّ فِي الدولة وَلم يَزْدَدْ فِي كل يَوْم إِلَّا تقدماً بصدقه وَدينه وَحسن رَأْيه رَحمَه الله
وأنفذ الْعِمَاد قصيدة طَوِيلَة تهنئة لأسد الدّين أَولهَا
(بالجد أدْركْت مَا أدْركْت لَا اللّعب ... كم رَاحَة جُنيت من دوحة التَّعَب)
(يَا شيركوه بن شاذي الْملك دَعْوَة من ... نَادَى فعرَّف خير ابْن بِخَير أَب)
(جرى الْمُلُوك وَمَا حازوا بركضهم ... من المدى فِي الْعلَا مَا حزت بالخبب)
(تَمَلَّ من ملك مصر رُتْبَة قصرت ... عَنْهَا الْمُلُوك فطالت سَائِر الرتب)
(فتحت مصر وَأَرْجُو أَن تصير بهَا ... ميسرًا فتح بَيت الْقُدس عَن كثب)
(قد أمكنت أَسد الدّين الفريسة من ... فتح الْبِلَاد فبادر نَحْوهَا وثِب)
(أَنْت الَّذِي هُوَ فَرد من بسالته ... وَالدّين من عزمه فِي جحفل لجب)
(فِي حلق ذِي الشّرك من عدوي سطاك شجاً ... وَالْقلب فِي شجن وَالنَّفس فِي شجب)
(زارت بني الْأَصْفَر الْبيض الَّتِي لقِيت ... حمر المنايا بهَا مَرْفُوعَة الْحجب)
(وَإِنَّهَا نَقَد من خلفهَا أَسد ... أرى سلامتها من أعجب الْعجب)
(لقد رفعنَا إِلَى الرَّحْمَن أَيْدِينَا ... فِي شكرنا مَا بِهِ الْإِسْلَام مِنْك حبي)(2/66)
(شكا إِلَيْك بَنو الْإِسْلَام يُتْمهم ... فَقُمْت فيهم مقَام الْوَالِد الحدب)
(فِي كل دَار من الإفرنج نادبة ... بِمَا دهاهم فقد باتوا على ندب)
(من شَرّ شاور أنقذت الْعباد فكم ... وَكم قضيت لحزب الله من أرب)
(هُوَ الَّذِي أطمع الإفرنج فِي بلد الْإِسْلَام ... حَتَّى سعوا للقصد والطلب)
(وَإِن ذَلِك عِنْد الله محتسب ... فِي الْحَشْر من أفضل الطَّاعَات والقرب)
(أذله الْملك الْمَنْصُور منتصراً ... لما دَعَا الشّرك هَذَا قد تعزز بِي)
(وَمَا غضِبت لدين الله منتقماً ... إِلَّا لنيل رضَا الرَّحْمَن بِالْغَضَبِ)
(وَأَنت من وَقعت بالْكفْر هيبته ... وَفِي ذويه وُقُوع النَّار فِي الْحَطب)
(وَحين سرت إِلَى الْكفَّار فَانْهَزَمُوا ... نُصرت نصر رَسُول الله بِالرُّعْبِ)
(يَا محيي الْأمة الْهَادِي بدعوته ... للرشد كل غَوِيّ مِنْهُم وغبي)
(لما سعيت لوجه الله مرتقباً ... ثَوَابه نلْت عفوا كل مرتقب)
(أعدت نقمة مصرٍ نعْمَة فغدت ... تَقول كم نكتٍ لله فِي النكب)
(أركبت رَأس سِنَان رَأس ظالمها ... عدلا وَكنت لوزرٍ غير مرتكب)
(ردَّ الْخلَافَة عباسيةً ودع الدعي ... فِيهَا يُصَادف شَرّ مُنْقَلب)
(لَا تقطعن ذَنْب الأفعى وترسله ... والحزم عِنْدِي قطع الرَّأْس كالذنب)(2/67)
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة أَنْشدني الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لنَفسِهِ وَقد أعفى الْملك الْعَادِل نور الدّين قدس الله روحه أهل دمشق من الْمُطَالبَة بالخشب فورد الْخَبَر باستيلاء عسكره على مصر فَكتب إِلَيْهِ يهنيه
(لما سمحت لأهل الشَّام بالخشب ... عُوضِّت مصر بِمَا فِيهَا من النشب)
(وَإِن بذلت لفتح الْقُدس محتسباً ... لِلْأجرِ جوزيت أجرا غيرَ محتسب)
(وَالْأَجْر فِي ذَاك عِنْد الله مرتقب ... فِيمَا يثيب عَلَيْهِ خيرُ مرتقب)
(وَالذكر بِالْخَيرِ بَين النَّاس تكسبه ... خير من الْفضة الْبَيْضَاء وَالذَّهَب)
(وَلست تعذر فِي ترك الْجِهَاد وَقد ... أَصبَحت تملك من مصر إِلَى حلب)
(وَصَاحب الْموصل الفيحاء ممتثل ... لما تُرِيدُ فبادر فَجْأَة النوب)
(فأحزم النَّاس من قويَّ عزيمته ... حَتَّى ينَال بهَا العالي من الرتب)
(فالجَدُّ والْجِدُّ مقرونان فِي قرن ... والحزم فِي الْعَزْم والإدراك بِالطَّلَبِ)
(فطهر الْمَسْجِد الْأَقْصَى وحوزته ... من النَّجَاسَات والإشراك والصلب)
(عساك تظفر فِي الدُّنْيَا بِحسن ثَنَا ... وَفِي الْقِيَامَة تلقى خير مُنْقَلب)
فصل فِي وَفَاة أَسد الدّين وَولَايَة ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين مَكَانَهُ
توفّي أَسد الدّين فَجْأَة يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة فَكَانَت وزارته شَهْرَيْن وَخَمْسَة أَيَّام
وَقَالَ ابْن شَدَّاد كَانَ أَسد الدّين كثير الْأكل شَدِيد الْمُوَاظبَة على(2/68)
تنَاول اللحوم الغليظة تتواتر عَلَيْهِ التخم والخوانيق وينجو مِنْهَا بعد معاناة شدَّة عَظِيمَة فَأَخذه مرض شَدِيد واعتراه خانوق عَظِيم فَقتله رَحمَه الله تَعَالَى وفَوض الْأَمر بعده إِلَى صَلَاح الدّين واستقرت الْقَوَاعِد واستتبت الْأَحْوَال على أحسن نظام وبذل الْأَمْوَال وَملك الرِّجَال وهانت عِنْده الدُّنْيَا فملكها وشكر نعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَتَابَ عَن الْخمر وَأعْرض عَن أَسبَاب اللَّهْو وتقمص بلباس الْجد وَالِاجْتِهَاد وَمَا عَاد عَنهُ وَلَا ازْدَادَ إِلَّا جدا إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى إِلَى رَحمته وَلَقَد سَمِعت مِنْهُ رَحمَه الله يَقُول لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أَنه أَرَادَ فتح السَّاحِل لِأَنَّهُ أوقع ذَلِك فِي نَفسِي وَمن حِين استتب لَهُ الْأَمر مَا زَالَ يَشن الغارات على الفرنج إِلَى الكرك والشوبك وبلادهما وغشى النَّاس من سحائب الأفضال وَالنعَم مَا لم يؤرخ عَن غير تِلْكَ الْأَيَّام هَذَا كُله وَهُوَ وَزِير متابع للْقَوْم لكنه مقو لمَذْهَب السّنة غارسٌ فِي الْبِلَاد أهل الْعلم وَالْفِقْه والتصوف وَالدّين وَالنَّاس يهرعون إِلَيْهِ من كل صوب ويفدون إِلَيْهِ من كل جَانب وَهُوَ رَحمَه الله لَا يخيب قَاصِدا وَلَا يعْدم وافداً وَلما عرف نور الدّين اسْتِقْرَار أَمر صَلَاح الدّين بِمصْر أَخذ حمص من نواب أَسد الدّين وَذَلِكَ فِي رَجَب من هَذِه السّنة
وَقَالَ ابْن الْأَثِير أما كَيْفيَّة ولَايَة صَلَاح الدّين فَإِن جمَاعَة من الْأُمَرَاء النُّورية الَّذين كَانُوا بِمصْر طلبُوا التَّقَدُّم على العساكر وَولَايَة الوزارة مِنْهُم الْأَمِير عين الدولة الياروقي وقطب الدّين خسرو بن تليل وَهُوَ ابْن(2/69)
أخي أبي الهيجاء الهذَباني الَّذِي كَانَ صَاحب إربل وَمِنْه سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المهكاري وجده كَانَ صَاحب قلاع الهَكّارية وَمِنْهُم شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي وَهُوَ خَال صَلَاح الدّين وكل من هَؤُلَاءِ قد خطبهَا وَقد جمع ليغالب عَلَيْهَا فَأرْسل الْخَلِيفَة العاضد إِلَى صَلَاح الدّين فَأمره بالحضور فِي قصره ليخلع عَلَيْهِ خلع الوزارة ويوليه الْأَمر بعد عَمه
وَكَانَ الَّذِي حمل العاضد على ذَلِك ضعف صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ ظن أَنه إِذا ولى صَلَاح الدّين وَلَيْسَ لَهُ عَسْكَر وَلَا رجال كَانَ فِي ولَايَته بِحكمِهِ وَلَا يَجْسُر على الْمُخَالفَة وَأَنه يضع على الْعَسْكَر الشَّامي من يستميلهم إِلَيْهِ فَإِذا صَار مَعَه الْبَعْض أخرج البَاقِينَ وتعود الْبِلَاد إِلَيْهِ وَعِنْده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج وَنور الدّين فَامْتنعَ صَلَاح الدّين وضعفت نَفسه عَن هَذَا الْمقَام فألزم بِهِ وَأخذ كَارِهًا إِن الله ليعجب من قوم يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل فَلَمَّا حضر فِي الْقصر خلع عَلَيْهِ خلعة(2/70)
الوزارة الْجُبَّة والعمامة وَغَيرهمَا ولقب الْملك النَّاصِر وَعَاد إِلَى دَار أَسد الدّين فَأَقَامَ بهَا وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ أحد من أُولَئِكَ الْأُمَرَاء الَّذين يُرِيدُونَ الْأَمر لأَنْفُسِهِمْ وَلَا خدموه
وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى الهكاري مَعَه فسعى مَعَ سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد حَتَّى أماله إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا الْأَمر لَا يصل إِلَيْك مَعَ وجود عين الدولة والحارمي وَابْن تليل فَمَال إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ قصد شهَاب الدّين الحارمي وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا صَلَاح الدّين هُوَ ابْن أختك وَملكه لَك وَقد أستقام الْأَمر لَهُ فَلَا تكن أول من يسْعَى فِي إِخْرَاجه عَنهُ فَلَا يصل إِلَيْك وَلم يزل بِهِ حَتَّى أحضرهُ أَيْضا عِنْده وحلَّفه لَهُ ثمَّ عدل إِلَى قطب الدّين وَقَالَ لَهُ إِن صَلَاح الدّين قد أطاعه النَّاس وَلم يبْق غَيْرك وَغير الياروقي فعلى كل حَال يجمع بَيْنك وَبَين صَلَاح الدّين أَن أَصله من الأكراد فَلَا يخرج الْأَمر عَنهُ إِلَى الأتراك ووعده وَزَاد فِي إقطاعه فأطاع صَلَاح الدّين أَيْضا وَعدل إِلَى عين الدولة الياروقي وَكَانَ أكبر الْجَمَاعَة وَأَكْثَرهم جمعا فَلم تَنْفَعهُ رقاه وَلَا نفذ فِيهِ سحره وَقَالَ أَنا لاأخدم يُوسُف أبدا وَعَاد إِلَى نور الدّين وَمَعَهُ غَيره فَأنْكر عَلَيْهِم فِرَاقه وَقد فَاتَ الْأَمر {ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَثَبت قدم صَلَاح الدّين ورسخ ملكه وَهُوَ نَائِب عَن الْملك الْعَادِل نور الدّين وَالْخطْبَة لنُور الدّين فِي الْبِلَاد كلهَا وَلَا يتصرفون إِلَّا عَن أمره(2/71)
وَكَانَ نور الدّين يُكَاتب صَلَاح الدّين بالأمير الأسفهسلار وَيكْتب علامته فِي الْكتب تَعْظِيمًا أَن يكْتب اسْمه وَلَا يفرده فِي كتاب بل يكْتب الْأَمِير الأسفهسلار صَلَاح الدّين وكافة الْأُمَرَاء بالديار المصرية يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا
واستمال صَلَاح الدّين قُلُوب النَّاس وبذل لَهُم الْأَمْوَال مِمَّا كَانَ أَسد الدّين قد جمعه وَطلب من العاضد شَيْئا يُخرجهُ فَلم يُمكنهُ مَنعه فَمَال النَّاس إِلَيْهِ وأحبوه وقويت نَفسه على الْقيام بِهَذَا الْأَمر والثبات فِيهِ وَضعف أَمر العاضد وَكَانَ كالباحث عَن حتفه بظلفه
وَأرْسل صَلَاح الدّين يطْلب من نور الدّين أَن يُرْسل إِلَيْهِ إخْوَته فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَقَالَ أَخَاف أَن يُخَالف أحد مِنْهُم عَلَيْك فتفسد الْبِلَاد ثمَّ إِن الفرنج اجْتَمعُوا ليسيروا إِلَى مصر فسير نور الدّين العساكر وَفِيهِمْ إخْوَة صَلَاح الدّين مِنْهُم شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب وَهُوَ أكبر من صَلَاح الدّين فَلَمَّا أَرَادَ أَن يسير قَالَ لَهُ إِن كنت تسير إِلَى مصر وَتنظر إِلَى أَخِيك أَنه يُوسُف الَّذِي كَانَ يقوم فِي خدمتك وَأَنت قَاعد فَلَا تسر فَإنَّك تفْسد الْبِلَاد وأُحضرك حِينَئِذٍ وأعاقبك بِمَا تستحقه وَإِن كنت تنظر إِلَيْهِ أَنه صَاحب مصر وقائم فِيهَا مقَامي وتخدمه بِنَفْسِك كَمَا تخدمني فسر إِلَيْهِ وَاشْدُدْ أزره وساعده على مَا هُوَ بصدده فَقَالَ أفعل مَعَه من الْخدمَة وَالطَّاعَة مَا يصل إِلَيْك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَكَانَ كَمَا قَالَ
وَقَالَ الْعِمَاد لما فُرغ بعد ثَلَاثَة أَيَّام من التَّعْزِيَة بأسد الدّين اخْتلفت(2/72)
آراؤهم واختلظت أهواؤهم وَكَاد الشمل لَا يَنْتَظِم والخلل لَا يلتئم فَاجْتمع الْأُمَرَاء النُّورية على كلمة وَاحِدَة وأيد متساعدة وعقدوا لصلاح الدّين الرَّأْي والراية وَأَخْلصُوا لَهُ الْوَلَاء وَالْولَايَة وَقَالُوا هَذَا مقَام عَمه وَنحن بِحكمِهِ والزموا صَاحب الْقصر بتوليته وَنَادَتْ السَّعَادَة بتلبيته وَشرع فِي تَرْتِيب الْملك وتربيته وفض ختوم الخزائن وأنض رسوم المزائن وسلط الْجُود على الْمَوْجُود وَبسط الوفور للوفود وَفرق مَا جمعه أَسد الدّين فِي حَيَاته وأنارت على منار الْعلَا إياة آيَاته وَرَأى أولياءه تَحت ألويته وراياته وأحبوه وَمَا زَالَت محبته غالبة على مهابته وَهُوَ يُبَالغ فِي تقريبهم كَأَنَّهُمْ ذَوُو قرَابَته وَمَا زَاده الْملك ترفعاً وَمَا أَفَادَهُ إِلَّا تأصلا فِي السماح وتفرعا وَضم من أَمر المملكة مَا كَانَ منشوراً وَكتب لَهُ العاضد صَاحب الْقصر منشوراً وَهُوَ بالمثال الْكَرِيم الفاضلي الَّذِي هُوَ السحر الْحَلَال والعذب الزلَال
ثمَّ أوردهُ الْعِمَاد وَهُوَ شَبيه بمنشور عَمه أَسد الدّين وَجرى الْقَلَم فِيهِ بِمَا خطّ لَهُ الْقَلَم فِي الْأَزَل من وصف جهاده وَسلمهُ فَفِي ذَلِك المنشور وَالْجهَاد أَنْت رَضِيع دَرِّه وناشئة حجره وَظُهُور الْخَيل(2/73)
مواطنك وظلال الْخيام مساكنك وَفِي ظلمات قساطله تُجلى محاسنك وَفِي أعقاب نوازله تتلى مناقبك فشمر لَهُ عَن سَاق من القنا وخُض فِيهِ بحرا من الظبى واحلل فِي عقد كلمة الله وثيقات الحبى وأسل الوهاد بِدَم العدى وارفع برؤوسهم الرِّبَا حَتَّى يَأْتِي الله بِالْفَتْح الَّذِي يَرْجُو أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يكون مذخوراً لأيامك وشهوداً لَك يَوْم مقامك
وَفِي طرَّته بالخط العاضدي وَلم يذكرهُ الْعِمَاد فِي كِتَابه هَذَا عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَيْك وحجته عِنْد الله سُبْحَانَهُ عَلَيْك فأوف بعهدك ويمينك وَخذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بيمينك وَلمن مضى بجدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن أُسْوَة وَلمن بَقِي بِثِقَتِهِ بِنَا أعظم سلوة {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}
يَعْنِي بِمن مضى أَسد الدّين وبمن بَقِي صَلَاح الدّين
ثمَّ قَالَ الْعِمَاد وَهَذَا آخر منشور طويت بِهِ تِلْكَ الدولة وختمت وتبددت عقودها وَمَا انتظمت
ووصلت كتب صَلَاح الدّين إِلَيْنَا إِلَى الشَّام بِمَا تسنى لَهُ من المرام وَلمن يَقْصِدهُ بالاستدعاء والا ستبطاء وَلمن تَأَخّر عَنهُ بِالْخلْعِ وَالعطَاء(2/74)
وترددت الْكتب الصلاحية بِذكر الأشواق وشكوى الْفِرَاق وَشرح الاستيحاش وبرح الْقُلُوب العطاش فَإِن أَصْحَابنَا وَإِن ملكوا ونالوا مقاصدهم وأدركوا حصلوا بَين أمة لَا يعرفونها بل يُنْكِرُونَهَا وَلَا يألفونها وَرَأَوا وُجُوهًا هُنَاكَ بهم عابسة وَأَعْيُنًا للمكايد متيقظة وَعَن الود ناعسة فَإِن أجناد مصر كَانُوا فِي الدّين مخالفين وعَلى عقيدتهم معاقدين محالفين
وَكتب صَلَاح الدّين إِلَى بعض أصدقائه كتابا أَوله
(أَيهَا الغائبون عني وَإِن كُنْتُم ... لقلبي بذكركم جيرانا)
(إِنَّنِي مذ فقدتكم لأَرَاكُمْ ... بعيون الضَّمِير عِنْدِي عيَانًا)
فَسَأَلَنِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَن أكتب جَوَابه فَقلت
(أَيهَا الظاعنون عني وقلبي ... مَعَهم لَا يُفَارق الأظعانا)
(ملكوا مصر مثل قلبِي وَفِي هَذَا ... وَفِي تِلْكَ أَصْبحُوا سكانا)
(فاعدلوا فيهمَا فَإِنَّكُم الْيَوْم ... ملكتم عَلَيْهِمَا سُلْطَانا)
(لَا تروعوا بالهجر قلب محب ... أورثته روعاته الخفقانا)
(حبذا معهد قضينا بِهِ الْعَيْش ... فَكُنَّا بربعه جيرانا)
(إِذْ وجدنَا من الْحَوَادِث أمنا ... وأخذنا من الخطوب أَمَانًا)
(ورتعنا من المنى فِي رياض ... وسكنا من المغاني جنَانًا)
وَبعد فَإِن وُفُود الهناء وأمداد الدُّعَاء متواصلة على الْوَلَاء صادرة عَن مَحْض الْوَلَاء إِلَى عالي جنابه المأنوس ومنيع كنفه المحروس(2/75)
فليهنه الظفران بِالْملكِ وبالعدو وَفرع هضبات الْمجد والعلو وَكَيف لَا يكون النَّصْر مساوقا لدين هُوَ صَلَاحه والتأييد مرافقاً لعزم بِهِ نجاحه وفلاحه
(فالشام يغبط مصرا مذ حللت بهَا ... كَمَا الْفُرَات عَلَيْكُم تحسد النيلا)
(نلتم من الْملك عفوا مَا الْمُلُوك بِهِ ... عُنوا قَدِيما وراموه فَمَا نيلا)
قَالَ الْعِمَاد ورثيت أَسد الدّين بقصيدة خدمت بهَا نور الدّين وعزيت بهَا أَخَاهُ نجم الدّين مِنْهَا
(تضعضع فِي هَذَا الْمُصَاب المباغت ... من الدّين لَوْلَا نوره كل ثَابت)
(فأيام نور الدّين دَامَت منيرة ... لنا خلف من كل مود وفائت)
وَمِنْهَا
(فَمَا بالنا نبدي التصامم غَفلَة ... وداعي المنايا نَاطِق غير صَامت)
(نؤمل فِي دَار الفناء بقاءنا ... وَنَرْجُو من الدُّنْيَا صداقة ماقت)
(وَمَا النَّاس إِلَّا كالغصون يَد الردى ... تقرِّب مِنْهَا كل عود لناحت)
(لقد أبلغت رسل المنايا وأسمعت ... وَلكنهَا لم تحظ منا بناصت)
وَمِنْهَا
(فلهفي على تِلْكَ الشَّمَائِل إِنَّهَا ... لقد كرمُت فِي الْحسن عَن نعت ناعت)(2/76)
وَله من أُخْرَى عزى بهَا أَخَاهُ نجم الدّين أَيُّوب وَولده نَاصِر الدّين مُحَمَّدًا
(مَا بعد يَوْمك للمعنى المدنف ... غير العويل وحسرة المتأسف)
(مَا أجرا الْحدثَان كَيفَ سَطَا على اللأسد ... الْمخوف سَطَا وَلم يتخوف)
(من ذَا رأى الْأسد الهصور فريسة ... أم أبْصر الصُّبْح الْمُنِير وَقد خفى)
(من ثابتٌ دون الكماة سواهُ إِن ... زلت بهم أَقْدَامهم فِي الْموقف)
(مَا كَانَ أَسْنَى الْبَدْر لَو لم يسْتَتر ... مَا كَانَ أبهى الشَّمْس لَو لم تكسف)
(مَا كنت أخْشَى أَن تلم ملمة ... يَوْمًا وَأَنت لكربها لم تكشف)
(أَيَّام عمرك لم تزل مقسومة ... لله بَين تعبد وتعرف)
(متهجدا لعبادة أَو تاليا ... من آيَة أَو نَاظرا فِي مصحف)
(فجع الندى والبأس مِنْك بحاتم ... وبحيدر والحلم مِنْك بأحنف)
(بِالْملكِ فزت وحزته عَن قدرَة ... ومضيت عَنهُ بسيرة الْمُتَعَفِّف)
(ووصفت يَا أسدا لدين مُحَمَّد ... مدحا بِمَا ملك بِهِ لم يُوصف)
(وقفوت آثَار الشَّرِيعَة كلهَا ... وَقد اهْتَدَى من للشريعة يقتفي)
(أأنفت من دنياك حِين عرفتها ... فلويت وَجه الْعَارِف المستنكف)
وَمِنْهَا
(يَا نَاصِر الدّين استعذ بتصبر ... مُدْن إِلَى مرضاة ربٍ مزلف)
(وتعزَّ نجم الدّين عَنهُ مهنَّأً ... أَبَد الزَّمَان بِملك مصر ويوسف)
(لَا نستطيع سوى الدُّعَاء فكلنا ... إِلَّا بِمَا فِي الوسع غير مُكَلّف)(2/77)
ولعمارة اليمني فِي صَلَاح الدّين مدائح مِنْهَا قَوْله
(لَك الْحسب الْبَاقِي على عقب الدَّهْر ... بل الشّرف الراقي إِلَى قمة النَّسر)
(كَذَا فَلْيَكُن سعى الْمُلُوك إِذا سعت ... بهَا الهمم الْعليا إِلَى شرف الذّكر)
(نهضتم بأعباء الوزارة نهضة ... أقلتم بهَا الْأَقْدَام من زلَّة العثر)
(كشفتم عَن الإقليم غمته كَمَا ... كشفتم بأنوار الْغنى ظلمَة الْفقر)
(حميتم من الإفرنج سرب خلَافَة ... جريتم لَهَا مجْرى الْأمان من الذعر)
(وَلما اسْتَغَاثَ ابْن النَّبِي بنصركم ... ودائرة الْأَنْصَار أضيق من شبر)
(جلبتم إِلَيْهِ النَّصْر أَوْسًا وخزرجا ... وَمَا اشْتقت الانصار إِلَّا من النَّصْر)
(كتائب فِي جيرون مِنْهَا أَوَاخِر ... وأولها بالنيل من شاطئي مصر)
(طلعتم فأطلعتم كواكب نصْرَة ... أَضَاءَت وَكَانَ الدّين لَيْلًا بِلَا فجر)
(وآبت إِلَيْكُم يَا ابْن أَيُّوب دولة ... تراسلكم فِي كل يَوْم مَعَ السّفر)
(حمى الله فِيكُم عَزمَة أسدية ... فككتم بهَا الْإِسْلَام من ربقة الْأسر)
(أَخَذْتُم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الْخَيل مرِّي على مرِّي)
(لَئِن نصبوا فِي الْبر جِسْرًا فَإِنَّكُم ... عبرتم ببحر من حَدِيد على الجسر)
(طَرِيق تقارعتم عَلَيْهَا مَعَ العدى ... ففزتم بهَا والصخر يقرع بالصخر)
(وأزعجه من مصر خوف يلزه ... كَمَا لز مهزوم من اللَّيْل بِالْفَجْرِ)
(وَكم وقْعَة عذراء لما اقتضضتها ... بسيفك لم تتْرك لغيرك من عذر)
(وَأَيْدِيكُمْ بالبأس كاسرة العدى ... وَلكنهَا بالجود جابرة الْكسر)
(أَبوك الَّذِي أضحى ذخيرة مجدكم ... وَأَنت لَهُ خير النفائس والذخر)
(وَمن كنت مَعْرُوفا لَهُ فاستفزه ... بمثلك تيه فَهُوَ فِي أوسع الْعذر)
(فَكيف أَب أَصبَحت نَار زناده ... وَإِلَّا كنور الْبَدْر من سنه الْبَدْر)
(توقره وسط الندي كَرَامَة ... وَتحمل عَنهُ مايؤود من الوقر)(2/78)
(وتخلفه حَربًا وسلما خلَافَة ... تؤلف أضدادا من المَاء والجمر)
(وَكم قُمْت فِي بَأْس وجود ورتبة ... بِمَا سره فِي الْخطب والدست والثغر)
(وَلَو أنطق الله الجمادات لم تقم ... لنعمتكم بالمستحق من الشُّكْر)
(يَد لَا يقوم الْمُسلمُونَ بشكرها ... لكم آل أَيُّوب إِلَى آخر الدَّهْر)
(بكم أَمن الرَّحْمَن أعظم يثرب ... وَأمن أَرْكَان البنية وَالْحجر)
(وَلَو رجعت مصر إِلَى الْكفْر لانطوى ... بِسَاط الْهدى من ساحة الْبر وَالْبَحْر)
(وَلَكِن شددتم أزره بوزارة ... غَدا لَفظهَا يشتق من شدَّة الْأرز)
(فهنيتم فتحا تقدم جله ... وَبشر أَن الْكل يَتْلُو على الإثر)
(وَمَا بقيت فِي الشّرك إِلَّا بَقِيَّة ... تتمتها فِي ذمَّة الْبيض والسمر)
(وَعند تَمام الْملك آتِي مهنئا ... وملتمسا أجر الكهانة والزجر)
(وَلَوْلَا اعتقادي أَن مدحك قربَة ... أرجي بهَا نيل المثوبة وَالْأَجْر)
(لما قلت شعرًا بعد إعفاء خاطري ... ولي سنوات مُنْذُ تبت عَن الشّعْر)
(فأوص بِي الْأَيَّام خيرا فَإِنَّهَا ... مصرفة بِالنَّهْي مِنْك وبالأمر)
(وجائزتي تسهيل إذني عَلَيْكُم ... وملقاكم لي بالطلاقة والبشر)
وَقَالَ أَيْضا من قصيدة
(يَا شَبيه الصّديق عدلا وحسناً ... وسميَّاً حَكَاهُ معنى ومغنى)
(هَذِه مصر يُوسُف حل فِيهَا ... يوسفٌ مَالِكًا وَمَا حل سجنا)
(أَنْت حرَّمت أَن يثلَّث فِيهَا ... بسوى الله وَحده أَو يثنى)(2/79)
(إِنَّمَا الْملك والوزارة جسم ... أَنْت روح فِيهِ وَفِي اللَّفْظ معنى)
وَقَالَ أَيْضا من قصيدة
(ملك صَلَاح الدّين لَا قوضت ... أطنابه ملك التقى وَالصَّلَاح)
(سيرة عدل حسَّنت عندنَا ... مَا كَانَ من وَجه اللَّيَالِي القباح)
(سَافر فِي الدُّنْيَا وأقطارها ... ذكرٌ غَدا عَنهُ جميلا وَرَاح)
(قل لِابْنِ أَيُّوب وَكم نَاصح ... أَنْفَع مِمَّن هُوَ شاكي السِّلَاح)
(حَارب على مثل نُجُوم السما ... فَملك مصر مَا عَلَيْهِ اصْطِلَاح)
(قولا لمن فِي عزمه فَتْرَة ... ارْجع إِلَى الْجد وخل المزاح)
(فالقدس قد أذَن إغلاقه ... على يَدي يُوسُف بالإنفتاح) وَقَالَ أَيْضا من قصيدة
(ونُبت بِمصْر عَن سميك يوسفٍ ... كَمَا نَاب عَن سكب الحيا واكف سكب)
(حذوت على سجلي نداه وهديه ... وَإِن كنت لاسجن حواك ولاجب)
(ووافقته فِي الصفح عَن كل مذنب ... فَمَا مِنْك تَثْرِيب وَإِن عظم الْخطب)
وللحكيم عبد الْمُنعم الجلياني من قصيدة طَوِيلَة(2/80)
(أَبُو المظفر مأوى كل مضطهد ... بحلمه ونداه يضْرب الْمثل)
(مهما يمل جَائِر أَو عائث عَمه ... فَعِنْدَ عدل صَلَاح الدّين يعتدل)
(أَحْيَا بِهِ الله مصرا فَهِيَ نَاشِرَة ... وافتكها من عَدو مَا بِهِ قبل)
(كم للفرنج بهَا وردا ومنتجعا ... ونارهم حولهَا تذكو وتشتعل)
(فأطفأ النَّاصِر الْمَنْصُور جذوتهم ... وأدبروا بقلوب شهمها وَجل)
(ملك تقلد سلك الْملك منتظما ... وَقَالَ لِلْمَالِ هَذَا مِنْك لي بدل)
(فَفرق المَال جمعا للقلوب بِهِ ... وحسبه فيهم إِدْرَاك مَا سَأَلُوا)
(إِن الْمُلُوك الَّذين امْتَدَّ أَمرهم ... لم يخزنوا المَال بل مهما حووا بذلوا)
(كَذَا السياسة فالأجناد لَو علمُوا ... بخل المليك وَجَاءَت شدَّة خذلوا)
فصل
هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قصَّة شاور وَمَا جرى بِسَبَبِهِ فِي الديار المصرية إِلَى(2/81)
أَن تمت وزارة صَلَاح الدّين قد وجدته مَبْسُوطا مُشْتَمِلًا على زيادات وفوائد فِي كتاب ليحيى بن أبي طيّ الْحلَبِي فِي السِّيرَة الصلاحية فَأَحْبَبْت ذكره مُخْتَصرا
ذكر أَن الْملك الصَّالح طلائع بن رُزيك وَزِير الديار المصرية لما(2/82)
قتل فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَخمسين بتدبير عَمه العاضد عَلَيْهِ أوصى عِنْد مَوته ابْنه رزيك بشاور وَقَالَ لَهُ لَا تزلزله من ولَايَته فَأَنَّهُ أسلم لَك ولملكك وَيُقَال إِنَّه أنْشد أبياتاً مِنْهَا
(فَإِذا تبدد شَمل عقدكما ... لاتأمنا من شاور السَّعْدِيّ)
وَكَانَ شاور مُتَوَلِّي قوص والصعيد الْأَعْلَى فَلَمَّا دفن الصَّالح استوزر ابْنه رزيك ولقب بالعادل وَلما أستقرت أَحْوَاله أرسل إِلَى عمَّة العاضد فخنقها وَاجْتمعَ إِلَى رزيك أَوْلَاد عمته وَمن جُمْلَتهمْ عز الدّين حسام وأشاروا عَلَيْهِ بعزل شاور فَامْتنعَ ثمَّ ألحوا عَلَيْهِ فَأجَاب وَبلغ شاور فجاهر بالعصيان وَجمع العربان وَأهل الصَّعِيد وَسَار إِلَى الْقَاهِرَة وَخرج إِلَيْهِ جمَاعَة من أمرائها كَانُوا كاتبوه فَخرج رزيك تَحت اللَّيْل فضل الطَّرِيق وتاه فَوَقع عِنْد إطفيح وثمَّ بيُوت عرب فقبضوا عَلَيْهِ وحُمل إِلَى شاور وَقد دخل الْقَاهِرَة وتسلمها وأخرجت إِلَيْهِ خلع الوزارة وَتمّ أمره
وَلما حصل رُزَّيك عِنْد شاور أكْرمه وصلب الَّذِي أَتَى بِهِ ونادى عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من لَا يُرَاعِي الْجَمِيل وَكَانَ للصالح إِلَيْهِ إِحْسَان وتفرَّق آل رزيك فِي الْبِلَاد وَنَجَا حسام الَّذِي كَانَ سَبَب هَلَاك بني رزيك بأموال وَصَارَ إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا وَاشْترى الْقرى وَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فِي خُرُوجه أودع عِنْد الفرنج سبعين ألف دِينَار فوفوا لَهُ وردوها عَلَيْهِ ثمَّ أَرَادَ تَقِيّ الدّين أَخذهَا مِنْهُ فَقَالَ من الْعجب أَن الفرنج تفي لي بردهَا وتأخذها أَنْت مني فَكف عَنهُ(2/83)
قَالَ وَتمكن شارو وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد طيّ والكامل وَسليمَان فتبسطوا على النَّاس وتعاظموا فمجتهم الْأَنْفس
وَكَانَ مُلهم وَأَخُوهُ ضرغام من صنائع الصَّالح بن رزيك فَلَمَّا شَاهدا ميل النَّاس عَن شاور بِسَبَب أَوْلَاده أخذا فِي مراسلة رزيك بن الصَّالح وَهُوَ فِي السجْن وَالْعَمَل لَهُ فِي إِعَادَته إِلَى الوزارة واتصل ذَلِك بطيّ بن شاور فَدخل على أَبِيه وَقَالَ لَهُ أَنْت غافل ومُلْهم وضرغام يفسدان أَمرك وَقد شرعا فِي أَمر رزيك واستحلفا لَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلَا يُمكن تلافي حالك إِلَّا بقتل رزيك فَقَالَ لَهُ شارو إِن الصَّالح أولاني جميلا وبسببه حللت هَذَا الْمحل فَتَركه وَلَده طيّ وَدخل على رزيك فَقتله فِي سجنه وَسمع شاور ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَته ونُمى الْخَبَر إِلَى ضرغام وأخيه ملهم فثارا وأثارا من استحلفاه من الْأُمَرَاء وزحفا بالعساكر إِلَى شاور فَانْهَزَمَ وَخرج من بَاب الْقَاهِرَة وهرب إِلَى الشَّام وَأدْركَ ضرغام ولديه طيئا وَسليمَان فَقَتَلَهُمَا وَأسر الْكَامِل فَأَخذه ملهم واعتقله عِنْده وَأَرَادَ ضرغام قَتله فَمَنعه مِنْهُ ملهم وَحفظ لَهُ جميلا كَانَ قد فعله مَعَه
وَاسْتقر أَمر ضرغام فِي الوزارة وخلُع عَلَيْهِ ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور وَلما اسْتَقر بِهِ الْأَمر بلغه أَن جمَاعَة من الْأُمَرَاء حسدوه واستصغروه وكاتبوا شاور وَكَانَ صَار إِلَى الشَّام فَأخذ فِي إِعْمَال الْحِيلَة عَلَيْهِم وأحضرهم إِلَى دَار الوزارة لَيْلًا فَقَتلهُمْ جَمِيعًا وَلم يتَعَرَّض لأموالهم وَلَا لمنازلهم وَقيل إِنَّه قتل مِنْهُم سبعين أَمِيرا وَيُقَال إِنَّه جعلهم فِي توابيت وَكتب(2/84)
على كل تَابُوت اسْم صَاحبه فَكَانَ ذَلِك أكبر الْأَسْبَاب فِي هَلَاكه وَخُرُوج دولة المصريين عَن يَد أَصْحَابهَا لِأَنَّهُ أَضْعَف عَسْكَر مصر بقتل الْأُمَرَاء
وَأما شاور فَإِنَّهُ لما خرج من الْقَاهِرَة سَار على وَجهه حَتَّى وصل إِلَى دمشق بعد تحَققه قتل ولديه وَلما وصل إِلَى بُصرى اتَّصل خَبره بِنور الدّين فندب جمَاعَة إِلَى تلِّقيه وأنزله فِي جوسق الميدان الْأَخْضَر وَأحسن ضيافته وإكرامه ثمَّ بعد سَبْعَة أَيَّام من مقدمه أحضر نور الدّين ابْن الصُّوفِي وَجَمَاعَة من وُجُوه الدمشقيين وَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرجل وسلموا عَلَيْهِ وعرفوه اعذارنا فِي التَّقْصِير فِي حَقه وَسَلُوهُ فِيمَا قدم وَمَا حَاجته فَإِن كَانَ ورد علينا مُخْتَارًا للإقامة أفردنا لَهُ من جهاتنا مَا يَكْفِيهِ وَيقوم بأربه وأوده وَتَكون عوناً لَهُ على زَمَانه وَإِن كَانَ ورد لغير ذَلِك فيفصح عَن حَاجته فَخرج الْجَمَاعَة إِلَيْهِ بالرسالة فَشكر إِحْسَان نور الدّين وَسكت عَمَّا وَرَاء ذَلِك فَسَأَلَهُ الْقَوْم الْجَواب فَقَالَ إِذا لم يبيَّت الرَّأْي جَاءَ فطيراً فَعَاد الْقَوْم إِلَى نور الدّين وعرفوه مَا دَار بَينهم وَبَينه فَأمر بِالْعودِ إِلَيْهِ من غَد ذَلِك الْيَوْم فعادوا وطلبوا الْجَواب فَسكت أَيْضا(2/85)
وَأطَال ثمَّ قَالَ إِن رَأْي نور الدّين أَطَالَ الله بَقَاءَهُ الِاجْتِمَاع بِي فَلهُ علُّو الرَّأْي فعرَّفوا نور الدّين بمقالته فَأجَاب نور الدّين إِلَى أَن يكون الِاجْتِمَاع على ظهر بالميدان الْأَخْضَر وَركب نور الدّين من الْغَد فِي وُجُوه دولته وخواص مَمْلَكَته فِي أحسن زِيّ وأكمل شارة فَلَمَّا دخل الميدان ركب شاور من الْجَوْسَقِ والتقيا فِي وسط الميدان بالتحية فَقَط وَلم يترجل أحد مِنْهُمَا لصَاحبه ثمَّ سارا من مَوضِع اجْتِمَاعهمَا وَهُوَ نصف الميدان إِلَى آخِره ثمَّ انفصلا من هُنَاكَ وَعَاد نور الدّين إِلَى قلعة دمشق وَأخذ من وقته ذَلِك فِي جمع العساكر
وَأما ضرغام فَإِنَّهُ حِين اسْتَقر بِهِ الْأَمر أنشأ كتابا إِلَى نور الدّين على يَد علم الْملك ابْن النّحاس يظْهر فِيهِ الطَّاعَة ويعرِّض بخذلان شاور فأظهر نور الدّين لعلم الْملك الْقبُول فِي الظَّاهِر وَهُوَ مَعَ شاور فِي الْبَاطِن وَأجَاب عَن الْكتاب وانفصل علم الْملك عَن دمشق فَلَمَّا كَانَ بِظَاهِر الكرك أَخذه فيليب بن الرفيق الفرنجي وَحصل على جَمِيع مَا كَانَ مَعَه وَانْهَزَمَ علم(2/86)
الْملك بِنَفسِهِ وَتوجه إِلَى السَّاحِل وَسَار إِلَى مصر
وَفِي هَذِه الْأَيَّام أنفذ نور الدّين واستحضر أَسد الدّين شيركوه من إقطاعه من الرحبة وَكَانَ نور الدّين قد تيمن بأسد الدّين وتبرك بميمون نقيبته لِأَنَّهُ لم يُرْسِلهُ فِي أَمر إِلَّا نجح وَلم يولجه فِي مضيق إِلَّا انْفَتح وَلما حضر أَسد الدّين إِلَى دمشق أخلاه نور الدّين وتحدث مَعَه بأَشْيَاء فِي أَمر مصر وَأمره بالاستعداد وَكَانَ نور الدّين قد أزاح عِلّة الْعَسْكَر الَّذِي يُرِيد يسيره إِلَى مصر فَخرج من يَوْمه
وَكَانَ شارو قد أطمع نور الدّين فِي أَمْوَال مصر ورغبه فِي ملكهَا وَأَنه إِذا ملكهَا كَانَ من قبله فِيهَا
وَلما بلغ شاور استتبابُ أَمر الْعَسْكَر سَأَلَ عَن الْمُقدم عَلَيْهِ فَقيل لَهُ أَسد الدّين شيركوه فَلم يطب لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ ظن أَن التقدمة تكون لَهُ فَلَمَّا زوحم بِهَذَا الْعود سُقط فِي يَده وفت فِي عضده وَلم يجد بدا من الْمسير فَخرج وَاجْتمعَ بأسد الدّين وسارا جَمِيعًا حَتَّى وصلوا أَطْرَاف الْبِلَاد المصرية ونزلوا على تل فِي الحوف قريب من بلبيس يعرف بتل بسطة وضربوا خيامهم هُنَاكَ(2/87)
وَلما اتَّصل بضرغام خبر وُرُود شاور وَأسد الدّين بالعساكر الشامية جمع أُمَرَاء مصر واستشارهم فَأَشَارَ شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار بِأَن تَجْتَمِع العساكر وَتخرج جَرِيدَة وتلقى العساكر الشامية بصدر وَهُوَ على يَوْمَيْنِ من الْقَاهِرَة فَإِنَّهُم لَا يثبتون لكَوْنهم خَرجُوا من الْبَريَّة ضعفاء ولمكان قلَّة المَاء عَلَيْهِم لِأَن الْمُسَافِر إِلَى مصر يحمل المَاء من أيْلة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَلم يرَوا ذَلِك واختاروا أَن يلقوهم على بلبيس فَأمر ضرغام الْأُمَرَاء بِالْخرُوجِ فَخَرجُوا فِي أحسن زِيّ وأكمل عدَّة والمقدَّم عَلَيْهِم نَاصِر الدّين ملهم أَخُو ضرغام وجاؤوا حَتَّى أحاطوا بِالتَّلِّ الَّذِي كَانَ أَسد الدّين نازلا عَلَيْهِ
وَلما عاين أَسد الدّين كَثْرَة العساكر وَأَنَّهُمْ قد ملكوا عَلَيْهِم الْجِهَات وسدوا منافذ الطرقات قَالَ لشاور يَا هَذَا لقد أرهقتنا وغررتنا وَقلت إِنَّه لَيْسَ بِمصْر عَسَاكِر فَجِئْنَا فِي هَذِه الشرذمة فَقَالَ لَهُ شاور لَا يهولنك مَا تشاهد من كَثْرَة الجموع فأكثرها الحاكة والفلاحون الَّذين يجمعهُمْ الطبل وتفرقهم الْعَصَا فَمَا ظَنك بهم إِذا حمى الْوَطِيس وكلبت الْحَرْب وَأما الْأُمَرَاء فَإِن كتبهمْ عِنْدِي وعهودهم معي وسترى ذَلِك إِذا لَقِينَاهُمْ ثمَّ قَالَ أُرِيد أَن تَأمر العساكر بالاستعداد وَالرُّكُوب فَفعل ونهاهم شاور عَن الْقِتَال
ووقف الْفَرِيقَانِ مصطفين من غير حَرْب إِلَى أَن حمى النَّهَار والتهب الْحَدِيد على أجساد الرِّجَال فَضرب أَكثر أهل مصر الخيم الصغار وخلعوا(2/88)
السِّلَاح ونزلوا عَن الْخُيُول وجلسوا فِي الظل فَأمر شاور النَّاس بالحملة فَكَانَ أسعد أهل مصر من ركب فرسه وَأطلق عنانه وَولى مُنْهَزِمًا وَتركُوا خيمهم وَأَمْوَالهمْ لَيْسَ لَهَا حَافظ فاحتوى علها أَصْحَاب أَسد الدّين وأُسر شمس الْخلَافَة وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء المصريين وَلم يُمكن شاور من تقييدهم وَالِاحْتِيَاط عَلَيْهِم فَهَرَبُوا وسَاق أَسد الدّين وشارو فِي أثر النَّاس ونزلوا على الْقَاهِرَة وقاتلوها أَيَّامًا وارسل شاورُ العاضد فِي إصْلَاح الْحَال وَأَن يَأْذَن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى الْقَاهِرَة فَأذن لَهُ وَكَانَ ضرغام صَار إِلَى تَحت الْقصر وَقَالَ أُرِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ يكلمني لأسأله عَمَّا أفعل فَلم يجبهُ أحد فَذهب على وَجهه مُنْهَزِمًا وَخرج من بَاب زويلة والعامة تلعنه وتصيح عَلَيْهِ فالتحقه رجل من أهل الشَّام ليَقْتُلهُ فَقَالَ لَهُ ضرغام أوصلني إِلَى أَسد الدّين وَلَك مناك فَلم يقبل مِنْهُ وَحمل عَلَيْهِ فطعنه فأراده وَنزل إِلَيْهِ واحتز رَأسه وَحمله إِلَى أَسد الدّين وأعلمه بِمَا جرى بَينهمَا فصعب على أَسد الدّين وأوجعه ضربا وَأَرَادَ قَتله فشفع فِيهِ شاور وَدخل شاور الْقَاهِرَة وَقتل ملهماً أَخا ضرغام عِنْد بركَة الْفِيل وَخرج ابْنه الْكَامِل من دَار ملهم وَكَانَ معتقلاً فِيهَا وَخرج مَعَه القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ أَيْضا معتقلا فِيهَا مَعَه
واستقام أَمر شاور فِي الوزارة وَأقَام أَسد الدّين على المقس ينْتَظر أَمر شاور فِيمَا ضمن لنُور الدّين وَأرْسل إِلَيْهِ يَقُول لَهُ قد طَال مقامنا فِي الخيم وَقد ضجر الْعَسْكَر من الْحر وَالْغُبَار فَأرْسل إِلَيْهِ شاور ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَقَالَ ترحل الْآن فِي أَمن الله تَعَالَى ودعته فَلَمَّا سمع أَسد الدّين(2/89)
ذَلِك أرسل إِلَيْهِ إِن نور الدّين أَوْصَانِي عِنْد انفصالي عَنهُ إِذا ملك شارو تكون مُقيما عِنْده وَيكون لَك ثلث مُغَلِّ الْبِلَاد وَالثلث الآخر لشاور وللعسكر وَالثلث الآخر لصَاحب الْقصر يصرفهُ فِي مَصَالِحه فَقَالَ شارو أَنا مَا قررت شَيْئا مِمَّا تَقول أَنا طلبت نجدة من نور الدّين فَإِذا انْقَضى شغلي عَادوا إِلَى الشَّام وَقد سيرت إِلَيْكُم نَفَقَة فخذوها وَانْصَرفُوا وَأَنا أنفصل مَعَ نور الدّين فَقَالَ أَسد الدّين أَنا لَا يمكنني مُخَالفَة نور الدّين وَلَا أقدر على الِانْصِرَاف إِلَّا بإمضاء أمره فَأمر شاور بإغلاق بَاب الْقَاهِرَة وَأخذ فِي الاستعدادللحصار واستعد أَسد الدّين أَيْضا وسيَّر صَلَاح الدّين فِي قِطْعَة من الْجَيْش إِلَى بلبيس لجمع الغلال والأتبان والأحطاب وَمَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ وَيكون جَمِيع ذَلِك فِي بلبيس ذخيرة وَأخذ فِي قتال الْقَاهِرَة
وَكَاتب شاور ملك الفرنج مُرِّي يستنجده وَيَقُول لَهُ إِن شيركوه طلع معي نجدةً على ضرغام فَلَمَّا حصلوا فِي الْبِلَاد طمعوا فِيهَا وَمَتى ملكوها مُضَافَة إِلَى بِلَاد الشَّام لم يكن لَك مَعَهم عَيْش وَلَا قَرَار وَضمن لَهُ فِي كل مرحلة يرحلها إِلَى ديارمصر ألف دِينَار وَقرر شَيْئا لقضيم دوابهم وشيئاً لاسبتاريته فَخرج مُرِّي من عسقلان فِي جموعه إِلَى فاقوس فِي سبع(2/90)
وَعشْرين مرحلة وَقبض عَنْهَا سَبْعَة وَعشْرين ألف دِينَار
وَلما تحقق أَسد الدّين قرب الفرنج من الْقَاهِرَة أجفل عَنْهَا إِلَى بلبيس وانضاف إِلَيْهِ من أَهلهَا الكنانَّية وَخرج شاور فِي عَسَاكِر مصر وَاجْتمعَ بالفرنج وَجَاء حَتَّى خيَّم على بلبيس وأحاط بهَا محاصراً لأسد الدّين يباكر الْحَرْب ويراوحها وَأَقَامُوا على ذَلِك مُدَّة ثَمَانِيَة أشهر
وانقطعت أَخْبَار مصر وَمن بهَا عَن نور الدّين وَكَانَ اتَّصل بِنور الدّين وَهُوَ بِدِمَشْق خبر مسير الفرنج إِلَى ديار مصر وغدر شاور فكاتب الْأَطْرَاف بقدوم العساكر فَقدم عَلَيْهِ عَسَاكِر الشرق جَمِيعهَا واجتمعوا بِأَرْض حلب فَنزل بهم مجد الدّين ابْن الدّاية وَكَانَ نَائِب نور الدّين بحلب وَسَار إِلَى جِهَة حارم وَنزل على أرتاح وَخرج نور الدّين من دمشق وَشن الْغَارة على السَّاحِل وَقتل وَأسر عَالما عَظِيما ثمَّ قصد جِهَة حلب وَجعل طَرِيقه حصن الأكراد فَلَمَّا حصل بأرضه شن الْغَارة فِيهَا وغنم غنيمَة عَظِيمَة وَنزل فِي مرجه فَخرج إِلَيْهِ الفرنج الْإِخْوَة من حصن الأكراد وهجموا عسكره وَقتلُوا جمَاعَة من الْمُسلمين وَكَانَ عَسْكَر نور الدّين غافلا فَلم يتماسك النَّاس وَسَارُوا على وُجُوههم
وَسَار نور الدّين إِلَى أَن اجْتمع بعساكره على أرتاح وَكَانَ أَخُوهُ نصْرَة الدّين مَعَ الفرنج فَلَمَّا عاين أَعْلَام نور الدّين لم يتماسك أَن حمل بِجَمِيعِ(2/91)
أَصْحَابه قَاصِدا أَخَاهُ نور الدّين فَلَمَّا قَرُب مِنْهُ نزل وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ فَلم يلْتَفت عَلَيْهِ فتم على وَجهه واصطف النَّاس للحرب فَحملت الفرنج فَكسرت الميسرة ثمَّ عَادَتْ فَوجدت راجلها جَمِيعه قد قتل وَالْخَيْل قد أطبقت عَلَيْهِم فنزلوا عَن الْخُيُول وألقوا أسلحتهم وأذعنوا بالأمان فَأخذُوا جَمِيعًا قبضا بِالْأَيْدِي
وَسَار إِلَى حارم فَفَتحهَا وَأَرَادَ النُّزُول على أنطاكية فَلم يتَمَكَّن لشغل قلبه بِمن فِي مصر من الْمُسلمين فانحرف قَاصِدا لدمشق وَنزل على بانياس فافتتحها وأغار على بلد طبرية وَجمع أَعْلَام الفرنج وشعافهم وَجعلهَا فِي عَيْبَة وَسلمهَا إِلَى نَجَّاب وَقَالَ لَهُ أُرِيد أَن تُعمل الْحِيلَة فِي الدُّخُول إِلَى بلبيس وتخبر أَسد الدّين بِمَا فتح الله على الْمُسلمين وتعطيه هَذِه الْأَعْلَام والشعاف وتأمره بنشرها على أسوار بلبيس فَإِن ذَلِك مِمَّا يفتُّ فِي أعضاد الْكفَّار وَيدخل الوهن عَلَيْهِم فَفعل ذَلِك فَلَمَّا رأى الفرنج الْأَعْلَام والشعاف قلقوا لذَلِك وخافوا على بِلَادهمْ وسألوا شاور الْإِذْن فِي الِانْفِصَال فانزعج شاور لذَلِك وَخَافَ من عَاقِبَة الْأَمر وسألهم التَّمُّهل أَيَّامًا وَجمع أمراءه للمشورة فأشاروا عَلَيْهِ بمصالحة أَسد الدّين وتكفل إتْمَام الصُّلْح لَهُ الْأَمِير شمس الْخلَافَة فأنفذه إِلَيْهِ فتم الصُّلْح على يَدَيْهِ على أَن يحمل شاور إِلَى أَسد الدّين ثَلَاثِينَ ألف دِينَار أُخْرَى(2/92)
وَحكي أَن شاور أرسل إِلَى أَسد الدّين وَهُوَ مَحْصُور ببلبيس يَقُول لَهُ اعْلَم أنني قد أبقيت عَلَيْك وَلم أمكن الفرنج مِنْك لأَنهم كَانُوا قَادِرين عَلَيْك وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك لأمرين أَحدهمَا أَنِّي مَا أخْتَار أَن أكسر جاه الْمُسلمين وأُقوي الفرنج عَلَيْهِم وَالثَّانِي أَنِّي خفت أَن الفرنج إِذا فتحُوا بلبيس طمعوا فِيهَا وَقَالُوا هَذِه لنا لأَنا فتحناها بسيوفنا وَمَا من يَوْم كَانَ يمْضِي إِلَّا وَأَنا وأنفذ إِلَى أكَابِر الفرنج الْجُمْلَة من المَال وأسألهم أَن يكسروا همة الْملك عَن الزَّحْف
قَالَ وَأقَام أَسد الدّين بِظَاهِر بلبيس ثَلَاثَة أَيَّام ورحلت الفرنج إِلَى جِهَة السَّاحِل وَسَار أَسد الدّين قَاصِدا الشَّام وَجعل مسيره على البرِّية
وَاتفقَ أَن الْبُرْنُس أرناط صَاحب الكَرَك والشَّوْبَك تَأَول ليمينه الَّتِي حَلفهَا لأسد الدّين وَقَالَ أَنا حَلَفت أَنِّي مَا ألحق أَسد الدّين وَلَا عسكره فِي الْبر وَأَنا أُرِيد ألحقهُ فِي الْبَحْر وَركب فِي الْبَحْر وَصَارَ فِي يَوْم وَاحِد إِلَى عسقلان وَخرج مِنْهَا إِلَى الكرك والشوبك وَجمع عسكره الْمُقِيم هُنَاكَ وَقعد مرتقباً خُرُوج أَسد الدّين من الْبَريَّة ليوقع بِهِ وَعلم أَسد الدّين بمكيدة أرناط بالحدس والتخمين فسلك طَرِيقا من خلف الْمَكَان الَّذِي كَانَ(2/93)
فِيهِ أرناط شقّ إِلَى الْغَوْر وَخرج من البلقاء وَسلمهُ الله تَعَالَى مِنْهُ وَدخل دمشق وَاجْتمعَ بِنور الدّين وَأخْبرهُ بالأحوال وأعلمه بِضعْف ديار مصر ورغبه فِيهَا وشوقه إِلَى ملكهَا فَرغب فِيهَا نور الدّين وَأمره بتجنيد الأجناد واستخدام الرِّجَال
وَأما شاور فَإِنَّهُ بعد رحيل أَسد الدّين والفرنج إِلَى بِلَادهمْ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَلم يكن لَهُ همة إِلَّا تتبع من علم أَن بَينه وَبَين أَسد الدّين معرفَة أَو صُحْبَة وَكَانَ استفسد جمَاعَة من عَسْكَر أَسد الدّين مِنْهُم خشترين الْكرْدِي وأقطعه شطنوف وَقتل شاور جمَاعَة من أهل مصر وشردّ آخَرين
ثمَّ توجه أَسد الدّين فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ قَاصِدا الديار المصرية وكتم أخباره فَمَا رَاع شاور إِلَّا وُرُود كتاب مري ملك الفرنج يعرفهُ فِيهِ أَن أَسد الدّين قد فصل عَن دمشق بعساكره قَاصِدا ديار مصر فَطلب شاور مِنْهُ إِعَادَة النجدة والمقرر من المَال يصل إِلَيْهِ على مَا(2/94)
كَانَ يصل إِلَيْهِ فِي الْعَام الْمَاضِي فَسَار مُرِّي فِي عَسَاكِر الفرنج إِلَى مصر على جَانب الْبَحْر وَكَانَ أَسد الدّين سائراً فِي الْبر فسبقه الفرنج ونزلوا على ظَاهر بلبيس وَخرج شاور بعساكر مصر وَاجْتمعَ بِالْملكِ وقعدوا جَمِيعًا فِي انْتِظَار أَسد الدّين
وَعلم أَسد الدّين باجتماع الفرنج بشاور على بلبيس فنكب عَن طريقهم وَأم الْجَبَل وَخرج على إطفيح وَهِي فِي الْجنُوب من مصر وَشن الْغَارة هُنَاكَ واتصل بشاور خَبره فَسَار فِي عساكره والفرنج فِي صحبته يقفو أَثَره واتصل بأسد الدّين ذَلِك فأندفع بَين أَيْديهم حَتَّى بلغ شرونة من صَعِيد مصر وتحيَّل فِي مراكب ركبهَا وعدى إِلَى الْبر الغربي وَلما اسْتكْمل تعديته أدْرك شاور بعض ساقته ومنقطعي عسكريته فأوقع بهم وأحضر شاور أَيْضا مراكب وَقطع النّيل فِي أثر أَسد الدّين بِجَمِيعِ جيوشه وجيوش الفرنج وَسَار أَسد الدّين إِلَى الجيزة وخيم بهَا مِقْدَار خمسين يَوْمًا واستمال قوما يُقَال لَهُم الْأَشْرَاف الجعفريين والطلحيين والقرشيين فأنفذ أَسد الدّين إِلَى شاور يَقُول لَهُ أَنا أَحْلف لَك بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَبِكُل يَمِين يَثِق بهَا الْمُسلم من أَخِيه أنني لَا أقيم بِبِلَاد مصر وَلَا أعاود إِلَيْهَا أبدا وَلَا أمكن أحدا من التَّعَرُّض إِلَيْهَا وَمن عارضك فِيهَا كنت مَعَك إلباً عَلَيْهِ وَمَا أؤمِّل مِنْك إِلَّا نصر الْإِسْلَام فَقَط وَهُوَ أَن هَذَا الْعَدو قد حَصَل بِهَذِهِ الْبِلَاد والنجدة عَنهُ بعيدَة وخلاصه(2/95)
عسير وَأُرِيد مِنْك أَن نَجْتَمِع أَنا وَأَنت عَلَيْهِ وننتهز فِيهِ الفرصة الَّتِي قد أمكنت وَالْغنيمَة الَّتِي قد أكتبت فنستأصل شأفته ونخمد نائرته وَمَا أَظن أَنه يعود يتَّفق لِلْإِسْلَامِ مثل هَذِه الْغَنِيمَة أبدا
فَلَمَّا صَار الرَّسُول إِلَى شاور وَأدّى إِلَيْهِ الرسَالَة أَمر بِهِ فَقتل وَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ الفرنج هَؤُلَاءِ الفرنج ثمَّ أعلم الفرنج بِمَا أرسل بِهِ إِلَيْهِ أَسد الدّين وأعلمهم بِمَا أَجَابَهُ وجدد لَهُم أيماناً وثقوا بهَا وَبلغ ذَلِك أَسد الدّين فَأكل يَدَيْهِ أسفا على مُخَالفَة شاور لَهُ فِي هَذَا الرَّأْي وَقَالَ لَعنه الله لَو أَطَاعَنِي لم يبْق بِالشَّام أحد من هَؤُلَاءِ الفرنج وَنزل شاور فِي اللوق والمقسم وَأمر بِعَمَل الجسر بَين الجيزة والجزيرة وَأمر بالمراكب فشحنت بِالرِّجَالِ وَأمرهمْ أَن يجيئوا من خلف عَسْكَر أَسد الدّين
وَلما رأى أَسد الدّين ذَلِك كتب إِلَى أهل الْإسْكَنْدَريَّة يستنجد بهم على شاور لأجل إِدْخَاله الفرنج إِلَى دَار الْإِسْلَام وتضييعه أَمْوَال بَيت مَال الْمُسلمين فيهم فَقَامُوا مَعَه وَأمرُوا عَلَيْهِم نجم الدّين بن مصال وَهُوَ ابْن أحد وزراء المصريين وَكَانَ لَجأ إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مستخفياً فَظهر فِي هَذِه الْفِتْنَة
حَدثنِي الإدريسي الشريف نزيل حلب قَالَ كنت بالإسكندرية يَوْمئِذٍ فَكتب معي ابْن مصال كتابا إِلَى أَسد الدّين وَقَالَ لي قل لَهُ إِنِّي(2/96)
أخْبرك أَن السِّلَاح وَاصل وَكَانَ أنفذ لأسد الدّين خزانَة من السِّلَاح قَالَ فَسَبَقتهَا بيومين وَحَضَرت بَين يَدي أَسد الدّين وأعطيته الْكتب وشافهته برسالة ابْن مصال فِي معنى السِّلَاح والآلات ثمَّ وصلت الخزانة بعد يَوْمَيْنِ مَعَ ابْن أُخْت الْفَقِيه ابْن عَوْف قَالَ وَبَقينَا على الجيزة يَوْمَيْنِ فوصل إِلَيْنَا رَسُول ابْن مدافع يخبر أَسد الدّين بِقرب شاور مِنْهُ ويأمره بالنجاة فَترك أَسد الدّين الْخيام والمطابخ وَمَا يثقل حمله وَسَار سيراً حثيثاً حَتَّى قَارب دَلَجْة فَأمر أَسد الدّين بنهبها فنهبت وَنزل النَّاس لتعشية الدَّوَابّ فَلم يستتم عليقها حَتَّى أَمر أَسد الدّين النَّاس بالرحيل وَأوقدت المشاعل لَيْلًا وسرنا فَإِذا الجاووش يُنَادي فِي النَّاس بِالرُّجُوعِ وَعَاد أَسد الدّين إِلَى دلجة فَنزل عَلَيْهَا وَنزل شاور على الأشمونين وَأمر أَسد الدّين النَّاس أَن يقفوا على تعبئة فَأَصْبحُوا على ذَلِك والتقوا فَقتل من أَصْحَاب أَسد الدّين جمَاعَة كَثِيرَة وانهزموا وَكَانَ أَسد الدّين قد فرق أَصْحَابه فريقين فريقاً مَعَه وفريقاً جعله مَعَ صَلَاح الدّين وأنفذه ليَأْتِي من خلف عَسْكَر شاور فَدخل الضعْف من هَذَا الطَّرِيق ثمَّ إِن أَصْحَاب أَسد الدّين تجمعُوا وتماسكوا وَعَلمُوا أَنه لَا منجى لَهُم إِلَّا الصَّبْر فتحالفوا على(2/97)
الْمَوْت وحملوا وطلع صَلَاح الدّين من ورائهم فَلم تزل الْحَرْب قَائِمَة إِلَى اللَّيْل فَوَلَّتْ عَسَاكِر الإفرنج والمصريين الإدبار وَكَاد مُرِّي ملك الإفرنج يؤسر وَصَارَ شاور وَمن سلم مَعَه إِلَى منية ابْن خصيب وَسَار أَسد الدّين على الفيوم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَدَخلَهَا وَنزل الْقصر وَجعل فِيهِ محبس الفرنج الَّذين أسرهم وَكَانَ فِيهَا ابْن الزبير مُتَوَلِّيًا ديوانها فَحمل إِلَى أَسد الدّين الْأَمْوَال وَقواهُ بِالسِّلَاحِ وَخَافَ أَسد الدّين أَن يَقْصِدهُ شاور والفرنج فيحصروه فَرُبمَا تأذى بالحصار فَأمر صَلَاح الدّين بالْمقَام بالإسكندرية وَترك عِنْده جمَاعَة من الْعَسْكَر وَمن بِهِ مرض أَو جراح أَو ضعف واستحلف لَهُ وُجُوه الْإسْكَنْدَريَّة وأوصاهم بِهِ ورحل فِي أقوياء عسكره قَاصِدا إِلَى الصَّعِيد وَنزل الفرنج وشاور على الْإسْكَنْدَريَّة وحاصروها مُدَّة ثَلَاثَة أشهر بأشد الْقِتَال وبذل أَهلهَا فِي نصْرَة الْملك النَّاصِر أَمْوَالهم وأنفسهم وَقتل مِنْهُم جمَاعَة عَظِيمَة
وَلما صَار أَسد الدّين بالصعيد حصَّل من تِلْكَ الْبِلَاد أَمْوَالًا عَظِيمَة وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى صَامَ شهر رَمَضَان واتصل بِهِ اشتداد الْأَمر على الْإسْكَنْدَريَّة فَرَحل من قوص إِلَى جِهَتهَا وَاتبعهُ جمَاعَة كَثِيرَة من العربان وَأهل تِلْكَ الْبِلَاد وَبلغ ذَلِك شاور فَرَحل هُوَ والفرنج واضطر إِلَى الصُّلْح وضجرت الفرنج أَيْضا فتوسط ملك الفرنج فِي ذَلِك فتقرر أَمر الصُّلْح على أَن شاور يحمل إِلَى أَسد الدّين جَمِيع مَا عزمه فِي هَذِه السفرة وَيُعْطِي الفرنج ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَيعود كل مِنْهُم إِلَى بِلَاده وَطلب صَلَاح(2/98)
الدّين من ملك الفرنج مراكب يحمل فِيهَا الضُّعَفَاء من أَصْحَابه فأنفذ لَهُ عدَّة مراكب
قَالَ الإدريسي كنت فِي جملَة من خرج فِي المراكب فَلَمَّا وصلنا إِلَى ميناء عكا أَخذنَا واعتقلنا فِي معصرة الْقصب إِلَى أَن وصل الْملك مُرِّي فأطلقنا فخرجنا إِلَى دمشق
وَخرج صَلَاح الدّين من الْإسْكَنْدَريَّة بعد أَن اسْتحْلف شاور لأَهْلهَا وَألا يعرض لَهُم بِسوء وَاجْتمعَ بِعَمِّهِ أَسد الدّين
ثمَّ أنفذ شاور وَقبض على ابْن مصال وَجَمَاعَة مِمَّن أعَان صَلَاح الدّين وضيق عَلَيْهِم وتتبع أهل الْإسْكَنْدَريَّة واتصل ذَلِك بصلاح الدّين فَاجْتمع بِملك الفرنج وَقَالَ لَهُ إِن شاور نقض الْأَيْمَان قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ لِأَنَّهُ قبض على من لَجأ إِلَيْنَا فَقَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وأنفذ إِلَى شاور وَقَالَ لَهُ إِن الْأَيْمَان جرت على أَلا تعرض لأحد من أهل مصر وَلَا أهل الْإسْكَنْدَريَّة وألزمه يَمِينا أُخْرَى فِي أَلا يعرض لأحد مِمَّن لَجأ إِلَى أَسد الدّين أَو صَلَاح الدّين
وَلما شَاهد من التجأ إِلَى الْأسد وَالصَّلَاح فَسَاد تِلْكَ الْأَحْوَال خَافُوا من شاور فَأخذُوا فِي الرحيل إِلَى الشَّام واتصل ذَلِك بشاور فَخرج بِنَفسِهِ وَجمع جَمِيع من عزم على الرحلة إِلَى الشَّام وَحلف لَهُم على الْإِحْسَان إِلَيْهِم وحماية أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَمنهمْ من سكن إِلَى أيمانه وَمِنْهُم من لم يسكن ورحل(2/99)
وألهم الله تَعَالَى أَسد الدّين أَن الفرنج رُبمَا خطر لَهُم فِي مصر خاطر فقصدتها فراسل الْملك مري وَقَالَ لَهُ قد سَأَلَ أهل مصر يَمِين الْملك أَلا يدْخل إِلَيْهِم وَلَا يتَعَرَّض لَهُم فَامْتنعَ الْملك ثمَّ أجَاب خوفًا أَن يتَحَقَّق أَسد الدّين وشاور أَنه رُبمَا قصد ديار مصر فَرُبمَا اجْتمعَا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من الْيَمين فَحلف وَحلف أَصْحَابه وَخرج أَسد الدّين من مصر وَفِي قلبه الدَّاء الدوي مِنْهَا لِأَنَّهُ شَاهدهَا وَشَاهد مُغَلاّتها فَوَجَدَهَا أمرا عَظِيما فَأخذ نور الدّين فِي تهوين أَمر مصر عَلَيْهِ وأقطعه حمص وأعمالها
وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي غير وَاحِد أَن شاور كَاتب نور الدّين فِي ذَلِك وَضمن لَهُ أَن يحمل فِي كل سنة عَن ديار مصر مَالا مصانعة
وَلما بلغ شاور أَن نور الدّين صرف همة أَسد الدّين عَن ذكر مصر والتعرض لَهَا أنفذ رَسُولا بهدية سنية وأصحبه كتابا حسنا أَوله ورد كتاب استدعى شكري وحمدي واستخلص من الصفاء مَا عِنْدِي واستفرغ فِي الثَّنَاء على مرسله جهدي فَكَأَنَّمَا استملت مَعَانِيه مِمَّا عِنْدِي واشتملت على حقائق قصدي وسررت لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَالدّين الَّذِي وعد الله أَن يظهره على الدّين كُله بِأَن يكون مثله ملكا من ملوكه يُرجع إِلَيْهِ فِي عقده وحله وتشير الْأَصَابِع وتعقد الخناصر على علو مَحَله وَالله يزِيدهُ بمكانه تثبيتاً وَقُوَّة ويحقق على يَدَيْهِ مخايل النَّصْر المرجوة فَمَا أسعد(2/100)
رَأْسا دلّ على نصْرَة الْكَلِمَة ودعا إِلَى سَبِيل الفئة الْمسلمَة ووفر على مصَالح الْأمة قُلُوب رعاياها المنقسمة وَأَنا متمم من هَذَا الْأَمر مَا صدر مني وباق مِنْهُ على مَا نقل عني لَا أتغير عَن الْمصلحَة فِيهِ وَلَا يُخَالف مَا أظهره مِنْهُ لما أخفيه وَلَا أسْتَكْثر كثيرا أصل إِلَيْهِ وأتوصل بِهِ لما سبق للْملك الْعَادِل من حُقُوق اسْتوْجبَ شكرها قولا وفعلا ونصرة كَانَت فِي هجير الخطوب بردا وظلا وأنعم لَا تزَال آياتها بألسُن الْحَمد تتلى وتملى ولعمري لقد بني بهَا فخراً وارتفع على الْأَمْلَاك قدرا وذكرا وَوَجَب أَن يستتمها فَلَا يصل إِلَى مواردها الكدر ويحوطها فَلَا تتطرق إِلَى جوانبها الْغَيْر ووراء هَذِه الْمُكَاتبَة من اهتمامي مَا لَا يعوقه عائق إِلَّا انتظام العقد على الْأُمُور المألوفة وَتَمام التوثقة بِالْيَمِينِ المنصوصة الموصوفة مَعَ أَن قَوْله كيمينه وَكتابه كصفحة يَمِينه والثقة بِهِ وَاقعَة على كل حَال والمحبة لَهُ توجب الاحتراس على الوداد من تطرق أَسبَاب الاختلال
قَالَ وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ طمع مري ملك الفرنج فِي مصر وعول على الدُّخُول إلهيا والاستيلاء عَلَيْهَا وَذَلِكَ لما أنكشف لَهُ من عوارها وَظهر لَهُ من ضعف من بَقِي فِيهَا فَجمع إِلَيْهِ مُلُوك الفرنج وكبراء الداوية والاسبتارية وَتَشَاوَرُوا فجرت بَينهم فِي ذَلِك خطوب ثمَّ أجابوه إِلَى الْخُرُوج مَعَه إِلَى الديار المصرية فأحضر وزيره وَأمره بإقطاع بِلَاد مصرلخيالته وَفرق قراها على أجناده وَكَانَ لَعنه الله لما دخل ديار مصر قد أَقَامَ من أَصْحَابه من كتب لَهُ أَسمَاء قرى مصر جَمِيعهَا وتعرف لَهُ خبر ارتفاعها ثمَّ سَار حَتَّى نزل الداروم فَقَامَتْ قِيَامَة شاور لما بلغه الْخَبَر(2/101)
وانتخب أَمِيرا من أمرائه يُقَال لَهُ بدران وسيره إِلَى لِقَاء مري يسْأَله عَن السَّبَب فِي قَصده فَاجْتمع بِهِ وَسَأَلَهُ فَتَلَكَّأَ عَلَيْهِ ثمَّ استلان جَانِبه وَضمن لَهُ رضيخة على أَن يوري عَنْهُم وَلَا يكْشف لشاور حَالهم وَيُقَال إِن الْملك أقطعه ثَلَاث عشرَة قَرْيَة على أَن يتمم على المصريين الْحِيلَة وَيعلم شاور أَنه إِنَّمَا قصد مصر للْخدمَة فَفعل ذَلِك بدران
وَلما سمع ذَلِك شاور أشْفق مِنْهُ وأحضر الْأَمِير شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار وَقَالَ لَهُ كَأَن بدران قد غشني وَلم ينصحني وَأَنا فواثق بك فَأُرِيد تخرج وَتكشف لي حَال الفرنج فَسَار شمس الْخلَافَة إِلَى مُري وَكَانَ بَينهمَا مؤانسة فَلَمَّا دخل على الْملك قَالَ لَهُ مرْحَبًا بشمس الْخلَافَة فَقَالَ مرْحَبًا بِالْملكِ الغدار وَإِلَّا مَا الَّذِي أقدمك إِلَيْنَا قَالَ اتَّصل بِي أَن الْفَقِيه عِيسَى يُزَوّج أُخْت الْكَامِل بن شاور من صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ويزوج الْكَامِل أُخْت صَلَاح الدّين فَقُلْنَا هَذَا عمل علينا فَقَالَ لَهُ شمس الْخلَافَة لَيْسَ لهَذَا صِحَة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن فِيهِ نقض للْعهد فَقَالَ لَهُ الْملك الصَّحِيح أَن قوما من وَرَاء الْبَحْر انْتَهوا إِلَيْنَا وغلبونا على رَأينَا وَخَرجُوا طامعين فِي بِلَادكُمْ فخفنا من ذَلِك فخرجنا لنتوسط الْأَمر بَيْنكُم وَبينهمْ فَقَالَ شمس الْخلَافَة فَأَي شَيْء قد طلبُوا قَالَ(2/102)
ألفي ألف دِينَار فَقَالَ مَكَانكُمْ حَتَّى أصل إِلَى شاور وأبلغه مقالكم وأعود بِالْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ ملك الفرنج فَنحْن ننزل على بلبيس إِلَى أَن تعود
قَالَ وَحكى أَن ملك الفرنج لما وصل إِلَى الدراوم كتب إِلَى شاور يَقُول لَهُ إِنِّي قد قصدت الْخدمَة على مَا قَرّرته لي من الْعَطاء فِي كل عَام فَأَجَابَهُ شاور إِن الَّذِي قَرّرته لَك إِنَّمَا جعلته مَتى احتجت إِلَيْك أَو إِذا قدم عليّ عَدو فَأَما مَعَ خلو بالي من الْأَعْدَاء فَلَا حَاجَة بِي إِلَيْك وَلَا لَك عِنْدِي مُقَرر فَأَجَابَهُ مري أَنه لابد من حضوري وأخذي الْمُقَرّر فَعلم شاور أَنه قد غدر بالعهد وَنقض الْأَيْمَان وَأَنه قد طمع فِي الْبِلَاد فَأخذ فِي تجنيد الأجناد وحشد العساكر إِلَى الْقَاهِرَة وأنفذ إِلَّا بلبيس قِطْعَة من الْجَيْش وميرة وعُدة
ثمَّ إِن ملك الفرنج سَار خلف رَسُول شاور لايلوي على قَول حَتَّى خيم على بلبيس فِي صفر وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من المصريين مِنْهُم علم الْملك بن النّحاس وَابْن الْخياط يحيى وَابْن قرجلة وَأرْسل إِلَى ابْن طي بن شاور وَكَانَ ببلبيس وَقَالَ لَهُ أَيْن ننزل قَالَ على أسنة الرماح وَقَالَ لَهُ أتحسب أَن بلبيس جبنة تأكلها فَأرْسل إِلَيْهِ مري نعم هِيَ جبنة والقاهرة زبدة ثمَّ قَاتل بلبيس لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى افتتحها بِالسَّيْفِ وَقتل(2/103)
من أَهلهَا خلقا عَظِيما وَخرب أَكْثَرهَا وَحرق جُلَّ آدرها ثمَّ أخرج الْأُسَارَى إِلَى ظَاهر الْبَلَد وحشروا فِي مَكَان وَاحِد وَحمل فِي وَسطهمْ برمحه ففرقهم فرْقَتَيْن فَأخذ الْفرْقَة الَّتِي كَانَت عَن يَمِينه لنَفسِهِ وَأطلق الْفرْقَة الَّتِي كَانَت عَن يسَاره لعسكره وَقَالَ لفرقته قد أطلقتكم شكرا لله تَعَالَى على مَا أولاني من فتح بِلَاد مصر فَإِنِّي قد ملكتها بِلَا شكّ ووقف إِلَى أَن عدى أَكْثَرهم النّيل إِلَى جِهَة منية حمل وَأخذ الْعَسْكَر نصِيبهم من الْأُسَارَى فاقتسموهم وَبَقِي أهل بلبيس الَّذين أَسرُّوا أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة فِي أسر الفرنج وَهلك أَكْثَرهم فِي أَيْديهم وأفلت مِنْهُم الْيَسِير لِأَن الْملك النَّاصِر رَحمَه الله تَعَالَى لما ملك ديار مصر وقف مُغَلَّ بلبيس على كثرته على فكاك الأسرى مِنْهُم وسامح أهل بلبيس بخراجهم إِلَى آخر أَيَّامه
وَلما أتصل بشاور مَا جرى على أهل بلبيس من الْقَتْل والأسر وَأَن الفرنج شحنوها بِالرِّجَالِ والعُدد وجعلوها لَهُم ظهرا أشْفق من ذَلِك وَطلب الْإِذْن على العاضد فَلَمَّا اجْتمع بِهِ بكي بَين يَدَيْهِ وَقَالَ اعْلَم أَن الْبِلَاد قد ملكت علينا وَلم يبْق إِلَّا أَن تكْتب إِلَى نور الدّين وتشرح لَهُ مَا جرى وتطلب نصرته ومعونته فَكتب جَمِيع ذَلِك وَأرْسل شاور طيَّ تِلْكَ الْكتب كتبا وسخم أعاليها بالمداد
قَالَ وحَدثني شمس الْخلَافَة مُوسَى بن شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار قَالَ إِنَّمَا كتب هَذَا الْكتاب بِرَأْي أبي شمس الْخلَافَة لِأَنَّهُ لما رَجَعَ من عِنْد مرِّي لَعنه الله بعد أَخذ بلبيس اجْتمع بالكامل بن شاور وَقَالَ لَهُ عِنْدِي أَمر لَا يمكنني أَن أفضي بِهِ إِلَيْك إِلَّا بعد أَن تحلف لي أَنَّك لَا(2/104)
تطلع أَبَاك عَلَيْهِ فَلَمَّا حلف لَهُ قَالَ إِن أَبَاك قد وطَّن نَفسه على المصابرة وَآخر أمره يسلم الْبِلَاد إِلَى الفرنج وَلَا يُكَاتب نور الدّين وَهَذَا عين الْفساد فاصعد أَنْت إِلَى العاضد وألزمه أَن يكْتب إِلَى نور الدّين فَلَيْسَ لهَذَا الْأَمر غيرَة فَصَعدَ الْكَامِل وَكتب الْكتاب فَلَمَّا وصل إِلَى نور الدّين انزعج انزعاجاً عَظِيما وأنفذ أَسد الدّين وَكَانَ ذَلِك من مُناه وَأرْسل الْفَقِيه عِيسَى الهكاري إِلَى مصربرسالة ظَاهِرَة إِلَى شاور يُعلمهُ أَن العساكر واصلة وبرسالة سَرِيَّة إِلَى العاضد وَأمره أَن يستحلفه على أَشْيَاء عيَّنها وَأَن يكتم ذَلِك من شاور
وَأما الفرنج فَسَارُوا إِلَى جِهَة مصر وَأمر شاور بإحراق مصر وأنذر أَهلهَا فَخرج النَّاس مِنْهَا على وُجُوههم وهجُوا فِي بِلَاد مصر وَبلغ أُجْرَة الْجمل إِلَى الْقَاهِرَة ثَلَاثِينَ دِينَارا وَترك النَّاس أَكثر أَمْوَالهم فنهبت وأحرقت مصر فِي تَاسِع صفر وأقامت النَّار تعْمل فبها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا
ثمَّ إِن الفرنج لعنهم الله نزلُوا فِي بركَة الْحَبَش وانبثت خيولهم فِي الْأَطْرَاف وتخطفوا من ظفروا بِهِ فأنفذ شاور شمس الْخلَافَة إِلَى مرِّي لَعنه الله فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ سَأَلَهُ أَن يخرج مَعَه إِلَى بَاب الْخَيْمَة(2/105)
فَفعل فَأرَاهُ شمس الْخلَافَة جِهَة مصر وَقَالَ لَهُ أَتَرَى دخاناً فِي السَّمَاء قَالَ نعم قَالَ هَذَا دُخان مصر وَمَا أَتَيْتُك إِلَّا وَقد أحرقت بِعشْرين ألف قَارُورَة نفط وَفرقت فِيهَا عشرَة آلَاف مشعل وَمَا بَقِي فِيهَا مَا يؤمل بَقَاؤُهُ ونفعه فخلَّ الْآن عَنْك مدافعتي ومخاتلتي وكوني كلما قلت لَك انْزِلْ فِي مَكَان تعديت إِلَى غَيره وَمَا بَقِي لَك إِلَّا أَن تنزل بِالْقَاهِرَةِ فَقَالَ هُوَ كَمَا تَقول وَلَا بُد من نزُول الْقَاهِرَة وَمَعِي فرنج من وَرَاء الْبَحْر قد طمعوا فِي أَخذهَا ثمَّ رَحل فَنزل على الْقَاهِرَة مِمَّا يَلِي بَاب البرقية نزولاً قَارب بِهِ الْبَلَد حَتَّى صَارَت سِهَام الجرخ تقع فِي خيمه فَقَاتلُوا الْبَلَد أَيَّامًا
فَلَمَّا تَيَقّن شاور الضعْف عدل إِلَى طَرِيق المخادعة والمخاتلة والمغاورة والمدافعة إِلَى أَن تصل عَسَاكِر الشَّام فأنفذ شمس الْخلَافَة إِلَى مري لَعنه الله تَعَالَى برسالة طَوِيلَة فتل بهَا فِي غاربه وَدَار من حواليه وَفِي ضمنهَا إِن هَذَا بلد عَظِيم كَبِير وَفِيه خلق كثير وَلَا يُمكن تَسْلِيمه أَلْبَتَّة وَلَا أَخذه إِلَّا بعد أَن يقتل من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم وَمَا تعلم أَنْت وَلَا أَنا لمن الدائرة والرأي أَن تحقن دِمَاء أَصْحَابك وَدِمَاء أَصْحَابِي وتحصِّل(2/106)
شَيْئا أدفعه لَك فَيحصل لَك عفوا فاستقرت الْمُصَالحَة على أَربع مئة ألف دِينَار وَقيل ألفي ألف دِينَار يعجعل لَهُ مِنْهَا مئة ألف دِينَار فَأجَاب مري إِلَى ذَلِك وانعقدت الْهُدْنَة وَحلف مري ورحل إِلَى بركَة الْحَبَش وَحمل شاور إِلَيْهِ مئة ألف دِينَار فِي عدَّة دفعات سوّف فِيهَا الْأَوْقَات ثمَّ أَخذ يمطله فِي الْبَاقِي انتظاراً لقدوم العساكر ويوهم أَنه يجمع لَهُم الْأَمْوَال فَلم يشْعر الفرنج إِلَّا بهجوم عَسْكَر الشَّام عَلَيْهِم فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رحلوا إِلَى بلبيس وَنزل أَسد الدّين بالمقس ثمَّ رَحل ملك الفرنج وَنزل على فاقوس وَاتبعهُ أَسد الدّين وَنزل على بلبيس
وَكَانَ لما اتَّصل بشاور وُصُول أَسد الدّين إِلَى صَدْر أنفذ شمس الْخلَافَة إِلَى ملك الفرنج يستطلق لَهُ مِنْهُ بعض المَال فَصَارَ إِلَيْهِ وَاجْتمعَ بِهِ وَقَالَ قد قل علينا المَال فَقَالَ ملك الإفرنج اطلب مِنْهُ مَا شِئْت قَالَ أشتهي أَن تهب لي النّصْف قَالَ قد فعلت فَقَالَ شمس الْخلَافَة مَا بَلغنِي أَن ملكا فِي مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هَذِه الْهِبَة لقوم هم فِي مثل حَالنَا فَقَالَ ملك الإفرنج أَنا أعلم أَنَّك رجل عَاقل وَأَن شاور ملك وأنكما مَا سألتماني أَن أهبكما هَذَا المَال الْعَظِيم إلاَّ لأمر قد حدث فَقَالَ لَهُ صدقت هَذَا أَسد الدّين قد وصل إِلَى صدر نُصرة لنا وَمَا بَقِي لَك(2/107)
مقَام وشاور يَقُول لَك أرى أَن ترحل وَنحن باقون على الْهُدْنَة فَإِنَّهُ أوفق لَك وَلنَا وَإِذا حصل هَذَا الرجل عندنَا أرضيناه من هَذَا المَال بِشَيْء وحملنا الْبَاقِي إِلَيْك مَتى قَدرنَا وَإِن نَحن أخرجنَا فِي رضاهم أَكثر من هَذَا المَال عدنا عَلَيْك بِمَا يبْقى علينا من الْمِقْدَار فَقَالَ ملك الفرنج أَنا راضٍ بذلك وَإِن بَقِي عَليّ شَيْء حَملته إِلَيْكُم وعول على الرحيل فَقَالَ لَهُ بعد أَن تطلق ابْن طي بن شاور وَجَمِيع من فِي عسكرك من الْأُسَارَى وَلَا تَأْخُذ من بلبيس بعد انصرافك شَيْئا فَأَجَابَهُ إِلَى جَمِيع ذَلِك
وَلما رحلت الفرنج عَن الْقَاهِرَة نزل أَسد الدّين بِأَرْض يُقَال لَهَا اللوق وَأخرج إِلَيْهِ شاور الإقامات الْحَسَنَة والخدم الْكَثِيرَة وَلما اجْتمعَا قَالَ شاور لاسد الدّين قد رَأَيْت من الرَّأْي أَن أخرج أَنا وَأَنت وندرك الفرنج ونوقع بهم فَقَالَ أَسد الدّين هَذَا كَانَ رَأْيِي والفرنج على الْبر الغربي وَلَيْسَ لَهُم وزر وَأما الْآن فَلَا لأَنهم على الْبر الْمُتَّصِل ببلادهم وَنحن فقد خرجنَا من الْبر فِي أَسْوَأ حَال من الضعْف والتعب وَقد كفانا الله شرهم وَنحن إِلَى الرَّاحَة والاستجمام أحْوج
وَلما نزل أَسد الدّين باللوق أرسل إِلَيْهِ العاضد هَدِيَّة عَظِيمَة وخلعاً كَثِيرَة وَأخرج إِلَى خدمته أكَابِر أَصْحَابه ثمَّ إِنَّه خرج إِلَيْهِ فِي اللَّيْل سرا متنكراً وَاجْتمعَ بِهِ فِي خيمته وأفضى إِلَيْهِ بِأُمُور كَثِيرَة مِنْهَا قتل شاور ثمَّ عَاد إِلَى قصره وَكَانَ شاور قد رأى لَيْلَة نزل أَسد الدّين على الْقَاهِرَة(2/108)
كَأَنَّهُ دخل دَار الوزارة فَوجدَ على سَرِير ملكه رجلا وَبَين يَدَيْهِ دَوَاة الوزارة وَهُوَ يُوقع مِنْهَا بأقلامه فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل هَذَا مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلما حصل أَسد الدّين بالديار المصرية وانفصل عَنْهَا الفرنج أمنت الْبِلَاد وتراجع النَّاس إِلَى بُيُوتهم وَأخذُوا فِي إصْلَاح مَا شعثه الفرنج وأفسدوه وتقاطر النَّاس إِلَى خدمَة أَسد الدّين فَتَلقاهُمْ بالرحب وَالسعَة وَأحسن إِلَيْهِم
وَأما شاور فَإِنَّهُ أَخذ فِي التودُّد إِلَى أَسد الدّين والتقرب إِلَى قلبه بِجَمِيعِ مَا وجد السَّبِيل إِلَيْهِ وَأقَام لَهُ ولعسكره الْميرَة الْكَثِيرَة والنفقات الغزيرة حَتَّى استحوذ على قلبه وَنوى تبقيته فِي ملكه وَصفا لَهُ قلبه حَتَّى أنفذ إِلَيْهِ سرا احرس نَفسك من عَسَاكِر الشَّام
واما عَسْكَر الشَّام فانهم لما رَأَوْا طيب بِلَاد مصر وَكَثْرَة خَيرهَا وسعة أموالها تاقت أنفسهم الى الاقامة بهَا واختاروا سكناهَا وَرَغبُوا فِيهَا رَغْبَة عَظِيمَة فقوي طمع أَسد الدّين فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا والاستبداد بملكها ثمَّ علم أَنه لَا يتم لَهُ ذَلِك وشاور باقٍ فِيهَا فَأخذ فِي اعمال الْحِيلَة عَلَيْهِ وَكَانَ العاضد قد تقدم اليه بقتْله فَجمع اصحابه وشاورهم فِي امْر شاور وَقَالَ لَهُم قد علمْتُم رغبتي فِي هَذِه الْبِلَاد ومحبتي لَهَا وحرصي عَلَيْهَا لَا سِيمَا وَقد تحققت ان عِنْد الفرنج مِنْهَا مَا عِنْدِي وَعلمت انهم قد كشفوا(2/109)
عورتها وَعَلمُوا مسالك رقعتها وتيقنت اني مَتى خرجت مِنْهَا عَادوا اليها واحتَووُا عَلَيْهَا وَهِي مُعظم دَار الاسلام وحلوبة بَيت مَالهم وَقد قوى عِنْدِي ان اثب عَلَيْهَا قبل وثوبهم واملكها قبل مملكتهم واتخلص من شاور الَّذِي يلْعَب بِنَا وبهم ويغرنا ويغرهم وَيضْرب بَيْننَا وَبينهمْ وَقد ضيع اموال هَذِه الْبِلَاد فِي غير وَجههَا وقًّوى بهَا الفرنج علينا وَمَا كل وَقت ندرك الفرنج ونسبقهم الى هَذِه الْبِلَاد الَّتِي قد قل رجالها وَهَلَكت ابطالها فتنخلت الاراء بَين الامراء انه لَا يتم لَهُم امْر الا بعد الْقَبْض على شاور وَتَفَرَّقُوا على إِيقَاع الْقَبْض بِهِ
وَكَانَ شاور يركب فِي الأبهة العظمية وَالْجَلالَة الجسيمة وَالْعدة الْحَسَنَة والالة الجميلة على عَادَتهم الاولى وَكَانَ من جملَة قواعدهم ان الْوَزير اذا ركب حمل فِي موكبه الطبل والبوق وَكَانَ شاور قَلِيل الرّكُوب فَجعل الْأُمَرَاء يترصدونه وَرَاء اسد الدّين قبل قبض شاور بليلة كَأَن شاور دَاخل إِلَيْهِ إِلَى دَاره وناوله سَيْفه وعمامته فتأوله اسد الدّين بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَأخذ منصبه
ثمَّ إِن شاور ركب يَوْمًا فِي ابهته وجلالته فَلَمَّا عاينه الْأُمَرَاء هابوه وأحجموا عَنهُ وَكَانَ يَوْمًا عَظِيم الضباب وَكَانَ خُرُوج شاور من بَاب القنطرة للسلام على اسد الدّين فَتقدم صَلَاح الدّين فَسلم عَلَيْهِ وَدخل فِي موكبه ثمَّ سايره ثمَّ مد يَده الى تلابيبه وَصَاح عَلَيْهِ فرجًّله وَلما رأى(2/110)
ذَلِك عَسْكَر الشَّام قويت عزماتهم ووقعوا فِي عَسْكَر شاور فنهبوا مَا كَانَ مَعَ رِجَاله وَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وَحمل الْملك النَّاصِر شاور رَاجِلا الى خيمة لَطِيفَة واراد قَتله فَلم يُمكنهُ قَتله دون مُشَاورَة اسد الدّين وَفِي الْحَال ورد على اسد الدّين توقيع من العاضد على يَد خَادِم يَأْمُرهُ فِيهِ بقتل شاور فأنفذ التوقيع الى صَلَاح الدّين فَقتله فِي الْحَال وانفذ رَأسه الى الْقصر وَبلغ الْكَامِل بن شاور قتل ابيه فهرب الى الْقصر وخلع العاضد على اسد الدّين وقلده الوزارة وأنفذ إِلَيْهِ طبق فضَّة فِيهِ رَأس الْكَامِل بن شاور ورؤوس اولاد اخوته
وَلما خرج منشور الوزارة الى اسد الدّين امْر بقرَاءَته على رُؤُوس الاشهاد وَفَرح بِهِ غَايَة الْفَرح واعيدت قِرَاءَته عَلَيْهِ عدَّة دفعات اسْتِحْسَانًا لمعانيه واستظرافا لما اودع من بَدَائِع الْكَلَام فِيهِ
قَالَ وَلما اتَّصل بِنور الدّين فتح الديار المصرية فَرح بذلك فَرحا شَدِيدا وواصل الْحَمد وَالثنَاء على الله تَعَالَى اذ كَانَ فِي زَمَنه وعَلى يَده وامر بِضَرْب البشائر فِي جَمِيع ولَايَته وتزيين جَمِيع بِلَاده وَجلسَ للهناء بذلك وانشده الشُّعَرَاء فِي فتحهَا عدَّة اشعار غير انه لما اتَّصل بِهِ ان اسد الدّين وزر للعاضد واستبد بالامر فِي ذَلِك الصقع امضه ذَلِك واقلقه وَظَهَرت فِي مخايل قسماته وفلتات كَلِمَاته الْكَرَاهِيَة واخذ فِي الفكرة فِي امْرَهْ وسهر لَهُ ليَالِي وأفضى بسره إِلَى مجد الدّين ابْن الداية حَدثنِي جمَاعَة عَن شمس الدّين على ابْن الداية اخي مجد الدّين وحَدثني الْمُوفق(2/111)
مَحْمُود بن النّحاس الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْحلَبِي وَقد جرى ذكر فتح مصر وان نور الدّين ابتهج بِهِ فَقَالَ وَالله مَا ابتهج بِهِ وَلَقَد كَانَ وده الا يفتح والا يصير اسد الدّين وَصَلَاح الدّين الى مَا صَارا اليه وَلَقَد ظَهرت الْكَرَاهِيَة مِنْهُ لذَلِك فِي الفاظه وَوَجهه وَلَقَد اعْمَلْ الْحِيلَة فِي افساد امْر اسد الدّين وَصَلَاح الدّين فَمَا تهَيَّأ لَهُ لَا سِيمَا يَوْم بلغه حُصُول صَلَاح الدّين على خَزَائِن مصر فَأَنَّهُ اقام ثَلَاثَة ايام لَا يقدر اُحْدُ ان يرَاهُ واهتم لذَلِك حَتَّى افضى عَلَيْهِ الْهم وَلَو لم يكن الْفَتْح اليه مَنْسُوبا وَعَلِيهِ فَضله محسوبا لما صَبر على مَا جرى وَلَا اغضى للْملك النَّاصِر على القذى وَلَقَد كَاتب العاضد عدَّة دفعات فِي امْر الْأسد وَالصَّلَاح فَلم يحصل لَهُ فيهمَا نجاح وَكَثِيرًا مَا يُوجد فِي كتب نور الدّين الى العاضد التَّعْرِيض بانفاذ اسد الدّين وَلَو(2/112)
امكنه المجاهرة بالْقَوْل لقَالَ
فَمن بعض مكاتباته وَقد افْتقر العَبْد الى بعثته واعوز عسكره يُمن نقيبته وَاشْتَدَّ حزب الضلال على الْمُسلمين لغيبته لانه مَا يزَال يَرْمِي شياطين الضلال بشهابه الثاقب ويصمي مقيل الشّرك بسهمه النَّافِذ الصائب
قلت لَعَلَّ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى انما اقلقه من ذَلِك كَون اسد الدّين وزر للعاضد فخاف من ميله الى الْقَوْم والى مَذْهَبهم وان يفْسد جنده عَلَيْهِ بذلك السَّبَب هَذَا ان صَحَّ مَا نَقله ابْن ابي طي وَالله اعْلَم
قَالَ وَكَانَ اسد الدّين لما ولي الوزارة لم يُغير على اُحْدُ شَيْئا واجرى اصحاب مصر على قواعدهم وامورهم الى ان انْقَضتْ ايامه وفنيت أعوامه
وَكَانَ قرما يحب أكل اللَّحْم ويواظب عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فتواترت عَلَيْهِ التخم واتصلت بِهِ مرضاته الى ان ظَهرت بحلقه خوانيق كَانَ فِيهَا تلافه وَيُقَال انه اكل فِي ذَلِك الْيَوْم مضيرة وَدخل الْحمام فَلَمَّا خرج مِنْهَا اصابه الخناق(2/113)
قَالَ وَكَانَ شجاعا بارعا قَوِيا جلدا فِي ذَات الله شَدِيدا على الْكفَّار وطاته عَظِيمَة فِي ذَات الله صولته عفيفا دينا كثير الْخَيْر وَكَانَ يحب اهل الدّين وَالْعلم كثير الايثار حدبا على اهله واقاربه وَكَانَ فِيهِ امساك وَخلف مَالا كثيرا وَخلف من الْخَيل وَالدَّوَاب وَالْجمال شَيْئا كثيرا وَخلف جمَاعَة من الغلمان خمس مئة مَمْلُوك وهم الاسدية
وَهُوَ كَانَ مشيد قَوَاعِد الدولة الشاذية والمملكة الناصرية وَكَانَ ابْتِدَاء امْرَهْ يخْدم مَعَ صَاحب تكريت على اقطاع مبلغه تسع مئة دِينَار وتنقل الى ان ملك الديار المصرية وَعقد لَهُ العزاء بِالْقَاهِرَةِ ثَلَاثَة ايام
قلت وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الاسدية بالشرف القبلي ظَاهر دمشق وَهِي المطلة على الميدان الاخضر وَهِي على الطَّائِفَتَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والخانقاه الاسدية دَاخل بَاب الْجَابِيَة بدرب الهاشميين
قَالَ ابْن ابي طي وَسَاعَة وَفَاته وَقع الِاخْتِلَاف فِيمَن يولي الوزارة بَين الْعَسْكَر الشَّامي ومالت الاسدية الى صَلَاح الدّين وَفِي تِلْكَ السَّاعَة انفذ العاضد وَسَأَلَ عَمَّن يصلح للوزارة فأرشد من جمَاعَة من الامراء الى شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي خَال صَلَاح الدّين فأنفذ اليه واحضره وخاطبه فِي تولي الوزارة فأمتنع من ذَلِك واشار بِولَايَة الْملك النَّاصِر وَكَانَ الحارمي اولا قد رغب فِي الوزارة وتحدث فِيهَا وَحصل مَا يَحْتَاجهُ فَلَمَّا رأى مزاحمة عين الدولة الياروقي وَغَيره عَلَيْهَا خَافَ أَن يشْتَغل بطلبها فتفوته وَرُبمَا فَاتَت صَلَاح الدّين فَأَشَارَ بِهِ لانها اذا كَانَت فِي ابْن اخته كَانَت فِي(2/114)
بَيته
وَكَانَ صَلَاح الدّين قد وَقع من العاضد بموقع واعجبه عقله وسداد رَأْيه وشجاعته واقدامه على شاور فِي موكبه وانه قَتله حِين جائه امْرَهْ وَلم يتريث وَلَا توقف فسارع الى تَقْلِيده الوزارة وَمَا خرج شهَاب الدّين الحارمى من حَضْرَة العاضد الا وخلع الوزارة قد سبقت الى الْملك النَّاصِر
وَكَانَت خلعة الوزارة عِمَامَة بَيْضَاء تَنِّيسي بطرز ذهب وثوب دبيقي بطراز ذهب وجبة تحتهَا سقلاطون بطرازي ذهب وطيلسان دبيقي بطراز دَقِيق ذهب وَعقد جَوْهَر قِيمَته عشرَة الاف دِينَار وَسيف محلى بجوهر قِيمَته خَمْسَة الاف دِينَار وَفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتهَا ثَمَانِيَة الاف دِينَار لم يكن بالديار المصرية اسبق مِنْهَا وطوق وتخت وسرفسار ذهب مجوهر وَفِي رَقَبَة الْحجر مشدة بَيْضَاء وَفِي رَأسهَا(2/115)
مئتا حَبَّة جَوْهَر وَفِي ارْبَعْ قَوَائِم الْفرس ارْبَعْ عُقُود جَوْهَر وقصبة ذهب فِي رَأسهَا طلعة مجوهرة وَفِي رَأسهَا مشدة بَيْضَاء بأعلام ذهب وَمَعَ الخلعة عدَّة بقج وعدة من الْخَيل واشياء اخر ومنشور الوزارة ملفوف فِي ثوب اطلس ابيض
وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من جمادي الاخرة سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وقرىء المنشور بَين يَدي الْملك النَّاصِر يَوْم جُلُوسه فِي دَار الوزارة وَحضر جَمِيع ارباب الدولتين المصرية والشامية وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما
وخلع السُّلْطَان على جمَاعَة الامراء والكبراء ووجوه الْبَلَد وارباب دولة العاضد وعمَّ النَّاس جَمِيعهم بالهبات والصلات
وَلما اسْتَقَرَّتْ قدمه فِي الوزارة والرياسة قَامَ فِي الرّعية بشريعة السياسة ونظم بِحسن تَدْبيره من الدولة بددها وَجرى فِي مناهج الْعدْل على جددها وحَيُعَلَ الى جوده وفضله ونادى إِلَى رفده وبذله وَكَاتب الْأَطْرَاف بِمَا صَار إِلَيْهِ من السُّلْطَان وسر قُلُوب الأصدقاء والأحباب بِمَا حصل عَلَيْهِ من شرِيف الرُّتْبَة وَالْمَكَان واستدعى إِلَى حوزته الْأَصْحَاب والأهل وروى بسيح كرمه مَنْ بعد مِنْهُ وَقرب من أهل الْفضل وَتَابَ من الْخمر وَعدل(2/116)
عَن اللَّهْو وتيقظ للتدبير وسها عَن السَّهْو وتقمص بلباس الدّين وَحفظ ناموس الشَّرْع الْمُبين وشمر عَن سَاق الْجد وَالِاجْتِهَاد وأفاض على النَّاس من كرمه وَجُود جوده شآبيب فَضله النَّائِب عَن العهاد وَورد عَلَيْهِ القصاد وَالزُّوَّارِ وأُمَّ بنفائس الْخطب وجواهر الْأَشْعَار
حَدثنِي بعض الْأُمَرَاء قَالَ أقبل العاضد على السُّلْطَان الْملك النَّاصِر وأحبه محبَّة عَظِيمَة وَبلغ من محبته لَهُ أَنه كَانَ يدْخل إِلَيْهِ إِلَى الْقصر رَاكِبًا فَإِذا حصل عِنْده أَقَامَ مَعَه فِي قصره الْيَوْم وَالْعشرَة لايعلم أَيْن مقره
قَالَ وَلما استولى الْملك النَّاصِر على الوزارة وَمَال إِلَيْهِ العاضد وحكَّمه فِي مَاله وبلاده حسده من كَانَ مَعَه بالديار المصرية من الْأُمَرَاء الشامية كَابْن ياروق وجرديك وَجَمَاعَة من غلْمَان نور الدّين ثمَّ إِنَّهُم فارقوه وصاروا إِلَى الشَّام
وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي جمَاعَة من أَصْحَاب نور الدّين أَن نور الدّين لما اتَّصل بِهِ وَفَاة أَسد الدّين ووزارة صَلَاح الدّين وَمَا قد انْعَقَد لَهُ من الْمحبَّة فِي قُلُوب الرعايا أعظم ذَلِك وأكبره وتأفف مِنْهُ وَأنْكرهُ وَقَالَ كَيفَ أقدم صَلَاح الدّين أَن يفعل شَيْئا بِغَيْر أَمْرِي وَكتب فِي ذَلِك عدَّة كتب فَلم يلْتَفت الْملك النَّاصِر إِلَى قَوْله إِلَّا أَنه لم يخرج عَن طَاعَته وَأمره وَأَنه مَا فَارق قبُول رَأْيه وإشارته وَأمر نور الدّين من بِالشَّام من أهل صَلَاح الدّين وَأَصْحَابه بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ وَطلب مِنْهُ حِسَاب مصر وَمَا صَار إِلَيْهِ وَكَانَ كثيرا مَا يَقُول ملك ابْن أَيُّوب(2/117)
قلت هَذَا كُله مِمَّا تَقْتَضِيه الطباع البشرية والجبلة الْآدَمِيَّة وَقد أجْرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادة بذلك إِلَّا من عصم الله وَمن أنصف عذر وَمن عرف صَبر وَالَّذِي أنكرهُ نور الدّين إفراط صَلَاح الدّين فِي تَفْرِقَة الْأَمْوَال واستبداده بذلك من غير مشاورته هَذَا مَعَ أَن ابْن أبي طيّ مُتَّهم فِيمَا ينْسبهُ إِلَى نور الدّين مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ فَإِن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى كَانَ قد أذلّ الشِّيعَة بحلب وأبطل شعارهم وقوى أهل السّنة وَكَانَ وَالِد ابْن أبي طي من رُؤُوس الشِّيعَة فنفاه من حلب وَقد ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي طي فِي كِتَابه مفرقاً فِي مَوَاضِع فَلهَذَا هُوَ فِي هَذَا الْكتاب الَّذِي لَهُ كثير الْحمل على نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَلَا يُقبل مِنْهُ مَا ينْسبهُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَالله أعلم
قَالَ وَلما ملك الْملك النَّاصِر مصر انتزع نور الدّين حمص والترحبة من نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين وَفرق عماله وَأَعْطَاهُ تل بَاشر ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ وَلَقَد كَانَ يتألم لملك الْملك النَّاصِر وَيُقَال إِنَّه لما مرض قَالَ مَا أَخْطَأت إِلَّا فِي إنفاذي أَسد الدّين إِلَى مصر بعد علمي برغبته فِيهَا وَمَا يحزنني شَيْء كعلمي بِمَا ينَال أَهلِي من يُوسُف بن أَيُّوب ثمَّ الْتفت إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ إِذا أَنا مت فصيروا بِابْني إِسْمَاعِيل إِلَى حلب لِأَنَّهُ لَا يبقي عَلَيْهِ غَيرهَا
قَالَ ابْن أبي طي وَلَقَد كَانَ يبلغ الْملك النَّاصِر من أَقْوَال نور الدّين وأقوال أَصْحَابه أَشْيَاء تؤلمه وتمضه غير أَنه يلقاها بصدر رحب وَخلق(2/118)
عذب حَدثنِي أبي عَن ابْن قَاضِي الدهليز وَكَانَ من خَواص الْملك النَّاصِر قَالَ جرى يَوْمًا بَين يَدي السُّلْطَان ذكر نور الدّين فَأكْثر الترحم عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَالله لقد صبرت مِنْهُ على مثل حزَّ المدى ووخز الإبر وَمَا قدر أحد من أَصْحَابه أَن يجد عليّ مَا يعتده ذَنبا وَلَقَد اجْتهد هُوَ بِنَفسِهِ أَيْضا أَن يجد لي هفوة يعتدها عليّ فَلم يقدر وَلَقَد كَانَ يعْتَمد فِي مخاطباتي ومراسلاتي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يصبر على مثلهَا لعليَّ أتضرر أَو أتغير فَيكون ذَلِك وَسِيلَة لَهُ إِلَى منابذتي فَمَا أبلغته أربه يَوْمًا قطّ
قلت وَقد وقفت على كتاب بِخَط نور الدّين رَحمَه الله يشْكر فِيهِ من صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَذَلِكَ ضد مَا قَالَه ابْن أبي طي كتب نور الدّين ذَلِك الْكتاب إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون رَحمَه الله وَهُوَ بحلب ليوليه قَضَاء مصر صورته حسبي الله وَكفى وفْق الله الشَّيْخ الإِمَام شرف الدّين إِلَى طَاعَته وَختم لَهُ بِخَير غير خافٍ عَن الشَّيْخ مَا أَنا عَلَيْهِ وَفِيه وكل غرضي ومقصودي فِي مصَالح الْمُسلمين وَمَا يقربنِي إِلَى الله وَالله ولي التَّوْفِيق والمطلع على نيتي وَأَنت تعلم نيتي كَمَا قَالَ عز من قَائِل {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} أَنْت تعلم أَن مصر الْيَوْم قد لزمنا النّظر فِيهَا فَهِيَ من الفتوحات الْكِبَار الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى دَار إِسْلَام بَعْدَمَا كَانَت دَار كفر ونفاق فَللَّه الْمِنَّة وَالْحَمْد إِلَّا أَن الْمُقدم على كل شَيْء أُمُور(2/119)
الدّين الَّتِي هِيَ الأَصْل وَبهَا النجَاة وَأَنت تعلم أَن مصر وإقليمها مَا هِيَ قَليلَة وَهِي خَالِيَة من أُمُور الشَّرْع وَمَا تُدخر الدُّمُوع إِلَّا للشدائد وَأَنا مَا كنت أسخى وَلَا أشتهي مفارقتك والآن فقد تعين عَلَيْك وعليّ أَيْضا أَن نَنْظُر إِلَى مصالحها وَمَا لنا أحد الْيَوْم لَهَا إِلَّا أَنْت وَلَا أقدر أولي أمورها وأقلدها إِلَّا لَك حَتَّى تَبرأ ذِمَّتِي عِنْد الله فَيجب عَلَيْك وفقك الله أَن تشمر عَن سَاق الِاجْتِهَاد وتتولى قضاءها وتعمل مَا تعلم أَنه يقربك إِلَى الله وَقد بَرِئت ذِمَّتِي وَأَنت تجاوب الله فَإِذا كنت أَنْت هُنَاكَ وولدك أَبُو الْمَعَالِي وَفقه الله فيطيب قلبِي وتبرأ ذِمَّتِي وَقد كتبت هَذَا بخطي حَتَّى لاتبقى عَليّ حجَّة تصل أَنْت وولدك إِلَى عِنْدِي حَتَّى أسيركم إِلَى مصر وَالسَّلَام بموافقة صَاحِبي واتفاق مِنْهُ صَلَاح الدّين وَفقه الله فَأَنا مِنْهُ شَاكر كثير كثير كثير جزاه الله خيرا وأبقاه فَفِي بَقَاء الصَّالِحين والأخيار صَلَاح عَظِيم وَمَنْفَعَة لأهل الْإِسْلَام الله تَعَالَى يكثر من الأخيار وَأَعْوَان خير وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا
قَالَ ابْن أبي طيّ وأبطل صَلَاح الدّين من المكوس والمظالم مَا يسْتَخْرج بديوان صناعَة مصر مئة ألف دِينَار وَمَا يسْتَخْرج بِالْأَعْمَالِ الْقبلية والبحرية مئة ألف دِينَار فسامح بِجَمِيعِ ذَلِك وَأمر بِكِتَابَة سجل بِهِ من ديوَان الْإِنْشَاء وأنفذ إِلَى سَائِر أَعمال مصر يُقرأ على المنابر وَعرض عَلَيْهِ سِيَاقَة جرائد الدَّوَاوِين فِي جِهَات المستخدمين والمعاملين لعدة سِنِين مُتَقَدّمَة آخرهَا سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَكَانَ مبلغه ينيف عَن ألف ألف دِينَار وَألْفي ألف إِرْدَب غلَّة فسامح بِجَمِيعِ ذَلِك وأبطله من الدَّوَاوِين واسقطه(2/120)
من المعاملين وأنهى إِلَيْهِ مَا يستأدي من الْحجَّاج بالحجاز المحروس من المكوس فَأنكرهُ وأكبره وَعوض عَنهُ بعدة ضيَاع فأغاث أهل الْحجاز بِمَا أوسعهم من الْعين وَالْغلَّة أَشْيَاء يطول شرحها
قلت وَسَيَأْتِي كل ذَلِك فِي مَوْضِعه ونسخة منشور إِسْقَاط المكوس فِي أَخْبَار سنة سبع وَسِتِّينَ وَذَلِكَ بِإِشَارَة نور الدّين رَحمَه الله وَفِي أَيَّامه
فصل
ذكر الْعِمَاد فِي ديوانه قصيدة مدح بهَا نور الدّين يهنئه بِملك مصر وَلم يذكرهَا فِي كتاب الْبَرْق مِنْهَا
(بِملك مصر أهني مَالك الْأُمَم ... فاسعد وأبشر بنصر الله عَن أَمم)
(أضحى بعدلك شَمل الْملك ملتئما ... وَهل بعدلك شَمل غير ملتئم)
(يَا فَاعل الْخَيْر عَن طبع بِلَا كلف ... ومُولى الْعرف عَن خلق بِلَا سأم)
(ووامقاً ثلم ثغر الْكفْر يُعجبهُ ... لَا لثم ثغر شتيت وَاضح شبم)
(لله دَرك نور الدّين من ملك ... بالعزم مفتتح بالنصر مختتم)
(آثَار عزمك فِي الْإِسْلَام وَاضِحَة ... وسره لَك باد غير مكتتم)(2/121)
(بِمَا من الْعدْل وَالْإِحْسَان تنشره ... تخَاف رَبك خوف المذنب الأثم)
(أوردت مصر خُيُول النَّصْر عادمة ... ثني الأعنة إقداماً على اللجم)
(فَأَقْبَلت فِي سَحَاب من ذوابلها ... وقضبها بدماء الْهَام منسجم)
(تمكن الرعب فِي قلب الْعَدو بهَا ... تمكن النَّار بالإحراق فِي الفحم)
(سرت لتقطع مَا للكفر من سَبَب ... واهٍ وتوصل مَا للدّين من رحم)
(مستسهلات وعور الطّرق فِي طلب العلياء ... مقتحمات أصعب القحم)
(وجاعلات من الإفرنج غلَّهم ... والقيد فِي مَوضِع الأطواق والحزم)
(لقد شفت غلَّة الْإِسْلَام وانتقمت ... من الْعَدو بِحَدّ الصارم الخذم)
(أعانها الله فِي إطفاء جمر أَذَى ... من شَرّ شاور فِي الْإِسْلَام مضطرم)
(وأصبحت بك مصر بعد خيفتها ... للأمن والعز والإقبال كالحرم)
(والسُّنة اتسقت والبدعة انمحقت ... وعاودت دولة الْإِحْسَان وَالْكَرم)
(مُلُوكهَا لَك صَارُوا أعبدا وَغدا ... بهَا عبيدك ملاكا ذَوي حُرم)
(أنَبْت عَنْك بهَا قرما يَنُوب بهَا ... فِي الْبَأْس عَن عنتر فِي الْجُود عَن هرم)
(لله دَرك نور الدّين من ملك ... عدلٍ لحفظ أُمُور الدّين مُلْتَزم)(2/122)
(كَانَت ولَايَة مصرقبل عزتها ... بكشف دولتها لَحْمًا على وَضم)
(فالنيل ملتطم جَار على خجل ... جاراً لبحر نوال مِنْك ملتطم)
(أُغْزُ الفرنج فَهَذَا وَقت غزوهم ... واحطم جموعهم بالذابل الحطِم)
(وطهر الْقُدس من رِجْس الصَّلِيب وثبِ ... على البغاث وثوب الأجدل القطم)
(فَملك مصر وَملك الشَّام قد نظما ... فِي عِقد عز من الْإِسْلَام مُنْتَظم)
(مَحْمُود الْملك الْغَازِي يسوسهما ... بِالْفَضْلِ وَالْعدْل والإفضال وَالنعَم)
(بالشكر كل لِسَان نَاطِق أبدا ... محمودُ الْملك مَحْمُود بِكُل فَم)
(فأشك مصر وَأظْهر عز سنتها ... كم تحتفي وَإِلَى كم تَشْتَكِي وَكم)
ولعلم الدّين الشاتاني فِي نور الدّين
(مَا نَالَ شأوك فِي الْمَعَالِي سنجر ... كلا وَلَا كسْرَى وَلَا الْإِسْكَنْدَر)
(يَا خير من ركب الْجِيَاد وخاض فِي ... لجج المنايا والأسنة تقطر)(2/123)
(هَل حَاز غَيْرك ملك مصر وَصَارَ من ... أَتْبَاعه مَن جده الْمُسْتَنْصر)
(والمستضي بِاللَّه مُعْتَد بِهِ ... وبجده وبحده مستظهر)
(أَو سدَّ بِالشَّام الثغور محامياً ... للدّين حَتَّى عَاد عَنْهَا قَيْصر)
(يبكي فيروي الأَرْض فيض دُمُوعه ... والجو من أنفاسه يتسعر)
(أَو مَا أَبوك بِسَيْفِهِ فتح الرُّها ... والأسد تقتنص الكماة وتزأر)
(هابت مُلُوك الأَرْض بَأْس كماتها ... فتقاعدوا عَن قَصدهَا وتأخروا)
(مَا ضره طيُّ الْمنية ذَاته ... وَصِفَاته بَين الْبَريَّة تنشر)
(فلكم على كل الْمُلُوك مزية ... لوقائع مَشْهُورَة لَا تنكر)
(وَإِذا عددنا للأنام مناقباً ... فَعَلَيْك قبل الْكل تثنى الْخِنْصر)
(فِي الرَّأْي قيس فِي السماحة حَاتِم ... فِي النُّطْق قس فِي البسالة حيدر)
(دَانَتْ لَك الدُّنْيَا وَأَنت تعافها ... وَسوَاك فِي آماله يتعثر)
(من ذَا يصون الصين عَنْك وَأَنت من ... أَسد الشرى مِنْهُ تخَاف وتحذر)
قَالَ الْعِمَاد وأنفذ صَلَاح الدّين من مصر خلعاً لجَماعَة من الْأَعْيَان وأنفذ للعماد عِمَامَة ملبوسة فَكتب إِلَيْهِ قصائد فِي هَذَا الْمَعْنى مِنْهَا
(يَا صَلَاح الدّين الَّذِي أصلح الْفَاسِد ... بِالْعَدْلِ من خطوب الزَّمَان)
(أَنْت أجريت نيل مصر إِلَى الشَّام ... نوالاً أم سَالَ نيل ثَانِي)(2/124)
(وعَلى نيلها لكفيك فضل ... فهما بالنضار جاريتان)
(وصلت أعطياتك الغر غزراً ... فتلقت آمالنا بالتهاني)
(خلع راقت الْعُيُون وراعت ... وَعلا وصفهَا عَن الْإِمْكَان)
(مذهبات كَأَنَّهَا خلع الرضْوَان ... قد أهديت لأهل الْجنان)
(مشرقات بطرزها الذهبيات ... الحسان الرفيعة الْأَثْمَان)
(فلعمامات كالغمامات والطرز ... بروق كَثِيرَة اللمعان)
(والموالي بهَا من التيه وَالْفَخْر ... على الدَّهْر ساحبو الأردان)
(كَيفَ خُص الْعِمَاد بالأدون المخلق ... من دون عصبَة الدِّيوَان)
(أخليقُ من نسجه لَك فِي الْمَدْح ... جديدُ بأمهن الخلقان)
(وَكَذَا عَادَة اللَّيَالِي تخص الْفَاضِل ... الْمُسْتَحق بالحرمان)
(لم تزل ساريات جودك بِالشَّام ... لَدَيْهِ غزيرة التهتان)
(فَإِذا لم تزِدْه مصر كمالا ... فِي المنى فاحمه من النُّقْصَان)
وَكتب إِلَى فَخر الدّين أخي صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا
(عَبدك شمس الدولة المرتجى ... منتظر تشريفك المذهبا)
(واعتب صَلَاح الدّين فِي حالتي ... عساه بالإصلاح أَن يعتبا)
(عرِّفه مَا تمّ فَإِنِّي أرى ... من فَضله للفضل أَن يغضبا)
(وَكَيف يرضى ذَاك بعض الرضى ... ومجده يأباه كل الإبا)(2/125)
(وَقل لَهُ جَاءَتْهُ ملبوسةً ... تخلفت من تُبَّع فِي سبا)
(عِمَامَة رقَّت ورثت فَمَا ... نشرتها إِلَّا وطارت هبا)
قَالَ فوصل من صَلَاح الدّين عِمَامَة مذهبَة وَكتب يعْتَذر عَن الْعِمَامَة الَّتِي قبلهَا وَكتب إِلَى سعد الدّين كمشتكين ليستعير لِسَانه فِي الِاعْتِذَار إِلَى الْعِمَاد فَإِنِّي أستقل لمرامه إرم ذَات الْعِمَاد فَكتب الْعِمَاد
(أما الْعِمَاد فقد تضَاعف شكره ... نعماك شكر الرَّوْض نعمى الصيب)
(لعمامة ذهبية كغمامة ... يبدوا بهَا برق الطيراز المغربي)
(مَا كَانَ أحسن حَاله لَو أَنه ... شُفعت عمَامَته بِثَوْب مَذْهَب)
قَالَ وَكتب إِلَيْهِ
(أهني الْملك النَّاصِر ... بِالْملكِ وبالنصر)
(وَمَا مهد من بُنيان ... دين الْحق فِي مصر)
(وَمَا أسداه من برّ ... بِلَا عدٍ وَلَا حصر)
(وَمَا أَحْيَاهُ من عدل ... وَمَا خفف من إصر)
(وإعلاء سنا السّنة ... فِي بحبوحة الْقصر)
(قد استولى على مصرٍ ... بِحَق يُوسُف الْعَصْر)
(وَأَحْيَا سنة الأحسان ... فِي البدو وَفِي الْحَضَر)
وَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ من قصيدة
(ديارَ الْهوى حيَّا معالمك الْقطر ... وجادك جود النَّاصِر الغدق الهمر)(2/126)
(بِهِ رجعت فِي عنفوان شبابها ... ونضرتها من بعد مَا هرمت مصر)
(وَكم خاطبٍ ردته لم يَك كفأها ... إِلَى أَن أَتَاهَا خَاطب سَيْفه الْمهْر)
(حماها حمى اللَّيْث العرين وصانها ... كَمَا صان عينا من مُلِمِّ القذي شفر)
(وَكَانَ بهَا بَحر أجاج فَأَصْبَحت ... وَمن جوده العذب النمير بهَا بَحر)
وَله فِيهِ من أُخْرَى
(فَمَا أَنْت إِلَّا الشَّمْس لولاك لم تزل ... على مصر ظلماء الضَّلَالَة سرمدا)
(وَكَانَ بهَا طغيان فِرْعَوْن لم يزل ... كَمَا كَانَ لما أَن طَغى وتمردا)
(فبصَّرتهم بعد الغواية والعمى ... وأرشدتهم بعد الضلال إِلَى الْهدى) وَله فِيهِ من أُخْرَى
(قل للملوك تزحزحواعن ذرْوَة العلياء ... للْملك الْهمام النَّاصِر)
(يُعْطي الألوف ويلتقيها باسما ... طلق المحيافي القنا المتشاجر) وقرأت فِي ديوَان العَرْقلة وَقَالَ فِي الْمولى الْملك النَّاصِر وَقد أنفذ لَهُ من ديار مصر ذَهَبا وَلغيره سَلاما
(صَلَاح الدّين قد أصلحت دنيا ... شقي لم يبت إِلَّا حَرِيصًا)
(أَتَى مِنْك السَّلَام لنا عُمُوما ... وجودك جَاءَنِي وحدي خُصُوصا)(2/127)
(فَكنت كيوسف الصّديق لما ... تلقى مِنْهُ يَعْقُوب القميصا)
وَكَانَ العرقلة من جملَة المتردّدين إِلَى صَلَاح الدّين أَيَّام كَونه بِدِمَشْق فَلَمَّا سَار إِلَى مصر وعده أَنه مَتى ملكهَا أعطَاهُ ألف دِينَار فَلَمَّا تمّ أمره بِمصْر كتب إِلَيْهِ العرقلة قصيدة مِنْهَا
(إِلَيْك صَلَاح الدّين مولَايَ أشتكي ... زَمَانا على الْحر الْكَرِيم يجوز)
(تُرى أُبصر الْألف الَّتِي كنت وَاعدي ... بهَا فِي يَدي قبل الْمَمَات تصير)
(وهيهات والإفرنج بيني وَبَيْنكُم ... سياجُ قَتِيل دونه وأسير)
(وَمن عجب الْأَيَّام أَنَّك ذُو غنى ... بِمصْر ومثلي بالشآم فَقير) وَقَالَ أَيْضا
(قل للصلاح مُعيني عِنْد إعساري ... يَا ألفَ مولايَ أَيْن الألفُ دينارُ)
(أخْشَى من الْأسر إِن حاولت أَرْضكُم ... وَمَا تفي جنَّة الفردوس بالنَّار)
(فجد بهَا عاضِدِيَّاتٍ مسطرة ... من بعض مَا خلف الطاغي أَبُو الطاري)(2/128)
(حمراً كأسيافكم غرا كخيلكمُ ... عُتْقاً ثقالا كأعدائي وأطماري)
يَعْنِي بالطاغي شاور وَله ابْن اسْمه الطاري
وأنفذ لَهُ من مصر عشْرين دِينَارا فَقَالَ
(يَا مَالِكًا مَا بَرحت كَفه ... تجود بِالْمَالِ على كفي)
(أَفْلح بالعشرين من لم يزل ... فِي رَأس عشْرين من الْكَهْف)
(يَا ألف مولَايَ وَلكنهَا ... محسوبة من جملَة الْألف)
وَذكر الْعِمَاد فِي الخريدة أَن العرقلة قصد صَلَاح الدّين إِلَى مصر فَأعْطَاهُ ذَلِك وَأخذ لَهُ من إخْوَته مثله فَعَاد إِلَى دمشق وَهُوَ مسرور مجبور وَكَانَ ذَلِك ختام حَيَاته ودنا أجل وَفَاته وَمَات بِدِمَشْق فِي سنة سِتّ أَو سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
قلت وَفِي ديوانه مَا يدل على قدومه مصر فَإِن فِيهِ وَقَالَ وكتبها على حمام عمَّرها الْمولى الْملك النَّاصِر بديار مصر
(ياداخل الْحمام هنيتها ... دَائِرَة كالفلك الدائر)
(تَأمل الْجنَّة قد زُخرفت ... وعمرت للْملك النَّاصِر)
(كَأَنَّمَا فيض أنابيبها ... نداه للوارد وللصادر)(2/129)
فصل فِي قتل المؤتمن بالخرقانية ووقعة السودَان بَين القصرين وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وَشرع صَلَاح الدّين فِي نقص إقطاع المصريين فَقطع مِنْهُم الدابر من أجل من مَعَه من العساكر وَكَانَ بِالْقصرِ خصي يدعى مؤتمن الْخلَافَة متحكم فِي الْقصر فأجمع هُوَ وَمن مَعَه على أَن يكاتبوا الفرنج ويقبضوا على الأَسدِية والصلاحية لِأَن صَلَاح الدّين يخرج إِلَى الفرنج بِمن مَعَه فَيُؤْخَذ مَن بَقِي من أَصْحَابه بِالْقَاهِرَةِ وَيتبع من وَرَائه فَتكون عَلَيْهِم الدائرة فكاتبوا الفرنج وَاتفقَ أَن رجل من التركمان عبر بالبئر الْبَيْضَاء فَرَأى مَعَ إِنْسَان ذِي خلقان نَعْلَيْنِ جديين لَيْسَ بهما أثر مشي(2/130)
فأنكرهما فَأَخذهُمَا وَجَاء بهما إِلَى صَلَاح الدّين ففتقهما فَوجدَ مُكَاتبَة الفرنج فيهمَا من أهل الْقصر يرجون بحركتهم حُصُول النَّصْر فَأخذ الْكتاب وَقَالَ دلوني على كَاتب هَذَا الْخط فدلوه على يَهُودِيّ من الرَّهْط فَلَمَّا أحضروه ليسألوه ويعاقبوه على خطه ويقابلوه نطق بِالشَّهَادَةِ قبل كَلَامه وَدخل فِي عصمَة إِسْلَامه ثمَّ اعْترف بِمَا جناه وشيده من الْأَمر وبناه وَأَن الْآمِر بِهِ مؤتمن الْخلَافَة وَإنَّهُ بَرِيء من هَذِه الآفة فَحسن السُّلْطَان إِسْلَامه وَثَبت إعتصامه وَعرف استسلامه وَرَأى إخفاء هَذَا السِّرّ واكتتامه
واستشعر الخصيّ العَصِيّ وخشي أَن تشقه على شقّ الْعَصَا العِصيّ فَمَا صَار يخرج من الْقصر مَخَافَة وَإِذا خرج لم يبعد مَسَافَة وَصَلَاح الدّين عَلَيْهِ مغضب وَعنهُ مغض لَا يَأْمر فِيهِ ببسط وَلَا قبض إِلَى أَن استرسل واستبسل وَظن أَن مَا نَسْله من الشَّرّ الْعَقِيم نصل وَكَانَ لَهُ قصر فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا الخرقانية لخُرقه ورقع مَا يَتَّسِع عَلَيْهِ من خرقه وَهُوَ بِقرب قليوب فَخَلا فِيهِ يَوْمًا للذته وَلم يدْرِي أَنه يَوْم ذلته وانقضاء ساعاته بِانْقِضَاء دولته فأنهض إِلَيْهِ صَلَاح الدّين من أَخذ راسه وَنزع من جَاءَ بِهِ لِبَاسه وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْخَامِس من ذِي الْقعدَة سنة أَربع فورد موارده مِن رَداه على أدون مشرع
قَالَ وَلما قتل غَار السودَان وثاروا وَكَانُوا أَكثر من خمسين ألفا وَكَانُوا إِذا قَامُوا على وَزِير قَتَلُوهُ واجتاحوه وأذلوه واستباحوه واستحلوه(2/131)
فَحَسبُوا أَن كل بَيْضَاء شحمة وَأَن كل سَوْدَاء فَحْمَة فثار أَصْحَاب صَلَاح الدّين إِلَى الهيجاء ومقدمهم الْأَمِير أَبُو الهيجاء واتصلت الْحَرْب بَين القصرين وأحاطت بهم العسكرية من الْجَانِبَيْنِ ودام الشَّرّ يَوْمَيْنِ حَتَّى أحس الأساحم بالحين وَكلما لجؤوا إِلَى محلّة أحرقوها عَلَيْهِم وحووا ماحواليهم وأخرجوا إِلَى الجيزة وأذلوا بِالنَّفْيِ عَن مَنَازِلهمْ العزيزة وَذَلِكَ يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة فَمَا خلص السودَان بعْدهَا من الشدَّة وَلم يَجدوا الى الْخَلَاص سَبِيلا و {أَيْنَمَا ثقفوا أُخذوا وقتِّلوا تقتيلا}
وَكَانَت لَهُم على بَاب زويلة محلّة تسمى المنصورة وَكَانَت بهم المعمرة المعمورة فَأتي بنيانها من الْقَوَاعِد فَأَصْبَحت خاوية ثمَّ حرثها بعض الْأُمَرَاء واتخذها بستاناً فَهِيَ الْآن جنَّة لَهَا ساقية
قَالَ وَكَانَ قد وصل إِلَى صَلَاح الدّين قبيل هَذِه النّوبَة أَخُوهُ الْأَكْبَر فَخر الدّين شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب أنفذه إِلَيْهِ نور الدّين من دمشق يشد أزره بِمصْر لما سمع بحركة الفرنج وَأهل الْقصر فوصل الْقَاهِرَة فِي ثَالِث ذِي القعده(2/132)
قَالَ ابْن أبي طي وباشر بِنَفسِهِ وقْعَة السودَان هَذِه وَكَانَ لَهُ فِيهَا أثر عَظِيم وَمن عَجِيب مَا اتّفق أَن العاضد كَانَ يتطلع من المنظرة ويعاين الْحَرْب بَين القصرين فَقيل إِنَّه أَمر مَنْ بِالْقصرِ أَن يقذفوا العساكر الشامية بالنشاب وَالْحِجَارَة فَفَعَلُوا وَقيل إِن ذَلِك كَانَ عَن غير اخْتِيَاره فَأمر شمس الدولة الزراقين بإحراق منظرة العاضد فهمَّ أحد الزراقين بذلك وَإِذا بَاب الْمضرَّة قد فتح وَخرج مِنْهُ زعيم الْخلَافَة وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يسلم على شمس الدولة وَيَقُول دونكم العبيد الْكلاب أخرجوهم من بِلَادكُمْ وَكَانَت العبيد مشتدة الْأَنْفس بِأَن العاضد راضٍ بفعالهم فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك فُتَّ فِي اعضادهم فجبنوا وتخاذلوا وأدبروا
وَمِمَّا كتبه الْعِمَاد على لِسَان غَيره إِلَى صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا
(بِالْملكِ النَّاصِر استنارت ... فِي عصرنا أوجه الْفَضَائِل)
(عليّ من حَقه فروض ... شكرا لما جاد من نوافل)
(يُوسُف مصر الَّذِي إِلَيْهِ ... تشد آمالنا الرَّوَاحِل)(2/133)
(أجريت نيلين فِي ثراها ... نيل نجيع ونيل نائل)
(وَمَا نفيت السودَان حَتَّى ... حكَّمت الْبيض فِي الْمقَاتل)
(صيرت رحب الفضاء ضيقا ... عَلَيْهِم كفة لحابل)
(وكل رَاء مِنْهُم كِرَاء ... وَأَرْض مصر كَلَام وَاصل)
(وَقد خلت مِنْهُم المغاني ... وأقفرت مِنْهُم الْمنَازل)
(وَمَا أصيبوا إِلَّا بَطلّ ... فَكيف لَو أمطروا بوابل)
(والسود بالبيض قد أبيحوا ... فَهِيَ نواز بهم نَوَازِل)
(مؤتمن الْقَوْم خَان حَتَّى ... غالته من شَره غوائل)(2/134)
(عاملكم بالخنا فأضحى ... وَرَأسه فَوق رَأس عَامل)
(يَا مخجل الْبَحْر بالأيادي ... قد آن أَن تُفتح السواحل)
(فقدِّس الْقُدس من خباث ... أرجاس كفر غُتم أراذل)
قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا مدحت بِهِ صَلَاح الدّين فِي ذَلِك التَّارِيخ تهنئة لَهُ بِالْملكِ وتعزية بِعَمِّهِ
(أيا يُوسُف الْإِحْسَان وَالْحسن خير من ... حوى الْفضل والإفضال وَالنَّهْي والأمرا)
(وَمن للهدى وَجه النجاح ... بِرَأْيهِ تجلَّى وثغر الثغر من عزمه افترى)
(حمى حوزة الدّين الحنيف بحوزه ... من الْخَالِق الحسني وَمن خلقه الشكرا)
(أَبوهُ أبي إِلَّا الْعَلَاء وَعَمه ... بمعروفه عمَّ الورى البدو والحضرا)
(وَطَالَ الْمُلُوك شيركوه بِطُولِهِ ... وَمَا شاركوه فِي الْعلَا فحوى الفخرا)
(بَنو الْأَصْفَر الإفرنج لاقوا ببيضه ... وَسمر عواليه مناياهم حمرا)
(وَمَا ابيضَّ يَوْم النَّصْر واخضر روضه ... من الخصب حَتَّى اسودَّ بالنقع واغبرَّا)
(رأى النَّصْر فِي تقوى الْإِلَه وكل من ... تقوى بتقوى الله لَا يعْدم النصرا)
(وَلما رأى الدُّنْيَا بِعَين ملالة ... أغذَّ من الأولى مسيرًا إِلَى الْأُخْرَى)
(وَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْملكِ كافلا ... وَكَيف ترى شمس الضُّحَى تخلف البدرا)
(وَلما صبَّتْ مصرُ إِلَى عصر يُوسُف ... أعَاد إِلَيْهَا الله يُوسُف والعصرا)
(فَأجرى بهَا من راحتيه بجوده ... بحاراً فسماها الورى أنملا عشرا)(2/135)
(هُزِمْتُمْ جنود الْمُشْركين برعبكم ... فَلم يَلْبَثُوا خوفًا وَلم يمكثوا ذعرا)
(وفرقتم من حول مصر جموعهم ... بِكَسْر وَعَاد الْكسر من أَهلهَا جبرا)
(وأمَّنتم فِيهَا الرعايا بعدلكم ... وأطفأتم من شَرّ شاورها الجمرا)
(بسفك دم حطتم دِمَاء كَثِيرَة ... وحزتم بِمَا أبديتم الْحَمد والأجرا)
(وَمَا يرتوي الْإِسْلَام حَتَّى تغادروا ... لكم من دِمَاء الغادرين بهَا غدرا)
(فصبوا على الإفرنج سَوط عَذَابهَا ... بِأَن تقسموا مَا بَينهَا الْقَتْل والأسرا)
(وَلَا تهملوا الْبَيْت الْمُقَدّس واعزموا ... على فَتحه غازين وافترعوا البكرا)
(تديمون بِالْمَعْرُوفِ طيِّب ذكركُمْ ... وَمَا الْملك إِلَّا أَن تديموا لكم ذكرا)
(وَإِن الَّذِي أثرى من المَال مُقْتِرُ ... وَإِن يُفْنِه فِي كسب محمدة أثري)
قَالَ وَكَثُرت كتب صَلَاح الدّين إِلَى أصدقائه مبشرة بِطيب أنبائه فَمِنْهَا كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت
(مَا كنت بالمنظور أقنع مِنْكُم ... وَلَقَد رضيت الْيَوْم بالمسموع)
فَقلت فِي جَوَابه أبياتا مِنْهَا
(يَا هَل لسالف عيشتي بفنائكم ... من عودة محمودة وَرُجُوع)
(قد غبتم عَن ناظري مَا أَذِنت ... للقلب شمسُ مَرة بِطُلُوع)
(كنتُ المشفَّع فِي المطالب عنْدكُمْ ... فَغَدَوْت أطلب طيفكم بشفيع)
(أَصبَحت أقنع بِالسَّلَامِ على النَّوَى ... وبقربكم كم بتُّ غير قنوع)(2/136)
قَالَ وَوصل أَيْضا مِنْهُ كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت
(وأنثر در الدمع من قبل أبيضا ... وَقد حَال مذ بِنْتم فَأصْبح ياقوتا)
فنظمت فِي جَوَابه أبياتاً مِنْهَا
(هَنِيئًا لمصر حوز يُوسُف ملكهَا ... بِأَمْر من الرَّحْمَن قد كَانَ موقوتا)
(وَمَا كَانَ فِيهَا قتلُ يُوسُف شاوراً ... يماثل إِلَّا قتل دَاوُد جالوتا)
(وَقلت لقلبي أبشر الْيَوْم بالمنى ... فقد نلْت مَا أملت بل حزت مَا شيتا)
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة قتل العاضد بِالْقصرِ ابْني شاور الْكَامِل وأخاه يَعْنِي الطاري يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع من جمادي الْآخِرَة وَذَلِكَ أَنه لما قتل شاور عاذوا بِالْقصرِ فَكَأَنَّمَا نزلُوا فِي الْقَبْر فَلَو أَنهم جاؤوا إِلَى أَسد الدّين سلمُوا وامتنعوا وعصموا فَإِنَّهُ سَاءَهُ قتل شاور وَإِن كَانَ أَمن بقتْله مَا حاذر
قلت الْكَامِل هُوَ شُجَاع بن شاور وَكَانَ لَهُ اخوان أَحدهمَا طي تقدم ذكر قتل ضرغام لَهُ وَالْآخر الطاري قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي السرُور الروحي فِي تَارِيخه أَخذ ابْنا شاور شُجَاع(2/137)
الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم وَأَخُوهُ الملقب بِفَارِس الْمُسلمين فَقتلُوا ودير برؤوسهم
قَالَ لما وَلي صَلَاح الدّين سَاس الرّعية وَأظْهر لَهُم من الْعدْل مَا لم يعلموه فَاجْتمع أهل الْبِلَاد وكرهوه فأوقع براجلهم وأخرجهم من الْقَاهِرَة إخراجاً عنيفاً وَأخرج بعد ذَلِك فارسهم وشتت شملهم {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِما ظَلَمَوُا}
قَالَ وَلما كنت سنة سِتّ وَسِتِّينَ رفع جَمِيع المكوس صادرها وواردها جليلها وحقيرها وغزا بِلَاد الشَّام غزوتين
قَالَ ابْن شَدَّاد وَفِي الْمحرم من هَذِه السّنة توفّي ياروق الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الياروقية يَعْنِي الْمحلة الَّتِي بِظَاهِر حلب
قَالَ غَيره وفيهَا احْتَرَقَ جَامع حلب وأسواق الْبَز وَأخذ نور الدّين فِي عِمَارَته آخر السّنة(2/138)
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِي أول صفر مِنْهَا نزل الفرنج خذلهم الله تَعَالَى على دمياط من الديار المصرية
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ فرنج السَّاحِل لما ملك أَسد الدّين مصر قد خَافُوا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ فكاتبوا الفرنج الَّذين بالأندلس وصقلية يستمدونهم ويعرفونهم مَا تجدّد من ملك مصر وَأَنَّهُمْ خائفون على الْبَيْت الْمُقَدّس من الْمُسلمين وَأَرْسلُوا جمَاعَة من القسوس والرهبان يحرضون النَّاس على الْحَرَكَة فأمدوهم بِالْمَالِ وَالرِّجَال وَالسِّلَاح وأتعدوا على النُّزُول على دمياط ظنا مِنْهُم أَنهم يملكونها ويتخذونها ظهرا يملكُونَ بِهِ ديار مصر فَلَمَّا نازلوها حصروها وضيقوا على من بهَا فَأرْسل إِلَيْهَا صَلَاح الدّين العساكر فِي النّيل وَحشر فِيهَا كل من عِنْده وأمدهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح والذخائر وتابع رسله إِلَى نور الدّين يشكو مَا هُوَ فِيهِ من المخاوف وَأَنه إِن تخلف عَن دمياط ملكهَا الفرنج وَإِن سَار إِلَيْهَا خَلفه المصريون فِي مخلّفيه ومخلفيّ عسكره بالسوء وَخَرجُوا من طَاعَته وصاروا من خَلفه والفرنج من أَمَامه فَجهز إِلَيْهِ نور الدّين العساكر أَرْسَالًا كلما تجهزت طَائِفَة أرسلها فسارت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا ثمَّ سَار نور الدّين فِيمَن عِنْده من العساكر فَدخل بِلَاد الإفرنج فنهبها وأغار عَلَيْهَا واستباحها ووصلت الغارات إِلَى مَا لم تكن تبلغه لخلو الْبِلَاد من ممانع(2/139)
فَلَمَّا رأى الفرنج تتَابع العساكر إِلَى مصر وَدخُول نور الدّين بلادها ونهبها وإخرابها رجعُوا خائبين وَلم يظفروا بِشَيْء وَهَذَا مَوضِع الْمثل ذهبت النعامة تطلب قرنين فَعَادَت بِلَا أذنين فوصلوا إِلَى بِلَادهمْ فرأوها خاوية على عروشها
وَكَانَ مُدَّة مقامهم على دمياط خمسين يَوْمًا أخرج فِيهَا صَلَاح الدّين أَمْوَالًا لَا تحصى حُكيَ لي عَنهُ أَنه قَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل إليّ مُدَّة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما علم الفرنج مَا جرى من الْمُسلمين وعساكرهم وَمَا تمّ للسُّلْطَان من استقامة الْأَمر فِي الديار المصرية علمُوا أَنه يملك بِلَادهمْ وَيخرب دِيَارهمْ ويقلع آثَارهم لما حدث لَهُ من الْقُوَّة وَالْملك فَاجْتمع الفرنج وَالروم جَمِيعًا وَحَدثُوا نُفُوسهم بِقصد الديار المصرية والاستيلاء عَلَيْهَا وملكها وَرَأَوا قصد دمياط لتمكن القاصد لَهَا من الْبر وَالْبَحْر ولعلمهم أَنَّهَا إِن حصلت لَهُم حصل لَهُم مغرس قدم يأوون إِلَيْهِ فاستصحبوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الْحصار وَغير ذَلِك وَلما سمع الفرنج بِالشَّام ذَلِك اشْتَدَّ أَمرهم فسرقوا حصن(2/140)
عكار من الْمُسلمين وأسروا صَاحبهَا وَكَانَ مَمْلُوكا لنُور الدّين يُسمى خطلخ العلمدار وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر مِنْهَا
وَفِي رَجَب مِنْهَا توفّي الْعِمَادِيّ صَاحب نور الدّين وأمير حَاجِبه وَكَانَ صَاحب بعلبك وتدمر
وَلما رأى نور الدّين ظُهُور الفرنج وبلغه نزولهم على دمياط قصد شغل قُلُوبهم فَنزل على الكرك محاصراً لَهَا فِي شعْبَان من هَذِه السّنة فقصده فرنج السَّاحِل فَرَحل عَنْهَا وَقصد لقاءهم فَلم يقفوا لَهُ
ثمَّ بلغه وَفَاة مجد الدّين ابْن الداية بحلب فِي رَمَضَان فاشتغل قلبه لِأَنَّهُ كَانَ صَاحب أمره فَعَاد يطْلب الشَّام فَبَلغهُ خبر الزلزلة بحلب الَّتِي خربَتْ كثيرا من الْبِلَاد وَكَانَت فِي ثَانِي عشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ بعشترا فَسَار يطْلب حلب فَبَلغهُ موت أَخِيه قطب الدّين بالموصل وَكَانَت وَفَاته فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بتل بَاشر فَسَار من ليلته طَالبا بِلَاد الْموصل
وَلما علم صَلَاح الدّين شدَّة قصد الْعَدو دمياط أنفذ إِلَى الْبَلَد وأودعه من الرِّجَال والأبطال والفرسان والميرة والآت السِّلَاح مَا أَمن مَعَه عَلَيْهِ ووعد المقيمين فِيهِ بإمدادهم بالعساكر والآلات وإزعاج الْعَدو عَنْهُم إِن نزل(2/141)
عَلَيْهِم وَبَالغ فِي العطايا والهبات وَكَانَ وزيرا متحكما لَا يرد أمره فِي شَيْء ثمَّ نزل الفرنج عَلَيْهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَاشْتَدَّ زحفهم عَلَيْهَا وقتالهم لَهَا وَهُوَ رَحمَه الله تَعَالَى يَشن الغارات عَلَيْهِم من خَارج والعسكر يقاتلهم من دَاخل ونْصرُ الله للْمُسلمين يؤيدهم وَحسن قَصده فِي نصْرَة دين الله يسعدهم وينجدهم حَتَّى بَان لَهُم الخسران وَظهر على الْكفْر الْإِيمَان وَرَأَوا أَنهم ينجون برؤوسهم ويسلمون بنفوسهم فرحلوا خائبين خاسرين فحرقت مجانيقهم ونهبت الآتهم وَقتل مِنْهُم خلق عَظِيم وَسلم الْبَلَد بِحَمْد الله ومنِّه
وَقَالَ الْعِمَاد أَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْقَاهِرَةِ فِي دَار ملكه ومدار فلكه يُنهض إِلَيْهَا المدد بعد المدد وَيُرْسل إِلَيْهَا الْعدَد بعد الْعدَد ويسهر ليله وَلَا يقيل نَهَاره وَقد أخْلص لله سره وجهاره وَلَا ينَام وَلَا ينيم وَعِنْده من ذَلِك المُقْعِد الْمُقِيم وَسبق تقيّ الدّين ابْن أخي السُّلْطَان إِلَى دمياط فَدَخلَهَا وَكَذَا خَاله شهَاب الدّين مَحْمُود فنزلها واتَّصل الْحصار وتواصل الْأَنْصَار ودب فِي الفرنج الفناء وهب عَلَيْهِم الْبلَاء فرحلوا عَنْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالذل الْأَكْمَل وَالصغَار الأشمل
وَكَانَ لما وصل الْخَبَر إِلَى نور الدّين بوصولهم واجتماعهم على دمياط ونزولهم اغتنم واهتم واستصعب الملم وأنهض من عِنْده عسكراً ثقيلا مقدمه الْأَمِير قطب الدّين خسرو الهذباني وَكَانَ مقداماً مقدّما وهُماما مُعْلما وَأمره أَن يسير بالعسكر ويخوض بهم بَحر العجاج الأكدر(2/142)
فوصل فِي النّصْف من ربيع الأول قبل رحيل الفرنج بأسبوع فَوَقع رَوْعه من الْكفْر فِي كل رُوع
قُلت وَبَلغنِي من شدَّة اهتمام نور الدّين رَحمَه الله بامر الْمُسلمين حِين نزل الفرنج على دمياط أَنه قرىء عَلَيْهِ جُزْء من حَدِيث كَانَ لَهُ بِهِ رِوَايَة فجَاء فِي جملَة تِلْكَ الْأَحَادِيث حَدِيث مسلسل بالتبسُّم فَطلب مِنْهُ بعض طلبة الحَدِيث أَن يتبسم لتتم السلسة على مَا عرف من عَادَة أهل الحَدِيث فَغَضب من ذَلِك وَقَالَ إِنِّي لأستحيي من الله تَعَالَى أَن يراني مُتَبَسِّمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج
وَبَلغنِي أَن إِمَامًا لنُور الدّين رأى لَيْلَة رحيل الفرنج عَن دمياط فِي مَنَامه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لَهُ أعلم نور الدّين أَن الفرنج رحلوا عَن دمياط فِي هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ يَا رَسُول الله رُبمَا لَا يصدقني فاذكر لي عَلامَة يعرفهَا فَقَالَ قل لَهُ بعلامة مَا سجدت على تل حارم وَقلت يَا رب انصر دينك وَلَا تنصر مَحْمُودًا من هُوَ مَحْمُود الْكَلْب حَتَّى ينصر قَالَ فانتبهت وَنزلت إِلَى الْمَسْجِد وَكَانَ من عَادَة نور الدّين أَنه ينزل إِلَيْهِ بِغَلَس وَلَا يزَال يتركع فِيهِ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح قَالَ فتعرضت لَهُ فَسَأَلَنِي عَن أَمْرِي فَأَخْبَرته بالمنام وَذكرت لَهُ الْعَلامَة إِلَّا أنني لم أذكر لَفْظَة الْكَلْب فَقَالَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى اذكر الْعَلامَة كلهَا وألح عَليّ فِي ذَلِك فقلتها(2/143)
فَبكى رَحمَه الله وصدَّق الرُّؤْيَا وأرخت تِلْكَ اللَّيْلَة فجَاء الْخَبَر برحيل الفرنج بعد ذَلِك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
فصل
أرسل نور الدّين كتابا إِلَى العاضد صَاحب الْقصر يهنيه برحيل الفرنج عَن ثغر دمياط وَكَانَ قد ورد عَلَيْهِ كتاب العاضد بالاستقالة من الأتراك فِي مصر خوفًا مِنْهُم والاقتصار على صَلَاح الدّين وألزامه وخواصه فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين يمدح الأتراك ويعلمه أَنه مَا أرسلهم وَاعْتمد عَلَيْهِم إِلَّا لعلمه بِأَن قنطاريات الفرنج لَيْسَ لَهَا إِلَّا سِهَام الأتراك فَإِن الفرنج لَا يرعبون إِلَّا مِنْهُم ولولاهم لزاد طمعهم فِي الديار المصرية ولحصلوا مِنْهَا على الأمنية فَلَعَلَّ الله تَعَالَى أَن ييسر فتح الْمَسْجِد الْأَقْصَى مُضَافا إِلَى نعمه الَّتِي لَا تحصى
قلت ولعمارة اليمني من قصيدة
(من شَاكر وَالله أعظم شَاكر ... مَا كَانَ من نُعمى بني أَيُّوب)
(طلب الْهدى نصرا فَقَالَ وَقد أَتَوا ... حسبي فَأنْتم غَايَة الْمَطْلُوب)
(جلبوا إِلَى دمياط عِنْد حصارها ... عز القويِّ وذلة المغلوب)
(وجلوا عَن الْإِسْلَام فِيهَا كربَة ... لَو لم يجلُّوها أَتَت بكروب)(2/144)
(فَالنَّاس فِي أَعمال مصر كلهَا ... عتقاؤهم من نازح وَقَرِيب)
(إِن لم تظن النَّاس قشراً فَارغًا ... وهم اللّبَاب فَأَنت غير لَبِيب)
وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة
(وَلَا غرو أَن عَاد الفرنج هزيمَة ... وَلَو لم تعد لم يبْق للشرك سَاحل)
(فقد أيقنت أعداؤه أَن حظهم ... لَدَيْهِ رماح أشرعت أَو سلاسل)
(وَلما أَتَوا دمياط كالبحر طامياً ... وَلَيْسَ لَهُ من كَثْرَة الْقَوْم سَاحل)
(يزِيد عَن الإحصاء وَالْعد جمعهم ... أُلُوف أُلُوف خيلهم والرواحل)
(رَأَوْا دونهَا أسدا بِأَيْدِيهِم القنا ... وبيضا رقاقا أحكمتها الصيافل)
(وداروا بهَا فِي الْبَحْر من كل جَانب ... وَمن دونهَا سد من الْمَوْت حَائِل)
(رجا الْكَلْب ملك الرّوم إِذْ ذَاك فتحهَا ... فخاب فَأم الْملك وَالروم هابل)(2/145)
(فعادوا على الأعقاب مِنْهَا هزيمَة ... كَأَنَّهُمْ ذلا نعام جوافل)
(وَمَا أمَّلوا أَن يلْحقُوا ببلادهم ... لتعصمهم مِمَّا رَأَوْهُ المعاقل)
قَالَ الْعِمَاد وسألني كريم الْملك أَن أعمل لَهُ أبياتاً فِي صَلَاح الدّين تهنئة بالنصر فِي دمياط فَعمِلت قصيدة مِنْهَا
(يَا يُوسُف الْحسن وَالْإِحْسَان يَا ملكا ... بجده صاعداً أعداؤه هَبَطُوا)
(حللت من وسط العلياء فِي شرف ... ومركز الشَّمْس من أفلاكها الْوسط)
(هنيت صونك دمياط الَّتِي اجْتمعت ... لَهَا الفرنج فَمَا حلوا وَلَا ربطوا)
(مصر بيوسفها أضحت مشرَّفة ... وكل أَمر لَهَا بِالْعَدْلِ منضبط)
(وَحين وافى صَلَاح الدّين أصلحها ... فللمصالح من أَيَّامه نمط)
قَالَ وَمِمَّا سيَّرته إِلَى صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا
(كَأَن قلبِي وحبَّ مَالِكه ... مصر وفيهَا المليك يوسفها)
(هَذَا بسلب الْفُؤَاد يظلمني ... وَهُوَ بقتل الْأَعْدَاء ينصفها)
(الْملك النَّاصِر الَّذِي أبدا ... بعز سُلْطَانه يُشرِّفها)
(قَامَ بأحوالها يدبرها ... حسنا واثقالها يخففها)
(بعدله وَالصَّلَاح يعمرها ... وبالندى والجميل يكنفها)
(من دنس الغادرين يرحضها ... وَمن خباث العدى ينظفها)
(وَإِن مصرا بِملك يوسفها ... جنَّة خلد يروق زخرفها)(2/146)
(وَإنَّهُ فِي السماح حاتمها ... وَإنَّهُ فِي الْوَقار أحنفها)
(يُوسُف مصر الَّذِي ملاحمها ... جَاءَت بأوصافه تعرفها)
(كتب التواريخ لَا يزينها ... إِلَّا بأيامه مصنفها)
وَمِنْهَا
(وحُطت دمياط إِذْ أحَاط بهَا ... من برجوم الْبلَاء يقذفها)
(لاقت غواة الفرنج خيبتها ... فَزَاد من حسرة تأسفها)
(أوردت قلُب الْقُلُوب أرشيةً ... من القنا للدماء تنزفها)
(وليتها سفكها فعاملها ... عاملها والسنان مشرفها)
(يُمضي لَك الله فِي قِتَالهمْ ... عَزِيمَة للْجِهَاد ترهفها)
وَله فِيهِ من أُخْرَى
(قد اسْتَقَرَّتْ أموري ... فِيهِ بِحَسب اقتراحي)
(كَمَا اسْتَقر صَلَاح الدُّنْيَا ... بِملك الصّلاح)
(تنير شمس أياديه ... فِي سَمَاء السماح)(2/147)
(وأمْرُه مُسْتَفَاد ... من الْقَضَاء المتاح)
وأرسله نور الدّين إِلَى خلاط ومتوليها حِينَئِذٍ ظهير الدّين سمكان الْمَعْرُوف بشاه أرمن قَالَ فَلَمَّا كنت بماردين كتبت إِلَى بعض المعارف
(قد نزلنَا فِي جوارك ... وطلبنا قرب دَارك)
(وسرينا فِي الدياجي ... فهدانا ضوء نارك)
(فتدارك أمرنَا الْيَوْم ... بطول متدارك)
(وَتفرد باغتنام الشُّكْر ... من غير مشارك)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة خرج نور الدّين إِلَى دارياً فَأَعَادَ عمَارَة جَامعهَا وَعمر مشْهد أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي وشتَّى بِدِمَشْق
فصل فِي مسير نجم الدّين أَيُّوب إِلَى مصر بباقي أَوْلَاده وَأَهله
وَقد وصف ذَلِك عمَارَة فِي قصيدة مدح بهَا السُّلْطَان صَلَاح الدّين تقدم بَعْضهَا يَقُول فِيهَا(2/148)
(صحَّت بِهِ مصر وَكَانَت قبله ... تَشْكُو سقاماً لم يعن بطبيب)
(عجبا لمعجزة أَتَت فِي عصره ... والدهر ولاَّد لكل عَجِيب)
(رد الْإِلَه بِهِ قَضِيَّة يُوسُف ... نسقاً على ضرب من التَّقْرِيب)
(جَاءَتْهُ إخْوَته ووالده إِلَى ... مصر على التدريج وَالتَّرْتِيب)
(فاسعد بأكرم قادم وبدولة ... قد ساعدتك رياحها بهبوب)
قَالَ الْعِمَاد لما دخل فصل النيروز اسْتَأْذن الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب نور الدّين فِي قصد وَلَده صَلَاح الدّين وَالْخُرُوج من دمشق إِلَى مصر بأَهْله وجماعته وسبده ولبده وخيَّم بِظَاهِر الْبَلَد إِلَى أَن بَان وضوح جدده وَسَار فِي حفظ الله تَعَالَى فوصل إِلَى مصر فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَقضى صَاحب الْقصر العاضد من حق قدومه مَا وَجب وَركب لاستقباله وَزَاد إقبال الْبِلَاد بإقباله
وَلما عزم على التَّوَجُّه إِلَى مصر شرع فِي تَفْرِيق أملاكه وتوفير مَاله فِيهِ شركَة على أشراكه وَمَا استصحب مَعَه شَيْئا من موجوده وَجعله نهبة لجوده
قلت ووقف رِبَاطًا دَاخل الدَّرْب الَّذِي بِقرب العوينة بِبَاب الْبَرِيد
ثمَّ قَالَ الْعِمَاد وَلما نصب نجم الدّين أَيُّوب لقصد مصر مضاربه(2/149)
وسحب للعلا على روض الرِّضَا سحائبه خرج نور الدّين إِلَى رَأس المَاء بعسكره وخيامه وأرهف للْجدّ فِي الْجِهَاد حد اعتزامه ثمَّ أَقَامَ بعد توديعه وَالْوَفَاء بِحَق تشييعه إِلَى أَن اجْتمعت إِلَيْهِ عساكره وَحضر بَادِي جنده وحاضره وعب بحره وماج زاخره
ثمَّ توجهنا إِلَى بِلَاد الكرك مستهل شعْبَان ونزلنا أَيَّامًا بالبلقاء على عَمّان وأقمنا على الكرك أَرْبَعَة أَيَّام نحاصرها ونصبنا عَلَيْهَا منجنيقين فورد الْخَبَر أَن الفرنج قد تجمعُوا ووصلوا إِلَى مَا عين فَقَالَ نور الدّين نرى أَن نعطف أعنتنا وَبِاللَّهِ نستعين فَإنَّا إِذا كسرناهم وقسرناهم وقتلناهم وأسرناهم أدركنا المُرَاد وملكنا الْبِلَاد فرحلنا إِلَيْهِم فَوَلوا مُدبرين حِين سمعُوا برجوعنا وَقَالُوا رحيلهم عَن الْحصن قد حصل وَهُوَ مقصودنا وَعَاد نور الدّين إِلَى حوران فخيم بعشترا وَصَامَ رَمَضَان
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ سَبَب حصر نور الدّين الكرك أَن نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين سَار عَن دمشق إِلَى مصر فسير مَعَه نور الدّين عسكراً فَاجْتمع مَعَهم من التُّجَّار وَمن كَانَ لَهُ مَعَ صَلَاح الدّين أنس ومودة مَا لايعد فخاف نور الدّين عَلَيْهِم فَسَار إِلَى الكرك فَنزل عَلَيْهِ وحصره وَسَار نجم الدّين أَيُّوب وَمن مَعَه سَالِمين وَنصب نور الدّين على الكرك المجانيق فَأَتَاهُ الْخَبَر أَن الفرنج قد جمعُوا وَسَارُوا إِلَيْهِ وَأَن ابْن الهنفري(2/150)
وفليب بن الرفيق وهما فَارِسًا الفرنج فِي وقتهما فِي الْمُقدمَة إِلَيْهِ فَرَحل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى نَحْوهمَا للقائهما وَمن مَعَهُمَا قبل أَن يلْحق بهما بَاقِي الفرنج وَكَانَا فِي مئتي فَارس وَألف تركبلي وَمَعَهُمْ من الراجل خلق كثير فَلَمَّا قاربهما رجعا الْقَهْقَرِي إِلَى من وَرَاءَهُمْ من الإفرنج وَقصد نور الدّين وسط بِلَادهمْ وَنهب مَا كَانَ على طَرِيقه وَنزل بعشترا وَأقَام ينْتَظر حَرَكَة الفرنج ليقاهم فَلم يبرحوا من مكانهم خوفًا مِنْهُ
وَقَالَ ابْن شَدَّاد أنفذ صَلَاح الدّين فِي طلب وَالِده ليكمل لَهُ السرُور وَيجمع الْقِصَّة مشاكلة مَا جرى للنَّبِي يُوسُف الصّديق عَلَيْهِ السَّلَام فوصل وَالِده نجم الدّين إِلَيْهِ وسلك مَعَه من الْأَدَب مَا كَانَ عَادَته وَألبسهُ الْأَمر كُله فَأبى أَن يلْبسهُ وَقَالَ يَا وَلَدي مَا اختارك الله لهَذَا الْأَمر إِلَّا وَأَنت(2/151)
كف لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَن يُغير موقع السَّعَادَة فحكمَّه فِي الخزائن كلهَا وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى كَرِيمًا يُطلق وَلَا يرد وَلم يزل صَلَاح الدّين وزيراً محكماً إِلَى أَن مَاتَ العاضد أَبُو مُحَمَّد عبد الله وَبِه ختم أَمر المصريين
وَقَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي أرسل الْخَلِيفَة المستنجد بِاللَّه من بَغْدَاد إِلَى نور الدّين يعاتبه فِي تَأْخِير إِقَامَة الدعْوَة لَهُ بِمصْر فأحضر الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب وألزمه الْخُرُوج إِلَى وَلَده بِمصْر بذلك وحملَّه رِسَالَة مِنْهَا وَهَذَا أَمر يجب الْمُبَادرَة إِلَيْهِ لتحظى بِهَذِهِ الْفَضِيلَة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الْمَوْت وَحُضُور الْفَوْت لَا سِيمَا وَإِمَام الْوَقْت متطلع إِلَى ذَلِك بكليته وَهُوَ عِنْده من أهم أمْنِيته
وَسَار نجم الدّين وأصحبه نور الدّين هَدِيَّة سنية للْملك النَّاصِر وَخرج العاضد لتلقيه إِلَى ظَاهر بَاب الْفتُوح عِنْد شَجَرَة الإهليلج وَلم تجر بذلك عَادَة لَهُم وَكَانَ من أعجب يَوْم شهده النَّاس وخلع العاضد عَلَيْهِ ولقبَّه الْملك الْأَفْضَل وَحمل إِلَيْهِ من الْقصر الألطاف والتحف والهدايا وَأظْهر السُّلْطَان من بره وتعظيم أمره مَا أحرز بِهِ الشُّكْر وَالْأَجْر(2/152)
وأفرد لَهُ دَارا إِلَى جَانب دَاره وأقطعه الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط والبحيرة وأقطع شمس الدولة أَخَاهُ قوص وأسوان وعيذاب وَكَانَت عبرتها فِي هَذِه السّنة مئتي ألف وَسِتَّة وَسِتِّينَ ألف دِينَار
وَسَار شمس الدولة إِلَى قوص وولاها شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار وَكَانَ السُّلْطَان قبل إقطاعها شمس الدولة قد سيَّر رسْلَان بن دغمش لجباية خراجها فَخرج عَلَيْهِ عَبَّاس بن شاذي فِي جمَاعَة من الْأَعْرَاب وَالْعَبِيد فِي مرج بني هميم فغنمه رسْلَان وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة
وَفِي هَذِه السّنة لَيْلَة عيد الْفطر رزق السُّلْطَان ولد الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عليا وَفَرح بِهِ فَرحا عَظِيما وخلع وَأعْطى وَتصدق بِمَا بهر بِهِ الْعُقُول
وَمن قصيدة للحكيم عبد الْمُنعم تقدم بَعْضهَا
(فِي مشرق الْمجد نجم الدّين مطلعه ... وكل أبنائه شهب فَلَا أفلوا)
(جاؤوا كيعقوب والأسباط إِذْ وردوا ... على الْعَزِيز من أَرض الشَّام واشتملوا)
(لكنَّ يُوسُف هَذَا جَاءَ إخْوَته ... وَلم يكن بَينهم نزع وَلَا زلل)
(وملكوا ملك مصر فِي شماخته ... وَمثلهَا لرجال مثلهم نزل)(2/153)
فصل فِي ذكر الزلزلة الْكُبْرَى
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ثَانِي عشر شَوَّال كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة لم ير النَّاس مثلهَا عَمت أَكثر الْبِلَاد من الشَّام ومصر والجزيرة والموصل وَالْعراق وَغَيرهَا إِلَّا أَن أَشدّهَا وَأَعْظَمهَا كَانَ بِالشَّام فخربت بعلبك وحمص وحماة وشيرز وبعرين وَغَيرهَا وتهدمت أسوارها وقلاعها وَسَقَطت الدّور على أَهلهَا وَهلك من النَّاس مَا يخرج عَن الْعد والإحصاء فَلَمَّا أَتَى نور الدّين خَبَرهَا سَار إِلَى بعلبك ليعمر مَا انْهَدم من أسوارها وقلعتها وَكَانَ لم يبلغهُ خبر غَيرهَا فَلَمَّا وَصلهَا أَتَاهُ خبر بَاقِي الْبِلَاد بخراب أسوارها وخلوها من أَهلهَا فرتب ببعلبك من يحميها ويعمرها وَسَار إِلَى حمص فَفعل مثل ذَلِك ثمَّ إِلَى حماة ثمَّ إِلَى بارين وَكَانَ شَدِيد الحذر على الْبِلَاد من الفرنج لَا سِيمَا قلعة بارين فَإِنَّهَا مَعَ قربهَا مِنْهُم لم يبْق من سورها شَيْء الْبَتَّةَ فَجعل فِيهَا طَائِفَة صَالِحَة من الْعَسْكَر مَعَ أَمِير كَبِير ووكل بالعمارة من يحث عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ثمَّ أَتَى مَدِينَة حلب فَرَأى فِيهَا من آثَار الزلزلة مَا لَيْسَ بغَيْرهَا من الْبِلَاد فَإِنَّهَا كَانَت قد أَتَت عَلَيْهَا وَبلغ الرعب بِمن نجا كل مبلغ فَكَانُوا لايقدرون يأوون إِلَى بُيُوتهم السالمة من الخراب خوفًا من الزلزلة فَإِنَّهَا عاودتهم غير مرّة وَكَانُوا يخَافُونَ يُقِيمُونَ بِظَاهِر حلب من الفرنج فَلَمَّا شَاهد مَا صنعت الزلزلة بهَا وبأهلها أَقَامَ فِيهَا وباشر عمارتها بِنَفسِهِ وَكَانَ هُوَ يقف على اسْتِعْمَال الفعلة والبنائين وَلم يزل(2/154)
كَذَلِك حَتَّى أحكم أسوارها وَجَمِيع الْبِلَاد وجوامعها وَأخرج من الْأَمْوَال مَا لَا يقدر قدره
وَأما بِلَاد الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَإِنَّهَا أَيْضا فعلت بهَا الزلزلة قَرِيبا من هَذَا وهم أَيْضا يخَافُونَ نور الدّين على بِلَادهمْ فاشتغل كل مِنْهُم بعمارة بِلَاده عَن قصد الآخر
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت قلاع الفرنج الْمُجَاورَة لبارين كحصن الأكراد وصافيثا والعُريمة وعرقا فِي بَحر الزلازل غرقي لَا سِيمَا حصن الأكراد فَإِنَّهُ لم يبْق لَهُ سور وَقد تمّ عَلَيْهِم فِيهِ دحور وثبور فشغلهم سوؤهم عَن سواهُ وكل اشْتغل بِمَا دهاه وتواصلت الْأَخْبَار من جَمِيع بِلَاد الشَّام بِمَا أحدثته الزلزلة من الانهداد والانهدام
قَالَ وَمَا سكنت النُّفُوس من رعبها وسلت الْقُلُوب عَن كربها إِلَّا بِمَا دهم الْكفَّار من أمرهَا وعراهم من ضرها فَلَقَد خصتهم بالأمضِّ الأشق وأخذتهم الرجفة بِالْحَقِّ فَإِنَّهَا وَافَقت يَوْم عيدهم وهم فِي الْكَنَائِس فَأَصْبحُوا للردى فرائس شاخصة أَبْصَارهم ينظرُونَ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العْذَابُ منْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون}
ثمَّ ذكر الْعِمَاد قصيدة فِي مدح نور الدّين وَوصف الزلزلة مطْلعهَا
(هَل لعاني الْهوى من الْأسر فادي ... ولساري ليل الصبابة هادي)(2/155)
(جنِّبوني خطب البعاد فسهلُ ... كل خطب سوى النَّوَى والبعاد)
(كنت فِي غَفلَة من الْبَين حَتَّى ... صَاح يَوْم الأثيل بالبين حادي)
(قد حللتم من مهجتي فِي السويداء ... وَمن مقلتي مَحل السوَاد)
(وبخلتم من الْوِصَال بإسعافي ... أما كُنْتُم من الأجواد)
(وبعثتم نسيمكم يتلافاني ... فَعَاد النسيم من عُوّادي)
(سُمتموني تجلداً واشتياقاً ... ومحال تجمع الأضداد)
(أبقاء بعد الْأَحِبَّة يَا قلبِي ... مَا هَذِه شُرُوط الوداد)
(ذاب قلبِي وسال فِي الدمع لما ... دَامَ من نَار وجده فِي اتقاد)
(مَا الدُّمُوع الَّتِي تحدرها الأشواق ... إِلَّا فتائت الأكباد)
(حبذا ساكنو فُؤَادِي وعهدي ... بهمُ يسكنون سفح الْوَادي)
(أَتَمَنَّى بِالشَّام أَهلِي بِبَغْدَاد ... وَأَيْنَ الشآم من بَغْدَاد)
(مَا اعتياضي عَن حبهم يعلم الله ... تَعَالَى إِلَّا بحب الْجِهَاد)
(واشتغالي بِخِدْمَة الْملك الْعَادِل ... محمودٍ الْكَرِيم الْجواد)
(أَنا مِنْهُ على سَرِير سروري ... راتع الْعَيْش فِي مُرَاد مرادي)
(قيدتني بِالشَّام مِنْهُ الأيادي ... والأيادي للْحرّ كالأقياد)
(قد وَردت الْبَحْر الخضم وخلفت ... مُلُوك الدُّنْيَا بِهِ كالثماد)
(هُوَ نعم الملاذ من نَائِب الدَّهْر ... وَنعم المعاذ عِنْد الْمعَاد)(2/156)
(جلّ رزء الفرنج فاستبدلوا مِنْهُ ... بلبسُ الْحَدِيد لبس الْحداد)
(فرَّق الرعب مِنْهُ فِي أنفس الْكفَّار ... بَين الْأَرْوَاح والأجساد)
(سطوة زلزلت بسكانها الأَرْض ... وهدت قَوَاعِد الأطواد)
(أخذتهم بِالْحَقِّ رَجْفَة بَأْس ... تَركتهم صرعى صروف العوادي)
(خفضت من قلاعها كل عَال ... وأعادت تلاعها كالوهاد)
(أنفذ الله حكمه فَهُوَ مَاض ... مظْهرا سر غيبه فَهُوَ بَادِي)
(آيَة آثرت ذَوي الشّرك بالهلك ... وَأهل التَّوْحِيد بالإرشاد)
(والأعادي جرى عَلَيْهِم من التدمير ... مَا قد جرى على قوم عَاد)
(أشركت فِي الْهَلَاك بَين الْفَرِيقَيْنِ ... دعاة الْإِشْرَاك والإلحاد)
(وَلَقَد حَاربُوا الْقَضَاء فَأمْضى ... حكمه فيهم بِغَيْر جلاد)
(والإله الرؤوف فِي الشَّام عَنَّا ... دَافع لطفه بلَاء الْبِلَاد)
قَالَ الْعِمَاد وَمِنْهَا معنى مبتكر ابتدعته فِي الزلزلة وَهُوَ
(وبحق أُصِيبَت الأَرْض لما ... سكنت من مقَام أهل الْفساد)
(علمت أَنَّهَا جنت فعراها ... حذرا من سطاك شبه ارتعاد)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة عِنْد وصولنا إِلَى حلب فِي الْخدمَة النورية كنت مقرظا للفضائل الشهروزية وَكَانَ الْحَاكِم بهَا القَاضِي محيي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد ابْن قَاضِي قُضَاة الشَّام كَمَال الدّين أبي الْفضل مُحَمَّد بن(2/157)
عبد الله بن الْقَاسِم الشَّهْرَزَوْرِي وَكَانَ كَمَال الدّين قد عذق بِهِ تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَإِلَيْهِ أُمُور الدِّيوَان وَهُوَ ذُو المكانة والإمكان فِي بسط الْعدْل وَالْإِحْسَان ومحيي الدّين وَلَده يَنُوب عَنهُ فِي الْقَضَاء بحلب وبلدانها وَينظر أَيْضا فِي أُمُور ديوانها وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان وهما حاكمان متحكمان وَكَانَ هَذَا محيي الدّين من أهل الْفضل وَله نظم ونثر وخطب وَشعر وَكَانَت معرفتي بِهِ فِي أَيَّام التفقه بِبَغْدَاد فِي الْمدرسَة النظامية مُنْذُ سنة خمس وَثَلَاثِينَ والمدرس شَيخنَا معِين الدّين سعيد بن الرزّاز وَكَانَ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِعِلْمِهِ مُعلماً مَذْهَب الطّراز وَكَانَت الزلزلة بحلب قد خربَتْ دَار محيي الدّين وسلبت قراره وغلبت اصطباره وجلبت أفكاره فَكتبت إِلَيْهِ قصيدة مطْلعهَا
(لَو كَانَ من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معديا)(2/158)
وَمِنْهَا
(مَاتَ الرَّجَاء فَإِن أردْت حَيَاته ... ونشوره فارجُ الإِمَام المحييا)
(أقضى الْقُضَاة مُحَمَّد بن مُحَمَّد ... من لست مِنْهُ للفضائل محصيا)
(قاضٍ بِهِ قَضَت الْمَظَالِم نحبها ... وَغدا على آثارهن معفيا)
(يَا كاشفاً للحق فِي أَيَّامه ... غُررا يَدُوم لَهَا الزَّمَان مغطيا)
(لم تنعش الشَّهْبَاء عِنْد عثارها ... لَو لم تَجِد لطود حلمك مرسيا)
(رجفت لسطوتك الَّتِي أرسلتها ... نَحْو الطغاة لحد عزمك ممهيا)
(وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل إجارتهاعليها مبقيا)
(أنفت من الثُّقَلَاء فِيهَا إِذا رمت ... أثقالها ورأتك مِنْهَا ملجيا)
(حَلَبُ لَهَا حلب المدامع مُسبل ... أَن لاقت الْخطب الفظيع المبكيا)
(وبعدل نور الدّين عاود أفقها ... من بعد غيم الْغم جوا مصحيا)
(أضحى لبهجتها معيدا بَعْدَمَا ... ذهبت وللمعروف فِيهَا مبديا)
(لأمورها متدبراً لشتاتها ... متألفاً لصلاحها مُتَوَلِّيًا)
(فالشرع عَاد بعدله مستظهراً ... وَالْحق عَاد بظله مستذرياً)
(والدهر لَاذَ بعفوه مُسْتَغْفِرًا ... مِمَّا جناه مطرقا مستحييا)(2/159)
فصل فِي غَزْوَة صَاحب البيرة ووفاة صَاحب الْموصل
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ شهَاب الدّين مُحَمَّد بن إلْيَاس بن إيلغازي بن أرتق صَاحب قلعة البيرة قد سَار فِي عسكره وهم مئتا فَارس إِلَى الْخدمَة النورية وَهُوَ بعشترا فَلَمَّا وصل إِلَى اللبوة وَهِي من أَعمال بعلبك ركب متصيدا فصادف ثَلَاث مئة فَارس من الفرنج قد سَارُوا للغارة على بِلَاد الْإِسْلَام وَذَلِكَ سَابِع عشر شَوَّال فَوَقع بَعضهم على بعض واقتتلوا وصبر الْفَرِيقَانِ لَا سِيمَا الْمُسلمُونَ لِأَن ألف فَارس مِنْهُم لَا تصبر لحملة ثَلَاث مئة فَارس من الفرنج وَكثر الْقَتْلَى بَينهم وَانْهَزَمَ الفرنج وعمهم الْقَتْل والأسر فَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا من لَا يعْتد بِهِ {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لَيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كاَنَ مَفْعُولا} وَسَار شهَاب الدّين بالأسرى ورؤوس الْقَتْلَى إِلَى نور الدّين فَركب هُوَ وَعَسْكَره إِلَى لِقَائِه واستعرض الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى فَرَأى فِيهَا رَأس مقدم الإسبتارية صَاحب حصن الأكراد وَكَانَت الفرنج تعظمه لشجاعته وَدينه عِنْدهم وَلِأَنَّهُ شجي فِي حلوق الْمُسلمين وَكَذَلِكَ أَيْضا رأى رَأس غَيره من مشهوري الفرنج فازداد سُرُورًا وَللَّه الْحَمد(2/160)
قَالَ وَفِي شَوَّال سنة خمس وَسِتِّينَ توفّي الْملك قطب الدّين مودود بن زنكي بالموصل وَكَانَ لما أَشْتَدّ مَرضه أوصى بِالْملكِ بعده لوَلَده عماد الدّين زنكي بن مودود وَهُوَ أكبر أَوْلَاده وأعزهم عَلَيْهِ وأحبهم إِلَيْهِ وَكَانَ النَّائِب عَن قطب الدّين حِينَئِذٍ والقيم بِأَمْر دولته فَخر الدّين عبد الْمَسِيح وَكَانَ يكره عماد الدّين زنكي لِأَنَّهُ كَانَ قد أَكثر الْمقَام عِنْد عَمه الْملك الْعَادِل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وخدمه وَتزَوج ابْنَته وَكَانَ عزيزه وحبيبه وَكَانَ نور الدّين يبغض عبد الْمَسِيح لظلم كَانَ فِيهِ ويذمه وَيَلُوم أَخَاهُ قطب الدّين على تَوليته الْأُمُور فخاف عبد الْمَسِيح أَن يتَصَرَّف عماد الدّين فِي أُمُوره عَن أَمر عَمه فيعزله ويبعده فاتفق هُوَ والخاتون ابْنة حسام الدّين تمرتاش زَوْجَة قطب الدّين فَردُّوهُ عَن هَذَا الرَّأْي فَلَمَّا كَانَ الْغَد أحضر الْأُمَرَاء واستحلفهم لوَلَده سيف الدّين غَازِي وَتُوفِّي وَقد جَاوز عمره أَرْبَعِينَ سنة
وَكَانَ تَامّ الْقَامَة كَبِير الْوَجْه أسمر اللَّوْن وَاسع الْجَبْهَة جَهورِي الصَّوْت وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصفا
وَلما توفّي اسْتَقر سيف الدّين فِي الْملك ورحل عماد الدّين إِلَى عَمه نور الدّين شاكياً ومستنصراً وَكَانَ عبد الْمَسِيح هُوَ متولى أُمُور سيف(2/161)
الدّين وَيحكم فِي مَمْلَكَته وَلَيْسَ لسيف الدّين من الْأَمر إِلَّا اسْمه لِأَنَّهُ فِي عنفوان شبابه وغرة حداثته
قَالَ وهذ حَادِثَة تَحت على الْعدْل من جملَة أَعمال جَزِيرَة ابْن عمر قَرْيَة تسمى العُقَيمة مُقَابل الجزيرة من الْجَانِب الشَّرْقِي يفصل بَينهمَا دجلة لَهَا بساتين كَثِيرَة بَعْضهَا تمسح أرضه وَيُؤْخَذ على كل جريب من الأَرْض الَّتِي قد زرعت شَيْء مَعْلُوم وَبَعضهَا عَلَيْهِ خراج وَلَا مساحة عَلَيْهِ وَبَعضهَا مُطلق مِنْهُمَا فالممسوح مِنْهَا لَا يحصل لأَصْحَابه مِنْهُ إِلَّا الْقدر الْقَرِيب وَكَانَ لنا بهَا عدَّة بساتين فَحكى لي وَالِدي قَالَ جَاءَنَا كتاب فَخر الدّين عبد الْمَسِيح إِلَى الجزيرة وَأَنا حِينَئِذٍ أتولى ديوانها يَأْمر بِأَن تجْعَل بساتين العقيمة كلهَا ممسوحة فشق ذَلِك عليَّ لأجل أَصْحَابهَا فَفِيهَا نَاس صَالِحُونَ ولي بهم أنس وهم فُقَرَاء فراجعته وَقلت لَهُ لَا تظن أَنِّي أَقُول هَذَا لأجل ملكي لَا وَالله إِنَّمَا أُرِيد أَن يَدُوم النَّاس على الدُّعَاء للْمولى قطب الدّين وَأَنا أَمسَح ملكي جَمِيعه قَالَ فَأَعَادَ الْجَواب يَأْمر بالمساحة وَيَقُول تمسح أَولا ملكك ليقتدي بك غَيْرك وَنحن نطلق لَك مَا يكون عَلَيْهِ فشرع النواب يمسحون وَكَانَ بالعقيمة رجلَانِ صالحان وبيني وَبَينهمَا مَوَدَّة اسْم أَحدهمَا يُوسُف وَالْآخر عبَادَة فحضرا عِنْدِي وتضورا(2/162)
من هَذِه الْحَال وسألاني الْمُكَاتبَة فِي الْمَعْنى فأظهرت لَهما كتاب عبد الْمَسِيح جَوَابا عَن كتابي فشكراني وَقَالا وَأَيْضًا تعودُ تراجعهُ فعاودت القَوْل فأصر على المساحة فعرفتهما الْحَال فَلَمَّا مضى عدَّة أَيَّام عدت يَوْمًا إِلَى دَاري وَإِذا هما قد صادفاني على الْبَاب فَقلت لنَفْسي عجبا لهذين الشَّيْخَيْنِ قد رَأيا مراجعتي وهما يطلبان مني مَا لَا أقدر عَلَيْهِ فَقلت لَهما وَالله إِنِّي لأستحيي مِنْكُمَا كلما جئتما فِي هَذَا الْمَعْنى وَقد رَأَيْتُمَا الْحَال كَيفَ هُوَ فَقَالَا صدقت وَلم نحضر إِلَّا لنعرفك أَن حاجتنا قضيت قَالَ فَظَنَنْت أَنَّهُمَا قد أرسلا إِلَى الْموصل من شفع لَهما فَدخلت دَاري وأدخلتهما معي وسألتهما عَن الْحَال كَيفَ هُوَ وَمن الَّذِي سعى لَهما فَقَالَا إِن رجلا من الصَّالِحين الأبدال شَكَوْنَا إِلَيْهِ حَالنَا فَقَالَ قد قضيت حَاجَة أهل العقيمة جَمِيعهم قَالَ فَوَقع عِنْدِي من هَذَا وَلَكِن تَارَة أصدقهما لما أعلم من صَلَاح أحوالهما وَتارَة أعجب من سَلامَة صدرهما كَيفَ يعتمدان على هَذَا القَوْل ويعتقدانه وَاقعا لَا شكّ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام وصل قَاصد من الْموصل بِكِتَاب يَأْمر فِيهِ بِإِطْلَاق مساحة العقيمة وَإِطْلَاق كل مسجون وبالصدقة فَسَأَلت القاصد عَن السَّبَب فَأخْبرنَا أَن قطب الدّين شَدِيد الْمَرَض قَالَ فأفكرت فِي قَوْلهمَا وتعجبت مِنْهُ ثمَّ توفّي بعد يَوْمَيْنِ من هَذَا قَالَ وَرَأَيْت وَالِدي إِذا رأى أحد الرجلَيْن يُبَالغ فِي إكرامه ويحترمه وَيَقْضِي أشغاله واتخذهما صديقين(2/163)
قَالَ وَكَانَ قطب الدّين من أحسن الْمُلُوك وأعفَّهم عَن أَمْوَال رَعيته محسنا إِلَيْهِم كثير الإنعام عَلَيْهِم محبوباً إِلَى صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ حَلِيمًا عَن المذنبين مِنْهُم سريع الانفعال للخير حدَّثني وَالِدي قَالَ استدعاني يَوْمًا وَهُوَ بالجزيرة وَكنت أتولى أَعمالهَا فلامني فِي بعض الْأَمر فَقلت أَخَاف من الِاسْتِقْصَاء لودعي على بعض هَؤُلَاءِ الْمُلُوك وأومأت إِلَى أَوْلَاده لكَانَتْ شَعْرَة مِنْهُ تَسَاوِي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلنَا مَوَاضِع تحْتَمل الْعِمَارَة يتَحَصَّل مِنْهَا أَضْعَاف هَذَا فَقَالَ جَزَاك الله خيرا لقد نصحت وَأديت الْأَمَانَة فاشرع فِي عمَارَة هَذِه الاماكن فَفعلت وَكَبرت منزلتي عِنْده وَلم يزل يثني عليّ
قَالَ وَكَانَ كثير الصَّبْر وَالِاحْتِمَال من أَصْحَابه لقد صَبر من نوابه زين الدّين وجمال الدّين وَغَيرهمَا على مَا لم يصبر عَلَيْهِ سواهُ وَكَانَ حسن الِاتِّفَاق مَعَ اخيه الْملك الْعَادِل نور الدّين كثير المساعدة لَهُ والإنجاد بِنَفسِهِ وَعَسْكَره وأمواله حضر مَعَه المصافَّ بحارم وَفتحهَا وَفتح بانياس وَكَانَ يخْطب لَهُ فِي بِلَاده بِاخْتِيَارِهِ من غير خوف وَكَانَ إحسانه إِلَى أَصْحَابه مُتَتَابِعًا من غير طلب مِنْهُم وَلَا تَعْرِيض وَكَانَ يبغض الظُّلم وَأَهله ويعاقب من يَفْعَله
قَالَ وَبِاللَّهِ أقسم إِذا فَكرت فِي الْمُلُوك أَوْلَاد زنكي سيف الدّين وَنور الدّين وقطب الدّين وَمَا جمع الله فيهم من مَكَارِم الْأَخْلَاق ومحاسن(2/164)
الْأَفْعَال وَحسن السِّيرَة وَعمارَة الْبِلَاد والرفق بالرعية إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي يحْتَاج الْملك إِلَيْهَا أذكر قَول الشَّاعِر
(من تلقَ مِنْهُم تقلْ لاقيت سيدهم ... مثل النُّجُوم الَّتِي يسري بهَا السَّاري)
قلت وقرأت بِخَط الشَّيْخ عمر الملاء رَحمَه الله فِي كتاب كتبه إِلَى بعض الصَّالِحين وَسَأَلَهُ فِيهِ الدُّعَاء لقطب الدّين صَاحب الْموصل وَقَالَ فِيهِ يَا أخي لَو ذهبت أشرح لَك سيرته فِي بِلَاده وعيش رَعيته فِي ولَايَته أطلت وأضجرت غير أَنِّي أذكر لَك مَا خصّه الله بِهِ من الْأَخْلَاق الصَّالِحَة هُوَ من أَكثر النَّاس رَحْمَة وأشدهم حَيَاء وأعظمهم تواضعاً وَأَقلهمْ طَمَعا وأزهدهم فِي الظُّلم وَأَكْثَرهم صبرا وأبعدهم غَضبا وأسرعهم رضَا وَهُوَ من هَذِه الْأَخْلَاق على حد أحبه أَنا محبَّة لَا أقدر أصفها وبيني وَبَينه إخاء ومزاورة يزورني وأزوره
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما بلغ نور الدّين وَفَاة أَخِيه قطب الدّين وَملك وَلَده سيف الدّين بعده واستيلاء عبد الْمَسِيح واستبداده بالأمور وَحكمه على سيف الدّين أنف من ذَلِك وَكبر لَدَيْهِ وشق عَلَيْهِ وَكَانَ يبغض عبد الْمَسِيح لما يبلغهُ من خشونته على الرّعية وَالْمُبَالغَة فِي إِقَامَة السياسة وَكَانَ نور(2/165)
الدّين رَحمَه الله تَعَالَى لينًا رَفِيقًا عادلا فَقَالَ أَنا أولى بتدبير أَوْلَاد أخي وملكهم ثمَّ سَار من وقته فَعبر الْفُرَات عِنْد قلعة جعبر أول محرم
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
وَقصد الرقة فَامْتنعَ النَّائِب بهَا شَيْئا من الِامْتِنَاع ثمَّ سلمهَا على شَيْء اقترحه فاستولى نور الدّين عَلَيْهَا وَقرر أمورها وَسَار إِلَى الخابور فملكه جَمِيعه ثمَّ ملك نَصِيبين وَأقَام بهَا يجمع العساكر فَإِنَّهُ كَانَ قد سَار جَرِيدَة فَأَتَاهُ بهَا نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان صَاحب الْحصن وديار بكر وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وَقد كَانَ ترك أَكثر عسكره بِالشَّام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وَغَيرهم فَلَمَّا اجْتمعت العساكر سَار إِلَى سنجار فحصرها وَأقَام عَلَيْهَا وَنصب المجانيق وَكَانَ بهَا عَسْكَر كَبِير من الْموصل فكاتبه عَامَّة الْأُمَرَاء الَّذين بالموصل يحثونه على السُّرعة إِلَيْهِم ليسلموا الْبَلَد إِلَيْهِ وأشاروا بترك سنجار فَلم يقبل مِنْهُم وَأقَام حَتَّى ملك سنجار وَسلمهَا إِلَى ابْن أَخِيه الْأَكْبَر عماد الدّين زنكي ثمَّ سَار إِلَى(2/166)
الْموصل فَأتى مَدِينَة بَلَد وَعبر دجلة فِي مخاضة عِنْدهَا إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وَسَار فَنزل شَرْقي الْموصل على حصن نِينَوَى ودجلة بَينه وَبَين الْموصل
قَالَ وَمن الْعجب أَنه يَوْم نُزُوله سقط من سور الْموصل بَدَنَة كَبِيرَة وَكَانَ عبد الْمَسِيح قد سيَّر عز الدّين مَسْعُود بن قطب الدّين إِلَى أتابك إيلدكز صَاحب بِلَاد الْجَبَل وأذربيحان وأرّان وَغَيرهَا يستنجده فَأرْسل إيلْدِكِز رَسُولا إِلَى نور الدّين ينهاه عَن قصد الْموصل وَيَقُول لَهُ إِن هَذِه الْبِلَاد للسُّلْطَان وَلَا سَبِيل لَك إِلَيْهَا فَلم يَلْتَفت نور الدّين إِلَى رسَالَته وَكَانَ بسنجار فَسَار إِلَى الْموصل وَقَالَ للرسول قل لصاحبك أَنا أرْفق ببني أخي مِنْك فَلَا تدخل نَفسك بَيْننَا وَعند الْفَرَاغ من إصلاحهم يكون الحَدِيث مَعَك على بَاب همذان فَإنَّك قد ملكت نصف بِلَاد الْإِسْلَام وأهملت الثغور حَتَّى غلب الكُرْج عَلَيْهَا وَقد بليت أَنا وحدي بأشجع النَّاس الفرنج فَأخذت بِلَادهمْ وأسرت مُلُوكهمْ فَلَا يجوز لي أَن أتركك على مَا أَنْت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يجب علينا الْقيام بِحِفْظ مَا أهملت من بِلَاد الْإِسْلَام وَإِزَالَة الظُّلم عَن الْمُسلمين فَعَاد الرَّسُول بِهَذَا الْجَواب(2/167)
وَحصر نور الدّين الْموصل فَلم يكن بَينهم قتال وَكَانَ هوى كل من بالموصل من جندي وعامي مَعَه لحسن سيرته وعدله وكاتبه الْأُمَرَاء يعلمونه أَنهم على الْوُثُوب على عبد الْمَسِيح وَتَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْهِ فَلَمَّا علم عبد الْمَسِيح ذَلِك راسله فِي تَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْهِ وَتَقْرِيره على سيف الدّين وَيطْلب الْأمان وإقطاعاً يكون لَهُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَقَالَ لَا سَبِيل إِلَى إبقائه بالموصل بل يكون عِنْدِي بِالشَّام فَإِنِّي لم آتٍ لأخذ الْبِلَاد من أَوْلَادِي إِنَّمَا جِئْت لأخلص النَّاس مِنْك وأتولى أَنا تربية أَوْلَادِي فاستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك وسلمت الْموصل إِلَيْهِ فَدَخلَهَا ثَالِث عشر جمادي الأولى وَسكن القلعة وَأقر سيف الدّين غَازِي على الْموصل وَولى بقلعتها خَادِمًا يُقَال لَهُ سعد الدّين كمشتكين وَجعله دُزداراً فِيهَا وَقسم جَمِيع مَا خَلفه أَخُوهُ قطب الدّين بَين أَوْلَاده بِمُقْتَضى الْفَرِيضَة
وَلما كَانَ يحاصر الْموصل جَاءَتْهُ خلعة من الْخَلِيفَة فلبسها فَلَمَّا دخل الْموصل خلعها على سيف الدّين وَأطلق المكوس جَمِيعهَا من الْموصل وَسَائِر مَا فَتحه من الْبِلَاد وَأمر بِبِنَاء الْجَامِع النوري بالموصل(2/168)
فَبنِي وأقيمت الصَّلَاة فِيهِ سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
وَأقَام بالموصل نَحْو عشْرين يَوْمًا وَسَار إِلَى الشَّام فَقيل لَهُ إِنَّك تحب الْموصل وَالْمقَام بهَا ونراك أسرعت الْعود فَقَالَ قد تغير قلبِي فِيهَا فَإِن لم أفارقها ظلمت ويمنعني أَيْضا أنني هَهُنَا لاأكون مرابطاً لِلْعَدو وملازماً للْجِهَاد ثمَّ أقطع نَصِيبين والخابور العساكر وأقطع جَزِيرَة ابْن عمر سيف الدّين غَازِي ابْن أَخِيه مَعَ الْموصل وَعَاد إِلَى الشَّام وَمَعَهُ عبد الْمَسِيح فَغير اسْمه وَسَماهُ عبد الله وأقطعه إقطاعا كثيرا
وَقَالَ الْعِمَاد واستدعاني نور الدّين وَنحن بِظَاهِر الرقَّة وَقَالَ لي قد أنست بك وَأمنت إِلَيْك وَأَنا غير مُخْتَار للفرقة لَكِن المهم الَّذِي عرض لَا يبلغ فِيهِ غَيْرك الْغَرَض فتمضي إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز جَرِيدَة وَتُؤَدِّي عني رِسَالَة سديدة سعيدة وتنُهي أَنِّي قصدت بَيْتِي وَبَيت وَالِدي ومغنَي طريفي وتالدي وَأَنا كبيره ووارثه وَالَّذِي لَهُ حَدِيثه وحادثه فَامْضِ وَخذ لي إِذْنا فَإِنِّي أعد كل جارحة لي لما أخاطب بِهِ أُذناً وأمثل مَا يصلني من الْمِثَال لدفع كل مَكْرُوه ركنا وَأمر نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه أَن يسيرني إِلَى الرحبة فِي رجال مأموني الصُّحْبَة وسرت مِنْهَا على الْبَريَّة غربي الْفُرَات بخفير من بني خفاجة فَذكر أَنه وصل وَقضى الْحَاجة ثمَّ رَجَعَ من عِنْد الْخَلِيفَة المستنجد إِلَى نور الدّين وَهُوَ يحاصر سنجار فَأَخذهَا وملكها(2/169)
وَسلمهَا إِلَى ختنه ابْن أَخِيه عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي
قَالَ ثمَّ رَحل على عزم الْموصل وَقصد بلد واستوضح فِيهَا الجدد ودُلَّ هُنَاكَ فِي دجلة على مخاضة وَكَانَ ذَا أَخْلَاق وهمم مرتاضة فاستسهل من خوضها والعبور فِيهَا مَا ظن مستصعبا وَسَهل الله لنا ذَلِك ورأيناه أمرا عجبا وَجَاء دَلِيل تركماني قدامنا وَهُوَ يقطع دجلة تَارَة طولا وَتارَة عرضا أمامنا وَنحن وَرَاءه كخيط وَاحِد لَا نَمِيل يَمِينا وَلَا يسارا وَلَا نجد لنا فِي سوى ذَلِك الْمجَاز اخْتِيَارا حَتَّى عبرنا من الْجَانِب الغربي إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي برجالنا وأثقالنا وخيلنا وبغالنا وجمالنا وأقمنا بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم حَتَّى تمَّ عبور الْقَوْم
ثمَّ رحلنا ونزلنا على الْموصل من شرقيها وخيمنا على تلِّ تَوْبَة فاستعظم أَهلهَا تِلْكَ النّوبَة وَمَا خطر ببالهم أننا نعبر بِغَيْر مراكب وأنَّا نَأْخُذ عَلَيْهِم ذَلِك الْجَانِب فعرفوا أَنهم محصورون مقهورون محسورون وانقطعت عَنْهُم السبل من الشرق وَتعذر عَلَيْهِم الرقع لاتساع الْخرق وَبسط الْعَطاء وكشف الغطاء وَتكلم فِي الْمصلحَة والمصالحة الوسطاء ومُد الجسر وَقضى الْأَمر وأنعم نور الدّين على أَوْلَاد أَخِيه ومثلوا بناديه وَأقر سيف الدّين غازياً على قَاعِدَة أَبِيه وَألبسهُ التشريف الَّذِي وَصله من أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء
ثمَّ دخل قلعة الْموصل وَأقَام بهَا سَبْعَة عشر يَوْمًا وجدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذَوي الْمَرَاتِب من الْقَضَاء والنقابة وَغَيرهمَا وَأمر(2/170)
بِإِسْقَاط جَمِيع المكوس والضرائب وَأَنْشَأَ بذلك منشوراً يقْرَأ على النَّاس فَمِنْهُ
قد قنعنا من كنز الْأَمْوَال باليسير من الْحَلَال فسحقاً للسحت ومحقاً لِلْحَرَامِ الْحقيق بالمقت وبعداً لما يبعد من رضَا الرب ويقصي من مَحل الْقرب وَقد استخرنا الله وتقربنا إِلَيْهِ وتوكلنا فِي جَمِيع الْأَحْوَال عَلَيْهِ وتقدمنا بِإِسْقَاط كل مكس وضريبة فِي كل ولَايَة لنا بعيدَة أَو قريبَة وَإِزَالَة كل جِهَة مشتبهة مشوبة ومحو كل سنَّة سَيِّئَة شنيعة وَنفي كل مظْلمَة مظْلمَة فظيعة وإحياء كل سنة حَسَنَة وانتهاز كل فرْصَة فِي الْخَيْر مُمكنَة وَإِطْلَاق كل مَا جرت الْعَادة بِأَخْذِهِ من الْأَمْوَال المحظورة خوفًا من عواقبها الردية المحذورة فَلَا يبْقى فِي جَمِيع ولايتنا جور جَائِر جَارِيا وَلَا عمل لَا يكون بِهِ الله رَاضِيا إيثاراً للثَّواب الآجل على الحطام العاجل وهذ حق لله قضيناه وواجب علينا أديناه بل هِيَ سنة حَسَنَة استنناها ومحجة وَاضِحَة بيناها وَقَاعِدَة محكمَة مهدناها وَفَائِدَة مغتنمة أفدناها
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ بالموصل شيخ صَالح يعرف بعمر الملاء سمي(2/171)
بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يمْلَأ تنانير الجص بِأُجْرَة يتقوَّت بهَا وكل مَا عَلَيْهِ من قَمِيص ورداء وَكِسْوَة وَكسَاء قد ملكه سواهُ واستعاره فَلَا يملك ثَوْبه وَلَا إزَاره وَكَانَ لَهُ شَيْء فوهبه لأحد مريديه وَهُوَ يتجر لنَفسِهِ فِيهِ فَإِذا جَاءَهُ ضيف قراه ذَلِك المريد وَكَانَ ذَا معرفَة بِأَحْكَام الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة
وَكَانَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء والملوك والأمراء يزورونه فِي زاويته ويتبركون بهمته ويتيمنَّون ببركته وَله كل سنة دَعْوَة يحتفل بهَا فِي أَيَّام مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحضرهُ فِيهَا صَاحب الْموصل ويحضر الشُّعَرَاء وينشدون مدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك المحفل
وَكَانَ نور الدّين من أخص محبيه يستشيره فِي حُضُوره ويكاتبه فِي مصَالح أُمُوره وَكَانَت بالموصل خربة وَاسِعَة فِي وسط الْبَلَد أشيع عَنْهَا أَنه مَا شرع فِي عمارتها إِلَّا من ذهب عمره وَلم يتم على مُرَاده أمره فَأَشَارَ الشَّيْخ عمر على نور الدّين بابتياعها وَرفع بنائها جَامعا تُقَام فِيهِ الْجمع وَالْجَمَاعَات فَفعل وَأنْفق فِيهِ أَمْوَالًا كَثِيرَة ووقف عَلَيْهِ ضَيْعَة من ضيَاع الْموصل ورتب فِيهِ خَطِيبًا ومدرساً وَكَانَ قد وصل فِي تِلْكَ السّنة وافدا الْفَقِيه عماد الدّين أَبُو بكر النوقاني الشَّافِعِي من أَصْحَاب الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى فَسَأَلَهُ أَن يكون مدرساً فِي ذَلِك الْجَامِع وَكتب لَهُ(2/172)
بِهِ منشوراً
قَالَ وَحضر مُجَاهِد الدّين قايماز صَاحب إربل فِي الْخدمَة النورية فِي الْموصل وَكَانَ دُخُولهمْ إِيَّاهَا فِي بحبوحة الشتَاء فَكتب الْعِمَاد إِلَى بعض كبراء الْموصل قصيدة مِنْهَا
(مَا يمْنَع الْخَادِم من قَصده الْخدمَة ... غير الطّرق والوحل)
(كَأَنَّمَا موصلكم مقطع ... مَا يَهْتَدِي فِيهِ إِلَى وصل)
(وكلّ مَعْرُوف بهَا مُنكر ... كَمَا ترَاهُ ضيّق السّبل)
(وكل من حلّ بهَا لَا يرى ... فِي زمن الخصب سوى الْمحل)
(ومذ دخلناها حصلنا بهَا ... كَرهاً على خرج بِلَا دخل)
(أصعب مَا نَلْقَاهُ من أَهلهَا ... قَول بِلَا أهل وَلَا سهل)
(وَكنت أهواها ولكنني ... لقِيت مِنْهَا كلّ مَا يسلى)
(وانت من أصبح إحسانه ... حلية هَذَا الزَّمن العُطل)
قَالَ وَعَاد نور الدّين إِلَى سنجار فَأَعَادَ عمَارَة أسوارها ثمَّ أَتَى حرّان وَقد اقتطعها عَن صَاحب الْموصل هِيَ ونصيبين والخابور والْمِجْدل وَوصل حلب فِي خَامِس رَجَب(2/173)
وَقَالَ ابْن شدّاد دخل حلب فِي شعْبَان وزوّج صَاحب الْموصل ابْنَته
قَالَ الْعِمَاد وفوّض الْقَضَاء والحُكم بنصيبين وسنجار والخابور إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون فولّى بهَا نوابه وحكّم فِيهَا أَصْحَابه
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما صَارَت الْموصل إِلَى سيف الدّين ابْن أخي نور الدّين كَانَ قد استولى عَلَيْهِ وَتَوَلَّى أَمر الْبَلَد رجل يُقَال لَهُ عبد الْمَسِيح كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم وَقيل إِنَّه كَانَ بَاقِيا على نصرانيته وَله بيعَة فِي دَاره وتتبع أَرْبَاب الْعلم والدّين وشتتّهم وأبعدهم وآذى الْمُسلمين فَبلغ نور الدّين ذَلِك وكُتب لَهُ قصَص فِي ذَلِك فَسَار وَنزل على الْموصل من جَانب الشط والشط بَينه وَبَينهَا وَقَالَ لَا أقَاتل هَذِه الْبَلدة وأهتك حرمتهَا وَهِي لوَلَدي وراسل سيف الدّين وَقَالَ لَهُ أَنا لَيْسَ مقصودي الْبَلَد وَإِنَّمَا مقصودي حفظ الْبَلَد لَك فَإِنَّهُ قد كتب إِلَيّ فِي عبد الْمَسِيح كَذَا وَكَذَا ألف قصَّة بِمَا يفعل مَعَ الْمُسلمين وَإِنَّمَا مقصودي أزيل هَذَا النَّصْرَانِي عَن ولَايَة الْمُسلمين
قَالَ وَعبد الْمَسِيح يدبر الْبَلَد ويدور فِيهِ وَالْأَمر إِلَيْهِ وبذل الصُّلْح لنُور الدّين فَقَالَ نور الدّين أَنا قد جِئْت وَلَا بُد لي من دُخُول الْبَلَد فَقَالَ نعم لَا يدْخل إِلَّا من بَاب السِّر فَقَالَ نور الدّين مَا أَدخل إِلَّا من بَاب السِّرّ(2/174)
فجرت بَين نور الدّين وَبَين ابْن أَخِيه مراسلات إِلَى أَن علم أَن نِيَّته صَالِحَة فَصَالحه فِي السِّرّ وَركب عبد الْمَسِيح وَخرج يَدُور بَين السورين فَجَاءَهُ بعض أَصْحَابه وَقَالَ لَهُ أَنْت نَائِم دمُك قد رَاح وَأَنت غافل فَقَالَ مَا الْخَبَر فَقَالَ سيف الدّين قد صَالح عَمه وَأَنت فِي مُقَابلَة نور الدِّين فجَاء وَدخل على سيف الدّين وَألقى شربوشه بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْت قد صالحت عمك وَقد علمت مَا عملت فِي حفظ بلدك وَمَا لي طَاقَة بِمُقَابلَة نور الدّين فَالله الله فِي دمي فَقَالَ لَهُ مَا لي طَاقَة بِدَفْعِهِ عَنْك وَلَكِن عَلَيْك بالشيخ عمر الملاء فَقَالَ وَالله لَو مضيت إِلَيْهِ لم يفتح لي لعلمه بِمَا جرى مِنْهُ فِي حق الْمُسلمين وَلَكِن تسير أَنْت إِلَيْهِ لم يفتح لي لعلمه بِمَا جرى مِنْهُ فِي حق الْمُسلمين وَلَكِن تسيِّر أَنْت إِلَيْهِ فسير سيف الدّين إِلَيْهِ واستحضره وَكَانَ معتكفا فَقَالَ لَهُ مَا الْخَبَر فَقَالَ سيف الدّين لعبد الْمَسِيح مِنْك إِلَيْهِ فَوقف بَين يَدَيْهِ يبكي فَالْتَفت إِلَيْهِ عمر وَقَالَ من يعادى الرِّجَال يبكي مثل النِّسَاء فَقَالَ لَهُ قد تمسكت بك وأطلب مِنْك حقن دمي فَقَالَ أَنْت آمن على دمك فَقَالَ وعَلى مَالِي فَقَالَ وعَلى مَالك قَالَ وعَلى أَهلِي فَقَالَ وعَلى أهلك
وَكَانَ شرف الدّين بن أبي عصرون مَعَ نور الدّين حِينَئِذٍ فَقَالَ سيف الدّين لعمر الملاء تخرج تحلِّف نور الدّين فأحضر الْفُقَهَاء وَعمِلُوا لَهُ(2/175)
نُسْخَة يَمِين ونسخة يَمِين لعبد الْمَسِيح فَأَخذهُمَا عمر وَخرج إِلَى نور الدّين فَقَامَ نور الدّين وَخرج من خيمته والتقاه وأكرمه فَقَالَ لَهُ عمر النَّاس يعلمُونَ حُسْن عقيدتك فيّ وَقد خرجت فِي كَذَا وَكَذَا وناوله النُّسْخَة الَّتِي تتَعَلَّق بِسيف الدّين فقرأها وناولها لِابْنِ أبي عصرون فَقَالَ نُسْخَة جَيِّدَة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عمر الملاء إيش تَقول فِي هَذِه النُّسْخَة فَقَالَ جَيِّدَة فَقَالَ إِذا حلف بهَا على هَذَا الْوَجْه أَلَيْسَ أَنَّهَا تقع لَازِمَة فَقَالَ بلَى فَقَالَ للحاضرين اشْهَدُوا على الشَّيْخ بذلك يُشِير إِلَى أَن نور الدّين كَانَ تجْرِي مِنْهُ أَيْمَان فِي وقائع وَكَانَ ابْن أبي عصرون يفتيه بِالْخرُوجِ مِنْهَا فقيَّد عَلَيْهِ القَوْل فَأجَاب نور الدّين إِلَى ذَلِك فَقَالَ لَهُ قد علم النَّاس حسن عقيدتك فيّ وَأَن قولي مسموع عنْدك وَقد خرجت إِلَيْك وَلَا بُد لي من ضِيَافَة قَالَ كَيفَ لي بذلك وَأَنت لَا تَأْكُل طَعَامي وَلَا تقبل مني شَيْئا فَقَالَ تحلف لي بِهَذِهِ النُّسْخَة فَوقف عَلَيْهَا وَتغَير وَجهه وَقَالَ أَنا مَا جِئْت فِي هَذَا لأخلص الْمُسلمين مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عمر فَمَا نطلب مِنْك أَن توليه على الْمُسلمين فَقَالَ قد أمنته على نَفسه فَقَالَ وعَلى أَهله فَقَالَ وَمن أَهله قَالَ نَصَارَى فَقَالَ أمنتهم فَقَالَ وعَلى مَاله فَقَالَ وَمن أَيْن لهَذَا الْكَلْب مَال هَذَا مَمْلُوك لنا فَقَالَ قد أُعتق وَمَاله لَهُ وَهُوَ الْيَوْم كَانَ صَاحب الْموصل فَقَالَ قد أمنته على مَاله فَحلف على ذَلِك جَمِيعه واستقرّ الصُّلْح
وَخرج سيف الدّين إِلَى خدمَة نور الدّين فَوقف بَين يَدَيْهِ فَأكْرمه نور(2/176)
الدّين وَكَانَ وَصله خلعة أَمِير الْمُؤمنِينَ فخلعها عَلَيْهِ فَدخل إِلَى الْموصل بهَا وانتقل إِلَى جَانب الشط الآخر وَلم يدْخل إِلَى الْموصل إِلَى أَن جَاءَ مطر شَدِيد جدّاَ فَدخل من بَاب السِّرّ إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ورتب أمورها وَولي فِيهَا كمشتكين فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات لَيْلَة فِي الْمَنَام وَهُوَ يَقُول لَهُ جِئْت إِلَى بلدك وطاب لَك الْمقَام بِهِ وَتركت الْجِهَاد وقتال أَعدَاء الدّين فَاسْتَيْقَظَ من مَنَامه وَسَار سحرة ذَلِك الْيَوْم وَلم يلبث وَلم يعلم بِهِ أَكثر النَّاس حَتَّى خرج ولحقوه رَحمَه الله تَعَالَى
فصل
وصل الْخَبَر بِمَوْت الإِمَام المستنجد بِاللَّه أبي المظفر يُوسُف بن المقتفي ونورُ الدّين مخيم بشرقي الْموصل بتل تَوْبَة وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت تَاسِع ربيع الآخر وبويع ابْنه المستضيء بِأَمْر الله أَبُو مُحَمَّد الْحسن
وَكَانَ مولد المستنجد مستهل ربيع الآخر سنة عشر وَخمْس مئة وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى عشرَة سنة وَسِتَّة أَيَّام وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ من خلفاء بني الْعَبَّاس وَهَذَا الْعدَد لَهُ بِحِسَاب الجمَّل اللَّام وَالْبَاء وَفِيه يَقُول بعض الأدباء
(أَصبَحت لب بني الْعَبَّاس كلهم ... إِن عددت بِحِسَاب الجمَّل الخلفا)
وَكَانَ أسمر تَامّ الْقَامَة طَوِيل اللِّحْيَة وَكَانَ من أحسن الْخُلَفَاء سيرة(2/177)
مَعَ الرّعية كَانَ عادلا فيهم كثير الرِّفْق بهم وَأطلق من المكوس كثيرا وَلم يتْرك بالعراق مكسا وَكَانَ شَدِيدا على أهل العيث وَالْفساد والسعاية بِالنَّاسِ
قَالَ ابْن الْأَثِير بَلغنِي أَنه قبض على إِنْسَان كَانَ يسْعَى بِالنَّاسِ وَيكْتب فيهم السِّعايات فَأطَال حَبسه فَحَضَرَ بعض أَصْحَابه وشفع فِيهِ وبذل عَنهُ عشرَة آلَاف دِينَار فَقَالَ لَهُ أَنا أُعْطِيك عشرَة آلَاف دِينَار وتحضر لي إنْسَانا آخر مثله أحبسه لأكفَّ شَره عَن النَّاس
وَتُوفِّي فِي أَيَّامه شيخ الشُّيُوخ إِسْمَاعِيل بن أبي سعد وَصَارَ بعده ابْنه صدر الدّين عبد الرَّحِيم شيخ الشُّيُوخ وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين
وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين توفّي مُحَمَّد بن نصر القيسراني وَأحمد بن مُنِير الشاعران وَقد تقدم ذَلِك
وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين توفّي الْحَكِيم أَبُو الحكم الشَّاعِر الأندلسي
وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين توفّي الوأواء الشَّاعِر الْحلَبِي(2/178)
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ توفّي الشَّيْخ أَبُو النجيب الصُّوفِي الْفَقِيه الْوَاعِظ
قَالَ الْعِمَاد وجاءنا رسل دَار الْخلَافَة مبشرين بخلافة المستضيء وَاتفقَ ذَلِك يَوْم عبور دجلة وَركب يَوْم النُّزُول على تل تَوْبَة فِي الأهبة السَّوْدَاء وَالْيَد الْبَيْضَاء وَذَلِكَ بمرأى ومنظر من أهل الْموصل الحدباء ثمَّ أرسل الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون إِلَى بَغْدَاد نَائِبا عَنهُ فِي خدمَة الإِمَام
وَمِمَّا نظمه الْعِمَاد فِيهِ
(قد أَضَاء الزَّمَان بالمستضيء ... وَارِث الْبرد وَابْن عَم النبيء)
(جَاءَ بِالْحَقِّ والشريعة وَالْعدْل ... فيا مرْحَبًا بِهَذَا الْمَجِيء)
(فهنيئاً لأهل بَغْدَاد فازوا ... بعد بؤس بِكُل عَيْش هنيء)
(ومضيء إِن كَانَ فِي الزَّمن المظلم ... فالعود فِي الزَّمَان المضيء)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(لهفي على زمن الشَّبَاب فإنني ... بسوى التأسف عَنهُ لم أتعوض)
(نقضت عهود الغانيات وَإِنَّهَا ... لَوْلَا انْقِضَاء شبيبتي لم تنقض)(2/179)
(يَا حسن أَيَّام الصِّبَا وَكَأَنَّهَا ... أَيَّام مَوْلَانَا الإِمَام المستضى)
(ذُو الْبَهْجَة الزهراء يشرق نورها ... والطلعة الغراء وَالْوَجْه الوضيَ)
(قَسَم السَّعَادَة والشقاوة ربُّنا ... فِي الْخلق بَين محبِّه والمبغض)
وَمِنْهَا
(فضل الخلائف وَالْخَلَائِق بالتقي ... وَالْفضل والإفضال والخُلق الرضي)
(فانعم أَمِير الْمُؤمنِينَ بدولة ... مَا تَنْتَهِي وسعادة مَا تَنْقَضِي)
قَالَ وَوصل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى دمشق وَأدّى فرض الصّيام وَخرج بعد الْعِيد إِلَى الْخيام وَأخرج سرادقه إِلَى جسر الْخشب وسرنا إِلَى عشترا
ثمَّ ذكر الْعِمَاد هُنَا سيرة سرّية صَاحب البيرة الأرتقي باللبوة وَقد مَضَت فِي أَخْبَار سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ فَثَمَّ ذكرهَا ابْن الْأَثِير
فصل فِيمَا جرى بِمصْر فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد كَانَ بِمصْر حبس للشحن يعرف بدار المعونة فَأَعَادَهَا(2/180)
صَلَاح الدّين مدرسة للشَّافِعِيَّة فِي أول سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَعمل فِي النّصْف من الْمحرم دَار الْغَزل مدرسة للمالكية وَولى صدر الدّين عبد الْملك بن درباس الْقَضَاء وَالْحكم بِمصْر والقاهرة وأعمالها وَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من جمادي الْآخِرَة ثمَّ خرج إِلَى الْغُزَاة وأغار على الرملة وعسقلان وهجم ربض غَزَّة ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَة
ثمَّ وَصله الْخَبَر بِخُرُوج قافلة من دمشق فِيهَا أَهله فأشفق عَلَيْهَا وَأحب أَن يجْتَمع بهَا شَمله فَخرج فِي النّصْف من ربيع الأول وَكَانَت(2/181)
بأيلة قلعة فِي الْبَحْر قد حصنها أهل الْكفْر فعمر لَهَا مراكب وَحملهَا إِلَى ساحلها على الْجمال وركبها الصنّاع هُنَاكَ وشحنها بِالرِّجَالِ وَفتح القلعة فِي الْعشْر الأول من ربيع الآخر واستحلها واستباح بِالْقَتْلِ والأسر أَهلهَا وملأها بِالْعدَدِ وَالْعدَد وحصَّنها بِأَهْل الجلاد وَالْجَلد وَاجْتمعَ بأَهْله عَلَيْهَا وَسَار بهم على سمت الْقَاهِرَة ودخلوا فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جمادي الأولى إِلَيْهَا
وَسَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان ليشاهدها ويرتب قواعدها وَهِي أول دفْعَة سَار إِلَيْهَا فِي أَيَّام سُلْطَانه وَعم أَهلهَا بإحسانه وَأمر بعمارة أسوارها وابراجها وابدانها
وَفِي النّصْف من شعْبَان اشْترى تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه وَهُوَ ابْن أخي صَلَاح الدّين منَازِل الْعِزّ بِمصْر وَجعلهَا مدرسة للشَّافِعِيَّة وَاشْترى الرَّوْضَة وحمام الذَّهَب وَغَيرهمَا من الْأَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا(2/182)
وَفِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة أغار شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان بالصعيد على العربان ثمَّ دخل الْقَاهِرَة فِي عَاشر شهر رَمَضَان
وَفِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من جمادي الْآخِرَة توفّي القَاضِي الْمُوفق أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْخلال وَكَانَ من الأماثل الأفاضل وَلم يزل صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء إِلَى أَن كبر وَكَانَ الْأَجَل الْفَاضِل يُوصل إِلَيْهِ كل مَا كَانَ لَهُ وَقَامَ بِهِ مُدَّة حَيَاته يكرم عَهده ويكفله
وَقَالَ فِي الخريدة هُوَ نَاظر ديوَان مصر وإنسان ناظره وجامع مفاخره وَكَانَ إِلَيْهِ الْإِنْشَاء وَله قُوَّة على الترسل يكْتب مَا يَشَاء عَاشَ كثيرا وعطل فِي آخر عمره وأضر وَلزِمَ بَيته إِلَى أَن تعوض مِنْهُ الْقَبْر وَمن شعره
(يَا أَخا الْغرَّة حسب الدَّهْر من ... عظة الْمَغْرُور مَا أصبح يُبْدِي)
(تُؤثر الدُّنْيَا فَهَل نلْت بهَا ... لَحْظَة تخلص من همّ وكدِّ)
قلت وَذكر ضِيَاء الدّين أَبُو الْفَتْح نصر الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْأَثِير الْجَزرِي فِي أول كِتَابه الْمُسَمّى بالوشي المرقوم فِي حل المنظوم قَالَ حَدثنِي عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني رَحمَه الله تَعَالَى بِمَدِينَة دمشق فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ كَانَ فن الْكِتَابَة بِمصْر فِي زمن يَعْنِي بني عبيد غضا طريا وَكَانَ لَا يَخْلُو ديوَان المكاتبات من رَأس يرأس مَكَانا وبيانا وَيُقِيم لسلطانه بقلمه سُلْطَانا وَكَانَ من الْعَادة أَن كلا من أَرْبَاب(2/183)
الدَّوَاوِين إِذا نَشأ لَهُ ولد وشدا شَيْئا من علم الْأَدَب أحضرهُ إِلَى ديوَان المكاتبات ليتعلم فن الْكِتَابَة ويتدرب وَيرى وَيسمع قَالَ فأرسلني وَالِدي وَكَانَ إِذْ ذَاك قَاضِيا بثغر عسقلان إِلَى الديار المصرية فِي أَيَّام الْحَافِظ وَهُوَ أحد خلفائها وَأَمرَنِي بالمصير إِلَى ديوَان المكاتبات وَكَانَ الَّذِي يرأس بِهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّام رجلا يُقَال لَهُ ابْن الْخلال فَلَمَّا حضرت الدِّيوَان ومثلت بَين يَدَيْهِ وعرّفته من أَنا وَمَا طلبتي رحبَّ بِي وَسَهل ثمَّ قَالَ مَا الَّذِي أَعدَدْت لفن الْكِتَابَة من الْآلَات فَقلت لَيْسَ عِنْدِي شَيْء سوى أَنِّي أحفظ الْقُرْآن الْعَزِيز وَكتاب الحماسة فَقَالَ فِي هَذَا بَلَاغ ثمَّ أَمرنِي بملازمته فَلَمَّا ترددت إِلَيْهِ وتدربت بَين يَدَيْهِ أَمرنِي بعد ذَلِك أَن أحلّ شعر الحماسة فحللته من أَوله إِلَى آخِره ثمَّ أَمرنِي بِأَن أحله مرّة ثَانِيَة فحللته
وَقَالَ ابْن أبي طيّ فِي هَذِه السّنة شرع السُّلْطَان يَعْنِي صَلَاح الدّين فِي عمَارَة سور الْقَاهِرَة لِأَنَّهُ كَانَ قد تهدم أَكْثَره وَصَارَ طَرِيقا لَا يرد دَاخِلا ولاخارجاً وولاه لقراقوش الْخَادِم وَقبض على الْقُصُور وَسلمهَا إِلَيْهِ وَأمر بتغيير شعار الاسماعيلية وَقطع من الْأَذَان حيّ على خير الْعَمَل وَشرع فِي تمهيد أَسبَاب الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس(2/184)
وفيهَا طلب شمس الدولة من أَخِيه السُّلْطَان ربع الْكَامِل بِالْقَاهِرَةِ وازداد على إقطاعه بوش وأعمال الجيزة وسمنود وَغَيرهَا
قلت وَقد وقفت على كتاب فاضلي وصف فِيهِ غزَاة غَزَاهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي زمَان وزارته وَكَانَ الْكتاب إِلَى مَدِينَة قوص وأظن هَذِه الْغُزَاة هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْعِمَاد فِي اثناء كَلَامه السَّابِق أوّل الْكتاب {فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يمسسهم سُوءُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَان اللهِ واللهِ ذُو فَضْلٍ عَظِيم}
وَفِيه توجهنا من بركَة الْجب يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس عشر من ربيع الأول ووصلنا بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور والعساكر بالسهل والوعر منتظمة والهمم على السهل والصّعب مزدحمة وجنود الله فِي الأَرْض المُعْلمة قد أيّدتها جنود السَّمَاء المسوّمة وصابحنا الديّر يَوْم الْأَرْبَعَاء بِقِتَال جعل كلّ من فِي حصن الدّير رَاهِبًا ونصبنا عَلَيْهِ منجنيقا لَا يزَال بشهاب الْقَذْف ضَارِبًا فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَار ملكنا ربضه وأطلقنا فِيهِ النيرَان ورملنا الرِّجَال بِالدَّمِ وأرملنا النسوان وزحفنا إِلَى أبراجه وَهِي أبراج قد استعدت للبلاء جلبابا فَجعلنَا لكلّ وَاحِد جورة مُفْردَة وبابا(2/185)
وسرحنا إِلَيْهِم رسل المنايا من النشاب وقصدنا أَخذ الأبراج والبيوت تُؤْتى فِي الْحَرْب من غير الْأَبْوَاب وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم نقابة الحلبية فباتت لَيْلَتهَا تساوره وتراجعه بألسنة المعاول وتشاوره وأسفر الصُّبْح وَقد أمكن تَعْلِيقه وتيسر تحريقه فأودعنا تِلْكَ الْعُقُود آلَات الْوقُود فَلم يكن إِلَّا مِقْدَار اشتعالها حَتَّى خرّ صَرِيعًا سَرِيعا وعفرّ بَين أَيْدِينَا سَامِعًا مُطيعًا وانتظمت الرِّجَال على أحجاره وتواثبت إِلَى أَمْثَاله من الأبراج وأنظاره فحصلت فِي القبضة وَعجز من كَانَ فِيهَا عَن النهضة واحتكم فِيهَا الْعَذَاب بِالسَّيْفِ وَالنَّار وضاق عَلَيْهِم مجَال النَّفس والقرار
واستقبلنا يَوْم الْخَمِيس نقب القلعة وَتَقْدِيم المنجنيق وتيسير السَّبِيل لِلْقِتَالِ وتخليص الطَّرِيق هَذَا والكسوب والنهوب قد امتارت مِنْهَا العساكر وَخرجت فِيهَا مكنونات الذَّخَائِر وأشبه الْيَوْم يَوْم تُبلى السرائر وطهر الأَرْض مِنْهُم بِالدَّمِ المائر
فَلَمَّا كَانَ بكرَة الْجُمُعَة وردتنا الْأَخْبَار بِأَن الْملك قد زحف من غَزَّة فِي فارسه وراجله ورامحه ونابله وحشود دياره وجنود أنصاره فَرَكبْنَا مستبشرين بزحفه موقنين بحتفه ولقيناه فأحطنا من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وناوشته الْخَيل الطِّراد وَأَحْدَقَتْ بِهِ أحداق الأغلال بالأجياد وانتظرت حَملته الَّتِي كَانَ لَهَا قبل ذَلِك الْيَوْم موقع وصدمته الَّتِي لَهَا من رجال الْحَرْب مَوضِع فَمَلَأ الله قلبه رعْبًا وثنى صدقه كذبا وَلم يزل يخاتل وَلَا يُقَاتل ويواصل الْمسير وَلَا يصاول وَالْقَتْل فِي أعقابه وأيدي السيوف وسواعد الرماح لَا تني فِي عِقَابه حَتَّى تحصّل فِي الدَّيْر هُوَ وخيله وَرجله(2/186)
وَلم يبْق لَهُ من ملك الشَّام إِلَّا مَا وطئته رجله فناصبناه الْحصار فِي لَيْلَة السبت مستهل ربيع الآخر بالركوب إِلَيْهِ وَالْوُقُوف عَلَيْهِ لَعَلَّه يبرز ويبارز وَيخرج وَلَا يحاجز فخرست غماغمه واستذابت ضراغمه فتركناه وَرَاء ظُهُورنَا وَجَعَلنَا بِلَاده أَمَام صدورنا فَكُنَّا فِي تَوليته مرضين لله تَعَالَى سُبْحَانَهُ لَا مغضبين وَفِي تَركه وَرَاء ظُهُورنَا ومباعدته من الله متقربين
وواجهنا غَزَّة بعساكرنا المنصورة وأطفنا بهَا فِي أحسن صُورَة وَهِي على مَا علم من كَونهَا بكرا لم تفترعها الْحَوَادِث وحصانا لم يطمثها أمل طامث وَهِي معقل الديوية الَّذين هم جَمْرَة الشّرك وداهية الْإِفْك وأتى الله ببنيانها من الْقَوَاعِد وأنجز فِيهَا من النّصر صَادِق المواعد ووردناها بأيمن الْمَوَارِد وفتحناها من عدَّة جَوَانِب ووطئناها وَإِذا هِيَ كأمس الذَّاهِب فألْقَت إِلَيْنَا أفلاذ كَبِدهَا وذخيرة يَدهَا فَمن بَين مواش تخرب الْبِلَاد الَّتِي مِنْهَا خرجت وخيول مسومة كَأَنَّهَا لركوبنا أُسرجت وأُلجمت وحوامل أثقال وزوامل خففت عَن عساكرنا وفرجت وميرة كَثِيرَة تمكنت فِيهَا يَد الأجناد وأفرجت وأسارى الْمُسلمين فكوا من الْقَيْد وَالْقد وأنقذوا بلطف الله من سوء الملكة وَشدَّة الْجهد وَأما الرؤوس المقطوعة وأسارى الفرنج الَّذين أَيْديهم إِلَى أَعْنَاقهم مَجْمُوعَة فَإِن الفضاء الفضي تعصفر من دِمَائِهِمْ وَتذهب وَجرى مِنْهَا مَا بِهِ اضطرم وَقد الْجَحِيم وتلهب وَفِي الْحَال أمرنَا بالنَّار أَن تشتغل بهَا وتشتعل وبالهدم أَن ينْقل عَنْهَا معاوله(2/187)
وينتقل {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ} أَو تنظر إِلَّا طلولا على عروشها خاوية وعراصا من سكانها خَالِيَة قد بقيت عِبْرَة للعابر وذكرى للذاكر وموعظة سارة للْمُسلمِ مرغمة للْكَافِرِ
ثمَّ عدنا بَقِيَّة يَوْم السبت إِلَى الْملك خذله الله تَعَالَى راجين أَن يحملهُ الثكل على الْإِقْدَام ويخرجه حر النَّار إِلَى مقَام الانتقام فَإِذا شَيْطَانه قد نصحه وَقتل أَصْحَابه قد جرحه فبِتْنا عَلَيْهِ والألسنة بقراره تعيره واستتاره يقرعه ويقَرِّره
واصبحنا يَوْم الْأَحَد ثَانِي شهر ربيع الآخر وَالْكَسْب قد أثقل الْمُقَاتلَة وَنصر الله قد بلغ الْغَايَة المستأصلة ورحلنا والسلامة لصغير عسكرنا وكبيره شَامِلَة والعدو قد غزى فِي عُقره وعُقر وأذل فِي دَار ملكه واحتقر ووصلنا إِلَى مُسْتَقر سلطاننا فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور فَاسْتقْبلنَا من مَوْلَانَا صلوَات الله عَلَيْهِ وتشريفه واستقلال ركابه ومشافهتنا بمقبول دُعَائِهِ الشريف ومحابه مَا عظمت بِهِ النعم وجلّت وزالت بِهِ وعثاء الطَّرِيق وتجلّت وجادتها سَمَاء إنعامه الَّتِي لم تزل تجودنا واستهلت
قلت وَمن قصيدة لعمارة فِي مدح صَلَاح الدّين أَولهَا
(فؤاد بِنَار الشوق والوجد محرق ... )
يَقُول فِيهَا
(لَعَلَّ بني أَيُّوب إِن علمُوا بِمَا ... تظلمت مِنْهُ أَن يرقوا ويشفقوا)
(غزوا عُقر دَار الْمُشْركين بغزةٍ ... جهاراً وطرف الشّرك خزيان مطرق)(2/188)
(وزاروا مصلّى عسقلان بأرعن ... يفِيض إِنَاء الْبر مِنْهُ ويفهق)
(وَكَانَت على مَا شَاهد النَّاس قبلكُمْ ... طرائق من شوك القنا لَيْسَ تُطرق)
(وَمَا عصمتهم مِنْك إِلَّا معاقل ... تأنوا على تحصينها وتأنقوا)
(جلبت لَهُم من سُورَة الْحَرْب مَا التقى ... بوادره سور عَلَيْهِم وَخَنْدَق)
(وأخربت من أَعْمَالهم كل عَامر ... يمر بِهِ طيف الخيال فَيُفَرق)
(أضفت إِلَى أجر الْجِهَاد زِيَارَة الْخَلِيل ... فأبشر أَنْت غازٍ مُوفق)
(وهيجت للبيت المقدّس لوعة ... يطول بهَا مِنْهُ إِلَيْك التشوق)
(تَنْشَق من ملقاك أعطر نفحة ... تطيب على قلب الْهدى حِين تَنْشَق)
(وغزوك هَذَا سُلم نَحْو فَتحه ... قَرِيبا وَإِلَّا رائد ومطرق)
(هُوَ الْبَيْت إِن تفتحه وَالله فَاعل ... فَمَا بعده بَاب من الشَّام مغلق)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
واستفتحها صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بِإِقَامَة الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة الأولى مِنْهَا بِمصْر لبني الْعَبَّاس وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة خطب لَهُم بِالْقَاهِرَةِ وَانْقطع ذكر خلفاء مصر مِنْهَا وَتُوفِّي العاضد يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة بانتهاء مَا دَامَ لَهَا من الْعَصْر(2/189)
وَذكر الْعِمَاد أَيْضا فِي أَخْبَار سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين كَمَا سَيَأْتِي أنّ الَّذِي خطب بِمصْر لبني الْعَبَّاس أَولا هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المحسن بن الْحُسَيْن بن أبي المضاء البعلبكي وَذكر ذَلِك أَيْضا ابْن الدبيثي فِي تَارِيخه وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي الْفَاضِل فِي كتاب لَهُ إِلَى وَزِير بَغْدَاد سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لما ثبتَتْ قدمه فِي مصر وَزَالَ المخالفون لَهُ وَضعف أَمر العاضد وَهُوَ الْخَلِيفَة بهَا وَلم يبْق من العساكر المصرية أحد كتب إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود يَأْمُرهُ بِقطع الْخطْبَة العاضدية وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية فَاعْتَذر صَلَاح الدّين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الْإِجَابَة إِلَى ذَلِك لميلهم إِلَى العلويين فَلم يصغ نور الدّين إِلَى قَوْله وَأرْسل إِلَيْهِ يلْزمه بذلك إلزاما لَا فسحة لَهُ فِيهِ
وَاتفقَ أَن العاضد مرض وَكَانَ صَلَاح الدّين قد عزم على قطع الْخطْبَة لَهُ فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاء كَيفَ يكون الِابْتِدَاء بِالْخطْبَةِ العباسية فَمنهمْ من أقدم على المساعدة وَأَشَارَ بهَا وَمِنْهُم من خَافَ ذَلِك إِلَّا أَنه لم يُمكنهُ إِلَّا امْتِثَال أَمر نور الدّين وَكَانَ قد دخل إِلَى مصر إِنْسَان أعجمي يعرف بالأمير(2/190)
الْعَالم وَقد رَأَيْنَاهُ بالموصل كثيرا فَلَمَّا رأى مَا هم فِيهِ من الإحجام قَالَ أَنا ابتدىء بهَا فَلَمَّا كَانَ أول جُمُعَة من الْمحرم صعد الْمِنْبَر قبل الْخَطِيب ودعا للمستضيء بِأَمْر الله فَلم يُنكر أحد ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَة الثَّانِيَة أَمر صَلَاح الدّين الخطباء بِمصْر والقاهرة بِقطع خطْبَة العاضد وَإِقَامَة الْخطْبَة للمستضيء بِأَمْر الله فَفَعَلُوا ذَلِك وَلم ينتطح فِيهَا عنزان وَكتب بذلك إِلَى سَائِر الديار المصرية
وَكَانَ العاضد قد اشْتَدَّ مَرضه فَلم يُعلمهُ أَهله وَأَصْحَابه بذلك وَقَالُوا إِن سلم فَهُوَ يعلم وَإِن توفّي فَلَا يَنْبَغِي أَن ننغص عَلَيْهِ هَذِه الْأَيَّام الَّتِي قد بقيت من أَجله فَتوفي يَوْم عَاشُورَاء وَلم يعلم
قَالَ وَلما توفّي جلس صَلَاح الدّين للعزاء وَاسْتولى على قصره وعَلى جَمِيع مَا فِيهِ وَكَانَ قد رتب فِيهِ قبل وَفَاة العاضد بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ خصيُّ لحفظه وَجعله كأستاذ دَار العاضد فحفظ مَا فِيهِ حَتَّى تسلمه صَلَاح الدّين وَنقل أهل العاضد إِلَى مَكَان مُنْفَرد ووكل بحفظهم وَجعل أَوْلَاده وعمومته وأبناءهم فِي الإيوان فِي الْقصر وَجعل عِنْدهم من يحفظهم وَأخرج من كَانَ بِالْقصرِ من العبيد وَالْإِمَاء فَأعتق الْبَعْض ووهب الْبَعْض وَبَاعَ الْبَعْض وأخلى الْقصر من أَهله وسكانه فسبحان من لايزول(2/191)
ملكه وَلَا يُغَيِّرهُ ممر الْأَيَّام وتعاقب الدهور
قَالَ وَلما أَشْتَدّ مرض العاضد أرسل يَسْتَدْعِي صَلَاح الدّين فَظن أَن ذَلِك خديعة فَلم يمض إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي علم صدقه فندم على تخلفه عَنهُ
قلت أَخْبرنِي الْأَمِير أَبُو الْفتُوح بن العاضد وَقد اجْتمعت بِهِ وَهُوَ مَحْبُوس مُقَيّد سنة ثَمَان وَعشْرين وست مئة بقلعة الْجَبَل بِمصْر أَن أَبَاهُ فِي مَرضه استدعى صَلَاح الدّين فَحَضَرَ قَالَ وأحضرنا يَعْنِي أَوْلَاده وهم جمَاعَة صغَار فَأَوْصَاهُ بِنَا فالتزم إكرامنا واحترامنا رَحمَه الله وَأما ندمُ صَلَاح الدّين فبلغني أَنه كَانَ على استعجاله بِقطع خطبَته وَهُوَ مَرِيض وَقَالَ لَو علمت أَنه يَمُوت من هَذَا الْمَرَض مَا قطعتها إِلَى أَن يَمُوت
قَالَ الْعِمَاد وَجلسَ السُّلْطَان للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وَبلغ الْغَايَة فِي إِجْمَال أمره والتوديع لَهُ إِلَى قَبره ثمَّ تسلم الْقصر بِمَا فِيهِ من خزائنه ودفائنه وَكَانَ مذ نَافق مؤتمن الْخلَافَة وَقتل صُرف مَنْ هُوَ زِمَام الْقصر وعُزل ووكل بهاء الدّين قراقوش بِالْقصرِ وَجعله زمامه واستنابه مقَام نَفسه وأقامه فَمَا دخل إِلَى الْقصر شَيْء وَلَا خرج إِلَّا بمرأى مِنْهُ(2/192)
ومسمع وَلَا حصل أهل الْقصر بعد ذَلِك على صفو مشرع فَلَمَّا توفّي العاضد بطلت تِلْكَ الْقَوَاعِد ووهت المقاعد وَأمر السُّلْطَان بِالِاحْتِيَاطِ على أَهله وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر مَا يكون لَهُم برسم الكسوات والأقوات والأزواد
قلت أَخْبرنِي أَبُو الْفتُوح أَنه جعلهم فِي دَار برجوان فِي الحارة المنسوبة إِلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وَهِي دَار كَبِيرَة وَاسِعَة كَانَ عيشهم فِيهَا طيبا ثمَّ نقلوا بعد الدولة الصلاحية مِنْهَا وأبعدوا عَنْهَا
قَالَ الْعِمَاد وهم إِلَى الْيَوْم فِي حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره يكلؤهم ويحرسهم بِعَين حزمه فِي ليله ونهاره وَجمع البَاقِينَ من عمومتهم وعترتهم من الْقصر فِي إيوَان وَاحْترز عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْمَكَان بِكُل إِمْكَان وَأبْعد عَنْهُم النِّسَاء لِئَلَّا يتناسلوا فيكثروا وهم إِلَى الْآن محصورون محسورون لم يظهروا وَقد نقص عَددهمْ وقلص مددهم ثمَّ عرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد والعدّة والعديد والطريف والتليد فَوجدَ أكثرهن حرائر فأطلقهن وَجمع الْبَاقِيَات فوهبهن وفرقهن وأخلى دوره وأغلق قصوره وسلّط جوده على الْمَوْجُود وأبطل الْوَزْن وَالْعد عَن الْمَوْزُون والمعدود وَأخذ كل مَا صلح لَهُ ولأهله ولأمرائه وخواص مماليكه وأوليائه من أخاير الذَّخَائِر وزواهر الْجَوَاهِر ونفائس(2/193)
الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدّرة الْيَتِيمَة والياقوتة الْعَالِيَة الغالية الْقيمَة والمصوغات التبريّة والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعوذ والتمائم والعقود والنقود والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش وَمَا لايعد إحصاء وَلَا يحد استقصاء فَوَقع فِيهَا الفناء وكشف عَنْهَا الغطاء وأسرف فِيهَا الْعَطاء وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغال وكل مَنْقُول ومحمول ومصنوع ومعمول وَاسْتمرّ البيع فِيهَا مُدَّة عشر سِنِين وتنقلت إِلَى الْبِلَاد بأيدي الْمُسَافِرين الواردين والصادرين
ونقلت من ديوَان الْعِمَاد بِخَطِّهِ قَالَ وَلما وصل الْخَبَر بِمَوْت العاضد الَّذِي كَانَ بِمصْر فِي الْقصر موسوماً بِالْأَمر فِي لَيْلَة عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ بعد الْخطْبَة بهَا للمستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عملت هَذِه الأبيات فَذكر قصيدة مِنْهَا
(توفّي العاضد الدّعي فَمَا ... يفتح ذُو بدعةٍ بِمصْر فَمَا)
(وعصر فرعونها انْقَضى وَغدا ... يوسُفها فِي الْأُمُور محتكما)(2/194)
(وانطفأت جَمْرَة الغواة وَقد ... باخ من الشّرك كل مَا اضطرما)
(وَصَارَ شَمل الصّلاح ملتئما ... بهَا وَعقد السداد منتظما)
(لما غَدا مُعْلنا شعار بني الْعَبَّاس ... حَقًا وَالْبَاطِل اكتتما)
(وَبَات دَاعِي التَّوْحِيد منتصرا ... وَمن دُعاة الْإِشْرَاك منتقما)
(وظلّ أهل الضلال فِي ظلل ... داجية من غيابة وعمى)
(وارتبك الجاهلون فِي ظلم ... لما أَضَاءَت مَنَابِر العُلما)
(وَعَاد بالمستضيء ممتهدا ... بناءُ حق قد كَانَ منهدما)
(واعتلت الدولة الَّتِي اضطهدت ... وانتصر الدّين بَعْدَمَا اهتضما)
(واهتز عطف الْإِسْلَام من جذل ... وافتر ثغر الْإِيمَان وابتسما)
(واستبشرت أوجه الْهدى فَرحا ... فليقرع الكُفر سِنّهُ ندما)
(عَاد حَرِيم الْأَعْدَاء منهتك الْحمى ... وفيء الطغاة مقتسما)
(قُصُور أهل الْقُصُور أخربها ... عَامر بَيت من الْكَمَال سما)
(أزعج بعد السّكُون ساكنها ... وَمَات ذلا وَأَنْفه رُغما)
وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِلَى وَزِير بَغْدَاد على يَد الْخَطِيب شمس الدّين بن أبي المضاء فِي بعض السنين كتب الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من مستقره وَدين الْوَلَاء مَشْرُوع وَعلم الْجِهَاد مَرْفُوع وسؤدد السوَاد متبوع وَحكم السداد بَين الْأمة مَوْضُوع وَسبب الْفساد مَقْطُوع(2/195)
مَمْنُوع وَقد توالت الْفتُوح غرباً ويمناً وشآما وَصَارَت الْبِلَاد بل الدُّنْيَا والشهر بل الدَّهْر حرما حَرَامًا وأضحى الدّين وَاحِدًا بَعْدَمَا كَانَ أديانا والخلافة إِذا ذكر بهَا أهل الْخلاف لم يخروا عَلَيْهَا صُمَّاً وعُميانا والبدعة خاشعة وَالْجُمُعَة جَامِعَة والمذلة فِي شيع الضلال شائعة ذَلِك بِأَنَّهُم أتخذوا عباد الله من دونه أَوْلِيَاء وَسموا أَعدَاء الله أصفياء وتقطعوا أَمرهم بَينهم شيعًا وَفرقُوا أَمر الْأمة وَكَانَ مجتمعا وكذبوا بالنَّار فعجلت لَهُم نَار الحتوف وَنَثَرت أَقْلَام الظبى حُرُوف رؤوسهم نثر الأقلام للحروف ومزقوا كل ممزق وَأخذ مِنْهُم كل مخنق وَقطع دابرهم وَوعظ آتيهم غابرهم ورغمت أنوفهم ومنابرهم وحقت عَلَيْهِم الْكَلِمَة تشريدا وقتلا وتمَّت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً وَلَيْسَ السَّيْف عَمَّن سواهُم من كفار الفرنج بصائم وَلَا اللَّيْل عَن سير إِلَيْهِم بنائم وَلَا خَفَاء عَن الْمجْلس الصاحبي أَن من شدّ عقد خلَافَة وحلّ عقد خلاف وَقَامَ بدولة وَقعد بِأُخْرَى قد عجز عَنْهَا الأخلاف والأسلاف فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى أَن يُشكر مَا نصح ويُقلَّد مَا فتح ويبَّلغ مَا أقترح وَيقدم حَقه وَلَا يطرَّح وَيقرب مَكَانَهُ وَإِن نزح وتأتيه التشريفات الشَّرِيفَة وتتواصل إِلَيْهِ أَمْدَاد التقويات الجليلة اللطيفة وتُلَّبى دَعوته بِمَا أَقَامَ من دَعْوَة وتوصل غزوته بِمَا وصل من غَزْوَة وترفع دونه الْحجب المعترضة وَترسل إِلَيْهِ السحب المروضة فَكل ذَلِك تعود عوائده وتبدو فَوَائده بالدولة الَّتِي كشف وَجهه لنصرها وجرد سَيْفه لرفع منارها وَالْقِيَام بأمرها وَقد أَتَى الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَطلب النجعة من سحابها ووعد آماله الواثقة بِجَوَاب كتابها وأنهض لإيصال ملطفاته وتنجز تشريفاته خطيب الخطباء بِمصْر وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لصعود دَرَجَة الْمِنْبَر وَقَامَ بِالْأَمر(2/196)
قيام من برّ واستفتح بلباس السوَاد الْأَعْظَم الَّذِي جمع الله عَلَيْهِ السوَاد الْأَعْظَم أملا أَنه يعود إِلَيْهِ بِمَا يطوي الرَّجَاء فضل عقبه ويخلد الشّرف فِي عقبه
ولصاحبنا مجد الدّين مُحَمَّد بن الظهير الإربلي من قصيدة فِي مدح بعض ذُرِّيَّة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى
(مليك من الْقَوْم الَّذين رماحهم ... دعائم هَذَا الدّين فِي كل مشْهد)
(هم نصروا التَّوْحِيد نصرا مؤزرا ... بِهِ عزّ فِي الْآفَاق كلّ موحد)
(وهم قهروا غُلب الفرنج ببأسهم ... فدانوا لَهُم بالرغم لَا عَن تودد)
(وردوا إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس نُوره ... وَقد كَانَ فِي ليل من الشّرك أسود)
(وهم سهلوا سبل الحجيج وآمنوا ... بهَا الركب خوف الْكَافِر المتشدد)
(وَقد ركبت فرسانه بَحر أَيْلَة ... يَخُوضُونَ فِي بَحر من الكيد مُزبد)
(وهم رجعُوا مصرا إِلَى دَعْوَة الْهدى ... بعزمٍ وَرَأى فِي العظائم محصد)
(وهم شيّدوا ركن الْخلَافَة بالذّي ... أعادوه من حقّ طريفٍ ومتلد)(2/197)
(وهم شرفوا قدر المنابر باسمها ... وَذكر مَنُوط بالرسول ممجد)
(وهم وهبوا غر الممالك واكتفوا ... بسُمر العوالي والْعَلَاء المشيد)
(فَسَل عَن ظباهم يَوْم حطين كم قَضَت ... بمرّ مُرَاد الله فِي كل أّصيد)
(وَضّعَّفْ حَدِيث الْعدْل والبأس والندى ... إِذا كَانَ عنْ أيامهم غَير مُسند)
وَقَالَ ابْن أبي طيّ الْحلَبِي قد قدمنَا ذكر مُكَاتبَة نور الدّين رَحمَه الله وإلحاحه على صَلَاح الدّين فِي إِقَامَة الْخطْبَة بِمصْر للعباسيين وَأَنه أنفذ إِلَيْهِ أَبَاهُ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب لأجل ذَلِك لما كتب الْخَلِيفَة المستنجد إِلَى نور الدّين فِي ذَلِك وَلما ولي ابْنه المستضيء أقبل أَيْضا على مُكَاتبَة نور الدّين فِيهِ وألح نور الدّين على صَلَاح الدّين فِي طلبه وأفضى بِهِ الْأَمر إِلَى أَنه اتهمَ صَلَاح الدّين وشنع عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَأكْثر القَوْل فِي ذَلِك
وَلما قدم الْأَمِير نجم الدّين حداه على فعل ذَلِك فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَن أَحْوَاله لم تَسْتَقِر بعد وأموره مضطربة وأعداؤه كَثِيرُونَ وَأَن المصريين لَهُم جمَاعَة كَبِيرَة مُتَفَرِّقَة فِي بِلَاد مصر من السودَان وَغَيرهم وَأَن هَذَا الْأَمر وَإِن لم يُؤْخَذ على التدريج وإلاَّ فَسدتْ أَحْوَاله فَلَمَّا أوقع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بالسودان والأرمن ونكب أُمَرَاء المصريين وَقطع أخبارهم وَنزل أجناده فِي دُورهمْ ثمَّ قطع إقطاع العاضد وَقبض جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ من الْبِلَاد وَاسْتولى على الْقُصُور ووكل بهَا وبمن فِيهَا قراقوش الْخَادِم وخلت لَهُ بِلَاد مصر من معاند ومنابذ ثمَّ شرع وأبطل من الْأَذَان حيّ على(2/198)
خير الْعَمَل وَأنكر على من يتسم بمذهبهم الانتساب إِلَيْهِم فَلَمَّا رأى أُمُوره مواتية وأعداؤه قَلِيلُونَ شرع حِينَئِذٍ فِي الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَلما عول على ذَلِك أَمر وَالِده الْأَمِير نجم الدّين بالنزول إِلَى الْجَامِع فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وأمراء دولته وَذَلِكَ فِي أول جُمُعَة من السّنة وَأمره أَن يحضر الْخَطِيب إِلَيْهِ ويأمره بِمَا يختاره وَإِنَّمَا فعل الْملك النَّاصِر ذَلِك ووكل الْأَمر إِلَى غَيره استظهارا وخوفا من فادحة رُبمَا طرأت أَو عَدو رُبمَا ثار فَيكون هُوَ معتذرا من ذَلِك
وَلما حصل نجم الدّين بالجامع أحضر الْخَطِيب وَقَالَ لَهُ إِن ذكرت هَذَا الْمُقِيم بِالْقصرِ ضربت عُنُقك فَقَالَ فَلِمَنْ أَخطب قَالَ للمستضيء العباسي فَلَمَّا صعد الْمِنْبَر وخطب وَوصل إِلَى ذكر العاضد لم يذكر أحدا لكنه دَعَا للأئمة المهديين وللسلطان الْملك النَّاصِر وَنزل فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ مَا علمت اسْم المستضيء وَلَا نعوته وَلَا تقرر معي فِي ذَلِك شَيْء قبل الْجُمُعَة وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة أفعل إِن شَاءَ الله مَا يجب فعله فِي تَحْرِير الِاسْم والألقاب على جاري الْعَادة فِي مثل ذَلِك
قَالَ وَقيل إِن العاضد لما اتَّصل بِهِ مَا فُعل من قطع اسْمه من الْخطْبَة قَالَ لمن خُطب قيل لَهُ لم يخْطب لأحد مُسَمّى قَالَ فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى يخطبون لرجل مُسَمّى وَاتفقَ أَنه مَاتَ قبل الْجُمُعَة الثَّانِيَة قيل إِنَّه أفكر وَاسْتولى عَلَيْهِ الْفِكر والهم حَتَّى مَاتَ وَقيل إِنَّه لما سمع أَنه قطعت خطبَته اهتم وَقَامَ ليدْخل إِلَى دَاره فعثر وَسقط فَأَقَامَ متعللاَ خَمْسَة أَيَّام وَمَات وَقيل إِنَّه امتص فص خَاتمه وَكَانَ تَحْتَهُ سم فَمَاتَ(2/199)
وَلما أتصل مَوته بِالْملكِ النَّاصِر قَالَ لَو علمنَا أَنه يَمُوت فِي هَذِه الْجُمُعَة مَا غصصناه بِرَفْع اسْمه من الْخطْبَة فحُكي أَن القَاضِي الْفَاضِل قَالَ للسُّلْطَان لَو علم أَنكُمْ مَا ترفعون اسْمه من الْخطْبَة لم يمت أَشَارَ إِلَى أَن العاضد قتل نَفسه وَكَانَ مَوته يَوْم عَاشُورَاء
قَالَ وَحكى ابْن المارستانية فِي سيرة ابْن هُبَيْرَة الْوَزير قَالَ إِنَّه من عَجِيب مَا جرى فِي أَمر المصريين أَنه رأى إِنْسَان من أهل بَغْدَاد فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة كَأَن قمرين أَحدهمَا أنور من الآخر والأنور مِنْهُمَا مُسامت للْقبْلَة وَله لحية سَوْدَاء فِيهَا طول ويهب أدنى نسيم فيحركها وَأثر حركتها وظلها فِي الأَرْض وَكَانَ الرجل يتعجب من ذَلِك وَكَأَنَّهُ سمع أصوات جمَاعَة يقرؤون بألحان وأصوات لم يسمع قطّ مثلهَا وَكَأَنَّهُ سَأَلَ بعض من حضر فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا قد استبدل النَّاس بإمامهم قَالَ وَكَانَ الرجل قد اسْتقْبل الْقبْلَة وَهُوَ يَدْعُو الله أَن يَجعله إِمَامًا برَّا تقياً واستيقظ الرجل وَبلغ هَذَا الْمَنَام ابْن هُبَيْرَة الْوَزير إِذْ ذَاك بِبَغْدَاد فَعبر الْمَنَام بِأَن الإِمَام الَّذِي بِمصْر يسْتَبْدل بِهِ وَتَكون الدعْوَة لبني(2/200)
الْعَبَّاس لمَكَان اللِّحْيَة السَّوْدَاء وقوى هَذَا عِنْده حَتَّى كَاتب نور الدّين حِين دخل أَسد الدّين إِلَى مصر فِي أول مرّة بِأَنَّهُ يظفر بِمصْر وَتَكون الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس بهَا على يَده
وقيلت فِي ذَلِك الزَّمَان أشعار فِي هَذَا مِنْهَا قصيدة شمس الْمَعَالِي أبي الْفَضَائِل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن ترْكَان وَكَانَ صَاحب ابْن هُبَيْرَة قَالَهَا حِين سمع تَأْوِيله الْمَنَام
(لتهنك يَا مولى الْأَنَام بِشَارَة ... بهَا سيف دين الله بِالْحَقِّ مرهف)
(ضربت بهَا هام الأعادي بهمة ... تقاصر عَنْهَا السمهري المثقف)
(بعثت إِلَى شَرق الْبِلَاد وغربها ... بعوثا من الآراء تحيي وتتلف)
(فَقَامَتْ مقَام السَّيْف وَالسيف قاطر ... ونابت مناب الرمْح وَالرمْح يرعف)
(وقدت لَهَا جَيْشًا من الروع هائلا ... إِلَى كل قلب من عداتك يزحف)(2/201)
(ملكت بِهِ أقْصَى المغارب عنْوَة ... وكادت بِمن فِيهَا الْمَشَارِق ترجف)
(لِيَهنك يَا مولَايَ تَتَابَعَت ... إِلَيْك بِهِ خوص الركائب توجف)
(أخذت بِهِ مصرا وَقد حَال دونهَا ... من الشّرك بَأْس فِي لهى الْحق يقذف)
(وَقد دنست مِنْهَا المنابر عصبَة ... يعاف التقي وَالدّين مِنْهُم ويأنف)
(فطهرّها من كل شرك وبدعة ... أغر غرير بالمكارم يشغف)
(فَعَادَت بِحَمْد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل الْبِلَاد وتشرف)
(وَلَا غرو أَن دَانَتْ ليوسف مصره ... وَكَانَت إِلَى عليائه تتشوف)
(تَملكهَا من قَبْضَة الْكفْر يُوسُف ... وخلصها من عصبَة الرَّفْض يُوسُف)
قَالَ يحيى بن أبي طيّ يُرِيد بِيُوسُف الأول يُوسُف الصّديق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبيوسف الثَّانِي المستنجد بِاللَّه الْخَلِيفَة يَوْمئِذٍ وَقَالَهُ على سَبِيل الفأل أَلا ترَاهُ قَالَ بعد هَذَا الْبَيْت
(فشابهته خلقا وخلقا وعفة ... وكل عَن الرَّحْمَن فِي الأَرْض يخلف)
وَجرى الفأل فِي الْبَيْت باسم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لِأَن المستنجد مَاتَ قبل تَغْيِير الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَهَذَا من عَجِيب الِاتِّفَاق(2/202)
قلت وَذكر ابْن المارستانية فِي السِّيرَة الْمَذْكُورَة قَالَ وَكَانَ هَذَا الْمَنَام سَببا إِلَى أَن كَاتب الْوَزير ابْن هُبَيْرَة نور الدّين بن زنكي يحثه على التَّعَرُّض لمصر والبعث إِلَيْهَا وَاتفقَ فِي اثناء ذَلِك نوبَة شاور وَزِير صَاحب الْقصر وقدومه هَارِبا مِنْهُ إِلَى نور الدّين فحرك ذَلِك مَا كَانَ تخمر فِي نَفسه مِمَّا كَانَ كَاتبه بِهِ ابْن هُبَيْرَة فاستطلع من شاور الْأَسْبَاب الَّتِي يُمكن بهَا الدُّخُول على المصريين فشرحها وأوضحها فسير إِلَيْهَا أَسد الدّين كَمَا سبق ذكره
قَالَ وَلما قطعت خطْبَة العاضد استطال أهل السّنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم وصاروا لَا يقدرُونَ على الظُّهُور من دروهم وَإِذا وجد أحد من الأتراك مصريا أَخذ ثِيَابه وعظمت الأذية بذلك وجلا أَكثر أهل مصر عَنْهَا إِلَى الْبِلَاد وَفَرح النَّاس بذلك وكتبت الْكتب بِهِ إِلَى الأقطار وتحدث بِهِ السُّمار
وَلما وصل خبر ذَلِك إِلَى نور الدّين ندب للبشارة بِهِ إِلَى بَغْدَاد شهَاب الدّين أَبَا الْمَعَالِي المطّهر بن أبي عصرون وَكتب مَعَه نُسْخَة بِشَارَة تقْرَأ بِكُل مَدِينَة يمر بهَا يَقُول فِيهَا اصدرنا هَذِه الْمُكَاتبَة إِلَى جَمِيع الْبِلَاد الإسلامية عَامَّة بِمَا فتح الله على أَيْدِينَا رتاجه وأوضح لنا منهاجه وَهُوَ مَا اعتمدناه من إِقَامَة الدعْوَة الهادية العباسية بِجَمِيعِ المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية والإسكندرية ومصر والقاهرة وَسَائِر الْأَطْرَاف الدانية والقاصية(2/203)
والبادية والحاضرة وانتهت إِلَى الْقَرِيب والبعيد وَإِلَى قوص وأسوان بأقصى الصَّعِيد وَهَذَا شرف لزماننا هَذَا وَأَهله يفتخر بِهِ على الْأَزْمِنَة الَّتِي مَضَت من قبله وَمَا بَرحت هممنا إِلَى مصر مصروفة وعَلى افتتاحها مَوْقُوفَة وعزائمنا فِي إِقَامَة الدعْوَة الهادية بهَا مَاضِيَة والأقدار فِي الْأَزَل بِقَضَاء آرابنا ونجاز مواعدنا قاضية حَتَّى ظفرنا بهَا بعد يأس الْمُلُوك مِنْهَا وقدرنا عَلَيْهَا وَقد عجزوا عَنْهَا وطالما مرت عَلَيْهَا الحقب الخوالي وآبت دونهَا الْأَيَّام والليالي وَبقيت مئتين وَثَمَانِينَ سنة ممنوَّة بدعوة المبطلين مملوَّة بحزب الشَّيَاطِين سابغة ظلالها للضلال مقفرة الْمحل إِلَّا من الْمحَال مفتقرة إِلَى نصْرَة من الله تَملكهَا ونظرة ستدركها رَافِعَة يَدهَا فِي إشكائها متظلمة إِلَيْهِ ليكفل بإعدائها على أعدائها حَتَّى أذن الله لغُمتها بالانفراج ولعلتها بالعلاج وسبَّب قصد الفرنج لَهَا وتوجههم إِلَيْهَا طَمَعا فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَاجْتمعَ داءان الْكفْر والبدعة وَكِلَاهُمَا شَدِيد الروعة فملكنا الله تِلْكَ الْبِلَاد ومكنّ لنا فِي الأَرْض وأقدرنا على مَا كُنَّا نؤمله فِي إِزَالَة الالحاد والرفض من إِقَامَة الْفَرْض وتقدمنا إِلَى من استنَبنْاه أَن يستفتح بَاب السَّعَادَة ويستنجح مَا لنا من الْإِرَادَة وَيُقِيم الدعْوَة الهادية العباسية هُنَالك ويورد الأدعياء ودعاة الْإِلْحَاد بهَا المهالك
وَهُوَ كتاب طَوِيل اخْتَرْت مِنْهُ الْغَرَض وَهُوَ هَذَا(2/204)
قَالَ وَسَار شهَاب الدّين بن أبي عصرون إِلَى جِهَة بَغْدَاد وَلم يتْرك مَدِينَة إِلَّا دَخلهَا بِهَذِهِ الْبشَارَة الجليلة الْقدر وَقَرَأَ فِيهَا هَذَا المنشور الْعَظِيم الْخطر وَالذكر حَتَّى وصل إِلَى بَغْدَاد فَخرج الموكب إِلَى تلقيه وَجَمِيع أهل بَغْدَاد مكرمين لخطير وُرُوده معظمين لجليل موروده وَنَثَرت عَلَيْهِ دَنَانِير الإنعام وحُبى بِكُل إِحْسَان وإكرام وَأرْسلت التشريفات إِلَى نور الدّين وَصَلَاح الدّين كَمَا سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ صَلَاح الدّين لَا يخرج عَن أَمر نور الدّين وَيعْمل لَهُ عمل القوى الْأمين وَيرجع فِي جَمِيع مَصَالِحه إِلَى رَأْيه المتين وَقد كَانَ كَاتبه نور الدّين فِي شَوَّال سنة سِتّ وَسِتِّينَ بتغيير الْخطْبَة وتذليل أمورها الصعبة وافتراع بكر هَذِه الْقَضِيَّة وَفرع الرُّتْبَة وأيقن أَن أمره متبوع وَقَوله مسموع وَحكمه مَشْرُوع ونطقت بذلك قبل التَّمام ألسُن الْخَواص والعوام فسيَّر نور الدّين شهَاب الدّين بن أَبَا الْمَعَالِي المطهر بن الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون بِهَذِهِ الْبشَارَة وإشاعة مَا تقدم لَهُ بهَا من الإشاعة وَأَمرَنِي بإنشاء بِشَارَة عَامَّة تقْرَأ فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام وَبشَارَة خَاصَّة للديوان الْعَزِيز بِحَضْرَة الإِمَام فِي مَدِينَة السَّلَام ثمَّ ذكر نُسْخَة الْكِتَابَيْنِ
ثمَّ قَالَ ونظمت قصيدة مُشْتَمِلَة على الْخطْبَة بِمصْر أَولهَا(2/205)
(قد خَطَبنَا للمستضيء بِمصْر ... نَائِب الْمُصْطَفى إِمَام الْعَصْر)
(وخذلنا لنصرة الْعَضُد العاضد ... والقاصر الَّذِي بِالْقصرِ)
أَرَادَ بالعضد وَزِير بَغْدَاد عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الخريدة قصدت بالعضد والعاضد المجانسة
ونصرة وزيرالخليفة كنصرته ثمَّ قَالَ
(وأشعْنا بهَا شعار بني الْعَبَّاس ... فاستبشرت وُجُوه النَّصْر)
(وَتَركنَا الدَّعي يَدْعُو ثبورا ... وَهُوَ بالذل تَحت حجر وَحصر)
(وتباهت مَنَابِر الدّين بِالْخطْبَةِ ... للهاشمي فِي أَرض مصر)
(ولدينا تضاعفت نعم الله ... وجلّت عَن كل عدّ وَحصر)
(فاغتدى الدّين ثَابت الرُّكْن فِي مصر ... محوط الْحمى مصون الثغر)
(واستنارت عزائم الْملك الْعَادِل ... نور الدّين الْكَرِيم الْأَغَر)
(وَبَنُو الْأَصْفَر القوامص مِنْهُ ... بِوُجُوه من المخافة صُفر)
(عرف الحقَّ أهل مصر وَكَانُوا ... قبله بَين مُنكر ومقر)
(قل لداعي الدعي حَسبك فَالله ... أقرّ الْحُقُوق خير مقرّ)
(هُوَ فتح بكر وَدون البرايا ... خصنا الله بافتراع الْبكر)
(وحصلنا بِالْحَمْد وَالْأَجْر والنصر ... وَطيب الثنا وَحسن الذّكر)
(ونشرنا أعلامنا السود قهرا ... للعدى الرزق بالمنايا الْحمر)
(واستعدنا من أدعياء حقوقا ... تدعيّ بَينهم لزيد وَعَمْرو)
(وَالَّذِي يَدعِي الْإِمَامَة بِالْقَاهِرَةِ ... انحط فِي حضيض الْقَهْر)(2/206)
(خانه الدَّهْر فِي مَنَاة ولايطمع ... ذُو اللب فِي وَفَاء الدَّهْر)
(مَا يُقَام الإِمَام إِلَّا بِحَق ... مَا تحاز الْحَسْنَاء إِلَّا بِمهْر)
(خلفاء الْهدى سراة بني الْعَبَّاس ... والطيبون أهل الطُّهْر)
(بهمُ الدّين ظافر مُسْتَقِيم ... ظَاهر قُوَّة قوى الظّهْر)
(كشموس الضُّحَى كَمثل بدور التم ... كالسحب كَالنُّجُومِ الزهر)
(قد بلغنَا بِالصبرِ كل مُرَاد ... وبلوغ المُرَاد عُقبى الصَّبْر)
(لَيْسَ مُثرى الرِّجَال من ملك المَال ... ولكنما أَخُو اللب مثرى)
(وَلِهَذَا لم ينْتَفع صَاحب الْقصر ... وَقد شَارف الدُّثُور بدثر)
(دَامَ نصر الْهدى بِملك بني الْعَبَّاس ... حَتَّى يقوم يَوْم الْحَشْر)
قَالَ الْعِمَاد فِي ديوانه ونقلته من خطه قَالَ وَوصل الْخَبَر بِالْخطْبَةِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة يَوْم الْجُمُعَة سَابِع شهر رَمَضَان وَفِي مصر والقاهرة يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشري شهر رَمَضَان لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وإشاعة شعار بني الْعَبَّاس بهَا فَقلت وَنحن نزُول بجسر الْخشب من دمشق فِي عَاشر شَوَّال وكتبت بهَا إِلَى بَغْدَاد فَذكر هَذِه القصيدة
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَوصل من دَار الْخلَافَة فِي جَوَاب هَذِه الْبشَارَة عماد الدّين صندل وَهُوَ من أكَابِر الخدم المقتفوية من ذَوي الروية والهمَّة القوية وَتَوَلَّى أستاذية الدَّار العزيزة بعد عزل كَمَال الدّين بن عضد الدّين عَنْهَا فَأكْرم نور الدّين بإرسال مثله إِلَيْهِ وعول فِي هَذَا الْأَمر المهم عَلَيْهِ(2/207)
وَهُوَ أكْرم رَسُول وصل فأنجح الأمل وَجَاء بالتشريف الشريف لنُور الدّين مكملا مُعظما مُجملا بأهبته السَّوْدَاء العراقية وحلله الموشية وطوقه الثقيل ولوائه الْجَلِيل
وَعين يَوْم يحضر فِيهِ الرَّسُول ونصوا على من يحضر فِي مجْلِس نور الدّين وأغفلوا ذكر الْعِمَاد فَطَلَبه نور الدّين لما حَضَرُوا وَقَامَ لقِيَام الرُّسُل لَهُ لما حضر وَقصد أَن يعرفهُمْ مَنْزِلَته عِنْده وناوله الْكتاب ليقرأه قَالَ فتناوله منى الْمُوفق بن القيسراني خَالِد وَكَانَ عِنْده فِي مقَام الْوَزير وَله انبساط زَائِد فداريته وماريته وَتركته يقْرَأ وَأَنا أرد عَلَيْهِ وأرشده فِي التِّلَاوَة إِلَى مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ حَتَّى أنهاه وَأَنا على افتئاته عليّ لَا أنهاه فأعجب نور الدّين صمتي وسمتي وَأحمد مني فضل التأتي واجتاب الأهبة وَلبس الفرجية فَوْقهَا وتقلد مَعَ تقلد السيفين طوقها وَخرج وَركب من دَاخل القلعة وَهُوَ حالٍ بِمَا عَلَيْهِ من الخلعة واللواء منشور والنضار منثور والمركبان الشريفان أَحدهمَا مركوبه وَالْآخر بحليته مجنوبه
قَالَ وَسَأَلت عَن معنى تَقْلِيده السيفين واشتماله بالنجادين فَقيل هما للشام ومصر وَالْجمع لَهُ بَين البلادين
وَخرج إِلَى ظَاهر دمشق حَتَّى انْتهى إِلَى مُنْتَهى الميدان الْأَخْضَر ثمَّ عَاد شرِيف المفخر جميل المنظر جليل الْمحْضر حميد الْمخبر سعيد المورد والمصدر لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر وَكَانَ وزن الطوق مَعَ أكرته ألف دِينَار من الذَّهَب الْأَحْمَر وحملوا لصلاح الدّين تَشْرِيفًا فَاضلا فائقاً رائعا رائقاً لجماله وكماله لائقاً لَكِن تشريف نور الدّين أميز وَأفضل وأجمل وأكمل فسير تشريفه برمتِهِ إِلَيْهِ بِمصْر ليجتابه وسير أَيْضا(2/208)
بخلع من عِنْده يكرم بهَا أَصْحَابه ووصلت تِلْكَ الخلعة إِلَيْهِ ولبسها وَأنس من السَّعَادَة الدائمة قبسها وَطَاف بهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب وَهِي أول أهبة عباسية دخلت الديار المصرية يَعْنِي بعد اسْتِيلَاء بني عبيد عَلَيْهَا
قَالَ وَكَانَت وصلت مَعَ الرُّسُل أَعْلَام وبنود ورايات سود وأُهب عباسية للخطباء فِي الديار المصرية فسيُرّت إِلَى صَلَاح الدّين ففرقها على الْمَسَاجِد والجوامع والخطباء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَالْحَمْد لله على مَا أنعم وَأولى ووهب وَأعْطى
قَالَ ابْن أبي طيّ وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر الْخطْبَة أَمر بِالْقَبْضِ على الْقُصُور وَجَمِيع مَا فِيهَا من مَال وذخائر وفرش وَسلَاح وَغير ذَلِك فَلم يُوجد من المَال كَبِير أَمر لِأَن شاور كَانَ قد ضيّعه فِي إِعْطَائِهِ الفرنج فِي المرات الَّتِي قدمنَا ذكرهَا وَوجد فِيهَا ذخائر جليلة من ملابس وفرش وخيول وخيام وَكتب وجوهر وَمن عَجِيب مَا وجد فِيهِ قضيب زمرد طوله شبر وكَسْر قِطْعَة وَاحِدَة وَكَانَ سمت حجمه مِقْدَار الْإِبْهَام وَوجد فِيهِ طبل للقولنج وَوجد فِيهِ إبريق عَظِيم من الْحجر الْمَانِع وَوجد فِيهِ سبع مئة يتيمة من الْجَوْهَر فَأَما قضيب الزمرد فَإِن السُّلْطَان أَخذه وأحضر صائغا ليقطعه فَأبى الصَّائِغ قطعه فَرَمَاهُ السُّلْطَان فَانْقَطع ثَلَاث قطع وفرَّقه السُّلطان على نِسَائِهِ وَأما طبل القولنج فَإِنَّهُ وَقع إِلَى بعض الأكراد(2/209)
فَلم يَدْر مَا هُوَ فَكَسرهُ لِأَنَّهُ ضرب بِهِ فحبق وَأما الأبريق فأنفذه السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد
واحتاط السُّلْطَان على أهل العاضد وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر لَهُم مَا يكفيهم وَجعل أَمرهم إِلَى قراقوش الْخَادِم وفرّق بَين النِّسَاء وَالرِّجَال ليَكُون ذَلِك أسْرع إِلَى انقراضهم واستعرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد وَالْعدة والعديد والطريف والتليد فَأطلق مَنْ كَانَ مِنْهُم حرا وَأعْتق من رأى إِعْتَاقه ووهب من أَرَادَ هِبته وَفرق على الْأُمَرَاء وَالْأَصْحَاب من نفائس الْقصر وذخائره شَيْئا كثيرا وَحصل هُوَ على اليتيمات وَقطع البلخش والياقوت وقضيب الزمرد وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق فَأَقَامَ البيع فِي الْقصر مدّة عشر سِنِين
قَالَ وَمن جملَة مَا باعوا خزانَة الْكتب وَكَانَت من عجائب الدُّنْيَا وَيُقَال إِنَّه لم يكن فِي جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام دَار كتب أعظم من الدَّار الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ فِي الْقصر وَمن عجائبها أَنه كَانَ بهَا ألف ومئتان وَعِشْرُونَ نُسْخَة بتاريخ الطَّبَرِيّ وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت تحتوى على ألفي ألف وست مئة ألف كتاب وَكَانَ فِيهَا من الخطوط المنسوبة أَشْيَاء كَثِيرَة وَحصل القَاضِي الْفَاضِل نخبها وَذَلِكَ أَنه دخل إِلَيْهَا واعتبرها فكلّ كتاب صلح لَهُ قطع جلده ورماه فِي بركَة كَانَت هُنَاكَ فَلَمَّا فرغ النَّاس من شِرَاء الْكتب اشْترى تِلْكَ الْكتب الَّتِي أَلْقَاهَا فِي الْبركَة على انها مخرومات ثمَّ جمعهَا بعد ذَلِك(2/210)
وَمِنْهَا حصل مَا حصّل من الْكتب كَذَا أَخْبرنِي جمَاعَة من المصريين مِنْهُم الْأَمِير شمس الْخلَافَة مُوسَى بن مُحَمَّد
واقتسم النَّاس بعد ذَلِك دور الْقصر وَأعْطى السُّلْطَان الْقصر الشمالي لِلْأُمَرَاءِ فسكنوه وأسكن أَبَاهُ نجم الدّين فِي اللؤلؤة وَهُوَ قصر عَظِيم على الخليج الَّذِي فِيهِ الْبُسْتَان الكافوري وَنقل الْملك الْعَادِل إِلَى مَكَان آخر مِنْهُ وَأخذ بَاقِي الْأُمَرَاء دور من كَانَ ينتمي إِلَيْهِم وَزَاد الْأَمر حَتَّى صَار كل من اسْتحْسنَ دَارا أخرج مِنْهَا صَاحبهَا وسكنها وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة برمتها وَذَهَبت تِلْكَ الْأَيَّام بجملتها بعد أَن كَانُوا قد احتووا على الْبِلَاد واستخدموا الْعباد مئتين وَثَمَانِينَ سنة كسورا
قَالَ وَحكى أَن الشريف الجليس وَهُوَ رجل كَانَ قَرِيبا من العاضد يجلس مَعَه ويحدثه عمل دَعْوَة لشمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان بعد الْقَبْض على الْقُصُور وَأخذ مَا فِيهَا وانقراض دولتهم وَغرم هَذَا الشريف على هَذِه الدعْوَة مَالا كثيرا وأحضرها أَيْضا جمَاعَة من أكَابِر الْأُمَرَاء فَلَمَّا جَلَسُوا على الطَّعَام قَالَ شمس الدولة لهَذَا الشريف حدّثني بِأَعْجَب مَا شاهدته من أَمر الْقَوْم قَالَ نعم طلبني العاضد يَوْمًا ولجماعة من الندماء فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ وجدنَا عِنْده مملوكين من التّرْك عَلَيْهِم أقبية مثل أقبيتكم وقلانس كقلانسكم وَفِي أوساطهم مناطق كمناطقكم فَقُلْنَا لَهُ يَا أَمِير(2/211)
الْمُؤمنِينَ مَا هَذَا الزي الَّذِي مَا رَأَيْنَاهُ قطّ فَقَالَ هَذِه هَيْئَة الَّذين يملكُونَ دِيَارنَا وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالنَا وذخائرنا
قَالَ الْعِمَاد وَأخذت ذخائر الْقصر ففصلها كَمَا سبق ثمَّ قَالَ وَمن جُمْلَتهَا الْكتب فَإِنِّي أخذت مِنْهَا جملَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَكَانَت خزائنها مُشْتَمِلَة على قريب مئة وَعشْرين ألف مجلدة مُؤَبّدَة من الْعَهْد الْقَدِيم مخلدة وفيهَا بالخطوط المنسوبة مَا اختطفته الْأَيْدِي واقتطعه التعديّ وَكَانَت كالميراث مَعَ أُمَنَاء الْأَيْتَام يتَصَرَّف فِيهَا بشره الانتهاب والالتهام ونقلت مِنْهَا ثَمَانِيَة أحمال إِلَى الشَّام وتقاسم الْخَواص بِدُور الْقصر وقُصوره وَشرع كل من سكن فِي تخريب معموره وانتقل إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل سيف الدّين لما نَاب عَن أَخِيه واستمرت سكناهُ فِيهِ وخطب لإمامنا المستضيء فِي قوص وأسوان والصعيد والقاصي والداني والقريب والبعيد وشاعت البشائر وذاعت المفاخر وَسَار بهَا البادي والحاضر وتملك السُّلْطَان أَمْلَاك أشياعهم وَضرب الألواح على دُورهمْ ورباعهم ثمَّ ملكهَا أمراءه وَخص بهَا أولياءه وَبَاعَ مِنْهَا أَمَاكِن ووهب مِنْهَا مسَاكِن وعفّى الْآثَار الْقَدِيمَة واستأنف السّنَن الْكَرِيمَة
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما استولى صَلَاح الدّين على الْقصر وأمواله وذخائره اخْتَار مِنْهُ مَا أَرَادَ ووهب أَهله وأمراءه وَبَاعَ مِنْهُ كثيرا وَكَانَ فِيهِ من(2/212)
الْجَوَاهِر والأعلاق النفيسة مَا لم يكن عِنْد ملك من الْمُلُوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور فَمِنْهُ الْقَضِيب الزمرد طوله نَحْو قَبْضَة وَنصف والجبل الْيَاقُوت وَغَيرهمَا وَمن الْكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نَحْو مئة ألف مُجَلد
فصل
وَلما خطب بالديار المصرية لبني الْعَبَّاس وَمَات العاضد انقرضت تِلْكَ الدولة وزالت عَن الْإِسْلَام بِمصْر بانقراضها الذلة وَاسْتولى على مصر صَلَاح الدّين وَأَهله ونوابه وكلُّهم من قبل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى هم أمراؤه وخدمه وَأَصْحَابه وَفِيهِمْ يقُول العرقلة
(أصبح الْملك بعد آل عليّ ... مشرقا بالملوك من آل شاذي)
(وَغدا الشرق يحْسد الغرب للْقَوْم ... ومصرُ تزهو على بغداذ)
(مَا حوَوْها إِلَّا بحزم وعزم ... وصليل الفولاذ فِي الفولاذ)
(لَا كفرعون والعزيز وَمن كَانَ ... بهَا كالخصيب والأستاذ)(2/213)
يَعْنِي بالأستاذ كافور الإخشيدي وَقَوله بعد آل عَليّ يَعْنِي بذلك بني عبيد المستخلفين بهَا أظهرُوا للنَّاس أَنهم شرفاء فاطميون فملكوا الْبِلَاد وقهروا الْعباد وَقد ذكر جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء أَنهم لم يَكُونُوا لذَلِك أَهلا وَلَا نسبهم صَحِيحا بل الْمَعْرُوف أَنهم بَنو عبيد
وَكَانَ وَالِد عبيد هَذَا من نسل القداح الملحد الْمَجُوسِيّ وَقيل كَانَ وَالِد عبيد هَذَا يَهُودِيّا من أهل سَلَمْية من بِلَاد الشَّام وَكَانَ حدادا وَعبيد هَذَا كَانَ اسْمه سعيداً فَلَمَّا دخل الْمغرب تسمى بعبيد الله وَزعم أَنه علويّ فاطميّ وَادّعى نسبا لَيْسَ بِصَحِيح لم يذكرهُ أحد من مصنفي الْأَنْسَاب العلوية بل ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء بِالنّسَبِ خِلَافه وَهُوَ مَا قدمنَا ذكره ثمَّ ترقت بِهِ الْحَال إِلَى أَن ملك وَتسَمى بالمهدي وَبني المهدية(2/214)
بالمغرب ونسبت إِلَيْهِ وَكَانَ زنديقاً خبيثاً عدوًّا لِلْإِسْلَامِ متظاهراً بالتشيع متستراً بِهِ حَرِيصًا على إِزَالَة الملّة الإسلامية قتل من الْفُقَهَاء والمحدثين وَالصَّالِحِينَ جمَاعَة كَثِيرَة وَكَانَ قَصده إعدامهم من الْوُجُود ليبقى الْعَالم كَالْبَهَائِمِ فيتمكن من إِفْسَاد عقائدهم وضلالتهم {وَالله متمّ نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ونشأت ذريّته على ذَلِك منطوين يجهرون بِهِ إِذا أمكنتهم الفرصة وَإِلَّا أسرُّوه والدعاة لَهُم منبثون فِي الْبِلَاد يضلون من أمكنهم إضلاله من الْعباد وَبَقِي هَذَا الْبلَاء على الْإِسْلَام من أول دولتهم إِلَى آخرهَا وَذَلِكَ من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين ومئتين إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
وَفِي أيامهم كثرت الرّافضة واستحكم أَمرهم وَوضعت المكوس على النَّاس واقتدى بهم غَيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الْجبَال الساكنين بثغور الشَّام والحشيشية نوع مِنْهُم وَتمكن دعاتهم مِنْهُم لضعف عُقُولهمْ وجهلهم مَا لم يتمكنوا من غَيرهم وَأخذت الفرنج أَكثر الْبِلَاد بِالشَّام والجزيرة إِلَى أَن منَّ الله على الْمُسلمين بِظُهُور الْبَيْت الأتابكي وتقدمه مثل صَلَاح الدّين فاستردّوا الْبِلَاد وأزالوا هَذِه الدولة عَن رِقَاب الْعباد
وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر مستخلفاً ثَلَاثَة مِنْهُم بإفريقية وهم الملقبون بالمهدي والقائم والمنصور وَأحد عشر بِمصْر وهم الملقبون بالمعزّ والعزيز وَالْحَاكِم وَالظَّاهِر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد(2/215)
يدعونَ الشّرف ونسبتهم إِلَى مَجُوسِيّ أَو يَهُودِيّ حَتَّى أشتهر لَهُم ذَلِك بَين الْعَوام فصاروا يَقُولُونَ الدولة الفاطمية والدولة العلوية وَإِنَّمَا هِيَ الدَّولة الْيَهُودِيَّة أَو الْمَجُوسِيَّة الباطنية الملحدة وَمن قحتهم أَنهم كَانُوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر ويكتبونه على جدران الْمَسَاجِد وَغَيرهَا
وخطب عبدهم جَوْهَر الَّذِي أَخذ لَهُم الديار المصرية وَبنى لَهُم الْقَاهِرَة المعزية بِنَفسِهِ خطْبَة طَوِيلَة قَالَ فِيهَا اللَّهُمَّ صلّ على عَبدك ووليك ثَمَرَة النُّبُوَّة وسليل العترة الهادية المهدية معدّ أبي تَمِيم الإِمَام الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ كَمَا صليت على آبَائِهِ الطاهرين وسلفه المنتخبين الْأَئِمَّة الرَّاشِدين
كذب عدوّ الله اللعين فَلَا خير فِيهِ وَلَا فِي سلفه أَجْمَعِينَ وَلَا فِي ذُريَّته البَاقِينَ والعترة النَّبَوِيَّة الطاهرة مِنْهُم بمعزل رَحْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى أمثالهم من الصَّدْر الأول
وَقد بيّن نسبهم هَذَا وأوضح محالهم وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من التمويه وعداوة الْإِسْلَام جمَاعَة مِمَّن سلف من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء وكل متورع مِنْهُم لَا يسميهم إِلَّا بني عبيد الأدعياء أَي يدعوّن من النّسَب مَا لَيْسَ لَهُم وَرَحْمَة الله على القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب فَإِنَّهُ كشف فِي أول(2/216)
كِتَابه الْمُسَمّى بكشف أسرار الباطنية عَن بطلَان نسب هَؤُلَاءِ إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأَن القدّاح الَّذِي انتسبوا إِلَيْهِ دَعيُّ من الأدعياء ممخرق كَذَّاب وَهُوَ أصل دعاة القرامطة لعنهم الله
وَأما القَاضِي عبد الْجَبَّار الْبَصْرِيّ فَإِنَّهُ استقصى الْكَلَام فِي أصولهم وَبَينهَا بَيَانا شافيا فِي أَوَاخِر كتاب تثبيت النُّبُوَّة لَهُ وَقد نقلت كَلَامهمَا فِي ذَلِك وَكَلَام غَيرهمَا فِي مُخْتَصر تَارِيخ دمشق فِي تَرْجَمَة عبد الرَّحِيم بن إلْيَاس وَهُوَ من تِلْكَ الطَّائِفَة الَّذين هم بئس(2/217)
النَّاس وَهَذَانِ إمامان كبيران من أَئِمَّة أصُول دين الْإِسْلَام
وَأظْهر عبد الْجَبَّار القَاضِي فِي كِتَابه بعض مَا فَعَلُوهُ من الْمُنْكَرَات والكفريات الَّتِي يقف الشّعْر عِنْد سماعهَا وَلَكِن لَا بُد من ذكر شَيْء من ذَلِك تنفيرا لِمَن لَعَلَّه يعْتَقد إمامتهم وخفي عَنهُ محالهم وَلم يعلم قحتهم ومكابرتهم وليعذر من أَزَال دولتهم وأمات بدعتهم وقلل عدّتهم وأفنى أمتهم وأطفأ جمرتهم
ذكر عبد الْجَبَّار القَاضِي أَن الملقب بالمهدي لَعنه الله كَانَ يتَّخذ الْجُهَّال ويسلطهم على أهل الْفضل وَكَانَ يُرْسل إِلَى الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فَيذبحُونَ فِي فرُشهم وَأرْسل إِلَى الرّوم وسلطهم على الْمُسلمين وَأكْثر من الْجور واستصفاء الْأَمْوَال وَقتل الرِّجَال وَكَانَ لَهُ دعاة يضلون النَّاس على قدر طبقاتهم فَيَقُولُونَ لبَعْضهِم هُوَ الْمهْدي ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحجَّة الله على خلقه وَيَقُولُونَ لآخرين هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحجَّة الله على خلقه وَيَقُولُونَ لطائفة أُخرى هُوَ الله الْخَالِق الرازق لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ تبَارك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا
وَلما هلك قَامَ ابْنه الْمُسَمّى بالقائم مقَامه وَزَاد شرّه على شَرّ أَبِيه أضعافاً مضاعفة وجاهر بشتم الْأَنْبِيَاء فَكَانَ يُنَادي فِي أسواق المهدية(2/218)
وَغَيرهَا ألعنوا عَائِشَة وبَعْلَها ألعنوا الْغَار وَمن حوى
اللَّهُمَّ صل على نبيك وَأَصْحَابه وأزواجه الطاهرين والعن هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة الفجرة الْمُلْحِدِينَ وَارْحَمْ من أزالهم وَكَانَ سَبَب قلعهم وَمن جرى على يَدَيْهِ تَفْرِيق جمعهم وأصلهم سعيراً ولَقِّهم ثبوراً وأسكنهم النَّار جَمِيعًا واجعلهم مِمَّن قلت فيهم {الَّذين ضل سَعْيُهم فِي الحَيْاة الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبون أَنَّهم يحسنون صنعا}
رَجعْنَا إِلَى الأَصْل
وَبعث إِلَى أبي طَاهِر القرمطي الْمُقِيم بِالْبَحْرَيْنِ وَبَعثه على قتل الْمُسلمين وإحراق الْمَسَاجِد والمصاحف
وَقَامَ بعده ابْنه الْمُسَمّى بالمنصور فَقتل أَبَا يزِيد مخلداً الَّذِي خرج على أَبِيه يُنكر عَلَيْهِ قَبِيح فعله الْمُقدم ذكره وسلخه وصلبه واشتغل بِأَهْل الْجبَال يقتلهُمْ ويشردهم خوفًا من أَن يثور عَلَيْهِ ثَائِر مثل أبي يزِيد
وَقَامَ بعده ابْنه الْمُسَمّى بالمعز فَبَثَّ دعاته فَكَانُوا يَقُولُونَ هُوَ الْمهْدي الَّذِي يملك وَهُوَ الشَّمْس الَّتِي تطلع من مغْرِبهَا وَكَانَ يسره مَا ينزل بِالْمُسْلِمين من المصائب من أَخذ الروّم بِلَادهمْ واحتجب عَن النَّاس أياماُ ثمَّ ظهر وأوْهم أَن الله رَفعه إِلَيْهِ وَأَنه كَانَ غَائِبا فِي السَّمَاء وَأخْبر(2/219)
النَّاس بأَشْيَاء صدرت مِنْهُم كَانَ ينقلها إِلَيْهِ جواسيس لَهُ فأمتلأت قُلُوب الْعَامَّة والجهال مِنْهُ
وَهَذَا أول خلفائهم بِمصْر وَهُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْقَاهِرَة واستدعى بفقيه الشَّام أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن سهل الرّملي وَيعرف بِابْن النابلسي فحمُل إِلَيْهِ فِي قفص خشب فَأمر بسلخه فسلخ حَيا وحشى جلده تبنا وصلب رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ سَمِعت أَبَا الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ يذكرهُ ويبكي وَيَقُول كَانَ يَقُول وَهُوَ يسلخ {كَاَنَ ذَلِكَ فِي الكِتِابِ مَسْطُوراً}
قلت وَفِي أَيَّام الملقب بالحاكم مِنْهُم أَمر بكتب سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على حيطان الْجَوَامِع والقياسر والشوارع والطرقات وَكتب السجلات إِلَى سَائِر الْأَعْمَال بالسبّ ثمَّ أَمر بقلع ذَلِك وَأَنا رَأَيْته مقلوعاً فِي بعض أَبْوَاب دمشق فِي الأسكفة الْعليا منقوراً فِي الْحجر ودلّني(2/220)
أول الْكَلَام وَآخره على ذَلِك ثمَّ جدّد ذَلِك الْبَاب وأزيل ذَلِك الْحجر
وَفِي أَيَّامه طوف بِدِمَشْق رجل مغربي وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من يحبّ أَبَا بكر وَعمر ثمَّ ضربت عُنُقه وَكَانَ يجْرِي فِي أيامهم من نَحْو هَذَا أَشْيَاء مثل قطع لِسَان أبي الْقَاسِم الوَاسِطِيّ أحد الصَّالِحين وَكَانَ أَذّن بِبَيْت الْمُقَدّس وَقَالَ فِي أَذَانه حيّ على الْفَلاح فأُخذ وَقطع لِسَانه ذكر ذَلِك وَمَا قبله من قتل المغربي وَأبي بكر النابلسي الحافظُ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه وَمَا كَانَت ولَايَة هَؤُلَاءِ الملاعين إِلَّا محنة من الله تَعَالَى وَلِهَذَا طَالَتْ مدتهم مَعَ قلَّة عِدتهم فَإِن عدتهمْ عدَّة خلفاء بني أُميَّة أَرْبَعَة عشر وَأُولَئِكَ بقوا نيّفاً وَتِسْعين سنة وَهَؤُلَاء بقوا مئتي سنة وثمانياً وَسِتِّينَ سنة فَالْحَمْد لله على مَا يسر من هُلكهم وإبادة ملكهم وَرَضي الله عَمَّن سعى فِي ذَلِك وأزالهم ورِحم مَنْ بيّن مَخْرقتهم وكذبهم ومحِالهم
وَقد كشف أَيْضا حَالهم الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحمن بن عَليّ بن أبي نصر الشَّاشِي فِي كتاب الرَّدِّ على الباطنية وَذكر قبائح مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْكفْر والمنكرات وَالْفَوَاحِش فِي أَيَّام نزار وَمَا بعده وَوصل الْأَمر إِلَى أَن(2/221)
وصف بَعضهم مَا كَانُوا فِيهِ فِي قصيدة سَمَّاهَا الْإِيضَاح عَن دَعْوَة القدّاح أوَّلها
(حيَّ على مصر إِلَى خلع الرَّسَنْ ... فثمَّ تَعْطِيل فروض وَسنَن)
وَقَالَ لَو وُفّق مُلُوك الْإِسْلَام لصرفوا أَعِنَّة الْخَيل إِلَى مصر لغزو الباطنية الملاعين فَإِنَّهُم من شَرّ أَعدَاء دين الْإِسْلَام وَقد خرجت من حد الْمُنَافِقين إِلَى حدّ المجاهرين لما ظهر فِي ممالك الْإِسْلَام من كفرها وفسادها وتعيّن على الكافة فرض جهادها وضرر هَؤُلَاءِ أَشد على الْإِسْلَام وَأَهله من ضَرَر الْكفَّار إِذْ لم يقم بجهادها أحد إِلَى هَذِه الْغَايَة مَعَ الْعلم بعظيم ضررها وفسادها فِي الأَرْض وَالله الْمُوفق
قلت ثمَّ إنيّ لم يقنعني هَذَا من بَيَان أَحْوَالهم فأفردت كتابا لذَلِك سميته كشف مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنو عبيد من الْكفْر وَالْكذب وَالْمَكْر والكيد فَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيل أَحْوَالهم فَعَلَيهِ بِهِ فَإِنِّي بِتَوْفِيق الله تَعَالَى جمعت فِيهِ مَا ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المصنفون وَغَيرهم ووقفت على كتاب كَبِير صنفه الشريف الْهَاشِمِي رَحمَه الله وَكَانَ فِي أَيَّام الملقب بالعزيز ثَانِي خلفاء مصر فَبين فِيهِ أصولهم أتم بَيَان وأوضح كَيْفيَّة ظُهُورهمْ وغلبتهم على الْبِلَاد وتتبع ذكر فضائحهم وَمَا كَانَ يصدر مِنْهُم من أَنْوَاع الزندقة وَالْفِسْق والمخرقة فنقلت مِنْهُ إِلَى مَا كنت جمعته قِطْعَة كَبِيرَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق(2/222)
وَمَا أحسن مَا قَالَ فيهم من مدح بعض بني أَيُّوب بقصيدة مِنْهَا
(ألَسْتم مزيلي دولة الْكفْر من بني ... عبيد بِمصْر إِن هَذَا هُوَ الْفضل)
(زنادقة شِيعِيَّة باطنية ... مجوس وَمَا فِي الصَّالِحين لَهُم أصل)
(يُسِرُّون كفرا يظهرون تشيَّعاً ... ليستتروا شَيْئا وعمهم الْجَهْل)
وَمَا فعله هَؤُلَاءِ من الانتساب إِلَى عليّ رضوَان الله عَلَيْهِ والتستر بالتشيع قد فعله جمَاعَة القرامطة وَصَاحب الزنج الْخَارِج بِالْبَصْرَةِ وَغَيرهم من المفسدين فِي الأَرْض على مَا عرف مِنْ سيرهم من وقف على أَخْبَار النَّاس وَكلهمْ كذبة فِي ذَلِك وَإِنَّمَا غرضهم التَّقَرُّب إِلَى الْعَوام والجهال واستتباعهم لَهُم واستجلابهم إِلَى دعوتهم بذلك الْبلَاء {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَلَا يغتر بِأَبْيَات الشريف الرضي فِي ذَلِك فقد حصل الْجَواب عَنْهَا فِي كتاب الْكَشْف بِوُجُوه حَسَنَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَقد صنف الشريف العابد الدِّمَشْقِي رَحمَه الله كتابا فِي إبِْطَال(2/223)
نسبهم إِلَى عليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَفصل ذَلِك تَفْصِيلًا حسنا وَأَطْنَبَ فِي ذكر أَخْبَار إخْوَانهمْ من القرامطة لعنهم الله تَعَالَى
فصل فِي ذكر غَزْو الفرنج فِي هَذِه السّنة
قَالَ ابْن شَدَّاد واستمرت الْقَوَاعِد على الاسْتقَامَة وَصَلَاح الدّين كلما استولى على خزانَة مَال وَهبهَا وَكلما فتح لَهُ خَزَائِن ملك أنهبها وَلَا يبقي لنَفسِهِ شَيْئا وَشرع فِي التأهب للغزاة وَقصد بِلَاد الْعَدو وتعبئة الْأَمر لذَلِك وَتَقْرِير قَوَاعِده
وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ عزم على الْغُزَاة واستدعى صَاحب الْموصل ابْن أَخِيه فوصل بالعساكر إِلَى خدمته وَكَانَت غَزْوَة عرقة فَأَخذهَا نور الدّين وَمَعَهُ ابْن أَخِيه فِي الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ
وَقَالَ ابْن أبي طي جمع نور الدّين عساكره وَخرج إِلَى عرقة ونازلها وقاتلها أَيَّامًا حَتَّى فتحهَا واحتوى على جَمِيع مَا فِيهَا وغنم النَّاس غنيمَة عَظِيمَة
قَالَ ابْن الْأَثِير خرجت مراكب من مصر إِلَى الشَّام فَأخذ الفرنج فِي اللاذقية مركبين مِنْهَا مملوءين من الْأَمْتِعَة والتجار وغدروا بِالْمُسْلِمين وَكَانَ نور الدّين قد هادنهم فَنَكَثُوا فَلَمَّا سمع نور الدّين الْخَبَر استعظمه(2/224)
وراسل الفرنج فِي ذَلِك وَأمرهمْ بِإِعَادَة مَا أَخَذُوهُ فغالطوه وَاحْتَجُّوا بِأُمُور مِنْهَا أَن المركبين كَانَا قد دخلهما مَاء الْبَحْر لكسر فيهمَا وَكَانَت الْعَادة بَينهم أَخذ كل مركب يدْخلهُ المَاء وَكَانُوا كاذبين فَلم يقبل مغالطتهم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ لَا يهمل أمرا من أُمُور رَعيته فَلم يردوا شَيْئا فَجمع العساكر من الشَّام والموصل والجزيرة وَبث السَّرَايَا فِي بِلَادهمْ بَعضهم نَحْو أنطاكية وَبَعْضهمْ نَحْو طرابلس وَحصر هُوَ حصن عرقة وأخرب ربضه وَأرْسل طَائِفَة من الْعَسْكَر إِلَى حصني صافيثا وعريمة فَأَخذهُمَا عنْوَة وَكَذَلِكَ غَيرهمَا وَنهب وخرّب وغنم الْمُسلمُونَ الْكثير وعادوا إِلَيْهِ وَهُوَ بعرقة فَسَار فِي العساكر جَمِيعهَا إِلَى قريب طرابلس يخرب وَيحرق وينهب وَأما الَّذين سَارُوا إِلَى أنطاكية فَإِنَّهُم فعلوا فِي ولايتها مثل مَا فعل من النهب وَالتَّحْرِيق والتخريب بِولَايَة طرابلس فراسله الفرنج وبذلوا إِعَادَة مَا أَخَذُوهُ من المركبين ويجدد مَعَهم الْهُدْنَة فأجابهم وَكَانُوا فِي ذَلِك كَمَا يُقَال الْيَهُودِيّ لَا يُعْطي الْجِزْيَة حَتَّى يُلطم فَكَذَلِك الفرنج مَا أعادوا أَمْوَال التُّجَّار بِالَّتِي هِيَ أحسن فلمّا نُهبت بِلَادهمْ وَخَربَتْ أعادوها
قَالَ وَكَانَ لوالدي فِي المركبين تِجَارَة مَعَ شَخْصَيْنِ فَلَمَّا أعادوا إِلَى النَّاس أَمْوَالهم لم يصل إِلَى كل إِنْسَان إِلَّا الْيَسِير وَكَانَ يُحمل الْمَتَاع فَكل من اسْمه على ثوب أَخذه وَكَانَ فِي النَّاس من يَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ وَكَانَ أحد هذَيْن المضاربين فِيهِ أَمَانَة وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَلم يَأْخُذ إِلَّا مَا عَلَيْهِ اسْمه(2/225)
وعلامته فَذهب من مَاله ومالنا شَيْء كثير بِهَذَا السَّبَب وَكَانَ الَّذِي حصل من مالنا أَكثر من الَّذِي حصل لَهُ فَلَمَّا عَاد إِلَيْنَا سلّم الَّذِي لنا إِلَى وَالِدي فَامْتنعَ من أَخذه وَقَالَ خُذ أَنْت الْجَمِيع فَإنَّك أحْوج إِلَيْهِ وَأَنا فِي غنى عَنهُ فَلم يفعل فَقَالَ خُذ النّصْف وَأَنا النّصف واجتهد بِهِ وَالِدي فَلم يفعل فَلَمَّا كَانَ بعض الْأَيَّام وَإِذا قد جَاءَ الْغُلَام وَمَعَهُ عدَّة من الأثواب السُّوسِي وَغَيرهَا وَقَالَ هَذَا من قماشنا قد حضر الْيَوْم وَسبب حُضُوره أَن إنْسَانا فقاعياً من أهل تبريز كَانَ مَعنا فِي الْمركب وَقد أعادوا عَلَيْهِ مَاله فَرَأى هَذِه الأثواب واسمى عَلَيْهَا فَلم يسهل عَلَيْهِ يردهَا يَعْنِي عَلَيْهِم وَسَأَلَ عني وَقد قصدني وَهِي معي وَحضر عِنْدِي السَّاعَة وَسلمهَا إليّ وَقَالَ قد تركت طريفي لتبرأ ذِمَّتِي فأخذنا نَحن مَا عَلَيْهِ اسمنا بعد الْجهد وَطلب وَالِدي الرجل وَسَأَلَهُ أَن يُقيم عندنَا ليسلم إِلَيْهِ مَالا يتجر فِيهِ فَلم يفعل وَعَاد إِلَى بَلَده قَالَ وَهَذَانِ رجلَانِ نادران فِي هَذَا الزَّمَان
فصل فِي عزم نور الدّين على الدُّخُول إِلَى مصر
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ صَلَاح الدّين واعده نور الدّين أَن يجتمعا على الكرك والشوبك يتشاوران فِيمَا يعود بالصلاح الْمُشْتَرك فَخرج من الْقَاهِرَة(2/226)
فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم بالعزم الأجزم والرأي الأحزم فاتفق للاجتماع عائق وَلم يقدر للاتفاق قدر مُوَافق فلقي فِي تِلْكَ السفرة شدَّة وَعدم خيلا وظهرا وعُدة وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة فِي النّصْف من ربيع الأول
وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ أَيْضا جرى مَا أوجب نفرة نور الدّين من صَلَاح الدّين وَكَانَ الْحَادِث أَن نور الدّين أرسل إِلَى صَلَاح الدّين يَأْمُرهُ بِجمع العساكر المصرية والمسير بهَا إِلَى بِلَاد الفرنج وَالنُّزُول على الكرك ومحاصرته ليجمع هُوَ أَيْضا عساكره ويسير إِلَيْهِ ويجتمعا هُنَاكَ على حَرْب الفرنج والاستيلاء على بِلَادهمْ فبرز صَلَاح الدّين من الْقَاهِرَة فِي الْعشْرين من الْمحرم وَكتب إِلَى نور الدّين يعرفهُ أَن رحيله لَا يتَأَخَّر وَكَانَ نور الدّين قد جمع عساكره وتجهز وَأقَام ينْتَظر وُرُود الْخَبَر من صَلَاح الدّين برحيله ليرحل هُوَ فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَر بذلك رَحل من دمشق عَازِمًا على قصد الكرك فوصل إِلَيْهِ وَأقَام ينْتَظر وُصُول صَلَاح الدّين إِلَيْهِ فَأَتَاهُ كِتَابه يعْتَذر فِيهِ عَن الْوُصُول باختلال الْبِلَاد وَأَنه يخَاف عَلَيْهَا مَعَ الْبعد عَنْهَا فَعَاد إِلَيْهَا فَلم يقبل نور الدّين عذره
وَكَانَ سَبَب تقاعده أَن أَصْحَابه وخواصه خوّفوه من الِاجْتِمَاع بِنور الدّين فَحَيْثُ لم يمتثل أَمر نور الدّين شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَعظم عِنْده وعزم على الدُّخُول إِلَى مصر وَإِخْرَاج صَلَاح الدّين عَنْهَا فَبلغ الْخَبَر إِلَى صَلَاح الدّين فَجمع أَهله وَفِيهِمْ وَالِده نجم الدّين وخاله شهَاب الدّين الحارمي(2/227)
وَمَعَهُمْ سَائِر الْأُمَرَاء وأعلمهم مَا بلغه من عزم نور الدّين على قَصده وَأخذ مصر مِنْهُ واستشارهم فَلم يجبهُ أحد مِنْهُم بِشَيْء فَقَامَ ابْن أَخِيه تقيّ الدّين عمر وَقَالَ إِذا جَاءَنَا قَاتَلْنَاهُ وصددناه عَن الْبِلَاد وَوَافَقَهُ غَيره من أَهله فشتمهم نجم الدّين أَيُّوب وَأنكر ذَلِك واستعظمه وَكَانَ ذَا رأى ومكر وَكيد وعقل وَقَالَ لتقيّ الدّين اقعد وسبَّه وَقَالَ لصلاح الدّين أَنا أَبوك وَهَذَا شهَاب الدّين خَالك أتظنّ فِي هَؤُلَاءِ كلِّهم مَنْ يحبك وَيُرِيد لَك الْخَيْر مثلنَا فَقَالَ لَا فَقَالَ وَالله لَو رَأَيْت أَنا وَهَذَا خَالك نور الدّين لم يمكنا إِلَّا أَن نترجل إِلَيْهِ ونقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَلَو أمرنَا بِضَرْب عُنُقك بِالسَّيْفِ لفعلنَا فَإِذا كنّا نَحن هَكَذَا كَيفَ يكون غَيرنَا وكلّ من ترَاهُ من الْأُمَرَاء والعساكر لَو رأى نور الدّين وَحده لم يتجاسر على الثَّبَات على سَرْجه وَلَا وَسعه إِلَّا النُّزُول وتقبيل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَهَذِه الْبِلَاد لَهُ وَقد أقامك فِيهَا فَإِن أَرَادَ عزلك فَأَي حَاجَة بِهِ إِلَى الْمَجِيء يَأْمُرك بِكِتَاب مَعَ نجاب حَتَّى تقصد خدمته ويولي بِلَاده من يُرِيد وَقَالَ للْجَمَاعَة كلهم قومُوا عَنَّا فَنحْن مماليك نور الدّين وعبيده وَيفْعل بِنَا مَا يُرِيد فتّفرقوا على هَذَا وَكتب أَكْثَرهم إِلَى نور الدّين بالْخبر
وَلما خلا نجم الدّين أَيُّوب بِابْنِهِ صَلَاح الدّين قَالَ لَهُ أَنْت جَاهِل قَلِيل الْمعرفَة تجمع هَذَا الْجمع الْكثير وتطلعهم على مَا فِي نَفسك فَإِذا سمع نور الدّين أَنَّك عازم على مَنعه من الْبِلَاد جعلك أهمّ الْأُمُور إِلَيْهِ وأولاها بِالْقَصْدِ وَلَو قصدك لم تَرَ مَعَك من هَذَا الْعَسْكَر أحدا وَكَانُوا أسلموك إِلَيْهِ وَأما الْآن بعد هَذَا الْمجْلس فسيكتبون إِلَيْهِ ويعرفونه قولي وتكتب أَنْت(2/228)
إِلَيْهِ وَترسل فِي هَذَا الْمَعْنى وَتقول أيّ حَاجَة إِلَى قصدي يَجِيء نجاب يأخذني بِحَبل يَضَعهُ فِي عنقِي فَهُوَ إِذا سمع هَذَا عدل عَن قصدك واشتغل بِمَا هُوَ أهم عِنْده وَالْأَيَّام تندرج وَالله كل وَقت فِي شَأْن
فَفعل صَلَاح الدّين مَا أَشَارَ بِهِ وَالِده فَلَمَّا رأى نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الْأَمر هَكَذَا عدل عَن قَصده وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ نجم الدّين توفّي نور الدّين وَلم يَقْصِدهُ وَلَا أزاله وَكَانَ هَذَا من أحسن الآراء وأجودها
فصل فِي الحَمَام
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ أَمر الْملك الْعَادِل نور الدّين باتخاذ الْحمام الهوادي وَهِي المناسيب الَّتِي تطير من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى أوكارها فاتخذت فِي سَائِر بِلَاده
وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه اتسعت بِلَاده وطالت مَمْلَكَته فَكَانَت من حد النّوبَة إِلَى بَاب همذان لَا يتخللها سوى بِلَاد الفرنج وَكَانَ الفرنج لعنهم الله رُبمَا نازلوا بعض الثغور فَإلَى أَن يصله الْخَبَر ويسير إِلَيْهِم يكونُونَ قد بلغُوا بعض الْغَرَض فَحِينَئِذٍ أَمر بذلك وَكتب بِهِ إِلَى سَائِر بِلَاده وأجرى الجرايات لَهَا ولمربيها فَوجدَ بهَا رَاحَة كَبِيرَة كَانَت الْأَخْبَار تَأتيه لوَقْتهَا لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي كل ثغر رجال مرتبون وَمَعَهُمْ من حمام(2/229)
الْمَدِينَة الَّتِي تجاورهم فَإِذا رَأَوْا أَو سمعُوا أمرا كتبوه لوقته وعلقوه على الطَّائِر وسرحوه فيصل إِلَى الْمَدِينَة الَّتِي هُوَ مِنْهَا فِي سَاعَته فتنقل الرقعة مِنْهُ إِلَى طَائِر آخر من الْبَلَد الَّذِي يجاورهم فِي الْجِهَة الَّتِي فِيهَا نور الدّين وَهَكَذَا إِلَى أَن تصل الْأَخْبَار إِلَيْهِ فانحفظت الثغور بذلك حَتَّى إِن طَائِفَة من الفرنج نازلوا ثغراً لَهُ فَأَتَاهُ الْخَبَر ليومه فَكتب إِلَى العساكر الْمُجَاورَة لذَلِك الثغر بالاجتماع والمسير بِسُرْعَة وكبس الْعَدو فَفَعَلُوا ذَلِك فظفروا والفرنج قد أمنُوا لبُعد نور الدّين عَنْهُم فرحم الله نور الدّين وَرَضي عَنهُ فَمَا كَانَ أحسن نظره للرعايا والبلاد
وَقَالَ الْعِمَاد وَكَانَ نور الدّين لَا يُقيم فِي الْمَدِينَة أَيَّام الرّبيع والصيف مُحَافظَة على الثغر وصوناً من الحيف ليحمي الْبِلَاد من الْعَدو بِالسَّيْفِ وَهُوَ متشوف إِلَى أَخْبَار مصر وَأَحْوَالهَا وَتَحْقِيق اعتدالها بتمحيق اعتلالها فَرَأى اتِّخَاذ الْحمام المناسيب وتدريجها على الطيران لتحمل إِلَيْهِ الْكتب بأخبار الْبلدَانِ وَتقدم إِلَى بكتب منشور لأربابها وإعزاز أَصْحَابهَا وَهُوَ حِينَئِذٍ بِظَاهِر دمشق مخيم بوادي اللّوان وَنحن مستظهرون فِي ذَلِك الأوان عادُون على أهل الْعدوان وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة من السّنة
ثمَّ ذكر نُسْخَة المنشور وَوصف فِيهِ الْحمام فَقَالَ هِيَ برائد الأنباء(2/230)
والمخصوصة بفضيلة الإلهام والإيحاء وَهِي فيوج الرسائل المأمونة الإبطاء والسابقات الهُوج فِي الاهتداء والحاملات مُلطَّفات الْأَسْرَار فِي أقرب مُدَّة إِلَى أبعد غَايَة والموصّلات مهمات الْأَخْبَار فِي وَقتهَا من أقاصي الْأَمْصَار بأكمل هِدَايَة والقاطعات فِي ساعاتها إِلَى الْبِلَاد أجواز القفار والموامي والنافذات بنجح المرام بِعُود السِّهَام إِلَى المرامي وَهِي تطوي الفراسخ الْبَعِيدَة والأشواط فِي سَاعَة وتنتهي إِلَى أقْصَى غايات الطَّاعَة بأتم استطاعة وَقد عمّ بهَا نفع المرابطين للغزاة والمجاهدين فِي سَبِيل الله فِي إهداء أَخْبَار الْكَفَرَة إِلَيْهِم من أماكنها دَالَّة على مكايدها ومكامنها طائرة بكتبهم إِلَى من وَرَاءَهُمْ من الطَّلَائِع والسّرايا مظهرة لَهُم من أحوالها خبايا الْأُمُور الخفايا وَإِنَّهَا لميمونة المطار مَأْمُونَة العثار سَالِمَة على الأخطار مهدية فِي الْأَسْفَار أمينة على الْأَسْرَار سَابِقَة إِلَى الأوكار صادرة بالأوطار سائرة إِلَى الْمُؤمنِينَ بأنباء الْكفَّار
قلت وكل هَذِه أَوْصَاف حَسَنَة وعبارات مستحسنة وَقد بَلغنِي عَن القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله تَعَالَى أَنه وصفهَا بألطف من هَذِه الْأَوْصَاف وأخصر فَقَالَ الطُّيُور مَلَائِكَة الْمُلُوك يُشِير إِلَى أَن نُزُولهَا على الْمُلُوك من جوّ الْهَوَاء نزُول الْمَلَائِكَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من(2/231)
السَّمَاء مَعَ فرط مَا فِيهَا من الْأَمَانَة لايتوهم من جِهَتهَا خِيَانَة فَلَقَد أحسن فِيمَا وصف وأبدع فِيمَا استنبط وأنصف وَهُوَ بذلك أولى وَأعرف رحم الله الْجَمِيع
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
قَرَأت نُسْخَة سجل بِإِسْقَاط المكوس بِمصْر قرىء على الْمِنْبَر بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثَالِث صفر سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة عَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فِي أَيَّام نور الدّين رَحمَه الله فَهُوَ كَانَ الْآمِر وَذَاكَ الْمُبَاشر يَقُول فِيهِ
أما بعد فَإنَّا نحمد الله سُبْحَانَهُ على مَا مكن لنا فِي الأَرْض وحسّنه عندنَا من أَدَاء كل نَافِلَة وَفرض ونصبنا لَهُ من إِزَالَة النّصب عَن عباده واختارنا لَهُ من الْجِهَاد فِي الله حق جهاده وزهدنا فِيهِ من مَتَاع الدّنيا الْقَلِيل وألهمنا من محاسبة أَنْفُسنَا على النّقير والفتيل وأولانا من شجاعة السماحة فيوماً نهب مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ الدَّوَاوِين وَيَوْما نقطع مَا سقَاهُ النّيل فالبشائر فِي أيامنا تترى شفعاً ووترا والمسارُّ كنظام الْجَوْهَر تتبع(2/232)
الْوَاحِدَة مِنْهَا الْأُخْرَى والمسامحات قد مَلَأت المسامع والمطامع وأسخطت الْخَيْمَة والصناعة وأرضت الْمِنْبَر وَالْجَامِع وَلما تقلدنا أُمُور الرّعية رَأينَا المكوس الديوانية بِمصْر والقاهرة أولى مَا نقلناها من أَن تكون لنا فِي الدُّنْيَا إِلَى أَن تكون لنا فِي الْآخِرَة وَأَن نتجرد مِنْهَا لنلبس أَثوَاب الْأجر الفاخرة ونطهر مِنْهَا مكاسبنا ونصون عَنْهَا مطالبنا ونكفي الرّعيّة ضرّهم الَّذِي يتَوَجَّه إِلَيْهِم وَنَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُم وَالأَغْلالَ الَّتي كَانَت عَلَيْهم ونعيدها الْيَوْم كأمس الذَّاهِب ونضعها فَلَا ترفعها من بعد يَد حاسب وَلَا قلم كَاتب فاستخرنا الله وعجلنا إِلَيْهِ ليرضى ورأينا فرْصَة أجر لَا تغض عَلَيْهَا بصائر الْأَبْصَار وَلَا تغضى وَخرج أمرنَا بكتب هَذَا المنشور بمسامحة أهل الْقَاهِرَة ومصر وَجَمِيع التُّجَّار المترددين إِلَيْهِمَا وَإِلَى سَاحل الْمقسم والمنية بِأَبْوَاب المكوس صادرها وواردها فَيَرِدُ التَّاجِر ويُسفر ويغيب عَن مَاله ويحضر ويقارض ويتجر براَ وبحراً مركبا وظهرا سرّا وجهرا لَا يحل مَا شده وَلَا يحاول مَا عِنْده وَلَا يكْشف مَا ستره وَلَا يسْأَل عَمَّا أوردهُ وأصدره وَلَا يستوقف فِي طَرِيقه وَلَا يشرق بريقه وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ طعمه وَلَا يستباح لَهُ حرمه وَالَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ الْمُسَامحَة فِي السّنة من الْعين مئة ألف دِينَار مُسَامَحَة لَا يتعقبها تَأْوِيل وَلَا يتخونها تَحْويل وَلَا يعتريها زَوَال وَلَا يعتورها انْتِقَال دائمة بدوام الْكَلِمَة قَائِمَة(2/233)
مَا قَامَ دين القيِمَة مَنْ عارضها ردّت أَحْكَامه وَمن ناقضها نقض إبرامه وَمن أزالها زلَّت قدمه وَمن أحالها حل دَمه وَمن تعقبها خلدت اللَّعْنَة فِيهِ وَفِي عقبه وَمن احتاط لدنياه فِيهَا أحَاط بِهِ الْجَحِيم الذَّي هُوَ من حطبه فَمن قَرَأَهُ أَو قرىء عَلَيْهِ من كَافَّة وُلَاة الْأَمر من صَاحب سيف وقلم ومشارف أَو نَاظر فليمتثل مَا مثل من الْأَمر ولْيُمْضه على ممر الدَّهْر مُرضياً لرَبه ممضياً لما أَمر بِهِ
وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ أَبُو بكر يحيى بن سعدون الْقُرْطُبِيّ المقرىء النَّحْوِيّ وَهُوَ نزيل الْموصل رَحمَه الله
وفيهَا ولد الْعَزِيز وَالظَّاهِر ابْنا صَلَاح الدّين والمنصور مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين(2/234)
وفيهَا فِي ثَالِث شَوَّال توفّي أَبُو الْفتُوح نصر بن عبد الله الإسكندري الْمَعْرُوف بِابْن قلاقس الشَّاعِر بعيذاب ومولده بالإسكندرية رَابِع ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة فَيكون عمره نَحوا من خمس وَثَلَاثِينَ سنة
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِيهَا توفّي ملك النُّحَاة الْحسن بن صافي(2/235)
وفيهَا ترَتّب الْعِمَاد الْكَاتِب مشرفا بديوان نور الدّين مُضَافا إِلَى كِتَابَة الْإِنْشَاء
قَالَ وَكَانَ نور الدّين ذكيا ألمعيا فطنا لوذعيا لَا تشتبه عَلَيْهِ الْأَحْوَال وَلَا يتبهرج عَلَيْهِ الرِّجَال وَلَا يتأهل لغير أهل الْفضل مِنْهُ الإفضال
قَالَ وَلما عرض صَلَاح الدّين بعد العاضد خزائنه واستخرج دفائنه سير مِنْهَا عدَّة من الْأَمْتِعَة المستحسنة والآلات المثمنة وَقطع البلور واليشم والأواني الَّتِي لَا يتَصَوَّر وجودهَا فِي الْوَهم وَمَعَهَا ثَلَاث قطع من البلخش أكبرها نَيف وَثَلَاثُونَ مِثْقَالا وَالثَّانيَِة ثَمَانِيَة عشر وَالْأُخْرَى دونهَا وَقرن بهَا من اللآلىء مصونها ومكنونها وَحمل مَعهَا من الذَّهَب سِتِّينَ ألف دِينَار ووصلت من غرائب المصنوعات مَا لَا يجْتَمع مثله فِي أعصار وأعمار وَمن الطّيب والعطر مَا لم يخْطر ببال عطار فَشكر نور الدّين همته وَذكر بِالْكَرمِ شيمته وَوصف فضيلته وَفضل صفته وَقَالَ مَا كَانَت بِنَا حَاجَة إِلَى هَذَا المَال وَلَا نسد بِهِ خلة الإقلال فَهُوَ يعلم أَنا مَا(2/236)
أنفقنا الذَّهَب فِي ملك مصر وبنا إِلَى الذَّهَب فقر وَمَا لهَذَا الْمَحْمُول فِي مُقَابلَة مَا جُدْنا بِهِ قدر وتمثل بقول أبي تَمام
(لم يُنفق الذَّهَب المُرْبى بكثرته ... على الْحَصَى وَبِه فقر إِلَى الذَّهَب)
لكنه يعلم أَن ثغور الشَّام مفتقرة إِلَى السداد ووفور الْأَعْدَاد من الأجناد وَقد عَم بالفرنج بلَاء الْبِلَاد فَيجب أَن يَقع التعاقد على الْإِمْدَاد بالمعونة والمعونة بالإمداد
فاستنزره وَمَا استغزره واستقل الْمَحْمُول فِي جنب مَا حَرَّره وتروى فِيمَا يدبره وأفكر فِيمَا يقدمهُ من هَذَا المهم ويؤخره
قَالَ ابْن أبي طيّ لم تقع هَذِه الْهَدِيَّة من نور الدّين بموقع وجرد الْمُوفق بن القيسراني وزيره إِلَى مصر وَأمره بِعَمَل حِسَاب الْبِلَاد واستعلام أَخْبَارهَا وارتفاعها وَأَيْنَ صرفت أموالها فَإِذا حصل جَمِيع ذَلِك قرر على صَلَاح الدّين وَظِيفَة يحملهَا فِي كل سنة وعظُم على نور الدّين أَمر مصر وَأَخذه من إستيلاء صَلَاح الدّين عَلَيْهَا الْمُقِيم المقعد وَأكْثر فِي مراسلته فِي حمل الْأَمْوَال حَدثنِي أبي قَالَ لم يخف حَال نور الدّين فِي كَرَاهِيَة الْملك النَّاصِر وَلَقَد علم ذَلِك جَمِيع الأجناد والأمراء وتحدث بِهِ الْعَوام وَلَا سِيمَا حِين أنفذ هَذِه الْهَدِيَّة وَاشْتَدَّ بعد ذَلِك فِي مراسلته وأنفذ ابْن(2/237)
القيسراني لكشف الحوال وَلَو طَال عمره لم يكن لَهُ بدُّ من الدُّخُول إِلَى مصر
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ نور الدّين مذُ مُلكت مصر وَتوجه لَهُ فِيهَا النَّصْر يُؤثر أَن يُقرر لَهُ فِيهَا مَال للْحَمْل يَسْتَعِين بِهِ على كلف الْجِهَاد وَتَخْفِيف مَاله من الثّقل وَالْأَيَّام تماطله والأعوام تطاوله وَهُوَ ينْتَظر أَن صَلَاح الدّين يبتدىء من نَفسه بِمَا يُريدهُ وَهُوَ لايستدعي مِنْهُ وَلَا يستزيده فَلَمَّا حمل من أخاير الذَّخَائِر وَالْمَال الْحَاضِر مَا حمله وَعرف مجمله ومفصله تقدم إِلَى الْمُوفق خَالِد بن القيسراني أَن يمْضِي وَيُطَالب وَيَقْتَضِي وَيعْمل أَيْضا بِالْأَعْمَالِ المصرية جزازة وَلَا يبْقى فِي نفوس ديوانه من أمرهَا حزازة وَأرْسل مَعَه الْهَدَايَا والتحف والسنايا وَأقَام الْعِمَاد مقَامه فِي ديوَان الِاسْتِيفَاء فَجمع بَين الإشراف والاستيفاء ومنصب الْإِنْشَاء ثمَّ كَانَ من أمره مَا سَيَأْتِي ذكره
قَالَ الْعِمَاد وَخرج صَلَاح الدّين فِي النّصْف من شَوَّال وَمَعَهُ الْفِيل والحمارة الْعَتَّابِيَّةِ والذخائر النفيسة الَّتِي كَانَ انتخبها من خَزَائِن الْقصر وَهِي مَعْدُودَة من محَاسِن الْعَصْر وَقد سبق ذكر تسييرها إِلَى نور الدّين وقُوبلت بِالْإِحْسَانِ والتحسين ووصلت الحمارة وَكَثُرت لَهَا النظارة وَأما(2/238)
الْفِيل فَإِنَّهُ وصل إِلَيْنَا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَنحن بحلب بالميدان الْأَخْضَر وأهداه نور الدّين إِلَى ابْن أَخِيه سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل مَعَ شَيْء من تحفه الثِّيَاب وَالْعود العنبر ثمَّ سيره سيف الدّين غَازِي إِلَى بَغْدَاد هَدِيَّة للخليفة مَعَ مَا سيّره مَعَه من التحف اللطيفة وسير نور الدّين الحمارة الْعَتَّابِيَّةِ إِلَى بَغْدَاد مَعَ هَدَايَا وتحف سنايا
فصل فِي جِهَاد السلطانين للفرنج فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَنزل صَلَاح الدّين على الكرك والشوبك وَغَيرهمَا من الْحُصُون فبرح بهَا وَفرق عَنْهَا عربها وَخرب عماراتها وشنت على أَعمالهَا سراياه بغاراتها
وَوصل مِنْهُ كتاب بالمثال الفاضلي سَبَب هَذِه الْخدمَة إِلَى مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل أعز الله سُلْطَانه وَمد أبدا إحسانه وَمكن بالنصر إِمْكَانه وشيد بالتأييد مَكَانَهُ وَنصر أنصاره وأعان أعوانه علم الْمَمْلُوك بِمَا يؤثره الْمولى بِأَن يقْصد الْكفَّار بِمَا يقص أجنحتهم ويفلل أسلحتهم وَيقطع موادهم وَيخرب بِلَادهمْ وأكبر الْأَسْبَاب الْمعينَة على مَا يرومه من هَذِه الْمصلحَة أَلا يبْقى فِي بِلَادهمْ أحدُ من العربان وَأَن يَنْتَقِلُوا من ذل الْكفْر إِلَى عز الْإِيمَان وَمِمَّا اجْتهد فِيهِ غَايَة الِاجْتِهَاد وعده من أعظم أَسبَاب(2/239)
الْجِهَاد ترحيل كثير من أنفارهم والحرص فِي تَبْدِيل دَارهم إِلَى أَن صَار الْعَدو الْيَوْم إِذا نَهَضَ لَا يجد بَين يَدَيْهِ دَلِيلا وَلَا يَسْتَطِيع حِيلَة وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا
ثمَّ ذكر بَاقِي الْكتاب
قَالَ ابْن شَدَّاد وَهَذِه أول غَزْوَة غَزَاهَا صَلَاح الدّين من الديار المصرية وَإِنَّمَا بَدَأَ بِبِلَاد الكرك والشوبك لِأَنَّهَا كَانَت أقرب إِلَيْهِ وَكَانَت فِي الطَّرِيق تمنع من يقْصد الديار المصرية وَكَانَ لايمكن أَن تصل قافلة حَتَّى يخرج هُوَ بِنَفسِهِ يعبرها بِلَاد الْعَدو فَأَرَادَ توسيع الطَّرِيق وتسهيله لتتصل الْبِلَاد بَعْضهَا بعض وتسهل على السابلة فَخرج قَاصِدا لَهَا فِي أثْنَاء سنة ثَمَان وَسِتِّينَ فحاصرها وَجرى بَينه وَبَين الفرنج وقعات وَعَاد عَنْهَا وَلم يظفر مِنْهَا بِشَيْء فِي تِلْكَ الدفعة وَحصل ثَوَاب الْقَصْد وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ فتح مرعش فِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة وَأخذ بهسني فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا
وَقَالَ الْعِمَاد حضرت عِنْد الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق فِي الْعشْرين من صفر وَوَجهه بِنور الْبشر قد سفر والْحَدِيث يجْرِي فِي طيب دمشق وَحسن آلائها ورقَّة هوائها وبهجة بهائها وإزهار أرْضهَا كزهر سمائها وكلّ منا يمدحها وبحبه يمنحها وكلّ منا يطريها فَقَالَ(2/240)
نور الدّين أَنا حُبّ الْجِهَاد يسليني عَنْهَا فَمَا أَرغب فِيهَا فارتجلت هَذَا الْمَعْنى فِي الْحَال فَقلت
(لَيْسَ فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا ... بلدةُ مثل دمشق)
(ويسليني عَنْهَا ... فِي سَبِيل الله عشقي)
(والتقى الأَصْل وَمن يَتْرُكهَا ... يَشْقَى ويُشْقي)
(كم رشيقٍ شاغل عَنهُ ... بِسَهْم الْغَزْو رشقي)
(وامتشاق الْبيض يُغني ... عَنهُ بالإقلام مشقي)
قَالَ وسألني نور الدّين أَن أعمل دوبيتيات فِي معنى الْجِهَاد على لِسَانه فَقلت
(للغزو نشاطي وَإِلَيْهِ طربي ... مَالِي فِي الْعَيْش غَيره من أرب)
(بالجد وبالجهاد نجح الطّلب ... والراحة مستودعة فِي التَّعَب)
وَقلت أَيْضا(2/241)
(لَا رَاحَة فِي الْعَيْش سوى أَن أغزو ... سَيفي طَربا إِلَى الطلي يَهْتَز)
(فِي ذل ذَوي الْكفْر يكون الْعِزّ ... وَالْقُدْرَة فِي غير جهادٍ عجز)
وَقلت أَيْضا
(أَقْسَمت سوى الْجِهَاد مَالِي أرب ... والراحة فِي سواهُ عِنْدِي تَعب)
(إِلَّا بالجد لَا ينَال الطّلب ... والعيش بِلَا جدِّ جهادٍ لعب)
قَالَ وَاتفقَ خُرُوج كلب الرّوم اللعين فِي جنود الشَّيَاطِين يقْصد الْغَارة على زرَّا من نَاحيَة حوران وهم فِي جمع غلبت كثرته الْخَبَر والعيان ونزلوا بقرية تعرف بشمسكين فَركب نور الدّين وَهُوَ نَازل بالكسوة إِلَيْهِم وأقدم بعساكره عَلَيْهِم فَلَمَّا عرفُوا وُصُوله رحلوا إِلَى الفوار ثمَّ إِلَى السوَاد ثمَّ نزلُوا بالشلالة وَنزل نور الدّين عشترا وَقد سرَّه مَا جرى فأنفذ سريّة إِلَى أَعمال طبرية واغتنم خلّوها فأدلجت تِلْكَ اللَّيْلَة وحمدت فِي شن الْغَارة غدوها فَلَمَّا عَادَتْ لحقها الفرنج عِنْد المخاضة فَوقف الشجعان وَثَبت من ثبته الْإِيمَان حَتَّى عبرت السّريَّة وانفصلت تِلْكَ الْقَضِيَّة ورحل نور الدّين من عشترا فَنزل بِظَاهِر زرَّا
قَالَ الْعِمَاد وَكنت رَاكِبًا فِي لقائهم مَعَ الْملك الْعَادِل وَهُوَ يَقُول لي كَيفَ تصف مَا جرى فمدحته بقصيدة مِنْهَا
(عُقدت بنصرك راية الْإِيمَان ... وبدت لعصرك آيَة الْإِحْسَان)(2/242)
(يَا غَالب الغلب الْمُلُوك وصائد الصَّيْد ... اللُّيوث وَفَارِس الفرسان)
(يَا سالب التيجان من أَرْبَابهَا ... حُزت الفخار على ذَوي التيجان)
(محمودُ الْمَحْمُود مَا بَين الورى ... فِي كل إقليم بِكُل لِسَان)
(يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مُشارك ... أَقْسَمت مَالك فِي البسيطة ثَانِي)
(أحلى أمانيك الجهادُ وإنهُ ... لَك مؤذنُ أبدا بِكُل أَمَان)
(كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من ... حَرْب لقمع الْمُشْركين عَوان)
(كم وقعةٍ لَك بالفرنج حَدِيثهَا ... قد سَار فِي الْآفَاق والبلدان)
(قمصت قومصهم رِدَاء من ردى ... وقرنت رَأس برنسهم بسنان)
(وملكت رقّ مُلوكهم وتركتهم ... بالذل فِي الأقياد والأسجان)
(وَجعلت فِي أَعْنَاقهم أغلالهم ... وسحبتهم هُوناً على الأذقان)
(إِذْ فِي السوابغ تحطم السمر القنا ... وَالْبيض تخضب بالنجيع القاني)
(وعَلى غناء المشرفية فِي الطلى ... والهام رقص عوالي المّران)
(وَكَأن بَين النَّقْع لمع حديدها ... نارُ تألقُ من خلال دُخان)
(فِي مأزق ورد الوريد مكفل ... فِيهِ برىّ الصارم الظمآن)
(غطى العجاج بِهِ نُجُوم سمائه ... لتنوب عَنْهَا أنجم الخرصان)
(أَو مَا كفاهم ذَاك حَتَّى عاودوا ... طُرُق الضلال ومركب الطغيان)
(يَا خيبة الإفرنج حِين تجمعُوا ... فِي حيرة وَأتوا إِلَى حوران)
وَمِنْهَا
(وجلْوتَ نور الدّين ظلمَة كفرهم ... لما أتيت بواضح البُرهان)(2/243)
(وهزمتهم بِالرَّأْيِ قبل لقائهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان)
(أَصبَحت لِلْإِسْلَامِ رُكناً ثَابتا ... وَالْكفْر مِنْك مضعضع الْأَركان)
(قوضت آساس الضلال بعزمك الْمَاضِي ... وشدْت مباني الْإِيمَان)
(قُل أَيْن مثلك فِي الْمُلُوك مُجَاهِد ... لله فِي سِر وَفِي إعلان)
(لم تلقهم ثِقَة بِقُوَّة شوْكةٍ ... لَكِن وثقت بنصرة الرحمان)
(مَا زَالَ عزمك مُسْتقِلّا بِالَّذِي ... لايستقل بثقله الثَّقَلَان)
(وَبَلغت بالتأييد أقْصَى مبلغ ... مَا كَانَ فِي وسع وَلَا إِمْكَان)
(دَانَتْ لَك الدُّنْيَا فقاصيهما إِذا ... حققته لنفاذ أَمرك داني)
(فَمن الْعرَاق إِلَى الشآم إِلَى ذرا ... مصر إِلَى قوص إِلَى أسوان)
(لم تله عَن بَاقِي الْبِلَاد وَإِنَّمَا ... ألهاك فرض الْغَزْو عَن همذان)
(للروم والإفرنج مِنْك مصائب ... بِالتّرْكِ والأكراد والعربان)
(أذعنت لله الْمُهَيْمِن إِذْ عنت ... لَك أوجه الْأَمْلَاك بالإذعان)
(أَنْت الَّذِي دون الْمُلُوك وجدته ... ملآن من عرف وَمن عرفان)
(فِي بَأْس عَمْرو فِي بسالة حيدرٍ ... فِي نطق قس فِي تقى سلمَان)
(سير لَو أَن الْوَحْي ينزل أنزلت ... فِي شَأْنهَا سورُ من الْقرَان)
(فَاسْلَمْ طَوِيل العُمْر ممتد المدى ... صافي الْحَيَاة مخلد السُّلْطَان)(2/244)
وَهِي قصيدة طَوِيلَة وصف فِيهَا أمراءه الْحَاضِرين الْجِهَاد مَعَه ومدحهم
فصل فِي فتح بِلَاد النّوبَة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي جمادي الأولى غزا شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب أَخُو صَلَاح الدّين بِلَاد النّوبَة وأراهم سطاه المرهوبة وَفتح حصناً لَهُم يعرف بإبريم وآلى أَلا يريم وَهِي بلادُ عديمة الجدوى عَظِيمَة الْبلوى ثمَّ جمع السبْيّ وَعَاد بِهِ إِلَى أسوان وفرّق على أَصْحَابه فِي الْغَنَائِم السودَان
وَقَالَ ابْن أبي طيّ الْحلَبِي وَفِي هَذِه السّنة اجْتمع السّودان وَالْعَبِيد من بِلَاد النّوبَة وَخَرجُوا فِي أُمَم عَظِيمَة قَاصِدين ملك بِلَاد مصر وصاروا إِلَى أَعمال الصَّعِيد وصمموا على قصد أسوان وحصارها وَنهب قراها وَكَانَ بهَا ألأمير كنز الدولة فأنفذ يُعلم الْملك النَّاصِر وَطلب مِنْهُ نجدة فأنفذ قِطْعَة من جَيْشه مَعَ الشجاع البعلبكي فَلَمَّا وصل إِلَى أسوان وجد العبيد قد عَادوا عَنْهَا بعد أَن أخربوا أرْضهَا فأتبَّعهم الشجاع والكنز فجرت حربُ عَظِيمَة قُتل فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم
وَرجع الشجاع إِلَى الْقَاهِرَة وَأخْبر بفعال العبيد وتمكنهم من بِلَاد الصَّعِيد فأنفذ الْملك النَّاصِر أَخَاهُ شمس الدولة فِي عَسْكَر كثيف فَوَجَدَهُمْ(2/245)
قد دخلُوا بِلَاد النّوبَة فَسَار قَاصِدا بِلَادهمْ وشحن مراكب كَثِيرَة فِي الْبَحْر بِالرِّجَالِ والميرة وأمرها بلحاقه إِلَى بِلَاد النّوبَة وَسَار إِلَيْهَا وَنزل على قلعة إبريم وافتتحها بعد ثَلَاثَة أَيَّام وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من المَال والكُراع والميرة وخلص جمَاعَة من الأسرى وَأسر من وجده فِيهَا وهرب صَاحبهَا
وَكتب إِلَى السُّلْطَان بذلك فَأَنْشد السُّلْطَان أَبُو الْحسن بن الذروي يهنئه بِفَتْح إبريم قصيدة مِنْهَا
(فقدّم العَزْم فَذا مُبتداه ... يقصر ملك الأَرْض عَن منتهاه)
(واسحب ذيول الْجَيْش حَتَّى أرى ... أنجمه طالعة عَن دُجاه)
(سواك من ألْقى عَصَاهُ بهَا ... قناعةً لما اسْتَقَرَّتْ نَوَاه)
(عَلَيْك بالروم ودع صَاحب التَّاج ... إِذا شِئْت وتورانشاه)
(فقد غَدَتْ إبريم فِي ملكه ... تُبرم أمرا فِيهِ كبْتُ العداه)
(لابد للنوبة من نوبَة ... ترضي بسخط الْكفْر دين الْإِلَه)
(تظل من سوبة منسوبة ... لعزمةٍ كامنة فِي أناه)
(تكسو الْغُزَاة القاطني أرْضهَا ... مَا نسجت للحرب أَيدي الغُزاه)
(سود وتحمر الظبى حولهَا ... كأعين الرُّمد بَدَت للأساه)(2/246)
(أَولا فسُمرُ يحتميها القنا ... مثل دنان بزلتها السقاه)
(لله جَيش مِنْك لَا ينثني ... إِلَّا بنصر دميت شفرتاه)
(مَا بَين عقبان وَلكنهَا ... خيل وفرسان كَمثل البزاه)
(آساد حَرْب فَوق أَيْديهم ... أساود الطعْن فهم كالحواه)
(تقلّدوا الْأَنْهَار واستلأموا الغدران ... فالنيران تجْرِي مياه)
قَالَ ثمَّ رَجَعَ شمس الدولة إِلَى أسوان ثمَّ إِلَى قوص وَكَانَ فِي صحبته أَمِير يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم الْكرْدِي فَطلب من شمس الدولة قلعة إبريم فأقطعه إِيَّاهَا وأنفذ مَعَه جمَاعَة من الأكراد البطالين فَلَمَّا حصلوا فِيهَا تفرّقوا فرقا وَكَانُوا يشنون الغارات على بِلَاد النّوبة حَتَّى برحوا بهم واكتسبوا أَمْوَالًا كَثِيرَة حَتَّى عفت أَرْزَاقهم وَكَثُرت مَوَاشِيهمْ وأتفق أَنهم عدّوا إِلَى جَزِيرَة من بِلَاد النّوبَة تعرف بِجَزِيرَة دندان فغرق أَمِيرهمْ إِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى قلعة إبريم وَأخذُوا جَمِيع مَا كَانُوا فِيهَا وأخلوها بعد مقامهم بهَا سنتَيْن فَعَاد النّوبَة إِلَيْهَا وملكوها
وأنفذ ملك النّوبَة رَسُولا إِلَى شمس الدولة وَهُوَ مُقيم بقوص وَمَعَهُ كتاب فِيهِ طلب الصُّلْح وَمَعَ الرَّسُول هَدِيَّة عبد وَجَارِيَة فَكتب لَهُ جَوَاب كِتَابه وَأَعْطَاهُ زَوجي نشاب وَقَالَ مَا لَك عِنْدِي جَوَاب إِلَّا هَذَا وجهز(2/247)
مَعَه رَسُولا يعرف بمسعود الْحلَبِي وأوصاه أَن يكْشف لَهُ خبر الْبِلَاد ليدخلها فَسَار الْحلَبِي مَعَ الرَّسول حَتَّى وصل دنقله وَهِي مَدِينَة الْملك قَالَ مَسْعُود فَوجدت بلادا ضيقَة لَيْسَ لَهُم زرع إِلَّا الذّرة وَعِنْدهم نخل صغَار مِنْهُ إدَامهمْ وَوصف ملكهم بأوصاف مِنْهَا أَن قَالَ خرج علينا يَوْمًا وَهُوَ عُرْيَان قد ركب فرسا عريا وَقد التف فِي ثوب أطلس وَهُوَ أَقرع لَيْسَ على رَأسه شعر قَالَ فَأتيت فَسلمت عَلَيْهِ فَضَحِك وتغاشى وَأمر بِي أَن تكوى يَدي فكوى عَلَيْهَا هَيْئَة صَلِيب وَأمر لي بِقدر خمسين رطلا من الدَّقِيق ثمَّ صرفني قَالَ وَأما دنقلة فَلَيْسَ فِيهَا عمَارَة إِلَّا دَار الْملك فَقَط وباقيها أخصاص
فصل فِي وَفَاة نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين وطرف من أخباره
قَالَ الْعِمَاد وَركب نجم الدّين أَيُّوب فشب بِهِ فرسه بِالْقَاهِرَةِ عِنْد بَاب النَّصْر وسط المحجَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة وَحمل إِلَى منزله وعاش ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ توفّي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة
وَكَانَ كَرِيمًا رحِيما عطوفا حَلِيمًا وبابه مزدحم الْوُفُود وَهُوَ متْلف الْمَوْجُود ببذل الْجُود وَكَانَ وَلَده صَلَاح الدّين عَنهُ غَائِبا وَفِي بِلَاد الكرك(2/248)
والشوبك على الْغُزَاة مواظبا فَدفن إِلَى جَانب قبر أَخِيه أَسد الدّين فِي بَيت فِي الدَّار السُّلْطَانِيَّة ثمَّ نقلا بعد سِنِين إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل الصَّلَاة والسّلام والتحية وَالْإِكْرَام والإجلال والإعظام وعَلى آله وَصَحبه وَسلم
قلت وقبرهما فِي تربة الْوَزير جمال الدّين الْأَصْفَهَانِي وَزِير الْموصل الْمُقدم ذكره رَحِمهم الله تَعَالَى
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما عَاد صَلَاح الدّين من غزاته بلغه قبل وُصُوله إِلَى مصر وَفَاة أَبِيه نجم الدّين فشقّ ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ لم يحضر وَفَاته وَكَانَ سَبَب وَفَاته وُقُوعه من الْفرس وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى شَدِيد الرّكض ولعاً بلعب الكرة بِحَيْثُ من رَآهُ يلْعَب بهَا يَقُول مَا يَمُوت إِلَّا من وُقُوعه عَن ظهر الْفرس
وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين فرخشاه بِمصْر يَقُول فِيهِ صحّ من الْمُصَاب بالمولى الدارج غفر الله لَهُ ذَنبه وَسَقَى بِالرَّحْمَةِ تربه مَا عظمت بِهِ اللوعة واشتدت الروعة وتضاعفت لغيبتنا عَن(2/249)
مشهده الْحَسْرَة فاستنجدنا بِالصبرِ فَأبى وأنجدت الْعبْرَة فياله فقيداً فقد عَلَيْهِ العزاء وهانت بعده الأرزاء وانتثر شَمل الْبركَة بفقده فَهِيَ بعد الِاجْتِمَاع أَجزَاء
(وتخطفته يَد الردى فِي غيبتي ... هبني حضرت فَكنت مَاذَا أصنع)
قَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي هُوَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي وَلَا يعرف فِي نسبه أَكثر من وَالِده شاذي وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ كَانَ تَقِيّ الدّين عمر يزِيد فَيَقُول شاذي بن مَرْوَان
قلت وَسمعت أَنا من يَقُول شاذي بن مَرْوَان بن يَعْقُوب
قَالَ ابْن أبي طي وَقد أدّعى ابْن سيف الْإِسْلَام لما ملك الْيمن أَنهم من بني مَرْوَان بن مُحَمَّد الْجَعْدِي الْمَعْرُوف بالحمار يعْنى آخر خلفاء بني أُميَّة قَالَ وَقد نقبت عَن ذَلِك فأجمع الْجَمَاعَة من آل أَيُّوب أَن هَذَا كذب وَأَن جَمِيع آل أَيُّوب لايعرفون جدَّاً فَوق شاذي وَكَذَلِكَ أَخْبرنِي السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر رَحمَه الله تَعَالَى
قلت وَدَلِيل صِحَة ذَلِك أنني وقفت على كتاب وقف الرّباط النجمي بِدِمَشْق وَلم يزدْ فِيهِ على نجم الدّين أَبُو سعيد أَيُّوب بن شاذي العادلي وَابْن سيف الْإِسْلَام هَذَا هُوَ أَبُو الْفِدَاء اسماعيل بن طغتكين بن(2/250)
أَيُّوب بن شاذي ابْن أخي السُّلْطَان صَلَاح الدّين ملك الْيمن بعد أَبِيه وتعاظم إِلَى أَن ولي نَفسه الْخلَافَة وَادّعى أَنه من بني أُميَّة وعزم على إِعَادَة الْخلَافَة من بني هَاشم إِلَى بني أُميَّة وَله فِي ذَلِك أشعار كَثِيرَة وتلقب بِالْإِمَامِ الْهَادِي بِنور الله الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ومدحه كثير من الشُّعَرَاء بذلك وزينوا لَهُ فعله وَمَا هُوَ فِيهِ فَمن شعره
(وَإِنِّي أَنا الْهَادِي الْخَلِيفَة وَالَّذِي ... أدوس رِقَاب الغُلب بالضُّمَّر الجرد)
(وَلَا بُد مِنْ بَغْدَاد أطوي ربوعها ... وأنشرها نشر السماسر للبرد)
(وأنصب أعلامي على شرفاتها ... وأُحيي بهَا مَا كَانَ أسسه جدّي)
(ويُخطبُ لي فِيهَا على كل مِنْبَر ... وَأظْهر دين الله فِي الْغَوْر والنّجد)
ثمَّ قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَ نجم الدّين أَيُّوب عدلا مرضيا كثير الصَّلَاة والصلات غزير الْفضل والخيرات يحبّ الْعلمَاء ويميل إِلَى الْفُضَلَاء وَكَانَ ممدحا مدحه الْعِمَاد الْكَاتِب بعدة قصائد
قَالَ وَكَانَ مولد نجم الدّين أَيُّوب بِبَلَد شبختان كَذَا حَكَاهُ مؤيد(2/251)
الدّين ابْن منقذ وحدّثني جمَاعَة أَن مولد نجم الدّين كَانَ بجبل جور وربى فِي بلد الْموصل وَنَشَأ شجاعا باسلا وخدم السُّلْطَان مُحَمَّد بن ملكشاه فَرَأى مِنْهُ أَمَانَة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاّه قلعة تكريت فَقَامَ فِي ولايتها أحسن قيام وضَبَطها أكْرم ضبط وَأجلى من أرْضهَا المفسدين وقطاع الطَّرِيق وَأهل العيث حَتَّى عمرت أرْضهَا وَحسن حَال أَهلهَا وَأمنت سبلها
فَلَمَّا ولي السُّلْطَان مَسْعُود الْملك أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز الْخَادِم شحنة بَغْدَاد ومُتولي الْعرَاق وَكَانَ هَذَا بهروز أَمِيرا ينفذ أمره فِي جَمِيع الْعرَاق إِلَى الْبَصْرَة إِلَى الْموصل إِلَى أصفهان وَكَانَت خيله خَمْسَة الآف فَارس فَأقر الْأَمِير نجم الدّين فِي ولَايَة تكريت وأضاف إِلَيْهِ النّظر فِي جَمِيع الْولَايَة المتاخمة لَهُ وَقرر أمره عِنْد السُّلْطَان مَسْعُود وَجعل بهروز قلعة تكريت خزانَة أَمْوَاله وَبَيت عقائله وَجعل جَمِيع ذَلِك مَنُوطًا بالأمير نجم الدّين ومعذوقا بهمته
وَكَانَ نجم الدّين عَظِيما فِي أنفس النَّاس بِالدّينِ وَالْخَيْر وَحسن السياسة وَكَانَ لَا يمر أحد من أهل الْعلم وَالدّين بِهِ إِلَّا حمل إِلَيْهِ المَال والضيافة الجليلة وَكَانَ لَا يسمع بِأحد من أهل الدّين فِي مَدِينَة إِلَّا أنفذ إِلَيْهِ(2/252)
وَقد ذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي سيرة السلجوقية الْأَمِير نجم الدّين وقرظة وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر من دينه وعفته ووفور أَمَانَته وَكَثْرَة خَيره أَشْيَاء حَسَنَة وَحكى قَضِيَّة عمّه الْعَزِيز حِين حبس عِنْده بقلعة تكريت من جِهَة الْوَزير الدركزيني وَأمره بقتْله فَأبى نجم الدّين إِلَى أَن قَتله بهروز بِنَفسِهِ بِأَمْر الدركزيني
ثمَّ إِن السُّلْطَان مسعوداً حشد وَخرج فِي أَخذ السلطنة وطمع هُوَ وأتابك زنكي بن آق سنقر فِي بَغْدَاد وجردا عسكراً ضخما وسارا إِلَى تكريت طامعين فِي بَغْدَاد واتصل هَذَا الْخَبَر بقراجه السّاقي وَهُوَ أتابك ابْن السُّلْطَان مَحْمُود فَجرد ألف فَارس للقاء زنكي ثمَّ أردفهم بعسكر ضخم فَانْهَزَمَ زنكي وقُتل جمَاعَة من أَصْحَابه وَنهب جَمِيع مَا كَانَ فِي عسكره ولجأ إِلَى سور تكريت وَبِه عدَّة جراحات وَعلم مَكَانَهُ الْأَمِير نجم الدّين وَأَخُوهُ شيركوه فمتحاه إِلَى القلعة بحبال وداويا جراحاته وخدماه أحسن خدمَة وتقربا إِلَيْهِ فَأَقَامَ عِنْدهمَا بتكريت خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ سَار إِلَى الْموصل وأعوزه الظّهْر فأعطياه جَمِيع مَا كَانَ عِنْدهمَا من الظّهْر حَتَّى إنَّهُمَا أعطياه جملَة من الْبَقر حمل عَلَيْهَا مَا سلم مَعَه من امتعته فَكَانَ زنكي يرى لأيوب هَذِه الْيَد وَيعرف لَهُ هَذِه الصنيعة ويواصله بالهدايا والألطاف مُدَّة مُقامه فِي تكريت فَلَمَّا انْفَصل عَنْهَا على(2/253)
مَا سَنذكرُهُ تَلقاهُ زنكي بالرحب وَالسعَة واحترامه احتراماً عَظِيما وأقطعه عدَّة قطائع
وَكَانَ نجم الدّين قد سَاس النَّاس بتكريت أحسن سياسة حَتَّى ملك بذلك حبّات قُلُوبهم وَكَانَ أَخُوهُ شيركوه مَعَه فِي القلعة وَكَانَ شجاعاً باسلا ينزل من القلعة ويصعد إِلَيْهَا فِي أَسبَابه وحاجاته وَكَانَ نجم الدّين لَا يُفَارق القلعة وَلَا ينزل مِنْهَا فاتفق أَن أَسد الدّين نزل من القلعة يَوْمًا لبَعض شَأْنه ثمَّ عَاد إِلَيْهَا وَكَانَ بَينه وَبَين كَاتب صَاحب القلعة قوارص وَكَانَ رجلا نَصْرَانِيّا فاتفق فِي ذَلِك الْيَوْم أَن النَّصْرَانِي صَادف أَسد الدّين صاعداً إِلَى القلعة فعبث بِهِ بِكَلِمَة مُمضة فَجرد أَسد الدّين سَيْفه وَقتل النَّصْرَانِي وَصعد إِلَى القلعة وَكَانَ مهيباً فَلم يتجاسر أحدُ على معارضته فِي أَمر النَّصْرَانِي بِشَيْء وأُخذ النَّصْرَانِي بِرجلِهِ فألُقي من القلعة
وَبلغ بهروز صَاحب قلعة تكريت مَا جرى وَحضر عِنْده من خَوفه جُرأة أَسد الدّين وَأَنه ذُو عشيرة كَبِيرَة وَأَن أَخَاهُ نجم الدّين قد استحوذ على قُلُوب الرعايا وَأَنه رُبمَا كَانَ مِنْهُمَا أمرُ تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فَكتب إِلَى نجم الدّين يُنكر عَلَيْهِ مَا جرى من أَخِيه ويأمره بِتَسْلِيم القلعة إِلَى نَائِب سيره صَحبه الْكتاب فَأجَاب نجم الدّين ذَلِك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَأنزل من القلعة جَمِيع مَا كَانَ لَهُ بهَا من أهل وَمَال وَاجْتمعَ هُوَ وَأَخُوهُ أَسد الدّين وصمما على قصد عماد الدّين زنكي بالموصل
وَقيل إِن أَسد الدّين كَانَ خرج إِلَى الْموصل قبل نجم الدّين(2/254)
وَأعظم أهل تكريت خُرُوج نجم الدّين من بَين أظهرهم وَلم يبْق أحدُ إِلَّا خرج لتوديعه وَأظْهر الْبكاء والأسف على مُفَارقَته
وَلما أتصل بأتابك زنكي قُدومُهما أفرحه ذَلِك وَأمر الموكب بلقائهما وأكرمهما إِكْرَاما عَظِيما وأقطعهما من بلد شهرزور إقطاعاً سنيّا وَقيل إِنَّه أقطع أَسد الدّين بالموزر
وَجرى بَين أَسد الدّين وجمال الدّين الْوَزير مَوَدَّة عَظِيمَة حَتَّى حلف كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر أَنه يقوم بأَمْره فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته وتجرد جمال الدّين فِي أَمر أَسد الدّين وَأمر أَخِيه نجم الدّين حَتَّى قربهما من قلب أتابك وجعلهما عِنْده بالمنزلة الْعَظِيمَة وخرجا مَعَه إِلَى الشَّام وشهدا مَعَه حروب الْكفَّار وقتال الفرنج لعنهم الله تَعَالَى وَكَانَ لأسد الدّين فِي تِلْكَ الوقائع الْيَد الْبَيْضَاء والفَعْلَةُ الغراء
وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي سعد الدولة أَبُو الميامن المؤملي وَكَانَ أحد أَصْحَاب نجم الدّين أَيُّوب قَالَ وحَدثني أَيْضا بِهَذِهِ الْحِكَايَة مجد الدّين ابْن داية الْملك الصَّالح قَالَ حَدثنِي حسام الدّين سنقر غُلَام الْأَمِير نجم الدّين أبي طَالب وَكَانَ سنقر هَذَا يخْدم مَعَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي قَالَ كنت فِي صحابة الْأَمِير نجم الدّين لما نفذه نور الدّين بن زنكي إِلَى ابْنه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى مصر من أجل قطع خطْبَة المصريين وَإِقَامَة دَعْوَة بني الْعَبَّاس فِي أول سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَاتفقَ أَنِّي كنت حَاضرا وَقد اجْتمع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر(2/255)
ووالده الْأَمِير نجم الدّين فِي دَار الوزارة وَقد قعدا على طُرّاحة وَاحِدَة والمجلس غاصُّ بأرباب الدولتين وَعند النَّاس من الْفَرح وَالسُّرُور مَا قد أذهل الْعُقُول فَبينا النَّاس كَذَلِك إِذْ تقدم كَاتب نَصْرَانِيّ كَانَ فِي خدمَة الْأَمِير نجم الدّين فَقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر ووالده الْأَمِير نجم الدّين والتفت إِلَى نجم الدّين وَقَالَ لَهُ يَا مولَايَ هَذَا تَأْوِيل مَقَالَتي لَك بالْأَمْس حِين وُلد هَذَا السُّلْطَان فَضَحِك نجم الدّين وَقَالَ صدقت وَالله ثمَّ أَخذ فِي حمد الله وشكره وَالثنَاء عَلَيْهِ والتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّذين حوله من أكَابِر الْعلمَاء والقضاة والأمراء وَقَالَ لكَلَام هَذَا النَّصْرَانِي حِكَايَة عَجِيبَة وَذَلِكَ أنني لَيْلَة رزقت هَذَا الْوَلَد يَعْنِي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَمرنِي صَاحب قلعة تكريت فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بالرّحلة عَنْهَا بِسَبَب الفعلة الَّتِي كَانَت من أخي أَسد الدّين شيركوه رَحمَه الله وَقَتله النَّصْرَانِي وَكنت قد ألفت القلعة وَصَارَت لي كالوطن فثقل عَليّ الْخُرُوج مِنْهَا والتحول عَنْهَا إِلَى غَيرهَا واغتممت لذَلِك وَفِي ذَلِك الْوَقْت جَاءَنِي البشير بولادته فتشاءمت بِهِ وتطيرت لما جرى عَليّ وَلم أفرح بِهِ وَلم أستبشر وَخَرجْنَا من القلعة وَأَنا على طيرتي بِهِ لَا أكاد أذكرهُ وَلَا أُسَمِّيهِ وَكَانَ هَذَا النَّصْرَانِي معي كَاتبا فَلَمَّا رأى مَا نزل بِي من كَرَاهِيَة الطِّفْل والتشاؤم بِهِ استدعى مني أَن آذن لَهُ فِي الْكَلَام فَأَذنت لَهُ فَقَالَ لي يَا(2/256)
مولَايَ قد رَأَيْت مَا قد حدث عنْدك من الطَّيرَة بِهَذَا الصَّبِي وَأي شَيْء لَهُ من الذَّنب وَبِمَ اسْتحق ذَلِك مِنْك وَهُوَ لَا ينفع ولايضر وَلَا يُغني شَيْئا وَهَذَا الَّذِي جرى عَلَيْك قَضَاء من الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَقدر ثمَّ مَا يدْريك أَن هَذَا الطِّفْل يكون ملِكاً عَظِيم الصيت جليل الْمِقْدَار فعطفني كَلَامه عَلَيْهِ وَهَا هُوَ قد وقفني على مَا كَانَ قَالَه فتعجب الْجَمَاعَة من هَذَا الِاتِّفَاق وَحمد السُّلْطَان ووالده الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وشكراه
قلت ولعُمارة فِي نجم الدّين مدائح ومراثٍ مِنْهَا قَوْله
(ثغر الزَّمَان بِنَجْم الدّين مبتسم ... وَوَجهه بدوام الْعِزّ متسم)
يَقُول فِيهَا
(أضحى بك النّيل محجوبا ومعتمرا ... كَأَنَّمَا حلّ فِيهِ الحلّ وَالْحرم)
(جَاءَت بنوك وَشَمل الدّين منتثر ... فقارعوا عَنهُ فَهُوَ الْيَوْم مُنْتَظم)
(وَمَا درى أحدُ من قبل رُؤْيَتهمْ ... أَن الحظوظ بلثم الأَرْض تقتسم)
(نَامَتْ عُيُون الورى فِي عدل سيرتهم ... كَأَن يقظتنا فِي عصرهم حلم)
(والناصر ابْنك كَاف كلِّ معضلة ... إِذا الْحَوَادِث لم يُكشف لَهَا غمم)
(أعز بالبأس وَالْإِحْسَان حوزتنا ... فَلم يُلّم بِنَا خوف وَلَا عدم)
(تَبَسم الدّست من أَيُّوب عَن ملك ... تنحطّ عَن قدره والأقدار والهمم)
وَقَالَ فِي مرثيته
(هِيَ الصدمةُ الأولى فَمن بَان صبره ... على هول ملقاها تضَاعف أجره)(2/257)
(أذمُّ صباح الْأَرْبَعَاء فَإِنَّهُ ... تَبَسم عَن ثغر الْمنية فجره)
(أصَاب الْهدى فِي نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجوّ مِنْهَا ونسره)
(فَلَا تعذلونا واعذرونا فَمن بَكَى ... على فقد أيوبٍ فقد بَان عُذره)
(أَقَامَ بأعمال الْفُرَات وخيله ... يُراع بهَا نيل الْعَزِيز ومصره)
(إِلَى أَن رَمَاهَا من أَخِيه بضيغم ... فرى نابه أهل الصَّلِيب وظفره)
(فَلَمَّا قضى نحبي حَيَاة ودولة ... بِأَمْرك فِي إِدْرَاكهَا تمّ أمره)
(تعاقبتما مصرا تعاقب وابل ... يبيت بقطر النّيل ينهل قطره)
(نزلت بدار حلهَا فحللتها ... فمغناك مغناة وقطرك قطره)
(وواخيته فِي البرّ حيّا وميتّا ... فقبرك فِي دَار الْقَرار وقبره)
(وَقد شخصت أهل البقيع إلَيْكُمَا ... وَإِلَّا فسكان الْحجُون وحجره)
(هَنِيئًا لملك مَاتَ والعزّ عزه ... وقُدْرته فَوق الرّجال وَقدره)
(وَأدْركَ من طول الْحَيَاة مُرَاده ... وَمَا طَال إِلَّا فِي رضَا الله عمره)
(وأسعد خلق الله من مَاتَ بَعْدَمَا ... رأى فِي بني أبنائه مَا يسره)
(شَهِيد تلقى ربه وَهُوَ صَائِم ... فَكَانَ على أجر الشَّهَادَة فطره)
مِنْهَا
(مضى وَهُوَ رَاض عَنْك لم ترم صَدره ... بِضيق وَلَا جَاشَتْ من الغيظ قدره)
(حمى حوزة الْإِسْلَام وَالدّين بعده ... ثَمَانِيَة من أَجلهم عزّ نَصره)
(فَكيف بخيس آل أَيُّوب أسده ... لقد بَان خوف الدَّهْر مِنْهُ وذعره)
(رعى الله نجماً تعرف الشَّمْس أَنه ... أَبوهَا وَنور الْبَدْر مِنْهَا وزهره)(2/258)
(وَأبقى الْمقَام الناصريّ فَإِنَّهُ ... لدولتكم كنز الرّجاء وذخره)
وَقَالَ أَيْضا
(صفو الْحَيَاة وَإِن طَال المدى كدر ... وحادث الْمَوْت لَا يبْقى وَلَا يذر)
(وَمَا يزَال لِسَان الدَّهْر ينذرنا ... لَو أثرت عندنَا الْآيَات وَالنّذر)
(فَلَا تقل غرت الدُّنْيَا مطامعنا ... فَمَا مَعَ الْمَوْت لَا غش وَلَا كدر)
(كأس إِذا مَا الردى حَيا الْحَيَاة بهَا ... لم ينج من سكرها أُنْثَى وَلَا ذكر)
(كم شامخ الْعِزّ لَاقَى الذل من يَدهَا ... مَا أَضْعَف الْقدر إِن ألوى بِهِ القَدَر)
(فِي كل جيلٍ وعصر من وقائعها ... شعواء يقطر مِنْهَا الناب وَالظفر)
(أودى عليُّ وَعُثْمَان بمخلبها ... وَلم يفتها أَبُو بكر وَلَا عمر)
(وَمن أَرَادَ التأسِّي فِي مصيبته ... فللورى برَسُول الله مُعْتَبر)
(نجمُ هوى من سَمَاء الدّين منكدرا ... والنجم من أفقه يهوى وينكدر)
(منظومة أنجم الجوزاء من جزع ... لَهُ وَعقد الثريا مِنْهُ منتثر)
(وَكَيف يُنسى محياه الْكَرِيم وَمن ... نُعماه فِي كلّ عَيْش صَالح أثر)
(جددت من أَسد الدّين الشَّهِيد لنا ... حُزنا بِهِ يتساوى الصَّبْر وَالصَّبْر)
(قد كَانَ للدّين وَالدُّنْيَا بعزمكما ... ذكر يعبر عَنهُ الصارم الذّكر)
(إِن فاح نشر كَلَام تُمدحان بِهِ ... مِسكاً فعترة أَيُّوب هِيَ العتر)(2/259)
(تخفى ذبال مصابيح إِذا طلعوا ... صُبحاً وتنسى مُلوك الأَرْض إِن ذكرُوا)
(كَأَنَّمَا صّور الله الْكَمَال بهم ... شخصا ويوسفُ مِنْهُ السّمع وَالْبَصَر)
(لاشوبك مِنْهُ مَعْصُوم ولاكرك ... وَلَا خَلِيل وَلَا قدس وَلَا زغر)
(لم يرتحل قَافِلًا إِلَّا وساكنها ... إِمَّا مباحُ حماه أَو دمُ هدر)
(مَا مَاتَ أَيُّوب إِلَّا بعد معْجزَة ... فِي الْمجد لم يؤتها من جنسه بشر)
(مضى سعيدا من الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ ... فِي رُتْبَة أربُ باقٍ وَلَا وطر)
(وطوّل الله مِنْهُ بَاعَ أَرْبَعَة ... مِنْهَا النَّدى والتقي وَالْملك والعُمُر)
(وأشرف الْملك مَا امتَدَّت مسافته ... فِي صِحَة أَخَوَاهَا الْعقل وَالْكبر)
(وَمن سعادته أَن مَاتَ لَا سأم ... يشكوه مِنْهُ مَعَانِيه وَلَا ضجر)
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَسَار نور الدّين قَاصِدا جَانب الشمَال لتسديد مَا أختل هُنَاكَ من الْأَحْوَال فَسَار إِلَى بعلبك وَمِنْهَا إِلَى حمص ثمّ حلب وَفعل فِي كلّ مِنْهَا من الْمصَالح مَا وَجب وَقصد بِلَاد قليج أرسلان ملك الرّوم فَفتح مرعش فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة ثمَّ فتح بهسنى وَاتبع فِي كل مِنْهُمَا الطَّرِيقَة الْحسنى
وَكتب الْعِمَاد إِلَى صديقٍ لَهُ بِدِمَشْق وَكَانَ سَافر عَنْهَا مَعَ نور الدّين فِي أطيب فصولها وَهُوَ زمن المشمش
(كتابي فديتُك من مرعش ... وَخَوف نوائبها مرعشي)(2/260)
(وَمَا مر فِي طرقها مبصر ... صَحِيح النواظر إِلَّا عشي)
(وَمَا حلّ فِي أرْضهَا آمن ... من الضيّم والضر إِلَّا خشى)
(ترنحني نشوات الغرام ... كَأَنِّي من كأسه منتشى)
(أُسِرُّ وأُعلن برح الجوى ... فقلبي يُسرُّ ودمعي يشي)
(بذلت لكم مهجتي رشوةً ... فحاكم حبّكم مرتشي)
(وَكَيف يلذّ الْكرَى مغرم ... بِنَار الغرام حشاه حشي)
(بمرعش أبغي وبلوطها ... مضاهاة جلق والمشمش)
قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة فسارت هَذِه الْقطعَة ونُمى حَدِيثهَا إِلَى نور الدّين فاستنشدنيها فأنشدتها إِيَّاه وَنحن سائرون فِي وادٍ كثير الْأَشْجَار مَعَ بَيْتَيْنِ بدهت بهما فِي الْحَال وهما
(وبالملك الْعَادِل استأنست ... نجاحاً مُنى كل مستوحش)
(وَمَا فِي الْأَنَام كريمُ سواهُ ... فَإِن كنت تنكر ذَا فتش)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ سَار نور الدّين نَحْو ولَايَة الْملك عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان بن سُلَيْمَان السلجوقي وَهِي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا عَازِمًا على حربه وَأخذ بِلَاده مِنْهُ(2/261)
وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن ذَا النُّون بن دانشمند صَاحب ملطية وسيواس وَغَيرهمَا من تِلْكَ الْبِلَاد قَصده قليج أرسلان وَأخذ بِلَاده وَأخرجه عَنْهَا طريداً فريداً فَسَار إِلَى نور الدّين مستجيرا بِهِ وملتجئاً إِلَى ظله فَأكْرم نزله وَأحسن إِلَيْهِ وَحمل لَهُ مَا يَلِيق أَن يحمل للملوك ووعده النَّصْر وَالسَّعْي فِي رد ملكه إِلَيْهِ وَكَانَت عَادَة نور الدّين أَنه لَا يقْصد ولَايَة أحد من الْمُسلمين إِلَّا ضَرُورَة إِمَّا ليستعين بهَا على قتال الفرنج أَو للخوف عَلَيْهَا مِنْهُم كَمَا فعل بِدِمَشْق ومصر وَغَيرهمَا فَلَمَّا قَصده ذُو النُّون راسل قليج أرسلان وشفع إِلَيْهِ فِي إِعَادَة مَا غَلبه عَلَيْهِ من بِلَاده فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك فَسَار نور الدّين نَحوه فابتدأ بكيسون وبهسنى ومرعش ومرزبان فملكها وَمَا بَينهَا من الْحُصُون وسيّر طَائِفَة من عسكره إِلَى سيواس فملكوها
وَكَانَ قليج أرسلان لما بلغه قصد نور الدّين بِلَاده قد سَار من اطرافها الَّتِي تلِي الشَّام إِلَى وَسطهَا خوفًا وفرقاً وراسل نور الدّين يستعطفه ويسأله الصُّلْح والصفح عَنهُ فتوقف نور الدّين عَن قَصده رَجَاء أَن ينصلح الْأَمر بِغَيْر حَرْب فَأَتَاهُ من الفرنج مَا أزعجه فَأَجَابَهُ إِلَى الصُّلْح
وَكَانَ فِي جملَة رِسَالَة نور الدّين إِلَيْهِ إِنَّنِي أُرِيد مِنْك أموراً وقواعد وَمهما تركت مِنْهَا فَلَا أترك ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن تجدّد إسلامك على يَد رَسُولي حتّى يحلّ لي إقرارك على بِلَاد الْإِسْلَام فَإِنِّي لاأعتقدك مُؤمنا وَكَانَ قليج أرسلان يتهم باعتقاد مَذَاهِب الفلاسفة وَالثَّانِي إِذا طلبت عسكرك إِلَى الْغُزَاة تسيره فَإنَّك قد ملكت طرفا كَبِيرا من بِلَاد الْإِسْلَام(2/262)
وَتركت الرّوم وجهادهم وهادنتهم فإمَّا أَن تكون تُنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وَإِمَّا أَن تُجَاهِد من يجاورك من الرّوم وتبذل الوسع والجهد فِي جهادهم وَالثَّالِث أَن تزوّج ابْنَتك لسيف الدّين غَازِي ولد أخي وَذكر أموراً غَيرهَا
فَلَمَّا سمع قليج أرسلان الرسَالَة قَالَ مَا قصد نور الدّين إِلَّا الشناعة علىّ بالزندقة وَقد أَجَبْته إِلَى مَا طلب أَنا أجددّ إسلامي على يَد رَسُوله وَاسْتقر الصُّلْح وَعَاد نور الدّين وَترك عسكره فِي سيواس مَعَ فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فِي خدمَة ذِي النُّون فَبَقيَ الْعَسْكَر بهَا إِلَى أَن مَاتَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَرَحل الْعَسْكَر عَنْهَا وَعَاد قليج أرسلان وملكها
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وصل الْفَقِيه الإِمَام الْكَبِير قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَهُوَ فَقِيه عصره ونسيج وَحده فسر نور الدّين بِهِ وأنزله بحلب بمدرسة بَاب الْعرَاق ثمَّ أطلعه إِلَى دمشق فدرس بزاوية الْجَامِع الغربية الْمَعْرُوفَة بالشيخ نصر الْمَقْدِسِي رَحمَه الله تَعَالَى وَنزل بمدرسة(2/263)
الجاروخ وَشرع نور الدّين فِي إنْشَاء مدرسة كَبِيرَة للشَّافِعِيَّة لفضله وأدركه الْأَجَل دون إِدْرَاك عَملهَا لأَجله
قلت هِيَ الْمدرسَة العادلية الْآن الَّتِي بناها بعده الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب أَخُو صَلَاح الدّين وفيهَا تربته وَقد رَأَيْت أَنا مَا كَانَ بناه نور الدّين وَمن بعده مِنْهَا وَهُوَ مَوضِع الْمَسْجِد والمحراب الْآن ثمَّ لمّا بناها الْملك الْعَادِل أَزَال تِلْكَ الْعِمَارَة وبناها هَذَا الْبناء المتقن الْمُحكم الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي بُنيان الْمدَارِس وَهِي المأوى وَبهَا المثوى وفيهَا قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جمع هَذَا الْكتاب فَلَا أقفر ذَلِك الْمنزل وَلَا أقوى وَبَقِي قطب الدّين إِلَى أَن توفّي فِي الْأَيَّام الناصرية فِي سنة ثَمَان وَسبعين ووقف كتبه على طلبة الْعلم ونقلت بعد بِنَاء هَذِه الْمدرسَة إِلَيْهَا فَمَا فاتها ثَمَرَته إِذْ فاتها مُبَاشَرَته رَحمَه الله تَعَالَى
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ وَفد فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه فَأقبل عَلَيْهِ نور الدّين وَأَمرَنِي بإنشاء منشور لَهُ بمشيخة الصُّوفِيَّة ورغبه فِي الْمقَام بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ(2/264)
بِالشَّام وَمن جملَة مَا أتحفه بِهِ عِمَامَة بأعمدة ذهبية نفذها صَلَاح الدّين من مصر فبذل فِيهَا ألف دِينَار بزنة ذهبها فَلم يجب من سامها إِلَى طلبَهَا
قلت وَقد سبق ذكر هَذِه الْعِمَامَة فِي أَخْبَار نور الدّين أول الْكتاب من كَلَام ابْن الْأَثِير وَابْن الْمُعْطى إِيَّاهَا وَهُوَ الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الله رَحِمهم الله تَعَالَى
ثمَّ ذكر الْعِمَاد نُسْخَة المنشور وَفِيه فَلْينْظر فِي رِبَاط السميساطي وقبة الطواويس ورباط الطاحونة وَغَيرهَا من ربط الصُّوفِيَّة بِدِمَشْق المعمورة وبعلبك
ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنه فِي آخر شعْبَان من هَذِه السّنة قبل الرحيل من دمشق كَانَ أهْدى إِلَى صديقه الْفَاضِل الأديب علم الدّين الْحسن بن سعيد الشاتاني قطائف وَكتب إِلَيْهِ
(مَا راقدات فِي صحون ... مستوطنات فِي سُكُون)
(يجلين أَمْثَال العرائس ... بَين أبكار وَعون)
(أَو كالعقائل فِي الْخُدُور ... قد اعتقلن على دُيُون)
(هن اللذيذات اللوائذ ... بالسهول من الحزون)
(أَو كالتمائم للصحاف ... وَمَا نسبن إِلَى جُنُون)
(السكريات الغريقات ... الغلائل والشؤون)
(صرعى وَمَا دارت لَهَا ... يَوْمًا رحى الْحَرْب الزبون)
(لُفّفن فِي أكفانهن ... على المنى لَا للمنون)(2/265)
(يحيين بالتغريق بل ... يسمن فِي ضيق السجون)
(المستطابات الظُّهُور ... المستلذات الْبُطُون)
(نضدن بالترصيع فِي الجامات ... كالدر المصون)
(المستقيمات الصُّفُوف ... وقفن كالخيل الصفون)
(وَقد اشتملن من اللطائف ... وَالصِّفَات على فنون)
(اسْمَع حَدِيثي فِي انبساطي ... فَالْحَدِيث أَخُو شجون)
وَهِي أَكثر من هَذَا
فصل
قَالَ الْعِمَاد قد سبق ذكر مليح بن لاون مقدم بِلَاد الأرمن والتجائه إِلَى نور الدّين وتطاوله بقوته على الرّوم والأرمن وَكَانَت الدروب أُذُنه والمصيصة وسيواس يحميها كلب الرّوم ويضبظها بجنده حَتَّى استولى عَلَيْهَا مليح بن لاون فكسرهم وَقتل وَأسر وسَاق لنُور الدّين من مقدمي الرّوم ثَلَاثِينَ أَسِيرًا فَأرْسل نور الدّين القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري بالأسرى والهدايا إِلَى الْخَلِيفَة المستضيء بِأَمْر الله وَمَعَهُ كتاب يشْرَح هَذِه الكسرة وَمَا فتح من الْبِلَاد وَيَقُول فِيهِ وقسطنطينية والقدس يجريان إِلَى أمد الْفتُوح فِي مضمار المنافسة وَكِلَاهُمَا فِي وَحْشَة ليل الظلام المدلهم على انْتِظَار صباح المؤانسة وَالله تَعَالَى بكرمه يدني قطاف الفتحين لأهل الْإِسْلَام ويوفق الْخَادِم لحيازة مراضى الْأَمَام
وَفِي آخِره وَمن جملَة حَسَنَات هَذِه الْأَيَّام الزاهرة مَا تسنى فِي هَذِه النَّوبة من افْتِتَاح بعض بِلَاد النّوبَة والوصول إِلَى مَوَاضِع مِنْهَا لم تطرقها(2/266)
سنابك الْخَيل الإسلامية فِي العصور الخالية وَكَذَلِكَ استولت عَسَاكِر مصر أَيْضا على برقة وحصونها وتحكموا فِي مُحكم معاقلها ومصونها حَتَّى بلغُوا إِلَى حُدُود الْمغرب فظفروا من السؤل بعنقاء مغرب
قلت كَانَ اتّفق فِي هَذِه السّنة وُصُول قراقوش غُلَام تَقِيّ الدّين من الديار المصرية مَعَ طَائِفَة من التّرْك وانضم إِلَيْهِم جمَاعَة من الْعَرَب فاستولى على طرابلس وَكثير من بِلَاد إفريقية مَا خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس
وَفِي آخر ذَلِك الْكتاب ونسأل الله التَّوْفِيق لاستدناء قواصي المنى وإقصاء عَبدة الصَّلِيب الأنجاس من الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَأَن يَجْعَل فتح الْبَيْت الْمُقَدّس مفتتح مُرَاده ومقتدح زناده ومقترحه فِي جهاده وَأَن يملكهُ السَّاحِل بِجَمِيعِ بِلَاده
وسير الْعِمَاد مَعَه قصيدة مِنْهَا
(بالمستضيء أبي مُحَمَّد الْحسن ... رجعت أُمُور الْمُسلمين إِلَى السّنَن)
(فِي أَرض مصر دَعَا لَهُ خطباؤها ... وَأَتَتْ لتخطب بكر خطبَته عدن)
(فالمغرب الْأَقْصَى لذَلِك مشرق ... وبنصر مصر مُحَقّق يمن الْيمن)
(وَرَأى الْإِلَه المستضيء لشرعه ... وعباده نعم الْأمين المؤتمن)
(سر النُّبُوَّة كامن فِيهِ وَمن ... فطر الْإِمَامَة مشرق نور الفطن)(2/267)
(تقوى أبي بكر وَمن عمر الْهدى ... وحياءُ عُثْمَان وَعلم أبي الْحسن)
(وبجده عرفت مقَالَة حيدر ... لامن دَد أَنا لَا وَلَا مني الددن)
(كم من عَدو ميت فِي جلده ... رعْبًا وخوفا فَهُوَ حَيّ فِي كفن)
وَمِنْهَا فِي مدح نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
(هَل مثل مَحْمُود بن زنكي مخلص ... متوحدُ يَبْغِي رضاك بِكُل فن)
(ورعٌ لَدَى الْمِحْرَاب أروع محرب ... فِي حالتيه إِن أَقَامَ وَإِن ظغن)
(يُمْسِي وَيُصْبِح فِي الْجِهَاد وَغَيره ... يضحى رَضِيع سلافة وضجيج دَنّ)
(وبعزة الْإِسْلَام منتصراً حرٍ ... وبذلة الْإِشْرَاك منتقماً قمن)
قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا وصل شهَاب الدّين بن أبي عصرون من بَغْدَاد وَمَعَهُ توقيع لنُور الدّين بدرب هَارُون وصريفين وَخمسين دِينَارا من دَنَانِير النثار الَّتِي نثرت يَوْم دخل الشهَاب إِلَى بَغْدَاد بالبشارة بِالْخطْبَةِ فِي مصر وزن كل دِينَار عشرَة دَنَانِير
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت ناحيتا درب هَارُون وصريفين من أَعمال الْعرَاق لزنكي وَالِد نور الدّين قَدِيما من إنعام أَمِير الْمُؤمنِينَ فَسَأَلَ نور الدّين إحْيَاء ذَلِك الرَّسْم فِي حَقه فأنعم بهما الْخَلِيفَة عَلَيْهِ وَوجه بهما مثالُه الشريف إِلَيْهِ وَكَانَ من مُرَاده أَن يستوهب بِبَغْدَاد على شاطىء دجلة أَرضًا يبنيها مدرسة للشَّافِعِيَّة وَيقف عَلَيْهَا الناحيتين طلبا لِلْأجرِ ولحسن الذّكر(2/268)
الْبَاقِي على الدَّهْر فَقيل لَهُ مَا ثمَّ مَوضِع لهَذَا إِلَّا دَار التَّمْر فعاقه أَمر الْقدر عَن قدرته على الْأَمر
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
وَنور الدّين قد فتح من حصون الرّوم مرعش وَغَيرهَا ومليح بن لاون متملك الأرمن فِي خدمته وَوصل إِلَى خدمته أَيْضا ضِيَاء الدّين مَسْعُود بن قفجاق صَاحب ملطية وَكَانَ فِي خدمته أَيْضا الْأُمَرَاء من المجِدْل فسرّحهم بالعطاء الأجزل والسمت الأجمل وَأظْهر أَنه ينزل على قلعة الرّوم على الْفُرَات فَتقبل مستخلف الأرمن بِالْبَرَاءَةِ وَحمل خمسين ألف دِينَار على سَبِيل الْجِزْيَة مصانعة بذل وصغار وَعَاد إِلَى حلب وَقد أنجح فِي كل مَا طلب
وَأَرَادَ أَن يسْرع إِلَى دمشق فالتاث سرة لالتياث سريَّته وحظى بِمَرَض الْقلب لمَرض جسم حظيته وَجَرت شكايته شكاية جَارِيَته فَتصدق عَنْهَا بألوف وَالْتزم لله فِي شفائها بنذور ووقوف ثمَّ سَيرهَا فِي محفة تحمل على أَيدي الرِّجَال فِي خفَّة وسارت على الطَّرِيق المهيع مَعَ الْعَسْكَر يحملهَا من الخدم والخواص المعشر بعد المعشر فَمَا تُقرِّب إِلَيْهِ بِمثل حملهَا وَالْمَشْي مَعهَا وَتقدم بِحَق لَازم من بخدمته شيعها وَتَأَخر نور الدّين(2/269)
فِي جَرِيدَة مَعَ عدَّة من مماليكه وأمرائه المماحضين فِي ولائه وَتقدم إلىّ أَن أسايره فِي طَرِيقه وأحاوره وأحاضره فِي مَنَازِله وأسامره
وسرنا على طَرِيق قبَّة ملاعب والمشهد وسلمية فَجَاءَهُ الْخَبَر أَن الفرنج قد أغارت على حوران فَثنى إِلَى الْجِهَاد الْعَنَان وَسمع الفرنج بِهِ فَتَفَرَّقُوا وقلقوا بَعْدَمَا كَانُوا أقلقوا ودخلنا دمشق
قلت وَفِي جمادي الأولى أبطل نور الدّين رَحمَه الله فَرِيضَة الأتبان وَرَأَيْت منشوره بذلك وعلامته عَلَيْهِ بِخَطِّهِ الْحَمد لله يَقُول فِيهِ
وَبعد فَإِن من سنتنا العادلة وسير أيامنا الزاهرة وعوائد دولتنا الْقَاهِرَة إِشَاعَة الْمَعْرُوف وإغاثة الملهوف وإنصاف الْمَظْلُوم وإعفاء رسم مَا سنه الظَّالِمُونَ من جائرات الرسوم وَمَا نزال نجدد للرعية رسما من الْإِحْسَان يرتعون فِي رياضه ويرتوون من حياضه ونستقري أَعمال بِلَادنَا المحروسة ونصفيها من الشّبَه والشوائب ونلحق مَا نعثر عَلَيْهِ من بواقي رسومها الضائرة بِمَا أسقطناه من المكوس والضرائب تقربا إِلَى الله تَعَالَى الكافل لنا بسبوغ الْمَوَاهِب وبلوغ المطالب وَقد أطلقنا جَمِيع مَا جرت الْعَادة بِأَخْذِهِ من فريضه الأتبان المقسطة على أَعمال دمشق المحروسة وضياع الغوطة والمرج وجبل سَنيِر وَقصر حجاج والشاغور والعقيبة ومزارعها الْجَارِيَة فِي الْأَمْلَاك وَجَمِيع مَا يقسط بعد الْمُقَاسَمَة من الأتبان على الضّيَاع الْخَواص والمقطعة بِسَائِر الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة ووفرناه على أربابه طلبا لمرضاة الله وعظيم أجره وثوابه وهربا من انتقامه وأليم عِقَابه وسبيل النّواب إِطْلَاق ذَلِك على الدَّوَام وتعفيه آثاره والاستعفاء من(2/270)
أوزاره والاحتراز من التدنس بأوضاره وَإِبْطَال رسمه من الدَّوَاوِين لاستقبال سنة تسع وَسِتِّينَ وَمَا بعْدهَا على تعاقب الْأَيَّام والسنين
فصل فِي فتح الْيمن
قَالَ الْعِمَاد وَفِي رَجَب توجه تورانشاه أكبر إخْوَة صَلَاح الدّين إِلَى الْيمن فملكها وَكَانَ يحثه على الْمسير إِلَيْهَا عُمارة اليمني شَاعِر الْقصر وَكَانَ كثير الْمَدْح لتورانشاه فتجهزّ وَسَار إِلَى مَكَّة ثمَّ إِلَى زبيد فملكها وَقبض على الْخَارِجِي بهَا وأهلكه نَائِبه سيف الدولة مبارك بن منقذ وَمضى إِلَى عدن فَأَخذهَا واستناب فِيهَا عز الدّين عُثْمَان الزنجيلي وَفتح حصن تعزّ وَغَيره من القلاع فَفتح إقليما ومنح ملكا عَظِيما وافترع بكرا وشيع ذكرا
وَقَالَ ابْن شَدَّاد وَلما كَانَ سنة تسع وَسِتِّينَ رأى صَلَاح الدّين قُوَّة عسكره وَكَثْرَة عدد إخْوَته وقوّة بأسهم وَكَانَ بلغه أَن بِالْيمن إنْسَانا استولى عَلَيْهَا وَملك حصونها وَهُوَ يخْطب لنَفسِهِ يُسمى عبد النّبي بن مهْدي وَيَزْعُم أَنه ينتشر ملكه إِلَى الأَرْض كلهَا واستتب أمره فَرَأى أَن يسير إِلَيْهَا أَخَاهُ الْأَكْبَر الْملك الْمُعظم تورانشاه وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا حسن الْأَخْلَاق سَمِعت مِنْهُ يعْنى من صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الثَّنَاء على كرمه ومحاسن أخلاقه وترجيحه إِيَّاه على نَفسه فَمضى إِلَيْهَا وَفتح الله على(2/271)
يَدَيْهِ وَقتل الْخَارِجِي الَّذِي كَانَ بهَا
وَقلت وَكَانَ أَخُو هَذَا الْخَارِجِي قد خرج بِالْيمن قبله ذكر عمَارَة اليمني فِي أول كِتَابه فِي وزراء مصر فِي أثْنَاء كَلَام لَهُ قَالَ وَكَانَ جمَاعَة من أماثل النَّاس مثل بَرَكَات بن المقرىء وَعلي بن مُحَمَّد النيلي والفقيه أبي الْحسن عَليّ بن مهْدي الْقَائِم الَّذِي قَامَ بِالْيمن وأزال دولة أهل زبيد وَغَيرهم قد سبقوني يَعْنِي إِلَى صَاحب عدن فَذكر كلَاما يتَعَلَّق بِهِ
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة الْمهْدي بن عَليّ بن مهْدي ملك الْيمن فِي زَمَاننَا هَذَا وَسَفك الدِّمَاء وسبى الْمُسلمين وَأَقْبل على شرب الْخمر وادّعى الْملك والإمامة ودعا إِلَى نَفسه وَكَانَ يحدث نَفسه بِالْمَسِيرِ إِلَى مَكَّة فَمَاتَ سنة سِتِّينَ وَتَوَلَّى بعده أَخُوهُ وَله شعر حسن يدل على عُلّو همته
قَالَ ابْن أبي طيّ كَانَ سَبَب خُرُوج شمس الدولة إِلَى الْيمن أَنه كَانَ كَرِيمًا جوادا وَكَانَ إقطاعه بِمصْر لايقوم بفتوته وَلَا ينْهض بمروّته وَكَانَ قد انتظم فِي سلكه عُمارة الشَّاعِر وَكَانَ من أهل الْيمن وَكَانَ ورد إِلَى مصر(2/272)
ومدح أَصْحَابهَا ونفق عَلَيْهِم فَلَمَّا زَالَت دولتهم انضوى إِلَى شمس الدولة ومدحه وَكَانَ إِذا خلا بِهِ يصف لَهُ بِلَاد الْيمن وَكَثْرَة أموالها وَخَيرهَا وَضعف من فِيهَا وَأَنَّهَا قريبَة المأخذ لمن طلبَهَا
قلت فَمن جملَة شعره فِي ذَلِك قَوْله فِي القصيدة الَّتِي أَولهَا
(الْعلم مذ كَانَ مُحْتَاج إِلَى الْعلم ... وشفرة السَّيْف تَسْتَغْنِي عَن الْقَلَم)
(كم يتْرك الْبيض فِي الأجفان ظامئة ... إِلَى الْمَوَارِد فِي الْأَعْنَاق والقمم)
(أمامك الْفَتْح من شام وَمن يمن ... فَلَا ترد رُؤُوس الْخَيل باللجم)
(فعمُّك الْملك الْمَنْصُور سوّمها ... من الْفُرَات إِلَى مصر بِلَا سأم)
(فاخلق لنَفسك ملكا لَا تُضَاف بِهِ ... إِلَى سواك وأوْرِ النَّار فِي الْعلم)
(هَذَا ابْن تومرت قد كَانَت بدايته ... كَمَا يَقُول الورى لَحْمًا على وَضم)
(وَقد ترامى إِلَى أَن أَمْسَكت يَده ... من الْكَوَاكِب بالأنفاس والكظم)
(حاسب ضميرك عَن رَأْي أَتَاك وَقل ... نصيحة وَردت من غير متهّم)
وَله من أُخْرَى
(أفاتح أَرض النِّيل وَهِي منيعة ... على كلّ راجٍ فتحهَا ومؤمل)
(مَتى توقد النَّار الَّتِي أَنْت قَادِح ... بغمدان مشبوبا سناها بمندل)
(وتفتح مَا بَين الْحصين وَأبين ... وَصَنْعَاء من حصنٍ حُصَيْن وَمَعْقِل)
(وتملك من مخلاف طرف وجعفر ... نقيضين من حَزْن خصيب ومُسهل)(2/273)
(وتخلق ملكا لاتُحيل بفخره ... على أحد إِلَّا على عزمك الْعلي)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(قَالُوا إِلَى الْيمن الميمون رحلته ... فَقلت مَا دونه شَيْء سوى السّفر)
(سيْرٌ يَسُرُّ بني الدُّنْيَا وَطيب ثَنَا ... وَطول عمر كَذَا يحْكى عَن الْخضر)
(لَا توقدن لَهَا النَّار الَّتِي خمدت ... خفض عَلَيْك تنَلْ مَا شِئْت بالشرر)
(المَال ملىء يَد وَالْقَوْم ملك يَد ... وَلَا أطيل وَهَذَا جملَة الْخَبَر)
قَالَ ابْن أبي طيّ وَوَافَقَ ذَلِك أَنه كَاتبه رجل من أهل الْيمن شرِيف يُقَال لَهُ هَاشم بن غَانِم وأطمعه فِي المعاونة لِأَن صَاحب الْيمن عبد النَّبِي كَانَ قد تعدى على هَذَا الشريف هَاشم فَأعْلم شمس الدولة أَصْحَابه بعزمه على الْيمن فَأَجَابُوهُ وتجهز ثمَّ دخل على أَخِيه السُّلْطَان واستأذنه فِي دُخُول الْيمن فَأذن لَهُ وَأطلق لَهُ مُغَلّ قوص سنة وزوده فَوق مَا كَانَ فِي نَفسه وأصحبه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَمِقْدَار ألف فَارس خَارِجا عمّن سيره من حلقته وَسَار فِي الْبر وَالْبَحْر فِي الْبر العساكر وَفِي الْبَحْر الأسطول يحمل الأزواد وَالْعدَد والآلات فوصل إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى فَدَخلَهَا زَائِرًا ثمَّ خرج مُتَوَجها مِنْهَا إِلَى الْيمن فوصل زبيد فِي أَوَائِل شَوَّال فَنزل عَلَيْهَا ولقيه الشريف هَاشم بن غَانِم الحسني وَجَمِيع الْأَشْرَاف بَنو سُلَيْمَان فِي جمع جم وَعدد كثير فهجم زبيد وتسلمها واحتوى على مَا فِيهَا وَقبض على صَاحب الْيمن عبد النبيّ أخي عَليّ بن مهْدي
ثمَّ رَحل إِلَى عدن وَفِي صحبته ابْن مهْدي فَفَتحهَا عنْوَة وولاها(2/274)
عز الدّين بن الزنجيلي ثمَّ سَار إِلَى المخلاف وتسَّلم الْحُصُون الَّتِي كَانَت فِي يَد ابْن مهْدي كتعز وَغَيرهمَا وَسَار إِلَى صنعاء بعد فتح مَدِينَة الْجند وَغَيرهَا فأحرقت صنعاء فذخلها شمس الدولة فَلم يجد بهَا إِلَّا شَيخا وَامْرَأَة عجوزا فَأَقَامَ بهَا ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ لم يسْتَطع الْمقَام لقلَّة الْميرَة فَرجع إِلَى زبيد فَوجدَ ابْن منقذ قد قتل عبد النَّبِي ابْن مهْدي وَكَانَ شمس الدولة قد استناب بزبيد الْأَمِير سيف الدولة الْمُبَارك بن منقذ وَأمره بِحمْلِهِ فَلَمَّا بُعد شمس الدولة خَافَ ابْن منقذ من فَسَاد أمره فَرَأى الْمصلحَة فِي قَتله فَقتله ابْن منقذ بزبيد فَلَمَّا بلغ شمس الدولة قَتله استصوبه
وَلما حصل شمس الدولة فِي زبيد أنفذ إِلَيْهِ صَاحب طمار وَصَالَحَهُ هُوَ وَبَاقِي الْمُلُوك على أَدَاء المَال ثمَّ تتبع تِلْكَ الْحُصُون والقلاع فاحتوى عَلَيْهَا جَمِيعهَا وَكتب بذلك إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر فَأرْسل إِلَى نور الدّين يُخبرهُ بِمَا أَفَاضَ الله عَلَيْهِ من الْإِحْسَان وخوّله من ملك الْبلدَانِ فَأرْسل نور الدّين مهذب الدّين أَبَا الْحسن عليّ بن عِيسَى النقاش بالبشارة بذلك إِلَى بَغْدَاد
فصل
ذكر الْعِمَاد هَهُنَا الْأَمِير مجد الدّين سيف الدولة الْمُبَارك بن كَامِل بن منقذ المستناب بزبيد وَوَصفه بِأَنَّهُ من الكفاة الكرماء والدّهاة ذوى الآراء وَهُوَ فَاضل من أهل بَيت فضل كتب إِلَى الْعِمَاد من شعره(2/275)
(لما نزلت الدّير قلت لصاحبي ... قُم فاخطب الصَّهْبَاء من شماسه)
(فَأتى وَفِي يمناه كأس خلتها ... مقبوسةً فِي اللَّيْل من نبراسه)
(وَكَأن مَا فِي كأسه من خَدّه ... وَكَأن مَا فِي خَدّه من كاسه)
(وَكَأن لَذَّة طعمها من رِيقه ... وأريجها الفيّاح من أنفاسه)
(لم أنس لَيْلَة شربهَا بفنائه ... إِذْ بَات يجلوها على جُلاّسه)
(إِذْ قَامَ يسقينا المدام وَكلما ... عاتبته ردَّ الْجَواب براسه)
قلت ومدحه أَبُو الْحسن بن الذروي الْمصْرِيّ بقصيدة غراء ذالية مَا أَظن أَنه نظم على قافية الذَّال أرق مِنْهَا لفظا وأروق معنى أوّلها
(لَك الْخَيْر عرّج بِي على ربعهم فذى ... ربوع يفوح الْمسك من عرفهَا الشذى)
يَقُول فِيهَا
(مَبَارِكُ عِيسِ الْوَفْد بابُ مباركٍ ... وَهل منقذ القُصاد غيرُ ابْن منقذ)
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ سير نور الدّين إِلَى بَغْدَاد بِشَارَة بأمرين أَحدهمَا فتح الْيمن وَالْآخر كسر الرّوم مرّة ثَانِيَة ومقدمهم الدوقس كلمان وَكَانَ قَدِيما أَسِيرًا عِنْد نور الدّين من نوبَة حارم وفداه بِخَمْسَة وَخمسين ألف دِينَار وَخمْس مئة وَخمسين ثوبا أطلسا وسيّر مَعَه أسرى من الرّوم وَذَلِكَ فِي(2/276)
شعْبَان هَذِه السّنة
وَمِمَّا تضمنه كتاب الْبشَارَة وَلم ينج من عشرَة آلَاف غير عشرَة حمر مستنفرة فرت من قسورة
وقبِل ذَلِك بشهرين سيّرت قصيدة للعماد فِي جُمَادَى الْآخِرَة على لِسَان نور الدّين إِلَى بَغْدَاد أوّلها
(أطَاع دمعي وصبري فِي الغرام عَصَي ... وَالْقلب جرّع من كأس الْهوى غصصا)
(وَإِن صفو حَياتِي مَا يكدره ... إِلَّا اشتياقي إِلَى أحبابي الخلصا)
(مَا أطيب الْعَيْش بالأحباب لَو وصلوا ... وأسعد الْقلب من بلواه لَو خلصا)
وَمِنْهَا
(من ذَا الَّذِي سَار سيري فِي ولائكم ... غَدَاة قَالَ العدى لاسير عِنْد عَصا)
(قد نَالَ عَبدك محمودٌ بهَا ظفرا ... مَا زَالَ يرقبهُ من قبل مرتبصا)
(مِنْ خوف سطوته أَن العدوّ إِذا ... أم الثغور على أعقابه نكصا)
قَالَ الْعِمَاد وكلّف نور الدّين فِي هَذِه السّنة بإفادة الألطاف وَالزِّيَادَة فِي الْأَوْقَاف وتكثير الصَّدقَات وتوفير النَّفَقَات وَكِسْوَة النسْوَة الْأَيَامَى فِي أَيَّامهَا وإغناء فُقَرَاء الرّعية وإنجادها بعد أعدامها وصون الْأَيْتَام والأرامل(2/277)
ببذله وعوْن الضُّعَفَاء وتقوية المقوين بعدله
ثمَّ ذكر مَا قدمنَا ذكره فِي أول الْكتاب من مَنَاقِب نور الدّين وأفعاله الْكَرِيمَة
قَالَ الْعِمَاد وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع شهر رَمَضَان ركب نور الدّين على الْعَادة وَجَلَسْنَا نَحن فِي ديوانه حافلين فِي إيوانه لبسط عدله وإحسانه وتنفيذ أوَامِر سُلْطَانه فَجَاءَنِي من أَخْبرنِي أَن نور الدّين نزل إِلَى الْمدرسَة الَّتِي تتولاها وَبسط سجادته فِي قبلتها لسُنة الضُّحَى وصلاّها فَقُمْت من الْحَال ومضيت على الاستعجال فَلَقِيته فِي الدهليز خَارِجا فِي أجر الْعِبَادَة ناجحا ولنهج السَّعَادَة ناهجا فَلَمَّا رَآنِي توقف ولقولي تشوف فَقلت لَهُ إِن الْموضع قد تشرف أما ترى أَنه من أَيَّام الزلزلة قد تشعث فَلَمَّا رأى حَاله تلبث وَقَالَ نعيده إِلَى الْعِمَارَة ونكسوه حلل النضارة ثمَّ حملت لَهُ وُجُوه سكر وشيئا من ثِيَاب وَطيب وَعَنْبَر وكتبت مَعهَا هَذِه الأبيات
(عِنْد سُلَيْمَان على قدره ... هَدِيَّة النملة مقبوله)
(ويصغر الْمَمْلُوك عَن نملة ... عنْدك وَالرَّحْمَة مأموله)
(رقِّي لمولانا وملكي لَهُ ... وذمتي بالشكر مشغوله)(2/278)
(وَكَيف يقْضِي الْحق ذُو منَّة ... ضَعِيفَة بِالْعَجزِ مغلوله)
(وَإِنَّمَا شِيمَة مولى الورى ... طَاهِرَة بِالْخَيرِ مجبولة)
قَالَ وَكَانَ رَأْي قبْلَة الْمدرسَة غير مُفصصة وبالترخيم والتذهيب والتهذيب غير مخصصة فنفذ لي لعمارتها فصوصا مذهبَة وذهبا ثمَّ حم مَقْدُور حمامه وعاق الْقدر عَن إِتْمَامه وَدفعت إِلَى الْموصل فرأيته فِي الْمَنَام وَهُوَ يجاريني فِي الْكَلَام وَيَقُول مَا يعود إِلَى الْمدرسَة مَعْنَاهُ وَقَالَ الصَّلَاة الصَّلَاة فَعرفت أَنه أَشَارَ إِلَى الْمِحْرَاب وَأَنه الْآن على هَيْئَة الخراب فَكتبت إِلَى الْفَقِيه الَّذِي كَانَ عِنْده الذَّهَب أَن يشرع فِي عِمَارَته وَدخلت دمشق يَوْم فرَاغ الصَّانِع مِنْهُ
فصل
قَالَ ابْن أبي طيّ وَفِي هَذِه السّنة وصل رَسُول نور الدّين الْمُوفق بن القيسراني إِلَى الديار المصرية وأجتمع بالسلطان الْملك النَّاصِر وأنهى إِلَيْهِ رِسَالَة نور الدّين وطالبه بِحِسَاب جَمِيع مَا حصله وارتفع إِلَيْهِ من ارْتِفَاع الْبِلَاد فصعب ذَلِك على السُّلْطَان وَأَرَادَ شقّ الْعَصَا لَوْلَا مَا ثاب إِلَيْهِ من السكينَة ثمَّ أَمر النواب بِعَمَل الْحساب وَعرضه على ابْن القيسراني وَأرَاهُ جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم وكميات جامكياتهم ورواتب نفقاتهم(2/279)
فَلَمَّا حصل عِنْده جَمِيع ذَلِك أرسل مَعَه هَدِيَّة إِلَى نور الدّين على يَد الْفَقِيه عِيسَى
قَالَ ووقفت على برنامج شرحها بِخَط الْمُوفق بن القيسراني وَهِي خمس ختمات إِحْدَاهمَا ختمة ثَلَاثُونَ جُزْءا مغشاة بأطلس أَزرق مضببة بصفائح ذهب وَعَلَيْهَا أقفال ذهب مَكْتُوبَة بِذَهَب بِخَط يانس وختمة بِخَط رَاشد مغشاة بديباج فُسْتُقى عشرَة أَجزَاء وختمة بِخَط ابْن البواب مُجَلد وَاحِد بقفل ذهب وختمة بِخَط مهلهل جُزْء وَاحِد وختمة بِخَط الْحَاكِم الْبَغْدَادِيّ ثَلَاثَة أَحْجَار بلخش حجر وَزنه اثْنَان وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وَحجر وَزنه اثْنَا عشر مِثْقَالا وَحجر وَزنه عشرَة مَثَاقِيل وَنصف سِتّ قصبات زمرد قَصَبَة وَزنهَا ثَلَاثَة عشر مِثْقَالا وَثلث وَربع وقصبة وَزنهَا ثَلَاثَة مَثَاقِيل وقصبة وَزنهَا مثقالان وَنصف وقصبة وَزنهَا مثقالان وَربع وَسدس وقصبة وَزنهَا مثقالان وَثلث وَحجر ياقوت وَزنه سَبْعَة مَثَاقِيل وَحجر أَزْرَق وَزنه سِتَّة مَثَاقِيل وَسدس مئة عقد جَوْهَر مختومة وَزنهَا جَمِيعهَا ثَمَانِي مئة وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ مِثْقَالا خَمْسُونَ قَارُورَة دهن بِلِسَان عشرُون قِطْعَة بلور أَرْبَعَة عشر قِطْعَة جزع وَذكر تفصيلها إبريق يشم طشت يشم سقرق(2/280)
مينا مَذْهَب صحون صيني وزبادي وسكارج أَرْبَعُونَ قِطْعَة عود طيب قطعتان كبار كرتان وزن إِحْدَاهمَا ثَلَاثُونَ رطلا بالمصري وَالْأُخْرَى أحد وَعِشْرُونَ رطلا مئة ثوب أطلس أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بقيارا مذهبَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ثوبا حريري أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ثوبا من الوشي حريرية بيض حلَّة فلفلي مذهبَة حلَّة مرايش صفراء مذهبَة وَذكر غير ذَلِك أنواعا من القماش قيمتهَا مئتان وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار مصرية وعدّة من الْخَيل والغلمان والجواري وشيئاً كثيرا من السِّلَاح على اخْتِلَاف ضروبه
قَالَ وَخَرجُوا بِهَذِهِ الْهَدِيَّة فَلم تصل إِلَى نور الدّين لأَنهم أتصل بهم وَفَاته فَمِنْهَا مَا أُعِيد وَمِنْهَا مَا اسْتهْلك لِأَن الْفَقِيه عِيسَى وَابْن القيسراني وضعا عَلَيْهَا من نهبها واستَّبَدا بأكثرها وَقيل إِنَّهَا وصلت جَمِيعهَا إِلَى السُّلْطَان لِأَنَّهُ اتَّصل بِهِ خبر موت نور الدّين فأنفذ من ردّها
قَالَ وحَدثني من شَاهد هَذِه الْهَدِيَّة أَنه كَانَ مَعهَا عشرَة صناديق مَالا لم يعلم مِقْدَاره
وَقَالَ الْعِمَاد وَلما وصل إِلَى صَلَاح الدّين رَسُول نور الدّين وَهُوَ الْمُوفق خَالِد أطلعه على كل مَا هُوَ فِيهِ وأحصى لَهُ الطريف والتالد وَقَالَ هَؤُلَاءِ الأجناد فاعرضهم وَأثبت أخبازهم وَمَا يضْبط مثل هَذَا(2/281)
الإقليم إِلَّا بِالْمَالِ الْعَظِيم ثمَّ أَنْت تعرف أكَابِر الدولة وعظماءها وَأَنَّهُمْ اعتادوا على السعَة والدعة نعماءها وَقد تصرفوا فِي مَوَاضِع لَا يُمكن انتزاعها وَلَا يسمحون بِأَن ينقص ارتفاعها فالموارد مشفوهة والشدائد مَكْرُوهَة والمقاصد بردعها مجبوهة والهمم بهَا مشدوهة وَشرع فِي جمع مَال يسيره ويحمله بِجهْد يبذله وبخطر يحْتَملهُ وَحصل لخَالِد مِنْهُ مَا لم يكن فِي خلده وَجَاء مطرف غناهُ أَضْعَاف متلده
فصل فِي صلب عمَارَة اليمني الشَّاعِر وَأَصْحَابه
قَالَ الْعِمَاد وَاجْتمعَ جمَاعَة من دعاة الدولة المصرية المتعصبة المتشددة المتصلبة وتوازروا وتزاوروا فِيمَا بَينهم خيفة وخفية واعتقدوا أُمْنِية عَادَتْ بالعقبى عَلَيْهِم منية وعينوا الْخَلِيفَة والوزير وأحكموا الرَّأْي وَالتَّدْبِير وبيّتوا أَمرهم بلَيْل وستروا عَلَيْهِ بذيل وَكَانَ عمَارَة اليمني الشَّاعِر عقيدهم ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم
وَكَانُوا قد أودعوا سرّهم عِنْد من أذاعه واستحفظوا من أضاعه وأدخلوا عدّة من أنصار الدولة الناصرية فِي جُمْلَتهمْ وعرفوهم بجهلتهم
وَكَانَ الْفَقِيه الْوَاعِظ زين الدّين عَليّ بن نجا يُناجيهم فِيمَا زين لَهُم من سوء أَعْمَالهم ويداخلهم فِي عزم خُرُوجهمْ مطلعا على أَحْوَالهم وتقاسموا الدّور والأملاك وكادت آمالهم تَدْنُو من الْإِدْرَاك فجَاء زين الدّين(2/282)
الْوَاعِظ وأطلع صَلَاح الدّين على فسادهم وَمَا سولوه من مُرَاد مُرَادهم وَطلب مالابن كَامِل الدَّاعِي من الْعقار والدور وكلّ مَاله من الْمَوْجُود والمذخور فبدل لَهُ السُّلْطَان كل مَا طلبه وَأمره بمخالطتهم ورغبه
ثمَّ أَمر السُّلْطَان بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإِقَامَة السياسة فيهم وصلب يَوْم السبت ثَانِي شهر رَمَضَان جمَاعَة مِنْهُم بَين القصرين مِنْهُم عمَارَة وأفنى بعد ذَلِك من بَقِي مِنْهُم وَمَات بموتهم الْخَبَر عَنْهُم
وَكَانَ مِنْهُم دَاعِي الدعاة ابْن عبد الْقوي وَكَانَ عَارِفًا بخبايا الْقصر وكنوزه فباد وَلم يسمع بإبدائها وَبقيت تِلْكَ الخزائن مدفونة وَتلك الدفائن مخزونة قد دفن دافنها وخزن تَحت الثرى خازنها إِلَى أَن يَأْذَن الله فِي الْوُصُول إِلَيْهَا والاطلاع عَلَيْهَا وَجمع من أَمْوَال هَؤُلَاءِ مَا يحمل إِلَى الشَّام للاستعانة بِهِ على حماية ثغور الْإِسْلَام
قَالَ ابْن أبي طيّ وَفِي هَذِه السّنة اجْتمع جمَاعَة من دعاة المصريين والعوام وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم خُفْيَة وَبكوا على أنقراض دولة المصريين وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ من الذل والفقر ثمَّ أَجمعُوا آراءهم على أَن يقيموا خَليفَة ووزيرا ويجتمعوا هم وَجَمَاعَة عينوهم من الْأُمَرَاء وَغَيرهم وَأَن يكاتبوا الفرنج ويثبوا بِالْملكِ النَّاصِر وأدخلوا مَعَهم فِي هَذَا الْأَمر ابْن مصال وواعدوا جمَاعَة من شيعَة المصريين لَيْلَة عينوها وكاتبوا الفرنج بذلك وقرروا مَعَهم الْوُصُول إِلَيْهِم فِي ذَلِك الزَّمَان الْمُقَرّر فخانهم ابْن مصال(2/283)
فِيمَا عاهدهم عَلَيْهِ ونكث فِي الْيَمين وكفّر عَنْهَا وَصَارَ إِلَى الْملك النَّاصِر وعرفه بجلية مَا جرى
فأحضرهم وَاحِدًا وَاحِدًا وقررهم على هَذِه الْحَالة فأقروا واعترفوا وَاعْتَذَرُوا بكونهم قطعت أَرْزَاقهم وَأخذت أَمْوَالهم فأحضر السُّلْطَان الْعلمَاء واستفتاهم فِي أَمرهم فأفتوه بِقَتْلِهِم وصلبهم ونفيهم فَأمر بصلبهم
وَقيل إِن الَّذِي أذاع سرهم زين الدّين عَليّ الْوَاعِظ وَطلب جَمِيع مَا لِابْنِ الدَّاعِي من الْعقار وَالْمَال فَأعْطَاهُ جَمِيع ذَلِك
وَكَانَ الَّذين صلبوا مِنْهُم الْمفضل بن كَامِل القَاضِي وَابْن عبد الْقوي الدَّاعِي والعوريس وَكَانَ قد تولى النّظر ثمَّ الْقَضَاء بعد ذَلِك وشبرما كَاتب السِّرّ وَعبد الصَّمد القشة أحد أُمَرَاء المصريين ونجاح الحمامي وَرجل منجم نَصْرَانِيّ أرمني كَانَ قَالَ لَهُم إِن أَمرهم يتم بطرِيق علم النُّجُوم وعُمارة اليمني الشَّاعِر
قلت وَبَلغنِي أنّ عُمارة إِنَّمَا كَانَ تحريضه لشمس الدولة على الْمسير إِلَى الْيمن ليتم هَذَا الْأَمر لِأَن فِيهِ تقليلا لعسكر صَلَاح الدّين وإبعاداً لِأَخِيهِ وناصريه عَنهُ
قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة وَوَقعت أتفاقات عَجِيبَة من جُمْلَتهَا أَنه نسب إِلَيْهِ بَيت من قصيدة ذكرُوا أَنه لَهُ يَعْنِي فِي القصيدة الَّتِي حرض فِيهَا شمس الدولة على الْمسير إِلَى الْيمن أَولهَا(2/284)
(الْعلم مذ كَانَ مُحْتَاج إِلَى الْعلم ... )
وَقد تقدم ذكرهَا وَأما الْبَيْت فَهُوَ
(قد كَانَ أول هَذَا الدّين من رجل ... سعى إِلَى أَن دَعوه سيّد الْأُمَم)
قَالَ الْعِمَاد وَيجوز أَن يكون هَذَا الْبَيْت مَعْمُولا عَلَيْهِ فَأفْتى فُقَهَاء مصر بقتْله وحرضوا السُّلْطَان على الْمثلَة بِمثلِهِ
قَالَ ولعمارة فِي مصلوب بِمصْر يُقَال لَهُ طرخان وَكَانَ خرج على الصَّالح بن زريك فظفر بِهِ الصَّالح وصلبه وَكَانَ يستحسن أَبْيَات عُمارة فِيهِ وَهِي
(أَرَادَ عُلو مرتبَة وَقدر ... فَأصْبح فَوق جذع وَهُوَ عالي)
(ومُد على صَلِيب الْجذع مِنْهُ ... يَمِين لاتطول على الشمَال)
(ونكس رَأسه لعتاب قلب ... دَعَاهُ إِلَى الغواية والضلال)
قَالَ الْعِمَاد فَكَأَنَّهُ وصف حَاله وَمَا آل إِلَيْهِ أمره
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَوصل من صَلَاح الدّين يَوْم وَفَاة نور الدّين إِلَى دمشق كتاب يتَضَمَّن هَذِه الْقَضِيَّة وَهُوَ بِخَط ابْن قُرَيْش يَعْنِي المرتضى(2/285)
وَقَالَ ابْن أبي طيّ وَقد كتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى نور الدّين كتابا شرح فِيهِ قَضِيَّة المصلَّبين فَقَالَ بعد مطلع الْكتاب قصر هَذِه الْخدمَة على متجددٍ سَار لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَبشَارَة مؤذنة بِظُهُور وعد الله فِي إِظْهَاره على الدّين كُله بعد أَن كَانَت لَهَا مُقَدمَات عَظِيمَة إِلَّا أَنَّهَا أسفرت عَن النُّجح وأوائل كالليلة الْبَهِيمَة إِلَّا أَنَّهَا انفرجت عَن الصُّبْح فالإسلام ببركاته الْبَادِيَة وفتكاته الْمَاضِيَة قد عَاد مستوطنا بعد أَن كَانَ غَرِيبا وَضرب فِي الْبِلَاد بجرانه بعد أَن كَاد الْكفْر يتم عَلَيْهِ تخيلا عجيبا إِلَّا أنّ الله سُبْحَانَهُ أطلع على أمرهَا من أَوله وَأظْهر على سرها من مستقبله والمملوك يَأْخُذ فِي ذكر الْخَبَر ويعرض عَن ذكر الْأَثر
لم يزل يتُوسم من جند مصر وَمن أهل الْقصر بَعْدَمَا أَزَال الله من بدعتهم وَنقض من عُرى دولتهم وخفض من مَرْفُوع كلمتهم أَنهم أَعدَاء وَإِن قعدت بهم الْأَيَّام وأضداد وَإِن وَقعت عَلَيْهِم كلمة الْإِسْلَام وَكَانَ لَا يحتقر مِنْهُم حَقِيرًا وَلَا يستبعد مِنْهُم شرا كَبِيرا وعيونه لمقاصدهم موكلة وخطراته فِي التَّحَرُّز مِنْهُم مستعملة لاتخلو سنة تمر وَلَا شهر يكرّ من مكر يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ وَفَسَاد يتسرعون إِلَيْهِ وحيلة يبرمونها ومكيدة يتممونها وَكَانَ أَكثر مَا يتعللون بِهِ ويستريحون إِلَيْهِ المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إِلَى الفرنج خذلهم الله تَعَالَى(2/286)
الَّتِي يُوسعُونَ لَهُم فِيهَا سبل المطامع ويحملونهم فِيهَا على العظائم الفظائع ويزينون لَهُم الْإِقْدَام والقدوم ويخلعون فِيهَا ربقة الْإِسْلَام خلع الْمُرْتَد المخصوم وَيَد الفرنج بِحَمْد الله قَصِيرَة عَن إجابتهم إِلَّا أَنهم لَا يقطعون حَبل طمعهم على عَادَتهم وَكَانَ ملك كلما سوّلت لَهُ نَفسه الاستتار فِي مراسلتهم والتحيل فِي مفاوضتهم سير جرج كَاتبه رَسُولا إِلَيْنَا ظَاهرا وإليهم بَاطِنا عارضا علينا الْجَمِيل الَّذِي مَا قبلته قطّ أَنْفُسنَا وعاقداً مَعَهم الْقَبِيح الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهِ فِي وقته علمنَا وَلأَهل الْقصر والمصريين فِي أثْنَاء هَذِه المدد رسل تَتَرَدَّد وَكتب إِلَى الفرنج تتجدد
ثمَّ قَالَ وَالْمولى عَالم أَن عَادَة أوليائه المستفادة من أدبه أَلا يبسطوا عقَابا مؤلما وَلَا يعذبوا عذَابا محكما وَإِذا طَال لَهُم الاعتقال وَلم ينجع السُّؤَال أطلق أطلق سراحهم وخلى سبيلهم فَلَا يزيدهم الْعَفو إِلَّا ضراوة وَلَا الرقة عَلَيْهِم إِلَّا قساوة وَعند وُصُول جرج فِي هَذِه الدفعة الْأَخِيرَة رَسُولا إِلَيْنَا بِزَعْمِهِ ورد إِلَيْنَا كتاب مِمَّن لَا نرتاب بِهِ من قومه يذكرُونَ أَن رَسُول مخاتلة لَا رَسُول مجاملة وحامل بلية لَا حَامِل هَدِيَّة فأوهمناه الإغفال عَن التيقظ لكل مَا يصدر مِنْهُ وَإِلَيْهِ فتوصل مرّة بِالْخرُوجِ لَيْلًا وَمرَّة بالركوب إِلَى الْكَنِيسَة وَغَيرهَا نَهَارا إِلَى الِاجْتِمَاع بحاشية الْقصر وخدامه وبأمراء المصريين وأسبابهم وَجَمَاعَة من النَّصَارَى وَالْيَهُود وكلابهم وكتابهم فدسسنا إِلَيْهِم من طائفتهم من داخلهم فَصَارَ ينْقل إِلَيْنَا أخبارهم وَيرْفَع إِلَيْنَا أَحْوَالهم وَلما تكاثرت الْأَقْوَال وَكَاد يشْتَهر علمنَا بِهَذِهِ الْأَحْوَال استخرنا الله تَعَالَى وقبضنا على جمَاعَة مفْسدَة وَطَائِفَة من هَذَا(2/287)
الْجِنْس متمردة قد اشْتَمَلت على الاعتقادات المارقة والسرائر المنافقة فكلاًّ أَخذ الله بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أقرّ طَائِعا عِنْد إِحْضَاره وَمِنْهُم من أقرّ بعد ضربه فَانْكَشَفَتْ أُمُور أخر كَانَت مكتومة ونوب غير الَّتِي كَانَت عندنَا مَعْلُومَة وتقريرات مُخْتَلفَة فِي المُرَاد متفقة فِي الْفساد
ثمَّ ذكر تَفْصِيلًا حَاصله أَنهم عينوا خَليفَة ووزيرا مُخْتَلفين فِي ذَلِك فَمنهمْ من طلب إِقَامَة رجل كَبِير السن من بني عَم العاضد وَمِنْهُم من جعل ذَلِك لبَعض أَوْلَاد العاضد وَإِن كَانَ صَغِيرا وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي تعْيين وَاحِد من وَلدين لَهُ وَأما بَنو رزيك وَأهل شاور فَكل مِنْهُم أَرَادَ الوزارة لبيتهم من غير أَن يكون لَهُم غَرَض فِي تعْيين الْخَلِيفَة
ثمَّ قَالَ وَكَانُوا فِيمَا تقدم والمملوك على الكرك والشوبك بالعسكر قد كاتبوهم وَقَالُوا لَهُم إِنَّه بعيد والفرصة قد أمكنت فَإِذا وصل الْملك الفرنجي إِلَى صدر أَو إِلَى أَيْلَة ثارت حَاشِيَة الْقصر وكافة الْجند وَطَائِفَة السودَان وجموع الأرمن وَعَامة الاسماعيلية وفتكت بأهلنا وأصحابنا بِالْقَاهِرَةِ
ثمَّ قَالَ وَلما وصل جرج كتبُوا إِلَى الْملك الفرنجي أَن العساكر متباعدة فِي نواحي إقطاعاتهم وعَلى قرب من موسم غلاتهم وَأَنه لم يبْق فِي الْقَاهِرَة إِلَّا بَعضهم وَإِذا بعثت أسطولا إِلَى بعض الثغور أنهض فلَان من عِنْده وَبَقِي فِي الْبَلَد وَحده فَفَعَلْنَا مَا تقدم ذكره من الثورة
ثمَّ قَالَ وَفِي اثناء هَذِه الْمدَّة كاتبوا سِنَانًا صَاحب الحشيشية بِأَن(2/288)
الدعْوَة وَاحِدَة والكلمة جَامِعَة وَأَن مَا بَين أَهلهَا خلاف إِلَّا فِيمَا لَا يفْتَرق بِهِ كلمة وَلَا يجب بِهِ قعُود عَن نصْرَة واستدعوا مِنْهُ يُتمم على الْمَمْلُوك غيلَة أَو يبيت لَهُ مكيدة وحيلة {وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ} وَكَانَ الرَّسُول إِلَيْهِم عَن المصريين خَال ابْن قرجلة الْمُقِيم الْآن هُوَ وَابْن أُخْته عِنْد الفرنج
وَلما صَحَّ الْخَبَر وَكَانَ حكم الله أولى مَا أَخذ بِهِ وأدب الله أمضى فِيمَن خرج عَن أدبه وتناصرت من أهل الْعلم الْفَتَاوَى وتوالت من أهل المشورة بِسَبَب تَأْخِير الْقَتْل فيهم المراجعات والشكاوى قتل الله بِسيف الشَّرْع المطهر جمَاعَة من الغواة الغلاة الدعاة إِلَى النَّار الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الْفجار وشنقوا على أَبْوَاب قصورهم وصلبوا على الْجُذُوع المواجهة لدورهم وَوَقع التتبع لأتباعهم وشردت طَائِفَة الاسماعيلية وَنَفَوْا ونودى بِأَن يرحل كَافَّة الأجناد وحاشية الْقصر وراجل السودَان إِلَى أقْصَى بِلَاد الصَّعِيد فَأَما من فِي الْقصر فقد وَقعت الحوطة عَلَيْهِم إِلَى أَن ينْكَشف وَجه رَأْي يمْضِي فيهم وَلَا رَأْي فَوق رَأْي الْمولى وَالله سُبْحَانَهُ مستخار وَهُوَ مستشار وَعِنْده من أهل الْعلم من تطيب النَّفس بتقليده وتمضي الْحُدُود بتحديده وَرَأى الْمَمْلُوك إخراجهم من الْقصر فَإِنَّهُم مهما بقوا فِيهِ بقيت مَادَّة لَا تنحسم الأطماع عَنْهَا فَإِنَّهُ قبْلَة(2/289)
للضلال مَنْصُوبَة وبيعة للبدع محجوجة
قَالَ الْمُؤلف لَعَلَّهَا محجوجة
وَمِمَّا يطرف بِهِ الْمولى أَن ثغر الْإسْكَنْدَريَّة على عُمُوم مَذْهَب السّنة فِيهِ أطلع الْبَحْث أَن فِيهِ دَاعِيَة خبيثا أمره محتقرا شخصه عَظِيما كفره يُسمى قديد القفاص وَأَن الْمَذْكُور مَعَ خموله فِي الديار المصرية قد فَشَتْ فِي الشَّام دَعوته وطبقت عقول أهل مصر فتنته وَأَن أَرْبَاب المعايش فِيهِ يحملون إِلَيْهِ جُزْءا من كسبهم والنسوان يبْعَثْنَ إِلَيْهِ شطرا وافيا من أموالهن وَوجدت فِي منزله بالإسكندرية عِنْد الْقَبْض لَهُ والهجم عَلَيْهِ كتب مُجَرّدَة فِيهَا خلع العذار وصريح الْكفْر الَّذِي مَا عَنهُ اعتذار ورقاع يُخَاطب بهَا فِيهَا مَا تقشعر مِنْهُ الْجُلُود وَكَانَ يدعى النّسَب إِلَى أهل الْقصر وَأَنه خرج مِنْهُ طفْلا صَغِيرا وَنَشَأ على الضَّلَالَة كَبِيرا وَبِالْجُمْلَةِ فقد كفى الْإِسْلَام أمره وحاق بِهِ مكره وصرعه كفره
قلت وَفِي قَضِيَّة عُمارة هَذِه يَقُول العلاّمة تَاج الدّين الْكِنْدِيّ رَحمَه الله تَعَالَى ونقلته من خطه
(عُمارة فِي الْإِسْلَام أبدى جِنَايَة ... وَبَايع فِيهَا بيعَة وصليبا)
(وَأمسى شريك الشّرك فِي بُغض أَحْمد ... فَأصْبح فِي حب الصَّلِيب صليبا)(2/290)
(وَكَانَ خَبِيث الْمُلْتَقى إِن عجمته ... تَجِد مِنْهُ عودا فِي النِّفَاق صليبا)
(سيلقى غَدا مَا كَانَ يسْعَى لأَجله ... ويسقى صديدا فِي لظى وصليبا)
قلت الصَّلِيب الأول صَلِيب النَّصَارَى وَالثَّانِي بِمَعْنى مصلوب وَالثَّالِث من الصلابة وَالرَّابِع ودك الْعِظَام وَقيل هُوَ الصديد أَي يسقى مَا يسيل من أهل النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا
وَكَانَ عُمارة مستشعراً من الغز وهم أَيْضا مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ من أَتبَاع الدولة المصرية وَمِمَّنْ انْتفع بهَا واختل أمره بعْدهَا فَلم تصف الْقُلُوب بَعْضهَا لبَعض وَصَارَ يظْهر فِي فلتات لِسَانه فِي نظمه ونثره مَا يَقْتَضِي التَّحَرُّز مِنْهُ وإبعاده وَهُوَ يرى ذَلِك مِنْهُم فَيَزْدَاد فَسَادًا فِي نِيَّته وَإِن مدحهم تكلّف ذَلِك وصرّح وعرّض فِيهِ بِمَا فِي ضَمِيره
وَقد قَالَ فِي كتاب الوزراء المصرية ذكر الله أيامهم بِحَمْد لَا يكل نشاطه وَلَا يطوى بساطه فقد وجدت فقدهم وهنت بعدهمْ
وَقَالَ من قصيدة مدح بهَا نجم الدّين أَيُّوب
(وَكَانَ لي فِي مُلُوك النّيل قبلكمُ ... مكانة عرفتها الْعَرَب والعجم)
(وَكَانَ بيني وَبَين الْقَوْم ملحمة ... فِي حربها ألسن الْأَدْيَان تختصم)
(وَمَا تزَال إِلَى دَاري عوارفهم ... يسْعَى إلىّ بهَا الإنعام وَالْكَرم)
(تركت قصدك لماّ قيل إِنَّك لَا ... تجود إِلَّا على من مَسّه الْعَدَم)
(وَلست بِالرجلِ الْمَجْهُول مَوْضِعه ... وَلَا لنزر من الْإِحْسَان أغتنم)
(وَلَا إِلَى صدقَات المَال أطلبها ... وَلَا عمى نَالَ أعضائي وَلَا صمم)
(وَإِنَّمَا أَنا ضيف للملوك ولى ... دون الضيوف لِسَان نَاطِق وفم)(2/291)
وَقَالَ من قصيدة مدح بهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
(قررت لي أَبنَاء رزيك رزقا كَانَ فِي عصرهم مسنيًّ مهنا)
(وَأَتَتْ بعدهمْ مُلُوك فسنوا ... فِي مَا كَانَ صالحُ الْقَوْم سنّا)
(ورعوني إِمَّا اقْتِدَاء بماض ... أَو لِمَعْنى فكلهم بِي يَعْنِي)
وَله من أُخْرَى
(فقد صَارَت الدُّنْيَا إِلَيْكُم بأسرها ... فَلَا تشبعوا مِنْهَا وَنحن جِيَاع)
(إِذا لم تزيدونا فكونوا كمن مضى ... فَفِي النَّاس أَخْبَار لَهُم وَسَمَاع)
(وَلَيْسَ على مر الْفِطَام إِقَامَة ... فَهَل فِي ضروع المكرمات رضَاع)
وَقَالَ فِي قصيدة مدح بهَا تقيّ الدّين
(هَل تأذنون لمن أَرَادَ عتابكم ... أم لَيْسَ فِي أعتابكم من مطمع)
(ضيعتّم من حق ضيفكم الَّذِي ... مَا زَالَ قبل الْيَوْم غير مضيع)
(وتغافل السُّلْطَان عنيّ حِين لم ... أكشف قناع مذلة وتضرّع)
(ورجوت نفعك بالشفاعة عِنْده ... فسمحت لي بشفاعة لم تَنْفَع)
(وَإِذا نطاق الرزق ضَاقَ مجاله ... أَمْسَى مجَال النُّطْق غير موسع)
وَقَالَ أَيْضا
(تيممت مصرا أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما فِي ظلّ عَيْش ممنع)
(وزرت مُلُوك النّيل أرتاد نيلهم ... فَأَحْمَد مرتادي وأخضب مربعي)
(وفزت بِأَلف من عَطِيَّة فائز ... مواهبه للصنع لَا للتصنع)
(وَكم طرقتني من يَد عاضدية ... سرت بَين يقظى من عُيُون وهجع)
(وجاد ابْن رزيك من الجاه والغنى ... بِمَا زَاد عَن مرمى رجائي ومطمعي)(2/292)
(وَأوحى إِلَى سَمْعِي ودائع شعره ... فحبرته منى بأكرم مُودع)
(وَلَيْسَت أيادي شاور بذميمة ... وَلَا عهدها عِنْدِي بِعَهْد مضيع)
(ملوكٌ رَعَوا لي حُرْمَة صارنبتها ... هشيما رعته النائبات وَمَا رعى)
(مذاهبهم فِي الْجُود مَذْهَب سنّة ... وَإِن خالفوني باعتقاد التَّشَيُّع)
(فَقل لصلاح الدّين وَالْعدْل شَأْنه ... من الْحَاكِم المصغى إلىّ فأدعى)
(أَقمت لكم ضيفاً ثَلَاثَة أشهر ... أَقُول لصدري كلما ضَاقَ وسع)
(وَكم فِي ضيوف الْبَاب مِمَّن لِسَانه ... إِذا قطعوه لايقوم بأصبعي)
(فيا راعي الْإِسْلَام كَيفَ تركتنا ... فريقي ضيَاع من عرايا وجوع)
(دعوناك من قرب وبعدٍ فَهَب لنا ... جوابك فالباري يُجيب إِذا دعى)
وَقَالَ أَيْضا
(أسفى على زمن الإِمَام العاضد ... أَسف الْعَقِيم على فِرَاق الْوَاحِد)
(جالست من وزرائه وصحبت من ... أمرائه أهل الثَّنَاء الخالد)
(لهفي على حجرات قصرك إِذْ خلت ... يَا ابْن النبيّ من ازدحام الْوَافِد)
(وعَلى انفرادك من عساكرك الَّذِي ... كَانُوا كأمواج الخضم الراكد)
(قلّدت مؤتمن الْخلَافَة أَمرهم ... فكبا وَقصر عَن صَلَاح الْفَاسِد)
(فَعَسَى اللَّيَالِي أَن ترد إِلَيْكُم ... مَا عودتكم من جميل عوائد)(2/293)
وَقَالَ أَيْضا
(قست رأفة الدُّنْيَا فَلَا الدَّهْر عاطف ... عليّ وَلَا عبد الرَّحِيم رَحِيم)
(عَفا الله عَن آرائه كل فَتْرَة ... كَلَام العدى فِيهَا عليّ كلوم)
(وسامحه فِي قطع رزق بفضله ... وصلت إِلَيْهِ وَالزَّمَان ذميم)
(أَلا هَل لَهُ عطف عَليّ فإنني ... فَقير إِلَى مَا اعْتدت مِنْهُ عديم)
عبد الرَّحِيم هُوَ القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله تَعَالَى
وَبَلغنِي أَن عمَارَة لما مروا بِهِ ليُصلب عبر بِهِ على جِهَة دَار الْفَاضِل فَطلب الِاجْتِمَاع بِهِ فَقيل لَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيق فَقَالَ
(عبد الرَّحِيم قد احتجب ... إِن الْخَلَاص هُوَ الْعجب)
وَقَالَ وَهَذِه القصيدة تحقق مَا رُمى بِهِ من الِاجْتِمَاع على مُكَاتبَة الفرنج والخوض فِي فَسَاد الدولة بل الْملَّة وتوضح عذر السُّلْطَان فِي قَتله وَقتل من شَاركهُ فِي ذَلِك
(رميت يَا دهر كف الْمجد بالشلل ... وجيده بعد حلى الْحسن بالعطل)
(سعيت فِي مَنْهَج الرَّأْي العثور فَإِن ... قدرت من عثرات الْبَغي فاستقل)
(جدعت مَا رنك الأقنى فأنفك لَا ... يَنْفَكّ مَا بَين نقص الشين والخجل)
(هدمت قَاعِدَة الْمَعْرُوف عَن عجل ... سُقيت مُهْلاً أما تمشى على مَهَل)
(لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتنا فِي أكْرم الدول)(2/294)
(قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم مَا أربي على الأمل)
(قوم عرفت بهم كسب الألوف وَمن ... كمالها أَنَّهَا جَاءَت وَلم أسل)
(وَكنت من وزراء الدّست حَيْثُ سما ... رَأس الحصان بهاديه على الكفل)
(ونلت من عُظَمَاء الْجَيْش تكرمة ... وخلّة حرست من عَارض الْخلَل)
(يَا عاذلي فِي هوى أَبنَاء فَاطِمَة ... لَك الْمَلَامَة إِن قصَّرت فِي عذلي)
(بِاللَّه زُر ساحة القصرين وابك معي ... عَلَيْهِمَا لَا على صفّين والجمل)
(وَقل لأهلهما وَالله مَا التحمت ... فِيكُم قروحي وَلَا جرحي بمندمل)
(مَاذَا ترى كَانَت الإفرنج فاعلة ... فِي نسل آل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ)
(هَل كَانَ فِي الْأَمر شَيْء غير قسْمَة مَا ... مُلِّكتم بَين حكم السبّي وَالنَّفْل)
(وَقد حصلتم عَلَيْهَا وَاسم جدكم ... مُحَمَّد وأبيكم غير منتقل)
(مَرَرْت بِالْقصرِ والأركان خَالِيَة ... من الْوُفُود وَكَانَت قبْلَة الْقبل)
(فملت عَنْهَا بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي وَوجه الودّ لم يمل)
(أسبلت من أَسف دمعي غَدَاة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل)
(أبْكِي على مأثراتٍ من مكارمكم ... حَال الزَّمَان عَلَيْهَا وَهِي لم تحل)
(دَار الضِّيَافَة كَانَت أنس وافدكم ... وَالْيَوْم أوحش من رسم وَمن طلل)
(وفطرة الصَّوْم إِن أصغت مكارمكم ... تَشْكُو من الدَّهْر حيفا غير مُحْتَمل)
(وَكِسْوَة النَّاس فِي الْفَصْلَيْنِ قد درست ... ورث مِنْهَا جَدِيد عَنْهُم وبلي)
(وموسم كَانَ فِي كسر الخليج لكم ... يَأْتِي تجمّلكم فِيهِ على الْجمل)
(وَأول الْعَام والعيدان كَانَ لكم ... فِيهِنَّ من وبل جود لَيْسَ بالوشل)
(وَالْأَرْض تهتز فِي عيد الغدير لما ... يَهْتَز مابين قصريكم من الأسل)(2/295)
(وَالْخَيْل تعرض من وشيٍ وَمن شية ... مثل العرائس فِي حلي وَفِي حلل)
(وَلَا حملتم قرى الأضياف من سَعَة الأطباق ... إِلَّا على الْأَعْنَاق والعجل)
(وَمَا خصصتم ببرٍ أهل ملتكم ... حَتَّى عممتم بِهِ الْأَقْصَى من الْملَل)
(كَانَت رواتبكم للذمتين وللضيف ... الْمُقِيم وللطاري من الرُّسُل)
(وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصّدر فِي علم وَفِي عمل)
(وَرُبمَا عَادَتْ الدُّنْيَا لمعقلها ... مِنْكُم وأضحت بكم محلولة الْعقل)
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن عبد الله بن كَامِل كَانَ دَاعِي الدعاة بِمصْر للأدعياء وقاضي الْقُضَاة لأولئك الأشقياء يلقبونه بفخر الْأُمَنَاء وَهُوَ عِنْدهم فِي الْمحلة العلياء والمرتبة الشماء والمنزلة فِي السَّمَاء حَتَّى انكدرت نجومهم وتغيرت رسومهم وأقيم قاعدهم وعضد عاضدهم وأخيلت مِنْهُم مصرهم وَأجلى عَنْهُم قصرهم فحرّك ابْن كَامِل نَاقص الذب عَنْهُم والشدّ مِنْهُم فمالأ قوما على الْبيعَة لبَعض أَوْلَاد العاضد ليبلغوا بِهِ مَا تخيلوه من الْمَقَاصِد وسوّلوه من المكايد فأثمرت بجثثهم الْجُذُوع وأقفرت من جسومهم الربوع وأحكمت فِي حُلُوقهمْ النسوع وَهَذَا أوّل من ضمه حَبل الصلب وَأمه فاقرة الصلب وَهَذَا صنع الله فِيمَن ألحد وَكفر النِّعْمَة وَجحد وَذَلِكَ غرَّة رَمَضَان سنة تسع(2/296)
وَسِتِّينَ وَخمْس مئة سَمِعت الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يذكرهُ وَقد ذَكرُوهُ عِنْده بِالْفَضْلِ وَالْأَدب ونسبوا إِلَيْهِ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي غُلَام رفاء وأنشدهما الْملك النَّاصِر وَذكر انه كَانَ ينكرهما
(يَا رافيا خرق كل ثوب ... وَيَا رشا حبه اعتقادي)
(عَسى بكف الْوِصَال ترفو ... مَا مزق الهجر من فُؤَادِي)
فصل فِي التَّعْرِيف بِحَال عمَارَة وَنسبه وشعره
قَالَ الْعِمَاد وَقد أوردت شعر عمَارَة بن أبي الْحسن اليمني فِي كتاب خريدة الْقصر وجريدة الْعَصْر ونقلت إِلَى هَذَا الْكتاب يَعْنِي كتاب الْبَرْق الشَّامي لمعاً من ذَلِك فَمن ذَلِك مَا أنشدنيه نجم الدّين أَبُو مُحَمَّد بن مصال(2/297)
(لَو أَن قلبِي يَوْم كاظمة معي ... لملكته وكظمت غيظ الأدمع)
قَالَ الْعِمَاد إِنَّمَا أَنْشدني فيض الأدمع فَرَأَيْت غيظ الأدمع أليق بالكظم
(قلب كَفاك من الصبابة أَنه ... لبّى نِدَاء الظاعنين وَمَا دعِي)
(وَمن الظنون الفاسدات توهميّ ... بعد الْيَقِين بَقَاءَهُ فِي أضلعي)
(مَا الْقلب أوّل غادر فألومه ... هِيَ شِيمَة الْأَيَّام مُذْ خلقت معي)
قَالَ وأنشدني لعمارة أَيْضا
(ملك إِذا قابلت بشر جَبينه ... فارقته والبشر فَوق جبيني)
(وَإِذا لثمت يَمِينه وَخرجت من ... أبوابه لثم الْمُلُوك يَمِيني)
قَالَ وأنشدني لَهُ عضد الدّين أَبُو الفوارس مرهف بن أُسَامَة منقذ
(لي فِي هوى الرشأ العذري أعذار ... لم يبْق لي مذ أقرّ الدمع إِنْكَار)
(لي فِي القدود وَفِي لثم الخدود وَفِي ... ضم النهود لبانات وأوطار)
(هَذَا اخْتِيَاري فَوَافَقَ إِن رضيت بِهِ أَولا فَدَعْنِي وَمَا أَهْوى وأختار)
(لمُنى جزَافا وسامحني مصارفة ... فَالنَّاس فِي دَرَجَات الْحبّ أطوار)(2/298)
(وخل عذلي فَفِي دَاري ودائرتي ... من المها دُرَّة قلبِي لَهَا دَار)
قلت ويُروى
(وغُرَّ غَيْرِي فَفِي أسرى ودائرتي ... )
والأبيات العينية من قصيدة فِي مدح تقيّ الدّين والنونية فِي مدح نجم الدّين أَيُّوب والرائية فِي مدح شمس الدولة بن أَيُّوب
وَكَانَ عمَارَة هَذَا عَرَبيا فَقِيها أديباً وَله كتاب صَغِير ذكر فِيهِ أخباره وأحواله بِالْيمن ثمَّ بِمصْر فَذكر أَنه أَقَامَ بزبيد ثَلَاث سِنِين يقْرَأ عَلَيْهِ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ ولى فِي الْفَرَائِض مُصَنف يقْرَأ بِالْيمن
وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ زارني وَالِدي وَخَمْسَة من إخوتي إِلَى زبيد فَأَنْشَدته شَيْئا من شعري فَاسْتَحْسَنَهُ ثمَّ قَالَ تعلَّم وَالله أَن الْأَدَب نعْمَة من نعم الله عَلَيْك فَلَا تكفرها بذم النَّاس واستخلفني أَلا أهجو مُسلما بِبَيْت(2/299)
شعر فَحَلَفت لَهُ على ذَلِك ولطف الله تَعَالَى بِي فَلم أهج أحدا مَا عدا إنْسَانا هجاني بِحَضْرَة الْملك الصَّالح يَعْنِي ابْن رزيك ببيتي شعر فأقسم الصَّالح عليّ أَن أجيببه فَفعلت متأولا قَول الله عز وَجل {وَلَمَن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبيِل} وَقَوله تَعَالَى {فَمَن اعتَدى عَلَيْكُم فاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثِل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} قَالَ وَلم يكن شَيْء غير هَذَا
وَحَجَجْت مَعَ الملكة أم فاتك ملك زبيد وَكَانَت تقوم لأمير الْحَرَمَيْنِ بِجَمِيعِ مَا يتَنَاوَلهُ من حاجّ الْيمن برا وبحرا وبجميع خفارات الطَّرِيق فَذكر أَنه حصل لَهُ وجاهة عندنَا فَانْتَفع بهَا حَتَّى أثرى وَكثر مَاله وجاهه ثمَّ طرأت أمورٌ اقْتَضَت أَن هرب من الْيمن وَحج سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
قَالَ وَفِي موسم هَذِه السّنة مَاتَ أَمِير الْحَرَمَيْنِ هَاشم بن فليتة وَولى الْحَرَمَيْنِ وَلَده قَاسم بن هَاشم فألزمني السّفارة عَنهُ والرسالة مِنْهُ إِلَى الدولة المصرية فقدمتها فِي شهر ربيع الأول سنة خمسين والخليفة بهَا يَوْمئِذٍ الفائز بن الظافر والوزير لَهُ الْملك الصَّالح طلائع بن رزّيك فَلَمَّا حضرت للسلام عَلَيْهِمَا فِي قاعة الذَّهَب من قصر الْخَلِيفَة أنشدتهما
(الْحَمد للعيس بعد الْعَزْم والهمم ... حمدا يقوم بِمَا أولت من النعم)(2/300)
(لاأجحد الْحق عِنْدِي للركاب يَد ... تمنت اللجم فِيهَا رُتْبَة الخطم)
(قرّبن بعد مَزَار الْعِزّ من نَظَرِي ... حَتَّى رَأَيْت إِمَام الْعَصْر من أُمَم)
(ورُحن من كعبة الْبَطْحَاء وَالْحرم ... وَفْدًا إِلَى كعبة الْمَعْرُوف وَالْكَرم)
(فَهَل دري الْبَيْت أَنِّي بعد زورته ... مَا سرت من حرم إِلَّا إِلَى حرم)
(حَيْثُ الْخلَافَة مَضْرُوب سرادقها ... بَين النقيضين من عَفْو وَمن نقم)
(وللإمامة أنوارٌ مُقَدَّسَة ... تجلو البغيضين من ظلم وَمن ظُلَم)
(وللنبوّة آيَات تنص لنا ... على الخفيين من حكم وَمن حكم)
(وللمكارم أَعْلَام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بَأْس وَمن كرم)
(وللعلا ألْسُنٌ تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل وَمن شيم)
(وَرَايَة الشّرف البذاخ ترفعها ... يَد الرفيعين من مجد وَمن همم)
(أَقْسَمت بالفائز الْمَعْصُوم مُعْتَقدًا ... فوز النجَاة وَأجر البّر فِي الْقسم)
(لقد حمى الدِّين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصَّالح الفراج للغمم)
(اللاّبس الْفَخر لم تنسج غلائله ... إِلَّا يَد الصنعتين السَّيْف والقلم)
(وُجُوده أوجد الْأَيَّام مَا اقترحت ... وَجُوده أعدم الشاكين للعدم)
(قد ملكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثريا عزّة الشمم)
(أرى مقَاما عَظِيم الشَّأْن أوهمني ... فِي يقظتي أَنَّهَا من جملَة الحُلم)
(يَوْم من الْعُمر لم يخْطر على أمل ... وَلَا ترقت إِلَيْهِ رَغْبَة الهمم)
(لَيْت الْكَوَاكِب تَدْنُو لي فأنظمها ... عُقُود مدح فَمَا أرْضى لكم كلمي)
(ترى الوزارة فِيهِ وَهِي باذلة ... عِنْد الْخلَافَة نصحا غير مُتَّهم)
(عواطف أعلمتنا أَن بَينهمَا ... قرَابَة من جميل الرَّأْي لَا الرَّحِم)(2/301)
(خَليفَة ووزير مدّ عَدْلُهما ... ظلاًّ على مفرق الْإِسْلَام والأمم)
(زِيَادَة النّيل نقص عِنْد فيضهما ... فَمَا عَسى نتعاطى منَّة الديم)
قَالَ وعهدي بالصالح وَهُوَ يستعيدها فِي حَال النشيد مرَارًا والأستاذون والأمراء والكبراء يذهبون فِي الِاسْتِحْسَان كل مَذْهَب ثمَّ أفيضت عليّ خلع من ثِيَاب الْخلَافَة مذهبَة وَدفع إِلَيّ الصَّالح خمس مئة دِينَار وَإِذا بعض الأستاذين قد خرج لي من عِنْد السيدة بنت الإِمَام الْحَافِظ بِخمْس مئة دِينَار أُخْرَى وَحمل المَال معي إِلَى منزلي وأطلقت لي من دَار الضِّيَافَة رسوم لم تطلق لأحد قبلي وتهادتني أُمَرَاء الدولة إِلَى مَنَازِلهمْ للولائم واستحضرني الصَّالح للمجالسة ونظمني فِي سلك أهل المؤانسة وانثالت عليّ صلَاته وغمرني برّه
وَوجدت بِحَضْرَتِهِ من أَعْيَان أهل الْأَدَب الشَّيْخ الجليس أَبَا الْمَعَالِي بن الْجبَاب والموفق أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن الْخلال صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء وَأَبا الْفَتْح مَحْمُود بن قادوس والمهذب أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن الزبير وَغَيرهم وَمَا من هَذِه الحلبة أحد إِلَّا وَيضْرب فِي الْفَضَائِل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب وَمَا زلت أحذو على طرائقهم حَتَّى(2/302)
نظموني فِي سلك فرائدهم وَقلت
(لياليّ بالفسطاط من شاطئي مصر ... سقى عَهْدك الْمَاضِي عهاد من الْقطر)
(لَيَال هِيَ الْعُمر السعيد وكلّ مَا ... مضى فِي سواهَا لايعدّ من الْعُمر)
(أفادتني الأقدار فِيهَا مواليا ... صفت بهم الْأَيَّام من كدر الْغدر)
(تواصوا على أَلا تردّ إرادتي ... وَلَو سمتهم نثر الْكَوَاكِب فِي حجري)
وَله فِي الصَّالح بن رزيك من قصيدة
(وَلَو لم يكن أَدْرِي بِمَا جهل الورى ... من الْفضل لم تنْفق لَدَيْهِ الْفَضَائِل)
(لَئِن كَانَ منا قاب قوسٍ فبيننا ... فراسخ من إجلاله ومراحل)
قَالَ وأنشدت الصَّالح وَهُوَ بالقبو من دَار الوزارة قصيدة مِنْهَا
(دعوا كل برق شمتم غير بارق ... يلوح على الْفسْطَاط صَادِق بشره)
(وزوروا الْمقَام الصالحيَّ فَكل من ... على الأَرْض ينسى ذكره عِنْد ذكره)
(وَلَا تجْعَلُوا مقصودكم طلب الْغنى ... فتجنوا على مجد الْمقَام وفخره)
(وَلَكِن سلوا مِنْهُ الْعلَا تظفروا بهَا ... فَكل امرىء يُرْجَى على قدر قدره)(2/303)
قَالَ وَلما جلس شاور فِي دَار الذَّهَب قَامَ الشُّعَرَاء والخطباء ولفيف النَّاس إِلَّا الْأَقَل ينالون من بني رزيك وضرغام نَائِب الْبَاب وَيحيى بن الْخياط الأسفهسلار فَأَنْشَدته
(صحّت بدولتك الْأَيَّام من سقم ... وَزَالَ مَا يشتكيه الدَّهْر من ألم)
وَمِنْهَا
(زَالَت ليَالِي بني رزيك وانصرمت ... وَالْحَمْد والذم فِيهَا غير منصرم)
(كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وعادلهم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد وَلم يقم)
(كُنَّا نظن وَبَعض الظَّن مأثمة ... بِأَن ذَلِك جمع غير مُنْهَزِم)
(فمذ وَقعت وُقُوع النسْر خَانَهُمْ ... من كَانَ مجتمعا من ذَلِك الرّخم)
(وَلم يَكُونُوا عدوَّا ذل جَانِبه ... وَإِنَّمَا غرقوا فِي سيلك العرم)
(وَمَا قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تَعْظِيم شَأْنك فاعذرني وَلَا تلم)
(وَلَو شكرت لياليهم مُحَافظَة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم)
(وَلَو فتحت فمي يَوْمًا بذمهم ... لم يرض فضلك إِلَّا أَن يسدّ فمي)
(وَالله يَأْمر بِالْإِحْسَانِ عارفة ... مِنْهُ وَينْهى عَن الْفَحْشَاء فِي الْكَلم)
قَالَ فشكرني شاور وأبناؤه على الْوَفَاء لبني رزيك
قلت وَشعر عمَارَة كثير حسن وَعِنْدِي من قَوْله الْحَمد للعيس وَإِن كَانَت القصيدة فائقة نفرة عَظِيمَة فَإِنَّهُ أَقَامَ ذَلِك مقَام قَوْلنَا الْحَمد لله وَلَا يَنْبَغِي أَن يفعل ذَلِك مَعَ غير الله تَعَالَى عزّ وَجل فَلهُ الْحَمد وَله(2/304)
الشُّكْر فَهَذَا اللَّفْظ كالمتعين لجِهَة الربوبية المقدسة على ذَلِك اطرد اسْتِعْمَال السّلف وَالْخلف رَضِي الله عَنْهُم
فصل فِي وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله
قَالَ الْعِمَاد وَأمر نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بتطهير وَلَده الْملك الصَّالح اسماعيل يَوْم عيد الْفطر واحتفلنا لهَذَا الْأَمر وغلقت محَال دمشق أَيَّامًا
قَالَ ونظمت للهناء بالعيد وَالطُّهْر قصيدة مِنْهَا
(عيدَان فطر وطهر ... فتح قريب وَنصر)
(كِلَاهُمَا لَك فِيهِ ... حَقًا هناء وَأجر)
(وَفِيهِمَا بالتهاني ... رسم لنا مُسْتَمر)
(طَهَارَة طَابَ مِنْهَا ... أصل وَفرع وَذكر)
(نجل على الطُّهْر نامٍ ... زكا لَهُ مِنْك نجر)
(مَحْمُود الْملك الْعَادِل ... الْكَرِيم الْأَغَر)
(وبابنه الْملك الصَّالح ... الْعُيُون تقر)
(مولى بِهِ اشْتَدَّ للدّين ... والشريعة أزر)(2/305)
(نور تجلى عيَانًا ... مَا دونه الْيَوْم ستر)
(أضحت مساعيك غرا ... كَمَا أياديك غزر)
(وكل قصدك رشد ... وكل فعلك بر)
(وَإِن حبك دين ... وَإِن بغضك كفر)
(لنا بيمناك يمن ... كَمَا بيسراك يسر)
(وللموالين نفع ... وللمُعادين ضرّ)
(وللسماء سَحَاب ... وسحب كفيك عشر)
(ناديك بالرفد رحب ... نداك للوفد بَحر)
(للبحر مدّ وجزر ... وَمَا لجودك جزر)
(عدل عميم وجود ... غمر وَيسر وَبشر)
(وَفِي الْعَطِيَّة حُلْو ... وَفِي الحمية مر)
(قد اسْتَوَى مِنْك تقوى الْإِلَه ... سرّ وجهر)
(تقاك وَالْملك عِنْد الْقيَاس ... عقد وَنحر)
(يَا أعظم النَّاس قدرا ... وَهل لغيرك قدر)
(وساهرا حِين نَامُوا ... وَقَائِمًا حِين قروا)
(مَا اعْتدت إِلَّا وَفَاء ... وَعَادَة الْقَوْم غدر)
(وفعلك الدَّهْر غَزْو ... للْمُشْرِكين وقهر)
(وَفعل غَيْرك ظلم ... للْمُسلمين وقسر)
(يفتر من كل ثغر ... إِلَى ابتسامك ثغر)
(روم بِهِ وفرنج ... فِي شفعهم لَك وتر)(2/306)
(حَرْب عوان وَفتح ... على مرادك بكر)
(بَنو الأصافر من خشيَة ... انتقامك صفر)
(لم يبْق للكفر ظفر ... لاكان للكفر ظفر)
(وَمَا دجا ليل خطب ... إِلَّا وعزمك فجر)
(أَصبَحت بالغزو صبا ... وَعنهُ مَالك صَبر)
(لكسر كل يَتِيم ... إسعاف برك جبر)
(فِي كل قلب حسود ... من حر بأسك جمر)
(تملَّ تَطْهِير مَلْكَ ... لَهُ الْمُلُوك تَخِر)
(يزهى سَرِير وتاج ... بِهِ ودست وَصدر)
(وَكَيف يعْمل للطاهر ... المطهر طهر)
(هَذَا الطّهُور ظُهُور ... على الزَّمَان وَأمر)
(وَذَا الْخِتَان ختام ... بمسكه طَابَ نشر)
(رزقت عمرا طَويلا ... مَا طَال للدهر عمر)
قَالَ وَفِي يَوْم الْعِيد يَوْم الْأَحَد ركب نور الدّين على الرَّسْم الْمُعْتَاد محفوفا من الله بالإسعاد مكنوفا من السَّمَاء وَالْأَرْض بالأجناد وَالْقدر يَقُول لَهُ هَذَا آخر الأعياد ووقف فِي الميدان الْأَخْضَر الشمالي لطعن الْحلق وَرمى القبق وَكَانَ قد ضرب خيمته فِي الميدان القبلي الْأَخْضَر وَأمر بِوَضْع الْمِنْبَر وخطب لَهُ القَاضِي شمس الدّين ابْن الْفراش قَاضِي الْعَسْكَر بعد أَن صلى بِهِ وذكّر وَعَاد إِلَى القلعة طالع الْبَهْجَة بهيج(2/307)
الطلعة وأنهب سماطه الْعَام على رسم الأتراك وأكابر الْأَمْلَاك ثمَّ حَضَرنَا على خوانه الْخَاص وَله عقد كَمَال مصون من الانتقاض والانتقاض وَمَا أوضح بشره وأضوع نشره وأضحك سنه وأبرك يمنه
وَفِي يَوْم الأثنين ثَانِي الْعِيد بكر وَركب وجمل الموكب وَكَأن الْفلك بنيره جَار والطود الثَّابِت يمرّ مرّ السَّحَاب فِي وقار وَكَأَنَّهُ الْقَمَر فِي هالته وَالْقدر فِي جلالته والبدر فِي دائرته سَائِر بَين سيارته وَدخل الميدان والعظماء يسايرونه والفهماء يحاورونه وَفِيهِمْ همام الدّين مودود وَهُوَ فِي الأكابر مَعْدُود وَكَانَ قَدِيما فِي أول دولته والى حلب وَقد جرب الدَّهْر بحنكته ولأشطره حلب فَقَالَ لنُور الدّين فِي كَلَامه عظة لمن يغتر بأيامه هَل نَكُون هَهُنَا فِي مثل هَذَا الْيَوْم فِي الْعَام الْقَابِل فَقَالَ نور الدّين قل هَل نَكُون بعد شهر فَإِن السّنة بعيدَة فَجرى على منطقهما مَا جرى بِهِ الْقَضَاء السَّابِق فَإِن نور الدّين لم يصل إِلَى الشَّهْر والهمام لم يصل إِلَى الْعَام
ثمَّ شرع نور الدّين فِي اللّعب بالكرة مَعَ خواصه البررة فاعترضه فِي حَاله أَمِير آخر اسْمه يرنقش وَقَالَ لَهُ باش فأحدث لَهُ الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذْهبه الْكَرِيم وخلقه الْحَلِيم فزجره وزبره وَنَهَاهُ ونهره وسَاق وَدخل القلعة وَنزل واحتجب وَاعْتَزل فَبَقيَ أسبوعا فِي منزله مَشْغُولًا بنازله مَغْلُوبًا عَن عاجله بِحَدِيث آجله وَالنَّاس من الْخِتَان لاهون بأوطارهم فِي الأوطان فَهَذَا يروح بجوده وَذَاكَ يجود بِرُوحِهِ فَمَا انْتَهَت تِلْكَ الأفراح إِلَّا بالأتراح وَمَا صلح الْملك بعده إِلَّا(2/308)
بِملك الصّلاح
قَالَ واتصل مرض نور الدّين وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء بالفصد فَامْتنعَ وَكَانَ مهيبا فَمَا رُوجِعَ وانتقل حادي عشر شَوَّال يَوْم الْأَرْبَعَاء من مربع الفناء إِلَى مرتع الْبَقَاء وَلَقَد كَانَ من أَوْلِيَاء الله الْمُؤمنِينَ وعباده الصَّالِحين وَصَارَ إِلَى جنَّات عدن أعدت لِلْمُتقين
وَكَانَت لَهُ صُفَّة فِي الدَّار الَّتِي على النَّهر الدَّاخِل إِلَى القلعة من الشمَال وَكَانَ جُلُوسه عَلَيْهَا فِي جَمِيع الْأَحْوَال فَلَمَّا جَاءَت سنة الزلزلة بنى بِإِزَاءِ تِلْكَ الصفّة بَيْتا من الأخشاب مَأْمُون الِاضْطِرَاب فَهُوَ يبيت فِيهِ وَيُصْبِح ويخلو بِعِبَادَتِهِ ولايبرح فَدفن فِي ذَلِك الْبَيْت الَّذِي اتَّخذهُ حِميً من الْحمام وَأذن بِنَاؤُه لبانيه بالانهدام
قَالَ الْعِمَاد وَقلت فِي ذَلِك
(عجبت من الْمَوْت كَيفَ اهْتَدَى ... إِلَى ملك فِي سجايا ملك)
(وَكَيف ثوى الْفلك المستدير ... فِي الأَرْض وَالْأَرْض وسط الْفلك)
وَله فِيهِ رحمهمَا الله تَعَالَى
(يَا ملكا أَيَّامه لم تزل ... لفضله فاضلة فاخرة)
(غاضت بحار الْجُود مذ غيبت ... أنملك الفائضة الزاخرة)
(ملكت دنياك وخلفتها ... وسرت حَتَّى تملك الْآخِرَة)(2/309)
قَالَ ابْن شَدَّاد وَكَانَت وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بِسَبَب خوانيق اعترته عجز الْأَطِبَّاء عَن علاجها وَلَقَد حكى لي صَلَاح الدّين قَالَ كَانَ يبلغنَا عَن نور الدّين أَنه رُبمَا قصدنا بالديار المصرية وَكَانَت جمَاعَة أَصْحَابنَا يشيرون بِأَن نكاشف وَنُخَالِف ونشق عَصَاهُ ونلقى عسكره بمصاف يردهُ إِذا تحقق قَصده قَالَ وَكنت وحدي أخالفهم وَأَقُول لَا يجوز أَن يُقَال شَيْء من ذَلِك وَلم يزل النزاع بَيْننَا حَتَّى وصل الْخَبَر بوفاته رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ نور الدّين قد شرع بتجهيز الْمسير إِلَى مصر لأخذها من صَلَاح الدّين لِأَنَّهُ رأى مِنْهُ فتورا عَن غَزْو الفرنج من ناحيته فَأرْسل إِلَى الْموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطْلب العساكر ليتركها بِالشَّام لمَنعه من الفرنج ليسير هُوَ بعساكره إِلَى مصر وَكَانَ الْمَانِع لصلاح الدّين من الْغَزْو الْخَوْف من نور الدّين فَإِنَّهُ كَانَ يعْتَقد أَن نور الدّين مَتى زَالَ عَن طَرِيقه الفرنج أَخذ الْبِلَاد مِنْهُ فَكَانَ يحتمي بهم عَلَيْهِ وَلَا يُؤثر استئصالهم وَكَانَ نور الدّين لَا يرى إِلَّا الجدّ فِي غزوهم بِجهْدِهِ وطاقته فَلَمَّا رأى إخلال صَلَاح الدّين بالغزو وَعلم غَرَضه فتجهز للمسير إِلَيْهِ فَأَتَاهُ أَمر الله الَّذِي لَا يرد
قلت وَلَو علم نور الدّين مَاذَا ذخر الله تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ من الْفتُوح الجليلة على يَدي صَلَاح الدّين من بعده لقرت عينه فَإِنَّهُ بنى على مَا أسسه(2/310)
نور الدّين من جِهَاد الْمُشْركين وَقَامَ بذلك على أكمل الْوُجُوه وأتمها رحمهمَا الله تَعَالَى
قَالَ وَحكى لي طَبِيب بِدِمَشْق يعرف بالرحبي وَهُوَ من حذاق الْأَطِبَّاء قَالَ استدعاني نور الدّين فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ مَعَ غَيْرِي من الْأَطِبَّاء فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيت صَغِير بقلعة دمشق وَقد تمكنت الخوانيق مِنْهُ وقارب الْهَلَاك فَلَا يكَاد يسمع صَوته وَكَانَ يَخْلُو فِيهِ للتعبد فِي أَكثر أوقاته فابتدا بِهِ الْمَرَض فِيهِ فَلم ينْتَقل عَنهُ فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ ورأينا مَا بِهِ قلت لَهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن لايؤخَّر إحضارنا إِلَى أَن يشْتَد بك الْمَرَض إِلَى هذاالحد فَالْآن يَنْبَغِي أَن تنْتَقل إِلَى مَكَان فسيح فَلهُ أثر فِي هَذَا الْمَرَض وشرعنا فِي علاجه فَلم ينجع فِيهِ الدَّوَاء وَعظم الدَّاء وَمَات عَن قريب رَضِي الله عَنهُ
قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ أسمر طَوِيل الْقَامَة لَيْسَ لَهُ لحية إِلَّا فِي حنكه وَكَانَ وَاسع الْجَبْهَة حسن الصُّورَة حُلْو الْعَينَيْنِ وَكَانَ قد اتَّسع(2/311)
ملكه جدا فَملك الْموصل وديار الجزيرة وأطاعه أَصْحَاب ديار بكر وَملك الشَّام والديار المصرية واليمن وخُطب لَهُ بالحرمين الشريفين مَكَّة وَالْمَدينَة وطبّق الأَرْض ذكره بِحسن سيرته وعدله وَلم يكن مثله إِلَّا الشاذ النَّادِر رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بَعْدَمَا ذكر أَوْصَاف نور الدّين الجليلة الْمُتَقَدّمَة مفرقة ومجموعة فِي هَذَا الْكتاب هَذَا مَعَ مَا جمع الله لَهُ من الْعقل المتين والرأي الثاقب الرصين والاقتداء بسيرة السّلف الماضين والتشبه بالعلماء وَالصَّالِحِينَ والاقتفاء بسيرة من سلف مِنْهُم فِي حسن سمتهم والاتباع لَهُم فِي حفظ حَالهم ووقتهم حَتَّى روى حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأسمعه وَكَانَ قد استجيز لَهُ مِمَّن سَمعه وَجمعه حرصا مِنْهُ على الْخَيْر فِي نشر السّنة بِالْأَدَاءِ والتحديث ورجاء أَن يكون مِمَّن حفظ على الْأمة أَرْبَعِينَ حَدِيثا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث فَمن رَآهُ شَاهد من جلال السلطنة وهيبة الْملك مَا يبهره فَإِذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مَا يحيره يحب الصَّالِحين ويؤاخيهم ويزور مساكنهم لحسن ظَنّه فيهم وَإِذا احْتَلَمَ مماليكه أعتقهم(2/312)
وَزوج ذكرانهم بإنائهم ورزقهم وَمَتى تَكَرَّرت الشكاية إِلَيْهِ من أحد من ولاته أمره بالكف عَن أَذَى تظلم بشكاته فَمن لم يرجع مِنْهُم إِلَى الْعدْل قابله بِإِسْقَاط الْمنزلَة والعزل فَلَمَّا جمع الله لَهُ من شرِيف الْخِصَال تيَسّر لَهُ جَمِيع مَا يَقْصِدهُ من الْأَعْمَال وَسَهل على يَدَيْهِ فتح الْحُصُون والقلاع ومُكن لَهُ فِي الْبلدَانِ وَالْبِقَاع
ثمَّ قَالَ بعد كَلَام كثير ومناقبه خطيرة وممادحه كَثِيرَة ومدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَأَكْثرُوا وَلم يبلغُوا وصف الآئه بل قصروا وَهُوَ قَلِيل الابتهاج بالشعر زِيَادَة فِي تواضعه لعلّو الْقدر
ومولده على مَا ذكر لي كَاتبه أَبُو الْيُسْر شَاكر بن عبد الله وَقت طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَتُوفِّي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي عشر من شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسَة مئة وَدفن بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى تربة تجاور مدرسته الَّتِي بناها لأَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ جوَار الخواصين فِي الشَّارِع الغربي رَحمَه الله تَعَالَى
قلت وَفِي هَذِه الْمدرسَة يَقُول العرقلة(2/313)
(ومدرسة سيدرس كل شَيْء ... وَتبقى فِي حمى علم ونسك)
(تضوع ذكرهَا شرقا وغربا ... بِنور الدّين مَحْمُود بن زنكي)
(يَقُول وَقَوله حقٌّ وَصدق ... بِغَيْر كنايةٍ وَبِغير شكّ)
(دمشق فِي الْمَدَائِن بَيت مُلكي ... وهذي فِي الْمدَارِس بَيت مِلكي)
وَلما اشْتهر بِهِ من قلَّة ابتهاجه بالمدح لما علم من تزيد الشُّعَرَاء وَهِي طَريقَة عمر بن عبد الْعَزِيز زاهد الْخُلَفَاء قَالَ يحيى بن مُحَمَّد الوهراني فِي مقامة لَهُ وَقد سُئِلَ فِي بَغْدَاد عَن نور الدّين هُوَ سهم للدولة سديد وركن للخلافة شَدِيد وأمير زاهد وَملك مُجَاهِد تساعده الأفلاك وتعضده الجيوش والأملاك غير أَنه عرف بالمرعى الوبيل لِابْنِ السَّبِيل وبالمحل الجديب للشاعر الأديب فَمَا يرزى وَلَا يعزى وَلَا لشاعر عِنْده من نعْمَة تجزى
وإيَّاه عَنى أُسَامَة بن منقذ بقوله
(سلطاننا زاهد وَالنَّاس قد زهدوا ... لَهُ فكلُّ على الْخيرَات منكمش)(2/314)
(أيَّامه مثل شهر الصَّوْم طَاهِرَة ... من الْمعاصِي وفيهَا الْجُوع والعطش)
قلت رَحمَه الله مَا كَانَ يبْذل أَمْوَال الْمُسلمين إِلَّا فِي الْجِهَاد وَمَا يعود نَفعه على الْعباد وَكَانَ كَمَا قيل فِي حق عبد الله بن محيريز وَهُوَ من سَادَات التَّابِعين بِالشَّام قَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ حَدثنَا ضَمرَة عَن السيباني قَالَ كَانَ ابْن الديلمي من أنْصر النَّاس لأخوانه فَذكر ابْن محيريز فِي مَجْلِسه فَقَالَ رجل كَانَ بَخِيلًا فَغَضب ابْن الدّيلمي وَقَالَ كَانَ جوادا حَيْثُ يحب الله وبخيلا حَيْثُ تحبون
وَأما شعر ابْن منقذ فَلَا اعْتِبَار بِهِ فَهُوَ الْقَائِل فِي لَيْلَة الميلاد يمدح نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى
(فِي كل عَام للبرية لَيْلَة ... فِيهَا تشب النَّار بالإيقاد)
(لَكِن لنُور الدّين من دون الورى ... ناران نَار قرى ونار جِهَاد)
(أبدا يصرّفها نداه وبأسه ... فالعام أجمع لَيْلَة الميلاد)
(ملك لَهُ فِي كل جيد منّة ... أبهى من الأطواق فِي الأجياد)
(أَعلَى الْمُلُوك يدا وأمنعهم حمى ... وأمدهم كفَّا ببذل تلاد)(2/315)
(يعْطى الجزيل من النوال تَبَرعا ... من غير مَسْأَلَة وَلَا ميعاد)
(لازال فِي سعد وَملك دَائِم ... مَا دَامَت الدُّنْيَا بِغَيْر نفاد)
وَقد تقدم فِي شعر ابْن مُنِير وَابْن القيسراني والعماد الْكَاتِب وَغَيرهم من مدح نور الدّين بِالْكَرمِ والجود مَا قَلِيل مِنْهُ يرّد قَول الوهراني وَابْن منقذ على أَن ابْن منقذ قد رددنا شعره بِشعرِهِ كَمَا ترَاهُ وَإِنَّمَا الشُّعَرَاء وَأكْثر النَّاس كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف قوم {فإنْ أُعْطُوا مِنْها رّضُوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوا مِنْها إذَا هم يَسْخَطون} وَمَا كلّ وَقت ينْفق الْعَطاء وَيفْعل الله مَا يَشَاء(2/316)
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير لما توفّي نور الدّين جلس ابْنه الْملك الصَّالح اسماعيل فِي الْملك وحُلِف لَهُ وَلم يبلغ الحُلم وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والمقدمون بِدِمَشْق وَأقَام بهَا وأطاعه النَّاس فِي سَائِر بِلَاد الشَّام وصلاحُ الدّين(2/317)
بِمصْر وخطب لَهُ بهَا وَضرب السِّكَّة باسمه فِيهَا وتولّى تَرْبِيَته الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم
قَالَ الْعِمَاد وأخرجوا يَوْم وَفَاة نور الدّين وَلَده الْملك الصَّالح اسماعيل وَقد أبدى الْحزن والعويل وَهُوَ مجزوز الذوائب مشقوق الجيب حاسر حافٍ مِمَّا فجأه وفجعه من الرّيب وأجلسوه فِي الأيوان الشمالي من الدّست والتخت الْبَاقِي من عهد تَاج الدولة تتش فاستوحى كل قلب حزنه واستوحش فَوقف النَّاس يضطرمون ويضطربون ويتلهفون ويتلهبون وَلما كفّن بحلة الْكَرَامَة وَدفن فِي رَوْضَة بَابهَا إِلَى بَاب رضوَان من دَار المقامة وقضوا الْجزع وقوضوا الْفَزع وغيبوا الدمعة وأحضروا الرّبعة حضر القَاضِي كَمَال الدّين وشمس الدّين بن الْمُقدم وجمال الدولة ريحَان وَهُوَ أكبر الخدم وَالْعدْل أَبُو صَالح بن العجمي أَمِين الْأَعْمَال وَالشَّيْخ اسماعيل خَازِن بَيت المَال وتحالفوا على أَن تكون أَيْديهم وَاحِدَة وعزائمهم متعاقدة وَأَن ابْن الْمُقدم مقدم الْعَسْكَر وَإِلَيْهِ الْمرجع فِي المورد والمصدر
قَالَ وأنشأت فِي ذَلِك الْيَوْم كتابا عَن الْملك الصَّالح إِلَى صَلَاح الدّين فِي تعزيته بِنور الدّين تَرْجَمته إِسْمَاعِيل بن مَحْمُود وَفِيه
أَطَالَ الله بَقَاء سيدنَا الْملك النَّاصِر وَعظم أجرنا وأجره فِي والدنا الْملك الْعَادِل ندب الشَّام بل الْإِسْلَام حَافظ ثغوره وملاحظ أُمُوره وَعدم الْجِهَاد مقتني فضيلته ومؤدي فريضته ومحيي سنته وأورثنا(2/318)
بِالِاسْتِحْقَاقِ ملكه وسريره على أَنه يعزّ أَن يرى الزَّمَان نَظِيره وَمَا هَهُنَا مَا يشغل السِّرّ وَيقسم الْفِكر إِلَّا أَمر الفرنج خذلهم الله وَمَا كَانَ اعْتِمَاد مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل عَلَيْهِ وسكونه إِلَيْهِ إِلَّا لمثل هَذَا الْحَادِث الجلل وَالصرْف الكارث المذهل فقد ادخره لكفايات النوائب وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب وأمله ليومه ولغده ورجاه لنَفسِهِ ولولده ومكنّه قُوَّة لعضده فَمَا فقد رَحمَه الله تَعَالَى إِلَّا صُورة وَالْمعْنَى بَاقٍ وَالله تَعَالَى حَافظ لبيته واق وَهل غَيره دَامَ سموهُ من مؤازر وَهل سوى السيّد الْأَجَل النّاصر من نَاصِر وَقد عَرفْنَاهُ المقترح ليروض بِرَأْيهِ من الْأَمر مَا جمح والأهم شغل الْكفَّار عَن هَذِه الديار بِمَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ من قصدهم والنكاية فيهم على البدار وَيجْرِي على الْعَادة الْحسنى فِي إحْيَاء ذكر الْوَالِد هُنَاكَ بتجديد ذكرنَا رَاغِبًا فِي اغتنام ثنائنا وشكرنا
قلت وَكَانَ قد بلغ صَلَاح الدّين خبر نور الدّين فَأرْسل كتابا بالمثال الفاضلي فِيهِ ورد خبر من جَانب الْعَدو اللعين عَن الْمولى نور الدّين أعاذ الله تَعَالَى فِيهِ من سَماع الْمَكْرُوه وَنور بعافيته الْقُلُوب وَالْوُجُوه وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَمر وضاق بِهِ الصَّدْر وانقصم بحادثه الظّهْر وعزّ فِيهِ التثبت وأعوز الصَّبْر فَإِن كَانَ وَالْعِيَاذ بِاللَّه قد تمّ وخصّه الحكم الَّذِي عَم فللحوادث تذخر النصال وللأيام تصطنع الرِّجَال وَمَا رتب الْمُلُوك ممالكها إِلَّا لأولادها وَلَا اسْتوْدعت الأَرْض الْكَرِيمَة الْبذر إِلَّا لتؤدي حَقّهَا يَوْم حصادها فَالله الله أَن تخْتَلف الْقُلُوب وَالْأَيْدِي فتبلغ الْأَعْدَاء مرادها وتعدم الآراء رشادها وتنتقل النعم الَّتِي تعبت الْأَيَّام إِلَى أَن أَعْطَتْ قيادها فكونوا يدا وَاحِدَة وأعضاداً متساعدة وَقُلُوبًا يجمعها ودّ وسيوفا يضمها(2/319)
غمد وَلَا تختلفوا فتنكلوا {وَلَا تنازعوا فتفشلوا} وَقومُوا على أمشاط الأرجل وَلَا تَأْخُذُوا الْأَمر بأطراف الأنمل فالعدواة محدقة بكم من كل مَكَان وَالْكفْر مُجْتَمع على الْإِيمَان وَلِهَذَا الْبَيْت منا نَاصِر لَا يَخْذُلهُ وقائم لَا يُسلمهُ وَقد كَانَت وَصيته إِلَيْنَا سبقت ورسالته عندنَا تحققت بِأَن وَلَده الْقَائِم بِالْأَمر وَسعد الدّين كمشتكين الأتابك بَين يَدَيْهِ فَإِن كَانَت الْوَصِيَّة ظَهرت وَقبلت وَالطَّاعَة فِي الْغَيْبَة والحضور أدّيت وَفعلت وَإِلَّا فَنحْن لهَذَا الْوَلَد يدُ على من ناواه وَسيف على من عَادَاهُ وَإِن أَسْفر الْخَبَر عَن معافاة فَهُوَ الْغَرَض الْمَطْلُوب وَالنّذر الَّذِي يحل على الْأَيْدِي والقلوب
قَالَ الْعِمَاد وَورد كتاب صَلَاح الدّين بالمثال الفاضلي معزيا لِابْنِ نور الدّين وَفِي آخِره وَأما الْعَدو خذله الله تَعَالَى فوراءه من الْخَادِم من يَطْلُبهُ طلب ليل لنهاره وسيل لقراره إِلَى أَن يزعجه من مجاثمه ويستوقفه عَن مَوَاقِف مغانمه وَذَلِكَ من أقلّ فروض الْبَيْت الْكَرِيم وأيسر لوازمه أصدر هَذِه الْخدمَة يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ذِي الْقعدَة وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي أُقِيمَت فِيهِ الْخطْبَة بِالِاسْمِ الْكَرِيم وَصرح فِيهِ بِذكرِهِ فِي الْموقف الْعَظِيم وَالْجمع الَّذِي لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تأثيم وأشبه يَوْم الْخَادِم أمسه فِي الْخدمَة ووفى مَا لزمَه من حُقُوق النِّعْمَة وَجمع كلمة الْإِسْلَام عَالما أَن الْجَمَاعَة رَحْمَة وَالله تَعَالَى يخلد ملك الْمولى الْملك الصَّالح وَيصْلح بِهِ وعَلى يَدَيْهِ ويؤكد عهود النَّعْماء الراهنة لَدَيْهِ وَيجْعَل لِلْإِسْلَامِ واقية بَاقِيَة عَلَيْهِ ويوفق الْخَادِم لما ينويه من تَوْثِيق سُلْطَانه وتشييده ومضاعفة ملكة ومزيده وتيسير منال كل أملٍ صَالح وتقريب بعيده إِن شَاءَ الله تَعَالَى(2/320)
وَمن كتاب آخر الْخَادِم مُسْتَمر على بَدأته من الاستشراف لأوامرها والتعرض لمراسمها وَالرَّفْع لكلمتها والإيالة لعسكرها والتحقق بخدمتها فِي بواطن الْأَحْوَال وظواهرها والتّرقب لِأَن يُؤمر فيمتثل ويكلف فَيحْتَمل وَأَن يرْمى بِهِ فِي فِي نحر عدوه فيتسدد بِجهْدِهِ ويوفى أَيَّام الدولة الْعَالِيَة يَوْمًا يكْشف الله فِيهِ للْمولى للْمولى ضمير عَبده
قَالَ الْعِمَاد وَلما توفّي نور الدّين أختل أَمْرِي واعتل سرّي وعلت حسادي وَبلغ مُرَادهم أضدادي وَكَانَ الْملك الصَّالح صَغِيرا فَصَارَ الْعدْل ابْن العجمي لَهُ وزيرا وَتصرف المتحالفون فِي الخزانة والدولة كَمَا أَرَادوا وولَّوْا وصرفوا ونقصوا وَزَادُوا واقتصروا لي على الْكِتَابَة محروم الدعْوَة من الْإِجَابَة
وَمِمَّا نظمته فِي مرثية نور الدّين قصيدة مِنْهَا
(لفقد الْملك الْعَادِل ... يبكي الْملك وَالْعدْل)
(وَقد أظلمت الْآفَاق ... لَا شمس وَلَا ظلّ)
مِنْهَا
(وَلما غَابَ نور الدّين ... عَنَّا أظلم الحفل)
(وَزَالَ الخصب وَالْخَيْر ... وَزَاد الشَّرّ وَالْمحل)
(وَمَات الْبَأْس والجود ... وعاش الْيَأْس وَالْبخل)(2/321)
(وَعز النَّقْص لما هان ... أهل الْفضل والفضلُ)
(وَهل ينْفق ذُو علم ... إِذا مَا نفق الْجَهْل)
(وَمَا كَانَ لنُور الدّين ... لَوْلَا نجلُه مثل)
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَاتفقَ نزُول الفرنج بعد وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى على الثغر وقصدهم بانياس ورجوا أَن يتم لَهُم الْأَمر ثمَّ ظَهرت خيبتهم وَبَان الياس وَذَلِكَ أَن شمس الدّين بن الْمُقدم خرج وراسل الفرنج وخوّفهم بِقصد صَلَاح الدّين لبلادهم وَأَنه قد عزم على جهادهم وَتَكَلَّمُوا فِي الْهُدْنَة وَقطع مواد الْحَرْب والفتنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها وعدة من أساراهم استطلقوها وتمّت الْمُصَالحَة
وَبلغ ذَلِك صَلَاح الدّين فَأنكرهُ وَلم يُعجبهُ وَكتب إِلَى جمَاعَة الْأَعْيَان كتُباً دالّة على التوبيخ والملام وَمن جُمْلَتهَا كتاب بالمثال الفاضلي إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون يُخبرهُ فِيهِ أَنه لما أَتَاهُ كتاب الْملك الصَّالح بِقصد الفرنج تجهّز وَخرج وَسَار أَربع مراحل ثمَّ جَاءَهُ الْخَبَر بالهدنة المؤذنة بذُل الْإِسْلَام من دفع القطيعة وَإِطْلَاق الْأُسَارَى وَسَيِّدنَا الشَّيْخ أولى من جرّد لِسَانه الَّذِي تُغمد لَهُ السيوف وتُجرّد وَقَامَ فِي سَبِيل الله قيام من يقطّ عَادِية من تعدّى وتمرّد(2/322)
وَفِي آخِره وَكتب من الْمنزل بفاقوس وَالْفَجْر قَدْ هَمّ أنْ يشقّ ثوب الصَّباح لَوْلَا أَن الثّريا تعرضت تعرض أثْنَاء الوشاح وَهَذِه اللَّيْلَة سافرة عَن نَهَار يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة بلغه الله فِيهِ أمله وَقبل عمله بَالغا أَسْنَى المُرَاد وأفضله
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما توفّي نور الدّين قَالَ الْأُمَرَاء مِنْهُم شمس الدّين بن الْمُقدم وحسام الدّين الْحُسَيْن بن عِيسَى الجراحي وَغَيرهمَا من أكَابِر الْأُمَرَاء قد علمْتُم أَن صَلَاح الدّين من مماليك نور الدّين ونوابه والمصلحة أَن نشاوره فِيمَا نفعله وَلَا نخرجهُ من بَيْننَا فَيخرج عَن طَاعَة الْملك الصَّالح وَيجْعَل ذَلِك حجَّة علينا وَهُوَ أقوى منا لِأَن لَهُ مثل مصر وَرُبمَا أخرجنَا وَتَوَلَّى هُوَ خدمَة الْملك الصَّالح فَلم يُوَافق أغراضهم هَذَا القَوْل وخافوا أَن يدْخل صَلَاح الدّين ويخرجوا
قَالَ فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى وصلت كتب صَلَاح الدّين إِلَى الْملك الصَّالح يهنئه بِالْملكِ ويعزيه بِأَبِيهِ وَأرْسل دَنَانِير مصريه عَلَيْهَا اسْمه ويعرفه أَن الْخطْبَة وَالطَّاعَة لَهُ كَمَا كَانَت لوالده فلّما سَار سيف الدّين غَازِي ابْن عَمه قطب الدّين وَملك الديار الجزرية وَلم يُرْسل من مَعَ الْملك الصَّالح من الْأُمَرَاء إِلَى صَلَاح الدّين وَلَا أعلموه الْحَال كتب إِلَى(2/323)
الْملك الصَّالح يعتبه حَيْثُ لم يُعْلِمه قصد سيف الدّين بِلَاده ليحضر فِي خدمته ويمنعه وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء يَقُول إِن الْملك الْعَادِل لَو علم أَن فِيكُم من يقوم مقَامي أَو يَثِق إِلَيْهِ مثل ثقته بِي لَسَلَّم إِلَيْهِ مصر الَّتِي هِيَ أعظم ممالكه وولاياته وَلَو لم يعجل عَلَيْهِ الْمَوْت لم يعْهَد إِلَى أحد بتربية وَلَده وَالْقِيَام بخدمته سواي وأراكم قد تفردتم بِخِدْمَة مولَايَ وَابْن مولَايَ دوني فَسَوف أصلُ إِلَى خدمته وأجازي إنعام وَالِده بِخِدْمَة يظْهر أَثَرهَا وأقابل كلاًّ مِنْكُم على سوء صَنِيعه وإهمال أَمر الْملك الصَّالح ومصالحه حَتَّى أخذت بِلَاده
فَأَقَامَ الصَّالح بِدِمَشْق وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء لم يمكنوه من الْمسير إِلَى حلب لِئَلَّا يَغْلِبهُمْ عَلَيْهِ شمس الدّين عَليّ ابْن الدّاية فَإِنَّهُ كَانَ أكبر الْأُمَرَاء النُّورية وَإِنَّمَا تَأَخّر عَن خدمَة الْملك الصَّالح بعد وَفَاة نور الدّين لمَرض لحقه وَكَانَ هُوَ وَإِخْوَته بحلب وأمرها إِلَيْهِم وعسكرها مَعَهم فِي حَيَاة نور الدّين وَبعده وَلما عجز عَن الْحَرَكَة أرسل إِلَى الْملك الصَّالح يَدعُوهُ إِلَى حلب ليمنع الْبِلَاد سيف الدّين ابْن عَمه وَأرْسل إِلَى الْأُمَرَاء يَقُول لَهُم إِن سيف الدّين قد ملك إِلَى الْفُرَات وَلَئِن لم تُرْسِلُوا الْملك الصَّالح إِلَى حلب حَتَّى يجمع العساكر وَيسْتَرد مَا أَخذ مِنْهُ وَإِلَّا عبر سيف الدّين الْفُرَات إِلَى حلب وَلَا نقوى على مَنعه فَلم يرسلوه وَلَا مكنوه من قصد حلب
قَالَ وَكَانَ نور الدّين قبل أَن يمرض قد أرسل إِلَى الْبِلَاد الشرقية كالموصل وَغَيرهَا يَسْتَدْعِي العساكر مِنْهَا فَسَار سيف الدّين فِي عساكره فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق أَتَاهُ الْخَبَر بِمَوْت عمّه نور الدّين فَعَاد إِلَى نَصِيبين(2/324)
فملكها وَأرْسل الشحن إِلَى بلد الخابور فاستولوا عَلَيْهَا وَسَار هُوَ إِلَى حران فحصرها عدَّة أَيَّام ثمَّ أَخذهَا وَملك الرّها والرقة وسروج واستكمل ملك سَائِر ديار الجزيرة سوى قلعة جعبر فَقَالَ لَهُ فَخر الدّين عبد الْمَسِيح وَكَانَ قد فَارق سيواس بعد وَفَاة نور الدّين وَقصد سيف الدّين ظنَّا مِنْهُ أَن سيف الدّين يرْعَى لَهُ خدمته وقيامه فِي أَخذ الْملك لَهُ من وَالِده قطب الدّين على مَا ذَكرْنَاهُ أَولا فَلم يجن ثَمَرَة مَا غرس وَكَانَ عِنْده كبعض الْأُمَرَاء لَيْسَ بِالشَّام من يمنعك فاعبر الْفُرَات واملك الْبِلَاد فَأَشَارَ أَمِير آخر مَعَه وَهُوَ أكبر أمرائه قد ملكت أَكثر من والدك والمصلحة أَن تعود فَرجع إِلَى الْموصل
فصل
قَالَ ابْن الْأَثِير قد سبق أَن نور الدّين كَانَ قد جعل بقلعة الْموصل لمّا ملكهَا دُزْداراً لَهُ وَهُوَ سعد الدّين كمشتكين بعض خدمه الخصيان فَلَمَّا سَار سيف الدّين إِلَى الشَّام كَانَ فِي مقدمته على مرحلة فَلَمَّا أَتَاهُ خبر وَفَاة نور الدّين هرب وَأرْسل سيف الدّين فِي أَثَره فَلم يدْرك فنهب بَرْكه ودوابه وَسَار إِلَى حلب وَتمسك بِخِدْمَة شمس الدّين ابْن الداية وَإِخْوَته وَاسْتقر بَينهم وَبَينه أَن يسير إِلَى دمشق ويحضر الْملك الصَّالح فَسَار إِلَى(2/325)
دمشق فَأخْرج إِلَيْهِ ابْن الْمُقدم عسكرا لينهبه فَعَاد مُنهزما إِلَى حلب فأخلف عَلَيْهِ شمس الدّين ابْن الداية مَا أَخذ مِنْهُ وجهزه وسيره إِلَى دمشق وعَلى نَفسهَا تجني براقش فَلَمَّا وَصلهَا سعد الدّين دَخلهَا وَاجْتمعَ بِالْملكِ الصَّالح والأمراء وأعلمهم مَا فِي قصد الْملك الصَّالح إِلَى حلب من الْمصَالح فَأَجَابُوا إِلَى تسييره فَسَار إِلَيْهَا فَلَمَّا وَصلهَا وَصعد إِلَى قلعتها قبض الْخَادِم سعد الدّين على شمس الدّين ابْن الداية وَإِخْوَته وعَلى ابْن الخشاب رَئِيس حلب
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلَوْلَا مرض شمس الدّين لم يتَمَكَّن مِنْهُ وَلَا جرى من ذَلِك الْخلف والوهن شَيْء {وَكَانَ أَمر الله قدرا مقدوُراً}
واستبد سعد الدّين بتدبير أَمر الْملك الصَّالح فخافه ابْن الْمُقدم وَغَيره من الْأُمَرَاء الَّذين بِدِمَشْق فكاتبوا سيف الدّين ليسلموا إِلَيْهِ دمشق فَلم يفعل وَخَافَ أَن تكون مكيدة عَلَيْهِ ليعبر الْفُرَات ويسير إِلَى دمشق فَيمْنَع عَنْهَا ويقصده ابْن عَمه من وَرَاء ظَهره فَلَا يُمكنهُ الثَّبَات فراسل الْملك الصَّالح وَصَالَحَهُ على إِقْرَار مَا أَخذه بِيَدِهِ وَبَقِي الْملك الصَّالح بحلب وَسعد الدّين بن يَدَيْهِ يدبره أمره وتمكّن مِنْهُ تمَكنا عَظِيما يُقَارب الْحجر عَلَيْهِ
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ كمشتكين الْخَادِم النَّائِب بالموصل قد سمع بِمَرَض نور الدّين فأخفاه وَاسْتَأْذَنَ فِي الْوُصُول إِلَى الشَّام فَطلب سيف الدّين غَازِي رِضَاهُ فَخرج وَسَار مرحلَتَيْنِ وَسمع النّعْي فأغذ السّير وَالسَّعْي وَنَجَا بِمَالِه(2/326)
وبحاله وَنَدم صَاحب الْموصل على الرِّضَا بترحاله وَكَانَت عِنْده بوفاة عَمه بِشَارَة وَظَهَرت على صفحاته مِنْهَا أَمارَة فَإِنَّهُ لم يزل من كمشتكين متشكيا فَإِنَّهُ كَانَ لجمر الْأَمر عَلَيْهِ مّذْكيا وَكَانَ المرحوم قد أَمر بإراقة الْخُمُور وَإِزَالَة الْمَحْظُور وَإِسْقَاط المكوس وإعدام أقساط البوس فَنُوديَ فِي الْموصل يَوْم وُرُود الْخَبَر بالفسحة فِي الشّرْب جهادرا لَيْلًا وَنَهَارًا وَزَالَ الْعرف وَعَاد النكر وَأنْشد قَول ابْن هانىء
(وَلَا تَسْقِنِي سرا فقد أمكن الْجَهْر ... )
وَقيل أَخذ الْمُنَادِي على يَده دنّا وَعَلِيهِ قدح وزمر وَزعم أَنه خرج بِهَذَا أَمر فَلَا حرج على من يُغني وَيشْرب ويسكر ويطرب وعادت الضرائب وَضربت العوائد
وَأما كمشتكين فَإِنَّهُ وصل إِلَى حلب بعد عبور الْقرى وتمثل عِنْد الصَّباح يحمد الْقَوْم السّري وَاجْتمعَ هُنَاكَ بالأمير شمس الدّين عَليّ وَإِخْوَته إخْوَة مجد الدّين وَأظْهر أَنه لَهُم من المخلصين
وَكَانَ مجد الدّين أَبُو بكر أخوهم رَضِيع نور الدّين وَقد ترّبى مَعَه وَلَزِمَه وَتَبعهُ إِلَى أَن ملك الشَّام بعد وَالِده ففّوض إِلَى مجد الدّين جَمِيع مقاصده من طريفه وتالده وحكّمه فِي الْملك ونظمه فِي السلك فَلَا يُحلّ وَلَا يُعقد إِلَّا بِرَأْيهِ وَكَانَت حصونه محصّنة وَهُوَ يسكن عِنْده فِي(2/327)
قلعة حلب والحاضر عِنْده صباحا وَمَسَاء إِذا طلب وشيزر مَعَ أَخِيه شمس الدّين عَليّ وقلعة جعبر وتلّ بَاشر مَعَ سَابق الدّين عُثْمَان وحارم مَعَ بدر الدّين حسن وَعين تَابَ وعزاز وَغَيرهمَا نوّابه فِيهَا وَهُوَ يصونها ويحميها
ولمّا توفّي جرت إخْوَته فِي الْقرب والانبساط على عَادَته وهم أَعْيَان الدولة وأعضادها وأبدال أرْضهَا وأوتادها وأمجادها وأجوادها فَلَمَّا توفّي نور الدّين لم يشكوا فِي أَنهم يكفلون وَلَده ويرّبونه ويحبهم لأجل سابقتهم وَيُحِبُّونَهُ فَأَقَامَ شمس الدّين عليّ وَهُوَ أكبرهم وأوجههم وَدخل قلعة حلب وَبهَا واليها شاذبخت وسكنها وَأسر مصلحَة الدولة وأعلنها وَعرف مَا جرى بِدِمَشْق من الِاجْتِمَاع واتفاق ذوى الأطماع فكاتبهم وَأمرهمْ بالوصول إِلَيْهِ فِي خدمَة الْملك الصَّالح وَنفذ أَخَاهُ سَابق الدّين عُثْمَان وَكَانَ قَلِيل الْخِبْرَة بَعيدا من التحرُّز والدّهاء فاستقرّ الْأَمر على أَن يحملوا الْملك الصَّالح إِلَيْهِ ويقدموا بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ يتسلم ممالكه وَيكون أتابكه
وَوصل كمشتكين إِلَى دمشق فِي تِلْكَ الْأَيَّام فوافقهم على مَا دبروه من المرام وَسَار الصَّالح وَمَعَهُ كمشتكين وَالْعدْل ابْن العجمي واسماعيل الخازن فبغُتوا إخْوَة مجد الدّين الثَّلَاثَة فقبضوهم واعتقلوهم وَجَاء ابْن الخشاب أَبُو الْفضل مقدّم الشِّيعَة فسفكوا دَمه وَأقَام شمس الدّين بن الْمُقدم بِدِمَشْق على عساكرها مقدما وَفِي مصالحها محكّما وجمال الدّين ريحَان وَالِي القلعة والشِّحن من قبله وَالْأَمر إِلَيْهِ بتفصيله وجمله(2/328)
وَالْقَاضِي كَمَال الدّين الشهرزوري الْحَاكِم النَّافِذ حكمه الصائب سَهْمه الثاقب نجمه
وَكَانَ مسير الْملك الصَّالح من دمشق فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وغاظ صَلَاح الدّين مَا فُعل بأخوة مجد الدّين
وَقَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي لما مَاتَ نُور الدّين اجْتمع أُمَرَاء دولته وتعاقدوا على أَن يَكُونُوا فِي خدمَة الْملك الصَّالح بن نور الدّين وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَبيا وحلفوا لَهُ على منابذة الْملك النَّاصِر وَقبض أَصْحَابه الَّذين بِالشَّام وَمُصَالَحَة الفرنج وَجعلُوا ابْن الْمُقدم شمس الدّين مقدم العساكر وَتمّ ذَلِك وَاسْتقر وَركب الْملك الصَّالح بِدِمَشْق وخطب لَهُ
وَكَانَت الفرنج قد تحركت إِلَى قصد دمشق فَخرج ابْن الْمُقدم وَنزل على بانياس فِي عَسَاكِر نور الدّين وراسل الفرنج فِي الْهُدْنَة فَأَجَابُوهُ بعد أَن قطعُوا قطيعة على الْمُسلمين فَعجل حملهَا إِلَيْهِم وَتمّ أَمر الصُّلْح وعادت الفرنج إِلَى بلادها وَابْن الْمُقدم إِلَى دمشق
واتصل خبر هَذِه الْهُدْنَة بِالْملكِ النَّاصِر وَكَانَ قد خرج من مصر أَربع مراحل فأعظم أمرهَا وأكبره واستصغر أَمر أهل الشَّام وَعلم ضعفهم فراسل ابْن الْمُقدم وَغَيره من الْأُمَرَاء بإنكار ذَلِك والتوبيخ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي كِتَابه إِلَى ابْن أبي عصرون ورد الْخَبَر بصلح بَين الفرنج والدمشقيين وبقيةُ بِلَاد الْمُسلمين مَا دخلت فِي العقد وَلَا انتظمت فِي سلك هَذَا الْقَصْد والعدو لَهما وَاحِد وَصرف مَال الله الَّذِي أُعد لمغنم الطّاعة ومصلحة(2/329)
الْجَمَاعَة فِي هَذِه الْمعْصِيَة المغضبة لله وَلِرَسُولِهِ ولصالحي الْأمة وَكَانَ مذخورا لكشف الْغُمَّة فَصَارَ عونا وَأَن أُسَارَى من طبرية وفرسانها كَانَت وطأتهم شَدِيدَة وشوكتهم حَدِيدَة دُفعوا فِي القطيعة وَجعلُوا إِلَى السّلم السَّبَب والذريعة فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر وقفنا بِهِ بَين الْورْد والصدر إِن أتممنا ظن بِنَا غير مَا نُرِيد وَإِن قعدنا فالعدو من بَقِيَّة الثغور الَّتِي لم تدخل فِي الْهُدْنَة غير بعيد وَإِن فرّقنا العساكر لدينا فاجتماعها بعد افتراقها شَدِيد فَرَأَيْنَا أَن سيرنا إِلَى حَضْرَة الْأَمِير شمس الدّين أبي الْحسن عَليّ وَإِخْوَته من يعرفهُمْ قدر خطر هَذَا الإرتباك وَأَنه أَمر رُبمَا عُجز عَن الِاسْتِدْرَاك وَأَن العدوّ طَالب لَا يغْفل وجاد لَا ينكل وَلَيْث لَا يضيع الفرصة مجد لَا يمِيل إِلَى الرُّخْصَة فَإِن كَانَت الْجَمَاعَة ساخطين فَيظْهر أَمَارَات السخط والتغيير وَلَا يمسك فِي الأول فيعجز عَن الْأَخير لَا سِيمَا وَنحن نغار لله ونغير ونقصد للْمُسلمين مَا يجمع بِهِ صَلَاح الرَّأْي وصواب التَّدْبِير وَقد منعنَا عساكرنا أَن تفترق خوفًا أَن يقْصد الْعَدو نَاحيَة حارم بِالْمَالِ الَّذِي قويت بِهِ قوته وثرت بِهِ ثروته وانبسطت بِهِ خطوته فَإِنَّهُ مَا دَامَ يعلم أَنا مجتمعون وعَلى طلبه مجمعون لَا يُمكنهُ أَن يزايل مراكزه وَلَا يُبَادر مناهزه
قَالَ وَكَانَ مُتَوَلِّي قلعة حلب شاذبخت الْخَادِم النّوري وَكَانَ شمس الدّين عَليّ أَخُو مجد ابْن الداية إِلَيْهِ أُمُور الْجَيْش والديوان إِلَى أَخِيه بدر الدّين حسن الشحنكية وَكَانَ بِيَدِهِ وَيَد إخْوَته جَمِيع المعاقل الَّتِي حول حلب فَلَمَّا بلغ عليا موت نور الدّين صعد إِلَى القلعة وَكَانَ مُقْعَداً واضطرب الْبَلَد ثمّ سكنه ابْن الخشاب وكوتب ابْن الخشاب من دمشق(2/330)
بِحِفْظ الْبَلَد وعول أَوْلَاد الداية على الِاسْتِيلَاء على حلب وَحلف لَهُم جمَاعَة من القلعيين والحلبيين وأنفذوا خلف أبي الْفضل بن الخشاب فَامْتنعَ من الصعُود إِلَيْهِم وترددت بَينهم الرسَالَة وتحزب النَّاس بحلب السّنة مَعَ بني الداية والشيعة مَعَ أبن الخشاب وَجَرت أَسبَاب اقْتَضَت أَن أنزل حسن ابْن الداية جمَاعَة من القلعيين وَأهل الْحَاضِر وزحفوا إِلَى دَار ابْن الخشاب فملكوها ونهبوها واختفى ابْن الخشاب
وأتصلت هَذِه الْأَخْبَار بِمن فِي دمشق فَأخذُوا الْملك الصَّالح وَسَارُوا إِلَى حلب فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الحجَّة وَسَار مَعَ الْملك الصَّالح سعد الدّين كمشتكين وجرديك وَإِسْمَاعِيل الخازن وسابق الدّين عُثْمَان ابْن الدّاية وَقد وكلت الْجَمَاعَة بِهِ وَهُوَ لايعلم وَسَارُوا إِلَى حلب وَخرج النَّاس إِلَى لقائهم
وَكَانَ حسن قد رتّب فِي تِلْكَ اللَّيْلَة جمَاعَة من الحلبيين ليُصبح ويصلبهم فلمَّا خرج للقاء الْملك الصَّالح وَوَقعت عينه عَلَيْهِ ترجَّل ليخدم هُوَ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه فَتقدم جرديك وَأخذ بِيَدِهِ وَشَتمه وجذبه فأركبه خَلفه رديفاً وقُبض سَابق الدّين أَخُوهُ فِي الْحَال وتُخُطَّفت أَصْحَابهم جَمِيعهم واحتيط عَلَيْهِم وَسَارُوا مجدّين حَتَّى سبقوا الْخَبَر إِلَى القلعة وصعدوا إِلَيْهَا وقبضوا على شمس الدّين عَليّ ابْن الداية من فرَاشه وَحمل إِلَى بَين يَدي الْملك الصَّالح فَاسْتَقْبلهُ أحد مماليك نور الدّين الْمَعْرُوف بالجفينة فركله بِرجلِهِ ركلة دحاه بهَا على وَجهه فانشقت جَبهته ثمَّ صفدوا جَمِيعًا وحبسوا فِي جُبّ القلعة وقبضوا على جَمِيع الأجناد الَّذين(2/331)
حلفوا لأَوْلَاد الداية وأُخرجوا جَمِيعًا من القلعة
قلت وَفِي آخر هَذِه السّنة توفّي مرّي الفرنجي الْملك الَّذِي كَانَ حاصر الْقَاهِرَة وأشرف على أَخذ الديّار المصرّية
وَفِي كتاب فاضلي ورد كتاب من الدّاروم يذكر أَنه لما كَانَ عَشِيَّة الْخَمِيس تَاسِع ذِي الْحجَّة هلك مرّي ملك الفرنج لَعنه الله وَنَقله إِلَى عَذَاب كاسمه مشتقا وأقدمه على نَار تلظى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى}
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن أبي طيّ فَفِي أولّها ضمن القطب ابْن العجمي أَبُو صَالح وَابْن أَمِين الدّولة لجرديك إِن قتل ابْن الخشاب ردوا عَلَيْهِ جَمِيع مَا نهب لَهُ فِي دَار ابْن أَمِين الدولة فَدخل على الْملك الصَّالح وتحدّث مَعَه وَأخذ خَاتمه أَمَانًا لِابْنِ الخشاب وَنُودِيَ عَلَيْهِ فَحَضَرَ وَركب إِلَى القلعة فَقتل وعلّق رَأسه على أحد أبراج القلعة
وَبَقِي الْملك الصَّالح فِي قلعة حلب وَمضى الْعِمَاد الْكَاتِب إِلَى الْموصل قَالَ وعزمت على خدمَة سيف الدّين صَاحبهَا وَقد أَخذ من بِلَاد الجزيرة إِلَى حدّ الْفُرَات وَمضى إِلَيْهِ ابْن العجمي للإصلاح فَأصْلح بَين ابْني الْعم وغلق رهن إخْوَة مجد الدّين فِي الاعتقال وضيّقوا عَلَيْهِم فِي الْقُيُود والأغلال وألزموهم بِتَسْلِيم الْحُصُون وَتَقْدِيم الرهون إِلَى أَن(2/332)
غصبوا دُورهمْ وخربوا معمورهم
قَالَ وَكَانَ المّوفق خَالِد بن القيسراني قد وصل وَنحن بِدِمَشْق من مصر فَلَزِمَ دَاره وَلم يدْخل مَعَ الْقَوْم
فَأَما صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ اعْتقد أَن ولد نور الدّين يَتَوَلَّاهُ بعده إخْوَة مجد الدّين فَلَمَّا جرى مَا جرى سَاءَهُ وَقَالَ أَنا أحقّ برعى العهود والسعيّ الْمَحْمُود فَإِنَّهُ إِن استمرت ولَايَة هَؤُلَاءِ تَفَرَّقت الْكَلِمَة المجتمعة وَضَاقَتْ المناهج المتسعة وانفردت مصر عَن الشَّام وطمع أهل الْكفْر فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَكتب إِلَى ابْن المقدّم يُنكر مَا أقدموا عَلَيْهِ من تَفْرِيق الْكَلِمَة وَكَيف اجترؤوا على أعضاد الدّولة وأركانها بل أَهلهَا وإخوانها وَأَنه يلْزمه أَمرهم وأمرها ويضره ضرهم وضرها فَكتب ابْن الْمُقدم إِلَيْهِ يردعه عَن هَذِه الْعَزِيمَة ويقبح لَهُ اسْتِحْسَان هَذِه الشيمة وَيَقُول لَهُ لَا يُقَال عَنْك إِنَّك طمعت فِي بَيت من غرسك وربّاك وأسسك وأصفى مشربك وأضفى ملبسك وَأجلى سكونك لملك مصر وَفِي دسته أجلسك فَمَا يَلِيق بحالك ومحاسن أخلاقك وخلالك غير فضلك وأفضالك
فَكتب إِلَيْهِ صَلَاح الدّين بالإنشاء الفاضلي إِنَّا لانؤثر لِلْإِسْلَامِ وَأَهله إِلَّا مَا جمع شملهم وَألف كلمتهم وللبيت الأتابكي أَعْلَاهُ الله تَعَالَى إِلَّا مَا حفظ أَصله وفرعه وَدفع ضرّه وجلب نَفعه فالوفاء إِنَّمَا يكون بعد الْوَفَاة والمحبة إِنَّمَا تظهر آثارها عِنْد تكاثر أطماع العداة وَبِالْجُمْلَةِ إِنَّا فِي وَاد والظانون بِنَا ظن السوء فِي وَاد وَلنَا من الصّلاح مُرَاد وَلمن يبعدنا(2/333)
عَنهُ مُرَاد وَلَا يُقَال لمن طلب الصّلاح إِنَّك قَادِح وَلمن ألْقى السِّلَاح إِنَّك جارح
فصل
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ عزم السُّلْطَان على أَن يُسَارع إِلَى تلافي الْأَمر فاعترضه أَمْرَانِ أَحدهمَا وُصُول أسطول صقلية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وإدراكه وَالثَّانِي نوبَة الْكَنْز ونفاقه وهلاكه أما وُصُول الأسطول فَكَانَ يَوْم الْأَحَد السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَانْهَزَمَ فِي أول الْمحرم سنة سبعين
ثمَّ ذكر كتابا وصل من صَلَاح الدّين إِلَى بعض الْأُمَرَاء بِالشَّام بشرح الْحَال وَحَاصِله أَن أول الأسطول وصل وَقت الظّهْر وَلم يزل متواصلا متكاملا إِلَى وَقت الْعَصْر وَكَانَ ذَلِك على حِين غَفلَة من المتوكلين بِالنّظرِ لَا على حِين خَفَاء من الْخَبَر فَأمر ذَلِك الأسطول كَانَ قد أشتهر ورُوع بِهِ ابْن عبد الْمُؤمن فِي الْبِلَاد المغربية وهدد بِهِ فِي الجزائر الرومية صَاحب قسطنطينية فشوهد فِي الثغر من وفور عُدّته وَكَثْرَة عدَّته وعظيم الهمّة بِهِ وفرط الاستكثار مِنْهُ مَا مَلأ الْبَحْر وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَمر فحمى أهل الثغر عَلَيْهِم البّر ثمَّ أُشير عَلَيْهِم أَن يقربُوا من السّور فَأمكن الأسطول النُّزُول فاستنزلوا خيولهم من الطرائد وراجلهم من المراكب فَكَانَت الْخَيل ألفا وَخمْس مئة رَأس وَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألف مقَاتل مَا بَين فَارس(2/334)
وراجل وَكَانَت عدَّة الطرائد سِتا وَثَلَاثِينَ طريدة تحمل الْخَيل وَكَانَ مَعَهم مئتا شيني فِي كل شيني مئة وَخَمْسُونَ رَاجِلا وَكَانَت عدَّة السّفن الَّتِي تحمل الآت الْحَرْب والحصار من الأخشاب الْكِبَار وَغَيرهَا سِتّ سفن وَكَانَت عدَّة المراكب الْحمالَة برسم الأزواد للرِّجَال أَرْبَعِينَ مركبا وفيهَا من الراجل المتفرق وغلمان الخيالة وصناع المراكب وأبراج الزَّحْف ودباباته والمنجنيقية مَا يتمم خمسين ألف راجل
وَلما تكاملوا نازلين على الْبر خَارِجين من الْبَحْر حملُوا على الْمُسلمُونَ حَملَة أوصلتهم إِلَى السُّور وفقد من أهل الثغر فِي وَقت الحملة مَا يناهز سَبْعَة من أنفس وَاسْتشْهدَ مَحْمُود بن البصارو بِسَهْم جرخ وجدفت مراكب الفرنج دَاخِلَة إِلَى الميناء وَكَانَ بِهِ مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة فسبقهم أَصْحَابنَا إِلَيْهَا فخسفوها وغرقوها وغلبوهم على أَخذهَا وأحرقوا مَا احْتَرَقَ مِنْهَا واتصل الْقِتَال إِلَى الْمسَاء فَضربُوا خيامهم بِالْبرِّ وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاث مئة خيمة
فَلَمَّا أَصْبحُوا زحفوا وضايقوا وحاصروا ونصبوا ثَلَاث دبابات بكباشها وَثَلَاثَة مجانيق كبار الْمَقَادِير تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية وتعجب أَصْحَابنَا من شدَّة أَثَرهَا وَعظم حجرها وَأما الدبابات فَإِنَّهَا تشبه الأبراج فِي جفَاء أخشابها وارتفاعها وَكَثْرَة مقاتلتها واتساعها وزحفوا بهَا إِلَى أَن قاربت السّور ولجّوا فِي الْقِتَال عَامَّة النَّهَار الْمَذْكُور
وَورد الْخَبَر إِلَى منزلَة العساكر بفاقوس يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث يَوْم نزُول العدوّ على جنَاح الطَّائِر فاستنهضنا العساكر إِلَى الثغرين إسكندرية ودمياط(2/335)
احْتِرَازًا عَلَيْهَا واحتياطا فِي أمرهَا وخوفا من مُخَالفَة الْعَدو إِلَيْهَا وَاسْتمرّ الْقِتَال وقدمت الدبابات وَضربت المنجنيقات وزاحمت السّور إِلَى أَن صَارَت مِنْهُ بِمِقْدَار أماج
فاتفق أَصْحَابنَا على أَن يفتحوا أبواباً قبالتها من السُّور ويتركوها معقلة بالقشور ثمَّ فتحُوا الْأَبْوَاب على غَفلَة وَخَرجُوا مِنْهَا على غرَّة وَركب من هُنَاكَ من الْأُمَرَاء وَخَرجُوا من الْأَبْوَاب وتكاثر صائح أهل الثغر من كل الْجِهَات فأحرقوا الدبابات المنصوبة وَصَدقُوا عِنْدهَا الْقِتَال وَأنزل الله على الْمُسلمين النّصر وعَلى الْكفَّار الخذلان والقهر
واتصل الْقِتَال إِلَى الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم وَقصرت عزائمهم وفتر حربهم وأحرقت آلَات قِتَالهمْ واستحر الْقَتْل والجراح فِي رِجَالهمْ وَدخل الْمُسلمُونَ إِلَى الثغر لأجل قَضَاء فَرِيضَة الصَّلَاة وَأخذ مَا بِهِ قوام الْحَيَاة وهم على نيّة المباكرة والعدوّ على نِيَّة الْهَرَب والمبادرة ثمَّ كرّ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم بَغْتَة وَقد كَاد يخْتَلط الظلام فهاجموهم فِي الْخيام فتسلموها بِمَا فِيهَا وفتكوا فِي الرّجالة أعظم فتك(2/336)
وتسلموا الخيالة وَلم يسلم مِنْهُم إِلَّا من نزع لبسه وَرمى فِي الْبَحْر نَفسه وتقحم أَصْحَابنَا فِي الْبَحْر على بعض المراكب فخسفوها وأتلفوها فَوَلَّتْ بَقِيَّة المراكب هاربة وجاءتها أَحْكَام الله الْغَالِبَة وَبَقِي العدوّ بَين قتل وغرق وَأسر وَفرق واحتمى ثَلَاث مئة فَارس فِي رَأس تلّ فَأخذت خيولهم ثمَّ قتلوا وأسروا وَأخذ من الْمَتَاع والآلات والأسلحة مَا لَا يملك مثله وأقلع هَذَا الاسطول عَن الثغر يَوْم الْخمسين
وَذكر ابْن شَدَّاد أَن نزُول هَذَا الْعَدو كَانَ فِي شهر صفر وَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا فِي سِتّ مئة قِطْعَة مَا بَين شيني وطرادة وبطسة وَغير ذَلِك
فصل
وَأما نوبَة الْكَنْز فَقَالَ ابْن شَدَّاد الْكَنْز إِنْسَان مقدم من(2/337)
المصريين كَانَ قد انتزح إِلَى أسوان فَأَقَامَ بهَا وَلم يزل يدبره أمره وَيجمع السودَان عَلَيْهِ ويُخِّيل لَهُم أَنه يملك الْبِلَاد وَيُعِيد الدولة مصرية وَكَانَ فِي قُلُوب الْقَوْم من المهاواة للمصريين مَا تستصغر هَذِه الْأَفْعَال عِنْده فَاجْتمع عَلَيْهِ خلق كثير وَجمع وافر من السودَان وَقصد قوص وأعمالها فَانْتهى خَبره إِلَى صَلَاح الدّين فَجرد لَهُ عسكرا عَظِيما شاكين فِي السِّلَاح من الَّذين ذاقوا حلاوة ملك الديار المصرية وخافوا على فَوت ذَلِك مِنْهُم وقدّم عَلَيْهِم أَخَاهُ سيف الدّين وَسَار بهم حَتَّى أَتَى الْقَوْم فَلَقِيَهُمْ بمصاف فكسرهم وَقتل مِنْهُم خلقا عَظِيما واستأصل شأفتهم وأخمد نائرتهم وَذَلِكَ فِي السّابع من صفر سنة سبعين واستقرت قَوَاعِد الْملك
قَالَ الْعِمَاد وَفِي أول سنة سبعين مستهلها قَامَ الْمَعْرُوف بالكنز فِي الصَّعِيد وَجمع من كَانَ فِي الْبِلَاد من السودَان وَالْعَبِيد وَعدا ودعا من الْقَرِيب والبعيد وَكَانَ عِنْده من الْأُمَرَاء أَخ لحسام الدّين بن أبي الهيجاء السّمين ففتك بِهِ وبمن هُنَاكَ من المقطعين فغارت حمية أَخِيه وثارت للثأر وساعده أَخُو السُّلْطَان سيف الدّين وَعز الدّين موسك ابْن خَاله وعدة من أمرائه وَرِجَاله وجاؤوا إِلَى مَدِينَة طود فاحتمت عَلَيْهِم(2/338)
وامتنعت فأسرعت البلية إِلَيْهَا وَبهَا وَقعت وأتى السَّيْف على أَهلهَا وباءت بعد عزها بذّلها
ثمَّ قصد الْكَنْز وَهُوَ فِي طغيانه وعدوانه وسوئه وسودانه فسُفك دَمه وَظهر بعد ظُهُور وجوده عَدمه وأريقت دِمَاء سوده وهجم غابه على أسوده وَلم يبْق للدولة بعد كنزها كنز وطلّ دَمه وَلم ينتطح فِيهِ عنز وارتدع المارقون فَمَا رقوا بعده سلم نفاق وَالله لناصري دينه نَاصِر واق
وَقَالَ ابْن أبي طيّ وَاتفقَ أَيْضا أَن خرج بقرية من قرى الصَّعِيد يُقَال لَهَا طود رجل يعرف بعباس بن شاذي وثار فِي بِلَاد قوص ونهبها وخربها وَأخذ أَمْوَال النَّاس واتصل ذَلِك بِالْملكِ الْعَادِل سيف الدّين أبي بكر بن أَيُّوب وَكَانَ السُّلْطَان قد استنابه بِمصْر فَجمع لَهُ العساكر وأوقع بِهِ وبدّد شَمله وفض جموعه وَقَتله ثمَّ قصد بعده كنز الدولة الْوَالِي بأسوان وَكَانَ قصد بلد طود فَقتل أَكثر عسكره وهرب فأدركه بعض أَصْحَاب الْملك الْعَادِل فَقتله
فصل
فِي توّجه صَلَاح الدّين إِلَى دمشق ودخوله إِلَيْهَا فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ آخر شهر ربيع الأول
قَالَ الْعِمَاد لمّا خلا باله مِمَّا تقدم ذكر تجهز لقصد الشَّام فَخرج إِلَى(2/339)
الْبركَة مستهل صفر وَأقَام حَتَّى اجْتمع الْعَسْكَر ثمَّ رَحل إِلَى بلبيس ثَالِث عشر ربيع الأول وَكَانَت رسل شمس الدِّين صَاحب بصرى صديق ابْن جاولي وشمس الدّين بن الْمُقدم عِنْده تَسْتَورى فِي الْحَث والبعث زنده وتستقدمه وجنده وَسَار على صَدْر وأيْلة وَوصل السيّر بالسُّرى حَتَّى أَنَاخَ على بصرى بَصيرًا بالعلا نَصِيرًا للهدى فَاسْتَقْبلهُ صَاحب بصرى وَشد أزره وسدّد أمره واستضاف إِلَى بصرى صرخد وَتفرد بِالسَّبقِ إِلَى الْخدمَة وتوَّحد وَسَار فِي الْخدمَة مَعَه إِلَى الْكسْوَة
وَبكر صَلَاح الدّين يَوْم الِاثْنَيْنِ انسلاخ الشَّهْر وَسَار فِي موكب قوى بِالْعدَدِ وَالْعدَد وَحسب أَن يمْتَنع عَلَيْهِ الْبَلَد وَأَن الْأَطْرَاف توثق والأبواب تغلق فَأقبل وَهُوَ يَسُوق وإقباله يشوق حَتَّى دخل دمشق وخرقها وَكَانَ الله تَعَالَى لَهُ خلقهَا وَدخل إِلَى دَار العقيقي مسكن أَبِيه وَبَقِي جمال الدّين ريحَان الْخَادِم فِي القلعة على تأبِّيه فراسله حَتَّى استماله وأغزر لَهُ نواله وَملك الْمَدِينَة والقلعة وَنزل بالقلعة سيف الْإِسْلَام أَخُو السّلطان صَلَاح الدّين وَملك ابْن المقّدم دَاره وكل مَا حواليها وبذل لَهُ طلبته الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا وَنَصّ عَلَيْهَا وَأظْهر أَنه قد جَاءَ لتربية الْملك الصَّالح وحِفْظ مَالَه من الْمصَالح وتدبير ملكه فَهُوَ أحقّ بصيانة حقّه
وَاجْتمعَ بِهِ أعيانها وخلص لولائه إسرارها وإعلانها وَأصْبح وَهُوَ سلطانها وزاره القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري فوفاه حقّه من(2/340)
الاحترام ووفّر لَهُ حَظّ التبجيل والإعظام
ونفذت الْكتب بالأمثلة الْفَاضِلِيَّةِ إِلَى مصر بِهَذَا الْفَتْح والنصر وَفِي بَعْضهَا يَوْم وصولنا إِلَى بصرى وَقَبله وفدت وَهَاجَرت وتزاحمت وتكاثرت وتوافت الْأُمَرَاء والأجناد والأتراك والأكراد والعربان وراجل الْأَعْمَال وأعيان الرِّجَال وَورد كتاب من دمشق بعد كتاب وكلٌّ مخبر وذاكر وَهُوَ غَائِب بكتابه حَاضر يذكر أَن الْبِلَاد مُمكنَة القياد مذعنة إِلَى المُرَاد وأمّا الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَإنَّا فِي هَذِه السفرة الْمُبَارَكَة نزلنَا فِي بِلَادهمْ نزُول المتحكم وأقمنا بهَا إِقَامَة الْحَاضِر المتخيم وأدلجنا وعيونهم متناومة وجزنا وأنوفهم راغمة ووطئنا ورقابهم صغر ومررنا وعيشهم مر وَالله يزيدهم ذلاً وَيجْعَل عَدَاوَة الْإِسْلَام فِي صُدُورهمْ غِلاًّ وَفِي أَعْنَاقهم غُلاًّ
وَفِي كتاب آخر وَكَانَ رحيلنا من بصرى يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَقد توجه صَاحبهَا من بَين أَيْدِينَا قَائِما بِشُرُوط الْخدمَة ولوازمها ثمَّ لَقينَا الْأَجَل نَاصِر الدّين بن الْمولى أَسد الدّين رَحْمَة الله عَلَيْهِ وأدام نعْمَته والأمير سعد الدّين بن انر فِي السبت السَّابِع وَالْعِشْرين ونزلنا يَوْم الْأَحَد بجسر الْخشب والأجناد الدمشقية إِلَيْنَا متوافية وَالْوُجُوه على أبوابنا مترامية وَلم يتَأَخَّر إِلَّا من أبقى وَجهه وراقب صَاحبه وَمن اعْتقد بالقعود أَنه قد نظر لنَفسِهِ فِي الْعَاقِبَة وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر ركبنَا على خيرة الله تَعَالَى وَعرض دون الدُّخُول عدد من الرِّجَال فدعستهم عساكرنا المنصورة وصدمتهم وعرفتهم كَيفَ يكون(2/341)
اللِّقَاء وعلمتهم ودخلنا الْبَلَد واستقرت بِنَا دَار والدنا رَحْمَة الله عَلَيْهِ قريرة عيوننا مُسْتَقرًّا سُكُون الرّعية وسكوننا وأذعنا فِي أرجاء الْبَلَد النداء بإطابة النُّفُوس وَإِزَالَة المكوس وَكَانَت الْولَايَة فيهم قد ساءت وأسرفت وَالْيَد المتعدية قد امتدت إِلَى أَحْوَالهم وأجحفت فشرعنا فِي امْتِثَال أَمر الشَّرْع برفعها وإعفاء الْأمة مِنْهَا بوضعها
قَالَ ابْن الْأَثِير لما خَافَ من بِدِمَشْق من الْأُمَرَاء أَن يقصدهم كمشتكين وَالْملك الصَّالح من حلب فيعاملهم بِمَا عَامل بِهِ بني الداية راسلوا سيف الدّين غَازِي ليسلموها إِلَيْهِ فَلم يجبهم فحملهم الْخَوْف على أَن راسلوا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بِمصْر وَكَانَ كَبِيرهمْ فِي ذَلِك شمس الدّين بن الْمُقدم وَمن أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم فَلَمَّا أَتَتْهُ الرُّسُل لم يتَوَقَّف وَسَار إِلَى الشَّام فَلَمَّا وصل دمشق سلمهَا إِلَيْهِ من بهَا من الْأُمَرَاء ودخلها وَاسْتقر بهَا وَلم يقطع خطْبَة الْملك الصَّالح وَإِنَّمَا أظهر أَنِّي إِنَّمَا جِئْت لأخدمه واسترد لَهُ بِلَاده الَّتِي أَخذهَا ابْن عَمه وَجَرت أُمُور آخرهَا أَنه اصْطلحَ هُوَ وَسيف الدّين وَالْملك الصَّالح على مَا بِيَدِهِ
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما تحقق صَلَاح الدّين وَفَاة نور الدّين وَكَون وَلَده طفْلا لَا ينْهض بأعباء الْملك وَلَا يسْتَقلّ بِدفع عَدو الله عَن الْبِلَاد تجهّز لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّام إِذْ هُوَ أصل بِلَاد الْإِسْلَام فتجهزّ بِجمع كثير من العساكر وخلّف بالديار المصرية من يسْتَقلّ بحفظها وحراستها(2/342)
ونظم أمورها وسياستها وَخرج هُوَ سائرا مَعَ جمع من أَهله وأقاربه وَهُوَ يُكَاتب أهل الْبِلَاد وأمراءها وَاخْتلفت كلمة اصحاب الْملك الصَّالح واختلت تدبيراتهم وَخَافَ بَعضهم من بعض وَقبض الْبَعْض على جمَاعَة مِنْهُم وَكَانَ ذَلِك سَبَب خوف البَاقِينَ مِمَّن فعل ذَلِك وسببا لتنفير قُلُوب النّاس عَن الصَّبِي فَاقْتضى الْحَال أَن كَاتب ابنُ الْمُقدم صَلَاح الدّين فوصل إِلَى الْبِلَاد مطالبا بِالْملكِ الصَّالح ليَكُون هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى أمره ويربّ حَاله
فَدخل دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء سلخ ربيع الآخر وَكَانَ أوّل دُخُوله إِلَى دَار أَبِيه وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ وفرحوا بِهِ وَأنْفق فِي ذَلِك الْيَوْم فِي النّاس مَالا طائلا وَأظْهر الْفَرح وَالسُّرُور بالدمشقيين وأظهروا الْفَرح بِهِ وَصعد القلعة واستقرّ قدمه فِي ملكهَا فَلم يلبث أَن سَار فِي طلب حلب فنازل حمص وَأخذ مدينتها فِي جماى الأولى وَلم يشْتَغل بقلعتها وَسَار حَتَّى أَتَى حلب ونازلها سلخ جُمَادَى الْمَذْكُور وَهِي الدفعة الأولى
قَالَ ابْن أبي طيّ بلغ السُّلْطَان أَن ابْن الْمُقدم نقض عهد الْملك الصَّالح وَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي خُرُوج سيف الدّين صَاحب الْموصل واستيلائه على الْبِلَاد الشرقية ومضايقته للْملك الصَّالح فِي ممالكه وَقيل إِن ابْن الْمُقدم كَاتب السُّلْطَان وَدعَاهُ إِلَى الْخُرُوج وَقيل إِنَّمَا خرج إِلَى الشَّام خوفًا من حَرَكَة تنشأ من جَانب الفرنج بِسَبَب اخْتِلَاف أُمَرَاء الشَّام وشغل بَعضهم بِبَعْض ولجواب ممُض ورد من ابْن الْمُقدم إِلَيْهِ وَلما تَيَقّن(2/343)
ابْن الْمُقدم خُرُوج السّلطان إِلَى جِهَة دمشق أشْفق من ذَلِك واستدرك مَا بدا مِنْهُ وتذلل لَهُ ووعده تَسْلِيم دمشق إِلَيْهِ
قَالَ وَلما حصل على دمشق وقلعتها واستوطن بُقعتها نشر علم الْعدْل وَالْإِحْسَان وعّفى أثار الظُّلم والعدوان وأبطل مَا كَانَ الْوُلَاة استجدوه بعد موت نور الدّين من القبائح والمنكرات والمؤن والضرائب الْمُحرمَات
قلت وَكَانَ قد كتب إِلَيْهِ أُسَامَة بن منقذ قصيدة بعد مصَاف عسقلان أَولهَا
(تهن يَا أطول الْمُلُوك يدا ... فِي بسط عدلٍ وسطوةٍ وندى)
(أجرا وذكرا من ذَلِك الشُّكْر فِي الدُّنْيَا ... وَمن ذَلِك الْجنان غَدا)
(لَا تستقل الَّذِي صنعت فقد ... قُمْت بِفَرْض الْجِهَاد مُجْتَهدا)
(وجست أَرض العدى وأفنيت من ... أبطالهم مَا يُجَاوز العددا)
(وَمَا رَأينَا غزا الفرنج من الْمُلُوك ... فِي عقر دَارهم أحدا)
(فسر إِلَى الشَّام فالملائكة الْأَبْرَار ... يلقاك جَمْعهم مدَدا)
(فَهُوَ فَقير إِلَيْك يأملُ أنْ ... تُصلح بِالْعَدْلِ مِنْهُ مَا فسدا)
(وَالله يعطيك فِيهِ عَاقِبَة النَّصْر ... كَمَا فِي كِتَابه وَعدا)
(فَمَا حباك الورى وألهمك الْعدْل ... وأعطاك مَا ملكت سدى)
ومدح وحيش الْأَسدي صَلَاح الدّين عِنْد أَخذه دمشق بقصيدة(2/344)
أَولهَا
(قد جَاءَك النَّصْر والتوفيق فاصطحبا ... فَكُن لأضعاف هَذَا النَّصْر مرتقبا)
(لله أَنْت صَلَاح الدّين من أَسد ... أدنى فريسته الْأَيَّام إِن وثبا)
(رَأَيْت جلق ثغرا لَا نَظِير لَهُ ... فجئتها عَامِرًا مِنْهَا الَّذِي خربا)
(نادتك بالذل لما قل ناصرها ... وأزمع الْخلق من أوطانها هربا)
(أحييْتها مثل مَا أَحييت مصر فقد ... أعدت من عدلها مَا كَانَ قد ذَهَبا)
(هَذَا الَّذِي نصر الْإِسْلَام فاتضحت ... سَبيله وأهان الْكفْر والصُّلبا)
(وَيَوْم شاور والإيمانُ قد هزمت ... جيوشه كَانَ فِيهِ الجحفل اللجبا)
(أَبَت لَهُ الضيم نفس مرّة وَيَد ... فعالة وفؤاد قطّ مَا وجبا)
(يستكثر الْمَدْح يُتْلَى فِي مكارمه ... زهدا ويستصغر الدُّنْيَا إِذا وهبا)
(وَيَوْم دمياط والإسكندرية قد ... أصارهم مثلا فِي الأَرْض قد ضربا)
(وَالشَّام لَو لم تدارك أَهله اندرست ... آثاره وعفت آيَاته حقبا)
فصل فِيمَا جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحماة وحصار حلب
قَالَ ابْن أبي طيّ لما أتصل بِمن فِي حلب حُصُول دمشق للْملك(2/345)
النَّاصِر وميل النَّاس إِلَيْهِ وانعكافهم عَلَيْهِ خَافُوا وَأَشْفَقُوا وَأَجْمعُوا على مراسلته فحّملوا قطب الدّين ينَال بن حسان رِسَالَة أرعدوا فِيهَا وأبرقوا وَقَالُوا لَهُ هَذِه السيوف الَّتِي ملكّتك مصر بِأَيْدِينَا والرماح الَّتِي حويت بهَا قُصُور المصريين على أكتافنا وَالرِّجَال الَّتِي وَردت عَنْك تِلْكَ العساكر هِيَ ترّدك وعمّا تصديت لَهُ تصدّك وَأَنت فقد تعدّيت طورك وتجاوزت حدك وَأَنت أحد غلْمَان نور الدّين وَمِمَّنْ يجب عَلَيْهِ حفظه فِي وَلَده
قَالَ وَلما بلغ السُّلْطَان وُرُود ابْن حسان عَلَيْهِ رَسُولا تلّقاه بموكبه وبنفسه وَبَالغ فِي إكرامه وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ ثمَّ أحضرهُ بعد ثَالِثَة لسَمَاع الرسَالَة مِنْهُ فَلَمَّا فَاه ابْن حسان بِتِلْكَ الشقاشق الْبَاطِلَة وقعقع بِتِلْكَ التمويهات العاطلة لمُ يُعره السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى طرفا وَلَا سمعا وَلَا رد عَلَيْهِ خفضا وَلَا رفعا بل ضرب عَنهُ صفحا وتغاضيا وَترك جَوَابه إحسانا وتجافيا وَجرى فِي ميدان أريحيته واستن فِي سنَن مروءئه وخاطبه بِكَلَام لطيف رَقِيق وَقَالَ لَهُ يَا هَذَا اعْلَم أنني وصلت إِلَى الشَّام لجمع كلمة الْإِسْلَام وتهذيب الْأُمُور وحياطة الْجُمْهُور وسدّ الثغور وتربية ولد نور الدّين وكف عَادِية الْمُعْتَدِينَ فَقَالَ لَهُ ابْن حسان إِنَّك إِنَّمَا وَردت لأخذ الْملك لنَفسك وَنحن لَا نطاوعك على ذَلِك وَدون مَا ترومه خرط القتاد وفتّ الأكباد وإيتام الْأَوْلَاد فَتَبَسَّمَ السُّلْطَان لمقاله وتزايد فِي احْتِمَاله وَأَوْمى إِلَى رِجَاله بإقامته من بَين يَدَيْهِ بعد أَن كَاد يَسْطُو عَلَيْهِ
ونادى فِي عساكره بالاستعداد لقصد الشَّام الْأَسْفَل ورحل مُتَوَجها إِلَى(2/346)
حمص فتسلم الْبَلَد وَقَاتل القلعة وَلم ير تَضْييع الزَّمَان عَلَيْهَا فَوكل بهَا من يحصرها ورحل إِلَى جِهَة حماة فَلَمَّا وصل إِلَى الرَّسْتَن خرج صَاحبهَا عز الدّين جرديك وَأمر من فِيهَا من الْعَسْكَر بِطَاعَة أَخِيه شمس الدّين على وَأَتْبَاع أمره وَسَار جرديك حَتَّى لَقِي السُّلْطَان وَاجْتمعَ بِهِ بالرَّسْتَن وَأقَام عِنْده يَوْمًا وَلَيْلَة وَظهر من نتيجة اجتماعه بِهِ أَنه سلم إِلَيْهِ حماة وَسَأَلَهُ أَن يكون السّفير بَينه وَبَين من بحلب فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى مُرَاده وَسَار إِلَى حلب وَبَقِي أَخُو جرديك بقلعة حماة
قَالَ وَسَار جرديك إِلَى حلب وَهُوَ ظان أَنه قد فعل شَيْئا وحصّل عِنْد من بحلب يدا فَاجْتمع بالأمراء وَالْملك الصَّالح وَأَشَارَ عَلَيْهِم بمصالحة الْملك النَّاصِر فاتهمه الْأُمَرَاء بالمخامرة وردوّا مشورته وأشاروا بِقَبْضِهِ فَامْتنعَ الْملك الصَّالح ولجّ سعد الدّين كمشتكين فِي الْقَبْض عَلَيْهِ فَقبض وَثقل بالحديد وَأخذ بِالْعَذَابِ الشَّديد وَحمل إِلَى الْجب الَّذِي فِيهِ أَوْلَاد الداية
قَالَ وَلما قدم جرديك وشدّ فِي وَسطه الْحَبل وأدلى إِلَى الْجب وأحس بِهِ أَوْلَاد الداية قَامَ إِلَيْهِ مِنْهُم حسن وَشَتمه أقبح شتم وسبه ألأم سبّ وَحلف بِاللَّه إِن أنزل إِلَيْهِم ليَقْتُلنه فامتنعوا من تدليته فأُعلم سعد الدّين كمشتكين فَحَضَرَ إِلَى الجبّ وَصَاح على حسن وَشَتمه وتوّعده فسكن حسن وَأمْسك وَأنزل جرديك الجبّ فَكَانَ عِنْد أَوْلَاد الداية وأسمعه حسن كل مَكْرُوه
قَالَ وَكتب أبي إِلَى حلب حِين اتَّصل بِهِ فَقبض أَوْلَاد الداية وجرديك(2/247)
وَكَانُوا تعصّبوا عَلَيْهِ حَتَّى نَفَاهُ نور الدّين من حلب قصيدة مِنْهَا
(بُنو فُلَانَة أعوان الضّلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك وَالْقدر)
(وَأَصْبحُوا بعد عزّ الْملك فِي صفد ... وقعر مظْلمَة يغشى لَهَا الْبَصَر)
(وجرّد الدَّهْر فِي جرديك عزمته ... والدهر لَا ملْجأ مِنْهُ وَلَا وزر)
قَالَ وَلم يزل السُّلْطَان مُقيما على الرَّسْتَن ثمَّ طَال عَلَيْهِ الْأَمر فَسَار إِلَى جباب التركمان فَلَقِيَهُ أحد غلْمَان جرديك وَأخْبرهُ بِمَا جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فَرَحل السُّلْطَان من سَاعَته عَائِدًا إِلَى حماة وَطلب من أخي جرديك تَسْلِيم حماة إِلَيْهِ وَأخْبرهُ بِمَا جرى على أَخِيه فَفعل وَصعد السُّلْطَان إِلَى قلعة حماة وَاعْتبر أحوالها وولاها مبارز الدّين عليّ بن أبي الفوارس وَذَلِكَ مستهل جُمَادَى الْآخِرَة
وَسَار السُّلْطَان إِلَى حلب وَنزل على أنف جبل جوشن فَوق مشْهد الدكة ثَالِث جُمَادَى وامتدت عساكره إِلَى الخناقية وَإِلَى السعدى وَكَانَ من بحلب يظنون أَن السُّلْطَان لَا يقدم عَلَيْهِم فَلم يرعهم إِلَّا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت فخافوا من الحلبيين أَن يسلمُوا الْبَلَد كَمَا فعل أهل دمشق فأرادوا تطييب قُلُوب الْعَامَّة فأشير على ابْن نور الدّين أَن يجمعهُمْ فِي الميدان وَيقبل عَلَيْهِم بِنَفسِهِ ويخاطبهم بِلِسَانِهِ أَنهم الْوَزَرُ والملجأ فَأمر أَن يُنَادى باجتماع النَّاس إِلَى ميدان بَاب الْعرَاق فَاجْتمعُوا حَتَّى غصّ الميدان بِالنَّاسِ فَنزل الصَّالح من بَاب الدرجَة وَصعد من الخَنْدَق ووقف فِي رَأس الميدان من الشمَال وَقَالَ لَهُم يَا أهل حلب أَنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إِلَيْكُم كبيركم(2/348)
عِنْدِي بِمَنْزِلَة الْأَب وشابكم عِنْدِي بِمَنْزِلَة الْأَخ وصغيركم عِنْدِي يحل مَحل الْوَلَد قَالَ وخنقته الْعبْرَة وسبقته الدمعة وَعلا نَشِيجه فَافْتتنَ النَّاس وصاحوا صَيْحَة وَاحِدَة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وَقَالُوا نَحن عبيدك وَعبيد أَبِيك نُقَاتِل بَين يَديك ونبذل أَمْوَالنَا وأنفسنا لَك وَأَقْبلُوا على الدُّعَاء لَهُ والترحم على ابيه
وَكَانُوا قد اشترطوا على الْملك الصَّالح أَنه يُعِيد إِلَيْهِم شرقية الْجَامِع يصّلون فِيهَا على قاعدتهم الْقَدِيمَة وَأَن يُجهر بحيّ على خير الْعَمَل وَالْأَذَان والتذكير فِي الْأَسْوَاق وقدّام الْجَنَائِز بأسماء الْأَئِمَّة الاثنى عشر وَأَن يصلوا على أمواتهم خمس تَكْبِيرَات وَأَن تكون عُقُود الْأَنْكِحَة إِلَى الشريف الطَّاهِر أبي المكارم حَمْزَة بن زهرَة الْحُسَيْنِي وَأَن تكون العصبية مُرْتَفعَة والناموس وازع لمن أَرَادَ الْفِتْنَة وَأَشْيَاء كَثِيرَة اقترحوها مِمَّا كَانَ قد أبْطلهُ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فأجيبوا إِلَى ذَلِك
قَالَ ابْن أبي طيّ فَأذن المؤذنون فِي مَنَارَة الْجَامِع وَغَيره بحيّ على خير الْعَمَل وَصلى أبي فِي الشرقية مسبلاً وَصلى وُجُوه الحلبيين خَلفه وَذكروا فِي الْأَسْوَاق وقدّام الْجَنَائِز بأسماء الْأَئِمَّة وصلوا على الْأَمْوَات خمس تَكْبِيرَات وَأذن للشريف فِي أَن تكون عُقُود الحلبيين من الإمامية إِلَيْهِ وفعلوا جَمِيع مَا وَقعت الْأَيْمَان عَلَيْهِ
فصل
قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَت هَذِه السّنة شَدِيدَة الْبرد كَثِيرَة الثلوج(2/349)
عَظِيمَة الأمطار هائجة الأهوية وَكَانَ السُّلْطَان قد جعل أَوْلَاد الداية عُلالة لَهُ وسببا يقطع بِهِ أَلْسِنَة من يُنكر عَلَيْهِ الْخُرُوج إِلَى الشَّام وَقصد الْملك الصَّالح وَيَقُول أَنا إِنَّمَا أتيت لاستخلاص أَوْلَاد الداية وَإِصْلَاح شَأْنهمْ
وَأرْسل السُّلْطَان إِلَى حلب رَسُولا يعرّض بِطَلَب الصُّلْح فَامْتنعَ كمشتكين فَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ السُّلْطَان فِي قتال الْبَلَد
وَكَانَت ليَالِي الْجَمَاعَة عِنْد الْملك الصَّالح لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِنصب الحبائل للسُّلْطَان والفكرة فِي مخاتلته وإرسال الْمَكْرُوه إِلَيْهِ فَأَجْمعُوا آراءهم على مراسلة سِنَان صَاحب الحشيشية فِي إرصاد المتالف للسُّلْطَان وإرسال من يفتك بِهِ وضمنوا لَهُ على ذَلِك أَمْوَالًا جمة وعدة من الْقرى فَأرْسل سِنَان جمَاعَة من فتاك أَصْحَابه لاغتيال السُّلْطَان فجاؤوا إِلَى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر فعرفهم صَاحب بوقبيس لِأَنَّهُ كَانَ مثاغراً لَهُم فَقَالَ لَهُم يَا وَيْلكُمْ كَيفَ تجاسرتم على الْوُصُول إِلَى هَذَا الْعَسْكَر ومثلي فِيهِ فخافوا غائلته فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ فِي مَوْضِعه وَجَاء قوم للدَّفْع عَنهُ فجرحوا بَعضهم وَقتلُوا الْبَعْض وَبدر من الحشيشية أحدهم وَبِيَدِهِ سكينَة مَشْهُورَة ليقصد السُّلْطَان ويهجم عَلَيْهِ فَلَمَّا صَار إِلَى بَاب الْخَيْمَة اعْتَرَضَهُ طغريل أَمِير جاندار فَقتله وطُلب الْبَاقُونَ فَقتلُوا بعد أَن قتلوا جمَاعَة
وَقَالَ وَلما فَاتَ من بحلب الْغَرَض من السُّلْطَان بطرِيق الحشيشية كاتبوا قومص طرابلس وضمنوا لَهُ أَشْيَاء كَثِيرَة مَتى رحلَّ السُّلْطَان عَن(2/350)
حلب وَكَانَ لَعنه الله فِي أسر نور الدّين مُنْذُ كسرة حارم وَكَانَ قد بذل فِي نَفسه الْأَمْوَال الْعَظِيمَة فَلم يقبلهَا نور الدّين فَلَمَّا كَانَ قبل موت نور الدّين سعى لَهُ فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي حَتَّى بَاعه نور الدّين بمبلغ مئة وَخمسين ألف دِينَار وفكاك ألف أَسِير
وَاتفقَ فِي أول هَذِه السّنة موت ملك الفرنج صَاحب الْقُدس وطبرية وَغَيرهمَا فتكفل هَذَا القمص بِأَمْر وَلَده المجذوم فَعظم شَأْنه وَزَاد خطره فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان فِي أَمر الحلبيين وَأخْبرهُ الرّسول أنّ الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا وَاحِدَة فَقَالَ السُّلْطَان لست مِمَّن يرهب بتألب الفرنج وَهَا أَنا سَائِر إِلَيْهِم ثمَّ أنهد قِطْعَة من جَيْشه وَأمرهمْ بِقصد أنطاكية فغنموا غنيمَة حَسَنَة وعادوا فقصد القمص جِهَة حمص فَرَحل السُّلْطَان من حلب إِلَيْهَا فَسمع الملعون فنكص رَاجعا إِلَى بِلَاده وَحصل الْغَرَض من رحيل السُّلْطَان عَن حلب وَوصل إِلَى حمص فتسلم القلعة ورتب فِيهَا واليا من قبله
قَالَ وَفِي فتح قلعة حمص يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من قصيدة وَسَتَأْتِي(2/351)
(إياب ابْن أَيُّوب نَحْو الشآم ... على كلّ مَا يرتجيه ظُهُور)
(بِيُوسُف مصر وأيامه ... تقرّ الْعُيُون وتشفى الصّدور)
(رَأَتْ مِنْك حمص لَهَا كَافِيا ... فواتاك مِنْهَا القويّ العسير)
وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى زين الدّين بن نجا الْوَاعِظ يَقُول فِي وصف قلعة حمص وَالشَّيْخ الْفَقِيه قد شَاهد مَا يشْهد بِهِ من كَونهَا نجما فِي سَحَاب وعُقابا فِي عِقَاب وَهَامة لَهَا الغمامة عِمَامَة وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال مِنْهَا قلامة عاقدة حبوة صالحها الدَّهْر على أَلا يحلهَا بقرعه عاهدة عصمَة صافحها الزَّمن على أَلا يروعها بخلعه فاكتنفت بهَا عقارب منجنيقات لَا تطبع طبع حمص فِي العقارب وَضربت حِجَارَة بهَا الْحِجَارَة فأظهرت فِيهَا الْعَدَاوَة الْمَعْلُومَة بَين الْأَقَارِب فَلم يكن غير ثَالِثَة من الْحَد إِلَّا وَقد أثرت فِيهَا جدريا بضربها وَلم تصل إِلَى السَّابِع إِلَّا والبحران منذرٌ بنقبها واتسع الْخرق على الراقع وَسقط سعدها عَن الطالع إِلَى مولد من هُوَ إِلَيْهَا الطالع وَفتحت الأبراج فَكَانَت أبوابا وسيُرت الْجبَال بهَا فَكَانَت سرابا فهنالك بَدَت نقوب يرى قَائِم من دونهَا مَا وَرَاءَهَا وحُشيت فِيهَا النَّار فلولا الشعاع من الشعاع أضاءها(2/352)
وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل قد اجْتمع عندنَا إِلَى هَذِه الْغَايَة مَا يزاحم سَبْعَة آلَاف فَارس وتكاثفت الجموع إِلَى الحدّ الَّذِي يخرج عَن العَّدَّ وبَعْد أَن نُرَتِّب أَحْوَال حمص حرسها الله تَعَالَى نتوجه إِلَى حماة وَإِلَى مَا بعْدهَا وَالله الْمعِين على مَا ننويه من الرّشاد وننظفه من طرق الْجِهَاد
وَقَالَ الْعِمَاد لما سمع المدبّرون للْملك الصَّالح بإقبال صَلَاح الدّين الْمُؤَذّن بإدبارهم سُقط فِي أَيْديهم وراسلوا المواصلة وكاتبوهم وَأَرْسلُوا إِلَى صَلَاح الدّين بالإغلاظ والإحفاظ وَكَانَ الْوَاصِل مِنْهُم قطب الدّين ينَال بن حسان وَقد تجنب فِي قَوْله الْإِحْسَان وَقَالَ لَهُ هَذِه السيوف الَّتِي مَلكتك مصر وَأَشَارَ إِلَى سَيْفه إِلَيْهَا تردُّك وعمَّا تصدّيت لَهُ تصدك فحلم عَنهُ السُّلْطَان واحتمله وتغافل كرماً وأغفله وخاطبه بِمَا أَبى أَن يقبله وَذكر أَنه وصل لترتيب الْأُمُور وتهذيب الْجُمْهُور وسدّ الثغور وتربية ولد نور الدّين واستنقاذ إخْوَة مجد الدّين فَقَالَ لَهُ أَنْت تُرِيدُ الْملك لنَفسك وَنحن لَا ننزع فِي قوسك وَلَا نأنس بأنسك وَلَا نرتاع لجرسك وَلَا نَبْنِي على أُسِّك فَارْجِع حَيْثُ جِئْت أَو أجهد واصنع مَا شِئْت وَلَا تطمع فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مطمع وَلَا تطلع حَيْثُ مَا لسعودك فِيهِ مطلع ونال من تقطيب القطب ينَال كلّ مَا أحَال الْحَال وأبلى البال وَأبْدى لَهُ التبسم وأخفى الِاحْتِمَال
ثمَّ إِنَّه استناب أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين بِدِمَشْق وَسَار بالعسكر وَنزل على حمص فَأَخذهَا يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى وامتنعت(2/353)
القلعة فَأَقَامَ عَلَيْهَا من يحصرها ورحل إِلَى حماة فَأَخذهَا مستهلّ جُمَادَى الْآخِرَة
ثمَّ مضى وَنزل على حلب فحصرها ثَالِث الشهّر فلمَّا اشْتَدَّ على الحلبيين الْحصار وأعوزهم الِانْتِصَار اسْتَغَاثُوا بالاسماعيلية وعيّنوا لَهُم ضيَاعًا وبذلوا لَهُم من البذول أنواعا فجَاء مِنْهُم فِي يَوْم بَارِد شات من فُتاكهم كل عَاتٍ فعرفهم الْأَمِير نَاصح الدّين خمارتكين صَاحب بوقبيس وَكَانَ مثاغرا للإسماعيلية فَقَالَ لَهُم لأي شَيْء جئْتُمْ وَكَيف تجاسرتم على الْوُصُول وَمَا خشيتم فَقَتَلُوهُ وَجَاء من يدْفع عَنهُ فأثخنوه وَعدا أحدهم ليهجم على السُّلْطَان فِي مقَامه وَقد شهر سكين انتقامه وطغرل أَمِير جاندار وَاقِف ثَابت سَاكن سَاكِت حَتَّى وصل إِلَيْهِ فَشَمَلَ بالسيَّف رَأسه وَمَا قتل الْبَاقُونَ حَتَّى قتلوا عدَّة ولاقى من لاقاهم شدَّة
وعصم الله تَعَالَى حشاشته فِي تِلْكَ النّوبَة من سكاكين الحشيشية فَأَقَامَ إِلَى مستهل رَجَب ثمَّ رَحل إِلَى حمص بِسَبَب أَن الحلبيين كاتبوا قومص طرابلس وَقد كَانَ فِي أسر نور الدّين مذ كسرة حارم وَبَقِي فِي الْأسر أَكثر من عشر سِنِين ثمَّ فدى نَفسه بمبلغ مئة ألف وَخمسين ألف دِينَار وفكاك ألف أَسِير فَتوجه فِي الإفرنجية إِلَى حمص فَلَمَّا سمع بالسلطان رَجَعَ ناكصا على عَقِبَيْهِ خوفًا مِمَّا يَقع فِيهِ وَيتم عَلَيْهِ
وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل قد أعلمنَا الْمجْلس أَن(2/354)
العدوَّ خذله الله كَانَ الحلبيون قد استنجدوا بصلبانهم واستطالوا على الْإِسْلَام بعدوانهم وَأَنه خرج إِلَى بلد حمص فوردنا حماة وأخذنا فِي تَرْتِيب الأطلاب لطلبه ولقاه فَسَار إِلَى حصن الأكراد مُتَعَلقا بحبله مفتضحاً بحيله وَهَذَا فتح تفتح لَهُ أَبْوَاب الْقُلُوب وظفر وَإِن كَانَ قد كفى الله تَعَالَى فِيهِ الْقِتَال المحسوب فَإِن الْعَدو قد سَقَطت حشمته وانحطت فِيهِ همته وَولى ظهرا كَانَ صَدره يصونه ونكسّ صليبا كَانَت ترفعه شياطينه
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة وَلما خيّم السُّلْطَان بِظَاهِر حمص قَصده الْمُهَذّب بن أسعد بقصيدة أَولهَا
(مَا نَام بعد الْبَين يستحلى الْكرَى ... إِلَّا ليطرقه الخيال إِذا سرى)
(كَلِف بقربكم فَلَمَّا عاقه ... بعد المدى سلك الطَّرِيق الأخصرا)
(ومودع أَمر التفرُّقُ دمعه ... ونهته رقبُة كاشح فتحيرا)
وَمِنْهَا فِي المديح
(تُردى الْكَتَائِب كتبُه فَإِذا غَدَتْ ... لم يُدْرَ أنفذ أسطراً أم عسكرا)
(لم يحسن الإتراب فَوق سطورها ... إِلَّا لِأَن الْجَيْش يعْقد عثيرا)
فَقَالَ القَاضِي الْفَاضِل لصلاح الدّين هَذَا الَّذِي يَقُول
(وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التّرْك متروكا ... )(2/355)
فعجَّل جائزته لتكذيب قَوْله وتصديق ظنِّه فشرِّفه وَجمع لَهُ بَين الخلعة والضَّيْعة
وعني الْفَاضِل مَا قَالَه فِي قصيدة فِي مدح الصَّالح بن رزيك الَّتِي أَولهَا
(أما كَفاك تلافي فِي تلافيكا
)
يَقُول فِيهَا
(يَا كعبة الْجُود إِن الْفقر أقعدني ... ورقّة الْحَال عَن مَفْرُوض حجيكا)
(من أرتجي يَا كريم الدَّهْر تنعشني ... جدواه إِن خَابَ سعيي فِي رجائيكا)
(أأمدح التّرْك أبغي الْفضل عِنْدهم ... وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التُّرك متروكا)
(أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... واضيعتا إِن تخطتني أياديكا)
(لَا تتركني وَمَا أملَّت فِي سَفَرِي ... سواك أقفلُ نَحْو الْأَهْل صعلوكا)
قلت وَقد مضى ذكر ابْن أسعد هَذَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَخمسين وَسَيَأْتِي من شعره أَيْضا فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسبعين وثمان وَسبعين
وَمَا أحسن مَا خرج ابْن الدهان من الْغَزل إِلَى مدح ابْن رزيك فِي قَوْله من قصيدة أَولهَا
(إِذا لَاحَ برق من جنابك لامع ... أَضَاء لواش مَا تجن الأضالع)
يَقُول فِيهَا(2/356)
(تَمَادى بِنَا فِي جَاهِلِيَّة بخلها ... وَقد قَامَ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّاس شَارِع)
(وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بَعْدَمَا ... بدا طالعا شمس السخاء طلائع)
فصل
ثمَّ أرسل السُّلْطَان الْخَطِيب شمس الدّين بن الْوَزير أبي المضاء إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز برسالة ضمنهَا القَاضِي الْفَاضِل كتابا طَويلا رائقا فائقا يشْتَمل على تعداد مَا للسُّلْطَان من الأيادي من جِهَاد الإفرنج فِي حَيَاة نور الدّين ثمَّ فتح مصر واليمن وبلادٍ جمةٍ من أَطْرَاف الْمغرب وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية بهَا يَقُول فِي أَوله للرسول
فَإِذا قضى التَّسْلِيم حق اللِّقَاء واستدعى الْإِخْلَاص جهد الدُّعَاء فليعد وليعد حوادث مَا كَانَت حَدِيثا يفترى وجواري أُمُور إِن قَالَ فِيهَا كثيرا فَأكْثر مِنْهُ مَا قد جرى وليشرح صَدرا مِنْهَا لَعَلَّه يشْرَح منا صَدرا وليوضح الْأَحْوَال المستسرة فَإِن الله لَا يعبد سرا
(وَمن الغرائب أَن تسير غرائب ... فِي الأَرْض لم يعلم بهَا المأمول)
(كالعيس أقتل مَا يكون لَهَا الصدى ... وَالْمَاء فَوق ظُهُورهَا مَحْمُول)
فَإنَّا كُنَّا نقتبس النَّار بأكفنا وغيرنا يَسْتَنِير ونستنبط المَاء بِأَيْدِينَا وسوانا يستمير ونلقى السِّهَام بنحورنا وغيرنا يعْتَمد التَّصْوِير ونصافح الصفاح(2/357)
بصدورنا وغيرنا يَدعِي التصدير وَلَا بُد أَن نسترد بضاعتنا بموقف الْعدْل الَّذِي تُرد بِهِ الغصوب وَتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كَمَا أَخذنَا بحظ الْقُلُوب وَمَا كَانَ العائق إِلَّا أَنا كنّا نَنْتَظِر ابْتِدَاء من الْجَانِب الشريف بِالنعْمَةِ يضاهي ابتداءنا بِالْخدمَةِ وإيجابا للحق يشاكل إيجابنا للسبق وَكَانَ أول أمرنَا أَنا كُنَّا فِي الشَّام نفتتح الْفتُوح مباشرين بِأَنْفُسِنَا ونجاهد الْكفَّار مُتقدمين لعساكرنا نَحن ووالدنا وعمنا فَأَي مَدِينَة فتحت أَو معقل مُلك أَو عَسْكَر لِلْعَدو كُسر أَو مصَاف لِلْإِسْلَامِ مَعَه ضرب لم نَكُنْ فِيهِ فَمَا يجهل أحد صنعنَا وَلَا يجْحَد عدونا أَنا نصطلي الْجَمْرَة ونملك الكرة ونتقدم الْجَمَاعَة ونُرتب الْمُقَاتلَة وندبر التعبئة إِلَى أَن ظَهرت فِي الشَّام الْآثَار الَّتِي لنا أجرهَا وَلَا يضرنا أَن يكون لغيرنا ذكرهَا
وَكَانَت أَخْبَار مصر تتصل بِنَا بِمَا الْأَحْوَال عَلَيْهِ فِيهَا من سوء تَدْبِير وَبِمَا دولتها عَلَيْهِ من غَلَبَة صَغِير على كَبِير وَأَن النظام بهَا قد فسد وَالْإِسْلَام بهَا قد ضعف عَن إِقَامَته كل من قَامَ وَقعد والفرنج قد احْتَاجَ من يدبرها إِلَى أَن يقاطعهم بأموال كَثِيرَة لَهَا مقادير خطيرة وَأَن كلمة السّنة بهَا وَإِن كَانَت مَجْمُوعَة فَإِنَّهَا مقموعة وَأَحْكَام الشَّرِيعَة وَإِن كَانَ مُسَمَّاة فَإِنَّهَا متحاماة وَتلك الْبدع بهَا على مَا يعلم وَتلك الضلالات فِيهَا على مَا يُفْتى فِيهِ بِفِرَاق الْإِسْلَام وَيحكم وَذَلِكَ الْمَذْهَب قد خالط من أَهله اللَّحْم وَالدَّم وَتلك الأنصاب قد نصب آلِهَة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم فتعالى الله(2/358)
عَن شبه الْعباد وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا فِي البلادِ فَسَمت همتنا دون همم أهل الأَرْض إِلَى أَن نستفتح مُقفلها ونسترجع لِلْإِسْلَامِ شاردها ونعيد على الدّين ضالته مِنْهَا فسرنا إِلَيْهَا فِي عَسَاكِر ضخمة وجموع جمة وبأموال انتهكت الْمَوْجُود وَبَلغت منا المجهود أنفقناها من حَاصِل ذممنا وَكسب أَيْدِينَا وَثمن اسارى الفرنج الواقعين فِي قبضتنا فعرضت عوارض منعت وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت و {لكل أجلٍ كتابُ} ولكلّ أمل بَاب وَكَانَ فِي تَقْدِير الله تَعَالَى أَنا نملكها على الْوَجْه الْأَحْسَن ونأخذها بالحكم الْأَقْوَى الأمكن فغدر الفرنج بالمصريين غدرة فِي هدنة عظم خطبهَا وخبطها وَعلم أَن استئصال كلمة الْإِسْلَام محطها فكاتبنا الْمُسلمُونَ من مصر فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا كاتبنا الْمُسلمُونَ من الشَّام فِي هَذَا الأوان بِأَنا إِن لم ندرك الْأَمر وَإِلَّا خرج عَن الْيَد وَإِن لم ندفع غَرِيم الْيَوْم لم نمهل إِلَى الْغَد فسرنا بالعساكر الْمَجْمُوعَة وأمراء الْأَهْل الْمَعْرُوفَة إِلَى بِلَاد قد تمهد لنا بهَا أَمْرَانِ وتقرر لنا فِي الْقُلُوب وُدان الأول مَا علموه من إيثارنا للْمَذْهَب الأقوم وإحياء الحقّ الأقدم وَالْآخر مَا يرجونه من فك أسارهم وإقالة عثارهم فَفعل الله مَا هُوَ أَهله وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْعَدو فَانْقَطع حبله وَضَاقَتْ بِهِ سبله وَأَفْرج عَن الديار بعد أَن كَانَت ضياعها ورساتيقها وبلادها وأقاليمها قد نفذت فِيهَا أوامره وخفقت عَلَيْهَا صلبانه ونصبت بهَا أوثانه وأيس من أَن(2/359)
يسترجع مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم حَاصِلا وَأَن يستنقذ مَا صَار فِي ملكهم دَاخِلا ووصلنا الْبِلَاد وَبهَا أجناد عَددهمْ كثير وسوادهم كَبِير وَأَمْوَالهمْ وَاسِعَة وكلمتهم جَامِعَة وهم على حَرْب الْإِسْلَام أقدر مِنْهُم على حَرْب الْكفْر وَالْحِيلَة فِي السّر فيهم أنفذ من الْعَزِيمَة فِي الْجَهْر وَبهَا راجل من السودَان يزِيد على مئة ألف كلهم أغتام أعجام {إِن هم إِلَّا كالأنعام} لَا يعْرفُونَ رَبًّا إِلَّا سَاكن قصره وَلَا قبْلَة إِلَّا مَا يتوجهون إِلَيْهِ من رُكْنه وامتثال أمره وَبهَا عَسْكَر من الأرمن باقون على النَّصْرَانِيَّة مَوْضُوعَة عَنْهُم الْجِزْيَة كَانَت لَهُم شَوْكَة وشكة وحمة وحمية وَلَهُم حواش لقصورهم من بَين دَاع تلطف فِي الضلال مداخله وتصيب الْقُلُوب مخاتله وَمن بَين كُتاب تفعل أقلامهم أَفعَال الأسل وخُدام يجمعُونَ إِلَى سَواد الْوُجُوه سَواد النَّحْل ودولة قد كبر نملها الصَّغِير وَلم يعرف غَيرهَا الْكَبِير ومهابة تمنع من خطرات الضَّمِير فَكيف بخطوات التَّدْبِير هَذَا إِلَى اسْتِبَاحَة للمحارم ظَاهِرَة وتعطيل للفرائض على عَادَة جائرة وتحريفٍ للشريعة بالتأويل وعدول إِلَى غير مُراد الله بالتنزيل وَكفر سُمي بِغَيْر اسْمه وشرعٍ يتستر بِهِ وَيحكم بِغَيْر حكمه فَمَا زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار ونتحيفهم تحيف اللَّيْل وَالنَّهَار للأعمار بعجائب تَدْبِير لَا تحتملها المساطير وغرائب تَقْدِير لَا تحملهَا الأساطير ولطيف توصل مَا كَانَ من حِيلَة الْبشر وَلَا قدرتهم لَوْلَا إِعَانَة الْمَقَادِير وَفِي أثْنَاء ذَلِك استنجدوا علينا الفرنج دفْعَة إِلَى(2/360)
بلبيس ودفعة إِلَى دمياط وَفِي كلّ دفْعَة مِنْهَا وصلوا بِالْعدَدِ المجهر والحشد الأوفر وخصوصا فِي نوبَة دمياط فَإِنَّهُم نازلوها بحراً فِي ألف مركب مقَاتل وحامل وبرَّا فِي مئتي ألف فَارس وراجل وحصروها شَهْرَيْن يباكرونها ويراوحونها ويماسونه ويصابحونها الْقِتَال الَّذِي يصلبه الصَّلِيب والقراع الَّذِي يُنَادى بِهِ الْمَوْت من كلّ مَكَان قريب وَنحن نُقَاتِل العدوين الْبَاطِن وَالظَّاهِر ونصابر الضدين الْمُنَافِق وَالْكَافِر حَتَّى أَتَى الله بأَمْره وأيدنا بنصره وخابت المطامع من المصريين والفرنج وشرعنا فِي تِلْكَ الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد فأخرجناهم من الْقَاهِرَة تَارَة بالأوامر المرهقة لَهُم وبالأمور الفاضحة مِنْهُم وبالسيوف الْمُجَرَّدَة وبالنار المحرقة حَتَّى بَقِي الْقصر وَمن بِهِ من خدم وَمن ذرّية قد تفرّقت شيعه وتمزقت بدعه وخفتت دَعوته وخَفِيت ضلالته فهنالك تمّ لنا إِقَامَة الْكَلِمَة والجهر بِالْخطْبَةِ وَالرَّفْع للواء الْأسود الْمُعظم وعاجل الله الطاغية الْأَكْبَر بهلاكه وفنائه وبرأنا من عُهدة يَمِين كَانَ إِثْم حنثها أيسر من إِثْم إبقائه لِأَنَّهُ عوجل لفرط رَوْعَته وَوَافَقَ هَلَاك شخصه هَلَاك دولته وَلما خلا ذرعنا ورحب وسعنا نَظرنَا فِي الْغَزَوَات إِلَى بِلَاد الْكفَّار فَلم تخرج سنة إِلَّا عَن سنة أُقِيمَت فِيهَا برا وبحرا مركبا وظهرا إِلَى أَن أوسعناهم قتلا وأسرا وملكنا رقابهم قهرا وقسرا وفتحنا لَهُم معاقل مَا خطر أهل الْإِسْلَام فِيهَا مذ أُخذت من أَيْديهم وَلَا أُوجفت عَلَيْهَا خيلهم وَلَا رِكَابهمْ مذ ملكهَا أعاديهم فَمِنْهَا مَا حكمت فِيهِ يَد الخراب وَمِنْهَا(2/361)
فعجَّل جائزته لتكذيب قَوْله وتصديق ظنِّه فشرِّفه وَجمع لَهُ بَين الخلعة والضَّيْعة
وعني الْفَاضِل مَا قَالَه فِي قصيدة فِي مدح الصَّالح بن رزيك الَّتِي أَولهَا
(أما كَفاك تلافي فِي تلافيكا
)
يَقُول فِيهَا
(يَا كعبة الْجُود إِن الْفقر أقعدني ... ورقّة الْحَال عَن مَفْرُوض حجيكا)
(من أرتجي يَا كريم الدَّهْر تنعشني ... جدواه إِن خَابَ سعيي فِي رجائيكا)
(أأمدح التّرْك أبغي الْفضل عِنْدهم ... وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التُّرك متروكا)
(أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... واضيعتا إِن تخطتني أياديكا)
(لَا تتركني وَمَا أملَّت فِي سَفَرِي ... سواك أقفلُ نَحْو الْأَهْل صعلوكا)
قلت وَقد مضى ذكر ابْن أسعد هَذَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَخمسين وَسَيَأْتِي من شعره أَيْضا فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسبعين وثمان وَسبعين
وَمَا أحسن مَا خرج ابْن الدهان من الْغَزل إِلَى مدح ابْن رزيك فِي قَوْله من قصيدة أَولهَا
(إِذا لَاحَ برق من جنابك لامع ... أَضَاء لواش مَا تجن الأضالع)
يَقُول فِيهَا(2/362)
بِحَمْد الله قد تملكنا مِمَّا يجاورنا مِنْهُ بلادا تزيد مسافتها على شهر وسيرنا إِلَيْهَا عسكرا بعد عَسْكَر فَرجع بنصر بعد نصر وَمن الْبِلَاد الْمَشَاهِير والأقاليم الجماهير برقة قَفْصة قسطيلية تَوْزَر كلّ هَذِه تُقَام فِيهَا الْخطْبَة لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام الله عَلَيْهِ وَلَا عهد لِلْإِسْلَامِ بإقامتها وَينفذ فِيهَا الْأَحْكَام بعلمها الْمَنْصُور وعلامتها
وَفِي هَذِه السّنة كَانَ عندنَا وفْدُ قد شَاهده وُفُود الْأَمْصَار ورموه بأسماع وأبصار مِقْدَاره سَبْعُونَ رَاكِبًا كلّهم يطْلب لسلطان بَلَده تقليدا ويرجو منا وَعدا وَيخَاف وعيدا وَقد صدرت عَنَّا بِحَمْد الله تقاليدها وألقيت إِلَيْنَا مقاليدها وسيَّرنا الْخلْع والمناشير والألوية بِمَا فِيهَا من الْأَوَامِر والأقضية فَأَما الْأَعْدَاء المحدقون بِهَذِهِ الْبِلَاد وَالْكفَّار الَّذين يقاتلوننا بالممالك الْعِظَام والعزائم الشّداد فَمنهمْ صَاحب قسطنطينية وَهُوَ الطاغية الْأَكْبَر والجالوت الأكفر وَصَاحب المملكة الَّتِي أكلت على الدّهر وشربت وقائم النَّصْرَانِيَّة الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت جَرَت لنا مَعَه غزوات بحريّة ومناقلات ظَاهِرَة وسّرية وَلم نخرج من مصر إِلَى أَن وصلتنا رسله فِي جُمُعَة وَاحِدَة نَوْبتين بكتابين كلّ واحدٍ مِنْهُمَا يظْهر فِيهِ خفض الْجنَاح وإلقاء السِّلَاح والانتقال من معاداة إِلَى مهاداة وَمن مفاضحة إِلَى مناصحة حَتَّى إِنَّه أنذر بِصَاحِب صقلية وأساطليه الَّتِي ترّدد ذكرهَا وعساكره الَّتِي لم يخف أمرهَا
وَمن هَؤُلَاءِ الْكفَّار هَذَا صَاحب صقلية كَانَ حِين علم بِأَن صَاحب الشَّام وَصَاحب قسطنطينية قد اجْتمعَا فِي نوبَة دمياط فغلبا وقُسرا وهزما وكُسرا أَرَادَ أَن يظْهر قوته المستقلة فعمر أسطولا استوعب فِيهِ مَاله(2/363)
وزمانه فَلهُ الْآن خمس سِنِين يكثر عدته وينتحب عُدّته إِلَى أَن وصل مِنْهَا فِي السّنة الخالية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة أَمر رائع وخطب هائل مَا أثقل ظهر الْبَحْر مثل حمله وَلَا مَلأ صَدره مثل خيله وَرجله وَمَا هُوَ إِلَّا إقليم بل أقاليم نَقله وجيش مَا احتفل ملك قطّ بنظيره لَوْلَا أَن الله خذله
وَمن هَؤُلَاءِ الجيوش البنادقة والبياشنة والجنوية كل هَؤُلَاءِ تَارَة يكونُونَ غزَاة لَا تطاق ضراوة ضرهم وَلَا تطفأ شرارة شرّهم وَتارَة يكونُونَ سُفّاراً يحتكمون على الْإِسْلَام فِي الْأَمْوَال المجلوبة وتقصر عَنْهُم يَد الْأَحْكَام المرهوبة وَمَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ الْآن يجلب إِلَى بلدنا آلَة قِتَاله وجهاده ويتقرب إِلَيْنَا بإهداء طرائف أَعماله وتلاده وَكلهمْ قد قُرّرت مَعَهم المواصلة وانتظمت مَعَهم المسالمة على مَا نُرِيد ويكرهون وعَلى مَا نؤثر وهم لَا يؤثرون
وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ بالوفاة النورية وَكُنَّا فِي تِلْكَ السّنة على نيّة الْغُزَاة والعساكر قد تجهزت وَالْمُضَارب قد برزت وَنزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها ورأوها فرْصَة مدُّوا يَدَ انتهازها استصرخ بِنَا صَاحبهَا فسرنا مراحل اتَّصل بالعدوّ أمرهَا وعوجل بالهدنة الدمشقية الَّتِي لَوْلَا مسيرنا مَا انتظم حكمهَا
ثمَّ عدنا إِلَى الْبِلَاد وتوافت إِلَيْنَا الْأَخْبَار بِمَا المملكة النورية عَلَيْهِ من تشعُّب الآراء وتوزعها وتشتُّت الْأُمُور وتقطعها وَأَن كلّ قلعة قد حصل(2/364)
فِيهَا صَاحب وكلّ جَانب قد طمح إِلَيْهِ طَالب والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بهَا الْأَطْرَاف الإسلامية ويضايقون بهَا الْبِلَاد الشامية وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم وعُوقبوا وصودروا والمماليك الأغمار الَّذين خلقُوا للأطراف لَا للصدور وَجعلُوا للْقِيَام لَا للقعود فِي الْمجْلس المحضور قد مدوا الْأَيْدِي والأعين وَالسُّيُوف وَسَاءَتْ سيرتهم فِي الْأَمر بالمنكر والنهيّ عَن الْمَعْرُوف وكلّ وَاحِد يتَّخذ عِنْد الفرنج يدا ويجعلهم لظهره سندا وَعلمنَا أَن الْبَيْت الْمُقَدّس إِن لم تتيسرّ الْأَسْبَاب لفتحه وَأمر الكُفر إِن لم يُجرد الْعَزْم فِي قلعه وَإِلَّا نَبتَت عروقه واتسعت على أهل الدّين خُروقه وَكَانَت الْحجَّة لله قَائِمَة وهمم القادرين بالقعود آثمة وَإِنَّا لَا نتمكن بِمصْر مِنْهُ مَعَ بعد الْمسَافَة وَانْقِطَاع الْعِمَارَة وكلال الدَّوَابّ الَّتِي بهَا على الْجِهَاد الْقُوَّة وَإِذا جاورناه كَانَت الْمصلحَة بادية وَالْمَنْفَعَة جَامِعَة وَالْيَد قادرة والبلاد قريبَة والغزوة مُمكنَة والميرة متسعة وَالْخَيْل مستريحة والعساكر كَثِيرَة الجموع والأوقات مساعدة وأصلحنا مَا فِي الشَّام من عقائد معتّلة وَأُمُور مختلة وأراء فَاسِدَة وأمراء متحاسدة وأطماع غالبة وعقول غَائِبَة وحفظنا الْوَلَد الْقَائِم بعد أَبِيه فَأَنا بِهِ أولى من قوم يَأْكُلُون الدّنيا باسمه ويُظهرون الْوَفَاء فِي خدمته وهم عاملون بظلمه
وَالْمرَاد الْآن هُوَ كلّ مَا يقوّي الدولة ويؤكد الدعْوَة وَيجمع الْأمة ويحفظ الألفة وَيضمن الرأفة وَيفتح بَقِيَّة الْبِلَاد وَأَن يطبق بِالِاسْمِ العباسي كل مَا تطبقه العهاد وَهُوَ تَقْلِيد جَامع بِمصْر واليمن وَالْمغْرب وَالشَّام وكل مَا تشْتَمل عَلَيْهِ الْولَايَة النورية وكلّ مَا يَفْتَحهُ الله(2/365)
تَعَالَى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا وَلمن نقيمه من أَخ أَو ولد من بَعدنَا تقليدا يضمن للنعمة تخليدا وللدعوة تجديدا مَعَ مَا ينعم بِهِ من السمات الَّتِي فِيهَا الْملك وَبِالْجُمْلَةِ فالشام لَا تنتظم أُمُوره بِمن فِيهِ وَالْبَيْت الْمُقَدّس لَيْسَ لَهُ قرنٍ يقوم بِهِ ويكفيه والفرنج فهم يعْرفُونَ منا خصما لَا يمل الشَّرّ حَتَّى يملوا وقرنا لَا يزَال محرم السَّيْف حَتَّى يحلوا وَإِذا شدّ رَأينَا حسن الرَّأْي ضربنا بِسيف يقطع فِي غمده وبلغنا المنى بِمَشِيئَة الله تَعَالَى ويّدُ كلّ مُؤمن تَحت برده واستنقذنا أَسِيرًا من الْمَسْجِد الَّذِي أسرى الله إِلَيْهِ بِعَبْدِهِ
وَمن كتاب آخر فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى الدّيوان فِي تعداد مَاله من الأيادي قَالَ وَالَّذِي أجراه الله تَعَالَى على يَد الْمَمْلُوك من الممالك الَّتِي دوخها وَسنَن الضلال الَّتِي نسخهَا وعقود الْإِلْحَاد الَّتِي فَسخهَا ومنابر الْبَاطِل الَّتِي رَحَضَها وحجج الزندقة الَّتِي دحضها فَللَّه عَلَيْهِ الْمِنَّة فِيهِ إذْ أَهله لشرف مشهده وَمَا فعله إِلَّا لوجهه ويدُ الله كَانَت عون يَده وَإِلَّا فقد مَضَت اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على تِلْكَ الْأُمُور وَمَا تحركت للفلك فِي قلعهَا نابضة وغبرت الْأَحْوَال على تِلْكَ الْبِدْعَة وَمَا ثارت لأفراسها رابضة فَشكر يَد الله تَعَالَى فِيمَا أجراه على يَده مِنْهَا أَن يجْتَهد فِي أُخْرَى مثلهَا فِي الْكفَّار وَقد عَاد الْإِسْلَام إِلَى وَطنه وصوّحت من الْكفْر خضراء دمنه
وَمن كتاب آخر للفاضل يذكر فِيهِ إِعَادَة صَلَاح الدّين الْخطْبَة بِمصْر للدولة العباسية يَقُول فِيهِ حَتَّى أَتَى الدّنيا ابْن بجدتها فَقضى من الْأَمر(2/366)
مَا قضى وأسخط من لله فِي سخطه رضَا وَجعل وَجه لابسي السوَاد مُبيضا فَأدْرك لَهُم بثأرٍ نَامَتْ عَنهُ الهمم ودوّخت عَلَيْهِ الْأُمَم وشفى الصُّدُور وَجَاء بِالْحَقِّ إِلَى من غره بِاللَّه الْغرُور واستبضع إِلَى الله تَعَالَى تِجَارَة لن تبور
وَمن كتاب آخر قد بورك للخادم فِي الطَّاعَة الَّتِي لبس الْأَوْلِيَاء شعارها وأمضى فِي الْأَعْدَاء شفارها وَجمع عَلَيْهَا الدّين وَكَانَ أديانا واستقامت بهَا الْقُلُوب على صبغة التَّكَلُّف وَكَانَت ألوانا
وَمن كتاب آخر لم يكن سَبَب خُرُوج الْمَمْلُوك من بَيته إِلَّا وعد كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي أَن يتجاذبا طرفِي الْغُزَاة من مصر وَالشَّام الْمَمْلُوك بعسكري برّه وبحره وَنور الدّين من جَانب سهل الشَّام ووعره فَلَمَّا قضى الله بالمحتوم على أَحدهمَا وَحدثت بعد الْأُمُور أُمُور اشتهرت للْمُسلمين عورات وضاعت ثغور وتحكمت الآراء الْفَاسِدَة وفُورقت المحاج القاصدة وَصَارَت الباطنية بطانة من دون الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار مَحْمُولَة إِلَيْهَا جزى الْمُسلمين والأمراء الَّذين كَانُوا لِلْإِسْلَامِ قَوَاعِد وَكَانَت سيوفهم للنصر موارد يَشكونَ ضيق حلقات الأسار وتطرق الْكفَّار بِالْبِنَاءِ فِي الْحُدُود الإسلامية وَلَا خَفَاء أَن الفرنج بعد حلولنا بِهَذِهِ الخطة قَامُوا وقعدوا واستنجدوا علينا أنصار النَّصْرَانِيَّة فِي الأقطار وسيروا الصَّلِيب وَمن كسى مذابحهم بقمامة وهددوا طاغية كفرهم بأشراط الْقِيَامَة ونفذوا البطارقة والقسيسين برسائل صور من يصورّونه مِمَّن يسمونهم(2/367)
القديسين وَقَالُوا إِن الْغَفْلَة إِن وَقعت أوقعت فِيمَا لَا يسْتَدرك فارطه وَإِن كلا من صَاحب قسطنطينية وَصَاحب صقلية وَملك الألمان وملوك مَا وَرَاء الْبَحْر وَأَصْحَاب الجرائر كالبندقية والبيشانية والجنوية وَغَيرهم قد تأهبوا بالعمائر البحرية والأساطيل القوية وَالْإِسْلَام يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعز ناصرا لاسيما وهم ينْصرُونَ بَاطِلا وَهُوَ ينصر حَقًا وَهُوَ يعبد خَالِقًا وهم يعْبدُونَ خلقا
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَكنت بالموصل فَسُئِلت نظم مرثية فِي نور الدّين فنظمت بعد عوْدي إِلَى دمشق فِي رَجَب
(الدّين فِي ظُلَم لغيبة نوره ... والدهر فِي غُمم لفقد أميره)
(فليندبُ الإسلامُ حامي أَهله ... وَالشَّام حَافظ ملكه وثغوره)
(مَا أعظم الْمِقْدَار فِي أخطاره ... إِذْ كَانَ هَذَا الْخطب فِي مقدوره)
(مَا أَكثر المتأسفين لفقد مَنْ ... قَرَّتْ نواظرهم بفقد نَظِيره)
(مَا أغوص الْإِنْسَان فِي نسيانه ... أَو مَا كَفاهُ الْمَوْت فِي تذكيره)
(مَن للمساجد والمدارس بانيا ... لله طَوْعًا عَن خلوص ضَمِيره)
(من ينصر الْإِسْلَام فِي غَزَوَاته ... فَلَقَد أُصِيب برُكنه وظهيره)
(مَنْ للفرنج وَمن لأسر مُلُوكهَا ... من للْهُدى يَبْغِي فكاك أسيره)
(من للخطوب مذلِّلاً لجماحها ... من للزمان مُسَهّلا لوعوره)(2/368)
(من كاشفُ للمعضلات بِرَأْيهِ ... من مشرقٌ فِي الداجيات بنوره)
(من للكريم وَمن لنعش عثاره ... منْ للْيَتِيم وَمن لجبْر كسيره)
(من للبلاد وَمن لنصر جيوشها ... من للْجِهَاد وَمن لحفظ أُمُوره)
(منْ للفتوح محاولا أبكارها ... برَواحه فِي غَزوه وبُكوره)
(منْ للعلا وعُهودها منْ للندى ... ووفوده من للحجا ووفوره)
(مَا كنت أَحسب نور دين مُحَمَّد ... يخبو وليل الشّرك فِي ديجوره)
(أعْزِزْ عليّ بليث غابٍ للهدى ... يَخْلُو الشرى من زوره زئيره)
(أعْزِزْ عليّ بأنْ أرَاهُ مُغّيباً ... عنْ محفل متشرف بِحُضُورِهِ)
(لهفي على تِلْكَ الأنامل إِنَّهَا ... مُذْ غّيبت غاض النّدى ببحوره)
(وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُجري رسمه ... فضع الْعَلامَة مِنْك فِي منشوره)
(وَلَقَد أَتَى من كنت تكشف كربه ... فارفع ظلامته بنصر عشيره)
(وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُؤمن سربه ... وقِّع لَهُ بالأمن مِنْ محذوره)
(وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُؤثر قربه ... فأدم لَهُ التّقريب فِي تَقْرِيره)
(والجيش قد ركب الْغَدَاة لعرضه ... فاركب لتُبْصِرَه أوَانَ عبوره)
(أَنْت الذَّي أَحييت شرع مُحَمَّد ... وقضيت بعد وَفَاته بنشُوره)
(كم قد أَقمت من الشَّرِيعَة مَعْلما ... هُوَ مُنْذ غبت معرّضٌ لِدثُوره)
(كم قد أمرت بِحَفر خَنْدَق معقلٍ ... حَتَّى سكنت اللّحد فِي محفوره)
(كم قيصرٍ للرُّوم رُمت بقسره ... إرْواء بيض الْهِنْد من تاموره)
(أُوتيت فتح حصونه وملكت عقر ... بِلَاده وسبيت أهل قصوره)(2/369)
(أزَهِدت فِي دَار الفناء وَأَهْلهَا ... ورَغبت فِي الْخلد الْمُقِيم وحوره)
(أوما وعدت الْقُدس أَنَّك منْجزٌ ... ميعاده فِي فَتحه وظهوره)
(فَمَتَى تجير الْقُدس من دنس العدى ... وتقدس الرَّحْمَن فِي تَطْهِيره)
(يَا حاملين سَرِيره مهلا فَمن ... عجبٍ نهوضُكم بحمْل ثبيره)
(يَا عابرين بنعشه أَنَشَقْتُمُ ... من صَالح الْأَعْمَال نشر عبيره)
(نزلت مَلَائِكَة السّماء لدفنه ... مستجمعين على شَفير حفيره)
(وَمن الْجفَاء لَهُ مُقامي بعده ... هلاّ وفيت وسرت عِنْد مسيره)
(حيّاك معتّل الصِّبا بنسيمه ... وسَقاك مُنْهلُّ الحَيْا بدُروره)
(ولبست رضوَان المهْيمن ساحباً ... أذيال سُنْدس خزّه وحريره) (وسكنت عِّلِّيين فِي فردوسه ... حلْف المسّرة ظافرا بأجوره)
قَالَ الْعِمَاد وَجَاء نجاب إِلَى الْموصل وَذكر أَنه فَارق صَلَاح الدّين بِقرب دمشق بالكسوة وَهُوَ الْآن يستكمل من ملك دمشق الحُظوة فهاجني الطَّرب لقصده لسابق مَعْرفَته وقديم ودّه فَقدمت دمشق على طَرِيق الْبَريَّة وَالسُّلْطَان على حلب
وَكَانَ الْعِمَاد فِي عقابيل ألم فَلَمَّا شُفي وَعَاد السّلطان إِلَى حمص قَصده فِيهَا وَقد تسلم قلعتها فِي شعْبَان فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ
قَالَ وَكنت نظمت قصيدة فِي الشوق إِلَى دمشق والتأسف عَلَيْهَا ثمَّ جعلت مدح السّلطان مخلصها وَهِي طَوِيلَة أَولهَا(2/370)
(أجيران جيرون مَالِي مجير ... سوى عطفكم فاعدلوا أَو فجوروا)
(وَمَالِي سوى طيفكم زائر ... فَلَا تمنعوه إِذا لمْ تزوروا)
(يعزّ عَليّ بِأَن الْفُؤَاد ... لديكم أَسِير وعنكم أَسِير)
(وَمَا كنت أعلم أَنِّي أعيش ... بعد الْأَحِبَّة إِنِّي صَبُور)
(وفتْ أدمعي غير أنّ الْكرَى ... وقلبي وصبري كلُّ غَدُور)
(إِلَى نَاس باناس لي صبوةٌ لَهَا الوجد داعٍ وذكرى مثير)
(يزِيد اشتياقي وينمو كَمَا ... يزِيد يزِيد وثورا يثور)
(من بردى بَرْدُ قلبِي المشوق ... فها أَنا من حره مستجير)
(وبالمرج مرْجُوُّ عْيشي الَّذِي ... على ذكره العذْب عيشي مرير)
(فقدتكم ففقدت الْحَيَاة ... وَيَوْم اللِّقَاء يكون النشور)
(تطاول لسؤلي عِنْد الْقصير ... فَعَن نيله الْيَوْم باعي قصير)
(وَكن لي بريداً بِبَاب الْبَرِيد ... فَأَنت بأخبار شوقي خَبِير)
(مَتى تَجِد الرّيّ بالقريتين ... خوامس أثر فِيهَا الهجير)
(وَنَحْو الجليجل أُزْجى المطيَّ ... لقد جلّ هَذَا المرام الخطير)
(تراني أُنيخ بِأَدْنَى ضمير ... مطايا براها الوجا والضمور)
(وَعند القطيفة المشتهاة ... قُطوف بهَا للأماني سفور)
(وَمِنْهَا بُكوري نَحْو القُصَير ... ومنية عمري ذَاك البكور)
(وَيَا طِيب بُشراي من جلق ... إِذا جَاءَنِي بالنجاح البشير)
(ويستبشر الأصدقاء الكرامُ ... هُنَالك بِي وتُوفي النذور)
(ترى بالسلامة يَوْمًا يكون ... بِبَاب السَّلامَة منّي عبور)(2/371)
(وَإِن جوازي بِبَاب الصَّغِير ... لَعَمْري من العُمر حظّ كَبِير)
(وَمَا جنَّة الْخلد إِلَّا دمشق ... وَفِي الْقلب شوق إِلَيْهَا سعير)
(ميادينها الْخضر فيحّ الرّحاب ... وسلسالها العذب صافٍ نمير)
(وجامعها الرحب والقبة المنيفة ... والفلك المستدير)
(وَفِي قبّة النسْر لي سادة ... بهم للمكارم أفق مُنِير)
(وَبَاب الفراديس فرْدوسها ... وسُكانها أحسن النَّاس حور)
(والارزة فالسّهم فالنيربان ... فجنات مزتها فالكفور)
(كَأَن الجواسق مأهولةً ... بروجٌ تطلع مِنْهَا البدور)
(بنيربها تتبرا الهموم ... بربوتها يتربى السرُور)
(وَمَا غر فِي الربوة العاشقين ... بالْحسنِ إلاّ الرّبيب الغرير)
(وَعند المغارة يَوْم الْخَمِيس ... أغار على الْقلب منيّ مغير)
(وَعند المنيبع عين الْحَيَاة ... مدى الدَّهْر نابعة مَا تغور)
(بجسر ابْن شواش تمّ السّكُون ... لنَفْسي بنفسي تِلْكَ الجسور)
(وَمَا أنس لَا أنس أُنْس العبور ... على جسر جسرين إِنِّي جسور)
(وَكم بت ألهو بِقرب الحبيب ... فِي بَيت لِهْيا ونام الغيور)
(فَأَيْنَ اغتباطيَ بالغوطتين ... وَتلك اللَّيَالِي وَتلك العصور)
(وأشجار سطرا بَدَت كالسطور ... نمقَهُنّ البليغ الْبَصِير)(2/372)
(وأيْن تأملْت فُلكٌ يَدُور ... وعينٌ تفورُ وبحرٌ يمور)
(وَأَيْنَ نظرت نسيمٌ يرِقّ ... وزهرٌ يروق وَروض نضير)
(إلام القساوة يَا قاسيون ... وَبَين السّنا يتجلّى سَنير)
(ومنذ ثوى نور دين الْإِلَه ... لم يبْق للدّين والشّام نور)
(وللنّاس بِالْملكِ النَّاصِر الصّلاح ... صلاحٌ ونصرٌ وَخير)
(هُوَ الشَّمْس أفلاكه فِي الْبِلَاد ... ومطلعه سَرْجه والسرير)
(إِذا مَا سَطَا أَو حبا واحتبى ... فَمَا اللَّيْث من حاتمٌ مَا ثبير)
(بِيُوسُف مصر وأيامه ... تقر الْعُيُون وتشفى الصُّدُور)
(ملكت فأسْجح فَمَا للبلاد ... سواك مجيرٌ وَمولى نصير)
(وَفِي مِعْصم الْملك للعزّ مِنْك ... سوارٌ ومنك عَليّ الديِّن سُور)
(لَك الله فِي كل مَا تبتغيه ... بحقٍ ظهيرٌ وَنعم الظّهير)
(أما المفسدون بِمصْر عصْوك ... وهذي دِيَارهمْ الْيَوْم قور)
(أما الأدعياء بهَا إِذْ نشطت ... لإبعادهم زَالَ مِنْك الفتور)
(وَيَوْم الفرنج إِذا مَا لقوك ... عبوس برغمهم قمطرير)
(نهوضا إِلَى الْقُدس يشفى الغليل ... بِفَتْح الْفتُوح وماذا عسير)
(سَلِ الله تسهيل صَعب الخطوب ... فَهُوَ على كل شَيْء قدير)
(إِلَيْك هجرت مُلُوك الزَّمَان ... فَمَا لَك وَالله فيهم نَظِير)
(وفجرك فِيهِ الْقرى والقُران ... جَمِيعًا وفجر الْجَمِيع الْفُجُور)
(وَأَنت تريق دِمَاء الفرنج ... وَعِنْدهم لَا تراق الْخُمُور)(2/373)
فصل فِي فتح بعلبك
قَالَ الْعِمَاد وَلما فرغ السُّلْطَان من حمص وحصنها سَار إِلَى بعلبك فتسلمها فِي رَابِع شهر رَمَضَان
قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَ بهَا خَادِم يُقَال لَهُ يمن فَلَمَّا شَاهد كَثْرَة عَسَاكِر السّلطان اضْطربَ فِي أمره وراسل مَنْ بحلب على جنَاح طَائِر فَلم يرجع إِلَيْهِ مِنْهُم خبر فَطلب الْأمان وَسلم بعلبك إِلَى السُّلْطَان
قَالَ الْعِمَاد وهنأته بِأَبْيَات مِنْهَا
(بفتوح عصرك يَفْخر الْإِسْلَام ... وبنُور نصرك تُشرق الْأَيَّام)
(وبفتح قلعة بعلبك تهذّبت ... هذي الممالك واستقام الشّام)
(وَبكى الْحسُود دَمًا وثغر الثّغر من ... فَرح بنصرك للهدى بَسَّام)
(فتح تَسنّى فِي الصيّام كأننا ... شكرا لما منح الْإِلَه صِيَام)
(من ذَا رأى فِي الصّوم عيد سَعَادَة ... حلّت لنا وَالْفطر فِيهِ حرَام)
(أسدي صَلَاح الدّين والدّنيا يدا ... بنوالها سوقُ الرّجاء تُقَام)
(فتملّ فتحك واقصد الْفَتْح الَّذي ... بحصوله لفتُوحك الْإِتْمَام)
(دُمْ للعُلا حَتَّى يَدُوم نظامها ... واسلْم يعزَّ بنصرك الْإِسْلَام)
قَالَ ولزمت خدمته أرحل برحيله وَأنزل بنزوله وَكنت لَيْلَة عِنْده وَهُوَ يذكر جمَاعَة من شعراء الزَّمَان وَعِنْده ديوَان الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن سديد الْملك عَليّ بن منقذ وَهُوَ بِهِ مشغوف وخاطره على تَأمله(2/374)
مَوْقُوف وَإِلَى استحسانه مَصْرُوف وَقد اسْتحْسنَ قصيدة لَهُ طائية لَو عَاشَ الطائيان لأقرَّا بفضلها وَإِن خواطر المبتكرين لتقصر عَن مثلهَا على أَن الشُّعَرَاء الْمُحدثين مَا مِنْهُم إِلَّا من نظم على رويها ووزنهاواستمد خصب خاطره من مُزنها فَمنهمْ المعري وَابْن أبي حَصِينَة والأرجاني(2/375)
والصالح بن رزيك وَقد أوردت جَمِيعهَا فِي كتاب الخريدة ومطلع قصيدة المعرّي
(لمن جيرة سيموا النوال فَلم ينطوا ... )
فنظمت فِي السُّلْطَان وَنحن على بعلبك بتاريخ انسلاخ شعْبَان قصيدة طائية مِنْهَا
(عَفا الله عَنْكُم مالكم أَيهَا الرّهط ... قسطتم وَمن قلب المحبّ لكم قسط)
(شرطتم لنا حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم مَا هَكَذَا الودّ وَالشّرط)
(جعلتم فؤاد المُسْتهام بكم لكم ... محطا فَعَنْهُ ثقل همكم حطوا)
(ملتكم فأنكرتم قديم موَّدتي ... كَأَن لم يكن فِي الْبَين معرفَة قطّ)
(فدت مهجتي من لَا يذم لمهجتي ... إِذا حاكمته وَهُوَ فِي الحكم مشتط)
(وَمَا كنت أَدْرِي قبل سطوة طرفه ... بِأَن ضَعِيفا فاترا مثله يَسْطُو)
(وأهيف للإشفاق من ضعف خصره ... يحلُّ نطاقا للقلوب بِهِ ربط)
(يلازم قلبِي فِي الْهوى الْقَبْض مِثْلَمَا ... يلازم كفَّ النَّاصر الْملك الْبسط)
(مليكٌ حوى الْملك الْعَقِيم بضبطه ... كريمٌ وَمَا لِلْمَالِ فِي يَده ضبط)
(إِذا لُثمت أَيدي الْمُلُوك فَعنده ... مدى الدَّهْر إجلالا لَهُ تلثم الْبسط)(2/376)
(عَنَّا لَك طَوْعًا نيلُ مصر ودجلةُ الْعِراق ... ودان العُرب والعُجم والقبط)
(وللنيل شطٌ يَنْتَهِي سيبه بِهِ ... ونَيْلُك للرَّاجين نِيلٌ وَلَا شطُّ)
(عدوُّك مثل الشّمع فِي نَار حقده ... لَهُ عنق إصْلَاح فاسده القط)
وَهِي ثَمَانِيَة وَثَمَانُونَ بَيْتا
ولسعادة الْأَعْمَى قصيدة طائية فِي السُّلْطَان سَيَأْتِي ذكرهَا
قَالَ الْعِمَاد وَلما وصلتُ إِلَى السُّلْطَان ورغبت مِنْهُ فِي الْإِحْسَان وجدته لأمري مغفلا ولشغلي مهملا ثمَّ عرفت أنّ حسّادي قَالُوا لَهُ مَتى أعدت ديوَان الْكِتَابَة إِلَى الْعِمَاد وَهُوَ لَا شكّ بِمحل الوثوق والاعتماد وَهَذَا منصب الْأَجَل الْفَاضِل وَهُوَ عِنْده فِي أجل الْمنَازل رُبمَا ضَاقَ صَدره وتشعّث سرّه فَلَمَّا عرفت هَذَا الْمَعْنى لجأت إِلَى الْفضل الفاضليّ لِأَنَّهُ بِهِ يعْنى فَقَامَ بأَمْري ونوّه بقدري وأراح سرّي وشدّ أزري
فصل فِيمَا جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مَعَ السُّلطان فِي هَذِه السّنة
قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما أحسّ سيف الدّين صَاحب الْموصل بِمَا جرى علم أَن الرّجل قد استفحل أمره وَعظم شَأْنه وعَلَت كَلمته وَخَافَ أَنه إِن غفل عَنهُ استحوذ على الْبِلَاد واستقرّ قدمه فِي الْملك وتعدّى الْأَمر إِلَيْهِ فَجهز عسكرا وافراً وجيشاً عَظِيما وقدّم عَلَيْهِم أَخَاهُ عز الدّين مسعودا(2/377)
وَسَارُوا يُرِيدُونَ لِقَاء السُّلْطَان وَضرب المصاف مَعَه وردّه عَن الْبِلَاد فوصل إِلَى حلب وَالسُّلْطَان بحمص وانضم إِلَيْهِم من كَانَ بحلب من الْعَسْكَر وَخَرجُوا فِي جمع عَظِيم وَلما عرف السّلطان بمسيرهم سَار حَتَّى وافاهم بقرون حماة وراسلهم وراسلوه واجتهد أَن يصالحهم فَمَا صالحوه وَرَأَوا أنّ المصاف رُبمَا نالوا بِهِ الْغَرَض الْأَكْبَر وَالْمَقْصُود الأوفر وَالْقَضَاء يجرّ إِلَى أمورٍ وهم بهَا لايشعرون وَقَامَ المصاف بَين العسكرين فَقضى الله تَعَالَى أَن انكسروا بَين يَدَيْهِ وأَسر جمَاعَة مِنْهُم ومنّ عَلَيْهِم وأطلقهم وَذَلِكَ عِنْد قُرُون حماة فِي تَاسِع عشر شهر رَمَضَان
ثمّ سَار عقيب انكسارهم وَنزل على حلب وَهِي الدفعة الثَّانِيَة وصالحوه على أَن أَخذ المعرّة وَكفر طَابَ وبارين
وَقَالَ الْعِمَاد لما تسلم السُّلْطَان قلعة بعلبك عَاد إِلَى حمص وَقد وصل عز الدّين مَسْعُود أَخُو صَاحب الْموصل إِلَى حلب نجدة وَلما عرفُوا أَن السُّلْطَان مَشْغُول بالحصون جاؤوا إِلَى حماة فحصروها وراسلوا فِي الصُّلْح فَقدم السُّلْطَان فِي خف من اصحابه وَجَاء كُمُشتكين وَابْن العجمي وَغَيرهمَا وأجابهم السُّلْطَان إِلَى مَا طلبُوا وَأَن يردّ عَلَيْهِم الْحُصُون وَأَن يقنع بِدِمَشْق نَائِبا عَن الْملك الصَّالح وَله خاطباً وعَلى الانتماء إِلَيْهِ مواظباً وَأَن يردّ كلّ مَا أَخذه من الخزانة وَأَن يسْلك فِيهِ سَبِيل الْأَمَانَة فلّما رَأَوْهُ مجيباً لكلّ مَا يلْتَمس مِنْهُ وَهُوَ فِي عَسْكَر خَفِيف قَالُوا مَا خَبره ضحيح فشرعوا فِي الاشتطاط وطلبوا الرّحبة وأعمالها فَقَالَ هِيَ لِابْنِ عمي(2/378)
نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه وَكَيف أُلحق بِهِ فِي رضاكم الْمَكْرُوه فنفروا وجفلوا وَأَصْبحُوا على الرحيل إِلَى جَانب العَاصِي قَرِيبا من شيزر وجمعوا الْعَسْكَر وأظهروا أَنهم على المصاف وعزم الانتصاف فعبَّر السّلطان إِلَى سفح قُرُون حماة خيامه وركز على مقابلتهم أَعْلَامه وَوصل الْعَسْكَر المصريّ فِي عشرَة من المقدّمين مِنْهُم فرخشاه وَأَخُوهُ تقيّ الدّين والتقوا فَهَزَمَهُمْ السُّلْطَان وَنزل على مَنْزِلَتهمْ
قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا نظمت فِي هَذِه الْوَقْعَة فِي مدح نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه قصيدة فقد كَانَ لَهُ فِيهَا غناء وبلاء حسن مِنْهَا
(ولَقَدْ ألِفتُ نِفارها وهَوَيْتها ... إِذْ لَيْسَ يُنكر للظباء نفار)
(يَا جَارة للقلب جائرة دَعِى ... ظُلمي وإلاّ قلتُ جَار الْجَار)
(قلبِي كطرفك مَا يفِيق إفاقة ... سَكرَان مَا دارت عَلَيْهِ عقار)
(صَبُّ بصب الدمع محترق الحشا ... خطرت ببال بلائه الأخطار)
(لم يخْش من خطر الْهوى حَتَّى حمى ... ذَاك القوام شبيهه الخطار)
(يذرى الدُّمُوع كأنهنّ عوارفٌ ... لاِبْن المملّك شيركوه غزار)
(من آل شاذي الشائدين بنى الْعلَا ... أركانهن لهاذمٌ وشفار)
(حسنت بهم للدولة الْأَيَّام والأعمال ... وَالْأَحْوَال والْآثَار)
(قد حَاز ملك الشَّام يوسفٌ الذّي ... فِي مصر تغبط عصره الْأَعْصَار)
(نصرَ الهُدى فتوطد الْإِسْلَام فِي ... أَيَّامه وتضعضع الْكفَّار)
(لما لقِيت جموعهم منظومة ... صيرت ذَاك النّظم وَهُوَ نثار)
(فِي حالتي جُودٍ وبأسٍ لم يزل ... للتّبر والأعداء مِنْك تبار)(2/379)
(تهب الألوف وَلَا تهاب ألوفهم ... هان الْعَدو عَلَيْك وَالدِّينَار)
(لما جرى العَاصِي هُنَالك طَائِعا ... بدمائهم فخرت بِهِ الْأَنْهَار)
(وتحطمت عِنْد الْقُرُون قرونهم ... بل كلت الأنياب والأظفار)
(عبروا المعرة مالكين معرّة ... والعار يملك تَارَة ويعار)
(أَو مَا كفاهم يَوْم حمص وكفّهم ... فِي بعلبك بِمِثْلِهَا الْإِنْذَار)
قَالَ وهنأت الْملك المظفر تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بقصيدة مِنْهَا
(لَا تفن من فرق الْفِرَاق الأدمعا ... فَهِيَ الشُّهُود على الغرام المدّعى)
(واستبق صبرك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهُ ... عون لقلبك إِن هُما ثبتا مَعًا)
(قلبٌ أَصَابَته الْعُيُون وَلم يزل ... من مسّها بالهاجسات مروعا)
(مَا باله قد صدّ عِنْد صدودهم ... عنّي وَلما ودّعوني ودعا)
(وَمن التحيّر أنني أبصرته ... فِي ظعنهم وَسَأَلت عَنهُ الأضلعا)
(أَصبَحت إِذْ شيّعتهم لثَلَاثَة ... صبري وغمضي والفؤاد مشيعا)
وَمِنْهَا
(أَو مَا اتقيتم حِين رعتم سر بِهِ ... فِيهِ تقيّ الدّين ذَاك الأروعا)
(عمر بن شاهنشاه من هُوَ عامرٌ ... أَرْكَان ملك الشَّام حِين تضعضعا)
(خضع العدوّ وذلّ بعد تعزز ... لكم وَحقّ عَدوكُمْ أَن يخضعا)(2/380)
(من معشر غر يرَوْنَ جَمِيع مَا ... لم يبذلوه فِي السَّماح مضيعا)
(فِي مصر واليمن اجتلينا مِنْهُم ... فِي عصرنا تبعا ليوسف تُبعا)
(الحاويان بِملك مصر ومكةٍ ... وَالشَّام واليمن الحظايا الأربعا)
(لما عصى الْأَعْدَاء بالعاصي جرى ... بدمائهم طَوْعًا سيولا دُفَّعا)
وَقَالَ ابْن أبي طي لما تسلم السطان بعلبك وأزاح عللها عَاد إِلَى حمص وَنزل بهَا فاتصل بِهِ وُرُود عزّ الدّين مَسْعُود أخي سيف الدّين صَاحب الْموصل نجدةً للْملك الصَّالح وَكَانَ سَبَب وُرُوده أَن جمَاعَة أُمَرَاء حلب لما كَانَ السُّلْطَان نازلا على حلب أَجمعُوا على آرائهم وكاتبوا سيف الدّين وألزموه نجدة ابْن عَمه وَأَخْبرُوهُ أَن السُّلْطَان مَتى ملك حلب لم يكن لَهُ قصد إِلَّا الْموصل وَأَرْسلُوا بذلك أَمِين الدّين هاشماً خطيب حلب وقطب الدّين ينَال بن حسان وغرس الدّين قليج
وَكَانَ سيف الدّين منازلا لسنجار وفيهَا أَخُوهُ عماد الدّين زنكي وَكَانَ عماد الدّين قد أظهر الانتماء إِلَى السُّلْطَان فأنجده السُّلْطَان بِقِطْعَة من جَيْشه فكسرهم ونهبهم عماد الدّين بهم وبعسكره
فَلَمَّا وصلت رِسَالَة الحلبيين إِلَى سيف الدّين صَالح أَخَاهُ عماد الدّين وحشد عسكره وأنفذ نخبهم مَعَ أَخِيه عز الدّين مَسْعُود فورد حلب بعد رحيل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى بعلبك فاغتنم الحلبيون بُعد السُّلْطَان عَنْهُم فاحتشدوا وَخَرجُوا جَمِيعًا حَتَّى خيموا على حماة وَأخذُوا فِي حصارها واتصل بالسلطان ذَلِك فَرَحل من بعلبك إِلَى حمص وَبلغ عز الدّين فَعَاد(2/381)
عَن حماة وَنزل قَرِيبا من جباب التركمان إِلَى جِهَة العَاصِي إِلَى قريب من شيزر
وراسل النَّائِب بحماة عَليّ بن أبي الفوارس يَقُول لَهُ إِنَّمَا وصلت فِي إصْلَاح الْحَال وَوضع أوزار الْقِتَال وَسَأَلَهُ مُكَاتبَة السُّلْطَان فِيمَا يجمع الْكَلِمَة ويلم شعث الْفرْقَة فَكتب ابْن أبي الفوارس بذلك إِلَى السُّلْطَان وحَسَّن لَهُ الصُّلح وتلطف فِي ذَلِك غَايَة التلطف
وَقدم أَبُو صَالح بن العجمي وَسعد الدّين كمشتكين لطلب الصُّلْح فأجابهما السُّلْطَان إِلَى مَا أَرَادَا وتقرر الْأَمر على أَنه يرد إِلَيْهِم جَمِيع الْحُصُون والبلاد ويقنع بِدِمَشْق وَحدهَا وَيكون نَائِبا للْملك الصَّالح فَلَمَّا عاين سعد الدّين إِجَابَة السُّلْطَان إِلَى الصُّلْح وَالنُّزُول عَن جَمِيع الْحُصُون الَّتِي أَخذهَا حمص وحماة وبعلبك طمع فِي جَانب السُّلْطَان وَتجَاوز الْحَد فِي الاقتراح وَطلب الرحبة وأعمالها فَقَالَ هِيَ لإبن عمي وَلَا سَبِيل إِلَى أَخذهَا فَقَامَ سعد الدّين من بَين يَدَيْهِ نافرا وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي أبي صَالح ابْن العجمي لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه فاجتهد السُّلْطَان بِهِ أَن يرجع فَلم يفعل وَخرج إِلَى عز الدّين مَسْعُود وَكَانَ بعدُ نازلا على حماة وحدثه مَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان وهون عَلَيْهِ أَبُو صَالح أَمر السُّلْطَان وَأخْبرهُ بقلّة من مَعَه
وَكَانَ السُّلْطَان لما كُوتِبَ فِي أَمر الصُّلْح سَار فِي خفّ من أَصْحَابه فَلَمَّا علمُوا بذلك طمعوا فِي جَانِبه وعوّلوا على لِقَائِه وانتهاز الفرصة فِي أمره فكاتب بَاقِي أَصْحَابه واستعدّ لحربهم وَسَار إِلَى أَن نزل على قُرُون حماة وَأخذ فِي مدافعة الْأَيَّام حَتَّى يقدم عَلَيْهِ بَاقِي عسكره وراسلهم فِي(2/382)
التلطف للأحوال فَلم ينجع فيهم حَال وَكَانُوا فِي كلّ يَوْم يعزمون على لِقَائِه وقتاله فَيبْطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عسكره وَكَانَت هيبته قد مَلَأت صُدُور الْقَوْم وَلَوْلَا ذَلِك لكانوا قد ناهزوا الفُرصة ونالوا مِنْهُ الْغَرَض
قَالَ وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر شهر رَمَضَان الْتَقَوْا وَلم يكن بعد وصل السُّلْطَان من عسكره أحد فتجمع أَصْحَاب السُّلْطَان كردوسا وَاحِدًا وَأخذُوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الْأَوْقَات رَجَاء أَن يتَّصل بهم بعض الْعَسْكَر وضرى عَسْكَر حلب والعسكر الموصليّ على أَصْحَاب السُّلْطَان حِين شاهدوا قلتهم واجتماعهم وَكَاد أَصْحَاب السُّلْطَان يولون الإدبار فوصل تَقِيّ الدّين عمر عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ لتَمام سَعَادَة السُّلْطَان فَإِنَّهُ لَو تَأَخّر سَاعَة انْكَسَرَ عسكره فوصل تقيّ الدّين فِي عَسْكَر مصر وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وهم غير عَالمين بِأَن الْحَرْب قَائِمَة فَلَمَّا رَأَوْا النَّاس فِي الكرّ وَالضَّرْب الهبر حملُوا جَمِيعًا بعد أَن افْتَرَقُوا فِي الميمنة والميسرة فصدموا عَسْكَر الْموصل صدمة ضعضعتهم
وَكَانَ السُّلْطَان فِي هَذِه الْمدَّة قد كَاتب جمَاعَة من عَسْكَرهمْ واستفسدهم إِلَيْهِم وَحمل إِلَيْهِم الْأَمْوَال وَهَذَا هُوَ الَّذِي بطأ بهم إِلَى أَن وصلت عساكره وَإِلَّا لَو كَانَ عَسْكَر حلب نصح لم يقدر السُّلْطَان على الثُّبُوت سَاعَة فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَال لم تنصح الْجَمَاعَة الَّتِي كاتبها السُّلْطَان بل كَانُوا مثبطين مخوفين لمن قرُب مِنْهُم ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك انْهَزمُوا وتبعهم(2/383)
عَسْكَر السُّلْطَان واستباحوا أَمْوَالهم وخيامهم وَأمر السُّلْطَان أَصْحَابه أَلا يوغلوا فِي طَلَبهمْ وَلَا يقتلُوا من رَأَوْهُ مُنْهَزِمًا وَلَا يذففوا على جريح ورحل حَتَّى نزل فِي مَنْزِلَتهمْ
ثمَّ سَار من وقته مجداً حَتَّى نزل بمرج قرا حِصَار وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى عيّد عيد الْفطر فَجَاءَتْهُ رسل الْملك الصَّالح يسألونه المهادنة وَأَن يُقرّر الْملك الصَّالح على مَا فِي يَده وَمَا هُوَ جارٍ تَحت حكمه من الشَّام الْأَسْفَل إِلَى بلد حماة فَلم يرض بذلك فَجعلُوا لَهُ حماة المعرة وَكفر طَابَ فرضى بذلك وَحلف على نُسْخَة رَأَيْتهَا وَعَلَيْهَا خطه
قَالَ وَكَانَ فِي جملَة الْيَمين أَنه مَتى قصد الْملك الصَّالح عدوٌّ حضر بِنَفسِهِ وجيوشه ودافع عَنهُ وَألا يُغير الدّعاء لَهُ من جَمِيع مَنَابِر الْبِلَاد الَّتِي تَحت يَد السُّلْطَان وولايته وَولَايَة أَصْحَابه وَأَن تكون السِّكَّة باسمه
وَلما حلف السُّلْطَان وَالْملك الصَّالح وأمراؤه عَاد السُّلْطَان قَاصِدا دمشق فَلَمَّا وصل إِلَى حماة وصلت إِلَيْهِ رسل الْخَلِيفَة المستضيء وَمَعَهُمْ التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيعٌ من الدِّيوَان بالسلطنة بِبِلَاد مصر وَالشَّام
وَفِي هَذِه الْخلْع يَقُول ابْن سَعْدَان الْحلَبِي(2/384)
(يَا أَيهَا الْملك الغزير فَضله ... لقد غَدَوْت بالعُلا مَلِيًّا)
(كفى أَمِير الْمُؤمنِينَ شرفا ... أَنَّك أَصبَحت لَهُ وليّا)
(طارحك الودّ على شحط النّوى ... فَكنت ذَاك الصّادق الوّفيا)
(أوْلاكَ من لِبَاسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدَمِيًّا)
(ناسبت الرّوض سنا وبهجة ... حَتَّى حكته رونقاً وزيّا)
قَالَ ورحل السُّلْطَان من حماة إِلَى بعرين وَكَانَ فِيهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزّعفراني وَكَانَ خرج إِلَى السُّلْطَان لما وصل إِلَى الشَّام وتطارح عَلَيْهِ وخدمه وظنّ أَن السُّلْطَان يقدمهُ على عساكره فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ فَترك السُّلْطَان وَعَاد إِلَى حصن بعرين فأغضب السُّلْطَان ذَلِك وَسَار إِلَيْهِ وحاصره حَتَّى تسلم حصنه
وَقَالَ الْعِمَاد نزل السُّلْطَان قراحصار بنيَّة الْحصار فَجَاءَت رسلهم بالانقياد وَأَجَابُوا إِلَى المُرَاد وَقَالُوا اقنعوا بِمَا أخذتموه إِلَى حماة وَلَا تشمتوا بِنَا العداة فاستزدنا عَلَيْهِم كفر طَابَ والمعرّة واستوفينا عَلَيْهِم الْأَيْمَان المستّقرة وسألهم فِي المعتقلين إخْوَة مجد الدّين فَأَجَابُوا وأفرجوا عَنْهُم وتمّ الصُّلْح وعمّ النجح
ورحلنا ظَاهِرين ظافرين ونزلنا حماة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر شَوَّال وَبهَا وصلت إِلَيْهِ رسل الدِّيوَان الْعَزِيز بالتشريفات والتقليد بِمَا أَرَادَ من الولايات وأفاضوا على السُّلْطَان وأقاربه الْخلْع وَخص نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بمزيد تَفْضِيل على أقَارِب السُّلْطَان وَكَأَنَّهُ رِعَايَة لحق وَالِده أَسد الدّين رَحمَه الله تَعَالَى(2/385)
ثمَّ تسلم السُّلْطَان حصن بعرين وَكَانَ بيد الْأَمِير فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شَوَّال وأقطع مَدِينَة حماة خَاله وصهره الْأَمِير شهَاب الدّين مَحْمُودًا وأنعم بحمص على ابْن عَمه نَاصِر الدّين
قَالَ الْعِمَاد وأذكر أنَّا عبرنا نهر العَاصِي عائدين وَقد انكسفت الشَّمْس وادلّهم النَّهَار وَغلب على الْقُلُوب الاستشعار وطاحت الْأَنْوَار وخفيت الرّسوم وَظَهَرت النُّجُوم وَجِئْنَا حمص ثمَّ بعلبك ثمَّ الْبِقَاع ووصلنا دمشق فِي ذِي الْقعدَة
فصل
قَالَ الْعِمَاد قد سبق ذكر مَا قَرَّرَهُ حُسّادي فِي خاطر السُّلْطَان وَقَالُوا شُغله الْمُكَاتبَة وَهِي منصب الْأَجَل الْفَاضِل وَهُوَ يَسْتَنِيب فِيهِ من يرَاهُ من الأفاضل وَهَذَا تَصْرفُه برِفدٍ جزيل ووجهٍ جميل وَالسُّلْطَان مَعَ شدّة رغبته مُتَوَقف وَإِلَى ظُهُور وَجه النّجاح فِي أَمْرِي متشوف
وَكنت قد أنست مُدَّة مقَامي بالمعسكر بِذِي الْمجد والمفخر ومورد الْكَرم والمصدر الْأَمِير نجم الدّين بن مصال وَهُوَ ذُو فضل وإفضال وَقبُول وإقبال وَله من السُّلْطَان وَمن الْفَاضِل لجلالة قدره إجلال وَقد مَال إِلَى لفضله ونباهته ونبله وَكَانَ أَبوهُ قد وزر لِلْحَافِظِ فِي آخر عَهده(2/386)
متفرّدا بسؤدده ومجده وَكَانَ من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والتّقى والورع والعفاف وَالطَّاعَة وَله يدٌ عِنْد السُّلْطَان فِي النُّوب الَّتِي قصدُوا فِيهَا مصر وأجزل عِنْده الْإِحْسَان والبّر لاسيما عِنْد كَونه بالإسكندرية محصورا وَكَانَ إحسانه مشكورا واعتناؤه لحفظه مَشْهُورا فَلَمَّا ملك أحبّه وَاخْتَارَ قربه فلزْمت لَهُ التودد وَإِلَيْهِ التَّرَدُّد وَجَعَلته الْوَسِيط بيني وَبَين الْأَجَل الْفَاضِل واتخذته من الْحجَج والوسائل ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا ورسالة وشعرا فَمن ذَلِك مَا كتبته إِلَيْهِ
(لَعَلَّ نجم الدّين ذَا الْفضل ... يذكرالفاضل فِي شُغلي)
(إنّ أجلّ النَّاس قدرا فَتى ... بفضله يتْعب من أَجلي)
(ومثلُه من يعتنى بالعلا ... ويستديم الْحَمد من مثلي)
قَالَ وَأول مَا أهديته للفاضل مِدْحَة حِين لَقيته بحمص فِي شعْبَان مِنْهَا
(عَايَنت طود سكينَة وَرَأَيْت شمس ... فَضِيلَة ووردت بَحر فواضل)
(وَرَأَيْت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لِوَائِل)
(أَبْصرت قُسّا فِي الفصاحة معجزا ... فَعرفت أَنِّي فِي فهامه بَاقِل)
(حلف الحصافة والفصاحة والسماحة ... والحماسة والتقى والنائل)
(بَحر من الْفضل الغزير خِضّمُّه ... طامي العُباب وَمَاله من سَاحل)
(وجميعُ مَا فِي الأَرْض سَبْعَة أبحر ... وبحوره تُسْمى بِعشر أنامل)
(فِي كَفه قلم يعجل جريه ... مَا كَانَ من أجل ورزق اجل)
(يجْرِي وَلَا جري الحسام إِذا جرى ... حدّاه بل جرْى الْقَضَاء النَّازِل)
(نابت كِتَابَته مناب كَتِيبَة ... كفلت يهْزم كتائب وجحافل)
(فَعدُوّه فِي عدوه ووليّه ... فِي عدله أكرمْ بِعادٍ عَادل)(2/387)
(ريّان من مَاء التّقي صادٍ إِلَى ... كسب المحامد وَهِي خير مناهل)
(يَا وَاحِد الْعَصْر الَّذِي بذ الورى ... فضلا بِغَيْر مشابه ومشاكل)
(مَالِي وجاه الْجَاهِلين فأغنني ... عَنْهُم كفيتهم وَجُدْ بالجاه لي)
(أرجوك معتنيا لَدَى السُّلْطَان بِي ... كرماً فمثُلك بعتني بأماثلي)
(قرّر لي الشّغل المبجل مُخليا ... بالي من الهمّ الْمُقِيم الشاغل)
قَالَ فَدخل الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان وعرّفه أَنه فيّ رَاغِب وَقَالَ أَنا لَا يمكنني الْمُلَازمَة الدائمة فِي كل سفرة وَغدا يكاتبك مُلُوك الْأَعَاجِم وَلَا تَسْتَغْنِي فِي الْملك عَن عقد الملطفات وحلّ التّراجم والعماد يَفِي بذلك وَلَك أختاره وَقد عُرف فِي الدولة النّورية مِقْدَاره وَأخذ لي خطّ السُّلْطَان بِمَا قَرَّرَهُ لي من شغلي وَقد عرف أَن الْأَجَل الْفَاضِل قد أجلّ فضلي
قَالَ وخدمت أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء فِي ذِي الْقعدَة مَعَ الرّسل بِهَذِهِ القصيدة
(أصح عُيُون الغانيات مريضها ... وأفتك الحاظ الحسان غضيضها)
يَقُول فِي مديحها
(وَمن عجب صلت لقبلة بأسهم ... رُؤُوس أعادٍ من ظباهم محيضها)
قَالَ ابْن أبي طيّ وَظهر فِي مشغرا قَرْيَة من قرى دمشق رجل ادّعى النّبوة وَكَانَ من أهل الْمغرب وَأظْهر من التخاييل والتمويهات مَا فتن(2/388)
بِهِ النَّاس واتبّعه عَالم عَظِيم من الفلاحين وَأهل السوَاد وَعصى على أهل دمشق ثمَّ هرب من مشغرا فِي اللَّيْل وَصَارَ إِلَى بلد حلب وَعَاد إِلَى إفسادعقول الفلاحيّن بِمَا يُرِيهم من الشعبذة والتخاييل وَهوى امْرَأَة وعلّمها ذَلِك وادعّت أَيْضا النبّوة
قَالَ وفيهَا توفّي شهَاب الدّين إلْيَاس الأرتقي صَاحب البيرة وَأوصى إِلَى الْملك النَّاصِر بولده شهَاب الدّين مُحَمَّد
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان نَازل بمرج الصفر من دمشق فَجَاءَهُ رَسُول الفرنج يطْلب الْهُدْنَة فأجابهم السُّلْطَان بعد أَن اشْترط عَلَيْهِم أموراً فالتزموها
وَكَانَ الشَّام ذَلِك الْعَام جدباً فَأذن السُّلْطَان للعساكر المصرية فِي الرحيل إِلَى بِلَادهمْ وَإِذا استغلوها خَرجُوا إِلَيْهِ وَسَار مَعَهم الْفَاضِل وَاعْتمد على الْعِمَاد فِيمَا كَانَ بصدده
وواظب السُّلْطَان على الْجُلُوس فِي دَار الْعدْل وعَلى الصَّيْد ومدحه الْعِمَاد بقصيدة مِنْهَا
(سواك لسهم الْعلَا لن يريشا ... فنسأل رب الْعلَا أَن تعيشا)
(من النَّاس بالبّرِ صِدْت الْكِرَام ... وبالبأس فِي البِّر صدت الوحوشا)
(وكمْ سرت من مصر نَحْو الْعَريش ... فهدّمت للْمُشْرِكين العُروشا)(2/389)
(سراياك تبْعَث قُدّامها ... من الرعب نَحْو الأعادي جيوشا)
(وَيَوْم حماة تركت العداة ... كَمَا طيرت بالفلا الرِّيحُ ريشا)
قَالَ ومدحت مستهل ربيع الأول تقيّ الدّين بقصيدة موسومة وَكَانَ قد فوض إِلَيْهِ ولَايَة دمشق وَمِنْهَا بيتان ابتكرت الْمَعْنى فيهمَا وَلم أُسبق إِلَيْهِمَا وهما
(يُفِيد الْعَاقِل اليقظ التّغابي ... ليدرك فِي الْغنى حظّ الغبيّ)
(وَلم تصب السّهام على اعْتِدَال ... بهَا لَوْلَا اعوجاجٌ فِي القسيّ)
(فَقل للدهر يقصر عَن عنادي ... أما هُوَ يتّقي بَأْس التّقيّ)
(حَلَفت بِرَبّ مَكَّة والمصلى ... وثاوى تُرب طيبَة والغري)
(لَأَنْتُم يَا بني أَيُّوب خير الورى ... بعد الإِمَام المستضي)
قَالَ وَفِي أول هَذِه السّنة وصل إِلَى دمشق الْجَمَاعَة الَّذين خَرجُوا من بَغْدَاد مُوَافقَة لقطب الدّين قايماز فَأخذُوا لأَنْفُسِهِمْ بالالتجاء إِلَى السُّلْطَان الِاحْتِرَاز
وَكَانَ قايماز هَذَا مُحكَّما فِي الدولة الإمامية من أول الْأَيَّام المستنجدية وقوى فِي الْأَيَّام المستضيئية على وَزِير الْخَلِيفَة عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء وسامه أَنْوَاع الْبلَاء وأخافه ورام إِتْلَافه حَتَّى استعاذ مِنْهُ برباط صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ فَسلم بِهِ(2/390)
ثمَّ إِن قايماز خَالف الْخَلِيفَة وشقّ الْعَصَا وعنّ لَهُ حِصَار الداّر فَأمر الْخَلِيفَة بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَلم ينج لما أحيط بداره إِلَّا بِفَتْح بَاب فِي جِدَاره وَانْهَزَمَ فوصل إِلَى الْحلَّة فِي اوائل ذِي الْقعدَة سنة سبعين وَهُوَ فِي موسم الحجّ فَجمع رِجَاله وتوّجه إِلَى الْموصل وخانه إخوانه وخذله أَصْحَابه فَتوفي فِي بعض قرى الْموصل وتفرق أَصْحَابه فِي الْبِلَاد فَمنهمْ من رَجَعَ إِلَى بَغْدَاد وَمِنْهُم من أَتَى الشَّام مِنْهُم حسام الدّين تميرك وَعز الدّين أقبوري بن ازغش وَكَانَ صهر السُّلْطَان قَدِيما وَعِنْده كَرِيمًا فأقطعه فِي الديار المصرّية وَكتب فِي حقّه إِلَى الدِّيوَان شَفَاعَة فِي تَخْلِيص مَاله واستقامة حَاله وَكَانَ ذَا خَزَائِن مملوة وخيْلٍ مسَّومة فَلم يكن ذَنبه عِنْدهم فِي مُتَابعَة قايماز مِمَّا يقبل الصفح وَكَانَ أقبوري زوج أُخْت السُّلْطَان وَالسُّلْطَان خَال بنته وَهِي زَوْجَة عز الدّين فرخشاه ابْن أخي السُّلْطَان
قلت وَفِي بعض الْكتب عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد بالمثال الفاضليّ وَمَا نحسب أَنا مَعَ الْمُوَالَاة المشتهرة والنصرة المستظهرة والمساعي الَّتِي كَانَت لثارات هَذِه الدولة بَالِغَة ولأعدائهم دامغة ولمنازعيهم الْأَمر قاصمة ولمجاذبيهم الحقَّ واقمة وبحقوق الله تَعَالَى الْوَاجِبَة لَهُم قَائِمَة وكوننا مَا أعنَّا مِنْهَا بنجدة من رجال وَلَا بمادة من مَال(2/391)
وَلَا بإعانة بِحَال من الْأَحْوَال يردّ سؤالنا من الدّولة أَعْلَاهَا الله فِي ذِي قربى لَا نستطيع دَفعه وَلَا يقبل أَسبَاب النَّفْع إِذا أردنَا نَفعه فالأخباز عندنَا وَاسِعَة والأعواض لدينا غير متعذرة والولايات الَّتِي نفوضها إِلَيْهِ عَن كِفَايَته غير مستغنية وَلكنه مَا بَاعَ بمكانه من الْخدمَة مَكَانا وَلَا آثر غير سُلْطَانه سُلْطَانا وَله أعذار لَا بَأْس أَن نُعيره فِيهَا لِسَانا وبيانا
ثمَّ ذكرهَا ثمَّ قَالَ وَهَذَا الْأَمِير جُزْء منَّأ فَكيف يعد جُزْء منا عَاصِيا وبألسنتنا وسيوفنا يُدْعى الْخلق إِلَى الطَّاعَة وَكَيف تَخْلُو دَار الْخلَافَة من وَاحِد من أهلنا يَنُوب عَنَّا وَعَن بَقِيَّة الْجَمَاعَة فَنحْن فِي أَنْفُسنَا نشفع وَعَن جاهنا ندفع وَفِي مَكَاننَا نسْأَل وبحظنا الَّذِي لَا نسمح بِهِ لِلْإِسْلَامِ نبخل وَأَنت أَيهَا الْأَمِير السَّائر ثَالِث رَسُول ندب فِي أَمر هَذَا الْأَمِير وَالله وليّ التّدبير
وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة كنت جَالِسا بَين يَدي الْملك النَّاصِر صَلَاح الدِّين بِدِمَشْق فِي دَار الْعدْل أنفذُ مَا يَأْمر بِهِ من الشّغل فَحَضَرَ سَعَادَة الْأَعْمَى من أهل حمص وَكَانَ مَمْلُوكا لبَعض الدمشقيين مولدا وَيكْتب على قصائده سعيد بن عبد الله فَوقف ينشد هَذِه القصيدة فِي عَاشر شعْبَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَهِي
(حيتك أعطاف القدود ببانها ... لما انْثَنَتْ تيهاً على كثبانها)
ثمَّ ذكر القصيدة وغزلها فِي وصف دمشق ثمَّ قَالَ(2/392)
(سلطانها الْملك ابْن أَيُّوب الَّذِي ... كَفاهُ لَا تنكف عَن هطلانها)
(بمواهبٍ لوْ لمْ أكنْ نُوحاً لما ... نُجيّت يَوْم نداه من طوفانها)
(سمحٌ يروح إِلَى الندىّ براحة ... قد أعشب الْمَعْرُوف بَين بنانها)
(وفتىً إِذا زخرت بحارُ نواله ... غرقت بحار الأَرْض فِي خلجانها)
(تِلْكَ السيوف المرهفات بكفه ... أمضى على الْأَيَّام من حدثانها)
(ملك إِذا جليت عرائس ملكه ... رصعت فريد الْعدْل فِي تيجانها)
(فَاسْلَمْ صَلَاح الدّين وابْق لدولة ... ذلّت لدولتها مُلُوك زمانها)
(وانهض إِلَى فتح السّواحل نهضة ... قادت لَك الْأَعْدَاء بعد حرانها)
وَهِي طَوِيلَة
قَالَ وَقَامَ الْيَوْم الذّي يَلِيهِ وَقد جلس السُّلْطَان للعدل فأنشده يَعْنِي قصيدة مِنْهَا
(هَل بعد جِلِّق إِلَّا أَن ترى حَلَبا ... وَقد تحللّ مِنْهَا مُشكل عقد)
(وَقد أتتك كَمَا تخْتَار طَائِعَة ... وَقد عَنَا لَك مِنْهَا الْحصن والبلد)
قَالَ وَكَانَ سَعَادَة سَافر إِلَى مصر فِي أول مملكة الْملك النَّاصِر فمدحه بقصيدة طائية فَأعْطَاهُ ألف دِينَار فَمِنْهَا يصف غارته على غزّة وَعوده من ذَلِك الْغَزْو بِالْعِزَّةِ
(فَتى مذ غزا بِالْخَيْلِ والرَّجل غَزَّة ... نأى عَن نَوَاحِيهَا الرّضا ودنا السخط)
(رَمَاهَا بأُسد مالهن مَرابضٌ ... وَلَا أجم إِلَّا الَّذِي ينْبت الْخط)(2/393)
(وعاث ضواحيها ضحى بكتائب ... من التّرْك لَا نوب طغام وَلَا قبط)
وَله فِي السُّلْطَان قصائد أخر
قَالَ وَقَامَ الْبَهَاء السنجاري وَأنْشد الْملك النّاصر قصيدة فِي دَار الْعدْل بِدِمَشْق سنة إِحْدَى وَسبعين فِي شعْبَان مِنْهَا
(يَا ظَبْيَة الهرمين من مصر على الرّبع ... السَّلام وَإِن تقوض أَو عَفا)
(أصبْو إِلَى عصر تقادم عَهده ... فأزيدُ مِنْ وَلَهٍ عَلَيْهِ تلُّهفا)
(أحبابنا بِالْقصرِ لَو قصرتمُ ... فِي الهجر مَا شمت الحسود وَلَا اشتفى)
وَمِنْهَا
(أَشْكُو إِلَى الْوَادي فيحنو بانهُ ... من رقة الشكوى عليّ تعطفا)
(وَجرى بِي الأملُ الطموح فَأم بِي ... سلطانَ أَرض الله طرًّا يُوسفا)
(الناهب الْأَرْوَاح فِي طلب الْعلَا ... والواهب الْآجَال فِي حسن الوفا)
فصل فِيمَا تجدّد للمواصلة والحلبيين
قد سبق ذكر الصُّلْح الَّذِي جرى بَين السُّلْطَان والحلبيين فَلَمَّا سمع بِهِ(2/394)
المواصلة عتبوا عَلَيْهِم ووبخوهم ونسبوهم إِلَى العجلة فِي ذَلِك وسلوك غير طَرِيق الحزم فحملوهم على النقْض والنّكث وأنفذوا من أَخذ عَلَيْهِم المواثيق وَتوجه ذَلِك الرَّسُول مِنْهُم إِلَى دمشق ليَأْخُذ للمواصلة من السُّلْطَان عَهده ويكشف أَيْضا مَا عِنْده فَلَمَّا خلا بِهِ طَالبه السُّلْطَان بنسخة الرَّأْي فغلط وَأخرج من كمه نُسْخَة يَمِين الحلبيين لَهُم وناولها إِيَّاه فتأملها وأخفى سرّه وَمَا أبداه واطلع على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وردهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لعلّها قد تبدلت فَعرف الرّسول أَنه قد غلط وَلم يُمكنهُ تلافي مَا فرط وَقَالَ السُّلْطَان كَيفَ حلف الحلبيون للمواصلة وَمن شَرط أَيْمَانهم أَنهم لَا يعتمدون أمرا إِلَّا بمراجعتهم لنا واستئذانهم وَعرف من ذَلِك الْيَوْم أَن الْعَهْد منقوض وَالْوَفَاء مرفوض
وشاع الْخَبَر عَن المواصلة بِالْخرُوجِ فِي الرّبيع فَكتب السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَهُوَ نَائِبه بِمصْر يُعلمه بذلك ويأمره أَن يَأْمر العساكر بالاستعداد لِلْخُرُوجِ فِي شعْبَان
قلت وَفِي كتاب طَوِيل فاضلي جليلٍ إِلَى بَغْدَاد عَن السُّلْطَان يطالع بِأَن الحلبيين والموصليين لما وضعُوا السِّلَاح وخفضوا الْجنَاح اقتصرنا بعد أَن كَانَت الْبِلَاد فِي أَيْدِينَا على اسْتِخْدَام عَسْكَر الحلبيين فِي البيكارات إِلَى الْكفْر وعرضنا علينا الْأَمَانَة فحملوها والأيمان فبذلوها وَسَار رَسُولنَا وَحلف صَاحب الْموصل بِمحضر من فُقَهَاء بَلَده وأمراء مشهده يَمِينا جعل(2/395)
الله فِيهَا حكما وضيق فِي نكثها المجال على من كَانَ حَنِيفا مُسلما وَعَاد رَسُوله ليسمع منا الْيَمين فَلَمَّا حضر وأحضر نسختها أومى بِيَدِهِ ليخرجها فَأخْرج نُسْخَة يَمِين كَانَت بَين الموصليين والحلبيين مضمونها الِاتِّفَاق على حزبنا والتداعي إِلَى حربنا والتساعد على إِزَالَة خَطَبنَا والاستنفار لمن هُوَ على بَعدنَا وقربنا وَقد حلف بهَا كمشتكين الْخَادِم بحلب وَجَمَاعَة مَعَه يَمِينا نقضت الأولى فَرددْنَا الْيَمين إِلَى يَمِين الرَّسُول وَقُلْنَا هَذِه يَمِين عَن الْأَيْمَان خَارِجَة وَأَرَدْت عمرا وَأَرَادَ الله خَارِجَة
وَانْصَرف الرَّسول عَن بابنا وَقد نزّهنا الله أَن يكون اسْمه معرضًا للحنث الْعَظِيم والنّكث الذّميم وَعلمنَا أنّ النَّاقِد بَصِير والآخذ قدير والمواقف الشرّيفة النَّبَوِيَّة أَعْلَاهَا الله مستخرجة الْأَوَامِر إِلَى الموصليّ إِمَّا بِكِتَاب مُؤَكد بِأَن لَا ينْقض عهد الله من بعد ميثاقه وَإِمَّا أَن تكون الفسحة وَاقعَة لنا فِي تضييق خناقه
ثمَّ ذكر أَمر الفرنج ثمّ قَالَ والمملوك بَين عدوّ إِسْلَام يشاركونه فِي هَذَا الِاسْم لفظا وَلَا ينوون لما استحفظوا حفظا وعدوّ كفر فَمَا يجاورهم إِلَّا بِلَاده وَلَا يقارعهم إِلَّا أجناده(2/396)
ثمَّ طلب خُرُوج الْأَمر بخطاب جَمِيع مُلُوك الْأَطْرَاف أَن يَكُونُوا للمملوك على الْمُشْركين أعوانا وَأَن يمتثل أَمر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن يَكُونُوا بنيانا فيعضدوه إِذا سعى ويلبوه إِذا دَعَا وَلَا يقعدوا عَن المعاضدة فِي فتح الْبَيْت المقدّس الَّذِي طابت النُّفُوس عَن ثاره وتطأطأت الرؤوس تَحت عاره وَصَارَت الْقُلُوب صَخْرَة لَا ترق على صخرته والعزائم قاصية عَن تَطْهِير أقصاه من رِجْس الشّرك ومعرّته فَإِن قعدت بهم العزائم وأخذتهم فِي الله لومةُ لائم فَلَا أقلّ من أَلا يَكُونُوا أعوانا عَلَيْهِ يلفتونه عَن قَصده حريصين على إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَيْهِ
وَقَالَ ابْن شَدَّاد لمّا وَقعت الْوَقْعَة الأولى مَعَ الحلبيين والمواصلة كَانَ سيف الدّين صَاحب الْموصل على سنجار يُحاصر أَخَاهُ عماد الدّين بِقصد أَخذهَا مِنْهُ ودخوله فِي طَاعَته وَكَانَ أَخُوهُ قد أظهر الانتماء إِلَى السّلطان صَلَاح الدّين واعتصم بذلك وَاشْتَدَّ سيف الدّين فِي حِصَار الْمَكَان وضربْه بالمنجنيق حتّى استُهدم من سوره ثلُم كَثِيرَة وأشرف على الْأَخْذ فَبَلغهُ وُقُوع هَذِه الْوَاقِعَة فخاف أَن يبلغ ذَلِك أَخَاهُ فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله فِي الصّلح فَصَالحه
ثمَّ سَار من وقته إِلَى نَصِيبين واهتمّ بِجمع العساكر والإنفاق فِيهَا وَسَار حَتَّى أَتَى الْفُرَات وَعبر بالبيرة وخيّم على جَانب الْفُرَات الشَّامي وراسل كمشتكين وَالْملك الصَّالح حَتَّى تَسْتَقِر قَاعِدَة يصل عَلَيْهَا إِلَيْهِم فوصل كمشتكين إِلَيْهِ وَجَرت مراجعات كَثِيرَة عزم فِيهَا على العوّد مرَارًا حَتَّى أستقرّ اجتماعه بِالْملكِ الصَّالح وسمحوا بِهِ وَسَار وَوصل حلب(2/397)
وَخرج الصَّالح إِلَى لِقَائِه بِنَفسِهِ فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إِلَيْهِ وَبكى ثمَّ أمره بِالْعودِ إِلَى القلعة فَعَاد إِلَيْهَا وَسَار هُوَ حَتَّى نزل بِعَين الْمُبَارَكَة وَأقَام بهَا مدّة وعسكر حلب يخرج إِلَى خدمته فِي كل يَوْم
وَصعد القلعة جَرِيدَة وَأكل فِيهَا خبْزًا وَنزل وَسَار راحلا إِلَى تل السّلطان وَمَعَهُ جمع كثير وَأهل ديار بكر وَالسُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى قد أنفذ فِي طلب العساكر من مصر وَهُوَ يرقب وصولها وَهَؤُلَاء يتأخرون فِي أُمُورهم وتدابيرهم وهم لايشعرون أنّ فِي التَّأْخِير تدميراً حَتَّى وصل عَسْكَر مصر فَسَار رَحمَه الله تَعَالَى حَتَّى أَتَى قُرُون حماة فَبَلغهُمْ أَنه قد قَارب عَسْكَرهمْ فأخرجوا اليزك ووجهّوا من كشف الْأَخْبَار فوجدوه قد وصل جَرِيدَة إِلَى جباب التركمان وتفرّق عسكره يسقى فَلَو أَرَادَ الله نُصْرتهم لقصدوه فِي تِلْكَ السَّاعَة لكنْ صَبَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى سقى خيله هُوَ وَعَسْكَره واجتمعوا وتعبّوا تعبئة الْقِتَال
وَأصْبح الْقَوْم على مصَاف وَذَلِكَ بكرَة الْخَمِيس الْعَاشِر من شوّال فَالتقى العسكران وتصادما وَجرى قتال عَظِيم وانكسرت ميسرَة السُّلْطَان بِابْن زين الدّين مظفر الدّين فَإِنَّهُ كَانَ فِي ميمنة سيف الدّين وَحمل السُّلْطَان بِنَفسِهِ فانكسر الْقَوْم وَأسر مِنْهُم جمعا عَظِيما من كبار الْأُمَرَاء مِنْهُم فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فمنّ عَلَيْهِم وأطلقهم(2/398)
وَعَاد سيف الدّين إِلَى حلب فَأخذ مِنْهَا خزانته وَسَار حَتَّى عبر الْفُرَات وَعَاد إِلَى بِلَاده وَأمْسك هُوَ رَحمَه الله عَن تتبع الْعَسْكَر وَنزل فِي بقيّة ذَلِك الْيَوْم فِي خيم الْقَوْم فَإِنَّهُم كَانُوا قد أبقْوا الثّقل على مَا كَانَ عَلَيْهِ والمطابخ قد عملت فَفرق الاصطبلات ووهب الخزائن وَأعْطى خيمة سيف الدّين عزّ الدّين فرخشاه
وَقَالَ الْعِمَاد رحلنا فِي شهر رَمَضَان من دمشق مستأنفين فعبْرنا العَاصِي لله طائعين وَإِلَى المسِّار مسارعين فَمَا عرّجنا على بلد وَلَا انتظرنا مَا وَرَاءَنَا من مدد ونزلنا الغّسُولة وجُزنا حماة وخيّمنا فِي مرج بوقبيس وَجَاء الْخَبَر أَنهم فِي عشْرين ألف فَارس سوى سوادهم وَمَا وَرَاءَهُمْ من أمدادهم وَأَنَّهُمْ موعودون من الفرنج بالنجدة وَأَنَّهُمْ يزِيدُونَ فِي كلّ يَوْم قوّة وشدّة وَمَا كَانَ اجْتمع من عسكرنا سوى سِتَّة آلَاف فَارس فرتب(2/399)
السُّلْطَان عسكره وقوى بِقُوَّة قلبه قلبه وأمد الله بحزب مَلَائكَته حزبه
وَلما وصل المواصلة إِلَى حلب أطْلقُوا من كَانَ فِي الْأسر من مُلُوك الفرنج مِنْهُم أرناط إبرنس الكرك وجوسلين خَال الْملك وقرّروا مَعَهم أَن يدخلُوا من مساعدتهم فِي الدّرك فَلَمَّا عيّدنا وصل إِلَى السُّلْطَان الْخَبَر بوصولهم إِلَى تلّ السُّلْطَان فعبرْنا العَاصِي عِنْد شَيْزَر ورتّبنا الْعَسْكَر وأعدنا الأثقال إِلَى حماة
ثمَّ وصف الْوَقْعَة إِلَى أَن قَالَ وَركب السُّلْطَان أكتافهم فشل مِئِيِهْم وآلافهم حَتَّى أخرجهم عَن خيامهم وأشْرَقهم بمائهم ووكل بسرادق سيف الدّين غَازِي ومضاربه ابْن أَخِيه فرخشاه وركض وَرَاءه حَتَّى علم أَنه تعدّاه وَوَقع فِي الْأسر جمَاعَة من الْأُمَرَاء المقدمين ثمَّ مَنَّ عَلَيْهِم بِالْخلْعِ بعد أَن نقلهم إِلَى حماة وأطلقهم ثمّ نزل فِي السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه واصطبلاته ومطابخه وَرَواسي عِزّه ورواسخه فَبسط فِي جَمِيع ذَلِك أَيدي الجُود وفرّقها على الْحُضُور وَالشُّهُود وَأبقى مِنْهَا نَصِيبا للرُّسل والوفود وَرَأى فِي بَيت الشّراب بل فِي السّرادق الخاصّ طيوراً من القماري والبلابل والهزار والببغاء فِي الأقفاص فاستدعى أحد الندماء مظفرا الْأَقْرَع فآنسه وَقَالَ خُذْ هَذِه الأقفاص واطلب بهَا الْخَلَاص واذهب بهَا إِلَى سيف الدّين فأوصلها إِلَيْهِ وسلّم منّا عَلَيْهِ وَقل لَهُ عدْ إِلَى اللّعب بِهَذِهِ الطُّيُور فَهِيَ سليمَة لَا توقعك فِي مثل هَذَا الْمَحْذُور(2/400)
قَالَ وَلما كسر الْقَوْم وولوا مُدبرين ركضوا إِلَى حلب فَلم يقف بَعضهم على بعض وظنوا أَن العساكر وَرَاءَهُمْ ركضا وَرَاء ركض فتبعجت خيولهم وتموّجت سيولهم وَمَا صدّقوا كَيفَ يصلونَ إِلَى حلب ويغلقون أَبْوَابهَا ويسكنون اضطرابها وَأما سيف الدّين فَإِنَّهُ ركض فِي يَوْمه من تلّ السُّلْطَان إِلَى بزاعة وَجَاوَزَ فِي سوقه الِاسْتِطَاعَة وَفرق فَارق الْجَمَاعَة
وَفِي كتاب ابْن أبي طيّ أَن ميسرَة سيف الدّين انْكَسَرت فتحرّك إِلَى جَانبهَا ليَكُون ردْءًا لَهَا ومدداً فَظن بَاقِي الْعَسْكَر انه قد انهزم فَانْهَزَمُوا فحقق مَا كَانَ وهما فَسَار على وَجهه هَارِبا لَا يلوي على شَيْء وتبعهم السُّلْطَان فَهَلَك مِنْهُم جمَاعَة قتْلاً وغرقا وأُسر جمَاعَة كَبِيرَة من وُجُوههم وأمرائهم ثمَّ رَجَعَ وَأمر أَصْحَابه بِرَفْع السَّيْف عَن النَّاس وترْك التّعرّض لمن وُجد مِنْهُم بقتل أَو نهب
وَفرق مَا وجد فِي خَزَائِن سيف الدّين وسيَّر جواريه وحظاياه إِلَى حلب وَأرْسل إِلَيْهِ بالأقفاص وَقَالَ لَهُ عد إِلَى اللّعب بِهَذِهِ الطُّيُور فَإِنَّهَا ألذّ من مقاساة الْحَرْب وَوجد السُّلْطَان عَسْكَر الْموصل كالحانة من كَثْرَة الْخُمُور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات(2/401)
قَالَ واشتهر أَنه كَانَ مَعَ سيف الدّين أَكثر من مئة مغنية وَأَن السُّلْطَان أرى ذَلِك لعساكره واستعاذ من هَذِه البلية وَكَانَ أنفذ الْأُمَرَاء الذّين أسرهم إِلَى حماة ثمَّ ردّهم وخلعّ عَلَيْهِم وأرسلهم إِلَى حلب
وهنأ الْعِمَاد السّلطان رَحمَه الله تَعَالَى بقصيدة مِنْهَا
(فَالْحَمْد لله الَّذِي إفضالهُ ... حلْوُ الجنا عالي السَّنا وضاحه)
(عَاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... فِي ليل ويلٍ قد خبا مصباحه)
(وجنى عَلَيْهِ جَهله بِوُقُوعِهِ ... فِي قَبْضَة الْبَازِي فَهِيضَ جنَاحه)
(حمل السِّلَاح إِلَى الْقِتَال وَمَا درى ... أَن الَّذِي يجنى عَلَيْهِ سلاحه)
(أضحى يُرِيد مواصليه صدوده ... وَغدا يجيد رثاءه مدّاحه)
(إِن أفسد الدّين الغلاة يحنثهم ... فالناصر الْملك الصّلاح صَلَاحه)
(قد كَانَ عزمك للإله مصمما ... فيهم فلاح كَمَا رَأَيْت فلاحه)
(وكأنني بالسَّاحل الْأَقْصَى وَقد ... ساحت ببحر دم الفرنجة ساحه)
(فاعبُر إِلَى الْقَوْم الْفُرَات ليشربوا الْمَوْت ... الأجاج فقد طمى طفاحه)
(لتفك من أَيْديهم رهن الرُّها ... عجلاً وَيدْرك لَيْلهَا إصباحه)
(وابغوا لحرَّان الْخَلَاص فكم بهَا ... حرّان قلبٍ نحوكم ملتاحه)
(نَجوا الْبِلَاد من البلاءِ بعدلكم ... فالظلم بادٍ فِي الْجَمِيع صراحه)
(واستفتحوا مَا كَانَ من مستغلق ... فِيهَا قربكم لكم فتاحه)
(أَنْتُم رجال الدّهر بل فرسانه ... وَلِذِي الحلوم الطائشات رجاحه)
(فُتَّاكه نُسّاكه ضُرّاره ... نُفّاعه مُنّاعه مُنّاحه)
(وَأَبُو المظفر يُوسُف مطعامه ... مِطْعانُه مِقْدامُه جَحْجَاحه)(2/402)
(وَإِذا انتدى فِي محفل فحيِيُّه ... وَإِذا غَدا فِي جحفل فوقاحه)
قَالَ وَكَانَ لعزّ الدّين فرخشاه فِي هَذِه الْوَقْعَة يَد بَيْضَاء وَهُوَ محب للفضل وَأَهله باعثُ للخواطر على مدحه ببذله فنظمت فِيهِ قصيدة مِنْهَا
(نصرٌ أنار لملككُمْ بُرهانه ... وَعلا لذلة شانئيكم شانه)
(مَا أسعد الْإِسْلَام وَهُوَ مظفر ... وَأَبُو المظفّر يوسفٌ سُلْطَانه)
(الملكُ مرفوعٌ لكم مِقْدَاره ... وَالْعدْل موضوعٌ بكم مِيزَانه)
(والدهر لَا يَأْتِي بِغَيْر مرادكم ... فَهَل الْقَضَاء لأجلكم جَرَيَانه)
(وكأنما لله فِي أَحْكَامه ... فلكٌ على إيثاركم دورانه)
(فخراً بني أَيُّوب إِن فخاركم ... بذَّ الْمُلُوك السَّابِقين رهانه)
(يكفى حسودكم اعتقالا همة ... فَكَأَنَّمَا أشجانه أسجانه)
(الدّين عزّ الدّين عزّ بنصركم ... وَالْكفْر ذل بعونكم أعوانه)
(قد كَانَ جيشهم كبحرٍ زاخر ... واللابسون جواشناً حيتانه)
(فطمى لهلكهم عَلَيْهِم بحركم ... بَأْسا وغرّق فلكهم طوفانه)
(فضل الْمُلُوك الأكرمين بفضله ... فعلا زمانهم البهيج زَمَانه)
(فِي فَضله فِي عدله فِي حلمه ... صديقّه فاروقه عثمانه)
(هُوَ فِي السماح وَفِي اللِّقَاء عليّه ... هُوَ فِي العفاف وَفِي التقى سلمانه)
(من آل شاذي الشائدين لمجده ... ببنيه بَيْتا عَالِيا بُنْيَانه)
(بَيت من العلياء سامٍ سامقٌ ... يبْنى على كيوانها إيوانه)(2/403)
(يَا سالب التِّيجان من أَرْبَابهَا ... وَمن الثَّنَاء مصوغةٌ تيجانه)
(وَالْحَمْد مالٌ أَنْتُم بُذَّاله ... وَالْمَال حمدٌ أَنْتُم خزانه)
قَالَ ثمَّ إِن صَاحب الْموصل أسْرع عودته وواصل لذّته والحلبيون أوثقُوا الْأَسْبَاب وغلقوا الْأَبْوَاب وسُقط فِي أَيْديهم حِين أفرطوا فِي تعديهم وتهيئوا للحصار وخافوا من الْبَوَار وتبلدوا وتلددوا وتجادلوا ثمَّ تجلدوا
وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي من جملَة قصيدة يهنىء بهَا السُّلْطَان بِهَذِهِ الكسرة
(وَمَا شكّ قوم حِين قُمْت عَلَيْهِم ... غَدَاة التقى الْجَمْعَانِ أَنَّك غَالب)
(وَلَو لم تقد تِلْكَ المقانب لاغتدى ... لنَفسك فِي نفس الْعَدو مقانب)
قَالَ ابْن أبي طيّ وَأما سيف الدّين فَإِنَّهُ امتدت بِهِ الْهَزِيمَة إِلَى بزاعا فَأَقَامَ بهَا حَتَّى تلاحق بِهِ من سلم من أَصْحَابه ثمَّ خرج مِنْهَا حَتَّى قطع الْفُرَات وَصَارَ إِلَى الْموصل وَصَارَ بَاقِي عَسْكَر حلب إِلَى حلب فِي سَابِع شَوَّال فِي أقبح حَال وأسوئه عُرَاة حُفَاة فُقَرَاء يتلاومون على نقض الْأَيْمَان والعهود
وَخَافَ أهل حلب من قصد السُّلْطَان لَهُم فَأخذُوا فِي الاستعداد(2/404)
للحصار وَجَاء السُّلْطَان وخيّم عَلَيْهَا أَيَّامًا ثمَّ قَالَ الرَّأْي أَن نقصد مَا حولهَا من الْحُصُون والمعاقل والقلاع فنفتحها فَإنَّا إِذا فعلنَا ذَلِك ضعفت حلب وَهَان أمرهَا فصوّبوا رَأْيه فنزلوا على بزاعا فتسلّمها بالأمان وولاها عز الدّين خشترين الْكرْدِي
فصل فِي فتح جملَة من الْبِلَاد حوالي حلب
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ نزل السُّلْطَان على حصن بُزاعة وتسلّمه فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال ثمَّ فتح منبج فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَكَانَ فِيهَا الْأَمِير قطب الدّين ينَال بن حسان وَالسُّلْطَان لَا ينَال بِهِ إِحْسَان بل كَانَ فِي جرّ عَسْكَر الْموصل إِلَيْهِ أقوى سَبَب وَلَا يماذقه وَلَا يحفظ مَعَه شَرط أدب ويواجهه بِمَا يكره فسلّم القلعة بِمَا فِيهَا وقوّم مَا كَانَ سلمه بِثَلَاث مئة ألف دِينَار مِنْهَا عين ونقود ومصوغ ومطبوع ومصنوع ومنسوج وغلات وسامه على أَن يخْدم فَأبى وأنف وَكَبرت نَفسه فتعب سرُّه وَذهب مَا جمعه وَمضى إِلَى صَاحب الْموصل فأقطعه الرَّقة فبقى فِيهَا إِلَى أَن أَخذهَا السُّلْطَان مِنْهُ مرّة ثَانِيَة فِي سنة ثَمَان وَسبعين(2/405)
وَقَالَ الْعِمَاد
(نزولك فِي منبج ... على الظفر الْمُبْهِج)
(ونجحك فِي المرتجى ... وفتحك للمرتج)
(دَلِيل على كلّ مَا ... تحاول أَو ترتجي)
(أمورك فِيمَا تروم ... وَاضِحَة المنهح)
(وشانيك دامي الشؤون ... مِنْك شقيّ شجى)
(وَمن كَانَ فِي حصنه ... وَمن قبل لم يخرج)
(يُقَال لَهُ لَيْسَ ذَا ... بعشك قُم فادرج)
(فرأيك يسْتَنْزل النُّجُوم ... من الأبرُج)
(فعجِّل عبور الْفُرَات ... وأسرِ وَسِر وادْلُج)
(وعُجْ نَحْو تِلْكَ الْبِلَاد ... وَعَن غَيرهَا عرج)
(فحران والرقتان ... تاليتا منبج)
(وَجل عَن الْمُسلمين ليلهم المّدجى ... )
قَالَ ابْن أبي طيّ لما ملك السُّلْطَان منبج وتسلم الْحصن صعد إِلَيْهِ وَجلسَ يستعرض أَمْوَال ابْن حسان وذخائره فَكَانَ فِي جملَة أَمْوَاله ثَلَاثَة مئة ألف دِينَار وَمن الْفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر مَا يناهز ألفي ألف دِينَار فحان من السُّلْطَان التفاتة فَرَأى على الأكياس والآنية مَكْتُوبًا يُوسُف فَسَأَلَ عَن هَذَا الِاسْم فَقيل لَهُ ولدٌ يحبُّه ويؤثره اسْمه يُوسُف كَانَ(2/406)
يذخر هَذِه الْأَمْوَال لَهُ فَقَالَ السُّلطان أَنا يوسُف وَقد أخذت مَا خبىء لي فتعجب النَّاس من ذَلِك
قَالَ ولمَّا فرغ من منبح نزل على عزاز وَنصب عَلَيْهَا عدّة مجانيق وجدّ فِي الْقِتَال وبذل الْأَمْوَال
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ نزل السُّلطان على حصن عزاز وَقطع بَين الحلبيين وَبَين الفرنج الْجَوَاز وَهُوَ حصن منيع رفيع فحاصره ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَ السُّلطان قد أشْفق على هَذَا الْحصن من مُوَافقَة الحلبيين للفرنج فَإِن الغيظ حملهمْ على مهادنة الفرنج وَإِطْلَاق مُلُوكهمْ الذّين تَعب نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي أسرهم فَرَأى السُّلطان أَن يحْتَاط على المعاقل ويصُونها صون العقائل فتسلّمها حادي عشر ذِي الْحجَّة بعد مُدَّة حصارها الْمَذْكُورَة
وَقَالَ الْعِمَاد قصيدة مِنْهَا
(أعطَاهُ ربّ الْعَالمين دولة ... عزّةُ أهل الدّين فِي إعزازها)
(حَاز العُلا ببأسه وجوده ... وَهُوَ أَحَق الْخلق باحتيازها)
(بجوده أفنى كنوزا فني الْمُلُوك ... فِي الجدّ على اكتنازها)
(مهلك أهل الشِّرك طرا رومها ... أرمنها إفرنجها أبخازها)(2/407)
(تفاخر الْإِسْلَام من سُلْطَانه ... تفاخر الْفرس بأبروازها)
(تهن من فتح عزازٍ نصْرَة ... أوقعت العداة فِي اعتزازها)
(وَالْيَوْم ذلت حلب فَإِنَّهَا ... كَانَت تنَال العزَّ من عزازها)
(وحلب تَنْفِي كمشتكينها ... كَمَا انْتَفَت بَغْدَاد من قيمازها)
(برزت فِي نصر الْهدى بحجَّة ... وضوحُ نهج الحقّ فِي إبرازها)
(كم حاملٍ للرمح عَاد مبديا ... عجز عَجُوز الحيّ عَن عكازها)
(ارْفَعْ حظوظي من حضيض نَقصهَا ... وعدِّ عَن همازها لمازها)
(وَالشعر لَا بُد لَهُ من باعث ... كحاجة الْخَيل إِلَى مهمازها)
قَالَ وأغار عَسْكَر حلب على عسكرنا فِي مُدَّة مقامنا على عزاز فَأخذُوا على غرّة وغفلة مَا تعجلّوه وعادوا فَركب أَصْحَابنَا فِي طَلَبهمْ فَمَا أدركوا إِلَّا فَارِسًا وَاحِدًا فَأمر السُّلْطَان بِقطع يَده بِحكم حرده فَقلت للْمَأْمُور وَذَلِكَ بمسمع من السُّلْطَان تمهّل سَاعَة لعلّه يقبل مني شَفَاعَة ثمَّ قلت هَذَا لَا يحل وقدرك بل دينك عَن هَذَا يجل وَمَا زلت أكرر عَلَيْهِ الحَدِيث حَتَّى تَبَسم وعادت عاطفته ورحم وَأمر بحبسه وسرّني سَلامَة نَفسه وَدخل نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين وَقَالَ مَا هَذَا الفشل والونى وَإِن سكتم أَنْتُم فَمَا أسكت أَنا ودمدم وزمجر وَغَضب وزأر وَقَالَ لم(2/408)
لَا يقتل هَذَا الرّجل ولماذا اعتقل فوعظه السّلطان واستعطفه وسكنَّ غيظه وتعطفه وتلا عَلَيْهِ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى} وأُطلق سراحه وتمَّ فِي نجاته نجاحه
فصل فِي وثوب الحشيشية على السُّلْطَان مرّة ثَانِيَة على عزاز وَكَانَت الأولى على حلب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي حادي عشر ذِي الْقعدَة قفز الحششية على السُّلْطَان لَيْلَة الْأَحَد وَهُوَ نَازل على عزاز وَكَانَ للأمير جاولي الْأَسدي خيمة قريبَة من المنجنيقات وَكَانَ السُّلْطَان يحضر فِيهَا كلّ يَوْم لمشاهدة الْآلَات وترتيب الْمُهِمَّات وحضّ الرّجال والحث على الْقِتَال وَهُوَ بارٌ ببث أياديه قارٌ على الدَّهْر بكف عواديه والحشيشية فِي زِيّ الأجناد وقُوف والرّجال عِنْده صُفُوف إِذْ قفز واحدٌ مِنْهُم فَضرب رَأسه بسكينه فعاقته صَفَائِح الْحَدِيد المدفونة فِي كمته عَن تَمْكِينه ولفحت المدية خدّه فخدشته فقوّى السُّلْطَان قلبه وحاش رَأس الحشيشي إِلَيْهِ وجذبه وَوَقع عَلَيْهِ وَركبهُ وأدركه سيف الدّين يازكوج فَأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه وقطعه وَجَاء آخر فاعترضه الْأَمِير دَاوُد بن منكلان فَمَنعه وجرحه الحشيشي فِي جنبه فَمَاتَ بعد أَيَّام وَجَاء آخر فعانقه الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس وضمه من تَحت إبطَيْهِ وَبقيت يدُ الحشيشي من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من الضَّرْب(2/409)
وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ كشف مَا عراه من الكرب فَنَادَى اقتلوني مَعَه فقد قتلني وأذهب قوّتي وأذهلني فطعنه نَاصِر الدّين بن شيركوه بِسَيْفِهِ وَخرج آخر من الْخَيْمَة مُنْهَزِمًا وعَلى الفتك بِمن يُعَارضهُ مُقْدما فثار عَلَيْهِ أهل السُّوق فقطعوه
وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب وَجَاء إِلَى سرادقه وَقد خرعه الْحَادِث وقرعه الكارث وصوته جَهورِي وزئيره قسوّري وَدم خَدّه سَائل وَعطف روعه مائل وطوق كزاغنده بِتِلْكَ الضَّرْبَة مفكوك ونهج سَلَامَته مسلوك وَكَانَ سلا سَلَامَته وَأقَام الْقَوْم قِيَامَته وَمن بعد ذَلِك رعب ورهب وَاحْترز واحتجب وَضرب حول سرادقه على مِثَال خشب الخركاة تأزيرا وَوَثَّقَهُ تحجيرا وَجلسَ فِي بَيت الْخشب وبرز للنَّاس كالمحتجب وَمَا صرف إِلَّا من عرفه وَمن لم يعرفهُ صرفه وَإِذا ركب وَأبْصر من لَا يعرفهُ فِي موكبه أبعده ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَإِن كَانَ مستسعفا أَو مستسعدا أسعفه وأسعده
وَمن كتاب فاضلي إِلَى الْعَادِل السَّلامَة شَامِلَة والرّاحة بِحَمْد الله للجسم الشريف الناصري حَاصِلَة وَلم ينله من الحشيشي الملعون إِلَّا خدش قطرت مِنْهُ قطرات دم خَفِيفَة انْقَطَعت لوَقْتهَا واندملت لساعتها وَالرُّكُوب على رسمه والحصار لأعزاز على حكمه وَلَيْسَ فِي الْأَمر بِحَمْد الله مَا يضيق صَدرا وَلَا مَا يشغل سرا
وَقَالَ ابْن أبي طي لما فتح السُّلْطَان حصن بزاعا ومنبج أَيقَن من(2/410)
بحلب بِخُرُوج مَا فِي أَيْديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إِلَى عَادَتهم فِي نصب الحبائل للسُّلْطَان فكاتبوا سِنَانًا صَاحب الحشيشية مرّة ثَانِيَة ورغبوه بالأموال والمواعيد وَحَمَلُوهُ على إِنْفَاذ من يفتك بالسلطان فَأرْسل لَعنه الله جمَاعَة من أَصْحَابه فجاؤوا بزِي الأجناد ودخلوا بَين الْمُقَاتلَة وباشروا الْحَرْب وأبلوا فِيهَا أحسن الْبلَاء وامتزجوا بأصحاب السُّلْطَان لَعَلَّهُم يَجدونَ فرْصَة ينتهزونها فَبَيْنَمَا السُّلْطَان يَوْمًا جَالس فِي خيمة جاولي وَالْحَرب قَائِمَة وَالسُّلْطَان مَشْغُول بِالنّظرِ إِلَى الْقِتَال إِذْ وثب عَلَيْهِ أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رَأسه وَكَانَ رَحمَه الله محترزا خَائفًا من الحشيشية لَا ينْزع الزردية عَن بدنه وَلَا صَفَائِح الْحَدِيد عَن رَأسه فَلم تصنع ضَرْبَة الحشيشي شَيْئا لمَكَان صَفَائِح الْحَدِيد وأحس الحشيشي بصفائح الْحَدِيد على رَأس السُّلْطَان فسبح يَده بِالسَّكِينَةِ إِلَى خد السُّلْطَان فجرحه وَجرى الدَّم على وَجهه فتعتع السُّلْطَان لذَلِك
وَلما رأى الحشيشي ذَلِك هجم على السُّلْطَان وجذب رَأسه حَتَّى وَضعه على الأَرْض وَركبهُ لينحره وَكَانَ من حول السُّلْطَان قد أدركتهم دهشة أخذت بعقولهم
وَحضر فِي ذَلِك الْوَقْت سيف الدّين يازكوج وَقيل إِنَّه كَانَ حَاضرا فاخترط سَيْفه وَضرب الحشيشي فَقتله وَجَاء آخر من الحشيشية أَيْضا يقْصد السُّلْطَان فاعترضه الْأَمِير منكلان الْكرْدِي وضربه بِالسَّيْفِ وَسبق الحشيشي إِلَى منكلان فجرحه فِي جَبهته وَقَتله منكلان وَمَات(2/411)
منكلان من ضَرْبَة الحشيشي بعد أَيَّام وَجَاء آخر من الباطنية فَحصل فِي سهم الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس فهجم على الباطني وَدخل الباطني فِيهِ ليضربه فَأَخذه عَليّ تَحت إبطه وَبقيت يَد الباطني من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من ضربه فصاح عَليّ اقْتُلُوهُ واقتلوني مَعَه فجَاء نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بِسَيْفِهِ وَمَا زَالَ يُخضخضه فِيهِ حَتَّى سقط مَيتا وَنَجَا ابْن أبي الفوارس وَخرج آخر من الحشيشية مُنْهَزِمًا فَلَقِيَهُ الْأَمِير شهَاب الدّين مَحْمُود خَال السُّلْطَان فتنكب الباطني عَن طَرِيق شهَاب الدّين فقصده أَصْحَابه وقطعوه بِالسُّيُوفِ
وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب من وقته إِلَى سرادقه وَدَمه على خَدّه سَائل وَأخذ من ذَلِك الْوَقْت فِي الاحتراس والاحتراز وَضرب حول سرادقه مِثَال الخركاه وَنصب لَهُ فِي وسط سرادقه برجا من الْخشب كَانَ يجلس فِيهِ وينام وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا من يعرفهُ وَبَطلَت الْحَرْب فِي ذَلِك الْيَوْم وَخَافَ النَّاس على السُّلْطَان
واضطرب الْعَسْكَر وَخَافَ النَّاس بَعضهم من بعض فألجأت الْحَال إِلَى ركُوب السُّلْطَان ليشاهده النَّاس فَركب حَتَّى سكن الْعَسْكَر وَعَاد إِلَى خيمته وَأخذ فِي قتال عزاز فقاتلها مُدَّة ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا حَتَّى عجز من كَانَ فِيهَا وسألوا الْأمان فتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة وَصعد إِلَيْهَا وَأصْلح مَا تهدم مِنْهَا ثمَّ أقطعها لِابْنِ أَخِيه تقيّ الدّين عمر
وَكَانَت عزاز أَولا للجفينة غُلَام نور الدّين فَلَمَّا ملك السُّلْطَان(2/412)
منبج أَخذهَا مِنْهُ الْملك الصَّالح وقوّاها لَعَلَّه يحفظها من الْملك النَّاصِر فَلم يبلغ ذَلِك
وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر عزاز حقد على من بحلب لما فَعَلُوهُ من أَمر الحشيشية فَسَار حَتَّى نزل على حلب خَامِس عشر ذِي الْحجَّة وَضربت خيمته على رَأس الياروقية فَوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها وضيق على أَهلهَا وَلم يفسح لعسكره فِي مقاتلتها بل كَانَ يمْنَع أَن يدْخل إِلَيْهَا شَيْء أَو يخرج مِنْهَا أحد
وَكَانَ سعد الدّين كمشتكين فِي حارم وَكَانَت إقطاعه فِي يَد نوابه وَكَانَ انتزعها من يَد أَوْلَاد الداية بعد أَن عصى نائبها
وَكَانَ سَبَب خُرُوجه إِلَيْهَا أنّ السُّلْطَان لما نزل على عزاز خَافَ كمشتكين أَن ينْتَقل مِنْهَا إِلَى حارم فَخرج إِلَيْهَا فَلَمَّا نزل السُّلْطَان على حلب نَدم كمشتكين على كَونه خَارِجا فِي حارم وَخَافَ أَن يجْرِي بَين السُّلْطَان وَبَين الْأُمَرَاء الحلبيين صلح فَلَا يكون لَهُ فِيهِ ذكر وَلَا اسْم فراسل السُّلْطَان يتلطف مَعَه الْحَال وَيَقُول لَو فسح لي فِي الدُّخُول إِلَى حلب لسارعت فِي الْخدمَة وأصلحت الْأَمر على مَا يرومه السُّلْطَان وراسل أَيْضا الْملك الصَّالح والأمراء بحلب يَقُول لَهُم قد حصلت خَارِجا وَقد بلغتني أُمُور وَلَا بُد من طلبي من الْملك النَّاصِر ليأذن لي فِي الصيرورة إِلَيْكُم فَإِن الَّذِي قد حصل عِنْدِي لَا يمكنني الْكَلَام فِيهِ فراسل الْملك الصَّالح السُّلْطَان فِي الْأذن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى حلب فَأذن لَهُ وطلبوا الرهائن مِنْهُ فنفذ السُّلْطَان إِلَيْهِم رهينة شمس الدّين بن أبي المضاء الْخَطِيب والعماد كَاتب(2/413)
الْإِنْشَاء وأنفذوا من حلب إِلَى السُّلْطَان رهينةً نصْرَة الدّين بن زنكي
وَحكى الْعِمَاد الْكَاتِب قَالَ لما حصلنا دَاخل حلب أُخذنا بِرَأْي الْعدْل ابْن العجمي وَجَعَلنَا فِي بَيت وَمنع منا غلماننا وَلم يحضر لنا طَعَام وَلَا مِصْبَاح وبتنا فِي أنكد عَيْش
وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة دخل كمشتكين إِلَى حلب فَلَمَّا أَصْبحُوا أُحضرت انا وَابْن أبي المضاء إِلَى مجْلِس الْملك الصَّالح وَكَانَ عِنْده ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَجَمَاعَة من أَرْبَاب الدولة وَكَانَ صَاحب الْكَلَام الْعدْل ابْن العجمي فَأخذ يتحدث بلثغته ويترجم بلكنته وَيضْرب صفحا عني ويوهم الْجَمَاعَة أَنِّي بِأَنِّي
(وَمَا درى الغِمرُ بِأَنِّي امْرُؤ ... أُميّز التبر من الترب)
(قد عارك الْأَهْوَال حَتَّى غَدا ... بَين الورى كالصارم العضب)
(قد راضه الدّهر فَلْو أمَّه ... بخطبه مَا ريع للخطب)
قَالَ وَعرضت نُسْخَة الْيَمين علينا وصرفنا وَلم يلْتَفت إِلَيْنَا
فَلَمَّا صَارا إِلَى السُّلْطَان وأخبراه بِمَا جرى فِي حَقّهمَا من الهوان علم أَن ذَلِك كَانَ حِيلَة عَلَيْهِ حَتَّى دخل كمشتكين إِلَى حلب فَأطلق نصْرَة الدّين وَقَاتل أهل حلب
وَلم يزل منازلا لحلب إِلَى انسلاخ سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة ثمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي ذكره(2/414)
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَدخُول قراقوش إِلَى الْمغرب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي سَابِع شوّال وصل أَخُو السُّلْطَان شمس الدولة من الْيمن إِلَى دمشق
وَذكر ابْن شَدَّاد أَنه قدم فِي ذِي الْحجَّة
قلت ولمّا سمع السُّلْطَان بقدُومه أرسل إِلَيْهِ بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله {أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ علينا} وَقَالَ فِي آخِره وَلَقَد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طُلُوع الْفجْر قبل شمسه وغرس فِي الْقُلُوب مَا يسرّنا ويسرّه جنى غرسه
قَالَ ابْن أبي طيّ كَانَ سَبَب خُرُوجه من الْيمن كَرَاهِيَة الْبِلَاد والشّوق إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر وَأَن يرى مُلُوك الشَّام وَغَيرهَا وأمراء العساكر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من النّعم وَالْأَمْوَال
قَالَ وَحكى أَنه لما تحدّث النَّاس بِخُرُوج شمس الدّولة من الْيمن كَانَ بِالْيمن رجل يُقَال لَهُ عَبَّاس وَكَانَ صهر يَاسر بن بِلَال الحبشي صَاحب عدن وَكَانَ بَين عَبَّاس وياسر عَدَاوَة فافتعل عَبَّاس كتابا على لِسَان يَاسر(2/415)